انوار الفقاهة - كتاب البيع

اشارة

شماره كتابشناسي ملي : ايران76-10358

عنوان و نام پديدآور : انوار الفقاهه

منشا مقاله : ، اطلاعات، (26 مرداد 1376): ص 6.

توصيفگر : انوار الفقاهه _ كتاب البيع

توصيفگر : فقه

توصيفگر : مكارم شيرازي، ناصر

[المدخل]

أنوار الفقاهة كتاب البيع الجزء الأوّل آية اللّه العظمي ناصر مكارم الشّيرازيّ (مدّ ظلّه)

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 2

هوية الكتاب اسم الكتاب: انوار الفقاهة (كتاب البيع) مؤلّف: آية اللّه العظمي مكارم الشّيرازي الطّبعة: الاولي (المنقّحة) تاريخ النّشر: 1425 ه عدد النسخ: 1000 نسخة رقم الصّفحات و القطع: 584 صفحة/ وزيري المطبعة: أمير المؤمنين عليه السّلام- قم النّاشر: مدرسة الإمام علي بن ابي طالب عليه السّلام عنوان النّاشر: ايران- قم- شارع شهداء- فرع 22- تلفكس: 7732478- 251- 98 ردمك: 4- 16- 8139- 964 السّعر: 2000 تومان

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 3

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 5

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

كلمة المؤلف في المقدمة يحسن التنبيه علي امور:

1- الفقه الإسلامي يتكفل بيان جميع الأحكام التي تمسّ علاقات الإنسان في حركة الحياة بنحو من الانحاء، علاقته مع اللّه، علاقته مع الناس، علاقته مع عالم الخلقة و الطبيعة، علاقته مع نفسه، فعلي هذا لا يخلو شي ء من أعمال الإنسان صغيرها و كبيرها، حتي نواياه الباطنية، عن حكم فقهي.

و هذه الدائرة الواسعة جدّا للفقه الإسلامي تكشف عن عظمته من جانب، و عن معضلات الفقهاء و المجتهدين و جهودهم في حلّ مشاكله من جانب آخر، و إليه يشير ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته: «الاجتهاد هو أشدّ من طول الجهاد … »!

فعلي جميع من يقصد ورد هذا الميدان التهيؤ للجهاد الشديد و ذلك بوقف العمر و جميع القوي الجسمانية و الروحانية في هذا السبيل، مع تحمل مرارة العيش و المشاق الكثيرة، و من الواضح أنّ النتائج المترتبة عليه أيضا عظيمة، و مقترنة بالعنايات الإلهية و التأييدات الربانيّة.

2- إنّما تدوم

عظمة الفقه الإسلامي و يتقدم و ينمو في ضوء فتح باب الاجتهاد في جميع الأعصار، و عدم حصره بزمن معين و جمع خاص من المتقدمين، كما تدلّ عليه جميع الأدلة الواردة في الكتاب و السنّة الناظرة إلي هذا المعني، فليس فيها أي أثر من مزعمة حصر الاجتهاد و استنباط الأحكام عن أدلتها في قوم أو أفراد معينين.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 6

و معه يتمكن العلماء الكبار المتضلعون في الفقه علي الغور في مسائله، و كشف النقاب عن حقائقه، و الوصول إلي دقائق لم يصل إليها المتقدمون منهم (جزاهم اللّه عن الإسلام خير الجزاء) و يتقدم هذا العلم بمرور الزمان كتقدم سائر العلوم الإسلامية و غيرها.

و لذا نري الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الفقه علي أنفسهم، و حصروه في أئمّتهم الأربعة، و منعوا الآخرين أن يحوموا حول هذا الحمي، إنّهم لم يتقدموا في هذا العلم إن لم نقل أنّه مال عندهم إلي الغروب و الافول، بينما نري الفقهاء الذين اقتدوا بأنوار أهل بيت النبي صلّي اللّه عليه و آله قد ازدهر الفقه عندهم قرنا بعد قرن و عصرا بعد عصر، حتي بلغ إلي كثير من غاياته و أثمرت أغصانه، و طلعت أنواره، هذا و في الآونة الأخيرة شوهدت- و الحمد للّه- معالم حركة من قبل فقهاء الطائفة الاولي نحو التجاوب مع فقهاء أهل البيت عليه السّلام لفتح باب الاجتهاد علي مصراعيه، و لعل اللّه يحدث بعد ذلك أمرا!

و من الجدير بالذكر أنّ فقهاء أهل البيت عليه السّلام لم يقنعوا بفتح باب الاجتهاد فحسب، بل أتّفقوا في ضوء إرشادات الأئمة المعصومين عليه السّلام علي عدم جواز تقليد الفقهاء الماضين ابتداء، و فرضوا علي الناس تقليد

العلماء الأحياء فقط، فصار هذا عندهم رمز حياة الفقه و حركته المطّردة، مع ظهور آفاق جديدة في جميع شئونه و مسائله.

3- لا شكّ في أنا نواجه اليوم مسائل كثيرة مستحدثة في أبواب المعاملات و العبادات لا بدّ من الجواب عنها، لأنّ الإسلام دين خالد و أحكامه خالدة إلي الأبد و قد أكمل اللّه لنا دينه و أتمّ علينا نعمته، و من المعلوم عندنا أنّ شيئا من هذه الأسئلة لا يبقي بلا جواب، بل وردت أحكامها في الاصول الكليّة و القواعد العامّة في الكتاب و السنّة و الإجماع و دليل العقل، و في ضوء الاهتداء بهذه الأنوار الإلهية (لا سيما الكتاب و السنة) يتمّ كشف النقاب عنها، أ لم تسمع ما ورد في خطبة حجّة الوداع عن النبي صلّي اللّه عليه و آله: «أيّها الناس ما من شي ء يقرّبكم إلي الجنّة و يباعدكم عن النّار إلّا و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يقربكم إلي النار و يباعدكم عن الجنّة إلّا و قد نهيتكم عنه» بل قد وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت عليه السّلام أنّه: ما من شي ء تحتاجه إليه الامّة إلي يوم القيامة إلّا و قد ورد فيه نصّ حتّي أرش الخدش!

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 7

و لذلك فانّ مهمّة المجتهدين و الفقهاء لا تدخل في دائرة تشريع الأحكام، و وضع القوانين، و إنّما وظيفتهم هي استنباط أحكام المسائل المستحدثة عن مداركها الدينية و استخراجها من منابعها الشرعية، فلا تري موضوعا من الموضوعات ممّا لا نصّ فيه حتي تصل النوبة إلي الاجتهاد بمعناه الخاص (أي تشريع حكم فيه بالقياس أو الاستحسان أو غيرهما) بل كلّها واردة في النصوص الخاصة أو

الأدلة العامّة و القوانين الكليّة.

4- ممّا يلفت النظر في الفقه في بدء الأمر أنّ المجتمعات البشرية تتبدل و تتحول كلّ يوم، إلّا أنّ اصول الأحكام الإسلامية ثابتة و لا تتغيّر، و حلال محمّد صلّي اللّه عليه و آله حلال إلي يوم القيامة و حرامه حرام إلي يوم القيامة، و مع ذلك تنطبق هذه الاصول الثابتة الخالدة علي تلك الحاجات المتغيرّة دائما!

و ليس ذلك إلّا من جهة عموم تلك الاصول و شمولها و جامعيتها، كيف و قد صدرت من ناحية الخالق الحكيم العالم بعواقب الامور، الخبير بحاجات نوع الإنسان علي الأيّام و الدهور، كما هو الحال في القوانين الطبيعة الإلهية الثابتة طيلة آلاف، بل ملايين سنة و لكن الإنسان مع ذلك يوافق نفسه في حياته المتغيّرة في كل عصر و زمان مع تلك القوانين الثابتة.

5- إنّ فقهاءنا الأعلام (قدّس اللّه أسرارهم) و إن ألّفوا مئات بل آلاف الكتب في جميع أبواب الفقه، من الطهارة إلي الديات، و من العبادات إلي المعاملات إلّا أنّ ذلك لا يعني بلوغ الفقه إلي غايته، و وصوله إلي نهايته، و عدم الحاجة إلي تأليف جديد في هذا العلم، فكم ترك الأول لآخر، و كم بلغ المتأخر إلي ما لم يصل إليه المتقدم، و لكلّ إنسان حظّه من العلم و الحكمة، فإنّ العلم ليس مقصورا علي قوم خاص، فلا يغرنّك وسوسة بعض القاصرين في ترك الجد و الاجتهاد في كلّ مسألة من مسائله، حتي ما يعدّ من الواضحات المشهورات، فقد يستخرج بالغوص في هذه البحار من الجواهر الثمينة و الدرر القيمة ما لم يستخرجه الأوائل!

و علي هذه الفكرة و بهذه الامنية بدأنا في هذا الكتاب- أعني كتاب البيع من أنوار

أنوار الفقاهة -

كتاب البيع (لمكارم)، ص: 8

الفقاهة- و إن كتبت في هذا الباب كتب كثيرة عسي اللّه أن يجري علي قلمي ما ينفع به هذه الامّة، و يفتح لها بعض الأبواب المغلقة، فإنّه ليس هذا علي اللّه بعزيز، و تري فيها بحمد اللّه أبحاثا جديدة في مسائل مهمة من مسائل المعاملات.

اللّهمّ اجعله لنا ذخرا و كرامة و مزيدا، و الحمد للّه ربّ العالمين.

قم المشرفة- الحوزة العلمية ناصر مكارم الشيرازي رمضان المبارك 1411 ه.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 9

كتاب البيع

تعريف البيع لغة و عرفا تعريفه في كلمات الفقهاء

اشارة

و لنذكر أولا ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بدء كلامه في المقام تيمنا به، و استمدادا من نفسه القدسيّة، و مقدمة لما يبني عليه من الأبحاث الآتية.

فنقول: و منه سبحانه و تعالي نستمد التوفيق و الهداية: قال في صدر البحث عند بيان معناه اللغوي و العرفي ما حاصله:

إنّ البيع في الأصل- كما عن المصباح المنير- مبادلة مال بمال.

ثم قال: الظاهر اختصاص المعوض بالأعيان، فلا يطلق البيع علي أبدال المنافع إلّا مجازا و مسامحة، كالتعبير ببيع خدمة العبد المدبّر، و بيع سكني الدار، و بيع الأراضي الخراجية، ثمّ قال: هذا بالنسبة إلي المعوّض، أمّا العوض فلا يخلو عن امور أربعة:

1- العين. 2- المنافع. 3- عمل الحر. 4- الحقوق.

أمّا الأوّل فلا شك في صحته، و أمّا المنافع فكذلك، كما صرّح به غير واحد منهم، و ما يقال من أنّ البيع لنقل الأعيان يراد به بيان المبيع، و أمّا عمل الحر فهو يبني علي كونه مالا قبل المعاوضة عليه، و فيه إشكال.

و أمّا الحقوق فهي علي أقسام:

1- ما لا يقبل النقل و الاسقاط (كحق الولاية)، فلا إشكال في عدم وقوعه ثمنا، و دليله ظاهر.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع

(لمكارم)، ص: 10

2- ما يقبل الاسقاط فقط (كحق الخيار و حق الشفعة) فهو أيضا كذلك، للزوم كون الثمن ممّا يقبل النقل إلي البائع.

3- ما يقبل الانتقال (كحق التحجير) ففيه إشكال، لأخذ المال في عوضي البيع لغة و عرفا، و ظهور كلمات الفقهاء في ذلك.

و ذكر في الجواهر عدم الخلاف و الإشكال في اعتبار كون المبيع عينا، و لكن جوّز وقوع الثمن عينا أو منفعة أو حقّا قابلا للنقل أو الاسقاط بعد ما حكي عن استاذه منع وقوع حقّا «1».

و للمحقق اليزدي و الخراساني قدّس سرّهما كلام في المقام ستأتي الإشارة إليه.

و

هذا و تحقيق ما ذكره يحتاج إلي بسط الكلام في امور

اشارة

: 1- كيف نشأ البيع و المعاملات بين أبناء البشر؟ و ما هو مصدر الثمن و القيمة؟

2- هل اللازم كون المثمن من الأعيان دائما؟ و عليه كيف يجوز بيع السرقفلية و بيع ما يسمي بامتياز مشروع الماء و الكهرباء و أمثال ذلك ممّا هو متداول اليوم بين العقلاء و العرف؟

3- ما المراد بالعين؟ هل هو العين الخارجية، أو أعم ممّا في الذمة، و الكلّي المشاع، و الكلي في المعين و غير ذلك؟

4- إذا كان كلّ من العوضين من العروض أو من الأثمان، فهل تكون المعاملة بيعا أو معاوضة اخري؟

5- هل يصحّ جعل المنفعة ثمنا؟

6- هل يكون عمل الحرّ مالا؟

7- الحقوق و دورها في البيع و الشراء.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 309.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 11

1- كيف نشأت البيوع و المعاملات؟

الذي يظهر من مراجعة المجتمعات البدوية و الموجودة في زماننا أيضا، أنّ البيع عندهم يكون بمبادلة الأعيان بالأعيان، مثلا من كانت عنده كميّة كبيرة من الحنطة زائدة عن حاجته، فإنّه يعطي بعضها لغيره، ليأخذ ما عنده من الثياب أو غيرها، فالبيع يكون بهدف الحصول علي ما يحتاج الإنسان إليه من خلال بذل ما يحتاج إلي غيره و أخذ ما يحتاجه منه.

و لكن هذه العملية تستبطن مشاكل جمّة علي مستوي التبادل التجاري بين الناس:

«منها» مشكلة عدم توفّر العوض الذي يحتاج إليه صاحب الحنطة مثلا أحيانا لعدم حاجة صاحب الثياب إليها، لأنّ المعاملات علي هذا الفرض تدور مدار حاجة الطرفين فقط، فلا تجري في غير هذه الموارد.

و «منها» مشكلة ادخار كميات كبيرة من أجناس مختلفة للتوصّل إلي ما يحتاج إليه في عملية المبادلة بواحد منها، و غير ذلك من المشاكل.

نعم لما كانت مبادلة العين بالعين تتضمّن هذه المشاكل

العظيمة، مسّت الحاجة إلي ما يكون قليل الحجم، كثير القيمة، لا يندرس بسرعة و يمكن حمله بسهولة ليجعل عوضا في جميع المعاملات، فوجدوا الذهب و الفضة جامعتين لهذه الصفات، فجعلوا الأول للمبادلات الخطيرة، و الثاني لليسيرة، و أيسر منهما النقود المتخذة من سائر المعادن.

و لما كثر حجم المعاملات، و اتسع نطاقها، و زادت عددها، رأوا أنّ الدراهم و الدنانير أيضا لا تقومان بما يحتاج إليه الإنسان في هذا المجال، لما فيهما من كثرة الحجم في المعاملات الخطيرة، مثلا إذا كان ثمن معاملة مليون درهما، فإنّها قد تربو علي ألفين كيلو بحسب الوزن قريبا.

هذا مع ما في نقلهما من أنواع المشقّة و الخطر في السفر و في ادخارهما في الحضر، بل قد لا يكون في بعض الاصقاع الكمية اللازمة من الذهب و الفضة للمعاملات الخطيرة

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 12

جدّا، و غير ذلك، فأوجب ذلك الفحص عن طريقة للخلاص من هذه المشاكل، فرأوا ادخارهما في حرز منيع، ثم يكتبوا الحوالة إليها، و دارت المعاملات مدار الحوالة، و من هنا ظهرت النقود الورقية!

فهي في الحقيقة لم تكن مالا في بدء الأمر، بل معرفا لما يحال عليه من الأموال ممّا سمّوه «غطاء و رصيدا» «1».

هذا و كانت هذه النقود الورقية قابلة للتبديل بما يحاذيها من الدرهم و الدينار في أوائل ظهورها، لكن لم يقف الأمر إلي هنا، حتي احتاجت السلطات الحاكمة إلي نقود و رقية أكثر من الرصد المدّخر، فطبعوا أوراقا و فرضوا علي ذمتهم ما يحاذيها من الذهب و الفضة، و سمّوه الاستقراض من البنك المركزي (أي مركز ادخار الرصيد).

و صار هذا سببا لانحياز هذه الأوراق عن الرصيد انحيازا تدريجيا.

أضف إلي ذلك أن أحدا من

الناس لم يكن يرجع إلي البنك ليأخذ ما يعادل النقود الورقية من الذهب و الفضة، و علي فرض الرجوع لم يقبل هذا الأمر منه.

مضافا إلي أنّ نفس هذا الاستقراض- الذي لا يتمّ تسديده إلي سنين بل قد لا يسدّد أبدا- أوجب كون الرصيد أمرا صوريا لا واقع بإزائه، و من هنا أصبحت هذه النقود نقدا رائجا بذاتها لا بشي ء آخر ورائها!

و لا عجب في ذلك بعد كون الملكيّة بذاتها أمرا اعتباريا، بل إنّ مالية كثير من الأشياء ليست إلّا اعتبارية، فهل الجواهر الثمينة التي لا نفع فيها لحياة الإنسان، أو الأشياء الأثرية التي هي كذلك، أو أسوأ حالا منها، و كذلك الطوابع التي مرّ عليها زمان كثير، هل تكون ماليتها بغير الاعتبار العقلائي؟ بل كثير ما تكون منافعها وهمية خيالية لا يقبلها بعض العقلاء، فكيف بالنقود الورقية التي لها إمكانية حل مشاكل البيوع و المعاملات؟

و من أوضح ما يدل علي استقلال هذه الأوراق فعلا أنّه إذا استدان شخص مبلغا منها من غيره، كألف تومان مثلا، ثم مرّ عليه عدّة أعوام و ارتفعت قيمة الذهب و الفضة كثيرا في

______________________________

(1). و يسمي في الفارسية ب «پشتوانه».

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 13

هذه المدّة، فانّه لا يري نفسه ملزما بأداء أكثر من ألف تومان، و لا يفتي فقيه بغير ذلك، و كذلك في الصداق الذي يدور مدار هذه النقود الرائجة إذا مرّت عليه عدّة أعوام، و لو كانت النقود الورقية إشارة إليها للزم تغيير مقدار الدين.

و هذا أمر ظاهر واضح، و علي هذا يمكن الحكم عليها بمثل الحكم علي الدراهم و الدنانير و ليست حوالة عليها.

و ليكن هذا علي ذكر منك يفيدك في كثير من المباحث الآتية

و المسائل الفقهيّة، و سنتلو عليك إن شاء اللّه منه ذكرا.

2- هل اللازم كون المبيع من الاعيان؟

صرّح الشيخ الأعظم و صاحب الجواهر قدّس سرّهما بلزوم كونه من الأعيان، بل ادعي الأوّل منهما استقرار اصطلاح الفقهاء عليه.

و قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: لا خلاف و لا إشكال في اعتبار كون المبيع عينا، و لذلك اشتهر بينهم أن البيع لنقل الأعيان، كاشتهار كون الإجارة لنقل المنافع، و يظهر ذلك من بعض كلمات الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك، و قد استدل له السيّد قدّس سرّه في الحاشية بالتبادر و صحة السلب عن تمليك المنفعة بعوض، و هما علامة كونه كذلك في العرف، الكاشف عن كونه كذلك لغة «1»، ثم أجاب عن اطلاق كلام المصباح المنير (مبادلة مال بمال) بانه مبنيّ علي المسامحة.

و قال في مصباح الفقاهة: الظاهر أنّه لا ريب في اشتراط كونه من الأعيان، بداهة اختصاص مفهوم البيع عند أهل العرف بتمليك الأعيان فلا يعم تمليك المنافع … ثم حكي عن بعض المالكية و الحنابلة جواز اطلاق البيع علي تمليك المنافع، ثم قال: و لكنه علي خلاف المرتكزات العرفية «2».

______________________________

(1). حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 116.

(2). مصباح الفقاهة، ج 2، ص 10.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 14

نعم، ورد اطلاق البيع في الروايات علي تمليك المنافع:

منها: بيع خدمة العبد المدبّر، ففي الباب الثالث من أبواب التدبير توجد روايات عديدة أطلق البيع فيها علي المنافع، مثل ما روي عن القسم بن محمد عن علي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أعتق جارية له عن دبر في حياته، قال: «إن أراد بيعها باع خدمتها في حياته» الحديث «1».

و ما روي السكوني عن جعفر بن محمد عن

أبيه عن علي عليه السّلام قال: «باع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله خدمة المدبّر و لم يبع رقبته» «2».

و منها: ما ورد في بيع سكني الدار، مثل ما روي اسحاق بن عمار عن عبد صالح قال:

سألته عن رجل في يده دار ليست له: قال: «ما أحبّ أن يبيع ما ليس له. قلت: فيبيع سكناها أو مكانها في يده فيقول: أبيعك سكناي و تكون في يدك كما هي في يدي، قال:

نعم يبيعها علي هذا» «3».

و لكن الإنصاف أنّ الأخير أشبه شي ء ببيع «السرقفلية» و لذا ليس فيه تعيين لمقدار مدّة المنافع كما في الإجارة.

و كذا ما ورد في الأراضي الخراجية و بيعها مثل رواية زرارة قال، قال عليه السّلام: «لا بأس بأن يشتري أرض أهل الذمّة إذا عملوها و أحيوها فهي لهم» «4».

فإنّها أيضا أشبه شي ء بمسألة «السرقفلية» أعني من قبيل بيع نوع من حق الأولوية كما لا يخفي، فتأمل.

نعم بيع خدمة العبد من قبيل بيع المنافع، و لا دليل علي أنّ اطلاق البيع عليها من قبيل المجاز، نعم اطلاقه منصرف عن مثله فتأمل، و لا تستعمل الإجارة هنا لعدم معلومية مقدار عمر العبد، و لا تعتبر في البيع ذلك فتأمل.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 16، الباب 3 من أبواب التدبير، ح 3.

(2). المصدر السابق، ج 16، الباب 3 من أبواب التدبير، ح 4.

(3). المصدر السابق، ج 12، الباب 1 من أبواب عقد البيع، ح 5.

(4). المصدر السابق، ج 12، الباب 21 من أبواب التجارة، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 15

هذا كلّه في المنافع، أمّا بيع الحقوق فهو ممّا لا ينبغي انكاره، مثل ما ذكرنا آنفا من بيع حق الانشعاب في الكهرباء

و الماء، و بيع حقّ التليفون، فهو ليس بيع لنفس الهاتف أو الأنابيب و الأسلاك، بل بيع حقّ الانشعاب و إن خلي عن جميع ذلك، و كذلك بيع «السرقفلية» المتداول بين العقلاء في عصرنا، إذا هو نوع من حقّ الأولوية.

بالجملة لا يمكن منع إجراء أحكام البيع علي بيع أمثال هذه الحقوق كما لا يخفي بعد شيوعها بين أهل العرف شيوعا تامّا يعلمه الصغير و الكبير، و لا مانع من كونها بيعا، و عمومات الكتاب و السنّة تشملها.

3- ما المراد من العين؟

لا إشكال في جواز وقوع العين ثمنا و مثمنا في البيع، و لكن الكلام في أقسامه فإنّ العين تارة تكون علي نحو شخصي، و اخري علي نحو كلّي.

و الكلّي أيضا علي أقسام:

1- الكلّي في ذمّة الإنسان نفسه.

2- الكلّي في ذمّة غيره (الدّين)

3- الكلّي المشاع.

4- الكلّي في العين.

و العين الشخصي تارة تكون بالفعل و اخري بالقوة كما في الأثمار المتجددة في بيع الثمرة علي الشجرة الداخلة في البيع للأعيان الموجودة.

فتحصّل لدينا ستة أقسام، و لا إشكال في العين الشخصي الموجود، و أمّا الشخصي بالقوة فهو أيضا لا إشكال فيه بعد صحّة بيع الثمرة علي الشجرة، مضافا إلي ما يحصل بعده، و الوجه فيه اعتبار العقلاء له بمنزلة الموجود فيتعلق به الإضافة الاعتبارية.

و أمّا الكلّي في الذمّة فهو أيضا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه بعد صحّة بيع السلف.

نعم هنا إشكالات ذكرها السيّد قدّس سرّه في الحاشية و لا بدّ من الجواب عنها:

1- إنّ الملكية تحتاج إلي محل لعروضها عليه، و هو هنا غير موجود.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 16

2- إنّ الكلّي في الذمّة قبل تحقق العقد لا يعدّ مالا، فلا يقال فلان ذو مال باعتبار فرض الكلّي في

ذمّته.

3- كيف يبيع الإنسان ما لا يملكه؟

و الجواب: عن الأول واضح، لأنّ الملكية من الامور الاعتبارية، و هي قائمة بأمر اعتباري، و هو الكلي الذي يعتبر في الذمّة، كما أنّ الأمر في الاجارة بالنسبة إلي المنافع المستقبلة و الثمرة المتجددة علي الشجرة كذلك، بل هي أسوأ حالا منه من بعض الجهات كما لا يخفي.

و ليست الملكية من الأعراض، و الملكية التي تعدّ من الأعراض في أبواب الجوهر و العرض هي أمر تكويني لا ربط له بالمقام.

و يمكن الجواب عن الثاني بأنّ المالية هنا ثابتة لأنّ مائة منّ من الحنطة مثلا في الذمّة مال يبذل بإزائه المال، و المالية تدور مدار نظر العرف و العقلاء، و هي حاصلة هنا.

و عن الثالث بأنّ ملكية الإنسان لما في ذمّته ثابتة علي نحو الإجمال و بالقوة، فله أن يملكه غيره، و لذا إذا لم يقدر أحد علي شي ء قطعا لا يعتبر ذمّته، كما إذا باع إنسان ألف طنّ من الحنطة مع عدم قدرته علي اكتساب طنّ منها، فانّ هذا البيع فاسد عند العقلاء، لعدم اعتبارهم ذمّته بهذا المقدار، لعدم قدرته عليه، و هكذا غيره من أشباهه.

و بالجملة القدرة القريبة من الفعل تجعل الإنسان مالكا للشي ء بالقوة، نظير المنافع المتجددة للأعيان في الإجارة، و الثمرات المتجددة لأشجار في بيع الثمرة علي الشجرة.

هذا كلّه في الكلّي في الذمّة (ذمّة الإنسان نفسه)، و أمّا إذا كان في ذمّة الغير فهذا أوضح و أحسن حالا، لأنّه مال قطعا و ملك كذلك، فلا يأتي فيه واحد من الإشكالات الثلاثة و قد مرّ جوابها.

أمّا الكلّي المشاع، و كذا الكلّي في العين، فهما أيضا ظاهران، و الأول، مثل أن يبيع نصف الدار، فإنّه كلّي، أو صاعا

من صبرة، و لا يأتي فيهما شي ء من الإشكالات السابقة.

و ذكر في الجواهر: أنّ الكلّي في الذمّة علي قسمين: كلّي مضمون كما في السلم، و كلّي موصوف حالا، (و كلا القسمين متداول بين العقلاء).

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 17

4- حكم ما إذا كان كلّ من العوضين من الأثمان أو العروض

قد يقال: إذا كان أحد العوضين من الأعراض، و الآخر من النقود، فالأمر فيه واضح، فإنّه بيع قطعا، و باذل السعلة بايع، كما أنّ باذل النقود مشتر، و يجري عليهما أحكامهما.

أمّا إذا كانا من العروض أو من النقدين، فقد يفصّل بين ما إذا أراد أحدهما الربح و الآخر رفع حاجته، فالأول بايع و الثاني مشتر، و أمّا إذا أراد منهما الربح أو رفع حاجته، فليس بيعا، و لا بايع هناك و لا مشتر، بل نوع تجارة داخلة في قوله تعالي: تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ.

و فيه: أولا: أنّه لا دليل علي ما ذكره من التفصيل، و لا من الشرع و لا من العرف و العقلاء.

و ثانيا: الظاهر من الصورة الثانية أنّ كلّا منهما بايع من جهة و مشتر من جهة، و لا يبعد جريان أحكام كلّ منهما عليه، و لكن لا بدّ من ملاحظة الأدلة في كلّ مقام و شمولها أو انصرافها عن هذا المصداق، فتدبر جيدا.

5- هل يصحّ جعل المنفعة ثمنا؟

قد عرفت تصريح شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره بجواز وقوعها ثمنا، بل قد ادّعي عدم الخلاف فيه، و لكن صاحب الجواهر نقل عن بعض المتأخرين، اعتبار كون العوضين من الأعيان، و لعل المراد من كلام الشيخ من نسبته إلي بعض الأعيان لزوم كون الثمن عينا، و يحكي أنّه المحقق الوحيد البهبهاني قدّس سرّه، و علي كلّ حال لا دليل عليه بعد شمول مفهوم البيع للجميع عدا امور مذكورة في كلماتهم:

منها: أنّ المشهور بينهم أنّ الإجارة لنقل المنافع كما أنّ البيع لنقل الأعيان.

و أجيب عنه: بأنّ النظر في هذا الكلام إلي المبيع فقط بقرينة الإجارة، فانّ المنافع إنّما تكون في المستأجر لا العوض كما هو ظاهر.

و منها: أنّ وقوع المنفعة

ثمنا أمر نادر تنصرف اطلاقات البيع عنه.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 18

و فيه: إنّ ندرته ليست بحيث تنصرف الاطلاقات عنه بعد قبوله من ناحية العقلاء و العلم بعدم الخصوصية هنا، فقد تباع بعض الأراضي الزراعية لبعض الزراع و يجعل الثمن أو بعضه، عمله فيها لصاحب الأرض.

و منها: أنّ المنافع لم توجد بعد، فكيف تجعل ملكا للبائع في مقابل تمليك العين؟

و فيه: ما عرفت آنفا من أنّها موجودة بالقوّة، و لذا نفع عليها الإجارة و تكون مهرا كما في قصة موسي و شعيب عليهما السّلام، و مثل هذا في الامور الاعتبارية غير نادر، و بالجملة لا ينبغي الإشكال من هذه الناحية.

6- هل يكون عمل الحر ثمنا في البيع؟

قد عرفت إشكال الشيخ قدّس سرّه في كون عمل الحرّ مالا، فإذا لم تثبت ماليته لا يمكن وقوعه ثمنا لاعتبار المالية في المتعاوضين.

و لكن ما ذكره مشكل أو ممنوع.

توضيح ذلك: إنّ محل الكلام عمل الحر قبل وقوع المعاملة عليه، و أمّا بعد وقوعها فلا إشكال في كونه مالا و ملكا، كما إذا آجر الإنسان نفسه سنة في مقابل عوض، فانّ المستأجر يملك عمله، و يجري عليه جميع أحكام الملك من الغني و الاستطاعة و غيرهما.

و أمّا قبله يستشكل فيه من ناحية المالية تارة، و الملكية اخري.

و الانصاف أنّ ماليته ممّا لا ينبغي الكلام فيها، لبذل العقلاء المال في مقابله.

و أمّا ملكيته فإنّها و إن لم تكن بالفعل لكنها بالقوّة، و لذا يحصل به الغني، و لا يبعد حصول الاستطاعة به، بل و لا يبعد الضمان لو اتلفه عليه متلف، كما لو حبسه إذا كان كاسبا فتدبر.

و قد صرّح المحقق الخراساني قدّس سرّه بأنّه لا إشكال في كون عمل الحرّ من الأموال، لأنّه يبذل

بإزائه المال، و كون ممّا يرغب فيه، و إن كان قبل المعاوضة لا يكون ملكا، بخلاف

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 19

عمل العبد، ثم قال: لا شبهة في عدم اعتبار الملكية قبلها، لوضوح جعل الكلّي عوضا في البيع مع عدم كونه ملكا قبله، انتهي «1».

7- الحقوق و دورها في البيع و الشراء

و الكلام فيها تارة يكون من حيث حقيقة الحق و الفرق بينه و بين الملك و الحكم.

و اخري من حيث أقسامه.

و ثالثة من حيث وقوعه عوضا.

أمّا الأوّل: فذكروا في تعريفه عبارات مختلفة:

فقال السيّد المحقق اليزدي قدّس سرّه: «الحق نوع من السلطنة علي شي ء متعلق بعين، أو غيرها، كالعقد أو علي شخص، و هو مرتبة ضعيفة من الملك بل نوع منه» (و مثّل للأول بحق التحجير، و للثاني بحقّ الخيار، و للثالث بحقّ القصاص) «2».

و كأنّه أخذه من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث قال: إنّ مثل هذا الحق سلطنة فعلية (أشار إلي حق الشفعة و الخيار).

و لكن المحقق الخراساني قدّس سرّه قال في حاشيته: إنّ الحق بنفسه ليس سلطنة، و إنّما كانت السلطنة من آثاره، كما أنّها من آثار الملك، و إنّما هو اعتبار خاص له آثار مخصوصة، منها السلطنة علي الفسخ كما في حقّ الخيار، أو التملك بالعوض كما في حق الشفعة، أو بلا عوض كما في حق التحجير.

و ذكر في مصباح الفقاهة: «إنّ حقيقة الحق و الحكم واحد كلّها من اعتبارات الشرع» «3».

و الانصاف: أنّ الحق في مصطلح الفقهاء و عبارات أهل الشرع هو سلطنة علي فعل خاص، فالملك سلطنة علي عين أو منفعة، و الحق سلطنة علي فعل غالبا أو دائما، فحق

______________________________

(1). حاشية المحقق الخراساني قدّس سرّه علي المكاسب، ص 3.

(2). حاشية المكاسب

للسيّد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 120.

(3). مصباح الفقاهة، ج 2، ص 45.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 20

الخيار سلطنة علي فسخ العقد، و حق الشفعة سلطنة علي أخذ سهم الشريك بعوض، أحق التحجير و إن كان سلطنة علي عين ظاهرا، و لكن يمكن ارجاعه إلي الفعل أيضا فتدبر، و حق الولاية سلطنة علي التصرف في أموال المولّي عليه و غير ذلك، لذا يقال إنّه أولي بالتصرف فيه من غيره، و لعل حق التحجير أيضا من باب الأولوية في التصرف من غيره، و قد قال صلّي اللّه عليه و آله في خطبة الغدير: «أ لست أولي بكم من أنفسكم».

و من هنا يظهر الفرق بينه و بين الملك من جانب، و بينه و بين الحكم من جانب آخر، أمّا الأول فقد عرفته، و أمّا الثاني فحاصله: إنّ الحكم مجرّد تشريع من ناحيته تعالي من دون اعتبار تسليط فيه، بخلاف الحكم فانّه يجعله مسلطا علي فعل من الأفعال.

و من هنا يظهر أنّ نفي الفرق بينهما مخالف للتحقيق، كما أنّ ما أفاده المحقق الخراساني قدّس سرّه من أنّه ليس سلطنة، و إنّما كانت السلطنة من آثاره، و إنّما هو اعتبار خاص له آثار مخصوصة، فهو ممّا لا يسمن و لا يغني أيضا، فانّه تعريف بأمر مبهم من جميع الجهات مع أنّ التعريف لا بدّ أن يكون بأمر واضح.

و يحقّ لنا أن نتساءل: إنّ الاعتبار له أنواع معلومة معروفة، فما هذا الاعتبار الخاص و ما هو حقيقته و مفاده مغزاه؟

و إن شئت قلت: الحق يوجب نفعا لذي الحق غالبا مع أنّ الحكم مختلف جدّا، و كذلك الحق لا يكون فيه إلزام في الغالب بل لصاحبه الانتفاع به و

تركه، و الحكم ليس كذلك، فتحصل أنّ الفرق بينهما يكون في امور ثلاثة.

إن قلت: حق الولاية علي الصغير ليس فيه نفع لوليه، و ليس له تركها، فليس بحق.

قلت: إن تمّ ما ادعيته فليس حقّا، بل نقول أنّه من الأحكام الإلزامية علي الولي و لكن ليس كذلك علي مذاق المشهور، فتدبّر.

و ليعلم أنّ النزاع في مفهوم الحق إنّما يثمر إذا كانت هناك أدلة اخذ في موضوعها كلمة الحق بقول مطلق أو إجمالا كما فيما هو المشهور من أن «ما تركه الميت من مال أو حق فلوارثه»، و ذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الشفعة الاستدلال بالمرسل في المسالك و غيرها عنه صلّي اللّه عليه و آله: «ما تركه الميت من مال أو حق فلوارثه» و ذكر بعض شراحه أنّه لم يعثر

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 21

علي مصدر لهذا المرسل في كتب أخبار الخاصّة و العامّة، و إنّما اشتهر علي ألسنة الفقهاء فراجع «1».

أمّا الثاني: فقد ذكروا للحق أقساما كثيرة:

1- ما لا يقبل الاسقاط و النقل بل و لا الانتقال القهري بالموت أيضا، و مثّل له بحق الولاية للحاكم و حق الاستمتاع للزوج.

2- ما يجوز اسقاطه و لا يقبل النقل و لا الانتقال بالموت، كحق الغيبة بناء علي وجوب ارضاء صاحبه.

3- ما يجوز اسقاطه و انتقاله بالموت و لكن لا يجوز نقله، كحق الشفعة علي وجه.

4- ما يجوز اسقاطه بعوض و اسقاطه، و ينتقل بالموت، كحق الخيار.

5- ما يجوز اسقاطه و نقله لا بعوض، كحق القسم للزوجة علي ما ذكره جماعة فيجوز نقله إلي سائر الزوجات (و لا ينتقل بالموت).

6- ما هو محل الشك من حيث صحّة الاسقاط أو النقل و الانتقال، و عدّ

من ذلك حق الرجوع في العدّة الرجعية، هذا ملخص ما ذكره السيد في الحاشية «2».

و العمدة في المقام أن يقال: إنّ الحقّ له معنيان: معني عام، شامل للملك و الحكم أيضا، مثل حق اللّه علي عباده، و حق الراعي علي الرعية، و حق الرعية علي الراعي و غير ذلك ممّا ورد في رسالة الحقوق لسيد الساجدين و زين العابدين علي بن الحسين عليه السّلام.

و له معني خاص في مقابل الملك و الحكم، و هو بهذا المعني سلطنة علي فعل كما عرفت، سواء كان متعلّقا بعين، أو عقد، أو شخص، أو غير ذلك، و من آثاره أحد الامور علي سبيل منع الخلو:

1- جواز اسقاطه.

2- جواز نقله بعوض أو بغير عوض.

3- جواز انتقاله القهري بارث أو شبهه.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 37، ص 391.

(2). حاشية المكاسب، للسيّد الطباطبائي قدّس سرّه، ص 121.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 22

و أمّا ما ليس فيه شي ء من هذه الامور فليس بحق، بل هو نوع من الحكم كولاية الأب علي ابنه و حق الاستمتاع، فإنّ الأول يرجع إلي جواز تصرف الأب في أموال الولد مع مراعاة المصلحة أو وجوبه، و الثاني إلي جواز التمتع بها، كما أنّ الملك، و هو السلطنة علي المال، يظهر أثره في النقل و الانتقال، بل و الإعراض الذي هو كالإسقاط في الحق.

و لو كان هناك ملك ليس فيه هذه الآثار، فهو من قبيل الحكم لا الملك، فحسب التصور في مقام الثبوت يوجد فيه أنواع سبعة:

1- ما يقبل الاسقاط و النقل (بعوض أو بغير عوض) و الانتقال.

2- ما يقبل الاسقاط فقط.

3- ما يقبل النقل فقط.

4- ما يقبل الانتقال فقط.

5- ما يقبل الاسقاط و النقل.

6- ما يقبل الاسقاط

و الانتقال.

7- ما يقبل النقل و الانتقال.

و أمّا مصاديقها، فنتساءل: هل يوجد لجميعها مصداق، أو يكون لبعضها فقط؟ فبحسب مقام الإثبات هناك مصاديق مشكوكة، بل بعض المصاديق مشكوكة بين الحق و الحكم، و لا ينبغي خلط مقام الإثبات و الثبوت هذا، و لكن بحسب مقام الإثبات، فقد يوجد لبعضها مصداق، فإنّ ما يقبل الانتقال بالموت لعله يقبل النقل بغيره.

هذا و لو شكّ في كون شي ء حقا أو حكما، أو شكّ في كونه قابلا للإسقاط أو النقل أو الانتقال بعد العلم بكونه حقّا (و إن علم بجواز أحد هذه الامور إجمالا)، فما هو مقتضي الاصول؟

أمّا الأوّل: فلا شكّ أن مقتضي الأصل عدم كونه حقّا، أي لا يجري عليه أحد الأحكام الثلاثة.

أمّا إذا علم بكونه حقا، و شكّ أنّها من الحقوق القابلة للإسقاط، فالأصل عدم سقوطه بالاسقاط، و كذا إذا شكّ في كونه من الحقوق القابلة للنقل أو الانتقال فاصالة عدمهما

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 23

أيضا حاكم، و العلم الإجمالي بجواز بعضها بمقتضي كونه من الحقوق غير مفيد إلّا نادرا.

نعم، إذا كان شي ء من الحقوق المعتبرة عند العرف و العقلاء القابلة لهذه الامور الثلاثة أو بعضها عندهم، أمكن القول بامضائها من ناحية الشرع بعد عدم الردع عنه، فلو كان حق الشفعة مثلا قابلا للإسقاط و الانتقال، و شك في جواز ذلك شرعا يمكن القول بجوازه كذلك.

أمّا في غير هذا المورد، فلا دليل علي الجواز، و ليس هنا محل التمسك بأوفوا بالعقود و أحلّ اللّه البيع، و الصلح جائز بين المسلمين، لأنّه من قبيل الشبهات المصداقية، كما أنه مع ثبوت هذه الخصوصيات عرفا، لا حاجة إلي هذه العمومات كما لا يخفي.

نعم، قد يكون هناك بعض القرائن

الدالة علي عدم جواز النقل أو الانتقال كما في حق الوصاية أو الولاية (لو قلنا بكونهما من الحقوق لا من المناصب) فإنّ مثل هذه الحقوق قائمة بالشخص لا تتعدي منه إلي غيره، أو مثل حق ولاية الفقيه فإنّه قائم بعنوان الفقيه الجامع للشرائط و لا ينقل و لا يورث.

أمّا في غير ذلك ممّا يكون بحكم العرف قابلا لأحد هذه الامور علي سبيل منع الخلو، فالأصل ثبوته في الشرع إلّا ما خرج بالدليل التعبدي.

الثالث: في جواز كون المبيع أو الثمن من الحقوق و عدمه.

ظاهر كلام الجواهر جواز وقوعها ثمنا.

و ظاهر كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه عدم جواز وقوعها ثمنا و لا مثمنا، و قد عرفت أنّه قسّمه إلي ثلاثة أقسام: ما لا يقبل حتي الاسقاط فلا معني لكونه عوضا و ما يقبل ذلك، و لا يقبل غيره، فلا يكون عوضا، لأنّ البيع تمليك في مقابل تمليك لا في مقابل الاسقاط.

و أمّا ما يقبل النقل فإنّه و إن أمكن كونه مبيعا أو ثمنا و لكنه خلاف ما يظهر من اشتراط كون العوض مالا، و الحق ليس كذلك.

و لكن يرد عليه: أولا: إنّ ما لا يقبل الاسقاط و النقل فليس بحق، كما عرفت، بل هو من الأحكام لعدم الفرق بينه و بينها.

و ثانيا: إنّ الحقوق من الأموال لأنّها ممّا يرغب فيها و يبذل بإزائها المال، فلو كانت

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 24

قابلة للنقل فلا إشكال في وقوعها عوضا، و ذلك كمن يبيع كتبا أو ثيابا له، في مقابل حق انشعاب الماء و الكهرباء و التليفون، أو في مقابل حق تحجير أرض له، أو غير ذلك، و لا مانع من شمول عمومات البيع له.

يبقي الكلام في ما

يقبل الاسقاط فقط، فإن قلنا البيع تمليك في مقابل تمليك فلا يصحّ وقوعه عوضا، و إن قلنا هو تمليك في مقابل عوض فهذا يمكن وقوعه عوضا، و إمّا بأن يكون العوض نفس الفعل، أعني الاسقاط، أو بأن تكون سائر الأفعال عوضا، كما إذا باعه كتاب في مقابل خياطة ثوب، أو بأن يكون العوض الدين مثلا، علي وجه الاسقاط لا النقل.

و ثالثا: لا مانع من كون الحقوق القابلة للنقل عوضا، و كون «الحق سلطنة فعلية و لا يعقل أن يتسلط الإنسان علي نفسه»، لا دخل له بما نحن بصدده، لأنّ الحق المنتقل إليه قد يكون مثل حق التحجير الذي هو تسلط علي العين، أو حق الخيار الذي هو تسلط علي الغير و أمثال ذلك.

و بالجملة لا نجد مانعا من شي ء من ذلك.

و من هنا يظهر جواز وقوع الحق مثمنا أيضا إذا كان قابلا للتمليك كحق «السرقفلية» و حق انشعاب الماء و الكهرباء، فتدبر جيدا فانّ المقام من مزال الأقدام.

عود إلي تعريف البيع:

اشارة

قد عرفت الإشارة إلي تعريفه من بعض أهل اللغة، و لكنه تعريف شرح الاسم ظاهرا، و لذا تصدي فقهاؤنا الأعلام منذ العصر الأول لإيجاد صياغة دقيقة في تعريفه، بعد قبول عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيه، بل حكي عن مصابيح العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه الاتفاق علي عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيه.

و عرّفوه بتعاريف كثيرة، و إليك نماذج منها:

1- هو انتقال عين مملوكة من شخص إلي غيره بعوض مقدّر علي وجه التراضي (عن

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 25

مبسوط و السرائر و غير واحد من كتب العلّامة قدّس سرّه كالتذكرة و التحرير و القواعد و غيرها).

2- نقل الملك من مالك إلي غيره بصيغة مخصوصة (عن المحقق الكركي قدّس

سرّه).

3- أنّه العقد الدال علي الانتقال المذكور (عن الوسيلة و المختلف).

4- أنّه عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع و الثمن و تسليمهما (كما حكي عن الكافي لأبي الصلاح).

5- أنّه اللفظ الدال علي نقل الملك من مالك إلي آخر بعوض معلوم (كما اختاره في الشرائع).

إلي غير ذلك ممّا ذكروه في كلماتهم (قدّس اللّه أسرارهم).

و قد ذكر في الجواهر أنّ تعاريف القوم علي اختلافها في القيود ترجع إلي أحد الامور الثلاثة: «النقل، و الانتقال، و العقد».

أقول: التعاريف التي ذكرها المحققون من بعده أيضا كذلك من قبيل:

1- أنّه إنشاء تمليك عين بمال (ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه).

2- أنّه تمليك إنشائي (كما أفاده السيد قدّس سرّه في الحاشية).

و الظاهر أنّه ناظر إلي تعريف شيخنا الانصاري قدّس سرّه فمراده «أنّه تمليك إنشائي لعين بمال».

3- أنّه إنشاء تبديل شي ء من الأعيان بعوض في جهة الاضافة (كما ذكره في مصباح الفقاهة).

و مراده من جهة الاضافة ما ذكره في مقام آخر أنّه مقابل للمبادلة في المكان و اللبس و الركوب إلي غير ذلك من المبادلات التكوينية «1».

فاللازم أن نتكلم في المحور الأصلي للبيع، ثم نتكلم في قيوده، فهل أنّ المحور الأصلي هو الإنشاء و العقد، أو النقل أو الانتقال؟

و الإنصاف أنّ الأصل في حقيقة البيع بحسب متفاهم العرف و ما يتبادر منه، هو: إنشاء

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 2، ص 23 و 53.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 26

التمليك، و لكن بما له من الأثر، و إن شئت قلت: هو التمليك الإنشائي كما اشير إلي سابقا، فليس البيع نفس الإنشاء بماله من المعني المصدري (و لا العقد كذلك) بل لا العقد بما له من معني اسم المصدر، بل بإيجاد الملكية بسبب

العقد و الإنشاء و إن شئت قلت: هو التسبب بالإنشاء إلي المنشأ.

و بعبارة أخري: قد يقسم البيع إلي: البيع السببي و المسببي، و الأول هو الإنشاء، و الثاني هو الأثر الحاصل منه، و حقيقة البيع ليس هذا و لا ذاك، بل هو التسبب بالانشاء نحو المسبب.

و لعل من قال أنّه العقد نظر إلي ذلك، كما أنّ من قال أنّه النقل ناظر إليه، و أمّا القائل بأنّه الانتقال، فإن كان مراده النقل، فهو كذلك، و إن كان بمعني الأثر الحاصل بعد النقل، أو ما هو معني المطاوعة، فلا شك أنّه أجنبي منه.

و بالجملة لا أظن وجود خلاف كثير بينهم و إن اختلفت التعبيرات.

و أمّا قيوده، فالظاهر عدم اعتبار أزيد من المالية في العوضين، فيقال: «هو تمليك مال بعوض».

لما عرفت من عدم لزوم كون المثمن و لا الثمن من الأعيان، بل يجوز كونهما من الحقوق، و كون الثمن من المنافع، نعم إذا كان البيع منفعة كان من الاجارة لا من البيع.

و بقي الكلام في ما أورد عليه من الإشكالات الخمس التي ذكرها شيخنا الانصاري قدّس سرّه و أجاب عنها:

أولها: إنّ لازمه جواز إنشاء البيع بلفظ، ملكت، و أجيب عنه: بأنا نلتزمه و لا مانع منه.

ثانيها: أنّه لا يشمل بيع الدين علي من هو عليه، لأنّ الإنسان لا يملك علي نفسه شيئا.

و أجيب: بجواز ذلك آنا ما، و أثره سقوط الدين.

ثالثها: شموله للمعاطاة مع أنّه ليس ببيع عندهم، و لكن سيأتي إن شاء اللّه أنّ الأصل في البيع- علي خلاف ما هو المعروف في الأذهان- هو المعاطاة، و إنّما نشأ البيع بالصيغة بعدها، فإن الناس في أول أمرهم كانوا يبادلون أموالهم من خلال المعاطاة و لم يكن هناك

إنشاء لفظي، ثمّ لمّا نشأت القوانين الإلهية و العرفية بينهم، جعلوا له صياغة قانونية إنشائية

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 27

بالالفاظ أو بالكتابة كما لا يخفي علي الخبير.

و كيف لا تكون المعاطاة بيعا، و أكثر ما يقع في البيع هو من هذا الباب، حتي أنّ البيع بالصيغة عندهم قليل بالنسبة إليه، و لذا ذهب جمع من الأكابر إلي كون بيعا لازما.

رابعها: صدقه علي الشراء، فانه أيضا تمليك مال بمال (أو تمليك عين بمال).

و أجيب عنه: بأنّ حقيقة الشراء التملك في مقابل العوض، فالتمليك فيه تبعي، و التملك أصلي، و هو غير بعيد.

(و منه يعلم الفرق بين البائع و المشتري إذا كان كلّ من الثمن و المثمن من العروض).

و قد أورد علي هذا الوجه في مصباح الفقاهة بما حاصله: إنّ التمليك الضمني ليس له معني محصل، و لا معني لكون أحد التمليكين أصلا و الآخر تبعيا، فانّ التمليكين من ناحية البائع أو المشتري يتحققان في مرتبة واحدة، و إذن فلا أصالة و لا تبعية في المقام، و ظهور لفظ الإيجاب و القبول في ذلك غير مفيد، لأنّه يرجع إلي مقام الإثبات، فلا يوجب فرقا بينهما في مقام اللب و الثبوت.

أقول: لا شك في أنّ ألفاظ الإيجاب و القبول تحكي عن كيفية اعتبار المعتبر لهما، و مقام الإثبات حاك عن مقام الثبوت، و إن شئت قلت: إنّ حقيقة اعتبار البيع هو تمليك شي ء بعوض، و حقيقة اعتبار الشراء هو تملّك شي ء بعوض، فماهية الأول أولا و بالذات التمليك، و أمّا التملك فهو تبع في كيفية الاعتبار و الإنشاء، كما أنّ ذلك في الشراء بالعكس، سواء تقدم القبول علي الإيجاب أو تأخر عنه.

و لا يوجد مشتر يملك

الثمن ليتملك المثمن، فليست الأصالة و التبعية بحسب مقام الإثبات فقط، بل اللب و كيفية الاعتبار.

هذا و يمكن أن يقال: بأنّ الصادر عن البائع إنشاءان، إنشاء تمليك المبيع للمشتري و إنشاء تملك الثمن لنفسه، و الذي يصدر عن المشتري هو قبول ذلك فقط، لا أقول القبول ليس من قوام الإيجاب، بل أقول إنّ حقيقة أحد الاعتبارين شبيه الفعل، و الاخري شبيه الانفعال، و لا في اللفظ فقط، بل نحو الاعتبار، و هذا التفاوت يوجب أحكاما مختلفة و لا مانع من ذلك.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 28

و في الحقيقة فان هذا المورد يشابه صورة العمل الخارجي بالنسبة إلي عالم الاعتبار، فكما أنّ من يبيع الخبز بالدراهم يعطي الخبز ليأخذ الدرهم، و المشتري يقبله منه في مقابله، فكذا في كيفية الاعتبار، و تقديم القبول أحيانا مثل تقديم دفع النقود لا يكون مغيّرا لهذه الحقيقة.

خامسها: انتقاض طرده بالصلح و الهبة المعوضة، و اجيب عن الأول بأنّ حقيقة الصلح ليست هي التمليك علي وجه المقابلة، بل معناه الأصلي التسالم علي شي ء، و هذا غير منطبق علي ما عرفت من تعريف البيع.

أقول: قد وقع الكلام في مفتتح كتاب الصلح في الفقه في مقامين:

الأول: في أنّه هل يعتبر في حقيقة الصلح التجاذب و التنازع أم لا؟ حكي عن ظاهر الأصحاب الاتفاق علي عدم اعتباره، و إن حكي عن بعض أهل الخلاف اعتباره.

قال في المسالك: إنّ الحكمة فيه و إن كانت رفع الخلاف و النزاع، و لكن الحكمة ليست لازمة في جمع الأفراد، كما في المشقة في السفر، و عدم تداخل المياه في العدّة، و ذلك لعموم أدلة الصلح، مثل قوله عليه السّلام: «الصلح جائز بين المسلمين» أو قوله صلّي

اللّه عليه و آله: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا» «1».

هذا و الإنصاف أنّ اطلاق أدلة الصلح محل إشكال أو منع بعد كون التنازع و التجاذب مأخوذا في مفهوم هذه الكلمة عرفا، و أنّه ممّا لا ينبغي الشك فيه.

و يمكن أن يقال- كما يظهر من بعض- إنّ كون شي ء ممّا يترقب منه النزاع مظنة للتجاذب أيضا كاف في ذلك، لا سيما أنّ العقود إنّما شرعت في الشرع و العرف لأغراض لا يتأتي من غيرها، فلو كان للصلح أثر البيع و الاجارة و غيرها، فأي داع في تشريعها، بل الظاهر أنّه لا بدّ فيه من وجود نوع من الخلف و لو بالقوّة، كما في الحقوق المبهمة و الدعاوي المشكوكة و الديون غير الثابتة، أو الثابتة غير معلومة المقدار أو غير ذلك، و تمام الكلام في محله.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، كتاب الصلح الباب 3، ح 1 و 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 29

الثاني: هل الصلح عقد مستقل برأسه، أو هو فرع لغيره كما اختاره الشيخ قدّس سرّه في المبسوط حيث قال: إنّه فرع علي عقود خمسة (البيع و الإجارة و الهبة و العارية و الابراء)، و هو مذهب الشافعي أيضا، و لكن المعروف من الأصحاب هو الأول.

و لعلّ القول بفرعيته نشأ من عدم اعتبار التجاذب و الخلف في ماهيته، فلا يكون حينئذ عقدا برأسه، و أمّا لو قلنا بأنّه شرع لدفع الخلف في موارد الشك و الابهام و مظنّة تضارب الحقوق، ممّا لا تتمّ فيه شرائط البيع و الإجارة و غيرهما حيث إنّها تقع علي امور معلومة محققة، كان الفرق بين الصلح و غيره و كونه عقدا مستقلا واضحا،

فتدبر فإنّه حقيق به.

إذا عرفت ذلك ظهر لك عدم الإشكال علي طرد التعريف بانتقاضه بالصلح.

و أمّا انتقاضه بالهبة المعوضة، فقد اجيب عنه بأنّه ليس تمليكا بعوض، بل كل واحد تمليك مستقل من دون عوض، و لكن تخلف «المشروط عليه» عن الشرط يوجب جواز الرجوع للمشروط له في هبته.

أقول: الهبة المشروطة المعوضة علي أقسام:

1- ما يكون فيه العوض من دون اشتراط، و ذلك كما ورد في الحديث الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا عوض صاحب الهبة فليس له ان يرجع» «1» بناء علي أنّ المراد اعطاء العوض من دون شرط أو كونه أعم.

و أظهر منه ما رواه عبد اللّه بن سليمان و عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق عليه السّلام عند السؤال عن جواز الرجوع في الهبة: «تجوز الهبة لذوي القرابة و الذي يثاب عن هبته، و يرجع في غير ذلك إن شاء» «2».

و هذا القسم لا دخل له بما نحن بصدده.

2- ما ذكر فيه العوض بعنوان شرط الفعل.

و هذا أيضا ليس فيه معاوضة كما هو ظاهر.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 9 أحكام الهبات، ح 1.

(2). المصدر السابق، الباب 6 أحكام الهبات، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 30

3- ما ذكر فيه بعنوان شرط النتيجة، و هذا شبيه المعاوضة، و لكن الإنصاف يقتضي التأمل في أصل صحة هذه الهبة و كونه من هذا الباب.

و سادسها: بانتقاضه بالقرض، فإنّه أيضا تمليك بعوض، و اجيب عنه بأنّه ليس من باب التمليك بعوض، بل من باب التمليك علي وجه الضمان، و لذا لا تجري فيه أحكام المعاوضات مثل ربا المعاوضة و لا الغرر فيها، و لا ذكر العوض و لا العلم به

فتأمل.

أقول: و يمكن تطرق الإشكال إليه بأن التمليك علي وجه الضمان إن كان المراد منه كون نفس العين المقترضة في الضمان، فلازمه عدم اشتغال ذمّة المقترض بشي ء، و هو مخالف للإجماع ظاهرا، و إن كان بمعني ضمان المثل، فهو عين التمليك بعوض لأنّ معناه تمليك عين في مقابل تملك ما في ذمته من المثل.

إن قلت: معني القرض هو تمليك المقرض ما له للمقترض علي وجه ضمان المثل (كما في مصباح الفقاهة).

قلت: ضمان العين ما دامت موجودة إنّما يكون بنفسها، نعم عند فقدانه يتنزل إلي المثل، و مع فقدانه إلي القيمة، و أمّا ضمان المثل مع وجود العين فليس إلّا بمعني تمليك مال في مقابل مال، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ للمالك أن لا يطالب الضامن بخصوصيات العين، بل يطالب خصوصياتها النوعيه أو ماليتها.

و بعبارة اخري: لكل عين ثلاث مراتب: مرتبة الأوصاف الشخصية، و مرتبة الأوصاف النوعية، و مرتبة المالية، و يجوز للمالك تضمين الغير بكل واحد منها، فإن ضمنه بأوصافه الشخصية، فعلي الضامن ردّ عينه و إن لم يطالبه بذلك بل ضمنه بأوصافه النوعية، فعلية ردّ مثله، و إن ضمنه بماليته، فعليه أداء قيمته.

و علي هذا يكون القرض من هذا القبيل، و منه يعلم جواز تخيير المقترض يوم الأداء بمثله أو بعينه.

و لعل ما هو المتداول اليوم من ايداع النقود في البنوك أيضا كذلك، لأن اللازم في الوديعة حفظ عينه، إلّا أنّ المالك قد لا يكون مراده وديعة العين بل وديعة ماليته فقط،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 31

و هذا و إن لم يكن معروفا عند فقهائنا، و لكن لا مانع منه بعد جريانه عند العقلاء.

و إن شئت قلت: لا شك في عدم وجوب

حفظ عين النقود علي البنك و ردّها علي صاحبه، فإن هذا مخالف لارتكاز العرف و مقاصد الطرفين، بل يجب عليه ردّ مثل النقود فقط، بحسب المالية.

و حينئذ إمّا أن يكون من قبيل الإقراض للبنك، أو من قبيل وديعته، و الأول مخالف للارتكاز العرفي، فيتعين الثاني، و لكن وديعته بماليته لا بشخصه. و إن كان أثرهما واحدا دائما أو غالبا فتدبر.

بقي الكلام فيما ذكره قدّس سرّه من آثار عدم كون القرض معاوضة، أمّا عدم ذكر العوض و عدم العلم به في القرض فهو كما تري، لأنّ العوض معلوم لا يحتاج إلي ذكر بل عنوان القرض كاف.

أمّا جواز الغرر فيه، فهو مبني علي صحة القرض بمقدار مجهول، و هو محل للإشكال في كتاب القرض، فجوّزه جماعة و منعه آخرون نظرا إلي أدلّة نفي الغرر، و اختصاص رواية النهي بالبيع «نهي النبي صلّي اللّه عليه و آله عن بيع الغرر» لا ينافي عموم الحكم لما ذكرنا في محله فتأمل، فجريان نفي الغرر فيه و عدم جواز القرض بصخرة مجهولة مثلا، لا ربط له بكون القرض من المعاوضات و عدمه، بل هو فرع عموم دليل نفي الغرر لكل معاوضة و عدمه.

و أمّا عدم جريان ربا المعاوضة فيه، فمعناه أنّ الربا فيه محرم من دون اشتراط بالمكيل و الموزون، و وحدة الجنس، ففي القيميات لا تكون وحدة الجنس، و في الأوراق النقدية لا يكون هناك مكيل و موزون، و لكن الربا جار فيهما عند القرض.

و قد أورد عليه: بإمكان تفاوت أنواع المعاوضة بحسب الأحكام و لو كان القرض من المعاوضات، و هذا كلام متين.

أضف إلي ذلك أنّ الإقراض في القيميات غير معمول عرفا، و إن صرح بجوازه فقهاؤنا، و لكن

في النفس منه شي ء، و تمام الكلام فيه في محله.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 32

بقي هنا امور:
1- في معاني البيع:

الظاهر أنّ للبيع معنيان معروفان:

«أحدهما» ما عرفت تعريفه، و هو المقابل للشراء.

«ثانيهما» الايجاب المتعقب للقبول، و هو المراد فيما لم يكن فيه مقابلة، بل اريد منه البيع المؤثر.

و الإنصاف أنّ اطلاقه علي كليهما أمر شائع ذايع، و قد يكون من قبيل الاشتراك اللفظي أو المعنوي، و الجامع بينهما هو التمليك بعوض لا بشرط لحوق القبول، و لكن ينصرف إليه أحيانا بقرينة الحال أو المقال إذا اريد ما هو المؤثر في النقل و الانتقال، كما اختاره شيخنا الأعظم قدّس سرّه قال: «القيد مستفاد من الخارج لا أن البيع مستعمل في الايجاب المتعقب للقبول، نعم تحقق القبول شرط للانتقال في الخارج لا في نظر الناقل، إذا التأثير لا ينفك عن الأثر فالبيع و ما يساويه من قبيل الايجاب و الوجوب لا الكسر و الانكسار كما تخيله بعض، فتأمل» انتهي ملخصا.

أقول: الإنصاف أنّ استعمال البيع في المعني الثاني كثير، بل هو العمدة من موارد استعمالاته، بل هو المتبادر منه غالبا، بحيث يعلم أنّه من معانيه الحقيقية، بل الظاهر أنّه لم يستعمل في القرآن الكريم إلّا فيه (و قد ذكر فيه سبع مرات) قال اللّه تعالي: ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبٰا «1».

و قال تعالي: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا «2».

و قال تعالي: رِجٰالٌ لٰا تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ «3».

و قال تعالي: إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِليٰ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ «4».

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 275.

(2). سورة البقرة، الآية 275.

(3). سورة النور، الآية 37.

(4). سورة الجمعة، الآية 9.

أنوار الفقاهة - كتاب

البيع (لمكارم)، ص: 33

إلي غير ذلك ممّا هو كالصريح في كون المراد منه الايجاب المتعقب للقبول، بل الظاهر أنّ القبول داخل فيه بعنوان التركّب، لا بعنوان الشرط، فهو مركب من البيع و الشراء.

نعم، إذا ذكر في مقابل الشراء، كان ظاهرا في خصوص فعل الموجب، و كذا في مشتقاته عند الإنشاء مثل «بعت»، هذا أولا.

و أمّا ثانيا: ما ذكره من أن تعقب القبول شرط في الخارج لا في نظر الناقل.

فيرد عليه: أنّ الناقل يعلم أنّه بصدد العقد و أنّ الأثر أثر للعقد، و العقد لا يكون إلّا بفعل الاثنين، ففي الحقيقة أنّ الموجب يتمّ الأمر من ناحية نفسه، و ينتظر تكميله من الجانب المقابل، لا أنّه يري العقد و الأثر تاما كاملا، فإن هذا ممّا لا معني له بعد العلم بترتب الأثر علي العقد الكامل، و إلّا كان من الايقاعات.

و ثالثا: ما أفاده من أنّه من قبيل الإيجاب و الوجوب لا الكسر و الانكسار، إن كان مراده أنّ الايجاب كما لا ينفك عن الوجوب في نظر الموجب و إن انفك عنه في الخارج لعدم تحقق شرطه فكذلك إنشاء البيع، لا أنّه من قبيل الكسر و الانكسار بحيث لا ينفكان خارجا و وجود أحدهما ملازم دائما للآخر.

فقد أورد عليه: بأنّه دعوي جزافية، إذ الايجاب أيضا لا ينفك عن الوجوب، إلّا أنّ عدم انفكاك أحدهما عن الآخر في نظر الموجب فقط لا في الخارج. «1».

قلت: و كفي بذلك فرقا بينهما، مضافا إلي ما عرفت آنفا، هذا و لكن الانصاف أنّ البيع ليس من هذا القبيل، و لا من قبيل الكسر و الانكسار بعد كونه من العقود لا من الايقاعات، و البائع عالم بذلك، فتدبّر جيدا.

هذا و قد ذكر

للبيع معنيان آخران:

«أحدهما»: نفس العقد المركب من الايجاب و القبول كما عرفت في بعض التعاريف المذكورة في صدر الكلام.

«ثانيهما»: الأثر الحاصل من الايجاب و القبول، و هو الانتقال، و قد عرفت في التعاريف ما يشهد له.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 2، ص 73.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 34

هذا و الانصاف أنّ شيئا منهما ليس من معاني البيع، بل الأول من قبيل مقدماته و الثاني من قبيل نتائجه، و إلّا ليس العقد مع قطع النظر عن محتواه و تأثيره بيعا بالضرورة، كما أنّ الانتقال بمفهوم اسم المصدر ليس البيع الذي يشتق منه المشتقات الفعلية.

2- هل البيع و شبهه موضوع للصحيح أو الأعم؟

و هذه هي المسألة التي أشار إليها شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذيل كلامه في المقام أنّها جزئي من جزئيات مسألة الصحيح و الأعم، و هي محررة في الاصول و ليس هنا مقام بيانها، إلّا أنا نشير إليها إشارة إجمالية و حاصلها:

«الف» المراد من الصحيح كما حققناه في محله هو ما يترتب عليه الأثر المترقب منه و لو بالقوة القريبة من الفعل، سواء اجتمعت فيه جميع الأجزاء و الشرائط المتعارفة أو الواجبة، أم لا؟ فالسراج الصحيح هو ما يستفاد منه في مقابل الظلمة لمشاهدة الأشياء، و الساعة لتعيين الوقت، و السيارة للركوب فيها و الانتقال من محل إلي آخر غير ذلك حتي لو كان بعض أجزائها مكسورا أو معيبا، نعم إذا انعدمت الاستفادة منه بالمرة، لم يكن مصداقا للصحيح بالمعني الذي ذكرنا، و هو المقابل للفاسد لا للمعيوب.

«ب» الحق هو وضع الأسامي للصحيح، سواء في الحقائق التكوينية، أو الاعتبارات العرفية أو الشرعية، للتبادر، و صحة السلب عن الفاسد، و الاطراد (لأنّه عندنا من علائم الحقيقة)، و حكمة الوضع، و تمام الكلام

في محله.

«ج» بما أنّ الصحة في العرف و الشرع في مثل البيع و غيره من العقود متفاوتة، فإذا ذكرها أهل العرف بما أنّهم كذلك انصرف الذهن إلي الصحيح العرفي، و إذا ذكره أهل الشرع و المسلمون بما أنّهم معتقدون باصول الإسلام و تشريعاته، انصرف الذهن إلي الصحيح الشرعي، و في الدعاوي و الاقرارات أيضا تتبع هذه القاعدة.

«د» كيف يجوز التمسك بالاطلاقات علي القول بالصحيح عند الشك في اعتبار شي ء شطرا أو شرطا في بعض العقود مع أنّه من قبيل الأخذ بالعام في الشبهات المصداقية، مثلا إذا شككنا في اعتبار الصيغة في البيع، فكيف يصحّ لنا الأخذ بعموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ مع أنّ

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 35

البيع موضوع للصحيح، و هو هناك مشكوك؟

و الجواب عنه: إنّ القرينة هنا قائمة علي أنّ المراد منه البيع هو الصحيح عند العقلاء و أهل العرف، فإنّه لا معني لأن يقول: «أحلّ اللّه البيع الصحيح شرعا» فإنّ هذا تحصيل الحاصل (أولا) و إحالة علي المجهول (ثانيا)، بل الذي يفيد هو أن يقول: «إنّ اللّه أحلّ البيع الصحيح عند العقلاء إلّا ما خرج بالدليل الشرعي».

و أمّا ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في وجه تمسك العلماء بالاطلاقات هنا، من أنّ الخطابات صدرت علي طبق العرف، فغير كاف، لأن خطابات الشرع لا بدّ أن تكون علي النحو الصحيح الشرعي لا العرفي، و لكن القرينة التي عرفتها تدلنا علي ذلك.

و هنا كلام لبعض أعلام العصر ذكره في كتاب بيعه و حاصله: إنّ البيع و نحوه لو كان موضوعا للمسببات، فلا تتصف بالصحة و الفساد، بل أمرها دائر بين الوجود و العدم.

و علي فرض وضعها للأسباب فالتحقيق أنّها موضوعة للأعم من الصحيح

منها، و لو فرض وضعها للصحيح، فلا شبهة في عدم وضعها للصحيح الشرعي، لعدم الحقيقة الشرعية فيها.

و لو فرض وضعها للصحيح عنده، فلا ينبغي التأمل في لزوم كون اختلافه مع العرف في المفهوم، لأنّه مع اتفاقهما في المفهوم لا يعقل الردع و التخطئة في المصداق.

و علي فرض وضعها للأسباب الصحيحة الراجعة إلي الاختلاف في المفهوم لا يصحّ التمسك بالاطلاق إذا شك في اعتبار و قيد أو شرط، انتهي ملخصا «1».

أقول: و في كلامه مواقع للنظر:

أولا: قد عرفت أنّ الألفاظ، سواء ألفاظ العبادات و المعاملات بل الموضوعات العرفية كلها، وضعت للصحيح المؤثر للأثر المرغوب منه، و هو الذي يكون محلا للابتلاء في جميع الأحوال و جميع شئون الحياة، بل هو الداعي لوضع الألفاظ بطبيعة الحال، و أمّا الفاسد فهو شي ء خارج عن محط الأغراض و الأنظار، و قد يبتلي به أحيانا، فالصحيح هو الأصل، و الفاسد هو الفرع، و الموضوع له هو الأول بحكم التبادر و غيره ممّا عرفت.

______________________________

(1). كتاب البيع، ج 1، ص 46.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 36

ثانيا: الموضوع له بناء علي المختار- و هو الصحيح- عبارة عمّا يكون مؤثرا للأثر، أعني النقل و الانتقال في مثال البيع، و غاية الأمر أنّ الشارع لا يري بيع الربا مصداقا لهذا العنوان، و أهل العرف يرونه مصداقا، فليس الخلاف بينهما في المفهوم الكلي، أعني الصحيح المؤثر للأثر، بل في المصداق.

نعم، ليس للبيع الذي هو أمر اعتباري، واقع ثابت في الخارج حتي يكون ردع الشارع من باب التخطئة كما هو كذلك في التكوينيات، بل باعدام الموضوع، أعني الصحيح في افق اعتباراته، بينما يراه العرف مصداقا له.

ثالثا: التمسك بالاطلاقات صحيح علي كل حال، ففي حال كون

المفهوم واحدا، فهو ظاهر، لما قد عرفت، أمّا لو كان المفهوم متعددا، فالقرينة قائمة علي أنّ الاطلاقات ناظرة إلي المفهوم العرفي من البيع، و إلّا فلا معني لقوله: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ أو قوله تعالي: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لأنّه من قبيل الإحالة علي المجهول، بل و من قبيل تحصيل الحاصل كما لا يخفي علي الخبير.

3- ما هي حقيقة الإنشاء؟

المعروف أنّ الإنشاء هو: إيجاد المعني باللفظ، و لكن أورد عليه بعض أعاظم العصر بما حاصله: إنّ الإيجاد إن كان بمعني الإيجاد الخارجي، فهو ضروري البطلان، بداهة أنّ الموجودات الخارجية مستندة إلي عللها الخاصة التكوينية.

و إن كان المراد الإيجاد الاعتباري في نفس المتكلم، فهو واضح الفساد أيضا لأن الاعتبار النفساني الذي هو من أفعال النفس لا حاجة له إي الألفاظ أساسا.

و إن كان المراد منه اعتبار العقلاء، فهو مترتب علي تحقق الإنشاء أولا من المنشئ حتي يعتبره العقلاء و الشرع.

و بالجملة لا يعقل معني محصل لتعريف الإنشاء بإيجاد معني باللفظ، و التحقيق أنّه ابراز الاعتبار النفساني بمبرز خارجي، كما أنّ الخبر عبارة عن إبراز قصد الحكاية، (انتهي ملخصا) «1».

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 2، ص 50.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 37

أقول: أولا: إنّ كون الإنشاء أمرا إيجاديا هو أمر وجداني، سواء في البيع و الهبة و النكاح أو النداء و التمني و الترجّي و غيرها، فالوجدان أصدق شاهد بأنا عند ذكرنا هذه الصيغ نوجد أمرا اعتباريا، لا أنا نعتبر شيئا في أنفسنا ثم نخبر و نكشف عنه.

و ثانيا: أنّه لو كان الإنشاء إبراز الاعتبار النفساني، كان كالخبر يحتمل الصدق و الكذب، فإن الذي ينفي عن الإنشاء احتمال الصدق و الكذب، إنّما هو كونه إيجاديا، و عند إنكاره يكون كالخبر بعينه.

إن قلت:

بينهما فرق واضح، فإنّه ليس في الإنشاء وراء الاعتبار النفساني شي ء بخلاف الإخبار الذي يحكي عمّا بإزائه في الخارج.

قلت: نعم، و لكن إذا ذكر المبرز (بالكسر) و لم يطابق المبرز (بالفتح) و لم يكن أمرا ثابتا في النفس، كان كاذبا في إبرازه و اظهاره.

و ثالثا: - و هو العمدة- أنّ حقيقة الإنشاء ليست مجرّد الاعتبار النفساني، و لا مجرّد الألفاظ، بل اعتبار عقلائي يوجد بما دلّ عليه مع النّية و القصد.

توضيح ذلك: إنّ حقيقة الملكية في بدء الأمر هي السلطنة الخارجية علي شي ء، و تمليك الغير عبارة عن تسليطه عليه خارجا، ثم لما أخذت المجتمعات البشرية تتسع و تتنوع تبدلت هذه السلطنة بشكل اعتباري قانوني، و قام الإنشاء مقام الاعطاء الفعلي الخارجي، فمجرّد الاعتبار النفساني لا أثر له عند العقلاء، و لا يوجد السلطة الاعتبارية القانونية، و إنّما توجد هذه السلطة بالفاظ أو أفعال وضعت لها، مع قصد إيجادها، فإنشاء الملكية هو إيجاد اعتبار عقلائي قانوني بأسبابه، لا إيجاد أمر تكويني، و لا إيجاد أمر نفساني حتي لا يحتاج إلي الألفاظ و شبهها، بل إيجاد سلطة قانونية عقلائية و هو يحتاج إلي أسباب خاصة عندهم، و كذلك الطلاق مثلا، هو إيجاد فرقة قانونية عقلائية بأسبابه، و هكذا في سائر الإنشائيات من العقود و الايقاعات، فتدبّر فإنّه حقيق به.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 39

بيع المعاطاة و أحكامها

اشارة

وقع الكلام بين الأعلام أولا: في صحة بيع المعاطاة و عدمها من العصر الأول إلي زماننا هذا، و في المراد منه ثانيا، و في معني صحته ثالثا.

و الحق أنّه بيع صحيح لازم لا يجوز فسخه إلّا بأحد الخيارات الثابتة في البيع، و بسط الكلام فيه يقع في مقامات:

المقام الأول: في الأقوال في المسألة

اشارة

و حكي فيها سبعة أقوال:

1- أنّه بيع لازم مطلقا، سواء كان ما دلّ علي التراضي هو اللفظ (غير الصيغة المخصوصة)، أو الفعل الخالي عن اللفظ، نسب ذلك إلي المفيد قدّس سرّه حيث قال في المقنعة:

«و البيع ينعقد علي تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعا و تراضيا بالبيع و تقابضاه و افتراقا بالأبدان» فقد ذكر خمسة شرائط للبيع و لم يعد الإنشاء اللفظي منها، و لكن قد يقال: إنّه أوكل الأمر إلي وضوحه و اشتهاره بين الأصحاب (و فيه ما فيه).

و صرّح في المختلف بأنّ كلام الشيخ المفيد قدّس سرّه غير صريح و لا ظاهر فيه بل يتوهّم منه «1».

و حكي عن بعض علماء العامّة أيضا ذلك، و لكن عن الشافعية عدم صحته إلّا باللفظ، و عن أبي حنيفة صحته في المحقرات.

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 156.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 40

2- أنّه بيع لازم إذا كان الدال علي المعاملة لفظا (أي ما دلّ علي التراضي) نسبه في الحدائق إلي المحقق الأردبيلي قدّس سرّه في شرح الإرشاد و صاحب الكفاية و الفيض في المفاتيح و جمع من المحدثين.

و قد نقله الشهيد الثاني قدّس سرّه عن بعض مشايخه، و لكن الذي حكاه في مفتاح الكرامة هكذا: و في الكفاية أن قول المفيد غير بعيد، و هو خيرة مجمع البرهان و المفاتيح و

نقله في الحدائق عن الشيخ سليمان البحراني «1».

3- إنّها تفيد الملكية الجائزة لا اللازمة، و إنّما يحصل اللزوم بذهاب العينين أو أحدهما، و أول من نسب إليه هذا القول هو المحقق الثاني قدّس سرّه، و قد حمل كلمات القائلين بالاباحة عليه، و أتعب نفسه الشريفة في تأييد مباني هذا القول و دفع إشكالاته، و لكن الإنصاف أنّ حمل كلمات القائلين بالاباحة عليه مشكل جدّا.

4- إنّها تفيد الإباحة فقط، و بما أنّ هذه الاباحة تشمل جميع التصرفات حتي التصرفات المتوقفة علي الملك، فقد ذهب بعضهم إلي حصول الملك آنا ما قبل هذه التصرفات، و نسب هذا القول إلي المشهور بين الأصحاب، و هو صريح المبسوط و الجواهر و الغنية و السرائر و الشرائع و المسالك و غيرها «2».

5- إنّها تفيد إباحة جميع التصرفات ما عدا التصرفات المتوقفة علي الملكية، كالبيع و الوطي في الأمة و الوقف و شبهها، و حكي هذا عن حواشي الشهيد قدّس سرّه علي القواعد.

6- إنّه بيع فاسد، كما حكي عن العلّامة قدّس سرّه في النهاية، و لكن حكي عنه رجوعه عنه في كتبه المتأخرة، و لازمه عدم جواز أي تصرف فيهما.

7- قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بعد ذلك: و هنا قول سابع، و هو أنّها معاملة مستقلة مفيدة للملكية و ليست بيعا و إن كانت في مقامه، و قد حكي هذا عن الشيخ الكبير الشيخ جعفر قدّس سرّه «3».

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 156.

(2). المصدر السابق، ص 154.

(3). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 147.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 41

و هذا و لكن لمّا كان المشهور بين الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) القول بالاباحة دون الملك، وقع

بين أعاظم المتأخرين حوار شديد، و معركة عظيمة في هذا المقام لأنّ مراد المتعاطيين كان هو الملكية، و لم تقع بل وقع ما لم يقصداه، و هو الاباحة، فما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

مضافا إلي أنّ ظاهر هم جواز التصرفات الناقلة و المتوقفة علي الملك، و كيف يصحّ مثل الوقف و البيع و الوطي في الأمة و شبه ذلك و ليس مملوكا؟

و عمدة المعركة بين ثلاث من كبار اساطين الفقه و هم المحقق الثاني، و صاحب الجواهر، و شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس اللّه أسرارهم).

فقال الأول منهم بأنّ مراد المشهور من الإباحة، الملك الجائز دون اللازم، قال: و ما يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب من أنّها تفيد الاباحة و تلزم بذهاب إحدي العينين، يريدون به عدم اللزوم في أول الأمر، و بالذهاب يتحقق اللزوم، لامتناع إرادة الاباحة المجرّدة عن أصل الملك، إذ المقصود للمتعاطيين إنّما هو الملك، فإذا لم يحصل كانت فاسدة، و لم يجز التصرف في العين، و كافة الأصحاب علي خلافه (انتهي) «1».

و قال في الجواهر بعد أن استجود هذا المقال في كلام طويل له: إن حمل كلمات قدماء الأصحاب علي ما ذكرناه من أنّ مرادهم بيان قابلية الأفعال للإباحة لو قصداها و أنّ ذلك مشروع دون التمليك البيعي مثلا، خير من ذلك «2».

و بهذا الاعتبار جعل محل النزاع ما لو قصدا الإباحة.

و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعد ذكر كلمات جمع من الأصحاب (الظاهر أو الصريحة أنّ محل الكلام ما لو قصدا الملك دون الاباحة كما أنّ مرادهم من الاباحة هو نفس الاباحة لا الملك الجائز، بل بعض عباراتهم صريح أو كالصريح في ذلك): إنّ الاولي إبقاء كلماتهم

في المقامين علي ظاهرها و نجتهد في حلّ مشكلات هذه الإباحة (انتهي محل الحاجة).

و الانصاف أنّ ما ذكره أحسن و أوجه ممّا ذكره العلمان السابقان، و إن كان لا يخلو

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 214.

(2). المصدر السابق، ص 224.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 42

أيضا من مشكلات و معضلات، و عمدتها أمران:

الأول: كيف تحصل الاباحة مع عدم قصدها، فما قصداه و هو الملك لم يقع، و ما لم يقصداه و هي الاباحة وقعت.

قال في الجواهر: ليس له وجه فضلا عن نسبته إلي المشهور أو الإجماع، ضرورة أنّهم إن أرادوا أنّها من المالك، فالفرض عدمها لكون المقصود له أمرا خاصا لم يحصل، فارتفع الجنس بارتفاعه.

و إن أرادوا إباحة شرعية، فهو مع أنّه من الغرائب بعد أن جعل الشارع أمر المال إلي مالكه، لا دليل عليها (انتهي محل الحاجة).

الثاني: حصول الملك بالتصرفات الناقلة مقارنا لها أو آنا مّا قبلها.

هذا، و لكن قد ذكر في وجه الاباحة هنا أمران:

1- الإجماع كما أشار إليه، في مصباح الفقاهة آخذا من كلام الشهيد قدّس سرّه في القواعد و غيره حيث ادعوا الإجماع علي افادتها الاباحة دون الملك.

و لكن يرد عليه: أنّ التعبد المحض في هذه الأبواب بعيد جدّا بعد كون بناء الشارع علي امضاء بناء العقلاء فيها، و امضاء مقصود المتبايعين، كما أشار إليه في الجواهر، مضافا إلي أنّ ظاهر كلامهم عدم استنادهم فيه إلي نص.

2- ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث قال: إنّ الاباحة لم تحصل بإنشاء ابتداء، و إنّما حصلت- كما اعترف به في المسالك- من استلزام اعطاء كل منهما سلعته مسلطا عليها، مع الاذن في التصرف فيه بوجوه التصرفات (انتهي).

و هذا و إن كان صحيحا

في الغالب، و لكن توجد مصاديق ليس فيها اباحة بدون الملك من ناحية مالكه، و حينئذ يشكل الأمر فيها.

و إن شئت جعلت هذا من وجوه ضعف قول المشهور.

و أظنّ أنّ الذي دعاهم إلي ذلك، أنّهم رأوا عدم بناء العقلاء و أهل العرف و الشرع علي الاقدام علي البيع في الامور الخطيرة، كالضياع و العقار و البيت و غيرها من الامور المهمّة إلّا بإنشاء لفظي أو كتبي أو كليهما، هذا من ناحية، و من ناحية اخري رأوا أنّ العرف لا

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 43

يعتني بشرائط البيع في الامور اليسيرة جدّا، كإعطاء قطعة من النقود إلي البقال أو السقاء في مقابل أخذ شي ء من البقل أو الماء من دون العلم بمقدار العوض و سائر شرائط (كما مثل به كثير منهم).

فمن هنا قالوا باعتبار الإيجاب و القبول اللفظي في البيع، و كون المعاطاة في الامور اليسيرة مفيدة لمجرّد الاباحة، مضافا إلي ما نعرف منهم من البناء علي الاحتياط في أبواب الفقه.

هذا و لكن يرد عليهم أنّ ما بين هذين، بيوع و تجارات كثيرة- و ما أكثرها- متداولة بين أهل العرف، و هم يرون أنفسهم ملزمين برعاية شرائط البيع من تعيين الثمن و المثمن و غيره من دون الالتزام بشي ء من الألفاظ في الإنشاء كما في الثياب و اللحم و الفواكه و الحبوب و سائر ما يحتاجون إليه، مع أنّهم يرونها بيعا مملكا و يتعاملون معه معاملة الملك في جميع تصرفاتهم.

ما يلزم القول بالاباحة من الإشكالات:

هذا و ممّا يلزم علي القول بالاباحة ما ذكره المحقق كاشف الغطاء قدّس سرّه من لزوم تأسيس قواعد جديدة علي هذا القول، ثم ذكر هنا ثمانية إشكالات لا بأس بذكرها (و إن كانت عمدتها ما

عرفت) و ذكر ما اجيب عنها حيث نري أنّها مجرّد استبعادات، أو امور يمكن أن تذكر بعنوان الدليل، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

الإشكال الأول: إنّ العقود و ما قام مقامها، تتبع القصود، و لازم القول بالاباحة هدم هذه القاعدة.

و ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في جوابه أمرين:

أولا: إنّ المعاطاة عند القائل بالاباحة ليست من العقود، لأنّ الإنشاء الفعلي لا يقوم مقام الإنشاء القولي عندهم، و أمّا الاباحة فهي حكم شرعي دلّ الدليل عليه.

ثانيا: إنّ تخلف العقود عن القصود كثير، ثمّ ذكر أمثلة خمسة له:

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 44

1- تأثير العقد الفاسد لضمان قيمة المثل مع أنّ المتبايعين قصدا قيمة المسمي.

2- الشرط الفاسد، فإنّه ليس مفسدا عند أكثر القدماء مع أنّ العاقد لم يقصد العقد إلّا مقرونا به.

3- بيع ما يملك و ما لا يملك، و كذا ما يملك و ما لا يملك الذي ذكروا صحته فيما يملك أو فيما يملك دون غيره.

4- بيع الغاصب لنفسه، حيث ذكروا دخوله في البيع الفضولي مع أنّه لم يقصد المالك الأصلي.

5- إن ترك ذكر الأجل في المتعة يوجب انقلابها عقد دائما مع أنّهما لم يقصداه (انتهي ملخصا).

أقول: و يرد عليه: إنّ مفروض كلام المحقق قدّس سرّه المذكور، كون الاباحة مملّكة، لأنّ الاباحة الشرعية من دون إذن المالك في باب الأموال عجيب، كما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه، فإذا فرض أنّ الاباحة مالكية، لزم تخلف العقود عن القصود.

و الإنصاف أنّ هذا التخلف و إن لم يكن محالا عقلا، و لكن إثباته شرعا يحتاج إلي دليل قوي يصلح لتأسيس مثل هذه القاعدة الجديدة.

و أمّا الموارد التي أشار إليها و جعلها من مصاديق التخلف، فلا يتمّ

شي ء منها، بل أمرها دائر بين ما هو ثابت (و ليس من التخلف) و ما هو غير ثابت و إن كان من مصاديقه.

«توضيحه»: أنّه لا ينبغي الإشكال في كون الضمان في العقد الفاسد- كما حققناه في محله- مستندا إلي مسألة الاقدام و اليد، فلا دخل له بمسألة تخلف العقود عن القصود.

أمّا مسألة شرط الفاسد فقد يقال أنّها من قبيل الالتزام في الالتزام، و فساد أحد الالتزامين لا يسري إلي الآخر، و لكن التحقيق أنّ أحد الالتزامين مقيد بالآخر، و إنّما لا يسري فساده إليه لأنّه في نظر العرف من قبيل تعدد المطلوب، نعم لا يبعد الالتزام بالخيار عند فساده.

و منه يظهر الحال في بيع ما يملك و ما لا يملك، فإنّه أيضا من هذا الباب و لو فرض كونه في بعض المقامات من قبيل وحدة المطلوب بنظر العرف و العقلاء، فسوف يسري الفساد منه إليه.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 45

و أمّا مسألة بيع الغاصب لنفسه، فيمكن الجواب عنه:

أولا: بأنّ الغاصب يري نفسه مالكا ادعاء، فإذا اشتري لنفسه اشتري للمالك واقعا.

ثانيا: بأنّ أركان البيع هي العوضان، و أمّا المالكان فليسا من أركانه، بخلاف النكاح و الوكالة و شبههما ممّا يدور مدار الأشخاص.

و أمّا مسألة المتعة فالمشهور كما في المسالك انعقادها دائما بترك ذكر الأجل، و استدل عليه بما رواه ابن بكير عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ سمّي الأجل فهو متعة، و إن لم يسمّ الأجل فهو نكاح ثابت» «1».

و يمكن أيضا الاستدلال له بروايتي أبان بن تغلب و هشام بن سالم المذكورتين في نفس الباب «2».

و لكن الإنصاف أنّ هذا الحكم ممنوع جدّا، لعدم قيام دليل عام و لا خاص عليه، و النص

إنّما هو دليل علي أنّ تفاوت العقد الدائم و المتعة إنّما هو بذكر الأجل و عدم ذكره، و لا تعرض له لما إذا قصدا المتعة و نسيا ذكر الأجل.

و في المسألة قولان آخران يقومان علي أساس التفصيل بين الموارد، فراجع الجواهر و المسالك.

فتحصل من جميع ما ذكرنا عدم وجود نقض واحد لقاعدة تبعية العقود للقصود.

و بالجملة هذا الإشكال و إن لم يكن دليلا قطعيا علي بطلان القول بالاباحة و لكنه من المبعدات القوية له.

الإشكال الثاني: حصول الملك بالتصرفات الناقلة، و لازمه كون إرادة التصرف مملكا، فإذا أراد وقف ما أخذه بالمعاطاة مثلا أو هبته أو بيعه صار بمجرّد إرادته القريبة من العمل ملكا له، و كذا إذا تصرف فيه بالاتلاف، فان جواز الاتلاف و إن كان لا يلزم الملكية إذا كان برضا مالكه أو باجازة مالك الملوك، و لكن المفروض ضمانه بالمسمي لا بالقيمة، و هذا غير ممكن بدون دخول العوض في ملكه.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 20 من أبواب المتعة، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2 و 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 46

هذا و قد أجاب عنه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه و تبعه عليه غيره بأنّه لا مانع من التزامه إذا كان مقتضي الجمع بين الأصل، و دليل جواز التصرف المطلق، و أدلة توقف بعض- التصرفات علي الملك، كتصرف ذي الخيار و الواهب فيما انتقل عنهما بالوطي و البيع و العتق و شبهها.

أقول: إن أراد أنّه لا مانع منه عقلا فهو صحيح، و إن أراد أن لا مانع منه شرعا فهو قابل للإشكال، فانّ مثل هذا من الغرائب في أحكام الشرع لا يمكن المسير إليه إلّا بدليل قوي، لما ذكرنا في

محله من أنّ إثبات مثل هذه الأحكام الغريبة لا يمكن بمجرّد أصل أو خبر واحد و لو كان صحيحا.

و أمّا ما ذكره من الأمثلة فهي أجنبية عمّا نحن فيه، فانّ تصرف ذي الخيار منطبق علي موازين القواعد و هو الفسخ العملي و إعمال الخيار، و كذا في الواهب و شبهه، و اين هو ممّا لا ينطبق علي شي ء من القواعد بل هو تعبد صرف.

الإشكال الثالث: و ممّا يلزم هذا القول من الامور المخالفة للقواعد المعروفة تعلق الأخماس و الزكوات و الاستطاعة و الديون و المواريث بما في اليد مع العلم ببقاء مقابله و عدم التصرف فيه.

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه: بأنّه استبعاد محض، و دفعه بمخالفته للسيرة رجوع إليها (أي الاستدلال بالسيرة لا بما ذكره).

أقول: لبّ الكلام، أنّ تعلق الخمس و الزكاة و … بما هو مباح للإنسان و ليس ملكا له، ممّا لم يعرف له دليل في الشرع، بل جميع الأدلة دالة علي تعلقها بالأملاك.

فهذا أيضا ممّا لا يعرف أهل الشرع شبيها له في الفقه، و إثبات مثل هذا الحكم المخالف لكثير من قواعده دونه خرط القتاد، و كذا بالنسبة إلي الإرث و شبهه.

و لهذا كان ترك بعض الأدلة الضعيفة الدالة علي قول المشهور، و إن بلغت بعض مراتب الحجّية (لو كان لهم دليل كذلك) أولي من ارتكاب هذه الامور التي لا تناسب قواعد الفقه و الاصول المعروفة من المذهب.

الإشكال الرابع: كون التصرف من جانب مملّكا للجانب الآخر.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 47

و أجاب عنه في المكاسب بأنّه ظهر جوابه.

أقول: كأنّ مراده أنّه مجرّد استبعاد بعد ما اقتضي الجمع بين الأدلة ذلك.

و أنت خبير أنّه أيضا مخالف للقواعد المعروفة من

الشرع المقدس، و لا يمكن المسير إليه بسهولة، و لم يعرف مثل هذا الحكم في موضع آخر، و هذا ممّا يوجب الظنّ القوي المتاخم للعلم للفقيه، علي أنّ مسيره في هذا الحكم غير صحيح و إلّا لما انتهي إلي هذه الأحكام العجيبة المخالفة لأصول المذهب من كل جانب.

الإشكال الخامس: إنّ التلف المساوي من جانب، مملّك للجانب الآخر، و التلف من الجانبين مع التفريط (أو الاتلاف من الجانبين) معين للمسمي، و لا رجوع إلي قيمة المثل حتي يكون له الرجوع بالتفاوت.

و أجاب عنه في المكاسب بما حاصله: إنّ الجمع بين الأدلة الثلاثة (أصالة عدم الملك إلّا في الزمان المتيقن، و عموم علي اليد، و الإجماع علي الاباحة) يقتضي كون كل منهما مضمونا بعوضه لا بالمثل، فيقدر كلّ منهما آنا ما قبل التلف في ملك من بيده، فينتج كونه مضمونا بعوضه، نظير تلف المبيع قبل قبضه فإنّه من مال بايعه و يكون مضمونا بعوضه لا بالمثل.

قلت: أمّا تلف المبيع قبل قبضه، فهو في الواقع شبيه الفسخ القهري، لأنّ الاقباض من تمام البيع، فإذا لم يحصل، لم يتمّ البيع و انفسخ قهرا، بخلاف المقام، فإنّ التلف يوجب ملك كل منهما لما في يده، و هذا ممّا لا يناسب قواعد المذهب و لم يعرف له نظير.

نعم، بالنسبة إلي غصب الغاصب الذي ذكره في كلامه، يمكن قبول جواز مطالبة كل من المالك و المباح له، و حكم تلفه في يد الغاصب حكم التلف في يد المباح له، و الكلام هو الكلام فيما سبق.

و الإنصاف أنّ بعض هذه الوجوه يرجع إلي بعض آخر.

الإشكال السادس: إن التصرف لو كان من النوافل القهرية بدون النّية فهو بعيد، و إن كان متوقفا علي النّية،

كان الواطئ للجارية بدون نيّة التملك، واطيا بالشبهة.

و العجب أنّ شيخنا الأعظم قدّس سرّه لم يجب عنه، و أجاب علي ما بعده و لعله أو كله إلي

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 48

وضوحه عنده، و أنّ سبيله سبيل ما مرّ من أنّه مقتضي الجمع بين الأدلة و أنّ الملك يحصل هنا و لو بدون النّية.

و أنت خبير بأن حصول الملك بمجرّد التصرف المتوقف علي الملك حتي بدون أي نيّة من الغرائب التي لم نعرف لها شبيها في الفقه، و ليس هذا مجرّد استبعاد، بل المراد أنّه حكم مخالف لقواعد الفقه لا يثبت إلّا بدليل قوي لا نجده في المقام.

الإشكال السابع: و من المشكلات المترتبة علي هذا القول، حكم النماء، فإنّه لا شك في حلية النماء الحاصل من العين المأخوذة بالمعاطاة، مع أنّه لو قيل بأنّ حدوثه مملك له دون العين كان بعيدا و معها كذلك، و كلاهما مخالف لظاهر الأكثر (فإنّ ظاهر هم ليس ملكية النماءات مع أنّ السيرة مستمرة علي معاملة الملك معها) و شمول الاذن له خفي.

و أجيب عنه: أولا: بأنّ ظاهر المحكي عن بعض أنّ القائل بالاباحة لا يقوم بتملك النماءات، بل يري حكمها حكم أصل العين، يعني مجرّد الاباحة.

ثانيا: يحتمل أن يحدث النماء في ملكه بمجرّد الاباحة (ذكرهما في المكاسب).

ثالثا: إنّ النماء و أصله يصيران ملكا للمباح له بمجرّد حصول النماء، و ذلك لأنّ مقتضي كون المعاطاة بيعا عرفيا حصول الملكية من أول الأمر، و لكن يمنعنا الإجماع، حيث إنّه دليل لبّي يقتصر علي القدر المتيقن، و هو ما إذا لم يحصل النماء، فإذا حصل كان كلامهما ملكا له (ذكره مصباح الفقاهة).

أقول: حاصل الجواب الأول: أنّ الأصل إذا كان مباحا

و مأذونا كان النماء الذي فرعه كذلك، لا ملكا، و لكنك خبير بأنّه يعامل مع النماءات معاملة الملك، فاللبن الحاصل من البقرة المأخوذة بالمعاطاة، و كذا الثمرة الحاصلة من الشجرة تحسب ملكا و يتصرف فيها المشتري تصرف المالك في ملكه.

لكن يمكن أن يقال: بأنّ النماء يصير ملكا بإرادة التصرف، فالكلام فيه كما في سابقه، نعم يلزم هنا زيادة الفرع علي الأصل كما لا يخفي.

و أمّا الثاني فيرد عليه، بأنّ كون اباحة الأصل سببا لملك الفرع ممّا لا نعرف له وجها، بل النماء تابع للأصل.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 49

و أمّا الثالث فهو من العجائب، فإنّ لازمه صيرورة كثير من الأعيان المأخوذة بالمعاطاة ملكا، بزمان يسير، لظهور النماء فيه، و هذا لا يوافق ظاهر كلمات المشهور كما لا يخفي.

و الإنصاف أنّ يقال: إنّ هذا أيضا من الغرائب و لا تساعده القواعد المعروفة في الفقه، بأن تكون النماءات ملكا و لو كان الأصل مباحا غير ملك.

الإشكال الثامن: و آخر ما ذكره من هذا الباب، أن يكون المتصرف في المباح له، موجبا قابلا، لأنّه يملكه لنفسه باذن المالك، ثم يقبله اصالة فيكون موجبا قابلا، و إذا جاز ذلك فلم لا يجوز هذا في نفس القبض عند التعاطي؟ بل هو أولي من سائر التصرفات لأنّه مقرون بقصد التمليك (هذا مفاد كلامه).

و لكن التحقيق أنّ هذا لا يعدّ إشكالا جديدا بعد إشكال كون إرادة التصرف مملّكا، و إنّما يرد هذا علي من يقرر الجواب من إشكال التصرف من طريق الاذن في الإيجاب من قبل المالك، ثمّ القبول من قبل نفسه، لا علي الجميع.

و بالجملة هذه الإشكالات الثمانية و إن رجع بعضها إلي بعض و كانت في الواقع أقل

عددا من هذا، و لكنها في المجموع تعدّ إشكالا قويّا علي القول بالاباحة، و حاصله أنّ الالتزام بلوازم الاباحة مشكل جدّا لا يمكن المصير إليه إلّا بأدلة قوية قادرة علي تخصيص القواعد المعروفة في الفقه، و هي مفقودة في المقام، بل ليس لهم إلّا دعوي الإجماع، و هو ضعيف جدّا، و أمّا تسليط المالك المباح له علي ملكه، فالظاهر أنّه فرع علمه بكونه مالكا من طريق التعاطي لا مطلقا.

فتحصل من جميع ذلك أنّ القول بالاباحة يقوم عليه دليل، بل هناك ما يدلّ علي خلافه، و فيه معضلات و عويصات يشكل حلّها.

[المقام الثاني في الأدلة]

أدلة صحة المعاطاة:

أمّا أدلة القول بكون المعاطاة بيعا شرعيا موجبا للملك فهي كثيرة:

الأول: و هو العمدة، شمول اطلاقات أدلّة البيع و عموماتها، فإنّها بيع عرفي بلا إشكال

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 50

و تجارة عن تراض، و مصداق للعقد بما له من المعني العرفي و اللغوي، و هو العهد أو ما في معناه، فيشملها قوله تعالي: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «1» و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «2» و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «3» بل و اطلاقات بعض الروايات الواردة في أبواب المعاملات الواردة علي عنوان البيع أو عنوان التجارة أو غير ذلك من أشباهها، فإنّها جميعا عامّة شاملة للمعاطاة و غيرها، و إنكار كونها بيعا أو تجارة و عقدا عرفا، مكابرة واضحة، كيف و جلّ معاملات الناس و تجاراتهم من هذا القبيل، بل قد عرفت أنّ الأصل في البيع كان بصورة المعاطاة و إنما حدث البيع بالصيغة بعد ذلك.

و إن شئت قلت: الإنشاء العقدي و إن لم يكن بصراحة الإنشاء اللفظي من بعض الجهات، و لكن أصرح منه من جهات اخري، كما لا يخفي علي الخبير.

و الحاصل: أنّ المسألة

من قبيل الشك في اشتراط شي ء في صحة المعاملة، فكما يتمسك بالعمومات لنفي سائر ما يشك فيها، فكذا بالنسبة إلي الإنشاء اللفظي.

الثاني: السيرة المستمرة من زمن النبي الأكرام صلّي اللّه عليه و آله إلي زماننا هذا، بل و قبله، فلا يزالون يتعاملون بالمعاطاة و يرتبون جميع آثار الملك عليها و يرونها بيعا مملّكا من غير حاجة إلي الإنشاء اللفظي.

بل و كذا في غير البيع من الهدايا التي تهدي إلي المؤمنين و أهل العلم و غيرهم، و كذا إجازة المساكن و المراكب و غيرها، و إنكار استقرار سيرة العقلاء و أهل الشرع طرا علي ذلك مكابرة واضحة.

و من أعجب ما يمكن أن يقال في المقام القول بأنّ هذه السيرة نشأت من قلة المبالاة في الدين، مع العمل بها من أرباب التقوي و الصلاح، بل لو لم تقبل السيرة المستمرة الواضحة الظاهرة هنا لن تقبل في أي مورد آخر.

و لم يردع عنه الشارع المقدس بل أمضاه قطعا، و لو وردت هنا رواية ناهية لشاعت و ذاعت، لتوفر الدواعي علي نقلها.

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 275.

(2). سورة النساء، الآية 29.

(3). سورة المائدة، الآية 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 51

بل جعله بعض الأكابر دليلا مستقلا، قال: إنّه لو كان الإنشاء اللفظي شرطا بحكم الشرع وجب علي الشارع بيانه، و لو كان لبان، فعدم الدليل في مثل هذه المسألة دليل علي العدم.

الثالث: إجماعهم علي جواز التصرفات الموقوفة علي الملك، و قد عرفت أنّ صحة هذه التصرفات غير ممكنة علي القول بالاباحة إلّا بتكلّفات بعيدة و تعسفات عجيبة، و توجيهات ضعيفة جدّا، حتي أنّه قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في بعض حواشيه: لا ينبغي صدورها عن الفقيه.

و لذا رجع

شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذيل كلامه و اختار القول بالملك بعد ذكره التوجيهات السابقة لهذا القول.

أضف إلي ذلك ما عرفت من أنّ القول بالاباحة تعبدا من الشارع مع قصد المتعاطيين للملك، من البعد بمكان لا يوجد نظير له في الفقه، بل المتراءي منه جعل أمر الملك في المعاملات بيد مالكه، و الاباحة المالكية أيضا مفقودة، إلّا ببعض التوجيهات الضعيفة.

أدلّة القائلين ببطلان المعاطاة:

الأول: الروايات التي قد يتوهّم دلالتها علي اعتبار الإنشاء اللفظي في البيع، أو علي كونه متداولا في أعصار المعصومين عليهم السّلام، منها ما ورد في أبواب بيع المصحف من قبيل:

1- ما رواه عبد الرحمن بن سيابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «إنّ المصاحف لن تشتري فإذا اشتريت فقل إنّما اشتري منك الورق» «1» الحديث.

2- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كتاب اللّه و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفتين و قل اشتري منك هذا بكذا و كذا» «2».

3- ما رواه عثمان بن عيسي قال: سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كلام

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 52

اللّه و لكن اشتر الحديد و الجلود و الدفتر و قل اشتري هذا منك بكذا و كذا» «1».

4- ما رواه عبد اللّه بن سليمان قال: سألته عن شراء المصاحف فقال «إذا أردت أن تشتري فقل أشتري منك ورقه و أديمه و عمل يدك بكذا و كذا» «2».

لكن الإنصاف أنّ هذه الطائفة لا دلالة لها علي ما ذكر أصلا، بل المراد

منه حفظ حرمة المصاحف، فإنّه إذا أعطي الثمن في مقابلها معاطاة، فظاهر العمل كونه في مقابل تمام المصحف، و إنّما ينفصل حكم الجلد و الأديم عن الخطوط بالتصريح به لفظا.

و لا دلالة فيها أصلا علي كون ذلك في مقام إنشاء البيع، بل يكفي كونها في المقاولة، حتي تكون المعاطاة مبنية عليها، و يشهد له أو يؤيده تقديم الإنشاء بالشراء في جميعها.

5- ما ورد في جواز بيع بعض ما في الأنبار مثل ما رواه بريد بن معاوية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشتري من رجل عشرة آلاف طن قصب في أنبار بعضه علي بعضه من أجمة واحدة، و الأنبار فيه ثلاثون ألف طن فقال البائع: قد بعتك من هذا القصب عشرة آلاف طن، فقال المشتري: قد قبلت و اشتريت و رضيت، فأعطاه من ثمنه ألف درهم و وكّل المشتري من يقبضه فأصبحوا و قد وقع النار في القصب فاحترق منه عشرون ألف طن و بقي عشرة آلاف طن، فقال عليه السّلام: العشرة آلاف طن التي بقيت هي للمشتري و العشرون التي احترقت من مال البائع» «3».

و لكن الظاهر أنّه أيضا أجنبي عمّا نحن فيه، بل هو قبيل بيع الكلي في المعين، و حيث لا يمكن المعاطاة فيه، لا محيص عن ذكره باللفظ، و إن شئت قلت: ليس فيها ما يدل علي حصر صحة البيع بالإنشاء اللفظي، بل و ليس في مقام البيان من هذه الناحية.

6- ما رواه سماعة (في باب بيع الثمار قبل بدو الصلاح مع الضميمة) قال: سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها؟ فقال: «لا، إلّا أن يشتري معها شيئا من

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 31

من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 6.

(3). المصدر السابق، ج 12، الباب 19 من أبواب عقد البيع، ح 1 و الطن الوارد في هذه الرواية بمعني حزمة القصب.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 53

غيرها رطبة أو بقلا فيقول: أشتري منك هذه الرطبة … بكذا و كذا» «1».

و هذا أيضا لا دلالة له علي حصر البيع في ما ينشأ بالالفاظ، بل مورده ممّا لا يمكن فيه المعاطاة، أو يشكل ذلك فيه، فان الثمر الذي لم يخرج طلعه لا يمكن في البيع، فإذا ضمّ إلي الموجود لا يتأتي بيعه إلّا بالكلام.

7- و هو العمدة، ما دلّ علي حصر المحلل و المحرم في الكلام، و هو ما رواه يحيي بن الحجاج (أو يحيي بن نجيح) عن خالد بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يجي ء فيقول: أشتري هذا الثوب و اربحك كذا و كذا، قال عليه السّلام: «أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟ قلت: بلي، قال: لا بأس به إنّما يحلل الكلام و يحرم الكلام» «2».

و قد ذكر فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه احتمالات أربعة حاصلها:

1- المراد، حصر المحلل و المحرم في الكلام، و حينئذ تدلّ علي المطلوب.

2- أن يكون تعبير محللا و تعبير آخر محرما، كعقد النكاح بلفظ النكاح أو التمليك.

3- كون كلام واحد في مقام محللا و في مقام آخر محرما، كإنشاء بيع ما لا يملك قبل تملكه، و إنشاءه بعده.

4- كون المقاولة محللا و الإيجاب محرما، في بيع ما ليس عنده.

فالأول دليل علي عدم صحة المعاطاة، و الثاني لا ربط له بها، و الأخيران هما المرادان من هذه

الرواية، بقرينة المقام، و بقرينة سائر ما ورد في هذا الباب من الروايات.

أقول: الإنصاف أنّ الرواية مع ضعف سندها لجهالة ابن الحجاج أو ابن نجيح كليهما، لا دلالة لها علي بطلان بيع المعاطاة، أو عدم إفادته الملكية أو عدم لزومها أصلا، بل هي أجنبية عمّا نحن بصدده، و ليس مفادها إلّا الاحتمال الرابع بقرينة قوله عليه السّلام: «أ ليس إن شاء ترك، و إن شاء أخذ، قال لا بأس به»، و هذا كالصريح في أنّ بعض أنواع الكلام يحلل، (و هو المقاولة) و بعضها يحرم و (هو إنشاء عقد البيع).

نعم قد يستدل بها بطريق آخر، و هو أنّ حصر المحلل في الكلام علي كلّ حال، دليل

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 3 من أبواب بيع الثمار، ح 1.

(2). المصدر السابق، ج 12، الباب 8 من أبواب التجارة، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 54

علي حصر البيع المحلل فيما ينشأ بالصيغة اللفظية.

و لكن يجاب عنه: بأنّ المقام ممّا لا يتأتي فيه المعاطاة عادة، لأنّ المفروض عدم حضور المتاع قبلا، فلا يمكن اعطائه.

إن قلت: تجوز المعاطاة و لو باعطاء الثمن، كما سيأتي إن شاء اللّه.

قلت: نعم و لكن هذا غير متعارف في بيع ما ليس عنده، كما لا يخفي علي من راجع العرف هنا، فلا يبقي إلّا المقاولة أو الإنشاء اللفظي من دون عقد البيع.

هذا و ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه في المتأخر: إنّ الاحتمال الأول من الأربع (الذي يمكن التوسل به لنفي صحة المعاطاة) مضافا إلي عدم ارتباطه بمورد الحديث و صدره، يوجب تخصيص الأكثر، لأنّ المحلل و المحرم في الشريعة لا ينحصران في الكلام (فكثير من أسباب التحريم في باب النكاح و

المآكل و المشارب و غيرها لا ربط لها بالكلام).

و قد أورد عليه بعض الأكابر في كتاب البيع: بعدم لزوم تخصيص الأكثر، لأنّ جميع المحرمات و المحللات ترجع إلي سببية الكلام لهما، حتي أنّ المعاطاة حلال لقوله تعالي:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، فهذا الكلام موجب للحلية بعد اندراج المعاطاة في عنوان العقد «1».

هذا و في كلامه مواقع للنظر:

أولا: و هو العمدة، إنّ سببية الكلام هنا للحلية و الحرمة من قبيل العلية أو ما يشبه العلية لا الكشف، مع أنّ كلام الشارع أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أو غيره من أدلّة الشرع كاشف عن الحلية و الحرمة لا علّة لهما، كما هو ظاهر، فقد وقع الخلط هنا بين «السببيّة» و «الكاشفية» كما لا يخفي.

ثانيا: بناء علي ما ذكره لا يبقي مورد للمفهوم، لأنّ جميع المحرمان غير اللفظية ترجع بالأخرة إلي حكم الشارع و ألفاظه، إلّا أن يكون المراد حصر الحلال و الحرام في خصوص مورد التصريح به في الشرع، و هو بعيد جدّا عن مساق الرواية.

______________________________

(1). كتاب البيع، ج 1، ص 146.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 55

و بالجملة هذه الرواية لا دلالة لها و لا إشعار علي بطلان بيع المعاطاة.

و يشهد لذلك ما ورد في هذا الباب بعينه من رواية اخري ليحيي بن الحجاج قال:

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)؛ ص: 55

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قال لي اشتر هذا الثوب و هذه الدابة و بعينها اربحك فيها كذا و كذا قال: لا بأس بذلك اشترها و لا تواجبه البيع

قبل أن تستوجبها أو تشتريها» «1».

و ما رواه منصور بن حازم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل طلب من رجل ثوابا بعينه قال: ليس عندي، هذه دراهم فخذها، فاشتر بها، فأخذها فاشتري بها ثوبا كما يريد، ثم جاء به،، أ يشتريه منه؟ فقال: «أ ليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ قلت بلي، قال: إن شاء اشتري و إن شاء لم يشتر؟ قلت: نعم قال: لا بأس به» «2».

و ما رواه إسماعيل بن عبد الخالق قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن العينة … فقال: أ ليس أنّه لو شاء لم يفعل لو شئت أنت لم تزد؟ فقلت: بلي، لو أنّه هلك فمن مالي، قال: لا بأس بهذا» «3».

و هي رواية طويلة شاهدة علي أنّ المراد كون المقاولة سببا للحلية، و الإيجاب اللفظي في بيع ما ليس عنده سببا للحرمة.

و كذا ما رواه فضالة عن العلاء قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يبيع البيع فيقول أبيعه بده دوازده أو ده يازده، فقال: لا بأس إنّما هذه المراوضة، فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة» «4».

و ممّا يستدلّ به علي عدم صحة المعاطاة ما ورد من النهي عن بيع «المنابذة» و «الملامسة» و بيع «الحصاة» كما أشار إليه ابن زهرة في محكي الغنية و قال: و لما ذكرنا (أي عدم انعقاد البيع بالمعاطاة) نهي صلّي اللّه عليه و آله عن بيع المنابذة و الملامسة و عن بيع الحصاة

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 13.

(2). المصدر السابق، ح 12.

(3). المصدر السابق، ح 14.

(4). المصدر السابق، الباب 14 من أبواب أحكام العقود، ح 5.

أنوار الفقاهة -

كتاب البيع (لمكارم)، ص: 56

علي التأويل الآخر، ثم قال: معني ذلك أنّ يجعل اللمس بشي ء، و النبذ له، و إلقاء الحصاة، بيعا موجبا، انتهي.

أقول: فقد لا حظت بعض كلماتهم في معني هذه البيوع و هي لا تخلو عن إجمال و إبهام، فإن كان النهي عن هذه البيوع لمجرّد كون الإيجاب باللمس و النبذ و إلقاء الحصاة، كان دليلا أو مؤيدا لهذا القول بلا إشكال، و لكن الذي يظهر بالتأمل فيما روي في هذا المعني في الأحاديث و تفسيرها، أنّ النهي عنها كان للجهل و الغرر لا غير، فحينئذ لا تدل علي المطلوب أصلا.

ففي سنن البيهقي عن أبي هريرة: «أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله نهي عن بيع الغرر و عن بيع الحصاة» «1».

فإن عطفهما في كلام واحد دليل علي ما ذكرنا.

و فيه أيضا عن أبي سعيد الخدري عنه صلّي اللّه عليه و آله: «أنّه نهي عن لبستين و بيعتين، نهي عن الملامسة و المنابذة في البيع، و الملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو النهار لا يقلّبه إلّا ذلك، و المنابذة أن ينبذ الرجل ثوبه و ينبذ الآخر ثوبه، و يكون ذلك بيعهما من غير نظر و لا تراض» الحديث، ثم فسّر البيتين «2».

إلي غير ذلك ممّا ورد في هذا المعني.

و بالجملة لا دلالة لهذا النهي علي المنع عن بيع المعاطاة، و لا أقل من ابهامه و أنّه بسبب الغرر، و هو كاف في عدم دلالته.

و تلخص من جميع ما ذكرنا أنّ بيع المعاطاة موجب للملك، و يترتب عليه جميع أحكام النقل و الانتقال، بل يظهر ممّا ذكرنا «كونه بيعا لازما» لأنّه مقتضي جريان سيرة العقلاء، و أهل الشرع، مضافا إلي ظهور

قوله تعالي: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ في ذلك، بعد كونه عقدا، و كذلك غيره ممّا استدل به علي أصالة اللزوم في المعاملات، مثل قوله صلّي اللّه عليه و آله:

«الناس مسلطون علي أموالهم» و أنّه «لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه» إلي غير ذلك.

______________________________

(1). السنن الكبري للبيهقي، ج 5، ص 343.

(2). المصدر السابق، ص 341.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 57

و دعوي الإجماع علي عدم اللزوم كما تري، لعدم الاعتداد الإجماع في أمثال المقام لو كان ثابتا، كيف و لم يثبت؟

بقي هنا شي ء: و هو أنّك قد عرفت أنّ بيع المعاطاة و إن كان أمرا شايعا، بل أشدّ شيوعا من البيع بالصيغة عند العقلاء، إلّا أنّه غير متعارف في البيع الخطيرة جدّا، فلا يتعارف بيع الدار أو الضياع و العقار بمجرّد التعاطي، بل المتعارف فيها إنشاء البيع لصيغ، أو التوقيع كتبا، أو كليهما، فالاكتفاء بالمعاطاة في أمثال ذلك لا يخلو عن إشكال بعد انصراف اطلاق الأدلة إلي ما هو المتعارف من العقود.

و بهذا يمكن الجمع بين بعض كلمات الأصحاب التي يظهر منها الخلاف، و ذكر المثال باعطاء الدرهم للبقل و شبهه لعله ناظر إلي ذلك، فتأمل.

[المقام الثالث في] تنبيهات

التنبيه الأوّل: هل يعتبر في المعاطاة جميع شروط البيع؟

الجواب عن هذا السؤال يختلف باختلاف المباني في مسألة المعاطاة.

و توضيح ذلك: أنّ المسألة لا تخلو من وجوه:

الوجه الأول: إن قلنا بأنّ المعاطاة مفيدة للملك بعد أن قصد بها ذلك و أنّ الذي يدور عليه رحي المعاملات المتعارفة غالبا هو هذا المعني- كما هو المختار بل قد عرفت أنّها تفيد اللزوم أيضا- فلا ينبغي الكلام في كونها بيعا عرفا و شرعا و يشترط فيها جميع شرائط البيع، ما عدا الصيغة اللفظية: من عدم جهالة العوضين، و القدرة علي التسليم،

و غير ذلك، بل يحرم فيها الربا، و يجري فيها الخيارات كلّها، و سيأتي إن شاء اللّه أنّ الإشكال في جريان بعضها فيه في غير محله.

هذا و قد يقال: إنّها «معاوضة مستقلة» كما حكاه السيد قدّس سرّه في الحاشية عن مفتاح

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 58

الكرامة «1» و نسبه إلي ظاهر العلماء، فلا يشترط فيها شروط البيع، و لكنه بعيد جدّا و لعله مبني علي القول بالاباحة.

الوجه الثاني: إذا قلنا بأنّ المقصود من المعاطاة، التي هي مورد كلام الأصحاب، الاباحة و نتيجتها أيضا اباحة التصرفات، أو قلنا إنّ المعاطاة علي نوعين، و ما يراد به الاباحة نوع منها، فحينئذ لا ينبغي الشك في عدم صدق عنوان البيع عليها، لا عرفا و لا شرعا، لما عرفت في تعريف البيع في أوّل هذه المباحث، و أنّه تمليك مال بعوض، و المفروض أنّ المعاطاة ليست كذلك، فحينئذ لا وجه للأخذ باطلاقات أدلّة الشروط، و لا الإجماعات فيها، و لا الأحكام و الآثار المترتبة علي البيع، من الخيارات، و أحكام الصرف و السلم، و غيرها، و لعلها تكون معاوضة مستقلة حينئذ، و علي كلّ حال المرجع عند الشك هو الأدلة الدالة علي صحة هذه الاباحة المعوضة، و قد ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه أنّه لو تمسكنا فيها بالسيرة لزم الاقتصار علي القدر المتيقن، فكلّ شرط شك فيه لا بدّ من اعتباره.

و أمّا إذا أخذ باطلاق أدلّة السلطنة، كان مقتضي القاعدة نفي جميع الشروط عنه إلّا ما ثبت بدليل (فلا يعتبر فيه معلومية العوضين و لا غير ذلك من أشباهه، أمّا حكم الربا و شبهه فسيأتي إن شاء اللّه).

و قد أورد عليه في «مصباح الفقاهة»:

أولا: بأنّ دليل

السلطنة ضعيف السند.

ثانيا: بأنّ مفاده لا يثبت موضوعه، فإنّه يدلّ علي عدم منع المالك من كلّ تصرف مشروع في أمواله، و أمّا أنّ هذا التصرف مشروع أم لا؟ فلا دلالة عليه.

و ثالثا: إنّ السيرة إن كانت عقلائية فلا تصحّ إلّا بعد امضاء الشرع، و إن كانت سيرة المتشرعة فلا إشكال في قيامها علي أصل اباحة التصرف، أمّا إذا شك في جواز بعض التصرفات كالتصرفات المتوقفة علي الملك فلا بدّ أن يرجع في كلّ تصرف شك في جوازه إلي دليل صحته.

______________________________

(1). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 165.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 59

أقول: الحق كما ذكرنا في محله- من القواعد الفقهية- أنّ دليل السلطنة تام لا غبار عليه، هذا أولا.

و ثانيا: فهو و إن كان لا يثبت موضوعه، إلّا أنّه إذا كان التصرفات الكذائية مباحة عند العقلاء، فلا ريب في شمول دليل السلطنة لها، و إن شئت قلت: إنّ قاعدة السلطنة كانت موجودة عند العقلاء قبل الشرع، و قد امضاها الشارع بما لها من السعة- إلّا ما خرج بدليل الخاص، فيجوز العمل بها فيما ثبت عند العقلاء.

و ثالثا: السيرة العقلائية ممضاة بسكوت الشارع (مع قطع النظر عن دليل السلطنة) و أمّا سيرة المتشرعة فقد جرت أيضا علي جواز جميع التصرفات فلا حاجة إلي دليل آخر.

فتلخص من جميع ذلك أنّ للمالك اباحة ما له بما هو متعارف بين العرف و العقلاء، و من المعلوم أنّ اباحة التصرفات المتلفة و الناقلة رائجة بينهم في المعاطاة، اللّهم إلّا أنّ يقال: إنّه اذن في التملك و ليس ببعيد في بعض المقامات.

الوجه الثالث: المفروض أنّ مقصودها هو التمليك و البيع، و لكن لما كان فاقدا للصيغة حكم

بفساده شرعا، ثم قام الإجماع علي اباحة التصرفات، فعلي هذا «ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد» و لازم ذلك الأخذ بالقدر المتيقن، أعني ما اجتمع فيه جميع شرائط البيع، و المعلومة منها و المشكوكة، لأنّ المفروض عدم كون الاباحة مالكية لتؤخذ بدليل السلطنة، أو بناء العقلاء و سيرتهم، بل الاباحة الشرعية ثابتة بالإجماع و هو دليل لبّي يؤخذ منه بالقدر المعلوم، و هو واضح.

أمّا حكم الربا، فهو أيضا يختلف علي المباني، فان قلنا أنّ المعاطاة تفيد الملك، فلا إشكال في كونها بيعا يجري فيها الربا، و كذا إن قلنا أنّها تفيد الاباحة و لكنّها معاوضة مستقلة، بناء علي جريان الربا في جميع المعاوضات كما هو المشهور، و أمّا لو قلنا أنّ المقصود هو الملك و إنّما حصلت الاباحة تعبدا، فليست بيعا و لا معاوضة، و حينئذ يشكل جريان الربا فيها، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الربا يجري فيما يفيد فائدة المعاوضة و إن لم يكن كذلك فتأمل.

أمّا الخيارات، فهل تجري في المعاطاة مطلقا، أو تجري كذلك، أو يفصل بين ما ثبت

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 60

بدليل خاص فلا يجري (مثل خيار المجلس) و ما ثبت بدليل عام يجري (مثل خيار الشرط و الغبن) وجوه، و الإنصاف هنا أيضا ابتناء الحكم علي المباني السابقة …

فإن قلنا بالملكية و اللزوم، فمن المعلوم أنّها بيع تجري فيه جميع أحكامه و منها الخيارات عموما و خصوصا.

و أمّا لو قلنا أنّها لا تفيد إلّا الاباحة، فقد يقال بصدق البيع عليها عرفا و إن قام الإجماع علي عدم تأثيرها شرعا، فتكون مشمولة للعمومات، و حينئذ إن قلنا أنّ الخيار هو التسلط علي الفسخ فعلا، فلا شك

أنّها غير مشمولة لها، و أمّا إن قلنا أنّ ثبوت الخيار بمعني إلغاء ما يكون بالقوة مؤثرا في النقل و الانتقال، فشمول أدلّته لها ممكن.

أقول: فيه نظر من وجوه:

أمّا أولا: فلأنّ صدق البيع عليها عرفا مع ابطاله من ناحية الشرع و منعه منها لا يبقي لها أثر أو فائدة، و القول بشمول العمومات لها حينئذ عجيب جدّا.

و امّا ثانيا: إنّ الاباحة هنا إن كانت مالكية فهي منوطة برضا المالك، فترتفع بارتفاع رضاه من غير حاجة إلي الفسخ، و إن كانت اباحة شرعية فلا معني لدخول الخيار فيها، اللّهم إلّا أن يقال: «الاباحة المعوضة نوع معاوضة يجري فيها الخيار فليست الاباحة لوحدها دائرة مدار رضي المالك، بل هي معاوضة تحققت بين المالكين».

و ثالثا: سلمنا أنّها بيع، أو أنّها معاوضة مستقلة، لكن الانصاف أنّ أدلة الخيار منصرفة عن عقد لا يبتني علي اللزوم بحسب ذاته، و إنّما تجري فيما يكون لازما ذاتا، لا أقول: لا يعقل جريان الخيار في مثله من جهة اللغوية، حتي يجاب بظهور أثره في ما إذا حصل أحد ملزمات المعاطاة، بل أقول: إنّ ظاهر أدلة الخيارات إثبات حق الفسخ فيما ليس في طبيعته ذلك، و أمّا ما كان من طبيعته الجواز فلا تشمله و إن آل أمره أحيانا إلي اللزوم.

هذا مضافا إلي لزوم التفصيل بين الخيارات الخاصة بالبيع و غيرها، لأنّ هذه المعاوضة المستقلة لا يصدق عليها عنوان البيع علي الفرض.

و أمّا إن قلنا بأنّها تفيد الملكية الجائزة، فلا إشكال في صدق البيع عليها، لذا قد يقال بشموله أدلّة الخيارات لها، و دعوي اللغوية ممنوعة لظهور أثر الخيار عند ظهور الملزمات،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 61

و لذا لا مانع من ثبوت

أنواع الخيارات في عرض واحد، كخيار المجلس و الشرط و الحيوان و غيرها مع أنّ الإشكال واحد.

هذا و لكن قد عرفت أنّ انصراف أدلّة الخيارات إلي العقد المبني علي اللزوم بحسب ذاته قوي، و حينئذ قياس تعدد الخيارات علي ما نحن فيه قياس مع الفارق، لأنّ عقد البيع المبني علي اللزوم يقتضي جريان أنواع المجوزات للفسخ فيه، و أمّا ما بني علي الجواز بحسب طبيعته فلا تشمله أدلة الخيارات كما مر.

فحصل من جميع ما ذكرنا أنّ شمول أدلّتها للمعاطاة ممنوع مطلقا إلّا علي القول بلزومها كما هو المختار.

نعم إذا حصل السبب (سبب الخيار) بعد وجود أحد الملزمات أمكن القول بشمولها لها، فتدبر جيدا.

التنبيه الثاني: هل المعاطاة مشروطة بالتعاطي من الطرفين، أم لا؟

لا إشكال في حصولها بتعاطي الثمن و المثمن من الجانبين من ناحية المالكين، إنّما الكلام في غيره، و هو علي أقسام:

تارة: تكون المعاطاة نسية باعطاء المثمن فقط.

و اخري: سلفا باعطاء الثمن فقط.

و ثالثة: بأنّ يباع كلّي حاضر كما إذا وقعت المقاولة علي بيع منّ من حنطة فأعطاه ثمنه أو بالعكس.

و رابعة: بايصال الثمن و المثمن كما هو المتعارف في أيّامنا من وضع النقود في صندوق موضوع لهذا الغرض، ثم أخذ المتاع منه بواسطة أجهزة كهربائية أو في الأزمنة السابقة بوضع الفلوس عند محل السقاء إذا كان غائبا أو نائما و أخذ الماء من إنائه و أشباهه.

و خامسة: إذا وقعت المقاولة فقط أو وقعت صيغة فاقدة للشرائط علي بيع حاضر مع رضي الطرفين به، من غير اعطاء و أخذ في الحال.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 62

سادسة: إذا كان واحد منهما عين عند صاحبه، كالوديعة مثلا فتقاولا ثم قصد كلّ منهما أن يكون ما عنده بازاء ما عند صاحبه، فهذه ستة أقسام،

و مع قسم التعاطي من الجانبين تكون سبعة أقسام:

و السؤال هو: هل هذه كلّها من أقسام المعاطاة، أو يصحّ بعضها دون بعض؟

لا إشكال في صحة القسمين الأولين و إن لم يصدق عليهما عنوان المعاطاة، فإنّه ليس هناك دليل لفظي يدور مدار هذه اللفظة، إنّما المهم صدق البيع عليهما عرفا و هو ثابت، فإنّ البيع نسية أو سلفا بدون الصيغة أمر شايع ذايع بينهم، من دون شك، و بهذا يدخل تحت العمومات الدالة علي الصحة.

مضافا إلي أنّ نفس السيرة العقلائية من الأدلّة بعد عدم ردع الشارع عنها، و هكذا الكلام في القسم الثالث لعين ما ذكر.

و أمّا القسم الرابع فالانصاف أنّه داخل في التعاطي، غاية الأمر أنّه ليس بالمباشرة بل بنوع من التسبب، فإنّ الاعطاء لا ينحصر بما يوضع في يد الآخر، بل بما إذا وضعه في محل يكون في دائرة تصرفه، كما لو وضعه في الصندوق الخاص أو المكان المعدّ له.

و من هنا يظهر الإشكال فيما حكاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام عن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه كما يظهر الإشكال في ما ذكره في «مصباح الفقاهة» من الإشكال علي جميع الأمثلة لهذا الأمر، حيث جعل أخذ الماء عن محل السقاء و جعل الثمن في محله من قبيل الاباحة بالعوض، لعدم معلومية مقدار ما يرتوي به، فلو كان بيعا كان غرريا.

و كذا جعل اجرة الحمامي علي طاولته لعدم معلومية مقدار الماء الذي يستعمله بل و لا مقدار مكثه في الحمام، فلا يصحّ بيعا و لا اجارة.

و أمّا أخذ المتاع المعين من بعض الدكاكين و جعل ثمنه في محله، فهو من قبيل توكيل المشتري، ثم نقل عن بعض الأعلام القول بعدم صحة هذا التوكيل لعدم معلولية

شخص الوكيل، ثم أجاب بأنّ المعلومية إنّما تعتبر في الوكيل الشخصي دون النوعي، كمن و كلّ علماء النجف مثلا علي بيع متاعه أو ايجار داره، انتهي ملخصا.

و أنت خبير بما فيه:

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 63

أمّا الأول: فلما عرفت أنّ ذلك كلّه من قبيل البيع بالتعاطي، و لا يلزم في التعاطي الأخذ باليد، بل يكفي جعله في المحل المعدّ له، فإنّه أخذ عرفا.

و ثانيا: إنّ هذا المقدار من الجهل مغتفر قطعا، و إن شئت قلت: إنّ المقدار المتعارف لارتواء الضمآن أو الغسل أو المكث في الحمام معيّن عند العرف، و إن كان يدور بين الأقل و الأكثر، و لكن هذا المقدار من الاختلاف لا يوجب الغرر، و إلّا اشكل الأمر في جميع الاجارات أو غالبها، نعم لو خرج عن المتعارف كمن مكث في الحمام ساعات كثيرة أو اغتسل بكر من الماء أو شبه ذلك، بل و أقل منه، لم يجز قطعا بالمبلغ المتعارف، بل لا بدّ من قيمة المثل أو اجرة المثل.

و ثالثا: الوكالة لا تصحّ إلّا بالمعين، سواء كان شخصا أو عدّة أشخاص و الوكالة النوعية لا دليل علي صحتها مضافا إلي كونها مخالفة لما هو المتعارف عند العقلاء، و ما ذكره من توكيل علماء النجف مع عدم معرفة عددهم و أشخاصهم، مشكل جدّا.

و أمّا الخامس: فالمقاولة بذاتها غير مفيدة ما لم يكن هناك إنشاء لفظي أو فعلي، و كلاهما مفقودان هنا علي الفرض.

و أمّا إذا كانت الصيغة غير جامعة عندهم لشرائط الصحة، فإن كانت ظاهرة في الإنشاء فهي معتبرة علي كلّ حال، و إن لم تكن ظاهرة، لم تكف في مقام الإنشاء، فليس هناك صيغة لفظية و لا إنشاء عملي، فيبطل

البيع لعدم صدق عنوانه.

و أمّا السادس: فإن كان ابقاء العينين عندهما ظاهرا في الإنشاء الفعلي (و لو بعد المقاولة) كما هو غير بعيد، فيصدق عليه عنوان البيع و يجري عليه أحكامه، و إلّا خرجت هذه الصورة عن المعاطاة.

هذا كلّه علي القول بقصد الملكية في المعاطاة و حصول الملك عقبيه، إمّا لازما أو جائزا، أمّا علي القول بافادتها الاباحة، أو مع قصد الاباحة و أنّ دليل الصحة هو الإجماع أو السيرة، فلا بدّ من الاقتصار علي القدر المتيقن من هذه الصور، و لا يبعد جريانه في الصور الثلاثة الاولي، أمّا غيرها فمحل تأمل.

فتلخص من جميع ما ذكرنا: أنّ الملاك علي المختار هو إنشاء البيع بأي قول و أي فعل

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 64

كان، حتي ابقاء العين عند غير مالكه، أو جعله في المحل المعدّ له، أو شبه ذلك، و لا يدور الأمر مدار الاعطاء و الأخذ فضلا عن التعاطي من الطرفين، و اللّه العالم.

التنبيه الثالث: طريق تمييز البائع من المشتري في المعاطاة

و قد يشتبه الحال في بعض مصاديق المعاطاة و لا يعرف البائع من المشتري حتي يجري عليهما أحكامهما الخاصة التي وردت في بعض الموارد لعدم وجود لفظ صريح فيها.

توضيح ذلك: إنّ بيع المعاطاة من هذه الناحية علي أقسام:

1- ما يعلم المشتري من البائع بسبب المقاولة الخاصة قبلا

2- ما يعلم فيه ذلك بسبب اعطاء المتاع أو النقود، فالذي يعطي النقد هو المشتري و المعطي للمتاع بايع.

3- ما يكون العوضان فيه كلاهما من العروض أو من النقود و لكن يقصد بأحدهما بدل النقد، فصاحبه المشتري و مقابله البائع.

4- ما لا يقصد به ذلك، أو يجعل كلاهما بدلا عن النقود و لكن أحدهما يقصد بالبيع رفع حاجته، و الثاني تنمية ماله، فقد

يقال «1»: إنّ الأول هو المشتري بسبب متفاهم العرف، و الثاني هو البائع، و هو و إن كان كذلك في الغالب لكن عمومه محل نظر، لأنّ البائع لمتاعه قد يكون بحاجة إلي متاع الآخر أو إلي نقوده كما لا يخفي علي من راجع العرف.

5- ما إذا أراد كلّ منهما رفع حاجته بالمتاع، أو أراد كلّ منهما تنمية مال و لم يكن فيه شي ء آخر من علامات البائع و المشتري، فيشكل الأمر معرفتهما فقد ذكر فيه وجوه:

أحدهما: كونه بيعا و اشتراء بالنسبة إلي كلّ منهما لصدق تعريفهما عليهما، فإن البيع مبادلة مال بمال، و الاشتراء ترك شي ء و التمسك بغيره، و كلاهما صادقان عليهما جميعا، و إن لم تترتب عليه الأحكام الخاصة للبائع و المشتري لانصراف أدلّتها عنهما.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 2، ص 173.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 65

ثانيها: كون المعطي أولا هو البائع، و الأخير هو المشتري.

ثالثها: كونها صلحا معاطاتيا لا بيع معاطاة.

رابعها: كونها معاوضة مستقلة.

و قد أورد علي الأول السيد قدّس سرّه في الحاشية، و بعض الأعلام في مصباح الفقاهة، بأنّ لازمه صدق البائع و المشتري علي الطرفين جميعا في جميع البيوع و هو باطل.

و أضاف إليه السيد قدّس سرّه أنّ هذا معني آخر للبيع و الشراء لا معناهما المعروف، لأنّ البائع هو المملّك ماله بعوض، و المشتري هو المتملك، و هما لا يجتمعان في مورد واحد «1».

هذا و لكن صرّح بعض الأكابر في كتاب البيع بعدم اعتبار كون المشتري منشأ للقبول بل القبول بالحمل الشائع لازم في البيع، و كلّ منهما موجب باعتبار و قابل اعتبار آخر، ثمّ قال:

إنّ انصراف أدلّة أحكامهما عنهما هنا أيضا محل إشكال «2».

أقول: لا شكّ أنّ

الأحكام الخاصة بكلّ واحد منهما إنّما تلحقه فيما إذا كان أحدهما متّصفا بوصف البائع في مقابل الآخر، ليمتازا موضوعا و حكما، و أمّا إذا كان كلّ منهما موصوفا بهذا الوصف، فلا تلحق أحكامه الخاصة، فالنزاع في صدق العنوانين عليهما و عدمه قليل الجدوي.

أمّا الثاني: أعني كون المعطي أولا هو البائع، و هو الذي اختاره شيخنا الأعظم قدّس سرّه، فقد أورد عليه بأنّه لا يتمّ بناء علي جواز تقديم القبول علي الايجاب، و لكن يمكن دفعه بأن تقديمه عليه و إن كان جائزا و لكنه مخالف للظاهر، إلّا إذا ثبت بالدليل فتأمل.

هذا و لكن يرد عليه بأنّه أخص من المدعي لإمكان التبادل معا، أو كون كلّ من العينين عند الآخر، فنويا في آن واحد تملكه بإزاء الآخر.

أمّا الثالث: فقد عرفت أن الصلح إنّما يصحّ فيما كان مظنة للخلاف و النزاع و لو بالقوة، و ليس كلّ تراض صلحا، و تمام الكلام في محله.

أمّا الرابع: فهو الذي قواه السيد السند في التعليقة و بعض الأعلام في مصباح الفقاهة،

______________________________

(1). تعليقة المكاسب للسيد الطباطبائي قدّس سرّه، ص 167.

(2). كتاب البيع، ج 1، ص 166.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 66

و لكنه لا يخلو من إشكال، لأنّ أثره أثر البيع عرفا و لا يعدّ عندهم شيئا غيره، و الظاهر أن عناوين المعاملات المختلفة نشأت من حاجة خاصة إليها إذا لم يوجد إليها طريق آخر.

مثلا: تارة يريد الإنسان تمليك ماله، و اخري تمليك منافعه، و ثالثة تمليك انتفاعه، و رابعة اباحته له من غير تمليك شي ء من أصله أو منافعه، إلي غير ذلك فاخترعوا لكلّ واحد من هذه الأغراض عنوانا، و يبعد اختراع عنوان خاص يمكن تحصيل غرضه بالعناوين الموجودة

الاخري.

و بما أنّ البيع بماله من الغرض و المعني- و هو تمليك مال بعوض عام- يشمل ما نحن فيه، فاختراع عنوان مستقل آخر يفيد فائدته بعينه يكون لغوا.

فالانصاف أنّ القول بصدق عنوان البائع و المشتري علي كل منهما (و إنّ لم يترتب عليهما الأحكام الخاصة بالبايع أو المشتري لما عرفت من الانصراف) قوي في المقام.

التنبيه الرابع: أقسام المعاطاة

كان الكلام في الأمر الثاني في تقسيم المعاطاة بحسب المورد، و هنا بحسب قصد المتعاطيين، و حاصل الكلام هنا أنّه يتصور فيها وجوه، عمدتها و جهان:

1- أن ينوي كلّ منهما تمليك ماله بازاء مال الآخر.

2- أن يقصد اباحة ماله بعوض، أي إباحة في مقابل تمليك.

و ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه صورتين آخرين و أنهاهما إلي أربعة صور، و هما:

3- أن يقصدا تمليك مال في مقابل تمليك آخر، ففي الاولي المقابلة بين الملكين، و هنا المقابلة بين التمليكين.

4- أن يقصد اباحة مقابل اباحة.

هذا و يتصور هنا صور اخري أيضا في مقام التصور و إن قلّ وقوعها خارجا مثل ما يلي:

5- أن يقصد الباذل تمليك ماله بازاء اباحة الآخر.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 67

6- أنّ يقصد اباحة في مقابل تمليك لا في مقابل عوض، و إن شئت قلت: اباحة بشرط التمليك لا بشرط العوض.

و قال السيد قدّس سرّه في التعليقة: إنّ المقابلة إمّا أن تكون بين المالين علي وجه الملكية أو علي وجه الاباحة، و إمّا أن تكون بين الفعلين علي وجه التمليك بأن يكون تمليك بازاء تمليك، و إمّا أن يكون بينهما علي وجه الاباحة بأن تكون الاباحة في مقابل الاباحة، و إمّا أن يكون أحدهما مالا و الآخر فعلا … إلي غير ذلك ممّا ذكره «1».

و لا يهمنا

تكثير الأقسام بعد كون محل الحاجة و البلوي أقساما خاصة، فلنرجع إلي بيان أحكامها و نقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية.

أمّا الصورة الاولي، و هي المعمولة في المعاطاة كما عرفت، فقد يقصد فيه الإيجاب و القبول بدفع العين الاولي، و تتمّ المعاطاة به و يكون دفع العين الثانية من باب الوفاء، و اخري يكون بدفع العينين، فيقصد بدفع الأولي الإيجاب، و بدفع الثانية القبول و لا مانع منه.

و من هنا يرد علي شيخنا الأعظم قدّس سرّه حصره هذا القسم بالصورة الاولي، أعني ما قصد بدفع العين الاولي و أخذها الإيجاب و القبول، و لم نفهم وجها لإصراره علي ذلك، بل يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني قدّس سرّه فيما حكي عنه من منافاته لما ذكره سابقا: من أنّ المتيقن من المعاطاة صورة التعاطي من الجانبين، و ما أجاب عنه بعض تلامذته غير تام «2».

و علي كلّ حال لا إشكال في صحة هذا النوع من المعاطاة بكلا شقيه و كونه بيعا لازما علي المختار.

أمّا الصورة الثالثة (و سيأتي حكم الثانية إن شاء اللّه) فقد يقال: إنّها غير معقولة لأنّ مبادلة السلطنتين، أي التمليك بازاء التمليك، تحتاج إلي سلطنة اخري، و هكذا يتسلسل.

و لكن يرد عليه: أنّه ليس المراد انتقال سلطنته إلي غيره في مقابلة نقل سلطنته إليه، بل المراد تمليك بشرط تمليك، أعني يملكه ماله بشرط فعل الآخر مثله، فكلّ من الفعلين

______________________________

(1). تعليقة المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 167.

(2). مصباح الفقاهة، ج 2، ص 176.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 68

مشروط بالآخر و اين هذا من التسلسل و المحال؟!

و أمّا حكم هذا القسم فالظاهر أنّه لا يدخل في البيع، لعدم صدق

تعريفه عليه بعد عدم كون المبادلة بين المالين.

و لا تعريف الهبة المعوضة عليه، لأنّ الهبة إنّما يعتبر فيها المجانية، و كونها معوضة، إمّا بحسب الداعي أو بدون الداعي و لكن الموهوب له يعوضه بشي ء بعد هبته به مجانا، كما لا يخفي علي من راجع كتاب الهبة و رواياتها.

كما أنّ صدق عنوان الصلح أيضا عليه مشكل بعد ما عرفت من اختصاصه بموارد وقع فيها النزاع بالفعل أو بالقوة، فيبقي كونه عقدا جديدا و معوضة مستقلة، و قد عرفت أنّ هذا أيضا لا يخلو عن إشكال و عدم كونه متداولا بين العقلاء و كفاية البيع عنه، و عدم الحاجة إلي تأسيس مثل هذا العقد، و أنّ العقود و عناوين المعاملات إنّما وجدت لأغراض دعت إليها لا لمجرّد اقتراح المتعاملين و قصدهم، فالحكم بالصحة هنا ما لم يرجع إلي عقد البيع مشكل.

أمّا الصورة الثانية، أعني الاباحة في مقابل العوض، و كذا الصورة الرابعة، أي الاباحة في مقابل الاباحة، فالكلام فيهما من جهات:

الاولي: في جواز الاباحة المطلقة، أعني اباحة جميع التصرفات حتي المتوقفة علي الملك كالعتق و البيع و الوقف و أشباهها.

الثانية: و هي مختصة بالقسم الأول، و هي الإشكال في صحة الاباحة بالعوض لتركب العقد من اباحة و تمليك.

و الثالثة: في الدليل علي صحة الاباحة في مقابل الاباحة بعد عدم دخوله في العقود المعروفة

أمّا الاولي: فعمدة الإشكال فيها أنّ اباحة المالك الناشئة عن تسلطه علي أمواله لا تكون مشروعة، و قضية قاعدة التسلط هي جواز كلّ فعل و تسليط مشروع بحكم العقلاء و الشرع، فلا يشمل ما هو ممنوع أو مشكوك، و منه اباحة البيع و الوقف لغير المالك، نعم لو دلّ دليل خاص في مورد علي جواز

بعض هذه التصرفات لغير المالك فلا محيص من

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 69

الالتزام بالملكية آنا ما قبل البيع أو العتق جمعا بين الأدلّة، و كذا يجوز توكيل المالك لغيره في بيعه عن المالك و تمليك ثمنه لنفسه، أو تمليكه أولا لنفسه ثم بيعه لنفسه، و كل ذلك مفروض العدم في المقام، فلا وجه لا باحة جميع التصرفات.

أقول: هذا كلّه حق لو ثبت عدم صحة البيع إلّا لمالكه، و كذا العتق و الوقف، و لكن لقائل أن يقول بجواز بيع ملك غيره لنفسه، و لكن بأذن مالكه و كذا العتق و الوقف باذن مالكه.

و ذلك لأنّ قوله عليه السّلام: «لا بيع إلّا في ملك» إنّما ورد في مقام المنع عن بيع ما ليس عنده، أو البيع بغير اذن مالكه، و كذا العتق و الوقف فتأمل، فعلي هذا يمكن أن يقال بصحة قول القائل:

«خذ هذا الدرهم و اشتر خبزا لنفسك أو ثوبا لك» و أنّه ليس توكيلا للمأمور في تملك الثمن أو المثمن، و كذا الوقف و العتق و شبهها، و هذا أمر واقع في العرف ولدي العقلاء، و لكن مع ذلك لا يخلو عن إشكال، لا من ناحية عدم صحته عقلا نظرا إلي أنّ حقيقة البيع تبديل الاضافات، أي جعل اضافة الثمن إلي البائع بدل اضافة المثمن إلي المشتري، لإمكان منع هذا المعني، بل العمدة فيه عدم الدليل علي جواز هذه الامور، فلو قام دليل علي جواز اشتراء شي ء لنفسه بمال غيره مع اجازته قلنا بصحته، و لم يناف حقيقة البيع، و لكن قد عرفت الإشكال في ثبوته في العرف و الشرع و إن كان هناك بعض الشواهد لما يتراءي في العرف من تجويز

ذلك أحيانا، و لكن تفسيره بالتوكيل غير بعيد.

أمّا المقام الثاني فالانصاف أنّ الاباحة في مقابل العوض أمر رائج بين العقلاء، نعم ليست داخلة في عناوين البيع و الصلح و الهبة لما عرفت آنفا، بل هو معاوضة مستقلة متداولة و هو معمول في ما يؤتي في الفنادق و المطاعم من الأغذية، و كذا في الحمامات و شبهها، كلّها داخلة في الاباحة، و لكن لا اباحة مجانية، بل اباحة العين أو المنفعة في مقابل العوض.

إن قلت: إنّ هذا كله اباحة مع الضمان، فليس هناك معاوضة بل جواز الاتلاف مع ضمان المثل.

قلت: كثيرا ما يكون مثليا مع عدم التزامهم بغير القيمة، و هذا دليل علي المعاوضة كما لا يخفي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 70

و لكن هنا إشكال آخر من ناحية عدم العلم بالعوض في كثير من هذه الأمثلة، فتبطل من ناحية الغرر، اللّهم إلّا أن يقال حدود القيمة و العوض معلوم غالبا، و المسألة غير صافية عن الإشكال و احتمال كونها اباحة مضمونة أيضا غير بعيد.

و من هنا يظهر الكلام في المقام الثالث، فإنّ المعاوضة بين الاباحتين غير معروفة عند العقلاء، و التمسك بأدلة وجوب الوفاء بالعقود أو المؤمنون عند شروطهم مشكل إذا لم يكن العقد معروفا عندهم كما عرفت آنفا، نعم يجوز لكل منهما التصرف فيما عنده برضا مالكه، و لا ينافي ما ذكره صحة العقود المستحدثة عندهم و شمول أدلة وجوب الوفاء لها لما عرفت من عدم كونها معروفة عندهم.

التنبيه الخامس: جريان المعاطاة في سائر العقود
اشارة

هل المعاطاة جارية في غير البيع من سائر العقود كالإجارة و الهبة و الرهن و الوقف و غيرها، أو لا تجري فيها مطلقا، أو يفصّل بين ما لا يتصور فيه العقد الجائز كالرهن، لمنافاة

الجواز لكون المال وثيقة، و كالوقف لعدم معروفية الوقف الجائز، و بين غيرها؟ وجوه أو أقوال:

لم نر لقدماء الأصحاب و متأخريهم حكما عاما بجريان المعاطاة في جميع أبواب العقود، و إنّما هو قول مال إليه المعاصرون أو افتوا به.

نعم في كلام المحقق الثاني قدّس سرّه و غيره جريانها في بعض العقود غير البيع من دون التعرض للعموم.

و أمّا التفصيل الذي ذكرناه فيظهر أيضا من بعض كلمات المحقق الثاني قدّس سرّه.

و هناك تفصيل آخر يمكن أن يعدّ قولا رابعا في المسألة، و هو الفرق بين العقود التي يمكن المعاطاة فيها بالفعل، كالبيع و الهبة و الإجارة، و بين ما لا يمكن فيها كالوصية و الضمان و ما أشبههما.

هذا و مقتضي القاعدة عند القائلين باعتبار اللفظ في صحة العقود بطلان المعاطاة في

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 71

غير ما ثبت اعتبارها بالإجماع أو السيرة كالبيع، أو الإجارة و الهبة أيضا، و أمّا ما عداها مشكل.

و لكن علي المختار من جواز إنشاء المعاوضات باللفظ أو بكل عمل دل عليها فالظاهر صحة المعاطاة في جميعها إلّا ما خرج بالخصوص، كما ستأتي الإشارة إليها، هذا مضافا إلي جريان السيرة في الهبة و العارية و الاجارة و في الفنادق و الخانات بل المساكن أيضا، و كذا في وقف الكتب و الفراش و السراج علي المساجد و كذا في الرهن باعطائه بيد المرتهن، فان جميعها من قبيل المعاطاة، نعم قد يكون أمر الأجير بفعل و علمه بعد ذلك كالإباحة بالعوض أو استيفاء المنفعة مع الضمان إذا لم تكن مال الإجارة معلوما فيها، لما حققناه في محلة من بطلان الاجارة الغررية، و لكن وقوع هذا في بعض الموارد لا يمنع من صحة

المعاطاة فيها عند اجتماع الشرائط فيها.

و بالجملة لما كانت المعاطاة موافقة للقواعد جرت في جميع أبواب العقود إلّا ما خرج بالدليل.

هذا و قد عرفت كون العقد المعاطاتي لازما، و لا يعبأ بدعوي الإجماع علي اعتبار اللفظ في العقود اللازمة بعد ما عرفت من أن المقام ليس مقام دعوي الإجماع.

فعلي هذا لا مانع من جريانها في الرهن المبني علي اللزوم لكونه وثيقة، و في الوقف بعد عدم معروفية الوقف الجائز.

و من هنا أيضا يظهر أن تفصيل المحقق النائيني قدّس سرّه فيما حكي عنه بين ما لا يمكن إنشاؤه بغير الألفاظ مثل الضمان و الوصية و غيرها، ممّا لا وجه له، بعد كونه من قبيل الانتفاء بانتفاء موضوعه، أضف إلي ذلك أنّ الكتابة و الإشارة في نظرهم بحكم المعاطاة، و كذا الصيغ غير المعتبرة، و هذا ممكن في الضمان و الوصية فتدبّر.

بقي هنا امور:
الأول: المعروف بين الأصحاب بل حكي الاتفاق و الإجماع علي اعتبار- اللفظ في [النكاح]

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 72

النكاح، بل حكي في الجواهر اتفاقهم علي العربية و عدم كفاية العقد بالفارسية و غيرها، إلّا مع العجز عنها، فحينئذ لا تأتي المعاطاة فيه.

و هذا و قد يقال: بأنّ جريان المعاطاة فيه ملازم لضده، و هو الزنا، و من البين أنّه لا يمكن إنشاء شي ء من الامور الإنشائية بضده، فان المعاطاة في النكاح ليس إلّا الزنا!

أقول: الفرق بين «الزنا» و «النكاح» ليس في كون أحدهما إنشاء فعليا و الآخر قوليا، بل الفرق بينهما أن الزنا لا يقصد فيه إلّا التمتع من دون عقد الزوجية لا قولا و لا فعلا، و النكاح يقصد به التمتع من طريق الزوجية بأحكامها الخاصة سواء كانت الزوجية دائمة، أو مؤقتة، و من المعلوم أنّ الزوجيه حقيقة وراء التمتع المجرّد عن كل شي ء الموجود

في الزنا.

و تظهر الثمرة فيها إذا قصد عقد النكاح و اكتفي بمجرّد الكتابة و التوقيع كما هو المتداول بين البعض، أو كان المبرز للقصد و الإنشاء أمرا وراء الإنشاء اللفظي.

فالعمدة في عدم صحة المعاطاة في النكاح هو الإجماع علي اعتبار الصيغة فيه و ارتكاز المتشرعة أيضا.

هذا مضافا إلي أنّ النكاح فيه شوب من العبادة التوقيفية، كما صرّح به في الجواهر و غيره «1».

و المراد منه ليس اعتبار قصد القربة فيه، لأنّه واضح الفساد، بل المراد أنّ الأحكام التوقيفية غالبة عليه، فهو من هذه الجهة شبيه العبادات، لا سائر المعاملات، فاللازم فيه الأخذ بالمتيقن.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع لم يتصرف في سائر المعاملات الرائجة بين العقلاء كتصرفه في أمر النكاح و شئونه المختلفة، و كذا الطلاق، فيشبهان الامور العبادية، فلا يصح هنا الرجوع إلي عرف العقلاء و سيرتهم و الأخذ به بدعوي أنّ عدم الردع امضاء له، بل اللازم الاكتفاء بالقدر المتيقن كما عرفت.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 29، ص 133.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 73

الثاني: قد يقال بعدم جريان المعاطاة في «الرهن» و «الوقف»

نظرا إلي أنّ ماهيتهما مبنية علي اللزوم، فالرهن لا يكون وثيقة بدونه، و أمّا الوقف فحيث إنّه للّه، و ما كان للّه فلا يرجع فيها أبدا- كما في الحديث- فلا يتصور فيه الجواز أيضا، و حيث قد عرفت أنّ المعاطاة لا تفيد اللزوم فلا تجري فيهما.

الجواب عنه: ما عرفت آنفا من أنّ المعاطاة لازمة، و الإجماع المدعي علي عدم اللزوم ممنوع جدّا، لأنّه نشأ عن شبهة حصلت للمجمعين أولا كما مرّ، و لا تطمئن النفس بكشفه عن قول المعصوم ثانيا، نعم العقود التي طبعها الجواز كالهبة المعاطاة فيها تفيد الجواز أيضا.

الثالث: قد يقال بعدم جريانها أيضا في «القرض» و شبهه

لاشتراط القبض فيها، فالقبض لا يمكن أن يكون مصداقا لإنشاء أصل العقد و لشرطه، للزوم الجمع بين «المقتضي» و «الشرط» و هما متباينان.

و يرد عليه: أنّه من باب الخلط بين الحقائق و الاعتبارات، فإنّ المقتضي و الشرط في الامور الاعتبارية يرجعان إلي الدواعي جعل المولي، و شرائط موضوعه و قيوده، فلا مانع من اجتماعهما في شي ء واحد، و لا دليل علي لزوم كون القبض بعد العقد في هذه العقود، مضافا إلي إمكان القول بكون القبض إنشاء للعقد بحدوثه و تحققا للشرط ببقائه.

الرابع: الظاهر جريان المعاطاة في الايقاعات أيضا

، مثل العتق، فمن أطلق سراح عبد، و أنشأ عتقه بهذا العمل، صحّ عتقه، و كذا الوقف لو قلنا أنّه من الايقاعات، و كذا الابراء و شبهه.

قال في الجواهر بعد ذكر عنوان المسألة في العقود و الايقاعات جميعا، و الاعتراف بعدم كونها محررة في كلماتهم، و عدم ورود نص خاص فيها، ما نصه: «إنّه يمكن دعوي حصولها (السيرة) في جميع علي وجه يلحقها اسم تلك المعاملة القائمة مقامها محكمها، عدا ما كان بالصيغة منها كاللزوم … فينكشف بذلك حينئذ عدم اعتبار الصيغة في أصل الصحة» «1».

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 240.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 74

و قال أيضا في كلام آخر له في المقام ما حاصله: إنّ القول بالزوم في غير البيع أيضا غير بعيد، لعدم قيام دليل علي خلافه، إن رجع عنه في أواخر كلامه و لم يستقر علي هذا الفتوي خوفا من قيام الإجماع ظاهرا علي اعتبار الصيغ في صحتها أو مسمّاها «1».

و هذا و قد عرفت أنّ الخوف من هذا الإجماع لا وجه له، لعدم اشتماله علي شرائط الحجية، لجريان السيرة العملية علي خلافه، فالقول بالصحة بل

اللزوم في الايقاعات أيضا هو الأقوي عدا ما خرج بالدليل كالطلاق، و اللّه العالم.

التنبيه السادس: في ملزمات المعاطاة (و اصالة اللزوم في جميع المعاملات)
اشارة

قد عرفت أنّ المعروف بينهم عدم لزوم عقد المعاطاة، بل هو إمّا مفيد للإباحة أو الملكية الجائزة، و لم ينقل كونها لازمة إلّا عن ظاهر المفيد رحمه اللّه، و لكن عرفت أيضا أنّ الحق كونها لازمة كالبيع بالصيغة، و كذا في غير البيع من العقود اللازمة، و نزيدك هنا بأن الأصل في جميع المعاملات الصحيحة هو اللزوم كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه «2» و غيره.

و استدل علي ذلك بوجوه ثمانية معروفة لا بدّ من ذكرها و ذكر ما عندنا فيها علي سبيل الإجمال:

1- الاستصحاب

الاستصحاب الجاري بعد اجراء الفسخ المشكوك تأثيره علي الفرض، و بعد رجوع المالك الأصلي، و قد وقع الكلام فيه بأنّه من قبيل الاستصحاب الكليّ أو الشخصي؟ و لو كان كليا فهل هو من قبيل القسم الأول من الكلّي، أو من القسم الثاني؟ و لو كان من قبيل القسم الثاني، فهل هو حجّة في المقام كما في سائر المقامات، أو للمقام خصوصية تسقطه عن الحجية؟ و قد تكلّم بعضهم في جميع ذلك، و أكثر فيه إكثارا يمكن الاستغناء عن كثير منه و صرف العمر فيما هو ألزم و أنفع!

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 240.

(2). المكاسب، ص 85 من الطبعة الحجرية.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 75

و عصارة البحث فيها ما يلي:

لا ينبغي الشك في كون الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب الشخصي، لأنّ حقيقة الملك لا تتفاوت بتفاوت جواز فسخه و عدمه، و لقد اجاد شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام حيث قال: «إنّ المحسوس بالوجدان أن إنشاء الملك في الهبة اللازمة و غيرها علي نهج واحد» «1» فالاختلاف بين القسمين، أعني الملك اللازم و الجائز و إنّما هو في أحكامهما،

لا ما يرجع إلي ماهيتهما، فكما أنّ جعل الخيار في بعض العقود لا يجعله قسما آخر في مقابل ما لم يجعل فيه الخيار، كذلك ما كان جائزا لفسخ بحكم الشرع من دون جعل خيار.

و بالجملة لا ينبغي الشك في كون المقام من الاستصحاب الشخصي.

و لو سلمنا أنّه من الكلي، لكنه من قبيل القسم الثاني من الكلّي الذي يدور أمر المستصحب فيه بين ما هو طويل العمر أو قصيره، كمن علم بوجود حيوان في الدار لا يدري هل عصفور أو غراب، و كمن يعلم بخروج بلل منه تردد أمره بين البول و المني، فإذا توضأ شك في بقاء الحدث و ارتفاعه فيستصحب.

و قد أورد عليه أولا: بمعارضته ببقاء علقة المالك الأول في ما نحن فيه.

و ثانيا: بعدم حجيّة القسم الثاني من الكلّي، لأنّ أمره دائر بين قصير العمر فارتفع قطعا، و طويل العمر و هو مشكوك الوجود من أول الأمر، و الأصل عدم وجوده.

و لكن يجاب عن الأول: بأنّ العلقة إن كانت بمعني الملكية فقد زالت قطعا، و إن كانت شيئا آخر فلا نعقل له معني، و إن كان بمعني حكم الشارع بجوازه فهو حكم شرعي مشكوك من أول الأمر، ليس موردا للاستصحاب بل المورد له هو موضوع حكم.

و عن الثاني: بما ذكر في محله من أنّ أصالة عدم الفرد الطويل لا يثبت عدم الكلّي لأنّه من اللوازم العقلية لأمرين: انعدام الفرد القصير بعد وجوده قطعا، و عدم الفرد الطويل من أول أمره.

فالاستصحاب هنا لا غبار عليه، سواء كان شخصيا أو كليّا.

______________________________

(1). المكاسب، ص 85 من الطبعة الحجرية.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 76

بل يمكن إجراء الاستصحاب علي نحو آخر، و هو الاستصحاب الحكمي بأنّ

يقال: إنّ هذا المال كان جائز التصرف للمشتري و ممنوعا للبائع، و بعد الرجوع و الفسخ يشك في بقاء هذا الحكم و عدمه فيستصحب، اللّهم إلّا أن يقال بأنّه بعد الشك في بقاء موضوع الملك لا وجه لجريانه، فتأمل.

