انوار الفقاهه في شرح تحريرالوسيله: كتاب النكاح

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي، ناصر، 1305 - ، شارح.

عنوان قراردادي : تحرير الوسيله. شرح.

عنوان و نام پديدآور : انوار الفقاهه في شرح تحريرالوسيله: كتاب النكاح/تاليف ناصر مكارم الشيرازي ؛موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني.

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظيم و نشر تراث الامام الخميني (س) ، 1428، = 1386 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : 69000 ريال 978-964-335-934-8: ؛ 84000 ريال : ج. 2 : 978-964-335-945-4 ؛ 99000 ريال : 978-964-212-018-5

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج.3: (چاپ اول: 1387) (فيپا).

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1و 2 و 3 كتاب النكاح.-

موضوع : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368. تحريرالوسيله -- نقد و تفسير.

موضوع : فقه جعفري -- رساله عمليه.

موضوع : زناشويي (فقه).

شناسه افزوده : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368. تحرير الوسيله. شرح.

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني (س). موسسه چاپ و نشر عروج.

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني (س).

رده بندي كنگره : BP183/9 /خ8ت302177 1386

رده بندي ديويي : 297/3422

شماره كتابشناسي ملي : 1106618

[المدخل]

هوية الكتاب: اسم الكتاب: انوار الفقاهة/ كتاب النكاح (الجزء الاوّل)

المؤلّف: آية اللّه العظمي مكارم الشّيرازي

النّاشر: مدرسة الإمام علي بن ابي طالب عليه السّلام- قم

الطّبعة: الاولي/ 1425 ه

المطبعة: أمير المؤمنين عليه السّلام- قم

عدد النسخ: 1000 نسخة

رقم الصّفحات و القطع: 656/ وزيري

ردمك: 2- 03- 8139- 964

مركز التّوزيع: نسل جوان- للطّباعة و النّشر- قم- شارع شهداء- فرع 22 تلفكس: 7732478

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 3

[مقدمة المؤلف]

الفقه الإسلامي في العصر الحاضر

يعتبر «الفقه» من أغني العلوم الإسلامية، حيث تشكل الكتب الفقهية قسما مهمّا من المكتبة الإسلامية و قد كتبت آلاف من الكتب تتناول المسائل المهمّة في دائرة العلوم الفقهية منذ قديم الأيّام و إلي العصر الحاضر.

و في هذه الأجواء لا زال الفقه الشيعي، بسبب فتح باب الاجتهاد و استرفاد المعارف الفقهية من التراث الغني لأهل بيت النبي الأكرم صلّي اللّه عليه و آله و ورثة علمه، ينمو و يتسع يوما بعد آخر.

إن النبي الاكرم صلّي اللّه عليه و آله ارتحل عن الدنيا و خلّف فينا امرين: القرآن و العترة كما ورد في حديث الثقلين المقبول لدي جميع علماء الإسلام حيث قرن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عترته و أهل بيته عليهم السّلام مع القرآن الكريم و قال: «ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا و أنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض».

مضافا إلي أنّ فقهاء الشيعة، لغرض الاجتناب عن القياس و الاستحسان و الأدلة الظنية الاخري كانوا يصرّون علي حفظ اصالة الفقه و طرقه الشرعية، لأنّهم يرون أنّ الفقه و تحصيل الأحكام الشرعية يتمّ من خلال الاستفادة من القرآن الكريم و من روايات النبي الأكرم صلّي اللّه عليه و آله الواردة عن طريق أهل البيت عليهم السّلام من دون التورط

في منزلقات الأدلّة الظنية المذكورة.

و نري لحسن الحظ أنّ بعض علماء الفرق الإسلامية الاخري تحركوا في الآونة الأخيرة علي مستوي فتح باب الاجتهاد في الفقه و استخدام أدواته في عملية الاستنباط الفقهي من الكتاب و السنّة و الابتعاد عن التقليد، و هذه الظاهرة تبشر بخير!

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 4

هذا من جهة، و من جهة اخري نري تحولات عظيمة في المجتمعات البشرية المعاصرة حيث أفرزت معطيات و مسائل فقهية كثيرة، دخلت الدائرة الفقهية بعنوان «المسائل المستحدثة»، و لا بدّ للفقه المعاصر أن يتحرك من موقع تحكيم العلاقة بين «الشريعة» و «الحياة المعاصرة»، و العثور علي الأجوبة لجميع هذه المسائل و الاستفهامات، التي يفرض الواقع المتحرك، و هذا هو أحد العوامل الاخري لاتساع آفاق الفقه الإسلامي.

و بلا شك أنّ الفقيه الماهر المطّلع علي الكتاب السنّة و دليل العقل لا يجد في نفسه وحشة في مواجهة هذه المسائل المستحدثة مهما كانت عميقة و متنوعة، لأننا نقف علي قواعد متماسكة في الاصول، و القواعد الفقهية التي تساهم في عملية استنباط الأحكام الشرعية لجميع هذه المسائل.

و قد أشرنا في مقدمة كتابنا «المسائل المستحدثة» إلي هذه الاصول و القواعد و طريق استخراج و استنباط الأحكام الشرعية لهذه المسائل الجديدة في دائرة الفقه و ذكرنا الطرق العملية في هذه الحركة الاجتهادية (و علي الراغبين مراجعة هذا الكتاب).

و الذين يتصورون أن سعة دائرة المسائل المستحدثة سوف تقود الفقه إلي أجواء عرفية (أي الابتعاد عن الكتاب و السنّة و اللجوء إلي آراء و قوانين وضعية و بشرية) بعيدون عن جادة الصواب قطعا.

هؤلاء في الحقيقة غير مطّلعين علي الاصول و القواعد الغنيّة في الفقه الإسلامي التي تتكفّل الإجابة علي جميع المسائل المستحدثة،

و باب التجربة مفتوح و نحن مستعدون لعرض هذه المنابع الإسلامية أمام أية مسألة تطرح علي بساط البحث.

و في هذه الأجواء نري أنّ من أهم البحوث المطروحة في دائرة الفقه الإسلامي هي التي تتعلق بالمسائل المستحدثة الكثيرة في ابواب النكاح حيث تنطلق هذه الأسئلة علي أثر التحولات الاجتماعية و المستجدات الكثيرة في منظومة القيم و العلاقات البشرية، و خاصة في مجال نظام الاسرة ممّا يزيد في تعقيدات هذه المسائل و أهميتها.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 5

إنّ الحديث النبوي الشريف:

«ما بني في الإسلام بناء أهمّ من النكاح». يبيّن بجلاء الأهميّة التي أولاها الإسلام لمسألة النكاح.

و كما ورد في حديث آخر:

«من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق اللّه في النصف الآخر»

حيث يشير إلي دور الزواج في حفظ القيم الأخلاقية و العلاقات الاجتماعية و الأجواء المعنوية في حركة الحياة و الواقع المتغيّر للإنسان.

و لا شك أنّ من الضروري التحرك علي مستوي صيانة هذه السنّة الإسلامية المهمّة، و تقوية دعائم الاسرة يوما بعد آخر، و حمايتها من الذبول و الانحلال.

و هذا الكتاب الذي بين يديك يستعرض المسائل الفقهية المستوحاة من الكتاب و السنّة في باب النكاح، و سنحاول معالجة المسائل المستحدثة المتعلقة بالنكاح أيضا و أداء حقّها في هذا الكتاب إن شاء اللّه.

نأمل أن يكون كتابا نافعا للجميع، و ذخيرة ليوم المعاد.

محرم الحرام 1425 قم: ناصر مكارم الشيرازي

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 7

[و هو (النكاح) من المستحبّات الأكيدة]

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

مقدّمة البحث

اشارة

قال الإمام (قدّس سرّه الشريف) في تحرير الوسيلة:

و هو (النكاح) من المستحبّات الأكيدة؛ و ما ورد في الحثّ عليه و الذمّ علي تركه، ممّا لا يحصي كثرة، فعن مولانا الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: ما بني بناء في الإسلام أحبّ إلي اللّه عزّ و جلّ من التزويج. «1» و عن مولانا الصادق عليه السّلام: ركعتان يصلّيهما المتزوّج أفضل من سبعين ركعة يصلّيها غير متزوّج (عزب). «2»

و عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: رذّال موتاكم العزّاب. «3»

و في خبر آخر عنه صلّي اللّه عليه و آله: أكثر أهل النار العزّاب. «4»

و لا ينبغي أن يمنعه الفقر و العيلة، بعد ما وعد اللّه عزّ و جلّ بالاغناء و السعة، بقوله عزّ من قائل، إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ. «5» فعن النبي صلّي اللّه عليه و آله: من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء الظّنّ باللّه عزّ و جلّ. «6»

______________________________

(1). الشيخ الحرّ العاملي، في وسائل الشيعة 14/ 3، الحديث 4، الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح.

و التعبير بالبناء، كأنه اشارة إلي بناء نظام الاسرة التي هي مقدمة لبناء المجتمع البشري.

(2). هو، في الوسائل 14/ 8، الحديث 8، الباب 2 من أبواب مقدمات النكاح.

و لكن ورد فيه؛ … يصليها غير متزوج. و لم نعثر علي مدرك ما في متن التحرير.

(3). الوسائل 14/ 7، الحديث 3، الباب 2 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 8، الحديث 7، الباب 2 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). النور/ 32.

(6). الوسائل 14/ 25، الحديث 4، الباب 10 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)،

ص: 8

لما ذا اخترنا تحرير الوسيلة اخترنا من بين المتون الفقهيّة، كتاب تحرير الوسيلة الذي كان أساسه من الفقيه الماهر آية اللّه السيّد أبو الحسن الأصفهاني (ره) و سمّاه وسيلة النّجاة. و قد كان فقيها جامعا، له احاطة واسعة بالمسائل الفقهيّة، و ذهن سليم و ذوق بليغ و فكر مستقيم و له رئاسة عامّة علي جميع شيعة أهل البيت عليهم السّلام في عصره، تغمّده اللّه بغفرانه. ثمّ نقّحه الإمام الراحل (قدّس سرّه) و اضاف إليه مسائل كثيرة و حرّره تحريرا نافعا و سمّاه تحرير الوسيلة (جزاهما اللّه عن الإسلام و اهله خير الجزاء).

اخترنا هذا المتن لاشتماله علي مسائل كثيرة مبتلي بها في عصرنا ليست في كتب المتأخّرين- و كم ترك الأول للآخر- و مسائله و فروعه أمسّ بحاجة المسلمين في هذا العصر؛ و هو مع ذلك خال عن الاطناب المملّ و الاختصار المخلّ.

و مع ذلك، لا نغفل عمّا ذكره الفقيه المحقّق اليزدي (قدّس سرّه) في العروة الوثقي، و سائر الفقهاء (رضوان اللّه تعالي عليهم)؛ و نأتي بها في محالّة. و كذا المسائل المستحدثة*** التي ليست هنا و هناك (و من اللّه نستمدّ التوفيق و الهداية).

جملة من مستحبات النكاح

أقول: ما أفاده في مقدمة هذا الكتاب (كتاب النكاح) من التأكيد في استحباب النكاح؛ فهو من المشهورات في كلمات الفريقين، بل ادّعي عليه إجماع المسلمين. و كفاك في ذلك، ما ذكره في المسالك حيث قال: بإجماع المسلمين إلّا من شذّ منهم حيث ذهب إلي وجوبه. «1» و ما ذكره الفقيه الماهر (قدّس اللّه نفسه الزكيّة) في الجواهر، حيث إنّه بعد كلام المحقق (قدّس سرّه)، بأن النكاح مستحب لمن تاقت نفسه من الرجال و النساء؛ قال:

كتابا و سنة مستفيضة أو متواترة،

و إجماعا بقسميه من المسلمين فضلا عن المؤمنين، أو

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 9.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 9

ضرورة من المذهب بل الدين. «1»

و يظهر من كلام المسالك أنّ المخالف الشاذ قائل بالوجوب، لا عدم الرجحان؛ و من الجواهر احتمال كون المسألة من الضروريات، و هو غير بعيد؛ كما يظهر لكلّ من عاشر المسلمين، و لو زمانا قصيرا.

***

______________________________

(1) المحقق النجفي، في جواهر الكلام، 29/ 8

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 10

و ينبغي التنبيه هنا علي أمور مهمّة:

أحدها: ما استدل به لاستحباب النكاح

استدل لاستحباب النكاح، بالأدلة الثلاثة.

أمّا كتاب اللّه العزيز، فقد حث بقوله وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰاميٰ مِنْكُمْ وَ الصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ «1» بأبلغ البيان حيث لم يأمر بالنكاح، بل أمر بالإنكاح و هو أمر لجميع المسلمين علي تهيئة مقدمات نكاح العزاب و دفع موانعه و الاعانة علي إيجاد أسبابه و ما يحتاج إليه. و حيث إنّ المانع غالبا في الماضي و الحال كان هو خوف الفقر، فقد صرّح تعالي شأنه بأنّ هذا ليس مانعا: و وعدهم أنّه يغنيهم من فضله و قد ورد في الروايات، أنّ الرزق مع النساء و العيال. «2» فلو لم يكن أمرا هامّا، لما أمر المسلمين جميعا بالاشتراك في تسبيب أسبابه. و لم يرد بمثل هذا التعبير في غيره من الواجبات فلو لم يكن عديم النظير فلا أقل من أنّه قليل النظير.

و أمّا السنّة، فقد روي عن موسي بن جعفر عليهما السّلام: ثلاثة يستظلون بظلّ عرش اللّه يوم القيامة يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، رجل زوج أخاه المسلم أو أخدمه أو كتم له سرّا. «3»

و ستأتي الإشارة إلي شطر آخر، كما مرّت الإشارة إلي بعض منها. «4»

و أمّا الإجماع، فقد عرفت ما نقلناه في صدر

البحث.

بل و يدل عليه دليل العقل، لأنه سبب لحفظ بقاء النسل مع ما فيه من الآثار و البركات الكثيرة الاخري سنتعرض لها إن شاء اللّه تعالي.

______________________________

(1). النور/ 32.

(2). الوسائل 14/ 26، الحديث 4، الباب 11 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 27، الحديث 3، الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). و إن شئت العثور عليها، فراجع المجلد 14 من الوسائل، أبواب مقدمات النكاح، الباب 1 في استحبابه، و فيه 15 حديثا. الباب 2 في كراهة العزوبة، فيه تسعة احاديث. الباب 10 في كراهة ترك التزويج مخافة العيلة و الفقر، و فيه اربعة أحاديث. و الباب 11 في استحباب التزويج و لو عند الحاجة و الفقر، و فيه خمسة أحاديث. و الباب 12 في استحباب السعي في التزويج و الشفاعة فيه، و فيه ستة أحاديث. إلي غير ذلك.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 11

ثانيها: فلسفة استحباب النكاح و مصالحه الفردية و الاجتماعية

الف) حفظ نسل البشر

لا شك أنّ الطريق الصحيح لحفظ نسل البشر هو النكاح، فهو المطلوب للشارع المقدّس الذي اراد بقاء النوع؛ فقد ورد في الحديث المعروف النبوي صلّي اللّه عليه و آله: تناكحوا تكثروا فإني اباهي بكم الامم يوم القيامة و لو بالسقط. «1»

بل لو خيف انقراض النسل أو الفشل في نوع الإنسان، وجب النكاح علي المسلمين. و كذا إذا خيف غلبة الكفّار علي المسلمين بسبب كثرة نفوسهم و أولادهم.

إن قلت: قد وافق كثير من العقلاء و الخبراء من غير المسلمين- بل و من المسلمين أيضا- علي أنّ تحديد النسل و المواليد أمر لازم في عصرنا و إلّا حصل الفشل، و هذا لا يوافق ما ذكرت في مباهاة الرسول الأعظم صلّي اللّه عليه و آله و لو بالقسط.

قلت: هذا من قبيل استثناء في قاعدة

كليّة، له ظروف خاصة و شرائط معلومة؛ ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالي و إلي أدلتها، فالأخذ بالقاعدة الكليّة صحيح كما انّ الأخذ بالاستثناء مع حفظ حدودها و شرائطها أيضا صحيح.

ب) انه عون علي العفاف و التقوي

النكاح سبب المحافظة علي التقوي و العفاف و الاجتناب عن كثير من الكبائر العظيمة من الزنا و اللواط و المساحقة و الاستمناء بل و غيرها؛ و بدونه يشكل حفظ النفس منها قطعا؛ و لذا ورد في الحديث النبوي أنّه صلّي اللّه عليه و آله قال: من تزوج، أحرز نصف دينه. «2» و في حديث آخر: فليتق اللّه في النصف الآخر. «3»

______________________________

(1) العلامة المجلسي، في بحار الأنوار، 103/ 220، الحديث 24.

و قد ورد في الوسائل 14/ 3، الحديث 2، الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح؛ ما يقرب منه. و كذا في الوسائل 14/ 34، الحديث 2، الباب 17، من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 5، الحديث 11، الباب 1 من أبواب المقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 5، الحديث 12، الباب 1 من أبواب المقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 12

و في حديث آخر: فليتق اللّه في النصف الباقي. «1»

و لعلّ كونه حافظا لنصف الدين، نشأ من كون الغريزة الجنسية تعادل جميع الأميال و الغرائز الاخري؛ و ليس ببعيد كما يظهر بالتأمل في آثار كل منها بعين الدقّة.

ج) انه سبب لسلامة الروح و الجسم

النكاح سبب لسلامة الجسم و الروح، لكثرة الأمراض الروحانية و الجسمانية الناشئة من ترك الزواج، فإنّ كل عمل علي خلاف طبيعة الإنسان، له ردّ فعل فيه. و أيّ غريزة أقوي من هذه الغريزة و قد شهدت التجارب القطعيّة بظهور المشاكل في ناحية الجسم و الروح بترك الزواج.

و لعل في قوله تعالي: وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا … «2»

و في قوله تعالي: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا لِيَسْكُنَ إِلَيْهٰا …، «3» إشارة إلي هذا المعني.

و في الواقع كل

واحد من الرجل و المرأة مكمّل وجود الآخر، فكل منهما بدون الآخر وجود ناقص، يظهر فيه آثار النقصان معنويا و ماديا بترك الزواج.

د) انه سبب لسلامة المجتمع الانساني

النكاح سبب لسلامة المجتمع الإنساني؛ فان الإنسان العزب لا يحسّ بمسؤولية خاصة، فلا يبالي بما يفعل، و يرتكب الجنايات و إذا رأي آثارا سيّئة لأعماله ينتقل بسهولة إلي مكان آخر فيجني و يسرق و يقتل ثم يذهب إلي مكان آخر. و لكن المتزوج يحمل بمسؤولية الزوجة و الأولاد و له نحو اتّصال بهم لا يمكنه قطع هذه الصلة بسهولة،

______________________________

(1). الوسائل 14/ 5، الحديث 13، الباب 1 من أبواب المقدمات النكاح.

(2). الروم/ 21.

(3). الاعراف/ 189.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 13

فبملاحظتهم يجتنب عن كثير من المعاصي و ما يحول بينه و بينهم؛ و كأنّه إليه يشير ما روي عنه صلّي اللّه عليه و آله من: أنّ أكثر اهل النار العزاب. «1»

و في رواية اخري في المستدرك عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: ما من شابّ تزوج في حداثة سنّه إلّا عجّ شيطانه يا ويله! عصم منّي ثلثي دينه؛ فليتق اللّه العبد في الثلث الباقي. «2»

و عنه صلّي اللّه عليه و آله في كتاب جامع الأخبار، أنّه قال: شراركم عزّابكم، و العزاب اخوان الشياطين. و قال: خيار امتي المتأهلون و شرار امتي العزاب. «3»

و لعل التعبير في بعض الروايات بالنصف، و في بعضها بالثلث، إشارة إلي اختلاف الناس في تأثير القوة الشهوية.

و قد شهدت التجارب بصدق هذه الأخبار في مقام العمل.

ه) انه سبب لتقوية النشاطات الاقتصادية

النكاح سبب لتقوية النشاطات الاقتصادية، كما ورد في بعض الأحاديث، الرزق مع النساء. و ورد في قوله تعالي، إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ، فإنّ العزب لا يسعي و لا يجهد بجميع ما يقدر عليه لقلة حوائجه و عدم تقيده من ناحية نفسه، فلا يبالي بما يمرّ عليه و ما يأكل

و يعيش به، بخلاف ما إذا حمل علي عاتقه مسئوليات اخري من الأهل و البنين، فيجهد بكل ما يقدر عليه و يكون ذلك سببا لازدهار الشئون الاقتصادية.

و لذا نري كثيرا من الأفراد قليل المال جدا في زمن عزوبته، ثم إذا تزوج يكون ذا إمكانيات كثيرة و أموال ضخمة و دار و ما يحتاج إليه.

و يدل عليه قوله تعالي: إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ. فان فعله تعالي شأنه، تسبيب الأسباب نحو المطلوب و لا ينافي ذلك ما عرفت من الدليل العقلي.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 8، الحديث 7، الباب 2 من أبواب المقدمات النكاح.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 149، الحديث 16331.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 156، الحديث 16361.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 14

و قد ورد هذا المعني في أحاديث كثيرة، منها:

ما رواه في الوسائل عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: اتخذوا الأهل فإنّه أرزق لكم. «1»

و ما عن الصادق عليه السّلام: الرزق مع النساء و العيال. «2»

و ما عنه صلّي اللّه عليه و آله أنه قال لزيد بن ثابت: تزوج فإنّ في التزويج بركة. «3» إلي غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب و هو كثير.

ثالثها: تقسيم النكاح بانقسام الأحكام الخمسة

اشارة

قد صرّح غير واحد من أكابر الأصحاب بانّ النكاح و إن كان في نفسه مستحبا و لكن ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة، باعتبار عروض بعض العوارض.

قال في الحدائق: اعلم، إنّهم قالوا إنّ النكاح إنّما يوصف بالاستحباب بالنظر إليه في حدّ ذاته، يعني مع قطع النظر عن اللواحق المتعلّقة به؛ و إلّا فإنّه ينقسم إلي الأقسام الخمسة:

فقد يكون واجبا كما إذا خيف الوقوع في الزناء مع عدمه، و لو

أمكن التسري كان واجبا مخيّرا.

و قد يكون حراما كما إذا أفضي الإتيان به إلي ترك واجب كالحج و الزكاة، و إذا استلزم الزيادة علي الأربع.

و يكره عند عدم توقان النفس إليه مع عدم الطول، علي قول؛ و الزيادة علي واحدة عند الشيخ (قدّس سره).

و قد يستحب، كنكاح القريبة علي قول، للجمع بين صلة الرحم و فضيلة النكاح؛ و اختاره الشهيد في قواعده. و قيل: البعيدة، لقوله صلّي اللّه عليه و آله: لا تنكحوا القرابة القريبة، فإنّ الولد يخلق ضاويا أي نحيفا. و هو اختيار العلّامة في التذكرة و علل بنقصان الشهوة مع القرابة.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 3، الحديث 5، الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 26، الحديث 4، الباب 11 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 162، الحديث 16385.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 15

أقول، الظاهر أنّ الخبر المذكور عامّي حيث لم ينقل في كتب أخبارنا و قد ذكره ابن الأثير في نهايته و الظاهر أنّ القول المذكور للعامّة. تبعهم فيه العلّامة في التذكرة و استدل عليه بما استدلوا به.

و أمّا المباح، فهو ما عدا ذلك. و ابن حمزة فرض الاباحة أيضا لمن يشتهي النكاح و لا يقدر عليه أو بالعكس و جعله مستحبا لمن جمع الوجهين و مكروها لمن فقدهما. انتهي. «1»

و إنّما نقلنا كلامه بطوله لما فيه من فوائد كثيرة، و يظهر منه انّ المراد بالاستحباب هنا استحبابه بحسب العوارض مضافا إلي استحبابه الذاتي؛ فلذا مثل له بنكاح القريبة، للجمع بين فضل النكاح و صلة الرحم؛ أو البعيدة، لخروج الولد ضاويا في القريبة.

و لكن الأخير، مؤيد بالاعتبار لما ثبت من الاخطار المهمّة في نكاح القريبة؛ و لا

ينافيه نكاح المعصومين عليهم السّلام لأنّ له استثناءات كسائر الأحكام الكلية لعوارض خاصة؛ هذا مضافا إلي أنّ المعروف بين الأطباء، أنّ نكاح القريبة لا يوجب مرضا؛ نعم، لو كان فيهما الأمراض الخفية تظهر و تشتد لما في الزوجين القريبين من المشابهة في المرض الخفي.

و الرواية و إن كانت ضعيفة بحسب المباني الموجودة في الكتب الرجالية عندنا، و لكن رواها أو ما يشبه منها غير واحد في كتبهم؛ ففي المجازات النبوية للسيّد الرضي، قال صلّي اللّه عليه و آله: اغتربوا لا تضووا. «2»

قال في النهاية: «3» اغتربوا لا تضووا أي، تزوجوا الغرائب دون القرائب فإنّ ولد الغريبة أنجب و اقوي من ولد القريبة … و منه الحديث: لا تنكحوا القرابة القريبة فإنّ الولد يخلق ضاويا.

و قد أسنده في المسالك إليه صلّي اللّه عليه و آله، و قال: لقوله صلّي اللّه عليه و آله لا تنكحوا … الحديث. «4» و علي كل حال، الاجتناب اولي.

______________________________

(1). الشيخ يوسف البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 17.

(2). الشريف الرضي، في المجازات النبوية/ 92، الحديث 59.

(3). ابن الأثير، في النهاية في غريب الحديث 3/ 106.

(4). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 15.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 16

و ما ذكره من مثال المكروه، غير ثابت؛ فإنّ فقدان المال لا يكون سببا للكراهة لا سيما مع ما عرفت من الاية الشريفة و الروايات. و الاولي أن يمثل له بنكاح المتعة إذا اوجب التهمة أو سقوط الإنسان عن أعين الناس؛ كما لعله يظهر من بعض رواياتها.

كلام الشهيد الاوّل في اقسام النكاح

و قال الشهيد الأول في قواعده، «1» إنّه ينقسم النكاح بحسب الناكح بانقسام الأحكام الخمسة، و كذا بحسب المنكوحة، و مثل للأول بما يقرب مما عرفت. و

للثاني بما يكون السبب في الحكم بعض خصوصيات المنكوحة، كحرمة نكاح الام و شبهها، و كراهة نكاح العقيم و شبهه، و استحباب نكاح الأرقاب، و وجوب الوطي بعد أربعة أشهر و شبهه، و اباحة ما عدا ذلك.

و قد صرّح بعض فقهاء العامة بانقسامه إلي أقسام مختلفة و إن كان تقسيمهم غير تقسيمنا؛ كالنووي في المجموع. «2»

و صرّح ابن قدامة في المغني بانقسامه باقسام ثلاثة: 1- من يخاف علي نفسه في الوقوع في الحرام إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه في قول عامة الفقهاء. 2- من يستحب له و هو من له شهوة و لكن يأمن معها الوقوع في الحرام، و نقل هذا القول عن جماعة كثيرة 3- من ليس له شهوة كالعنين، فذكر فيه وجهان: أحدهما، يستحب له النكاح لعموم الأدلة. و ثانيهما، تركه أفضل لعدم حصول مصالح النكاح، و ربما يضرّ صاحبه كما هو ظاهر. «3»

و العمدة، إنّ النكاح قد يجب، لخوف الوقوع في الحرام (علي فرض تركه) أو لوجوب حفظ الموازنة في المواليد بين المسلمين و غيرهم و علوّهم عليهم أو شبه ذلك. و قد

______________________________

(1). الشهيد الاوّل، في القواعد و الفوائد 1/ 380.

(2). محي الدين النووي، في المجموع 16/ 129. و النووي منسوب إلي «نوي» من قراء دمشق و كان من علماء القرن السابع.

(3). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 334.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 17

يحرم، لمزاحمة واجب معين فوري مثل المزاحمة للجهاد أو الحج، و لو كان في زمن قصير، و الباقي سهل.

*** هل يكون استحباب النكاح مشروطا؟

و هو أنّ غير واحد من الأكابر قيّدوا استحباب النكاح بمن تاقت نفسه (أي، اشتاقت إليه. و التوق، و التّوقان، بمعني الاشتياق و الاسراع في الشي ء

و فيضان الدمع، و المراد به هنا، الأول.) و لازمه عدم استحبابه لمن لم يشتق؛ مع أنك قد عرفت أن حكمة هذا الحكم بحسب نصوص الباب، ليس مجرد حفظ العفة و التقوي، بل بقاء النسل و اكثار نفوس الامّة المسلمة من أظهر حكمه، و هذا لا يتوقف علي توقان النفس، و لذا ذهب المشهور إلي استحبابه مطلقا؛ فالفتوي بعدم استحبابه بمجرد عدم التوقان، بعيد.

و أبعد من ذلك، القول باستحباب الترك لمن لا يشتهيه. قال شيخ الطائفة في المبسوط:

الناس ضربان، مشته للجماع و قادر علي النكاح، و ضرب لا يشتهيه، فالمشتهي يستحب له أن يتزوج و الذي لا يشتهيه، المستحب أن لا يتزوج، لقوله تعالي (في مقام مدح يحيي): … وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّٰالِحِينَ. «1» فمدحه علي كونه حصورا و هو الذي لا يشتهي النساء. «2»

و الظاهر، أنّ هذه الآية هي العمدة في فتوي جماعة من الأصحاب بتقييد الاستحباب بتوقان النفس، و إن استدل له بدليلين آخرين تأتي الإشارة إليهما.

و يمكن الجواب عنها، بأنّ ظاهر الآية بل صريحها و إن كانت في مقام المدح لذكر عنوان السيّد قبله، و كونه نبيّا من الصالحين بعده، و لكن يرد علي الاستدلال بها؛

أولا: بأنّ المراد من الحصور و إن كان هو التارك لإتيان النساء- كما ذكره كثير من أرباب اللغة و علماء التفسير- و لكن يمكن أن يكون ذلك لخصوصية في حياة

______________________________

(1). آل عمران/ 39.

(2). الشيخ الطوسي، في المبسوط 4/ 160.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 18

يحيي عليه السّلام، لأنّه كان كالمسيح عليه السّلام كان يتردد دائما من مكان إلي مكان لتبليغ دين اللّه و أداء رسالته إلي خلقه، فهذا في الواقع من قبيل

ما طرأ عليه عنوان الكراهة أو الحرمة لبعض العوارض، فلا ينافي الاستحباب الذاتي.

و ثانيا: إن كون كلمة الحصور دائما بمعني من لا يأتي النساء، غير ثابت؛ بل ذكر لها معان اخري منها، ما ذكره الشيخ في التبيان «1» ذيل الآية الشريفة، الذي يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيئا للنفقة، و يقال للذي يكتم سرّه، الحصور. و قال في المجمع «2» بعد تفسيرها بالذي لا يأتي النساء، و معناه أنّه يحصر نفسه عن الشهوات، أي يمنعها. و قيل: الحصور، الذي لا يدخل في اللعب و الأباطيل، و قيل: هو العنين، و هذا لا يجوز علي الأنبياء لأنّه عيب.

فقد ظهر مما ذكرنا أنّ لها لا أقل من ستّ معان (العنين- الذي لا يأتي النساء- الذي يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيئا للنفقة- الذي يحصر نفسه عن الشهوات- الذي يكتم سرّه- الذي لا يدخل في اللعب و الأباطيل). و المعاني الثلاثة الاولي، لا تناسب مقام النبوة و المدح، بناء علي كون النكاح أمرا مطلوبا، و لكن المعاني الثلاثة الأخيرة تناسبها.

هذا؛ و المعروف في معناها، هو من لا يأتي النساء.

و ثالثا: أنّ المدح لعله علي المنكشف لا الكاشف، أي سلطته علي نفسه و منعها عن طغيان شهواتها.

و رابعا: ثبوت ذلك في شرعهم، ليس دليلا علي ثوبته في شرعنا، بعد قيام الأدلة الكثيرة علي استحباب النكاح مطلقا في هذه الشريعة الغرّاء.

إن قلت: نتمسك باستصحاب الشرائع السابقة.

قلنا: الاستصحاب انما هو في فرض الشك، و نحن لا نشك في استحبابه في شرعنا، أضف إلي ذلك أنّ استصحاب الشرائع السابقة باطل عندنا، لما ذكرنا في المباحث الاصولية من أنّ، الشريعة إذا نسخت نسخت بجميع أحكامه؛ و لذا كان أصحاب النبي صلّي اللّه عليه

و آله

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في التبيان 2/ 452.

(2). الشيخ الطبرسي، في مجمع البيان 2/ 287.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 19

ينتظرون نزول الأحكام في أبواب الزكاة و الصيام و الجهاد و حرمة الشراب و غيرها و إن كانت هذه الامور في الشرائع السابقة.

اللّهم إلّا أن يقال مطلوبية النكاح أمر عقلي فهو من المستقلات العقلية التي لا يمكن القول بخلافه حتي في الشرائع السابقة فالعمدة في الجواب، هي الأولان.

و الأمر سهل بعد ابهام الآية و غموضها، مع ظهور آية الأمر بالانكاح، و الروايات الكثيرة الواردة في المقام علي استحبابها مطلقا، بل لم نجد رواية تدل علي التقييد بالاشتياق.

و استدل للقول بهذا القيد، أيضا بقوله تعالي في مقام الذم، زُيِّنَ لِلنّٰاسِ حُبُّ الشَّهَوٰاتِ مِنَ النِّسٰاءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَنٰاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعٰامِ وَ الْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتٰاعُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ اللّٰهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. «1» و الذم دليل علي عدم الاستحباب.

و فيه، إنّ المذمّة علي حبّ الشهوات، لا مجرد حب المال و البنين و النساء، بقرينة حب البنين. فإنّه لا شك في استحباب حب البنين إذا كان الحب معتدلا لا يدخل صاحبه في المعاصي. و كذلك المال، و هكذا النساء. كيف، و قد منّ اللّه علي عباده بهذه النعم فقال:

وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا … «2» و قال عزّ من قائل: وَ لَكُمْ فِيهٰا جَمٰالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ. «3» إلي غير ذلك مما يدلّ علي تفضله علي خلقه بخلق الأنعام لهم، و هكذا بالنسبة إلي الأموال.

كما استدل أيضا بأنّ النكاح غالبا مستلزم لتحمّل مسئوليات كثيرة للزوجة و الأولاد، و الحرمان عن كثير

من العبادات و تحصيل العلوم، فالاولي لمن لا يرغب فيه، إن يتركه، للفرار من هذه الامور.

و فيه، أن تحمل هذه المسؤوليات- كسائر المسؤوليات الاجتماعيّة، عبادة و مطلوبة

______________________________

(1). آل عمران/ 14.

(2). الروم/ 21.

(3). النحل/ 6.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 20

للشارع المقدّس. فقد ورد في الحديث المعتبر عن الصادق عليه السّلام: الكادّ علي عياله كالمجاهد في سبيل اللّه. «1»

بل في حديث آخر عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: الذي يطلب من فضل اللّه ما يكف به عياله، أعظم أجرا من المجاهد في سبيل اللّه عزّ و جلّ. «2»

فالحق، استحباب النكاح مطلقا بحسب العنوان الاولي. و اللّه العالم.

رابعها: في معني «النكاح»

النكاح في اللغة

قد اختلف أرباب اللغة و الفقهاء في معني «النكاح» علي أقوال كثيرة، و حيث إنّ هذه الكلمة وردت كثيرا في الكتاب و السّنّة و في بعض الموارد خالية عن القرينة، لا بدّ من تبيين معناها حتي تحمل عليه عند الشك في المراد منه، فنقول (و من اللّه نستمد التوفيق و الهداية): الخلاف واقع في إنّها حقيقة في العقد خاصة، أو في الوطي، أو فيهما معا علي نحو الاشتراك اللفظي، أو المعنوي، أو هي مجاز فيها و معناه الحقيقي شي ء آخر، و هو الالتقاء، يقال تناكح الجيلان إذا التقيا؛ أو معناها هو الضم، يقال تناكح الأشجار أي ضم بعضها إلي بعض.

و إليك بعض كلمات أهل اللّغة أولا، ثم كلمات الفقهاء.

أمّا الأول؛ فقد صرح الراغب في المفردات بأن: أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع، و محال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد، لأنّ أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره. «3»

و قال الجوهري في الصحاح باشتراكه فيهما، فقال: النكاح، الوطء؛ و قد يكون القعد.

و قال الفيّومي في المصباح المنير

ما نصه: يقال، مأخوذ من نكحه الدواء، إذا خامره و

______________________________

(1). الوسائل 12/ 43، الحديث 1، الباب 23 من أبواب مقدمات التجارة.

(2). الوسائل 12/ 43، الحديث 2، الباب 23 من أبواب مقدمات التجارة.

(3). الراغب الاصفهاني، في المفردات في غريب القرآن/ 505، في مادة نكح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 21

غلبه، أو من تناكحت الأشجار إذا انضم بعضها إلي بعض، أو من نكح المطر الأرض إذا اختلط بثراها؛ و علي هذا يكون مجازا في العقد و الوطء جميعا … و إن قيل، غير مأخوذ من شي ء لا بدّ من القول بالاشتراك. انتهي.

فانظر إلي هؤلاء الثلاثة من معاريف أهل اللغه، فقال الأول بكونه حقيقة في العقد، و الثاني باشتراكه فيهما، و قال الثالث في صدر كلامه بكونه مجازا فيهما، و حقيقة في معان آخر، ذكر منها ثلاثة.

و كذلك اختلاف الفقهاء فيه، فكل اختار مسلكا و إليك نبذ منها:

النكاح في الفقه

قال المحقق النراقي في المستند:

و هو في اللغة، عقد التزويج خاصة علي الأصح، لتبادره عرفا و اصالة عدم النقل؛ و كون العقد مستحدثا، ممنوع، بل لكل دين و ملّة عقد.

و قيل حقيقة في الوطء خاصة، بل هو الأشهر كما قيل، بل عليه الإجماع كما عن المختلف … و قيل حقيقة بينهما لاستعماله فيهما … و قيل مجاز كذلك (أي فيهما) لأخذهما من الضم و الاختلاط و الغلبة؛ و يرد بعدم ثبوت المأخذ. (انتهي محل الحاجة من كلامه). «1»

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك: اعلم أنّ النكاح يستعمل لغة في الوطي كثيرا و في العقد بقلة. قال الجوهري: النكاح، الوطي؛ و قد يقال العقد. و شرعا بالعكس يستعمل بالمعنيين إلّا أنّ استعماله في العقد أكثر؛ بل قيل إنّه

لم يرد في القرآن بمعني الوطي إلّا في قوله تعالي … حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ …، لاشتراط الوطي في المحلل؛ و فيه نظر لجواز إرادة العقد و استفادة الوطء من السنّة. انتهي. «2»

و قال ابن قدامة في المغني: النكاح في الشرع، هو عقد التزويج؛ فعند اطلاق لفظه

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 9.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 7.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 22

ينصرف إليه ما لم يصرفه عنه دليل و ذكر في ذيل كلامه، الأشهر استعمال لفظ النكاح بازاء العقد في الكتاب و السنّة و لسان أهل العرف. (أجاب بذلك عن القاضي القائل بالاشتراك). «1»

أقول: لا يهمّنا معناه اللغوي بأن يكون عاما أو خاصا أو مشتركا أو مجازا؛ بل الذي يهمّنا، معناه في لسان الشارع المقدس في الكتاب و السنّة.

النكاح في القرآن

فقد استعمل في كتاب اللّه تعالي في 23 موردا، كلّها أو جلّها ظاهرة في العقد؛ مثل قوله تعالي: إِذٰا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ … «2»

و قوله تعالي: فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ … «3»

فإنّ ذكر الطلاق و ذكر الزوج أظهر شاهد علي كون المراد بالنكاح هنا العقد، و إنّما يستفاد اعتبار الدخول في المحلل من السنّة.

و قوله تعالي: … فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ مَثْنيٰ وَ ثُلٰاثَ وَ رُبٰاعَ … «4»

و قوله تعالي: … وَ لٰا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكٰاحِ حَتّٰي يَبْلُغَ الْكِتٰابُ أَجَلَهُ … «5»

فإنّ عقدة النكاح، من قبيل إضافة العام بالخاص أو إضافة السبب بالمسبب، فيكون النكاح العقد المسببي.

و كذا قوله تعالي: … إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ … «6»

و ليس فيها ما يمكن القول بكونه مستعملا في

خصوص الدخول حتي في آية المحلل، كما عرفت. و كذلك غيرها من أشباهها.

______________________________

(1). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 333.

(2). الاحزاب/ 49.

(3). البقرة/ 230.

(4). النساء/ 3.

(5). البقرة/ 235.

(6). البقرة/ 237.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 23

النكاح في السنّة

و أمّا السنة و الروايات المشتملة علي لفظ النكاح و مشتقاته، فهي أيضا شاهدة علي استعماله في العقد إلّا في موارد شاذّة.

و إن شئت، فانظر الأبواب التالية في المجلد 14 من كتاب الوسائل:

1- الباب 1، من أبواب مقدمات النكاح، فقد ذكر في بعض رواياته، أنّه ما من شي ء أحبّ إلي اللّه عزّ و جلّ من بيت يعمر في الإسلام بالنكاح.

2- الباب 48، الحديث الأول (و من سنّتي النكاح)، و الحديث الثالث (و إن من سنتي النكاح).

3- الباب 139، الحديث الأول (ليس عندي طول فانكح النساء).

4- الباب 157، فيه روايتان تدلان علي حسن الاحتياط في أمر النكاح.

5- الباب 2، من أبواب عقد النكاح، فيه روايات ثلاثة تدل علي أنّ النكاح لا يكون إلّا بمهر.

6- الباب 4 منه، فيه رواية تدل علي أنّه لا ينقض النكاح إلّا الأب.

7- الباب 5 منه، فيه رواية تدل علي أنّه لا تنكح ذوات الآباء من الابكار إلّا بإذن آبائهن.

8- الباب 9 منه، فيه روايات عديدة تدل علي اعتبار اذن الأب في النكاح.

9- الباب 29 منه، فيه روايتان تدلان عن بطلان نكاح الشغار، و هو نكاح امرأتين يكون مهر أحدهما نكاح الآخر، كان يقول: زوّجني اختك، ازوّجك اختي.

10- الباب 1، من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، فيه روايات كثيرة تدل علي حرمة نكاح نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله و حرمة نكاح ما حرّم اللّه من امرأة الأب و غيرها.

و قد ورد في أبواب

الطلاق و المهور في المجلد 15 من الوسائل، أيضا روايات استعمل فيها النكاح في معني العقد، و كذلك في المجلد 18 من أبواب الشهادات.

نعم، قد استعمل هذا اللفظ أيضا في مجرد الدخول بدون العقد في موارد نادرة، مثل ما ورد في أبواب ما يمسك عنه الصائم (في شهر رمضان). ففي رواية: إنّ اللّه لمّا فرض

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 24

الصيام فرض أن لا ينكح الرجل أهله في شهر رمضان … و كان من المسلمين شبان ينكحون نساءهم بالليل سرّا لقلّة صبرهم … «1»

و في رواية اخري في نفس الباب: فاحل اللّه النكاح بالليل في شهر رمضان و الأكل بعد النوم إلي طلوع الفجر. «2» إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني في أبواب اخر، مثل أبواب حرمة اللواط.

و الحاصل أنّ هذا الاستعمال الكثير في معني العقد، دليل علي صيرورته حقيقة في العقد، و إن فرض كونه في اللغة حقيقة في الوطي، لأنّ الاطراد من علائم الحقيقة أو سبب لها.

إن قلت: هذه الموارد التي ذكرتموه مقرون بالقرائن المختلفة، و اطراد الاستعمال مع القرينة، لا يكون علامة للحقيقة، كما أنّه لا يكون سببا لها.

قلت: الوضع- كما هو المعلوم- علي قسمين، الوضع التخصيصي و الوضع التخصصي. و هي، العلقة الحاصلة بين اللفظ و المعني في عالم الذهن إمّا من طريق تخصيص اللفظ بها اعتبارا و إنشاء أو تعهدا، و إمّا من طريق كثرة الاستعمال و لو كان مع القرينة، فإنّ كثرة الاستعمال علي كل حال توجب العلقة؛ مثلا إذا قال المولي صلّ مع الوضوء، صلّ إلي القبلة، صلّ مع الجماعة و هكذا … ثم قال: الصلاة، الصلاة؛ ينصرف الذهن إليه لا إلي مجرد الدعاء.

و الحاصل، إنّ

لفظ النكاح لو سلم كونه في اللغة غالبا بمعني الوطي لكن نقل في الشرع إلي العقد، و لا أقل من أنّه ينصرف عند الاطلاق. و اللّه العالم.

خامسها: النكاح عبادة أم لا؟

قد يدور علي بعض الألسن أنّ النكاح نوع من العبادة أو فيه شائبة العبادة؛ قال صاحب الجواهر (قدس سره): لا ريب في أنّ الاحتياط لا ينبغي تركه خصوصا في النكاح

______________________________

(1). الوسائل 7/ 80، الحديث 4، الباب 43 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

(2). الوسائل 7/ 81، الحديث 5، الباب 43 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 25

الذي فيه شوب من العبادات المتلقاة من الشارع، و الأصل تحريم الفرج إلي أن يثبت سبب الحل شرعا. «1»

لا شك في انّ العبادة هنا ليس بمعني ما يشترط في صحته قصد القربة، لأنّه لم يقل أحد باعتبار ذلك، لا من الشيعة و لا من السّنّة، كما أنّ العبادة بالمعني الأعم أي ما يشترط قصد القربة في ترتب الثواب عليه، لا تختص بالنكاح، بل يشمل جميع الواجبات و المستحبات التوصليّة، فايّ معني لهذا التعبير؟

الظاهر أنّ المراد من هذا التعبير كونه من التوقيفيات التي تحتاج إلي بيان الشارع في كلّ مورد و يجري فيه اصالة الفساد عند الشك.

توضيح ذلك، أنّ هناك عقود كثيرة في عرف العقلاء مثل البيع و الاجارة و الشركة و المضاربة و شبهها تعدّ من الامور الإمضائية، قد حكم الشارع بصحتها ما عدا ما خرج بالدليل، فقال يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ؛ فإذا شك في اعتبار شي ء فيها، يحكم بالصحة، إلّا أن يخرج منها بتقييد أو تخصيص؛ فاصالة الصحة حاكمة فيها.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع المقدس أخذ فيها بما عند العرف و العقلاء

و امضاها إلّا في موارد خاصة، فاضاف علي شرائطها و أركانها أو نقص عنها، و لذا يقال باعتبار سيرة العقلاء مع عدم الردع عنها.

لكن النكاح و الطلاق، ليسا من هذا القبيل و إن كانا موجودين في عرف العقلاء قبل نزول الشريعة الإسلامية، و ذلك لأنّ الشارع المقدس أضاف إليها أشياء كثيرة و نقص منها كذلك في الناكح و المنكوح و غيرهما؛ فكأنهما تبدلت ماهيتهما مما كان، فصار كالعبادات من الامور التوقيفية التي لا يمكن الأخذ فيها بعرف العقلاء و سيرتهم بعنوان إنّ عدم الردع فيها كاف في امضائها، بل لا بدّ من ثبوت شرائطها و موانعها من الشرع، و لا يجري فيهما إلّا اصالة الفساد، فهما من الامور التوقيفيّة التي تحتاج دائما إلي الدليل. و اللّه العالم.

***

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 133.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 26

[المسألة 1: ممّا ينبغي أن يهتم به الإنسان، النظر في صفات من يريد تزويجها]

اشارة

المسألة 1: ممّا ينبغي أن يهتم به الإنسان، النظر في صفات من يريد تزويجها. فعن النبي صلّي اللّه عليه و آله: اختاروا لنطفكم، فان الخال أحد الضجيعين. «1» و في خبر آخر: تخيروا لنطفكم، فإن الأبناء تشبه الأخوال. «2» و عن مولانا الصادق عليه السّلام لبعض أصحابه حين قال هممت أن أتزوج: انظر اين تضع نفسك و من تشركه في مالك و تطلعه علي دينك و سرّك، فإن كنت لا بدّ فاعلا فبكرا تنسب إلي الخير و حسن الخلق. الخبر. «3»

و عنه عليه السّلام: إنما المرأة قلّادة فانظر ما تتقلد؛ و ليس للمرأة خطر لا لصالحتهن و لا لطالحتهن، فاما صالحتهن فليس خطرها الذهب و الفضّة هي خير من الذهب و الفضّة، و أمّا طالحتهن فليس خطرهن التراب، التراب خير منها. «4»

و كما ينبغي

للرجل أن ينظر فيمن يختارها للتزويج، كذلك ينبغي ذلك للمرأة و أوليائها بالنسبة إلي الرجل. فعن مولانا الرّضا عن آبائه عليهم السلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: النكاح رق، فاذا انكح احدكم وليدته فقد ارقها فلينظر أحدكم لمن يرق كريمته. «5»

النظر في صفات من يريد تزويجها

أقول: هذه المسألة بمنزلة الكبري لبيان استحباب اختيار الزوجة الصالحة من دون ذكر شي ء من صفاتها الخاصة، و الحال أنّ المسألة الآتية لبيان الصغري، أعني الصفات الخاصّة، و ما يكون دليلا علي صلاح الزوج أو الزوجة. و هذه مسألة مهمة و إن اندرجت في المستحبات، و لكن قد تكون أهم من بعض الواجبات و يكون تركها سببا لكثير من المحرمات احيانا؛ كما هو ظاهر لمن تدبر.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 29، الحديث 2، الباب 13 من أبواب مقدمات النكاح. (و الضجيع الذي يصاحب الإنسان).

(2). لم يوجد في المصادر الموجودة. و في كنز العمّال 16/ 295، الرقم 44557 ما يقرب منه: تخيروا لنطفكم فان النساء يلدن اشباه اخوانهن و اخواتهن.

(3). الوسائل 14/ 13، الحديث 1، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 17، الحديث 16، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 52، الحديث 8، الباب 28 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 27

و حيث إنّ الصفات تتبع الأهداف (و كل إنسان يطلب ما يجاوب أغراضه و أهدافه)، بين فيها أنّ المقصود من الزواج في المرحلة الاولي هو بقاء النسل الصالح، و لا شك انّ صفات الأبوين تنتقل إلي أولادهما من طريق الوراثة في الجملة (لا كأمر يوجب الجبر بل يساعد علي الأعمال الصالحة و الطالحة؛ ففي الواقع، الصفات الرّوحيّة كالصفات الجسمانية من الصحة و المرض تنتقل

إلي الأولاد بعنوان المقتضي، لا العلة التامة). فلا بدّ من اختيار زوج أو زوجة يكون فيه المبادي الحسنة، كالبلد الطيب التي يخرج نباته باذن ربه، لا كالبلد الخبيثة التي لا يخرج إلّا نكدا.

و في المرحلة التالية يكون الزوج أو الزوجة شريكا للإنسان في جميع شئون حياته و محرما لأسراره و افكاره و دينه فلا بدّ أن يكون صالحا لهذا الفرض المهم الذي له دور هامّ في حياة الإنسان اجتماعيا و انفراديا.

و في المرحلة الثالثة كل من الزوجين يكون معرفا لصفات زوجه و كيانه و اخلاقه و يكون زينا له أو شينا و هنّ لباس لكم و أنتم لباس لهنّ و لكن لباس يلبسه مرة غالبا في مدة عمره و يخلعه مرّة فلا بدّ أن يكون فيه ما يكون سببا لزين زوجه و اعتباره و مكانته الاجتماعية و يكون مدافعا له أيضا (كما أنّ اللباس دفاع للإنسان) فلا بدّ أن يكون فيه صفات تقتضي ذلك.

و العجب أنّ كثيرا من الناس إذا أرادوا اشتراء قميص يلبسونها عدّة شهور أو سنة واحدة، يتخيرون و يختبرون و يسئلون و يشاورون، و لكن اللباس الذي يلبسونه طول عمرهم لا يتخيرون له. و رعاية هذا الأمر في أعصارنا أهم و أحري من الأعصار السابقة، لأمور لا يخفي علي الباحث.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 28

[المسألة 2: ينبغي أن لا يكون النظر في اختيار المرأة، مقصورا علي الجمال و المال]

اشارة

المسألة 2: ينبغي أن لا يكون النظر في اختيار المرأة، مقصورا علي الجمال و المال.

فعن النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله: من تزوج امرأة لا يتزوجها إلّا لجمالها، لم ير فيها ما يحب، و من تزوجها لمالها لا يتزوجها إلّا له، و كلّه اللّه اليه؛ فعليكم بذات الدين. «1» بل يختار من كانت واجدة لصفات

شريفة صالحة، قد وردت في مدحها الأخبار، فاقدة لصفات ذميمة قد نطقت بذمها الآثار. و اجمع خبر في هذا الباب ما عن النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله أنّه قال: خير نسائكم، الولود الودود العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرّجة مع زوجها، الحصان علي غيره، التي تسمع قوله و تطيع امره «2» … إلّا أخبركم بشرار نساءكم، الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم الحقود التي لا تتورّع من قبح، المتبرجة إذا غاب عنها بعلها، الحصان معه إذا حضر، لا تسمع قوله و لا تطيع أمره، و إذا خلابها بعلها تمنعت كما تمنّع الصعبة عن ركوبها، لا تقبل منه عذرا و لا تقيل له ذنبا. «3»

و في خبر آخر عنه صلّي اللّه عليه و آله: إيّاكم و خضراء الدمن! قيل: يا رسول اللّه! و ما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء «4».

الصفات المطلوبة في النساء

أقول: هذه المسألة بمنزلة الصغري لما في المسألة السابقة. بيّن فيها الصفات المطلوبة للنساء، و حاصل ما يستفاد من روايات الباب و مما تراه في الخارج، أنّ الإنسان قد يتزوج المرأة لمالها فقط، و اخري لجمالها فقط، و ثالثة لكمالها؛ فقد ذم الأولتان و مدح الثالث.

و إن شئت قلت؛ النكاح علي أقسام، بعضها شهوي، و اخري تجاري، و ثالثة مقامي، و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 31، الحديث 4، الباب 14 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 14، الحديث 2، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 18، الحديث 1، الباب 7 من أبواب مقدمات النكاح. (الظاهر أنّها بعض الرواية السابقة و لذا حكاهما في المستدرك بصورة رواية واحدة- 14/ 166، الحديث 16393).

(4). الوسائل 14/ 19، الحديث 7، الباب 7 من

أبواب مقدمات النكاح. و رواها في المستدرك أيضا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 29

رابعة سياسي، و خامسة قومي عصبي، و سادسة، إنساني، و سابعة إلهي، و كل منها له أصحاب و خيرها أخيرها.

و قد يتزوج امرأة، لها أو لأبيها مال، يرجو مماته ليكتسب ماله من طريق زوجته، و هذا دليل علي دنائة الهمة و عدم الاعتماد باللّه و بنفسه. و قد يكون يتزوجها لجمالها فقط و لا يتفكر في صفاتها الاخري من الديانة و العفة و الوفاء و كرامة الأبوين، و الحال أنّ الجمال يزول بعد ذهاب شبابها بسرعة فتبقي هي و ساير صفاتها، بل قد يكون الجمال مع عدم العفة و الديانة و التقوي سببا لمشاكل عظيمة ينغص العيش و يوجع القلب مما لا يخفي علي الخبير. و قد يكون مال المرأة سببا لطغيانها و عدم سلمها، كما يظهر بالتجارب. و قد يريد اكتساب الجاه و المقام الدنيوي من اسرة زوجته و هذا أيضا دليل علي عدم الاعتماد بربّه و بنفسه، و كونه كلّا علي غيره.

و هكذا بالنسبة إلي النكاح السياسي و غيره، و هناك سياسات محمودة فقد يقع الخلاف بين القبائل المختلفة بما يوجب اراقة الدماء و الفساد في الأرض، ثم تتصالحان، و تتزوج هذه من هذه و بالعكس، فتقوي العلاقة بينهما و تتسالمان.

و المراد من النكاح الإنساني ما يكون بسبب ما في الزوجة من صفات الفضيلة، من العلم و الفهم و العقل و الدراية و علو الطبع و الوفاء و الأمانة، و إن كانت ضعيفة في المعارف الإلهيّة و الديانة؛ و هذه و إن كان لها كمالات، و لكن إذا خلت من الديانة و الإيمان، لا يمكن الاعتماد الكامل عليها. و

أحسن أخلاق المرأة عقلها و دينها و إيمانها و تقواها.

*** ينبغي التنبيه هنا علي امور

1- الاختبار لازم من جانب الزوج أيضا

إنّ الاختيار و الاختبار كما يلزم في جانب الزوجة، يلزم في جائب الزوج أيضا، كما نطقت بها الأخبار و الآثار. فقد ورد في أخبار كثيرة عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و عن الأئمة المعصومين عليهم السّلام أنّه إذا جاءكم من ترضون خلقه و دينه تزوجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 30

الأرض و فساد كبير. «1»

و هذه الروايات من جانب، تدل علي اعتبار الخلق الحسن و الدين و التقوي في الزوج، و من جانب آخر علي عدم التشديد و الوسواس، و مراعاة الامور المادية و الاعتبارية في زواج البنات. كما قد ورد في روايات كثيرة، النهي عن تزويج البنت لشارب الخمر و سيّئ الخلق. «2»

و من جميع ذلك يظهر لزوم رعاية الصفات الحسنة في تزويج البنات، و اختيار الصهر بغير تشديد.

2- الصفات الحسنة لا تجتمع في واحد عادة

من الامور التي ينبغي لكل إنسان التوجه اليه، أنّ الصفات الحسنة، لا تجتمع في واحد عادة إلّا المعصومين أو الاوحدي من الناس؛ فلذا لا بدّ من ملاحظة المجموع من حيث المجموع. و بعبارة اخري لا بدّ من الكسر و الانكسار، و الجمع و التفريق، و العمل بما يبقي بعد ذلك؛ فمن كان فيه كثير من الصفات الحسنة، يغتفر عنه بعض الصفات غير الحسنة، و إذا كان المعدل إيجابيا لا يلاحظ بعض الجهات السلبية.

و لو أصرّ الإنسان علي جمع جميع الصفات الحسنة في الزوج أو الزوجة، يبقي بلا زوج. و قد ورد في الحديث العلوي عليه السّلام: من استقصي علي صديقه انقطعت مودته. «3» و هذا الحديث و إن ورد موردا آخر إلّا أنّه يعلم حكم المقام منه، و ببالي إنّي رأيت في بعض الروايات مضمونه من

استقصي في الصفات بقي بلا صديق. «4» و مثله يجري في حق الزوج.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 50- 52، الأحاديث 1 و 2 و 3 و 6، الباب 28 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). فراجع الباب 29 و 30 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه.

(3). عبد الواحد الآمدي، في غرر الحكم و درر الكلم/ 8582.

(4). ورد في بحار الأنوار 74/ 282 بهذا المضمون: من طلب في زماننا هذا صديقا بلا عيب بقي بلا صديق. و في الوسائل 8/ 458: لا تفتش الناس فتبقي بلا صديق.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 31

3- التشاور في الزواج

التشاور في كل امر مهم حسن و في الزواج أحسن، لا سيما للشباب، لأنّه ليس لهم تجربة في هذا الأمر و الغالب في الناس أنّهم لا يجرّبون هذه المسألة إلّا مرّة واحدة، فليس للشباب خبرة بأمر النكاح، و لهذا ليس لهم غني عن التشاور مع ذوي اللّب و اهل الخبرة و التجربة في هذا الأمر، لا سيما أنّ بعض الظواهر الحسنة قد يخدعهم أو يعمي أبصارهم و يصمّ أذانهم. هذا، مع أنّ الندامة في النكاح، غالبا لا يمكن تداركها و لا يوجد فيه سبيل إلي الرجوع قهقري إلّا بخسائر كبيرة مادية و معنوية.

4- خفّة المئونة في النكاح مطلوب

مما ورد التأكيد فيه، هو خفة المئونة في النكاح و المهر و جميع امور الحياة. فقد ورد في الحديث: أمّا شوم المرأة، فكثرة مهرها و عقوق زوجها. «1» و في رواية اخري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: من بركة المرأة خفة مؤنتها و تيسير ولادتها و من شؤمها شدة مؤنتها و تعسير ولادتها. «2» و نري في عصرنا هذا مهورا ليس فيها ايّ غرض عقلائي و فيها آلاف ألوف من الدنانير الغالية؛ و قد أفتينا بفساد بعضها من حيث كونها سفهيّا، و حكمنا بوجوب مهر المثل بدلها.

إن قلت: أو ليس اللّه تعالي يقول: … وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلٰا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. «3» و المعروف، أنّ القنطار ملأ مسك ثور ذهبا.

قلنا: أولا، القنطار المأخوذ من القنطرة، كما ذكره الراغب في مفرداته و هو الجسر الذي يعبر عنه، و هو إشارة إلي المال الذي فيه عبور الحياة، تشبيها بالقنطرة، و ذلك غير محدود القدر في نفسه، و إنّما هو بحسب الاضافة (بحسب الأشخاص)؛ ثم نقل عن بعضهم أنه أربعون أوقية، (و الأوقيه

سبعة مثاقيل)؛ و عن بعضهم انّه 1200 دينارا، ثم قال: و قيل، ملأ

______________________________

(1). الوسائل 15/ 11، الحديث 11، الباب 5 من أبواب المهور.

(2). الوسائل 15/ 9، الحديث 3، الباب 5 من أبواب المهور.

(3). النساء/ 20.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 32

مسك ثور ذهبا. و يقرب منه قول غيره. فالمعني الأخير قول ضعيف، و الأصل أنّه مال كثير؛ فلا دلالة لها علي ما ذكر.

و ثانيا، إنّ السفه كما يجري في البيع، بأن يشتري الإنسان ما قيمته مأئة دينار بالف دينار؛ يجري في النكاح بأن ينكح من يكون مهر المثل فيه مأئة، بالف؛ إلّا أن يكون هناك أغراض خاصة عقلائية.

5- كثرة مطالبات كل من الزوجين من الاخر يخرب بناء الاسرة

مما يخرب بناء الاسرة و يزلزل أساس الزواج كثرة مطالبات الزوج من زوجته أو بالعكس. و لا يدوم بيت النكاح إلّا بقلّة المطالبة، و المداراة و العفو و الصفح، بل لا يمكن التعاشر مع الناس إلّا بذلك، بل يجب في كثير من المواضع، التغافل. فقد ورد في الحديث المعروف عن مولانا علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام مخاطبا- ابنه محمّد بن علي عليهما السّلام-: اعلم يا بني إنّ صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين، إصلاح شأن المعايش ملؤ مكيال، ثلثاه فطنة و ثلثه تغافل. «1»

و لو لا التغافل، لا يمكن التعاشر السلمي مع الناس غالبا، كما لا يخفي علي الخبير.

6- السعي في انكاح الايامي مستحب

يستحب- بل قد يجب- السعي في انكاح الأيامي، كما صرّح به في الكتاب العزيز. و إنّما يجب إذا كان الطريق الوحيد أو أحد الطرق للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فكما يجب التزويج لمن يخاف وقوعه في الحرام، فكذلك الانكاح في هذه الموارد. و قد مرّ بعض الأحاديث في التأكيد علي هذا الأمر، و قد روي السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتي يجمع اللّه بينهما. «2»

______________________________

(1). الخزار القمي، في كفاية الأثر/ 240 و العلامة المجلسي، في بحار الأنوار 46/ 231.

(2). الوسائل 14/ 26، الحديث 2، الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 33

و عن موسي بن جعفر عليه السّلام: أن للّه ظلّا يوم القيامة لا يستظلّ تحته إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو عبد اعتق عبدا مؤمنا، أو عبد قضي مغرم مؤمن، أو مؤمن كفّ ايمة مؤمن. «1»

و الايمة، من آم، يئيم، ايمة. و الوصف،

الايّم، للذكر و الانثي. بمعني من فقد زوجه أو فقد من أول الأمر كما صرّح به في المجمع.

و علي كل حال يمكن أن يكون ذلك بصورة الانفراد، أو يكون هناك مشروع وسيع لهذا الأمر الهامّ؛ و الانصاف أنّ من شأن الحكومة الإسلامية تنظيم برنامج لهذه المهمّة، و اعطاء تسهيلات للشباب في هذا الطريق حتي يطهر المجتمع الإسلامي من دنس المفاسد الأخلاقية التي ملأت الجوامع غير المؤمنة بما فيها من الآثار السيّئة في الدنيا و الآخرة.

*** و هنا في تحرير الوسيلة 9 مسألة، ناظرة إلي المستحبات أو امور واضحة من الواجبات أو المحرمات لم نتعرض لها ايكالا إلي وضوحها، فراجعها و تأمل فيها. فنبدأ الآن من المسألة 12 من المسائل التي تعرض لها.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 27، الحديث 6، الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 34

[المسألة 12: لا يجوز وطؤ الزوجة قبل اكمال تسع سنين]

اشارة

المسألة 12: لا يجوز وطؤ الزوجة قبل اكمال تسع سنين. دواما كان النكاح أو منقطعا؛ و أمّا سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة و الضمّ و التفخيذ، فلا بأس بها حتي في الرضيعة.

و لو وطأها قبل التسع و لم يفضها، لم يترتب عليه شي ء غير الإثم علي الأقوي. و إن أفضاها- بأن جعل مسلكي البول و الحيض واحدا، أو مسلكي الحيض و الغائط واحدا- حرم عليه وطؤها أبدا، و لكن علي الأحوط في الصورة الثانية.

و علي أيّ حال لم تخرج عن زوجيته علي الأقوي، فيجري عليها أحكامها من التوارث و حرمة الخامسة و حرمة اختها و غيرها، و تجب عليه نفقتها ما دامت حيّة، و إن طلّقها، بل و إن تزوجت بعد الطلاق علي الاحوط، بل لا يخلو من قوة.

و يجب عليه دية الافضاء و هي دية

النفس، فاذا كانت حرّة فلها نصف دية الرجل مضافا إلي المهر الذي استحقته بالعقد و الدخول.

و لو دخل بزوجته بعد اكمال التسع فافضاها، لم تحرم عليه و لم تثبت الدية، و لكن الاحوط الانفاق عليها ما دامت حيّة، و إن كان الأقوي عدم الوجوب.

موضوع الافضاء و احكامها

أقول: هذه المسألة من المسائل المهمّة، و تشتمل علي فروع كثيرة، و قد بحث في العروة الوثقي عن هذه المسألة في عشرة مسائل، و نحن نتكلم عن هذه الفروع الموجودة في التحرير، ثم نتكلم إن شاء اللّه، في ما يبقي، بعد ذلك.

[فروع المسألة]

1- حرمة وطي الزوجة قبل اكمال تسع سنين
اشارة

لا يجوز وطؤ الزوجة قبل اكمال تسع سنين، بل لا يجوز بعده إذا خيف عليها ضرر أو خطر بعدم الاستعداد الجسمانيّ؛ و إنّما يجوز إذا أمن من الضرر و الخطر عليها، و بلغت مبلغا تستعد للمواقعة؛ و تختلف الأفراد في ذلك، و كذلك البلدان؛ و قد كان تزويج الصبيّة لتسع سنين و زفافها، معمولا بين بعض الأقوام في سابق الأيام، و لم يكن ذلك إلّا

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 35

لاستعدادهنّ لذلك، لا سيما إذا كان الزوج أيضا مراهقا لا يكون منشأ لخطر عليها.

و قد كان هذا أيضا متداولا بينهم.

و علي كل حال، القول بحرمة الوطء قبل ذلك ممّا أجمع أصحابنا عليه كما صرح به في الجواهر و قال: إجماعا أيضا بقسميه. «1»

و قال شيخ الطائفة في النهاية: و لا يجوز للرجل أن يدخل بامرأته قبل أن يأتي لها تسع سنين؛ فان دخل بها قبل أن يأتي لها تسع سنين فعابت، كان ضامنا لعيبها؛ و يفرق بينهما و لا تحلّ له أبدا. «2»

و قال النراقي في المستند: لا يجوز الدخول بالمرأة قبل اكمالها تسع سنين بالإجماع المحقق و المحكيّ مستفيضا. «3»

و به صرّح في جامع المقاصد و المسالك حيث قالا: لا خلاف في تحريم وطئ الانثي قبل أن تبلغ تسعا. «4»

أمّا فقهاء العامة فقد تعرضوا الأحكام الافضاء مشروحا كما سيأتي إن شاء اللّه؛ و لكن لم نر لهم حكما بحرمة الدخول قبل

التسع أو العشر أو غيرهما؛ نعم، ذكر النووي في كتاب المجموع أنّه: إذا كانت الزوجة لا تحتمل الوطء بالافضاء، فلا يجوز له وطيها كما لا يلزمها تمكينه. «5»

و من الواضح أنّ هذا غير ما ذكره الأصحاب (قدس اللّه أسرارهم).

و يدل علي أصل الحكم- أي حرمة الوطء قبل تسع سنين- مضافا إلي الإجماع المذكور- روايات كثيرة:

1- ما رواه الكليني (قدس سره) في الصحيح، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 414.

(2). الشيخ الطوسي، في النهاية/ 481.

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 80.

(4). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 330، و الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 1/ 439.

(5). محي الدين النووي، في المجموع 20/ 274.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 36

إذا تزوج الرجل الجارية و هي صغيرة، فلا يدخل بها حتي يأتي لها تسع سنين. «1»

2- ما رواه عن عمار السجستاني، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لمولي له: انطلق فقل للقاضي قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: حدّ المرأة، أن يدخل بها علي زوجها، ابنة تسع سنين. «2»

3- ما رواه في دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد عليه السّلام أنّه قال: من تزوج جارية صغيرة فلا يطأها حتي تبلغ تسع سنين. «3»

و هناك طائفة من الروايات، تدل علي التخيير بين تسع سنين أو عشر سنين، مثل ما رواه زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لا يدخل بالجارية حتي يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين. «4»

و مثلها ما رواه أبو بصير، عنه عليه السّلام. «5»

و هناك طائفة ثالثة، تدل علي خصوص عشر سنين، مثل ما رواه غياث بن ابراهيم، عن جعفر،

عن أبيه، عن علي عليه السّلام، قال: لا توطأ جارية لأقل من عشر سنين؛ فان فعل، فعيب، فقد ضمن. «6»

و يمكن حمل روايات التخيير علي الاستحباب، لعدم امكان التخيير بين الأقل و الأكثر، و هذا الجمع قريب. و كذا ما دل علي خصوص العشر يحمل علي الاستحباب بقرينة الروايات الدالة علي التخيير. و قد يقال أنّ المراد بالعشر أول العشر أي تمام التسع و الدخول في العاشرة؛ و الأمر سهل، لا سيما بعد الإشكال في بعض اسناد الروايات الدالة علي العشر.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 70، الحديث 1، الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 70، الحديث 3، الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 214، الحديث 16528.

(4). الوسائل 14/ 70، الحديث 2، الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 70، الحديث 4، الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح.

(6). الوسائل 14/ 71، الحديث 7، الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 37

بقي هنا شي:

و هو أنّ ظاهر الأدلة، كون هذا الحكم أي الحرمة، عاما يشمل صورة خوف الإفضاء و عدمه، و أن كانت الحكمة غلبة خوف الإفضاء في أفرادها، إلّا أنّه حكمة لا علّة؛ فلو كانت الزوجة رشيدة في حال الصغر و كان الزوج حديث السنّ لا يخاف من دخوله عيب علي الزوجة، كانت الحرمة ثابتة.

بل يمكن تعميم الحكم لما إذا كانت المراة بالغة، و لكن كانت نحيفة يخاف عليها الافضاء أو العيب، لا يجوز دخوله بها؛ و لا يجب عليها التمكين؛ و لو استمرّ ذلك مدة طويلة، لا يبعد جواز الفسخ للزوج.

2- حكم سائر الاستمتاعات غير الوطء منها

قد صرّح غير واحد من المتأخرين و المعاصرين بجواز سائر الاستمتاعات منها دون الدخول، و قد صرح به في الجواهر، قال: نعم، لا بأس بالاستمتاع بغير الوطء، للأصل السالم عن المعارض. «1»

هذا، و لكن الانصاف أنّ بعض الاستمتاعات بالنسبة إلي الصغيرة كالرضيعة و مثلها، قبيح جدّا في عرف العقلاء، و كان قبحه من المستقلّات العقلية أو العقلائية، فلذا يخرج عن تحت عمومات الحلّية، كما لا يخفي.

3- لو وطئها و لم يوجب إفضاء فما حكمه؟

إذا ارتكب الحرام و وطأ قبل أن تبلغ تسع سنين و لم يوجب إفضاء و لا عيبا، لم يكن عليه شي ء (سوي التعزير علي فرض العلم و العمد في كلّ كبيرة)؛ هذا هو المشهور، و لكن عن الشيخين في المقنعة و النهاية، و ابن ادريس في السرائر، الحرمة أبدا بمجرّد الدخول؛ و نسبه في الكفاية إلي جماعة، و ظاهر المفاتيح الميل إليه، (كما في المستند).

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 416.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 38

و قد يستدل له بمرسلة يعقوب بن يزيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

إذا خطب الرجل المراة، فدخل بها قبل أن تبلغ تسع سنين، فرق بينهما، و لم تحلّ له أبدا. «1»

و لكن الاستدلال باطلاقها بعد ضعف السند، و قوة حملها علي غيرها ممّا يدل علي ثبوت هذا الحكم عند الافضاء، مشكل جدا؛ لا سيما مع عدم ثبوت النسبة إلي هؤلاء الأعلام، فالأقوي فيه ما عرفت.

4- اذا دخل بها فأفضاها

إذا دخل بها قبل تسع سنين، فافضاها، تترتب عليه أحكام أربعة علي المشهور:

1- تحرم عليه وطؤها أبدا.

2- تجب عليه نفقتها ما دامت حيّة.

3- تجب عليه دية الافضاء، (و هي دية كاملة للمرأة، خمس مأئة دينار).

4- تجري عليها أحكام الزوجة من التوارث و غيره ما لم يطلّقها.

و أمّا الحرمة الأبدية، فلا دليل عليها إلّا مرسلة يعقوب بن يزيد، التي مرّت آنفا؛ و فيه، أنّها ضعيفة السند أوّلا، و لا تختصّ بالافضاء ثانيا، و انجبارها بعمل المشهور، مع اطلاقها بل ظهورها في استناد الحرمة إلي مجرّد الدخول لا إلي الافضاء، مشكل جدا.

هذا مضافا إلي أنّ التحريم المؤبد مخالف لمقتضي النكاح، و المفروض أنّ النكاح باق علي حاله، و قد

دلت عليه الروايات كما ستسمعها إن شاء اللّه.

فاذن يبدو هنا أمر عجيب ليس له نظير في الفقه ظاهرا، و هو أن تكون المرأة زوجة له مع حرمة وطيها أبدا، و كيف يمكن إثبات هذا الأمر العجيب برواية مرسلة، لم يثبت انجبارها.

أضف إلي ذلك، أنّ فيه ضررا عظيما علي الزوجة، لا سيما إذا كانت شابة و كانت قابلة للمواقعة، و لو في حال الافضاء، فان الافضاء قد لا يكون مانعا عنها؛ و لعله لذلك كله مال

______________________________

(1). الوسائل 14/ 381، الحديث 2، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 39

إلي الحليّة جماعة من المتأخرين.

هذا كله إذا لم تندمل و أمّا إذا اندملت أو صارت كاليوم الأول بسبب عمل الجراحية، فلا وجه فيها للحرمة أبدا و لا معني له.

و العجب أنّه قد يظهر من بعضهم بقاء الحرمة، و لو بعد الاندمال!

و أمّا وجوب الانفاق عليها ما دامت حيّة، فهو أيضا مشهور و صرح في الجواهر بعدم وجدانه الخلاف فيه، بل حكي الإجماع عليه عن جماعة. «1» و عمدة ما يدل عليه هو صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رجل تزوج جارية فوقع بها فافضاها.

قال: عليه الاجراء عليها ما دامت حيّة. «2»

هذا، و لكن ظاهره الاطلاق بالنسبة إلي ما دون التسع و ما بعده، فان الجارية لها مفهوم عام تشمل كل شابة؛ و لكن المشهور- كما قيل- شهرة عظيمة تكاد تكون إجماعا، علي اختصاص الحكم بالصغيرة؛ و لكن الانصاف أنّ هذا غير كاف في تقييد اطلاق الرواية.

بل الظاهر اطلاقها و شمولها حتي لما بعد الطلاق، خلافا لما عن الإسكافي، فانّه منع منه بعد الطلاق و لا وجه له؛

لا سيّما مع قوله عليه السّلام في مصحح حمران، من تعليل الدية بل و الانفاق، بقوله: قد أفسدها و عطّلها علي الازواج. «3»

نعم، القول بشموله حتي لما بعد النكاح الجديد و الانفاق عليها من زوجها الجديد، غير خال عن الإشكال؛ لأنّ تعدد الانفاق بعيد جدّا لأنّها حينئذ لم تعطل علي الأزواج، و هناك من ينفق عليها، فانصراف الاطلاق عنه غير بعيد.

و القول بأنّ أحد الانفاقين من باب الزوجية، و الآخر من باب الجريمة، كما تري، فانّه مناف لمفهوم الانفاق.

و أمّا الدية، فهي أيضا ممّا اشتهر بين الاصحاب، بل ادعي عليها الإجماع، بل عن العامة أيضا وجوب الدية بالافضاء إمّا مطلقا، أو في خصوص الصغيرة، و مثلها قال ابن

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 426.

(2). الوسائل 14/ 381، الحديث 4، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(3). الوسائل 14/ 380، الحديث 1، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 40

قدامة في المغني: أنّ الضمان يجب بوطء الصغيرة أو النحيفة التي لا تحتمل الوطء دون الكبيرة المحتملة له؛ و بهذا قال أبو حنيفة. و قال الشافعي: يجب الضمان في الجميع، لأنّه جناية فيجب الضمان به؛ ثم حكي مقدار الدية عن بعضهم الثلث، و عن بعضهم الدية الكاملة؛ (الأول عن قتادة و أبي حنيفة، و الثاني عن الشافعي). «1»

و حكي النووي في المجموع، عن بعضهم، التفصيل بين أنواع الافضاء، ففي بعضها تجب ثلث الدية و في بعضها الدية كاملة. «2»

و علي كل حال، يدل عليه مضافا إلي ما ذكر، عدّة روايات:

1- ما رواه حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سئل عن رجل تزوج جارية بكرا لم تدرك، فلمّا دخل

بها اقتضها فافضاها؟ فقال: إن كان دخل بها حين دخل بها و لها تسع سنين، فلا شي ء عليه؛ و إن كانت لم تبلغ تسع سنين، أو كان لها أقل من ذلك بقليل، حين اقتضها، فانّه قد افسدها و عطّلها علي الأزواج، فعلي الإمام أن يغرمه ديتها؛ و إن امسكها و لم يطلقها، فلا شي ء عليه. «3»

2- و مثله مع تفاوت بيسير ما رواه بريد بن معاوية العجلي، عن الباقر عليه السّلام. «4»

3- و احسن منهما، ما ورد في أبواب الديات، من صحيح سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رجل وقع بجارية فافضاها، و كان إذا نزلت بتلك المنزلة لم تلد؛ قال: الدية كاملة. «5»

و لكن الذي يظهر من ذيل الأولتين، سقوط الدية بامساكها و عدم طلاقها؛ و عن ابن الجنيد الاسكافي، العمل به.

و لكنه معرض عنه بين الأصحاب؛ و الوجه فيه ظاهر، فانّ الدية لزمت بالجناية، و لا وجه لسقوطها بمجرد بقاء نكاحها؛ اللّهم إلّا أن يكون ذلك من باب التصالح بينهما و هو غير بعيد.

______________________________

(1). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 9/ 652.

(2). محي الدين النووي، في المجموع 20/ 273.

(3). الوسائل 14/ 380، الحديث 1، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(4). الوسائل 14/ 381، الحديث 3، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(5). الوسائل 19/ 248، الحديث 1، الباب 9 من أبواب ديات المنافع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 41

هذا، و الانصاف أنّ موارد الافضاء، مختلفة، كما سيأتي؛ ففي بعضها يلزم تعطيل المرأة علي الأزواج، ففيه الدية الكاملة؛ و في بعضها ليس كذلك، بحيث يكون كالجائفة، ففي وجوب الدية الكاملة حينئذ تأمل واضح.

و أمّا بقاء احكام

الزوجيّة إلي أن يطلّقها، و هذا أيضا مشهور بين فقهائنا، بل ادعي في الجواهر فتوي المعظم بل الكل عليه. «1» و يدل عليه، أنّ الخروج عن الزوجية يحتاج إلي أسباب معينة، و ما لم يثبت لا يخرج عنها؛ لا لمجرّد الاستصحاب حتي يقال أنّ المقام من الشبهات الحكميّة، و قد استشكلنا في حجيته، بل لما عرفت من أنّ الخروج عنها منوط بأسباب معينة و لم يحصل شي ء منها.

مضافا إلي ما عرفت في ذيل روايتي حمران و بريد بن معاوية «2» من قوله: و إن امسكها و لم يطلقها فلا شي ء عليه؛ الظاهر بل الصريح في بقاء الزوجية بحالها؛ اللّهم إلّا أن يقال بإن ذيلهما- كما عرفت- غير معمول به عند الأصحاب.

و الذي يمكن الاستدلال به للخروج عن الزوجية، أمران:

1- ما ورد في مرسلة يعقوب بن يزيد، «3» من قوله: فرق بينهما؛ الظاهر في حصول البينونة و بطلان الزوجية؛ و لكن ضعف سندها، و أعراض الأصحاب عنها، يسقطانها عن الحجيّة.

2- أنّ بقائها مع حرمة وطيها أبدا متنافيان، و لكن قد عرفت أنّ الأقوي عدم حرمته.

المراد من الافضاء

يبقي الكلام في المراد من الافضاء هنا؛ فقد اختلفت فيه كلمات فقهاء الخاصة و العامة، و صارت المسألة معركة للآراء و اختلاف الأقوال بين الفريقين متقاربة. «4»

و حاصل الكلام فيه بما يكشف النقاب عن وجه المسألة، أنّ الافضاء في اللغة مأخوذ

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 418.

(2). الوسائل 14/ 380 و 381، الحديثان 1 و 3، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(3). الوسائل 14/ 381، الحديث 2، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(4). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 419 و محي الدين النووي، في المجموع 19/ 123.

أنوار

الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 42

من الفضاء و هو المكان الواسع، و قد يستعمل في الجماع و اللمس و شبههما (من جهة الاتصال في المكان الواسع)، و لكن المقصود منه في المقام ليس مطلق إيجاد الفضاء الواسع في الفرج بالفعل العنيف، بل الظاهر أنّ لهم اصطلاح خاص فيه، و لكن اختلفوا في تفسيره بأقوال:

1- اتحاد مسلكي البول و الحيض.

2- اتحاد مسلكي الحيض و الغائط.

3- يكفي كل منهما في صدق الافضاء.

4- اتحاد مسلكي البول و الغائط (و لكن هذا غير ممكن بدون اتحاد المسالك الثلاثة).

5- اتحاد المسالك الثلاثة.

و قد ذهب إلي كل منها بعضهم؛ و توضيح ذلك، أنّ للمرأة مسالك ثلاثة: مسلك البول و هو في الفوق، و مسلك الحيض و الجماع و هو في الوسط، و مسلك الغائط و هو في الأسفل، (و الأولان واقعان في فضاء الفرج و الآخر مستقل).

و حيث إنّ الحاجز بين مسلكي البول و الحيض رقيق، و بين مسلك الحيض و الغائط غليظ، استبعد كثير منهم اتحاد الأخيرين، و اكتفي بالأولين؛ و لكن صرّح بعضهم بأنّ اتحاد الاخيرين أيضا ممكن و إن كان نادرا.

هذا، و الانصاف عدم قيام دليل علي شي ء من هذه الامور، لعدم ذكرها في اللّغة (إلّا تبعا لبعض كلمات الفقهاء) و عدم ورود شي ء منها في الروايات.

فالحق أن يقال إنّ عنوان الافضاء و إن ورد في روايات عديدة (منها 1/ 34 و 3/ 34 و 4/ 34)، و لكن لعل المراد منها هو معناه اللغوي، و هو ايجاد الفضاء الواسع في الفرج بالخرق و يدل عليه التعبير باقتضها؛ في غير واحد من روايات الباب.

و لكن يفسر الجميع قوله: قد أفسدها و عطّلها علي الأزواج؛ في معتبرة حمران

(1/ 34)، و هو الذي ينبغي أن يستند إليه الفقيه في المقام، فالمعيار هو فساد المرأة، أي تعطيله علي الأزواج.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 43

و إن شئت قلت: الافضاء في الأصل مأخوذ من الفضاء، و هو المحل الواسع؛ فالافضاء بمعني جعل الشي ء واسعا، و قد يأتي بمعني الملامسة؛ فانّ الشي ء يتسع و يصل إلي غيره، (و هو كناية عن الجماع المتعارف، كما في الآية 21 من النساء).

و لكن قد فسّره غير واحد من أرباب اللغة، كالقاموس و لسان العرب، بأنّ المراد: إذا جعل مسلكيها مسلكا واحدا؛ من غير الإشارة بأنّ المراد أي المسلكين؟ و قد صرّح بعضهم كالطريحي في مجمع البحرين، بأنّ المراد مسلك البول و الغائط (انتهي). و لكن قد عرفت أنّ اتحاد هذين المسلكين يوجب اتحاد الجميع.

و لكن هل هذا من المعاني اللغوية، أو أخذه أرباب اللغة من الفقهاء؟ لاتفاق فقهاء العامة و الخاصة علي تفسيره به إجمالا.

و علي كل حال لا يبعد أن يقال ان معناه الأصلي ايجاد الوسعة و الاتساع في شي ء، ثم إنّه لما لم يمكن الاتساع في مقام البحث، بغير خرق أحد الجدارين (ما بين مسلكي البول و الحيض، أو الحيض و الغائط)، فسّر بذلك، فهو اصطلاح فقهي مأخوذ من معناه اللغوي؛ فعلي هذا لا فرق بين جميع الصور الثلاثة، جعل مسلكي البول و الحيض واحدا، أو مسلكي الحيض و الغائط أو الجميع واحدا.

هذا، و لكن يمكن أن يكون المدار علي فسادها و تعطيلها علي الأزواج، فلو فرض اتحاد بعض مسالكها مع بعض و لم تعطّل علي الأزواج، أي كانت مستعدة للوطئ، كاستعدادها للولادة، خرجت عن حكم المسألة من وجوب الانفاق عليها ما دامت حيّة و شبهه،

و إن صدق عليها أنّها مفضاة في الجملة؛ فالحكم دائما يدور مدار هذا العنوان بقرينة معتبرة حمران؛ نعم، إذا حصل فيها نقص و لم تعطل علي الأزواج، وجب أرش الجناية علي كل حال.

*** بقي هنا أمران:

الأول: أنّه إذا عالجها بعض الأطباء، فصلحت للأزواج، بعد أن تعطلت، و هو أمر سهل

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 44

في أعصارنا و هو عصر الترقيع و نقل الأعضاء من بعض إلي بعض، تبدل الحكم لتبدل موضوعه، فان حديث حمران كالقياس المنصوص العلّة،- و العلّة تعمّم و تخصص- فالحكم بحمد الله واضح.

هذا، و لكن هل تجب الدية الكاملة في هذه المقامات التي يعود الإنسان إلي حاله الأول بسهولة أو بصعوبة؟، لا يبعد نقصان الدية في هذه المقامات، كما ورد في أبواب كسر العظام و أنّه لو كسرت و عادت بغير نقص، كانت ديتها انقص.

و قد صرّح في التحرير، أنّه إذا كسرت العنق و انحني وجبت دية كاملة، و أنّه لو زال العيب فلا دية، و عليه الأرش؛ و في دية الظهر و أنّه إذا انكسروا حدود دية كاملة و أنّه لو صلح و عولج و لم يبق من آثار الجناية شي ء فمائة دينار؛ «1» إلي غير ذلك من أمثالها.

الثاني: المعروف بينهم أنّه إذا وقع الافضاء بعد تسع سنين، فلا شي ء علي الزوج؛ و الانصاف أنّ هذا الحكم علي اطلاقه ممنوع جدّا، فان كانت الزوجة نحيفة و الزوج قويا يخاف عليها الافضاء، فانه لا يجوز له و لا يجب عليها التمكين، فلو افضاها و الحال هذا، ضمن علي الأحوط لو لا الأقوي.

نعم، لو لم يكن هناك خوف، و رضيت بذلك، لم يكن عليه شي ء لإقدامها علي الفعل، فلا يلزم الضمان عليه.

***

______________________________

(1). راجع

دية الظهر و العنق، في تحرير الوسيلة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 45

[المسألة 13: لا يجوز ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر إلّا باذنها]

اشارة

المسألة 13: لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر إلّا باذنها، حتي المنقطعة، علي الأقوي؛ و يختص الحكم بصورة عدم العذر، و أمّا معه فيجوز الترك مطلقا ما دام وجود العذر، كما إذا خيف الضرر عليه أو عليها، و من العذر عدم الميل المانع عن انتشار العضو.

و هل يختص الحكم بالحاضر فلا بأس علي المسافر، و إن طال سفره، أو يعمّها فلا يجوز للمسافر إطالة سفره أزيد من أربعة أشهر، بل يجب عليه مع عدم العذر الحضور لإيفاء حق زوجته؟ قولان: أظهرهما الأول، لكن بشرط كون السفر ضروريا، و لو عرفا، كسفر تجارة أو زيارة أو تحصيل علم و نحو ذلك، دون ما كان لمجرّد الميل و الانس و التفرج و نحو ذلك، علي الأحوط.

ترك وطي الزوجة اكثر من اربعة اشهر

أقول: المعروف من مذهب الأصحاب أنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر، بل ادعي عليه الإجماع. قال في الحدائق: قد صرّح الأصحاب بأنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة اشهر. «1» و قال في المسالك: هذا الحكم موضع وفاق، و به حديث ضعيف السند … و روي العامة أنّ عمر سأل نساء أهل المدينة- لما أخرج أزواجهن إلي الجهاد، و سمع امرأة تنشد أبياتا من جملتها:

فو الله، لو لا الله لا شي ء غيره لزلزل من هذا السرير جوانبه!

- عن أكثر ما تصبر المرأة عن الجماع؟ فقيل له: اربعة أشهر، فجعل المدّة المضروبة للغيبة أربعة أشهر. «2»

و استدل له بامور:

1- الإجماع الذي حاله معلوم.

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 89.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 6/ 66.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 46

2- لزوم العسر و الحرج و الضرر، و لكنه يختلف

باختلاف الموارد.

3- ما يستفاد من حكم الايلاء، كما قال الله تعالي: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فٰاؤُ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلٰاقَ فَإِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» فانّ الايلاء و هو نوع من القسم اعتبر إلي أربعة اشهر، و هذا دليل علي عدم وجوب الجماع قبل ذلك، و إلّا لم يرخص الله لهم تأخير هذه المدّة؛ فقد خير الزوج بعد هذه المدّة بين أمرين: الرجوع إلي الزوجة، و ترك القسم الدائر علي عدم مقاربته، أو طلاقها؛ و هو دليل علي جواز تأخيره إلي هذه المدّة لا أكثر؛ و لا بأس بهذا الاستدلال.

4- و لعله العمدة، ما رواه صفوان بي يحيي، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، أنّه سأله عن الرجل تكون عنده المراة الشّابة، فيمسك عنها للأشهر و السنة لا يقربها، ليس يريد الاضرار بها، يكون لهم مصيبة، يكون في ذلك آثما؟ قال: إذا تركها أربعة أشهر كان آثما بعد ذلك. «2»

و قد عرفت أنّ الشهيد الثاني قدّس سرّه وصفه بضعف السند، و لعله نظر في ذلك إلي بعض اسناد الشيخ (قدس سره) هنا، فانّه رواه عن علي بن أحمد بن أشيم، و هو مجهول، و لكن بعض طرق الشيخ، و كذا طريق الصدوق إليه معتبر، فلا غبار علي الحديث من هذه الجهة؛ لكن موردها المرأة الشابة، و تعميم الحكم إلي غيرها يحتاج إلي دليل.

5- مرسلة جعفر بن محمد، عن بعض رجاله، عن الصادق عليه السّلام قال: من جمع من النساء ما لا ينكح، فزنا منهن شي ء، فالإثم عليه. «3»

و هو مع ضعف السند، لا يدل علي اربعة أشهر، فلا يصلح إلّا مؤيدا.

و هذه الأدلة الخمسة و إن كان

في كل واحد ضعف من جهة، و لكن لا يبعد إثبات المقصود مع ضمّ بعضها ببعض.

هذا، و لا يبعد شمولها أيضا للشابة و غيرها إلّا القواعد من النساء، بل يمكن أن يقال

______________________________

(1). البقرة/ 226.

(2). الوسائل 14/ 100، الحديث 1، الباب 71 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 100، الحديث 2، الباب 71 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 47

لو كانت الزوجة تقع في الإثم في هذه المدّة و أقل منها، يجب علي الزوج إتيانها، من وجوب حفظها عن الإثم مهما أمكن بمقتضي أدلة النّهي عن المنكر، مضافا إلي كون الزوج لباسا لهن بمقتضي قوله تعالي: وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ يمنعها عن القبيح، و كذلك إذا لم تقع في الحرام و لكن كانت في عسر و حرج و ضرر.

*** بقي هنا أمران:

الأوّل: هل هناك فرق بين الحاضر و المسافر؟

اطلاق الأدلة، دليل علي العموم، و ما عرفت من جواب الأصحاب لعمر؛ و لكن قد يدعي جريان السيرة علي خلافه، لا سيما في سابق الأيّام التي كانت الأسفار للتجارة أو الزيارة طويلة، و فعل عمر ليس بحجة؛

و الانصاف أنّ جريان السيرة مع عدم ضرورة السفر و عدم رضا الزوجة محل تأمل؛ فالأحوط لو لا الأقوي هو العموم إلّا مع رضاها.

الثاني: هل هناك فرق بين الدائمة و المنقطعة؟

فيه قولان: فعن الشهيد الثاني في الروضة الشمول، و عنه في المسالك، الخصوص؛ و علّله بانه القدر المتيقن مع عدم جريان كثير من أحكام الزوجية علي المنقطعة.

و الانصاف أنّ النص و معاقد الإجماع، عام؛ و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 48

[المسألة 14: لا إشكال في جواز العزل]

اشارة

المسألة 14: لا إشكال في جواز العزل، و هو اخراج الآلة عند الانزال و افراغ المني إلي الخارج، في غير الزوجة الدائمة الحرّة، و كذا فيها مع إذنها؛ و أمّا فيها بدون اذنها؛ ففيه قولان: أشهرهما الجواز مع الكراهة، و هو الأقوي، بل لا يبعد عدم الكراهة في التي علم أنّها لا تلد، و في المسنّة و السليطة و البذية و التي لا ترضع ولدها؛ كما أنّ الأقوي عدم وجوب دية النطفة عليه و إن قلنا بالحرمة، و قيل بوجوبها عليه لزوجته، و هي عشرة دنانير و هو ضعيف في الغاية.

حكم العزل

أقول: المشهور- كما في الجواهر و غيره- كراهة العزل عن الحرّة الدائمة بغير رضاها، و قيل- و القائل هو الشيخ المفيد في المقنعة، و شيخ الطائفة في الخلاف، و المبسوط، و جماعة اخري كما حكي عنهم- هو محرم؛ و استدل للحرمة بروايات رواها الفريقان في كتبهم؛ فعن طريق الخاصة عدّة روايات رواها في الوسائل في الباب 74 من أبواب مقدمات النكاح؛ منها:

1- ما رواه في دعائم الإسلام، عن علي عليه السّلام قال: الوأد الخفي أن يجامع الرجل المرأة، فاذا أحسّ الماء نزعه منها فأنزله فيما سواها؛ فلا تفعلوا ذلك، فقد نهي رسول الله أن يعزل عن الحرّة إلّا بإذنها … «1»

2- عنه صلّي اللّه عليه و آله أنّه وأد الخفي. «2»

فالتعبير عنه بالوأد، (هو دفن الولد حيّا)، دليل علي الحرمة.

3- ما دل علي الجواز في صور خاصة التي تدل بالمفهوم علي حرمة غيره، مثل ما رواه يعقوب الجعفي، قال: سمعت أبا الحسن يقول: لا بأس بالعزل في ستة وجوه: المراة التي تيقنت أنّها لا تلد، و المسنة، المرأة السليطة، و البذية، و المراة التي

لا ترضع ولدها، و

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 333، الحديث 16584.

(2). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 231.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 49

الامّة؛ «1» اللّهم إلّا أن يقال بانّ مفهومها وجود البأس و هو أعم من الحرمة.

4- ما دل علي أنّ فيه الدية- و الدية لا تكون إلّا عن جناية- و قد رواها في الوسائل، في الباب 19 من باب ديات الأعضاء؛ و فيه: أنّ دية افراغ الماء خارج الرحم عشرة دنانير.

و لكن الانصاف أنّها ظاهرة أو صريحة في افراغ ماء الرجل خارج الرحم بغير رضاه؛ فراجع.

فالعمدة هو الأول و الثاني، و اسنادهما ضعيفة.

و لكن هناك روايات كثيرة تدل علي الجواز؛ منها:

صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العزل؟ قال: ذاك إلي الرجل يصرفه حيث شاء. «2»

و مثله الرواية 2 و 3 و 4 و 5 و 6 من ذاك الباب بعينه.

فلو دلت الروايات الواردة في الطائفة الاولي علي الحرمة، فتحمل علي الكراهة بقرينة هذه الروايات، فانه طريق الجمع في جميع أبواب الفقه.

و تشهد له طائفة ثالثة من الروايات، تدل علي الكراهة، مثل ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما عليه السّلام أنّه سئل عن العزل، فقال: أمّا الامة، فلا بأس؛ فامّا الحرّة، فانّي أكره ذلك، إلّا أن يشترط عليها حين يتزوجها. «3» إلي غير ذلك، فالمسألة ظاهرة.

*** بقي هنا أمران:

الأول: إذا كان ذلك سببا للإضرار بالمراة، أمّا من ناحية الروحية أو الجسميّة، يشكل جواز ذلك، لدليل نفي الضرر و الضرار.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 107، الحديث 4، الباب 76 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 105، الحديث 1، الباب 75 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 106، الحديث 1، الباب

76 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 50

الثاني: هل ترتفع الكراهة إذا كان كثرة الأولاد سببا لمشاكل شخصية أو اجتماعية مثل غلبة الفقر و الجهل و المرض علي الجماعة لعدم وجود ما يكفيهم في هذه الامور الثلاثة فعلا، فيعزل عنها طلبا لقلة الأولاد حتي يربيهم و يحفظهم من الجهل و الفقر؟ لا يبعد ذلك؛ و الوجه فيه، ترجيح هذه الملاكات علي ملاك الكراهة. هذا، و لكن الظروف مختلفة و الشرائط متفاوته؛ و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 51

[المسألة 15: يجوز لكل من الزوج و الزوجة النظر إلي جسد الآخر]

اشارة

المسألة 15: يجوز لكل من الزوج و الزوجة النظر الي جسد الاخر، ظاهره و باطنه حتّي العورة. و كذا مسّ كلّ عضو منهما بكلّ عضو منه كل عضو من الاخر مع التلذذ و بدونه.

حكم النظر و اللمس لكل من الزوجين

لا كلام و لا اشكال في شي ء مما ذكره في المتن، بل و لا خلاف فيه كما في الجواهر و المستمسك، «1» بل هو من ضروريات الدين كما في الجواهر و المستمسك و المهذب، «2» لاستمرار عمل المسلمين عليه في جميع الاعصار و الامصار، بل عليه جميع العقلاء الذين لهم زوجية و زواج.

و يدل علي الجواز مضافا الي ما ذكر، روايات كثيرة وردت في الباب 59 من ابواب مقدّمات النكاح، من وسائل الشيعة، المجلد 14. منها ما ارسله ابن أبي عمير، عن اسحاق بن عمار، عن ابي عبد اللّه عليه السّلام: في الرجل ينظر الي امرأته و هي عريانة؟ قال: لا بأس بذلك.

و هل اللذة الّا ذلك. «3» و غيرها من الروايات نعم يكره النظر الي العورة للنهي عنه في بعض الروايات «4» المحمول علي الكراهة التي هي مقتضي الجمع بين الروايات الناهية و المجوزة. «5» فما ذكره في المتن مما لا اشكال فيه الا ان النظر الي العورة (عورة المرأة) مكروهة.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 29، ص 73.

(2). مهذب الاحكام، ج 24، ص 38.

(3). الوسائل 14/ 85، الحديث 1، الباب 59، من ابواب مقدمات النكاح.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 51

(4). الوسائل 14/ 85، الحديث 5 و 6 و 7، الباب 59،

من ابواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 85، الحديث 2 و 3، الباب 59، من ابواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 52

[المسألة 16: لا إشكال في جواز نظر الرجل إلي ما عدا العورة من مماثله]

اشارة

المسألة 16: لا اشكال في جواز نظر الرجل الي ما عدا العورة من مماثله، شيخا كان المنظور اليه او شابّا، حسن الصورة او قبيحها، ما لم يكن بتلذّذ و ريبة، و العورة هي القبل و الدبر و البيضتان. و كذا لا اشكال في جواز نظر المرأة الي ما عدا العورة من مماثلها، و امّا عورتها فيحرم ان تنظر اليها كالرجل.

حكم النظر الي المماثل

هذه المسألة كسابقتها واضحة لا ريب فيها و لم نجد من خالف فيها.

قال في الجواهر: لا اشكال كما لا خلاف في انه يجوز ان ينظر الرجل الي مثله ما خلا عورته الواجب عليه سترها في الصلاة شيخا كان أو شابا، حسنا أو قبيحا ما لم يكن النظر لريبة او تلذذ، و كذا المرأة بالنسبة الي المرأة، بل في المسالك هو موضع وفاق، بل لعله من ضروريات الدين المعلومة باستمرار عمل المسلمين عليه في جميع الاعصار و الامصار. «1»

و قال في المهذب تعليلا علي المسألة: كل ذلك للأصل، و اجماع المسلمين، بل ضرورة من الدين من اوّل بعثة سيد المرسلين، بل قبلها. و يصح التمسك بالسيرة العقلائية أيضا. «2»

و يشهد لما ذكرنا مضافا الي الاصل و الاجماع و السيرة و بناء العقلاء روايات كثيرة وردت في باب 3 و 4 و 5 و 18 من آداب الحمام من الوسائل، المجلد الاوّل.

منها ما رواه حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا ينظر الرجل الي عورة اخيه. «3»

و منها ما رواه في تحف العقول عن النبي صلّي اللّه عليه و آله: انّه قال: يا علي ايّاك و دخول الحمام بغير

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 29، ص 71.

(2). مهذب الاحكام، ج 24، ص 37.

(3). الوسائل، 1/ 363، الحديث

1، الباب 3، من ابواب آداب الحمام.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 53

ميزر، طعون ملعون الناظر و المنظور اليه. «1»

و غيرهما من الروايات. و جميع ما يدل علي ليس المئزر و عدم جواز دخول الحمام بدونه شاهد علي ما ذكرنا.

______________________________

(1). الوسائل، 1/ 364، الحديث 5، الباب 3، من ابواب آداب الحمام.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 54

[المسألة 17: يجوز للرجل أن ينظر إلي جسد محارمه ما عدا العورة]

اشارة

المسألة 17: يجوز للرجل أن ينظر إلي جسد محارمه ما عدا العورة، إذا لم يكن مع تلذذ و ريبة. و المراد من المحارم، من يحرم عليه نكاحهن من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة. و كذا يجوز لهن النظر إلي ما عدا العورة من جسده، بدون تلذّذ و ريبة.

حكم النظر الي المحارم

أقول: من هنا نشرع في مسائل النظر التي هي من أهمّ ما يبتلي به الناس في عصرنا، و نبدأ من النظر إلي المحارم قال في الجواهر- بعد ذكر مسألة جواز النظر إلي المحارم: - بلا خلاف في شي ء من ذلك، بل هو من الضروريات؛ ثم حكي عن الفاضل و ظاهر التحرير و عن الشافعية في وجه، أنّه ليس للمحرم التطلع في الجسد عاريا؛ ثمّ قال هو واضح الضعف. «1»

و يظهر من كلام صاحب الرياض «2» و كلام النراقي (رحمه اللّه) في المستند، «3» أنّ في المسأله أقوالا ثلاثة:

1- جواز النظر إلي جميع بدن المحارم ما عدا العورة، و هو المشهور بين الأصحاب، كما صرّح به جماعة. بل قيل أنّه مقطوع به في كلامهم، بل حكي الإجماع عليه.

2- جواز النظر إلي المحاسن خاصة؛ و فسّر بمواضع الزينة، فيشمل الشعر و الوجه و الكف و الساعد و القدم و شيئا من الساق و موضع العقد من النحر و شبه ذلك (و لم يحك قائله).

3- عدم جواز النظر، إلّا إلي الوجه و الكفين و القدمين. (و قد عرفت حكايته في كلام الجواهر عن الفاضل و ظاهر التحرير و عن الشافعية؛ و عن التنقيح، استثناء الثدي حال الارضاع أيضا؛ و لو عدّ هذا قولا آخر، لكانت الأقوال أربعة.

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 73.

(2). السيّد علي الطباطبائي، في رياض

المسائل 10/ 65- (2/ 73 ط. ق).

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 43.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 55

و قال ابن قدامة، في المغني: يجوز للرجل أن ينظر من ذوات محارمه إلي ما يظهر غالبا كالرقبة و الرأس و الكفين و القدمين و نحو ذلك؛ و ليس له النظر إلي ما يستتر غالبا كالصدر و الظهر و نحوهما. و ذكر القاضي، إن حكم الرجل مع ذوات محارمه كالرجل مع الرجل و المرأة مع المرأة … ثم حكي عن الضحاك: لو دخلت علي امّي، لقلت أيتها العجوز غطّي شعرك! «1».

و من هنا يظهر، أن الأقوال بين العامّة أيضا ثلاثة طبقا لما بيننا.

أدلّة المشهور علي مذهبهم

و علي كل حال، فقد استدل لقول المشهور أو المنسوب إليهم:

أولا، بقوله تعالي: قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ؛ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبٰائِهِنَّ أَوْ آبٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنٰائِهِنَّ أَوْ أَبْنٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوٰاتِهِنَّ … «2»

المراد من الزينة في المقام

و المراد من الزينة في وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ …، الزينة الباطنة؛ و أمّا الزينة الظاهرة، فقد ورد في الجملة السابقة.

و الحاصل؛ أنّ الزينة علي قسمين، الظاهرة التي يجوز اظهارها لكل أحد كالكحل و الخاتم، المصرح بهما في الروايات؛ و الباطنة و هي كالقلادة و الدملج و الخلخال و السوار، فلا يجوز اظهارها إلّا للمحارم و من الواضح أنّ جواز اظهار هذه الزينة، ملازم بجواز رؤية محلّها.

و من هنا يظهر أنّ تفسير الزينة، بمواضع الزينة من باب الدلالة الالتزامية، لا أنّ الزينة

______________________________

(1). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 454 و 455.

(2). النور/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 56

بمعني مواضع الزينة؛ فان المجاز أو الحذف مخالف للأصل.

و لكن هذا الدليل لا يدل علي مقالة المشهور؛ و لو جعل دليلا علي القول الثاني، كان أحسن. فان المتعارف ارائة الزينة الباطنة و محلها للمحارم، و هو المراد من المحاسن.

و ثانيا، بالروايات الواردة في غسل الميت مما يدل علي جواز نظر المحارم إلي محارمهم. منها:

1- ما رواه منصور، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل، يخرج في السفر و معه امرأته؛ أ يغسّلها؟ قال: نعم، و أمه و أخته و نحو هذا، يلقي علي عورتها خرقة. «1»

و سند الحديث معتبر، فان منصور

و إن كان مشتركا بين الثقة و غيره، إلّا أن المراد منه هنا منصور بن حازم بقرينة رواية صفوان بن يحيي منه. و منصور بن حازم من اجلاء الأصحاب و ثقاتهم، و عدّه المفيد من الفقهاء الأعلام و قد روي روايات كثيرة في أبواب مختلفة تبلغ 360 حديثا. و قد روي منصور، بدون ذكر الأب في 93 مورد غالبها هو منصور بن حازم، و هو من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السّلام و كان له كتاب. و دلالتها مبنيّة علي كون امّه و اخته عطفا علي المفعول في يغسلها، كما هو ظاهر؛ و إلّا كان من قبيل توضيح الواضح.

هذا، و يمكن الجواب عنه بان المراد جواز ذلك عند الضرورة، بقرينة ذكر السفر.

مضافا إلي الرّوايات المقيّدة بوجوب كونه من وراء الثياب التي تكون دليلا علي ضدّه؛ و سيأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

2- ما رواه الحلبي في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل، عن الرجل يموت و ليس عنده من يغسله إلّا النساء؛ قال: تغسله امرأته أو ذات قرابته إن كانت له، و يصبّ النّساء عليه الماء صبّا «2».

و سند الرواية معتبر و لكنه أيضا ظاهر بل صريح في وروده مورد الضرورة و هو فقدان المماثل؛ بل ظاهرها، ارتكاز ذهن الراوي أيضا عدم الجواز عند وجود المماثل.

______________________________

(1). الوسائل 2/ 705، الحديث 1، الباب 20 من أبواب غسل الميت.

(2). الوسائل 2/ 705، الحديث 3، الباب 20 من أبواب غسل الميت.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 57

اللّهم إلّا أن يقال إن غسل الميت له خصوصيّة، و لكنه عجيب لأن حال الميّت ليس أشد من الحيّ.

إن قلت: حال الميّت يمكن أن يكون اشد من الحيّ؛

و لذا أمر في الزوجة أن تغسل من وراء الثياب إذا كان الغاسل زوجها، سواء قلنا بوجوبه أو استحبابه.

قلنا: لا يبعد أن يكون هذا الحكم لمنع الزوج أن يري من زوجته بعد مماتها ما يكره، فليس هذا دليلا علي كون الحكم هنا اشد.

3- ما رواه عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السّلام في حديث: إذا مات الرجل في السفر … و إذا كان معه نساء ذوات محرم، يؤزرنه و يصببن عليه الماء صبا و يمسسن جسده و لا يمسسن فرجه «1».

و في طريق الرواية، الحسين بن علوان و هو محل كلام بين الأصحاب. و أمّا زيد بن علي فقد وردت روايات كثيرة في مدحه، و أن خروجه كان للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر (و لعله كان بإذن الإمام علي بن الحسين عليه السّلام) و تضافرها يغنينا عن ملاحظة اسنادها.

و أمّا دلالتها فهي واضحة، لأنّ الازار لا يستر جميع البدن و هو مقابل للقميص؛ و لذا ذكروا في الديات في باب الحلّة أنّه يكفي فيه قميص و ازار؛ و المئزر ما يستتر به في الحمام، و حينئذ تدل علي جواز نظر النساء المحارم لجسد الرجل المحرم بل و مسّ جسده.

و لكن الانصاف عدم تمامية هذا الاستدلال؛ أمّا أوّلا، فلان ذكر السفر في غير واحد منها دليل علي ورودها و نظرها إلي حال الضرورة، و اين ذلك من حال الاختيار.

و ثانيا، إنّ هذه الطائفة من الروايات معارضة لطائفة اخري؛ منها الرواية الخامسة و التاسعة و الرابعة التي تدل علي وجوب كون غسل المحارم، من وراء الثياب أو القميص دليل علي خلافها فهي معارضة للمطلقات؛ و الجمع بينها إنّما يكون بالتقييد.

و تكون

______________________________

(1). الوسائل 2/ 707، الحديث 8، الباب 20 من أبواب غسل الميت.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 58

النتيجة مخالفة لقول المشهور و دليلا علي القول الآخر. و خروج بعض البدن عن القميص لا يفيد لقول المشهور.

اللّهم إلّا أن يقال: يحمل هذا القيد، علي الاستحباب؛ لورود الطائفة الاولي مورد الحاجة، و لا يجوز تأخير البيان من وقتها. مضافا إلي أنّ بعض الطائفة الاولي صريح في عدم الثياب.

و الحاصل، أنّ هناك طريقين للجمع بين الطائفتين؛ الجمع بالتقييد، أو حمل المقيد علي الاستحباب؛ و لا دليل هنا لتقديم الأول علي الثاني، لا سيما مع صراحة بعض الطائفة الاولي في عدم كون الميت مستورا.

إن قلت: هنا دليل ثالث يمكن الالتجاء إليه في إثبات مقالة المشهور، و هو جريان السيرة بعدم تستر المحارم عن محارمهم في ما عدا العورة و المراد سيرة المتشرعية.

قلنا: السيرة غير ثابتة، و القدر المتيقن اظهار المحاسن و مواضع الزينة، لا مثل الصدر و الظهر و الفخذين، فدعواها بلا دليل.

إن قلت: مقتضي الاصل هنا، الاباحة؛ فلو شك يرجع إليه و هذا في الحقيقة دليل رابع في المسألة.

قلنا: بل، الأصل هو الحرمة بعد ورود العموم في قوله تعالي: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ … * وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ «1» و لم يستثن منها بالنسبة إلي المحارم، إلّا الزينة الباطنة مضافا إلي الظاهرة.

دليل المختار

و من هنا يظهر الدليل علي القول الثاني، و هو الاقتصار علي المحاسن، بمقتضي عموم الآيتين و عدم قيام دليل علي خلافه؛ فالقول الثاني هو الاقوي.

و أمّا القول الثالث، أعني الاقتصار علي الوجه و الكفّين و القدمين فهو باطل قطعا، لأنّه

______________________________

(1). النور/ 30 و 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)،

ص: 59

من قبيل الاجتهاد في مقابل النص القرآني كما لا يخفي. و قد يستدل له بما رواه في الجعفريات باسناده عن علي عليه السّلام أنّه قال: إنّ رجلا أتي النبي صلّي اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أمي استأذن عليها- إلي أن قال- يا رسول اللّه اختي تكشف شعرها بين يدي؟ فقال: لا؛ قال: و لم؟ قال: اخاف أن ابدت شيئا من محاسنها و من شعرها أو معصمها أن يواقعها! «1».

و يجاب عنها: أولا: بالإشكال في سندها؛ فانّ الكتاب لإسماعيل بن موسي بن جعفر عليهما السّلام و لم نر في كتاب الرجال توثيقا بل و لا مدحا لإسماعيل، غير أن ارباب الرجال ذكروا أنّه سكن مصر و ولده بها، له كتب يرويها عن أبيه عن آبائه، و الراوي منه هو ابنه موسي بن اسماعيل و هو أيضا مجهول الحال لم يوثق في كتب الرجال و الراوي عنه محمد بن الاشعث و هو أيضا كذلك، فالاعتماد علي الكتاب مشكل.

و ثانيا: انه مخالف لما ورد صريحا في سورة النور من جواز اظهار الزينة الباطنة (و محلها بالملازمة) للمحارم السبعة المذكورة فيها.

و ثالثا: الظاهر أنها قضية في واقعة خاصة، كانت محلا للريبة؛ و إلّا لا تزال الأخوات تكشفن رءوسهن للإخوة و لا يتسبب شيئا، فالحكم الكلي، مع عدم كونه في الغالب محلا للريبة، غير مأنوس كما هو ظاهر.

*** بقي هنا شي ء:

و هو، أنّ ما أفاده في متن تحرير الوسيلة من أنّ المحارم كل من يحرم نكاحه من حيث النسب أو الرضاع أو المصاهرة، هل يتم علي كليّتها؛ فان من المحرمات الأبدية، النكاح في العدة أو بذات البعل مع شرائطه، و هو داخل في

عنوان المصاهرة بناء علي كون المراد به، العقود الموجبة للحرمة الأبدية؛ اللّهم إلّا أن يقال إن المصاهرة لا تشمل أمثال هذه الموارد فتأمل.

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 303، الحديث 16781.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 60

و أمّا حرمة نكاح اخت الزوجة، فانّها لا توجب المحرمية، لكون الحرمة مؤقتة لا أبدا، مضافا إلي أنّ الحرام هو الجمع بين الاختين، لا أنّ اخت الزوجة حرام، و الفرق بينهما ظاهر.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 61

[المسألة 18: لا إشكال في عدم جواز نظر الرجل إلي ما عدا الوجه و الكفين من المرأة الأجنبيّة]

اشارة

المسألة 18: لا إشكال في عدم جواز نظر الرجل إلي ما عدا الوجه و الكفين من المرأة الأجنبيّة من شعرها و سائر جسدها سواء كان فيه تلذذ و ريبة أم لا، و كذا الوجه و الكفان إذا كان بتلذذ و ريبة؛ و أمّا بدونها، ففيه قولان، بل أقوال: الجواز مطلقا، و عدمه مطلقا، و التفصيل بين النظرة الواحدة فالأول، و تكرار النظر فالثاني، و أحوط الأقوال أوسطها.

حكم النظر الي الاجنبيّة

أقول: هذه المسألة معركة للآراء و اختلفت فيها كلماتهم، و المعروف أنّ فيها أقوال ثلاثة كما ذكره غير واحد.

قال الشهيد الثاني في المسالك: تحريم نظر الرجل إلي الأجنبيّة فيما عدا الوجه و الكفين موضع وفاق بين المسلمين، و لا فرق فيه بين التلذذ و عدمه و لا بين خوف الفتنة و عدمه.

و أمّا الوجه و الكفان، فان كان في نظرهما أحد الأمرين، حرم أيضا إجماعا؛ و إلّا ففي الجواز اقوال:

أحدها: الجواز مطلقا علي كراهية، اختاره الشيخ (ره) …

و الثاني: التحريم مطلقا، اختاره العلّامة في التّذكرة …

و الثالث: جواز النظر إلي الوجه و الكفين علي كراهيّة مرّة لا أزيد، و هو الاذي اختاره المصنف و العلّامة في أكثر كتبه … «1»

و صرّح صاحب الجواهر (قدّس اللّه نفسه الشريفة) بأنّ النظر إلي غير الوجه و الكفين غير جائز في حال الاختيار بالإجماع، بل الضرورة من المذهب، بل ضرورة الدين، ثم نقل جواز النظر إلي الوجه و الكفين من دون تلذذ و ريبة عن جماعة، و بعد الاستدلال له

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 46 و 47.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 62

قال: و قيل لا يجوز مطلقا، و اختاره الفاضل في التذكرة و غيرها. و ذكر في آخر

المسألة كلام المحقق (قدّس سرّه)، أي التفصيل بين المرّة الاولي فيجوز، و معاودة النظر فلا يجوز، و جعله أضعف الأقوال في المسألة. «1»

و يظهر من كلام ابن قدامة في المغني، أنّ الأقوال الثلاثة أيضا موجودة عندهم، فقد حكي عن القاضي (من فقهائهم) أنّه قال: يحرم عليه النظر إلي ما عدا الوجه و الكفين، لأنّه عورة، و يباح له النظر إليها مع الكراهة إذا أمن الفتنة و نظر بغير شهوة. ثم قال: و هذا مذهب الشافعي، لقول اللّه تعالي: وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا. قال ابن عباس:

الوجه و الكفين.

و حكي في صدر كلامه عن أحمد أنّه محرما إلي جميعها حيث قال: لا يأكل مع مطلقته هو أجنبي لا يحل له أن ينظر إليها، كيف يأكل معها ينظر إلي كفّها؟ لا يحل له ذلك.

ثم اختار هو نفسه، عدم الجواز، و استدل ببعض الآيات و غير واحد من الروايات، منها ما عن علي عليه السّلام قال: قال لي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا تتبع النظرة النظرة، فانما لك الاولي و ليست لك الآخرة (و هذه تشير إلي القول الثالث) «2».

أدلّة جواز النظر الي الوجه و الكفين

و علي كل حال يدلّ علي القول الأول؛

من الكتاب العزيز، قوله تعالي في سورة النور: وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ، وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا … «3» بناء علي أنّ القدر المسلم منها، هو الوجه و الكفان اللذان محل الزينة الظاهرة.

هذا، و قد ورد روايات كثيرة عن المعصومين عليهم السّلام في تفسير الزينة الظاهرة؛ منها:

1- ما رواه زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، قال:

______________________________

(1).

المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 75- 80.

(2). عبد اللّه بن قدامة، في المغني، 7/ 460.

(3). النور/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 63

الزينة الظاهرة، الكحل و الخاتم «1».

و من الواضح ان ظهور هذين، ملازم لظهور محلّهما، فهو دليل إجمالا علي استثناء الوجه و الكفين، لأنّه لم يقل أحد باستثناء خصوص الأصابع و العينين.

2- ما رواه في قرب الاسناد، عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفرا عليه السّلام و سئل عما تظهر المرأة من زينتها، قال: الوجه و الكفين «2».

و المراد منها بقرينة الرواية السابقة كون الوجه و الكفين محلين للزينة.