هذا و قد يورد علي الاستصحاب الشخصي هنا أولا: بأنّه لا يتمّ علي مبني القائلين بعدم حجيّته في الشك في المقتضي، فإنّ الشك هنا في مقدار اقتضاء الملكية للبقاء و أنّه هل كان ملكا لازما له اقتضاء البقاء و لو بعد الرجوع و الفسخ، أو ملك جائز قصير عمره؟

لكن هذا الكلام أيضا مبني علي تخيل تفاوت الملك الجائز و اللازم بحسب الماهية، مع أنّه ليس كذلك كما عرفت، بل الملك إذا حصل فانه يبقي إلي الأبد إلّا أن يرفعه رافع، فالشك هنا علي كل حال في الرافع.

و ثانيا: إنّ هذا الاستصحاب محكوم لاستصحاب خيار المجلس الثابت في كل بيع.

و فيه: إنّ أصالة اللزوم لا تختص بالبيع و لا بموارد ثبوت خيار المجلس، بل هي قاعدة عامة في جميع العقود التي يشك في لزومها.

مضافا إلي أنّ خيار المجلس يرتفع بافتراق المتبايعين قطعا بصريح روايات الباب، فلو بقي الجواز بعد ذلك لبقي في ضمن حكم آخر غير حكم خيار المجلس، فلو جري فيه الاستصحاب كان من قبل القسم الثالث من الكلي، و قد حقق في محله عدم حجيّته لعدم اتحاد القضية المشكوكة و المتيقنة فيه، فتأمل.

و ثالثا: و هو العمدة في هذا الباب، إنّ الاستصحاب لا يجري في الشبهات الحكمية- علي المختار- و المقام منها فيسقط من الاعتبار، فلا يمكن الركون إليه في إثبات اللزوم في شي ء من المعاملات بالمعني الأعم من البيع.

2- التمسك بآية الوفاء بالعقود
اشارة

و ممّا استدل به لقاعدة اللزوم

قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1».

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 77

و العقد بأي معني فسّر يشمل جميع المعاملات من البيع و غيرها، سواء قلنا أنّه «العهد» أو «العهد المشدد».

قال الراغب: العقد الجمع بين أطراف الشي ء و ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل، ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع و العهد … و قال تعالي: بِمٰا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمٰانَ و منه قيل لفلان عقيدة، و قيل للقلادة عقد … و العقدة اسم لما يعقد من نكاح.

و لا يخفي علي من راجع موارد استعمال هذه الكلمة في الكتاب العزيز أنّها غير شاملة للمعاملة الاذنية التي تتبع اذن صاحبها و تبقي ما دام الاذن موجودا.

و الأمر بالوفاء و إن كان حكما تكليفيا في بدء النظر إلّا أنّه في أمثال المقام ظاهر في الحكم الوضعي، فان وجوب الوفاء بالعقد دليل علي اعتباره و لزومه وضعا، كما هو ظاهر.

نعم، قد يقال بعدم إمكان الأخذ بعمومها و إن كان الجمع المحلّي باللام ظاهرا في العموم لا سيما مع كونه في مقام البيان و الاطلاق، و ذلك للزوم تخصيص الأكثر بعد خروج المعاملات الجائزة، و هي كثيرة، و خروج البيع و شبهه بأنواع الخيارات.

و لكن الانصاف عدم وجود مانع من هذه الناحية، فان العقد الذي هو متحد مفهوما مع العهد بل المعاهدة، لا تشمل العقود الجائزة الاذنية إلّا مجازا، و إن شئت قلت: مفهومه التزام في مقابل التزام، و هذا المعني غير موجود في مثل الهبة و العارية و الوديعة و شبهها، فهي خارجة عن الآية رأسا، و أمّا اشتمال البيع و شبهه علي كثير من الخيارات، فهي و إن كانت كذلك، و

لكن زمان تزلزل البيع بالخيار في مقابل زمان لزومه قصير جدّا، فأكثر البيوع في أكثر الأوقات لازمة، و إنّما الجواز يقع في فترات يسيرة كما لا يخفي.

بقي هنا شي ء:

و حاصله أنّ الأمر بوجوب الوفاء بالعقود مسلّم، و لكن بعد الفسخ يكون من قبيل الشبهة المصداقية، للشك في بقاء العقد، و فيه: أنّه ناش عن عدم تحقيق معني الوفاء، فان الظاهر من الأمر بالوفاء هو الأمر المولوي الذي لازمه الحكم الوضعي بلزوم العقد، و هذا الأمر بنفسه ينفي أثر الفسخ، فان إرجاع العين و تجديد النظر في العقد مناف للوفاء، فلا يجوز استرجاع العين بهذا الفسخ.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 78

3 و 4- التمسك بآية حرمة أكل المال بالباطل:

و قد دلّ الكتاب العزيز علي حرمة أكل المال بالباطل إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «1»، فالفسخ عند الشك في صحته يقع مصداقا لحرمة أكل المال بالباطل، كما أنّه مصداق لعدم كون التجارة عن تراض.

فقال تعالي شانه: لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ «2».

و قد استدل بصدر الآية علي المطلوب تارة و بذيلها اخري.

امّا الأول: فلأن أخذ أموال الناس بغير رضاهم بعد الانتقال إليهم بعقد من العقود هو أكل للمال بالباطل، فهو منهي عنه، فما لم يثبت حق الرجوع شرعا كان الفسخ باطلا، فهو نظير ما ورد في الآية 188 من سورة البقرة: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَي الْحُكّٰامِ الخ، و مثل ذم اليهود في قوله تعالي: وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ «3».

و أمّا الثاني: فلأن ذيلها يدل علي اعتبار كون التجارة عن تراض في جواز الأكل، و من الواضح أنّ الفسخ و الرجوع من جانب واحد ليس تجارة عن تراض بينهما.

و قد أورد علي الوجه الأول بما يسقط الاستدلال بالوجه الثاني أيضا، و حاصله: أنّ الآية بصدد المنع عن الباطل الواقعي،

لا الباطل العرفي، فإذا شك في شي ء أنّه باطل واقعا و عند اللّه أم لا؟ لم يجز التمسك بعموم الآية، لأنّه من قبيل التمسك بعموم العام في الشبهات المصداقية «4».

أقول: و هو عجيب، لأنّ الأصحاب لا يزالون يحملون الالفاظ الواردة في أبواب المعاملات علي مفاهيمها العرفية، و لو لا ذلك لم يجز الاستدلال بالعمومات الواردة فيها مطلقا.

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 25.

(2). سورة النساء، الآية 29.

(3). سورة النساء، الآية 161.

(4). مصباح الفقاهة، ج 2، ص 141.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 79

أضف إلي ذلك أنّه لو كان المراد منه الباطل الواقعي، كانت الآية قليل الفائدة جدّا في ذاتها، لعدم طريق إليه إلّا بدليل آخر يغني عنها.

و بالجملة المراد بالآية النهي عن أكل المال بكل ما يعد باطلا عرفا، كالغصب و الرشاء و التطفيف و غيرها، و من المعلوم أنّه إذا باع شيئا ببيع المعاطاة، ثم أراد استرجاعه بغير رضا المشتري كان أكلا بالباطل عرفا، و لم يكن مصداقا للتجارة عن تراض، و بالجملة كل ذلك امضاء لما عند العقلاء من الأحكام.

و العمدة في الاستدلال بالآية و غيرها من أشباهها كون الفسخ في المقام مردودا عند العقلاء و باطلا عندهم، فلا يلزم التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية.

هذا و لكن يرد علي الاستدلال بها أمران آخران:

أحدهما: أنّه يختص بباب الأموال و لا يشمل العقود جميعا، فلا تثبت أصالة اللزوم كقاعدة كلية في جميع أبوابها، نعم يفيد في المقام أعني المعاطاة.

ثانيهما: إنّ حصر سبب الحلية في «التجارة عن تراض» موجب لتخصيص الأكثر لتكثر أسبابها من الاباحة و الإرث و الهدية و الوصية و الجعالة و غيرها من أشباهها و هذا كاشف عن كون الحصر إضافيا، فحينئذ يشكل الاستدلال

بذيلها و يكون الذيل من قبيل ذكر مصداق لما ليس بالباطل المذكور في صدرها.

5- التمسك بآية حلية البيع:

و استدل للقاعدة أيضا بقوله تعالي: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا «1».

و صدر الآية يدلّ علي أن قيام المرابين في الحشر كقيام المصروع و من مسّه الشيطان بالجنون، لا يقدرون علي المشي و يتخبطون فيه، كما أن قيامهم في الدنيا أيضا كذلك، فلهم جنون جمع الثروات من أي طريق، و لو بظلم أحوج الناس و افقرهم، و ما هناك تجسم لما هنا.

ثم تقول الآية: إنّ عذابهم هذا ناش عن قولهم «إنّما البيع مثل الربا» زعما منهم أنّ كليهما

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 275.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 80

تجارة عن تراض من الطرفين، فما الفرق بين معاملة و معاملة؟ ثم يجيب القرآن عنه بأنّه أي فرق أوضح من أن اللّه «أحل البيع» و «حرم الربا» و فعل اللّه مشحون بالحكم و المصالح العالية.

و هذه المصالح أيضا لا تخفي علي الخبير إجمالا، فالانسان العاقل إذا نظر بعين البصيرة يري الفرق العظيم بينهما، فالبيع فيه نفع للبائع و المشتري في الغالب، بينما الربا فيه ضرر علي المدين و نفع للدائن دائما، و يترتب عليه استثمار الناس، و حلول الأزمات الاقتصادية، و تكريس العداوة و البغضاء، و ترك اصطناع الناس المعروف «و هو القرض الحسن» كما ورد في الحديث، و مفاسد عظيمة اخري لا تخفي.

هذا و معني الحلية هنا إمّا الحلية التكليفية بالنسبة إلي ما يستفاد من البيع من الأموال، أو الحلية الوضعية التي من آثارها الحلية التكليفية.

و الثاني أظهر، و الاستدلال بالآية لأصالة اللزوم في البيوع علي الثاني ظاهر لا غبار عليه، لأنّ هذه الحلية بمعني نفوذ أمر البيع و امضائه علي

ما عند العقلاء، و قد عرفت أنّ بنائهم علي اللزوم حتي في المعاطاة، فلا يجيزون انفراد أحد الطرفين بالفسخ، و قول الشارع «أحل اللّه البيع» امضاء له.

و الإشكال عليه: بأنّه من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، قد عرفت الجواب عنه، و أنّ نفس إمضاء البيع بما عندهم من الأحكام ينفي احتمال تأثير الفسخ.

هذا و الذي يوجب الإشكال في الاستدلال بها أمر آخر، و هو أن الآية ليست في مقام البيان من ناحية حلية البيع مطلقا، بل في مقام بيان الفرق بين البيع و الربا إجمالا، و هذا كقول القائل: إنّ ذبيحة المسلم حلال و ذبيحة الكافر حرام، في جواب من يسأل عنهما، و من الواضح أنّه لا اطلاق فيه من سائر الجهات، فلو شككنا في اعتبار الاستقبال أو البسملة في الذبيحة فلا يمكن نفيهما عنها بهذا الاطلاق.

6- حديث التسلط:

و استدل له أيضا بقوله صلّي اللّه عليه و آله: «الناس مسلطون علي أموالهم».

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 81

و تقريب الاستدلال به بحيث يندفع عنه الإشكال: إنّ مقتضي تسلط الناس علي أموالهم أن أمرها بيدهم، فلا يجوز للغير التصرف بها بدون رضاهم، فرجوع المالك الأصلي بعد انتقاله عنه و قطع تسلطه، ممنوع، و تفرده بالفسخ غير مجاز، فلا تصل النوبة إلي الشبهة المصداقية كما هو ظاهر لا ريب فيه.

و قد أورد عليه: تارة بضعف السند، و اخري بضعف الدلالة نظرا إلي أنّ مفاد الحديث استقلال المالك بالتصرفات المشروعة و عدم كونه محجورا عنها، فلا دلالة له علي امضاء جميع تصرفاته، كما أنّه لا دلالة له علي استمرار السلطنة الفعلية للمالك و بقائها حتي بعد رجوع المالك الأول في مورد المعاطاة «1».

أقول: أمّا الأول فلا ريب

في انجباره بالشهرة، مضافا إلي ورود روايات كثيرة مشتملة علي هذا المضمون و لو لم يكن بلفظ التسلط (فراجع القواعد الفقهية قاعدة التسلط ج 2 و تأمل فيها فانه حقيق به).

و أمّا الثاني: فلما عرفت غيره مرّة من أنّ إمضاء التصرفات المشروعة عند العقلاء كاف فيما نحن بصدده، لأنّ منها عدم جواز تفرد أحد الطرفين بالفسخ، و أمّا استمرار تلك السلطنة فهو مقتضي الاطلاق، و أمّا عدم تأثير الرجوع فلما عرفت من منافاة التأثير لتسلط الناس علي أموالهم، فالحديث من أوضح ما يدل علي المقصود.

7- التمسك بلزوم الوفاء بالشروط

و ممّا استدل به علي القاعدة، الرواية المشهورة عنه صلّي اللّه عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم»، و قد رواه في الوسائل بطرق مختلفة عن عبد اللّه بن سنان «2» تارة و عن اسحاق بن عمار «3»

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 2، ص 137.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 6 من أبواب الخيار، ح 1- عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سمعته يقول: من اشترط شرطا مخالفا لكتاب اللّه فلا يجوز له و لا يجوز علي الذي اشترط عليه و المسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب اللّه عز و جلّ و أيضا في الحديث 2، عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال المسلمون عند شروطهم إلّا شرط خالف كتاب اللّه عزّ و جلّ فلا يجوز».

(3). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 6 من أبواب الخيار، ح 5- عن اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليه السّلام عن

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 82

اخري، بعضها صحيحة، و إن كان بعضها الآخر محلا للكلام.

هذا مضافا إلي أنّه ورد في بعضها «المسلمون» بدل «المؤمنون»

و الأمر فيه سهل، ففي رواية منصور بزرج «المؤمنون عند شروطهم» «1».

هذا مضافا إلي اشتهار سند الرواية اشتهارا تامّا يغنينا عن البحث في سندها.

و أمّا دلالتها فيتوقف علي فهم معني «الشرط»، فإن قلنا أنّه بحسب اللغة بمعني مطلق الالتزام اللفظي و العملي، الابتدائي و في ضمن العقد، كان كل عقد داخلا فيه، سواء البيع المعاطاتي أو الصلح المعاطاتي أو غير ذلك إلّا ما خرج بالدليل.

و أمّا إن قلنا: إنّ الشرط هو الالتزام التابع لالتزام آخر (كما عن القاموس: إنّ الشرط هو الالتزام في بيع، و نحوه ما يظهر من غير واحد من كتب اللغة، بل يظهر ذلك من موارد استعماله في الأخبار و كلمات العرف أيضا) فحينئذ يشكل الاستدلال بها علي غير ما وقع ضمن العقد، و لا يشمل نفس الالتزامات العقدية، و لا أقل من الشك في ذلك فيسقط الاستدلال بها.

اللّهم إلّا أن يقال: إذا كان الشرط الذي هو أمر تبعي لازم المراعاة، فأصل المعاملة كذلك بطريق أولي.

نعم، قد يورد عليه بايراد آخر و إن كان غير وارد عليه ظاهرا، و هو أنّه لا يستفاد منه إلّا الالتزام التكليفي و لا يراد منه الالتزام الوضعي، و علي هذا فشأن الرواية شأن قولنا «المؤمن عند عدته» «2».

أقول: لا ينبغي الشك في أنّه يستفاد من هذه التكاليف في أبواب المعاملات ثبوت الحق، و ثبوت الحق دليل علي الحكم الوضعي، و أمّا التكليف المجرّد عن الحق ففي، هذه الأبواب غير مأنوس، فلو حكم الشارع بوجوب الوفاء بالعقد، أو وجوب ردّ الثمن أو

______________________________

علي بن أبي طالب عليه السّلام كان يقول: «من شرط لا مرأته شرطا فليف لها به فإنّ المسلمون عند شروطهم إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ

حراما».

(1). وسائل الشيعة، ج 15 الباب 30 من ابواب المهور ح 4.

(2). مصباح الفقاهة ج 2، ص 142.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 83

شبهه، دلّ علي ثبوت حكم وضعي، فان طبيعة المعاملات قائمة علي ذلك، و ليست من قبيل سائر الأفعال، فتدبّر جيدا.

8- الاستدلال بعدم حل مال الغير إلّا برضاه
اشارة

و قد يستدل له أيضا بقوله (عجل اللّه تعالي له الفرج): «لا يحلّ لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه» الوارد في التوقيع المعروف الذي وصل إلي الشيخ محمد بن عثمان العمري رضي اللّه عنه، وكيل الناحية المقدسة، فيما رواه الصدوق قدّس سرّه في اكمال الدين باسناده عنه «1».

و نفي الحلية هنا إنّما هو عن التصرف في الأموال بدون الاذن، و لكن في رواية «زيد الشحام» و «سماعة» عن الصادق عليه السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في حديث حجة الوداع: «أنّه لا يحل دم امرئ مسلم و لا ماله إلّا بطيب نفسه» «2».

و نفي الحلية هنا عن نفس المال و الدم لا عن خصوص التصرف فيهما.

و مثله ما رواه محمد بن زيد الطبري ممّا كتبه مولانا أبو الحسن الرضا عليه السّلام في جواب رجل من تجار فارس يسأله الاذن في الخمس، و فيه: «لا يحل مال إلّا من وجه أحله اللّه» «3».

و قريب من هذه الروايات، روايات مرسلة عن غوالي اللئالي و تحف العقول و بعض اسناد هذه الأحاديث مثل الرواية الثانية معتبرة مضافا إلي تظافرها، و شهرتها رواية و فتوي.

و أمّا وجه الاستدلال بها: فهو أنّ أصل الحل في اللغة هو حل العقدة، قال الراغب في «المفردات»: أصل الحل حل العقدة … و حللت نزلت، أصله من حل الاحمال عند النزول (بالمكان) ثم جرد استعماله

للنزول … عن حل العقدة استعير قولهم «حل الشي ء حلا».

و قال ابن فارس في «مقاييس اللغة»: «أصلها كلها عندي فتح الشي ء لا يشذ عنه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6 الباب 3 من أبواب الانفال، ح 6.

(2). المصدر السابق، ج 19 الباب 1 من أبواب قصاص النفس، ح 3.

(3). المصدر السابق، ج 6 الباب 3 من أبواب الانفال، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 84

شي ء» ثم ارجع جميع معانيه من حل العقدة و الحلول بالمكان و الإحليل و المحلة و تحله اليمين و الحل مقابل الحرم و الحل بمعني الحلال، إليه.

هذا و «الحلية» في مقابل «الحرمة» في الأحكام قد تستعمل في الحكم الوضعي، مثل أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، و قد تستعمل في الحكم التكليفي مثل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ و اخري في كليهما مثل أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا علي احتمال آخر.

و من المعلوم و لو بقرينة ما ورد في الأحاديث السابقة أنّ المراد منها هنا الأعم من الوضع و التكليف، فان من يسأل الإمام عليه السّلام أن يجعله في حل من الخمس لا يريد الحلية التكليفية فقط، بل يريد افراغ ذمته و أن يعامل مع الخمس معاملة سائر أمواله (و هكذا غيره).

و ما قد يظهر من بعض، أنّه فرق بين قوله: «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره» و بين قوله: «لا يحل مال امرئ إلّا بطيب نفسه» فان الأول معلق علي التصرف، و الثاني علي المال، فالأول ناظر إلي الحكم التكليفي دون الثاني، تفصيل غير صحيح، فان التصرف أيضا له معني عام يشمل التصرفات الناقلة و غيرها فيشمل الوضع و التكليف.

و قد أورد علي الاستدلال بها بأمور:

أولا: إنّ التمسك بها من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية،

لأنّه بعد الفسخ يشك في تأثيره فيشك في كون المال من مالكه.

و قد عرفت غير مرّة أن الحديث أو أشباهه بنفسه يمنع عن تأثير الفسخ إلّا برضا صاحبه، فان الفسخ بنفسه تصرف في مال غيره، فلا يحل و لا يجوز إلّا برضاه.

ثانيا: إنّ الحلية تشمل الوضع و التكليف، لكن في كل مورد بحسبه و بمناسبة متعلقاته، ففي المقام، المناسب لحلية المال هو حلية التصرفات الواقعة فيه من الأكل و الشرب، كما أنّ المراد من حلية المأكولات حلية استعمالها كذلك، فالرواية أجنبية عن ما نحن فيه.

و أنت خبير بأنّ ما ذكره لا شاهد عليه، لأنّ المناسب للمال أنواع التصرفات الناقلة و شبهها، فكيف لا تشمل الوضع و التكليف كليهما؟ مضافا إلي ما عرفت من محل ورود الحديث فراجع.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 85

ثالثا: و قد يقال: إنّ الجمع بين الحكم التكليفي و الوضعي لا يجوز في استعمال واحد، ففي المقام إمّا يراد الوضعي فقط، أو التكليفي، و حيث لا يجوز إخراج التكليفي منه، فلا دلالة له علي الحكم الوضعي.

و فيه: أولا: أنّه قد حقّقنا في محله جواز استعمال اللفظ في أكثر من معني.

و ثانيا: إنّ المعنيين يعودان إلي جامع، فالاشتراك هنا معنوي لا لفظي، فان الحل- كما عرفت آنفا- في الأصل هو حل العقدة و جواز المضي في الأمر، و لا فرق فيه بين الجواز الوضعي و التكليفي.

و إن شئت قلت: إنّ هذه الرواية امضاء لما عند العقلاء من عدم تجويزهم للتصرفات بغير رضا المالك إلّا في موارد ثبت من قوانينهم جوازها، و من الواضح أنّه لا فرق عندهم بين التصرفات الوضعية و التكليفية هنا.

9- رواية «البيعان بالخيار ما لم يفترقا»

و من أقوي ما يدل علي أصالة اللزوم (في

خصوص البيع دون غيره من المعاملات) الأخبار الكثيرة الواردة في أبواب خيار المجلس (بل و خيار الحيوان أيضا) و هي روايات كثيرة متضافرة عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و عن علي عليه السّلام و عن الصادق عليه السّلام و عن الامام علي بن موسي الرضا عليه السّلام، حتي أنّ شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذكر في بعض كلماته أنّها متواترة، و إن ذكر في غيره أنّها مستفيضة «1».

و قد رواها الجمهور أيضا في صحاحهم المعتبرة عندهم بطرق شتي، و قد عقد له «ابن ماجه» في سننه بابا، روي فيه عدّة روايات «2».

و من هنا لا يبعد دعوي التواتر فيها بملاحظة مجموع ما رواه الخاصة و العامة. و أمّا دلالتها فظاهرة، لأنّ صدق البيع علي المعاطاة بناء علي القول بالملكية (كما هو الأقوي) واضح، فبعد انقضاء المجلس يجب البيع و لا يجوز فسخه.

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، الباب الأول و الثاني و الثالث من أبواب الخيارات من كتاب التجارة، ج 12.

(2). السنن لابن ماجة، ج 2، ص 736.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 86

و من محاسن هذا الدليل أنّه لا يجري فيه إشكال التمسك بعموم العام في الشبهات المصداقية فان الحكم هنا ثابت بعنوان البيّعان، و هذا المعني ثابت لهما لا يزول، فانه بمعني أحداث البيع بلا إشكال.

و لكن قد يورد عليه: بأنّ المراد منها الحكم باللزوم من ناحية خيار المجلس بعد افتراقهما، فهي ناظرة إلي خيار المجلس إثباتا و نفيا، و لا دلالة لها علي لزوم البيع من سائر النواحي.

و هذا الإشكال ممنوع جدّا بعد اطلاق الأحاديث و عدم وجود أي قرينة فيها علي اختصاصها بهذا الخيار، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ عدم

ذكر سائر الخيارات فيها من العيب و الشرط و الغبن و … قرينة عليه.

و فيه: إنّ كل عام و مطلق قابل للتخصيص و التقييد، فلما ذا لا تسقط سائر العمومات و المطلقات عن العموم و الاطلاق في سائر المقامات بورود ذلك عليه؟

و بالجملة هذا الإيراد ممّا لا نجد له وجها، نعم الإشكال الوحيد عليها أنّها أخص من المدعي لو كان المدعي هو أصالة اللزوم كقاعدة كلية، و لو كان الكلام مقصورا علي البيع تمّت دلالتها و قامت حجتها و لا غبار عليها.

10- بناء العقلاء علي اللزوم:

لا ينبغي الشك في أنّ بناء العقود عندهم علي اللزوم، فالبيع و النكاح و الإجارة و غيرها من أشباهها لازمة لا تفسخ إلّا بدليل قائم علي حق الفسخ، فالخيارات عندهم استثناءات في هذه القاعدة الثابتة اللازمة عندهم.

بل يمكن أن يقال: إنّ ذلك مأخوذ في طبيعة العقد و ماهيته، فلو لم يكن العقد لازم المراعاة لم يكن بمثابة العهد الذي يعتمدون عليه، فالعهود و العقود كلها تعهدات في مقابل تعهدات تلزم الطرفين بمراعاتها، و عدم التعدي عن طورها، فلو كان لكل واحد منهما رفضها و تركها متي ما أراد، و جاز الخروج عن مقتضي وظيفتها، لم تفد أي فائدة، بل لم تكن معاهدة في الحقيقة، نعم لكل منهما اشتراط الخيار كاستثناء في لزوم العقد إلي مدّة معلومة.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 87

و لا يقاس ذلك بالعقود الاذنية كالوكالة و العارية و الهبة و الوديعة و الأمانة و ما أشبهها، فان لها ماهية وراء البيع و شبهه، فهي اعطاء من أحد الجانبين مع الاحتفاظ بحق المنع كلما أراد منعه، لا اعطاء شي ء في مقابل شي ء يتعهد الطرفان بمراعاته، و الحاصل: أنّ بناء العقلاء

و الشرع علي اللزوم في المعاملات ناشئ في الحقيقة عن طبيعتها و هويتها لا أنّ اللزوم حكم ثبت لها من الخارج، فتدبّر فانه حقيق به.

فتحصل من جميع ما ذكرنا امور:

الأول: إنّ الأصل في جميع العقود و المعاهدات، اللزوم من دون تفاوت بين البيع و غيره.

الثاني: إنّ الأدلة التي أقاموها علي هذا الأصل بعضها ضعيفة، و لكن في الباقي من الآيات و الروايات الكثيرة غني و كفاية، بل قد عرفت أن ذلك مقتضي طبيعة العقد بحسب اعتبار العقلاء و الشرع الذي هو رئيسهم.

الثالث: إنّ مقتضي بعضها أصالة اللزوم في جميع المعاملات و العقود، و لكن مقتضي بعضها اللزوم في خصوص البيع.

الرابع: إنّ أكثرها يجري علي القول بالملكية في المعاطاة، نعم بعضها مثل «المؤمنون عند شروطهم» يجري في الاباحة المعوضة أيضا.

و أمّا إن كانت الاباحة بحكم الإجماع لم يجر فيها إلّا الاستصحاب الذي عرفت حاله.

عود إلي ملزمات المعاطاة:

إذا عرفت أنّ الأصل في المعاملات هو اللزوم، و أنّ الجواز فيها أمر عارض، فلو قلنا أنّ المعاطاة عقد لازم- كما هو المختار- فلا كلام، و إن قلنا أنّها عقد جائز فينبغي الكلام فيما يوجب لزومها، و إن كان هذا المعني قليل الفائدة بعد اختيار اللزوم كما عرفت، و لكن مع مراعاة جانب الاختصار نقول و منه جل ثناؤه نستمد التوفيق:

إنّ عمدة ما يتعرض له في هذا الباب امور:

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 88

1- تلف العينين.

2- تلف أحدهما.

3- نقل العينين أو أحدهما بعقد لازم.

4- امتزاجهما بغيرهما من أموال البائع و المشتري امتزاجا يمنع إمكانية الرجوع، أو امتزاج أحدهما كذلك.

5- التصرف المغير للصورة كطحن الحنطة و قصّ الثوب- كل ذلك علي مبني الملكية الجائزة أو الاباحة- و الأصل في جميع ذلك

أنّ الدليل الدال علي عدم اللزوم علي القول بالملكية في المعاطاة أو الاباحة ما هو؟ و ما مقدار دلالته؟

فان قلنا بأنّ الإجماع انعقد علي اعتبار اللفظ في العقود اللازمة، فإذا لم يكن هناك عقد لفظي كان عقدا جائزا، فاللازم إجراء جميع أحكام العقد الجائز عليه، و أمّا إن قلنا بأنّ الإجماع- أو القدر المتيقن منه- دلّ علي جواز الرجوع في العينين في المعاطاة، فكلّما أمكن الرجوع قلنا بجوازه، و إذا لم يمكن، إمّا من ناحية انعدام العينين أو أحدهما أو نقل أحدهما بناقل لازم أو غير ذلك، كان مقتضي اطلاق أدلة اللزوم لزومها، خرج صورة إمكان التراد و بقي الباقي تحتها.

و لكن هذا إنّما يتمّ بناء علي القول بأنّ لها عموما أو اطلاقا بحسب الأزمان، و إلّا كان المقام مقام إجراء استصحاب حكم المخصص (بناء علي جواز إجرائه في الشبهات الحكمية) و بما أنّ المعروف ثبوت العموم الزماني لها لم يكن هناك مانع.

أضف إلي ذلك أنّه لا يبعد دعوي قيام الإجماع أو السيرة القاطعة علي عدم الرجوع في المعاطاة بعد تلف العينين أو أحدهما، أو النقل بناقل لازم، و ألّا وقع التشاجر الدائم بين الناس، و لو كان ذلك لبان و لم يخف علي أحد، و هذا أمر ظاهر لا غبار عليه.

و هكذا حكم الامتزاج، و الحكم بالشركة كما احتمله بعض بعيد جدّا، فإنه مخالف للسيرة المستمرة و ارتكاز العقلاء و اطلاقات أدلة اللزوم.

و كذا إذا تصرف فيه تصرفا مغيرا للصورة، و التمسك باستصحاب جواز التراد مشكل، لا لتبدل الموضوع فقط بل لما عرفت في سابقه من الأدلة.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 89

هذا كلّه علي القول بالملكية، و أمّا علي القول بالاباحة فان

قلنا إنّ الاباحة اباحة معوضة مالكية فلا يبعد لزومها، لأدلة اللزوم و اطلاقاته فتأمل، و القدر المتيقن الخارج منه صورة إمكان التراد، و أمّا غيره فلا دليل عليه.

بل يمكن القول بالملكية آنا ما عند التصرفات الناقلة و شبهها، و كون التلف في موارد التلف من مال مالكه الأصلي لأنّه كان باذنه، فلا معني للتراد.

و إن قلنا بأنّها اباحة شرعية ثبتت بحكم الشارع المقدس، كان العينان باقيين علي ملك مالكهما و لا تجري فيه أصالة اللزوم، و جاز رجوع المالك متي ما أراد، إلّا إذا تصرف فيه تصرفا موجبا للتلف، أو موجبا للنقل، فان القول بالملكية آنا ما ممّا لا محيص عنه.

و هذا تمام الكلام في أنواع هذه التصرفات و لا نحتاج إلي التفصيل في كل واحد مستقلا كما وقع من بعضهم بعد اشتراك الملاك، و الموضوع، و الأدلة.

التنبيه السابع: جريان أحكام الخيار في المعاطاة

قد مضي شطر من الكلام في جريان أحكام الخيار في المعاطاة عند الكلام في التنبيه الأول في جريان شرائط البيع و أحكامه عليها مطلقا، أو يفصل في ذلك، و لكن ينبغي هنا تكميل هذا ببيان آخر، و حاصل الكلام فيه أنّ المباني في المعاطاة مختلفة كما أنّ الخيارات أيضا مختلفة.

فإمّا أن نقول في المعاطاة بالملكية اللازمة، أو الملكية الجائزة، أو الاباحة المعوضة اللازمة، أو الجائزة (سواء كانت من ناحية المالك أو بالاباحة الشرعية).

و الخيارات أيضا إمّا تدور مدار عنوان البيع، كخيار المجلس و الحيوان، أو هي عامة تشمل المعاوضات كلّها، مثل خيار الشرط، أو التخلف عن الشرط، أو خيار الغبن بل العيب في وجه، فان دليلها عموم «المؤمنون عند شروطهم» بل الغبن أيضا يرجع إلي شرط ضمني، و هو مساواة العوضين إجمالا، و كذا العيب، أو دليل

لا ضرر أو شبه ذلك، و هي تشمل المعاوضات كلّها.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 90

إذا عرفت ذلك فاعلم:

إنّه إذا قلنا بأنّ المعاطاة عقد لازم، صدق عليه عنوان البيع بلا إشكال، و جري فيها جميع أحكامه، و منها الخيارات العامة و الخاصة.

و أمّا إذا قلنا: بأنّها تقتضي الملك الجائز، فعنوان البيع و إن شملها أيضا إلّا أنّ الكلام في ظهور أدلة الخيارات، فان قوله في روايات متعددة «و إذا افترقا وجب البيع» ظاهر في البيع المبني علي اللزوم بحيث إذا انقضي زمن خيار المجلس كان لازما.

و ما قد يقال من أنّ اللزوم هنا إضافي بالنسبة إلي خصوص خيار المجلس، و لذا لا ينافي وجود خيار الحيوان و الشرط و غيرهما.

مدفوع: بأنّ الظاهر بناء طبيعة البيع علي اللزوم، و أنّ خيار المجلس كالاستثناء فيه، و وجود استثناء آخر لا ينافي ما ذكره، فظهور أدلة الخيارات كلّها في جريانها في بيع مبني علي اللزوم بحسب طبيعته، ممّا لا ينكر، و لا نقول بالاستحالة أو اللغوية حتي يقال بظهور أثره عند وجود الملزمات، بل نقول بانصراف ظواهر هذه الأدلة إلي ما ذكر.

نعم إذا صارت المعاطاة لازمة بأحد الملزمات، كما إذا تلف الثمن في الثلاثة في خيار الحيوان، أو ظهر الغبن بعد تلف أحد العينين بناء علي كون ظهور الغبن سببا للخيار، فحينئذ لا يبعد القول بشمول الاطلاقات له.

و إن قلنا بأنّ مقتضاها هو الاباحة المعوضة اللازمة و لم نستوحش من القول بوجود مثل هذه الاباحة، جري فيها الخيارات العامة غير المختصة بعنوان البيع كما لا يخفي، و لا يجري فيها مثل خيار المجلس و الحيوان، و أمّا إن قلنا بأنّ الاباحة هنا اباحة جائزة (شرعية أم مالكية)

لم يجر فيها شي ء من الخيارات.

نعم لو آل أمر المعاطاة إلي اللزوم بأحد الملزمات الخمس، أمكن القول بجريان بعض الخيارات أو جميعها علي بعض المباني فيها.

التنبيه الثامن: هل البيع الفاسد بحكم المعاطاة؟
اشارة

الحق، كما يأتي إن شاء اللّه، أنّ البيع بالصيغة لا يعتبر فيه أزيد من الصيغ الظاهرة في أداء

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 91

المقصود و إنشاء البيع، و جميع ما ذكر فيه من الشرائط الزائدة علي هذه ممّا لا دليل عليه، نعم لا يجوز بالكنايات و المجازات التي لا ظهور لها ظهورا عرفيا.

و أمّا لو قلنا باشتراط شرائط فيها مضافا إلي ما ذكر، أو أجري العقد بما لا صراحة و لا ظهور لها من الصيغ، فآل أمر البيع إلي الفساد، ثم وقع التعاطي بعده أو لم يقع فهل هو بحكم بيع المعاطاة أو لا؟

فيه أقوال:

1- أنّه بحكم المعاطاة مطلقا كما يظهر من غير واحد منهم.

2- أنّه بيع فاسد لا أثر له مطلقا كما يحكي عن بعض آخر.

3- التفصيل بين ما إذا استمر الرضا و وقع التقابض مع هذا الرضا فتصحّ المعاطاة و تجري عليه أحكامها، و بين ما إذا لم يحصل ذلك فيكون بيعا فاسدا، و ذكر شيخنا الأعظم رحمه اللّه بعد كلام طويل له أنّ للمسألة صورا أربعة، و حاصل ما ذكره أنّ التقابض بعد العقد يقع علي أنحاء:

الأول: أن يقع بغير رضي منهما بل بالقهر بعنوان الوفاء بالعقد السابق الفاسد.

الثاني: أن يقع باختيارهما زعما منهما لزوم العقد بحيث لو علما فساده لم يقدما عليه أو أقدما تشريعا لصحته.

الثالث: أن يقع بعنوان إنشاء جديد بعد الاعراض عن العقد السابق أو نسيانه بالمرة.

الرابع: أن يقع لا بعنوان إنشاء جديد؛ بل برضي منهما الحاصل من استمرار الرضا السابق، و بعبارة اخري: كان كلّ منهما راضيا بتصرف الآخر فيما انتقل إليه بعد العلم بفساد العقد، بل و مع عدم العلم بالفساد و لكن كانا بحيث لو

علما به كان الرضا منهما موجودا، و هذا هو الرضا التقديري.

ثم حكم بفساد الأولين و حرمة التصرف في المقبوض فيهما لعدم صحتهما علي المفروض و عدم أولهما إلي المعاطاة، كما حكم بصحة الصورة الثالثة بلا إشكال لأنّه عقد جديد معاطاتي، لكن بني صحة الرابعة علي أمرين:

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 92

«أحدهما»: كفاية الرضا التقديري الحاصل في بعض شقوقه، و لم يستبعده لصدق طيب النفس عليه.

«ثانيهما»: عدم اشتراط الإنشاء في المعاطاة، لا إنشاء الاباحة و لا التمليك، بل يكفي فيها مجرّد الرضا مع وصول كلّ من العوضين إلي الآخر.

و لكن أشكل عليه علي القول بالملكية في المعاطاة و لم يستبعده علي القول بالاباحة.

أقول: الانصاف أنّ ما ذكره في الصور الثلاث الاولي حق لا ريب فيها، و أمّا الصوره الأخيرة فالرضا التقديري فيها بحكم الرضا الفعلي بلا إشكال، و الشاهد عليه استقرار سيرة العرف و العقلاء علي الاكتفاء به في كل ما يعتبر فيه الرضا و لعل الأكل من بيوت من تضمنته الآية الشريفة من القرابة و الصديق من هذا الباب، و كذا التصرف في أموال كثير من الناس في غيبتهم، و كذا إذا علم بخطإ المالك في العنوان، كما إذا زعم أنّ الداخل في البيت رجل أجنبي، فزجره و أظهر عدم الرضا، و الحال أنّه ولده، فان من الواضح أنّ الولد لا يعتني بهذا الزجر بل يعلم منه الرضا الباطني الشأني الذي يتبدل بالفعلي بعد كشف عنوان الموضوع، سواء طال الزمان أم قصر.

و أمّا كفاية مجرّد هذا الرضا في المعاطاة فممنوع جدّا، سواء قلنا بالملك فيها أو بالاباحة المعوضة، نعم الإباحة المجرّدة عن عنوان المعاوضة حاصلة، و لكن مثلها خارج عن عنوان المعاطاة، و

لا ينبغي عدّها منها.

و الحاصل: أنّ العمدة في المسألة أنّ المتبع صدق عنوان البيع، أو قيام الإجماع علي الصحة، أمّا الأول فهو غير حاصل بدون قصد الإنشاء، و أمّا الثاني فلم يثبت علي الصحة في موارد الرضا الخالي عن قصد الإنشاء، و ما قد يظهر من بعض الكلمات من استقرار السيرة علي القناعة بمثل هذا الرضا المرتكز في النفوس كما في صاحب الحمام و غيره ممن لا يحضر عن المعاملة، ففيه ما قد عرفت سابقا من أنّ الإنشاء في أمثال ذلك موجود، فمن يفتح باب دكانه أو حمامه و يأذن لكل أحد أن يأخذ شيئا معينا بازاء وجه معلوم، فقد انشأ إنشاء عاما فعليا لهذه المعاملة، و يجوز للمشتري قبوله بفعله و عمله، فتتم أركان البيع أو الاجارة المعاطاتية أو غيرهما.

و هذا بخلاف الرضا الحاصل بعد إنشاء البيع الفاسد، سواء كان رضي فعليا أو تقديريا.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 93

و الحاصل: أنّ المعاملة مع العقود الفاسدة معاملة المعاطاة ممّا لا وجه لها إلّا فيما عرفت من الصور الخارجة عن محل البحث موضعا، و اللّه العالم.

التنبيه التاسع: هل الكتابة ملحقة بالمعاطاة أم لا؟

ظاهر كلمات الأصحاب في الأبواب المختلفة من البيع و النكاح و الطلاق أنّ الكتابة غير كافية في مقام الإنشاء، حتي أنّهم جعلوها بدلا عن الإشارة للأخرس عند العجز عنها، فهي سواء حالا عندهم عن الإشارة أيضا، بل يظهر من بعض الكلمات في كتاب الوصية أنّه لو كتب إنسان كتابا مشتملا علي وصاياه، ثم قال: هذه وصيتي. لا يقبل حتي يتكلم بها واحدا بعد الآخر.

بل حكي صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الوصية عن صريح الحلي عن الفاضل و ولده و الشهيدين و المحقق الثاني و القطيفي «قدّس اللّه

أسرارهم»، عدم الاكتفاء بالكتابة في حال الاختيار، و انحصار صحتها بحال العجز، و عن السرائر نفي الخلاف فيه «1».

نعم، حكي عن التذكرة احتمال الاكتفاء بها في الوصية في بعض كلماته، و عن الرياض أنّه لا يخلو عن قوّة.

و إذا كان أمر الكتابة في القيود الجائزة مثل الوصية بهذه الصعوبة، فكيف حال البيع و غيرها؟

هذا و لكن يشكل الاعتماد علي مثل هذه الشهرة أو دعوي الإجماع بعد كون الكتابة من أظهر مصاديق الإنشاء، و لعلها لم تكن بهذه المثابة في الأعصار السابقة، لعدم معرفة أكثر الناس بها، و الامور العرفية تابعة لما يتعارف و يتداول بينهم، و الموضوعات تتخذ من العرف، و الأحكام من الشرع، و علي كل حال هي من أظهر ما يتمّ به إنشاء العقود في عصرنا، لأنّ جميع أسناد المعاملات إنّما يتمّ بالتوقيع عليها، بل قد لا يعد مجرّد الإنشاء اللفظي في الامور الهامة شيئا أزيد من المقاولة، و الإنشاء الحقيقي عندهم إنّما هو بالكتابة و التوقيع.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 28، ص 248.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 94

و قد دلّت روايات متعددة علي الاهتمام بالكتابة في الوصية، و أنّ المؤمن لا يبيت إلّا و وصيته تحت رأسه، و حديث الدواة و الكتف عند ما أراد النبي صلّي اللّه عليه و آله الكتابة في أمر الخلافة و منع بعض المخالفين عنها، و كلامه الجارح للقلب و الجالب للهمّ، معروف في كتب العامة و الخاصة.

أضف إلي ذلك أنّ أطول آية في كتاب اللّه، آية الكتابة «1»، و هي و إن لم تكن في مقام بيان حكم إنشاء العقد، و لكنّها شاهدة علي اهتمام الشارع بأمر الكتابة و مؤيدة لما سبق.

و بالجملة فانّ إجراء

حكم المعاطاة علي الكتابة و سلب أحكام العقد اللفظي منه مشكل جدّا، و لا دليل عليه من العقل و النقل، و لا يساعده الاعتبار و لا إجماع عليه، فالحق الاكتفاء بالكتابة في مقام الإنشاء، نعم يشكل في مثل النكاح لما عرفت من أنّه كالأمور التوقيفية شبيه العبادت أو فيه شائبة ذلك، فلا يجوز إجراؤه إلّا بما ثبت في الشرع، و لم يثبت جوازه بالكتابة.

التنبيه العاشر: حكم النماء

لا شك أنّ النماء بناء علي القول بالملكية اللازمة ملك، لكن انتقل إليه، فنماء الثمن للبائع و نماء المثمن للمشتري، و كذا علي القول بالملك الجائز، لأنّ النماء تابع للملك.

و إذا فسخ كان الفسخ من حينه لا من أصل العقد، فلا تعود النماءات المنفصلة، نعم النماءات المتصلة تعود إلي ملك المالك الأول.

و أمّا بناء علي الاباحة الجائزة فالظاهر أنّ النماءات لصاحب المال، نعم يجوز التصرف فيها متصلة كانت أو منفصلة، لأنّها تابعة لها في الاباحة، و إذا عاد في العين اعيدت معها، نعم لا ضمان عليه بالنسبة إلي ما أتلفه منها لأنّه يكون مجازا في ذلك علي المفروض.

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 282.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 95

عقد البيع و ألفاظه

اشارة

البيع كما يصحّ بالمعاطاة يصحّ بالصيغة، بل المشهور بين الأصحاب أنّ هو الأصل في الإنشاء، و إن كان فيه ما عرفت من أنّ الأصل في البيع هو المعاطاة، و البيع بالصيغة فرع لها، فيصحّ إنشاء المعاملة بكلّ من القول و الفعل، و حينئذ يقع الكلام فيما يعتبر في الإنشاء اللفظي من خصوصيات اللفظ من حيث المادة و الهيئة و سائر الامور المرتبطة بها.

و لكن قبل التكلم في هذا الموضوع لا بدّ من بيان أنّ العاجز عن الألفاظ كالأخرس هل يكتفي عن الألفاظ بالإشارة، أم لا؟ و أنّ غيره هل يمكنه ذلك أيضا و إن قلنا بخروج عقده عن العقد اللفظي و دخوله في المعاطاة أم لا؟

الظاهر أنّ غير الأخرس لا يكتفي بالإشارة، لعدم ظهورها منه ظهورا عرفيا في أداء المقصود، بل تكون الإشارة من غير الأخرس كالكتابة التي لا يعتمد عليها في باب العقود و العهود علي قول المشهور، و إن كان فيه ما عرفت.

اللّهم إلّا

أن يكون له ظهور تام من دون أيّ ابهام في أداء المقصود، كما إذا تكلّم المشتري و قال: أنا آخذ هذه السلعة بهذه القيمة و أعطيك ثمنها غدا مثلا، فأشار المالك برأسه أو بيده إشارة مفهمة بأنّه راض بهذه المعاملة.

و كذا إذا كان هناك محذور عن بيان المقاصد صريحا، و إن لم يكن خرس في اللسان، كما إذا خاف من اطلاع اللصوص علي سلعته، فأشار البائع أو المشتري إشارة مفهمة مقصده في البيع و الشراء، و أشار بأصابعه مثلا إلي مقدار الثمن و مقدار المثمن، أو كانت لغة البائع تختلف عن لغة المشتري و لم يفهما صيغة البيع و الشراء من ألفاظهما، فأشار كلّ

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 96

منهما إلي مقصده من البيع و الشراء و مقدار السلعة، و مقدار الثمن، بإشارات مفهمة- كما هو المتداول في أيّامنا في موسم الحج بين الحجاج من البلاد المختلفة و بين أهل مكّة و مدينة- و كذا الحال بالنسبة إلي الأصم.

ففي هذه الصور الأربع و شبهها لا يبعد جواز ايقاع العقد بالإشارة، أو أداء بعض الخصوصيات باللفظ و بعضها بإشارة اليد و عقود الأصابع، و لكن إذا لم يوجد شي ء من هذه الضرورات يشكل الاكتفاء بالإشارة، لأنّه لا تعدّ حينئذ عقدا متعارفا بين العقلاء.

و علي كل حال يدخل هذا العقد في المعاطاة، و لا تشمله أحكام الإنشاء اللفظي لو فرض له أحكام خاصة، هذا و لقد أجاد المحقق قدّس سرّه حيث قال في الشرائع: «و يقوم مقام اللفظ، الإشارة من العذر» و في معناه كلام الشهيدين قدّس سرّهما في اللمعة و شرحها، و لعله لعدم حكم خاص للألفاظ عدا النقل و الانتقال.

و هذا و لكن مع

ذلك كله لا يمكن الركون إليها في الأشياء الخطيرة كبيع الدور و المزارع و المعامل و شبهها لعدم الاعتناء بها عند العقلاء و أهل العرف في هذه الامور، و من الواضح أنّ أدلة الصحة منصرفة إلي ما يتعارف.

و أمّا الأخرس فقد ادّعي الإجماع أو عدم الخلاف علي جواز اكتفائه و كون عقده بالإشارة جاريا مجري العقد بالصيغة لا داخلا في المعاطاة.

و يشهد لذلك مضافا إلي أنّه المتعارف بين أهل العرف و العقلاء بالنسبة إليهم، ما ورد في بعض النصوص، مثل ما ورد في أبواب الطلاق كرواية البزنطي أنّه: «سأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الرجل تكون عنده المرأة يصمت و لا يتكلم، قال: أخرس هو؟ قلت: نعم، يعلم منه بغض لامرأته و كراهة لها، أ يجوز أن يطلق عنه وليه؟ قال: لا، و لكن يكتب و يشهد علي ذلك، قلت: فإنّه لا يكتب و لا يسمع كيف يطلقها؟ قال: بالذي يعرف به من أفعاله مثل ما ذكرت من كراهته و بغضه لها» «1».

و أيضا ما رواه أبان بن عثمان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن طلاق الخرساء قال:

يلفّ قناعها علي رأسها و يجذبه» «2».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 15، الباب 19 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 97

و ما رواه النوفلي عن السكوني قال: «طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها و يضعها علي رأسها و يعتزلها» «1».

و ما رواه أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها و يضعها علي رأسها ثم يعتزلها» «2».

فإنّ الجواز في مثل الطلاق الذي هو أهم من البيع و أشباهه في

نظر الشارع دليل علي جواز الإشارة في غيره.

و قد ورد ذلك في أبواب الوصية أيضا، مثل ما رواه عبد اللّه بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه قال: «سألته عن رجل اعتقل لسانه عند الموت، أو امرأة، فجعل أهاليها يسائله: اعتقت فلانا و فلانا؟ فيؤمي برأسه (أو تؤمي برأسها) في بعض نعم و في بعض لا، و في الصدقة مثل ذلك؟ قال: نعم هو جائز» «3» و كذا سائر ما ورد في هذا الباب، نعم هي عقد جائز و أمره أسهل من العقود اللازمة.

و ما ورد فيها من التصريح ببعض الإشارات المعينة مثل لف المقنعة علي رأسها في الطلاق لا خصوصية لها، بل المراد ما يفهم منه المقصد بوضوح.

ثم ليعلم أنّ لجماعة الأخرسين في زماننا لسانا خاصا يتركب من إشارات خاصة يتكلّمون بها فيما بينهم، و الظاهر اعتبار الاستفادة منها في بلدان يتعارف فيها هذا اللسان، و التعدي منه إلي إشارات اخري لا تخلو من إشكال بعد تعارفها بينهم كالألفاظ فيما بيننا كما لا يخفي علي الخبير بلسانهم.

ثمّ إنّه هل يعتبر العجز عن الوكالة في جواز عقد الأخرس بالإشارة أم لا؟ ظاهر ما عرفت من الروايات الكثيرة السابقة عدم اشتراط ذلك فيه، لإطلاقها و عدم تقييدها بشي ء، بل التصريح في بعضها بذلك (كما عرفت).

مضافا إلي ما حكي عن عدم الخلاف فيه، أضف إلي ذلك أنّه ينقل الكلام في توكيل

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 15، الباب 19 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3). المصدر السابق، ج 13، الباب 49 من أبواب أحكام الوصايا، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 98

الغير و أنّه لا يكون إلّا بالإشارة، فالأمر ينتهي

إليها لا محالة، اللّهم إلّا أنّ يقال: إنّ الوكالة لما كانت من العقود الجائزة كان أمرها أسهل من العقود اللازمة.

أو يكتفي باجازة الفضولي هنا من طريق الإشارة، و لكنه أيضا كما تري، نعم إذا شك في شي ء من هذا كانت أصالة الفساد حاكمة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هنا مقامات:

المقام الأول: في مواد الصيغة

اعلم أنّ المنقول من كلمات الأصحاب في هذا الباب مختلف جدّا بحسب الظاهر و إليك نموذج منها:

1- «العقود الشرعية بما هي متلقاة من الشارع لا ينعقد بلفظ آخر ليس جنسها» (عن جامع المقاصد).

و مثله ما عن فخر المحققين: «إنّ كل عقد لازم وضع له الشارع صيغة معينة فلا بدّ من الاقتصار علي القدر المتيقن» و كذا ما عن كنز العرفان من أنّ «اللازم العقد اللفظي المتلقي من النص لأنّه حكم شرعي حادث يحتاج إلي الدليل».

و ظاهر هذه العبارات لزوم الاكتفاء بالعناوين الواردة في النصوص المشتملة لبيان أحكام هذه العقود، ففي البيع بعنوان «البيع» و في النكاح بعنوان «النكاح» إلي غير ذلك.

2- يشترط فيها «الحقيقة» و لا تكفي المجازات سواء القريبة و البعيدة (حكي عن بعض من دون تسمية باسمه).

3- يجوز بالمجازات القريبة دون البعيدة (حكي عن بعض في مقام الجمع بين كلمات القوم).

4- يعتبر في إنشاء العقود كون الصيغة صريحة فلا تنعقد بالكنايات (عن التذكرة).

5- تعتبر الدلالة الوضعية اللفظية، فالمجازات التي تعتمد علي قرينة لفظية يجوز الإنشاء بها دون ما تعتمد علي القرائن الحالية و شبهها (احتمله الشيخ الأعظم الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام).

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 99

6- المعتبر فيها كل لفظ له ظهور عرفي في أداء المقصود من العقود من غير فرق بين عناوينها الخاصة و غيرها، و بين

الحقائق و المجازات (حكي عن جماعة من المتأخرين).

و هذا هو الحق، لعدم الدليل علي أزيد منه، و لصدق عنوان البيع بكل ما يكون ظاهرا في هذا المعني بحسب متفاهم العرف، و يؤدي هذا المقصود بالألفاظ الظاهرة فيها، فيصدق أنّه باع أو اشتري و تترتب عليه أحكامها.

و هكذا جميع عناوين العقود، من الإجارة و الجعالة و المضاربة و الهبة و غيرها، بل لا يبعد ذلك النكاح و الطلاق و إن كان فيهما إشكال من حيث التوقيفية و شائبة العبادة كما عرفت قريبا.

«و من هنا يظهر حال سائر الأقوال و الاحتمالات في المسألة»، و ما استدل به عليها، و هي امور تستنبط من كلماتهم:

1- الاستدلال بأصالة الفساد و الأخذ بالقدر المتيقن.

و فيه: أنّه لا وجه له بعد العمومات الواردة في لسان الآيات و الروايات في بيان أحكام هذه العقود، و أمّا الموضوعات من البيع و غيره فهي امور عرفية عقلائية تصدق بكل لفظ يكون ظاهرا في إنشائها.

2- الاستدلال علي لزوم خصوص ألفاظ عناوين هذه المعاملات بورودها في لسان الشارع، فلا يجوز في البيع الإنشاء بعنوان «ملكتك بكذا» و في الشراء بعنوان «تملكت» و هكذا.

و فيه: أنّه إذا أمكن بيان معناه و مؤداه بألفاظ اخر، و لو بسبب القرائن الموجودة فيه أو من الخارج، فسوف تشمله عمومات أدلة الأحكام و اطلاقاتها.

3- و من هنا يظهر الإشكال أيضا في ما احتمله العلّامة الأنصاري قدّس سرّه من لزوم الاقتصار علي الدلالة اللفظية، فلا يكفي القرائن الحالية، و ذلك لأنّ الإجماع علي اعتبار اللفظ في العقود اللازمة- لو فرض وجوده- فالقدر المتيقن منه إنّما هو بالنسبة إلي أداء أصل المقصود إجمالا، فلا مانع من الاعتماد علي القرائن الحالية، و لا يخرج

بذلك عن العقد اللفظي المنشأ بالكلام.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 100

فتلخص من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل لنا في أبواب صيغ العقود غير اعتبار إنشائها بألفاظ ظاهرة في أداء المقصود ظهورا عرفيا، سواء كان بنفس عناوينها أو بغيرها، و سواء كان بألفاظ حقيقة أو مجازية، و اللّه العالم.

و ممّا يؤيد قويا جواز الاعتماد علي القرائن الحالية، نفس الإنشاء بالفعل الماضي أو المضارع، فإنّهما وضعا أولا و بالذات للإخبار، و استعمالها في الإنشاء أيضا و إن كان بعنوان الحقيقة، لكثرة استعمالهما في ذلك حتي بلغا حدّ الحقيقة، و لكن كون المتكلم في مقام الإنشاء أو الإخبار لا يعلم إلّا بقرائن الحال، فالاعتماد علي القرائن الحالية ممكن في الجملة.

و يؤيده أيضا أنّ النكاح الذي هو أشد من جميع العقود في دائرة اهتمام الشارع ينشأ بألفاظ كنائية مشتملة علي القرائن الحالية أو المقالية، فإنّ لفظ التمتع من الكنايات قطعا، بل الزواج و النكاح أيضا، في الأصل وضعا لمعان اخر، و لو سلم نقل النكاح عن معناه الأصلي (و هو مأخوذ من نكحه الدواء إذا خامره و غلبه) لا نسلم ذلك في «التمتع» و «الزواج» فإنّ الأول لمطلق الانتفاع بشي ء، و الثاني لمطلق المقاربة بين شيئين، إلّا أنّهما إذا ذكرا في مقام خاص يعلم بالقرائن هذا العقد المعين، كما أنّ الألفاظ المستعملة في معني الجماع كلها كنايات كما لا يخفي.

المقام الثاني: الألفاظ الخاصة لإنشاء البيع

اشارة

و إذ عرفت الأصل الكلي في هذا المقام، فلنعد إلي عدّ ما ذكروه من الألفاظ الخاصة لإنشاء البيع أو الشراء فنقول (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية): قبل كلّ شي ء لا بدّ من التنبيه علي أمر، و هو أنّ الظاهر في بادي النظر عدم كون

تعيين هذه الألفاظ من وظائف الفقيه، لأنّ ذلك من الموضوعات، و وظيفة الفقيه بيان أحكام الشرع.

و إن شئت قلت: إنّه بعد كون الحكم الشرعي هنا، الاكتفاء بكل ما هو ظاهر في أداء المقصود من الألفاظ، يرجع إلي العرف في تشخيصها، و هذا أمر يفهمه المقلدون و ليس الفقيه بأعرف من المقلد فيها، فلما ذا وقع هذا الكلام الطويل في تعيين هذه الألفاظ؟

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 101

و لعله لهذه الجهة حكي عن الشيخ و الديلمي و القاضي و الحلبي و غيرهم الاقتصار علي الايجاب و القبول من دون ذكر لفظ أصلا.

و حكي عن جمع آخرين كالعلّامة قدّس سرّه في غير واحد من كتبه، و الشهيد الأول و الثاني قدّس سرّهما ذكر بعض الألفاظ بعنوان المثال، حتي أن «المحقق» في «الشرائع» و «الشهيد الثاني» في «المسالك» لم يحوما حول هذه المباحث، بل أو كلوا أمرها إلي العرف عملا.

هذا و لكن يمكن أن يكون عذر المتأخرين في طرح هذه المباحث أنّ أهل العرف كثيرا ما يحصل لهم الشك في هذا الأمر، و لا يتبيّن لهم حال هذه الألفاظ، و ليس لجميعهم دقّة تسلط علي هذه الامور كما لا يخفي علي من راجع كثيرا من الناس، لا سيما الاميين منهم، فلذا ينوب عنهم الفقيه في تشخيص هذه الموضوعات بأخذها من أعماق أذهانهم و يردها إليهم بوضوح و صراحة و لا غرو في ذلك.

فاذن لا فرق في مسألة رجوع الجاهل إلي العالم، و المقلّد إلي المجتهد، بين الأحكام و الموضوعات المشكلة لاتحاد الدليل.

مضافا إلي استقرار سيرة فقهائنا (رضوان اللّه عليهم) علي ذلك، فكم من موضوع تصدوا لبيانه و شرحه في كتب الفقه، مثل ما عرفت في صدق

عنوان البيع و التجارة علي المعاطاة، بل التعاطي من جانب واحد، و كذا في صدق عنوان «الاعانة» في أبواب بيع العنب ممن يعمله خمرا، و التولي من قبل الظالم، و في صدق المال علي بعض الأشياء، و صدق «المأكول» و «الملبوس» في أبواب ما يسجد عليه، علي كثير من الأشياء، إلي غير ذلك ممّا لا يحصي كثرة في جميع الأبواب، و فرعوا عليها فروعا كثيرة كما لا يخفي.

و إذا تبين لك هذا فاعلم: أن الألفاظ التي ذكروها في باب إيجاب البيع امور:

1- الإيجاب

بلفظ «بعت» و قد حكي عن جميع أهل اللغة: كما في محكي مصابيح الطباطبائي قدّس سرّه علي

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 102

ما حكاه عنه في الجواهر «1» اشتراكه بين البيع و الشراء و أنّه من الاضداد، و لكن القرائن توجب ظهوره في الإيجاب و القبول، و لذا حكي الشهرة العظيمة بل كادت أن تكون إجماعا علي جواز الإيجاب به.

و هل هو مشترك لفظي كما صرّح به في «مصباح الفقاهة» و كثرة استعماله في البيع فقط توجب انصرافه إليه عند الاطلاق «2»، أو مشترك معنوي كما ذكره السيد قدّس سرّه في «الحاشية» فيكون بمعني التمليك بالعوض، سواء كان بالتصريح بالعوض، كما في البائع، أو تمليكا ضمنيا، كما في المشتري؟

أقول: إنشاء القبول بلفظ «بعت» لا يخلو عن إشكال، نعم لا مانع من إنشائه بلفظ «ابتعت» و لو كان مشتركا في الازمنة السابقة فلعلّه اختص بأحد الطرفين، و من العجب أنّه بصرافة أذهانهم ذكروا في عباراتهم في المقام (كما في العبارة الذي ذكرناها عن المصابيح) ما يظهر منه كون عنوان «البائع» في مقابل عنوان «المشتري» فلا يصدق هذا العنوان علي كليهما، و مع ذلك

ذكروا أنّ عنوان «البيع» من الاضداد و مشترك لفظي أو معنوي.

نعم صيغة الثلاثي المجرّد ظاهر في الموجب، و باب الافتعال في المشتري، و لعله لم يستعمل في الكتاب العزيز البيع إلّا في أحد أمرين:

البيع في مقابل الشراء، مثل قوله تعالي: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بٰايَعْتُمْ «3» و البيع بمعني مجموع البيع و الشراء، كما في قوله تعالي: فَاسْعَوْا إِليٰ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ «4» و كذا في قوله عليه السّلام: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» استعمل في مجموع البيع و الشراء.

و الحاصل: أنّ القبول بلفظ «بعت» مشكل جدّا، نعم لا إشكال في جواز إيجاب البيع بهذا اللفظ.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 244.

(2). مصباح الفقاهة، ج 3، ص 20.

(3). سورة التوبة، الآية 111.

(4). سورة الجمعة، الآية 9.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 103

2- الشراء

و قد صرّحوا أيضا باشتراكه بينهما أيضا، كما حكي عن كثير من أهل اللغة بل حكي عن مصابيح الطباطبائي قدّس سرّه عدم خلافهم في ذلك.

فيجوز علي هذا المبني إنشاء البيع بصيغة «شريت» و كذا قبوله بهذه الصيغة نفسها، أمّا إنشاء إيجاب البيع به فلا ريب في جوازه، بل لم يستعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم إلّا في هذا المعني، مثل قوله تعالي: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ «1».

و قوله تعالي: وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرٰاهِمَ مَعْدُودَةٍ «2» إلي غير ذلك، و قد ورد استعماله في الكتاب العزيز في أربعة مواضع:

اثنان منهما قد مرّا، و الباقي قوله تعالي: وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «3».

و قوله تعالي: فَلْيُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا بِالْآخِرَةِ «4».

و لكن ذكر في الجواهر و غيرها أنّه قد ادّعي هجر ذلك

في العرف المتأخر، و لكنه ممنوع، و في المكاسب استوجه الشيخ قدّس سرّه احتياجه إلي القرينة لعدم نقل الإيجاب به في الأخبار، و كلمات القدماء، و قلّة استعماله عرفا في البيع.

و قال في مصباح الفقاهة؛ أنّه ليس لكلامه قدّس سرّه معني محصل بعد الاعتراف بأن لفظ «شريت» لم يستعمل في القرآن المجيد إلّا في البيع، لأنا لا نسلم وقوع الاستعمالات العرفية علي خلاف القرآن، ثم لا نسلم تقديم الاستعمالات العرفية علي القرآنية «5».

أقول: و هذا الكلام منه عجيب، لأنّ القرآن نزل بلسان القوم، و يمكن أن يكون استعمال لفظ في زمن نزوله في معني خاص شايعا، ثم في الاعصار المتأخرة نقل إلي معني جديد، و هجر المعني السابق، و هذا لا يمسّ كرامة القرآن بشي ء، و لا ربط له

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 207.

(2). سورة يوسف، الآية 20.

(3). سورة البقرة، الآية 102.

(4). سورة النساء، الآية 74.

(5). مصباح الفقاهة، ج 3، ص 21.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 104

بأحكامه و تعليماته حتي يقال لا نسلم تقديم الاستعمالات العرفية علي القرآنية، نعم للبحث في الصغري مجال، و لكن لا ينبغي الإشكال في الكبري بعد قبول لزوم الإنشاء بما هو متفاهم العرف في كل عصر و زمان، فتدبّر جيدا.

ألا تري أنّ لفظ «المكروه» في عرف القرآن يطلق علي أكبر المحارم، كما ورد في قوله تعالي: كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً «1». بعد ذكر أكبر المحرمات كالزنا و قتل النفوس الأبرياء، و أكل مال اليتامي، في الآيات السابقة عليها، مع أنّ هذه الكلمة صارت حقيقة في المكروه في مقابل الحرام، في عرف أهل الشرع في الاعصار المتأخرة، و علي كل حال فالانصاف أنّ إيجاب البيع بلفظ «شريت»

بدون ذكر قرينة مشكل في هذه الأعصار.

هذا و احتمل جواز الإيجاب بلفظ «اشتريت» و حكاه في مفتاح الكرامة عن بعض نسخ التذكرة، و تعليق الإرشاد، و هذا أشكل من سابقه جدّا، لأنّ الاشتراء في القرآن المجيد لم يستعمل إلّا في مقابل البيع، فقد ورد واحد و عشرون مرّة في القرآن بصيغة «اشتري» و «اشتروا» و «تشتروا» و «يشترون» و غير ذلك كلها بالمعني الذي ذكرنا، غير مورد واحد و هو قوله تعالي: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ «2».

فان ظاهر الآية كما ذكر جمع من المفسرين أنّه بمعني «البيع» فقد باعوا أنفسهم الكريمة بثمن قليل من متاع الدنيا و زخارفها، مع أنّه ليس لها ثمن إلّا الجنّة كما قال به أمير المؤمنين علي عليه السّلام في ما ورد في نهج البلاغة «3».

و لكن ناقش فيه في «المصباح» بما حاصله: إنّ علماء اليهود اشتروا أنفس العوام بثمن بخس، و هو التوادّ و التحاب إليهم، كما أنّ العوام اشتروا أنفسهم علماءهم بثمن زهيد، و هو ما منحوهم من البر و الصلة و متاع الدنيا، فصار كل منهما مشتريا لنفوس الآخرين «4».

و لا يخفي ما فيه من التكليف و التعسف الشديد المخالف لظاهر الآية الموجب لعدم

______________________________

(1). سورة الاسراء، الآية 38.

(2). سورة البقرة، الآية 90.

(3). كلمات القصار، 456.

(4). مصباح الفقاهة، ج 3، ص 21.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 105

اتحاد مرجع الضمائر، هذا و لكن مجرّد استعمال واحد غير كاف في المقام كما هو ظاهر.

3- ملكت

و من الألفاظ التي يصح إنشاء إيجاب البيع به «ملكت» و ذكر في الجواهر أن المشهور جواز الإيجاب به، بل حكي عن جامع المقاصد ما يشعر بالإجماع عليه.

نعم أورد عليه

تارة بأنّه ظاهر في التمليك مجانا، فلا يجوز إنشاء البيع به، و اخري احتماله غير البيع من الصلح و غيره، و لا يجدي ذكر العوض، لإمكانه في الهبة و الصلح.

و يرد علي الأول: أنّه لا ظهور له في التمليك المجاني إلّا إذا خلا عن ذكر العوض، و علي الثاني: بإمكان تعيين البيع بقرائن لفظية أو حالية، و قد عرفت جواز ذلك مطلقا.

مضافا إلي ما قد يقال أنّ الأصل في التمليك بالعوض هو البيع (و الأصل هنا بمعني الغالب الذي ينصرف إلي الكلام) و هو الأقوي.

هذا مضافا إلي ما عرفت سابقا من أنّ حقيقة الصلح أمر وراء البيع، و لا يمكن التمليك بالعوض بعنوان الصلح إلّا إذا كان المقام مظنة للخلف، فيتصالح فيه، أو كان الخلاف فعليا.

كما أنّه عرفت أنّ حقيقة الهبة هي التمليك الجاني، و لذا ذكر المحقق قدّس سرّه في الشرائع في تعريفها: «هي العقد المقتضي تمليك العين من غير العوض … » و أمّا الهبة المعوضة فيمكن أن يكون ما يعوض عنها بعد إنشاء الهبة لا في ضمن العقد، و إن كان ظاهر كلماتهم جواز أخذ العوض في العقد، و لكنّه لا يخلو عن إشكال، لمنافاته لما يتبادر من أخذ المجانية في مفهومها عرفا، كما لا يخفي علي من راجعهم إلّا إذا كان العوض بعنوان الشرط لا المقابلة في العقد، و حينئذ يتفاوت مع التمليك بالعوض الذي هو حقيقة البيع.

و بالجملة إنشاء التمليك بالعوض بعنوان المقابلة بقصد الهبة مشكل جدّا، و روايات الباب لا تنافي ما ذكرنا، و تمام الكلام فيه في محله.

و بالجملة لا ينبغي الإشكال في جواز إنشاء البيع بالتمليك مع ذكر العوض، و هو كالصيغ الصريحة فيه، و الوسوسة في

ذلك عجيب بحسب متفاهم أهل العرف.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 106

أمّا القبول: فالحق أنّه من حيث الأصل الكلي شبيه بالإيجاب- كما أشار إليه في الجواهر- فلا بدّ فيه أيضا الظهور العرفي علي المختار، كما أنّ اللازم علي سائر المباني ما يليق بها.

و قد صرّح شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعدم الإشكال في وقوعه بلفظ «قبلت» و «رضيت» و «اشتريت» و «شريت» و «ابتعت» و «تملكت» و «ملكت» مخففا انتهي.

و لكن كل ذلك مقبول عندنا إلّا «شريت» لما عرفت من استعماله كثيرا في البيع، مضافا إلي كونه مهجورا في الاستعمالات المتداولة اليوم، فلا يطلق الشاري علي المشتري.

و أوضح إشكالا منه إنشاء القبول بلفظ «بعت» لكونه حقيقة في البيع مقابل الشراء، و لو سلّمنا كونه من الألفاظ المشتركة، فلا شك في كونه مهجورا بالنسبة إلي الشراء إلّا إذا بني علي الافتعال.

ثمّ إنّه قدّس سرّه ذكر أنّ في انعقاد القبول بأمضيت، و أجرت، و أنفذت وجهين، من دون أي شرح لذلك.

و عن المحقق الأصفهاني قدّس سرّه الإشكال علي ذلك بما حاصله: أنّ هذه العناوين إنّما تتعلق بما له المضي و الجواز و النفوذ، أي السبب التام، و هو العقد المركب من الإيجاب و القبول، كالإجارة في الفضولي، و لا معني لكونها في جزء السبب.

و أجيب عنه: بأنّ المعاملة الفضولية أيضا لا تزيد علي الإيجاب الساذج لكون الإجارة ركنا.

و هذا و الانصاف وجود التفاوت بين الفضولي و الإيجاب بدون القبول، لأنّ الإنشاء قد تمّ هناك إيجابا و قبولا و لكن مع ذلك، الحق جواز إنشاء القبول بهذه الصيغ الثلاث إذا ظهر من القرينة كونها في مقام إنشاء القبول.

المقام الثالث: اعتبار العربية في العقد و عدمها

اشارة

و ممّا وقع الكلام في اعتباره من حيث مادة الإنشاء

بل و هيئته، اعتبار العربية، فقد حكي

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 107

عن المحقق و الشهيد الثانيين و الفاضل المقداد (رحمهم اللّه) و بعض آخر اعتبار ذلك، بل حكي عن المبسوط و التذكرة الإجماع علي عدم الصحة بغير العربية في صيغة النكاح مع القدرة.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)؛ ص: 107

و عن ابن حمزة استحباب العربية.

و ذهب كثير من المحققين و المتأخرين و المعاصرين إلي عدم اعتبار ذلك بل و ظاهرهم عدم استحبابه أيضا و هو المختار.

دليلنا: اطلاقات أدلة صحة العقد، حلية التجارة عن تراض، و المؤمنون عند شروطهم و غير ذلك، و من الواضح المقطوع به صدق هذه العناوين علي كل عقد سواء كان ألفاظ عربية أو غيرها، بل يمكن دعوي استقرار السيرة عليه بالنسبة إلي البيع و الإجارة و شبهها، لعدم التزام المتشرعة بخصوص الألفاظ العربية.

نعم قد استدلّ علي اعتبارها بوجوه ضعيفة جدّا:

أحدها: و هو الأظهر من بينها، التمسك بأصالة الفساد بعد عدم الدليل علي الاكتفاء بغيرها، انصراف الآية و غيرها إلي العقد بالألفاظ العربية.

ذكره في الجواهر و عقبه بقوله: «كغير المقام ممّا علق الشارع الحكم فيه علي الألفاظ المنصرفة إلي العربية … و لذا كان القرآن و غيره من الأدعية و الأذكار الموظفة عربية» «1».

و هذا منه قدّس سرّه عجيب مع سعة اطّلاعه و وفور علمه و احاطته بعموم مسائل الفقه، فانّ حقيقة العقد و التجارة و البيع و الإجارة ليست من الألفاظ، بل هي امور اعتبارية تنشأ بالألفاظ، و الألفاظ آلات لها،

و العقود و العهود الموجودة بين سائر الأقوام البشرية هي عقود و عهود معتبرة قطعا مع عدم كونها بالعربية، و قياسها علي القرآن و الأدعية قياس مع الفارق بعد كون الألفاظ في كلام اللّه لها موضوعية، لأنّ النازل علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عين هذه الألفاظ لا مجرّد المعاني، أضف إلي ذلك أنّ العبارات و منها الأدعية امور توقيفية و لا دخل لها بما نحن فيه.

و لو أراد قياس العقود علي شي ء فلما ذا لا يقيسها علي الشهادة عند القاضي و غيره،

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 250.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 108

و القذف و شبهه، فهل هناك فرق بين الألسنة المختلفة في إجراء أحكامها؟ و بالجملة هذا الدليل و هذا القياس ضعيفان جدّا.

ثانيها: و هو أضعف و أعجب، إنّ العقد لا يصدق علي العقد بغير العربية مع التمكن من العربية!

و ليت شعري أ و ليس العقد مطلق العهد أو العهد المشدد بين شخصين؟ أو ليس هذا من مقولة المعني؟ فأي ربط له بهذا اللفظ دون ذاك؟

ثمّ إنّ لازمه بطلان عقود جميع الأقوام في العالم ما عدا العرب، و هو عجيب.

ثالثها: إنّ التأسي بالنبي صلّي اللّه عليه و آله و بالأئمّة عليهم السّلام و أصحابهم يقتضي ذلك، و هو أيضا في الضعف مثل سابقه، إذ التأسي إنّما هو في الشرعيات، من العبادات و الأدعية و الواجبات و المستحبات، لا في العرفيات و الموضوعات الخارجية، فهل التأسي بهم صلوات اللّه عليهم أجمعين يوجب التكلم بالعربية لجميع الناس؟ هل الاقتداء بهداهم عليهم السّلام يقتضي لبس ما لبسوا و أكل ما أكلوا ممّا لا صلة له بأحكام الشرع من الواجب و المستحب و

آداب الإسلام؟

رابعها: إنّ عدم صحة العقد بالعربية بغير الماضي يدلّ بطريق أولي علي عدم صحة بغير العربية، و هو أهون من الجميع، لأنّ غير الماضي علي القول بعدم جوازه في مقام الإنشاء إنّما هو للاختلال بصراحة اللفظ، أو ظهوره في هذا المقام، و أين هذا من اللفظ الظاهر أو الصريح في الإنشاء إذا كان بغير العربية؟!

و بالجملة قلّما يري في فرع من الفروع الفقهية استدلالات بهذه المثابة من الوهن، مع مالهم (قدس اللّه أسرارهم) من دقّة النظر و عمق الفكر و البصيرة، و لكن الجواد قد يكبو، و لعل الذي دعاهم إلي ذلك شدّة الاحتياط و تأثير محيط المجتمع، و علي كل حال لا ينبغي الشك في جواز العقد بأي لسان.

نعم ذكر في الشرائع في باب النكاح أنّه لا يجوز العدول إلي ترجمة ألفاظ العقد بغير العربية، و ادّعي في الجواهر أنّه مورد الاتفاق كما في المبسوط و التذكرة.

و لو لا كون النكاح ممّا فيه شائبة العبادة و التوقيفية لقلنا فيه أيضا الجواز لو هن هذا

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 109

الإجماع المدعي، بما عرفت من استنادهم إلي أدلة ضعيفة، و لكن الاحتياط لا يترك في خصوص النكاح و الطلاق، و لقد أجاد السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في ما ذكره في المقام حيث قال: لا ينبغي الإشكال فيه (في صحته بغير العربية) و إلّا لاشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار (الصحيح رائعة النهار، و الرائعة بمعني الضحي أي حين يرتفع النهار و هو مثل يضرب لغاية الشهرة) إذ كان الواجب علي جميع أهالي الأمصار في جميع الأعصار تعلم الصيغة العربية لكل معاملة، كتعلمهم للحمد و السورة، إذ كثرة الابتلاء بالمعاملات ممّا لا يكاد

يخفي مع أنّه لم يرد في خبر من الأخبار و لا أثر من الآثار ذلك و لو علي سبيل الإشارة، إلي أن قال: نعم حكي عن المبسوط و التذكرة الاتفاق علي عدم كفاية غير العربي في النكاح لمن كان متمكنا منه، فانّ تمّ و إلّا فالاقوي جوازه فيها أيضا «1».

بقي هنا امور:

الأول: هل يجوز الإنشاء بالعربي الملحون من حيث المادة أو الهيئة أو الاعراب أم لا؟

الأقوي: التفصيل بين ما هو مغير المعني، أو مسقط له، و ما ليس كذلك، بحيث يبقي ظهوره ثابتا، فيجوز في الثاني دون الأول، لما عرفت من أنّ المعيار علي الظهور العرفي، فالاغلاط المشهورة التي يتداول التكلم و التفاهم بها يجوز استعمالها في مقام الإنشاء، و القدر المتيقن من أدلة اعتبار الإنشاء ليس أزيد منه فيؤخذ بالاطلاقات.

نعم لو قلنا باعتبارها من ناحية كونها القدر المتيقن من الصحة و تجري أصالة الفساد في غيرها، أمكن القول بأنّ المتيقن هنا العربي الصحيح لا الملحون، و لكن فيه ما لا يخفي.

و هكذا الكلام بالنسبة إلي اللحن في الفارسية و غيرها من الألفاظ، فما يتكلم به العوام من اللغات الدارجة الظاهرة في أداء المقصود كاف في مقام الإنشاء و إن كان غلطا بحسب موازين اللغة و الادب.

______________________________

(1). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 189.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 110

فإذن لا ينحصر البحث عن المحلون باعتبار كون الصيغة عربية بل يجري في سائر فروض المسألة كما لا يخفي.

و من هنا يعلم أنّه لا فرق بين أن يكون للملحون معني صحيح آخر أم لا.

الثاني: هل يعتبر العربية علي القول بها في ذكر المتعلقات، أم يكفي فيها الفارسية و غيرها، أو يفصل بين القول لزوم

ذكرها في البيع و عدمه؟

و الانصاف هو ما عرفت من كفاية الانفهام العرفي و الظهور المتعارف، فلو ذكر جميع المتعلقات في المقاولة أو كتب في كتاب ثم قال البائع مشيرا إليها: بعت، و قال المشتري:

اشتريت، كفي، و لا يحتاج إلي ذكر العوضين و الشروط فضلا عن كونها بالعربية أو الفارسية.

نعم لو قلنا بلزوم ذكرها، قلنا أنّ الأصل في العقود الفساد، كان اللازم ذكر جميعها بالعربية، كما أنّه لو كان الدليل علي اعتبارها التأسي و شبهه كان المتيقن منه ذكر الجميع بالعربية، و لكن فيه ما عرفت.

الثالث: هل يعتبر العمل بتفاصيل المعاني و وقوع أي جزء من اللفظ بازاء أي جزء من المعني، أو لا يعتبر؟ مثلا إذا علم أنّ قولنا «بعت هذا بهذا» إجمالا بمعني «اين جنس را به آن قيمت فروختم» من دون معرفة الجزئيات، فالظاهر صحة الإنشاء أولا، و كونه عربيا ثانيا، بناء علي الاعتبار العربية، لصدقها عليه قطعا، فما استظهره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من لوزم كونه عارفا بالفرق بين «بعت» و «أبيع» و «و أنا بايع» لم يقم عليه دليل، و كذلك الكلام في صيغة النكاح و سائر العقود، و اختار هذا القول السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في حاشيته «1» و بعض الأعلام في مصباح الفقاهة «2».

الرابع: هل يعتبر العلم بحقيقة الإنشاء؟ الظاهر عدم اعتبار ذلك تفصيلا بالفرق بين الامور الاعتبارية و التكوينية، و كيفية الاعتبار في البيع و النكاح، و الفرق بين البيع و الصلح و الهبة المعوضة و أشباه ذلك، بل المعتبر العلم الإجمالي، فمن وهب ماله لغيره، قال هذا لك، قاصدا لإنشاء الهبة، كفي. و هذا علي إجماله واضح للعوام و الخواص، و مثله

______________________________

(1). حاشية المكاسب للسيد

الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 190.

(2). مصباح الفقاهة، ج 3، ص 39.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 111

إنشاء البيع و النكاح، فما يقع فيه من بعضهم من الوسوسة و القول بعدم جواز إجراء الصيغة من العوام لأنّهم لا يعرفون معني الإنشاء فاسد لا دليل عليه.

و إن شئت قلت: إنّ حقيقة الإنشاء هي الإيجاد (خلافا لما ذكره بعض الأعلام العصر أنّ حقيقته هو ابراز ما في النفس من الاعتبار) و لكنه إيجاد في عالم الاعتبار، أعني الاعتبار العقلائي بأسبابه (كما عرفت سابقا) و اللازم أن يعرف المنشئ للعقد أنّه ليس بصدد الإخبار، بل هو بصدد إيجاد التمليك أو علاقة الزوجية أو غير ذلك و يفرق بين الإخبار و الإنشاء إجمالا، و أمّا أزيد من ذلك ممّا لا يعلمه إلّا العلماء الأعلام فغير لازم قطعا، و المعني الإجمالي منه معروف لغالب الناس و إن كان لا يعرف معناه التفصيلي إلّا الأوحدي.

المقام الرابع: هل يشترط الماضوية؟

قال في القواعد: لا بدّ من صيغة الماضي، فلو قال اشتر، و ابتع أو أبيعك لم ينعقد و حكي اختيار هذا القول عن الإرشاد و شرحه لفخر المحققين و الروضة و المسالك.

و ادّعي في مجمع البرهان أنّه المشهور، و كذا عن المفاتيح و عن التذكرة الإجماع عليه، و نسب إلي الشيخ قدّس سرّه و غيره الفتوي به، و إن قال في مفتاح الكرامة لم أجد في الخلاف و المبسوط تصريحا بذلك «1».

و قال في مفتاح الكرامة في كلام آخر له في المسألة: «إن كان الإجماع منعقدا علي اشتراط الماضوية كان الإجماع قرينة علي عدم تسمية الخالي عنها عقدا في زمانهم عليهم السّلام و إلّا فالشهرة معلومة و منقولة، فيحصل لنا بسببها الشك في كونه عقدا

في ذلك الزمان، و الشك كاف في المقام، و كون ذلك عقدا الآن لا يجزي كما هو الشأن في المكيل و الموزون فتأمل جيدا» «2».

و عن غير واحد من القدماء و المتأخرين جوازه بغير الماضي أيضا، و هو الأقوي إذا كان له ظهور عرفي.

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 162.

(2). المصدر السابق، ص 163.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 112

و عمدة ما استدل به المخالفون عدم صراحة المضارع أو الأمر في الإنشاء، و احتمالهما الوعد أو الاستدعاء، هذا أولا، و العلم بعدم صدق العقد عليهما و لا أقل من الشك، و الشك كاف في الحكم بالفساد ثانيا، و نقل الإجماع عليه ثالثا.

و يجاب عن الأول: بعدم اعتبار الصراحة في صيغ العقود، بل يكفي الظهور العرفي، و هو حاصل مع وجود القرائن، بل قد عرفت أنّ الماضي أيضا ليس بصريح، بل و لا ظاهر فيه ما لم تكن هناك قرينة دالة علي أنّه ليس في مقام الأخبار بل الإنشاء لاشتراك الماضي بينهما.

و منه يظهر الجواب عن الثاني لصدق العقد عليه قطعا بعد كونه ظاهرا في أداء المقصود.

و أمّا الإجماع المدعي فهو ضعيف لوجود المخالف أولا، و عدم استكشاف قول المعصوم منه ثانيا، بعد ما عرفت من وجود أدلة اخري في المسألة.

أضف إلي ذلك كلّه ورود الإنشاء بالمضارع في روايات كثيرة مثل ما روي عبد الرحمن بن سيابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ المصاحف لن تشتري فإذا اشتريت فقل: إنّما اشتري منك الورق» «1».

و ما روي سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: لا تشتر كتاب اللّه و لكن اشتر الحديد و الورق

و الدفتين، و قل: أشتري منك هذا بكذا و كذا» «2».

و كذا روايات اخري وردت في باب بيع المصحف و أيضا مثل ما روي عثمان بن عيسي عن سماعة قال: «سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها فقال عليه السّلام: لا إلّا أن يشتري معها شيئا من غيرها رطبة أو بقلا فيقول: أشتري منك هذا الرطبة … » «3».

و ما ورد في أبواب النكاح الذي أمرها أشدّ من البيع و أحوط من جواز الإنشاء

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ج 13، الباب 3 من أبواب بيع الثمار، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 113

بالمضارع مثل ما روي أبان بن تغلب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال تقول: أتزوجك متعة … الحديث» «1».

و ما روي هشام بن سالم قال: «قلت كيف يتزوج المتعة؟ قال: يقول: أتزوجك كذا و كذا … الحديث» «2».

و كذا الحديث 2 و 4 و 6 من نفس الباب.

و قد ورد الإنشاء بصيغة الأمر أيضا مثل ما رواه الأحول قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام قلت: ما أدني ما يتزوج الرجل به المتعة؟ قال: كف من بر يقول لها: زوجيني نفسك متعة علي كتاب اللّه … » «3».

إلي غير ذلك ممّا هو كثير، و العجب مع وجود هذه الأخبار الكثيرة المتفرقة في مختلف الأبواب من دعوي الشهرة أو الإجماع علي عدم جواز الإنشاء بغير الماضي.

و ليعلم أنّ الإنشاء بالمضارع أكثر من الإنشاء بصيغة الأمر، بل لم نر في أخبار إنشاء البيع الإنشاء به، نعم

في النكاح بعض ما يظهر منه ذلك مثل ما عرفت و ما رواه سهل الساعدي في المشهورة (رواه في المستدرك، ج 2، ص 65).

بقي هنا شي ء: و هو أنّه هل يجوز الإنشاء بالجملة الخبرية مثل قول البائع «هو لك بكذا و كذا»؟ الظاهر ذلك إذا كان بقصد الإنشاء، بل هو أكثر و أشهر من الإنشاء بصيغة الأمر، و له نظائر في الأبواب الآخر، مثل باب العتق: «أنت حرّ لوجه اللّه» و باب الطلاق «هي طالق» و باب الوقف «هي صدقة في سبيل اللّه» و باب النذر «للّه عليّ كذا» و باب الضمان «أَنَا بِهِ زَعِيمٌ» و كذلك الوصية «أنت وصيي» كما ورد في الآيات أو الروايات، فلا تختص الجمل الخبرية بباب دون باب كما قد يتوهم.

المقام الخامس: تقديم الإيجاب علي القبول

اشارة

قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد: و في اشتراط تقديم الإيجاب نظر.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 18 من أبواب المتعة، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 3.

(3). مستدرك الوسائل، ج 2، كتاب النكاح أبواب المهور، ص 605 من الطبعة الحجرية.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 114

و عن المختلف: إنّ الأشهر اشتراطه، و نسب إلي الشيخ قدّس سرّه في المبسوط و الاشتراط خيرة الخلاف و الوسيلة و السرائر، و في التذكرة و الايضاح و التنقيح أنّه الأقوي، و في جامع المقصد و صيغ العقود أنّه الأصح.

و اختار جماعة عدم الاشتراط، كما في الشرائع و المسالك و نهاية الأحكام و في اللمعة و الروضة و مجمع البرهان و غيرها، بل نسب ذلك إلي كل من لم يتعرض لذكر هذا الشرط.

و قد استدلوا للاشتراط بأدلة ضعيفة:

1- إنّ الأصل عدم تمام العقد و بقاء الملك علي ما كان، و حاصله أصالة الفساد

في المعاملات ما لم تثبت الصحة.

2- القبول إضافة فلا يصح تقديمها علي أحد المضافين.

3- القبول فرع الإيجاب، فلا يصح تقديمه و لا يصحّ إلحاقه بالنكاح لمكان الحياء في النكاح.

هذا ملخص ما ذكره في مفتاح الكرامة من الأدلة التي ذكرها في المسألة «1».

و لكن اللازم قبل كل شي ء التحقيق في حقيقة القبول في البيع و غيره و ماهيته، فقد ذكر فيه وجوه:

الأول: أنّ حقيقته تقرير ما أوجد الموجب و تثبيته، و أنّه من قبيل «شكر اللّه سعيك» الذي يقال لمن أوجد فعلا «2».

الثاني: ما حكي عن بعض الأعاظم و حاصله: أنّ الموجب ينشئ التمليك بالمطابقة و التملك بالتبع، و القابل بالعكس ينشئ التملك بالأصالة و التمليك بالتبع.

الثالث: أنّه الرضا بالإيجاب علي وجه يتضمّن إنشاء نقل ما له في الحال إلي الموجب علي وجه العوضية.

هذا و الانصاف أنّ العقد أمر يقوم بطرفين لا يتمّ بفعل أحدهما، فما ذكر في الوجه الأول من أنّ عمل القابل هو تثبت ما فعله الموجب غير تام، لأنّ الموجب لا يعمل شيئا

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 165.

(2). كتاب البيع.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 115

إلّا من قبل نفسه، و إن شئت قلت: الموجب يبني العقد من قبل نفسه فقط، ثم يتبعه القابل، فيتمّ أمر العقد المتوقف علي الطرفين، فليس فعل القابل مثل «شكر اللّه سعيك» الذي يقال بعد تمام العمل.

إلّا أنّ القابل لما كان يعطف عهده إلي عهده، و إنشاءه إلي إنشائه، فلا يحتاج إلي ذكر إنشاء العقد بجميع خصوصياته، و إلّا فلا فرق في الواقع بين فعلهما، و إن افترقا في اللفظ و الظاهر، و كان أحدهما كالفاعل و الآخر كالقابل.

و الحاصل: إنّ كلّا منهما «مملك» و «متملك» و

طرف للمعاقدة و المعاهدة، لا ينقص أحدهما عن الآخر شيئا، لأنّه مقتضي معني المعاهدة و المعاقدة، لأنّه أمر بين اثنين كل واحد منهما طرف له من دون أي تفاوت من هذه الجهة.

نعم، في مقام البيان و شرح هذا المعني، فالقابل يعطف إنشاءه علي إنشاء البائع من غير حاجة إلي بيان أكثر، فيقول: قبلت هذا العقد، أو قبلت هكذا، أو قبلت، مجرّدا عن كل شي ء.

و من هنا يظهر النظر في جميع الوجوه الثلاثة المذكورة و عدم تمامية شي ء منها.

هذا كله علي فرض القول بوجوب تركب العقد من الإيجاب و القبول و كون الثاني كالمطاوع لفعل الأول، و لكنه بعد محل إشكال بل منع، لإمكان تركّبه من إنشاءين متشابهين، سواء سمّيته إيجابين أم لا، بأن يقول كل منهما: ملكتك ملكي هذا بازاء ملكك، أو جعلت هذا المال بازاء هذا المال، أو قالا: قبلنا المبادلة بين المالين.

و السرّ في ذلك كلّه ما عرفت من أنّ حقيقة العقد معاهدة بين الطرفين لا يفترق أحدهما من الآخر من هذه الجهة- و تفاوت البائع و المشتري من بعض الجهات لا دخل له بأصل العقد- و لا يلزم أن يكون إنشاء أحدهما بلفظ القبول دائما حتي يشبه المطاوعة، بل للثاني أن ينشئ بلفظ القبول و يعطف إنشاءه علي إنشاء الأول، أو ينشئ بلفظ آخر و يذكر فيه جميع خصوصيات العقد، فيقول الأول: ملكتك مالي هذا بازاء مالك، و يقول الثاني: أنا أيضا ملكتك مالي هذا بازاء مالك، فتدبّر فانه حقيق به.

و بهذا تنحل عقدة الإشكال في إنشاء النكاح بقول الزوج «أتزوجك علي كتاب اللّه

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 116

و سنة نبيّه» إلي آخر ما ورد في الأخبار الكثيرة، فانّه ليس

فيه من المطاوعة عين و لا أثر، و كذا ما ورد في البيع بقوله: اشتري منك كذا بكذا، و لا يجتري أحد علي رد هذه الأخبار الكثيرة.

فتلخص من جميع ذلك أن تركب العقد من الإيجاب و القبول و إن كان جائزا إلّا أنّه ليس بلازم بل يجوز تركبه من إنشاءين متماثلين يدلان علي المعاهدة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ شيخنا الأعظم قدّس سرّه قسم ألفاظ القبول هاهنا إلي ثلاثة أقسام:

الأول: أن يكون بلفظ قبلت و رضيت.

الثاني: أن يكون بطريق الأمر و الاستيجاب نحو: بعني، فيقول المخاطب: بعتك.

الثالث: أن يكون بلفظ اشتريت و ملكت محققا.

ثم ذكر في الأول ما حاصله عدم جواز تقديمه بل حكي عن بعضهم عدم الخلاف فيه، ثم استدل له بكونه خلاف المتعارف. أولا، و كون القبول فرع الايجاب. ثانيا، و ليس القبول مجرّد الرضا بشي ء حتي يمكن تعلقه بالمستقبل، بل هو عبارة عن الرضا بالإيجاب علي وجه يتضمّن الإنشاء.

ثم أشكل علي الثاني أيضا بما أورده علي تقديم القبول المنشأ بلفظ قبلت، و ذكر أنّ غاية ما يستفاد من الأمر و طلب المعاوضة هو الدلالة علي الرضا بها، و لكن ليس فيه إنشاء و نقل في الحال.

ثم أورد علي الاستدلال بالفحوي بالنسبة إلي النكاح بمنع الفحوي، و قصور دلالة الروايات عليه في النكاح أيضا.

و لكن اختار الجواز في الثالث نظرا إلي تضمنه إنشاء المعاوضة كالبائع، غاية الأمر أن البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بازاء ماله، و المشتري ينشئ عكس ذلك، و وجود معني المطاوعة في القبول غير لازم، و لكن تردد فيه في آخر كلامه نظرا إلي أنّ المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب فقال: الحكم لا يخلو عن شوب الإشكال (انتهي ملخصا).

هذا و

لكن يظهر من بعض المحشّين أنّ القسمين الأخيرين لا ينبغي أن يكونا محطّ

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 117

الكلام، أمّا بالنسبة إلي القسم الثالث فإن قول المشتري: اشتريت كذا بكذا، إيجاب من قبله و لا يبقي بعده محل لا يجاب البائع، بل يبقي قبول البائع و تنفيذ ما أوجبه المشتري.

و أمّا القسم الثاني ففي الحقيقة هو إذن بايقاع العقد بعده، و حقيقة المعاملة تحصل بالإيجاب فقط بعد ما كان بإذن المشتري، فلا يبقي إلّا الأول، ثم قال: و التحقيق جواز تقديمه عليه لأنّه و إن كان مطاوعة إلّا أنّه يمكن إنشاؤه مقدما علي نحوين:

أحدهما: بنحو الاشتراط نظير الواجب المشروط بأن يقول: إن ملكتني هذا بهذا قبلت.

و الثاني: أن يكون علي نحو الواجب المعلق فإنشاؤه حالي و المنشأ استقبالي (انتهي ملخصا) «1».

أقول: و في ما أفاده مواقع للنظر:

1- الصورة الاولي التي ذكرها من جواز الإنشاء علي نحو الواجب المشروط ليس من قبيله، بل من قبيل التعليق في الإنشاء الذي يأتي بطلانه.

2- الصورة الثانية، أعني الإنشاء علي نحو الواجب المعلق، فهو أيضا باطل لما ذكرنا في محله من فساد المبني، و أن الواجب المعلق يعود إلي التناقض في الإنشاء، و هو غير جائز.

3- سلمنا جواز ذلك كله، و لكن مثل هذا الإنشاء، أعني تقديم القبول بلفظ قبلت، ممّا لا يعرفه العقلاء من أهل العرف، مع أن عموم «أوفوا» منصرف إلي ما هو المعروف المتداول بينهم قطعا، و إلّا جاز لكل أحد اختراع عقد لنفسه و لزميله و المعاملة علي وفقه من دون أن يعرف لدي العقلاء و يتداول بينهم، و لا أظن الالتزام به من أحد.

4- و أشكل من الجميع الاكتفاء بالإيجاب فقط بعد الاذن، فهل

يجوز لمن اذن له في أمر النكاح أن يقول «زوجت فلانة لنفسي» و يتمّ الأمر من دون إنشاء القبول، و هذا منه مبني علي توهّم كون الإنشاء تاما من قبل الموجب، و أنّ موقف القبول موقف «شكر اللّه سعيك» و أمثاله، و لكنك عرفت بطلان هذا المبني فيما مرّ آنفا و أنّ العقد و المعاهدة أمر قائم بطرفين.

______________________________

(1). كتاب البيع، ج 1، ص 226.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 118

5- أنّه لا يعتبر في حقيقة العقد المطاوعة من أحد الجانبين، بل الظاهر كما عرفت إمكان تركب العقد من جملتين يدلان علي إنشاء العقد من الجانبين و المعاهدة و التوافق و الالتزام بأمر ترتبط بكليهما و إن لم يكن أحدهما من قبيل المطاوعة، كما إذا قال أحدهما:

ملكتك هذا بهذا، و قال الآخر، أنا أيضا ملكتك هذا بهذا.

و الذي يتحصل من جميع ما ذكرنا أن تقديم القبول بلفظ «قبلت» و شبهه مشكل جدّا بل ممنوع لما عرفت من صدق العقد عليه عرفا، لعدم تعارفه عندهم قطعا و عدم اعتدادهم بمثله، فلا تشمله عمومات وجوب الوفاء بالعقود و شبهها.

و ما ذكر في توجيهه بمشابهته للواجب المشروط أو المعلق علي فرض صحته لا يفيد في ما ذكر.

و أمّا تقديمه بصورة الأمر و الاستيجاب، فلو لا وروده في بعض أخبار أبواب النكاح أو البيع لأمكن الإشكال عليه أيضا، بمثل ما مر في قبلت، مضافا إلي ظهوره في الاستدعاء كما لا يخفي علي من تدبّر.

و أمّا ما ورد في هذا المعني في روايات النكاح من حديث سهل الساعدي فدلالته لا بأس به، و ليس فيه أثر من قبول الرجل بعد تزويج رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إيّاه وكالة

عن قبل المرأة، و لو كان لنقل إلينا عادة، و هذا المقدار من الفصل بين الإيجاب و القبول غير قادح كما سيأتي إن شاء اللّه عن قريب.

نعم فيه إشكال ظاهر من حيث السند نظرا إلي أنّه مرسلة عوالي اللئالي «1» و لكن بمضمونه رواية اخري عن الإمام الباقر عليه السّلام يحكي قصة امرأة مع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله تشبه ما ورد في رواية سهل، بتفاوت يسير، و هي معتبرة الاسناد ظاهرا «2» و ليس في سندها من يتكلم فيه.

و أوضح من هذه الرواية، دلالة ما ورد في موثقة سماعة (و قد وصفه المحقق اليزدي قدّس سرّه في تعليقته بالصحة) «3» في أبواب البيع في بيع اللبن في الضرع و أنّه لا يصح حتي يضم إليه

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 2، الباب 2 من ابواب المهر، ص 605 من الطبعة الحجرية.

(2). وسائل الشيعة، ج 15، باب 2 من أبواب المهر، ج 1.

(3). حاشية المكاسب للمحقق اليزدي قدّس سرّه، ص 161.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 119

شيئا مثل أن يحلب في الاسكرجه فيبيعه مع ما في الضرع و يقول اشتر مني هذا اللبن الخ «1».

فقد ورد الإنشاء فيه بلفظ الأمر، و سند الحديث معتبر، و في مصباح الفقاهة نقل هذه الرواية بلفظ المضارع لا الأمر، و الظاهر أنّه خطأ منه، فان المذكور في الرواية أنّه من قول صاحب اللبن، و ذكر بعده لفظة «مني»، و هذا كالصريح في كونه «اشتر» بلفظ الأمر لا بلفظ المضارع.

و مع ذلك يشكل نفي الجواز، بل قد عرفت أنّه مقتضي القواعد أيضا إذا كان محفوفا بالقرائن الدالة علي أنّ الأمر ليس بصدد الاستدعاء بل ورد في مقام الإنشاء.

و أمّا

الإنشاء بقوله «اشتريت»، فالانصاف أنّه لا غبار عليه، بل يصح عدّة إيجابا من ناحية المشتري يتعقبه القبول من ناحية البائع، و لا دليل علي لزوم كون البائع موجبا دائما و المشتري قابلا، كما أنّه لا دليل علي وجوب كون الزوج قابلا دائما، بل يجوز بالعكس كما ورد في كثير من روايات باب النكاح، و قد مرت الإشارة إليها و هي روايات كثيرة.

بقي هنا أمران:

الأمر الأول: إنّ العلّامة الأنصاري قدّس سرّه ذكر في آخر كلامه في المقام أنّ العقود علي قسمين، ثم قسم كلّا منهما إلي قسمين، و محصل ما ذكره في الأقسام الأربعة ما يلي:

الأوّل: ما يكون فيه التزامان متساويان (كالصلح).

الثاني: ما يكون فيه التزامان مختلفان (كالبيع و الإجارة) فان التزام البائع يغاير التزام المشتري، و كذا الموجر و المستأجر.

الثالث: ما لا يكون في قبوله إلّا الرضا مع مطاوعة الإيجاب (كما في الرهن و الهبة و القرض).

الرابع: ما لا يكون فيه سوي الرضا بالإيجاب (كما في الوكالة و العارية و شبهها).

______________________________

(1). اسكرجة بتخفيف الراء الساكنة أو تشديدة مع الضم اناء صغير و هو فارسي معرب (و لعل اصله شكرچه، شي ء مثل ما يسمي قندان).

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 120

و ذكر بعد هذه التقسيم أنّ «تقديم الإيجاب علي القبول لا يكون إلّا في القسم الثاني من القسمين» يعني القسم الثاني و الرابع ممّا ذكرنا، و لم يذكر فيه أزيد ممّا عرفت، و الظاهر بقرينة ما سبق في كلامه أنّ الأول، أي المصالحة و شبهها، لا يتصور فيها تقديم القبول علي الإيجاب لأنّ إنشاءهما سيان.

و في الثالث لا يتصور تقدم القبول لما عرفت من لزوم المطاوعة فيه، فلا يبقي إلّا الثاني و الرابع، و يجوز فيهما

تقدم القبول بلفظ «اشتريت» في مثل البيع، و بلفظ «رضيت» في مثل الوكالة و العارية و أشباههما.

هذا و ما أفاده و إن كان جيدا من بعض الجهات إلّا أنّه لا يخلو عن بعض الإشكالات لجواز تقديم القبول في القسم الثالث أيضا علي الأقوي، إذا لم يكن الإنشاء بما يشتمل علي مفهوم المطاوعة بأنّ يقول المرتهن: أخذت هذا منك بعنوان الرهن، و كان في مقام الإنشاء، قول الراهن: أعطيتك هذا بعنوان الرهن، أو أعطيتك إيّاه كذلك.

فيتحصل من ذلك جواز تقديم القبول في جميع هذه العقود إذا لم يكن بلفظ «قبلت» و ما أشبهه، و يشكل في ما كان بهذا اللفظ و شبهه لما عرفت من عدم عرفيته.

الأمر الثاني: أنّه قد تقسم العقود إلي قسمين: «عهدية» و «إذنية».

فالعهدية ما تحتاج إلي إنشاء القبول، و الاذنية ما لا تحتاج إلّا إلي الرضا بالإيجاب فقط، بلا حاجة إلي إنشاء آخر غير ما صدر من الموجب.

و مثّلوا للأول بالبيع و النكاح و غيرهما من أشباههما، و للثاني بالوديعة و العارية بل الوصية أيضا، و صرّح بعضهم بأنّ الوكالة علي قسمين: عهدية: و هي من العقود تحتاج إلي الإيجاب و القبول، إذنية: و هي ما إذا أذن المالك لزيد مثلا في بيع داره صحّ له بيعها، و لكن لا يترتب عليه أحكام الوكالة العهدية، ثم ذكر عدم حاجة شي ء من العقود الاذنية إلي اعتبار تقدم الإيجاب علي القبول «1».

قلت: أمّا حكم القبول في العقود المختلفة فقد عرفته، و أمّا كون شي ء من العقود لا يحتاج إلي إنشاء غير الإيجاب، فهو محل إشكال بل منع، فانّ العقد أيّا ما كان أمر دائر بين

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 3، ص 48.

أنوار الفقاهة - كتاب

البيع (لمكارم)، ص: 121

اثنين، و يحتاج إلي إنشاءين، لأنّه من الامور القائمة بطرفين، و لا معني للمعاهدة القائمة بطرف واحد، كما يظهر بمراجعة أهل العرف في فهم معني العقد و المعاهدة و ما يسمّي في الفارسية ب «قرارداد».

و أمّا الوديعة، فهي التزام في مقابل التزام، لأنّ الودعي يلتزم بحفظ الوديعة، و لذا قد لا يقبلها، و لا يلتزم بحفظها و كذلك العارية و شبهها.

و المتهب أيضا ينشأ قبول الهبة، أوضح منه الوكالة، و أمّا لو أجاز المالك التصرف في ماله بالبيع و نحوه أو بالانتفاع منه، فهذا ليس من العقود قطعا بل مجرّد اباحة مالكية تستلزم اباحة شرعية، فيجوز للمأذون له التصرف فيه شرعا بل يجوز بيعه إذا أجاز، و عمله يكون من قبيل الأعمال التسببية للمالك و إن لم يكن هناك وكالة.

فكأنّ الخلط هنا نشأ من الخلط بين «الاباحة المالكية» و «العقدية» فتدبّر جيدا، و الجملة فالعقد أمر يدور بين اثنين يتوافقان علي شي ء و ينشئان العقد عليه، و لا معني لتركبه من إنشاء واحد و رضي به.

المقام السادس: اعتبار الموالاة في العقد

هل يعتبر التوالي بين الإيجاب و القبول و عدم الفصل الطويل بينهما، أم لا؟ عن جماعة من أكابر الفقهاء اعتباره.

و من العجب أنّ المحقق قدّس سرّه لم يتعرض له في البيع في الشرائع و لا في النكاح، و لم يذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه هنا إلّا كلاما موجزا للغاية، فانّه بعد نقل اعتبار الاتصال عن جماعة قال: «قلت: المدار في هذه الموالاة علي العرف فإنّه الحافظ للهيئة المتعارفة سابقا في العقد، الذي نزلنا الآية عليه، فإنّ الظاهر عدم تغيرها» انتهي. «1»

و علي كل حال فغاية ما استدل أو يمكن الاستدلال به علي هذا الشرط امور:

الأمر الأول:

و هو العمدة، عدم صدق العقد إذا كان هناك فصل مفرط بين الإيجاب

______________________________

(1). جواهر الكلام، 22، ص 255.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 122

و القبول، لأنّ للعقد هيئة اتصالية في نظر العرف، بل هو بطرفيه (الإيجاب و القبول) بمنزلة كلام واحد يرتبط بعضه ببعض، فكما لا يجوز الفصل الطويل بين أجزاء كلام واحد و إلّا لم يصدق عليه كلام واحد، فكذلك العقد.

هذا و قد أورد عليه بوجهين:

أحدهما: إنّ الدليل علي صحة المعاملات عموما و البيع خصوصا، ليس خصوص وجوب الوفاء بالعقود، بل يجوز التمسك بما دلّ علي حلية البيع و التجارة و صدقهما مع الفصل ظاهر.

ثانيهما: المنع من عدم صدق العقد علي ما كان فيه فصل بين الإيجاب و القبول، و ذلك لأنّ العقد ليس اسما للفظ المركب منهما، بل هو عبارة عن الأمر النفساني الذي هو العهد، و هذا لا ينفصم بمجرّد الفصل بين الإيجاب و القبول، غاية الأمر أنّ الاعتبار القائم بالنفس يحتاج إلي مظهر، و إن شئت قلت: العقد عبارة عن اتصال الالتزامين، و هذا المعني حاصل ما لم يرجع الموجب عن التزامه، مهما كانت الفاصلة (انتهي ملخصا).

هذا و لكن الانصاف أنّ شيئا منهما غير صالح للجواب، لأنّ البيع و إن كان بعنوان المعاطاة كان خارجا عن محل الكلام، و إن كان بعنوان العقد اللفظي و البيع بالصيغة أمكن المنع عن صدق البيع، إذا قال البائع: بعت هذه الدار بهذا المبلغ، فقال المشتري بعد شهر في مجلس رأي البائع فيه: قبلت ما ذكرت قبل أو سنة، فإن صدق البيع و التجارة علي مثل ذلك محل منع أو محل شك، و إن بقي البائع علي نيّته و اعتباره.

و أمّا حديث كون الإنشاء

اعتبارا مبرزا فقد عرفت الإشكال فيه بما لا يحتاج إلي التكرار، و أنّ حقيقة الإنشاء إيجاد الاعتبارات العقلائية بأسبابها، فإنّهم يعتبرون الملكية لمن اشتري شيئا و أوجدها في عالم الاعتبار بأسبابها، فليست الملكية أمرا تكوينيا كما أنّه ليس مجرّد اعتبار في نفس المنشئ بل هي اعتبار عند العقلاء و أهل العرف يوجد بأسبابه.

فالعقد هو هذا الإنشاء اللفظي أو الكتبي أو غير ذلك بماله من المعني، و لكن بعد ما حصل الإنشاء بأسبابها يرون له بقاء، و لذلك يجعلون للعقد تاريخا معينا، و إن شئت قلت: العقد اسم للعقد السببي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 123

سلّمنا، و لكن هذا الأمر النفساني بمجرّده لا يصدق عليه العقد إذا لم ينظم إليه إنشاء القبول في زمن مناسب، و لا أقول: إنّ الالتزام النفساني ينعدم، بل أقول: إنّ وجوده غير كاف في صدق العقد بدون الانضمام في زمن قريب، و إن شئت اختبر نفسك في ما إذا انشأت بيعا، بعد عدّة شهور أو سنين جاء المشتري و قبله، فهل تراه عقدا يجب الوفاء به بحكم الشرع و العقلاء؟

الأمر الثاني: عموم وجوب الوفاء منصرف إلي العقود المتعارفة، سلّمنا صدق العقد علي المنفصل في الجملة لكنه خارج عن منصرف العموم لأنّه متعارف، و هذا هو الذي أشار إليه صاحب الجواهر قدّس سرّه فيما عرفت، و الانصاف أنّه كذلك حيث ينصرف الذهن في هذه الاطلاقات و العمومات بما دارت بين العقلاء من عقودهم و بيوعهم و تجاراتهم إلّا ما خرج بالدليل، و المعمول بينهم هو العقد المتصل عرفا.

الأمر الثالث: ما حكي عن بعض المشايخ من أنّ حقيقة البيع و ما يشبهه من العقود هي من قبيل الخلع و اللبس، فإذا وقع

خلع لا بدّ أن يقاربه لبس و لا يتأخر عنه.

و فيه: إنّ هذا كلام شعري لا يساعد عليه دليل، مضافا إلي أنّ الخلع لا يكون بفعل الموجب، و اللبس بفعل القابل، بل الخلع و اللبس كلاهما يقعان في آن واحد بمجموع العقد، أعني الإيجاب و القبول كليهما.

هذا و قد يستدل علي عدم اعتبار الموالاة بالسيرة القطعية علي ارسال الهدايا من البلاد النائية و وصولها إلي أيدي المهدي إليهم بعد شهر أو شهور، و لم يسمع من أحد الإشكال فيها للفصل الطويل بين الإيجاب و القبول.

و كذا ما يقع بين التجار من البيع و الشراء بالكتابة و شبهها مع ما بين الإيجاب و القبول فيها من الفصل الطويل و لم يناقش فيها أحد من أهل العرف.

و استدل أيضا بقصة مارية القبطية الموهوبة للنبي صلّي اللّه عليه و آله من النجاشي بعد إسلامه و لا فرق بين الهبة و غيرها (انتهي ملخصا).

و أنت خبير بأنّ شيئا من ذلك لا يسمن و لا يغني، بل هي أجنبية عمّا نحن بصدده.

أمّا مسألة الهدايا، و منها حديث مارية زوجة النبي صلّي اللّه عليه و آله فلا شك إنّها هبة معاطاتية و ليس بين إيجابها و قبولها فصل و لو بلحظة، إنّ إيجابها إنّما يتمّ عند وصولها إلي يد

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 124

المهدي إليه، الذي هو قبول من ناحيته، و في لحظة واحد يتمّ الإيجاب و القبول باعطائها و قبولها.

و كأنّه زعم أنّ إيجابها إخراجها من يد مالكها و إن لم تصل إلي يد المهدي إليه، بل كان بيد وكيل المهدي أو رسوله، مع أنّه ممّا لا ينبغي التفوه به، و ما قد يقال من أن المهدي قد

يكون في لحظة الوصول غافلا أو نائما، غير مانع قطعا، بعد كون يد الرسول أو الوكيل كيده، و كفاية كون قصد التمليك في صقع نفسه و كمون إرادته.

و أمّا قياس مسألة الكتابة علي الألفاظ، فإنّه قياس مع الفارق جدّا، لأنّ الكتابة بعينها أمر باق حتي تصل إلي يد الطرف الآخر، فيوقع عليها، و يحصل الربط المعتبر في العقد و الانسجام اللازم بينهما، و أمّا ألفاظ الإيجاب فإنّها تنعدم بمجرّد التكلم بها، فلو لم تقع ألفاظ القبول بعده بلا فصل طويل فسوف يخلّ بالهيئة الاتصالية المعتبرة في العقد عند العرف.

و الحاصل: أنّ العرف يري الإيجاب الحاصل بالكتابة أمرا باقيا فلذلك لا مانع عندهم في رجوع أحد الطرفين- بعد تمام المقاولة- إلي مكاتب الاسناد الرسمية و يتمّ توقيعه، و الآخر يرجع إليه بعد يوم أو أيّام مثلا و يوقع عليه، و أمّا الألفاظ فليست عندهم بهذه المثابة كما هو ظاهر لمن راجعهم في ذلك.

و تلخص ممّا ذكرنا أنّ اعتبار الموالاة في العقود اللفظية ممّا لا ينبغي الريب فيه، و ما قد يدعي من الإجماع عليه أيضا راجع إلي ما عرفت، لا أنّه إجماع تعبدي كما يظهر أنّ مقدار الفصل المعتبر فيه هو أن لا يضر بالهيئة الاتصالية المتعارفة بين العقلاء في العقود اللفظية فتدبّر جديا.

و من يعرف أنّ الموالاة المعتبرة بين إيجاب العقد و متعلقاته أضيق نطاقا ممّا يعتبر بينه و بين القبول، كما هو كذلك بالنسبة إلي آيات السورة، و كلمات نفس الآية و حروف كلمة واحدة، و لعل ذكر المستثني و المستثني منه في كلام الشهيد قدّس سرّه في القواعد بعنوان الأصل لهذه المسألة، ناظر إلي شدّة ارتباطها من بين أجزاء الكلام كما لا يخفي.

المقام السابع: اعتبار التنجيز في العقد

اشارة

قد وقع الكلام بينهم في اعتبار التنجيز في العقود و عدمه، فعن المشهور، بل ادّعي عليه

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 125

الإجماع غير واحد من الأصحاب رضوان اللّه عليهم، اعتباره، نعم حكي التأمل في البطلان عن المحقق الأردبيلي و المحقق السبزواري (رحمهم اللّه)، بل عن المحقق القمي قدّس سرّه الجزم بالصحة في الوكالة المعلقة، و اختاره بعض أكابر المعاصرين أيضا في جميع العقود «1» و عن جماعة من العامة أيضا عدم اعتباره.

و قد تعرض الأصحاب للمسألة في أبواب الوكالة، و الوقف، و النكاح أكثر من البيع، و الظاهر أنّ ذلك لعموم البلوي بها في تلك الأبواب دون البيع، فانّ الإنسان كثيرا ما لا يريد اتخاذ الوكيل في كل حال بل يريده في حال خاص لا يمكنه القيام بفعل من الأفعال، كما أنّه قد لا يريد الوقف حاليا و بدون شرط بل يريده استقباليا أو مع الشرط.

و هكذا في أبواب النكاح كما لا يخفي، و التعليق في إنشاء البيع أقلّ منه.

و كيف كان فقد صرّح باعتبار الشرط المذكور العلّامة قدّس سرّه في القواعد في كتاب الوقوف و العطايا «2»، و كذلك في كتاب النكاح «3» و في كتاب الوكالة «4».

و ذكر المحقق قدّس سرّه في الشرائع، التنجيز من الشرائط الأربعة للوقف في كتاب الوقف، و من شرائط الوكالة كذلك.

و ذكر المحقق الثاني قدّس سرّه أيضا في كتاب الوكالة و ادّعي إجماع علمائنا حيث قال:

«يجب أن تكون الوكالة منجزة عند جميع علمائنا فلو علّقها علي شرط و هو ما جاز وقوعه كدخول الدار، أو صفة و هي ما كان وجوده محققا كطلوع الشمس لم يصحّ، و ذهب جمع من العامة إلي جوازها معلقة لأنّ النبي صلّي

اللّه عليه و آله قال في غزاة مؤته: «أميركم جعفر، فإن قتل فزيد بن حارثة … » و التأمير في معني التوكيل، و لأنّه لو قال: أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم الحاج صحّ إجماعا» «5» و ذكر هو هذا الشرط في كتاب الوقف أيضا «6» و كذا في النكاح «7».

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 3، ص 70.

(2). القواعد و الفوائد، ج 1، ص 266.

(3). المصدر السابق، ج 2، ص 4.

(4). المصدر السابق، ج 1، ص 252.

(5). جامع المقاصد، ج 1، ص 484 الطبعة الحجرية.

(6). المصدر السابق، ج 1، ص 513 الطبعة الحجرية.

(7). المصدر السابق، ج 2، ص 301.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 126

و ذكره في المسالك و شرح الإرشاد و غاية المرام و غيرها مع دعوي الإجماع أو عدم الخلاف في بعضها، كما حكي عنهم.

هذا و الذي يظهر من كلماتهم أنّه ليس كل تعليق في كل عقد عندهم موجبا للفساد أو مجمعا علي بطلانه، و لذا صرّح غير واحد باستثناء بعض صور التعليق عن هذا الحكم.

فالأولي استعراض الصور المتصورة في المقام، ثم التعرض إلي أدلة هذا الحكم و البحث في مقدار دلالتها علي المطلوب، فنقول (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية):

إنّ الصور التي ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه تبلغ ست عشر صورة، فان التعليق إمّا أن يكون علي أمر معلوم التحقق، و إمّا أن يكون محتمل التحقق، و علي كل تقدير إمّا يكون تحققه في الحال أو المستقبل، فيكون لدينا أربع صور، و أمثلتها واضحة، فالأول: كأن يقول: إن كان هذا اليوم يوم الجمعة فقد بعته (مع كون الجمعة معلوم التحقق)، و الثاني: كأن يقول: إذا جاء يوم الجمعة فقد بعته

منك، و الثالث: كأن يقول: إن كان والدي راضيا الآن فقد بعته، مع الشك في رضاه.

و الرابع: كأن يقول: إذا رضي والدي في المستقبل فقد بعته منك.

و كل هذه الصور إمّا أن يكون الشرط مأخوذا في مفهوم العقد، أو مصححا له، مثل أن يقول: إنّ كان هذا لي فقد بعته، أو إن كانت هي زوجتي فقد طلقتها، أو إن كنت تقبل هذا البيع فقد بعته منك، و إمّا أن لا يكون كذلك، كأن يقول: إن رضي والدي بهذا فقد بعته أو اشتريته منك.

فهذه ثمانية صور، كل واحد إمّا مصرّح به كالأمثلة المذكورة، أو غير مصرّح به، بل هو لازم الكلام كأن يقول: ملكتك هذا بهذا يوم الجمعة، يريد به التعليق.

أدلّة بطلان التعليق في الإنشاء:

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي ما قيل أو يمكن أن يقال في دليل البطلان، فقد ذكر فيه وجوها خمسة:

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 127

الوجه الأول: إنّ التعليق في الإنشاء محال و غير معقول، فانّ الإنشاء بمعني الإيجاد في عالم الاعتبار، فهو أمر إمّا يوجد أو لا يوجد، و لا معني لكون شي ء موجودا علي تقدير و معدوما علي تقدير آخر.

و إن شئت قلت: الإنشاء نوع من الإيجاد و هو متحد مع الوجود، و الاختلاف بينهما إنّما هو بالاعتبار، و بالنسبة إلي الفاعل تارة و القابل اخري، و من الواضح أنّ الوجود في الخارج لا يتصور فيه تعليق.

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه: بأنّ التعليق في الإنشاء بمعني إنشاء الملكية المتحققة علي تقدير دون آخر، أمر متصور واقع في العرف و الشرع كثيرا في أبواب الأوامر و العقود و الايقاعات (انتهي).

و ظاهر كلامه هذا ارجاع التعليق إلي المتعلق لا إلي نفس الإنشاء، و

كأنه اعترف بعدم إمكان التعليق فيه، و هذا نظير ما اختاره هو بنفسه في ما حكي عنه في تقريراته في بحث الواجب المشروط من أنّ القيد (أي الشرط) راجع إلي المادة لا الهيئة، فكان الواجب المشروط عنده مساوقا للواجب المعلق الذي ذكره صاحب الفصول قدّس سرّه.

و لعله من هنا أخذ عنه مصباح الفقاهة، و صرّح بأنّ المستحيل إنّما هو التعليق في الإنشاء بداهة أنّ الإنشاء- بأي معني كان- قد فرض وجوده في الخارج، و عليه فلا يعقل تعليقه علي شي ء ما (انتهي).

و الظاهر أنّ مبني علي مختاره من أنّه ليس الإنشاء بمعني الإيجاد، بل «هو ابراز لأمر نفساني من اعتبار الملكية أو شي ء آخر» و كما يمكن اعتبار الوجوب أو الملكية الفعلية، يمكن اعتبار الملكية أو الوجوب علي تقرير، و اين هذا من تخلف الإيجاد عن الوجود «1».

أقول: هذه مسألة عويصة غامضة في بابي «الأوامر» و «المعاملات» و حلّها يتوقف علي تحقيق امور:

1- إنّ الظاهر بحسب القواعد العربية، أو قواعد سائر الألسنة، أن الشرط في القضية

______________________________

(1). أجود التقريرات، ج 1، ص 130.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 128

الشرطية قيد للهيئة، أي الوجوب في الواجب المشروط في مثل قولك: «إنّ استطعت فحج» و للتمليك في قولك: «إن جاء زيد فهذا لك» لا أنّه قيد «للملكية» المنشأة أو الواجب، أي «الحج» بأن يكون المعني: يجب عليك الحج المقيد بالاستطاعة، أو: جعلت لك الملكية المقيدة بمجي ء زيد.

فصرف هذه الكلمات عن ظاهرها يحتاج إلي دليل قاطع، مع أنّ الوجدان أصدق شاهد علي كون المعلق عليه نفس الوجوب أو التمليك لا غير، و لا يري بالوجدان في هذا التعليق أمر محال بل و لا مشكل.

فجميع ما قيل بارجاع القيد

إلي المادة أو المنشأ، غير قابل للقبول، و ما يدعي من الدليل علي استحالة التعليق في الإنشاء، و شبهة في مقابل صريح الوجدان لا بدّ من حلّها و سنكشف النقاب عنها.

2- و من ناحية اخري فانّ الدليل المذكور علي استحالة التعليق في الإنشاء صحيح في بادي النظر، لأنّ الإنشاء إيجاد، و الإيجاد لا يمكن أن يكون معلقا علي شي ء، بل أمره دائر بين الوجود و العدم.

و ما ذكره بعض الأكابر- فرارا عن هذا الإشكال و أشباهه- من أنّ الإنشاء ليس أمرا إيجاديا، بل هو ابراز ما في الضمير من الإرادة أو الاعتبار النفساني أيضا، و مخالف للوجدان كما لا يخفي، لأنّ كلّ واحد يري في نفسه أنّه إذا أنشأ عقد البيع أو النكاح أو غيره أنّه يوجد شيئا لم يكن من قبل، لا أنّه كان موجودا من قبل فأظهره، و هذا أمر ظاهر بمراجعة الوجدان الصريح.

و ما قد يقال من أنّ الإيجاد هنا بأي معني كان لا وجه له، أمّا الإيجاد في التكوين فغير معقول هنا، و في نفس المنشئ لا يحتاج إلي ألفاظ و صيغ، فقد عرفت جوابه و أنّ الإنشاء إيجاد في اعتبار العقلاء، لأنّهم اعتبروا الملكية لكل من يتوصل إليها بأسبابها المعروفة عند العقلاء، فتدبّر فانه حقيق به.

3- و بعد ذلك كله نقول: إنّ مفتاح حلّ هذه المشكلة هو كشف معني الشرط، فما حقيقة معناه، و ما حقيقة مفهوم «إن» الشرطية؟

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 129

الذي يظهر بالمتأمل أنّ مفهومها و مفهوم أدوات الشرط هو نوع من الفرض و التقدير بمعناه الحرفي، فإذا قال المخبر: إذا طلعت الشمس فالنهار موجود، فانّه يفرض طلوع الشمس أولا، ثمّ يري وجود النهار عقيبه

فيخبر عنه، و إذا قال الآمر: إن استطعت فحج، فقد فرض الاستطاعة موجودة، فبعث نحو الحج عقيب هذا الفرض.

و الحاصل: أنّ الإنشاء كالإخبار المشروط أمر متحقق في عالمه، و لكن كل واحد عقيب فرض و مرتبط به، فالإنشاء بمعني الإيجاد حاصل، و لكن لما كان عقيب فرض خاص لا أثر له في بعث المكلّف إلّا بعد تحقق ذاك الفرض، فالمولي في الواجب المشروط يفرض نفسه عند استطاعة العبد فيأمره بالحج في هذا الظرف.

و كذا المخبر بوجود النهار عند طلوع الشمس يفرض أنّ الشمس قد طلعت فيحكم بوجود النهار حينئذ، و الحاصل أنّ حقيقة الاشتراط و التعليق حكم إخباري أو إنشائي جزمي لكن بعد فرض خاص يفرضه.

و بهذا تنحل مشكلة الواجب المشروط و إمكان التعليق في نفس الإنشاء في المعاملات جميعا، فتدبّر.

4- لا بدّ لنا أن نقوم بتحليل معني القضية الحقيقة و بيان محتواها أيضا، و الفرق بينها و بين القضية الخارجية، فنقول، و منه عزّ اسمه نستمد التوفيق: إنّ القضية الحقيقية التي يدور الحكم فيها مدار موضوع مفروض الوجود ترجع بالمآل إلي قضية شرطية كما صرّح به المنطقيون، كما أنّ القضايا الشرطية تعود إلي قضية حقيقية أحيانا، فقول القائل، إن استطعت فحج، يطابق قول: يجب الحج علي المستطيع، لا فرق بينهما أصلا، كما أنّ قولنا «الكر من الماء لا ينجسه شي ء» في قوّة قولنا «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شي ء».

فعنوان الموضوع في هذه القضايا ينحل إلي شرط و أداته، و المحمول يكون بمنزلة جزائه، و تعبيرهم بأنّ الموضوع في القضايا الحقيقية مفروض الوجود أيضا يؤكد ما ذكرنا.

فإذا أراد القائل الإخبار عن الموضوع الموجود الخارجي أشار إليه بأي عنوان أراد و ذكر حكمه.

أمّا إذا

أراد حكما عاما يشمل الموجود و مقدر الوجود أخذ عنوانا شاملا لما هو

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 130

موجود أو سيوجد، و فرضه في افق حكمه أمرا موجودا، فأجري الحكم علي الجميع علي نحو واحد.

فتلخص من جميع ما ذكرنا أنّ التعليق في الإنشاء فضلا عن التعليق في المنشأ أمر معقول واقع في الخارج في أبواب الأوامر و النواهي و العقود و الايقاعات، و لا ينبغي التأمل في إمكانه و عدم استحالته، فالتمسك بالاستحالة لبطلان التعليق في العقود لا وجه له.

الوجه الثاني: ممّا استدل به غير واحد منهم علي اعتبار التنجيز في العقود إنّها متلقاة من الشارع، يقتصر فيها علي ما هو المعلوم من الشرع، و لم تثبت الصحة في غير ما هو منجز.

و فيه: ما عرفت كرارا من أنّها امور عقلائية قبل أن تكون في الشرع، و أنّ الشارع امضاها مع قيود خاصة، فاطلاقات أدلّة الامضاء و عموماتها شاملة للجميع إلّا ما خرج بالدليل، نعم لا يبعد صحة دعوي التوقيفية في خصوص «النكاح» و «الطلاق» لتصرف الشارع فيها تصرفا كثيرا أخرجهما عمّا هو دارج في العرف و الحقهما بالتوقيفيات، و لذا يقال: إنّ فيهما شائبة العبادة!

الوجه الثالث: إن التعليق علي الشرط تعليق علي أمر مجهول، و هو ينافي الجزم المعتبر في المعاملات.

و يظهر ذلك من كلام العلّامة قدّس سرّه في التذكرة حيث قال:

«إنّ التعليق مناف للجزم حال الإنشاء، إلي أن قال: فلو علق العقد علي شرط لم يصحّ، و إن كان الشرط المشيّة للجهل بثبوتها حال العقد و بقائها» انتهي.

و فيه: مضافا إلي أنّه يقتضي البطلان في خصوص بعض فروض المسألة، و هو صورة الجهل بتحقق الشرط لا ما هو معلوم في حال أو

المستقبل، أنّه مصادرة بالمطلوب و دعوي بلا برهان، لعدم استناده في اعتبار الجزم و لزومه في العقد إلي ركن وثيق.

الوجه الرابع: إنّ ظاهر أدلّة سببية العقد لآثاره أنّه تترتب عليه تلك الآثار حين وقوعه و لكن التعليق يوجب انفكاكه عنها.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 131

و قد أجيب عنه بوجوه: أحسنها أن ترتب الأثر علي كل عقد ممّا لا شك فيه، و لكن ذلك تابع لمدلول العقد و محتواه، فلو كان منجزا كان أثره كذلك، و لو كان معلّقا كان أثره معلّقا.

و أمّا لو اريد لزوم الأثر المنجز في كل عقد كان هذا مصادرة واضحة.

أضف إلي ذلك أنّ هذا الدليل أخص من المدعي لخروج التعليق علي الشرط الحالي خارجا منه كما هو ظاهر.

الوجه الخامس: إنّ التعليق في إنشاء العقود خلاف ما تعارف بين أهل العرف و العقلاء في عقودهم، لأنا لا نري من يبيع ماله معلّقا علي مجي ء يوم الجمعة، أو قدوم الحاج، أو تزويج امرأة معلّقا علي شهر فلان أو غير ذلك من أشباهه.

و من المعلوم انصراف أدلّة صحة العقود و حليّة البيع و التجارة إلي ما هو المتعارف بين العقلاء كما مرّ مرارا.

و لعمري هذا من أحسن الأدلة في المقام، و كأن ما يري في كلماتهم ممّا يشبه المصادرة علي المطلوب من تسلّم اعتبار التنجيز في العقد، نشأ من هذا الارتكاز العرفي الموجود في ذهن هؤلاء الأعلام.

نعم التعليق في بعض العقود أو الايقاعات متعارف، بل لعله جزء لمفهوم بعضها، كالتدبير، فانّه عبارة عن العتق معلقا علي وفاة المولي، أو أعم منه، علي كلام فيه في محله، و يظهر من كلماتهم في التدبير أنّه خرج عن حكم بطلان التعليق للنصوص الواردة فيه، و

لذا اقتصروا فيه بالنسبة إلي جميع خصوصياته علي القدر المتيقن منه «1».

و كذا الوصية التمليكية (بل العهدية من بعض الجهات) أيضا تمليك معلق علي الوفاة، و لذا قال في صاحب الجواهر قدّس سرّه في بعض كلماته في كتاب الوصية: «إنّ التعليق ممنوع في البيع لا في الوصية التي مبناها علي ذلك» «2».

و لكن مع ذلك لم يرخصوا ظاهرا التعليق فيها و في التدبير بالنسبة إلي غير ما هو

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 34، كتاب التدبير.

(2). المصدر السابق، ج 28، ص 242.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 132

مقتضي طبيعتهما، قال المحقق قدّس سرّه في باب التدبير من الشرائع: «الشرط الثاني (من شرطي صيغة التدبير) تجريدها عن الشرط و الصفة في قول مشهور للأصحاب فلو قال: «إن قدم المسافر فأنت حر بعد وفاتي» أو إذا أهلّ شهر رمضان مثلا، لم ينعقد» انتهي. و كذا الأمر في النذر شكرا أو زجرا، كأن يقول: إن عافاني اللّه فللّه عليّ كذا، أو إن فعلت هذا الأمر فللّه علي كذا (لا النذر تبرعا من دون شرط) بل قد يقال: إنّ الصحيح من النذر هو الأولان، و أمّا النذر التبرعي فهو أمر مشكوك فيه.

و الحاصل: إنّ بعض العقود بطبيعة ذاته مشتمل علي التعليق في الإنشاء لا يمكن تجريده منه، و من المعلوم أنّه لا يضرّه ذلك، و لكن غيره ممّا ليس كذلك، بل و لا نفس هذه العقود بالنسبة إلي الشرائط الزائدة لا يجوز فيها التعليق ارتكاز الفقهاء المأخوذ ظاهرا من ارتكاز العرف في ذلك.

و لعل السرّ فيه أنّ المعاقدة و المعاهدة إنّما شرعت لحلّ مشاكل الناس في الامور التي لها صلة بأموالهم و حقوقهم، و هذه المشاكل لا تنحل بالعقود المعلقة

علي شروط مختلفة، لا سيما المجهولة منها، و لا سيما المستقبلة، بل تزيدهم مشاكل جديدة، فتأمل جيدا.

الوجه السادس: الإجماع المدعي في كلمات الأكابر، و الظاهر أنّه ثابت، و لا يعبأ بخلاف شاذ، أو تردده فيه، هذا و لكن الإشكال كله في كشفه عن قول المعصوم عليه السّلام و الظاهر أنّه غير كاشف بعد احتمال استناد المجمعين إلي ما سبق من الأدلّة، مع عدم وروده في شي ء من آثارهم، و لكن الأمر سهل بعد ما عرفت من الأدلّة السابقة أنّ بعضها تام لا ريب فيه.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي تفصيل الحكم المزبور فنقول: إنّ حكم الأقسام السابقة يتفاوت بحسب الأدلّة، و القدر المتيقن من الجميع أنّ التعليق علي أمر مستقبل مجهول لا دخل له في العقد، كما إذا علق العقد علي مجي ء والده، أو الاستغناء عن المتاع في المستقبل، أو غير ذلك مع كونه مشكوكا.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 133

و أمّا إذا كان التعليق علي المستقبل المعلوم كحلول شهر فلان، أو تمام الموسم فإنّه لا يفسد علي قول من استند إلي عدم جواز الجهل بوقوع العقد، و يفسد علي المختار لعدم تعارف ذلك أيضا، بل الظاهر أنّه داخل في معقد الإجماع.

أمّا الأمر المشكوك الحالي، فهو باطل علي مبني القائل بقدح الجهل، و كذا علي كثير من الأدلّة الاخري، دون من يستند إلي عدم جواز انفكاك أثر العقد عنه، فإنّه يصححه.

و أمّا المعلوم الحالي فأقل إشكالا منه، و لكن الظاهر دخوله في معقد الإجماع، و كذلك ما اخترناه من الدليل.

يبقي الكلام فيما هو معلق عليه في الواقع، و هو علي أقسام ثلاثة:

1- ما يكون من أركان إنشاء العقد، مثل تعليقه علي قبول المشتري.

2- ما يكون

من شرائط صحته، كالملكية في البيع و الزوجية في الطلاق.

3- ما لا يكون شيئا من ذلك، و لكن يكون من آثار العقد، كالتعليق علي الوفاء بالعقد.

و قد يقال بصحة الجميع لأنّه لا يزيد شيئا علي العقد، فهي امور ثابتة ذكرت أم لم تذكر، و لكن الانصاف أنّها أيضا لا تخلو عن إشكال، نعم بالنسبة إلي الشرائط كالملكية و الزوجية، و أشبههما، و لا يبعد الجواز لتعارفها، لا سيما في موارد الجهل، و إلّا اشكل الأمر في العقود التي يؤتي بها احتياطا، كالصلح فيما يشك في وجود الملك فيه، لا في ما يعلم بوجوده و يشك في مقداره.

و كذا الطلاق في موارد الشك في الزوجية و الهبة في موارد الشك في الملكية، و كذا غيره.

و ما قد يقال من أنّ الطريق في الاحتياط في أمثال ذلك هو الإنشاء علي سبيل التنجيز لا التعليق، و الإنشاء خفيف المئونة، كما تري، لأنّ مثل هذا الإنشاء البات لا يصدر من الشاك كما يظهر بمراجعة الوجدان (و اللّه العالم بحقائق الامور).

المقام الثامن: التطابق بين الإيجاب و القبول

و المراد به التطابق بينهما من جميع الجهات، و هو أمر واضح ظاهر يستفاد من التدبير في

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 134

مفهوم العقد، و عناوين المعاملات، و شبه ذلك، و لعله لذلك لم يتعرض له الأكثرون علي الظاهر.

توضيح ذلك: إنّ حقيقة المعاهدة و المعاقدة لا تحصل إلّا بالتوافق علي أمر واحد، فلو اختلفا في شي ء من اصولها و فروعها لم تتحقق مفاهيمها.

و هي تجتمع في امور ثلاثة:

1- التطابق في ماهية العقد، فلو أنشأ الموجب، البيع، و قبل القابل بعنوان الهبة أو الإجارة أو الصلح أو غير ذلك، بطل.

2- التطابق في أركان المعاملة من البائع و المشتري و

المتاع، و حينه و مقداره و وصفه، فلو باع من زيد فقبل عمرو لم يصحّ، أو باع الكتاب فقبل الثياب لم يصحّ، أو باع مأئة طنّ من الحنطة فقبل خمسين طنا لم يصحّ، أو باع الحنطة المستحصلة من البلد الفلاني، فقبل غيرها لم يصحّ، و هكذا غيرها من أشباهها.

3- التطابق في الشرائط، فلو باع بشرط تحويل الثمن إلي زمن كذا، فقبل إلي زمن آخر لم يصحّ، أو باع بشرط خياطة ثوبه أيضا فقبل بدونه لم يصحّ، كل ذلك معلوم ظاهر، و لذا قيل إنّ هذا الشرط من القضايا التي قياساتها معها، و دليل المسألة هنا هو ما يستفاد من معني المعاقدة و المعاهدة و عناوين المعاملات.

المقام التاسع: بقاء أهلية المتعاقدين إلي آخر العقد

و هذا الشرط أيضا من الشرائط التي قلّما تعرضوا له، و أكثر ما ورد الكلام عنه إنّما هو في كتب المتأخرين و المعاصرين، و لكن مع ذلك فيه أقوال:

1- ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه من اعتبار ذلك مطلقا، و لزوم كون كل من البائع و المشتري حائزا لجميع شرائط الصحة و الأهلية من أول العقد إلي آخره بل جعل المحقق الثاني قدّس سرّه من القضايا التي قياساتها معها.

2- عدم اعتبار هذا الشرط مطلقا، ذكره بعضهم في كتاب البيع.

3- التفصيل بين ما لو كان المشتري في حال إيجاب البائع غير قابل للتخاطب من

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 135

جهة الإغماء أو الجنون أو النوم فلا يصحّ، و أمّا غير هذه الامور فيصحّ، ذكره المحقق الطباطبائي قدّس سرّه في حواشيه علي مكاسب الشيخ قدّس سرّه.

4- التفصيل بين ما إذا لم يكن للمشتري أهلية الإنشاء حال الإيجاب، فهو صحيح، و إذا كان الأمر بالعكس فهو فاسد، ذكره بعض

الأعاظم في حواشيه.

هذا و للمسألة شقوق مختلفة:

فتارة يكون فقدان الشرائط بالخروج عن أهلية التخاطب و التملك كالموت، و اخري بالخروج عن أهلية التخاطب فقط من دون الموت كالإغماء و النوم، و ثالثة بالخروج عن أهلية التصرف لسفه أو مثل ذلك أو عدم كونه أهلا له بعد كالصغر.

هذا و العمدة في المقام كما يظهر من مراجعة كلماتهم هو الإشكال في صدق المعاقدة عرفا بدون هذه الأهلية، فلذا صرّح بعضهم بعدم تحقق معني المعاقدة عرفا بدونها، و بعض آخر أنّ الربط اللازم بين المتعاقدين لا يحصل بدونه، و لكن صرّح ثالث بحصولها بدونه، فالأمر يدور مدار الصدق العرفي هنا.

و الانصاف عدم صدقها في صورة الخروج عن الأهلية بالموت، و العجب ممّا ورد في كتاب البيع لبعض الأعلام «من أنّه لو مات صحت معاوضته و إن احتاجت إلي امضاء الورثة، لأنّ المال قبل القبول انتقل إليهم، و الورثة قائمون مقامه في ذلك فتأمل».

و فيه: ما عرفت سابقا من لزوم التطابق بين الإيجاب و القبول بمقتضي مفهوم العقد، و هو هنا غير حاصل، و البائع لا يتعاقد مع مالك المال أي شخص كان بعنوان القضية الحقيقية كما هو ظاهر.

و أمّا لو خرج عن قابلية التخاطب بالنوم أو الإغماء، فهو أيضا كذلك، سواء كان البائع أو المشتري، و إن كان الأمر في المشتري أوضح من البائع، و لا أقل من الشك و هو كاف في المقام، لعدم إمكان الأخذ بالعمومات حينئذ، و أمّا انتفاء سائر الشروط فهو أيضا لا يخلو عن الإشكال بل المنع، و إن لم تكن بتلك المثابة، فمن عقد مع صغير محجور ثم صار بالغا عند القبول أو خرج البائع عن الأهلية بالحجر بعد الإيجاب، يشكل تحقق

مفهوم العقد معه، و الشك هنا كاف في المنع، فاعتبار هذا الشرط في جميع فروض المسألة قوي جدّا.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 136

و أمّا التمسك بالسيرة في مثل مكاتبة التجار و الحال أنّ الكتاب قد يصل إلي الطرف الآخر و الكاتب نائم، ممنوع بالفرق بين الإنشاء بالكتابة و الإنشاء اللفظي، و كفي في الفرق بينهما التعارف في أحدهما دون الآخر، و قد مرّ مرارا خروج ما لم يتعارف من العقود بين العقلاء عن العمومات و الاطلاقات.

المقام العاشر: اختلاف المتعاقدين اجتهادا أو تقليدا

اشارة

و هنا مسألة اخري لها صلة بما مرّ من اختلاف المتعاقدين من شروط العقد، و هي أنّه قد يكون كلاهما واجدين للشرائط المعتبرة في المتعاقدين، كل واحد بحسب اجتهاد أو تقليده و لكنه لا يتوافق بحسب اجتهاد الآخر أو تقليده بالنسبة إلي شروط العقد أو العوضين أو الشروط، و الأمثلة هنا كثيرة، فمن جهة شروط المتعاقدين مثلا قد يكون البائع بالغا في نظره و بحسب تكليفه، و ليس بالغا في نظر المشتري لاختلافهما في السنّ المعتبر في البلوغ اجتهادا و تقليدا.

و قد يكون الاختلاف من جهة شرائط العقد، فقد يصحح البالغ مثلا العقد بالفارسية و لا يصححه المشتري.

أو من جهة العوضين، فقد يكون شي ء موزونا في نظر البائع مثلا دون المشتري، أو من جهة الشروط، فقد لا يري البائع الشرط الفلاني مخالفا لمقتضي العقد و يراه المشتري كذلك، و هكذا أشباهه، و هذه مسألة سيالة لا تختص بباب العقود و المعاملات بل تجري في العبادات و الشهادات و القضاء و غيرها، مثلا قد يختلف رأي الإمام و المأموم في مسائل الصلاة أو شرائط الجماعة، فتكون صلاة الإمام غير صحيحة بنظر المأموم، كمن صلي في اللباس المشكوك أو

صلّي بغير أذان و لا إقامة أو اكتفي في التسبيحات بمرّة واحدة، بينما لا يري المأموم صحة هذه الصلاة بحسب فتواه أو فتوي مقلّده.

و أمثلته كثيرة كذلك في أبواب الشهادة و شرائطها و كيفية أدائها، و في باب الوقف و شرائط تملك الأشياء بعد ما أراد وقف هذا الملك، أو هبته أو وصيته لغيره، و كذا في أبواب الطهارات، فقد لا يري شخص نجاسة أهل الكتاب و لا يجتنب عنهم و يعاشر غيره

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 137

ممن يري نجاستهم، إلي غير ذلك ممّا هو كثير في أبواب الفقه، و يعمّ به البلوي، و يتفرع عليها فروع كثيرة و أحكام مختلفة.

و قد تعرض للمسألة المحقق اليزدي قدّس سرّه في أبواب صلاة الجماعة في المسألة 31 من فصل «أحكام الجماعة» من العروة الوثقي.

و قد فصّل هناك بين ما يتعلق بالقراءة نفسها التي يأتي بها الإمام عن الجميع، و ما لا يتعلق بها، و كذلك بين صورة علم المأموم بالبطلان و ظنّه بحسب الأحكام الظاهرية الظنيّة.

و قد ذكرنا في تعليقاتنا أنّه لا دليل يعتمد عليه في القول بالصحة في باب الجماعة من دون فرق بين القراءة و غيرها و العلم و الظن، و لا سيما أنّه قد يقال بأنّه ليس في أبواب الجماعة عمومات تدل علي الصحة تمسك بها عند الشك، و هذا هو العمدة.

نعم، عند الشك في اختلاف الفتاوي، أو الشك في العمل بمحل الخلاف مع العلم الإجمالي بوجوده إجمالا، لا يبعد جواز الاقتداء عملا بالسيرة المستمرة من زماننا إلي زمن الأئمّة عليهم السّلام.

نعم، قد ورد الدليل الخاص علي جواز الاقتداء بأهل الخلاف، فلو قلنا بصحة الصلاة حينئذ و عدم الحاجة إلي الإعادة كان

اطلاق هذه الأخبار دليلا علي جوازه حتي مع العلم بإتيانهم لبعض ما نراه مفسدا للصلاة، كترك البسملة أو الجهر بها في الجهرية و قول آمين و التكفير و غيرها، و لكنه نوع تقية و إن لم تكن تقية من موقع الخوف بل من موقع التودد، و اين هو ممّا نحن بصدده؟

و أمّا في أبواب البيع و شبهها فقد ذكر فيه وجوه أو أقوال:

1- جواز اكتفاء كل من المتبايعين بما يقتضيه مذهبه مطلقا.

2- عدم جوازه كذلك.

3- اشتراط أن لا يكون العقد المركب منهما ممّا لا قائل بكونه سببا للنقل، كما إذا كان مذهب أحدهما جواز العقد بغير العربية، و الآخر جوازه بغير الماضي، و لم يكن أحد يقول بجوازه بالمضارع غير العربي، و الحال أنّ العقد وقع كذلك.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 138

4- التفصيل بين العلم بالبطلان من ناحية أحدهما إذا أتي بمقتضي مذهب الآخر، و بين مجرّد الظن الحاصل من الأمارات فيبطل في الأوّل فقط.

5- التفصيل بينما ثبت الحكم فيه من طريق الاصول العمليّة فيصح، و بين الأمارات الشرعية فلا يصح، و لازمه البطلان من ناحية المقلد دائما، لأنّه يعتمد علي الأمارة، و هي قول الفقيه المجتهد.

و هذه الأقوال تبني علي ما ذكر في محله من باب الإجزاء، و اختلاف الأقوال فيه فاللازم الإشارة إلي تلك المباني إجمالا فنقول (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية).

إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه بني المسألة علي أن الأحكام الظاهرية التي اجتهد فيها بمنزلة الأحكام الواقعية الاضطرارية، كصلاة المتيمم أو كإشارة الأخرس في باب البيع، أو أحكام عذرية لا يعذر فيها إلّا من اجتهد فيها أو قلّد.

و قد أورد عليه المحقق الطباطبائي قدّس سرّه: بأن لازمه القول

بالتصويب (لكون الواقع تابعا لاجتهاد المجتهد بناء علي هذا القول).

و قد ذبّ عنه في كتاب البيع بأنّه ليس المراد تبعية الواقع لظن المجتهد، بل المراد أنّ المستفاد من أدلة اعتبار الاصول و الأمارات هو لزوم ترتب آثار الواقع عند الشك، فالعقد الفارسي عند الشك في اعتبار العربية بمنزلة العقد بالعربية في لزوم ترتيب الآثار عليه، فهو بمنزلة الواقع في الأثر «1».

هذا و لكن التوجيه المذكور مضافا إلي كونه مخالفا لظاهر كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه لا سيما ما ذكره من مثال الأخرس و المتيمم، أنّ ترتيب آثار الواقع عند الشك إنّما هو لمن قامت عنده الأمارة و الأصل، لا لمن يعلم ببطلانه لعدم قيامه عنده كما لا يخفي.

أضف إلي ذلك أنّ مجرّد وجود الحكم الظاهري غير كاف في الحكم بالصحة بعد كونه مخالفا للواقع بنظر الآخر، و أمّا حديث حكومة أدلة الأحكام الظاهرية علي أدلة اعتبار الشرط فسيأتي الكلام فيه قريبا إن شاء اللّه.

______________________________

(1). كتاب البيع، ج 1، ص 243.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 139

فالأولي أن يقال: إنّ المسألة مبنيّة علي أنّ الحكم الظاهري الثابت لبعض المكلّفين هل هو ثابت لغير قام عنده أم لا؟ و هل هو معتبر في حقه أم لا؟

و حينئذ نقول: إنّ الجواب بالنفي و أنّه لا حجّية بالنسبة إلي من لم يقم عنده لعدم شمول أدلته له قطعا، فالحكم الظاهري الثابت عند كل واحد منهم لا يجري إلّا في حقّه، كما هو واضح، لأنّ المفروض أنّ الأمارات المعتبرة أو الأصل المعتبر حصل عنده لا عند غيره، فكيف يكون حجّة في حق الغير؟

هذا و قد يتوهّم أنّ ما ذكروه من التفصيل في باب الإجزاء بين الاصول و الأمارات، من

القول بالإجزاء في الأول كمن صلّي اعتمادا علي أصالة الطهارة، و عدم الإجزاء في الثاني كما إذا صلّي اعتمادا علي قول البينة، آت هنا.

و هو توهّم فاسد، لأنّ القول بالصحة في الاصول هناك أنّما هو في موارد يكون الأصل حاكما علي أدلة الشرطية لا مطلقا حتي يكون قوله «كل شي ء طاهر» حاكما علي «لا صلاة إلّا بطهور» مثلا، و سببا للتوسعة دائرة الشرط.

و من البعيد أن يقول أحد بأنّ حديث الرفع الجاري في حق من يشك في اعتبار شي ء من الشروط البيع حاكما علي دليل الشرطية، لأنّه ليس في مقام توسعة أدلة الشرائط قطعا بل هو حكم ظاهري يعذر من عمل به لا غير.

و الحاصل: أنّ مجرّد اشتمال الأصل علي الحكم الظاهري (دون الأمارة) لا يوجب حكومته علي أدلة اعتبار الشرائط، بل لا بدّ أن يكون ناظرا إلي توسعتها كما في دليل أصالة الطهارة مع قوله قدّس سرّه «لا صلاة إلّا بطهور» (بناء علي ما اختاره المحقق الخراساني قدّس سرّه و من تبعه) لا مطلقا.

نعم، هنا شي ء آخر ذكرناه في مبحث الإجزاء، و مبحث تبدل رأي المجتهد، و هو أنّ أدلة حجّية الأمارات و الاصول يشكل شمولها للوقائع السابقة التي قامت أمارة أو أصل فيها، فهي منصرفة إلي الحال و المستقبل، و لعل سيرة العقلاء في أماراتهم أيضا مستقرة علي ذلك، فلا يعتقدون بشمول الأمارات و الاصول للوقائع الماضية و لما سبق من أعمالهم، و لذا قلنا بالإجزاء في الأحكام الظاهرية المستفادة من الأمارات و الاصول، من

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 140

دون فرق بين ما قام في خصوص الشرائط أو غيرها، و عليه بنينا عدم وجوب الإعادة و القضاء بعد تبدل رأي المجتهد.

و

لكن هذا المعني أيضا لا يجري في محل الكلام من شرائط البيع و شبهه عند اختلاف رأي المتعاقدين كما هو ظاهر.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ طريق الاكتفاء بأعمال خالفت الأمارة الموجودة عند المكلّف فعلا أو الأصل كذلك و الاجتزاء بها، أحد امور ثلاثة، بعضها فاسدة و بعضها لا يجري في المقام:

أولها: كون الأحكام الظاهرية الاجتهادية بمنزلة الأحكام الواقعية الاضطرارية، و قد عرفت أنّه لا دليل عليه، لو لم نقل بأن الدليل علي خلافه، نظرا إلي أنّ فيه نوعا من التصويب.

ثانيها: حكومة أدلة الاصول علي أدلّة الشروط، و قد عرفت عدم تماميتها أيضا إلّا في موارد خاصة.

ثالثها: عدم شمول أدلة الاصول و الأمارات للوقائع المجتهد فيها من قبل، و قد مرّ أن هذا و إن كان صحيحا، إلّا أنّه لا أثر له في اختلاف المتعاقدين و إن كان مفيدا في مباحث تبدل رأي المجتهد.

بقي هنا امور:

1- لا ينبغي الشك في أنّ هذا النزاع إنّما يجري في غير الشرائط التي تقوم بفعل المتبايعين، مثل الموالاة و تطابق الإيجاب و القبول بل التعليق في الإنشاء، فان كل واحد من هذه الشرائط تكون من فعلهما لا فعل واحد منهما و معه لا يصح لمن يعتقد بطلان عقد فاقد لبعض شرائطه من ناحية ترتيب الآثار عليه كما هو واضح، و الإشكال في بعض مصاديق هذا الأمر لا دخل له في أصل المقصود و الكبري الكلية.

2- الاكتفاء بالحكم الظاهري الثابت في حق الآخرين- لو قلنا به- فإنّما هو إذا لم

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 141

يحصل القطع بفساد الأصل و الأمارة، و أمّا في صورة العلم بالخلاف فالأمر فيه أشكل، بل لا دليل عليه مطلقا إلّا علي القول بحكومة الاصول

هنا علي أدلة الشرط فيكون الشرط أعم من الظاهري و الواقعي.

3- هناك موارد قد يدعي جريان السيرة المستمرة علي قبول الأحكام الظاهرية الثابتة للبعض، في حق الآخرين، و هي كثيرة:

منها: ما إذا اعتقد صحة العقد بصيغة المضارع أو الأمر، أو بالفارسية، أو مع التعليق في الإنشاء، أو مع بعض شرائط خاصة العقد أو غير ذلك، فتزوج امرأة بمقتضي الفتوي بينما، اعتقد شخص آخر بطلان هذا العقد.

فهل يمكن له العقد علي هذه المرأة بعقد جديد لنفسه صحيح عنده؟ و هل يتفوه أحد بجواز ذلك؟!

و منها: ما يري في بعض المذاهب الإسلامية من جواز بيع أشياء نحكم بحرمة بيعها، كبيع جلد الميتة بعد الدباغة أو بيع الحيتان المحرمة عندنا و أشباه ذلك، فلو علمنا بأنّه حصل علي أموال كثيرة من خلال هذا البيع فهل يجوز قبول هداياه من ذاك المال و أخذه ثمنا للبيع؟ لا يبعد ذلك.

و منها: من لا يعتقد الخمس مطلقا إلّا في غنائم الحرب من علماء العامة، أو في بعض الأشياء كالهبة و الهداية و شبهها من الخاصة، فهل يمكن الحكم بعدم جواز أخذ بعض أمواله هدية أو ثمنا للإجارة و البيع و بعنوان المهر، الظاهر جوازه بحسب السيرة كما أنّه يشكل أخذ الخمس منه جبرا مع عدم اعتقاده.

و منها: إذا وصي بوصية أو وقف مالا علي أشخاص، و كانت الوصية و الوقف صحيحة باجتهاده و باجتهاد الموصي و الموقوف عليهم، و لكن لم تكن صحيحة في اجتهادنا، لا ينبغي الشك في جريان السيرة علي التعامل بالحلّية مع أموالهم.

إلي غير ذلك.

بل و لو لا ذلك أشكل الأمر في معاشرة أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة بعضهم مع بعض، و فسدت معاملاتهم، بل في أتباع المذاهب الواحد

إذا اختلف الآراء و الاجتهادات،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 142

كما في اتباع المراجع الدينية المختلفين في الفتاوي عندنا.

و من هنا يمكن التمسك بقاعدة نفي العسر و الحرج، و القول بعدم لزوم العسر و الحرج مطلقا لعدم العلم التفصيلي و الإجمالي في محل الابتلاء لا يصدر إلّا ممن لا خبرة له بالآراء و المذهب المختلفة و ما يلزمها من اللوازم.

هذا مضافا إلي السيرة المستمرة من لدن أعصار الأئمّة قدّس سرّه إلي زماننا هذا و لا سيما في معاشرة أصحابهم مع أهل الخلاف.

بل يمكن القول بعدم الدليل علي الحكم بفساد هذه العقود و شبهها بمقتضي اجتهاد من كان أجنبيا عنها، فان القدر المتيقن صحة اجتهاده في نفسه و مقلديه لا في حق غيره، لانصراف الأدلة عنه، فيلقي الحكم بالصحة و حجة اليد و غير ذلك حاكما علي أموالهم و ازواجهم و غير ذلك ممّا صدر عنهم.

فالدليل ذلك لا ينحصر بالسيرة بل الدليل الأخير أيضا حقيق بالتصديق، القول بأن أدلة حجية الإمارات و الاصول مطلقة لا تنحصر ببعض دون بعض فإذا قامت عنده شملت المجتهد و من خالفه في ذاك الاجتهاد و كذا مقلديه و غيره، ممنوع، بل الانصراف هنا قوي كما لا يخفي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 143

أحكام العقد الفاسد

اشارة

كان الكلام في المباحث السابقة في أحكام العقد الصحيح و شرائطه، و نبدأ هنا بعون اللّه تعالي في بيان أحكام العقد غير الجامع لشرائط الصحة فنقول: فيه مسائل و أحكام كثيرة:

المسألة الاولي: الضمان

اشارة

و هي أن البيع الفاسد لا يوجب ملكا، و يكون كل من البائع و المشتري ضامنا لما أخذه بعنوان الثمن أو المثمن.

أمّا عدم الملك، فهو من الواضحات و القضايا التي قياساتها معها، و أمّا كونه ضامنا لما أخذه فهو المعروف بين الأصحاب، بل حكي الإجماع عليه عن بعضهم، و هذا الحكم من جزئيات القاعدة المعروفة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» كما أن «كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فاللازم بسط الكلام في أصل القاعدة و عكسها حتي يظهر حال البيع بعنوان مصداق لها، و تمام الكلام فيها يستدعي رسم امور:

الأول: من تعرض للمسألة

اعلم أنّها من القواعد المشهورة المتداولة علي ألسن المتأخرين و المعاصرين، و لكن من المعلوم كما صرّح به جمع من أعاظم المعاصرين أو ممن قارب عصرنا أنّها لم توجد بهذه العبارة في كلمات أصحابنا الأقدمين، و لا في معقد إجماع و لا في متن رواية.

نعم حكي عن الشيخ قدّس سرّه في مبسوطه ما يقرب منه أو يفيد معناه حيث علل الضمان في

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 144

واحد من العقود بانّه «دخل علي أن يكون المال مضمونا عليه».

هذا و لكن كثر الاستدلال بها بعين العبارة المذكورة في كلمات المعاصرين بل المتأخرين، و في مقدمهم الفقيه البارع صاحب الجواهر قدّس سرّه فقد استدل بها أو بعكسها بنفس العبارة في طيات كتب الفقه: منها كتاب «التجارة» في بحث المقبوض بالعقد الفاسد، و كتاب «الإجارة» في مسألة اشتراط سقوط الاجرة، و كتاب «العارية» في مسألة تلف العين في يد المستعير، و كتاب «الشركة» في مسألة قسمة الربح علي المالين، و في كتاب «السبق» في شرح قول المحقق قدّس سرّه: إذا فسد عقد السبق.

إلي غير

ذلك ممّا ذكرناه بعين عبارته في كتابنا «القواعد الفقهية» فلا نعيده هنا «1».

هذا و لم ينقل إنكار من أحد فيما رأينا و إن حكي من بعض كلمات الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك الترديد فيها في بعض كلماته.

الثاني: مفاد القاعدة

و قد تصدي شيخنا الأعظم قدّس سرّه لتنقيح مفاد القاعدة من شتي الجهات و النواحي.

فمن ناحية أنّ العقد في قولنا: كل عقد يضمن … يشمل جميع العقود، بل ما يشبه الايقاع كالجعالة.

و من ناحية أنّ المراد بالعقد هل هو أنواعه، أو أصنافه، أو أشخاصه؟ و من أن المراد بالضمان ما ذا؟ و هل هو ضمان المسمي أو المثل؟

و من أنّ المراد بالباء في قولنا «بصحيحه» أو «بفاسده» للظرفية أو السببية؟

و من أن اقتضاء الصحيح للضمان هل هو اقتضائه بذاته، أو يشمل ما إذا كان بسبب الشرط أيضا (كالهبة المعوضة أو العارية المضمونة)؟ إلي غير ذلك.

هذا و لكن الإنصاف كما أشار إليه جمع من المحققين أنّه لا ينبغي اتعاب النفس في هذا الطريق، لما عرفت من أنّ القاعدة بهذه العبارة لم ترد في نص الكتاب أو السنة أو معقد

______________________________

(1). راجع القواعد الفقهية، ج 4، ص 214.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 145

إجماع، بل و لا في فتاوي المتقدمين من أصحابنا، فالبحث عن هذه الخصوصيات ممّا لا طائل تحته، بل الأولي التصدي للأدلة حتي يعلم منها مقدار دلالتها علي هذه القاعدة فإنّها المعيار الوحيد في هذا المجال سعة و ضيقا و إثباتا و نفيا كما يخفي.