3- ما عن الفضيل، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الذراعين من المرأة، هما من الزينة التي قال اللّه وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ؟ قال: نعم، و ما دون الخمار من الزينة و ما دون السوارين. «3»

هذه الرواية ناظرة إلي تفسير الزينة الباطنة، يستفاد منها مفهوم الزينة الظاهرة، و ذكر السوارين إشارة إلي السوار و ما دونه، كما أنّ ما دون الخمار إشارة إلي الخمار و ما دونه.

4- ما عن ابي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا قال: الخاتم و المسكة و هي القلب «4».

و المسكة و القلب (كلاهما بالضم ثم السكون) حلّي للمعصم و يقال في الفارسيّة «دستبند». لم يذكر في الرواية الوجه، و لعله لوضوحه و أمّا ذكر المسكه فهو محمول علي ما كان في الاصابع أو انتهاء الكف، و إلّا فهو مخالف لإجماع المسلمين.

5- ما عن تفسير علي بن ابراهيم، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله

تعالي: وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا: فهي الثياب و الكحل و الخاتم و خضاب الكف و السوار «5».

و هذه الرواية اجمع رواية في الباب، و إن كان في سنده ضعفا بالارسال.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 146، الحديث 3، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 146، الحديث 5، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 145، الحديث 1، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 146، الحديث 4، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 275، الحديث 16703.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 64

6- ما في تفسير جوامع الجامع، عنهم عليهم السّلام في تفسير «ما ظهر منها»،: أنّه الكفان و الأصابع. «1» و الظاهر أنّه إشارة إلي ما سبق.

7- ما عن المحاسن عن ابي عبد اللّه عليه السّلام في قوله جلّ ثنائه إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، قال:

الوجه و الذراعان! «2».

و الظاهر إنّ ذكر الذراعين اشتباه من الراوي أو النساخ لعدم نقل الفتوي به من أحد.

8- و عنه في قوله عزّ و جلّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا قال: الزينة الظاهرة الكحل و الخاتم «3».

فتحصل من هذه الروايات الثمان، بعد ضمّ بعضها ببعض، و تعاضد بعضها ببعض، أنّه لو كان في الآية ابهام يمكن رفعه بما ورد في هذه الروايات، و أنّه يجوز للمرأة إبداء وجهها و كفيها.

إن قلت: جواز ابداء الوجه و الكفين لا يكون دليلا علي جواز النظر و لا ملازمة بينهما عقلا.

قلنا: الانصاف وجود الملازمة عرفا؛ فجواز الابداء دليل علي جواز النظر. أضف إلي ذلك أنّ قوله تعالي لبعولتهن- إلي آخر المحارم- بالنسبة إلي الزينة الباطنة، دليل علي جواز نظر المحارم إليها لمكان «اللام»،

و يستفاد منه حال الزينة الظاهرة، فانّه من البعيد جدا الفرق بينهما.

و يجوز الاستدلال أيضا بقوله تعالي: وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ … «4»

فان الخمار في الأصل و إن كان بمعني مطلق ما يستر شيئا- و قد سميت الخمر خمرا لأنّها تستر العقل- إلّا أنّه يطلق في العرف و اللغة بما يستر النساء رءوسهن، و هو المقنعة.

قال في المجمع: و هو غطاء رأس المرأة المنسدل علي جيبها، امرن بالقاء المقانع علي صدورهنّ تغطية لنحورهن. فقد قيل، إنهن كنّ يلقين مقانعهن علي ظهورهن، فتبدو

______________________________

(1). الشيخ الطبرسي، في جوامع الجامع 2/ 616.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 275، الحديث 16701.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 275، الحديث 16702.

(4). النور/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 65

صدورهن؛ و كني عن الصدور بالجيوب لأنّها ملبوسة عليها. انتهي. «1»

فلم يأمر بستر الوجوه بها، بل أمر بستر الجيوب و الاعناق، و هذا من أوضح الدليل علي عدم وجوب ستر الوجه.

*** و من السنّة، ممّا استدل به علي عدم وجوب ستر الوجه و الكفين، روايات كثيرة وردت في أبواب مختلفة؛ و هي علي طوائف:

الطائفة الاولي: ما يدل علي هذا الحكم صريحا و بالدلالة المطابقية، و هي روايات، منها:

1- ما رواه مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: ما يحلّ للرجل أن يري من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: الوجه و الكفّان و القدمان «2».

و مروك، اسمه صالح، و قد حكي الكشي، عن ابن فضال: انه ثقة، شيخ، صدوق.

و قد وقع اسمه في 33 موردا من الروايات، و لكن الحديث مرسل؛ و سيأتي الكلام بالنسبة إلي حكم القدمين من حيث النظر

و الستر، و إن سترهما لم يكن متعارفا عندهم.

2- ما رواه علي بن سويد، قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أنّي مبتلي بالنظر إلي المرأة الجميلة، فيعجبني النظر إليها؛ فقال: يا علي، لا بأس إذا عرف اللّه من نيّتك الصدق؛ الحديث. «3»

و الظاهر أنّ عليّ بن سويد، كان بحسب شغله، مبتلي بمراجعة النساء و كانت بعضهنّ جميلة يعجبه النظر إليها و لكن كان يتحاشي عن ذلك، و لذا قال عليه السّلام: إذا عرف اللّه من نيتك الصدق؛ أي لم يكن النظر عن تلذذ و ريبة.

و حاصل معناها أنه كان مبتلي بهن بسبب كسبه و مهنته أو شبه ذلك و كان تعجبه النظر الواقع عليهن من دون قصد تلذذ و ريبة؛ و الشاهد علي ذلك قوله إذا عرف اللّه من نيّتك الصدق.

______________________________

(1). الشيخ الطبرسي، في مجمع البيان 7/ 241 و 242.

(2). الوسائل 14/ 146، الحديث 2، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 231، الحديث 3، الباب 1 من أبواب النكاح المحرم.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 66

3- ما رواه عمرو بن شمر، عن ابي جعفر عليه السّلام عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: خرج رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يريد فاطمة و أنا معه، فلمّا انتهينا إلي الباب، وضع يده عليه فدفعه ثم قال:

السلام عليكم؛ فقالت فاطمة: و عليك السلام يا رسول اللّه؛ قال: ادخل؟ قالت: ادخل يا رسول اللّه؛ قال: أدخل و من معي؟ قالت: ليس عليّ قناع؛ فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك؛ ففعلت، ثم قال: السلام عليك؛ فقالت: و عليك السلام يا رسول اللّه. قال: أدخل؟ قالت: نعم يا رسول اللّه؛ قال: أنا و

من معي؟ قالت: و من معك. قال جابر:

فدخل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و دخلت و إذا وجه فاطمة عليهما السّلام أصفر كأنّه بطن جرادة، فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: مالي آري وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول اللّه، الجوع! فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

اللّهم مشبع الجوعة و دافع الضيعة، أشبع فاطمة بنت محمد. قال جابر: فو اللّه لنظرت إلي الدم ينحدر من قصاصها حتي عاد وجهها أحمر، فما جاعت بعد ذلك اليوم «1».

لو كان هذه الرواية صحيحة، كانت دالة علي المقصود بأوضح بيان؛ لأنّ جواز الكشف للمعصوم، و جواز النظر لمثل جابر في محضر النبي صلّي اللّه عليه و آله أحسن دليل علي المطلوب.

و لكن الإشكال في سند الحديث، لأنه صرح العلّامة في الخلاصة، و النجاشي في رجاله (علي المحكي في جامع الروات) أنّ عمرو بن شمر ضعيف جدا. زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليه و الأمر ملتبس. و زاد العلّامة لا أعتمد علي شي ء ممّا يرويه.

و الانصاف أنّ ما ورد في متن هذه الرواية أيضا لا يناسب بنات الموالين و العلماء، فكيف بالصديقة الطاهرة الكبري بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله.

4- ما رواه العلامة المجلسي (قدس اللّه نفسه الزكية) في بحار الأنوار، في رواية عن علي بن جعفر عليه السّلام عن أخيه عليه السّلام، سألته عن الرجل، ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له؟ قال: الوجه و الكفّ و موضع السوار «2».

و قوله، موضع السوار، بعد ذكر الكف ممّا أعرض الأصحاب كلّهم عنها.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 158، الحديث 3، الباب 120 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). العلامة المجلسي،

في بحار الأنوار 104/ 34، الحديث 11 (رواه عن قرب الاسناد).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 67

5- و هناك بعض الروايات من طرق العامة؛ مثل ما روته عائشة ان اسماء بنت أبي بكر دخلت علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في ثياب رقاق فاعرض عنها، و قال: يا أسماء، أنّ المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يري منها إلّا هذا و هذا؛ و أشار إلي وجهه و كفيه … «1»

الطائفة الثانية: ما تدل بالالتزام، علي المقصود؛ منها:

1- ما ورد في حكم القواعد من النساء؛ عن علي بن أحمد بن يونس، قال ذكر الحسين (رجل مجهول الحال كعلي بن أحمد نفسه) أنّه كتب إليه يسأله عن حد القواعد من النساء التي إذا بلغت جاز لها أنّ تكشف رأسها و ذراعها «2» … و لا يخفي أنّه قد نقل هذا الحديث في التهذيب «3» عن علي بن أحمد عن يونس، لا عن علي بن أحمد بن يونس، و الظاهر أنّ الخطأ من نسّاخ الوسائل. و علي بن أحمد هو ابن أشيم و هو أيضا مجهول.

فان التصريح بكشف الرأس و الذراع- دون الوجه و الكفين- دليل علي أنّها كانت مكشوفة من أصل.

2- ما ورد في جواز النظر إلي شعور نساء أهل الذمة؛ مثل ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا حرمة لنساء أهل الذمة أن ينظر إلي شعورهن و أيديهن «4».

فان عدم الإشارة إلي الوجوه، علي جواز النظر إليها بالنسبة إلي كل احد.

3- ما ورد في جواز النظر إلي شعور نساء الأعراب و أهل السواد؛ مثل ما عن عباد بن صهيب قال

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا بأس بالنظر إلي رءوس أهل تهامة و الأعراب و العلوج، لأنهنّ إذا نهوا لا ينتهون «5».

و الرواية معتبرة كما سيأتي إن شاء اللّه، و ذكر جواز النظر إلي شعور نساء الأعراب و شبههم معلّلا بما ذكر فيها، دليل علي أنّ جواز النظر إلي الوجوه، كان عاما.

______________________________

(1). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 460.

(2). الوسائل 14/ 147، الحديث 5، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). التهذيب، 7/ 467، الحديث 79.

(4). الوسائل 14/ 149، الحديث 1، الباب 112 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 149، الحديث 1، الباب 113 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 68

4- ما ورد في صحيحة ابن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن امهات الأولاد، لها أن تكشف رأسها بين يدي الرجال؟ قال: تقنّع «1».

و هذه الرواية ناظرة إلي ما يظهر من غير واحد من الروايات من جواز النظر إلي رءوس الإماء، و قد أفتي به المشهور كما صرّح به في الجواهر «2». بل يشير إليه قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ، قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ الْمُؤْمِنِينَ، يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلٰا يُؤْذَيْنَ، وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً. «3» فان الإماء- كما يظهر من كلمات بعض أكابر المفسرين- كنّ مكشفات و كان أصحاب الريبة قد يمازحوهن؛ فأمر الحرائر بالحجاب، ليعرفن و لا يؤذين؛ ثم سأل الراوي عن جواز النظر إلي رءوس امهات الأولاد؛ فأمر الإمام عليه السّلام بالقناع لهن؛ لأنهن في طريق الحرّية.

و حيث لا إشارة فيها إلي الوجوه، تدل علي انّها كانت مكشوفة.

و هذه الروايات، بعد تضافرها و صحة اسناد بعضها، معتبرة

من حيث السند؛ و قد عرفت دلالتها أيضا.

الطائفة الثالثة: الروايات الكثيرة الواردة في باب ستر المرأة في الصلاة الدالة علي عدم وجوب ستر الوجه و الكفين، مع عدم الإشارة بوجود الناظر المحترم، مع أن النساء كنّ كثيرا ما يشتركن في صلاة الجماعة في المسجد و لم يكن هناك ستر بينهن و بين الرجال كما هو المتداول اليوم في بعض الأماكن و المساجد، فلو كان النظر إليها محرما و جهت الاشارة اليه.

*** أدلّة عدم جواز النظر

و استدل للقول الثاني، أعني عدم جواز النظر إلي الوجه و الكفين؛

______________________________

(1). الوسائل 14/ 150، الحديث 1، الباب 114 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 68.

(3). الاحزاب/ 59.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 69

من كتاب اللّه العزيز، بقوله تعالي: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ … «1» فان حذف المتعلق فيها، دليل علي عموم وجوب الغض عن جميع بدن المرأة.

و بآية عدم جواز ابداء زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ، «2» فانّها أيضا عام.

و استدل ابن قدامة عليه في المغني «3»، بآية الحجاب، قوله تعالي: … وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ … «4» و الحجاب هو الستر المرخي علي الأبواب (يسمي في الفارسية بپرده) و هو ظاهر لجميع البدن.

و بقوله تعالي: … يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلٰا يُؤْذَيْنَ … «5»

أمرن بإدناء الجلابيب، لكيلا يعرفن، و هذا دليل علي ستر جميع البدن.

أقول: و يرد علي الجميع؛ أما أولا، فلو فرض فيها ظهور في وجوب ستر جميع البدن،

فهي معارضة بما هو أقوي منها ظهورا، و هو قوله تعالي: «إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا» لا سيّما مع تأييد هذا الظهور بما روي من الأخبار في تفسيرها- و قد مرت-؛ فهذه

الجملة من الآية، تفسر الجميع؛ لا سيما مع إضافة قوله تعالي: … وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ …،

الدالة علي عدم وجوب ستر الوجه، بمقتضي معني الخمار، أوّلا، و الأمر بخصوص ستر الجيوب، ثانيا.

و ثانيا، إنّ الجلباب علي ما فسره أهل اللغة، هو الملحفة (ستر شبيه بچادر) أو المقنعة الطويلة، أو الدرع الواسع، و ليس في شي ء منها ستر الوجه علي الظاهر، و أمّا قوله تعالي:

… فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ …، «6» فهذا مختص بنساء النبي صلّي اللّه عليه و آله، و ليس فيها ما يدل علي العموم.

فليس في آيات القرآن الكريم ما يدل علي وجوب ستر الوجه و الكفين، بل الدليل

______________________________

(1). النور/ 30.

(2). النور/ 31.

(3). المغني، 7/ 460.

(4). الاحزاب/ 53.

(5). الاحزاب/ 59.

(6). الاحزاب/ 53.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 70

فيها علي العكس.

و من السنّة، بطائفة من الروايات؛ منها:

1- كتب محمد بن الحسن الصفار (رضي اللّه عنه) إلي أبي محمد الحسن بن علي عليهم السّلام في رجل أراد أن يشهد علي امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها من وراء الستر، و يسمع كلامها إذا شهد رجلان عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك و هذا كلامها، أو لا تجوز له الشهادة حتي تبرز بعينها فوقع عليه السّلام: تتنقّب و تظهر للشهود إن شاء اللّه. «1»

و لا يبعد الاعتماد علي سندها، و لكن دلالتها غير خالية عن الإشكال، لأنّ مفروض كلام الراوي مرأة مستورة لا تريد أن تبرز؛ لا أن الستر وراء الحجاب بحيث لا يري جسمها واجب؛ فأمر الإمام عليه السّلام بظهورها متنقبة مراعاة لحالها. هذا، و يمكن أن لا يكون النقاب ساترا لجميع الوجه، و إلّا لم تكن فائدة لظهورها.

فتأمّل.

2- ما عن أبي جميلة، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قال: ما من أحد إلّا و هو يصيب حظا من الزنا، فزنا العينين النظر، و زنا الفم القبلة، و زنا اليدين اللمس … «2»

و سندها ضعيف بأبي جميلة، و هو مفضل بن صالح و هو ضعيف أو مجهول في كلام الأكثر. و قال ابن الغضائري؛ ضعيف، كذاب، يضع الحديث. و مال الوحيد (قدس سره) إلي إصلاح حاله لرواية الأجلّة و أصحاب الإجماع، عنه؛ و هو غير كاف. و أضعف من سندها، دلالتها. لأنّها ناظرة إلي صورة التلذذ و الريبة كما لا يخفي، و هي خارجة عن مفروض الكلام.

3- ما عن سعد الاسكاف، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: استقبل شاب من الأنصار بالمدينة، و كان النساء يتقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها و هي مقبلة، فلما جازت نظر إليها و دخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها، و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة، فشق وجهه، فلما مضت المرأة نظر فاذا الدماء تسيل علي ثوبه و صدره. فقال و

______________________________

(1). الشيخ الصدوق، في من لا يحضره الفقيه 3/ 67، الحديث 3347.

(2). الوسائل 14/ 138، الحديث 2، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 71

اللّه لآتين رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و لأخبرنه؛ فأتاه فلما رآه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: ما هذا؟ فاخبر، فهبط جبرئيل عليه السّلام بهذه الآية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ، الآية. «1»

و سعد الاسكاف محل للكلام بين علماء الرجال، و عدم دلالتها علي المقصود واضحة، لأنّها كالصريح في كون النظر للتلذذ، بل كان محلا للريبة

بلا إشكال، فهي خارجة عن محل الكلام.

4- ما عن علي بن عقبه، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال سمعته يقول: النظرة سهم من سهام ابليس مسموم، و كم من نظرة اورثت حسرة طويلة. «2»

و في دلالتها أيضا إشكال ظاهر، لأنّ النظرة التي من سهام ابليس و توجب حسرة طويلة، منصرفة إلي ما فيها تلذذ.

5- ما عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أنّه قال: النظرة سهم مسموم من سهام ابليس فمن تركها خوفا من اللّه، اعطاه إيمانا يجد حلاوته في قلبه «3».

يظهر الإشكال في دلالتها ممّا سبقه.

6- ما رواه أحمد في مسنده، أنّ الخثعمية أتت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في حجة الوداع تستفتيه، و كان الفضل بن العباس رديف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، وجّه الفضل عنها، و قال: رجل شاب و امرأة شابة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان «4».

و في سندها و دلالتها إشكال ظاهر، أمّا الأول فهو معلوم، و أما الثاني فلان المقام كان مقام خوف الفتنة، كما هو ظاهر الرواية بل صريح قوله صلّي اللّه عليه و آله: خشيت أن يدخل بينهما الشيطان. ذلك.

سلمنا دلالة الآيات و الروايات علي ما ذكروه، و لكن كلّها أو جلّها اطلاقات و عمومات، تخصص بالأدلة السابقة الدالة علي الجواز، لأنّها صريحة أو ظاهرة في خصوص الوجه أو الكفين، فالترجيح لأدلة الجواز.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 138، الحديث 4، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 138، الحديث 1، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 268، الحديث 16680.

(4). احمد بن حنبل، في مسند احمد 1/ 76 و 157.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص:

72

لا يجوز التمسك باستحسانات ظنّية

قد يتوصل من الجانبين بامور اعتبارية و استحسانات ظنية؛ مثل ما يقال من لزوم العسر و الحرج بستر الوجه و الكفين، و ترك النظر للمعرفة، فإنه كثيرا ما يوجب اختلالات في نظام المعيشة، و لكن الانصاف أنّه ليس أمرا دائميا و قد ذكرنا أنّ دليل العسر و الحرج ناظر إلي العسر و الحرج الشخصيين لا النوعيين، مثلا لو لزم من الصوم، العسر و الحرج في بعض الأيام الحارّة في بعض السنوات لغالب الناس، لا يكون ذلك مجوزا لتركه لجميع الناس، حتي من لا يكون في عسر و حرج. فهذا الدليل، غير كاف في اثبات المطلوب.

كما أنّ القول بلزوم الفساد و الفتنة من عدم ستر الوجه و الكفين، فاللازم، سترهما؛ أيضا استحسان ظنّي، لأنّ المفروض جواز النظر لا لتلذذ و ريبة، لا مطلقا. و المجتمع إن كان مجتمعا مؤمنا يعمل بهذين الشرطين فلا يوجب الفتنة غالبا و إن كان غير مؤمن فلا يفيده شيئا من هذه الأمور.

*** أدلّة القول بالجواز في النظرة الاولي دون التكرار

و أمّا القول الثالث، أي الجواز في النظرة الاولي دون التكرار، الذي قد عرفت أنّه أضعف الأقوال، فقد استدل له بروايات؛ منها:

1- قال الصادق عليه السّلام: أول نظرة لك، و الثانية عليك و لا لك، و الثالثة فيها الهلاك. «1»

و يحتمل كون الحديث مرسلا، أو حديثا آخر للسكوني؛ فراجع الوسائل.

2- ما عن أبي الطفيل، عن علي ابن أبي طالب عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: يا علي، لك كنز في الجنّة و أنت ذو قرنيها؛ فلا تتبع النظرة النظرة، فانّ لك الاولي و ليست لك الأخيرة «2».

و أبو الطفيل هو عامر بن وائلة، ذكروه من رجال النبي و عليّ، و الحسن و السجاد عليهم

السّلام.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 139، الحديث 8، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 140، الحديث 14، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 73

مات سنة 110 و لازم ذلك أن يكون له عمر طويل زهاء 130 سنه مثلا؛ و لم يوثق صريحا و لكن ذكره من خواص علي عليه السّلام دليل علي حسن حاله، و يقال أنّه ليس له في الكتب المعروفة إلّا روايتان.

3- ما رواه عبد اللّه بن محمد الرازي، عن الرضا عليه السّلام عن آبائه قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

… لا تتبع النظرة النظرة فليس لك يا عليّ إلّا أوّل نظرة. «1»

4- و في معاني الأخبار، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: يا عليّ أول نظرة لك، و الثانية عليك لا لك «2».

و هي أيضا رواية مرسلة.

5- ما عن طرق العامّة في السنن، للبيهقي عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: يا عليّ! لا تتبع النظرة النظرة فانّ لك الاولي و ليس لك الآخرة و اللّه تعالي أعلم «3».

و في معناها روايات اخري.

و هذه الأحاديث و إن كانت ضعافا غالبا، إلّا أن تضافرها كاف في إثبات حجية سندها.

و لكن يرد عليها:

أولا، أنها من قبيل العام أو المطلق، لعدم التصريح بالوجه و الكفين فيها، فيمكن تخصيصها بما مرّ في أدلّة جواز النظر إلي الوجه و الكفين، فيجوز النظر إليها مطلقا.

و ثانيا، أنّها ناظرة إلي النظر الابتدائي غير الاختياري أو الاختياري بدون قصد التلذذ و الريبة، و النظر الثانوي الناشي عن شهوة أو ريبة.

و يشهد لذلك- مضافا إلي كونه منصرف الأخبار- غير واحد من روايات

الباب، منها: ما رواه ابن أبي عمير عن الكاهلي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: النظرة بعد النظرة تزرع في القلب، الشهوة؛ و كفي بها لصاحبها فتنة. «4»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 140، الحديث 11، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 140، الحديث 13، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). البيهقي، في السنن الكبري، 7/ 90.

(4). الوسائل 14/ 139، الحديث 6، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 74

و الكاهلي و هو عبد اللّه بن يحيي و إن لم يرد نص علي وثاقته إلّا أن النجاشي قال هو كان وجها عند أبي الحسن و وصيّ به علي بن يقطين، فقال له اضمن لي الكاهلي و عياله، أضمن لك الجنة، و لا يبعد أن يكون مجموع هذا توثيقا له.

و أمّا دلالته علي المقصود واضحة، فان النهي عن تكرار النظر إنّما هو لخوف الفتنة و ثوران الشهوة.

و في الخصال باسناده عن علي عليه السّلام في حديث الأربعمائة، قال: لكم أول نظرة إلي المرأة فلا تتبعوها نظرة اخري و احذروا الفتنة. «1» و دلالتها أيضا ظاهرة.

فتحصل من جميع ذلك، أن الاقوي هو القول الأول.

*** بقي هنا أمران:

1- استثناء القدمين

هو استثناء القدمين كما ورد في كلمات بعضهم، و يدل عليه امور:

1- جريان السيرة القطعية علي عدم سترهما في الصدر الأول، فانه لم يكن هناك جواريب مثل اليوم بل لم يكن لكثير منهم الحذاء، حتي أن كثيرا من الأعراب لا تلبس نسائهم الجواريب في أيامنا هذا، فلو وجب الستر، لزم الأمر بسترهما. و عدم وجوب الستر، دليل علي جواز النظر بالملازمة، و لكن بالشرطين المذكورين.

إن قلت: لعل ذيولهن كانت طويلة تستر أقدامهن؛ كما يظهر من معتبرة سماعة عن

الصادق عليه السّلام في الرجل يجرّ ثوبه؛ قال: أني لأكره أن يتشبّه بالنساء. «2»

و ما عن سنن النسائي، أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة؛ فقالت أم سلمه: كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا. قالت: اذن

______________________________

(1). الشيخ الصدوق، في الخصال/ 632.

(2). الوسائل 3/ 367، الحديث 4، الباب 23 من أبواب احكام الملابس.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 75

تنكشف أقدامهن. قال: اذن يرخين ذراعا لا يزدن «1».

بناء علي أنّ المراد منه ارخاء شبر علي الأرض، و كذا ارخاء ذراع و حينئذ يستر القدمين.

و ما روي أنّ فاطمة (عليها سلام اللّه) كانت تجر أدراعها و ذيولها «2».

قلت: الانصاف، أنّ الرواية الاولي التي يمكن اعتبارها من حيث السند، لا تدل إلّا علي مجرد الجرّ، و مجرد ذلك غير كاف في الستر للقدمين، لا سيما عند المشي، و لا سيما في المطر و غير المطر و في الأراضي الوسخة و شبه ذلك.

و أمّا رواية السنن فمعناه غير معلوم، لأنّ المراد لو كان جرّ الذيول بمقدار ذراع علي الأرض، لم يمكن المشي فيها، لا سيما في الطواف و السعي و شبهها، و لعل المراد منه ارخاء الشبر و الذراع تحت الركبة. و إلّا يشكل القول بغيره، لا سيما مع ما ورد في حديث محمد بن مسلم، قال: نظر أبو عبد اللّه عليه السّلام إلي رجل قد لبس قميصا يصيب الارض، فقال: ما هذا ثوب طاهر. «3» و منه يظهر الجواب عن رواية فاطمة عليها السّلام مع ضعف سند الروايتين و اعتبار سند رواية محمد بن مسلم، روي عنه عبد الحميد بن عواض الطائي.

2- ما ورد من

عدم وجوب سترهما في الصلاة، بل أفتي به المشهور و يدل عليه كثير من الروايات- كما ذكر في محله- «4» و اطلاقها دليل علي عدم وجوب الستر، حتي إذا كان هناك غير المحارم. كيف و قد تشترك كثير من النساء في الجماعات و في الصلاة في المساجد لا سيّما المسجد الحرام و مسجد النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله.

و يمكن أن يقال ليست هذه الروايات (نصوص كفاية الدرع و الخمار أو شبهه) في مقام البيان من هذه الجهة، بل هي في مقام بيان حكم الستر الصلاتي. و لكن الانصاف، اطلاقها، و ملازمتها لحكم النظر، و لو في حال صلاة المرأة في المساجد و مواقع الحج و غيرها.

______________________________

(1). النسائي، في سنن النسائي 3/ 137.

(2). رواها المحقق النجفي، في جواهر الكلام 8/ 171. و الفاضل الهندي، في كشف اللثام 3/ 236 من دون تصريح بمدركه.

(3). الوسائل 3/ 367، الحديث 3، الباب 23 من أبواب احكام الملابس.

(4). الوسائل 3/ 293، الباب 28 من أبواب لباس المصلي. و راجع الجواهر 8/ 171.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 76

3- و يدل عليه ما رواه عن مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال، قلت له: ما يحل للرجل أن يري من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: الوجه و الكفان و القدمان. «1» و لكن عدم تعرض الأصحاب له و ارسال الرواية و غير ذلك، يوجب الاحتياط مهما أمكن، و إن كان القول بالجواز غير بعيد.

2- استثناء صورتي قصد التلذذ و الريبة

قد عرفت أنّ ظاهر الأصحاب القائلين بجواز النظر إلي الوجه و الكفين، استثناء صورتي قصد التلذذ، و خوف الوقوع في الحرام، و هو المسمي بالريبة عندهم؛ و الظاهر

أنّه ممّا وقع التسالم فيه بينهم. قال في الجواهر، بعد التصريح بأن المراد من الريبة هو خوف الفتنة- و إن كان يظهر من بعضهم التفاوت بينهما بناء علي كون المراد بالريبة، هو ما يخطر بالبال عند النظر من صورة المعصية، و إن كان لا يخاف الوقوع فيها- ما نصه: و الأمر سهل بعد معلومية الحرمة عند الأصحاب، و المفروغية منه، و اشعار النصوص بل ظهورها بل صريح بعضها فيه؛ فلا وجه للمناقشة في الثاني منهما بعدم ثبوت حرمة ذلك بمجرد احتمال الوقوع في المحرم، ضرورة كون المستند ما عرفت، لا هذا، كما هو واضح. «2»

و قد رأيت بعض من لا خبرة له بالفقه ممن يدعي فقها و لا فقه له، في عصرنا يترددون في الأول أيضا أو يصرحون بالجواز و إن قصد التلذذ، أعاذنا اللّه من همزات الشياطين.

و يدل علي المقصود، مضافا إلي أنّه مفروغ عنه عند الأصحاب، كما يظهر من كلماتهم و قد عرفت ذكر القيدين في كلمات أهل السنة، مما يظهر منه التسالم فيه، حتي إنّهم لم يذكروا له دليلا، لوضوحه؛ و مضافا إلي ما هو المعلوم من مذاق الشارع الذي يأمر بعدم الجلوس في محل جلست فيه امرأة حتي برد (و إن كان هذا الحكم و أمثاله كراهيّا)؛ عدّة روايات:

______________________________

(1). الوسائل 14/ 146، الحديث 2، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). المحقق النجفي، في الجواهر الكلام، 29/ 70.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 77

1- ما مرّ من رواية علي بن سويد، قال قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أنّي مبتلي بالنظر إلي المرأة الجميلة فيعجني النظر إليها، فقال: يا علي، لا بأس إذا عرف اللّه من نيّتك الصدق.

الحديث «1».

و قد عرفت أنّ

المراد من هذا التعبير هو الصدق في عدم قصد التلذذ، و التعبير بالجميلة دليل علي أنّ المراد منها النظر إلي الوجه.

و علي بن الحكم الذي يروي عنه، هو علي بن الحكم الثقة بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه، و كذا علي بن سويد السائي الذي كان من أصحاب الرضا عليه السّلام فالظاهر اعتبار سند الرواية و كذا دلالتها.

2- الروايات الكثيرة الناهية عن تتبع النظرة النظرة؛ «2» التي قد عرفت أنّها ناظرة إلي النظر بقصد اللذّة، فان ذلك هو المتفاهم منه عرفا.

3- الروايات الدالة علي أنّ لكل عضو زنا، و إن زنا العين النظر، فان القدر المعلوم منها النظر إلي الوجه بقصد اللذّة «3».

4- الحديث المعروف النبوي في الجارية الخثعميّة- و قد مضي نقله عن المغني لابن قدامة، و رواها ابو رافع عن علي عليه السّلام أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله أردف الفضل بن عباس ثم أتي الجمرة، فرماها؛ فاستقبله جارية شابة من خثعم، فقالت: يا رسول اللّه إنّ أبي شيخ كبير قد افند (اقعد) و قد أدركته فريضة اللّه في الحج، فيجزي أن أحج عنه؟ قال: حجي عن أبيك. و لوي عنق الفضل، فقال له العباس: يا رسول اللّه! لويت عنق ابن عمك؟! قال: رأيت شابا و شابة فلم آمن الشيطان عليهما «4».

5- خصوص رواية الكاهلي، قال: قال أبو عبد اللّه: النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة و كفي لصاحبها فتنة «5».

______________________________

(1). الوسائل 14/ 231، الحديث 3، الباب 1 من أبواب النكاح الحرام.

(2). راجع الوسائل، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح و غيره.

(3). قد مرّ سابقا و أيضا في المستدرك 14/ 340 و في سنن البيهقي، 7/ 89.

(4). البيهقي، في السنن الكبري

7/ 89.

(5). الوسائل 14/ 139، الحديث 6، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 78

و الأخيرتان ناظرتان إلي خوف الفتنة؛ و ضعف السند منجبر بعمل الأصحاب.

6- و في ذيل معتبرة عباد بن صهيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و المجنونة و المغلوبة علي عقلها، لا بأس بالنظر إلي شعرها و جسدها، ما لم يتعمد ذلك. «1»

و المراد بالتعمد، بعد ظهور صدر الرواية في كون الكلام في النظر العمدي، هو التلذذ، كما لا يخفي علي الخبير، و كون الكلام في الشعر لا يضرّ بالمقصود بعد كون الشعر في المجنونة بحكم الوجه في العاقلة.

و المسألة واضحة؛ و اطناب الكلام فيها لزوال بعض الوساوس من أرباب الوسوسة في كل شي ء!.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 149، الحديث 1، الباب 113 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 79

[المسألة 19: لا يجوز للمرأة، النظر إلي الأجنبي كالعكس]

اشارة

المسألة 19: لا يجوز للمرأة، النظر إلي الأجنبي كالعكس، و الأقرب استثناء الوجه و الكفين.

نظر المرأة إلي الأجنبي

أقول: هذه المسألة أيضا مفروغ عنها بين الأصحاب.

قال في الحدائق: الظاهر أنّه لا خلاف في تحريم نظر المرأة إلي الأجنبي، أعمي كان أو مبصرا. «1»

و قال المحقق النراقي في المستند: و كلما ذكر فيه جواز نظر الرجل إلي المرأة، يجوز فيه العكس بالإجماع المركب. «2»

و مراده من الإجماع المركب، أنّ المجوز للنظر فيهما سواء، كالمانع، فمن أجاز في المرأة النظر إلي الوجه و الكفين أجازه هنا، و من منعه منعه هنا.

و قال في الرياض: و تتحد المرأة مع الرجل فتمنع في محل المنع، لا في غيره إجماعا. «3»

و قال ابن قدامة في المغني: أمّا نظر المرأة إلي الرجل ففيه روايتان؛ إحداهما، لها النظر إلي ما ليس بعورة؛ و الاخري، لا يجوز لها النظر من الرجل، إلّا إلي مثل ما ينظر إليه منها.

اختاره أبو بكر و هذا أحد قولي الشافعي. ثم ذكر روايات تدل علي القول الثاني. «4»

أدلّة المسألة

و العمدة في المسأله آية الغض خطابا للنساء، قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 65.

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة، 16/ 63.

(3). السيد علي بن الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 72 (2/ 74 ط. ق).

(4). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 465.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 80

وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا … «1»

و هي عامّة، و لكن يستثني منها الوجه و الكفان بالأولوية القطعية و تسالم الأصحاب.

و من الروايات الدالة علي المقصود:

1- ما عن أحمد بن أبي عبد اللّه قال: استأذن ابن أم مكتوم علي النبي صلّي اللّه عليه و آله و عنده عائشة و حفصة، فقال لهما: قوما فادخلا البيت. فقالتا: إنّه أعمي!

فقال: إن لم يركما فانكما تريانه «2».

2- و قد روي مثله من طرق العامة بالنسبة إلي أم سلمة و حفصة، و في آخره: أفعمياوان أنتما لا تبصرانه؟ «3» رواه عن أبي داود و غيره.

3- و في رواية اخري بالنسبة إلي أم سلمة و ميمونة. «4» و هذه الروايات الثلاثة متقاربة مضمونا.

4- و في رواية في المستدرك عن الجعفريات عن الباقر عليه السّلام في حق فاطمة عليها السّلام عكس ذلك، و أنها حجبت نفسها عن الأعمي، فسألها النبي صلّي اللّه عليه و آله؛ فقالت: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إن لم يكن يراني فانا اراه … إلي أن قال فقال النبي صلّي اللّه عليه و آله: أشهد أنك بضعة منّي. «5»

يبقي هنا سؤال في فقه هذه الروايات، و أنّه كيف منعهن من النظر، و الحال إن النساء كن يأتين المساجد و يشترين الأشياء عن الأسواق و غيرها، و كن يرينهم فكيف امرهن بالاحتجاب عن الضرير، و قد جرت سيرة المسلمين قديما و حديثا علي خلافه.

و يمكن الجواب عنه، بأنّ ابن أم مكتوم أو مثله لم يكن مستورا من جميع الجهات ما عدا الوجه و الكفين، و كثير من الأعراب في الصدر الأول، لم يكن لهم قميص ظاهرا، و كان لهم ازار فقط، أو شي ء شبيه ثوبي الاحرام، و كان يري شي ء كثير من صدرهم أو ظهرهم- كما يستفاد من قصة سوادة بن قيس أيضا- فلذا امرهن بالاحتجاب عنه، و إلّا

______________________________

(1). النور/ 31.

(2). الوسائل 14/ 171، الحديث 1، الباب 129 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 465.

(4). الوسائل 14/ 172، الحديث 4، الباب 129 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الميرزا

النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 289، الحديث 16740.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 81

كان النظر إلي الوجه و الكفين أمرا متعارفا بينهم.

5- و يدل عليه أيضا، ما رواه الصدوق بسنده المتقدم في عيادة المريض، قال: قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: اشتد غضب اللّه علي امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها فانّها إن فعلت أحبط اللّه عزّ و جلّ كلّ عمل عملته … «1».

و الظاهر انّ ما في سنده، إشارة إلي ما نقله عنه في الوسائل 2/ 635، الحديث 9، الباب 10 من أبواب الاحتضار، و سنده يشتمل علي أكثر من عشرة وسائط مشتملة علي عدة مجاهيل؛ و أمّا دلالتها ظاهرة، بناء علي ان المراد من قوله ملأت، هو النظر اليه متعمدا، لا أنّ المراد كونه عن شهوة؛ و إلّا لم يجز حتي في المحارم.

هذا ما هو المستفاد من كلمات الأصحاب، و ما يدل عليه من الأدلة؛ و إن كان ذكر المسألة في كلماتهم غالبا علي نحو الاختصار حتي في الجواهر و المستمسك. و لكن الانصاف أنّ التي جرت عليه السيرة قديما و حديثا حتي في زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله و ما بعده من الأئمة المعصومين عليهم السّلام، هو عدم ستر الوجه و الكفين، و شعر الرأس؛ و لذا ورد في وصف شعر النبي صلّي اللّه عليه و آله أنّه كان إلي اذنيه، أو ما ورد في حديث ورود الرضا عليه السّلام نيشابور في وصف ذؤابته و غير ذلك، بل عدم ستر العنق و شي ء من الصدر الذي يظهر من القميص، لا سيما إذا كان واسع الصدر، و عدم ستر القدمين و شي ء

من الساق عندهم بعد الأمر بتقصير الثياب، بل الظاهر عدم ستر الذراعين، لأنّ الرجال لا يزالون يتوضئون عن الأنهار و غيرها في اعين الناس و في الملاء العام. و عدم ستر هذه الأعضاء دليل علي جواز النظر.

إن قلت: جواز الاظهار و عدم وجوب الستر لا يدل علي جواز النظر، لإمكان الأمر بغضّ النظر مع ترخيص ترك الستر، و لا منافاة بينهما، و لا يكون هناك إعانة علي الإثم.

قلنا: عدم المنافات عقلا صحيح، و لكن الانصاف، هو التلازم بين جواز ترك الستر و جواز النظر، و لذا لا يزال الفقهاء يستدلون بقوله تعالي: «إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا»، علي جواز النظر إلي وجه المرأة و كفها؛ الحاصل ان جواز احدهما ملازم عرفا لجواز الآخر، و لا دخل

______________________________

(1). الوسائل 14/ 171، الحديث 2، الباب 129 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 82

للمسألة بمسألة الإعانة علي الإثم، فتلخص من جميع ذلك أنّ مسألة الحجاب و النظر، هنا أوسع. و اللّه العالم.

*** النظر الي غير المحجبات في التلفزيونات

أنّه من المسائل المستحدثة في عصرنا، هو ارائة الصور الخارجية من التلفزيونات، و كثيرا ما يكون أبدان الرجال مكشوفة فيما لا يحل كشفه في مقابل النساء، لا سيما في الالعاب الرياضية؛ فهل يجوز نظر النساء غير المحارم إليها، و هل هناك فرق بين النشرات المباشرة و بين غير المباشرة و بين محدود المدار و غيره؟

و الجواب عن هذا السؤال، فرع العلم بعمل التلفزيون، و هو علي ما ذكره أهله أنّ الكامرة التلفزيونية تأخذ الصورة الخارجيّة فتبدلها بأمواج مخصوصة، ثم تلك الأمواج تنتقل إلي مدي بعيد و يأخذها أدوات خاصة في التلفزيون، و تبدلها بالصور النورية؛ فما نراه فيها ليس ذاك الشخص بعينه، بل هي

الصورة الحادثة منه بعد انتقال الأمواج.

و لا فرق في ذلك بين النشرات المباشرة و غير المباشرة، و لذا يغيّرون التصاوير بأنواع التغيير، و يمزجونها تارة و يفرقونها اخري.

فحينئذ يقع الكلام في أن أدلة حرمة النظر إلي الأجنبيّة هل تشملها أم لا؟ الظاهر، عدم شمولها لها، كعدم شمولها للنظر إلي صورة المرأة الأجنبيّة بما أنّها صورة.

نعم، إذا كان ذلك سببا لبعض المفاسد، كمشاهدة الأفلام المبتذلة و النساء العاريات و مجالس الخمور و غير ذلك؛ أو كان النظر بتلذذ، أو خيف الوقوع في الفتنة أو شبه ذلك، كان حراما بهذه الجهة، لا من باب النظر إلي الرجل أو المرأة غير ذات محرم.

و الاحتياط في كل حال حسن و هو طريق النجاة. و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 83

[المسألة 20: كل من يحرم النظر إليه، يحرم مسّه]

اشارة

المسألة 20: كل من يحرم النظر إليه، يحرم مسّه؛ فلا يجوز مسّ الأجنبي الاجنبيّة، و بالعكس. بل لو قلنا بجواز النظر إلي الوجه و الكفين من الأجنبية، لم نقل بجواز مسها منها؛ فلا يجوز للرجل مصافتحها؛ نعم، لا بأس به من وراء الثوب، لكن لا يغمز كفّها احتياطا.

مسّ من يحرم النظر اليه

أقول: الظاهر، أنّ المسألة مورد وفاق بين الأصحاب، بل لعله كذلك بين المخالفين أيضا. قال النراقي (قدس سره) في المستند: الظاهر عدم الخلاف في تحريم مس ما يحرم النظر إليه من المرأة للرجل و من الرجل للمرأة؛ و تدل عليه أيضا العلة المنصوصة المتقدمة في رواية العلل. [إشارة إلي ما رواه محمد بن سنان، عن الرضا عليه السّلام فيما كتبه إليه من جواب مسائله: و حرم النظر إلي شعور النساء المحجوبات بالأزواج و إلي غيرهن من النساء، لما فيه من تهييج الرجال و ما يدعوا إليه التهييج من الفساد و الدخول فيما لا يحل و لا يجمل و كذا ما أشبه الشعور … ] «1»

ثم قال: بل التهييج في المسّ أقوي منه في النظر … ثم ذكر في ذيل كلامه: و أمّا ما يجوز النظر إليه، فان كان من المحارم، فيجوز مسّه … و إن كان من غيرهم، فمقتضي العلة المتقدمة الخالية عن المعارض، فيه الحرمة؛ ثم ذكر بعض الروايات الناهية، ثم قال: و حمله في المفاتيح علي المصافحة بشهوة، و لا حامل له؛ فاطلاق الحرمة اظهر. «2»

و قال في الجواهر في كلام قصير له في المقام: ان كل موضع حكمنا فيه بتحريم النظر، فتحريم اللمس فيه اولي؛ كما صرّح به بعضهم بل لا أجد فيه خلافا بل كأنّه ضروري علي وجه يكون محرما لنفسه «3» (يعني

لا بسبب التلذذ و الريبة).

______________________________

(1). الوسائل 14/ 140، الحديث 12، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 58 و 59. (مع التلخيص و حفظ نصّ العبارة).

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام، 29/ 100.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 84

و ذكر سيدنا الاستاذ، الحكيم، في المستمسك، بعد نقل كلام الجواهر، ما نصه: و في كلام شيخنا الأعظم (رحمه اللّه): إذا حرم النظر، حرم اللمس قطعا، بل لا إشكال في حرمة اللمس و إن جاز النظر، للأخبار الكثيرة؛ و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه «1».

أدلّة المسألة

هذا، و يدل علي حرمه اللمس فيما حرم النظر، أمران:

أحدهما: قياس الأولوية؛ لأنّ علة الحرمة معلوم بمناسبة الحكم و الموضوع مع التصريح به في رواية العلل، و من الواضح ان العلة في اللمس اشد و آكد، و هذا مما لا ينبغي الريب فيه.

ثانيهما: طائفتان من الأخبار.

الطائفة الاولي: ما ورد من النهي عن مصافحة الأجنبيّة و بالعكس، منها:

1- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: هل يصافح الرجل المرأة ليست بذات محرم؟ فقال: لا، إلّا من وراء الثوب «2».

2- ما رواه سماعة بن مهران، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مصافحة الرجل المرأة؟

قال: لا يحل للرجل أنّ يصافح المرأة، إلّا امرأة يحرم عليه أن يتزوجها … و أمّا المرأة التي يحل له أن يتزوجها، فلا يصافحها إلّا من وراء الثوب، و لا يغمز كفها «3».

و الظاهر اعتبار سند الروايتين، و دلالتهما علي المطلوب واضحة.

3- ما رواه في عقاب الاعمال، بسند تقدم في عيادة المريض، عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال:

و من صافح امرأة حراما، جاء

يوم القيامة مغلولا، ثم يؤمر به إلي النار. «4»

و في سنده إشكال ظاهر كما عرفت؛ بل و في دلالته، لأن قوله: و من صافح حراما؛ لا يخلو من إبهام؛ لعله أراد بذلك صور التلذذ و خوف الفتنة.

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 50.

(2). الوسائل 14/ 151، الحديث 1، الباب 115 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 151، الحديث 2، الباب 115 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 143، الحديث 4، الباب 106 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 85

4- ما رواه الصدوق باسناده عنه صلّي اللّه عليه و آله إلي أن قال: و قال صلّي اللّه عليه و آله: و من صافح امرأة تحرم عليه، فقد باء بسخط من اللّه عزّ و جلّ. «1»

و هذه الروايات، و إن كانت كلّها واردة في المصافحة و لمس الأيدي، و لكن الانصاف إمكان إلغاء الخصوصيّة عنها، فتشمل كل لمس من أجنبيّ و أجنبيّة؛ مع أن الأمر في اليد، أسهل من غيره؛ فما ذكره سيدنا الاستاذ الحكيم (قدس سرّه) في المستمسك، من أنّ مورد جميع الروايات المماسة في الكفين، فالتعدي عنه، لا دليل عليه إلّا ظهور الإجماع «2»؛ ممّا لا يمكن الموافقة عليه، بل الظاهر أنّ استناد المجمعين أيضا إلي ما ذكرناه.

الطائفة الثانية: ما ورد في باب بيعة النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله للنساء، انه صلّي اللّه عليه و آله كان يدعو بإناء فيملأه ماء، ثم يضع يده فيه و تضع النساء أيديهن في موضع آخر منه؛ و هي روايات كثيرة رواها في الوسائل، في الباب 115، من المقدمات (الحديث الثالث و الرابع و الخامس).

و رواها في المستدرك، في الباب 89، من

المقدمات. (الحديث الأوّل و الرابع و الخامس).

و لكن يمكن المناقشة فيها بان فعل النبي صلّي اللّه عليه و آله دليل علي اجتنابه صلّي اللّه عليه و آله عن مصافحتهن بيده صلّي اللّه عليه و آله، و لكن هل كان هذا مكروها أو حراما، فهو غير معلوم. و بعبارة اخري، مجرد الترك لا يدلّ علي الحرمة. اللّهم إلّا أن يقال: ورد في ذيل بعضها: فكانت يد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الطاهرة، اطيب من أنّ يمس بها كف انثي ليس له بمحرم. «3» و لكنه أيضا لا يخلو عن ابهام.

فالأولي، الاستدلال بالطائفة الاولي، مضافا إلي الأولوية القطيعة.

*** بقي هنا شي ء: هل يجوز المصافحة من وراء الثياب

و هو ما أفاده الماتن، من جواز المصافحة من وراء الثياب، و هو منصوص مضافا إلي

______________________________

(1). الوسائل 14/ 142، الحديث 1، الباب 105 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 50.

(3). الوسائل 14/ 151، الحديث 4، الباب 115 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 86

عدم شمول أدلة حرمة المصافحة، و انصرافها عنه. و احتياطه في المتن لعدم الغمز، مستند إلي ما مرّ في معتبرة سماعة بن مهران (2/ 115)؛ و لكن الانصاف إمكان حملها علي ما إذا كان بشهوة فانه لا داعي لذلك غالبا إلّا ما عرفت.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 87

[المسألة 21: لا يجوز النظر إلي العضو المبان من الأجنبي و الأجنبيّة]

اشارة

المسألة 21: لا يجوز النظر إلي العضو المبان من الأجنبي و الأجنبيّة؛ و الاحوط ترك النظر إلي الشعر المنفصل؛ نعم، الظاهر أنّه لا بأس بالنظر إلي السّنّ و الظفر المنفصلين.

حكم النظر الي العضو المبان

أقول: هذه المسألة غير مذكورة في كلمات كثير من الأصحاب، و لم نجد ذكرها في كلمات أهل الخلاف أيضا؛ نعم، ذكر في القواعد: ان العضو المبان، كالمتصل، علي إشكال. «1»

و قال فخر المحققين، في الايضاح، في تقرير إشكال والده (قدس سرهما)، وجهين في المسألة؛ و استدل لكل منهما بما ستأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه؛ ثم قال في آخر كلامه: و الأصح عندي الأول (أي الحرمة) «2».

و قال في كشف اللثام: و العضو المبان، كالمتصل علي اشكال. «3»

و قال في العروة، في المسألة 45 من الفصل الأول من النكاح: لا يجوز النظر إلي العضو المبان من الأجنبي، مثل اليد و الأنف و اللسان و نحوها. و وافقه كثير من المحشين. و صرح في المستمسك: انه نص عليه غير واحد؛ و حكي عن الشيخ الأعظم إنّ المرجع فيه أصل البراءة، بعد الإشكال في الاستصحاب «4».

و حيث لم يرد نص خاص في المسألة، فاللازم الرجوع إلي القواعد و الاصول.

أدلّة حرمة النظر إلي العضو المبان

و غاية ما استدل به علي الحرمة، امور:

______________________________

(1). العلامة الحلي، في قواعد الاحكام 3/ 7.

(2). فخر المحققين، في إيضاح الفوائد 3/ 10.

(3). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 30 (2/ 10 ط. ق).

(4). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 52.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 88

1- الأمر بالغضّ الدال علي الوجوب، و لا فرق بين الاتصال و الانفصال بمقتضي الاطلاق.

2- النواهي الواردة في الأخبار الدالة علي حرمة النظر، و هي أيضا مطلقة.

3- استصحاب الحرمة، فإنّ النظر كان محرما عند الاتّصال، و يشك في زوالها بعد الانفصال، و الأصل بقاؤه.

4- ما ورد من النهي عن وصل شعر المرأة، بشعر امرأة غيرها.

و الجميع قابل للإيراد؛

أمّا وجوب الغض، فانّ

المراد منه ترك نظر المرأة إلي الرجل و بالعكس، و عضو المبان لا يصدق عليه عنوان الرجل و المرأة؛ و القول بأنّ العرف لا يري فرقا بين المتصل و المنفصل، عجيب، للفرق الواضح بينهما في ملاك الحرمة.

و أمّا الروايات الناهية عن النظر، فانها ناظرة إلي صورة الاتّصال؛ و الحكم بشموله لحالة الانفصال تحكم، و قول بلا دليل.

و أمّا الاستصحاب، فيرد عليه أوّلا، أنّه في الشبهات الحكميّة، و قد ذكرنا في محلّه عدم حجّيته فيها. سلّمنا، لكن الموضوع قد تغير، فان موضوع الحرام كان أجزاء بدن المرأة، و هنا لا يصدق هذا العنوان. و القول بأنّ هذا المقدار لا تضر، لأنّه من قبيل تبدّل الحالات، و إلّا لم يجز الحكم بنجاسة أجزاء الملك أو أجزاء بدن الكلب و شبهه بعد انفصالها؛ ممنوع، بأنّ هذا قطعا من المقومات، فإنّ الذي أوجب الحرمة هو النظر إلي بدن المرأة، و هذا في الواقع كالجماد، و إلّا وجب الحكم بحرمة النظر إلي سنّها و ظفرها بعد انفصالها من بدنها، و الالتزام به بعيد جدّا. و قياسه علي اجزاء نجس العين، قياس مع الفارق، للعلم القطعي بأنّ أجزاء نجس العين نجس، لا نشك فيه حتي يحتاج إلي الاستصحاب.

إن قلت: هذا إذا كان المرجع في بقاء الموضوع؛ لسان الدليل فإنّ الحكم فيه علي عنوان المرأة؛ أمّا إذا كان المرجع فيه العرف فانّه باق علي التحقيق.

قلنا: العرف هنا شاهد بعدم بقاء الموضوع و عدم وجود ملاك الحرمة فيه أو الشك فيه، و الاتّصال هنا من المقومات للموضوع، و إن شئت قلت الموضوع العرفي هنا، عين

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 89

الموضوع المأخوذ من لسان الدليل.

و لو فرض الشك في بقاء الموضوع، لم

يجر الاستصحاب أيضا. لأنّ إحراز الموضوع لازم، و بدونه لا يجري الاستصحاب.

و أمّا الروايات الناهية عن وصل شعر المرأة بامرأة أجنبيّة، فهي علي خلاف المطلوب أدلّ، و لذا ذكرها بعضهم دليلا علي الجواز.

منها، ما رواه ثابت بن سعيد، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن النساء، تجعل في رءوسهن القرامل. «1» قال: يصلح، الصوف و ما كان من شعر امرأة لنفسها، و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها. الحديث «2».

و ثابت بن سعيد مجهول.

و ما رواه سليمان بن خالد، قال: قلت له: المرأة تجعل في رأسها القرامل. قال: يصلح له الصوف و ما كان من شعر المرأة نفسها، و كره أن يوصل شعر المرأة من شعر بشعر غيرها. الحديث. «3»

و الظاهر انّ سليمان بن خالد، هو الهلالي الثقة، و لكن الحديث مرسل، فشي ء من الروايتين لا يمكن الاعتماد عليه بحسب السند؛ و هناك روايات اخري رواها في الوسائل 12/ 93، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، بعضها تدل علي النهي و بعضها علي الكراهة و تمام الكلام في محله.

و إمّا الدلالة فظاهرها الكراهة، لقوله: و كره للمرأة …؛ اللّهم إلّا أن يقال إن الكراهة المصطلحة، ممّا نشأت بين الفقهاء، و لم تكن في اللغة، و يشهد له، قوله تعالي بعد ذكر عدة من الكبائر: كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً «4». فلا أقل من أن يكون مفهومها أعم من الحرمة و الكراهة المصطلحة، فلا يكون دليلا علي الجواز.

و علي كل حال، لو قلنا بالحرمة، يمكن أن يكون ذلك بسبب نظر زوجها إليه أو لمسه،

______________________________

(1). و المراد بالقرامل، من الشعر أو الصوف.

(2). الوسائل 14/ 135، الحديث 1، الباب 101 من أبواب

مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 136، الحديث 3، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الإسراء/ 38.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 90

و يمكن أن يكون غير ذلك، فلا يكون دليلا علي حرمة النظر. و أمّا لو قلنا بالكراهة- كما هو الأقوي- فهو دليل علي جواز النظر، لملازمته عرفا للنظر و اللمس من الأجنبي، كما لا يخفي.

فتلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الحق هو جواز النظر إلي العضو المبان، و إن كان الأحوط استحبابا هو الاجتناب. و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 91

[المسألة 22: يستثني من حرمة النظر و اللمس في الأجنبي و الأجنبيّة، مقام المعالجة]

اشارة

المسألة 22: يستثني من حرمة النظر و اللمس في الأجنبي و الأجنبيّة، مقام المعالجة إذا لم يمكن بالمماثل، كمعرفة النبض إذا لم تكن بآلة نحو الدرجة و غيرها، و الفصد و الحجامة و جبر الكسر و نحو ذلك. و مقام الضرورة، كما إذا توقف استنقاذه من الغرق أو الحرق علي النظر و اللمس.

و إذا اقتضت الضرورة، أو توقف العلاج علي النظر دون اللمس، أو العكس، اقتصر علي ما اضطر إليه، و فيما يضطرّ اليه، اقتصر علي مقدار الضرورة، فلا يجوز الآخر و لا التعدي.

مستثنيات حكم النظر و اللمس

أقول: لمّا فرغ عن بحث النظر و اللمس، شرع في المستثنيات، و ذكر منها أمرين، أحدهما اعم من الآخر؛ أمّا الأعم، فهو مقام الضرورة و هذا العنوان عنوان عام يشمل كلّ ضرورة دينية أو دنيوية؛ و الأخص، هو مقام المعالجة.

و ذكر المحقق اليزدي، في العروة الوثقي، أربعة موارد؛ و أضاف إلي الموردين، موردين آخرين: مقام معارضة كل ما هو أهم في نظر الشارع؛ و مقام الشهادة.

و في الحقيقة، جميع ذلك تندرج في قاعدة الأهم و المهم، لأنّ في موارد المعالجة أو الضرورة أو الشهادة، دائما يدور الأمر بين ما يكون مراعاته أهم من حرمة النظر أو اللمس، فإنّ حفظ النفس عند المرض أو عند خوف الغرق أو الحرق، حفظ الحقوق عند الشهادة، أهم في نظر الشارع من حرمة اللمس و النظر، كما هو ظاهر. حتي أنّ اباحة النظر عند إرادة التزويج أيضا من هذا الباب.

فالاولي أن يجعل عنوان الاستثناء، موارد تعارض الأهم و المهم، ثم يذكر أمثلته و مصاديقه، و هذا اضبط لبيان الموضوع و الحكم.

الاقوال في المسألة

إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلي بيان الأقوال في المسألة؛ و الظاهر أنّ المسألة إجماعية.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 92

قال في الجواهر: لا ريب في أنّه يجوز عند الضرورة، نظر كل من الرجل و المرأة إلي الآخر و لمسه. «1»

و قال الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: قوله: و يجوز عند الضرورة؛ قد عرفت أنّ موضع المنع من نظر كل من الرجل و المرأة إلي الآخر، مشروط بعدم الحاجة اليه، أمّا معها فيجوز إجماعا. ثم ذكر له أمثلة كثيرة «2».

و لقد أجاد في جعل العنوان الجامع، هو الحاجة، ثم فرع عليها امورا كثيرة؛ و من الواضح أن عنوان

الحاجة أيضا يرجع إلي قاعدة الأهم و المهم، فالاولي جعلها العنوان الوحيد في المسألة.

و قال العلّامة، في التذكرة: القسم الثاني، أن يكون هناك حاجة إلي النظر، فيجوز إجماعا؛ ثم ذكر أمثلة مختلفة نظير إرادة النكاح و إرادة البيع المحتاجة إلي معرفة المشتري أو البائع، و مقام الشهادة و المعالجة. ثم قال: و لا يشترط في جواز نظره، خوف فوات العضو، بل المشقة بترك العلاج، خلافا لبعض الشافعيّة «3».

و قد تلخص من جميع ذلك، أنّ المسألة إجماعية بين الأصحاب (رضوان اللّه تعالي عليهم). و قال ابن قدامة، في المغني: فصل، فيمن يباح له النظر من الأجانب؛ يباح للطبيب النظر إلي ما تدعوا إليه الحاجة من بدنها، فانه موضع الحاجة … و للشاهد، النظر إلي وجه المشهود عليها … و أنّ عامل امرأة في بيع أو إجارة، فله النظر إلي وجهها ليعلمها بعينها، فيرجع عليها بالدرك. و قد روي عن أحمد، كراهة ذلك في حق الشابة دون العجوز، و لعله كرهه لمن يخاف الفتنة أو يستغني عن المعاملة، أمّا مع الحاجة و عدم الشهود، فلا بأس «4».

فقد أرسله ارسال المسلمات مما يكشف عن موافقة الجميع أو الأكثر، حتي أنّه ذكر التوجيه لكلام أحمد، ليوافق ما ذكره.

هذا حال المسألة بحسب أقوال الفريقين إجمالا.

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 87.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 49. (1/ 436 ط. ق).

(3). العلامة الحلي، في تذكرة الفقهاء 2/ 573.

(4) عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 459.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 93

أدلّة جواز النظر و اللمس في مقام المعالجة

اشارة

و أمّا الدليل علي هذا الحكم، فهو من طريقين:

الأوّل: قاعدة الأهم و المهم:

و هي قاعدة عقلية قد دل عليه صريح العقل و عليه بناء العقلاء، فإذا أحرزنا أنّ مسألة حل مشكلة المعالجة أو الشهادة أو البيع أو النكاح أو غيرها، من قبيل الأهم، و ترك النظر و اللمس من قبيل المهم، لا يبقي شك في ترجيح الأول علي الثاني؛ و هكذا الأمر في جميع الواجبات و المحرمات، مثل الاضطرار إلي أكل الميتة لحفظ النفس، الذي نطق به الكتاب العزيز؛ و مثل الغيبة عند المشهورة، و الكذب لا صلاح ذات البين، و التقية لحفظ النفس، و الأكل في المخمصة من مال الغير، إلي غير ذلك من الأمثلة في مختلف أبواب الفقه.

و هذه القاعدة مركبة من كبري و صغري (أنّ هذا أهم، و هذا مهم؛ و كلما كان كذلك، يرجح فيها الأهم علي المهم) و يشهد لصحة كبراها صريح العقل، و لو كان هناك شبهة فانما هي في تشخيص بعض مصاديقه، فما مضي في كلام بعض الشافعية، من أنّه يشترط في جواز النظر، خوف فوات العضو، إنّما هو خلاف في تشخيص الصغري لا الكبري كما هو ظاهر.

و الحاصل، انّ هذه قاعدة عقلية قطعية مؤيدة بما ورد في الكتاب و السّنّة؛ و كفي بها دليلا في المقام.

الثاني: من طريق الأخبار،

و هي علي طائفتين: أخبار عامة و أخبار خاصّة.

و أمّا الاولي، و هي ما يدل علي حلّية كل محرم عند الضرورة و الاضطرار، و هي روايات:

1- ما رواه أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المريض، هل تمسك له المرأة شيئا،

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 94

فيسجد عليه؟ فقال: لا، إلّا أن يكون مضطرّا ليس عنده غيرها؛ و ليس شي ء مما حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ

إليه «1».

و سند الرواية غير خال عن الإشكال، فان فضالة، مشترك بين جماعة، و لكن الظاهر أنّه فضالة بن أيوب الازدي الثقة، بقرينة رواية حسين بن سعيد عنه (و هو كثير الرواية جدا).

و الحسين أيضا مشترك بين عدد كثير، و لا يبعد أن يكون هو الحسين بن عثمان الرواسي، و لكنه غير ثابت؛ فلو خلي أبو بصير عن إشكال الاشتراك، بقي الإشكال في الحسين، و لعله لذا عبّر في الجواهر 9/، في أحكام القيام، بخبر أبي بصير، الدال علي الترديد في صحة سنده، لا أقل. و أمّا دلالته من حيث الكبري الكلية الواردة فيها، صريحة لا ريب فيها.

2- ما رواه سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها، فيستلقي علي ظهره الأيام الكثيرة، أربعين يوما أو أقل أو أكثر، فيمتنع من الصلاة، الأيام، إلّا ايماء و هو علي حاله.؟ فقال: لا بأس بذلك، و ليس شي ء مما حرمه اللّه إلّا و قد أحله لمن اضطرّ إليه «2».

و الظاهر، اعتبار سند الرواية، و أمّا دلالتها فهي أيضا واضحة، فقد ذكر فيها الكبري الكليّة بعنوان التعليل لمورد السؤال في الرواية.

3- و هناك رواية اخري، ظاهرها أنّها خاصة، و لكن يمكن استفادة العموم منها، لبعض تعبيراتها و هي ما عن مفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و الدم و لحم الخنزير؟ قال: أنّ اللّه تبارك و تعالي- إلي أن قال- ثم أباحه للمضطر، و أحلّه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به، فامره بأنّ ينال منه بقدر البلغة، لا غير ذلك … «3»

______________________________

(1). الوسائل 4/ 690، الحديث 7، الباب 1 من أبواب

القيام.

(2). الوسائل 4/ 690، الحديث 6، الباب 1 من أبواب القيام.

(3). الوسائل 16/ 309، الحديث 1، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 95

و سند الرواية، و أن كان ضعيفا أو مبهما، و لكن لا يبعد دلالتها علي العموم، لأنّ قوله لا يقوم بدنه إلّا به؛ عنوان عام، شامل لكثير من موارد الضرورة في العلاج و الفصد و الحجامة و الأعمال الجراحية و غيرها، بل يمكن الغاء الخصوصية منها و التعدي إلي ساير الموارد.

و الحاصل أنّ هذه الروايات، مع تعاضد بعضها ببعض، كاف في إثبات المدعي.

و قد أورد العلّامة المجلسي (رضوان اللّه تعالي عليه)، هذه القاعدة (ما من شي ء … )،

في بحار الأنوار، في ج 2/ 272 و ج 75/ 411 و ج 104/ 284 و أوردها في الوسائل، في خمس مواضع، في ج 1/ 488 و ج 3/ 270 و ج 4/ 690 و أيضا في ج 16/ 137 و لكن الأصل في الجميع هو الحديثان، حديث سماعة و حديث سماعة و حديث أبي بصير.

و هناك روايات تدل علي قاعدة اخري، و هي: ما غلب اللّه عليه فاللّه اولي بالعذر. «1»

استدل بها في الجواهر، لما نحن فيه.

و قد يتوهم دلالتها علي المقصود، و الحال أنّها ناظرة إلي أمر آخر، و هو صورة سلب الاختيار من الإنسان مثل المغمي عليه الذي تفوت منه الصلاة فانه مورد الروايتين، لا المضطر الذي له إرادة و يسند إليه الفعل. و إن شئت قلت، غلبة اللّه علي شي ء، بمعني سلب القدرة، و المضطرّ لا يكون مسلوب القدرة، بل يكون في اختياره ضررا عليه.

و أمّا الثانية، ما ورد في خصوص الاضطرار إلي النظر أو اللمس

إلي غير ذات محرم، و هي روايات؛ منها:

1- ما رواه أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها، أمّا كسر و امّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء، أ يصلح له النظر إليها؟ قال: إذا اضطرت اليه، فليعالجها إن شاءت «2».

و سند الرواية لا بأس به، لان رجالها كلّها ثقات. و أمّا علي بن الحكم و إن كان مشتركا بين الثقة و غيره، و لكن الظاهر بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه، هو علي بن

______________________________

(1). الوسائل 5/ 352 و 353، الحديثان 3 و 13، الباب 3 من ابواب قضاء الصلوات.

(2). الوسائل 14/ 172، الحديث 1، الباب 130 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 96

الحكم الكوفي الثقة. قال الشيخ، في الفهرست: له كتاب، رواه أحمد بن محمد عنه. و دلالتها ظاهرة علي المطلوب تدل علي جواز النظر، و يمكن الحاق اللمس به للملازمة في العلاج غالبا، أو لإلغاء الخصوصية.

2- ما رواه في دعائم الإسلام، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السّلام أنّه سئل عن المرأة تصيبها العلّة في جسدها، أ يصلح أن يعالجها الرجل؟ قال: إذا اضطرت إلي ذلك، فلا بأس. «1»

و دلالتها واضحة علي المطلوب، و إن كان سندها ضعيفا بالارسال.

3- ما رواه علي بن جعفر عليه السّلام في كتابه عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو أليته الجرح، هل يصلح للمرأة أن تنظر إليه و تداويه؟ قال: إذا لم يكن عورة، فلا بأس «2».

بناء علي حملها علي صورة الانحصار و الاضطرار، بقرينة المعالجة و بقرينة

قوله، تداويه، الملازم للمسه غالبا، و إلّا كان دليلا علي جواز النظرة إلي بدن الرجل ما عدا العورة؛ فتدبر.

و سند الرواية معتبر، لأنّ الظاهر أنّ كتاب علي بن جعفر، كان عند صاحب الوسائل موجودا بطريق معتبر.

4- المعروف انه في الغزوات الاسلامية في عصر النبي صلّي اللّه عليه و آله كانت بعض النساء العالمات بفنون الجراحية، كن يحضرن الجرحي للتداوي و شدّ الجروح و غير ذلك.

5- ما رواه ابن وهب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا ماتت المرأة و في بطنها ولد يتحرك، شق بطنها و يخرج الولد. و قال في المرأة تموت في بطنها الولد، فيخوف عليها؛ قال: لا بأس أنّ يدخل الرجل يده فيقطعه و يخرجه. «3»

و قد استدل في الجواهر، بمكاتبة محمد بن الحسن الصفار إلي أبي محمد الحسن بن

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 290، الحديث 16744.

(2). الوسائل 14/ 173، الحديث 4، الباب 130 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الشيخ الكليني، في الكافي، 3/ 155، الحديث 3، باب المرأة تموت و في …

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 97

علي عليه السّلام، في رجل أراد أن يشهد علي امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها من وراء الستر و يسمع كلامها، إذا شهد عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك و هذا كلامها، أو لا يجوز الشهادة عليها حتي تبرز و تثبتها بعنيها؟ فوقع عليه السّلام: تتنقّب و تظهر للشهود إن شاء اللّه. «1»

و سند الحديث و إن كان متينا، فان محمد بن الحسن الصفار، هو محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار، الذي قال النجاشي في حقه: انه كان وجها في أصحابنا

القميين، ثقة، عظيم القدر، قليل السقط في الرواية، له كتب. و قال الشيخ: … له مسائل، كتب بها إلي أبي محمد العسكري عليه السّلام.

و لكن دلالتها غير ظاهرة علي المبني، من جواز النظر إلي الوجه و الكفين، و من المعلوم كفاية النظر إلي الوجه للشهادة.

و قد تحصل من جميع ذلك، إن استثناء موارد الضرورة، سواء كانت للمعالجة أو للشهادة- لو قلنا بعدم جواز النظر إلي الوجه في حال الاختيار- أو للنجاة من الغرق و الحرق، أو لرفع التهمة، أو للبيع و التجارة، أو للنكاح، فإنّه أهم من البيع، كما هو ظاهر.

*** بقي هنا أمران:

1- الضرورات تتقدر بقدرها

هذه أيضا قاعدة عقلائية، كما أنّ الجواز عند الضرورة كذلك، و هذه من قضايا قياساتها معها، و إن شئت قلت: الأصل هو الحرمة، خرجنا منه بمقدار يدل عليه الدليل، و هو مقدار الضرورة، فيبقي الباقي تحته، فلا يجوز التعدي عن المقدار اللازم في كل مقام.

2- ما يجب علي الحكومات الاسلاميّة في هذا المجال

إنّ اللازم علي الحكومات الإسلامية، اتخاذ التدابير اللازمة للطبابة من قبل المماثل،

______________________________

(1). الشيخ الصدوق، في من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 67، الحديث 2، الباب الشهادة علي المرأة و رواها في الوسائل 18/ 297، بشكل آخر (ح 1، باب 43 من أبواب الشهادات) و راجع جواهر الكلام، 29/ 87.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 98

طبيب المرأة للمرأة، و الرجل للرجال، حتي تندفع الضرورة، و لا يبقي لها محل؛ فان دفع الضرورة، بأمر مباح، و لو احتاجت إلي مقدمات، واجب؛ كما إذا كان الإنسان يعلم أنّه لو سافر بلا زاد، سوف يحتاج إلي أكل الميتة، فالواجب عليه تهيئة الزاد لئلا يضطرّ إليها، و لو قصر في ذلك، و احتاج إليها. وجب عليه أكلها من باب الضرورة، و لكنه عاص بسبب القاء نفسه في هذه الضرورة.

هذا واجب بالنسبة إلي شخص واحد، و اوجب منه ملاحظة حال الجماعة، فلو علم رئيس المسلمين، إنّ الناس، لو لم يدّخر لهم الطعام الحلال، سوف يحتاجون إلي أكل الميتات و سائر المحرمات، وجب عليه ادّخارها في أوانها؛ و كذا الحال في مسألة الطب و الجراحية، فاللازم تأسيس كليات طبيّة للنساء و الرجال و المستشفيات و المستوصفات كذلك عند القدرة و الاستطاعة، و الظاهر أنّه أمر ممكن، و الثقافة الإسلاميّة تقتضي ذلك، سواء وافقنا غيرنا أم لم يوافقونا.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 99

[المسألة 23: كما يحرم علي الرجل النظر إلي الأجنبيّة، يجب عليها التستر من الأجانب]

اشارة

المسألة 23: كما يحرم علي الرجل النظر إلي الأجنبيّة، يجب عليها التستر من الأجانب؛ و لا يجب علي الرجال التستر، و إن كان يحرم علي النساء النظر إليهم، عدا ما استثني؛ و إذا علموا بأنّ النساء يتعمدن النظر إليهم، فالأحوط التستر منهن، و إن كان الاقوي

عدم وجوبه.

وجوب الستر و الحجاب علي المرأة

أقول: هذه هي مسألة وجوب الستر و الحجاب علي المرأة، و هي من المسائل المهمة، و علي رغم ذلك قلّ من تعرض لها مستقلا، بل تعلم فتاواهم من أبحاث حرمة النظر و جوازه، في بعض الموارد.

أدلّة وجوب الستر و الحجاب علي المرأة

اشارة

و العلة في ذلك هو:

من ضروريات الإسلام: أنّ المسألة علي إجمالها مما لا خلاف فيه، بل هي إجماعيّة، بل من ضروريات دين الإسلام، يعرفها اليوم الأجانب أيضا، و قد اتسع نطاقها لجهات شتّي، حتي صارت اليوم من شعارات المسلمين يعرفها كل مؤالف و مخالف. و كفي بذلك، دليلا علي إثباتها، و إن كان هناك دلائل كثيرة غيرها، و هي آيات من كتاب اللّه و طوائف من الأخبار.

آيات من كتاب اللّه

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 99

1- قوله تعالي: … وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، «1» و هي صريحة في المطلوب.

______________________________

(1). النور/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 100

2- قوله تعالي: … وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ «1»، و قد مرّ تفسيرها، و هي أيضا صريحة في وجوب الستر و حرمة السفور.

3- قوله تعالي: … وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبٰائِهِنَّ … «2»

و من المعلوم أنّ المراد منه، هو الزينة الباطنة، فكما، يحرم ابداء الزينة الباطنة، يحرم إبداء محالّها، بل قد يقال أنّ المراد منه خصوص المحالّ، و لكن الانصاف ظهورها في حرمة ابداء الزينة الباطنة أيضا، و بالملازمة تدل علي محالّها.

4- قوله تعالي: … وَ لٰا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ … «3»

نهي النساء عن ضرب الأرجل، لظهور قعقعة الخلخال، و هو من الامور الباعثة للوسوسة في قلوب الرجال، فإذا كان هذا ممنوعا بحسب ظاهر الآية، فابداء الرجل و اليد و الرأس و الرقبة و الصدر، ممنوع بطريق أولي.

5- قوله

تعالي: وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنٰاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيٰابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «4» و قد وقع الكلام بين المفسرين و الفقهاء، في الآية في مقامين: أحدهما، المراد من، القواعد، هل هي النساء اللاتي مضي وقت نكاحهن و لا يرغب في نكاحهن غالبا، أو المراد اللاتي يئسن من المحيض. ثانيهما، ما المراد بالثياب التي يجوز وضعها لهن، هل هي الخمار و الجلباب، أو خصوص الجلباب، و يبقي الخمار. و للكلام فيهما محلّ آخر، سيأتي إنشاء اللّه. و لكن لا فرق في شي ء من ذلك بالنسبة إلي ما نحن فيه، لأنّ الآية لها مفهوم واضح، و هو أن، غير القواعد، لا يجوز لهن وضع الثياب، بل يجب عليهن ستر أبدانهن (ما عدا الوجه و الكفين كما مرّ آنفا).

6- قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ، قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ

______________________________

(1). النور/ 31.

(2). النور/ 31.

(3). النور/ 31.

(4). النور/ 60.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 101

جَلَابِيبِهِنَّ، ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلٰا يُؤْذَيْنَ، وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً. «1»

أمر النبي صلّي اللّه عليه و آله بالأمر بأزواجه و بناته و جميع نساء المؤمنين، أن يدنين عليهن من جلابيبهن، و الجلباب شي ء فوق الخمار كما مرّ؛ و ادنائها، أرخائها علي الصدر و الرقبة، أو مثل ذلك؛ و قد تقرر في علم الاصول، أن الأمر بالأمر، أمر؛ و ظاهره الوجوب.

اللّهم إلّا أنّ يقال، إن تعليلها يدل علي الاستحباب، أو علي أمر إرشادي، لا أمر مولوي، لأنّ الفساق و أرباب الريبة كانوا يمازحون الإماء، فأمرن الحرائر بالجلباب و الستر، ليعرفن من الإماء فلا يؤذين

بذلك؛ ثم هدد في الآية، الآتية هؤلاء المنافقين و الذين في قلوبهم مرض، بالإخراج من المدينة و القتل لو لم ينتهوا عن التعرض لنواميس المسلمين. و إذا كان الأمر إرشاديا فلا يدل علي التحريم.

و لكن يمكن أن يجاب عنه، بأنّه من قبيل ذكر الحكمة، فلا ينافي الأمر المولوي؛ فتأمل.

7- و قد يستدل بقوله تعالي: … وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً، فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ، ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ … «2» أمر بسؤالهن من وراء الحجاب، ثم استثني في الآية 55، و قال تعالي: لٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبٰائِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰائِهِنَّ وَ لٰا إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ أَخَوٰاتِهِنَّ وَ لٰا نِسٰائِهِنَّ وَ لٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ … «3»

و عدم ذكر الأعمام و الأخوال، من جهة العلم بحكمهم، لسبب ذكر أولاد الإخوة و أولاد الأخوات، فيعلم جواز ترك الحجاب بقرينة المقابلة؛ و حيث إنّ قاعدة الاشتراك في التكليف، حاكمة علي جميع الأحكام الواردة في الشرع في حق جماعة، فتثبت في حق الآخرين؛ يستفاد منها حكم عام لجميع النساء. و لكن يرد عليه؛ أنّ المراد بالحجاب هنا، ليس ستر المرأة، بل المراد ستر البيوت المرخي علي أبوابها، فإنّه الذي يعطي المتاع من ورائها، و من المعلوم بالإجماع، أو الضرورة أنّ هذا لا يجب بالنسبة إلي جميع النساء،

______________________________

(1). الاحزاب/ 59.

(2). الاحزاب/ 53.

(3). الاحزاب/ 55.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 102

فانّهن لا يزلن يشترين الأشياء من السوق و يعطين الفلوس، أو يبعن بعض الاشياء في السوق؛ و لا يكون شي ء من ذلك من وراء الستر، و قد جرت بذلك سيرة المسلمين قديما و حديثا.

فاللازم، إمّا القول بكون هذا الحكم من خصائص نساء النبي صلّي

اللّه عليه و آله كالحكم بحرمة زواجهن بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله. و إمّا حملها علي نوع من الاستحباب بقرينة قوله تعالي:

ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ. فإنّه تعليل يناسب الحكم المستحبي.

فالاستدلال بالآية للمطلوب، مشكل.

طوائف من الروايات

و أمّا الروايات فيه كثيرة غاية الكثرة، و إنّما تبلغ حد التواتر و هي علي طوائف:

الف) ما ورد في تفسير قوله تعالي «الّا ما ظهر منها»: الروايات الدالة علي تفسير قوله تعالي: إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، بالوجه و الكفين. مثل ما عن الفضيل، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الذراعين من المرأة، هما من الزينة التي قال اللّه تعالي: وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ. قال: نعم، و ما دون الخمار من الزينة و ما دون السوارين. «1»

و مثله ما رواه عبد اللّه بن جعفر في قرب الاسناد «2» و كذا ما أشبههما.

ب) ما ورد في القواعد من النساء: ما ورد في حكم القواعد من النساء في الروايات الكثيرة التي رواها في الوسائل، في الباب 110، من مقدمات النكاح.

مثل ما عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ «و القواعد … » ما الذي يصلح لهن أن يضعن من ثيابهن؟ قال: الجلباب. «3»

و كذا الرواية الثانية و الثالثة و الرابعة و الخامسة و السادسة من هذا الباب بعينه، فانها علي اختلافها في تعيين المصداق في الجلباب، أو الجلباب و الخمار، أو غير ذلك، تدل

______________________________

(1). الوسائل 14/ 145، الحديث 1، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 146، الحديث 5، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 146، الحديث 1، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة

- كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 103

علي وجوب الستر علي غير القواعد، مطلقا. (ما عدا الوجه و الكفين المستفاد من روايات اخري).

ج) ما ورد في نساء الاعراب و اهل البوادي: ما ورد في حكم نساء الاعراب و أهل البوادي، من جواز النظر إلي شعورهن، معللا بانّهم إذا نهوا لا ينتهون. «1» بناء علي رجوع ضمير المذكر إلي النساء، لسهولة الأمر في التذكير و التأنيث، و بقرينة ذيل الرواية، فانه قد عطف عليها المجنونة و المغلوبة علي عقلها. و المذكور في نسخة الكافي عندنا أيضا ذلك. «2» و لكن عن الفقيه، و علل الشرائع؛ لأنهن إذا نهين لا ينتهين. «3»

و علي كل حال، دلالتها علي المطلوب واضحة، فانّ مفهومها وجوب الستر عليهن.

و لكن إذا نهين عن السفور، لا ينتهين، فيجوز النظر إليهم، للابتلاء بهن.

د) ما ورد في حكم الاماء من حيث التستر: ما ورد في حكم الإماء من حيث التستر؛ مثل ما رواه في الكافي، في الصحيح، عن اسماعيل بن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن أمهات الأولاد لها أن تكشف رأسها بين يدي الرجال؟ قال: تقنّع. «4» هذه الرواية تدل بوضوح علي أنّ وجوب التستر علي الحرائر، كان أمرا معلوما مفروغا عنه، و إنّما سئل عن حكم أم الولد، فامر بالتستر. و لعله لكونها في مسير الحريّة.

ه) الروايات الواردة في الباب 125: الروايات الكثيرة الواردة في الباب 125، من المقدمات، التي تدل بعضها علي عدم جواز كشف المرأة رأسها عند الخصيّ، و بعضها علي جوازه، و حمل الثاني علي التقية، أو الضرورة. فمن الأول، ما عن علي بن علي، أخي دعبل، عن الرضا عليه السّلام عن آبائه، عن الحسين عليهم السّلام، قال: أدخل

علي اختي سكينة بنت علي، خادم، فغطت رأسها منه فقيل لها: أنّه خادم، فقالت: هو رجل منع من شهوته «5» و المراد من قوله: أنّه خادم؛ أنّه خصيّ، بقرينة ذيلها.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 149، الحديث 1، الباب 113 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الشيخ الكليني، في الكافي 5/ 524، الحديث 1، باب النظر إلي نساء الاعراب.

(3). الشيخ الصدوق، في من لا يحضره الفقيه 3/ 470، و الشيخ الصدوق، في علل الشرائع 2/ 565.

(4). الوسائل 14/ 150، الحديث 1، الباب 114 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 167، الحديث 7، الباب 125 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 104

و من الثاني، ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن قناع الحرائر من الخصيّات؟ فقال: كانوا يدخلون علي بنات أبي الحسن عليه السّلام و لا يتقنعن.

قلت: فكانوا أحرارا؟ قال: لا، قلت: فالأحرار يتقنّع منهم؟ قال: لا. «1»

و للبحث عن جواز عدم التستر، أو حرمته، مقام آخر؛ و لكن جميع هذه الروايات الكثيرة نفيا أو إثباتا دليل علي وجوب الستر علي المرأة في غير الموارد المستثناة، سواء كان محل الكلام منها أم لا.

و) ما ورد في وجوب الخمار علي الجارية اذا بلغت: الروايات المتعددة الدالة إما علي وجوب الخمار علي الجارية إذا بلغت، و إمّا علي عدم وجوب التستر عن الصبي حتي يبلغ الصبي، فراجع الباب 126، ففيها أربع روايات، كلّها تدل علي المطلوب بوضوح، فإنّها صريحة في وجوب الستر علي المرأة، إلّا في الموارد المستثناة.

ز) ما دل علي وجوب ستر المرأة عن عبدها: مثل ما رواه يونس بن عمار و يونس بن يعقوب، جميعا، عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام، قال: لا يحلّ للمرأة، أن ينظر عبدها إلي شي ء من جسدها إلّا إلي شعرها غير متعمد لذلك. «2»

و من الواضح، أن الرواية ليست بصدد بيان حكم نظر العبد، بل حكم تستر المرأة عنه، لأنها تقول لا يحلّ للمرأة …

فقد تلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الروايات الدالة علي وجوب الستر علي النساء، تبلغ حد التواتر، و في الغالب تدل بالدلالة الالتزامية، و هي هاهنا أبلغ من الدلالة المطابقية، لأنّ ظاهرها أو صريحها، كون وجوب الستر امرا مسلما مفروغا عنه بين المسلمين، و إنّما وقع السؤال عما يتفرع عليه و عن استثناءاته، و إذا انضمت بالآيات القرآنية الصريحة، و بالضرورة بين المسلمين، ثبت الحكم بأبلغ البيان و أتمّ البرهان. هذا كله بالنسبة إلي وجوب حجاب النساء.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 167، الحديث 3، الباب 125 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 164، الحديث 1، الباب 124 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 105

عدم وجوب الحجاب علي الرجال

أمّا عدم وجوب حجاب الرجال، فقد صرح في المستمسك، بأنّه: يظهر من كلماتهم من القطعيات عند جميع المسلمين، و ينبغي أن يكون كذلك، فقد استقرت السيرة القطعية عليه بل تمكن دعوي الضرورة عليه. «1»

و الظاهر أن المتعرض للمسألة قليل، و ما ذكره لعله مستفاد من طيّات كلماتهم، علي تأمل.

و لا شك أنّ مقتضي الأصل هنا، عدم الوجوب. و لكن دعوي استقرار السيرة عليه في غير الوجه و الكفين و الرأس و الرقبة و شي ء من الصدر و الذراعين و شي ء من الساق مع القدم، مشكل جدا. فأي سيرة علي وضع القميص عن الصدر و الظهر و الفخذ و شبهه (ما عدا العورة) في مقابل النساء و مرئي منهن. نعم،

بالنسبة إلي المقدار الذي ذكرنا، يمكن دعوي استقرار السيرة عليه.

و لكن ليس هنا دليل علي الوجوب في مقابل أصالة البراءة، لا من الآيات و لا من الروايات و لا من الإجماع. نعم، يمكن الاستدلال له، بمسألة حرمة الإعانة علي الإثم، و بمسألة النهي عن المنكر.

توضيحه، أنّه قد مرّ أنّ نظر المرأة إلي أعضاء الرجل (عدا ما استثناه) حرام، بمقتضي الأدلة الشرعيّة، فإذا كان هناك ناظر محترم من جنس النساء، و علم الرجل به، و لم يستر بدنه، كان أعانها علي الحرام، و الإعانة علي المحرم حرام؛ فلا يتوقف الحكم بالحرمة بصورة التلذذ و الريبة، لأنّ الحرمة غير قاصرة عليها.

هذا، و قد يستشكل علي صغري المسألة بعد قبول كبراها، أي حرمة الإعانة، بأنّ صدق الإعانة فرع قصدها؛ و بتعبير آخر: أنّ الإعانة علي الشي ء، تتوقف علي قصد التسبب، إلي ذلك الشي ء بفعل المقدمة، فاذا لم يكن الفاعل للمقدمة قاصدا حصوله، لا يكون فعل المقدمة إعانة عليه، فمجرد العلم بأنّ المرأة تنظر إليه عمدا، لا يوجب التستر،

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 59.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 106

عليه، من باب حرمة الإعانة علي الاثم. «1»

و لكن يرد عليه، أنّ الإعانة أمر عرفي، لا يتوقف علي القصد في بعض الاحيان، و إن شئت قلت: قصده قهري، فمن يبيع أنواع السلاح لأعداء الدين، لا سيّما عند قيام الحرب بينهم و بين المسلمين، و يزودهم بأنواع التزويدات رغبة للفلوس و المنافع المادية، بغير قصد الاعانة، يكون معاونا لهم عند جميع الناس؛ و لا يحتاج إلي نص خاص في المسألة، و إن ورد فيها بعض النصوص.

و كذلك من يبيع العنب للمصانع التي يصنع فيها الشراب عالما عامدا،

بقصد المنافع الكثيرة من دون قصد صنع الشراب، يعد معاونا لهم، و لا يقبل أحد منهم أنّه لم يقصد ذلك، بل قصد المنافع؛ لا سيما إذا كان البائع للمصنع منحصرا فيه. و لذلك، نمنع عن ظهور الرجال عريانا في مقابل النساء في ميادين الرياضة، أو في مراسم العزاء الحسيني، سلام اللّه عليه، و لا أقل من الاحتياط الوجوبي في ذلك، لما ذكرناه.

هذا، و قد يقال لو لم يكن القصد شرطا، بل يكفي فعل بعض المقدمات مع العلم بأنّه ينتهي إلي فعل الحرام من ناحية الغير، لم يجز بيع الخبز و الطعام لأهل المعاصي، فانه مقدمة لأفعاله، و لولاه لم يقدر عليها.

و لكن نجيب عنه، بأنّه فرق واضح بين المقدمات القريبة المباشرة، و البعيدة التائية؛ ففي الأول، يصدق عنوان الإعانة علي الإثم، و في الثاني غير صادق؛ و الشاهد عليه قضاء العرف و العقلاء بذلك.

و امّا الاستدلال بمسألة النهي عن المنكر، فهو أيضا قريب، نظرا إلي أنّ المقصود منه ترك المنكر بأي وسيلة كانت؛ فلذا قد يكون بالقول، و قد يكون بالفعل، مثل إراقة الخمور و كسر الأصنام و أخماد بيوت النيران و ما اشبه ذلك، و قد أقدم عليها النبي صلّي اللّه عليه و آله و وصيّه (سلام اللّه عليه) و المسلمون بعد ذلك، اقتداء بفعل شيخ الأنبياء، إبراهيم (عليه آلاف التحيّة و السلام).

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 60.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 107

فاعدام الموضوع، من طرق النهي عن المنكر، فاذا علم الرجل بتعمد المرأة في النظر إلي بدنه (في غير ما استثني) سواء كان بتلذذ و ريبة أم لا، فانّه حرام علي كل حال، علي المشهور، و علي المختار.

فمن طرق النهي عن هذا المنكر، أعدام موضوعه، و هو الستر، فيجب علي الرجال التستر، إذا تعمدن في النظر، من باب النهي عن المنكر.

و ما أفاده سيدنا الاستاذ الحكيم (رضوان اللّه تعالي عليه) في وجه عدم شمول أدلة النهي عن المنكر للمقام، بأنّ المراد منه: الزجر عن المنكر تشريعا، بمعني احداث الداعي إلي الترك؛ فلا يقتضي وجوب ترك بعض المقدمات، لئلا يقع المنكر؛ كما لا يقتضي الأمر بالمعروف فعل بعض المقدمات، ليتحقق المعروف. «1» محل للمنع؛ و ذلك لأنّ النهي، عرفا شامل لجميع ذلك، كما عرفت في كسر الأصنام و إخماد بيوت النيران و شبه ذلك، و كذا ما صرح به الفقهاء من وجوب النكاح علي من يخاف من تركه الوقوع في الحرام، فانّه أيضا من قبيل نفي موضوع الحرام، باشباع الغريزة من طريق الحلال. و الجمود علي لفظ النهي، و القول بظهوره في الزجر تشريعا، غير صحيح بعد العلم بالملاك و بعد ما عرفت من سيرة الأنبياء و المعصومين عليهم السّلام.

و أمّا ما ذكره في النقض، بوجوب فعل بعض المقدمات ليتحقق المعروف، فالالتزام به غير بعيد؛ فلو علمنا بانّه، لو لم يكن الحمام موجودا في بلد أو قرية، ترك جماعة كثيرة من المسلمين صلاتهم و صيامهم، و كنا قادرين علي بنائه، أو كانت الحكومة قادرة عليه، لم يبعد القول بوجوبه من هذا الباب و لا يبعد أن يكون وجوب تعليم الحلال و الحرام أيضا، من هذا الباب؛ فتدبر جيّدا.

***

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 60.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 108

[المسألة 24: لا إشكال في أنّ غير المميز من الصبي و الصبيّة خارج عن أحكام النظر]

المسألة 24: لا إشكال في أنّ غير المميز من الصبي و الصبيّة خارج عن أحكام النظر و اللمس بغير شهوة،

لا معها لو فرض ثورانها.

[المسألة 25: يجوز للرجل أن ينظر إلي الصبيّة، ما لم تبلغ]

المسألة 25: يجوز للرجل أن ينظر إلي الصبيّة، ما لم تبلغ، إذا لم يكن فيه تلذذ و شهوة. نعم، الاحوط الاولي، الاقتصار علي مواضع لم تجر العادة علي سترها بالألبسة المتعارفة مثل الوجه و الكفين و شعر الراس و الذراعين و القدمين، لا مثل الفخذين و الأليين و الظهر و الصدر و الثديين، و لا ينبغي ترك الاحتياط فيها؛ و الأحوط عدم تقبيلها و عدم وضعها في حجره إذا بلغت ست سنين.

[المسألة 26: يجوز للمرأة، النظر إلي الصبي المميز ما لم يبلغ]

اشارة

المسألة 26: يجوز للمرأة، النظر إلي الصبي المميز ما لم يبلغ، و لا يجب عليها التستر عنه، ما لم يبلغ مبلغا يترتب علي النظر منه أو إليه ثوران الشهوة، علي الأقوي في الترتب الفعلي، و علي الأحوط في غيره.

حكم النظر إلي الصبي و الصبيّة

اشارة

أقول: هذه المسائل الثلاث، مرتبطة بعضها ببعض من حيث الأقوال و الأدلة، و لذا نتعرض لها في بحث واحد، و حاصل كلام المصنف، أنّ الصبي و الصبية إذا كانا غير مميزين كانا خارجين عن أحكام النظر منهما أو إليهما؛ و أما حكم الرجال بالنسبة إلي الصبية، فهو جواز النظر ما لم تبلغ بغير تلذذ. و اما حكم النساء بالنسبة إلي الصبي، فيجوز أيضا نظرهن إليه ما لم يبلغ. و أمّا بالنسبة إلي نظره إليهن، فالتفصيل بين ثوران الشهوة و عدمه؛ و اللازم ذكر صور المسألة أولا؛ ثم بيان أحكامها. فنقول:

إنّ الصبي أو الصبية، تارة يكون غير مميز، و اخري مميز ليس له ثوران الشهوة و لا في مظانه، و ثالثة يكون له ثوران الشهوة و إن لم يبلغ.

لا خلاف بين الأعلام (رضوان اللّه تعالي عليهم) في الأول، و وقع الكلام في الأخيرين.

قال في الرياض: و يستثني من الحكم مطلقا إجماعا، محل الضرورة، و القواعد من

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 109

النسوة، و الصغير غير المميز و الصغيرة، فيجوز النظر منهن مطلقا و إليهن … و في جواز نظر المميز إلي المرأة، ان لم يكن محلّ ثوران تشوق و شهوة، قولان؛ أحوطهما المنع، فيمنعه الولي عنه «1».

و ظاهره كون المنع في الفرض الثالث، و هو صورة ثوران الشهوة، مسلما مفروغا عنه.

و قال في كشف اللثام: و للصبي الذي لم يظهر علي عورات النساء، النظر إلي الأجنبيّة،

بمعني أنّه ليس عليها التستر عنه. أمّا الذي لم يبلغ مبلغا يحكي ما يري، فكذلك قطعا للقطع بدخوله في الآية. و أمّا الذي يحكيه، و ليس له ثوران شهوة، فاستقرب في التذكرة انه كذلك … و أمّا من به ثوران الشهوة، فقطع بأنّه كالبالغ، و هو قويّ، لظهور الخروج عن غير الظاهرين علي عوراتهن، و أطلق في التحرير كما هنا «2».

و ظاهر كلامه، جعل الأقسام أربعة، (من لا يظهر علي عورات النساء، من لا يقدر علي حكاية ما يري، من ليس له ثوران الشهوة، من له الثوران و لم يبلغ الحلم).

و لكن، الظاهر من كلام الشهيد الثاني (قدس سره)، في المسالك، أنّ غير المميز هو من لا يقدر علي حكاية ما يري، و جعل من كان فيه ثوران الشهوة كالبالغ، يجب منعه و تستر النساء منه، و من ليس كذلك ذكر فيه قولان، الجواز و عدمه. «3»

و يظهر من كلام فقهاء العامّة كابن قدامة في المغني، و النووي في المجموع أنّ الحكم في غير المميز، أيضا مفروغ عنه بينهم؛ و أمّا المميز، فقد وقع الخلاف فيه بينهم، فمنهم من جوز للمرأة عدم التستر عنه ما لم يبلغ. و منهم من جعل المميز أو المراهق، بحكم البالغ «4».

و علي كل حال، لا ينبغي الريب بالنسبة إلي غير المميز، و أنّه لا يجب التستر منه، و يجوز النظر إليه بغير شهوة. و المراد منه هنا من لا يعرف شيئا من الامور الجنسيّة، و لا يقدر علي حكاية شي ء، سواء كان لا يعرف امّه و أباه و غيرهما، كابن لشهر أو شهرين، أو يعرفهما و ما أشبه ذلك، و لكن لا يعرف الحسن عن القبيح، فلا يعرف خطر

النار و البئر و

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 72، (2/ 74 ط. ق).

(2). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 30، (2/ 10 ط. ق).

(3). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 49 (1/ 436 ط. ق).

(4). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 458. و محي الدين النووي، في المجموع 16/ 134.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 110

غير ذلك، أو يعرف بعض ذلك و لكن لا يقدر علي حكاية ما يري و لا يعرف شيئا من المسائل الجنسية.

و الدليل عليه، هو انصراف أدلة حرمة النظر و كذا وجوب السّتر، عنه، و عدم وجود حكمة الوجوب و الحرمة فيه، كما هو واضح.

و استدل أيضا بقوله تعالي: … أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَليٰ عَوْرٰاتِ النِّسٰاءِ … «1»

في مقام بيان الاستثناءات عن حكم عدم ابداء الزينة الباطنة، و قد فسّرت الآية، تارة بعدم المعرفة بعورات النساء، و اخري بعدم القوّة عليها.

و الوجه في ذلك، ما ذكرناه في تفسير، الأمثل، من أنّ جملة «لم يظهروا»، قد تكون بمعني لم يطلعوا؛ كما في قوله تعالي: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ …، «2» و اخري بمعني لم يقدروا؛ كما في قوله تعالي: كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لٰا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لٰا ذِمَّةً … «3» (يعني أن غلب المشركون عليكم، لا يراعون فيكم عهدا و لا قسما).

و الظاهر، بملاحظة ذكر العورات، هو المعني الأول؛ فهي إشارة إلي من لا يعرف شيئا من المسائل الجنسية، و لا يقدر علي حكايتها لعدم معرفته بها.

و علي كل حال، الآية تدل علي بعض المطلوب، أي عدم وجوب تستر النساء عنهم.

أمّا المميز الذي لا يوجد عنده ثوران

الشهوة، فقد عرفت أنّ فيه قولان، الجواز و عدمه؛ و استدل كل واحد بآية من كتاب اللّه عزّ و جلّ، اما عدم الجواز، فلمفهوم قوله تعالي: … أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَليٰ عَوْرٰاتِ النِّسٰاءِ …، فان مفهومه أنّ الأطفال المميزين لا يجوز ابداء الزينة الباطنة لهم، و المقام و إن كان من قبيل مفهوم الوصف، و لكن قد عرفت غير مرّة أنّ القيود التي في مقام الاحتراز، لها مفهوم، أيّا ما كان، و من الواضح أنّ المقام من هذا القبيل.

______________________________

(1). النور/ 31.

(2). الكهف/ 20.

(3). التوبة/ 8.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 111

و أمّا الجواز، فلقوله تعالي في آية الاستيذان: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ، ثَلٰاثَ مَرّٰاتٍ، مِنْ قَبْلِ صَلٰاةِ الْفَجْرِ، وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيٰابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَ مِنْ بَعْدِ صَلٰاةِ الْعِشٰاءِ، ثَلٰاثُ عَوْرٰاتٍ لَكُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لٰا عَلَيْهِمْ جُنٰاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّٰافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَليٰ بَعْضٍ … «1»

دلت علي وجوب الاستيذان في خصوص هذه الأوقات الثلاثة؛ و أمّا في غيرها، فلا يجب علي غير البالغ الاستيذان، سواء كان محرما أو غير محرم. لا يقال: الآية ناظرة إلي المحارم؛ لأنا نقول: بل الظاهر أنّها عامّة، فان ابن العم و ابنته، و كذا ابنة الخال و ابنه و أمثالهم، يطوفون بعضهم علي بعض إذا كانوا صغارا، فالآية شاملة للمحرم و غيره. أمّا الاستيذان في المواقع الثلاثة، لأنّها مظنة الأعمال الجنسية أو شبهها، فقد امروا فيها بالاستيذان، و هذا من أوضح الدليل علي أنّه لا يمكن حمل الآية علي غير المميز.

و الآية التالية لها، تدل علي وجوب استيذان البالغين، في كلّ حال و في جميع الأوقات. قال

تعالي: وَ إِذٰا بَلَغَ الْأَطْفٰالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ … «2» و هو دليل علي أنّ الحكم ليس مقصورا علي المحارم، بل لعله ظاهر في خصوص غير المحارم.

فتلخص من جميع ذلك، أنّ مفهوم الآية الاولي عدم جواز ابداء الزّينة للمميزين غير البالغين؛ و منطوق الآية الثانية دليل علي جواز الورود من غير اذن لهم، الملازم لكشف رءوسهن أو بعض أبدانهن غالبا، و حيث لا يمكن المعارضة بين آيتين، لأنّ الإسناد قطعيّة و التقيّة ليست فيها، فلا مناص إلّا من الجمع العرفي الدلالي بينهما، امّا بحمل الاولي علي موارد ثوران الشهوة و حمل الثانية علي موارد عدمه، (و لعل التفصيل الذي ذكره جماعة من الأصحاب ناظر إليه). لكنه جمع دلالي لا شاهد له و يسمّي تبرّعيا. اللّهم إلّا أن يقال معني قوله تعالي «لَمْ يَظْهَرُوا عَليٰ عَوْرٰاتِ»، بمعني ثوران الشهوة. أو يقال أنّ الامر بالاستيذان في تلك الأوقات، لا يقتضي جواز النظر، (كما ذكر، في المسالك). و لكن

______________________________

(1). النور/ 58.

(2). النور/ 59.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 112

الانصاف أنّ الاستدلال بترك الاستيذان، في غير الأوقات الثلاثة، و هو دليل علي الجواز عادة.

أو يقال، أنّ المفهوم محمول علي الكراهة، لصراحة المنطوق في الجواز، و إن شئت قلت: المسألة من باب تعارض النص و الظاهر، أو الظاهر مع الأظهر، فالترجيح بالجواز.

و يؤيد الجواز، بل يدل عليه روايات. منها:

1- ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن الرضا عليه السّلام، قال: يؤخذ الغلام بالصلاة و هو ابن سبع سنين، و لا تغطّي المرأة شعرها منه حتي يحتلم. «1»

و الرواية صحيحة.

2- ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر (أيضا)، عن الرضا عليه

السّلام قال: لا تغطي المرأة رأسها من الغلام حتي يبلغ الغلام. «2»

و الظاهر اتحاد الروايتين و وقوع التقطيع في الثانية.

3- و من طريق الجمهور، ما رواه ابن قدامة، أنّ أبا طيبة حجم نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله، و هو غلام؛ «3» دلت علي النظر و اللمس حتي في مثل الظهر، و لا يخلو مضمون الرواية من بعد، لا سيّما بالنسبة إلي نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله.

و في الروايتين السابقتين غني و كفاية.

فجواز نظر الصبي إلي المرأة فيما يتعارف كشفه، ممّا لا ينبغي الاشكال فيه؛ أمّا إذا كان هناك ثوران الشهوة، فانّ كان الثوران بالقوة و الاستعداد، فلا دليل علي استثنائه عن الحكم المزبور، و أمّا إذا كان بالفعل، و كان سببا لبعض المفاسد، فالحق استثنائه. و هو من القضايا التي قياساتها معها.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 169، الحديث 3، الباب 126 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 169، الحديث 4، الباب 126 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 458.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 113

بقي هنا شي ء: هل يجوز للرجل أن يضع الصبيّة في حجره و يقبّله؟

الظاهر، عدم الخلاف في جواز ذلك قبل بلوغها ست سنين، و يدل عليه مضافا إلي ما ذكر، جريان السيرة العملية عليه من دون انكار.

و يدل عليه أيضا روايات متضافرة، بعضها صحيح السند. منها:

1- ما رواه عبد اللّه بن يحيي الكاهلي، قال: سال أحمد بن النعمان، أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن جارية ليس بيني و بينها محرم تغشاني فاحملها و اقبلها؛ فقال: إذا أتي عليها ست سنين فلا تضعها في حجرك «1».

و الرواية معتبرة، إلي عبد اللّه بن يحيي، فلو كان سؤال أحمد بن النعمان بمحضره لم يضره (و يؤيده ما في

بعض طرق الرواية: و اظنني قد حضرته.)، و إلّا يشكل الاعتماد عليه نظرا إلي ان أحمد مجهول؛ و الظاهر أنه لا ينقل عنه في الفقه، إلّا روايتان.

2- زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: إذا بلغت الجارية الحرة ست سنين، فلا ينبغي لك أن تقبلها «2».

3- مرفوعة زكريا المؤمن أنّه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا بلغت الجارية ست سنين فلا يقبلها الغلام، و الغلام لا يقبل المرأة إذا جاز سبع سنين. «3»

4 و 5- مثله مرسلة علي بن عقبه؛ «4» و رواية عبد الرحمن بن بحر «5».

و هل يحرم إذا تجاوز السّت، أو يكره؟ ظاهر بعض الروايات السابقة، الحرمة بمقتضي قوله عليه السّلام: لم يجز؛ و قوله: لا يقبلها …؛ و قوله عليه السّلام: فلا تضعها علي حجرك؛ في معتبرة الكاهلي، و لا يضرّه عدم ذكر التقبيل، لذكره في السؤال، و للأولوية.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 169، الحديث 1، الباب 127 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 170، الحديث 2، الباب 127 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 170، الحديث 4، الباب 127 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 170، الحديث 6، الباب 127 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 171، الحديث 7، الباب 127 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 114

و لكن قوله: لا ينبغي؛ في بعض روايات الباب، و ذكر الخمس بدل السّت في بعضها الآخر، دليل علي الكراهة؛ مضافا إلي استقرار السيرة عليه؛ نعم، لا يجوز إذا كان عن شهوة و لكن لا يترك الاحتياط بتركه.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 115

[المسألة 27: يجوز النظر إلي نساء أهل الذّمّة، بل مطلق الكفّار]

اشارة

المسألة 27: يجوز النظر إلي نساء أهل الذّمّة، بل مطلق الكفّار، مع عدم

التلذذ و الريبة، أعني خوف الوقوع في الحرام. و الأحوط، الاقتصار علي المواضع التي جرت عادتهن علي عدم التستر عنها؛ و قد تلحق بها، نساء أهل البوادي و القري من الأعراب و غيرهم، اللاتي جرت عادتهن علي عدم التستر، و إذا نهين لا ينتهين، و هو مشكل؛ نعم الظاهر، أنّه يجوز التردد في القري و الأسواق و مواقع تردد تلك النسوة و مجامعهن و محال معاملتهنّ مع العلم عادة بوقوع النظر عليهن؛ و لا يجب غضّ البصر في تلك الحال، إذا لم يكن خوف افتنان.

أقول: هذه المسألة في الواقع مسئلتان: أولاهما، مسألة النظر إلي نساء أهل الذّمّة.

ثانيتهما، مسألة النظر إلي بعض أهل البوادي و غيرهن، ممّن جرت عادتهن علي عدم التستر اللائق بهنّ.

في النظر الي نساء أهل الذمّة

أما الاولي، فحاصل الكلام فيها، أنّ المشهور بين الأصحاب جواز النظر إلي نسائهم (في الجملة) قال في الرياض: يجوز النظر إلي أهل الذمّة و شعورهن علي الأشهر الأظهر. «1»

و قال في الحدائق: المشهور بين الأصحاب جواز النظر إلي نساء، أهل الذمة و شعورهن؛ و هو قول الشيخين في المقنعة و النهاية، ما لم يكن ذلك علي وجه التلذذ. «2»

ثم قال في ذيل كلامه: و علي هذا القول عمل الأصحاب، ما عدا ابن ادريس و تبعه العلّامة في المختلف، و أما في باقي كتبه فهو موافق لمذهب الأصحاب.

و الذي يمكن التمسك به لكلام المشهور، أمران: (و إن كان الأصل عدم الجواز، لشمول الاطلاقات لهن أيضا).

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 64، (2/ 73 ط. ق).

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 58.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 116

أدلّة المشهور

الأوّل: روايات يخرج بها عن الأصل. منها:

1- ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا حرمة لنساء أهل الذمة، أن ينظر إلي شعورهن و أيديهن. «1» و الخبر ضعيف بالسكوني، و لكن يمكن انجباره بعمل المشهور.

2- ما رواه في قرب الاسناد، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي ابن أبي طالب عليهم السّلام قال: لا باس بالنظر إلي رءوس نساء أهل الذمة. و قال: ينزل المسلمون علي أهل الذمة في اسفارهم و حاجاتهم، و لا ينزل المسلم علي المسلم إلّا باذنه. «2»

و أبو البختري، هو وهب بن وهب الذي وصفه علماء الرجال بأنّه كان كذابا ضعيفا لا يعتمد عليه، و أن روي عنه ابن أبي عمير في بعض المقامات. و

عن بعض النسخ: إلي نساء أهل الذمة؛ و عليه، معناه أوسع كما هو ظاهر.

3- ما رواه في الجعفريات، باسناده عن علي عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: ليس لنساء أهل الذمة حرمة، لا بأس بالنظر إليهن ما لم يتعمد «3».

و هو من حيث المضمون عام، يشمل النظر إلي جميع أبدانهن بعدم الحرمة لهن؛ و لكن الانصاف انصرافه إلي ما هو المتعارف بينهم من عدم ستر الوجه و اليدين و الشعور.

4- و في رواية اخري بهذا الاسناد عنه صلّي اللّه عليه و آله قال: ليس لنساء أهل الذّمّة حرمة، لا باس بالنظر إلي وجوههن و شعورهن و نحورهن و بدنهن ما لم يتعمد ذلك. «4»

و الظاهر، أنّ التصريح فيها ببدنهن أيضا ناظر إلي ما يتعارف، من قبيل شي ء من اليدين و الرجلين و قليل من الصدر.

و دلالة هذه الروايات الاربعة علي المطلوب واضحة؛ و ضعف اسنادها منجبر بعمل

______________________________

(1). الوسائل 14/ 149، الحديث 1، الباب 112 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 149، الحديث 2، الباب 112 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 276، الحديث 16706.

(4). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 277، الحديث 16707.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 117

المشهور، مضافا إلي تضافرها.

5- و هناك رواية اخري، وقع الخلاف في نسختها، و هي ما رواه ابن محبوب عن عباد بن صهيب، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا بأس بالنظر إلي نساء أهل تهامة و الاعراب و أهل البوادي من أهل الذمة و العلوج، لأنّهن لا ينتهين إذا نهين. «1»

و المراد من تهامة، المنطقة الجنوبية من جزيرة العرب، و قد يطلق علي مكّه، و

النّسبة إليه التهاميّ، و النّجد هو المنطقة الشّمالية المرتفعة.

و المراد بالعلوج (علي وزن بروج) جمع العلج (علي وزن فكر)، هو مطلق الكفار كفار العجم، أو الرجل الضخم منهم.

و لا إشكال فيها من حيث رجال السند، و لو كان كلام، فانما هو في عباد بن صهيب، فقد ذكر غير واحد من أرباب علم الرجال، أنّه عامي أو بتري (و هو زيدي العامّة). و لكن مجرد ذلك، لا يمنع عن قبول حديثه. فقد صرح في معجم رجال الحديث بعد كلام طويل، أنّ: المتحصل أنّه لا إشكال في وثاقة عباد بن صهيب بشهادة النجاشي و علي بن إبراهيم في تفسيره. «2» و ما يظهر من بعض الروايات أنّه أشكل علي الصادق عليه السّلام في ثوب لبسه؛ و أجابه عليه السّلام بأنّه اشتراه بشي ء قليل، و أنّه لا يمكنه لبس ما كان يلبسه علي عليه السّلام، و لو لبس مثل لباسه في هذا الزمان، لقالوا هذا مراء مثل عباد!؛ الظاهر، أنه عباد بن كثير، لا عباد بن صهيب؛ و لا أقل من الشك، فلا ينافي ذلك وثاقته.

و أمّا دلالتها علي المطلوب، فمن وجهين، تارة من حيث التصريح فيه بأهل الذمة و العلوج؛ و اخري من حيث التعليل، حيث إنّه لا إشكال في أنّ نساء أهل الذمة داخلات تحت عموم التعليل، فانّهن إذا نهين لا ينتهين، إلّا أن يكون هناك قوة قهرية.

و لكن في نسخة الوسائل، لم يذكر أهل الذمة و قال: … و أهل السواد و العلوج، لأنّهم إذا نهوا لا ينتهون. «3»

______________________________

(1). الشيخ الصدوق، في من لا يحضره الفقيه 3/ 469، و رواه في الجواهر 29/ 69.

(2). السيد الخوئي، في معجم رجال الحديث 10/ 233.

(3). الوسائل 14/ 149،

الحديث 1، الباب 113 من أبواب مقدمات النكاح، (و الضمائر فيه مذكر، و الظاهر أنه اشتباه من الراوي، أو انها بملاحظة ذكر الأهل، كعدم ذكر النساء).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 118

و لكن ذكر العلوج كاف في شمولهن، و أوضح منه ذكر التعليل فيها.

فاختلاف النسخ، غير مضرّ بما نحن بصدده.

و العجب من صاحب الجواهر (قدس اللّه نفسه الزّكيّة) حيث ذكر هذه الرواية بعنوان المعارض، و قال: ضرورة ظهوره في كون العلّة، عدم الانتهاء بالنهي، الذي يمكن كون المراد منه عدم وجوب الغض، و عدم حرمة التردد في الأسواق و الزقاق من هذه الجهة، لما في ذلك من العسر و الحرج بعد فرض عدم الانتهاء بالنهي، فهو حينئذ أمر خارج عما نحن فيه «1».

و الانصاف، أنّ العسر و الحرج لو كانا من قبيل الملاك في المقام، فلا شك في كونهما من قبيل الحكمة و العلّة. و أنّ شئت قلت، أنّ العسر و الحرج هنا نوعي لا شخصي، و إلّا وجب الحكم في الرواية بوجوب بقاء جميع الناس في دارهم إلّا من كان في عسر و حرج شخصي، فيجوز له الخروج؛ و الظاهر أنّه لم يقل به أحد.

فالرواية دليل علي المقصود، لا أنّه مخالف له.

الثاني: من باب أنهن مماليك للإمام عليه السّلام أو مماليك للمسلمين، و المملوكة يجوز النظر إليها. فالدليل مشتمل علي صغري و كبري، لا بدّ من اثبات كل واحد منهما؛ قال في الشرائع: يجوز النظر إلي نساء أهل الذمة و شعورهن لأنهن بمنزلة الإماء. «2»

و أضاف في الجواهر: إنّ أهل الذمة ملك و في ء للمسلمين، و إن حرم عليهم بالعارض، كالأمة المزوّجة (و المراد بالعارض هنا ذمة المسلمين لهم). «3» و علي ذلك،

جواز النظر إليهن من باب جواز نظر المولي إلي مملوكته!

ثم قال: أو ملك للإمام عليه السّلام؛ و مملوكة الغير، يجوز النظر إليها.

و قد استدل لذلك بروايات عديدة. منها:

1- ما رواه في الوسائل عن أبي بصير، يعني ليث المرادي، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 69.

(2). المحقق الحلي، في شرايع الإسلام 2/ 495.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 68.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 119

سألته عن رجل له امرأة نصرانيّة، له أن يتزوج عليها يهودية؟ فقال: إنّ أهل الكتاب مماليك للإمام، و ذلك موسع منّا عليكم خاصة، فلا بأس أن يتزوّج … «1»

و سند الحديث معتبر؛ و لكن في دلالتها تأمل، لإبهام ربط السؤال و الجواب، أوّلا، لأنّه لا مانع من تزويج اليهودية علي النصرانية، و لو كان هناك مانع فكيف يرتفع بكونهن مماليك للإمام عليه السّلام. فهذا الإشكال و الابهام يمنع عن الاعتماد عليها، و يشك في كونها كلاما للإمام عليه السّلام.

2- ما رواه زرارة في الصحيح، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن نصرانية كانت تحت نصراني، و طلّقها، هل عليها عدّة مثل عدة المسلمة؟ فقال: لا؛ لأنّ أهل الكتاب مماليك للإمام … «2» و ليس المراد أنّه ليس عليها، بل المراد منه أنّ عدتها عدّة الإماء، حيضتان أو خمسة و أربعون يوما. و قد صرّح بذلك في ذيل الرواية، فراجع.

هذا و لكن صرّح الأصحاب بأنّه لا فرق في العدّة بين الذميّة و المسلمة، لا في عدّة الوفاة و لا في عدّة الطلاق، بل ادعي عدم الخلاف، بل ادعي الإجماع عليه.

و العجب من صاحب الجواهر (قدس اللّه نفسه الزكية)، حيث صرّح بشذوذ الرواية، و عدم

العامل لها من هذه الجهة في بحث العدد «3».

اللّهم إلّا أن يقال بجواز التجزية بين أجزاء الرواية و عدم العمل بها في موردها، لا يمتنع عن الأخذ بما فيها من العموم، من كون أهل الذمة مماليك للإمام عليه السّلام.

و لكن هذا التفكيك لا سيما بين العلة و المعلوم مشكل جدا، فهذا يوجب سقوط الرواية عن الاستدلال بها.

3- ما رواه أبو ولاد، في الصحيح أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: ليس فيما بين أهل الذمة معاقلة … و هم مماليك للإمام عليه السّلام، فمن أسلم منهم فهو حرّ. «4»

و دلالتها أحسن من غيرها و سندها معتبر.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 399، الحديث 2، الباب 2 من أبواب ما يحرم باستيفاء العدد.

(2). الوسائل 15/ 477، الحديث 1، الباب 45 من أبواب العدد.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 32/ 314.

(4). الوسائل 19/ 300، الحديث 1، الباب 1 من أبواب العاقلة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 120

و لكن يرد علي الجميع، أنّ التملك بالنسبة إلي الكفار، إنّما يكون في الحرب، فانّ كان الحرب باذنه عليه السّلام كان ملكا للمقاتلين، و إلّا كان للإمام عليه السّلام. و لكن التملك بدون ذلك غير معهود، مضافا إلي إنّه لم يسمع ترتب آثار الملك عليهم من البيع و الشراء من أحد من الفقهاء، علي أنّ المملوك لا ذمة له، و مال الجزية لا يكون من قبيل الضريبة علي العبد كما هو واضح، و ليس عدتهن- كما عرفت- عدّة الإماء، إلي غير ذلك ممّا يدل علي عدم كونهم من العبيد و الإماء.

فالركون علي هذه الروايات مشكل جدّا، و الاولي ردّ علمها إلي أهلها.

هذا كله بالنسبة إلي الصغري؛ و أمّا الكبري- أعني جواز النظر

إلي الإماء- فالظاهر أنّه مفروغ عنه، و ادعي في الجواهر جريان السيرة عليه و هو غير بعيد، بل قد يظهر من آية الجلباب ذلك، و يمكن الاستيناس له بما دل علي عدم وجوب ستر رأسها في الصلاة، و غير ذلك ممّا لا يخفي علي الخبير.

*** لا فرق بين اصناف الكفّار

الظاهر، أنّه لا فرق بين أصناف الكفار، و إن كان موضوع الكلام في كلمات كثير منهم أهل الذّمّة، و ذلك للأولوية القطعيّة، فان أهل الذمة لهم حرمة باعتبار ذمتهم، و لا حرمة لغيرهم أبدا (مثل أهل الحرب) أو ليس بهذه المثابة (مثل المستأمن و المهادن).

هذا، مضافا إلي ظهور التعليل في معتبرة عباد بن صهيب؛ و مضافا إلي ذكر العلوج- و هم كفار العجم أو مطلق الكفار- في بعض روايات الباب.

ما هو المقدار الذي يجوز النظر اليه؟

المقدار الذي يجوز النظر إليه (مع الشرطين)، هو ما يتعارف إبدائه عندهم، لا جميع بدنهم، لانصراف اطلاق الحكم إليه، مضافا إلي التصريح بالشعور و النحور في بعض أحاديث الباب، (و هو رواية السكوني) و ذكر خصوص الرؤوس في بعضها الآخر، (و هو

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 121

رواية قرب الأسناد، أقوي شاهد علي المطلوب).

و ذكر البدن علي نحو الاطلاق، في رواية الجعفريات، منصرف إلي ما عرفت، بقرينة ساير روايات الباب.

و ما ذكره في المتن من أن ذلك أحوط، ليس علي ما ينبغي، بل الأقوي ذلك.

يجوز للحكومة الاسلامية منعهن من السفور

إذا كان ظهورهن مكشفات في الملاء الإسلامي سببا لهتك حرمة ستر المحجبات من المسلمين، أو سببا لجرأة النساء الفاسقات علي السفور، فعلي الحكومة الإسلامية منعهن عن ذلك، و أمرهن برعاية الستر الإسلامي. كما في زماننا هذا و الحمد للّه.

رأي الفقهاء في النظر الي أهل البوادي

اشارة

أما الثانية، (أعني، مسألة النظر إلي بعض أهل البوادي). فقد صرّح المحقق اليزدي، في العروة الوثقي في ذيل المسألة 27 بانه: قد يلحق بهم نساء أهل البوادي و القري من الاعراب و غيرهم و هو مشكل؛ و وافقه كثير من المحشين.

و الظاهر، أنّ وجه الإشكال فيه هو الإشكال في وثاقة عباد بن صهيب، و لكن قد عرفت شهادة النجاشي، و علي بن ابراهيم (فيما حكي عنهما) بوثاقته، مضافا إلي ما ذكره في المستمسك، من أنّ وقوع أحمد بن محمد بن عيسي في السند، و هو الذي أخرج البرقي عن قم لأنه كان يروي عن الضعفاء؛ و كذا ابن محبوب، الذي هو من أصحاب الإجماع و ممن لا يروي إلّا عن ثقة؛ لا يبعد أن يكون كافيا في جبر ضعف السند. «1»

و الأول و إن كان مؤيدا عندنا، و لكن الثاني لا يوافق المختار في أصحاب الإجماع.

هذا، مضافا إلي لزوم العسر و الحرج علي فرض عدم الجواز، فتأمل؛ و الظاهر أنّ في رواية عباد بن صهيب غني و كفاية. و عدم تعرض الأصحاب لهذه المسألة، لعله لتوقفهم

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 21.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 122

في وثاقة عباد و عدم وصول توثيقه إليهم، فالأقوي هو الجواز مع الشرطين.

*** بقي هنا شي ء:

و هو أنّه قد يلحق بهن، النساء غير المباليات بأمر الستر، في بلادنا و ساير بلاد المسلمين ممن لا ينتهين إذا نهين؛ و هو غير بعيد بعد عموم التعليل. و لكنّ اللازم رعاية الشرطين، و الاحتراز عن مظانّ التّهم و محالّ وسوسة الشيطان، أعاذنا اللّه منه، للفرق الواضح بينهن و بين أهل البوادي، فالريبة فيهن أكثر و أشمل. و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة

- كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 123

[المسألة 28: يجوز لمن يريد تزويج امرأة أن ينظر إليها بشرط]

اشارة

المسألة 28: يجوز لمن يريد تزويج امرأة أن ينظر إليها بشرط أن لا يكون بقصد التلذذ، و إن علم انّه يحصل بسبب النظر قهرا؛ و بشرط أن يحتمل حصول بصيرة بها؛ و بشرط أن يجوز تزويجها فعلا، لا مثل ذات البعل و العدة؛ و بشرط ان يحتمل حصول التوافق علي التزويج، دون من علم أنّها ترد خطبتها؛ و الأحوط الاقتصار علي وجهها و كفيها و شعرها و محاسنها، و إن كان الأقوي جواز التعدي إلي المعاصم، بل و ساير الجسد ما عدا العورة. و الأحوط، أن يكون من وراء الثوب الرقيق؛ كما أنّ الأحوط لو لم يكن الأقوي، الاقتصار علي ما إذا كان قاصدا لتزويج المنظورة بالخصوص. فلا يعم الحكم ما إذا كان قاصدا لمطلق التزويج و كان بصدد تعيين الزوجة بهذا الاختبار، و يجوز تكرار النظر إذا لم يحصل الاطلاع عليها بالنظرة الاولي.

شروط اربعة لجواز النظر الي من يريد تزويجها

أقول: قد ذكر الماتن (قدس سره) في هذا الفرع، شروطا أربعة لجواز نظر من يريد تزويج امرأة.

1- عدم قصد التلذذ (و يلحق به عدم الريبة).

2- احتمال حصول بصيرة بها.

3- أن تكون المرأة جائزة التزويج له، فعلا.

4- احتمال حصول التوافق علي التزويج.

ثم أشار بمقدارها؛ ثم ذكر في ذيل المسألة، ما يعود إلي شرط خامس و شرط سادس.

و هو أن يكون من وراء الثياب الرقاق بالنسبة إلي غير الشعور و مثلها. و أن يكون قاصدا لتزويج المنظورة بالخصوص (لو حصل التوافق عليها). فلنعد إلي أصل المسألة، ثم نذكر الشرائط الستة المذكورة و نبحث عنها.

أمّا أصل المسألة علي إجمالها، فهو ممّا أجمع الأصحاب عليه، بل ادعي الإجماع عليه جماعة، بل ادعي صاحب الجواهر: عدم الخلاف فيها بين المسلمين، و إنّ حكاية

أنوار الفقاهة - كتاب

النكاح (لمكارم)، ص: 124

الإجماع عليها مستفيض أو متواتر كالنصوص. «1»

قال المحقق الكركي، في جامع المقاصد: لا خلاف بين علماء الإسلام في أن من أراد نكاح امرأة، يجوز له النظر إليها في الجملة؛ و قد رواه العامة و الخاصّة. و هل يستحب، فيه وجهان «2».

و قال الشيخ، في الخلاف: يجوز النظر إلي امرأة اجنبية يريد أن يتزوجها إذا نظر إلي ما ليس بعورة فقط. و به قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي. ثم نقل اختلاف كلمات العامة و الخاصة في تفسير ما ليس بعورة؛ ثم نقل عن المغربي فقط، أنّه لا يجوز أن ينظر إلي شي ء منها. «3»

و قال ابن رشد: و أمّا النظر إلي المرأة عند الخطبة، فأجاز ذلك مالك إلي الوجه و الكفين فقط، و أجاز ذلك غيره إلي جميع البدن عدا السوأتين، و منع ذلك قوم علي الاطلاق. «4»

أدلّة المسألة

و الدليل عليه روايات كثيرة، و هي كما ذكره بعض الأكابر مستفيضة أو متواترة، فلا نحتاج إلي ملاحظة أسانيدها و إن كان فيها الصحيح و غيره و مضامينها مختلفة. طائفة منها تدل علي جواز ذلك، لأنه أمر شبيه بالبيع؛ و لا شك أنّه ليس بيعا للإنسان الحرّ، بل من جهة اشتمالها علي مهر قليل أو كثير في الغالب يكون شبيها له، فكما أنّه يجوز أو يجب اختبار صفات المبيع، فكذلك بالنسبة إلي النكاح. و هي عدة روايات:

1- ما رواه محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة، أ ينظر إليها؟ قال: نعم، إنّما يشتريها بأغلي الثمن «5».

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 63.

(2). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 27.

(3). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/

247، المسألة 3 من كتاب النكاح.

(4). ابن رشد الأندلسي، في بداية المجتهد … 4/ 202، (2/ 4 ط. دار الفكر).

(5). الوسائل 14/ 59، الحديث 1، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 125

2- ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يريد أن يتزوج المرأة، أ ينظر إلي شعرها؟ فقال: نعم، إنّما يريد أن يشتريها بأغلي الثمن «1».

3- ما رواه يونس بن يعقوب، قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يريد أن يتزوج المرأة، يجوز له أن ينظر اليها.؟ قال: نعم، و ترقق له الثياب، لأنّه يريد أن يشتريها بأغلي الثمن «2».

4- ما رواه غياث بن ابراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السّلام في رجل ينظر إلي محاسن امرأة يريد ان يتزوجها. قال: لا بأس، إنما هو مستام فان يقض أمر يكون. «3»

5- ما عن مسعدة بن اليسع الباهلي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا بأس أن ينظر الرجل إلي محاسن المرأة قبل أن يتزوجها، فإنّما هو مستام فان يقض أمر يكن. «4»

و المراد بالمستام، المشتري؛ و السوم، تعيين القيمة أو نفس المعاملة. و قوله: أن يقض أمر يكن؛ (أي يكون علي بصيرة لو حصل الوفاق علي الزواج؛ أو يكون دائما مستمرا، للعلم بما عقد عليه).

6- ما عن الحسن بن السّريّ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سأله عن الرجل ينظر إلي المرأة قبل أن يتزوجها. قال: نعم، فلم يعطي ماله؟ «5».

يعني، يعطي ماله ليحصل به شيئا غاليا.

و لا شك أنّ النكاح ليس بيعا حقيقتا- بل قد يتعجب من هذا التعبير بعض الناس- بل المراد، تشبيه النكاح به

من بعض الجهات (و التشبيه يكون مقربا من بعض الجهات و مبعدا من الآخر) و أنّه يعطي مهرا غاليا لأنّ يتزوج بامرأة صالحة ذات الكمال الباطني و الظاهري؛ و إلّا لا معني لاشترائها من نفسها، مضافا إلي أنّه قد يطلقها و يعطيها مهرها، و لا معني للجمع بين الثمن و المثمن.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 60، الحديث 7، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 61، الحديث 11، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 60، الحديث 8، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 61، الحديث 12، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 59، الحديث 4، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 126

و هناك طائفة اخري، تدل علي مجرد الجواز من دون ذكر عنوان الاشتراء. منها:

7- عن هشام بن سالم و حماد بن عثمان و حفص بن البختري، كلهم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا باس بأن ينظر إلي وجهها و معاصمها إذا أراد أن يتزوجها «1».

8- ما عن الحسن بن السّري، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يريد أن يتزوج المرأة، يتأملها و ينظر إلي خلفها و إلي وجهها؟ قال: نعم، لا بأس أن ينظر الرجل إلي المرأة إذا أراد أن يتزوجها، ينظر إلي خلفها و إلي وجهها «2».

9- ما عن عبد اللّه بن الفضل، عن أبيه، عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت أ ينظر الرجل إلي المرأة يريد تزويجها، فينظر إلي شعرها و محاسنها؟ قال: لا بأس إذا لم يكن متلذذا «3».

10- ما عن يونس بن يعقوب، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن

الرجل يريد أن يتزوج المرأة، و أحبّ أن ينظر إليها؟ قال: تحتجز ثم لتقعد، و ليدخل فلينظر. قال قلت: تقوم حتي ينظر إليها؟ قال: نعم. قلت: فتمشي بين يديه؟ قال: ما أحب أن تفعل «4».

و هذه الروايات الأربعة، تدلّ علي جواز النظر مع اختلافها في بيان المقدار الجائز الذي سنتعرض له إن شاء الله.

11- و هناك رواية واحدة مرسلة رواها الرضي، في المجازات النبوية، تدل علي استحباب النظر. قال صلّي اللّه عليه و آله للمغيرة بن شعبة و قد خطب امرأة: لو نظرت إليها. فانه أحري أن يؤدم بينكما «5».

و يؤدم من الايدام، بمعني الموافقة بين الخصمين (أو مطلق الموافقة) و هذه الرواية، تدل علي استحباب النظر، لأنّه مقدمة لتوافق الزوجين، و هو أمر مطلوب للشارع و مقدمة المطلوب مطلوبة، و لكن سندها ضعيف بالارسال.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 59، الحديث 2، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 59، الحديث 3، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 59، الحديث 5، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 60، الحديث 10، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 61، الحديث 13، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 127

و هناك روايات اخري رواها في مستدرك الوسائل ج 14 في الباب 30 من أبواب مقدمات النكاح (رواية 1 و 2 و 3 و 4)، فراجع.

و روايات اخري من طرق اهل السنة رواها في السنن الكبري. منها، ما رواه أبو هريرة، قال: كنت عند النبي صلّي اللّه عليه و آله فأتاه رجل، فاخبره أنّه تزوج امرأة من الأنصار. فقال له رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: أنظرت إليها؟

قال: لا؛ قال: فاذهب فانظر إليها، فان في أعين الأنصار شيئا! «1».

و روي عن جابر بن عبد اللّه، و عن أنس، و عن المغيرة بن شعبة و غيرهم ما يدلّ علي المطلوب أيضا، فراجع «2».

إذا عرفت ذلك فلنعد إلي بيان الشرائط الستة.

أما عدم التلذذ، فقد عرفت التصريح باعتباره في بعض روايات الباب، و إن كان في سندها، اشكال؛ و لكن اعتباره معلوم للتسالم عليه في أمثال المقام التي يمكن الغاء الخصوصية عنها قطعا. و لكن مع ذلك صرّح في الجواهر بخلافه، حيث قال: أما اعتبار عدم اللذة، فينبغي القطع بعدمه، لإطلاق الأدلة، و لعسر التكليف به علي وجه تنتفي الحكمة في مشروعية الحكم المزبور «3».

و لكن الذي يظهر من ذيل، أنّه فرق بين قصد التلذذ، و بين العلم بحصول اللّذة، قهرا مع عدم كونه في قصده؛ حيث إنّ النكاح يكون غالبا بين الشباب و حصول اللّذة للشاب عند النظر إلي الشابة قهريّ غالبا. فلا يمكن نفي كلام الجواهر (قدس سره) و إلّا لم يبق للجواز مورد إلّا قليل، و لكن من المقطوع عدم جواز النظر بهذا القصد، و هذا هو قول الفصل.

و أما اشتراط احتمال حصول بصيرة من النظر، فهو من قبيل القضايا التي قياساتها معها، فانّ الاستثناء من ادلة الحرمة إنّما شرّع لحصول بصيرة جديدة، و لولاها لم يبق طريق إلي مشروعيته، و إن شئت قلت: إنّ اطلاق الروايات منصرفة عنه.

و أما اشتراط كون المرأة جائز التزويج فعلا، فلانصراف الاطلاقات أيضا إليه، فانّ النظر مقدمة للخطبة، و لا معني للخطبة عن زوجة الغير، أو من هي في العدة، و إن كانت

______________________________

(1) و (2)- البيهقي، في السنن الكبري 7/ 84.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام

29/ 65.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 128

قاطعة بأنّها ستنفصل عن زوجها.

و أما اشتراط احتمال حصول التوافق علي التزويج، فلو علم بعدم موافقة الزوجة أو أسرتها بذلك النكاح، أو احتمل الموافقة احتمالا ضعيفا غير عقلائي، كان النظر لغوا؛ و من الواضح أنّ هذا الاستثناء من أدلة الحرمة، إنّما هو لنفي الغرر عند إمكان النكاح.

و أما اشتراط كون ذلك من وراء الثياب الرقاق، فسيأتي الكلام فيه.

و أما اشتراط كونه قاصدا لتزويج المنظورة بالخصوص، فهو أيضا منصرف النصوص أو صريحها فان قول السائل: الرجل يريد يتزوج المرأة؛ ظاهر أو صريح في ذلك، فلا يجوز له النظر إلي كلّ مرأها، يراه بداعي حصول القصد إلي زواجها أحيانا.

مقدار الجواز و ما له النظر اليه من المرأة

قد وقع الخلاف فيه بين الخاصة و بين العامة. قال في الشرائع: و يختص الجواز بوجهها و كفيها. «1» و العجب أنّه جوز النظر إلي الوجه و الكفين لكل أحد علي ما صرّح به في مبحث جواز النظر، مع أنّه خصص الجواز هنا أيضا به.

و قال في المسالك: فالذي يجوز النظر إليه منها اتفاقا هو الوجه و الكفان من مفصل الزند ظهرا و بطنا، لأنّ المقصود يحصل بذلك، فيبقي ما عداه علي العموم. «2» و قيل أنّ هذا القول هو المشهور.

و لكن عن النهاية، جواز النظر إلي محاسنها و وجهها كما يجوز النظر إلي مشيها و جسدها من فوق الثياب «3».

و عن الكفاية، جواز النظر إلي الشعر و المحاسن. و هو المحكي عن المدارك الحدائق و الرياض «4».

و قد عرفت تصريح الشيخ في الخلاف- في المسألة 3 من كتاب النكاح- بجواز

______________________________

(1). المحقق الحلي، في شرايع الإسلام 2/ 495.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 41، (1/ 435 ط. ق).

(3). الشيخ

الطوسي، في النهاية/ 484.

(4). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 66.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 129

النظر إلي ما ليس بعورة فقط، فاذن يكون الأقوال في المسألة أربعة علي الأقل.

لا ينبغي الشك في ان القول باختصاصه بالوجه و الكفين ممّا لا وجه له، فانّ الغرض لا يحصل بذلك غالبا، مضافا إلي أنّه جائز لكل أحد علي ما عرفت سابقا، فذكرها بالخصوص في هذه الروايات ممّا لا وجه له.

كما أنّ القول بجواز النظر إلي ما عدا العورة- بناء علي أنّ المراد منها السوأتان- ممّا لا دليل عليه من روايات الباب. و اطلاقات الروايات الدالة علي جواز النظر إلي المرأة التي يريد نكاحها، منصرفة إلي ما هو المتعارف عند الخطبة قطعا لا غير.

هذا، و لكن المذكور في الروايات (التي مرّت عليك) امور: منها، الوجه و المعاصم (و يدخل فيها الكفان) و هي مواضع السوار ما فوق الزند، و كذا الشعر و المحاسن و إلي بدنها في الجملة من فوق الثياب الرقيق.

أما الوجه، فواضح؛ أمّا المعاصم، فقد ورد في معتبرة هشام و حماد و حفص بن البختري عن الصادق عليه السّلام، و لا مانع من العمل بها، فيجوز النظر إليها.

و أمّا المحاسن، فقد تضافرت الروايات بجواز النظر إليها، و إن كانت أسانيدها قابلا للمناقشة (و لا يبعد اعتبار سند رواية غياث و هو رواية 8/ 36). فالعمل بها أيضا لا مانع له. إنّما الكلام في المراد بالمحاسن، يمكن أن يراد منه مواضع الزينة و هي الوجه و الرأس و النحر و شي ء من الصدر و المعاصم، و أمّا إرادة جميع البدن منه بعيد جدّا. و لا أقلّ من الشك، و الأصل الحرمة.

و أمّا الشعر، فقد صرح به

في روايتي عبد اللّه بن الفضل و عبد اللّه بن سنان، «1» و هو داخل في المحاسن التي مرّت الإشارة إلي جواز النظر إليها.

بقي هنا حكم النظر إلي البدن من وراء الثياب الرقاق الوارد في رواية يونس بن يعقوب. «2» (و لا يبعد اعتبار سندها). و لكن الكلام في المراد، هل المراد منها الثياب التي تحكي من ورائها أو الثياب الرقاق التي يري منها حجم البدن بخلاف الجلباب و الازار و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 60، الحديث 5 و 7، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 61، الحديث 11، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 130

شبهها؛ و القدر المتيقن منه، الثاني؛ مضافا إلي أنّ الأول غير متعارف بل غير موجود عند البيوت المتدينة؛ فالأحوط لو لا الأقوي، اختيار الاحتمال الثاني؛ و قد وافق علي ذلك، سيّدنا الاستاذ العلّامة الخوئي، في محاضراته في المستند. «1»

*** [بقي هنا أمور]

1- جواز النظر للمرأة

هل المرأة كالرجل، لها أن ينظر إلي الرجل و محاسنه، إن قلنا بعدم جوازه في غير المقام؟

قد يقال، بأنّ الملاك، و هو قوله: إنّما يشتريها بأغلي الثمن؛ غير جار بالنسبة إليها، لأنّ هذا إشارة إلي أنّه يعطي المهر، و لا يمكن أن يسترده و لا أن يبيع مورده لآخر فهذا ثمن غال جدّا. مضافا إلي حرمة القياس. و لكن الانصاف، إنّ الحكمة فيها ليس منحصرا في ذلك، بل دوام الزوجية المصرح به في بعض الروايات و المعلوم بالقرائن الاخري، أيضا من ملاكاته، فلها أيضا أن ينظر إليه لا سيّما أنّها ليس الطلاق بيدها، لا يمكن له الخلاص بعد النكاح باختيارها، و هذا هو الأقوي. و ما أفاده سيدنا الاستاذ في مستند العروة، «2» من وقوع

الزوج في غبن عظيم لو لم يوافقها، لأنّ ماله يذهب هدرا، لعدم إمكان استرداده مطلقا، و الحال أنّ الزوجة ليست كذلك، لأنّه علي فرض الطلاق قد أخذ عوض البضع؛ يظهر الإشكال فيه ممّا سبق، و أنّ الملاك في جواز النظر ليس دفع الغبن فقط، بل له ملاكات اخري موجودة في المرأة.

2- هل يجوز للولي النظر؟

هل للولي النظر أيضا إذا كان اذنه معتبرا، أو كان الزوج أو الزوجة غير رشيدة من هذه الجهة؟

______________________________

(1). السيد الخوئي، في المستند، كتاب النكاح 1/ 27.

(2). السيد الخوئي، في المستند، كتاب النكاح 1/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 131

صرّح في الجواهر «1» بعدم جوازه لقصور الأدلة، مضافا إلي أنّ الاولياء يتيسر لهم ذلك من طريق المماثل، فالنساء للنساء و الرجال للرجال. هذا، و لكن لا يبعد الجواز في الصغير و الصغيرة إذا انحصر الطريق فيه، و جوزنا نكاح الصغير و الصغيرة و كذا بالنسبة إلي الأعمي، لو انحصر الطريق في نظر الولي.

3- هل يجوز تكرار النظر؟

هل يجوز التكرار إذا لم يحصل المطلوب في مجلس واحد أو في مجالس؟

قال في العروة: و يجوز تكرار النظر، إذا لم يحصل الغرض- و هو الاطلاع علي حالها- بالنظر الاولي. «2» و استدل له في مستند العروة باطلاق الأدلة. و لكن الانصاف أنّها منصرفة إلي ما هو المتعارف بين الناس في ذلك، فلو قال واحد أنّه لا ينكشف حال المرأة لديّ إلّا بالمعاشرة معها اسبوعا أو شهرا، فانّه لا يقبل منه، و لا اطلاق في الأدلة من هذه الجهة.

4- هل يشترط عدم امكان معرفة حالها من طريق آخر؟

و هل يعتبر عدم إمكان معرفة حالها من طريق آخر من توكيل النساء في ذلك أو مشاهدة صورتها أو أفلامها؟

الظاهر أنّه لا يشترط فيه ذلك، لإطلاق الأدلة؛ مضافا إلي أنّ الحاضر يري ما لا يراه الغائب، و ليس الخبر كالمعاينة.

5- هل يعتبر في ذلك، اذنها أو رضاها بالنظر؟

قال في العروة: و لا يشترط أن يكون ذلك باذنها و رضاها و أضاف في المستند، أنّه: لا

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 68.

(2). السيد الطباطبائي اليزدي، في العروة الوثقي، كتاب النكاح، المسألة 26.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 132

خلاف في ذلك و ليس هذا من حقوق المرأة، كي يتوقف الحل علي رضاها. «1»

قلت: مضافا إلي ما ورد في بعض الأخبار، من فعل بعض الصحابة، و هو ما رواه جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر علي أن يري منها ما يعجبه و يدعوه اليها، فليفعل. قال جابر: فلقد خطبت امرأة من بني سلمة فكنت أتخبأ في اصول النخل، حتي رأيت منها بعض ما أعجبني، فتزوجتها «2».

6- هل يشترط ذلك بعدم امكان عقد موقّت؟

هل يشترط في ذلك عدم إمكان الوصول إلي مقصده من طريق العقد الموقت أم لا؟

الظاهر، عدم اعتباره، فيجوز النظر و إن أمكنه العقد الموقت في ساعة واحدة مثلا او اكثر، لإطلاق الأدلة؛ مضافا إلي وجود بعض المشاكل في العقد، و إن كان الاولي، اختياره لو أمكن.

***

______________________________

(1). السيد الخوئي، في المستند، كتاب النكاح 1/ 28.

(2). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 84.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 133

[المسألة 29: الأقوي جواز سماع صوت الأجنبية]

اشارة

المسألة 29: الأقوي جواز سماع صوت الأجنبية ما لم يكن تلذّذ و ريبة و كذا يجوز لها اسماع صوتها للأجانب إذا لم يكن خوف فتنة، و إن كان الأحوط الترك في غير مقام الضرورة خصوصا في الشابّة، و ذهب جماعة إلي حرمة السماع و الاسماع و هو ضعيف، نعم يحرم عليها المكالمة مع الرجال بكيفية مهيجة بترقيق القول و تليين الكلام و تحسين الصوت فيطمع الذي في قلبه مرض.

سماع صوت الاجنبية

أقول: كانت هذه المسألة معركة للآراء في قديم الأيام و إن كانت في عصرنا من المشهورات أو المسلمات بين الفقهاء لضرورات لا تخفي علي القارئ.

هذا، و قد صرّح المحقق في الشرائع بأنّه لا يجوز سماع صوت الأجنبيّة (حتي) للأعمي، بل قد ادعي أنّه المشهور. «1» قال في الحدائق: المشهور بين الأصحاب تحريم سماع صوت المرأة الأجنبيّة مبصرا كان السامع أو أعمي، و اطلاق كلامهم شامل لما أوجب السماع التلذذ و الفتنة أم لا. و لا يخلو عن إشكال. «2»

و قد حكاه في الرياض، عن القواعد و الشرائع و التحرير و الإرشاد و غيرها؛ و لكن ذكر في آخر كلامه أنّ: الجواز أقوي، وفاقا لمقطوع التذكرة، و ظاهر جماعة كشيخنا في المسالك، و نسب إلي جدي العلامة المجلسي طاب ثراه. و لكن الأحوط ترك ما زاد علي خمس كلمات. «3»

و اللازم، التكلم في أصل الجواز، أولا. ثم بيان حكم الخضوع بالقول، و تحسين الصوت بالقرآن علي نحو الترتيل، و غيره.

______________________________

(1). المحقق الحلي، في شرايع الإسلام 2/ 496.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 66.

(3). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 74، (2/ 75 ط. ق).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 134

ما يدل علي الجواز

أمّا الأول؛ فيدل علي القول بالجواز امور:

منها، السيرة المستمرة بين المسلمين من زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله إلي أعصار الأئمة عليهم السّلام و ما بعدها. كما قال في الجواهر: أنّ السيرة المستمرة في الأعصار و الأمصار من العلماء و المتدينين و غيرهم، و بالمتواتر أو المعلوم مما ورد من كلام الزهراء و بناتها عليها و عليهن السّلام، و من مخاطبة النساء للنبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام

علي وجه لا يمكن إحصائه، و لا تنزيله علي الاضطرار لدين أو دنيا. «1»

و منها، آيات من الذكر الحكيم، مثل تكلّم موسي مع بنات شعيب. قال اللّه تعالي:

… قٰالَ مٰا خَطْبُكُمٰا قٰالَتٰا لٰا نَسْقِي حَتّٰي يُصْدِرَ الرِّعٰاءُ وَ أَبُونٰا شَيْخٌ كَبِيرٌ. «2» فَجٰاءَتْهُ إِحْدٰاهُمٰا تَمْشِي عَلَي اسْتِحْيٰاءٍ قٰالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مٰا سَقَيْتَ لَنٰا … «3» و لا يمكن حملها علي الضرورة.

و تكلم يوسف مع امرأة العزيز و ساير نساء مصر. قال اللّه تعالي: قٰالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ … «4» اللّهم إلّا أن يقال هن كنّ فاسقات لا يقبلن النهي عن المنكر.

بل و ما ورد في قوله تعالي: يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلٰا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. «5»

و سيأتي إن شاء اللّه، أنّ الخضوع بالقول يراد منه ترقيق الصوت و تليينه بما يكون مهيجا، فيطمع الذي في قلبه مرض. (و هذا التعبير يدل علي أنّ الغريزة الجنسية إذا كانت متعادلا لم تكن محرمة. و إنّما تكون مذمومة إذا خرجت عن حدّ الاعتدال، كما تدل علي أنّ الخروج عن حدّ التعادل في هذه الامور نوع من الأمراض الرّوحيّة).

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 98.

(2). القصص/ 23.

(3). القصص/ 25.

(4). يوسف/ 33.

(5). الاحزاب/ 32.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 135

و علي أي حال، تدل الآية بمقتضي مفهوم الوصف، أنّ الصوت الذي ليس فيه خضوع، ليس محرما.

و منها، روايات تدل علي جواز السلام علي المرأة و سماع جوابها، و يكره علي الشابة. مثل ما رواه ربعي بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان رسول اللّه

صلّي اللّه عليه و آله يسلّم علي النساء و يرددن عليه. و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يسلّم علي النساء و كان يكره أن يسلّم علي الشابّة منهن، و يقول: أتخوف أن يعجبني صوتها، فيدخل عليّ أكثر مما طلبت من الأجر. «1» و سند الحديث معتبر.

و قال الصدوق: إنّما قال ذلك لغيره، و إن عبّر عن نفسه و أراد بذلك أيضا التخوف من أنّ يظنّ به ظان أنّه يعجبه صوتها، فيكفر. «2»

و ما عن عمار الساباطي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّه سأله عن النساء كيف يسلمن إذا دخلن علي القوم؟ قال: الامرأة تقول عليكم السلام، و الرجل يقول السلام عليكم. «3»

و طريق الصدوق بعمّار الساباطي قويّ، كما في جامع الرواة عن الخلاصة.

و منها، الروايات الدالة علي نياحة النساء، الظاهرة في سماع صوتهن. مثل ما رواه في البحار، من أنّ الباقر عليه السّلام أوصي أن يندب له في المواسم عشر سنين. «4» و في رواية اخري أنّه عليه السّلام قال: قف من مالي كذا و كذا لنوادب، تندبني عشر سنين بمني أيام مني «5».

و الاولي و إن لم تكن صريحة في المطلوب، لأنّ الندب و النوح لا يختص بالنساء و إن كان الغالب ذلك، و لكن الثانية ظاهرة فيه لتأنيث الضمير.

و يمكن أن يقال إنّ الروايات الدالة علي جواز النياحة و كسب النائحة إذا لم تكن نوحا بالباطل، أيضا دليل علي المطلوب، لأنّ المتعارف سماع صوتهن.

و منها، الروايات الكثيرة المبثوثة في أبواب مختلفة تدل علي فعل المعصوم أو قوله أو تقريره في ذلك، أو من تربي في حجور المعصومين عليهم السّلام. و لكن يمكن حمل خطبة

______________________________

(1). الوسائل 14/ 173، الحديث 3، الباب 131 من

أبواب مقدمات النكاح.

(2). المدرك السابق.

(3). الوسائل 14/ 174، الحديث 4، الباب 131 من أبواب مقدمات النكاح.

(4) و (5). العلامة المجلسي، في بحار الأنوار 82/ 106 و 107.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 136

الزهراء عليها السّلام في مقابل المهاجرين و الأنصار، و كذا خطبتي بنتها زينب عليها السّلام في الكوفة و الشام، علي بعض الضرورات التي لا تخفي. و لكن لا يمكن حمل جميعها علي الضرورات أو علي خصوص العجائز أو شبه ذلك.

و أيضا، ما دل علي جواز تعليم الرجال الأجانب القرآن للنساء، مثل ما عن أبي بصير، قال: كنت اقرئ امرأة كنت اعلّمها القرآن، فمازحتها بشي ء؛ فقدمت علي أبي جعفر عليه السّلام فقال لي: اي شي ء قلت للمرأة؟ فغطيت وجهي فقال: لا تعودن إليها. «1»

و هذا دليل علي جواز سماع صوتها و أنّ الحرام هو الممازحة معها.

ما يدل علي عدم الجواز

و في مقابل هذه الروايات ما يدل علي عدم الجواز، منها:

1- ما رواه مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تبدءوا النساء بالسلام و لا تدعوهن إلي الطعام. فان النبي صلّي اللّه عليه و آله قال: النساء عيّ و عورة فاستروا عيهنّ بالسكوت، و استروا عوراتهن بالبيوت «2».

و في سنده إشكال، لمكان مسعدة. و قال المجلسي قدس اللّه نفسه الزكية في مرآت العقول في تفسير هذا الحديث: العيّ العجز عن البيان، أي لا يمكنهن التكلم بما ينبغي في أكثر المواطن، فاسعوا في سكوتهن لئلا يظهر منهن ما تكرهونه. فالمراد بالسكوت سكوتهن. و يحتمل أن يكون المراد سكوت الرجال المخاطبين و عدم التكلم معهن «3».

و هذا الحديث مع ضعف سنده، لعله علي خلاف المطلوب أدلّ. لأنّه لا يدل علي

نهي النساء العاقلات العالمات، عن التكلم.

2- ما رواه الحسين بن زيد، عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في حديث المناهي، قال: و نهي أن تتكلم المرأة عند غير زوجها و غير ذي محرم أكثر من

______________________________

(1). الوسائل 14/ 144، الحديث 5، الباب 106 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 173، الحديث 1، الباب 131 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). العلامة المجلسي، في مرآت العقول 20/ 373.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 137

خمس كلمات، ممّا لا بدّ لها منه. «1»

و هو أيضا مع ضعف سنده بشعيب بن واقد، ورد في حديث المناهي المشتمل علي المكروهات و المحرمات.

إلي غير ذلك، مما يدل علي عدم جواز ممازحتهن، أو السلام عليهن، أو شبه ذلك.

و الجواب عن الجميع، ظاهر بعد الغض عن ضعف السند و الدلالة، لإمكان رفع التعارض بالجمع الدلالي. لأنّ الروايات السابقة صريحة في الجواز، و هذه الروايات علي فرض صحة اسنادها و ثبوت دلالتها ظاهرة في الحرمة، فتحمل علي الكراهة، من باب حمل الظاهر علي النص. مضافا إلي تأييدها بالسيرة المستمرة و آيات الكتاب العزيز.

فالمسألة ممّا لا ينبغي الإشكال فيها.

ما استثني من هذا الحكم

و قد استثني في المتن، و في العروة (في المسألة 39)، و وافقه المحشّون فيما وقفنا عليه؛ ما إذا كان علي نحو مهيج بترقيق الصوت و تليينه، فيحرم، و هو الأقوي. و يمكن الاستدلال له، بقوله تعالي: … فَلٰا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ … «2» فان الخضوع بالقول ليس إلّا ما ذكرنا، بقرينة ذيل الآية. و الخطاب و إن كان إلي ازواج النبي صلّي اللّه عليه و آله، و لكنّ اصالة الاشتراك في التكليف توجب

التعميم.

هذا مضافا إلي أنّه مظنة للريبة، فلا يجوز اسماعها و استماعها.

و قد شاع في زماننا في بعض المجالس، تلاوة القرآن بالصوت الحسن من ناحية النساء في مجالس الرجال أو عند استاذهن، بصورة الانفراد أو مجتمعات، فهل يجوز ذلك أو لا؟

لا كلام في جوازه عند عدم تحسين الصوت، و أمّا إذا كان بتحسين الصوت فلا يبعد

______________________________

(1). الوسائل 14/ 143، الحديث 2، الباب 106 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). سورة الاحزاب/ 32.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 138

حرمته، لأنّه لا يخلوا غالبا من الخضوع في القول، و يكون مظنة للريبة، و وقوع السامع في المعصية. نعم، يمكن إن يقال إن ما يسمي ترتيلا خال عن هذا، و لا أقل من أنّه مشكوك فلا يبعد جوازه خاصة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 139

مسألتان من العروة الوثقي

اشارة

هنا مسألتان يجب التعرض لهما مما وردت في العروة الوثقي.

المسألة الأولي: قال في العروة (في المسألة 35): «1» يستثني من عدم جواز النظر من الأجنبيّ و الأجنبيّة مواضع

اشارة

إلي أن قال- منها، القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا بالنسبة إلي ما هو المعتاد من كشف بعض الشعر و الذراع و نحو ذلك، لا مثل الثدي و البطن و نحوهما مما يعتاد سترهن له.

القواعد من النساء

أقول: هذا الاستثناء ورد في الكتاب العزيز (سورة النور/ 60)، و قد وقع الخلاف في تفسير الآية بما سيأتي إن شاء اللّه، و لكن مع ذلك لم يتعرض كثير من الفقهاء العظام له مثل صاحب المسالك و الرياض و كشف اللثام و اللمعة و شرحها و المستند و المهذب و غيرها (فيما ظفرنا عليه) و لكن تعرض لها الفقيه الماهر صاحب الجواهر (رضوان اللّه تعالي عليه) و كذا في العروة و المستمسك و غيرهما من أشباههما.

المراد من العجوز

قال الراوندي في فقه القرآن: قوله تعالي: «وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ» يعني المسنات اللاتي يقعدن عن الحيض و عن التزويج. و إنّما ذكر القواعد، لأنّ الشابّة يلزمها من الستر أكثر مما يلزم العجوز، و العجوز لا يجوز لها أن تبدي عورة لغير محرم كالساق و الشعر و الذراع. «2»

و أنت خبير بما في كلامه من الابهام، لعدم بيان الفرق بين العجوز و الشابّة صريحا.

هذا، و قال في جامع المقاصد: و لو كانت عجوزا، فقد قيل أنّها كالشابة، لأنّ الشهوات لا تنضبط، و هي محل الوطء و قد قال عليه السّلام: لكلّ ساقطة لاقطة!- ثم قال: - و الأقرب

______________________________

(1). السيد الطباطبائي اليزدي، في العروة الوثقي 2/ 636.

(2). القطب الراوندي، في فقه القرآن 2/ 131.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 140

وفاقا للتذكرة أنّ المراد إذا بلغت في السن إلي حيث تنتفي الفتنة غالبا بالنظر إليها يجوز نظرها.- ثم استدل بعدم المقتضي للحرمة، و بالآية الشريفة «1».

و علي كل حال، الأصل في هذا الحكم هو الآية الشريفة: وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنٰاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيٰابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللّٰهُ

سَمِيعٌ عَلِيمٌ «2».

وقع الكلام فيها من ثلاث جهات:

1- من جهة معني القواعد، و هو جمع قاعد، أمّا بمعني القعود عن الحيض، أو عن الولادة، أو عن النكاح. و يمكن إن يقال جميعها متقاربة؛ و لكن الانصاف أنّ المرأة اذا بلغت خمسين سنة، لا تقعد عن النكاح، لوجود الرغبة فيهن في الجملة، و كذا قعدت عن الولادة. فالاولي أن يقال ان المراد منه، القعود عن النكاح، كما يفسره قوله تعالي: «اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً»، فعلي الاولين، القيد احترازي، و علي الأخير توضيحي؛ و لعل ذلك يختلف باختلاف الأشخاص و ليس لها سنّ معين، و الحكم يدور مدار الوصف.

2- من ناحية تفسير الثياب، لا شك أنّه ليس المراد وضع جميع ثيابهن و صيرورتهن عراة. حينئذ يقع الكلام في المقدار الجائز، فهل هو الجلباب فقط، أو هو مع المقنعة، أو هما مع الخمار.

ذكر كل واحد من هذه الأقوال الثلاثة في مجمع البيان، من غير اختيار صريح.

هذا، و يظهر من العروة و غيرها أنّها لا تضع الخمار، بل يجعله علي بعض رأسها بحيث يظهر منها بعض الشعر لا جميعه!.

و لكن الانصاف، أن وضع الثياب عام من هذه الجهة اي يشمل الجلباب و المقانع و الخمار، فيظهر شعرها كلها و بعض الذراع و بعض الساق. اللّهم إلّا أن يقال ترك ستر الشعر كله غير متعارف بين المسلمين، حتي في حق العجائز، بل يرونه قبيحا من أي امرأة كان.

فتأمّل.

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 34.

(2). النور/ 60.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 141

3- من ناحية قوله تعالي: «غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ»، هل هو كما ذكره الزمخشري في الكشاف ذيل الآية بمعني؛ غير مظهرات زينتها؛ ليكون حالا عن تلك النساء بعد وضع ثيابهن. أو يكون

كما ذكره الطبرسي (قدس اللّه سرّه الشريف)، و ذكره الزمخشري بعنوان تفسير آخر بمعني؛ غير قاصدات بالوضع، التبرج؛ فيكون حالا لهنّ عند قصد وضع الثياب. و إن كان مآل التفسيرين يكون واحدا. فلا يجوز لهن التبرج بالزينة الباطنة، كإظهار القرط و القلادة و الدستوار و غيرها من أشباهها.

الأحاديث الواردة في حكم القواعد من النساء

هذا كله بالنظر إلي الآية الشريفة، مع قطع النظر عن روايات الباب. و أمّا أحاديث الباب فهي علي طائفتين:

الاولي: ما يدل علي جواز وضع الجلباب فقط. (بما سيأتي له من المعني) و يظهر منها وضوح أصل الحكم، أي استثناء القواعد إجمالا. منها:

1- ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جل: وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً … ما الذي يصلح لهنّ أن يضعن من ثيابهنّ؟ قال:

الجلباب «1».

2- ما رواه محمد بن أبي حمزة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: القواعد من النساء ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن؟ قال: تضع الجلباب وحده. «2»

و الظاهر اعتبار سنده أيضا، لأنّ محمّد بن أبي حمزة هو الذي حكي الكشي عن حمدويه، أنّه ثقة فاضل، و يؤيده رواية ابن أبي عمير عنه مكررا (بناء علي أنّه لا يروي إلّا عن ثقة؛ و إن كان محلا للكلام). و لا كلام في باقي رجال السند.

3- ما رواه أبو الصباح الكناني، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن القواعد من النساء، ما الذي يصلح لهن أن يضعن من ثيابهن؟ فقال: الجلباب، إلّا أن تكون امة فليس عليها

______________________________

(1). الوسائل 14/ 146، الحديث 1، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 147، الحديث 3، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة -

كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 142

جناح أن تضع خمارها. «1»

و دلالته ظاهرة، أما سنده لا يخلو عن كلام. و لذا عبّر عنه في الجواهر بالخبر. و الظاهر أنّه لمكان محمد بن الفضيل، فقد ضعفه بعض، و وثقه بعض آخر؛ و أمّا أبو الصباح فهو إبراهيم بن نعيم العبدي فهو ثقة، بل قد ورد في بعض الروايات، أنّ الصادق عليه السّلام قال في حقه: أنت ميزان؛ بسبب وثاقته.

4- ما عن محمد بن سنان، عن الرضا عليه السّلام، فيما كتبه إليه من جواب مسائله: و حرم النظر إلي شعور النساء المحجوبات بالأزواج- إلي أن قال- إلّا الذي قال اللّه تعالي: وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً … أي غير الجلباب، فلا بأس بالنظر إلي شعور مثلهن «2».

و سند الرواية غير نقي، باشتماله علي محمد بن سنان، و فيه كلام في علم الرجال. و كذا دلالته لا يخلو عن كلام، فان قوله أي غير الجلباب؛ إن كان تفسيرا لقوله تعالي: غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ كان موافقا للمطلوب، و لكن يتنافي ذيل الرواية، (فلا بأس بالنظر إلي شعورهن) لأنّ الجلباب ليس ساترا للشعر، بل الخمار أو المقنعة التي كانت تحت الجلباب. اللّهم إلّا أن يكون ساتر الرأس الجلباب فقط، و هو لا يخلو عن بعد بالنسبة إلي قديم الأيام.

و أمّا لو كان وصفا للثياب، كان دليلا علي جواز وضع غير الجلباب من الثياب، فتخرج الرواية عن الطائفة الاولي.

و علي كل حال، المراد من الجلباب- كما تفحصنا في كتب كثيرة من اللغة و التفسير- وجدنا له معاني كثيرة: 1- القميص أو الثوب الواسع. 2- المقنعة. 3- الملحفة. 4-

الإزار و الرداء. قال في النهاية: الجلباب، الازار و الرداء. و قيل، ملحفة؛

و قيل، هو كالمقنعة يغطي به المرأة رأسها و ظهرها و صدرها؛ و قيل، ثوب أوسع من الخمار دون الرداء؛ و لعل الأظهر من الجميع هو الستر الذي كان أكبر من الخمار و أقصر من ما يسمي

______________________________

(1). الوسائل 14/ 147، الحديث 6، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 140، الحديث 12، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 143

عندنا چادر. و وضعه لا يوجب ظهور الشعر غالبا. و قال الراغب في المفردات: أنّ الجلابيب هي القمص و الخمر. و لا يخلو عن بعد بملاحظة موارد استعمالها.

الطائفة الثانية: ما يدل علي جواز وضع الجلباب و الخمار، منها:

1- ما عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّه قرء «أن يضعن ثيابهن» قال: الخمار و الجلباب. قلت: بين يدي من كان؟ فقال: بين يدي من كان، غير متبرجة بزينة؛ فان لم تفعل فهو خير لها … «1»

و سند الرواية معتبر، و دلالتها واضحة، و ظاهرها عدم الفرق بين المحارم و غيرهم، مع اشتراط عدم التبرج بزينة. و قد مرّ معناه عند تفسير الآية الشريفة و قوله قرء أن يضعن ثيابهن …؛ إشارة إلي عدم قراءة من ثيابهن …؛ كما سيأتي في الرواية الآتية إن شاء اللّه.

2- ما عن حماد بن عيسي، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّه قرء يضعن من ثيابهن؛ قال: الجلباب و الخمار، إذا كانت المرأة مسنة «2».

و سند الحديث أيضا معتبر، كدلالته، و لكن المذكور فيه: من ثيابهن …؛ و لعله من باب التّفسير، و إلّا دخل في روايات التحريف، و قد ذكرنا في محلّه ضعفها.

3- ما عن علي بن أحمد

بن يونس، قال ذكر الحسين أنّه كتب إليه، يسأله عن حد القواعد من النساء التي إذا بلغت جاز أن تكشف رأسها و ذراعها؟ فكتب عليه السّلام: من قعدن عن النكاح «3».

و سند الحديث مشوش، فان علي بن أحمد بن يونس، لم يعرف في الرجال؛ و لذا احتمل بعض أنّ الصحيح علي بن أحمد عن يونس؛ و الحسين أيضا غير معلوم، و أمّا الصفار الواقع في سند الحديث، هو محمد بن الحسن بن فرّوخ و هو من أعاظم الأصحاب.

4- ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يحلّ له أن ينظر إلي شعر اخت امرأته؟ فقال: لا، إلّا أن تكون من القواعد. قلت له: اخت امرأته و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 147، الحديث 2، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 147، الحديث 4، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 147، الحديث 5، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 144

الغريبة سواء؟ قال: نعم. قلت: فما لي من النظر إليه منها؟ فقال: شعرها و ذراعها «1».

و سند الحديث لا يخلو عن ضعف، بسبب ضعف سند قرب الأسناد، و أمّا دلالته ظاهرة بناء علي أنّ الجواز في ذيلها ناظر إلي القواعد بقرينة صدر الحديث، و جواز النظر إلي الشعر و الذراع دليل علي وضع الجلباب و الخمار.

*** إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ المراد بالجلباب علي ما يظهر من كلمات أرباب اللغة و التفسير فقد عرفته، و الظاهر أنّ المتعارف بين النساء لستر الرأس، كان الخمار و المقنعة. و كان الخمار أطول من المقنعة، كنّ يلبسن أحدهما أمّا المقنعة أو الخمار، و كان المقنعة

مختصة بالحرائر و لذا روي في لسان العرب، أنّ عمر رأي جارية لبست المقنعة، فضربها و نهاها عن التشبه بالحرائر، و لكن الاكتفاء بالخمار أو المقنعة كان قليلا، بل يلبس فوق أحدهما الجلباب ليكون أقرب إلي العفاف.

و حيث إنّ الواجب ليس غير الستر، فالاكتفاء بالقميص الواسع و الخمار أو المقنعة لا مانع له للشابة و المسنة، و إن كان الاولي لبس الجلباب فوقهما، مع أنّ ظاهر الآية اختصاص المسنات بشي ء من التخفيف.

و من هنا يعلم وجه الجمع بين الطائفتين من الأخبار، و إن الاولي محمولة علي نوع من الاستحباب، و المدار في الجواز هو الطائفة الأخيرة.

*** بقي هنا فروع
1- هل هنا فرق بين ذات البعل و غيرها؟

ظاهر اطلاقات الباب عدم الفرق بينهما و قد يتوهم أن قوله تعالي: لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً

______________________________

(1). الوسائل 14/ 144، الحديث 1، الباب 107 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 145

في الآية الشريفة و قوله عليه السّلام: قعدن عن النكاح؛ في بعض روايات الباب، دليل علي أنّ المراد منها غير ذات البعل. و لكن الانصاف أنّها ناظرة إلي بيان كثرة السّن، لذا عبر عنها في بعض الروايات المعتبرة (صحيحة حريز بن عبد اللّه 4/ 110) بالمسنة.

2- هل الحكم يشمل لمسّهن بالمصافحة و شبهها؟

الظاهر عدمه، لأنّ الآية الشريفة و الروايات كلها دليل علي جواز النظر.

3- هل الحكم يختصّ بداخل البيوت؟

هل هناك فرق بين وضع الثياب داخل البيوت أو يشمل خارجها أيضا؟

الظاهر عدم الفرق في ذلك، للإطلاقات.

و لكن هذا كله بالعنوان الاوّلي، فلو أوجب ذلك فسادا في المجتمع، أمكن المنع منه بالعنوان الثانوي.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 146

المسألة الثانية: قال في العروة (في المسألة 50): «1» إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز، بالشبهة المحصورة

اشارة

، وجب الاجتناب عن الجميع. و كذا بالنسبة إلي من يجب الستر عنه و من لا يجب، و إن كانت الشبهة غير محصورة أو بدويّة، فان شك في كونه مماثلا أو لا، أو شك في كونه من المحارم النسبية أو لا؛ فالظاهر وجوب الاجتناب، لأنّ الظاهر من آية وجوب الغضّ، أن جواز النظر مشروط بأمر وجودي، و هو كونه مماثلا أو من المحارم؛ فمع الشك يعمل بمقتضي العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، بل لاسفتادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرميّة أو نحو ذلك؛ فليس التخصيص في المقام من قبيل التنويع حتي يكون من موارد أصل البراءة، بل من قبيل المقتضي و المانع.

و إذا شك في كونه زوجة أو لا، فيجري- مضافا إلي ما ذكر من رجوعه إلي الشك في الشرط- أصالة عدم حدوث الزوجية. كذا لو شك في المحرميّة من باب الرضاع.

نعم لو شك في كون المنظور إليه حيوانا أو إنسانا، فالظاهر عدم وجوب الاحتياط، لانصراف عموم وجوب الغضّ إلي خصوص الانسان.

و إن كان الشك في كونه بالغا أو صبيّا أو طفلا مميّزا أو غير مميز، ففي وجوب الاحتياط وجهان: من العموم و لو علي الوجه الذي ذكرنا، و من إمكان دعوي الانصراف؛ و الأظهر الأول.

حكم صور الشك في جواز النظر و عدمه

أقول: هذه المسألة تبحث، عن الشبهات الموضوعية للأحكام السابقة، و بعبارة اخري، عن صور الشك في جواز النظر و عدمه، و كذا وجوب الستر و عدمه، من باب الشبهة الموضوعية.

______________________________

(1). السيد الطباطبائي اليزدي، في العروة الوثقي 2/ 805.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 147

الصور السبعة

و يتلخص ما ذكره في سبع صور:

1- ما إذا شك في ذلك، و كانت الشبهة محصورة، مثلا: يعلم إحدي هاتين المرأتين اخته و الآخر أجنبيّة، أو إحداهما زوجة و الاخري اخت الزوجة، أو بين ثلاث نفرات أو عشر نفرات.

ما إذا شك في ذلك، و كانت من باب الشبهة غير المحصورة أو الشبهة البدوية؛ و ذكر لها ست صور:

1- ما إذا دار الأمر بين المماثل و غيره، كما إذا شك في أنّ من يراه من البعيد رجل أو امرأة أجنبيّة مكشوفة، أو رأي أحدا يسبح في شاطئ البحر و لا يدري رجل أو امرأة، فهل يجوز النظر إليه؛ و كذا العكس.

2- ما إذا دار الأمر بين المحارم النسبيّة و غيرهن، كما إذا علم أنّه غير مماثل و لكن شك في أنّ المرأة امّه أو أجنبيّة، لسبب الظلمة أو غيرها.

3- ما إذا دار الأمر بين الزوجة و غيرها، كما إذا رأي امرأة لا يدري أنّها زوجته أو اخت زوجته.

4- ما إذا دار الأمر بين المحارم الرضاعيّة و غيرهن، كما إذا رأي امرأة لا يدري أنّها اخته الرضاعية أو أجنبيّة.

5- ما إذا دار الأمر بين الصّبيّة غير البالغة و البالغة، و غير المميزة أو المميزة، بناء علي جواز النظر إلي غير البالغة أو غير المميزة، فلا يدري هذه الجارية غير مميزة حتي يجوز النظر إليها، أو مميزة أو بالغة (علي اختلاف الأقوال).

6- ما

إذا دار الأمر بين الإنسان و الحيوان، كما إذا راي شبحا من بعيد لا يدري انه إنسان غير ذات محرم أو حيوان. و نضيف إليها صورة سابعة، و هي ما إذا دار الأمر بين المسلمة و الكافرة؛ أو الحرّة و الأمة.

فهذه سبع صور، مضافا إلي الصورة الاولي.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 148

حكم الصورة الأولي

أمّا الاولي، فلا شك أنّ مقتضي القاعدة فيها عدم جواز النظر، بمقتضي وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة، لتنجز الحكم بالعلم الإجمالي، و العلم منجز علي كل حال. و لا فرق فيما بين الصور الستة الآتية (لجريانها فيها)، مثل أنّه علم بأنّ أحد هذين، امرأة أجنبيّة و علم بأنّ الاخري امه، أو اخته الرضاعية، أو زوجته، أو صبيّة غير بالغة، أو حيوان (و لكن اشتبها).

و جريان أصالة العدم في بعض الصور، كأصالة عدم البلوغ فيمن ينظر إليها، أو عدم التمييز، أو عدم الإسلام، غير كاف في جواز النظر؛ لأنّها معارضة بمثلها في الفرد الآخر.

هذا علي فرض جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي و سقوطها بالتعارض. و أمّا علي القول بعدم جريانها فيه من باب التناقض، فهو اوضح.

حكم الصورة الثانية

أمّا إذا كانت الشبهة بدوية، أو غير محصورة التي هي بحكم البدوية و دار الأمر بين المماثل و غير المماثل الأجنبيّة، أو بين المحارم و غير المحارم؛ فالذي يبدو في النظر، جريان البراءة فيه فانّه من قبيل الشبهة الموضوعيّة التّحريميّة التي وقع الاتفاق فيه من جميع علمائنا، حتي الأخباريين منهم، علي الأخذ بالبراءة فيها؛ و حيث أنّه ليس المقام مقام الاستصحاب لعدم الحالة السابقة، فالبراءة حاكمة.

*** و لكن ذكر هنا وجوه خمسة أو ستة للخروج عن البراءة و القول بوجوب الاجتناب.

الوجه الأول: يجوز الأخذ بالعموم (أي عمومات وجوب الغضّ)، خرج منه ما علم بكونه مماثلا أو محرما، و بقي المشكوك فيه.

و اورد عليه، بأنّ هذا من قبيل التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، و قد ثبت في محله عدم جوازه، لأنّ الخارج من العام عنوان واقعي، و هو المماثل أو المحارم مثلا؛

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 149

فقوله تعالي:

يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ بمعني يغضوا من غير المماثل و المحارم. فاذا قيد العام بعنوان المخصص، تعنون العام بعنوان غير المماثل و المحارم. و حصل هنا نوعين، نوع باق تحت العام، و نوع خارج عنه. و من الواضح عدم جواز الأخذ بهذا العام، في المصداق المشكوك.

و أجيب عنه، بأن هذا إذا كان التخصيص سببا للتنويع، و هنا ليس كذلك. فيرجع إلي العام.

و اورد عليه، بأنّ التخصيص هنا يوجب التنويع، لأنّه من قبيل التخصيص بالمتصل.

فان قوله تعالي: وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ … أَوْ نِسٰائِهِنَّ، من قبيل المتصل؛ و التخصيص بالمتصل يمنع ظهور العام في العموم، لأنّه كالقرينة المتصلة بالكلام. فإذا قال:

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 149

أكرم العلماء إلّا الفساق منهم، فهو بمعني قوله: أكرم العلماء العدول؛ فمن الأول لا شمول له لغير العدول. فالإرادة الاستعمالية غير شاملة لوجود القرينة المتصلة، فالتخصيص بالمتصل يوجب التنويع.

بل الحال كذلك حتي في المخصص المنفصل- فهو أيضا يوجب التنويع-؛ و ذلك لأنّ التخصيص بالمنفصل، و إنّ لم يكن تصرفا في الإرادة الاستعمالية، و لكنه تصرف في الإرادة الجدية (أو في حجية العام). فإذا قال المولي: أكرم العلماء، و قال بعد حين؛ لا تكرم الفساق منهم. علم أنّ المراد الجدي من العام من أول الأمر كان هذا النوع الخاص (العلماء غير الفساق).

و الحاصل، إنّ التنويع حاصل في كل تخصيص، فالرجوع إلي العام في الشبهات المصداقية غير جائز مطلقا.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني في بعض كلماته و حاصل كلامه (قدس سره)،

أنّ اشتراط الجواز بالمماثلة أو المحرميّة، و تعليق الرخصة عليها، يدل بالدلالة الالتزامية علي أنّ اللازم احراز هذا الشرط؛ فلا يجوز النظر إلّا إذا أحرز المماثلة أو المحرميّة؛ فعند

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 150

الشك لا يجوز، لعدم احرازهما «1».

و لعل كلام صاحب العروة (قدس سره) أيضا ناظر إليه حيث قال: لأنّ الظاهر من آية وجوب الغض، أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي و هو كونه مماثلا أو من المحارم، و مع الشك يعمل بمقتضي العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك. انتهي. «2»

و الظاهر أنّ قوله: بل لاستفادة شرطية الجواز؛ بمعني احراز شرطية الجواز. فان مجرد الاشتراط غير كاف لإثبات مطلوبه ما لم يكن مقيدا بالاحراز.

و كيف كان، يمكن الجواب عن هذا الوجه بأنّه مجرد دعوي بلا دليل، و ما الفرق بين هذا الشرط و سائر الشروط؛ و لا شك في أنّ الألفاظ ظاهرة في معانيها الواقعية، لا مقيّدة بالعلم و الاحراز.

الوجه الثالث: المقام من قبيل المقتضي و المانع، فالمقتضي للحرمة موجود، و يشك في وجود المانع منه و هو المحرميّة أو المماثلة؛ و مقتضي القاعدة، أنّه إذا علم بوجود المقتضي و شك في وجود المانع، يبني علي حصول النتيجة. كما إذا علم بملاقات الماء للنجاسة و شك في وجود الكريّة المانع من السراية، يبني علي عدم المانع، و يحكم بالنجاسة. و الفرق بينهما و بين الاستصحاب، أنّه يحتاج إلي الحالة السابقة، و القاعدة غير محتاجة اليها.

هذا، و لكن يرد عليه تارة من ناحية الكبري، و اخري من جهة الصغري.

أمّا الكبري، فلأنّه لا دليل علي حجيّة قاعدة المقتضي و المانع لا

من باب بناء العقلاء، و لا من باب الروايات و حكم الشارع المقدس. و قد استوفينا الكلام فيها ذيل المسألة الاستصحاب. و ما أفاده بعضهم من ظهور الصحيحة الاولي من أخبار الاستصحاب؛ فيه إشكال ظاهر، لأنّ ظاهرها أو صريحها كون الحكم ببقاء الطهارة، مستند إلي الحالة السابقة، و الشك في ارتفاعها.

______________________________

(1). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 1/ 119.

(2). السيد الطباطبائي اليزدي، في العروة الوثقي 2/ 806.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 151

و أمّا الصغري، فلأنّه لو سلمنا أن الصورة الثانية أي الشك في المحرمية، كانت من مصاديق هذه القاعدة؛ لكن لا نسلّم أنّ الصّورة الأولي أي الشك في المماثلة، مصداق لها؛ لأنّ المقتضي للحرمة ليس موجودا في كل إنسان حتي تكون المماثلة مانعا عنها، كما هو واضح. فليس من قبيل قاعدة المقتضي و المانع.

الوجه الرابع: هو التمسك بالعدم الأزلي، بأن يقال أنّ المرأة لم تكن محرما (امّا أو اختا) قبل وجودها، و نشك أنّه بعد وجودها صارت محرما أم لا، فيستصحب، عدمه، فيحكم بالحرمة.

توضيح ذلك، أنّ جميع الأوصاف الوجودية مسبوقة بالعدم قبل وجود موضوعها. (و هو المراد بالعدم الأزلي) و لو من باب الانتفاء بانتفاء الموضوع، ثم نشك بعد وجود موضوعها أنّه متصف بها أم لا؟ فيجري الاستصحاب.

و قد ذكروا ذلك، في باب الشك في كون المرأة قرشية و عدمها أيضا.

ان قلت: هذا الاستصحاب معارض بمثله، فكما يستصحب عدم كونها قرشية، يستصحب عدم كونها غير قرشي.

قلت: عدم القرشية ليست وصفا وجوديا، حتي يستصحب عدمه.

هذا، و لكن الإنصاف أنّ هذا الوجه أيضا غير تامّ، لا من ناحية كونه أصلا مثبتا فقط- كما أفاده المحقق النائيني قدس سره- نظرا إلي أنّ استصحاب العدم المحمولي،

غير كاف لإثبات العدم النعتي. بل لأنّ استصحاب العدم الأزلي، لا يدخل في متفاهم العرف من أخبار الاستصحاب، بأن يقال: إن هذه المرأة لم تكن قبل وجودها اختا لزيد أو قرشيّة، فانه أشبه شي ء بالهزل و المزاح. و لو كان لهذه المفاهيم قيمة في المباحث الفلسفية، لا قيمة لها في المباحث الاصوليّة، فانها امور اعتبارية مأخوذة من بناء العقلاء و أهل العرف، و خلط الأمور الاعتبارية بالامور الواقعيّة التي بدت في عصرنا في علم الاصول أورثت مفاسد كثيرة، و أخرجت المباحث الاصولية عن طريقتها و أوردتها مسالك صعبة لا ينجح طالبها.

و إن شئت قلت: عدم القرشية و شبهها قبل وجود المرأة، كان من قبيل انتفاء الوصف

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 152

بانتفاء الموضوع، و بعد وجودها من قبيل الانتفاء بانتفاء المحمول، و بينهما بون بعيد جدا. و هما أمران مختلفان قطعا، فليست القضية المتيقنة و المشكوكة واحدة في نظر العرف، فلا يجري فيه الاستصحاب.

الوجه الخامس: أن يقال إن وجه المنع هو قاعدة عقلائية اخري، و هو أنّه إذا كان شي ء بحسب طبعه الاولي ممنوعا، و كان المباح منه أفراد أو عناوين معدودة محصورة، فانه يحمل المشكوك علي الغالب، و المستثني لا بدّ من إحرازه. مثلا؛ الوقف، لا يجوز بيعه إلّا في موارد مخصوصة نادرة، فإذا فرض دوران الأمر في بعض الموارد، بين ما لا يجوز و ما يجوز، لا بدّ من إثبات الجواز؛ حتي أنّه لو ادعي صاحب اليد جواز بيع الوقف، بحسب وظيفته الشّرعيّة يشكل الاعتماد عليه، إلّا أن يحرز أسباب الجواز، لأنّ طبيعة الوقف أنّها لاتباع و لا توهب.

و كذا لو شك في بعض حيوان البحر، أنّه حلال أو حرام، يشكل الاعتماد

علي اصالة الحليّة لأنّ جميع أنواعها حرام إلّا السمك إذا كان ذا فلس و الروبيان. و ما نحن فيه من هذا القبيل؛ فان غير المماثل حرام إلّا في موارد محصورة قليلة، فالنظر إلي جميع نساء العالم حرام إلّا هذه؛ فلو شك، يحكم بالحرمة إلّا من ثبت كونها محرما.

و لكن هذا لا يجري في القسم الاول، و هو الشك بين المماثل و غير المماثل، لأنّ كل واحد منهما كثير جدا، فيبقي علي اصالة الحليّة.

*** حكم الصورة الثالثة و الرابعة

هذا كله بالنسبة إلي الصورتين الأوليين من صور الشك.

و أمّا الثالثة و الرابعة، أي موارد الشك في الزوجية و الرضاع، فيجري فيهما- مضافا إلي ما ذكر- استصحاب عدمهما؛ لأنّ لهما حالة سابقة، فيحكم بالحرمة من هذه الجهة أيضا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 153

حكم الصورة الخامسة

و أمّا الصورة الخامسة، و هي ما إذا دار الأمر بين الحيوان و الإنسان، فقد صرّح في متن العروة بأن الظاهر عدم وجوب الاحتياط، لانصراف عموم وجوب الغض، إلي الإنسان. (فيبقي علي الإباحة بمقتضي البراءة).

أقول: بل الظاهر انصرافه إلي الجنس المخالف، أعني غير المماثل، و من البعيد جدا أن يكون مفاده، قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم من كل إنسان … كما لا يخفي.

حكم الصورة السادسة

بقيت الصورة السادسة، و هي ما إذا كان له حالة سابقة محللة، كالشك في إنّ المنظور إليها بالغة أو غير بالغة، مميزة أو غيرها.

و ذكر لها و جهان: أحدهما، الحرمة، للوجوه السابقة؛ و الاباحة، لانصراف العموم إلي غيرهما. ثم قال: الأظهر، الأول.

لكن أورد عليه في المستمسك؛ و مستند العروة؛ بأنّ التمسك بعموم الآية أو قاعدة المقتضي و المانع، فرع وجود موضوعهما، فإذا جري الاستصحاب و أحرز عدم الموضوع (عدم التمييز أو عدم البلوغ)، كان الحكم بالجواز في محله.

هذا، و لكن لو قلنا بالقاعدة العقلائيّة التي يمكن تسميتها بقاعدة الغلبة، لم ينفع الاستصحاب في مقابلها. نعم عموم وجوب الغض هنا غير ثابت.

حكم الصورة السابعة

و أمّا الصورة السابعة التي أشرنا إليها، و هي ما إذا شك أن المنظور إليها مسلمة أو كافرة ذمية أو غيرها، أو أنّها امة أو حرّة؛ و هذه تختلف باختلاف الموارد، قد تكون لها حالة سابقة كما إذا كانت كافرة ثم أسلمت أو بالعكس، أو كانت أمة ثم تحررت، و قد تكون من أول أمرها بهذه الصفة؛ ففي بعض مواردها يجري الاستصحاب، و في بعضها لا يجري، و إجراء قاعدة الغلبة فيها تختلف باختلاف البلاد، فاذا كان هناك بلد يكون جميع أهله

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 154

مسلمين و مسلمات و الذّميّة فيها قليل جدا يشكل اجراء اصالة الاباحة فيها، كما أنّه لو كان بالعكس بأن كانت البلدة بلدة الكفار و المسلمون بينهم قليلون لم يبعد الركون إلي اصالة الاباحة لو شكّ. و اللّه العالم بأحكامه.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 155

[فصل في عقد النكاح و أحكامه]

اشارة

فصل في عقد النكاح و احكامه النكاح علي قسمين: دائم و منقطع؛ و كل منهما يحتاج إلي عقد مشتمل علي إيجاب و قبول لفظيّين، دالين علي إنشاء المعني المقصود، و الرضا به، دلالة معتبرة عند أهل المحاورة. فلا يكفي مجرد الرضاء القلبي من الطرفين، و لا المعاطاة الجارية في غالب المعاملات، و لا الكتابة، و كذا الإشارة المفهمة في غير الأخرس. و الأحوط لزوما كونه فيهما باللفظ العربي، فلا يجزي غيره من سائر اللغات، إلّا مع العجز عنه و لو بتوكيل الغير. و إن كان الأقوي عدم وجوب التوكيل، و يجوز بغير العربي مع العجز عنه. و عند ذلك لا بأس بايقاعه بغيره، لكن بعبارة يكون مفادها مفاد اللفظ العربي بحيث تعدّ ترجمته.

اعتبار الإنشاء اللفظي في النكاح

أقول: لا ينبغي الشك في اعتبار الإنشاء اللفظي في الايجاب و القبول في النكاح بجميع أقسامه، فلا يكفي مجرد الرضا الباطني و لا المعاطاة.

و هذا هو المشهور، بل صرّح في الحدائق، بإجماع العلماء من الخاصة و العامة علي توقف النكاح علي الايجاب و القبول اللفظيين «1».

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 156.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 156

و قال النراقي قدّس سرّه في المستند: تجب في النكاح، الصيغة، باتفاق علماء الإسلام، بل الضرورة من دين خير الأنام له، و لأصالة عدم ترتب آثار الزوجية بدونها «1».

كلمات الفقهاء

و قال شيخنا الأعظم (الأنصاري)، في كتاب النكاح: أجمع علماء الإسلام، كما صرّح به غير واحد، علي اعتبار أصل الصيغة في عقد النكاح؛ و أنّ الفروج، لا تباح بالاباحة و لا المعاطاة، و بذلك يمتاز النكاح عن السفاح لأنّ فيه التراضي أيضا غالبا «2».

قلت: أمّا عدم الاجتزاء بالتراضي قلبا، فلانه لا يكون عقدا لا هنا، و لا في غيره من العقود؛ فلا يصدق عليها الزوجة، فتدخل في عموم قوله تعالي: إِلّٰا عَليٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ … * «3» كما أنّ البيع و الإجارة و الهبة و غيرها لا تحصل بمجرد الرضا القلبي.

و هذا واضح.

و أمّا عدم كفاية المعاطاة هنا، مع كفايتها في سائر العقود، فالظاهر أنّه للإجماع. فانّ إجماع المسلمين، أوجب امتياز النكاح، عن سائر العقود، بهذا.

بل يمكن أن يقال، إن المتعارف بين جميع العقلاء حتي من لا يعتقد بأي دين من الأديان، عدم الاكتفاء بالمعاطاة، بل يعتقدون علي إنشاء عقد لفظي؛ أو بالكتابة لا أقل.

و تحصل ممّا ذكرنا أنّه:

لا إشكال و لا كلام بين الأعلام، في وجوب كون عقد النكاح بالصيغة اللفظية و أنّ

هذا ممّا اتفقت عليه فقهاء الشيعة و السنة، و لازمه نفي كفاية التراضي قلبا و كذا المعاطاة و الكتابة.

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 84.

(2). الشيخ الانصاري، في كتاب النكاح/ 77.

(3). المؤمنون/ 6.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 157

أدلّة المسألة

استدل أو يمكن الاستدلال له بأمور:

1- الإجماع، بل ضرورة الفقه؛ فانّ كلماتهم عند بيان عقد النكاح تدل علي أنّه كان أمرا مفروغا عنه بينهم، و هو حسن.

2- إنّ مجرد التراضي قلبا لا يكون إنشاء عقد، و الحال أنّ العقود كلها تحتاج إلي الإنشاء، و لا بدّ أن يكون الإنشاء إمّا بالقول أو الفعل، و سيأتي عدم كفاية الإنشاء الفعلي هنا.

3- أنّ المعاطاة لو جازت هنا، لم يكن فرق بين النكاح و السفاح، كما ذكره شيخنا الأنصاري في كتاب النكاح، و تبعه عليه جماعة آخرون. و لكن يرد عليه، أنّ المعاطاة ليست صرف التراضي، و لا مجرد العمل الخارجي، بل العمل بقصد إيجاد العقد، و من الواضح أنّ الزانية و الزاني، لا يقصدان بفعلهما إنشاء إيجاد الزواج الدائم و لا المنقطع، بل يريدان مجرد اللذة الشهوية لا غير. و إنّما يتحقق إنشاء النكاح إذا جعلت المرأة نفسها تحت اختيار الرجل بقصد أن تكون زوجة له. فبطلان المعاطاة في النكاح ليست من ناحية صدق السفاح عليه، بل بالإجماع. لأنّه لم يعهد من أحد من المسلمين الاكتفاء في النكاح بمجرّد إهداء الزوجة إلي بيت زوجها و أمثال ذلك.

4- ما ورد في صحيحة بريد، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام، عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً؟ فقال: الميثاق، هو الكلمة التي عقد بها عقد النكاح، و أمّا قوله، غليظا، فهو ماء الرجل يفيضه

اليها «1».

و سند الرواية معتبر، نظرا إلي أنّ المراد من بريد، هو بريد بن معاوية العجلي، و بريد و أن وقع بهذه الصورة في 42 موضعا من الكتب الأربعة، إلّا أنّ المراد به هو بريد بن معاوية، و له أكثر من 248 رواية؛ و يدل عليه في المقام رواية أبي أيوب الخزاز عنه أيضا.

و أمّا دلالته، فلان حصر الميثاق في الكلمة يدل علي عدم جواز غيرها؛ اللّهم إلّا أن

______________________________

(1). الوسائل 14/ 195، الحديث 4، الباب 1 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 158

يقال إنّ الآية ناظرة إلي القضية الخارجية لا إلي الشرطية، فانّ المتعارف كان هو الكلمات، فالآية إشارة إليها.

5- و يدل عليه أيضا، جميع الروايات الواردة في الباب 1 و 2، من أبواب عقد النكاح، فانّ جميعها تدور مدار الألفاظ، بحيث يكون كالأمر المسلم المفروغ عنه.

*** حكم العقد بالكتابة

و من هنا يعلم عدم جواز الاكتفاء بالكتابة، و إن جاز في غير النكاح. توضيح ذلك يتم ببيان امور:

1- أنّ العقود كانت في قديم الأيام بالألفاظ، و كانت تكتب لحفظ نتائجها و عدم نسيانها أو إنكارها من أحد الطرفين، ثم صار الإنشاء الكتبي قائما مقام الإنشاء اللفظي. و لكن اليوم نري أنّ العقلاء لا يعتقدون في المسائل المهمّة بالإنشاء اللفظي، بل يرون من الواجب الاعتماد علي توقيع المكتوبات و امضائها، و جميع الألفاظ التي يذكرونها مقدمة و من قبيل المقاولة. و الاعتبار في المعاملات الخطيرة و المعاهدات الدولية بالكتابة و التوقيع عليها فقط.

و هذا يدل علي أنّ الإنشاء الكتبي لا يقصر شيئا من الإنشاء اللفظي، بل يتقدم عليها في المسائل و العقود المهمّة.

2- من الواضح أنّ بناء العقلاء هو الأصل في

أبواب المعاملات، فكلّما صدق عليه العقد، دخل تحت عموم، أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، حتي أنّ العقود المستحدثة، كعقد التأمين (بيمه) و شبهها داخلة فيها ما لم يمنع منه مانع.

فأيّ مانع من قبول صحة جميع العقود إذا انشئت بالكتابة و التوقيع عليها.

3- قد أفتي جماعة من الأصحاب (رضوان اللّه تعالي عليهم) بجواز الاكتفاء بالكتابة في أبواب الطلاق و الوصيّة و الوكالة. و قد ورد التصريح في بعض روايات الوصيّة، أنّه سئل عن أبي الحسن عليه السّلام أنّ رجلا كتب كتابا بخطّه، و لم يقل لورثته هذه وصيتي، و لم يقل

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 159

اني أوصيت … هل يجب علي ورثته القيام بما في الكتاب بخطه … فأمر الإمام عليه السّلام بانفاذ جميع ما في الكتاب. (فراجع الوسائل 13/ 437، الحديث 2، الباب 48، من أبواب أحكام الوصايا).

و استدل بها جماعة لجواز إنشاء الوصية بالكتابة؛ و استدل بها في العروة الوثقي أيضا.

و قد ورد التصريح أيضا في باب طلاق الغائب، أنّه يجوز طلاقه بالكتابة «1» و لا يزال الناس يكتبون وصاياهم و ينشئونها بالكتاب، سواء في ذلك علماء الدين و الرجال السياسيون و غيرهم من آحاد الناس.

و يظهر من كلماتهم، أنّ مخالفة جماعة من الأعاظم لذلك، بسبب توهّم عدم صراحة الكتابة في مفادها، فالمانع عندهم من هذه الناحية، و الحال أنّه يمكن أن تكون الكتابة صريحة في ذلك، بل و اصرح من الالفاظ. و للبحث في جميع ذلك مقام آخر. «2»

4- هذا، و المعروف استثناء النكاح و الطلاق من ذلك، و قد صرح به جماعة من الأصحاب. و لا دليل عليه إلّا الإجماع الذي عرفته بالنسبة إلي النكاح، مضافا إلي أنّ أمر النكاح يختلف مع سائر

المعاملات، و قد صرح بعضهم بأن فيه شائبة العبادة. و قد ذكرنا في محله أنّ المراد منه كونه أمرا توقيفيا يحتاج ورود تشريعه من الشارع المقدس، و ذلك بسبب كثرة التقييدات الواردة فيهما من ناحية الشرع المقدس، بحيث صار كالعبادات التوقيفية.

*** هل الواجب إنشاء العقد بالعربيّة؟

يبقي الكلام في وجوب كون الصيغة اللفظية بالعربية، أو يكفي بكل لسان، أو فيه تفصيل بين القدرة علي العربية (و لو بالتوكيل) و العجز عنها، فيصح في الثاني فقط.

______________________________

(1). الوسائل 15/ 291، الحديث 3، الباب 14 من أبواب مقدمات الطلاق.

(2). و قد كتبت في سابق الأيام، رسالة مفيدة في هذه المسألة، و اشرت إلي جميع جوانبها، و قد طبعت آخر المجلد الثاني من تعليقنا علي العروة. و أخيرا في كتاب، بحوث فقهيّة هامّة. فراجع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 160

قال الشيخ في المبسوط: فانّ عقدا بالفارسية، فانّ كان مع القدرة علي العربية، فلا ينعقد بلا خلاف. و إن كان مع العجز، فعلي وجهين: أحدهما يصح، و هو الأقوي. و الثاني لا يصح. فمن قال لا يصح، قال يوكل من يقبلها أو يتعلمها، و من قال يصح لم يلزمه التعلم «1».

و ادعي المحقق النراقي، (قدس سره) الإجماع في المستند، بل حكاه عن التذكرة أيضا «2».

و لكن شيخنا الأنصاري ادعي الشهرة فيه؛ و أفتي كثير من المتأخرين بجواز غير العربية مطلقا، أو عند عدم التمكن من العربية.

و غاية ما يستدل به علي اعتبار العربية، امور:

1- أنّه مقتضي أصالة الفساد في العقود و الايقاعات (بخلاف العبادات). فانّ الأصل، (أي الاستصحاب) يقتضي عدم حصول الزوجية و عدم ترتب آثارها كما يقتضي عدم النقل و الانتقال في المعاملات.

و فيه، أنّه يتم إذا لم يكن هناك عموم أو اطلاق

بالنسبة إلي صحة النكاح؛ و هنا موجود.

2- اطلاقات النكاح تنصرف إلي ما كان متعارفا في عصر الشارع المقدس، و لا شك أنّ المتعارف في ذلك الزمان هو إجراء الصيغة باللغة العربية.

و فيه، أنّ هذه الانصراف بدوي، يزول بالتأمل؛ لشمول الاطلاقات لجميع اللغات. فان قوله عليه السّلام في تفسير قوله تعالي: وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً: الميثاق؛ هو الكلمة التي عقد بها عقد النكاح. «3» عام يشمل جميع أصناف اللغات، و كذلك سائر الاطلاقات.

3- غير العربية بحكم الكناية، و لا يجوز العقد بالكنايات.

و فيه، أنّه ممنوع صغري و كبري، أمّا أنّه بحكم الكناية، فهو من العجائب، لأنّ عقد النكاح موجود في جميع الأقوام و الملل، و لهم في السنتهم الفاظ صريحة و غير صريحة،

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في المبسوط 4/ 194.

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 91.

(3). الوسائل 14/ 195، الحديث 4، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 161

و لا معني لكون الألفاظ الصريحة لعقد النكاح منحصرة في العربية، و كما أن إنشاء العقد بالكتابة جائز إذا كان ظاهرا في أداء المعني.

4- و اعجب منه، ما حكاه شيخنا الأعظم الأنصاري عن المحقق الثاني، في جامع المقاصد، في باب الرهن، من منع صدق العقد علي غير العربي مع القدرة علي العربي. «1»

فان العقود بجميع أقسامها موجودة عند جميع الامم، و لها ألفاظ خاصة، وضعت لها بمقتضي حاجتهم إليها، و هذا اوضح من أن يحتاج إلي شاهد.

5- مقتضي الاحتياط في الفروج، و كون عقد النكاح من قبيل الامور التوقيفية، هذا؛ و قد يقال فيها شوب العبادة، و المتيقن منه هو ما يكون بالعربية.

و الظاهر، أنّ هذا أحسن الوجوه؛ و لكن، القدر المتيقن

منه ما إذا كان قادرا علي العربية. و أمّا إذا عجز عنها، فمقتضي السيرة المستمرة كفاية كل لغة، لأنّ الإسلام نشرت في أقطار الأرض في أعصار الأئمة (عليهم السلام)، و دخل فيه جماعات كثيرة من غير العرب، و كان عندهم نكاح و طلاق، و لم ينقل في ما وصل إلينا من التاريخ و الحديث، ما يدل علي أمر المعصومين (عليهم السلام) باستخدام من هو عارف بلغة العرب، ليكون وكيلا لإجراء صيغ العقود و الطلاق.

*** بقي هنا شي ء:

و هو، أنّه لا بدّ أن يكون صيغة العقد في كل لسان بما يفصح و يعرب و يدل علي معني الزواج بوضوح، كما هو كذلك في العربية. و أمّا ما ذكره قدّس سرّه في العروة، و تبعه في التحرير، من أنّه لا بدّ أن تعدّ ترجمة لما في العربية، فلا يخلو عن مسامحة، لأنّ المعتبر أداء المقصود بوضوح في أي لسان، سواء عدّ ترجمة لما في العربية أم لا؛ فليس أحد الألسنة- و هو العربية في هذا الباب- أصلا، و الباقي فرعا له، بل جميعها علي حد سواء هنا.

***

______________________________

(1). الشيخ الانصاري، في كتاب النكاح/ 79.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 162

[المسألة 1: الأحوط، لو لم يكن الأقوي، أن يكون الإيجاب من طرف الزوجة]

اشارة

المسألة 1: الأحوط، لو لم يكن الأقوي، أن يكون الايجاب من طرف الزوجة، و القبول من طرف الزوج، فلا يجزي أن يقول الزوج: زوجتك نفسي؛ فتقول الزوجة: قبلت؛ علي الأحوط. و كذا الأحوط تقديم الأول علي الثاني، و إن كان الأظهر جواز العكس إذا لم يكن القبول بلفظ قبلت و أشباهه.

أقول: قد مرّ الكلام في أصل وجوب الصيغة اللفظيّة في النكاح، و من هنا بدء الكلام في خصوصياته و جزئياته.

و قد ذكر هنا فرعان:

أحدهما: وجوب كون الايجاب من الزوجة، و القبول من الزوج. (و جعله احتياطا وجوبيا).

ثانيهما: كون الايجاب مقدما علي القبول، و أفتي بعدم وجوبه، و إن كان الأحوط التقديم، إلّا في صورة واحدة.

هل الواجب كون الايجاب من الزوجة و القبول من الزوج؟

و توضيح الحال في الفرع الأول؛ أنّه لم يتعرض له كثير من الأصحاب، و قد وقع الخلط بين الفرعين في كلمات بعضهم، و ممّن صرّح به شيخنا الأعظم الأنصاري (قدّس سره) في كتاب النكاح، و صاحب العروة، و الشارحون لها مثل صاحب المستمسك (قدّس اللّه أسرارهم).

و ظاهر عبارة التحرير، عدم جوازه احتياطا وجوبيا، و يمكن الاستدلال له بأمور:

1- أصالة الفساد الحاكم علي هذه الابواب.

2- عدم معهوديته في إجراء الصيغ بين الناس، فيشكل دخوله تحت العمومات.

3- أنّ حقيقة النكاح، هو تسليط المرأة الرجل علي بعضها في مقابل المهر، و إنشائه لا يكون إلّا من قبل المرأة. و إن شئت قلت، أمر المرأة يتفاوت مع الرجل في الزوجية، فانّ المرأة تجعل نفسها تحت اختيار الرجل، و لا يجعل الرجل نفسه تحت اختيارها، بل يقبل

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 163

جعل المرأة نفسها تحت اختياره، و من جهة هذا التفاوت، يكون الإنشاء دائما من قبل الزوجة، و القبول من الزوج.

و لكن الجميع

مردودة؛ أمّا الأخير، و هو العمدة ففي الواقع نشأ من عدم درك حقيقة الزوجية فان حقيقتها كون كل من الرجل و المرأة منضما إلي الآخر. و لذا يعبّر عنهما بالزوجين، و ليس المهر عوضا في مقابل المرأة، بل من قبيل الشرط. فلذا يقال زوجتك نفسي علي المهر المعلوم، (لا بالمهر المعلوم) بل و عدم ذكر المهر لا يبطل النكاح؛ فالركنان هما الزوج و الزوجة لا غير.

و حينئذ، كما يجوز الإنشاء من قبل الزوجة، يجوز إنشائه من قبل الزوج، فيقول الزوج: تزوجتك علي المهر المعلوم؛ فتقول الزوجة: قبلت؛ و لا مانع فيه. أو يقول: جعلتك زوجتي (و في الفارسية، تو را به همسري خود درآوردم،).

*** و الحاصل، أنّ العمدة في المسألة هي تحليل معني النكاح؛ أ كان حقيقتها هي تسليط المرأة الرجل علي نفسها في مقابل المهر؛ أو أنّها هي ضمّ إنسان إلي إنسان، و المهر من قبيل الشرط، لا أنّه ركن في العقد. ففي الثاني، لا ينبغي الشك في جواز الإنشاء من ناحية الزوج، بانّ يقول: أتزوجك علي المهر المعلوم؛ فتقول المرأة: قبلت. أو يقول: نكحتك علي المهر المعلوم؛ فتقول: قبلت. و يؤيده اطلاق عنوان الزوج، علي الرجل و المرأة كليهما في كتاب اللّه. قال اللّه تعالي: حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ …، «1» (هذا في الرجل). و قوله تعالي: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ …، «2» (هذا في المرأة).

و كذلك في اطلاق عنوان النكاح علي الطرفين. قال اللّه تعالي: … حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ …، (هذا في المرأة). و قال تعالي أيضا: وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ …، «3» (اطلاق

______________________________

(1). البقره/ 230.

(2). النساء/ 20.

(3). النساء/ 22.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص:

164

علي فعل الرجل مرتين).

فعلي هذا لا مانع من إنشاء الزوجية بألفاظ النكاح أو غيرها من كل منها و قبول الآخر بلفظ قبلت.

إن قلت: فلم لا يجوز أن يقول الرجل للمرأة: زوجتك نفسي علي المهر. بل يقول:

أزوجك علي المهر. و الحال أنّ المرأة تقول: زوجتك نفسي …

قلت: لعل الوجه فيه، أنّ المرأة في نظام الاسرة الإسلاميّة، بل و غيرها غالبا، تابعة، و الرجل متبوع، فلذا يتفاوت التعبير عنهما بما عرفت. و كذلك في الفارسية، مثلا تقول المرأة: من خود را به همسري تو درآوردم …؛ و لكن لا يقول الرجل هكذا، بل يقول: من تو را به همسري خويش درآوردم … لكن هذا المقدار من التفاوت، لا يوجب تغييرا في ما هو المراد.

و يؤيد ما ذكرنا من جواز الإنشاء من ناحية الرجل، بل تدل عليه، الروايات الكثيرة الواردة في الباب 18 من أبواب المتعة.

فقد ورد فيه روايات تدل جميعها علي المقصود، ما عدا الرواية الخامسة. منها:

ما عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال:

تقول أتزوجك متعة علي كتاب اللّه و سنة نبيّه … فاذا قالت: نعم، فقد رضيت؛ فهي امرأتك، و أنت اولي الناس بها «1».

و مثلها، الرواية الثانية و الثالثة و الرابعة و السادسة منه، و لا ينافي الاستدلال بها ضعف أسناد بعضها، بعد تضافرها و صحّة أسناد بعضها الأخر، كالرواية الثانية. و اشتراك ثعلبة بين جماعة كثيرة لا يوجب إشكالا فيها بعد كون المراد منه ثعلبة بن ميمون، الثقة الجليل، لرواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، عنه. كما أن كون الحديث مقطوعا لا ينافي الاعتماد عليه لمكان ثعلبة.

و عدم دلالة الرواية الخامسة، فلأنّ

قوله: زوجيني نفسك … الخ. في الواقع استدعاء، لا

______________________________

(1). الوسائل 14/ 466، الحديث 1، الباب 18 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 165

إنشاء، و لذا لم يتعقبه القبول. فتدبر.

و من هنا يعلم الجواب، عن الدليل الأول و الثاني، فان الأصل، لا مجال له بعد ورود الدليل، كما ان توقيفية النكاح أيضا كذلك.

جواز تقدّم القبول علي الايجاب

هذا كلّه بالنسبة إلي الفرع الأول.

و أمّا الفرع الثاني، أعني جواز تقدم القبول علي الايجاب؛ فالمشهور جوازه. قال في الرياض: و لا يشترط تقديم الايجاب علي القبول في المشهور، بل عليه الإجماع عن المبسوط و السرائر، و هو الحجّة في تخصيص الأصل. و قال في آخر كلامه: ثم أنّه يعتبر، حيثما قدم القبول كونه بغير قبلت و رضيت؛ كنكحت و تزوجت، و هو بمعني الايجاب «1».

و قال في المسالك: أكثر الأصحاب علي جواز تقديم القبول علي الايجاب في النكاح، بل ادعي عليه الشيخ، الإجماع، لحصول المقتضي و هو العقد الجامع للإيجاب و القبول، و لم يثبت اعتبار الترتيب بينهما؛ و لأنّ كلّا منهما في قوة الموجب و القابل. و ينبه عليه ما تقدم في خبر سهل الساعدي. «2» و حاصلها، أنّ امرأة جاءت إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله فقالت:

يا رسول اللّه إني قد وهبت نفسي لك. فقامت قياما طويلا. فقام رجل، فقال: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة. فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: هل عندك من شي ء تصدقها إيّاه؟- إلي أن قال: - قد زوجتكها بما معك من القرآن. «3» (رواه البخاري، في الصحيح، عن مالك. و أخرجه من وجه آخر، مسلم، عن أبي حازم).

و في

الكافي، بسند معتبر، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: جاءت امرأة إلي النبي، فقالت: زوجني. ثم نقل ما يقرب من حديث سهل الساعدي (الكافي، ج 5/ 380) و 3/ 1 من أبواب عقد النكاح من الوسائل.

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 42، (2/ 69 ط. ق).

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 94.

(3). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 242.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 166

و ذكر في ذيل كلامه أنّه: ربّما قيل بعدم صحته متقدما، لأنّ حقيقة القبول، الرضا بالايجاب، فمتي وجد قبله لم يكن قبولا، لعدم معناه. ثم صرّح بأنّ المراد، قبول النكاح لا قبول الايجاب؛ ثم ذكر أنّ القبول حقيقة هو ما وقع بلفظ قبلت؛ و لا إشكال في عدم جواز تقدمه بهذا اللفظ. انما الكلام في ما وقع بلفظ تزوجت أو نكحت، فهو في معني الايجاب و تسميته قبولا مجرد اصطلاح. «1»

و قد صرّح بجواز التقديم، ابن حمزة في الوسيلة، و الصهر شتي في إصباح الشيعة، و ابن ادريس في السرائر، و المحقق في الشرائع و مختصر النافع، و العلّامة في القواعد، و الشهيد في اللمعة. «2»

إذا عرفت ذلك فاعلم، أنّه تارة يتكلم في مقتضي القاعدة، و اخري في الادلة الخاصة؛ أمّا الأول، فلا ينبغي الإشكال في أنّ القبول، بلفظ قبلت و رضيت، لا يتقدم علي الايجاب، لعدم معني معقول له، حتي إذا قال قبلت ما تنشئه بعد ذلك؛ كما أنّه لا ينبغي الشك في أنّ القبول بلفظ تزوجتك أو نكحتك، ليس قبولا، بل إنشاء من قبل الزوج، و تسميته قبولا، مجاز. فكان النزاع هنا لفظي. فمن يقول بجواز تقدمه، يسمي ما ذكر قبولا؛ و

من يمنعه، يسمّيه إنشاء من قبل الزوج؛ فالنزاع إنّما هو في اللفظ فقط.

فقد وقع الخلط بين هذا الفرع و الفرع السابق. و لعل عدم ذكر الفرع السابق في كلماتهم بسبب الاكتفاء بما ذكر في الفرع الثاني. (فتدبّر جيّدا).

هذا مقتضي القاعدة؛ و أمّا مقتضي العمومات و الروايات الخاصة الواردة في المتعة أيضا ذلك، و قد مرّ تفصيلها. و قد يقال إن استحياء المرأة من الابتداء بالكلام هنا، كان هو السبب في جواز تقديم القبول هنا بالإجماع، بخلاف سائر العقود، فقد اشكلوا عليه. و لكن الانصاف أنّ مجرّد ذلك غير كاف في اثبات المقصود، لأنّه مجرّد استحسان، لا انّه ضرورة واقعا. مضافا إلي عدم جريانه في ما إذا كان الرجل وكيل المرأة كما هو واضح.

***

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 95، (1/ 444 ط. ق).

(2). راجع سلسلة الينابيع الفقهية، ج 18 و 19.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 167

[المسألة 2: الأحوط، أن يكون الإيجاب في النكاح الدائم بلفظي أنكحت أو زوجت]

اشارة

المسألة 2: الأحوط، أن يكون الايجاب في النكاح الدائم بلفظي انكحت أو زوجت.

فلا يوقع بلفظ متعت، علي الأحوط. و إن كان الاقوي، وقوعه به مع الإتيان بما يجعله ظاهرا في الدوام. و لا يوقع بمثل بعت؛ أو وهبت؛ أو ملكت؛ أو آجرت؛ و أن يكون القبول بلفظ قبلت؛ أو رضيت. و يجوز الاختصار في القبول بلفظ قبلت؛ فقط بعد الايجاب، من دون ذكر المتعلقات التي ذكرت فيه. فلو قال الموجب الوكيل عن الزوجة للزوج: انكحتك موكلتي فلانة علي المهر الفلاني. فقال الزوج: قبلت؛ من دون ان يقول قبلت النكاح لنفسي علي المهر الفلاني، صحّ.

أقول: في المسألة فروع:

ينعقد النكاح بلفظي التزويج و النكاح

الأول: ينعقد النكاح بلفظ التزويج، و النكاح؛ يقول الموجب: زوجتك و أنكحتك. و قد صرح في الرياض، بأنّ انعقاد النكاح بهما مجمع عليه و حكي الإجماع عن الروضة و التذكرة و غيرهما. «1» و كذلك في كشف اللثام، قال: بلا خلاف بين علماء الإسلام، كما في التذكرة. «2» و لكنهما (قدس سرهما) ذكرا الخلاف في الايجاب بلفظ متعت؛ فقد صرّح في الرياض بأنّ: الأكثر، و منهم الإسكافي و المرتضي و أبو الصلاح و ابن حمزة و الحلّي، كما حكي، و عن ظاهر السيد في الطبريات، الإجماع علي المنع، خلافا للمتن و الشرائع و الإرشاد و النهاية.

و قال ابن رشد في بداية المجتهد: اتفقوا علي انعقاد النكاح بلفظ النكاح … و كذلك بلفظ التزويج، و اختلفوا في انعقاده بلفظ الهبة، أو بلفظ البيع، أو بلفظ الصدقة فاجازه قوم؛ و به قال مالك و أبو حنيفة؛ و قال الشافعي: لا ينعقد إلّا بلفظ النكاح أو التزويج «3».

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 37، (2/ 68 ط. ق).

(2). الفاضل

الهندي، في كشف اللثام 7/ 43، (2/ 12 ط. ق).

(3). ابن رشد الاندلسي، في بداية المجتهد … 4/ 206، (2/ 4، دار الفكر).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 168

هذا، و مقتضي القاعدة هو جواز إنشاء عقد النكاح بكلّ لفظ يكون صريحا أو ظاهرا فيه؛ كما في سائر العقود، فإنّ العقد و هو العهد و التعاهد بين الاثنين صادق علي كل ما كان بعبارة واضحة دالّة عليه، و لا فرق في ذلك بين أن يكون دلالته حقيقيا أو مجازيا، مع القرينة الواضحة، أو كنائيا كذلك؛ فلو قال: متعتك علي المهر المعلوم متعة دائمة، لا يبعد وقوع العقد الدائم به، و كذا غيره من أشباهه، و حتي المجازات و الكنايات مع الشرط المذكور.

إن قلت: كيف يجوز ذلك، و قد ذكرتم غير مرّة أنّ النكاح كالعبادات من الامور التوقيفية لا يصار إليه حتي يصل من الشارع، فهل وصل ما ذكرت، من الشارع المقدس؟

قلت: كان إجراء صيغ النكاح دائما بمرأي و منظر من الشارع المقدس، و لم يرد في شي ء من النصوص، لزوم الاقتصار علي لفظ معين، و الحصر في مادة مخصوصة؛ فهذا دليل علي أنّ الشّارع المقدّس خلّي بين المسلمين و بين ما يؤدي معني النكاح بأيّ لفظ كان؛ إذا كان صريحا أو ظاهرا فيه. و لكن في الألفاظ غير متعارفة كالبيع و الهبة و غيرهما اشكال.

و أما النصوص القرآنية و الروائية، فهي تدل علي جواز الإنشاء بلفظ التزويج. فقوله تعالي: فَلَمّٰا قَضيٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً زَوَّجْنٰاكَهٰا … «1» - كان في مقام الإنشاء ظاهرا أو لم يكن- دليل علي جواز الإنشاء بهذا اللّفظ.

و كذلك قوله تعالي: وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰاميٰ مِنْكُمْ وَ الصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ

… «2»

أيضا دليل علي جواز الإنشاء به، و إن لم يكن في مقام الإنشاء.

كما أنّ روايات المتعة، (الروايات الخمسة السابقة، الواردة في الباب 18)، دليل علي جواز الإنشاء بلفظ التزويج، و كذلك حديث الساعدي، و ما شابهه من روايات أهل البيت عليهم السّلام التي مرّت الإشارة إليه آنفا كذلك، كان في مقام الإنشاء أو لم يكن.

مضافا إلي أنّه قد ورد التصريح بانشاء العقد الدائم بلفظ التزويج، في الباب الأول من

______________________________

(1). الاحزاب/ 37.

(2). النور/ 32.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 169

أبواب عقد النكاح في مقام إنشاء العقد. ففيه عشر روايات، أكثرها تدل علي المطلوب، أي جواز إنشاء النكاح بلفظ التزويج.

منها: ما رواه زرارة بن أعين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في حديث خلق حوا و تزويج آدم بها- و في آخرها- فقال اللّه عزّ و جلّ: قد شئت ذلك و قد زوجتكها، فضمّها إليك «1».

و منها: ما ورد في باب تزويج الإمام الجواد عليه السّلام ابنة مأمون، قال: زوجتني … ؟ قال:

بلي، قال: قبلت و رضيت. «2»

منها: ما رواه هارون بن مسلم، عن عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التزويج بغير خطبة. فقال: أو ليس عامة ما نتزوج فتياننا فتياتنا، و نحن نتعرق الطعام علي الخوان، نقول: يا فلان زوج فلانا فلانة. فيقول: نعم، قد فعلت «3».

إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني. هذا، و لكن لم نجد رواية تدل علي إجراء العقد صريحا بلفظ النكاح، مثل ما ورد في التزويج، و إن كان يستفاد من فحوي الآيات و الروايات الواردة في النكاح، ذلك.

و أمّا جوازه بلفظ المتعة، مع القرينة الدالة علي أنّ المراد منه هو النكاح الدائم؛ فلأنّ

المتعة من الفاظ النكاح، و ليس صريحا في المنقطع أو ظاهرا فيه، إلّا إذا كان مع ذكر الأجل فلذا ورد في بعض الأحاديث- و أفتي به جماعة كثيرة من الأصحاب- أنّه لو تزوج متعة و ترك ذكر الاجل، انقلب دائما. و هذا دليل علي صلاحية الصيغة لهما. مثل ما رواه عبد اللّه بن بكير، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في حديث: أنّ سمي الأجل، فهو متعة و إن لم يسم الأجل، فهو نكاح بات. «4»

و هذا الحكم علي إجماله مشهور أو مجمع عليه، و إن كان في بعض شقوقه نظر. مثل ما لو اراد المنقطع، و لكن ترك ذكر الأجل سهوا لا عمدا. و لكن قبوله في فرض من الفروض- كالمتعمد في ترك ذكر الأجل- كاف فيما نحن بصدده.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 194، الحديث 1، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 194، الحديث 2، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 196، الحديث 7، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 469، الحديث 1، الباب 20 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 170

الكلام في وقوعه بغير اللفظين

بقي الكلام في وقوعه بلفظ بعت؛ و ملكت؛ و آجرت؛ و نحو ذلك.

صرّح غير واحد من أعاظم الأصحاب بأنّه لا ينعقد به. و لكن حكي السيد المرتضي في الناصريات عن أبي حنيفة، انه قال ينعقد النكاح بكل لفظ يقتضي التمليك كالبيع و الهبة و التمليك، فأمّا ما لا يقتضي التمليك كالرهن و الاباحة، فلا ينعقد به. و في الإجارة عنده روايتان، أصحهما أنّه لا ينعقد بها «1».

و لكن الانصاف عدم انعقاده بهذه الألفاظ، لا أنّه لا يمكن انه تكون ظاهرة في معني النكاح و

لو بمعونة القرائن الواضحة؛ بل لعدم تعارف إنشاء النكاح بها، مع أنّك قد عرفت أنّ أحكام النكاح توقيفية، فلا يمكن إنشائه بغير ما هو المتعارف بين المسلمين من عصر النبي صلّي اللّه عليه و آله و أعصار الأئمّة عليهم السلام.

و قد يستدل لجواز إنشائه بلفظ الهبة بقوله تعالي: … وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهٰا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرٰادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهٰا خٰالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ … «2»

و لكن الانصاف أن الاستدلال بها لا يخلو عن إشكال، لأنّ المراد بالهبة هنا، هو النكاح بلا مهر؛ كما ذكره المفسرون، فليس المراد من الآية إجراء الصيغة بهذا اللفظ، و الشاهد عليه قوله تعالي: «أَنْ يَسْتَنْكِحَهٰا»، فان التعبير بالنكاح ذيل الآية، ينافي كون الإنشاء بلفظ الهبة. و أمّا قوله تعالي: «خٰالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ»، إشارة إلي أنّ النكاح بدون المهر مختص بالنبي صلّي اللّه عليه و آله.

و يؤيده بل يدل عليه، روايات كثيرة، واردة في الباب 2 من أبواب عقد النكاح. منها:

1- ما رواه الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة، تهب نفسها للرجل، ينكحها بغير مهر. فقال: إنّما كان هذا للنّبي صلّي اللّه عليه و آله فأمّا لغيره، فلا يصلح هذا، حتي يعوضها شيئا.

الحديث «3».

______________________________

(1). السيد المرتضي، في الناصريات/ 325، المسأله 152.

(2). الاحزاب/ 50.

(3). الوسائل 14/ 198، الحديث 1، الباب 2 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 171

2- ما رواه أبو الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا تحل الهبة إلّا لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، و أمّا غيره، فلا يصلح نكاح إلّا بمهر «1».

3- و في حديث زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام،

قال: لا يحل الهبة إلّا لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله؛ و أمّا غيره، فلا يصلح نكاح إلّا بمهر. «2» إلي غير ذلك ممّا في معناه.

و من الظاهر، أنّه ليس شي ء منها بصدد بيان الفاظ الإنشاء، و إنّما هي بصدد بيان عدم جواز النكاح بغير مهر.

نعم، في مرسلة ابن المغيرة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في امرأة وهبت نفسها لرجل من المسلمين؛ قال: أنّ عوضها كان ذلك مستقيما. «3» و هي أيضا راجعة إلي لزوم المهر.

هذا كله في إنشاء الايجاب؛ و أمّا القبول، فقد صرّح الماتن (قدس سره) أنّه يجوز بلفظ قبلت؛ و رضيت؛ حتي بدون ذكر المتعلقات. و يدل عليه مضافا إلي أنّهما صريحان في قبول الايجاب، ورودهما في روايات عديدة. منها الحديث 2/ 1 من أبواب عقد النكاح، و ما ورد في روايات المتعة في الباب 18 منها. و في المستدرك أيضا ما يدل عليه؛ و لا نطيل بذكرها لوضوح المسألة.

و أمّا جواز ترك ذكر المتعلقات، فلان عطف القبول علي الايجاب، دليل علي قبول جميع القيود و الشروط؛ و في الواقع يكون من قبيل؛ المقدر كالمذكور؛.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 198، الحديث 2، الباب 2 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 199، الحديث 4، الباب 2 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 199، الحديث 5، الباب 2 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 172

[المسألة 3: يتعدي كل من الإنكاح و التزويج، إلي مفعولين]

اشارة

المسألة 3: يتعدي كل من الانكاح و التزويج، إلي مفعولين. و الاولي أن يجعل الزوج، مفعولا أوّلا، و الزوجة ثانيا. و يجوز العكس. و يشتركان في أنّ كلا منهما يتعديان إلي المفعول الثاني، بنفسه تارة، و بواسطة من؛ اخري. فيقال: انكحت أو زوجت زيدا هندا.

أو أنكحت هندا من زيد. و باللام أيضا؛ هذا بحسب المشهور و المأنوس، و ربّما يستعملان علي غير ذلك و هو ليس بمشهور و مأنوس.

تعدّي النكاح و التزويج الي المفعولين

أقول: قلّما تعرضوا لهذه الصيغ؛

أمّا تعدي زوّجته إلي مفعولين، فهو وارد في كتاب اللّه تعالي في قصة زينب: …

زَوَّجْنٰاكَهٰا … «1». و أمّا قوله تعالي: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرٰاناً وَ إِنٰاثاً … «2» بعد قوله تعالي: يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ إِنٰاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ الذُّكُورَ … «3» فهو ناظر إلي الأولاد الذكور و الاناث. يعني يهب كليهما لمن اراد.

و أمّا تعدي الانكاح إلي المفعولين، فقد ورد في كتاب اللّه في قوله تعالي: في قضيّة شعيب: قٰالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ … «4»

أمّا التعدي بالباء، فهو قوله تعالي: كَذٰلِكَ وَ زَوَّجْنٰاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. «5» و تفسيرها بقرنّاهم، لا دليل عليه.

هذا، و قد ورد في الروايات المنقولة عن المعصومين عليهم السّلام، ما يدل علي تعدي ب «ل»؛ و «من»؛ و «إلي»؛.

1- أمّا التعدي ب «ل»؛ ففي تفسير العياشي، عن أبي بصير، في الرجل ينكح أمته لرجل،

______________________________

(1). الاحزاب/ 37.

(2). الشوري/ 50.

(3). الشوري/ 50.

(4). القصص/ 27.

(5). دخان/ 54.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 173

أله أن يفرق بينهما إذا شاء؟ … «1»

2- و التعدي بحرف إلي؛ مثل ما ورد في أبواب النكاح المحرم، عن درست بن عبد الحميد، عن أبي ابراهيم عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: تزوجوا إلي آل فلان، فإنّهم عفّوا فعفّت نسائهم، و لا تزوجوا إلي آل فلان، فانّهم بغوا فبغت نسائهم «2».

و ما عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث، قال: لا تجالسوا شارب الخمر و لا تزوجوه،

و لا تتزوجوا إليه، و إن مرض فلا تعودوه، و إن مات فلا تشيّعوا جنازته. «3»

3- و التعدي بحرف من؛ فقد ورد في أحاديث:

منها، ما عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل ينكح أمته من رجل قال: إن كان مملوكا، فليفرق بينهما إذا شاء … «4»

و منها، ما رواه في دعائم الإسلام، عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، أنّه نهي عن نكاح الشغار، و هو أن ينكح الرجل ابنته من رجل علي أن ينكحه الآخر من ابنته، و ليس بينهما صداق … «5»

و منها، ما ورد في قضايا أمير المؤمنين عليه السّلام، و قضائه في غلام ادعي أنّ تلك المرأة امّه، فأنكرت و إقامت أربعين قسامة إلي أن قال: أني قد زوجت هذه الجارية من هذا الغلام … و في آخرها، فقالت المرأة: تريد ان تزوجني من ولدي. و الحديث طويل عجيب. «6»

و ما في الدعاء؛ و من الحور العين برحمتك فزوجنا؛ «7» فمن، فيه للتبعيض لا للتعدي.

و هناك روايات كثيرة اخري تدل علي تعديه بحرف من؛ و الباء؛ نشير إليها ذيلا «8».

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل، 15/ 26، الحديث 17435.

(2). الوسائل 14/ 270، الحديث 7، الباب 31 من أبواب النكاح المحرم.

(3). الوسائل 17/ 249، الحديث 8، الباب 11 من أبواب الاشربة المحرمة.

(4). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 15/ 26، الحديث 17434.

(5). الميرزا النوري پ، في مستدرك الوسائل 14/ 323، الحديث 16838.

(6). الوسائل 18/ 206، الحديث 2، الباب 21 من أبواب كيفية الحكم.

(7). مصباح المتهجّد، ص 69.

(8). راجع: بالنسبة إلي من؛ صحيفة الرضا، لمؤسسة الإمام مهدي،/ 172 و 293. شاذان بن جبرئيل القمي، في الفضائل/ 12.

الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 152. و بالنسبة إلي الباء؛ السيد هاشم-

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 174

و إنّما ورد في منابع اللغة (المنجد) قال بعضهم: زوجه امرأة أو بامرأة أو لامرأة، عقد له عليها.

و أنكر بعضهم تعديه بالباء؛ قال في مختصر الصحاح: قال يونس: ليس من كلام العرب زوّجه بامرأة و لا تزوج بامرأة … و قال الفراء: تزوج بامرأة لغة، و لم يذكر في القاموس إلّا التعدي بالباء.

و من العجب ان الوارد في روايات الباب، هو التعدي بأربعة أحرف من حروف الجر كثيرا، (من- إلي- ل- ب)؛ مع عدم ذكرها في منابع اللغة بل التصريح بعدم استعمال بعضها، و هذا دليل علي قصور كثير من كتب اللغة عن أداء ما عليهم من استعمالات الألفاظ.

و من الواضح، أنّ هذه الروايات الكثيرة، حجّة في ما نحن فيه، حتي مع فرض عدم صدورها عن المعصومين (عليهم السلام)، لأنها صادرة علي كل تقدير ممن يتكلم بلسان العرب.

فقد تلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الذي لا شك و لا ريب فيه من ألفاظ الإنشاء، إنشاء التزويج بلفظ زوّجت؛ مع تعديه بنفسه، و تقديم الزوج علي الزوجة، ثم بلفظ النكاح؛ بدون حرف الجر؛ و بعد ذلك تعديه بحرف من؛ الذي ورد في روايات كثيرة، و بحرف الباء؛ الذي لم يذكره في المتن. ثم بحرف إلي؛ و اللام؛.

و لو أراد الاحتياط، يذكر، من و الباء و اللام و إلي، جميعا. و اللّه العالم.

***

______________________________

- البحراني، في مدينة المعاجز 2/ 329. الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 15/ 63. شاذان بن جبرئيل القمي، في الفضائل/ 101. إلي غير ذلك ممّا يعثر عليها المتتبع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 175

[المسألة 4: عقد النكاح قد يقع بين الزوج و الزوجة و بمباشرتهما]

اشارة

المسألة

4: عقد النكاح قد يقع بين الزوج و الزوجة و بمباشرتهما، فبعد التقاول و التواطي و تعيين المهر، تقول الزوجة مخاطبة للزوج: أنكحتك نفسي، أو انكحت نفسي منك، أو لك، علي المهر المعلوم. فيقول الزوج بغير فصل معتدّ به: قبلت النكاح لنفسي علي المهر المعلوم، أو هكذا.

أو تقول: زوجتك نفسي، أو زوجت نفسي منك، أو لك، علي المهر المعلوم. فيقول:

قبلت التزويج لنفسي علي المهر المعلوم، أو هكذا.

و قد يقع بين وكيليهما؛ فبعد التقاول و تعيين الموكلين و المهر، يقول وكيل الزوجة مخاطبا لوكيل الزوج: أنكحت موكلك فلانا لموكلتي فلانة؛ أو من موكلك، أو لموكلك فلان، علي المهر المعلوم. فيقول وكيل الزوج: قبلت النكاح لموكلي علي المهر المعلوم، أو هكذا.

أو يقول وكيلها: زوجت موكلتي موكلك؛ أو من موكلك، أو لموكلك فلان؛ علي المهر المعلوم. فيقول وكيله: قبلت التزويج لموكلي علي المهر المعلوم، أو هكذا.

و قد يقع بين ولييهما كالأب و الجد، فبعد التقاول و تعيين المولّي عليهما و المهر، يقول ولي الزوجة: أنكحت ابنتي، أو ابنة ابني فلانة ابنك أو ابن ابنك فلانا؛ أو من ابنك، أو ابن ابنك؛ أو لابنك، أو لابن ابنك؛ علي المهر المعلوم.

أو يقول: زوجت بنتي ابنك مثلا، أو من ابنك، أو لابنك. فيقول ولي الزوج: قبلت النكاح أو التزويج لابني، أو لابن ابني، علي المهر المعلوم. و قد يكون بالاختلاف بأن يقع بين الزوجة و وكيل الزوج، و بالعكس، أو بينها و بين ولي الزوج، و بالعكس، أو بين وكيل الزوجة و ولي الزوج و بالعكس. و يعرف كيفية ايقاع العقد في هذه الصور ممّا فصلناه في الصور المتقدمة. و الاولي تقديم الزوج علي الزوجة، في جميع الموارد، كما مرّ.

أنوار الفقاهة

- كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 176

المباشرة و الوكالة و الولاية في إنشاء العقد

أقول: و حاصل كلامه (قدس سره) في هذه المسألة، أنّ لإنشاء العقد صورا مختلفة.

1- قد يكون بين الزوجين بالمباشرة، قد يتقدم إنشاء الزوج و قد يتقدم إنشاء الزوجة بدون حروف الجر، و بحروف الجر.

2- قد يكون بين الوكيلين، و ينقسم بالانقسامات السابقة.

3- قد يكون بين الوليين مع تقسيمه بالأقسام السابقة.

4- قد يكون بين الزوج أو الزوجة مباشرة مع وكيل الآخر.

5- قد يكون بين الزوج أو الزوجة مع ولي الآخر.

6- قد يكون بين ولي أحدهما و وكيل الآخر- كل ذلك بدون حرف الجرّ أو معه (من- إلي- ل- الباء).

و ممّا هو جدير بالذكر، أنّه لا يجب علي الوكيل و لا علي الوليّ، التصريح بكونه وكيلا أو وليّا، بل يكفي لكل منهما أن يقول زوجت فلانا فلانة. لأنّ المهم كونه مصداقا للوكيل، و الولي، خارجا؛ لا التصريح بعنوانه. فلا فرق بين إنشاء الفضولي و الوكيل أو الولي في اللفظ؛ إنّما الفرق في واقع الأمر، و هو إن هذا الإنشاء يصدر من الولي و الوكيل أو الفضولي. و يشهد له ما عرفت من قول النبي صلّي اللّه عليه و آله: زوجتكها بما معك من القرآن. و قول الوصي عليه السّلام: أني قد زوجت هذه الجارية من هذه الغلام. و ما مر من قوله تعالي في قصة آدم: قد زوجتكها، فضمها إليك. إلي غير ذلك مما في هذا المعني.

و علي كل حال يدل علي الأحكام المذكورة، عموم أدلة الوكالة و الولاية. فيجوز للولي أو الوكيل إنشاء العقد مع المباشر، أو مع وكيل مثله، أو مع ولي؛ مضافا إلي ما مرّ في الروايات السابقة من إجراء الصيغة بين المباشرين، (راجع روايات المتعة)، بين الوكيل

و المباشر، (راجع رواية سهل الساعدي، و رواية تزويج أمير المؤمنين عليه السّلام الجارية للغلام)، أو بين الولي و المباشر، (راجع رواية تزويج آدم)، إلي غير ذلك.

هذا مضافا إلي جريان السيرة علي كثير مما ذكرنا، فالأدلة هنا ثلاثة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 177

[المسألة 5: لا يشترط ما في لفظ القبول، مطابقة لعبارة الإيجاب]

اشارة

المسألة 5: لا يشترط ما في لفظ القبول، مطابقة لعبارة الايجاب، بل يصح الايجاب بلفظ و القبول بلفظ آخر. فلو قال: زوجتك؛ فقال: قبلت النكاح. أو قال: أنكحتك؛ فقال:

قبلت التزويج. صحّ. و إن كان الأحوط المطابقة.

لا يجب تطابق القبول و الايجاب في العبارة

أقول: قد يكون القبول بلفظ قبلت؛ و رضيت؛ و نعم؛ و غير ذلك ممّا يدلّ علي قبول الايجاب، و لا كلام فيه؛ لأنّ المقدر فيه هو قبول الايجاب بعينه؛ و ليس المقصود في المسألة هذا، بل المقصود أنّه إذا لم يكتف بلفظ القبول، بل أراد ذكر العقد و متعلقاته، فهل يجوز بلفظ آخر غير لفظ الايجاب، بان يجعل القبول بلفظ النكاح، و الحال أنّ الايجاب بلفظ التزويج، أو بالعكس. فهل يصح هذا أو لا يصح؟

قال في الجواهر، بعد ذكر عبارة الشرائع في هذه المسألة الدالة علي الجواز: بلا خلاف و لا إشكال لإطلاق الادلة. «1» و كذا غيره ممن تبعه علي ذلك.

و ما ذكره، حق لا ريب فيه؛ فانّ ادلة أحكام النكاح، و كذا أدلة أحكام العقد، مطلقة تشمل الجميع. و قد عرفت أنّ التّمسّك بهذه المطلقات لا ينافي كون النكاح توقيفيّا بعد ما كانت العقود بمرأي و مسمع من الشارع، و لم يعين لها صيغة خاصّة؛ بل يكفي كل عبارة صريحة أو ظاهرة في أداء هذا المعني ممّا هو معمول.

هذا مضافا إلي ما ورد في بعض النصوص، مثل ما روي في قضية المرأة التي جاءت إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، فقالت: زوجني؛ فقال: من لهذه؟ فقام رجل، فقال: أنا يا رسول اللّه.-

إلي أن قال: - قد زوجتكها علي ما تحسن من القرآن. «2» بناء علي كون قوله: أنا يا رسول

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام

29/ 139.

(2). الوسائل 14/ 195، الحديث 3، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 178

اللّه؛ بمنزلة الايجاب أو القبول المقدم. و لكن يبعده عدم تعيين المهر إلّا بعده، مضافا إلي أنّ صاحب الوسائل، رواه بعينه في أبواب المهور هكذا: أنا يا رسول اللّه زوجنيها. «1»

***

______________________________

(1). الوسائل 15/ 3، الحديث 1، الباب 2 من أبواب المهور.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 179

[المسألة 6: إذا لحن في الصيغة،]

اشارة

المسألة 6: إذا لحن في الصيغة، فإنّ كان مغيّرا للمعني بحيث يعد اللفظ عبارة لمعني آخر غير ما هو المقصود، لم يكف؛ و إن لم يكن مغيّرا بل كان بحيث يفهم منه المعني المقصود، و يعد لفظا لهذا المعني، إلّا أنّه يقال له لفظ ملحون و عبارة ملحونة من حيث المادة أو من جهة الأعراب و الحركات، فالاكتفاء به لا يخلو من قوة، و إن كان الأحوط خلافه؛ و أولي بالاكتفاء اللغات المحرفة عن اللغة العربية الأصلية. كلغة سواد العراق في هذا الزمان، إذا كان المباشر للعقد من أهالي تلك اللّغة؛ لكن بشرط إن لا يكون مغيرا للمعني، مثل جوزت؛ بدل زوجت؛ إلّا إذا فرض صيرورته في لغتهم كالمنقول.

اختلاف الألحان لأداء الصيغة

أقول: هذه المسألة من المسائل المبتلي بها في كل عصر، لا سيما اللحن في عدم أداء الحروف عن مخارجها المعتبرة أو الاعراب. و حاصل الكلام فيها أنّ اللحن علي أقسام:

1- اللحن المغيّر للمعني، (كما إذا قال زوّجت بدل زوّجت) فهذا موجب لفساد العقد، كما هو ظاهر.