الثالث: مدارك القاعدة

لقد استدل الشيخ قدّس سرّه في المبسوط بقاعدة الاقدام، و الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك أضاف إليها قاعدة علي اليد، فصار الدليل عليها أمرين: «قاعدة الاقدام» و «اليد» ثم اضيفت إليها أدلة اخري، فنذكر الجميع مع ما هو المختار الذي هو اس الأساس في المسألة، و إن أهمله كثير منهم، فنقول: يمكن الاستدلال علي المطلوب بما يلي:

الدليل الأول: و هو العمدة عندنا، قاعدة احترام الأموال و المنافع و الأعمال

التي جرت عليها سيرة العقلاء جميعا، في جميع الأعصار و الأمكنة، فان من حصل له مال أو منافع من طريق مشروعة قانونية، أو كان له عمل مشروع، لا يرخصون لأحد التغلب عليها و التصرف فيها بغير أذنه و رضاه (إلّا في موارد خاص تقتضي قوانينهم ذلك لضرورت تدعو إليها) و يفرضون علي من اتلفها أو تغلب عليها و تلفت في يده تداركها بمثلها أو قيمتها.

و الظاهر أن هذه القاعدة نتيجة معني الملكية و السلطنة و مفهومها، فان حقيقتها ليست إلّا اختصاص شخص بشي ء علي نحو خاص يمنع غيره عنه تكليفا و وضعا بحيث لو تسلط عليه بدون رضاه كان عليه ردّه في أول زمان ممكن، و إن لم يقدر عليه لتلف أو اتلاف وجب عليه دركه.

و هكذا بالنسبة إلي المنافع التي تحت ملكه و سلطنته شرعا أو بحسب القوانين العقلائية، و كذا أعماله (عند استيفائه منه).

و الظاهر أن جميع ما ورد في روايات المعصومين عليهم السّلام من أنّه «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه».

و أن «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه».

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 146

و أنّه «لا يصلح ذهاب حق أحد».

و قوله عليه السّلام: «علي اليد ما أخذت حتي تؤديه» و غير ذلك، كلّها تشير إلي امضاء هذا البناء العريق العقلائي، و ليست أحكاما تأسيسية، كما أنّها ليست أدلة اخري مستقلة علي المطلوب كما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و مصباح الفقاهة و غيرها، حتي يتكلم فيها بالنقض و الإبرام كما فعلوه.

كما أنّ السيرة المدعاة في المقام ليست سيرة المسلمين و المتشرعة فحسب، بل سيرة العقلاء جميعا، من قدم الأيام و قبل طلوع شمس الإسلام و بزوغها إلي زماننا

هذا، و هذه السيرة مأخوذة- كما عرفت- من حقيقة معني الملكية و السلطنة.

و الحاصل: أنّ قاعدة الاحترام وليدة الاعتراف بأصل الملكية الشخصية و شئونها كما لا يخفي، و قد أمضاها الشارع، و لكن هناك أمران ينبغي التنبيه عليها:

أحدهما: إن قاعدة «ما يضمن» أوسع نطاقا من قاعدة «الاحترام» لأنّها تجري في الأموال و المنافع و غيرها حتي في مثل النكاح، و لكن قاعدة الاحترام غير جارية في بعضها، اللّهم إلّا أن يقال باندراج النكاح و مثله في المنافع فتأمل.

ثانيهما: إن تلف العين أو المنافع يكون علي أربعة أقسام:

فتارة: يكون بالاتلاف، عمدا أو غير عمد.

و اخري: من ناحية التفريط في حفظها.

و ثالثها: ما يكون بمتلف سماوي من غير تفريط و لكن لو لم يكن عنده لما تلف كما إذا سرقه سارق من بيته مع سائر أمواله من دون أي تفريط.

و رابعة: ما يكون بمتلف سماوي خاص أو عام و كان التلف في هذا المال حتميا سواء كان عنده أم لم يكن.

و التلف السماوي الخاص مثل أن يكون الحيوان مريضا بمرض يموت به، سواء كان عند صاحبه الأصلي أو عند المشتري أو في البيع الفاسد أو عند الغاصب، الثاني: و هو التلف العام مثل وقوع زلزلة أو سيل في قرية فاتلف الأموال جميعا، أموال البائع و المشتري، المفروضين في محل الكلام، و في ضمنه المقبوض بالعقد الفاسد.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 147

و الذي يمكن القول باستقرار بناء العقلاء علي تداركه هو الصور الثلاث الاولي، أمّا الصورة الأخيرة فلا دليل علي لزوم تداركه و إن كان ظاهر كلمات الفقهاء (قدس اللّه اسراهم) عاما شاملا للجميع، و الظاهر انصراف قوله عليه السّلام: «علي اليد ما أخذت حتي تؤديه»

عن ذلك، نعم لو كان هذا الحكم حكما تعبديا أمكن الأخذ باطلاق الحديث لعدم قصور فيه، و لكن لما كان امضاء لبناء العقلاء، و قد عرفت عدم بنائهم علي ذلك ظاهرا، فيشكل إلّا بهذا الإطلاق، بل يمكن الترديد في بناء الفقهاء علي ذلك، و لعل محل كلامهم غير هذه الصورة فتأمل.

و سيأتي إن شاء اللّه مزيد توضيح ذلك.

الدليل الثاني: قاعدة الاقدام التي استند إليها الشيخ قدّس سرّه في ما عرفت من المبسوط و حاصلها: أن البائع أو مثله إذا دخل في المعاملة علي أن يكون ضامنا للعين بالعوض المسمي فقد أقدم علي ضمانه، و رضي بذلك، و لما كان البيع فاسدا و لم يتمّ المسمي يكون الضمان بالمثل أو القيمة ثابتا لازما.

أقول: الاقدام بحسب الصغري و إن كان معلوما لا ريب فيه، و لكن الإشكال في كبراه، فان كون الإقدام سببا للضمان ممّا لم يدلّ عليه دليل عقلي و لا شرعي.

نعم: إذا كان الإقدام من الطريق المعروفة الصحيحة عند الشرع و العقلاء، أعني من طريق البيع الصحيح و نحوه، كانت أدلة صحة البيع و نحوه دليلا علي المقصود، لكن المفروض كون البيع أو العقد فاسدا فيما نحن فيه.

اللّهم إلّا أن ترجع هذه إلي قاعدة احترام المال و المنافع و الأعمال، و لكن الإنصاف أنّ قاعدة الاحترام تقضي الضمان و إن لم يكن من قصده الاقدام علي الضمان.

و بعبارة اخري: تمام الموضوع في قاعدة الاحترام هو التسلط علي مال الغير أو منافعه و المزاحمة في سلطانه بغير إذنه و رضاه، سواء قصد الضمان أو لم يقصد بل قصد المجانية، فرجوع الاقدام إليها بعيد جيدا.

هذا و قد أورد عليها: بإنكار الصغري تارة، و عدم كونها جامعة مانعة

ثانيا.

أمّا الاولي: فإنّه أقدم علي المسمي و لم يتحقق، و أمّا الضمان بالمثل فلم يقدم عليه فالاقدام منتف.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 148

و أمّا الثاني: فللنقض علي جمعه بتلف المبيع قبل قبضه، فقد أقدم المشتري الي الضمان مع أنّ التلف حينئذ من مال البائع، و النقض علي طرده بالبيع بلا ثمن و مثله فان الاقدام علي الضمان منتف فيه مع أنّ الضمان ثابت قطعا.

قلت: و كلاهما قابلان للمنع، أمّا الأول فلأنّ الاقدام هنا من قبيل الاقدام علي العقد مع شرط فاسد (بناء علي عدم كونه مفسدا) أو بيع ما يملك و ما لا يملك، الذي ينحل بحسب بناء العقلاء بأمرين، و فساد أحدهما لا يسري إلي الآخر، و الحاصل: أنّ الاقدام هنا وقع علي أمرين بحسب القصد النوعي المعتبر في أمثال المقام:

«أحدهما» أصل الضمان، «ثانيهما» كونه بمقدار خاص، و عدم المضاء الثاني لا يكون دليلا علي نفي امضاء الأول.

و أمّا الثاني فلفساد كلا النقضين، أمّا الأول فلأنا لا نسلّم كون التلف قبل القبض من قبيل الاقدام علي الضمان، فإنّ الضمان في البيع و نحوه ليس بمجرد الانشاء عند العقلاء بل الإنشاء مع القبض.

و أمّا الثاني فلأنّ البيع بلا ثمن من قبيل التناقض، لصحة سلب مفهوم البيع عنه، فان كان بيعا فلا معني لكونه بلا ثمن، و إن كان بلا ثمن لم يكن بيعا، بل كان من قبيل الهبة، و حينئذ لا نسلّم كونه من باب الاقدام علي الضمان، بل هو أشبه شي ء بالهبة التي لا ضمان فيها.

الدليل الثالث: و استدل عليه أيضا بقاعدة الضرر، فان الحكم بعدم الضمان المأخوذ بالبيع الفاسد و نحوه ضرر علي البائع قطعا، و كذا علي المشتري بالنسبة إلي

الثمن، و قد أورد عليه بوجوه.

الوجه الأول: ما هو المعروف بين المتأخرين من أنّ قاعدة نفي الضرر إنّما تنفي الأحكام الضررية، و لا تكون مبدء لإثبات حكم كالضمان فيما نحن فيه.

هذا و لكن ذكرنا في كتابنا «القواعد الفقهية» وجوها ثلاثة لعموم القاعدة و شمولها للعدميات أيضا، و اختار العموم شيخنا الأعظم قدّس سرّه في رسالته المعمولة في المسألة.

و العمدة من هذه الوجوه أنّ مفاد لا ضرر إمّا نفي الضرر من ناحية الشرع علي المكلّفين، أو من ناحية بعضهم علي بعض، و لعل ظاهر المشهور هو الأول، و المختار هو

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 149

الثاني، و علي كل حال لا مانع من عمومها و شمولها لنفي الأحكام و إثباتها.

أمّا علي الثاني و هو المختار فظاهر، فانّ جواز أخذ البيع في العقد الفاسد بلا تداركه بالمثل أو القيمة ضرر عظيم من ناحية المكلّفين بعضهم علي بعض، لا يرخصه الشارع الأقدس، و معناه هو الضمان لا محالة.

و علي الأول فمعني القاعدة أنّ الشارع لا يفعل شيئا في محيط التشريع يوجب الضرر، سواء في أحكامه و تشريعاته، أو ترك تشريعه لما يترقب منه تشريعه، و السر في ذلك أن محيط التشريع بجميع شئونه محط حكومة الشارع، و الأمر فيه بالنسبة إلي جميع أعمال المكلّفين و حركاتهم و سكناتهم إليه، فما ينشأ من اهمال جعل بعض الأحكام من الضرر مستند إليه، كأحكامه المجعولة، من دون أي تفاوت في هذه النسبة.

و الحاصل: أن اسناد الضرر إلي الشارع لا فرق فيه بين جعل الأحكام الضررية، أو عدم جعل ما ينفي الضرر.

الوجه الثاني: أنّه قد يعارض هذا الضرر بالضرر الحاصل من الجانب الآخر، لأنّ قيمة المثل قد يكون أكثر من المسمي

بكثير مع أنّه لم يقدم عليه.

و فيه: أنّ الضرر هنا في الجانب الآخر ممنوع جدّا، لأنّ المفروض أنّه أخذ ما يعادل هذه القيمة، و عدم اقدامه علي هذا الضمان لا ينافي ما ذكرناه من عدم الضرر، و بالجملة الضرر إنّما يصدق إذا لم يصل ما يعادله إليه و لا ربط له بمسألة الاقدام، فتدبّر تعرف.

الوجه الثالث: إن قاعدة نفي الضرر أخص من المطلوب لعدم شمولها لما إذا وقع التلف بمتلف سماوي من غير تفريط، لأنّه لم يقع ضرر علي البائع مثلا من ناحية المشتري، نعم هي حاكمة في فرض الإتلاف و شبهه.

أقول: قد عرفت أنّ الضمان في هذه الصورة (و هي القسم الرابع من الأقسام الأربعة المتقدمة) غير ثابت عندنا، لا سيما إذا كان العذر عاما، و إن كان ظاهر المشهور ذلك (فراجع).

الدليل الرابع: الإجماع المدعي في المقام في كلمات غير واحد منهم، في ثبوت قاعدة ما يضمن، و الإنصاف أن الاستدلال به في أمثال المقام ممّا يتوفر فيه أدلة اخري مشكل

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 150

جدّا، لعدم إمكان حدس قول المعصوم منه، مضافا إلي أنّ الإجماع قابل للمناقشة.

الدليل الخامس: و استدل أيضا بما ورد في باب الأمة المسروقة من الروايات الكثيرة الدالة علي أنّه لو سرقت الأمة فبيعت من دون علم المشتري فأولدها ترد إلي صاحبها و أن الولد له بالقيمة، مثل ما رواه جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل اشتري جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: «يأخذ الجارية صاحبها و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «1».

و حيث قلنا بالضمان في المنافع التي لم يستوفها، ففي العين بطريق أولي، و الرواية مرسلة، و كون جميل

من أصحاب الإجماع لا يوجب انجبارها كما ذكرنا في محله، و لكن العمدة مضمونها متظافر و مؤيد بروايات اخري في نفس الباب، مثل ما رواه زرارة قال:

قلت لأبي جعفر عليه السّلام: الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء الرجل فيقيم البينة علي أنّها جاريته: لم تبع و لم تهب، فقال: «يرد إليه جاريته و يعوضه بما انتفع» «2».

و ما روي جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء مستحق الجارية قال: «يأخذ الجارية المستحق و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد» الحديث «3».

فالإشكال في اسنادها ممّا لا وجه له، إنّما الإشكال في دلالتها و هو من ناحيتين:

الاولي: أنّها ناظرة إلي بيع الغاصب، و أين هو ممّا نحن فيه، أي المأخوذ بالبيع الفاسد، و لا يجوز التمسك بالأولوية و لا إلغاء الخصوصية بل الأولوية علي العكس.

الثانية: إن الاستيلاد من قبيل استيفاء المنفعة و اتلافها، و هذا خارج عما نحن بصدده، لأنّ الكلام هنا في التلف، و أمّا الإتلاف فحكمه واضح بمقتضي قاعدة من اتلف.

أقول: يمكن الجواب عن الأول بأن مفروض الروايات عدم علم المشتري بالغصب، و حينئذ لا يتفاوت حاله عن المأخوذ بالعقد الفاسد، بل اطلاقها يشمل لما إذا كان البائع

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 88 من أبواب العيوب و التدليس، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 151

أيضا غير عالم بالغصب، و حينئذ يكون الأمر واضح.

و إن شئت قلت: إنّ المأخوذ بالعقد الفاسد أعم من أن يكون لعدم مالكية البائع للبيع أو انتفاء غيره من شرائط العقد و أركانه.

و أمّا الثاني: فلأنّ الاستيلاد كما ذكره

شيخنا الأعظم قدّس سرّه بمعني جعل الولد غير داخل في ملك أحد، لأنّ المفروض أنّه يكون حرّا فليس هو من الاستيفاء أو الإتلاف.

إن قلت: نطفة الأمة أيضا دخيلة في تكوّن الولد، و كذا رحمها، فالاستيلاد اتلاف لنطفة المرأة و كذا إتلاف لمنافع الرحم (كذا قيل).

قلت: مضافا إلي أن هذه تدقيقات عقلية لا يساعد عليها العرف، فان لازمها إعطاء قيمة نطفة المرأة أو منافع الرحم، لا قيمة الولد كما هو صريح الرواية فتأمل.

هذا مضافا إلي أنّه لا فرق بين «التلف» و «الإتلاف» فيما نحن فيه، و شمول قاعدة الإتلاف لأحدهما، و قاعدة علي اليد للآخر، لا يكون فارقا، لأنّ هاتين القاعدتين كلاهما من شئون قاعدة الاحترام كما لا يخفي علي الخبير.

فكون الاستيلاد من قبيل الاستيفاء لا يمنع من الاستدلال بالروايات.

إن قلت: في الروايات زرارة أنّه يعوضه بما انتفع «1» و في رواية اخري له أيضا «يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها «2»» و هما غير قيمة الولد.

قلت: أمّا قوله «يعوضه بما انتفع» فهو شامل لقيمة الولد، بل قد ورد التصريح بذلك في تفسير مذكور في ذيل الرواية، و إن كان لا يعلم أنّ هذا التفسير من زرارة أو غيره، و لكنه مؤيد للمقصود علي كل حال.

و أمّا اعطاء قيمة اللبن و الخدمة فهو غير مناف لا عطاء قيمة الولد، و يمكن الجمع بينهما فتأمل.

و الحاصل: أنّ الاستدلال بهذه الروايات علي المقصود وجيه و إن كان مفادها بعض المطلوب.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 88 من أبواب العيوب و التدليس، ح 2.

(2). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 152

فتحصل من جميع ما ذكرنا أن العمدة في الاستدلال علي القاعدة امور

ثلاثة: قاعدة الاحترام، و لا ضرر، و الروايات الواردة في الأمة المسروقة، و إن كان مضمون الأخير أخص من المدعي كما هو واضح.

فالحكم هنا يدور مدار مقدار دلالة هذه الأدلة فإذا لم يكن هناك إضرار و لم يكن داخلا في حريم قاعدة الاحترام و الروايات المذكورة لم يكن وجه للضمان.

و من هنا يعلم أنّ مثل عقد المسابقة الفاسدة يشكل القول بالضمان فيها و إن كان صحيحها مضمون، لعدم شمول شي ء من هذه الأدلة لها، لعدم ما فيه هتك احترام المال أو العمل، فان احترام العمل معناه أنّه لو استفاد منه أو أتي به بأمره كان ضامنا لقيمته، لا في مثل المسابقة، لا سيما إذا كانا عالمين بالفساد، أو كان السابق عالما به.

نعم لو كان الدليل الإجماع أو الاقدام و شبهه أمكن القول بدخولها تحت القاعدة.

وجوه البيع الفاسد و صوره:

بقي هنا شي ء: و هو أنّ بيع الفاسد (بعنوان المثال) يتصور علي وجوه:

«أحدها»: أن يكون البائع و المشتري كلاهما عالمين بالفساد و مع ذلك أقداما عليه.

«ثانيها»: أن يكونا جاهلين.

«ثالثها»: أن يكون أحدهما عالما و الآخر جاهلا.

أمّا صورة جهلهما فالحكم فيه واضح.

و أمّا في صورة علمهما فقد يتوهّم عدم ضمانهما، لأنّهما سلطا غيرهما علي مالهما مع علمهما بفساد العقد و عدم تأثير، فهل هذا إلّا التسليط المجاني؟ فلو بقيت العين كان له أخذها، أمّا لو تلفت في يد أحدهما لم يكن ضامنا نظرا إلي هذا التسليط المجاني، و لكن إشكاله واضح، لأن التسليط المجاني غير معقول بل التسليط يتحقّق منهما بناء علي الصحة لعدم المبالاة بحكم الشارع فيكتفيا بالصحة عند العقلاء أو عندهما فقط، و لذا لا يرضيان بأي نقص في مقدار الثمن و المتاع و لو درهما أو مثقالا، فكيف

يكون تسليطهما مجانيا؟

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 153

و توهّم كونه من قبيل ضمان الأمين كما تري، لأنّه لم يعطه المال بعنوان الأمانة بل بعنوان الوفاء بالعقد المبني علي الصحة غير مبال بالفساد كما هو ظاهر.

و أمّا في صورة علم أحدهما و جهل الآخر، ففيه إشكال الغرور، فان الجاهل أقدم علي المعاملة بزعم أنّ الضمان بقيمة المسمي- و كانت قيمة المثل أكثر منه بأضعاف مثلا- فتسليط البائع العالم له علي المال مع علمه بالفساد هو الذي أوجب غروره و وقوعه في هذا الضرر، فلو قلنا بضمانه جاز رجوعه إلي البائع الغار بتفاوت ما بين المسمي و المثل لا أقل، و وقع التهاتر بين دينه من ناحية الضمان و حقه من ناحية الغرور، أو بالنسبة إلي الجميع لأنّه مغرور في الكل.

هذا و لكن غروره في الكل واضح الفساد، لعدم كونه مغرورا بالنسبة إلي المسمي، لأنّ المفروض دخوله في المعاملة لا علي نحو المجانية.

و أمّا بالنسبة إلي التفاوت فهو إنّما يصح إذا كان البائع هو الباعث له في إلقائه في هذا الضرر، مثل ما إذا قال البائع له: تعال و اشتر هذا المتاع مني و البيع صحيح شرعا، و لا نلتزم بغير المسمي.

أمّا إذا جاءه المشتري و لم يسأله عن صحة المعاملة شرعا و فسادها، و أقدم هو بنفسه علي المعاملة فكونه مصداقا لقاعدة الغرور محل إشكال ظاهر.

عكس القاعدة:

هذا كله في أصل القاعدة، أمّا عكس القاعدة: و هو «كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فقد استدل له أيضا بامور:

1- الإجماع: و فيه ما مر في أصل القاعدة، من عدم حجيته في أمثال المقام لو سلّم قيام الإجماع صغرويا.

2- الأولوية: و قد أشار إليها الشيخ

قدّس سرّه في ما حكي من رهن المبسوط، و حاصلها: أنّ العقد الصحيح مثل الهبة أو الإجارة إذا لم يقتض الضمان و وقع مجانيا ففاسده لا يقتضي ذلك

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 154

بطريق أولي، و الوجه فيه علي ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنّ سبب الضمان إما الاقدام أو حكم الشارع، أمّا الاقدام فالمفروض عدمه في المقام، و أمّا حكم الشارع فهو أيضا منفي، لأنّ العقد الفاسد بحكم العدم.

و أمّا وجه الأولوية فالصحيح إذا كان مفيدا للضمان، يمكن أن لا يكون فاسده موجبا له، لأنّه كالعدم، و الاقدام إنّما وقع علي المسمي و هو غير حاصل، و أمّا المثل فلم يقدم عليه، فإذا لم يكن الصحيح موجبا له فالباطل لا يكون موجبا بطريق أولي.

لكن الإنصاف أن الأولية هنا بالعكس، فان نفي الضمان عن الهبة الصحيحة أو الإجارة مثلا إنّما هو لاقتضاء الصحة ذلك، بعد تراضي الطرفين و حكم الشارع و إمضائه، و أمّا إذا كان فاسدا فلا وجه لنفيه مع أن مقتضي اليد هو الضمان.

هذا مضافا إلي ما قد عرفت من أن قاعدة الاقدام لا دليل عليها من رأس و أنّ الاقدام ما لم ينضم إلي إمضاء الشارع لا أثر له.

3- و هو العمدة في المقام لإثبات عدم الضمان، و هو عدم جريان الأدلة السابقة الدالة علي الضمان هنا، و عدم وجود دليل آخر عليه، و الأصل ينفيه.

توضيحه: إن قاعدة احترام الأموال غير شاملة لما إذا كان التسليط المجاني من ناحية المالك كالهبة، و لو كانت فاسدة، و كذلك إذا رضي بعدم الضمان كالإجارة الفاسدة بالنسبة إلي العين و كذا الأمة الفاسدة.

و أمّا قاعدة الضرر فهي أيضا غير شاملة إذا كان برضي

المالك و إجازته، و أمّا عدم شمول روايات الأمة المسروقة للمقام فهو أوضح من أن يخفي.

و كذلك قاعدتا «علي اليد» و «الإتلاف» و قد عرفت رجوعهما إلي قاعدة الاحترام بل هما من شئونها، فحينئذ لا يبقي وجه لضمان العقد الفاسد لا يضمن بصحيحه، و الأصل عند الشك عدم الضمان.

نعم، يمكن استثناء صورة واحدة و هي ما إذا كان المالك جاهلا بالفساد، و كان تسليطه علي المال بظن صحة العقد، بحيث لو كان عالما بالفساد لم يكن يسلط الغير علي ماله، و كان الآخذ عالما بذلك، ففي هذه الصورة يشكل الحكم بنفي الضمان، أمّا إذا كانا عالمين

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 155

أو كان المالك عالما، أو كان جاهلا لكن لو علم بالفساد كان راضيا بالتسليط، كان الحكم بنفي الضمان قويا.

4- و قد يستدل بقاعدة الاستيمان و أنّ من استأمنه المالك علي ملكه فهو غير ضامن، و هذه قاعدة مستفادة من بناء العقلاء و النصوص الكثيرة الواردة في أبواب مختلفة من الإجارات و غيرها.

و لا بأس به، و لكنه في الحقيقة من قبيل الاستثناء لقاعدة احترام الأموال، فان عدم الضمان عند استيمان المالك لا ينافي الاحترام، و لذا يمكن القول بخروجه تخصصا أيضا.

نعم، الاستثناء السابق و هو صورة جهل المالك و عدم رضاه علي فرض العلم جار هنا، و لعل كلام الأصحاب أيضا غير ناظر إلي هذه الصورة.

و من هنا يظهر أنّه لا فرق بين مورد العقد و غيره، و الأول مثل الهبة، و الثاني مثل الإجارة، فان مورد الإجارة هو المنافع، و أمّا ضمان العين و عدمه خارج عنه، و لكن الحكم جار في الصورتين، و ذلك لا تحاد الدليل في البابين.

المسألة الثانية: وجوب الردّ

هذا الحكم،

أعني وجوب ردّ المقبوض بالعقد الفاسد فورا، ممّا ادعي عدم الخلاف فيه، بناء علي عدم جواز التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد، فاللازم أولا التكلم في جواز التصرف فيه و عدمه، فنقول «و منه سبحانه نستمد التوفيق»:

إنّ الحكم بعدم جواز التصرف أمر ظاهر في بدو الأمر، نظرا إلي أنّه مال الغير، و إنّما أراد نقله إلي غيره بعقد فاسد لا أثر فيه، و المفروض أنّه لم يؤذن له بالتصرف فيه علي غير هذا الوجه.

و إذا استدل له بما ورد من أنّه «لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلّا باذنه» «1».

أو «لا يحل مال امرئ مسلم لأخيه إلّا بطيبة نفسه»، و قد عرفت أن جميع ذلك من شئون

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6، الباب 3 من أبواب الأنفال، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 156

قاعدة الاحترام المعروفة عند العقلاء، و قد أمضاها الشرع، و هي أيضا من شئون السلطنة علي الأموال المتولدة من مفهوم الملكية الشخصية.

و قد أورد علي الاستدلال- و الظاهر أنّ الموارد المحقق الخراساني قدّس سرّه في تعليقة: بأن الاستدلال علي وجوب الردّ بحرمة الإمساك مبني علي أنّ النهي عن الشي ء يقتضي الأمر بضده، و هو خلاف التحقيق، كما أنّ الأمر بالشي ء أيضا لا يقتضي النهي عن ضده.

و فيه إشكال ظاهر، فانّ المسألة غير مبنيّة علي دلالة الأمر و النهي، بل لما كان الأمر دائرا بين ضدين لا ثالث لهما كان طريق الخلاص عن الحرام التوصل إلي ضده بحكم العقل، بل لا يبعد دلالته عليه بالدلالة الالتزامية العرفية كما لا يخفي، و تمام الكلام في محله.

هذا و قد فصّل المحقق اليزدي قدّس سرّه في تعليقته بين صورة جهل الدافع و علمه، و

قال: لا ينبغي الإشكال في عدم جواز التصرف فيه مع جهل الدافع، أمّا مع علمه فيمكن الإشكال فيه و إن كان باقيا علي ملكه، و ذلك للإذن فيه، في ضمن التمليك.

و قد أورد عليه في «مصباح الفقاهة» بما حاصله: إن هذا الإذن كان مبنيّا علي صحة المعاملة لا أنّه اذن جديد بالتصرف في هذا المال.

و هذا البيان وجيه في بادي الأمر، و قد مرّ نظيره سابقا، و لكن يرد عليه: أنّه إذا علم الدافع بعدم صحة هذا العقد شرعا و مع ذلك اعطاه العين، فلا محالة يكون اقدامه بأحد أمرين: إمّا بعنوان التشريع، أو بعنوان عدم المبالاة بحكم الشرع و الاكتفاء بحكم العقلاء، أمّا الأول فهو نادر جدّا، و أمّا الثاني فمعناه رضاه بالتصرف في هذا المال بازاء التصرف في عوضه، فان العلم بالفساد لا ينفك منه، فعلي هذا لا يبعد جواز تصرف كل منهما انتقل فيما انتقل منه في مقابل تصرف الآخر فيه، لا مطلقا حتي يحتاج إلي إذن جديد يكون المفروض عدمه.

إن قلت: ما قلت من رضاه بالتصرف في ماله بازاء التصرف في مال الآخر ممنوع، فان المفروض أنّ هذا الرضا كان معلقا علي عنوان الملك، و هو غير حاصل «1».

______________________________

(1). كتاب البيع، ج 1، ص 311.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 157

قلت: نعم لكن المفروض أنّه سلّط الغير علي ماله و هو يعلم أنّه ليس بمالك شرعا فلم هذا التناقض؟ فليس هناك إلّا أنّه إمّا قصد التشريع و المفروض عدمه، أو الاكتفاء بالملكية العرفية و الرضا به و إن لم يأذن به الشرع، و هو حاصل، فيجوز لكل منها التصرف فيما انتقل إليه.

إن قلت: يمكن القول بالجواز من جهة أن الملكية

من قبيل الداعي لا العنوان، و من المعلوم أن تخلف الداعي غير قادح بخلاف تخلف العنوان.

قلت: كلّا، بل المسألة من قبيل العنوان، فهو يدفع العين للقابض بعنوان أنّه مالك لا غير، فالوجه في الصحة ما ذكرناه.

فالتفصيل بين صورة العلم و الجهل غير بعيد، و ممّا ذكرناه ظهر أن الاعتماد في حرمة التصرف علي «أن الإذن إنّما تعلق بعنوان الملكية لا مطلقا و ليس هنا إذن جديد علي الفرض»، لا ينفع مع علم الدافع بعدم حصول الملك، و إن شئت اختبره بما إذا اذن واحد للوارد عليه بالتصرف في ماله بعنوان أنّه أخ له مع علمه بعدم كونه أخا فالاذن حينئذ لا يكون إلّا بادعاء كونه أخا و ما أشبه ذلك، و إلّا فكيف يجمع الإذن مع العلم بنفي العنوان؟

و أظهر ممّا ذكرنا، الإذن في العقود التي لا تشتمل علي المعاوضة، كما إذا وهبه بهبة فاسدة، فان كان جاهلا لم يجز التصرف بلا إشكال إلّا باذن جديد أو العلم برضاه حتي مع العلم بالفساد، و أمّا إن كان عالما بالفساد جاز له بغير إشكال، لأنّه المفروض اكتفائه بالملكية بحسب بناء العقلاء و هو حاصل، أو بتشريعه في نيته، و إن كان قصد التشريع في المعاملات الفاسدة نادر جدّا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا:

أولا: إنّ التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد لا يجوز إلّا مع علم الدافع بالفساد، أو جهله بالفساد، و لكن لو علم به رضي به.

ثانيا: أنّ الدليل علي الجواز في هذه الصور، الرضا الناشئ عن اعتبار القابض مالكا في عرف العقلاء مع علمه بعدم كونه كذلك في عرف الشرع، و الرضا التقديري في أمثال

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 158

المقام كالرضا الفعلي كما حققناه في

محله.

ثالثا: أنّ عمدة الدليل علي حرمة التصرف هو قاعدة احترام الأموال، و كذلك ما ورد في إمضائه من الروايات.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي حكم وجوب الردّ- فقد عرفت دعوي عدم الخلاف في وجوب الردّ و استدل له تارة: بما دلّ علي عدم جواز التصرف في مال الغير بغير إذنه، و اخري: بما دل علي عدم حلية مال امرئ إلّا بطيبة نفسه، و ثالثه: بقاعدة علي اليد، و له بيانان:

أحدهما: أنّه يعمّ الحكم التكليفي و الوضعي كليهما، فمفاده وجوب ردّ العين مع وجوده، و ردّ بدله مع تلفه (و هذا محكي عن المحقق الإيرواني قدّس سرّه).

ثانيهما: إنّ مفادها ليس إلّا الحكم الوضعي بالدلالة المطابقية، و لكن يستفاد منه الحكم التكليفي، أعني وجوب الردّ بالدلالة الالتزامية (و هذا محكي عن المحقق النائيني قدّس سرّه).

هذا و قد يناقش في الجميع، أمّا في الأول: فلعدم صدق التصرف علي مجرّد الإمساك، و علي الثاني: بأن مجرّد عدم الحلية لا يدل علي حرمة الإمساك، و علي الثالث: بعدم دلالته إلّا علي الحكم الوضعي و أكثر منه ممنوع.

و الإنصاف أنّ وجوب الردّ في الجملة ممّا لا ينبغي الشك فيه، لأنّ إمساك مال الغير بغير اذنه و رضاه مناف لقاعدة احترام الأموال الثابتة عند العقلاء، و إمضاء الشارع المقدس بما دلّ علي حرمة التصرف في مال الغير، قاعدة علي اليد و غير ذلك من أشباهها.

و لكن لا بدّ من تفصيل في المسألة..

فتارة: يكون كلاهما جاهلين بالفساد، فإذا تجدد للقابض علم له فعليه ردّه إليه و لا أقل من تخلية اليد و اعلامه بذلك، فان الردّ في المقام أعم من ذلك، فحينئذ لا يتعين عليه دفعه إليه فضلا عن كون مؤنته عليه.

و اخري: يكون

مع علم الدافع سواء علم القابض أم لا و هنا أيضا لا يجب عليه إلّا التخلية و عدم المزاحمة للمالك أي منعه عن أخذ ماله مهما أراده.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 159

و ثالثة: يكون مع علم القابض و جهل الدافع بالفساد فالواجب عليه حينئذ أن لا يأخذ من أول الأمر، و لو أخذه فعل حراما و عليه ردّه إلي صاحبه، و لا يكفي هنا مجرّد الإعلام و تخلية اليد، لأنه السبب في خروج المال عن يد مالكه بعد كونه عالما و المالك جاهلا، فعليه أن يرده إلي صاحبه، بل مؤنة الردّ عليه أيضا، سواء كان كثيرا أو قليلا و لا تشمله أدلة نفي الضرر، للأقدام.

المسألة الثالثة: حكم المنافع المستوفاة و غير المستوفاة

اشارة

من أحكام العقد الفاسد «ضمان المنافع المستوفاة» كما هو المحكي عن المشهور، و المراد به المنافع التي استوفاها المشتري من البيع و البائع من الثمن، سواء كان من قبيل سكني الدار و ركوب الحيوان، أو من قبيل اللبن و النتاج و ثمرة الشجرة.

و لكن أختار «ابن حمزة» في «الوسيلة» عدم الضمان، و إليك نص عبارته: قال في ما حكي عنه في حكم البيع الفاسد:

«فإذا باع أحد بيعا فاسدا و انتفع به المبتاع و لم يعلما بفساده ثم عرفا و استرد البائع المبيع لم يكن له استرداد ثمن ما انتقع به، أو استرداد الولد إن حملت الام عنده و ولدت، لأنّه لو تلف لكان من ماله و الخراج بالضمان» (انتهي).

هذا و مقتضي قاعدة احترام الأموال التي مرّت الإشارة إليها غير مرّة و عرفت مبانيها في الشرع و بين العقلاء، و هو الضمان، لأن المفروض فساد البيع، و عدم نقل العوضين عن ملك صاحبهما، فبقيت المنافع علي ملك صاحبها و

لم يجز استيفاؤها و لو استوفاها كان عليه عوضها، و قد عرفت أنّ حديث «علي اليد» و «لا يحل» و «لا يجوز» و أشباهها كلها إمضاء لهذه القاعدة.

نعم، يمكن استثناء صورة واحدة و هي ما إذا علم المالك بالفساد و مع ذلك رضي بالقبض و الإقباض، و قد عرفت أنّ هذا دليل رضاه بالبيع الصوري العرفي، و إن لم يكن شرعيا، إمّا تشريعا أو تركا لحكم الشرع لعدم المبالاة في الدين، و لكن مقتضاه الرضي

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 160

بالتصرف فيه في مقابل التصرف في بدله.

و إن شئت قلت: إنّه من قبيل الإباحة المعوضة بالنسبة إلي المنافع.

فالضمان ثابت علي كل حال، و إنّما التفاوت في ضمان المسمي أو المثل، ففي صورة الجهل يثبت ضمان المثل، و في صورة علمهما و رضاهما يثبت ضمان المسمي، (فتدبّر).

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)؛ ص: 160

اشارة إلي قاعدة «الخراج بالضمان»:

هذا و الدليل علي القول الثاني، أعني الضمان، و هو القاعدة المعروفة عند المخالفين غير الثابتة عندنا: «الخراج بالضمان» و قد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا «القواعد الفقهية» و نشير هنا إلي ملخصها:

فنقول: إن مفاد هذه القاعدة و مغزاها أنّ «كل من ضمن شيئا و انتفع به كانت هذه المنافع له بغير عوض، في مقابل ضمانه لأصل العين».

هذا هو المشهور بين العامة، و لكن الخاصة لم يوافقوا عليه إلّا في موارد خاصة تدل عليها أدلة اخري، ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه، و يظهر ممّا حكي عن أبي حنيفة و غيره، عموم القاعدة عندهم

حتي في موارد الغصب و البيع الفاسد، كما صرّح به في قضية أبي ولاد المعروفة في قصة «كراء البغل» الذي جاوز به الحد الذي أجازه المالك.

و علي كل حال يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بطائفتين من الروايات:

الطائفة الاولي: ما حكي عن طريق الجمهور من قضائه قدّس سرّه «الخراج بالضمان» الذي رووه بطريق مختلفة «1» كلها تنتهي إلي «عائشة»، و في طريقها «عروة بن الزبير» و لكنها رويت تارة مجرّدة عن كل شي ء، مثل ما رواه أحمد في مسنده عنها عن النبي قدّس سرّه قال:

«الخراج بالضمان» «2».

و اخري في ذيل مسألة بيع المعيب، مثل ما روته هي: أن رجلا اشتري عبدا فاستغله ثم وجد به عيبا فردّه، فقال: يا رسول اللّه قدّس سرّه إنّه قد استغل غلامي. فقال رسول اللّه قدّس سرّه:

«الخراج بالضمان» «3».

______________________________

(1). قواعد الفقهية القواعد، ج 4، ص 308.

(2). مسند أحمد بن حنبل، ج 4، ص 49.

(3). سنن ابن ماجه، ج 2، كتاب التجارات الباب 43.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 161

و الظاهر أنّهما و غير هما من طريق الحديث و متونه كلها ناظرة إلي موضوع واحد و قضية واحدة، فالقدر المعلوم ورودها ذيل بيع المعيب، و من الواضح أنّ هذا البيع صحيح، و بمقتضي صحته تكون المنافع لمن المنتقل إليه، و المراد بالضمان هنا تلفه في ملكه، و هذا موافق للقواعد، بخلاف ما إذا كان البيع فاسدا، أو كان الكلام في المغصوب.

إن قلت: لفظ الحديث عام و إن ورد في مورد خاص.

قلنا: نعم لو كانت الألف و للأم للجنس، أمّا لو كانت للعهد المذكور في الرواية فلا، هذا كله مضافا إلي ضعف اسناد هذه الأحاديث عندنا.

إن قلت: قد ثبت في محله أنّ التلف

في زمن الخيار ممن لا خيار له، و هذا ينافي كون التلف من المشتري عند خيار العيب.

قلت: أولا: قد ذكرناه في محله من بحث القواعد أنّ تلك القاعدة لما كانت بنفسها مخالفة للقواعد، فانه يقتصر فيها علي المقدار الثابت شرعا، و القدر المعلوم من أدلتها هو ثبوت القاعدة في خيار الحيوان أو الشرط إذا كان المبيع حيوانا.

ثانيا: أنّه فرع كون العيب بنفسه موجبا للخيار لا بظهوره، و هو محل الكلام في محله.

أمّا الطائفة الثانية: و ما ورد من طريق الخاصة، و هي عدّة روايات:

1- ما رواه في دعائم الإسلام نظير ما ورد في كتب العامة «1».

2- ما رواه اسحاق بن عمار «2»، قال: «حدثني من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام و سأله رجل و أنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلي بيع داره فجاء إلي أخيه فقال: أبيعك داري هذه، و تكون لك أحبّ إلي من أن تكون لغيرك، علي أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلي سنة أن ترد عليّ، فقال: لا بأس بهذا، إن جاء بثمنها إلي سنة ردّها عليه قلت: فانّها كانت فيها غلة كثيرة فأخذ الغلة، لمن تكون الغلة؟ فقال الغلة للمشتري، ألا تري أنّه لو احترقت لكانت من ماله؟».

و سند الحديث معتبر إلّا أنّه يظهر من العلّامة قدّس سرّه في الخلاصة عدم الاعتماد علي ما

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 2، أبواب الخيار الباب 6 و 7.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 8 من أبواب الخيار، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 162

ينفرد به «اسحاق» نظرا إلي أنّه فطحي، و لكن الإنصاف وثاقته كما صرّح به جمع من أعاظم علماء الرجل و لا يضرّ كونه فطحيا، و باقي

السند لا غبار عليه.

إن قلت: ورد فيه أنّ اسحاق رواه عن بعض من سمع الصادق عليه السّلام، و هذا نوع ارسال.

قلت: التصريح بأنه سمعه عنه عليه السّلام دليل علي اعتماده بالرجل كما لا يخفي، و نظيره ما يظهر من الفرق في مرسلات الصدوق قدّس سرّه بين ما يذكره بقوله: روي عن الصادق عليه السّلام و بين قوله: قال الصادق عليه السّلام فتأمل.

3- ما رواه معاوية بن مسيرة قال: «سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل باع دارا له من رجل و كان بينه و بين الرجل الذي اشتري منه الدار حاصر فشرط أنك إن أتيتي بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك، فأتاه بماله. قال: له شرطه، قال أبو الجارود: فان ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين. قال: هو ماله، و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ رأيت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت تكون الدار دار المشتري» «1».

أبو الجارود و إن كان ضعيفا ينسب إليه مذهب الجارودية و لكن الظاهر أن «معاوية بن مسيرة» كان حاضرا عند سؤاله عنه عليه السّلام، فلا يضرّ عدم وثاقته، و لكن معاوية نفسه مجهول لا يعتمد علي روايته.

هذا و الاستدلال بها مبني علي كون «قوله ألا تري أنّه لو احترقت كان من ماله» بمنزلة العامة و يؤدي معني «الخراج بالضمان» و إن لم يكن بلفظة، و لكن الإنصاف أنّه و إن لم يخل عن إشعار بذلك لكن يحتمل أن يكون المراد منه بيان الدليل علي كونه مالكا للغلة لذكر ما يدل علي كونه مالكا لأنّه إذا كان الاحتراق من ماله ثبت كونه مالا له منتقلا إليه بالبيع،

فالمنافع له علي كل حال.

و مع هذا الاحتمال لا يصح الاستدلال بها.

و قد يستدل مضافا إلي ما ذكر بما رواه اسحاق بن عمار عن أبي ابراهيم عليه السّلام: «الرجل

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 8 من أبواب الخيار، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 163

يرهن الغلام و الدار فتصيبه الآفة علي من يكون؟ قال: علي مولاه» الحديث «1».

و الرواية و إن كانت معتبرة ظاهرا بحسب السند، و لكن يمكن أن يناقش في دلالتها بأن الكلام فيها من ناحية الزيادة السوقية، أعني زيادة قيمة العين في السوق، و هذا غير المنافع المستوفاة، و قياسها عليها بالأولوية كما تري.

و علي فرض دلالتها يأتي فيها ما مرّ في ما قبله من احتمال كونها ناظرة إلي بيان كون المنافع تابعة للملك حيثما كانت.

فتبيّن من ذلك كله أن شيئا من روايات القاعدة النافية لضمان المنافع لا تقوم بإثباتها بعنوان كل يشمل البيع الفاسد أو المعيوب.

فلا يبقي هنا إلّا أحكام الضمان بحسب قاعدة احترام الأموال.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه ما المراد من لفظي «الخراج» «و الضمان»؟

و قد ذكر فيهما وجوه:

الأول: المراد من الخراج ما هو المعروف في الأراضي الخراجية من الضريبة علي الأرض و شبهها.

و من الضمان ما يحصل بسبب تقبل الأرض أو الإجارة، أي إجارة الأرض توجب الخراج (و كأن الباء هنا للسببية لا المقابلة).

الثاني: أنّ المراد بالخراج ما ذكر، أعني المضروب علي الأراضي أو الرؤوس، و المراد من الضمان تكفّل والي المسلمين لنظم امورهم و تدبيرهم في مقابل ذلك (و الباء للمقابلة).

الثالث: المراد من الخراج الخسارة الحاصلة للضامن بالنسبة إلي المنافع، كخسارة منافع العبد، و بالضمان ضمان رقبته، يعني أنّ خسارة المنافع تتبع ضمان العين، و

لما لم يكن في مسألة العبد المعيوب ضمان العين، فليس هناك ضمان للمنافع المستوفاة «2» (و الباء للسببية).

و هذه الاحتمالات الثلاث كلها بعيدة لا شاهد عليها لا سيما الأول و إن جعله في

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 5 من أبواب الرهن، ح 6.

(2). كتاب البيع، ج 1، ص 320.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 164

«مصباح الفقاهة» أقرب ما يحتمل في معني الحديث، و هو عجيب.

أمّا الأول: فلأنّه لا يتصور في الأراضي الخراجية ضمان، و أمّا التقبل أو الإجارة ليست إلّا قبول الخراج و تعهده، فيتحدان.

و أمّا الثاني: فلأن تعهد والي المسلمين في تدبير الامور ليس أمرا يصح اطلاق الضمان عليه إلّا بنوع من المجاز و الكناية كما هو ظاهر.

و الثالث: أبعد من الجميع، فان ضمان المنافع لا يسمي خراجا، مضافا إلي أنّه ليس بسبب ضمان العين بل هما معلولان لعلة ثالثة، و هو التسلط علي العين بغير رضاه صاحبه، أضف إليه أن الاحتمالين الأولين لا يساعدان مورد الحديث و شأن و روده في منافع الغلام في بيع المعيوب، و قد عرفت أنّ الظاهر أنّها حكاية لقضية واحدة رواتها عائشة تارة مستقلة عن موردها، و اخري مع بيان موردها.

الرابع: المراد من الخراج «المنافع المستوفاة»، و من الضمان «الضمان الحاصل في العقود الصحيحة» فقط، أي هذه المنافع إنّما حصلت له و ابيحت لإقدامه علي البيع و قبول الضمان و تعهد الثمن.

و هذا أقرب الاحتمالات بحسب مورد الحديث كما عرفت، و إن كان اطلاق الضمان علي ما يحصل بسبب البيع الصحيح، ليس ممّا ينصرف إليه الذهن في بدء النظر، و لكن مع وجود القرينة الظاهرة الواضحة لا محيص عنه.

الخامس: المراد من الخراج المنافع المستوفاة، و من

الضمان أعم من الضمان الحاصل في العقود الصحيحة أو الفاسدة أو الغصب، و هذا العموم و أن أمرا محتملا في نفسه و لكن لما لم يدل عليه دليل لا يمكن المساعدة عليه كما هو ظاهر.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أن الاستدلال بالرواية علي نفي الضمان للمنافع المستوفاة في البيع الفاسد لا يصح علي كل حال، و أنّه لا دليل آخر علي نفي هذا الضمان الثالث بأدلته، فالضمان ثابت علي كل حال، نعم إذا علم البائع بالفساد، و رضي بالبيع الصوري العرفي، فقد رضي باتلاف المنافع و استيفائها في مقابل التسلط علي الثمن، و الضمان حينئذ مشكل جدّا.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 165

حكم المنافع غير المستوفاة:

هذا كلّه في حكم المنافع المستوفاة، و أمّا «غير المستوفاة» كما إذا اشتري دارا أو دابة و قبضها و لم ينتفع بمنافعها و مضي عليها مدّة طويلة أو قصيرة، فهل هو ضامن لكراء الدار أو الدابة، أو ليس بضامن؟

المشهور بل ادعي عليه الإجماع في محكي التذكرة و السرائر الضمان بالنسبة إلي المغصوب، و لكن بعبارات قد يلحق به البيع الفاسد أيضا، و إن كان الإلحاق لا يخلو عن إشكال.

قال في التذكرة: إن منافع الأموال من العبد و الثياب و العقار و غيرها مضمونة بالتفويت و الفوات تحت اليد العادية، فلو غصب عبدا أو جارية أو عقارا أو حيوانا مملوكا ضمن منافعه، اتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت يده، بأن بقيت مدّة لا يستعملها عند علمائنا أجمع (انتهي).

و لكن إلحاق البيع الفاسد بالغصب و اليد العادية ممنوع.

و مع ذلك في المسألة أقوال ثلاثة:

الأول: ما عرفت من الضمان مطلقا.

الثاني: عدم الضمان مطلقا كما أختاره في إيضاح القواعد.

الثالث: التفصيل بين صورة العلم بالفساد (فلا

يضمن) و عدمه (فيضمن) كما حكي عن بعض، و أمّا التوقف فليس قولا، و شيخنا الأعظم قدّس سرّه رجح عدم الضمان في أول كلامه، ثم مال إلي التوقف، و مال أخيرا إلي الضمان، و لكن لم يستقر عليه أيضا.

و الذي يدل علي الأوّل، مضافا إلي ما مرّ من دعوي الإجماع الذي عرفت الإشكال فيه، قاعدة الاحترام في الأموال، فانها تقتضي عدم التسلط علي مال الغير بغير إذنه، و ضمانه لمنافعه لو تسلط عليه، و الاذن الموجود هنا مبني علي فرض صحة البيع و كونه مالكا لا مطلقا، فهو غير كاف.

و قد يستدل بقاعدتي الاتلاف و علي اليد، و لكن الجميع قابل للإيراد.

أمّا الأوّل (و هو العمدة في هذه الأبواب) فبناء العقلاء بالنسبة إلي المنافع غير

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 166

المستوفاة غير ثابت، حتي في مورد الغصب، فلو غصب كتابا أو فرشا أو حليا ثم ردّه عليه لا يؤخذ منه كراء الكتاب و الفرش و الحلي.

نعم إذا كان معدا للكراء و الانتفاع بمنافعها من هذا الطريق، كالعبد الكسوب و الدابة المعدّة للكراء أو الآنية و الكتب و الفرش و السيارات التي هي كذلك، فيمكن القول بضمان منافعها و يؤخذ مثل الكراء منه.

و الظاهر صدق الاتلاف عليه في هذه الصورة أيضا.

و منه يظهر الإشكال في التمسك بقاعدة الاتلاف و أنّه لا يصح إلّا في هذا الفرض.

و اما قاعدة علي اليد فالظاهر عدم شمولها لغير الأعيان، لانصراف عنوان «الأخذ» و «الاداء» عنه، و اطلاقهما عليه ببعض التمحلات غير كاف في مقام الأخذ بالظهور.

فالتفصيل بين الأعيان المعدّة للكسب و الانتفاع بها بعنوان الكراء و شبهه، و بين غيرها، قريب جدّا، و إن لم نر من ذهب إليه،

و الظاهر أنّ الحكم في المغصوب أيضا كذلك.

و إن كان يظهر من بعضهم عدم القول به، و لكن لا يكون هذا إجماعا، و لو فرض الإجماع فيه كان مستندا بحسب الظاهر إلي تلك القواعد المعروفة و شبهها بل يكفي احتمال ذلك.

هذا كلّه في الجاهل، أمّا لو كان البائع عالما بالفساد و اكتفي بالبيع الصوري العرفي و رضي بالتصرفات في مقابل التصرف في العوض أشكل الحكم بالضمان هنا كما عرفت في سابقه.

فيتحصل من ذلك قول رابع في المسألة، و هو التفصيل بين الأعيان المعدة للانتفاع بكرائها، مع الجهل بالفساد، فتضمن منافعها غير المستوفاة، و بين ما ليس كذلك، فالضمان مشروط بشرطين: الجهل و كون العين معدّة لما ذكر.

و قد يستدل علي عدم الضمان هنا بامور:

الأول: سكوت الروايات الواردة في بيع الجارية المسروقة عن ضمان منافعها غير المستوفاة، مع أنّها في مقام البيان من هذه الجهة، و قد عرفت اعتبار اسنادها في الجملة،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 167

ففي بعضها الاقتصار علي ردّ ثمن الولد إذا استولدها المشتري، مثل ما روي جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشتري جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة، قال: يأخذ الجارية صاحبها، و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «1».

و أيضا ما رواه جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحق، و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد»، الحديث «2».

و في بعضها: يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها مثل روي زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجل: اشتري جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلي أرضه فولدت منه أولادا ثم إن

أباها يزعم أنّها له و أقام علي ذلك البيّنة، قال يقبض ولده و يدفع إليه الجارية، و يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها» «3». و في بعضها الآخر: يعوضه بما انتفع «4».

و كل ذلك دليل علي نفع الضمان عن غير المستوفاة من المنافع.

و الظاهر أنّها لا تنافي ما ذكرناه من التفصيل بالشرطين المذكورين.

الثاني: صحيحة أبي ولاد حيث حكم عليه السّلام بلزوم رد المنافع المستوفاة إلي صاحب البغل دون غيره «5»، و هذا السكوت أيضا دليل علي المطلوب.

هذا و لكن فرض المنافع غير المستوفاة في هذه القضية غير ثابت بعد كون أبي ولاد دائما في طلب غريمه من بلد إلي بلد، هذا مضافا إلي ما قيل من عدم الفتوي بذلك في المغصوب، و لكنه سهل لو تمّت دلالة الحديث علي الحكم.

الثالث: و استدل أيضا بقاعدة «كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فانّ

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الاماء، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3). المصدر السابق، ح 4.

(4). المصدر السابق، ح 2.

(5). المصدر السابق، ج 13، الباب 17 من أحكام الاجارة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 168

المنافع الفائتة بغير استيفاء لا تضمن في البيع الصحيح لأنّها ملك المشتري مجانا، فلا تضمن بفاسده.

إن قلت: يجري هذا الدليل في المستوفاة أيضا.

قلت: نعم و لكنّها داخلة في قاعدة الاتلاف بخلاف غير المستوفاة.

إن قلت: لازمه القول بعدم الضمان في الغصب أيضا لعدم الفرق بينه و بين العقد الفاسد.

قلت: كلّا و قياس أحدهما علي الآخر قياس مع الفارق، و إلحاق العقد الفاسد بالغصب إنّما هو من بعض الجهات لا من جميعها.

هذا و لكن الانصاف أن المنافع سواء

ما استوفاه و ما لم يستوفه ليست مجانا في العقد الصحيح بعد كونها تابعة للملك الذي مضمون بالعوض، ففي الحقيقة يعطي العوض علي المنافع، و إلّا فنفس الملك لا قيمة له مع قطع النظر عن منافعه، فتأمل.

المسألة الرابعة: ضمان المثلي و القيمي بالقيمة

اشارة

و من أحكام البيع الفاسد بعد ما عرفت من ثبوت أصل الضمان فيه، هو ضمان المبيع أو الثمن إذا تلف بمثله إن كان مثليا، و بالقيمة إن قيميا، و الكلام هنا يتمّ في مقامين:

الأوّل: في أصل الحكم كبرويا.

الثاني: في موضوعه صغرويا.

أمّا الأوّل فقد ادعي الإجماع فيه إلّا عن شاذ، و قد اعتمد عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه بحيث رأي نفسه غنيا عن إقامة الرهان عليه لوضوحه، و بعد اشارة قصيرة إلي أصل الحكم تكلم في موضوعه و شرحه شرحا وافيا.

و الظاهر أنّ المسألة من الواضحات و إن تكلف بعض المحشين بإقامة دلائل كثيرة عليه، و الايراد علي كل واحد واحد منها، و ذلك لأنّ مقتضي قاعدة احترام الأموال ردّها لو أخذها بغير اذن صاحبها، فيجب ردّ عينها إن أمكن، و إن لم يمكن ردّ العين لتلفها، وجب ردّ ما يكون أقرب إليها فالأقرب، و لا شك في أنّ المثل أقرب إليها إذا وجد لها مثل، و إلّا

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 169

فالمتعين القيمة، و لهذا استقر عليه بناء أهل العرف و العقلاء عليه في أحكامهم كما لا يخفي علي من راجعهم، و لا يبعد أنّ الإجماع أيضا نشأ من هنا.

هذا و يمكن الاستدلال عليه، مضافا إلي ما ذكر، بالروايات المختلفة الواردة في أبواب الضمانات، مثل صحيحة أبي ولاد «1» بالنسبة إلي ضمان البغل بقيمته.

و ضمان قيمة الولد في الأمة المسروقة، مثل ما روي جميل

بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في رجل اشتري جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: يأخذ الجارية صاحبها و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «2».

و غيرها ممّا ورد في نفس الباب.

و ما ورد في باب اقتراض الخبز و الجوز الذي يظهر منه أنّها من المثليات مثل ما روي الصباح بن سيابة، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إن عبد اللّه بن أبي يعفور أمرني أن أسألك قال: انا نستقرض الخبز من الجيران فنرد أصغر منه أو أكبر، فقال عليه السّلام نحن نستقرض الجوز الستين و السبعين عددا، فيكون فيه الكبيرة و الصغيرة فلا بأس» «3».

و ما روي اسحاق بن عمار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام استقرض الرغيف من الجيران و نأخذ كبيرا و نعطي صغيرا، و نأخذ صغيرا و نعطي كبيرا، قال: لا بأس» «4».

و ما ورد في أبواب ضمان المستأجر، مثل ما ورد في ضمان الزيت روي الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل رجل جمّال استكري منه ابلا، و بعث معه بزيت إلي أرض، فزعم أن بعض زقاق الزيت انخرق فاهرق ما فيه، فقال: إن شاء أخذ الزيت»، الحديث «5».

إلي غير ذلك ممّا يعثر عليه الخبير المتتبع.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 17 من أبواب أحكام الاجارة، ح 1.

(2). المصدر السابق، ج 14، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الاماء، ح 3.

(3). المصدر السابق، ج 13، الباب 21 من أبواب الدين و القرض، ح 1.

(4). المصدر السابق، ح 2.

(5). المصدر السابق، ج 13، الباب 30 من أبواب أحكام الاجارة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 170

و قد يستدل عليه أيضا بقوله

تعالي و أنّه: فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ «1» و صدرها ناظر إلي حكم القتال في الشهر الحرام و أنّه حرام إلّا بعنوان المقابلة و القصاص، فقال اللّه تعالي: الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ أي إن كان عملكم نقضا لحرمة الشهر الحرام فإنّما هو في مقابل نقضهم لذلك، و الحرمات قصاص، أي حرمة الشهر و حرمة البلاد و حرمة الاحرام إن توقفت فإنّ توقفت قصاصا لنقضهم (و في الآية تفسيرات اخري و لعل ما ذكرنا أظهر من الجميع) فالحرمات قصاص بمنزلة التعليل لقوله تعالي: الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ و أمّا قوله تعالي: فَمَنِ اعْتَديٰ … فهو تفريع علي ما ذكر و اجازة للمقابلة بالمثل في فرض الاعتداء حتي لا يتجاسر العدو علي الغارة علي المسلمين بظن عدم اقدامهم علي الحرب في هذه الأشهر.

و «ما» في قوله تعالي: «ما اعتدي» أما «مصدرية» فهو يعطي المماثلة بين الاعتدائين و يدخل فيه مورد الآية، أعني نقض احترام الشهر الحرام و كذا جميع ما يؤتي به بعنوان قصاص النفس و الاطراف، لعموم الحكم و إن كان المورد خاصا.

و أما «موصولة» فيدخل فيه الأموال و الأفعال، و لكن التعبير بالقصاص أو الاعتداء عليه بالمثل يناسب الأفعال، فانّه يجوز فيها «النفس بالنفس و الجروح قصاص» و أمّا الأموال فلا يجوز اتلاف المال في مقابل اتلافه، و أخذ المثل و القيمة لا يعد قصاصا كما هو ظاهر، و لا يصدق عليه الاعتداء عليه بمثل ما اعتدي، هذا أولا.

و ثانيا: أنّه لو سلمنا دلالتها علي ما نحن بصدده كان مفادها لزوم المثل دائما، و تخصيصه باخراج القيميات لو لم يكن تخصيص الأكثر، لا أقل من أنّه تخصيص مستهجن لأن المستثني

لا بدّ أن يكون قليلا بالنسبة إلي المستثني منه، مع أنّ القيميات ليست قليلة، لا بحسب الأفراد و لا العناوين فتأمل.

و ثالثا: سلّمنا، لكن يبقي هذا الدليل ناقصا بالنسبة إلي تمام المطلوب كما هو ظاهر.

و قد يورد علي الاستدلال به أيضا بأن المراد المماثلة في أصل الاعتداء، لا في

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 194.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 171

مقداره، يعني كما أنّهم يعتدون عليكم فاعتدوا عليهم.

و استشهد له بأن الحرب علي كل تقدير داخلة في مورد الآية و لا يمكن إرادة المماثلة في مورده لأنّ العدو إذا قتل من المسلمين عددا معينا لا يلزم عليهم قتل هذا العدد منهم في الحروب.

و لكن ما ذكره مخالف لظاهر الآية، و المماثلة في موردها هي المماثلة في نقض حكم الشهر الحرام كما عرفت.

و علي كل حال هذه المسألة أوضح من أن تحتاج إلي هذه التكلّفات.

ما هو المثلي و القيمي؟

هذا كله في ناحية الكبري، أمّا صغري المسألة:

فقد عرّف «المثلي» و «القيمي» بتعاريف كثيرة تبلغ سبع تعريفات في كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و ربّما تبلغ اثني عشر تعريفا من طرق الخاصة و تعريفا واحدا من طرق العامة في كلمات صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الغصب «1» و لكنّها متقارب المضمون و عمدتها ثلاث تعريفات:

1- «المثلي ما تتساوي أجزاؤه من حيث القيمة» و هذا هو المحكي عن المشهور.

2- «أنّه ما قدر بالكيل و الوزن».

3- «ما هو كذلك و يجوز بيعه سلما».

و من الواضح أنّ هذين اللفظين لم يردا في نص آية أو رواية حتي يتكلم في مفهومهما، نعم ذكرا في معقد الإجماعات، و لكن قد عرفت الإشكال في دعوي الإجماع في مثل هذه المسائل.

و من هنا يعلم أن الطريقة التي اختارها

شيخنا الأعظم قدّس سرّه و من تبعه و اقتدي به، من

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 37 ص 90.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 172

الأخذ بالقدر المتيقن في المسألة و هو المجمع عليه، و الرجوع في غيره إلي الأصل، أيضا غير تام بعد عدم الاعتماد علي الإجماع (فتأمل).

كما أنّ القول بأن هذه التعاريف كلها تعاريف «شرح اسميه» لا تعاريف «حقيقية» ينافي جسدا ما ذكروه في نقضها و طردها و سدّ الخلل فيها باضافة بعض القيود أو نقصه، فانّ هذه الامور لا تجري في تعريف يبني علي شرح الاسم كما هو ظاهر، بل هي دليل واضح علي أنّهم تلقوها بعنوان تعاريف حقيقية.

و قد صرّح بذلك في الجواهر حيث قال: لا وقع لما اعتذر به الكركي عن التعريف المزبور بأن الظاهر منه إرادة ضبط المثلي بحيث يتميز فضل تميز … ضرورة أنّك قد عرفت كون المراد بالتعريف المزبور ما لا يحتاج إلي الاعتذار المذكور «1».

هذا و الأمر سهل بعد ما كان المبدأ في هذا الحكم قاعدة احترام الأموال و سيرة العقلاء و شهادة العرف و الذي يظهر من الرجوع إلي هذا الدليل، أنّ المعتبر عند أهل العرف و العقلاء ردّ العين مهما أمكن، و إلّا فيرّد الأقرب فالأقرب. و من الواضح أنّ المثل أقرب إليه من القيمة، و لكن المثل قد لا يوجد إلّا نادرا، و التزام الضامن بوجدان هنا الفرد النادر غير متعارف بينهم، فالزموا الضامن بالمثل إذا وجد بمقدار معتد به، و هذا هو المثلي أي ما يوجد مثله كثيرا، و لا أقل أنه ليس مثله من الأفراد النادرة، و القيمي بخلافه.

ثم ليعلم أنّ المراد من المماثلة، هو التقارب في الصفات التي يختلف فيه الرغبات و

يختلف بها القيمة لا ما ليس كذلك كما هو ظاهر.

و يحتمل قويا رجوع جميع التعاريف الاثني عشر أو الثلاث عشر أيضا إلي ذلك، فانّ التعريف المشهور بين فقهائنا رضوان اللّه عليهم و هو أنّه «ما يتساوي قيمة أجزائه» الذي أشار إليه المحقق قدّس سرّه في الشرائع في «كتاب الغصب» حاصله أنّه يوجد له أجزاء أو أفراد متماثلة في القيمة و الأوصاف التي تختلف بها الرغبات، و من الواضح أنّ المراد من التساوي هو التقارب، و إلّا قلّما يوجد ما يستاوي بالدقة العقلية، كما أنّ المراد من

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 37، ص 91.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 173

الأجزاء هو الأفراد، أو الأجزاء التي يصدق عليها اسم النوع، ففي الحنطة، هي ما يسمي حنطة من الحبات لا القشور أو الألباب فقط، كما أنّ الظاهر أنّ مرادهم من ذلك هو ملاحظة الاصناف من كل نوع مع ما هو من صنفه، و إلّا فالأصناف المختلفة من نوع واحد كالحنطة من هذا البلد و ذاك البلد، و الحنطة من بذر فلان و بذر فلان تختلف جدّا و لا تكون مثلية.

فبالنظر إلي هذه التفسيرات الثلاث التي تفهم من أمثلتهم في المقام يظهر أن الإيراد علي التعريف بمثل ما اعترضه في المسالك من أنّه «إن اريد بالأجزاء كل ما تركب عنه الشي ء لزم أن لا تكون الحبوب مثلية لتركبها من القشور و الألباب، و إن اريد الأجزاء التي يقع عليها اسم الجملة لزم أن لا تكون الدراهم و الدنانير مثلية لما يقع في الصحاح من الاختلاف في الوزن و الهيئة» (انتهي ملخصا).

و ذلك لأنّ المراد كما عرفت ما يقع عليه الاسم، كما أنّ المراد هو الأصناف ففي الدراهم من الصنف

الواحد لا اختلاف في الوزن، كما أنّ الهيئات غير المؤثرة في القيمة لا أثر له كما عرفت.

بقي هنا امور تتعلق بالمثلي و القيمي:
الأمر الأول: اختلاف المثلي و القيمي باختلاف الأزمان

لا ينبغي الشك في اختلاف المثلي و القيمي باختلاف الأزمان، ففي الأزمنة السابقة كانت الفرش و الألبسة و الأحذية و أشباعها من القيميات، و كذا الآنية المصنوعة من أنواع الفلزات أو الخزف و غيرها، و كذا ما كان يصنع من الأخشاب من السرير و الباب و أنواع ما يستعمل في البيوت، و ذلك لأنّها كانت مصنوعة بالأيدي.

و من المعلوم عدم المساواة بين مصنوعات أرباب هذه المشاغل، بل بين مصنوعات صانع واحد غالبا، و لو وجد المثل له كان قليلا لا كثيرا.

و أمّا في زماننا هذا حيث اتسعت فيه عملية نسج الملابس أو صناعة الأحذية

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 174

بالمكائن الحديثة، و كذا الأبواب و السرر، و ما ينتفع منها في البيوت من أنواع الآنية و غيرها فقد لا يكون بين مئات من أفرادها أي تفاوت بحيث يشتبه بأدني سبب، و لا يمكن تشخيص أحدها من غيره، بل قد يكون تماثلها أشد و أكثر من تماثل حبوب الحنطة و الشعير و غيرهما كما هو واضح.

و لا شك أنّها مثلية عندئذ بشرط صنعها في معمل واحد علي نهج واحد، لا في معامل مختلفة علي مناهج متفاوتة.

بل يمكن أن يقال: إن أنواع الحيوان التي كانت كلها علي الظاهر قيمية، تكون في زماننا من المثليات كالدجاج الذي يتم انتاجه في المصانع الحديثة، بل و بعض أنواع الغنم، لا سيما إذا كان يرغب فيها باعتبار اللحم فقط، و كذا المراكب الحديثة من أنواع السيارات و غيرها.

و ذلك كلّه لانطباق ما عرفت من تعريف المثلي علي ذلك أجمع، بل و سائر ما

ذكره القوم من التعاريف.

الأمر الثاني: هل يجوز للمالك أن يطلب من الضمان القيمة بدل المثل؟

و هل يجب عليه قبوله، أو يجوز له الامتناع منه و الاكتفاء باداء المثل؟ لم أر من تعرض له، و لكن الظاهر أنّه لا يلزم بغير المثل في المثلي، و أن كانت القيمة أنفع للمالك فانّه حكم نوعي لا شخصي، و القول بأن أداء المثل لمراعاة حال المالك لكونه أقرب إلي التالف من القيمة، فإذا لم يرض به بل رضي بالقيمة كان علي الضامن أداؤها، هو كما تري.

فانّ الدواعي الشخصية غير معتبرة في باب الضمانات، بل المعاملات كلها تدور مدار الأغراض النوعية، و كذا الكلام في عكسه، و هو ما إذا قال الضامن: خذ منّي المثل بدل القيمة في القيميات، فانّه و إن كان أقرب إلي العين منها و لكن لا يجبر المالك علي قبولها، بل له إلزام الضامن في القيميات، لما عرفت من أن المدار في هذه الامور الأغراض النوعية التي استقرت عليها سيرة العقلاء، و اقتضتها قاعدة الاحترام في الأموال.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 175

الأمر الثالث: بعض الاشياء في بعض البلاد مثليا و في بلد آخر قيميا

يمكن أن يكون بعض الأشياء في بعض البلاد مثليا و في بلد آخر قيميا، و ذلك إمّا لوفور المثل في بلد دون آخر، أو عدم الاعتداد ببعض الصفات في تفاضل العين في مكان دون مكان، ففي البلد الذي لا يراد من الشاة إلّا لحمها مثلا تكون قيمية، و في البلد الذي يرغب في سائر أوصافها فهي مثلية.

الأمر الرابع: قد يكون شي ء مثليا في بعض فصول السنة

قد يختلف شي ء باختلاف الزمان في عصر واحد فقد يكون شي ء مثليا في بعض فصول السنة، إمّا لوفور مثله في ذلك الزمان أو عدم الاعتداد ببعض الصفات النادرة فيها، و عدمه في زمان آخر.

و الظاهر معاملة كل مكان أو زمان بما يقتضيه.

و لا مانع من اختلاف الأمكنة و الأزمنة في ذلك، بعد كون جميع ذلك تابعا للاعتبار و سيرة العقلاء في ذلك، لا عجب في اختلاف سيرهم باختلاف الأزمنة و الأمكنة كما لا يخفي.

الأمر الخامس: إذا شك في شي ء أنّه مثلي أو قيمي

إذا شك في بعض الأشياء أنّه مثلي أو قيمي، فما هو مقتضي الأصل و القاعدة فيه؟ كبعض الحيوان و الفرش و الألبسة و الأثواب التي لا يعلم أنّها مثلية أو قيمية.

الانصاف أنّ موارد الشك كثيرة في المقام، فلا بدّ من تبيين مقتضي الأصل و القاعدة في ذلك فنقول، و منه عزّ اسمه التوفيق:

ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المسألة وجوها أربعة:

1- الضمان بالمثل.

2- الضمان بالقيمة.

3- تخيير المالك.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 176

4- تخيير الضمان.

و قد يذكر هنا وجهان آخران:

«أحدهما»: الرجوع إلي القرعة.

«ثانيهما»: الرجوع إلي الحاكم ليصلح بينها صلحا، و لكنهما ضعيفان جدّا، أمّا القرعة فانّما هي للموضوعات المشتبهة الخارجية التي لا طريق إلي حلّها من الأمارات و الاصول، و هنا ليس كذلك لأنّه من الشبهة في الحكم، و لو جاز القرعة في مثله رجع المجتهد إلي القرعة في جميع ما يشك فيه من الأحكام! و هو واضح البطلان، هذا أولا، و ثانيا للمسألة طريق حل اخري من الاصول العملية أو غيرها كما سيأتي إن شاء اللّه، و معه لا يبقي مجال للقرعة.

و أمّا الثاني، أي الرجوع إلي الحاكم، فهو أيضا كذلك، لأنّ الرجوع إليه للصلح إنّما هو في الشبهات

الموضوعة التي هي محل الخلاف بعد وضوح الحكم، و هنا نشك في أصل حكم الشرع.

و استدل للأول من الصور الأربع بأن اشتغال ذمّة الضامن يقتضي ذلك، لأن المثل أقرب إلي التالف و إنّما يتنزل منه إلي القيمة لقيام الدليل فيه، و هو سيرة العقلاء و شبهها، فالأصل عدم براءة ذمّة الضامن إلّا بالمثل، فهو مقتضي قاعدة الاشتغال.

كما أنّه يمكن الاستدلال للثاني بأصالة براءة ذمّة الضامن عمّا زاد علي القيمة، أو أنّ المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر، لأنّ المثل يشتمل علي القيمة و الأوصاف.

و يمكن الاستدلال علي تخيير المالك بين المطالبة بالمثل أو القيمة بأنّ ذمّة الضامن مشغولة بأحدهما بحسب العلم الإجمالي، و لا تفرغ إلّا بالاحتياط أو تخيير المالك و رضاه به، و لما لم يكن الأول واجبا بالإجماع بقي الثاني.

و أمّا تخيير الضامن بين أداء القيمة أو المثل فلأن العلم الإجمالي باشتغال ذمته بأحدهما و إن كان يقتضي الجمع، و كان لما كان الجمع غير واجب بالإجماع كان مخيرا بينهما.

هذا إذا قلنا إن المثل و القيمة من قبيل المتباينين، أمّا إن قلنا إنّهما من قبيل الأقل

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 177

و الأكثر لاشتمال المثل علي القيمة مع إضافة الأوصاف كان مقتضي القاعدة الأخذ بالأقل و هو القيمة.

هذا و الأقوي من بين هذا الوجوه هو القول بتخيير المالك، و ذلك لأنّ المقام من موارد قاعدة الاشتغال، لأن شغل الذمّة بالعين التالف معلوم، و لا بدّ من الخروج عن عهدته، و لا يعلم الخروج منه بأداء المثل أو القيمة، و لا يجب عليه الاحتياط بالجمع بينهما لقاعدة نفي الضرر، و لا تحصل البراءة بتخيير الضامن، فلا يبقي إلّا تخيير المالك،

و إن شئت قلت: إذا جعل الضامن المثل و القيمة تحت اختيار المالك، و قال: اختر ما شئت، فقد برئت ذمّته ممّا عليه من الضامن علي كل تقدير.

هذا و لكن يرد الإشكال عليه: بأن الضامن و إن كانت ذمته تبرأ بذلك، و لكن كيف يجوز للمالك أن يختار مالا يعمله أنّه حقه؟ فعلي الضامن أن يخيّره، و علي المالك أن لا يختار!

فلا يبقي طريق لتخلصهما عما عليهما من الوظيفة إلّا بالتصالح بأحدهما.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ قاعدة الأقرب إلي التالف فالأقرب الجارية في ضمان التالف تقتضي المثل أولا، إنّما يتعدي منه إلي القيمة إذا ثبت كونه قيميا، و حيث لم يثبت في المقام فالأصل هو الأخذ بالمثل، و هذا هو الأحوط لو لم يكن أقوي.

الأمر السادس: إذا لم يوجد المثل إلّا بأكثر من قيمته

المثل قد يوجد بأقل من المثل، و قد يوجد بأكثر منه ممّا يكون مجحفا أو غير مجحف، و قد يكون ساقطا عن القيمة لوفوره كالماء علي الشاطي، فهذه صور ثلاث.

لا ينبغي الشك في عدم كفاية المثل في الأخير لأنّه لا يقوم مقام التالف قطعا و وجوده كالعدم، لكثرة الوجود، و حينئذ ينتقل إلي القيمة، و لا يبعد قيمة يوم التلف كما سيأتي إن شاء اللّه، و ما احتمله بعضهم من كفاية المثل حينئذ كما تري.

أمّا إذا وجد بأقل منه لنقصان القيمة السوقية، فالظاهر كفايته في الجملة، و قد ذكر السيد قدّس سرّه في الحاشية: «أنّ الظاهر إجماعهم علي ذلك، و أنّه مطابق للقاعدة أيضا، إذ لا فرق بين المقام و سائر الموارد التي يكون في ذمّته كلي من حنطة أو شعير أو نحو ذلك

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 178

قرضا أو ثمنا للمبيع أو مثمنا أو نحو ذلك، و

كان مما طلا في أدائه زمان علوّ قيمته ثم أعطاه في زمان نقص قيمته، فانّه لا شي ء عليه غيره، و كذا الحال لو نقص قيمة العين مع بقائها، فانّه لا ينتقل إلي البدل و لا يضمن التفاوت نعم يشكل الحال في بعض الصور، كما إذا صدق عليه أنّه فوت عليه مقدارا من مالية ماله، و هذا إنّما يكون فيما لو كان بانيا علي بيع غيره، عينه في حال زيادة قيمتها فغصبها منه ثم ردّها بعد ما نقصت لكن الظاهر عدم التزامهم بذلك فانّهم صرّحوا بعدم ضمان تفاوت القيمة من غير تفصيل، و من غير خلاف بينهم» «1».

و حاصل ما أفاده أنّ العين إذا كانت كليا في الذمّة، سواء كان بسبب البيع أو القرض، أو بسبب ضمان التالف، فعليه أداء المثل سواء نقصت قيمة أو لا، و كذلك إذا كانت العين الخارجية موجودة عنده فلا يضمن نقصان القيمة مطلقا و لو كان غاصبا.

و الانصاف أنّه مشكل جدّا إذا لزم منه الضرر، كالمثال الذي ذكره، و غيره من أشباهه، كما إذا غصب منه شاة يوم العيد في مني مع وجود الباذل للقيمة الغالية و قد هيأ شياهه للبيع ذاك اليوم، ثم ردّها عليه بعد تلك الأيّام التي لا يشتري فيها الغنم بعشر قيمته، لعدم الباذل و عدم الطالب لها مثلا.

و كذا إذا اشتري منه الشياه في الذمّة بثمن غال (بناء علي صحة السلم في مثل ذلك كما قالوا) و كان وقت تسليمها قبل العيد مثلا لبيعها إلي الحجاج، لكنه سلّمها إليه بعد تلك الأيّام مما لا تشتري فيها بعشر قيمتها أو بنصفها، و كذا سائر ما تعد للموسم و غيره (و كذا لو كان من قبل الدين).

الظاهر

صدق الإضرار هنا، لا سيما إذا كان متعمدا، فيشملها أدلة نفي الضرر نعم يمكن دفع الضرر في السلم بفسخ البيع، و لكنه لا يجري في مثل القرض أو صورة غصب نفس العين، فالقول بلزوم اعطاء التفاوت و تدارك الضرر حينئذ لو لم يكن أقوي فلا أقل أنّه أحوط، و دعوي الإجماع في هذه المسائل مشكلة جدّا.

______________________________

(1). حاشية المكاسب للسيد المحقق اليزدي الطباطبائي قدّس سرّه، ص 212.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 179

و أمّا إذا وجد بأكثر من قيمة المثل، إما لزيادة القيمة السوقية، أو لأجل عدم وجدانه إلّا عند من لا يعطيه إلّا بأزيد ممّا يرغب الناس فيه، فقد نفي شيخنا الأعظم قدّس سرّه الإشكال في وجوب اعطاء المثل في الصورة الاولي، بل و قد ذكر عدم الخلاف فيه و نقل الإجماع عليه.

ثم احتمل شمول أدلة نفي الضرر للثاني، ثم رجع عنه و قوي وجوب الشراء، و الإنصاف هنا أيضا التفصيل بين ما إذا طالب المالك بأداء المثل و لم يعطه الضامن أو ما طل في أدائه، فحصل هنا ضرر من جهة انحطاط القيمة جدّا، فشمول أدلة لا ضرر له غير بعيد و لا أقل أنّه أحوط، بخلاف ما إذا لم يكن قصور من ناحية الضامن بل كانت المسامحة من المالك أو لعلل اخري.

و ليعلم أنّ ما ذكرنا لا يجري في تفاوت القيم السوقية المتعارفة، فان السوق قد يزداد و قد ينقص و هذا حاله دائما، إنّما الكلام في غير ذلك.

الأمر السابع: حكم تعذر المثل في المثلي
اشارة

لو تعذر المثل في المثلي، إمّا لكون المبيع ممّا يتغير حاله في فصول السنة كالفواكه (إذا قلنا بأنّها مثلية أو بعضها علي الأقل) أو لكونه ممّا يؤتي به من خارج البلاد، و انقطع

الطريق للحرب أو السيل أو عدم أمن السبيل و أمثال ذلك، فهنا صورتان:

الاولي: إذا رضي المالك بالصبر إلي حصول المثل و القدرة عليه، الظاهر عدم جواز إجبار المالك بأخذ القيمة و افراغ ذمة الضامن، كما صرّح به غير واحد منهم، و لا ينافيه كلمات الآخرين، و الدليل علي ذلك أنّه مشغول الذمة بالمثل (بل بأصل العين علي احتمال) و لا دليل علي تبدله بالقيمة إذا لم يطالب بحقّه، فالأصل بقاء اشتغال ذمته و عدم الفراغ منه بالقيمة كما لا يخفي.

الثانية: إذا طالب بحقّه، فلا شك في الانتقال إلي القيمة حينئذ لأنّها أقرب الأشياء إلي العين في هذا الحال و لا طريق آخر إلي اعطاء ذي الحق حقّه.

و هذا أوضح من أن يحتاج إلي الاستدلال له بقوله تعالي: فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 180

عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ (نظرا إلي أنّ الاعتداء بالمثل هنا هو بأخذ القيمة) كما فعله شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و ذلك لما عرفت من عدم شمول الآية لغير أبواب القصاص و ما أشبهها، مضافا إلي أنّ اطلاق المثل علي القيمة هنا لا يخلو عن شي ء، و إن كان المراد منه معناه اللغوي.

هذا كله واضح، إنّما الكلام في أنّ المدار عند اختلاف القيم «قيمة يوم الدافع» لأنّه يوم الانتقال إلي القيمة و قبله يكون المثل في ذمته …

أو «قيمة يوم المطالبة» لأنّه زمان التكليف بالاداء …

أو «قيمة يوم الإعواز» و تعذر المثل لأنّه وقت الانتقال إلي القيمة …

أو «أعلي القيم من زمان الإعواز إلي زمن المطالبة» …

أو «أعلي القيم من زمان الاعواز إلي زمن الدافع» لأنّ الغاصب يؤخذ باشق الأحوال؟

فهذه عمدة الوجوه المتصورة في المقام (وجوه خمسة).

و ذكر

بعضهم وجها آخرا و هو الاعتبار بقيمة يوم تلف العين، كما ذكره بعنوان الاحتمال في «مصباح الفقاهة» و الإنصاف أنّه لا وجه له بعد فرض المثل موجودا حين التلف، فكان عليه اعطائه، و لم يكن هناك دليل علي الانتقال إلي قيمة حينئذ.

و الإنصاف أنّ الأقوي من بينها هو «قيمة يوم الدفع» لعدم الدليل علي الانتقال إلي القيمة في أي زمن قبله، لا في زمن التعذر و الإعواز، و لا في زمن المطالبة، بل اشتغال الذمة باق إلي زمن الأداء و لذا لو صبر المالك إلي زمن حصول المثل كان حقّه باقيا.

تنبيهات:
«الأول»: إذا تعذر المثل من أول الأمر

، أعني من حين التلف، فهل الحكم فيه أيضا ما مرّ في صورة التعذر بعد التلف، من الانتقال إلي قيمة المثل حين الأداء، أو المدار فيه علي القيمة حين التلف؟

الذي يظهر من تقييد غير واحد منهم كالعلّامة في التذكرة و الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك، بكون التلف بعد الإعواز، هو الفرق بينها.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 181

بل حكي عن جامع المقاصد استظهار دفع قيمة التالف في هذا الفرض.

و استدل له بأن المال يصير قيميا حين التلف لفقد مثله، و لعله لمنافاة ضمان المثل مع تعذره.

و قد ناقشه في الجواهر في كتاب الغصب بعدم المنافاة بين ثبوت المثل في الذمة، و بين تعذر أدائه في ذلك الوقت، و دعوي صيرورته قيميا واضحة المنع «1».

و يمكن الجواب عن هذه الدعوي بوجهين:

أولا: لازمه الحكم بذلك في المسألة السابقة أعني صورة تعذر المثل بعد التلف، مع أنّك قد عرفت أنّ المشهور و المختار تلك الصورة هو وجوب قيمة يوم الأداء، لا يوم الإعواز.

ثانيا: لازم ذلك عدم وجوب أداء المثل لو تعذر عند التلف ثم وجد

مثله قبل الأداء مع أنّه لا يقول به من أحد حسب الظاهر.

و القول بأنّه صار قيميا بالاعواز، ثم صار مثليا بعد الوفور غير مفيد، لأنّه إذا اشتغل ذمّته بالقيمة عند الإعواز فكيف يتبدل بالمثل؟ لعدم تحقق سبب الضمان و هو التلف مجددا، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ استقرار القيمة في الذمّة كان لأنّه أقرب إلي التالف عند ذاك، فإذا وجد ما هو أقرب منها و هو المثل استقر في الذمّة.

و العمدة هنا أنّ المثل لا ينقلب عن كونه مثليا بهذه العوارض الخاصة، بل يبقي بحاله، و لذا لو صبر المالك إلي حين وجدان المثل لم يضره و كان له ذلك، فالأقوي لزوم قيمة يوم الأداء علي كل حال، و يشهد لذلك أنّه لو استقرض مقدارا من الحنطة مثلا أو دراهم و دنانير ممّا هو مثلي استقر في ذمته المثل، و كان عليه قيمة يوم الأداء سواء كان تعذر المثل حينه أو بعده.

و لعله لذلك كله لم يفرق بين المسألتين في المقام الشيخ قدّس سرّه في المبسوط، و العلّامة قدّس سرّه في الإرشاد، و الشهيد قدّس سرّه في الدروس و كذا المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الغصب، و صاحب الجواهر أيضا.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 37، ص 97.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 182

«الثاني» ما المراد بالاعواز في أمثال المقام؟

فيه وجوه أو أقول:

«احدهما» ما حكاه في الجواهر عن التذكرة و المسالك من أنّ المراد بالفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد و ما حوله.

«ثانيها» ما عن جامع المقاصد من أنّ المراجع فيه العرف.

«ثالثها» أنّ المراد فقدانه مطلقا و لو في البلاد النائية.

و حيث لا يوجد في المسألة نص و لا دليل إلّا الرجوع إلي سيرة العقلاء، فاللازم الرجوع إليها،

و الظاهر أنّها مستقرة علي ما ذكره العلّامة و الشهيد الثاني قدّس سرّه و لا يلزمون الضمان علي تحصيل المثل من البلاد النائية بل يكلّفونه بأداء القيمة.

نعم، في زماننا هذا الذي يسهل النقل من بلد إلي بلد فالمدار فيه علي ما يشكل نقله منه إليه عادة، و لا يمكن الوصول إلي المثل بسهولة، و حينئذ القول بوجوب تحصيله بأي صورة كانت، لا سيما إذا كان غاصبا يؤخذ بأشق الأحوال، كما تري.

«الثالث» كيف يمكن معرفة القيمة مع عدم وجود المثل

، و هل المراد فرضه موجودا في غاية القلة، أو في غاية الوفور، أو المتوسط بين ذلك؟ الظاهر أنّ خير هذه الوجوه هو الأخير كما يعرف من أشباهه في الفقه و سيرة العقلاء، لعدم وجود دليل هنا إلّا سيرتهم، و لو شك في بعض المصاديق فاصالة الاشتغال محكّمة كما لا يخفي.

الأمر الثامن: حكم القيمي و مدار القيمة.
اشارة

قد عرفت أنّ القيميات مضمونة بالقيمة، كما عرفت الدليل عليه من الأخبار و بناء العقلاء في ذلك، و قد أمضاه الشرع، و ما يحكي من الخلاف في ذلك من بعض، لا يعبأ به، و الظاهر أنّه لا فرق بين وجود المثل له اتفاقا كمن يملك فرسين توأمين شبيهين من جميع الجهات، فباع أحدهما ثم اتلفه بعد الاقباض، فهل يمكن إلزامه بتداركه بما عنده من الفرد الآخر الذي يكون مثله في جميع الجهات؟ لا يبعد عدم الإلزام، كما أنّه لا يمكن إلزام المشتري بقبوله، فانّ الأحكام في هذه الامور تدور مدار الأنواع لا الأفراد الخاصة كما يظهر بمراجعة سيرة العقلاء في أمثاله.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 183

و لكن مع ذلك لا يترك الاحتياط فيه، لا سيما مع ملاحظة قاعدة الأقرب فالأقرب، و مع ملاحظة ما ورد من طريق أهل الخلاف من «أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله أخذ قصعة امرأة كسرت قصعة اخري» «1» مع أن القصعة في ذلك الزمان كانت قيمية و الظاهر أنّه أخذه صلّي اللّه عليه و آله لمشابهة القصعتين، و كذلك ما روي من حكمة صلّي اللّه عليه و آله بضمان عائشة إناء حفصة و طعامها بمثله (الذي يظهر من سنن البيهقي أنّها كانت صفية لا حفصة و كانت من أحسن النساء طبخا كما اعترفت به عائشه).

«2». و

إذا قال المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب القرض «و لو قيل يثبت مثله (في القيمي) أيضا كان حسنا».

و قال في محكي التذكرة «مال القراض إن كان مثليا وجب ردّ مثله إجماعا، و إن لم يكن مثليا فان كان ممّا ينضبط بالوصف و هو ما يصح السلف فيه كالحيوان أو الثياب، فالأقرب أنّه يضمن بمثله من حيث الصورة» ثم استدل له بأن النبي صلّي اللّه عليه و آله استقرض بكرا و أمر برد مثله «3».

و لقد أجاد صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب القرض بعد ذكر أقوال المخالفين: إنّ الإنصاف عدم خلو القول به من قوة … فالاحتياط فيه لا يترك «4».

بل الظاهر تعميم الحكم بغير القرض، فلا يترك الاحتياط في أبواب الضمانات كلّها عند وجدان مثل للقيمي.

ثم إن المهم في المقام تعيين مدار القيمة، و أنّ المعتبر هل قيمة يوم الضمان، أو التلف، أو المطالبة، أو الأداء، أو أعلي القيم؟ (فهذه وجوه خمسة)، و المحكي عن الأكثر هو الاعتبار بقيمة يوم الضمان، كما أشار إليه المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الغصب و إن

______________________________

(1). سنن البيهقي، ج 6، ص 96 و لكن، الحديث طويل و ما ذكر هو ملخصه و الحديثان لا يخلوان عن الإشكال سندا و دلالة.

(2). المصدر السابق.

(3). جواهر الكلام، ج 25، ص 20.

(4). المصدر السابق، ص 21.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 184

وقع الترديد فيه من صاحب الجواهر قدّس سرّه، و عن جماعة كثيرة من قدماء الأصحاب و المتأخرين منهم الشيخ قدّس سرّه في الخلاف و المبسوط و ابن ادريس و الشهيد الأول و العلّامة «أعلي القيم من زمان الغصب إلي حين التلف» و لكن هذا بالنسبة إلي

الغاصب المأخوذ بأشق الأحوال، و أمّا غيره فلعل نظرهم إلي حين التلف.

و ذكروا لأعلي القيم وجوه لا يهمنا التعرض لها بعد ضعف أصله.

و علي كل حال اللازم التعرض لمقتضي القاعدة، ثم الرجوع إلي ما يقتضيه النص في الباب.

فنقول، منه سبحانه نستمد التوفيق: إن مقتضي القاعدة يختلف باختلاف الأنظار، فأمّا أن نقول بأن المستقر في الذمّة هو العين، و عدم إمكان تداركها بشخصها لا ينافي استقرارها في الذمّة لوجود الأثر لهذا الأمر الاعتباري (و قد ذهب إليه بعض أعاظم المحشين علي المكاسب و هو السيد السند المحقق اليزدي قدّس سرّه).

أو نقول بأن الذمّة مشغولة دائما بالمثل، سواء في المثلي أو القيمي كما يظهر من بعضهم.

فعلي هذين الفرضين تجب قيمة يوم الأداء لأنّه يوم الانتقال إلي البدل، و البدل الذي يسد فراغها عندئذ هو قيمة ذاك اليوم.

و أمّا لو قلنا بأن المستقر في الذمّة هو القيمة في القيميات، فلا ينبغي الشك في أنّها قيمة يوم التلف، و بما أن الأقوي هو الأخير، لأنّ استقرار نفس «العين» في الذمة ممّا لا محصل له، فالخارج المعدوم لا يمكن جعله في الذمّة، بل و لا الخارج الموجود، لأنّ المستقر في الذمّة دائما أمر كلي و ذلك لا يتصور إلّا في المثل لا «العين» و أمّا المثل فقد عرفت أنّه خلاف التحقيق في القيميات.

أضف إلي ذلك أنّ اللازم تدارك الخسارة يوم حصلت و تداركها يومئذ لا يكون إلّا بقيمة ذلك اليوم إن كان قيميا، و بمثله إن كان مثليا.

فمقتضي القاعدة هو قيمة يوم التلف، و هو يوم الانتقال إلي القيمة و جبران الخسارة.

و أمّا بالنظر إلي روايات الباب فالعمدة فيها هو صحيحة أبي ولاد، و يمكن الإشكال في كونها صحيحة باعتراف

في متن الحديث يكونه غاصبا للبغل، و لرضاه بالرجوع في

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 185

القضاء إلي من لا يصلح له، اللّهم إلّا أن يقال أنّه كان يعلم بشاهد الحال برضا صاحب البغل باعطائه ما يرضاه من الثمن، و الرجوع إلي ما لا يصلح لتصدي القضاء كان بسبب التقية فتأمل.

هذا و لكن الوثاقة في الحديث لا تلازم العدالة، مضافا إلي أن الأصحاب تلقوها بالقبول.

و أمّا دلالتها فانّها مشتملة علي أحكام كثيرة نافعة تبلغ سبعة أحكام.

و لكن محل الاستشهاد به هو قوله «نعم قيمة بغل يوم خالفته» في جواب سؤال أبي ولاد «أ رأيت لو عطب البغل أو نفق أ ليس كان يلزمني»؟! و لكن في بعض نسخ الحديث «نعم قيمة البغل يوم خالفه».

و استدل القائلون باعتبار قيمة يوم الضمان بهذه الفقرة، و طريق الاستدلال بها من وجوه:

«الأول»: القيمة مضافا إلي البغل، ثم اضيفت ثانيا إلي اليوم، و حاصله وجوب قيمة البغل يوم المخالفة (كأنّه قال: نعم قيمة بغل، قيمة يوم خالفته).

«و فيه»: أنّ إضافة شي ء مرتين غير مأنوس في كلام العرب و غير معروف في كلمات أهل الأدب.

«الثاني»: اليوم ظرف و قيد للاختصاص المفهوم من إضافة «القيمة» إلي «البغل»، و حاصله القيمة المختصة للبغل يوم المخالفة.

و هذا أحسن من السابق، و لكن يرد عليه أنّ ذكر البغل بصورة النكرة علي هذا ممّا لا يري وجه، و المفروض أنّ البغل نفسه موجود يوم المخالفة، غير معدوم حتي يفرض مثله.

بل يستشم منها كون القيمي مضمونا بالمثل الذي هو خلاف القاعدة و خلاف متفاهم الأصحاب، مضافا إلي أنّ البغل إذا كان نكرة شمل أي بغل و لو لم يكن مثله، اللّهم إلّا أن يقال بانصرافه إلي مثله

و ليس ببعيد.

«الثالث»: القيمة مضافا إلي البغل، و المجموع مضاف إلي اليوم، فحذف اللام في البغل للإضافة فيكون مثل قولنا «خاتم فضة عمرو» أو «ماء ورد زيد» فليس لزيد في هذا

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 186

المثال ورد بل «ماء ورد» و لا لعمر و فضة بل «خاتم فضة».

و فيه: أنّه و إن كان ممكنا بحسب قواعد اللغة، و لكنه تركيب غير مأنوس، يشكل حمل الرواية عليه، و لا أقل أنّه ليس من الاحتمالات الظاهرة فيها.

«الرابع»: اليوم ظرف للقيمة بأن يكون للقيمة معني حدثيا، و معناه أنّه يقوّم البغل يوم المخالفة.

و فيه: إن استفادة معني الحدثية من القيمة بعيد جدّا، لا يساعده الذوق العرفي.

«الخامس»: أن يكون القيمة مضافا إلي البغل، و البغل مضافا إلي اليوم فيكون من تتابع الإضافات يعني تعتبر قيمة البغل في يوم المخالفة.

و فيه: إن اضافة البغل إلي اليوم بأن يقال: بغل هذا اليوم، و بغل أمس، و بغل غد، أيضا غير مأنوس و مخالف للظاهر.

و الحاصل: أنّ الاستدلال بها لهذا القول لا يساعده ظاهر الصحيحة بأي احتمال من احتمالات.

و قد يؤيد الاستدلال بها بفقرة اخري منها، و هو قوله: «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتري كذا و كذا فيلزمك» حيث إنّ ظاهره لزوم قيمة يوم الإجارة، و لكنه لما لم يقل له واحد، و الغالب أنّ الاكتراء لمثل هذه المسافة القريبة التي كان أبو ولّاد بصددها (و هي المسافة بين الكوفة و ابن هبيرة) يكون في زمن قريب للسفر، كما أنّ مفروض الرواية وقوع التخلف في أول يوم من سفره، و من الواضح عدم تغيير القيمة في هذه المدّة القليلة بحسب العادة، فينطبق علي قيمة

يوم الضمان لا محالة، فالفقرتان متوافقتان بالمآل.

هذا و لكن يمكن أن يقال بأن ذكر يوم الاكتراء إنّما هو من باب إمكان إقامة الشهود عليه لكونه بمرئي و منظر من جماعة، ثم بعد ذلك تستصحب علي ما كان.

هذا، و لعل الأظهر في معني الفقرة الأولي من الرواية كون «نعم» بمعني «يلزمك» و «كون اليوم» ظرفا له فيكون مفهوم الجملة نعم يلزمك في يوم المخالفة قيمة البغل لو عطب أو هلك.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 187

و هذا و إن كان ساكتا عن ملاك التقويم و لكنه ينصرف إلي قيمة يوم التلف لا يوم المخالفة، لأنّه إذا قيل: يلزمك قيمة العين إذا تلف، يفهم منه قيمة ذلك اليوم لا سيما بملاحظة سيرة العقلاء المستقرة علي ذلك، و لأنّ تلك القيمة قائمة مقام العين التالفة.

و يؤيد هذا المعني امور:

1- المحكي عن بعض النسخ هو ذكر «البغل» مع الألف و اللام، و هو ظاهر فيما ذكرنا كما لا يخفي.

2- من البعيد إلزام الشارع في هذه الأبواب بحكم تعبدي علي خلاف سيرة العقلاء و لا سيما أنّهم لا يرون قيمة يوم المخالفة تداركا للمال التالف، و موجبا لجبران خسارة إذا فرض كون القيمة يوم التلف أكثر من يوم المخالفة و لازمه عدم وجوب تدارك التالف تعبدا، و هو و إن لم يكن محالا إذا قام الدليل عليه، و لكن احتماله بعيد في أمثال المقام.

3- الظاهر عدم تفاوت قيمة البغل في خلال هذه المدّة القليلة (خمسة عشر يوما) إلّا أن تحدث حادثة مهمّة كما إذا هلك كثير من البغال، أو وقعت حرب يحتاج فيها إلي البغال، أو شبه ذلك ممّا هو نادر، فليست الرواية ناظرة إلي خصوصية هذه الأيّام المختلفة

و إنّما ينصرف إلي ما ذكرنا لما عرفت من السيرة.

4- قد ورد في ذيل الحديث قوله: «عليك قيمة ما بين الصحة و العيب يوم تردّه عليه» في جواب سؤال «أبي ولّاد» عن حكم العيوب الواردة علي البغل و هذه الفقرة دليل علي أن الاعتبار بيوم الرّد مطلقا في العيوب و غيرها، لعدم الفرق بين ضمان العيوب و ضمان أصل المال، و هذا لا يساعد القول باعتبار يوم الضمان فينافي صدر الحديث، و لكنه ينافي القول باعتبار قيمة بغل يوم التلف، أيضا فلا بدّ من حمل هذه الفقرة علي كون «يوم ترده» ظرفا لقوله عليه السّلام «عليك» (بمعني يلزمك) فيكون شاهدا لكون اليوم في قوله عليه السّلام: «قيمة بغل يوم خالفته» أيضا كذلك فتكون الرواية بصدرها و ذيلها بصدد بيان أصل الضمان، و أمّا ملاك القيمة فيعرف من سيرة العقلاء التي أمضاها الشرع، و هو قيمة يوم التلف فتدبّر جيدا.

هذا و لكن الذي يسهل الخطب عدم ورود كلمة «يوم» في بعض النسخ بل ورد فيه

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 188

«عليك قيمة ما بين الصحة و العيب تردّه عليه» من دون ذكر اليوم.

هذا مضافا إلي إمكان كون اليوم قيدا للعيب، لأنّ العيب لو تناقض لم يبعد كون العبرة بيوم الردّ لا يوم حدوثه، خلافا لما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و تمام الكلام فيه في محله.

و الحاصل: أنّ الاستدلال بها علي اعتبار يوم الضمان مشكل جدّا و لا أقل من كونها مجملة، لو لم نقل بظهورها في اعتبار يوم التلف بما عرفت بيانه، فالاستدلال بها لاعتبار يوم الضمان مشكل جدّا.

إشكالات ترد علي صحيحة أبي ولاد:

ثم إنّه علي نفس الرواية إشكالات اخري من نواح آخر، و طريق دفعها ربّما يؤيد

بعض الأقوال السابقة:

1- إذا وقع الخلاف بين المالك و الضامن في مقدار القيمة فظاهر الصحيحة كون القول قول المالك مع يمينه، مع أنّه مدع للزيادة و الضامن منكر لها، و القاعدة تقتضي كون القول قول الضامن.

هذا مضافا إلي أنّ ظاهرها تخيير المالك بين إقامته البيّنة و الحلف، و هذا أيضا ممّا لا تساعده القواعد، لأنّ من كان القول قوله بحلفه، فالبيّنة بيّنة صاحبه.

و الحاصل: أنّ «البيّنة للمدعي» «و الحلف لمن أنكر» و الجمع بينهما غريب لا يساعده القواعد المعروفة في أبواب القضاء.

و قد اجيب عنه: تارة بأنّ البيّنة هنا علي القاعدة لأنّه مدع، و أمّا الحلف فليس حلفا قضائيا، بل حلف متعارف لإثبات الامور، كما هو المعمول من قول أحد المتحالفين للآخر أحلف علي هذا الأمر و خذ المال، و به يختم النزاع.

و لكنه مخالف للظاهر كما لا يخفي، لا سيما مع رجوع المتخاصمين هنا إلي القاضي في ما هو أقل منه و هو الكراء، فكيف يحمل الحلف علي غير القضاء؟

«و اخري» بأنّه تعبد خاص ورد في خصوص الدابة المغصوبة، أو مطلق القيمي، لإمكان تخصيص القواعد بنص خاص.

و الانصاف أنّ تخصيص القواعد العامة الجارية في مواردها بمثل هذا مشكل جدّا،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 189

لا سيما مع عدم ظهور استقرار فتوي الأصحاب عليه، مضافا إلي أنّ ذلك يكون دائما ذريعة لدعوي المالك إلي كل زيادة أرادها، و هو بعيد جدّا من مذاق الشرع، و كون الضامن غاصبا هنا لا يرخص ذلك.

«و ثالثة» بأنّ البيّنة إنّما هي علي القاعدة فيما يدعي صاحب البغل الزيادة، و أمّا الحلف فانّما هو فيما إذا اتفقا علي قيمته سابقا ثم اختلفا في تنزيل قيمته بعد ذلك، فانّ القول

قول مدعي عدم النقصان، فيكون مساعدا للقول بكون القيمة قيمة يوم التلف، لأنّه قد ينفك عن يوم الاجارة، و أمّا يوم المخالفة و الضمان المفروض في مورد الرواية اتحاده معه أو قربه منه جدّا.

هذا و لكن ظاهر الصحيحة تخيير المالك بين الأمرين لا اختصاص كل واحد من الحلف و البيّنة بصورة خاصّة، مضافا إلي أنّه يبقي بعض صور الاختلاف لم يذكر حكمه فيها، كما إذا ادعي المالك زيادة قيمة يوم التلف علي يوم الاجارة، و لا يمكن توجيهه إلّا ببعض التكلّفات.

و الاولي ترك العمل بذيلها و ردّ علمه إلي أهله، أو القول بأنّ الذيل ممّا يضعّف الركون علي أصل الرواية.

2- حكمه بأنّ العلف علي المستأجر لأنّه كان غاصبا عند المخالفة مع أنّ العلف عليه و إن لم يكن غاصبا.

و يمكن الجواب عنه بأنّه لعل المتعارف في تلك الأزمنة كون العلف علي المالك في الاجارات الصحيحة و كان يحسبه المستأجر من الكراء فتأمل، أو يقال بأنّ التعليل بكونه غاصبا في مقابل الأمين الذي يجوز له حفظ الدابة بتعليفها ثم أخذ قيمة العلف من صاحبها، كما صرح به غير واحد منهم في كتاب اللقطة.

3- ظاهر الصحيحة كون الاجارة بحسب طي مسافة الدابة، لا بحسب مقدار زمانها، مع أنّ المتعارف خلافه.

و يمكن أن يقال بعدم التفاوت بينهما في مورد الرواية، أو أنّ المدار عليهما جميعا و الأمر فيه سهل.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 190

القول بضمان أعلي القيم:
اشارة

بقي الكلام فيما عرفت سابقا من أنّ جماعة من الأصحاب (منهم الشيخ قدّس سرّه في الخلاف و ابن ادريس قدّس سرّه في السرائر و صاحب الوسيلة و الغنية، و جماعة من متأخري الأصحاب كالشهيد و العلّامة و ولده الفاضل (قدّس اللّه اسرارهم)

اختاروا ضمان أعلي القيم من حين الغصب إلي حين التلف، و مال إليه المحقق و الشهيد الثاني قدّس سرّهما في الشرائع و المسالك.

و استدل له بامور عمدتها:

1- أنّه مقتضي القاعدة، لأنّ العين في ضمان الضامن في جميع الحالات إلي يوم التلف، و من جملتها أعلي القيم، مضافا إلي أخذ الغاصب بأشق الأحوال (إذا فرض الكلام في الغصب).

و فيه: أنّه من قبيل الخلط بين الضمان التقديري الحاصل عند ثبوت العين و الضمان الفعلي عند فقدانه، و الأوّل لا أثر له إذا لم يتلف العين فارتفاع القيمة غير مضمون إلّا إذا وقع التلف حينه، و لو كان ضمانه لارتفاع القيمة فعليا لزم ردّه إلي المالك مع ردّ العين، و هو ممّا لم يقل به أحد كما صرح به في الجواهر في «كتاب الغصب».

و أخذ الغاصب بأشق الأحوال لا دليل له، بل هو مأخوذ بما يقتضي العدالة من تدارك العين و الخسارات الحاصلة، و قد عرفت أنّه يتمّ بأداء قيمة يوم التلف.

و لقد أجاد الشهيد الثاني قدّس سرّه في ما قال في المسالك «و مؤاخذة الغاصب بالاشق لا يجوز بغير دليل يقتضيه و قد تبيّن ضعفه» «1».

2- إنّ الغاصب أو الضامن حاصل بين المالك و العين بما له من المالية في كل زمان، و من تلك الأزمنة زمان ارتفاع القيمة السوقية، فهو ضامن لهذه القيمة و الباقي مندرج تحتها.

و فيه: إنّ مدار الضمان الفعلي هو التلف و مجرّد الحيلولة حرام تكليفي لا يوجب ضمانا إلّا تقديرا، أعني علي تقدير التلف، نعم قد تدخل المسألة في «قاعدة لا ضرر» كما

______________________________

(1). مسالك الافهام كتاب الغصب.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 191

إذا كان العين في معرض التجارة و المعاملة الحاضرة

بأعلي القيم فمنعه الظالم الغاصب، و لكن هذا فرض خاص لا دخل له بجميع فروض المسألة.

3- التمسك بقاعدة الاشتغال للشك في براءة الذمّة بغير أعلي القيم، أو استصحاب بقاء العين في ضمانه بدونه.

و فيه: التمسك بالأصل إنّما هو علي فرض الشك، و نحن نعلم أنّ الضامن غير مأمور بما عدا تدارك العين علي فرض التلف، و تداركه إنّما هو بقيمة يوم التلف لا غير.

4- و قد استدل بصحيحة أبي ولاد أيضا كما أشار إليه الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك و شرح اللمعة، و أحسن ما يمكن أن يقال في توجيه الرواية و دلالتها علي هذا المعني إنّما هو من ناحية قوله: «نعم قيمة بغل يوم خالفته» لأنّ يوم المخالفة و هو يوم الغصب، و الضمان ليس خصوص اليوم الأوّل، بل جميع هذه الأيّام إلي يوم التلف مصداق ليوم المخالفة و تكون نتيجته أعلي القيم.

و إن شئت قلت: ذكر يوم المخالفة في الحقيقة من قبيل تعليق الحكم علي الوصف، فالمخالفة كانت سببا للضمان، و هذا المعني حاصل في سائر الأيّام إلي التلف و لا خصوصية لليوم الأوّل.

و لكن الانصاف أنّه أيضا لا يخلو عن تكلف و ارتكاب لخلاف الظاهر، مضافا إلي ما عرفت من الإشكال في أصل دلالة الحديث علي أنّ المدار هو يوم المخالفة.

فالقول بأعلي القيم ضعيف هنا و في جميع أبواب الضمانات.

و العجب أنّه ذكر في المسالك بعد تقوية القول بكون المدار علي قيمة يوم التلف، ما نصه: إلّا أنّ في صحيحة أبي ولّاد فيمن اكتري البغل و تجاوز به محل الشرط ما يدل علي وجوب أعلي القيم بين الوقتين و لولاها لما كان عن هذا القول عدول «1».

و قد عرفت ما يمكن

توجيهه به و الا يراد عليه فتوقفه في الفتوي بيوم التلف نظرا إلي اشعار ضعيف في الصحيحة غير صحيح.

______________________________

(1). مسالك الافهام كتاب الغصب.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 192

فتحصل من جميع ما ذكرنا عدم وجود دليل يدل علي أعلي القيم و إن كان الاحتياط حسنا في كل باب، و ربّما استدل عليه بامور ضعيفة اخري نحن في غني عنه بعد ما عرفت و اللّه العالم.

و هنا فرعان:
الأوّل: كل ما مرّ في ارتفاع القيمة و انخفاضها كان بحسب الأزمنة و الأيّام المختلفة

فلو كان الاختلاف بحسب الأمكنة بأن كانت قيمة العين في مكان الضمان مقدارا، و في مكان التلف مقدارا آخر، و كذا في محل المطالبة، أو الأداء، فهل المدار علي مكان التلف، أو غيره، أو أعلي القيم؟ فإذا كان قيمته في الكوفة مثلا مائة، و في بغداد عند تلفه مائة و خمسين، و في البصرة عند المطالبة أو الأداء مائتين فالواجب عليه أداء أيّ هذه القيم؟ لم أر كلاما للأصحاب هنا و لكن ذكروا نظيره في باب المثلي.

و كلمات الأصحاب هناك مختلفة، فعن ابن ادريس أنّه لو ظفر المالك بالغاصب في غير مكان الاتلاف فله إلزامه به في ذلك المكان، و إن كان أعلي قيمته من مكان الغصب، لأنّه الذي تقتضيه عدالة الإسلام و الأدلة و اصول المذهب.

و قد حكي ذلك عن الشهيد و العلّامة و فخر المحققين و المحقق الثاني (قدس اللّه اسرارهم)، و استدلوا عليه بأنّ وجوب ردّ المظلمة فوري.

و لكن عن القاضي و الشيخ في المبسوط، الاعتبار ببلد الغصب.

و لكن الانصاف أنّ الأمر في المثلي واضح، فانّ الذمّة، مشغولة بالمثل فللمالك مطالبته في أي مكان كان، نعم يشكل القول بجواز إلزام المالك بقبوله إذا استلزم عليه الضرر لسقوط القيمة في ذاك المكان، لأدلة نفي الضرر، و أمّا

القيمي فالظاهر أنّه يختلف علي المباني.

فمقتضي القاعدة العقلائية السابقة هو تدارك العين بقيمته في نفس زمان التلف و مكانه فانّها هي التي تقوم مقامه و تسد فراغه.

و لكن بناء علي كون المدار قيمة يوم المخالفة استنادا إلي صحيحة أبي ولاد فلا يبعد الاعتبار بمكان المخالفة، لأنّ اطلاق الحديث يقتضيه كما لا يخفي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 193

و لكن قد عرفت ضعف الاستدلال بها هناك فكيف هنا، بل الانصاف أنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة حتي يؤخذ باطلاقها.

هذا و لكن لم يثبت لنا طريقة خاصة للعقلاء عند اختلاف هذه القيم حتي تكون سيرة أمضاها الشرع بل لو غصبه غاصب و قيمته غال جدّا، ثم أتاها في مكان يكون قيمته رخيصا، ثم تلف هناك (كما إذا أتي الماء علي فرض كونه قيميا، من «المفاوز» إلي «قريب الشاطي» لا نفسه حتي يسقط عن القيمة بالمرة) لم يكن أداء القيمة الرخيصة كافيا في جبران خسارة العين عندهم قطعا، كما أنّه لو كان الأمر بالعكس فغصب الماء من قريب الشاطئ ثم ذهب به إلي مفازة يكون قيمته غاليا جدّا فتلف، فهنا يشكل إلزامه بأداء الغالي لأنّ الخسارة الواردة علي المالك لا تكون بهذا المقدار، فلذا لا يبعد أن يكون المدار هنا بقيمة يوم الضمان أو الغصب. و الفارق بينه و بين اختلاف الأزمنة أنّ الأوّل حصل بفعل الضامن، و الثاني كان بدون دخالته.

و لكن كفاية هذا المقدار في الفرق لا يخلو عن تأمل، فلا يترك الاحتياط بالمصالحة بينهما.

الثاني: إذا زادت قيمة العين لا لارتفاع القيمة السوقية بل لزيادة نفس العين، فهل يضمنها أم لا؟

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأنّ الظاهر عدم الخلاف في ضمان أعلي القيم هنا لأجل الزيادة العينية الحاصلة فيه النازلة منزلة الجزء الفائت.

و قال المحقق النحرير صاحب الجواهر

قدّس سرّه في كتاب الغصب: إذا استند نقصان القيمة إلي حدوث نقص في العين ثم تلفت فان الأعلي مضمون اجماعا «1».

و الظاهر أنّ محل كلامه غير ما ذكره الشيخ قدّس سرّه، فلو كان إجماعه مستندا إلي ما أفاده في الجواهر كان محلا للإشكال و لكنه بعيد.

و قال بعض الأعاظم في «مصباح الفقاهة»: «كما أنّ العين مضمونة علي الغاصب كذلك

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 37، ص 107.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 194

أوصافها الدخيلة في مالية العين أيضا مضمونة، سواء في ذلك أوصاف الصحة و أوصاف الكمال» «1».

أقول: الحق أنّ وصف الزيادة علي أنحاء مختلفة، تارة تكون الزياده باقية حال تلف العين و لا كلام في كونها مضمونة، و اخري تكون في ما هو معرض للبيع من ناحية المالك، و الغاصب حال بينه و بين المالك حتي زالت، و هذه أيضا مضمونة علي الظاهر، و ثالثة يكون زوالها بسبب غصب الغاصب و مستندا إليه مع كونها ثابتة من أول الأمر و هذه أيضا مضمونة، و رابعة ما إذا زادت العين عند الغاصب ثم زالت بمقتضي طبيعتها كالحيوانات التي تزداد في بعض فصول السنة و تنقص في فصل آخر، و لم تكن معرضا للبيع، فان الحكم بضمان مثله و اطلاق الضرر عليه لا يخلو عن إشكال، و اللّه العالم.

الأمر التاسع: أحكام بدل الحيلولة:
اشارة

إذا غصب شي ء أو ضمنه فله ثلاث حالات:

1- إذا كان العين موجودة و لم يكن هناك مانع من ردّها فالواجب علي الضامن فيه ردّها، و الحكم بضمانه يكون من قبيل الضمان التقديري، بمعني أنّه لو هلك كان عليه مثله أو قيمته، لا غير.

2- إذا هلكت العين و الحكم هنا دفع العوض من المثل أو القيمة، و يلحق به

ما إذا تعذر ردّه بحيث يلحق عرفا بالتلف، كما إذا سرقه سارق لا يرجي ردّه أبدا، أو ألقي في بحر لا يمكن اخراجه منه عادة، فهذا كله ملحق بالتلف.

3- ما إذا كان موجودا و لكن يتعذر ردّه فعلا مع أنّه يعلم أو يرجي القدرة عليه في مستقبل قريب أو بعيد، بحيث لا يراه العرف تالفا، فظاهر كلمات الأصحاب هنا عدم الخلاف في وجوب ردّ بدله حتي يتمكن من أصله فيردّه و يسترد البدل.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 3، ص 203.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 195

و هو المسمي عندهم ببدل الحيلولة، و صرح به الشيخ و ابن ادريس و العلّامة و الشهيد و المحقق الكركي (قدس اللّه اسرارهم) و في الخلاف و الغنية فيما حكي عنهم، بل يظهر عن غير واحد نفي الخلاف فيه أو دعوي الإجماع عليه.

و اللازم أولا التكلم في أصل هذا الحكم، ثم في الفروع الكثيرة المتفرعة عليه، فنقول:

إنّ الدليل علي أصل الحكم علي ما يظهر من كثير منهم، كالمسالك و الجواهر و مكاسب الشيخ و كلمات المحشين و الشارحين امور (بعد ضمّ بعض كلماتهم إلي بعض):

1- عدم الخلاف، بل الإجماع و ارسال الحكم ارسال المسلمات، و الانصاف أنّ المسألة و إن كانت كذلك، و ارسلوها ارسال المسلمات، بل قد يدعي كون الحكم كذلك عند أهل الخلاف أيضا، و لكن كشفه عن فتوي المعصوم عليه السّلام بعيد، بعد وجود أدلة اخري في المسألة كما لا يخفي.

2- الروايات الكثيرة الواردة في أبواب العارية و الوديعة و الاجارة و غيرها و كان نظرهم إلي ما يلي و اشباهه، مثل ما روي محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن العارية يستعيرها

الإنسان فتهلك أو تسرق، فقال: إن كان أمينا فلا غرم عليه» «1».

و ما روي أبان مثله و زاد قال: «و سألته عن الذي يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلي صاحبه ضمان؟ فقال عليه السّلام: ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا» «2».

و ما روي مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عليه السّلام قال: «سمعته يقول: لا غرم علي مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا» «3».

و أيضا ما روي يحيي عن محمد بن الحسن قال: «كتبت إلي أبي محمد عليه السّلام رجل دفع إلي رجل وديعة، و أمره أن يضعها في منزله أو لم يأمره، فوضعها في منزل جاره فضاعت، هل يجب عليه إذا خالف أمره و أخرجها عن ملكه؟ فوقع عليه السّلام: هو ضامن لها ان شاء اللّه» «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 1 من أبواب أحكام العارية، ح 7.

(2). المصدر السابق، ح 8.

(3). المصدر السابق، ح 10.

(4). المصدر السابق، الباب 5 من أبواب أحكام الوديعة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 196

و ما روي اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه أنّ عليا عليه السّلام كان يقول: «لا ضمان علي صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب لأنه إنّما أخذ الجعل علي الحمام و لم يأخذ علي الثياب» «1».

و ما روي أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن قصار دفعت إليه ثوبا فزعم أنّه سرق من بين متاعه، قال: فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه و ليس عليه شي ء فان سرق متاعه كلّه فليس عليه شي ء» «2».

إلي غير ذلك ممّا يدل علي لزوم البدل عند السرقة و

الضياع عند التفريط (منطوقا أو مفهوما) و لكن الانصاف أنّها ناظرة إلي صورة الحاق المسروق أو الضائع بالهلاك لا فيما يرجي عوده.

3- قاعدة «لا ضرر» نظرا إلي أنّ قطع سلطنة المالك عن ملكه و لو في زمن قصير ضرر عليه بلا إشكال، و لا يندفع إلّا بالبدل حتي يرجع إليه متاعه، و لكن أورد عليه:

أولا: بأن لا ضرر ينفي الأحكام الضررية لا أنّه يثبت حكما شرعيا كوجوب أداء البدل وقت التعذر.

و ثانيا: بأنّ ضرر المالك معارض بضرر الضامن حيث يجب عليه ردّ العين عند القدرة و ردّ بدله وقت التعذر، لا سيما بناء علي ملكية البدل مع بقاء المبدل في ملكه كما هو المشهور.

و ثالثا: بأنّ نسبة أدلة نفي الضرر مع ما نحن بصدده نسبة العموم من وجه، لأنّ الصبر قد لا يوجب ضررا، فالدليل لا ينطبق علي المدعي.

و لكن يمكن الجواب عن الجميع، أمّا عن الأوّل: فبما عرفت سابقا من أنّ لا ضرر يثبت الحكم كما ينفي الأحكام الضررية كما حققناه في محله.

و عن الثاني: بأنّ ضرر الضامن إنّما أتي من قبل نفسه، لأنّه هو الذي قطع سلطنة المالك عن ملكه، و إلّا كان كل غرامة علي غارم ضرر عليه منفي بأدلة نفي الضرر و لا يقول به أحد.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، الباب 82 من أبواب أحكام الاجارة، ح 3.

(2). المصدر السابق، الباب 29 من أبواب أحكام الاجارة، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 197

و عن الثالث: بأن قطع سلطة المالك عن ملكه ضرر دائما، و لا أقل من أنّه لا يقدر علي بيعه و تمليكه لغيره مع تسليمه إليه، فالاستدلال بلا ضرر في محله.

و ذكر السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في حواشيه

إشكالا آخر، و هو أنّ قاعدة لا ضرر ساكتة عن كون الأخذ من باب الغرامة (بل يمكن أن يقال: غاية ما يستفاد منها جواز مطالبة مالية المال بالمصالحة أو البيع، فيجبر الغاصب علي المصالحة إن أرادها المالك لا أن يؤخذ الغرامة حتي يبقي إشكال الجمع بين العوض و المعوض، و دعوي تخيير المالك بين أخذه بعنوان الغرامة أو بعنوان المصالحة، أو البيع الاجباري، أيضا مدفوعة بأن القدر المتيقن بعد إجمال لسانها هو ما إذا كان بعنوان أحد المعاملات مع إمكان التمسك بحرمة أكل المال بالباطل هنا (انتهي ملخصا) «1».

و فيه أولا: إن أخذ البدل إنّما هو للجمع بين حق المالك و الضامن، أمّا المالك فلأنّه قد لا يصرف النظر عن أصل ماله عند رجاء حصوله بعد مدّة، مع إرادة الانتفاع ببدله في هذه المدّة أيضا، و هذا لا يتحقق مع البيع أو المصالحة أو غير ذلك كما هو ظاهر.

ثانيا: إشكال الجمع بين العوض و المعوض سيأتي جوابه إن شاء اللّه، و حاصله: إنّ البدل إنّما يكون ملكا موقتا للانتفاع به، فهو قائم مقام العين في الانتفاع في هذه البرهة من الزمان لا في أصل المال مطلقا.

ثالثا: الأخذ بالقدر المتيقن غير تام بعد ما عرفت من عدم حصول حق المالك بالمعاملة و المصالحة كما عرفت.

رابعا: ما ذكره من كون المال هنا من الأكل بالباطل ممنوع جدّا بعد كونه لإحقاق حق المالك الذي لا يحصل حقه إلّا به.

و من هنا يظهر الجواب عن إشكال آخر في المقام، و هو أنّه كما يمكن استيفاء حق المالك بتمليك البدل يمكن جبران المنافع الفائتة منه بأداء غرامتها.

و ذلك لأنّ أداء غرامة المنافع غير كاف، لأنّه قد يريد بيع متاعه أو

هبته أو غير ذلك،

______________________________

(1). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 231.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 198

و هذا لا يحصل ببدل قيمة المنفعة فقط (فتدبّر جيدا).

4- قوله صلّي اللّه عليه و آله: «علي اليد ما أخذت حتي تؤدي» فان مقتضاه وجوب أداء المالية إذا لم يمكن أداء نفس العين، و إن شئت قلت: إنّ الضمان المستفاد منه أعم من صورة التلف و صورة التعذر في برهة من الزمان.

و لكن يمكن الجواب عنه: بأنّ ظاهرة وجوب ردّ العين عند وجوده، و ردّ بدله عند تلفه، و لا دلالة له علي حكم صوره التعذر الموقت.

و أمّا الإشكال علي سنده فهو ضعيف جدّا بعد اشتهاره غاية الاشتهار.

5- قاعدة من اتلف، فان الضامن قد اتلف سلطنة المالك علي ماله، فلا بدّ له من اعادتها، و حيث إنّه لا يمكن بعينها فلا أقل أن يكون ببدلها.

هذا و لكن الانصاف أنّها أيضا ناظرة إلي تلف العين أو المنافع، و أمّا غير ذلك فلا دلالة لها عليه كما لا يخفي، فهو ضامن لتدارك العين عند التلف، و المنافع عند فوتها، و أمّا تبديلها بعين اخري و لو في زمن موقت فلا.

6- قاعدة تسلط الناس علي أموالهم و هي مقتضية لمطالبة العين، فلما تعذرت فاللازم جعل البدل مكانها.

و فيه: إن معني التسلط علي المال التقلب فيه كيف يشاء و أخذه حيثما وجده، و هو ساكت عن فرض التعذر، حتي أنّه لا دلالة له علي جواز اخذ العوض عند التلف بل لا بدّ من التمسك بقاعدة الاتلاف و شبهها.

و قد أورد عليه السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بمثل ما عرفت في قاعدة لا ضرر من عدم دلالته علي أزيد من اجبار

الغاصب بالمصالحة أو البيع.

و فيه ما عرفت من أنّه لا يتدارك معه خسارة المالك و حقوقه من جميع الجهات كما عرفت نظيره هناك.

7- التمسك بقاعدة احترام الأموال، بضميمة الجمع بين الحقوق، فانّها تقتضي جبران خسارات المالك مع ردّ ماله إليه عند التمكن منه، و ذلك لا يكون إلّا باعطاء البدل و لو موقتا.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 199

و أمّا بذل قيمة المنافع، أو المصالحة و البيع الاجباري مع الضامن، فهو غير كاف في جبران الخسارة كما عرفت.

فتحصل أنّ المعتمد من بين هذه الأدلة هو خصوص الدليل الأخير مع قاعدة لا ضرر بالبيان الذي عرفته، هذا بالنسبة إلي أصل الحكم.

بقي هنا امور:
1- مورد بدل الحيلولة:

إن تعذر الوصول إلي العين تارة يكون مع العلم بعدم الظفر عليها ابدا أو في زمن بعيد جدّا بحيث يلحق بالعدم، و اخري مع الظن، المعبر عنه بعدم رجاء الوصول إليها، و ثالثة مع العلم أو الظن الغالب أو احتمال معتد به في عودها و التمكن منها.

كلام غير واحد من الأصحاب و إن كان أعم، و لكن الظاهر أن مرادهم ما إذا كان يرجي عودها، قال المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الغصب: «و إذا تعذر تسليم المغصوب، دفع الغاصب البدل، و يملكه المغصوب منه، و لا يملك الغاصب العين المضمونة، و لو عادت كان لكل منهما الرجوع».

و تعبيره بقوله «و لا يملك … » ظاهر فيما إذا لم يحلق عرفا بالتلف، فتأمل.

و كيف كان، لا إشكال في كون الأولين خارجين عن محل الكلام في بدل الحيلولة و ملحقان بالتلف في أحكامه التي مرّت سابقا، و لا يظهر من كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه ما ينافي ذلك كما يظهر لك بالدقّة في كلامه،

و إن نسبه إليه بعض، فحمل الكلام هنا لا يصحّ إلّا علي الصورة الأخيرة، و ذلك لما مر من الأدلة، و الحاصل إن اعطاء البدل الموقت فرع رجاء عودة لعين أو العلم بها و هذه من القضايا التي قياساتها معها و لا تحتاج إلي مزيد بيان و إقامة برهان، و أمّا إذا كانت عرفا ملحقة بالتلف فالبدل بدل التالف لا بدل الحيلولة.

نعم، لا بدّ أن يكون فقد العين في زمان معتد به، فلو كان الزمان قصيرا جدّا لا دليل علي لزوم التدارك ببدل الحيلولة، لعدم شمول أدلته لهذه الصورة.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 200

نعم، لا فرق في الزمان المعتد به بين ما يكون عوده خارجا عن اختيار الضامن أو ما يكون باختياره، و لكن اعداد المقدمات له يحتاج إلي الزمان، لا تحاد الدليل في البابين.

2- هل يملك البدل الذي يعطي للحيولة؟

ظاهر كلمات الأصحاب كما حكي عنهم ملكية البدل، بل قد يدعي الإجماع عليه و لكن استشكل عليه المحقق الثاني و الشهيد الثاني قدّس سرّهما في «جامع المقاصد» و «المسالك» بما حاصله «أنّه كيف يدل البدل في ملكه، مع أنّه لم يخرج المبدل عن ملكه، فلازمه أن لا يكون البدل مقابلا للعين، و يلزم الجمع بين العوض و المعوض».

و عن المحقق القمي قدّس سرّه في أجوبة مسألة القول بكون البدل مباحا له اباحة مطلقة لا يدخل في ملكه إلّا بالتلف، أي تلف العين.

و لكن الموجودة في جامع الشتات (الذي هو أجوبة مسألة) خلاف ذلك، بل صرح بأن البدل ملك محض له من جميع الجهات، و إن كان ملكا متزلزلا و مراعي بظهور العين المغصوبة (انتهي ملخصا) «1».

و عن صاحب الكفاية الميل إلي كون البدل ملكا لمالك العين و المبدل

ملكا للغاصب ملكية متزلزلة من الجانبين لا تستقر إلّا بالتلف.

ففي المسألة أقوال ثلاثة و إن كان المشهور المعروف هو الأول.

و عمدة ما كان سببا للعدول عن الملكية إلي الإباحة هو الإشكال الجميع بين العوض المذكور في كلمات المحقق الثاني و الشهيد الثاني قدّس سرّهما و لكن أجاب عنه في الجواهر بأن البدل غرامة، الدليل الشرعي «2» إشارة إلي أنّه ليس بدلا حتي يجري أحكامه بل هو حكم تعبدي من باب الغرامة.

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب بطريق آخر، حاصله: إنّ ملكية البدل إنما هي لتحقق السلطنة الفائتة علي العين، فالواجب إعادة تلك السلطنة، و لكن لما كان

______________________________

(1). جامع الشتات، ج 2، ص 540.

(2). جواهر الكلام، ج 37، ص 131.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 201

عودها متوقفا علي الملك كان ملكا له مقدمة لذلك.

أقول: الأوفق بما عرفت من الأدلة المعتبرة الدالة علي أصل الحكم هو القول بالاباحة المطلقة لانتفاع الضرر بها، و كفايتها في احترام المال، و الجمع بين الحقوق، اللّهم إلّا أن يقال، إنّ القول بالملكية آنا ما هنا قبل التصرفات الناقلة المتوقفة علي الملك- مثل ما ذكره بعضهم في المعاطاة- بعيد جدّا، قلما يوجد له نظير في الفقه، و كون الإرادة من المملكات أعجب، فالقول بالاباحة مشكل من هذه الناحية، و المسألة لا تخلو من شائبة و طريق الاحتياط معلوم، و هو ترتيب آثار الإباحة عليه فقط.

نعم، أو قلنا بالإجماع أمكن الحكم بالملكية فتدبّر.

3- ما هو حكم النماءات هنا؟

الظاهر أنّ البدل إنّما هو للمالك لا للضامن، بل هو من الأغراض المهمّة لدفع البدل، و هذا الحكم إن قلنا بالملكية واضح، و أن قلنا بالاباحة المطلقة فالظاهر أن النماءات مباحة له أيضا كإباحة أصل العين،

تدخل في ملكه بالتصرفات المتوقفة علي الملك آنا ما قبله، أو يقال بتمليك المنافع و إن كانت العين مباحة.

و أمّا نماء أصل العين فالظاهر أنّها غير مضمونة علي الغاصب، لأنّ المفروض دفع بدله، نعم لو بقي نتاجه و نماؤه إلي حين التمكن منه أمكن القول بدخوله في ملك المالك، و وجوب دفع المثل أو القيمة بالنسبة إلي المنافع التي استوفاها عن البدل، أو فاتت تحت يده، فتأمل يده، فتأمل فانّه حقيق به.

4- هل يضمن ارتفاع القيمة بعد أداء البدل؟

الظاهر أنّه لا يضمن ارتفاع القيمة بعد اعطاء البدل، لأنّ الغرض من دفع البدل الخروج عن مثله، اللّهم إلّا أن يقال إنّه بدل عن السلطنة الفائتة غير، هذا إذا قلنا بالملكية، و لو قلنا بالاباحة لم يبعد الضمان، و المسألة لا تخلو من الإشكال، و الاحتياط سبيل النجاة.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 202

5- إذا تمكن من ردّ العين وجب ردّها فورا.

لقاعدة علي اليد، و كون البدل بدلا موقتا لا دائما، نعم يجب علي المالك أيضا ردّ البدل، و الظاهر جواز حبسه من ناحية الغاصب ذريعة للتراد، و العجب من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث منع من ذلك و قال: إنّ العين بنفسها ليست عوضا و لا معوضا، و لذا تحقق للمالك الجمع بينها و بين ملك الغرامة، فالمالك مسلط عليها، و المعوض للغرامة هو السلطنة الفائتة التي هي في معرض العود بالتراد، اللّهم إلّا أن يقال، له حبس العين من حيث تضمنه لحبس مبدل الغرامة، و هي السلطنة الفائتة، و الأقوي الأول «1».

و الظاهر أنّه في ذلك صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث قال: «الأقوي خلافه (أي لا يجوز حبس الغاصب العين إلي أن يقبض ما دفعه بدلا) ضرورة عدم المعاوضة التي مقتضاها ذلك في المقام هي معاوضة معنوية، فليست هي إلّا نحو من كانت عنده عين لمن له عنده كذلك» «2».

قلت: المفروض أنّ السلطنة علي البدل عوض عن السلطنة علي المبدل كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه، فلا يجوز له الجمع بينهما بحفظ البدل، و مطالبة المبدل فلا مناص عن التراد، فيجوز حبس العين حتي يسترد البدل، هذا علي القول بالملك و أمّا علي القول بالاباحة فهو كذلك، هذا مضافا إلي جوازه من باب التقاص فتدبّر.

هذا و

قد يتوهّم بقاء البدل علي ملك مالك العين دائما! فيكون كلاهما له، نظرا إلي كونه بدلا عن السلطنة الفائتة، و هو توهم فاسدا جدّا، و التفوه به عجيب لأن السلطنة الفائتة كانت محدودة بمدّة معينة، و كان البدل أيضا محدودا بها، فإذا عادت عاد، كما هو واضح.

6- هل يدخل العين في ملك الغاصب

قد يتوهّم ذلك نظرا إلي تحقق المبادلة بينها، فيكون البدل ملكا لمالك العين و العين ملكا للغاصب و لو موقتا.

______________________________

(1). المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 113 السطر الآخر من الطبعة الحجرية.

(2). جواهر الكلام، ج 37، ص 132.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 203

هذا و لكن التوهم المذكور إنّما نشأ من شبهة الجمع بين العوض و المعوض التي عرفت الجواب عنها، فالانصاف أنّ كليها داخلتان في ملك المالك بناء علي القول بالملك، و إن كانت أحدهما موقتا، و أمّا بناء علي الإباحة فالأمر أوضح.

7- إذا تصرف المالك في البدل تصرفا يخرجه عن الملكية

كما إذا باعه أو وهبه أو أوقفه، فان ذلك يصح له بل الغرض من بذل البدل أن يكون قادرا عليه لو شاء، فإذا تمكن من العين استردّه و ردّ عوض البدل، و يمكن القول بلزوم البدل و عدم جواز استرداد العين نظرا إلي لزوم البيع و ابدية الوقف، و قد يقال أنّه مخالف لما عرفت من الدليل علي أصل الحكم.

8- إن كان المالك قادرا علي أخذ العين و الغاصب عاجزا

كما إذا ألقاه في قعر بحر أو نهر يقدر المالك علي اخراجه دون الغاصب، فالظاهر عدم دخوله في مسألة بدل الحيلولة، نعم لو كان اخراجه يحتاج إلي مؤنة كانت علي من ألقاه سواء كان هو البائع أو غيره.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 205

شرائط المتعاقدين

اشارة

بعد تمام الكلام في شرائط العقد فالآن نشرع في شرائط المتعاقدين و المتبايعين، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

الشرط الأول: «البلوغ»

اشارة

و اشتراطه في الجملة مجمع عليه بين الأصحاب، بل بين علماء الإسلام، و إن اختلفوا في تفاصيله، قال في الجواهر بعد كلام له في الصبي البالغ عشر سنين ما نصه:

«فصحّ حينئذ للفقيه نفي الخلاف في المسألة علي الإطلاق، بل صحّ له دعوي تحصيل الإجماع علي ذلك، كما وقع من بعضهم، بل ربّما كان كالضروري و خصوصا بعد ملاحظة كلام الأصحاب و ارسالهم لذلك ارسال المسلمات، حتي ترك جماعة منهم الاستدلال عليه اتكالا علي معلوميته» «1».

ثم استغرب من كلام المحقق الأردبيلي قدّس سرّه و بعض من تأخر عنه، حيث اطنبوا في تصحيح عقد من بلغ عشرا بل ربّما كان ظاهر عبارته عدم الفرق بين بلوغه عشرا و عدمه، ثم قال: و هو مع سبقه بالإجماع بل و لحوقه، محجوج بالأصل المزبور (و الظاهر أصالة الفساد) «2».

و ذكر في الحدائق: «إنّ ظاهر كلام جمهور الأصحاب أنّه لا يصحّ بيع الصبي و لا

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 260.

(2). المصدر السابق، ص 261.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 206

شراؤه، و أنّه لا فرق بين الصبي المميز و غيره، و لا فرق بين كون المال له أو للولي أو لغيرهما، أذن مالكه أو لم يأذن» «1».

و عن العلّامة قدّس سرّه: «إن الصغير محجور عليه بالإجماع، سواء كان مميزا أو لا في جميع التصرفات إلّا ما استثني، كعباداته و إسلامه و احرامه و تدبيره و وصيته و ايصال الهداية و إذنه في دخول الدار علي خلاف في ذلك».

و أمّا العامة، فمن الشافعية بطلان عقده مطلقا، و عن الحنابلة

الحكم بفساد تصرف غير المميّز أيضا، إلّا إذا أذن الولي، و يقرب منه قول المالكية.

و أمّا الحنفية، فقد قالوا بفساد عقد غير المميز مطلقا، و أمّا المميز فقد ذكروا أنّه علي ثلاثة أقسام: إن كان تصرفه ضارا فلا شبهة في عدم نفوذه، و إن كان نافعا كقبول الهدية و دخول الإسلام يقع صحيحا قطعا، و إن تردد أمره فهو موقوف علي اجازة الولي «2».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامات:

الأول: استقلال الصبي بالتصرف في أمواله.

الثاني: تصرفه في ماله باذن وليه.

الثالث: تصرفه في مال غيره باذنه و اذن وليه.

الرابع: قبول شي ء كالهدايا و الهبات و الوصايا.

الخامس: اجراء صيغة العقد لغيره أو لنفسه.

السادس: إسلامه.

السابع: عباداته.

المقام الأول: استقلال الصبي بالتصرف في أمواله

أمّا «المقام الأول» - فلا إشكال و لا نزاع في فساده و بطلانه، و قد أجمع الكل عليه و إن وقع الكلام في مستنده، و يدل عليه قبل كل شي ء السيرة المستمرة بين العقلاء علي حجر

______________________________

(1). الحدائق الناضرة، ج 18، ص 367.

(2). الفقه علي المذاهب الاربعة، ج 2، ص 366- 363.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 207

الصبي عن جميع تصرفاته المالية، و عن استقلاله في أمواله من دون فرق بين أرباب الديانات و غيرها و بين القديم و الحديث إلي يومنا هذا، فانّهم لا يزالون يعتبرون حدّا معينا من السّن القانوني و إن اختلف حدّه بين المجتمعات المختلفة. و الشارع المقدس أمضي هذه الطريقة إجمالا، و لكنه جعل حدّا خاصا لسنّ البلوغ ذكره الفقهاء رضوان اللّه عليهم في كتاب الحجر.

و ممّا يؤكد هذا المعني أنّه لم يسأل في الأخبار المختلفة الواردة في هذا الباب عن هذا الحكم، و إنّما وقع السؤال عن حدّه، و ذلك يدلّ علي كون أصل

اعتبار السنّ القانوني من الواضحات عند الروايات أيضا، فتدبّر جيدا.

و يدلّ عليه، مضافا إلي ما ذكر، قوله تعالي: وَ ابْتَلُوا الْيَتٰاميٰ حَتّٰي إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ «1».

و ظاهرها اعتبار أمرين: بلوغ حدّ النكاح بالاحتلام و تكوّن المني، و ايناس الرشد.

و الظاهر أنّ كلّا منهما معتبر في هذا الحكم، و له موضوعية، لا أنّ بلوغ النكاح طريق للرشد، حتي يقال بكفايته و لو حصل قبل البلوغ كما توهمه بعض الشراح للمكاسب.

و قد يقال: إن الآية علي خلاف المطلوب أدل، لأنّ ظاهرها وقوع الابتلاء قبل البلوغ و هذا لا يكون إلّا بتصديه للبيع و الشراء مستقلا.

و فيه: أولا: إنّ الابتلاء لا يكون بهذا، بل يمكن اختباره بمقدمات البيع و يمكن أن يكون بنفسه تحت اشراف الولي من دون استقلاله، قال في كنز العرفان: «اختلف في معني ابتلائهم، قال أبو حنيفة: هو أن يدفع إليه ما يتصرف فيه، و قال أصحابنا و الشافعي و مالك:

هو تتبع أحواله في ضبط أمواله و حسن تصرفه بأن يكل إليه مقدمات البيع» «2».

و يظهر من رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ المراد القدرة علي حفظ الأموال فقد سئل عنه عن قول اللّه عز و جل: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ قال عليه السّلام:

«ايناس الرشد حفظ المال» «3».

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 6.

(2). كنز العرفان، ص 263 من الطبعة القديمة.

(3). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 2 من أحكام الحجر، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 208

و ثانيا: الروايات الدالة علي أنّه لا يجوز أمر الغلام أو الجارية حتي يبلغ كذا و كذا، و اطلاقها دليل علي عدم نفوذ أمرها في أي شي ء من

الأشياء و أي عقد من العقود مثل ما يلي:

منها: عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام قلت له: متي يجب علي الغلام أن يؤخذ بالحدود التامة، و يقام عليه و يؤخذ بها؟ قال: إذا خرج عنه اليتم و أدرك … و الغلام لا يجوز أمره في الشراء و البيع و لا يخرج من اليتم حتي يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحلم، أو يشعر أو ينبت قبل ذلك» «1».

و منها: مرسلة الصدوق قال قدّس سرّه: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إذا بلغت الجارية تسع سنين دفع إليها مالها و جاز أمرها في مالها، و أقيمت الحدود التامة لها و عليها» «2».

و منها: ما رواه أبو الحسين بياع اللؤلؤ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سأله أبي و أنا حاضر عن اليتيم متي يجوز أمره؟ قال: حتي يبلغ أشدّه قال: و ما أشدّه؟ قال: احتلامه، قال:

قلت قد يكون الغلام ابن عشرة سنة أو أقل أو أكثر و لم يحتلم، قال: إذا بلغ و كتب عليه الشي ء (و نبت عليه الشعر- ظ) جاز أمره» «3» الحديث.

و منها: ما رواه زرارة عن الباقر عليه السّلام قال: «إذا أتي علي الغلام عشر سنين فانه يجوز له ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصي علي حد معروف و حق فهو جائز» «4».

و منها: ما رواه عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: «سأله أبي و أنا حاضر عن قول اللّه عز و جل «حَتّٰي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» قال: الاحتلام، قال: فقال يحتلم في ست عشرة، و سبع عشرة سنة و نحوها، فقال: لا إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات و كتبت

عليه السيئات و جاز أمره إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفا» «5» (الحديث).

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 1، الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات، ح 2.

(2). المصدر السابق، ج 13 الباب 2 من أحكام الحجر، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). المصدر السابق، الباب 44 من أحكام الوصايا، ح 4.

(5). المصدر السابق، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 209

و منها: ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «انقطاع يتم اليتيم الاحتلام و هو أشدّه» «1».

و الظاهر أنّ دلالتها علي عدم صحة عقود الصبي و استقلاله في أمواله ظاهرة جدا لظهور نفي جواز أمره في ذلك.

نعم، بعضها ضعيف من حيث السند، و بعضها محدود من حيث الدلالة، و لكن إذا ضم بعضها إلي بعض لم يبق إشكال لا في سندها و لا في دلالتها.

و ثالثا: ما دل علي أنّ «عمد الصبي خطاء»، و هي عدة روايات ما بين صحيحة و ضعيفة.

فمنها: ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «عمد الصبي و خطاه واحد» «2».

و منها: ما رواه اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه أن عليّا عليه السّلام كان يقول: «عمد الصبيان خطاء، يحمل علي العاقلة» «3».

إلّا أنّ المذكور فيها حمل عمد الصبيان علي عاقلتهم، فلو كان توضيحا «لقوله عمد الصبيان خطاء» اختصت بأبواب الجنايات، و لم يكن لها دخل بما نحن بصدده من معاملات الصبي، و إن كان من قبيل ذكر الخاص بعد العام، كان باطلاقها دليلا علي المقصود، و لكنه مشكل و لا أقل من إجمالها لو لم نقل بظهورها في خصوص باب الجنايات.

و منها: ما رواه أبو البختري عن جعفر عن أبيه

عن علي عليه السّلام أنّه كان يقول في المجنون و المعتوه الذي لا يفيق و الصبي الذي لم يبلغ: «عمدهما خطاء تحمله العاقلة»، و قد رفع عنها القلم «4».

و كيفية الاستدلال بها مثل ما سبق في ما قبلة، فانّه عليه السّلام دية المحنون و المعتوه- أي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 44 من أحكام الوصايا، ح 9.

(2). المصدر السابق، ج 19 الباب 11 من أبواب العاقلة، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)؛ ص: 209

(4). المصدر السابق، الباب 36 من أبواب قصاص النفس، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 210

ناقص العقل- و الصبي غير البالغ علي عاقلتهم، و ظاهرها أنّه تفسير لكون عمدهم بمنزلة الخطاء، إلّا أن فيها شيئا زائدا ربّما يقوي الاستدلال بها، و هو قوله «قد رفع عنهما القلم» (أي المجنون و من يلحق به و الصبي) و احتمل فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن يكون علة للحكم (أي ثبوت الدية علي العاقلة) أو معلولة لقوله «عمدها خطأ» (أي كان قصدهما بمنزلة العدم فقد رفع الشارع القلم عنهما).

فعلي الأول يكون بمنزلة أن يقول «لأنّه رفع عنهما القلم»، و علي الثاني بمنزلة قوله «و لذا رفع عنهما القلم».

و علي كل تقدير لا يستقيم الاستدلال إلّا أن يكون رفع القلم أعم من رفع المؤاخذة حتي يشمل الأحكام الوضعية، و حينئذ يكون عمومها دليلا علي المقصود إلي بطلان معاملاته و عقوده.

و الحاصل: أنّ هذه الفقرة دليل علي كون مضمونها عاما شاملا.

هذا و

لكنه يرد عليه أولا: ليس من الاستدلال بقوله «عمدهما خطأ» بل من الاستدلال بحديث رفع القلم، غاية الأمر أنّه يستفاد من قرينة المقام كون رفع القلم أعم من رفع قلم المؤاخذة.

ثانيا: إنّها ضعيفة السند بأبي البختري.

فلم يبق إلّا صحيحة محمد بن مسلم، و العمل باطلاقها مشكل بعد إمكان حملها علي خصوص باب الجنايات، لا أقول ذكرها في هذه الأبواب دليل عليه، لأنّ ذكر رواية في باب خاص مستند إلي استنباط الجامعين لروايات أهل البيت عليهم السّلام و لا يكون دليلا علي شي ء بعد كون مضمون الحديث عاما، بل أقول كون هذا التعبير ناظرا إلي أحكام الجنايات في غير هذه الروايات بل و في أحكام المجنون (راجع الحديث ابن الباب 11 من العاقلة) و أحكام الأعمي (الحديث 1 من الباب 10) شاهد قوي علي تخصيص هذه العبارة بأحكام الجنايات و ظهورها فيها.

فالاستدلال بعمومها مشكل جدّا لا سيما أن العبارة في الجميع واحد كما لا يخفي علي من راجعها و تأملها.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 211

أضف إلي ذلك أنّ هذا التعبير غير متعارف في أبواب العقود و الإيقاعات، و التعبير بالعمد و الخطأ معمول في أبواب الجنايات.

ثم إنّه قد أورد علي الاستدلال بها في مصباح الفقاهة «1» بأمرين يمكن الذبّ عنهما:

1- إنّ العمل لها يوجب تأسيس فقه جديد، لأن لازمه عدم بطلان صوم الصبي بالمفطرات المعهودة، لأنّ عمده بمنزلة الخطأ، و كذا صلاته بالتعمد بترك سجدة واحدة مثلا ممّا لا يوجب البطلان إذا صدر سهوا من البالغين، هذا من ناحية.

و من ناحية اخري يلزم بطلان جميع عباداته، لاعتبار النيّة فيها عن إرادة و اختيار، و قد فرض كون إرادته كالعدم، فعباداته باطلة خالية عن النيّة.

و

فيه: أنّه حكم امتناني و لا منّة في بطلان عبادته كما هو ظاهر، و أمّا بالنسبة إلي المفطرات و قواطع الصلاة فالانصاف انصرافه عنها كما هو ظاهر، و بعبارة اخري: ظاهر الأدلة مطابقة عبادات الصبي للبالغين في جميع أجزائها و شرائطها و موانعها.

2- إن تنزيل عمد الصبي بمنزلة خطأه علي وجه الإطلاق يقتضي أن يكون هنا أثر خاص لكل منهما، و من الواضح أنّه لا مصداق لهذه الكبري إلّا في أبواب الجنايات لا غير.

و فيه: إن تنزيله يمكن أن يكون من حيث عدم الأثر للخطأ كأن يقول إن اختيار الصبي في أبواب العقد كالإكراه، أي لا أثر له كعقد المكره، و مثل هذا التعبير صحيح قطعا، و لا يعتبر في تنزيل شي ء بمنزلة آخر أن يكون لكل واحد منهما أثر فعلي بل يكفي كون أحدهما لا أثر له، و تنزيله بمنزلته إنّما هو من جهة عدم التأثير كما لا يخفي.

المقام الثاني: تصرف الصبي في أمواله بأذن الولي و أجازته

و الظاهر أنّه أيضا ممنوع و داخل في اطلاقات كلمات القوم، و لذا ذكر في الجواهر الإجماع بقسميه عليه أي علي عدم صحة بيع الصبي و لو اذن له الولي قبل البيع أو بعده «2».

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 3، ص 264.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 260.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 212

و يدل عليه: مضافا إلي ذلك، ما عرفت سابقا من آية سورة النساء، حيث تدل علي منع اليتامي من أموالهم قبل البلوغ و إيناس الرشد منهم، و هو عام يشمل ما كان مع اذن الولي.

و هكذا اطلاقات ما دلّ علي عدم جواز أمر الصبي في عقوده و معاملاته، و كذلك حديث رفع القلم عنه، بناء علي شموله لقلم التكليف و الوضع، و

قد مرّ بيانه لا سيما مع ذكره في ذيل حكم جناية الصبي في رواية أبي البختري.

المقام الثالث: في تصرفه في مال غيره بإذنه
اشارة

و منه يظهر الكلام في «المقام الثالث» و هو تصرفه في مال غيره بإذنه بعنوان الوكالة، فان أيضا باطل، و يشمله اطلاق كلمات الأصحاب و فتاواهم بعدم صحة تصرفات الصبي.

و آية اليتامي و إن كانت تختص بأموالهم و لا تشمل أموال غيرهم، إلّا أنّ اطلاق ما دلّ علي رفع القلم منه و عدم جواز أمره يشمله أيضا.

نعم، في بعضها مثل رواية حمران «1» التعبير بقوله «دفع إليها مالها» و كذلك غيرها «2» و لكن غير واحد منها مطلقة لا تختص بماله فتدبّر.

هذا مضافا إلي ما عرفت من بناء العقلاء و إمضاء الشارع له، و الظاهر شموله لما نحن بصدده.

و قد ذهب بعض أعلام العصر في «مصباح الفقاهة» إلي القول بالجواز، نظرا إلي العمومات و الاطلاقات الدالة علي الصحة. و فيه أنّ اللازم رفع اليد عنها بعد ما دلّ علي منعه، مضافا إلي أن انصراف العمومات و الاطلاقات منه قوي جدّا.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه صرّح بعض الأصحاب بالفرق بين المعاملات الخطيرة و اليسيرة، فأجاز تصرفات الصغير في الأخير، كما ذكره المحدث الكاشاني قدّس سرّه فيما حكي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 1، الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات، ح 2.

(2). المصدر السابق، ج 13، الباب 2 من أبواب الحجر، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 213

عنه، بل ادعي في الرياض إجماع المسلمين عليه حيث قال: «الأظهر جوازه فيما كان بمنزلة الآلة لمن له أهليته، لتداوله في الأعصار و الأمصار السابقة و اللاحقة من غير نكر، بحيث يعد مثله إجماعا من المسلمين كافة».

و أجيب عنه بأمور:

1- عدم الاعتبار بهذه السيرة لعدم اتصالها بزمن المعصومين عليهم السّلام و احتمال نشؤها عن التساهل في الدين، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه، و احتمله صاحب الجواهر قدّس سرّه في كلامه «1».

2- كون الآخذ عن الصبي هنا موجبا قابلا، كما استقربه كاشف الغطاء قدّس سرّه فيما حكي عنه.

3- كون الصبي من قبيل الآلة هنا، فيكون نوع معاطاة و لو علي القول بالملك تجري بين البالغين، و قد تصح المعاطاة بما يكون أقل من ذلك كما في دخول الحمام و جعل الاجرة في صندوق الحمامي، أو أخذ باقة بقل و جعل الثمن في المحل المعدّ له، كما يظهر من كلمات الرياض و غيره.

4- كونه مجرّد الإباحة بالعوض تدور مدار رضاه المالكين البالغين.

أقول: يرد علي الأوّل: إنّ انكار مثل هذه السيرة بالنسبة إلي شراء الخبز و الماء و البقل و شبهها، إنكار لأمر واضح، فقد جرت السيرة علي ذلك حتي فيما قبل الإسلام و في جميع الأعصار بحسب طباع الناس، و لا يتوقف أحد في إرجاع هذه الامور إلي الصبي حتي يبلغ، و

لو ردع عنه الشارع لظهر و بان قطعا، و لا تختص هذه السيرة بالمتساهلين في الدين بل يجري عليه أهل الإيمان و اليقين أيضا.

أمّا الثاني: فهو مخالف للوجدان، غير معمول عند الناس الذين استقر عليه سيرتهم، و لا يكون ذلك علي فرض وجوده إلّا عند الفقهاء منهم.

أمّا الثالث: فلازمه المنع عن التصرفات المتوقفة علي الملك، أو القول بالملكية آنا ما قبلها، و كلاهما بعيد لا تساعد عليهما القواعد.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 263.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 214

فلم يبق إلّا الرابع، و هو قوي.

إن قلت: إنّما يصح ذلك في خصوص الموارد التي يكون الثمن و المثمن و البائع و المشتري معلومة كما في اشتراء البقل أو اجرة الحمامي و ليس جميع الموارد كذلك، فقد لا يكون البائع أو المشتري معينا بل و لا مقدار الثمن كما لا يخفي.

قلت: أمّا معلومية البائع و المشتري بشخصهما فغير لازم، كما إذا لم يكن الحمامي حاضر و كذا صاحب البقل، و أمّا معلومية العوضين فهي حاصلة إلّا في بعض الموارد، و فيه أيضا يعلم بعد رجوع الصبي إلي وليه و أعلامه بالحال، و حينئذ يتحقق منه الإنشاء و يكون الصبي في هذا الحال كالآلة، و الإنشاء الفعلي حاصل هنا من الطرفين، و لا يرد عليه الإشكال من ناحية الموالاة بين الإيجاب و القبول بعد ما عرفت في المباحث السابقة من كفاية هذا المقدار.

و قد يستدل هنا أيضا بروايتين:

إحداهما: مروية من طريق العامة من أن أبا الدرداء اشتري عصفورا من صبي فأرسله، و لذا ذهبت الحنابلة إلي صحة بيع الصبي في الأشياء اليسيرة و لو لم يأذن وليه، كما حكي عنهم و حكي عن الشافعية خلافه.

و فيه:

إن فعل أبي الدرداء لا يكون دليلا، مضافا إلي عدم صحة سند الحديث و يمكن حمله علي عدم كون الصبي مالكا، بناء علي عدم تأثير حيازته، و إنّما اشتراه ظاهرا ليطيب قلبه.

ثانيهما: ما ورد من النهي عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده معللا بأنّه «إن لم يجد سرق» و هو ما رواه النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عن كسب الإماء فانّها أن لم تجد زنت، إلّا أمة قد عرفت بصنعة يد، و نهي عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده فانه أن لم يجد سرق» «1».

و فيه: أولا: أنّ في سنده النوفلي و السكوني و كلاهما محل كلام.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 33 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 215

و ثانيا: يمكن أن يكون المراد من الكسب فيه الكسب باليد، لا البيع و الشراء بقرينة قوله عليه السّلام: «لا يحسن صناعة بيده»، و ليس في المقام البيان من ناحية اخري، فتأمل.

ثالثا: يمكن أن يكون المراد من الغلام، العبد، لقرينة ذكره في مقابل الأمة فيكون المراد بكسبه إجارته، فانّها لا تصح إلّا باذن المولي.

المقام الرابع: في حكم قبول الصبي للهدايا و الهبات و شبهها

قال في المكاسب إنّ مقتضي ما تقدم من الإجماع المحكي في البيع و غيره من العقود و الأخبار المتقدمة بعد انضمام بعضها إلي بعض، عدم الاعتبار بما يصدر من الصبي من الأفعال المعتبر فيها القصد إلي مقتضاها، كإنشاء العقود أصالة و وكالة، و القبض و الإقباض، و كل التزام علي نفسه من ضمان أو اقرار أو نذر أو ايجاد (انتهي).

أقول: يمكن أن يقال: إنّ قبول الهدايا

و الهبات ليس التزاما علي نفسه بشي ء و لا يوجب ضررا عليه، و هي من العقود الاذنية، فلا إشكال فيهما، و ليس هذا من قبيل اعطاء أمواله بيده، و لكن الإنصاف شمول أدلة نفي جواز أمره و رفع القلم عنه، و لأن قبول الهدية و غيرها قد يكون منقصة و ضررا عليه من بعض الجهات و لا يدرك ذلك إلّا وليّه.

المقام الخامس: وكالته عن غيره في اجراء صيغ العقود

مقتضي ما عرفت من كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه عدم الجواز أيضا، و ذهب بعض أعلام المحشين إلي عدم المنع منه، نظرا إلي العمومات و الاطلاعات مع عدم دليل علي التخصيص أو التقييد، فيجوز للصبي اجراء العقود لغيره، بل علي مال نفسه إذا كان بأذن الولي، و كان الصبي وكيلا في اجراء الصيغة فقط كما يجوز استقلاله بهذا النحو في مال غيره (انتهي).

و الإنصاف أنّ شيئا من ذلك غير جائز بعد اطلاق عدم جواز أمر الصبي، و قد عرفت عدم اختصاصه بماله «1».

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، ج 13، الباب 44 من أبواب الوصايا، ح 8 و 11.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 216

هذا و الوكيل في إجراء الصيغة وكيل في نفس البيع، و لا معني لكونه وكيلا في إجرائها فقط، نعم هو وكيل في المعاملة بقيودها و شروطها المعينة من قبل المالك و إلّا فلا معني للوكالة في مجرّد الصيغة فقط، فتدبّر فانّه حقيق به.

المقام السادس: من أحكام الصبي «في حكم إسلامه»

الصبي إمّا مميز أو غير مميز، و المراد من المميز هنا تمييز الإسلام و الكفر و قبول أحدهما عن علم و بيّنة بحسب حاله، أمّا غير المميز فلا ينبغي الإشكال في إلحاقه بأبويه، كما صرّح به كثير منهم في أحكام النجاسات في باب نجاسة الكافر، منهم الشيخ قدّس سرّه في المبسوط، و صاحب الايضاح، و نهاية الأحكام، و العلّامة قدّس سرّه في التذكرة، و الشهيد قدّس سرّه في الذكري، فيما حكي عنهم بل قد يدعي عدم الخلاف أو الإجماع عليه.

و هو المعروف بينهم في أحكام النجاسة، و الأسر، و الاسترقاق، و غيرها.

و اختلف كلمات العامة هنا.

فعن الحنفية إن تصرف الصبي علي ثلاثة أقسام:

«الأول»: أن يتصرف تصرفا ضارا بماله و

هذا لا ينعقد.

«الثاني»: أن يتصرف تصرفا نافعا بيّنا كقبول الهبة و الدخول في الإسلام، و هذا ينعقد و ينفذ و لو لم يجزه الولي.

«الثالث»: أن يتردد بين النفع و الضرر، كالبيع و الشراء، و هذا القسم ينعقد موقوفا علي أجازة الولي «1».

و عن الشافعية: لا يصحّ تصرف الصبي سواء كان مميزا أو غير مميز، فلا تنعقد منه عبارة، و لا تصح له ولاية، لأنّه مسلوب العبارة و الولاية، فإذا نطق الصبي من أبوين كافرين بالإسلام، فلا ينفع إسلامه «2».

______________________________

(1). الفقه علي المذاهب الاربعة، ج 2، ص 363 (ملخصا).

(2). المصدر السابق، ص 365.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 217

و لم ينقل من الحنابلة و المالكية هنا كلام في هذا المعني.

و العمدة فيه السيرة المستمرة بين العقلاء و قد أمضاها لشرع عند عدّهم في عداد آبائهم عند عدّ الكفار و المسلمين، فلا يزالون يقولون عدد اليهود كذا، و عدد المسلمين كذا، و يعدّون أولادهم في عدادهم، و هذا أمر ثابت في جميع البلاد و الأعصار من غير فرق بين جميع الفرق.

مضافا إلي ما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه من دعوي الإجماع أو التسالم.

و كذا الكلام بالنسبة إلي المميز إذا لم يختر مذهبا أو اختار مذهب أبيه مثلا، و أمّا إذا أختار مذهبا علي خلاف مذهب أبيه، كما إذا أسلم ولد الكافر أو كفر ولد المسلم، و هو غير بالغ، و لكن كان ذلك عن علم و قصد، فهل يحكم عليه بأحكام الإسلام و الكفر، و هو المعنون في كلماتهم بقبول اسلام الصبي، أو عدمه فيكون تابعا لأبويه حتي يبلغ أشده؟

غاية ما يمكن الاستدلال به علي قبوله امور:

1- شمول العمومات و الإطلاقات له، و قد ورد في

غير واحد من الروايات أن حقيقة الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللّه و التصديق برسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله «1».

نعم، قد ورد في غير واحد منها التصريح بحقن الدماء الذي يكون قرينة علي كون الكلام في البالغين، لأنّ غير البالغ لا يجري عليه حكم عدم الحقن بعد عمومية رفع القلم عنه، كما هو واضح، و لكن في بعضها الآخر الذي ليس فيه هذه القرينة الصارفة غني و كفاية.

2- إنّ الإسلام و الكفر ليسا من الامور التعبدية حتي يحتاج إلي العمومات و الإطلاقات، بل هما ينشأن عن اعتقاد هذا أو هذا، و قبوله كعقيدة و إيمان، و هذا أمر حاصل من المميز بالمعني الذي ذكرنا.

3- ما ورد من كون علي عليه السّلام أول الناس إيمانا، و النصوص به كثيرة مع أنّ المعروف كونه عليه السّلام ابن عشر سنين حينئذ، و النبي صلّي اللّه عليه و آله لم يقنع بقبوله إسلامه و هو صبي فقط، بل جعله

______________________________

(1). الأصول من الكافي، ج 2، ص 25.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 218

وزيرا له و وصية صلّي اللّه عليه و آله كما هو المعروف من حديث الدار، و هذا من أقوي الأدلة علي قبول إسلام الصبي.

و القول بأنّ قبول إسلامهم من خواصه عليه السّلام كما عن صاحب الجواهر قدّس سرّه لا دليل عليه، مضافا إلي أنّ المخالف لا يقبل هذا الاستثناء لو كان الاستدلال في مقابله.

4- أضف إلي ذلك كله أنّ العمدة في الحكم بالتبعية هو ما عرفت من السيرة المستمرة بين العقلاء، و هذه السيرة غير ثابتة في الصبي الذي يتخلف عن أبويه في إسلامه أو كفره، و هو عالم بما يقبله، و مميز له

غاية التمييز، و إن لم يجر عليه الأحكام التكليفية و الحدود و شبهها نظرا إلي حديث رفع القلم و شبهه.

و قد يستدل علي عدم القبول بامور:

الأمر الأول: اطلاق ما دلّ علي دخول أولاد الكفار و المشركين و كذا المؤمنين مداخل آبائهم «1».

و يمكن الجواب عنها، أولا: بأنّها شاذة مخالفة للعقل، و عدالته تعالي و حكمته إن كان المراد بدخولهم مداخل آبائهم دخول أولاد الكفار في جهنم كما هو ظاهرها.

و ثانيا: إنّها منصرفة عما إذا اختار الولد مذهبا غير مذهب أبويه كما هو ظاهر.

و ثالثا: إنّها معارضة بغيرها، فقد ورد في هذا الباب طوائف ثلاثة من الروايات.

«الاولي» ما عرفت.

«الثانية» ما يدل علي أنّ اللّه أعلم بما كانوا عاملين «2».

فان كان المراد أنّه يجازيهم علي ما كانوا يعلمون لو بقوا في الدنيا فهذا أيضا لا يمكن المساعدة عليه، لأن من ضروريات المذاهب عدم جواز المجازاة بمجرد الشأنية لا سيما مع عدم سبق نيّة منهم كما في المقام.

الثالثة: ما يدلّ علي تأجيج نار يوم القيامة و أمرهم بدخولها فمن دخلها كانت عليه

______________________________

(1). راجع الفروع من الكافي، ج 3، ح 2 و 5، ص 248.

(2). المصدر السابق، ح 1 و 3، ص 249.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 219

بردا سلاما و دخل الجنّة، و من عصي دخل النار «1».

و قد جمع بينهما في الوافي بحمل إلحاق الأولاد بالآباء علي البرزخ، و حمل هذه علي يوم القيامة، و هو كما تري، و القول بأنّ يوم القيامة ليس يوم عمل بل يوم حساب، يمكن الجواب عنه بجواز الاستثناء فيه.

و علي كل حال فالظاهر انصراف جميعها عمن أسلم أو كفر عن بصيرة و تمييز علي خلاف أبويه.

الأمر الثاني: حديث رفع القلم،

فانّه باطلاقه يدل علي رفع جميع الأحكام الاصولية و الفرعية، فلا أثر لإسلام الصبي و لا لكفره، فان هذه الامور مرفوعة عنه كلها، و لكن الإنصاف أنّ اطلاقه محل إشكال و منع، لأنّه يدل بمقتضي كونه في مقام الامتنان علي رفع الأحكام الإلزامية التكليفية، و أمّا غير الإلزامية، و كذا بعض الأحكام الوضعية غير مرفوعة عنه.

فلو كفر الصبي لم يعذب، و كذا لو ارتد لا يجري عليه حدّ الارتداد، لكن لا يبعد أبانة زوجته و توريث أمواله، بل قد يقال بعدم ذلك أيضا، و لعله لانصراف الأدلة، لأنّ ذلك أيضا من قبيل المجازات المرفوعة عنه فتأمل.

و تظهر ثمرة المسألة في امور:

1- طهارة بدن الصبي بعد إسلامه بناء علي القول بنجاسة الكفار.

2- صحة عباداته بعد ذلك من الصلاة و الصيام و الحج و احرامه، و لكن في جواز استيجاره أو الاكتفاء بصلاته علي الميت إشكال مذكور في محله، و ذلك لعدم ملازمة الصحة للاكتفاء به.

3- عدم جواز أسره و استرقاقه و إن كان في دار الحرب إذا لم يحارب المسلمين بعد ما أسلم، إلي غير ذلك.

______________________________

(1). راجع فروع من الكافي، ح 1 و 2 و 6 و 7، ص 248 و 249.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 220

المقام السابع: في شرعية عبادات الصبي

و اعلم أنّه وقع الكلام في كون عباداته شرعية أو تمرينية، و حكي في الجواهر في أبواب الصوم قولا ثالثا عن الشهيد الثاني قدّس سرّه، و هو الاعتراف بصحة عباداته و إن لم تكن شرعية، نظرا إلي أنّ الصحة لا تستلزم كون صومه شرعيا لأنّها من خطاب الواضح و هو لا يتوقف علي التكليف «1».

أقول: الظاهر أنّ مراده أنّ صومه غير مأمور به بأمر تكليفي و إن

كان محكوما بالصحة بعنوان حكم وضعي، و لكن يرد عليه: إنّ الشرطية و الجزئية في العبادات لا تنتزع إلّا من الأحكام التكليفية، و إن شئت قلت: الحكم الوضعي، أي الصحة هنا، إنّما ينتزع من مطابقة الأمر، لا أنّه حكم مستقل برأسه.

نعم، في غير هذا الباب قد يكون الحكم الوضعي مستقلا في الجعل لكن هنا ليس كذلك، و تمام الكلام في محله من مباحث الاستصحاب (مباحث الحكم الوضعي).

و علي كل حال فالأقوال هنا ثلاثة: أحدها: إنّها صحيحة و مأمور بها، الثاني: صحيحة ليست مأمورا بها، الثالث: ليست صحيحة و ليست مأمورا بها بل هي مأمور بها بأمر تمريني لا واقعي.

ثم إنّ القول بكونها شرعية لا يلازم القول بسقوط الفرض به كما إذا بلغ الصبي في أثناء الوقت بعد ما صلّي، فلذا حكم في الشرائع بعدم الاكتفاء به مع أنّه قائل بشرعية عبادات الصبي، كما يظهر من كلماته في أبواب الصيام بل حكي عدم الاكتفاء به من أكثر الأصحاب، و صرح صاحب الجواهر قدّس سرّه بشرعية عباداته مع أنّه أشكل في الاكتفاء به إذا بلغ في أثنائها أو في الوقت فراجع «2».

و الحق شرعية عباداته و صحتها، و أستدل القائلون بها تارة بالاطلاقات و الأدلة العامّة، و اخري بالادلة الخاصة الواردة في المسألة.

أمّا الأدلة العامة، أعني اطلاقات الصلاة و الصيام و غيرها فلا دلالة فيها علي خصوص

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 16، ص 330.

(2). المصدر السابق، ج 7، ص 261.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 221

حكم البالغين بل تشمل غيرهم أيضا كما في قوله تعالي: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ «1».

و كذا قوله تعالي: وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ* «2» و شبهه، و كذا ما دلّ علي أنّ الصلاة

خير موضوع من شاء استقل و من شاء استكثر و …

و دعوي الانصراف في جميعها إلي البالغين لا يخلو من إشكال، و إن كان في بعضها مقبولا، و يجمع بينها و بين ما دلّ علي رفع القلم عن الصبي حتي يحتلم بالحمل علي الاستيجاب، لأن القلم قلم الإلزام.

و لكن أورد عليه: بأن الإلزام ليس مركبا من طلب الفعل و المنع من الترك حتي يرتفع أحدهما بأدلة رفع القلم و يبقي الباقي و هو الطلب، بل هو أمر بسيط إمّا موجود و إمّا مرفوع.

و فيه: إنّ مقتضي الجمع العرفي هو الحمل علي الاستحباب و هذا أمر شايع في أبواب الفقه و لا ربط له بمسألة التركب.

و اخري بالأدلة الخاصة الواردة في خصوص الصبي، و هي طوائف:

الطائفة الاولي: ما يدلّ علي وجوبها عليهم في سنين خاصة قبل البلوغ حيث تحمل علي الاستحباب جمعا بينها و بين ما يدلّ علي عدم وجوبها قبل أوان البلوغ.

مثل ما روي محمد بن مسلم عن أحدهما عليه السّلام: «في الصبي متي يصلي؟ قال: إذا عقل الصلاة، قلت: متي يعقل الصلاة و تجب عليه؟ قال: لست سنين» «3».

و ما روي العمركي عن علي بن جعفر، عن أخيه موسي عليه السّلام قال «سألته عن الغلام متي يجب عليه الصوم و الصلاة؟ قال: إذا راهق الحلم و عرف الصلاة و الصوم» «4».

و أيضا ما روي اسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و حسن بن قارون عن الرضا في نفس هذا الباب.

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 184.

(2). سورة البقرة، الآية 110.

(3). وسائل الشيعة، ج 3، الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض، ح 2.

(4). المصدر السابق، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 222

و

كذا ما ورد في أبواب صلاة الجنائز مثل ما روي زرارة و الحلبي جميعا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه سئل عن الصلاة علي الصبي متي يصلي عليه؟ قال إذا عقل الصلاة قلت: متي تجب الصلاة عليه؟ فقال إذا كان ابن ست سنين و الصيام إذا طاقه» «1».

و ما روي الصدوق في مرسلة قال «و سئل أبو جعفر عليه السّلام متي تجب الصلاة عليه؟ فقال إذا عقل الصلاة و كان ابن ست سنين» «2».

و ما روي زرارة قال: «مات ابن لأبي جعفر عليه السّلام فأخبر بموته فأمر به فغسل و كفن و مشي معه و صلي عليه و طرحت خمرة فقام عليها، ثم قام علي قبره حتي فرغ منه، ثم انصرف و انصرفت معه حتي أني لأمشي معه، فقال: أمّا أنّه لم يكن يصلي علي مثل هذا و كان ابن ثلاث سنين، كان علي عليه السّلام يأمر به فيدفن و لا يصلي عليه و لكن الناس صنعوا شيئا فنحن نصنع مثله، قال قلت: فمتي تجب عليه الصلاة؟ فقال: إذا عقل الصلاة و كان ابن ست سنين» الحديث «3».

و لكنها قابلة للحمل علي الصلاة علي الطفل الميت.

و كذا ما ورد في أبواب من يصحّ منه الصوم مثل ما روي سماعة قال «سألته عن الصبي متي يصوم؟ قال: إذا قوي علي الصيام» «4».

و ما روي إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «إذا أطاق الصبي الصوم وجب عليه الصيام» «5».

و أيضا ما روي السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و ما روي محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام و ما روي سماعة عن الصادق عليه السّلام في نفس

الباب المذكور.

و دلالتها من حيث المجموع علي المقصود واضحة فانّها تدل علي شرعيتها التي تساوق الصحة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 2، الباب 13 من أبواب صلاة الجنازة، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). المصدر السابق، ج 7، الباب 29 من أبواب من يصح منه الصوم، ح 2.

(5). المصدر السابق، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 223

الطائفة الثانية: ما دلّ علي أمرهم بها و أخذهم عليها، مثل ما روي معاوية بن وهب قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام في كم يؤخذ الصبي بالصلاة؟ فقال: فيما بين سبع سنين و ست سنين» (الحديث) «1».

و كذا ما روي محمد ابن أبي نصر عن الرضا عليه السّلام قال: «يؤخذ الغلام بالصلاة و هو ابن سبع سنين، و لا تغطي المرأة شعرها منه حتي يحتلم» «2».

و ما روي عيسي بن زيد يرفعه إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يثغر الغلام لسبع سنين و يؤمر بالصلاة لتسع، يفرق بينهم في المضاجع لعشر» (الحديث) «3».

و ما روي ابن القداح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أنا نأمر الصبيان أن يجمعوا بين الصلاتين الاولي و العصر، و بين المغرب و العشاء الآخرة ما داموا علي وضوء قبل أن يشتغلوا» «4».

و هي أيضا تدل علي المقصود، لأن الأمر بالأمر، أمر (كما ذكر في محله).

و مثل ما روي معاوية بن وهب في حديث قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام في كم يؤخذ الصبي بالصيام؟ قال: ما بينه و بين خمس عشرة سنة» «5».

و ما روي الزهري عن علي بن الحسين عليه السّلام في حديث قال: «و أمّا صوم التأديب فأن يؤخذ الصبي إذا راهق بالصوم تأديبا

و ليس بفرض» «6».

و دلالة الأخيرين لا تخلو عن تأمل.

الطائفة الثالثة: ما هي ظاهرة في التمرين و أنّها غير صحيحة، مثل ما دلّ علي صيامهم بمقدار يقدروا عليه اليوم الذي لا يكون صياما صحيحا قطعا.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض، ح 1 و ما ورد في ذيل روايت 7 و 8 من نفس الباب و روايت 1 و 2 من الباب 4.

(2). المصدر السابق، ج 15، الباب 74 من أبواب أحكام الأولاد، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). المصدر السابق، ح 7.

(5). المصدر السابق، ج 7، الباب 29 من أبواب من يصح منه الصوم، ح 1.

(6). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 224

مثل ما روي الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث: قال: «أنا نأمر صبياننا بالصيام إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم» (الحديث) «1».

و ما روي الصدوق قدّس سرّه، قال الصادق عليه السّلام: «الصبي يؤخذ بالصيام إذا بلغ تسع سنين علي قدر ما يطيقه» الحديث «2».

إلي غير ذلك، و لكن الإنصاف أنّها لا تعارض ما مرّ، لعدم المنافاة بين تمرينهم إذا لم يقدروا علي الصيام كاملا، و استحباب فعلهم ذلك إذا اطاقوه.

و كذا لا منافاة بين تمرين الوضوء بغسل بعض اعضائه كما يظهر من رواية عبد اللّه بن فضالة عن أبي عبد اللّه أو أبي جعفر عليه السّلام قال: «سمعة يقول: يترك الغلام حتي يتم له سبع سنين، فإذا تمّ له سبع سنين قيل له اغسل وجهك و كفيك، فإذا غسلهما قيل له: صلّ ثم يترك حتي يتمّ له تسع سنين، فإذا تمّت له علّم الوضوء و ضرب عليه،

و امر بالصلاة و ضرب عليها» «3». و بين فعل الصلاة و الوضوء تاما، و ذلك باختلاف سني عمرهم و علي حسب استعداداتهم.

بقي هنا امور:

1- إنّ ظاهر كلماتهم و فتاواهم (قدس اللّه اسرارهم) و إن كان رفع جميع التكاليف الإلزامية منهم، و لكن يشكل الأمر بالنسبة إلي بعض الكبائر الفاحشة إذا كان له عقل تام و رشد كامل، مثل قتل النفوس البريئة و احراق الدور و قطع الحرث و النسل و ما أشبهها الاستقلال عقله بقبحها و استلزام الفتوي بالجواز، ترغيبه إلي هذه الامور، فالأحوط لو لا الأقوي حرمة ذلك عليهم إذا كانوا شاعرين عاقلين.

2- اختلاف الروايات بحسب ما ذكر فيها من السنين من الست في بعضها، و السبع

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 7 الباب 29 من أبواب من يصح منه الصوم، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 11.

(3). المصدر السابق، ج 3، الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض، ح 7.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 225

و التسع، و المراهق في بعضها الآخر، أمّا يكون بتفاوت درجات الاستحباب أو تفاوت الصبيان في ذلك بحسب استعدادهم.

3- لا ينبغي الشك في شمول أدلة الأحكام الوضعية له مثل إحداث الوضوء، و وجوب الغسل بمس الميت و الجناية، كما ذكروه في باب عرق الجنب من الحرام، و يصح منه الغسل، و كذا أدلة الضمانات و الديات، إلّا إذا كان أدلتها منصرفة إلي خصوص البالغين.

4- و في شمول أدلة الخمس له إشكال، و يمكن أن يقال، فرق بين ما دلّ علي أن في المعدن الخمس (مثلا) و ما فيه أمر بأداء الخمس، و الثاني ظاهر في خصوص البالغين دون الأول، فتأمل.

الشرط الثاني: «العقل و الرشد»:

ذكر في الشرائع اعتبار العقل في المتعاقدين بعد ذكر البلوغ و أدعي في الجواهر الإجماع عليه بقسميه، ثم قال: لا لعدم القصد فانّه قد يفرض في بعض أفراد المجنون بل لعدم اعتبار قصده، و

كون لفظه لفظ النائم.

أقول: المسألة إجماعية قطعا و يدل عليه مضافا إلي ذلك امور:

1- بناء العقلاء من غير نكير و قد أمضاه الشارع المقدس لا بعدم الردع بل بالامضاء أيضا، فهم قائلون بخروج المجنون كالصبي عن دائرة الأحكام و القوانين و المعاقدات و لا يرون لعقدهم و عهدهم و تصرفاتهم المالية اعتبارا.

2- ما دلّ علي عدم جواز ايتاء الأموال للسفهاء سواء اليتامي و غيرهم مثل قوله تعالي:

وَ ابْتَلُوا الْيَتٰاميٰ حَتّٰي إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ «1».

و قوله تعالي: وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيهٰا وَ اكْسُوهُمْ «2».

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 6.

(2). سورة النساء، الآية 5.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 226

و قوله تعالي: فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لٰا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ «1». فإذا لم يجز العقود بالنسبة إلي السفهاء ففي المجانين بطريق أولي.

فاللازم «الرشد» مضافا إلي «العقل» و من الواضح أنّ المدار علي الرشد المالي لا الرشد في سائر الامور، فربّ رشيد في غير الأموال غير رشيد فيه.

3- ما دلّ علي رفع القلم عن المجنون حتي يفيق، فان رفع القلم إشارة إلي خروجه عن حكم العقلاء الذين هم مشمولون للأحكام الإلزامية مطلقا حتي الناشئة عن العقود و الإيقاعات، بل هم خارجون عن دائرة شمول أمثال هذه القوانين بحكمهم، فهذا إمضاء له، و لا فرق بين المجنون المطلق و الأدواري في دور جنونه، كما هو واضح.

و لعل وضوح هذه المعاني دعي شيخنا الأعظم قدّس سرّه علي ترك البحث عنه في مكاسبه، و لكن الصبي أيضا كذلك في كثير من أحكامه، هذا و لا يأتي في

المجنون ما مرّ في الصبي من وكالته في إنشاء العقد فقط أو وكالته عن غيره و إن كان يجري بالنسبة إلي السفيه.

الشرط الثالث: «القصد»

و قد صرحوا باعتبار القصد، تارة باعتباره في شرائط المتعاقدين، و اخري في قوام مفهوم العقد، و كلاهما صحيح.

و المراد به القصد الجدي إلي إنشاء مفهوم العقد، و ينعدم بأحد امور:

1- عدم القصد إلي اللفظ، كما إذا أراد النكاح، فسبق لسانه إلي البيع غلطا في الالفاظ.

2- ما إذا قصد اللفظ و لكن لم يرد معناه الإنشائي بل أراد منه الإخبار و شبهه.

3- ما إذا قصد الإنشاء و لكن لم يكن عن جد، بل كان هازلا في كلامه.

هذا بالنسبة إلي مقام الثبوت، أمّا مقام الإثبات فلا يقبل منه هذه الدعاوي إذا لم تكن عليها قرينة، و كان ظاهر الحال القصد و الجدّ.

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 282.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 227

و اعتبار القصد بهذا المعني من القضايا التي قياساتها معها، لعدم تحقق المعاقدة و المعاهدة بدون ذلك، فلا يصدق عنوان العقد و غيره من عناوين البيع و شبهه، حتي يشمله أدلة وجوب الوفاء بها كما هو ظاهر.

بل لا بدّ أن يكون القصد إلي ما هو مبين في الشرع، أو دائر بين العقلاء من أهل العرف و لم يردع عنه، و ما ذكره بعض أعاظم المحشين «من أن حقيقة البيع عبارة عن الاعتبار النفساني المظهر بمبرز خارجي سواء أمضاه العرف و الشرع أم لا و سواء كان في العالم شرع و عرف أم لا» كما تري، لعدم صدق هذه العناوين قطعا بدون ما ذكرناه.

الشرط الرابع: «في اعتبار تعيين المالك و من له العقد»

ذكر المحقق الأنصاري قدّس سرّه هنا كلاما عن صاحب المقاييس في تعيين المالك و من له العقد، و حاصله التفصيل بين صور المسألة، فتارة لا يتعدد وجه وقوعه كما إذا قال: بعت عن موكلي، و كان وكيلا عن واحد، و اخري

يتعدد وجه وقوع العقد كما إذا كان وكيلا أو وليا عن اثنين، فحينئذ يجب التعيين، و ثالثة يكون له انصراف كما إذا اشتري أو باع شيئا في الذمة و لم يعين أنّه لنفسه، أو لموكله فحينئذ ينصرف إلي نفسه، أمّا إذا لم يكن معينا في الواقع، و لا عينه بنفسه، و لم يكن هناك انصراف، وقع باطلا، و لا يجوز ايقاع العقد مبهما و تعيينه بعد العقد.

و استدل عليه: بأنه لو لم يعين لزم كون الملك بلا مالك، و لازمه أيضا عدم الجزم بشي ء من العقود، و لا فائدة في التعيين بعد العقد (انتهي ملخصا).

و أورد عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره بما حاصله: إنّ تعيين العوضين كاف من دون حاجة إلي تعيين المالكين فإن كان العوض شخصيا وقع البيع و الشراء لمالكه، و إن كان كليا فما لم يكن مضافا إلي شخص، لم يصح بيعه و لا شرائه لأن الكلي إنّما يكون مالا إذا أضيف إلي ذمة معينة و إلّا فلا.

أقول: هذا مبني علي عدم جواز بيع شي ء لغير مالكه، أو اشتراء شي ء لغير مالك الثمن،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 228

كما إذا قال: بيع هذا الفرس لنفسك، بأن يكون الثمن له بمجرّد البيع، أو اشتر بهذه النقود خبزا لنفسك، بأن يكون المثمن له بنفس العقد، و قد أدعي وضوح بطلانه، لأن حقيقة البيع هي خروج الثمن عن ملك من دخل في ملكه المثمن، و بالعكس و إنّما مبادلة مال بمال و إنّما تبديل العلقتين.

و لكن الانصاف كما ذكرنا في محله أنّه لا يخلو من إشكال بعد وجود موارد كثيرة في العرف علي خلافه، مثل ما إذا قال: أشتر بهذا الثمن خبزا

لنفسك، و يتصور ذلك في أموال بين المال و مال الزواج عند صرفه في حق الزوجة أو غير ذلك، و أي دليل علي لزوم توجيهه بالتوكيل في العقد، ثم نقل المثمن إلي نفسه بعد العقد، أو الهبة له قبله؟ و أي استحالة عقلية في جواز ذلك بعد كون المسألة من الامور الاعتبارية التي أمرها وسيع جدّا؟

و تعريف البيع بمبادلة مال بمال ناظر إلي الغالب، و مضافا إلي أنّه لا ينافي ذلك فإنّها أيضا مبادلة في الواقع، و المسألة تحتاج إلي مزيد تأمل.

بقي الكلام في حكم تعيين من يكون طرفا للعقد و أنّه لازم أو لا؟

توضيح ذلك: إنّ البائع قد يبيع لنفسه تارة، و اخري يبيع لموكله و يقصده فضولا و كذلك المشتري، فحينئذ يقع الكلام في أنّه هل يجب علي كل منهما أن يعلم من يكون طرفا لعقده، أو يكفي الخطاب الأعم بأن يقصد وقوع المعاملة لمن قصده المشتري، لنفسه أو لموكله أو لمن يشتري له فضولا.

صرّح بعضهم بلزوم تعيين طرف العقد، إلّا أن يعلم من الخارج أنّه لا خصوصية له، كما في غالب البيوع و الإجارات، حيث إنّها تعقد مع المخاطب من غير إرادة خصوص نفسه أو من يكون وكيلا من عنده.

قلت: كأنّه وقع الخلط هنا بين أصل لزوم التعيين و صورة تعيين شخص علي خلاف تعيين الآخر.

توضيحه: أنّه تارة يكون الكلام في لزوم تعيين من يكون في الواقع طرفا للعقد، و الظاهر أنّه لا يجب في مثل البيع بل يكفي العلم به إجمالا، و لا يجب تفصيلا، فلو أوقع

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 229

العقد مع المخاطب من دون علمه بأنّه أصيل أو وكيل أو فضولي لم يكن إشكال في العقد، نعم

لا يجوز ذلك في مثل النكاح و الوصاية و شبهها التي تدور الحكم مدار الأشخاص.

و اخري يكون فيما إذا قصد كل منهما شيئا مخالفا للآخر، بأن قصد المشتري الاشتراء لموكّله، و قصد البائع تمليكه لخصوص نفسه، أو بالعكس قصد المشتري أن يكون البيع له، و قصد البائع لموكّله، و لا ينبغي الإشكال حينئذ في فساد المعاملة لعدم التطابق بين الإيجاب و القبول، لأنّ هذا يقصد تمليك شخص و هو يقبل من غيره.

هذا مضافا إلي ما يرتبط بنفس العوضين، فانّه إذا قصد خصوص المشتري مثلا كان الثمن في ذمته، و إذا قصد موكله كان في ذمّة موكله (بناء علي عدم جواز خروج المعوض عن ملك أحد و دخول عوضه في ملك آخر).

فالفساد ينشأ من عدم التطابق بين الإيجاب و القبول و عدم تعيين المالك و الملكين، و هنا يعلم ربط هذه المسألة بالمسألة السابقة و عدم انفكاكهما أصلا.

الشرط الخامس: «اعتبار الرضا من المتعاقدين»

اشارة

المذكور في عبارات الأصحاب و غيرهم عنوان المسألة بعنوان اعتبار «الاختيار» في العقد في مقابل «الإكراه» مع أن عنوان «الرضا» أبلغ و أحسن، و ليس ذلك إلّا لكونه في مقابل الإكراه.

و أكثر ما ورد ذكر هذه المسألة هو في أبواب النكاح، فهذا شيخ الطائفة قدّس سرّه عنونه بعنوان عام في كتاب الطلاق من الخلاف حيث قال:

«طلاق المكره و عتقه و سائر العقود التي يكره عليها لا يقع منه، و به قال الشافعي و مالك و الأوزاعي، و قال أبو حنيفة و أصحابه طلاق المكره و عتاقه واقع، و كذلك كل عقد يلحقه فسخ، فأمّا ما لا يلحقه فسخ مثل البيع و الصلح و الإجارة فانّه إذا أكره عليه ينعقد عقدا موقوفا فان أجازها، و إلّا بطلت».

ثم استدل عليه

الشيخ قدّس سرّه بإجماع الفرقة، و أخبارهم، و أصالة البراءة، و حديث الرفع، رواها عن ابن عباس عن النبي صلّي اللّه عليه و آله «1».

______________________________

(1). الخلاف، ج 2، المسألة 44 من كتاب الطلاق.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 230

و الظاهر أنّ ذكر المسألة في باب الطلاق لشدّة الابتلاء بها هناك، كما أنّ ظاهر كلام أبي حنيفة صحة الإيقاعات من المكره، و كذا العقود الجائزة، و كأنه اعتبر الرضا في خصوص العقود التي لا يمكن جبران الكراهة فيها بالفسخ و إن كان قوله باطلا قطعا.

و سيأتي أنّ كلمات القوم غير محررة في المقام، و أنّ الذي يفقده المكره هو القصد إلي مدلول العقد، أو قصد الجدّ، أو خصوص الرضا؟ و من هنا وقع التضارب و التهافت في كلماتهم حتي لمثل الفقيه الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه.

و لكن لا بدّ من أن نتكلم أولا في دليل المسألة، ثم نبحث عن الذي يفقده عقد المكره، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

استدلوا علي اعتبار هذا الشرط، أي الاختيار بعد الإجماع بأمور:

1- قوله تعالي: لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «1».

دلّ صريحا علي اعتبار الرضا و أنّ ما ليس كذلك كان من الأكل بالباطل، فيدلّ علي المقصود باعتبار الاستثناء و المستثني منه كليهما، و الظاهر أن الاستثناء هنا منقطع، لأنّ فيه الرضا ليس أكلا بالباطل.

2- النهي عن أكل المال بالباطل من دون ذكر التراضي في قوله تعالي: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ «2» و ذمّه تعالي اليهود علي أكلهم أموال الناس بالباطل «3» و كذا الأحبار و الرهبان و أنّهم: لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ «4».

كل ذلك شاهد علي المطلوب.

3- ما دلّ

علي اعتبار طيب النفس و الرضا في حلّية أموال مثل قوله صلّي اللّه عليه و آله في الحديث المعروف: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه».

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 29.

(2). سورة البقرة، الآية 188.

(3). سورة النساء، الآية 161.

(4). سورة التوبة، الآية 34.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 231

و قوله صلّي اللّه عليه و آله: «لا يحل مال أمراء مسلم إلّا عن طيب نفسه».

و قوله صلّي اللّه عليه و آله: «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير أذنه» «1».

4- حديث الرفع الذي وصفه الشيخ الأنصاري قدّس سرّه بأنّه حديث متفق عليه بين المسلمين و قد عرفت استدلال شيخ الطائفة قدّس سرّه به و روايته عن طريق الجمهور عن ابن عباس، في عبارة الخلاف.

فان قوله «رفع ما اكرهوا عليه» (أو ما استكرهوا عليه) دال علي المقصود، إمّا بنفسه لإطلاق الحديث و شموله للأحكام الوضعية و التكليفية، أو لبعض الروايات المعتبرة الذي استدل فيها بالحديث لنفي بعض الأحكام الوضعية المستكره عليها كما سيأتي إن شاء اللّه.

توضيح ذلك: إنّ الحديث دليل علي رفع هذه الامور، في مقابل وضعها، و قد يقال: إنّ هذه الامور المرفوعة هو خصوص الموضوعات المجهولة أو المنسية أو المكره عليها، بقرينة ذكر الإكراه، و الاضطرار و ما لا يطاق، فان هذه الامور الثلاثة لا يتصور إلّا في الموضوعات لعدم معقولية الإكراه علي الأحكام، و كذا الاضطرار و شبهه.

و لكن الانصاف أنّ هذا المقدار من وحدة السياق لا يمنع من الأخذ بالعموم فيما يتصور فيه العموم، لأنّ مفاد «ما» الموصولة وسيع، يؤخذ بعمومه أو اطلاقه، في كل موضع بحسبه، فتدبّر.

و لنا بيان آخر للعموم هنا، و حاصله: أنّ «الرفع» في مقابل

«الوضع»، و الظاهر أنّ الموضوع و المرفوع في باب الأحكام أيضا هو نفس المتعلقات، قال اللّه تعالي: لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ «2».

و قال تعالي: وَ عَلَي الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ «3».

و قال تعالي: وَ عَلَي الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعٰامُ مِسْكِينٍ «4». إلي غير ذلك ممّا لا يحصي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6، الباب 3 من أبواب الأنفال، ح 6.

(2). سورة آل عمران، الآية 97.

(3). سورة البقرة، الآية 233.

(4). سورة البقرة، الآية 184.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 232

في الأخبار الواردة عنهم، فالموضوع علي عاتق المكلّف هو نفس الحج، لا وجوبه، و نفس الرزق و الكسوة، لا وجوبهما كما هو صريح الآيات، و كأن الأفعال ذات ثقل توضع علي عاتق المكلّفين، و الوجوب منتزع من وضعها عليهم، لا أنّ الوجوب و الحرمة بأنفسهما توضعان علي المكلّف، فالرفع أيضا بهذه العناية، و من هنا يظهر أنّ العمومية في الرواية لا تنافي تعلق الرفع و الوضع بالمتعلقات، فلا يكون الرفع في الأحكام متعلقا بنفس الحكم و في الموضوعات متعلقا بالموضوع حتي يكون التخالف بينهما، بل الرفع و الوضع في الجميع باعتبار المتعلقات، و لكنهما تارة يكون من الأحكام الكلية و اخري في الجزئية و هي الشبهات الموضوعية.

و لو تدبّرت فيما ذكرنا من عناية الوضع و الرفع في الحديث لوجدت الحكم بالعموم في الحديث قريبا جدّا فتدبّر.

هذا و لكن الأمر سهل بالنسبة إلي مورد الإكراه، لانحصاره- كما عرفت- بالموضوعات، و لكن هل الرفع و الوضع المتعلقان بالموضوعات بعناية رفع المؤاخذة (بأن تكون نتيجتها هي رفع العقاب فقط)، أو يعم الأحكام الوضعية بحسب مفاده؟ لا يبعد العموم، و لا يكون هذا من قبيل اللفظ في أكثر من معني واحد بعد

وجود الجامع القريب بينهما، هذا مضافا إلي الاستدلال به في كلام الصادق عليه السّلام في ما رواه محمد بن عيسي في نوادره عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يكره علي اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك أ يلزمه ذلك؟ فقال: لا، ثم قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله وضع عن امتي ما اكرهوا عليه و ما لم يطيقوا و ما أخطئوا» «1».

و الحلف بالطلاق و العتاق و إن كان باطلا في نفسه لعدم الأثر له عندنا، بل ليس من الحلف في شي ء، إلّا أن استدلاله عليه السّلام بحديث الرفع دليل علي عمومه و الاستناد إليه مع بطلانه ذاتا إنّما هو لكون هذا الاستدلال مقبولا عند الكل، فتدبّر.

5- و يدلّ علي ما ذكرنا أيضا بناء العقلاء علي بطلان عقود المكره، من دون فرق بين

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 16، الباب 16 من أبواب الايمان، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 233

المؤمن بالمذهب و المخالف له، من أي فرقة من الفرق، بل الأصل في المسألة هو هذا، و قد أمضاه الشارع المقدس لا بعدم الردع، بل بالتصريح بالنهي عنه، و قد عقد في الوسائل بابا لعدم صحة اليمين في الإكراه روي فيه روايات كثيرة «1» و كذا عقد بابا في عدم صحة طلاق المكره روي فيه أيضا روايات كثيرة «2».

و هاهنا مسألتان:
الاولي: هل المكره فاقد للقصد؟

كما يظهر من غير واحد من أصحابنا حتي أنه في الشرائع عطف المكره علي المجنون و الصبي، الذين لا قصد لهما أو قصدهما كالعدم حيث قال: «أمّا الشروط فمنها ما يتعلق بالمتعاقدين، و هو البلوغ و العقل و الاختيار، فلا يصح بيع الصبي و لا شراؤه و

كذا المجنون و المغمي عليه و السكران غير المميز، و المكره»، و لكن صرّح بعد ذلك بأنّه و لو رضي كل منهم بما فعل بعد زوال عذره (لما يصحّ) عدا المكره للوثوق بعبارته.

و قال في الجواهر بعد نقل هذا الكلام: «إنّه إن لم تكن المسألة إجماعية فللنظر فيها مجال، كما اعترف به في جامع المقاصد ضرورة عدم اندراجه في العقود بعد فرض فقدان قصد العقدية و إن صدور اللفظ فيه كصدوره من الهازل و المجنون و نحوهما و قصد نفس اللفظ بمعني الصوت غير مجد» «3».

ثم ذكر في أواخر كلامه أنّه لو تصور قصد المكره معني اللفظ مع عدم الرضا منه و قلنا أن الإكراه لا يخرجه عن صلاحية التأثير جري عليه حكم الفضولي، و عليه حمل كلمات الأصحاب في صحة عقد المكره بعد لحقوق الرضا.

و صرح شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه أنّ المراد بعدم قصد المكره إلي اللفظ الوارد في

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 16، الباب 16 من أبواب الايمان، ح 6.

(2). راجع المصدر السابق، ج 15 الباب 37 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.

(3). جواهر الكلام، ج 22، ص 267.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 234

كلمات جماعة منهم الشهيدان قدّس سرّهما عدم القصد إلي وقوع مضمون العقد في الخارج، و أن الداعي إلي الإنشاء ليس قصد وقوع مضمونه في الخارج (فراجع المكاسب).

أقول: اللازم في العقد امور:

1- قصد اللفظ (في مقابل الغالط).

2- قصد معناه الإنشائي (في مقابل اللافظ من غير قصده كمن يريد اصلاح مخارج الحروف).

3- قصد الجدّ (في مقابل الهازل و العاقد صوريا كما في بيع التلجئة الذي ذكره العلّامة و غيره للنجاة عن الظالم).

4- الرضا بمضمون العقد (في مقابل الإكراه).

و الظاهر أن

الذي يفقده المكره هو الأخير.

إن قلت: إنّ المكره غير مكره علي القصد، لأنّه خارج عن دائرة الإكراه بل الإكراه يتعلق بالالفاظ فقط.

قلت: نعم و لكن الغالب أنّ المكره- لا سيما إذا كان من العوام- لا يقدر علي تفكيك الألفاظ عن معانيها، فيسري الإكراه علي الألفاظ، إلي الإكراه علي قصد المعني، كما لا يخفي علي من راجع موارد الإكراه في العرف ليتضح ذلك كمال الوضوح، و الحاصل أنّ هذا إذا لم يقدر علي تخلية ألفاظ العقود عن معانيها كما هو كذلك في كثير من الناس، فانّهم إذا اجبروا علي صيغة الطلاق لم يمكنهم ذكر ألفاظه بدون قصد معناه غالبا، لعدم قدرتهم علي التورية، أو عدم انتقالهم إليها و إن قدروا عليها، و أمّا القادر و العالم بذلك فيمكنه رفع أثر الإكراه من هذه الطرق.

فالانصاف أنّ المكره علي قسمين: قسم يفقد الرضا فقط، فهذا الذي ذكره الأصحاب في كلماتهم و أنّه يصحّ عقده بالرضا كالفضولي و هو الغالب من مصاديقه، و قسم يفقد الجدّ أو قصد الإنشاء و المعني، فهذا لا يصح عقده و لو لحقه الرضا.

و يشهد لذلك استدلال غير واحد منهم بأن الذي ليس في عقد المكره هو الرضا، فلو حصل بعده كان كافيا، لعدم وجود دليل علي لزوم مقارنته للعقد، و كذا الاستدلال له بما

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 235

دلّ علي لزوم الرضا في العقود، و حكمهم بعدم وجوب التورية عليه، فلا مناص عن التفصيل في المسألة فتدبّر جيدا، و إن كان الغالب من مصاديقها ما فيه قصد المعني.

و من هنا يظهر النظر في ما ذكره صاحب الحدائق قدّس سرّه، فقد أورد عليهم في هذا المقام إشكالا و هو أنّهم قد حكموا

بفساد عقد الهازل و لم يذكروا لزومه لو لحقه الرضي، مع أنّ ظاهر حاله أنّه قاصد إلي اللفظ دون مدلوله، كما في المكره لأنّه بالغ عاقل، فاللازم حينئذ إمّا الحاقه بالمكره في لزوم عقده مع لحوق الرضا به، أو بيان وجه الفرق بينهما.

ثم قال: و دعوي كونه غير قاصد اللفظ، بعيدة عن جادة الصواب، انتهي «1».

قلت: قياس المكره علي الهازل عجيب بعد ما عرفت من وجود الجد في المكره غالبا دون الهازل، و لو كان الأمر كما ذكره كان الحكم بالبطلان و لو بعد لحوق الرضا من الواضحات مع أنّ الأصحاب لم يقولوا به.

الثانية: في حقيقة الإكراه

اعلم أنّ الدليل علي اعتبار هذا الشرط في البيع لو كان هو أدلة اشتراط الرضا دار الأمر مداره، سواء صدق الإكراه عليه أم لا، كان هناك تخويف بالضرر أم لا، و كانت التورية و سائر طرق التخلص ممكنة أم لا، لدوران الأمر مدار طيب النفس و الرضا الباطني، فلا نحتاج حينئذ إلي التكلم في معني الإكراه.

و أمّا لو كان المستند حديث الرفع و شبهه ممّا يدل علي بطلان عقد المكره، فسيأتي الكلام في حقيقة الإكراه لغة و عرفا.

و يظهر من كلام شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه اعتبار امور فيها:

«أولها»: وجود حامل له علي فعله، أي المكره بالكسر.

«ثانيها»: اقترانه بوعيد منه مظنون الترتب مضر بحال الفاعل أو من يتعلق به أو ما يتعلق به.

______________________________

(1). الحدائق الناضرة، ج 18، ص 375.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 236

«ثالثها»: عدم إمكان التفصي و التخلص عن الضرر المتوعد به بطريق آخر (علي تفصيل فيه).

و لازم الأوّل أنّه لو خاف من ضرر السلطان أو غيره مثلا من دون تخويف و أتي بالعمل، لم يصدق عليه عنوان

الإكراه، و الانصاف إلحاقه به حكما لو لم نقل بالحاقه به موضوعا، لوحدة الملاك في نظر أهل العرف كما لا يخفي، فما ذكره السيد قدّس سرّه في بعض حواشيه «من أنّ الاقدام علي العقد قبل اطلاع الجائر بتخيل أنّه إذا اطلع علي الترك أوصل إليه الضرر لا يعدّ من الإكراه» منظور فيه، لأنّه إكراه في نظر العرف حكما لو لم نقل بالحاقة به موضوعا، فأدلة رفع الإكراه تشمله.

و إن شئت قلت: قد يكون الاقتران بالوعيد بالفعل، و قد يكون بالقوة القريبة من الفعل، و في هذا القسم أيضا يصدق عنوان الإكراه موضوعا، مضافا إلي الحاقه به حكما.

ثم اعلم أنّه لا يعتبر في صدقه، العلم بتحقق الوعيد، بل يكفي الظن بل الاحتمال العقلائي، و لو لم يكن علي حدّ الظن كما في الموارد المشابهة له من عنوان الخوف و غيره.

و لازم الثاني أنّه لو لم يقترن بوعيد منه و لكن علم من الخارج أنّ الوعيد يكون لا محالة، أو كان الوعيد من حواشيه و تابعيه من غير تصريح به، أو كان الوعيد عذاب إلهي ينزل عليه لم يصدق الإكراه، و الأخير و إن كان صحيحا، إلّا أن الوعيد المقدر المعلوم من الخارج من ناحيته أو من يكون له صلة كاف في صدق عنوانه.

و لو كان الوعيد بحق كالتهديد بالقصاص، أو أخذ الدين منه حاليا، أو العذاب الإلهي، لم يصدق الإكراه كما لا يخفي، و ليس الكلام هنا في طيب النفس و الرضا الباطني كما يظهر من كلمات بعض الأعاظم «1» بل الكلام في نفس عنوان الإكراه مع قطع النظر عن عنوان الرضا كما عرفت، و لا ينبغي الخلط بينهما لما عرفت من اختلاف الأدلة في المسألة،

و إلّا لو كان المدار علي الرضا و عدمه كان الأمر واضحا و لا يحتاج إلي هذه التفصيلات.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 3، ص 229.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 237

و لازم الثالث أنّه لو أمكن التفصي لم يصدق عنوان الإكراه، أو يصدق عنوانه و لكنه خارج عنه حكما.

توضيح ذلك: أنّه قد اضطربت كلماتهم في اعتبار هذا الشرط و عدمه أو التفصيل بين التورية و غيرها أو بين المعاملات و غيرها (مثل الإكراه علي شرب الخمر)، و الظاهر أنّ الوجه فيه تضارب الأدلة هنا، فمن ناحية تري عدم صدق عنوان الإكراه مع القدرة علي دفع ضرر المكره (بالكسر)، فمن كان له خدم أو أعوان يمكنه دعوتهم علي نصره و دفع ضرر المكره، و لكن لا يدعوهم إلي ذلك بغير محذور لا يصدق في حقه عنوان الإكراه، و كذا لو كان له طريق إلي الفرار عن ذلك المكان و الخروج إلي غيره بسهولة، و لذا لو حصل ذلك في موارد الإكراه علي المعاصي لا يجوز ارتكابها و الاعتذار بأنّه كان مكرها عليها بعد إمكان دفع المكره بما عنده أو بمن عنده.

و من ناحية اخري لم يرد في روايات الباب من حديث الرفع و الأحاديث الكثيرة الواردة في باب طلاق المكره و غيره تقييدها بعدم القدرة علي التورية، مع أن باب التورية مفتوح غالبا، و هذا دليل علي عدم اشتراط عدم القدرة علي التخلص في باب الإكراه.

هذا مضافا إلي ما ورد في رواية عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا يمين في غضب و لا في قطيعة رحم و لا في جبر و لا في إكراه، قال: قلت: أصلحك اللّه فما فرق

بين الجبر و الإكراه؟ فقال: الجبر من السلطان و يكون الإكراه من الزوجة و الام و الأب و ليس ذلك بشي ء» «1».

و ظاهرها صدق عنوان الإكراه علي ما كان من ناحية الأب و الام و الزوجة مع أن التفصي فيها ممكن (و إن كانت الرواية ضعيف بعبد اللّه بن القاسم).

و من هنا يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه تارة التفصيل بين التورية و غيرها من طرق التفصي، و اخري التفصيل بين المعاملات و غيرها (كالإكراه علي شرب الخمر و سائر المعاصي).

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 16، الباب 16 من أبواب الايمان، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 238

أقول: الانصاف أنّه وقع الخلط هنا بين معاني الإكراه و كذا بين أدلة اعتبار الرضا في المعاملات، و توضيحه:

1- لا ينبغي الشك في عدم صدق الإكراه (بمعني الإلزام بشي ء مع الايعاد علي تركه بضرر) في كل مورد يقدر علي دفع المكره و ضرره، بما لا يلزم منه محذور آخر، و لذا لا يجوز ارتكاب شي ء من المعاصي إذا كان الاجبار و الإكراه ممكن الدفع، و هذا أمر ظاهر لا غبار عليه و لا كلام فيه.

2- لو كان دليل بطلان المعاملات مع الإكراه منحصرا بما دلّ علي رفع الإكراه كان الحكم بالصحة في جميع موارد القدرة علي التفصي ممّا لا ينبغي الشك فيه، و لكن المهم أنّ دليله غير منحصر فيه بل العمدة في هذا الشرط ما دلّ علي اعتبار الرضا، و نحن نعلم أنّ مفاد هذا الدليل أعم، فربّ إنسان لا يرضي بمعاملة مع عدم الإكراه المتوعد علي تركه الضرر، كما إذا أكرهه زوجته أو أبوه أو امّه علي شي ء و هو لا يرضي به في

قلبه مع عدم ايعادهم الضرر علي تركه.

و الحاصل: أنّ النسبة بين ما دلّ علي اعتبار الرضا، و ما دلّ علي نفي الإكراه عموم مطلق، و الخلط بينهما يكون منشأ لتخيل عدم اعتبار العجز عن التفصي في معني الإكراه، مع أنّ العجز عن ذلك غير معتبر في ما دلّ علي اعتبار الرضا، لا ما دلّ علي نفي الإكراه، لاعتباره في مفهومه قطعا.

3- الإكراه- علي ما يظهر من موارد استعماله- له معنيان:

أحدهما: حمل المكره (بالفتح) علي فعل يكرهه و لا يرضي به، و إن لم يكن هناك اجبار و ايعاد علي الضرر، و هذا المعني هو الذي يستفاد من رواية ابن سنان، و قد جعل الإكراه فيها مقابلا للإجبار.

ثانيهما: و هو المعروف من معناه في الفقه، و هو حمله علي ما يكرهه مع ايعاده علي الضرر، و الخلط بينهما كان سببا للاستدلال برواية ابن سنان فيما نحن فيه.

و إن شئت قلت: الإكراه في الرواية مساوق لعدم الرضا و الكراهة الباطنية القلبية، لا الكراهة المعروفة المذكورة في كلمات الفقهاء الواردة في حديث الرفع، و الأوّل راجع إلي

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 239

اعتبار الرضا في المعاملات، و الثاني مفهوم أخص منه، بل الظاهر من الرواية أنّ الإجبار الوارد فيه هو أمر مساوق للإكراه بمعناه المشهور عند الفقهاء المأخوذ من حديث الرفع.

4- قد مرّ في أبواب الكذب أنّ حقيقة «التورية» التي تكون في اللغة بمعني «الاخفاء» و الستر (من مادة الوراء) ليست مطلق ذكر اللفظ و إرادة معني غير ما هو ظاهر فيه عرفا، بل اللازم أن يكون اللفظ قابلا لإرادة ذلك المعني و محتملا له، سواء كان اللفظ بذاته مشتركا لفظيا أو معنويا، أو قابلا لهما من

ناحية القرائن كما في القضية المعروفة أنّه سئل بعض العلماء من كان خليفة النبي صلّي اللّه عليه و آله بعده قال «من بنته في بيته» أو كان له معني ظاهر منصرف إليه اللفظ مع إمكان إرادة غيره منه بحسب عرف اللغة و ارباب اللسان، كما إذا دقّ الباب رجل و قال: هل فلان في البيت؟ فقيل له: ما هو هنا (الذي ظاهره عدم كونه في البيت، مع أنّه يشير بموضع خلف الباب و يريد عدم كونه هناك).

و الحاصل: أنّ التورية لا تجري في جميع الكلمات و الجمل و لا تصحّ في كل عبارة، بل في خصوص عبارات تحتمل معنيين مختلفين في عرض واحد، أو كان أحدهما أظهر و الآخر غير أظهر مع إمكان استعماله فيه، و هذا إنّما يكون في عبارات خاصة و لا يقدر الإنسان عليه في كل زمان و كل محاورة.

و من هنا يظهر لك أنّ التورية ليس من الكذب، لاحتمال الكلام له، كما أنّه يظهر أنّ كل كلام لا يحتمل التورية، و أنّها ترد في مقامات خاصة و عبارات محدودة معينة، كما أنّ كل إنسان لا يقدر عليها، بل تحتاج إلي لطف قريحة و مزيد عناية، كما هو المنقول من كلمات أمثال عبد اللّه بن جبير و غيره في مقابل الحجاج و غيره من الجبارين و أنّه عمل بالتورية في كلامه بلطف قريحته، فتوهّم إمكان التورية في كل كلام و لكل أحد توهّم باطل، و عدم ذكرها بعنوان الاستثناء في روايات طلاق المكره و غيرها لعله من هذه الجهة، حتي أنّ قول البائع «بعت داري لك» لا يمكن فيه التورية بأن ينوي الأخبار لا الإنشاء، لأنّ الأخبار به كثيرا ما يكون كذبا

لعدم بيع داره من غيره.

فتلخص ممّا ذكرنا: أولا: أنّه لا فرق في مفهوم الإكراه الوارد في حديث الرفع و شبهه بين العقود و غيرها

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 240

كالمحرمات و لا يجوز التفصيل بينهما.

ثانيا: لا يصدق عنوانه فيما إذا أمكن التخلص بطريق لا ضرر فيه و لا حرج شديد.

ثالثا: لا فرق بين إمكان التخلص بالتورية و غيرها من انحاء طرق التخلص.

رابعا: أنّ العقود قد لا يشملها عنوان الإكراه و لكن يشمله عنوان عدم الرضا و عدم طيب النفس فيفسد من هذه الناحية، فتأمل جيدا.

بقي هنا امور:

أحدها: أنّه إذا اكره علي أحد العقدين، فاختار أحدهما دفعا للضرر وقع باطلا، كما إذا أكرهه علي بيع أحد أمواله، أو طلاق إحدي زوجته، كما هو المعروف بين أصحابنا، و ما يري من بعضهم من الحكم بالصحة لا بدّ من توجيهه لوضوح فساده، لأنّ المفروض عدم طيب نفسه ببيع شي ء من أمواله، و طلاق زوجاته أبدا، فكيف يصح مع عدم الرضا؟ مضافا إلي صدق عنوان الإكراه قطعا بحسب متفاهم العرف، و بناء العقلاء أيضا علي البطلان في هذه الموارد، و القول بأنّه يختار أحدهما بطيب نفسه فاسد جدّا، لأنّ طيب النفس بالخصوصية لا يدل علي طيب النفس بأصل المعاملة، مضافا إلي أن اختيار أحد الضررين قد يكون لكونه أقل ضررا من غيره، لا لعدم كونه مضرّا أصلا، فلذا لو اكره علي شرب أحد الخمرين كان معذورا قطعا.

ثانيها: إذا أكره أحد الشخصين أو الأشخاص علي أمر محرم أو بيع شي ء أو طلاق امرأة كان الحكم كذلك أيضا لعين ما مرّ في الإكراه علي أحد الأمرين، لصدق عنوان الإكراه لغة و عرفا قطعا، و لعدم طيب نفس واحد منهما بالفعل، نعم

اللازم عليهما التأخير إلي آخر زمن الإمكان في المحرمات كشرب الخمر، و حينئذ كل من تقدم كان جائزا، و أمّا في العقود فإذا لم يكن طيب النفس حاصلا كان باطلا تقدم أو تأخر.

ثالثها: إذا أكره علي إجراء الصيغة لغيره فقصد العقد و أنشأه صح العقد، لأنّ اعتبار الرضا إنّما هو في نقل المال و شبهه لا في صحة الإنشاء، كما أنّ حديث رفع الإكراه بحكم كونه في مقام الامتنان لا يشمله، بل هو مع قطع النظر عنه منصرف إلي الامور التي لها ثقل

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 241

علي المكلف، و من المعلوم أنّ مجرّد إنشاء الصيغة و لو من قبل الغير لا ثقل له عليه من ناحية حكمه الوضعي.

رابعها: إذا رضي المكره بعد العقد بلا فصل، أو مع الفصل القصير، أو الطويل، فهل يصح العقد أم لا؟ فيه كلام بينهم، المشهور نقلا أو تحصيلا، كما عن بعضهم، الصحة، بل عن الرياض و الحدائق أنّ ظاهرهم الاتفاق عليه، و لكن مع ذلك ذكر المحقق الثاني في جامع المقاصد و صاحب الجواهر في الجواهر أن المسألة لو لم تكن إجماعية فللنظر فيها مجال.

و الظاهر أنّ عمدة الإشكال فيه من جهات:

الاولي: من ناحية عدم اندراجه في عنوان العقود بعد فقدان قصد العقد في المكره (بناء علي إشكالهم في صحة قصد المكره و أنّه كالهازل عندهم) و هذا الذي أشار إليه في الجواهر و اعتمد عليه في كثير من عباراته، و لكن قد عرفت فساده و أنّ المكره قاصد لحقيقة العقد غالبا، و إن لم يكن راضيا بمفاده.

الثانية: من ناحية عدم اقترانه للرضا، و هو من الشرائط المقارنة، و اجيب عنه: بأنّ المستفاد من أدلة اعتباره إنّما

هو لزومه في تأثير العقد، أمّا مقارنته له فلا دليل عليه، و لذا حكموا بصحة عقد الفضولي مع أنّ الرضا فيه لا يكون إلّا بعده و لو شك في اشتراط المقارنة فالاطلاقات تدفعها كما لا يخفي.

الثالثة: إنّ عدم الرضا إذا بقي بعد زوال الإكراه كان في حكم الفسخ، كما إذا فسخ في الفضولي (و ردّ العقد بعد العلم به) ثم أجازه فانه لا تصح الإجازة بعد الرد و كذلك ما نحن بصدده.

و فيه: أنّه لو سلّمنا عدم كفاية الإجازة بعد الردّ في الفضولي و شبهه لا نسلم كون مجرّد عدم الرضا الباقي بعد زوال الإكراه بحكم الرد الإنشائي، هذا مضافا إلي أنّه لا يشمل جميع صور المسألة.

هذا و لكن مع ذلك كله في النفس شي ء من أصل المسألة، نظرا إلي أنّه غير معروف عند العقلاء من أهل العرف و أنّهم لا يرون مجرّد الرضا زوال الإكراه كافيا إلّا أن يرجع إلي عقد جديد- و هو ممّا لا كلام فيه- و من الواضح أنّ العمومات و الاطلاقات ناظرة إلي ما عند

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 242

العقلاء من أهل العرف في ذلك، فتدبّر.

و الظاهر أنّه يتفاوت مع الفضولي كما سيأتي إن شاء اللّه.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه لو سلّمنا صحته بالرضا اللاحق، فهل هو ناقل، أو كاشف مقتضي القاعدة هو الأوّل؟ و ذلك لأنّ أدلة اعتبار الرضا ظاهرة في عدم الانتقال قبله فإذا رضي صح العقد و انتقل الملك، و أمّا قبله فلا، و لكن قد يقال: إنّ ظاهر صحيحة «أبي عبيدة» أو «محمد بن قيس» الآتية في البيع الفضولي هو الكشف، و تمام الكلام في البيع الفضولي إن شاء اللّه.

أنوار الفقاهة - كتاب

البيع (لمكارم)، ص: 243

[الشرط السادس أن يكونا مالكين أو مأذونين من قبل المالك]

بيع الفضولي
[في صحة بيع الفضولي و بطلانه]
المسألة الاولي: عدم صحة عقد الفضولي و وقوفه علي الإجازة
اشارة

و من الشرائط المعتبرة في المتعاقدين أن يكونا مالكين أو مأذونين من قبل المالك أو الشارع، و الأوّل معلوم، و الثاني كالولي و الحاكم الشرعي و المقتص و غير ذلك مع شرائطه.

و فرّعوا علي ذلك عدم صحة عقد الفضولي و وقوفه علي الإجازة، و قد بسط القول فيه المتأخرون بعد إجماله عند القدماء، و قبل الورود في البحث لا بدّ من تقديم امور:

1- الفضولي: علي ما ذكره بعض أرباب اللغة- هو من يتعرض لما لا يعنيه، و المراد هنا من يتعرض لعقد أو ايقاع لا يتسلط عليه شرعا، و هو منسوب إلي الفضول و هي الزوائد، فاضافة العقد إليه من قبيل الاضافة إلي الفاعل، لا من قبيل الوصف و الموصوف.

و قد يجعل وصفا للعقد و يقال أنّه تسامح، و لكن لا يبعد صحته بدون التسامح نظرا إلي كفاية أدني مناسبة في الاضافة، فتأمل.

2- المراد بعدم الصحة هنا عدم ترتب الأثر عليه بدون الإجازة، لا عدم صحته مطلقا، فهو مساوق للقول بتوقفه عليها، و إن شئت قلت: إنّ عقد الفضولي من قبيل جزء المؤثر، لا تمام العلّة، فإذا انضمّ إليه الجزء الآخر و هو الإجازة تمّ العقد، و هذا هو معني عدم صحته بنفسه، و ما في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنّ معني عدم الصحة عدم ترتب اللزوم، فيه تسامح واضح، للاتفاق منه و من غيره علي عدم النقل بدون الإجازة (سواء قلنا بالكشف أو النقل) لا أنّه ينقل من غير لزوم.

3- ينبغي أن يكون محل الكلام ما يتعارف الفضولي فيه عند العقلاء، مثل ما نراه في

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 244

الدلال أو الوكيل المأذون في شي ء إذا

تعداه إلي غيره، ثم يخبر الموكل و يستأذنه، أو الأب يتزوج ابنته ثم يستأذنها، أو العكس، تتزوج البنت ثم تخبر الأب و تستأذنه، بناء علي اشتراط اذنه في الصحة، و هكذا الأمر في مثل بيع الراهن بغير اجازة المرتهن، و بيع العبد بدون اذن السيد، أو الصديق مال صديقه ثم اخباره و استيذانه.

أمّا ما لا يتعارف فيه ذلك كمن يبيع دار رجل اجنبي لا يرتبط به في شي ء و لا يمسّه أبدا و ينكح صبية أجنبي لا صلة بينهما أصلا ثم يخبره و يستأذنه، فجريان أحكام الفضولي فيه لا يخلو عن إشكال، نظرا إلي عدم عدّه عقدا عند العقلاء بل يشكل صدور القصد الجدي من مثله، فتأمل.

4- ظهر ممّا ذكرنا، أنّ محل الكلام وسيع جدّا لا ينحصر بالبيع، بل يجري في سائر العقود أيضا، و كذا لا يختص بغير المالك، بل يجري في كل من لا يملك الاذن التام من جميع الجهات و لو كان مالكا كالراهن و شبهه، لأنّ الملاك في الجميع واحد، سواء شمله عناوين كلماتهم أم لا، لوحدة الدليل لا يخفي، فعقد الراهن بغير اذن المرتهن، و كذا المحجور بدون اذن الغرماء داخلان في محل النزاع، و كذا عقد البنت بدون اذن الأب علي قول.

5- قد ادعي شيخنا الأعظم قدّس سرّه خروج الايقاعات كلّها عن حريم البحث للإجماع علي بطلانها، و تبع في ذلك الشهيد قدّس سرّه في غاية المراد.

و لكن قد وقع التشكيك في ثبوت هذا الإجماع مطلقا، أو في غير العتق و الطلاق عن غير واحد ممن تأخر عن الشيخ قدّس سرّه.

و الانصاف أنّ دعوي الإجماع في هذه المسألة و أمثالها مشكل جدّا، بعد احتمال استنادهم فيها إلي نصوص تأتي

الإشارة إليها إن شاء اللّه، بل قد استند بعضهم في بطلان طلاق الفضولي و عتقه بقوله «لا عتق إلّا في ملك» و قوله «الطلاق بيد من اخذ بالساق».

فالحكم بالبطلان لا بدّ أن يستند إلي دليل آخر، و إن قلنا بأنّ صحة الفضولي في العقود إنّما هي علي القاعدة أخذا بعمومات صحة العقود و شبهها لم يبعد دعوي مثله في الايقاعات لإطلاق أدلة صحتها أو عمومها.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 245

نعم، لو استند فيها إلي رواية عروة البارقي أو روايات خاصة اخري وردت في البيع أو النكاح أو شبههما، لم يمكن التعدي منها إلي الايقاعات، بل و لا غيرها من العقود.

قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في الحاشية في أول كلامه بثبوت الإجماع في خصوص العتق و الطلاق، و لكن رجع عنه في ذيل كلامه و استشكل في ثبوته فيهما أيضا نظرا إلي إمكان استناد المجمعين إلي بعض الروايات، ثم قال: نحن إلي الآن لم نجد دليلا علي بطلان الفضولي في الايقاعات بعد كون صحته علي القواعد، و لكن لمّا كان مختاره قدّس سرّه كون صحة الفضولي علي خلاف القاعدة، أشكل في الحاق الايقاعات بالبيع «1».

و سيأتي تتمة الكلام في ذلك إن شاء اللّه بعد ايراد روايات الباب و توضيح مقتضي القواعد في العقود فانتظر.

و قال في الشرائع في كتاب العتق، لو اعتق غير المالك لم ينفذ عتقه و لو أجازه المالك، و قال في الجواهر في شرحه: «علي المشهور كما في المسالك بل في كشف اللثام و الرياض نفي الخلاف فيه بل في الروضة الإجماع عليه قيل لقوله صلّي اللّه عليه و آله: «لا عتق إلّا بعد ملك … » و لأنّه عبادة

أو فيه شائبة العبادة و هي لا يقبل الفضولي» ثم أشكل علي الجميع «2».

أقول: و الجواب عن جميع ذلك ظاهر، فان كون العتق بعد الملك لا ينافي صحة الفضولي، و لذا لا نقول بتأثيره إلّا بعد اجازة المالك كما هو كذلك في قوله: لا بيع إلّا في ملك، أو قوله: لا تبع ما ليس عندك.

و كونه عبادة أيضا لا ينافي ذلك لأن المفروض أنّه لا يتمّ أمر العتق إلّا بعد اجازة المالك، فهو ينوي القربة بفعله و لا يحصل العتق إلّا بعده، و إن هو إلّا نظير التوكيل في العتق أو أداء الزكاة و الخمس الذي لا ريب في جوازه مع كونها عبادة، و قد يقال في بعض روايات الطلاق إشارة إلي صحة الفضولي فيه، و لكن لم نظفر بمثل هذه الرواية عاجلا.

6- حكم الرضا بدون الإجازة- فقد يكون المالك راضيا بالعقد، سواء علم به الفضولي أولا و لكن لم يصدر منه إنشاء الإجازة، فهل يخرج بمجرّد ذلك عن الفضولية،

______________________________

(1). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 290.

(2). جواهر الكلام، ج 34، ص 112.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 246

و يصح بلا حاجة إلي الإجازة، أو هو داخل في الفضولي يحتاج إليها، أو يفصل بين ما كان العقد صادرا من غير المالك، و ما كان صادرا عن مالكه و لكن كان موقوفا علي رضا غيره، كما في بيع الراهن بدون اذن المرتهن أو نكاح العبد و الباكرة بدون اذن السيد و الولي؟ فيه وجوه أو أقوال:

ظاهر كثير من كلماتهم هو الثاني، و مال شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلي الأوّل، و اختار التفصيل السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في الحاشية و هو الأقوي.

و استدل

للأول، أعني دخوله في الفضولي، بعدم ملك التصرف بمجرّد العلم بالرضا من دون أذن صريح أو فحوي، و بما يظهر من حديث العروة، لاستدلالهم به علي صحة بيع الفضولي، مع أنّ الظاهر علمه برضاه صلّي اللّه عليه و آله و إلّا لم يجز له التصرف في العوضين و لم يصح تقريره صلّي اللّه عليه و آله له، و كلا الوجهين ضعيفان، أمّا الأوّل: فلأن ملك التصرف حاصل بالرضا و لا يحتاج إلي الأذن (إلّا أن يرجع إلي ما سنذكره من الدليل) و أمّا الثاني؛ فلأنّه لا يبعد علم عروة البارقي بالرضا بهذا المقدار من التصرف فقط من ناحية النبي صلّي اللّه عليه و آله و البائع لعلمه بتعقبه للإجازة، فلم يكن حراما.

مضافا إلي أنّه لا يتمّ علي مبني الكشف كما هو ظاهر.

و العمدة في ذلك أنّ معني «وجوب الوفاء بالعقد» هو إلزام كل إنسان بما يلزمه علي نفسه، فهو من قبيل قوله صلّي اللّه عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم» و من قبيل قوله تعالي: وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ «1» أي ما جعلوه علي أنفسهم بإنشاء العقد أو النذر لا مجرّد الرضا.

و الوجه فيه مضافا إلي التبادر منه، أنّ قاعدة وجوب الوفاء بالعقد قاعدة عقلائية معروفة بينهم قبل أن تكون قاعدة شرعية و لكن أمضاها الشارع المقدس، و من الواضح أنّهم يلزمون كل إنسان بما صدر منه من العهود و العقود و المواثيق و الالتزامات، فالواجب وفاء كل إنسان بعقده لا مجرّد ما رضي في قلبه من دون عهد و عقد.

و حينئذ لا بدّ من استناد العقد إلي كل إنسان في وجوب الوفاء عليه، و لا يكون ذلك إلّا

______________________________

(1). سورة الحج، الآية 29.

أنوار الفقاهة - كتاب

البيع (لمكارم)، ص: 247

أن يكون قد صدر منه العقد مباشرة أو تسبيبا، و المباشرة منتفية هنا علي الفرض، و التسبيب يتوقف علي الاذن أو التوكيل أو الإجازة بعد العقد، و لا يصح بمجرّد الرضا، فلا يقال «بني الأمير الحديقة» بمجرّد رضاه به قلبا، من دون أي إذن و أمر، نعم إذا أظهر الرضا بقصد إنشاء الاذن صحّ، و ما ورد من صحة اسناد أعمال العصاة إلي غيرهم من الراضين بأفعالهم كما ورد في تفسير قوله تعالي: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهٰا «1»، إنّما هو ناظر إلي الشركة في العقاب لا كونهم فاعلين حقيقة، و هل يصح أن يقال لمن رضي الآن بفعل يزيد أنّه قاتل الحسين عليه السّلام؟ نعم يصح اسناد القتل إلي يزيد و من هو مثله ممن أمر بقتل سلالة النبي صلّي اللّه عليه و آله و كان سببا له.

و بالجملة لا ينبغي الشك في عدم صحة اسناد الفعل إلي غير فاعله بمجرّد رضاه به، بل يحتاج إلي تسبيبه من طريق الاذن أو الأمر أو التوكيل، و في باب العقود من طريق الإجازة بقاء.

و من هنا يعلم أنّه إذا صدر العقد من المالك للعقد غير المستقل فيه، بل يتوقف علي رضا غيره، كما في بيع الراهن بدون اذن المرتهن، و نكاح العبد بدون اذن سيده، كفي الرضا الباطني في الصحّة، لأنّ الاستناد قد حصل، غاية الأمر أنّه كان متعلقا لحق الغير، و مع رضاه يرتفع المانع و يحصل شرطه و هو التصرف برضاه.

و من هنا يرجح القول بالتفصيل.

و من هنا أيضا يظهر الإشكال في ما استدل به العلّامة الأنصاري قدّس سرّه لما اختاره من كفاية الرضا الباطني في الخروج عن الفضولية بعموم وجوب الوفاء بالعقود، خرج

منه ما إذا لم يرض به المالك و بقي الباقي، و لقوله تعالي: إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «2» و كذا ما دل علي «عدم حلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه».

ثم أضاف إلي هذه العمومات بعض الروايات الخاصة، مثل رواية عروة البارقي، حيث إنّه قبض المتاع و اقبض الثمن، و لو كان فضوليا يحتاج إلي إجازة المالك لم يجز التصرف

______________________________

(1). سورة الشمس، الآية 14.

(2). سورة النساء، الآية 29.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 248

قبلها بلا إشكال، مع أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله قرره علي ما فعل، و هذا كله دليل علي كفاية الرضا في حصول الملك.

و مثل ما دلّ علي أنّ علم المولي بنكاح العبد و سكوته إقرار منه «1» (انتهي محل الحاجة).

و لكن في جميعها النظر، أمّا عمومات «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فقد عرفت الجواب عنه بلا مزيد، و حاصله أنّ الواجب الوفاء بالعقد الذي قصده الإنسان و تعهده و التزمه، و ينسب إليه تسبيبا لا كل عقد صدر من أي شخص، و مجرّد الرضا الباطني غير كاف في الاسناد كما عرفت.

و لبعض المحشين (في كتاب البيع) هنا كلام حاصله «إنّ الاذن و الرخصة لا يوجب أن يصير العقد عقده لا بالتسبيب و لا بالمباشرة، و الاذن غير الوكالة و غير الأمر المولوي من القاهر الغالب بل الإجازة عبارة عن تثبيت ما صدر من الغير، فاعتبرها ملازم لصدور الفعل من الغير، و بنفسها تدفع انتساب الفعل إلي المجيز» (انتهي ملخصا) «2».

أقول: حقيقة الاذن و الإجازة في الامور الاعتبارية كالعقود هي قبول التعهد الذي أنشأه الغير و الالتزام به، و من الواضح أنّه بعد قبول هذا التعهد و إمضائه يكون العقد

عقده، و ان هو إلّا من قبيل أن يكتب إنسان كتابا أو يصدر بيانا أو مقالة ثم يوقّع عليه غيره، و من الواضح أنّ التوقيع علي تلك المقالة أو ذلك البيان و الكتاب يجعله بحكم كتابه و مقالته، و الأصيل لا ينفّذ عقد الفضولي بما هو عقد صادر منه بل ينفذ أصل العقد و يجعله عقد نفسه بعد الإمضاء، و لا أدري كيف غفل عن هذا الأمر.

و أمّا عموم التجارة عن تراض فهو أيضا فرع تحقق التجارة، و هي لا تكون إلّا بالتزام المالك بها، و التزام الأجنبي لا اثر له، ما لم يكن التزامه بإنشاء الإجازة.

و أمّا حديث عروة، فقد عرفت الجواب عنه و أنّه لما كان عالما بتحقق الإجازة من النبي صلّي اللّه عليه و آله بعده، كان عالما أيضا برضاه صلّي اللّه عليه و آله بهذا المقدار من التصرف مقدمة في ماله صلّي اللّه عليه و آله،

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، ج 14، الباب 26 من أبواب نكاح العبيد و الاماء، ح 3 و 1.

(2). كتاب البيع، ج 2، ص 101 و 100.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 249

و كذا في مال البائع كما هو كذلك عادة في أشباهه أيضا من أمر الدلال و الوكيل الذي يتعدي عن حدود الوكالة مع علمه برضا المالك و إمضائه و يتمّ الأمر.

و أمّا مسألة نكاح العبد فقد عرفت أنّه مالك لأمر العقد و إنشائه لنفسه، غاية الأمر حيث كان التصرف في ما يتعلق بالمولي كان منوطا برضاه، و بالجملة طرف العقد هو العبد لا المولي، و إنّما يعتبر رضاه لتعلق حقه بالموارد، و هو نظير بيع الرهن بدون إذن المرتهن مع لحوق الرضا بعده.

و قد

عثرت بعد ذلك علي بعض الروايات التي قد يظهر منها كفاية مجرّد الرضا في صحة العقد استدل بها المحقق الخوانساري قدّس سرّه في جامع المدارك «1»، و هي رواية الحميري أنّه كتب إلي صاحب الزمان عليه السّلام أنّ بعض أصحابنا له ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب للسلطان … فأجابه: الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره رضي منه «2».

و صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، و أهل الأرض يقولون: هي أرضهم، و أهل الاسنان يقولون: هي من أرضنا، فقال: لا تشترها إلّا برضا أهلها» «3».

و لكن شي ء منها لا دلالة له علي ذلك، لأنّ المستفاد منهما هو اعتبار الرضا في صحة البيع و لا ينكره أحد، و اعتبار شي ء في الصحة غير الاكتفاء به فقط، و هو نضير قوله صلّي اللّه عليه و آله:

«لا صلاة إلّا بطهور» حيث يدل علي اعتبار الطهور لا علي الاكتفاء به فقط.

و العجب من المحقق المذكور حيث قال: «لا بدّ من توجيههما لعدم إمكان الالتزام بظاهرهما». (انتهي) مع أنّك قد عرفت عدم ظهور لهما فيما ذكر.

بقي هنا أمران:
1- ذكر في المكاسب أنّ الاذن قد يكون صريحا، و اخري فحوي

، و كلاهما كاف في

______________________________

(1). جامع المدارك، ج 4، ص 83.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 1 من أبواب عقد البيع، ح 8.

(3). المصدر السابق، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 250

معني العقد، و المراد بالفحوي هنا أن يكون قد أجاره في ما هو أهم و أعظم من ذلك.

و قد أضاف إليه السيد قدّس سرّه في الحاشية «شاهد الحال» و اخراجه من الفضولي أيضا، و أورد علي الشيخ قدّس سرّه من جهة عدم ذكره

له و جعله دليلا علي عدم اكتفائه به.

و المراد منه ظهور حال المالك ظهورا قائما مقام الإنشاء اللفظي، فان الحال أيضا له لسان قد يكون أقوي من لسان القال: مثل ما يكون بين بعض الاخوة مع بعض في أموالهم و حقوقهم و ما يري في مثل الخانات و الفنادق و الحمامات.

أقول: هذا كله صحيح إذا رجع إلي إنشاء الإذن.

2- ذكر الشيخ قدّس سرّه في ذيل كلامه في المكاسب أنّه لو سلم كون هذا الفرض فضوليا، و لكن ليس كل فضولي يتوقف لزومه علي الإجازة

انتهي.

قلت: هذا منه عجيب، لأنّ النزاع ليس في اطلاق لفظ الفضولي الذي لم يرد في أي حديث أو آية، إنّما الكلام كله في الحاجة إلي الإجازة و عدمها، فإذا لم يتوقف علي الإجازة كان خارجا عن الفضولي الذي هو محل الكلام للأعلام.

إذا عرفت هذا فلنعد إلي أصل المسألة فنقول:

إنّ المعروف و المتداول من الفضولي هو ما إذا باع للمالك من دون سبق إجازة أو منع منه، و لكن هناك صورتان اخريان: «إحداهما»: ما إذا باع للمالك مع منعه منه «ثانيتهما»: ما إذا باع لنفسه كالغاصب.

فلنتكلم في الاولي أولا، ثم نبين حال المسألتين الأخريين فنقول و منه جل سبحانه التوفيق و الهداية:

حاصل أقوال العلماء في المسألة كالآتي:

قال في جامع المدارك نقلا عن المحقق قدّس سرّه في المختصر النافع: لو باع الفضولي فقولان:

اشبههما وقوفه علي الإجازة «1».

______________________________

(1). جامع المدارك، ج 2، ص 82.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 251

و قال في القواعد: بيع الفضولي موقوف علي الإجازة علي رأي «1».

و يظهر منهما كون المسألة مختلف فيها جدّا.

و حكي في المفتاح عن المسالك و المفاتيح، أنّ وقوفه علي الإجازة قول الأكثر و أنّه المشهور كما في مجمع البرهان و الكفاية بل كاد أن يكون إجماعا كما في الحدائق.

و أشهر القولين كما في الروضة و إيضاح النافع و ظاهر

التذكرة في موضع منها الإجماع عليه حيث قال: أنّه جائز عندنا و لكنه موقوف علي الإجازة «2».

و لكن مع ذلك يظهر من غير واحد من أكابر الفقهاء البطلان و لو مع الإجازة.

قال في الخلاف: إذا باع إنسان ملك غيره كان البيع باطلا، و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة ينعقد البيع و يقف علي إجازة صاحبه، و به قال قوم من أصحابنا، دليلنا إجماع الفرقة، و من خالف لا يعتد بقوله، و لأنّه لا خلاف في أنّه ممنوع التصرف في ملك غيره و البيع تصرف (انتهي) «3».

و يظهر من هذا الكلام أنّ القول بالصحة كان قولا شاذا عند الشيعة، حتي ادعي الإجماع علي خلافه، و إن اشتهر بعد ذلك، و لكن كانت المسألة بين العامة خلافية.

و ممن حكي عنه البطلان أيضا صاحب الغنية (مع دعوي الإجماع) و صاحب الحدائق و إيضاح القواعد و المحقق الأردبيلي قدّس سرّه في مجمع البرهان.

و العجب أنّه حكي عن الشيخ قدّس سرّه في النهاية الصحة، مع ما عرفت من دعواه الإجماع علي البطلان في الخلاف!

و يتخلص من جميع ذلك أنّ القول بالصحة كان قليلا في العصر الأوّل و لكن أشتهر و كثر بعد ذلك، و لا سيما بين المتأخرين، و لكن لا يمكن دعوي الإجماع علي شي ء من القولين كما هو ظاهر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدل علي صحة الفضولي تارة بالقواعد و اخري بالأدلة الخاصة.

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 184.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق، ص 185.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 252

أمّا الاولي: فقد عرفت بيانها، و نزيدك وضوحا: إنّ المدار في وجوب الوفاء بالعقد المستفاد من قوله تعالي: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ استناد العقد إلي إنسان بحيث

يكون من تعهداته و التزاماته، فانّه يجب علي كل إنسان الوفاء بما التزامه علي نفسه و تعهده في مقابل غيره في عقد، و عقد الفضولي و إن لم يكن مستندا إلي المالك ابتداء و لكن بعد الإجازة يستند إليه.

فهو من قبيل سند أو كتاب صدر إنشاؤه من واحد، ثم جاء آخر فوقع عليه و أمضاه فصار سندا كاملا و كتابا كذلك، و عدّ بحكم كتابه و سنده.

و لكن يظهر من غير واحد منهم عدم الالتزام بكونه موافقا للقاعدة، و لو لحقته الإجازة.

منهم السيد اليزدي قدّس سرّه في حاشيته، و ملخص كلامه «إنّ الإجازة لا تغير ما وقع عليه بحيث تنقلب النسبة، ألا تري أنّه لو أمر بضرب أحد فضربه و اطلع عليه إنسان بعد ذلك فرضي به لا يصدق أنّه ضربه» «1».

و ذكر في كلام آخر له في المقام أنّ المستفاد من أدلة اعتبار الرضا اعتبار المقارنة، فالمراد العقد الصادر من الرضا كما هو المفهوم من الشرط في سائر المقامات كقوله صلّي اللّه عليه و آله:

«لا عمل إلّا بالنيّة و لا صلاة إلّا بطهور» فالمقارنة شرط «2».

و يجاب عن الأول، بالفرق الواضح بين الضرب و غيره من الامور التكوينية و بين الامور الإنشائية، فانّها إذا وجدت كان لها نوع بقاء في وعاء الاعتبار، يمكن لحوق الرضا به في كل حال و آن، فقد يكتب الإنسان كتابا إلي آخر و يوقعه بنفسه و يريد أن يشترك معه آخر في هذا الأمر، و يطلب منه أيضا التوقيع عليه، فإذا وقّع عليه اسند الكتاب إليها معا، و هكذا بالنسبة إلي الثالث و الرابع و العقد المنشأ من الفضولي هكذا، و العجب منه أنّه قاسه علي الامور الخارجية التكوينية.

و

منه يظهر الجواب عن الإشكال الثاني فانّ المقارنة مع الرضا و ان لم تكن حدوثا و لكنها حاصلة بقاء و عند صحة اسناده إليه، فهو يوقع علي العقد الصادر من غيره توقيعا

______________________________

(1). حاشية المكاسب، للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 292.

(2). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 253

مقارنا للرضا، فيصدق عليه أنّه عقد مع الرضا، و بالجملة اسناد العقد الفضولي إليه مقارن للرضا كما لا يخفي، فحينئذ لا نحتاج إلي القول بأن أدلة اعتبار الرضا عام يشمل الرضا اللاحق و السابق فتدبّر.

و يظهر من بعض آخر إشكال ثالث علي الاستدلال حاصله: أنّ العمومات منصرفة إلي المتعارف، و الفضولي ليس متعارفا. و أجيب بأن الانصراف بدوي.

أقول: و أولي منه في الجواب أن يقال: الفضولي متعارف في محله أعني فيما كانت صلة بين المالك و بين غيره تقتضي ذلك، و من أوضح الشواهد علي ذلك قضية عروة البارقي التي تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه و لا تختص بعروة، مثلها كثير رائج بين أهل العرف و العقلاء فيما يصدر عن الدلال و الوكلاء إذا جاوزوا حدّ الوكالة كما في قضية عروة، و كذلك في الأولياء إذا جازوا حدود ولايتهم.

بل يمكن جعل هذا دليلا مستقلا علي المطلوب بأن يقال: قد جرت السيرة العقلائية علي العقود الفضولية في كثير من المقامات و لم يردع عنها الشارع و هذا دليل علي إمضائه.

نعم، لو صدر العقد الفضولي من أجنبي لا مساس له بالمالك أصلا خرج هذا عن المتعارف، و قد ذكرنا أنّ الالتزام بصحته مشكل جدّا، بل صدور الإنشاء الجدي من هذا الشخص بعيد.

و هنا إشكال رابع يستفاد من كلمات بعض الأعاظم و حاصله: أن الإنشاء الصادر عن الفضولي

قبل الإمضاء ليس اعتبارا عقلائيا لعدم تحقق النقل و الانتقال فليس هنا شي ء بتعلق به الإمضاء و الإجازة «1».

أقول: و يمكن دفعه أيضا بأنّ البيع و النقل و الانتقال حاصل بحسب اعتبار الفضولي و إنشائه و لكن العقلاء لا يرونه مبدأ للآثار حتي تحصل الإجازة من المالك، فالاجازة متعلقة بذلك العقد و الاعتبار الحاصل من الفضولي.

______________________________

(1). جامع المدارك، ج 2، ص 82.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 254

و هنا إشكال خامس ذكره في الحدائق، فقد ذكر أولا استدلال المسالك علي الصحة بوجود المقتضي للصحة و عدم المانع منها، ثم عقبه بذكر دليل المختلف من أن العقد صدر عن أهله في محله (و من المعلوم أنهما في الحقيقة دليل واحد و هو التمسك بالعمومات علي نحو مرّ ذكره).

ثم أورد علي كل واحد منها بأمر يرجع الجميع إلي شي ء واحد، و هو أن أهل العقد هو المالك لا غيره، و العقد الصادر عن غيره مفيد، و لحوق الرضا غير كاف، بل لا بدّ من الاقتران (هذا ملخص كلامه).

و لكن قد عرفت سابقا الجواب عنه و أنّ العقد بعد الإجازة يكون عقد المالك منسوبا إليه، مقارنا لرضاه، غير منفك عنه، فليس هنا أي مخالفة للقواعد، و لذا نقول: إنّ مقتضي القاعدة في تأثير الإجازة هو النقل لا الكشف، فتدبّر جيدا.

فتلخص من جميع ذلك أنّ تصحيح الفضولي علي القواعد ممكن جدّا.

الأدلة الخاصة علي صحة الفضولي:
الاولي: رواية عروة البارقي

فاشهرها رواية «عروة البارقي» التي رواها الفريقان في كتبهم المعروفة، و إليك اسانيدها قبل البحث في مغزاها:

1- روي في عوالي اللئالي عن عروة بن الجعد البارقي أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشتري به شاتين، ثم باع إحداهما بدينار في الطريق،

قال: فأتيت النبي صلّي اللّه عليه و آله بالدينار و الشاة فاخبرته فقال صلّي اللّه عليه و آله: «بارك اللّه لك في صفقة يمينك» «1».

و روي مثله في المستدرك عن الشيخ الطوسي قدّس سرّه عن عروة و لكن في آخر بعده قوله:

ثم أتيت النبي صلّي اللّه عليه و آله بشاة و دينار، قوله فرده عليّ و قال: «بارك اللّه لك في صفقة يمينك» «2».

و هذا السند مرسل علي كل حال.

______________________________

(1). عوالي اللئالي، ج 3، ح 36، ص 205.

(2). مستدرك الوسائل، الباب 18 من أبواب آداب التجارة، ح 1، ص 462 من الطبعة الحجرية.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 255

2- روي المجلسي قدّس سرّه في البحار بسنده عن «حكيم بن حزام» أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله بعث معه بدينار يشتري له اضحية، فاشتراها بدينار و باعها بدينارين فرجع فاشتري اضحية بدينار و جاء بدينار إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله فتصدق به النبي صلّي اللّه عليه و آله و دعا أن يبارك له تجارته «1».

و لكن سند الحديث يشتمل علي بعض المجاهيل.

3- و من طريق العامة ما رواه أحمد في مسنده.

هذا و لكن سند الحديث غير معتبر عندنا، أمّا عروة فهو رجل مجهول بحسب رجال الشيعة فقد ذكره في رجال الكبير من أصحاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من دون إضافة شي ء آخر نعم ذكر في أسد الغابة ما ملخصه:

إنّ عروة بن الجعد، و قيل ابن الجعد البارقي و قيل الأزدي … سكن الكوفة روي عنه الشعبي … و كان ممن سيره عثمان إلي الشام من أهل الكوفة و كان مرابطا و معه عدّة أفراس، و قال: شبيب بن غرقدة

رأيت في دار عروة بن الجعد سبعين فرسا مربوطة للجهاد في سبيل اللّه، و تسميته بالبارقي إنّما هو لاسم بعض أجداده، و هو بارق بن عدي، و إنّما قيل بارق لأنّه نزل عند جبل اسمه بارق فنسب إليه «2».

و أمّا «حكيم بن حزام» أو «حكم بن حزام» ففي جامع الرواة هو أبو خالد عم الزبير بن العوام مات سنة 60 و كان له 120 سنة و في هامش كنز العمال أسلم يوم الفتح و مولده قبل عام الفيل بثلاث عشر سنة و عاش مأئة و عشرين سنة «3».

أقول: لو كانت وفاته عام 60 كان عمره أكثر من 120 سنة علي هذا الحساب و علي كل حال لا يمكن تصحيح سند الحديث من طريق رجاله، و لكن الرواية مشهورة عند أرباب الحديث، و استدل به كثير من فقهائنا في باب الفضولي، حتي قال: صاحب الجواهر قدّس سرّه: «مضافا إلي خبر عروة البارقي الذي اغنت شهرته عند الفريقين عن النظر في سنده» «4».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 103 كتاب العقود و الإيقاعات باب متفرعات أحكام البيوع، ح 4، ص 136 من طبعة المكتبة الإسلامية.

(2). أسد الغاية، ج 3، ص 403.

(3). كنز العمال، ج 1، ص 67.

(4). جواهر الكلام، ج 23، ص 277.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 256

و لا يبعد الركون علي هذه الشهرة في جبر ضعف اسناده.

و أمّا دلالتها من جهة اشتمالها علي بيعين فضوليين فظاهرة، و كذا رواية حكيم، و لكن قد يقال: ليس في رواية عروة إلّا فضولي واحد فانّ جواز اشتراء اضحيتين بدينار يفهم من إجازة النبي صلّي اللّه عليه و آله بالفحوي، و فيه إشكال ظاهر، و لو سلّمنا لم يمنع عن

الاستدلال به.

و لكن مع ذلك فقد ذكر فبهما احتمالات و إشكالات:

1- منها ما حكاه في «جامع المدارك» من احتمال كون عروة وكيلا مفوضا إليه، و لا أقل من أنّه قضية واقعة لا يمكن الاستناد إليه، و لكن الإنصاف أنّ كونه وكيلا مفوضا خلاف ظاهر الحديث، و كونها قضية في واقعة غير مانع عن الاستدلال به بعد ظهوره فيما هو المراد كما في نظائره.

2- الظاهر أنّ كلا من العقدين كان مقرونا برضا المالك، و هذا يخرجه عن الفضولية (ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام).

و فيه: ما عرفت سابقا من أنّ مجرّد الرضا الباطني غير كاف في اخراجه عن الفضولية ما لم يكن هناك إنشاء إذن أو اجازة.

3- لا يجوز في عقد الفضولي التصرف في العوضين قبل الإجازة إلّا علي القول بالكشف الحقيقي مع العلم بلحوق الرضا، و فيه ما فيه، فكيف قرره النبي صلّي اللّه عليه و آله علي تصرفاته.

أقول: و يدفعه ما عرفت من علمه عادة برضاه صلّي اللّه عليه و آله و رضي المشتري بهذا المقدار من التصرف الذي تتعقبه الإجازة و صحة البيع، و هذا أمر ظاهر لا سترة عليه كما يظهر من الرجوع إلي نظائره من امور الوكلاء إذا تجاوزوا عن حد الوكالة إلي بعض ما هو أنفع منه.

4- كان هناك إذن فحوي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله بالنسبة إلي جميع أعماله، فلا يكون فضوليا، و فيه أيضا إنّ هذا المقدار لا يدخل في إذن الفحوي، فإذا إذن زيد لعمرو، و وكله في شراء طعام معين له نفع فيه، ثم وجد الوكيل لباسا هو أنفع له من الطعام قطعا، فهل يكون لبيعه له بيعا صادرا عن

الوكالة؟ و كذا لو وجد طعاما آخر غيره أنفع له.

و قد عرفت أنّ مجرّد الرضا غير كاف في استناد العقد إلي إنسان بل لا بدّ من إنشاء الإذن و الإجازة.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 257

و ذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الوكالة: «بعد قول المحقق لو خالف لم يصح و وقف علي اجازة المالك»: بل قد يقال: ذلك (وجوب مراعاة المصلحة) فيما لو عين له البيع بمقدار و الشراء كذلك، فاتفق حصول الباذل للأزيد و الأنقص حملا للتعيين علي ما هو المتعارف من عدم وجود الباذل، اللّهم إلّا أن يحتمل الغرض له به، و لعله علي ذلك ينزل خبر عروة البارقي لا علي الفضولية «1».

و هذا مناقص صريح لما ذكره في كتاب البيع من عدم الإشكال في دلالة الخبر علي المطلوب (و هو صحة الفضولي مع الإجازة) «2» و أنّ الفحوي لا تجزي في الوكالة قطعا لعدم الإنشاء و عدم الرضا فعلا «3».

و غاية ما يمكن أن يقال: انصراف اجازة الوكالة إلي ما لم يكن باذل بالأزيد في البيع، و الأنقص في الشراء فيما إذا عين المثمن، أمّا جوازهما بالفحوي فلا، فتدبّر في المقام فانّه من مزال الإقدام.

و هناك روايات اخري استدل بها للصحة أو ذكر تأييدا لها:

الاولي: ما رواه محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «قضي في وليدة باعها ابن سيدها، و أبوه غائب، فاشتراها رجل فولدت منه غلاما، ثم قدم سيدها الأول، فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير أذني، فقال: خذ وليدتك و ابنها فنا شده المشتري، فقال: خذ ابنه، يعني الذي باع الوليدة حتي ينفذ لك ما باعك، فلما أخذ البيع (المشتري)

الابن قال: أرسل ابني، فقال: لا أرسل ابنك حتي ترسل ابني، فلما رأي ذلك سيد الوليدة أجاز بيع ابنه» «4».

و الرواية معتبرة الإسناد رواها المحمدون الثلاث في الكتب الأربعة، و المتون متفاوتة

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 27، ص 366.

(2). المصدر السابق، ج 22، ص 277.

(3). المصدر السابق، ص 276.

(4). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 88 من أبواب نكاح العبد و الاماء، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 258

في كثير من جملاتها، و المحتوي واحد، و لكن في فقه الحديث إشكالات لا بدّ من حلّها أولا:

1- منها إنّها ظاهرة في صحة الإجازة بعد الردّ مع دعوي الإجماع علي فساده.

2- و منها أنّ الولد هنا حر لتولده من حر و لو من طريق الشبهة، فكيف يمكن أخذه من ناحية مالك الوليدة؟

3- و منها كيف يجوز أخذ ولد المالك- أي البائع فضولا- و هو حر و إنّما المجاز أخذ الغرامة منه للتدليس و الغرور بالنسبة إلي المشتري و إرائته أنّه ملكه؟

4- و منها أنّه ما المراد بالوليدة هنا؟ فإن كانت بمعني أم الولد فلا إشكال في بطلان بيعها، و إن كانت بمعني ما سيأتي و يؤول إليه كان مجازا، و لكن العمدة الإشكال الأول، لأنّ الجواب عن غيرها سهل.

أمّا عن الثاني: فلأن أخذ الابن لعله كان للتقويم لأنّ المشتري قد فوته علي المالك، فلا بدّ من اعطاء قيمته فتأمل، أو يقال: بأن المشتري كان عالما بحقيقة الحال و فيه إشكال.

و عن الثالث: بأن أخذ ولد المالك إنّما هو لأخذ الغرامة حيث لم يكن له طريق سواه.

و عن الرابع: بأن المراد من الوليدة من تولد في بيته من عبد و أمة أو كانت أم ولد له كانت في

مورد يجوز بيع أم الولد (كما إذا مات ولدها و..).

و أجيب عن الأول: بعدم التصريح أيضا بالفسخ ورد البيع و إنّما كان ذلك في العمل، و لم يحصل منه إنشاء الرد.

و لكن في أصل الحكم، أعني بطلان الإجازة بعد الردّ، إشكال سيأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه.

و قد يقال: إن الاستناد إليها كقاعدة كلية لا ينافي وجود هذه الإشكالات فيها بعنوان حكم جزئي، و هو كما تري، فانّ أمثال هذا التفكيك في مضمون أخبار الآحاد غير معروف عند العقلاء من أهل العرف، الذين هم الأساس لحجية خبر الواحد، كما لا يخفي.

فلو لم تنحل إشكالات الرواية يشكل الأخذ بها، و لكن قد عرفت إمكان دفعها و إن كان دفع بعضها لا يخلو عن صعوبة، و قد أورد عليها السيد قدّس سرّه بايرادات اخري و أجاب

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 259

عنها، لا بأس بالإشارة إلي بعضها:

5- منها تعليم الإمام عليه السّلام الحيلة لبعض أطراف الدعوي، مع أنّ ذلك ليس من وظيفة الحاكم.

و أجاب عنه: بأن ذلك لعله كان من باب مصلحة يقتضيها المقام.

و الأولي أن يقال: إنّ تعليم الحيلة كان بعد القضاء لإحقاق حق صاحب الحق

بقي هنا شي ء: و هو أنّ ظاهر الصحيحة هو القول بالكشف في الفضولي، لأنّه لو كان الحكم هو القول بالنقل ظهرت ثمرته في النماء المتخلل (و هو الولد فيما نحن فيه) و كان النماء للبائع مع حكمه عليه السّلام بكونه للمشتري، و سيأتي تحقيق ذلك و البحث عن الفرق بين الكشف الحقيقي و الحكمي و غيرها.

الثانية: ما ورد في باب النكاح

1- ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه سأله عن رجل زوّجته امه و هو غائب، قال: النكاح جائز إن

شاء المتزوج قبل، و إن شاء ترك» (الحديث) «1».

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)؛ ص: 259

2- منها ما ورد في باب نكاح العبد بغير أذن مولاه، مثل ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: ذاك إلي سيده إن شاء أجازه و إن شاء فرق بينهما» الحديث «2».

و أيضا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل تزوج عبده «امرأة» بغير إذنه فدخل بها، ثم اطلع علي ذلك مولاه، فقال: ذاك لمولاه إن شاء فرق بينهما و إن شاء أجاز نكاحهما» (الحديث) «3».

3- منها ما رواه أبو عبيدة عن الباقر عليه السّلام قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما، و هما غير مدركين، قال: فقال: النكاح جائز، أيّهما أدرك كان له

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 7 من أبواب عقد البيع، ح 3.

(2). المصدر السابق، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 260

الخيار فان ماتا قبل أن يدركا، فلا ميراث بينهما، و لا مهر إلّا أن يكونا قد أدركا و رضيا» «1».

أقول: أمّا الأول: و هو رواية الكاهلي (و هو عبد اللّه بن يحيي لم ينقل في حاله توثيق صريح، نعم حكي له من موسي بن جعفر عليه السّلام إلي علي بن يقطين، و كذا حكي بشارته عليه السّلام له بأنّه من شيعته بعد إخباره

بموته في سنته، و يستفاد من جميعه مدح قوي له) رواه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنّه سأله عن رجل الخ.

و لكن الذي يرد عليها تضمنها لزوم المهر الام التي قد اقدمت علي نكاح ولده و حمل علي دعواها الوكالة، و يمكن حملها علي ما إذا دخلها من أجل هذا النكاح ضرر بمقدار المهر فتأمل، غاية الأمر التفكيك بين الصدر و الذيل، و هذا أمر شايع في السنة العلماء و لكن لا يخلو عن إشكال كما عرفت.

و أمّا الثاني: فهو أيضا لا إشكال في دلالته، و المراد بالولي في أوّله هو الولي العرفي لا الشرعي، بقرينة ما ورد في آخره، و هو معمول به في أبواب النكاح (و قد تعرض لها في الشرائع في المسألة الثامنة من أحكام أولياء العقد و ذكره صاحب الجواهر أيضا) «2».

و لكن مع ذلك لا يخلو الحديث عن الإشكال من جهات عديدة، منها أنّ مثل هذا العقد الذي مات أحد طرفيه من قبل و ليس لإجازته أثر فعلي إلّا بالنسبة إلي ما سبق و انقضي و خرج عن محل البلوي، غير معروف عند العقلاء- و العقود امور عرفية لا تعبدية- فلا يمكن تصحيح هذا الحكم إلّا بالتعبد المحض و لا يخلو عن صعوبة إذا لم يكن إجماعيا.

هذا مضافا إلي أنّه أي مانع في أن يكون الداعي إلي اجازة العقد بعض آثاره مثل الميراث؟ اللّهم إلّا أن تكون الإجازة صورية غير واقعية، مضافا إلي أنّه لا يتمّ إلّا علي القول بالكشف مع كفاية الإجازة و لو عند خروج أحد طرفي العقد عن قابلية العقد، و هو مشكل آخر فتأمل جيدا.

أمّا الثالث: أعني ما دلّ علي صحة

عقد بدون إذن مولاه إذا لحقته إجازته أو رضاه،

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 17، الباب 11 من أبواب ميراث الازواج، ح 1.

(2). جواهر الكلام، ج 29، ص 216.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 261

فالاستدلال بها واضح إذا كان الحكم في باب الإجازة و الرضا واحدا، و قد عرفت و هو الإشكال فيه فيما سبق.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه لا يصح الاستدلال بهذه الروايات الواردة في أبواب النكاح بالنسبة إلي البيع و غيره من أشباهه إلّا بضميمة قياس الأولوية قال في الرياض: «مضافا إلي ثبوت الفضولي في النكاح مطلقا بالإجماعات المحكية المستفيضة بل المتواترة، فان ثبوته فيه بناء الأمر فيه علي الاحتياط التام كما يستفاد من النصوص و إجماع العلماء الاعلام مستلزم لثبوته هنا بطريق أولي لأضعفيته عنه جدّا».

ثم قال: «و لعمري أنّها من أقوي الأدلة هنا، و لولاه لأشكل المصير إلي هذا القول.

و بمثل هذا الفحوي استدل جماعة من أصحابنا في مقامات عديدة منها: عدم اشتراط تقديم الإيجاب علي القبول في الصيغة» (انتهي محل الحاجة) «1».

و لكن مع ذلك كله أورد علي هذا الفحوي شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب بوهن الفحوي بما ورد في أبواب الوكالة من النص الوارد في الردّ علي العامة الذين فرّقوا بين تزويج الوكيل المعزول مع جهله بالعزل و بين بيعه، بالصحة في الثاني لأنّ المال له عوض، و البطلان في الاول لأنّ البضع ليس له عوض، قال: الإمام عليه السّلام في مقام ردّهم في وجه الفرق: سبحان اللّه! ما أجور هذا الحكم و أفسده؟ فان النكاح أولي و اجدر أن يحتاط فيه، لأنّه الفرج و يكون منه الولد … (انتهي محل الحاجة).

و هو إشارة إلي ما رواه في

الوسائل في أبواب الوكالة من حديث العلاء بن سيابة «2» و لكن الحديث ضعيف بجهالة العلاء، مضافا إلي أن قياس ما نحن فيه علي باب الوكالة قياس مع الفارق كما لا يخفي، و الإنصاف أنّ الأخذ بالأولوية و التعدي من صحة الفضولي في النكاح إلي صحته في البيع قريب جدّا، و ما في الحديث المذكور إنّما هو من قبيل الجدل في مقابل الخصم، حيث إنّهم حكموا بعدم صحة النكاح في مورده احتياطا في الفروج، و يقولون إنّ المال منه عوض لصاحبه و الفرج ليس منه عوض إذا وقع منه ولد، فأجاب عنهم بأنّ

______________________________

(1). رياض المسائل، ج 1، ص 512.

(2). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 2 من أحكام الوكالة، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 262

الاحتياط هنا إنّما هو في الحكم بالصحة، لئلا يلزم منه الزنا بذات البعل، فقد استندوا إلي قياس ظني في المقام فأشار عليه السّلام إلي ما هو أولي منه، و إلّا ليس مبدأ الحكم هنا شي ء من ذلك، بل الأصل عدم عزل الوكيل إلّا بالاعلام، و هذا حكم إلهي كما يظهر من نقل قضاء أمير المؤمنين عليه السّلام فيه.

الثالثة: في أبواب المضاربة

الأحاديث الكثيرة المتظافرة الواردة في أبواب المضاربة الدالة علي أنّ العامل إذا تعدي عن الشرائط ضمن المال لو تلف، و لو ربح كان الربح بينهما علي الشرط (أو كان الربح بينهما من دون تقييده بذلك).

مثل ما روي محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «سألته عن الرجل يعطي المال مضاربة و ينهي أن يخرج به، فخرج قال: يضمن المال و الربح بينهما» «1».

و مثل ما روي الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «في الرجل يعطي المال فيقول

له:

رأيت أرض كذا و كذا و لا تجاوزها و اشتر منها، قال: فان جاوزها و هلك المال فهو ضامن و إن اشتري متاعا فوضع فيه فهو عليه و إن ربح فهو بينهما» «2».

و أيضا أحاديث رقم 5، 6، 9، 10، 11، من نفس هذا الباب فلا ينحصر الدليل في خصوص موثقة جميل.

و من الواضح أنّ هذا من أوضح مصاديق بيع الفضولي و لذا يجوز له ردّ المعاملة.

أقول: و يمكن الجواب عنه بأنّ نفس المعاملة لم تقع فضوليا إنّما خالف الشرط في خروجه بالمال من البلد و جعله معرضا للآفات، أو خروجه إلي أرض خاص غير مطمئنة في نظر المالك، فضمنه، و يشهد له التصريح بعدم اخراجه إلي أرض كذا و شبهه في أكثر هذه الروايات، فلا دلالة لها علي المطلوب أصلا، و الشاهد علي ذلك التصريح بأن الربح

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 1 من أبواب أحكام المضاربة، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 263

بينهما علي الشرط يعني السهام التي ذكراها، و لو كان البيع فضوليا خارجا عن حدود المضاربة الواقعة بينهما لم يكن وجه لهذا القيد، بل للمالك إمضاء المعاملة علي شرط آخر، بل جاز له أخذ تمام المنفعة لعدم استحقاق العامل شيئا بعد مخالفته للمضاربة كما لا يخفي.

و يؤيد ما ذكرنا، ما نسب إلي ظاهر الأصحاب من عدم توقف ملك الربح هنا علي الإجازة و أنّه خارج عن الفضولي بالنص (تعبدا) كما عن المسالك و غيره، و لكن قد عرفت أنّه ليس خارجا عن القواعد حتي يحتاج إلي نص تعبدي، بل هو جار علي القاعدة، من غير حاجة إلي الإجازة، لأنّ العامل عمل بما هو وظيفته في

البيع و الشراء و إنّما خالف في شرط ناظر إلي حفظ المال، فلا أثر لهذه المخالفة إلّا الضمان لو تلف.

و إن شئت قلت: هنا مطلوبان: أحدهما: حفظ المال، و الثاني: التجارة به، و الشرط ناظر إلي الأول، فليس في هذه دلالة بل و لا أشعار و استيناس لحكم الفضولي أصلا خلافا لما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

الرابعة: في الاتجار بمال اليتيم

الروايات الواردة في الاتجار بمال اليتيم، و أنّه إن ربح كان لليتيم و إن تلف كان عليه، رواها في الوسائل تارة في الباب 75 من أبواب ما يكتسب به «1».

و اخري في أبواب من تجب عليه الزكاة «2».

بناء علي أن التجارة وقعت بغير إذن الولي، فإذا ظهر الربح تلحقه الإجازة عادة فهو حينئذ من أظهر مصاديق الفضولي.

أقول: و لكن الإنصاف ظهور أكثرها أو جميعها في تجارة الولي أو الوصي بمال اليتيم،

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، ح 2، و أيضا أحاديث رقم 1 و 3 و 5 من نفس الباب.

(2). المصدر السابق، ج 6، الباب 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة، ح 8، و أحاديث رقم 2 و 7.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 264

و هذا مأذون من قبل الشرع بشرطين: أحدهما: أن يكون الربح لليتيم، و الثاني: أن يكون للتاجر مال لو تلف خرج عن عهدة ضمانه، فلا ربط له بالفضولي أصلا.

و توضيح ذلك: أنّ جماعة من الأصحاب فهموا من هذه الروايات الكثيرة بعد ضم بعضها إلي بعض امورا ثلاثة:

أحدها: أنّ يتجرد الولي بمال اليتيم لليتيم، فالربح له و يستجب الزكاة منه.

ثانيهما: أن يقترض ماله و يتجرد به لنفسه و كان مليّا، كان الربح به و يستجب عليه الزكاة.

ثالثها:

الصورة بحالها إلّا أنّه لا يكون مليّا، أو لم يكن وليا رأسا كان ضامنا و كان الربح لليتيم و لا زكاة هاهنا.

و من الواضح أنّ الأولين ليستا من الفضولي من شي ء، غاية ما يتوهم فيه ذلك هي الصورة الثالثة، و لا يبعد أن يكون هذا بأذن إلهي يخرجه عن الفضولي، أضف إلي ذلك أنّ فهم هذه الصور من روايات الباب لا يخلو عن صعوبة بل أكثرها كما عرفت ناظرة إلي صورة تجارة الولي لنفسه أو لليتيم، و يمكن حمل غيرها عليها، فالاستدلال بها لما نحن مشكل جدّا، و تمام الكلام فيه في أبواب الزكاة في شرائط وجوبها و منها البلوغ «1».

الخامسة: ما روي في العبد المأذون

ما رواه ابن اشيم في العبد المأذون الذي دفع إليه مال ليشتري به نسمة و يعتقها و يحجه عن أبيه، فاشتري أباه و اعتقه ثم تنازع مولي المأذون و مولي الأب و ورثة الدافع و ادعي كل منهم أنّه اشتراه بماله، فقال: أبو جعفر عليه السّلام يرد المملوك رقّا لمولاه و أي الفريقين أقاموا البيّنة بعد ذلك علي أنّه اشتراه بماله كان رقا له «2».

______________________________

(1). راجع جواهر الكلام، ج 15، ص 18 و ما بعدها.

(2). عوالي اللئالي: ج 3، ص 229، ح 117، و رواه في الوسائل في ج 13 الباب 25 بيع الحيوان، ح 1 مع تفاوت.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 265

نظرا إلي أن إقامته الدعوي دليل علي الإجازة بالنسبة إلي البيع الفضولي الذي وقع علي ماله، و تظهر ثمرته في خصوص مولي المأذون، و أمّا مولي الأب فهو مدع لفساد البيع لأن اشتراء عبده بماله موجب للفساد، و أمّا الدافع فقد كان بيعه من قبيل بيع الأصيل فلا يبقي إلّا

مولي المأذون.

هذا و يجوز أن يكون المراد منه كونه وكيلا من قبله، فانّ اشترائه من ماله لا يكون إلّا بكون ماله عنده، و هذا يتحقق مع التوكيل غالبا، و كون العبد مأذونا شاهد عليه، بل ظاهر الحديث أنّه كان مأذونا في البيع و الشراء من قبل أقوام مختلفة و كانت أموالهم عنده و كان يتجر لهم.

مضافا إلي ما في سنده من جهة ذكره في كتاب العوالي، مع كون الراوي ابن أشيم و هو موسي ابن أشيم ظاهرا، و لم يوثق في الرجال، بل ورد رواية في ذمه و أنّه كان من أصحاب أبي الخطاب المعروف، و سنده في الوسائل (نقلا عن التهذيب) أيضا يتصل بابن أشيم و فيها إشكالات اخري:

منها: أنّه كيف حكم بعود المعتق رقا مع أنّ الأصل في المعاملة و العتق الصحة و لا يقبل قول مدعي الفساد، اللّهم إلّا أن يقال: يظهر من رواية الوسائل أن اشتراء الأب كان بعد فوت الدافع، فكان البيع من قبل ورثته فضوليا.

و منها: أنّه كيف لم يسأل عن العبد المأذون مع أنّه صاحب اليد و هو اعرف بنيته من غيره، و لعله لجميع ذلك أو لبعضه قال السيد قدّس سرّه في الحاشية: لم يعمل بها المشهور.

السادسة: صحيحة الحلبي

صحيحة الحلبي المروية عن الصادق عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل اشتري ثوبا و لم يشترط علي صاحبه شيئا فكرهه، ثم ردّه علي صاحبه، فأبي أن يقيله (يقبله) إلّا بوضيعة، قال: يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فان جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ علي الأول ما زاد» «1».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 17 من أحكام العقود، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)،

ص: 266

و ظاهرها بطلان الفسخ و الاقالة لأنّها لا تصح إلّا بنفس الثمن لا يزيد و لا ينقص، و هذا هو معني الفسخ و إلّا كان بيعا جديدا، فاذن تكون العين باقية علي ملك المشتري و يكون البيع فضوليا و يصح له بعد إجازته.

و لكن يرد عليه: أنّه ليس فيها أثر من الإجازة، و القول بأنّه يرضي عادة بعد ظهور النفع و يجيز البيع الثاني، مدفوع بأن التفاوت قد يكون أقل من الوضعية فلا يرضي إلّا بالفسخ.

مضافا إلي أنّ اللازم ردّ الوضعية علي المشتري أيضا بعد بطلان الإقامة مع أنّه لم يصرّح به في الرواية مع كونها في مقام البيان، و لكن الإنصاف إمكان الاستدلال بالصحيحة، و دفع هذه الإشكالات ممكن.

السابعة: ما ورد حول السمسار

ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه «1» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السمسار أ يشتري بالأجر فيدفع إليه الورق و يشترط عليه أنّك تأتي بما تشتري، فما شئت أخذته، و ما شئت تركته، فيذهب فيشتري ثم يأتي بالمتاع فيقول: خذ ما رضيت، ودع ما كرهت؟ قال عليه السّلام: لا بأس» «2».

و ذكر فيه احتمالات ثلاثة: «أحدها»: اقتراض السمسار علي نفسه ثم البيع لنفسه و جعله تحت اختيار المقرض.

«ثانيها»: اشترائه لصاحب المال وكالة مع الخيار.

«ثالثها»: البيع له فضوليا فما شاء أخذه و اجازه و ما شاء تركه و ردّه و ترك استفصال الإمام عليه السّلام دليل علي العموم.

و فيه: إن ظاهر قوله يشتري بالأجر كونه وكيلا عن صاحب المال، فيشتري وكالة مع الخيار، و حمله علي بيان أصل حرفته لا خصوص مورد السؤال، تكلّف محض، لا سيما

______________________________

(1). رواه الشيخ رحمه اللّه في المكاسب عن

عبد اللّه و لكن في الوسائل عن عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّه فتذكر.

(2). المصدر السابق، الباب 20 من أحكام العقود، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 267

مع ذكر جميع الأفعال فيه بصورة المضارع الدال علي الاستمرار.

هذا مضافا إلي ذكر عنوان السمسار، فانّه- كما في لسان العرب- هو الذي يتوكل من الحاضرة للبادية فيبيع لهم ما يجلبونه. (انتهي) (و هو الذي يعرف بالدلال عندنا).

أضف إلي ذلك أنّه يحتمل أن يكون الموضوع معروفا عندهم في تلك الأزمنة، فكيف يستفاد من ترك الاستفصال فيه العموم؟

الثامنة: ما ورد من التعليل في الباب نكاح العبد بغير إذن مولاه

ورد أنّه لم يعص اللّه بل عصي سيده، فإذا أجازة جاز (دلّ علي أنّ المانع هو عصيان اللّه، و أمّا رضا السيد فيجوز احرازه بعدا) مثل ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام و رواية اخري له في نفس الباب «1».

و الأولي منهما الصحيحة، و هذا التعليل جار في الفضولي بعينه فانّه لم يعص اللّه (بعد عدم إتيانه ببيع محرم) فيصح البيع باجازة المالك و رضاه.

و فيه: ما عرفت سابقا من أنّ العقد هنا صدر عن مالك العقد و هو الزوج و إن كان الحمل متعلقا لحق الغير، بخلاف عقد الفضولي فانّه صدر عن غير مالكه و لا يصح قياس أحدهما علي الآخر.

التاسعة: النصوص الواردة في الباب الخمس

و هي ما أشار إليه في الجواهر من النصوص الواردة في الباب الخمس المشتمل بعضها علي التصرف فيه من بعض الشيعة و طلب الإجازة من الإمام عليه السّلام فاجازه عليه السّلام أو غيرها من النصوص التي هي كذلك في غير الخمس ممّا لهم الولاية فيه، بل في نصوص المناكح و المساكن أنّهم عليه السّلام اجازوا ذلك لجميع شيعتهم «2».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 26 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ح 1 و 2.

(2). المصدر السابق، ج 6، الباب 4 من أبواب الانفال، ح 9 و 18.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 268

و محل الشاهد منه قوله عليه السّلام بعد قول الراوي: «إن أبي كان ممن سباه بنو امية و قد علمت أن بني امية لم يكن لهم أن يحرموا و لا يحللوا و إنّما ذلك لكم، فإذا ذكرت الذي كنت فيه دخلني من ذلك ما يكاد يفسد عليّ عقلي ما أنا فيه، قال: أنت في حل ممّا كان

من ذلك و كل من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حل ذلك». (انتهي محل الحاجة منها).

و يمكن حمل جميع ذلك علي الإذن السابق بالنسبة إلي من يتصرف في المستقبل، إلّا أنّ ذلك لا يخلو عن بعد بالنسبة إلي بعضها مثل ما اشرنا إليه من روايات الأنفال الواردة في النكاح كما لا يخفي بل ظاهرها كون الإجازة كاشفة.

العاشرة: ما دلّ علي أنّ من خان في الوديعة و أنكرها

من خان في الودية و أنكرها، ثم جاء بها بعد سنين مع ربح ربحه في مال الوديعة يجوز أخذ ربحه منه، و من المعلوم أنّه لا يتمّ إلّا علي صحة الفضولي.

مثل ما روي أبو سيار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أني كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه و حلف لي عليه ثم جاء بعد ذلك سنين بالمال الذي كنت استودعته إيّاه، فقال: هذا مالك فخذه، و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك …

و أتيت حتي استطلع رأيك فما تري؟ قال: فقال عليه السّلام: خذ الربح و أعطه النصف و أحله» الحديث «1».

و دلالته علي المقصود واضحة ظاهرة و لكن في سنده «الحسن بن عمارة» و هو مجهول في رجالنا.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 10 من كتاب الوديعة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 269

الحادية عشرة: ما ورد في امضاء الورثة الوصية الزائدة علي الثلث بعد وفات الميت

و من المعلوم أنّها ليست إلّا من قبيل الفضولي.

مثل ما روي أحمد بن محمد قال: «كتب أحمد بن اسحاق إلي أبي الحسن عليه السّلام أنّ ردة بنت مقاتل توفيت و تركت ضيعة أشقاصا في مواضع، و أوصت لسيدنا في أشقاصها بما يبلغ أكثر من الثلث، إلي أن قال: فكتب عليه السّلام بخطه: ليس يجب لها في تركتها إلّا الثلث و إن تفضلتم و كنتم الورثة كان جائزا لكم إن شاء اللّه» «1».

و هي رواية صحيحة ظاهرا و في سندها جمع من الاجلاء منهم أحمد بن اسحاق القمي من خاصة أبي محمد العسكري عليه السّلام و شيخ القميين و كان ممن رأي صاحب الأمر عليه آلاف التحية و الثناء.

و دلالتها علي المقصود ظاهرة، إلّا أنّ التعدي من موردها إلي غيره مع أن أمر

الوصية أسهل لا يخلو عن إشكال.

الثانية عشرة: ما ورد في جواز التصدق بمجهول المالك

و أنّه إذا جاء صاحبها و رضي كانت الصدقة له مثل ما روي علي بن جعفر عن أخيه قال:

«و سألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرّفها سنة ثم يتصدق بها فيأتي صاحبها، ما حال الذي تصدق بها … قال عليه السّلام: هو ضامن لها و الأجر له إلّا أن يرضي صاحبها فيدعها و الأجر له» «2» و يدل عليه الحديث الأوّل من الباب 18 منه أيضا.

و لا أقل من صحة سند الحديث الأوّل، و ظاهرها في بدو النظر أنّه لو رضي بالصدقة كانت الصدقة له فانّ الأجر لا يكون له بدون إمضاء الصدقة بعد وقوعها، و هذا دليل علي صحة الفضولي أيضا، مضافا إلي أنّ الضمان لا يرتفع عن اللاقط إلّا بذلك.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 11 من أحكام الوصايا، ح 1.

(2). المصدر السابق، ج 17، الباب 2 من أبواب اللقطة، ح 14.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 270

نعم، يمكن أن يقال بأن المراد منه إبراء الضامن من ضمانه في مقابل اهداء أجر الصدقة له، و لكنه بعيد عن لحن الحديث و يحتاج إلي تكلّف، فالاستدلال به ليس ببعيد سندا و دلالة.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التعدي عن الصدقة إلي البيع و غيره من أشباهه غير ثابت هذا و إلغاء الخصوصية ليس ببعيد بعد عدم كون أبواب العقود من الامور التعبدية المحضة.

إلي غير ذلك ممّا يعثر عليه المتتبع.

هذا غاية ما أردنا ذكره في المقام، و يتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ العمدة في المقام مضافا إلي كون صحة الفضولي موافقا للقواعد الثابتة من الشريعة امور:

1- حديث عروة البارقي.

2- فحوي ما ورد في النكاح (ذكرناه تحت الرقم الثالث).

3- صحيحة

الحلبي (ذكرناها تحت الرقم السادس).

4- ما ورد في باب تحليل الخمس (ذكرناها تحت الرقم التاسع).

5- ما ورد في الوديعة، مع قطع النظر عن ضعف السند (الرقم العاشر).

6- ما ورد في صدقة مجهول المالك (الرقم الثاني عشر).

بقي هنا شي ء: و هو أنّه يجوز الاستدلال لصحة الفضولي بجريان السيرة المستمرة بين العقلاء من أهل الشرع و غيرهم أيضا و جعلها دليلا مستقلا علي المقصود، لأنا نجد موارد كثيرة يقع فيها البيع الفضولي و غيره ثم تلحقها الإجازة، و ذلك كثيرا ما يكون من ناحية الوكيل أو العامل أو الولي إذا خرجوا عن حدود وكالتهم و ولايتهم و عقد المضاربة و شبهها كما وقع ذلك من عروة البارقي، و بالنسبة إلي ما كان متعلقا لحق الغير كما في مورد بيع العين المرهونة، أو تصرف المحجور في أمواله، و بالنسبة إلي الوصية الزائدة علي الثلث و ما أشبهها و هو كثير جدّا لا يكاد ينكر.

و لم يرد هناك ردع من ناحية الشارع المقدس قطعا بل قد عرفت إمضائه بشتي البيان و إن لم يكن إليه حاجة.

فالمسألة بحمد اللّه خالية عن شوب الإشكال و صافية عن النقص و الإبهام.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 271

أدلة القائلين ببطلان الفضولي

و استدل القائلون بفساده- و قد عرفت أنّهم أفراد قليلون- بامور:

1- «الأصل» و هو اصالة الفساد الثابتة في جميع أبواب المعاملات، فانّ الأصل يقتضي عدم النقل و الانتقال إلّا بسبب معلوم.

و فيه: أنّه منتقض بالأدلة الكثيرة السابقة لا سيما العمومات الناقضة له.

2- «الإجماع» المذكور في كلمات الشيخ الطوسي قدّس سرّه و غير، قال في الخلاف ما لفظه:

«إذا باع إنسان ملك غيره بغير اذنه كان البيع باطلا … دليلنا إجماع الفرقة، و من خالف منهم

لا يعتد بقوله، و لأنّه لا خلاف انه ممنوع من التصرف في ملك غيره و البيع تصرف (انتهي محل الحاجة) «1».

و الأوّل إجماع علي خصوص محل الكلام، و الثاني من قبيل الإجماع علي القاعدة، و قد ذكر الإجماع في مفتاح الكرامة في عداد أدلة القائلين بالبطلان «2».

و كلاهما كما تري، أمّا الأوّل فلما عرفت من ذهاب المعظم إلي الصحة بل الشيخ نفسه أفتي في بعض كتبه بذلك، و أمّا الثاني فلأن مجرّد إجراء الصيغة مع انتظار رضي المالك ليس من التصرفات الممنوعة، إنّما الممنوع التصرف الخارجي أو إجراء الصيغة بلا انتظار رضا مالكه مع إشكال فيه أيضا.

3- «الآية» الدالة علي لزوم كون التجارة عن تراض «3».

فانّها ظاهرة في وجوب كون التجارة صادقة عن الرضا من الطرفين، فإذا لم تكن كذلك كانت باطلة و إن لحقها الرضا بعد ذلك.

و قد أجاب عنها شيخنا الأعظم قدّس سرّه بوجهين:

أحدهما: أنّه لا دلالة علي الحصر بعد كون الاستثناء منقطعا، و لو كان الاستدلال بمفهوم الوصف في مقام التحديد في قوله تعالي: تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ أمكن حمله علي القيد

______________________________

(1). الخلاف كتاب البيوع، المسألة 275.

(2). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 185.

(3). سورة النساء، الآية 29.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 272

الغالبي، مضافا إلي إمكان حمله علي كون «عن تراض» خبرا بعد خبر فلا دلالة له علي مطلوبهم.

ثانيهما: إنّ الخطاب للمالكين و العقد إنّما يكون عقدا للمالك بعد إجازته و العمدة هو الأخير، و حاصله ما عرفت سابقا من أنّ أدلة لزوم الوفاء بالعقود و شبهها إنّما تشمل العقد المستند إلي كل إنسان، و من الواضح أنّ عقد الفضولي لا يكون عقد للمالك إلّا بعد إجازته، و حينئذ يكون ناشئا عن

رضاه كما هو ظاهر.

و أمّا ظهور الآية في الحصر فلا ينكر و إن كان الاستثناء منقطعا، و كذا كون «عن تراض» وصفا في مقام الاحتراز و احتمال كونه خبرا بعد خبر بعيد جدّا.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ طريق الحلية و نفي كون الأكل أكلا للباطل لا ينحصر في التجارة بل الهبة و القرض و الجعالة و الصلح و الإرث و الوقف و غيرها من أشباهها طريق الحلية، فلو حمل علي الحصر لزم تخصيص الأكثر.

و يمكن الجواب عنه بأنّ الحصر ناظر إلي تداول الأموال بين المسلمين من طريق الكسب و الاكتساب و عمدتها هي التجارة، و أمّا الهبة و شبهها امور نادرة بالنسبة إليها ليست من طريق الكسب و الاكتساب العام.

4- «أنّه تصرف في ملك الغير» و هذا التصرف قبيح عقلا و داخل في عنوان الظلم، كما أشرنا إليه إجمالا عند ذكر الإجماع، و قد أخذ هنا كدليل عقلي علي المطلوب.

و فيه: ما قد عرفت من عدم القبح في مجرّد إجراء الصيغة لمن ينتظر إجازة المالك كما هو محل البحث، بل و لو لم يكن منتظرا لإجازته كما في بيع الغاصب لنفسه و تسليم قبحه كما قد يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه فانّه دليل، إلّا من باب التجري علي القول بقبحه، و أمّا التصرفات الاخري فالمفروض عدمها قبل تحقّق الرضا كما لا يخفي.

و قد يجاب عنه أيضا بأنّ الحرمة علي فرض ثبوتها لا تدلّ علي الفساد في باب المعاملات، مع أنّه لو دلت عليه لدلّت علي الفساد بمعني بطلان البيع مع استقلاله و هو مفروغ عنه بين الجميع، و أمّا مع الرضا و الإجازة فلا.

و لكن يرد علي الوجه الأول: أنّ المختار دلالة

النهي في المعاملات علي الفساد إذا كان

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 273

راجعا إلي المسبب أو التسبيب، لأنّ الشارع الحكيم إذا أبغض شيئا من هذه الامور الاعتبارية لا يمضيها، و من الواضح أنّ القبح هنا إنّما هو من جهة تسبيب العقد للملكية، فالنهي فيه يدل علي الفساد.

و أمّا عن الوجه الثاني: فلأنّ النهي عنه يدل علي الفساد بمعني عدم صلاحيته للحوق الرضا لا عدم تأثيره باستقلاله، لأنّ هذا ليس من آثاره قبل النهي، حتي يرتفع بالنهي، و الحاصل أنّ الحرمة مانعة عن الصحة التأهلية لا الاستقلالية، لعدم الترقب منه حتي مع قطع النظر عن الحرمة، فتأمل.

5- «ما حكاه في مفتاح الكرامة و غيره» أنّ من شرائط صحة البيع قدرة البائع علي التسليم و هي هنا غير حاصلة «1».

و ممن استدل به «ابن قدامة» في «المغني» حيث ذكر في دليل البطلان بعد حديث حكيم بن حزام قوله: «و لأنّه باع ما لا يقدر علي تسليمه، فاشبه ببيع الطير في الهواء» «2».

و الجواب عنه ظاهر، أمّا أولا: فانّ علي التسليم إنّما تكون معتبرة عند حصول النقل و الانتقال، لا عند إجراء صيغة العقد إذا لم يتمّ شرائط الانتقال، لعدم الدليل علي أزيد منه، فيكون كبيع السلف، فهل يشترط فيه القدرة عند العقد، أو عند الأداء؟ و كذا في غير من أشباهه من الإجارة علي فعل شي ء بل النذر و أشباهه.

و قد نقض عليه بما إذا كان قادرا علي تسليمه لنفوذ رأيه في المالك و قبوله منه قطعا.

و فيه: إنّ هذا قضية خاصة لا يصح الركون عليه في حكم كلي مثل ما في المقام.

6- «الأحاديث الواردة في المسألة»:

منها: ما حكاه الفريقين في كتبهم عن «حكيم بن حزام»

أنّه نهي النبي صلّي اللّه عليه و آله عن بيع ما ليس عنده.

ذكره ابن ماجة في سننه «3» و كذا الترمذي في صحيحه «4».

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 185.

(2). المغني لا بن قدامة، ج 4، ص 297.

(3). سنن ابن ماجة، ج 2، ص 737، ح 2187.

(4). الصحيح للترمذي، ج 3، ص 534، ح 1232.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 274

و حكاه المحقق العاملي قدّس سرّه في مفتاح الكرامة بعنوان أخبار عامية «1».

و النراقي قدّس سرّه في المستند «2».

و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه النبوي المستفيض: و هو قوله: صلّي اللّه عليه و آله لحكيم بن حزام «لا تبع ما ليس عندك».

و الظاهر أنّهم تلقوه بالقبول، و لعل هذا كاف في انجبار سنده.

و قد روي هذا من طرقنا أيضا عن الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام في مناهي النبي صلّي اللّه عليه و آله قال: «و نهي عن بيع ما ليس عندك و نهي عن بيع و سلف» «3».

و عن سليمان بن صالح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، إلي أن قال:

«نهي عن بيع ما ليس عندك» «4».

و لعل المراد من النهي عن «بيع و سلف»، أن يبيع شيئا كليا سلفا مع عين شخص ليس عنده، و بيان الاستدلال به أنّ عدم الحضور عنده كناية عن عدم كونه مالكا له.

و الجواب عنه: أنّه يحتمل امورا:

أحدها: أن يبيع شيئا بعينه، يكون ملكا لآخر ثم يذهب ليشتري منه و يبيعه، و هذا باطل قطعا للغرر و غيره.

ثانيها: أن يبيع مثل السمك في الماء و الطير في الهواء ممّا ليس عنده، و هو أيضا باطل.

ثالثها:

أن يبيع بيعا كليا حاليا مع أنّه ليس شي ء من أفراد الكلي عنده، بل يريد شراءه من غيره و قد لا يبيعه و لا يقدر علي تسليمه، و هو أيضا قابل للكلام.

و جميع ذلك إنّما هو في ما إذا باع شيئا لنفسه ليس يملكه، و أمّا البيع لمالكه مع انتظار إجازته فهو خارج عن نطاقه، فلا دخل لهذه الروايات بمسألة الفضولي.

و إن شئت قلت: البيع الفضولي لا يكون بيعا تاما إلّا مع الإجازة فإذا تمّ و كمل

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 185.

(2). مستند الشيعة، ج 2، ص 365.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 7 من أبواب أحكام العقود، ح 5.

(4). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 275

و انتسب إلي المالك دخل في بيع ما هو موجود عنده، فلا يشمله ما دلّ علي النهي عن بيع ما ليس عنده مطلقا.

و ممّا يدل علي صحة بيع الكلي الذي عنده سواء كان حالا أو سلفا و يكون قرينة علي أنّ المراد بالبيع في الروايات السابقة خصوص بيع عين شخصي ليس عنده لنفسه، ما روي اسحاق بن عمار و عبد الرحمن بن الحجاج جميعا قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده، فيشتري منه حالا، قال: ليس به بأس، قلت:

إنّهم يفسدونه عندنا، قال: و أي شي ء يقولون في السلم؟ قلت: لا يرون به بأسا» الحديث «1».

و ما روي عبد الرحمن بن الحجاج قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يجيئني يطلب المتاع فأقاوله علي الربح ثم أشتريه فأبيعه منه، فقال: أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك؟

قلت: بلي، قال: فلا بأس به» الحديث «2».

و

ما رواه أبو الصباح الكناني عن الصادق عليه السّلام «في رجل اشتري من رجل مائة منّ صفرا بكذا و كذا و ليس عنده ما اشتري منه قال: لا بأس به إذا وفاه الذي اشترط عليه» «3».

و منها: ما رواه المخالفون في كتبهم من قوله صلّي اللّه عليه و آله: «لا طلاق إلّا فيما يملك و لا عتق إلّا فيما يملك و لا بيع إلّا فيما يملك».

رواه في الخلاف في كتاب البيع في المسألة 275 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عنه صلّي اللّه عليه و آله و اعتمد عليه في إثبات مدعاه في بطلان الفضولي مع أدلة اخري.

و في معناه روايات متظافرة وردت من طرقنا:

منها: ما رواه محمد بن القاسم بن الفضيل عن أبي الحسن الأول و في آخره: ليمنعها أشد المنع فانّها باعته ما لم تملكه «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 7 من أبواب أحكام العقود، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 4.

(4). المصدر السابق، ج 12، الباب 1، من أبواب عقد البيع، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 276

و منها: ما رواه اسحاق بن عمار عن عبد الصالح عليه السّلام و في ذيلها «ما أحبّ أن يبيع ما ليس له» «1».

و منها: مكاتبة الحميري إلي صاحب الزمان (عليه آلاف التحية و الثناء) و في ذيلها «الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضي منه» «2».

منها: مكاتبة محمد بن الحسن الصفار إلي العسكري عليه السّلام و في ذيلها «لا يجوز بيع ما ليس يملك و قد وجب الشراء من البائع علي ما يملك» «3».

و تظافرها يغني عن ملاحظة اسنادها.

و أمّا تقريب الاستدلال بها

فهو أنّ الفضولي يبيع ما ليس يملكه و ما ليس له، فهو باطل.

و جوابه يظهر ممّا مرّ في سابقها، و هو أن مورد جميعها بيع العين المملوكة من قبل من لا يملكها، حتي الحديث النبوي، بقرينة ذكر الطلاق و العتق اللذين لا يتعلقان بالكلي قطعا، فالمراد منها أنّه لا يجوز بيع عين مملوكة من قبل من لا يملكها لنفسه، بل صريح كثير منها و ظاهر بعضها أنّه باع شي ء لنفسه من دون أن يملكه بعد ذلك، و فساده ظاهر، بل و إن ملكه و إجازة كان خارجا عن محل الكلام، فانه فيما إذا باع للمالك متوقعا لإجازته ثم أجازه بعد ذلك، و لا دخل لهذه الإخبار به قطعا.

إلي هنا تمّ الكلام في المسألة الاولي من مسائل الفضولي.

المسألة الثانية: إذا سبق المنع من المالك

و هي ما إذا سبق من المالك المنع عنه، ثم رضي المالك فأجاز المعاملة، و حكي عن المشهور صحتها أيضا، و لكن عن فخر المحققين قدّس سرّه حكاية القول بالبطلان عن بعض من لم يسمه، و أمّا ما استظهره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه من المنع من كلام العلّامة قدّس سرّه في

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 1 من أبواب عقد البيع، ح 5.

(2). المصدر السابق، ح 8.

(3). المصدر السابق، الباب 2 من أبواب عقد البيع، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 277

التذكرة بقوله و يلوح إليه ما عن التذكرة في باب النكاح من جملة النبوي «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» بعد تضعيف السند علي أنّه نكح بعد مولاه و كراهته فانّه يقع باطلا (انتهي) فالانصاف أنّه لا دلالة علي مخالفته في المسألة بل لعل مراده نهي المولي عنه مطلقا و عدم

اجازته بعد ذلك، و النكاح معه واضح البطلان.

و علي كل حال فالمعدة في المسألة ملاحظة الأدلة السابقة حتي يعلم أيّها عام يشملها أيضا، و أيّها مختص بالمسألة الاولي، و هي ما لم ينه عنه المالك.

فنقول: و منه جل سبحانه التوفيق و الهداية: أمّا القاعدة المستفادة من العمومات فالظاهر أنّها شاملة لما نحن بصدده، لأنّ العمدة فيها هو لحوق الإجازة و انتساب العقد إلي المالك و المنع السابق لا أثر له في هذا الأمر، بل كثيرا ما يتفق في الخارج أن المالك يمنع عن بيع لكن الدلال أو شبهه يساوم و يعاقد البيع مع المشتري علما بانّه إذا علم به المالك يرضي و يجيز، و هكذا بالنسبة إلي عقد الباكرة الرشيدة أو غير الرشيدة بالنسبة إلي اجازة الولي لو قلنا باشتراطه بها، و كذلك العبد بالنسبة إلي مولاه.

و أمّا الروايات الخاصة الواردة في الفضولي فرواية «عروة» «و حكيم بن حزام» الظاهر اختصاصهما بغير ما نحن فيه.

أمّا رواية «محمد بن قيس» فليس فيها تصريح بالنهي، إلّا أن ردّ البيع الفضولي قد يكشف عنه فتأمل، مضافا إلي أن الردّ اللاحق إذا لم يكن مانعا فالنهي السابق بطريق أولي.

أمّا روايات النكاح الفضولي فما كان ناظرا إلي نكاح العبد بغير إذن سيده لعله شامل لمحل الكلام لا سيما مع التعليل بقوله إنّما عصي سيده و لم يعص اللّه فإذا أجاز فهو له جائز «1».

قد يقال: أنّه يدل عليه أيضا روايات باب المضاربة، فان العامل إذا اشترط عليه شي ء و خالفه كان من مصاديق النهي عن المعاملة بدونه، و لكن قد عرفت عدم دلالتها علي صحة

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، ج 14، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ح 1

و 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 278

الفضولي، و أنّ أصل المعاملة ليست فضوليا لأنّ مخالفته للشرط إنّما هي من جهة اخراجه المال عن البلد مثلا و جعله معرضا للتلف الذي هو موجب للضمان، و لا دخل له بأصل المعاملة، فراجع ما ذكرناه آنفا.

و يمكن الاستدلال له أيضا بما ورد في روايات تحليل الخمس، فان موردها تصرف الخمس من ناحية الغاصبين من بني امية و نظرائهم، و هو من أظهر مصاديق المسألة، بل و يمكن الاستدلال من حكم الغاصب علي ما نحن فيه بالأولوية كما لا يخفي.

و كذا يستدل له بما ورد في باب من خان في الوديعة و أنكرها، ثم اتجر بها ثم تاب و جاء بها مع ربحها، لأن هذا الخائن كان ممنوعا و منهيا عن المعاملة معها و لو بشهادة الحال، و لكن قد عرفت ضعف سندها بالحسن بن عمارة فراجع «1».

و ممّا يمكن الاستيناس منه علي المقصود، صحة عقد المكره بعد لحوق الرضا فان المالك كان كارها عند العقد بل و ما بعده إلي أن لحقه الرضا، اللّهم إلّا أن يقال: فرق ظاهر بينه و بين ما نحن فيه، لأن العقد صدر من أهله مستندا إليه و إنّما فقد بعض شرائطه و هو الرضا، بخلاف ما نحن بصدده، لأن العقد غير مستند إلي المالك أصلا إلّا بالاجازة اللاحقة و تأثيرها محل كلام، فتأمل.

إن قلت: قد اجمعوا علي أنّ الإجازة بعد الردّ غير نافعة لأنّه من قبيل الفسخ، و إذا نهي المالك و كان مستمرا إلي ما بعد العقد و لو آنا ما، كان في حكم الردّ فلا تنفعه الإجازة اللاحقة.

قلنا: أولا: الإجماع هنا غير ثابت كما سيأتي إن شاء اللّه

و كون الردّ مانعا، غير ثابت.

و ثانيا: هذا إذا كان بعنوان إنشاء فسخ و ابطال، لا مجرّد الكراهة الباقية عن النهي السابق، و الحاصل إن صحة الفضولي هنا أيضا ظاهرة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 10 من كتاب الوديعة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 279

المسألة الثالثة: بيع الفضولي لنفسه
اشارة

و قد ذكروا هذه المسألة غالبا تحت عنوان «بيع الغاصب» و لكن قد يتصور فيه الغاصب كالمشتبه.

و الأكثر كما حكاه في مفتاح الكرامة عن الإيضاح أن بيع الغاصب من أفراد الفضولي، و به صرح في التذكرة و المختلف و نهاية الأحكام و الدروس و حواشي الشهيد و التنقيح و جامع المقاصد و غيرها «1».

و قال: ابن قدامة «المغني» «تصرفات الغاصب كتصرفات الفضولي علي ما ذكرنا من الروايتين، أحدهما بطلانها و الثانية صحتها و وقوفها علي اجازة المالك».

ثم حكي عن أبي الخطاب: «إن في تصرفات الغاصب الحكمية رواية أنّها تقع صحيحة و سواء في ذلك العبادات … أو العقود كالبيع و الإجارة و النكاح، و هذا ينبغي أن يتقيد في العقود بما لم يبطله المالك، و أمّا ما لم يدركه المالك فوجه التصحيح فيه أنّ الغاصب تطول مدّته و تكثير تصرفاته ففي القضاء ببطلانها ضرر كثير و ربّما عاد الضرر علي المالك، فان الحكم بصحتها يقتضي كون الربح للمالك و العوض بنمائه و زيادته له، و الحكم ببطلانه يمنع ذلك» «2».

و كيف كان، التعبير في كلام الإيضاح بالأكثر دليل علي مخالفة جماعة في خصوص هذا القسم كما يظهر من بعض العبارات التفصيل بين صورة علم المشتري بالغصبية فلا تصح، و بين صورة جهله فتصح، فاذن المسألة ذات أقوال ثلاثة: القول بالصحة في المقامين، و القول بالبطلان كذلك، و

التفصيل بين صورتي الجهل و العلم.

فلنرجع إلي الأدلة: الإنصاف أنّ كثيرا من «الأدلة السبعة» التي اخترناها في الفضولي يجري هنا، أمّا القاعدة فالظاهر أنّها شاملة بعد كون هذا العقد من مصاديق العقود بعد لحوق اجازة المالك، لما قد عرفت من أنّ العمدة أنّ الإنشاء صدر صحيحا، و بعد لحوق الإجازة يصح استناده إلي المالك فيكون العقد عقده.

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 187.

(2). المغني لابن قدامة، ج 5، ص 415.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 280

أمّا حديث «عروة» و «حكيم بن حزام» فلا يشملان المقام، و كذا صحيحة «الحلبي» و ما ورد في صدقة مجهول المالك.

أمّا صحيحة محمد بن قيس فالمورد من مصاديقه الظاهرة، لكون الابن غاصبا قطعا، و كذا ما ورد في باب تحليل الخمس بالنسبة إلي ما غصبه الغاصبون من بني امية و نظرائهم لعنة اللّه عليهم أجمعين، إذا وقع في أيدي المؤمنين بعد وقوع البيع عليه و كذلك ما ورد في باب الخيانة في الوديعة.

و ما استدل به للبطلان امور:

الأوّل: و هو العمدة- أنّ الفضولي غير قاصد لحقيقة البيع، لأنّ البيع هو اخراج المعوض عن ملك من يدخل في ملكه العوض، و بعبارة اخري: تبديل علاقة الملكية و استقرار كل في محل الآخر، لأنّ حقيقة المعاوضة و المبادلة لا تتحقق إلّا بذلك، و هذا المعني غير موجود في البيع لنفسه، فما وقع لم يقصد و ما قصد لم يقع.

و لذا قال: بعض الأعلام في مكاسبه ما لفظه: «إن ماهية البيع عبارة عن تبادل المالين في الملكية أو تمليك العين بالعوض … و لا يمكن للفضولي في البيع لنفسه قصد هذا المعني جدّا لا التمليك الجدي فعلا و لا تملك الثمن كذلك».

و أجاب عن الإشكال شيخنا

العلّامة الأنصاري قدّس سرّه بما حاصله: «إن الغاصب و إن كان يقصد وقوع المعاملة لنفسه و لكنه بعد جعل نفسه مالكا ادعاء ففي الحقيقة يبيع للمالك و لكن يري نفسه مصداقا له».

و أورد عليه السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بأنّ هذا الجعل و لو كان غالبيا و لكن ليس دائما فلا بدّ من الحكم بالفساد عند العلم بعدم هذا الجعل مع أنّه لم ير هذا التفصيل من أحد من القائلين به، مضافا إلي أنّه لا بدّ من احرازه عند الشك، و هو مشكل لعدم إمكان حمل فعله علي الصحة.

ثم ذكر في طريق حل المسألة أنّ حقيقة البيع هي مبادلة مال بمال، و هذا هو الذي

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 281

يعتبر في قوامه، و أمّا المال فممن ينتقل؟ و إلي من ينتقل؟ فلا دخل له في حقيقتها و لذا لا يعتبر احراز كون البائع مالكا أو وكيلا أو وليا علي المالك (و لو لا ذلك وجب احرازه).

قلت: الاتصاف أنّ هذا الجعل أمرا كثير المئونة، بل كل غاصب إذا كان في مقام البيع يري نفسه مالكا، و إن شئت قلت: لا شك في أنّ الغاصب عند بيعه يكون قاصدا جدّا للبيع، و ليس هازلا، و لا قاصدا للبيع، الصوري، و هذا لا ينفك عن الجعل المذكور لو قلنا بأن حقيقة البيع هي دخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض، و قد عرفت أن هذا الجعل أمر خفيف المئونة جدّا.

نعم، ما أفاده من أنّ حقيقة البيع ليست إلّا مبادلة مال بمال، أمر ظاهر لا ينكر و لكن بما أنّ المال هنا بمعني الملك و الملكية لا تنفك عن مالك، كان لازمه ادخال العوض في

ملك من خرج عن ملكه المعوض كما لا يخفي علي المتدبر.

هذا كله إذا قلنا بأنّه لا يمكن دخول العوض في غير ملك من خرج المعوض عن ملكه، أمّا لو قلنا بجواز ذلك مثل ما إذا قال: اشتر بهذا الدينار لباسا لنفسك، أشكل الأمر هنا، لأنّ الفضولي إذا قصد نفسه مالكا للعوض من هذا الطريق لم يمكن لحوق الإجازة، و لكن صحة هذا المعني محل نظر، مضافا إلي أنّ الفضولي الغاصب ليس كذلك بل يري نفسه مالكا.

فتلخص من جميع ما ذكر إمكان تصحيح بيع الفضولي إذا قصد لنفسه من طريقين؛ من طريق ادعاء الغاصب كونه مالكا للمعوض و جعل نفسه بمنزلة المالك (و أوضح حالا منه المشتبه الذي يري نفسه مالكا) و من طريق كون حقيقة البيع مبادلة مال بمال من دون نظر إلي المالكين و إن كان يشملهما بالدلالة الالتزامية.

هذا كله إذا كان المتاع غاصبا، و لو كان المشتري غاصبا و البائع أصيلا، فقال المشتري: تملكت هذا المتاع منك بهذه الدراهم فقد يستشكل في صحته بعد اجازة المالك، لأنّ المشتري إنّما قصد التملك لنفسه، و الانصاف أنّه لا فرق بينه و بين الصورة السابقة، و كذا لا فرق بين قول المشتري «تملكت … » و قول البائع الأصيل «ملكتك هذا بهذه الدراهم» و يجري ما ذكرنا من تصحيح المعاملة بالوجهين السابقين فيهما أيضا، من

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 282

دون أي فرق بينهما و بين غيرهما كما لا يخفي.

الثاني: أن هذا المسألة داخلة فيما سبق من صدور المعاملة بعد نهي المالك، لأن الغصب امارة النهي و عدم الرضا و لو بشهادة الحال.

و فيه: مضافا إلي أنّ هذا الدليل أخص من المدعي، ما عرفت سابقا

من صحة الفضولي علي ذلك النحو أيضا إذا لحقته الإجازة.

الثالث: الأخبار الكثيرة التي استدل بها القائلون ببطلان الفضولي تارة في المسألة الاولي، أعني ما إذا باع الفضولي للمالك، و اخري في هذا المسألة اعني ما إذا باع انفسه.

و قد تفطن لذلك صاحب الحدائق حيث أورد علي نفسه بعد ذكر هذه الأخبار بقوله «إن قلت: إن البيع الفضولي عند الأصحاب هو أن يبيع مال غيره أو يشتري بأن يكون ذلك البيع و الشراء للمالك لكنه من غير اذنه و لا رضاه و ما دلت عليه هذه الأخبار إنّما هو البيع أو الشراء لنفسه لا للمالك».

ثم أجاب عن الإشكال: أولا: بأن محل نزاع الأصحاب أعم، و ثانيا: بأن السؤالات الواردة في الأخبار و إن كانت في خصوص هذه الصورة، و لكن يستفاد من الجواب الأعم منه «1».

و علي كل حال هذه الروايات كثيرة.

1- منها ما رواه محمد بن الحسن الصفار أنّه كتب إلي أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السّلام «في رجل له قطاع أرضين فيحضره الخروج إلي مكّة، و القرية علي مراحل من منزله و لم يكن له من المقام ما يأتي بحدود أرضه، و عرّف حدود القرية الأربعة فقال للشهود: اشهدوا أني قد بعت فلانا يعني المشتري جميع القرية الّتي حدّ منها كذا … فوقع عليه السّلام: لا يجوز بيع ما ليس يملك، و قد وجب الشراء من البائع علي ما يملك» «2».

2- ما رواه محمد بن القاسم بن الفضل قال: «سألت أبا الحسن الأول عليه السّلام عن رجل

______________________________

(1). الحدائق الناضرة، ج 18، ص 390.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 2 من أبواب عقد البيع و شروطه، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)،

ص: 283

اشتري من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم، و كتب عليها كتابا بأنّها قد قبضت المال و لم يقبضه، فيعطيها المال أ يمنعها؟ قال عليه السّلام: قل (فليقل) له ليمنعها أشد المنع فانّها باعته ما لم تملكه» «1».

3- ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، و أهل الأرض يقولون: هي أرضهم … فقال لا تشترها إلّا برضا أهلها» «2».

4- و ما رواه الحميري أنّه كتب إلي صاحب الزمان عليه السّلام: «أن بعض أصحابنا له ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب للسلطان … فأجابه الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضي منه» «3».

5- ما رواه شعيب بن واقد عن الحسن بن زيد عن الصادق عن آبائه عليه السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في حديث المناهي قال: «و من اشتري خيانة و هو يعلم فهو كالذي خانها» «4».

6- ما رواه أبو بصير قال: «سألت أحدهما عليه السّلام عن شراء الخيانة و السرقة، قال لا إلّا أن يكون قد اختلط معه غيره فأما السرقة بعينها فلا» الحديث «5».

7- ما رواه جراح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يصلح شراء السرقة و الخيانة إذا عرفت» «6».

8- و ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل سرق جارية ثم باعها يحل فرجها لمن اشتراها؟ قال: إذا أنبأهم أنّها سرقة فلا يحل و إن لم يعلم فلا بأس» «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 2 من أبواب عقد البيع و شروطه، ح 2.

(2). المصدر السابق، ح

3.

(3). المصدر السابق، ح 8.

(4). المصدر السابق، ح 1.

(5). المصدر السابق، ح 4.

(6). المصدر السابق، ح 7.

(7). المصدر السابق، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 284

9- ما رواه سماعة في نفس الباب.

10- ما رواه زريق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل مذكور في الباب الثالث من أبواب عقد البيع فليراجع.

فهذه عشر روايات استدل بها في الحدائق علي البطلان في المسألتين، و إنّما أشار شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه إلي شي ء قليل منها فقط و لم يذكر الباقي.

و لكن الجواب عن جميعها ظاهر، فانّها بأجمعها ناظرة إلي بيع الغاصب أو المشتبه مال غيره لنفسه، و أنّه لا يقع له و يكون باطلا من هذه الجهة، من دون أن تكون ناظرة إلي لحوق الإجازة و وقوع البيع للمالك، و العجب أن صاحب الحدائق (قدس سره الشريف) لم يتفطن له حتي زعم أن الأصحاب غفلوا عن ذلك.

بقي هنا امور:
الأوّل: قد ظهر ما ذكرنا أنّه لا فرق بين كون الغاصب الفضولي بايعا لمال غيره أو مشتريا بمال غيره شيئا

، كما أنّه لا فرق بين أن يكون إنشاء المشتري هنا بقول: تملكت منك هذا بهذا، و بين غيره من عبارات الإنشاء، و القول بأنه قصد تملك نفسه، فلا يبقي مجال لإجازة المالك مدفوع، لما عرفت من أنّه يجعل نفسه مالكا ادعائيا، فهو يشتري في الواقع لمالك الثمن لا لنفسه بالخصوص، و إلّا لم يصدر منه قصد إنشاء البيع.

مضافا إلي ما عرفت من أنّ حقيقة البيع مبادلة بين المالين و إنّما يتعين المالكان بتعين المالين.

فلا فرق أصلا بين البائع الفضولي و المشتري الفضولي، و العجب من شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث فرق بينهما في بعض كلماته و اطنب الكلام هنا بما لا يحتاج إليه بعد عدم الفرق بين الصورتين أصلا.

الثاني: و قد حكي عن بعض الأصحاب طريق آخر لحل مشكل عدم تطابق الإجازة

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 285

و العقد الواقع (نظرا إلي أن العقد وقع للفضولي و الإجازة تقع للمالك) و هو أنّ الإجازة إنّما تتضمن تبديل العقد السابق و يجعله للمالك بعد أن كان للفضولي، فهي في الواقع عقد مستأنف (حكي ذلك عن بعض كلمات المحقق القمي قدّس سرّه).

و فيه: «أولا»: أنّه خارج عن محل الكلام بين الأعلام، لأنّ المراد لحوق الإجازة بالعقد السابق و جعله عقدا تاما، و أمّا العقد الجديد فلا يحتاج إلي هذه التفاصيل و لا ينبغي وقوع الخلاف فيه.

و ثانيا: لو كانت الإجازة عقدا جديدا كانت بحكم الايجاب و احتاج العقد إلي قبول جديد، لأنّ القبول السابق لا ينفع كما هو ظاهر.

الثالث: هل يصح اجازة عقد الفضولي، البائع لنفسه أو المشتري لنفسه

، حتي يتمّ العقد لنفس الفضولي (لا للمالك) أم لا؟

حكي عن بعض الأعاظم من شراح القواعد جواز ذلك، و ذكر بعضهم في توجيهه أمرين:

«أحدهما»: إنّ الإجازة كما تكون إجازة للعقد، تكون تمليكا ضمنيا للمال بحيث ينتقل المال إلي الفضولي أولا ثم ينتقل عن ملكه.

«ثانيهما»: أنّه ما المانع عن انتقال المال إلي ملك من لم ينتقل العوض عن ملكه؟ مثل أن يقال: اشتر بهذه الدراهم طعاما أو لباسا لنفسك (انتهي ملخصا).

لكن فساد الوجه الأوّل ظاهر، لأن الإجازة لو تضمنت تمليكا احتاج إلي القبول من ناحية الفضولي و المفروض عدم وجود قبول له لا قبلا و لا بعدا، هذا أولا.

و أمّا ثانيا: إنّ اللازم صدور الإجازة حينئذ من الفضولي نفسه، لأنّه باع ثم ملك فعلية الإجازة حتي يقع البيع له، و لا دخل لإجازة المالك الاصلي لأنّه صار كالأجنبي بعد تمليكه المال للفضولي، و أمّا الوجه الثاني فهو غير بعيد لما عرفت من أنّه أمر واقع بين أهل العرف و

العقلاء و له مصاديق كثيرة، و كثيرا ما يأخذ الغني بيد الفقير و يذهب به إلي السوق و يشتري له بماله لباسا أو قميصا أو نعلا أو شبه ذلك له، أو يذهب به إلي دفتر الاسناد

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 286

و يشتري له دارا بتوقيعه السند و هو يعطي ثمنه.

و القول بأنّه يشتري أولا لنفسه ثم يملكه، أو يعطيه الوكالة في التملك قبل البيع أو بعد تملك الثمن أو تملك المثمن، خلاف مرتكز العرف.

و لكن المسألة غير خالية من الإشكال و تحتاج إلي مزيد تأمل كما مرّ.

الرابع: و قد يورد إشكال آخر هنا علي صحة بيع الفضولي لنفسه

إذا كان المشتري جاهلا بأنّه غاصب، فانه يقصد تمليك نفس البائع الغاصب، فلا تنفعه الإجازة بعد ذلك، فاللازم التفصيل في المسألة.

و الجواب: يعلم ممّا سبق فانّ المشتري لا يقصد الفضولي بشخصه، بل بما أنّه مصداق للمالك، ففي الحقيقة طرف المعاملة هو المالك، و لذا تري الوكلاء و الأوصياء و الأولياء لا يزالون يبيعون أو يشترون لمن لهم الولاية أو الوكالة من قبلهم، لا لأنفسهم مع جهل الطرف المقابل بذلك، و لا شك أنّ معاملاتهم صحيحة، و ليس ذلك إلّا لأنّ قصد الطرف المقابل التمليك للمالك الواقعي لا لشخص البائع.

الخامس: و هاهنا تفصيل آخر عكس التفصيل السابق في مسألة الفضولي الغاصب البائع لنفسه

، بين صورة علم المشتري بالحال و جهله، ففي صورة الجهل يصح مع الإجازة، و أمّا في صورة علمه لا يصح، لأنّه يسلط البائع الغاصب علي الثمن مع علمه بعدم تملكه، فيكون تسلطا مجانيا، فيكون الثمن له، و حينئذ كيف تصح بعده الإجازة لأنّه يصبح البيع حينئذ بلا ثمن فلا تنفع الإجازة.

و الجواب: يظهر أيضا ممّا تقدم لأن المشتري لا يعطي الثمن إلّا بناء علي كون البائع مالكا و إن علم بالغصب، فالاعطاء إنّما هو بعد هذا البناء كما أن إنشاء البيع من قبل الغاصب أيضا يكون بعد هذا البناء.

فكما أنّ الإشكال مندفع في طرف البائع ببنائه علي الملكية الادعائية، فكذلك من قبل تسليط المشتري إيّاه علي الثمن، و من هنا يعلم أنّ ما يظهر من بعض الأصحاب من عدم كون البائع هنا ضامنا للثمن بعد التسليط المجاني من قبل المشتري كما تري،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 287

و سنزيدك وضوحا إن شاء اللّه في المباحث الآتية.

السادس: لا إشكال في جريان الفضولي في العين الخارجي، و أمّا الكلي في الذمّة

فان اضيف إلي شخص البائع أو أطلق و كان منصرفا إليه كما هو كذلك، فلا كلام و لا دخل له بالفضولي و أمّا إن اضيف إلي غيره، كما إذا قال: بعتك كذا و كذا من الحنطة في ذمّة زيد بكذا درهما، فهو داخل في الفضولي قطعا، و كذا بالنسبة إلي الثمن إذا اضيف إلي ذمة غير المشتري.

و حينئذ إن أجاز صاحب الذمّة، فالبيع يقع له، و تشمله أدلة صحة الفضولي، لعدم الفرق بين الذمة و العين الشخصي الخارجي في شي ء من أحكامه، و مجرّد كون روايات صحة الفضولي واردة في الاعيان الشخصية لا يضرنا كما هو ظاهر.

إنّما الكلام فيما إذا ردّ صاحب الذمة، فهل تقع المعاملة فاسدة،

أو تلزم شخص البائع و يكون في ذمته؟ و الكلام قد يقع في مقام الإثبات و اخري في مقام الثبوت …

اما مقام الإثبات: فان لم يضف الفضولي الذمة إلي غيره صريحا و أطلق في ظاهر كلامه، فلا شك إنّه يلزم ظاهرا، لانصراف الذمة المطلقة إليه، و لا يصغي إلي دعواه أنّه قصد المعاملة لغيره، و لا يدخل فيما لا يعلم من قبله بعد ظهور كلامه في إرادة نفسه، و إلّا لم يتم ظهور في شي ء عن الأقارير و شبهها.

قال المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب المضاربة: «و كذا يجب أن يشتري بعين المال و لو اشتري في الذمّة لم يصح البيع إلّا مع الاذن، و لو اشتري في الذمة لا معه و لم يذكره تعلق الثمن بذمته ظاهرا».

و ذكر في نفس الكتاب ما نصه: «و إن كان في الذمة (أي شراء العامل) وقع الشراء للعامل إلّا أن يذكر رب المال» و ذكر في الجواهر في شرح هذا الكلام عند قوله «وقع الشراء للعامل» قوله ظاهرا و باطنا، ثم قال ما حاصله: إنّه لو نوي المالك واقعا يكون فضوليا و إن الزم به ظاهرا «1».

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 26، ص 384.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 288

و أمّا بالنسبة إلي مقام الثبوت: فلا شك في أن مقتضي القاعدة الفساد إذا اضاف الذمة إلي غيره و لو في ذهنه بعد عدم اجازة الغير بل ردّه.

و لكن يظهر من كلمات بعض أساطين الفقه صحته و لزومه للبائع و أن الذمة تنصرف إليه قهرا.

قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد في كتاب المضاربة: «و لا يشتري (أي العامل) إلّا بعين المال، فان اشتري في الذمة من دون اذن

وقع له إن لم يذكر المالك و إلّا بطل» «1».

و ظاهرا العبارة الوقف له ظاهرا و باطنا، و اظهر منه ما حكي عن تذكرته حيث قال:

«و ان كان- أي الشراء فضولا- في الذمة لغيره، و أطلق اللفظ، قال علماؤنا يقف علي الإجازة، فان أجاز صح و لزم أداء الثمن، و إن ردّ نفذ عن المباشر … و إنّما يصح الشراء لأنّه تصرف في ذمته لا في مال غيره … فان أجاز لزم و إن ردّه لزم من اشتراه» «2».

هذا و لا ينبغي الشك في عدم نفوذه عن المباشر واقعا إذا قصد الغير، و عدم القدرة علي إثباته لا ينافي فساده فيما بينه و بين اللّه، و ثمرته أن الطرف المقابل إن علم بذلك من قرائن خارجية لزم، و لا أثر للحكم الصادر من الحاكم المبني علي الظاهر.

كذلك لا ينبغي الشك في أنّه إذا لم يضف الذمة إلي أحد بل أطلقه و لو في قصده و لكن قصد و لكن المعاملة للغير، فان الذمة تضاف إليه قهرا، إمّا لكون حقيقة المبادلة دخول الغوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض، و إمّا لانصرافها إلي ذلك و لو قلنا بجواز غيره.

و ما يظهر من بعض العبائر من الترديد فيما ذكر ليس في محله، و أمّا التعليل الوارد في عبارة التذكرة من أنّه تصرف في ذمة الغير لا في ماله فان أجازه لزمه و إلّا لزم من اشتراه، فلم يعلم وجهه.

و الأولي حمل جميع هذه علي الصحة الظاهرية، و قد ذكر مثل هذه المعاني في كتاب الوكالة فراجع القواعد و مفتاح الكرامة و الجواهر «3».

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 7، ص 463.

(2). المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 131

من الطبعة الحجرية.

(3). مفتاح الكرامة، ج 7، ص 589.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 289

فرع: لو جمع بين المتنافيين بأن قال: اشتريت هذا القميص لفلان بدرهم في ذمتي، أو قال: اشتريت هذا القميص لنفسي بدرهم في ذمة فلان، فلا محيص عن البطلان في الأوّل، بناء علي أن حقيقة المعاوضة كون العوض ملكا لمالك المعوض لتنافي القيدين، و تصحيح المعاملة بالغاء أحد القيدين لا وجه له و ترجيح بلا مرجح.