2- اللحن غير المغيّر، كما إذا لم يؤد الحروف عن مخارجها، لا سيما إذا كان العاقد من العجم غير العارف باللغة. فهذا كاف، لأنّ المدار علي صدق العقد و أداء المقصود بالعبارة، و هذا أمر حاصل. بل هو أمر متداول بين غير العرب بل بين العرب الامّي أحيانا.

3- ما إذا كان من اللغات المحرفة، (و ما يسمي عاميانه) بالفاظ مكسّرة، و هذا أيضا علي قسمين، إن لم يغير المعني كان صحيحا لما ذكر، و إن كان مغيّرا للمعني لم يجز علي فتوي الماتن. كما إذا قال جوزت عوض زوجت؛ (و الظاهر أنّ هذه العبارة معمولة بين عوامهم). و لكن الاستاذ السيد

الحكيم، صرّح بصحّته و شمول أدلة العقود، له؛ و هو كذلك، لأداء المقصود به في إنشاء العقد. و من هنا يسهل الأمر في لحن الاعراب و السواد إذا كان متعارفا بين أهل العرف.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 180

[المسألة 7: يعتبر في العقد القصد إلي مضمونه]

المسألة 7: يعتبر في العقد القصد إلي مضمونه، و هو متوقف علي فهم معني لفظي أنكحت؛ و زوجت؛ و لو بنحو الإجمال حتي لا يكون مجرد لقلقة اللسان؛ نعم، لا يعتبر العلم بالقواعد العربية و لا العلم و الاحاطة بخصوصيات معني اللفظين علي التفصيل، بل يكفي علمه إجمالا. فاذا كان الموجب بقوله أنكحت؛ أو زوجت؛ قاصدا لايقاع العلقة الخاصة المعروفة المرتكزة في الاذهان التي يطلق عليها النكاح و الزواج في لغة العرب، و يعبر عنها في لغات آخر بعبارات آخر، و كان القابل قابلا لهذا المعني، كفي. إلا إذا كان جاهلا باللغات بحيث لا يفهم أنّ العلقة، واقعة بلفظ زوجت؛ أو بلفظ موكلي؛ فحينئذ صحته مشكلة، و إن علم أنّ هذه الجملة لهذا المعني.

[المسألة 8: يعتبر في العقد قصد الإنشاء]

اشارة

المسألة 8: يعتبر في العقد قصد الإنشاء، بأن يكون الموجب في قوله أنكحت؛ أو زوجت؛ قاصدا ايقاع النكاح و الزواج و إيجاد ما لم يكن؛ لا الأخبار و الحكاية عن وقوع شي ء في الخارج؛ و القابل بقوله قبلت؛ منشأ لقبول ما أوقعه الموجب.

اعتبار القصد في اجراء الصيغة

أقول: الاولي تقديم الكلام في المسألة الثامنة قبل السابعة، كما ذكره في العروة، فانّ الثاني فرع الأول، بل يمكن أن يقال كلاهما مسألة واحدة يتكلم فيها أولا في وجوب قصد الإنشاء إجمالا، ثمّ قصده تفصيلا.

في تفسير الإنشاء

و علي كل حال، فلنتكلم في وجوب قصد الانشاء أولا؛ فنقول: (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية)، الكلام أمّا أخبار أو إنشاء، و الأخبار هو الحكاية عن أمر خارجي كما إذا تحقق مجي ء زيد في الخارج، و يتحقق فيما بعد، فنقول جاء زيد؛ أو يحيي زيد؛ فان طابقت النسبة الكلامية للواقع، كان صدقا؛ و إلّا كان كذبا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 181

و لكن الإنشاء، هو إيجاد شي ء في عالم الاعتبار بنفس الكلام مع قصده، مثلا، النداء أو الاستفهام، ليس شيئا خارجيا يحكي عنه القائل باللفظ، بل شي ء يوجده. و كذا الأمر و النهي، و كذا البيع و النكاح، (و إن كان بين أقسام الإنشاء فرق) فالعلقة الاعتبارية بين الزوج و الزوجة ليست أمرا موجودا خارجيا، بل أمر اعتباري ذهني فرضي، يوجده المنشئ فيجعل هذا زوجا لهذه في عالم الاعتبار و منظما إليها؛ و العقلاء يفرضون لهذا الاعتبار أحكاما كثيرة قد تكون أكثر من الأحكام المترتبة علي الواقعيات العينية، و ذلك لنظام معاشهم و حفظ مجتمعهم.

و حقيقة الإنشاء أمر دقيق جدا خفي علي الناس إلّا العلماء منهم، و لكنها بإجمالها معلوم لكل أحد حتي الصبيان لأنّها مبتلي بها ليلا و نهارا. فإذا قال الأب لولده الصغير: خذ هذا فقد وهبت لك. يفهم أنّ العلقة الملكية حصلت له، و يري نفسه بعد ذلك أحق الناس به، بعد إن لم يكن كذلك. فلو زاحمه احد، يقول: هذا مالي، وهبه لي

أبي؛ فكنهه في غاية الخفاء و لكن مفهومه من أظهر الأشياء.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ اللازم في العقد، قصد الإنشاء، أي إيجاد العلقة الزوجية؛ و الفرق بينه و بين الأخبار. و لكن هذا أمر سهل بسيط، لا كما يظهر من بعض أهل العلم من أنّه أمر مشكل لا يعرفه العوام، فلا يصح منهم إجراء الصيغة، بل قد عرفت أنّه يعرفه الصبيان أيضا، و ليس أمرا صعبا و لا معني للتشدّد فيه.

و الحاصل، أنّ هناك امورا ظاهرة بوجودها الإجمالي، و لكن كنهها خفية جدا، لا في خصوص ذات اللّه تعالي، بل بالنسبة إلي كثير من الموجودات الإمكانية، كالزمان و المكان و قوة الجاذبة الموجودة في الأرض، و شبهها؛ فانّها من الواضحات لكل أحد بوجودها الإجمالي، حتي بالنسبة إلي الصبيان، و لكن حقيقة الزمان و المكان ما ذا؟ فقد تحيّر فيهما الفلاسفة. و حقيقة قوة الجاذبة الأرضية ما ذا؟ تحيّر فيها علماء العلوم الطبيعي.

و الإنشاء من هذا القبيل، فالملكية و البيع و الهبة و الزوجية من الامور الاعتبارية التي يعرفها كل احد، و كذا إنشاء هذه الامور، فالطفل الذي يأخذ الفلوس و يشتري بها جوزا مثلا يفهم معني الملك و كذا عقد البيع. و إذا بلغ الإنسان حدّ الزواج و أشار إلي أبيه أن

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 182

يزوجه يعرف معني عقدة النّكاح، و بالطبع يعرف معني إنشاء هذا العقد؛ و إن كانت معرفة كنه الإنشاء أو الملكيّة أو الزوجية من الامور الاعتبارية و الإنشائية ممّا يصعب فهمه علي الناس إلّا الراسخين في العلم.

و لا يعتبر في قصد الإنشاء إلّا هذا العلم الإجمالي، و قد ذكرنا في محلّه أنّ الإنشاء إيجاد أمر اعتباري باللفظ أو

الكتابة أو الإشارة، و الامور الاعتبارية امور ذهنية فرضية، لا من الفروض الخيالية بل من الفروض التي يكون بناء العقلاء علي ترتيب الآثار الاجتماعية عليها.

و إن شئت قلت: هذه الامور، تكون لها مصاديق حقيقية خارجية يعتبر نظيرها المنشئ في الذهن؛ فالملكية يكون له مصداق حقيقي و هي السلطة الخارجية التي تكون للإنسان علي بعض الأشياء أو علي أعضائه، يتصرف فيها، كيف يشاء. و البائع يفرضها و يعتبرها في الذهن للمشتري في مقابل الثمن المعين. و يكون لها آثار كثيرة في المجتمع الإنساني.

و كذا الزوجية، لها مصداق حقيقي، و مصداق اعتباري ذهني فرضي، فمصداقها الحقيقي هو الشيئان يكون أحدهما في جنب الآخر، و ينضم احدهما إلي الآخر كاليدين و الرجلين و العينين و الحذاءين، هما زوجان حقيقة و لكن وجودها الاعتباري هو ما يحدث بسبب الإنشاء بين رجل و امرأة و إن كانت بينهما مسافة بعيدة خارجية، هذه خلاصة القول في معني الإنشاء إجمالا.

و للكلام في هذه الامور محل آخر، قد شرحناها هناك «1».

فقد تلخّص مما ذكرنا، ان الوسوسة في إمكان صدور إنشاء النكاح من العوام في غير محلّه، و أنّه ليس إلّا كإمكان صدور إنشاء البيع و الهبة و الإجارة و غيرها منهم. فكل أحد يعرف الفرق بين بعت الأخباري، (مثل بعت أمس) و بعت الإنشائي؛ و كذا الأمر في زوجت الأخباري و الإنشائي.

***

______________________________

(1). راجع أنوار الأصول 1/ 50.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 183

إنّما الكلام في علم المنشئ بمفاد الكلمات التي يذكرها في مقام الانشاء.

هل اللازم معرفتها تفصيلا أو يكفي إجمالا أو لا تجب معرفتها لا إجمالا و لا تفصيلا.

توضيح ذلك: إذا قال البائع: بعت هذا به هذا؛ أو قال العاقد للنكاح: زوجت

موكلتي موكلك بالصداق المعلوم؛ فقد يتصور فيها ثلاث حالات:

1- أن يعرف الفعل و الفاعل و المفعول و الاعراب و البناء و صيغة المتكلم و المخاطب و غير ذلك، و هذا هو العلم التفصيلي بمفاد الكلام.

2- أن يعرف أنّ مفاد هذه الجملة إيجاد علقة النكاح بين هذا الرجل و المرأة، من دون أن يعرف تفاصيل الكلام.

3- أن لا يعرف شيئا من ذلك، و توهم أنّه إذا تكلم هذه الجملة تحصل العلقة قهرا، و بعبارة اخري لم يقصد منه شيئا و لم تكن إلّا لقلقة اللسان.

لا شك في صحة الإنشاء علي الأول، و عدم صحته علي الثالث، إنّما الكلام في الثاني منها، و الظاهر صحته، سواء علم معني الجملة فقط من دون أن يعرف أنّ العلقة واقعة بلفظ زوجت أو موكلي، أو عرف ذلك من دون أن يعرف خصوصيات كل لفظ.

و الدليل علي ما ذكرنا هو حصول معني الإنشاء بالوجدان حينئذ.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 184

[المسألة 9: تعتبر الموالاة و عدم الفصل المعتد به بين الإيجاب و القبول]

اشارة

المسألة 9: تعتبر الموالاة و عدم الفصل المعتد به بين الايجاب و القبول.

اعتبار الموالات بين الإيجاب و القبول

أقول: لا فرق بين عقد النكاح و سائر العقود من هذه الجهة؛ فلو كان هناك دليل علي اعتبار الموالاة، جري في الجميع، و اعتبارها مشهور بين جماعة من الأعلام و إن لم يتعرض له كثير من الأكابر، حتي أنّ المحقق لم يذكر اعتبارها لا هنا و لا في البيع. و ذكر صاحب الجواهر في كتاب البيع كلاما قصيرا فيه.

الادلة الدالة علي اعتبار الموالات

و كيف كان غاية ما يمكن الاستدلال به، علي اعتبارها، مضافا إلي أصالة الفساد في صورة ترك الموالاة، أمران:

1- و هو العمدة، أنّ العقد غير صادق مع الفصل المفرط، لأنّ العقد هيئة اتصالية بين الايجاب و القبول، بل هما بمنزلة كلام واحد، و من الواضح خروجه عن الوحدة مع الفصل الطويل.

إن قلت: العقد، هو الامر النفساني الذي هو العهد، و إن شئت قلت، هو اتّصال الالتزامين النفسيين؛ و هذا المعني حاصل ما لم يرجع احدهما عن التزامه.

قلنا: مجرد الالتزام الباطني، غير كاف في الإنشاء، بل الإنشاء هو الايجاب و القبول باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة لإيجاد الأمر الاعتباري عند العقلاء مقارنا للالتزام النفسي بالعمل بمفاده؛ و المعاقدة أمر واحد يحصل من تركيب الايجاب و القبول، و هذا لا يحصل مع الفصل الطويل.

إن قلت: كثيرا ما يقع الفصل الطويل بين الايجاب و القبول كما هو المعمول في البيع، فيكتب التاجر لصديقه في بلد آخر بكتاب للبيع أو الشراء، و قد تصل إليه بعد اسبوع، فيرسل الجواب بالقبول، فيقع بينهما الفصل باسبوعين، مع ذلك يكون العقد عقدا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 185

و كثيرا يرسل المهدي هديته من بلد إلي بلد بعيد فتصل إليه بعد شهر فيقبل إنشاء الهدية بعد هذه المدة الطويلة، و لو كان الفصل

الطويل مضرا، كان جميع هذه الهدايا باطلة.

و قد روي كثير من الفقهاء و أرباب السير، أنّ النجاشي، بعد إسلامه، أرسل إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله المارية القبطيّة بعنوان الهدية، (لعله مع هدايا اخري) و قبلها النبي صلّي اللّه عليه و آله.

قلنا: أمّا الكتابة- بناء علي جواز الإنشاء بها في غير النكاح و هو الحق- فهي أمر باق لا تزول بمضي الزمان إلّا إذا كان الفصل خارجا من المتعارف كالسنين، و الألفاظ ليس كذلك، ليس لها بقاء إلّا بمقدار المعاطاتية في نظر العرف، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

و أمّا الهدية المعاطاتية فهي خارجة عمّا نحن فيه، لأنّ الايجاب و القبول يحصل بمحض وصول الهدية بيد المهدي إليه في زمن واحد، و ليس ايجابها بارسالها.

2- عموم وجوب الوفاء بالعقود، منصرف إلي المتعارف، و المتعارف اتّصال الفاظ الايجاب و القبول اتّصالا عرفيا، فلو فرض صدق العقد علي ما خرج عن المتعارف، بأن كان الفصل بينهما باسبوع أو أقلّ أو بشهر أو سنة، فلا أقل أنّه لا شك في خروجه عن منصرف المطلقات، و الأصل يقتضي الفساد.

*** و قد يستدل علي جواز الفصل، بما مرّ من رواية سهل الساعدي، المروي في كتب الفريقين، تارة متصلا إلي سهل، و اخري من طرقنا مسندا إلي الإمام الباقر عليه السّلام بسند معتبر، يرويها عن النبي صلّي اللّه عليه و آله، و لم يرو من طرقنا متصلا إلي سهل الساعدي، ما عدا رواية رواها في المستدرك، في المجلد 14 في أبواب عقد النكاح، عن عوالي اللئالي، عن سهل الساعدي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله. «1»

و قد عرفت وقوع الفصل الكثير فيها بسبب السؤال عن المهر، و جواب الاعرابي، و

ردّ الجواب مرارا، ثم بعد ذلك صدر ايجاب العقد من النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله وكالة أو ولاية، عليها.

و يجاب عنه، أوّلا، ان هذا المقدار غير قادح بالموالاة، إذا الواجب هو الموالاة العرفية

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 313، الحديث 16801.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 186

لا العقلية، لا سيّما إذا كان الفصل بذكر متعلقات النكاح. كما حكاه في الحدائق، فقال: ربّما اجيب بأنّه لا بأس به إذا كان الكلام لمصلحة العقد؛ إنّما المانع تخلل الكلام الأجنبي. «1»

و ثانيا، الظاهر إنّ القبول وقع بعد ايجاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من الأعرابي، و إن لم يذكر في الرواية، فان قوله: زوجنيها؛ قبل تعيين المهر كان من قبيل الاستدعاء و الخطبة، بل يظهر مما روي من طرقنا بسند معتبر، أنّ الرجل لما قال: مالي شي ء؛ انصرف عنه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله حتي اعادت المرأة مرّتين و في كل مرّة قال صلّي اللّه عليه و آله: من لهذه؟ فلم يقم غير الأول، ثم سأله عن ما يحسنه من القرآن فجعل المهر تعليمها «2».

قال العلّامة المجلسي (قدس الله سرّه الشريف) بعد نقل الرواية: أنّه صحيح. ثم قال و مضمونه مشهور بين الخاصة و العامة، و استفيد منه أحكام.- إلي أن قال: - الثالث، الفصل بين الايجاب و القبول و هو خلاف المشهور، و ربما يوجه بأنّها كانت من مصلحة العقد و إنّما يضر الكلام الأجنبي. و يظهر من التذكرة جواز التراخي بأكثر من ذلك، فانّه اكتفي بصدورهما في مجلس واحد. «3»

و علي كان حال دليل اعتبار الموالاة ظاهر، و لا دليل علي خلافه.

*** بقي هنا امور

1- هل يكفي وقوعهما في مجلس واحد

هل المدار في الموالاة هو اعتبار صدورهما

في مجلس واحد كما حكي عن التذكرة.؟

الظاهر، أنّه علي اطلاقه ممنوع. فانه قد يكون بينهما فصل طويل علي خلاف المتعارف، فاللازم ايكال الامر إلي العرف و صدق العقد، و كونه علي وفق المتعارف. و الله العالم.

______________________________

(1). المحقّق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 162.

(2). الوسائل 14/ 195، الحديث 3، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(3). العلّامة المجلسي، في مرآت العقول 20/ 109.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 187

2- هل التخاطب بالتليفون و ما اشبهه بحكم مجلس واحد؟

لو كان المدار علي وحدة مجلس العقد، فهل اللازم رعاية المجلس الواحد المكاني، أو يكفي كل ما أمكن فيه التخاطب، كما إذا اتصل وكيل الزوج و الزوجة بالتليفون و ما أشبه ذلك.؟ الظاهر كفايته، لحصول التخاطب الذي يراد من الاشتراك في المجلس.

3- لا يضر الفصل بمتعلقات الايجاب و القبول

الفصل بمتعلقات الايجاب و القبول و ذكر المهر و خصوصياته و الشروط الموجودة في العقد و لو كانت كثيرة، لم يناف اتّصال العقد و وحدته العرفية، كما هو كذلك في جميع العقود من البيع و الاجارة و غيرهما.

4- كلام من سيدنا الاستاذ الحكيم

قال سيدنا الاستاذ الحكيم (قدس سره): لا تعتبر الموالاة الحقيقية و لا العرفية في صدق العقد؛ انما المعتبر أن يكون الموجب منتظرا للقبول، فإذا وقع القبول في ذلك الحال، كان عقدا. فلذا لو اوجب الموجب، فلم يبادر صاحبه إلي القبول، فوعظه و نصحه حتي اقتنع؛ فقال: قبلت؛ صح عقدا … فالمدار علي صدق المطابقة. «1»

و الظاهر أنّ ما أفاده قدّس سرّه مجرد ادعاء، أو يعود إلي نزاع لفظي. فانّ الموالاة في ما ذكره حاصلة؛ و لو حصل هناك فصل طويل يضرّ بالموالاة العرفية، لم يكف و لو كان الموجب منتظرا؛ مثل ما إذا انتظر اسبوعا أو اياما.

***

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 379.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 188

[المسألة 10: يشترط في صحة العقد، التنجيز]

اشارة

المسألة 10: يشترط في صحة العقد، التنجيز. فلو علقه علي شرط و مجي ء زمان، بطل. نعم، لو علقه علي امر محقق الحصول كما إذا قال في يوم الجمعه؛ انكحت ان كان اليوم يوم الجمعة؛ لم يبعد الصحة.

في اعتبار التنجيز

أقول: هذه المسألة، مما تعرضت لها الاصحاب في كتب كثيرة في الوقف و الوكالة و النكاح و البيع، و في الثلاثة الاولي اكثر من الاخيرة؛ لعله لشدة الابتلاء بها فيها، دون الاخير.

و كيف كان، المشهور اعتبار التنجيز و فساد العقد مع التعليق. بل ادعي عليه الاجماع غير واحد منهم.

قال المحقق الثاني، في جامع المقاصد، في كتاب الوكالة: يجب ان تكون الوكالة منجزة عند جميع علمائنا. فلو علقها علي شرط، و هو ما جاز وقوعه كدخول الدار؛ صفة، و هي ما كان وجوده محقّقا كطلوع الشمس؛ لم يصح. و ذهب جمع من العامة الي جوازها معلقة، لان النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله قال في غزاة موتة: اميركم جعفر، فان قتل فزيد بن حارثة … و التأمير في معني التوكيل. و لأنّه لو قال: انت وكيلي في بيع عيدي، إذا قدم الحاج؛ صح اجماعا. «1»

و ذكر هذا الشرط في كتاب الوقف، «2» و كذا النكاح. «3»

و قال في كشف اللثام: و يشترط التنجيز اتفاقا؛ إذ لا عقد مع التعليق؛ خصوصا و امر الفروج شديد، فلو علقه و لو بامر متحقق كان يقول: ان كان اليوم يوم الجمعة فقد زوجتك؛ لم يصح، و ان لم يرد التعليق. لأنه غير صريح فهي بمنزلة الكناية. «4»

و لكن مع ذلك حكي التأمل في البطلان عن المحقق الأردبيلي، و المحقق

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد، 8/ 180 (1/ 484 ط. ق).

(2). المحقق الكركي، في

جامع المقاصد، 9/ 14 (1/ 513 ط. ق).

(3). المحقق الكركي، في جامع المقاصد، 12/ 77، (2/ 301 ط. ق).

(4). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 48، (2/ 12 ط. ق).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 189

السبزواري، بل عن المحقق القمي الجزم بالصحة في الوكالة؛ و اختار سيدنا الاستاذ الخوئي (قدس سره) في مصباح الفقاهة، الصحة في جميع العقود. «1» و هو غريب!.

اقسام التعليق

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛ أنّ التعليق يتصور علي أقسام و قد ذكر له شيخنا العلّامة الأنصاري في كتاب البيع، ستة عشرة صورة، و العمدة من بينها أربع صور:

1- إذا كان التعليق، علي أمر متحقق الوجود في الحال أو الاستقبال.

2- إذا كان معلقا علي أمر غير معلوم الوجود (في الماضي أو المستقبل)؛ و كل واحد أمّا أن يكون التعليق فيه علي أمر يكون مقتضي طبيعة العقد، أو علي أمر زائد عليها.

و الأول، مثل أن يقول: إن كان هذا المال لي، فقد بعته منك. (إذا كان ملكه له معلوما).

و الثاني، أن يقول: إن كان هذا يوم الجمعة، فقد زوجتك. (إذا كان معلوما).

و الثالث، كان يقول: إن كنت عاقلا بالغا، فقد وكلتك. (إذا كان عقله أو بلوغه مجهولا).

و الرابع، أن يقول: إن قدم الحاج غدا، فقد بعته منك. (إذا كان قدوم الحاج غير معلوم).

و كلّ ذلك يمكن أن يكون معلقا علي أمر حالي أو استقبالي.

و الذي يظهر من كلماتهم، ان جميع هذه الصور، ليست ممّا انعقد الإجماع علي بطلانه؛ بل الإجماع المدعي في بعض الصور.

استدل علي بطلان التعليق بامور

اشارة

و علي كل حال فقد استدل علي البطلان، بامور:

1- الإجماع، و لكن حال الإجماع في هذه المسائل معلوم.

2- إن الإنشاء هو الإيجاد، و التعليق في الإنشاء هو التعليق في الإيجاد (المتحد مع الوجود)؛ و من الواضح أنّ التعليق في الوجود، لا معني له؛ بل أمره دائما دائر بين النفي و الإثبات.

______________________________

(1). راجع أنوار الفقاهة، كتاب البيع 1/ 143. و السيد الخوئي، في مصباح الفقاهة 3/ 70.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 190

و إن شئت قلت: كما أنّ الإيجاد التكويني لا يقبل التعليق؛ (كان يقول القائل: أو جدت الضرب أو القتل، إن كان

زيد شارب الخمر أو قاتلا). فانّ إيجاد الضرب هو فعله في الخارج، و هو لا يقبل التعليق؛ كذلك الايجاد التشريعي و الاعتباري في العقود و الايقاعات و غيرها، لا يقبل التعليق.

و لذا اشكل الامر عليهم في باب الواجب المشروط، حيث إنّ الأمر في قوله: إن استطعت فحجّ؛ أو، إن جاء زيد أكرمه، من قبيل الانشاء، و التعليق في الإنشاء محال. فانه لا معني لكون الشي ء موجودا علي تقدير و معدوما علي تقدير آخر، بلّ هو امّا موجود أو معدوم.

و هذا المعني هو الذي الجأ شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) إلي القول برجوع الواجب المشروط إلي الواجب المعلق و هو ما كان القيد في متعلق الإنشاء لا في نفس الإنشاء، فقوله: إن استطعت فحج، بمعني قوله: يجب عليك الحج عند الاستطاعة، أو الحج مستطيعا. و كذلك قوله: إذا رأيت الهلال فصم؛ أي يجب عليك الصوم المقيد بكونه بعد رؤية الهلال. و هذا ما يقال من أنّ القيد يرجع إلي المادة لا الهيئة، أي إلي نفس الحج أو الصوم لا إلي إيجابها و كذلك قوله: إذا دخل الوقت فصلّ؛ كل هذه الشروط قيود في الواجب لا الوجوب، لعدم إمكان التعليق في الإنشاء.

و إن كان هذا التفسير خلاف الوجدان و المرتكز في الأذهان.

و لعلّ هذا أيضا هو الذي الجأ سيدنا الاستاذ الخوئي (رحمه الله) إلي القول بان الإنشاء ليس أمرا ايجاديا، بل هو ابراز ما في الضمير من الإرادة أو الاعتبار النفساني.

و فيه اشكال ظاهر، لأنّ كلّ أحد يري الفرق بين قولنا: افعل؛ و قولنا، أبرز لك ما في ضميري من الإرادة. (و إلّا احتمل الإنشاء الصدق و الكذب، لأنّه نوع من الحكاية) و كذلك بين زوجت نفسي

لك؛ و بين أبرز لك ما في ضميري من اعتبار الزوجيّة و البناء عليها.

و الانصاف، أنّ التعليق في الإنشاء أمر ممكن لا استحالة فيه، و ما يدعي من الاستحالة شبهة في مقابل الوجدان و البرهان، و سنكشف النقاب عنها.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 191

أمّا الوجدان؛ فلأنّ الشّرط بحسب القواعد العربية و بحسب الارتكاز العرفي، يعود إلي الهيئة. فلذا إذا قال: إذا دخل الوقت، يجب عليك الصلاة؛ كان الظرف متعلّقا ب يجب لا الصلاة. و شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) اعترف بذلك، و لكن ذهب إلي ارتكاب امر مخالف للظاهر، هربا من محذور استحالة التعليق في الإنشاء.

و أمّا البرهان؛ فيتوقف علي فهم معني أن، الشرطيّة، و معادله في الفارسيّة، (اگر)؛ و من العجيب أنا نتكلم ليلا و نهارا بهذه الألفاظ، و لها معان واضحة مرتكزة في أذهاننا اجمالا؛ أمّا عند شرحها و تحليلها يصعب الأمر علينا جدّا.

و الذي يقوي في النظر، أن معناه نوع من الفرض. و قولنا إن جاء زيد …، نفرض أنّه جاء زيد …؛ لا أقول أنّ له معني فعليّ، بل له معني حرفي، و لكن إذا لو حظ استقلالا يعود إلي ما ذكر، كالفرق بين معني من و الابتداء.

فاذا قال: إن جاء زيد أكرمه؛ معناه: نفرض أنّ زيدا جاء، ففي هذا الفرض يجب عليك الأكرام. فالإنشاء هنا أيضا إيجاد بدون التعليق، و لكن إنشاء في فرض. و الفرق بينهما دقيق. و إن شئت توضيحا أكثر، فقس حال المنتظر لقدوم زيد، فسمع صوتا عند الباب، فتخيل أنّه صوت زيد، فقال: يا غلام، قم أكرم زيدا؛ فذهب فلم ير زيدا. و من الواضح أنّ الأمر بالقيام و إكرام زيد في هذه الحالة

ليس معلقا علي شي ء، بل بعث قطعي باتّ؛ و لكن هذا البعث كان بعد تخيل مجي ء زيد، فينحصر باعثيته بفرض مجي ء زيد. و من هنا يجتمع رجوع القيد إلي الهيئة الذي مفادها الإنشاء، مع عدم إمكان التعليق في الإنشاء الذي يعود إلي إيجاد أمر اعتباري.

3- تلخّص من جميع ما ذكر، أن اشتراط التنجيز في العقد، ليس بسبب استحالة التعليق، بل الظاهر، أنّ السبب الوحيد فيه دليل ثالث، و هو عدم كون التّعليق متعارفا و مقبولا عند العقلاء؛ فلذا لا نري أحدا يقول: زوجت نفسي إذا اشتريت دارا آخر؛ أو إن كان هذا اليوم أول الشهر؛ أو غير ذلك من قيود التعليق.

و لعل السّر فيه، ان طبيعة العقود عند العقلاء مبنيّة علي الجزم و القاطعيّة حتي يكون كل من الطرفين عالما بما له من الوظيفة، و إلّا كان مثارا للنزاع و المخاصمة و المشاجرة،

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 192

و لذا لا يعتنون بالعقود المعلّقة؛ فاعراض العقلاء من أهل العرف عن العقود المعلقة في أبواب المعاملات و النكاح و غيرها، هو العمدة في عدم صحتها، لما عرفت غير مرّة أنّ العمومات الدالة علي الصحة منصرفة إلي ما هو المتعارف بين العقلاء، و لو كان التعليق علي أمر محقق حالي، كان لغوا.

بل يمكن أن يقال إنّ صدق عنوان العقد علي غير المنجز، بعيد. لأنّه يدل علي استحكام أمر و شدّة و انعقاد، و الإنشاءات المعلقة ليست كذلك، و إن كنت مصرّا علي صدق عنوان العقد فلا أقل من الانصراف إلي غيرها، كما مرّ. نعم له بعض الاستثناءات، ستأتي الإشارة إليها إنشاء اللّه.

4- و هناك دليل آخر، تمسّك به بعضهم لعدم جواز التعليق، و هو تخلف الإنشاء

من المنشأ، (و هذا يجري في التعليق علي الامور المستقبلة).

و حاصله أنّ الإنشاء إيجاد، و الإيجاد ملازم للوجود، فكيف يصح أن يكون الإنشاء الذي هو إيجاد، حاليا؛ و الوجود، استقباليا؛ مثلا يكون إنشاء الزوجية يوم السبت، و وجودها يوم الجمعة، إذا علقها علي ذلك اليوم.

و فيه أوّلا: أنّه غير صحيح علي التفسير المختار في معني التعليق في الإنشاء؛ لأنّ الإنشاء ليس حاليا، بل إنّما صدر الإنشاء بعد فرض يوم الجمعة مثلا؛ فهو إيجاد اعتبار في فرض خاص و هو يوم الجمعة، و من المعلوم أنّ الوجود أيضا حاصل فيه فلا تفكيك.

و ثانيا: الإنشاء المعلق (علي فرض صحته، كما هو المفروض) ليس إيجادا مطلقا، بل الإيجاد أيضا معلق كالوجود، فكلاهما معلقان متلازمان كما هو ظاهر.

بقي هنا امور
العقود التي يكون التعليق من طبيعتها

هناك عقود يكون التعليق جزءا من طبيعتها، كالوصيّة التمليكيّة. يقول الموصي: إذا متّ فهذا الدار لك؛ أو يقول: ان مت فهذا الفرس لك. و كالتدبير في أبواب العبيد و الإماء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 193

فيقول المولي لعبده: أنت حرّ دبر وفاتي؛ قال في الجواهر: لا خلاف بين المسلمين في تحققه بإنشاء عتق العبد، معلّقا له علي ما بعد وفات المولي. «1»

و كذا المكاتبة، فقد ذكروا في إنشائه قول المولي لعبده: كاتبتك بهذا المقدار من العوض في هذا المقدار من الزمن، فاذا أديت فأنت حرّ. و قد يقال ذكر الجملة الأخيرة غير واجبة بعد كونه في نيته.

و علي أي تقدير، فهي إنشاء الحريّة علي فرض أداء مال الكتابة. ففي أمثال ذلك يكون التعليق غير مضرّ بصحة العقد، بل قد يقال أن النذر المشروط أيضا من هذا القبيل، كما إذا قال: إن شفاني اللّه، فللّه عليّ كذا و كذا.

و لعمري أنّ

أمثال هذه العقود من أدلة عدم استحالة التعليق في الإنشاء في الجملة، و أنّ البطلان في كثير من العقود لعدم تعارفه فيها، و لا إشكال فيما يتعارف. و أمّا الوكالة، فهي من العقود التي قد تكون منجزة، و قد تكون معلقة، و ليس التعليق فيها مخالفا للمتعارف بين العقلاء. و من هذا القبيل ما روي من طرق الخاصة و العامة في قضية غزوة موتة، و أنّه صلّي اللّه عليه و آله قال للمجاهدين: إنّ جعفرا أميري عليكم و لو قتل جعفر فزيد بن حارثة …

بناء علي كون الامارة هنا بمعني الوكالة؛ و لكن الامارة بنفسها من المقامات الاعتبارية و الامور الإنشائية و ليست من الوكالة و لكن علي كلّ تقدير، تكون الرواية شاهدة علي جواز التعليق في الإنشاء.

*** و الحاصل أنّ العقود و الايقاعات علي أقسام ثلاثة:

1- قسم منها بطبيعتها تقتضي القطع و البت؛ و التعليق فيها ينافي ما يراد منها من المقاصد العقلائية، و أكثر العقود و الايقاعات إلّا ما شذّ منها، من هذا القسم. (كالبيع و الإجارة و النكاح و الطلاق و المضاربة و الهبة و المزارعة و المساقاة و غيرها).

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 3/ 194.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 194

و التعليق في هذه الموارد مخالف لعرف العقلاء، لو لم نقل مخالف لمفهوم هذه العقود، و الشارع قد امضاه، لعدم ردعه عنه.

2- قسم آخر يكون التعليق في طبيعتها لا ينفك منها. (كالتدبير و المكاتبة و الوصية التمليكية و النذر)، و هذا القسم لا يضرها التعليق؛ لأنّ هناك مصالح اقتضت تشريع هذه العقود في العرف و الشرع، كالحاجة إلي تعيين تكليف بعض الأموال بعد الوفاة، و حال العبد من حيث

الحرية في المستقبل، و شبه ذلك، و لذا أسسها العقلاء و أمضاها الشرع القويم، و ليعلم أنّ التعليق فيها في غير ما هو مقتضي طبيعتها، غير جائز أيضا.

3- قسم ثالث منها يكون فيها التعليق تارة و خال عنه اخري، و ذلك كالوكالة (أو التأمير) و لا يبعد جوازه فيها من بعض الجهات، و لكن في غير المتيقن منه، يحكم بالفساد بمقتضي القاعدة.

قد عرفت أنّ التعليق علي اقسام

قسم منها، ما هو معلق علي أمر مشكوك الحصول في المستقبل، و لا يعود إلي طبيعة العقد، كتعليق عقد الزواج علي مجي ء أخيه أو مساعدة المعاينات الطبيّة، فتقول المرأة:

زوجتك نفسي لو جاء أخي؛ أو لو كانت المعاينات مساعدة. فهذا القسم باطل قطعا؛ لما مرّ.

و الثاني، ما هو معلق علي أمر استقبالي قطعي الحصول، كالمثال السابق إذا علم بمجي ء اخيه، أو قالت: ان طلعت الشمس غدا، و امثال ذلك تعدّ لغوا.

و قسم ثالث، يكون التعليق علي امر مشكوك الحصول في الحال. و هذا علي قسمين:

ما يكون من شرائط صحة العقد، كقول الفضولي: بعتك هذا لو رضي مالكه؛ لو كانت هذه المرأة زوجتي طلقتها؛ أو لو كان هذه الدار ملكي و هبتها لك؛ و الظاهر عدم الاشكال في صحتها، لان هذه الشروط مندرجة في طبيعة العقد، و إلّا اشكل الامر في موارد الاحتياط في الزواج و الطلاق و شبههما.

و قسم رابع ما لا يكون كذلك، كالتعليق علي مجي ء الاخ حالا، مع عدم علمه بذلك

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 195

نفيا و اثباتا؛ و الظاهر بطلان ذلك أيضا.

و قسم خامس، يكون التعليق علي امر معلوم الحصول في الحال، و هو لغو. و غير ذلك مما يعلم حاله مما ذكرنا من الادلة.

التمييز بين الشروط و التعليق

قد يتوهم ان الشروط المأخوذة في العقود، كشرط السلامة من العيوب في الزوج أو الزوجة، أو عدم وجود زوج آخر له، أو عدم اخراجها من بلدها، كونها علي مستوي خاص من الدراسة، أو شبه ذلك، من قبيل التعليق في الانشاء؛ فكيف نري اتفاقهم في صحة امثال هذه الشروط مع اتفاقهم علي بطلان التعليق؟

و لكن الجواب عن هذا التوهم ظاهر، فانه فرق واضح بين تعليق الانشاء علي

شرط، و بين الشروط المأخوذة في ضمن العقد؛ فان الثاني قد يكون من سنخ الالتزام بشي ء في ضمن التزام آخر؛ و اخري يكون قيودا و شروطا في المنشأ لا الانشاء.

فان كان من قبيل الالتزام في الالتزام، معناه ان العاقد التزم بامرين، باصل النكاح و التزم في ضمنه بانه لا يخرج الزوجة عن بلدها، و اين ذلك من التعليق في اصل الانشاء.

و ان قلنا انها قيود و اوصاف في المنشأ، معناه انها زوجت نفسها مثلا للزوج الفلاني المتصف بصفات كذا، أو الزوجة مع صفات كذا، و كل ذلك أجنبية عن تعليق اصل الإنشاء كما هو واضح.

و لو جعلها في صورة التعليق في الإنشاء، بأن قالت: زوجتك نفسي إن كنت دكتورا في الطب؛ مثلا؛ أو إن كنت ذا ثروة كذا و كذا؛ بطلت. لعين ما مرّ سابقا.

الشروط الحافظة لحقوق الزوجة

و قد شاع بيننا في الأزمنة الأخيرة، اشتراط شروط كثيرة بنفع الزوجة، يناسب البحث عن صحتها أو عدم صحتها، بمناسبة ما مرّ من البحوث. فنقول و منه جل ثنائه التوفيق:

أوّلا، ان الطلاق و إن كان بيد الرجل، و لكن استفادة السوء منه و الاجحاف علي

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 196

النساء من ناحية الأزواج و هضم حقوقهن، تسبب لجعل هذه الشروط علي الرجال لحفظ حقوقهن، و منع الرجال عن الاضرار بهن مهما أمكن (و كم من تضييقات في الحقوق الاجتماعيّة تسبّبها سوء التدبير في الانتفاع بالحقوق المشروعة).

كثير من هذه الشروط (اثنا عشر شرطا) تعود إلي اعطاء حق الوكالة بلا عزل في ضمن عقد النكاح، أو عقد خارج لازم آخر، بان الزوج لو صار معتادا بالمواد المخدرة، أو جني جناية توجب إخلاده في السجن أو في زمن طويل، أو أساء

العشرة مع المرأة، أو شبه ذلك؛ كانت المرأة وكيلا، أو وكيلا في التوكيل، في طلاق نفسها.

و هناك شرط آخر، و هو أنّه لو طلقها من دون تقصير لها، كان علي الزوج اعطائها نفس أمواله التي اكتسبها بعد النكاح.

و لكن هذا الشرط، لا يخلو من إشكال؛ لما ذكر في محلّه أنّ الجهل في الشروط، يضر بصحّة الشرط، لأنّ عموم النهي عن الغرر يشمله. و قد ذكرنا في مباحث البيع، أنّ التقييد بالبيع الواردة في قوله عليه السّلام: نهي النبي صلّي اللّه عليه و آله عن بيع الغرر. لو ثبت صحته، لا يضرنا بعد إمكان إلغاء الخصوصية عنه. لا سيما أنّه امضاء لبناء العقلاء في باب العقود و الايقاعات.

هذا مضافا إلي أنّ الجهل في الشروط قد يسري إلي أصل العقد، كبيع الحيوان بشرط تمليك ما في بطنه (و إن كان محل الكلام ليس من هذا القبيل). و راجع كلام شيخنا الأنصاري (قدس سره) في أبواب الشروط في أواخر أبواب الخيارات؛ فقد ذكر لصحة الشرط تسعة شروطا، سادسها عدم الجهالة؛ فانّه ينفعك في المقام.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 197

[المسألة 11: يشترط في العاقد المجري للصيغة، البلوغ و العقل]

اشارة

المسألة 11: يشترط في العاقد المجري للصيغة، البلوغ و العقل. فلا اعتبار بعقد الصبي و المجنون و لو ادواريا، حال جنونه؛ سواء عقدا لنفسهما أو لغيرهما. و الأحوط البناء علي سقوط عبارة الصبي. لكن لو قصد المميز المعني و عقد لغيره وكالة أو فضولا و اجاز؛ أو عقد لنفسه مع اذن الوليّ أو اجازته؛ أو اجاز هو بعد البلوغ يتخلص بالاحتياط. و كذا يعتبر فيه القصد، فلا اعتبار بعقد الساهي و الغالط و السكران و أشباههم. نعم في خصوص عقد السكري إذا عقبها الإجازة بعد افاقتها لا

يترك الاحتياط بتجديد العقد أو الطلاق.

الشروط المعتبرة في العاقد

أقول: ذكر في هذه المسألة شروطا ثلاثة، في العاقد المجري للصيغة، و هي العقل و البلوغ و القصد؛ و مقابل الأول المجنون و لو ادواريا حال جنونه (الجنون المؤقت). و مقابل الثاني، غير البالغ و لو كان مراهقا. و مقابل الثالث، السكران أو الساهي و الغالط و الهازل (بناء علي كون المراد من القصد، القصد الجدّي كما هو الظاهر).

و علي كل حال، المشهور بين الأصحاب- كما صرّح به بعضهم- اعتبار البلوغ، و العقل بطريق اولي؛ بل صرّح في جامع المقاصد بأنّه: لا شبهة في أنّ العاقد كائنا من كان …

يشترط فيه البلوغ و العقل و الحريّة؛ فلو عقد الصبي لنفسه أو لغيره، لم يعتد بعبارته، و إن أجاز وليّه. و كذا الصبيّة، و كذا من به جنون ذكرا كان أو انثي، و في حكمه المغمي عليه و السكران. «1»

و أرسله في كشف اللثام ارسال المسلمات. «2» و كذا النراقي في المستند «3».

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 84.

(2). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 52، (2/ 13 ط. ق).

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 99.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 198

ما يدل علي اشتراط البلوغ في العاقد

و الذي يدل علي اشتراط البلوغ هنا، و في سائر العقود، امور:

1- بناء العقلاء من أهل العرف، علي عدم الاعتبار بتعهدات الصبي و المجنون و السكران و أشباههم، فلا يرونهم أهلا لذلك من دون فرق بين أرباب الملل و غيرهم. و هذا أمر واضح حتي في الامم السالفة علي الإسلام، علي اختلاف مشاربهم و مسالكهم. نعم، قد يكون بين الامم فرق في تعيين سنّ التكليف و لكن لا اختلاف بينهم في بطلان عقود الصغار و المجانين و السكران إذا سلب عقله

مطلقا؛ و قد امضاه الشارع المقدس، لعدم ردعه عنه بل تأييده، و هذا من أوضح الدليل علي المقصود، و إن لم يستند إليه الأصحاب في كتبهم.

2- حديث رفع القلم عن الثلاثة: عن الصبي حتي يحتلم، و عن المجنون حتي يفيق، و عن النائم حتي يستيقظ؛ و الحديث معروف و معمول به عند الأصحاب «1».

و قد أورد عليه، بأنّ المراد منه قلم التكليف، لا الأحكام الوضعيّة؛ و لهذا يضمن الغلام و الصبي لو أتلفا مال الغير.

و لكن الانصاف أنّه فرق بين الأحكام الوضعيّة الناشئة عن امور خارجية مثل اتلاف مال الغير، و بين التكاليف الناشئة عن تعهدات اختيارية؛ فإذا كان التكليف ساقطا عن الصبي كان العقود و العهود الباعثة علي أحكام و تكاليف أيضا ساقطة عنه.

3- الأحاديث الدالة علي أنّ عمد الصبي و خطاه واحد، (الواردة في الباب 11 من أبواب العاقلة و غيره). و قد يجاب عنها بانّها ليست ناظرة إلي جميع أحكام الصبيان المترتبة علي العمد، بل هي ناظرة إلي خصوص أبواب الديات؛ و لذا فسّر في بعض الروايات بقوله: عمد الصبيان خطا يحمل علي العاقلة. «2»

و لا أقل من الشك في عموم الحكم فيها، فتسقط عن الاستدلال.

4- ما يدل علي أن الصبي و الصّبيّة إذا بلغا يجوز أمرهما؛ و مفهومه أنّه قبل البلوغ

______________________________

(1). الوسائل 1/ 32، الحديث 11، الباب 4 من أبواب مقدمات العبادات.

(2). الوسائل 19/ 307، الحديث 3، الباب 11 من أبواب العاقلة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 199

لا يجوز أمره في شي ء. مثل ما رواه حمران، عن أبي جعفر عليه السّلام قال (في حديث): أنّ الجارية ليست مثل الغلام، أنّ الجارية إذا تزوجت و دخل بها و لها تسع سنين

ذهب عنها اليتم و دفع إليها مالها و جاز أمرها في الشراء و البيع … و الغلام لا يجوز أمره في الشراء و البيع، و لا يخرج من اليتم حتي يبلغ خمس عشرة سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك «1».

و الحديث و إن كان ضعيف السند، و لكن يمكن انجباره بعمل المشهور؛ و مورده و إن كان البيع و الشراء، و لكن الظاهر إلغاء الخصوصية القطعية عنه، لعدم الفرق بين البيع و النكاح من هذه الجهة.

هذا؛ و هل يستفاد من هذه الأدلة، أنّ الصغير لا يجوز أمره و لا يصح نكاحه مطلقا، سواء كان باذن الولي و إجازته؛ حتي لو كان المتولي لأمر النكاح هو الولي، و كان الصبي مجريا لإنشاء عقد النكاح فقط فلا يصح عقده لنفسه باذن الولي و لا لغيره بعنوان الوكالة في إجراء الإنشاء فقط؛ و بعبارة اخري هل يكون الصغير مسلوب العبارة.

الظاهر من الأدلة، نفي جواز أمره مطلقا، لا خصوص استقلاله به، فلا يجوز وكالته عن الغير في إجراء العقد، لأن الوكالة عقد من العقود لا يصح من الصبي؛ و كذا لنفسه باجازة الولي. و لا أقل من الشك، فيحكم بالفساد. و شمول عمومات وجوب الوفاء بالعقود له بعيد جدا.

ما يدل علي اعتبار العقل في العاقد

و أمّا اعتبار العقل فهو أظهر، لعدم الخلاف فيه بين الفقهاء، و لجريان بناء العقلاء عليه، فلا يقبل أحد منهم عقود المجانين و تعهداتهم سواء كانت لهم أو عليهم، و يدل عليه أيضا حديث رفع القلم بالبيان الذي ذكرناه.

و من الواضح عدم الفرق بين أقسام الجنون بعد وحدة الملاك و كذا ما يشبه الجنون من

______________________________

(1). الوسائل 13/ 142، الحديث 1، الباب 2 من أبواب احكام الحجر.

أنوار الفقاهة

- كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 200

النوم أو الاغماء أو السكر، لاتحاد الجميع فيما ذكر.

نعم، هناك رواية صحيحة تدل علي أنّ السكري إذا أفاقت و أجازت النكاح، صح أمرها؛ و هي ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام «1» عن ابتليت بشرب النبيذ، فسكرت، فزوجت نفسها رجلا في سكرها، ثم أفاقت فانكرت ذلك، ثم ظنّت أنّه يلزمها ففزعت منه فاقامت مع الرجل علي ذلك التزويج؛ أ حلال هو لها، أم التزويج فاسد لمكان السكر و لا سبيل للزواج عليها؟ فقال: إذا قامت معه بعد ما فاقت، فهو رضا منها. قلت: و يجوز ذلك التزويج عليها؟ قال: نعم «2».

و حاصل الرواية صحة إنشاء السكري و إن لم يعتبر رضاها حال السكر، و لكن إذا لحقه الرضا، كفي.

هذا؛ و الرواية و إن كانت صحيح السند و لكنها مخالفة للقواعد من جهات ثلاث:

1- السكري ليس له قصد، فكيف يصح إنشاء العقد منه.

2- في مفروض الرواية، انكار السكري بعد الإفاقة، فلا يصح الحاق الرضا به، كما صرحوا به في الفضولي.

3- المفروض أنّ رضاها بالعقد، كان بتخيل صحة العقد، و لو لا هذا التخيل لما رضيت به، و من المعلوم أنّ مثل هذا الرضا غير كاف؛ كمن رضي بعقد الفضولي بتوهم إن المشتري أخوه ثم تبيّن خلافه.

و من هنا اختلف مواقف الأصحاب في مقابل الرواية؛ فقد صرّح بعضهم بلزوم طرح الرواية لمخالفتها للقواعد المسلمة في الفقه. قال في الرياض: إلّا أنها لمخالفتها الاصول القطعية المعتضدة- في خصوص المقام- بالشهرة العظيمة، لا يجوز التعويل عليها في مقابلها و تخصيصها به … فطرحها رأسا أو حملها علي ما في المختلف و غيره- و إن بعد- متعين. «3»

______________________________

(1).

و المراد منه، هو أبو الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام، فان ابن بزيع ادرك ثلاثة من أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة و السلام)، الكاظم و الرضا و الجواد، و له روايات كثيرة، 229 موردا.

(2). الوسائل 14/ 221، الحديث 1، الباب 14 من أبواب عقد النكاح.

(3). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 45،، (2/ 69 ط. ق).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 201

و في مقابل هذا القول، صاحب الحدائق؛ حيث صرّح بلزوم العمل بها و تخصيص القواعد بها حيث قال: و كيف كان ففي ذلك تأييد لما قدمناه في غير موضع من أنّ الواجب العمل بالرواية و أن يخصص بها عموم ما دلت عليه تلك القواعد المذكورة. «1»

و قد اختار جمع من محققي الاصحاب توجيه الرواية- بدل طرحها أو قبولها- و حملها علي ما لا ينافي القواعد المعروفة المعتبرة من الشرع و ذكروا للتوجيه طرقا.

منها- حمل الرواية علي بيان الحكم الظاهري، بأن يقال إنّه إذا عقدت المرأة علي نفسها و مكنت الزوج من الدخول و إقامت معها مدّة قصيرة أو طويلة، ثم ادعت إن عقدها كان في حال السكر، لم يسمع منها بلا بينة شرعية، فله الزامها بحقوق الزوجية (هذا هو الذي ذكره في كشف اللثام).

و منها- أن يقال أنّها تدل علي كفاية مجرد الرضا بالزوجية لا لأجل ما فعل في حال السكر، بل لأجل الرضا بعده عدم اشتراط لفظ (ذكر هذا الاحتمال المحقق النراقي في المستند).

و منها- حملها علي سكر لم يبلغ حد عدم التحصيل، كما عن المختلف؛ فإنّ للسكر مراتب مختلفة، في بعضها يكون السكران كالنائم الذي يتكلم في نومه، و في بعضها يعقل و يفهم و إن كان في نشأة

من الخمر، و من ذلك قوله تعالي: لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ. «2»

أقول: كل هذه المحامل بعيدة جدا؛ أما الأول فلوضوح مخالفته لصريح الرواية، فليس فيها من الحكم الظاهري عين و لا أثر، بل صريحها بيان حكم المرأة بالنسبة إلي نفسها، لا حكم الزوج بالنسبة اليها.

و أمّا الثاني، فلان كفاية مجرد الرضا، مع مخالفته لما عليه الأصحاب من لزوم اللفظ في النكاح، مخالف لنفس الرواية. لان سؤال الراوي عن النكاح الواقع حال السكر؛ فاجاب عليه السّلام بأنّه يجوز ذلك التزويج عليها بعد رضاها.

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 175.

(2). النساء/ 43.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 202

و أمّا الثالث، فلأنّ مقتضاه عدم الحاجة إلي الرضا بعد الافاقة، مع أنّ صريح الرواية خلافها.

فالاولي طرحها و رد علمها إلي أهلها، لمكان مخالفتها للقواعد المسلمة. توضيح ذلك أنّ المراد من القواعد هنا، الاصول المسلمة الثابتة من الكتاب و السنة و بناء العقلاء الممضي من قبل الشارع المقدس؛ فان مفروض السؤال عدم تمشي القصد من السكري، فلا يصح عقدها؛ فانّه لو تمشي منه القصد لم يحتج إلي الرضا بعده مع أنّ صريح الرواية اعتبار الرضا المتأخر. و الاكتفاء بمجرد الرضا من دون عقد و لفظ، مخالف لقولهم باعتبار اللفظ فيه؛ و قد ورد ذلك في روايات كثيرة.

و مخالفة هذه الاصول المسلمة و إن لم يكن محالا، إلّا أنّه لا يمكن إثباته بمجرد خبر واحد اعرض كثير من الأصحاب عن الفتوي به.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 203

[المسألة 12: يشترط في صحة العقد، تعيين الزوجين]

اشارة

المسألة 12: يشترط في صحة العقد، تعيين الزوجين علي وجه يمتازان عن غيرهما بالاسم أو الإشارة أو الوصف الموجب لذلك، فلو قال: زوجتك احدي بناتي؛ أو قال: زوجت

بنتي فلانة من أحد بنيك؛ أو من أحد هذين؛ بطل.

نعم، يشكل فيما لو كانا معينين بحسب قصد المتعاقدين و متميزين في ذهنهما لكن لم يعيّناهما عند إجراء الصيغة و لم يكن ما يدل عليه من لفظ أو فعل أو قرينة خارجية؛ كما إذا تقاولا و تعاهدا علي تزويج بنته الكبري من ابنه الكبير، و لكن في مقام إجراء الصيغة، قال: زوجت احدي بناتي من أحد بنيك؛ و قبل الآخر.

نعم، لو تقاولا و تعاهدا علي واحدة، فعقدا مبنيّا عليه، فالظاهر الصحة. كما إذا قال بعد التقاول: زوجت ابنتي منك؛ دون أن يقول: زوجت احدي بناتي.

تعيين كل واحد من الزوجين شرط في صحة العقد

أقول: لزوم تعيين كل من الزوجين، مما اتفقت عليهم كلماتهم؛ كما يظهر من الجواهر، و كشف اللثام، و غيره؛ قال في المستمسك إجماعا كما في التذكرة- و اتفاقا- كما في كشف اللثام و في الجواهر حكاه عن غير واحد و في الحدائق نسبته إليهم. «1»

قال في كشف اللثام: و لو زوجهما الوليّ افتقر العقد أو الولي فيه اتفاقا، إلي تعيينها؛ كما لا بدّ من تعيين الزوج مطلقا أمّا بالإشارة أو الاسم أو الوصف الرافع للاشتراك. «2» و أرسله ابن ادريس ارسال المسلّمات. و المراد بذكر الاسم، أن يقول مثلا: زوجتك ابنتي فاطمة؛ و بالوصف، أن يقول مثلا: بنتي الكبري؛ و بالإشارة، أن يقول: بنتي هذا.

أدلّة المسألة

و الذي يدل عليه، مضافا إلي ما ذكر امور:

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 392.

(2). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 49، (2/ 13 ط. ق).

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 204

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 204

1- النهي عن الغرر، سواء كان الحديث بهذه الصورة (نهي النبي صلّي اللّه عليه و آله عن الغرر) أو كان واردا في خصوص البيع، و لكن يمكن إلغاء الخصوصية عنه قطعا.

2- الزوجية معاهدة بين اثنين، و كل منهما يتعهد امورا مهمة و لا معني للتعهد بين إنسان معين و إنسان مجهول؛ أو إنسانين مجهولين كما أنّه لا يمكن تمليك داره بواحد غير معين، و هذا أمر واضح.

3- بناء العقلاء في جميع الامور أيضا علي ذلك، فلم يعهد من أحد منهم نكاح

فرد غير معين ثم تعيينه بالقرعة و شبهها.

نعم، هناك رواية صحيحة قد يتوهم منها المخالفة لما ذكر، و هي صحيحة أبي عبيدة، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام، عن رجل كان له ثلاث بنات ابكار، فزوج إحداهن رجلا و لم يسمّ التي زوج، للزوج و لا للشهود، و قد كان الزوج فرض لها صداقها؛ فلما بلغ ادخالها علي الزوج بلغ الزوج انها الكبري من الثلاثة، فقال الزوج لأبيها: إنّما تزوجت منك الصغيرة من بناتك! فقال أبو جعفر عليه السّلام: إن كان الزوج رءاهن كلهنّ و لم يسم له واحدة منهن، فالقول في ذلك قول الأب؛ و علي الأب فيما بينه و بين الله ان يدفع إلي الزوج، الجارية التي كان نوي ان يزوجها إيّاه عند عقدة النكاح؛ و إن كان الزوج لم يرهن كلّهن و لم يسم له واحدة منهن عند عقدة النكاح، فالنكاح باطل. «1»

و قال في الحدائق، بعد ذكر لزوم تعيين الزوج و الزوجة بحسب القواعد الشرعيّة: أنّ الرواية المذكورة بحسب ظاهرها خارجة عن ذلك، و منافية لما ذكرناه، لأنّها تدل علي أنّ رؤية الزوج لهن كافية في الصحة و الرجوع إلي ما عينه الأب.- ثم ذكر في ذيل كلامه بعد الإشارة إلي اضطراب كلمات المتأخرين في تفسير الرواية- و الحق الحقيق بالاتباع و إن كان قليل الاتباع، هو العمل بالخبر، صح سنده باصطلاحهم أو لم يصح، مهما أمكن أو في مثل هذه المواضع، تخصص به تلك الأخبار الدالة علي تلك القواعد. «2»

و لكن الانصاف أنّ الرواية علي خلاف ما ذكره أدلّ، و هي موافقة للقواعد، لأنّ

______________________________

(1). الوسائل 14/ 222، الحديث 1، الباب 15 من أبواب عقد النكاح.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة

23/ 179 إلي 184.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 205

ظاهرها هو ايكال امر التعيين إلي الأب، و أنّه عينها في قصده، و لو لم يعينها بطل. فاذا رأي الجميع و رضي بكل واحدة منهن، و أو كل أمر التعيين إلي الأب، فالتعيين قد حصل و لزم العقد، يجب قبول قول الأب. و الله العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 206

[المسألة 13: لو اختلف الاسم مع الوصف، أو اختلفا أو احدهما مع الإشارة]

اشارة

المسألة 13: لو اختلف الاسم مع الوصف، أو اختلفا أو احدهما مع الإشارة؛ يتبع العقد لما هو المقصود، و يلغي ما وقع غلطا و خطأ. فاذا كان المقصود تزويج البنت الكبري، و تخيل أنّ اسمها فاطمة، و كانت المسمي بفاطمة هي الصغري، و كانت الكبري مسماة بخديجة، و قال: زوجتك الكبري من بناتي فاطمة؛ وقع العقد علي الكبري التي اسمها خديجة، و يلغي تسميتها بفاطمة.

و إن كان المقصود تزويج فاطمة، و تخيّل أنّها الكبري، فتبين أنّها الصغري، وقع العقد علي المسماة بفاطمة و الغي وصفها بانها الكبري.

و كذا لو كان المقصود تزويج المرأة الحاضرة، و تخيل أنّها كبري، و اسمها فاطمة؛ فقال: زوجتك هذه و هي فاطمة و هي الكبري من بناتي؛ فتبين أنّها الصغري و اسمها خديجة، وقع العقد علي المشار إليها، و يلغي الاسم و الوصف.

و لو كان المقصود العقد علي الكبري، فلمّا تخيّل أنّ هذه المرأة الحاضرة هي تلك الكبري، قال: زوجتك هذه و هي الكبري؛ لا يقع العقد علي الكبري بلا إشكال، و في وقوعه علي المشار إليها وجه، لكن لا يترك الاحتياط بتجديد العقد أو الطلاق.

تعارض علامات تعيين الزوجين

أقول: قد مرّ في المسألة الثانية عشرة، لزوم تعيين الزوجين علي وجه يرفع الابهام من البين، و ذلك يكون بأحد امور ثلاثة: بالاسم، كفاطمة و خديجة؛ و بالوصف، كالكبري و الصغري؛ و بالإشارة، كهذه و تلك؛ و أنّه إذا ابهم العاقد كان العقد باطلا؛ و إذا اجتمعت هذه الامور الثلاثة أو الاثنان منها و كانت متوافقة، فلا كلام؛ و لو تعارضت فما الحكم فيها؟

و لم يتعرض للمسألة إلّا قليل منهم، كالعلّامة في التذكرة فيما حكاه في المستمسك (ج 14/ 394)، و صاحب الجواهر (ج

29/ 159)، و صاحب العروة (في المسألة 18 من احكام العقد) و قد ذكرها الشارحون للعروة؛ بل يظهر من كلام التذكرة كون المسألة مذكورة في كلام الشافعي (و أشباهه) أيضا. و علي كل حال، ذكر في المتن- بعد التصريح

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 207

بأنّ المدار، علي ما هو المقصود؛ و أنّ العقد بتبع القصد؛- صورا أربعة:

صور العقد و القصد

1- إذا كان المقصود الأصلي هو الموصوف بالوصف- كالكبري- و لكن تخيل أنّ اسمها فاطمة، فقال: زوجت البنت الكبري المسماة بفاطمة؛ فيقع العقد علي الكبري، و يلغي الاسم. و الوجه فيه ظاهر، فانّ العقود تابعة للقصود؛ و ينبغي أن يضاف إليه انّ اللازم توافق الطرفين علي المورد من قبل بالمقاولة و شبهها.

2- إذا كان المقصود تزويج المسمي بفاطمة، و تخيل أنّها الكبري و لكن كانت هي الصغري، فقال: زوجت بنتي الكبري فاطمة …؛ وقع العقد علي فاطمة. (و هذه الصورة، عكس الاولي) و يظهر الوجه فيها ممّا مرّ في السابقة؛ لأنّ حقيقة العقد، التوافق علي شي ء و هو حاصل هنا، فيدخل تحت أدلة وجوب الوفاء بالعقود.

3- إذا كان المقصود تزويج المراة الحاضرة، فقد رآها و استحسنها؛ فقال العاقد:

زوجت هذه المرأة المسماة بفاطمة أو الموصوفة بأنّها الكبري من بنات فلان؛ وقع العقد علي الحاضرة، و لغي الوصف و الاسم. و الدليل عليه هو شمول الاطلاقات له أيضا، بعد صدق عنوان العقد أو عقد النكاح عليه، و لم يمنع منه مانع. و هذه كلّها ظاهرة؛ إنّما الكلام في الوجه الأخير و هو:

4- إذا كان المقصود العقد علي المسمي بفاطمة أو الموصوف بصفة الكبري، و تخيل أن الحاضرة هي التي أرادها، فقال العاقد: زوجتك هذه و هي الكبري و هي

فاطمة؛ و لم تكن، صرّح في المتن بعدم وقوعه لما قصده؛ و في وقوعه للمشار تردد؛ ثم حكم بالاحتياط. و ظاهر هذا الكلام سقوط قاعدة تبعيّة العقود للقصود هنا من جهتين، من جهة عدم وقوعه للمقصود، و من جهة احتمال وقوعه لما لم يكن مقصودا. أمّا الأول؛ فالوجه فيه أنّ الصور الثلاثة الاولي، كان المقصود فيها موردا للإنشاء، فإنشاء العقد علي المسمي مثلا و أن تخيل أنّها الكبري فوصفها بالكبري، و لكن هنا إنشاء العقد علي الحاضر، لا علي الموصوف أو المسمي و أن تخيل أنّها كذلك، فبطلان العقد بالنسبة إليه، لعدم تحقق

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 208

العقد بالنسبة إليه، و هو وجه وجيه.

و أمّا احتمال وقوع العقد علي المشار إليها، فلوقوع العقد عليها فيما هو المفروض، و إن كان السبب فيه، الخطأ في التطبيق.

و لكن الانصاف بطلان العقد بالنسبة إليها لعدم كونها مقصودة. و إن هو إلّا مثل إذن الدخول في الدار، للحاضر، و قال له ادخل يا هذا؛ بظنّ أنّه أخوه و لكن كان أجنبيّا. فهل يرضي أحد بأن يقول، يجوز له دخول الدار، لرضاه بذلك؛ و كذا إذا قال للحاضر: أنت وكيلي في بيع داري؛ بظنّ أنّ المخاطب هو أخوه أو عمّه أو خاله، و لكن كان في الواقع من اعدائه أو من السارقين. فهل يرضي أحد بأن يقول بصحة الوكالة له؟!

فتحصل ممّا ذكرنا، ان ما ذكره في المتن صحيح إلّا في الصورة الأخيرة، فالاحتياط أيضا لا وجه له، و قد وقفنا بعد ما ذكر، علي رواية واردة في خصوص الخطأ في ذكر الاسم، و هي ما رواه محمد بن شعيب؛ قال: كتبت إليه أنّ رجلا خطب إلي ابن عم

له، ابنته، فامر بعض اخوانه أن يزوجه ابنته التي خطبها، و أنّ الرجل أخطأ باسم الجارية، فسماها بغير اسمها، و كان اسمها فاطمة فسماها بغير اسمها، و ليس للرجل ابنة باسم الذي ذكر المزوّج. فوقع: لا بأس به. «1» و لكن سندها ضعيف بمحمد بن شعيب (المجهول) مضافا إلي اضماره، و لكن تؤيد المقصود.

*** بقي هنا شي ء: مقالة السيد الحكيم في المقام

أن سيّدنا الاستاذ الحكيم، بني المسألة علي وحدة المطلوب و تعدده، فان قلنا بأنّ المسألة من قبيل الأول، بطل العقد؛ و علي الثاني، يصح. قال في المستمسك: و منشأ الإشكال هو أنّ القيد، أخذ علي نحو تعدد المطلوب، أو وحدته؛ فعلي الأول، يصح و علي الثاني، يبطل. و لا ينبغي التأمل في أنّ المرتكزات العرفية تقتضي الأول (أي تعدد

______________________________

(1). الوسائل 14/ 224، الحديث 1، الباب 20 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 209

المطلوب). و لذا بنوا مع تخلف الشرط، علي صحة العقد و خيار الشرط … نعم، إذا كان القيد مقوما للموضوع عرفا، و ذاتيا من ذاتياته، بطل العقد بفقده. «1»

و حاصل كلامه أنّ القيود علي قسمين؛ قسم منها من قبيل تعدد المطلوب، لا بحسب إرادة الأشخاص حتي تكون تابعة لها، بل بحسب عرف العقلاء. مثلا، إذا قال: بعتك هذا الفرس العربي؛ فبان فرسا غير عربي، كان العقد صحيحا؛ لأنّ عنوان الفرس و عنوان العربي مطلوبان مستقلان بحسب نظر العقلاء في الغالب، فيحكمون بصحة العقد مع خيار تخلف الشرط. و لكن لو قال: بعتك هذا الفرس العربي؛ فبانّ حمارا، فاختلاف الفرس و الحمار في حدّ يعد أحدهما مباينا عن الآخر، لا من قبيل تعدد المطلوب. فعلي هذا لو كان قول العاقد زوجتك هذه فاطمة؛ و أشار إليها

و كان اسمها زينب؛ فإن قلنا بانّه من قبيل تعدد المطلوب كان صحيحا، و إلّا كان باطلا.

و فيه أنّ وحدة المطلوب و تعدده أجنبي ممّا نحن فيه، و إنّما هو في الأوصاف المرغوبة المتعددة و ليس المقام كذلك، فان تسميته بفاطمة مثلا ليست مطلوبة مستقلة، بل كلّ هذه الأوصاف و الاسماء تشير إلي فرد خاص في الخارج فهي من قبيل العنوان المشير، لا الوصف المطلوب.

و إن شئت قلت؛ المفروض أنّه يريد امرأة خاصة وافق عليها من قبل، و لكن تخيل اسمها فاطمة (مثلا) أو أنّها هي الكبري (مثلا)، و لا شك أنّ غير تلك المرأة مباينة لها؛ و أين هذا من تعدد المطلوب.

***

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 395.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 210

[المسألة 14: لا إشكال في صحة التوكيل في النكاح]

اشارة

المسألة 14: لا إشكال في صحة التوكيل في النكاح من طرف واحد أو من طرفين، بتوكيل الزوج أو الزوجة إن كانا كاملين، أو بتوكيل وليّهما إن كانا قاصرين. و يجب علي الوكيل أن لا يتعدي عمّا عينه الموكل من حيث الشخص و المهر و سائر الخصوصيّات. فان تعدي، كان فضوليا موقوفا علي الاجازة. و كذا يجب عليه مراعاة مصلحة الموكل، فإن تعدي و أتي بما هو خلاف المصلحة، كان فضوليا. نعم، لو عيّن خصوصية تعينت و نفذ عمل الوكيل و إن كان علي خلاف مصلحة الموكّل.

التوكيل في النكاح

أقول: هذه المسألة في الواقع تشتمل علي فروع ثلاثة: أولها، جواز التوكيل في النكاح. ثانيها، وظيفة الوكيل في قبال الموكل. و ثالثها، حكمه إذا تعدي عن وظيفته. و هذه المسألة غير مسألة جواز تولي طرفي العقد لفرد واحد؛ فانّها ستأتي في المسألة 16.

الفرع الاول: جواز الوكالة من طرف الزوج أو الزوجة أو كليهما

أي أصل جواز الوكالة في العقد من طرف الزوج أو الزوجة أو من كلا الطرفين (بأن يكون إنشاء العقد من قبل الوكيلين)؛ فالظاهر أنّه ممّا لا كلام فيه و لا إشكال و ارسلوه ارسال المسلمات. و لو كان بينهم فيه كلام فانّما هو في فروع الوكالة، مثل حكم التعدي أو عدم رعاية المصلحة أو زوّجها الوكيل لنفسه و غير ذلك، بل الغالب بين المسلمين إجراء الصيغة من ناحية الوكيلين، فقد جرت سيرتهم علي ذلك.

و يدل عليه عمومات أدلة الوكالة، أولا؛ و ما ورد في خصوص النكاح، ثانيا؛ و هو أيضا؛ علي قسمين: الأول، هو الروايات الكثيرة الواردة في موارد خاصة تدل جميعها علي جواز التوكيل في أمر النكاح. مثل:

1- ما ورد في قصة نكاح أمير المؤمنين عليه السّلام؛ فانّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كان وكيلا من ناحية

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 211

سيّدة نساء العالمين، و فيها: و هذا محمد بن عبد اللّه صلّي اللّه عليه و آله زوجني ابنته فاطمة عليها السّلام … «1»

2- ما ورد في قصة تزويج الإمام الجواد عليه السّلام، و فيها: هذا أمير المؤمنين، زوجني ابنته علي ما فرض اللّه. «2»

3- ما ورد في قصة تزويج رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله امرأة جاءت إليه، فسألته تزويجها رجل؛ إلي أن قال- زوجتكها علي ما تحسن من القرآن. فعلّمها إياه «3».

4- ما ورد

في قصة امرأة اراد أمير المؤمنين علي عليه السّلام أن يزوجها من شاب؛ فقال لها:

أ لك وليّ؟ قالت: نعم، هؤلاء اخوتي. فقال لهم: أمري فيكم و في اختكم جائز؟ قالوا: نعم.

فقال علي عليه السّلام: أشهد اللّه و أشهد من حضر من المسلمين، أني قد زوجت هذه الجارية من هذا الغلام … «4»

إلي غير ذلك من أشباهه.

الثاني، ما ورد في أبواب مختلفة، في حكم الوكيل إذا خالف ما أمر به. «5» و ما ورد في حكمه إذا اخطأ في التسمية. «6» و حكمه إذا كان صغيرا لم يبلغ الحلم. «7» و ما ورد في عدم جواز تعدي الوكيل عمّا عين له. «8»

إلي غير ذلك.

و المستفاد من الجميع، أنّ الوكالة في النكاح، كانت من الامور المسلّمة بين المسلمين.

و لذا لم يسأل السائلون عنها؛ و إنّما سألوا عن فروعها و بعض ما يرتبط بها، و الأئمة المعصومون لم يردعوهم عن ذلك، بل قبلوا منهم.

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل، 14/ 311، الحديث 16798.

(2). الوسائل 14/ 195، الحديث 2، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 195، الحديث 3، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 196، الحديث 6، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(5). الوسائل 14/ 228، الحديث 1، الباب 26 من أبواب عقد النكاح.

(6). الوسائل 14/ 224، الحديث 1، الباب 20 من أبواب عقد النكاح.

(7). الوسائل 14/ 222، الحديث 1، الباب 16 من أبواب عقد النكاح.

(8). الوسائل 14/ 216، الأحاديث، الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 212

الفرع الثاني: لزوم رعاية مصلحة الموكل

و أمّا الفرع الثاني، فهو أيضا ظاهر، لأنّه منصوب لذلك لا غير. و إن شئت قلت؛ الوكيل بمنزلة الموكل، فكما أنّه لا

يقدم علي ما يخالف مصلحته فكذلك الوكيل، بل قد يكون الانسان فاعلا لبعض ما يضاد منافعه لبعض الأغراض المعنوية أو لرجاء ثواب اللّه، و لكن الوكيل لا يجوز له ذلك، كما هو واضح. فلو خالف مصلحته، فالعقد أيضا فضوليّ لا أثر له بدون الإجازة.

و ليعلم أنّ هذا الفرع إنّما يكون في فرض اطلاق الوكالة، كان يقول: أخطب لي زوجة، من دون تعين الزوجة أو مهرها. و أمّا لو عيّن شخصا و مهرا، فانّه يجوز للوكيل العقد عليها و إن كان علي خلاف مصلحة الموكل، لشمول أدلة الوكالة له.

و أمّا الفرع الثالث، أي عدم جواز تعدي الوكيل عن مورد الوكالة

و إن تعدي كان فضوليا فهو من الواضحات لأنّه مقتضي الوكالة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 213

[المسألة 15: لو وكّلت المرأة رجلا في تزويجها، ليس له ان يزوجها من نفسه]

اشارة

المسألة 15: لو وكّلت المرأة رجلا في تزويجها، ليس له ان يزوجها من نفسه، إلّا إذا صرّحت بالتعميم، أو كان كلامها بحسب متفاهم العرف ظاهرا في العموم بحيث يشمله نفسه.

مقتضي اطلاق الوكالة في النكاح

أقول: قد وقع الكلام في المسألة في كلمات الاصحاب تبعا لبعض الروايات الواردة فيها. و يظهر من كلام النراقي في المستند «1» كونه إجماعيا في الجملة؛ كما يظهر من كلام الشهيد الثاني في المسالك، «2» عدم الخلاف فيها كذلك.

صور خمسة في المسألة

و جملة القول فيها أنّ للمسألة صورا خمسة:

1- إذا وكلت المرأة احدا في تزويجها لرجل معين.

2- إذا وكلت المرأة و اطلقت.

3- إذا صرحت بالعموم، بقولها زوجني ممن شئت.

4- إذا صرحت أكثر من ذلك، بأن قالت: زوجني ممّن شئت حتي من نفسك.

5- إذا قالت: زوجني لنفسك خاصّة.

حكم الصورة الاولي و الثانية

لا إشكال في عدم جواز تزويجها لنفسه في الصورة الاولي؛ و إلّا كان فضوليا.

و قد صرّح غير واحد بعدم الجواز في الثانية (صورة الاطلاق)، و هي التي ادعوا الإجماع أو عدم الخلاف فيها، و الذي يستدل به علي عدم الجواز أمران:

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 146.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 152.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 214

الأول: انصراف اطلاق الوكالة إلي غير الوكيل، فانّ ظاهرها اختلاف الزوج و المزوّج.

الثاني: روايات؛ منها،

صحيحتا الحلبي و الكناني؛ ففي الاولي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في امرأة ولّت أمرها رجلا، فقالت: زوجني فلانا. فقال: لا ازوجك حتي تشهدي لي أنّ أمرك بيدي؛ فاشهدت له. فقال عند التّزويج للذي يخطبها: يا فلان عليك كذا و كذا؛ قال: نعم.

فقال هو للقوم: أشهدوا أنّ ذلك لها عندي، و قد زوجتها نفسي. فقالت المرأة: لا و لا كرامة؛ و ما أمري إلّا بيدي، و ما وليتك أمري إلّا حياء من الكلام. قال: تنزع منه و يوجع رأسه «1».

و الاستدلال به مشكل جدا؛ و ذلك لأنّ مفروض الرواية بحسب الظاهر، كونها من القسم الأول. و أنّ الوكيل دلّس الأمر علي المرأة في قوله: أمرك بيدي؛ و لم تكن راضية بذلك. و اذا، لمّا عرفت الحال، تبرئت منه. و من هنا امر الإمام عليه السّلام بتعزيره أيضا.

و مثله رواية الكناني، علي ما ذكره

صاحب الوسائل ذيل الرواية الاولي.

و منها، ما رواه عمار الساباطي، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن امرأة تكون في أهل بيت فتكره أن يعلم بها أهل بيتها، أ يحل لها أن توكل رجلا يريد أن يتزوجها؟ تقول له: قد وكلتك فاشهد علي تزويجي. قال: لا. قلت له: جعلت فداك و إن كانت أيّما. قال: و إن كانت أيّما قلت: فان وكلت غيره بتزويجها (فيزوجها) منه. قال: نعم «2».

بناء علي أنّه إذا لم يجز في صورة التصريح بخصوص اسم الوكيل، فعدم الجواز عند الاطلاق أوضح. و بعبارة اخري، هذه الرواية و إن كانت ناظرة إلي الصورة الخامسة و لكن يمكن استنباط حكم الصورة الثانية و ما بعدها منها بمقتضي الأولوية.

و لكن سيأتي أنّ هذه الرواية في موردها معرض عنها عند المشهور؛ و لهم كلام في سندها، فانّه رواها الشيخ، في التهذيب، باسناده إلي محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار الساباطي، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام الخ. و نقد سند الحديث هكذا:

______________________________

(1). الوسائل 14/ 216، الحديث 1، الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 217، الحديث 4، الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 215

1- أمّا طريق الشيخ، إلي محمد بن علي بن محبوب، فالظاهر أنّه صحيح.

2- أمّا ابن محبوب، فهو شيخ القميين في زمانه، ثقة، عين، فقيه، صحيح المذهب.

(علي ما ذكره النجاشي و العلّامة في الخلاصة).

3- و أمّا أحمد بن الحسن، فهو أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن فضال، بقرينة روايته عن عمرو بن سعيد، فهو من الفطحيين، غير أنّه ثقة. (كما عن

النجاشي و الشيخ و العلامة).

4- أمّا عمرو بن سعيد، فهو المدائني، فقد وثقه النجاشي، و العلّامة، لكن حكي الكشي عن بعض (نصر بن الصباح) أنّه فطحي؛ ثم قال: و نصر، لا أعتمد علي قوله؛ و الظاهر أنّه مستند إلي كون نصر من الغلاة علي ما ذكروه في الرجال؛ و لم يوثقه أحد فيما رأيناه.

5- أمّا مصدق، و عمار، كلاهما فطحيان و لكنهما ثقتان؛ فالسند و إن كان مشتملا علي جماعة من الفطحيين و لكنهم ثقات، لا يضر ذلك بقبول روايتهم. و لكن العمدة اعراض الأصحاب عن العمل بها، حتي في موردها، لا ضعف سندها كما ذكره غير واحد.

و أمّا دلالتها، فإنّما يمكن الاستدلال بها في بدء النظر؛ أمّا عند التأمل، فليس فيها إلّا الوكالة في الشهادة علي التزويج، لا نفس التزويج، و هذا غير كاف؛ لأنّ الشهادة علي التزويج التي تكون مستحبا عندنا لا تشمل الزوج أو الزوجة. و يمكن أن يكون المنع، لتولي طرفي العقد من شخص واحد بناء علي منعه، أو تحمل علي التقية أو شبه ذلك؛ فالعمل بمفادها هنا- كما ذكره في الحدائق- ممنوع.

فالعمدة في المقام، هي انصراف الاطلاق إلي غير الوكيل؛ و لو فرض الشك كان الحكم عدم الشمول، فانّ الشمول هو الذي يحتاج إلي دليل.

حكم الصورة الثالثة و الرابعة

و أمّا الصورة الثالثة و الرابعة (المصرحة بالعموم، و المصرحة بشموله حتي للوكيل)، مقتضي القاعدة فيهما صحة الوكالة و النكاح، لأنّ المانع و هو الانصراف قد ارتفع، و أمّا الاستناد في عدم الجواز إلي الروايات السابقة، فقد عرفت حالها و عدم كفايتها.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 216

حكم الصورة الخامسة

و أمّا الصورة الخامسة، و هي ما إذا وكّلها لتزويجها لنفسه فقط، فقد صرح في الحدائق بعدم الجواز استنادا إلي رواية عمار، و قال: الظاهر، أنّه لا وجه لذلك إلّا من حيث كونه موجبا قابلا «1».

هذا؛ و قد عرفت عدم إمكان العمل بالرواية لإبهامها في نفسها، و اعراض الأصحاب عنها، و إن كان الاحوط كون الوكيل غير الزوج.

*** بقي هنا شي ء:

و هو أنّه هل يأتي هذا الكلام في عكس المسألة، و هو ما إذا و كل الزوج الزوجة في تزويجه، فعقدته لنفسها؟ الظاهر أنّ ما ذكرنا من مقتضي القاعدة يأتي فيها، و أمّا رواية عمار، لو فرض العمل بها في مورده تعبدا، يشكل التعدي منها إلي صورة العكس؛ اللّهم إلّا أن يقال بالفحوي. و اللّه العالم.

***

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 250.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 217

[المسألة 16: الأقوي جواز تولّي شخص واحد طرفي العقد]

اشارة

المسألة 16: الأقوي جواز تولّي شخص واحد طرفي العقد، بأن يكون موجبا و قابلا من الطرفين؛ أصالة من طرف، و وكالة من آخر؛ أو ولاية من الطرفين؛ أو وكالة عنهما؛ أو بالاختلاف؛ و إن كان الأحوط الاولي مع الامكان، تولي اثنين و عدم تولي شخص واحد من الطرفين، خصوصا في تولّي الزوج طرفي العقد، اصالة من طرفه و وكالة عن الزوجة في عقد الانقطاع؛ فإنه لا يخلو عن إشكال غير معتد به، لكن لا ينبغي فيه ترك الاحتياط.

تولّي شخص واحد طرفي العقد

أقول: هذه المسألة كثيرا ما يقع محل الابتلاء، و يكثر البلوي بها، إذا لم يوجد العارف بإجراء صيغ العقود إلّا واحدا؛ أو يراد التبرك برجل إلهي لإجراء طرفي العقد؛ أو غير ذلك.

و قد حكي النراقي في المستند، عن المسالك، عدم الخلاف فيه، و أنّه ذهب الفاضلان و فخر المحقّقين و الشهيدان إلي الجواز. ثم حكي عن إيضاح الفوائد عن بعض علمائنا، المنع منه؛ ثم قال: و هو الأقوي «1».

و في الرياض: الأشبه الأشهر كما عن الإسكافي … الجواز (أي جواز تزويج الوكيل لنفسه)، و لو لزم تولية طرفي العقد. «2» و يظهر من الجواهر في ذيل المسألة السابقة أيضا، الجواز و ادعي عدم وجدان الخلاف فيه. «3»

أدلّة الجواز

و كنّا في سالف الزمان ممن يميل إلي المنع، ثم رجعنا عنه و أفتينا بالجواز.

و استدل للجواز، بعمومات أدلة الولاية و الوكالة؛ فانّ المستفاد منها جواز تزويج الوليّ

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 148.

(2). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 110 (2/ 81 ط. ق).

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 196.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 218

و الوكيل عن اثنين؛ بل قد يلوح من بعض الاخبار الخاصة، جوازه. كما سنشير إليه إن شاء اللّه (في ذيل المسألة).

إن قلت: يشترط في المتعاقدين، التغاير و التعدد، فانّ هذا هو المستفاد من معني العقد، فانّه لا يكون إلّا بين اثنين.

قلنا: التغاير الحقيقي لا دليل عليه، بل يكفي الاعتباري. فالوكيل باعتبار كونه وكيلا عن الزوج، يغاير باعتبار كونه وكيلا عن الزوجة. نعم، التغاير الحقيقي يعتبر في الطرفي الواقعي- أي الموكّلين- فانّه لا معني في المعاقدة بين الإنسان و نفسه. هذا مضافا إلي أنّ بناء العقلاء هنا جار علي

ذلك- و هو العمدة- فانّه قد يوقّع اسناد البيع أو النكاح رجل واحد، وكيل عن البائع و المشتري أو الزوج و الزوجة.

أدلّة عدم الجواز

و استدل علي عدم الجواز، تارة باصالة الفساد؛ و اخري بعدم قيام الدليل علي الصحة؛ و ثالثة بعدم الدليل علي كفاية المغايرة الاعتبارية؛ و قد عرفت الجواب عن الجميع. كما أنّه قد يستدل له بموثقة عمار، السابقة، فانّ النهي عن تزويج الوكيل لنفسه لا يكون إلّا لذلك. و فيه، انك قد عرفت اعراض الأصحاب عنها، و إجمالها في نفسها؛ و علي فرض قبولها، ليس فيها إشارة إلي أنّ المنع من هذه الجهة، فالقول بانّ المنع من هذه الجهة تحكّم.

و هناك روايات تشعر (أو تدل) علي وقوع ذلك، أي تولي طرفي العقد من اللّه تعالي أو من بعض المعصومين (عليهم السلام) أو من بعض آخر.

1- منها، ما ورد في قصه آدم و حواء في حديث، قال اللّه عزّ و جلّ: قد شئت ذلك، و قد زوجتكها فضمها إليك «1».

و ليس فيها ما يدل علي قبول آدم هذا العقد؛ اللّهم إلّا أن يقال، ليس في مقام البيان من هذه الجهة.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 194، الحديث 1، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 219

2- و منها، ما ورد في قصة المرأة التي جاءت إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله، و طلبت تزويجها من رجل، إلي أن قال: - قد زوجتكها علي ما تحسن من القرآن؛ فعلمها إيّاه. «1» و ليس فيها أيضا من قبول الرجل عين و لا أثر، (و يرد عليها ما مر في سابقتها).

3- ما ورد في قصة أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل، في المرأة التي

نفت أن يكون الغلام ولدا لها- إلي أن قال- أشهد اللّه و أشهد من حضر من المسلمين أني قد زوجت هذه الجارية من هذا الغلام بأربعمائة درهم «2».

ليس فيها من قبول الغلام أثر، و العقد و إن كان صوريا، و لكنه دليل علي كون تولي طرفي العقد صحيحا. اللّهم إلّا أن يقال إنكار المرأة بعد سماع العقد إنكارا شديدا، لم يدع مجالا لقبول الغلام و ردّه.

4- و منها، ما ورد في قصة المرأة التي وكلت لرجل لتزويجها من غيره. فقال هو للقوم: أشهدوا أنّ ذلك (المهر المعين) لها عندي و قد زوجتها نفسي «3».

و قد مرّ، أنا كنّا في سالف الزمان من القائلين بعدم جواز تولي طرفي العقد لرجل واحد، و لو بعنوان الاحتياط الواجب، ثم رجعنا عنه؛ و الأول، كان من باب عدم تعارفه بين العقلاء، و عمومات صحة العقود ناظرة إلي ما بين العقلاء. ثم رأينا أنّه قد يكون ذلك في إمضاء الاسناد كتابة، الذي هو بمنزلة الإنشاء اللفظي، مضافا إلي ما قد عرفت في معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، ممّا يدل علي ان تولي طرفي العقد لم يكن أمرا منكرا، و ردع الإمام ليس من هذه الجهة، بل من جهة تدليس الرجل.

هل هنا فرق بين العقد الموقت و الدائم؟

بقي الكلام في أنّه ما الفرق بين العقد الموقت و الدائم الذي جعله في المتن أشد

______________________________

(1). الوسائل 14/ 195، الحديث 3، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 195، الحديث 6، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 216، الحديث 1، الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 220

احتياطا، منه، و لعله بسبب حمل رواية عمار علي العقد الموقت، للغلبة

في الايّم؛ و الانصاف أنّه لا ظهور فيها من هذه الجهة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 221

[المسألة 17: إذا وكّلا وكيلا في العقد في زمان معين]

اشارة

المسألة 17: إذا وكّلا وكيلا في العقد في زمان معين، لا يجوز لهما المقاربة بعد ذلك الزمان، ما لم يحصل لهما العلم بايقاعه، و لا يكفي الظنّ. نعم، لو أخبر الوكيل بالايقاع كفي، لأنّ قوله حجة فيما وكّل فيها.

لا يجوز المقاربة إلّا بعد علمهما بإيقاع العقد من جانب الوكيل

أقول: المسألة واضحة لا ستر عليها، فانّ اصالة عدم تحقق العقد تكون دليلا علي عدم جواز ترتيب الآثار الشرعية، و الظن المطلق ليس بحجة، و حمل الفعل علي الصحة فرع صدور فعل منه، و المفروض الشك فيه؛ و أمّا حجية أخباره من باب أنّه الأمين؛ أو شبيه بذي اليد الذي جرت سيرة العقلاء علي الأخذ بقوله. نعم، لو كان متهما، لا يمكن القبول منه إلّا إذا علم بصدقه فيما يخبر أو يعلم من قرائن اخري. و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 222

[المسألة 18: لا يجوز اشتراط الخيار في عقد النكاح]

اشارة

المسألة 18: لا يجوز اشتراط الخيار في عقد النكاح دواما أو انقطاعا، لا للزوج و لا للزوجة؛ فلو شرطاه بطل الشرط، بل المشهور علي بطلان العقد أيضا؛ و قيل ببطلان الشرط دون العقد، و لا يخلو من قوة. و يجوز اشتراط الخيار في المهر مع تعيين المدّة، فلو فسخ ذو الخيار، سقط المهر المسمّي، فيكون كالعقد بلا ذكر المهر، فيرجع إلي مهر المثل. هذا في العقد الدائم الذي لا يعتبر فيه ذكر المهر؛ و أمّا المتعة لا تصح بلا مهر. فهل يصح فيها اشتراط الخيار في المهر؟ فيه إشكال.

أقول: هذه المسألة في الحقيقة تشتمل علي فرعين:

1- هل يجوز اشتراط الخيار في عقد النكاح، بأن يقول الزوج أو الزوجة أو كلاهما عند إنشاء العقد، انّ لي الخيار إلي سنة، فان أردت فسخت العقد. و علي فرض عدم الصحة، فهل يبطل الشرط فقط أو هو مع العقد؟

2- هل يجوز اشتراط الخيار في المهر؟ و علي تقدير الصحة، فاذا فسخ فما يجب علي الزوج؟

[في المسألة فرعان]

الفرع الاوّل: اشتراط الخيار في عقد النكاح
اشارة

المشهور فيه عدم الجواز، بل ادعي عليه الإجماع. قال في الجواهر: لا يصح اشتراطه في العقد اتفاقا كما في كشف اللثام و غيره. «1»

و قال في الحدائق: أمّا اشتراطه في أصل النكاح، فالمشهور أنّه غير جائز، و لو اشتراطه كان العقد باطلا … و خالف في ذلك ابن ادريس فحكم بصحة العقد و فساد الشرط. «2»

و حكي في المستمسك، عن مكاسب شيخنا الأعظم: عن الخلاف و المبسوط و السرائر و جامع المقاصد و المسالك، الإجماع عليه؛ و قال في ذيل كلامه بعد نقد الأدلة التي استدل بها علي البطلان، ما نصّه: فاذا، العمدة الإجماع المدعي و إن كان ظاهر

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام

29/ 149.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 184.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 223

الحدائق وجود القائل بالجواز لأنّه نسب المنع المشهور، و لكن لم يعرف بذلك قائل، و لا من نسب ذلك إلي قائل، و قال في جامع المقاصد أنّه قطعي. «1»

و استدل للبطلان بامور:

1- الإجماع، (و سيأتي الكلام فيه إنشاء اللّه).

2- أنّه ليس معاوضة حتي يصح فيه الاشتراط، و لذا لا يعتبر فيه العلم بصفات المعقود عليه.

3- فيه شائبة العبادة، و العبادات لا يدخلها الخيار.

4- اشتراط الخيار يوجب ابتذال المرأة، و هو ضرر عظيم عليها.

5- قد ورد في صحيحة ابن بكير، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن سمّي الأجل، فهو متعة؛ و إن لم يسم الأجل فهو نكاح بات «2».

و عن أبان بن تغلب، في حديث صيغة المتعة، قال لأبي عبد اللّه عليه السّلام: فانّي استحيي أن أذكر شرط الأيام. قال: هو أضرّ عليك! قلت: و كيف؟ قال: لأنّك إن لم تشترط، كان تزويج مقام … و لم تقدر علي أن تطلقها إلّا طلاق السنة. «3»

6- ما دل علي أنّه لا يرد النكاح من عيوب خاصّة. «4»

و لكن جميع ذلك، قابل للنقد. أما الأول، فسيأتي.

أما الثاني، فلان عدم جريان الاشتراط في غير المعاوضات، أول الكلام؛ فهو مصادرة علي المطلوب.

و أمّا الثالث، فلأنّه ليس عبادة حقيقة، و علي فرض قبوله قد يدخل الشرط في العبادات أيضا، كما في الإحرام.

و اما الرابع، فلأنّه أخص من المدعي، لأنّ الخيار لو كان للمرأة، لا يوجب ابتذالها، بل

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 405.

(2). الوسائل 14/ 469، الحديث 1، الباب 20 من أبواب المتعة.

(3). الوسائل 14/ 470، الحديث 2، الباب 20 من أبواب المتعة.

(4).

راجع الوسائل 14/ 594، الحديث 6 و 10، الباب 1 من أبواب العيوب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 224

يوجب قوتها و سلطتها، مضافا إلي أنّه استحسان ظنّي واضح.

و أمّا الخامس، فلان المراد من النكاح الباتّ و تزويج مقام، كونه كذلك بحسب طبيعتها، كالبيع اللازم بمقتضي طبعه الذي لا ينافيه جواز خيار الشرط فيه؛ و لذا جواز رد عقد النكاح بالعيوب لا ينافي ذلك.

و أمّا السادس، فلانه ليس في مقام البيان من هذه الجهة، بل المراد إخراج سائر العيوب. و بعبارة اخري، الحصر هنا إضافي بالنسبة إلي أنواع العيوب، دون الخيارات.

نعم؛ هنا دليل آخر يمكن الركون إليه، و إن لم نر ذكرا له في كلماتهم. و هي، إنّ هناك روايات كثيرة تدل علي نفي خيار المرأة؛ لا بالمعني الذي نحن بصدده، بل بمعني كونها مختارة من قبل الزوج في المقام معه، و عدمه. و لكنه يمكن استفادة المطلوب منها.

توضيح ذلك، أنّه جاء في الكتاب، في قصة أزواج النبي صلّي اللّه عليه و آله، قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا فَتَعٰالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلًا* وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدّٰارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّٰهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنٰاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً. «1» فجعل لهن الخيار في الاقامة معه صلّي اللّه عليه و آله و تركها، فاخترن المقام معه؛ (و ذلك كان بعد توفر الغنائم عند النبي صلّي اللّه عليه و آله، و استدعاء كل واحدة منهن متاعا جديدا من متاع الدنيا، و لما كان اشتغالهن بهذه الامور منافيا لمقام النبي و كيانه صلّي اللّه عليه و آله، خيّرهن فيما ذكر).

ثم وقع الكلام بينهم، في أنّ معني

هذا الخيار أوّلا كفاية خيارهن في حصول الطلاق معه، أو كان الطلاق بيده صلّي اللّه عليه و آله بعد الخيار. و في الفرض الأول هل يختص ذلك به صلّي اللّه عليه و آله، أو يجري في سائر المؤمنين. و كل مؤمن يجوز له في أن يخيّر زوجته أو زوجاته كذلك، و يقوم اختيارها مقام الطلاق. (و قد ذكره صاحب الجواهر، و غيره، في مباحث الطلاق.

فراجع) «2» و المعروف بين الفقهاء، ان اختيارها لا أثر له، و يحتاج إلي إجراء الطلاق.

و قد وردت هذه الروايات، في الوسائل 15/ 335، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق، و هذه الروايات تقرب من عشرين رواية، تتركب من طوائف مختلفة، نبحث عنها

______________________________

(1). الاحزاب/ 28 و 29.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 32/ 67.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 225

إنشاء اللّه في محلّها؛ و لكن طائفتان منها يمكن الاستدلال بهما علي ما نحن بصدده.

الاولي: ما يدل علي عدم جواز جعل الخيار لها، حتي في نفس العقد، و هي كالصريحة في المقصود. و هي ما رواه هارون- أو مروان- بن مسلم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال، قلت له: ما تقول في رجل جعل أمر امرأته بيدها. قال: فقال لي: وليّ الأمر من ليس أهله و خالف السنّة و لم يجز النكاح. «1»

و قوله: لم يجز النكاح؛ دليل علي أنّ هذا الخيار كان مجعولا لها في نفس صيغة العقد. و الرواية و إن كانت ضعيف السند، و لكن يمكن انجبارها بعمل المشهور. هذا، و لكنها تدل علي بعض المقصود للمرأة، و لعل عدم ذكر الرجل من جهة عدم حاجته إليه بعد اختياره في الطلاق.

الثانية: ما يدل علي

عدم جواز جعل الخيار لها بعد العقد، و إنّ ذلك كان من خصائص النبي صلّي اللّه عليه و آله و زوجاته.

منها، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الخيار. فقال: و ما هو و ما ذاك، إنّما ذاك شي ء كان لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله «2».

و منها، ما عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن رجل خيّر امرأته، فاختارت نفسها، بانت منه؟ قال: لا، إنّما هذا شي ء كان لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله خاصّة؛ الحديث «3».

منها، رواية اخري لمحمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما للنساء و التخيير إنما ذلك شي ء خصّ اللّه به نبيّه. «4»

منها، رواية ثالثة له، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي سمعت أباك يقول أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله خيّر نساء فاخترن اللّه و رسوله فلم يمسكهن علي طلاق، و لو اخترن أنفسهن، لبنّ. فقال:

______________________________

(1). الوسائل 15/ 336، الحديث 5، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

(2). الوسائل 15/ 336، الحديث 1، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

(3). الوسائل 15/ 336، الحديث 4، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

(4). الوسائل 15/ 338، الحديث 13، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 226

إن هذا حديث كان يرويه أبي عن عائشة، و ما للناس و الخيار؛ إنّما هذا شي ء خصّ الله به رسوله صلّي اللّه عليه و آله. «1»

و هذه الروايات، و إن كانت ناظرة إلي جعل الخيار لها بعد العقد، و لكن تحاشي الإمام عليه السّلام عن ذلك، تدل علي عدم جواز جعل ذلك لها

في نفس العقد أيضا، إمّا بالأولوية أو بالغاء الخصوصيّة.

نعم، هناك روايات اخري في نفس ذاك الباب، تدل علي صحة جعل الخيار لها، و أنّها إذا اختارت كان بمنزلة الطلاق؛ و لكنها مقيّدة بما داما في المجلس، (مثل 7 و 14 منه). و لكنها معرض عنها عند الأصحاب في أبواب الطلاق، محمولة علي التقيّة بقرينة ما سبق.

أضف إلي ذلك كلّه، عدم جريان الخيار في النكاح عن العقلاء من أهل العرف، و في مذاق المتشرعة لا يكون هناك بينونة إلّا بالطلاق، فالحكم في المسألة واضحة بحمد اللّه تعالي.

هل الشرط الفاسد يبطل العقد؟

فقد تحصل من جميع ما ذكرنا، أنّ اشتراط الخيار في النكاح غير جائز، فيبطل الشرط. ثم إنّه يقع الكلام في أنّه إذا بطل الشرط، فهل يبطل العقد أيضا أم لا؟

قال في الحدائق: لو اشترطه كان العقد باطلا …؛ و بذلك قطع الشيخ في المبسوط، و جملة من المتاخرين … و خالف في ذلك ابن ادريس، فحكم بصحة العقد و فساد الشرط …

و قال أنّه لا دليل علي البطلان من كتاب و لا سنة و لا إجماع، بل الإجماع علي الصحة لأنّه لم يذهب إلي البطلان أحد من أصحابنا، و إنّما هو من تخريج المخالفين و فروعهم، و اختاره الشيخ علي عادته في الكتاب. «2»

و لكن قال في الجواهر: أنّ القول فيها ببطلان العقد ببطلان الشرط، معروف؛ بل في

______________________________

(1). الوسائل 15/ 336، الحديث 3، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 184.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 227

كشف اللثام نسبته إلي المشهور هنا. «1» و زاد في المستمسك حكاية الشهرة عن المسالك أيضا. «2» و لكن ظاهر الشرائع، عدم فساد العقد هنا بفساد الشرط

من غير ترديد.

و علي أي حال، فالظاهر أنّ القول بالبطلان في المسألة، مشهور بين الأصحاب، و دعوي الإجماع علي خلافه- كما عن ابن ادريس فيما عرفت- لا اعتبار به.

و من العجب، أنّ المشهور في أبواب الشروط الفاسدة أنّها لا تفسد العقد به، و لكن حكموا هنا بالفساد؛ فلا بدّ من مطالبة الفرق.

و علي كل حال، العمدة في القول بصحة العقد، ما ذكره ابن ادريس من وجود المقتضي للصحة، و انتقاء المانع. فانّه لا دليل للبطلان من كتاب و سنة، مع وجود أدلة صحة العقد و وجوب الوفاء بها.

كما أنّ عمدة الدليل علي البطلان، أنّ نفوذ العقد بدون الشرط، ممّا لم يقصده الزوجان.

فان صح العقد بغير الشرط، كان ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

و يجاب عنه، بأنّ الشروط بحسب الارتكاز العرفي، من قبيل تعدد المطلوب. فاصل العقد مطلوب، و الشرط مطلوب آخر؛ فلو لم يتمّ شرائط الصحة للشرط، فأصل العقد يكون صحيحا. و مثله ما ذكروه في بيع ما يملك و ما لا يملك؛ أو بيع ما يملك و ما لا يملك؛ و ليست الشروط أقوي من أجزاء المبيع. و كذلك لو كان الصداق في عقد النكاح ممّا لا يملك كالخمر و الخنزير؛ أو ممّا لا يملكه الزوج كما إذا أصدقه عبدا فبان حرا؛ فان الحكم بالصحة في جميع ذلك ممّا اتفقت عليه كلماتهم، و ليس ذلك كلّه إلّا بسبب تعدد المطلوب، فلا يمكن أن يقال ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

هذا؛ و قد يقال إنّ ما ذكرتم صحيح في غير أركان العقد، فانّه مقصود بالعقد بحسب الارتكاز العرفي، و ما نحن فيه من هذا القبيل، و إن شئت قلت،

شرط الخيار مناف لمقتضي العقد.

قال سيدنا الأستاذ الخوئي، (رحمه الله) في بيان ذلك في بعض تعليقاته علي العروة،

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 150.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 406.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 228

ما نصه: إنّ اشتراط الخيار يرجع إلي تحديد الزوجية بما قبل الفسخ لا محالة و هو ينافي قصد الزواج الدائم أو المؤجل إلي أجل معلوم، و هذا بخلاف سائر الشروط الفاسدة.

و يرد علي ما أفاده (قدس سره)، أنّ قصد الدوام لا ينافي جعل الخيار، كما هو كذلك في أبواب البيوع؛ فالبيع تمليك دائم و مع ذلك قد يجعل فيه الخيار، فلا يقال أنّه لم يقصد التمليك الدائم بسبب جعل الخيار؛ و مثله جعل الخيار في الاجارة.

و يمكن أن يكون مراد صاحب العروة و غيره، ممن جعل الخيار في النكاح مخالفا لمقتضي العقد، ما عرفت سابقا من أنّ أمر النكاح أمر بات قطعي، لا يرجع فيه في عرف العقلاء إلّا بالطلاق، فاشتراط الخيار مناف له.

و هناك وجه ثالث لبطلان العقد- ذكرناه في تعليقاتنا علي العروة- و حاصله، أنّ الشرط إذا بطل و صح العقد، يجبر بخيار الفسخ. مثل الشروط الفاسدة في البيوع إذا بطلت أجبرناها بجعل خيار التخلف، لصاحب الشرط؛ كما أنّ تبعض الصفقة في بيع ما يملك و ما لا يملك (أو ما يملك و ما لا يملك)، يجبر بخيار التبعض للمشتري، أو هو و البائع؛ و لكن في النكاح لا يمكن جبرانه بالخيار.

فالحاصل، أنّ الفساد في المقام قوي. و الله العالم.

*** الفرع الثاني: شرط الخيار في المهر

و الظاهر أنّه معروف بين الأصحاب كما أفتي به في الشرائع، و القواعد، و المسالك، و كشف اللثام، و غيرها (علي ما حكي عن

بعضهم) بل قال في المستمسك: أنّهم أرسلوه ارسال المسلمات من دون نقل خلاف. «1»

و قال الشيخ (قدس سره)، في الخلاف، في المسألة 33، من كتاب الصداق: إذا أصدقها دارا و شرط في الصداق ثلاثة أيام شرط الخيار، صح الصداق و الشرط معا، و النكاح صحيح. و للشافعي في صحة الصداق قولان: أحدهما، يبطل و الثاني، يصح. فاذا قال

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 407.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 229

يصح، فله في الصداق ثلاثة أوجه: أحدها، يصح المهر و الشرط معا، كما قلناه. و الثاني، يبطلان معا. و الثالث، يبطل الشرط دون الصداق. ثم قال: دليلنا، قوله عليه السّلام: المؤمنون عند شروطهم؛ و لأنّ هذا الشرط لا يخالف الكتاب و السنة، فيجب أن يكون صحيحا. «1» انتهي.

أقول: تقييده بثلاثة أيّام لشرط الخيار، ناظر إلي ما هو الغالب في هذه الامور و في غير واحد من الخيارات، حيث إنّها مشروطة بثلاثة أيّام؛ و إلّا لا يكون لهذا الشرط حد معين.

و كيف كان عدم استناد الشيخ (قدس سره) إلي الإجماع، كما هو رأيه في كثير من المسائل، و عدم نقل الخلاف، (لعله) دليل علي عدم تعرض كثير من الأصحاب، له.

و الأقوي ما هو المعروف، و الدليل عليه ظاهر. فانّ عموم أدلة وجوب الوفاء بالشروط إلّا ما خالف الكتاب و شبه ذلك، يشمله. و المفروض أنّ المهر ليس من أركان العقد الدائم، و حينئذ لو فسخه، رجع إلي مهر المثل؛ لأنّ العقد لا يخلو عن مهر إمّا المسمي أو المثل.

نعم، اللازم تعيين مدّة الخيار، كما صرّح به جماعة من الأصحاب، لأنّ إبهامه و إجماله يوجب الغرر بلا إشكال، و اطلاق كلمات الأصحاب لا يدل علي

عدم وجوب تعيينه لأنّهم ليسوا في مقام البيان من هذه الجهة قطعا. و هكذا الكلام في شرط الخيار في البيع و غيره، فلا بدّ من تعيين مدّته بلا إشكال.

شرط الخيار في العقد الموقت

هذا كله في العقد الدائم؛ أمّا العقد المؤقت، فيشكل شرط الخيار في مهره، لأنّ المهر ركن فيه، فاذا فسخه يبقي بلا مهر. اللّهم إلّا أن يقال، الواجب فيه تعيين المهر في ابتداء العقد، لا في الاستدامة و هنا كذلك، فانّ الخيار و الفسخ يفسخه من حينه، لا من أول العقد، و لكن لازمه رجوع الزوجة إلي مهر المثل هنا، و هو غير معروف في أبواب العقد الموقت.

فالحكم ببطلان الشرط دون العقد، قويّ.

***

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 388 و 389.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 230

[المسألة 19: إذا ادعي رجل زوجية امرأة فصدقته]

اشارة

المسألة 19: إذا ادعي رجل زوجية امرأة فصدقته؛ أو ادعت امرأة زوجية رجل فصدقها، حكم لهما بذلك، مع احتمال الصدق. و ليس لأحد الاعتراض عليهما، من غير فرق بين كونهما بلديين معروفين، أو غريبين.

و أمّا إذا ادعي أحدهما الزوجية و انكر الآخر، فالبيّنة علي المدعي و اليمين علي من انكر. فان كان للمدعي بينة حكم له؛ و إلّا فتتوجه اليمين إلي المنكر، فان حلف، سقط دعوي المدعي؛ و إن نكل، يردّ الحاكم اليمين علي المدعي، فان حلف، ثبت الحق؛ و إن نكل، سقط.

و كذا لو رده المنكر علي المدعي و حلف، ثبت؛ و إن نكل، سقط.

هذا بحسب موازين القضاء و قواعد الدعوي؛ و أمّا بحسب الواقع، فيجب علي كل منهما العمل علي ما هو تكليفه بينه و بين الله تعالي.

إذا ادعت المرأة زوجية رجل أو بالعكس

أقول: هذه المسألة و المسائل الخمس الآتية، تكون من مسائل الدعاوي و حقها أن يبحث عنها في أبواب القضاء و شبهها، و لكن جرت عادة القوم بذكر بعض المصاديق في الأبواب الآخر؛ و علي كل حال، هذه المسائل أسست علي مباني معلومة في أبواب القضاء، منها:

1- اقرار العقلاء علي أنفسهم جائز، و هو من المسلمات. و قد استوفينا البحث عنها في القواعد الفقهية، في قاعدة الاقرار.

2- البينة علي المدعي و اليمين علي من أنكر.

3- إذا لم تكن للمدعي بينة، يطلب من المنكر اليمين علي نفي الدعوي، فإن نكل عن اليمين- بأي دليل كان-، يطلب من المدعي اليمين علي دعواه، فلو حلف يثبت به الدعوي، و إن نكل هو أيضا سقط الحق من الجانبين.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 231

4- كذلك لو ردّ المنكر أليمين علي المدعي، فحلف، يثبت الحق؛ و إن نكل سقط من

الجانبين.

و هذه المسائل كالمقطوع بينهم؛ و تطلب أدلتها من أبواب القضاء.

الصور السبعة و حكمها

و علي هذا الأساس نعود إلي المسألة، فنقول- و من الله سبحانه الهداية- فيها صور سبعة:

1- إذا ادعت المرأة زوجية رجل أو بالعكس مع تصديق الآخر، حكم لهما بذلك. و دليله قاعدة الاقرار. و ليس لأحد الاعتراض عليهما إلّا أن يعلم كذبهما في هذا الدعوي.

مضافا إلي قاعدة الحمل علي الصحة. فبالنسبة إلي لزوم التزامهما بآثار الزوجية من النفقة و الارث و غيرهما، يرجع إلي الاقرار؛ و بالنسبة إلي أفعال مثل المواقعة و غيرها، يحمل فعلها علي الصحة مطلقا من دون فرق.

و الفرق بين البلدي و الغريب، كما يحكي عن بعض العامة، مما لا وجه له. و وجوب الاشهاد، علي فتوي بعض المخالفين، لا يكون دليلا علي وجود الشاهد للبلدي دائما، و لعل الشاهد سافر أو مات أو لا يعرف مكانه؛ كما أنّه لا يطلب من المرأة عند إرادة تجديد النكاح، شهود الطلاق.

امّا إذا لم يصدقه الآخر، بل أنكر مقاله؛ فله أربع صور:

2- تارة، تكون للمدعي البيّنة علي مدعاه، فيحكم له به.

3- أخري، لا تكون له ذلك فيستحلف المنكر فيحلف علي النفي، فتسقط الدعوي.

4- و ثالثة، ينكل عن اليمين، فيرجع الحاكم إلي المدعي، فلو حلف، ثبت الحكم له.

5- و رابعة، لا يحلف المدعي أيضا، فتسقط الدعوي.

أمّا إذا كان المدعي ليس له بيّنة، و المنكر لا يحلف، بل يرد اليمين و يقول فليحلف المدعي علي دعواه، فيطلب منه الحاكم ذلك، فله صورتان:

6- تارة يحلف، فيثبت به الدعوي.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 232

7- و اخري لا يحلف، فتسقط الدعوي.

كل ذلك، لأصول معلومة مضبوطة ثابتة في أبواب القضاء ممّا لا يمكن مخالفتها.

يبقي الكلام في أن هذه

الأحكام أحكام ظاهرية من باب فصل الخصومة و لا يوجب تغييرا في الواقع؛ فلو كان الزوج كاذبا في دعواه أو الزوجة كاذبة، ثم ثبت له حق بحسب الظاهر، يكون مسئولا عند الله. و قد ادعي الإجماع علي ذلك؛ و يدل عليه المعتبرة المعروفة، عن أبي عبد الله عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: إنّما اقضي بينكم بالبينات و الأيمان، و بعضكم الحن بحجته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا، فانما قطعت له قطعة من النار. «1»

و هذا هو مقتضي القاعدة، لأنّ أحكام القضاء طريقته بلا إشكال عند العقلاء، و في الشرع. و الله العالم.

***

______________________________

(1). الوسائل 18/ 169، الحديث 1، الباب 2 من أبواب كيفية القضاء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 233

[المسألة 20: إذا رجع المنكر عن إنكاره إلي الاقرار، يسمع منه]

اشارة

المسألة 20: إذا رجع المنكر عن إنكاره إلي الاقرار، يسمع منه، و يحكم بالزوجية بينهما؛ و إن كان ذلك بعد الحلف، علي الاقوي.

إذا أقرّ المنكر بوقوع النكاح

أقول: و المسألة غير محرّرة في كلمات الأصحاب و لم يتعرضوا لها، إلّا قليلا. و يظهر من بعض كلمات الجواهر في مسألة الاقرار بعد الانكار، في كتاب القضاء، (في ما لو أقر له واحد بالملك، فانكره المقرّ له، ثم رجع عن انكاره)، أنّه يتعارض الاقرار و الانكار و يتساقطان، فراجع. «1»

هذا؛ و لما تعرض صاحب العروة للمسألة، ذيل المسألة الثانية من المسائل المتفرقة لعقد النكاح، أخذ الشارحون، مثل سيدنا الحكيم في المستمسك، و السيد السبزواري في المهذب، في شرح المسألة بما ستأتي الإشارة إليه، إن شاء اللّه.

و كيف كان لا بدّ من تحرير أصل مسألة الاقرار بعد الانكار علي نحو كلي، حتي يتبين حكم المقام. فنقول: (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية)، أنّه لا شك في عدم قبول الانكار بعد الاقرار، لأنّ الإنسان مأخوذ بحكم اقراره بالإجماع و الأدلة القطعية، فلا يسمع منه انكاره.

و أمّا الاقرار بعد الانكار، فقد صرح في العروة بانه: لو رجع المنكر عن انكاره إلي الاقرار، هل يسمع منه و يحكم بالزوجية بينهما، فيه قولان، و الأقوي السماع إذا أظهر عذرا لإنكاره و لم يكن متهما، و إن كان ذلك بعد الحلف.

و صرح في المستمسك بعدم وقوفه، علي وجود قولين في المسألة. «2»

و الأولي أن يقال، في المسألة وجهان، لا قولان لعدم العثور علي القائل. و دليل الوجه الاولي،- أي قبول الاقرار بعد الانكار- هو الأخذ بعموم قاعدة الاقرار؛ و لا ينافيه

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 40/ 447.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 411.

أنوار

الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 234

الانكار السابق. و دليل الوجه الثاني، انصراف العموم عن مثله، و لم يثبت بناء العقلاء عليه أيضا، لا سيّما أنّه يكون مظنة للتهمة دائما؛ و لا أقل من الشك في العموم، و الأصل عدم التأثير.

و أمّا اشتراط بيان العذر و عدم اتهامه، فالظاهر عود كلا الشرطين إلي أمر واحد؛ فانّ المنكر لو لم يذكر عذرا يكون متهما في اقراره. (و مثال العذر، أن تقول المرأة، إنّي خفت من أهلي لو كنت مقرة، لعدم الاستئذان منهم. أو قالت، كنت قريبة العهد بانقضاء عدّة وفات زوجي السابق و كنت استحيي من الناس، فأنكرت الزواج الثاني؛ أو غير ذلك).

و الانصاف أنّ القبول مشكل جدا لما عرفت، و الاتهام لا يرتفع إلّا إذا علمنا بصدقها في عذرها، و أنّ الانكار السابق لم يكن عن جدّ، و حينئذ يتغير حكم المسألة كما هو واضح.

و من هنا يعلم أنّ الحكم بتعارضها و تساقطها- الذي يظهر من بعض كلمات الجواهر- أيضا ليس علي ما ينبغي؛ لأنّه فرع قبول الثاني، و قد عرفت الإشكال فيه. و أشكل من الجميع، إذا كان الاقرار بعد الحلف عقيب الانكار.

و ما ذكره المحقق السبزواري، في المهذب، في شرح كلام صاحب العروة من: أنّ المنساق ممّا ورد في ما يتعلق بالقضاء عن المدعي و المنكر و الحلف و البيّنة، هو المستقر منها، لا الثابت الزائل … فلا يبقي موضوع حتي يقال إن الحلف فاسخ تعبدي، و يكون الاقرار حينئذ بعد الانكار كالإقرار غير الجامع للشرائط؛ «1» أيضا في غير محلّه. لما عرفت من انصراف أدلة حجية الاقرار عن مثل المقام، لا سيّما إذا حلف عند إنكاره.

*** بقي هنا شي ء:

و هو أنّه في أبواب الجنايات

و الديون و شبهها، كثيرا ما ينكر الجاني أو المديون

______________________________

(1). السيد السبزواري، في مهذب الاحكام 24/ 348.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 235

جنايته أو دينه، و بعد طرح الاسئلة من ناحية المسئولين في دائرة القضاء، لا يجد محيصا إلّا عن الاقرار، و هذا اقرار بعد الانكار و هو كثير، و لا شك في قبوله إذا لم يكن الاقرار تحت الضغط؛ و ذلك لأنّه لا مجال للتهمة هنا (بخلاف محل الكلام)، و لذا استقر بناء العقلاء من أهل العرف علي قبوله إلّا في موارد شاذة يكون فيها الاتهام.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 236

[المسألة 21: إذا ادعي رجل زوجية امرأة، و انكرت، فهل لها ان تتزوج من غيره]

اشارة

المسألة 21: إذا ادعي رجل زوجية امرأة، و انكرت، فهل لها ان تتزوج من غيره؛ و للغير أن يتزوجها قبل فصل الدعوي، و الحكم ببطلان دعوي المدعي؛ أم لا؟ وجهان:

أقواهما، الأول؛ خصوصا فيما تراخي المدعي في الدعوي، أو سكت عنها حتي طال الأمر عليها. و حينئذ، أن اقام المدعي بعد العقد عليها بيّنة، حكم له بها و بفساد العقد عليها. و إن لم تكن بينة، تتوجه اليمين إلي المعقود عليها، فان حلفت بقيت علي زوجيتها و سقطت دعوي المدعي؛ و كذا لوردت اليمين علي المدعي و نكل عن اليمين.

و إنّما الإشكال فيما إذا نكلت عن اليمين أو ردت اليمين علي المدعي، و حلف، فهل يحكم بسببها بفساد العقد عليها فيفرق بينها و بين زوجها؛ أم لا؟ وجهان:

أوجههما، الثاني؛ لكن إذا طلقها الذي عقد عليها أو مات عنها، زال المانع فترد إلي المدعي بسبب حلفه المردود عليه من الحاكم أو المنكر.

حكم من انكر زوجية رجل

أقول: قد ذكر صاحب العروة، هذا الفرع بعنوان المسألة الرابعة من المسائل المتفرقة، و لم يتعرض لها كثير من الأصحاب. نعم، ذكرها الشهيد الثاني في المسالك، و شرّاح العروة في شروحهم، (كالمستمسك و المهذب).

و يمكن بيان المسألة بعنوان كلي، و هو أنّه إذا ادعي واحد علي غيره بدعوي في مال أو زوجية أو غير ذلك، فهل يمنع عن التصرفات فيه حتي تتم الدعوي؛ أو لا يمنع؛ أو يفصل بين ما إذا طالت المدّة بحيث يتضرر المدعي عليه، و بين ما إذا لم تطل، فيمنع المدعي عليه عن التصرفات.

مقتضي القاعدة، عدم منع المرأة عن التزويج؛ لأنّ كل إنسان مسلّط علي نفسه في أمر التزويج و غيره من أشباهه؛ و لا يمكن منعه عنه بمجرد دعوي غيره

كما أنّ الناس مسلطون علي أموالهم و لا يمكن منعهم عن التصرفات بالبيع و الشراء و الهبة و غيرها بمجرد إقامة الدعوي؛ و إلّا كان هناك طريق لمنعهم دائما- و لو في برهة من الزمان-

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 237

بمجرد إقامة دعوي عليه، و هذا ممّا لا يقبله أحد. فمن كان مخالفا لتزويج امرأة من غيرها، كفاه إقامة الدعوي عليها.

ثم بعد التزويج، لا يخلو الأمر، من امور ثلاثة:

إمّا يقيم البينة علي ما ادعاه، فتكون زوجته و يبطل العقد الثاني.

و إمّا لا يقيمها، و لكن تنكر المرأة و تحلف عليه، أو ترد الحلف علي المدعي و هو أيضا لا يحلف، فتسقط الدعوي.

و إمّا يحلف المدعي، اليمين المردود عليه، فحينئذ يؤخذ بما لا ينافي حق الزوج الثاني. فلا يبطل العقد، لأنّه حق شخص ثالث؛ و الحلف لا أثر له إلّا لطرف الدعوي و هي المرأة؛ و فائدته أنّه لو طلقها رجعت إلي الثاني. و القول ببطلان العقد الثاني بسبب الحلف، ممّا لا وجه له؛ لأنّ دليل نفوذه لا يشمل المقام قطعا.

إن قلت: علي هذا، يكون التزويج عليها سببا لبطلان حق المدعي، و عدم وصوله إلي مقصوده بالحلف، فاللازم المنع عنه.

قلنا: أوّلا، إنّ إقامة الدعوي ليست من الحقوق، بل من أحكام الشرع. نعم، موضوع هذا الحكم، المرأة الخلية، فاذا تزوجت انتفي الموضوع؛ فالحكم ينتفي بانتفاء موضوعه كما في بيع العين أو هبتها أو غير ذلك. و لا دليل علي وجوب حفظ الموضوعات.

و ثانيا، لا يعلم من قبل، أنّ المدعي يحلف اليمين المردود عليه أو لا يحلف؛ و منع المرأة عن التسلط علي نفسها، سبب لمنعها عن حقوقها؛ و لا دليل علي أنّ حق المدعي،- لو فرض

له حق- مقدم علي حق المرأة علي نفسها، و مقتضي الجمع بين الحقوق ما عرفت في فرض الطلاق، و الله العالم.

و ذكر الفقيه السبزواري، في مهذب الأحكام، أنّه لم يظهر وجه الأظهريّة في الوجه الأول، (أي جواز تزويجها) مع ما ناقشنا في دليله من انه أشبه بالمصادرة. (و كأنه ناظر إلي كلام صاحب العروة أنّها خلية و مسلطة علي نفسها).

ثم قال: يمكن أن يستدل علي الصحة، باطلاق ما ورد في ايكال الأمر إليها في هذا الموضوع. ففي خبر ميسّر، قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: القي المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد،

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 238

فأقول لها: أ لك زوج؟ فتقول: لا؛ فأتزوجها؟ قال: نعم، هي المصدقة علي نفسها. «1» فيستفاد منه ثبوت السلطة المطلقة لها ما لم يكن مانع فعلي. و حينئذ فلا أثر للحق الاقتضائي مطلقا. و مع ذلك فالأمر مخالف لمرتكزات أذهان المتشرعة، فانّهم لا يقدمون علي مثل هذه المرأة، إن احتملوا وجود المدعي لزوجيتها، فضلا إذا علموا بوجود المدعي. «2»

و يمكن النقاش في كلامه، أولا، أنّ كون المرأة خلية و مسلطة علي نفسها. ليس مصادرة علي المطلوب، بل هو قاعدة عقلائية و شرعية من أنّ الناس مسلطون علي أموالهم و أنفسهم (سواء كان قولنا، و أنفسهم، من الرواية أم لا) فلا يمكن منعهم من هذه السلطة إلّا بدليل.

و ثانيا، قد عرفت أنّ جواز إقامة الدعوي من الأحكام، و جواز الحلف أو إقامة البينة ليس من الحقوق، فالحق الاقتضائي لا محصل له.

و ثالثا، أنّ مخالفته لمرتكزات المتشرعة، إنّما هو من جهة اصرارهم علي الاحتياط في هذه الامور، و كثير منهم لا يقدمون علي تزويج المرأة المطلقة خوفا من فساد

طلاقها.

و من الواضع أنّ أمثال هذه الاحتياطات لا يمنع عن جواز التزويج. كما أنّ الناس لا يقدمون علي اشتراء ملك فيه دعوي، مع أنّ جواز اشترائه من ذي اليد ممّا لا إشكال فيه.

فالمسألة ظاهرة.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 228، الحديث 2، الباب 25 من أبواب عقد النكاح.

(2). السيد السبزواري، في مهذب الأحكام 24/ 243.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 239

[المسألة 22: يجوز تزويج امرأة تدعي أنّها خلية من الزوج]

اشارة

المسألة 22: يجوز تزويج امرأة تدعي أنّها خلية من الزوج مع احتمال صدقها من غير فحص، حتي فيما إذا كانت ذات بعل سابقا، فادعت طلاقها أو موته. نعم، لو كانت متهمة في دعواها، فالأحوط الاولي الفحص عن حالها. فمن غاب غيبة منقطعة لم يعلم موته و حياته، إذا ادعت زوجته حصول العلم لها بموته من الأمارات و القرائن و أخبار المخبرين، جاز تزويجها و إن لم يحصل العلم بقولها.

و يجوز للوكيل أن يجري العقد عليها، إذا لم يعلم كذبها في دعوي العلم؛ و لكن الاحوط، الترك، خصوصا إذا كانت متهمة.

جواز الركون علي اخبار المرأة المأمونة

أقول: قلما تعرضوا لهذه المسألة أيضا. نعم، ذكرها المحقق، في الشرائع، في بحث نكاح المتعة، و قال: و (يستحب) أن يسألها عن حالها مع التهمة؛ «1» و ذكر صاحب الجواهر (قدس سره)، في شرح هذه العبارة، بعد نقل رواية أبي مريم الآتية، ما يدل علي أنّ ظاهر الرواية، الأمر بالسؤال مطلقا، إلّا أن يعلم كونها مأمونة؛ «2» و هو دليل علي عدم وجوب الفحص مطلقا. و كذلك الشهيد الثاني، ذكر في شرح المسألة في المسالك، ما يدل علي استحباب الفحص في الجملة.

عدم الفرق بين النكاح الدائم و الموقت

و الظاهر أنّه لا فرق بين النكاح الدائم و المنقطع؛ و ارسال المسألة ارسال المسلمات في كلماتهم، دليل علي عدم وجود الخلاف فيها. و في بحث نكاح الشبهة من الجواهر أيضا اشارة إليه، حيث قال في بيان أمثلتها: و التعويل علي أخبار المرأة بعدم الزوج، أو بانقضاء العدة، أو علي شهادة العدلين بطلاق الزوج أو موته، أو غير ذلك من الصور التي لا

______________________________

(1). المحقق الحلي، في شرايع الإسلام 2/ 529.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 30/ 158.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 240

يقدح فيها احتمال عدم الاستحقاق شرعا؛ «1» و ذكرها في العروة، في المسألة السابقة بمثل ما ذكره في التحرير مع اضافات (و الألفاظ مشابهة) و لم يخالف فيه أحد من المحشين فيما وقفنا علي كلماتهم. و في بعض كلماتهم أنّ المسألة مشهورة بينهم؛ بل صرّح في مهذب الأحكام أنّها إجماعيّة.

أدلّة المسألة

و كيف كان يدل عليه روايات كثيرة:

1- ما مر من حديث الميسّر. (2/ 25 من عقد النكاح)

2- ما عن عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام إنّي تزوجت امرأة فسألت عنها، فقيل فيها. فقال: و أنت لم سألت أيضا، ليس عليكم التفتيش. «2»

و الحديث لا يخلو من ابهام، فان قول الراوي: فقيل فيها؛ لا يدل علي أنّ الإشكال فيها من ناحية احتمال وجود بعل لها؛ بل الظاهر، رميها بالفسوق و الفحشاء، فلا تدل علي المطلوب.

3- ما عن فضل، مولي محمد بن راشد، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قلت: إنّي تزوجت امرأة متعة، فوقع في نفسي أن لها زوجا، ففتشت عن ذلك، فوجدت لها زوجا. قال: و لم فتشت؟ «3»

4- ما رواه مهران بن محمد، عن بعض أصحابنا،

عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قيل له: إنّ فلانا تزوج امرأة متعة. فقيل له، أنّ لها زوجا. فسألها. فقال أبو عبد الله عليه السّلام: و لم سألها. «4»

5- ما عن محمد بن عبد الله الأشعري، قال: قلت للرضا عليه السّلام: الرجل تزوج بالمرأة، فيقع في قلبه أن لها زوجا. فقال: و ما عليه، أ رأيت لو سألها البينة، كان يجد من يشهد أن

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 245.

(2). الوسائل 14/ 227، الحديث 1، الباب 25 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 457، الحديث 3، الباب 10 من أبواب المتعة.

(4). الوسائل 14/ 457، الحديث 4، الباب 10 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 241

ليس لها زوج؟ «1»

6- ما عن أبي مريم، عن أبي جعفر عليه السّلام، أنّه سئل عن المتعة؛ فقال: أنّ المتعة اليوم ليست كما كانت قبل اليوم؛ أنّهن كن يومئذ يؤمنّ، و اليوم لا يؤمن، فاسألوا عنهن. «2»

بناء علي أنّ ظاهرها جواز الركون علي أخبار المرأة المأمونة دون المتهمة. و سيأتي أنّ الاصحاب حملوها علي استحباب السؤال في المتهمة؛ فعلي هذا تكون دلالتها اوضح.

7- ما رواه في المستدرك، عن الشيخ المفيد (قدس سره)، في رسالة المتعة، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في المرأة الحسناء تري في الطريق، و لا يعرف أن تكون ذات بعل أو عاهر. فقال: ليس هذا عليك، إنّما عليك أن تصدقها. «3»

8- و يدل عليه في الجملة، ما ورد في الصحيح، في أبواب العدد: أنّها إذا ادعت صدقت. «4»

هذا، و لكن هناك رواية معارضة، تدل علي وجوب الفحص و إقامة الشهود علي أنّه لا زوج لها، و هي ما

رواه في الجعفريات، باسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ عليهم السّلام، في امرأة قدمت علي قوم، فقالت: أنّه ليس لي زوج؛ و لا يعرفها أحد. فقال: لا تزوج حتي تقيم شهودا عدولا أنّه لا زوج لها. «5»

و لكنها مضافا إلي ضعف سندها، و اعراض الأصحاب عنها، يمكن الجمع بينها و بين ما تقدم، بالحمل علي الاستحباب (أو الوجوب)، في خصوص المتهمة دون غيرها.

استثناء المتّهمة

بقي الكلام في استثناء المتهمة عن هذا الحكم، فقد صرح في المتن بأن الاحوط الاولي، ذلك؛ و لكن احتاط في العروة احتياطا وجوبيا، و هو الحق لو لم يكن أقوي. و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 457، الحديث 5، الباب 10 من أبواب المتعة.

(2). الوسائل 14/ 451، الحديث 1، الباب 6 من أبواب المتعة.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 458، الحديث 17282.

(4). الوسائل 15/ 441، الحديث 1، الباب 24 من أبواب العدد.

(5). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 323، الحديث 16836.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 242

ذلك لدلالة غير واحد من روايات الباب عليه، و طريق الجمع بينها و بين المجوزة هو حمل الناهية علي المتهمة، مضافا إلي بناء العقلاء علي عدم تصديق المتهم علي الأموال و النفوس؛ بل يوجبون علي أنفسهم الفحص عن ذلك. و مثله عدم حجية يد السّراق و عدم قبول الشاهد الذي يكون في شهادته نفع له.

و كذلك إذا امكن الاطلاع علي الواقع بادني فحص. كما إذا ادعت أن طلاقها مكتوب في الدفاتر الرسمية، أو ادعت شهودا علي ذلك قريبا منها؛ كما هو الحال في مسألة الفحص عن الشبهات الموضوعية في جميع أبواب الفقه.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 243

[المسألة 23: إذا تزوج بامرأة تدعي أنّها خلية عن الزوج، فادعي رجل آخر زوجيتها]

اشارة

المسألة 23: إذا تزوج بامرأة تدعي أنّها خلية عن الزوج، فادعي رجل آخر زوجيتها، فهذه الدعوي متوجهة إلي كل من الزوج و الزوجة؛ فان إقام المدعي بينة شرعية، حكم له عليهما و فرّق بينهما و سلّمت اليه.

و مع عدم البينة، توجه اليمين إليهما؛ فان حلفا معا علي عدم زوجيته، سقطت دعواه عليهما. فان نكلا عن اليمين، فردها الحاكم عليه أو ردّاها عليه، فحلف، ثبت مدعاه. و إن حلف أحدهما دون الآخر.

بأن نكل عن اليمين فردها الحاكم عليه أو ردّ هو عليه، فحلف، سقطت دعواه بالنسبة إلي الحالف. و امّا بالنسبة إلي الآخر، و إن ثبتت دعوي المدعي بالنسبة إليه، لكن ليس لهذا الثبوت أثر بالنسبة إلي من حلف؛

فان كان الحالف هو الزوج و الناكل هي الزوجة، ليس لنكولها أثر بالنسبة إلي الزوج، إلّا أنّه لو طلقها أو مات عنها، ردت إلي المدعي. و إن كان الحالف هي الزوجة و الناكل هو الزوج، سقطت دعوي المدعي بالنسبة إليها؛ و ليس له سبيل علي كل حال.

لو عقد علي امرأة و ادعي آخر زوجيتها

أقول: هذه المسألة منصوصة في كلمات الأصحاب و في الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السّلام، و قد حكي الإجماع عليها في الجملة.

قال في الرياض: و لو عقد علي امرأة و ادعي آخر زوجيتها لم يلتفت إلي دعواه، إلّا مع البيّنة فتقبل دعواه حينئذ، لا مطلقا، بلا خلاف، للنصوص. «1»

و قال في الحدائق: إذا عقد علي امرأة فادعي آخر زوجيتها فقد صرح جمع من الأصحاب بأنّه لا يلتفت إلي دعواه إلّا بالبيّنة، بمعني عدم سماع دعواه بالكلية مع عدم البيّنة، بحيث لا يترتب عليها اليمين علي المرأة و إن كانت منكرة … و ذهب آخرون من الأصحاب أيضا إلي قبول الدعوي و توجه اليمين و الرد و إن لم يسمع في حق الزوج. «2»

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 49 (2/ 70 ط. ق).

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 187.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 244

و صرّح في المسالك بوجود القولين في المسألة في توجه اليمين إلي المرأة و عدمه، و بيان فائدته علي فرض توجه اليمين. «1»

و ذكره في العروة الوثقي في المسألة الثالثة من المسائل المتفرقه

لعقد النكاح.

حكم المسألة بحسب القواعد

و علي كل حال، نتكلم فيها تارة علي القواعد، ثم نذكر الأحاديث الواردة في المسألة لنري هل فيها شي ء مخالف للقواعد أم هي علي وفقها. فنقول: (و منه جل ثنائه التوفيق و الهداية) في المسألة حالات خمسة:

1- إذا اقام المدعي البيّنة علي أنّها زوجته، فاللازم سماع دعواه و تسليم المرأة إلي المدعي بمقتضي حجيّة البينة، و هو واضح.

2- أن لا يقيم ذلك، فتتوجه الدعوي إلي الزوجين، و عليهما اليمين بمقتضي القاعدة المعروفة، فحلفا لنفي دعوي المدعي، سقط الدعوي تماما.

3- إذا نكلا و ردّ الحاكم اليمين إلي المدعي، أو ردّ القسم إليه و حلف، فاللازم تسليم المرأة للمدعي و نفي الزوجية الثانية.

4- إذا حلف أحدهما و نكل أو ردّ الثاني و كان هي الزوجة، فحلف المدعي اليمين المردود، لم يكن لردّها أو نكولها أثر، لأنها تتعلق بالرجل الثاني بمقتضي عقده عليها من دون مانع، نعم لو طلقها أو مات عنها، ردّ إلي المدعي. «2»

5- إذا حلفت الزوجة، و ردّ الزوج اليمين، فحلف المدعي، لم يكن لدعواه أثر لا في الحال و لا في المستقبل، لأنّ المفروض سقوط الدعوي عن الزوجة بالحلف مطلقا.

حكم المسألة بحسب الأخبار

هذا هو مقتضي القاعدة.

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 110 (2/ 447 ط. ق).

(2). هذا صحيح علي القول بردها إلي الزوج الاول حينئذ، و لكن علي المختار من أن تأثير اليمين المردود في هذا المقام- مع الفصل المزبور- غير ثابت، فهذا الأثر أيضا باطل.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 245

و أمّا بحسب الأخبار؛ ففي حديث عبد العزيز بن المهتدي، قال: سألت الرضا عليه السّلام قلت:

جعلت فداك، إنّ أخي مات و تزوجت امرأته، فجاء عمّي فادعي أنّه كان تزوجها سرا، فسألتها عن ذلك،

فانكرت أشد الانكار، و قالت ما كان بيني و بينه شي ء قطّ. فقال: يلزمك اقرارها و يلزمه انكارها. «1»

و سند الرواية معتبر، لأنّ رجال السند ثقات، و عبد العزيز بن المهتدي هو وكيل الرضا عليه السّلام و قد وثقه العلّامة و النجاشي؛ و في بعض الروايات إنّه كان خير قمي في زمانه.

و دلالتها أيضا ظاهرة، بل تدل علي عدم الحاجة إلي اليمين (يمين المرأة) لعدم ذكر له فيها؛ اللّهم إلّا أن يقال إن اليمين إنّما يكون بعد طرح الدعوي عند القاضي لا مطلقا.

و يدل عليه أيضا، ما رواه يونس، قال: سألته عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان، فسألها لك زوج؟ فقالت: لا، فتزوجها؛ ثم إنّ رجلا أتاه فقال هي امرأتي، فانكرت المرأة ذلك، ما يلزم الزوج؟ فقال: هي امرأته إلّا أن يقيم البيّنة. «2»

و سنده لا يخلو عن ضعف (مع قطع النظر عن الارسال) فان علي بن أحمد، هو ابن اشيم (بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه) ظاهرا، و هو مجهول الحال. نعم، للرواية سند آخر ذكرها في الوسائل ذيل الرواية لعله صحيح.

هذا؛ و لكن عمل الأصحاب به و بما قبله يغنينا عن ملاحظة السند (فتأمل). و لكن قد يعارضها ما رواه سماعة قال: سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها، فحدثه رجل ثقة، أو غير ثقة فقال إنّ هذه امرأتي، و ليست لي بيّنة. فقال: إن كان ثقة، فلا يقربها؛ و إن كان غير ثقة، فلا يقبل منه. «3» و طريق الرواية معتمد و اضمارها لا يضرّ.

و لكن اعراض الأصحاب عنها و شهرة الفتوي بالحديثين السابقين، سبب ترجيحهما عليها؛ مضافا إلي إمكان الجمع بالحمل علي الاستحباب، لأنّ المدعي إذا كان ثقة

كان المقام مقام الشبهة، ينبغي الاجتناب عنه؛ أو محمول علي حصول الاطمينان بقوله.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 226، الحديث 1، الباب 23 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 226، الحديث 3، الباب 23 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 226، الحديث 2، الباب 23 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 246

و أمّا ما ذكره في الحدائق من إمكان الجمع بينها بالحمل علي التخصيص، فان الأوليين عامان و الأخير خاص؛ و إن قول الثقة حكمه حكم البيّنة. «1»

ففيه أولا، إنّ الرواية الاولي ليس عاما بل وارد في قضية خاصة، فليس المقام من قبيل العام و الخاص. مضافا إلي ما عرفت من اعراض الأصحاب عنه. أضف إلي ذلك، أنّ التصريح بلزوم إقامة البيّنة في الحديث الثاني، يناقض الاعتماد علي الثقة الواحد. فما ذكره مخدوش من جهات شتي، فالأقوي ما ذكره المشهور من الأصحاب.

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 190.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 247

[المسألة 24: إذا ادعت امرأة أنها خليّة فتزوجها رجل]

اشارة

المسألة 24: إذا ادعت امرأة انها خليّة فتزوجها رجل، ثم ادعت بعد ذلك انّها كانت ذات بعل، لم تسمع دعواها. نعم، لو اقامت البيّنة علي ذلك، فرّق بينهما؛ و يكفي في ذلك بان تشهد بأنّها كانت ذات بعل فتزوجت حين كونها كذلك من الثاني، عن غير لزوم تعيين زوج معيّن.

اذا ادعت امرأة أنها كانت ذات بعل

أقول: هذه المسألة أيضا غير مذكورة في كلمات الأصحاب، و لم ترد فيها رواية خاصة، و إنّما ذكرها المتأخرون و المعاصرون و حكموا فيها علي وفق القواعد العامة.

و قد ذكره في العروة، في المسألة الثامنة، بعين العبارة المذكورة هنا تقريبا. و قد ذكره الشارحون لها في كلماتهم كالسيّد الحكيم، في المستمسك؛ و السبزواري، في المهذب.

و حاصل الكلام فيها، أنّ دعوي المرأة بدون البيّنة غير مسموعة، لأنّها مخالفة لأصالة الصحة في العقد بعد تمامه أولا، و اقرار في حق الغير و هو الزوج، ثانيا، و لا دليل علي قبول قولها و لا وجوب تصديقها ثالثا؛ فان الروايات السابقة الدالة علي أنّها مصدّقة ناظرة إلي غير المقام و هو ما قبل النكاح، كما هو ظاهر.

أضف إلي ذلك كلّه، أنّ هذا يكون ذريعة فاسدة لكل زوجة لا تريد المقام مع زوجها و لا يطلقها، فانها تتوصل إلي دعوي كونها ذات بعل سابقا و تحلف و تنفصل من زوجها.

نعم، إذا حلفت علي مدعاها لزمها قبول آثارها، كاستحقاقها مهر المثل لا المسمي إذا ادعت غفلتها عن كونها ذات بعل في أول أمرها. (اللّهم إلّا أن يكون المسمي أقل من مهر المثل). و استحقاقها الحدّ، لو ادعت علمها في النكاح الثاني بأنّها ذات بعل. و لكن استحقاقها النفقة، غير بعيد، بعد اجبارها بالتمكين حسب حق الزوج.

نعم، لو أقامت بيّنة علي مدعاها،

تقبل منها، لأنّها حجة علي كل حال، فتنفصل عن زوجها الثاني، و تعود إلي الأول. و كذا إذا أقامت البيّنة علي أنّها كانت في عدّة الطلاق أو الوفاة؛ و حكم المهر ما سبق من أنّه يدور مدار الجهل و العلم، و كذا حكم حدّ الزانية.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 248

و ليعلم أنّ اللازم في البيّنة ان تشهد بأنّها ذات بعل فعلا؛ و أمّا لو شهدت علي أنّها كانت ذات بعل قبلا، فانّها لا تفيد، لعدم تمامية الحكم بدون الاستصحاب، مع أنّ أصالة الصحة في العقد مقدمة علي الاستصحاب. كما لا يخفي.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 249

[المسألة 25: يشترط في صحة العقد، الاختيار]

اشارة

المسألة 25: يشترط في صحة العقد، الاختيار؛ أعني اختيار الزوجين؛ فلو أكرها، أو اكره أحدهما علي الزواج، لم يصح؛ نعم، لو لحقه الرضا، صح علي الأقوي.

يشترط في صحة العقد اختيار الزوجين

أقول: و المسألة مشتملة علي فرعين: أحدهما، اعتبار الرضا و عدم الاكراه في عقد النكاح من الجانبين؛ ثانيهما، صحته بعد لحوق الرضا، كالفضولي في سائر المقامات.

اعتبار الرضا و عدم الإكراه

و الظاهر أنّ اعتبار الرضا و عدم الاكراه هنا و في جميع العقود ممّا أجمع المسلمون عليهم عدا شاذ؛ بل هو من الأركان في جميع العقود العقلائية بحيث لا يقبل أحد غيره.

و كان ينبغي للماتن (قدس سره)، أن يذكر هذا الشرط في أول مباحث عقد النكاح مع الشرائط الثلاثة الاخري، (العقل و البلوغ و القصد) حتي تتم الشرائط الأربعة العامة.

و أكثر ما ذكروا هذا الشرط في أبواب الطلاق، لشدة الابتلاء به فيها. قال شيخ الطائفة المحقّة (قدس سره): طلاق المكره و عتقه و سائر العقود التي يكره عليها، لا يقع منه؛ و به قال الشافعي، و مالك، و الأوزاعي، و قال أبو حنيفة و أصحابه، طلاق المكره و عتاقه واقع و كذلك كل عقد يلحقه فسخ؛ فأمّا ما لا يلحقه فسخ مثل البيع و الصلح و الإجارة، فانّه إذا أكره عليه ينعقد عقدا موقوفا، فان اجازها و إلّا بطلت؛ ثم استدل عليه في الخلاف باجماع الفرقة و أخبارهم و أصالة البراءة و حديث الرفع رواها عن ابن عباس عن النبي صلّي اللّه عليه و آله. «1»

و قول أبي حنيفة و أصحابه هنا عجيب؛ فانّه لا فرق بين ما يقبل الفسخ و ما لا يقبل، مضافا إلي أنّ الطلاق لا يقبل الفسخ. اللّهم إلّا أن يقال إن مراده هو الرجوع في العدّة، و أنّه

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 478.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 250

إذا لم يرجع بمنزلة الإجازة و الرضا بما وقع منه اكراها. و هذا ليس

ببعيد؛ ففي الحقيقة ليس هو أيضا من المخالفين في المسالة. (و كذلك العتق في نظره). فالمسألة إجماعية بين علماء الإسلام.

و قد تعرض للشرائط العامة، لا سيما الاكراه (موضوعا و حكما) في كلام مبسوط له في الجواهر، فراجع. «1»

و كيف كان، العمدة في دليل المسألة، بناء العقلاء جميعا علي عدم الاعتناء بكل عقد نشأ عن اكراه؛ فان المعاقدة هو المعاهدة، و إنّما يتمّ معناها إذا نشأت عن رضا و اختيار؛ و قد امضاها الشارع المقدس.

هذا مضافا إلي حديث الرفع المعروف بين العامة و الخاصة؛ و ممّا رفع عن الأمة؛ ما اكرهوا عليه؛ أو ما استكرهوا عليه؛ و قد ذكرنا في محله أنّ الرفع لا ينحصر برفع المؤاخذة بل يشمل الأحكام الوضعيّة، فعقد المكره مرفوعة، أي ليس بصحيح. و قد استدل الإمام الصادق عليه السّلام به في رفع أثر طلاق المكره و عتاقه. و قد ورد روايات كثيرة في بطلان طلاق المكره، رواه في الوسائل، في الباب 37، من أبواب مقدمات الطلاق، من الجلد 15؛ فراجع. و الظاهر إلغاء الخصوصيّة عن الطلاق، و إجراء حكمه في النكاح و سائر العقود، و عدم تعرض الأصحاب له في النكاح غالبا للتسالم عليه.

صحّة العقد بعد لحوق الرضا

إنّما الكلام في صحة نكاح المكره، إذا لحقه الرضا و الإجازة، بأن يكون ممّا يجري فيه أحكام الفضولي، و الظاهر أنّ المسألة مشهورة أو إجماعية.

قال في الجواهر: عقد النكاح يقف علي الإجازة علي الأظهر الأشهر، بل المشهور شهرة عظيمة بين القدماء و المتأخرين، بل في الناصريات الاجماع عليه، و في محكي السرائر نفي الخلاف عنه، بل فيه مضافا إلي ذلك، دعوي تواتر الأخبار به. بل من أنكر

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 32/ 10 و بعده.

أنوار الفقاهة

- كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 251

الفضولي في غير النكاح أثبته هنا، للإجماع و النصوص. بل لم نعرف الخلاف في ذلك إلّا من الشيخ في محكي الخلاف؛ ثم نقل موافقته أيضا للمشهور في النهاية و التهذيب و الاستبصار. «1»

و نقله في الحدائق أيضا عن المشهور، بل عن المرتضي و ابن ادريس الإجماع عليه. «2»

و لكن مجرد جريان أحكام الفضولي في النكاح، غير كاف لما نحن بصدده؛ حتي تتمّ مسألة اخري، و هي أنّ المكره قاصد للإنشاء، حتي يلحقه الإجازة؛ أو فاقد للقصد كما يظهر من بعضهم حيث عطفوه علي المجنون و المغمي عليه و السكران. و الانصاف- كما فصلنا القول فيه في محله من كتاب البيع «3» - إنّ المكره غالبا يقصد اللفظ و الإنشاء، و إن كان غير راض بمفاده؛ فليس مسلوب العبارة، و ليس المكره كالهازل الذي لا يقصد اللفظ.

فاذن العقد كامل من جميع الجهات ما عدا الرضا و الإجازة، فاذا لحقته الإجازة، تمت؛ لعين ما ذكروه في أبواب الفضولي في البيع، فراجع. و الله العالم.

***

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 201.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق 23/ 257.

(3). أنوار الفقاهة، كتاب البيع/ 256.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 253

[فصل في أولياء العقد]

اشارة

فصل في اولياء العقد

[المسألة 1: للأب و الجد من طرف الأب- بمعني أب الأب- فصاعدا، ولاية علي الصغير و الصغيرة]

اشارة

المسألة 1: للأب و الجد من طرف الأب- بمعني أب الأب- فصاعدا، ولاية علي الصغير و الصغيرة و المجنون المتصل جنونه بالبلوغ، و كذا المنفصل عنه علي الظاهر؛ و لا ولاية للأمّ عليهم، و للجد من طرف الأمّ، و لو من قبل أمّ الأب، بان كان أبا لأمّ الأب مثلا، و لا للأخ و العمّ و الخال و اولادهم.

أقول: مسألة أولياء العقد اصلها و فروعها، من المسائل المهمّة في أبواب النكاح، و معركة لآراء الفقهاء (رضوان الله تعالي عليهم) و فيها دقائق كثيرة.

و الكلام تارة يكون بالنسبة إلي الصغير و الصغيرة، و اخري في الكبيرة. و هذه المسألة (المسألة الاولي) ناظرة إلي حكم الصغير و الصغيرة، و المسألة الآتية تتكفل لحكم الكبيرة.

و المعروف بين الأصحاب فيما نحن فيه، أنّ الأولياء علي الصغير و الصغيرة أربعة:

الأب و الجدّ، و الوصي، و المولي، و الحاكم، و الكلام الآن في الأب و الجد، و في المسألة فروع أربعة:

الفرع الأوّل: ولاية الاب و الجد عليهما

الظاهر أنّ ولايتهما إجماعي إجمالا، (مع قطع النظر عن خصوصياتهما من جهة عدم المفسدة، أو اشتراط المصلحة؛ و هل هناك مصلحة في زماننا في هذا الامر، أم لا؛ فهذه

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 254

الفروع سوف نتكلم فيها إن شاء الله في المسائل الآتية) و لكن حكي العلّامة (قدس سره)، في المختلف، عن ابن أبي عقيل عدم قبوله لولاية الجد. قال: أمّا ابن أبي عقيل، فانه قال: الولي الذي هو أولي بنكاحهن هو الأب دون غيره من الاولياء، و لم يذكر للجد ولاية. «1»

و قال في الحدائق: ثانيهما (يعني من موارد الخلاف) قول ابن أبي عقيل في نقصان الجد من هؤلاء المذكورين، فانه قال: الولي الذي اولي بنكاحهن هو

الأب دون غيره من الأولياء … «2» و ظاهر هذه العبارة المنقولة عنه، حصر الولاية في الأب.

و علي كل حال فهو شاذ لا يعتمد عليه. و لذا ادعي الأصحاب الإجماع علي المسألة من دون الاعتناء بمخالفته. و يمكن توجيه كلامه بان الأب يشتمل الجد عرفا، كما في قول يوسف: و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب؛ فانّ إسحاق جدّه و إبراهيم جده الأعلي، فاستعمال الأب في الجد ليس أمرا غريبا حتي إذا كان بصيغة المفرد، كما في الشعر المعروف المنسوب لمولانا أمير المؤمنين، (عليه افضل صلوات المصلين):

الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم و الامّ حواء

اللّهم إلّا أن يقال، كل ذلك استعمالات مجازية؛ فتأمل.

و يدل علي قول المشهور روايات كثيرة في أبواب مختلفة، منها، الباب 6، و الباب 11، و الباب 12، من أبواب عقد النكاح؛ نذكر شطرا منها الواردة في الباب 11، فانّها و إن كانت ناظرة إلي تعارض اختيار الأب مع اختيار الجد، لكن يستفاد منها أنّ قبول ولايتهما كان مفروغا عنها، منها:

1- ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما، قال: إذا زوج الرجل ابنة ابنه فهو جائز علي ابنه؛ و لابنه أيضا أن يزوجها؛ فقلت: فان هوي أبوها رجلا و جدّها رجلا؟ فقال: الجد أولي بنكاحها. «3»

______________________________

(1). العلامة الحلّي، في مختلف الشيعة 7/ 100.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 202.

(3). الوسائل 14/ 217، الحديث 1، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 255

و سيأتي الكلام إنشاء الله في حكم تعارضهما في المسالة الثالثة.

2- ما رواه عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، و يريد

جدها أن يزوجها من رجل آخر؟ فقال: الجد أولي بذلك ما لم يكن مضارا، إن لم يكن الأب زوجها قبله، و يجوز عليها تزويج الأب و الجد. «1»

3- ما رواه هشام بن سالم، و محمد بن حكيم، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إذا زوج الأب و الجد، كان التزويج للأول، فان كانا جميعا في حال واحدة فالجد أولي. «2»

4- ما رواه فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إن الجد إذا زوج ابنة ابنه و كان أبوها حيا، و كان الجد مرضيا جاز. قلنا: فان هوي أبو الجارية هوي، و هوي الجد هوي، و هما سواء في العدل و الرضا؟ قال: أحب إلي أن ترضي بقول الجد. «3»

و هذه الروايات، و روايات كثيرة اخري واردة في نفس الباب، و الباب 12، صريحة في المطلوب؛ و قد عمل بها الأصحاب. فما هو منقول من انكار ابن أبي عقيل لولاية الجد عجيب. و يمكن الاستدلال لولاية الاب و الجد أيضا في الجملة بأنّه القدر المتيقن من الآية الشريفة: إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ. «4»

و في تفسير الآية و إن كان اختلاف بين المفسرين و لكن الظاهر إنّ الذي بيده عقدة النكاح هو الولي علي الصغار و لكن القدر المتيقن هو الأب.

و يمكن الاستدلال له أيضا بسيرة العقلاء، لا سيما أهل الشرع منهم، فانّهم يرون للأب ولاية علي الصغير و الصغيرة في مصالحهما، و منها النكاح إذا اقتضت المصلحة ذلك.

الفرع الثاني: ولايتهما علي المجنون و المجنونة

للأب و الجد ولاية علي المجنون البالغ و المجنونة كذلك المتصل جنونه بالصغر؛ و الظاهر من كلماتهم أنّ المسألة أيضا إجماعية. و قد ادعي في الجواهر عدم الخلاف

فيها. و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 218، الحديث 2، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 218، الحديث 3، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 218، الحديث 4، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(4). البقرة/ 237.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 256

حكي عن المسالك أنّه موضع وفاق. «1» و لا ينقل في شي ء في كلماتهم نص خاص يدل علي ذلك.

و غاية ما يستدل عليه أولا، أنّه مقتضي الاستصحاب بالنسبة إلي حال الصغر.

و قد يورد عليه، بان الموضوع قد تبدل؛ فقد كانت الولاية بسبب الصغر، و المفروض انه قد كبر. و القول بأنّ ذلك من قبيل تبدل الحالات، بعيد، لأنّ الصغر كان مقوما.

مضافا إلي ما ذكرنا في محله من عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية و ما نحن فيه، منها.

و ثانيا، قد يستدل له أيضا بقوله تعالي: وَ ابْتَلُوا الْيَتٰاميٰ حَتّٰي إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ …، «2» فان معناها عدم دفع أموالهم إليهم عند عدم استيناس الرشد، و من البعيد بقاء الولاية علي الأموال فقط دون النكاح، مضافا إلي ما ورد في حديث أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالي: … الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ …، «3» ما نصه: هو الأب و الأخ و الرجل يوصي إليه و الذي يجوز أمره في مال المرأة … «4»

فمن يجوز له التصرف في مال المرأة، يجوز له عقد نكاحها؛ فتأمل.

و يرد عليه أنّ المخاطب في الآية غير معلوم، و الظاهر في هذه المقامات و نظائرها هو الحاكم الشرعي، كما في قوله تعالي: وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا … «5» و قوله تعالي: الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ

وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ … «6»

و الاولي، الاستدلال له بسيرة العقلاء من أهل الشرع و غيرهم أولا، فان أمر أبنائهم المجانين بأيدي آبائهم، سواء فيه المتصل بالصغر و عدمه، كما هو الظاهر لمن راجعهم. و

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام، 29/ 186.

(2). النساء/ 6.

(3). البقرة/ 237.

(4). الوسائل 14/ 213، الحديث 4، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(5). المائدة/ 38.

(6). النور/ 2.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 257

لكن القدر المتيقن من هذا الدليل، هو الأب خاصة. و يمكن الاستدلال له ثانيا، بإمكان الغاء الخصوصية عن غير البالغ، بأن يقال إنّ الملاك فيه عرفا الصلة العاطفية بين الولد و أبيه مع قصوره عن استقلال في أموره، و هذا بعينه موجود في ناحية المجنون. اللّهم إلّا أن يقال هذا استحسان ظني لا يبلغ حد اليقين بالملاك.

و علي كل، يظهر من بعض كلماتهم أنّ الإجماع أنّما هو في المتصل بالصغر؛ و أمّا المنفصل فلا إجماع فيه. و لكن الإنصاف أنّه لا ينبغي الفرق بينهما، لاستقرار سيرة العقلاء عليه، و امضاء الشارع له، و لا وجه للتمسك بان الحاكم الشرعي وليّ من لا وليّ له، و التفرقة بينهما تعود إلي نوع من الجمود.

الفرع الثالث: لا ولاية للأم و لو من قبل الاب

أنّه لا ولاية للأمّ و لو من قبل الأب، بان كان أمّا لأب. و يظهر من كلماتهم الإجماع عليه من غير الإسكافي (ابن الجنيد). قال النراقي، في المستند: لا ولاية في النكاح لأحد علي أحد سوي الأب، و الجد له، و المولي، و الحاكم، و الوصي، إجماعا لنا محققا و محكيا مستفيضا، في غير الام و الجد لها وفاقا لغير الإسكافي فيهما أيضا. «1»

بل صرح في الرياض، بأن عدم ولاية الام و أبيها هو الأشهر؛ ثم

نقل الإجماع عليه عن التذكرة و بعض فضلاء الأصحاب. «2»

و استدل عليه بما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما عليه السّلام قال: لا تستأمر الجارية إذا كانت بين أبويها؛ ليس لها مع الأب أمر. و قال: يستأمرها كل أحد ما عدا الأب. «3»

و يمكن المناقشة فيه، أولا بأنّها ناظرة إلي الكبيرة بقرينة الاستيمار. (اللّهم إلّا أن يقال أنّها قد دل علي حكم الصغيرة بطريق اولي. و ثانيا، أنّها من ادلة استقلال الأب في أمر الكبيرة؛ و سيأتي أنّ هذا القول مخالف للتحقيق في المسألة.

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 124.

(2). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 87، (2/ 77 ط. ق).

(3). الوسائل 14/ 205، الحديث 3، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 258

2- ما رواه زرارة، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لا ينقض النكاح إلّا الأب. «1»

و المراد بنقض النكاح ليس هو الطلاق، لعدم كونه بيد الأب قطعا، بل المراد هو المنع عن تحققه، و عدم جواز استقلال الجارية بعقدها؛ فالنقض هو نقض مقدمات النكاح عند حصولها كرضي الزوجين و مثله.

3- قد ورد عين هذا المضمون، عن محمد بن مسلم، عنه عليه السّلام. «2»

إلي غير ذلك مما في هذا المعني.

و لا يدل علي ولاية الام- مع أنّ الأصل عدم ولاية كل أحد علي غيره- إلّا ما روي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله في رواية عاميّة؛ عن النبي صلّي اللّه عليه و آله، أنّه أمر نعيم بن نجاح أن يستأمر أم ابنته في أمرها. و قال: و آمروهن في بناتهن. «3»

بناء علي أنّ المراد من ابنته، ربيبته؛ و إلّا فمع وجود الأب و أعمال

الولاية لا تصل النوبة إلي الأم. و علي كل حال، هي رواية ضعيفة ذاتا، مضافا إلي أنّها مهجورة بعمل الأصحاب علي خلافها.

و قد يستدل عليه أيضا بما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام، أنّه سأله عن رجل زوّجته امّه و هو غائب. قال: النكاح جائز، إن شاء المتزوج قبل، و إن شاء ترك. فان ترك المتزوج تزويجه، فالمهر لازم لأمّه. «4» فان لزوم المهر دليل علي ثبوت النكاح. و فيه، أنّه في الرجل الكبير و لا شك في عدم ولاية أحد عليه، إنّما الكلام في الصغير و المجنون. و أما لزوم المهر علي الأم أمّا يحمل علي دعواها الوكالة، أو علي ضرب من الاستحباب، و الأحسن الأخير؛ مضافا إلي أنّ صدرها علي خلاف المطلوب، أعني عدم نفوذ ولاية الام، أدلّ.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 205، الحديث 1، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 205، الحديث 5، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

(3). رواها المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 202 و المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 92 و في كتب العامة، رواها البيهقي، في السنن الكبري 7/ 116.

(4). الوسائل 14/ 211، الحديث 3، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 259

الفرع الرابع: لا ولاية للأخ و الخال و العمّ و اولادهما

لا ولاية للأخ و العم و الخال و أولادهما و قد عرفت التصريح فيما مر من كلام المستند، للنراقي (قدس الله سره الشريف) بإجماع علمائنا عليه، و يظهر ذلك من المحقق الكركي، في جامع المقاصد أيضا، حيث قال: و الولاية الثابتة بالقرابة منحصرة عندنا في قرابة الأبوة و الجدودة من الأبوة باتفاق علمائنا؛ فلا تثبت للأخ ولاية، من الأبوين كان، أو من أحدهما، انفرد أو

كان مع الجد خلافا للعامة؛ و كذا الولد و سائر العصبات قربوا أم بعدوا. «1»

و يظهر من كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة؛ عند ذكر المسألة، إنّ أكثر فقهاء العامة علي ثبوت الولاية للأخ و العم و سائر العصبات و إن اختلفوا في ترتيب ولايتهم من حيث التقدم و التأخر؛ بل يظهر من المالكية ولاية الابن، حتي إذا كان ولد الزنا، علي أمّها؛ إلي غير ذلك من الخرافات و الدعاوي الجزافية. «2»

و علي كل حال، يدل علي عدم ولاية العم،- مضافا إلي أنّه موافق للأصل- ما رواه محمد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض بني عمّي إلي أبي جعفر الثاني عليه السّلام، ما تقول في صبيّة زوّجها عمها، فلما كبرت أبت التزويج؟ فكتب لي: لا تكره علي ذلك، و الأمر أمرها. «3»

و سند الحديث، و إن كان غير نقي، لعدم توثيق صريح لمحمد بن الحسن الأشعري؛ و لكن عمل الأصحاب بمضمونها جابر لسندها.

و يدل علي عدم ولاية الأخ، أولا، ما رواه الحلبي في حديث صحيح عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سئل عن رجل يريد ان يزوج اخته؟ قال: يؤامرها فان سكتت فهو إقرارها و إن أبت لا يزوجها. «4»

هذا؛ و لكن الحديث لا يدل علي أزيد من نفي استقلال الأخ، أمّا عدم اعتبار اذنه، فلا؛

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 92.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 259

(2). الفقه علي المذاهب الاربعة 4/ 28.

(3). الوسائل 14/ 207، الحديث 2، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(4).

الوسائل 14/ 205، الحديث 4، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 260

بل يمكن إن يكون اللازم اذنهما عند عدم حضور الأب.

هذا مضافا إلي أنّه وارد في الكبيرة، و لا يدل علي نفي اعتبار اذن الأخ في الصغيرة؛ فلا دلالة علي المطلوب.

و ثانيا، ما رواه الصدوق، باسناده عن داود بن سرحان، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في رجل يريد أنّ يزوج أخته؟ قال: يؤامرها، فان سكتت فهو اقرارها، و إن أبت لم يزوجها … «1»

و يمكن المناقشة فيها بما مر في الحديث السابق من وجهين، فالاستدلال بها أيضا مشكل؛ هذا مضافا إلي أنّ داود بن سرحان و إن كان ثقة، و لكن صحة طريق الصدوق إليه غير معلوم، فقد حكي في جامع الروات، صحة سنده إليه في خاصة ليس أبواب النكاح منها.

فالعمدة في عدم ولاية الأخ، هي العمومات الدالة علي نفي الولاية عن غير الأب و الجدّ.

هذا؛ و هناك روايات تدل علي صحة عقد الأخ و ولايته؛ منها:

1- ما رواه محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قضي أمير المؤمنين عليه السّلام في انكحها أخوها رجلا، ثم انكحتها امها بعد ذلك رجلا، و خالها أو أخ لها صغير فدخل بها فحبلت فاحتكما فاقام الأول الشهود، فالحقها بالاول و جعل لها الصداقين جميعا، الحديث. «2»

حيث يدل علي صحة استقلال الأخ بعقد نكاح الكبيرة، فيصح في الصغيرة بطريق أولي.

2- عن وليد بياع الاسقاط، قال: سئل أبو عبد الله عليه السّلام و أنا عنده، عن جارية كان لها أخوان، زوجها الأكبر بالكوفه، و زوجها الأصغر بأرض اخري؛ قال: الأول بها اولي؛ الحديث. «3»

3- عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد

الله عليه السّلام قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 211، الحديث 1، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 211، الحديث 2، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 211، الحديث 4، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 261

قال: هو الأب و الأخ و الرجل يوصي إليه، الحديث. «1»

4- عن بعض أصحابنا، عن الرضا عليه السّلام قال: الأخ الأكبر بمنزلة الأب. «2»

و قد حمل الأصحاب بعض هذه الأحاديث علي كون الأخ وكيلا، و بعضها علي استحباب وكالته و تعظيم شأنه، أو علي التقية لما عرفت من ذهاب العامة إليه، مضافا إلي كونها مهجورة عند الأصحاب.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 213، الحديث 4، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 213، الحديث 6، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 262

[المسألة 2: ليس للأب و الجدّ للأب ولاية علي البالغ الرشيد]

اشارة

المسألة 2: ليس للأب و الجدّ للأب ولاية علي البالغ الرشيد و لا علي البالغة الرشيدة إذا كانت ثيبة؛ و امّا إذا كانت بكرا، ففيه أقوال:

1- استقلالها و عدم الولاية لهما عليها لا مستقلا و لا منضما.

2- و استقلالهما و عدم سلطنة و ولاية لها كذلك.

3- و التشريك، بمعني اعتبار اذن الولي و اذنها معا.

4- و التفصيل بين الدوام و الانقطاع، أمّا باستقلالها في الأول دون الثاني.

5- أو العكس.

و الأحوط، الاستئذان منهما. نعم، لا إشكال في سقوط اعتبار اذنهما إن منعاها من التزويج بمن هو كفو لها شرعا و عرفا مع ميلها. و كذا إذا كانا غائبين بحيث لا يمكن الاستئذان منهما مع حاجتها إلي التزويج.

عدم ولاية الاب و الجد علي البالغة الرشيدة

أقول: و يظهر من الحدائق، أنّ صاحب المسالك، بعد نقل هذه الأقوال الخمسة، قال: و زاد بعضهم قولا سادسا و هو أنّ التشريك في الولاية تكون بين المرأة و أبيها خاصة، دون غيره من الأولياء، و نسبه إلي المفيد. «1»

اقوال الفقهاء في المسألة

و علي كل حال، هذه المسألة من المسائل المهمّة التي هي معركة الآراء، و لا يزال يسأل عنها، لابتلاء الناس بها دائما. قال في الحدائق: قد عدّها الأصحاب من امهات المسائل و معضلات المشاكل و قد صنف فيها الرسائل و كثر السؤال عنها و السائل، و أطنب جملة من الأصحاب فيها الاستدلال لهذه الأقوال.

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 212.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 263

و المشهور بينهم من هذه الأقوال، هو الثلاثة الاولي: استقلال الأولياء، و استقلالهن، و التشريك بينهم و بينها.

و الأول، و هو استقلالها محكي عن مشهور المتأخرين، و حكي عن الشيخ، في التبيان؛ و المرتضي؛ و المفيد، في أحكام النساء؛ و ابن الجنيد، و سلار، و ابن إدريس، و هو مذهب المحقق، و العلّامة. «1» فكأنه المشهور بين القدماء و المتأخرين.

و الثاني، و هو عدم استقلالها و عدم تشريكها عن الشيخ، في أكثر كتبه. و الصدوق، و ابن أبي عقيل، و المحدث الكاشاني، و اختاره نفسه. «2» و في المستند حكايته عن جماعة اخري. «3»

و الثالث، و هو التشريك، محكي عن أبي الصلاح الحلبي، و الشيخ المفيد في المقنعة، و اختاره صاحب الوسائل.

و أمّا الرابع، أعني استقلال الأولياء في الدائم دون المنقطع، منقول عن الشيخ في كتابي الأخبار. «4»

و أمّا الخامس، أعني عكسه و هو الولاية في المنقطع دون الدائم، حكاه المحقق في الشرائع، و لم يسم قائله.

و قد

عرفت نسبة القول السادس- و هو أنّ التشريك مختص بالأب- إلي المفيد.

و أما أقوال العامة، فهي أيضا مختلفة جدا، كما يظهر من الخلاف، و الفقه علي المذاهب الأربعة، و غيرهما. قال شيخ الطائفة في الخلاف ما حاصله:

قال الشافعي: إذا بلغت الحرّة الرشيدة، ملكت كل عقد إلّا النكاح، فانّها متي أرادت أن تتزوج افتقر نكاحها إلي الولي، و هو شرط لا ينعقد إلّا به مطلقا علي كل حال …

و قال ابو حنيفة: إذا بلغت المرأة الرشيدة، فقد زالت ولاية الولي عنها، كما زالت عن مالها، و لا يفتقر نكاحها إلي اذنه. ثم ذكر أنّها لو تزوجت و لم تضع نفسها في كفو، جاز

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 210.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 210.

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 104.

(4). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 210.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 264

للولي فسخ نكاحها!

و قال مالك: إن كانت عربيّة و نسيبة، فنكاحها يفتقر إلي الوليّ! و إن كانت معتقة دنيّة! لم يفتقر إليه.

و قال داود: إن كانت بكرا، فنكاحها لا ينعقد إلّا بولي، و إن كانت ثيبا لم يفتقر إلي وليّ … «1»

*** أدلّة القول باستقلالها بالعقد

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي أدلة الأقوال؛ فنقول: (و منه جل شأنه نستمد التوفيق و الهداية) استدل للقول الأول و هو استقلالها بالعقد، بامور:

الأوّل: الأصل؛ و هو انتفاء ولاية كل إنسان علي غيره و هو إمّا يرجع إلي الاستصحاب، بمعني عدم جعل ولاية للأب و الجد علي البكر بعد بلوغها، و القول بأنّ مقتضي الاستصحاب بقاء الولاية الثانية علي الصغير، ممنوع، لتبدل الموضوع قطعا بعد زوال الصغر؛ كما عرفت سابقا. فلا يبقي إلّا أصالة عدم جعل الولاية،

و هو إمّا من قبيل العدم الأزلي، لو كان الموضوع كل شخص؛ أو من قبيل عدم الجعل قبل الشرع، إن كان الموضوع عدم الجعل علي النوع بعنوان القضية الحقيقية.

و لكن كل واحد منهما لا يخلو عن مناقشة.

و الاولي أن يقال، إن المراد بالأصل، عمومات وجوب الوفاء بالعقود التي يكون المكلف فيها كل إنسان بالغ، فاذا عقد البكر عقدا علي نفسها مستقلا وجب عليها الوفاء به، و أمّا إذا عقد عليها الولي، لا دليل علي وجوب وفائها به، فان العقود بمعني عقودكم.

الثاني: الآيات الواردة في الكتاب العزيز، و هي علي طائفتين:

1- الآيات الواردة في المتوفي عنها زوجها، مثل قوله تعالي: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 252.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 265

وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ؛ «1» و ذلك للعلم بأن عدّة الوفاة لا فرق فيها بين المدخول بها و غير المدخول بها، بين البكر و بين الثيب، فاذا ثبت استقلالها بحسب ظاهر الاية هنا، ثبت في ما لم تتزوج أيضا.

و لكن الاستدلال بها مبني علي صدق البكر علي غير المدخولة و إن تزوجت، و هو الحق؛ لأنّ عنوان الباكرة عرفا صادقة عليها قطعا، كما سيأتي إن شاء الله.

و مثلها الاستدلال بقوله تعالي: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً … فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِي مٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ …، «2» و دعوي الانصراف ممنوع.

2- الآيات الواردة في المطلقات، مثل قوله تعالي: وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلٰا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوٰاجَهُنَّ إِذٰا تَرٰاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ؛ «3» و

الاستدلال بها مبني علي وجوب العدّة علي المدخول بها علي غير المتعارف (دبرا) كما هو المشهور، بل في الجواهر دعوي عدم الخلاف فيه، بل ظهور الإجماع عليه، و إن حكي عن الحدائق التوقف فيه. «4» فعلي هذا، يشمل عموم الآية لمثل هذا الفرد التي يصدق عليها البكر لعدم زوال بكارتها، و يتمّ في غيرها بعدم القول بالفصل؛ و دعوي انصراف الآية إلي المدخول بها من طريق المتعارف غير بعيد.

الثالث: الروايات الواردة في المسألة و هي كثيرة تشتمل علي طوائف؛ و يدل علي هذا القول روايات، منها:

1- ما عن سعدان بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت بغير اذن أبيها. «5»

و هي صريحة في المطلوب، و لكن الراوي الأخير سعدان بن مسلم، مجهول الحال،

______________________________

(1). البقرة/ 234.

(2). البقرة/ 240.

(3). البقرة/ 232.

(4). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 32/ 213.

(5). الوسائل 14/ 214، الحديث 4، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 266

فلا يعتمد علي الرواية من دون جبر سندها إمّا بالشهرة أو بالاستفاضة.

2- ما عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: إذا كانت المرأة مالكة أمرها، تبيع و تشتري و تعتق و تشهد و تعطي من مالها ما شاءت، فان أمرها جائز، تزوج إن شاءت بغير اذن وليها … «1»

و من الواضح إن المراد بكونها مالكة أمرها، كونها مستقلة في تصرفها في أموالها الذي يكفي فيه كونها بالغة رشيدة، و إن كانت باكرة، فدلالتها تامّة.

و لكن موسي بن بكر الذي يروي عن زرارة، غير معلوم الحال، و إن ورد فيه بعض المدائح، مثل ما رواه عن أبي الحسن عليه السّلام قال له: لم يخف

عليك أن نبعثك في بعض حوائجنا. فقلت: أنا عبدك، فمرني بما شئت. فوجهني في بعض حوائجه إلي الشام. «2» و لكن الراوي لهذه الفضيلة نفسه و هو كما تري.

3- صحيحة الفضلاء؛ رواها فضيل بن يسار، و محمد بن مسلم، و زرارة، و بريد بن معاوية، كلهم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة و لا المولي عليها، تزويجها بغير ولي جائز. «3»

سندها واضح الصحة بل هو في قوّة اربع روايات كما هو ظاهر، و قد أورد علي دلالتها أولا، بمنع كون البكر مصداقا لقوله: مالكة أمرها، و غير مولي عليها؛ و ثانيا، المفرد المعرف لا يدل علي العموم. و ثالثا، لا يعلم المراد بملك النفس. و لكن يمكن الجواب عن الجميع؛ أمّا عن الأول، فلان الظاهر أنّ المراد بمالكية أمرها، هو ملكها لأمورها المالية؛ و إلّا لو كان المراد ملكيتها لأمرها في النكاح، كان من قبيل توضيح الواضح، و قولنا، الإنسان إنسان.

و أمّا الثاني، فلأن المفرد العرف، يدل علي الاطلاق المساوق للعموم، كما هو ظاهر. و قد ظهر الجواب عن الثالث أيضا.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 215، الحديث 6، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

(2). المحقق الأردبيلي، في جامع الرواة 2/ 272.

(3). الوسائل 14/ 201، الحديث 1، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 267

4- و يدل عليه أيضا ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال:

تزوج المرأة من شاءت إذا كانت مالكة لأمرها، فان شاءت جعلت وليّا. «1»

و المراد بجعل الولي هنا. هو الوكيل؛ فان الولاية ليست أمرا مجعولا من قبل نفس الانسان.

و هناك روايات أيضا واردة في

خصوص أبواب المتعة، تدل علي استقلالها؛ منها:

5- ما رواه ابو سعيد القماط، عمن رواه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام جارية بكر بين أبويها تدعوني إلي نفسها سرّا من أبويها؛ فافعل ذلك؟ قال: نعم، و اتقي موضع الفرج … «2» و هذا دليل علي عدم جواز مواقعتها.

6- ما رواه الحلبي، قال: سألته عن التمتع من البكر إذا كانت بين أبويها بلا اذن ابويها؛ قال: لا بأس ما لم يقتض ما هناك، لتعف بذلك. «3»

7- ما عن حفص البختري، عن أبي عبد الله عليه السّلام في الرجل يتزوج البكر متعة، قال:

يكره، للعيب علي أهلها. «4» بناء علي كون الكراهة المصطلحة، لا سيما مع ملاحظه التعليل.

8- روي في المستدرك، عن رسالة المتعة، للشيخ المفيد (قدس سره)، عن محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: لا بأس بتزويج البكر، إذا رضيت من غير اذن أبيها. «5» و دلالتها صريحة في الاستقلال؛ و لكن سندها مرفوعة.

و في نفس الكتاب، روايات اخري تدل علي عدم جواز نكاح البكر بدون رضاها، و هي لا تدل علي أزيد من التشريك.

9- هناك رواية مرسلة، عن ابن عباس (في منابع العامة)؛ أنّ جارية بكرا جاءت إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله فقالت: إنّ أبي زوجني من ابن أخ له، ليرفع خسيسته، و أنا له كارهة؛ فقال صلّي اللّه عليه و آله:

أجيزي (اختري) ما صنع أبوك. فقالت: لا رغبة لي فيما صنع. قال: فاذهبي فانكحي من

______________________________

(1). الوسائل 14/ 203، الحديث 8، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 458، الحديث 7، الباب 11 من أبواب المتعة.

(3). الوسائل 14/ 459، الحديث 9، الباب 11 من أبواب المتعة.

(4). الوسائل 14/ 459،

الحديث 10، الباب 11 من أبواب المتعة.

(5). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 319، الحديث 16825.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 268

شئت. فقالت: لا رغبة لي عمّا صنع أبي، و لكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء في امور بناتهم شي ء! «1»

و دلالتها واضحة علي المطلوب، فان قوله: فاذهبي فانكحي من شئت؛ دليل واضح علي الاستقلال، و لكن الإشكال أيضا في سندها.

فتلخص من جميع ما ذكرناه أن مقتضي الأصل، و ظواهر الآيات القرآنية، و طائفة كبيرة من الروايات، هو استقلال الباكرة الرشيدة في عقد النكاح، و ضعف اسناد بعضها بعد تضافرها و صحة بعض اسناده غير قادح، كما أنّ اختصاص بعضها بالمتعة غير ضارّ، بعد اطلاق كثير منها.

إن قلت: الموضوع في هذه الروايات هي المالكة لأمرها، و لعل المراد منها هو الثيب، فهي خارجة عن ما نحن بصدده.

قلت: أولا، إنّ هذا العنوان إنّما ورد في خصوص ثلاثه منها، و أمّا الباقي فليس من هذا العنوان فيه أثر. و ثانيا، أنّهم و إن ذكروا في تفسير هذا العنوان احتمالات ثلاثة:

1- المراد منه هو الثيب؛ احتمله صاحب الوسائل و العلّامة المجلسي في مرآة العقول، و المجلسي الأول في روضة المتقين.

2- إنّ المراد منه البكر التي لا أب لها؛ كما احتمله في المرآة، أيضا.

3- إن المراد منه هي الباكرة الرشيدة التي تجوز تصرفاتها في أموالها، كما احتمله روضة المتقين أيضا.

إلّا أنّ الحمل علي الأولين بعيد جدّا، بعد تفسيرها صريحا بالمعني الثالث، في رواية زرارة (6/ 9 من أبواب عقد النكاح)، و ظاهرا في رواية الفضلاء، و كونها من قبيل توضيح الواضح، أو كان المراد مالكية أمرها في النكاح كما هو ظاهر. فالمتعين هو المعني الثالث الذي

اخترناه. هذا، و لكن الحكم في المسألة لا يمكن إلّا بعد ملاحظة أدلة سائر الأقوال.

______________________________

(1). محمد بن يزيد القزويني، في سنن ابن ماجة 1/ 602، الحديث 1874.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 269

أدلّة القول باستقلال الاب و الجد

و يدل علي القول الثاني، أعني استقلال الأب و الجد- بعد عدم إمكان الاستناد إلي الأصل، نظرا إلي تبدل الموضوع من حال الصغر إلي الكبر قطعا- عدة روايات؛ منها:

1- ما عن فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا تستأمر الجارية التي بين أبويها إذا أراد ابوها أن يزوجها، هو انظر لها. و أمّا الثيب فانّها تستاذن و إن كانت بين أبويها إذا أراد أن يزوجها. «1»

2- ما عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء أ لها مع أبيها أمر؟ فقال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيب. «2»

3- عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث، قال: لا تستأمر الجارية في ذلك إذا كانت بين أبويها؛ فاذا كانت ثيبا فهي اولي بنفسها. «3»

4- ما عن ابراهيم بن ميمون، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إذا كانت الجارية بين أبويها فليس مع أبويها أمر؛ و إذا كانت قد تزوجت لم يزوجها إلّا برضا منها. «4»

5- عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في الجارية يزوجها ابوها بغير رضا منها؛ قال:

ليس مع أبيها أمر، إذا أنكحها جاز نكاحه، و إن كانت كارهة.

6- علي بن جعفر، في كتابه، عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل هل يصلح له أن يزوج ابنته بغير إذنها؟ قال: نعم، ليس يكون للولد أمر

إلّا أن تكون امرأة قد دخل بها قبل ذلك … «5»

7- ما عن عبد الله بن الصلت، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام … عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء، أ لها مع أبيها امر؟ قال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تكبر (تثيب). «6»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 202، الحديث 6، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 203، الحديث 11، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 204، الحديث 13، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 214، الحديث 6، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

(5). الوسائل 14/ 215، الحديث 8، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

(6). الوسائل 14/ 207، الحديث 3، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 270

8- و ما عن أبان، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إذا زوج الرجل ابنه، كان ذلك إلي ابنه و إذا زوج ابنته جاز ذلك. «1»

بل يمكن الاستدلال بالروايات الكثيرة الواردة في باب تعارض نكاح الأب و الجد، و أنّه يرجح نكاح الجدّ؛ (الواردة في الباب 11 من أبواب عقد النكاح)، فانّ ظاهرها معلومية جواز نكاح كل واحد منهما استقلالا، و أنّ السؤال عن فرض التعارض.

و لكن الإنصاف أنّه ليس فيها تصريح بالبالغة الرشيدة فحملها علي الصغيرة، غير بعيد. نعم، ظاهر التعليل الواردة في 8/ 11، و هو قوله: لأنّها و أباها للجد؛ ظاهر في العموم.

و كذا قوله: أحب إلي أن ترضي بقول الجدّ؛ «2» ظاهر في كون محل الكلام، البالغة.

و الحاصل أنّ هذه الروايات الثمانية، تدل علي استقلال الأب أو الجد في نكاح الباكرة الرشيدة.

*** أدلّة القول بالتشريك في المسألة

و يدل علي القول الثالث، و هو التشريك، أنّه

موافق للقاعدة بناء علي أنّ الأصل في أبواب النكاح هو الاحتياط، فانّه الفرج و منه الولد. هذا مضافا إلي ظاهر قول الصادق عليه السّلام في موثق صفوان قال: استشار عبد الرحمن، موسي بن جعفر عليه السّلام، في تزويج ابنته لابن أخيه، فقال: أفعل، و يكون ذاك برضاها، فانّ لها في نفسها نصيبا. قال: و استشار خالد بن داود، موسي بن جعفر عليه السّلام في تزويج ابنته علي بن جعفر، فقال: أفعل و يكون ذلك برضاها فان لها في نفسها حظا. «3»

فان التعبير بالحظّ و النصيب، أصدق شاهد علي كون اذنها بعض المطلوب لا تمامه. و قد عرفت اعتبار سندها، و هذا أحسن دليل علي هذا القول.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 221، الحديث 3، الباب 13 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 218، الحديث 4، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 214، الحديث 2، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 271

و قد يتوهم دلالة الروايات الكثيرة الدالة علي الاستيذان و الاستيمار من الباكرة الرشيدة علي التشريك، بدعوي ظهورها في كون اذنها شرطا في صحة العقد، مضافا إلي اذن الولي؛ و لكن الانصاف عدم دلالتها علي ذلك، لأنّ الاستيذان منها، أعم من كون إذنها تمام العلة أو جزء العلة، كما يقال لا يجوز التصرف في ملك الغير إلّا باذنه و رضاه (مع أنّ الاذن هنا تمام العلة).

و هناك روايات اخري وردت بمضمون واحد، قد يتوهم دلالتها علي القول الثالث، أي التشريك، و هو ما دل علي جواز نقض النكاح للأب؛ منها:

1- ما رواه زرارة في الصحيح، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لا ينقض النكاح إلّا الأب. «1»

2- و مثله

ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لا ينقض النكاح إلّا الأب. «2»

بناء علي أنّ المراد منها، اشتراط اذن البالغة و اذن الأب معا. و لكن دلالتها علي خلاف المطلوب أوضح. و لو عمل بها، حدث قول آخر، لم ينقل من احد، و هو جواز استقلال الباكرة في العقد، و لكن يجوز استقلال الأب في فسخه إذا لم يوافقه. اللّهم إلّا أن يقال إن المراد بالفسخ هنا عدم امضائها، و فيه تأمل.

هذا تمام الكلام في الاقوال الثلاثة المعروفه و مداركها.

و إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه قد يقال أنّ طريق الجمع بين أدلة هذه الأقوال هو الرجوع إلي القول الثالث، فتحمل أدلة استقلال البكر، علي مجرد لزوم اذن الباكرة الرشيدة، كما تحمل أدلة استقلال الولي علي لزوم اذنه.

و لكن الانصاف، لا شاهد علي هذا الجمع، بعد صراحة دليل القول الثاني علي عدم اعتبار رضاها، و صراحة أدلة القول الأول علي عدم اعتبار اذن الولي. و موثق صفوان لا يكون دليلا و شاهدا للجمع، بعد معارضته صريحا بأدلة القول الأول و الثاني.

و لكن لو أردنا الأخذ بمقتضي صناعة الفقه، و عدم إظهار العجز عن استنباط حكم

______________________________

(1). الوسائل 14/ 205، الحديث 1، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 205، الحديث 5، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 272

المسألة علي رغم كثرة الأقوال و تضارب الآراء فيها و كثرة الروايات المتعارضة، كان اللازم الرجوع إلي المرجحات؛ لما عرفت من أنّ صراحة الروايات الدالة علي القولين الأولين مانعة عن الجمع بينها.

و أول المرجحات، هو الشهرة، و لا يبعد موافقها للقول الأول.

كما أنّ ثاني المرجحات، و هو موافقة ظاهر

الكتاب، أيضا يقتضي الرجوع اليه، لظهور غير واحد من الآيات الباهرات في استقلال المرأة.

و امّا مخالفة العامة، فكل من القولين موافق لبعض أقوالهم؛ فقد عرفت ذهاب كل امام منهم إلي قول في المسألة، فالآخذ بهذا المرجح في المقام مشكل جدا.

و قد مال في المستمسك إلي جمع آخر بين الروايات، و هو العمل بكل من الطائفتين الأولين- أي ما دلّ علي استقلالها و استقلال الولي- بأن يكون عقد كل واحد صحيحا، فأيهما سبق كان عقده تامّا، و كذا يجوز للأب نقض النكاح الذي عقدتها البنت؛ و اعترف سيدنا الاستاذ، في المستمسك، بأنّ هذا قول جديد لم نجد به قائلا، و لكن مع ذلك مال إليه.

و لكنه (قدس الله نفسه الزكية) لم يلتفت إلي التهافت الشديد بين الطائفتين، فانّ الثانية يصرح بأنّه ليس لها من الأمر شي ء مع أبيها، فقد ورد التصريح في أربعة من هذه الروايات بهذا المعني، و هذا ينافي استقلالها قطعا؛ فالجمع بينها بما ذكره قدّس سرّه غير ممكن؛ مضافا إلي أنّ الذهاب إلي ما لم يذهب إليه أحد عجيب.

و هناك طريق جمع آخر، اختارها في المسالك، و حاصله الأخذ بالقول الأول و حمل الطائفة الثانية من الأخبار علي كراهة استبداد البنت في هذا الأمر، و الحكم ببطلان نكاحها علي البالغة، انتهي ملخصا. «1»

و فيه أنّ هذا الجمع ممّا لا شاهد له، بل ينافي و يعارض صريح غير واحد من تلك الروايات، لصراحتها في عدم حق للبالغة الرشيدة مع وجود الأب. فتدبّر. فتحصل من

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 1/ 450 ط. ق.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 273

جميع ما ذكر، أنّ الأقوي هو القول الأول.

*** بقي هنا امور:

1- مقتضي العناوين الثانوية في المسألة
اشارة

و هو أنّ جميع ما ذكرنا كان

بالنظر إلي العنوان الأولي، و لكن العناوين الثانوية في عصرنا و مجتمعنا ربّما تقتضي عدم استقلال الباكرة في أمر النكاح لا سيما النكاح الموقت، بل اللازم التشريك فيه بينها و بين الأولياء، لمفاسد شتي تترتب علي الاستقلال في المتعة و النكاح الدائم.

توضيح ذلك: أنّ سنّ الزواج و النكاح قد تغير و ارتفع، فلا تتوفق البنات و لا الأبناء للزواج في أوائل الشباب لأسباب شتي؛ منها، الدروس العالية التي لا تسمح لهم بذلك. و منها، شدة المؤنات في أمر المسكن و المعاش. و منها، ذهاب الكثير منهم إلي التكلفات في مراسم النكاح و أمر الجهاز و غير ذلك. هذا من ناحية؛

و من ناحية اخري لقد كثرت أسباب النزعات الشهوية و الشيطانية في عصرنا من الأفلام و الأغنيات و مجالس الفساد و المجلات الفاسدة و ما يسمي «كأمر صناعي» التي تحمل أنواعا كثيرة فاسدة من ذلك.

المشاكل العظيمة المترتبة علي استقلال البكر في النكاح

و من هذه الجهة أقبلت كثير من الأبكار و الأولاد إلي المتعة بدون اذن الأولياء، و الأولياء لا يرضون بذلك لما فيه من المشاكل العظيمة، نشير إلي خمسة منها:

1- القوي الشهوية لا تخضع لضابطة، و لا تسلم لحد خاص، بل إذا هاج بها الإنسان تتعدي كثيرا إلي أقصي ما يمكن؛ و ببالي أنّه قد ورد في الحديث، إذا هاجت الشهوة الجنسية ذهب ثلثا عقل الإنسان، و بقي ثلث منه فقط! و معه لا يقدر كثير من الناس علي ضبط أنفسهم، فيحدث ما لا ينبغي من هتك الاعراض و ذهاب البكارة، و ينعقد الأولاد

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 274

غير المطلوب منها.

2- هذه الأبكار تحت هذه السائقة طبعا ينكحن أفرادا متعددة في أزمنة مختلفة، و بعد ذلك لا يرغب كثير من

الناس في نكاحهن، و كأنّهن من الأرامل، بل و أدون منهن! للزواجات المتعددة التي مرّت عليهن.

3- و هناك مفسدة عظيمة اخري، و هي أنّهن بعد الزواج الدائم، إن كان أزواجهن أحسن من جميع من كن معهم قبل ذلك، فلا كلام؛ و لكن كثيرا ما لا يكون ذلك فيكون هذا سببا لعدم رضايتهن بنكاحهن؛ و قد يكون هذا سببا للطلاق و الخلاف و اضمحلال نظام الاسرة.

4- قد تكون علاقاتهن بعد النكاح الدائم مع من كن معهم قبل ذلك، (و لا سمح الله و نعوذ بالله لو اتسعت هذه العلاقات و كثرت) فانّها مفسدة عظيمة اخري و نسيانهن ما مضي مشكل جدا، إلّا لأهل الدين و التقوي منهن.

5- لو فتح هذا الباب- أي باب النكاح الموقت بسهولة، و بغير حاجة إلي اذن الأولياء و لا كتابتها في الجنسية (لما فيها من المفاسد الكثيرة)- كان سببا لتجاسر ذوي الأهواء و ذوات الأهواء الفاسدة، لصلة كثير منهم و منهن باشخاص مختلفة بعنوان الزواج الموقت، مثل ما هو الآن موجود تحت عنوان الصديق و الرفيق؛ و المفاسد التي تنشأ منه مما لا يخفي علي أحد، فيكثر الزنا تحت عنوان النكاح الموقت.

هذه اللوازم و إن كانت في الأزمنة السابقة أيضا، و لكن لما كان النكاح الدائم ميسّرا و سهلا و أسباب هيجان القوي الشهوية قليلة كانت المفاسد الحاصلة يسيرا.

و علي كل حال، لعله لبعض ما ذكرنا قد ورد التصريح في كثير من روايات المتعة باجتناب الابكار. منها:

1- ما عن عبد الملك بن عمرو، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام عن المتعة. فقال: أمرها شديد فاتقوا الأبكار. «1»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 460، الحديث 14، الباب 11 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب

النكاح (لمكارم)، ص: 275

2- ما عن أبي بكر الحضرمي، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: يا ابا بكر، ايّاكم و الأبكار أن تزوجوهن متعة. «1»

3- ما عن أبي مريم، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: العذراء التي لها أب، لا تزوج متعة إلّا باذن أبيها. «2» و لازم الاذن غالبا ترك النكاح كما لا يخفي.

4- ما عن المهلب الدلال، أنّه كتب إلي أبي الحسن عليه السّلام إلي أن قال: و لا يكون تزويج متعة ببكر. «3» و ظاهرها البطلان، لما ورد في صدرها فراجع.

و الجمع بينها و بين سائر روايات الباب التي سبق ذكرها، و إن كان بالحمل علي الكراهة إلّا أنّها تخبر عن بعض العناوين الثانوية التي لو شدد أمرها كان مآلها إلي الحرمة.

و من جميع ما ذكرنا، يمكن الحكم بحرمتها بدون اذن الولي، و لا أقل من وجوب الاحتياط فيها.

إن قلت: قد يكون المورد موردا خاصا مطمئنا من جميع الجهات، فلا تجري فيه حكم الحرمة.

قلت: الأحكام لا تتبع الموارد الخاصة، و لا يمكن للفقيه في أمثال المقام، أن يجعل لكل مورد حكما، بعد إن كان الغالب فيها الفساد. فيحكم حكما باتا للعموم و إلّا انفتح فيها أبواب الفرار عن أصل الحكم، و القضاء عليه، و افساده؛ كما أن الأمر في جميع الأحكام عند العقلاء كذلك؛ مثلا إذا قيل لا يجوز العبور عن السراج الأحمر حذرا من تصادم السيارات و اختلال النظام، لا يمكن أن يقال لم لا يجوز العبور إذا لم تكن هناك سيارة في الشارع المقابل.

إن قلت: ان منعنا نكاح المتعة في هذا العصر و سدّدنا بابها مع ما ذكرت من غلبة أسباب الهيجانات الشهوية و توفرها و ارتقاء سن

النكاح، فما الحيلة للنجاة عن الوقوع في المعاصي لا سيّما للشباب، هل هناك طريق؟!

______________________________

(1). الوسائل 14/ 460، الحديث 13، الباب 11 من أبواب المتعة.

(2). الوسائل 14/ 459، الحديث 12، الباب 11 من أبواب المتعة.

(3). الوسائل 14/ 459، الحديث 11، الباب 11 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 276

قلنا: لا محيص إلّا عن الاقبال إلي النكاح السهل البسيط الخالي من التكلفات، فهو الطريق الوحيد للوصول إلي هذا الغرض، لا غير. و لو تغيرت ثقافة المجتمع من النكاح المتكلف فيه إلي النكاح الساذج البسيط، أمكن الجمع بينها و بين تعلم العلوم و شبهه، لا سيما مع إمكان تاخير الزفاف و مع إمكان التحرز عن انعقاد الولد علي فرض الزفاف في عصرنا بأسباب مختلفة.

أضف إلي ذلك، أنّه لا بد للشباب أن يمنعوا بانفسهم عن أسباب الهيجانات الشهوية، و حضور مجالس اللهو و الفساد و الرقص و الأغاني، و مشاهدة الأفلام الفاسده و ترك مطالعة الجرائد و المجلات المفسدة، و لو أراد الشاب فعل جميع ذلك و لم تكن عنده زوجة لانحدر إلي هوّة الفساد بلا إشكال إلّا أنّ كثيرا من ذلك بيده و باختياره، يمكنه تركه.

فتلخص من جميع ذلك أن يشكل جدّا للفقيه، الفتوي بجواز متعة الأبكار في هذه الأعصار، و هذا من العناوين الثانوية. و المراد بها هنا أنّ الحكم في نفسه هو استقلال البالغة الرشيدة في نفسها، و لكن عروض العوارض الخاصة عليه في زماننا هذا، أوجب المنع منه. (مثله في عكس هذه الجهة، حرمة الميتة … بالذات، و لكن بسبب فقدان القوت في السفر مثلا و اضطراره إلي أكلها يصير مباحا).

و إلي ذلك و أمثاله، أشار في الجواهر، بقوله (قدس سره): نعم،

يستحب لها إيثار اختيار وليها علي اختيارها، بل يكره لها الاستبدار، كما أنّه يكره لمن يريد نكاحها فعله بدون اذن وليها، بل ربّما يحرم بالعوارض؛ «1» و الفرق بين الثيب و البكر، غير خفي علي البصير.

هذا كله في نكاح المتعة.

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 183.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 277

المفاسد الكثيرة المترتبة علي استقلال البكر في العقد الدائم

أمّا العقد الدائم في الباكرة بدون اذن الولي أيضا يترتب عليها مفاسد كثيرة:

1- أنّه ليس لها خبرة بأمر النكاح، فانّ المفروض أنّها تنكح لأول مرّة و من الواضح أنّ النكاح الدائم هامّ في حياة كل أحد؛ لا يمكن لمن ليس له تجربة، اتخاذ موضع حسن غالبا، مع ما ظهر في عصرنا من أنواع التدليس و أنواع الغش و الخيانة و التزوير من ناحية الدجالين و الفاسقين ممّا لم يكن في سابق الأيام.

2- أنّها في معرض هيجان الشهوة و هي تعمي و تصمّ، و لا يسمح لها أن تري المحاسن و العيوب كلها، بخلاف ما لو شرّك الولي في امرها، فانّه يري ما لا تراه و يسمع ما لا تسمعه و حيث إنّه يعاني شديدا عمّا تحلّ بابنتها من المشاكل، فلا يقدم إلّا علي ما فيه خيرها و صلاحها.

3- أنّها إن استقلت بأمر النكاح و لم يستأذن من وليّه، فتبين لها كون الزوج من غير اهل الصلاح، فانّها لا تجد من يدافع عنها و يحميها مع شدة حاجتها إليه باعتبار ضعف النساء في مقابل الرجال غالبا. أمّا لو كان باذنه فانه يدافع عنها باشدّ ما يمكن بل يدافع عنها جميع طائفتها؛ لا سيما أنّها تحتاج غالبا إلي أبيها في مصارف الزواج.

4- أضف إلي جميع ذلك، أنّ الولي صاحب نعمتها، و له حق

الاحترام و الأدب، و استقلالها بهذا الأمر ينافي ذلك قطعا.

و في روايات الباب إشارات إلي ما ذكر؛ ففي رواية عبيد بن زرارة (5/ 11 منه)، و رواية علي بن جعفر عليه السّلام (8/ 11 منه): أنت و مالك لأبيك؛ أو: أنها و أباها للجدّ؛ إشارة إلي حفظ حريم الأولياء. و في قوله عليه السّلام في رواية فضل بن عبد الملك: هو انظر لها؛ (6/ 3 منه)، اشارة إلي أن الولي يحفظ مصالح بنته أكثر ممّا تحفظه نفسها.

إن قلت- لا شك أنّ كثيرا من البنات العالمات الفاضلات، أعلم بمصالحهن من آبائهن إذا كانوا جاهلين اميّين و أشباه ذلك؛ فلا أقل من القول باستثناء أمثال هذه الموارد.

قلت: قد عرفت غير مرّة أنّ الأحكام الكليّة و القوانين الإلهيّة و البشرية، لا يدور مدار الأشخاص و الأفراد؛ بل تشمل الجميع، و إن كان ملاكها في الأكثر. و الاستثناء منها بأمثال

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 278

ذلك سبب لضعفها و فتورها؛ لدعوي كل أحد أنّه من مصاديق الاستثناء. فلو قلنا إنّ اذن الولي شرط في عقد الباكرة الرشيدة إلّا أن تكون أعقل و أبصر من وليها، أمكن دعوي ذلك من كل باكرة رشيدة، و لا سيّما في عصرنا هذا الذي يتهم الأولياء بأنّهم لا صلة لهم بضرورات الزمان و حاجات العصر و أنّ الأولاد أخبر منهم بذلك.

إن قلت: ما الفرق بين ما ذكرتم من ثبوت العناوين الثانوية هنا بسبب ظهور المشاكل العظيمة في استقلال البكر، و بين ما لا يقول به أصحابنا الإماميّة و نرفضه من الحكم بالاستحسان؟

قلنا: المنفي هو الاستحسانات الظنيّة؛ أمّا ما بلغ حد القطع سواء كان من المستقلات العقليّة كحسن الإحسان و قبح الظلم، أو من

الامور القطعية النظرية مثل المفاسد و المشاكل التي أشرنا إليه في استقلالهن، مقبول عندنا و عند جميع العقلاء.

2- التفصيل بين النكاح الدائم و الموقّت

أنّ القول بالتفصيل بين النكاح الدائم و المنقطع، بالقول باستقلال البكر في الأول دون الثاني، أو بالعكس، فقد عرفت أنّ الاوّل لم يعرف له قائل و إن حكاه المحقق في الشرائع عن بعض لم يسمه؛ و إن الثاني محكي عن الشيخ في كتابي الأخبار.

و الذي يمكن أن يكون مستمسكا لهذين القولين، طائفتان من الروايات الواردة في أبواب المتعة، في الباب 11، و قد نقلناهما. فمن نظر إلي ما دل علي وجوب استيذان البكر في المتعة عن وليها، مثل صحيح أبي مريم «1» و صحيح البزنطي، «2» ثم ضمّه إلي أدلة قول استقلال البكر في النكاح، و حملها علي الدائم نظرا إلي انصراف اطلاقها إليه، قال بالأول.

أمّا من نظر إلي الطائفة الثانية من روايات المتعة الدالة علي جواز نكاحها بدون اذن الولي، مثل رواية الحلبي، «3» و رواية أبي سعيد، «4» ثم ضمّها إلي ما دلّ علي استقلال الولي في

______________________________

(1). الوسائل 14/ 459، الحديث 12، الباب 11 من أبواب المتعة.

(2). الوسائل 14/ 458، الحديث 5، الباب 11 من أبواب المتعة.

(3). الوسائل 14/ 459، الحديث 9، الباب 11 من أبواب المتعة.

(4). الوسائل 14/ 458، الحديث 6، الباب 11 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 279

نكاحها و حملها علي الدائم للانصراف، قال بالثاني.

و الإنصاف أنّ شيئا من هذين، ليس مقبولا، و ما ذكر من الدليل غير كاف، فانّ طريق الجمع بين الروايات الدالة علي عدم جواز نكاح البكر بدون اذن أبيها، و ما دلّ علي جوازه، هو الجمع بالكراهة؛ مضافا إلي ما عرفت من أنّ الروايات الدالة

علي استقلالها في النكاح مطلقا، (أو في خصوص الدائم)، معارض بمثلها الدالة علي استقلال الولي؛ و أنّه لا يمكن الجمع بينهما؛ فاللازم الرجوع إلي المرجحات، و الترجيح لما دل علي استقلال الباكرة و إن كان مقتضي العناوين الثانوية في العصر الحاضر، المنع؛ و لا أقل من الاحتياط.

3- استثني من هذا الحكم صورتان

قد استثني من هذا الحكم، أي اشتراط اذن الولي علي القول به، في التحرير- كما عرفت- في ذيل المسألة، صورتين:

إحداهما، ما إذا منعها الولي عن التزويج مع الكفو شرعا و عرفا مع ميلها إلي النكاح، فاسقط اعتبار اذن الولي؛ و لم يرد نص خاص في المسألة، و استدل له في الشرائع و الجواهر و غيره بالإجماع، و قد حكي الإجماع عن التذكرة و القواعد و جامع المقاصد و المسالك و كشف اللثام.

و استدل له ثانيا، بقوله تعالي: فَلٰا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوٰاجَهُنَّ إِذٰا تَرٰاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، «1» بناء علي ما عرفت سابقا من إمكان كون الطلاق سببا للعدّة مع بقاء البكارة (لدخوله بطريق آخر).

و ثالثا، بقاعدة نفي الحرج في بعض الموارد.

و لكن في الجميع إشكال؛ أمّا الأول، فلان الإجماع علي تقدير ثبوته لا ينفع في هذه المسائل التي يوجد لها دلائل اخري.

______________________________

(1). البقرة/ 232.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 280

و أمّا الثاني، فيرد عليه تارة، بأنّ الآية منصرفة عن هذه الصورة النادرة (انحصار الدخول بطريق غير متعارف)؛ و اخري، بأنّ المخاطب في الآية غير واضح؛ فان كان الأولياء كان دليلا علي المطلوب، و إن كان المخاطب بعدم العضل (أي المنع) هو الزوج السابق (الأزواج السابقين)، فلا دلالة لها علي المطلوب؛ و ثالثة، بأنّ تحريم المنع يمكن أن يكون تكليفيا لا وضعيّا، فالولاية باقية. فتأمل.

و أمّا الثالث فبأن

قاعدة نفي الحرج، تختص بما إذا كانت البكر في عسر و حرج و ليس دائما كذلك.

و الأولي، الاستدلال علي المقصود، بانصراف أدلة الولاية عن مثل ذلك، فإنّها ناظرة إلي حفظ مصالح البنت، لا مصالح الولي؛ و الإشارة إلي مصالح الولي في بعض الأخبار أمر جنبيّ أخلاقي، فليست البنت مالا له يتجربه، كما هو المعمول عند بعض العوام و الذين لا معرفة لهم بحقايق الامور.

بل الولاية في جميع مواردها من الولايات العامة و الخاصة، إنّما هي لحفظ مصالح المولي عليهم لا غير، و الولي في الواقع في خدمتهم.

و قد يستدل بأنّ عدول الولي عن الكفو، مع ميل البنت، في الحقيقة خيانة بها؛ و يسقط الولي عن ولايته إذا خان؛ و يمكن إرجاع هذا الدليل إلي سابقه، فتأمل.

ثم إنّ المراد بالكفو الشرعي واضح و هو أن يكون الزوج مسلما، و أمّا الكفو العرفي هو أن يكون متناسبا في نظر العرف، و ذلك يمكن أن يكون جهات شتي: أولا، من ناحية مقدار السن؛ فلا يكون رجل بلغ ستين سنة، كفوا لباكرة بلغت عشرين سنة.

و ثانيا، من ناحيه العلم، فلا يكون الرجل الأمّي كفوا لآنسة تكون في مستوي عال من ناحية العلم.

و ثالثا من ناحية الديانة، فلا يكون الرجل تارك الصلاة و الصوم كفوا لبنت تكون مراعية لجميع الواجبات بل و كثير من المستحبات.

و رابعا، من ناحية السلامة و الجمال، فلا يكون رجل أعرج أبكم قبيح المنظر كفوا لامرأة ذات سلامة كاملة و جمال.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 281

و خامسا، من ناحيه الغني و الفقر، فلا يكون رجل فقير جدا كفوا لبنت ذات غني كامل.

لا أقول لا يجوز النكاح لغير الكفو العرفي، بل يجوز قطعا. و هذا

نوع من الإيثار و له أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي؛ بل أقول علي فرض اعتبار إذن الولي، له أن يمنع البنت عن النكاح بغير الكفو العرفي، و لا يجوز له المنع من الكفو حتي مع فرض اعتبار اذنه.

ثم، إنّه لو اختار الولي كفوا و اختارت البنت كفوا آخر، فهل تسقط ولايته؟ الظاهر أنّه تسقط، و يكون الخيار إليها؛ وفاقا للمسالك، و خلافا للجواهر. «1» و ذلك لما عرفت من الدليل الذي ذكرنا، من انصراف أدلة الولاية إلي ما هو مصالح للمولي عليه، و اختيار خلافه يكون خيانة عليه؛ و من الواضح أنّ البنت إذا اختارت كفوا تكون الفتها إليه أكثر ممّن يجبره الولي عليه و إن كان كفوا.

ثانيهما، ما إذا غاب الولي غيبة يشكل الوصول إليه، أو مات، مع حاجة البنت إلي التزويج؛ فانّه يسقط اذنه حينئذ، كما صرّح به الشيخ في الخلاف و المحدث البحراني في الحدائق، و صاحب الرياض في الرياض، و شيخنا الأعظم في رسالته، (علي ما حكاه في المستمسك عنهم) و ادعي عدم الخلاف فيه.

و لم يرد فيه أيضا نص؛ و الدليل عليه أيضا هو انصراف أدلة الولاية إلي غير ذلك، فانّ الغرض منها هو حفظ منافعها و المفروض هنا عدمه.

4- استقلال الثيب في النكاح
اشارة

الظاهر أنّه لا خلاف في استقلال الثيب في النكاح، إذا كانت عاقلة رشيدة. و قد حكي الخلاف عن ابن أبي عقيل في الجملة، و خلافه لا يضر بالإجماع، لو لم يكن إجماعا مدركيا.

و يدل عليه، مضافا إلي أنّه موافق للأصل- أصالة عدم الولاية كما عرفت شرحه

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 185.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 282

سابقا-، روايات كثيرة التي قد يعبر عنها بأنّها كادت تكون متواترة.

منها:

1- ما رواه الحلبي، من أبي عبد الله عليه السّلام، قال: سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء، أ لها مع أبيها أمر؟ قال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيب. «1»

2- ما عن عبد الرحمن ابن أبي عبد الله، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام عن الثيب، تخطب إلي نفسها؟ قال: نعم، هي أملك بنفسها، تولي أمرها من شاءت، إذا كانت قد تزوجت زوجا قبله. «2»

3- ما عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث، قال: لا تستأمر الجارية في ذلك إذا كانت بين أبويها، فاذا كانت ثيبا، فهي اولي بنفسها. «3»

هذه الروايات غير مقيدة بالكفو، و مثلها غيرها.

4- ما عن عبد الخالق، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن المرأة الثيب، تخطب إلي نفسها.

قال: هي أملك بنفسها تولي أمرها من شاءت إذا كان كفوا، بعد أن تكون قد نكحت زوجا قبل ذلك. «4»

و مثلها من حيث التقيد بالكفو، رواية اخري عن الحلبي. «5» و يمكن أن يكون التقييد بالكفو بمعني الكفو الشرعي أو العرفي و لكن يحمل علي الاستحباب أو يكون إشارة إلي رشدها، و لا أظنّ أحدا يفتي بأن المعتبر في استقلال الثيب هو اختيار الكفو العرفي.

و هناك روايات اخري، رواها في الوسائل، في نفس الباب، و في المستدرك في المجلد 14، في الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

و من طرق العامة يوجد بعض الروايات الصريحة في استقلال الثيب في أمر النكاح، مثل ما رواه ابن عباس، عن رسول الله صلّي اللّه عليه و آله قال: ليس للولي مع الثيب أمر. «6»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 203، الحديث 11، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/

204، الحديث 12، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 204، الحديث 13، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 201، الحديث 2، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(5). الوسائل 14/ 202، الحديث 4، الباب 3 من أبواب عقد النكاح. و هي في الواقع و ايات ثلاثة وصفت بالصحة.

(6). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 118.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 283

و ما رواه أيضا عنه صلّي اللّه عليه و آله قال: الأيّم أحق بنفسها من وليّها، و البكر تستأذن في نفسها … «1»

إلي غير ذلك ممّا قد يعثر عليه المتتبع في كتب الفريقين، و حاصل الجميع استقلال الثيب في أمر النكاح.

و لكن هناك طائفة اخري من الأخبار تعارض ما سبق؛ منها:

1- ما رواه سعيد بن اسماعيل، عن أبيه، قال: سالت الرضا عليه السّلام عن رجل تزوج ببكر أو ثيب لا يعلم أبوها و لا أحد من قراباتها، و لكن تجعل المرأة وكيلا فيزوجها من غير علمهم، قال: لا يكون ذا «2».

2- ما رواه المهلب الدلال، عن أبي الحسن عليه السّلام، إلي أنّ قال: … فكتب عليه السّلام، التزويج الدائم لا يكون إلّا بولي و شاهدين … «3»

و لكن الانصاف عدم مقاومة هذه الطائفة المعارضة للروايات السابقة، لضعفها في نفسها، لعدم ذكر سعيد بن اسماعيل في كتب الرجال، و الظاهر أنّه سعد بن اسماعيل (كما في التهذيب و الاستبصار اللذين هما الأصل في الرواية)، و هو أيضا مجهول. و كذا المهلب الدلال؛ مضافا إلي ان روايته مطلقة قابلة للتقييد بالثيب كما هو واضح؛ أضف إلي ذلك أنّ فيه ذكر الشاهدين، و ليسا شرطا في النكاح، فتحمل علي التقية أو الاستحباب؛ و كذا رواية

سعد بن اسماعيل قابلة للحمل علي الاستحباب.

هذا كله بحسب حكم الثيب.

تحديد معني الثيّب

ثم، إنّه ما المراد بموضوعه و هو الثيب؛ و قد وقع فيه خلاف في أنّه هل هو من ذهبت بكارتها (أي عذرتها، و هي الغشاء المخصوص) بأي سبب كان، حتي بالوثبة أو بمرض و نحوه.

______________________________

(1). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 115.

(2). الوسائل 14/ 204، الحديث 15، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 459، الحديث 11، الباب 11 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 284

أو أنّ المراد منها ذهابها بالدخول، و لو كان بالزنا، نعوذ بالله.

أو أنّ المراد ما إذا ذهبت بسبب النكاح أو وطي الشبهة.

أو أنّ المراد من لم تتزوج، فاذا زوجت و طلقها قبل الدخول، أو مات عنها زوجها، كانت ثيبة.

قال الشهيد الثاني، في المسالك: أعلم أن الثيبوبة تتحقق بزوال البكارة بوطي و غيره، و انتفاء الولاية عنها مشروط بكونها بالوطي، كما نبه عليه في الرواية، (رواية سعد بن اسماعيل، 15/ 3) فلو ذهب بغيره، فهي بمنزلة البكر. «1»

و قال النراقي في المستند: لو ذهب بكارتها بغير الوطي، فحكمها حكم البكر، و كذا من ذهبت بكارتها بالزنا، و لو تزوجت و مات زوجها، أو طلقها قبل الوطي، لم تسقط الولاية، للإجماع و صدق الباكرة عليها. «2»

ظاهر الكلام المسالك، اشتراطه بأمرين، زوال البكارة و كونها بالوطي.

و ظاهر كلام المستند، اشتراطه بثلاثة امور، زوال البكارة و كونها بالوطي و كون الوطي مشروعا.

و قال في العروة: أنّ المدار علي التزويج فقط، فإذا تزوجت و مات عنها زوجها، أو طلقها قبل الدخول، لا يلحقها حكم البكر. (و هذا هو الذي ادعي في المستند، الإجماع علي خلافه) و صرح بأنّ ذهابها بغير الوطء،

لا يخرجها عن كونها بكرا؛ و كذا لو ذهبت بالزنا أو الشبهة، لا يبعد الالحاق. «3»

و أمّا المخالفون، فقد قال ابن قدامة، في المغني، بان: الثيب … هي الموطوءة في القبل، سواء كان حلالا أو حراما؛ و هذا مذهب الشافعي و قال مالك و أبو حنيفة في المصابة بالفجور حكمها حكم البكر … و إذا ذهبت عذرتها بغير جماع كالوثبة أو شدة حيضة أو باصبع أو عود و نحوه، فحكمها حكم الابكار. ذكره ابن حامد. «4»

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 144، (1/ 452 ط. ق).

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 123، (مع التلخيص).

(3). السيد محمّد كاظم الطباطبائي، في العروة الوثقي 5/ 616، (2/ 865 ط. ق).

(4). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 388.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 285

و الذي يستفاد من مجموع هذه الأقوال، أنّ الفقهاء من الخاصة و العامة، لم يتفقوا علي شي ء هنا؛ و اللازم الغور في معني الثيب لغة، ثم الغور في روايات الباب، أمّا الأول، فقد قال في القاموس: الثيب، المرأة فارقت زوجها أو دخل بها.

و قال في الصحاح: قال ابن السكيت، و هو الذي دخل بامراة، و هي التي دخل بها؛ و يظهر من الأول أنّ المدار علي أحد امرين، فراقها عن زوجها أو الدخول بها؛ كما أنّ ظاهر الثاني دورانه مدار الدخول.

و قال الراغب في المفردات: إنّ الثيب من؛ ثوب؛ بمعني الرجوع، و هي التي فارق زوجها، و صارت كالأبكار، فجعل المدار علي فراقها عن زوجها.

و لو أخذ بالقدر المتيقن من هذه الكلمات المختلفة، فلا بدّ من اشتراط امور ثلاثة:

تزويجها، و الدخول بها، و مفارقتها عن زوجها.

و أمّا العرف، فالذي يفهم منه، أنّ

الامر يدور مدار بقاء العذرة؛ فاذا كانت باقية؛ يقول هي باكرة، و إلّا ثيّبة. (بناء علي عدم وجود شق ثالث). و ما عرفت من أصل اللغة من اعتبار الدخول، كأنها ناظرة إلي ذلك، لأنّه الغالب.

و أمّا الروايات، فالذي يظهر من كثير منها، أنّ المدار علي النكاح و عدمه؛ منها:

1- ما رواه الحلبي، و عبد الله بن سنان، و الحسن بن زياد، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال:

في المرأة الثيب تخطب إلي نفسها. قال: هي أملك بنفسها، تولي أمرها من شاءت إذا كان كفوا بعد أن تكون قد نكحت رجلا قبله. «1»

و مثلها ما رواه عبد الخالق، عنه عليه السّلام أيضا. «2» و ما رواه عبد الرحمن ابن أبي عبد الله، عن الصادق عليه السّلام. «3» و ما رواه ابراهيم بن ميمون عنه عليه السّلام أيضا. «4»

و لكن يظهر من بعض الروايات، اعتبار الدخول، مثل رواية علي بن جعفر، عن أخيه

______________________________

(1). الوسائل 14/ 202، الحديث 4، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 201، الحديث 2، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 204، الحديث 12، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 214، الحديث 3، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 286

موسي بن جعفر عليه السّلام. «1» و الجمع بينهما هو الحمل علي الغالب.

فالذي يتحصل من جميع ذلك، أنّ المدار علي النكاح؛ و كان السرّ فيه أنّ التي نكحت مرّة لها خبرة و تجربة بأمر النكاح؛ و من الواضح أنّ بقاء العذرة و عدمها لا دخل له فيه، فلو فرض كون العرف أو اللغة بخلافه، يؤخذ بمقتضي الروايات بعد تفسيرها فيها بما ذكر.

و القول بأنّ

النكاح يحمل علي فرده الغالب، و هو ما يكون مع الدخول؛ ممنوع، بان من لم يدخل بها، كثير لا سيما مع ما تعارف في كثير من الناس من الفصل بين العقد و الزفاف، فليس نادرا بحيث تنصرف عنه الروايات.

و ممّا ذكرنا تعرف انه لا مجال لاستصحاب بقاء الولاية، لو لا الدخول. و الله العالم.

بقي هنا شي ء: اذا رجعت البكارة، هل ترجع الولاية

و هو أنّه إذا رجعت بكارة المراة بعد الدخول و زوال العذرة (البكارة) بسبب عمليّة الجراحية، فهل تعود ولاية الأب و الجد عليها؛ بناء علي القول بأنّ الحكم يدور مدار بقاء العذرة و عدمها؟

الظاهر عدمه، لأنّ الحكم يدور مدار بقاء الغشاء الطبيعي لا المصنوعي الذي وجد بعملية الجراحية، و أمّا نفس هذا العمل مباح في نفسه لو لم يرد به التدليس، بل كان لحفظ حرمة المرأة و شبهها، و لكن لما كان مستلزما للنظر و اللمس المحرّمين، لا يجوز إلّا عند الضرورة.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 215، الحديث 8، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 287

[المسألة 3: ولاية الجد ليست منوطة بحياة الأب و لا موته]

اشارة

المسألة 3: ولاية الجد ليست منوطة بحياة الأب و لا موته، فعند وجودهما استقل كل منهما بالولاية، و إذا مات أحدهما اختصت بالآخر، و أيّهما سبق في تزويج المولّي عليه عند وجودهما. لم يبق محل للاخر.

و لو زوج كل منهما من شخص، فان علم السابق منهما فهو المقدم، و لغي الآخر. و أنّ علم التقارن، قدم عقد الجدّ و لغي عقد الأب. و أنّ جهل تاريخهما فلا يعلم السبق و اللحوق و التقارن، لزم اجراء حكم العلم الإجمالي بكونها زوجة لأحدهما؛ و أنّ علم تاريخ أحدهما دون الأخر، فان كان المعلوم تاريخ عقد الجد، قدم علي عقد الأب؛ و إن كان عقد الأب، قدم علي عقد الجدّ؛ لكن لا ينبغي ترك الاحتياط في هذه الصورة.

استقلال كل من الاب و الجد بالولاية

أقول: في هذه المسألة فروع ثلاثة:

أولها: عدم اشتراط ولاية كل منهما بحياة الآخر، و البحث عن لوازمه.

ثانيها: لو زوج كل منهما و كانا معلومي التاريخ.

ثالثها: إذا كانا مجهولي التاريخ، أو أحدهما مجهولا.

الفرع الأول: عدم اشتراط كل منهما بحياة الآخر

اشارة

فلنرجع إلي الفرع الأول- و منه تعالي شأنه نستمد التوفيق و الهداية-:

المشهور بين فقهائنا أنّ ولاية الجد غير مشروطة بحياة الأب. و ذهب شاذّ إلي اشتراطها بها. و من أجمع الكلمات في بيان الأقوال في المسألة كلام المحدث البحراني، حيث قال: هل يشترط في ولاية الجد حياة الأب أم لا؟ المشهور، الثاني؛ و هو ظاهر الشيخ المفيد، و المرتضي، و سلار حيث اطلقوا الحكم بولاية الجدّ. و به قطع ابن ادريس، و من تأخر عنه؛ و ذهب الشيخ في النهاية، إلي أنّ حياة الأب شرط في ولاية الجدّ علي البكر البالغة و الصغيرة، و موته مسقط لولايته عليهما. و نقله في المختلف عن ابن

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 288

الجنيد، و أبي الصلاح، و ابن البراج، و الصدوق في الفقيه، و أمّا ابن أبي عقيل، فقد عرفت أنّه ينكر ولاية الجد مطلقا. «1»

و يظهر من بعض كلمات الجواهر، أنّ هناك قولا ثالثا لبعض العامة، و هو أنّ ولاية الجدّ مشروط بموت الأب؛ فراجع. «2»

و قال الشيخ (قدس سره)، في الخلاف: الذي له الاجبار علي النكاح، الأب و الجدّ مع وجود الأب، و إن علا. و ليس للجد مع عدم الأب ولاية. (و لم ينقل من العامة قولا بالاشتراط،) و ذكر في آخر كلامه، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. «3» و دعواه الإجماع مع ذهاب المشهور إلي خلافه، عجيب.

و علي كل حال، فقد ظهر مما ذكرنا أنّ في المسأله أقوالا ثلاثة، استقلال كل

من الأب و الجد مطلقا؛ و اشتراط ولاية الجد بحياة الأب؛ و اشتراطه بمماته؛ و لكن الاخير من أقوال العامة.

أدلّة قول المشهور

و يمكن الاستدلال علي القول المشهور، بامور:

1- استصحاب بقاء ولاية الجدّ بعد وفاة الأب، لكنه استصحاب في الشبهة الحكمية، و المختار عدم حجيّة الاستصحاب إلّا في الشبهات الموضوعية.

2- اطلاقات ولاية الأب و الجد، الواردة في الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

و فيه، أنّها واردة في فرض تعارض ولاية الأب و الجد و شبهه، و هو ناظر إلي فرض وجود كليهما، فلا دلالة لها علي ما نحن فيه.

3- الروايات الواردة في بيان المراد من الآية الشريفة: … أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ … ففي رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: الذي بيده عقدة

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة، 23/ 202.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 171.

(3). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 254، المسألة 17.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 289

النكاح»، هو ولي أمرها. «1»

و حيث إنّ ولاية الجد علي امور البنت معلوم، فعقدة النكاح بيده من غير تقييد.

و في رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح.

قال: … و الذي يجوز أمره في مال المرأة، … «2» و هي أيضا دالة علي كون الولي علي النكاح، هو الولي علي المال.

و لكن الخبر الثاني ضعيف سندا بالارسال، و دلالة بذكر الأخ. أمّا الأول، فهو صحيح سندا و دلالة.

4- ما رواه عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، و يريد جدّها أن يزوجها من رجل آخر … إلي أن قال: و

يجوز عليها تزويج الأب و الجد. «3»

بناء علي كون ذيلها مطلقا، و لا يضرها ورود الصدر في مورد حياتهما. و سند الرواية معتبر.

5- ما سيأتي من أنّه عند تعارض عقد الأب و الجد في زمان واحد، يقدم عقد الجد؛ فهو أقوي و لا يؤثر موت الأضعف في ولايته. و لكن قد يقال أنّه استحسان ظنّي؛ فان بقاء الضعيف قد يكون شرطا في تأثير القوي؛ فتأمل.

و الحاصل، أنّ بعض هذه الأدلة و إن كان قابلا للمناقشة، و لكن في الباقي غني و كفاية في إثبات المقصود.

أدلّة القول باشتراط ولاية الجدّ ببقاء الاب

أما القول الثاني: أي اشتراط ولاية الجد ببقاء الأب؛ فغاية ما يدل عليه، ما رواه الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إنّ الجد إذا زوج ابنة ابنه، و كان أبوها حيّا و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 212، الحديث 2، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 213، الحديث 4، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 218، الحديث 2، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 290

كان الجد مرضيا، جاز. الحديث. «1»

بناء علي أنّ قوله: و كان أبوها حيّا؛ من تتمة الشرط؛ لأنّه معطوف علي ما قبله و هو الشرط قطعا، (لا أنّه من قبيل الوصف) و من المعلوم أنّ مفهوم الشرط حجة، فاذا انتفي حياة الأب انتفي الجواز.

و امّا قوله: و كان الجدّ مرضيا؛ إشارة إلي شرط آخر، قد ذكرناه في بعض المباحث السابقة، و هو لزوم رعاية مصلحة البنت في النكاح؛ فاللازم كون الولي مرضيا لا خائنا يري مصلحة نفسه و لا يري مصلحة البنت.

و قد صرّح المحقق (قدس سره) في الشرائع بان في الرواية ضعف؛ و تبعه

علي ذلك بعض آخر، و رموها باشتمالها علي جماعة من الواقفية.

و المراد من هؤلاء علي الظاهر هو جعفر بن سماعة، و حسن بن محمد بن سماعة، و حميد بن زياد، فانهم كلهم ثقات علي ما في كتب الرجال و متهمون بالوقف، و كذلك أبان بن عثمان، فانه و إن كان من اصحاب الإجماع و أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عنه، و لكنه أيضا متهم بالوقف. و أنّ هؤلاء وقفوا علي موسي بن جعفر عليهما السّلام، و لم يقولوا بإمام بعده. و لكن علي كل حال، هم من الثقات، و ليس في روايتهم ضعف بهذا الاعتبار؛ و إن كان فيهم ضعف بحسب المذهب. (و لا يخفي عليك أن الحسن، في السند، هو الحسن بن محمد بن سماعة الواقفي، بقرينة نقل حميد بن زياد، عنه).

هذا؛ و لكن ناقش بعضهم في دلالته أيضا من جهة أن ذكر القيد و الشرط قد لا يكون لبيان المفهوم بل لبيان الفرد الاخفي، و هنا من هذا القبيل؛ لأنّ صحة عقد الجدّ مع حياة الأب و عدم الاستيذان منه، فرد بعيد خفي عن الأذهان، و كأنّه عليه السّلام يقول، لو كان الجد مرضيا جاز نكاحه و إن كان الأب حيّا. (و لو كان ميتا كان قبول نكاحه بطريق اولي)، و هذه المناقشة غير بعيدة عن سياق الكلام، مع ملاحظة الحكم و الموضوع.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 218، الحديث 4، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 291

أدلّة القول باشتراط ولاية الجد بوفاة الاب

و أمّا القول الثالث: أعني اشتراط ولاية الجدّ بوفاة الأب؛ فهو ممّا لا دليل عليه عندنا، بل هناك روايات كثيرة (في الباب 11) دالة علي ولايته حال حيات الأب بل و

يقدم عليه و يرجح؛ و مع ذلك لا يبقي شك في بطلان هذا القول. و قد عرفت أنّ هذا القول مختار بعض العامّة، و لم يذهب إليه أحد من الأصحاب فيما نعلم. قال الشافعي في كتاب الامّ: و لا ولاية لأحد مع أب؛ فاذا مات، فالجد أو الأب؛ فاذا مات، فالجدّ أبو الجدّ. «1»

و ليس علي ما ذكره دليل معتبر.

*** الفرع الثاني: حكم العقد الصادر منهما في زمان واحد

الفرع الثاني من هذه المسألة؛ أنّه إذا صدر العقد منهما،- من الأب و الجد- فان كان أحدهما مقدما و الآخر مؤخرا، فلا كلام في تاثير المتقدم. و إن كانا في وقت واحد، فالجد مقدم و عقد الأب باطل.

أمّا الأول، أي صحة عقد كل منهما مع سبقه، فقد صرح في الجواهر: أنّه لم يعرف فيه خلافا بين الاصحاب، بل يمكن دعوي الإجماع عليه. «2»

و يدل عليه مضافا إلي أنّه موافق للقاعدة، بعد قبول استقلال كل منهما في الولاية، غير واحد من الأخبار:

مثل ما رواه عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، و يريد جدّها أن يزوجها من رجل آخر. فقال: الجد أولي بذلك ما لم يكن مضارا، إن لم يكن الأب زوجها قبله … «3»

و يدل عليه أيضا، ما رواه هشام بن سالم، و محمد بن حكيم، عن أبي عبد الله عليه السّلام،

______________________________

(1). الإمام الشافعي، في كتاب الأمّ 5/ 13.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 210.

(3). الوسائل 14/ 218، الحديث 2، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 292

قال: إذا تزوج الأب و الجد، كان التزويج للأول، فان كانا جميعا في حال واحدة، فالجد أولي. «1»

و سند الروايتين معتبر.

و يدل

عليه أيضا روايات اخري، رواها في الوسائل، في نفس الباب؛ أو في المستدرك في الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

و أمّا إذا كانا مقارنين و في زمن واحد، فالترجيح مع عقد الجدّ بالإجماع المحكي عن الغنية، و السرائر، و الانتصار، و الخلاف، و المبسوط، و التذكرة، و الروضة. «2»

و تدل عليه روايات كثيرة، و لكن العمدة من بينها رواية هشام بن سالم، و محمد بن حكيم، (3/ 11). فقد صرّح فيها بأنّه: إن كانا جميعا في حال واحد، فالجد أولي؛ و الأولوية في أمثال المقام للتعيين. و قد عرفت اعتبار سندها فيما رواه هشام.

و قريب منه، ما رواه عبيد بن زرارة، و قد مرّت آنفا؛ فانّ ذيلها تدل علي المطلوب بمقتضي مفهوم الشرط حيث قال عليه السّلام: إن لم يكن الأب زوجها قبله؛ (2/ 11). فانه يدل علي أنّهما لو كانا مقارنين، كان عقد الجد صحيحا.

و لو تشاح الأب و الجد، قدم اختيار الجد؛ كما في الشرائع و القواعد و غيرهما (علي ما حكي عنهم)؛ بل عن كشف اللثام حكاية الإجماع عليه عن الانتصار، و الخلاف، و غيرهما. و استدل له بما سبق، و استدل له بصحيحة محمد بن مسلم، و موثقة عبيد بن زرارة. و لو بادر الأب، فعقد، فهل يكون باطلا أو صحيحا، قولان فعن المسالك اختيار الصحة، و احتمل في الجواهر، الأول.

و هناك روايات عديدة تدل علي حكم التشاح، و أنّه لو تشاحا في تزويج البنت، كان الجد اولي، مثل صدر رواية عبيد، و رواية اخري لعبيد، «3» و رواية قرب الاسناد. «4» و غيرهما.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 218، الحديث 3، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/

210.

(3). الوسائل 14/ 219، الحديث 7، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 219، الحديث 8، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 293

و هل المراد بالاولوية عند التشاح، أنّه لا ولاية للأب حينئذ، أو أنّ الواجب تقديم الأب بحسب الحكم التكليفي لا الحكم الوضعي، فلو عصي و بادر بتزويج بنته قبل الجد، يصح عقده؟

ظاهر الأحاديث هو الأول، فيصح عقد الجد دون الأب.

هذا؛ و يظهر من رواية فضل بن عبد الملك الماضية (4/ 11)، أن تقديم الجد عند التشاح، مستحب؛ حيث قال عليه السّلام: أحبّ إليّ أن ترضي بقول الجدّ.

هذا، و قد عرفت إشكال بعضهم في سند الرواية، و إن كنا لم نتحققه، بل هي من قسم الموثق. و من جميع ذلك يعلم أنّ القول بتقديم قول الجد عند المقارنة وجوبا قوي؛ و كذلك القول باستحباب تقديمه عند التشاح.

*** الفرع الثالث: إذا جهل تاريخ وقوع العقدين

إذا جهل تاريخ وقوع العقدين، أو جهل تاريخ أحدهما مع العلم بتاريخ الأخر؛ ففي المسألة صور ثلاث: الجهل بتاريخ كليهما، الجهل بتاريخ وقوع عقد الجد دون الأب؛ و بالعكس.

أمّا إذا جهل التاريخان، فيجري فيه أحكام العلم الإجمالي؛ لأنّ الاستصحاب ساقط من الطرفين، (أعني استصحاب عدم تقديم عقد الاب، و كذا عدم تقديم عقد الجد)؛ إمّا للتعارض، أو لعدم جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي، علي ما ذكروه في علم الاصول عند بيان تعارض الاستصحابين، فراجع. فإذا سقطت الاصول من الجانبين، استقر العلم الإجمالي؛ و لازمه كون المرأة مزوجة، و لكن لا يجوز لأحد الرجلين التعامل معها تعامل الزوجة؛ لأنّ الأصل الجاري في حق كل واحد منهما هو عدم الزوجية، و لا يعارضه الأصل الجاري في مقابله، لخروجه عن محلّ ابتلائه.

و حيث تقع الزوجة في هذا الحال في عسر و حرج شديد، فعلي كل منهما طلاقه- بعنوان الاحتياط- و لو تركا ذلك، فالحاكم الشرعي يطلقها عن زوجها. هذا، و ذكر في الجواهر هنا، احتمال تقديم عقد الجدّ تارة، بدليل أنّ مقتضي الأصلين التقارن، ثم رجع عنه بسبب كون الاقتران أيضا حادث

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 294

ينفي بالأصل. و اخري، لإطلاق ما دل علي تقديمه ما لم يسبقه عقد الأب. و احتمل أيضا الرجوع إلي القرعة من باب أنّه أمر مشكل يرجع إليها.

هذا؛ و الانصاف أنّ شيئا مما ذكره غير كاف في تقديم قول الجد. أمّا القرعة، فقد ذكرنا في محلّه أنّها إنما تجري في ما لم يكن هناك دليل شرعي و لا أصل لفظي و لا شي ء من الاصول العمليّة؛ و هذا هو المراد من المشكل هاهنا، مثل دوران أمر المولود بين أن يكون ولدا لهذا الرجل أو رجل آخر. و كذا الغنم الموطوءة في قطيع غنم، فان الاحتياط لا يجري فيه، لكونه سببا لتلف أموال لا يرضي بها الشارع المقدس، و ليس فيه أصل لفظي، فيرجع إلي القرعة. و لكن فيما نحن فيه، يمكن العمل بالاحتياط، لإمكان اقدام كل منهما بالطلاق.

ان قلت: كيف يطلق، و هو لا يعلم أنّه زوجته؛ و إن علّقه علي كونها زوجة، بأن يقول:

لو كانت هذه زوجتي فهي طالق؛ كان من قبيل التعليق في الإنشاء، و هو لا يجوز.

قلت: هذا من قبيل تعليق الحكم علي وجود موضوعه، و مثل هذا التعليق ممّا لا إشكال فيه. و إن شئت قلت، هو من قبيل قصد الرجاء في العبادات عند الشك في اشتغال الذّمة.

و أمّا القول بأن مقتضي جريان الأصلين، هو

التقارن، فيرجح قول الجدّ. ففيه، أنّ هذا من قبيل الأصل المثبت الذي ثبت في محلّه عدم حجيته، و كأنّه لم تكن مجاري الاصول و شرائطها منقحة في زمن صاحب الجواهر (قدس سره)، و إلّا لم يكن هذا ممّا يخفي علي هذا العالم الكبير النحرير.

و أمّا الرجوع إلي اطلاق قوله: الجدّ أولي بذلك … إن لم يكن الأب زوّجها قبله؛ «1» بدعوي أنّ الأصل- أي أصالة عدم تقديم عقد الأب- يثبت موضوعه، ففيه أنه أيضا مخدوش بعد فرض سقوط الأصلين بالتعارض أو شبهه.

فلا مناص إلّا عن الاحتياط بالطلاق، كما عرفت، و قبله تقسّم النفقة عليهما، لأنّ عدم

______________________________

(1). الوسائل 14/ 218، الحديث 2، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 295

التمكين هنا من باب حكم الشرع كما في حال الحيض؛ و كذا تقسم المهر- أعني نصف المهر- عليهما.

إن قلت: أ ليس هذا من قبيل واجدي المني في الثوب المشترك، فقد ذكر في محله أنّ كلا منهما يجري أصالة الطهارة و أصالة عدم الجنابة؛ و في المقام كل منهما يجري أصالة عدم الزوجية، فلا تجب عليه المهر و النفقة؛ و من الواضع عدم تعارض الأصلين لأنّ الأصلين إنّما يتعارضان إذا كان جريانهما في حق مكلف واحد.

قلت: ما ذكرته صحيح، و لكن نعلم أنّ الشارع المقدس لا يدع المرأة بلا نفقة و لا مهر، و الزوجية لا تخرج عنهما، فيجب تقسيم النفقة و المهر عليهما؛ كما إذا ثبت وقوع القتل من احد شخصين أو اكثر و لا ندري أيهما القاتل، بل و ما دون القتل ممّا فيه الدية، فان الحق، التقسيم بينهما- أو بينهم.

و أمّا إذا كان تاريخ أحدهما معلوما، فان كان المعلوم هو

تاريخ عقد الجدّ، كما إذا علمنا أنّه كان يوم السبت، و لكن لا يعلم أنّ عقد الأب كان يوم الجمعة أو السبت أو بعده؛ فجريان استصحاب مجهول التاريخ لا معارض له، فيجري و يحكم بعدم وجود المانع عند إنشاء عقد الجد، فيحكم بصحته.

و كذلك إذا كان عكس ذلك، فيجري أصالة عدم حدوث عقد الجدّ قبل السبت، مثلا، إذا كان عقد الأب فيه، فيحكم بصحته.

و قد عرفت ان هذا الأصل لا يثبت التقارن، لأنّ التقارن أيضا منفي بالأصل، مضافا إلي كونه من الأصل المثبت.

هذا، و قد يقال- كما في الجواهر- أنّ اطلاق رواية عبيد، دليل علي صحة عقد الجد هنا، لأنه لا يعلم وقوع عقد الأب قبله. و فيه، أنّ الحكم في الرواية لا تدور مدار العلم و الجهل، بل مدار الواقع؛ فاللازم احراز وقوع عقد الجد مقدما أو مقارنا لعقد الأب؛ و هذا أمر ينفيه الأصل بلا معارض، لجريان الأصل في مجهول التاريخ فقط. و لعله لذلك أمر في الجواهر بالتأمل، في ذيل كلامه.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 296

[المسألة 4: يشترط في صحة تزويج الأب و الجد و نفوذه، عدم المفسدة]

اشارة

المسألة 4: يشترط في صحة تزويج الأب و الجد و نفوذه، عدم المفسدة. و إلّا يكون العقد فضوليا كالأجنبي، يتوقف صحته علي أجازه الصغير بعد البلوغ، بل الاحوط مراعاة المصلحة.