و أمّا الثاني فهو أيضا كذلك، و ما يتراءي من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه من إمكان دخوله في الفضولي فيقع البيع للغير بعد اجازته و لكن بشرط بنائه علي مالكيته في ذمة غيره درهما كما تري، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المبادلة تكون بين المالين فيكون المعوض لمن أضيف إليه الذمة و يلغي سائر القيود، و حينئذ تصح في الصورتين و تقع لصاحب الذمة، فتأمل جيدا.

السابع: هل تجري المعاطاة في الفضولي أو يختص بالبيع العقدي؟

الظاهر أنّ العمومات التي بني عليها صحة الفضولي شاملة لها من دون أي فرق، كما أن اطلاق الروايات الكثيرة الدالة علي صحة أيضا تشملها، لعدم الفصل فيها بينهما، حتي أنّ رواية عروة كذلك، و القول بأنّها ظاهرة في خصوص المعاطاة- كما في بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه- لم نعلم له وجها إلّا أن يقال نظره إلي كون غالب البيوع معاطاتيا.

نعم ربّما تردد في صحتها بعض الأكابر، و يمكن أن يكون ذلك لأمرين:

1- إن المعاطاة تكون بالتراضي و قصد الإباحة أو التمليك، و هذا لا يكون إلّا من المالكين.

2- إنّ المعاطاة لا تكن إلّا بالاعطاء من الطرفين، و هو حرام من ناحية الفضولي فيكون فاسدا.

و لكن يجاب عن الأول: بأنّ مدار المعاطاة كما عرفت في محلها علي جعل

الإنشاء الفعل بدل الإنشاء القولي و هذا هو قوامها، و الرضا شرط لتأثير هذا الإنشاء، و الفضولي يدور مدار أمرين: صدور الإنشاء من أجنبي، و الإجازة من المالك بعد ذلك، و قد مرّ أنّ الإنشاء الفعلي قد يكون باعطاء أحد الطرفين، و لذا تجري المعاطاة في النسية و السلم،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 290

فإذا اقبض الأصيل المال و قبضه الفضولي ثم أجاز المالك الأصيل تمّ البيع، و كذا يمكن أن يكون الإنشاء بالكتابة بناء علي كونها بمنزلة المعاطاة أو بالألفاظ غير المعتبرة.

و يجاب عن الثاني: أولا: بمثل ما اجيب عن الأول، و ثانيا: بأنه يمكن أن يكون الإقباض مجازا، إمّا ظاهرا كما إذا كان الفضولي مشتبها (كما في رواية الإقالة مع الوضعية) أو عالما برضاء المالك بالقبض فقط إلي أن يتأمل فيه لعله يرضي، أو رضاه بالبيع، بناء علي ما عرفت من أنّ مجرّد الرضا لا يعدّ اجازة، بل المعتبر فيه الإنشاء، و ثالثا:

النهي التكليفي المولوي في المعاملة لا يكون سببا للفساد كما هو المشهور.

و بالجملة لا فرق بين العقد اللفظي و المعاطاة في مسألة الفضولي و كلاهما صحيحان مع شرائطه.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 291

الكلام في الإجازة
اشارة

و لنبدء أولا بذكر أحكام نفس الإجازة، ثم نتبعها بأحكام المجيز، ثم المجاز.

فنقول و منه جلّ ثناؤه التوفيق و الهداية: إن الكلام في الاجازة يقع في امور:

1- هل هي كاشفة أو ناقلة؟ و المراد بالأول أنّه بعد تحققها تكشف عن صحة العقد حين وقوعه، و تأثيره لجميع آثاره، و بالثاني أنّه يؤثر من حين تحقق الإجازة و الثمرة بينهما ظاهرة.

و المسألة ذات قولين و إن كان الكشف له معان عديدة، منها الكشف الحقيقي، و الكشف

الحكمي، و الكشف الانقلابي، كما سيأتي إن شاء اللّه.

و أمّا ما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه في «جامع الشتات» من أن المسألة ذات أقوال ثلاثه، و جعل ثالثها القول بكون الإجازة عقدا جديدا، فهو كما تري، لأنّه خارج عن محل الكلام قطعا، و لو كانت الإجازة عقدا جديدا لم يختلف في صحة الفضولي أحد من الفقهاء.

هذا و يظهر من الرياض أنّ الأشهر القول بكونها كاشفة، و عن مجمع البرهان أنّه مذهب الأكثر، و صرح بهذا القول الشهيدان قدّس سرّهما فيما حكي عنهما و غيرهما و قواه في الجواهر.

و حكي اختيار كونها ناقلة عن مجمع البرهان و الإيضاح، و عن بعضهم التوقف في المسألة كالمحقق الثاني قدّس سرّه.

و الذي استقر عليه رأي شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنّ الأنسب بحسب العمومات هو النقل ثم بعده الكشف الحكمي، و أمّا الأخبار الخاصة الآتية فلا ظهور فيها في الكشف الحقيقي فيحتمل الكشف الحكمي انتهي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 292

و ظاهر هذا الكلام الترديد في المسألة كما ذهب إليه بعض المعاصرين أيضا و لازمه الاحتياط، فاللازم ذكر الأدلة من الجانبين حتي تظهر حقيقة الحال.

أمّا الدليل للقول بالكشف فهو علي قسمين: من ناحية القواعد و من ناحية الأدلة الخاصة، أمّا الأول فهو امور:

1- متعلق الإجازة هو العقد، و من الواضح أنّه يقتضي نقل العوضين عن زمن وقوعه، فإذا تمّ بلحوق الإجازة أثّر أثره من حينه، لا من حين الإجازة، و هذا هو القول بالكشف.

و يمكن تقريبه بوجه آخر، و هو أن الشارع أمر بالوفاء بالعقود بعد استكمال شرائطها، و من المعلوم أن الوفاء بالعقد ليس إلّا العمل بمقتضاه، أعني النقل و الانتقال من حين وقوعه.

2- إن العقد سبب تام

للملك لقوله تعالي: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و بعد لحوق الإجازة يعلم كونه تاما و أنّه أثّر من زمن وقوعه، و لو لا ذلك لم يكن موضوع الوفاء خصوص العقد بل العقد مع شي ء آخر.

3- إن الإجازة لو لم تكن كاشفة لزم تأثير المعدوم، و هو العقد في الموجود و هو انتقال العوضين.

و الجواب عنها: إنّ ضعف الوجه الأخير ظاهر جدّا، و هو أن العقد بألفاظه و إن صار معدوما بعد تمام الإنشاء و لكن نتيجة العقد، و هو المنشأ، باق في عالم الاعتبار و في وعائه، فله استقرار بعد إنشائه بألفاظه كما هو واضح.

و أمّا الثاني، فهو أيضا لا محصل له لأنّ الإجازة و رضا المالك إمّا أن يكون له أثر في تمام العقد أم لا؟ فان قيل أنّه لا أثر له فهو خلاف الضرورة من الفقه، و إن قيل بكون الإجازة مؤثرة لم تحصل النقل و لا انتقال إلّا بعده، و إن شئت قلت: لا معني لكون الإجازة كاشفة عن تمامية العقد من قبل، لأنّه ليس هنا أمر خفي يكشف عنها.

و بالجملة العقد ليس علة تامّة للأثر، بل الإجازة من أجزاء المؤثر، بل من أهمها، فما معني كشفها عن كون العقد تاما من قبل؟!

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 293

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المراد كونها من قبيل الشرط المتأخر فالشرط في الحقيقة تعقب العقد للإجازة، فإذا حصلت يكشف عن كون العقد تاما من قبل لأنّ صفة التعقب كانت حاصلة و إن لم نعلم له.

و هذا المعني و إن كان ممكنا إلّا أنّه مخالف جدّا لظواهر الأدلة التي يصرح باعتبار الإجازة و الرضا، بل مخالف لحكم العقلاء في هذا المجال كما هو ظاهر، لأنّ

الشرط عندهم هو الإجازة لا صفة التعقب.

و من هنا يظهر الإشكال في ما حكاه في مفتاح الكرامة من احتجاج القائلين بالكشف بأنّ السبب الناقل للملك هو العقد المشروط بشرائط، و كلها كانت حاصلة إلّا رضاه المالك، فإذا حصل الشرط عمل السبب التام عمله، لعموم الأمر بالوفاء بالعقود، فلو توقف العقد علي أمر آخر لزم أن لا يكون الوفاء بالعقد خاصة، بل هو مع الأمر الآخر «1».

و لا يكاد ينقضي تعجبي من قولهم أولا بأن رضي المالك من الشرائط، مع قولهم أخيرا أنّه إذا حصل الشرط عمل السبب التام عمله، فإن كان السبب تاما فأي معني للاشتراط؟

و إن كان مشروطا فلم يتمّ إلّا بعد وجود الشرط، إلّا أن يرجع قولهم هذا إلي الدليل الأوّل و سيأتي جوابه.

فلم يبق إلّا الأمر الأوّل، و هو العمدة في المقام و استند إليها في الجواهر بقوله: الأقوي كون الإجازة كاشفة … لأنّها رضي بمقتضي العقد الذي هو النقل من حينه بل هي من الحقيقة رضي برضي الفضولي الذي كان مقارنا للعقد، فينكشف حينئذ بذلك كون العقد تام الشرائط غير متوقف حينئذ تأثير علي شي ء آخر، إذ المالك لم يصدر منه إلّا الرضا بما وقع من العقد، الدال علي رضي العاقد بنقل المال بما صدر منه من العقد حينه (انتهي) «2».

و بعض هذا التعبيرات و إن كان يستشم منه الدليل الثاني و لكن ظاهر الجميع هو الأوّل.

و يمكن الجواب عنه: بأنّ عقد البيع و ما أشبهه من العقود لا يدخل فيه الزمان بعنوان القيدية، نعم الزمان ظرف له، و كلما اجتمع فيه شرائط الصحة تؤثر أثرها فليس مفاد عقد

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 189.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 285.

أنوار

الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 294

البيع النقل من حين العقد، إلّا أنّه لو كانت الشرائط مجتمعة كان له هذا الأثر من حينه، كما أنّ الأمر كذلك في العلل التكوينية فلا تكون علّية النار للإحراق مقيدة بزمان خاص دون زمان، و لكن إذا تحققت النار و اجتمعت الشرائط و ارتفعت الموانع كانت مؤثرة من حينها.

و علل الشرائع و أسبابها و إن كانت في الحقيقة من قبيل القيود لموضوعات الأحكام لا عللا حقيقية، لكنها مشتركة مع العلل التكوينية من هذه الجهة كما لا يخفي.

و بالجملة لا اعتبار بتاريخ العقد بل الاعتبار بتاريخ الإجازة، و إن شئت قلت: إن شمول عموم أوفوا للمالك إنّما هو من حين استناد العقد إلي المالك الحقيقي، و لا يكون الاستناد إلّا بعد الإجازة و العقد بذاته خال عن الزمان.

و يشهد لذلك امور:

منها: أنّ القبول متأخر من الايجاب مع أنّه يؤثر من أنّه حين القبول و لا سيما أنّه قد يكون تأخره كثيرا بناء علي ما مرّ من جواز إنشاء العقد بالكتابة، فإذا كتب الموجب من بلد إلي بلد بإنشاء البيع، فقبله و أمضاه بعد اسبوع أو شبهه، فلا شك في أنّه يحصل النقل و الانتقال من حين تمام البيع بالايجاب و القبول معا، فلو كان الإيجاب مقيدا بزمان الحال وجب النقل من حينه.

و منها: الملك في الصرف و السلم علي المشهور لا يكون إلّا بعد القبض.

و منها: الفسخ علي المعروف بينهم يقع من حينه لا من أصل العقد مع أنّ الإجازة و الفسخ مشتركان من هذه الناحية، أحدهما ابرام و الثاني نقض للعقد.

و الحاصل: أنّ هذا الدليل أيضا كسابقيه ضعيف لا يثبت القول بالكشف.

هذا كله بحسب القواعد العامة و أمّا بحسب

الروايات الخاصة فالظاهر من صحيحة أبي عبيدة الحذاء هو الكشف، قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن غلام و جارية زوّجهما وليان لهما و هما غير مدركين، قال: فقال: نكاح جائز، أيّهما أدرك كان له الخيار، فان ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما، و لا مهر، إلّا أن يكونا قد أدركا و رضيا، قلت: فان أدرك

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 295

أحدهما قبل الآخر. قال: يجوز ذلك عليه أن هو رضي، قلت: فان كان الرجل الذي أدرك قبل الجارية و رضي النكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية أ ترثه؟ قال: يعزل ميراثها منه حتي تدرك و تحلف باللّه ما دعاها إلي أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج، ثم يدفع إليها الميراث» (الحديث) «1».

فان المفروض فيها نكاح الصغيرين من ناحية غير الولي الشرعي (و الوالي المذكور فيها هو الولي العرفي بقرينة ذيل الرواية) ثم أدرك أحدهما و أجاز و حينئذ يعزل بمقدار ميراث الآخر حتي يدرك، فان أجاز و حلف أنّه ما دعاه إلي الإجازة أخذ الميراث بل رضاه بالتزويج كان الميراث له، و هذا لا يصح إلّا علي القول بالكشف.

هذا و لكن الصحيحة مشتملة علي حكم تعبدي لا يوافق القواعد، فان الرضا بالنكاح الفضولي بعد فوت أحد الزوجين ممّا لا يعهد بين العرف العقلاء و لا تشمله عمومات النكاح قطعا، و لكن بما أنّ الحديث في موردها معمول به بين الأصحاب حتي ادعي في الجواهر في كتاب الفرائض أنّه لم يجد فيه خلافا «2» جاز العمل به في مورده، و لكن يشكل التعدي منه إلي غيره، و لذا ذكر المحقق الخوانساري قدّس سرّه في «جامع المدارك» بل لو لا التعبد لا شكل اعتبار

الازدواج مع الميت بعد موته، و الشاهد عليه اعتبار الحلف و اشتراطه في الوراثة «3».

أي لو لم يكن الحكم تعبديا لم يحتج إلي الحلف، لأنّ كون الميراث هو الداعي إلي اجازة النكاح لا مانع له، كما يجوز النكاح مثلا مع امرأة عجوز كثيرة المال و إن كان الداعي إليه أخذ ميراثها بعد موتها (إذا قصد الجد في النكاح).

و الحاصل: أنّ دلالتها علي الكشف ظاهرة، لأنّ عزل الميراث لا معني له علي القول بالنقل بل لا يجوز اجازة النكاح هنا علي النقل، لاستلزامه النكاح مع الميت بعد موته، و لكن لا بدّ من الاقتصار علي مورد الرواية كما عرفت.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 17، الباب 11 من أبواب ميراث الازواج، ح 1.

(2). جواهر الكلام، ج 39، ص 203.

(3). جامع المدارك، ج 3، ص 92.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 296

و يدلّ علي القول بالكشف أيضا صحيحة «محمد بن قيس» الواردة في وليدة باعها ابن المولي بغير أذنه:

«قال: قضي في وليدة باعها ابن سيدها و أبوه غائب، فاشتراها رجل فولدت منه غلاما، ثم قدم سيدها الأوّل فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير أذني، فقال: خذ وليدتك و ابنها، فنا شده المشتري، فقال: خذ ابنه يعني الذي باع الوليدة حتي ينفذ لك ما باعك، فلما أخذ البيع الابن قال: أبوه أرسل ابني فقال: لا أرسل ابنك حتي ترسل ابني! فلما رأي ذلك سيد الوليدة الأوّل أجاز بيع ابنه «1».

فان الحكم بحرية الغلام، و الحاقه بأبيه بعد الإجازة، لا يصح إلّا علي القول بالكشف، فانّه نماء للوليدة ظهر بعد عقد الفضولي و قبل الإجارة، فعلي النقل يجب عليه قيمة الولد.

اللّهم إلّا أن يقال: إن التعدي عن

موردها أيضا غير ثابت، و لكن الإنصاف أنّه لا وجه للاقتصار علي موردها بعد عدم الخصوصية فيه، و يدل عليه أيضا ما مرّ في روايات الفضولي من الحكم برد المنافع إذا خان في الوديعة و اتّجر بها، و كذا الحكم برد المنافع فيمن أقال إقالة فاسدة ثم اتّجر بالمال.

و كذا رواية «عروة البارقي» و ما رواه «حكيم بن حزام» لأنّ الإجازة علي القول بالنقل إنّما تصحح البيع الأوّل، و أمّا البيع الثاني أو الثالث أو غيرهما التي وقعت علي العوض فلا يمكن تصحيحها بالاجازة اللاحقة لأنّها وقعت علي ملك إنسان آخر إلّا علي القول بصحة بيع من باع ثم ملك ثم أجاز، نعم علي الكشف تكون واقعة علي ملك المجيز، فيجوز له اجازتها كلها كما لا يخفي.

و هكذا حكمهم عليهم السّلام و اجازتهم للخمس، لتطيب الولادة بعد تحققها فتأمل، و بالجملة دلالة كثير من أحاديث الباب علي الكشف و جواز التعدي منها ممّا لا ينبغي أن ينكر.

فتخلص من جميع ما ذكرنا أنّ القول بالكشف هو الأظهر بحسب الأدلة الخاصة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 88 من أبواب النكاح العبيد، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 297

معني الكشف و اقسامه:

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه ذكر للكشف معان و أقسام مختلفة، أنهاها السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه إلي ست وجوه، و لكن الظاهر أن اصولها ثلاثة لا غير: الكشف الحقيقي، و الكشف الانقلابي، و الكشف الحكمي، و أمّا الوجوه الاخر فهي تقريبات مختلفة للكشف فنقول:

الأوّل: «الكشف الحقيقي» و معناه كون النقل و الانتقال حاصل من زمن العقد (من يوم الجمعة مثلا إذا فرضنا كونه زمان العقد) و إن خفي علينا، و بعد الإجازة (يوم السبت مثلا) نعلم

بذلك، من دون أن يحصل أي تغيير في البيع بعد حدوث الإجازة، و لكن الجمع بينه و بين اشتراط الرضا بل الإجازة و كونها من أركان العقد لما كان مشكلا، ذكروا له وجوها كثيرة بعضها لا يليق بالذكر، و اللائق منها احتمالات:

1- كون الإجازة من قبيل الشرط المتأخر، و لكن إثبات جواز الشرط المتأخر دونه خرط القتاد، كما ذكر في محله، مضافا إلي ما عرفت من أنّها ركن العقد و بها ينتسب إلي المالك و يكون مشمولا لعموم «أوفوا»، و مثله خارج عن نطاق الشرط المتأخر كما لا يخفي.

2- إن الشرط هو وصف «التعقب» و هذا المعني حاصل من زمن العقد، كما هو ظاهر، و فيه: إنّه مخالف لظواهر أدلة اعتبار الرضا جدّا من الآية و الروايات، مضافا إلي ما عرفت من أنّ نفس الإجازة من الأركان، و لا معني لهذا التوجيه فيها.

و الحاصل: أنّ هذا المعني و إن كان معقولا إلّا أنّه مخالف لظواهر الأدلة جدّا، و العجب من المحقق اليزدي قدّس سرّه حيث جعله غير معقول، قال في بعض كلماته: «إذا لم يعقل الشرط المتأخر فلا فرق بين أن يكون المشروط العقد أو الملكية أو وصف التعقب، و هذا أمر واضح جدّا» (انتهي) «1».

أقول: وصف التعقب من قبيل الشرط لا المشروط، و هو أمر ذو إضافة إلي الإجازة المستقبلة، و لا مانع من تحقق الامور ذات الإضافة التي يكون طرف إضافتها أمرا

______________________________

(1). حاشية المكاسب، السيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 323.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 298

استقباليا، مثل «تقديم اليوم علي غد» و «تقديم هذا الشهر علي الشهر القادم» فكون الشرط المتأخر غير معقول لا دخل له بكون الشرط صفة التعقب، فانه

أمر معقول.

3- إنّ الشرط هو الرضا المقارن الأعم من «الفعلي» و «التقديري»، و هذا أمر حاصل، لأنّ المالك راض بالعقد لو علم.

و فيه: مضافا إلي عدم كفاية مجرّد الرضا الباطني حتي الفعلي منه، فكيف بالتقديري بل المعتبر إنشاء الإجازة الذي يقوم مقام الايجاب من طرف المالك، أنّ الرضا التقديري كثيرا ما لا يكون موجودا حال العقد، فهذا أخص من المدعي.

4- إنّ العقد مشروط بأمر واقعي لا نعرفه، و يكون ذلك الأمر ملازما للإجازة الاستقبالية، فتكون دليلا علي حصول ذلك الشرط، من غير أن يكون لها دخل في التأثير، و ذلك الأمر المكشوف عنه مقارن للعقد «1».

و هذا الاحتمال عجيب جدّا، فان العقود ليست من قبيل الطلسمات و العلوم الغريبة الخفية، بل هي امور عقلائية أمضاها الشارع، و الإجازة أو الرضا من أركان صحتها، و ليس الشرط أمر خفي في الواقع تكشف عنه الإجازة.

و ليت شعري كيف يرضي هذا القائل: إن الإجازة لا دخل لها في صحة العقد أبدا بل المؤثر الأمر الواقعي المجهول؟! أ لم يسمع قوله تعالي: تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «2».

أ لم يسمع قوله عليه السّلام: «لا يحل مال امرئ إلّا عن طيب نفسه» و غير ذلك؟

5- إنّه ليس هناك شرط للعقد أصلا، لا الإجازة و لا الرضا و لا شي ء آخر، و لكن الشارع رتب الأثر علي خصوص هذا القسم من العقد لا علي القسم الآخر تعبدا.

و فيه أولا: أنّه أعجب ممّا قبله، و هل يكون فعل اللّه جزافا؟ أو ليست الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد؟

و ثانيا: أنّه مخالف لظاهر أدلة اعتبار الرضا بل صريحها كما هو واضح، و كيف يرضي هذا القائل بقوله: إن الرضا أو الإجازة لا دخل له في صحة

العقد أبدا، مع اعتبارها عند

______________________________

(1). حاشية المكاسب، السيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 321.

(2). سورة النساء، الآية 29.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 299

جميع العقلاء في العقود و إمضاء الشارع به، و الأدلة السمعية طافحة بذلك؟

فتلخص من جميع ما ذكر أنّ القول بالكشف الحقيقي إمّا غير معقول، أو ممّا لا يوافق ظواهر أدلة الشرع، و لا يمكن توجيهه حتي ينطبق عليها، و العمدة في ذلك أنّ اعتبار الإجازة ليس أمرا تعبديا، بل هو معلوم عند العقلاء و إمضاء الشرع، و لا يكون العقد مستندا إلي المالك بدونها، و لا معني لوجوب وفاء المالك بعقد لم يصدر منه.

الثاني: «الكشف الانقلابي»، و المراد منه تأثير الإجازة بعد وجودها في العقد الواقع علي صفة عدم التأثير في الماضي و جعله مؤثرا من زمن وجوده (أي وجود العقد) فتؤثر الإجازة في الماضي فينقلب عما كان عليه!

و قد أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته، بل استظهره السيد المحشي من بعض كلمات صاحب الجواهر رحمه اللّه، حيث قال: «الثاني: أن يكون الرضا المتأخر مؤثرا في نقل المال في السابق كما سمعناه من بعض مشايخنا» و قد سماه السيد قدّس سرّه في التعليقة بالكشف الحكمي، بمعني أنّ الإجازة تقلب العقد مؤثرا من الأوّل، ثم أضاف إليه: و لعله مراد من قال أنّها ناقلة إلّا أنّه يجري عليه جميع أحكام الكشف «1».

قلت: التسمية و إن كان لا مشاحة فيها، و لكن المذكور ليس من الكشف الحكمي، بل هو قسم آخر من الكشف، لتأثيرها فيما سبق حقيقة، فتجعل العقد نافذا في الماضي بعد أن لم يكن كذلك لا أنّه يجري عليه أحكام النفوذ فقط، فالاولي ما عرفت من تسميته بالكشف

الانقلابي.

و لكن الانصاف أنّ هذا القسم أيضا غير معقول، لأنّ الواقع لا ينقلب عما وقع عليه، و لازمه الجمع بين النقيضين، لأن قلب الماضي عمّا وقع عليه مفهومه كون الشي ء في الماضي موجودا و معدوما، و هذا ما عرفت من الجمع بين وجود الشي ء و عدمه.

إن قلت: هذا إنّما هو في التكوينية، و لكن الامور الاعتبارية أمرها سهل.

قلت: المعتبر و إن كان اعتباريا، و لكن نفس الاعتبار أمر حقيقي تكويني قائم بالذهن،

______________________________

(1). حاشية المكاسب، للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 322.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 300

و ذلك كالوجودات الذهنية و نفس الذهن، فان نفسه ليس ذهنيا بل هو أمر خارجي تكويني، و حينئذ كيف يمكن وجود الاعتبار و عدمه في الماضي؟ و كيف ينقلب ما كان فاقدا للاعتبار في الماضي إلي كونه واجدا له؟ نعم يمكن انقلابه بقاء، و أمّا حدوثا فلا فهذا القسم لا بدّ من الشطب عليه بخط البطلان.

و قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بعد حكمه ببداهة بطلان هذا القسم: بأن لازمه اجتماع مالكين علي ملك واحد و هو كذلك، لا يقال: زمانهما مختلف. لأنا نقول ليس كذلك، فان المفروض تأثيره بعد حدوثه في الماضي، فاعتبار الملكية موجوده في الماضي مع كونه معدوما، فيجتمع مالكان علي ملك واحد، و الإنصاف أنّ بطلان هذا القسم أوضح من أن يحتاج إلي مثل ذلك.

الثالث: «الكشف الحكمي»، بمعني إجراء أحكام الكشف عليه بمقدار الإمكان، فالملك لم ينتقل من المالك إلي المشتري إلّا من حين الإجازة كما في صورة النقل، و لكن إذا أجاز رتّب آثار الملكية من أول الأمر بمقدار ما يمكن.

و يظهر ذلك بملاحظة الفرق بينه و بين الكشف الحقيقي، لأنّه علي الحقيقي

لو كان عالما بكون الإجازة واقعة في المستقبل جاز له التصرفات و كانت مباحة، بخلافه علي الحكمي، و كذا يجوز للمالك الأصلي نقله و انتقاله إلي ثالث لأنّه ملكه يتصرف فيه كيف يشاء (علي الكشف الحكمي) و لكن بعد الإجازة يترتب عليه آثار ملكية المشتري، و لازمه الحكم بأداء المثل أو القيمة إذا نقله عن ملكه لا فساد البيع السابق، لأنّه صدر من أهله و وقع في محله، بحسب قواعد الشرع، لا نقول: الحكم بفساد البيع الثاني من حين الإجازة محال، بل نقول بعدم الموجب له علي القول بالكشف الحكمي، و عدم إمكان استظهاره من الأدلة فتأمل.

أمّا علي الكشف الحقيقي فهذه التصرفات كانت واقعة في ملك غيره و فضوليا، و الحاصل أنّه تظهر الثمرة بين القسمين في التصرفات الواقعة بين العقد و الإجازة بحسب حكمها التكليفي أو الوضعي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 301

القول بكون الإجازة ناقلة:

أمّا القول بالنقل فقد ذكروا له وجوها كثيرة كما يظهر لمن راجع المستند للنراقي قدّس سرّه «1».

و الانصاف أنّ جميعها راجعة إلي أمر واحد، و هو أنّ الآيات و الروايات الدلالة علي اعتبار الرضا و الإجازة في صحة المعاملة، و عدم جواز أكل المال بالباطل، تدل علي أنّ العقد لا يحصل بدونه، و أنّه لا يحصل النقل و الانتقال إلّا بتمام السبب الناقل، و من اجزائه رضاه المالك و اجازته.

بل قد عرفت أنّ الإجازة من أركانه، فما لم تحصل لم تتمّ الأركان، و لم يكن المالك مخاطبا بقوله تعالي: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» لعدم كون العقد عقدا له.

و هذا أمر واضح بحسب العمومات و الاطلاقات، لو لا ظهور الروايات الخاصة الماضية في الكشف.

و تحصل من جميع ما ذكرنا أنّ القاعدة تقتضي

القول بالنقل، و لكن الظاهر من غير واحد من الروايات الكشف و الأظهر من بين معاني الكشف هو الكشف الحكمي.

هذا و لا يبعد التفصيل في الكشف بين ما إذا وقع القبض و الاقباض من الجانبين كما في رواية عروة، و صحيحة محمد بن قيس و غيرهما، فان هذا هو المتيقن من الأخبار، أمّا لو لم يكن هناك قبض و اقباض فيشكل الكشف، و القياس ممنوع، و الفرق ظاهر.

ثمرة القول بالكشف و النقل:

اعلم أنّهم ذكروا للكشف و النقل ثمرات، و إليك أهمها.

1- النماء المتخلل بين العقد و الإجازة، قال في مفتاح الكرامة: الثمرة ظاهرة في النماء «3»، و صرّح به جمع كثير من فقهائنا، و الوجه فيه ظاهر، لأنّ نماء الثمن للمالك المجيز،

______________________________

(1). مستند الشيعة، ج 2، ص 366.

(2). المصدر السابق، ص 366.

(3). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 190.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 302

و نماء المثمن للمشتري الأصيل علي القول بالكشف بجميع معانيه، و لكن علي النقل كل لمالكه الأصلي، نماء الثمن للمشتري و المثمن للبائع و هنا كلام معروف عن الشهيد الثاني قدّس سرّه وقع البحث في توجيهه، و المراد منه و هو قوله: و تظهر الفائدة في النماء، فان جعلناها كاشفة فالنماء المنفصل المتخلل بين العقد و الإجازة الحاصل من المبيع، للمشتري، و نماء الثمن المعين للبائع، و لو جعلناها ناقلة فهما للمالك المجيز (انتهي) و يرد الإشكال علي ظاهره، لأنّه علي النقل لا يمكن جمع النماءين للمالك المجيز بل يكون كل لمالكه الأصلي.

و قد ذكر في توجيهه في مفتاح الكرامة بعد قوله: و فيه خفاء «أمّا نماء المبيع فظاهر، و أمّا الثمن فلأنّه انتقل عن المشتري من حين العقد بقبوله و تصرف المشتري في

ملكه لا يتوقف علي اجازة غيره» «1».

أقول: هذا التوجيه عجيب، لأنّ المشتري إنّما رضي بالمبادلة لا بالهبة، و كيف ينتقل الثمن من ملكه مع عدم انتقال المثمن إلي ملكه؟

و لذا ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه بعد ذكر كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه: أنّ توجيه المراد منها كما فعله بعض، أولي من توجيه حكم ظاهرها، كما تكلّفه آخر.

و مراده أنّ حمل هذا الكلام علي خلاف الظاهر أهون من حمله علي ظاهره و الاستدلال له بما مرّ في كلام المفتاح و شبهه.

و حمله علي خلاف الظاهر- كما قيل- إنّما يمكن لو كان من «المالك المجيز» الجنس، و فرض الكلام في الفضوليين، و لكن الانصاف أنّ هذا التوجيه أيضا بعيد، فالأولي طرح هذا الكلام و صرف النظر عنه مع التصريح بعدم صحته بحسب ظاهره (و الجواد قد يكبو).

2- فسخ الأصيل بعد العقد و قبل الإجازة مؤثر علي القول بالنقل غير مؤثر علي الكشف.

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 190.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 303

قال في مفتاح الكرامة: منها أنّه علي القول بالكشف ليس للمشتري الفسخ قبل الإجازة و هي ثمرة نافعة (انتهي).

و الوجه فيه غير ظاهر لو كان المراد فساده علي القول بالكشف، ظاهرا و باطنا، لأنّ أصالة عدم لحقوق الإجازة كافية في جواز فسخه ظاهرا، نعم إذا لحقته الإجازة كشفت عن صحة العقد من أول أمره و عدم تأثير الفسخ، اللّهم إلّا أن يفرض الكلام في مورد العلم بلحوقها.

و كون الاستصحاب هنا في الامور المستقبلة ممّا لا ضير فيه كما ذكر في محله، بل أصالة السلامة التي هي من مصاديق الاستصحاب العقلائي، كثيرا ما يكون بالنسبة إلي الامور المستقبلة كمن يريد الحج و يحتمل

الموت قبل الوصول إلي الميقات و شبهه، فانّه لا يعتني بهذا الاحتمال اعتمادا علي أصالة السلامة.

3- حكم تصرفات الأصيل في ما انتقل عنه، فقد يقال بجوازها علي النقل و عدم جوازها علي الكشف، أمّا الأوّل فهو ظاهر، فلو تصرف في الثمن بالاتلاف أو التصرفات الناقلة لم يبق محل للإجازة، و أمّا غيرهما من التصرفات فهو غير مناف لها فلا تمنع الإجازة.

أمّا عدم تصرفه علي القول بالكشف فلما قيل من أنّ العقد تام من ناحية الأصيل فيشمله دليل وجوب الوفاء بالعقد، فكل تصرف يعدّ نقضا لعقد المبادلة فهو غير جائز.

هذا و قد عرفت أنّ العقد قائم بطرفين، و هو أمر بسيط حاصل من الالتزامين: التزام البائع و التزام المشتري، لا أنّه أمر مركب منهما، بل وحداني يبتني عليهما، و لو فرض التركيب فكل واحد مشروط بالآخر، و علي كل حال لا معني لوجوب الوفاء من ناحية الأصيل دون وجوب الوفاء علي صاحبه، فانّه لم يلتزم بانتقال المال منه من دون عوض، بل التزم بالمبادلة، فيجب الوفاء بها فقط مع أنّها غير معلومة ما لم تلحق الإجازة، فحينئذ يجوز التمسك باستصحاب جواز تصرفه في ماله بل استصحاب عدم لحقوق الإجازة في المستقبل (و قد عرفت صحة هذا الاستصحاب) فيجوز له جميع التصرفات حتي بالاتلاف و النقل، نعم إذا تحققت الإجازة كشفت عن بطلان جميع تصرفاته.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 304

إن قلت: هذا صحيح علي مذهب من جعل العقد مشروطا بتعقبه بالاجازة لعدم احراز هذا الشرط، فلا يجب الوفاء و أمّا علي المشهور في معني الكشف من كون نفس الإجازة المتأخرة شرطا لكون العقد السابق بنفسه تاما مؤثرا، فالذي يجب الوفاء به هو نفس العقد من

غير تقييد، و قد تحقق فيجب علي الأصيل الالتزام به (هذا ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه).

قلت: أولا: معني الشرط المتأخر، أنّه بوجوده في ظرفه الآتي مؤثر فيما قبله و لذا نفاه كثير و قالوا بعدم معقوليته لا أنّه لا اثر له أصلا، و إلّا لم يكن شرطا.

ثانيا: القول بأن الإجازة شرط، يناقض صريحا القول بأن العقد سبب تام مؤثر و ليت شعري كيف يرضي بقوله «نفس الإجازة المتأخرة شرط لكون العقد السابق تاما مؤثرا بنفسه»؟! يعني من دون أي تأثير للإجازة، فهل هذا إلّا تناقض محض؟

نعم لو قيل بأنّ الإجازة ليست شرطا أبدا و إنّما هي كاشفة عن حكم الشارع تعبدا أو كاشفة عن أمر مؤثر مجهول يقارن العقد، ارتفع التناقض.

و بالجملة كيف يجب علي الأصيل الوفاء بالعقد مع أنّه لم يرض بانتقال الثمن عن ملكه بلا عوض بل إنّما رضي بالمبادلة لا غير؟

ثالثا: إنّ أصالة عدم لحوق الإجازة، بل استصحاب جواز تصرفه في ماله تقتضي جواز تصرف الأصيل، و لا يعارضها أصالة عدم الردّ كما في الجواهر حتي يتردد المال بينهما لأنّه حينئذ مال لا يعلم أنّه لأيّهما، للبائع أو المشتري «1».

و ذلك لأنّ الردّ لا أثر له من هذه الجهة، فانّ مجرّد عدم الردّ غير كاف في انتقال المال إلي الطرف المقابل، بل الانتقال يدور مدار الإجازة نفيا و إثباتا، إلّا أن يقال: لازم عدم الرد هو الإجازة.

و فيه: أولا: أنه من الأصل المثبت.

ثانيا: قد لا تحقق الإجازة و لا الردّ حتي يخرج العقد عن صلاحية لحقوق الإجازة.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 290.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 305

و العجب أنّه قدّس سرّه قال في موضع آخر: «يحرم

عليه التصرف في المال لدورانه بين كونه ماله و مال غيره فيجب اجتنابه … و بذلك ينقطع استصحاب الجواز السابق» «1».

و يرد عليه: إنّ استصحاب الجواز حاكم علي الاحتياط كما هو كذلك في اطراف العلم الإجمالي، بل هنا استصحاب عدم الإجازة حاكم، لأنّه من قبيل الأصل الموضوعي، نعم يمكن أن يقال: إن احتمال تحقق الإجازة في المستقبل كاف في لزوم الاحتياط علي الأصيل علي القول بالكشف، فان من يلتزم بمثل هذا العقد فعليه رعاية جانبه و الاحتياط فيه.

و إن شئت قلت: هذا من قبيل اللوازم العرفية لالتزام الأصيل، كما يمكن القول به في من نذر التصدق بمال معلقا علي شرط، فانّ الأصيل و إن اقتضي عدم تحقق الشرط فيجوز له التصرف في المال قبل ذلك، و لكن لازم هذا النذر عرفا، إبقاء المال علي حاله بحيث لو تصرف فيه بالاتلاف يرونه متجاوزا عن حده و مخالفا لنذره، و بالجملة هذا ممّا يجب فيه الاحتياط، بل يمكن أن يقال: «نذر صدقة شي ء معلقا علي شرط» معناه نذر ابقائه و جعله صدقة لو حصل الشرط، و كذلك ما نحن فيه، فتأمل فهذا هو الطريق الوحيد لإثبات المطلوب.

قال المحقق النائيني قدّس سرّه في «منية الطالب»: إن الحق في جميع أقسام النذر عدم جواز التصرف (في مورده) لا لتعلق حق الفقراء أو غيرهم به … بل لأنّ الناذر بسبب النذر سلب عن نفسه حق جميع تصرفاته في المنذور سوي تصرفه في جهة نذره «2».

4- إذا تلف أحد العوضين قبل الإجازة فعلي الكشف تصح المعاملة دون النقل. لعدم بقاء مورد له، و كذا إذا مات أحد المتبايعين، أو خرج عن صلاحية الملك لعروض جنون أو سفه أو فقد بعض الشروط،

لكن لو لم يقبض المتاع في بعض الصور كان من قبيل تلف المبيع قبل قبضه، فهو من مال بايعه، و كذا إذا كان بعض هذه الامور مفقودا عند العقد ثم تجدد.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 29، ص 217.

(2). منية الطالب، ج 1، ص 249.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 306

و الحاصل: أنّه تظهر الثمرة بين الكشف و النقل في صورتين: إذا فقد بعض أركان العقد من البائع و المشتري و المثمن و الثمن، أو فقد بعض شروطها، أو تجدد بعد فقدانها.

لكن قال في الجواهر: قيل تظهر الثمرة أيضا فيما انسلخت قابلية الملك عن أحدهما بموته قبل اجازة الآخر، أو بعروض كفر بارتداد فطري أو غيره، مع كون المبيع مسلما أو مصحفا، فتصح حينئذ علي الكشف دون النقل «1».

ثم أورد عليه: بأنّه و إن كان يمكن الاستشهاد عليه بخبر الصغيرين و لكن يشكل التعدي عنه، و يمكن دعوي عدم الجواز في غيره حتي بناء علي الكشف، ضرورة أنّه يمكن دعوي ظهور الأدلة في اعتبار القابلية حاله كالنقل (انتهي) و لازمه انكار هذه الثمرة و القول ببطلان العقد علي كلا القولين الكشف و النقل.

و يظهر من بعض آخر انكار هذه الثمرة مع القول بصحة العقد في الصورتين و يظهر من ثالث التفصيل بين الثمرات، مثل ما يظهر عن شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث وافق علي وجود الثمرة في صورة تلف المنقول أو خروجه عن قابلية الملك، كعروض النجاسة للمائعات المضافة، ثم أجاب عن اعتراض صاحب الجواهر.

و لكن ردّ الثمرة فيما تجدد قابلية الملك أو قارن العقد فقد بعض الشروط، ثم حصل قبل الإجازة (كما إذا كان البائع سفيها ثم صار رشيدا) لبطلان العقد علي القولين.

أقول:

الانصاف بطلان هذه الثمرة بجميع شقوقها و إشكالها إلّا ما سيأتي، و ذلك لأنّ الظاهر من أدلة اعتبار هذه الشروط و الصفات و الأركان بقاؤها من أول العقد إلي زمن الإجازة، و لا أقل من عدم وجود الدليل علي أكثر من ذلك و لو علي القول بالكشف، و لذا قال قدّس سرّه في التعليقة تبعا لصاحب الجواهر قدّس سرّه: «لا يخفي قوة ما ذكره لأنّ أدلة صحة الفضولي قاصرة عن شمول الصورتي، أعني انسلاخ القابلية عن أحد المتعاقدين، أو أحد العوضين، قبل الإجازة و لو جعلناها كاشفة» «2».

و الاستناد إلي رواية الصغيرين، مع ما عرفت من عدم إمكان التعدي عن موردها،

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 290.

(2). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 340.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 307

و كونها متزلزلة حتي في موردها لو لم يكن الإجماع علي وفاقها، كما تري، لما عرفت من أنّ المعاملات امور عرفية أمضاها الشارع مع تصرفات يسيرة في بعض نواحيها، و الرضا بزوجية الميت أمر لا يعرفه أهل العرف، بل يستنكرها، و لكن نقبله و نؤمن به تعبدا في موردها لما يظهر من دعوي الإجماع عليه، و لكن التعدي منه إلي غير مورده مشكل جدّا.

و أمّا الاستناد إلي رواية عروة البارقي لعدم الاستفصال فيها من بقاء الشاة أو ذبحها فهو أيضا كما تري، لأن الاستصحاب قاض ببقائه لا سيما في هذه المدّة القليلة.

مضافا إلي أنّها قضية في واقعة، و عدم علم النبي صلّي اللّه عليه و آله ببقاء الشاة الأولي غير ثابت، فالاستدلال بها علي الصحة ممنوع.

نعم، هنا تفصيل من بعض المحشين (قدس اللّه اسرارهم) في الصورة الأخيرة، أعني في صورة تجدد الشرائط فبعض

الشرائط كإسلام المشتري إذا كان المبيع مصحفا يكفي تجدده بعد ذلك، فإذا أسلم المشتري حين الإجازة و قلنا بالنقل كفي و إن كان كافرا حين العقد بخلاف البلوغ و العقل، فيمكن جعل هذه الثمرة في بعض صورها ثمرة للمسألة.

و لا بأس به نظرا إلي أنّ الممنوع تملك الكافر للمصحف أو العبد المسلم، و هو هنا غير حاصل علي النقل دون الكشف، فتلخص أنّ هذه الثمرة لا تتمّ إلّا في بعض الصور.

5- «مسألة سلسلة العقود» - قال في المفتاح: «أمّا مسألة سلسلة العقود علي المثمن فصحة العقود اللاحقة للمجاز مبنية علي أنّ الإجازة كاشفة ليظهر ملك كل بايع متأخر حين بيعه و إن كان في ثاني الحال، و أمّا لو جعلناها ناقلة للملك من حين الإجازة فالبائع لم يكن مالكا حين بيعه و إنّما ملك بعده» «1».

و قال في الجواهر: «و ربّما تظهر الثمرة أيضا فيما لو ترتبت العقود علي المبيع أو الثمن أو عليهما فضولا، و لا ريب في أنّ للمالك تتبع العقود و رعاية المصلحة له فيجيز ما شاء» «2» و أشار إلي ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث قال:

«و هذه الثمرة ظاهرة و سيأتي الكلام فيها إن شاء اللّه، و لذا جوزنا التمسك برواية عروة

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 190.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 292.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 308

البارقي دليلا علي الكشف، و هكذا رواية الخيانة في الأمانة التي وقع بيوع كثيرة مترتبة علي مال الغير فضولا فيها، كل ذلك لأنّ البيع الثاني و غيره يقع عن قبل مالكه علي القول بالكشف، بخلافه علي القول بالنقل، فانّه من قبيل من باع ثم أجاز كما لا يخفي».

6-

و تظهر الثمرة أيضا في تعلق الخيارات و احتساب مبدئها، فعلي القول بالكشف يكون مبدؤها حين العقد، و علي القول بالنقل يكون من حين الإجازة، فلو كان المبيع صحيحا في حال العقد ثم صار معيبا عند الإجازة فقد يقال بخيار العيب علي النقل دون الكشف، و هكذا بالنسبة إلي الغبن، بأن كان الغبن حاصلا بحسب قيمة المتاع عند العقد دون زمن الإجازة أو بالعكس، و لكن ليعلم أنّ الثمرة في خيار العيب إنّما يتصور إذا حصل القبض و الاقباض، و إلّا لو تعيب المتاع قبل قبضه فلا يبعد كونه من مال بايعه، كما أن تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بايعه.

و أمّا خيار المجلس فظاهر كلام السيد قدّس سرّه ثبوته علي الكشف و النقل، لكن مبدئه علي الأوّل من زمن العقد، و علي الثاني من زمن الإجازة، و لكن المحقق النائيني قدّس سرّه في «منية الطالب» أنكره حيث قال: «لا يبعد سقوط خيار المجلس في المقام، لأن مجلس العقد لا اعتبار به و لو علي الكشف، إلّا الكشف بمعني عدم دخل الإجازة في التأثير أصلا، و ذلك لاعتبار الإجازة في تأثير العقد، و مجلس الإجازة أيضا لا اعتبار به لأنّه ليس مجلس العقد، فلو بقي المجلس إلي زمان الإجازة فهو، و إلّا يصير مجلس العقد كمجلس الوكيلين لإجراء الصيغة» «1».

قلت: أمّا علي القول بالكشف فالظاهر أنّ المجلس هو مجلس العقد لأنّ العقد تام، و النقل و الانتقال حاصل، سواء كانت الإجازة شرطا متأخرا أو غير ذلك و الاعتبار إنّما هو بالتمسك من الجانبين فما أفاده قدّس سرّه غير وجيه.

و كذا علي القول لو كان الأصيل حاضرا في مجلس الإجازة فالظاهر تعلق الخيار من حينها،

لأنّ تمام العقد لا يكون إلّا بها، بل قد عرفت أنّها أحد ركني العقد.

______________________________

(1). منية الطالب، ج 1، ص 251.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 309

و لم يقنع هو قدّس سرّه بذلك حتي استشكل علي مجلس الصرف و السلم أيضا، فان القبض المعتبر فيهما لا يمكن الالتزام به في مجلس العقد و لو علي الكشف و لا باعتباره في مجلس الإجازة و لو علي النقل «1».

و الانصاف إمكان القبض في مجلس العقد علي الكشف لو علم بتحقق الإجازة في المستقبل، بل و لو لم يعلم علي احتمال، و كذا يصح في مجلس الإجازة علي النقل لأنّ تمام العقد بها كما عرفت.

7- و قد يقال بظهور الثمرة أيضا في العقود الجائزة كالمعاطاة، بناء علي القول بها، فلو اشتري بالمعاطاة شيئا فباعه فضولي من آخر، فأجازه بعد رجوع الطرف المقابل في المعاطاة، فلو قلنا بالكشف كانت المعاملة الثانية قبل الرجوع فتكون المعاطاة لازمة، و لا يصح الرجوع، و لو قلنا بالنقل فالرجوع صحيح و الإجازة باطلة، نعم يمكن أن يقال: يجوز للمالك الأوّل اجازة الفضولي هنا بناء علي صحة بيع من باع ثم ملك ثم اجاز، فتدبّر جيدا.

تنبيهات
التنبيه الأوّل: «الفاظ الإجازة»

1- هل يعتبر في الإجازة أن تكون باللفظ الصريح الدال عليها، أو تكفي الكتابة أو الفعل الدال عليها، أو مجرّد الرضا و إن لم يكن هناك إنشاء، فيه وجوه أو أقوال:

أولها: اعتبار الإنشاء الصريح كما يظهر من المحقق القمي قدّس سرّه في جامع الشتات «2».

ثانيها: كفاية الكنايات.

ثالثها: كفاية الإنشاء الفعلي كما يظهر من السيد قدّس سرّه في تعليقته «3».

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 252.

(2). جامع الشتات، ج 1، ص 154.

(3). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه،

ص 158.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 310

رابعها: الغاء الإنشاء و الاكتفاء بالرضا الباطني كما قد يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه و بعض المحشين.

قال في مفتاح الكرامة في كتاب الوكالة: «و هذا يقتضي بأنّه لا يحتاج في الفضولي إلي قول المالك: أجزت و أمضيت البيع، بل يكفي الألفاظ التي يستفاد منها ذلك، و أمّا العلم بالرضا من دون اللفظ فلا يكفي» «1».

و لكن ذكر في كتاب المتاجر في شرح قول العلّامة قدّس سرّه: «و لا يكفي في الإجازة السكوت مع العلم و لا مع حضور العقد» ما لفظه: «و أنت خبير بأنّه إن كان المدار علي الرضا فلو علم الرضا يقينا كفي … و لا يحتاج إلي التصريح، و كلامهم قد ينزل علي عدم العلم بالرضا.

و الأصح أنّه لا بدّ من اللفظ كما هو صريح جماعة و ظاهر آخرين كما أنّ الردّ لا بدّ فيه من اللفظ» «2».

ثم أشار إلي بعض ما يظهر منه كفاية الرضا في أبواب نكاح العبيد و الاماء و سكوت البكر، ثم قال: و التأمل في الكل ممكن.

أقول: مقتضي القاعدة لزوم الإنشاء لأنّ العقد لا يكون عقدا للمالك إلّا بانشائه و مجرّد الرضا لا يعد إنشاء، كما أنّ مجرّد الكراهة لا يعدّ ردّا، و إن شئت قلت: العقد بتركب من إنشاءين: إنشاء الايجاب، و إنشاء القبول، و من الواضح أنّ الإنشاء الصادر من الفضولي غير كاف مستقلا لعدم كونه مالكا و لا وكيلا عن المالك، و إنّما يستند إلي المالك بإنشاء انفاذه كما يستند إليه بإنشاء التوكيل.

ثم إنّك قد عرفت في مباحث المعاطاة عدم اعتبار الإنشاء القولي في العقود بل يكفي الإنشاء الفعلي أيضا، و الإجازة ليست

أقوي من الايجاب و القبول، فيكفي فيها الإنشاء الفعلي أيضا، فلو أتي الفضولي المالك و قال: بعت سلعتك و هذا ثمنه، فأخذ الثمن المالك بقصد الإجازة كفي و لا يحتاج إلي قول، كما أنّه يكفي الإنشاء اللفظي الظاهر فيه و لو كان

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)؛ ص: 310

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 7، ص 584.

(2). المصدر السابق، ج 4، ص 198.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 311

بالكنايات الظاهرة كقوله صلّي اللّه عليه و آله: «بارك اللّه لك في صفقة يمينك».

نعم، قد يقال: يظهر من بعض الروايات جواز الاكتفاء بمجرّد الرضا، مثل ما ورد في أبواب نكاح العبيد و الاماء من أن اطلاع أولياء العبد علي نكاحه و سكوتهم و عدم اعتراضهم و رضاهم به كاف في الصحة.

و فيه: ما عرفت سابقا من أنّ ولي العقد في الواقع الزوجان، و لكن العبد لما كان تصرفاته في متعلق حق الغير لزم رضاه به، فإذا رضي كفي، و أمّا الزوج و الزوجة لا يقبل منهما إلّا إنشاء، و هو حاصل في المقام و كذلك البائع و المشتري.

و منها: ما ورد في من زوجت نفسها في حال السكر و أنّها إذا أقامت معه بعد ما أفاقت فهو رضا منها و يجوز ذلك التزويج عليها «1».

و منها: ما ورد تزويج البكر و أنّ العاقد يؤامرها فان سكتت فهو إقرارها «2».

و ما ورد في تزويج سيدة النساء عليه السّلام من أمير المؤمنين عليه السّلام و قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و

آله «اللّه أكبر سكوتها إقرارها» «3».

و لكن لازم هذا القول كفاية الرضا في القبول مطلقا و عدم الحاجة إلي إنشاء القبول من ناحية القابل. فينعقد العقد بإنشاء واحد (و هو إنشاء الإيجاب) مع الرضا من الطرف المقابل و يشكل الالتزام به.

و الحق أنّ العقد لا بدّ فيه من إنشاءين: إنشاء الإيجاب و إنشاء القبول، و لكن قد يكون السكوت ظاهرا في إنشاء القبول عملا و لو بقرائن الحال، و قد عرفت كفاية الإنشاء الفعلي أيضا.

كما أنّ إقامة الزوجة مع زوجها قد تكون إنشاء فعليا، و إلا لزم جواز العقد بالرضا من الجانبين لعدم الفرق بينهما، و لو كان ذلك مجرّد الرضا الباطني من دون إظهار، و لا أظن أحدا يلتزم به.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 14 من أبواب عقد النكاح، ح 1.

(2). المصدر السابق، الباب 4 من أبواب عقد النكاح، ح 4.

(3). المصدر السابق، الباب 5 من أبواب عقد النكاح، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 312

و منها: ما ورد من أن تصرف ذي الخيار رضا منه، مثل ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أن امير المؤمنين عليه السّلام قضي في رجل اشتري ثوبا بشرط إلي نصف النهار فعرض له ربح فأراد بيعه، قال: ليشهد أنّه قد رضيه فاستوجبه ثم يبعه إن شاء، فان أقامه في السوق و لم يبع فقد وجب عليه» «1».

و فيه: إنّ البيع الخياري تام من جهة الإيجاب و القبول و يمكن اسقاط خياره بمجرّد رضي منه، و أين هذا من الإيجاب و القبول أو الإجازة القائمة مقامهما؟ بل قد يظهر من نفس هذه الرواية أيضا لزوم الإنشاء و لو في اسقاط الخيار، فراجع و

تأمل.

و من أقوي ما يدل علي عدم كفاية الرضا الباطني بدون الإنشاء أنّه لو كفي الرضا في الصحة كفت الكراهة الباطنية في الفسخ و البطلان، و لازمه وقوع بيع المكره فاسدا من أول أمره، و لعله لا يلتزم به أحد، و لذا مال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في آخر كلامه إلي عدم كفاية الرضا و لكن احتمل الفرق بين الكراهة و الرضا، و لكن هذا الاحتمال عجيب لا دليل عليه بعد كونهما من واد واحد.

و الحاصل: أنّ المعتبر هو الإنشاء في الإجازة سواء كان بالقول أو بالفعل.

التنبيه الثاني: جواز العقد مطلقا

إذا أجاز العقد مطلقا فالكلام فيه ما عرفت في القول بالكشف و النقل، أمّا لو أجاز المالك العقد مقيدا بوقوعه حين صدروه مع قولنا بالنقل، أو مقيدا بحين الإجازة مع قولنا بالكشف، فهل يصح العقد كذلك، أو يبطل، أو يصح علي وفق المختار في الكشف و النقل، و يبطل الشرط فقط؟ فيه وجوه:

الأقوي هو الأخير، لأن صحة الإجازة كشفا أو نقلا إنّما هو بحسب حكم الشرع لا بحسب بناء الطرفين حتي يمكن تغييره بالشرط و شبهه، نعم من استدل علي الكشف بأن الظاهر من العقد، كون النقل من حينه، و المجيز إنّما أجاز بهذه الكيفية، يمكنه القول بانّه لو

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 12 من أبواب الخيار، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 313

أجاز بغير هذا الوجه كان صحيحا، كمن أجاز بعض بيع الفضولي أو أجازه مع حذف بعض الشروط، بناء علي إمكان التبعيض من هذه الجهات، و أمّا إذا استند في القول بالكشف إلي سائر الوجوه كعدم إمكان تأثير المعدوم- أي العقد- في الموجود، أي الانتقال من حين الإجازة، أو كون العقد علة تامة،

فلا يصح تقييد الإجازة بكونه من زمانها لا من زمن العقد كما هو واضح.

و كذلك القائل بالنقل الذي يدعي استحالة القول بالكشف كيف يمكنه اجازة العقد من حين وقوعه؟

و أمّا عدم فساد أصل العقد لو خالف و أجاز بخلاف ما اختاره، مع فساد الشرط لكونه لغوا، فلأنّه لا يزيد علي الشرط الفاسد، و قد قرر في محله أنّه لا يوجب الفساد و أنّ كل قيد ليس من مقومات العوضين يعامل معه معاملة تعدد المطلوب مع القول بالخيار أحيانا فراجع.

و يظهر من «منية الطالب» أن الإجازة من الإيقاعات، و الأمر في الإيقاع أظهر، لأنّ وقوع الأثر المترتب عليه لا يناط بالشرط.

أقول: أولا: إنّ الإجازة ليست من الايقاعات، و في الواقع متممة للإيجاب أو القبول، بل هي العمدة في صيرورة المالك طرفا للعقد كما عرفت غير مرّة.

ثانيا: أنّه لا فرق بين العقد و الايقاع من هذه الجهة، فلو قلنا بأنّ التعليق الحاصل من الشرط يوجب الفساد عند عدم المعلق عليه، أو قلنا بأنّه لا يوجب الفساد لأنّه من قبيل تعدد المطلوب، لم يكن هناك فرق.

التنبيه الثالث: هل يعتبر في الإجازة أن لا يسبقها رد؟

صريح كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذلك، بل ادعي الإجماع، و لكن يظهر من بعض الأعاظم كالسيد قدّس سرّه في الحاشية عدم اعتباره، و غاية ما يمكن الاستناد إليه في إثبات هذا الشرط امور.

1- الإجماع المدعي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 314

2- من شروط الصيغة أنّ لا يحصل بين الإيجاب و القبول ما يسقطهما عن صدق العقد الذي هو في معني المعاهدة، و من المعلوم أنّ الإجازة تجعل المجيز أحد طرفي العقد، فالردّ قبلها كالفسخ المتخلل بين الإيجاب و القبول، و إن شئت قلت: (كما في منية الطالب) بعد بطلان العقد

و ذهاب أثره، ليس هناك موضوع للإجازة «1».

3- مقتضي سلطنة الناس علي أموالهم تأثير الردّ في قطع علاقة الطرف الآخر عن ملكه.

4- الفضولي علي خلاف الأصل، و يقتصر علي المتيقّن منه، و هو ما لم يسبق الإجازة، الرد «2».

أقول: أمّا حال الإجماع في المسألة فمعلوم بعد وجود أدلة اخري فيها يمكن استناد المجمعين إليها، فلا يكشف عن قول المعصوم.

و إمّا مسألة عدم الفصل بين الايجاب و القبول ففيه أولا: لو سلم فهو غير ما نحن فيه، لأنّ الإجازة و إن كانت تجعل المالك المجيز أحد طرفي العقد، و لكن صورة العقد قد حصلت من قبل و لم يفصل بينهما فاصل، فالعقد صادق في الجملة.

ثانيا: إنّ القدر المسلم من الإجماع بطلان العقد إذا رجع الموجب عن ايجاد ثم قبل القابل، و هو غير محتاج إلي الاجماع لانتفاء العقد برجوع الموجب عن ايجابه، فلا يبقي محل للقبول، أمّا في نحن فيه فالمفروض أنّ الأصيل (بايعا كان أو مشتريا) باق علي تعهده و لم يرجع عنه حتي ينتفي العقد، و إنّما الرد وقع من ناحية الطرف الآخر، فيمكن أن يقال: ما دام الأوّل باق علي عهده فالثاني يمكن أن يلحقه، سواء ردّ ثم قبله أو لم يردّ أصلا، و هذا أمر ينبغي أن يتأمل فيه جدّا و هو موافق للقاعدة.

و أمّا حديث سلطنة الناس علي أموالهم، فقد عرفت في أصل مسألة الفضولي أنّ مجرّد إنشاء الفضولي علي المال ليس تصرفا فيه و لا يعد سلطنة عليه، و لا يوجب علقة حتي يقال بأن للمالك قطعها.

______________________________

(1). منية الطالب، ج 1، ص 256.

(2). جامع الشتات، ج 1، ص 154.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 315

و إن شئت قلت: إن

مجرّد الإنشاء الصادر من الفضولي لو كان منافيا لسلطنة المالك فلا يؤثر من أول أمره، و إن لم يكن منافيا لها فلا يقدر المالك علي ازالته، و الحق أن الإجازة توجب استعداد القبول، و هذا الاستعداد باق ما لم يرجع الأصيل عن عهده أو لم يتحقق فصل طويل ماح لصورة العقد.

و قد اجيب عنه بوجهين آخرين:

أحدهما: إنّ قاعدة السلطنة متعارضة بمثلها، لأنّ مقتضاها جواز الإجازة بعد الردّ.

ثانيهما: إنّ القاعدة ليست مشرّعة، و إنّما تثبت نفوذ التصرفات الثابتة في الشرع كالبيع و الهبة و غيرهما، و ما نحن فيه ليس منها (ذكرهما السيد قدّس سرّه في تعليقته مع ما يقرب من الأدلة).

و يمكن دفع الأوّل منها: بأن مقتضي القاعدة تأثير السابق، فلا يبقي محل للاحق و دفع الثاني بأنّه تصرف عقلائي لم يمنع منه الشرع، فتأمل.

و قد مرّ في بعض المباحث السابقة في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنّ ذلك لو كان تصرفا، كان تصرفا جائزا، كالاستضاءة بنور الغير و الاصطلاء بناره.

و الحق أنّه ليس تصرفا مطلقا حتي مثل الاستضاءة و شبهها.

و ممّا ذكرنا سابقا يظهر الجواب عن الدليل الرابع أيضا، فانّك قد عرفت أنّ الفضولي موافق للقاعدة فيؤخذ باطلاق الأدلة هنا و لا مجال للأخذ بالقدر المتيقن.

التنبيه الرابع: هل الإجازة تورّث أم لا؟

و هو مبني علي كونها من الحقوق كحق الخيار و شبهه، أو من الأحكام، لكن من الواضح أنّها من الأحكام، فانّ المالك له أن يجيز ما وقع علي ماله من العقد الفضولي أو لا يجيز، و إن شئت قلت: هذا من آثار الملك و أحكامه، فما دام مالكا، له الإجازة، فإذا مات و انتقل المال منه إلي آخر انتقل هذا الأثر بطبيعة الحال إليه، هذا إذا قلنا

بجواز كون المالك في زمان الإجازة غير المالك في زمان العقد، كما يظهر من مسألة من باع ثم ملك ثم أجاز.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 316

و قد اختار هذا المعني شيخنا الأعظم قدّس سرّه و السيد قدّس سرّه و المحقق النائيني قدّس سرّه، و يحكي عن العلّامة الاصفهاني قدّس سرّه في حواشيهم علي المكاسب.

و يظهر الأثر بين ارث المال، و وارث الإجازة أنّه علي الأوّل يملكها كل من وقع المال في سهمه عند تقسيم الارث، فهو الذي يمكنه اجازة البيع الفضولي الواقع علي سهمه دون الباقين، و علي الثاني يملكها الجميع، و كذا تظهر الثمرة في بعض ما تكون الزوجة محرومة عنه من الأموال.

التنبيه الخامس: هل القبض شرطا في صحة العقد؟

إذا باع الفضولي و قبض الثمن و اقبض المثمن فانّ المالك قد يجيز أصل العقد دون القبض و الاقباض، و اخري معه أو مع أحدهما، و قد يكون القبض شرطا في الصحة كالصرف و السلم، و اخري لا يكون، و الثمن قد يكون عينا شخصيا قبضه، و اخري يكون كليا في ذمة المشتري الأصيل، فهذه وجوه مختلفة.

فان أجاز نفس العقد دون ما لحقه من القبض و الاقباض، فيصح نفس العقد دون غيره، فلا يسقط ضمان المشتري بالنسبة إلي الثمن و ضمان البائع بالنسبة إلي المثمن و كذا لو اجاز قبض الثمن فقط أو اقباض المثمن فقط.

نعم، فيما يكون القبض شرطا و كان عالما بهذا الحكم فأجازه، كانت اجازة العقد دالة علي اجازة القبض بدلالة الاقتضاء، دون ما إذا كان جاهلا بالحكم.

و هكذا الحال إذا كان الثمن كليا، فأجاز المالك أصل العقد و أجاز أيضا تعيين الكلي في مصداق و قبضه من ناحية الفضولي.

و لكن يظهر من كلمات شيخنا الأعظم

قدّس سرّه في المقام أن تصحيح وقوع قبض الكلي و تشخيصه من ناحية الفضولي بمجرّد اجازة المالك مشكل، للإشكال في شمول أدلة صحة الفضولي له.

و فيه: إنّه إذا رضي المالك بقاء كون الثمن مشخصا في المصداق الكذائي الموجود عند

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 317

الفضولي كان جائزا، و تشمله أدلة الفضولي و لا مانع منه.

بقي هنا شي ء: و هو أنّ اجازة القبض سواء كانت صريحة أو مستفادة من دلالة الاقتضاء ليست من باب التوكيل، لعدم إنشاء الوكالة سابقا حتي يجيزها، و الواقع لا ينقلب عما هو عليه، بل من باب الرضا بكون الثمن أو المثمن الشخصي عند الفضولي أو المشتري الأصيل، و يترتب عليه سقوط ضمانهما، فليس ذلك من باب اسقاط الضمان مستقيما و بلا واسطة، كما لعله يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه، بل من باب الرضا ببقاء آثار القبض و الاقباض، فيسقط الضمان بسببه، و إن شئت قلت: القبض و الاقباض فعل خارجي و ليس من العقود أو الايقاعات حتي يتغير بالاجازة بل الرضا بالبقاء مع حصوله عنده، كاف.

التنبيه السادس: هل الإجازة علي الفور أو لا؟

صرّح جماعة بعدم كونه علي الفور و يمكن الاستدلال له بأمرين:

1- العمومات الدالة علي صحة الفضولي، فقد عرفت أنّها موافقة للقاعدة و ليس فيها ما يقتضي الفور، و لعل هذا مراد المحقق القمي قدّس سرّه في جامع الشتات من الاستدلال بالأصل، و إلّا فالأصل في المعاملات علي الفساد.

2- كثير من الروايات الخاصة الدالة علي صحة الفضولي تدل علي صحة و لو كانت الإجازة متراخية، كصحيحة محمد بن قيس، لأنّها صريحة في وقوع التراخي بسبب المشاجرات بين مالك الوليدة، و المشتري الأصيل.

و كرواية النكاح بين الصغيرين، لأنّها صريحة في وقوع الفصل الطويل بين

العقد و الإجازة حتي بين اجازة أحد الزوجين و الآخر، و كذا روايات الخيانة في الامانة، و الاقالة الفاسدة، و روايات الخمس (و قد مر ذكرها).

و لا فرق بين التراخي بعد علم المالك بوقوع الفضولي، و قبل علمه، لجريان غير واحد ممّا ذكر، في صورة العلم أيضا.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 318

و أمّا استدلال المحقق القمي قدّس سرّه بالاستصحاب هنا فلم نعرف وجهه، إلّا أن يكون المراد منه استصحاب صحة الإجازة لو صدرت منه سابقا، و لكنه من قبيل الاستصحاب التعليقي، مضافا إلي أنّه من الأصل المثبت ظاهرا فتأمل.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه لو لم يجز المالك و لم يرد، فهل للأصيل إلزامه بأحد الأمرين، أوله الخيار بين الفسخ و الإنشاء، أو هو مخير بين الإلزام و الفسخ، أو ليس له حق مطلقا؟

فيه وجوه أربعة علي ما ذكره بعض الأعاظم.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب: أنّه لو تضرر الأصيل من التراخي علي القول بالكشف فالأقوي تداركه بالخيار، أو اجبار المالك علي أحد الأمرين انتهي، و هذا مبني علي لزوم العقد من جانب الأصيل.

و قد عرفت سابقا أنّ وجوب الصبر علي الأصيل علي القول بالكشف من قبيل منذور التصدق من جهة الدلالة الالتزامية، و إلّا فمقتضي اصالة عدم الإجازة في المستقبل هو صحة التصرف و إلّا فلا دليل علي لزوم العقد من قبله.

هذا و الانصاف أنّه لا يحتاج إلي الاجبار و لا الخيار، بل له التصرف بدون ذلك لما عرفت من أنّ أصالة عدم الإجازة فيما سيأتي كاف، و إنّما منع عنه الدلالة الالتزامية، و هي غير شاملة لما إذا تضرر المالك من التأخير.

نعم له الفسخ و الرجوع عن تعهده، لانصراف أدلة

وجوب الوفاء عنه، فلا تؤثر الإجازة في المستقبل، أمّا لو لم يفسخ و لم يكن التراخي مناف لصحة العقد عرفا و أجاز في المستقبل و كان العين موجودا أثر العقد أثره، بل يمكن القول بتعلقه بالبدل علي فرض تلفها.

هذا كله علي الكشف، و أمّا علي النقل فلا مانع من تصرفاته، لجواز رجوع الموجب عن ايجابه قبل قبول الآخر و كذا المشتري الأصيل هنا، و ما يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني قدّس سرّه من جريان النزاع علي القولين، لا وجه له.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 319

التنبيه السابع: هل يجب مطابقة الإجازة مع العقد؟

هل يجب مطابقة الإجازة مع العقد، أو يجوز اجازة بعضه دون بعض، من ناحية اجزاء البيع و الثمن، أو من ناحية الشرائط، أو اجازته مع إضافة بعض الشرائط؟ فيه كلام بين الاعلام قدّس سرّه.

و قال: شيخنا الأعظم قدّس سرّه بالتفصيل بين الأجزاء، و الشرائط، و أنّه يجوز تبعيض الصفقة، و ضرر التبعيض علي المشتري يجبر بالخيار، و أمّا بالنسبة إلي الشرائط فلا يجوز، لعدم قابلية العقد للتبعيض من حيث الشرط.

و أمّا إذا أضاف المالك المجيز شرطا في اجازته، فقيه وجوه.

و الأقوي بطلان الإجازة، انتهي.

هذا و الأصل في المقام هو تطابقهما، لما عرفت من أنّ الإجازة تقوم مقام أحد ركني العقد، و من الواضح لزوم المطابقة بين الايجاب و القبول لاعتبارها في مفهوم «المعاقدة» كما لا يخفي.

فعلي هذا لو أجاز البعض دون غيره لم يكن هناك توافق علي عقد و معاهدة بين الطرفين: نعم إذا توافقا علي أمر و لكن كان هناك مانع تأثير العقد في بعض متعلقه، كما إذا باع ما يملك و ما لا يملك، و كما في الشرط الفاسد، أمكن القول بتأثير في البعض، و

ضرر التبعيض يجبر بالخيار، لتعدد مراتب المطلوب، و لا يقاس بما نحن فيه، فانّ العقد فيه غير تام بعد التخالف بين الإنشاءين، و بالجملة فرق ظاهر بين عدم المطابقة و بين الايجاب و القبول أو ما يقوم مقامهما، و بين وجود الموانع الآخر من تأثيره بعد تمامية العقد من حيث أركانه و شرائطه.

نعم إذا كان العقد في حكم عقدين و بيعين حصلا بإنشاء واحد أمكن التفكيك بينهما، كما إذا كان هناك سلعتان كل واحد بثمن، و لا يكفي تعدد السلعة فقط، أو تعدد الثمن كذلك، كما لعله يظهر من بعض كلمات السيد قدّس سرّه في المقام، و حينئذ يجوز له اجازة أحدهما دون الآخر لأنّه في قوّة معاملتين.

و من هنا يظهر أنّه لا يصح التفكيك بين الشرط و المشروط مطلقا، لعدم استقلال

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 320

الشرط في المعاملة، و عدم وقوع الثمن في مقابله مطلقا.

هذا كله إذا أراد المالك المجيز ترك المطابقة من دون مراجعة جديدة إلي المالك الأصيل، فلو أجاز بعض العقد أو بعض الشروط أو أضاف شرطا أو شيئا علي الثمن أو المثمن، ثم أخبر الأصيل بذلك، فرضي، لم يبعد الصحة، و في كفاية مجرّد الرضا إشكال ظاهر، بل لا بدّ من إنشاء جديد قولا أو فعلا من ناحية الأصيل فيكون في الواقع عقدا جديدا و خارجا عن نطاق البحث.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 321

شرائط المجيز
اشارة

و هاهنا مسائل ثلاث:

الأوّل: في وجوب كون المجيز جامعا للشرائط حال الإجازة.

الثانية: في اشتراط وجود مجيز حال العقد.

الثالثة: في كون المجيز حال الإجازة جامعا للشرائط و مجازا للتصرف حال العقد.

و الفرق بينه و بين المسألة الثانية أنّه يمكن وجود مجيز جامع للشرائط حال

العقد ثم ينتقل منه المال إلي آخر، فيجيز العقد، فالعقد و إن كان له مجيز جامع للشرائط حين صدوره و لكن الذي يجيزه في نهاية الأمر مالك آخر لم يكن جامعا لشرائط المجيز حال العقد، و إن شئت قلت: مآل هذا الشرط إلي أنّه هل يعتبر وحدة المجيز في الحالتين أم لا؟

و هذا أوضح.

و بتعبير آخر: إن قلنا بعدم اعتبار وجود مجيز حال العقد فلا تصل النوبة إلي المسألة الثالثة، و إن قلنا باعتباره فيقع الكلام في أنّه هل يجب وحدة المجيز حال العقد مع المجيز حال الإجازة أم لا؟

المسألة الاولي: أعني اجتماع شرائط التصرف في المجيز حال الإجازة، فهذا من القضايا التي قياساتها معها، فانّ المفروض أنّ الإجازة من أركان العقد علي المختار، و من شرائطها علي قول بعضهم، و علي كل تقدير لا بدّ أن يكون صادرا من أهله، و لا تتمّ الأهلية إلّا بالبلوغ و العقل و عدم السفه و عدم الحجر حتي عدم مرض الموت بناء علي القول بكون منجزات المريض من الثلث إذا كان مورد العقد زائدا عليه، و بالجملة يشمله

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 322

أدلة اعتبار هذه الشرائط.

المسألة الثانية: أعني اشتراط وجود مجيز حال العقد، ففيه خلاف بين الأعلام قال في القواعد:

«و الأقرب اشتراط كون العقد، له مجيز في الحال، فلو باع الطفل فبلغ و أجاز لم ينفذ علي إشكال».

و قال في مفتاح الكرامة في شرح هذه العبارة:

«هذا شرط شرطه أبو حنيفة، و قال الشهيد و ابن المتوج علي ما نقل عنه و الفاضل المقداد و المحقق الثاني في الشرح أنّه لا يشترط».

ثم نقل عن بعضهم التوقف في المسألة كإيضاح القواعد و تعليق الارشاد «1».

أقول: كلام القواعد

أيضا محتمل الوجهين، فانّ كان الإشكال في أصل وجود المجيز كان من المتوقفين في المسألة، و إن كان في اجتماع شرائط التصرف فيه كان الإشكال في المسألة الآتية، و لكن الأظهر هو الثاني كما فهمه المحقق القمي قدّس سرّه علي ما ذكره في جامع الشتات «2».

و كيف كان فقد ذكروا للمسألة مثالا، و هو ما إذا بيع مال اليتيم لغير مصلحة، فلو بلغ و أجاز أو صار ذا مصلحة فأجازه الولي كان فاسدا، بناء علي اشتراط وجود المجيز حال العقد، هذا و لكن المجيز بمعني المالك موجود هنا و هو الصبي، و لكنه غير جامع للشرائط لاشتراط البلوغ في صحة التصرفات، كاشتراط الملكية و غيرها، و صرّح في الجواهر أيضا بعدم اعتبار هذا الاشتراط لما سيأتي الإشارة إليه.

و علي كل حال غاية ما استدل به علي هذا الشرط علي ما ذكره في مفتاح الكرامة أمران: «أحدهما»: إنّ صحة العقد ممتنعة عند عدم المجيز حاله، و إذا امتنع في زمان امتنع دائما (و لعله إشارة إلي استصحاب عدم الصحة و إلّا لا يندرج تحت دليل).

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 195.

(2). جامع الشتات، ج 1، ص 162.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 323

«ثانيهما»: حصول الضرر علي المشتري لعدم قدرته علي التصرف في المثمن و الثمن، أمّا الأول فواضح، و أمّا الثاني لإمكان الإجازة فيكون قد خرج عن ملكه (و هذا إنّما يصحّ علي الكشف).

و لكن الأقوي وفاقا لجمع من المحققين، من المتأخرين و المعاصرين، عدم اعتبار هذا الشرط، لأنّ القاعدة الشاملة للفضولي تشمله، لكفاية وجود المجيز حال الإجازة في تحقق أركان العقد و شرائطه، و عدم قيام دليل تعبدي علي غير ذلك، مضافا إلي ما

ورد في تزويج الصغيرين، و إن كان من بعض الجهات علي خلاف المرتكز في الأذهان، و لكنه بالنسبة إلي صحة التزويج بعد الموت و بطلان المحل، لا بالنسبة إلي ما نحن فيه.

أمّا ما استدل به علي العدم، فيدفع الأول بأنّ الاستصحاب هنا ممنوع بعد وجود المجيز و حصول شرائطه في المستقبل، لتبدل الموضوع، و أمّا الثاني فبأنّ الضرر لو حصل فانّه إنّما حصل باقدامه، و قد قرر في محله أنّ الضرر الناشي من الاقدام غير ممنوع، مضافا إلي أنّه لا يصحّ إلّا علي الكشف، فالأقوي عدم اعتبار هذا الشرط.

المسألة الثالثة: هل يعتبر كون المجيز جائز التصرف حال العقد؟ و ذكر لها صورتان:

إحداهما: كونه لأجل وجود بعض الموانع مع كونه مالكا، كما إذا كان محجورا أو كانت العين مرهونة.

ثانيتهما: كون عدم جواز التصرف لأجل عدم الملكية.

أمّا الأولي: فالكلام فيه تارة في صحة العقد، كما إذا باع المحجور بعض أمواله، أو باع الراهن العين المرهونة، ثم ارتفع الحجر، أو أجاز الغرماء، أو فك الرهن، أو أجاز المرتهن.

و الحق فيه صحة البيع و سائر التصرفات علي ما مرّ في الفضولي، بل هو أولي منه، لصدور العقد عن المالك و استناده إليه، و المانع حق الغير و قد زال.

و اخري من جهة حاجة إلي الإجازة، و الأقوي عدم الحاجة إليها، لما عرفت من أنّ الإجازة إنّما يحتاج إليها إذا صدر العقد من الفضولي، و المفروض صدورها هنا من المالك، فاستناد العقد إليه حاصل من دون حاجة إلي إجازة جديدة.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 324

و هل يجري نزاع الكشف و النقل هنا؟ يحكي عن المحقق الثاني قدّس سرّه مع توغله في مسألة الكشف نفي القول به هنا.

و قد

أصرّ المحقق النائيني قدّس سرّه في بعض كلماته في جريانه هنا أيضا، و ذكر فيه كلاما طويلا لا يهمنا نقله لأنّه رجع عنه في بعض حواشيه علي منية الطالب «1».

و الانصاف أنّ عدم جريانه في أمثال المقام ظاهر، لأنّ اسقاط حق الرهانة و شبه ذلك ليس إلّا من قبيل ارتفاع المانع، فلو فرض كون إنشاء العقد مقيدا بزمان صدوره كان ارتقاع المانع فيما بعد سببا لتأثيره من زمن ارتفاعه، و لا معني لتأثيره فيما قبل.

أما الثاني: أعني ما إذا تجددت الملكية للمجيز بعد أن لم تكن. و قد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه لها «ثمان صور» لأنّ غير المالك إمّا أن يبيع لنفسه، أو يبيع لمالكه، و علي كل تقدير إمّا أن يكون انتقال الملك إليه بسبب اختياري كالبيع، أو قهري كالإرث، فهذه أربع صور و علي كل تقدير إمّا أن يجيز بعد ما ملك، أو لا يجيز بل يقتصر علي البيع السابق.

ثم قال: إنّ العمدة صورتان: ما إذا باع ثم ملك ثم أجاز، و ما لو باع ملك و لم يجز، و الاولي جعلهما مسألة واحدة، و هي ما إذا باع ثم ملك، و أمثاله ما إذا باع شيئا معينا شخصيا يكون ملكا آخر لنفسه غفلة أو ادعاء، ثم ملكه بالبيع أو الارث أو غير ذلك، و مثله ما إذا باع مالك النصاب جميع العين التي تعلق بها الزكاة، ثم أدي الزكاة من مال آخر، فملك حصة الفقراء.

و فيه خلاف بين الأعلام، فذهب بعضهم إلي صحته مطلقا، و بعض إلي فساده كذلك و بعضهم إلي الصحة بشرط الإجازة، و مقتضي القواعد الصحة لجريان ما مرّ في باب الفضولي فيه، كما لا يخفي.

نعم، يجري فيه

الإشكال السابق في بيع الغاصب لنفسه و أنّه كيف يقصد البيع لنفسه مع أنّه ليس بمالك، و هذا مناف لحقيقة المعاوضة؟

______________________________

(1). منية الطالب، ج 1، ص 362.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 325

و قد مرّ توجيهه من طريق الملكية الادعائية، فهنا أيضا كذلك، و قد يكون ملكية وهمية كما إذا تخيل ملكيته لجميع النصاب، غافلا عن حكم الزكاة و حصة الفقراء و علي كل حال لا مانع من تحقيق القصد إلي حقيقة البيع هنا، فتدخل تحت عمومات الصحة، و لكن بالنسبة إلي غير الغافل و الغاصب المدعي للمالكية مشكل.

هذا و قد صرّح في التذكرة بعدم صحة مثل هذا البيع حيث قال: «لا يجوز أن يبيع عينا لا يملكها و يمضي ليشتريها و يسلمها، و به قال الشافعي و أحمد، و لا نعلم فيه خلافا، ثم استدل للبطلان ببعض الروايات الآتية و بالغرر» «1».

هذا و قد ذكر في وجه البطلان امور كثيرة عمدتها:

الروايات المتظافرة الواردة في المسألة، من طريق العامة و الخاصة و هي مستفيضة جدّا أمّا من طريق الخاصة:

1- ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يجيئني يطلب المتاع، فأقاوله علي الربح ثم أشتريه فأبيعه منه، فقال: أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك؟ قلت: بلي، قال: فلا بأس به» (الحديث) «2».

2- و ما رواه الحسين بن يزيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليه السّلام في مناهي النبي صلّي اللّه عليه و آله قال:

«و نهي عن بيع ما ليس عندك، و نهي عن بيع و سلف» «3».

3- و ما رواه خالد بن الحجاج قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يجي ء فيقول: اشتر

هذا الثوب و أربحك كذا و كذا، قال: أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟ قلت: بلي، قال:

لا بأس به، إنّما يحل الكلام و يحرم الكلام» «4».

4- و ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل أتاه رجل فقال:

ابتع لي متاعا لعلي أشتريه منك بنقد أو نسية فابتاعه الرجل من أجله. قال: ليس به بأس

______________________________

(1). تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 463.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 7 من أبواب أحكام العقود، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). المصدر السابق، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 326

إنّما يشتريه منه بعد ما يملكه» «1».

5- و ما رواه منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في رجل أمر رجلا يشتري له متاعا فيشتريه منه، قال: لا بأس بذلك إنّما البيع بعد ما يشتريه» «2».

6- و ما رواه معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: يجيئني الرجل يطلب «مني» بيع الحرير و ليس عندي منه شي ء فيقاولني عليه و أقاوله في الربح و الأجل حتي نجتمع علي شي ء، ثم أذهب فأشتري له الحرير فأدعوه إليه» «3».

7- و ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العينة، فقلت: يأتيني الرجل فيقول: اشتر المتاع و اربح فيه كذا و كذا فأراوضه علي الشي ء من الربح، فنتراضي به، ثم أنطلق فأشتري المتاع من أجله لو لا مكانه لم أرده، ثم آتيه به فأبيعه، فقال: ما أري بهذا بأسا لو هلك منه المتاع قبل

أن تبيعه إيّاه كان من مالك، و هذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه منك بعد ما تأتيه و إن شاء رده فلست أري به بأسا» «4».

8- و ما رواه منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يريد أن يتعين من الرجل عينة فيقول له الرجل: أنا أبصر بحاجتي منك فاعطني حتي أشتري فيأخذ الدراهم فيشتري حاجته ثم يجي ء بها إلي الرجل الذي له المال فيدفعه إليه فقال: أ ليس إن شاء اشتري و إن شاء ترك و إن شاء البائع باعه و إن شاء لم يبع قلت:

نعم قال عليه السّلام: لا بأس» «5».

9- و ما رواه منصور بن حازم أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل طلب من رجل ثوبا بعينة، قال ليس عندي، هذه دراهم فخذها فاشتر بها، فأخذها

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 8.

(2). المصدر السابق، ح 6.

(3). المصدر السابق، ح 7.

(4). المصدر السابق، ح 9.

(5). المصدر السابق، ح 11.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 327

فاشتري بها ثوبا كما يريد ثم جاء به أ يشتريه منه فقال: أ ليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ قلت: بلي قال عليه السّلام: إن شاء اشتري و إن شاء لم يشتر قلت: نعم قال: لا بأس به» «1».

10- و ما رواه يحيي بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قال لي: اشتر هذا الثوب و هذه الدابة و بعينها أربحك فيها كذا و كذا قال: لا بأس بذلك»

الحديث «2».

إلي غير ذلك ممّا يدلّ أو يشعر بذلك من طريق الأصحاب، و يدلّ عليه أيضا من طريق الجمهور ما يلي:

1- ما رواه حكيم بن حزام قال: «نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن أبيع ما ليس عندي أو أبيع سلعة ليست عندي» «3».

2- و عنه أيضا: قال «قلت يا رسول اللّه الرجل يطلب مني البيع و ليس عندي أفا بيعه له، فقال: لا تبع ما ليس عندك» «4».

3- ما رواه عباس قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لعتاب ابن اسيد: إني قد بعثتك إلي أهل اللّه و أهل مكة فأنهاهم عن بيع ما لم يقبض» «5».

4- و ما رواه حكيم بن حزام أيضا قال: «قلت يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أني رجل اشتري بيوعا فما يحل منها و ما يحرم؟ قال: يا بن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتي تقبضه» «6».

و مثله رواية اخري عنه بتفاوت يسير.

و مقتضي هذه الروايات- التي وردت بعضها في العين الشخصية و بعضها في بيع الكلي حالا إذا انضم بعضها ببعض- أنّه لا يجوز بيع العين الشخصية التي لا يملكها بل الكلي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 12.

(2). المصدر السابق، ح 13.

(3). السنن الكبري للبيهقي، ج 5 باب «من قال لا يجوز بيع العين الغائبة»، ص 267.

(4). المصدر السابق، ص 267.

(5). المصدر السابق، باب بيع ما لم يقبض، ص 312.

(6). المصدر السابق، ص 312.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 328

الذي لا يوجد عنده ثم يمضي ليشتريه و يقبضه، و لكن لا مانع من المقاولة من قبل و تعيين الثمن و المثمن و غير

ذلك بشرط أن يكون كل من طرفي المعاملة مختارا في قبول ما تقاولا عليه و تركه، بمعني عدم الإلزام من ناحية واحد منهما، و النهي عن البيع بدون القبض في غير واحد منهما لعله كناية عن النهي بدون تمام الملكية و التسلط علي الاقباض.

كلام المحقق الأنصاري في هذه الأخبار:

لقد قسّم قدّس سرّه هذه الأخبار إلي ما هو عام يدل علي النهي عن بيع ما ليس عنده مطلقا، و إلي أخبار خاصة تدل علي بطلان البيع قبل تملك المتاع، ثم أجاب عن الجميع بأنّ غاية ما يستفاد منها هو عدم ترتب الأثر المقصود من النقل و الانتقال علي هذا البيع، لا أنّه لغو و باطل من رأس و لا يصح حتي مع الإجازة المالية، و بالجملة هي دالة علي عدم تمام البيع قبله لا علي كون الإنشاء كالعدم ثم أورد علي نفسه بأن مقتضي التعليل الوارد في رواية خالد بن الحجاج «1» بأن المشتري إن شاء أخذ و إن شاء ترك، ثبوت البأس بمجرّد لزومه علي الاصيل، و هذا محقق فيما نحن فيه بناء علي أنّه ليس للأصيل ردّ العقد قبل اجازة المالك.

فأجاب عنه: بأنّ المراد منه أنّ اللزوم من الطرفين ممنوع.

و قد رجع عن هذا البيان ثانيا و قال: بأنّ اطلاق النهي عن مثل هذا البيع دليل علي فساده مطلقا، و إلّا كان اللازم النهي عنه مقيدا بعدم لحوق الإجازة.

فالانصاف أنّ ظاهرها عدم وقوع البيع قبل التملك و عدم ترتب أثر الإنشاء عليه و لو مع الإجازة، ثم رجع عن هذا ثالثا إلي الإثبات، نظرا إلي أنّ كثيرا من هذه الأخبار وردت في البيع الكلي مع أنّ المذهب جواز بيع الكلي قبل تملك شي ء من مصاديقه (سلفا

______________________________

(1). راجع وسائل

الشيعة، ج 12، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 329

و حالا) فيقوي في النفس حملها، و كذا حمل ما هو ظاهر في البيع الشخصي علي الكراهة أو علي التقية، نظرا إلي أنّ المنع عن بيع الكلي حالا من عدم وجوده عنده مذهب جماعة من العامة، مستندين في ذلك إلي عمومات النهي عن بيع ما ليس عنده.

ثم استقر رأيه الشريف رابعا و أخيرا علي المنع، و قال: إنّ الاعتماد علي هذا المقدار من الوهن في رفع اليد عن الروايتين الواردين في البيع الشخصي، و عموم المفهوم في التعليلات الواردة في البيع الكلي، مع حمل موردها علي التقية خلاف الانصاف.

فالأقوي العمل بالروايات و الفتوي بالمنع (يعني في خصوص بيع العين الشخصية) انتهي ملخصا.

تحقيق في معني «ما دل علي النهي عن بيع ما ليس عنده»:

أقول: هذه الروايات في الحقيقة علي طوائف:

1- كثير منها مطلقة تشمل الشخصي و الكلي، مثل ما رود من طرق العامة «1».

2- ما دلّ علي الشخصي فقط، مثل رواية خالد بن الحجاج «2» و يحيي بن الحجاج «3».

3- و بعضها في خصوص الكلي، و هو ظاهر أكثرها كما مرّ.

4- ما يكون ظاهر في الوكالة في الاشتراء لصاحب المال ثم شراؤه منه بعد ذلك مثل ما رواه منصور «4».

5- و هناك طائفة اخري تدل علي جواز بيع ما ليس عنده إذا كان كليا، مثل ما رواه اسحاق بن عمار و عبد الرحمن ابن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الصحيح «5». و فيه

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، ج 12، الباب 7 من أبواب أحكام العقود، ح 5.

(2). المصدر السابق، الباب 8 من أبوا بأحكام العقود، ح 4.

(3). المصدر السابق، ح 13.

(4). المصدر السابق، ح 12.

(5). المصدر السابق،

الباب 7 من أبواب أحكام العقود، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 330

التصريح بجواز البيع حالا كليا، و كونه أولي من بيع السلف، و كذلك ذيل رواية اخري من عبد الرحمن بن الحجاج و هي أيضا صحيحة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يجيئني يطلب المتاع فأقاوله علي الربح ثم أشتريه فأبيعه منه، فقال: أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك؟ قلت: بلي قال: لا بأس به» الحديث «1» و لكنها متهافتة صدرا و ذيلا و كأن ذيلها من رواية اخري منه، وقع بينها و بين رواية اخري من ناحية الراوي، فراجع و تأمل فيها.

و ما رواه أبو الصباح الكناني «2» و ظاهره وقوع البيع من قبل.

و الجمع بين هذه الروايات يمكن بأحد وجوه:

1- الحمل علي الكراهة بالنسبة إلي الجميع.

2- الحمل علي التقية بالنسبة إلي الجميع.

3- التفصيل بين الشخصي و الكلي فيحرم في الشخصي و يكره في الكلي.

4- الحمل علي عدم الإجازة.

و الأقوي هو التفصيل لا سيما أنّ البيع الشخصي كذلك غير متعارف بين أهل العرف و العقلاء و مناف لحقيقة المعاوضة، لأنّ بيع المتاع الخاص الذي هو ملك غيره لنفسه- مع أنّه ليس بغاصب- غير معمول إلّا بظن الملكية، فشمول ادلة الصحة له غير معلوم من أصله، مضافا إلي أنّ القدرة علي التسليم الذي هو من شرائط الصحة غير حاصل غالبا.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّما يكون ذلك في مورد يعلم أو يظن علي قدرته علي اشترائه و تسليمه إلي المشتري الأوّل، أو يقال: إن القدرة علي التسليم ناظرة إلي نفي صحة بيع الطير في الهواء و السمك في الماء و شبه ذلك، لا مثل ما نحن فيه.

هذا و

لكن لا ينبغي ترك الاحتياط في البيع الكلي أيضا إذا لم يكن مصداقه عنده لكثرة الروايات الدالة علي منعه من طرق الفريقين كما لا يخفي.

و العجب من السيد قدّس سرّه في تعليقاته، حيث قال: إن غالب هذه الروايات و إن كانت واردة في البيع الكلي، إلّا أنّ الظاهر منها صورة كون المبيع هو الشخص الذي يشتريه بعد

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، ج 12، الباب 7 من أبواب أحكام العقود، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 331

ذلك كما يظهر من قوله عليه السّلام: «أ رأيت لو وجد هو بيعا أحب إليه … » و مثل هذه الصورة ليس المذهب جوازه … بل هو يرجع في الحقيقة إلي الشخصي لا الكلي في الذمة «1».

قلت: هذا أمر غير متعارف جدّا لا داعي إليه بوجه، بل الأمر دائر بين بيع العين الشخصية ممّا يتعلق به الرغبة، أو الكلي في الذمّة و يكون ما يعطيه بعد ذلك من قبيل المصداق له، و ما ذكره من الشاهد لا دلالة فيه علي مقصوده.

و العجب أيضا من المحقق النائيني قدّس سرّه حيث أنكر ظهور أكثر هذه الإخبار في البيع الكلي إلّا خصوص صحيحة معاوية بن عمار، الواردة في بيع الحرير «2» مع أن ظهورها فيه ممّا لا ينبغي أن ينكر.

هذا و لو قلنا بالجواز أمكن القول بعدم الحاجة إلي الإجازة، لأنّ البيع قائم بين شخصين كل منهما أصيل و ليس فضوليا من قبل مالكه حتي يحتاج إلي اجازته، فلو قلنا بمعقولية مثل هذه المعاملة و كان عالما بحقيقة الحال، لا الجاهل الذي يظن أنّ مال الغير ماله، تمّت المعاقدة من الجانبين، فتدبّر جيدا.

الجواب عن الإشكالات الستة:

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي

الإشكالات الستة التي ذكرها شيخنا العلّامة قدّس سرّه في مكاسبه حكاها عن بعض مقاربي عصره (و هو المحقق التستري قدّس سرّه صاحب المقابيس).

أولها: أنّه قد باع مال الغير لنفسه فلا يصح، و أجاب عنه هو قدّس سرّه بأنّه مرّ الجواب عنه و ربّما لا يجري فيه بعض ما ذكر هناك من الإشكالات (إي في بيع الغاصب لنفسه) و كلامه هذا اشارة إلي أنّ الإجازة توافق ما قصده المتعاقدان، لأنّ الفضولي قصد البيع لنفسه ثم أجازه كذلك بعد ما ملكه.

أقول: الانصاف أنّ هذا الإشكال وارد عليه مع عدم كونه غاصبا لما عرفت من أن هذا

______________________________

(1). حاشية المكاسب، للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 359.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 7.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 332

البيع مع العلم بانّه مال الغير غير متعارف بين أهل العرف و العقلاء بل مناف لحقيقة المعاوضة، فكيف يبيع إنسان مال غيره لنفسه! بخلاف الغاصب الذي يدعي كونه مالكا و يري السلطنة علي الشي ء دليلا علي مالكيه، فبطلان بيع من باع ثم ملك في العين الشخصية مطابق للقاعدة، و موافق للنصوص التي عرفت، و تصحيح قصد المعاوضة فيه مشكل جدّا، إلّا أن يكون غاصبا أو مشتبها و هما خارجان عن كلماتهم.

ثانيها: إنّ من شرائط البيع الملكية و القدرة علي التسليم، و هما حاصلان في الفضولي دون المقام، لعدم ملكية البائع و لا قدرته، و المالك و إن كان قادرا أو لكنه لم يجز البيع.

و بالجملة فرق بين الفضولي و محل الكلام، لأنّ المالك حين العقد هو الذي يجيز في زمن الإجازة، بخلافه هنا.

و اجيب: بأنّه إنّما تعتبر الملكية و القدرة علي التسليم عند تمام

البيع و حصول النقل و الانتقال، و أمّا عند العقد فلا يعتبر ذلك.

ثالثها: أنّه علي القول بالكشف يلزم خروج العين عن ملك البائع قبل دخوله في ملكه.

رابعها: يلزم منه كون المال الواحد ملكا لمالكه الأوّل و المشتري في زمان واحد لأنّ مقتضي صحة العقد الأوّل هو كونه ملكا للمشتري من حين العقد الأوّل، و مقتضي صحة العقد الثاني كونه ملكا لمالكه إلي زمن العقد الثاني، ففي الفاصلة بين العقدين يكون ملكا للمالك الأوّل و للمشتري كليهما.

خامسها: يلزم منه الدور، فانّ الإجازة إذا كشف عن ملكية المشتري من زمن العقد الأوّل كان المال ماله فلا يصح البيع الثاني إلّا باجازته، فلا بدّ من إجازة المشتري في البيع الثاني حتي يصح و يلزم، مع أنّه لا يكون مالكا إلّا باجازة الفضولي الذي يكون مالكا بعد البيع الثاني، فكون المشتري مالكا يتوقف علي إجازته، و كون الفضولي مالكا يتوقف علي إجازة المشتري، فكل من الإجازتين تتوقف علي الآخر!

هذا و الجواب عن الجميع و ما أشبهه واحد، و هو أنّه قدّس سرّه زعم أنّ الكشف لو قلنا به إنّما يكون من زمن العقد الأوّل، مع أنّه لا يكون إلّا زمن العقد الثاني، لعدم كونه مالكا قبله، فكيف يؤثر إجازته في مالكية غيره؟ و الكشف في كل مقام إنّما يكون بمقدار قابلية

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 333

المحل، كما هو ظاهر، و لو حصل الملك زمن العقد الثاني لا يلزم شي ء من المحذورات الثلاث و لا غيرها ممّا هو متصور في المقام، و في الحقيقة هذه الإشكالات من قبيل اللازم و الملزوم و ليست امورا متعددة روحها دخول المال في ملك المشتري في الفاصلة بين العقدين. هذا أولا.

و يرد

عليها ثانيا: أنّه يلزم ذلك للكشف الحقيقي دون الكشف الحكمي و محاذير الكشف الحقيقي كثيرة غير منحصرة بهذه الامور.

سادسها: إن البيع الثاني فسخ للبيع الأوّل، لأنّ فعل المنافي مصداق للفسخ كما ذكر في العقود الجائزة، فإذا تصرف في الموهوب تصرفا منافيا للهبة كان مبطلا لها، فإذا باع المالك المال للفضولي هنا فقد أبطل العقد الأوّل.

و اجيب عنه: بأنّ الفسخ لا يكون إلّا بإنشاء الردّ، و هو هنا غير موجود، و التصرف المنافي إنّما يكون مفوتا لمحل الإجازة بالنسبة إلي المالك فقط، لا بالنسبة إلي الفضولي، فكأنّ المالك سد باب العقد الأوّل بالنسبة إلي نفسه بسبب العقد الثاني، و أمّا بالنسبة إلي الفضولي فلا.

أقول: و الانصاف أنّه إذا فرضنا أنّ العقد الأوّل قصد وقوعه للمالك، و المفروض أن المالك قدم علي العقد الثاني فقد أبطله بالمرة، لا بالنسبة إلي نفسه فقط، لعدم تعدد المالك في وقت واحد، و إن شئت قلت: إنّ العقد لا يقصد وقوعه لكلي المالك الذي يصدق في كل زمان علي شخص (تارة المالك الأوّل و اخري الفضولي الذي صار مالكا بعده) بل لمصداقه الخارجي، و المفروض أنّه لم يكن هناك إلّا المالك حين العقد، فإذا تصرف تصرفا منافيا لم يبق محل للإجازة.

فهذا الإشكال و الإشكال الأوّل واردان.

و أمّا الإشكالات الأربعة الاخري فيمكن دفعها و الحمد اللّه.

بقي هنا امور:
1- إذا قلنا بصحة هذه المعاملة، فهل تحتاج إلي الإجازة اللاحقة بعد ملكيته للمبيع

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 334

أو يكفي رضاه السابق و عقده مع المشتري من قبل؟ الذي يظهر من العلّامة قدّس سرّه في التذكرة من دعوي الإجماع علي البطلان فلعل مراده ما لو لم تلحقه الإجازة، بل اكتفي بمجرد الشراء كما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه في جامع الشتات، و لكن حكي عن ظاهر الدروس

و الصيمري و الفاضل المقداد الصحة بدون الحاجة إلي الإجازة، و يلوح عن الشهيد الثاني قدّس سرّه في هبة المالك، و رجّحه فخر الدين في الايضاح فيما حكي عنهما.

و غاية ما يمكن الاستدلال به لاشتراط الإجازة قاعدة السلطنة، و توقف حلية المال علي الرضا و طيب النفس، و أمّا رضاه أو طيب نفسه السابق فغير مفيد. لأنّه لم يكن مالكا حينئذ، مضافا إلي شمول الأخبار الناهية عن بيع ما ليس عنده، و إلي فحوي ما ورد نكاح العبد و أنّه لو لا سكوت الموالي لا يكفي مجرّد عتق العبد بعد ذلك و صيرورته مالكا لأمر نفسه «1».

لكن يمكن الاستدلال علي الصحة بدونها بأنّه عقد البيع لنفسه و تمّ اسناده إليه، بانيا علي اشترائه و اقباضه، فيشمله عمومات وجوب الوفاء.

و القول بأنّه لا يصح بيع مال الغير، لازمه الحكم بالفساد من أصله، و المفروض أنا صححنا البيع، فلو قلنا بالصحة لم يكن هناك بد من القول بعدم الحاجة إلي الإجازة اللاحقة، لأنّه تمّ اسناد العقد إليه، و أمّا الأخبار الناهية فقد عرفت دلالتها علي الفساد مطلقا، و رواية العبد ناظرة إلي تصحيح النكاح من أول أمره حتي لا يحتاج إلي القول بالصحة بعد عتقه، بل لعله دليل علي بطلان عقده حتي مع الإجازة لمكان سؤاله عن تجديد النكاح الظاهر في لزوم إجراء الصيغة الجديدة.

نعم، يمكن أن يقال: ظاهر أدلة طيب النفس، طيبها بعد صيرورته مالكا، فلا بدّ هنا من طيب النفس بعد الملكية و لو لم نقل بلزوم إنشاء الإجازة.

إن قلت: هو غير مأمور بالوفاء قبل الملك فيستصحب، و المقام مقام استصحاب حكم المخصص لا غير.

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، ج 14، الباب 26 من أبواب نكاح

العبيد و الاماء، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 335

قلت: بل هو مأمور بالوفاء بمقتضي عقده إذا قدر عليه، و إنّما يمنعه عدم القدرة قبل كونه مالكا، كما إذا منعه مانع مع كونه مالكا، فإذا حصلت القدرة وجب عليه الوفاء.

و بالجملة إذا صححنا أصل هذا العقد، فلا مناص من الحكم بعدم الحاجة إلي الإجازة اللاحقة فتأمل، و لعمري أنّ هذا أيضا ممّا يشهد علي فساد هذه المعاملة من أصله، لأنّ الالتزام به مشكل.

2- قد ورد في الروايات الباب الإشارة إلي «العينة»

، و هي نوع من المعاملة و لا بدّ تحقيق معناه للإحاطة بمفاد أخبار الباب فنقول:

قال في لسان العرب «العين و العينة الربا، و عين التاجر أخذ بالعينة أو أعطي بها و العينة السلف».

و قال أيضا: «و ذلك إذا باع من رجل سلعة بثمن معلوم إلي أجل، ثم اشتراه منه بأقل من المثمن الذي باعها به، و قد كره العينة أكثر الفقهاء.

فان اشتري التاجر بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم و قبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر ممّا اشتراه، إلي أجل مسمي، ثم باعها المشتري من البائع الأوّل بالنقد بأقل من الثمن الذي اشتراها به، فهذه عينة و هي أهون من الاولي و أكثر الفقهاء علي اجازتها علي كراهة من بعضهم لها.

و إن اشتراها المتعين بشرط أن يبيعها من بايعها الأوّل، فالبيع فاسد عند جميعهم و سميت عينة لحصول النقد لطالب العينة و ذلك أن العينة اشتقاقها من العين، و هو النقد الحاضر» «1».

و قال ابن قدّامة في المعني: «روي عن أحمد قال، العينة أن يكون عند الرجل مال فلا يبيعه إلّا بنسية».

و قال الطريحي في مجمع البحرين: «و العينة بالكسر السلعة، و قد جاء ذكرها

في الحديث، و اختلف في تفسيرها فقال: ابن ادريس في السرائر:

______________________________

(1). لسان العرب، ج 13، ص 306.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 336

العينة معناها في الشريعة هو أن يشتري سلعة بثمن مؤجل يبيعها بدون ذلك الثمن نقدا ليقضي دينا عليه لمن قد حل له عليه و يكون الدين الثاني، و هو العينة، من صاحب الدين الأوّل مأخوذ من العين و هو النقد الحاضر.

و قال في التحرير: العينة، الجائزة.

و قال: في الصحاح هي السلف» «1».

و في المنجد: بيع العينة مقابلة انتظار الثمن.

و في الحدائق تعرض للمسألة و قال: قد تكاثرت الروايات بذكر العينة و لم أقف في الكتب الفقهية علي من تعرض لذكرها بهذا العنوان إلّا ما سيأتي من نقل كلام لابن ادريس في السرائر.

ثم ذكر كلام ابن الأثير في النهاية، و ذكر المعنيين اللذين ذكرهما في لسان العرب «2».

(و كأنّ لسان العرب أخذ منه).

و قد أشار إليه في الجواهر أيضا في باب النقد و النسية فراجع «3».

أقول: و يظهر من ذلك كله:

أولا: إن أصل العينة من العين، و هو النقد الحاضر، و تسمية النسية أو السلف بالعينة لأنّ صاحبها يتوسل إليه حتي يحصل له النقد الحاضر.

و ثانيا: إنّ ذلك كان منهم تارة للحصول علي متاع حاضر بدون رد ثمنه فعلا فكان الرجل يأتي التاجر الذي لا يكون المتاع عنده فيشتري التاجر المتاع له نقدا بثمن ثم يبيعه نسية منه بثمن أزيد في مقابل الأجل، بل قد لا يشتري التاجر بنفسه و يعطي الثمن النقد للمشتري و يوكله في اشتراء المتاع له، ثم إذا اتي به باعه بأكثر من ثمن النقد إلي أجل، كما يظهر من روايتي منصور بن حازم «4».

______________________________

(1). مجمع البحرين، ج 6،

ص 288 مادة العين.

(2). الحدائق الناضرة، ج 20، ص 93.

(3). جواهر الكلام، ج 23، ص 109.

(4). راجع وسائل الشيعة، ج 12، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 11 و 12.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 337

و حاصل هذا جواز البيع إلي أجل بثمن أكثر من ثمن النقد، و هذا لا أشكال فيه، نعم إذا لم يكن المتاع عند التاجر فلا يبيع ما ليس عنده، بل يشتري أولا ثم يبيعه منه.

و اخري كان بعنوان الفرار من الربا، بأن يكون الزيادة في ضمن بيع، فيأتي من يريد القرض عند التاجر، فيشتري له متاعا نقدا بثمن و يبيعه منه نسية بأكثر، ثم يأخذ المشتري المتاع و يأتي البائع الأوّل فيبيعه له بعين الثمن الذي اشتري التاجر منه أو بأقل، و يأخذ النقد لحاجة، و هذا إن كان بيعا حقيقيا جدّيا من الطرفين كان صحيحا، و إن كان صورة فرارا عن الربا فهو غير صحيح، و إليه يشير ما ورد في رواية حسين بن منذر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «1»، و ما في رواية اسماعيل بن عبد الخالق «2»، فراجع و تدبّر جيدا.

3- لو باع معتقدا لكونه غير جائز التصرف، ثم بان كونه جائز التصرف، فهل تصح المعاملة

بدون الإجازة أو معها أم لا؟ و هذه المسألة و إن جعلها في المكاسب ثالث المسائل في المقام، إلّا أنّ الظاهر أنّها مغايرة لما سبق بالمرة، و أمر مستقل بنفسه، و لقد أجاد المحقق الايرواني قدّس سرّه حيث قال: هذه المسألة أجنبية عن مسائل «عدم كون العاقد جائز التصرف حال العقد، ثم صيرورته جائز التصرف» فذكرها في عدادها بلا وجه «3».

و علي كل حال فقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه لها صورا أربع:

1- أن يبيع للمالك فانكشف كونه وليا عنه.

2- أن يبيع

لنفسه فانكشف كونه وليا.

3- أن يبيع للمالك فانكشف كونه مالكا.

4- أن يبيع لنفسه فانكشف كونه مالكا.

و في الحقيقة ترجع هذه الصور إلي صورتين:

إحداهما: أن يكون تصرفه مطابقا للواقع و ما هو الجائز له، كما إذا باع لنفسه و كان مالكا، أو باع لغيره و كان وليا أو وكيلا و لكن لا يعلمه.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 5 من أبواب أحكام العقود، ح 4.

(2). المصدر السابق، الباب 8 من أبواب أحكام العقود، ح 14.

(3). حاشية المكاسب، للإيرواني قدّس سرّه، ص 138.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 338

ثانيتهما: أن لا يكون مطابقا لما هو الجائز له واقعا، كما إذا باع لنفسه و كان وليا، أو باع لغيره و كان مالكا.

أمّا الصورة الثانية، ففي الواقع خارجة عن محل الكلام و مندرجة في سائر أقسام الفضولي، لأنّ المروض أن ما قصد غير موافق للواقع و مجرّد كونه وليا أو مالكا مع عدم مطابقة ما قصده لما وقع لا يخرجه عن الفضولي، فقد أنشأ عقدا لم يكن مجازا فيه، أو لم يكن راضيا به، فيجري فيه ما جري في الفضولي.

و قد مثلوا له بما إذا باع مال أبيه لأبيه بظن حياته فبان كونه ميتا و المال ماله، و ذكروا فيه أقوالا:

1- صحة من دون حاجة إلي الإجازة كما عن غير واحد.

2- صحة مع الحاجة إلي الإجازة كما عن المحقق و الشهيد الثاني قدّس سرّه.

3- البطلان كما احتمله العلّامة قدّس سرّه في النهاية و الشهيد قدّس سرّه في قواعده فيما حكي عنهما، و لكن الوسط هو الأوسط.

أمّا صحته، فلوقوع الإنشاء صحيحا، و قصد الغير لا يضره كما مرّ عكسه فيما إذا باع مال الغير لنفسه ثم اذن الغير، و

أمّا حاجته إلي الإجازة، فلأنّه لم يطب نفسه بخروج المال عن ملكه، بل طاب نفسه بخروجه عن ملك أبيه، فهو أيضا من قبيل الفضولي و إن لم يكن من الفضولي حقيقة.

و الذي ينبغي الكلام فيه هي الصورة الاولي بأن وافق قصده للواقع مع عدم علمه به، فهل تخرج بذلك عن الفضولي بحيث لا تحتاج إلي إجازة جديدة، أو لا؟ و ذلك كما إذا قصد البيع باعتقاد عدم كونه وكيلا فبان كونه وكيلا، أو قصد لنفسه باعتقاد عدم كونه مالكا فبان كونه مالكا. ففي الشق الأوّل كان صحيحا لازما لصدوره عن أهله و وقوعه في محله، و مجرّد اعتقاد عدم الوكالة لا يضر بشي ء من أركان العقد، و إن شئت قلت: الوكالة ليست أمرا قصديا، بل هي أمر واقعي و هو حاصل علي الفرض.

و قد أوجب الإجازة هنا السيد قدّس سرّه في تعليقته، و هو ضعيف لا وجه له يعتد به بعد ما عرفت.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 339

و كذا الشق الثاني، لكنه موقوف علي الإجازة، لأنّ الرضا لا بدّ أن يكون متعلقا بخروج المال عن ملكه، و المفروض عدم كونه كذلك، بل رضي بخروجه عن ملكه غيره في الواقع، و لذا قد يبيعه بثمن بخس و لو كان ملك نفسه لم يكن كذلك.

و إن شئت قلت: أنّه و إن قصد البيع لنفسه و كان المال له واقعا و لكنه كان يظن حياة أبيه مثلا و أنّ المال ماله و أنّه يبيع هذا المال غصبا عليه، فالرضا الباطني و طيب النفس المعتبر في التجارة غير حاصل هنا، إلّا أن يكون في الباطن راضيا علي كل تقدير فتدبّر.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 341

الكلام في أحكام «العقد المجاز»
اشارة

و المراد منه العقد الواقع عليه الإجازة، و الكلام فيه يقع في مسائل:

المسألة الاولي: لا ينبغي الشك في اعتبار جميع الشرائط المعتبرة في غير الفضولي فيه، لعدم فرق من هذه الناحية، إنّما الكلام في أنّه هل يشترط أن تكون جميع الشرائط موجودة حين العقد، أو حين الإجازة، أو حينهما و إن فقدت في البين، أو من حين العقد إلي تمام الإجازة؟ (هنا احتمالات أربعة).

هذا و الانصاف أن يفرق بين هذه الشرائط فانّها مختلفة جدّا، لكل منها حكمه فهي علي طوائف:

1- ما هو من شرائط الإنشاء كالصراحة أو الظهور، و التنجيز و قصد الإنشاء، و الماضوية علي القول به و غير ذلك، و كلام في اعتبارها في نفس العقد.

2- ما هو من شرائط العوضين كالمعلومية و الملكية و الطلقية و غير ذلك، فلا يصح البيع علي المجهول، و لا علي الخمر و شبهها ممّا لا يملك، و لا الوقف، و لا ما لا يقدر علي تسليمه كالسمك في البحار و الطير في الهواء و غير ذلك.

3- منها ما يكون شرطا في المتعاقدين كالعقل و البلوغ و عدم السفه و الحجر و شبهها.

أمّا الاولي: فقد عرفت وضوح اعتبارها.

و أمّا الثانية: فلو كان شي ء مجهولا في ظرف إنشاء العقد، معلوما عند الإجازة، فالظاهر عدم صحة العقد الواقع عليه لظهور أدلة اعتبار العلم في ذلك. سواء قلنا بالكشف أو النقل، و إن كان الحال أظهر علي الكشف، لا سيما أنّ المفروض كون أحد الطرفين أصيلا، بل لو

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 342

فرض الفضولي من الجانبين كان العلم أيضا معتبرا حال العقد، للنهي عن بيع الغرر، اللّهم إلّا أن يقال: إن الإنشاء و إن كان غرريا و لكنه

يكفي زواله عند الإجازة فتأمل.

و هكذا إذا كان الثمن أو المثمن خمرا أو شبهها عند العقد و صار خلا عند الإجازة أو كان عصيرا طاهرا عند العقد، ثم صار خمرا نجسا بين العقد و الإجازة ثم صار خلا عند الإجازة فالظاهر بطلان العقد في جميع هذه الصور لظهور اعتبار الشرائط من حين العقد إلي زمان الإجازة.

أمّا علي النقل فواضح، لكون الإجازة أحد ركني العقد و لازمه كون المبيع خمرا بين زماني الإيجاب و القبول، و أمّا علي الكشف فكذلك أيضا لأنّها شرط علي كل حال و لا يتمّ العقد إلّا بها و إن كشفت عن تأثير العقد من زمن حصوله فتأمل.

و كذا لو كان مالا موقوفا خاصا عند العقد، فخرج عنه لبعض الجهات التي ذكروها في باب الوقف فصار طلقا عند الإجازة، لظهور الأدلة في ذلك، و كذا لو كان طلقا عند العقد ثم صار وقفا ثم صار طلقا حين الإجازة، لأنّ ظاهر أدلة الشرائط ثبوتها من حين الإيجاب إلي تمام القبول.

نعم إذا لم يقدر علي تسليمه كالعبد الآبق فباعه بدون ضميمة مع علمه بالقدرة علي تسليمه حين الإجازة، أو مع عدم العلم ثم صار مقدورا من باب الاتفاق فانّه لا يبعد صحته، لأنّ المستفاد من أدلة اعتبارها بملاحظة مناسبة الحكم و الموضوع هو اعتبارها لتحقق الوفاء بالقبض و الاقباض و إن كان لا يخلو عن إشكال.

و هكذا لو كان المشتري للمصحف كافرا حين العقد ثم أسلم حين الإجازة، أو كان مسلما حينه ثم ارتد بعده ثم أسلم و تاب حين الإجازة.

و الحاصل: أنّ الدليل في جميع ذلك اطلاق أدلة هذه الشرائط، الشاملة من حين ابتداء العقد إلي تمام الإجازة، من غير فرق بين القول

بالكشف أو النقل، إلّا ما كان منصرفا إلي خصوص حال النقل و الانتقال فيكون حين الإجازة علي النقل و بعد تمام العقد علي الكشف الحقيقي.

و أمّا الثالثة: أعني شرائط المتعاقدين فيجري فيها الوجوه الأربعة السابقة من اعتبارها

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 343

حين العقد، أو حين الإجازة، أو حينهما مع عدم اعتبار ما بينهما، أو جميع ذلك أي من أول زمن العقد إلي آخر زمن الإجازة.

أمّا النسبة إلي العاقد الفضولي فالظاهر أنّه لا يعتبر فيه ما عدا العقل لأنّه في الحقيقة مجر للصيغة، فكونه سفيها في الامور المالية، أو محجورا، أو صبيا لم يضره بعد علمه و قدرته علي إنشاء العقد، فإذا اجازة المالك بعد ذلك كان صحيحا.

أمّا المالك فقد يكون جامعا للشرائط حين العقد فقط من العقل و البلوغ و الرشد و عدم الحجر و غير ذلك، و اخري حين الإجازة فقط، و ثالثة في الحالتين من دون وجود الصفات أو بعضها في الاثناء في الموارد التي يتصور فيها ذلك.

و قد مر بعض الكلام فيها في بعض المباحث السابقة و أنّه هل يشترط وجود المجيز، أي من يصلح للإجازة حال العقد أم لا؟

و نزيدك هنا أنّه لا ينبغي الشك في لزوم تحقيق هذه الشرائط عنده الإجازة بناء علي كونها أحد أركان العقد، و لو علي القول بالكشف، لما عرفت من أنّ عدم اعتبارها مطلقا و كون تمام العلة هو العقد الفضولي ممّا لا يمكن التفوه به و إن كان يظهر من بعض العبارات.

و أمّا لزومها في الأثناء (أي بين العقد و الإجازة) و كذا حال العقد مبني علي استفادة الاطلاق من ادلتها، و قد عرفت سابقا عدم الدليل عليه، و أنّه يكفي اجتماعها

في المجيز حال الإجازة علي جميع الأقوال، و لكن يظهر من بعض كلمات صاحب الجواهر قدّس سرّه اعتبار وجودها إجمالا من أول زمن العقد إلي آخر زمن الإجازة، حتي أنّه ذكر مسألة تزويج الصغيرين المصرح به في النصوص بأنّه علي خلاف القاعدة و قال بعدم التعدي منه إلي غيره و لكن التحقيق ما عرفت من عدم الدليل علي هذا الاشتراط.

المسألة الثانية: هل يعتبر في العقد المجاز أن يكون معلوما بالتفصيل للمجيز أم لا؟ فيه كلام بينهم.

و الجهالة قد تكون بخصوصيات المبيع و الثمن مع معلومية كونه بيعا، و اخري يكون في

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 344

جنس العقد و نوعه كالبيع و الصلح و غيرهما، و ثالثة يكون الشك و الجهل في أصل وقوع العقد فيجيزه علي تقدير وقوعه.

قد يقال بالصحة في الجميع كما في تعليقة السيد قدّس سرّه نظرا إلي أنّ الإجازة كالتوكيل و قد حقق في محله أنّه يجوز مطلقا إلّا في الأمر المبهم أو المردد كأن يقول: وكلتك في شي ء، أو في التصرف في مالي، أو في أحد الأمرين من البيع أو النكاح، مع إرادة الترديد لا التخيير، فكما لا يضر الجهل في التوكيل، فكذا في الإجازة، و أمّا في الجهل بأصل وقوع المعاملة فهو أيضا صحيح لمنع كونه راجعا إلي التعليق، و علي فرضه لا دليل علي بطلانه مطلقا، و العمدة فيه الإجماع و هو غير شامل لما نحن فيه (انتهي ملخصا).

و قد يفصل بين الجهل بخصوصيات العوضين و العقد، و الجهل بأصل المعاملة نظرا إلي أن الأوّل كالوكالة، و هي جائزة مع الجهل بالخصوصيات، و الثاني كالتعليق في الإنشاء، و هو باطل.

و قد يقال بالبطلان في الجميع كما ذكر

المحقق النائيني قدّس سرّه، لأن المفروض وقوع المعاملة و صدورها و أنّ الإجازة من قبيل الايقاعات، و لا يجوز التعليق في الايقاع قطعا (انتهي ملخصا).

أقول: لا بدّ قبل كل شي ء من تحليل حقيقة الإجازة و مغزاها، و هل هي شي ء كالوكالة، كما ذكره السيد قدّس سرّه أو من قبيل الايقاع كما ذكره المحقق النائيني قدّس سرّه أو كأحد ركني العقد كما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

الحق هو الأخير، و ذلك لما عرفت من أنّ المجيز يكون بالاجازة أحد طرفي العقد، و أن عقد الفضولي مجرّد إنشاء يستعد لانتسابه إلي المالك، و بالاجازة يتمّ الأمر، و أمّا الوكالة فانّما تكون قبل العمل، و لا معني للتوكيل بعده، بل لا يبقي محل إلّا للتنفيذ، و كذلك لا معني لجعل الإجازة من الايقاعات لعدم كونها أمرا مستقلا برأسها، مع أنّ كل ايقاع مستقل كالإبراء و شبهه، و المفروض أن العقد لم يتمّ بعد و إنّما يتمّ بعد ورود الإجازة و بالاجازة يكون المجيز أحد طرفي العقد.

و الحاصل: أنّ الإجازة في الحقيقة تنفيذ للعقد الواقع، فهي أشبه شي ء بالايجاب و لا يجوز تعليقها بالمجهول.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 345

و لنعم ما قاله المحقق الأصفهاني قدّس سرّه في توجيه الفساد مع الجهل بقوله: «وجه الفساد مع عدم العلم التفصيلي، كون الإجازة أحد طرفي المعاهدة الحقيقية و إن لم تكن أحد طرفي العقد الإنشائي، و يدل عليه أنّ المخاطب بالوفاء هو العاقد بالحقيقية، و ما لم تتحقق الإجازة من المالك لا يخاطب بالوفاء، فيعلم أنّه باجازته يكون عقدا، عليه الوفاء «1» هذا أولا.

و أمّا الثاني: فانّ الجهل غير المضر في الوكالة إنّما هو في الخصوصيات لا في

النوع، فلا يجوز الترديد بين البيع و الإجازة أو النكاح و الطلاق (بعنوان الترديد)، نعم يجوز التعميم بأن يجعل له وكالة مطلقة تشمل البيع و الإجازة و غيرهما، و في الحقيقة هذا وكالة في امور كثيرة. كل ذلك لعدم لدليل عليه، و اطلاقات أدلة الوكالة ناظرة إلي إمضائها عند العقلاء كما في سائر المقامات، لا ما يرونه باطلا، و السر في ذلك مسيس الحاجة إلي التوكيل في امور لا يمكن ذكر خصوصياتها من قبل.

و لقد أجاد العلّامة قدّس سرّه في التذكرة حيث قال: «لا يشترط في متعلق الوكالة و هو ما و كل فيها أن يكون معلوما من كل جهة، فان الوكالة إنّما جوزت لعموم الحاجة و ذلك يقتضي المسامحة فيها» «2» و هذا لا يشمل الترديد بين أنواع المعاملات كما لا يشمل الإجازة في الفضولي.

و بالجملة فانّ الشارع أمضي ما عند العقلاء هنا، و القدر المتيقن عندهم هو ما إذا جهل خصوصيات نوع من المعاملة لا ما كان هناك ترديد بين أنواع المعاملات.

في ترتب العقود

المسألة الثالثة: إذا ترتبت العقود الفضولية علي المثمن أو الثمن أو عليهما، فان أجاز الجميع فلا كلام، و أمّا إن أجازة واحدا منهما، فالمشهور أنّه إن كان العقد الواقع علي المثمن صح و ما بعده، و إن كان العقد الواقع علي الثمن صح و ما قبله.

______________________________

(1). حاشية كتاب المكاسب، للمحقق الاصفهاني قدّس سرّه، ص 180.

(2). تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 118.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 346

و الوجه فيه ظاهر، فانّ المثمن إذا صح بيعه كان ما بعده من البيوع صحيحة لا ما قبله، لعدم الإجازة، و أمّا الثمن إذا صح بيعه لا يمكن إلّا بصحة ما قبله، و لازمه

فساد ما بعده لأنّه أخذه ثمنا، فلم يقبل العقود الاخري الواقعة عليه.

و هذا هو المسمي عندهم بترامي العقود أو ترتبها، أو تعاقب الأيدي.

و المسألة إن فرضت بسيطة فان وقعت عقود مترتبة علي خصوص المثمن، أو علي خصوص الثمن فحكمها إجمالا واضح كما عرفت، و الأوّل كما إذا باع الفضولي دارا بألف نقدا، و باعه المشتري بألفين إلي سنة، و باعه المشتري الثاني بثلاث آلاف إلي سنتين، فان أجاز المالك العقد الأولي صحّ جميع ما بعده لأنّه انتقل إلي المشتري فكان بيعه صحيحا، و كذلك بالنسبة إلي إجازة الثانية و الثالثة (هذا مع قطع النظر عن مسألة من باع ثم ملك، و مع قطع النظر مسألة الكشف و النقل).

و الثاني كما إذا باع الفضولي العبد بفرس، ثم باع هو نفسه الفرس بدرهم ثم باع الدرهم برغيف، ثم باع الرغيف بعسل (و جميع هذا المعاملات الواقعة علي الثمن وقعت من الفضولي واحد بخلاف المعاملات الواقعة علي المثمن فانّها تقع من اشخاص متعددة).

فحينئذ إذا أجاز المالك أحد هذا العقود فصحة يتوقف علي صحة ما قبله حتي يتمّ له أخذ هذا الثمن.

و الحاصل: إنّ الكلام في العقود الطولية الواقعة علي المثمن أو الثمن تارة يقع من اشخاص متعددين (و ذلك في ترتب العقود علي المثمن) و اخري من شخص واحد (و ذلك في ترتبها علي الثمن).

و لكن قد تتركب العقود الواقعة عليهما، فتزيد أمثلته اغلاقا، و إن كان حكمها ظاهر، و قد فرض الشيخ قدّس سرّه مثال الجميع فيما يلي:

«باع الفضولي عبد المالك بفرس، ثم باعه المشتري بكتاب، ثم باعه الثالث بدينار.

و باع الفضولي الفرس بدرهم، ثم الدرهم بالرغيف، ثم الرغيف بالعسل.

ثم باع الثالث الدينار بالجارية.

و باع صاحب الدرهم

(الذي وصل إليه في مقابل رغيفه) الدرهم بحمار».

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 347

و هي مركبة عن أربع صور (صورة بسيطة للمثمن و اخري للثمن، و صورتان مركبتان)، صورته الواضحة كما يلي:

العبد/ بالفرس/ ثم العبد بالكتاب/ ثم العبد بالدينار

العبد/ بالدرهم/ بالحمار/ بالجارية

العبد/ بالرغيف/

العبد/ بالعسل/

و غرضه من هذا المثال فرض جميع صور التركيب فيه.

و لنعد إلي حكم المسألة و أنّه هل يجوز إجازة واحد منها حتي يتمّ ما أشرنا إليه من صحته و ما بعده في المثمن، و صحته و ما قبله في الثمن أو لا؟

قال في مفتاح الكرامة: «و أمّا أنّه للمالك تتبع العقود و رعاية مصلحته فلا ريب فيه، و قد نص عليه في نهاية الأحكام و التذكرة و الايضاح و الدروس أنّه إن جاز عقدا علي المبيع صح و ما بعده خاصة، و في الثمن منعكس، و قد اعتراض عليهما المحقق الثاني قدّس سرّه، و تبعه الشهيد الثاني قدّس سرّه في جامع المقاصد و المسالك و الروضة بأن ذلك غير مستقيم» «1».

و الذي يظهر من جامع المقاصد أنّ عمدة الإشكال في المسألة من ناحيتين:

أولا: من ناحية المثمن فان الحكم بصحة العقود التالية بناء علي الكشف واضح لأنّ كل واحد منهم باع ما كان له، و إن قلنا بالنقل يأتي فيه وجوه ثلاثة مضي ذكرها:

1- البطلان لتعذر الإجازة، لانحصارها في المالك.

2- الصحة بدون الحاجة إلي الإجازة.

3- توقفه علي إجازته.

و في ناحية الثمن إنّما يصح عليه و ما قبله من باب حمل كلام المسلم علي الصحة، و لكنه يستقيم إذا جرت العقود علي الثمن، ثم علي ثمنه، فلو جرت علي الثمن الأوّل خاصة، مرارا (كما إذا جرت علي خصوص الفرس مرارا) فأجاز واحدا منها

يصح و ما بعده لا ما قبله (انتهي ملخص كلامه).

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 191.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 348

و تبعه في ذلك صاحب الجواهر قدّس سرّه و ذكر ما يقرب من كلامه فراجع «1».

أقول: الاولي أن يقال: أمّا بالنسبة إلي العقود الواقعة علي المثمن مرارا فعلي القول بالكشف فواضح، و علي القول بالنقل دخل ما بعده في مسألة من باع ثم ملك، فان قلنا بالصحة بدون الحاجة إلي الإجازة، كانت الجميع تامة، و إن قلنا الإجازة لازمة كان اللازم إجازة كل واحد منهم علي الترتيب، بأن يجيز بايع العبد بالكتاب (بعد إجازة المالك الاصلي) ثم يجيز بايع العبد بالدينار، و لو اجازوا في زمن واحد لم يكف، و حيث أنا ابطلنا مسألة من باع ثم ملك في الأعيان الشخصية فالبطلان هنا ثابت.

و أمّا في ناحية الثمن، فالحكم بصحة العقود المترتبة المتقدمة إنّما يتم من باب الملازمة العرفية، لأنّ المفروض أنّ المالك عالم بها إجمالا، فيجيزها حتي يتمّ له الثمن الذي أجازه، و لا دخل له بمسألة من باع ثم ملك كما هو ظاهر، و أمّا الاستثناء الذي ذكره جامع المقاصد من أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا لم تجر البيوع علي الثمن مرارا فهذا خارج عن محط كلامهم، لأنّه علي هذا الفرض عومل مع الثمن معاملة المثمن، فحينئذ يتمّ فيه و فيما بعده لا فيما قبله، فتدبّر جيدا فان المقام من مزال الاقدام.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 292.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 349

في أحكام الرد
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأولي: بما ذا يتحقق الردّ؟
اشارة

الرّد قد يكون بالقول، و اخري بالفعل، و هو علي خمسة أقسام:

أحدهما: ما يكون بفعل قائم مقام القول و يقصد به إنشاء الرد، كما إذا أخذ المتاع من يد المشتري أو الفضولي بهذا القصد.

ثانيها: إذا لم يقصد إنشاء الردّ به، و لكن كان متلفا للموضوع حقيقة أو حكما، و الأوّل:

كما إذا كان طعاما و أكله المالك، و الثاني: كما إذا استولد الامة لعدم بقاء محل للإجازة، لأنّه بحكم المتلف، و العجب من بعض الأعاظم حيث ذكره بعنوان المثال لما لم يخرج عن قابلية الإجازة، مع أنّ الاستيلاد مانع عن البيع و اجازة الفضولي.

ثالثها: ما إذا أخرجه عن ملكه بالبيع و الوقف و الهبة أو أمثالها.

رابعها: إذا لم يخرجه عن ملكه و لكن استوفي منافعه بالإجازة و نحوها.

و خامسها: التصرفات غير المخرجة عن الملك و لا المتلفة مع كونها منافية للإجازة، كتعريضه للبيع، فيصير مع القسم الأوّل ستة أقسام.

و قبل ذكر أحكامها لا بدّ من التنبيه علي أمر، و هو أنّ هذا البحث فرع بطلان عقد الفضولي بالرّد، إما لأنّه مجمع عليه، أو لأنّ العقد يخرج عرفا عن صلاحية الإجازة بعد وقوع الردّ لعدم بقاء معني المعاقدة، و لكن قد عرفت الإشكال في كليهما سابقا، و أنّ الإجماع غير ثابت، و أن المعاقدة باقية ما دام الأصيل باق علي تعهده و التزامه، و لم يكن

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 350

هناك فصل طويل يخرجه عن صدق العقد، و لذا ورد الحكم بالصحة في صحيحة «محمد بن قيس» بعد إجازة المالك، مع وقوع الإجازة فيها بعد الرّد قطعا، و القول بأن الرد في مورد الصحيحة غير ثابت بعد وقوع تلك المنازعات من صاحب

الوليدة عجيب!

و العجب من المحقق اليزدي قدّس سرّه حيث قال في بعض كلماته في المقام: قد مرّ سابقا أن الرّد موجب لانفساخ العقد بحيث لا يقبل الإجازة بعد ذلك لعدم بقاء المعاقدة و المعاهدة معا «1».

مع أنّه ذكر في بعض كلماته السابقة ما هذا لفظه: الحق أنّ الردّ من المالك غير مانع من الإجازة بعد ذلك و لا يوجب الفسخ انتهي «2».

اللّهم إلّا أن يكون ناظرا إلي مذهب المشهور فتأمل.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي أحكام هذا الاقسام (بناء علي تأثير الرد) فنقول و منه جل سبحانه التوفيق و الهداية:

أمّا الرد القولي فيكفي فيه كل ما يكون صريحا أو ظاهرا في إنشاء الفسخ و الرد، و ما يظهر من كلام شيخنا الأنصاري قدّس سرّه من اعتبار الصراحة لا نعرف له وجها بعد كفاية الظهور العرفي في جميع أبواب العقود و الايقاعات، و هكذا.

و أمّا الرد الفعلي، فعلي أقسام:

القسم الأوّل: من الفعلي، أعني الفعل القائم مقامه.

القسم الثاني: أعني العمل الموجب للإتلاف إذا كان مع العلم بالعقد الواقع من الفضولي فهو لا ينفك عن الردّ، نعم لو كان مع الجهل فقد يتوهّم أنّه لا يمنع عن الإجازة بناء علي الكشف، لأنّ إجازته و الحال هذه يكشف عن بطلان تصرفاته المتلفة، فيضمن العين المتلفة.

و فيه: إن الكشف فرع صحة الإجازة، و الإجازة فرع كونه مالكا، مع أنّ الاتلاف يوجب فناء موضوع الملك كما لا يخفي.

______________________________

(1). حاشية المكاسب، للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 173.

(2). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 351

و منه يظهر الكلام في القسم الثالث، فانّه إذا أخرجه عن ملكه بالبيع و الوقف و الهبة فهو ليس مالكا لشي ء حتي يجيز عقده و لو علي

القول بالكشف الحقيقي.

و القول بأنّ صحة البيع فرع عدم صحة الإجازة، و عدم صحتها فرع صحة البيع، فيوجب الدور، كما تري، فان هذا الكلام بعينه جار في صحة الإجازة، لأنّ صحتها فرع بطلان البيع، و بطلانه فرع صحة الإجازة، و الانصاف أنّ البيع أمر صادر عن أهله واقع في محله، فلا وجه للقول بفساده، فتبطل محلّ الإجازة.

القسم الرابع: و هو ما إذا تصرف في العين تصرفا غير مخرج من الملك كإجارة الملك، فمن الواضح أنّه غير مانع عن الإجازة، لأن الملك ينتقل إلي المشتري مسلوب المنافع في مدّة الإجازة، أمّا علي النقل فواضح، و أمّا علي الكشف فيمكن القول بكون الإجازة فاسدة.

القسم الخامس: أعني ما إذا تصرف فيه تصرفات غير متلفة و لا ناقلة لها و لا لمنافعها بل تصرف فيها تصرفا منافيا للإجازة كجعلها معرضا للبيع و شبهه، و قد قسمها شيخنا الأعظم قدّس سرّه أيضا علي قسمين: لأنّه أمّا يقع في حال التفات المالك إلي وقوع العقد من الفضولي علي ماله، أو في حال عدم الالتفات، ثم جعل القسم الأوّل كافيا في مقام الردّ و استدل له بأمور ثلاثة.

1- صدق عنوان الردّ عليه الوارد (هو أو شبهه) في روايات نكاح العبد بغير إذن مولاه.

2- خروج المالك بذلك عن كونه بمنزلة أحد طرفي العقد.

3- فحوي الإجماع المدعي علي حصول فسخ ذي الخيار بالفعل كالوطي و العتق و البيع.

و اختار في القسم الثاني عدم الكفاية لعدم صدق عنوان الردّ و عدم منافاته للإجازة اللاحقة، ثم استشكل فيه و في ما قبله ببعض الإشكالات ثم رجع و مال إلي التفصيل المذكور.

أقول: و الإنصاف أنّه إن كان فعل المنافي بقصد إنشاء الفسخ و الرد- كما يظهر من

بعض كلماته قدّس سرّه و استظهره السيد المحشي من بعض كلماته- فهو، و إلّا فالحق عدم الكفاية

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 352

و عدم تمامية شي ء من الأدلة المذكورة، أمّا صدق الرّد فممنوع بدون قصد الإنشاء، و أمّا الروايات الواردة في نكاح العبد، فالظاهر أنّها ناظرة إلي مجرّد كون اختيار الفسخ بيد المولي، لا غير، و أمّا الفسخ في العقود الجائزة بمجرّد الفعل من دون قصد الإنشاء فهو أيضا أول الكلام، و ما ذكره المحقق النائيني قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام أنّ قياس أحدهما علي الآخر مع الفارق لعدم الجامع بينهما «1». محل إشكال، لأنّ الظاهر أنّهما من واد واحد و أنّ اللازم في كليهما قصد إنشاء الفسخ، و الظاهر أنّ هنا أمرين قد يقع الخلط بينهما:

«أحدهما» حكم المسألة في مقام الثبوت، و الأقوي لزوم قصد الإنشاء في الرد، و «الثاني» حكم مقام الإثبات و أنّ مجرّد الفعل المنافي هل يدل علي قصد الردّ أم لا؟ و الظاهر دلالته عند الالتفات و عدم دلالته مع الجهل بوقوع العقد أو الغفلة عنه.

هذا و قد أورد بعض المحققين في حاشيته علي المكاسب علي شيخنا الأنصاري قدّس سرّه بما حاصله، إن ما ذكره هنا ينافي ما ذكره في جواب صاحب المقاييس في الدليل السادس حيث صرّح بأن الفعل المنافي لمعني العقد ليس فسخا، خصوصا مع عدم التفاته إلي وقوع عقد الفضولي، غاية ما في الباب أن الفعل المنافي لمعني العقد مفوت لحمل الإجازة (إذا كان بيعا صحيحا أو شبهه) فإذا فرض وقوعه صحيحا فات محل الإجازة، نعم لو فرضنا قصد المالك من ذلك الفعل فسخ العقد بحيث يعد فسخا فعليا لم يبعد كونه كالإنشاء بالقول

«2».

قلت: هذا أيضا ممّا يؤكد أن مراد الشيخ في المقام من الفعل المنافي مع الالتفات، الفعل الذي قصد به إنشاء الفسخ لا غير، فراجع و تأمل.

بقي هنا فروع:

أشار إليها السيد قدّس سرّه في تعليقاته لا بأس بذكرها و الإشارة إلي أدلتها:

الأوّل: إذا ردّ قبل تحقق العقد، فقال مثلا: كل ما تبيع من أموالي فهو مردود عندي،

______________________________

(1). منية الطالب، ج 1، ص 287.

(2). حاشية المكاسب، للمحقق الأصفهاني قدّس سرّه، 186.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 353

فالظاهر عدم تأثيره، و مثله ما إذا نهي عنه، لأنّ الفسخ قبل العقد لا معني له، و توهّم خروجه بذلك من أن يكون أحد طرفي العقد و لو في المستقبل، ظاهر البطلان، لأن هذا لا يمنع عن صحة إنشاء الفضولي فيما بعد.

هذا و لكن قد عرفت أنّ الفسخ فيما بعد أيضا لا يؤثر في ابطال العقد، لأنّ المالك لم يكن أحد طرفي العقد حتي يفسخه و يبطله، و مجرّد الإنشاء الحاصل من الفضولي ليس تصرفا في ماله حتي يكون له حق ابطاله، فلذا قلنا إن العقد يبقي بحاله ما لم يفسخه الأصيل.

الثاني: إذا وقع العقد من ناحية المالك، أو وقع من ناحية الفضولي فأجاز أصل العقد، و لكن قبض الفضولي الثمن و لم يصدر منه عمل غير قبض الثمن، فرد المالك هذا القبض و لم يقبله، ثم أجازه بعد ذلك، فالظاهر صحة هذا القبض، و ذلك لأنّه ليس القبض من العقود حتي يبطل بالرد، اللّهم إلّا أن يكون ذلك من الفضولي بعنوان إنشاء الوكالة لنفسه ثم قبوله، و هو كما تري.

الثالث: هل للفضولي فسخ العقد قبل لحوق الإجازة من المالك أو لا؟ أو فيه تفصيل بين الغاصب البائع بالخيار إذا فسخه،

و بين غيره؟ وجوه اختار السيد قدّس سرّه الثاني ثم احتمل الثالث.

و الانصاف هو الثاني، لأنّ الفضولي بالنسبة إلي العقد الصادر منه كالأجنبي لا حق له علي شي ء، و إن هو إلّا كمن يكون وكيلا في عقد، فليس له فسخه و لا تصرف آخر سواء كان هو الغاصب أو غيره، لأنّ دعوي الملكية من ناحية الغاصب لا أثر له و ليس زائدا علي الفضولي كما لا يخفي.

الرابع: إذا باع الفضولي بالخيار، ثم قال المالك فسخت بالخيار، فهل هو إجازة للفضولي أولا و فسخ له ثانيا، أو يفصل بين القول بالكشف الحقيقي و غيره؟ قال رحمة اللّه بالأخير لاختلاف متعلقي الإجازة و الفسخ، لأنّ الإجازة تعلقت بالعقد من حين صدور العقد، و الفسخ من حين وقوعه، و لا مانع من إنشائهما بلفظ واحد إذا كان المتعلقان مختلفين، أمّا علي النقل أو الكشف الحكمي فلا، لاتحاد زمانهما و لا يعقل كون شي ء واحد سببا للنقيضين.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 354

قلت: الاولي أن يعلل بأنّه أمر لغو، و إلّا يمكن رفع التناقض باختلاف زمانهما آنا ما كما يقال به في أمثال المقام، فتدبّر.

هذا مضافا إلي أنّ هذا البحث قد يتصور ثبوتيا و اخري إثباتيا، و لا يخفي عليك مقتضي البحث في كل منهما.

الخامس: لا يعتبر في الرد العلم بالخصوصيات، لعدم الدليل علي اعتبار العلم به، نعم يشكل الأمر في الإجازة نظرا إلي لزوم الغرر و الجهل لصيرورته بالاجازة أحد طرفي العقد.

السادس: لو اختلفا في وقوع الرد حتي لا تكون الإجازة مؤثرة، و عدمه، فلا شك أنّ القول قول المالك لأنّه منكر لوقوع الردّ، و علي المدعي إثباته، و لو انعكس الأمر فرد المالك و ادعي المشتري

أنّه أجاز قبل ذلك، فلا أثر للردّ، فالقول قول المالك أيضا لأنّه منكر للإجازة.

نعم إذا كانت الإجازة ثابتة و ادعي المالك أنّه ردّ قبلها، أو كان الرد ثابتا و ادعي أنّه أجاز قبله فالقول قول المشتري الأصيل، لأنّه منكر و الأصل عدم وقوع غير ما ثبت.

المسألة الثانية: من أحكام الرد

إنّه إذا لم يجز المالك فان كان الثمن أو المثمن عند صاحبهما الأصلي فلا كلام، و أمّا إن وقع القبض و الاقباض من أحد الجانبين أو من كليهما، فيقع الكلام تارة في حكم رجوع المالك إلي الفضولي الغاصب، و اخري في حكم رجوعه إلي المشتري، و ثالثة في حكم رجوع المشتري الأصيل إلي الفضولي الغاصب، و قد جعل شيخنا الأعظم قدّس سرّه للأخير صورتين أيضا، إحداهما: رجوع المشتري إليه بالثمن، و الثاني: رجوعه بما اغترم للمالك، فتكون للمسألة صور أربع:

1 و 2- إذا ردّ المالك فلا إشكال في جواز رجوعه إلي الغاصب لو كان المال عنده، و إلي المشتري كذلك، لأنّ الملك ملكه، و لو تلف عند الأول أو الثاني كان عوضه عليه،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 355

و كذا عوض جميع المنافع المستوفاة و غير المستوفاة، بل الزيادات العينية التي فاتت يده، كما إذا سمن الحيوان عنده ثم زال السمن، لدخوله تحت عنوان «علي اليد ما أخذت» و هذا ظاهر.

3- رجوع المشتري علي الغاصب بالثمن له صورتان: صورة بقائه و صورة تلفه، و كل منهما إمّا مع علمه بكون البائع غاصبا أو مع جهله، أمّا في صورة الجهل فلا كلام، لضمان البائع الغاصب و عدم وجود ما يمنع منه، و إنّما دفعه المشتري إليه اغترارا بظاهر حاله من ملك المثمن.

و أمّا في صورة العلم فان كان باقيا

يجوز استرداده كما صرّح به جمع من المحققين.

و عن الشهيد الثاني قدّس سرّه المسالك أن في حكم الثمن أقوال ثلاثة:

1- ما عليه المشهور من عدم الرجوع به عليه باقيا كان أو تالفا.

2- الرجوع مطلقا كما عن المحقق في بعض تحقيقاته.

3- التفصيل بالتلف و عدمه، فيرجع علي الثاني دون الأوّل، و ظاهر المسالك، الميل إليه «1».

و استدل شيخنا الأعظم قدّس سرّه للرجوع في صورة وجوده، في المكاسب بأمرين:

«أحدهما»: إن مجرّد التسليط عليه لو كان موجبا لانتقاله لزم الانتقال في البيع الفاسد أيضا (مع عدم القول به).

«ثانيهما»: إنّ المشهور هو الحكم بصحة البيع لو أجاز المالك، مع أن تملك الغاصب للثمن موجب لفوات محل الإجازة.

و أورد المحقق النائيني قدّس سرّه علي الأوّل بالفرق بين العقد الفاسد من جهة الثمن و غيره (كأنّه أراد بذلك عدم الرجوع في العقد الفاسد إذا كان من جهة الثمن).

و علي الثاني أنّه يمكن القول بعدم قابلية مثل هذه الصورة للإجازة، ثم استدل هو نفسه بأن التسليط علي الثمن ليس أزيد من الهبة المجانية، فيجوز الرجوع فيه «2».

______________________________

(1). راجع الحدائق الناضرة، ج 18، ص 394.

(2). منية الطالب، ج 1، ص 29.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 356

أقول: أصل الدليل في المقام هو ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في أول كلامه و هو «أنّه لم يحصل منه ما يوجب انتقاله عنه شرعا».

و هو كذلك، لأنّ الانتقال إلي الغير يحتاج إلي أسباب لا يوجد أحدها في المقام، و مجرّد التسليط علي الثمن بانيا علي كونه عوضا عن المبيع لا يوجب تملكه له، و ليس من قبيل الهبة المجانية قطعا، بل قد لا يرضي المشتري باعطائه فلسا مجانا بل يحسب الثمن حسابا دقيقا، و يناقش

البائع الغاصب الفضولي مثل ما يناقش البائع الأصيل، من دون أي فرق بينهما، و مجرّد علمه بعدم كونه مالكا لا ينافي ذلك بعد بنائه علي الملكية الادعائية، أو انتظاره لإجازة المالك الأصيل لو لم يكن غاصبا، و بالجملة الحكم بعدم جواز رجوعه في الثمن هنا عجيب و إن كان يظهر من جماعة من الأصحاب و لا نري له وجها وجيها.

أمّا إذا كان تالفا فالمحكي عن المشهور عدم جواز الرجوع بل ادّعي عليه الإجماع، قال العلّامة قدّس سرّه في «المختلف»: «إذا رجع المالك علي المشتري العالم (بالغصب) لم يكن للمشتري الرجوع علي الغاصب البائع، لأنّه علم بالغصب فيكون دافعا للمال بغير عوض، و اطلقوا القول في ذلك، و الوجه عندي التفصيل، و هو أنّ الثمن إن كان موجودا قائما بعينه كان للمشتري الرجوع به، و إن كان تالفا فالحق ما قاله علماؤنا» «1».

و قال في «الرياض»: «و هل يرجع بالثمن؟ المشهور، لا، مطلقا، لأنّه دفعه إليه و سلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه، فيكون بمنزلة الاباحة، و قيد الشهيد الثاني بما إذا تلف، أمّا مع بقائه فله الرجوع لأنّه ماله … ثم قال: بل يحتمل الرجوع مطلقا، وفاقا للمحقق في بعض فتاواه، لتحريم تصرف البائع فيه لأنّه أكل مال بالباطل فيكون مضمونا عليه» «2».

و قال المحقق القمي قدّس سرّه في «جامع الشتات»: «إنّما الكلام في رجوع المشتري إلي البائع … و كيف كان فالأظهر الرجوع مع بقاء العين، و عدمه مع التلف» «3».

______________________________

(1). مختلف الشيعة، ص 170.

(2). رياض المسائل، ج 1، ص 513.

(3). جامع الشتات، ج 1، ص 157.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 357

أقول: يظهر من هذه الكلمات أنّ المشهور عندهم عدم جواز الرجوع

مطلقا كما يظهر منها أن عدم الرجوع عند التلف أكثر قائلا منه عند البقاء، و يظهر أيضا أن العمدة عندهم هو تسليط البائع الغاصب علي الثمن مع العلم بعدم حق له فيه، فليس هنا إجماع تعبدي (لو ثبت الإجماع) بعد استنادهم إلي هذا، و للشهيد الثاني قدّس سرّه هنا كلام ينبغي الإشارة إليه، و هذا نصه:

قال: (بعد قول المحقق قدّس سرّه قيل لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب): «هذا هو المشهور بين الأصحاب، مطلقين الحكم فيه، الشامل لكون الثمن باقيا و تالفا، و وجهوه بكون المشتري قد دفعه و سلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه له، فيكون بمنزلة الاباحة و هذا يتمّ مع تلفه، أمّا مع بقائه فلا، لأنّه ماله و هو مسلط عليه بمقتضي الخبر، و لم يحصل منه ما يوجب نقله عن ملكه، لأنّه إنّما دفعه عوضا عن شي ء لا يسلم له، لا مجانا، فمع تلفه يكون إذنا فيه، أمّا مع بقائه فله أخذه، لعموم النصوص الدالة علي ذلك».

ثم اضاف إليه: «بل يحتمل الرجوع بالمثمن مطلقا، و هو الذي اختاره المصنف في بعض تحقيقاته، لتحريم تصرف البائع فيه، حيث إنّه أكل مال بالباطل، فيكون مضمونا عليه، و لو لا ادعاء العلّامة قدّس سرّه في التذكرة الإجماع علي عدم الرجوع مع التلف لكان في غاية القوة، و حيث لا إجماع عليه مع بقاء العين فليكن القول به متعينا … إلي أن قال- بعد الايراد علي نفسه بأن اللازم إمّا جواز تصرفه أو جواز الرجوع إليه مطلقا-: قلنا: هذا الالتزام في محله، و من ثم قلنا إن القول بالرجوع مطلقا متجه لكن لما اجمعوا علي عدمه مع التلف كان هو الحجة، و حينئذ نقول إن

تحقق الإجماع فالأمر واضح، و إلّا فمن الجائز أن يكون عدم جواز رجوع المشتري العالم عقوبة له حيث دفع ماله معاوضا به علي محرم (انتهي محل الحاجة) «1».

و يظهر منه أنّه قدّس سرّه كان بالنسبة إلي دعوي الإجماع بين الخوف و الرجاء فلم تكن نفسه تطمئن إليه، كما أنّ مخالفته كان صعبا عليه.

______________________________

(1). مسالك الافهام، ج 1، ص 172.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 358

و لكن صاحب الحدائق قدّس سرّه أورد علي الإجماع بما قضي عليه، حيث قال: «أمّا اعتماده علي الإجماع في أمثال المقام فهو مردود بما حققه في رسالة صلاة الجمعة كما قدمنا ذكره في كتاب الصلاة في باب صلاة الجمعة، حيث إنّه قد مزقه تمزيقا و جعله حريقا» «1».

و العجب من المحقق النائيني قدّس سرّه حيث قال: في بعض كلماته في مقام «أمّا في صورة التلف فالاقوي هو التفصيل بين العلم و الجهل، فلو كان عالما فقد ظهر في مبحث ترتب العقود أنّه ليس له الرجوع إليه بالمثل أو القيمة، و أمّا لو كان جاهلا فله الرجوع كما هو المشهور» «2».

و قال السيد قدّس سرّه بالضمان إلّا في بعض الموارد النادرة تأتي الإشارة إليها.

المسألة الثالثة: ما استدل به لعدم ضمان الغاصب:
اشارة

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عمدة ما استدل به لعدم الضمان هو امور:

الأوّل: ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنّ منشأ الضمان أحد أمرين، و شي ء منهما غير حاصل في المقام:

1- قاعدة علي اليد.

2- قاعدة الاقدام.

أمّا الأوّل: فقد استثني منه ما إذا كانت اليد أمينة، كما في الوديعة و الإجازة و العارية، و ما نحن فيه أولي منها، لتسليط المالك إيّاه علي التصرف فيه و اتلافه.

و كذا الثاني: لعدم اقدامه علي الضمان بعد علمهما بعدم كون

الغاصب مالكا للمتاع، ثم أتعب نفسه الزكية في الدفاع و الذب عنه في مقابل الإشكال المعروف و هو أن تسليم الثمن للغاصب إنّما كان لبنائهما علي كونه مالكا، و به صححنا البيع الفضولي الصادر منه، و لكن لم

______________________________

(1). الحدائق الناضرة، ج 18، ص 397 و كلامه هذا إشارة إلي ما ذكره في ج 9، ص 368 حيث قال قولهم:

الإجماع حجة إنّما هو مشي مع المخالف …

(2). منية الطالب، ج 1، ص 290.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 359

يأت بشي ء يروي الغيل، و كأنّه أراد بذلك توجيها علميا منطقيا لما حكي عن المشهور أو ادعي الإجماع عليه من «عدم الضمان».

و الظاهر أنّ هذا الإشكال لا جواب له و أنّ القبض و الاقباض في أمثال المقام يقع مبنيا علي مالكية الغاصب لا مجانا، و هذا أمر واضح، و هكذا الكلام في العقد الفاسد مع علم المتبايعين بالفساد فانّه إنّما يقع القبض و الاقباض بعنوان صحة العقد إمّا خطأ أو بناء منهما عليها.

و ما ذكره قدّس سرّه من الفرق بين المقامين من حيث إنّ التضمين الحقيقي حاصل في العقد الفاسد، لأنّ المال ماله، بخلاف الغاصب كما تري، و ليت شعري إذا كان يعلم بفساد العقد و عدم تأثيره أصلا كيف ينوي التضمين إلّا من طريق البناء علي عدم الاعتناء بحكم الشرع في فساد المعاملة، و نظيره جار في الغاصب بعينه فانّه يعني علي كونه مالكا، غير مبال بحكم الشارع المقدس، فيبيع و يشتري.

و لكنه قدّس سرّه اعلم و اكيس من أن لا يعلم أنّ هذا المدافعات لا تنفع، و لذا ذكر في آخر كلامه أن مستند المشهور في المسألة لا يخلو من غموض.

و قد ركن إلي هذا

الدليل المحقق النائيني قدّس سرّه أيضا في منية الطالب حيث قال: «إن التسليم و إن كان وقع مبنيا علي المعاوضة، إلّا أنّه حيث يعلم بأنّه ليس مالكا و يسلمه إليه فهو مقدم علي المجانية، لما عرفت من أنّ التسليم الخارجي لا يمكن تقييده بالتسليم إلي المالك الحقيقي، لأنّ البناء و العدوان مصححة للمعاوضة، لا للفعل الخارجي» (انتهي موضع الحاجة) «1».

هذا و لكن نطالبه بأنّه كيف لا يمكن تقييد الفعل الخارجي بهذا القيد مع أنا نعلم بأنّ تسليم مال إلي الغير علي انحاء مختلفة، تارة يكون بعنوان أداء الدين، و اخري بعنوان الزكاة، و ثالثة بعنوان الهبة، و رابعة الهداية، إلي غير ذلك، و ليس التفاوت بينها إلّا بالقصد، فكيف لا يمكن تقييد التسليط الخارجي بقصد اقباض الثمن إلي مالكه الادعائي؟ و لعمري لو راجعنا

______________________________

(1). منية الطالب، ج 1، ص 291.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 360

إلي العرف الغير المبالين بأحكام الشرع نراهم لا يقصدون في أمثال المقام إلّا هذا.

الثاني: ما ورد في كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه و غيره أنّ من الجائز أن يكون عدم ضمان البائع الغاصب عقوبة للمشتري العالم حيث أقدم علي معاوضة محرمة كما مرّ آنفا.

و الجواب عنه ظاهر: فانّ هذا و أمثاله إنّما يصلح حكمة للحكم لو ثبت من دليل قطعي آخر، و لا يمكن إثبات الحكم بمثله، و لقد أجاد صاحب الحدائق قدّس سرّه حيث ذكر بعد نقل كلام الشهيد قدّس سرّه: «إن أمثال هذه التحليلات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية بل المدار إنّما هو نصوص الحلية و أحاديث المعصومين عليهم السّلام» «1».

الثالث: ما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه في بعض كلماته و حاصله: إنّ المنشأ للتلف هو الاباحة

من ناحية المالك، و لا منافاة بينها و بين الحرمة الشرعية للتصرف فيه، لعدم الملازمة بين الحرمة الشرعية و الحرمة المالكية، فالشارع حرّم التصرف فيه بعنوان عوض للمغصوب، و لكن عدم ضمان الغاصب إنّما هو باعتبار الاباحة من ناحية المالك التي هي المدار في أمثال المقام. انتهي ملخصا «2».

أقول: لا يخفي أنّ إحدي الحرمتين في محل الكلام موضوع للحرمة الاخري، فكيف لا تتلازمان؟ فإذا صحت الاباحة المالكية فكيف يحرم عليه التصرف في المال شرعا؟! و إذا حكي في بعض كلماته في المقام من المحقق الكركي قدّس سرّه و غيره جواز التصرف للغاصب فيه، و إن أورد عليه بأنّه مناف لما هو كالمعلوم ضرورة من الشرع.

و بالجملة لا يمكن الجمع بين حرمة تصرفه في الثمن شرعا، و عدم كونه ضامنا، و كل ما ذكر لتوجيهه تكلّفات لا يمكن الاعتماد عليها، و الظاهر أنّ ما ذكره يعود إلي ما أفاده غيره من الاستدلال بالتسليط المجاني كما لا يخفي، كل ذلك من توجيهات لمقالة المشهور، توجيهات غير وجيهة.

الرابع: ما أفاده قدّس سرّه أيضا و ركن إليه في جملة السيد قدّس سرّه في بعض تعليقاته: إن المالك هتك حرمة ماله باذنه في الاتلاف و نحوه فلا يكون الغاصب ضامنا.

______________________________

(1). حدائق الناضرة، ج 18، ص 397 و ذكر مثله المحقق القمي في جامع الشتات، ج 1، ص 158.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 306.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 361

و قال للسيد قدّس سرّه في تعليقته: «مقتضي القاعدتين: (قاعدة الاتلاف و قاعدة اليد) الضمان في المقام، بل في مطلق العقود الفاسدة، إلّا إذا صدق عنوان اسقاط الاحترام … و صدق هذا العنوان مختلف باختلاف المقامات، فليس كل غاصب ممّا

يصدق عليه ذلك فإذا كان الغاصب قاهرا، أو كان المالك للمثمن جاهلا بالمال بحيث صح من المتعاقدين القصد إلي المعاوضة حقيقة لم يصدق هتك الاحترام، أمّا إذا كان المشتري غير واثق بذلك و يحتمل رجوع المالك إليه كل آن فيأخذ ما عنده من متاعه، فالمشتري هاتك للثمن حينئذ، و كذلك البيع بلا عوض، أو عوض لا يعدّ مالا عند العقلاء و اشباهه» انتهي ملخصا «1».

أقول: أنّه لا محصل لعنوان الهتك، و ليس هو من الامور النافية للضمان و المخصصة لقاعدتي الاتلاف و علي اليد، نعم الاعراض ربّما يكون مخرجا للملك عن الملكية و لكن الهتك للمال لم نعرف له دليلا، نعم يمكن يقال: بأنه إذا كان المال معرض الزوال بمراجعة مالكه إلي المشتري و أخذه منه لعلمه و قدرته عليه فانّ ذلك لا يتمشي منهما مع قصد المعاوضة حقيقة و البناء علي مالكية الغاصب، كما أنّ البيع بلا ثمن أو بثمن لا يعد مالا قابلا لكونه عوضا عند العقلاء أيضا كذلك، فكيف يتمشي القصد إلي المعاوضة بلا عوض؟

فكذلك ما نحن فيه لأنّ المفروض أنّه ليس عوضا بحكم الشرع، و لا يمكن بناء المتعاملين عليه لكونه في معرض الزوال، و لكنه مخالف للوجدان، فان نري صدور القصد من الناس في المقام، و علي كل حال هذا دليل آخر غير دليل الهتك، و بالجملة لا يمكن الاعتماد علي عنوان الهتك كدليل علي تخصيص القاعدتين.

الخامس: ما أفاده في الجواهر أيضا من أنّ الحكم تعبدي محض في خصوص المقام و في خصوص المتيقن، و لعله الأوفق بالقواعد و كلام الأصحاب «2».

و ما ذكره أحسن ما يقال في المقام لو ثبت هنا إجماع معتبر، و لكن قد عرفت الإشكال في

الإجماع، و مع عدم مساعدة القواعد لا يمكن المسير إلي ما ذكره المشهور.

السادس: ما أفاده في جامع الشتات من منع اقتضاء قاعدة الاتلاف هنا الضمان (لعله

______________________________

(1). حاشية المكاسب، للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 381.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 307.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 362

لانصرافه عن صورة اذن المالك في الاتلاف) و كذا قاعدة اليد فانّها لا تدل إلّا علي أداء العين و لا منافاة بين حرمة الأكل من جهة بطلان المعاملة و عدم الضمان، و هذا يحتاج إلي تأمل و لطف قريحة «1».

أقول: أمّا قاعدة الاتلاف فانصرافها عمّا نحن فيه بعيد جدّا، بعد عدم بناء المتعاملين علي المجانية بل بنائهم علي البيع غير مبالين بحكم الشرع، و كذا الكلام في قاعدة اليد فانّها كما قرر في محلها تدلّ علي الخروج من عهدة ما علي اليد، فان كان موجودا يردّه، و إلّا فبمثله لو كان مثليا، و بقيمته لو كان قيميا، فانّهما أيضا من مراحل أداء العين، و كذا لا يزال الفقهاء الامجاد يستدلون بها للضمان في فرض التلف السماوي.