يشترط في صحة تزويج الولي عدم المفسدة

أقول: الكلام في المقام في أمور ثلاثة: اعتبار عدم المفسدة؛ اعتبار المصلحة؛ و صحة النكاح حتي مع المفسدة للمولي عليه.

اعتبار عدم المفسدة

أمّا اعتبار عدم المفسدة، فقد صرح به كثير من الأصحاب. قال النراقي (قدس سره) في المستند: الظاهر وجوب مراعاة الولي عدم المفسدة في النكاح لظاهر الإجماع … و هل يجب مراعاة المصلحة في النكاح؟ الظاهر لا للأصل و العمومات. «1»

و حكي عن المسالك أيضا، الاتفاق علي اعتبار عدم المفسدة. «2»

و عن العلّامة في التذكرة، و المحقق الثاني اعتبار المصلحة. «3»

و أمّا جوازه مع المفسدة، فالظاهر أنّه لم يقل به أحد من الأصحاب.

استدل علي الأوّل أي اعتبار عدم المفسدة؛ بامور:

1- الأصل، أي أصالة الفساد عند عدم مراعاته؛ لكنها مشروطة بعدم وجود دليل خاص في المسالة.

2- الإجماع؛ و لكن حاله معلوم في أمثال المقام.

3- عمومات نفي الضرر؛ و النسبة بينها و بين عمومات الولاية، و إن كانت بالعموم و

______________________________

(1). المحقّق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 167.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 455.

(3). بعض المعاصرين في كتابه ذيل المسألة السابعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 297

الخصوص من وجه، و لكن حكومة أدلة نفي الضرر علي أدلة الأحكام الشرعيّة تغنينا عن ملاحظة النسبة؛ كما ذكر في محلّه.

4- انصراف الاطلاقات عن فرض المفسدة.

ما يدل علي اعتبار المصلحة

و يدل علي الثاني، أي اعتبار المصلحة، ظهور الآية الشريفة الواردة في الأموال: وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … *. «1»

توضيحه: إنّ المعروف في مسألة أموال اليتامي، عدم جواز التصرف فيها بغير مصلحة، بل ادعي عليه الإجماع. و لكن مخالفة جماعة من الأكابر دليل علي عدم كون المسألة إجماعية و ان كانت مشهورة.

و استدل له بالآية السابقة بناء علي شمولها للجد مع فقد الأب، لصدق اليتيم عليه حينئذ؛ و لكن يرد عليه، أولا، أنّ لازمها عدم كفاية مجرد المصلحة، بل

اللازم اختيار الاصلح. فإذا كان هناك صالح و اصلح، يجب علي الولي اختيار الأصلح. و هذا ممّا لم يقل به أحد فيما نعلم. فاللازم حملها علي الاستحباب.

و لكن ينافيه قوله تعالي في الآية التي قبلها: قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّٰا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً … «2» فقد صرّح فيها بالتحريم؛ و جعل هذه المحرمات إلي جنب الشرك و قتل النفس و عدم قرب الفواحش ما ظهر منها و ما بطن.

و في سورة الاسراء ذكر قبله قتل الأولاد من املاق و الزنا و قتل النفس التي حرّم الله و ذكر بعده عدّة من المحرمات.

فالاولي أن يقال، إن ترك الأصلح، و العدول إلي الصالح علي قسمين: قسم يعدّ في العرف خيانة علي مال اليتيم، مثل ما إذا كان هناك رجلان أحدهما يشتري مال اليتيم بأضعاف قيمته أو ضعفه، و الثاني يشتريه بربح لا يتجاوز عن العشرة في المائة؛ أو يشتريه

______________________________

(1). الانعام/ 152.

(2). الانعام/ 151.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 298

أحدهما بربح الخمسين في المائة، و الآخر عشرة فقط؛ فباعه الولي بمن يشتريه بانقص، بسبب حبّه له و حاجته اليه، و يترك الآخر. فلا يشك أحد في صدق الخيانة حينئذ. و اخري يكون هناك من يطلبه بربح معقول، و لكن يحتمل لو دوّر الأسواق وجد من يشتريها بأزيد، فهذا لا يجب. و لا يبعد أن تكون الآية ناظرة إلي الفرض الأول.

فدلالة الآية علي وجوب رعاية المصلحة، غير بعيدة.

و ثانيا، بأنّ التعدي عن باب الأموال إلي النكاح، لا دليل عليه، بعد وجود الاطلاقات الدالة علي عدم اعتبار المصلحة، حيث لم يرد في شي ء من النصوص اعتبار وجود المصلحة. (ذكره سيّدنا الاستاذ الخوئي، قدس سره). «1»

و الانصاف،

أنّ الأولوية هنا ممّا لا يمكن نفيها، فان الأموال أمرها أسهل بالنسبة إلي النكاح- لا سيما النكاح الدائم في مقابل الأموال القليلة- و إذا ثبت قياس الأولوية، يخصص به العمومات، و يقيد به الاطلاقات.

هذا؛ و العمدة أنّ ولاية الأب و الجد هل هي من باب كون الولد و ماله لأبيه، أو من باب حفظ مصالح الولد حيث أنّه أبصر بمصالح أولاده و أخبر بها و أشدّ محبة و رحمة من غيره؛ و بعبارة اخري هل هي لانتفاع الولي بها، أو انتفاع المولي عليه؟ لا شك ان الصحيح هو الثاني. و ذلك لأن أصل هذا الحكم مأخوذ من بناء العقلاء من أهل العرف و أمضاه الشارع المقدس؛ و من الواضح أنّ ملاكه عند العقلاء من أهل العرف، هو حفظ مصالح الولد لا مصالح الأب و الجد؛ و من المعلوم أنّ مجرّد عدم المفسدة غير كاف في ذلك.

و إن شئت قلت؛ مفهوم الولاية، ليس إلّا حق التصرف في الأموال و الأنفس بما فيه مصالح المولي عليه، و حيث إنّ رعاية المصلحة موجودة في مفهوم الولاية لا يبقي اطلاق لروايات ولاية الأب و الجد.

إن قلت: إنّ ما ورد في غير واحد من الروايات، من قوله: أنت و مالك لأبيك؛ يدل علي الأول.

قلنا: لا شك أنّه حكم أخلاقي استحبابي، دال علي استحباب الإيثار في مقابل الأب، و

______________________________

(1). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 283.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 299

إلّا جاز التصرف في الأموال و النكاح حتي مع المفسدة؛ لأنّ الإنسان مختار في ماله، و هذا ممّا لم يقل به احد.

أضف إلي ذلك، أنّ هناك روايات علي اعتبار المصلحة في خصوص نكاح الولي أو تشعر بها.

منها:

1- ما رواه فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا تستأمر الجارية التي بين أبويها إذا أراد أبوها أن يزوجها، هو انظر لها. «1»

فإن قوله: هو انظر لها؛ يدل بوضوح علي أنّ قبول ولاية الأب و اعتبار نكاحه، إنّما هو بسبب رعاية مصلحة البنت، أكثر ممّا لو كانت هي بنفسها تختار زوجها؛ اللّهم إلّا أن يقال هو من باب الحكمة و محمول علي الغالب، و لكن أنّ هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر الحديث.

و قد عرفت اعتبار سند الحديث، و إن كان فيه جماعة من الواقفيّة.

2- ما رواه عبيد بن زرارة، و قد مرّت الإشارة إليها غير مرّة، و في ذيلها: الجد أولي بذلك ما لم يكن مضارا. «2»

و الانصاف أنّه لا يستفاد منها أكثر من عدم المفسدة؛ و إن كان السند معتبرا.

3- ما رواه فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: أنّ الجدّ إذا زوّج ابنة ابنه و كان أبوها حيا و كان الجدّ مرضيا، جاز … «3»

و اشتراط كون الجدّ مرضيا، إشارة إلي أنّه يراعي مصلحة ابنة ابنه و سند الحديث أيضا معتبر، كما شهد به العلّامة المجلسي (قدس سره) في مرآت العقول. «4»

فالانصاف، أنّه لا يجوز العدول عن اعتبار المصلحة، و قد عرفت أنّ رعاية الأصلح غير واجبة، إلّا ان يكون أمرا سهل الوصول بحيث يعد العدول عنه اضرارا و خيانة بالنسبة إلي المولي عليه.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 202، الحديث 6، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 218، الحديث 2، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 218، الحديث 4، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(4). العلامة المجلسي، في مرآة العقول 20/

132.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 300

بقي هنا أمران:

1- عقد الاولياء للصغار في عصرنا

انك قد عرفت أنّ أمر الولاية، لو دار مدار المصلحة، أو عدم المفسدة، فانّه لا يصح عقد الأولياء في الصغر في عصرنا، إلّا في موارد نادرة جدا. لأنّ هذه العقود تنتهي إلي مفاسد كثيرة بعد بلوغ الصغير أو الصغيرة. فهم لا يقبلون إلّا من انتخبوه و اختبروه و أحبّوه. فمن هذه الناحية لا بدّ للأولياء من التجنب عن هذه العقود.

2- لو لم يراع الولي المصلحة أو عدم المفسدة يكون العقد فضوليا

أنّه لو لم يراع الولي، المصلحة، أو عدم المفسدة؛ (علي القولين) كان العقد فضوليا إلي أن يبلغ؛ لأن كل انسان يجوز له الأقدام علي ما ليس عرفا مصلحة له، إمّا من باب الايثار، أو برجاء أن يكون كفارة لبعض ذنوبه، أو امور آخر؛ فالعقد لا يكون باطلا من رأسه، بل يكون فضوليا إلي أن يبلغ الصبيّة أو الصبي، فيختار. (و هذا هو الأمر الثالث).

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 301

[المسألة 5: إذا وقع العقد من الأب أو الجدّ عن الصغير أو الصغيرة]

اشارة

المسألة 5: إذا وقع العقد من الأب أو الجدّ عن الصغير أو الصغيرة مع مراعاة ما يجب مراعاته، لا خيار لهما بعد بلوغهما، بل هو لازم عليهما.

عقد الولي من العقود اللازمة

أقول: هذه المسألة بالنسبة إلي الصغيرة مجمع عليها، و في الصبي مختلف فيها، كما قال في الرياض: و لا خيار في الصبيّة مع البلوغ لو زوجها الوليّ قبله، إجماعا حكاه جماعة … و في الصبي قولان، أظهرهما و أشهرهما أنّه كذلك … خلافا للشيخ و جماعة، فاثبتوا له الخيار بعد الإدراك. «1»

و قال الشيخ في النهاية: و متي عقد الرجل لابنه علي جارية و هو غير بالغ، كان له الخيار إذا بلغ. «2»

و قريب منه ما ذكره المحقق النراقي، في المستند، حيث نفي الخلاف في عدم الخيار في الأول، ثم نقل ذهاب الأكثر في الثاني- أي الصبي- إلي عدم الخيار أيضا. «3»

أدلّة القول بثبوت الخيار للصبي

و الدليل علي الأول عدّة روايات معتبرة؛ منها:

1- ما رواه ابن بزيع، قال سألت أبا الحسن عليه السّلام، عن الصبيّة، يزوّجها أبوها ثم يموت و هي صغيرة، فتكبر قبل أن يدخل بها زوجها، يجوز عليها التزويج، أو الأمر إليها؟ قال:

يجوز عليها تزويج أبيها. «4»

2- ما عن عبد الله بن الصلت، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام عن الجارية الصغيرة يزوجها

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 91، (2/ 77 ط. ق).

(2). الشيخ الطوسي، في النهاية/ 467.

(3). المحقّق النراقي، في مستند الشيعة، 16/ 130.

(4). الوسائل 14/ 207، الحديث 1، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 302

أبوها، لها أمر إذا بلغت؟ قال: لا؛ ليس لها مع أبيها أمر؛ الحديث. «1»

هذا الحديث رواه في الوسائل كما عرفت. و لكن في الكافي، و التهذيب، و الاستبصار التي هي المدرك لنقل الحديث، روايته عن الرضا عليه السّلام. و عبد الله بن الصلت، أبو طالب القمي، من أصحاب الرضا عليه السّلام،

و ليس من أصحاب الصادق عليه السّلام علي ما في كتب الرجال، فرواية الوسائل عنه عليه السّلام لعله خطأ من الكاتب. و علي كل حال سند الحديث معتبر.

3- ما رواه علي بن يقطين، عن الرضا عليه السّلام، و فيها: فاذا بلغت الجارية، فلم ترض، فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليّها. «2» بناء علي كون المراد؛ لا بأس بذلك العقد؛ كما هو الظاهر.

إلي غير ذلك.

و لكن يعارضها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام … و فيها: لكن لهما الخيار إذا أدركا. «3»

و رواية الكناسي عنه عليه السّلام … و فيها: فان زوجها قبل بلوغ التسع سنين، كان الخيار لها إذا بلغت تسع سنين … «4»

و لكن في سنده ضعف بسبب بريد الكناسي، فانّه مجهول، و لو كان الرجل يزيد الكناسي كما في بعض النسخ، فانه أيضا مجهول. و لكن في الحديث الأول غني و كفاية، مضافا إلي أنّ الخبر الأخير مشتمل علي بعض الأحكام المخالفة للإجماع كما قيل.

و قد يجمع بين الطائفتين- كما عن الشيخ قدّس سرّه بأنّ للصبي الطلاق بعد البلوغ، و للصبيّة طلب المهر أو الطلاق، و هذا الجمع بعيد جدّا لا يصار إليه.

و كذا ما افاده سيدنا الاستاد الخوئي (قدس سره)، من إمكان تقييد اطلاق الأخبار السابقة، بصحيحة محمد بن مسلم، لورودها في خصوص مورد كون الزوج و الزوجة

______________________________

(1). الوسائل 14/ 207، الحديث 3، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 208، الحديث 7، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 208، الحديث 8، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 209، الحديث 9، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة -

كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 303

كلاهما صغيرين ثمّ قال: فان تمّ إجماع فهو … و إلّا فيتعين العمل بها. «1»

و كلامه (قدس سره) قابل للمناقشة؛ أولا، بأن الفرد الغالب كونهما صغيرين فاخراج هذه الصورة مشكل. و ثانيا، أنّ الفرق بين الصورتين بعيد جدا لا يقبله العرف لإلغاء الخصوصية عنها قطعا.

فالاولي أن يقبل التعارض، و ترجح الطائفة الاولي بالشهرة الفتوائية، مضافا إلي موافقته لأصالة اللزوم.

هذا كله بالنسبة إلي الصبيّة؛ أمّا بالنسبة إلي الصبي، فقد ذكر المحقق النراقي في المستند: أنّه كالصبيّة عند الأكثر؛ «2»

و قال في الرياض: و في الصبي قولان أظهرهما و أشهرهما أنّه كذلك (أي مثل الصبيّة في لزوم العقد عليه) … خلافا للشيخ و جماعة، فاثبتوا له الخيار، بعد الإدراك. «3»

أدلّة القول بعدم الخيار له

و يدل علي عدم الخيار له بعد البلوغ، أولا، الأصل؛ و قد عرفت أنّ المراد منه الرجوع إلي العمومات، مثل عموم؛ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ؛ فانّ معني وجوب الوفاء بها هو الوقوف عندها و الالتزام بها و عدم العدول عنها، و هو مساو لعدم الخيار.

إن قلت: يمكن المناقشة في ذلك بأنّ معني أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، هو أوفوا بعقودكم؛ و من المعلوم أنّ العقد هنا ليس عقد الصبي الذي بلغ، بل عقد الولي فالتمسك بها مشكل.

قلنا: لا شك أنّ عقد الولي هو عقد المولي عليه، فانه يأتي من قبله؛ مثل عقد الوكيل الذي هو عقد الموكل، بل اولي منه من جهات مختلفة.

و أمّا الاستصحاب- أي استصحاب بقاء العقد، و لو بعد الفسخ المساوي لعدم تأثير الفسخ- فهو من الاستصحاب في الشبهات الحكمية، و قد عرفت الإشكال فيه علي المختار.

______________________________

(1). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 278.

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 132.

(3). السيد علي

الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 91، (2/ 78 ط. ق).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 304

و ثانيا، قد استدل له تارة، بما دل علي صحة عقد الولي علي الصغير، و عدم صحة طلاقه؛ مثل صحيحة الحلبي الواردة من الباب 11 من أبواب ميراث الازواج. «1»

و اخري، بما دل علي توارثهما بعد البلوغ، مثل صحيحة محمد بن مسلم. «2» و ما رواه عبيد بن زرارة. «3» إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني.

و الانصاف أنّ شيئا منها لا يدل علي المقصود، و هو عدم الخيار، و غايتها صحة العقد.

و من الواضح أنّ صحة العقد لا تنافي جواز الفسخ. و قول بعضهم (قدس الله أسرارهم) أنّ جواز التوارث ناف للإلحاق بالفضولي (كما في كلام المستند) خطاء ظاهر؛ فانّ الكلام ليس في الحاقه بالفضولي، بل في الحاقه بالعقد الجائز، و بينهما فرق ظاهر.

نعم، هناك رواية واحدة، رواها في المستدرك، في أبواب عقد النكاح، عن دعائم الإسلام، عن علي عليه السّلام، أنّه قال: تزويج الآباء جائز علي البنين و البنات إذا كانوا صغارا و ليس لهما خيار إذا كبروا. «4»

و هي صريحة في نفي الخيار؛ و لكن الإشكال في سندها كما هو ظاهر.

اللّهم إلّا أن يدعي الانجبار بعمل المشهور. فتأمل؛ فان الانجبار إنّما يكون في الروايات الواردة في الكتب المشهورة التي كانت بمرئي و مسمع من العلماء الكبار، يمكن استنادهم في الفتوي اليها، لا مثل دعائم الإسلام.

و قد استدل سيدنا المحقق الخوئي في المقام بروايتين آخريين وردتا في أبواب المهور؛ أحدهما عن عبيد بن زرارة؛ «5» و الثاني عن فضل بن عبد الملك؛ «6» تدلان علي أنّ المهر علي الغلام، فان لم يكن له مال، أو ضمن الأب

المهر، كان عليه.

و قال (قدس سره)، اطلاقهما دليل علي وجوب المهر، حتي إذا فسخ، و لازمه عدم

______________________________

(1). الوسائل 17/ 528، الحديث 4، الباب 11 من أبواب ميراث الأزواج.

(2). الوسائل 14/ 220، الحديث 1، الباب 12 من أبواب عقد النكاح.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 304

(3). الوسائل 17/ 528، الحديث 3، الباب 11 من أبواب ميراث الأزواج.

(4). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 317، الحديث 16814.

(5). الوسائل 15/ 39، الحديث 1، الباب 28 من أبواب المهور.

(6). الوسائل 15/ 39، الحديث 2، الباب 28 من أبواب المهور.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 305

تأثير الفسخ.

و فيه أولا، أنّهما ليستا في مقام البيان من هذه الجهة، بل في مقام بيان أمر آخر، و هو المهر فقط.

و ثانيا، الكلام في نفي الخيار بمقتضي تصريح الروايات، و إلّا أنّ التمسك بالاطلاق هو مقتضي الأصل كما عرفت.

نعم، هناك رواية اخري عن علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام أتزوج الجارية و هي بنت ثلاث سنين، أو يزوج الغلام و هو ابن ثلاث سنين … فإذا بلغت الجارية فلم ترض فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليها. «1» بناء علي أنّ سكوتها عن بيان حال الابن، دليل علي ثبوت الخيار لها.

و لكن الانصاف أنّها دلالة ضعيفة، ليس فوق حد الاشعار.

فاذن، العمدة في عدم الخيار هو العمومات التي مرّت الإشاره إليها.

الروايات الدالة علي ثبوت الخيار له إذا بلغت

و لكن هناك روايات متعددة تدل علي ثبوت الخيار للصبي إذا بلغت؛ منها:

1- رواية فضل بن عبد

الملك، عن الصادق عليه السّلام: إذا زوج الرجل ابنه فذاك إلي ابنه و إذا زوّج الابنة جاز. «2»

و هو ظاهر الدلالة علي عدم الخيار للصبيّة و ثبوته للصبي؛ اللّهم إلّا أن يقال إنّها واردة في الكبير و الكبيرة بقرينة قوله عليه السّلام: ذاك إلي ابنه؛ فانه ظاهر في البلوغ، فهي خارجة عن محل الكلام.

2- ما رواه محمد بن مسلم، في الصحيح عن الباقر عليه السّلام: … و لكن لهما الخيار إذا أدركا … «3»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 208، الحديث 7، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 208، الحديث 4، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 208، الحديث 8، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 306

3- ما رواه بريد الكناسي، في حديث طويل، عن الباقر عليه السّلام، و فيها أيضا التصريح بالخيار للبنت و الابن بعد البلوغ. «1»

و لكن الاستدلال بهما مشكل، لذكر الخيار لهما، مع ما عرفت من أنّ الخيار في البنت خلاف الإجماع و خلاف ظاهر الروايات؛ و التفكيك بينهما مع ورودهما في عبارة واحدة أشكل، لأنّه مخالف لبناء العقلاء الذي هو المدار في أبواب حجّية خبر الواحد.

و الحاصل أنّ شيئا من هذه الروايات أيضا لا يدل علي المقصود؛ فالرجوع إلي الأصل المقتضي لعدم الخيار ممّا لا مناص عنه.

أضف إلي ذلك، أنّ عقد النكاح لا ينقسم إلي قسمين قسم لازم و قسم جائز، فهذا ممّا لم يعهد في الشرع و لا بين العقلاء.

نعم؛ الخيار جار في عقد النكاح في ثلاث مواضع:

1- خيار العيب، أعني العيوب المعينة المحدودة (سبعة في المرأة، و سبعة في الرجل).

2- خيار التدليس.

3- خيار تخلف الشرط، كما إذا شرطت المرأة، السكني في

بلد خاص، فبعد برهة من الزمان ترك الزوج ذلك، و هاجر إلي بلد آخر، فان المرأة لها خيار تخلف الشرط.

و أمّا كون النكاح بذاته جائزا في بعض الموارد، فهو غير معهود. و الله العالم.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 209، الحديث 9، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 307

[المسألة 6: لو زوج الولي، الصغيره بدون مهر المثل]

اشارة

المسألة 6: لو زوج الولي، الصغيره بدون مهر المثل، أو زوّج الصغير بازيد منه، فان كانت هناك مصلحة تقتضي ذلك، صح العقد و المهر و لزم؛ و إن كانت المصلحة في نفس التزويج دون المهر، فالأقوي صحة العقد و لزومه، و بطلان المهر، بمعني عدم نفوذه و توقفه علي الاجازة بعد البلوغ، فان أجاز استقر، و إلّا رجع إلي مهر المثل.

لو زوج الولي الصغيرة بدون مهر المثل

أقول: في هذه المسألة أقوال ثلاثة:

1- يبطل العقد و المهر؛ و اختاره جماعة من الأكابر، منهم صاحب الجواهر، و صاحب العروة و جماعة من المحشين. بل أسند إلي جماعة من القدماء (أعلي الله مقامهم).

2- بطلان المهر دون العقد، كما اختاره في الشرائع و غيره.

3- صحة الأمرين؛ ذهب إليه شيخنا الطوسي (قدس سره).

قال في الخلاف: إذا زوج الأب أو الجدّ، من له اجبارها علي النكاح، من البكر الصغيرة أو الكبيرة، بمهر دون مهر المثل، ثبت المسمي، و لا يجب مهر المثل. و به قال أبو حنيفة و قال شافعي يبطل المسمي و يجب المهر المثل دليلنا، أنّ المسمي لا خلاف أنّه واجب عليه، و من أوجب مهر المثل، فعليه الدلالة. «1»

و ظاهر كلامه هذا، صحة المهر و العقد؛ و حكاه عن أبي حنيفة أيضا. و لكن ظاهر كلام الشافعي القول الثاني؛ و دليله علي مختاره، الأخذ بالقدر المتيقن و نفي الزائد بالأصل.

و ليعلم أنّ الكلام هنا إنّما هو علي فرض قبول مراعاة المصلحة و لا أقل من عدم المفسدة، و أمّا علي القول بعدم وجوب هذا الشرط، فلا يبقي مجال للبحث عن فساد هذا العقد أو فساد خصوص الشرط، كما هو واضح؛ لأنّ المفروض عدم لزوم مراعاة المصلحة أو عدم المفسدة.

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف

4/ 392، المسألة 37.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 308

فقول الشيخ قدّس سرّه خارج عن محط الكلام، كما أنّ استدلال شيخنا الأنصاري له، بقوله عليه السّلام: أنت و مالك لأبيك؛ و أنّ ولاية الأب و الجد من باب ولاية الحسبة و الغبطة بل ولايتهما عليه كولاية المولي علي العبد!؛ خارج عن محط الكلام، مضافا إلي ضعفه في نفسه.

و علي كل حال، المسألة تدور مدار كون العقد و المهر شيئا واحد، أو من قبيل تعدد المطلوب؛ فلو كانا شيئا واحدا، كان الحكم بالفساد و هو الأقوي؛ و إن كانا أمرين مختلفين، و بعبارة اخري من قبيل انشاءين بلفظ واحد، كان الحكم بصحة العقد و بطلان المهر قويا.

و الانصاف، أنّ عقد النكاح إنشاء واحد لأمر واحد. و إن شئت قلت، العقد و المهر من قبيل القيد و المقيد، و ليس هنا إنشاءان مستقلان أو ما بحكمهما؛ فاذا بطل أحدهما بطل الآخر.

إن قلت: إنّ المعروف بين الفقهاء عدم وجوب ذكر المهر في إنشاء العقد، بل و عدم قدح ذكر مهر فاسد كالخمر و الخنزير، و هذا دليل علي كونه أمرا مستقلا.

قلنا: كلّا؛ عدم ذكر المهر، ليس بمعني عدم المهر. فلو أنشأ العقد بقصد كونه بلا مهر، بطل. بل عدم ذكر المهر، بمعني الاكتفاء بمهر المثل في الواقع؛ فهو شي ء يعلم من سياق الكلام. و كذا ذكر المهر الفاسد؛ فانّ المهر، مذكور في الكلام؛ غاية الأمر يتبدل المذكور بحكم الشارع المقدس بمهر حلال و هو مهر المثل.

و علي كل حال، المهر جزء للعقد لا ينفك منه، و ليس هنا من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك، فانّه في قوة إنشاءات متعددة بحكم العرف و العقلاء.

أضف إلي

ذلك، لو سلمنا أنّه من قبيل تعدد المطلوب، و لكن إذا ثبت أصل العقد و بطل المهر، يقع الطرف المقابل (الزوج أو الزوجة) في الضرر، و لا يمكن تداركه بالخيار، كما في بيع ما يملك و ما لا يملك؛ لعدم جريان الخيار في النكاح كما عرفت. فيلزم علي الزوج مثلا قبول مهر المثل الذي قد يكون أضعاف المهر المذكور في العقد، أو يقع الزوجة في الضرر لكون مهر المثل عشرا من أعشار المهر المذكور في العقد، و لا طريق إلي تدارك

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 309

هذا الضرر العظيم. فاللازم بطلان العقد أيضا في الصورتين.

و الحاصل، أنّ الدليل علي بطلان كليهما أمران:

أحدهما: ان العقد و المهر مطلوب واحد، لا يمكن الحكم بصحة أحدهما و فساد الآخر، و لو شك في تعدد المطلوب و وحدته، فاصالة الفساد حاكم.

و بعبارة اخري، المصلحة المعتبرة في عقد الولي، لا تلاحظ بالنسبة إلي كل جزء من العقد، بل المجموع من حيث المجموع، لو كانت واجدة للمصلحة، صحّت؛ و إلّا و بطلت.

فتسري المصلحة أو المفسدة من أحدهما إلي الآخر.

ثانيهما: لو كان المسمي دون مهر المثل، ثم بطل و رجع إلي مهر المثل، كان ضررا علي الزوج؛ فان مهر المثل قد يكون أضعافا مضاعفا بالنسبة إلي المهر المسمي. و لو كان اكثر منه، ثم بطل و رجع المثل، كان ضررا علي الزوجة. و لا يمكن دفع الضرر في المقام بالخيار، لعدم جريان الخيار في النكاح في امثال المقام. فاللازم، الحكم بالبطلان من رأس. و الله العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 310

[المسألة 7: السفيه المبذر، المتصل سفهه بزمان صغره، أو حجر عليه للتبذير، لا يصح نكاحه]

اشارة

المسألة 7: السفيه المبذر، المتصل سفهه بزمان صغره، أو حجر عليه للتبذير، لا يصح نكاحه إلّا باذن أبيه

أو جدّه، أو الحاكم مع فقد هما، و تعيين المهر و المرأة إلي الولي، و لو تزوج بدون الاذن وقف علي الاجازة، فان رأي المصلحة و أجاز جاز، و لا يحتاج إلي إعادة الصيغة.

السفيه المبذر لا يصح نكاحه الّا باذن الولي

أقول: في المسألة فرعان:

أحدهما؛ توقف صحة عقد السفيه المبذر علي اذن الولي، سواء كان أباه أو جدّه، أو الحاكم الشرعي مع فقدهما، و علي الولي تبيين جميع خصوصيات العقد من الزوجة و المهر و شرائطه.

ثانيهما؛ أنّه لو تزوج بدون الاذن، لم يكن عقده باطلا، بل كان من قبيل الفضولي يتوقف علي اذن الولي.

الفرع الاول: صحة عقد السفيه موقوفة علي اذن وليه

فقد صرّح به غير واحد من أساطين الفقه كالمحقق في الشرائع، و العلامة في القواعد، و المحقق الثاني في جامع المقاصد، و العلّامة في التذكرة، قال فيها: و ليس للسفيه أن يستقل بالتزويج، لأنّ النكاح يشتمل علي مؤن مالية و لو استقل به لم يؤمن أن يفني ماله في المهر و النفقة، فلا بدّ له من مراجعة الولي. «1»

و قريب منه ما في جامع المقاصد. «2»

و كذا الشهيد الثاني في المسالك، «3» و يظهر من الجواهر أيضا. «4»

______________________________

(1). العلامة الحلي، في تذكرة الفقهاء 2/ 610، (ط. ق).

(2). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 100.

(3). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 1/ 453، (ط. ق).

(4). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 191.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 311

و الدليل علي وجوب اذن الولي، أنّ النكاح عقد يرتبط بالامور الماليّة، و كل تصرف يرتبط بالامور المالية فانّه محجور عنه بالإجماع، و كل من الصغري و الكبري واضحة.

هذا، و قد ذكروا في جوازه شرطين:

أحدهما؛ تعيين الزوجة و المهر من ناحية الولي، لأنّه بدونه لا يؤمن عن إفساده و تبذيره؛ و لكن هذا الدليل يتمّ في خصوص المهر، و أمّا بالنسبة إلي اختيار الزوجة، فقد لا يكون فيه سفيها، بل يعرف من هي المناسبة لحاله و إن كان لا يعرف مقدار المهر، اللّهم إلّا ان يكون

سفيها في المال و غيره، أو يختار زوجة كثير المهر علي كل حال مع إمكان الوصول إلي حاجته بزوجة اخري تكون من كثير من الجهات مثلها و لكن لا يكون مهرها غاليا.

ثم اعلم أنّ التعيين قد يكون شخصيا و قد يكون بالأوصاف، كان يقول: إن كان من قوم كذا فمهره كذا، و إن كان من غيره فكذا.

ثانيهما؛ صرّح غير واحد منهم بأن جواز عقده إنّما هو في فرض الاضطرار.

قال في الشرائع: و المحجور عليه للتبذير لا يجوز له أن يتزوج غير مضطرّ؛ و لو أوقع العقد كان فاسدا. «1»

و صرح في الجواهر: بعدم الخلاف فيه إذا كان فيه اتلاف لماله؛ «2»

و هو عجيب؛ فانّ الولي، يجوز له اذن السفيه بالتمتع عما يتمتع به غيره من العقلاء، و من الواضح أنّ العقلاء لا يكون نكاحهم محصورا في مواقع الاضطرار، بل قد يكون غير مضطر إليه، و لكن ينتفع به انتفاعا مباحا. و لم لا يجوز ذلك علي السفيه؛ فهل يجري مثله في السكني و أكل الفواكه و لبس الثياب، فهل يتحدد ذلك بالاضطرار؟ لا أظن أحدا يلتزم به. فالانصاف، أنّ الاضطرار و الحاجة غير معتبر في نكاحه؛ إنّما اللازم كونه أمرا معقولا بالنسبة إليه، ليس فيه اسرافا و لا تبذيرا.

______________________________

(1). المحقق الحلي، في شرايع الإسلام 2/ 503.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 191.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 312

الفرع الثاني: لو تزوج بدون اذن وليه فالعقد فضولي

لو تزوج بدون اذن الولي، فهل يكون باطلا من رأس، أو يكون فضوليا؟ فالحق انه فضولي، لأنّ السفيه ليس مسلوب العبارة كالصبي أو المجنون، بل عقده صحيح إذا كان جامعا لشرائط الصحة، موقوف علي اجازة الولي، كما حكي عن جامع المقاصد و المسالك و الخلاف

و المبسوط و التذكرة.

بل قد يقال- كما في الشرائع- أنّ العقد صحيح و لو لم يأذن له الولي، فان زاد في المهر عن المثل، بطل الزائد.

و يمكن أن يناقش فيه، بأنّ بطلان مهر المسمي و رجوعه إلي مهر المثل، ضرر علي الزوجة، و لا يمكن جبرانه بالخيار؛ و إنّما رضيت بالعقد مع المسمي فلا يصح العقد و المهر.

هذا كله بحسب مقتضي القاعدة في المسألة.

و أمّا بحسب الروايات الخاصة، فقد ورد نصوص صريحة في المسألة توافق القواعد العامة. (و العجب من صاحب الحدائق حيث صرح بأنّه لم يجد نصا في المسألة مع طول باعه و كثرة تتبعه في الأحاديث). و إليك نبذة منها:

1- ما ورد في صحيحة الفضلاء، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة و لا المولي عليها، تزويجها بغير ولي جائز. «1» و الرواية و إن وردت في السفيهة و لكن يمكن استفادة حكم السفيه منه بطريق اولي.

و الظاهر أنّ المراد منها، السفيهة في الامور الماليّة، لأنّه المعروف من هذا التعبير؛ و حملها علي السفه من حيث اختيار الكفو، بعيد جدا.

2- ما عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع و تشتري و تعتق و تشهد و تعطي من مالها ما شاءت، فان أمرها جائز؛ تزوجت إن شاءت بغير اذن وليها. و إن لم تكن كذلك، فلا يجوز تزويجها إلّا بأمر وليّها. «2»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 201، الحديث 1، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 215، الحديث 6، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 313

و هي دليل علي، أنّ جواز التزويج يدور مدار رشدها المالي

و عدمه.

3- ما عن أبي الحسين الخادم بياع اللؤلؤ، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سأله أبي و أنا حاضر عن اليتيم متي يجوز أمره؟- إلي أن قال: - جاز عليه أمره إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفا. «1»

و لا يمكن الاستدلال بها إلّا من ناحية الاطلاق، فتأمل.

و هناك إشارات في بعض الروايات الآخر، و لكن في ما عرفت غني و كفاية بعد صحة سند الاولي، و إن كان سند الثانية ضعيفا بموسي بن بكر، و كذا الثالث بناء علي الخلاف في أبي الحسين بياع اللؤلؤ- و اسمه آدم بن المتوكل- من جهة التوثيق، و علي فرض توثيق آدم بن المتوكل، لم يثبت أنّه متحد مع أبي الحسين بياع اللؤلؤ.

و لعل عدم الاستناد إلي هذه الروايات مع وضوح دلالتها و اسناد بعضها، هو كونها من أدلة استقلال الباكرة الرشيدة في النكاح، و هو لا يوافق مذهب كثير منهم؛ و لكن يجوز الاستناد إليها علي المختار.

*** بقي هنا شي ء: ما المراد بالسفيه و السفيهة؟

قد تعرض له الأصحاب في أوائل أبواب الحجر، بعد التصريح بكون السفيه محجورا؛

صرّح في الجواهر بأن عنوان الرشد (المقابل للسفه) ليس له حقيقة شرعيّة و لا لغوية مخالفة للعرف، فالمدار علي معناه العرفي و هو معلوم. «2»

و قال العلامة قدّس سرّه في القواعد: فهو كيفية نفسانية تمنع عن افساد المال و صرفه في غير الوجوه اللائقة بافعال العقلاء. «3»

و عن المسالك،- في شرح عبارة الشرائع: الرشد، أن يكون مصلحا لماله؛- أنّه: ليس

______________________________

(1). الوسائل 13/ 143، الحديث 5، الباب 2 من أبواب الحجر.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 26/ 48.

(3). العلامة الحلي، في قواعد الأحكام 2/ 134.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 314

مطلق الإصلاح موجبا للرشد، بل الحق أن

الرشد ملكة نفسانية تقتضي إصلاح المال و تمنع افساده و صرفه في غير الوجوه اللائقة بأعمال العقلاء. «1»

ثم ذكر أنّ كلا من القيود الثلاثة (الملكة- تقتضي- و تمنع … ) احتراز عمّا يقابله.

و أمّا التنمية و التكسب به، فقد يقال بعدم اعتباره في الرشد عرفا؛ و هناك روايتان مرسلتان وردتا في مجمع البيان، و مجمع البحرين، في تفسير الرشد في قوله تعالي: …

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ …، «2» أولاهما عن الباقر عليه السّلام: أنّه العقل و إصلاح المال. و ثانيتهما عن الصادق عليه السّلام: أنّه حفظ المال.

و في اعتبار العدالة في معني الرشد، خلاف عندهم. و المشهور عندنا عدم اعتباره، و عن الشيخ و الراوندي و أبي المكارم و فخر الإسلام، اعتباره.

قال الشيخ في الخلاف، في تفسير الرشد: أن يكون مصلحا لماله، عدلا في دينه؛ فاذا كان مصلحا لماله غير عدل في دينه، أو كان عدلا في دينه غير مصلح لماله، فانّه لا يدفع إليه ماله! و به قال الشافعي.

و قال أبو حنيفة: إذا كان مصلحا لماله و مديرا له، وجب فك الحجر عنه، سواء كان عدلا في دينه مصلحا له أو لم يكن. «3»

و قال العلّامة في التذكره: قال اكثر اهل العلم، الرشد الصلاح في المال خاصة، سواء كان صالحا في دينه أو لا. و هو قول مالك و أبي حنيفة و أحمد و هو المعتمد عنده. «4»

ثم استدل بدلائل كثيرة علي مذهبه. عمدتها أمران:

أحدهما، أنّ الفسق لا يمنع التصرف، في البقاء، فلا وجه لاعتباره في الحدوث. و لا يمنع الفاسق بل الكافر عن التصرف في ماله.

ثانيهما، أنّ الفرض من اعتبار الرشد، هو حفظ المال؛ و هذا حاصل بالصلاح في المال

من دون حاجة إلي العدالة (بالنسبة إلي أموال نفسه). و لم يأت القائلون باعتبار العدالة،

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 26/ 49.

(2). النساء/ 6.

(3). الشيخ الطوسي، في الخلاف 3/ 283، المسألة 3.

(4). العلامة الحلي، في تذكرة الفقهاء 2/ 75، ط. ق.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 315

بشي ء يعتمد عليه.

و الحق في المقام- و الله أعلم- أن يقال: أولا، أنّ ما ذكروه في تفسير الرشد؛ في عباراتهم- و قد مضي شطر منها- يرجع إلي شي ء واحد، و هو ان الرشد هو قوة تدبير المال علي النحو المتعارف بين العقلاء، فمن لا يقدر علي ذلك بل يفسد أمواله و يبيع بما دون القيمة و يشتري بما فوقها؛ و يعطي ماله من لا يعتمد عليه فيأكل أمواله؛ و لا يحتفظ بماله علي النحو المعمول بين العقلاء بل يجعله في مظان التلف، فهو سفيه، و هو الموافق لمعناه اللغوي أيضا.

قال الراغب، في المفردات، ما حاصله: أنّ السفه في الأصل بمعني قلّة الوزن في البدن علي نحو لا يقدر علي حفظ التعادل عند المشي؛ ثم استعمل في خفة العقل سواء في الأمور المادية و المعنوية (انتهي).

هذا؛ و لكن في عرف الشرع، يطلق بمعني عدم الاعتدال في حفظ الأموال و إصلاحها، نظرا إلي القرينة الموجودة في الآية الشريفة.

و ثانيا، لا ينبغي الشك في عدم اعتبار العدالة فيه، كما ذكره المشهور من الخاصة و العامة، لما عرفت من عدم اعتبارها بقاء، فكيف يعتبر حدوثا؛ و لعدم دخلها في المقصود من حفظ أموال اليتيم، فانّه لا يخون في أموال نفسه، حتي تعتبر العدالة في اعطاء أمواله بيده.

هذا مضافا إلي عدم وجود أي دليل علي اعتبار العدالة في معني الرشد. و ظني أنّه

نشأ من الخلط بين معناه المادي و المعنوي، و من بعض الروايات الناظرة إلي الامور الأخلاقية التي يستفاد منها كون الفاسق أو شارب الخمر سفيها. و الأمر واضح بحمد الله.

و ثالثا، أنّ الرشد أو السفه، له مراتب كثيرة و درجات مختلفة، قد يكون قويا و قد يكون ضعيفا. فقد يكون انسان رشيدا في ألف دينار و لا يكون رشيدا في مأئة الف دينار و هكذا، و لكل واحد حكمه؛ فيعطي أمواله بالمقدار الذي يكون فيه رشيدا و يبقي الباقي تحت يد وليّه.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 316

كما أنّ الإنسان يمكن أن يكون رشيدا في الامور المالية، سفيها في اختيار الكفو في النكاح، أو غير ذلك ممّا له صلة بامور الحياة؛ و لكل واحد من هذه الامور حكمه. و الله العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 317

[المسألة 8: إذا زوج الولي المولي عليه بمن له عيب، لم يصح و لم ينفذ]

اشارة

المسألة 8: إذا زوج الولي المولي عليه بمن له عيب، لم يصح و لم ينفذ؛ سواء كان من العيوب الموجبة للخيار أو غيرها ككونه منهمكا في المعاصي، و كونه شارب الخمر أو بذي اللسان، سيّئ الخلق، و أمثال ذلك: إلّا إذا كانت مصلحة ملزمة في تزويجه، و حينئذ لم يكن خيار الفسخ لا له، و لا للمولي عليه، إذا لم يكن العيب من العيوب المجوزة للفسخ؛ و إن كان منها فالظاهر ثبوت الخيار للمولي عليه بعد بلوغه.

هذا كله مع علم الولي بالعيب، و إلّا ففيه تامل و تردد، و أن لا تبعد الصحة مع أعمال جهده في إحراز المصلحة؛ و علي الصحة له الخيار في العيوب الموجبة للفسخ كما أنّ للمولي عليه ذلك بعد رفع الحجر عنه، و في غيرها لا خيار له و لا للولي

علي الأقوي.

لو زوج الولي المولي عليه بمن له عيب

اشارة

أقول: لم يرد نص في المسألة، و لذا لم يستند الأصحاب حتي المعاصرين منهم إلّا إلي القاعدة كالمحقق الثاني في جامع المقاصد، و الشهيد الثاني في المسالك، و صاحب الجواهر، و صاحب الحدائق، و من المعاصرين المحقق الخوئي، و الحكيم، و السبزواري و غيرهم. (أعلي الله مقامهم).

و في المسالة فرعان:

الفرع الأول: إذا كان الولي عالما بوجود العيب

إذا كان الولي عالما بوجود العيب (سواء العيوب الموجبة للفسخ و غيرها) في من تزوجه للمولي عليه (ابنا كان أو بنتا). و فيه أيضا صورتان: أحدهما، ما إذا اقتضت المصلحة تزويجه بذات العيب. و الاخري، ما إذا كان التزويج مخالفا لمصلحته أو ضررا عليه.

أما الاولي: فمقتضي القاعدة هو صحة العقد؛ و لعله ممّا لا خلاف فيه بينهم، و لا خيار للولي، لعلمه بذلك. و لكن هل للمولي عليه بعد بلوغه خيار إذا كانت من العيوب الموجبة

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 318

للفسخ، ففيه و جهان أو قولان:

الوجه الأوّل، عدم الخيار، نظرا إلي أن تصرف الولي بالغبطة ماض عليه، و فعل الولي كفعل المولي عليه، فلو تزوج مع علمه بالعيب، لمصلحة رآها، لم يكن له فسخه. فكذلك فعل الولي.

و الوجه الثاني، أن للمولي عليه خيار الفسخ، لما أشار إليه المحقق الثاني، في جامع المقاصد، ما لفظه: أنّ النكاح يتعلق بالشهوة فلا يكون رضاه بالعيب ماضيا علي العيب. «1» و لا يعلم معني محصل لهذا الكلام، فانّ الرضا بالعيب يوجب سقوط حق الفسخ، رضا الولي كرضا المولي عليه عند وجود المصلحة. و بعبارة اخري الشهوة مع العلم بالعيب و الاقدام علي النكاح، دليل علي الرضا بالعيب؛ و معه يسقط خياره. و كذا ما ذكره في المسالك في توجيه الخيار هنا، ما نصّه: أمّا ثبوت الخيار فلوجود

العيب الموجب له، لو كان هو المباشر للعقد جاهلا، و فعل الولي له حال صغره بمنزلة الجهل. «2»

و فيه ما مرّ أنّ علم الولي بمنزلة علم المولي عليه مع فرض المصلحة.

و أمّا الثانية: إذا كان الولي عالما بالعيب و كان النكاح علي خلاف المصلحة، فقد صرّح بعضهم بصحة النكاح. قال الشيخ في الخلاف: للأب أنّ يزوج بنته الصغيرة بعبد أو مجنون أو مجذوم أو أبرص أو خصي. و قال الشافعي، لا يجوز. دليلنا أنا قد بيّنا أنّ الكفاءة ليس من شرطها الحرية و لا غير ذلك من الأوصاف؛ فعلي هذا يسقط الخلاف. «3»

و هذا عجيب؛ و كأنه بني علي عدم اشتراط المصلحة، و إلّا فمجرّد الكفاءة الشرعية غير كاف في وجود المصلحة، بل هذا من مصاديق المفسدة التي لا خلاف في عدم نفوذ العقد معها. و قد ورد التصريح في الروايات السابقة بعدم كون الولي مضارا، و إلّا لا ينفذ عقده.

و ما ذكره في المتن من الفرق بين العيوب المجوزة للفسخ و غيرها، و أنّ المولي عليه

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 144.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 171، (1/ 457 ط. ق).

(3). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 284، المسألة 49.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 319

له حق الفسخ بعد بلوغه؛ لم يظهر وجهه، لأنّ المفروض كون النكاح مصلحة له مع هذا العيب، و كون علم الولي بالعيب و رضاه بذلك بمنزلة علم المولي عليه.

فتلخص ممّا ذكرنا، أنّ ما ذكره في المتن إلي هنا موافق للتحقيق، ما عدا قوله بجواز الفسخ في الفرض الاخير.

الفرع الثاني؛ إذا كان الولي جاهلا بوجود العيوب

و قد ذكر في المتن، أنّ المسألة محل ترديد و تامل؛ و لكن رجح بعد ذلك صحة العقد

مع عدم تقصير الولي في إحراز المصلحة، كما صرّح بثبوت الخيار للولي و المولي عليه بعد رفع الحجر و لكن في خصوص العيوب الموجبة للفسخ دون غيرها.

هذا؛ و أمّا وجه الترديد و التامل، أنّ في المسالة وجهين: أحدهما، بطلان العقد، لأنّ المدار علي الغبطة في مقام الثبوت، و المفروض عدم المصلحة في الواقع، بل كان فيه مفسدة، فيبطل العقد (بمعني أنّه لا ينفذ و يكون فضوليا).

و الثاني، الصحة، لأنّ المدار علي رعاية المصلحة بحسب علمه و جهده، و المفروض أنّه جهد جهده، و لم يصل إلي العيب، و لذا لو اشتري للمولي عليه شيئا فيه عيب من دون علمه بذلك، صح العقد و ثبت له خيار العيب.

و الحق، هنا وجه ثالث، و هو التفصيل بين ما إذا كان العيب من العيوب الموجبة للفسخ، فانّ العقد صحيح. لعدم الضرر فيه واقعا مع وجود خيار الفسخ، فالعيب يجبر بالخيار. أمّا لو كان من العيوب غير الموجبة للفسخ، فانّ العقد باطل، بمعني كونه فضوليا؛ لأنّ المفروض وجود المفسدة في العقد في الواقع مع عدم إمكان جبرانه بالخيار لعدم جريان خيار العيب في النكاح إلّا في الموارد الخاصّة المنصوصة. و لذا لا يمكن قياسه علي موارد خيار العيب في البيع، فانها تعم كلّ عيب.

و إن شئت قلت: صحة النكاح مع العيوب غير الموجبة للفسخ، سواء كان من العيوب الدنيوية أو اخروية، فيه ضرر عظيم علي المولي عليه، و لا يجبر بالخيار- كما هو المفروض- فتدفع الصحة بعموم لا ضرر.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 320

و قد تكون العشرة مع هذا الزوج، سببا للعسر و الحرج الشديد، فيدفع بأدلة نفي الحرج أيضا، مضافا إلي ظهور عنوان المصلحة في المصلحة

الواقعية، و عدم الضرر كذلك.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 321

[المسألة 9: ينبغي بل يستحب للمراة المالكة أمرها أن تستأذن أباها أو جدّها]

اشارة

المسألة 9: ينبغي بل يستحب للمراة المالكة امرها ان تستأذن أباها أو جدّها؛ و إن لم يكونا، فاخاها، و إن تعدد الأخ، قدّمت الأكبر.

يستحب للمرأة المالكة امرها الاستئذان من الولي

اشارة

أقول: المراد من المرأة المالكة لأمرها بقرينة المسائل السابقة، لا سيما المسالة الثانية من مسائل عقد النكاح، هي المرأة التي لها استقلال في أمر النكاح، أمّا لكونها ثيبة أو لكونها باكرة رشيدة، بناء علي القول باستقلالها في هذا الباب؛ و الحاصل أنّه إذا كان عقدها صحيحا بدون الحاجة إلي الاستيذان فحينئذ يستحب لها الاستيذان من المذكورين، كما ذكره جماعة كثيرة من فقهائنا المتاخرين و المعاصرين.

و قد صرح بها في الشرائع، و الجواهر، في المسالة الحادية عشر، من لواحق عقد النكاح. «1» و في العروة الوثقي، في المسأله 14 من هذا الباب. و لم يخالف فيها أحد من المحشين فيما رأيناه.

أدلّة المسألة

و يدل عليه، أولا، انه موافق للأدب المطلوب بين الأولاد و الأولياء، فانّ البنت (بل الابن أيضا) إذا كان لها أدب إلهي، يستأذن أباها و أوليائها في الأمور المهمة، و هذا من الآداب الواضحة. و أيّ أمر أهم من النكاح لا سيما من الامور التي تسري مشاكله و محاسنه إلي الأولياء أيضا؛ فليس الاستيذان مجرد احترام لهم بل له دور في مسائل حياتهم و مشاكلهم أو محاسنهم.

ثانيا، أنّ الأولياء لهم تجارب كثيرة في أمر النكاح، سواء بالنسبة إلي أنفسهم و أقربائهم و أصدقائهم؛ و لا يستغني الولد من هذه التجارب القيمة، فالعقل و الشرع يدعوان إلي

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 228.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 322

الاستيذان للوصول بهذا المقصد الأسني؛ و ليس هذا ما قبله من الاستحسانات الظنّية بل من المستقلات العقلية القطعية.

ثالثا، هناك روايات كثيرة أمر فيها بالاستيذان، و إذا جمع بينها و بين ما يدلّ علي استقلالها في هذا الأمر، فأحسن جمع بين الطائفتين، هو الحمل علي الاستحباب، و

إليك شطر منها:

1- ما رواه ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا تنكح ذوات الآباء من الابكار الا باذن آبائهن. «1»

و ظاهرها و إن كان هو الوجوب، و لكن الحمل علي الاستحباب، في هذه الموارد بقرينة روايات الاستقلال، جمع عرفي معروف في جميع أبواب الفقه.

2- ما رواه الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء، أ لها مع أبيها أمر؟ فقال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيب. «2»

3- مرسلة ابن بكير، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا باس أن تزوج المرأة نفسها إذا كانت ثيبا بغير اذن أبيها إذا كان لا بأس بما صنعت. «3»

و حكم الأب و الجد هنا واحد، كما هو واضح.

و أمّا بالنسبة إلي الاستيذان من الأخ عند فقد الأب و الجد، فهو أيضا يجري فيه ما سبق من الأدلة، من كونه أدبا لايقا بحال الأخ لا سيّما الأكبر، و من كونه ذا تجربة غالبا أكثر من أخته، و لا أقل من أنّ مشاكل الاخت و محاسنها تسري إلي الأخ لا محالة لا سيما الأخ الأكبر.

مضافا إلي غير واحد من الروايات الواردة في الباب؛ منها:

1- ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح؟ قال:

هو الأب و الأخ و الرجل يوصي إليه … «4» و حيث إنّ الأدلة الدالة علي استقلالها بمنزلة

______________________________

(1). الوسائل 14/ 208، الحديث 5، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 203، الحديث 11، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 204، الحديث 14، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/

213، الحديث 4، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 323

النص، و هذه الرواية و أمثالها بمنزلة الظاهر، فالجمع بالحمل علي الاستحباب.

2- ما رواه العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام مثله، إلّا أنّه قال:

فأيّ هؤلاء عفا فعفوه جائز في المهر إذا عفا عنه. «1» و الكلام فيه مثل ما سبق.

3- ما عن الحسن بن علي، عن بعض أصحابنا، عن الرضا عليه السّلام قال: الأخ الأكبر بمنزلة الأب. «2» و هذا في خصوص الأخ الأكبر؛ و الله العالم.

و لصاحب الجواهر كلام في المقام، و حاصله إنّ المستفاد من النهي عن نكاح البكر بدون اذن الأب أو غيره، هو كراهة الاستبداد لها، لا استحباب الاستيذان؛ و حكاه عن الحدائق أيضا، ثم قال: اللهم إلّا أن يدعي الاستفاده ذلك عرفا. «3»

أقول: و يمكن الاستشهاد له بما مر من الدليلين العقليين، فانّ الأب للوالد مستحب قطعا، و كذا الركون إلي تجاربه في امور الحياة.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 213، الحديث 5، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 213، الحديث 6، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 229.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 324

[المسألة 10: هل للوصي أي القيم من قبل الأب أو الجد، ولاية علي الصغير]

اشارة

المسألة 10: هل للوصي أي القيم من قبل الأب أو الجد، ولاية علي الصغير و الصغيرة في النكاح؟ فيه إشكال، لا يترك الاحتياط.

هل للوصي ولاية في النكاح؟

اشارة

أقول: قال المحقق النراقي، في المستند: في المسألة أقوال: الأول، نفي الولاية مطلقا؛ اختاره في موضع من المبسوط، و الشرائع، و النافع، و القواعد، و التذكرة، و اللمعة، و الكفاية، بل المشهور، كما في المسالك و الروضة.

الثاني، ثبوتها كذلك؛ و هو للمبسوط أيضا، و عن المختلف، و شرح الإرشاد للشهيد، و الروضة.

الثالث، ثبوتها إذا نص الموصي علي النكاح، و عدمه بدونه، و هو المحكي عن الخلاف و الجامع، و المحقق الثاني و غيرهم؛ ثم ذكر دليل كل واحد من الأقوال الثلاثة. «1»

و لكن صرح في المسالك بأنّ الأول (النفي مطلقا)، هو الأشهر، لا المشهور. و أشار إلي القولين الآخرين أيضا إجمالا. «2»

و ظاهر كلمات القوم، أنّ محل الكلام ما إذا كان عنوان الوصاية مطلقا؛ و إلّا لو كانت الوصاية لخصوص الأموال لم يكن مجال للنزاع.

هذا؛ و مقتضي الأصل كما ذكروه هو عدم ولاية الوصي عليهما، فانّ الولاية تحتاج إلي دليل، و الأصل عدمها، مضافا إلي أصالة الفساد في العقود الحاصلة من قبل الوصي. و إن شئت قلت عموم وجوب الوفاء بالعقود لا يشمل محل الكلام.

أدلّة القائلين بالثبوت

و قد استدل جماعة من القائلين بالثبوت، للخروج عن الأصل بآيات و روايات تأتي

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 138.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 1/ 453، ط. ق.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 325

الإشارة إليها و إلي بعض ما فيها من الإشكال؛ و لكن ليت شعري لما ذا لم يستدلوا لإثبات الولاية، إلي حقيقة الوصاية؛ فهل الوصي و القيم منصوب لحفظ أموال الصغير عند وفاة الأب و الجد، أو منصوب لحفظ جميع منافعه؟ و بعبارة اخري هل هو قائم مقام الأب من جميع الجهات في قبال الصغار

أو قائم مقامه في خصوص أحكام الأموال؟

لا سيّما أنّ المفروض كون عنوانها عاما، سواء لفظ الوصي و القيم، فانّه القائم بأمر الصغار؛ و يدل علي العموم، أنّ الحكمة لنصبه هو حفظ الصغار عند فقد الولي من جميع الجهات لا من جهة واحدة فقط، و حينئذ لم لا يكون الحكم عاما.؟

فهنا صغري و كبري، مفهوم الوصية عام، و عموم الوفاء بالعقود يشمله.

هذا مضافا إلي أنّ الوصاية أمر عقلائي و قد كانت بينهم قبل أن تكون في الشرع، و الظاهر أنّها عندهم عام تشتمل جميع مصالح الطفل؛ فلو احتاج الصغير إلي شي ء يرتبط بأمواله أو ببدنه (كعمل الجراحية) أو بنكاحه بحيث لو فاته تضرر ضررا شديدا، فهل هناك من يقوم بمصالحه أو لا؟، لا يظن الثاني بحكمة الشارع؛ فلو قلنا أنّ هناك من يقوم بها، فهل هو الوصي أو غيره؟ فالانصاف أنّ حكم الوصي عام في جميع مصالح الصغار بمقتضي مفهوم الوصاية و القيمومة، و هي نافذة بمقتضي العمومات.

و قد استدل لثبوت ولاية الوصي في النكاح، بآيات من الذكر الحكيم:

عمدتها قوله تعالي: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ فَإِنَّمٰا إِثْمُهُ عَلَي الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «1» بناء علي أنّ الوصيّة عام تشمل جميع مصالح الأطفال، و المفروض أنّ التزويج كان من مصالحه، فعموم حرمة التبديل دليل علي امضاء الوصية بجميع شئونها.

و قد يناقش فيه، أنّ المراد بها خصوص ما أوصي به من الأموال للوالدين و الأقربين بقرينة الآية السابقة، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ.

و فيه، أولا، أنّ المورد لا يكون مخصصا.

______________________________

(1). البقرة/ 181.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 326

و ثانيا، أنّ الوصية بامور الاولاد، و جميع

شئونهم من الوصية بالمعروف.

و ثالثا، استدل بالآية الشريفة في غير واحد من الروايات، بما يدلّ علي عمومها.

راجع الباب 32 من أبواب الوصايا.

و استدل له أيضا بقوله تعالي: … يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتٰاميٰ قُلْ إِصْلٰاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ … «1»

و من الواضح ان معني الاصلاح عام.

و نوقش فيه، بأنّها أعم من المدعي، لشمولها غير الأوصياء أيضا.

و فيه، أنّ المخاطب في أمثال هذه الامور هو المنصوب لذلك، أمّا من ناحية الشرع، أو العقلاء بعد امضاء الشارع، كما في قوله تعالي: وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا … «2» و قوله تعالي: … وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ … «3» هذا من ناحية الآيات.

و أمّا من الروايات؛ فقد استدل لثبوت الولاية بروايات، منها:

1- ما رواه جماعة من الفضلاء، أبو بصير و سماعة و الحلبي، باسناد مختلفة، عن أبي عبد الله عليه السّلام في قول الله عز و جل: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ …؛ «4» قال: هو الأب أو الأخ أو الرجل يوصي إليه و الذي يجوز أمره في مال المراة فيبتاع لها فتجيز، فاذا عفا فقد جاز. «5»

و لا أقل من صحة بعض أسانيد الحديث.

و دلالتها واضحة علي المطلوب؛ إلّا أنّه قد يستشكل بوجود الأخ في ضمن الأولياء مع أنّه لا ولاية له علي الصغير و الصغيرة بالإجماع.

و يمكن الجواب عنه، بأنّ الأخ محمول علي الأخ الذي يكون وكيلا عن قبل الكبيرة، و الوصي محمول علي الصغير و الصغيرة، و لا مانع من هذا المقدار من الفرق،

______________________________

(1). البقرة/ 220.

(2). المائدة/ 38.

(3). النساء/ 58.

(4). البقرة/ 237.

(5). الوسائل، 15/ 62،

الحديث 1، الباب 52 من أبواب المهور.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 327

أمّا أولا، فلشهادة ذيل الرواية فانّه صريح في الوكيل من قبل المرأة في الأمور المالية. و ثانيا، يشهد لهذا المعني ما رواه العياشي في تفسيره عن اسحاق بن عمار، عن الصادق عليه السّلام في تفسير قول الله: إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ … قال: أبوها إذا عفا، جاز؛ و أخوها إذا كان يقيم بها و هو القائم عليها، فهو بمنزلة الأب يجوز له؛ و إذا كان الأخ لا يهتم بها و لا يقوم عليها، لم يجز عليها أمره. «1»

و سند الرواية و إن كان ضعيفا بالارسال إلّا أنّها مؤيده للمطلوب، فان المراد من الاهتمام بأمرها و قيامه عليها، هو كونه وكيلا من قبلها، ترضي برضاه.

2- ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن الذي بيده عقد النكاح؟ قال:

هو الأب و الأخ و الرجل يوصي إليه و الذي يجوز أمره في مال المرأة … «2»

3- ما رواه أبو بصير، و محمد بن مسلم، كلاهما، عن أبي جعفر عليه السّلام (الحديث مثل ما سبق). «3»

و الكلام فيهما عين الكلام فيما سبق، و لا يحتمل اتحاد حديث أبي بصير مع الحديث السابق، لأنّه رواها عن الباقر عليه السّلام و الحديث السابق عن الصادق عليه السّلام.

و علي كل حال، فهذه الأحاديث الخمسة مع صحة أسانيد بعضها، دليل علي جواز تصدي الولاية من قبل الوصيّ.

أدلّة القول بعدم ولاية الوصي

و أمّا الدليل علي عدم ولاية الوصي، فقد استدل له؛

بما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام في الصبي يتزوج الصبيّة، يتوارثان؟ فقال:

إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما، فنعم؛ الحديث. «4»

و بما رواه محمد بن مسلم، عن أبي

جعفر عليه السّلام مثله، إلّا أنّه قال بعد قوله زوجاهما: فنعم

______________________________

(1). الوسائل 15/ 63، الحديث 5، الباب 52 من أبواب المهور.

(2). الوسائل 14/ 213، الحديث 4، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 213، الحديث 5، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 220، الحديث 1، الباب 12 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 328

جائز و لكن لهما الخيار إذا أدركا … «1»

و الظاهر صحة سند الروايتين.

و من المعلوم، جواز الخيار لهما بعد البلوغ، علي القول به، لا ينافي صحة النكاح.

و وجه الاستدلال بهما هو الاخذ بمفهوم الشرط، و لازمه عدم صحة نكاح غير الاب.

و مثلهما رواية اخري لعبيد بن زرارة، رواها في الباب 33 من مقدمات الطلاق. «2»

و الانصاف أنّ مفهومها ينفي صحة النكاح إذا صدر من غير الأب و من هو بمنزلته، فانّ وصيّ الأب المأذون في الطلاق بمنزلة الأب؛ و لذا لم يذكر في الرواية الجد، لأنه بمنزلة الاب أيضا، و لا الوكيل منهما.

نعم هناك رواية رابعة، تنفي بظاهرها صحة عقد الوصي، و هي ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع، قال: سأله رجل عن رجل مات و ترك أخوين و ابنة، و البنت صغيرة، فعمد أحد الأخوين الوصي فزوج الابنة من ابنه؛ ثم مات أبو الابن المزوّج، فلما أن مات قال الآخر: أخي لم يزوج ابنه، فزوج الجارية من ابنه، فقيل للجارية: أي الزوجين أحبّ إليك، الأول أو الآخر؟ قالت: الآخر. ثم إنّ الأخ الثاني مات، و للأخ الأول ابن أكبر من الابن المزوج، فقال للجارية: اختاري أيّهما أحبّ إليك، الزوج الأول أو الزوج الآخر؛ فقال: الرواية فيها أنّها للزوج الأخير، و ذلك أنّها قد

كانت أدركت حين زوّجها و ليس لها ان تنقض ما عقدته بعد إدراكها. «3»

و الرواية معتبرة سندا، و لكنها مضمرة و فيها نوع من الاضطراب.

و علي فرض تماميتها، يمكن حملها علي أحد أمرين، عدم كون الوصي وصيا في غير الأموال، كما أشار إليه في مستند العروة. «4» أو حمله علي كون الوصي متهما في رعاية مصلحة البنت بعد اصراره علي تزويجها بابنه.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 208، الحديث 8، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 15/ 326، الحديث 2، الباب 33 من أبواب مقدمات الطلاق.

(3). الوسائل 14/ 212، الحديث 1، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(4). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 302.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 329

و علي كل حال، هذه الرواية- و هي العمدة في المقام- لا تقاوم الأدلة السابقة للقول الأول.

الاستدلال علي القول الثالث

و استدل علي القول الثالث بأنّه عند التصريح بالنكاح في الوصية، يشمله قوله تعالي:

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ فَإِنَّمٰا إِثْمُهُ عَلَي الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «1»

قلت: عند الاطلاق الشامل للنكاح أيضا، يدخل تحت الآية، لعدم الفرق بين الظهور المعتبر، و التصريح، و أصل النزاع هنا لفظي و مرادهم ما إذا لم يكن للوصيّة ظهور معتبر في جواز النكاح؛ فتدبر.

*** بقي هنا شي ء: هل يكون الوصي وليا علي المجنون أم لا؟

صرّح المحقق اليزدي، في العروة في المسألة 12 من عقد النكاح، بكونه وليا عليه من غير تفصيل (و لم يذكره في تحرير الوسيلة). و فصل بعضهم بين الجنون المتصل بالصغر، و المنفصل عنه، بالجواز في الأول فقط. قال في الجواهر: للوصي أن يزوج من بلغ فاسد العقل، إذا كان به ضرورة إلي النكاح. بل نفي بعضهم الخلاف عن ثبوتها في ذلك؛ بل عن ظاهر الكفاية، الإجماع عليه. «2»

و يظهر من المستمسك، ذيل المسألة 12؛ إن ظاهر كلمات الأصحاب تخصيص الحكم بالمتصل، دون غيره.

و علي كل حال، لم يرد في المسألة نص خاص بها، بل الحكم فيها يجري علي القواعد. فان كان مفهوم الوصية عاما لا يختص بحال الصغر و لا بالأموال، يؤخذ بعموم قوله تعالي: «فمن بدّله … »، و بسيرة العقلاء في أمثال المقام التي لم يردع عنها الشارع

______________________________

(1). البقرة/ 181.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 191.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 330

المقدس، (سواء صرح بالعموم، أو كان كلامه ظاهرا فيه).

بل لا يبعد ولايته علي المجنون المنفصل جنونه عن البلوغ، كما هو ظاهر عبارة العروة فانه قال: للوصي أن يزوج المجنون المحتاج إلي الزواج؛ و إن ناقش في المستمسك فيه بانّه خلاف ظاهر كلمات الاصحاب.

و الوجه فيه، أنّ الأب، له ولاية

علي ابنه المجنون، سواء اتصل جنونه أو انفصل؛ و لا ينتظر الحاكم الشرعي في ذلك. و هذا هو سيرة العقلاء، فان وظيفة القيمومة و حكم الولاية عندهم ثابتة للأب، لا أنّها من وظائف الحكومة يرجع إليها في ذلك.

فاذا ثبت ذلك للأب، و كان للوصيّة ظهور في العموم، يؤخذ به و ينتقل إلي الوصيّ؛ و إن لم تكن لها ظهور في العموم، يرجع فيه إلي الحاكم. و ليعلم أنّ المنفصل أيضا علي قسمين: قسم حصل في حياة الأب و بقي بعد وفاته؛ و قسم حصل بعد وفاته. و الظاهر عموم الحكم للجميع، و إن كان الأول أظهر. و الله العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 331

[المسألة 11: ليس للحاكم ولاية في النكاح علي الصغير]

اشارة

المسألة 11: ليس للحاكم ولاية في النكاح علي الصغير ذكرا كان أو انثي مع فقد الأب و الجدّ؛ و لو اقتضت الحاجة و الضرورة و المصلحة اللازمة المراعاة، النكاح، بحيث ترتب علي تركه مفسدة يلزم التحرز عنها، قام الحاكم به؛ و لا يترك الاحتياط بضم اجازة الوصي للأب أو الجدّ مع وجوده.

و كذا فيمن بلغ فاسد العقل، أو تجدد فساد عقله، إذا كان البلوغ و التجدد في زمن حيات الأب و الجدّ.

ولاية الحاكم في النكاح

اشارة

أقول: للمسألة أربع صور:

1- ولاية الحاكم علي البالغة الرشيدة عند فقد الأب و الجد، بناء علي عدم استقلالها عند وجودهما.

2- ولايته علي الصغير و الصغيرة عند فقدهما و فقد الوصي.

3- ولايته علي المجنون المتصل جنونه بالصغر عند فقد الأولياء الثلاثة.

4- ولايته علي المجنون غير المتصل جنونه بالصغر كذلك.

قال في الرياض- في شرح كلام الماتن: و لا يزوج الوصي و كذا الحاكم؛- ما نصّه:

فلا يزوج الصغيرين مطلقا في المشهور، و البالغين فاسدي العقل مع وجود الأب و الجد إجماعا … و يزوجهما مع فقدهما مع الغبطة إجماعا، لأنّه وليهما في المال فيتولي نكاحهما.

ثم استدل للولاية عليهما، بمسيس الحاجة؛ و بالصحيح: الذي بيده عقدة النكاح هو ولي أمرها؛ «1» و النبوي: السلطان وليّ من لا ولي له. «2» و يلحق به نوابه، لعموم أدلة النيابة؛ ثم

______________________________

(1). الوسائل 14/ 212، الحديث 2، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(2). ابن ابي شيبة الكوفي، في المصنف 8/ 374.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 332

قال: هذه الأدلة تتناول الصغيرين، فمنع ولايته عنهما في المشهور غير واضح. «1»

ولايته بالنسبة الي البالغة الرشيدة

و أمّا البالغة الرشيدة، فقد ادعي الإجماع في الجواهر علي عدم ولاية الحاكم عليه مطلقا. (حتي فقد الأب و الجدّ). «2»

و الظاهر أنّه لا خلاف في ولاية الحاكم علي تزويج المجنون. و قال في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه، بل الظاهر كونه مجمعا عليه.

و قال ابن قدامة في المغني: لا نعلم خلافا بين أهل العلم، في أنّ للسلطان ولاية تزويج المرأة عند عدم اوليائها أو عضلهم (اي تحيرهم أو تركهم لها). و به يقول مالك و الشافعي و اسحاق و أبو عبيد و اصحاب الرأي. و الأصل فيه قول النبي: فالسلطان ولي من

لا وليّ له … «3»

هذا، و لكن لما لم يرد في المسالة نص خاص، لا بدّ من الرجوع فيها إلي القواعد؛ و العمدة ملاحظة مقدار سعة سلطة الحاكم الشرعي في الامور؛ و هي محتاجة إلي ذكر مقدمة؛ و هي، أنّ الامور و الحوادث الجارية في المجتمع الإنساني علي قسمين: قسم منها، له مسئول خاص يجب عليه القيام بها، كحضانة الصبي و نفقته، و حفظ أمواله و سائر مصالحه التي تكون علي عاتق الأب أو الجد أو الوصي؛ فمثل هذه الأمور لا ترجع فيها إلي الحاكم. و كذلك الأوقاف العامة و الخاصة التي لها متولّ معين، فان أمر إصلاحها و صرف ارتفاعها في مصارف الوقف علي عاتق المتولي، و كذلك إصلاح أمر الشوارع الخاصة ببعض البيوت، علي عهدة البيوت التي تستفيد منها.

و قسم آخر، ليس له مسئول خاص كأمن السبل، و دفع العدو، و إصلاح الطرق العامة و حفظ أموال الغيب و القصر اللذين لا ولي لهم؛ و قد جرت سيرة جميع العقلاء حديثا و

______________________________

(1). السيد علي طباطبائي، في رياض المسائل 10/ 108، (2/ 81 ط. ق).

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 189.

(3). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 350.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 333

قديما علي تولي الحكومة لهذه الامور؛ فإنّها أسست لحفظ هذه الامور العامة و إصلاحها، حتي لا تبقي مصلحة في المجتمع بلا متول.

و قد أمضي الشارع المقدس هذا البناء العقلائي، و إن جعل لمتوليها شرائط خاصة.

فالحديث المعروف المرسل النبوي صلّي اللّه عليه و آله: السلطان ولي من لا ولي له؛ «1» جار في هذا المجري، و إمضاء لما عند العقلاء من أهل العرف في هذا الباب، فاذن لا تبقي

مصلحة في المجتمع لا يكون لها مسئول، و إلّا يلزم الحرج و المرج و اختلال النظام. و المراد من الامور الحسبيّة المعروفة بين الفقهاء هو القسم الثاني أو بعضها.

ولايته علي تزويج الصغير و الصغيرة

إذا عرفت ذلك فاعلم؛ أنّ الصورة الاولي للمسألة، و هي ولاية الحاكم علي تزويج الصغير و الصغيرة عند عدم الحاجة، فهو واضح لعدم وجود ضرورة قاضية به، أمّا لو كان هناك حاجة شديدة و مصلحة ملزمة يتضرر الصغير بتركها، و لم يكن له أب أو جدّ أو وصيّ منهما، فهو من المصالح و الحاجات الموقوفة علي يد الحاكم؛ بل هو منصوب لأمثال ذلك، لا شك فيه. و يدل عليه النبوي المشهور الذي مرّ آنفا.

و أمّا صحيحة أبي خديجة، المروية عن الصادق عليه السّلام في كتاب القضاء؛ «2» فهي ناظرة إلي فصل الخصومات و حل الدعاوي، لا ربط له بما نحن فيه. و الظاهر أنّ المنكرين لولاية الحاكم هنا، نظروا إلي فرض عدم الحاجة، كما هو الغالب؛ فالإجماع المدعي لا يكون مانعا.

ولايته علي المجنون

أمّا الصورة الثانية و الثالثة، أي المجنون المتصل جنونه بالصغر و المنفصل، فالأمر فيهما- لا سيما الثانية منهما- أوضح، لحاجته إلي النكاح غالبا فيدخل تحت ولاية

______________________________

(1). رواها ابن قدامة في المغني، 7/ 350؛ كما رواها الطباطبائي في الرياض 2/ 81 و أشار إليها غيرهما.

(2). الوسائل 18/ 100، الحديث 6، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 334

الحاكم عند فقدان سائر الأولياء.

و هل الحكم مقصور علي الحاجة و الضرورة، أو يكون المجنون كسائر الناس إذا اقتضت مصلحته، يزوجه الحاكم و إن لم تكن علي حد الضرورة؛ فيه وجهان؛ و العدم موافق للأصل و الاحتياط.

هذا؛ و لم يعلم وجه لقول الماتن (قدس سره الشريف): إذا كان البلوغ و التجدد في زمان حياة الأب و الجد؛ فانه إذا تجدد فساد العقل (أو هو مع البلوغ) بعد حياة الأب، و احتاج المجنون إلي

النكاح، لا بدّ من ولاية الحاكم عليه؛ فانه ولي من لا ولي له؛ بل هو أولي من سائر أقسام المجنون، لدخوله من أول الأمر تحت ولاية الحاكم بفتوي جماعة من الفقهاء، فليس لهذا التقييد وجه مقبول.

و أمّا الصورة الرابعة، فعلي القول باستقلال البالغة الرشيدة، فلا كلام؛ و علي القول بولاية الأب و الجد عليها و لو بالاشتراك، لا يبعد استقلالها بعد فقدهما؛ لعدم الدليل علي ولاية الحاكم هنا. نعم، لو كان هناك مفسدة مهمّة في استقلالها و كانت منافعها في معرض الزوال من ناحية الأفراد الفاسد و المفسد، لزم تدخّل الحاكم في أمرها. و الله العالم.

و أمّا أدلة النافين لولاية الحاكم علي الصغيرين؛ فامور:

منها: الأصل، و عدم ولاية أحد علي أحد، إلّا ما خرج بالدليل. و قد عرفت أنّه مردود بالأدلة الدالة علي ولاية الحاكم.

منها: مفهوم الروايات السابقة، الدالة علي حصر الولي في الأب؛ مثل روايتي محمد بن مسلم «1» و عبيد بن زرارة. «2»

فقوله عليه السّلام: إن كان أبواهما اللذان زوجاهما، فنعم؛ (و في رواية عبيد: إن كان أبواهما هما اللذان زوجاهما)، دليل علي نفي ولاية غير الأب.

هذا، و قد مرّ أنّ الحصر هنا اضافي منصرف عن الحاكم، و ناظر إلي ما ذكره العامة من ولاية الاخ و العم و غيره من العصبة، لا إلي مثل الوصي و الحاكم الشرعي، كما هو ظاهر.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 220، الحديث 1، الباب 12 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 15/ 326، الحديث 2، الباب 33 من أبواب مقدمات الطلاق.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 335

و لو فرض له ظهور ضعيف في ذلك، يرفع اليد عنه بالدلائل القطعية لولاية الحاكم الشرعي في مثل ذلك.

و منها: الاستدلال بالإجماع، المعلوم

حاله في أمثال المقام.

و الغالب علي الظن، أنّ النزاع هنا لفظي؛ فمن قال بعدم الولاية، نظر إلي صورة عدم الحاجة و الضرورة؛ و من قال بالجواز، نظر إلي صورة الضرورة؛ و لا يظن بفقيه أن ينكر ولايته عليهما عند الضرورة الشديدة، مثل ما إذا كان حفظ نفس الصغير متوقفا علي الزواج لعدم من يحميه، فلو زوجه أو زوجها وجد من يحميه و ينجيه عن الهلاك أو مشاكل عظيمة. و هكذا في موارد الضرورة إلي عقد النكاح، لحصول المحرميّة، بحيث لولاها أشكل أمر بقائه بين الاسرة التي قبلت حفظها و رعايتها.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 336

[المسألة 12: يشترط في ولاية الأولياء، البلوغ و العقل و الحريّة و الإسلام]

اشارة

المسألة 12: يشترط في ولاية الاولياء، البلوغ و العقل و الحريّة و الإسلام، إذا كان المولي عليه مسلما، فلا ولاية للصغير و الصغيرة علي أحد، بل الولاية في موردهما لوليهما و كذا لا ولاية للأب و الجدّ إذا جنّا، و ان جنّ أحدهما يختص الولاية بالآخر، و كذا لا ولاية للأب الكافر علي ولده المسلم، فتكون للجد إذا كان مسلما، و الظاهر ثبوت ولايته علي ولده الكافر إذا لم يكن له جدّ مسلم، و إلّا فلا يبعد ثبوتها له دون الكافر.

من شرائط الولاية الأولياء: اعتبار البلوغ و العقل و الحرية

اشارة

أقول: قد ذكر المصنف هنا شروطا أربعة؛ البلوغ و العقل و الحرية و الإسلام، و العمدة هو الأخير، لأنّ اشتراط البلوغ لا مورد له في الصغير، لأنّه لا يمكن أن يكون أبا و لا جدا، و الأولي ترك ذكر هذا الشرط، و كأنّه تبع في ذلك صاحب العروة؛ و قد أجاد المحقق، في الشرائع بترك ذكره. اللّهم إلّا أن يكون ناظرا إلي الوصي و الحاكم فانّ الصبي المراهق العالم،- كما يحكي عن العلّامة الحلي في صغره- لا يمتنع عقلا أن يكون وصيّا أو حاكما؛ لكنه باطل بإجماع الفقهاء و العقلاء من أهل العرف، لعدم اعتبار أفعال الصبي عندهم، فلا يقبل مسئولية الوصاية و الحكومة، إلّا من خرج بالدليل مثل إمامة بعض الأئمة المعصومين عليهم السّلام (الإمام الجواد عليه السّلام) فان الإمامة ملازم للمرتبة الأعلي من الحكومة الشرعيّة، و ليس هذا أمرا عجيبا بعد ما صرح الآيات من الذكر الحكيم بالنسبه إلي يحيي:

… وَ آتَيْنٰاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، «1» و بالنسبة إلي عيسي: قٰالَ إِنِّي عَبْدُ اللّٰهِ آتٰانِيَ الْكِتٰابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا. «2»

و علي كل حال، لو فرض عقلا إمكان تصدي غير البالغ للوصاية و الحكومة

فلا شك أنّه شرعا ممنوع عنهما، لعدم تكليفه و عدم حرمة شي ء عليه، و عدم اعتبار قوله و تصرفاته بحكم الشرع و العقلاء من أهل العرف.

______________________________

(1). مريم/ 12.

(2). مريم/ 30.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 337

و أمّا المجنون و من بمنزلته من السكران و المغمي عليه فهو أيضا غير صالح للولاية بحكم الشرع و العقلاء من أهل العرف، و هو واضح.

و كذا الحرية علي كلام فيه، أعرضنا عنه لعدم كونها محلا للابتلاء في عصرنا.

اعتبار الإسلام

فيبقي اشتراط الإسلام، إذا كان المولي عليه مسلما؛ و الظاهر أنّ المسألة إجماعية كما صرّح به في الجواهر و غيره.

قال في الحدائق: الظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط الإسلام في الولاية، فلا تثبت للكافر- أبا كان أو جدا أو غيرهما- الولاية علي الولد المسلم صغيرا أو مجنونا ذكرا كان او انثي، و يتصور إسلام الولد في هذا الحال بإسلام امه أو جدّه علي قول، و كذا يتصور إذا أسلم بعد بلوغه ثم جنّ، أو كانت انثي علي القول بثبوت الولاية علي البكر البالغ. «1»

و قد حكي في المستمسك، ذيل المسألة 16 من عقد النكاح، الإجماع عن المسالك و كشف اللثام أيضا، و غاية ما استدل به له، امور:

1- الإجماع، و حاله معلوم.

2- قوله تعالي: … وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، «2» بناء علي كون الولاية نوع سبيل له علي المؤمنين.

و في تفسير الاية كلام كثير؛ هل المراد من السبيل، الغلبة العسكرية، أو بالحجة و المنطق، أو في الآخرة، أو في عالم التشريع، أو جميع ذلك؟!

هذه احتمالات خمسة، و المناسب للجملة المتقدمة علي هذه الجملة، «فالله يحكم بينكم يوم القيامة»، هو الاحتمال الثالث؛ و الأول بعيد

لغلبة الكفار في بعض الحروب علي المؤمنين (كما في الأحد). و لكن استدلال الفقهاء بها في شتي أبواب الفقه قد يؤيد

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 267.

(2). النساء/ 141.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 338

العموم في الخمسة ما عدا الأول، و عموم اللفظ قد يدل عليه. و القول بان السلطة التشريعية ثابتة في مثل كون المسلم أجيرا للكافر أو مديونا، غير صحيح، لان الانصاف أنّه من قبيل التعامل لا السلطة، بخلاف الولاية و كذا الحكومة.

3- المرسل المعروف المعمول به عنه عليه السّلام: الإسلام يعلو و لا يعلي عليه. «1»

و الظاهر أنّه نبوي صلّي اللّه عليه و آله و قد صرّح في الروايات في أبواب الارث بانّ الإسلام يزيد و لا ينقص، و لذا ترث من الكفار و لا يرثون منها؛ (راجع الباب الأول من الموانع).

4- و يدل عليه أيضا، قوله تعالي: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ … «2»

هذا؛ و ظاهر كلام الشرائع، أنّ الكافر لا ولاية له علي ولده الكافر. و هو عجيب لأنّه منقوض بالسيرة المستمرة، فلا يزال أهل الكتاب في بلاد الإسلام يتولون أولادهم و لم يمنعهم أحد، لا في زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله، و لا في عصر الأئمة عليهم السّلام، و لا في عصر الفقهاء.

و يدل عليه أيضا، قوله تعالي: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ … «3»

و هذا ممّا لا ينبغي الريب؛ إنّما الكلام في صورة ثالثة، و هو ما إذا كان للكافر ولي مسلم (مثل الجد) و أب كافر، فهل يمنع الأول الثاني؛ ظاهر كلام المتن ذلك، و لكن ليس له دليل معتبر ما عدا قياسه علي باب الارث، فان المسلم يمنع عن

الكافر، و القياس لا يكون حجة عندنا.

***

______________________________

(1). الوسائل 17/ 376، الحديث 11، الباب 1 من أبواب موانع الميراث.

(2). التوبه/ 71.

(3). الانفال/ 73.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 339

[المسألة 13: العقد الصادر من غير الوكيل و الوليّ المسمي بالفضولي، يصح]

اشارة

المسألة 13: العقد الصادر من غير الوكيل و الوليّ المسمي بالفضولي، يصح مع الاجازة؛ سواء كان فضوليا من الطرفين أو من أحدهما، و سواء كان المعقود عليه صغيرا أو كبيرا، و سواء كان العاقد قريبا للمعقود عليه كالأخ و العم و الخال أو أجنبيا؛ و منه العقد الصادر من الولي أو الوكيل علي غير الوجه الماذون فيه، بان أوقع الولي علي خلاف المصلحة، أو الوكيل علي خلاف ما عينه الموكل.

عقد الفضولي يصح مع الاجازة

أقول: هذه المسألة من امهات المسائل في النكاح و البيع و غيرها، و اللازم التكلم في مقامات:

المقام الأوّل: في معني الفضولي

أنّ الفضولي منسوب إلي الفضول، و هو الزوائد. فالفضولي هو الذي يأتي بالفضول أي الزوائد. و يقرب منه ما ذكره أرباب اللغة أنّ: الفضولي هو من يتعرض لما ليس له؛ فما يتراءي من توصيف العقد بالفضولي، غير خال عن الإشكال؛ بل هو وصف للعاقد، فاللازم اضافة العقد إليه، لا جعله صفة للعقد. و إن كان قد يذكر ذلك من باب التسامح.

و هذا العنوان في مصطلح الفقهاء إشارة إلي من يقوم بإنشاء العقد مع عدم كونه سلطانا عليه؛ كإنشاء البيع من ناحية غير المالك، و عقد النكاح من ناحية غير الزوجين و الولي و الوكيل.

و له عرض عريض يشمل العقد الصادر من القريب و البعيد و الأجنبيّ، بل الولي و الوكيل عند فقدان شرائط انجاز الولاية، كعدم المصلحة أو وجود المفسدة؛ كما يشمل عقد الوكيل إذا تعدي عن الشرائط، كما أنّه لا فرق في المسألة بين الصغير و الكبير و غير ذلك، لما يأتي من عموم الادلة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 340

المقام الثاني: في الأقوال في المسألة

قال المحقق، في الشرائع: عقد النكاح (الصادر من الفضولي) يقف علي الاجازة علي الأظهر؛ و قال في اللمعة: علي الأقرب؛ و قال في الجواهر: في الأشهر بل المشهور شهرة عظيمة بين القدماء و المتأخرين؛ ثم حكي عن السرائر نفي الخلاف فيه في الجملة، بل عن الناصريات دعوي الإجماع عليه مطلقا، ثم قال: بل من أنكر الفضولي في غير النكاح أثبته هنا للإجماع و النصوص. «1»

و لكن مع ذلك حكي عن الشيخ في بعض كتبه (مثل الخلاف و المبسوط)، عدم صحته. و لكن عن النهاية و التهذيب و الاستبصار، موافقة المشهور. و حكي الخلاف عن فخر المحققين أيضا.

هذا، و لكن الأقوال في أبواب

البيع ليست كذلك، بل الظاهر أنّ القائل بالصحة كان قليلا عن الأعصار القديمة، ثم كثر القائلون بالصحة لا سيما في الأعصار الأخيرة و في عصرنا هذا.

و العمدة في الفرق بين المقامين، هو وجود الروايات الكثيرة الواردة في الموارد الخاصة في أبواب النكاح، تدل علي صحته إذا صدر عن الفضولي بحيث يمكن اصطياد العموم منها، كما ستأتي عن قريب إن شاء الله، و الحال أنّ الروايات في أبواب البيع قليلة جدا، عمدتها رواية عروة البارقي المعروفة.

و في الحقيقة في هذه المسألة ثلاثة أقوال عندنا، ذكرها فخر المحققين في الايضاح:

الأول: انّ عقد الفضولي يقع موقوفا علي الاجازة، و هو قول المفيد و المرتضي و الشيخ في النهاية و ابن أبي عقيل و سلار و ابن البراج و أبي الصلاح و ابن ادريس و والدي المصنف.

الثاني: أنّ عقد الفضولي باطل من أصله، و هو اختيار الشيخ في الخلاف و المبسوط.

الثالث: قول ابن حمزة، و هو أنّه يقع موقوفا في تسعة مواضع، و عدّ منها عقد الأخ و

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 201.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 341

الام و العم و الرشيدة بدون اذن الولي و غيرها، ثم قال: و الذي أفتي به، بطلان عقد الفضولي. «1»

فالقول الأول مشهور جدا، و الأخيران شاذان.

و أمّا فقهاء العامة فقد ذهبوا أيضا إلي ثلاثة أقوال، ذكرها النووي، في كتاب المجموع، و شيخ الطائفة، في الخلاف؛ و هي مع تلخيص منا:

1- يصح نكاح الفضولي؛ فان أجاز ذلك، الذي يملك الأمر، لزم؛ و إن ردّه، بطل. و هو قول أبي حنيفة و من تبعه، و كذلك البيع عنده.

2- أنّ جميع أقسامه لا يصح؛ و هو قول الشافعي و أحمد و

اسحاق.

3- يصح إذا أجازه عن قرب؛ و إن أجازه عن بعد، بطل. و هو قول مالك. و اختار الشيخ نفسه البطلان في النكاح و في البيع، (في الخلاف).

و الأقوي صحة عقد الفضولي في جميع أبواب العقود، بل الايقاعات أيضا، لو لم يقم دليل من الإجماع و غيره علي بطلانه.

المقام الثالث: أدلّة القول بصحته

و يدل عليه أمران:

الأول، أنّ صحة عقد الفضولي موافق للقاعدة، فانّ العمومات تدل علي صحتها. فقوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، «2» تدل علي صحة كل ما يصدق عليه العقد عند العقلاء، و قد مر سابقا أنّ المراد منه، العقد المنسوب إلي كل إنسان، فكأنه قال: أوفوا بعقودكم. و من المعلوم أنّ العقد الصادر من الفضولي، ليس عقدا لصاحبه قبل اذنه، فاذا اذن صار عقدا له و منسوبا إليه.

و إن شئت قلت: إنّه أشبه شي ء بما يكتبه الدلال من إنشاء العقد و شرائطه و أركانه ثم بعد مدّة قصيرة أو طويلة يوقع عليه صاحب العقد و يمضيه.

______________________________

(1). فخر المحققين، في إيضاح الفوائد 3/ 27. (مع التلخيص)

(2). المائدة/ 1.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 342

إن قلت: إنّ هذا العقد ليس عقدا لصاحبه عند حدوثه فكيف يكون عقدا له عند بقائه؟

قلت: إنشاء العقود و إن كان من قبيل الوجودات غير المستقر، و عمّا قليل ينعدم؛ و لكن أثره و هو المنشأ أي الالتزام و التعهد الحاصل منه، أمر مستمر و مستقر؛ و الاجازة متعلق به.

و بعبارة اخري، ليس العقد جامعا للشرائط و واجدا للأركان حدوثا، و لكن يكون كذلك بقاء.

و ببيان آخر، عقد الفضولي أمر رائج بين العقلاء من أهل العرف في عصرنا، بل الظاهر أنّه كان كذلك في الأعصار الماضية أيضا؛ و يدل عليه

حديث عروة البارقي في البيع، فانّه لو لم يكن هذا مجازا عند أهل العرف، لما أقدم عليه؛ و يظهر من بعض الروايات الخاصة التي تأتي ذكرها إن شاء الله، أنّه كان متعارفا في باب النكاح أيضا، و هو في الواقع كتنظيم الاسناد من الدلال مع التوقيع عليه منه و من الطرف المقابل، ثم يأتي المالك أو من بيده الأمر في النكاح، فتأخذ الاذن و التوقيع منه. و إن شئت قلت: هذه سيرة مستمرة لم يمنع عنها الشارع.

الثاني، الروايات الكثيرة الخاصة الواردة في أبواب النكاح يمكن اصطياد العموم منها بلا ريب، و هي علي طوائف:

الطائفة الاولي، ما ورد في نكاح العبيد و الإماء، و فيها تعليلات يمكن التعدي معها إلي غيرها؛ منها:

1- ما رواه زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن مملوك تزوج بغير اذن سيده.

فقال: ذاك إلي سيده، إن شاء أجازه و إن شاء فرق بينهما. قلت: أصلحك الله، أنّ الحكم بن عنيينة و ابراهيم النخعي و أصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد و لا تحل اجازة السيد له. فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنّه لم يعص الله و إنّما عصي سيده فاذا أجازه، فهو له جائز. «1»

مسائل العبيد و الإماء و إن لم تكن محلا للابتلاء في أعصارنا، و لكن لما كانت هذه

______________________________

(1). الوسائل 14/ 523، الحديث 1، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 343

الرواية و أمثالها مشتملا علي تعليل أو ما هو بمنزلة التعليل، يمكن التمسك بها في سائر مصاديق الفضولي في النكاح بل و غيره؛ فانّ قوله: أنّه لم يعص الله؛ معناه إنّه لم يأت بنكاح محرم كالنكاح في العدة و شبهه،

(كما وقع التصريح به في الرواية الآتية)، حتي لا يمكن إصلاحه بلحوق الاجازة؛ بل الإنشاء تام، بقي لحوق الاجازة، فيتم جميع أركانه. و قد استدل بها الأصحاب لصحة الفضولي في البيوع و غيرها أيضا بمقتضي التعليل الوارد فيها. فاذا كان البيع مثل بيع الخمر، لا يمكن تصحيحه، و أمّا إذا كان بدون أذن مالكه، يمكن تصحيحه بلحوق الاجازة.

2- في رواية اخري لزرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن رجل تزوج عبده بغير اذنه، فدخل بها، ثم اطلع علي ذلك مولاه. قال: ذاك لمولاه، إن شاء فرّق بينهما و إن شاء أجاز نكاحهما؛ فان فرق بينهما فللمرأة ما أصدقها إلّا أن يكون اعتدي فاصدقها صداقا كثيرا، و إن جاز نكاحه فهما علي نكاحهما الأول، فقلت لأبي جعفر عليه السّلام: فان أصل النكاح كان عاصيا؛ فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنّما أتي شيئا حلالا، و ليس بعاص للّه، إنّما عصي سيده و لم يعص الله، أنّ ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدّة و أشباهه. «1»

و التصريح في الرواية بقوله: فهما علي نكاحهما الأول؛ كالصريح في كفاية الاجازة اللاحقة في تصحيح العقد، مع اشتماله علي التعليل السابق. و يمكن أنّ هذه رواية اخري سمعها زرارة منه عليه السّلام، كما يمكن أن تكونا رواية واحدة؛ و الحكم بوجوب المهر المسمي، لعله حكم تعبدي علي المولي مع فساد العقد.

3- عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في عبد بين رجلين زوجه أحدهما و الآخر لا يعلم، ثم إنّه علم بعد ذلك؛ أله أن يفرق بينهما؟ فقال: للذي لم يعلم و لم يأذن أن يفرق بينهما، و إن شاء تركه علي

نكاحه. «2»

و مورد الرواية، العبد المشترك الذي لا يجوز نكاحه إلّا برضا كليهما، و لكن لا تشتمل علي تعليل.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 523، الحديث 2، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

(2). الوسائل 14/ 525، الحديث 1، الباب 25 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 344

4 و 5 و 6- ما عن معاوية بن وهب، قال: جاء رجل إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال: إنّي كنت مملوكا لقوم، و إنّي تزوجت امرأة حرّة بغير اذن موالي، ثم أعتقوني بعد ذلك، فاجدد نكاحي إيّاها حين اعتقت؟ فقال له: أ كانوا علموا أنّك تزوجت امرأة و أنت مملوك لهم؟

فقال: نعم، و سكتوا عني و لم يغيّروا عليّ. قال: فقال: سكوتهم عنك بعد علمهم اقرار منهم، أثبت علي نكاحك الأول. «1»

و مثله الحديث الثاني، و الثالث، من هذا الباب المرويتان عن معاوية بن وهب، و عن حسن بن زياد الطائي، و ظاهرها جميعا كفاية سكوت المولي بعد العلم في مقام الاجازة؛ و ليكن هذا علي ذكر منك.

7- ما رواه في البحار، عن صفوة الأخبار، قال: جاء رجل إلي أمير المؤمنين عليه السّلام، و قال: إنّ هذا مملوكي، تزوج بغير إذني؛ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: فرّق بينهما أنت. فالتفت الرجل إلي مملوكي، فقال: يا خبيث! طلّق امرأتك!. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام للعبد: إن شئت فطلّق و إن شئت فأمسك!. ثم قال: كان قول المالك للعبد: طلق امرأتك؛ رضا بالتزويج؛ فصار الطلاق عند ذلك للعبد. «2»

و هذا الحديث دليل علي كفاية الاجازة حتي بالدلالة الالتزامية، و لكن الرواية مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها من هذه الجهة.

8- ما عن علي بن جعفر،

عن أخيه موسي بن جعفر، عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السّلام، أنّه أتاه رجل بعبده، فقال: إن عبدي تزوج بغير إذني. فقال علي عليه السّلام لسيده: فرّق بينهما.

فقال السيد لعبده: يا عدوّ الله، طلّق. فقال له علي عليه السّلام: كيف قلت له؟ قال قلت له: طلّق.

فقال علي عليه السّلام للعبد: أمّا الآن، فإن شئت فطلق، و إن شئت فأمسك. فقال السيد: يا أمير المؤمنين! أمر كان بيدي، فجعلته بيد غيري!؟ قال: ذلك لأنّك حين قلت له طلّق؛ اقررت له بالنكاح. «3»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 525، الحديث 1، الباب 26 من أبواب نكاح العبيد و الاماء.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 15/ 16، الحديث 17399.

(3). الوسائل 14/ 526، الحديث 1، الباب 27 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 345

و هذا لعله متحد مع الحديث السابق، و لكنه كان مرسلا، و هذا مسند. و مع ذلك لا يمكن الاكتفاء به في إثبات بعض الخصوصيات المستفادة من هذا الحديث، كجواز القناعة في الاجازة بالدلالة الالتزامية.

و الذي يتحصل من مجموع هذه الروايات مع تضافرها و صحة بعض أسنادها، صحة الفضولي في جميع أبواب العقود، و منها عقد النكاح. نعم، موردها العبيد و الإماء الذين انقرضوا في عصرنا. و قد كان من حكمة الشارع من أول الأمر رفع العبودية عن البشر للبشر، و حصرها في الإنسان في مقابل الرب العظيم، و قد توسل إلي ذلك بأنواع الأسباب؛ منها، حكمه بأنّ شرّ البيوع بيع الإنسان؛ و منها، فتح أبواب الحرية من طرق عديدة كثيرة لهم و اغلاق أبواب الاسترقاق عليهم، فكان مقصود الشارع المقدس هو الحرية التدريجية لهم لأنّ الحرية الدفعية كانت سببا لمشاكل

كثيرة في المجتمع في تلك الأيام من ناحية المالكين، بل و من ناحية العبيد و الإماء أيضا، و قد شرحنا ذلك في بعض كتبنا و في تفسير الأمثل، شرحا وافيا؛ من أراده فليراجعها.

الطائفة الثانية: الروايات الكثيرة الدالة علي صحة عقد الام أو الأخ أو العم و غيرهم بعد لحوق الاجازة؛ منها:

1- ما عن علي بن مهزيار، عن محمد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض بني عمي إلي أبي جعفر الثاني عليه السّلام: ما تقول في صبية زوّجها عمّها، فلما كبرت، أبت التزويج؟ فكتب لي: لا تكره علي ذلك، و الأمر أمرها. «1»

هذا صريح في كون نكاح العم فضوليا، يحتاج إلي الاجازة.

2- ما عن الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث قال: إذا زوج الرجل ابنه، فذاك إلي ابنه و إذا زوج الابنة جاز. «2»

و هذا ظاهر بالنسبة إلي نكاح الأب لابنه الكبير، و أنّه يصح مع لحوق إجازة الابن.

3- ما عن محمد بن مسلم، عن ابي جعفر عليه السّلام انه سأله عن رجل زوجته امه و هو

______________________________

(1). الوسائل 14/ 207، الحديث 2، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 208، الحديث 4، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 346

غائب. قال: النكاح جائز؛ إن شاء المتزوج، قبله؛ و إن شاء ترك؛ فان ترك المتزوج تزويجه، فالمهر لازم لأمّه. «1»

و هذا وارد في الام، و صحة نكاحها للابن مع لحوق الاجازة؛ و حمل وجوب المهر علي الام علي دعواها الوكالة و الأخذ باقرارها، و لكن لا يخلو عن اشكال.

4- ما عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، قال: سأله رجل عن رجل مات و ترك أخوين

و ابنة، و البنت صغيرة، فعمد أحد الأخوين الوصيّ، فزوج الابنة من ابنه، ثم مات أبو الابن المزوج؛ فلما أن مات، قال الأخر: أخي لم يزوج ابنه؛ فزوج الجارية من ابنه. فقيل للجارية: أي الزوجين أحبّ إليك، الأول أو الآخر؟ قالت: الآخر … «2» و يظهر من ذيل الحديث، صحة العقد الأخير بمجرد اجازتها، (و هذا أيضا وارد في العم).

5- ما عن أبان، عن أبي عبد الله عليه السّلام: إذا زوج الرجل ابنه، كان ذلك إلي ابنه؛ و إذا زوج ابنته، جاز ذلك. «3»

و هذا كالحديث الثاني و لكن الراويين مختلفان.

6- ما عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام، عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما، و هما غير مدركين. قال: فقال: النكاح جائز أيّهما أدرك كان له الخيار؛ الحديث. «4» و لا بدّ من حملها علي الولي العرفي دون الشرعي.

و المستفاد من هذه الطائفة أيضا، جواز نكاح الفضولي مع لحوق الاجازة؛ حتي إذا كان النكاح من الام أو الأب (في غير موارد الولاية) أو العم أو الأخ.

الطائفة الثالثة: ما ورد عن طرق المخالفين؛ منها:

1- ما عن ابن عباس، أنّ جارية بكرا أتت النبي صلّي اللّه عليه و آله فذكرت له، أنّ أباها زوّجها و هي كارهة؟ فخيرها النبي صلّي اللّه عليه و آله. «5»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 211، الحديث 3، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 212، الحديث 1، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 221، الحديث 3، الباب 13 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 17/ 527، الحديث 1، الباب 11 من أبواب ميراث الازواج.

(5). محمّد بن يزيد القزويني، في سنن ابن ماجة 1/ 603،

الحديث 1875 و البيهقي، في السنن الكبري

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 347

2- ما عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: جاءت فتاة إلي النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها. فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، و لكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلي الآباء من الآمر شي ء. «1»

3- ما رواه أيضا ابن ماجة، في السنن؛ و النسائي، في سننه؛ و أحمد بن حنبل في مسنده، في البكر التي زوجها أبوها فأتته تستعدي … فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي. «2»

4- ما رواه السرخسي، في مبسوطه، عند الاستدلال علي وجوب استيذان البكر عند نكاحها، ما نصّه: و الدليل عليه حديث الخنساء، «3» فانّها جاءت إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله، فقالت: إنّ أبي زوّجني من ابن أخيه، و أنا لذلك كارهة. فقال: أجيزي ما صنع أبوك. فقالت: ما لي رغبة فيما صنع أبي. فقال صلّي اللّه عليه و آله: اذهبي، فلا نكاح لك؛ انكحي من شئت. فقالت: أجزت ما صنع أبي. و لكني أردت أن تعلم النساء أن ليس إلي للآباء من امور بناتهن شي ء!. «4»

و حكاه الجساس، في أحكام القران؛ «5» و السيد المرتضي، في الناصريات/ 331.

و هذا الحديث هو الذي أشار إليه في الجواهر بقوله: و النبوي: … فقال صلّي اللّه عليه و آله: أجيزي ما صنع أبوك؛ «6» لا ما ورد في هامش الجواهر.

و العجب ان هذه الرواية بهذه العبارة لم يرو في صحاحهم الستة و شبهها، كما يظهر بمراجعة المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي؛ و من الجدير بالذكر أنّه يمكن أن يكون هذه

الروايات الأربعة، ناظرة إلي واقعة واحدة.

إلي غير ذلك ممّا يطلع عليه المتتبع في أحاديثهم و أحاديثنا؛ و في ذلك كله، غني و

______________________________

- 7/ 117.

(1). محمّد بن يزيد القزويني، في سنن ابن ماجة 1/ 602، الحديث 1874 و البيهقي، في السنن الكبري 7/ 118.

(2). سنن ابن ماجة 1/ 602- سنن النسائي 3/ 284- مسند أحمد 6/ 136.

(3). يقال هي زوجة ابي لبابة.

(4). السرخسي، في المبسوط 5/ 2.

(5). احكام القرآن 3/ 414.

(6). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 202.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 348

كفاية، بل و ما فوق الكفاية.

الطائفة الرابعة: الروايات الكثيرة الواردة في أبواب مختلفة، غير النكاح، يمكن الغاء الخصوصيّة منها و التعدي منها إلي النكاح، و هي في نفسها طوائف:

1- ما روي في أبواب البيع، من رواية عروة البارقي و غيرها.

2- ما ورد في أبواب المضاربة، عند تعدي العامل عن الشرط، الدالة علي أنّه لو ربح المال، كان بينهما بالشرط؛ و أن خسر كان علي العامل.

3- ما ورد في الاتجار بمال اليتيم من غير الولي، و أنّه إن ربح كان لليتيم.

4- ما ورد في أبواب الخمس عند التصرف فيها بغير اذن الإمام، ثم لحقه اذنهم.

5- ما ورد في الخيانة في الوديعة، ثم جاء تائبا مع ربحه.

6- ما ورد في امضاء الورثة الوصية الزائدة علي الثلث بعد وفات الميت.

7- ما ورد في أبواب مجهول المالك، و أنّه إذا جاء صاحبها و رضي، كانت الصدقة له. «1»

كل هذه الروايات، تدل علي كفاية لحوق الاجازة لعقد الفضولي في صحته؛ و من الواضح إمكان الغاء الخصوصية منها و التعدي إلي جميع أبواب الفقه؛ و منها النكاح.

فالمسالة بحمد الله بحسب الأدلة واضحة ظاهرة.

*** أدلّة المخالفين

و المخالف استدل بامور:

1- الأصل؛

أي أصالة الفساد الثابتة في أبواب العقود و المعاملات. فان الأصل يقتضي عدم النقل و الانتقال و عدم جواز ترتيب آثار النكاح و البيع و الاجازة و غيرها، و هذا و إن كان حقا، لكن يرفع اليد عن الأصل بعد ظهور الدليل، بل الأدلة التي مرّت الإشارة إليها.

______________________________

(1). و قد ذكر جميع ذلك مشروحا في كتابنا أنوار الفقاهه (كتاب البيع)؛ إن شئت فراجع 1/ 282- 294.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 349

2- ما ذكره فخر المحققين قدّس سرّه في الايضاح: من أنّ العقد سبب الاباحة، فلا يصح صدوره عن غير معقود عليه أو ولي؛ (انتهي). «1» و كان مراده أنّ الواجب حصول الاباحة عند وجود السبب و هو الإنشاء فلا ينفصل عن المنشأ، و لازمه اقترانه بالرضا من ولي الأمر.

و يجاب عنه، بأن اللازم عدم تأخر المنشأ عن الإنشاء بعد حصول جميع شرائطه، فلو تأخر بعض الشرائط كان تحقق المنشأ عند آخر جزء من العلة التامة، كما ذكروه في باب عقد المكره، و لا دليل علي لزوم اجتماع جميع الشرائط في آن واحد.

3- ما ذكره الفخر أيضا من أن: رضا المعقود عليه أو وليّه شرط و الشرط لا يتأخر عن المشروط. «2»

و فيه، أنّ الرضا شرط في تأثير الإنشاء، و من الواضح أنّ صحة العقد و تمامه إنّما هو بعد لحوق الرضا، فالمشروط هو الأثر الحاصل من العقد، و هو غير متقدم علي الرضا بل متأخر عنه، و إن كان مراده من المشروط هو الإنشاء، فالحق أنّ صحة العقد بمعناه الإنشائي غير مشروط بالرضا، فتأخر الرضا عن الإنشاء غير قادح.

4- و هو العمدة، الروايات التي استدلوا بها، و هي كثيرة؛ منها:

1- ما عن أبي

العباس البقباق، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: يتزوج الرجل بالأمة بغير علم أهلها. قال: هو زنا، إن الله يقول: فانكحوهن بإذن أهلهن. «3»

2- ما عن أبي العباس أيضا، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن الأمة تزوج بغير اذن أهلها؟ قال: يحرم ذلك عليها و هو الزنا. «4»

3- ما عن فضل بن عبد الملك، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن الأمة بغير اذن مواليها؛ فقال: يحرم ذلك عليها، و هو زنا. «5»

______________________________

(1). فخر المحققين، في إيضاح الفوائد 3/ 28.

(2). فخر المحققين، في إيضاح الفوائد 3/ 28.

(3). الوسائل 14/ 527، الحديث 1، الباب 29 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

(4). الوسائل 14/ 527، الحديث 2، الباب 29 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

(5). الوسائل 14/ 528، الحديث 3، الباب 29 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 350

و التعبير بالزنا في الأحاديث الثلاثة، دليل علي بطلان عقد الفضولي.

4- ما عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا تنكح ذوات الآباء من الابكار إلّا باذن آبائهن. «1»

و هذا دليل علي أنّ إنشاء العقد لا بدّ أن يكون باذن الولي بناء علي لزومه.

5- ما عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: تستأمر البكر و غيرها و لا تنكح إلّا بأمرها. «2»

6- ما عن ابراهيم بن ميمون، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إذا كانت الجارية بين أبويها فليس لها مع أبويها أمر؛ و إذا كانت قد تزوجت لم يزوجها إلّا برضا منها. «3»

و هذا و ما قبله دليل علي وجوب صدور العقد عن الاذن من صاحبه.

و قد اجيب عنها

بأجوبة مختلفة؛ و لكن الأحسن من الجميع أنّ مفروض السؤال في نكاح العبد في الثلاثة الاولي فرض عدم لحوق الاجازة، و من الواضح أن ترتيب الآثار عليه مع عدمه يكون من الزنا لعدم تمامية العقد.

و أمّا الثلاثة الأخيرة، فمفادها ليس اعتبار صدور الإنشاء عن الاجازة، بل المراد أنّ الأثر و هو العقد لا يحصل إلّا به؛ و إن شئت قلت، هي ناظرة إلي العقد المسببي لا السببي؛ فتدبّر جيدا.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 208، الحديث 5، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 203، الحديث 10، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 214، الحديث 3، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 351

[المسألة 14: إن كان المعقود له، ممّن يصح له العقد لنفسه]

اشارة

المسألة 14: إن كان المعقود له، ممّن يصح له العقد لنفسه بان كان بالغا عاقلا، فانّما يصح العقد الصادر من الفضولي باجازته.

و إن كان ممن لا يصح منه العقد و كان مولّي عليه بان كان صغيرا أو مجنونا، فإنّما يصح أما باجازة وليّه في زمان قصوره، أو أجازته بنفسه بعد كماله؛ فلو أوقع الأجنبي عقدا علي الصغير أو الصغيرة وقفت صحة عقده علي اجازتهما له بعد بلوغهما و رشدهما إن لم يجز أبوهما أو جدّهما في حال صغرهما، فأي من الاجازتين حصلت، كفت.

نعم يعتبر في صحة اجازة الولي ما اعتبر في صحة عقده، فلو أجاز العقد الواقع علي خلاف مصلحة الصغير، لغت اجازته؛ و انحصر الأمر في اجازته بنفسه بعد بلوغه و رشده.

من له الإجازة في العقد الفضولي

أقول: المسائل التي ذكرها الماتن قدّس سره في بيان أحكام الفضولي في النكاح هنا أربعة عشر مسألة (من 13- إلي 26)، و هذه المسألة ثانيتها؛ و هي تستهدف ذكر من له الاجازة في عقد الفضولي، و هي مسألة واضحة و من مصاديق القضايا التي قياساتها معها.

و حاصل الكلام فيها، أنّ الاجازة لا تكون إلّا من ناحية من يصح العقد منه ابتداء و هو أحد شخصين، إمّا البالغ العاقل، إذا كان هو المعقود عليه؛ أو الولي، إذا كان المعقود عليه صغيرا أو مجنونا؛ فبناء علي ذلك إذا عقد الفضولي علي الكبير العاقل، فاجازه، صح العقد بلا إشكال. و إن عقد علي الصغير و الصغيرة أو المجنون و المجنونة، صح باجازة الولي إذا كانت فيه مصلحة.

و إذا ترك الولي الاجازة حتي بلغ المعقود عليه، أو آفاق المجنون، كانت الاجازة لهما.

و الدليل علي ذلك، جميع الآيات و الروايات الدالة علي وجوب الوفاء بالعقود، و منها

أنوار

الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 352

عقد النكاح. فالعقد لا يكون عقدا للمعقود عليه و لا يجب الوفاء به إلّا أن يسند إليه و يكون مصداقا لعقودكم؛ المستفاد من قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ … ». و لا يصح الاستناد، إلّا باجازة الكبير أو الولي علي الصغير و المجنون.

و قد صرّح بذلك في روايات الباب، مثل صحيحة أبي عبيدة الحذاء؛ قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما، يعني غير الأب، و هما غير مدركين.

فقال: النكاح جائز، و أيّهما أدرك كان له الخيار، و إن ماتا قبل أن يدركا، فلا ميراث بينهما و لا مهر إلّا أن يكونا قد أدركا و رضيا؛ الحديث. «1»

و هي دليل علي بعض المقصود، و هو صحة اجازة المعقود عليه بعد البلوغ؛ كما أنّه دليل علي صحة الفضولي و قوله عليه السّلام: النكاح جائز؛ بمعني صحة الإنشاء فقط لا صحة العقد من جميع الجهات.

*** بقي هنا امران:

الأول: لما ذا ترك الماتن صحة الاجازة من ناحية الوكيل؛ و لعله لوضوحه، فتأمل.

الثاني: لا بدّ في صحة اجازة الولي أو الوكيل، مراعاة المصلحة و جميع ما مرّ في أمر الولاية و الوكالة، و قد مر أنّه لا مصلحة في الغالب في عصرنا في تزويج الصغار.

***

______________________________

(1). الوسائل 17/ 527، الحديث 1، الباب 11 من أبواب ميراث الازواج.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 353

[المسألة 15: ليست الإجازة علي الفور]

اشارة

المسألة 15: ليست الاجازة علي الفور، فلو تأخرت عن العقد بزمن طويل، صحت؛ سواء كان التأخير من جهة الجهل بوقوعه، أو لأجل التروي أو للاستشارة أو غير ذلك.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 353

جواز تأخر الإجازة عن العقد الفضولي

أقول: ذكر هذا القول، أعني عدم فورية الاجازة كثير من الأعلام، مثل المحقق النراقي في المستند، «1» و شيخنا الأنصاري في مكاسبه، «2» و المحقق اليزدي في العروة، «3» و الفقيه السبزواري في المهذب، «4» و غيرهم، من دون ذكر مخالف في المسالة؛ و كأنهم أرسلوه ارسال المسلمات، بل قال في المهذب عند ذكر الأدلة: و لتسالم الأجلة؛ و ذكر سيدنا الاستاذ الحكيم، في المستمسك، أنّه: هو المعروف. «5»

أدلّة المسألة

1- العمومات الدالة علي صحة عقد الفضولي بعد لحوق الاجازة، شاملة لما إذا لحقته بالفور أو بالتراخي.

2- سيرة العقلاء في المسألة- كما عرفت سابقا- لا فرق فيها بين الصورتين.

3- و أحسن من جميع ذلك، الروايات الخاصة الدالة علي هذا المعني.

فقد عرفت في الأحاديث السابقة ما يدل بصراحة علي ذلك؛ مثل حديث أبي عبيدة، «6» فان المفروض فيه، أنّه زوج الولي غير الشرعي صغيرين، فقال: أيّهما بلغ و أجاز صح؛ و البلوغ كثيرا يتأخر.

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 180.

(2). الشيخ الانصاري، في المكاسب، ج 3، ص 429 (مطبعة مؤسسة الهادي).

(3). السيد الطباطبائي اليزدي، في العروة الوثقي، المسألة 18 من مسائل أولياء العقد.

(4). السيد السبزواري، في مهذب الاحكام …

(5). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 491.

(6). الوسائل 17/ 527، الحديث 1، الباب 11 من أبواب ميراث الأزواج.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 354

و ما ورد في حديث ابن بزيع، فان موردها تزويج البنت الصغيرة، ثم إذا كبرت جعل الخيار بيدها. «1»

و كذا رواية علي بن مهزيار، عن محمد بن الحسن الأشعري، عن الجواد عليه السّلام؛ فان موردها أيضا كون الزوجة صغيرة ثم صارت كبيرة، و كثيرا ما يطول الزمان في ذلك. «2»

بل و الأحاديث

الدالة علي علم الموالي بنكاح عبيدهم و سكوتهم، و أنّه كاف في صحة العقد؛ فانّ العلم كثيرا يتأخر، لوجود الدواعي إلي الكتمان.

بل و الأحاديث الدالة علي حكم المراة التي استعدت عن زوجها عنده صلّي اللّه عليه و آله، الواردة من طرق العامة، فانّه لا دلالة فيها علي وقوع الاستعداء فورا.

و كذا ما ورد في الاتجار بمال اليتيم، و تعدي العامل في المضاربة، و التصدق بمجهول المالك، و الخيانة في الأمانة، ثم جاء تائبا مع ربحه، و ارضاء الورثة الوصية الزائدة علي الثلث بعد موت الموصي؛ فانّ في جميع ذلك تتاخر الاجازة عادة، و لا يكون علي الفور.

و ليس جميع ذلك في مورد الجهل، بل كثيرا ما يكون في مورد العلم، كما لا يخفي.

و من التعجب، أنّ سيدنا الحكيم و بعض آخر (رضوان الله عليهم) استدلوا هنا بما استدل به شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في البيع، في صحيحه محمد بن قيس، في الوليدة التي باعها ابن سيدها بغير اذنها، و بعد أن استولدها المشتري أجاز سيدها بيعها؛ مع أنّ الروايات في نفس النكاح كثيرة، مضافا إلي بعض الإشكالات المعروفة في صحيحة محمد بن قيس.

بقي هنا أمران:

1- يجوز الفسخ اذا كان التأخير سببا للضرر

أنّه ذكر غير واحد من أعلام المعاصرين، أو من قارب عصرنا، أنّه إذا كان التأخير سببا

______________________________

(1). الوسائل 14/ 212، الحديث 1، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 207، الحديث 2، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 355

لتضرر الطرف الآخر الأصيل، أمكن رفعه بقاعدة نفي الضرر بتشريع الفسخ؛ و هذا إنّما يتصور إذا كان أحد الطرفين أصيلا و الآخر فضوليّا، و قلنا بأن الأصيل في هذه الموارد يجب أن يبقي إلي عهده و عقده حتي

يتبين حال طرف الفضولي.

و لكن سيأتي إنشاء الله في شرح المسألة 24، أنّ هذا المبني لا أصل له، بناء علي القول بالنقل لعدم حصول العلقة قطعا؛ و كذا علي القول بالكشف، لأنّ الأصل عدم لحوق الاجازة في المستقبل، فالعقد غير حاصل. و تمام الكلام في المسألة 24، إن شاء الله.

2- حكم المسألة في صورتي العلم و الجهل

هل هناك فرق بين ما إذا علم صاحب العقد و أخّر الاجازة، و ما إذا لم يعلم؛ فان التأخير مع العلم قد يعد ردّا؟

و لكن الانصاف، عدم الفرق؛ لأنّ التأخير مع العلم قد يكون للتروي أو الاستشارة و الاستخارة، أو لأمر ينتظره، مثل ما إذا كان له خاطبون عديدة و أراد تقديم الأفضل فالافضل.