و أشكل من الجميع، الجمع بين حرمة التصرف و عدم الضمان، فانّ عدم الضمان مبني علي كون التسليط مجانيا، و لازمه جواز التصرفات، و بالجملة لا يمكن التفكيك بين الاباحة المالكية و الشرعية في أمثال المقام.

و للمحقق الايرواني قدّس سرّه تفصيل في المقام، حاصله: عدم ضمان الثمن فيما إذا لم يقهره المالك برد العين، و الضمان فيما قهره، نظرا إلي أن الاذن في التصرف فيه مجانا إنّما كان في فرض سلامة العين المغصوبة له، أمّا إذا اخذت، أخذ الثمن «2».

أقول: هذا التفصيل حسن علي فرض قبول كون التسليط هنا مجانيا، و لكن قد

عرفت أنّه لا يقصد التسليط مجانا علي كل حال، و ما أفاده من التفصيل أقوي دليل علي عدم كون التسليط مجانيا كما لا يخفي.

فذلكة الكلام في ضمان الغاصب:

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ الحكم بالضمان أوفق بالقواعد المعروفة في الفقه كما هو كذلك في البيع الفاسد، إلّا في مورد لا يتمشي من المتعاقدين القصد إلي حقيقة البيع كالبيع

______________________________

(1). جامع الشتات، ج 1، ص 158.

(2). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 363

بلا ثمن أو بشي ء لا يعد ثمنا في عرف العقلاء.

و يؤيد ما ذكرنا أو يدل عليه أنّ الثمن في معاملة الخمر و الخنزير و اجرة الزانية و نحوها مضمونة علي آخذها، مع أنّ لازم ما ذكر عدم كونها كذلك كما- أشار إليه المحقق الخونساري قدّس سرّه- في جامع المدارك «1».

و العجب من شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث قال: في المقام ما نصه: «نعم لو كان فساد العقد لعدم قبول العوض للملك كالخمر و الخنزير و الحر قوي اطراد ما ذكرنا فيه من عدم ضمان عوضها المملوك مع علم المالك بالحال» «2» و لكن اعترف في ذيل كلامه بأن مقتضي اطلاق كلماتهم في ضمان العقد الفاسد هو الضمان.

قلت: و هو الموافق لما استقرت السيرة عليه و اشتهر بينهم من الحكم بالضمان في ثمن الخمر و أشباهها في البيوع الفاسدة و شبهها، و قد عرفت وجه الجميع و أنّه لا يعطي الثمن في شي ء من هذه المقامات مجانا بل بانيا علي كون البائع مالكا و لو معصية للشارع المقدس.

بقي هنا امور:

1- إذا باع للمالك لا لنفسه، و دفع المشتري الثمن إليه لكونه واسطة في الايصال إلي المالك، فلا يبقي الشك في ضمانه علي كل حال، لعدم دفعه إليه بعنوان المجانية كما هو ظاهر.

2- إذا كان المشتري جاهلا بالحال، فالحكم بضمان البائع واضح، لعدم جريان ما سبق فيه.

3- إذا أخذ البائع الغاصب الثمن بنفسه

بدون اذن المشتري، بل بعنوان صحة العقد و كونه مالكا له، فهو أيضا ضامن بلا إشكال، لعدم جريان أدلة القائلين بعدم الضمان فيه.

4- إذا اشترط المشتري علي البائع أنّه لو أخذ المالك العين رجع إليه بالثمن كان البائع ضامنا في هذا الفرض بلا إشكال، لأنّ تسليطه المجاني- لو قلنا به- كان مقيدا بهذا الشرط، فلا يجري في غيره.

______________________________

(1). جامع المدارك، ج 5، ص 223.

(2). المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 146 من الطبعة الحجرية.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 364

5- إذا كان البيع كليا من ناحية الثمن، فاعطاه المشتري بعض أفراده، فالحكم فيه كالثمن الشخصي، لجريان جميع ما سبق فيه، و دعوي كون المتيقن من معاقد إجماعهم المدعي هو صورة الثمن الشخصي كما تري.

المسألة الرابعة: في الغرامات:
اشارة

في حكم ما اغترم المشتري للمالك غير الثمن، و هو المسمي بمسألة الغرامات، و هو علي أقسام:

1- ما يكون في مقابل العين، كما إذا كانت قيمة المثل أكثر من قيمة المسمي، بأن كان الثمن الفا، و قيمة المثل الفان (كما هو كذلك غالبا في البيع الغاصب مع العلم به).

2- ما يكون في مقابل الزيادة العينية التي حصلت عنده ثم زالت بناء علي كونه مضمونا.

3- ما يكون في مقابل المنافع التي استوفاها.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)؛ ص: 364

4- ما يكون في مقابل المنافع غير المستوفاة.

5- ما يكون في مقابل المصارف التي صرفها في العين، تارة لحفظها من التلف كعلف الدابة، و اخري لزيادة نمائها كحفر الآبار، و ثالثة لمسائل رفاهية كبناء بعض

البيوت فيه ممّا لا يمكن قلعها، و ليعلم أن محل الكلام هنا ما إذا كان المشتري جاهلا حتي تجري في حقه قاعدة الغرور، أمّا العالم فلا كلام في عدم جواز رجوعه إلي الغاصب، لإقدامه علي الضمان عالما و عدم كونه مغرورا بعد علمه.

فنقول، و منه جل سبحانه التوفيق و الهداية: إن المعروف بينهم التفصيل بين ما حصل في مقابل نفع و ما لم يحصل، قال المحقق قدّس سرّه في «النافع»: «و لو كان جاهلا دفع العين إلي مالكها و رجع بالثمن علي البائع، و بجميع ما غرمه ممّا لم يحصل له في مقابل عوض، كقيمة الولد، و في الرجوع بما يضمن من المنافع تردد» «1».

______________________________

(1). حكاه جامع المدارك، ج 5، ص 223.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 365

و لكن يظهر من بعضهم الرجوع في الجميع، قال المحقق قدّس سرّه في «الشرائع، في كتاب الغصب»: «أمّا ما حصل للمشتري في مقابلته نفع كسكني الدار و ثمرة الشجر و الصوف و اللين فقد قيل يضمنه الغاصب لا غير، لأنّه سبب الاتلاف، و مباشرة المشتري مع الغرور ضعيفة، فيكون السبب أقوي كما لو غصب طعاما و أطعمه المالك، و قيل له إلزام أيّهما شاء، أمّا الغاصب فلمكان الحيلولة، و أمّا المشتري فلمباشرة الاتلاف، فان رجع علي الغاصب رجع علي المشتري لاستقرار التلف في يده، و إن رجع علي المشتري لم يرجع علي الغاصب، و الأوّل أشبه» «1».

و لكن يظهر من صاحب «الجواهر» الميل إلي عدم الضمان هنا لمنع قاعدة الغرور، فراجع «2».

و كيف كان فان لم يحصل للمشتري نفع كالقسم الخامس و الرابع و الثاني فقد حكي الشهرة بل عدم الخلاف في جواز رجوع المشتري الجاهل علي

الغاصب و إن كان للمالك الرجوع إلي كل واحد منهما، و قد استدل له بامور:

1- قاعدة الغرور.

2- قاعدة لا ضرر.

3- قاعدة التسبيب.

4- بعض الروايات.

أمّا الأوّل: فواضح، لأنّه من أوضح مصاديق الغرور، و لكن أورد علي قاعدتي الضرر و التسبيب المحقق النائيني قدّس سرّه في منية الطالب بما حاصله: أمّا علي الضرر فلأنّه لا يثبت بها حكم شرعي، بل ينفي به الحكم الضرري، و لو ثبت بها حكم لزم فقه جديد، و لم يستقر حجر علي حجر، و لزم تدارك كل ضرر من بيت المال أو من مال الاغنياء.

و أمّا الثاني: فلأنّ قاعدة التسبيب مسلّمة إذا لم يتوسط فعل فاعل مختار، كفتح قفص الطائر و فتح فم قربة السمن في مقابل الشمس، لا مثل ما نحن فيه الذي حصل فيه فعل فاعل مختار» (انتهي).

______________________________

(1). شرائع الإسلام، ص 772 طبع، دار الهدي.

(2). جواهر الكلام، ج 37، ص 183.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 366

أقول: يرد علي الأوّل أنّه لا مانع من إثبات الحكم بدليل لا ضرر كما يجوز نفيه، و قد حققناه في قاعدة لا ضرر من «القواعد الفقهية» و لا يلزم منه فقه جديد و لا عدم استقرار حجر علي حجر، و إنّما يلزم ذلك من تخيل لزوم نفي كل ضرر يوجد في العالم كالإضرار الحاصلة من السيل و الزلزلة و نقص الأموال و الأنفس و الثمرات، و لكن المستفاد من القاعدة بناء علي التعميم إنّما هو نفي الضرر الحاصل من ناحية تشريعات الشارع إثباتا و نفيا، لا الاضرار غير المستندة إليه، و لكن الايراد الثاني وارد عليه، لأن المدار في التسبيب كون المباشر بحيث لا يسند إليه الفعل، و من الواضح أنّ الفعل يستند

إلي المشتري هنا أيضا و إن كان مغرورا، و لو لم يستند إليه الفعل لما صح الرجوع إليه مطلقا، بل كان اللازم الرجوع إلي الغاصب فقط، و إن كان يظهر من المحقق قدّس سرّه في الشرائع فيما عرفت من قوله «و قيل يضمنه الغاصب لا غير لأنّه سبب الاتلاف و مباشرة المشتري مع الغرور ضعيفة فيكون السبب أقوي» وجود قول بذلك.

و لكن صرّح في مفتاح الكرامة «بأنه لم يجد هذا القول لأحد من أصحابنا بعد التتبع، و إنّما هو قول الشافعي في القديم و بعض كتب الجديد … و المشهور عند الشافعي الأوّل» «1».

و لازم هذا القول اتحاد موردي قاعدة الغرور مع التسبيب و كان كل غار سببا دون المغرور، و هو بعيد جدّا.

فتلخص أنّ العمدة هو قاعدة الغرور و الضرر، أمّا عبارة «المغرور يرجع إلي من غرّه» و إن لم يثبت كونه حديثا كما أشرنا إليه في محله (عدا ما يستفاد من بعض عبائر صاحب الجواهر و المحقق الثاني قدّس سرّهما و لكن يبعد عثورهما علي ما لم يعثر عليه غيرها).

و لكن تستفاد هذه القاعدة من أحاديث خاصة واردة في مختلف أبواب الفقه، مضافا إلي بناء العقلاء عليه و دعوي الإجماع، و توضيح هذا الكلام في كتاب القواعد (القاعدة 13).

أمّا الروايات، فيدل عليه ما رواه جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 6، ص 230.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 367

المستحق، و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد و يرجع علي من باعه بثمن الجارية و قيمة الولد التي أخذت منه» «1».

و هو يدل علي

المطلوب بظاهره إن قلنا أنّ حرية الولد ليست من المنافع المستوفاة، و يدل عليه بالأولوية إن قلنا به، و لكن في عبارة المكاسب التعبير عنه بالروايات و لعله يوهم ضعفها، مع أنّ الظاهر أنّها رواية معتبرة لصحة اسناد الشيخ إلي الصفار كما في جامع الرواة، و رجال السند، و هم معاوية بن حكيم، و ابن عمير، و جميل، كلهم ثقات.

نعم بعضهم رمي معاوية بكونه فطحيا عدلا و لكن لا يضرنا بعد التصريح بعدالته و وثاقته.

نعم بعض الروايات ساكتة عن رجوع المشتري إلي البائع في أمثال المقام مثل رواية اخري مرسلة عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشتري جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: يأخذ الجارية صاحبها و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «2».

و ما رواه زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل اشتري جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلي أرضه فولدت منه أولادا ثم أنّ أباها يزعم أنّها له و أقام علي ذلك البينة قال: يقبض ولده و يدفع إليه الجارية و يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها» «3».

و ما رواه زريق قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجلان- إلي أن قال- فقال أحدهما: إنّه كان عليّ مال لرجل من بني عمّار و له بذلك ذكر حق و شهود فأخذ المال و لم استرجع منه الذكر بالحق … فمات و تهاون بذلك و لم يمزقها و عقب هذا، إن طالبني بالمال وراثه و حاكموني و أخرجوا بذلك الذكر بالحق و أقاموا العدول فشهدوا عند الحاكم فأخذت بالمال … ثم إن ورثة الميت أقروا أنّ المال كان

أبوهم قد قبضه و قد سألوه أن يرد علي معيشتي و يعطونه في أنجم معلومة، فقال: أني احب أن تسأل أبا

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الاماء، ح 5.

(2). المصدر السابق، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 368

عبد اللّه عليه السّلام عن هذا، فقال الرجل- يعني المشتري- جعلني اللّه فداك كيف أصنع؟ فقال:

تصنع أن ترجع بمالك علي الورثة و ترد المعيشة إلي صاحبها و تخرج يدك عنها، قال:

فإذا أنا فعلت ذلك له أن يطالبني بغير هذا؟ قال: نعم له أن يأخذ منك ما أخذت من الغلة ثمن الثمار»، الحديث «1».

و لعله عليه السّلام لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة لا سيما أنّ الظاهر من رواية زرارة ارتحاله إلي بلد آخر يشكل العود إليه عادة، و لا سيما في تلك الأزمنة، و ظاهر رواية زريق أنّه كان عالما بالغصب لأنّه أخذه بحكم قضاة الجور، و من تحاكم إليه كان كمن تحاكم إلي الجبت و الطاغوت و ما أخذه منه كان سحتا كما في الحديث.

و أمّا رواية جميل الثانية فلعلها متحدة مع ما سبقها فعدم ذكر الغرامة فيها من باب التقطيع.

بل يظهر من صحيحة محمد بن قيس المعروفة أيضا ما ذكرنا بناء علي كون أخذ أبي مولي الوليدة لأخذ ما يغرمه من صاحب الوليدة عنه، و إلّا فلا وجه له فتأمل.

أمّا في الصور التي انتفع منها كالمنافع المستوفاة، مثل سكني الدار أو الاثمار و اللبن الصوف و غيرها، ففيه خلاف.

قال في المبسوط: «و إن كان غرم ما دخل علي أنّه له بغير بدل (كالمنافع) و قد حصل في مقابله نفع و هو اجرة

و هو الخدامة، فهل يرجع بذلك علي الغاصب أم لا؟ فيه قولان: أحدهما:

يرجع لأنّه غرم، و الثاني: لا يرجع، و هو الأقوي لأنّه و إن غرم فقد انتفع بالاستخدام» «2».

و قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد: «و في رجوع المشتري بقيمة منفعة استوفاها خلاف».

و قال في شرح هذه العبارة في مفتاح: «فالشيخ في خلاف و المبسوط في موضع منه و الآبي في كشف الرموز و شيخنا في الرياض و ظاهر السرائر أنّه لا يرجع، للأصل، و لأنّه مباشر الاتلاف فكان كقيمة الجارية، و لأنّه لما حصل له نفع و حصل عنده كسكني الدار و أكل الثمرة و شرب اللبن كان كأنّه قد اشتري و استكري فلم يحصل عليه ضرر، و الإجماع

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 3 من أبواب عقد البيع، ح 1.

(2). المبسوط في فقه الإمامية، ج 3، ص 71.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 369

علي ترتب الضمان علي الغار لا نعلم تناوله لما إذا لم يلحقه ضرر كما هو المفروض، ثم القول الثاني عن جماعة كثيرة منهم المحقق و فخر الإسلام و الشهيدان و المحقق الثاني و العلّامة (قدس اللّه اسرارهم) بل الشيخ في موضع آخر من المبسوط و غيرهم بل عن التنقيح أن عليه الفتوي، و استدل له بقاعدة الغرر و لأنّه سلطه ليأكله مجانا، ثم نقل عن بعض، التوقف في المسألة» «1».

و العمدة في المقام ملاحظة شمول الأدلة الأربعة السابقة له و عدمه فنقول:

أمّا قاعدة التسبيب فقد عرفت أنّها أجنبية عن المقام، لأنّ المباشر ليس ضعيفا بحيث لا يسند إليه الفعل، و إلّا لم يجز الرجوع مطلقا، بل كان الرجوع إلي الغاصب فقط.

و أمّا قاعدة الضرر فالانصاف أنّ المقامات مختلفة،

فقد لا يشمله كما إذا كان انتفع بالثمرة و شبهها بمقدار له الحاجة إليه، و لم يكن ينتفع بالثمن في هذه المدّة شيئا أو اشتري العين نسية، و أمّا إذا كان الانتفاع بما لا حاجة له إليه عادة، أو كان ينتفع بالثمن مثله أو أزيد منه، كان صدق الضرر ظاهرا.

و هكذا قاعدة الغرور فانّ المقامات أيضا مختلفة، فقد يكون المشتري بحيث لا يريد الانتفاع بأمثال هذه المنافع و لا حاجة له إليها، نعم إذا وجدها مجانا انتفع منها، بخلاف ما إذا كان بإزاء عوض، فالتفصيل بين موارد صدق الغرور و الضرر و عدمه قوي جدّا.

ثم إن يظهر من رواية زريق جواز أخذ المصارف التي صرفها في إصلاح المال، من مالكه، حيث قال عليه السّلام: «و يجب علي صاحب الأرض كلّما خرج منه في إصلاح المعيشة من قيمة غرس أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة و دفع النوائب كل ذلك فهو مردود إليه» «2».

و لكن الكلام بعد في سند الرواية من طريق الشيخ في كتاب المجالس و الأخبار، و في زريق، فانّه إن كان زريق بن مرزوق (أو رزيق بتقديم الراء فلا يبعد كونه ثقة لتوثيق النجاشي و العلّامة له (تحت عنوان رزيق) و إن كان غيره فهو مجهول، و هذا يحتاج إلي مزيد

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 6، ص 301.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 3 من أبواب عقد البيع، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 370

تأمل، و لكن القاعدة تقتضي عدم جواز رجوعه إلي المالك لأنّه لم يكن بذل هذه الأموال في إصلاح المتاع بإذنه، و لعله لا يريد هذه المصارف أو يريدها إذا كان من طريق نفسه لا غيره.

و المسألة لا

تخلو عن إشكال، و الاحتياط سبيل النجاة، و العدل و الانصاف يقتضيان نوع مصالحة بينهما.

بقي هنا امور:
الأوّل: انحاء ما يغرمه المشتري في مقابل العين

منها: ما يغرمه في مقابل العين من جهة زيادة الثمن، أي ثمن المثل بالنسبة إلي المسمي.

و منها: ما يغرمه بازاء بعض أجزائه التالفة، أو بازاء وصف الصحة.

و منها: ما يغرمه بازاء بعض أوصافه غير وصف الصحة التي تقابل بالمال كما إذا نسي العبد الكتابة عنده، فانّها و إن كانت لا تقابل بالمال أنّها دخيلة في زيادة قيمة العين.

أمّا الأوّل فلا ينبغي الشك في جواز رجوع المالك إلي المشتري، لأنّ المفروض بطلان المعاملة، فيضمن العين بمثله أو قيمته، و الظاهر جواز رجوع المشتري إلي البائع الغاصب عند جهله لأنّه مغرور بالنسبة إلي الزيادة.

و أمّا ما يغرمه بازاء الأجزاء التالفة إذا لم يزد عن قيمة المثل فلا رجوع لعدم الضرر و الغرر، و كذا وصف الصحة، بل و كذا سائر الأوصاف، لأنّ المفروض أنّ المشتري أقدم علي ضمان جميع ذلك، نعم لو زاد قيمة المثل عن المسمي فالظاهر أنّه مغرور، و إلّا فلا، و العجب من شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث قال: «أمّا ما يغرمه بازاء أوصافه فان كان ممّا لا يقسط عليه الثمن، كما عدا وصف الصحة من الأوصاف التي تتفاوت بها القيمة … فالظاهر رجوع المشتري علي البائع لأنّه لم يقدم علي ضمان ذلك».

أقول: بل أقدم علي ضمانه، لأنّه اشتراه بمائة مثلا عالما بأنّه لو زال عنه الكتابة عنده مثلا لم يزد قيمته علي خمسين، و ليس هذا إلّا كتلف بعض أجزائه عنده، و إن لم يقابل بالمال.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 371

نعم هنا شي ء و هو أنّ الانصاف- كما ذكره السيد قدّس سرّه في بعض حواشيه «1»

- أنّه لا فرق في الاوصاف في عدم مقابلتها بالمال حتي وصف الصحة، فلا يتقسط عليها شي ء من الثمن، نعم يتفاوت قيمة العين بها، فلا يقال قيمة الشاة كذا و قيمة سلامتها عن العيوب كذا، بل يقال قيمتها صحيحة كذا و غير صحيحة كذا من دون تقسيط، و لهذا لا يجب أن يكون الأرش جزء من الثمن بعينة و لو كان يتقسط الثمن علي وصف الصحة لكان الواجب أن يكون جزء منه، و لكن قد عرفت أنّ الأقوي عدم رجوع المشتري في شي ء من الأوصاف إلي البائع الغاصب للأقدام.

الثاني: لو كان البيع فاسدا من جهة اخري:

لو كان البيع فاسدا من جهة اخري، فقد يقال بعدم جواز رجوع المشتري إلي البائع حينئذ، لعدم صدق الغرور، لأنّ فساد المعاملة كاف في ضمانه بالمنافع و غيرها، كما لا يخفي.

أقول: و هو كذلك، و لكن قد يستشكل عليه بأنّ هناك سببين، كل واحد منهما كاف في الضمان، أحدهما: كون المعاملة فاسدة، و الثاني: الغرور الحاصل من دعوي البائع الملكية أو ظهور حاله في كونه مالكا، فلا أقل من استناد ذلك إليهما فيوجب التشريك، كما إذا كان شخصان علة لإتلاف شي ء، بحيث كان كل واحد علة مستقلة لو لا الآخر، و لكن أجيب عنه بمنع صدق الغرور حينئذ، و لعل الوجه فيه أنّ الغرور يعتبر في مفهومه الاستقلال فإذا لم يكن جاهلا بفساد البيع من ناحية اخري لم يصدق أصلا، و هو جيد.

الثالث: رجوع المشتري علي البائع في الغرمات قبل أدائها

هل يجوز رجوع المشتري علي البائع في الغرامات قبل أدائها إلي البائع؟

الظاهر عدم جوازه، سواء كان مدرك الحكم قاعدة الغرور، أو الضرر أمّا الأوّل فلأنّ قاعدة الغرور إنّما تفيد إذا كان سببا لورود ضرر عليه، لا أقول مدرك هذه القاعدة هو قاعدة

______________________________

(1). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 394.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 372

لا ضرر، بل أقول موردها لا ينفك منها، و أمّا الثاني، أي الضرر، فهو منفي علي الفرض قبل أداء الغرامة، و كونه بالقوة غير كاف.

الرابع: بعض أحكام تعاقب الايدي
اشارة

إذا رجع المالك إلي البائع بقيمة العين يجوز للبائع الغاصب الرجوع إلي المشتري بها ما لم تزد علي المسمي، و إن كان المشتري جاهلا بالغصب، و كان حسب الفرض قد باعه نسية أو حالا و لم يأخذ الثمن بعد، و ذلك لإقدام المشتري علي ضمان المتاع بثمنه كما هو المفروض، فليس مغرورا من هذه الجهة.

ثم إنّ هنا إشكالا معروفا، و هو أنّه إذا تلف المتاع في يد المشتري و رجع المالك إلي البائع بالثمن، فكيف يجوز رجوع البائع إلي المشتري به مع أنّهما يتساويان في الضمان لا فرق بينهما، فيجوز رجوع المالك إلي كل واحد منهما بمقتضي قاعدة اليد، و لا يصح رجوع البائع إلي المشتري إذا رجع المالك إليه؟

و حل هذا الإشكال يتوقف علي حلّ إشكال آخر و ذلك في تصوير كيفية كون شي ء واحد في ذمم متعددة، و أنّه هل يصح ذلك؟ فنقول و منه تعالي نستمد التوفيق و الهداية:

اختلفوا في جواز ضمان الاثنين لشي ء واحد علي أقوال:

«أحدهما»: جوازه في عرض واحد كما لعله يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام و اختاره السيد في الحاشية «1» و في

الجواهر: قيل إنّ الفقهاء جزموا به في باب الديات فيما إذا قالا: ألق متاعك في البحر و علي كل واحد منا ضمانه.

«ثانيها»: جوازه طوليا كما صرّح به المحقق النائيني قدّس سرّه في المقام حيث قال: أمّا الضمان طولا علي أزيد من شخص واحد في زمان واحد فيمكن ثبوتا و دلت عليه الأدلة إثباتا.

ثم قال: هذا مثل ضمان الغار ما يغترمه المغرور، و كتعاقب الأيدي الغاصبة فالغاصب

______________________________

(1). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 397.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 373

الأوّل ضامن للمالك ما يضمنه الثاني، أي يجب أن يخرج من كيس الثاني ما يغترمه الأوّل، فالغاصب الثاني ضامن لما يضمنه الأوّل «1».

و لعله يظهر من بعض آخر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه أيضا.

«ثالثها»: ما عن صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الضمان من أنّه يستحيل شغل ذمتين لمال واحد، فالمشغول بالضمان في تعاقب الأيدي علي المغصوب ذمة واحدة، و هو من تلف في يده، و إن جاز رجوع المالك علي كل واحد، و لكنه في كتاب الغصب ادعي عدم الدليل علي ذلك (و كأنّه لم يره محالا) فالخطاب بالأداء بالنسبة إلي غير من تلف في يده حكم تكليفي، و بالنسبة إلي من تلف في يده حكم وضعي.

«رابعها»: الصحة بالنسبة إلي من رضي به المضمون له، و مع الرضا بهما يكون المال عليهما بالاشتراك و هو ضعيف.

فلنرجع أولا إلي تصوير القول بالجواز إمّا عرضيا أو طوليا، و لنذكر ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مقام الذي قد يستظهر منه القول الأوّل، و هو امور:

1- معني كون العين الواحدة في العهدات المتعددة لزوم خروج كل واحد عن العهدة عند تلفه، فهو يملك ما

في ذمة كل منهم علي البدل، بمعني أنّه إذا استوفي أحدها سقط الباقي، لعدم صدق التدارك عليها، فالمالك إنّما يملك البدل علي سبيل البدلية، و يستحيل اتصاف شي ء منها بالبدلية بعد صيرورة أحدها بدلا عن التالف.

2- يمكن أن يكون نظير «ضمان المال» علي مذهب العامة (أي ضم ذمة إلي ذمة) و نظير ضمان الأعيان المضمونة، و نظير ضمان شخصين لمال واحد علي سبيل الاستقلال، لا الاشتراك فيكون كالواجب الكفائي في التكاليف.

3- السابق يشتغل ذمّته بالبدل، و أمّا اللاحق فيشتغل ذمّته بشي ء له البدل، فضمان الثاني في الواقع يرجع إلي ضمان واحد من البدل و المبدل، فإذا تلف المال في يد الثاني كان ضامنا لأحد الشخصين علي البدل، أي المالك إلي من سبقه في اليد، فيجب عليه إمّا تدارك العين أو

______________________________

(1). منية الطالب، ج 1، ص 300.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 374

تدارك بدله رجع المالك إلي من سبقه (انتهي ملخصا) و الأنصاف أنّه ظاهر في الضمان الطولي بقرينة آثار، و الامثلة التي ذكرها شاهد عليه، خلافا لما يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني قدّس سرّه في المقام «1».

و كيف كان فقد أورد عليه السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في الحاشية سبع إشكالات أهمها ثلاثة:

الأوّل: يصدق علي الأوّل أنّه أيضا ضامن لشي ء له البدل، فانّه و إن لم يكن كذلك حدوثا و لكنه صار كذلك بقاء، و المناط حال البقاء.

الثاني: ضمان العين الذي له البدل يقتضي كون الثاني ضامنا للمالك، لا للأول فان البدل الذي في ذمة الأوّل إنّما هو للمالك أيضا لا لنفسه.

الثالث: لازمه جواز رجوع الأوّل إلي الثاني حتي قبل دفع البدل إلي المالك (لأنّ ذمة الثاني مشغول بأحد الأمرين) «2».

هذا و لكن

السيد قدّس سرّه نفسه اختار القول بجواز ضمان الاثنين لواحد في عرض واحد، لأنّ عموم الأدلة يقتضيه، و لا مانع منه، أمّا الأوّل فالظاهر أنّها اشارة إلي عموم علي اليد، و الثاني إشارة إلي ضعف دعوي الاستحالة من صاحب الجواهر قدّس سرّه و أنّه ليس مستحيلا «3» و إن هو إلّا نظير الواجب الكفائي في باب الحكم التكليفي، و أنّه لا فرق بين اشتغال الذمة بالأفعال أو الأموال في جواز تعلقها بالمتعدد علي سبيل البدلية، فكما يتصور الواجب التخييري و الكفائي في التكاليف فكذلك في باب الحكم الوصفي و الذمم، لعدم الفرق بين الدين الإلهي و الخلقي، و دعوي أن المال لا يكون إلّا في ذمة واحدة كما تري.

أقول: هنا حكمان: «أحدهما» جواز رجوع المالك إلي كل واحد من الأيدي الجارية علي ملكه. «الثاني» قرار الضمان علي من تلف في يده إلّا إذا كان مغرورا، فانّه يرجع علي من غرّه.

______________________________

(1). منية الطالب، ج 1، ص 299.

(2). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 398.

(3). المصدر السابق، ص 400 (ملخصا).

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 375

أمّا الأوّل فأمره سهل لعموم أدلة الضمان و مساواة الجميع بالنسبة إلي المالك، و لكن الكلام في تصوير ضمان الاثنين استقلاله لشي ء واحد، و ليس الإشكال فيه من ناحية عموم علي اليد، فانّه ظاهر واضح بعد فرض كون الأيدي غير أمينة، إنّما الإشكال في إمكان كون مال واحد شخصي في ذمم متعددة، فقد يقال: إن هذا محال إذا كان ذلك في فرض واحد لأنّ الشي ء الواحد الشخصي لا يقبل الوجود إلّا في مكان واحد.

و لكن يمكن أن يجاب عنه: بأن الاستحالة إنّما هو في الوجود الحقيقي لا الاعتباري، لأنّ

الاعتبار تابع لمنشإه، و هو هنا سبب الضمان، فلما كان علي اليد منطبقا علي كل من ذوي الأيدي المتعاقبة، كان موجبا لاشتغال الذمة بالنسبة إليهم جميعا، و لازم ذلك براءة ذمة الجميع إذا أدي واحد منهم، لأن المفروض أنّه ليس هناك أموال متعددة بل مال واحد في ذمم متعددة، فإذا أدي إلي صاحبه فقد حصلت البراءة للجميع.

و الانصاف أنّ تشبيه بالواجبات الكفائية أيضا في محله لا سيما بناء علي المختار من أنّ الفعل (مثل دفن الميت المعين) واجب علي كل واحد لا علي البدل، و لا علي نحو التشريك، بل علي نحو الاستقلال و لكن إذا دفنه واحد منهم يحصل الغرض، فلا يبقي موضوع للأمر فيسقط عن الجميع، كذا في محل الكلام.

و حينئذ الأمر من ناحية جواز رجوع المالك إلي كل واحد و كذا سقوط عن الجميع بعد أداء واحد منهم أمر ظاهر.

إنّما الإشكال في استقرار الضمان علي من تلف في يده، فقد ذكر في مفتاح الكرامة بعد نقله عن التذكرة و جامع المقاصد و المسالك و الروضة و الكفاية و غيرهم، في بيان دليل هذا الحكم: أنّه ظالم بامساك مال الغير في يده مع علمه بأنّه له، و قد حصل التلف في يده، فكانا متساويين في كون كل منهما غاصبا و انفرد الثاني بزيادة، و هي كون التلف في يده، فيختص ببدله، فلو رجع علي الأوّل استحق الرجوع عليه دون العكس «1».

هذا و لا يخفي أنّه مصادرة بالمطلوب، لأن كون مجرّد التلف (لا الاتلاف) في يده زيادة

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 6، ص 229.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 376

تقتضي قرار الضمان علي من تلف عنده دون غيره بعد مساواة الجميع في الغصب و

الضمان، و كون التلف سماويا أول الكلام.

و يبقي توجيهات اخري لهذا الحكم ذكرها الأعلام:

1- ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه من أنّ الثاني ضامن لأحد شخصين علي البدل: المالك و الضامن الأوّل.

و قد عرفت أنّه لا دليل علي ذلك، بل الدليل علي خلافه، لأنّه لا وجه لكون الثاني ضامنا لأحدهما بعد كون المال لواحد معين، و هو المالك، و لم يحصل هنا حق للأول علي المال، لا حق الملكية و لا غيره، كيف و هو غاصب علي الفرض، فلا يكون الثاني ضامنا لأحد شخصين، فهذا التوجيه غير كاف.

2- ما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه، و حاصله انحصار اشتغال الذمّة بمن تلف في يده، و إن كان يجوز للمالك أن يرجع إلي غيره باعتبار الغصب، فلو رجع إلي غيره من تلف عنده (كالضامن الأوّل في مورد الكلام) و أخذ البدل منه ملك ذمته الثاني (أي من تلف عنده) بالمعاوضة الشرعية القهرية، فيجوز رجوعه إليه بعد ذلك.

و فيه: أولا: ما عرفت من أنّ الضمان علي الجميع، لا خصوص الأخيرة بعد عموم الأدلة، و عدم المانع له، و شمول علي اليد للجميع.

ثانيا: كون وجوب الأداء علي الأخير وضعيا و علي الباقي تكليفيا لا يساعد عليه شي ء من الأدلة بعد مساواة الجميع في اليد العادية.

ثالثا: أي دليل علي هذه المعاوضة القهرية الشرعية بعد رجوع المالك إلي الأوّل، نعم لو كان هناك دليل قطعي علي أصل الحكم و لم يمكن توجيهه من طريق آخر و انحصر الطريق فيما ذكره أمكن القول به، و لكن أني لنا بذلك، فتدبّر جيدا.

3- ما ذكره السيد قدّس سرّه- و هو قريب من كلام الجواهر- و حاصله وقوع المعاوضة القهرية بين العين التالفة

ما يؤدّيه الضامن الأوّل للمالك، فيقوم مقام المالك في مالكيته العين التالفة، و يكون ملكا لدافع البدل، فله أن يرجع إلي كل واحد من الأيدي المتأخرة.

و كأنّه قدّس سرّه رجح هذا الوجه نظرا إلي أنّ السابق، له أن يرجع إلي كل من لحقه مع أن توجيه

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 377

صاحب الجواهر قدّس سرّه يقتضي الرجوع إلي من تلف في يده فقط.

هذا و الانصاف أنّه غير تام أيضا:

أمّا «أولا»: فلأنّه لا معني محصل لتملك العين التالفة بعد تلفه و انعدامه حتي يقوم معطي البدل مقام المالك الأصلي.

و «ثانيا»: إنّ هذه المعاوضة القهرية ممّا لا دليل عليه نعم يمكن القول به لو انحصر الطريق فيه و لكن ليس كذلك.

و «ثالثا»: إنّ الذي دعاه إلي اختيار هذا الوجه هو جواز رجوع السابق إلي كل واحد من اللاحقين بالإجماع، و لكنه غير ثابت عندنا، لعدم الإجماع عليه، و عدم حجيته في هذه المقامات لو كان هناك إجماع.

4- ما حكي عن بعضهم من أنّ رجوع السابق إلي اللاحق و إن لم يكن من مقتضيات اطلاق أدلة الضمان، لكنه مبني علي بناء العرف و أمضاه الشارع المقدس بعدم الردع عنه «1».

و فيه: أنّه اعتراف بالعجز عن حل المسألة من ناحية القواعد المعروفة الشرعية و العقلائية.

5- ما اختاره سيدنا الحكيم قدّس سرّه في بعض كلماته من التشكيك في أصل الحكم، و هو أنّ رجوع السابق إلي اللاحق غير واضح المأخذ، إلّا إذا أخذه الثاني منه قهرا، و حينئذ لا يبعد ثبوت الرجوع عرفا، و بناء العقلاء عليه.

و كأنّه اقتصر علي هذا المورد اعتمادا علي حكم العرف و امضاء الشرع، و فيه ما مرّ في سابقه.

التحقيق في حل مشكلة تعاقب الأيدي:

6- ما هو التحقيق

في المقام كما يتبادر إلي نظري القاصر و هو يتوقف علي مقدمات:

«احداها»: أنّ المستفاد من قوله عليه السّلام: «علي اليد» هو الحكم الوضعي فقط، و هو الضمان لو

______________________________

(1). حكاه السيد الحكيم قدّس سرّه في نهج الفقاهة، ص 279.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 378

تلف، فلا يستفاد منه حكم تكليفي بالنسبة إلي أداء المال إلي صاحبه، بل مفاده الضمان لو لا الأداء، و أمّا وجوب الأداء فهو مستفاد من أدلة حرمة التصرف في مال الغير إذنه (و من التصرف امساكه بغير رضاه)، و هذا الحكم مستفاد من أدلة كثيرة عقلية و نقلية، و هذا سهل.

«ثانيها»: أنّ الضمان بمعني كون شي ء في ذمّة الإنسان لا معني له عند وجود العين إلّا بعنوان الشأنية، و أمّا الضمان الفعلي فلا يكون إلّا بعد التلف، فمعني قوله: علي اليد … أنّه لو تلف كان المثل أو القيمة في ذمته.

«ثالثها»: قد يكون علة التلف السماوي عاما يشمل العين أينما كانت، كما إذا انهدمت قرية بسبب السيل أو الزلزلة و تلفت جميع الأموال الموجودة فيها و منها العين المغصوبة، و كانت تتلف في أي مكان كانت من غير فرق بين بيت المالك و الغاصب و غيره، أو وقعت آفة في الحيوانات في منطقة، و كان تلف الحيوان المغصوب في ضمنها بحيث إنّه كان يتلف في أي مكان كان من تلك المنطقة سواء في دار المالك أو غيره، ففي شمول اطلاق علي اليد لمثل هذا غموض، لا سيما إذا كان الضمان لغير الغاصب كالمقبوض بالعقد الفاسد مع علمهما بالفساد أو جهلهما، فتدبّر.

و اخري تكون علة التلف أمرا خاصا، و هذا أيضا علي أقسام:

1- ما إذا كان في العين علة موجبة لفسادها و

هلاكها أينما كانت، كما إذا علم يقينا بأن الحيوان كان مريضا بمرض يموت فيه قطعا، ففي شمول علي اليد له أيضا غموض، لا سيما إذا لم يكن الضامن غاصبا كالمقبوض بالعقد الفاسد.

2- ما يعلم أنّه لو كان عند مالكه لم يهلك.

3- ما يعلم أنّه قصر في حفظه فهلك.

4- ما لا يعلم أنّه من أي هذين القسمين الأخيرين أو غيرهما، و الظاهر شمول أدلة الضمان لهذه الأقسام أيضا عرفا و شرعا سواء الغاصب و غيره.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّه لو اغمضنا عمّا ذكره الأصحاب (رض) و ادعوا الإجماع عليه فإذا كان الضمان الأوّل دفعه إلي الثاني باختياره كان شريكا له في علة التلف، سواء كانت العلة التفريط في الحفظ أو مجرّد الكون عنده أو غير ذلك، فعدم رجوعه إليه في هذه الصورة

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 379

وجيه، لأن يد الثاني بمنزلة يد الأوّل بعد أن كان باذنه و اجازته، فكيف يمكنه الرجوع إليه؟

فلا فرق بينه و بين الذي تلف المال في يده من هذه الجهة، و هذا غير الاتلاف.

نعم يمكن أن يقال: إنّ المالك و إن كان له الرجوع إلي أيّ واحد منهم و أخذ جميع البدل منه و لكن الخسارة توزع عليهم عند علمهم جميعا، لاشتراك الجميع في الضمان، و عدم استناد التلف إلي خصوص الأخير.

هذا كله إذا لم يأخذه الثاني منه قهرا، و أمّا إذا أخذه منه قهرا فيمكن القول بذلك أيضا، فان كون العين في يد الأوّل كان من أسباب أخذه منه و من مقدماته، فتأمل.

و يتحصل ممّا ذكرنا امور:

«الأوّل»: أنّه يجب علي كل واحد من الأيدي الضامنة ردّ المال إلي مالكه وجوبا تكليفا، و أنّ الضمان بمعني اشتغال الذمة بأداء

المثل أو البدل لا يستقر علي واحد قبل التلف.

«الثاني»: يجوز رجوع المالك إلي كل واحد منهم بمقتضي قاعدة اليد.

«الثالث»: أنّه إذا تلف المال استقر الضمان علي جميع الأيدي و أنّهم يشتركون في ذلك، و إن كان المالك الرجوع إلي كل واحد منهم، و كل واحد منهم أدّاه إلي المالك يجوز رجوعه إلي الباقين بالنسبة إلي سهامهم، و يدل علي اشتراكهم في اليد العادية و الضامنة و عدم كون التلف بفعل من تلف في يده بالخصوص كما هو المفروض، نعم لو كان هو المتلف له أمكن الأخذ بقاعدة الاتلاف في حقه خاصة، فلا فرق فيما ذكرنا بين السابق و اللاحق.

«الرابع»: إنّ أصل الضمان في بعض فروض المسألة محل تأمل، كما إذا كان بالحيوان داء يموت به علي كل حال، أو إذا حدث هناك بلاء عام لا يفترق فيه المالك و غيره.

هذا و لكن الفتاوي المشهورة لا تساعد علي بعض ما ذكرنا، و إن كان احتمال استنادهم إلي قاعدة اليد و أشباهها قويا، فليس هنا إجماع، و لو لم يكن كاشفا عن قول المعصوم عليه السّلام، و لكن مخالفتهم أيضا مشكل، فالاحوط التصالح في هذه الموارد.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا فرق بين الغاصب و المشتري الجاهل، لأنّ المفروض أنّه ضامن للعين و ليس مغرورا بالنسبة إلي ضمانه، إلّا إذا كان ثمن المثل أكثر من الثمن المسمي كما لا يخفي و اللّه العالم.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 380

فرعان: أشار إليهما في نهج الفقاهة «1».

الأوّل: أنّه إذا ابرء المالك واحد من ذوي الأيدي المتعاقبة، فهل له الرجوع إلي غيره أم لا؟ و ذكر فيه و جهان «أحدهما»: براءة الجميع، لأنّ الحق فيه واحد لا تفكيك فيه،

فإذا ابرء واحدا برئ الجميع.

«ثانيهما»: أنّه يمكن التمليك بينهما لأنّه من الأحكام الارفاقية و يساعده ارتكاز العقلاء.

أقول: هذا إنّما يتصور عند التلف العين، و إلّا فقد عرفت أنّه لا ضمان فعليا عند وجودها، نعم له الرجوع و المطالبة، و عليهم أداؤها، و لكن هذا حكم تكليفي لا يقبل الاسقاط، و أمّا بعد التلف فان قلنا بتشريك الجميع بالنسبة إلي الخسارة كما قويناه من بعض الجهات فيما مرّ، فابراء بعضهم دون بعض ممّا لا إشكال فيه، و أمّا إن قلنا بضمان واحد علي البدل فاسقاطه عن بعضهم دون بعض مشكل جدّا، لأنّ الحكم واحد، و مجرّد كونه ارفاقيا لا أثر له في المقصود، كما أنّ مساعدة ارتكاز العقلاء عليه غير ثابت.

و أمّا لو قلنا باشتغال ذمّة كل واحد مستقلا (و إن كان يسقط بفعل البعض لحصول الغرض كما في الواجب الكفائي علي وجه قوي) فحينئذ لا يبعد التفكيك، فهنا ثلاث مبان كل واحد له حكم مختص به.

الثاني: إذا انتقل المضمون من المالك إلي غيره بطريق مشروع، إمّا بعوض أو بغير عوض بهبة أو غير ذلك، فهو يقوم مقام المالك الأوّل في جميع ما ذكر من الأحكام، فيرجع إلي كل واحد منهم إذا أراده و لو رجع إلي السابق فيأتي فيه الأحكام الماضية، نعم إذا كان المنتقل إليه احدي الأيدي الضامنة لا يصح رجوعه إلي السابق علي القول المشهور، لأنّه لو رجع إليه كان للسابق حق الرجوع إليه و كان هذا لغوا، نعم بناء علي ما قويناه من التشريك جاز الرجوع إلي كل واحد منهم بالنسبة إلي سهمه و سقط سهم نفسه.

______________________________

(1). نهج الفقاهة، ص 282.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 381

الكلام في بيع ما يملك و ما لا يملك
اشارة

و من فروع الفضولي

ما إذا باع ملكه مع ملك غيره، فان البيع بالنسبة إلي ملك غيره فضولي، و لكن فيه إشكالات اخري ناشئة من بيع ملك نفسه مع ملك غيره ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

قال في التذكرة: إذا باع عبده و عبد غيره صفقة واحدة صح البيع في عبده و لا يقع البيع باطلا فيه، و يقف العقد في عبد الغير، فان أجاز البيع فيه لزم، و إن فسخ بطل، و يتخير المشتري حينئذ بين فسخ البيع في الجميع و بين أخذ عبده بقسطه من الثمن، ذهب إليه علماؤنا و هو أحد قولي الشافعي، و به قال مالك و أبو حنيفة «1».

ثم استدل عليه بأمور:

أحدها: إنّ هذا حكم كل واحد بانفراده، فإذا جمع بينهما كان لكل حكمه لوجود علة الحكم بعينها.

ثانيهما: إنّ المعاملة اشتملت علي صحيح و فاسد، فانعقد صحيحا في الصحيح و باطلا في الفاسد، و مثّل له و شبهه بما إذا شهد عادل و فاسق علي شي ء واحد.

ثالثها: صحيحة الصفار أنّه كتب إلي أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السّلام في رجل له قطاع ارضين (أرض- خ) فيحضره الخروج إلي مكة، و القرية علي مراحل من منزلة و لم يكن له من المقام ما يأتي بحدود أرضه، و عرف حدود القرية الأربعة فقال: للشهود: اشهدوا

______________________________

(1). تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 565.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 382

أنّي قد بعت فلانا، يعني المشتري جميع القرية التي حدّ منها كذا، و الثاني و الثالث و الرابع (كذا) و إنّما له في هذه القرية قطاع أرضين، فهل يصلح للمشتري ذلك … فوقع عليه السّلام: «لا يجوز بيع ما ليس يملك و قد وجب الشراء من البائع

علي ما يملك» «1».

و قد صرّح بالصحة كثير من أعاظم الأصحاب و أساطين الفقه بل ذكر في الجواهر أنّ ظاهر الأصحاب الإجماع عليه كما اعترف به في الرياض و حكاه أيضا عن استاده (كاشف الغطاء، و صاحب الغنية) «2».

نعم عن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه احتمال البطلان من رأس.

و يظهر من بعض الكلمات التفصيل بين صورة علم المشتري و جهله، فيصح في الثاني دون الأوّل، فاذن تكون المسألة ذات أقوال ثلاثة.

و الأقوي: الصحة مطلقا، أمّا إذا أجاز المالك الآخر فلا كلام، و أمّا إذا ردّه صحّ في ما يملك أيضا مطلقا دون ما لا يملك، لأنّها موافقة للقاعدة و النص.

أمّا الاولي فلأنّ المقتضي للصحة موجود و المانع مفقود، أمّا المقتضي فلدلالة العمومات عليها، و أمّا المانع فغاية ما ذكر فيه امور:

«أولها»: لزوم الجهل بالثمن بل بالعوضين، و من الواضح اعتبار العلم بهما.

«ثانيها»: أنّ لازمه وقوع ما لم يقصد و عدم وقوع ما قصد.

«ثالثها»: ما عن أصحاب الشافعي من أنّ اللفظة واحدة لا يتأتي تبعيضها.

«رابعها» أنّه قد يتضرر المشتري من التبعيض و الأخذ بالبعض.

و يجاب عن الأوّل بأنّ المعتبر من العلم بالعوضين ليس أزيد من هذا المقدار، أعني العلم التفصيلي بالمجموع في مقابل المجموع، و العلم الإجماعي بقسط من الثمن يناسب المثمن و لا دليل علي اعتبار أكثر منه.

و عن الثاني بأنّه من قبيل تعدد المطلوب، فوقوع البيع في كل من المالين مطلوب للمشتري بحصة من الثمن، فإذا وقع في واحد دون الآخر فكان ما وقع موافقا للقصد.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 2 من أبواب عقد البيع، ح 1.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 309.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 383

و ليس الوحدة و التعدد

هنا بحسب الأغراض الشخصية بل بحسب الأغراض النوعية للعقلاء في أمثال المقام، و الحكم يدور مداره، كما في بيع المعيوب، فانّه قد يكون الغرض الشخصي للمشتري العين الصحيحة و لا يفيده غيره أبدا، كمن أراد شاة للأضحية مثلا أو أداء النذر بوصف الصحة فانّه لا فائدة له في غيره، و الإشكال في صحة البيع مع الخيار أو الأرش كما هو ظاهر.

و من هنا يظهر ما أفاده في «جامع المدارك» من الإشكال بأنّه قد يكون قصد المشتري مقيدا بتملك المجموع، و ربّما لا ينتفع بالمقدار المملوك، كما لو كان المقدار المملوك للبائع العشر «1».

و فيه: أنّه لا أثر لقصد خصوص المشتري في هذه الأبواب أبدا، و إلّا وجب التفصيل في باب خيار العيب و الشروط الفاسدة و شبهها، مع أنا نعلم بعدم التفصيل فيها

و أمّا الثالث: فالجواب عنه ظاهر، لأنّ وحدة اللفظ لا أثر له بعد كون المنشأ و المقصود متعددا، فالاعتبار إنّما هو بالمنشإ لا الإنشاء، و وحدة الإنشاء لا تضر بعد تعدد المنشأ كما لا يخفي.

و أمّا الرابع: فضرره مجبور بالخيار الذي صرح به غير واحد من الأصحاب، في المقام و يسمي بخيار تبعض الصفقة.

و أمّا النص: فهو صحيحة الصفار الماضية و قد أفتي بمضمونها الأصحاب، و لكنها أيضا لا تخلو عن الإشكال من بعض الجهات:

«أحدها»: من ناحية إبهام سؤال الراوي و أنّ مراده فرض بيع حصته مع حصة غيره بثمن واحد، و هذا لا يناسب كونه علي جناح سفر مكة و إنّما دعاه إلي ذلك عدم وضوح حدود أرضه، أو أنّ المراد إرادة خصوص ملكه و لكن لم يقدر علي تبيين حدودها إلّا بذكر حدود القرية، فحينئذ ليس من قبيل بيع ما يملك

مع ما لا يملك، و لكن الانصاف أنّ الأظهر منها بقرينة قوله: «جميع القرية» قصد إنشاء البيع بالنسبة إلي المجموع، و يؤيد ذيله «و إنّما له

______________________________

(1). جامع المدارك، ج 3، ص 93.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 384

بعض القرية و قد أقرّ له بكلها» و كونه علي جناح سفر الحج مناف له كمالا يخفي علي من سبر أحوال العوام في أمثال هذه الامور من المعاملات، بل و في عباداتهم، و علي كل حال لا إبهام في الجواب لو كان إبهام في السؤال.

«ثانيها»: من ناحية عدم ذكر التخصيص، أعني تخصيص الصحة في ما يملك بحصة من الثمن و لعله لوضوحه.

«ثالثها»: عدم ذكر خيار التبعض فيها، و لعله لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة و كونها بصدد بيان أصل صحة البيع.

هذا و دلالة الرواية بعد ذلك كله لا سيما من ناحية جواب عليه السّلام غير قابل للإنكار، و لذا استدل بها الأصحاب فهي كافية في إثبات المراد.

بقي هنا امور:
احدها: في حكم الخيار هنا

. و الظاهر ثبوته عند جهل المشتري بالواقع، و يدل عليه قاعدة لا ضرر، و سيأتي الكلام فيه مستوفي إنشاء اللّه في أحكام الخيارات.

و قال صاحب الحدائق قدّس سرّه: إنّ ظاهر الصحيحة المذكورة أنّ الحكم علي ما ذكره عليه السّلام أعم من أن يكون المشتري عالما أو جاهلا، و حينئذ فما ذكروه من الخيار في صورة الجهل لتبعض الصفقة مشكل «1».

و كأنّه نظر إلي قوله «و قد وجب الشراء فيما يملك»، و لكن الانصاف أنّ المراد بالوجوب هنا هو الصحة أو اللزوم من ناحية البائع، لأنّ السؤال إنّما هو بالنسبة إليه فلا ينافي كون المشتري بالخيار إذا كان جاهلا، بل ظاهر الصحيحة هو عدم علم المشتري بواقع

الحال.

الثاني: في طريق التقسيط

، أي تقسيط الثمن علي «ما يملك» و «ما لا يملك»، و قد ذكر له وجوه ثلاثة:

______________________________

(1). الحدائق الناضرة، ج 18، ص 400.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 385

1- ما عن المشهور من أنّه يقوم المجموع من حيث المجموع، ثم يقوّم أحدهما (ما يملك) ثم يلاحظ النسبة بينهما، فان كان قيمة المجموع عشرا، و قيمة ما يملك اثنان، يؤخذ خمس الثمن و يدفع أربعة أخماس للمشتري

هذا و لكن من البعيد أن يكون اطلاق كلامهم شاملا لما إذا كأم لوصف الاجتماع دخلا في زيادة القيمة، فانّه يوجب القول بالتفاوت بين شيئين، أي ما يملك و ما لا يملك، لا تفاوت بينهما أصلا كما لا يخفي.

2- ما ذكره غير واحد من الأصحاب من لزوم تقويم كل واحد مستقلا، ثم ملاحظة النسبة بينه و بين مجموع القيمتين، فإذا كان أحدهما يسوي اثنتين و الآخر الأربعة كان الثمن بينهما اثلاثا: ثلث للأول، و ثلثان للثاني، و لا يرد عليه ما أوردناه علي سابقه.

3- أن يقوم كل واحد منهما في حال انضمامه إلي الآخر، ثم يلاحظ قيمة كل منهما إلي مجموع القيمتين (أو يقال يلاحظ نسبة كل منهما إلي الآخر) و مثلوا لو ببيع الجارية مع ابنها، إذا زادت قيمة الابن مع الانضمام، و نقصت قيمة الجارية كذلك و هذا أمر واقع غالبا، فانّ الجارية إذا كانت منحازة عن ابنها كانت قيمتها أكثر، و لو ضمت إليه كانت قيمتها أقل لاشتغالها بأمر الابن، بخلاف الابن فانّه إذا لم ينضم إلي امها احتاج إلي من يراقبه إذا كان صغيرا بخلاف ما لو انضمّ إليها حيث تكون قيمته أكثر.

فإذا كانت قيمة الابن في حال الانضمام ستة مثلا، و في حال

الاستقلال أربعة، و قيمة الام بالعكس و كان مجموع القيمتين الحال عشرة، فلا بدّ من أخذ ثلاثة أخماس للابن و خمسين للأم، مع أنّ الأمر علي عكس ذلك لو لوحظ كل منهما مستقلا، كما في الوجه الثاني «1».

و الحاصل: أنّه إذا لم يكن لوصف الاجتماع أثر في زيادة القيمة أو نقصانها فمقتضي الطريق الثلاثة واحدة، لا تفاوت بينهما، و لكن إن كان الوصف الاجتماع أثر في زيادة القيمة حصل الفرق بين الطريق الأوّل و الثاني، لأن مقتضي الوجه الأوّل في المثال المذكور (أعني

______________________________

(1). راجع نهج الفقاهة، ص 285 و حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 386

كون كل واحد منفردا يعادل دينارين و مجتمعا مع الآخر عشرة دنانير) أخذ خمس الثمن، و لكن مقتضي الطريق الثاني أخذ نصف الثمن.

و إن كان للانضمام أثر في نقصان القيمة افترق طريق الأخير عن الأولين، كما ذكرنا.

و لعل اطلاق كلمات أساطين الفقه منزل علي ما إذا لم يكن لوصف الانضمام أثر كما أشار إليه سابقا.

و علي كل حال الأقرب إلي العدل و الانصاف و ملاحظة الحقوق الثابتة للمالكين هو الأخذ بالطريق الثاني فقط، للزوم الظلم علي البائع علي الطريق الأوّل إذا زادت القيمة عند الاجتماع، لأنّ المفروض أن كلّا من العبدين بانفراده يساوي الآخر و إن كان بوصف الاجتماع تزداد قيمة، فلا بدّ من تصحيح البيع بنصف الثمن لا بخمسه.

كما أنّه يلزم الظلم علي المشتري إذا فرض تأثير الاجتماع في نقصان القيمة كما إذا كانت قيمة كل منهما منفردا تساوي الآخر، و كانت قيمة ما يملكه البائع عند الاجتماع أكثر، و قيمة ما لا يملكه أقل، فحينئذ يؤخذ له أكثر من النصف، مع

أن المفروض تساويهما في القيمة عند الانفراد.

إن قلت: الظلم حاصل حينئذ عند زيادة القيمة بالاجتماع أو نقصانه، فان المفروض أن البيع يؤثر في واحد منهما منفردا دون الآخر، و قد لوحظ في الثمن وصف الاجتماع الذي قد يوجب الزيادة و قد يوجب النقصان، فما يأخذه المشتري فاقد لوصف الاجتماع مع أنّ القيمة التي يؤديها قيمة للعين مع اتصافها بهذا الوصف.

قلنا: الاوصاف بذاتها لا تقابل بالمال كما عرفت بل توجب زيادة قيمة العين و ضرر المشتري هنا منجبر بالخيار من ناحية المشتري، و أمّا البائع فقد اقدم علي ضرره إذا كان عالما بالحال، و لو لم يكن عالما بالحال أمكن القول بخياره أيضا، من باب الغبن إذا كان لوصف الاجتماع دخلا في نقصان قيمة ماله.

الثالث: إنّ الحكم بصحة بيع ما يملك و ما لا يملك فيما إذا كان المتاعان كالخفين

و مصراعي الباب الذي لا قيمة لواحد منهما بانفراد أو قيمته قليل جدّا، مشكل غاية الإشكال، فعدم شمول الأدلة له، و عدم إمكان حمله علي تعدد المطلوب، و لو بحسب

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 387

الاغراض النوعية العقلائية، كما لا يخفي، و إن شئت قلت: الواحد من الخفين أو مصراعي الباب لا يكون بعضا من الصفقة واقعا، و إن كان كذلك ظاهرا، فانّ المراد من البعض ما يقوم به بعض الآثار و لو بحسب الغالب، و من المعلوم أنّ الخف الواحد لا فائدة له تقريبا، فهما من الامور التي تعدان شيئا واحدا بحسب الأثر لا شيئان.

الرابع: ما ذكرناه من الأحكام جارية في ملك المشاع

، كما إذا كان ثلث الدار له و ثلثاه لغيره، و كذا في المثلي كما إذا كان ثلث صبرة له و ثلثاها لغيره، فيصح البيع فيما يملك و يبطل فيما لا يملك إذا لم يجزه مالكه، و يكون ذلك بحصة من الثمن، و لكن لا يتوهم أن التقسيط بالنسبة إلي الثمن يكون دائما علي نحو الكسر المشاع الموجود في نفس العين، و ذلك لأنّ الثلث بانفراده قد يكون أقل قيمة من الثلثين، لقلة الرغبات فيه، و قد يكون بالعكس لكثيرة الرغبات فيه، بل الأمر كذلك حتي في ناحية المثلي، فثمن منّ من الحنطة قد لا يساوي ثمن مائة منّ و لو بحسب النسبة، لتفاوت الرغبات في بيع القليل من الشي ء و كثيرة، و المدار دائما علي تقويم كل واحد من الملكين مستقلا، ثم ملاحظة كل منهما مع مجموع القيمتين، سواء كان الملكين من جنس واحد أو جنسين، من القيمي أو المثلي، من المشاع أو المفروز، و تفاوت القيمة في جميع ذلك أمر ممكن، و ما قد يظهر من

بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام من خلاف ذلك ممنوع، كما نبّه إليه المحقق النائيني قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام «1».

الخامس: إنّ انضمام الشيئين كما أنّه قد يوجب زياد القيمتين أو نقصهانهما، و قد يكون بحيث يوجب زيادة في أحدهما فقط دون الاخر

، أو نقصانا كذلك، بحيث لا يكون للانضمام أثر في قيمة أحدهما، و لكنه يكون مؤثرا في تفاوت قيمة الآخر، كما أنّه قد يكون أثر الانضمام في الزيادة و النقصان متفاوتا، مثلا يزيد أحدهما بالانضمام ضعفين، و الآخر ثلاثة أضعاف، و كذلك في النقصان ينقص من قيمة أحدهما عشرا، و من الآخر عشران، و الحكم في الجميع ما عرفت من تقويم كل واحد مستقلا ثم ملاحظة قيمة مع مجموع القيمتين و اللّه العالم.

______________________________

(1). منية الطالب، ج 1، ص 310.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 388

السادس: صحة البيع فيما يملك إنّما في ذاتها، و مع قطع النظر عن الطواري

، فلو لزم منه الربا، أو بيع الآبق بغير ضميمة بعد بطلان البيع فيما لا يملك أو غير ذلك ممّا هو محظور، فالإشكال فيها قائم كما هو واضح.

مسألة: لو باع من له نصف الدار مشاعا نصف تلك الدار من دون اشارة إلي أنّه نصفه أو نصف المجموع من حقه و حق غيره، فهل يصح البيع في نصفه فيكون ماضيا كله، أو يكون مشاعا في مجموع الحقين، فيصح في ربعه و يتوقف في ربع غيره علي الإجازة، و كذا غير الدار من الأعيان المختلفة.

و هذه المسألة مصداق من مصاديق المسألة السابقة (بيع ما يملك مع ما لا يملك) علي بعض فروضها.

قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد: «لو باع مالك النصف، النصف، انصراف إلي نصيبه، و يحتمل الاشاعة … »، و قال في مفتاح الكرامة في شرح هذا الكلام: «هذان الاحتمالان ذكرا في نهاية الأحكام و الايضاح و جامع المقاصد في موضعين منه، أي الأخير، في البيع و الوصايا، مع حكمه فيهما بأن الاحتمال الأوّل هو الأصح، و في باب الصلح جزم بالأول، و في المسالك في باب الصلح نسبه إلي

الأصحاب و قد أخذ مسلما في غصب جامع المقاصد و المسالك» «1».

و قال في الجواهر: «لو باع مالك النصف مثلا النصف انصرف إلي نصيبه، كما صرّح به جميع من تعرض لذلك، ثم نقل ارساله ارسال المسلمات عن غصب جامع المقاصد و المسالك» «2».

أقول: و المسألة غير محرّرة في كلام الأصحاب من جهة أنّها ناظرة إلي مقام الثبوت أو الإثبات، و إن كان الأوّل أظهر في كلماتهم، و لكن مثال بعضهم بالاقرار في ذيل المسألة يرشد إلي الثاني، و كذا بعض أدلتهم، و كيف كان لا بدّ من التكلم في المقامين فنقول و منه جل ثنائه نستمد التوفيق و الهداية:

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 207.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 316.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 389

إن كان الكلام في مقام الثبوت بأن علم قصد البائع و أنّه لم يقصد إلّا مفهوم النصف المشاع من غيره تقييده بشي ء من ماله غيره أو مشترك بينهما (الاشتراك يتصور علي نحو التساوي و غير التساوي بأن يكون مثلا ثلثا منه و ثلثان من غيره و كذا العكس) فحينئذ يقع الكلام في أنّ النصف المشاع منصرف بحسب القصد إلي النصف المشاع في مجموع الحصتين أو لا ينصرف؟ فان قلنا بعدم انصرافه إلي ذلك بل مفاده بحسب قصد التكلم هو مطلق نصف المال، فحينئذ يبقي ظهور انصراف البيع إلي نفسه و في حقه خاليا عن المعارض، و إلّا وقع التعارض بينهما (و ليس التعارض هنا بحسب مقام الدلالة و الإثبات بل بحسب مقام الإرادة و الثبوت).

و بما أن انصراف النصف إلي خصوص النصف المشاع بين الحقين غير ثابت، بل الانصاف انصرافه إلي نصف الجموع من دون فرق بين كونه

مشتركا أو مختصا، و لو ثبت هذا الانصراف كان ضعيفا في مقابل انصراف البيع لنفسه، كان الحق ما ذكره المشهور من حمله علي نصفه المشاع.

و منه يظهر الكلام في مقام الإثبات، و أنّه لا يسمع دعواه في قصد البيع لغير نفسه مطلقا بل مقام الإثبات أوضح و أظهر.

و هذا هو العمدة و لكن ذكر في الايضاح في توجيه كلام المشهور امورا لا تخلو عن الإشكال:

1- منها أنّ الأصل في البيع اللزوم، و لهذا يحكم به عند الاطلاق و عدم العلم بالموانع.

2- و منها أنّه لو قال: بعتك غانما (و هو اسم مشترك بين عبده و عبد غيره) حمل علي عبده إجماعا (فكذا في المقام).

3- و منها أنّه لو أوصي بنصف المشترك صحّ في نصيبه «1».

قلت: أمّا التمسك بالأصل فالظاهر أنّه في غير محله، لأنّه ينفع إذا كان الشك في الحكم، و الحال أنّ محل الكلام من الشك في الموضوع، و أمّا الثاني فهو أيضا مغاير لما نحن فيه لأنّه

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 2، ص 207.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 390

غير قابل للحصتين، و أمّا الثالث فهو أيضا خارج عن محل الكلام لأنّه لا تجوز الوصية في مال الغير و إن أجاز، فتأمل.

بقي هنا شي ء

و هو أنّ السيد الطباطبائي قدّس سرّه ذكر في تعليقاته أنّ التكلم في المسألة في مقامين:

«أحدهما»: ما إذا علم كون مراد البائع من النصف شيئا معينا من نصفه المختص أو المشاع بين الحصتين و يكون الغرض تشخيص مراده.

و «الثاني»: ما إذا علم أنّه لم يقصد إلّا مفهوم النصف من غير نظر إلي مال أو مال غيره، ثم قال: الظاهر أنّ محل كلامهم هو الأوّل، و استدل له بأنّ استدلالهم بظهور المقام

أو غيره في مقابل ظهور النصف في الاشاعة لا يناسب إلّا المقام الأوّل، إذ الرجوع إلي الظهور إنّما هو لتشخيص المرادات.

أقول: الرجوع إلي الظهورات قد يكون لكشف المراد الإجمالي في مقابل المراد التفصيلي، توضيح ذلك: إنّ المراد من اللفظ قد يكون محتملا منهما بحسب اللحاظ البدوي حتي نظر القائل، و لكن عند الدقّة و التأمل يتبيّن أنّ مراده في عمق الذهن فرد خاص، و من قصد بيع النصف من دون ذكر قيد إن كان مراده بحسب الاخطار بالبال مطلق النصف، و لكن حيث إنّ الإنسان لا يبيع إلّا لنفسه (إلّا أن يكون وكيلا أو وليا أو غاصبا لا يعتني بحكم الشرع) فهو قاصد في الواقع بيع حصته إجمالا و إن لم يبيّنه تفصيلا، و إن هو إلّا نظير تفاوت الداعي و الاخطار بالبال في مسألة النية في أبواب العبادات، و الظاهر أنّ مثل هذا القصد الإجمالي كاف في صحة البيع، كما يكفي في العبادات و إن كان بينهما تفاوت من جهات اخري.

و الظاهر أنّ الرجوع إلي الظهورات هنا إنّما هو لكشف هذا القصد الإجمالي و لو كان مرادهم ما ذكره قدّس سرّه لم يناسب المقام، بل كان أشبه بمباحث المنازعات و الدعاوي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 391

مسألة: إذا باع ما يملك مع ما لا يقبل الملك، كالخمر و الأعيان النجسة فهل يصح البيع فيما يملك أم لا؟

المشهور هو الصحة فيما يقبل الملك (بصحة من الثمن) بل ادعي الإجماع عليه و يجوز الاستدلال له بما مرّ في المسألة السابقة من العمومات، مثل أحل اللّه البيع، و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و أمّا الاستدلال له بحديث الصفار فمشكل جدّا، و إن ركن إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه،

و ذلك لعدم تصور ما لا يقبل الملك في أراضي القرية، و الموقوفة ملك لكن لا يصح بيعها، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ذلك يتصور في الأراضي الموات و لكن شمول الكلام في مفروض الرواية لها مشكل جدّا، و الظاهر إنّها منصرفة إلي القرية العامرة، و لا أقل من عدم الاطلاق فيها، نعم يمكن أن يقال بإلغاء الخصوصية منها، فتأمل.

و أمّا المانع هنا فهو عين ما مرّ في المسألة السابقة (بيع ما يملك مع ما لا يملك) من لزوم عدم تبعية العقود للقصود، و الجهل بالعوض، و حصول الضرر، و عدم جواز التفكيك في الإنشاء، و قد عرفت الجواب عن الجميع، و أنّ القصد هنا حاصل لتعدد المطلوب، و المقدار للازم من العلم بالعوضين هو العلم بالمجموع من حيث المجموع و هو حاصل و الضرر مندفع بالخيار، و التفكيك هنا في المنشأ لا الإنشاء.

بقي هنا أمران:
أولهما: إذا علم المشتري بالحال و بأن البيع لا يصح في ما لا يملك شرعا

، فقد ذكروا أقوالا:

1- البطلان كما عن العلّامة قدّس سرّه في التذكرة نظرا إلي ما عرفت من لزوم الجهل بالعوض و قد عرفت جوابه.

2- الصحة مع كون الثمن كله بازاء المملوك نظرا إلي أنّه يعلم بعدم وقوع شي ء من الثمن في مقابله، و قد حكي هذا القول عن الشهيد قدّس سرّه في بعض حواشيه، و لكن قد عرفت أنّ العرف كثيرا ما يبني علي مالية هذه الاشياء و لا يعتني بحكم الشرع.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 392

3- الصحة مع التقسيط و هذا هو الأقوي، و لعله ظاهر المشهور و هو نظير بيع المغصوب المبني علي الملكية الادعائية كما يتراءي من حال الغاصبين.

ثانيهما: في كيفية تقويم الخمر و الخنزير و غيرهما، ممّا لا مالية لها

، فالمعروف الرجوع إلي قيمتها عند مستحليها، و من بحكمهم من عصاة المسلمين، كما صرّح به في الجواهر «1» لكن لا بمعني قبول قولهم، بل معني تحصيل العلم بذلك الحاصل من التواتر أو القرائن أو شهادة عدلين ممن عاشرهم، أو كان منهم و قد تاب و رجع، بل العدل الواحد بناء علي ما هو الأقوي من قبول قوله في الموضوعات أيضا، أو الاطمينان القائم مقام العلم عرفا.

و قد نقل المحقق المامقاني قدّس سرّه في «غاية الآمال» عن بعض الاساتذة أنّه لو اختلف التقويم عند المستحلين من الكفار و المسلمين فقد احتمل فيه:

1- تخيير البائع.

2- تخيير المشتري.

3- القرعة.

4- تقديم الكفار، لأنّهم أخبر، أو المسلمين لأنّهم أوثق، و قد حكي ترجيح الأخير عنه «2».

أقول: مرجع المسألة في الحقيقة إلي الاختلاف في مقدار الثمن المقابل للمملوك مع معلومية المثمن و حينئذ لا وجه لشي ء من الاحتمالات المذكورة، بل الظاهر أن الحكم هو البطلان لو رجع إلي التداعي و التحالف، أمّا بدون التداعي- كما إذا

كان كل منهما في شك و كان طالبا لما هو حكمه الواقعي- لا يبعد الأخذ بالأقل لأنّ انتقال المثمن قطعي، إنّما الشك في الزائد من الثمن، و الأصل عدمه و المسألة تحتاج إلي مزيد تأمل.

هذا إذا كان الاختلاف من المتبايعين في التقويم عندهم، أمّا إذا اختلفت القيمة عند أهله، فالظاهر أنّه يؤخذ بما هو الأوسط، فتدبّر.

و قد أشار «السيد الطباطبائي قدّس سرّه» هنا إلي نكتة ينبغي الإشارة إليها و إن كانت ظاهرة في الجملة، و هي أنّ المدار علي قيمتهما في مكان البيع، لا في بلاد الكفر و حينئذ قد لا يكون

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 321.

(2). غاية الآمال، ج 22، ص 412.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 393

لهما في بلاد الإسلام التي هي مكان البيع قيمة أصلا، لعدم وجود كافر أو فاسق راغب فيها …

فيكون البيع باطلا في الكل لعدم إمكان تعين ما بإزاء البعض المملوك «1».

قلت: ما ذكره حق، و لكن الاولي أن يعلل بعدم القيمة لغير المملوك لا بعدم إمكان تعيينها، فيبطل البيع لعدم القصد إلي الثمن الكذائي بازاء خصوص المملوك قطعا.

هذا و يمكن أن يقال بأن اقدامهما دليل علي كون كل منهما مالا في نظرهما، فيرجع إليهما في نسبة كل مع الآخر و يؤخذ من المجموع بهذا النسبة، فتأمل.

______________________________

(1). حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي اليزدي قدّس سرّه، ص 198.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 395

الكلام في أولياء العقد

اشارة

قال في الحدائق: «كما يصح العقد من المالك كذا يصح من القائم مقامه، و هم ستة علي ما ذكره الأصحاب، و سبعة علي ما يستفاد من الأخبار، و به صرّحوا أيضا في غير هذا الموضع:

الأب، و الجد له لا الام، و الوصي، و الوكيل

من المالك، أو ممن له الولاية، و المالك الشرعي حيث فقد الأربعة المتقدمة، و أمينه و هو المنصوب من قبله لذلك أو لما هو الأعمّ، و عدول المؤمنين مع تعذر الحاكم أو تعذر الوصول إليه» (انتهي ملخصا) «1».

و قد ذكر العلّامة قدّس سرّه الستة الاولي مع المالك في عبارة القواعد، و قال في المفتاح بعد هذا، ما نصه: «اشتراط كون البائع أحد هذه السبعة ممّا طفحت به عبارة الأصحاب كالشيخ و أبي المكارم و الحلي و من تأخر عنهم إلّا من شذ، و الأشهر الاظهر بين الطائفة كما في الرياض مع زيادة عدول المؤمنين مع فقد هؤلاء، و في الرياض بعد ذكر السبعة: لا خلاف في الولاية لهؤلاء، بل الظاهر الإجماع عليه و هو الحجة كالأخبار المتواترة» «2».

و الظاهر أنّه كذلك، أعني الحكم في هذه الموارد السبعة ممّا لا كلام فيه في الجملة، و إنّما الكلام في خصوصياتها و إليك شرح كل منها:

«الأوّل» «و الثاني» ولاية الأب و الجد:

اشارة

الظاهر المصرح به في كلمات كثير منهم ولاية الأب و الجد علي التصرف في أموال

______________________________

(1). الحدائق الناضرة، ج 18، ص 403.

(2). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 184.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 396

الطفل بالبيع و الشراء و نحوهما في الجملة، و قد تعرض الفقهاء للمسألة هنا و في أبواب الحجر، و في كتاب النكاح أيضا إشارة إليه.

قال في مفتاح الكرامة: «لا خلاف و لا نزاع في جواز البيع و الشراء و سائر التصرفات للأطفال و المجانين المتصل جنونهم و سفههم بالبلوغ من الأب و الجد» «1».

و قال في كتاب الحجر: «و قد نص في المبسوط و الشرائع و النافع و التذكرة و التبصرة و التحرير و الإرشاد و اللمعة و جامع

المقاصد و الروضة و المسالك و مجمع البرهان و الكفاية و غيرها، أنّ الولاية في مال الطفل و المجنون، لأبيه وجده و إن علا» «2».

و بالجملة الظاهر اتفاق آرائهم في ذلك، و يدل عليه مضافا إلي ما ذكره، و إلي الروايات الآتية، استقرار السيرة عليه من أهل الشرع، بل العقلاء كلهم، في حفظ أموال أولادهم و التصرف فيها بما هو صلاحهم بأنواع التصرفات.

و هذا من أهم أدلة المسألة و إن لم يتعرضوا له غالبا.

و الظاهر أنّ هذه السيرة لا تختص بقوم دون قوم و ملّة دون ملّة، فقد نري الجميع يجعلون الولاية للأب أو هو مع الجد علي الطفل بجميع شئونه، و يرون من شئون تربية الطفل حفظه بنفسه و أمواله و بما أنّ الشارع لم يردع عنه بل أكّده و قرره و أمضاه، فلا يبقي إشكال في المسألة، بل لا يحتاج إلي الامضاء إذا كانت السيرة بعنوان أهل الشرع، فسيرة أهل الشرع بنفسها دليل علي الحكم، و سيرة العقلاء بعد إمضاء الشرع و لو بعدم الردع كما لا يخفي.

و أمّا الروايات الدالة علي الحكم فهي علي طوائف:

الطائفة الاولي: الروايات الدالة علي جواز الوصية بأموال الصغار، فلو لم يكن للأب ولاية علي أموال طفله كيف يصح له جعلها بيد الوصي، و هي روايات كثيرة متفرعة في أبواب الوصايا و غيرها مثل:

و ما رواه محمد بن عيسي عمن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «في رجل مات و أوصي إلي رجل و له ابن صغير فأدرك الغلام و ذهب إلي الوصي و قال له: ردّ عليّ مالي

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 184.

(2). المصدر السابق، ج 5، ص 255.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)،

ص: 397

لأتزوج فأبي عليه فذهب حتي زني، فقال: يلزم ثلثي إثم زنا هذا الرجل ذلك الوصي الذي منعه المال» الحديث «1».

و ما رواه سعد بن إسماعيل عن أبيه قال: «سألت الرضا عليه السّلام عن وصي ايتام يدرك أيتامه فيعرض عليهم أن يأخذوا الذي لهم فيأبون عليه كيف يصنع؟ قال: يردّ عليهم و يكرههم عليه» «2».

إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني التي وردت في أبواب الوصايا و أحكام عقد البيع.

الطائفة الثانية: ما ورد في الاتّجار بمال اليتيم، و قد صرّح في بعضها بولاية الأب علي أموال الصغير، مثل ما روي محمد بن الفضيل قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن صبية صغار لهم مال بيد أبيهم أو أخيهم هل يجب علي مالهم زكاة؟ فقال: لا يجب في مالهم زكاة حتي يعمل به، فإذا عمل به وجب الزكاة، فأمّا إذا كان موقوفا فلا زكاة عليه» «3».

و ما رواه أبو الربيع قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل في يديه مال الأخ له يتيم و هو وصيه أ يصلح له أن يعمل به؟ قال: نعم كما يعمل بمال غيره و الربح بينهما، قال قلت: فهل عليه الضمان؟ قال: إذا كان ناظرا له» «4».

و كذا ما دل علي جواز الاقتراض من مال اليتيم، مثل ما روي منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل ولي مال يتيم أ يستقرض منه؟ فقال: إنّ علي بن الحسين عليه السّلام قد كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجر، فلا بأس بذلك» «5».

الطائفة الثالثة: ما دلّ علي جواز التصرف في مال الولد بتقويم جاريته و أخذها لنفسه إن شاء مثل ما رواه داود بن سرحان

قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل يكون لبعض ولده جارية و ولده صغار، قال: لا يصلح له أن يطأها حتي يقوّمها قيمة عدل، ثم يأخذها و يكون لولده عليه ثمنها» «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 46 من أبواب أحكام الوصايا، ح 1.

(2). المصدر السابق، الباب 47 من أبواب أحكام الوصايا، ح 1.

(3). المصدر السابق، ج 6، الباب 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة، ح 4.

(4). المصدر السابق، ج 6، الباب 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة، ح 6.

(5). المصدر السابق، ج 12، الباب 76 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(6). المصدر السابق، ج 14، الباب 40 من أبواب نكاح العبيد و الاماء، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 398

إلي غير ذلك ممّا ورد في هذا المعني و فيها بعض المعارضات.

هذا و لكن لا دلالة لها علي جواز التصرف في أمواله مطلقا لنفسه و لا له، و الظاهر أنّ للجارية خصوصية كما لا يخفي علي من راجع هذه الروايات.

الطائفة الرابعة: ما دلّ علي ولاية الأب علي تزويج الصغير و الصغيرة، و يستفاد منها حكم الأموال بالأولوية مثل ما رواه ابن بزيع قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الصبية يزوجها أبوها ثم يموت و هي صغيرة فتكبر قبل أن يدخل بها زوجها يجوز عليها التزويج أو الأمر إليها؟ قال: يجوز عليها تزويج أبيها» «1».

و ما رواه محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الصبي يزوج الصبية قال: إن كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم جائز، و لكن لهما الخيار إذا أدركا، فان رضيا بعد ذلك فان المهر علي الأب» «2».

إلي غير ذلك ممّا يدل عليه، و

لكن المستفاد من غير واحد منها كون الابن أو الابنة بالخيار بعد بلوغه أو بلوغها و لكن ذلك لا ينافي صحة النكاح و نفوذه- هذا و لكن الانصاف أنّ الأخذ بالأولوية غير ظاهر و لعل للنكاح خصوصية تقتضي هذه الولاية مع كون الشائع بينهم في تلك الأعصار تزويج أولادهم في صغرهم لبعض المصالح المعلومة عندهم، فتدبّر.

الطائفة الخامسة: ما دلّ علي كون الولد و ماله لأبيه، ممّا يستفاد منه جواز التصرف منه لنفسه، فكيف للولد، و هي كثيرة:

منها: ما يدلّ علي جواز أخذه من مال ولده مطلقا، للحج و غيره.

مثل ما روي محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يحتاج إلي مال ابنه قال: يأكل منه ما شاء من غير سرف» «3».

و ما رواه سعيد بن يسار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ يحج الرجل من مال ابنه و هو صغير؟ قال: نعم قلت يحج حجة الإسلام و ينفق منه؟ قال: نعم بالمعروف ثم قال: نعم

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 6 من أبواب عقد النكاح، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 8.

(3). المصدر السابق، ج 12 الباب 78 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 399

يحج منه و ينفق منه، إن مال الولد للوالد» «1».

و ما رواه ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يكون لولده مال فأحب أنّ يأخذ منه، قال: فليأخذ» «2».

و منها: ما يدل علي جواز أخذه من مال ولده إذا كان له حاجة لغير اسراف لا مطلقا، مثل ما رواه الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام: «إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله

قال لرجل: أنت و مالك لأبيك، ثم قال أبو جعفر عليه السّلام: ما أحب أن يأخذ من مال ابنه إلّا ما احتاج إليه ممّا لا بدّ منه، إن اللّه لٰا يُحِبُّ الْفَسٰادَ» «3».

و ما رواه علي بن جعفر عن أبي ابراهيم عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يأكل من مال ولده؟

قال: لا، إلّا أن يضطر إليه، فيأكل منه بالمعروف» «4».

إلي غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب و في أبواب النكاح و الحج.

و منها: ما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أني لذات يوم عند زياد بن عبد اللّه إذا جاء رجل يستعدي علي أبيه، فقال: أصلح اللّه الامير أنّ أبي زوج ابنتي بغير أذني، فقال زياد لجلسائه الذين عنده: ما تقولون فيما يقول الرجل؟ فقالوا:، نكاحه باطل، قال: ثم أقبل عليّ فقال ما تقول يا أبا عبد اللّه؟ فلما سألني أقبلت علي الذين أجابوه فقلت: نعم، أ ليس فيما تروون أنتم عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن رجلا جاء يستعديه علي أبيه في مثل هذا، فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أنت و مالك لأبيك؟ قالوا: بلي، فقلت: فكيف يكون هذا و ماله لأبيه و لا يجوز نكاحه؟» «5».

و ما رواه سعيد بن يسار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يحج من مال ابنه و هو صغير؟ قال: نعم يحج منه حجة الإسلام، قلت: و ينفق منه؟ قال: نعم ثم قال: إنّ مال

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12 الباب 78 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). المصدر السابق، ح 7.

(3). المصدر السابق، ح 2.

(4). المصدر السابق، ح 6.

(5). المصدر السابق، ج 14، الباب 11

من أبواب عقد النكاح، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 400

الولد لوالده، أن رجلا اختصم هو و والده إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله، فقضي أنّ المال و الولد للوالد» «1».

و الروايات في هذا المعني مروية من طريق العامة أيضا، مثل ما رواه أحمد في مسنده:

«أنّ أعرابيا أتي النبي صلّي اللّه عليه و آله فقال: إن لي مالا و والدا، و إن والدي يريد أن يجتاح (اجتاح أي افني) مالي، فقال: أنت و مالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم» «2».

و قريب منه ما رواه هو أيضا عنه صلّي اللّه عليه و آله: «أنت و مالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، و أن أموال أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئا» «3».

و التحقيق في مفاد هذه الروايات أن يقال: إمّا هي محمولة علي حكم اخلاقي و هو أنّه لا ينبغي للولد أن يماكس في حق والده، و أن يكون بنفسه و بماله في اختياره كما يساعد عليه الاستدلال الإمام الرضا عليه السّلام في ما رواه محمد بن سنان أن الرضا عليه السّلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسألة: و علة تحليل مال الولد لوالده بغير أذنه و ليس ذلك للولد، لأنّ الولد موهوب للوالد في قوله عزّ و جل: يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ إِنٰاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ الذُّكُورَ «4».

و ممّا يلوح منه آثار الاستحباب هو الاستيناس للحكم ببعض الاشارات الواردة في القرآن الكريم، لوضوح أنّ التعبير بقوله تعالي يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ إِنٰاثاً … إلي آخرها ليست الهبة التمليكية، و كذلك قوله تعالي: ادْعُوهُمْ لِآبٰائِهِمْ في ذيل الرواية و هذه تعبيرات تناسب ذلك الحكم الاستحبابي الاخلاقي لا غير.

أو

يحتمل علي الضرورة و الحاجة، فيدخل في مسألة نفقة الأب في مال الابن (كما يشهد له رواية 2 و 6 و 8 من الباب 78 من أبواب ما يكتسب به من، ج 12).

أمّا رواية سعيد بن يسار فقد حملها بعضهم علي جواز الاقتراض من مال الولد أو علي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8 الباب 36 من أبواب وجوب الحج، ح 1.

(2). مسند أحمد بن حنبل، ج 2، ص 214.

(3). المصدر السابق، ص 179.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 78 من أبواب ما يكتسب به، ح 9.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 401

كون نفقة السفر مثل نفقة الحضر مع كون الأب محتاجا.

و قد صرّح المحققون بأنّ المشهور بين الأصحاب عدم الجواز، و ذكر الشيخ قدّس سرّه في ا لخلاف عن أهل الخلاف منعهم عنه جميعا «1»، و لعل الأرجح بحسب القواعد أيضا تقديم روايات المنع لموافقتها للكتاب و السنة مع معارضتها بقول المشهور.

و بالجملة لا يمكن رفع اليد عن الاصول الثابتة في الشرع من عدم جواز التصرف في مال الغير إلّا بإذنه بمثل هذه الروايات التي يمكن حملها علي وجوه شتي و فيها قرائن علي هذه المحامل فتدبّر جيدا.

و خلاصة القول فيها أنّ اللام في «أنت و مالك لأبيك» لا يمكن حملها علي الملكية، لعدم كون الولد رقا لأبيه بالضرورة، فلا بدّ أن يحمل إمّا علي السلطنة و جواز الانتفاع، و حينئذ نقول إنّ حملناها علي الحكم الأخلاقي كما يكون دارجا في كلمات أهل العرف أيضا حيث يقول بعض الأحبة لبعض آخر: أنا عبدك و العبد و ما في يده لمولاه، أو علي جواز أخذ مقدار النفقة عند الحاجة و شبه ذلك فلا كلام.

و إلّا كانت

الروايات متعارضة من الجانبين، و لا ينبغي الشك في ترجيح الروايات المانعة عند تعارضها لمرجحات شتي، من موافقة كتاب اللّه و السنة، و الاصول المستفادة منها، و موافقة الشهرة، و أمّا مجرّد مخالفة العامة في الروايات الجواز فلا يقاوم لما مرّ كما هو ظاهر.

بقي هنا امور:
1- هل يعتبر في تصرفاتهما رعاية الغبطة و المصلحة؟

أو يكفي عدم المضرة، أو يجوز و لو مع الضرر؟

المعروف بين الأصحاب بل أدعي الإجماع عليه اعتبار المصلحة، و مراعاة حفظ

______________________________

(1). الخلاف، ج 1، ص 373 كتاب الحج.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 402

الصبي، و لكن صرح شيخنا الأعظم قدّس سرّه بكفاية عدم المفسدة، وفاقا لجمع من الاساطين، و يظهر من بعض الروايات السابقة جواز المضرة أيضا.

قلت: أمّا احتمال جواز التصرف و لو مع الضرر علي الولد فهو مبني علي ما عرفت من القول بكون الولد و ماله للوالد، و قد عرفت عدم إمكان المساعدة معها، و أنّه حكم استحبابي أخلاقي، أو محمول علي حال الضرورة و الحاجة التي يجوز فيها للأب أخذ نفقته من مال ولده.

فيبقي القولان الأولان، و الظاهر أنّ مقتضي القاعدة عدم جواز التصرف في غير مورد المصلحة، لأن الأصل عدم الولاية، مضافا إلي ما قد عرفت من أنّ أصل هذا الحكم مأخوذ من بناء العقلاء و إمضاء الشارع، و من المعلوم أنّ ملاكه عندهم حفظ مصالح الولد، لا مصالح الأب و الجد، فكل ما ليس لا يكون في مصلحة فهو غير نافذ، نعم قد اجيز للناظر في أموال اليتامي أن يأكل منه بالمعروف (كما يظهر من الآية و الروايات) ففي الأب بطريق أولي.

لكن الظاهر أنّه أيضا من باب حفظ مصلحة اليتيم لئلا يكون عمل القائم بأمره خاليا عن العوض فيرغب عن حفظ أمواله، و لعل ما

ورد من جواز الاستقراض من مال اليتيم أو الاتّجار بماله أيضا من هذا الباب «1». و من هنا يظهر أنّ الأخذ باطلاق روايات الولاية لإثبات جواز التصرف بغير مفسدة كما يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في غير محله بعد انصرافها إلي ما عند العقلاء و بالجملة لو لم يكن هذا الشرط أقوي فلا أقل من أنّه أحوط.

و قد يستدل له أيضا بقوله تعالي: وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ* «2». لأنّها تشمل الجدّ إذا كان الطفل يتيما، و لكن النسبة بينها و بين روايات الباب بناء علي اطلاقها عموم من وجه، و لعل الترجيح مع الاطلاق، فتأمل.

و يدلّ علي أصل الحكم أيضا اطلاق ما ورد في باب الحجر، مثل:

و ما روي هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام و هو أشده، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشده و كان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليّه ماله» «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 76 من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). سورة الانعام، الآية 152.

(3). وسائل الشيعة، ج 13، الباب من أبواب الحجر، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 403

2- هل تعتبر العدالة في الولي؟

مقتضي الأصل اعتباره خلافا لما أفاده في المكاسب، لأنّ الأصل عدم ولاية أحد علي أحد، و لكن اطلاق بعض ما مرّ من الأحاديث السابقة كأحاديث الوصية الظاهرة في عدم اعتبار العدالة في الوصي، و كذا الموصي، و غير ذلك ممّا مرّ ذكره، دليل علي المقصود، مضافا إلي ما عرفت من أنّ أصل الحكم مأخوذ من سيرة العقلاء التي أمضاها الشرع، و من الواضح أنّهم لا يعتبرون العدالة في حقّه.

و عدم اعتبار

العدالة في الوصي الذي هو فرع وجود الموصي أيضا شاهد عليه و الظاهر أنّ سيرة أهل الشرع أيضا مستقرة علي ذلك لأنّهم لا يمنعون الآباء عن التصرف في أموال أولادهم بمجرّد صدور بعض المعاصي عنهم.

و استدل المحقق النائيني قدّس سرّه أيضا بما روي هشام في الحديث الأوّل من باب الأوّل من كتاب الحجر و لكن الظاهر أنّه في مقام بيان حكم آخر، و هو حدّ البلوغ، فهو أجنبي عمّا نحن بصدده.

و استدل للقول بعدم الجواز تارة بحكمة الصانع و أنّه لا يجعل الفاسق أمينا يقبل اقراراته و اخباراته عن غيره، و اخري بنص القرآن الكريم علي خلافه (كما عن الايضاح).

و يردّ الأوّل أنّه يمكن كون الفاسق أمينا من جهة الأموال كما هو الغالب في الآباء بالنسبة إلي أولادهم.

و الثاني بأنّه لو كان المراد من نص القرآن آية الركون إلي الظالمين، فالظاهر أنّ المراد منه الركون إليهم في ظلمهم، فلا يشمل المقام، مضافا إلي أنّ الأقرب في النظر أن يكون المراد آية النبأ بقرينة قوله: «يقبل اقراراته و اخباراته عن غير».

و الجواب عنه حينئذ إن تعطيل الآية لا تشمل الثقة، و ظهور التعليل مقدم، مع أنّ الكلام ليس في الاقرارات و الأخبارات بل في نفس التصرفات.

و كذا يمكن أن يكون المراد آية النهي عن إيتاء السفهاء الأموال «1» بقرينة الروايات

______________________________

(1). و هي الآية 5 من سورة النساء.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 404

المتعددة الواردة في تفسيرها من أنّ «شارب الخمر» أو «من لا تثق به» فاسق.

و الجواب عنه أنّه لا يستفاد منها سوي الوثوق لو قلنا به، هذا و لو كان الأب مفسدا لأموال الطفل وجب علي الحاكم منعه لولايته العامة كما هو ظاهر.

ثم أنّه

ذكر بعضهم أنّه لا تظهر ثمرة عملية لاعتبار هذا الشرط، بناء علي اعتبار رعاية المصلحة أو عدم المفسدة إلّا بناء علي اعتبار العدالة موضوعيا كما في إمام الجماعة.

و لكن تظهر الثمرة في منع الحاكم عنه إذا لم تعلم المصلحة.

و قد يقال بمنع ولاية الوالد الكافر علي الولد المسلم، لكونه تابعا لأمه المسلمة «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا و ليس ببعيد».

3- هل أنّ ولاية الأب و الجدّ في عرض واحد؟

لا إشكال في ولاية الجدّ في الجملة، و يدل عليه غير واحد ممّا سبق، و المعروف أنّه في عرض الأب و لكنه غير ظاهر إن كان الأصل في الحكم سيرة العقلاء، و الأولوية في الارث مؤيدة للإشكال.

نعم يظهر من الروايات الواردة في أبواب النكاح (الباب 11 من أبواب عقد النكاح من، ج 14) أنّ الأب و الجد في عرض واحد، فأيّهما سبق في النكاح كان عقده صحيحا، بل يظهر من غير واحد منها أولوية الجد إذا هوي أبوها أحدا و هوي جدها شخصا آخر.

و لكن قد عرفت أنّ التعدي منها إلي البيع لا يخلو عن أشكال، فالأحوط عدم تصرف الجد مع وجوب الأب إلّا بإذنه، و أمّا إذا فقد الأب فقد يقال بأن الجد القريب أولي كما في الارث لآية «أولي الارحام»، و لكن ذكرنا في محله مستوفي أنّ الآية لا دلالة لها علي الأولوية من هذه الناحية فراجع ما ذكرناه في أبواب الارث و في تفسيرنا (تفسير الأمثل) و الحمد اللّه.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 405

[الثالث] ولاية الفقيه و وظائفه

اشارة

لما وصل البحث في كتاب البيع إلي هنا (أولياء عقد البيع) طلب مني كثير من الاخوة التكلم في مسألة ولاية الفقيه بشي ء من التفصيل، فأجبت دعوتهم لكون المسألة ممّا تعم بها البلوي، لا سيما اليوم، بل البلوي بها أشدّ من كثير من المسائل الفرعية لابتناء الحكومة الإسلامية عليها فنقول و نستمد من اللّه تبارك و تعالي التوفيق و الهداية إلي ما يرضاه و يرضي رسوله و الائمة الهادون من أهل بيته عليهم السّلام:

المقام الاول: مناصب الفقيه
اشارة

إنّما عبّرنا بهذا العنوان (مناصب الفقيه … ) بدلا عمّا هو المعروف من مسألة ولاية الفقيه، لكونه أعم و أتم كما سيظهر لك في مطاوي البحث، و اعلم أنّ له مناصب مختلفة:

المنصب الأوّل: منصب الافتاء
اشارة

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه:

للفقيه الجامع للشرائط مناصب ثلاثة، أحدها: الافتاء فيما يحتاج إليها العامي في عمله، و مورده المسائل الفرعية و الموضوعات الاستنباطية من حيث ترتب حكم شرعي عليها.

أقول: الافتاء كما أنّه من مناصب الفقيه فانّه من وظائفه أيضا، و بجب عليه وجوبا كفائيا، و للعوام أنّ يقلدوه، و لا بأس بالإشارة إلي دليل جواز التقليد هنا إجمالا و إن كان شرحه موكولا إلي محله.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 406

و العمدة فيه قبل الآيات و الروايات سيرة العقلاء عموما، و سيرة أهل الشرع خصوصا في رجوع الجاهل إلي العالم، و الأولي حجة بعد إمضاء الشرع و لو بعدم الردع، و الثانية حجة من دون حاجة إلي أمر آخر.

أمّا الأولي فهي ظاهرة لمن نظر في امور العقلاء، لأنّ المتداول بينهم من قديم الأيّام إلي حديثه، و من أرباب الديانات إلي غيرهم، رجوع كل جاهل في علم و فن إلي عالمه، لا تجد له نكيرا و لا تسمع فيه خلافا.

و السّر فيه أن العلوم و الفنون كثيرة، متشعبة بشعب مختلفة، لا يقدر كل إنسان- أي إنسان كان- علي الاجتهاد في جميعها، بل و لا في عشر من أعشارها، و لذا قد يكون مجتهدا في علم أو علمين، في فن أو فنين دون غيرها، فالطريق له هو الأخذ بقول من هو مجتهد فيها، فالمهندس يرجع إلي الطبيب إذا مرض، كما أن الطبيب يرجع إليه إذا أراد بناء بيت أو مستشفي، و

لا يستغني واحد منهما عن الآخر، و كذا أرباب الحرف و الصنائع و العلوم، و هذا أمر واضح.

و أمّا العمل بالاحتياط فغير ممكن إلّا لبعض الاوحدي من أهل الفضل، و لا في جميع المسائل، فانّ الأمر في بعضها يدور بين المحذورين لا بدّ من الاجتهاد فيها، كما إذا نذر الصوم في السفر لا يدري أنّه صحيح حتي يكون واجبا أو باطل حتي يكون حراما، و كذا إذا حكم الحاكم بأن اليوم يوم عيد، فانّ قلنا باعتبار حكم الحاكم في الهلال فيحرم عليه الصيام، و إلّا فيجب عليه إلي غير ذلك من اشباهه.

و ما قد يقال- كما قال به شرذمة قليلة- من أنّ التقليد حرام و أنّه يمكن لجميع الناس الرجوع إلي كتاب اللّه و كتب الحديث و أخذ الأحكام فيها و العمل بها، فاسد جدّا، لا يمكن التفوه به إلّا من غافل عن كيفية استنباط الأحكام من الكتاب و السنة، فانّه يحتاج إلي معرفة اللغة و العلوم الأدبية و التفسير و الحديث و الرجال و علم الاصول و غير ذلك، و معرفة الناسخ من المنسوخ، و الحاكم من المحكوم، و العام من الخاص، و المطلق من المقيد، و معرفة أحكام المتعارضين، و طريق الجمع بينهما، و كيف يقدر جميع الناس علي ذلك، حتي إذا فرضنا اقبالهم علي الفقه و ترك جميع التجارات و الزراعات و الصنائع و الحرف، الذي ينتهي إلي

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 407

اختلال النظام، لعدم استعداد جميعهم لذلك، حتي أنا نري في بعض الحوزات العلمية اناسا يدرسون أكثر من عشرين سنة لا يقدرون علي الاجتهاد و لو في مسألة واحدة مهمّة فقهية، فكيف بغيرهم، و الحق أنّ الاجتهاد أشد من

طول الجهاد كما أشار إليه شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلماته.

و هل يقدر جميع الناس إذا مرضوا بأمراض مختلفة أن يراجعوا بأنفسهم الكتب الطبية و يعملون بها؟ و كذا إذا أرادوا بناء دار أو مدرسة أو سوق أو غيرها يطالعون كتب الهندسة و يستغنون بها عن مراجعة أهل الخبرة، و هذا أمر واضح ظاهر.

و أمّا سيرة أهل الشرع: فقد استقرت من زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله علي رجوع الناس في المسائل الشرعية إلي فقهاء الامة فكان صلّي اللّه عليه و آله إذا فتح بلدا أرسل إليه أميرا و قاضيا فالأمير لنظم البلد، و القاضي للفتوي القضاء، و لم يكن القضاء في تلك الأيّام أمرا مستقلا عن الافتاء، فإذا جهلوا بالحكم سألوه عنه، و إذا اختلفوا و تنازعوا في الحقوق رجعوا إليه للقضاء بينهم.

و قد كان بعضهم جامعا بين مقام الامارة و الفتوي و إن كان هذا قليلا بينهم، و من هنا يتّضح حال مقبولة عمر بن حنظلة و أنّه لا عجب لو كان صدره في القضاء و ذيله في الافتاء.

ثم أنّه لما اتسع نطاق الفقه و العلم انفصل مقام القضاء عن الافتاء، فقد كان هناك فقهاء عارفون بالأحكام يراجعهم الناس في كل بلد و إن لم يكونوا من القضاة فقد قال الصادق عليه السّلام- كما في الحديث- لبعض أصحابه: أحب أن تجلس في مسجد المدينة و تفتي الناس.

نعم الاجتهاد في تلك الأعصار كان بسيطا جدّا بالنسبة إلي عصرنا حيث يكفيه معرفة اللغة و معرفة الحديث و الرواية و حكم التعارض بين الأحاديث و شبه ذلك.

و ما قد يتوهّم من أن الاجتهاد و الاستنباط لم يكن في تلك الأيّام بل كانوا يكتفون

بنقل الأحاديث المأثورة باطل جدّا، لأنّ الأحاديث قد كانت متعارضة، و كلمات أهل اللغة في تفسير بعض الآيات كانت متضاربة، إلي غير ذلك ممّا يحتاج إليه في الاحاطة بمسائل الاصول و الفقه و اللغة و غيرها و من ينكره إنّما ينكره باللسان و قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ.

هذا كلّه بالنسبة إلي الأحكام.

أمّا الموضوعات: فالحق فيها علي أقسام ثلاثة:

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 408

1- الموضوعات المستنبطة:

كالمركبات الشرعية مثل الصلاة الصيام و الحج التي تستفاد أجزائها و شرائطها و موانعها، و قد حقق في الحقيقة البحث عن هذه الموضوعات يعود إلي البحث عن أحكام الشرعية الواردة في مواردها من الأمر و النهي، لا أنّها مجعولة بذاتها، فالتقليد فيها تقليد في الأحكام واقعا.

2- الموضوعات العرفية غير المستنبطة:

و هي علي قسمين: قسم منها ظاهرة واضحة يقدر المقلد علي معرفتها كالماء المطلق و المضاف و الدم و البول و أشباهها، و لا شك أنّ معرفة حالها بيد المقلد الذي هو من أهل العرف، و حتي لو خالف علمه علم المرجع و المفتي يعمل بعمله، و لا يعتني بقوله، و الوجه فيه أنّه لا فرق في ذلك بينه و بين مرجعه، فإذا خالفه في علمه بالموضوع لزمه العمل بعلم نفسه فقط.

و قسم آخر الموضوعات العرفية الخفية ممّا تحتاج في فهمها و فهم مصاديقها إلي دقّة النظر، و سلامة الذوق، و الممارسة و الإحاطة بهذه الامور، فهذا أيضا يرجع المقلد فيه إلي مجتهده، و كثير من المسائل الفرعية في الكتب الفقهية و الرسائل العملية من هذا القبيل، فليس فيها كشفا لحكم شرعي، و استنباطا من الأدلة الشرعية بل يكون من قبيل تطبيق الكلي علي أفراده و تعيين الموضوعات الخفية، و لو لم يجز التقليد في أمثالها كان ذكر هذه الفرع في الرسائل العملية لغوا بل اغراء بالجهل.

مثلا ورد غير واحد من الأحاديث أن السجود جائز علي الأرض و ما أنبتت الأرض إلّا ما أكل و لبس «1».

و الحكم مطلق و اللفظ عام شامل و مفهومه ظاهر، و لكن مع ذلك فقد وقع الشك في شمولها لبعض الأمر كقشر الفواكه و الأدوية و العقاقير و الشاي قبل أن يطبخ و

ما يكون

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، ج 3، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، ص 591.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 409

مأكولا في بلد دون بلد، أو ملبوسا كذلك، و كذا في ما ليس كذلك بالفعل و لكن يكون مأكولا أو ملبوسا بالقوة، إلي غير ذلك من الفروع الكثيرة التي أوردوها في الكتب، و لا يقدر العامي علي استنباط أحكامها، فعلي الفقيه ملاحظة حال هذه الفروع و صدق هذين العنوانين عليها و عدمه، فان غالب العوام غير قادرين علي الدقة في هذه الامور، و لكن الفقيه لمزاولته هذه الفروع و أمثالها قادر علي استجلاء حقيقة هذه الامور من أعماق أذهان أهل العرف و ردّها إليهم، و لا عجب في ذلك، فتدبّر جيدا.

و كذلك لا شك أنّ مسافة القصر ثمانية فراسخ كما دلت عليه النصوص، و لكن في صدقها علي الثمانية الدورية أو المرتفع في الجو أو في أعماق الأرض غموضا يتصدي لرفعه الفقيه.

و كذا يظهر من بعض الروايات كفاية المحاذاة للمواقيت و قد أفتي به الأصحاب، و لكن وقع الكلام في أنّ المواقيت الخمسة (مسجد الشجرة و الجحفة و قرن المنازل و يلملم و العقيق) محيطة بالحرم بحيث ينتهي كل طريق إلي أحدها، أو ما يحاذيها، أو لا تكون كذلك، حتي يقع الكلام في حكم مثل هذا الشخص و أنّه هل يجب عليه الاحرام من أدني الحل أو غيرها؟ فهذه و إن كان من الموضوعات الخارجية و لكن إدراكها لأكثر العوام مشكل، فعلي الفقيه بذل الجهد فيها و لو بالرجوع إلي أهل الخبرة ثم الفتوي بما تقتضيه الأدلة بعد احراز الموضوع، إلي غير ذلك ممّا هو كثير.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه هل الافتاء للفقيه من

المناصب أو من الأحكام؟ كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه صريح أنّه من المناصب كالقضاء و الولاية، و لازمه أن يكون موكولا إلي نصب ولي الأمر و لكن لا دليل عليه بل ظاهر الآيات مثل آية الذكر و غيرها و الروايات الكثيرة مثل قوله «فللعوام أن يقلدوه» و غيرها كونه حكما، فالجاهل في جميع الحرف و الصنائع و العلوم يرجع إلي العلماء فيها من دون حاجة إلي نصبهم لهذا المنصب من طريق الحكومة، و كذلك في أحكام الدين.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 410

المنصب الثاني: القضاء و الحكم بين الناس
اشارة

فهذا أيضا من مناصب الفقيه و وظائفه الواجبة عليه كفاية، و قد يكون واجبا عينيا، و لا بأس بأن نشير إلي دليله إجمالا و إن كان الكلام فيه مستوفي موكول إلي محله من كتاب القضاء.

فنقول أنّه ثابت له عقلا و نقلا.

أمّا العقل: فلأنّ وقوع المنازعة و الخصومة في الجوامع البشرية ممّا لا يمكن التجنب عنه ما لم تصل إلي مستوي عال من الإيمان و التقوي و الثقافة العالية الدينية و لا بدّ حينئذ من طريق إلي فصلها، كي لا يتسع نطاقها و يذهب بالنظام كلها و يقع الهرج و المرج و إراقة الدماء و غيرها، فيجب التصدي لفصل الخصومات و الحكم بين الناس لجماعة من العلماء وجوبا كفائيا، و أحق الناس به و أولاهم بل القدر المتيقن من بينهم هو الفقيه الجامع للشرائط، العالم بأحكام الإسلام، و شرائط القضاء و الحقوق الواجبة لكل أحد كما لا يخفي، فانّه الذي يرجي منه تحقيق هذا الأمر المهم لا غيره.

و أمّا النقل: فالمعروف بين الأصحاب بل حكي الإجماع عليه عدم جواز التصدي للحكم لغير المجتهد الجامع لشرائط الافتاء و إن كان عالما بالأحكام و

الحقوق و الحدود و أحكام القضاء و شرائطه من طريق التقليد، و هذا يكشف عن وجود نص وصل إليهم و لكن خالف فيه شاذ من الفقهاء الأعلام (رضوان اللّه عليهم) منهم صاحب الجواهر و قد يستظهر من اطلاق الآيات الواردة في هذا الشأن مثل قوله تعالي: إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِليٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ و غيرها من أشباهها، اللّهم إلّا أن يقال إنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

و بالنصوص الدالة علي أن القضاء أربعة: منهم رجل قضي بالحق و هو يعلم و هو في الجنة «1» و ما أشبهها، فالمدار علي الحكم بالحق سواء كان من ناحية التقليد أو الاجتهاد.

و بالسيرة من عصره صلّي اللّه عليه و آله إلي ما بعده فلم يكن جميع القضاة المنصوبين من قبلهم عليهم السّلام

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 411

بالغين مرتبة الاجتهاد في كثير من الأوقات.

و بما يظهر من رواية أبي خديجة لظهور قوله «يعلم شيئا من قضايانا» في الأعم من المجتهد المطلق «1».

و تحقيق الكلام في ذلك موكول إلي محله و لكن الذي يجب التصريح به هنا أن معني جواز التصدي لهذا المقام لغير المجتهد ليس معناه جوازه لكل مقلد، بل اللازم العلم بجميع المسائل التي يتصدي للقضاء فيها من الحقوق، و الحدود و شرائطها، و فروعها، و العلم بجميع أحكام القضاء، و آدابه، لا يحصل ذلك إلّا لمقلد يكون تاليا للمجتهد و قريبا منه، و علي كل حال ثبوت هذا المنصب للفقيه ممّا لا ريب فيه، و أمّا الزائد عنه فهو خارج عما نحن

بصدده.

بقي هنا شي ء:

لا ينبغي الشك في أنّ القضاء من المناصب لا يجوز التصدي له إلّا بعد النصب له عموما أو خصوصا، و يدل عليه:

أولا: أنّه كذلك بين جميع الامم بل هو جزء من ولاية الحاكم، و شأن من شئونه، و لا يزال ينصب القاضي من قبل رؤساء الحكومات و ولاة الامور، و السر فيه أنّهم متصدون لنظام البلاد الذي لا يتمّ إلّا بحسن القضاء بين الناس.

مضافا إلي أنّ أحكام القضاة لا تنفذ إلّا بقوة قهرية تجبر الظالم علي أداء حق المظلوم، و هذا لا يتحقق إلّا إذا كان القاضي معتمدا علي قوة السلطان، لأنّ الناس لا يقومون بالقسط إلّا بالحديد أحيانا، و لذا أنزله اللّه بعد انزال الكتاب و الميزان.

و ثانيا: وقع التصريح بذلك في مقبولة عمر بن حنظله في قوله عليه السّلام: «فانّي قد جعلته حاكما» «2» و قوله «فانّي قد جعلته قاضيا» في رواية أبي خديجة «3» فانّها ظاهرة بل صريحة في حاجته إلي الجعل و أنّه من المناصب الإلهية التي أمرها بيد ولي الأمر.

هذا مضافا إلي أنّ المسألة مجمع عليها بين الأصحاب، فقد اجمعوا علي أنّه يشترط في ولاية القضاء إذن الإمام عليه السّلام أو من فوض إليه الإمام عليه السّلام و قد جعلوه لكل مجتهد عادل في

______________________________

(1). وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح 5.

(2). المصدر السابق، ج 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ح 1.

(3). المصدر السابق، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 412

عصر الغيبة كما يدل عليه ما مرّ آنفا.

نعم لا يشترط ذلك في قاضي التحكيم، و هو من تراضي الخصمان بالترافع إليه و الحكم بينهما فانّ المشهور بل

أدعي الإجماع عليه أنّه لا يشترط فيه النصب من قبل الإمام عليه السّلام و الكلام فيه في محله.

المنصب الثالث: الولاية
اشارة

أعني ولاية الفقيه علي التصرف بأنواع التصرفات، و هي في الجملة ممّا لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه، إنّما الكلام في حدودها و شروطها، و قد ذكر المحقق النائيني قدّس سرّه في منية الطالب أنّ للولاية مراتب ثلاثة:

«أحدها» و هي المرتبة العليا مختصة بالنبي و أوصيائه الطاهرين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) و غير قابلة للتفويض إلي أحد، و اثنان منها قابلتان للتفويض.

أمّا غير القابلة فهي كونهم عليهم السّلام أولي بالمؤمنين من أنفسهم بمقتضي الآية الشريفة النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم، و هذه المرتبة غير قابلة للسرقة و لا يمكن أن يتقمص بها من لا يليق بها.

و أمّا القابلة للتفويض فقسم منها يرجع إلي الامور السياسية التي يرجع إلي نظم البلاد و انتظام امور العباد و سد الثغور و الجهاد مع الاعداء و الدفاع عنهم و نحو ذلك ممّا يرجع إلي وظيفة الولاة و الامراء، و قسم يرجع إلي الافتاء و القضاء و … (انتهي محل الحاجة) «1».

و تبعه في هذه التقسيم جامع المدارك «2».

و الانصاف أنّ مراتب الولاية العامة أكثر من ذلك لكل منها محل خاص في الفقه، و يمكن إنهائها إلي سبع مراتب، بعضها أقوي من بعض لا بدّ من ذكرها ثم تحقيق حالها بحسب الأدلة و كلمات الفقهاء الأعلام (رضوان اللّه عليهم).

______________________________

(1). منية الطالب، ج 1، ص 325.

(2). جامع المدارك، ج 3، ص 98.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 413

المراتب السبعة في ولاية الفقيه:

1- الولاية علي أموال القصّر و الغيّب من الصغار الذين لا ولي لهم من الأب و الجدّ و الوصي و بعض المجانين و السفهاء، أي من لا يتصل جنونهم و سفههم بالصغر علي قول مشهور، بل و كذلك من يتصل علي

احتمال، و كذا الغائبين الذين تكون أموالهم في خطر لا بدّ من حفظها حسبة، و شبه ذلك من الأوقاف الخاصة.

2- الولاية علي أخذ الأخماس و الزكوات و الأوقاف العامة و صرفها في مصارفها علي ما ذكروها في أبواب الخمس و الزكاة.

3- الولاية علي إجراء الحدود الخارجة عن منصب القضاء.

4- الولاية علي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيها يتوقف علي ضرب أو جرح أو قتل أحيانا، فقد ذكروا في كتاب الأمر بالمعروف أنّ له مراحل، فما لم يبلغ إلي هذا الحد كان من وظائف عموم المؤمنين، و إذا بلغ هذا المبلغ لم يجز إلّا بنظر الحاكم.

5- الولاية علي الحكومة و السياسة، من نظم البلاد و حفظ الثغور و الدفاع في مقابل الاعداء و كل ما يرتبط بنظام المجتمع و المصالح العامة التي يتوقف عليها، و سيأتي أنّها هي العمدة في عصرنا هذا في أمر الحكومة الإسلامية.

6- الولاية علي الأموال و النفوس مطلقا و لو كان خارجا عمّا يحتاج إليه للمراحل السابقة.

7- الولاية علي التشريع بأن يكون له حق وضح القوانين و تشريعها بحسب ما يراه من المصالح.

كل ذلك ممّا لا بدّ من البحث فيه لمعرفة ما يثبت منه بحسب الأدلة القاطعة المذكورة في أبوابها.

و قد تعرض الأصحاب لهذه المسألة تارة في كتاب البيع:، و اخري في كتاب القضاء، و ثالثة في الزكاة و الخمس، و رابعة في الحجر، و خامسة في الأمر بالمعروف و سادسة في الجهاد، و سابعة في كتاب الحدود و غيرها.

ثم نتكلم في شرائط التصدي للولاية و كيفية حكم الفقيه و موقفه من العناوين «الاولية»

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 414

و «الثانوية» و موقف الناس و آحاد المؤمنين من أمر الحكومة

و كيفية مشاركتهم مع الفقيه و حكم تعدد الفقهاء، و غير ذلك ممّا هو مهم في هذا الباب.

هذا و اللازم علي القارئ أن لا يحكم بشي ء باتا في هذه المراتب، حتي يتمّ أمر الجميع فانّها مرتبطة بعضها ببعض دليلا و حجة، و العجلة ليست من شأن المؤمن العالم.

نظرة إجمالية إلي كلمات القوم في مسألة ولاية الفقيه:

و لا بأس هنا بالإشارة إلي بعض ما ذكره الأعلام هنا علي سبيل الإجمال، ثم بيان حال كل مرتبة من المراتب السبعة.

1- قال صاحب الجواهر قدّس سرّه أعلي اللّه مقامه الشريف في كتاب البيع عند البحث عن ولاية الحاكم و أمينه علي القصّر و الغيّب ما نصه:

«لا يمكن استقصاء أفراد ولاية الحاكم و أمينه، لأنّ التحقيق عمومها في كل ما احتج فيه إلي ولاية في مال أو غيره اذ هو ولي من لا ولي له» «1».

هذا الكلام بقرينة التعليل ناظر إلي «الغيب» و «القصر» و أمثالهم من «الممتنع» و «العاجز» و مراده من العموم في كل ما احتيج فيه إلي الولاية عمومه لما ذكره في كلامه من أنّ الحاكم و أمينه يليان كل ممتنع أو عاجز عن عقد أو ايقاع أو تسليم حق و في الحقوق الإلهية كالنذر و العهد و اليمين وجه، و ما أشبه ذلك.

2- و قال قدّس سرّه في كتاب الخمس بعد نقل كلام العلّامة المجلسي قدّس سرّه أنّه لا تبرأ ذمة المديون بالخمس بدفع حصة الإمام عليه السّلام بنفسه، بل يجب دفعها إلي الحاكم علي رأي أكثر العلماء، أنّه يمكن الفرق بين زمان الحضور و الغيبة، بأن يقال أنّه لا ولاية للإمام عليه السّلام في حال الغيبة حتي يتولاها الفقيه نيابة عنه، و فيه بحث، ثم قال ما نصه: «علي أنّ ذلك لو

سلم لا يجدي في ما نحن فيه من دعوي عموم ولاية الحاكم حتي لمثل المقام، الموقوفة علي دليل، و ليس، و لكن

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 16، ص 178.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 415

ظاهر الأصحاب عملا و فتوي في سائر الأبواب عمومها بل أصله من المسلمات أو الضروريات عندهم» «1».

و حاصل كلامه قدّس سرّه أنّه استشكل في ولاية الحاكم علي الخمس في زمن الغيبة تارة بأن الكلام في أصل ولاية الإمام عليه السّلام حينئذ، و الظاهر أنّه لعدم حضوره و عدم تصرفه بالفعل و عدم إمكانه عملا، فاستشكل فيه بقوله: فيه بحث.

ثم نقل الكلام إلي الحاكم ثانيا و أنّه لا دليل علي عموم ولايته لمثل الخمس.

فاجاب: بأنّ ظاهر الأصحاب في سائر الأبواب عمومها لمثل المقام، و من الواضح أنّ غاية ما يستفاد منها عموم ولاية الفقيه لمثل أخذ الخمس و أشباهه و نظائره، و أمّا استفاد أكثر من هذا من كلامه فغير واضح كما لا يخفي.

و الظاهر أنّ مسألة ولاية الفقيه علي أمر السياسة و الحكومة أظهر من أن يحتاج إلي التشبث بهذه العبارات التي لا تستهدف هذه الامور.

3- و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه بعد تقسيم الولاية علي قسمين: الولاية المستقلة، أي تصرف الولي بنفسه، و غير المستقلة، أي كون تصرف غيره منوطا بإذنه، ما ملخصه: إن القسم الأوّل ثابت للنبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمة المعصومين من ذريته عليهم السّلام بالأدلة الأربعة، و كذا القسم الثاني ثابت لهم بمقتضي كونهم اولي الأمر، فلا يجوز لغيرهم إجراء الحدود و التعزيرات و إلزام الناس بالخروج عن الحقوق و غير ذلك إلّا باذنهم و استدل له أيضا بروايات.

ثم بيّن ضابطة هذه

الامور التي يرجع فيها إليهم و أنّها الامور التي يرجع فيها كل قوم إلي رئيسهم.

هذا كله بالنسبة إليهم عليه السّلام، أمّا الفقيه فقد نفي ولايته في القسم الأوّل فلا يستقل هو بالتصرف لعدم قيام دليل عليه، ثم ذكر بعض الأدلة و أجاب عنها، و قال في آخر كلامه في هذا القسم: «و بالجملة فإقامة الدليل علي وجوب طاعة الفقيه كالإمام عليه السّلام إلّا ما خرج بالدليل، دونه خرط القتاد».

ثم جري في بحثه نحو المقام الثاني و صرّح بولاية الفقيه في المقام الثاني، و أن

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 16، ص 178.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 416

«المستفاد من مقبولة «عمر بن حنظلة» كونه كسائر الحكام المنصوبة في زمان النبي صلّي اللّه عليه و آله و الصحابة في إلزام الناس بارجاع الامور المذكورة إليه، و الانتهاء فيها إلي نظره بل المتبادر عرفا من نصب السلطان حاكما، وجوب الرجوع في الامور العامة المطلوبة للسلطان إليه» «1».

فالمتحصّل من كلامه قدّس سرّه أن المنفي في نظره الشريف قدّس سرّه ولاية الفقيه علي أموال الناس و انفسهم علي نحو العموم مثل الإمام المعصوم عليه السّلام، و أمّا ولايته فيما يتصدي له السلطان و الحاكم في الامور العامة التي يرجع إليه فهو ثابت له، فالامور التي لا يمكن إهمالها مثل إقامة النظم و العدل و الأخذ بالحقوق و حفظ الثغور و غير ذلك من أشباهها لا بدّ أن يرجع فيها إلي الفقيه، بل لو لم يكن هناك فقيه لا يجوز إهمالها و لا بدّ من قيام عدول المؤمنين بها، نعم استشكل في بعض مصاديقه.

و من العجب أنّه اشتهر في الألسن أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه مخالف في مسألة ولاية الفقيه مع

أنّه صرّح بولايته في ما هو محل الابتلاء من الولاية علي نظم المجتمع و إحقاق الحقوق و حفظ الثغور و الدفاع.

نعم أنكر ولايته علي الأموال و الأنفس بغير ذلك، و هو أمر آخر وراء مسألة الحكومة، بل الظاهر أن كلامه أوضح و اصرح من بعض عبارات الجواهر في هذا الباب.

نعم ذكر في آخر كلامه في المقام «أنّ غاية ما يستفاد من الأدلة هو ثبوت الولاية للفقيه في الامور التي تكون مشروعية ايجادها مفروغا عنها، بحيث لو فرض عدم وجود الفقيه كان علي الناس القيام بها كفاية، فلا يجوز التمسك بها فيها يشك في أصل مشروعيته» و لكن من الواضح أنّ هذا لا يضر بالمقصود في الامور الراجعة إلي حفظ نظام المجتمع، و إحقاق الحقوق و سد الثغور و الدفاع و غير ذلك من أشباهه، فان ذلك ممّا لا يمكن تركها علي كل حال، بل لو لا وجود الفقيه يجب القيام بها و لو من عدول المؤمنين، و ما في بعض كلماته من الإشكال في المسألة لعله في بعض الخصوصيات، و إلّا فالذي يظهر من صدر كلامه و ذيله موافقته في ذلك و الحمد اللّه.

______________________________

(1). راجع المكاسب لشيخنا الأنصاري قدّس سرّه، مبحث ولاية الفقيه.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 417

و المتحصل من كلامه امور:

1- لا ولاية للفقيه في جميع الامور التي تكون الولاية فيها للإمام المعصوم عليه السّلام، مثل كونه أولي بالأموال و النفوس.

2- ولايته ثابت في امور التي لا يمكن تعطيلها في غيبة الإمام عليه السّلام و ضابطه الامور الهامة التي تتعلق بإقامة النظم و العدل التي لا يمكن إهمالها علي كل حال، و يرجع فيها إلي الحاكم و السلطان و غير ذلك ممّا لا يجوز التعطيل

فيها.

3- إذا شك في بعض مصاديقه فلا بدّ من إثبات مشروعيته من دليل آخر، فان الحكم لا يثبت موضوعه.

4- و لصاحب الجواهر قدّس سرّه كلام آخر في كتاب الأمر بالمعروف عند البحث عن جواز إقامة الحدود للفقيه الذي ذهب إليه مشهور الفقهاء و أن تأمل فيه شاذ، قال بعد كلام طويل له في المسألة ما نصه:

«فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنّه ما ذاق من طعم الفقه شيئا، و لا فهم من لحن قولهم و رموزهم أمرا، و لا تأمل المراد من قولهم (إنّي جعلته عليكم حاكما و قاضيا و حجة و خليفة) و نحو ذلك ممّا يراد منه نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الامور الراجعة إليهم، و لذا جزم فيما سمعته في المراسم بتفويضهم عليه السّلام لهم في ذلك».

ثم قال: «نعم لم يأذنوا لهم في زمان الغيبة ببعض الامور التي يعلمون عدم حاجتهم إليهم كجهاد الدعوة المحتاج إلي سلطان و جيوش و أمراء و نحو ذلك، ممّا يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك فيها عن ذلك و نحوه، و إلّا لظهرت دولة الحق كما أومأ إليه الصادق عليه السّلام بقوله: «لو أنّ لي عدد هذه الشويهات و كانت أربعين لخرجت».

ثم قال: «و بالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلي أدلة» انتهي «1».

و لا ينبغي الشك أن محل كلامه ولاية الفقيه علي إجراء الحدود في عصر الغيبة كما صرّح به قبل ذلك و بعد هذه العبارات أيضا، و هذا هو الذي وقعت الوسوسة فيه من ناحية

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 21، ص 397.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 418

البعض «1» و لكن تعبيراته و أدلته في المقام أوسع منه تشمل

شيئا كثيرا ممّا يرتبط بأمر الحكومة الإسلامية.

و بالجملة يظهر من كلامه هذا تأييدا لولاية الفقهاء في أمر الحكومة في الجملة و إن لم يشمل كلامه جميع مواردها، لفرضه عدم حصولها و قصور اليد عنها، بل لعله ظاهر في أنّه إذا أمكنت الفرصة من إقامة الحكومة الإسلامية وجبت إقامتها.

5- و قال في موضع آخر من كتاب الجهاد عند البحث عن الجهاد الابتدائي «لا خلاف بيننا بل الإجماع بقسميه عليه في أنّه إنّما يجب علي الوجه المزبور بشرط وجود الإمام عليه السّلام و بسط يده أو من نصه للجهاد … بل في المسالك و غيرها عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز له توليه، بل في الرياض نفي علم الخلاف فيه، حاكيا له عن ظاهر المنتهي و صريح الغنية إلّا من أحمد في الأوّل … ».

ثم قال في آخر كلامه: «و لكن إن تمّ الإجماع المزبور فذاك و إلّا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلة الجهاد فترجح علي غيرها» «2».

و المتحصل من مجموع كلماته في كتاب «البيع» و «الخمس» و «الأمر بالمعروف» و «الجهاد» (هذه الكتب الأربعة) بعد ضم بعضها إلي بعض أن عموم ولاية الفقيه كان مفروغا عنه عنده في أمر الحكومة، و إن كان قد تأمل في عمومها و شمولها لجميع ما يرتبط بذلك نظرا إلي فرضه، قصور اليد عن تحقق الحكومة الإلهية قبل ظهوره (عجل اللّه فرجه الشريف) في الخارج فتأمل جيدا.

6- و أوضح من هذه كله ما ذكره النراقي قدّس سرّه في عوائده حيث قال في بعض كلماته في المسألة: «إن كلية ما للفقيه العادل تولّيه و له الولاية فيه أمران»:

«احدهما»: كلما كان للنبي صلّي اللّه

عليه و آله و الإمام عليه السّلام الذين هم سلاطين الأنام و حصون الإسلام

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)؛ ص: 418

______________________________

(1). و كذا في قوله بعد ذلك «و اغرب من ذلك إلي قوله بعد حكم اساطين الفن» راجع جواهر الكلام، ج 21، ص 397.

(2). جواهر الكلام، ج 21، ص 11.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 419

فيه الولاية و كان لهم فللفقيه أيضا ذلك، إلّا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما.

«ثانيهما»: إن كل فعل متعلق بامور العباد في دينهم أو ديناهم و لا بدّ من الإتيان به و لا مفرّ منه إمّا عقلا أو عادة من جهة توقف امور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، و إناطة انتظام امور الدين أو الدنيا أو شرعا من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي ضرر أو اضرار أو عسر أو حرج أو فساد علي مسلم، أو دليل آخر أو ورد الاذن فيه من الشارع و لم يجعل وظيفة لعين واحد أو جماعة و لا لغير معين أي واحد لا بعينه، بل علم لابدية الإتيان به أو الاذن فيه و لم يعلم المأمور به و لا المأذون فيه، وظيفة الفقيه، و له التصرف فيه و الإتيان به» ثم أخذ في الاستدلال علي كل واحد منها «1».

7- و قال سيدنا الاستاد العلّامة الفقيد البروجردي قدّس سرّه في كلام طويل له في المسألة بعد ذكر مقدمات نافعة ما نصه:

«و بالجملة كون الفقيه العادل منصوبا من قبل الأئمّة

عليه السّلام لمثل تلك الامور العامة المهمّة التي يبتلي بها العامة ممّا لا إشكال فيه إجمالا بعد ما بيناه و لا نحتاج في إثباته إلي مقبولة عمر بن حنظلة غاية الأمر كونها أيضا من الشواهد فتدبّر» «2».

8- و قال العلّامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قدّس سرّه (شيخنا في الإجازة): إنّ الولاية علي الشؤون العامة و ما يحتاج إليه نظام الهيئة الاجتماعية …

ثم قال: «و بالجملة فالعقل و النقل يدلان علي ولاية الفقيه الجامع علي هذه الشؤون فانّها للإمام المعصوم أولا ثم للفقيه المجتهد ثانيا بالنيابة المجعولة بقوله عليه السّلام: «و هو حجتي عليكم و أنا حجة اللّه عليكم» «3».

9- و في الحدائق في كتاب النكاح ما يظهر منه مخالفته لولاية الفقيه فيما هو أهون من ذلك حيث قال: «أنّي لم أقف بعد التتبع في الأخبار علي شي ء من هذه العمومات و الاطلاقات لا في النكاح و لا في المال و إن كان ذلك مشهورا في كلامهم و مسلما بينهم

______________________________

(1). عوائد الأيّام، ص 187.

(2). تقريراته المسمي بالبدر الظاهر، ص 53.

(3). الفردوس الأعلي، ص 54.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 420

و متداولا علي رءوس أقلامهم (مشيرا إلي ما مر أو شبهه من كلمات القائلين بالولاية).

ثم قال بعد كلام به: و بالجملة فانّ عدّ الحاكم الشرعي في جملة الأولياء كما ذكروا و إن كان مسلما بينهم و متفقا عليه عندهم إلّا أنّه خال عن الدليل من الأخبار نعم يمكن تخصيص ذلك بالإمام عليه السّلام من حيث الولاية العامة و أنّه أولي بالناس من أنفسهم» «1».

10- ذكر المحقق النائيني قدّس سرّه كلاما طويلا في المقام و قال بعد المناقشة في كثير من أدلة ولاية الفقيه ما نصه:

«نعم

لا بأس بالتمسك بمقبولة عمر بن حنظلة، فانّ صدرها ظاهر في ذلك حيث إن السائل جعل القاضي مقابلا للسلطان، و الإمام قرره علي ذلك … فان الحكومة ظاهرة في الولاية العامة فانّ الحاكم هو الذي يحكم بين الناس بالسيف و السوط، و ليس ذلك شأن القاضي، و لكن ختم كلامه بهذا القول، و كيف كان فإثبات الولاية العامة للفقيه بحيث تتعين صلاة الجمعة في يوم الجمعة بقيامه لها أو نصب إمام لها مشكل» «2».

و ممّا يليق بالذكر أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذكر في مكاسبه في البحث الآتي من ولاية عدول المؤمنين ما يظهر منه التأكيد علي الكبري الكلية السابقة حيث قال: «ما كان تصرفا مطلوب الوجود للشارع إذا كان الفقيه متعذر الوصول فالجواز تولّيه لا حاد المؤمنين، لأنّ المفروض كونه مطلوبا للشارع غير مضاف إلي شخص» (و هذا الكلام يشمل أمر الحكومة العادلة لأنّها مطلوبا للشارع قطعا).

نعم استشكل في بعض مصاديقه و لكن الكلام في كبري المسألة و أمّا صغرياتها فهي امور اخر قد تختلف فيه الأنظار.

و قال في كلام آخر له (و هو من آخر كلماته في المسألة): «و الذي ينبغي أن يقال: أنّك قد عرفت أنّ ولاية غير الحاكم لا تثبت إلّا في مكان يكون عموم عقلي و نقلي يدل علي رجحان التصدي لذلك المعروف».

و هذا أيضا شاهد علي قبول هذه الكلمة من ناحية (أعني قيام الحاكم بامور لا يمكن

______________________________

(1). الحدائق الناضرة، ج 23، ص 238.

(2). منية الطالب، ج 1، ص 327.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 421

إهمالها) و من البعيد أن لا يكون حفظ نظام المجتمع الإسلامي و كذلك سد الثغور و الدفاع عن حوزة الإسلام و غير ذلك من

أشباهه داخلة فيها بنظره الشريف، و هل يجوّز أحد إهمال أمر الحكومة و جعل الناس في فوضي، أو تسليمها بيد الظالمين؟

حكم المقامات السبعة في الولاية:

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي البحث عن المقامات السبعة من انحاء الولاية فنقول و منه جل شأن التوفيق و الهداية:

المقام الأوّل: ولايته علي القصّر و الغيّب. و المراد منه ولايته علي الأيتام عند فقد الأب و الجد و علي الجنون و الصغير و المفلس و علي الغائب بحفظ أولاده و أمواله عن الخطر العظيم.

قال العلّامة في القواعد: «و الحاكم و أمينه إنّما يليان المحجور عليه لصغر أو جنون أو فلس أو سفه أو الغائب» «1».

و حكي في «مفتاح الكرامة» بعد شرح هذه العبارة في كلام له عن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه في مجمع البرهان ما نصه: «لا خلاف و لا نزاع في جواز البيع و الشراء و سائر التصرفات للأطفال و المجانين المتصل جنونهم و سفههم بالبلوغ، من الأب و الجد للأب و من وصي أحدهما مع عدمهما، ثم من الحاكم أو الذي يعينه لهم، و كذا لمن حصل له جنون إذ قد انقطعت ولايتهم بالبلوغ و الرشد».

و صرّح الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك في بعض كلماته في المقام: «إنّ الحاكم ولي عام لا يحتاج إلي دليل» «2».

و قال الفقيه الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الحجر:

«فان لم يكونا (أي الأب و الجد) فللوصي، فان لم يكن فللحاكم، أي الثقة المأمون

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 213.

(2). مسالك الأفهام، ج 1 ص 250.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 422

الجامع الشرائط، بلا خلاف أجده في ذلك بل و لا إشكال» «1».

و الحاصل: أنّه لا كلام و لا إشكال في المسألة إجمالا، و

قد ارسلوها ارسال المسلمات بل ولاية الحاكم علي هذه الامور من المصاديق الواضحة للكبري الكلية السابقة من وجوب تصديقه لكل معروف لا يمكن تعطيله بلا كلام، و لذا تتصدي له الحكومات العرفية أيضا بحسب قوانينهم.

إنّما الكلام و الإشكال في بعض مصاديقه و هو المجنون، أو السفيه البالغ سواء كان سفاهته متصلة بالصغر أو منفصلة عند وجود الأب أو الجد.

فيظهر من الجواهر أن ولاية الفقيه في المنفصل من المسلمات، حيث نفي وجدان الخلاف في السفه المتجدد بعد البلوغ، عدا ما يظهر من الكفاية و الرياض، من ارسال قوله فيه، بعود ولاية الأب و الجد عليه، ثم قال: و لم نتحققه لأحد كما لم نعرف له دليلا صالحا يقطعه الأصل … ثم قال:

و بالجملة فلا ريب في أنّ الولاية في ماله للحاكم الذي هو ولي من لا ولي له.

ثم تحدث عن المتصل سفهه ببلوغه، و استظهر من اطلاق كلام المحقق قدّس سرّه في الشرائع و اطلاق كلام غيره أن ولايته للحاكم أيضا، بل حكي نسبته إلي الاشهر و لكن مع ذلك حكي عن المفاتيح نسبة عدم الخلاف في ثبوت الولاية للأب و الجد علي السفيه و المجنون مع اتصال السفه و الجنون بالصغر، و لكن صرّح في آخر كلامه هنا بعدم خلو كلمات الأصحاب هنا عن اضطراب «2».

هذا بحسب الأقوال في المسألة، و حاصله عدم الخلاف في ولاية الحاكم علي المنفصل مع وجود الخلاف في المتصل.

و أمّا بحسب الأدلة فالعمدة فيمن اتصل جنونه أو سفهه في الصغر هو استصحاب بقاء ولاية الأب و الجد بناء علي اتحاد الموضوع هنا عرفا (و هو غير بعيد) بناء علي جواز الاستصحاب في الشبهات الحكمية (و لكنه ممنوع علي المختار).

______________________________

(1). جواهر

الكلام، ج 26، ص 103 (كتا الحجر).

(2). المصدر السابق، ص 104.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 423

هذا مضافا إلي ما يظهر من قوله تعالي:

وَ ابْتَلُوا الْيَتٰاميٰ حَتّٰي إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ «1».

بناء علي شمولها للجد مع فقد الأب و صدق اليتيم عليه، فتدل علي استمرار ولاية الجد علي اليتيم الذي فقد أبوه حتي يكون رشيدا، و يمكن استفادة حكم الأب منه من طريق الأولوية فتدبّر.

و أمّا بالنسبة إلي المنفصل فأصالة عدم ولاية الأب و الجد حاكم فيه، فيشمله عموم ولاية الفقيه الشاملة لأمثال المقام قطعا.

هذا و لكن الملاحظ من سيرة العقلاء من أهل العرف بقاء ولاية الأب و الجد علي المجنون و السفيه سواء اتصل السفه و الجنون بالصغر أو لا. و معه لا تصل النوبة إلي الحاكم، و الظاهر أنّ هذه السيرة جارية من قديم الزمان إلي زماننا هذا، و بما أنّ الشارع لم يمنع منها فلا بدّ من قبولها، و لكن مخالفة الإجماع في هذه المسألة أيضا مشكلة، فلا أقل من أن لا يترك الاحتياط بالجمع بين اذن الأب أو الجد و الحاكم في المتصل و المنفصل و اللّه العالم.

المقام الثاني: ولاية الفقيه علي أخذ الاخماس و الزكوات و شبهها
اشارة

ظاهر كلام الأصحاب جواز دفع الزكاة و الخمس إلي الحاكم الشرعي في عصر الغيبة، إنّما الكلام في وجوبه و عدمه.

قال شيخ الطائفة في خلاف في (المسألة 42) من مسائل زكاة الفطرة: «يستحب حمل الزكوات: زكاة الأموال الظاهرة و الباطنة و زكاة الفطرة، إلي الإمام، ليفرقها علي مستحقيها، فان فرقها بنفسه جاز، و قال الشافعي: الباطنة هو بالخيار و الفطرة مثلها و الظاهرة فيها قولان: «أحدهما» يتولاه بنفسه، و «الآخر» يحملها إلي الإمام، و منهم من قال

الأفضل ان يلي

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 6.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 424

ذلك بنفسه إذا كان الإمام عارفا، فان كان الإمام جائرا فانّه يليها بنفسه قولا واحدا، و إن حملها عليه (إليه) سقط عنه فرضها، دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم، و أيضا قوله تعالي:

خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً يدل علي ذلك، و الإمام قائم مقام النبي صلّي اللّه عليه و آله في ذلك» (انتهي).

و قال العلّامة في التذكرة: «لو تعذر الصرف إلي الإمام عليه السّلام حال الغيبة استحب دفعها إلي الفقيه المأمون من الإمامية، لأنّه أبصر بمواقعها، و لأنّه إذا دفعها إلي الإمام أو الفقيه برئ لو تلفت قبل التسليم، لأنّ الإمام أو نائبه كالوكيل لأهل السهمين، فجري مجري قبض المستحق، ثم قال: لو طلب الإمام الزكاة منه وجب دفعها إليه إجماعا، لأنّه معصوم يجب طاعته و تحرم مخالفته، فلو دفعه المالك إلي المستحقين بعد طلبه و إمكان دفعها إليه فقولان لعلمائنا: الإجزاء و هو الوجه عندي، لأنّه دفع المال إلي مستحقه … و عدمه لأنّ الاخراج عبادة لم يوقعها علي وجهها لوجوب الصرف إلي الإمام بالطلب، فيبقي في عهدة التكليف و لا خلاف في أنّه يأثم بذلك» «1».

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في الروضة في كتاب الزكاة: «و يجب دفعها إلي الإمام عليه السّلام مع الطلب بنفسه أو بساعيه … قيل و كذا يجب دفعها إلي الفقيه الشرعي في حال الغيبة لو طلبها بنفسه أو وكيله، لأنّه نائب الإمام، كالساعي، بل أقوي … و دفعها إليهم ابتداء من غير طلب أفضل من تفريقها بنفسه، لأنّه أبصر بمواقعها، و أخبر بمواضعها، قيل و القائل المفيد و التقي:

يجب دفعها ابتداء إلي الإمام أو نائبه، و

مع الغيبة إلي الفقيه المأمون».

و قال القاضي ابن البراج في المذهب في مبحث زكاة الفطرة ما يدل علي وجوب حملها إليه عليه السّلام و عند الغيبة إلي فقهاء الشيعة ليضعها في مواضعها، لأنّهم أعرف بذلك (انتهي ملخصا) «2».

و في الجواهر قال: بعد اختيار هذا القول، أعني وجوب دفعها إلي الفقيه عند طلبها، و الاستدلال باطلاق رواية التوقيع عن صاحب الأمر عليه السّلام: «أنّه يمكن تحصيل الإجماع عليه من الفقهاء، فانّهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة، لا دليل عليها سوي الاطلاق الذي ذكرناه» «3».

______________________________

(1). تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 241.

(2). المذهب البارع في الفقه، ج 1، ص 175.

(3). جواهر الكلام، ج 15، ص 421.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 425

و معلوم أنّه من قبيل الإجماع علي القاعدة لا الإجماع علي خصوص المسألة.

و المحكي عن أكثر فقهاء العامة ايجاب الدفع إلي الامراء و إن علم عدم صرفها في محالها، و رووا ذلك عن أبي سعيد الخدري و عبد اللّه بن عمر و أبي هريرة و عائشة و الحسن البصري و ابراهيم النخعي و غيرهم، بل حكي عن بعضهم أنّه سئل عن الزكاة فقال: ادفعوها إلي الأمراء و لو أكلوا بها لحوم الحيات! «1».

و يتحصل من جميع ذلك أنّ في المسألة أقوالا ثلاثة:

أولها: و هو الأشهر بينهم أنّه يجب دفعها إلي الفقيه إذا طلبها، و قال السيد قدّس سرّه في العروة:

يجوز دفع الزكاة إلي الحاكم الشرعي بعنوان الوكالة عن المالك في الأداء، كما يجوز بعنوان الوكالة في الايصال، و يجوز بعنوان أنّه ولي عام علي الفقراء «2».

و قد تلقاها المحشون بالقبول.

ثانيها: وجوب دفعها إليهم مطلقا كما عن المفيد و التقي.

ثالثها: عدم وجوبه مطلقا كما لعله

يظهر من كلمات الاصبهاني في شرحه علي الروضة علي ما حكاه في الجواهر.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الأقوي في المسألة قول رابع فيه تفصيل ستعرفه إن شاء اللّه بعد ذكر أدلة المسألة، فنقول و منه جل ثنائه التوفيق و الهداية: إنّه لم يرد في المسألة نص خاص بل المستفاد من كلماتهم في المقام استناده في مسألة جواز دفع الزكاة أو وجوبه امور:

1- أنّه عرف بمواضعه و مصارفه كما ورد في كلام المذهب و غيره.

و فيه: إنّ مجرّد كونه أعرف بذلك لا يدلّ علي وجوب الدفع إليه، بل و لا علي جوازه، إلّا أن يكون الفقيه وكيلا عن المالك، و مضافا إلي أنّه لا يختص الحكم به بل بكل عارف بمصارفها و لو تقليدا.

2- أولويته من الساعي حيث يجب الدفع إليه إذا طلبها، و فيه ما حكي عن الاصبهاني

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 15، ص 419.

(2). العروة الوثقي كتاب الزكاة، الفصل 10 المسألة 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 426

في شرحه علي الروضة من أن الساعي إنّما يبلغ أمر الإمام عليه السّلام فاطاعته اطاعة الإمام عليه السّلام بخلاف الفقيه، و لا يجدي كونه أعلي رتبة انتهي، و حاصله أنّ اللازم إثبات عموم ولاية الفقيه في هذا الأمر أولا، فمجرّد كونه أعلي رتبة من الساعي لا يفيد شيئا بعد كون يد الساعي يد الإمام المعصوم عليه السّلام.

3- قوله تعالي: خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا «1» و هذا الأمر دليل علي وجوب الأخذ و لا أقل من جوازه (إذا كان في المقام دفع توهّم الحظر).

و فيه: إنّ الاستدلال بها فرع ثبوت نيابة الفقيه عنه صلّي اللّه عليه و آله و معه لا يحتاج إلي هذا

الاستدلال، لأنّ جواز أخذه صلّي اللّه عليه و آله الزكاة من الضروريات الغنية عن البرهان.

4- تحصيل الإجماع عليه كما عرفت في كلام الجواهر، و لكن قد عرفت أنّه من قبيل الإجماع علي القاعدة، بناء علي كونه من باب الإجماع علي اطلاق التوقيع و شبهه، و إلّا فالمسألة كما عرفت خلافية ذات أقوال متعددة و ليست إجماعية.

5- إن الفقيه نائب عام عن الإمام عليه السّلام في أمثال هذه الامور، و وكيل عن الفقراء و هذا هو العمدة في المقام، و توضيحه يحتاج إلي ذكر مقدمة و هي: إنّ المستفاد من أدلة تشريع الزكاة أنّها شرعت لسدّ خلة الفقراء و دفع الشدّة عنهم، مضافا إلي تأمين حوائج الحكومة الإسلامية، بل دفع النوائب عن الفقراء أيضا من حوائج الحكومة العادلة المنصوبة لإقامة العدل كما لا يخفي علي الخبير.

و من أقوي الشواهد عليه المصارف التي نص عليها كتاب اللّه عز و جل، منها سهم العاملين عليها الذين هم العاملون للحكومة و المأمورون من قبلها، و كذا سهم الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ الذين يألفهم الحكومة علي موافقة المسلمين، بل يستمد من قواهم في مقابل الاعداء كما ورد في تاريخه صلّي اللّه عليه و آله من اعطاء الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ من أهل مكة أو غيرها.

و أوضح منه سهم سَبِيلِ اللّٰهِ و القدر المتيقن منه الجهاد، و من الواضح أنّ الجنود و العساكر تكون تحت مراقبة الحكومة، و لو قلنا بأنّ مفهومه عام لكل خير يكون منفعة عامة، كان

______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 103.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 427

أيضا من الامور الراجعة إلي الحكومة قبل غيرها، لأنّها المعدة لمثل هذه الامور كما لا يخفي، بل قد عرفت أنّ سهم الفقراء و المساكين ذريعة لإقامة

العدل، و أحق الناس بها هو الحكومة.

و من هنا يظهر أنّ الزكاة في الحقيقة من منابع بيت المال، فانّ الحكومة لا تقوم إلّا ببيت المال، لتمويل نفقاتها و حلّ مشاكلها، و بيت المال يحتاج إلي موارد، و لعل حكم بعض العامة بوجوب دفعها إلي الأمراء و إن لم يصرفوها في مصارفها مأخوذة من ملاحظة ماهية الزكاة و محتواها، رغم أنّهم اخطأ وا من حيث توهّم كون الدفع إليهم موضوعيا، مع أنّه طريقي، فإذا علم بعدم صرفهم إيّاها في مصارفها لا بدّ من منعها عنهم قطعا.

و يؤيد تشريع الزكاة في المدينة عند بناء الحكومة الإسلامية من ناحيته صلّي اللّه عليه و آله و كذا ما ورد في آداب المصدق و أنّه إذا أتي صاحب المال يقول لهم « … فهل للّه في أموالكم من حق فتؤدوه إلي وليه» «1».

و بعد ذلك نقول: إذا قلنا إن الفقيه هو الذي يتصدي للحكومة الإسلامية- كما سيأتي في المقام الخامس إن شاء اللّه- فإذا كان مبسوط اليد فيمكن القول بوجوب دفعها إليه كما ذكرنا في تعليقاتنا علي العروة الوثقي بالقول: هذا (أي أفضلية نقل الزكاة إلي الفقيه) إنّما هو في زمان قبض يد الإمام عليه السّلام أو الحاكم، أمّا في زمان بسط اليد فلا يبعد وجوب دفعها إليه، لأنّه الحافظ لبيت مال المسلمين، و الإسلام ليس مجرّد فتاوي (و أحكام) و نصائح، بل الحكومة جزء منها لا ينفك، و هي تحتاج إلي بيت مال متمركز، كما يشهد له سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام و لو أن كل إنسان أعطي زكاة ماله للمستحق بنفسه فسوف لا تقوم لبيت المال و من يكون عيالا عليه، قائمة.

و

الحاصل: إنّه إذا تحققت الحكومة الإسلامية العادلة الكاملة العيار، فالأقوي و لا أقل من الأحوط وجوب دفعها إليها ابتداء و لو من دون طلب، و أمّا بدون ذلك فهو أفضل، و لو طلبها لبعض المصالح و لو في زمن قبض اليد فهو واجب أيضا بأدلة الولاية الآتية و اللّه العالم. هذا كله بالنسبة إلي حكم الزكاة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6، الباب 14 من أبواب زكاة الانعام، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 428

أمّا الخمس: فهو أوضح حالا من الزكاة، و لذا كان المعروف بينهم عدم جواز تصدي صاحب الخمس لصرفه (بالنسبة إلي سهم الإمام عليه السّلام) و إليك بعض كلماتهم:

1- قال العلّامة المجلسي قدّس سرّه: «أكثر العلماء قد صرّحوا بأن صاحب الخمس لو تولي دفع حصة الإمام عليه السّلام لم تبرأ ذمته بل يجب عليه دفعها إلي الحاكم، و ظني أنّ هذا الحكم جار في جميع الخمس» «1».

2- و قال شيخنا المفيد قدّس سرّه في الرسالة الغية: «و متي فقد إمام الحق و وصل إلي الإنسان ما يجب فيه الخمس فليخرجه إلي يتامي آل محمد صلّي اللّه عليه و آله و مساكينهم و ابناء سبيلهم» (انتهي).

و ظاهر هذا الكلام عدم الحاجة إلي إذن الفقيه، و لكن المحقق قدّس سرّه في المعتبر بعد نقل هذا الكلام منه قال: و ما ذكره المفيد حسن … لكن يجب أن يتولي صرف ما يحتاجون إليه من حصة من له النيابة عنه في الأحكام، و هو الفقيه المأمون من فقهاء أهل البيت عليه السّلام.

3- قال العلّامة قدّس سرّه في المختلف في كتاب الزكاة و الخمس: «اختلف أصحابنا في مستحق الإمام عليه السّلام في حال الغيبة من الأخماس و

الأنفال و غيرها … إلي أن قال: و هل يجوز قسمته في المحاويج من الذرية كما ذهب إليه جماعة من علمائنا؟ الأقرب ذلك … إذا ثبت هذا فانّ المتولي لتفريق ما يخصه عليه السّلام في محاويج الذرية من إليه الحكم عن الغائب عليه السّلام لأنّه قضاء حق عليه، كما يقضي عن الغائب، و هو الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوي و الحكم، فان تولي ذلك غيرها كان ضامنا» (انتهي موضع الحاجة) «2».

4- هذا و يظهر من بعضهم وجوب دفعه إلي الأعلم من العلماء مثل شيخنا كاشف الغطاء قدّس سرّه في الفردوس الأعلي حيث قال: «أمّا الدليل علي لزوم اعطاء سهم الإمام عليه السّلام للمجتهد فانّه يكفي فيه كون المجتهد هو الوكيل العالم للإمام عليه السّلام فهو مال الغائب يجب دفعه إلي وكيله، و لا أقل من أنّه هو القدر المتيقن لبراءة الذمة فيجب، و الواجب دفعه إلي الأعلم، فكما يجب تقليد الأعلم كذلك يجب دفع الحق إليه … أمّا اليوم فقد صار مال الإمام عليه السّلام كمال

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 16، ص 178.

(2). مختلف الشيعة، ج 2، ص 37.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 429

الكافر الحربي! ينهبه كل من استولي عليه!» «1» و كلامه هذا دليل علي شدّة تأسفه علي ما آل إليه الأمر بالنسبة إلي هذا السهم المبارك في زمانه.

5- و في مقابله قول من قال بجواز صرفه من ناحية المالك بعد إحراز رضي الإمام عليه السّلام كما في المستمسك حيث قال: «نسب إلي أكثر العلماء تارة و أكثر المتأخرين اخري …

وجوب تولي الحاكم لحصته عليه السّلام بل عن الشهيد إجماع القائلين بوجوب الصرف للأصناف علي الزمان لو تولاه غير الحاكم …

و لا سيما

إذا كان الحاكم بمرتبة عالية من العقل و العدالة و الأمانة و الاهتمام بالمصالح الدينية و القدرة علي تميز الأهم و المهم منها، فانّه حينئذ يكون أبصر بواقعه و أعرف بمواضعه، فيتعين الرجوع إليه في تعيين المصرف» و لكنه مع ذلك أجاب عن كل ذلك و لم يقبله ثم قال: فإذا أحرز رضاه عليه السّلام بصرفه في جهة معينة جاز للمالك تولي ذلك بلا حاجة إلي مراجعة الحاكم الشرعي» «2».

و هذه الكلمات كما تري علي طرفي نقيض من اعتبار الأعلمية أو عدم اعتبار شي ء حتي الاجتهاد و العدالة.

6- و لنتم هذه الكلمات بما أفاده المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الخمس حيث قال:

«و يجب أن يتولي صرف حصة الإمام عليه السّلام في الموجودين، من إليه الحكم بحق النيابة، كما يتولي أداء ما يجب علي الغائب».

و قال ثاني الشهيدين قدّس سرّهما في المسالك في شرح هذه العبارة: «و لو تولي ذلك غيره كان ضامنا عند كل من أوجب صرفه إلي الاصناف» «3».

هذه شطر من كلمات الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في هذا الباب، و يظهر منها أنّ الأقوال فيه أيضا مختلفة، و لكن الأشهر أو المشهور الزوم دفع سهم الإمام عليه السّلام إلي الحاكم الشرعي، و أمّا دفعه إلي الأعلم أو جواز صرفه من ناحية المالك فهو شاذ.

______________________________

(1). الفردوس الاعلي، ص 55.

(2). المستمسك علي العروة الوثقي، ج 9، ص 583.

(3). مسالك الافهام، ج 1، ص 69.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 430

إذا عرفت هذا فاعلم: أن هذه المسألة مبنية علي أن تعلم ما الواجب في سهمه عليه السّلام في عصر الغيبة، فقد اختلفت فيه الأقوال و تضاربت تضاربا شديدا حتي أن المحقق النراقي قدّس سرّه

حكي في المستند في كتاب الخمس أقوالا تسعة بالنسبة إلي سهم الإمام عليه السّلام، و أقوالا خمسة في سهم السادة فتربوا إلي أربعة عشر قولا، فراجع «1».

و ذكر في الحدائق أيضا أربعة عشر قولا في المقام «2» و عمدتها عشرة أقوال ذكرناها في التعليقة علي العروة و إليك موجزها:

1- اباحتها للشيعة و سقوطها مطلقا (سهم السادة و سهم الإمام عليه السّلام) كما عن السلار و صاحب الذخيرة.

2- عزله بجميعه و الوصية به كما عن المفيد قدّس سرّه.

3- دفنه كما حكاه المفيد قدّس سرّه عن بعض من لم يسمه!

4- دفع حق السادة إليهم و أمّا حصة الإمام عليه السّلام فيودع أو يدفن!

5- حق السادة يدفع إليهم، أمّا حصته عليه السّلام فيقسم علي الذرية كما هو المشهور بين جمع من المتأخرين.

6- صرف حق السادة إليهم، و أمّا حصته عليه السّلام فهو مباح للشيعة في عصر الغيبة كما عن المدارك و غيره.

7- صرف حق السادة إليهم، أمّا سهمه عليه السّلام فيصرف في مواليه العارفين بحقه إذا كانوا فقراء كما عن ابن حمزة و غيره.

8- إن حق السادة يدفع إليهم، و أمّا خمس الأرباح فمباح مطلقا.

9- صرف حق الاصناف الثلاثة (حق السادة) إليهم، و التخيير في حصته عليه السّلام بين الدفن و الوصية وصلة الاصناف مع الاعواز، باذن الفقيه، كما عن الشهيد قدّس سرّه في الدروس.

10- و هو العمدة و المختار: دفع سهم الاصناف الثلاثة إليهم، و أمّا سهم الإمام عليه السّلام فيصرف في كل أمر يحرز به رضاه، من تعظيم شعائر الدين، و نشر العلم و تبليغ الإسلام،

______________________________

(1). مستند الشيعة، ج 2، ص 87.

(2). الحدائق الناضرة، ج 12، ص 437.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 431

وصلة الاصناف

و غيرهم من الفقراء و المحاويج، و غير ذلك ممّا يحرز به رضاه عليه السّلام.

و اذ قد عرف ذلك فاعلم أنّ الحق من بين هذه الأقوال هو الأخير، و السرّ فيه أنّه لا ينبغي الشك في أن تشريع حكم الخمس بالنسبة إلي حصة الإمام عليه السّلام إنّما هو لإمامته الإلهية، و كونه منصوبا للحكومة علي الامة، و إلّا فسهم الإمام عليه السّلام ليس مصرفا شخصيا له لأنّه كإنسان يحتاج إلي شي ء يسير من هذه الأموال الضخمة، و من البعيد جدّا بل من الممتنع في حكمة الحكيم أن يجعل له ما لا يحتاج إليه إلّا شيئا قليلا منه جدّا، فانّ الناس لو أدّوا خمس أموالهم في جميع أقطار الأرض بلغ سهم الإمام عليه السّلام مبلغا عظيما لا يقدر أي إنسان علي مصرفه، إلّا يكون علي رأس الحكومة و يصرفه في مصارفها.

لا أقول إنّ سهم الإمام عليه السّلام ملك للمقام لا لشخصه، حتي يكون تلقي الفقيه النائب له إذا كان علي رأس الحكومة تلقيا استقلاليا من غير حاجة إلي وساطة الإمام المعصوم عليه السّلام، بل أقول أنّه عليه السّلام مالك له بسبب كونه مبعوثا لهذا المقام، فلو كان حاكما بالفعل صرفه في مصارفه الحكومية و المقامية، و لو منعه الظالمون من ذلك صرفه فيما يمكن أن يصرفه فيه من مصارفه، و يبيحه للشيعة أحيانا في مواقع خاصة كما ورد في غير واحد من روايات الباب، لا الاباحة المطلقة لاختلاف الأزمنة في ما يقتضيه من المصالح.

و بالجملة احتمال كونه مالكا لهذه الأموال الضخمة الجليلة الكثيرة بما أنّه شخص خاص بعيد جدّا لا يحتمله الخبير قطعا، بل بما أنّه سائس عام و حاكم إلهي علي الامة.

و الفرق بينهما ظاهر،

ففي الأوّل يرث هذه الأموال جميع وراثه، و في الثاني لا يرثه إلّا الإمام عليه السّلام الذي بعده، كما ورد في بعض الأحاديث.

و من الواضح أنّ غيبته عليه السّلام لا توجب إلغاء هذه المصارف، بل كثير منها باقية و لو بدون إقامة الحكومة، و كلها باقية عند إقامتها، فلا وجه لدفنها، كما لا وجه لايداعها و الوصية بها، بل اللازم صرفها في مصارفها مهما أمكن، و المأمور بهذا الصرف هو نائبه الخاص أو العام، فإذا اثبتنا ولاية الفقيه مطلقا أو في الجملة بحيث يشمل المقام كان اللازم دفعها إليه.

و بالجملة كل من حكم بدفنه أو الايصاء به، أو أن الفقيه ينظر فيه كأموال الغيّب حسب أنّه مال شخصي له كسائر أمواله الشخصية، مع أنّه ليس كذلك قطعا، بل هو ملك له بماله من

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 432

المقام، فلو حرم الناس من لقائه عليه السّلام و تصرفه فيهم، لم يمنع ذلك من صرف هذه الأموال العظيمة في مصارفها إن كانت الحكومة الإسلامية الحقيقية قائمة، و إلّا ففيما يمكن من مصارفها من نشر العلم و تبليغ الإسلام و الحوزات العلمية و حفظ ضعفاء الشيعة، و تكميل سهم الأصناف، و غير ذلك من أشباهه، و لا يمكن تعطيل جميع ذلك في غيبته.

فالمراد من صرفه في ما يحرز به رضاه هو ذلك، فانّ رضاه يتعلق بهذه الامور و لو كان هو (أرواحنا فداه) حاضرا شاهدا صرفها فيما ذكر قطعا.

و المتكفل لهذا الصرف هو الفقيه الجامع للشرائط.

لا لأنّه ابصر بمصارفه فقط، لما عرفت أن مجرّد ابصريته غير كاف في إثبات المراد.

و لا لأنّه ولي الغائب فانّ ذلك فرع كونها أموالا شخصية.

و لا لأنّه مجهول المالك، لأنّ عدم

القدرة علي تسليم المال لمالكه مع كونه معلوما لا يجعله بحكم مجهول المالك، نظرا إلي اتحاد الملاك، و هو عدم إمكان الوصول إليه، فان هذا الاحتمال ضعيف جدّا لا يدل عليه أدلة حكم «مجهول المالك».

بل لأمرين آخرين: أحدهما: أدلة الولاية العامة الآتية إن شاء اللّه، فانّ القدر المسلم منها هو هذه الامور و أشباهه.

ثانيهما: اصالة اشتغال الذمّة و عدم اليقين بالبراءة بدونه، و لا اطلاق هنا يدل علي البراءة و جواز صرف المالك بنفسه، و إن شئت قلت: القدر المتيقن من رضاه ذلك، و دعوي العلم برضاه و لو بدون ذلك مشكل جدّا لا يجتري عليه الخبير.

و من هنا يظهر الإشكال فيما ذكره في حدائق حيث قال- معترضا علي العلّامة المجلسي قدّس سرّه فيما عرفت من كلامه من زاد المعاد- «أنّا لم نقف له (لدفعه إلي الفقيه) علي دليل، و غاية ما يستفاد من الأخبار نيابته بالنسبة إلي الترافع إليه، و الأخذ بحكمه و فتاواه، و أمّا دفع الأموال إليه فلم أقف له علي دليل لا عموما و لا خصوصا، و قياسه علي النواب الذين ينوبونهم … لا دليل عليه» «1».

______________________________

(1). الحدائق الناضرة، ج 12، ص 470.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 433

قلت: دليله ما عرفت من شمول عموم أدلة الولاية من قبله عليه السّلام لمثله كما سيأتي إن شاء اللّه، مضافا إلي أنّ صرفه بنفسه يحتاج إلي دليل، و إلّا فاصالة الاشتعال كافية في المنع.

و لعل هذا هو مراد صاحب الرياض حيث قال: إنّ الأوّل (مباشرة الفقيه) أوفق بالاصول «1».

كما يظهر لك أنّ الجمع بين أدلة الولاية (أعني ولاية الفقيه عن الإمام عليه السّلام) و أدلة توليته التصرف في مال الغائب كما ذكره

في المستند «2» أيضا لا وجه له لما عرفت من الفرق الكثير بين الولايتين، فانّ الأوّل ولاية عنه، و الثاني ولاية عليه.

بقي هنا امور:

الأول: أنّه علي ما ذكرنا يمكن أن يقال: لو قامت الحكومة الإسلامية الحقيقية كان الفقيه المتصدي لها أولي من غيره بحصة الإمام عليه السّلام، لأنّ المفروض أن مصرف هذه الأموال في الواقع هو إقامة هذا الأمر، و كذلك إذا كان الفقيه كافلا للحوزات العلمية كان أولي به من غيره، و كذا إذا كان كافلا لغير ذلك ممّا يهتم به الإمام عليه السّلام من نشر الإسلام و علومه في أقطار الأرض عامة، و بلاد المسلمين خاصة.

و بالجملة كل فقيه مبسوط اليد أولي من غيره بمقدار بسط يده، بل قد يجب الدفع إليه إذا احتاج إليه احتياجا مبرما مع كونه مبسوط اليد، فتدبّر جيدا.

و ممّا ذكرنا يظهر الحال في الأوقاف العامة، و أنّ الفقيه هو المتصرف فيها عند فقد المتولي الخاص، بل له نصب المتولي للأوقاف التي لا متولي لها، أو جعل الناظر للمتولي إذا خاف من خيانته، لأنّ أدلة الولاية تشملها، و ليست ملك الأوقاف أولي من الأخماس و الزكوات التي عرفت حالها.

الثاني: أنّه قد عرفت عند نقل كلام شيخنا كاشف الغطاء قدّس سرّه في الفردوس الأعلي حكمه

______________________________

(1). رياض المسائل، ج 1، ص 301.

(2). مستند الشيعة، ج 2، ص 87.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 434

بوجوب دفع سهم الإمام عليه السّلام إلي الأعلم، و أنّه كما يجب تقليد الأعلم يجب دفع الخمس إليه، و كم فرق بينه و بين من قال بجواز صرفه في المصارف الشرعية و لو بدون الدفع إلي المجتهد.

و علي كل حال فالظاهر أنّ دليله هو الأخذ بالقدر المتيقن، و

لكنه كما تري لعدم جواز الأخذ به بعد عموم أدلة الولاية و اطلاقاتها، و لو في مثل هذه الامور، كما سيأتي، و قياسه علي مسألة التقليد قياس مع الفارق جدّا، لقيام الدليل علي وجوب تقليد الأعلم و لو عند العلم التفصيلي أو الإجمالي بالاختلاف بينه و بين غيره في موارد الابتلاء، لبناء العقلاء علي ذلك قطعا و هو المدار الأصلي في المسألة التقليد، و قد أمضاها الشرع بعدم ردعه، بل بالتصريح باعتباره بناء علي دلالة مقبولة عمر بن حنظلة عليه في قوله «الحكم ما حكم به أعدلهما و افقههما … » «1» (و فيه كلام فيه محله) و الأخماس ليس كذلك قطعا، و مجرّد كون الأعلم أبصر من غيره، غير كاف، مع أنّه لو كان أبصر بحكمه فليس أبصر بموضوعه كما لا بخفي.

الثالث: قد يري من بعض الفقهاء أمرهم لمقلديهم بايصال الأخماس إليهم، فهل هذا مجرّد استدعاء منهم، أو يوجب لهم تكليفا إليها في ذلك؟ الظاهر عدم الدليل علي ذلك، لأنّ هذا ليس علي سبيل الفتوي، فانّ الفتوي إنّما يشتمل علي حكم كلي لا شخصي جزئي كما هو ظاهر، و أمّا نفوذه من باب حكم الحاكم أيضا محل تأمل لأنّ حكم الحاكم إنّما يتعلق بمصالح الامة و كون ذلك دائما مصلحة الامة أول الكلام حتي في اعتقاده، و لازم ذلك أنّه لو حكم أحد الفقهاء بدفع جميع الاخماس إليه وجب و هو كما تري.

نعم لو كان الفقيه مبسوط اليد كان الأولي بل اللازم في بعض الفروض الدفع إليه لا سيما إذا طلبه كما عرفت، و كذلك لو علم المقلد بأن غير مقلده يصرفه فيما لا يوافق فتواه كما أو كيفا يشكل الدفع إليه، لعدم براءة

ذمة المقلد (بالكسر)، طبقا لفتوي مرجعه، اللّهم إلّا أن يقال: تبرأ ذمة المقلد بمجرّد الدفع إلي أحد حكام الشرع لأنّه الولي من قبل الإمام عليه السّلام و لا

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 435

يهمه فيما يصرفه هذا الولي، و الاحتياط هنا كسائر المقامات سبيل النجاة، كما أن الاحوط للمجتهد الذي يدفع إليه الخمس أن يصرفه في ما هو المتيقن المعلوم من مصارفه إذا كان المعطي غيره مقلد له، و اللّه العالم.

المقام الثالث: اجراء الحدود الشرعية
اشارة

المعروف بين الأصحاب جواز إقامة الحدود في حال غيبة الإمام عليه السّلام للفقهاء العارفين العدول، مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، بل يجب علي الناس مساعدتهم عليه، بل قد ادّعي في الجواهر عدم وجدانه الخلاف فيه إلّا ما يحكي عن ظاهر ابني زهرة و ادريس، و لكن قال: لم نتحققه بل لعل المتحقق خلافه.

و قد حكي عن سلار ابن عبد العزيز قولا ثالثا بالتفصيل، و هو جواز الإقامة ما لم يكن قتلا أو جرحا، و هذه النسبة أيضا غير ثابتة و لذلك كله تعجب صاحب الجواهر قدّس سرّه عن قول المحقق قدّس سرّه في الشرائع قيل يجوز للفقهاء العارفين إلي آخر ما ذكره، لأنّ نسبته إلي «قيل» بعد هذه الشهرة العظيمة ممّا لا ينبغي صدوره منه.

و اعلم أنّ هذا الحكم عنونه كثير منهم في آخر أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بعضهم في أبواب الحدود.

و قال في المسالك هذا القول مذهب الشيخين و جماعة من الأصحاب (انتهي) «1».

و علي كل حال يمكن الاستدلال عليه بامور:

الأول: إنّ علة تشريع الحدود معلومة بحكم العقل، و تناسب الحكم و الموضوع و تصريح

بعض الروايات الواردة في علّة تشريعها، فحد الزنا للمنع عن تداخل المياه، و حد شرب الخمر للنهي عنها، و حدّ السرقة لحفظ الأموال إلي غير ذلك.

و من الواضح أنّ هذه العلل باقية في عصر غيبة الإمام عليه السّلام بل تعطيل هذه الحدود يوجب

______________________________

(1). مسالك الافهام، ج 1 كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 436

مفاسد عظيمة، و قد يكون سببا لاختلال نظام المجتمع الإسلامي، فلا معني لتعطيلها بعد بقاء علتها، و ليست ممّا يدور مدار ظهوره (عجل اللّه فرجه الشريف) بل الأمر فيها أوضح من الزكوات و الأخماس التي قد عرفت عدم جواز تعطيلها بعد بقاء مصارفها.

و هذا أمر ظاهر لمن عرف الحدود و مغزاها و لا سترة عليه.

الثاني: ما ذكره في مباني تكملة المنهاج تبعا للجواهر من أنّ أدلة الحدود كتابا و سنة، مطلقة غير مقيدة بزمان دون زمان، كآيتي «الجلد» و «القطع» و ظاهرها وجوب إقامتها في كل زمان، ثم قال: «فان قلنا بجواز تصديه من كل أحد لزم الحرج و المرج و اختلال النظام، و عدم استقرار حجر علي حجر، فلا بدّ من تصدي بعض لها و القدر المتيقن منه هو الفقيه الجامع للشرائط» انتهي «1» و هو جيد.

الثالث: عمومات أدلة الولاية كما سيأتي الكلام فيها مبسوطا إن شاء اللّه من مقبولة عمر بن حنظلة أو التوقيع المبارك، أو غيرهما، فان شمولها لمثل هذه الامور ممّا لا ينبغي الكلام فيه.

الرابع: ما رواه حفص بن غياث قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام من يقيم الحدود؟ السلطان أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلي من إليه الحكم» «2».

و سند الرواية و إن كان قابلا للكلام و لكنها مجبورة

بعمل الأصحاب، و بما عرفت من سائر الأدلة، و دلالتها ظاهرة بعد كون من إليه الحكم هو الفقيه الجامع للشرائط قطعا.

الخامس: إن إجراء الحدود يلازم مسألة القضاء في كثير من مواردها، لأنّها قد يكون في حقوق الناس كحد القذف و السرقة، و ما يكون من حقوق اللّه كحدّ الزنا و شبهه قد يحتاج إلي إثباته عند القاضي، و من البعيد جدّا أن يطالب من القاضي إثبات الحق دون إجرائه، لأنّ الأوّل مقدمة للثاني و لا فائدة في المقدمة بدون ذيها.

و يؤيده أيضا ما ذكره المفيد قدّس سرّه و هو في حكم رواية مرسلة قال في المقنعة فأمّا إقامة الحدود فهو إلي سلطان الإسلام المنصوب من قبل اللّه و هم أئمّة الهدي من آل محمد صلّي اللّه عليه و آله

______________________________

(1). مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 224.

(2). وسائل الشيعة، ج 18، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 437

و من نصبوه لذلك من الأمراء و الحكام (الحديث) «1».

و لكن مع ذلك كله قد يعارض ما ذكر بما رواه مرسلا في دعائم الإسلام عن الصادق عليه السّلام قال: «لا يصلح الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بإمام» «2» بناء علي أن المراد بالإمام فيه، هو الإمام المعصوم عليه السّلام.

و يرد عليه: تارة بضعف سنده بالارسال (و ما روايته عن الأشعثيات فهو غير ثابت، مضافا إلي أنّ الإشكال فيه أكثر، لعدم ثبوت اعتبار نفس الكتاب)، و اخري بضعف دلالته لأنّ المراد من الإمام فيه، يمكن أن يكون معنا عاما يشمل الفقيه، كما يشهد له ذكره بصورة النكرة، و يؤيده ذكر الحكم إلي القضاء فيه، بل و صلاة الجمعة مع

العلم بأنّ القضاء و الحكم لا ينحصر في الإمام المعصوم عليه السّلام بل و صلاة الجمعة أيضا، سلمنا لكن أدلة الولاية تدل علي قيام الفقيه مقام الإمام المعصوم عليه السّلام في أمثال ذلك، و اللّه العالم.

بقي هنا امور:

1- هل هذا الحكم علي سبيل الوجوب أو الجواز، قال المحقق النراقي قدّس سرّه في العوائد:

«الظاهر من القائلين بثبوت الولاية لهم الأوّل (أي الوجوب) حيث استدلوا باطلاق الأوامر، و بافضاء ترك الحدود إلي المفاسد، و صرحوا بوجوب مساعدة الناس لهم، و هو كذلك لظاهر الإجماع المركب، و قول أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية ميثم الطويلة التي رواها المشايخ الثلاثة الواردة في حدّ الزنا: «من عطل حدّا من حدودي فقد عاندني» «3».

أقول: مقتضي الأدلة الخمسة السابقة كلّها الوجوب، و لا بدّ في أخذ هذه الخصوصيات من الرجوع إليها، إمّا علة التشريع فواضح، و إمّا اطلاق الأوامر في باب الحدود فهو أوضح، و إمّا مقتضي أدلة الولاية و أن لم يكن الوجوب بل الجواز، و لكن من المعلوم أنّ الولي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، ح 2- 3.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 438

المنصوب عموما أو خصوصا لو لم يقم بوظائفه و ما يقتضيه الغبطة فيمن ولّي عليهم فقد خان أميره، و خانهم أيضا، و هذا غير جائز.

و أمّا إذا قلنا بأن إجراء الحدود من لوازم القضاء كثيرا، فإذا قلنا بوجوب القضاء عينا أو كفاية، فكذلك حكم إجراء الحدود، لأنّه من تمام القضاء، و كذا رواية حفص بن غياث، و بالجملة لا ينبغي الشك في المسألة، بل الظاهر أنّ من عبّر بالجواز أراد الجواز بالمعني الأعم، و إلّا

فان هذا الحكم من الأحكام التي يدور أمرها بين الحرمة و الوجوب، و لا يقبل الجواز بمعني الاباحة كما لا يخفي.

2- هل يجب مساعدة الناس لهم في ذلك؟ الظاهر المصرح به في كلماتهم نعم، و العمدة فيه المخاطب في هذه الأوامر، مثل (أمر فاجلدوا و اقطعوا) هو الجميع إلّا أنّ الفقيه بمقتضي الأدلة السابقة مأمور بها بلا واسطة، و سائر الناس بواسطة الفقيه و إن شئت قلت: إنّها ترجع إلي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو وظيفة جميع الناس، كل بحسب قدرته و إمكانه و صلاحيته.

3- هل التعزيرات أيضا داخلة فيما ذكر أم لا؟

ظاهر كلماتهم هو خصوص الحدود، لذكر هذا العنوان فيها، إلّا أنّ الانصاف عموم الحكم للأولوية أولا، و لعموم كثير من الأدلة السابقة ثانيا، و لأنّ الحدّ في كثير من المقامات معناه عام يشمل التعزير أيضا ثالثا.

4- ذكر المحقق النراقي قدّس سرّه في عوائده في مقام تأييد أصل الحكم، ما دلّ علي أن «ما اخطأت القضاة، من دم أو قطع، ففي بيت مال المسلمين» «1».

و لكن الانصاف أنّه أجنبي عن محل البحث، لعدم كونه في مقام البيان من هذه الناحية، و لعله ناظر إلي من كان منصوبا من قبل الإمام عليه السّلام بالخصوص، و بالجملة ظاهره كونه بصدد بيان حكم غير ما نحن بصدده، فلا يمكن الركون إليه في إثبات المقصود.

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 439

المقام الرابع: الولاية علي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

لا شك أنّ وجوبهما في الجملة من ضروريات الدين، ورد التصريح به في الكتاب و السنة المتواترة، و قد ذكر الأصحاب أنّ له مراتب ثلاث: «بالقلب» و «باللسان» و «باليد» و قد

صرّح بعضهم بأنّ وجوب انكار الأوّل مطلق غير مشروط بشي ء، و معناه أنّ وجوب الآخرين مشروط بالشروط الاربعة التي ذكروها، و هو العلم بالمنكر و المعروف، و احتمال التأثير، و كون الفاعل مصرا علي الاستمرار و الأمن من الضرر.

و كل ذلك موكول إلي محله، إنّما الكلام في أنّ الإنكار باليد أيضا له مراتب:

1- العمل بالمعروف و ترك المنكر بحيث يكون سببا لدعوة غيره إلي ذلك.

2- الضرب من دون جرح.

3- الضرب مع الجرح إذا لم يكن الضرر مقصودا، شبه المدافعة و الممانعة التي قد يتولد منهما الضرر.

4- الضرب مع الجرح و إن كان الضرر مقصودا.

5- الإنكار باليد و لو بالقتل.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام فيها «تارة» يكون في أصل وجوب هذه المراتب، و «اخري» في ترتبها، و وجوب الاقتصار علي الأيسر فالأيسر.

و «ثالثة» علي اشتراط إذن الإمام عليه السّلام في المراتب الأربعة الأخيرة، دون المرتبة الاولي أي العمل بأحكام اللّه فانّه فرض علي الجميع مطلقا من دون حاجة إلي الاستيذان، و لنعم ما قال صاحب الجواهر قدّس سرّه في هذا المقام حيث قال:

«من أعظم أفراد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أعلاها و اتقنها و أشدها تأثيرا خصوصا بالنسبة إلي رءوساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه و مندوبه، و ينزع رداء المنكر محرمه و مكروهه، و يستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة، و ينزهها عن الأخلاق الذميمة، فانّ ذلك منه سبب تام الفعل الناس المعروف و نزعهم المنكر خصوصا إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة و المرهبة، فانّ لكل مقام مقالا و لكل داء دواء، و طب النفوس و العقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة، و حينئذ يكون قد جاء بأعلي أفراد الأمر

أنوار الفقاهة

- كتاب البيع (لمكارم)، ص: 440

بالمعروف نسأل اللّه التوفيق لهذه المراتب (انتهي) «1».

و «رابعة» في أنّ نائب الغيبة يقوم مقام الإمام عليه السّلام في جواز الاستيذان منه في المراتب الأربع.

و قبل التكلم في هذه المقامات لا بدّ من ذكر روايات الباب، ليعلم أحكام الجزئيات منها فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

1- منها ما رواه جابر عن الباقر عليه السّلام (في الحديث) قال: «فانكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم، و صكوا بها جباههم و لا تخافوا في اللّه لومة لائم» الحديث «2».

2- و منها ما رواه الرضي: و قد قال عليه السّلام في كلام له يجري هذا المجري: «فمنهم المنكر للمنكر بقلبه و لسانه و يده فذلك المستكمل لخصال الخير، و منهم المنكر بلسانه و قلبه، التارك بيده، فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير و مضيع خصلة» الحديث «3».

3- و منها ما رواه الطبري مرسلا في تاريخه عن عبد الرحمن ابن أبي ليلي عن علي عليه السّلام قال: «أنّي سمعت عليا عليه السّلام يقول يوم لقينا أهل الشام: أيّها المؤمنون أنّه من رأي عدوانا يعمل به و منكرا يدعي إليه فأنكره بقلبه، فقد سلم و برئ، و من أنكره بلسانه فقد أجر، و هو أفضل من صاحبه، و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلي فذلك الذي أصاب سبيل الهدي و قام علي الطريق و نور في قلبه اليقين» «4».

4- و منها ما عن أبي حجيفة عن علي عليه السّلام: يقول «إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد، و الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا و لم ينكر منكرا قلب، فجعل أعلاه أسفله و أسفله أعلاه»

«5».

5- و منها ما عن تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السّلام فقد صرح في ذيله بهذه المراتب الثلاث «6».

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 21، ص 382.

(2). وسائل الشيعة، ج 11، الباب 3 من أبواب الأمر بالمعروف، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 9.

(4). المصدر السابق، ح 8.

(5). نهج البلاغة، الحكمة 375.

(6). راجع وسائل الشيعة، ج 11، الباب 3 من أبواب الأمر بالمعروف، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 441

6- و منها ما دل علي قسمين منها «اليد» و «اللسان» الذي يعلم منهما الثالث أيضا، و هو ما رواه يحيي الطويل عن الصادق عليه السّلام قال: «ما جعل اللّه بسط اللسان و كف اليد و لكن جعلهما معا و يكفان معا» «1».

و ضعف اسنادها بالارسال و الجهالة غير مضر بعد تضافرها و عمل الأصحاب بها، بل يمكن الاستدلال علي مضمونها في الجملة بدليل العقل.

توضيح ذلك: إنّ الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) اختلفوا في كون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبين بحكم العقل مضافا إلي حكم الشرع، فعن الشيخ و العلّامة و الشهيدين (قدس اللّه اسرارهم) و غيرهم استقلال العقل بوجوبهما، و لكن عن المحقق الثاني و فخر المحققين قدّس سرّهما بل نسب إلي جمهور المتكلمين و الفقهاء عدم استقلاله به، و إنّهما يجبان بحكم الشرع فقط.

قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد علي ما حكاه عنه في الايضاح: لا خلاف في وجوبهما إنّما الخلاف في مقامين:

أحدهما: إنّهما واجبان علي الكفاية أو علي الأعيان؟

و الثاني: إنّهما واجبان عقلا أو سمعا؟

و الأوّل في المقامين أقوي، و قال ولده في شرح كلام والده قدّس سرّهما ذهب السيد المرتضي و أبو الصلاح و ابن ادريس (قدس اللّه اسرارهم) إلي وجوبهما سمعا

و إلّا لم يرتفع معروف و لم يقع منكر، أو يكون اللّه مخلا بالواجب، و اللازم بقسميه باطل فالملزوم مثله «2».

و مراده من هذا الاستدلال هو أنّه لو وجبا بالعقل فوجبا علي اللّه تعالي أيضا لاتحاد الملاك.

و فيه: منع ظاهر لأنّ وجوب شي ء عقلا علي العباد لا يستلزم وجوبه علي اللّه كما أن حفظ النفس واجب علينا و لا يجب عليه تعالي بل يعمل في ذلك بما يقتضيه مشيئته البالغة و حكمة العالية، كيف و نحن في بوتقة الامتحان، و قد جعلنا اللّه مختارين حتي نستكمل بالبلوي!!

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، ج 11، الباب 3 من أبواب الأمر بالمعروف، ح 2.

(2). إيضاح القواعد، ج 1، ص 397.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 442

و قال في اللمعة: «و هما واجبان عقلا في أصح القولين، و نقلا اجماعا».

و قال في المختلف بعد نفي الخلاف عن وجوبهما: «إنّما الخلاف في مقامين الأوّل: هل هما واجبان عقلا أو سمعا؟ فقال السيد المرتضي و أبو الصلاح و الأكثر بالثاني، و قواه الشيخ في كتاب الاقتصاد، ثم عدل إلي اختياره الأوّل، و الأقرب ما اختاره الشيخ (أي وجوبها عقلا)» «1».

و لكن الانصاف أنّ وجوبهما في الجملة بحكم العقل ممّا لا سبيل لنا إلي انكاره، و قد أرشدنا الإمام الباقر عليه السّلام إلي دليله العقلي، بقوله عليه السّلام فيما روي عنه: «إنّ الأمر بالمعروف سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، و تأمن المذاهب، و تحل المكاسب، و ترد المظالم، و تعمر الأرض، و ينتصف من الاعداء و يستقيم الأمر» «2».

و قد أشار إليه قبل ذلك مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض كلماته مشيرا إلي هذه الفريضة «إذا

أدّيت و اقيمت استقامت الفرائض كلها هيّنها و صعبها» الي آخر الحديث.

و إن شئت قلت: تركهما يؤدي إلي فساد المجتمع كله و اشاعة الفحشاء و المنكر فيجبان من باب المقدمة للواجب، هذا و لكن القدر المتيقن منه هو وجوب الانكار و الأمر باللسان و اليد، أمّا بالقلب، فلا يمكن إثباته بدليل العقل، اللّهم إلّا أن يقال: لو لم ينكر بقلبه اثّر ذلك في عمله بيده و لسانه، فوجوبه أيضا من باب المقدمة فتأمل.

هذا و قد يقال: «إنّ المراد من الانكار بالقلب ما يظهر آثاره في الوجه» و وجوبه حينئذ ظاهر.

هذا و لكن الأمر سهل بعد كون الكلام في الانكار أو الأمر باليد، و الظاهر أن وجوبهما بدليل العقل ثابت في جميع مراتبه حتي القتل في الجملة، فلو لم يرتدع الفاعل للمنكر و كان وجوده منشأ لفساد عظيم في المجتمع جاز قتله بحكم العقل، و دخل في عنوان المفسد في الأرض في الجملة.

______________________________

(1). مختلف الشيعة، ج 1، ص 158.

(2). وسائل الشيعة، ج 11، الباب 6 من أبواب الأمر بالمعروف، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 443

و من هنا يظهر الحال في «المقام الأوّل» و أنّ وجوب هذه المراتب باجمعها من الانكار بالقلب إلي آخر مراتب الإنكار باليد واجب باطلاق ما عرفت من الروايات الشارحة لمراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل باطلاق ما دلّ علي وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أيضا.

إن قلت: ما الفائدة في ترك المنكر بالاجبار، و كذا فعل المعروف كذلك؟ و وجود الاجبار في بعض المراتب المذكورة ممّا لا يكاد ينكر؟ أو ليس المقصود من تشريع الشرائع تكميل النفوس و دعوتها إلي فعل المعروف و ترك المنكر اختيارا،

و قيام الناس بالقسط و العدل؟ و أي فائدة في الجميل الاضطراري؟

قلت: العمل بهذه الوظيفة و إن أدّي إلي الاجبار في كثير من الموارد بالنسبة إلي بعض الناس، لكنه لطف بالنسبة إلي غيرهم ممن يعيش في ذلك المجتمع، فان نشر آثار الفساد و إشاعة الفحشاء ممّا يوجب ترغيب النفوس نحوه بلا ريب، بل قد يكون لطفا أيضا في حق فاعله في الوقائع المستقبلة (إذا لم يكن النهي بقتله) و إن هو إلّا كإجراء الحدود و التعزيرات التي لا يمكن إنكار تأثيرها في تربية النفوس.

إن قلت: فوجوب هذه المراتب ثابت في أي أمر؟ فهل يجوز قتل من لا يرتدع من شرب الخمر و القمار مثلا، كما لعله ظاهر اطلاق كلماتهم.

قلت: كلّا، بل اللازم مراعات الأهم في البين و اطلاقات الآيات و الروايات منصرفة إليه كإطلاق كلماتهم، فلا يجوز الضرب و الجرح أو الكسر و القتل في كل مورد من موارد ترك المعروف و فعل المنكر بل لا بدّ من ملاحظة الأهم و المهم.

و إن شئت قلت: يقع التعارض بين أدلة وجوبهما و أدلة حرمة ايذاء المؤمن و جرحه و قتله، بل هو من قبيل التزاحم، و من المعلوم أن مقتضي القاعدة في المتزاحمين الأخذ بالأهم.

و من هنا يظهر الحال في «المقام الثاني»، و أنّه يجب الأيسر، فما دام المواعظ الحسنة مؤثرة لا يجوز الانكار بالكلمات الخشنة، و ما فيه هتك و تحقير و ايذاء، و ما دامت هذه مؤثرة لا تصل النوبة إلي الضرب، و قد يكون الضرب، و قد يكون الضرب أهون من بعض

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 444

الكمات الخشنة، و هكذا الحال في الاقدام علي الجروح أو الكسر أو قتل، و يتفاوت

جميع ذلك بحسب الأشخاص و المقامات.

و الدليل عليه (و إن كان بعض كلماتهم مطلقة و ظاهرة في عدم الترتب) و ما عرفت من التزاحم بين أدلة وجوبهما و أدلة حرمة الايذاء، و اللازم الأخذ بالأهم، و كذا بالأيسر ثم الأيسر.

مضافا إلي ما يظهر من الآية الشريفة في قتال طائفتين من المؤمنين فقد قال سبحانه:

وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَي الْأُخْريٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ «1».

فقد ذكر فيها الإصلاح أولا، ثم الاقتتال إذا لم ينفع الإصلاح.

و كذا ما يظهر من بعض الروايات السابقة الظاهرة في الترتب.

و العجب من بعض أعاظم العصر حيث ذكر في بعض كلماته أنّ الترتيب غير مذكورة في الروايات الباب، و ما افيد من أنّ النسبة بينها و بين أدلة حرمة الايذاء عموم من وجه، منظور فيه، فان انحاء الأمر و النهي ذكر فيها بالواو الظاهرة في عدم الترتيب، و ليس من قبيل العموم، و أمّا الاستشهاد بالآية الشريفة فيشكل لأنّه راجع إلي المقاتلة بخلاف المقام «2».

و فيه مواقع للنظر، اما أولا: فلأنّ المقام ليس من قبيل التعارض، بل من قبيل التزاحم كما عرفت، لأنّ الملاك محرز من الجانبين، فاللازم الأخذ بأقوي الملاكين و أهم المصلحتين لا الرجوع إلي قواعد باب التعارض كما هو ظاهر.

و ثانيا: العطف بالواو لا يدل علي التساوي لا سيما بعد وجود القرينة و مناسبة الحكم و الموضوع، و هي هنا موجودة مع قطع النظر عن أدلة حرمة الايذاء، فإذا كان هناك رجل مشغول بشرب الخمر يرتدع بأدني كلمة، فأي فقيه يجوّز ضربه أو جرحه أو قتله أخذا باطلاق أدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؟

و ثالثا: دلالة الآية

ممّا لا ينبغي أن ينكر، فانّه لا فرق بين المقاتلة و القتل لأنّ القتل في

______________________________

(1). سورة الحجرات، الآية 9.

(2). جامع المدارك للمحقق الخوانساري قدّس سرّه، ج 5، ص 409.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 445

المقام أعم من أن يكون من طريق المقاتلة أو غيرها.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا يجوز الضرب أو الجرح أو القتل في جميع موارد المنكر أو ترك المعروف بل لا بدّ من ملاحظة الأهم و المهم في كل مورد.

اما المقام الثالث: ففيه خلاف بينهم.

فالمحكي عن نهاية الشيخ قدّس سرّه أنّ الأمر بالمعروف باليد، بمعني حمل الناس عليه، أمّا القتل و ضرب من الجراحات فهو لا يجوز إلّا باذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة العامة (أي الإمام عليه السّلام)، فالمراد باليد في الأخبار هو الجري العملي علي المعروف ليتأسي به الناس.

و قد يقال: إنّ الضرب جائز، و لكن الجرح أو القتل لا يجوز إلّا باذن الإمام عليه السّلام كما عن الفخر و الشهيد و المحقق الثاني و المقداد.

بل في المسالك أنّه الأشهر بين الأصحاب.

و هنا قول ثالث، و هو أن إذن الإمام شرط فيما كان الضرر مقصود، أمّا إذا كان شبه المدافعة أو الممانعة التي قد يحصل منها ضرر غير مقصود فلا، و يظهر ذلك من المرتضي قدّس سرّه فيما رواه في المختلف عنه «1».

و قول رابع، و هو التفصيل بين الجرح و القتل و أنّ الأوّل جائز (بغير اذن الإمام عليه السّلام) دون الثاني، حكاه في الجواهر عن الشهيد الثاني «2».

و قد يظهر من بعض الكلمات قول خامس و هو عدم حاجة القتل أيضا علي اذنه عليه السّلام، و أنّه إذا وجب علي الإمام عليه السّلام وجب علي غيره بحكم التأسي

«3».

هذا و لكن الانصاف عدم جواز شي ء من الضرب و الجرح و الكسر و القتل إلّا بإذن الإمام عليه السّلام، لما في جواز ذلك علي آحاد الناس من المفاسد العظيمة التي قد توجب اخلال النظام و الهرج و المرج، لا سيما إذا كان فيهم جهال لا يقفون علي شي ء و لا يدرون مواقع

______________________________

(1). المختلف، ص 159.

(2). الجواهر، ج 21، ص 284 و 285.

(3). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 446

الامور و مقاديرها- و الجاهل إمّا مفرط أو مفرّط- فتفويض هذه الامور إليهم يكون ضررها أكثر من نفعها، «كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه» (كما ورد في الحديث) بل قد يكون دخول آحاد الناس في ذلك سببا لأعمال البغضاء و الشحناء من هذا الطريق، و التطرق إلي المقاصد السيئة تحت عنوان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما لا يخفي علي من له خبرة بهذه الامور، فلا بدّ في جميع ذلك من الاستيذان من «ولي الأمر» و هو كما اشتهر في الألسن أنّ اليد التي يقطعها الحاكم لا دم له!

و التمسك باطلاقات الباب كالتمسك باطلاق آية «حدّ الزنا و السارق» ممنوع بقرينة المقام.

و إن شئت قلت: هناك امور تقف علي اذن الحاكم في جميع الجوامع البشرية فإذا اذن الشارع المقدس في شي ء منها انصرف إليه، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فلا اطلاق في الآيات و الروايات بعد وجود هذه القرينة الواضحة الظاهرة.

و إن هو إلّا نظير إجراء الحدود و التعزيرات، فقد عرفت أنّه لا ينبغي الشك في كونها من وظيفة الحاكم الشرعي، بل إجرائها من مصاديق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما لا يخفي علي اللبيب.

فقد ظهر من جميع ذلك أنّ

الأظهر بحسب القرائن العقلية و النقلية عدم جواز شي ء من هذه المراتب الأخيرة بغير إذن الإمام عليه السّلام أو نائبه.

نعم الانكار بالقلب، سواء كان بمعني تنفره في قلبه عن المنكر و يكون ذلك لنفسه، أو كان المراد ظهوره في صفحات وجهه بحيث ينتفع به غيره من دون تكلم، فقد يكون لسان الحال أبلغ من لسان المقال، فهذا غير متوقف علي شي ء، و كذا القول باللسان في جميع مراتبه، فادلتها مطلقة لا وجه لتخصيصها بشي ء، و كذا العمل باليد بمعني كونه «اسوة» لفعل المعروف و الانتهاء عن المنكر، إنّما الكلام في سائر مراتب اليد.

و أمّا «المقام الرابع» من مقامات ولاية الفقيه، أعني كفاية اذن نائب الغيبة و قيامه مقام الإمام المعصوم عليه السّلام فقد صرّح بعضهم بذلك، قال العلّامة قدّس سرّه في المختلف حاكيا عن سلار بن عبد العزيز: «أمّا القتل و الجرح في الانكار فإلي السلطان و من يأمره، فان تعذر الأمر لمانع

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 447

فقد فوضوا عليهم السّلام إلي الفقهاء إقامة الحدود و الأحكام بين الناس، بعد أن لا يتعدوا «واجبا» و لا يتجاوزوا «أحدا»، و أمر عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء علي ذلك ما استقاموا علي الطريقة.

ثم قال العلّامة قدّس سرّه: «و الأقرب عندي جواز ذلك للفقهاء، ثم استدل بأن تعطيل الحدود يقتضي إلي نشر الفساد و ارتكاب المحارم، و بما رواه عمر بن حنظلة و غير ذلك من الأحاديث الشاملة لإقامة الحدود و غيرها» «1».

و الظاهر أنّهم ينظرون إلي إقامة الحدود كأحد مصاديق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو كذلك، و قال الفقيه الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه: «في جواز ذلك (أي الأمر بالمعروف و النهي عن

المنكر إذا أدي إلي جرح أو قتل) لنائب الغيبة مع فرض حصول شرائطه أجمع، التي منها عدم الضرر و الفتنة و الفساد: لعموم ولايته عنهم قوّة، خصوصا مع القول بجواز إقامة الحدود له، و إن كان ذلك فرض نادر بل معدوم في مثل هذا الزمان» «2».

أقول: الحق ما ذكره هؤلاء الأعلام، لما سيأتي إن شاء اللّه من الأدلة العامة الدالة علي ولايته في أمثال ذلك، مضافا إلي ما عرفت من الأدلة الدالة علي جواز إجراء الحدود له، الشاملة لما نحن بصدده، بطريق أولي (و قد مر الكلام فيه آنفا في المقام الثالث).

و ليعلم أنّ المراد بالجواز في جميع هذه المقامات هو الجواز بالمعني الأعم الشامل للوجوب، بل مصداقه هنا هو الوجوب، لوجوب الوظيفتين كما لا يخفي.

المقام الخامس: الولاية علي الحكومة
اشارة

و هذه هي العمدة في هذه الأبحاث، و إنّما تكلمنا في المقامات السابقة ليعلم أن ولاية الفقيه لا تنحصر في الولاية علي الحكومة، و إن كانت هي أظهر مصاديقها في عصرنا هذا.

______________________________

(1). مختلف الشيعة، ج 1، ص 159.

(2). جواهر الكلام، ج 21، ص 385- و ما أفاده من أنه فرض نادر في زمانه عجيب، يدل علي غلبة أهل الأهواء في عصره بحيث لم يمكن إقامة الحدود فيه أصلا و ليس كذلك في عصرنا بحمد للّه تعالي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 448

و لنتكلم أولا في ضرورة الحكومة للناس، و أنّه لا بدّ لهم من أمير و حاكم، ثم لنتكلم عن ما يدل علي أولوية الفقيه في الإسلام بهذا المقام، ثم نعقبه بشرائطها ثم حدودها، فهذه امور أربعة لا بدّ من البحث عنها.

[هنا أمور أربعة لا بد من البحث عنها]
الاول: ضرورة الحكومة للناس:

أمّا الأوّل: فيمكن إثباته من طرق:

أحدها: لا ريب في ان الحياة الإنسانية حياة تقوم علي المجتمع، فلو تجرّدت حياة من هذه الخصيصة انحدر الإنسان إلي أقصي مراتب الجاهلية الجهلاء و البهيمة و الشقاء، لأنّ جميع المنافع و الآثار المطلوبة الحاصلة في المجتمع البشري من الحضارات و التقدم نحو الكمال، و الأخلاق و الآداب و العلوم المختلفة، إنّما تكون ببركة حياته الاجتماعية و ما فيها من انحاء التعاون و التعاضد بين أفراد المجتمع و ما يفضي من تكاتف القوي و تراكم الافكار و تلاقح القابليات، فالانسان إذا عاش منفردا كان كأحد الحيوانات، و إنّما أعطاه اللّه الميل و التجاذب نحو هذا اللون من الحياة كي يتحصل علي هذه المنافع العظيمة، و الكمال اللائق بحاله في بعديه المعنوي و المادي، و قد أكد الشارع المقدس علي الاحتفاظ بهذا النوع من الحياة، و جعله كأصل

ثابت، و كحجر أساس في جميع أحكامه و قوانينه، كما لا يخفي علي من سبر أحكام الإسلام بالدقة و التأمل.

ثم من الواضح أنّ حياة الإنسان في المجتمع، علي رغم شتي البركات و المنافع الضرورية، لا تخلو عن منافسات و مضاربات و منازعات، لا لغلبة الشهوات علي الناس فحسب، بل لما يقع هناك من الخطأ في تشخيص الحقوق و حدودها، فلا بدّ لهم من قوانين تبيّن لهم ما يستحق كل واحد منهم، و ما هو طريق التخلص عن التزاحم ورد التعدي و التجاوز و غير ذلك، و هذه القوانين بنفسها لا أثر لها في نفي هذه الامور، حتي يكون هناك من ينفذها و يجريها، و لا يكون ذلك إلّا بايجاد الحكومة و لو بشكل ساذج بسيط.

و إذا اتفق المتكلمون من أصحابنا و غيرهم، علي أنّ الإمامة واجبة بين المسلمين إلّا ما قد يحكي عن أبي بكر الأصم من العامة أنّها غير واجبة، إذا تناصفت الامة و لم تتظالم، و هو شاذ جدّا «1».

______________________________

(1). حكاه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 308.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 449

و كذا اتفق العقلاء من جميع الامم علي ضرورة الحكومة للمجتمعات البشرية عدا ما يلوح من الشيوعيين من عدم لزومها بعد تحقق الكمون المتكامل لأبناء البشر، و بعد طرد النظام الطبقي فانّ الحكومة إنّما شرّعت- حسب زعمهم- لحفظ منافع الطبقة الحاكمة، فإذا انتفي هذا النظام انتفت الحكومة.

و لكن هذه كلها أوهام و تخيلات واهية لا وزن لها عند ما نلمس الحقائق الراهنة في المجتمع البشري، أمّا وصول الإنسان إلي مستوي عال من الأخلاق و التقوي الذي يطرد أي اختلاف و تنازع فهو أمر بعيد المنال

لا ينبغي البناء عليه في هذه الظروف التي نعيش فيها و في المستقبل علي ما نعهده.

سلّمنا تحقق ذلك، و لكن هذا لا يغني عن الحكومة، لأنّها ليست لدفع التزاحمات فقط، بل هناك امور كثيرة تتعلق بحياة المجتمع ليست في عهده فرد معين أو أفراد خاصين كبناء الطرق، و جلب الارزاق و دفع الآفات و العناية بشؤون الصحة و التعليم و التربية، و تنظيم البرامج الاقتصادية التي قد تهلك الامة بدونها، أو تقع في حرج شديد و عسر عسير، فما ذكر من بلوغ الامة إلي حد التناصف، أو بلوغها إلي حدّ حذف الطبقة الظالمة علي فرض تحققها، إنّما يوجب غناء الامة عن النظام القضائي و ما يتعلق به فقط، و أمّا ما تتصدي له الآن وزارة «الصحة» و «التعليم» و «الثقافة» و «الاقتصاد» مثلا، و غير ذلك ممّا هو كثير، فضرورتها باقية ما بقي الإنسان في المجتمع، فحذف الحكومة من حياة الإنسان و هم في وهم، و خيال في خيال!

و إن شئت جعل هذا الدليل في صبغة إسلامية، فراجع كلمات المتكلّمين عند ذكر وجوب بعث الرسل و انزال الكتب، أو وجوب نصب الإمام بعد ارتحال الرسول صلّي اللّه عليه و آله من دار الدنيا، فانّه ينادي بأعلي صوته علي ضرورة الحكومة في كل عصر و زمان، مثل ما ذكره العلّامة الطوسي قدّس سرّه في شرح تجريد الاعتقاد حيث قال في بحث لزوم البعثة:

«منها: أنّ النوع الإنساني خلق لا كغيره من الحيوانات، فانّه مدني بالطبع، يحتاج إلي امور كثيرة في معاشه، لا يتم نظامه إلّا بها، و هو عاجز عن فعل الأكثر منها إلّا بمشاركة و معاونة، و التقلب موجود في الطبائع البشرية، بحيث يحصل التنافر المضاد

لحكمة

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 450

الاجتماع، فلا بدّ من جامع يقهرهم علي الاجتماع و هو السنة و الشرع و لا بدّ للسنة من شارع يسنها و يقرر ضوابطها … بحيث يتمّ النظام و يستقر حفظ النوع الإنساني علي كماله الممكن.

و منها: أنّ مراتب الأخلاق و تفاوتها معلوم يفتقر فيه إلي مكمل لتعليم الأخلاق و السياسات بحيث تنتظم امور الإنسان بحسب بلده و منزله».

و قال في بحث لزوم نصب الإمام عليه السّلام بعده صلّي اللّه عليه و آله:

«و استدل المصنف علي وجوب نصب الإمام علي اللّه تعالي بأن لطف و اللطف واجب، أمّا الصغري فمعلومة للعقلاء، إذ العلم الضروري حاصل، بأنّ العقلاء متي كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب و التهاوش و يصدّهم عن المعاصي و يعدهم و يحثهم علي فعل الطاعات و يبعثهم علي التناصف و التعادل، كانوا إلي الصلاح أقرب و من الفساد أبعد» (انتهي محل الحاجة).

ثانيها: إنّ أحكام الإسلام لا تنحصر بالعبادات، بل فيها أحكام كثيرة ترتبط بالشئون السياسية، و الاجتماعية، و غيرها، كأحكام الجهاد و الحدود و القضاء و الزكاة و الخمس و الانفال و غيرها ممّا لا يمكن تعطيلها في أي عصر و زمان، سواء عصر غيبة الإمام عليه السّلام أو حضوره، فهل يمكن تعطيل القضاء بين الناس، مع كثرة الخلاف و التنازع بينهم؟ أو هل يمكن تعطيل الحدود و القصاص و شبهها الموجب لتجري أهل الفتنة و الفساد في الأرض؟

أو هل يمكن ترك الدفاع عن حوزة الإسلام عند هجوم الأعداء عليها من الخارج أو من أهل النفاق عن الداخل؟!.

ثم هل يمكن اعطاء كل من هذه الامور حقّها بغير تأسيس الحكومة القوية القادرة علي تنفيذ الأحكام الخاصة بهذه المسائل؟

و من أنكر هذه إنّما ينكره باللسان وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ.

فلذا نري الرسول الأعظم صلّي اللّه عليه و آله عند ما هاجر إلي المدينة و ثبتت قدماه في أرضها أقدم علي تأسيس الحكومة الإسلامية قبل كل شي ء، بتجنيد الجنود، و تعيين بيت المال، و جمع الزكوات، و ارسال الرسل، و نصب القضاة و بعث العيون، و غير ذلك، و لولاها لما ثبتت للإسلام قائمة، فانّه لم يكن الإسلام مجرّد تبليغ الأحكام و تعليمها، و أي أثر للتعليم المجرد

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 451

عمّا يوجب انفاذ الأحكام و إجرائها، اللّهم إلّا أثرا ضعيفا، بل السرّ في نفوذ الإسلام علي أكثر بقاع المعمورة من الأرض في مدّة قليلة قد لا تبلغ قرنا واحدا، هو اعتماده علي تأسيس الحكومة و ايجاد نظام لأمره، كما لا يخفي علي الخبير.

ثالثها: الروايات الكثيرة الدالة علي ضرورتها للامة الإسلامية منها ما يلي:

1- ما رواه في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه لما سمع كلام الخوارج «لا حكم إلّا اللّه» قال: «كلمة حق يراد بها الباطل، و لكن هؤلاء يقولون «لا أمرة إلّا للّه» و انّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في أمرته المؤمن، و يستمتع فيها الكافر و يبلغ اللّه فيها الأجل، و يجمع به الفي ء، و يقاتل به العدو، و تؤمن به السبل، و يؤخذ به للضعيف من القوي» «1».

و حاصله أنّ الحكم له معنيان: أحدهما: الحكم بمعني تشريع القانون الإلهي فهو منحصر بمشية اللّه و إرادته، و الثاني: بمعني إجراء هذا القانون، و هذا لا يكون إلّا بسبب إنسان إن كان برّا فهو، و إلّا خلفه فاجر، و لكن الخوارج قد لبسوا

علي أنفسهم و علي الناس بالخلط بين المعنيين، ثم أشار عليه السّلام إلي فوائد سبعة لتأسيس الحكومة و انه لا تتيسر بدونها هذه الفوائد العظيمة.

و في بعض الروايات المروية من طرق العامة أنّه لما قال عليه السّلام: لا يصلح الناس إلّا بأمير بر أو فاجر، قالوا: يا أمير المؤمنين! هذا البر، فكيف بالفاجر؟ قال: «إن الفاجر يؤمن اللّه به السبل، و يجاهد به العدو، و يجيي به الفي ء، و يقام به الحدود و يحج به البيت، و يعبد اللّه فيه المسلم آمنا» «2».

و هذا دليل أيضا علي أن حكومة الظالمين و إن كانت علي خلاف ما أمر اللّه به و لكنه أحيانا يحصل بها بعض المنافع المترقبة من الحكومة العادلة، كالموارد المذكورة في الرواية، و هذا أمر ظاهر في بعض الحكومات التي نري في شتي نواحي العالم.

2- الرواية المعروفة لفضل بن شاذان رواها في «علل الشرائع» و فيها بيان علل كثيرة

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 40.

(2). كنز العمال، ج 5، ص 75.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 452

للأصول و فروع الدين و منها بيان علل جعل اولي الأمر، و قد ذكر عليه السّلام له عللا ثلاثة:

«أولها»: لزوم إجراء الحدود، و أنّه لو لا ذلك ظهر الفساد في الامة، و لا يكون ذلك إلّا بنصب ولاة الأمر.

و «ثانيها» ما نصه: «أنا لا نجد فرقة من الفرق، و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا إلّا بضم رئيس».

و ذكر في «الثالث» حكمة حفظ أحكام الشرع عن الاندراس، و المنع عن تغيير السنة و زيادة أهل البدع «1».

و يظهر من «الوسائل» من أبواب مختلفة، أنّه رواها عن الرضا عليه السّلام، و لكن ليس في البحار إلّا روايته عن

الفضل بن شاذان من دون انتهائه إلي الإمام عليه السّلام، و لكن من البعيد جدّا رواية مثل هذه الرواية، من غير المعصوم عليه السّلام فراجع «2».

هذا مضافا إلي ما حكاه في عيون اخبار الرضا عليه السّلام فانّه بعد نقل تمام الحديث قال:

«سأله علي بن محمد بن قتيبة الراوي عن الفضل إنّ هذه العلل عن استنباط منه و استخراج؟

قال: ما كنت لأعلم مراد اللّه عز و جل من ذات نفسي، بل سمعتها من مولاي أبي الحسن الرضا عليه السّلام شيئا بعد شي ء فجمعتها» «3».

و العلل المذكورة لا تختص بالامام المعصوم عليه السّلام بل يقوم بها الفقيه أيضا ما عدا الأخير علي وجه.

3- ما رواه النعماني في تفسيره عن علي عليه السّلام بعد ذكر آيات من كتاب اللّه «و في هذا أوضح دليل علي أنّه لا بدّ للامة من إمام يقوم بأمرهم، فيأمرهم و ينهاهم و يقيم فيهم الحدود، و يجاهد العدو، و يقسم الغنائم، و يفرض الفرائض، و يعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم، و يحذرهم ما فيه مضارهم، إذ كان الأمر النهي أحد أسباب بقاء الخلق، و إلّا سقطت الرغبة و الرهبة و لو يرتدع، و لفسد التدبير، و كان ذلك سببا لهلاك العباد» «4».

______________________________

(1). رواها المجلسي قدّس سرّه البحار، ج 6، ص 60.

(2). راجع البحار، ج 6، ص 58 و راجع الوسائل، ج 7، ص 4 و 173.

(3). عيون اخبار الرضا، ج 2، ص 121.

(4). بحار الأنوار، ج 90، ص 41.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 453

4- و ما رواه في البحار أيضا عن الصادق عليه السّلام قال: «لا يستغني أهل كل بلد عن ثلاثة، يفزع إليه في أمر دنياهم و آخرتهم فان عدموا

ذلك كانوا همجا: فقيه عالم ورع و أمير خير مطاع، و طبيب بصير ثقة» «1».

إلي غير ذلك ممّا هو ظاهر أو صريح في عدم استغناء نوع الإنسان عن الحكومة، يعثر عليها المتتبع في تضاعيف كتب الرواية.

الثاني: أولوية الفقيه
اشارة

أعني كون الفقيه الجامع للشرائط أولي بذلك من غيره، فقد يستدل له تارة بما يشبه دليلا عقليا، و اخري بروايات كثيرة وردت في أبواب مختلفة.

أمّا الأوّل فهو ما يستفاد من كلمات بعض الأساتذة الأعلام قدّس سرّه و حاصله بتقرير منّا: إنّه لا شك- كما عرفت في المقام الأوّل- أنّه لا يمكن إهمال أمر المجتمع الإسلامي من حيث الحكومة، و أنّه لا بدّ للناس من ولي و أمير يدير امورهم و يأخذ للضعيف حقّه من القوي، و يدافع عنهم عند هجوم الأعداء، و ينتصف لهم و منهم، و يجري الحدود، و يسوس جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم و دنياهم.

كما أنّه لا ينبغي الشك في أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله كان بنفسه يتولي هذه الامور و من بعده كان هذا للأئمّة الهادين عليهم السّلام، و أمّا بعد غيبة ولي اللّه المنتظر عليه السّلام فإمّا أن يكون المرجع في هذه الامور خصوص الفقيه الجامع، أو يصح لكل أحد القيام بها، و القدر المتيقن من الجواز هو الأوّل، لعدم قيام دليل علي الثاني، و الأصل عدم ولاية أحد علي أحد، خرجنا من هذا الأصل في الفقيه، لأنّ جواز ولايته ثابت علي كل حال، و إنّما الكلام في جواز غيره.

و إن شئت قلت: الحكومة الإسلامية حكومة إلهية لا تنفك سياستها عن ديانتها و تدبيرها عن تشريعها الإلهي، فالقائم بهذا الأمر لا بدّ، أن يكون عارفا بأحكامه عرفانا تاما،

______________________________

(1). بحار الأنوار،

ج 75، ص 235.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 454

كما لا بدّ أن يكون عارفا بالامور السياسية و تدبير المدن، و كيف يسوغ لغير الفقيه الذي لا يعرف أحكام الشرع حق عرفانها التصدي لهذه الحكومة الإلهية؟

و بعبارة ثالثة: إنّ الحكومات علي قسمين: الحكومات القائمة علي أساس العقيدة و الحكومات التي ليست كذلك، و القسم الأوّل «إلهية» و «الحادية» و الإلهية كالحكومة الإسلامية، و الإلحادية كالماركسية، و في كل من هذين القسمين لا يكون الرئيس إلّا من هو عارف بتلك العقيدة عرفانا تاما، و يعرف ذاك المذهب علي حد الاجتهاد فيه كما لا يخفي علي من علم حال غير مسلمين أيضا في هذه الحكومات.

و بالجملة الحكومات الإلهية الإسلامية لا يمكن انفكاكها عن رئيس عالم بالمذهب و بالدين الإسلامي لا أقول أنّه يعمل فيهم بما يشاء، بل الرجوع إلي أهل الخبرة و الاستناد إليهم، و الاستشارة في كل ما يحتاج إلي الرجوع إليهم، و سيأتي شرح هذا المعني مستوفي إن شاء اللّه.

روايات الولاية:
اشارة

و أمّا الروايات التي استدل بها لهذا المعني فهي كثيرة، بعضها لا يزيد عن حد الاشعار، بل لعله لا اشعار فيه، و إنّما جمعها بعضهم حرصا علي تكثير الأدلة، مع أنّ تكثيرها بما لا دلالة فيها أحيانا يوجب الوهن فيما يدل، و يذهب بالاعتماد بالنسبة إلي غيره، فالأولي و الأجدر في جميع المباحث صرف النظر عن تكثير الأدلة بما يشمل الضعاف، و الاكتفاء بما يصلح للدلالة، أو يحتمل دلالتها علي الطلوب، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية، ما قيل أو يمكن القول بدلالتها علي المقصود عدّة روايات:

1- مقبولة عمر بن حنظلة

و هذه المقبولة هي أشهرها في كلماتهم، رواها في الوسائل في كتاب القضاء أبواب صفات القاضي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 455

«قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحا كما إلي السلطان و إلي القضاة أ يحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليه في حق أو باطل فانّما تحاكم إلي الطاغوت … قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانّما استخف بحكم اللّه و علينا ردّه، و الرادّ علينا الرادّ علي اللّه و هو علي حدّ الشرك باللّه» «1».

و الكلام فيها تارة من حيث السند و اخري من حيث الدلالة.

أمّا الأوّل فالمعروف أنّ الأصحاب تلقوه بالقبول، حتي سميت في كلماتهم بالمقبولة، و إلّا يشكل الاعتماد عليها بحسب حال الرواة، و العمدة في الإشكال في سندها نفس عمر بن حنظلة لعدم ورود توثيق له في كتاب الرجال.

نعم في السند

«صفوان بن يحيي» و هو من أصحاب الإجماع، و لكن ذكرنا في محله أنّ ما هو المشهور في السنة بعض من أنّ وجود بعض أصحاب الإجماع في سند الحديث يغنينا عن ملاحظة حال من بعده، ممّا لا دليل عليه، بل لعل معني أصحاب الإجماع كون الأصحاب مجمعين علي قبول رواياتهم بأنفسهم و توثيقهم.

هذا مضافا إلي نقل روايتين في ترجمة الرجل يدلان علي توثيقه، أحدهما: ما ورد في باب أوقاف الصلاة عن يزيد بن خليفة، قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: اذا لا يكذب علينا» «2».

و في رواية اخري عن عمر بن حنظلة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام القنوت يوم الجمعة فقال: أنت رسول إليهم في هذا، إذا صليتم في جماعة ففي الركعة الاولي و إذا صليتم وحدانا ففي الركعة الثانية» «3».

و ذكر المحقق المامقاني قدّس سرّه في تنقيح المقال بعد ذكر هاتين الروايتين يظهر منهما توثيقه.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1.

(2). الفروع من الكافي، ج 3، باب وقت الظهر و العصر، ح 1.

(3). وسائل الشيعة، ج 4، الباب 5 من أبواب القنوت، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 456

أقول: الاستناد إليهما في توثيق الرجل مشكل جدّا:

أمّا الأوّل فلاشتماله علي «يزيد بن خليفة» و هو مجهول، و الراوي في الثاني هو نفس عمر بن حنظلة و الاستناد إليه في إثبات وثاقته دور باطل، فالأولي في تصحيح سند الحديث ما مرّ من كونه مستندا للأصحاب و مقبولا عندهم.

و من الجدير بالذكر أنّ الشهيد الثاني قدّس سرّه وثقه في درايته علي ما حكاه

عنه المجلسي قدّس سرّه في روضة المتقين «1».

أمّا دلالتها، فهل هي بصدد نصب الحاكم بمعني الوالي أو القاضي، أو بصدد بيان المرجع للتقليد في الأحكام الشرعية، أو صدرها في شي ء و ذيلها في شي ء آخر؟ كل محتمل.

و غاية ما قيل أو يمكن أن يقال في دلالتها علي الحكم بالمعني الأوّل امور:

1- إنّ لفظ الحكم، ظاهر في الحكومة بمعني الولاية لا القضاء.

2- إنّ الرجوع إلي السلطان أو إلي القضاة (كما ورد في الحديث) يشمل المنازعات التي تحتاج إلي القضاء و ما لا تحتاج إلي ذلك، كالتنازع لأجل عدم أداء الحق من الدين أو الميراث أو غيرهما بعد ثبوت الحق، فانّ مرجعها السلاطين و الأمراء.

3- قوله «من تحاكم إليهم في حق أو باطل فانّما تحاكم إلي الطاغوت … » أيضا ظاهر في خصوص الولاة.

4- الآية التي استشهد بها و هي قوله تعالي: أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَي الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً «2».

5- قوله عليه السّلام «فليرضوا به حكما» يكون تعيينا للحاكم مطلقا، لأنّ الرجوع إلي القضاة لا يعتبر فيه الرضا فهذا دليل علي عدم إرادة خصوص القضاء.

6- عدوله عليه السّلام عن قوله: «جعلته قاضيا» إلي قوله «جعلته عليكم حاكما».

7- لا يبعد أن يكون عنوان القضاء أيضا أعم من قضاء القاضي و حكم الحاكم.

______________________________

(1). روضة المتقين، ج 6، ص 27.

(2). سورة النساء، الآية 60.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 457

8- التعبير- «علي» في قوله: «جعلته عليكم حاكما» مع أنّ المناسب للقاضي أن يقول «جعلة قاضيا بينكم»، و من جميع ذلك يعلم أنّ

الأظهر أنّ قوله: «فاني قد جعلته عليكم حاكما» هو جعل الفقيه حاكما في القضاء و الولاية العامة.

9- بعد ما ثبت ضرورة الحكومة في جميع الأعصار و عدم جواز تعطيلها، و دلّت المقبولة علي حرمة التسليم للطواغيت و الرجوع إليهم، يظهر منها قهرا أنّ المتعين للولاية هو الواجد للصفات التي ذكرها الإمام عليه السّلام في المقبولة.

10- القضاء من شئون الولاية، فإذا ثبت اشتراطه بالولي الفقيه فيثبت في غيره.

11- استناد بعض الفقهاء إليه في مبحث ولاية الفقيه مؤيد للمطلوب، هذا صاحب الجواهر قدّس سرّه استند إليه في الأبواب المختلفة فراجع.

12- التعبير فيها بالسلطان الظاهر في الولاية.

و هذه الوجوه ذكرناها مبسوطة و إن كان يمكن ادغام بعضها في بعض، كي نؤدي البحث حقّه، و مع ذلك فبعضها ظاهر البطلان، و بعضها غير خال عن الإشكال:

أمّا «الأوّل» فلا ينبغي الشك لمن راجع موارد استعمال كلمة «الحكم و التحكم» في القرآن الكريم و الأخبار و الآثار، أنّ الأظهر فيها هو القضاء (نعم في استعمالات الفارسية الدارجة ظاهرة في الحكومة، و لعل منشأ الاشتباه لبعض هو هذا) كالآيات الكثيرة الدالة علي أنّ اللّه يحكم يوم القيامة بين الناس، و ما دلّ علي مؤاخذة الكفار علي ما يحكمون مٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ* الواردة في الآيات المتعددة، و ما دلّ علي حكم داود و حكم النبي صلّي اللّه عليه و آله في اختلاف الناس، و ما ورد في باب أبواب القضاء و أحكام القضاة و ما أكثرها و لذا ذكر الراغب في مفرداته عنه ذكرنا معني الأصلي «إن الحكم بالشي ء أن تقضي بانّه كذا أو ليس بكذا» و هذا أمر ظاهر لمن راجع اطلاقات لفظ الحكم في الكتاب و السنة و لا أقل

من عدم ظهوره في غير هذا المعني.

و أمّا «الثاني» فلأنّ الظاهر من المنازعة: هي المنازعة التي تحتاج إلي القضاء بلا ريب.

و اما «الثالث» «و الرابع» فلأنّ الظاهر من الآية الشريفة أنّ المروي عن أكثر المفسرين كما في مجمع البيان أنّها نزلت في خصومة كانت بين يهودي و منافق، فقال اليهودي: أرضي

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 458

بمحمد صلّي اللّه عليه و آله و قال المنافق بل كعب بن أشرف! لعله بانّه يقبل الرشوة، فالطاغوت بمعني القاضي الجائز هنا.

و اما «الخامس» فلأنّه إشارة إلي قاضي التحكيم، و هو الذي يختاره الرجلان لأنّ يحكم بينهما و هو غير القاضي المنصوب، و إلّا فقوله فليرضوا به حكما لا يناسب الحكومة بمعني الولاية لعدم اعتبار الرضا فيها كما هو ظاهر.

و يظهر الجواب من «السادس» بما مرّ في الأوّل، فانّ الحاكم هو القاضي، و اعجب من الجميع «السابع» و هو أن يكون القضاء عاما يشمل الولاية مع أنّ المتبادر منه غيره.

و أمّا «الثامن» فلأنّ العلو كما يكون في الوالي يكون في القاضي، لنفوذ حكمه، فيناسب استعمال كلمة «علي».

و اما «التاسع» من اعجب هذه الوجوه، لأنّه استدل بدليل خارجي لا يرتبط بالرواية و ظهورها في المطلوب، كما لا يخفي.

و اما «العاشر» فلأنّ كون القضاء من شئون الولاية ليس دليلا علي اعتبار جميع ما يعتبر فيه في الولاية، فلذا كانت القضاة في جميع الأعصار من العلماء ظاهرا، حينما كانت الولاية من غيرهم أيضا.

و أمّا «الحادي عشر» فلأنّ استناد بعضهم إليه لا يكون دليلا أصلا، بعد ما حكم كثير منهم بأن المقبولة ظاهرة في القضاء فقط.

فقد صرح المحقق الخوانساري قدّس سرّه، و كذا المحقق الايرواني قدّس سرّه، بظهور المقبولة في القضاء (راجع

جامع المدارك و تعليقة المكاسب) و غيرهم كما سيأتي.

و أمّا «الثاني عشر» فسيأتي جوابه عند الكلام في المشهورة.

و الانصاف أنّ قوله «بينهما منازعة في دين أو ميراث» و قوله «من تحاكم إليهم في حق أو باطل» و قوله «ما يحكم له فانّما يأخذه سحتا» و كذا الاستدلال بالآية الشريفة (بما عرفت من شأن نزولها) و ما ورد في ذيلها من اختلافهما قوية ظاهرة في أنّ المراد من الحكم فيها هو القضاء، و أظهر منها ما ورد في ذيل الرواية من أعمال المرجحات بين مأخذ الحكمين الذي بمعني المستند للفتوي أو القضاء فانّه لا معني لكون الحكم فيه بمعني

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 459

الولاية، فهذه شواهد قوية علي كونها بصدد بيان منصب القضاء و الفتوي لا غير.

و علي كل حال، الانصاف أنّ ملاحظة صدر الرواية و ذيلها يدلّان دلالة صريحة علي أنّها بصدد بيان تعيين القضاة العدول.

نعم يمكن أن يكون الذيل ناظرا إلي مرجع الفتوي أو القضاء في الشبهات الحكمية، فان مراجعة القضاة لا يختص بالشبهات الموضوعية، لا سيما مع ما عرفت من أنّ المتعارف في تلك الأزمنة وحدة القاضي و المفتي في كثير من الأحيان، و لذا استدل بها جمع كثير علي قبول منصب القضاء للفقهاء، منهم المحقق النراقي قدّس سرّه في عوائده حيث قال: «فلهم ولاية القضاء و المرافعات، و علي الرعية الترافع إليهم، و قبول أحكامهم»، ثم استدل له بمقبولة عمر بن حنظلة «1».

و قال سيدنا الاستاذ الحكيم قدّس سرّه في نهج الفقاهة:

«أمّا الحكم في المقبولة فالظاهر منه من له وظيفة الحكم، أمّا بمعني الحكم و القضاء بين الناس، فيختص لفصل الخصومة أو مطلقا، فيشمل الفتوي كما يشير إليه العدول عن

التعبير بالحكم إلي التعبير بالحاكم حيث قال عليه السّلام: «فليرضوا حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» مضافا إلي ما يأتي مثله في المشهورة، و ليس له ظهور بمعني السلطان أو الأمير كي تكون له ولاية التصرف في الامور العامة فضلا عن أن يكون بمعني من له الولاية المطلقة بالتصرف في النفوس و الأموال» «2».

فقد تحصل من ذلك كله عدم دلالة المقبولة علي أزيد من حكم القضاء في الشبهات الموضوعية و الحكمية جميعا.

2- مشهورة أبي خديجة

قال: بعثني أبو عبد اللّه عليه السّلام إلي أصحابنا فقال: «قل لهم، إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة

______________________________

(1). العوائد، ص 195.

(2). نهج الفقاهة، ص 300.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 460

أو تداري في شي ء من الأخذ أو العطاء أن تحاكموا إلي أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضيا، و إياكم أن يخاصم بعضكم إلي السلطان الجائر» «1».

و الكلام فيه أيضا من جهة السند و الدلالة:

و أمّا الأوّل فالعمدة في جواز العمل بها شهرتها و اشتهار العمل بها بين الأصحاب، حتي سميت مشهورة، و إلّا فنفس الراوي (أبو خديجة) فهو محل للكلام، و اسمه «سالم بن مكرم» فقد صرح النجاشي بانّه ثقة بينما ضعفه الشيخ قدّس سرّه في بعض كلماته فقال: إنّه ضعيف جدّا، و عنه في بعض كلماته أنّه ثقة، و توقف العلّامة قدّس سرّه في الخلاصة في أمره لتعارض الأقوال فيه «2».

و لعل خلاف العلمين فيه ناش عمّا ذكروه في الرجل من أنّه كان في بعض أيّامه منصرفا عن الحق، تابعا لأبي الخطاب الملحد المعروف، حتي هداه اللّه و رجع عنه إلي الطريق السوي فراجع.

و حينئذ يشكل الاعتماد علي أحاديثه بعد عدم

معلومية كون نقل هذا الحديث في أي حالة من حالاته، و قوله «بعثني» و إن كان ظاهرا في حال سلامته و لكنه شهادة منه في حق نفسه.

و أمّا من حيث الدلالة فظهورها في حكم العدول ممّا لا ينبغي الريب فيه، و من الجدير بالذكر أنّه عنوان القضاء مع قوله «عليكم» و هذا يؤيد ما مرّ منّا في تفسير المقبولة و أنّ للقاضي أيضا علوا، و لكن ليس هذه اللفظة في نسخة التهذيب و كذا ليس في نسخة الكافي (راجع، ج 7، ص 412) و كذا في روضة المتقين (راجع، ج، 6 ص 6 كتاب القضاء) و كذا الجواهر (راجع، ج 40، ص 1) كما أنّه ذكر في مقابل الرجوع إلي القضاة العدول، الرجوع إلي السلطان الجائر، و هذا يدل علي أنّ المراد من الرجوع إليه الرجوع إليه لإرجاعه إلي القضاة أو لتصديهم لمنصب القضاء في بعض الامور كما لا يخفي علي من راجع تاريخ

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 6.

(2). جامع الرواة، سالم بن مكرم.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 461

الخلفاء و غيرهم فقد كانوا يتصدون لبعض القضاء بأنفسهم أو باحضار القضاة و الاستشارة معهم، و كم له من مثال.

و التعبير بالخصومة و التداري في صدرها، كالتعبير بالتحاكم أيضا، شاهد ظاهر علي كون الكلام في منصب القضاء، و أمّا قوله «جعلوا» ليس بمعني قاضي التحكيم لمنافاته لقوله فإنّي قد جعلته قاضيا، بل الظاهر منه جعله بمعني البناء العملي علي الرجوع إليه، و إعلام الشيعة بأن يرجعوا إليه في خصوماتهم دون الرجوع إلي غيره.

3- التوقيع المبارك المعروف

ما رواه الصدوق في كتاب اكمال الدين، عن محمد بن محمد بن عصام عن محمد

بن يعقوب، عن اسحاق بن يعقوب، قال: «سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل اشكلت عليّ، و ورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السّلام: أمّا ما سألت عنه ارشدك اللّه و ثبتك- إلي أنّ قال- و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه» «1» (و الحديث طويل أخذنا مقدار الحاجة و إن شئت تمام الحديث راجع بحار الأنوار، ج 53، ص 180).

و الكلام فيه إمّا من حيث السند فقد وقع الكلام في «محمد بن محمد بن عصام» و لكنه من مشايخ الصدوق، مضافا إلي أنّ الحديث متضافر في هذه المرحلة من نقله، فقد رواه الشيخ في كتاب الغيبة عن جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه و أبي غالب الرازي و غيرهما، كلّهم عن محمد بن يعقوب (الكليني) و هذا التضافر لعله كاف في الاعتماد عليه مع نقله في الكتب المعتبرة.

و أمّا اسحاق بن يعقوب فلم يرد في كتب الرجال ما يدل علي حاله بل لعل عمدة روايته منحصرة بهذا التوقيع، لعدم نقل حديث آخر عنه في جامع الرواة، نعم قال الأسترآبادي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 9.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 462

صاحب الرجال الكبير بأنّه قد يستفاد من هذا التوقيع علو رتبته (و لكن الناقل له هو نفسه) اللّهم إلّا أن يكتفي بنقل الكليني عنه، و فيه ما لا يخفي.

أمّا من حيث الدلالة ففيه احتمالات:

1- الرجوع إليهم في الأحكام الكلية و الاستفتاء منهم، و قوله «إلي رواة أحاديثنا» قد يكون قرينة عليه، فانّ الرواية تكون مرجعا في الفتوي غالبا.

2- الرجوع

إليهم في القضاء في المنازعات.

3- الرجوع إليهم في تدبير امور الامة و نظامها و الأحكام الولائية.

4- الرجوع إليهم في الجميع.

و لا ريب أنّ مقتضي اطلاقها هو الأخير، بل قد يقال أنّ الرجوع إليهم في الأحكام الشرعية لم يكن يخفي علي مثل اسحاق بن يعقوب، و لا يناسب التعبير بالحوادث أولا، و كذا لا يناسب التعليل بكونهم حجة علي الناس ثانيا فان حجية نقل الأحكام المستفادة من الكتاب و السنة لا يحتاج إلي هذا المعني بل هي ثابتة بلا حاجة إلي جعلهم حجة علي الناس.

فالحوادث إمّا ناظرة إلي مسائل القضاء أو الولاية أو أعم منها.

هذا و لكن قد يقال: إنّ متن اسئلة اسحاق بن يعقوب غير موجودة عندنا، و لذا يشكل الاعتماد علي الأجوبة لإبهامها بإبهام السؤال.

أقول: إنّ محمد بن عثمان قدّس سرّه كان الثاني من الوكلاء الأربعة لمولانا صاحب العصر و الزمان و الظاهر أنّ منه سؤاله منه عليه السّلام عن الحوادث الواقعة إشارة إلي ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الحوادث التي يرجع فيها كل واحد إلي رئيسه، و لم يكن الوصول في ذاك الوقت إلي ناحيته عليه السّلام ممكنا لغالب الناس، فكان من اللازم أن يكون هناك مرجع يرجعون فيه إليه، بدلا عن الرجوع إلي ولاة الجور، و عدم وجود السؤال بأيدينا لا ينافي ذلك، بعد وضوح الجواب، بل عدم ذكر الاسئلة في كلام الراوي لعله إشارة إلي وضوحها من الجواب، بل عدم ذكر الاسئلة في كلام الراوي لعله إشارة إلي وضوحها من الجواب، و مجرّد وجود القدر المتيقن في الرواية لا يضرنا لما ذكرنا في محله من أنّه غير ضائر بالاطلاق، و لو كان مضرا لم يجز التمسك به في غالب

الاطلاقات لوجود القدر المتيقن فيها غالبا.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 463

و مال جمع من الأعاظم إلي إجمال الحديث، منهم سيدنا الاستاذ الحكيم قدّس سرّه، و احتمل الرجوع إلي الرواة لمعرفة حكم الحوادث، أي الأحكام الكلية الشرعية كما ورد في حق غير واحد من أصحابهم عليه السّلام أنّهم إذا لم يقدروا الوصول إليه في كل وقت، فاللازم عليهم الرجوع إلي بعض أكابر الرواة (انتهي ملخصا) «1» و صرّح في جامع المدارك أيضا بإجمال الحديث نظرا إلي ان «اللام» في «الحوادث» للعهد و المعهود هنا غير معلوم «2».

و استظهر المحقق الايرواني قدّس سرّه في حواشيه علي المكاسب كونها ناظرة إلي مجرّد أحكام الشرعية لما فيهما من التعليل بقوله عليه السّلام: فإنّهم حجتي عليكم، فانّ الظاهر من الحجة كونه في امور التي تحتاج إلي التبليغ.

هذا و لكن الانصاف أنّ قبول الأحكام من العلماء إنّما هو من باب رجوع الجاهل إلي العالم، لا يحتاج إلي النصب، و لا إلي التصريح بكونهم حجج المعصومين عليه السّلام علي الخلق، لما عرفت سابقا من أنّ جواز ذلك هو من باب الحكم و ليس من المناصب الإلهية، فهذا التعليل دليل علي انه ناظر إلي القضاء و الولاية.

و احتمال العهد في الحوادث لا ينافي العموم، بعد توصيفها بالواقعة مضافا إلي أنّه لا خصوصية للحوادث، إذا جاز الرجوع في بعضها إليهم، جاز الرجوع في غيرهم فتأمل.

و الحاصل: أنّ مقتضي اطلاقها شمولها للقضاء و الولاية، و التعبير بالحادثة و الواقعة و كونهم حجة شواهد ظاهرة علي ما ذكرنا، و لا يضرنا عدم وجود اسئلة اسحاق بن يعقوب بأيدينا.

و منه يظهر الإشكال في ما أفاده المحقق النائيني قدّس سرّه في منية الطالب (بعد نقل الوجوه

التي ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه) حيث قال: فلعل المراد من الحوادث هي الحوادث المعهودة بين الإمام عليه السّلام و السائل، و علي فرض عمومها فالمتيقن منها هي الفروع المتجددة و الامور الراجعة إلي الافتاء لا الأعم. «3».

______________________________

(1). نهج الفقاهة، ص 300.

(2). جامع المدارك، ج 3، ص 100.

(3). تعليقات المحقق الايرواني قدّس سرّه، ص 157.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 464

4- حديث «مجاري الامور … »

روي في تحف العقول في باب المختار من كلمات الحسين بن علي عليه السّلام أنّه يروي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «اعتبروا أيّها الناس بما وعظ اللّه به أوليائه … إلي أن قال: و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون ذلك، بانّ الامور و الأحكام علي أيدي العلماء باللّه، الامناء علي حلاله و حرامه فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، و ما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن الحق و اختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، و لو صبرتم علي الاذي و تحملتم المؤونة في ذات اللّه كانت امور اللّه عليكم ترد و عنكم تصدروا إليكم ترجع و لكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم» «1».

و الحديث ضعيف سندا بالارسال كما هو ظاهر، و أمّا بحسب الدلالة فقد ذهب بعضهم كسيدنا الاستاذ الحكيم قدّس سرّه في نهج الفقاهة إجماله.

و قال المحقق النائيني قدّس سرّه في هذا الخبر و خبر «العلماء ورثة الأنبياء» و نحوها من الأخبار الواردة في علو شأن العالم: إن من المحتمل قريبا كون العلماء فيها هم الائمة عليهم السّلام «2».

و قال المحقق الايرواني قدّس سرّه: إنّ المراد بالامور إمّا الافتاء فيما اشتبه حكمه، أو القضاء فيما اشتبه موضوعه «3».

و لكن

الانصاف- كما يظهر لمن نظر صدره و ذيله- أنّ العلماء فيه هم العارفون بدين اللّه و حلاله و حرامه، كما أنّ المراد بالامور ما يشمل الولاية و الحكومة، فانّ الحديث عن أمير المؤمنين عليه السّلام و يشير إلي غلبة أهل الباطل علي الولاية، و منع أهل الحق عن محالها، و لو صبروا عادت الامور إلي محالها، و تكون الحكومة بأيديهم، و لعمري إن ذيلها كالصريح في ذلك، و ظني أنّ القائلين بأنّها ظاهرة في خصوص الافتاء أو هو و القضاء قصروا نظرهم إلي خصوص جملة «مجاري الامور» و إلّا لو نظروا سائر فقرات الحديث لكانت واضحة عندهم، فدلالتها واضحة و إن كان سندها مرسل.

______________________________

(1). تحف العقول، ص 168.

(2). منية الطالب، ج 1، ص 325.

(3). تعليقاته علي المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 158.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 465

5- حديث «العلماء حكام الناس».

و في غرر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السّلام «العلماء حكام الناس» و روي المجلسي قدّس سرّه في البحار عن الصادق عليه السّلام «الملوك حكام الناس، و العلماء حكام علي المملوك» «1» و ضعف سند الحديث بالارسال ظاهر كدلالته، فانّ المراد من الحكومة بقرينة ما روي عن الصادق عليه السّلام في كلام المجلسي هو الحكومة علي القلوب و الأفئدة، لا الحكومة الظاهرية و إلّا لم يناسب جعل حكومتهم علي الحكام، بل لا بدّ أن يكون علي الناس و هذا ظاهر.

مضافا إلي أنّ ظاهرها كونها أخبار عن وقوع هذا الأمر في الخارج لا الإنشاء و جعل هذا المنصب لهم، فتأمل.

6- حديث «الفقهاء امناء الرسل»

في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: «الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل يا رسول اللّه! و ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم علي دينكم»! «2».

و في سند الحديث «النوفلي» و «السكوني» و فيهما كلام معروف، فالركون إليه لا يخلو عن إشكال، و ان قبله جماعة، و مع قطع النظر عن سنده لا دلالة له علي المطلوب، أمّا أولا:

فلان كونهم امناء الرسل بنفسه غير كاف، لاحتمال كونهم امنائهم علي الأحكام الشرعية و المعارف الدينية، بل ظاهره ذلك، و ثانيا: ما ورد في ذيل الحديث ينادي بأعلي صوته أنّ المراد منه هو الأمانة علي الدين و معارف و أحكامه، و لا يمكن التمسك باطلاق الامناء، مع قوله: فاحذروهم علي دينكم، فالعلماء حافظون لتراثهم هذا و امناؤهم عليه.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 1، ص 183.

(2). الاصول من الكافي، ج 1، ص 46.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 466

7- حديث «الفقهاء حصون الإسلام»

و في الكافي أيضا بسنده عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام: «إن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن المدينة» «1» و في طريقه علي بن حمزة و قد ضعفه أكثر علماء الرجال و نقل ابن محبوب عنه، و هو من أصحاب الإجماع، غير كاف في تصحيح الحديث، كما أشرنا إليه غير مرّة.

و أضعف من سنده، دلالته، فانّ مجرّد كونهم حصونا لا يدل علي مسألة الولاية كما هو واضح، لإمكان كونه ناظرا إلي أنّهم حافظون لأحكام اللّه و حلاله و حرامه، مثل ما رود في حق جمع من أعاظم أصحاب الأئمّة كزرارة بن أعين و نظرائه و أنّه لو لا هؤلاء

لاندرست أحكام النبوة.

نعم لا يبعد أن يكون فيه اشعار بذلك، و لكن كيف يمكن إثبات مسألة مهمّة كولاية الفقيه بمثل هذه الاشعارات؟!

8- حديث «العلماء ورثة الأنبياء»

روي في الكافي عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسي عن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: (في حديث يذكر فيه فضل العلماء): «إنّ العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما و لكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر» «2».

و في معناه أحاديث آخر في الكافي و البحار و غيرهم.

و أمّا سند الحديث فهو قوي و رجال السند معروفون، و المراد من القداح عبد اللّه بن ميمون، و هو ثقة كما صرّح به غير واحد.

و أمّا دلالته فقد قال في كتاب البيع: فانّ مقتضي كون الفقهاء ورثة الأنبياء- و منهم

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 1، ص 38.

(2). اصول الكافي، ج 1، ص 34.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 467

رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سائر المرسلين الذين لهم الولاية العامة علي الخلق- انتقال كل ما كان لهم إليهم، إلّا ما ثبت أنّه غير ممكن الانتقال، و لا شبهة في أنّ الولاية قابلة للانتقال، كالسلطنة التي كانت عند أهل الجور موروثة خلفا عن سلف «1».

و لكن قال في نهج الفقاهة: إنّ ما ورد في شأن العلماء- مع ضعف سند بعضه- قاصر عن الدلالة علي ثبوت الولاية بالمعني المقصود، فانّ الأوّل (العلماء ورثة الأنبياء) صريح في ارث العلم «2».

و صرّح المحقق الايرواني قدّس سرّه أيضا بأنّ المراد منه وراثة العلم، كما يشهد به عنوان الموضوع، و مع الغض عنه ليست القضية مسوقة في

مقام البيان، بل هي مهملة، و المتيقن ما ذكرنا، مضافا إلي أن قوله «و ان الأنبياء» إلي آخره نص فيما ذكرنا و مبين لوراثة العلم «3».

أقول: فالمستدل بها يستدل باطلاق الوراثة فتشمل الولاية العامة، و المنكر يدعي كونها نصا في وراثة العلم أولا، و عدم كونها في مقام البيان حتي يؤخذ باطلاقها ثانيا.

و الانصاف ظهورها- لو لا صراحتها- في وراثة العلم، لما ورد في ذيلها، و حاصله أنّ ميراث الأنبياء هو العلم، و العلماء الآخذون يعلم الأنبياء وارثون لهم.

فهو إخبار عن قضية خارجية تكوينية لا قضية إنشائية تشريعية كما يظهر بمراجعة أمثاله، التي ورد في هذا المعني، و ليس المراد منه نفي وراثتهم للمال، كما يظهر من الحديث المجعول في أمر غصب فدك، بل المراد أنّ العمدة في ميراثهم هو العلم، و لا منافاة بينه و بين ايراثهم أموالا يسيرة أحيانا، كما يظهر من لحن الحديث، و هو كونه في مقام بيان أمر خارجي تكويني لا تشريعي.

______________________________

(1). كتاب البيع، ج 2، ص 482.

(2). نهج الفقاهة، ص 299.

(3). تعليقة الايرواني علي المكاسب، ص 156.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 468

9- حديث «اللّهم ارحم خلفائي»

روي الصدوق في الفقيه عن علي عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: اللّهم ارحم خلفائي، قيل يا رسول اللّه! و من خلفائك؟ قال الذين يأتون من بعدي يروون حديثي و سنتي».

و في بعض طرق الحديث زاد: ثم يعلمونها «1».

و بعض طريق الحديث مرسلة و بعضها مسندة، و للحديث اسناد مختلفة مروية في كتب متعددة، و قد يقال إنّ كثرة أسانيدها توجب الاطمينان بصدورها، و لا سيما أنّها مروية من طريق الفريقين، و قد رواه في كنز العمال مع تفاوت يسير،

قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله «رحمة اللّه علي خلفائي، قيل و من خلفائك يا رسول اللّه؟ قال الذين يحيون سنتي و يعلمونها الناس» «2».

هذا و لكن الكلام في مفاد الرواية، فقد يقال: إنّ اطلاق الخلافة فيها يشمل جميع مناصب النبي صلّي اللّه عليه و آله و قد كان له منصب تبليغ آيات اللّه، و القضاء، و الولاية فهذه الشؤون الثلاثة تكون للعلماء من بعده، بل قد يقال بظهورها في الأخير، فان الخلافة أمر معهود من أول الإسلام ليس فيه ابهام، فلو لم تكن ظاهرة في الولاية و الحكومة فلا أقل من أنّها القدر المتيقن منها «3».

و لكن أنكر دلالته علي غير نشر الأحكام و تبليغها غير واحد منهم، كالمحقق الايرواني قدّس سرّه و غيره، و الانصاف أنّ في دلالتها علي المقصود إشكال من جهتين:

من جهة كون ظاهرها قضية خبرية تحكي عن الخارج، لا في مقام إنشاء الخلافة لرواة الحديث.

و من أجل أنّ قوله في ذيلها «و يعلمونها الناس» أو «و يعلمونها عباد اللّه» أو شبه ذلك، أوضح قرينة علي أنّ المراد بالخلافة فيها هو تعليم الناس و هدايتهم إلي اللّه، و تبليغ أحكام الدين و معارفه، و كون الخلافة أمرا معهودا يدفعه وجوب قرينة صارفة ظاهرة في متن الرواية و هي مسألة التعليم.

______________________________

(1). الوسائل، ج 18، أبواب صفات القاضي الباب 8، ح 50.

(2). كنز العمال، ج 1، ص 229.

(3). كتاب البيع، ج 2، ص 468.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 469

و فيها إشكال ثالث من حيث عدم كونها في مقام من هذه الجهة، لأنّه فرق واضح بين أن يقال «هؤلاء خلفائي»، و بين أن يقال «اللّهم ارحم خلفائي»، فانّ الأوّل يمكن

أن يكون في مقام البيان من جهة انحاء الخلافة دون الثاني، فانّه في مقام الدعاء لهم بعد الفروغ عن خلافتهم.

10- حديث «السلطان ولي من لا ولي له»

و قد اشتهر في الألسن و تداول في بعض الكتب كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بل نسبت روايته النبي صلّي اللّه عليه و آله إلي كتب العامة و الخاصة «إن السلطان ولي من لا ولي له».

و لعل الأصل فيه من كتب العامة ما رواه البيهقي في سننه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا تنكح المرأة بغير أمر وليها، فان نكحت فنكاحها باطل، ثلاث مرات، فان أصابها فلها مهر مثلها بما أصاب منها، فان اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» «1».

و يظهر من بعض الكتب أنّ الأصل فيه في كتب الخاصة ما رواه في المستدرك في باب الثاني من أبواب العاقلة الحديث الثاني عن أمير المؤمنين عليه السّلام الوارد في رجل من أهل الموصل قتل خطأ و قال في آخره ما حاصله: أنّه إن لم يكن له في الموصل ولي فانا وليه» «2».

و من الواضح أنّه أجنبي عما نحن بصدده لعدم استفادة قاعدة كلية منه.

هذا و لكن استدل بالحديث صاحب الجواهر قدّس سرّه و غيره، قال في الجواهر في مبحث أولياء النكاح في نفي كلام المشهور: «أنّه ليس للحاكم ولاية في النكاح بالأصل أنّ الأصل مقطوع بعموم ولاية الحاكم من نحو قوله صلّي اللّه عليه و آله السلطان ولي من لا ولي له» «3».

و الحاصل: أنّه لا تزيد عن حديث مرسل أو ضعيف مروي من طريق العامة، اشتهر التمسك به في بعض الكتب، و لكن لم يثبت الاشتهار بنحو يوجب انجبار السند.

______________________________

(1). سنن البيهقي، ج 7، ص 105.

(2).

مستدرك الوسائل، ج 3، ص 287.

(3). جواهر الكلام، ج 22، ص 188.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 470

و أمّا الكلام في دلالتها، فتارة يكون من جهة لفظ «السلطان» و في بعض كلمات المحقق الايرواني قدّس سرّه استظهار كونه هو الإمام المعصوم عليه السّلام من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه «1».

و الانصاف أنّه عام في كل سلطان عادل و لا وجه لاستظهار خصوص المعصوم عليه السّلام منه.

و اخري من جهة احتمال كون وردها في الميت الذي لا ولي له كما احتمله في منية الطالب «2».

و الانصاف أنّه أيضا لا دليل عليه.

و ثالثة، من جهة أنّها ناظرة إلي ثبوت الولاية للسلطان في كل ما يحتاج إلي ولي، و الاستدلال به لما نحن فيه من ثبوت الولاية للفقيه في ذلك موقوف علي عموم النيابة، كما أشار إليه في منهاج الفقاهة «3».

و الاحسن أن يقال: إنّه لا دلالة للحديث في ثبوت الولاية إلّا للغيّب و القصّر و أمثالهم فانّه ناظرا إلي اشخاص يحتاجون إلي ولي لهم، لا إلي المجتمع الإسلامي و الحكومة الإسلامية، فانّ السلطان العادل ولي جميعهم (علي القول بالولاية) لا أنّه ولي من لا ولي له، و إن شئت قلت: إنّها ناظرة إلي إثبات الولاية في الامور الخاصة مثل ما ذكر، لا الامور العامة، التي لا فرق فيها بين الأفراد و الاشخاص، فالاستدلال بها في غير هذه الموارد مشكل جدّا، فانّ ظاهرها تقسيم الناس إلي قسمين: من ثبت له ولي، و من لا ولي، له، و من الواضح أن هذا التقسيم يكون في الامور الجزئية الخاصة.

و هناك روايات اخري مرسلة أو غيرها وردت في فضل العلماء و شبهه، لا دلالة لها، أعرضنا عنها

لوضوح عدم دلالتها.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)؛ ص: 470

و الانصاف أنّ جماعة ممن لهم و لع بجمع الأدلة في المسألة و تكثيرها، خوفا من مكابرة المخالفين، قد أفرطوا في المقام، و تشبثوا بكل ما فيه اشعار، بل و بعض ما ليس فيه اشعار

______________________________

(1). حواشي الايرواني قدّس سرّه علي المكاسب، ص 157.

(2). منية الطالب، ج 1، ص 327.

(3). منهاج الفقاهة، ص 302.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 471

أيضا، و قد أوجب هذا الأمر الوهن في أصل المسألة، مع أنا في غني من هذه التكلفات بعد وضوح بعض أدلة المسألة و كفايتها و الحمد اللّه.

حاصل ما يمكن الاعتماد عليه في إثبات ولاية الفقيه:

و قد تلخص ممّا ذكرنا أنّ العمدة في إثبات ولاية الفقهاء أيدهم اللّه جميعا، في أمر الحكومة و نظم البلاد و العباد، هو الدليل العقلي الذي أوردناه في أول البحث مؤيدا بسيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله و بعض الأئمّة الهادين عليهم السّلام.

و ما ذكروه في بحث لزوم البعثة، و لزوم نصب الإمام عليه السّلام بعد النبي صلّي اللّه عليه و آله في علم الكلام.

و من بين الروايات العشر يؤيده رواية «الحوادث الواقعة» و «مجاري الامور» لوضوح دلالتها و إن كان الكلام في اسنادهما، و أمّا غيرها من الروايات فقد عرفت عدم وضوح دلالتها، و هذا المقدار بحمد اللّه كاف في إثبات الولاية بالمعني المذكور إن شاء اللّه، و اللّه العالم بحقائق الامور.

بقي هنا امور مهمة:
الأوّل: هل يكون تعيين الفقيه لمنصب الولاية بالنصب أو بالانتخاب؟

فما هو مقتضي الأدلة السابقة؟ و ما هو مغزاها؟

أمّا الروايات العشر علي القول بدلالتها أو دلالة بعضها لا تدلّ إلّا علي نصب الفقيه بعنوان ولي الأمر من ناحية الإمام المعصوم عليه السّلام أو النبي صلّي اللّه عليه و آله و هو يرجع بالمآل إلي نصبه من ناحية اللّه تبارك و تعالي.

فقوله: «إني جعلته حاكما» الوارد في المقبولة، أو «إني جعلته قاضيا»، الوارد في المشهورة، أو قوله: «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيما إلي رواة حديثنا» أو «إن مجاري الامور بيد العلماء» فانّه يدل علي ثبوت هذا المنصب لهم من غير حاجة إلي انتخاب

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 472

الناس، أو بيعتهم، أو شبه ذلك، فهذا أمر ثابت لهم ثبوتا إلهيا كما هو ظاهر واضح، و ليس فيها من أمر الانتخاب عين و لا أثر.

أمّا قوله: «فليرضوا به حكما» معناه وجوب الرضا بحكومتهم، و هو علي خلاف القول بالانتخاب أدل، بل صريح

فيه، لا سيما مع تعليله بقوله: فإني قد جعلته حاكما، فالنصب الإلهي يفرض علي الناس الرضا بحكومته.

و اما قوله: «فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا» فهذا إنّما يرجع إلي قاضي التحكيم أو التوكيل في أمر خاص، و لا دخل له بالانتخاب في أمر عام، لأنّه لا معني لانتخاب كل إنسان من يراه صالحا للحكومة العامة، حتي يكون كل منهم حاكما عاما و لو كان المنتخب (بالكسر) فردا واحدا، و إلّا تعددت الحكام بعدد الخلائق!

و أمّا الدليل العقلي المؤيد بسيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله و الولي عليه السّلام فلا يدل أيضا إلّا علي النصب من ناحية اللّه سبحانه، أو النصب من ناحية صلّي اللّه عليه و آله و الإمام المعصوم عليه السّلام.

أضعف إلي ذلك كله أنّه لا يري في روايات أصحابنا و تاريخهم من أمر الانتخاب بالنسبة إلي ولاية الفقهاء عين و لا أثر، و لو كان ذلك لبان، و كم تكلموا في الأبواب المختلفة عن ولاية الفقهاء إثباتا و نفيا، و لم يتفوه بالانتخاب أحد من الأكابر و الأصاغر و لو بشطر كلمة في ذلك، و لم يتكلم أحد منهم إلّا بكون ذلك نصبا إلهيا بعنوان النيابة عليه السّلام و لذا شاع في كلماتهم تسميته بنائب الغيبة و تقسيمهم لنوابه عليه السّلام إلي النواب الخاصة، و هم أربعة أمجاد، و النواب العامة و هم غيرهم، و من المعلوم أنّ النائب سواء كان عاما أو خاصا إنّما يعينه المنوب عنه لا آحاد الناس، و قد كان للأئمّة المعصومين عليهم السّلام وكلاء منصوبون من قبلهم في كثير من الأزمنة من غير دخل للناس و كذا الحال في وكلائهم العامة.

و من العجب، مع ذلك،

اصرار بعض علي كون فعلية الولاية للفقهاء بانتخاب الناس، مع أنّه لم يرد ذلك في أثر صحيح، و لا في رواية ضعيفة، و لا في أي تاريخ من تواريخ أصحابنا.

توضيح ذلك: إنّ الأمر الوحيد الذي يفرق بين الشيعة و أهل السنة في أمر الخلافة أنّ الشيعة تعتقد بان الإمام عليه السّلام و لا بدّ أن يكون معصوما منصوبا من قبل اللّه بواسطة النبي صلّي اللّه عليه و آله أو بتنصيص إمام قبله، و أهل السنة يعتقدون بأنّه صلّي اللّه عليه و آله لم ينص علي أحد، فعلي الناس انتخاب

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 473

الإمام و الخليفة، فهذا هو الفارق بين المذهبين، فاختيار الناس لا دخل له في الخلافة عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عند شيعة أهل البيت لا قليلا و لا كثيرا.

و من عجيب الكلام (و ما عشت أرادك الدهر عجبا) اجتراء بعض في زماننا علي القول بأن نصب علي عليه السّلام بالخلافة في الغدير لم يكن نصبا إلهيا بل كان اقتراحا من النبي صلّي اللّه عليه و آله ثم أجابه الناس بالبيعة له (يعني كان للناس أن لا يبايعوه) مع أنّ آية التبليغ تنادي بأعلي صوتها بانّه لم يكن لرسول صلّي اللّه عليه و آله أيضا خيرة في هذا الأمر، فكيف بغيره؟! نعوذ باللّه من سوء الفهم.

و بالجملة ما ذكرناه من كون الإمام المعصوم عليه السّلام من قبل اللّه من ضروريات مذهب الشيعة، و قد طفحت كتبهم في علم الكلام و الحديث و التفسير و التاريخ بذلك فمن أنكره أنكر ضروريا من ضروريات هذا المذهب.

ثم يجري هذا الكلام بعينه في ولاة الأمر من غير المعصومين من بعدهم، فهم منصوبون

من قبلهم، لا من قبل الناس، مأمورين بأمرهم، لا بأمر الناس، فالولاية إنّما هي للّه و لمن جعلها اللّه له، فتعينها من العالي لا من الداني.

نعم تبقي هنا مسألتان: مسألة «لزوم الهرج و المرج» و مسألة «البيعة و موقفها».

أمّا «الأولي»: فحاصلها أنّه إن جعلت الولاية للفقهاء عامة، ولاية فعلية، فأمّا أن يكون لكل واحد منهم مستقلا بالفعل، فهذا يوجب الهرج و المرج الشديدين، و الاختلاف الكثير، لتعدد الولاة بتعدد العلماء، و هو أمر غير ممكن، لوقوع التشاجر و اختلال النظام، و إمّا أن تكون ولاية بعضهم مشروطة بولاية بعض، أو كون الولاية للمجموع من حيث المجموع و هذا ممّا لا محصل له.

فلا بدّ أن يقال: إنّ الفقهاء منصوبون لذلك شأنيا، و إنّما تكون فعلية ولايتهم بانتخاب الناس، لا غير.

أقول: عند تعدد الفقهاء لو تصدي بعضهم لأمر الولاية و تدخل فيها، فعلي الباقين قبول قوله، و حكمه كما هو كذلك في أمر القضاء أو رؤية الهلال مثلا، و لو بلغ حدّ التزاحم قبل التداخل، فلا يبعد أعمال المرجحات كما ورد المقبولة، بناء علي دلالتها علي المقصود، بل

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 474

يمكن التمسك بالأولوية و لو علي فرض اختصاصها بأمر القضاء، و تشخيص المرجحات من العلم و الفقاهة و التدبير و الاحاطة بالامور و الوثاقة و غيرهم إنّما علي أيدي أهل الخبرة، كما هو كذلك في مرجع الفتوي و التقليد، و ليس هذا من قبيل الانتخاب أبدا، بل من قبيل تشخيص المصداق الموجود في الخارج كما في تشخيص الطبيب للسلامة و المرض في أمر الصوم.

و بالجملة جميع هذه الموضوعات يرجع فيها إلي أهل الخبرة من دون الحاجة إلي الانتخاب.

و قد جري هذا الأمر في

مرجع الفتوي و استقر تعيين الأعلم في الفقاهة علي أهل الخبرة من العلماء في فرد معين أو أفراد معينين في كثير من الأعصار، و لم يلزم من ذلك هرج و مرج و اختلال في نظام الامة، نعم لا ريب في أنّه فرق بين مسألة التقليد و الولاية، و ليس مقصودنا المماثلة من جميع الجهات، بل الغرض أنّ حل مشكل التزاحم ممكن من طريق أهل الخبرة، و ليس لآحاد الناس غير العارفين بهذه الامور الانتخاب، بل ليس لأهل الخبرة أيضا حق الانتخاب، بل تشخيص المصداق كتشخيص الطبيب، و كسائر موارد الرجوع إلي أهل الخبرة.

هذا هو المعيار المتداول في الفقه الذي ينبغي للفقيه متابعته، لا الانتخاب الذي ليس له عين و لا اثر في الفقه و لا في التاريخ.

إن قلت: من اين يعرف أنّ هذا الشخص من أهل الخبرة دون ذاك؟

قلت: كما يعرف الطبيب و غيره من أهل الخبرة فيما يحتاج إليه، فهل الطبيب يكون بانتخاب الناس؟ و كذلك أهل الخبرة في عموم الدين أو معرفة زعمائه و من فيه المرجحات لتصدي الولاية.

و قد تلخص ممّا ذكرنا أنّه إن قام بعض الفقهاء اللائقين بأمر الولاية من غير معارض كان علي غيره متابعته من دون الحاجة إلي الانتخاب، و ان وقع التزاحم، فاللازم الأخذ بالمرجحات كما ورد في غير مورد في أبواب الفقه، لانحصار الطريق فيه و عدم المناص عنه، و الناظر في هذا الأمر هو أهل الخبرة، و لا حاجة إلي الانتخاب، بل لا دليل عليه، لما

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 475

عرفت من عدم وجوده في رواياتنا و لا كتب فقهائنا.

إن قلت: قد جرت سيرة العقلاء من الامم علي الانتخاب في أمر الولاية، و يشمله

ادلة الوفاء بالعقود، و عموم تسلط الناس علي أموالهم (و بالأولوية علي أنفسهم).

قلت: جريان سيرتهم عليه إنّما هو لعدم اعتقادهم بتعيين إلهي من قبل الإمام المعصوم عليه السّلام، و أمّا نحن، فعدم قولنا به، وفقا للأدلة السابقة و أنّ الوظيفة هنا معلومة من قبلهم عليهم السّلام، و أنّ الولاية من ناحية اللّه فقط فلا يبقي لنا مجال لهذا الكلام.

هذا مضافا إلي أنّ الانتخاب الذي دار بينهم إنّما هو انتخاب الأكثر، لا الجميع لعدم إمكانه عادة، بل المراد من الأكثر عندهم أكثر من يشترك في دور الانتخاب، و قد لا يشترك فيه إلّا الأقلون منهم، و قد شاهدنا في كثير من الانتخابات أنّ وكلاء الناس ينتخبون بآراء قليلة بالنسبة إلي كل المجتمع كميليون نفر من بين عشرة ملايين، و لو صحّ أمر هذه الحكومات لكانت من قبيل حكومة جمع قليل علي جمع آخر كثير بغير رضي منهم، و لا توكيل.

إن قلت: إن الولي الفقيه لا يقدر علي أعمال الولاية بدون مشاركة الناس في أمره، و تأييدهم له، و بذل أنفسهم في نصرته و تأييده، فالانتخاب إنّما هو لجلب مساعدتهم لذلك، و هذا هو المراد من أنّ ولاية الفقيه لا تكون إلّا اقتضائيا، و فعليتها بالانتخاب.

قلت: هذا استدلال عجيب، فانّ عدم قدرة الفقيه علي أعمال الولاية بدون مساعدة الناس لا يكون دليلا علي عدم فعليتها بدونه، كما في سائر الحقوق، مثل من كان مالكا لدار و غصبه منه غاصب، فانّه لا يقدر علي أخذ حقه منه بدون مساعدة الناس، و اين هذا من كون مالكيته شأنيا لا فعليا؟ و بالجملة أصل الولاية غير منوط بمساعدة الناس، و إنّما المنوط بها هو أعمال الولاية، و فرق واضح بين

أعمال الولاية و أصل ثبوتها.

هذا كله بالنسبة إلي ما تقتضيه العناوين الأولية في المسألة و مقتضي الروايات و الأدلة السابقة.

نعم قد تقتضي العناوين الثانوية لأمر الانتخاب، و تدعونا إليه من دون أن تكون ولاية الفقيه منوطة شرعا به، و ذلك لدفع تهمة الاستبداد و السلطة علي الناس بغير رضي منهم،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 476

مضافا إلي جلب مساعدتهم من خلال مشاركتهم في هذا الأمر، و اعتمادهم علي الحكومة، و دفع وساوس الشياطين الذين يعاندون نظام الحكومة الإسلامية و غير ذلك من الامور، و لكن اين هذا من وجوب الانتخاب شرعا في أحكامه الاولية، و هذا امر ظاهر و الحمد اللّه.

[الثاني] موقف البيعة من أمر الولاية:
اشارة

الثاني: إن البيعة الوارد ذكرها في كتاب و السنة بمعني انتخاب الامة أحدا للرئاسة و الزعامة، فهل تنطبق علي مسألة الانتخاب المعمول في عصرنا، أو هو أمر آخر وراءه؟

و الجواب علي هذا السؤال يحتاج إلي شرح حقيقة البيعة و مغزاها، ثم بيان أحكامها.

فنقول: إنّ البيعة مأخوذة من البيع، كما صرّح به أرباب اللغة، فكما أنّ البائع يبيع سلعته من آخر، فالذي يبايع، يبيع طاعته لغيره و يبذلها له، و في مقابله يتعهد هو له ببذل النصح و الحماية و تدبير أمره، و لذا يقال «المبايعة» من باب المفاعلة.

و بناء عليه تكون البيعة من قبيل العقود المشتملة علي الايجاب و القبول، و يمكن أن يقال: هي كالإيقاعات في كثير من الأوقاف، لأنّ العهد و الالتزام بالطاعة و بذل الأموال و الأنفس يكون من طريق واحد فتأمل (فراجع لسان العرب و الصحاح و المفردات و غيره).

و التصافق بالأيدي فيها كالتصافق بها في البيوع و المعاملات المتداولة، هذا هو حقيقتها.

و يستفاد من الروايات و التواريخ أنّه

كان لها مراتب مختلفة، فتارة البيعة علي عدم الفرار، و اخري علي المال و الولد، و ثالثة علي بذل الأنفس، فإذا أعطي شيئا من ذلك لولي الأمر فلا بدّ له من الوفاء به، بناء علي شمول أدلة الوفاء بالعقد أو العهد أو المؤمنون عند شروطهم، لها.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا يتمّ هذا البحث إلّا بالتأمّل في الامور التالية:

1- البيعة و ماهيتها

إنّ ماهية البيعة و جوهرها كما عرفت، ليست توكيل الغير علي تمشية الامور و تدبيرها،

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 477

بل علي بذل الطاعة و المساعدة، فهي علي عكس الانتخاب و الوكالة، ففي الوكالة يتعهد الوكيل علي انجاز ما يريده موكله ما أبقاه في هذا المنصب، و أمّا البيعة فهي تعهد من ناحية المبايع علي أن يطيع لمن بايعه و لا يتخلف عن أمره، فكأنّه يبيعه شيئا، و لا يقدر علي عزله عن هذا المقام، و هذا بخلاف التوكيل فانّه يجعل الوكيل كنفسه، و تصرفاته كتصرفاته، و هذا أمر ظاهر، و من العجب وقوع الخلط بينهما في بعض الكلمات، مع الاختلاف الواضح بين مغزاهما و مفهومهما.

2- أدلة مشروعيتها

قد وردت البيعة في كتاب اللّه في سورة الفتح، في بيعة الشجرة في الآية 10 و 18 فقال تعالي: إِنَّ الَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اللّٰهَ يَدُ اللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَليٰ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفيٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.

و قال تعالي: لَقَدْ رَضِيَ اللّٰهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً و ظاهر الأوّل وجوب الوفاء و عدم النكث.

و قد اشير إليها أيضا في سورة الممتحنة عند ذكر بيعة النساء فقال تعالي يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا جٰاءَكَ الْمُؤْمِنٰاتُ يُبٰايِعْنَكَ عَليٰ أَنْ لٰا يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ شَيْئاً … فَبٰايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1»، فكان صلّي اللّه عليه و آله يجعل يده في ظرف من الماء و كانت النساء يضعن أيديهن في الظرف الآخر فتقع البيعة و المبايعة بها (كما في التفاسير و التواريخ).

و ليس في كتاب اللّه غير هذه

الآيات الثلاث بالنسبة إلي البيعة، هذا و قد وقعت البيعة من الأنصار في أول إسلامهم في العقبة الاولي و الثانية، و يظهر منها أنّها كانت معروفة قبل الإسلام يعرفها العرب، و لم تكن أمرا حادثا في الإسلام.

هذا و لكن من الواضح أنّ البيعة للنبي صلّي اللّه عليه و آله لم تكن سببا لولايته علي الناس، فان الآيات القرآنية صريحة في أنّ اللّه جعله صلّي اللّه عليه و آله وليا علي المؤمنين و أوجب طاعته بقوله: أَطِيعُوا اللّٰهَ*

______________________________

(1). سورة الممتحنة، الآية 12.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 478

وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ* و النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «1». و لذا لم تكن البيعة للنبي صلّي اللّه عليه و آله من كل من يدخل الإسلام، فالإسلام يتحقق بالشهادتين و إظهار الإيمان بالوحدانية و النبوة لا بالبيعة.

كما يظهر من التواريخ أنّه كان يأخذ البيعة من المسلمين أحيانا، و يجددها عند وقوع بعض الحوادث الهامة ثانية و ثالثة، فبيعة الناس له لم تكن من قبيل انتخابه للولاية بل تأكيدا للطاعة و بذل الأموال و الأنفس، و هذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

كما أنّ الأمر بالنسبة إلي وصيه عليه السّلام أيضا كان كذلك، فقد أوصي من أول أمره في وقعة الدار، إلي آخر عمره الشريف بولاية علي عليه السّلام و قد أمر بتبليغ ولايته الإلهية في الغدير، و أنّه إن لم يفعل فما بلغ رسالته، فكان أخذ البيعة له حينئذ، تأكيدا علي الطاعة، لا من قبيل انتخابه و فعلية ولايته ممّا لا يتفوه به من كان له أدني خبرة بأحاديث ولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام.

و يجوز مثلها بالنسبة إلي الفقيه بعد ما جعله عليه السّلام حاكما و قاضيا علي

الناس، و أمر بالرجوع إليه في الحوادث الواقعة، و جعل مجاري الامور بأيديهم، إلي غير ذلك، فالبيعة له أيضا تأكيد علي ما أعطاه اللّه من المنزلة و المقام، و كذا بناء علي الدليل العقلي السابق.

سلّمنا أنّ البيعة عقد مستقل بذاتها يجب الوفاء به، و لا يختص بأحد دون أحد كما قد يبدو من بعض رواياتها، و لكن الروايات الواردة في حكم البيعة ناظرة إلي وجوب العمل بها و ليست في مقام بيان شرائط من يبايعه الناس، و إن أبيت إلّا عن اطلاقها من هذه الجهة، فهي تشمل الفقيه و غير الفقيه، و تكون علي خلاف المطلوب أدل، فتدلّ علي جواز اختيار كل إنسان صالح بحسب الظاهر للولاية، أي شخص كان فقيها أو غير فقيه، و جازت البيعة معه، و إليك بعض ما ورد في هذا الباب:

منها: عن المفضل بن عمر قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف ما سح رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله النساء حين بايعهن؟ فقال: دعا بمركنه الذي كان يتوضأ فيه فصب فيه ماء ثم غمس فيه

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 59، و سورة الاحزاب، الآية 6.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 479

يده اليمني فكلّما بايع واحدة منهم، قال: اغمسي يدك كما غمس رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فكان هذا مما سحته إيّاهن» «1».

و ما روي أحمد بن اسحاق عن سعدان بن مسلم قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام أ تدري كيف بايع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله النساء؟ قلت: اللّه أعلم و ابن رسوله أعلم، قال: جمعهن حوله ثم دعا بتور برام، فصب فيه نضوحا ثم غمس يده «إلي أن قال» ثم قال:

اغمسن أيديكن ففعلن فكانت يد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الطاهرة أطيب من أن يمس بها كف انثي ليست له بمحرم!» «2».

و ما روي محمد بن علي بن الحسين باسناده عن ربعي بن عبد اللّه أنّه قال: «لما بايع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله النساء و أخذ عليهن، دعا بإناء فملأه، ثم غمس يده في الإناء، ثم أخرجها ثم أمرهن أن يدخلن أيديهن فيغمسن فيه» «3».

و ما روي سعدان بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث مبايعة النبي صلّي اللّه عليه و آله النساء، أنّه قال لهن: «اسمعن يا هؤلاء أبايعكن علي أن لا تشركن باللّه شيئا و لا تسرقن و لا تزنين و لا تقتلن أولادكن و لا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن و أرجلكن و لا تعصين بعولتكن في معروف، أقررتن؟ قلن: نعم» «4».

و ما روي أبان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لما فتح رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله مكة بايع الرجال ثم جاءه النساء يبايعنه … فقالت (أمّ حكيم): يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كيف نبايعك فقال: إني لا أصافح النساء فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها فقال: أدخلن أيديكن في هذا الماء فهي البيعة» «5».

و ما روي: مسمع بن أبي سيارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «فيما أخذ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله البيعة علي النساء أن لا يحتبين و لا يقعدن مع الرجال في الخلاء» «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، الباب 115 من أبواب مقدمات النكاح، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 4.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). المصدر السابق، الباب 117

من أبواب مقدمات النكاح، ح 1.

(5). المصدر السابق، ج 14، الباب 117 من أبواب مقدمات النكاح، ح 4.

(6). المصدر السابق، الباب 99 من أبواب مقدمات النكاح، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 480

و ما روي: ابن جنيد أنّه «روي أنّ رجلا جاء إلي أمير المؤمنين عليه السّلام ليبايعه، فقال: يا أمير المؤمنين ابسط يدك أبايعك علي أن أدعو لك بلساني، أنصحك بقلبي و اجاهد معك بيدي فقال: حر أنت أم عبد؟ فقال عبد، فصفق أمير المؤمنين عليه السّلام يده فبايعه» «1».

و ما روي: الطبرسي في (الاحتجاج) عن النبي صلّي اللّه عليه و آله في احتجاجه يوم الغدير: «علي عليه السّلام تفسير كتاب اللّه، و الداعي إليه، إلّا و إن الحلال و الحرام أكثر من أن أحصيهما و أعرفهما، فآمر بالحلال و أنهي عن الحرام في مقام واحد، فأمرت أن آخذ البيعة عليكم و الصفقة منكم» (الحديث) «2».

و ما روي عيسي بن المستفاد ممّا رواه في كتاب الوصية قال: «حدثني موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألت أبي جعفر بن محمد عليه السّلام عن بدء الإسلام، كيف أسلم علي و كيف أسلمت خديجه؟ فقال لي أبي: أنّهما لما دعاهما رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فقال: يا علي و يا خديجة إنّ جبرائيل عندي يدعو كما إلي بيعة الإسلام فأسلما تسلما، و أطيعا تهديا! فقالا: فعلنا و أطعنا يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله» (الحديث) «3».

و ما روي: عن موسي بن جعفر عن أبيه عليه السّلام قال: «لما هاجر النبي عليه السّلام إلي المدينة و حضر خروجه إلي بدر دعا الناس إلي البيعة فبايع كلهم علي السمع و الطاعة» الحديث «4».

إن

قلت: ظاهر ما رود في نهج البلاغة قبوله عليه السّلام لأمر البيعة بعنوانها معيارا لخلافة المسلمين و في حق نفسه، فكيف في حق غيره؟ و إليك نماذج منها:

1- قوله عليه السّلام: «أيّها الناس إن لي عليكم حقا و لكم عليّ حق: فأمّا حقكم علي فالنصيحة لكم و … و أمّا حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، و النصيحة في المشهد و المغيب … » «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11 الباب 4 من أبواب جهاد العدو، ح 3.

(2). المصدر السابق، ج 18 الباب 13 من أبواب صفات القاضي، ح 43.

(3). بحار الأنوار، ج 65، ص 392.

(4). المصدر السابق، ص 395.

(5). نهج البلاغة، الخطبة 34، ص 79 من طبعة صبحي صالح.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 481

2- و قوله عليه السّلام يعني به الزبير: «يزعم أنّه قد بايع بيده و لم يبايع بقلبه، فقد أقر بالبيعة و ادعي الوليجة، فليأت عليها بأمر يعرف، و إلّا فليدخل فيما خرج منه» «1».

3- و قوله عليه السّلام إلي معاوية: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمرو عثمان علي ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد … » «2».

4- و قوله عليه السّلام إلي معاوية أيضا: «لأنّها بيعة واحدة لا يثني فيها النظر و لا يستأنف فيها الخيار، الخارج منها طاعن و المرويّ فيها مداهن» «3».

5- و قوله عليه السّلام إلي جرير بن عبد اللّه البجلي لما أرسله إلي معاوية: «أمّا بعد فإذا أتاك كتابي فأحمل معاوية علي الفصل، و خذه بالأمر الجزم … و إن اختار السلم فخذ بيعته» «4».

6- و قوله عليه السّلام إلي طلحة و زبير: «أمّا بعد فقد علمتما، و

إن كتمتما، أني لم أرد الناس حتي أرادوني، و لم أبايعهم حتي بايعوني. و إنّكما ممن أرادني و بايعني و إن العامة لم تبايعني لسلطان غالب و لا لعرض حاضر فان كنتما بايعتماني طائعين، فارجعا و توبا إلي اللّه من قريب، و إن كنتما بايعتماني كارهين، فقد جعلتما لي عليكما السبيل … » «5».

7- و أوضح من هذه كلّه ما ورد في إرشاد المفيد عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أيّها الناس إنّكم بايعتموني علي ما بويع عليه من كان قبلي، و إنّما الخيار للناس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوا فلا خيار لهم و … و هذه بيعة عامة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام، و اتبع غير سبيل أهله» «6».

«قلت»: لا ينبغي الشك في أنّها كانت بعنوان الجدل و المماشاة مع الخصم بذكر ما هو مقبول لهم و الاحتجاج بما هو مسلم عندهم، و ينادي بذلك بأعلي صوته ما ورد في الكتاب 6 من نهج البلاغة و ما حكيناه عن المفيد قدّس سرّه، فانّ خلافة الأوّل و الثاني و الثالث لم تكن

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 8، ص 54 من طبعة صبحي صالح.

(2). المصدر السابق، الكتاب 6، ص 366 من طبعة صبحي صالح.

(3). المصدر السابق، الكتاب 7، ص 367 من طبعة صبحي صالح.

(4). نهج البلاغة، الكتاب 8، ص 368 من طبعة صبحي صالح.

(5). المصدر السابق، الكتاب 54، ص 445 من طبعة صبحي صالح.

(6). إرشاد المفيد، ص 116.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 482

صحيحة عنده عليه السّلام كما صرّح به في الخطبة الشقشقية و غيرها من الخطب التي تدل علي أنّ حقه قد غصب، و أنّ خلافته كانت بالنص وراثة عن النبي صلّي اللّه عليه

و آله بل كونه منصوصا من ضروريات مذهب الشيعة، فما ورد في أمر البيعة و الاستدلال بها يكون من الأخذ بما هو حجة عند الخصم، و يشهد علي ذلك أنّ المخاطب في بعضها معاوية، و في آخر طلحة و الزبير، و في ثالث سعد بن أبي وقاص و انظارهم فمن تخلفوا عن بيعته (كما في رواية الإرشاد).

فالأمر دائر بين الأخذ بظاهر بعضها و رفض سائرها ما ورد في نهج البلاغة و غيرها ممّا يدل علي كون الخلافة منصوصة منه صلّي اللّه عليه و آله و معينة عنه تعالي، بل رفض ما ثبت بالضرورة من مذهب الشيعة و أحاديث الغدير و غيرها، أو حملها علي الجدل الثابت في المنطق و الأخذ بمسلمات الخصم و لا ريب إن المتعين هو الثاني.

و من الجدير بالذكر جدّا أنّ البيعة عند أهل السنة أيضا لا تنطبق علي الانتخاب المعمول في عصرنا، بل المعيار عندهم في تعين الإمام اختيار أهل الحل و العقد، و اختلفوا في عدده، فاختار بعضهم كفاية اختيار الحاضرين منهم فقط، و بعضهم كفاية خمس نفرات، و بعضهم ثلاثة و بعضهم نفر واحد! و إليك نص ما ذكره الماوردي في «الأحكام السلطانية»:

«الإمامة تعقد من وجهين … إلي قوله لأنّه حكم و حكم واحد نافذ»! «1».

و الحاصل: أنّ هناك قرائن كثيرة تدل علي أن هذه الكلمات الواردة في الاحتجاج بالبيعة إنّما صدرت منهم احتجاجا علي الخصم المعتقد بالبيعة:

أولا: ما ثبت من ضرورة المذهب من أنّ إمامته عليه السّلام كانت بنصب من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و من قبل اللّه من غير حاجة إلي بيعة الناس معه، و يشهد له الحديث المتواتر الذي ورد في الغدير و

غيره.

ثانيا: الروايات الواردة في نهج البلاغة نفسها تدل علي أنّه عليه السّلام كان إماما بالوراثة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله من الخطبة الشقشقية و غيرها.

______________________________

(1). الأحكام السلطانية، ص 6.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 483

ثالثا: الاحتجاج بالبيعة التي وقعت للخلفاء الثلاثة، و لا ريب أنّه كان من باب الجدل عنده عليه السّلام.

رابعا: كون المخاطب في غير واحد منها معاوية و طلحة و الزبير و أمثالهم من الذين كانوا لا يقبلون النص في حقّه إلي غير ذلك من القرائن، و الأمر واضح بحمد اللّه.

إن قلت: نحن نعترف بأنّ النص مقدم علي كلّ شي ء فالأئمّة المعصومون منصوصون من قبل النبي صلّي اللّه عليه و آله أو من ناحية إمام معصوم قبله، و في مثل هذا لا حاجة إلي البيعة، و لو كانت هناك بيعة كانت تأكيدا كما في بيعة الشجرة و غيرها من موارد البيعة، للنبي صلّي اللّه عليه و آله، و كذا إذا ثبت النص في حق نوابهم و وكلائهم، كالنواب الأربعة، و بالنسبة إلي غيرهم، فالبيعة لها أثرها في تعيين ولاة الأمر، كما ورد في نهج البلاغة و غيرها، و لا يجوز الجدل بأمر باطل من أصل كما أنّ استدلال المخالفين بالبيعة، ممنوع صغري و كبري، أمّا الكبري فلأنّه لا فائدة في البيعة مع وجود النص علي أمير المؤمنين (علي عليه السّلام)، و أمّا الصغري فلعدم تحقق الاتفاق علي غيره و لو من أهل المدينة و لو من أهل الحل و العقد منهم.

و أمّا النصوص الواردة في الفقهاء، فلا يستفاد منها إلّا الاقتضاء أمّا الفعلية (أي فعلية الولاية لهم) فإنّما تكون بالبيعة.

قلت: «أولا»: ظاهر روايات البيعة الواردة في نهج البلاغة و إرشاد

المفيد و اشباهها أنّها مفيدة، مؤثرة و لو في تعيين خليفة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فلو تمّت فلا بدّ من رفض الروايات المصرحة بالنص علي أمير المؤمنين علي عليه السّلام و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام من بعده، و رفض ما ثبت بالضرورة من مذهبنا، فلا يبقي مجال إلّا لحملها علي الجدل بمسلمات الخصم.

فراجع قوله عليه السّلام: «أريٰ تراثي نهبا» (الخطبة 3 من نهج البلاغة) و قوله عليه السّلام: «و لا يقاس بآل محمد صلّي اللّه عليه و آله … الخ» الوارد في الخطبة 2 من تلك الخطب الجليلة.

و أمّا ما ذكرت من أنّ الجدل لا يكون بأمر باطل من جميع الجهات، فهو ممنوع، بل قد يكون كذلك إذا تمّ عند الخصم كما في احتجاج ابراهيم عليه السّلام علي عبدة الاصنام بقوله: «هذا ربي» كما صرّح به كثير من المفسرين و كذا غيره من أشباهه.

و «ثانيا»: سلّمنا و لكن ظاهرها كون البيعة تمام العلة لولاية الوالي علي الناس كعقد البيع

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 484

و التجارة لا يتفاوت فيه الفقيه و غيره ممن كان عادلا لا الفساق و أهل الفجور لانصراف النصوص عنهم، فهذا علي خلاف المطلوب أدل.

و «ثالثا»: ظاهر الأدلة السابقة كون الفقيه منصوبا فعلا لا اقتضاء (سواء الدليل العقلي و النصوص العشرة السابقة و غيرها) و ليس فيها من الاقتضاء عين و لا أثر.

و «رابعا»: ظاهر ما عرفت من نهج البلاغة كفاية بيعة الحاضرين بل و كفاية بيعة أهل الحل و العقد من المهاجرين و الأنصار، و لا خيار لغيرهم، فهي لا تنطبق علي موضوع الانتخاب في عصرنا كما هو واضح جدّا.

و بالجملة التمسك بروايات البيعة لتصحيح الانتخاب المتداول

بين أهل العصر أوهن من بيت العنكبوت.

و إذ قد ثبت بحمد اللّه أصل ولاية الفقيه بالنسبة إلي أمر الحكومة ممّا عرفت من الأدلة، فلنرجع إلي الفروع المتعلقة بها.

الثالث و الرابع: حدود نفوذ ولاية الفقيه و شرائطه
اشارة

لا أظنّك تحسب أنّ معني ولاية الفقيه علي أمر الحكومة المستفادة من الأدلة السابقة أنّه يفعل فيهم ما يشاء و يختار، و أنّ الامة من قبيل المماليك له، و أنّه يحكم فيهم بما يشاء و يفعل ما يريد، كلّا لم يرد هذا لا في دليل عقلي، بل هو أمر غير معقول لا يقول به أحد، بل لولايته حدود و شرائط و قيود ليس له أن يتعداها و لا أن يخرج من طورها:

1- مراعاة مصالح الامة

و أهمها ملاحظة مصلحة الامة و منافعها و شرفها و عزّها، فليس للفقيه الخروج عنها أبدا و إلّا خلع عنه لباس الولاية و نزل عن مقام الزعامة.

و الدليل علي ذلك الأدلة السابقة الدالة علي ولاية الفقيه، فانّ الفروع تؤخذ من اصولها، مضافا إلي غيرها من الأدلة.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 485

أولها: إنّ الأخذ بالقدر المتيقن يرشدنا إلي ذلك، فانه مبني علي عدم جواز بقاء الناس بلا رئيس يصلح امورهم، و إلّا غلب الهرج و المرج عليهم، و اختل النظام و فسدت البيئة، و ظهر الفساد في البر و البحر، و لم يبق للدين و الدنيا زعامة و سلك الناس مسلك الانحطاط و التسافل، فلا بدّ لهم من إمام لهذه الشؤون و حيث إنّه ليس هناك دليل عام علي صلوح كل أحد لذلك، فلا بدّ من الأخذ بالقدر المسلم، و حيث إنّ الفقيه الجامع للشرائط أخبر بمواقع الأحكام و مصدرها و مخرجها، و صلاح الامة و فسادها و احتمال الانحراف عن مسير الحق فيه أقل، فهو أحق من غيره.

و من الواضح أنّ هذا الدليل لا يقتضي إلّا تصديه لما فيه صلاح الامة.

و إن شئت قلت: إنّ الحكومة ليست من مخترعات الشرع، بل

كانت أمرا دائرا بين العقلاء من قديم الأيّام من زمن اختار الإنسان الحياء الاجتماعية، و الشارع المقدس أمضاها بقيود و شرائط.

و من المعلوم أنّها شرّعت بين العقلاء لحفظ مصالح المجتمع و غبطة الناس صغيرهم و كبيرهم رغم قلّة من قام بها و أدّي حقها، و لكن كل يدعي ذلك فالحكومة علي هذا الأساس قد أمضاها الشرع المقدس، فلا يكون الفقيه و لا غيره مرخصا في الأخذ بغيرها ما فيه المصلحة للناس.

كما أنّ حديث «مجاري الامور» الذي هو من أحسن ما يدل علي ولاية الفقه أيضا ينادي بأعلي صوته أنّ مجاري امور، إصلاح المجتمع و إقامة نظام الامة لا العمل بما يريد و إن كان فيه ضرر علي الامة، أو لم يكن فيه هذا و لا ذاك.

و كذا رواية «الحوادث الواقعة» فإنّها إشارة إلي الحوادث المهمّة التي ترتبط بكيان الامة و حياتها و سعادتها، بل لو قلنا بأنّها تشمل كل حادثة فلا شك أنّ الرجوع إليهم إنّما هو لإصلاح أمر الحوادث، و الأخذ بما هو أحري و أصلح، لا أنّ الأمر مفوّض إلي الفقيه يأتي بما يشاء و يحكم بما يريد.

و كذلك الحال في غير هاتين الروايتين.

ثانيها: إنّ سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله الأعظم و وصيه أمير المؤمنين عليه السّلام التي هي المبني لولاية

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 486

الفقهاء لم تستقر إلّا علي ذلك، فلم نر في مورد من الموارد إلّا الأخذ بما هو صلاح الامة و ما هو أجمع لمصلحة المؤمنين، بل لم نر موردا أخذا بما فيه مصلحة شخصيهما، و كلماتهما مشحونة بما ذكرنا كما يأتي الإشارة إلي بعضها.

نعم قد ورد في روايات عديدة أنّ الدنيا (أو الأرض) كلها للّه

و لرسوله و للأئمّة عليه السّلام و عقد له في الكافي بابا «1» و لكن مع ذلك لم يعملوا بين الناس إلّا بما ورد في الشرع من الحقوق.

ثالثها: الآيات و الروايات الكثيرة الدالة علي وجوب تحري الصالح أو الأصلح علي أئمّة المسلمين و قادتها و أنّه لا يجوز لهم غير ذلك، و إليك الإشارة إلي بعضها:

1- قوله تعالي: وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ «2» دلّ علي أنّ الحكومة ذريعة لهذه الامور الأربعة التي فيها المصالح الاخروية و الدنيوية للامة و أنّ اللّه وعد بنصر من يقوم بها.

2- قوله، حاكيا عن شعيب عليه السّلام: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلٰاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ مٰا تَوْفِيقِي إِلّٰا بِاللّٰهِ «3».

3- ما ورد في نهج البلاغة: «أنّه لا بدّ للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في أمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر، و يبلغ اللّه فيها الأجر، و يجمع به الفي ء، و يقاتل به العدو، تأمن به السبل، و يؤخذ به للضعيف من القوي» «4».

فهذه امور خمسة ينتظر من الوالي إجرائها.

4- ما ورد فيه أيضا: «أيّها الناس إنّ ليّ عليكم حقّا و لكم عليّ حق، فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم و توفير فيئكم عليكم، و تعليمكم كي لا تجهلوا و تأديبكم كيما تعلموا» «5»

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 1، ص 407.

(2). سورة الحج، الآية 40- 41.

(3). سورة هود، الآية 88.

(4). نهج البلاغة، خطبة 40.

(5). المصدر السابق، خطبة 34.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 487

فقد تلخص وظائف الوالي في هذه الامور الأربعة.

5- و في كتابه

إلي الاشتر: «أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصة أهلك و من لك فيه هوي من رعيتك، فانّك إلّا تفعل تظلم، و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده» «1».

6- و قال فيه أيضا: «و أعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي علي الرعية و حق الرعية علي الوالي فريضة … فجعلها نظاما لألفتهم و عزّا لدينهم فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة و لا يصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية» «2».

فالوالي لا بدّ أن يكون سببا لنظام الامة و عزّا لدينهم و حافظا لمصالحهم، لا أن يفعل فيهم ما يشاء من دون ملاحظة هذه الامور.

7- و قد عقد في الكافي بابا لما يجب من حق الإمام علي الرعية و حق الرعية علي الإمام، و فيه عن أبي حمزة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام ما حق الإمام علي الناس؟ قال: حقّه عليهم أن يسمعوا له و يطيعوا. قلت: فما حقّهم عليه؟ قال: يقسم بينهم بالسوية و يعدل في الرعية» «3».

و هذا بعض ما علي الوالي من الحقوق، يعلم منه و من غيره أنّ المدار علي مصالح الامة لا غير.

8- و في مرفوعة عبد العزيز بن مسلم عن الرضا عليه السّلام (و هي رواية طويلة جامعة لصفات الإمام) و فيها «إن الإمامة هي منزلة الأنبياء، وارث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة اللّه و خلافة الرسول صلّي اللّه عليه و آله و مقام أمير المؤمنين عليه السّلام و ميراث الحسن و الحسين عليه السّلام إنّ الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين، و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أساس الإسلام النامي، و فرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و

الصيام و الحج و الجهاد» «4».

______________________________

(1). نهج البلاغة، كتاب 53.

(2). المصدر السابق، خطبة 21.

(3). الاصول من الكافي، ج 1، ص 405.

(4). المصدر السابق، ص 200.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 488

إلي غير ذلك ممّا هو كثير جدّا ربّما تبلغ حدّ التواتر، و يغنينا ذلك ملاحظة أسنادها.

و يتحصل من جميع ذلك أنّه ليس الوالي و الحاكم علي المسلمين (و هو الفقيه) كالمولي للعبيد، و المالك بالنسبة إلي المملوك، بل و لا كالولي علي الصغار، أو الاب مع الابن حتي يكون داخلا في قوله «أنت و مالك لأبيك» (مع أنا ذكرنا قبل ذلك أنّ الأب أيضا لا يجوز له إلّا ملاحظة مصالح ابنه، و أنّ الحديث المعروف حكم اخلاقي يبيّن وظيفة الكبار من الأولاد في مقابل أبيهم لا أنّ له حق التصرف المطلق في أموالهم و أنفسهم كيف يشاء) بل هو كالمتولي في الأوقاف العامة و الخاصة أو كوكيل إلهي لهم، يتصرف بما هو مصلحة الموقوف عليهم و الوقف، و مصالح الموكل، فليس للفقيه التصرف إلّا بما فيه مصلحة العباد و البلاد.

و يؤيد ذلك كله ما ذكروه في علم الكلام في بابا وجوب نصب الإمام بعد النبي صلّي اللّه عليه و آله- كما ذكره العلّامة قدّس سرّه في شرح كلام المحقق الطوسي قدّس سرّه- قال: «إنّ الإمام لطف و اللطف واجب، أمّا الصغري فمعلومة للعقلاء، إذا العلم الضروري حاصل بأن العقلاء متي كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب و التهاوش و يصدهم عن المعاصي و يعدهم و يحثهم علي فعل الطاعات و يبعثهم علي التناصف و التعادل، كانوا إلي الصلاح أقرب و من الفساد أبعد و هذا أمر ضروري لا يشك فيه العاقل» «1».

فإذا كان الإمام

المعصوم كذلك، فما ظنك بغير المعصوم مع أنّه يظهر من غير واحد من الروايات- كما عرفت سابقا- أنّهم مالكون للأرض و ما فيها بل الدنيا ملك لهم، و مع ذلك لم نر منهم في عصر حكومتهم علي الناس- عند بسط أيديهم و عند قبضها- إلّا العمل بما هو خير و صلاح للامة، لا ما هو صلاح لأنفسهم، فالفقيه أولي بذلك.

2- الاستشارة في امور

لما كانت الحكومة علي آلاف أو ملايين من المسلمين أمرا ليس بالهيّن، فهما بلغ

______________________________

(1). شرح تجريد الاعتقاد، ص 284 من طبعة مكتبة المصطفوي.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 489

الإنسان مرتبة متقدمة في العلم و الفقه و العقل فغبطة المسلمين تقتضي أن لا يترك الاستشارة في اموره، لا سيما في الخطيرة منها، و إلّا فقد خرج عن وظيفته الواجبة عليه، من مراعاة الصالح بل الأصلح، و سقط عن مقامه السامي، فليس للفقيه الاستبداد برأيه في شي ء من الامور الراجعة إلي مصالح المجتمع الإسلامي، و لذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من أستبد برأيه هلك و من شاور الرجال شاركها في عقولها» «1».

و من المعلوم أنّ هلاك الوالي يؤدّي إلي هلاك الامة أيضا، بل و قد يؤدّي إلي هلاك الإسلام في برهة من الزمان.

و لهذا أيضا ذكر اللّه الشوري في كتابه في عداد الصلاة و الزكاة، و جعلها من علامات الإيمان، فقال عز و جل: وَ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقيٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* … وَ الَّذِينَ اسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ وَ الَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ «2».

و أي أمر أهمّ من أمر الحكومة؟ بل إضافة الأمر إلي الجميع،

و كذا ذكر الانتصار في مقابل البغي بعده، لو لم يوجب له ظهورا في الامور الهامة التي لها صلة بالمجتمع، فلا أقل من أنّها أظهر مصاديقها و أوضح مواردها.

بل يظهر ذلك من أمره تعالي للنبي صلّي اللّه عليه و آله بالمشاورة مع المؤمنين و جعلها في عداد العفو عنهم و الاستغفار لهم و جلب قلوبهم إلي الإسلام.

فقال تعالي: فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ «3».

إنّ المشورة مع الناس من أسباب جلب القلوب و مشاركتهم للوالي في الامور، و اجتماعهم حوله و عدم انفضاضهم عنه، و ليست مشاورة النبي صلّي اللّه عليه و آله معهم (و إن كان عالما

______________________________

(1). نهج البلاغة، الحكمة 161.

(2). سورة الشوري، الآيات 39- 36.

(3). سورة آل عمران، الآية 159.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 490

بالامور بتعليم اللّه) أمرا صوريا ظاهريا، لما في نفس هذا الأمر من المصالح كما قد يتوهّم، بل ظاهر قوله تعالي: فَإِذٰا عَزَمْتَ أنّ عزمه كان بعد الشوري.

و الروايات في الحثّ علي هذا الأمر كثيرة جدّا ربّما تبلغ حدّ التواتر، و كفاك في ذلك ما يلي:

الاولي: ما ورد في نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين عليه السّلام «و الاستشارة عين الهداية قد خاطر من استغني برأيه» «1».

فقد جعل الاستشارة عين الهداية، لا طريقا إليها! و هذا من أبلغ البيان لفوائد المشاورة، ثم أكده بقوله: إن الاستبداد علة الخطر و مبدؤه.

الثانية: قول رسول صلّي اللّه عليه و آله فيما روي الإمام علي بن موسي الرضا عليه السّلام عنه صلّي اللّه عليه و

آله كما في العيون: «من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة، و يغصب الامة أمرها، و يتولي من غير مشورة فاقتلوه فانّ اللّه قد أذن ذلك»! «2».

الثالثة: ما رواه بعض الصحابة قال: «ما رأيت أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله» «3».

و الأمر بالقتل و إن كان للأمور الثلاثة و هو تفرق الجماعة، و غصب الخلافة و ترك المشورة اجمع، و لكن عدّ ترك المشورة منها دليل علي شدة اهتمامه صلّي اللّه عليه و آله بهذا الأمر، بل يكون هو العلة في تفرق الجماعة و غصب أمر الامة كما لا يخفي علي الخيبر.

فتحصل ممّا ذكرنا: أنّ المشورة للولي الفقيه ليست من قبيل المستحبات بل من أوجب الواجبات، لما عرفت من أنّه الطريق الوحيد إلي تشخيص مصالح الامة غالبا، التي ليس للفقيه أن يتعداها، مضافا إلي ما عرفت من الأوامر المؤكدة في ذلك في الكتاب و السنة التي ظاهرها الوجوب في الجملة.

و من هنا تظهر حكمة تأسيس مجلس النواب في الحكومة الإسلامية و أنّه قد تكون

______________________________

(1). نهج البلاغة، الحكمة 211.

(2). عيون اخبار الرضا عليه السّلام، ج 2، ص 62.

(3). السنن الكبري للبيهقي، ج 9، ص 218.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 491

مصلحة الامة في انتخاب الممثلين من الناس لمشاركتهم في كشف موارد الأحكام و موضوعاتها، و ما يكون الصالح و الأصلح لهم، و معاضدتهم للفقيه الوالي بل قد يكون تركه لذلك مظنة للهلاك و اتهامه بالاستبداد و الاستقلال في الرأي، و يوجب انفضاض الامة من حوله، مع ما في تركه من مظنة الوقوع في أنواع الخطأ في تطبيق الأحكام علي صغرياتها، فتركه لهذا الأمر مخالف لمراعاة الغبطة المفروضة عليه و ينافي

عدالته و ولايته.

و هذا هو العمدة في مشروعية مجلس النواب و الرجوع إلي آرائهم، و الأخذ بها عند تقنين القوانين، فآراؤهم يؤخذ بها في طريق تطبيق كبريات أحكام الشرع علي صغرياتها، و تعيين الموضوعات العرفية و تشخيص الصالح و الأصلح فيما توقف الأمر عليه، لا في تشريع الأحكام، لأنّه خارج عن اختيارهم، بل و خارج عن اختيار الفقيه، قال اللّه تعالي إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ أَمَرَ أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلّٰا إِيّٰاهُ «1».

و من الواضح أن ترك هذه الطريقة في عصرنا من أهم أسباب التهمة و الفتنة و الانفضاض عن الحكومة الإسلامية، و باعث علي تأثير وسوسة الشياطين و المعاندين في قلوب المؤمنين، فلا يجوز للفقيه العدول عنها إلي غيرها.

و بقي هنا امور ترتبط بأمر المشاورة نطوي البحث عنها و نرجعها إلي محلها، و هي:

1- بيان أقسام المشهورة، فانّها تارة تكون من مقدمات عزم المستشير و إرشاده إلي ما هو الأصلح و إن كان الاختيار بيده في نهاية الأمر، و اخري يجب الأخذ بآراء المشيرين و لا يجوز التعدي عنها، كما هو المعمول اليوم في مجلس النواب، ففي الأوّل يجوز مخالفتهم، و في الثاني لا يجوز.

و الظاهر أنّ آية آل عمران ناظرة إلي القسم الأوّل، و آية الشوري ناظرة إلي القسم الثاني.

2- صفات المشير و ما يعتبر فيه من الشرائط.

3- تعيين المواضع، التي لا بدّ فيها الاستشارة، تفصيلا و إن أشرنا إليها إجمالا.

4- شرح المواضع التي عمد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في امور الحرب و غيرها- إذا لم يكن عنده

______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 40.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 492

تكليف إلهي خاص إلي الشوري، و إن اشرنا إليه إجمالا أيضا، فليكن هذا علي

ذكر منك كي نتلو عليك منه ذكرا.

3- الرجوع إلي الخبراء

الحكومة لها عرض عريض، و شعب كثيرة، و كثيرا ما يحتاج في معرفة الموضوعات إلي انظار الخبراء، فعلي الفقيه أخذ نظرهم في ذلك إذا كانوا مؤتمنين و ليس هذا من المشاورة بل من قبل الرجوع إلي العالم، و يشبه التقليد من بعض الجهات في مثل هذه الموضوعات المعضلة الخاصة.

توضيح ذلك: إن كل حكم يحتاج إلي موضوع يتعلق به، كالمسكر و القمار و الاوثان و الاصنام، بالنسبة إلي تحريم الشرب و اللعب و العبادة و قد يفرق بين «الموضوع» و «المتعلق» فالمتعلق هو الفعل الذي يكون مهبط الحكم، كالشرب في لا تشرب الخمر، و العبادة في لا تعبد الصنم، و أمّا الموضوع هو الذي يتعلق به الافعال «كالخمر و الصنم و آلات القمار» (و قد يطلق الموضوع علي ما هو أعم منها و الأمر سهل بعد وضوح الحال).

و الموضوعات علي أقسام:

«منها»: ما يكون شرعيا محضا مستنبطا من الكتاب و السنة، كالصلاة و الصيام و الحج و الطواف و غيرهم من أشباهها، و الاخري ما ليس كذلك، بل يكون عرفيا و هو أيضا علي قسمين: ما يكون معلوما لكل أحد، يعرفه العالم و الجاهل، كالماء المطلق و المضاف، و الدم و البول، و الفراسخ في باب صلاة القصر، و الغنم و البقر في أبواب الزكاة، و غيرها من أشباهها.

و قسم لا يعرفه إلّا الخبراء من أهل العلوم و الفنون المختلفة، مثل قيمة الدار عند الشك فيها و الحاجة إليها لمعرفة موضوع الغبن في البيع و عدمه، و كون الصيام ضارا أم لا، و مقدار حاجة العسكر إلي السلاح و إعداد القوي، و مقدار حاجة المسلمين إلي الأرزاق و غيرهم ممّا

يكون فقدها ضررا عليهم، و كذا مقدار الثمر علي الشجر عند الخرص و التخمين لأخذ الزكوات، كما كان معمولا في عصرنا النبي صلّي اللّه عليه و آله.

و بالجملة معرفة مصالح الامة يحتاج في كل خطوة إلي الخبراء العالمين بها لا سيما في

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 493

عصرنا هذا، الذي ازدهرت الحضارة البشرية فيها، و اتسع نطاق العلوم و الفنون و الصنائع و الحرف، و لا يقدر الإنسان علي الخبروية في جميعها، بل و لا في شطر منها إلّا في ناحية صغيرة.

فالولي الفقيه في هذه الموارد إنّما يستنبط الحكم علي موضوعه و يأمر بانفاذه، أمّا معرفة مصاديقه و موضوعاته فهو في هذا القسم خارج عن قدرته غالبا و لا بدّ له من الرجوع إلي أهله، و لكن لا شك في اعتبار كونهم مأمونين علي الدين و الدنيا و كلما يعتبر في المشير يعتبر فيهم، بل و أزيد، و ضرر الرجوع إلي الخبراء غير المأمونين قد يكون أزيد من ترك الرجوع إليهم كما لا يخفي علي الخبير.

و هل يعتبر فيهم الإيمان مضافا إلي الوثاقة؟

لا شك في أنّهم إذا كانوا مؤمنين كان أحسن و أفضل، بل ما دام يمكن الوصول إلي أهل الإيمان لا ينبغي الرجوع إلي غيرهم، و لكن قد يكون الخبراء إلّا من غير أهل الإيمان مع الأمن منهم، و حينئذ لا مناص عن الرجوع إليهم و لكن مع الاحتياط و الحذر اللازم، كما ورد في التواريخ من رجوع أمير المؤمنين علي عليه السّلام عند ما ضربه اللعين، ابن الملجم إلي الطبيب النصراني «1».

و الدليل علي ذلك كله أدلة وجوب التقليد و الرجوع إلي أهل الخبرة، فانّ بعضها عام يشمل الموضوعات و غيرها كبناء

العقلاء علي رجوع الجاهل إلي العالم و آية السؤال، مضافا إلي سيرته صلّي اللّه عليه و آله و أمره عبد اللّه بن رواحة لتخمين مقدار الثمر لأخذ الزكاة و غيرها من أمثالها.

و الدليل علي ذلك كله أدلة وجوب التقليد و الرجوع إلي أهل الخبرة، فانّ بعضها عام يشمل الموضوعات و غيرها كبناء العقلاء علي رجوع الجاهل إلي العالم و آية السؤال، مضافا إلي سيرته صلّي اللّه عليه و آله و أمره عبد اللّه بن رواحة لتخمين مقدار الثمر لأخذ الزكاة و غيرها من أمثالها.

4- لزوم الأخذ بأحكام الشرع في جميع اموره

الفقيه بما أنّه صاحب الفتوي و مرجع التقليد يستنبط الأحكام الشرعية عن مداركها، و لكن بما أنّه حاكم علي الناس يكون مجريا لهذه الأحكام و محققا لها في الخارج، فهو من

______________________________

(1). نقله أبو الفرج الاصفهاني صاحب الأغاني (كما في منتهي الآمال للمحدث القمي قدّس سرّه).

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 494

هذه الجهة ليس له إلّا التنفيذ، فلا يتخطي عن طور الأحكام بل لا بدّ له من التمسك بها، فان أمكنه الأخذ بالعناوين الأولية فبها، و إلّا فبالعناوين الثانوية كالأحكام الواردة علي عنوان العسر و الحرج، و الضرر، و إقامة النظام و غيرها، و الحاصل أنّ وظيفة الحاكم بما أنّه حاكم هو تنفيذ الأحكام و القوانين الشرعية لا غير.

و ما قد يقال من أنّ الحكم علي ثلاثة أقسام:

1- حكم أولي.

2- حكم ثانوي.

3- حكم ولائي.

فالحاكم غير مقيد بالأخذ بالأحكام الأولوية و الثانوية، بل له حكم مستقل ولائي، في عرض الأحكام الأولية و الثانوية، ناش عن الخلط بين الأحكام التشريعية و الأحكام الإجرائية، لا نقول ليس له حكم ولائي، بل هو ثابت له و لكن ليس في عرضهما بل في طولهما.

توضيح ذلك: إنّ

الأحكام الأولية كوجوب الصلاة و الزكاة و الجهاد، و الثانوية كنفي الضرر و الحرج و لزوم حفظ النظام أحكام كلية إلهية، و قوانين عامة شرعية، و أمّا الحكم الولائي حكم جزئي من ناحية الحاكم، يحصل من تطبيق القوانين الكية الإلهية علي مصاديقها الجزئية، مثلا: الفقيه الذي يحكم بأنّ التدخين بالتنباك في هذا اليوم بمنزلة المحاربة لصاحب الزمان (ارواحنا فداه) في الحقيقة ينظر إلي حكم كلي، و هو أنّ كل شي ء يكون سببا لتضعيف المسلمين، و كسر شوكتهم و إسارتهم في أيدي الأعداء، فهو في حكم المحاربة له عليه السّلام، و استعمال التنباك في ظروف خاصة كان بنظر الفقيه الجامع لشرائط الحكم و بحسب رأيه الصائب مصداقا لذلك، فيحكم بهذا الحكم الولائي باتا، و إذا ارتفعت العلة الموجبة له يحكم بجوازه لتبدل موضوعه، كما وقع كلاهما للسيد الأكبر الميرزا الشيرازي قدّس سرّه.

و كذلك حكم الفقيه برؤية الهلال، و لزوم الصيام أو الافطار، إنّما ينشأ من الأخذ بالشهادة و تطبيق أدلة حجيتها علي مصداق خاص، هكذا إعلام يوم الموقف بعرفات و يوم العيد الاضحي لنظم مناسك الحج.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 495

و مثله حكمه الولائي بلزوم إعداد قوي خاصة و اسلحة معينة. و أخذ مقدار من الأموال زائدا علي الوجوه الثابتة الشرعية في برهة من الزمان لحرب أعداء اللّه، فانّ الحكم الكلي الشرعي في جميع هذه المقامات معلوم، و هو قوله تعالي: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أو وجوب مقدمة الواجب أو غير ذلك من أشباهه، و لكن الولي الفقيه يري تحقق موضوعه في الخارج، فيتصدي لإنفاذ هذا الحكم و يحرض الناس عليه بمقتضي وظيفته و تكليفه.

و إن شئت توضيحا أكثر لهذا المسألة

المهمة فاعلم أن: الأحكام الولائية (أي الأحكام التي يصدرها الوالي) علي أقسام:

قسم منها يكون من قبيل نصب أمراء الجيش و القضاة و الموظفين في دائر الحكومة الإسلامية، فانّها أحكام إنشائية في مواردها تحصل من إنشاء الوالي لها، لمن فيها الصفات المعتبرة لهذه المناصب، و قسم آخر: أحكام خاصة ناشئة عن تطبيق كبريات الأحكام الأولية علي مصاديقها، كالأمر بجباية الزكاة و الأخماس، و وضعها في مواضعها، و إعداد القوي لحرب العداء، و تعيين زمان الحرب و الصلح (كل ذلك بعد مراجعة الشوري و الخبراء).

و قسم ثالث: أحكام خاصة من تطبيق كبريات الأحكام الثانوية علي مواردها، كإيجاب العمل بما يقتضي النظام في أمر عبور السيارات في الشوارع داخل البلاد و خارجها فانّها مقدمة لحفظ النفوس و الدماء و أمن السبل، و مقدمة الواجب من الأحكام الثانوية كما سيأتي.

و كتحريم بعض التجارات مع الأجانب، أو ايجاب بعض الزراعات في برهة من الزمان، لكسر شوكة المعاندين، و المنع من تدخلهم في امور المسلمين، و حفظا النظام أرزاق الناس و القيام بدفع غلاء الأسعار و قحط الأرزاق، ممّا يكون تركه مضرة للناس لا سيما الفقراء و الضعفاء منهم.

و قسم رابع: ما يكون لدفع ظلم الظالمين و اعتداء بعض الناس علي بعض، كالأمر بفتح مخازن المحتكرين، و بيع ما فيها علي الناس، و تعيين الأسعار فيما يحتاج إليه الامة عند

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 496

مشاهدة اجحاف التجار و ذوي الصناعات و الحرف في التسعير، و ما أشبه ذلك.

و قد ورد كثير من هذه الاقسام في العهد المعروف الذي كتبه مولانا أمير المؤمنين علي عليه السّلام إلي الاشتر النخعي رضي اللّه عنه حين ولاه مصر، و له نظائر من بعض

الجهات في العهود التي عهدها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لأمرائه عند ارسالهم إلي مختلف بلاد المسلمين.

و لكن كل هذه الأحكام الكلية الإلهية التي وردت في الكتاب و السنة من الأحكام الأولية و الثانوية، و لا يتعداها أبدا في شي ء من مواردها و لو موردا واحدا.

فليس للوالي حكم خاص في عرض الأحكام الإلهية يسمي الحكم الولائي، بل له أحكام إجرائية في طولها و لا أظن أحدا يلتزم بغير ذلك، و ليس له حق التشريع و جعل الأحكام الكلية ممّا لم يرد في الشرع، بل ليس للإمام المعصوم عليه السّلام أيضا ذلك كما سيأتي البحث عنه مفصلا إن شاء اللّه عن قريب، فانّ اللّه قد أكمل دينه، و أتم نعمته و لم يبق شي ء إلّا و قد أنزل اللّه فيه حكما حتي أرش الخدش، و لا توجد واقعة ليس فيها حكم إلهي كما في الأحاديث المتضافرة، و ممّا ذكرنا ظهر لك أنّ هناك فرقا واضحا بين الحكم الولائي و الأحكام التشريعية الأولية و الثانوية و إليك بعضها:

1- الأحكام الولائية أحكام إجرائية جزئيه في طريق انفاذ الأحكام الكلية الإلهية (و المراد من الجزئي هنا الجزئي الإضافي لا الجزئي الحقيقي كما هو ظاهر، فمثل المقررات التي وضعت لنظم العبور و المرور و إن كانت أحكاما كلية إلّا إنّها إنّما هي مقدمة لحفظ الدماء و النفوس و نظام المجتمع فهي جزئية بالنسبة إليها).

2- البحث عن الأحكام الولائية دائما بحث موضوعي لما عرفت أنّها في سبيل إجراء الأحكام الكلية الإلهية، بخلاف الأحكام الكلية، فوظيفة الفقيه بما أنّه مفت استنباط هذا القسم من الكتاب و السنة، و بما أنّه وال، استخراج الأوّل من طريق تطبيق الكبريات علي صغرياتها.

3- الأحكام

الولائية إنّما هي في طول الأحكام الشرعية الأولية و الثانوية لا في عرضها، فهذه فروق ثلاثة، يرتبط بعضها ببعض.

و إن شئت قلت: بعضها نتيجة بعض.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 497

بحث حول العناوين الثانوية
اشارة

و لما انتهي الكلام إلي أحكام العناوين الثانوية اشتاقت نفوس جمع من الأحبة إلي تعريفها، و بيان الفرق بينها و بين غيرها، و ما يخصها من الأحكام، لا سيما و إنا لم نر من تعرض لها من الأعلام في طيات كتب «الفقه» و «الاصول» و لم نجد إلّا إشارات طفيفة في مختلف أبواب الفقه، فأحببت تفصيل الكلام فيه لما فيه من آثار كثيرة لا سيما في زماننا هذا، فنقول و منه جل ثنائه نستمد التوفيق و الهداية: لا بدّ هنا من رسم امور:

1- تعريف العناوين الثانوية و حدودها

قد عرفت أنّ الأحكام تحتاج إلي موضوع يرد عليه، و متعلق، تتعلق به، و إنّهما قد يتحدان و قد يفترقان، ففي مثل وجوب الصلاة، الموضوع و المتعلق أمر واحد، و في مثل شرب الخمر مختلفان، و ذكر بعض الاصوليين أنّ الموضوع أشبه شي ء بالمعروض في مقابل العرض، و لكنه مجرّد تشبيه، و إلّا فالأحكام امور اعتبارية لا مساس لها بالعرض الذي هو من الامور الحقيقية.

و علي كل حال، العنوان المأخوذ في الموضوع قد يكون «عنوانا ثابتا له مع قطع النظر عن العوارض و الطوارئ التي يتغير الأحكام بها، فيسمي عنوانا أوليا، و اخري يكون من العوارض و الطوارئ التي قد يلحقها و يتغير بها حكمه، فيسمي عنوانا ثانويا.

و إن شئت فانظر إلي مثل لحم الميتة و حرمتها، ثم الاضطرار إلي أكلها لبعض ما يرد علي الإنسان، كالسفر إلي غير بلاد المسلمين مع عدم التمكن من ذبيحة المسلم، و مع عدم القدرة علي ترك اللحم زمانا طويلا للخوف علي النفس.

فلحم الميتة حرام ذاتا بما أنّها ميتة، و لكن عروض عنوان الاضطرار يوجب تغيير حكمها مؤقتا، ثم بعد زواله يرجع إلي ما كان عليه،

و كذا الكلام بالنسبة إلي حرمة الكذب، و اباحته أحيانا لما فيه من إصلاح ذات البين، فالكذب عنوان ثابت أولي للحرمة لا يتغير من هذه الناحية، و لكن عنوان «إصلاح ذات البين» أمر عارض مؤقت يوجب اباحته فعلا.

و كذا الواجب في الوضوء هو مسح الرأس و الرجلين، و لكن عروض عنوان التقية قد

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 498

يوجب تغيير حكمه و تبدله بالغسل، و إذا زالت التقية زال حكمها.

و إن شئت قلت: قد ينقسم الشي ء إلي أقسام، بذاته، كالماء المنقسم إلي الكر و القليل و المتغير بالنجاسة و غير المتغير و الطاهر و النجس، و قد ينقسم بامور خارجة عن ذاته كالماء المضطر إلي شربه و ما لم يضطر، فمثل هذه العناوين هي عناوين ثانوية فمن هذه المثلة الثلاثة و ما أشبهها و ما ذكرنا في صدر الكلام و ذيله، يعلم حال العناوين الثانوية و فرقها مع العناوين الأولية، و لا تحتاج إلي مزيد بحث في ذلك.

2- كثرة العناوين الثانوية و تنوعها
اشارة

قد ظهر ممّا ذكرنا عدم حصر هذه العناوين في الضرورة و الاضطرار كما توهّمه بعض من لا خبرة له بالفقه و الاصول، بل هي كثيرة متفرقة في أبواب الفقه، و يشكل حصرها في عدد خاص، و لكن الأشهر من بينها العناوين التالية:

1- عنوان الضرورة و الاضطرار:

و هو ما ورد في قوله تعالي: وَ مٰا لَكُمْ أَلّٰا تَأْكُلُوا مِمّٰا ذُكِرَ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلّٰا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ «1». و ظاهره عام يشمل جميع المأكولات، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ورودها في سياق آيات أحكام اللحوم يوجب انصرافها إليه فقط و هو بعيد.

و قد اشير إليه في آيات اخر أيضا من كتاب اللّه العزيز «2». كلها واردة في أحكام اللحوم، و لكن ملاك الحكم عام كما هو ظاهر.

و قد روي أبو بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المريض هل تمسك له المرأة شيئا فيسجد عليه؟ فقال: لا إلّا أن يكون مضطرا ليس عنده غيرها، و ليس شي ء ممّا حرم اللّه إلّا و قد أحله لمن اضطر إليه» «3».

______________________________

(1). سورة الانعام، الآية 119.

(2). راجع سورة البقرة، الآية 173؛ و سورة المائده، الآية 3؛ و سورة النحل، الآية 115.

(3). وسائل الشيعة، ج 4، الباب 1 من أبواب القيام، ح 7.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 499

و ما روي سماعة قال: «سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء … فقال: لا بأس بذلك، و ليس شي ء ممّا حرم اللّه إلّا و قد أحله لمن اضطرا إليه» «1».

و حكم الاضطرار و الرخصة الحاصلة منه ثابت بالأدلة الأربعة كما لا يخفي علي من راجعها.

2- عنوان الضرر و الضرار:

و هو أيضا وارد في الكتاب العزيز في موارد خاصة مثل قوله تعالي: لٰا تُضَارَّ وٰالِدَةٌ بِوَلَدِهٰا وَ لٰا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ «2». الواردة في حكم الرضاع و قوله تعالي: وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ «3» الواردة في حكم المطلقات و العمدة في عموم الحكم هو حديث لا ضرر و لا ضرار

المعروف بين الفريقين و غيرها من أشباهه، و قد أوردنا جميعا في كتابنا «القواعد الفقهية» في قاعدة لا ضرر فراجع القاعدة الاولي من القواعد الثلاثين.

3- عنوان العسر و الحرج:

و قد ورد أيضا في كتاب اللّه في قوله تعالي: وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «4» و يدل عليه الروايات الكثيرة المستفيضة التي لعلها تبلغ حد التواتر، و قد نقلنا شطرا منها في الكتاب المذكور «القاعدة الثانية من تلك القواعد».

4- عنوان التقيّة:

بما لها من الأقسام «الخوفي» و «التحبيبي» و «التقيّة المقابلة للإشاعة و إذاعة الأسرار» (بناء علي كونه قسما ثالث؛ كما مال إليه بعض. و إن أخبرنا في محله أنّها راجعة إلي القسم

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 4، الباب 1 من أبواب القيام، ح 6.

(2). سورة البقرة، الآية 233.

(3). سورة الطلاق، الآية 6.

(4). سورة الحج، الآية 78.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 500

الخوفي) و علي كل حال يدلّ علي أصل هذا العنوان، الأدلة الأربعة أيضا كما يظهر بمراجعة الكتاب المذكور القاعدة، و هذا العنوان قد يوجب تحليل الحرام أو تحريم الحلال بعنوان حكم مؤقت عارض.

5- مقدمة الواجب أو الحرام:

(بناء علي ما هو الحق من وجوب الأول، و حرمة الثاني كما ذكرناها في محله) و هذا العنوان هو الدليل الوحيد أو الدليل العمدة علي بعض المسائل المشهورة في الفقه، مثل وجوب المكاسب و الحرف التي يتوقف عليها حفظ النظام، فإنّ حفظ النظام واجب قطعا و يمكن الاستدلال عليه بالأدلة الأربعة، بل العلة في تشريع كثير من الأحكام لا سيما الحدود و التعزيرات هو هذا، فيجب ما يكون مقدمة له.

و لعل تحريم التنباك في القضية المشهورة عن السيد الأكبر الميرزا الشيرازي قدّس سرّه من هذا القبيل، لأنّ استعماله كان سببا لمزيد اشترائه، و هو بدوره كان سببا لمزيد قوّة الدول الاستعمارية و استضعاف المسلمين و سلطة الأجانب علي حياتهم (و قد يكون مصداقا لعنوان آخر و هو الاعانة علي الحرام) و كذلك الكذب إذا كان مقدمة لإصلاح ذات البين، أو الغيبة مقدمة لنصح المستشير، و جميع هذه إنّما تجب أو تحرم بعنوان ثانوي و هو عنوان المقدمية.

و من هذا القبيل أيضا أخذ بعض الأموال من الناس زيادة علي الحقوق الواجبة و

المعروفة مقدمة لابتياع السلاح و ما يكون عدّه في مقابل الأعداء في بعض الظروف الخاصة.

6- قاعدة الأهم و المهم عند التزاحم:

و يدل عليها «العقل» و «الشرع» بل يمكن إقامة الأدلة الأربعة عليها كما لا يخفي علي الخبير، كالمثال المعروف الدارج بينهم من الدخول في الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق، و كالأكل في المخمصة لحفظ النفس، فانّ الحكم الاولي و إن كان يقتضي عدم جواز التصرف

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 501

في أموال الناس، و لكن مزاحمة الواجب الأهم و هو حفظ النفس المحترمة تقتضي جوازه بل وجوبه بعنوان ثانوي.

بل يمكن ارجاع مسألة مستثنيات الكذب و الغيبة إليها، و كذا قاعدة الضرورة و الاضطرار و كذا الضرر و الضرار، و هكذا مسألة التقية (سواء الخوفي و التحبيبي منها) ففي جميع هذه الموارد يدور الأمر بين مصلحتين، و يقع التزاحم بين ملاكين فيؤخذ بالأقوي منهما، و بهذا البيان يمكن ارجاع كثير من العناوين الثانوية إلي قاعدة الأهم و المهم و تزاحم الملاكين، و ليكن هذا علي ذكر منك.

و ممّا لا بدّ من التأكيد عليه أنّ معرفة المصالح و المفاسد، و الأهمّ من غير الأهمّ، لا بدّ أن يكون بحسب مذاق الشرع، و ما عرفنا من لسانه أدلته من اهتمام الشارع المقدس ببعض الامور أكثر من بعض، لا بحسب مذاقنا و ما يبدو في أذهاننا من الاستحسانات.

و الحاصل: أنّ معرفة مصاديق القاعدة إنّما هو إلي الفقيه العالم بلسان الشرع لا أنّه موكول إلي الاستحسانات و العقول البادية.

7- أمر الوالد و نهيه:

سواء قلنا بوجوب اطاعته في غير الواجب و الحرام، أو قلنا إنّ المحرم هو العقوق (أي ما يوجب أذاه) فقط، قد دلّ عليه الكتاب و السنّة، فالسفر قد يكون مباحا أو مستحبا لكونه مقدمة للحج المستحب، و لكن يأمر الوالد به أو ينهي عنه فيصير واجبا أو حراما بالعنوان الثانوي مؤقتا،

مع بقاء الحكم الأولي في مرحلة الإنشاء، فإذا ارتفع هذا العنوان ارتفع حكمه.