و في أحاديث الباب، ما يكون التأخير بعد العلم أو يشمله و لو بعنوان ترك الاستفصال، بل مثل صحيحه محمد بن قيس، «1» صريح في التأخير مع العلم، و كذا قضيّة استعداء المرأة عند النبي صلّي اللّه عليه و آله. و الله العالم.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 591، الحديث 1، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 356

[المسألة 16: لا أثر للإجازة بعد الرّد]

اشارة

المسألة 16: لا أثر للإجازة بعد الرّد، و كذا لا أثر للردّ بعد الاجازة، فبها يلزم العقد و به ينفسخ، سواء كان السابق من الرد أو الاجازة واقعا من المعقود له أو وليّه، فلو اجاز أو ردّ وليّ الصغيرين العقد الواقع عليهما فضولا، ليس لهما بعد البلوغ ردّ في الأول و لا اجازة في الثاني.

لا أثر للرد بعد الإجازة في الفضولي

أقول: قال المحقّق النراقي، في المستند: لو قبل عقد الفضولي و أجازه، لزم من جهته؛ و ليس له بعده ردّه إلّا بالطلاق إجماعا. و لو ردّه، لم يؤثر بعده الاجازة، للبطلان بالرّد بالإجماع فلم يبق شي ء تؤثر معه الاجازة. «1»

و هذا الكلام يدل علي كون المسألتين إجماعية (أي عدم صحة الردّ بعد الاجازة، و الاجازة بعد الردّ).

و لكن ذهب بعض أعلام المعاصرين، (سيدنا الاستاذ الخوئي)، إلي جواز الاجازة بعد الردّ، حيث قال في مستنده: ذهب إليه جملة من الأصحاب- منهم الاستاذ- بدعوي أنّ الاجازة و الردّ ضدّان، أيّهما سبق لا يبق مجالا للآخر، في حين ذهب آخرون إلي خلافه- منهم الماتن في المسألة الرابعة من باب الوصية- حيث أفاد بأن القول بعدم نفوذ الاجازة بعد الردّ مشكل، إن لم يكن إجماع، خصوصا في الفضولي. «2»

ثم ذكر أدلة المانعين ثمّ ردّها، و قال في آخر كلامه: و ممّا تقدم يظهر أنّه لا دليل علي عدم تأثير الاجازة بعد الردّ، و قد سبقه بذلك السيد المحقق اليزدي، في تعليقته علي مكاسب الشيخ (قدس سرهما)، و قد قويناه أيضا في كتاب البيع من أنوار الفقاهة.

و علي كل حال، فالذي ينبغي أن يقال في المسألة، أنّ عدم جواز الردّ بعد الاجازة ممّا لا ينبغي الكلام فيه، لأنّ المفروض كون الاجازة تمام العقد و بعد

تمام العقد لا يبقي مجال

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 180.

(2). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 321.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 357

للردّ و لا الفسخ، لأنّ المفروض أنّ العقد هنا من العقود اللازمة.

*** الادلة الدالة علي عدم تأثير الاجازة بعد الردّ

و أما الاجازة بعد الرد، فقد استدل لعدم تأثيرها في صحة الفضولي، بامور:

1- الإجماع المذكور في كلام غير واحد من الأعلام كما سبق. و الانصاف، أنّ الاعتماد علي الإجماع هنا مشكل، بعد وجود بعض ما استدل به غيره.

2- أنّ الاجازة، بمنزلة القبول من ناحية المشتري، أو القابل في عقد النكاح، فإنّها قائمة مقامه، فكما أنّ ردّ الايجاب مانع عن لحوق القبول، فكذلك رد الفضولي مانع عن الاجازة.

و لكن يرد عليه، أوّلا: بالمناقشة في المقيس عليه، فان ردّ الايجاب من ناحية المشتري أو القابل لعقد النكاح، لا يمنع عن لحوق القبول له، كما إذا انعقد هناك مجلس عقد النكاح فأوجب الوكيل أو الوليّ، و قال: زوجت نفس موكلتي لفلان بمهر كذا؛ فخالف الزوج و قال: لا أقبل؛ و تكلم معه بعض أقربائه و أصدقائه في ذلك، فرضي، فرفع صوته و قال: قد قبلت التزويج و النكاح؛ فمثل ذلك عقد عرفي عقلائي لم يمنع منه الشرع. و أوضح منه إذا كان الايجاب بالكتابة، بأن وقّعت الزوجة توقيعها علي ورقة النكاح، و أبي الزوج؛ و لكن بعد ساعة أو يوم رضي به و وقّع عليه.

و ثانيا: فرق بين ردّ الايجاب و ردّ الفضولي، فان الإنشاء في الفضولي قد حصل ايجابا و قبولا و إن كان الاستناد إلي صاحب العقد غير حاصل، و لكن في الايجاب الفاقد للقبول، لم يتمّ بعد أركان الإنشاء، فيمكن أن يكون الردّ مانعا من لحوق

القبول.

3- مقتضي سلطنة المالك علي ماله و نفسه، قطع علقة الطرف الآخر بالعقد الحاصل عن الفضولي علي نفسه و ماله.

و يمكن الجواب عنه بان إنشاء الفضولي لا يوجب أيّ علقة علي مال الغير و لا نفسه، و إنّما يكون عقد الفضولي كالمقتضي لذلك، لا يؤثر إلّا بعد لحوق الاجازة؛ فصحة عقد الفضولي صحة تاهلية، لا فعلية.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 358

هذا، و لو فرضنا اقتضائه للعلقة علي مال الغير أو نفسه، كان باطلا من أول الأمر، لمخالفته لقاعدة السلطنة المقبولة في الشريعة و بين العقلاء من أهل العرف.

فالانصاف، أنّ أدلة القول ببطلان الاجازة بعد الردّ، ضعيف. و يمكن الاستدلال لصحتها، مضافا إلي الاطلاقات و العمومات و سيرة العقلاء. بظهور غير واحد من الروايات:

1- منها؛ صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قضي في وليدة باعها ابن سيدها و أبوه غائب؛ فاشتراها رجل، فولدت منه غلاما؛ ثم قدم سيّدها الأول، فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير اذني. فقال: خذ وليدتك و ابنها. فناشده المشتري، فقال: خذ ابنه الذي باع الوليدة، حتي ينفذ لك ما باعك. فلما أخذ البيّع الابن، قال أبوه: أرسل ابني؛ فقال: لا أرسل ابني حتي ترسل ابني. فلما رأي ذلك سيد الوليدة الأول، أجاز بيع ابنه. «1»

و رجال السند و إن كانوا كلهم ثقات، و لكن الكلام في فقه الحديث، فانّه لا يخلو عن إشكالات متعددة:

أولها: أنّ الوليدة و هي أم الولد، لا يصح بيعها، بل تبقي لتعتق من سهم ولدها.

و يمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الوليدة هنا كونها وليدة في الحال (بعد استيلاد المشتري)، لا في حال البيع، و هذا و إن

كان مخالفا للظاهر و لكن يرجع إليه لوجود القرينة هذا أولا، و أمّا ثانيا، بأنّ المراد منها، ليس معناه المصطلح، بل من تولدت في بيته رقّا. و ثالثا، بأنّها ناظرة إلي موارد جواز بيع أم الولد (كما إذا مات ولده).

ثانيها: أنّ الولد هنا حرّ، لتولده من حرّ، و لو بسبب وطي الشبهة؛ فكيف يجوز للمالك الأول أخذه.

و يجاب عنه، بأن أخذه كان من جهة أخذ الغرامة، فانّ الواجب هنا التقويم لأنّ المشتري فوّته علي المالك.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 591، الحديث 1، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 359

ثالثها: أنّه كيف يجوز أخذ ولد المالك- أي البائع فضولا- مع أنّه حرّ؟ و إنّما يجوز أخذ الغرامة منه، للتدليس.

و يجاب عنه، بانّه إنّما أخذه المشتري لأخذ غرامته منه، لأنّه لم يكن له سبيل إلي أخذ حقّه إلّا هذا الطريق.

رابعها: أنّه كيف يجوز للقاضي تلقين الحجة بأحد الخصمين، و قد علّمه الإمام عليه السّلام هنا و لقنه فقال: خذ ابنه حتّي ينفذ البيع.

و يمكن الجواب عنه، بان هذا من باب تعليم الأحكام، و يجوز للقاضي تعليم أحكام الشرع بأحد الخصمين كي ينتفع منها لأخذ حقه المشروع له، و إنّما لا يجوز التلقين إذا كان سببا لعدم مراعاة التساوي بينهما.

هذا مضافا إلي أنّ المقام ليس مقام القضاء بل مقام الافتاء.

خامسها: أنّ الاكراه يمنع عن صحة المعاملة و المفروض أنّ المشتري أكره المالك بأخذ ابنه، حتي ينفذ البيع، و قال: لا أرسل ابنك حتي ترسل ابني. و لما رأي ذلك سيّد الوليدة، أجاز بيع ابنه.

و الجواب عنه ظاهر؛ فان الاكراه، هو ما يتضمن تهديد انسان في عرضه أو ماله أو نفسه أو من

يلحق به بغير حق، فلو أنّ إنسانا كان له حق القصاص علي ولد رجل، و قال له: لو بعتني الملك الفلاني، لا اقدم علي القصاص، فباعه، صح البيع و ليس هذا من الاكراه بشي ء بل هذا من قبيل دفع ضرر كثير بضرر أقل منه، مثل ما لو باع الإنسان داره لمداواة ولده.

سادسها: انه من قبيل الاجازة بعد الردّ؛ و لا يجوز إجماعا.

و لكن قد عرفت أنّ دعوي الإجماع هنا ممّا لا فائدة فيها؛ لاحتمال كونه حاصلا من المدارك الاخري (مضافا إلي إمكان الترديد في نفس الإجماع).

و يمكن الاستدلال أيضا بالروايات الحاكية عن استعداء الجارية عن تزويجها بغير اذنها بمباشرة أبيها، فان الاستعداء دليل علي ردّ النكاح مع أنّه صلّي اللّه عليه و آله أمرها باجازة ما صنع أبوها.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 360

إن قلت: الاستعداء كان صوريا بشهادة ذيل الرواية.

قلنا: نعم، و لكن قبل أن يظهر كونه صوريا، أمرها النبي صلّي اللّه عليه و آله باجازة ما صنع أبوها، و هذا دليل علي كون الاجازة بعد الردّ نافذة، (فتأمل فانّه دقيق).

كما يمكن الاستدلال بما ورد في البحار و غيره من مجي ء رجل إلي أمير المؤمنين عليه السّلام و اشتكائه عن مملوكه الذي تزوج بغير اذنه، و قوله عليه السّلام: فرق بينهما؛ و التفات الرجل إلي مملوكه، و قوله: يا خبيث (يا عدوّ اللّه) طلق امرأتك؛ فقال عليه السّلام: هذا اقرار منك لعقده (فانّ الطلاق لا يكون إلّا بعد قبول الزواج). «1»

و ذلك لأنّ شكواه أقوي دليل علي ردّ النكاح، ثم صح باجازته.

و إن شئت قلت: كما تجوز الاجازة بكل ما يدل عليه- علي ما هو صريح الرواية، فان المفروض فيها هو الدلالة الالتزامية؛

بل بالسكوت كما في روايات نكاح العبيد- فكذلك يجوز الردّ، لأنّ الشكوي يدل التزاما علي الرد، بل هو اظهر من السكوت بالنسبة إلي الاجازة، فجواز اجازته بعد ذلك دليل علي المطلوب.

هذا كلّه بالنسبة إلي الاجازة بعد الردّ؛ و أمّا عدم تأثير الردّ بعد الاجازة، فهو اوضح من أن يخفي. فانّه بناء علي صحة الفضولي تكون الاجازة قائمة مقام القبول، و من المعلوم إذا جاء القبول تمّ عقد النكاح، و هو لا يقبل الفسخ فانّه من العقود اللازمة. و كذا البيع و أشباهه.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 526، الحديث 1، الباب 27 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 361

[المسألة 17: إذا كان أحد الزوجين كارها حال العقد لكن لم يصدر منه ردّ له]

اشارة

المسألة 17: إذا كان أحد الزوجين كارها حال العقد لكن لم يصدر منه ردّ له، فالظاهر أنه يصحّ لو أجاز بعد ذلك، بل الأقوي صحته بها، حتي لو استؤذن فنهي و لم يأذن، و مع ذلك أوقع الفضولي العقد.

الكراهة مع عدم صدور الردّ غير قادحة

أقول: هذه المسألة من فروع المسألة السابقة؛ و حاصلها، أنّ الكراهة الموجودة في القلب أو الظاهرة من خلال الأقوال و الأفعال حين العقد، مع عدم صدور الردّ من صاحب العقد، غير قادحة في صحة الاجازة بعدها. و إنّما يصح البحث في هذه المسألة علي فرض عدم صحة الاجازة بعد الرّد، و أمّا علي المختار من صحتها و لو بعد الردّ، لا تصل النوبة إلي هذا البحث. فانّ الكراهة ليست أقوي من الردّ، بل هي أضعف منه، و لو كانت الكراهة حال العقد.

و قد صرّح العلامة الاستاذ الخوئي (قدس سره) بذلك علي ما في مستند العروة. «1» و قال سيدنا الاستاذ الحكيم، في المستمسك، في شرح المسألة 23 من مسائل عقد النكاح: قد يظهر من شيخنا الأعظم (ره) في التنبيه الثاني من تنبيهات القول في الاجازة، انه (أي عدم قدح الكراهة حال العقد) مسلّم عند الأصحاب، و يقتضيه القواعد العامة. «2»

و علي كل حال، يدل علي عدم مانعيتها- و لو قلنا بفساد الاجازة بعد الردّ- أنّها ليست كالردّ، و ما اقيم علي البطلان في إنشاء الردّ لا يأتي هنا، مثل أنّ الردّ قاطع لسلطة الغير علي مال المالك أو نفسه، أو أنّه مجمع عليه بين الأصحاب، أو شبه ذلك فان مجرد الكراهة لا تؤثر هذا الأثر، و لا إجماع فيه، و مقتضي عموم وجوب الوفاء بالعقود، صحته.

أضف إلي ذلك، أنّه يظهر من غير واحد من الروايات السابقة،

كصحيحة محمد بن قيس، و بعض روايات نكاح العبد بغير اذن مولاه، أنّ الكراهة كانت موجودة حين العقد أو بعدها.

______________________________

(1). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 329.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 503.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 362

و إنّه لو قلنا بمنع نفوذ العقد مع الكراهة، فلا بدّ من القول ببطلان عقد المكره، (فان كل مكره علي العقد، كاره له؛ و إن لم يمكن كلّ كاره مكرها، لاعتبار التهديد و التخويف في الاكراه) مع أنّه لم يقل به أحد؛ و لا أقل أنّه خلاف ما اشتهر بين الأصحاب. هذا، و لكن يمكن الفرق بين ما نحن فيه و المكره بما لا يخفي علي الخبير. و قد ذكرنا في كتابنا أنوار الفقاهة (كتاب البيع) ما ينفعك هنا. «1»

***

______________________________

(1). أنوار الفقاهة، كتاب البيع/ 341.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 363

[المسألة 18: يكفي في الإجازة المصححة لعقد الفضولي، كل ما دلّ علي إنشاء الرضا]

اشارة

المسألة 18: يكفي في الاجازة المصححة لعقد الفضولي، كل ما دلّ علي إنشاء الرضا بذلك العقد، بل يكفي الفعل الدال عليه.

يكفي في إجازة الفضولي كل ما دلّ علي الرضا

أقول: هذه مسألة مهمّة، و فيه أبحاث:

1- هل يكفي الرضا الباطني القلبي، في صحة الفضولي، أو لا بدّ من الإنشاء.

2- علي فرض اعتبار الانشاء، هل اللازم الإنشاء اللفظي الصريح، أو الظاهر في الدلالة علي المقصود، أو يكفي الإنشاء الفعلي و لو حصل بالسكوت.

و في الواقع في المسالة أقوال أو وجوه كثيرة عمدتها ثلاثة: كفاية الرضا الباطني؛ و اعتبار الإنشاء اللفظي؛ و كفاية الإنشاء الفعلي أيضا؛ و عمدة هذه الوجوه ظهرت بين المتأخرين و المعاصرين.

قال في مستند العروة: قد ذهب جماعة إلي اعتبار اللفظ فيها، تارة بدعوي أنّها بمنزلة عقد الجديد، و آخر بدعوي أنّ الاستقراء يقتضي اعتبار اللفظ فيما يقتضي اللزوم؛ انتهي. «1»

و قال في المستمسك، في شرح المسألة، بعد نقل هذا القول أي اعتبار اللفظ- ما يقرب من الدليلين السابقين. «2»

و الظاهر أنّ التعبير بالعقد الجديد في كلام المستند، تسامح؛ لأنّ الالتزام بالعقد الجديد دليل علي بطلان عقد الفضولي. بل المراد، إنشاء جديد للقبول، و الإنشاء يحتاج إلي اللفظ.

و علي كل حال، يمكن الجواب عنه بأن الصغري- أي كون الاجازة بمنزلة قبول جديد- مسلّم، لكن الكبري- و هي كل إنشاء في العقود اللازمة لا بدّ أن يكون بالقول- أول الكلام، لان المعاطاة عقد لازم علي المختار و مختار جماعة من المحققين، مع أنّها

______________________________

(1). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 322.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 493.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 364

تكون بالفعل. و هي تجري في كثير من العقود اللازمة كالبيع و الاجارة و الهبة اللازمة، كالهبة

لذي الرحم، و الهبة المعوضة و ما أشبهها.

و من هنا يظهر الجواب عن الدليل الثاني و هو الاستقراء، لعدم وجود الاستقراء هنا، مضافا إلي أنّه دليل ظنّي لم يثبت حجيّته.

و الاولي أن يقال، إن طريق حلّ المشكلة في المقام، تارة من ناحية الرجوع إلي القواعد و مقتضاها، و اخري من طريق الأدلة الخاصة.

مقتضي القواعد

أمّا القواعد، فمقتضاها صحة كل عقد عرفي عقلائي إلّا ما خرج بالدليل. و العقد لا بدّ فيه من استناد إلي الطرفين، فاذا أجاز المالك أو المعقود له، البيع أو النكاح و لو بالفعل و العمل، كان طرفا للعقد، و كان العقد عقده، فيدخل تحت عمومات أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

و القول بوجوب اللفظ في العقود، تنافيه صحة المعاطاة في أكثر أبواب المعاملات.

إن قلت: إنّ المعاطاة لا تجري في النكاح، ففي اجازة عقد الفضولي في النكاح لا بدّ من اللفظ.

قلنا: قد ذكرنا في محلّه أن اعتبار اللفظ في إنشاء عقد النكاح إنّما هو من ناحية الإجماع، أو من باب الاحتياط، أو من جهة كونه شبها بالزنا و إن لم يكن النكاح المعاطاتي زنا حقيقة، لأنّ الزنا لا يراد فيه عقد الزوجية بين الطرفين، بل يراد اعطاء اجرة في مقابل عمل محرم.

و لكن الإنشاء اللفظي في عقد الفضولي حاصل؛ ثم إنّ المعقود له، بإنشاء الاجازة فعلا، يقوم مقام الفضولي، فكأنه باجازته ينفخ الروح في جسد عقد الفضولي. و بالجملة، الإجماع و شبهه لا يشمل المقام. هذا بحسب القواعد.

الروايات الدالة علي صحة الاجازة بالانشاء الفعلي

و أمّا من ناحية الأدلة الخاصة، فقد دلت روايات كثيرة علي صحة الاجازة بالإنشاء

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 365

الفعلي حتي بالسكوت الذي هو أدناها. منها:

1- الروايات الثلاثة الواردة في الباب 26 من أبواب نكاح العبيد و الاماء؛ فانّها تدل علي المقصود من جهة التصريح فيها بان الموالي إذا علموا و سكتوا كان سكوتهم بمنزلة الاقرار و الاجازة، و قد صرّح في جميع الروايات الثلاثة بأن سكوتهم بمنزلة الاقرار.

فهي دالّة علي أنّ الافعال، بمعناها الأعم الشامل للسكوت أيضا، تكفي في مقام الاجازة. اللّهم إلّا أن يقال قياس عقد الفضولي، علي عقد

العبد لنفسه قياس مع الفارق. و سيأتي شرحه في الدليل الثالث، إن شاء الله.

2- ما ورد في الباب 5 من أبواب عقد النكاح، من أنّ سكوت البكر اقرارها علي النكاح؛ ففي بعضها: في المرأة البكر، اذنها صماتها. «1»

و في آخر: فان سكتت، فهو اقرارها. «2»

و في ثالث منها. قصّة تزويج فاطمة (سلام الله عليها) و أنّه لما خطبها أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السّلام و أخبرها رسول الله صلّي اللّه عليه و آله به، فسكتت و لم تولّ وجهها، و لم ير فيه رسول الله صلّي اللّه عليه و آله كراهة؛ فقام و هو يقول: اللّه أكبر، سكوتها اقرارها … «3»

و هذه الأخبار و إن كانت أجنبيّة عن مسألة الفضولي، بل هي ناظرة إلي مسألة التوكيل في إنشاء العقد؛ و لكن إذا جاز الاكتفاء بالفعل في مقام إنشاء نفس العقد، فيجوز في مقام الاجازة بطريق اولي.

بل يمكن أن يقال، الاذن السابق ليس توكيلا بل يكون كالإجازة اللاحقة امضاء له، فاذا جاز امضاء العقد الآتي بالفعل، فكيف لا يجوز امضاء العقد السابق به، فتأمل.

3- و يمكن الاستيناس للمقصود، بما دل علي أنّ العبد إذا تزوج بغير اذن مولاه كان العقد موقوفا علي الاجازة منه، معللا بأنّه لم يعص الله و إنّما عصي سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز. راجع صحيحة زرارة في الباب 24 من أبواب نكاح العبيد و الإماء. «4»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 206، الحديث 1، الباب 5 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 206، الحديث 2، الباب 5 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 206، الحديث 3، الباب 5 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 523، الحديث 1، الباب 24 من أبواب نكاح

العبيد و الإماء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 366

فانّه من قبيل الفضولي، لكونه تصرفا في ملك الغير بغير اذنه، و المدار رفع عصيان السيّد و هو كما يحصل بالاجازة اللفظية، يحصل بالفعليّة. اللّهم إلّا أن يقال فرق بين نكاح العبد و نكاح الفضولي، فان في الأول يصدر الإنشاء من صاحب العقد، إلّا أنّه لما كان مزاحما لحق الغير لا بدّ من رضاه بذلك، فهو من قبيل بيع المالك للعين المرهونة؛ و اين ذلك من عقد الفضولي. و لكن الانصاف أنّ هذه الروايات بضميمة روايات كفاية سكوت البكر و كونه بمنزلة إنشائها، تكون دليلا علي المقصود؛ مضافا إلي أنّ التعبير فيها بأنّ سكوتهم اقرار، دليل علي ما ذكرنا؛ لأنّه لا يقول سكوتهم دليل علي الرضا، بل يقول:

اقرار؛ أي امضاء.

ما يدل علي الاكتفاء بالرضا القلبي

يبقي الكلام في القول الثالث، اي الاكتفاء بالرضا القلبي الذي مال إليه شيخنا الأعظم في بعض كلماته و يمكن الاستدلال له بامور:

1- عمومات وجوب الوفاء بالعقود؛ و لكن يرد عليه أنّه فرع صدق العقد عليه و هو غير معلوم. فانّ مجرّد الرضا القلبي شي ء لا يكون معاقدة و معاهدة، بل العقد يحتاج إلي إنشاء فانّه من الامور الاعتبارية التي قوامها الانشاء؛ بل يكفي الشك في ذلك، لأنّ الأخذ بالعموم حينئذ من قبيل التمسك بعموم العام في الشبهة المصداقية و هو باطل علي قول المحققين.

و إن شئت قلت: الامور علي قسمين: امور تكوينية، و امور اعتبارية. أمّا الأول، فهي الحقائق الموجودة الخارجية بل الحالات النفسانية من العلم، و القدرة و الرضا و الغضب و غيرها كلها من الحقائق. و أمّا الاعتباريات، فليس لها وجود في الخارج و إنّما هي في عالم الاعتبار (و قد ذكرنا في محلّه

ان الاعتبار نوع من الفرض و الافتراض) و ذلك كالملكيّة و الزوجية و أشباههما، و هي محتاجة إلي الاعتبار و الإنشاء. و من الواضح أنّ استناد العقد إلي صاحبه ليس من الامور التكوينية، بل هي من الامور الاعتبارية، و لا يكفي مجرّد الرضا بالشي ء في مقام الانشاء. فتدبر، تعرف. و الله العالم. و ستأتي تتمة

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 367

لذلك في المسالة الآتية.

2- قد مرّ في غير واحد من روايات نكاح العبيد فضولا، أنّ سكوت المولي كاف في صحته، و السكوت ليس إنشاء بل هو كاشف عن الرضا.

و فيه، أنّ السكوت في هذه المقامات من قبيل إنشاء الاجازة بالفعل؛ كما في اذن البكر، و ان سكوتها اقرارها؛ فانه من قبيل إنشاء التوكيل. فتأمل.

3- ما دلّ علي أنّ معصية السيد ترتفع باجازته، و من المعلوم أنّها ترتفع برضاه قبلا أيضا.

و لكن يمكن الجواب بأن رفع عصيان السيّد بمجرّد رضاه، أول الكلام؛ مثلا إذا باع رجل ملك غيره فقد عصاه، لا أنّه عصي الله؛ و رفع هذه العصيان لا يكون بمجرّد الرضا بل بانفاذ العقد و اجازته و إسناد العقد إليه، لأنّه لا بيع إلّا في ملك؛ فاللازم اعتبار ملكية الغير باجازة الفضولي.

فتحصل من جميع ما ذكرناه أنّ إنشاء الاجازة تحصل بكل ما دل عليه بقول صريح أو ظاهر أو فعل كذلك، و من الواضح أنّ الفعل يحتاج إلي قرينة. و تمام الكلام في هذه المسألة في المسألة الآتية (و كان ينبغي أن يجعل المسألتان مسألة واحدة، و كأنه تبع في ذلك صاحب العروة، حيث جعلها مسألتين، المسألة 19 و 22 من مسائل عقد النكاح).

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 368

[المسألة 19: لا يكفي الرضا القلبي في صحة العقد]

اشارة

المسألة 19: لا

يكفي الرضا القلبي في صحة العقد و خروجه عن الفضولية و عدم الاحتياج إلي الاجازة؛ فلو كان حاضرا حال العقد راضيا به، إلّا أنّه لم يصدر منه قول أو فعل يدل علي رضاه، فالظاهر أنّه من الفضولي. نعم، قد يكون السكوت اجازة، و عليه تحمل الأخبار في سكوت البكر.

لا يكفي في صحة الفضولي الرضا القلبي

أقول: قد تكلمنا في المسألة السابقة عن هذا الحكم و نزيدك هنا، أنّ القول بكفاية الرضا في صحة الفضولي، يظهر من بعض كلمات الشيخ الأنصاري (قدس سره الشريف)؛ و ادعي أنّه يظهر من ظواهر كلمات الأصحاب، لأنّهم أفتوا بعدم كفاية السكوت لأنّه أعم من الرضا، فان هذا التعبير يدل علي كفاية الرضا (و لكن اللازم وجود الكاشف له).

هذا، و قد ادعي سيدنا الاستاذ الخوئي (قدس سره) عكس ذلك، و أنّه لا خلاف بين الأصحاب في عدم كفاية الخروج عن الفضولي بمجرّد الرضا. «1»

و الانصاف أنّهم لم يتعرضوا للمسألة، و إنّما وقع الكلام فيه بين المتأخرين و المعاصرين من الأصحاب.

و قبل الورود فيه، لا بدّ من ذكر مقدّمة و هي: أنّ البحث هنا إنّما هو في مقام الثبوت، أي علي فرض وجود الرضا في الباطن؛ و أمّا انكشاف الرضا بما ذا، فهو أمر آخر. و يمكن ان يكون الكاشف جملة خبرية، بان يقول في مقام الإخبار: قد كنت راضيا بذاك العقد؛ أو لم يخبر أحدا بذلك و أراد ان يعلم تكليفه بينه و بين الله مثلا بالنسبة إلي حرمة امها عليه. أو علم ذلك من قرائن الأحوال من دون أن يكون هناك إنشاء لفظي أو عملي؛ و لو كان ثبوت الرضا بانشاء لفظي أو عملي خرج عن محل الكلام. فان الكلام فيما إذا لم يكن هناك شي ء

إلّا الرضا الباطني في مقام الواقع.

______________________________

(1). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 326.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 369

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ عمدة الدليل علي عدم كفاية مجرّد الرضا الباطني، مضافا إلي ما مرّ من ضعف أدلة القائل بكفايته، عدم صدق العقد بمجرّد الرضا؛ فانّه يحتاج إلي الإنشاء و بدونه- قولا أو فعلا- لا يصح. و لا يمكن قياسه علي اباحة التصرفات في الأموال، التي تحصل بمجرّد الرضا الفعلي بل الرضا التقديري؛ كما إذا دخل ابن الرجل داره و هو لا يعرفه لظلمة الليل و شبهها و قد يظنه أجنبيا لا يرضي بدخوله و لكن علي تقدير علمه ابنه أو صديقه يرضي بذلك، فانّه قياس مع الفارق، لأنّ المعتبر في اباحة التصرف هو مجرّد طيب النفس و الرضا به، (و لا يحل مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفسه، بل بدونه يكون غصبا) و لكن المعتبر في العقود هو الاسناد، و هو لا يحصل إلّا بالإنشاء.

هذا مضافا إلي ما ورد في روايات سكوت البكر و سكوت الموالي بعد علمهم بعقد العبد علي نفسه، أنّه (السكوت) اقرار منها أو اقرار منهم؛ و لم يقل هذا دليل علي رضاها أو رضاهم، و الاقرار هو الامضاء.

*** بقي هنا شي ء:

و هو أنّه قد يستدل لعدم صحة الفضولي بمجرّد الرضا بل بالإنشاء الفعلي، بما ورد في أدلة القائلين ببطلان المعاطاة، من رواية خالد بن الحجاج، عن أبي عبد الله عليه السّلام أنّه: يحلل الكلام و يحرم الكلام؛ «1» فسبب الحلية و الحرمة لا يكون إلّا الإنشاء القولي.

و لكن الانصاف، أنّه اجنبي عن المقصود مطلقا. و مجمل الكلام فيه، أنّ سند الرواية ضعيف؛ فان الذي يروي عن خالد بن

الحجاج، هو يحيي بن الحجاج أو يحيي بن نجيح (علي اختلاف فيه)؛ و الأول و إن كان ثقة لتوثيق العلّامة و النجاشي له؛ و لكن لو كان هو يحيي بن نجيح، فانّه مجهول لم يذكر في الرجال.

و أمّا دلالته، فهو يحمل وجوها بحسب صدر الرواية و هو:

______________________________

(1). الوسائل 12/ 376، الحديث 4، الباب 8 من أبواب احكام العقود.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 370

قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الرجل يجي ء فيقول اشتر هذا الثوب و اربحك كذا و كذا، قال عليه السّلام: أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟ قلت: بلي، قال عليه السّلام: لا بأس به، إنّما يحلل الكلام و يحرم الكلام.

وجوهها علي ما أفاده في الجواهر و المكاسب، أربعة:

1- حصر المحلل و المحرم في الكلام، فيكون دليلا علي بطلان المعاطاة كما هو دليل علي عدم جواز الإنشاء الفعلي أو مجرّد الرضا الباطني في الفضولي أيضا.

2- كون كلام واحد في بعض المقامات محللا، و في بعضها محرما، كإنشاء البيع قبل تملك شي ء و إنشائه بعد تملكه.

3- كون بعض الكلمات محللا و بعضها محرما، كعقد النكاح بلفظ النكاح و بلفظ البيع.

4- كون المقاولة قبل تملك شي ء محللا، و ايجاب البيع محرما.

و من الواضح أنّ المعني الأول لا يناسب شأن ورود الرواية، فانّها وردت في من يقاول علي الشي ء قبل أن يتملكه، أو يبيع قبل أن يتملكه؛ و اين هذا من بحث المعاطاة و لزوم اللفظ في مقام الإنشاء.

و يرد علي الثاني، أنّه أيضا أجنبي عن مورد السؤال، لأنّ إنشاء البيع قبل التملك لا يكون محرما بل لا يوجب تحليلا؛ و الفرق بينهما واضح.

و كذلك الثالث، لا دخل له بمورد السؤال.

يبقي الرابع،

و معناه كون المقاولة بدون إنشاء البيع قبل تملك المتاع، سببا لتحليل هذه المعاملة و كون الإنشاء سببا لحرمتها.

و هذا المعني أيضا لا يخلو عن مسامحة، فانّ المقاولة ليست سببا للحلية، بل السبب إنشاء البيع بعده؛ و هناك احتمال خامس و سادس يتقاربان.

5- أنّ المراد من الكلام، هو الصيغة و الإنشاء فالذي يوجب حلية المتاع للمشتري و حرمته علي البائع، و حلية الثمن للبائع، و حرمته علي المشتري، هو إنشاء البيع دون المقاولة فالكلام هنا كناية عن الإنشاء، لكن لما كان كثيرا باللفظ ذكر الكلام بدلا عن الإنشاء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 371

6- إن الذي يوجب الحلية في مقام (كما في النكاح)، و يوجب الحرمة في مقام آخر (كالطلاق)، هو الانشاء فقط لا المقاولة؛ و هنا أيضا يكون الكلام كناية عن الانشاء. و علي كل حال لا يكون الحديث ناظرا إلي اعتبار الكلام في مقام الإنشاء بل في مقام اعتبار نفس الانشاء.

سلمنا، لكن يعارضها الروايات الكثيرة الواردة في سكوت البكر و سكوت الموالي عند علمهم بنكاح العبد بدون اذنهم؛ و من الواضح أنّ الترجيح لها.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 372

[المسألة 20: لا يعتبر في وقوع العقد فضوليّا، قصد الفضوليّة]

اشارة

المسألة 20: لا يعتبر في وقوع العقد فضوليّا، قصد الفضوليّة و لا الالتفات إليها، بل المدار في الفضوليّة و عدمها هو كون العقد بحسب الواقع صادرا عن غير من هو مالك للعقد، و إن تخيل خلافه، فلو تخيل كونه وليا أو وكيلا و اوقع العقد فتبين خلافه، كان من الفضولي و يصح بالاجازة؛ كما أنّه اعتقد أنّه ليس بوكيل و لا ولي فاوقع العقد بعنوان الفضوليّة فتبين خلافه، صح العقد و لزم بلا توقف علي الاجازة مع فرض مراعاة المصلحة.

لا يعتبر في الفضولي قصد الفضولية

أقول: هذه المسألة من المسائل الفرعيّة التي لم يبحث عنها إلّا المتأخرون و جماعة من المعاصرين، و قد وافقوا عليها. و حاصلها انّ المدار في كون العقد اصيلا أو فضوليا هو الواقع؛ فان كان صادرا عن مالك العقد أو وكيله أو وليّه، كان أصيلا سواء علم به أو لم يعلم، و سواء قصده عند الإنشاء أو لم يقصده، و إن كان صادرا من غير أهله، كان فضوليا كذلك أي علم به أو لم يعلم، و قصده أو لم يقصده.

قال النراقي (قدس سره) في المستند: هل يشترط في صحة الفضولي قصد كونه فضوليا أو عدم قصد كونه بالاختيار، أم لا؟- ثم ذكر ظهور الفائدة في موارد ظن الفضولي كونه وليا- ثم قال: الظاهر، الأخير لإطلاقات أخبار الفضولي. «1»

و قال سيدنا الاستاذ الحكيم (قدس سره) في ذيل المسألة 24 من مسائل أولياء العقد، في العروة: هذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه؛ و في الجواهر: القطع به لإطلاق الأدلة. (انتهي).

و قد يقتضيه صحيحة محمد بن قيس الواردة في بيع ولد المالك جارية أبيه بغير اذنه، بناء علي كون البيع لاعتقاد كونه وليا علي البيع كأبيه. «2»

و قريب منه

غيره.

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 179.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 503.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 373

و الاولي أن يقال، أساس البحث هنا أنّ الاصالة و الفضوليّة، ليس من عناوين القصد، بل هو أمر واقعي يدور مدار صدور العقد عن مالكه و عدمه؛ و كذلك لم يؤخذ في موضوعها العلم و الجهل؛ فالوكيل الواقعي عقده نافذ، علم أم لم يعلم، و قصد الوكالة أم لم يقصد؛ و لذا قلنا في محله، أن قول الوكيل في عقد النكاح: زوجت نفس موكلتي الخ؛ مجرّد احتياط و ليس بواجب؛ فلو قال: زوجت هذه المرأة هذا الرجل؛ و كان وكيلا في الواقع عنها أو عنه كفي، حتي و إن نسي الوكالة أو جهل بها.

و كذلك الأصالة، أمر واقعي ينشأ من كون الإنشاء صادرا عن مالك العقد، و لا يعتبر فيه العلم أو القصد.

فعمدة الدليل علي المقصود هو ما ذكرناه.

و يمكن بيان ذلك بتعبير آخر، و هو أنّ عمومات أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (في ناحية عقد الأصيل)، و عمومات صحة الفضولي (في ناحية عقد الفضولي)، و كذا الاطلاقات، دليل علي المطلوب لعدم اعتبار العلم أو القصد فيها، و علي مدعيه الإثبات، و لا دليل عليه.

و أمّا دلالة صحيحة محمد بن قيس (1/ 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء) عليه،- كنصّ خاص في المسألة- بعيد جدّا، لأنّ عدم صحة بيع غير المالك واضح علي كل أحد؛ و الظاهر أنّ بيع الابن كان كبيع الغاصب العالم بالغصب؛ و لا أقل من الشك في دلالته.

نعم، هنا إشكال قد يبدو إلي الذهن في مورد الجهل بالأصالة؛ و حاصله أنّ العاقد إذا تخيّل أنّه فضولي و ليس أصيلا، قد يقنع

بمطالعة يسيرة، نظرا إلي أنّ المجال لمالك العقد واسع للنظر في أمر العقد؛ و لو علم أنّه نفسه مالك العقد، لم يقدم علي العقد إلّا بعد النظر العميق و الاستشارة و غير ذلك؛ فكيف يمكن أن يقال بانّ عقده صحيح.

إن قلت: إن كان وكيلا، لا يصح عقده من ناحية فقد المصلحة؛ و هذا أمر آخر.

قلنا: أولا، قد يكون وكيلا تام الاختيار. و ثانيا، قد يكون مالكا واقعا و لا يعلم به.

فالانصاف، أنّ صحة العقد في هذه الصورة مشكل جدّا. و الله العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 374

[المسألة 21: إنّ زوج صغيران فضولا، فإن أجاز وليهما قبل بلوغهما]

اشارة

المسألة 21: إنّ زوج صغيران فضولا، فان أجاز وليهما قبل بلوغهما أو أجازا بعد بلوغهما أو بالاختلاف بأن أجاز ولي أحدهما قبل بلوغه و أجاز الآخر بعد بلوغه، تثبت الزوجية و يترتب جميع أحكامها؛ و إن ردّ وليهما قبل بلوغهما أو ردّ ولي أحدهما قبل بلوغه أو ردّا بعد بلوغهما أو ردّ أحدهما بعد بلوغه أو ماتا أو مات أحدهما قبل الاجازة، بطل العقد من أصله بحيث لم يترتب عليه أثر أصلا من توارث و غيره من سائر الآثار؛ نعم، لو بلغ أحدهما و أجاز ثم مات قبل بلوغ الاخر و إجازته، يعزل من تركته مقدار ما يرث الآخر علي تقدير الزوجية؛ فان بلغ و أجاز، يدفع إليه لكن بعد ما حلف علي أنّه لم تكن إجازته للطمع في الارث؛ و إن لم يجز أو أجاز و لم يحلف علي ذلك، لم يدفع إليه بل يرد إلي الورثة؛ و الظاهر أنّ الحاجة إلي الحلف إنّما هو فيما إذا كان متّهما بأن أجازته لأجل الارث، و أمّا مع عدمه كما إذا أجاز مع الجهل بموت الآخر أو

كان الباقي هو الزوج و كان المهر اللازم عليه علي تقدير الزوجية أزيد ممّا يرث، يدفع إليه بدون الحلف.

إذا زوّج الصغيران فضولا

أقول: هذه المسألة و المسألتان الآتيتان، تبحث عن موضع واحد، و هو مسألة تزويج الصغيرين مع بلوغ أحدهما و أجازته، ثم أجازه الآخر بعد موت الأول. و في مسألة تزويج الصغيرين صور صحيحة، و صور باطلة و صور باطلة و صورة واحدة مشروطة بالحلف.

الصور الصحيحة للمسألة

أمّا الصور الصحيحة التي تترتب عليها جميع آثار الزوجية من الارث و غيره، فهي ثلاثة:

1- إذا اجاز وليهما قبل بلوغهما.

2- إذا اجازا انفسهما بعد بلوغهما.

3- إذا أجاز أحدهما قبل البلوغ، و الآخر بعده، (إمّا الزوج أو الزوجة).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 375

و هذه الأحكام ممّا لا كلام فيه فيما إذا كان تزويج الصغير و الصغيرة واجدا للمصلحة، و لكن قد أشرنا إلي فقدان المصلحة في أعصارنا غالبا إلّا في موارد نادرة.

أمّا الصور الباطلة:

1- إن ردّ وليهما قبل البلوغ.

2- إن ردّ ولي احدهما قبل البلوغ، (فان النتيجة تابعة للأخسّ).

3- إن ردّا بعد بلوغهما.

4- إن ردّ أحدهما بعد بلوغه.

5- إن ماتا أو مات أحدهما قبل الاجازة.

ففي جميع هذه الصور، يكون النكاح باطلا. و الدليل عليه واضح، و هو عدم لحوق الاجازة من الجانبين أو من أحدهما و لا من وليّهما.

الصور المشروطة

و أمّا الصورة المشروطة (أو الصورة التاسعة)، فهي ما إذا بلغ أحدهما فأجاز ثم مات قبل بلوغ الآخر، فان المشهور انه يعزل من تركة الميت بمقدار ارث الباقي، (فان كان هو الزوج كان نصفا، و إن كانت الزوجة كان ربعا)، ثم ينتظر حتي يبلغ، فان بلغ فاجاز العقد الفضولي، يدفع إليه ارثه و لكنه مشروط بأن يحلف علي أنّه لم تكن أجازته طمعا في مال الارث، و إلّا لا يدفع إليه.

و قد صرّح الماتن و غيره (قدس أسرارهم) بأن الحلف إنّما هو فيما إذا كانت الاجازة، مظنّة للاتهام بالطمع في الارث؛ أمّا إذا لم يكن كذلك، بأن لم يعلم حين الاجازة بموت الآخر؛ أو كان المهر أكثر من مال الارث في صورة حيات الزوج؛ أو شبه ذلك، فلا يجب الحلف.

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛ أنّه وقع في هذه المسالة بحوث مستوفاة في كلمات الأصحاب، مع فروع كثيرة؛ منهم الشهيد الثاني، في المسالك، في المجلد الأول من

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 376

المكاسب، في المسألة الثامنة من مسائل أولياء العقد؛ «1» و تبعه صاحب الجواهر (قدّس سرهما) في المسالة الثامنة؛ «2» و لم نر نقل الخلاف عن أحد في كلامهما. و هو يشهد بان المسألة ممّا لا خلاف فيها. و قد صرّح سيدنا الاستاذ الحكيم (قدس سره)، ذيل المسألة 29

من مسائل أولياء العقد، في العروة، بذلك بقوله: بلا خلاف ظاهر. «3»

و كيف كان تارة نبحث عن مقتضي القاعدة، و اخري عن النص الخاص الوارد في المسألة.

مقتضي القاعدة

أمّا مقتضي القاعدة، فلا يبعد بطلانه؛ فانّ المعاقدة إنّما تتصور بين الأحياء، لا بين حيّ و ميّت، سواء كان عقد البيع أو الزواج. و من الواضح أنّ روح العقد هي الاجازة، و إنشاء الفضولي جسد بلا روح. و جدير بالذكر أنّ هذا الحكم لو ثبت، كان من الأحكام النادرة في الشريعة، غير معروفة عند العقلاء من أهل العرف، في أبواب الفضولي؛ فان اللازم عندهم كون الطرف الأصيل باقيا علي أوصافه المعتبرة إلي آخر العقد و لحوق الاجازة من الجانب الآخر؛ فلو جنّ الأول أو مات أو شبه ذلك، خرج العقد عن قابلية اجازة الآخر.

و هذا نظير ما ذكروه في العقد الصادر من الاصيل، و أنّ من الواجب بقاء الموجب علي صفاته المعتبرة إلي أن يلحقه القبول من القابل. و قد صرح المحقق الثاني (قدس سره) في بعض كلماته أنّ بقاء أهلية المتعاقدين إلي آخر العقد من القضايا التي قياساتها معها.

(انتهي). «4»

و الظاهر أنّ مراده عدم صدق المعاقدة و المعاهدة بينهما بدون ذلك، و هو كذلك؛ فلا يمكن العقد بين الحيّ و الميت، و العاقل و المجنون؛ و الظّاهر أنّه لا فرق في ذلك بين

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 175.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 216.

(3). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 510.

(4). راجع أنوار الفقاهة، كتاب البيع/ 154.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 377

اجازة الفضولي و عقد الأصيل، فانّ قوام العقد بالاجازة.

و قد تنبه لذلك إجمالا المحقق النراقي، في المستند، و قال: الأصل

عدم ترتب الأثر علي الاجازة بعد موت أحد الطرفين، فانّ جريان أدلة صحة الفضولي إلي مثل المقام غير معلوم … لعدم قبول المحل حين الاجازة للزوجية، و عدم تحقق الزوجية قبل الاجازة، ثم قال: إلّا أنّه ثبت بالنص الصحيح و غيره تأثير اجازة الحي الحاصلة بعد موت الأخير. «1»

بل نقول لا نحتاج إلي الأصل، بل بناء العقلاء في أبواب العقود شاهد عليه، و الشارع أمضاه.

اللّهم إلّا أن يقوم دليل قوي معتبر سندا و متنا علي ذلك و كان معمولا به بين الأصحاب، فنقول بهذا الحكم تعبدا. فاللازم ذكر الصحيحة ثم التكلم في سندها و متنها، و فتاوي الأصحاب الموافقة لها، فانه يظهر من كثير من القدماء و المتأخرين، العمل بها.

و هي صحيحة أبي عبيدة الحذّاء، قال: سالت أبا جعفر عليه السّلام عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما و هما غير مدركين؟ فقال: النكاح جائز، و أيّهما أدرك كان له الخيار؛ و إن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما و لا مهر … قلت: فان كان الرجل الذي ادرك قبل الجارية و رضي بالنكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية، أ ترثه؟ قال: نعم، يعزل ميراثها منه حتي تدرك فتحلف بالله، ما دعاها إلي أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج، ثم يدفع إليها الميراث و نصف المهر. قلت: فان ماتت الجارية و لم تكن أدركت، أ يرثها الزوج المدرك؟

قال: لا، لأنّ لها الخيار إذا أدركت؛ قلت: فان كان أبوها هو الذي زوجها قبل أن تدرك؛ قال:

يجوز عليها تزويج الأب، و يجوز علي الغلام، و المهر علي الأب للجارية. «2»

هذا؛ و في الصحيحة في بدو النظر إشكالات:

1- قد وقع التصريح في صدرها بان التزويج كان من

قبل وليين لهما، فالمفروض عدم كون العقد فضوليّا؛ و لكن يمكن الجواب عنه بأنّ المراد وليّان عرفيان كالعم و الأخ بقرينة قول الراوي في ذيلها: فان كان أبوها هو الذي زوجها … الخ.

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 191.

(2). الوسائل 17/ 527، الحديث 1، الباب 11 من أبواب ميراث الازواج.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 378

2- حكمه بتنصيف المهر بسبب الموت، مع أنّ الحق عدم التنصيف إلّا في الطلاق بمقتضي قوله تعالي: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ …؛ «1» و غيره ممّا يدل عليه من روايات الباب، و لم يقم دليل معتبر علي التنصيف بالموت.

و أجاب عنه في الجواهر، «2» تارة بأن سقوطها عن الحجية بالنسبة إلي هذا الحكم، لا يمنع عن حجيتها فيما نحن فيه؛ و اخري، بأنه يمكن أن يكون النصف الآخر مدفوعا سابقا؛ انتهي.

و الوجه الأخير تكلّف بعيد جدا؛ و الوجه الأول لا يوافق ما اخترناه في حجيّة الأخبار.

3- طلب اليمين من المجيز مع أنّ القاعدة- كما ذكره في الجواهر، في باب الارث- تقتضي عدمها منه، لأنّه مصدق فيما لا يعلم إلّا من قبله، بل لعل المتجه ترتب الحكم و لو كان الذي دعاه إلي الرضا، الرغبة في الميراث، ضرورة تحقق الرضا، و إن كان دعاه إليه الطمع. 3

قلت: كثيرا ما يرغب الناس في الزواج مع أرباب الثروة طمعا في أموالهم حيّا ميتا، أو تدعوهم إليه أغراض آخر مثل المحرميّة للمحارم من الجانبين و غيرها، و ليس هذا سببا لفساد العقد أو عدم كونه صادرا عن جدّ.

و قد اعترف صاحب المسالك فيما حكاه عنه في الجواهر، بأنّ بعض أحكامه مخالف

للقاعدة.

من هنا و ممّا ذكرناه في البحث السابق يعلم، أنّ العمل بالحديث مشكل جدا؛ و لا يمكن إثباته بمثل الخبر الواحد، و إن كان التعبد أمرا ممكنا و لكن لا بمثل هذا الدليل. إلّا أن يقال إن الأصحاب قديما و حديثا عملوا بهذه الصحيحة؛ منهم:

______________________________

(1). البقرة/ 237.

(2). (2 و 3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 39/ 204. و قد تعرّض قدس سره لهذه المسألة مع فروعها في موضعين: في النكاح، 29/ 219؛ و في الارث، كما عرفت.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 379

الشيخ، في النهاية. «1»

و ابن حمزة، في الوسيلة. «2»

و ابن سعيد، في الجامع. «3»

و العلّامة، في التبصرة و القواعد. «4»

و الشهيد، في الدروس. «5»

الي غير ذلك من الأكابر، قدس الله اسرارهم.

و لكن مع ذلك، في النفس من هذه المسألة شي ء ينبغي أنّ يحطاط فيها بالمصالحة مع سائر الوراث. هذا، مع أنّ الرواية في خصوص موت الزوج، و التعميم مشكل.

*** بقي هنا امور:

اشارة

قد أشار إليها الشهيد الثاني في المسالك، نذكرها مع اختلاف في الترتيب:

1- لو انتفت التهمة … فهل يتوقف علي اليمين؟

لو انتفت التهمة بالطمع في الميراث بأن كان جاهلا عن موت الآخر، أو كان ما يلزمه من المهر بمقدار ما يرثه أو أكثر، أو شبه ذلك، فهل يتوقف علي اليمين؟

توقف فيه الشهيد الثاني (قدس سره) أولا، ثم اختار في آخر كلامه العموم، و بناه علي أن علل الشرع من قبيل الحكمة، لا العلّة؛ و لكن الانصاف انصراف الاطلاق عن هذه الصور، بل يكون الحلف فيها كاللغو، لأنّ المفروض أنّه من قبيل توضيح الواضح؛ و التعبد بحلف يكون كاللغو، بعيد جدا. و لا أقل من أنّه خارج عن منصرف النصّ، فلا دخل لمسألة

______________________________

(1). سلسلة الينابيع الفقهية 18/ 106.

(2). سلسلة الينابيع 18/ 299.

(3). سلسلة الينابيع 19/ 558.

(4). سلسلة الينابيع 38/ 420 و 19/ 591.

(5). سلسلة الينابيع 34/ 207.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 380

العلة و الحكمة، بما نحن فيه.

2- ان تأخر الحلف لعارض فهل يرث من الاخر؟

إن تأخر الحلف، لعارض من موت أو جنون أو غيره، فهل يرث من الآخر؟ فالظاهر أنّه لا يرث، لعدم حصول الشرط؛ و دعوي كمال العقد يرده النص. نعم، لو كان المانع ممّا يرجي زواله، يترقب إلي حصول الشرط و هو الحلف.

3- لو أجاز و لكن لم يحلف، فهل يلزمه المهر المسمّي في العقد أم لا؟

ذكر في المسالك فيه وجهين: من أنّ المهر فرع ثبوت النكاح المتوقف علي اليمين، و المفروض عدمه. و من أنّه مع الاجازة كأنّه أقر بالمهر، و اقرار العقلاء علي أنفسهم جائز.

و لكن أخذ الميراث يتعلق بحق الغير، و لا يجوز عند التهمة بمجرّد الاقرار. «1» ثم اختار الوجه الثاني، أي ثبوت المهر.

قلت: لكن ظاهر الرواية خلافه، فان قوله: فتحلف بالله … ثم يدفع إليها الميراث و نصف المهر؛ يدل علي أن كليهما فرع الحلف.

و إن شئت قلت: هذه مناقشة اخري علي دلالة الرواية من حيث مخالفتها لقاعدة الاقرار.

4- حكم المسألة لو كانا كبيرين

النصّ ورد في تزويج الصغيرين، فلو كانا كبيرين و لكن زوجهما الفضولي فبلغ الخبر إليهما فاجاز أحدهما ثم مات بعد برهة، ثم أجاز الآخر؛ ففي جريان الحكم إليهما نظر؛ قال في المسالك: فيه وجهان: من تساويهما في كون العقد بينهما عقد فضولي … و من أنّ في بعض أحكامه ما هو خلاف الأصل، فيقتصر علي مورده، و هذا أقوي. «2»

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 180.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 181.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 381

و لازم كلامه، فساد العقد و لو أجاز الآخر بعد موت الأول، كما صرّح به في ذيل كلامه.

و هذا اعتراف صريح منه (قدس سره) علي كون الحكم مخالفا للقواعد المعروفة في الفقه؛ و أنّ مضمون الحديث تعبد خاص.

5- لو كان احد الطرفين فضوليا

لو كان العاقد في أحد الطرفين وليّا و الآخر فضوليا، فمات من عقد له الولي قبل بلوغه، ثم بلغ الآخر فاجاز، فهل تجري فيه الأحكام المذكورة؟ قال في المسالك ما حاصله: أنّ الأقوي ثبوت الحكم فيه أيضا بطريق أولي، لأنّ الجائز من الطرفين أضعف حكما من اللازم من أحدهما، فليس هذا من القياس الممنوع.

أقول: لمّا كان الحكم علي خلاف القاعدة و لا ندري ما هو الملاك في الضعف و القوه هنا، فلا يمكن الركون إلي ما ذكره؛ فاللازم الحكم بالفساد هنا أيضا.

6- لو كانا بالغين و زوج احدهما الفضولي

لو كانا بالغين لكن زوج احدهما الفضولي، و الآخر كان أصيلا، أو كان أحدهما بالغا و الآخر صغيرا، فأوقع له الوليّ؛ ففي جريان الحكم فيه وجهان، ذكرهما في المسالك: من خروجه عن مورد النص؛ و من ثبوت الحكم فيه بطريق أولي؛ (انتهي ملخصا). و لكن الإشكال فيه ظاهر كما ذكرنا. في سابقه، و في الواقع هذا كلّه مشاكل تنشأ عن الحكم المذكور المخالف للقاعدة، و اللّه العالم.

و ممّا ذكرنا. في هذه الفروع يظهر حال بعض الفروع الآتية في التحرير.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 382

[المسألة 22: كما يترتب الإرث علي تقدير الإجازة و الحلف، يترتب الآثار الأخري]

اشارة

المسألة 22: كما يترتب الارث علي تقدير الاجازة و الحلف، يترتب الآثار الاخري المترتبة علي الزوجية أيضا، من المهر، و حرمة الامّ و البنت، و حرمتها علي أب الزوج و ابنه إن كانت الزوجة هي الباقية، و غير ذلك. فيترتب جميع الآثار علي الحلف في الظاهر علي الأقوي.

ترتب سائر الآثار علي تقدير الاجازة و الحلف

أقول: قلّ من تعرض لهذه المسألة إلّا المتأخرون، و هو ترتب سائر آثار الزوجية.

و لكن يظهر من كلمات غير واحد من المعاصرين، و صرّح به في العروة أيضا، و لم يخالفه أحد المحشين بل صرّح سيدنا الاستاذ، في المستمسك، بقوله: هذا ممّا لا إشكال فيه، لكونه ظاهر الصحيحة المتضمنة لثبوت الزوجية. «1»

بل صرّح في العروة، في المسالة 30، بان الظاهر ترتب هذه الآثار بمجرّد الاجازة من غير حاجة إلي الحلف، فلو أجاز و لم يحلف مع كونه متّهما، لا يرث؛ و لكن يترتب سائر الأحكام (انتهي).

و في اصل المسالة و هذه الأحكام، مواقع للنظر:

أولا: ان جريان هذه الأحكام مبني علي كون المسالة موافقة للقواعد، و لكن قد عرفت أن خروج أحد الطرفين عن قابلية كونه طرفا للعقد بالموت أو الجنون و غيرهما، يجعل الايجاب لغوا لا أثر له في عرف العقلاء؛ فلا يشمله أدلة وجوب الوفاء بالعقد، و لا فرق في ذلك بين القول بالكشف علي أنواعه من الحقيقي و الحكمي و الانقلابي و النقل، فانّ إمكان الكشف شي ء، و كونه موافقا لعرف العقلاء داخلا في اطلاقات الأدلة، شي ء آخر.

و حينئذ يمكن أنّ نقول أن الحكم بالارث (علي القول به) تعبد محض، لا يترتب عليه سائر الآثار؛ اللّهم إلّا أن يقال إن ظاهر الصحيحة أعني قوله: ما دعاها إلي أخذ الميراث إلّا

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك

العروة 14/ 512.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 383

رضاها بالتزويج؛ دليل علي حصول الزوجية بالاجازة و ثبوتها بالحلف، فحينئذ تترتب عليه جميع آثارها، فتأمل.

ثانيا: أنّ ما ذكره في العروة، و وافقه جماعة من المحشين، من كفاية الاجازة بدون الحلف في هذه الامور، مشكل جدّا. لأنّ ظاهر الصحيحة كون الحلف شرطا لتحقق الزوجية، و لو في الظاهر؛ فلا يترتب عليه أثر من الآثار. مضافا إلي ما عرفت من أنّ هذا إنّما يتم علي القول بموافقة الحكم للقواعد، و قد عرفت فساده.

ثالثا: ان ذكر بنت الزوجة، مخدوش من جهتين: أوّلا، أنّ المفروض موت الزوجة قبل بلوغ الآخر و اجازته، فكيف يكون لها ولد. و ثانيا، من شرائط حرمة البنت- أي الربيبة- هو الدخول بالام، و هو هنا غير حاصل.

هذا؛ و يمكن الجواب علي الأول، بأنّه يتصور فيما إذا كانا بالغين و كان العقد فضوليا من الجانبين، و كان للزوجة بنت من زوج آخر قبله.

و لكن الإشكال الثاني باق بحاله؛ و لذا قال المحقق الخوئي، أن ذكر البنت من سهو القلم جزما؛ و يمكن فرض الدخول إذا كان من باب وطي الشبهة، و كان المورد من قبيل الكبيرين، و قلنا بالكشف، فان العقد علي هذا المبني كان صحيحا عند الوطي المزبور، فالدخول بالام حاصل.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 384

[المسألة 23: الظاهر جريان هذا الحكم في كلّ مورد مات من لزم العقد من طرفه]

اشارة

المسألة 23: الظاهر جريان هذا الحكم في كلّ مورد مات من لزم العقد من طرفه، و بقي من يتوقف زوجيته علي اجازته، كما إذا زوّج أحد الصغيرين الولي، و زوّج الآخر الفضولي، فمات الأول قبل بلوغ الثاني و أجازته؛ بل لا يبعد جريان الحكم فيما لو كانا كبيرين فأجاز أحدهما و مات قبل موت الثاني و

أجازته، لكنّ الحلف مبني علي الاحتياط، كالحلف في بعض الصور الآخر.

إذا مات من لزمه العقد من طرفه

أقول: هذه المسألة تبحث عن مسألتين من المسائل السابقة؛ إحداهما، ما إذا كان العقد من جانب أحد الصغيرين أصيلا، و من الجانب الآخر فضوليّا. و الثانية، ما إذا كان كلاهما كبيرين و كان عقدهما فضوليّا. و قد حررنا البحث فيهما، و أنّ التعدي عن مورد الصحيحة إلي غيره مشكل جدّا. لأنّ الحكم- لو قلنا به- مخالف للقاعدة، لا نقول به إلّا في مورد النص.

و أمّا قوله (قدس سره) في المتن: لكنّ الحلف مبني علي الاحتياط؛ موقوف علي كون الحكم موافقا للقاعدة، و كون الحلف من باب التعبد، فينعكس الأمر و يقتصر في الحلف علي مورد الرواية، و هو عقد الصغيرين بواسطة الفضوليين.

*** بقي هنا شي ء: هل تترتب عدة الوفاة علي الزوجة لو كانت هي الباقية؟

كما إذا بلغ الزوج و أجاز في أول شهر رمضان. ثم مات؛ و بلغت الزوجة في أول شهر شوال و أجازت؛ فهل عليها عدة الوفاة أم لا؟ و علي تقدير الوجوب، فهل مبدء العدة أول شهر شوال، أو أول رمضان؟

الظاهر، أنّه علي القول بكون الحكم موافقا للقاعدة، تترتب عليه جميع الآثار؛ و منها العدّة. فعلي القول بالنقل، مبدئها أول شهر شوال؛ و علي القول بالكشف، أول شهر رمضان.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 385

بل الظاهر أنّه علي القول بكونه مخالفا للقاعدة أيضا، يكون الحكم كذلك؛ لأنّ ظاهر الحديث كون الارث بسبب تحقق الزوجية، و إذا تحققت ترتب عليها جميع آثارها و منها عدة الوفاة، و هي غير متوقفة علي الدخول.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 386

[المسألة 24: إذا كان العقد فضوليّا من أحد الطرفين، كان لازما من طرف الأصيل]

اشارة

المسألة 24: إذا كان العقد فضوليّا من أحد الطرفين، كان لازما من طرف الأصيل؛ فلو كان هي الزوجة، ليس لها أنّ تتزوج بالغير قبل أن يردّ الآخر العقد و يفسخه؛ و هل يثبت في حقه تحريم المصاهرة قبل اجازة الاخر و ردّه؛ فلو كان زوجا حرم عليه نكاح أمّ المرأة و بنتها و اختها و الخامسة إن كانت هي الرابعة؟ الأحوط ذلك و إن كان الاقوي خلافه.

إذا كان العقد فضوليا من أحد الطرفين فقط

أقول: عصارة الكلام في المسألة، أنّ إنشاء الأصل يؤثر آثاره بالنسبة إليه، أو هو كالعدم ما لم تلحقه الاجازة من الطرف الآخر؟

في المسألة قولان، بل ثلاثة أقوال:

اشارة

الأول: هو ترتب جميع آثار إنشاء العقد بالنسبة إلي الأصيل؛ و هو الذي اختاره في كشف اللثام، حيث قال: و لو تولي الفضولي أحد طرفي العقد، و باشر الآخر بنفسه أو وليه أو وكيله، ثبت في حق المباشر تحريم المصاهرة إلي أن يتبين عدم اجازة الآخر، لتمامية العقد بالنسبة إليه. فان كان زوجا حرم عليه الخامسة و الاخت بلا إشكال؛ «1» حتي أنّه قال في آخر كلامه: إما إذا فسخت، فلا حرمة بلا إشكال في البنت و علي إشكال في الامّ؛ انتهي. «2»

و اختاره أيضا المحقق الثاني، في جامع المقاصد، و قال: أنّ العقد لازم بالنسبة إلي المباشر. «3»

و استظهر ذلك من كلمات شيخنا الأعظم، في المكاسب، كما اختاره من المعاصرين، «1» و 2). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 107، (2/ 23 ط. ق).

______________________________

(3). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 159.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 387

المحقق السيد عبد الأعلي السبزواري، في مهذب الأحكام. «1»

الثاني: ما اختاره المحقق اليزدي، في العروة، في المسألة 32 من مبحث أولياء العقد؛ و هو عدم ترتب الآثار علي إنشاء الأصيل مطلقا إلّا في فرض خاص؛ حيث قال في المسألة 32: هل يجري عليه (أي علي عقد الاصيل) آثار الزوجية و إن لم تجر علي الطرف الآخر، أو لا؟ قولان: اقواهما، الثاني، إلّا مع فرض العلم بحصول الاجازة بعد ذلك الكاشفة عن تحققها من حين العقد. نعم، الأحوط الأول، لكونه في معرض ذلك بمجي ء الاجازة؛ انتهي.

و قد أورد عليه بعض الشارحين، بأن الاستثناء إنّما يتمّ علي

الكشف الحقيقي، لا غيره من أنواع الكشف.

و اختار سيدنا الاستاذ العلّامة الخوئي، في مستند العروة، عدم ترتب الآثار مطلقا؛ و صرّح بأنه لو عقد الأصيل علي ما ينافي عقده الأول، كان فسخا له، حتي علي القول بالكشف الحقيقي؛ لأنّ القائلين بالكشف إنّما يقولون به مع بقاء الطرف الاولي علي التزامه، و أمّا مع رفع اليد عنه، فلم يعرف منهم قائل به. «2»

الثالث: ما يظهر من تحرير الوسيلة، حيث قال بترتب بعض الآثار مثل عدم التزويج لو كان الأصيل هي الزوجة، و عدم ترتب آثار المصاهرة لو كان هو الزوج!.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ اساس الكلام في المسالة هو أنّ كل عقد ينحلّ إلي التزامين، كل واحد منهما مستقل في التأثير، أو هما أمر وحداني، فان تمّ يكون له الأثر بالنسبة إليهما، و إلّا فلا أثر له؟ و الانصاف، أنّ الأساس لو كان ذلك، كان الحكم واضحا جدا؛ لأنّ العقد كما يظهر من معناه اللغوي و العرفي، شدّ شي ء بشي ء آخر. و في المقام، شدّ التزام بالتزام آخر. و هو الفرق بينه و بين الايقاع، و لا معني للمعاقدة بين الإنسان و نفسه، أو بينه و بين من لم يلتزم في مقابله بشي ء و لم يقبل التزامه.

و العجب من المحقق السبزواري حيث صرّح في المهذب، بان كل عقد ينحل في

______________________________

(1). المحقق السبزواري، في مهذب الاحكام 24/ 294.

(2). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 344.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 388

الواقع إلي شيئين: الأول، التزام كل واحد من الطرفين بما يلتزم به و من هذه الجهة يشبه الايقاع. الثاني، ربط هذه الالتزام بالتزام آخر، و هذا هو العقد؛ فانّ تحقق الالتزام الآخر يتمّ الالتزامان

و تترتب عليه الآثار من الطرفين، و إن لم يتحقق اصلا يبطل الالتزام الأول … و إن لم يعلم انه يتحقق أو لا، فالالتزام الأول باق بحاله صورة حتي يتبين الحال.

(انتهي).

و ما ذكره قدس سره من عجائب الكلام، و يرد عليه:

أولا، ان النكاح بمقتضي طبعه أمر مشترك بين اثنين، كالبيع لا معني لكونه شبيه الايقاع كالطلاق و شبهه؛ فان تمّ من الجانبين ترتب عليه آثاره، و إن لم يتم لم يترتب عليه شي ء أبدا. فللأصيل فعل ما يضادّه، ما لم تحصل الاجازة. و يكون فعل الضدّ (كالنكاح علي من لا يجتمع مع النكاح الأول) سببا لعدوله عن إنشائه الأول. حتي أن التعبير بالفسخ هنا غير صحيح، لعدم حصول عقد حتي ينفسخ، و الصحيح أن يقال إذا أتي بشي ء مضاد لإنشائه الأول، تنتفي صحّته التاهليّة، و من المعلوم أنّ عقد الفضولي لا أثر له ما لم ينضمّ إليه الاجازة. و الحاصل أنّ الالتزام الأول مشروط بالالتزام الثاني، فما لم يحصل، ليس بشي ء أصلا.

و ثانيا، أنّه لو كان الالتزام الأول لازما، لا بدّ من ترتيب جميع الآثار عليه، لا خصوص محرمات المصاهرة. فيجب عليه إن كان زوجا المهر أيضا. و لا أظنّ أحدا يلتزم بذلك، كما لا يلتزم بأداء الثمن إذا كان الأصيل هو المشتري لأنّه تمليك بازاء تمليك.

ثالثا، لا فرق فيما ذكرنا بين القول بالنقل أو الكشف حتي الكشف الحقيقي، (و هو كون الاجازة كاشفة عن وقوع العقد من قبل، و إن لم يعلم به، و لازمه عدم كون الاجازة دخيلة في صحة العقد و جزء للمؤثر) فانّ صحة الاجازة كشفا، فرع عدم وجود المنافي و عدم عدول الأول من التزامه، (كما عرفت في كلام المحقق

الخوئي، قدس سره). هذا مضافا إلي فساد هذا القول، أي الكشف الحقيقي، كما حققناه في محله. فانّ الاجازة من الأركان الأصلية للعقد، و قائم مقام الايجاب أو القبول، و كأنّ القائلين بالكشف الحقيقي (بمعني عدم تأثير الاجازة) يرون إنشاء الفضولي مؤثرا و إنشاء المالك الحقيقي غير مؤثر؛ و هذا

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 389

من عجائب المعاملات.

و الحاصل أنّه لا دليل علي وجوب التزام الأصيل بمقتضي آثار إنشائه، ما لم تنضم إليه الاجازة من مالك العقد، فله الرجوع عنه مهما أراد قولا، أو عملا بفعل ما ينافيه، كالعقد علي ما يحرم عليه علي فرض تمامية العقد الأول كالأم و الاخت و البنت؛ فالأقوي هو القول الثاني.

إن قلت: البنت لا تحرم عليه إلّا علي فرض الدخول بالام، و المفروض عدم تحققه هنا.

قلت: التحريم الأبدي يتوقف علي الدخول، و لكن الحرمة الحاصلة من الجمع موجودة علي كل حال، فلا يجوز الجمع بين نكاح الامّ و بنتها في عقد واحد أو عقدين، و إن لم يدخل باحداهما؛ كما لا يجوز الجمع بين الاختين.

بقي هنا امور:

الأول، أنّ القول الأول و إن خالف القواعد، و لكن يمكن الاستدلال أو الاستيناس له بصحيحة أبي عبيدة الحذّاء، حيث وقع التصريح فيه بأنّه يعزل الميراث حتي يدرك الآخر و يجيز العقد و يحلف أو يردّ؛ فهذا دليل علي وجوب العمل بمقتضي الالتزام الأول، حتي في مورد الميراث.

و لكن يرد عليه، أوّلا، قد عرفت مخالفة الحديث لمقتضي القواعد، و أنّه لو أفتينا علي وفقه فانما نقول في مورده، و لا نتعدي إلي غيره.

و ثانيا، أنّه أمر بمجرّد العزل من باب الاحتياط، لا بتمليك الزوجة للإرث، فلا يكون دليلا علي ترتب الآثار؛ اللّهم إلّا أن

يقال إنّ تحريم المحرمات بالمصاهرة أيضا من باب الاحتياط، و لكن ظاهر كلام القائلين بالقول الأول ترتب الآثار عليه واقعا، لا من باب الاحتياط.

الثاني، أنّ القول الثالث، أي التفصيل بين أحكام الزوجة و الزوج في المقام، مما

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 390

لا يساعده أي دليل، فانّه لو قيل بانحلال العقد إلي التزامين مستقلين، فاللازم القول به مطلقا سواء كان من ناحية الزوجة أو الزوج، و لا معني بأن يقال إن الانحلال من ناحية الزوجة ثابت و من ناحية الزوج غير ثابت.

و لو كان الدليل هو صحيحة الحذّاء، كان الأمر بالعكس، فانّه حكم فيها بعزل ميراث الزوج للزوجة، لا العكس. و علي كل حال لا نعرف وجها لهذا التفصيل، لعل الله يحدث بعد ذلك امرا.

نعم يحتمل كون قوله: كان لازما من طرف الأصيل؛ غلطا في العبارة، و الصحيح: هل كان لازما من طرف الأصيل؛ و يؤيده أنّه (قدس سره) وافق صاحب العروة في القول الثاني، حتي أنّه لم يقبل استثناء العروة كما يظهر بالمراجعة إلي تعليقاته علي العروة.

الثالث، لو قلنا بالقول الأول، فالي متي يصبر الأصيل لو أخّرت اجازة الفضولي؟

لا سيما إذا كان التأخير سببا لتضرره، كان يكون هناك من يخطب الجارية و كان في التأخير آفات، أو كان للبائع الأصيل مشتر آخر يكون التاخير سببا لتضرره. الحق أنّه إنّما يجب عليه الصبر (علي القول به). ما لم يتضرر؛ و إلّا يجوز له الفسخ بمقتضي قاعدة نفي الضرر؛ و كذا إذا خرج عن المتعارف.

الرابع، الظاهر أنّه لا فرق في هذا الحكم بين انحصار الفضولي في أحد الطرفين، أو كان كلا الطرفين من قبيل الفضولي، و لكن أجاز أحدهما؛ فانّه يكون من قبيل الأصيل كما

هو ظاهر.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 391

[المسألة 25: و إن ردّ المعقود له أو المعقود لها، العقد الواقع فضولا]

اشارة

المسألة 25: و إن ردّ المعقود له أو المعقود لها، العقد الواقع فضولا، صار العقد كأنه لم يقع، سواء كان العقد فضوليّا من الطرفين و ردّاه معا، أو ردّه أحدهما؛ بل و لو أجاز أحدهما و ردّ الآخر، أو من طرف واحد و ردّ ذلك الطرف، فتحل المعقود لها علي أب المعقود له و ابنه، و تحلّ بنتها و امها علي المعقود له.

لو ردّ الفضولي بطل العقد

أقول: هذا الفرع من فروع المسألة السابقة، و جعله في العروة، المسألة 33 من مسائل أولياء العقد.

و حاصل الكلام فيه، أنّ ردّ الفضولي- سواء كان من الطرفين أو من طرف واحد- يجعل العقد كان لم يكن، فلا يترتب عليه شي ء؛ فلو قلنا في المسألة السابقة بوجوب التزام الأصيل بلوازم العقد حتي قبل اجازة الآخر، من محرمات المصاهرة و غيرها، فاذا ردّ الآخر، انتفي العقد و جميع آثاره.

و يدل علي هذا الحكم أنّه من القضايا التي قياساتها معها، فان ردّ العقد من الطرفين أو من طرف واحد يوجب انعدام العقد، فاذا انعدم انعدمت آثاره. و قد يستدل له بما مرّ في صدر حديث أبي عبيدة الحذاء، «1» حيث قال: أيّهما أدرك كان له الخيار …، و قوله: فان ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما و لا مهر …؛ بناء علي كون مفاد هاتين الجملتين نفي جميع الآثار؛ و لكن الانصاف أنّ دلالتها محل تأمل.

هذا؛ و لكن يظهر من بعض عبارات القواعد- علي ما حكي عنها- الإشكال في جواز نكاح أم المعقود عليها، و لو بعد الرد، و قد ذكر في توجيهه في كشف اللثام، بانّه مبني علي أنّ الفسخ كاشف عن الفساد من أول العقد، أو رافع من حين الفسخ؛ «2» فعلي

الثاني تكون أم الزوجة باقية علي وصفها فتحرم؛ و قد صرّح في الجواهر بأنّ احتمال حرمة الام هنا

______________________________

(1). الوسائل 17/ 527، الحديث 1، الباب 11 من أبواب ميراث الازواج.

(2). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 107، (2/ 23 ط. ق).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 392

لا يقتضيه أصل و لا قاعدة و لا فتوي، بل يمكن تحصيل الإجماع بل الضرورة بخلافه.

(انتهي). «1»

و ما ذكره حق لا ريب فيه، لأنّ الفسخ في المعاملات و إن كان من حينه علي ما هو التحقيق، و لكن الردّ في المقام ليس في قبيل الفسخ، بل من قبيل نفي جزء العلة التامة، أو نفي الكاشف؛ فلا وجود للمعلول مطلقا علي القول بالنقل و الكشف.

*** بقي هنا شي ء:

و هو أنّه قد يورد علي كلام القواعد، (احتمال بقاء حرمة أم المعقود عليها، حتي بعد رد النكاح من قبل الفضولي)، مضافا إلي ما عرفت، بالنقض بنكاح البنت. قال المحقق اليزدي (قدس سره) في العروة، في المسألة 33: أنّه لا فرق بينه (أي بين نكاح الام) و بين نكاح البنت.

و قد أجاب عن النقض سيدنا الاستاذ المحقق الخوئي (قدس سره)، بأنّ الموجب لحرمة البنت ينحصر في أحد الأمرين: الدخول بالام، أو الجمع بينهما في الزوجيّة، علي ما اختاره المشهور،- و إن لم نرتضه- و لا شي ء من هذين العنوانين متحقق في المقام؛ أمّا الدخول فهو منفي، و الجمع غير حاصل، (هذا ملخص كلامه). «2»

و هو حسن، و لكن العجب منه قدس سره من عدم ارتضائه بحرمة الجمع بين نكاح الام و البنت، فانّه بمجرّد الجمع يصح عقد البنت و يبطل عقد الام، لأنّها داخلة في قوله تعالي: … وَ أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ …، اللّهم إلّا أن

يقال نظره إلي صحة الجمع آنا ما، ثم بطلان عقد الام؛ و لعل صحة الجمع آنا ما أيضا خلاف ما هو مسلّم بين المسلمين. و الأحسن، النقض بمحرمات المصاهرة من ناحية الأب و الابن بالنسبة إلي المعقود لها، فتدبر جيدا.

***

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 218.

(2). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 349.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 393

[المسألة 26: إن زوّج الفضولي امرأة برجل من دون اطلاعها]

اشارة

المسألة 26: إن زوّج الفضولي امرأة برجل من دون اطلاعها، و تزوجت هي برجل آخر، صح الثاني و لزم و لم يبق محل لإجازة الأول؛ و كذا لو زوّج الفضولي رجلا بامرأة من دون اطلاعه و زوج هو بامها أو بنتها ثم علم.

تزويج الفضولي يبطل بتزويج الأصيل

أقول: هذه المسألة أيضا من فروع المسألة 34، و حاصله بتفصيل منّا، أنّ ردّ عقد الفضولي علي أقسام: تارة، يردّه لفظا؛ و اخري، عملا بفعل المنافي مع علمه بعقد الفضولي؛ فان معناه صرف النظر عن الفضولي. لأنّ فعل أحد الضدين مع العلم بالآخر، معناه عدم إرادة الآخر. و ثالثة، باعدام موضوعه، بأن أتي بالضد من دون اطلاعه علي عقد الفضولي؛ كالأمثلة التي ذكرها في متن التحرير. و كل ذلك سبب لنفي عقد الفضولي، و هو من القضايا التي قياساتها معها.

و لا فرق في ذلك بين القول بالكشف علي أقسامه، و القول بالنقل. أمّا في فرض النقل فواضح لعدم تمامية العقد السابق، فيصح العقد الثاني؛ و أمّا علي الكشف بأنواعه فقد عرفت أن الكشف إنّما يصح إذا لم يكن هناك ردّ أو ما يكون كالردّ من ابطال المحل فتأمل.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 394

[المسألة 27: لو زوّج فضوليان امرأة، كل منهما برجل، كانت بالخيار]

اشارة

المسألة 27: لو زوّج فضوليان امراة، كل منهما برجل، كانت بالخيار في اجازة ايّهما شاءت؛ و إن شاءت ردّتهما، سواء تقارن العقدان أو تقدم احدهما علي الآخر. و كذلك الحال فيما إذا زوّج أحد الفضوليين رجلا بامراة و الآخر بأمها أو بنتها أو اختها، فانّ له اجازة أيّهما شاء.

لو زوج فضوليان امرأة كل منهما برجل

أقول: المسألة من الواضحات بحسب القواعد و لذا قلّ من تعرض لها؛ و حاصلها أنّه إذا كان هناك عقدان فضوليان علي مورد واحد، أو علي موردين متضادين، كالعقد علي الام و البنت، فلا يجوز لمالك العقد اجازة كليهما لعدم قابلية المحل، فلا يكون زوجان لامرأة واحدة في زمن واحد؛ و كذا لا يجوز الجمع بين الام و البنت (و ما شابههما).

نعم، يجوز له اجازة أحدهما سواء كان هو المتقدّم أو المتأخر أو أحد المتقارنين؛ لان مجرد عقد الفضولي لا يكون مانعا لإجازة الآخر، بل صاحبه بالخيار بينهما، بل بين اجازة أحدهما أو ردّ الجميع.

و كذلك الحال إذا كان العقد أكثر من اثنين.

و يمكن الاستدلال له ببعض الاخبار الواردة في أبواب عقد النكاح، مثل ما رواه ابن بزيع، قال: سأله رجل عن رجل مات و ترك أخوين و ابنة و البنت صغيرة …

(و حاصلها أنّ كل واحد من الأخوين، عقد الصغيرة لابنه، ثم كبرت البنت و قيل لها أي الزوجين أحب إليك، الأول أو الآخر؟ قالت: الآخر). و لكن يظهر من ذيلها أنّ العقد الثاني لم يكن فضوليا، بل كان بعد بلوغها؛ فالرواية خارجة عن محل الكلام، فدلالتها قاصرة و إن كان سندها قويا. و الأمر سهل بعد وضوح الحكم.

(و إلي هنا تنتهي أحكام الفضولي في النكاح).

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 395

[المسألة 28: لو وكلت رجلين في تزويجها فزوجها كل منهما برجل]

اشارة

المسألة 28: لو وكلت رجلين في تزويجها فزوجها كل منهما برجل، فان سبق أحدهما، صحّ و لغي الآخر. و إن تقارنا، بطلا معا. و إن لم يعلم الحال؛ فانّ علم تاريخ أحدهما، حكم بصحته دون الآخر؛ و إن جهل تاريخهما، فان احتمل تقارنهما، حكم ببطلانها في حق كل من الزوجة و الزوجين؛

و إن علم عدم التقارن فيعلم إجمالا بصحة احد العقدين و تكون المرأة زوجة لأحد الرجلين، و أجنبية عن أحدهما، فليس للزوجة أن تتزوج بغيرهما، و لا للغير أن يتزوج بها لكونها ذات بعل قطعا.

و أمّا حالها بالنسبة إلي الزوجين، و حالهما بالنسبة إليها، فالاولي أن يطلّقاها و يجدد النكاح عليها أحدهما برضاها.

و إن تعاسرا و كان في التوقف إلي أن يظهر الحال عسر و حرج علي الزوجة، أو لا يرجي ظهور، فالمتجه تعيين الزوج منهما بالقرعة، فيحكم بزوجية من وقعت عليه.

لو زوج الوكيلان المرأة الموكلة برجلين

أقول: الكلام هنا في عقد الوكيلين، و لا ربط لها بمسألة الفضولي؛ و ليعلم أنّه في المسالة صورا خمسة لا بدّ من بيان حكم كل واحدة منها:

[صور المسألة]

1- حكم المسألة اذا كانا معلومي التاريخ

إذا كانا معلومي التاريخ، و كان أحدهما سابقا علي الآخر؛ كما إذا علم أنّ الوكيل الأول أوقع يوم الجمعة و الثاني يوم السبت؛ فالمشهور بين الأصحاب صحة الأول منهما. و به قال الشافعي و أبو حنيفة و أحمد و الحسن البصري و جماعة اخري منهم؛ (علي ما حكاه في التذكرة). «1»

و لكن عن بعض استثناء صورة واحدة، و هو ما لو دخل بها الثاني، فان المحكيّ عن

______________________________

(1). العلامة الحلي، في تذكرة الفقهاء 2/ 597 ط. ق.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 396

المبسوط أنّ فيه خلافا، فقد روي أصحابنا أنّه إن كان دخل بها الثاني، كان العقد له. «1»

و هو المحكي عن مالك و هو قول عمر أيضا، قال: إذا انكح الوليان فالأول احق ما لم يدخل بها الثاني؛ (علي ما حكاه في التذكرة). و لا ينبغي الشك في أنّ الأول أقوي، لموافقته للقاعدة المسلّمة و هو أنّه إذا وقع العقد جامعا للشرائط من قبل الوكيل، صح النكاح، و معها لا يبقي مجال لعقد آخر، و العقد الثاني وقع علي امرأة ذات بعل.

و استدل له أيضا بما رواه محمد بن قيس، عن الباقر عليه السّلام قال: قضي أمير المؤمنين عليه السّلام في امرأة انكحها أخوها رجلا، ثم أنكحها امها بعد ذلك رجلا … فدخل بها. فحبلت فاحتكما فيها فاقام الأول الشهود، فالحقها بالأول، و جعل لها الصداقين … الحديث «2».

بناء علي أنّ الأخ و الام كانا وكيلين بشهادة عدم ذكر اجازة الفضولي فيها، و سند الحديث صحيح.

و من

طرق العامة، ما عن النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله: إذا انكح الوليان فالأول أحق. «3»

و قد استدل للثاني بما رواه وليد، بياع الاسقاط، قال: سئل الصادق عليه السّلام، و أنا عنده، عن جارية كان لها أخوان، زوّجها الأكبر بالكوفة، و زوّجها الأصغر بأرض اخري. قال:

الأول بها أولي، إلّا أن يكون الآخر قد دخل بها، فهي امرأته و نكاحه جائز. «4»

و يرد عليه، أولا من ناحية ضعف السند؛ لأنّ الوليد مجهول الحال. و ثانيا، من ناحية الدلالة، فانّه من المحتمل قويا أن يكون المورد من قبيل الفضولي، و تقديم عقد الأكبر في مقام الاجازة من باب الاستحباب، و أنّه بمنزلة الأب؛ كما في الرواية. و أمّا صحة العقد بعد الدخول بها، من باب تحقق الاجازة فيه، دون غيره.

و استدل بعض العامة للقول الثاني بقول عمر (فيما عرفت) و لا حجة فيه؛ و الأمر سهل. و الله العالم.

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في المبسوط 4/ 182.

(2). الوسائل 4/ 211، الحديث 2، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

(3). العلّامة الحلي، في تذكرة الفقهاء 2/ 597 ط. ق.

(4). الوسائل 14/ 211، الحديث 4، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 397

2- صورة تقارن العقد

إذا تقارن العقدان، فالمعروف أيضا بطلان كليهما. و الدليل عليه واضح، فانّ صحة كليهما غير ممكن علي المفروض، لتضادهما أو لعدم قابلية المحل لهما. (الأول في طرف الزوج، و الثانية في الزوجة) و الترجيح بلا مرجح، فاسد. فلا يبقي إلّا بطلان كليهما؛ و هو مقتضي الأصل. و ليس المقام من مقامات الرجوع إلي القرعة، لا لأنّه ليس لها واقع مجهول يستكشف بالقرعة، لما ذكرنا في محله من عدم اعتبار ذلك؛ بل لأنّ القرعة إنّما

هي في الامور المشكلة و ليس هنا محل إشكال بعد اقتضاء القواعد، الفساد.

توضيح ذلك: أنّ القرعة- كما يظهر من موارد اجرائها- الواردة في كتاب الله و روايات المعصومين عليهم السّلام، علي قسمين:

تارة، تجري لكشف الواقع المجهول، و قد وقع التصريح في رواياتها أنّه: ما من قوم فوضوا أمرهم إلي اللّه، ثم أقرعوا إلّا خرج لهم الاصوب؛ و معناه أنّها طريق إلي الواقع المجهول إذا كان هناك واقع مجهول. مثل القرعة لكشف الغنم الموطوءة في قطيع غنم؛ أو كشف صاحب الولد إذا اشتبه ولد الشبهة بين اناس! و الزوج الواقعي فيما يأتي في ما نحن فيه.

و اخري، تجري لمجرّد حسم النزاع و قطع الخلاف؛ كما ورد في الأحاديث أنّه صلّي اللّه عليه و آله كان إذا أراد السفر، أقرع بين نسائه و من وقعت عليها القرعة كانت معه صلّي اللّه عليه و آله. أو إجراء القرعة في من أسلم عن خمس زوجات. أو القرعة بين الغنائم عند تقسيمها. أو القرعة بين الورثة أو الشركاء عند إرادة تقسيم المال المشاع. و أشباه ذلك.

و الظاهر أنّها في الشرع تجري في الأمرين، و إن كان عند العقلاء لا تكون إلّا لحسم النزاع. و لكن رواياتنا توكد علي أنّها طريق إلي الواقع المجهول بعناية اللّه و منّه؛ فيكشف الواقع المجهول.

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛ أنّ محل الكلام- و هو فرض معلومي التاريخ مع تقارن عقد الوكيلين- ليس له واقع مجهول؛ لأنّ نسبة العقدين إليها سواء. و لكن قد عرفت أنّ قاعدة القرعة لا تكون قاصرة من هذه الجهة، كما توهمه بعض من عاصرناه. إنّما الإشكال في أنّ

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 398

المقام ليس من مجاريها، لأنّها تجري في كل

مورد لا يمكن حل المشكلة، لا بالقواعد و الاصول اللفظية، و لا بالاصول العملية؛ و في المقام تقتضي القاعدة و الأصل فساده.

3- إذا كان احدهما معلوم التاريخ

إذا كان أحدهما معلوم التاريخ و الآخر مجهوله، كما إذا علم أنّ الوكيل الأول أنشأ العقد في يوم الجمعة، و لم يعلم أنّ الثاني أنشأه في يوم الخميس أو السبت؛ و مقتضي القاعدة فيها الحكم بصحة معلوم التاريخ. لأن أصالة عدم وقوع الآخر قبله جارية، و لا يعارضها الأصل في معلوم التاريخ لعدم جريان الأصل فيه.

إن قلت: إنّ هذا الأصل مثبت من جهتين: أولا، أنّ أصالة عدم وقوع العقد الأخر قبل معلوم التاريخ لا يثبت وقوعه بعده. و ثانيا، أنّ هذا الأصل لا يثبت وقوع معلوم التاريخ علي امرأة غير ذات بعل، أي مقيّدا به.

قلنا: أمّا الأول، فمندفع بأنا لا نحتاج إلي إثبات وقوع المجهول بعد معلوم التاريخ، بل اللازم عدم وقوعه قبله، و هو يثبت بأصالة العدم. و أمّا الثاني، فلأنّ المقام من قبيل احراز حال الموضوع بالأصل ثم إجراء حكم عليه، كأصالة الطهارة في الماء ثم التوضي به.

4- إذا كانا مجهولي التاريخ و لكن يحتمل التقارن كما يحتمل التقدم و التأخر

الحكم فيه كالحكم في الصورة الثانية. لأنّ احتمال تقارنهما سبب للحكم بفسادهما، لا لأنّ أصالة عدم كل منهما قبل الآخر تثبت التقارن (لأنّه من الأصل المثبت قطعا)، بل لأنّ الشك في الصحة كاف في إجراء أصالة الفساد، و أصالة عدم تحقق علقة الزوجية مطلقا؛ و لكن هذا فرض نادر جدا لبعد التقارن التام.

5- اذا كانا مجهولي التاريخ و علم عدم التقارن

بقي الصورة الخامسة التي هي معركة الآراء أو الاحتمالات؛ فقد ذكر الشهيد الثاني فيه احتمالات:

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 399

الاولي، فسخ الحاكم، لعدم إمكان الترجيح.

الثانية، اجبارها علي الطلاق تخلصا من الشبهة، و لا يقدح الاجبار لأنّه بحق.

الثالثة، القرعة، لأنّها لكل أمر مشكل؛ و هو أضعفها. «1»

و قال في التذكرة: إذا سبق واحد معين ثم اشتبه و أشكل الأمر؛ وقف الحال إلي أن يظهر و يتبين، و لا يجوز لواحد منهما وطؤها و لا لأجنبي أن يزوجها قبل أن يطلقاها أو يموتا أو يطلق أحدهما و يموت الثاني؛ و به قال الشافعي.

و قال ابو حنيفة و مالك و أحمد، يفسخ الحاكم النكاحين معا ثم تزوج من شاءت منهما أو من غيرهما.

و عن أحمد رواية اخري أنّه يقرع بينهما، فمن وقعت له القرعة، أمر الآخر بالطلاق، ثم يجدد القارع النكاح إن اختارت، و لا بأس به. «2»

و أضاف في العروة وجها آخر و هو خيار الفسخ للزوجة و قال في المستمسك: لم أقف عاجلا علي قائل به. «3»

فتحصل أنّ هناك أقوالا أو وجوها:

1- التوقف و الاحتياط باجتناب الزوجة و الزوج إلي أن يظهر الحال أو يموت الزوجان أو يطلقا أو يطلق أحدهما ثم جدد النكاح بالآخر، و هو قول الشافعي و حكي عن المبسوط و التحرير.

2- فسخ الحاكم النكاحين، و قد اختاره

العلّامة في القواعد (علي ما في المستمسك)، و به قال معظم أئمة العامة، أبو حنيفة و مالك و أحمد.

3- فسخ الزوجة، و قد عرفت عدم الوقوف علي قائل به.

4- اجبار الزوجين علي الطلاق، و ذكره احتمالا في المسالك.

5- تعيين الزوج بالقرعة، و اختاره في العروة و في تحرير الوسيلة.

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 194.

(2). العلامة الحلي، في تذكرة الفقهاء 2/ 597 ط. ق.

(3). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 522.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 400

6- يقرع بينهما، فمن وقعت له القرعة يؤمر الآخر بالطلاق ثم يجدد هو النكاح، و هو رواية اخري عن أحمد، و نفي عنه البأس في التذكرة فيما عرفت.

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛

إنّ الوجه الأول هو مقتضي القواعد، فان المقام من قبيل العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة و مقتضاه الاحتياط التام باجتنابها عنهما و عن غيرهما، و اجتنابهما عنها فقط.

و لكن بقائها علي تلك الحالة عسر و حرج شديد و ضرر عليها غالبا؛ فانّ اللازم استيذانها مثلا للخروج أو السفر، عنهما، و أمثال ذلك، مع كونها بلا زوج عملا. بل قد يكون الحرج علي الزوجين أيضا لو قلنا بوجوب نصف المهر علي كل منهما. و كذلك النفقة، لأنّ الحق مشترك بينهما.

إن قلت: أولا، وجوب النفقة فرع التمكين، و هنا غير حاصل. و ثانيا، يكون المقام مثل واجدي المني في الثوب المشترك، حيث ينفي كل واحد وجوب الغسل عليه، فهنا ينفي كل واحد، الزوجية عن نفسه، فلا يلتزم بلوازمه.

قلنا: عدم التمكين لمانع شرعي الهي، لا يمنع عن وجوب الانفاق، كما في زمان العادة و النفاس؛ و هنا كذلك، فانّ الشارع منعه من ذلك. و ما ذكروه في مسألة واجدي

المني في الثوب المشترك، إنّما هو في حق الله، و لكن هنا من حق الناس، و لا يبعد وجوب التدارك بالتشريك، كما إذا علم زيد و عمر و ان أحدهما اتلف مال فلان، (مثلا كلاهما ألقي حجرا فأصاب واحد منهما إنسانا أو حيوانا)، فانّ التدارك بما ذكرنا غير بعيد.

أضف إلي ذلك كلّه، من البعيد في حكمة الشرع جعل المرأة متحيّرة إلي آخر عمرها؛ و لو فرض عدم حصول حرج عليها. فهذا القول ضعيف جدا.

و أمّا الوجه الثاني و هو فسخ الحاكم، فقد يقال أنّه لدفع الضرر و الحرج. كيف و هو منصوب للدفاع عن المظلومين و اغاثة الملهوفين، فلا بدّ له من نجات المرأة المظلومة هنا.

إن قلت: إنّ الضرر لم يحصل من حكم الشرع بالزوجية، بل حصل من حكم العقل

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 401

بوجوب الاحتياط عند الجهل بالتاريخ، فالمقام خارج عن مصب أدلة لا ضرر.

قلنا: الضرر و إن كان حاصلا من حكم العقل، و لكن منشأه حكم الشرع، فلو رفع الشارع حكمه و أجاز للحاكم الفسخ أو الطلاق، لم يبق موضوع لحكم العقل. فالضرر بهذا المعني مستند إلي حكم الشرع في هذا الفرض.

و لكن هذا القول إنّما يتم، لو لم يكن لحل المشكلة طريق أسهل و أقرب من ذلك، و ستعرف الحال فيه.

أمّا الوجه الثالث و هو فسخ الزوجة، يدل عليه أيضا عموم لا ضرر، بناء علي أن لا ضرر كما ينفي الحكم الضرري، يثبت ما، لولاه لحصل الضرر؛ (كما في مورد قلع شجرة سمرة، لدفع ضرره، بل و ايجاب الاستيذان عليه). مضافا إلي إمكان القول بأنّ لزوم عقد النكاح هنا مرتفع، و هذا من قبيل نفي الحكم، و لازمه جواز الفسخ.

هذا،

و لكن قبول هذا القول فرع عدم وجود طريق أسهل و أقرب.

أما الوجه الرابع و هو اجبار الزوجين علي الطلاق، فهو أيضا يرجع إلي قاعدة لا ضرر، فانّ اجبارهما طريق لدفع الضرر عن الزوجة.

و فيه، أنّ الركن الركين في العقود و الايقاعات هو صدورها عن طيب النفس، و بدونه لا يصدق العقد و لا الايقاع واقعا، و لا يكون إلّا لقلقة اللسان. فالاجبار و إن كان بحق، مناف لمفهوم العقد و الايقاع، فلا اعتبار بهذا الطلاق، بل اللازم الرجوع إلي الحاكم الذي هو ولي الممتنع؛ و لذا لا يجبر المالك في موارد الاحتكار علي البيع، بل يبيع عنه الحاكم الشرعي أو من هو من قبله، و كذا الحال في اجراء الطلاق بيد الحاكم، إذا جعلها الزوج معلقة.

و منه يظهر حال الوجه السادس، فان فيه الاجبار أيضا و إن كان بعد القرعة.

أمّا الوجه الخامس أي تعيين الزوج بالقرعة، فهو مقتضي عمومات القرعة، لأنّها لكل أمر مشتبه أو مشكل، و كلا العنوانين صادقان في المقام. و لكن يرد عليه أوّلا، ما ذكره في جامع المقاصد، من أن القرعة لا مجال لها في الامور التي هي مناط الاحتياط التام، و هي الأنكحة التي منها الولد. و ثانيا: أنّها تجري فيما إذا لم يوجد طريق آخر، و الطريق هنا

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 402

موجود، و هو الرجوع إلي فسخ الحاكم المنصوب لذلك، أو فسخ الزوجة بحكم قاعدة لا ضرر، و لا أقل من الشك في شمول عمومات القرعة للمقام.

و لعل الأولي من الجميع، هو الوجه الثاني، أي إجراء الطلاق من الحاكم الشرعي بعد امتناع الزوجين منه، و كون الحاكم وليّا للممتنع لأخذ الحق منه، و وليا للمظلوم

بدفعه إليه؛ و إن كان الاحوط انضمام فسخ الزوجة اليه، بل و اجبارهما بالطلاق أيضا.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 403

[المسألة 29: لو ادعي أحد الزوجين سبق عقده، فإن صدّقه الآخر]

اشارة

المسألة 29: لو ادعي احد الزوجين سبق عقده، فان صدّقه الآخر، و كذا الزوجة، أو صدقه أحدهما و قال الآخر: لا أدري؛ فالزوجة لمدعي السبق. و إن قال كلاهما: لا أدري؛ فوجوب تمكين الزوجة من المدعي بل جوازه محل تأمل، إلّا إذا رجع عدم دراية الرجل إلي الغفلة حين إجراء العقد، و احتمل تطبيقه علي الصحيح من باب الاتفاق.

و إن صدقه الآخر، و لكن كذبته الزوجة، كانت الدعوي بين الزوجة و كلا الزوجين، فالزوج الأول يدعي زوجيتها و صحة عقده، و هي تنكر زوجيته و تدعي فساد عقده؛ و تنعكس الدعوي بينها و بين الزوج الثاني، حيث إنّه يدعي فساد عقده، و هي تدعي صحته؛ ففي الدعوي الأولي تكون هي المدّعية و الزوج هو المنكر، و في الثانية بالعكس؛ فان أقام البيّنة علي فساد الأول المستلزم لصحة الثاني، حكم لها بزوجيتها للثاني دون الأول.

و إن أقام الزوج الثاني بينة علي فساد عقده، يحكم بعدم زوجيتها له و ثبوتها للأول. و إن لم تكن بيّنة، يتوجه الحلف إلي الزوج الأول في الدعوي الاولي و إلي الزوجة في الدعوي الثانية. فان حلف الزوج الأول و نكلت الزوجة، تثبت زوجيتها للأول. و إن كان العكس بأن حلفت هي، دونه، حكم بزوجيتها للثاني. و إن حلفا معا فالمرجع هي القرعة. هذا إذا كان مصب الدعوي صحة العقد و فساده، لا السبق و عدمه، أو السبق و اللحوق، أو الزوجية و عدمها، و بالجملة الميزان في تشخيص المدعي و المنكر غالبا مصب الدعوي.

و إن ادعي كل من الزوجين

سبق عقده، فان قالت الزوجة: لا أدري؛ تكون الدعوي بين الزوجين، فان أقام أحدهما بيّنة دون الآخر، حكم له، و كانت الزوجة له. و إن اقام كلّ منهما بيّنة، تعارضت البيّنتان، فيرجع إلي القرعة، فيحكم بزوجية من وقعت عليه. و إن لم تكن بيّنة، يتوجه الحلف إليهما، فان حلف أحدهما حكم له، و إن حلفا أو نكلا، يرجع إلي القرعة. و إن صدّقت المرأة احدهما، كان أحد طرفي الدعوي من لم تصدقه الزوجة، و الطرف الآخر الزوج الآخر مع الزوجة، فمع إقامة البيّنة من أحد الطرفين أو من كليهما، الحكم كما مرّ. و أمّا مع عدمها و انتهاء الأمر إلي الحلف، فان حلف من لم تصدقه الزوجة،

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 404

يحكم له علي كل من الزوجة و الزوج الآخر. و أما مع حلف من صدقته، فلا يترتب علي حلفه رفع دعوي الزوج الآخر علي الزوجة، بل لا بدّ من حلفها أيضا.

في ادّعاء كل من الزوجين سبق عقده

أقول: هذه المسألة من فروع مسألة الوليين أو وكيلين؛ و لعلّ أول من تعرض بها هو الشيخ في المبسوط، «1» ثم ذكرها العلّامة في التذكرة، «2» و الفاضل الهندي في كشف اللثام، «3» و المحق الكركي في جامع المقاصد، «4» و غيرهم؛ و لكنهم إنّما تعرضوا لصورة دعوي كل من الزوجين سبق عقده، و ليعلم أنّ هذه المسألة ناظرة إلي مقام الاثبات بينما كانت المسألة السابقة ناظرة إلي مقام الثبوت، و المدرك الوحيد في المسالة هو القواعد المقررة في أبواب الدعاوي و إلّا لم يرد في نفس المسألة نصّ. و لها شقوق كثيرة غامضة، و حاصلها ببيان واضح ان للمسألة صورتين:

[للمسألة صورتان]

الصورة الأولي: أحد الزوجين يدعي سبق عقده

و لها أربع حالات:

1- الزوج الأول يدعي السبق، و الزوج الثاني و كذا الزوجة يصدقه؛ و من الواضح أنّه حينئذ تثبت الزوجية بينها و بين الزوج الأول، لانحصار الحق فيهما (في الزوج و الزوجة)، و اعترافها به، و عدم وجود معارض له و هو الزوج الثاني إذا خالف. و قد اعترض علي هذا الدليل الراجع إلي قاعدة الاقرار، في المستمسك، بأنّ أحكام الزوجية قد تكون بضرر وارثهما فالاقرار يكون علي غيرهما لا علي أنفسهما فقط، و العموم لا

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في المبسوط 4/ 182.

(2). العلامة الحلي، في تذكرة الفقهاء 2/ 597 ط. ق.

(3). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 2/ 25، ط. ق.

(4). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 182.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 405

يثبت ذلك، ثم قال: العمدة في الحكم المذكور، الإجماع المعتضد بالسيرة القطعيّة. «1»

و لكن الانصاف، أنّ الاقرار إذا كان أوّلا و بالذات يوجب تكليفا علي المقرّ و يكون بضرره، كان جائزا؛ و لا ينظر إلي بعض اللوازم الحاصلة منه

في المراحل التالية؛ و إلّا أشكل الأمر في جل الأقارير كالإقرار بالهبة، أو تمليك ماله للغير، أو شبه ذلك، و في جميع موارد الزوجية، فانها لا تنفك عن بعض اللوازم علي غيره.

2- إذا صدّقه احدهما (من الزوج الثاني أو الزوجة)، و قال الآخر: لا أدري؛ فالحكم فيه كما في الصورة السابقة؛ و ذلك أنّه إن صدّقه الزوج الثاني (و قالت الزوجة: لا أدري)، فالزوجة له؛ لأنّ المفروض تحقق النكاح علي زوجة لا مانع لها، و كان الأمر بيد الوكيل.

و إن صدقته الزوجة، و قال الثاني: لا أدري؛ لانحصار الحق فيهما بدون معارض.

3- إذا قال كلاهما: لا أدري؛ (أي الزوج الثاني و الزوجة)، فقد ذكر في المتن أنّ وجوب تمكين الزوجة من المدعي، بل جوازه، محل تأمّل إلّا إذا رجع عدم دراية الرجل، إلي الغفلة حين إجراء العقد، و احتمل تطبيقه علي الصحيح من باب الاتفاق؛ و الظاهر أنّه ناظر إلي إجراء اصالة الصحة في الذي يدعي السبق، و عدم إجرائه في حق من يقول: لا أدري؛ لقوله عليه السّلام في قاعدة الفراغ، هو حين يتوضأ أذكر؛ و هذا التعليل إنّما يجري إذا لم يكن غافلا؛ أمّا إذا كان ذاكرا، فأصالة الصحة جارية من الجانبين، فتتساقطان.

4- إذا صدّقه الزوج الآخر، و كذبته الزوجة، و معناه أنّ الزوج الآخر موافق لدعوي الزوج الأول بسبق عقده، و لكن الزوجة لا توافقه، بل تدعي فساد العقد الأول و صحة العقد الثاني. كانت الدعوي بين كلا الزوجين و الزوجة، و تنحل إلي دعويين:

أحدهما: بين الزوج الأول و الزوجة، فهو يدعي صحة عقده و هي تدعي فساده؛ و حيث أنّ قول المدعي للصحة، موافق للأصل أي أصالة الصحة، فهو منكر؛ و

قول المدعي للفساد، مخالف للأصل، فهي مدّعية.

ثانيهما: بين الزوج الثاني و الزوجة، و هو يدعي فساد العقد الثاني و هي تدعي صحته؛

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 523.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 406

فالمرأة منكرة و الرجل مدعي، فاللازم الرجوع إلي أحكام المدعي و المنكر من أنّ البيّنة علي المدعي و اليمين علي من أنكر. ففي الدعوي الاولي، إن أقامت الزوجة البيّنة علي فساد العقد يحكم بفساده؛ و لازمه صحة العقد الثاني؛ (لصدوره عن أهله و وقوعه في محله).

و هكذا لو أقام الزوج الثاني بيّنة علي فساد العقد الثاني، حكم به؛ و لازمه وقوع الأول صحيحا.

و إذا لم تكن هناك بيّنة، فاللازم في الصورة الاولي، حلف الزوج الأول بصحة عقده؛ و في الدعوي الثانية، حلف الزوجة بصحة العقد الثاني؛ و حينئذ أمّا يحلف كلاهما أو أحدهما دون الآخر. فهنا صور ثلاث:

أولها: يحلف الزوج الأول علي صحة عقده، و لا يحلف المرأة، فيحكم بصحة العقد الأول بمقتضي القاعدة المذكورة.

ثانيها: تحلف الزوجة بصحة العقد الثاني، و لا يحلف الزوج الأول، فيحكم بصحة العقد الثاني.

ثالثها: يحلفان جميعا، فيحكم بصحة العقدين ظاهرا، فتكون المسألة مصداقا للمسألة السابقة، فالقائلون بالقرعة هناك يقولون بها هنا، و من قال بفسخ الحاكم أو طلاقه، يقول به هنا.

كل ذلك للقواعد المعروفة في أبواب الدعاوي.

هذا كله بناء علي معرفة المدعي من المنكر بمصب الدعوي، (و مصب الدعوي هنا صحة العقد و فساده)، فمن كان قوله في مصبّ الدعوي موافقا للأصل فهو منكر، و من كان مخالفا فهو مدع.

توضيح ذلك، أنّه وقع الكلام، في محلّه من كتاب القضاء، في تعريف المدعي و المنكر حتي يكون علي الأول البيّنة، و علي الثاني اليمين، علي

أقوال:

1- من كان قوله موافقا للأصل.

2- من كان قوله موافقا للظاهر.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 407

3- من لو ترك ترك.

4- من يدعي أمرا خفيا.

5- المراد منه معناه العرفي، و هو من يدعي شيئا علي غيره و يكون ملزما بإثباته عند العقلاء. (كأن يدعي شيئا من مال أو يدعي وفاء دين أو أداء دين).

و لا شك أنّ الخامس غالبا ينطبق علي الثلاثة الأولي، و لو فرض عدم انطباقه عليها، فالحق هو الخامس؛ لعدم وجود الحقيقة الشرعية فيه، فلا بدّ من الرجوع إلي العرف العام في معناه بعد ورود هذا العنوان في روايات مستفيضة.

ثم هنا كلاما آخر، و هو أنّ المدار في معرفة المدعي و المنكر، هو طرح الدعوي أو مصب الدعوي؛ و المراد بطرح الدعوي، هو عنوانه؛ و المراد بالمصب، هو نتيجة الدعوي و مآله؛ ففي ما نحن فيه إذا كان مآل الدعوي إلي صحة العقد و فساده، كان المدعي للصحة منكرا، و المدعي للفساد مدعيا. أمّا إذا كان النظر إلي طرح الدعوي، فقال الأول: العقد السابق كان عقدي؛ و قال الثاني: بل عقدك كان العقد اللاحق؛ فكل منهما مدع لوقوع أمر مناف للأصل، فان السبق و اللحوق كلاهما أمران حادثان مسبوقان بالعدم.

و أمّا قوله: الميزان في تشخيص المدعي و المنكر غالبا مصب الدعوي؛ يمكن أن يكون إشارة إلي أنّه لو كان بينهما مثلا شرط في عقد خارج لازم، أنّ زيدا لو سبق في عقده علي عمرو، كان عليه كذا و كذا؛ فكانت الدعوي في السبق و اللحوق. و لكن هذا أمر نادر جدّا؛ فتأمل.

الصورة الثانية: إن ادعي كل من الزوجين سبق عقده

و هذا هو الذي يبحث فيه في كلمات القوم، و لها حالتان:

الأولي، أن تكون الزوجة غير مدعية بل تقول:

لا أدري أيّهما كان سابقا؛

الثانية، أن تكون مدعية و موافقة لأحدهما.

أمّا الاولي، فالحكم فيها واضح لأنّ الدعوي فيها بين الزوجين فقط، و كل منها مدع من جهة و منكر من جهة اخري؛ فلو أقام أحدهما البيّنة علي سبقه، حكم له فتكون

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 408

الزوجة له دون غيره؛ و لو أقاما البيّنة علي مدعاهما، تعارض و رجع الأمر إلي المسألة السابقة أمّا القرعة أو طلاق الحاكم أو غير ذلك. لأنّ المفروض أنّ العقد صدر من الوكيلين أو الوليين غير متقارنين، فأحدهما صحيح بالعلم الإجمالي، و لا بدّ من تعينه باحد الوجوه الماضية.

و إن لم يقيما بيّنة، فالأمر يعود إلي الحلف، فإمّا يحلف أحدهما فقط، يحكم له؛ و إن حلفا أو نكلا معا، يرجع إلي القرعة؛ للعلم الإجمالي الذي مرّ ذكره.

هذا كله إذا لم تشترك المرأة في الدعوي، فان اشتركت فيها و صدقت أحد الزوجين (و هي الحالة الثانية)، كانت الدعوي بين أحد الزوجين، و الزوج الآخر مع الزوجة المصدقة له؛ و الحكم فيها أيضا واضح لأنّ كل واحد من الأطراف هنا مدع و منكر، مدع لزوجيته و منكر لزوجية الآخر، فان أقام واحد من هؤلاء بيّنة دون غيره، كفت في ختم الدعوي كما هو ظاهر؛ و إن اقيمت من الطرفين، يرجع إلي القرعة أو طلاق الحاكم أو شبهه، علي اختلاف المباني في المسألة السابقة.

و إن انتهي الأمر إلي الحلف، لعدم إقامة البيّنة، فان حلف الزوج الذي لم تصدقه الزوجة، دون الطرف المقابل، حكم له، فالزوجة زوجته؛ و لا حقّ للأخر فيها.

و إن حلف الزوج الآخر الذي صدقته الزوجة، فهل هو كاف في رفع دعوي الزوج الأول عن كليهما، أو يجب عليها أيضا

الحلف؟ الذي اختار في المتن، وجوب الحلف عليهما؛ و لكن لقائل أن يقول، إذا حلف الزوج و ثبت سبق عقده و كانت الزوجة له، لم يبق محل للحلف الثاني. و بعبارة اخري، الملازمة بين الدعويين توجب كفاية الحلف في أحدهما عن الآخر، فانّه لا معني لسقوط الدعوي عن الزوج و بقائها علي الزوجة. و إن شئت قلت: الزوجية امر بسيط و إن كانت قائمة باثنين، فإذا ثبتت بسبب الحلف، لا يبقي محل لدعوي آخر.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 409

[المسألة 30: لو زوّج أحد الوكيلين عن الرجل، له امرأة، و الآخر بنتها، صحّ السابق]

اشارة

المسألة 30: لو زوّج أحد الوكيلين عن الرجل، له امرأة، و الآخر بنتها، صحّ السابق و لغي اللاحق. و مع التقارن، بطلا معا. و إن لم يعلم السابق، فان علم تاريخ احدهما حكم بصحته دون الآخر؛ و إن جهل تاريخهما، فان احتمل تقارنهما يحكم ببطلان كليهما؛ و إن علم بعدم التقارن فقد علم بصحة أحد العقدين و بطلان أحدهما، فلا يجوز للزوج مقاربة واحدة منهما؛ كما أنّه لا يجوز لهما التمكين منه. نعم، يجوز له النظر إلي الأمّ، و لا يجب عليها التستر عنه، للعلم بأنّه إمّا زوجها أو زوج بنتها. و أمّا البنت، فحيث إنّه لم يحرز زوجيتها، و بنت الزوجة إنّما يحل النظر إليها إن دخل بالأمّ و المفروض عدمه، فلم يحرز ما هو سبب لحلية النظر إليها، و يجب عليها التستر عنه. نعم لو فرض الدخول بالامّ و لو بالشبهة كان حالها حال الأمّ.

إذا عقد أحد الوكيلين علي أمّ و الآخر علي بنتها

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 409

أقول: هذه المسالة مرتبطة بالمسألتين السابقتين، و في الواقع هاتان كانتا ناظرتين إلي أمر الزوج إذا اشتبه بين رجلين، و هذه المسألة ناظرة إلي أمر الزوجة إذا اشتبهت بين امرأتين.

و يأتي فيها جلّ ما مرّ في المسألة 28، و التفاوت بينهما في امور قليلة سنشير اليها.

و حاصل الكلام، أنّه إذا عقد أحد الوكيلين علي أمّ، و الثاني علي بنتها، و من الواضح عدم صحة كليهما معا، بل يكون أحد العقدين باطلا، و حينئذ تكون للمسألة صور:

1- إذا علم التاريخان، فيصح العقد الأول، سواء

كان علي الام أو علي البنت و يبطل الثاني.

2- إذا علم تاريخ أحدهما فقط، فيحكم بصحة معلوم التاريخ، لأنّه يستصحب عدم وقوع العقد علي الثاني، فيصح الأول و لا يبقي معه محل للثاني.

3- إذا كانا مجهولي التاريخ و فيه احتمالان:

الأوّل، إذا احتمل التقارن، فيحكم ببطلان كليهما بمقتضي أصالة الفساد و عدم جريان

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 410

الأصلين أو تعارضهما.

الثاني، إذا لم يحتمل التقارن، فيحكم بصحة أحدهما و فساد الآخر، للعلم الإجمالي بذلك.

و مقتضي العلم الإجمالي من ناحية الزوج، عدم جواز المقاربة لواحد منهما. و أمّا النظر، فيجوز إلي الام إمّا لأنّها زوجته أو أم زوجته، (إذا كان النظر بغير تلذذ و شهوة، و إلي الأعضاء التي يتعارف كشفاه للمحارم). و لا يجوز نظره إلي البنت لأنّ جواز النظر إليها من باب الربائب، مشروط بالدخول إلي الامّ. نعم، لو دخل بها من باب الشبهة، حلت النظر بلا تلذذ و ريبة.

*** بقي هنا امور:

الأول: هل يجوز للمرأتين التزويج إلي الغير أم لا؟

مقتضي القاعدة المعروفة في باب العلم الإجمالي من أنّه إذا كان العلم الإجمالي بين مكلفين لا يجب عليهما الاحتياط، عدم وجوب الاحتياط هنا علي المرأتين؛ بل يجوز لكل واحدة منهما، النكاح مع الغير، و لا يضرهما العلم بأنّ واحدة منهما زوجة حرام للغير.

كواجدي المني في الثوب المشترك.

و السرّ فيه، أنّ العلم بتوجه خطاب إليه أو إلي غيره، غير مفيد. لأنّ خطاب الغير خارج عن محل ابتلائه، فهو كالعلم بنجاسة إنائه أو إناء غيره ممّا هو خارج عن محل ابتلائه.

اللّهم إلّا أن يقال، إنّ الاحتياط المؤكد المطلوب في النكاح يمنع عن ذلك هنا، بخلاف مثل الغسل أو شبهه؛ و هو غير بعيد عن مذاق الفقه.

الثاني: إذا قلنا بالاحتياط الموجب للعسر و الحرج فما حكمهما؟

إذا ثبت وجوب الاحتياط عليهما الموجب للعسر و الحرج عليهما، يأتي الوجوه السابقة هنا، إذا لم يرض الزوج بطلاق زوجته الواقعي، من القرعة أو اجباره علي الطلاق

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 411

أو طلاق الحاكم أو غير ذلك. فاللازم الأخذ باحدها، كلّ علي مبناه.

الثالث: هل يجب علي الزوج مهر المسمي و النفقة للزوجة الواقعية؟

مقتضي القاعدة وجوب المهر و لو طلقها بسرعة؛ غاية الأمر يجب عليه نصف المهر. و حيث إنّ المالك له مجهول، يجب التنصيف، لقاعدة العدل و الانصاف كما في سائر الاموال المرددة؛ و لا تصل النوبة إلي القرعة بعد وجود القاعدة.

نعم، لو كان الوكيلان أو أحدهما سببا للجهل بالتاريخ، لا يبعد جواز رجوعه إليه، فانّه السبب للضرر.

و أمّا النفقة، فوجوبها أيضا غير بعيد، بعد عدم اقدام الزوج علي الطلاق، و عدم تمكن المرأتين من النكاح. بل لا يبعد وجوب النفقة التامة عليه لكل منهما، لأنّه هو السبب في بقاء المرأتين علي عدم النكاح، فاجراء قاعدة العدل و الانصاف أو القرعة هنا، بعيد جدا.

الرابع: يجري كثير من الفروض المذكورة في تداعي الزوجين، في تداع الزوجتين

بان تدعي الام مثلا سبق نكاحها، أو البنت كذلك، و قد يوافق الزوج لإحداهما؛ و قد يقول: لا أدري؛ و الظاهر جريان كثير من الأحكام السابقة هنا أيضا.

الخامس: بعض الروايات

هناك بعض الروايات الدالة علي أنّه إذا تقارن العقدان المتضادان يكون الزوج مخيرا في امساك أيّتهما شاء. (و الحال أنّ مقتضي القاعدة بطلان كليهما، كما عرفت).

و هي ما رواه جميل بن دراج، في الصحيح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في رجل تزوج اختين في عقدة واحدة. قال: يمسك أيّتهما شاء و يخلّي سبيل الاخري. و قال، في رجل

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 412

تزوج خمسا في عقدة واحدة؛ قال: يخلّي سبيل أيّتهن شاء. «1»

و مثله في خصوص عقد الاختين رواية اخري عن جميل بن دراج، عن بعض أصحابه. «2»

و قال العلّامة الخوئي، فيما حكي عنه في مستند العروة، في شرح المسألة 44، من المحرمات بالمصاهرة: أنّ الرواية صريح الدلالة و صحيح السند و أنّه لا مانع من العمل بها. و اختار هو العمل بها. «3»

و لكن الظاهر، إعراض الأصحاب عن العمل بها، و لا يضر ذلك من لم يعتن بشهرة الفتوي بين الأصحاب؛ و لكنه مخالف لما اخترناه و سددناه في الاصول من سقوط الأخبار عن الحجية باعراض المشهور؛ مضافا إلي إمكان حمل الرواية علي كون امساك أيّتهما شاء، بعقد جديد؛ فلا يكون صريحا في المدعي و إن كان له بعض الظهور. و كيف كان لا يمكن الركون في مخالفة القواعد علي رواية شاذة.