8 و 9 و 10- النذر و العهد و القسم:

الثابت بالكتاب و السنّة، جميعها من العناوين الثانوية، فكم عمل مستحب أو مباح بعنوانه الأولي يجب أو يحرم بالنذر أو العهد أو القسم، فصلاة الليل مستحب بعنوان الأولي، و لكن تجب النذر بعنوانها الثانوي، فإذا انقضي النذر انقضي هذا الحكم، و كذا الانفاق في

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 502

سبيل اللّه و شبهه و فعل بعض الامور، مكروه بعنوانه الأولي، و لكن بالنذر أو القسم علي تركه يحرم و هكذا أشباهها.

فهذه عشرة عناوين من العناوين الثانوية، و لا ندعي حصرها في ذلك، و لعله يعثر المتتبع علي عناوين اخري في طيات كتب الفقه، و منه يعلم عدم حصرها في عنواني «الضرورة» و «الحرج» كما زعمه بعض، بل هناك عناوين كثيرة اخري لا ترتبط بالضرورة أو العسر و الحرج، قد عرفت الإشارة إلي شطر منها، مثل التقية التحبيبية و أمر الوالد و النذر و القسم غيرها.

3- دور العناوين الثانوية في حياة الفقه الإسلامي و إزدهاره

هناك أصلان يعدان من الاصول المسلمة في الإسلام:

«أبديّة الإسلام» و «عالميته»، فالإسلام لا ينحصر بزمان دون زمان، و بمكان دون مكان و لا قوم دون قوم، بل يجري مجري الشمس و القمر، مدي الدهور و الأعصار، و في مختلف أنحاء العالم، يضي ء و يشرق علي الجميع إلي آخر الدنيا و في جميع الأقطار.

يدلّ عليهما ما ورد في القرآن من التعبير بقوله تعالي: يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ … *، و يٰا بَنِي آدَمَ … *، و يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا … *، و يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ … *، و يٰا عِبٰادِيَ … * في كثير من الآيات، تدلّ علي أنّ المخاطب بها جميع البشر من لدن نزولها إلي آخر الدنيا، و في كلّ مكان من الأمكنة، و كلّ بقعة من بقاع

الأرض.

و يدلّ علي الثاني بالخصوص آية الخاتمية: مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اللّٰهِ وَ خٰاتَمَ النَّبِيِّينَ، «1» و غير ذلك ممّا ورد في القرآن الكريم من قوله تعالي: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ «2» و شبهه.

و في السنّة روايات كثيرة ليس المقام مقام بيانها، و قد صار هذا الأصلان من الواضحات يعرفه كل من له إلمام بالإسلام.

______________________________

(1). سورة الأحزاب، الآية 40.

(2). سورة الأنبياء، الآية 107.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 503

ثمّ إذا كان الإسلام دينا عالميا أبديا لنوع البشر، مع أنّ المجتمعات لا تزال في تطور و تغيير، و لا تزال حوائجهم تختلف و تزاد و تتنوع و تتشعب، مع كون قوانين الإسلام ثابتة و مؤيدة، يقع السؤال أنّه كيف ينطبق ذاك الأمر المتغير دائما، علي هذه القوانين الثابتة دائما؟

و هل يمكن الجمع بينهما؟ مع أنا نري القوانين في الجوامع الإنسانيّة- أي القوانين الموضوعة من ناحية العقول البشرية- تتغير دائما كي تنطبق علي متطلباتهم، فالإسلام يجعل قوانينه ثابتة و مع ذلك يقضي بها حوائج الناس في جميع أقطار العالم و جميع الأعصار، و هذا مسألة مهمّة و عجيبة.

و قد فاز الإسلام في هذا الميدان فوزا عظيما، و السرّ فيه مضافا إلي أن واضع القانون هنا هو اللّه جلّ شأنه، العالم بالسرائر، و الوقف علي الضمائر، و هو الخالق للإنسان الخبير بحاجاته المادية و المعنوية، فانّ في الإسلام اصولا كلية، و قوانين جامعة، لها شمول كثير، و دوائر واسعة، و خطوط عريضة، و تزدهر زمانا بعد زمان، و تتغير مصاديقها و تبقي ذواتها، مثل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و «المؤمنون عند شروطهم»، و «ما حكم به العقل حكم به الشرع» و

غيرها من أشباهها.

أضف إلي ذلك، القواعد الكثيرة المشتملة علي العناوين الثانوية مثل «قاعدة لا ضرر» و «قاعدة لا حرج»، و «الضرورة» و «لزوم ما يتوقف عليه حفظ النظام»، و «قاعدة الاهم و المهم عند تزاحم المصالح» و أشباهها.

فكم من مشكلة عظيمة انحلت بمعونتها، و كم من عويصة غامضة مظلمة انكشفت في ضوء أنوارها، فالحكام العناوين الثانوية من أهم أسباب الحكومة الإسلامية لحل المعضلات.

و لكن هنا أمران يجب التنبيه عليهما، و التحذير منهما كل الحذر:

الأوّل: أنّه ليس معني هذا الكلام، اتباع الاهواء و الجري وفق المذاق و التلاعب بالأحكام الأولية كما يشاء، بل لا بدّ من الدقة، و كمال الدقة يكون في كشف مصاديقها و الأخذ بما هو مقتضي الحزم و الاحتياط فيها، فانّ الأمر هنا صعب مستصعب، و قد خفي علي بعض من لا خبرة له بالفقه حتي أصبحت أحكام اللّه تعالي تابعة لميولهم، رغم حكم

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 504

الإسلام بتبعية الميول لأحكام اللّه تعالي، و قوله تعالي: فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰي يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1».

و قد سمعنا أنّه أتت بعض النساء من العوام بعض القضاة تدعي العسر و الحرج في

البقاء مع زوجها و تطلب الطلاق بهذا العنوان بأدني ذريعة (مثل أن زوجها له عادة سيئة عند الأكل و الشرب أو في الملبس و المشرب أو غير ذلك) و إن لم يعتن القاضي بقولها.

فلا بدّ للفقيه أن يتصدي لمثل هذه الموارد التي قد تجعل الأحكام فارغة من محتواها، فالافراط باطل، كما أنّ التفريط و ترك التمسك بهذه العناوين لحل المشاكل المختلفة الاجتماعية بدعوي التقدس و مراعات جانب الاحتياط

أيضا من أهواء الشيطان و مكائده.

الثاني: إنّ عدة من العناوين الثانوية من الامور التي تختص بحالة الضرورة و شبهها و لا يمكن الأخذ بها في كل حال و جعلها كقانون مستمر في حال الاختيار، و لا يمكن بناء أكثر أحكام الشرع عليها و حل جل المشكلات بها.

بل لا بدّ من المصير إلي العناوين الأولية و القوانين المتخذة منها، فانّها العمدة في حل المعضلات الاجتماعية، و لو بذلنا الجهد في هذا السبيل لظفرنا بالمقصود قطعا، ثم نأخذ من العناوين الثانوية لحالات خاصة و ظروف معينة.

و الحاصل: أنّ القول بأنّه لا يدور رحي المجتمعات البشرية اليوم إلّا مدار عناوين الضرورة و الاضطرار، و الضرر و الضرار، قول فاسد، و مفهومه أنّ حياة الإسلام و قوانينه (نعوذ باللّه) قد انقضت، و فائدتها قد انتهت، فيكون كالمريض الذي لا يمكن حفظ حياته إلّا بالتغذية من طريق وريده فقط.

نعم لا شك أنّه قد يكون في عمر الإنسان ساعات لا يمكن التحفظ علي حياته إلّا بهذا الطريق، و لكن لو أن إنسانا لا يعيش أبدا إلّا بهذا، و لا يقدر مدي حياته علي التغذية علي وفق التعارف، ففي الحقيقة قد تمّت حياته و انقضت أيّامه، و لم يبق له شي ء، و كذلك قد تقع في البلاد اضطرابات لا يمكن الغلبة عليها إلّا من طريق التوصل إلي الحكومة العسكرية،

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 65.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 505

و لكن هذا خاص ببرهة من الزمان، فلو أنّ بلدا من البلاد و حكومة من الحكومات لا يقوم أمرها إلّا بهذا النحو من الحكومة كان ذلك دليلا علي اضمحلالها من الأصل، و علي أنّ دورها قد انتهي: و هكذا الإسلام لو قلنا أنّه

لم يبق منه شي ء إلّا من طريق الأحكام الثانوية الاضطرارية، و هذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

و خلاصة الكلام أنّ ليس دور هذا القسم من العناوين الثانوية الاضطرارية إلّا حل المشكلات الناشئة عن الأزمات الاجتماعية و الاقتصادية، و لا يمكن الأخذ بها في جميع الحالات و جميع الظروف.

و بعبارة أوضح: لو قلنا إنّ نظام الامة الإسلامية في زماننا هذا لا يتم إلّا بالأخذ بالعناوين الثانوية الاضطرارية في جميع الامور، فقد اعترفنا بنقص قوانين الإسلام و عدم استيعابها لمصالح البشر في عصرنا هذا، و إلّا كانت العناوين الأولية من أحكامه تعالي كافلة لهذه المهمة.

و هذا الاعتراف العملي، خطأ عظيم و ذنب لا يغفر، و نعوذ باللّه منه.

4- النسبة بين العناوين الثانوية و الأولية

و النسبة بينهما تارة تكون بالحكومة، كما في أدلة لا ضرر و الاضطرار، فان قوله صلّي اللّه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» و قوله صلّي اللّه عليه و آله: «و ليس شي ء ممّا حرمه اللّه إلّا و قد احله لمن اضطر إليه» و كذلك أدلة النذر و العهد و القسم كلها، بالنسبة إلي العناوين الأولية، و كل ما كان بلسانه ناظرة إلي غيره، سواء جعله موسعا أو محدودا فهو حاكم عليه و المقام من هذا القبيل.

و اخري: يكون مقدما عليه من جهة الرجحان في الملاك عند تزاحم الواجبين أو المحرمين، كما في عنوان الأهم و المهم.

و الثالثة: من قبيل تقديم ما فيه الاقتضاء علي ما ليس فيه الاقتضاء كوجوب الأمر المباح إذا كان مقدمة للواجب، و كحرمته إذا كان مقدمة للحرام، فانّ أدلة وجوب المقدمة عقلية لا

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 506

معني لجريان الحكومة فيها، بل تقديم علي أدلة المباحات لأنّها ليس

فيها اقتضاء و ملاك للوجوب أو الحرمة، و بعد ما صار مقدمة للواجب أو الحرام كان فيها اقتضاء لذلك، كما لا يخفي علي الخبير.

فتقديم العناوين الثانوية علي الأولية إنّما يكون لجهات شتي، في كل مقام بحسبه.

5- ولاية الفقيه بنفسها من الأحكام و العناوين الأولية

كما أنّ منصب الافتاء و منصب القضاء أيضا كذلك، فهذه المناصب الثلاثة كلها من العناوين الأولية، و لكن الكلام كله في تعلق هذه المناصب، فمنصب الافتاء يدور مدار استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، و منصب القضاء يدور حول إحقاق الحقوق و إجراء الحدود علي وفق أحكام الشرع، و الولاية تدور مدار إصلاح نظام المجتمع الإنساني من طريق تنفيذ أحكام الشرع و إجرائها، فكل هذه المناصب تدور مدار أحكام الإلهية الأولية و الثانوية لا غير، و جميع هذه في طول تلك الأحكام، فكما أنّ منصب الافتاء لا يتعدي كشف الأحكام العناوين الأولية و الثانوية، و القضاء لا يتعدي عن إحقاق الحقوق علي وفق أحكام الشرع، فكذلك الولاية لا تتعداها أبدا، و إلّا لم تكن ولاية إلهية إسلامية، و من الواضح أنّه ليس للفقيه الولاية كيفما شاء و أراد كما مرّ مرارا.

كشف النقاب عن الولاية المطلقة

إن قلت: إنّه قد ورد في بعض كلمات الأعاظم (قدّس اللّه أسرارهم) أنّ ولاية الفقيه مطلقة لا تقيد فيها.

قلت: نعم هي كذلك، و لكن المراد منه أنّه لا تتقيد بالضرورة و الاضطرار و شبه هذه الامور، توضيح ذلك: أنّه قد تطلق العناوين الثانوية و يراد منها جميع ما ينطبق علي التعريف الذي ذكرنا آنفا، و لها حينئذ عرض عريض يشمل العناوين العشرة السابقة و غيرها.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 507

و اخري تطلق و يراد منها خصوص الضرورة و الاضطرار، فمعني خروج ولاية الفقيه عن العناوين الأولية و الثانوية هو الأخير، و حينئذ لا مانع من انطباق عناوين اخري عليه.

و الشواهد علي ذلك كثيرة، أولها: ما ذكرنا في كلماتهم من الأمثلة، «منها»: حكم الفقيه بترك الحج في بعض السنين، و في بلد من البلاد،

إذا كان هناك مصالح أهم منه فانّه لا ريب في انطباقه علي ما عرفت من قاعدة الأهم و المهم، فهل تري أحدا من الفقهاء يحكم بترك الحج الواجب بل المستحب لا لمصلحة شرعية تكون في الترك، أهم و أولي من مصلحة فعلها؟ و «منها» مثالهم باحداث الشوارع أو ابداع القوانين و الأنظمة الحاكمة علي مرور السيارات ما فيها من حفظ النفوس و الدماء التي تكون أهم من تخريب بعض البيوت و اعطاء قيمتها كما هو حقها (من دون اذن صاحبها) و كذلك سلب حرية الناس في الشوارع و تقيدهم ببعض القيود، فهذه كلها من مصاديق قاعدة الأهم و المهم، و لعمري أنّ هذه الأمثلة من أقوي الشواهد علي ما ذكرنا.

ثانيها: إن قلنا إنّ ولاية الفقيه لا تتقيد بشي ء، فهل نقول بأنّها لا تتقيد بمراعات مصالح المسلمين ابدا، أو نقول بوجوب مراعاتها علي الولي؟

و الأوّل لا يتفوه به أحد، و علي الثاني فهل هذه المصلحة مشكوكة، أو مظنونة، أو قطعية تستفاد من لسان الشرع و العقل؟

و الأوّل أيضا لا يقول به أحد، و الثاني إما أن لا يترجح علي ما في ارتكاب مخالفة الأحكام الأولية من المفاسد، أو يترجح.

و الأوّل أي ما كان ملاك المفسدة أهم فيه فلا يظن الالتزام به من أحد، و علي الثاني يدخل في قاعدة الأهم و المهم و قد عرفت أنّه داخل في العناوين الثانوية، و هو المطلوب، فولاية الفقيه ترجع بالمآل إلي مراعاة الأهم فالأهم شرعا.

ثالثها: ما عرفت من أنّ الأحكام الولائية، أحكام إجرائية و تنفيذية لأنّها مقتضي طبيعة مسألة الولاية، و أنّها دائما ترجع إلي تشخيص الصغريات و الموضوعات، و تطبيق أحكام الشرع عليها. و تطبيقها علي أحكام الشرع،

و ليس للوالي بما أنّه وال التدخل في نفس الأحكام الكلية، بل بما أنّه مفت و مرجع للفتوي، كما أنّه ليس له القضاء بما أنّه وال، بل بما

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 508

أنّه قاض، و من الواضح أنّ الفقيه بما له من منصب الافتاء ليس له استنباط الأحكام عن أدلتها و استنباطها عن منابعها، فتدبّر جيدا فانه حقيق به.

فولاية الفقيه مطلقة في حريم أحكام الشرع، لا فيما خالف أحكامه، و لا يظن بأحد القول باطلاقها في ما خالف الشريعة، لأنّه منصوب لإجرائها و تنفيذ أحكامها، و أحكامها تدور علي العناوين الأولية و الثانوية فحسب، و الأمر واضح بحمد اللّه.

المقام السادس: معضلة الولاية علي التشريع
اشارة

هل للفقيه ولاية علي تشريع الأحكام الكلية أو الجزئية؟

أمّا الجزئية أعني الأحكام الإجرائية فلا إشكال فيه، و لكنّها كما عرفت من قبيل تطبيق الكبريات علي مصاديقها، و لا ينبغي أن يسمي تشريعا، و ذلك مثل انظمة مرور السيارات فإنّها مقدمة لحفظ النفوس و الدماء و نظم البلاد.

و أمّا الكلية فالجواب عن هذا السؤال فيها و إن كان واضحا و لكن توضيحه أكثر من هذا يحتاج إلي بيان مقدمة نورد فيها انظار علماء الإسلام و آرائهم حول التشريع الإسلامي فنقول و منه نستمد الهداية:

أجمع علماء الإسلام علي أنّه لا يجوز الاجتهاد في مقابل النص، فلو كان هناك نص في حكم من الأحكام لم يجز إلّا قبوله، بل هذا مرادف لقبول النبوة و الاعتقاد بها، و ما صدر من بعض الماضين مخالفا لهذا فانّما صدر غفلة و اشتباها و إلّا فالمسألة واضحة.

و أمّا في ما لا نص فيه، فقد أخذ الجمهور فيها بالقياس و الاستحسان و الاجتهاد بمعناه الخاص، و وضعوا فيها أحكاما بآرائهم، زعما منهم

أنّ ما لا نص فيه لا حكم فيه في الواقع، فلا مناص إلّا عن تشريع حكم فيها، إمّا بقياسها علي غيرها من أحكام الشرع، و إمّا بالبحث و الفحص عن المصالح و المفاسد، فما ظنوا فيها المصلحة أوجبوه، و ما ظنوا فيه المفسدة حرّموه «و منع قليل منهم عن القياس و الاستحسان و لكن هذا شاذ» كل ذلك يسمي عندهم اجتهادا بالمعني الخاص.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 509

و أمّا أصحابنا الإمامية قدّس سرّه فقد قالوا: بأنّه ليس هناك واقعة لا نص فيه و لا يوجد أمر خال عن حكم شرعي، و أن الدين قد كمل اصوله و فروعه بحيث لم يبق محل لتشريع أحد أبدا.

نعم هذه الأحكام تارة وردت في نصوص خاصة، و اخري في ضمن أحكام كلية و قواعد عامة، و جميعها محفوظة عند الإمام المعصوم عليه السّلام، صادق بعد صادق، و عالم بعد عالم و وصلت أكثرها إلينا من طريق الكتاب و السنة و الإجماع و دليل العقل و ربّما لم يصل بعضها إلينا، و لكنه رغم ذلك فحكمها ثابت في الواقع، فعلي المجتهد الجد و الجهد في الوصول إليها، و إن يئس عن الوصول إلي بعضها أحيانا فانّما يأخذ بما هو وظيفة الشاك، من الاصول العملية التي لا تخرج عنها واقعة، و لا يشذ عنها شاذ، بل هي جامعة و شاملة لجميع الموارد المشكوكة فعلي هذا، «الفروع القانوني» غير موجود في مكتب أهل البيت عليهم السّلام و من يحذوا حذوهم، بل كلما تحتاج إليه الامة إلي يوم القيامة، في حياتهم الفردية و الاجتماعية، المادية أو المعنوية، فقد ورد فيه حكم إلهي و تشريع إسلامي، فلا فراغ و لا خلأ أصلا،

فلا يبقي محل لتشريع الفقيه أو غيره.

فالذي للفقهاء دامت شوكتهم، أمران:

الأوّل: الجهد و الاجتهاد في كشف هذه الأحكام عن أدلتها.

الثاني: تطبيقها علي مصاديقها و تنفيذها بما هو حقها، و الأوّل هو الافتاء، و الثاني هو الولاية و الحكومة.

و يدل علي ذلك امور:

1- آيات من كتاب اللّه:

منها: قوله تعالي: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً «1» و كيف يكون الدين كاملا لو خلت الوقائع عن الأحكام اللازمة؟ و كيف يكون الدين خاتما و الشريعة عالمية مع عدم وجود ما يغني الإنسان إلي آخر الدهر، و في جميع أقطار العالم من الأحكام و الشرائع؟

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 510

فكما نقول بكمال الدين في اصوله بنصب ولي اللّه المعصوم عليه السّلام، فكذلك في فروعه، كما أن القول بعدم النص في الاصول و أنّه موكول إلي الناس مردود، فكذلك القول بعدمه في الفروع أيضا مردود ممنوع.

و قد ورد في تفسير الآية عن الرضا عليه السّلام في حديث طويل ما لفظه: «و ما ترك شيئا يحتاج إليه الامة إلّا بيّنه، فمن زعم أنّ اللّه عزّ و جلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه، و من رد كتاب اللّه فهو كافر» «1».

فكما أنّه لم يجعل أمر الإمامة بأيدي الناس، و إلّا لم يكن الدين كاملا، فكذا أمر الأحكام و التشريعات.

«و منها»: قوله تعالي: وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «2».

ظاهر هذه الآية الأشياء التي لها صلة بسعادة الإنسان و كرامته و صلاحه و فساده مذكور في كتاب اللّه، في عمومه أو خصوصه.

و قد ورد في تفسير الآية أحاديث كثيرة تؤكد علي هذا المعني ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

2-

و من السنة الأحاديث الكثيرة الدالة علي أنّ كلما يحتاج إليه الامة إلي يوم القيامة مبينة في الشريعة المقدسة حتي ارش الخدش، و قد عقد لها في الكافي بابا مستقلا أورد فيه عشر روايات و إليك شطر منها:

الأوّل: ما رواه مرازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال «إن اللّه تبارك و تعالي أنزل في القرآن تبيان كل شي ء، حتي و اللّه ما ترك اللّه شيئا يحتاج إليه العباد، حتي لا يستطيع عبد يقول:

لو كان هذا، أنزل في القرآن، و إلّا و قد أنزله اللّه فيه» «3».

الثاني: ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ اللّه تبارك و تعالي

______________________________

(1). تفسير البرهان، ج 1، ص 435.

(2). سورة النحل، الآية 89.

(3). الاصول من الكافي، ج 1، ص 59، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 511

لم يدع شيئا يحتاج إليه الأمة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله صلّي اللّه عليه و آله» «1».

الثالث: ما رواه حماد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «ما من شي ء إلّا و فيه كتاب أو سنة» «2».

الرابع: ما رواه المعلي بن خنيس قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه عزّ و جلّ و لكن لا تبلغه عقول الرجال» «3».

الخامس: ما رواه سماعة عن أبي الحسن موسي عليه السّلام قال: «قلت له، أكل شي ء في كتاب اللّه و سنة نبيه صلّي اللّه عليه و آله أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شي ء في كتاب اللّه و سنة نبيه صلّي اللّه عليه و آله» «4».

السادس: و أوضح من ذلك كله

ما ورد في نهج البلاغة في ذم اختلاف العلماء في الفتيا، و ذم أهل الرأي و القياس، و القائلين بخلو بعض الوقائع عن الحكم و ايكال حكمها إليهم، ما نصه:

«ترد علي أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها علي غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعا- و إلههم واحد! و نبيّهم واحد،! و كتابهم واحد! أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف، فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه، فعصوه؟ أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم علي اتمامه أم كانوا شركاء، فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضي، أم انزل اللّه دينا تاما فقصر الرسول صلّي اللّه عليه و آله عن تبليغه و أدائه، و اللّه سبحانه يقول: ما فرّطنا في الكتاب من شي ء و فيه تبيان لكل شي ء» «5».

و دلالة الجميع علي المطلوب واضحة.

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 1، ص 59، ح 2.

(2). المصدر السابق، ح 4.

(3). المصدر السابق، ص 60، ح 6.

(4). المصدر السابق، ص 62، ح 10.

(5). نهج البلاغة، الخطبة 18.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 512

3- و هناك طائفة اخري من الأخبار تدل علي أنّ جميع ما ذكره الأئمّة عليهم السّلام رواية عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فلم يقولوا بآرائهم شيئا، بل كان جميع ذلك في سنّة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، و هذه الطائفة كثيرة جدّا رويت في الكتاب القيم جامع أحاديث الشيعة باسنادها، في الباب الذي عقد لبيان حجية فتوي الائمّة المعصومين عليه السّلام (لأجل الاحتجاج علي المخالفين بأنّهم إن انكروا إمامتهم المنصوصة فلا أقل من أنّ الواجب عليهم قبول قولهم

بما هم يروون جميع علومهم عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله) و هذه الأحاديث كثيرة تذكر شطرا منها يكون وافيا بالمقصود:

الأوّل: ما رواه جابر قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام إذا حدثتني بحديث فاسنده لي، فقال:

حدثني أبي عن جدي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه عزّ و جلّ، و كلّما احدثك بهذا الاسناد» «1».

الثاني: ما رواه حفص بن البختري قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام نسمع الحديث منك فلا أري منك سماعه أو من أبيك، فقال: ما سمعته مني فاروه عن أبي، و ما سمعته مني فاروه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله» «2».

الثالث: ما رواه في البصائر عن عنبسة قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: إن كان كذا و كذا ما كان القول فيها؟ فقال: له مهما أجبت فيه بشي ء فهو عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لسنا نقول برأينا في شي ء» «3».

الرابع: ما رواه في الكافي عن قتيبة، قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أ رأيت إن كان كذا و كذا ما يكون القول فيها؟ فقال له: مه؟ ما اجبتك فيه من شي ء فهو عن رسول اللّه صلي اللّه عليه و آله لسنا من «أ رأيت» بشي ء!» «4».

الخامس: ما رواه في البصائر عن فضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لو حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا، و لكنا حدثنا ببينة من ربّنا بيّنها لنبيّه، فبيّنها لنا» «5».

______________________________

(1). جامع أحاديث الشيعة، ج 1، الباب 4 من أبواب المقدمات، ح 3.

(2). المصدر

السابق، ح 4.

(3). بصائر الدرجات.

(4). الاصول من الكافي، ج 1، ص 58، ح 21.

(5). جامع أحاديث الشيعة، ج 1، الباب 4 من أبواب المقدمات، ح 9.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 513

إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني و هذه أيضا تدل بافصح بيان علي أن الائمّة المعصومين عليهم السّلام لم يشرعوا حكما من الأحكام، و كلما قالوه فهي تشريعات إلهية عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، فإذا كان حالهم كذلك فكيف بغيرهم من الفقهاء الأعلام؟!

كما تدل هذه أيضا علي عدم وجود «الفراغ» في الأحكام الإسلامية، و ما مجال فيها إلّا كشفها عن منابعها أو الرجوع فيها إلي الاصول المقررة للشاك، التي طفحت بها الكتب الاصولية و لا تزال مرجعا للعلماء و الفقهاء.

4- و قد عثرنا أيضا علي طائفة رابعة تدل علي أنّ جميع الأحكام الشرعية كانت مكتوبة في كتاب علي عليه السّلام حتي ارش الخدش.

و عبر عنه تارة بالجامعة، و اخري بالجفر، و ثالثة بمصحف فاطمة، و رابعة بكتاب علي عليه السّلام و النتيجة واحدة، و ظاهر الجميع أنّه كان هناك كتاب جامع للأحكام الإسلامية محفوظ عندهم و إليك شطر منها:

الأوّل: ما رواه في البصائر عن عبد اللّه بن ميمون عن جعفر عن أبيه عليه السّلام قال: «في كتاب علي عليه السّلام: كل شي ء يحتاج إليه حتي الخدش و الأرش و الهرش» «1».

الثاني: ما رواه عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول، و ذكر ابن شبرمة في فتياه، فقال اين هو من الجامعة، أملي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و خط علي عليه السّلام بيده فيها جميع- الحلال و الحرام حتي أرش الخدش فيه»

«2».

الثالث: ما رواه عن جعفر بن بشر عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ما ترك علي عليه السّلام شيئا إلّا كتبه، حتي أرش الخدش» «3».

الرابع: ما رواه في الكافي عن الصير في قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إن عندنا ما لا نحتاج معه إلي الناس، و إن الناس ليحتاجون إلينا، و إن عندنا كتابا املاء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله

______________________________

(1). جامع أحاديث الشيعة، ج 1، الباب 4 من أبواب المقدمات، ح 23.

(2). المصدر السابق، ح 25.

(3). المصدر السابق، ح 26.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 514

و خط علي عليه السّلام، صحيفة، فيها كل حلال و حرام» «1».

الخامس: ما رواه علي بن سعيد عن الصادق عليه السّلام في تفسير الجفر، و فيه «أنه كتاب فيه كل ما يحتاج الناس إليه إلي يوم القيامة من حلال و حرام، باملاء رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و خط علي عليه السّلام» «2».

إلي غير ذلك ممّا ورد في هذا المعني، و تفسير «الجامعة» و «الجفر» و غيره و لعلها تبلغ حد التواتر، و جميعها شاهدة، علي أنّ أحكام الإسلام تامة كاملة جامعة لا يبقي معها تشريع آخر، و أنّ الائمّة عليهم السّلام لا يقولون شيئا فيها برأيهم، و تشريع منهم، فلا يبقي محل لهذا السؤال:

هل يكون للفقيه ولاية علي التشريع أم لا؟ و كيف يمكن أن تكون ولاية الفقيه أوسع من ولاية الأئمّة عليهم السّلام مع أنّ ولاية الفقهاء فرع من فروع تلك الولاية الجامعة الإلهية؟!

إن قلت: فهل الألفاظ التي ذكرها الأئمّة عليهم السّلام عين ألفاظ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله؟

قلت: الظاهر عدمه، فانّه من البعيد بعد

جواز النقل بالمعني الاقتصار عليها، بل الظاهر من غير واحد من الأخبار أنّهم عليهم السّلام كانوا يطبقون الكبريات علي الصغيرات، و يردون الاصول إلي الفروع، مع صحة الاسناد إليه صلّي اللّه عليه و آله مثلا إذا قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» علي نحو مطلق، ثم سئل الإمام عليه السّلام عن اضرار الزوج بالزوجة أو بالعكس أو بالولد، فقال: «ان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله نهي ذلك» كان اسنادا صحيحا قطعا و كذلك بالنسبة إلي غيره من الاصول و القواعد و توضيحها أكثر من ذلك يطلب من محالها.

5- و يدل علي ما ذكرنا أيضا بوضوح ما اجمعت الأصحاب عليه، من بطلان التصويب لما فيه من خلو الواقعة عن الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، و قد نطقت الآثار الواردة من أهل البيت عليهم السّلام «بأن للّه في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم و الجاهل».

توضيح ذلك: إنّ أصحابنا (رضوان اللّه عليهم) اجمعوا علي أنّ المجتهد إن اصاب الحكم الواقعي فهو مصيب، و إن لم يصبها فقد اخطأ و هو معذور، فإذا اختلف الأقوال كان الصحيح من بينها قول واحد و هو ما وافق حكم اللّه الواقعي، و الباقي خطأ، خلافا لأهل الخلاف حيث

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 1، ص 241.

(2). جامع أحاديث الشيعة، ج 1، الباب 4 من أبواب مقدمات، ح 41.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 515

قالوا باصابة الجميع للواقع إذا كان ذلك فيما لا نص فيه و كان حكم كل واحد منهم علي وفق اجتهاده (أي الاجتهاد بالمعني الخاص) نظرا إلي اعتقادهم بإمكان خلو الواقعة في هذه الموارد من الحكم.

و هذا

يعني أنّ الفراغ التشريعي غير موجود في مكتب أهل البيت عليهم السّلام أبدا، و أنّ أحكام الشرع و قوانينه كافلة بجميع الامور التي محل حاجة الإنسان في حياته، لا يشذ منها شاذ.

6- الإمام عليه السّلام حافظ للشرع، و قد صرّح علماء الكلام بذلك عند قولهم بوجوب نصب الإمام عليه السّلام و لزوم النص عليه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و أنّه لولاه لاندرست آثار النبوة، و استدلّوا أيضا بأنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لما اشتغل في برهة طويلة عن نبوّته بالغزوات، و لم تساعده الظروف علي ابلاغ جميع أحكام الإسلام مع ثبوتها بقي ابلاغها علي عاتق وارث علومه، و لم يستدل أحد بأن الأحكام كانت ناقصة فوجب علي الإمام عليه السّلام تكميلها، هذا هو المعروف المسلم بين الأصحاب، كما ورد في نهج البلاغة عن مولانا امير المؤمنين عليه السّلام: «اللّهم بلي لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة، إمّا ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج اللّه و بيناته، … يحفظ اللّه بهم حججه و بيناته، حتي يودعوها نظرائهم، و يزرعوها في قلوب أشباههم» «1».

7- ما دلّ علي أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول، من طريق العقل و النقل، أمّا الأوّل فهو ما استدل به كثير من العلماء علي أنّ رداء التقنين لا يليق إلّا باللّه، لأنّه العالم بحاجات الناس، معنوية و مادية، لأنّه هو خالقه، و هو العالم بسرائرهم، و ما كان من امورهم و ما يكون، و لا يعلم ذلك غيره، فلا يليق التشريع إلّا به، بل لا يقدر عليه غيره، و لذا نري القوانين البشرية لا تزال تتغير يوما بعد يوم، لعدم نيلهم بما هو الصالح

و الأصلح، فهم يخبطون خبط عشواء، يسلكون طريقا مظلما، و يلجون بحرا عميقا، من دون أن يكونوا أهلا لذلك، بل هذا من أهم الدلائل علي وجوب ارسال الرسل و انزال الكتب.

______________________________

(1). نهج البلاغة، قصار الحكم رقم 147.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 516

بل لو قلنا بجواز الحكم بالآراء و تشريع الشرائع بعقول الرجال لاستغنينا عن الكتب المساوية و الشرائع الإلهية، و لم نحتج اليها، و لم يقل بهذا أحد، بل لا يتفوه به فاضل، فضلا عن فقيه عالم، و من جميع ذلك يعلم أنّه لا معني لتفويض أمر التشريع إلي الفقيه، بل وظيفته بما هو فقيه إجراء أحكام الشرع، و التوسل إلي أسباب مشروعة للوصول إليها، و لا دليل علي أزيد من ذلك قطعا.

و قد تحصل ممّا ذكرنا امور هامة:

1- لا معني للتشريع و جعل القانون فيما ورد فيه نص في التشريع الإسلامية، بل لم يقل به أحد.

2- التشريع فيما لا نص فيه مختص بالعامة، و أمّا أصحابنا الإمامية فهم معتقدون بعدم وجود الفراغ في التشريع، حتي يتصدي له الفقيه أو غيره، بل جميع ما تحتاج إليه الامة إلي يوم القيامة مبينة في الأحكام الجزئية أو القواعد الكلية، و الاصول الواردة في الكتاب و السنة، و وظيفة الفقيه استنباطها عن أدلتها، و عند عدم وصوله إلي الأحكام الواقعية يعمل بالأحكام الظاهرية المقررة للجاهل، و لو لا ذلك كانت الشريعة ناقصة و محتاجة في تكميلها إلي عقول الرجال، معاذ اللّه عن ذلك.

3- تقنين القوانين و تشريع الأحكام لا يليق إلّا باللّه، فانّه العالم بالمصالح و المفاسد و ما يحتاج إليه خلقه في الحال و المستقبل دون غيره ممن لا احاطة له بمصالح الامور و مفاسدها نعم التقنين بمعني تطبيق الأحكام

علي مصاديقها ممّا لا إشكال فيه.

4- المعصوم عليه السّلام لا يشرّع شيئا من الأحكام لعدم خلو واقعة بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عن الحكم، فهو حافظ للشريعة و منفذ لها، و كون الفقيه كذلك معلوم بالأولوية القطعية.

هذا ما هو المستفاد من الأدلة السابقة النقلية و العقلية.

و يبقي هنا سؤال عن أخبار التفويض و نعقد له عنوانا مستقلا و نقول:

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 517

حل معضلة اخبار التفويض:

و هناك روايات كثيرة فيها «الصحاح» و «الضعاف» تدلّ علي أنّ اللّه فوض الأمر إلي نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و إلي الأوصياء من بعده، فيقع السؤال أنّه ما المراد بهذا التفويض؟

أ ليس المراد منه التفويض في التشريع؟

و قبل الورود فيها لا بدّ من بيان معاني «التفويض» من غير تعرض لحكمها تفصيلا إلّا بعد هذه الأخبار، كي يكون الباحث علي بصيرة منها، مع حفظ الحرية في البحث، فنقول و منه جل ثنائه التوفيق و الهداية:

التفويض له معان كثيرة (مع قطع النظر عن حكمها)،

أحدها: تفويض أمر الخلق إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله أو الأوصياء من بعده بأن يقال: إنّ اللّه خلقهم ثم فوض أمر خلق العالم و تدبيره إليهم.

ثانيها: التفويض الجزئي في أمر الخلق بأن يقال: إنّ اللّه أقدرهم علي خلق بعض الامور من المعجزات و شبهها من دون تفويض الكل إليهم.

ثالثها: تفريض أمر التشريع إليهم علي نحو كلي، بأن يكون النبي صلّي اللّه عليه و آله و أوصيائه عليهم السّلام قادرين علي جعل أي حكم، و علي تغيير الأحكام التي أنزلهما في كتابه و نسخها و تبديلها و تغييرها بما شاءوا و أرادوا.

رابعها: التشريع الجزئي بأن يقال: لم يفوض إليه صلّي اللّه عليه

و آله التشريع الكلي بل في موارد معدودة، بأن يكون النبي صلّي اللّه عليه و آله قد شرّع أحكاما خاصة في بعض الموارد قبل ورود نص فيها، و أمضاها اللّه تعالي.

خامسها: تفويض أمر الخلق إليهم من جهة الحكومة و التدبير و السياسة و تربية النفوس و حفظ النظام.

سادسها: تفويض أمر العطاء و المنع إليهم، في المواهب المالية ممّا يرجع إلي بيت المال، و غيره كما ورد في قضية سليمان عليه السّلام: هٰذٰا عَطٰاؤُنٰا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ «1» و قد

______________________________

(1). سورة ص، الآية 39.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 518

ذكره اللّه تعالي بعد ما ذكر ما أعطاه من النعم في أمر الحكومة علي الناس.

سابعها: تفويض بيان الحقائق و اسرار الأحكام و ما أشبهها من العلوم إليهم فيقولون ما شاءوا (و اقتضته الحكمة) و يمسكون عمّا شاءوا في الظروف الخاصة و بالنسبة إلي الأشخاص المتفاوتة.

إذا عرفت هذا فلنعد إلي سرد الأخبار التي ذكرها في الكافي في باب التفويض و نختار في ترتيب ذكرها، غير ما ذكره الكليني، لأمور تعرفها:

1- ما رواه زيد الشحام (مجهول بصندل الخياط، فقد ذكر في الرجل من غير مدح و لا ذم، مضافا إلي أنّه مرسل) «1».

و هذه الرواية تدل علي التفويض السادس و يحتمل ذيلها أكثر منه لكنه غير واضح.

2- ما رواه موسي بن أشيم (و هو أيضا ضعف ببكار بن بكير و في جامع الرواة بكار بن أبي بكر و لم ينص عليه في كتب الرجال بمدح أو ذم) «2».

و هذه الرواية ظاهرة في التفويض بالمعني السابع من معاني التفويض و لا دخل له بتفويض التشريع و شبهه بل يظهر منها أنّ المراد من آية ما آتاكم …

أيضا ذلك فتأمل.

3- ما رواه زرارة (و هي رواية معتبرة)

عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد، عن الحجال عن ثعلبة، عن زرارة قال: «سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه يقولان: إنّ اللّه عزّ و جل فوّض إلي نبيّه صلّي اللّه عليه و آله أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم؟ ثم تلا هذه الآية: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «3».

و هذه الرواية في بدء النظر مجمل و لكن لا يبعد دلالتها علي المعني الخامس و هو تفويض أمر الحكومة و الرئاسة العامة لقوله «فوّض إليه أمر خلقه» لظهوره في سياسة الخلق و حفظ نظام معاشهم و معادهم و المراد من الاطاعة، الاطاعة في الأوامر الولائية و الأحكام الجزئية الصادرة من وليّ الأمر فيظهر منه ما الولاية أيضا تشير إلي هذا المعني.

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 1، باب التفويض، ص 268، ح 10.

(2). المصدر السابق، ص 265، ح 2.

(3). المصدر السابق، ص 266، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 519

4- ما رواه زرارة أيضا أنّه سمع أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليه السّلام يقولان: «إن اللّه تبارك و تعالي فوّض إلي نبيّه صلّي اللّه عليه و آله أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم؟ ثم تلا هذه الآية مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «1».

5- ما رواه محمد بن حسن الميثمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول إن اللّه عز و جل أدّب رسوله حتي قومه علي ما أراد، ثم فوّض إليه فقال عزّ ذكره: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوّض اللّه إلي رسوله صلّي اللّه عليه و آله فقد فوّضه

إلينا» «2».

و الرواية مجملة من حيث المراد من التفويض، و لا قرينة فيها بعينه بل و لا اطلاق أيضا كما لا يخفي.

6- ما رواه أبو اسحاق النحوي قال: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فسمعته يقول: إن اللّه عز و جل أدب نبيه علي محبته فقال: وَ إِنَّكَ لَعَليٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ثم فوّض إليه فقال عز و جل: وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و قال عز و جل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ قال: و إن نبي اللّه فوّض إلي علي، و ائتمنه فسلمتم، و جحد الناس، فو اللّه لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، و أن تصمتوا إذا صمتنا» «3».

و الرواية مجهولة بأحمد بن زاهر و قد قيل في حقه: ليس حديثه بذلك النقي و لم ينص علي توثيقه و لم ينقل عنه غير هذا الحديث.

ثم إنّه لا يخلو الحديث عن إجمال أيضا، و إن كان المناسب له المعني الخامس من معاني التفويض، أعني تفويض أمر الحكومة و السياسة، لأنّه المناسب للخلق العظيم الذي جعل مقدمة لتفويض الأمر إليه صلّي اللّه عليه و آله فصاحب هذا الخلق العظيم هو الذي يقدر علي الولاية و الحكومة و سياسة العباد دون غيره.

7- ما رواه محمد بن سنان عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا و اللّه ما فوض اللّه إلي أحد من خلقه إلّا إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و إلي الأئمّة،

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 1، باب التفويض، ص 267، ح 5.

(2). المصدر السابق، ص 268، ح 9.

(3). المصدر السابق، ص 265، ح 1.

أنوار

الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 520

قال: قال عز و جل: إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ و هي جارية في الأوصياء عليه السّلام» «1». (و سند الحديث محل للكلام بين الأعلام لاختلافهم في أمر محمد بن سنان).

و الظاهر أنّ المراد منه التفويض في أمر القضاء لقوله: إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ.

و من المعلوم أنّ الظاهر من الحكم بين الناس هو القضاء كما يظهر بملاحظة موارد استعماله، و أمّا قوله «بما أراك اللّه» فقد ذكر المجلسي قدّس سرّه في مرآت العقول في شرح هذا الكلام ما نصه:

«ذهب أكثر المفسرين إلي أنّ المراد به، بما عرفك اللّه و أوحي إليك، و منهم من زعم أنّه يدل علي جواز الاجتهاد عليه صلّي اللّه عليه و آله و لا يخفي وهنه» «2» و وجه وهنه أنّه لا يبقي معه ربط بين صدر الآية و ذيلها، فيكون مفهومها حينئذ «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتقضي بين الناس باجتهادك» و ضعفه ظاهر بخلاف ما إذا قلنا أن المعني «إنا انزلنا إليك الكتاب لتقضي بين الناس بما أراك في كتابه من الأحكام من طريق الوحي و تطبيقه علي مصاديقه».

و أمّا الحصر الذي يستفاد من الآية في المعصومين- مع أنّ القضاء عام- فهو كالحصر الذي ورد في بعض أخبار القضاء من قوله عليه السّلام لشريح: «قد جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبي أو وصي نبي أو شقي» «3» و ما ورد في رواية سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ الحكومة إنّما هي للإمام، العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، كنبي أو وصي نبي» «4» و لا مانع منه

لأنّ تولي الفقيه للقضاء إنّما هو باذن الإمام المعصوم عليه السّلام و لا يستحق هذا المقام مستقلا، بل هو نائب من ناحيته.

فإلي هنا لم تكن رواية تدلّ علي التفويض في التشريع، نعم في الروايات الثلاثة الآتية

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 1، باب التفويض، ص 268، ح 8.

(2). مرآت العقول، ج 1، ص 154.

(3). وسائل الشيعة، ج 18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، ح 2.

(4). المصدر السابق، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 521

ورد حكم التفويض فيه إليك نصها:

8- ما رواه فضيل بن يسار (بسند صحيح) قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لبعض أصحاب القيس الماصر: «إنّ اللّه عزّ و جل أدّب نبيّه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال:

إِنَّكَ لَعَليٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ثم فوّض إليه أمر الدين و الامّة ليسوس عباده فقال عز و جل:

مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، و إن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كان مسددا موفقا مؤيدا بروح القدس، لا يزل و لا يخطئ في شي ء ممّا يسوس به الخلق، فتأدب بآداب اللّه، ثم إن اللّه عز و جل فرض الصلاة ركعتين، ركعتين، عشر ركعات فأضاف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إلي الركعتين، ركعتين … ثم سنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله النوافل أربعا و ثلاثين ركعة …

و سنّ الرسول صلّي اللّه عليه و آله صوم شعبان و ثلاثة أيام في كل شهر … و حرم اللّه عز و جل الخمر بعينها و حرم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله المسكر من كل شراب … و عاف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أشياء و

كرهها و لم ينه عنها نهي حرام إنّما نهي عنها نهي اعافة و كراهة» الحديث «1».

و هذا الحديث يدل علي التفويض بالمعني الرابع، أي التفويض في التشريع الجزئي لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و قد ذكر فيه خمس امور:

1- فرض الركعتين الأخيرتين في الصلاة.

2- سنة النوافل.

3- سنة صوم شعبان و شبهه.

4- تحريم كل مسكر مضافا إلي الخمر التي حرّمها اللّه.

5- إعافة بعض الامور، أي جعلها مكروها من قبله صلّي اللّه عليه و آله.

و لكن فيها «امور» ينبغي التأمل فيه:

الأوّل: لا يستفاد منها إلّا كون ذلك له صلّي اللّه عليه و آله، و أمّا غيره من الأوصياء المرضيين عليه السّلام فلا دلالة فيها علي تفويض ذلك إليهم، فضلا عن غيرهم، و لعله من خصائصه صلّي اللّه عليه و آله و لذا لم ينقل من أحد من الأئمّة المعصومين عليه السّلام تشريع حكم كلي أبدا، نعم قد ورد في بعض كلماتهم

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 1، باب التفويض، ح 4، ص 226 من طبعة دار التعارف.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 522

أحكاما جزئية اضطرارية مؤقتة كما في جعل خمس آخر، في رواية اسماعيل بن مهزيار، و هو غير ما نحن بصدده، و لعل الفرق بين النبي صلّي اللّه عليه و آله و الوصي عليه السّلام في ذلك هو إتمام الدين و إكماله بعده.

الثاني: قد صرّح فيها بأن هذا المقام ثبت له بعد إن كان مسددا موفقا مؤيدا بروح القدس لا يزل و لا يخطئ في شي ء ممّا يسوس به الخلق.

و من الواضح أنّ هذا المعني غير ثابت في حق الفقهاء أيدهم اللّه، فليس لهم إلي هذا المقام سبيل، و إن ثبت في شأنه صلّي

اللّه عليه و آله، بل و لو قلنا به في حق الأئمّة المعصومين عليه السّلام أيضا (فرضا).

الثالث: يظهر منها أنّ هذا التشريع النبوي إنّما تم و اعتبر، بعد ما أجازه اللّه سبحانه، و لذا صرّح فيها بالاجازة من اللّه سبحانه «أربع مرات»، و هذا لا يتصور في حق الفقهاء و لا طريق إلي إثباته، و إن أمكن تصوره في حق المعصومين عليه السّلام من طريق الإلهام.

الرابع: قد ورد التصريح في آخره بأنه ليس لأحد أن يرخّص ما لم يرخّصه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، و هذا لا ينفي إمكان التشريع في حق غيره، و الترخيص فيما لم يرخصه صلّي اللّه عليه و آله.

الخامس: كل ذلك في ما لم يرد فيه نص، (كما يظهر من الأمثلة الواردة في الحديث).

و أمّا ورد فيه نص إلهي، فلا يكون له صلّي اللّه عليه و آله تشريع خاص فيه يخالف تشريعه تعالي، كما هو واضح.

فهذا النوع من التشريع المحدود، إنّما يتصور قبل نزول الشريعة بكمالها و تمامها، و أمّا بعد ذلك، أي بعد كمال الدين و اتمام النعمة و بيان ما يحتاج اليه الامة إلي يوم القيامة، فلا يبقي مظنة و لو للتشريع الجزئي المحدود.

«بقي هنا شي ء»: و هو أنّ قوله: «فكثير المسكر من الاشربة» يمكن أن يكون إشارة إلي عدد كثير من أفراد المسكر، سوي الخمر التي حرمها النبي صلّي اللّه عليه و آله كما ذكره في مرآت العقول، و أمّا احتمال كونه إشارة إلي أنّ القليل من الأشربة ليس بحرام كما ذكره بعض بعيد جدّا، و يخالفه سائر الأدلة الواردة في المسألة.

9- ما رواه اسحاق بن عمار في حديث مختلف فيه من حيث السند (لوجود محمد

بن

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 523

سنان في سلسلة السند) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن اللّه تبارك و تعالي ادّب نبيّه صلّي اللّه عليه و آله فلما انتهي به إلي ما أراد، قال له: إِنَّكَ لَعَليٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ففوض إليه دينه فقال: وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و إن اللّه عز و جل فرض الفرائض و لم يقسم للجد شيئا و أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أطعمه السدس فأجاز اللّه جل ذكره له ذلك، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: هٰذٰا عَطٰاؤُنٰا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ» «1».

و قد صرّح فيها بأن طعمة السدس للجد ممّا سنّه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و أجازه اللّه تعالي و ان هذا من قبيل «هذا عطاءنا فامنن أو امسك بغير حساب» (في عالم التشريع، و إن كان أمر سليمان في عالم التكوين).

و طعمة الجد إنّما هو في فرض كون الأب و الام وارثين، فيستحب حينئذ اطعام الجد سدس المال و ليس بواجب كما هو معلوم، و قد ذكر فقهاء له شرائط من أراد الوقوف عليها فليراجع كتاب الفرائض، سهام الارث باب سهم الأب و الام «2».

و قد يقال: إنّ أصل هذا الحكم مذكور في التشريع الإلهي و هو قوله تعالي: وَ إِذٰا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ وَ الْمَسٰاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً «3».

و لكن لو سلمنا ذلك فلا أقل من أنّ تحديد مقداره من تشريعه صلّي اللّه عليه و آله و الأمر سهل.

10- ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «وضع رسول اللّه صلّي اللّه عليه

و آله دية العين و دية النفس و حرم النبيذ و كل مسكر، فقال له رجل: وضع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من غير أن يكون جاء فيه شي ء؟ قال: نعم ليعلم من يطع الرسول ممن يعصيه» «4».

(و هو ضعيف بعلي بن محمد، فقد قيل في حقّه أنّه مضطرب الحديث و المذهب).

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)؛ ص: 523

و يظهر من الحديث أيضا امور:

أحدهما: إن وضعه صلّي اللّه عليه و آله و تشريعه للأحكام كان أمرا بديعا حتي تعجب منه بعض

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 1، باب التفويض، ح 6.

(2). أورده صاحب الجواهر قدّس سرّه، ج 9، ص 143.

(3). سورة النساء، الآية 8.

(4). الاصول من الكافي، ج 1، باب التفويض، ح 7.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 524

الحاضرين، فلو كان أمرا شايعا لما تعجب منه.

ثانيها: إنّ حكمة هذا التشريع النبوي هو امتحان الامّة ليري المطيع عن العاصي و قد ورد هذا المعني في بعض الروايات الاخر ممّا ورد في الباب أيضا و يدل هذا علي أن تشريعه صلّي اللّه عليه و آله لم يكن جاريا في جميع الأحكام، بل في بعضها لأمر خاص اشير إلي هنا، و إلّا لم يكن وجه لعد موارد خاصة معدودة و محدودة.

و يمكن أن تكون حكمة الحكم مضافا إلي ما ذكر، بيان مقامه السامي،: و منزلته الرفيعة عند اللّه عز و جلّ، كما أشار إليه بعض.

ثالثها: إنّه قد ورد في الحديث أنّ عبد المطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن،

أجراها اللّه في الإسلام (ثم ذكر تحريم نساء الآباء علي الأبناء، و مسألة الخمس في الكنز، و سقاية الحاج، و نزول الآيات القرآنية فيها، ثم قال: و سنّ في القتل مائة ابل فأجري اللّه ذلك في الإسلام «1».

هذا التعبير دليل علي أنّ اللّه أجاز ذلك بعد ما سنّه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فيوافق ما مرّ في الروايات الاخر و ما اشير إليه في بصائر الدرجات.

هذا و قد أورد شيخ القميين محمد بن الحسن الصفار (المتوفي سنة 290) في كتابه «بصائر الدرجات» في باب التفويض تحت عنوان «إنّ ما فوّض إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فقد فوّض إلي الأئمّة عليهم السّلام» ثلاثة عشر حديثا أكثرها يوافق ما في الكافي، و بعضها مكرر بعبارات مختلفة، و بعضها لا دخل له بما نحن بصدده و ممّا تفرد به:

ما رواه عن رقيد مولي بان هبيرة قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا رأيت القائم أعطي رجلا مائة ألف، و أعطي آخر درهما، فلا يكبر في صدرك، و في رواية اخري فلا يكبر ذلك في صدرك، فانّ الأمر مفوّض إليه» «2».

و هذا صريح في التفويض، في مسألة الاعطاء و المنع.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 19، الباب 1 من أبواب ديات النفس، ح 14.

(2). بصائر الدرجات، الباب 5 من الجزء الثامن، باب التفويض، ح 10، ص 386.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 525

و قد عقد بابا آخر في التفويض إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أورد فيها تسعة عشر حديثا متحد المضمون غالبا مع ما مرّ عليك من أحاديث الكافي و فيها بعض الإضافات.

منها: ما رواه عبد اللّه بن سنان عن بعض

أصحابنا عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالي أدّب محمدا صلّي اللّه عليه و آله فلما تأدب فوض إليه فقال تبارك و تعالي: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ فكان فيما فرض في القرآن، فرائض الصلب و فرض رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فرائض الجد فأجاز اللّه ذلك» الحديث «1». (و لكنها مرسلة).

و منها: ما رواه عبد اللّه بن سليمان عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه أدّب محمدا صلّي اللّه عليه و آله تأديبا ففوض إليه الأمر و قال: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و كان ممّا أمره اللّه تعالي في كتابه فرائض الصلب و فرض رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله للجد، فأجاز اللّه ذلك له» «2» (و هي أيضا مرسلة).

فذلكة الكلام في مسألة التفويض:

و تلخص ممّا ذكرنا امور:

الأول: إنّ الذي يظهر من مجموع روايات الباب أنّه أعطي النبي صلّي اللّه عليه و آله الولاية علي التشريع إجمالا في موارد خاصة، أعطاه اللّه ذلك امتحانا لإطاعة الخلق (أو تعظيما لمقامه الشريف، و اظهارا لمنزلته عند اللّه سبحانه) و ما ورد في روايات الباب امور محدودة معدودة و في اضافة الركعتين الأخيرتين في الصلاة، و سنة النوافل و سنة صوم شهر رمضان، و ثلاثة أيّام في كل شهر، و تحريم كل مسكر غير الخمر و كراهة بعض الأشياء و طعمة الجد، بل و فريضته علي رواية، و مقدار دية العين و النفس و ما أشبهها.

و لكن ورد بعضها في الأحاديث الصحاح و بعضها في الضعاف و إثبات جميع ذلك بتلك

______________________________

(1). بصائر الدرجات، الباب 5 من

الجزء الثامن، باب التفويض، ح 16، ص 382.

(2). المصدر السابق، ح 11، ص 380.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 526

الأحاديث مشكل، و لكانت المسألة علي إجمالها معلومة.

الثاني: إنّ ذلك لم يكن تفويضا كليا إليه صلّي اللّه عليه و آله و ممّا يدلّ علي أنّه لم يكن المفوض إليه، تشريعا كليا، أنّه كثيرا ما كان ينتظر الوحي في جواب الأسئلة عن الأحكام و شبهها، حتي ينزل في القرآن الكريم، بل ذكر هذه الامور المفوّض إليه بالخصوص، و عدّها في الروايات دليل علي أنّ الأصل الكلي في التشريع كان من قبل اللّه تعالي، و إنّما أذن لنبيّه صلّي اللّه عليه و آله التشريع الجزئي لما كان فيه من المصلحة.

الثالث: هذه الكرامة و المقام الخاص كان باذن اللّه تعالي و أجازته أولا، و في النهاية أيضا كان بامضائه، فلا ينافي ذلك توحيد الحكم و التشريع الإلهي، و لا يكون دليلا علي تعدد الشارع، بل الشارع هو اللّه تعالي وحده و تشريع النبي الأكرم صلّي اللّه عليه و آله في هذه الموارد إنّما هو باذنه من قبل و أجازته من بعد، لبعض المصالح التي عرفتها.

الرابع: إنّما ثبت هذا المقام للنبي صلّي اللّه عليه و آله بعد ما كان مسددا من عند اللّه سبحانه و مؤيدا بروح القدس، فلا يزيغ و لا يخطئ، فمن ليس كذلك لم يثبت ذلك في حقّه قطعا.

الخامس: الأئمّة المعصومون عليهم السّلام و إن كانوا مؤيدين بروح القدس، و لا يصدر منهم خطأ و لا زلة، و لكن لما كمل الدين و تمّت النعمة بنزول الأحكام و المعارف الإلهية كلها، و ما تحتاج إلي الامّة إلي يوم القيامة حتي أرش الخدش، لم يبق مجال لتشريع

حكم من الأحكام من ناحيتهم، و ما قد يوهم خلاف ذلك من أمير المؤمنين عليه السّلام في جعل الزكاة علي الخيل، و جعل بعض الخمس من أبي جعفر الجواد عليه السّلام كان من الأحكام الإجرائية الولائية المؤقتة كما سنتكلم عليه إن شاء اللّه تعالي بعد تمام هذا المقال، فما ورد في بعض الروايات من تفويض كل ما فوّض إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إليهم مثل ما ذكره في البصائر عن اسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي جعفر بن محمد عليه السّلام: «إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كان يفوّض إليه، إنّ اللّه تبارك و تعالي فوّض إلي سليمان ملكه فقال: هٰذٰا عَطٰاؤُنٰا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ و أنّ اللّه فوّض إلي محمد نبيّه صلّي اللّه عليه و آله فقال: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» الحديث «1» ناظر إلي غير هذا من المعاني التي مرّ ذكرها للتفويض، من قبيل تفويض أمر

______________________________

(1). بصائر الدرجات، الباب 4 من الجزء الثامن، باب التفويض إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، ح 9، ص 380.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 527

الحكومة علي الخلق، و الاعطاء و المنع في العلم و المال، أو شبه ذلك، و سنشير إلي روايات تدلّ علي عدم حكمهم بغير الكتاب و السنة فانتظر.

السادس: قد عرفت أنّ للتفويض معان كثيرة، و مجرّد ذكره في بعض أحاديث الباب لا يكون دليلا علي التفويض في أمر التشريع فلا بدّ في كل مقام من ملاحظة القرائن الموجودة فيه و لو لم يكن هناك قرينة معينة كان مجملا لا يصلح للاستدلال.

السابع: تحصل من جميع ذلك أنّه ليس للفقيه

تشريع في شي ء من الأحكام لأمور شتي قد عرفت الإشارة إليها آنفا، من عدم كونه معصوما مؤيدا بروح القدس و كون الشريعة كاملة بعده صلّي اللّه عليه و آله و غير ذلك، مضافا إلي فقدان الدليل عليه، بل هو حافظ لأحكام الشرع و مواريث النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، بل عليه استنباطها من أدلتها، ثمّ إجرائها و انفاذها، و لو بقي له شك في شي ء من الامور فعليه الرجوع إلي الاصول العملية و القواعد المقررة للجاهل الحاصرة لمجاريها.

و لا شك أنّ الأحكام الواردة في الشرع بعناوينها الأولية و الثانوية كافلة لجميع ما تحتاج إلي الامّة في أمر الدين و الدنيا، و من عمل بذلك كله و أضاف إليه الأحكام الولائية و الإجرائية فقد وفق لكل خير، و لا يخاف بخسا و لا رهقا، و لا يأتيه مكروه من بين يديه و لا من خلفه.

هذا و يؤيد ما ذكرنا من عدم وجود تشريع للإمام المعصوم فكيف بغيره ما رواه في بصائر الدرجات في باب «إنّ الأئمّة يوفقون و يسددون في ما لا يوجد في الكتاب و السنة» و هي خمس روايات كلها دليل علي المطلوب، و لكن الظاهر أنّها ترجع إلي روايات ثلاث.

أحدها: ما رواه ربعي بن خثيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: يكون شي ء لا يكون في الكتاب و السنة؟ قال: لا، قال قلت: فان جاء شي ء قال: لا، حتي أعدت عليه مرارا، فقال: لا يجي ء، ثم قال باصبعه: بتوفيق و تسديد، ليس حيث تذهب، ليس حيث تذهب» «1».

ثانيها: ما رواه هو بواسطة سورة بن كليب، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: بأي شي ء

يفتي

______________________________

(1). بصائر الدرجات، الباب 6، ج 8، باب تسديد الأئمة ما لا يوجد في الكتاب و السنة، ج 2، ص 388.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 528

الإمام؟ قال: بالكتاب، قلت: فما لم يكن في الكتاب؟ قال: بالسنّة، قال: فما لم يكن في الكتاب و السنة؟ قال: ليس شي ء إلّا في الكتاب و السنّة، قال: فكررت مرّة أو اثنين، قال:

يسدد و يوفق، فأمّا ما تظن فلا» «1».

ثالثها: ما رواه حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سأله سورة و أنا شاهد، فقال:

جعلت فداك، بما يفتي الإمام؟ قال: بالكتاب، قلت: فما لم يكن في الكتاب؟ قال:

بالسنّة، قال: فما لم يكن في الكتاب و السنة؟ قال: ليس من شي ء إلّا في الكتاب و السنّة، قال ثم مكث ساعة ثم قال: يوفق و يسدد و ليس كما تظن» «2».

و المتحصل من جميع ذلك هو عدم وجود حكم لا يوجد حكمه في الكتاب و السنّة و عدم وجود تشريع للإمام عليه السّلام و أنّ اللّه تعالي يوفقه و يسدده كي يستفيد من بطون الكتاب و السنّة، و لا يعمل بالقياس و الاستحسان، كما توهمه السائل فتدبر جيدا.

بقي هنا امور:

الأول: قد يقال أنّه يستفاد من بعض الروايات الواردة في أبواب الزكاة و الخمس أنّ للإمام عليه السّلام أيضا تشريعا في بعض الأحيان، مثل ما ورد في صحيحة محمد بن مسلم و زرارة عنهما قالا: وضع أمير المؤمنين عليه السّلام علي الخيل العتاق الراعية في كل فرس، في كل عام دينارين، و علي البرازين دينارا «3»، و قد أفتي بمضمونها الأصحاب كما يظهر من مفتاح الكرامة و غيرها.

و لكن الانصاف إمكان اندراجه في الأحكام الجزئية الولائية و كونه من

باب تطبيق العناوين الثانوية علي مصاديقها نظرا إلي وجود نوع ضرورة في ذلك الزمان إلي هذه

______________________________

(1). بصائر الدرجات، الباب 6، ج 8، باب تسديد الأئمة ما لا يوجد في الكتاب و السنة، ح 1، ص 387.

(2). بصائر الدرجات، الباب 6 من الجزء الثامن، باب تسديد الأئمّة ما لا يوجد في الكتاب و السنّة، ح 6، ص 388.

(3). وسائل الشيعة، ج 6، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 529

الأموال، لا الحكم العام من قبيل سائر ما فيه الزكاة، و يشهد لذلك عدم ذكر النصاب فيها مع أنّ المعمول في جميع أبواب الزكاة وجود النصاب فيها، من النقدين و الانعام و الغلات، و أنّ المتعارف في أبوابها كون الزكاة شيئا من المال الزكي، و لا يتقدر بمقدار معين ثابت من الدنانير، فهذا نوعا من الضرائب التي يجوز للفقيه أيضا جعلها مؤقتا لبعض الضرورات، و لإقامة نظام المجتمع الإسلامي أو لحرب الأعداء، لا من الأحكام الكلية و التشريعات الدائمة الباقية.

سلمنا، و لكنه لا يقاوم ما مرّ من نزول كل ما يحتاج إلي البشر إلي يوم القيامة حتي أرش الخذس بحيث لا يكون هناك فراغ قانوني.

و قال في الحدائق: و احتمل بعضهم أنّ هذه الزكاة إنّما هي في أموال المجوس يومئذ جزية أو عوضا عن انتفاعهم لمرعي المسلمين «1».

و لعل ذكر هذا الاحتمال بمناسبة غلبة الاستفادة من الخيول من ناحية المجوس فتأمل.

و بالجملة ظاهر هذا الحكم لا يساعد علي إثبات تشريع دائمي حتي أنّه يكفي في ذلك احتمال كونه من الأحكام الجزئية الضرورية الولائية، و علي مدعي كونه حكما كليا دائميا إثبات ذلك.

هذا مضافا إلي الأحاديث الكثيرة الواردة علي

نفي الزكاة عن غير التسعة مع أنّ لحن حديث وضع علي عليه السّلام الزكاة علي الخيل هو الوجوب، فراجع الباب الثامن من أبواب ما تجب فيه، تجده شاهد صدق علي ما ذكرنا.

الثاني: ما ورد في صحيحة علي بن مهزيار قال: «كتب إليه أبو جعفر: و قرأت أنا كتابه إليه في طريق مكّة قال: إنّ الذي أوجبت في سنتي هذه و هذه سنّة عشرين و مأتين فقط لمعني من المعاني أكره تفسير المعني كلّه خوفا من الانتشار … و إنّما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب و الفضة التي قد حال عليهما الحول، و لم أوجب ذلك عليهم في متاع و لا آنية و لا دواب و لا خدم و لا ربح ربحه في تجارة و لا ضيعة، إلّا في ضيعة سأفسر

______________________________

(1). الحدائق الناضرة، ج 12، ص 152.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 530

لك أمرها، تخفيفا مني عن موالي و منّا مني عليهم» «1».

إشكالات صاحب المعالم علي الحديث:

و ذكر صاحب المعالم قدّس سرّه في كتابه منتقي الجمان أنّه يرد علي ظاهر الحديث عدّة إشكالات:

الأول: ما نصه: «إنّ المعهود و المعروف من أحوال الأئمّة عليهم السّلام أنّهم خزنة العلم و حفظة الشرع، يحكمون فيه بما استودعهم الرسول صلّي اللّه عليه و آله و طلعهم عليه، و أنّهم لا يغيرون الأحكام بعد انقطاع الوحي، و انسداد باب النسخ، فكيف يستقيم قوله عليه السّلام في هذا الحديث «أوجبت في سنتي و لم أوجب ذلك عليهم في كل عام» إلي غير ذلك من العبارات الدالة علي أنّه عليه السّلام يحكم في هذا الأمر بما شاء و اختار» «2».

الثاني: قوله: «و لا أوجب عليهم إلّا الزكاة التي فرضها اللّه عليهم» ينافيه

قوله بعد ذلك «فأمّا الغنائم و الفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام».

الثالث: إنّ قوله: «و إنّنا أوجب عليهم الخمس في سنتي هذه من الذهب و الفضة التي قد حال عليها الحول» خلاف المعهود إذ الحول يعتبر في وجوب الزكاة في الذهب و الفضة لا الخمس، و كذا قوله: «و لم أوجب ذلك عليهم في متاع و لا آنية و لا دواب و لا خدم» فان تعلق الخمس بهذه الأشياء غير معروف.

الرابع: إن الوجه في الاقتصار علي نصف السدس غير ظاهر بعد ما علم من وجوب الخمس في الضياع التي تحصل منها المئونة «3».

و الانصاف أنّ الإشكالات الواردة علي ظاهر الرواية في بدو النظر أكثر من هذا، و ربّما

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح 5.

(2). نقلناه و ما بعده من الحدائق الناظرة، ج 12، ص 355 و لعمري هذا شاهد صدق علي ما ادعيناه سابقا من كون المعروف عند الشيعة عدم تصدي الإمام للتشريع.

(3). منتقي الجمان (مطابقا لنقل الحدائق الناضرة، ج 12، ص 355).

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 531

تبلغ سبعا:

1- عدم كون الإمام المعصوم عليه السّلام شارعا بل حافظا مع أنّ ظاهرها التشريع.

2- لا وجه لاشتراط حلول الحول في الخمس فانّه معتبر في الزكوات لا الأخماس.

3- لا وجه لاستثناء المتاع و الآنية و الخدم و شبهها ممّا يعد من المئونة في خصوص هذا العالم، لعدم تعلق الخمس بهذه الاشياء في كل عام.

4- منافاة نفي الخمس علي الارباح في بعض جملاته عليه السّلام مع إثبات وجوب الخمس في الغنائم و الفوائد في غيرها.

5- تفسير الغنائم و الفوائد بخصوص الفوائد التي تحصل من طريق الجائزة أو الميراث

التي لا يحتسب أو شبهه، مع أن المعروف في تفسير كونها شاملة لجميع الارباح.

6- الحكم بملكية المال الذي يؤخذ و لا يعرف له صاحب مع وجوب اداء خمسه، ينافي ما هو المعروف من وجوب التصديق بمجهول المالك.

7- الحكم بوجوب نصف السدس في الضياع و الغلات أمر لا يعرف له نظير لا في باب الخمس و لا الزكاة.

و يمكن الجواب عن الجميع: أمّا عن الأوّل، و هو العمدة فيما مر من أنّه ليس من قبيل تشريع الحكم، بل من قبيل حكم الحاكم، الراجع إلي تطبيق العناوين الاولية أو الثانوية علي مصاديقه، ثم الحكم علي وفقها لتنفيذ هذه الحكم في مواردها، و كأن المستشكل علي الحديث، غفل عن مسألة الأحكام الولائية التي هي أحكام جزئية إجرائية، و من شأن الوالي الفقيه الحكم بها من دون أن تمثل تشريعا جديدا، فلعل بعض الضرورات الناشئة من سفره إلي بغداد أوجبت ذلك، فان المعروف أنّ المأمون مات سنة 218 و غصب الخلافة من بعده أخوه المعتصم، و لما استقر عليه أمر الخلافة خاف من سطوة الإمام الجواد عليه السّلام في المدينة و دعاه إلي بغداد، و دخل هو عليه السّلام بغداد في أواخر محرم 220 (العالم المذكور في حديث علي بن مهزيار و قد استشهد سلام اللّه عليه في أواخر هذا العام علي يد المعتصم «عليه لعنة اللّه».

فهذه الضرورة هي التي أوجبت الحكم بأداء خمس جديد من الذهب و الفضة غير خمس الارباح و الغنائم و شبهها، و غير الزكاة المفروض فيها لبعض الضرورات التي لم

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 532

يشرحها الإمام عليه السّلام خوفا من الانتشار، و هذا أمر جائز للفقيه، فكيف بالإمام المعصوم عليه السّلام و

هو من قبيل الأموال التي قد تؤخذ لضرورة الحرب الواقعة بين المسلمين و الكفار أو شبه ذلك.

و منه يظهر الجواب عن «الإشكال الثاني» فانّ اشتراط الحول إنّما كان في هذا الحكم الخاص المبتني علي الضرورة لا في كل خمس، و كذا «الإشكال الثالث» المنوط باستثناء المئونة و المتاع، فإنّها مستثناة من هذا الحكم الخاص، و كان له عليه السّلام أن لا يستثنيه، و بعبارة اخري: أراد أن يبيّن أن هذه الامور كما هي مستثناة من الخمس المعمول، مستثناة من هذا القسم الخاص أيضا.

و أمّا «الإشكال الرابع» فيجاب عنه بأنه نفي الخمس عن الأرباح في ذلك العالم و أثبته في موارد خاصة من الفوائد التي صرّح فيها، من المنافع غير المترقبة، فالذي لم يوجب عليه الخمس هو الارباح المعهودة المترقبة في المكاسب، و اما الذي أوجبه فيها فهي المنافع غير المترقبة من دون عمل مستمر.

و أمّا عن «الخامس» فبأن تفسير الغنائم و الفوائد بخصوص هذه الفوائد الحاصلة من طريق الجائزة و شبهها، فهو و إن كان ينافي بعض ما ورد من تفسير الغنائم بمطلق الفائدة و الافادة يوما بيوم (مثل ما عن الصادق عليه السّلام قال في جواب السؤال عن تفسير آية الغنيمة:

«هي و اللّه الافادة يوما بيوم» «1» إلّا أنّه يمكن حمله علي أنّه عليه السّلام كان بصدد ذكر بعض المصاديق الواضحة الذي الزم الإمام عليه السّلام اداء الخمس منه، في تلك السنة دون مطلق الربح الذي حكم بنفي الوجوب عنه في ذاك العالم (فتأمل جيدا).

و أمّا عن «السادس» فبأن المقام ليس من قبيل مجهول المالك، بل من قبيل الأموال التي تؤخذ من أهل الحرب، بقرينة قوله «يؤخذ» و لا يوجد له صاحب، و بقرينة

ما ذكر قبله و بعده من هذه الأموال، و لا أقل من حمله علي ما ذكرنا عند الجمع بين الرواية و غيرها ممّا دلّ علي وجوب التصدق بمجهول المالك.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 533

و أمّا عن «السابع» فبأن جميع الخمس للإمام عليه السّلام كما هو الحق، و له أن يبيح جميعه أو بعضه لشيعته أحيانا، فقد أباح هنا لشيعته من الضياع و الغلات ما زاد عن نصف السدس، و لعل هذه الاباحة كانت بسبب ما يغتال السلطان من أموالهم، كما اشير في الحديث، فكانوا يأخذون منهم العشر، و الإمام عليه السّلام أمر بنصف السدس و هو أقل من العشر بقليل و المجموع يكون قريبا من الخمس الواجب عليهم.

هذا و لكن الانصاف أنّ بعض هذه الأجوبة لا يخلو عن تكلّف، و لكن لا محيص عنها عند إرادة الجمع بين هذا الحديث و بين غيره من الأحاديث، و اشكل من الجميع الأخير، لعدم معروفية عنوان نصف السدس في هذه الأبواب، نعم في رواية ابراهيم بن محمد الهمداني عن أبي الحسن (الهادي) عليه السّلام إشارة إلي أن «ايجاب نصف السدس كان من أبيه الإمام الجواد عليه السّلام علي أصحاب الضياع بعد مؤنتهم و بعد خراج السلطان» «1».

و للرواية طريقان: أحدهما مصحح، و هو ما رواه في الكافي.

و الذي يسهل الخطب أنّه لا يتفاوت فيما نحن بصدده من مسألة التفويض، فان العمدة فيه هو ايجاب الإمام عليه السّلام الخمس في بعض الأموال هنا في سنة معينة، و قد عرفت أنّه ليس من التشريع في شي ء و إنّما هو من قبيل حكم الحاكم كما

عرفت.

حديث التفويض إلي الائمة عليهم السّلام

قد ورد في غير واحد من الروايات أنّ ما فوّض اللّه إلي رسوله فقد فوضه إلي الائمة عليه السّلام، مثل ما رواه محمد بن الحسن الميثمي عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ اللّه أدّب رسوله صلّي اللّه عليه و آله حتي قومه علي ما أراد ثم فوّض إليه، فقال: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوّض اللّه إلي رسوله فقد فوّضه إلينا» «2».

و ما رواه موسي بن أشيم قال: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فسألته عن مسئلة فاجابني،

______________________________

(1). بصائر الدرجات الباب 5 من الجزء الثامن، باب التفويض إلي الائمة، ح 1، ص 383.

(2). المصدر السابق، ح 1، ص 383.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 534

فبينا أنا جالس إذ جاءه رجل فسأله عنها بعينها، فأجابه بخلاف ما أجابني … فقال يا بن أشيم إن اللّه فوّض إلي داود عليه السّلام أمر ملكه … فوّض إلي الائمّة منّا و إلينا ما فوّض إلي محمّد صلّي اللّه عليه و آله فلا تجزع» «1».

و ما رواه حمزة الثمالي قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: من أحللنا له شيئا أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال، لأنّ الائمّة منّا مفوض إليهم، فما أحلوا فهو حلال و ما حرموا فهو حرام» «2».

و ما رواه حسن بن زياد عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ اللّه أدّب رسوله حتي قوّمه علي ما أراد ثم فوّض إليه فقال مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوض إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فوض إلينا» «3».

و ما رواه مولي

ابن هبيرة قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام إذا رأيت القائم اعطي رجلا مائة ألف، و اعطي آخر درهما، فلا يكبر في صدرك، و في رواية اخري فلا يكبر ذلك في صدرك، فانّ الأمر مفوّض إليه!» «4».

و ما رواه عبد اللّه بن سليمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الإمام فوّض اللّه كما فوّض إلي سليمان؟ فقال نعم، و ذلك إن رجلا سأله عن مسألة فأجابه فيها، و سأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأوّل: ثم سأله آخر من تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأولين، ثم قال: هذا عطاؤنا فامسك أو اعط بغير حساب …

قال: قلت أصلحك اللّه فحين أجابهم بهذا الجواب يعرفهم الإمام فقال: سبحان اللّه أما تسمع قول اللّه يقول في كتابه، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ و هم الأئمّة» «5».

و لكن شي ء من هذه الأحاديث لا دلالة له علي التفويض في أمر التشريع: أمّا الأوّل فانّه

______________________________

(1). بصائر الدرجات الباب 5 من الجزء الثامن، باب التفويض إلي الائمة، ح 2، ص 383.

(2). المصدر السابق، ح 3، ص 384.

(3). المصدر السابق، ح 6، ص 385.

(4). المصدر السابق، ح 10.

(5). المصدر السابق، ح 13.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 535

مناسب لتفويض الحكومة لقوله عليه السّلام «قوّمه علي ما اراد» و لا أقل من الإجمال.

و أمّا «الثاني» فانّه كالصريح في التفويض بمعني الاعطاء و المنع في خصوص العلوم و المعارف و «الثالث» كذلك في خصوص الاعطاء من بيت المال أو غيره، و «الرابع» شبيه ما ورد الأوّل بعينه، و «الخامس» أيضا كالصريح في الاعطاء و المنع و «السادس» أيضا كذلك في خصوص العلوم، و هكذا غيرها ممّا ذكره صاحب

بصائر الدرجات في هذا الباب، و بالجملة لم نجد حديثا يدل علي تفويض الأمر في التشريع إلي الأئمّة الهادين، و لم يعرف منهم ذلك، بل كانوا حفظة للشرع المبين هذا أولا.

ثانيا: سلمنا ثبوت هذا الحق لهم عليهم السّلام، و لكنه من حيث العمل منتف بانتفاء موضوعه، بعد ما عرفت من إكمال الدين و تمام النعمة، و عدم بقاء الفراغ القانوني و عدم وجود فراغ في الفقه الإسلامي، بأوفي البيان.

ثالثا: سلمنا ثبوت ذلك للإمام المعصوم عليه السّلام المسدد المؤيد بروح القدس، الموفق من عند اللّه، كما وقع التصريح به في بعض ما مر عليك، و لكن لا دخل له بالفقيه غير المعصوم كما هو واضح.

الجواب عن مغالطة في المقام

و هنا مغالطة واضحة توجد في كلمات بعض من يميل إلي تفويض التشريع إلي الفقيه، و هي أن كمال الدين يحصل بتفويض الأمر إلي الفقيه، فإذا كان هذا التفويض من أحكام الدين فكان اللّه اكمل دينه بهذه الطريقة، أي بتفويض جعل الأحكام إلي الفقهاء!

أقول: و هذا من اعجب ما ذكر في المقام و يرد عليه:

«أولا»: لأنّ معني إكمال الدين تشريع قوانينه، لا تعيين من يكمله في كل عصر، فهل تري من نفسك إذا انتخب الوكلاء و الممثلون من ناحية الشعب لتدوين القانون الأساسي أو القوانين الاخر أن تقول: إنّ القوانين قد كملت، و لم يبق هناك فراغ، لأنّ الوكلاء انتخبوا، اللّهم إلّا علي سبيل المجاز، و من أوضح ما يدل علي ما ذكرنا قول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 536

في نهج البلاغة في ردّ القول بجواز التشريع للفقهاء: «أم انزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم علي اتمامه؟ أم كانوا شركاء له، فلهم ان يقولوا و

عليه أن يرضي؟ و لعمري أنّه يستفاد من هذا البيان أنّ هذا القول من أنواع الشرك لقوله «شركاء له»، نعم هو شرك في تقنين القوانين الإلهية، فتدبّر جيدا.

«ثانيا»: قد ورد التصريح في الروايات الكثيرة التي مر ذكرها أنّ تفاصيل الأحكام قد شرعت في عصر النبي صلّي اللّه عليه و آله حتي ارش الخدش، و أنّها كانت عند الأئمّة الهادين في كتاب يسمي جامعة أو غيرها، و مع هذا التصريح لا يبقي لهذا الكلام مجال، و كذا ما ورد في الروايات المتظافرة أن كل ما يجري من الأحكام علي لسان الأئمّة المعصومين عليهم السّلام فهو رواية عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله (و قد مر ذكر جميع ذلك آنفا).

«ثالثا»: كيف يتصدي الفقيه لتشريع الأحكام الكلية؟ و في أي موضع؟ في ما لا نص فيه؟

و قد عرفت أنّه ليس هناك ما لا نص فيه؟ أم في ما هو فيه نص؟ كما قد يتفوه به بعض من لا خبرة له.

فان كان المراد ذلك فمعناه أن تشريع الفقيه- معاذ اللّه- مقدم علي تشريعات اللّه تعالي، و حينئذ أي فائدة في ارسال الكتب السماوية و بعث الرسل بعد كون الفقيه ذا رأي مقدّم عليها و صاحب علم بالمصالح و المفاسد أرجح منها؟ و لا نظن بأحد من العلماء التفوه بهذا المقال الباطل الفاسد.

التفويض في أمر الخلقة

و لا أشكال أيضا في بطلانه، إذا كان المراد، التفويض الكلي، بمعني أنّ اللّه خلق رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و جعل أمر خلق العالم و نظامه و تدبيره اليهم، فانّه نوع شرك. و مخالف لآيات القرآن المجيد الظاهرة بل الصريحة في أن أمر الخلق و الرزق و

الربوبية و تدبير العالم بيد اللّه تعالي لا غيره.

نعم يظهر من بعض كلمات العلّامة المجلسي قدّس سرّه معني آخر للتفويض الكلي، و هو جريان

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 537

مشية اللّه علي الخلق و الرزق مقارنا لإرادتهم و مشيتهم، و أنّه لا يمنع العقل من ذلك، و لكن صرّح بأن ظاهر الأخبار بل صريحها ذلك، و لا أقل من أن القول به قول بما لا يعلم.

قلت: بل ظاهر الآيات القرآنية مخالف له أيضا، و أنّ أمر الخلق و الرزق و الاماتة و الاحياء بيد اللّه و مشيته لا غير.

نعم ورد في بعض الروايات الضعيفة مثل خطبة البيان التي نقلها المحقق القمي قدّس سرّه في جامع الشتات مع الطعن فيه، أن أمر بيد الأئمّة عليهم السّلام أو بيد أمير المؤمنين علي عليه السّلام «1»، لكنه ضعيف جدّا مخالف لكتاب اللّه عزّ و جل.

و لكن ظاهره المعني الأوّل الذي لا يمكن القول به، و لا يوافق الكتاب و لا السنة، بل قد عرفت أنّه نوع من الشرك أعاذنا اللّه تعالي منه، قال اللّه تعالي: أَمْ جَعَلُوا لِلّٰهِ شُرَكٰاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشٰابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْوٰاحِدُ الْقَهّٰارُ «2».

و إن كان و لا بدّ من توجيهها فليحمل علي العلة الغائية، مثل «لولاك لما خلقت الافلاك» و «بيمنه رزق الوري» فتدبّر جيدا.

و أمّا «التفويض الجزئي» في أمر المعجزات و الكرامات إليهم، كشق القمر و احياء بعض الموتي بأيديهم و شبه ذلك فهو ممّا لا مانع منه عقلا و نقلا، و إصرار البعض علي كون هذا أيضا من قبيل الدعاء و الطلب من اللّه بأن يخلق كذا عند دعائهم ممّا لا وجه له، بعد

ظهور قوله تعالي: وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتيٰ بِإِذْنِي «3» في كون المحيي هو المسيح عليه السّلام و لكنه بأذن من اللّه و تأييد منه تعالي.

و لنختم الكلام ببعض الروايات الواردة في المقام و كلمات أعاظم المذهب ممّا يؤكد ما ذكرنا في هذه المسألة، أي نفي التفويض في أمر الخلقة.

قال الصدوق قدّس سرّه في رسالة اعتقاد: «اعتقادنا في الغلاة و المفوضة أنّهم كفار باللّه جل

______________________________

(1). جامع الشتات، ذكره في عداد المسائل المتفرقة من ج الثاني.

(2). سورة الرعد، الآية 16.

(3). سورة المائدة، الآية 110.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 538

جلاله، و أنّهم شرّ من اليهود و النصاري و المجوس و القدرية و الحرورية … إلي قوله كفارا» «1».

و نقل العلّامة المجلسي قدّس سرّه في مرآة العقول عن زرارة أنّه قال: «قلت للصادق عليه السّلام: إن رجلا من ولد عبد اللّه بن سنان يقول بالتفويض فقال: و ما التفويض؟ قلت: إن اللّه تبارك و تعالي خلق محمدا صلّي اللّه عليه و آله و عليا عليه السّلام ففوض إليهما، فخلقا و رزقا و أماتا و أحييا. فقال عليه السّلام:

كذب عدو اللّه إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية من سورة الرعد أَمْ جَعَلُوا لِلّٰهِ شُرَكٰاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشٰابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْوٰاحِدُ الْقَهّٰارُ فانصرفت إلي الرجل فأخبرته فكأنّي ألقمته حجرا، أو قال فكأنّما خرس» «2».

المقام السابع: الولاية علي الأموال و الانفس و حدودها
اشارة

و لا بدّ من ملاحظة مقام النبي صلّي اللّه عليه و آله و الائمة عليهم السّلام في ذلك، ثم التكلم في حال الفقهاء، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

قال اللّه تعالي: النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ

فِي كِتٰابِ اللّٰهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهٰاجِرِينَ إِلّٰا أَنْ تَفْعَلُوا إِليٰ أَوْلِيٰائِكُمْ مَعْرُوفاً كٰانَ ذٰلِكَ فِي الْكِتٰابِ مَسْطُوراً «3».

و هذا هو العمدة في المقام و الآية مشتملة علي أحكام ثلاثة:

أحدها: أولوية النبي صلّي اللّه عليه و آله بالمؤمنين من أنفسهم.

ثانيها: كون ازواجه صلّي اللّه عليه و آله بمنزلة الامهات في حرمة النكاح، فقط، دون غيره من الأحكام كجواز النظر و الارث و حرمة تزويج بناتهن للمؤمنين، و الظاهر أنّه لم ينقل من أحد من علماء الإسلام أثر لهذه الامومة غير ما ذكرنا.

ثالثها: كون اولي الأرحام بعضهم أولي ببعض من غير الأرحام.

______________________________

(1). مرآة العقول، ج 3، ص 146.

(2). المصدر السابق.

(3). سورة الاحزاب، الآية 6.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 539

و ذلك أنّه كان الارث في أول الأمر بين المؤمنين بالهجرة و المؤاخاة في الدين، فنسخت الآية هذا الحكم، و جعل اولي الأرحام بعضهم بالنسبة إلي البعض أولي من غيرهم، فصار الارث بالقرابة و الرحم.

و ممّا ذكر يظهر أنّ ما هو المعروف في الأذهان من أن الآية ناظرة إلي طبقات الارث، و أنّ الأقرب أولي من الأبعد غير صحيح، فانّه مبني علي أن يكون «الباء» في قوله تعالي: «أولي ببعض» بمعني «من» حتي يكون المعني: بعضهم أولي من بعضهم مع أنّ المفضل عليه مذكور في نفس الآية مع «من»، و هو قوله «من المؤمنين و المهاجرين» فأولو الأرحام أولي من غيرهم، فليكن هذا علي ذكر منك و نرجع إلي البحث عن الحكم الأوّل.

ذكر غير واحد من المفسرين أنّ الآية نزلت عند ما أراد النبي صلّي اللّه عليه و آله غزوة تبوك و أمر الناس بالخروج، و قال ناس نشاور آبائنا و امهاتنا، فنزلت (الآية و اكدت

لهم أن اتباع أمره صلّي اللّه عليه و آله مقدم علي غيره مطلقا) ذكره في «روح البيان» «1».

و قريب منه في «مجمع البيان» إلّا أن فيه «نستأذن آبائنا و امهاتنا» «2».

و قد ذكر في المجمع في معني هذه الجملة من الآية اقوالا:

«أحدها» إنّه أحق بتدبيرهم، و حكمه أنفذ عليهم من حكمهم علي أنفسهم.

«ثانيها» أنّ طاعته أولي من طاعة أنفسهم و ما يميلون إليه.

«ثالثها» أنّ حكمه أنفذ عليهم من حكم بعضهم علي بعض.

و هي متقاربة المضمون و تتحد في النتيجة، و حاصلها وجوب اطاعته صلّي اللّه عليه و آله في هذه الامور و ما يرتبط بمصالح المسلمين.

و هناك معني رابع يستفاد من غير واحد من الروايات، مثل ما رواه في «تفسير القرطبي»:

«أنّه صلّي اللّه عليه و آله كان لا يصلي علي ميت عليه دين، فلما فتح اللّه عليه الفتوح قال أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي و عليه دين فعليّ قضاؤه، و من ترك مالا فلورثته، اخرجه الصحيحان،

______________________________

(1). تفسير روح البيان، ج 7، ص 138.

(2). المصدر السابق، ج 8، ص 338.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 540

و فيهما أيضا: فأيّكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه» «1».

و ما رواه في تفسير «البحر المحيط» عنه صلّي اللّه عليه و آله: «ما من مؤمن إلّا و أنا أولي به في الدنيا و الآخرة، و اقرءوا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيما مؤمن هلك و ترك مالا فليرثه عصبته، من كانوا، و إن ترك دينا (و ضياعا) فعليّ» «2».

و في الوسائل في باب ضمان ولاء الجريرة كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يقول «أنا أولي بكل مؤمن من نفسه، و من ترك مالا فللوارث،

و من ترك دينا أو ضياعا فاليّ و عليّ» «3».

و (قد ادعي تواتر الحديث عند أهل السنة).

و علي هذا يكون معناه: أولي بهم من أنفسهم في أداء ديونهم و ضياعهم «4».

و هنا معني «خامس» و هو أن الآية مطلقة من جميع الجهات، فهو أولي بالمؤمنين من أنفسهم في كل أمر من امور الدين و الدنيا، كما ذكره غير واحد من المفسرين، منهم مؤلف «روح البيان» حيث قال: «و المعني أن النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله أحري و أجدر بالمؤمنين من أنفسهم في كل أمر من امور الدين و الدنيا كما يشهد به الاطلاق» «5».

و كما يشهد به صدر الحديث المروي عنه صلّي اللّه عليه و آله في تفسير القرطبي و قد مضي، و يقرب منه ما في تفسير «الميزان» حيث قال: «النّبيّ أولي بهم فيما يتعلق بالامور الدنيوية أو الدينية، كل ذلك لمكان الاطلاق» «6».

و لا شك أنّ لفظ الامة مطلقة شاملة لأي نوع من الولاية، و لكن الكلام في امور:

أولا: في أنّه هل هي ناظرة إلي العموم في كل ما يكون له صلة بتدبير المجتمع و ما فيه نظام الدين و الدنيا، أو هي شاملة حتي لماله صلة بأمر الفرد؟

ثانيا: علي تقدير العموم هل هي منصرفة إلي ما فيه صلاح الفرد، أو تعم و لو لم يكن فيه

______________________________

(1). تفسير القرطبي، ج 8، ص 5203.

(2). تفسير بحر المحيط، ج 7، ص 217.

(3). وسائل الشيعة، ج 17، أبواب ولاء ضمان الجريرة الباب 3، ح 14.

(4). الظاهر المراد من الضياع (بالفتح) في، الحديث هو «الايتام».

(5). تفسير روح البيان، ج 16، ص 138.

(6). تفسير الميزان، ج 16، ص 291.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 541

صلاحه بل

كان ضرره بحيث يجوز له صلّي اللّه عليه و آله الإضرار بأي مؤمن لصلاح نفسه صلّي اللّه عليه و آله لا لصلاح المجتمع؟

الانصاف قوّة انصراف الآية من الجهتين: من جهة اختصاصها بأمر المجتمع، و من جهة تقييدها بالمصالح، فلا شك أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لم يكن يقدم علي ما لم يكن فيه مصالح الامة و لا يقدم مصلحته بما أنّه شخص علي مصالحهم، إنّما كلام في أنّه هل اللفظ مطلق من هذه الجهة أولا؟ و هل هي في مقام البيان أو ليس في مقامه من هذه الناحية؟ و ممّا يؤيد الانصراف، الروايات الكثيرة التي ادعي تواترها من طريق العامة و الخاصة و قد مر ذكرها ممّا ورد في شأن نزولها و غير ذلك.

ثم أنّه لو قلنا بثبوت ذلك له صلّي اللّه عليه و آله بمقتضي هذه الآية أو أدلة اخري، و ثبوته لخلفائه المعصومين و الأئمّة الهادين عليهم السّلام و لكن اثباته للفقيه، دونه خرط القتاد، لما عرفت من أن غاية ما يدل علي ولاية الفقيه هو الأخذ بالقدر المتيقن في أمر الحكومة علي الناس، و من الواضح أنّه لا يدل إلّا علي التصرفات التي ليس لها صلة بهذا الأمر و لا بدّ أن تكون تحت العناوين الاولية أو الثانوية من أحكام الشرع، فيصح له التصرفات في الأموال إذا كان بعنوان الزكاة و الخمس أو دعت الضرورة إلي أخذها زائدة علي الزكوات و الاخماس لحفظ بيضة الإسلام في مقابل الكفار أو غير ذلك من أشباهه، و كذا يصح له الحكم بالقصاص و إجراء الحدود، و الأمر بنفر الناس إلي ميادين الجهاد و غير ذلك، ممّا يعد تصرفا في الأموال و الأنفس،

و أمّا أن يؤخذ أموال الناس، لمصلحة الشخصية، أو يطلق امرأته، أو يقتل مؤمنا متعمدا من غير انطباق عنوان شرعي عليه فلا، و ينبغي أن يكون هذا من الواضحات التي لا ريب فيها و لا شبهة تعتريها.

و من الجدير بالذكر أنا لم نسمع في رواية و لم نر في تاريخ، أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله أخذ الناس بالولاية علي الأموال و النفوس في غير ما يرتبط بنظام المجتمع و الحكومة الإسلامية، و في غير نطاق أحكام الشرع، بل و لا بالنسبة إلي الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 542

كيف تكون الأرض كلها للإمام عليه السّلام:

بقي هنا شي ء: و هو أنّه ورد في روايات كثيرة أنّ الأرض كلها اللّه و لرسوله و للأئمّة المعصومين عليهم السّلام أو شبه ذلك من التعابير.

و قد عقد له في اصول الكافي بابا أورد فيها ثمانية روايات، و هي تنقسم إلي ثلاث طوائف:

الطائفة الاولي: ما لا يدل علي أكثر من ملك الأنفال للإمام عليه السّلام.

مثل ما رواه هشام بن سالم عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «وجدنا في كتاب علي عليه السّلام إِنَّ الْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أنا و أهل بيتي الذين أورثنا اللّه الأرض، و نحن المتقون، و الأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضا من المسلمين فليعمرها و ليؤد خراجها إلي الإمام من أهل بيتي» «1».

و ابو خالد الكابلي اثنان «كبير» و «صغير» و الأوّل ممدوح غاية المدح، كان من حواري علي بن الحسين عليه السّلام و الثاني غير معروف، و حيث يدور الأمر بينهما أو يكون الأظهر هو الثاني يشكل الاعتماد علي سند الحديث.

و مدلول الرواية

بقرينة ذيلها هو مالكية الإمام بالنسبة إلي الأنفال، و هو غير ما نحن بصدده.

و ما رواه عمر بن يزيد في الصحيح قال: «رأيت مسمعا (و هو أبو سيّار) بالمدينة و قد كان حمل إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام تلك السنة مالا فردّه أبو عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: لم ردّ عليك أبو عبد اللّه المال الذي حملته إليه؟ …، فقال: أو ما لنا من الأرض و ما أخرج اللّه منها إلّا الخمس يا أبا سيار؟ أنّ الأرض كلها لنا فما أخرج اللّه منها من شي ء فهو لنا» «2».

و هو أيضا ناظر إلي الأنفال فلا دخل له بما نحن بصدده.

الطائفة الثانية: ما دلّ علي ملك جميع الأراضي له أعم من الأنفال و غيره.

مثل ما رواه يونس بن ظبيان أو المعلي ابن خنيس قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما لكم

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 71، باب أنّ الأرض كلها للإمام، ص 407، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 408، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 543

من هذه الأرض؟ فتبسم، ثم قال: إنّ اللّه تبارك و تعالي بعث جبرئيل عليه السّلام و أمره إن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض، منها سيحان و جيحان و هو نهر بلخ و الخنثوع، و هو نهر الشاش، و مهران و هو نهر الهند، و نيل مصر، و دجلة، و الفرات فما سقت أو استقت فهو لنا» «1».

و هو يدل علي ملكية جميع الأراضي لهم، و لكن قوله فما سقت أو استقت الذي بمنزلة التعليل و النتيجة غير واضح المعني، فان قوله «فما سقت» إشارة إلي الأرض التي سقتها هذه الأنهار، و ما استقت لعله إشارة إلي

البحار التي تسقي هذه الأنهار منها، و لكن مجرّد هذا أعني ملكية هذه المياه ليست دليلا علي مالكية الأراضي و البحار، نعم هو سبب لأجرة المثل للمياه فقط.

الطائفة الثالثة: ما دلّ علي أنّ الدنيا كلها لهم، و هي عدة روايات:

منها: ما رواه محمد بن الريان عن العسكري عليه السّلام قال: «جعلت فداك روي لنا أن أن ليس لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من الدنيا إلّا الخمس، فجاء الجواب: إنّ الدنيا و ما عليها لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله» «2».

و هو أيضا ضعيف سندا و لكن دلالته من أوضح الدلالات علي ملكية جميع الدنيا لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و الظاهر ملكية الأئمّة عليهم السّلام أيضا من بعده صلّي اللّه عليه و آله لاتحاد الملاك.

و منها: ما رواه عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله خلق اللّه آدم و أقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم عليه السّلام فلرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و ما كان لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فهو للأئمّة من آل محمد صلّي اللّه عليه و آله» «3» و هو أيضا ضعيف سندا و لكن دلالته واضحة.

و منها: ما رواه محمد بن عبد اللّه عمن رواه قال: «الدنيا و ما فيها للّه تبارك و تعالي و لرسوله و لنا، فمن غلب علي شي ء منها فليتق اللّه، و ليؤد حق اللّه تبارك و تعالي، و ليبر اخوانه، فان لم يفعل ذلك فاللّه و رسوله و نحن برآء منه» «4».

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 71، باب أنّ الأرض كلها للإمام، ص 409، ح

5.

(2). المصدر السابق، ح 6.

(3). المصدر السابق، ح 7.

(4). المصدر السابق، ص 408، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 544

و منها: ما رواه ابو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: أمّا علي الإمام زكاة فقال:

أحلت يا أبا محمد! أما علمت أنّ الدنيا و الآخرة للإمام يضعها حيث يشاء و يدفعها إلي من يشاء» «1» الحديث.

و الذي يتحصل من جميع هذه الأحاديث بعد ضم بعضها إلي بعض، و تأييد بعضها للبعض سندا و دلالة، كون العالم اللّه تعالي و بعده لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و بعده للأئمّة الهادين عليهم السّلام يضعونها حيث شاءوا.

و لازم ذلك عدم مالكية الناس لهذه الأموال كلها بل كونها كالأمانة و الوديعة في أيديهم، يتصرفون فيها باذن مالكها الحقيقي.

هذا من جهة، و من جهة اخري هناك أحكام كثيرة فقهية لا تصح إلّا بكون الناس مالكين لهذه الأموال التي بايديهم، كقوله صلّي اللّه عليه و آله: «الناس مسلطون علي أموالهم» أو جواز «البيع» و «العتق» و «الهبة» و «الوقف» و «الوصية» باجماع علماء الإسلام بل الضرورة، مع أنّه لا تصح شي ء منها إلّا بملك، و ما ورد من التعبيرات الكثيرة بعنوان الملكية في الأخبار و الآثار و الآيات الكريمة القرآنية التي لا تحصي كثرة.

و كذلك ظاهر قوله تعالي: «فلله خمسه» الذي يفهم منها كون الباقي لهم، و قوله تعالي:

خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ … الظاهر في كون ما عدا الزكاة لهم.

و قوله تعالي: قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ … و قوله تعالي: مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَليٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُريٰ … الظاهر في كون الباقي للناس أنفسهم.

و كذلك الروايات المتواترة الواردة في أبواب الأنفال و الأخماس و

أبواب الحيازة و غيرها، كالصريح في حصول الملكية للناس.

و طريق الجمع بينهما من وجهين:

أحدهما: أن يقال بالملكية الطولية التشريعية بأن يكون المالك التشريعي لجميع هذه إلّا ملاك هو اللّه تعالي، ثم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله حيا أو حيا و بعد وفاته أيضا، لإمكان اعتبار الملك

______________________________

(1). الاصول من الكافي، ج 71، باب أنّ الأرض كلها للإمام، ص 409، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 545

له صلّي اللّه عليه و آله بل و لغيره و لو بعد الوفاة، كما ذكرنا في محله، ثم للأئمّة الهادين المعصومين عليهم السّلام ثم لمن يملكها من طريق مشروع من الحيازة أو الاحياء أو الارث أو العمل، و ما أشبه ذلك، و ما منافاة بين تعدد المالك مع وحدة الملك بلا شركة و لا اشاعة، إذا كان الملك طوليا و إن هو إلّا نظير ملك العبد و ملك المولي له و لما في يده (علي ما هو المعروف).

و الملكية التشريعية أمر اعتباري و الاعتبار خفيف المئونة، نعم لا يتصور ملكية شي ء بتمامه لاثنين في عرض واحد، لأنّ مفهوم كل من الاعتبارين يضاد الآخر كما هو ظاهر.

و علي كل حال لا مانع من إجراء أحكام الملكية من ناحية من كان في المرتبة الأخيرة، كما يجوز ترتيب آثارها من ناحية المقام الأعلي، و هذا كملك المولي و العبيد كما عرفت.

و يدل عليه ما ورد في رواية أبي خالد الكابلي و عمر بن يزيد (و قد مرّ ذكرهما) من ترتيب الآثار الشرعية علي ملك الإمام عليه السّلام للأرض، اللّهم إلّا أن يقال إنّهما ناظرتان إلي الأنفال كما مرّ، و هي غير ما نحن فيه.

و ما في حديث «أبي بصير» و

ظاهر رواية «محمد بن الريان» كما لا يخفي علي الناظر فيهما.

و ممّا يدل علي عدم التضاد بين هذين النحوين من الملك، أن ظاهر الروايات ثبوت الملك للّه و لرسوله و للأئمّة في زمن واحد، فليس مالكية الأئمّة بمعني سلب الملكية عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و لا مالكية رسوله صلّي اللّه عليه و آله بمعني سلبها عن اللّه تعالي، فكلهم مالكون علي نحو طولي، فلها مراتب اربع كل واحد في طول الآخر فراجع حديث أحمد بن محمد (الحديث 2) بل لعل قول تعالي: وَ أَنْفِقُوا مِمّٰا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «1» أيضا ناظر إليه.

هذا و لكن الظاهر أنّ سيرتهم عليهم السّلام قد استقرت علي عدم الانتفاع بهذا النوع من الملكية، و لذا لم ينقل من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و لا من الأئمّة الهادين الذين هم أوصيائه و خلفائه عليهم السّلام أخذ شي ء من أموال الناس بغير الطريق المعهودة في الفقه استنادا إلي أنّهم مالكون لها، كما هو ظاهر لمن راجع سيرتهم.

ثانيها: حملها علي الملكية و الولاية التكوينية، فانّ اللّه له الولاية علي جميع الخلق، لأنّه

______________________________

(1). سورة الحديد، الآية 7.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 546

خالقهم و له ولاية تشريعية يتبعها، بل هو فوق التشريع كما لا يخفي، و أمّا أولياؤه المعصومون عليهم السّلام فلهم أيضا ولاية تكوينية في أبواب المعجزات و الكرامات بل و غيرها، لأنهم غاية الخلقة (فان غاية الخلقة، الإنسان الكامل، و هم أتم مصاديقه) فاللّه ولي لأنّه العلة الفاعلية، لأنّهم علل غائية، و حينئذ لا يكون لهذه الأخبار دخل بما نحن بصدده بل هي ناظرة إلي ملكية، فوق الملكية الفقهية.

هذا و لكن هذا التوجيه لا

يساعد عليه بعض هذه الأخبار ممّا صرّح فيها بجواز أنواع التصرفات تشريعا، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ هذا القسم أخبار آحاد ضعاف، فتأمل.

و علي كل حال لا دليل علي ثبوت هذا المقام- علي القول به- للفقهاء (رفع اللّه رأيتهم و اعلي اللّه درجتهم) لعدم قيام دليل عليه مطلقا، بل الدليل إنّما قام في خصوص إقامة الحكومة الإسلامية مع شرائطها لا غير، كما عرفت مبسوطا، و اللّه الهادي إلي سواء السبيل.

بقي هنا شي ء:

قد ثبت ممّا ذكرنا بحمد اللّه ولاية الفقيه علي أمر الحكومة إذا استكمل فيه شرائطها و مقدماتها و حدودها، و لكن يبقي السؤال في أنّ هذا الحكم عام لجميعهم أو خاص لبعضهم؟ و كيف يكون طريق الاختيار عند التشاح أو التعيين لو كان هناك ملاك للتعيين؟

و الاحتمالات هنا ثلاثة:

الأوّل: إنّها ثابتة لهم بعنوان العام الأفرادي الاستغراقي، فكل واحد له هذا الحق بالفعل، و لا يتوقف فعليته علي أمر آخر وراء كونه فقيها جامعا للشرائط.

الثاني: إنّها ثابتة لهم بالفعل بعنوان العام المجموعي، فالمجموع من حيث المجموع لهم هذا الحق، فلا بدّ من التشاور و التعاضد من الجميع.

الثالث: إنّها ثابتة لهم بالاقتضاء بعنوان العام الأفرادي، و لا تكون فعليّة بانتخاب الامة، فالانتخاب هو الطريق الوحيد للفعلية.

و قد يورد علي الأوّل باستلزامه الهرج و المرج، و نقض الغرض، فانّ الغرض الأعلي من الحكومة هو حفظ النظام، و لكن ثبوت الولاية الفعلية لكل واحد من الفقهاء مع اختلاف

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 547

الانظار و الافكار و السلائق، يؤدّي إلي اختلال النظام.

و علي الثاني بأنّه لم يقل به أحد، بل استقرت سيرة المسلمين علي خلافه و هذا يعني صحة الاحتمال الثالث.

أقول: أمّا القول الأخير فهو أشد مخالفة لسيرة

أصحابنا من الثاني لأنا لم نسمع من أحدهم الرجوع إلي الانتخاب في إثبات ولي أمر المسلمين، فانّ الانتخاب أمر استجدّ في القرون الأخيرة، و مأخوذ من بلاد الغرب و ليس في أخبارنا عين و لا أثر و لا يوجد في أي تاريخ الإسلام كما عرفت سابقا، فكيف يقال بأن الطريق الوحيد لتعيين الوالي هو هذا؟!

و أمّا مسألة «البيعة» فقد عرفت سابقا أنّها أجنبية من مسألة الانتخاب من جهات شتي في مفهومها و نتائجها، فقد كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله نبيا مرسلا و واليا و حاكما باذن اللّه و اختياره تعالي، و كان يأخذ البيعة كرارا من أصحابه، و كان ذلك للتأكيد علي وفائهم له، و طريقا إلي نفخ روح جديد و بعث حركة جديدة فيهم، و كذلك كان مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام.

و الفرق بين البيعة و الانتخاب لا ينحصر بهذا بل بينهما فروق كثيرة من نواح اخري مرّ ذكرها سابقا.

نعم الانتخاب كان طريقا وحيدا، لتصدي بعض الخلفاء كالخليفة الأوّل لكن لا انتخاب الناس جميعا، و لا أهل البلد، و لا انتخاب جميع أهل الحل و العقد، بل انتخاب جماعة خاصة يسمّونه بالشوري عندهم، و هو جماعة من الصحابة حضروا في السقيفة موافقون لمقاصدهم، هذه هي حقيقة شوراهم و كيفية انتخابهم، و قد نتج ذلك للمسلمين ما نتج.

فالاحتمال الأخير منفي من جهات، نعم قد يحتاج إليه لمراعاة الغبطة كما سنشير إليه إن شاء اللّه.

و أمّا القول الثاني فهو ممّا لم يقل به أحد، و مخالف لما يظهر من الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) قديما و حديثا من التصدي لأمر القضاء و القصاص و إجراء الحدود عند بسط اليد، و أخذ الأخماس و الزكوات،

من التصدي كل فقيه جامع للشرائط في بلده إذا قدر علي شي ء من ذلك من دون أن يتوقف في أمره طلبا لموافقة الباقين في البلد أو في خارجه، و هذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 548

و الذي استقرت علي سيرة العلماء العاملين، و السلف الصالح قديما و حديثا و المعاصرين، هو الاحتمال الأول، أعني ثبوت الولاية لكل واحد بالفعل مستقلا، و لذا كان العلماء الكبار كما عرفت عند بسط يد بعضهم في بعض الاقطار يقيمون الحدود الإلهية، و ينفذون الأحكام الإسلامية، من غير توقف علي رأي الآخرين في البلد و خارج البلد، و من دون توقف علي انتخاب الامة لما عرفت من أنّه أمر مستحدث.

نعم يبقي الكلام فيما عرفت من الإشكال من لزوم التشاح و التنازع و الهرج و المرج بتصدي الجميع كل واحد مستقلا، و لكن الإنصاف إن دفع التشاح و التنازع أمر ممكن، و له نظائر في الفقع الإسلامي.

توضيحه: إنّ الظاهر من أدلة الولاية ثبوتها لكل واحد من الفقهاء مستقلا بعنوان عام أفرادي، سواء قوله «أمّا الحوادث الواقعة … » أو «مجاري الامور.» أو قوله «أني جعلته عليكم حاكما» (علي القول بدلالتها)، نعم الأخذ بالقدر المتيقن ربّما يؤيد الاحتمال الثاني، أعني ثبوت الولاية للمجموع من حيث المجموع، اللّهم إلّا أن يقال أنّه مخالف للسيرة المستمرة بين الفقهاء و هو كذلك.

فإذا ثبت أن الطريق منحصر في الأوّل، أعني ولاية كل واحد منهم فللمسألة صور مختلفة:

1- لو اقدم بعض من اجتمعت فيه الشرائط، علي تأسيس الحكومة وجب علي الباقين عدم الخروج عن أوامره و عدم المزاحمة له، كما هو كذلك في باب القضاء و رؤية الهلال و غيرهما.

2- إذا

أقدم اثنان أو أكثر علي تأسيسها و كان لكل اتباع و انصار، ثم وافقا أو وافقوا علي ولاية الشوري بأن تكون الحكومة بيدهما أو بيدهم أجمعين لم يبعد صحة أعمالهم منهم علي هذا النحو، بعد تأكيد الشارع المقدس علي المشاورة في جميع الامور.

و ما قد يقال من أنّ إدارة شئون الامة لا سيما في المواقع المهمّة تتوقف علي وحدة مركز القرار، و التعدد يوجب غالبا الفشل أو تعطيل كثير من المصالح صحيح بالنسبة إلي أمثالنا ممن لا عهد لهم بالأعمال الجمعية، و لا يقدرون إلّا علي العمل الفردي و أمّا إذا تمّت الثقافة

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 549

علي التعاون و التعاضد، و الاستمرار علي الجماعة حتي في قمة الحكومة- كما في بعض بلاد العالم- فلا يبعد إمكانه و جوازه، بل لو حصل الاستعداد لذلك ربّما كان أنفع و أصلح من حكومة الأفراد، و لكن المشكلة العظمي هي طريق تحصيل هذا الاستعداد الروحي و نفي الاستبداد بجميع إشكاله.

3- إذا لم يوافقوا علي ولاية الشوري أو قلنا بعدم إمكانها أو عدم الاستعداد لها، أو كونها موجبة للفشل، فاراد كل منهم تصديه لها منفردا، و رأي المصلحة في ذلك، مع اجتماع الشرائط في كل منهم، فلا بدّ من الرجوع إلي المرجحات و يمكن الاستيناس لها بما ورد في باب التعادل و الترجيح من المرجحات، و أوضح حالا منه ما ورد في باب قاضي التحكيم، بل و يمكن الاستدلال له بأنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير، فلا بدّ من الأخذ بالتعيين، و علي كل حال يختار من فيه المرجح.

إن قلت: ما المعيار في تشخيص المرجحات؟ و من المرجع في ذلك؟

قلنا: المرجع فيه هو أهل

الخبرة كما في غيره من أمثاله في أبواب الفقه، فأهل الخبرة هم المرجع الوحيد في تعيين من هو الأصلح من بين الفقهاء الصالحين و لو فرض فرضا نادرا أو محالا عاديا تساويهما من جميع الجهات أو بالكسر و الانكسار في جهات مختلف بحيث يتحير فيه أهل الخبرة، و لا يفضل واحد منهم علي الآخر شيئا، يمكن الرجوع إلي القرعة، و لكن الانصاف أنّ هذا نادر جدّا، أو لا يوجد له مصداق عادة، و علي فرض وجوده فما المانع من الرجوع إليها بعد كونها مدارا لفصل الخصومات و المنازعات، و المفروض كون اطراف القرعة جميعهم صلحاء عدول لا يفضل واحد علي الآخر.

نتيجة البحث في مسألة ولاية الفقيه:

فقد تحصل من جميع ما ذكرنا من أول هذه المسألة إلي هنا امور:

أحدها: أنّه لا ينبغي الشك في ولاية الفقيه علي أمر الحكومة و قد دلّت عليها أدلة مختلفة.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 550

ثانيها: ولاية الفقيه إنّما هي في إجراء أحكام الشرع سواء الأحكام الثابتة بالعناوين الأولية أو الثانوية، و ليس له فيما وراء الأحكام الولائية و الامور الإجرائية بما هو وال شي ء آخر، و أمّا بما هو مجتهد مستنبط، أو قاض، فمقتضاه أمر آخر.

ثالثها: إنّ العمدة في المسألة هو التمسك بالقدر المتيقن من أدلة وجوب الولاية، و لزوم الحكومة و عدم جواز الاخلال بها، و أنّه لا بدّ للناس من أمير، مضافا إلي روايتي «مجاري الامور» و «الحوادث الواقعة».

رابعها: ولاية الفقيه مشروطة بشرائط كثيرة من قبيل وجوب رعاية غبطة المسلمين و مصلحتهم، و الرجوع إلي أهل الخبرة فيما يحتاج إلي ذلك، و المشاورة مع من هو أهل لها في المسائل المهمّة المشكلة.

أضف إلي ذلك الشرائط و الأوصاف العامة و الخاصة المعتبرة

في الفقيه نفسه بحيث يكون جامعا لشرائط الحكومة من الذوق السليم و الخبرة بالامور و المديرية و التدبير و الشجاعة اللازمة و غيرها.

خامسها: ولاية الفقيه علي الأموال و الأنفس كسائر ولاياته تكون علي وفق الأحكام الواردة في الشرع في العناوين الأولية و الثانوية التي يدور عليها الفقه الإسلامي فليس له التصرف في الأموال و النفوس لمصلحة شخصه مثلا دون مصلحة المجتمع و السنة و الإجماع و دليل العقل.

سادسها: الأحكام الولائية الثابتة للفقيه إنّما هي أحكام جزئية إجرائية في طول الأحكام الكلية الشرعية، لا في عرضها.

سابعها: العناوين الثانوية عناوين عرضية تعرض موضوع الحكم الاولي و توجب تغيير حكمه مؤقتا، و هي كثيرة و لا تنحصر بالضرورة و الاضطرار و العسر و الحرج، و الرجوع إليها لا يمكن أن يكون دائميا بل يكون في أوقات خاصة فقط.

ثامنها: إنّ الولاية علي التشريع و تقنين القوانين إنّما هي للّه وحده، و لم يثبت ذلك لغيره، إلّا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في موارد خاصة محدودة قبل إكمال الشريعة و انقطاع الوحي، و كان ذلك باذن اللّه من قبل، و امضائه من بعد، و إمّا بعد اتمام الدين و إكماله و انقطاع الوحي لم يبق له مورد لأحد من بعده.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 551

تاسعها: يظهر من روايات كثيرة أنّ العالم كلّه ملك لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و من بعده من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام إما من باب أنّهم علل غائية للعالم (لأنّ العالم خلق للإنسان الكامل و هم أتمّ مصاديقه) فالعالم كلّه لهم، أو لهم ملكية في طول ملكية الناس لأموالهم المصرّح بها في الآيات الكثيرة و الروايات المتواترة. و علي كلّ

حال لم يسمع انتفاعهم بهذه الملكية الإلهية في أخذ شي ء من أموال الناس من غيره الطرق المعروفة في الفقه.

عاشرها: الولاية علي الخلق و الايجاد إنّما هي للّه تعالي وحده، نعم للأنبياء و الأولياء المعصومين ولاية في المعجزات و شبهها نظير ما ورد في حق المسيح عليه السّلام أنّه كان يحيي الموتي باذن اللّه، و هذه شعبة من الولاية التكوينية لهم، و هذا و غيره يحتاج إلي بسط الكلام في مقام آخر، و تلك عشرة كاملة و الحمد للّه.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 553

[الرابع] ولاية عدول المؤمنين

اشارة

هل لعدول المؤمن ولاية عند عدم وجود الفقيه، أو في عرضه، فيما لا يشترط فيه الفقاهة و الاجتهاد، أم لا؟

المعروف بين فقهائنا (رضوان اللّه عليهم) أنّه يجوز لهم التصدي لهذه الامور عند فقد الفقيه، قال في «مفتاح الكرامة» في كتاب البيع بعد ذكر الأولياء السبعة (المالك، و الأب، و الجد، و الحاكم، و أمينه، و الوصي، و الوكيل): «الأشهر الأظهر بين الطائفة كما في الرياض مع زيادة العدول من المؤمنين مع فقد هؤلاء، فإنّه احسان محض مع دعاء الضرورة إليه في بعض الأعيان، و فيه أخبار معتبرة» «1».

و قال في كتاب «الحجر»: «يستفاد من بعض الأخبار ثبوت الولاية للحاكم مع فقد الوصي، و للمؤمنين مع فقده، و في الحدائق نسبته إلي الأصحاب، و في مجمع البرهان الظاهر ثبوت ذلك لمن يوثق بدينه و أمانته بعد تعذر ذلك كله» ثم استدل بامور تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه «2».

و في «الحدائق» في كتاب «الوصايا»: «لا خلاف بين الأصحاب في أنّه لو مات و لم يوص إلي أحد و كان له تركة و أموال و أطفال فان النظر في تركته للحاكم الشرعي

و إنّما الخلاف في أنّه لو لم يكن ثمّة حاكم، فهل لعدول المؤمنين تولي ذلك أم لا؟ الذي صرّح الشيخ و تبعه الأكثر، الأول، و قال ابن ادريس بالثاني» ثم نقل كلام الشيخ في «النهاية» في

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 184.

(2). المصدر السابق، ج 5، كتاب الحجر، ص 275.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 554

جواز تصدي بعض المؤمنين لذلك و كونه صحيحا ماضيا «1».

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك في كتاب الوصايا في بحث الأولياء: «فانّ فقد الجميع فهل يجوز أن يتولي النظر في تركة الميت من المؤمنين من يوثق به؟ قولان «أحدهما» المنع، ذهب إليه ابن ادريس قدّس سرّه.

و «الثاني» و هو مختار الأكثر تبعا للشيخ قدّس سرّه الجواز، ثم استدل بامور تأتي الإشارة إلي إن شاء اللّه» «2».

فتحصل من جميع ذلك الوارد في أبواب الوصايا و الحجر و البيع، أنه لم يعرف في المسألة مخالف مشهور، ما عدا ابن ادريس، فانّه بعد ما صرّح (في بحث الوصايا) بولاية فقهاء الشيعة، لأنّ الأئمّة عليهم السّلام و لو هم ذلك، أنّه «لا يجوز لمن ليس بفقيه أن يتولي ذلك بحال، فإنّ تولاه فانّه لا يمضي شي ء ممّا يفعله لأنّه ليس له ذلك بحال» «3».

هذا و قد استدل علي فتوي المشهور بامور:

1- ما دلّ علي الأمر بالتعاون علي البر و التقوي.

2- ما دلّ علي الأمر بالاحسان.

3- ما دلّ علي وجوب الأمر بالمعروف، و إن كان معروف صدقة.

و يرد علي الجميع أن كونها في مقام البيان من هذه الجهة، أعني جهة إثبات الحكم الوضعي، و هو الولاية لعدول المؤمنين، غير ثابت، بل يمكن دعوي عدم كونها في مقام البيان من هذه الناحية.

4- ما

دلّ علي فعل الخضر عليه السّلام و أنّه خرق السفينة التي كانت لمساكين يعملون في البحر و كان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا.

قال في الجواهر في كتاب الحجر: «قيل حكاية فعل الخضر عليه السّلام يقتضي ثبوتها لعدول المؤمنين» «4».

______________________________

(1). الحدائق الناظرة، ج 22، ص 589، كتاب الوصايا.

(2). مسالك الافهام، ج 2، ص 416، كتاب الوصايا.

(3). نقلا عن الحدائق الناضرة، ج 22، ص 589.

(4). جواهر الكلام، ج 26، ص 103، كتاب الحجر.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 555

فكأن الاستدلال بها من جهة أنّ الخضر عليه السّلام لم يكن نبيّا، أو كان نبيّا و لكن ذكر فعله في القرآن إرشادا إلي مثل هذا الفعل من ناحية المؤمنين أيضا.

أقول: يرد عليه «أولا»: أنه لا دلالة فيها علي جواز ذلك لغير الأنبياء و من يقوم مقامهم بناء علي نبوة الخضر عليه السّلام و ما ذكره وجها للتعميم غير وجيه.

«ثانيا»: الظاهر أنّ عمل الخضر عليه السّلام كان خاصا به، و أنّه كان مأمورا بالباطن دون الظاهر، و إن شئت قلت: كان عمله في سلسلة الأسباب التكوينية لمشية اللّه كما في ملائكة قبض الأرواح و المدبرات أمرا، و لكن كان موسي عليه السّلام مأمورا بالظاهر في سلسلة المشية التشريعية، و لذا لم يمكن لهما المعاشرة و كان يعترض موسي دائما علي الخضر، و كان لا يستطيع عليه صبرا، و هذان الوظيفتان مختلفتان، أو نحن مأمورون بما أمر به موسي عليه السّلام، و هذا بحث دقيق عميق نتعرض له إن شاء اللّه تعالي في محله.

5- و هاهنا روايات استدلوا بها علي المطلوب:

منها: صحيحة ابن بزيع قال: «مات رجل من أصحابنا و لم يوص فوقع أمره إلي قاضي الكوفة فصير عبد

الحميد القيم بماله، و كان الرجل خلف ورثة صغارا و متاعا و جواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن اذ لم يكن الميت صير إليه وصيته، و كان قيامه فيها بأمر القاضي، لأنّهن فروج، قال فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه السّلام و قلت له: يموت الرجل من أصحابنا و لا يوصي إلي أحد، و يخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منّا … فما تري في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيم به مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس» «1».

و دلالته مبنية علي كون المماثلة، المماثلة في العدالة و الوثاقة، و مع احتمال كون المماثلة في الفقاهة يسقط عن الدلالة.

و منها: ما رواه اسماعيل بن سعد الاشعري قال: «سألت الرضا عليه السّلام عن رجل مات بغير وصية و ترك أولادا ذكرانا، غلمانا، صغارا و ترك جواري و مماليك هل يستقيم أن تباع

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 16 من أبواب عقد البيع، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 556

الجواري؟ قال: نعم، و عن الرجل يموت بغير وصية و له ولد صغار و كبار، أ يحل شراء شي ء من خدمه و متاعه من غير أن يتولي القاضي بيع ذلك، فان تولاه قاض قد تراضوا به و لم يستعمله الخليفة أ يطيب الشراء منه أم لا؟ فقال:، إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع، و قام عدل في ذلك» «1».

و دلالته علي المطلوب لا بأس به، و وجه اعتبار رضي الأكابر من ولده واضح، لأنّه ليس للولي ولاية عليهم.

و منها: ما رواه سماعة في الموثقة قال: «سألته عن رجل مات و له بنون

و بنات صغار و كبار، من غير وصية، و له خدم و ممّاليك و عقد، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس» «2».

و هو دليل علي كفاية مجرّد الوثاقة.

و منها: صحيحة علي بن رئاب قال: «سألت أبا الحسن موسي عليه السّلام عن رجل بيني و بينه قرابة مات و ترك أولادا صغارا، و ترك مماليك له غلمانا و جواري و لم يوص فما تري فيمن يشتري منهم الجارية فيتخذها أم ولد و … قال: لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم لهم، الناظر فيما يصلحهم» «3»، و لكن يمكن الإشكال فيه بأن ذكر المولي و القيم لعله إشارة إلي مثل الجد أو من نصبهم الحاكم لذلك فيشكل دلالته علي المقصود.

حاصل الكلام في ولاية عدول المؤمنين:
اشارة

و التحقيق أن يقال: إنّ الامور التي يتولاها الولي الفقيه مختلفة، «تارة» يكون ممّا لا يمكن تعطيله و لا تركه، مثل حفظ أموال اليتامي و الغيب و القصر، و كذا اجراء الحدود إذا كان تركه سببا للفساد، و إشاعة للفحشاء (كما هو كذلك) و احقاق الحقوق، و القصاص الذي فيه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 16 من ابواب عقد البيع، ح 1.

(2). المصدر السابق، ج 13 الباب 88 من أحكام الوصايا، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 557

حياة الامة، و أولي من الجميع إقامة الحكومة لدفع الهرج و المرج و حفظ نظام المجتمع.

و «اخري» لا يكون كذلك مثل التجارة بمال اليتيم، له، حتي ينمو و يزيد و يبارك فيه.

أمّا الأوّل فلا كلام في وجوبه، و لا أشكال، و إن لم يكن هناك دليل نقلي، لأنّها من الامور التي قياساتها معها،

و الظاهر أنّ ما ورد في روايات الباب بالنسبة إلي أمر الصغار و الأيتام من هذا القسم فتأمل.

و بالجملة: ولاية عدول المؤمنين في هذا القسم ممّا لا ينبغي الكلام فيه، و لا شبهة تعتريه، و لا أظن من أحد الخلاف فيه، إلّا أن يكون خلافا في الصغري، و الظاهر أن ابن ادريس أيضا غير مخالف في هذا القسم، بعد فرض عدم إمكان تعطيله، و استناده إلي الأصل أيضا مشعر بذلك، فان الأصل في المسألة و إن كان هو عدم ولاية أحد علي أحد و لكنه مقطوع هنا بقيام الدليل القطعي علي خلافه، لأنّ المفروض عدم إمكان صرف النظر منه.

قال في الجواب إشارة إلي قول ابن ادريس: «مراده نفيها علي حسب ولاية الأب و الجد و الحاكم لا مطلقا، و حينئذ يرتفع النزاع علي هذا التقدير» «1».

و لعله أيضا ناظر إلي ما ذكرنا فان ولاية الأب و الجد (و علي احتمال ولاية الحاكم) لا يختص بموارد الضرورة بل يشمل غيرها أيضا.

و الذي يؤيد ذلك أنّهم صرّحوا بعدم ولاية الام و غيرها من الأقارب علي كل حال يعني مثل ولاية الأب و الجد، فهذا دليل علي أنّهم ناظرون إلي الصورة الثانية، و إلّا في موارد الضرورة لا إشكال في ولايتهم عند عدم وجود من يتقدم عليهم.

قال في الجواهر في كتاب الحجر في شرح قول المحقق: «الولاية في مال الطفل و المجنون للأب و الجد» ما لفظه: «فان لم يكن الحاكم، فظاهر جملة من العبارات المعددة للأولياء عدم الولاية حينئذ لأحد، بل هو صريح المحكي عن ابن ادريس، و هو كذلك بالنسبة إلي الام و غيرها من الاخوة و الأعمام و الاخوال و غيرها بلا خلاف أجده، بل

عن التذكرة الإجماع عليه في الام بل عن مجمع البرهان أنّه إجماع الامة» «2».

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 28، ص 427.

(2). المصدر السابق، ج 26، ص 103.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 558

أضف إلي ذلك أنّه من البعيد جدّا أن يحكم فقيه بترك مال الصغير حتي يفني و يتلف، و كذلك الحكم بجواز ترك المجتمع بلا أمير، فيختل نظامهم و يفني معاشهم و معادهم.

و من هنا يعلم أنّه لا تنحصر الولاية في هذا القسم بالعدل، و أنّه إذا لم يكن الوصول إلي العدل جاز تصدي الفاسق إذا كان موثوقا به في هذا الأمر، لعين ما مرّ من الدليل.

هذا بالنسبة إلي القسم الأوّل، و أمّا القسم الثاني فمقتضي الأصل عدم ولاية العدل فيه فلا يجوز له الاتجار بمال اليتيم تنمية له، و ما أشبه ذلك، و أمّا مجرّد حسن الاحسان، و كل معروف صدقة، و المؤمنين بعضهم أولياء بعض، و غير ذلك فالظاهر قصورها عن إثبات جواز ذلك، لما عرفت من عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة.

بل يشكل القيام به للفقيه أيضا، نعم للولي الخاص كالأب و الجد ذلك، و الحاصل لو فصلنا موارد المسألة بهذا التفصيل (بين ما لا يمكن تعطيله بحكم الشرع و العقل، و ما يمكن تعطيله) كان الحكم واضحا غاية الوضوح.

نعم قد يقال: إن بعض روايات الباب مطلقة مثل رواية «اسماعيل بن سعد».

و قد وقع السؤال فيها عن بيع الجواري، و هو أعم من أن يكون للضرورة أو لإصلاح المال و تنميته، و كذلك صحيحة «اسماعيل بن بزيع» فان السؤال فيها أيضا مطلق بالنسبة إلي بيع الجواري، و لكن يشكل الاعتماد علي هذا الاطلاق مع كون الغالب السؤال عن حفظ

الأموال من الفساد و التلف، فالاحوط لو لا الأقوي عدم الجواز.

و لو فرض اطلاق في مقام يشكل القول به في سائر المقامات إذا لم يكن هناك اطلاق و الأصل عدم الولاية.

و قد تحصل ممّا ذكرنا أنّ ولاية عدول المؤمنين في الامور فيما لا يرضي الشارع بتعطيلها أمر ثابت معلوم دون غيرها، و لا نحتاج في أثبات هذا المعني إلي دليل أزيد من كونها ممّا لا يمكن تعطيلها شرعا.

من هنا يعلم أنّه إذا لم يقدر الفقيه علي تأسيس الحكومة الإسلامية إمّا لعدم خبرته بهذا الأمر، أو لعدم مساعدة الظروف له، أو عدم لعدم قبول الناس منه أحيانا، فاللازم اقدام غيره، ممن يوثق بعدالته و كفايته و تدبيره و حمايته عن الإسلام و المسلمين و يكون خبيرا بالامور، مقبولا عند الناس، علي تأسيس الحكومة، فانّ ذلك أمر لا يجوز تعطيله بحال، و لا بدّ للناس

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 559

من أمير حتي أن حكومة الفاجر أحسن من عدم الحكومة غالبا كما في رواية أمير المؤمنين عليه السّلام.

بقي هنا امور:
الأمر الأوّل: في اعتبار العدالة في المؤمن الذي يتولي هذه الامور

عند فقد الفقيه، ظاهر تعبيرات القوم ب «عدول المؤمنين» اعتبارها كما صرّح به شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث جعله ظاهر أكثر الفتاوي.

و لكن قد يقال بكفاية الوثاقة.

و يظهر من بعض الكلمات قول ثالث، و هو كفاية أحد الأمرين من الوثاقة و العدالة كما في جامع المدارك حيث قال بعد ذكر أحاديث الباب: و يمكن أن يكون الشرط أحد الوصفين من العدالة و الوثاقة، لأنّ الظاهر أن العدالة لا تلازم الوثاقة «1».

و علي هذا يكون في المسألة أقوال ثلاثة،، و لكن لم نفهم كيف يمكن تفكيك العدالة عن الوثاقة، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ العدالة توجب مجرّد الظن بعدم

ارتكاب الخلاف و الوثاقة مرحلة أعلي منه، أو يقال: إنّ العدالة تمنع التعمد بالخلاف لا الخطأ و الوثاقة يعتبر فيها عدم التخلف لا سهوا و لا عمدا (و كلاهما كما تري)، أو يكون المراد أنّ الوثاقة لا تلازم العدالة!

هذا، و لكن لا إشكال في أن مقتضي الأصل هو عدم الولاية إلّا ما خرج بالدليل، و مقتضاه اعتبار العدالة في المقام، و لكن لعل المستفاد من الروايات غير هذا، و ذلك لأنّ قوله عليه السّلام «إن قام رجل ثقة» في موثقة سماعة «2» ظاهر في كفاية مجرّد الوثوق.

و كذلك قوله عليه السّلام «نعم» في جواب السؤال عن بيع الجواري بصورة فعل مجهول «هل يستقيم أن تباع الجواري» «3» أيضا عام يشمل العدل و غيره و القدر المتيقن تقيده بالوثوق، و أمّا الأزيد فلا دليل عليه.

______________________________

(1). جامع المدارك، ج 3، ص 379.

(2). وسائل الشيعة، ج 13، الباب 88 من أحكام الوصايا، ح 2.

(3). المصدر السابق، ج 12، الباب 16 من أبواب عقد البيع، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 560

نعم في ظاهر بعض الأحاديث اعتبار العدالة «1».

و قد يستدل بصحيحة ابن بزيع أيضا، نظرا إلي أن قوله «إذا كان القيم مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس» يتحمل امورا اربعة المماثلة في الفقاهة و العدالة و الوثوق و التشيع، الأوّل لازمه بقاء المال بلا قيم عند عدم وجدان الفقيه، و القدر المتيقن من الاحتمالات الاخر هو العدالة (هكذا أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه).

و فيه: أنّه استدلال بالأصل لا بالخبر، غاية الأمر أنّ الخبر من قبيل المحفوف بما يحتمل القرينية فيكون مجملا، فتدبّر جيدا.

و قد يقال «كما في نهج الفقاهة» «2» أن هناك قرينة

علي عدم عدالته، لأنّه اكتفي في سائر التصرفات بمجرّد نصب قاضي الكوفة قيّما كما يظهر من توقفه من بيع الجواري فقط لأنهنّ فروج.

و يمكن الجواب عنه، بأنّ من المحتمل كونه من الفقهاء أو العدول و كان تصرفه بسبب هذه الأوصاف، لا بسبب نصب قاضي الكوفة فقط.

و قد يقال أيضا: إنّ في بعض نسخ التهذيب توصيف «عبد الحميد» بانّه «ابن سالم» و قد نص علي توثيقه جماعة.

و لكن أورد عليه في نهج الفقاهة بخلو بعض آخر عنه، مضافا إلي أنّ الثقة هو عبد الحميد بن سالم العطار، و لم يثبت أن هذا هو العطار.

أقول: قد وقع الكلام في أنّ عبد الحميد من أصحاب الصادق عليه السّلام أو الكاظم عليه السّلام فالنجاشي ذكره من أصحاب الكاظم عليه السّلام.

وعده الشيخ قدّس سرّه في رجاله من أصحاب الصادق عليه السّلام و ذكر ابنه «محمد بن عبد الحميد» من أصحاب الرضا عليه السّلام و حينئذ كيف يمكن أن يكون هو نفسه من أصحاب أبي جعفر الجواد عليه السّلام أو في عصره، لا سيما أنّه لم يرو عنه رواية أبدا.

و من العجب أنّ بعض الأعاظم ذكر في معجم رجال الحديث احتمال سؤال «ابن بزيع»

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، ج 12، الباب 16 من أبواب عقد البيع، ح 2.

(2). نهج الفقاهة، ص 305.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 561

عن هذه المسألة بعد فوت عبد الحميد، و أنت خبير بأنّه لا يوافق ظاهر الرواية لظهورها في كون هذه المسألة مبتلي بها في زمن الحال.

و الحاصل: أنّ استفادة اعتبار العدالة من هذا الحديث ضعيف من وجوه:

1- اختلاف نسخ التهذيب.

2- عدم ثبوت كون عبد الحميد بن سالم هو العطار الثقة.

3- من البعيد أن يكون مدركا

لعصر الإمام الجواد عليه السّلام لا سيما مع عدم نقل رواية عنه.

4- التصريح بوثاقته أعم من العدالة.

و الحاصل: أنّه يقع التعارض بين رواية «اسماعيل بن سعد» الظاهر في لاعتبار العدالة و موثقة «سماعة» الظاهر في كفاية الوثاقة، و يمكن الجمع الدلالي بينهما بحمل العدالة علي الوثاقة، لا سيما مع ما هو المرتكز في أذهان العرف و العقلاء من كفاية الوثاقة في أمثال المقام و إن كان الأحوط العدالة مهما أمكنت.

بقي كلام في تفصيل شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه و هو القول الرابع في المسألة، و حاصله: أنّه إن كان الكلام في مقام الثبوت و بالنسبة إلي مباشرة المكلف نفسه، فالظاهر جواز تصدي الفاسق له، فلا تعتبر العدالة و لا الوثاقة، و الدليل عليه شمول العمومات له مثل «عون الضعيف صدقة» و قوله تعالي: وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ*، و صحيحة «ابن بزيع» محمولة علي صحيحة «ابن رئاب» فتصرفات الفاسق صحيحة.

و إن كان في مقام الإثبات، و ارتباط فعل الغير بفعله، فالظاهر اشتراط العدالة فيه، و استدل له لصحيحة «اسماعيل بن سعد» بل و موثقة زرعة (سماعة) بناء علي إرادة العدالة من الوثاقة. مضافا إلي عمومات فعل ذلك المعروف، بعد باقية بحالها، لعدم العلم بصحة فعل الفاسق (انتهي ملخصا).

و فيه: أولا: أنّه ليس في الواقع تفصيلا «كما أشار إليه المحقق الايرواني قدّس سرّه في بعض حواشيه» «1» و أن العدالة اعتبرت للطريقية، فلو علم بأنّ الفاسق تصرف تصرفا صحيحا جاز

______________________________

(1). حاشية المكاسب للمحقق الايرواني، ص 159.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 562

فعله حتي بالنسبة إلي الغير، لإحراز الواقع هنا بالعلم فتأمل.

ثانيا: سلمنا، لكنّه مخالف لظاهر روايات الباب، فانّ ظاهرها اعتبار العدالة

أو الوثاقة بعنوان شرط للصحة واقعا كاعتبارها في صحة الطلاق و صلاة الجماعة، فان قوله في موثقة سماعة «إذا قام عدل في ذلك»، لا سيما بعد قوله «إذا رضي الورثة» (أي الكبار منهم) ظاهر في اعتبار العدالة واقعا كاعتبار رضي الكبار، و كذا قوله في صحيحة ابن بزيع «إذا كان القيم به مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس» (بناء علي ظهوره في العدالة أو الوثاقة) فحملها علي الطريقية بالنسبة إلي الغير غير واضح.

ثالثا: إنّ الأصل في المسألة كما عرفت من عدم ولاية أحد، فإثباتها في حق الفاسق يحتاج إلي دليل، و قد عرفت أنّ عمومات الاحسان، و حفظ أموال اليتامي، ليست في مقام البيان هذه الجهة، و هي مثل أدلة وجوب إجراء الحد علي الزاني و السارق في قوله تعالي:

الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا … و السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا.

و إن شئت قلت: هناك امور يكون أمرها بيد سلطان الناس و حاكمهم في جميع الامم، و الإسلام قد أمضاها، و لكن جعلها بيد السلطان العادل منها: إجراء الحدود، و إحقاق الحقوق، و حفظ أموال الغيّب و القصّر، و ليست هذه الامور من قبيل الاحسان المطلق، و الأنفال في سبيل اللّه و التعاون علي البر و التقوي، فالأدلة الدالة علي هذه الامور و إن كانت مطلقة و لكنها في الواقع ناظرة إلي العمل بها من ناحية من إليها الحكم، و ليست في مقام بيان من يكون له الحكم في هذه الامور بل لها أدلة اخري ناظرة إليها.

و من هنا يعلم أنّ ما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه قوله: «الظاهر أنّه (أي جواز تصرف عدول المؤمنين) علي وجه التكليف … علي وجه النيابة من

حاكم، فضلا عن كونه علي وجه النصب من الإمام عليه السّلام: ثم فرع عليه جواز المزاحمة في هذه من ناحية أشخاص آخرين ما لم يتم الأمر» في غير محله.

و ذلك لأنّ هذا التلقي من الامور الحسبية ليس علي ما ينبغي، و ليس وزانها وزان الواجبات أو المستحبات الاخر، فالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في الامور العادية شي ء، و فيما يوجب الكسر و الجرح شي ء آخر، فالأول من قبيل الأحكام، و الثاني من قبيل

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 563

المناصب التي بيد ولي الأمر، و هكذا حفظ مال اليتامي و الغيّب إذا لم يكن هناك وليّ خاص.

و من هناك يعلم أنّ جواز تصرف عدول المؤمنين إنّما هو بإذن ولي الأمر عليه السّلام و اجازته، فهم نائبون عنه في الواقع، فلا يجوز مزاحمتهم من حيث عدم جواز المزاحمة لولي الأمر و اللّه العالم.

و لعله من هذه الجهة قال المحقق النائيني قدّس سرّه في منية الطالب بعد نقل أحاديث الباب:

«فمع وجود العدل لا شبهة في أن المتيقن نفوذ خصوص ما يقوم به، نعم مع تعذره يقوم الفساق من المؤمنين بعد عدم احتمال تعطيله لكونه ضروريا» «1».

الأمر الثاني: في اشتراط ملاحظة الغبطة في عدول المؤمنين

، أو الفساق عند عدمهم و عدمه كلام، ظاهر كلمات الأصحاب اشتراطه قال في «مفتاح الكرامة» في شرح قول العلّامة قدّس سرّه: «و إنّما يصح بيع، من له الولاية، للمولي عليه» ما نصه: «هذا الحكم إجماعي علي الظاهر، و قد نسبه المصنف إلي الأصحاب فيما حكي عنه كما تسمع و أقره علي ذلك القطب و الشهيد» «2».

و قال في الحدائق، بعد ذكر الأخبار الآتية و يستفاد من هذه الأخبار الشريفة جملة من الأحكام:

«منها» أنّ التصرف في أموالهم يتوقف علي نوع

مصلحة لهم في ذلك.

و قال العلّامة قدّس سرّه في التذكرة في كتاب الحجر: «الضابط في تصرف المتولي لأموال اليتامي و المجانين اعتبار الغبطة و كون التصرف علي وجه النظر و المصلحة إلي أن قال:

«سواء كان الولي أبا أو جدّا له، أو وصيا، أو حاكما، أو أمين حاكم إلي أن قال- «و لا يعلم فيه خلافا إلّا ما روي عن الحسن البصري» «3».

و قال في مفتاح الكرامة في كتاب الحجر بعد نقل ذلك ما لفظه: «و ظاهره أنّه ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين».

______________________________

(1). منية الطالب، ج 1، ص 330.

(2). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 216.

(3). تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 80.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 564

أقول: لا يخفي أنّه ليس محل الكلام خصوص أموال اليتامي بل هو عام، و العمدة فيه اصالة العدم، و قد عرفت أنّه مبني الكلام في المقام مضافا إلي الروايات الواردة من طريق الخاصة و العامة.

1- ما رواه الكاهلي قال: قيل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنا ندخل علي أخ لنا في بيت أيتام و معه خادم لهم فنقعد علي بساطهم و نشرب من مائهم و يخدمنا خادمهم … فما تري في ذلك؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، و إن كان فيه ضرر فلا؟» «1».

و يمكن أن يقال أنّها ساكتة عن حكم عدم النفع و الضرر، و لكن التأمل فيها يعطي اشتراط النفع لهم.

2- ما رواه علي بن مغيرة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أن لي ابنة أخ يتيمة فربّما أهدي لها الشي ء فآكل منه ثم اطعمها بعد ذلك الشي ء من مالي فأقول: يا ربّ هذا بذا، فقال:

فلا بأس» «2».

فان أكل بعض

الهدية ثم اطعام اليتيمة بعد ذلك يكون مصلحة لها غالبا كما لا يخفي، و لكنه مجرّد سؤال و قيد من ناحية الراوي لا بيان شرط من ناحية الإمام عليه السّلام بخلاف الحديث السابق.

3- و مثله ما رواه العياشي عن أبي الحسن موسي عليه السّلام قال: «قلت له: يكون لليتيم عندي الشي ء و هو في حجري انفق عليه منه، و ربّما اصيب (اصبت) ممّا يكون له من الطعام، و ما يكون مني إليه أكثر: قال لا بأس بذلك» «3».

و هنا أيضا ذكر منفعة اليتيم في سؤال الراوي لا كلام الإمام عليه السّلام فتدبّر جيدا أضف إلي ذلك قوله تعالي: وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ* «4».

و قد ذكر فيها احتمالات كثيرة في معني «القرب» و «الأحسن»، و لكن الانصاف أنّ

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 71 من أبواب ما يكتسب، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، الباب 73 من أبواب ما يكتسب، ح 4.

(4). سورة الأنعام، الآية 152؛ سورة الاسراء، الآية 34.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 565

الظاهر من قوله تعالي: «لا تقربوا» عدم التصرف فيها بشي ء من التصرفات، و يلحق به ترك التصرف أيضا أحيانا إذا كان فيه ملاكه كما إذا كان ابقائه موجبا لفساده، و المراد «بالأحسن» كلما هو اصلح لليتيم و لأمواله، و بما أنّ الالتزام بالأصلح من بين جميع التصرفات لعله مخالف للسيرة القطعية، فالمراد به «الحسن» كما فسره به في «المجمع».

و علي كل حال يظهر منها لزوم رعاية المصلحة، فلا يكفي مجرّد عدم المفسدة، و يظهر منها و من الأخبار أيضا جواز الاتّجار بمال اليتيم للولي أي شخص كان، لإطلاقها و اطلاق بعض الأخبار أو

صريحها، و إن كان مخالفا لمقتضي الأصل، و لا مانع منه بعد وجود الدليل.

تنبيهات:

1- كثيرا ما يكون ترك الاتّجار بمال اليتيم سببا لفساده و استهلاكه و مصداقا للإفساد لا سيما إذا كان من النقود الورقية، و حينئذ لا ينبغي الشك في جوازه و لو لم يكن هذه الأخبار بأيدينا، لأنّ الولي لا بدّ أن يكون حافظا لأمواله، و هذا مناف لحفظها.

و إليه يشير ما رواه في التذكرة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله من طريق العامة أنّه صلّي اللّه عليه و آله قال: «من ولي يتيما له مال، فليتجر له و لا يتركه يأكله الصدقة» (و المراد منه الزكاة، أي إذا تركه تعلقت به الزكاة و انعدم تدريجا بخلاف ما إذا اتّجر به).

و لكن يشكل العمل بها علي مذهب الأصحاب، لعدم وجوب الزكاة في مال الطفل و في استحبابه كلام، و لذا قال في «مفتاح الكرامة» بعد نقل الحديث العامي «أنّه علي ضعفه مخالف لما عليه أصحابنا، إذ ليس في نقديه زكاة وجوبا و لا استحبابا».

كما أن ترك المراودة لليتامي و الصغار حذرا من التصرف في أموالهم أو أكل شي ء عندهم، كما شاع عند بعض المتورعين ممن لا خبرة لهم بأحكام الدين ربّما يكون فيه مضرّة لهم، و موجبا لكسر قلوبهم و سوء حالهم، و تشتت بالهم، فالمراودة كثيرا ما تكون من أظهر مصاديق القرب بالأحسن، و ربّما يعاوضه بما هو أكثر بل لو لم يعاوضه بشي ء ربّما كان مصلحة لليتيم، فيجوز من دون عوض، و لكن الأحوط استحبابا جعل عوض في مقابلها.

2- هذا و قد مرّ سابقا أن الأولياء حتي الأب و الجد إنّما نصبوا لحفظ أموال القصّر

أنوار الفقاهة - كتاب البيع

(لمكارم)، ص: 566

و الغيّب و تدبير امورهم، لا أنّ لهم حق علي المال، و قوله صلّي اللّه عليه و آله «أنت و مالك لأبيك» حكم أخلاقي لا حقوقي، فاللازم في جميع الموارد ملاحظة مصلحة المولي عليهم لا غير، حتي أنّ جواز تصرف الأب و الجد منوط بالمصلحة لعدم الدليل علي أزيد منه، فتدبّر.

3- إذا دار الأمر بين الصالح و الأصلح، فهل علي الولي ملاحظة الأصلح؟ قد يتصور أن ظاهر قوله تعالي: إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ* هو وجوب ترجيح الأصلح كما مرّت الإشارة إليه.

و لكن لا بدّ من التفصيل بين مواردها، فان كان الأصلح حاضرا يتوسل إليه بأدني شي ء أو بجهد يسير، فلا أشكال في وجوب الأخذ به، لأنّ تركه من قبيل الافساد و الاضرار أو بحكمه عرفا، فان كان هناك شخصان يشتريان المتاع، أحدهما يشتريه بعشر، و الثاني بعشرين، أو الذي يشتري بعشر في سوق قريب، و الذي يشتريه بعشرين في سوق آخر أبعد منه بقليل، ففي أمثال المقام لا ينبغي الشك في لزوم ترجيح الأصلح لما عرفت.

و أمّا إذا لم يكن كذلك فليس علي الولي الفحص عن جميع الأسواق، حتي يجد من يشتريه بأزيد من الجميع، لما عرفت من استقرار السيرة علي خلافه في الأولياء و الوكلاء و الأوصياء و متولي الأوقاف و لما فيه من العسر و الحرج احيانا.

4- مدار كلمات القوم كما عرفت في هذه الأبحاث، هو أموال اليتامي و شبههم، و لكن قد عرفت أنّ موضوع البحث عام يشمل جميع الامور الحسبية و الوظائف التي بيد الحاكم، و الامور التي لا يمكن تعطيلها بحكم الشرع، فاحقاق الحقوق و إجراء الحدود و القضاء و القصاص و الدفاع عن حوزة المسلمين و تجنيد

الجنود، و بالجملة الحكومة علي الناس، أيضا داخل في مورد البحث، فإذا لم يكن الوصول إلي الفقيه أو كان هناك فقيه غير نافذ الكلمة يجب علي عدول المؤمنين القيام بها، و إذا وقع التشاح لا بدّ من الرجوع إلي المرجحات التي أشرنا إليها سابقا، و قلما يحتاج إلي القرعة دفعا للتنازع، لوجود المرجحات الكثيرة المعروفة لدي أهل الخبرة، يحصل بها فصل المنازعة كما لا يخفي.

إلي هنا تم الكلام في مسألة ولاية «عدول المؤمنين» علي أمر الحكومة و غيرها.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 567

حكم بيع المصحف إلي الكافر
اشارة

قال جمع من الأصحاب بحرمة بيع المصاحف مطلقا، بل يباع الجلد و الورق، و عنونها شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب المحرمة بعد البحث عن الاجرة علي الواجبات.

و عنونها أيضا في كتاب البيع تحت عنوان «بيع المصحف من الكافر» و يظهر من القواعد بطلان هذا البيع، بل حكاه في مفتاح الكرامة عن التحرير، و التذكرة، و الإرشاد، و نهاية الأحكام، و مجامع المقاصد، و المسالك و غيرها «1».

و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب المحرمة: إنّ المشهور بين العلّامة قدّس سرّه و من تأخر عنه عدم جواز بيع المصحف من الكافر علي الوجه الذي يجوز بيعه من المسلم (يعني بيع الجلد و الأديم إن قلنا بعدم جواز بيع الورق و النقوش).

و لكن حكي عن المبسوط في باب الغنائم أنّ ما يوجد في دار الحرب من المصاحف و الكتب التي ليست بكتب الزندقة و الكفر داخل في الغنيمة فيجوز بيعها.

و لازمه تملك الكفار لها و إلّا كانت داخلة في مجهول المالك.

و قال في «نهج الفقاهة»: المشهور كما قيل عدم جواز نقل المصحف إلي الكافر «2».

أقول: الشهرة غير ثابتة إلّا بين

المتأخرين، و علي كل حال فقد استدل علي الحرمة بامور:

1- أنّه مناف لاحترام المصحف و قد يوجب هتكه.

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 82.

(2). نهج الفقاهة، ص 324.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 568

2- قد يكون معاونة علي الإثم لو علم بأنّه يمس خطوطه.

3- الحديث المشهور: «الإسلام يعلو و لا يعلي عليه» و قد استدل به هنا.

4- فحوي حرمة بيع العبد المسلم من الكافر.

5- قوله تعالي: لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا بناء علي أنّه إذا لم يجعل له سبيل علي المسلم و المؤمن، فنفي سبيله علي أصل الإسلام أي القرآن واضح.

و الجواب: أمّا عن الأوّل فانّ سلطة الكافر علي المصحف علي أقسام، فقد يشتريه لتفحص الحق فيه، فلا ريب في عدم الهتك هناك بل لزوم بيعه، و اخري يشتر به للإحاطة علي عقائد المسلمين لأنّه من المحققين في المذاهب العالمية مثلا، و لعله ليس معتقدا بشي ء منها، و ثالثة يشتريه بعنوان أنّه سلعة و كتاب من كتب التي ينتفع نفعا وافيا ببيعه و شرائه، و يحتفظ احتفاظه علي سائر الكتب، بل قد يكون القرآن من النفائس من حيث الخط و تاريخ الكتابة و قدمتها، و يحتفظ عليها كسلعة عالية، و يشتريه بأعلي الثمن، و ربّما يودعه بعض المتاحف.

و رابعة يشتري و يهينه (العياذ باللّه) إمّا لأنّه معاند أو لا يبالي بشي ء.

و من الواضح أنّ المنافي للحرمة إنّما هو الصورة الأخيرة فقط لا غير، مضافا إلي أن المسلم أيضا قد يعامل معه هذه المعاملة، فهذا الدليل أعم من وجه بالنسبة إلي المطلوب.

أضف إلي ذلك كله أن كون هذه الحرمة التكليفية منشأ للفساد قابل للمناقشة اللّهم إلّا أن يقال بعدم الانفكاك بينهما عرفا و

إن وقع الانفكاك بينهما عقلا.

و منه يظهر الجواب عن الثاني أيضا، لأنّه أيضا أعم من الوجه بالنسبة إلي المقصود، مضافا إلي ما عرفت من الإشكال في وجه الفساد، و أن مجرّد حرمة الاعانة تكليفا لا تلازم الفساد وضعا فتأمل.

و أمّا الثالث، أعني حديث «العلو» مع الغض عن سنده، فالجواب عنه متوقف علي ذكر احتمالات الحديث، فانّه أمّا بمعني العلو الخارجي التكويني، بمعني أن الكفار لا يعلون علي المسلمين، فلا يفوق علي الإسلام شي ء، و أمّا بمعني العلو التشريعي، أي لا يجوز للمسلمين أن يأتوا بشي ء يوجب علو الكفار عليهم، و ثالثة بمعني عدم العلو بحسب المنطق

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 569

و الدليل، و الحجة و البيان، و الاستدلال به يتوقف علي كون المعني المراد هو الثاني، و لكنه بعيد جدّا، بل الأظهر كونه بالمعني الثالث، أي عدم العلو بحسب الحجة و الدليل، أو المعني الأوّل، و لكن لا بمعني عدم هزيمة المسلمين في شي ء من الميادين، بل الإسلام من حيث المجموع يعلو شيئا فشيئا و يتقدم و يزدهر يوما فيوما في أقطار العالم.

و أمّا الرابع فانّ قياس المصحف علي العبد قياس مع الفارق، لأنّ العبد بما هو عبد ذليل عند مولاه، موهون عنده، و ليس المصحف بما هو مصحف كذلك، بل هو كسائر الكتب التي يشتريها المشتري لأغراضه، نعم لو أراد إهانته كان شبيها له من هذه الجهة، و لكن هذا خروج عن محل الكلام، و بالجملة سلطة المولي علي عبده مهانة الجهة دائما، و ليس كذلك سلطة المشتري علي متاع اشتراه.

و منه و ممّا سبق في حديث العلو يظهر الجواب عن الدليل الخامس، فانّ السبيل أيضا يحتمل فيه احتمالات ثلاث: السبيل التكويني

الخارجي، و السبيل المنطقي الاستدلالي، و السبيل التشريعي القانوني، و الاستدلال مبني علي المعني الثالث، و هو لا يخلو عن خفاء، بل من المحتمل هو المعني الأوّل، أو الثاني، كما سبق في نظيره و لا سيما مع ما يظهر من صدر الآية من كونها بصدد بيان الفتح الخارجي العيني (فراجع الآية 141 من سورة النساء) اللّهم إلّا أن يقال إنّها عامة شاملة للجميع فتأمل.

بقي هنا امور:
1- لو قلنا بالحرمة فالظاهر أنّها توجب الفساد أيضا

، و إن كان النهي في المعاملات لا يوجب فسادا بحسب الطبع الاولي، و هو نظير بيع العبد المسلم من الكافر الذي قالوا فيه أيضا بالفساد كما هو المحكي عن المشهور، و القول بصحته و لزوم اجباره علي البيع ضعيف جدّا، و بعيد من جهة التشريع الإلهي، فيقبح في حكمة الحكيم امضاء مثل هذا الاشتراط ثم إلزام البائع علي بيعه، و كذلك ما نحن فيه، لا سيما إذا قلنا إنّ من أدلة الحرمة هنا، قياسه علي حرمته في العبد الكافر، قياسا بالأولوية.

2- إذا قلنا بالحرمة فالظاهر أنّها لا تختص بالبيع

، بل تشمل جميع انحاء التمليك، و أمّا

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 570

بالنسبة إلي الإرشاد أو الأسباب الحاصلة من قبل كما إذا ارتد و كان عنده القرآن أو العبد المسلم فيمكن القول بثبوته بمقتضي الأدلة، ثم وجوب اشترائه منه، مثل ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أتي بعبد ذمي قد أسلم، فقال: اذهبوا فبيعوه من المسلمين، و ادفعوا ثمنه إلي صاحبه، و لا تقرّوه عنده» «1».

و المسألة لا تخلو عن إشكال.

3- قال في المسالك و الروضة بجريان الحكم في أبعاض القرآن أيضا

، و هو كذلك، بناء علي الأدلة السابقة لعدم وجود عنوان «القرآن» فيها، بل المدار علي عناوين آخر من الهتك و الاعانة و غيرهما، مضافا إلي ما قد يقال من صدق القرآن علي الكل و البعض.

نعم يشكل صدقة كصدق العناوين الآخر علي الآيات الموجودة في الكتب الاخري التي ذكرت للاستشهاد بها لمسائل خاصة، فلو كان هناك كتاب علمي استشهد فيه ببعض آيات القرآن لم يمنع عن بيعه، و إن حكمنا بالحرمة في أصله، و لا يجري الحكم أيضا في الكتب المنسوخة المحرفة كما هو ظاهر.

4- قال في الجواهر: «ربّما حكي عن ثاني المحققين أن الكتب الحديث و الفقه في حكم المصحف

لكن عن الفاضل أن في كتب الأحاديث النبوية وجهين، بل عن فخر الإسلام جواز بيع الأحاديث النبوية علي الكافر» «2».

أقول: المقامات مختلفة في ذلك، فقد يصدق الهتك و الإعانة علي الاثم و أمثالهما من العناوين، و قد لا يصدق فالحكم يختلف باختلاف المقامات.

و حكي أيضا عن استاده كاشف الغطاء أنّه يقوي الحاق كتب الحديث و التفسير و المزارات و الخطب و المواعظ و الدعوات و التربة الحسينية و تراب الضرائح المقدسة و رضاض الصناديق الشريفة و ثوب الكعبة، ثم قال فيما حكي عنه،: «و أمّا بيع الأرض الشريفة (مثل أراضي مكة و المدينة و النجف و كربلاء و شبهها) و ما يصنع منها من آجر أو خزف ففيه و جهان».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 712 الباب 28 من أبواب عقد البيع، ح 1.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 332.

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 571

قلت: أمّا بالنسبة إلي الكتب الدينية فالالحاق- إذا صدق العناوين المذكورة- قريب، و كذا التربة و ثوب الكعبة، و أمّا في مثل بيع الخزف و الآجر من الأراضي المقدسة فصدقها بعيد جدّا، كعدم صدقها علي البقول

و الفواكه المتخذة منها، و الظاهر أنّه وقع الافراط في المسألة مع غموض الحكم فيها من أصله و أساسه.

5- قد يستثني منه ما لو اشترط الوقف علي المسلم

، أو علم بانتقاله إلي المسلم بمجرّد البيع، كمن يشتري ليبيع علي المسلمين فورا، أو قبيل وقوعه في يده بأن كان بيد وكيله المسلم، كل ذلك لعدم صدق العناوين السابقة هنا، و هو حسن لانصراف الأدلة عنه.

و لكن ما في الجواهر من عطف المرتد الفطري علي هذه المسألة إذا جوزنا معاملته و كان الوارث مسلما غير تام، لأنّ المرتد الفطري إذا اكتسب بعد ارتداده شيئا لا ينتقل إلي وارثة المسلم و يبقي في يده و تحت ملكه علي الأقوي.

6- و قد يستشكل في جواز بيع ما يختص بالمؤمنين من كتب الحديث و شبهه

، من المخالفين، و كذلك التربة الحسينية و شبهها ممّا يختص بهم، و الانصاف أنّ إثبات هذه الامور بالأدلة السابقة في نهاية الإشكال، لعدم شمول «السبيل» و «العلو» لها، و كذلك قياس الأولوية بالنسبة إلي العبد المسلم، نعم لو انطبق عليها عنوان الهتك و شبهه كان الحكم به في محله.

إلي هنا تمّ الكلام في أمهات مسائل البيع إلي آخر أحكام «شرائط المتعاقدين» و يتلوه «الجزء الآتي» أن شاء اللّه في «شرائط العوضين» و ما يرتبط به من مسائل «أحكام الأرضين» علي ما هو حقها أحكام بيع الوقف (و نشير بهذه المناسبة إلي امهات مسائل الوقف أيضا إلي غير ذلك من تتمة مباحث البيوع).

كما يأتي بيان أحكام المكاسب المحرمة و ما يتلوها في مجلد آخر فتتم أحكام المكاسب و المتاجر، و ما يلحق بها، في «ثلاث مجلدات» بعون اللّه تعالي.

اللّهم اجعله لنا ذخرا ليوم المعاد، و علما ينتفع به العباد، و ارزقنا ثوابه من فضلك العميم

أنوار الفقاهة - كتاب البيع (لمكارم)، ص: 572

و منّك الجسم و احسانك القديم، بكرمك يا كريم.

و قد وقع الفراغ منه في عشية يوم الأحد 17 رجب المرجب من 1411 من الهجرة النبوية

علي هاجرها آلاف السلام و التحية.

قم- الحوزة العلمية ناصر مكارم الشيرازي

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.