و يؤيّد ذلك، ما رواه في دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد عليهما السّلام، أنّه سئل عن رجل تزوج اختين أو خمس نسوة في عقدة واحدة، إلي أن قال: فان لم يعلم

من بدء باسمائهن منهن، بطل النكاح كلّه. 4

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 367، الحديث 1، الباب 25 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(2). الوسائل 14/ 368، الحديث 2، الباب 25 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(3) 3 و 4. الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 405، الحديث 17107.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 413

[فصل في أسباب التحريم]

اشارة

فصل في أسباب التحريم أعني ما بسببه يحرم و لا يصح تزويج الرجل بالمرأة، و لا يقع الزواج بينهما؛ و هي امور: النسب، و الرضاع، و المصاهرة، و ما يلحق بها، و الكفر، و عدم الكفاءة، و استيفاء العدد، و الاعتداد، و الإحرام.

أسباب التحريم و عددها

أقول: اختلف القوم في بيان تعداد أسباب التحريم، فمنهم من قال أنّها ستّة، مثل المحقق (قدس سره)، قال: أسباب التحريم و هي ستة. «1»

و مراده من الستة كما يظهر من طيّات الشرائع: 1- النسب 2- الرضاع 3- المصاهرة 4- استيفاء العدد 5- اللعان 6- الكفر.

و لكن صرّح الشهيد الثاني ذيل هذا الكلام، أنّ حصر المحرمات في ستة بحسب ما اقتضاه المقام، و إلّا فالأسباب أكثر من ذلك مذكورة في تضاعيف الكتاب (أيّ كتاب الشرائع نفسه)، انتهي. «2» و هو كذلك كما ستعرف في المباحث التالية.

و منهم كالماتن (قدس سره) أنهاها إلي ثمانية أو تسعة، و بينه و بين ما ذكره المحقق عموم من وجه، كما لا يخفي علي الخبير.

______________________________

(1). العلامة الحلي، في شرايع الإسلام 2/ 280- أوّل الفصل الرابع من فصول كتاب النكاح.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 198.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 414

و منهم من أنهاها إلي أحد و عشرين- كصاحب الجواهر، حيث قال:

النسب، ثم الرضاع، و المصاهرة (مثل حرمة أم الزوجة، و بنتها مع

الدخول بالام).

و النظر، و اللمس (و المراد بهما نظر الأب إلي أمته بما يحرم علي ابنه و لمسها، فانّه يوجب تحريمها علي الولد).

و الزنا بها (مثل الزنا بذات البعل).

و الزنا بغيرها (مثل الزنا بالعمة و الخالة، فانّه يوجب تحريم بنتهما علي الزاني).

و الايقاب (أي اللواط فانّه يوجب تحريم اخت الموطوء و امه و بنته علي الواطئ).

و الافضاء، و الكفر.

و عدم الكفاءة (و كأنّه إشارة إلي عقد الولي البنت بمن ليس له كفو عرفا، فانّه حرام لعدم المصلحة أو للمفسدة فيه).

و الرق (و يمكن أن يكون اشارة إلي حرمة الأمة علي الحرّ إلّا بالشرطين: عدم القدرة علي مهر الحرّة و خوف العنت).

و تبعيض السبب (يمكن أن تكون إشارة إلي اجازة أحد الموالي في النكاح دون الآخرين أو عدم اجازة العمة و الخالة في العقد علي بنت الأخ و بنت الاخت).

و استيفاء العدد (أي فوق أربع نسوة).

و الاحصان (أي كون المرأة ذات بعل، فانه يحرم عليها غير بعلها).

و اللعان (و المرأة بعد اللعان تكون حراما مؤبدا).

و قذف الصّماء و الخرساء (فانّه يوجب حرمتها أبدا).

و الطلاق (أي الطلاق التاسعة مثلا، أو الثالثة بغير محلل).

و الاعتداد (أي كون المراة في عدّة الغير).

و الاحرام (أي نكاح المرأة عالما في حال الإحرام).

و التعظيم (مثل حرمة زوجات النبي صلّي اللّه عليه و آله علي غيره).

هذا، و لكن يمكن ادغام كثير من هذه الأسباب في عنوان واحد كالنظر و اللمس و

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 415

الزنا بها و بغيرها و الايقاب و غيرها، فانّها تندرج تحت عنوان ما يلحق بالمصاهرة، و الأمر سهل. و العمدة من بينها النسب و الرضاع و المصاهرة و ما يلحق بها؛ و لنرجع فيها إلي ما

افاده في المتن.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 416

[القول في النسب]

اشارة

القول في النسب يحرم بالنسب سبعة أصناف من النساء علي سبعة أصناف من الرجال: الام بما شملت الجدّات، عاليات و سافلات، للأب كنّ أو لام؛ فتحرم المرأة علي ابنها، و علي ابن ابنها، و ابن ابن ابنها، و علي ابن بنتها، و ابن بنت بنتها، و ابن بنت ابنها، و هكذا. و بالجملة تحرم علي كل ذكر ينتمي إليها بالولادة، سواء كان بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط، و سواء كانت الوسائط ذكورا أو اناثا أو بالاختلاف …

يحرم بالنسب سبعة أصناف

أقول: و الظاهر أنّ المسألة إجماعيّة بحيث لا يحتاج إلي نقل الأقوال فيها، و لذا ارسل غير واحد منهم المسألة ارسال المسلمات من دون ذكر الأقوال فيها.

قال النراقي (قدس سره) في المستند بعد ذكر المحرمات النسبية بأجمعها: و تحريم هؤلاء مجمع عليه بين الامّة، بل عليه الضرورة الدينية و مصرح به في الجملة في الكتاب و السنة. «1»

و قال في الرياض، بعد انكار دلالة الاية لإثبات تحريمهن جميعا ما نصّه: فاذن، الحجة التامة إجماع الامّة. «2»

و يظهر من هذه الكلمات أنّه لا خلاف بين جميع علماء الإسلام في ما ذكر بل هو مرتكز في أذهان جميع المتشرعة.

و يدل عليها إجمالا قوله تعالي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ وَ عَمّٰاتُكُمْ وَ خٰالٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُ الْأَخِ وَ بَنٰاتُ الْأُخْتِ … «3»

فهذه الاصناف السبعة محرمة بنص القرآن و لكن وقع الكلام بينهم في أنّ الحكم

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 22.

(2). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 128، (2/ 85 ط. ق).

(3). النساء/ 23.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 417

المذكور بجميع فروعه يستفاد من الآية، أو لا بدّ في التعميم من الرجوع إلي السنة أو

الإجماع؛ و هو مبني علي أنّ المراد من الام خصوص من ولدتنا بلا واسطة أو هي اعم؟

هل الام تشمل الجدة و أم الجدة و ما علت؟

لا إشكال في أنّ لفظ الام بحسب اللغة لا تشمل الجدة و أم الجدة و ما علت، كما أنّ الأب لا يشمل الجد بحسب اللغة؛ فانّ لكل واحد منهم اسم خاص بهم.

هذا، و لكن ادعي في الجواهر أنّ استعمال هذه العناوين في العموم و إن كان مجازا، و لكن هناك قرائن كثيرة تدل عليه؛ و هي ببيان منّا امور:

1- إجماع المفسرين علي أنّ المراد بالآية هو المعني الأعم الشامل لجميع ما نقلناه في المتن.

2- قوله تعالي بعد ذلك: … وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ … (في الآية التالية). فانّ آية التحريم لو خرج منها هذه الفروع الكثيرة، لزم تخصيص كثير في التحليل الوارد في الآية التالية، و هذا بعيد جدّا لكونه من التخصص الكثير المستهجن.

3- المعني الحقيقي للأمّ ليس فيه تعدد، فقوله تعالي: «امهاتكم»؛ بصورة الجمع، لا بدّ أن يراد به الأعم من الام و الجدات السافلات و العاليات. و إذا ثبت إرادة هذا المعني من الامهات، فلا بدّ أن يكون غيره من البنات و الخالات و العمات أيضا بهذا المعني لاتحاد السياق.

إن قلت: يمكن أن يكون صيغة الجمع باعتبار تعدد المخاطبين.

قلنا: هذا مخالف للظاهر، لأنّ خطاب الجماعة للعموم و مقتضاه ثبوت الحكم لكل واحد دون المجموع، فاللازم أن يكون الجمع باعتبار تعدد الام بمعناه الأعم لكل أحد.

4- إنّ العموم موافق لما ورد في النصوص المعتبرة المستفيضة الدالة علي تحريم نساء النّبيّ علي الحسن و الحسين عليهما السّلام لو لم تكن محرمة علي الناس بآية: وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ؛ و حرمة حلائلهما عليهما السّلام عليه

صلّي اللّه عليه و آله بقوله: وَ حَلٰائِلُ أَبْنٰائِكُمُ. فاذا كان المراد من الآباء هو الأعم من الجد، و كذا المراد من الأبناء هو الأعم من الأحفاد، فلتكن الامهات و

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 418

غيرها كذلك.

و هذه الاستدلالات و إن كانت لإثبات كون ابن البنت (أي أبناء فاطمة سلام اللّه عليها) ابنا حقيقيا، و لكنها شاهدة علي المقصود. راجع ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما. «1» و ما رواه أبو الجارود، عن أبي جعفر عليه السّلام. «2»

هذا محصل كلامه الشريف قدس اللّه نفسه الزكية، ببيان منا. «3»

و في بعض ما ذكره مجال للمناقشة؛ أمّا إجماع المفسرين، فكونه حجة أول الكلام؛ و أما كون الجمع باعتبار تعدد المخاطبين مخالفا لظاهر الكلام، ممنوع جدا؛ فانّ له نظائر كثيرة جدا في القرآن الكريم فقد ورد: «السنتكم» بصيغة الجمع في ثلاثة موارد، و «السنتهم» كذلك في ستة موارد، مع أنّ لكل إنسان لسانا واحدا، فليس الجمع إلّا باعتبار الأشخاص. و كذلك قوله تعالي: (اقوامكم) في موردين، و «أَفْوٰاهِهِمْ» * في سبعة موارد، مع أنّ لكل إنسان فم واحد؛ فليس الجمع إلّا باعتبار تعدد المخاطبين.

هذا؛ و لكن القرينة الثالثة قرينة معتبرة؛ و هكذا الرابعة، لأنّ لزوم التخصيص الكثير علي الآية علي فرض اختصاصها بالأصناف السبعة بلا واسطة، ممّا لا مناص منه؛ و هو تخصيص بعيد أو مستهجن. و الروايتان تدلان علي أنّ إرادة الأعم من الآية، كان أمرا مفروغا عنها؛ و لذا استدل به الإمام عليه السّلام في مقابل المخالفين، فليس الاستدلال بكلام الإمام عليه السّلام من باب التعبد بل من باب دعوي الظهور الذي لا يقدر المخالف علي نفيه.

و الرواية الاولي معتبرة سندا، و الثانية ضعيفة

بأبي الجارود، و هو زياد بن المنذر، و قد روي في ذمّه روايات، و ينسب إليه بعض الفرق المنحرفة.

و يمكن إقامة قرينة اخري هنا، فانّ الارتكاز العرفي عدم الفرق بين ما لا واسطة له و غيره.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 312، الحديث 1، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(2). الوسائل 14/ 316، الحديث 12، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 240.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 419

بقي هنا أمران:

الأول: لا إشكال في كون استعمال الام في من تكون بالواسطة، معني مجازي لا يصار إليه بدون القرينة. فلذا لو ورد هذا العنوان أو الأب أو الابن أو شبه ذلك في وصية أو وقف، فقال: أوصيت لأمي أو لبنتي أو لأبي كذا و كذا؛ لم تشمل الوصية الجدّة أو ما شابهه. و كذا في باب الاوقاف كما نبّه به الشهيد الثاني في المسالك. «1»

و لكن، هل استعمال الام و غيره في الأعم من باب استعمال اللفظ في معنيين الحقيقي و المجازي، أو في معني واحد مجازي عام؟

الحقّ جواز كليهما لما حققناه في الاصول من جواز استعمال اللفظ في أكثر من معني واحد و أنّه لا مانع منه أبدا؛ و لكن مع وجود القرينة كما أنّ استعماله في مفهوم عام يشمل المعني الحقيقي و المجازي كليهما، أيضا لا مانع منه علي قول المشهور، لكنه لا بدّ أن يكون مع القرينة و قد عرفت وجود القرينة هنا، و الثاني أولي.

الثاني، قد أشار غير واحد من أكابر الفقهاء إلي أنّ تحريم الأصناف السبعة من النساء علي الرجال، مستلزم لتحريم الأصناف السبعة من الرجال علي النساء، فيحرم علي الامّ ابنه، و علي البنت أبوه، و

علي الأخت اخوه، و هكذا و لو بالوسائط.

و بعبارة اخري، المخاطبون في الآية هم الرجال، و لو كانت النساء مخاطبات، كان يقول: حرمت عليكن آباءكم و أبنائكم و إخوانكم، إلي آخر الأصناف؛ و ذلك نظير قوله تعالي في سورة النور في أمر الحجاب و المحارم الذين لا يجب التستر عنهم: وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبٰائِهِنَّ أَوْ آبٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنٰائِهِنَّ أَوْ أَبْنٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوٰاتِهِنَّ أَوْ نِسٰائِهِنَّ … «2»

و قد استدل بعضهم لذلك، بأنّ النكاح أمر واحد بسيط فلا يكون حلالا و حراما؛ و إن اختلفت إضافته إلي الطرفين لاجتماع حكمين متضادين علي أمر واحد. و ناقش فيه في

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 199.

(2). النور/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 420

الجواهر بانه أن أريد من النكاح العقد، فهو مركب من الايجاب و القبول، و أن اريد منه الوطي فهو قائم بشخصين الواطئ و الموطوء فليس شيئا واحدا؛ و كذلك البيع و غيره، و لذا قال بعضهم بأن حرمة البيع وقت النداء لصلاة الجمعة قد يكون لأحد الطرفين، و هو من كان الجمعة واجبا عليه، فلو كان الطرف الآخر مسافرا مثلا كان البيع حراما من طرف و حلالا من الطرف الآخر؛ اللّهم إلّا أن يقال بحرمته أيضا من باب الإعانة (انتهي).

قلت: الذي أوقع بعض الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في الخطأ، هو الخلط بين الأحكام التكليفية و الوضعية هنا، و بين العقد السببي و المسببي، فان الإنشاءين و إن كانا أمرين مختلفين

و كذا الوطء القائم بالواطي و الموطوء، و لكن صحة العقد و الرابطة الاعتبارية الحاصلة بين الزوجين أمر واحد بسيط لا يقبل التعدد، فلا يمكن أن يقال إن الزوجية صحيحة بالنسبة إلي أحد الطرفين دون الآخر، و إن هو إلّا كالاخوة في الاضافات الحقيقية، فانّه لا يمكن أن يكون زيد اخا عمرو و لا يكون عمرو أخا زيد، و مثله في النسب الاعتبارية.

و هكذا في مسألة البيع وقت النداء، فان الحكم التكليفي و إن كان يختلف بالنسبة إلي البائع و المشتري أحيانا، إلّا أنّ الحكم الوضعي لا يختلف، فلا يمكن أن يقال إن المتاع خرج عن ملك البائع و لكن لم ينتقل إلي ملك المشتري أو بالعكس، و أنّ البيع صحيح بالنسبة إلي أحدهما دون الآخر.

إن قلت: لما ذا لم يذكر من المحرمات السبع النسبية، في آية الحجاب من سورة النور، إلّا خمس طوائف: الآباء، و الابناء، و الاخوة، و بنو الاخوة، و بنو الاخوات، و الحال أنّ المذكور في سورة النساء عند ذكر حرمة النكاح هو سبع طوائف.

قلت: إن الطائفتين غير المذكورتين في آية الحجاب، هما الأعمام و الأخوال، و هما من لوازم بنو الاخوة و بنو الاخوات، فانّ ابن الأخ يقاس بالعمّ، و ابن الاخت بالخال، فهما متلازمان.

إن قلت: فلما ذا لم يتركا في آية النساء بعد وجود الملازمة.

قلت: لعل الاهتمام بأمر النكاح أوجب ذلك، فانّه أهم من أمر الحجاب، و هذا أوجب

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 421

التصريح بهما و إن كانا يعرفان بالملازمة.

حكم الاصناف الستة الباقية

و ممّا ذكرنا يظهر حال الاصناف الستة الباقية المحرمة، كما قال في التحرير:

… و البنت بما شملت الحفيدة و لو بواسطة أو وسائط، فتحرم هي علي أبيها

بما شمل الجدّ لأب كان أو لأم، فتحرم علي الرجل بنته، و بنت ابنه و بنت ابن ابنه، و بنت بنته، و بنت بنت بنته، و بنت ابن بنته؛ و بالجملة كل أنثي تنتهي إليه بالولادة بواسطة أو وسائط، ذكورا كانوا أو إناثا أو بالاختلاف.

و الأخت، لأب كانت او لأم أو لهما.

و بنت الأخ، سواء كان لأب او لأم أو لهما، و هي كل مرأة تنتمي بالولادة إلي أخيه بلا واسطة أو معها و إن كثرت. سواء كان الانتماء إليه بالآباء أو الأمهات أو بالاختلاف، فتحرم عليه بنت أخيه، و بنت ابنه، و بنت ابن ابنه، و بنت بنته، و بنت بنت بنته، و بنت ابن بنته، و هكذا.

و بنت الأخت. و هي كل أنثي تنتمي إلي أخته بالولادة علي النحو الذي ذكر في بنت الأخ.

و العمة، و هي أخت أبيه، لأب أو لأم أو لهما، و المراد بها ما تشمل العاليات، أعني، عمة الأب: أخت الجد للأب، لأب أو لأم أو لهما؛ و عمة الأم: أخت ابيها، لأب أو لأم أو لهما؛ و عمة الجد للأب و الجد للأم و الجدة كذلك، فمراتب العمّات مراتب الآباء، فهي كل أنثي تكون أختا لذكر ينتمي إليك بالولادة من طرف أبيك و أمك.

و الخالة، و المراد بها أيضا ما تشمل العاليات، فهي كالعمة إلّا أنّها أخت إحدي امهاتك و لو من طرف أبيك؛ و العمة أخت أحد آبائك و لو من طرف أمك؛ فأخت جدّتك للأب، خالتك حيث إنّها خالة أبيك، و أخت جدك للأم، عمّتك حيث إنّها عمة أمك.

فجميع الفروع الحاصلة من البنت، بالواسطة أو بالوسائط، كانت الواسطة مذكرا أو انثي أو بالاختلاف، داخلة في حكم

التحريم عاليات أو سافلات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 422

و أمّا الأخت، فانّه لا يتصور فيها العاليات و السافلات، إنّما فروعها هي الاخت لأب أو أم أو كليهما.

و بنت الأخ و بنت الأخت، يتصور فيها أيضا فروع كثيرة، و هي ما كانت بالواسطة أو بوسائط كثيرة أو بلا واسطة، كلّها محرمة علي الرجل. و كذا العمة و الخالة، يتصور فيهما تلك الفروع الكثيرة، عمة الأب أو عمة الام أو عمة الجد الأبي و الأمي، إلي غير ذلك.

و الدليل علي كل ذلك، هو ما مرّ في الأم بعينه من الاجماع بين المسلمين مضافا إلي ما عرفت من إمكان استفادته من الآية الشريفة في سورة النساء بما مرّ فيها من الكلام.

*** بقي هنا شي ء: الاستدلال بالروايات

قد يستدل للمحارم النسبية مضافا إلي ما ذكر، بروايات واردة في حرمة الأم، (في الباب 1 من هذه الأبواب) و في حرمة البنت (في الباب 2) و في حرمة الاخت، (في الباب 3) و في حرمة العمة و الخالة، (في الباب 4) و حرمة بنت الأخ و بنت الاخت، (في الباب 5) من أبواب ما يحرم بالنسب، من الوسائل. «1»

لكن الاستدلال بها قليل الفائدة، لأنّه اكتفي في كثير منها بالآية الشريفة، ففي الواقع الاستدلال بالآية، لا بالرواية (مثل كثير من روايات تحريم الأم). و الباقي لا يدل علي أكثر من تحريم هذه الأصناف بلا واسطة، و هو من الواضحات. و ليس فيها قرائن تدل علي شمولها لما فيه الواسطة إلّا شاذ منها، مثل مرفوعة محمد بن محمود، عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام، أنّه قال للرشيد في حديث: يا أمير المؤمنين! لو أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله نشر فخطب إليك كريمتك،

هل كنت تجيبه؟ فقال: لم لا أجيبه؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام: و لكن لا يخطب إليّ، و لا أجيبه. قال: و لم؟ قال لأنّه ولدني و لم يلدك. «2»

و هو دليل علي تحريم البنت و أن نزلت، و الامر سهل بعد ما عرفت.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 273- 279، أبواب ما يحرم بالنسب.

(2). الوسائل 14/ 275، الحديث 3، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالنسب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 423

[المسألة 1: لا تحرم عمة العمة و لا خالة الخالة]

اشارة

المسألة 1: لا تحرم عمة العمة و لا خالة الخالة ما لم تدخلا في عنواني العمة و الخالة و لو بالواسطة، و هما قد تدخلان فيهما فتحرمان، كما إذا كانت عمتك أختا لأبيك لأب و أم أو لأب، و لأبي أبيك أخت لأب أو أم أو لهما، فهذه عمة لعمتك بلا واسطة، و عمة لك معها؛ و كما إذا كانت خالتك أختا لأمك لأمها و أبيها، و كانت لأم أمك أخت فهي خالة لخالتك بلا واسطة، و خالة لك معها. و قد لا تدخلان فيهما فلا تحرمان، كما إذا كانت عمتك أختا لأبيك لأمه لا لأبيه، و كانت لأبي الأخت أخت فالأخت الثانية عمة لعمتك و ليس بينك و بينها نسب أصلا، و كما إذا كانت خالتك أختا لأمك لأبيها لا لأمها، و كانت لأم الأخت أخت فهي خالة لخالتك و ليست خالتك و لو مع الواسطة، و كذلك أخت الأخ أو الأخت إنّما إذا تحرم كانت أختا لا مطلقا، فلو كان لك أخ أو أخت لأبيك و كانت لأمها بنت من زوج آخر فهي أخت لأخيك أو أختك و ليست أختا لك، لا من طرف أبيك و لا من طرف أمك، فلا تحرم

عليك.

قد تكون أخت الأخت أختا و قد لا تكون

أقول: و حاصل الكلام في هذه المسألة، أنّه قد تكون اخت الأخت أختا، و قد لا تكون، و ذلك أنّه إذا كانت نسبة الجميع لأب و أم، أو لأب، أو لأم، أي كانت النسبة واحدة فتكون اختا، لاجتماع الجميع في التولد من أب واحد أو أم واحد؛ امّا إذا كانت النسبة في الأولين غير النسبة في الأخيرين، بأن كانت فاطمة أختا لي من ناحية الأب فقط، و كانت لفاطمة اخت من ناحية الام فقط، فاخت فاطمة ليست اختا لي؛ لعدم اشتراكها معي لا في الأب و لا في الأم؛ فهي مفارقة مني أبا و امّا، فتحل لي.

و قد صرح بذلك في روايات الباب 6 من أبواب ما يحرم بالنسب؛ فعن أبي جرير القمي، (هو زكريا بن ادريس، أو زكريا بن عبد الصمد)، قال: سالت أبا الحسن موسي عليه السّلام

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 424

ازوج أخي من امّي اختي من أبي. قال أبو الحسن عليه السّلام: زوج إيّاها إيّاه أو زوج إيّاه إيّاها. «1» و ما يظهر من بعض الروايات من المنع بقوله عليه السّلام: ما أحب ذلك؛ محمول علي الكراهة، كما هو ظاهر.

و هكذا حال عمة العمة، أو خالة الخالة، إذا كانت إحداهما لأب و الآخر لأم.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 279، الحديث 1، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالنسب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 425

[المسألة 2: النسب إمّا شرعي، و هو ما كان بسبب وطء حلال ذاتا]

اشارة

المسألة 2: النسب إمّا شرعي، و هو ما كان بسبب وطئ حلال ذاتا بسبب شرعي من نكاح أو ملك يمين أو تحليل، و إن حرم لعارض من حيض أو صيام أو اعتكاف أو احرام و نحوها؛ و يلحق به وطؤ الشبهة. و أمّا غير شرعي، و هو

ما حصل بالسفاح و الزنا؛ و الأحكام المترتبة علي النسب الثابتة في الشرع من التوارث و غيره و إن اختصت بالأول، لكن الظاهر بل المقطوع أنّ موضوع حرمة النكاح أعم فيعمّ غير الشرعي؛ فلو زنا بامرأة فولدت منه ذكرا و انثي حرمت المزاوجة بينهما، و كذا بين كل منهما و بين أولاد الزاني و الزانية الحاصلين بالنكاح الصحيح أو بالزنا بامرأة اخري؛ و كذا حرمت الزانية و امّها و أمّ الزاني و اختهن علي الذكر، و حرمت الانثي علي الزاني و أبيه و أجداده و اخوته و أعمامه.

معني النسب و تعريفه

أقول: كان الكلام في المسائل السابقة، في الاصناف السبع المحرمة من النساء (البنت و الأم و الاخت و العمة و الخالة و بنت الأخ و بنت الاخت) من ناحية النسب؛ و الكلام هنا في معني النسب و تعريفه، ثم يتعقبه أحكام ولد الزنا شرعا، و هو مسألة مهمّة من شتّي الجهات.

و قد صرّح جماعة كثيرة من أساطين الفقه، كالشهيد الثاني في المسالك، و العلّامة في التذكرة، و المحقق الثاني في جامع المقاصد، و صاحب الرياض في الرياض، و صاحب الجواهر في الجواهر، فيما يأتي الإشارة إليه من كلماتهم، أنّ النسب يثبت بالوطي الصحيح بنكاح؛ و زاد بعضهم أنّ المراد منه هو الوطء المستحق شرعا و لو في نفس الأمر، و أن حرم بالعارض، كالوطئ في الحيض و الإحرام (و غيرهما). «1»

و الدليل علي ذلك مضافا إلي أنّه من المتسالم عليه بينهم، عدم صدق الزنا علي وطئ

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 202.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 426

الزوجة في صيام شهر رمضان أو في الحيض أو شبه ذلك؛ فلو تولد منه ولد كان من الوطء

المستحق شرعا بالذات، و لو حرم بالعارض؛ و لا يطلق عليه في الشرع بل العرف ولد الفجور.

ثم ذكر المصنف هنا الحاق ولد الشبهة بالنكاح الصحيح، و سيأتي الكلام فيها و في حكمها في المسألة الآتية.

احكام ولد الزنا

ثم شرع في الكلام في أحكام الولد غير الشرعي أي ولد الزنا و السفاح، و فصّل بين الأحكام المترتبة علي النسب من التوارث و غيره، و بين النكاح؛ فصرّح بالحرمة في الثاني، و عدم ترتب الآثار في غيره.

و تفصيل الكلام فيه، أنّ الظاهر من كلمات الخاصة اتفاقهم علي ثبوت احكام النسب من حيث النكاح علي ولد الزنا. قال المحقق الثاني في جامع المقاصد: أمّا الزنا، و هو الوطء الذي ليس بمستحق شرعا مع العلم بالتحريم، فلا يثبت به النسب إجماعا، لكن أجمع أصحابنا علي أنّ التحريم المتعلق بالنسب يثبت مع الزنا إذا تولد به ولد. «1»

ثم استدل للتحريم، بصدق العنوان (عنوان الولد) عليه لغة؛ ثم أشكل عليه بالنقض بباقي الآثار، فان الصدق اللغوي لو كان كافيا لترتب عليه سائر الآثار؛ و ذكر في آخر كلامه عدم ترتب شي ء من آثار الولد عليه ما عدا حرمة النكاح، و هي من باب الاحتياط في أمر الفروج؛ و لا يخفي عليك ما في كلامه من الاضطراب، و كان المانع الأصلي له من عدم الحرمة هو الإجماع.

و قال العلّامة في التذكرة: البنت المخلوقة من الزنا يحرم علي الزاني وطؤها، و كذا علي ابنه و أبيه و جدّه؛ و بالجملة حكمها في تحريم الوطء، حكم البنت عن عقد صحيح عند علمائنا أجمع. و به قال أبو حنيفة لقوله تعالي: «و بناتكم» و حقيقة البنت موجودة

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 190.

أنوار الفقاهة - كتاب

النكاح (لمكارم)، ص: 427

فيها، فانّ البنت هي المتكوّنة من مني الرجل، و نفيها عنه شرعا لا يوجب نفيها حقيقة، لأنّ المنفي في الشرع هو تعلق الاحكام الشرعية مثل الميراث و شبهه … و قال الشافعي لا تحرم بل يكره؛ و به قال مالك … و العجب أنّهم اتفقوا علي أنّها إن ولدت ابنا، حرم عليه أن ينكحها؛ فما الفرق؟! «1»

و ذكر الشيخ في الخلاف، كلام الأصحاب و موافقة أبي حنيفة و مخالفة الشافعي؛ و استدل لمختاره و هو الحرمة، بصدق البنت و طريقة الاحتياط. «2»

و صرّح في الرياض، بأن الدليل علي الحرمة هو الإجماع، دون صدق العنوان، و إلّا ترتب عليه جميع أحكام هذا العنوان. «3»

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ هنا أحكاما كثيرة تترتب علي عنوان الولد، كحرمة النكاح في العناوين السبعة، و كالإرث و الحضانة و الولاية و انعتاق بعض الاقارب بمجرد الاشتراط، و عدم قصاص الوالد بولده، و أحكام العاقلة، و شبه ذلك؛ فهل تتوقف جميع ذلك علي النسب الشرعي أو تعم غير الشرعي أيضا.

المعروف بل المدعي عليه الإجماع، هو التفصيل بين النكاح و غيره، فيترتب الحكم في الأول دون غيره. إنّما الكلام في دليل ذلك، و غاية ما يمكن الاستدلال به لهذا القول امور:

1- الإجماع، و هو غير بعيد، لعدم نقل قول مخالف بين الأصحاب و أن عبّر غير واحد منهم بالاحتياط، و حيث لا يوجد في المسألة دليل معتبر غيره، فهو حجة؛ فتأمل.

هذا، و قد أجمع المخالفون أيضا علي بعض مصاديقه كما عرفت آنفا.

2- ما استدل به غير واحد من الأكابر من صدق العناوين المحرمة علي المتولد من الزنا كالبنت و الابن لغة؛ و لكن يرد عليه أنّه لو سلم ذلك،

وجب ترتب سائر الأحكام عليه و لم يقل به أحد؛ و لا يمكن أن يقال إن هذه العناوين نقلت إلي معان جديدة في

______________________________

(1). العلامة الحلّي، في تذكرة الفقهاء 2/ 613 ط. ق.

(2). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 310.

(3). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 3/ 85.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 428

الشرع، لأنّه لو كان كذلك، وجب نفي جميع الأحكام، لا التفصيل.

3- ما استدل به في الجواهر، من رواية طويلة رواها زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الانكار الشديد علي من قال بأن بدو النسل في ذريّة آدم كان من طريق نكاح الاخوة و الأخوات، و أنّه من البعيد جدا أن يجعل اللّه أصل أنبيائه و رسله و المؤمنين من الحرام؛ ثم ذكر الإمام عليه السّلام أن ذلك مستنكر بين البهائم أيضا، و أنّه حكي له عليه السّلام أنّ بعض البهائم قد قتل نفسه لمّا اشتبهت عليه اخته، فنزا عليه. «1» فانّها تدل علي أنّ الاستنكار منوط بنفس الضراب و التولد، فانّه لا عقد بين البهائم.

و يرد عليه أولا، بضعف سند الحديث، فانّ الراوي عن زرارة، هو ابن توبة و هو مجهول الحال. و ثانيا، بمخالفته للوجدان فانّ التزايد في كل قطيع من الحيوانات لا يكون إلّا باجتماع بعضها مع بعض و كلهم قرابات نسبية و لم نسمع باحترازهم عنها.

4- و استدل غير واحد منهم بلزوم الاحتياط في باب النكاح، و من المعلوم أنّ ذلك يكون مؤيدا لا دليلا.

5- أنّ يقال بان التفصيل المذكور ناش عن تناسب الحكم و الموضوع، فمثل الارث من الحقوق الماليّة لا يترتب إلّا علي الولد الشرعي؛ أمّا النكاح فهو امر مرتبط بالولادة الجسمانية الخارجية، حتي أنّ العقلاء

من أهل العرف يقبحون نكاح الأمّ مع ولده، و يترتب عليه مفاسد صحيّة و اخلاقية.

أضف إلي ذلك أنا نري الشارع المقدس قد نهي عن زواج المرأة مع ولد ارتضع من لبنها يوما و ليلة، و لم يرض بنكاحهما، فكيف يرضي بمن انعقد نطفته منه و استقر في رحمه تسعة أشهر يتغذي منها حتي ينبت لحمه و يشتدّ عظمه و كل شي ء منه؛ و بهذا الاعتبار قلنا أنّ الامّ التي تنوب عن الام الأصليّة يحرم عليها نكاح الولد المتولد منها، (و المراد منه ما إذا ركّبت النطفة خارج الرحم ثم جعلت في رحم امرأة اخري و يسمّي في الفارسيّة بمادر جانشين) فاذا قلنا بالحرمة في مثل ذلك، فكيف نقول بالجواز فيمن

______________________________

(1). الوسائل 14/ 277، الحديث 4، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالنّسب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 429

انعقدت نطفته منها أيضا.

و لعله لذلك أجمع جميع علماء الإسلام علي تحريم زواج المرأة مع ابنها غير الشرعي، و من الواضح عدم الفرق بينه و بين سائر الموارد إلّا بالظهور و الخفاء.

و لعل استدلال أكابر الفقهاء بصدق عنوان «بناتكم»، و ما أشبهه، أيضا ناظر إلي ما ذكرنا؛ و الانصاف أنّ هذا الدليل أحسن من جميع أدلة المسألة و يكون الإجماع مؤيدا له.

*** بقي هنا امور:
1- لا توارث في ولد الزنا

لا إشكال و لا كلام بين الأصحاب في عدم التوارث في ولد الزنا؛ و ادعي في الجواهر الإجماع عليه بقسميه؛ و استدل به مضافا إلي الإجماع، بالمعتبرة المستفيضة مثل ما رواه الحلبي، في الصحيح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أيّما رجل وقع علي وليدة قوم حراما، ثم اشتراها، فادعي ولدها فانّه لا يورث منه شي ء، فان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله

قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر، و لا يورث ولد الزنا إلّا رجل يدعي ابن وليدته. «1»

و عن الصدوق، و أبي الصلاح، و أبي عليّ، أنّه يرث امّه و من يتقرب بها، و يرثونه علي حسب حال ابن الملاعنة؛ و لكنه شاذ كدليلهم، و تمام الكلام في محلّه؛ و حينئذ يكون ارثه لأولاده، و لو لم يكن له أولاد، فللإمام عليه السّلام.

2- هل يترتب جميع آثار المحرمية هنا حتي النظر؟

يظهر من كلمات غير واحد من فقهائنا عدم جواز النظر مع حرمة النكاح، مع أنّ التفرقة بينهما مشكل جدا؛ قال في الرياض بعد ذكر إجماع الأصحاب علي حرمة النكاح في محل البحث: و هو الحجة دون صدق النسبة في العرف و اللغة … مع استلزامها ثبوت

______________________________

(1). الوسائل 17/ 566، الحديث 1، الباب 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 430

الأحكام الباقية كحلّ النظر و الانعتاق بملك الفرع أو الأصل … و غير ذلك من توابع النسب … و لو احتيط في الجميع كان اولي. «1»

و لكن الانصاف، أنّ الفرق بين حرمة النكاح- بعنوان الام و البنت و أشباهها- و حلّ النظر، أمر غريب.

و الاولي أن يقال إنّ بنينا الأمر في المسالة علي أمر تعبدي و هو الإجماع، أمكن الاقتصار علي حرمة النكاح، و لكن لو قلنا بما مرّ في الدليل الخامس من تناسب الحكم و الموضوع بل الأولوية بالنسبة إلي الرضاع، كان الحكم بحلّ النظر قويا جدا. و سيأتي في كلام الجواهر التصريح بالحل لاتحاد المناط.

3- هل الحكم يعم السببيات أيضا؟

هل يختص الحكم بالعناوين السبع المحرمة، أو يعم السببيات، فيحرم علي الأب الزاني زوجة ولده من الزنا كما يحرم عليه زوجة أبيه؛ و كذا الجمع بين الاختين من الزنا، أو إحداهما من النسب و الآخر من الزنا.

ظاهر كلام المتن، (تحرير الوسيلة)، عدم الشمول للمصاهرات، و هو ظاهر غيره أو صريحه، و لكن قال في الجواهر:

لا ينبغي التأمل في أنّ المتجه عدم لحوق حكم النسب في غير النكاح، بل ستعرف قوة عدم جريانه فيه أيضا في المصاهرات، فضلا عن غير النكاح، بل قد يتوقف في جواز النظر بالنسبة إلي من حرم نكاحه مما عرفت.

ثم عدل

عن هذا في ذيل كلامه، و قال: و لكن الانصاف عدم خلوّ الحلّ من قوة بدعوي ظهور التلازم بين الحكمين هنا، خصوصا بعد ظهور اتحادهما في المناط. «2»

و هذا الكلام و إن كان صريحا في حلّ النظر، و لكن ظاهره أو صريحه عدم جريان الحكم في المصاهرات، مع أنّه محجوج بما ذكره من اتحاد المناط في الجميع.

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 2/ 85.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 259.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 431

و الانصاف أنّ التفرقة بين المحرمات النسبيّة و المصاهرات صعب جدا؛ فاللازم، اللحوق لما عرفت من الدليل.

4- من ينفق علي ولد الحرام؟

لم نر في كلماتهم ما يدل علي شي ء من ذلك عدا ما يظهر من عموم نفي أحكام الولد عنه في كلماتهم ما عدا حرمة النكاح.

و ممن صرّح بعدم وجوب الانفاق عليها- ناقلا عن بعض فقهائهم- ابن قدامة في المغني، حيث قال: يحرم علي الرجل نكاح بنته من الزنا و اخته و بنت ابنه و بنت بنته و بنت أخيه و اخته من الزنا، و هو قول عامة الفقهاء، و قال مالك و الشافعي في المشهور من مذهبه يجوز ذلك كلّه، لأنّها أجنبيّة منه، و لا تنسب إليه شرعا، و لا تجري التوارث بينهما … و لا تلزمه نفقتها … «1»

و لكن الانصاف أنّ المتعارف بين العقلاء من أهل العرف القاء نفقة هذه الأولاد علي عاتق صاحب النطفة، و هكذا حضانتهم، و لا يعتني باعتذار عدم كون هذه الأولاد لهم بحسب قانون العقلاء أو قانون الشرع المقدس؛ فالاحوط لو لا الأقوي وجوب الانفاق عليهم و حضانتهم من ناحية صاحب النطفة.

و أمّا الولاية، و أحكام العاقلة، و إجراء حكم عدم اقتصاص الوالد

بولده، و عدم سماع شهادة الولد علي والده، فلمّا كان جميعها مخالفا للأصل و لا يكون هنا دليل علي ثبوتها لصاحب النطفة، فاللازم الحكم بنفيها في حقّه، و اللّه العالم.

و قد عثرنا بعد ذلك كلّه، علي كلام للعلامة الشيخ عبد اللّه المامقاني في كتابه، مناهج المتقين، في فقه أئمة الحق و اليقين؛ يدل علي قبوله لجريان جميع أحكام الولد علي ولد الحرام ما عدا الارث؛ حيث قال: و الاقوي اتحاد ولد الزنا و ولد الحلال في جميع أحكام النسب عدا الارث، فانّه لا ارث بين ولد الزنا و أقاربه للنص الخاص، و أمّا فيما عداه

______________________________

(1). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 584.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 432

فالمرجع اطلاق الادلة، لصدق الابن و الأخ و نحوهما لغة و عرفا. «1»

و لكنه قول شاذ جدا و ينافيه قوله عليه السّلام الولد للفراش و للعاهر الحجر؛ و يظهر من صحيحة الحلبي أنّه لا يختص بموارد الشك بل يشمل موارد اليقين أيضا، فمعناه أنّ الولد لا يكون إلّا للفراش اي النكاح الصحيح شرعا، و هو بمنزلة تعليل عام لجميع أحكام الولد، فيكون الأصل عدم جريان الأحكام إلّا ما خرج بالدليل، كما ذكرنا في المسائل السابقة؛ و اللّه العالم.

5- كيف كان بدء نسل آدم

هناك مسألة معروفة لا يزال الناس يسألون عنها من قديم الأيّام إلي حديثه، و أنّه كيف كان بدء نسل آدم مع أنّ نكاح الاخوة و الأخوات محرمة؟

و قد وقع الخلاف في الجواب عن هذا السؤال، و فيه مذاهب ثلاثة:

أولها: أنّ نكاحهم كان حلالا آنئذ، و كان ذلك قبل نزول التحريم.

ثانيها: أنّ ذلك كان حراما دائما، لكن أنزل اللّه الحور من الجنة أو بعض الجنّ، فوقع النكاح معهن.

ثالثها: أنّ

آدم لم يكن أول انسان خلق علي وجه الأرض، بل كان قبله اناس آخرون لم ينقرض جميعهم، فكان الزواج بين أبناء آدم و بقايا من اناس سابقين.

و الذي استدل به للقول الأول بعض الآيات من الذكر الحكيم:

منها، قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثيٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا … «2»

و المخاطب في الآية جميع الناس، و المراد من الذكر و الانثي هو آدم و حواء بلا ريب كما فهمه المفسرون و غيرهم و كما يشير إليه الشعر المعروف:

الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم و الأمّ حواء

______________________________

(1). الشيخ عبد اللّه المامقاني، في مناهج المتقين/ 355.

(2). الحجرات/ 13.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 433

فان يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين و الماء

فظاهر الآية، رجوع نسل الجميع إلي آدم و حواء، و لو كان في نسلهم الحوراء أو الجن لا بدّ من الإشارة إليه.

و منها، قوله تعالي في سورة النساء: يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالًا كَثِيراً وَ نِسٰاءً … «1»

و ظاهرها أيضا كون الجميع من أصلين آدم و زوجها، لا غير.

و ما احتمله بعضهم من كون المراد منه خصوص أولاد آدم في الطبقة الاولي، ينافي ما ثبت من التاريخ أنّه لم يكن لآدم أولادا كثيرة رجالا و نساء، بل المراد في الطبقات الاخري؛ فلعل نكاح الاخوة و الأخوات كان حلالا في الصدر الأول، كما أنّ نكاح حواء مع آدم كان جائزا مع ان حواء خلقت من آدم؛ فلو فرض في زماننا أنّه خلقت امرأة من رجل (بطريق خلق الشبيه مع تغيير الجنسية) لم يكن هناك

شك في عدم جواز نكاحهما معا؛ فإذا كان هذا جائز في العصر الأول، فليكن نكاح الاخوة و الأخوات كذلك.

و استدل له من الروايات، بروايتين رواهما العلّامة المجلسي، في البحار، عن قرب الأسناد و الاحتجاج. «2»

أمّا الاول، فهو ما رواه عن البزنظي، قال سألت الرضا عليه السّلام عن الناس كيف تناسلوا من آدم عليه السّلام. فقال: حملت حواء هابيل و اختا له في بطن، ثم حملت في البطن الثاني قابيل و اختا له في بطن، فزوج هابيل التي مع قابيل، و تزوج قابيل التي مع هابيل، ثم حدث التحريم بعد ذلك.

و الثاني، ما عن الثمالي، قال: سمعت علي بن الحسين عليه السّلام يحدث رجلا من قريش، قال: لما تاب اللّه علي آدم إلي أن قال: فأوّل بطن ولدت حواء هابيل و معه جارية يقال إقليما؛ قال: و ولدت في البطن الثاني قابيل و معه جارية يقال لها لوزا؛ و كانت لوزا أجمل بنات آدم. قال: فلما أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة، فدعاهم إليه، و قال: اريد أن انكحك يا

______________________________

(1). النساء/ 1.

(2). العلامة المجلسي، في بحار الأنوار 11/ 225.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 434

هابيل لوزا و انكحك يا قابيل إقليما … فزوجهما علي ما خرج لهما (بعد القرعة) من عند اللّه؛ قال: ثم حرم اللّه نكاح الأخوات بعد ذلك.

قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال: نعم، قال: فقال القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم؛ قال: فقال علي بن الحسين عليه السّلام: إن المجوس إنّما فعلوا ذلك بعد التحريم من اللّه. ثم قال علي بن الحسين عليه السّلام: لا تنكر هذا، أ ليس اللّه قد خلق زوجة آدم منه، ثم حلّها له، فكان ذلك شريعة من شرائعهم، ثم

أنزل اللّه التحريم بعد ذلك. «1»

قال العلّامة المجلسي (قدس سره) بعد نقل هاتين الروايتين: هذان الخبران محمولان علي التقية، لاشتهار ذلك بين العامّة. «2»

و لكن قال العلّامة الطباطبائي: أقول: و هذا الذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب و الاعتبار و هناك روايات آخر تعارضها و هي تدل علي أنّهم تزوجوا بمن نزل إليهم من الحور و الجان، و قد عرفت الحق في ذلك. «3»

و قد حكي ابن الأثير في تاريخه، الكامل؛ ما يدل علي نكاح الأخوة و الأخوات، و أن آدم أمر قابيل بنكاح توأمة هابيل، و بالعكس. «4» و ذكر ما يقرب منه، الطبري، في تاريخه، ثم ذكر روايات كثيرة في تزويج ابنا آدم مع أخواتهم. «5»

و ذكر في فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لأحمد بن حجر، (6/ 263)، عن المفسر المعروف السدي في تفسيره عن مشايخه، ثم ذكر القصة.

و قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغه (13/ 145): و الأكثرون قالوا أراد آدم عليه السّلام أن يزوج هابيل اخت قابيل توأمته، و يزوج قابيل اخت هابيل توأمته، الخ …

و في فيض القدير، شرح الجامع الصغير للمناوي (1/ 671)، مثله، مع اختلاف يسير.

و ورد ذلك في بعض كتبهم الفقهية، منها المبسوط للسرخسي (5/ 509).

______________________________

(1). العلامة المجلسي، في بحار الأنوار 11/ 225، الحديث 4.

(2). العلامة المجلسي، في بحار الأنوار 11/ 226، الحديث 4.

(3). العلامة الطباطبائي، في تفسير الميزان 4/ 147.

(4). ابن الاثير، في الكامل 1/ 42.

(5). الطبري، في تاريخ الطبري 1/ 93 و ما بعده.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 435

و ورد ذلك في الدر المنثور، و البيضاوي، و غيرهما، و ذكر الزمخشري في الكشاف ذيل الآية 28 من سورة

المائدة: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ (1/ 624).

و العجب أنّهم لم يرووا رواية في ذلك عن النبي صلّي اللّه عليه و آله، بل اعتمدوا علي أفواه الرجال!

و يدل علي القول الثاني، روايات كثيرة و أن تفاوتت السنتها:

طائفة منها، ما يدل علي نفي جواز نكاح الاخوة و الأخوات، من دون ذكر كيفية بدو النسل و انتشار أبناء آدم في الأرض؛ مثل:

1- ما رواه ابن توبة (و في البحار ابن نوية، و هو أيضا مجهول لم نر ذكرا له في الرجال)، عن زرارة، قال سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام كيف بدء النسل، فانّ عندنا اناسا يقولون إنّ اللّه أوحي إلي آدم أن يزوج بناته من بنيه، و أنّ أصل هذا الخلق من الاخوة و الأخوات.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: سبحان اللّه و تعالي عن ذلك علوا كبيرا، يقولون من يقول هذا، أنّ اللّه جعل أصل صفوة خلقه و أحبّائه و أنبيائه و رسله و المؤمنين و المؤمنات من حرام، و لم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال، و قد أخذ ميثاقهم علي الحلال و الطهر الطاهر الطيب … ثم نقل قصة قتل بعض الحيوانات نفسه لما اشتبهت عليه اخته فواقعها. «1»

2- ما رواه زرارة أيضا بطريق اخر- علي ما في العلل- و ذكر مثله، و زاد: أن كتب اللّه كلها فيما جري فيه القلم في كلّها تحريم الأخوات علي الأخوة، مع ما حرم …

الحديث. «2»

3- و يدل عليه إجمالا، ما عن أصبغ بن نباته، عن أمير المؤمنين عليه السّلام. «3»

و هناك طائفة اخري، تدل علي أنّ أولاد آدم إنّما نكحوا مع الحور العين التي نزلت عليهم، مثل ما رواه الصدوق بسنده المعتبر

عن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. «4»

و هناك طائفة ثالثة، تدل علي أنّ بعضهم نكح الحوراء و بعضهم نكح الجنّ، مثل ما رواه

______________________________

(1). الوسائل 14/ 277، الحديث 4، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالنّسب.

(2). الوسائل 14/ 277، الحديث 5، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالنّسب.

(3). الوسائل 14/ 277، الحديث 3، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالنّسب.

(4). الوسائل 14/ 275، الحديث 1، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالنّسب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 436

بريد العجلي، عن الباقر عليه السّلام؛ «1» و مرسلة خالد بن اسماعيل عنه عليه السّلام، أيضا. «2»

إلي غير ذلك ممّا ورد في البحار، «3» و تفسير البرهان. «4»

و هذه الأحاديث و إن كانت متضافرة، و لكن قد يورد عليها:

أولا: بان تزويج الإنسان مع الحور أو الجن بعيد، لأنّهما جنسان متباينان، الحور جسم نوري، و الجنّ جسم ناري، و الإنسان خلق من الطين.

إن قلت: أو ليس المعاد جسمانيا، و الإنسان في الآخرة يتزوج مع الحور؟

قلنا: نعم، و لكن لا يتولد منهما إنسان، و قد يجتمع حيوان مع آخر من غير جنسه دفعا للشهوة، و لكن لا يتولد منهما ولد، فكيف الانسان بغيره.

ثانيا: هذه الروايات في نفسها متعارضة كما عرفت؛ و لكن يمكن أن يقال أنّها و إن تعارضت في تفصيل جزئيات ولادة أولاد آدم عليه السّلام، و لكنها متفقة في عدم حلية نكاح الاخوة و الأخوات في زمن من الأزمنة؛ فتأمل.

و الحاصل أنّ الروايات الدالة علي نكاح ولد آدم، الاخوة مع الأخوات شاذة بالنسبة، و اسنادها غير معتبرة؛ و لكنها توافق ظاهر القرآن؛ و روايات نفي هذا النكاح كثيرة متضافرة مخالفة للعامة، و لكنها متعارضة في نفسها،

و ترجيح أحدهما علي الآخر لا يخلو عن إشكال؛ و إن كان الثاني أقوي من بعض الجهات.

و أمّا القول الثالث، كما عرفت و هو نكاح ابناء آدم مع بقايا النسل السابق عليه، فان آدم عليه السّلام لم يكن أول إنسان ظهر علي الأرض، و يدل علي ذلك امور:

1- ما ثبت في التواريخ من وجود كثير من الاناسي قبل هبوط آدم، بل كان لهم نظامات و حكومات! (راجع ناسخ التواريخ و شبهه).

2- ما ثبت في العلم الحديث من وجود نسل الإنسان قبل مليون أو ملايين سنة مع أنّ هبوط آدم لا يتجاوز عن بضعة آلاف سنة فيما هو المشهور.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 276، الحديث 2، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالنّسب.

(2). الوسائل 14/ 277، الحديث 6، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالنّسب.

(3). العلامة المجلسي، في بحار الأنوار 11/ 225 و ما بعدها.

(4). السيد هاشم البحراني، في تفسير البرهان 1/ 336، ذيل آية 1 من سورة النساء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 437

3- هناك روايات كثيرة مروية في كتب الفريقين، تدل علي أنّه كان قبل آدم، آدم آخر بل في بعضها- كما عن الصادق عليه السّلام في كتاب التوحيد، أنّه قال: لعلك تري أنّ اللّه لم يخلق بشرا غيركم، بلي، و اللّه لقد خلق الف الف آدم أنتم في آخر اولئك الآدميين. و في بعض الروايات عنه عليه السّلام أنّ للّه تعالي اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين، ما يري عالم منهم أنّ للّه عز و جل عالما غيرهم؛ (إلي غير ذلك ممّا أورده صاحب تفسير المنار، في المجلد 4 ص 325) فراجع.

ثم أنّه لا دليل علي

انقراض جميع الماضيين من الآدميين، و يحتمل بقاء بعضهم و نكاح أولاد آدم معهم.

و نهاية ما يستفاد من هذا القول، مجرد احتمال تحقق هذه النكاح، و عدم القطع بنكاح الاخوة و الأخوات في أولاد آدم عليه السّلام، و كفي بذلك في مقابل من يدعي القطع بذلك النكاح.

هذا، و ليست المسألة من اصول الدين، و لا من فروعه، و إن كانت تدور علي الألسن و يسأل منها كثيرا؛ و لعلّ الأقرب بعد الاحاطة بما ذكرنا عدم ثبوت نكاح أولاد آدم الاخوة مع الأخوات؛ و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 438

[المسألة 3: المراد بوطء الشبهة، الوطء الذي ليس بمستحق]

اشارة

المسألة 3: المراد بوطء الشبهة، الوطء الذي ليس بمستحق مع عدم العلم بالتحريم، كما إذا وطأ أجنبية باعتقاد أنّها زوجته، أو مع عدم الطريق المعتبر عليه بل أو الأصل كذلك؛ و مع ذلك فالمسألة محلّ إشكال، و يلحق به وطؤ المجنون و النائم و شبهها، دون السكران إذا كان سكره بشرب المسكر عن عمد و عصيان.

أقول: إنّ للزنا أحكاما أربعة: عدم المهر، و عدم العدة، و عدم الحاق النسب، و الحدّ؛ لا إشكال و لا كلام في عدم جريان شي ء منها في وطئ الشبهة. إنّما الكلام في الدليل علي هذا الحكم و معرفة موضوع الشبهة، فانّ معرفة الموضوع هنا أهمّ، لما فيها من الكلام بينهم، مع كون أصل الحكم مسلما عندهم؛ فالكلام في مقامين، و المسألة من المسائل المهمّة شديد الابتلاء.

المقام الأول: الموطوء شبهة بمنزلة المعقودة

و هو كون الموطوء شبهة بمنزلة المعقودة عقدا شرعيا، فيظهر من كلماتهم التسالم عليه من دون إشكال.

قال في الجواهر: و كذا يثبت النسب مع الشبهة إجماعا بقسميه. «1»

و في المسالك لم يزد علي قوله: و يلحق به وطؤ الشبهة؛ و أرسله ارسال المسلمات كغيره.

و يدل علي هذا الحكم مضافا إلي ما عرفت، عدم صدق الزنا عليه إجمالا، فلا يلحقه أحكامه من الحدّ و نفي النسب و غيره، و يصدق علي الولد المتولد منه أنّه ولد، و لا يشمله قوله صلّي اللّه عليه و آله: و للعاهر الحجر؛ و بالجملة المسألة من الواضحات من هذه الناحية.

المقام الثاني: ما هو المراد من الشبهة

و هو المراد من الشبهة، فانّ هنا مصاديق وقع فيها النزاع و الكلام، و المعروف في

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 244.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 439

تعريفه: أنّه الوطء الذي ليس بمستحق في نفس الأمر مع اعتقاد فاعله الاستحقاق. و أضاف في الجواهر في أول كلامه: أو صدوره عنه بجهالة مغتفرة في الشرع، أو مع ارتفاع التكليف بسبب غير محرم. «1»

توضيح ذلك، أنّ هنا مصاديق بعضها ظاهر و بعضها خفي:

مصاديق الشبهة

1- إذا واقع امرأة مع اعتقاد قطعي أنّها امرأته.

2- إذا واقعها مع الدليل الشرعي المعتبر كشهادة الشهود.

3- إذا واقعها مع الركون إلي أصل شرعي كالاستصحاب.

4- إذا واقعها مع الظن غير المعتبر أنّها زوجته.

5- إذا واقعها مع الشك أو الوهم.

6- إذا واقع امرأة يعلم حرمتها عليه اكراها و جبرا.

7- إذا واقعها اضطرارا، كما ورد في الحديث في امرأة اضطرت إلي الزنا في فلات، لعدم وجدانها ما يسدّ جوعها و يبقي حياتها.

8- إذا واقعها في حال الجنون أو في حال الصغر.

9- إذا واقعها في النوم.

10- إذا واقعها في حال السكر.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّهم اختلفوا في تعريف وطئ الشبهة علي أقوال:

1- قال بعضهم- كما في الجواهر- أنّه الوطء الذي ليس بمستحق في نفس الامر مع اعتقاد فاعله الاستحقاق، أو صدوره عنه بجهالة مغتفرة في الشرع، أو مع ارتفاع التكليف بسبب غير محرم. «2»

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 244.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 244.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 440

و هذا التعريف جامع شامل لأكثر العناوين السابقة أو جميعها، و لكن يرد عليه أنّه دعوي بلا دليل أوّلا، و ثانيا ليس هذا معني الشبهة، بل الشبهة بمعني الاشتباه و الخطأ

أو الشك؛ و كثير من العناوين السابقة ليس منها.

2- و قال بعضهم انه الوطء الذي ليس بمستحق مع ظن الاستحقاق. «1»

3- و عن المسالك تعريفها بالوطء الذي ليس بمستحق مع عدم العلم بالتحريم. «2»

و هذا التعريفان أضيق نطاقا من سابقهما، و لا يشملان إلّا موارد الاعتقاد المخالف أو الظن و الشك، و هل يشملان الظن و الشك من دون حجة شرعية؟ ظاهر الاطلاق، الشمول؛ و لكن نفي بعضهم ذلك.

و الانصاف أن أمثال هذين التعريفين و إن كان توافق المعني اللغوي للشبهة إجمالا، إلّا أنّه لا يشمل كثير من العناوين السابقة، و ليس عليها دليل معتبر.

فالاولي أن يقال:

أنّ عنوان الشبهة لم يرد في شي ء من الروايات فيما نعلم؛ و إنّما ورد في معاقد الإجماعات؛ فان كشفت عن وجود نص علي هذا الحكم،- أي الحاق الشبهة بالنسب-، لا بدّ من تحقيق معني الشبهة و أنّه تشمل أيّ قسم من الأقسام العشرة و لا تشمل أيّ قسم منها.

و لكن الانصاف أنّ احتمال كون الإجماع كاشفا عن وجود رواية تتضمن عنوان الشبهة بعيد جدا، بل الظاهر كون الإجماع علي مصاديق معيّنة، استفادوها من الاخبار المتفرقة التي تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

فصرف الوقت في تحقيق معني هذا اللفظ و تعريفه قليل الفائدة أو عديم الفائدة في المقام، و ليس مثل هذا ورودا صحيحا في المسألة؛ و قد ظفرنا أخيرا برواية ذكر فيها لفظ الشبهة (في المقام)، و لكنها رواية مرسلة، مضافا إلي عدم شمولها إلّا لقليل من أقسام الشبهة، و الرواية حاكية عن قصة إرجاع ستة نفرات إلي عمر، لارتكابهم الزنا، فأراد أن

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 248.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 248.

أنوار الفقاهة -

كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 441

يجري عليهم الحد (حدّا واحدا)، و كان أمير المؤمنين عليه السّلام حاضرا، فمنعه، و اجري في حقهم حدودا مختلفة من رجم بعض، و جلد بعض، و عفو بعض، و إجراء نصف الحدّ في حق بعض، حتي بلغ الخامس، قال: أمّا الخامس فكان ذلك بالشبهة، فعزّرناه و ادّبناه. «1»

و لعل مورده كان المشتبه المقصّر، و إلّا لا يمكن التعزير في حق القاصر، و العالم بالخلاف، فلا يجري إلّا في صورة واحدة من الشبهة.

فاللازم ترك هذا العنوان و الرجوع إلي الأحكام التي هي محل الكلام، و قد عرفت آنفا أنّ الزنا له أحكام أربعة: نفي النسب، و نفي العدّة، و نفي المهر، بمقتضي قوله: لا مهر لبغي؛ و الولد للفراش؛ و غير ذلك؛ فلا بدّ من تعيين أنّ لحوق وطئ الشبهة في النسب ناظر إلي أيّ حكم من هذه الأحكام، (و مرادنا من وطئ الشبهة هو العناوين العشر السابقة).

و حل المشكلة يكون من طريقين: من طريق القاعدة؛ ثم من طريق الروايات الخاصة المتفرقة في أبواب مختلفة.

مقتضي القاعدة

هو نفي الحدّ قطعا من تلك العناوين إذا كان معذورا، مثل صورة اليقين و قيام دليل شرعي أو أصل، و صورة الاجبار و الاكراه و الاضطرار، و صورة عدم البلوغ أو عدم العقل، أو النوم و السكر بغير تقصير و معصية؛ فليس في شي ء منها الحدّ، لأنّه ثابت للعصيان. نعم إذا شكت مثلا في بقاء حياة زوجها و لم يقم دليل شرعي علي وفاته، فالواجب عليها حفظ أحكام الزوجية؛ فلو تزوجت عالما عامدا، ثم ثبت بقاء زوجها، لا يبعد إجراء الحدّ عليها؛ و كذا إذا شربت المسكر عصيانا و تعلم أو تظن أنّها ترتكب الحرام في تلك

الحالة، لا يبعد إجراء الحدّ عليها.

و أمّا بالنسبة إلي المهر، فالقدر المسلم أنّه لا مهر لبغي؛ و أمّا البضع المحترم فلا يكون بغير مهر ففي جميع العناوين العشرة يكون المهر ثابتا بحسب القاعدة، إلّا ما مرّ من أنّه

______________________________

(1). الوسائل 18/ 350، الحديث 17، الباب 1 من أبواب حدّ الزّنا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 442

بحكم الزنا.

و بالنسبة إلي النسب، فالعناوين النسبيّة (مثل البنت و الامّ و غيرهما) تصدق في وطئ الشبهة (أعني العناوين المذكورة العذرية)، فيجري عليها حكم حرمة النكاح و وجوب الارث و الحضانة و غيرها، لقوله صلّي اللّه عليه و آله: الولد للفراش و للعاهر الحجر؛ نعم، لا فرق بين ولد الزنا و ولد الحلال في خصوص حرمة نكاح المحارم، كما عرفت سابقا.

و أمّا العدّة فقد أجمع العلماء علي ثبوتها للوطئ بالشبهة، و صرح في الجواهر لا الخلاف فيه، و لا إشكال. «1»

في وجوب العدّة و الوجه فيه ظاهر، فانّ الولد ملحق بأبيه حينئذ، و لازمه حفظ العدة، حتي أنّ الزنا أيضا فيه العدّة علي ما اختاره جماعة، و إن كان محلا للكلام؛ و قد وقع التصريح في بعض الروايات بانّه لا بدّ من استبراء رحمها من ماء الفجور. (و تمام الكلام فيه في محلّه).

هذه هو مقتضي القواعد في المسالة، و حاصله، وجوب إجراء أحكام النكاح الصحيح، علي العناوين العشرة السابقة، ما عدا الصور التي ليس فيها بمعذور.

مقتضي الروايات

فهي مختلفة جدّا واردة في موارد خاصة، لا تدل شي ء منها علي حكم المسالة علي نحو كلّي، و لا يوجد فيها عنوان وطئ الشبهة، بعضها تدل علي حكم المهر، و بعضها علي حكم العدّة و بعضها علي حكم النسب؛ و لكن إذا سبرناها سبرا

دقيقا لا يبعد اصطياد حكم عام من مجموعها بالنسبة إلي إجراء جميع أحكام المعقودة عليها.

و قد روي في الوسائل في الباب 16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، جملة منها؛ و أكثر منه ما رواه في الباب 37 و 38 من أبواب العدد.

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 32/ 264.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 443

فلنذكر ما رواه البابين الأخيرين؛ منها:

1- عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا نعي الرجل إلي أهله أو خبّروها أنّه طلّقها، فاعتدّت، ثم تزوّجت، فجاء زوجها بعد، فان الأوّل أحقّ بها من هذا الرجل، دخل بها أو لم يدخل بها، و لها من الآخر المهر بما استحلّ من فرجها؛ قال: و ليس للآخر أن يتزوّجها أبدا. «1»

2- عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن رجلين شهدا علي رجل غائب عند امرأته أنّه طلّقها فاعتدّت المرأة و تزوّجت، ثم أنّ الزوج الغائب قدم فزعم أنّه لم يطلّقها فأكذب نفسه أحد الشاهدين، فقال: لا سبيل للأخير عليها و يؤخذ الصّداق من الذي شهد فيردّ علي الأخير؛ و الأوّل أملك بها و تعتدّ من الأخير و لا يقربها الأوّل حتّي تنقضي عدّتها. «2»

3- عن محمّد بن قيس، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن رجل حسب أهله أنّه قد مات أو قتل فنكحت امرأته و تزوّجت سريّته و ولدت كل واحد منهما من زوجها فجاء زوجها الأوّل و مولي السريّة؛ قال: فقال: يأخذ امرأته فهو أحق بها، و يأخذ سريّته و ولدها أو يأخذ رضا من ثمنه. «3»

4- عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا نعي الرّجل إلي أهله أو خبّروها أنّه قد طلّقها،

فاعتدّت، ثم تزوّجت فجاء زوجها الأوّل؛ قال: الأوّل أحقّ بها من الآخر دخل بها أو لم يدخل بها؛ و لها من الآخر المهر بما استحلّ من فرجها. «4»

5- عن أبي بصير و غيره، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال في شاهدين شهدا علي امرأة بأنّ زوجها طلّقها أو مات عنها فتزوّجت ثم جاء زوجها، قال: يضربان الحدّ و يضمنان الصّداق للزوج بما غرّاه، ثم تعتدّ و ترجع إلي زوجها الأوّل. «5»

______________________________

(1). الوسائل 15/ 466، الحديث 1، الباب 37 من أبواب العدد.

(2). الوسائل 15/ 466، الحديث 2، الباب 37 من أبواب العدد.

(3). الوسائل 15/ 466، الحديث 3، الباب 37 من أبواب العدد.

(4). الوسائل 15/ 467، الحديث 4، الباب 37 من أبواب العدد.

(5). الوسائل 15/ 467، الحديث 5، الباب 37 من أبواب العدد.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 444

6- عن ابن بكير أو عن أبي العباس، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في المرأة تزوّج في عدّتها؛ قال: يفرّق بينهما و تعتدّ عدّة واحدة منهما جميعا. «1»

7- عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن امرأة نعي إليها زوجها فاعتدّت فتزوّجت، فجاء زوجها الأوّل ففارقها و فارقها الآخر، كم تعتدّ للنّاس؟ قال: بثلاثة قروء، و إنّما يستبرء رحمها بثلاثة قروء، تحلّها للناس كلّهم؛ قال زرارة: و ذلك أنّ أناسا قالوا: تعتدّ عدّتين لكلّ واحدة عدّة: فأبي ذلك أبو جعفر عليه السّلام و قال: تعتدّ ثلاثة قروء فتحلّ للرّجال. «2»

8- عن يونس، عن بعض أصحابه في امرأة نعي إليها زوجها، فتزوّجت، ثمّ قدم زوجها الأوّل فطلّقها و طلّقها الآخر، فقال ابراهيم النّخعي: عليها أنّ تعتدّ عدّتين؛ فحملها زرارة إلي أبي جعفر عليه السّلام فقال:

عليها عدّة واحدة. «3»

9- عن محمّد، عن أحدهما عليهما السّلام في امرأة زنت و هي مجنونة؛ قال: أنّها لا تملك أمرها و ليس عليها رجم و لا نفي؛ و قال في امرأة أقرّت علي نفسها أنّه استكرهها رجل علي نفسها، قال: هي مثل السّائبة لا تملك نفسها، فلو شاء قتلها، ليس عليها جلد و لا نفي و لا رجم. «4»

10- عن بعض أصحابنا قال: أتت امرأة إلي عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين، أني فجرت فاقم في حدّ اللّه؛ فأمر برجمها و كان علي عليه السّلام حاضرا؛ فقال له: سلها كيف فجرت؟ قالت:

كنت في فلاة من الأرض، فأصابني عطش شديد، فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت رجلا أعرابيا، فسألته الماء، فابي عليّ أن يسقيني إلّا أن أمكّنه من نفسي، فولّيت منه هاربة، فاشتدّ بي العطش حتّي غارت عيناي و ذهب لساني؛ فلمّا بلغ منّي أتيته فسقاني، و وقع عليّ. فقال له علي عليه السّلام: هذه التي قال اللّه عزّ و جلّ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ*؛ هذه غير باغية و لا عادية إليه، فخلّ سبيلها؛ فقال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر. «5»

______________________________

(1). الوسائل 15/ 467، الحديث 6، الباب 37 من أبواب العدد.

(2). الوسائل 15/ 468، الحديث 1، الباب 38 من أبواب العدد.

(3). الوسائل 15/ 468، الحديث 2، الباب 38 من أبواب العدد.

(4). الوسائل 18/ 383، الحديث 2، الباب 18 من أبواب حدّ الزنا.

(5). الوسائل 18/ 384، الحديث 7، الباب 18 من أبواب حدّ الزنا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 445

11- و هناك رواية اخري، تدل علي حكم الولد و الحاقة به و هو ما عن جميل، عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السّلام،

في المرأة تزوّج في عدّتها. قال: يفرّق بينهما و تعتدّ عدّة واحدة منهما جميعا و أن جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر، فهو للأخير؛ و إن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر فهو للأوّل. «1»

و لعل الوجه فيه أنّ الفراش للثاني، فاذا أمكن الحاقه به فهو مقدم، و إن لم يمكن الحاقه بالثاني يكون الفراش للأوّل و يلحق به الولد.

و تلخّص من جميع ما ذكرنا من الروايات، بعد ضمّ بعضها ببعض، و الأخذ بلوازمها و ملازماتها، أنّ لوطئ الشبهة عدّة و مهر و يلحقه الولد و لا يكون فيه حدّ؛ نعم، لا تدل علي جميع أقسام وطئ الشبهة إلّا بإلغاء الخصوصية منها، و ليس ببعيد.

و يظهر من بعض التعبيرات فيها، أنّ العامة أيضا قائلون بالحاقه بالنكاح، بل قالوا بلزوم العدة لكل واحد من النكاح و وطئ الشبهة مستقلا؛ و مع ملاحظة ما مرّ من حكم القاعدة تتم أحكام المسألة، و لا يبقي فيها شائبة إن شاء اللّه.

*** بقي هنا امور:
1- هل الجهل بالواقع يكون عذرا؟

قد عرفت عند ذكر الأقسام، أنّ الجهل بالواقع قد يكون عذرا، و ذلك إذا كان مع قيام الدليل القطعي كالعلم الخطئي، أو مع قيام الطريق أو أصل شرعي؛ و قد لا يكون عذرا، و ذلك إذا لم يكن مقارنا لأحد هذه الامور، كما إذا بلغها موت بعلها من طريق الحدس أو الظن أو شهود غير عدول أو شبه ذلك، و شمول القاعدة لمثله مشكل كشمول الروايات ما عدا بعض الاطلاقات الضعيفة.

و يظهر من الجواهر، تقسيمه إلي قسمين: أحدهما، ما إذا كان عالما بالحكم حينئذ بان

______________________________

(1). الوسائل 14/ 347، الحديث 14، الباب 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 446

كان علم بعدم حجية ظنها؛

و ما إذا كان عالما بالموضوع جاهلا بالحكم و لو كان عن تقصير، ثم قال بجريان حكم الزنا علي الأول دون الثاني. «1»

و لعل ظاهر كثير من الأصحاب أيضا جريان حكم الشبهة في جميع موارد الشك في الحرمة و لو كان غير معذور لتقصيره في الرجوع إلي أهل الذكر و السؤال عن حكمه، بل ارتكب برجاء أن لا يكون مصداقا للحرام لعدم صدق عنوان الزنا عليه؛ و لذا لا نقول بجريان حكم الزنا علي أصحاب المذاهب الباطلة الذين ينكحون ما يحرم عليهم شرعا بحكم الإسلام، و هم مقصرون في البحث و السؤال عن مذهب الحق، بل المجوس الذين يتولدون عن نكاح الاخوة و الأخوات يكونون بحكم صحيح النسب و إن كانوا مقصرين في تحقيق مذهب الحق؛ فهو أيضا من مصاديق الشبهة، و لعل القاعدة المعروفة، لكل قوم نكاح؛ ناظر إلي ذلك؛ فتأمل.

و علي كل حال، الحاق جميع الشبهات بمسائل وطئ الشبهة غير بعيد.

2- هل هناك فرق في الشبهة بين الأعمي و غيره؟

المحكي عن الشيخين، و ابن البراج، عدم تصديقه لو ادعي الشبهة بظن الزوجية، و كأنه من جهة أنّ الاشتباه لما كان في حق الأعمي قريبا جدا، وجب عليه غاية التحفظ، فلا يقبل منه دعوي الشبهة.

و لكن يظهر من هذا التعليل أنّه لو كان هناك نزاع فيه، فإنّما هو في مقام الإثبات، لا في مقام الثبوت، بمعني أنّه لو جدّ و اجتهد في تشخيص الموضوع و لكن اخطاء في ظنّه أو علمه يقبل منه دعوي الشبهة، بخلاف ما إذا كان متهما في عدم الفحص، فلا يقبل منه فانه يمكن أن يكون هذا العذر ذريعة له إلي الزنا، بان يرتكب هذا العمل الشنيع ثم يعتذر بأنه أعمي لا يعرف زوجته عن غيرها!

______________________________

(1). المحقق النجفي،

في جواهر الكلام، 29/ 256.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 447

3- حكم الوقوع عليها حال سكره

إذا كان واقعها في حال السكر، فان كان السكر بجهالة كان ملحقا بوطء الشبهة لما عرفت من القاعدة؛ و إن كان متعمدا في ذلك و شرب الخمر عالما بها و واقع غير زوجتها في تلك الحالة لم يلحق بوطء الشبهة.

قال في الجواهر: من ارتفع عنه التكليف بسبب محرم كالسكر، فانّ المشهور أنّ وطئ السكران بشرب خمر و نحوه، زنا، يثبت به الحدّ، و ينتفي معه النسب … بل قيل لم نقف علي مخالف في ثبوت الحدّ سوي العلّامة في التحرير، فنفاه عنه، و لكن في غيره وافق المشهور. ثم قال: و لا يخفي علي من احاط بالنصوص الواردة في تحريم الخمر و كل مسكر، أنّها ظاهرة أو صريحة في أنّ السكران في أفعاله بمنزلة الصاحي في أفعاله، فيترتب ما يترتب عليه من قود و حدّ و نفي الولد و غير ذلك، و هو معني قولهم عليهم السلام: أن الخمر رأس كل اثم. «1»

و العجب أنّ العلّامة السبزواري في المهذب «2» بعد نقل هذا القول عن المشهور أورد عليه بما ورد في الروايات من، أنّ الحرام لا يفسد الحلال!؛ و فيه، أنّه لا دخل له بما نحن بصدده، لا نقول أنّ حرمة شرب الخمر توجب حرمة الوطء، بل المقصود أمر آخر و هو أنّ التسبب بأمر إلي فعل يوجب اسناده إليه إذا كان عالما بالسبب، و عدم تكليفه عند ارتكاب المسبب لا ينافي ذلك، فانه من قبيل، الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

و الاولي أن يفصل في المقام و يقال أنّ الشارب إذا علم أو احتمل احتمالا قويا في أنّه إذا شربها يرتكب قتل النفوس،

أو الزنا أو غير ذلك من اصطدام السيّارة و شبهه، يسند هذه الأفعال اليه، فيجوز إجراء أحكامه عليه؛ و إما إذا لم يعلم بها أو احتمل احتمالا ضعيفا لا يعتد به لا يجري عليه أحكامها؛ و اللّه العالم بحقايق أحكامه.

4- الرضاع الحاصل من لبن الشبهة

هل يترتب أحكام الرضاع علي اللبن الحاصل من وطئ الشبهه أم لا؟ قال شيخنا

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 247.

(2). المحقق السبزواري، في مهذب الاحكام 25/ 12.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 448

الأعظم الأنصاري في كتاب النكاح: أمّا الوطء بالشبهة، فالمشهور الحاقه في النشر بالنكاح و أخويه، «1» كما في غالب الاحكام؛ و تردد فيه المحقق في الشرائع؛ و عن الحلّي الجزم بعدم النشر أولا، ثم بالنشر ثانيا، ثم النظر و التردد ثالثا؛ و المسألة محل إشكال ثم ذكر في آخر كلامه ان القول بالنشر لا يخلو من قوة. «2»

و ما ذكره من كلام الحلّي، (ابن ادريس)، اشارة إلي ما أفاده في السرائر ما نصّه: و إنّما التأثير للبن الولادة من النكاح المشروع فحسب! دون النكاح الحرام و الفاسد و وطئ الشبهة لأنّ أصحابنا لا يفصلون بينه و بين الفاسد إلّا في الحاق الولد و رفع الحد فحسب! و أن قلنا في وطئ الشبهة بالتحريم كان قويا، لأنّ نسبه عندنا نسب صحيح شرعي، و الرسول صلّي اللّه عليه و آله قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فجعله أصلا للرضاع؛ ولي في ذلك نظر و تأمل!. «3»

و تغيير نظره قدّس سرّه في عبارة قصيرة من النفي إلي الإثبات، ثم إلي التردد، يدل علي شدة إبهام المسألة عنده؛ و الحال أنّ المسألة ظاهرة بعد ما عرفت من الكلام في احكام وطئ الشبهة بحسب

القواعد، و الروايات الخاصة الواردة في المسالة.

و قد عرفت ان الحاق ولد الشبهة بالنسب، بل بالعقد الصحيح في أحكامه المختلفة ممّا لا ينبغي الكلام فيه، ففي الرضاع مثلها، فلو درّ اللبن من ولد الشبهة، و ارتضع به آخر، انتشرت الحرمة؛ لأنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ حتي أنّ الروايات الدالة علي أنّ الشرط كون اللبن لبن الفحل، «4» أيضا باطلاقها تشمل ما نحن فيه؛ فان المفروض كون اللبن من الفحل؛ و اللّه العالم.

5- ما المراد بالمهر هنا؟

هل المراد به، المهر المسمي، كما إذا كان هناك عقد باطل و ذكر فيه المسمّي (مثل ما إذا

______________________________

(1). و الظاهر أن المراد به، ملك اليمين و التحليل.

(2). الشيخ الانصاري، في كتاب النكاح/ 289.

(3). ابن ادريس الحلّي، في السرائر 2/ 552.

(4). الوسائل 14/ 293، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 449

عقد علي المرأة بمهر معين بظنّ موت بعلها أو طلاقه إيّاها)؛ أو المراد مهر المثل، كما إذا لم يكن هناك عقد، بل تخيل أنّها زوجته فوطأها؛ أو قلنا ان العقد الفاسد كالعدم لا يؤثر شيئا، فيرجع في مثل ذلك العقد إلي مهر المثل أيضا.

ثم أنّه ما المراد بمهر المثل؟ هل المراد مهر المثل للزوجة الدائمة، فمن وطأ امرأة أجنبيّة مرّة واحدة بظن أنّها زوجته، وجب عليه بمجرّد ذلك أداء ملائين في عصرنا لها؟! أو مهر المثل، للنكاح المنقطع في مثل هذا الزمان؟ فيه تأمل.

ثم إنّ هناك بحث معروف في أنّه إذا لم يسمّ مهرا في العقد، فالواجب عليه مهر المثل ما لم يتجاوز مهر السنة، خمسمائة درهم؛ فهل يشمل هذا الحكم لما نحن فيه أم لا؟

قال في الشرائع، بعد بيان صحة العقد بدون المهر

و أنّه يجب فيه المهر بعد الدخول،:

المعتبر في مهر المثل، حال المرأة في الشرف و الجمال و عادة نسائها ما لم يتجاوز السنّة و هو خمسمائة درهم.

و قال في الجواهر بعد نقل العبارة: … بل المشهور نقلا و تحصيلا، بل عن الغنية و فخر المحققين، الإجماع عليه، و هو الحجة؛ مضافا إلي موثق أبي بصير عن الصادق عليه السّلام سألته عن رجل تزوج امرأة فوهم ان يسمّي صداقها حتي دخل بها؛ قال: السّنة، و السّنة خمسمائة درهم. «1»

و قال المغنية، في الفقه علي المذاهب الخمسة: الوطء بشبهة يوجب مهر المثل بالاتفاق … و يقاس مهر المثل عند الحنفية، بمثيلاتها من قبيلة أبيها لا من قبيلة امها؛ و عند المالكية، يقاس بصفاتها خلقا و خلقا؛ و عند الشافعية، بنساء العصبات، أي زوجة الأخ و العم..؛ و عند الحنابلة، الحاكم يفرض مهر المثل بالقياس إلي نساء قرابتها كأمّ و خالة؛ و قال الإماميّة: ليس لمهر المثل تحديد في الشرع، فيحكم فيه أهل العرف الذين يعلمون حال المراة نسبا و حسبا و يعرفون أيضا ماله دخل و تأثير في زيادة المهر و نقصانه علي شريطة أن لا يتجاوز مهر السنّة ما يعادل 500 درهم. «2»

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 31/ 54.

(2). محمّد جواد المغنية، في الفقه علي المذاهب الخمسة/ 343.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 450

و قد ذكر في الفقه علي المذاهب الأربعة، بعد ذكر وجوب مهر المثل في الوطء بشبهة و أنّه ما يسمونه عقرا: و قد فسّره بعضهم بأنّه قدر ما يستأجر به مثلها للزنا لو جاز!. «1»

و التحقيق أن يقال: إن من البعيد جدا وجوب مهر كامل للنكاح الدائم علي من اشتبه فوطأ

من ليس بزوجته و لو مرّة واحدة؛ و هذا يكون في عصرنا آلاف ألوف بل ملائين، و المفروض أنّه لم يرتكب حراما لعلمه بذلك.

بل و كذا إذا كان ذلك، بالعقد علي امرأة نعي إليها زوجها، أو أخبرت بطلاقها، أو شهدا عليها شاهدان، ثم انكشف و لو بعد يوم أنها ذات بعل، فتركها من دون حاجة إلي الطلاق.

و لم نجد في الروايات إلّا قوله: و لها من الأخير المهر بما استحلّ من فرجها؛ و لا يدل ذلك علي وجوب مهر كامل مثل مهر نسائها.

و لعلّ المراد بالباء هنا المقابلة، فتستحق المهر بمقدار استحل من فرجها، فينطبق علي مهر المتعة.

نعم، في رواية أبي بصير الواردة في شاهدي الزور علي موت الزوج أو طلاقه: و يضمنان الصداق للزوج ممّا غرّاه. «2»

و ظاهرها هو المهر المسمّي الذي يعطي غالبا في أول الأمر، مع أنا لم نجد أحدا أفتي به إلّا ما يحكي عن شيخ الطائفة في المبسوط من القول بوجوب مهر المسمي عليه، لان العقد هو السبب في ثبوت المهر، لأنّه الوجه في الشبهة فكان كالصحيح. «3»

و فيه، أنّ السبب في الشبهة و إن كان هو العقد، و لكن السبب في ثبوت المهر هو الوطء لا العقد؛ و لذا ورد في الروايات أنّ لها المهر بما استحلّ من فرجها، و أنّه لو لم يدخل بها لما وجب عليه مهر أصلا، فالحديث معرض عنه.

هذا كله إذا كان السبب في الشبهة هو العقد؛ أمّا إذا كان سبب آخر من الأسباب السابقة، فلا ينبغي الشك في ثبوت مهر المثل.

______________________________

(1). عبد الرحمن الجزيري، في الفقه علي المذاهب الأربعة 4/ 121.

(2). الوسائل 15/ 467، الحديث 5، الباب 37 من أبواب العدد.

(3). السيد محسن الحكيم،

في مستمسك العروة 14/ 147.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 451

و لكن هل هو مهر المثل في النكاح الدائم، أو المنقطع؟ ظاهر الأصحاب هو الأول، لكنه مخالف لقوله: لها المهر بما استحل من فرجها؛ بناء علي ظهور الباء في المقابلة، مضافا إلي أنّ فيه ضررا عظيما، لا سيما في عصرنا، عصر علاء المهور؛ و الالتزام بوجوبه مشكل جدا.

سلمنا، و لكن الروايات الدالة علي وجوب تعديل مهر المثل، و أنّه يرد إلي مهر السنّة إذا تجاوز عنها، التي أفتي بمضمونها الأصحاب و ادعي عليها الشهرة بل الإجماع حاكمة هنا، و إليك نصّها:

1- ما عن أبي بصير، قال سألته عن رجل تزوج امرأة، فوهم أن يسمّي لها صداقا حتي دخل بها. قال: السّنة، و السّنة خمسمائة درهم. «1»

و التصريح بالسّنة دون عدم التجاوز عن مهر السّنة، لعله من باب الغلبة فانّ الغالب لا سيما في عصر الصادقين- عدم كون مهر المثل أقل منها.

إن قلت: هذا ناظر إلي النكاح الصحيح الذي لم يذكر فيه المهر، و لا يشمل وطئ الشبهة.

قلنا: يشمله بطريق اولي، فانّ النكاح الصحيح إذا لم يتجاوز عن مهر السّنة، فالنكاح الباطل الموجب للمهر، بطريق أولي، و كذا إذا كان شبهة بلا نكاح.

2- ما عن اسامة بن حفص، و كان قيّما لأبي الحسن موسي عليه السّلام، قال: قلت له: رجل يتزوج امرأة و لم يسم لها مهرا، و كان في الكلام أتزوجك علي كتاب اللّه و سنة نبيّه، فمات عنها أو أراد أن يدخل بها، فما لها من المهر؟ قال: مهر السنّة؛ قال: قلت: يقولون لها مهور نسائها. فقال: مهر السّنة. و كلما قلت له شيئا، قال: مهر السنّة. «2»

و قد وصفها بعضهم بالمعتبرة، و

لكن لم يرد في الرجال بالنسبة إلي اسامة إلّا أنّه كان قيما للكاظم عليه السّلام.

و التصريح فيها بمهر السنّة و نفي مهر المثل، لعله من جهة تجاوز مهر المثل عنها، بل

______________________________

(1). الوسائل 15/ 25، الحديث 2، الباب 13 من أبواب المهور.

(2). الوسائل 15/ 25، الحديث 1، الباب 13 من أبواب المهور.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 452

كان مهر السّنة أقل منه دائما أو غالبا، فاذا كان كذلك في النكاح الصحيح فوطؤ الشبهة بطريق اولي.

3- و اصرح من الجميع، ما رواه في المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد عليه السّلام أنّه قال: من تزوج امرأة علي مهر مجهول، لم يفسد النكاح، و لها مهر مثلها ما لم يتجاوز مهر السّنة خمسمائة درهم. «1»

و هو دليل علي لزوم ارجاع مهر المثل إلي مهر السنة في هذه الموارد؛ و لكن سنده ضعيف و مع ذلك لا يضر الاستدلال به بعد عمل المشهور بمضمونها، و انضمام روايات المسألة بعضها ببعض، و اعتبار اسناد بعضها.

و العجب من العلّامة السبزواري، في المهذب، حيث جعل العمدة في المقام، خبر المفضل؛ «2» مع أنّ المستند في المسألة غيره ممّا عرفت. ثم أورد علي أخبار الباب بأنّ مقتضي الصناعة حمل أخبار الردّ إلي مهر السّنة علي الندب، كما هو الجمع الشائع في الفقه من أوله إلي آخره، فما بالهم في نصوص المقام أخذوا بالقيد؟! «3»

و أنت خبير بأن النصوص الدالة علي وجوب الردّ، نسبتها مع روايات مهر المثل نسبة العام و الخاص، و الجمع الشائع في جميع الفقه من أوله إلي آخره حمل العام علي الخاص، و المطلق علي المقيد؛ اللّهم إلّا أن يقال إن الغالب كون مهر المثل أكثر من

مهر السّنة، فلا يبقي مورد لتلك الروايات، فالحمل علي الاستحباب بعد عدم إمكان التقييد أولي.

و لكن الانصاف أنّه لا ينبغي ترك الاحتياط في المسألة مع ذهاب معظم الأصحاب- كما حكي عنهم- إلي وجوب الرّد.

و الأمر فيما نحن فيه، (أي أخبار وطئ الشبهة)، أوضح؛ لعدم ذكر مهر المثل فيها بل المذكور فيها، أنّ لها المهر بما استحل من فرجها؛.

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 15/ 97، الحديث 2، باب 43.

(2). الوسائل 15/ 17، الحديث 14، الباب 8 من أبواب المهور.

(3). المحقق السبزواري، في مهذب الاحكام 25/ 152.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 453

و علي كلّ، لا يترك الاحتياط بالمصالحة فيما زاد علي مهر النكاح المنقطع، و ما زاد علي مهر السنّة؛ نعم، لو كانت الزوجة باكرة كان لها مهر خاص يناسبها، و اللّه العالم بحقايق احكامه.

6- حكم الاستنساخ

هناك مسألة مستحدثة، تناسب من بعض الجهات مسائل النسب و الوطء بالشبهة، و هي ما ظهر في أيّامنا من خلق الشبيه بطرق خاصة، و يعبر عنه في العربية بالاستنساخ و في اللّاتينية؛ بكلونينگ؛ و هو مبني علي نظرة علميّة، و هي ان كل خليّة من خليّات بدن الانسان تحمل جميع صفاته بحيث لو أخذت خلية من نفس دم الإنسان أو بعض أعضائه، ثم تجعل في بويضة الانثي، ثم تجعل في رحم انثي، تولد منها من يشبه الإنسان الأول في جميع أوصافه من دون حاجة إلي تركيب نطفة رجل و انثي أبدا.

و قد اختبروا ذلك في بعض الحيوانات، فكانت النتيجة ايجابية، و إلي الآن لم يختبر ذلك في الإنسان، و لكن الظاهر أنّ النتيجة واحدة.

و حينئذ تبدو تساؤلات كثيرة؛ منها:

1- ما حكم هذا العمل في نفسه، فهل هو جائز في

نفسه أم لا؟ و لم لا يجوز.

2- لو تولد إنسان من هذا الطريق، هل يجري عليه أحكام المحرمات النسبية في باب النكاح؟

3- هل يرث من أحد؟

4- هل تجب نفقته و حضانته علي أحد؟

5- هل يجوز قتله؟

إلي غير ذلك من الأحكام.

و الذي ينبغي أن يعلم اوّلا أنّه ليس هذا أمرا عجيبا، و لا من عنوان الخلق في شي ء؛ بل من قبيل ما هو المعمول في عالم النبات و الشجر الذي يسمي في الفارسيّة با قلمه زني؛ بان يؤخذ جزء صغير من الشجر، و يجعل في أرض مستعدة، فتحصل له اصول و ينمو في

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 454

الأرض، فالذي يأتي بذلك لم يخلق شجرا و لا نباتا، بل أخذ جزء من شجر يشمل علي جميع صفاته، فغرسه في الأرض، فنما بطبيعة ذاته، و صار شجرا كالشجر الأول من جميع جهاته؛ إلّا أنّه لما لم يعهد ذلك في الحيوانات و الإنسان، صار عجيبا في بدو النظر. و الأصل في ذلك ما ذكرنا من أنّ كل خليّة من خلايا الإنسان تشتمل علي جميع خصائصه، و في الواقع يكون كبذر إذا القي في أرض مستعدة، اهتزت و ربت و انبتت.

و من الجدير بالذكر، أنا قد تفرسنا لذلك قبل ثلاثين أو أربعين سنة، و كتبناه في كتاب المعاد، حيث لم يكن شي ء من هذه الاكتشافات العلميّة، و قد انتشر في تلك الأيّام؛ و ذلك بمناسبة شبهة الآكل و المأكول في أبواب المعاد الجسماني، و أنّه لو تغذي إنسان من بدن إنسان آخر (بلا واسطة أو بعد عوده ترابا ثم شجرا و ثمرا)، و قلنا بالمعاد الجسماني، فان رجع الإنسان المأكول إلي محله، بقي الإنسان الآكل ناقصا، و إن

لم يرجع لم يكن له معاد.

قلنا: كل خلية من خلايا الإنسان تحمل جميع أوصافه، فلو عاد المأكول إلي محله و صار الآكل ناقصا، أو لم يبق منه إلّا خليّة واحدة، يمكن أن تنمو و تربو و يرجع الآكل كاملا و كنا بعينه الإنسان الأول.

إذا عرفت ذلك، أنّه تارة يبحث عن حكمه جوازا و حرمة، و ثانيا عن أحكام من يتولد منه.

أما الأول: فتارة يبحث عن الامور الجانبيّة، و اخري عن نفس ذاته؛ أمّا الأول، فلا شك أنّه يستلزم النظر و اللمس الحرام غالبا إلّا ان يكون العالم الذي يتصدي لذلك زوجا لها، فمن هذه الناحية حرام شرعا.

و أمّا الثاني، و هو العمدة، فقد خالف فيه و منعه علماء الأخلاق من جميع الأمم علي اختلاف مشاربهم، و قالوا يلزم منه مفاسد كثيرة، و قد أشاروا إلي امور سيأتي بعضها.

و أمّا من ناحية الفقه الاسلامي، فالحكم الاوّلي في بدو النظر، بمقتضي أصالة الاباحة، هو الجواز، لو أمكن الاجتناب من الامور الجانبية بما عرفت؛ و قد عرفت أنّ ما قد يقال من أنّه تصرف في أمر الخلقة، و هم باطل، بل هو من قبيل تكثير النباتات و الاشجار من

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 455

طريق الاستنساخ، فالذي يتصدي لذلك يجعل خلية الإنسان في مكان يستعد للنموّ، كإلقاء البذر في أرض مستعدة. فليس هذا من التصرف في أمر الخلقة من شي ء؛ و لذا لم يستشكل عليه أحد فيما نعلم إذا جري في عالم النبات و الحيوان، و لا يزال العلماء يستنتجون أنواعا جديدة من النباتات و الاشجار المثمرة من طريق التصرف في الجن (ژن)، و من طرق اخري، و كذلك في انتخاب الأصلح في الحيوانات.

و كذلك ما يقال

أنّ قوله تعالي حاكيا عن ابليس: … وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ …، «1» يدل علي عدم جواز الاستنساخ، فانّه تغيير في خلق اللّه.

و الجواب بالنقض أولا، ان جميع ما يعالج به الإنسان في عالم النبات و الحيوان بابداع أنواع جديد من طريق علمي، و كذلك عملية التجميل التي قد يجعل القبيح جميلا و غير ذلك، من تغيير خلق اللّه، و لم يمنعه أحد. و بالحل ثانيا، أنّ المراد من تبديل خلق اللّه كما ورد في التفاسير و الروايات تبديل فطرة التوحيد إلي الكفر، كما قال اللّه تعالي:

… فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ … «2»

و أسوأ حالا من هذا الدليل، ما قد يقال من أنّه يوجب التفريق بين المرء و زوجه، مثل ما ورد في قصة هاروت و ماروت.

و جوابه واضح، فانّ الاستنساخ لا ربط له بالزوجية، فلا مانع منه من ناحية العناوين الاوّليّة.

هذا، و لكن عند التأمّل يوجب مفاسد الاخلاقية، و حقوقية؛ أمّا الأوّل فان معناه إمكان ترك الزواج و ترك تشكيل الأسرة، و الاقبال علي الاستنساخ، و صيرورة المرأة حاملا بدون الزوج، بل كون حمل المراة من قبل نفسها! بالاستنساخ من طريق زرع جزء منها في رحمها، و ما أقبح ذلك!

و من الناحية الثانية، يوجب اختلال نظام الأسرة، فلا يكون لهذا المولود والد، بل و لا والدة، و سائر العلاقات النسبيّة، و يكون من ذلك مشاكل اجتماعية قطعا، فانّ الإنسان

______________________________

(1). النساء/ 119.

(2). الروم/ 30.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 456

ليس كالشجر يستكثر من طريق الكولون و الاستنساخ؛ و لذا لا يزال كل إنسان في جميع أصقاع العالم يحتفظ بمكانته من حيث النسب، لما يترتب عليه من آثار

كثيرة؛ فعلي رغم أنّه لم يمنع هذا العمل آية و لا رواية- لعدم كونه موجودا في سابق الأيّام، لا يمكن للفقيه المسلم ترخيص هذا الأمر.

و ما قد يقال أنّ له عدة آثار ايجابيه مثل استنساخ بعض الأذكياء، و ذوي الاختراعات و النوابغ. و هذه ثروة عظيمة للمجتمع الإنساني، و كذلك انتاج أعضاء مبدّلة بحيث يمكن زرعها في جسم الإنسان.

و كذلك حلّ مشكلة الذين لا يقدرون علي الانجاب و التوالد.

و لكن الظاهر، عدم القيمة لشي ء، من ذلك، أمّا استنساخ بعض الأذكياء يعارضه إمكان استنساخ الأشقياء أيضا أمثال هيتلر أو الحجاج أو غيرهما، كما استفادوا من طاقة الذرّ، في مسير التخريب أكثر منه في مسير العمران و الصلاح.

و أمّا الأعضاء المبدلة، فالظاهر أنّه لا يمكن انتاجها إلّا بانتاج إنسان كامل، ثم قتله و أخذ بعض أعضائه، و الحكم بجوازه أمر عجيب! لا يصدر عن إنسان عاقل.

و أمّا الانجاب للذين لا يقدرون عليه، فله طرق أسهل من ذلك و أرخص، مثل تركيب نطفة امرء و زوجته، ثم زرعه في رحم امرأة تقدر علي حفظها و انجابها.

هذا كله من ناحية حكمه الشرعي التكليفي.

و أما الثاني، لو تولّد من هذا الطريق ولد- قلنا بمشروعية نفس العمل أم لا- فما حكم هذا الولد من ناحية المحرميّة و الارث و النفقة و الحضانة و غيرها.

مقتضي القاعدة، عدم جريان أحكام العناوين النسبية عليه، لعدم صدق الولد و الأخ و العمّ و غير ذلك عليه، لأنّ المفروض عدم استناده إلي تركيب نطفة الرجل و المرأة، بل تولّد علي نحو الاستنساخ؛ و لكن الأحوط إجراء أحكام الولد الرضاعي عليه، لأنّ المفروض إنبات لحمه و شدّ عظمه من المراة التي تولد منها، فكيف يجوز نكاحها له،

و كذا نكاح بناتها، و ما أشبه ذلك، فلو لم نقل بالتحريم قطعا، فلا أقل من الاحتياط اللازم.

و أمّا الارث، فلا وجه لها هنا، لعدم صدق العناوين النسبية عليه، كما عرفت؛ نعم،

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 457

يجوز له التزويج بغير من عرفت، فيرث عنه أولاده و زوجته، و لو لم يكن له أولاد و زوجة، يرثه الإمام عليه السّلام و نائبه.

و أمّا حكم النفقة و الحضانة، فهو أيضا سلبيّ لعين ما عرفت، إلّا أن يقال إن الذي تسبب لهذا الأمر، و أوجد هذا الولد، فهو بحكم العقلاء من أهل العرف ملزم بلوازمه، فيرونه مسئولا و مأمورا بالانفاق عليه و حفظه و حضانته.

و أمّا أحكام الإسلام بعد بلوغه و قبوله الإسلام، فلا شك في جريانه عليه، بل الظاهر الحاقه بالمسلمين لو كان الاستنساخ من مسلم، لا سيما إذا تولد من مسلمة، لأنّه لا يقلّ عن ولد الزنا شيئا الذي ملحق بهم، كما أنّه تولد و استنسخ من كافر كان قبل البلوغ بحكم الكفار؛ و اللّه العالم بحقايق احكامه.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 458

[القول في الرضاع]

اشارة

القول في الرضاع انتشار الحرمة بالرضاع، يتوقف علي شروط:

الأول؛ أن يكون اللبن حاصلا من وطئ جائز شرعا بسبب نكاح، أو ملك يمين، أو تحليل، أو ما بحكمه كسبق الماء إلي فرج حليلته من غير وطئ؛ و يلحق به وطؤ الشبهة علي الأقوي.

فلو درّ اللبن من الامرأة من دون نكاح و ما يلحق به، لم ينشر الحرمة. و كذا لو كان من دون وطئ و ما يلحق به و لو مع النكاح؛ و كذا لو كان اللبن من الزنا؛ بل الظاهر اعتبار كون الدرّ بعد الولادة، فلو درّ من غير

ولادة و لو مع الحمل، لم تنشر به الحرمة علي الأقوي.

أسباب التحريم في باب النكاح

أقول: ذكر الأصحاب للتحريم في باب النكاح اسبابا ستة:

أولها النسب، ثانيها الرضاع، ثالثها المصاهرة، رابعها استيفاء العدد، خامسها اللعان، سادسها الكفر؛ و ما نحن فيه هو السبب الثاني. و هذه المسألة علي إجمالها من المسائل المبتلي بها و إن كانت في سابق الأيام أشدّ ابتلاء بالنسبة إلي أعصارنا، لعدم الداعي إلي الارتضاع من الغير بعد وجود أنواع المواد المغذية للأطفال؛ بل كثير من الامهات لا يرضعن أولادهن مع مزيد اللبن لهن خوفا من تغييرات حاصلة في صدرهن، أو

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 459

لاشتغالهن في الامور المختلفة الاجتماعيّة أو غير ذلك؛ رغما لما ثبت من الخبراء من أن ترك ارضاعهن لأولادهن يوجب اضرارا كثيرة عليهن و علي أولادهن و ربما يكون سبب لأمراض هائلة.

هذا، و لكن مسألة الارضاع صارت محلا للابتلاء من جانب آخر، و هو كثرة التبنّي في عصرنا، لوجود أطفال لا يعرف آبائهم، أو يعرفوا و لكنهم غير قادرين علي حضانة أولادهم، و الطالبون لحضانتهم طالبون لكونهم من المحارم؛ و سبب المحرميّة في كثير من الأوقات هو الرضاع من الأقارب؛ و علي كل حال ففي هذه المقدمة فروع متعددة.

أدلّة نشر الحرمة بالرضاع

فنقول: لا إشكال و لا كلام في نشر الحرمة بالرضاع إجمالا، بل هو من المسلمات عند جميع الفرق الإسلاميّة. و يدل عليه علي إجماله الأدلة الثلاثة؛ (فانّه لا سبيل للعقل في أمثال هذه المسائل، غير استحسانات ظنية).

1- الإجماع من جميع فقهاء الإسلام، بل هو ضروري من ضروريات الدين يعرفه كل مسلم.

2- كتاب اللّه العزيز، و قد قال اللّه تعالي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ- إلي أن قال- وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اللّٰاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ مِنَ الرَّضٰاعَةِ … «1» و المراد منها غير

الوالدة، بقرينة المقابلة.

نعم، الموجود في الآية الشريفة من المحرمات التسع النسبيّة، اثنان منها، و الباقي يعلم من السّنة، و كم له من نظير في أبواب الفقه، و لا يبعد دلالة الآية علي حكم البنت و الجدّة.

3- الروايات الكثيرة المتضافرة، بل المتواترة التي وردت من طرق العامة و الخاصة، و هي علي قسمين:

قسم منها عام شامل لجميع المحرمات النسبيّة، و يستفاد منها قاعدة كلية لهذه

______________________________

(1). النساء/ 23.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 460

الأبواب؛ و قسم منها خاص وارد في بيان بعض الشروط بما يعلم منه أنّ أصل الحرمة علي إجمالها قطعي.

و من الأول، الحديث المعروف النبوي صلّي اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

و في بيان آخر، يحرم من الرضاع من يحرم من القرابة.

و في بيان ثالث: الرضاع لحمة كلحمة النسب.

أما الأول، فقد ورد في روايات كثيرة من طرقنا و من طرقهم، فقد رواه في الوسائل، في الباب الاول من أبواب الرضاع، عن طرق سبعة: عن بريد، و أبي الصباح الكناني، و داود بن سرحان، و عبيد بن زرارة، و عبد اللّه بن سنان، و الحلبي، و عثمان بن عيسي؛ عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله تارة، و عن الصادق عليه السّلام اخري، و عن أبي الحسن عليه السّلام ثالثة. «1»

و أمّا الثاني، فقد رواه عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في نفس الباب بطريقين. «2»

و أمّا الثالث، فقد قال النراقي، في المستند: ورد في السنة المقبولة عنه صلّي اللّه عليه و آله أنّه قال:

الرضاع لحمة كلحمه النسب. «3»

و اللحمه أو اللحمة من الثوب، ما يقابل السدي؛ و الأول الخيوط العرضية، و الثاني الخيوط الطولية،

و في الفارسيّة يعبر عن السدي و اللحمة بتار، و پود؛ و من الواضح أن غير الأقارب من النسب، لا علاقة بينهم كالسدي، و الرضاع يوجب العلقة كاللحمة في الثياب و هو تشبيه حسن جدا.

هذه الروايات منقولة في كتب الفقه و الفتاوي، و بعض كتب التفسير، مثل المهذب البارع، و الجواهر، و جامع المقاصد، و شرح اللمعة، و المسالك، و الحدائق، و الرياض، و مستند النراقي، و تفسير الميزان، و تفسير الصافي و غير ذلك؛ و لكن جميع المحققين لهذه الكتب اعترفوا بعدم وجدانهم أثرا من هذه الرواية في منابع الحديث، و اللّه العالم.

و روي في المستدرك، عن دعائم الإسلام مرسلا؛ روينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه،

______________________________

(1). الوسائل 14/ 280 و 283، الأحاديث 1 و 3 و 4 و 5 و 6 و 72 و 8 و 10، الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 460

(2). الوسائل 14/ 281 و 282، الحديثان 2 و 9 الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 226.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 461

عن آبائه، أنّ رسول اللّه قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. «1»

و عن عوالي اللئالي، عن سعيد بن المسيّب، عن علي بن أبي طالب، قال: قلت: يا رسول اللّه! هل لك في بنت عمك حمزة، فانّها أجمل فتاة في قريش. فقال: أمّا علمت أن حمزة أخي من الرضاعة، و أنّ اللّه حرّم من

الرضاعة ما حرّم من النسب. «2»

و قد ورد من طرق العامة روايات متعددة:

1- ما رواه عائشة عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في ذيل حديث طويل، قال صلّي اللّه عليه و آله: أنّ الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة. «3»

2- و روي هذه الرواية باسناد أخر عن عائشة أيضا.

3- ما رواه ابن عباس عنه صلّي اللّه عليه و آله، بعد ذكر ابنة حمزة عنده، قال: أنّها لا تحل لي، أنّها ابنة أخي من الرضاعة، و أن اللّه حرّم من الرضاعة ما حرم من النسب. «4»

إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني، و يستفاد من الجميع أنّ الحديث من الأحاديث المتضافرة بل المتواترة.

و أمّا الأحاديث من القسم الخاص، فهي أيضا كثيرة غاية الكثرة، تأتي في الأبحاث الآتية إن شاء اللّه تعالي.

*** بقي هنا أمر: الرضاع لحمة كلحمة النسب

يستفاد من هذه الروايات علي اختلاف الفاظها، قاعدة عامة لأبواب الرضاع؛ و بها ينقطع أصالة الحلّ عند الشك. فانّها أصل عملي و هو الاستصحاب أو أصالة الحل؛ و القاعدة عموم لفظي مقدم عليها.

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 365، الحديث 1.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل، 14/ 365، الحديث 1.

(3). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 451 و فيه: رواه البخاري و المسلم.

(4). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 452 و رواه البخاري و المسلم.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 462

و حينئذ ينبغي التنبيه علي أمور:

الأول: معني القاعدة علي ما يتبادر منها، و صرح به غير واحد من الأصحاب أنّه يحرم من الرضاع نظير ما يحرم من النسب، (بتقدير كلمة نظير)، فانّ نفس ما يحرم بالنسب لا يحرم بالرضاع لأنّه تحصيل للحاصل، بل يحرم نظيره من العناوين الرضاعية؛ و يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلي التقدير فإنّه صلّي اللّه عليه و آله يقول يحرم من الرضاع ما يحرم … (لا من يحرم)؛ و ما، هنا إشارة إلي العناوين الحرمة النسبية، فكلّ عنوان نسبي محرم (مثل الام و الاخت … )

محرم من ناحية الرضاع.

الثاني: كلّما يحرم في النسب يحرم في الرضاع عدا ما خرج بالدليل، فيشتمل المحرمات التسع النسبية: الام، و البنت، و بنت البنت، و الاخت، و الجدّة، و بنات الأخ، و بنات الاخت، و العمة، و الخالة؛ فاذا ارتضع ولد عن امرأة، حرمت عليه هذه العناوين بل و غيرها. كما سيأتي إن شاء اللّه. و لكن لا تشمل المحرمات بالمصاهرة كما هو واضح، و سيأتي أمثلتها.

الثالث: هل يمكن التمسك بالقاعدة عند الشك في الشرائط، كما إذا شككنا في عدد الرضعات، و أنّها عشرة أو خمسة عشرة، أو شككنا

في اعتبار كون اللبن من الولادة، أو في السنتين أو غير ذلك، أم لا؟

قد يسبق إلي الذهن في بادي النظر أنّها عامة من جميع هذه الجهات، و لكن الانصاف انّ عموم الرواية قابل للمناقشة، نظرا إلي أنّ الظاهر عدم كونها في مقام البيان من غير جهة العناوين المحرمة كالأم و الاخت و غيرها. لأنّ القدر المتيقن منه كونها في مقام البيان من هذه الجهة لا غير، فليست ناظرة إلي الشرائط و غيرها.

إن قلت: هل للرضاع حقيقة شرعيّة لا بدّ من كشفها و اتباعها، أو هو معمول علي معناه اللغوي و العرفي؟ لا دليل علي الأول، بل الحق هو الثاني، فحينئذ لا ريب في صدق الرضاع بحسب معناه العرفي و اللغوي علي عشر رضعات، بل و أقل؛ و هكذا غيره من الشرائط، فاللازم الأخذ بعمومها إلّا أن يقوم دليل علي خلافه.

قلت: لا ندعي الحقيقة الشرعيّة للرضاع، و لا نعتقد بعدم صدقه في موارد الشك من

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 463

هذا القبيل؛ بل إنّما نقول أنّ ظاهر الحديث كون حقيقة الرضاع أمرا معلوما في ذهن المخاطبين بهذه الروايات، و إنّما تتكلم الرواية عن حكمه و هو تحريم العناوين المحرمة النسبية لا غير؛ و لا أقل من الشك في كونها في مقام البيان من هذه الناحية، و الأصل عدمه؛ و هذا مثل أن يقال الطلاق الثالث يحتاج إلي المحلل، و من الواضح أنّه لو شككنا في اعتبار بعض شرائط الطلاق، لا يجوز الأخذ باطلاقه.

نعم، لو قال الشارع كل صبي إذا ارتضع من غير امّه حرمت عليه و …، لم يبعد دعوي الاطلاق من جميع الجهات؛ فتدبّر جيّدا.

و الحاصل، أنّ دعوي العموم أو الاطلاق فيها من غير

ناحية العناوين الحرمة النسبية.

أضف إلي ما ذكرنا، أنّها لو كانت عامة، وردت عليها تخصيصات كثيرة، لعلها في حدّ المستهجن؛ فتأمل.

الرابع: لا بدّ لنا من تأسيس الأصل في المسألة حتي نرجع إليه عند الشك في بعض المسائل الآتية، فنقول- و منه جل ثنائه نستمد التوفيق و الهداية-:

الشك إن كان في الشبهات الحكميّة، أي لا تعلم أنّ حكم الشارع في المسألة الكذائية هو تحقق الرضاع المحرم، أو لا؛ فان كان في دائرة شمول القاعدة المذكور، فالمرجع هي القاعدة و نحكم بالشمول و ثبوت حكم الرضاع. و إن كان خارج عن هذه الدائرة، كما إذا شككنا في عدد الرضعات و كيفية الرضعة و اشتراط السنتين و غير ذلك، نحكم بالعدم اما لاستصحاب بقاء الحلّية (لو قلنا بجريانه في الشبهات الحكمية)، أو لأصالة الحليّة الجارية في جميع موارد الشك في الحليّة و الحرمة.

و قد لا يكون هناك حالة سابقة حتي يجري فيه الاستصحاب، كما إذا ارتضع ولد من مرضعة بكيفية خاصة مشكوكة، ثم بعد ذلك تولدت منها بنت، فليس لهذا البنت حالة سابقة محللة حتي تستصحب؛ فاللازم الحكم بالحلية بمقتضي قاعدة الحلّ.

و أمّا لو كانت الشبهة موضوعيّة، كما إذا شككنا أنّ عدد الرضعات حصلت أو لا؛ فلا شك في جريان استصحاب الحل لو كان له حالة سابقة، و إلّا يرجع إلي قاعدة الحلّ فانّها عامة للشبهات الحكمية و الموضوعيّة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 464

شرائط الرضاع:

1- لا بدّ أن يكون اللبن حاصلا من وطئ جائز شرعا
اشارة

قال في المسالك: أجمع علمائنا علي أنّه يشترط في اللبن المحرم في الرضاع، أن يكون من امرأة عن نكاح؛ و المراد به هنا الوطء الصحيح، فيندرج فيه الوطء بالعقد دائما و متعة، و ملك يمين و ما في معناه، و الشبهة داخلة فيه.

«1»

و قال شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في كتاب النكاح: الأول (من شرائط الحرمة)، أن يكون اللبن عن وطئ صحيح، فلو درّ لا عن وطئ، أو عن وطئ بالزنا، لم ينشر علي المعروف بين الأصحاب، و حكي عليه الإجماع في المدارك عن جماعة، منهم جدّه في المسالك. «2»

و في هامش الكتاب: كذا في النسخ، و لم يخرج من مدارك الأحكام، إلّا العبادات إلي آخر كتاب الحج، و ما نسبه إليه موجود في نهاية المرام، لصاحب المدارك. و لعل المؤلف كان يراها تتمة للمدارك، (انتهي).

و الاولي أن يقال هذا من سهو قلمه الشريف؛ فانّ الجواد قد يكبو.

و قال في الجواهر في شرح كلام المحقق: فلو درّ من الامرأة من دون نكاح، فضلا عن غيرها من الذكر و البهيمة، لم ينشر حرمة بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. «3»

و قال شيخ الطائفة قدّس سرّه في الخلاف، في المسألة 22 من كتاب الرضاع: إذا درّ لبن امرأة من غير ولادة، فارضعت صبيا صغيرا، لم ينشر الحرمة. و خالف جميع الفقهاء في ذلك، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.

و ظاهر هذه الكلمات كون المسألة اجماعيّة بيننا، و لكن المخالفون باجمعهم علي خلاف ذلك، أي نشر الحرمة علي كل حال.

و علي كل حال، استدل لاشتراط هذا الشرط علي إجماله، تارة بالأصل- أي أصالة

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 207.

(2). الشيخ الانصاري، في كتاب النكاح/ 289.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 264.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 465

الحليّة بدون هذا الشرط-، و اخري بروايات وردت في هذا المعني، (و هي العمدة)، منها:

1- ما عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن امرأة درّ

لبنها من غير ولادة، فارضعت جارية و غلاما من ذلك اللبن، هل يحرم بذلك اللبن ما يحرم من الرضاع؟ قال: لا. «1»

و جعلها العلّامة المجلسي (قدّس سره) من قسم الموثق في مرآت العقول، و ليس في رجال السند من يغمز فيه، و لكن دلالته مقصورة علي من درّ لبنها من غير ولادة، و لا يشمل لبن ولد الزنا و نحوه.

2- ما عن يعقوب بن شعيب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: امرأة درّ لبنها من غير ولادة، فارضعت ذكرانا و اناثا، أ يحرم من ذلك ما يحرم من الرضاع؟ فقال لي: لا. «2»

و الظاهر ضعف سند الحديث بجهالة موسي بن عمر البصري، فانّه لم يذكر في بعض كتب الرجال أصلا، و ذكر في بعضها الآخر من غير مدح و ذم، و ذكر بعضهم أنّه متحد مع موسي بن عمر بن يزيد، الذي هو أيضا مجهول. و لكن يبعد اتحادهما، لأنّ موسي بن عمر بن يزيد كان له كتاب يرويه عنه محمد بن علي بن محبوب، و الحال أنّ سند الرواية التي مورد البحث هو محمد بن علي بن محبوب، عن عبد اللّه بن جعفر، عن موسي بن عمر؛ و علي كل حال سند الرواية ضعيف، و لكن لا يضر بالاستدلال بعد ما عرفت من اعتبار الرواية السابقة، مضافا إلي عمل المشهور الذي جابر لضعف الاسناد.

و الإشكال في دلالتها، لكونها أخص من المدعي كسابقتها.

و هناك روايات آخر تدل المقصود بالمفهوم:

1- ما ورد في باب اشتراط اتحاد الفحل- أي الشرط الرابع من الشرائط الأربعة لنشر الحرمة بالرضاع- و هي صحيحة بريد العجلي في حديث، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول رسول اللّه صلّي اللّه

عليه و آله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فسّر لي ذلك. فقال: كل ارضعت من لبن فحلها ولد امرأة اخري من جارية أو غلام، فذلك الذي قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله … أي،

______________________________

(1). الوسائل 14/ 302، الحديث 1، الباب 9 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 302، الحديث 2، الباب 9 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 466

قال فيه يحرم من الرضاع، إلي آخره. «1»

فان ذلك يدل علي أنّ المعتبر في نشر الحرمة في الرضاع، أاتحاد الأب الرضاعي، و لا يكفي اتحاد الام، و بطريق أولي لا يكفي ارتضاعهما ممّا درّ من ثدي المرأة.

اللّهم إلّا أن يقال إن الحديث ليس في مقام البيان من هذه الجهة، و إنّما هو ناظر إلي أنّه لو كان اللبن من الولادة لا بدّ أن يكون لفحل واحد، أمّا إذا لم يكن من الولادة فهو ساكت عنه؛ و الانصاف أنّ دلالتها لا بأس بها.

2- ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن لبن الفحل. قال: هو ما أرضعت امرأتك من لبنك و لبن ولدك ولد امرأة اخري، فهو حرام. «2»

بناء علي كون المراد منه، السؤال عن لبن الفحل الذي هو معيار نشر الحرمة في الرضاع، و لو لا ذلك كان مجال الإشكال في دلالته واسع. و سند الحديث معتبر كما هو ظاهر.

3- ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال؛ سألت أبا الحسن عليه السّلام … إلي أن قال: اللبن للفحل. «3» و دلالتها أيضا مشكلة.

4- ما عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام … إلي أن قال: إن كانت

المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد، فلا يحلّ. «4» و هي أيضا كسابقتها؛ إلي غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب.

و لكن إمكان المناقشة في الجميع، من ناحية عدم كونها في مقام البيان من جهة الدرّ و شبهه، يمنع عن الاستدلال بها؛ فالعمدة الحديثان الأولان مع عمل المشهور.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّ ظاهر فقهاء العامّة، أنّ المراد بلبن الفحل هو أنّه هل يصير زوج المرأة ابا

______________________________

(1). الوسائل 14/ 293، الحديث 1، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(2). الوسائل 14/ 294، الحديث 4، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(3). الوسائل 14/ 295، الحديث 7، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(4). الوسائل 14/ 294، الحديث 3، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 467

للمرتضع حتي تحرم المحرمات النسبية من قبله أم لا؛ قال ابن رشد في البداية: هي التي يسمونها لبن الفحل، فانّهم اختلفوا في ذلك (أي لبن الفحل)، فقال مالك و أبو حنيفة و الشافعي و أحمد و الأوزاعي و الثوري: لبن الفحل يحرّم؛ و قالت طائفة: لا يحرم لبن الفحل. و بالأول قال عليّ، و ابن عباس، و بالقول الثاني قالت عائشة، و ابن الزبير، و ابن عمر. «1»

و حاصله أنّه هل تنشر الحرمة من قبل الرجل الذي صاحب اللبن، فيكون صاحب اللبن بمنزلة الاب، و أخوه بمنزلة العم، إلي غير ذلك؛ أو تنشر الحرمة من قبل الام فقط.

و الحال انّ الخاصة تفسير لبن الفحل- تبعا لأئمتهم المعصومين عليهم السّلام- بأمر آخر، و هو أنّ اللبن إنّما يحرم إذا كان لأب واحد، فلو كان لفحلين لا يحرم، و إن كانت الام واحدة. و بعبارة

اخري، الاخوة الرضاعيّة من ناحية الام فقط غير كافية في اثبات الحرمة، و لكن الاخوة الرضاعية من قبل الأب فقط، كاف؛ علي خلاف ما يظهر من العامة، فان الأول مسلّم عندهم و الثاني محل للكلام.

اقسام اللبن الخارج من ثدي المرأة

هذا تمام الكلام في اعتبار كون اللبن عن الوطء الجائز في نشر حرمة الرضاع، علي إجماله.

أمّا تفصيله، فهو أنّ اللبن الخارج عن ثديها علي أقسام:

تارة يكون من الدرّ، سواء كانت المرأة غير منكوحة، أو منكوحة غير مدخولة، أو كانت مدخولة و لكن لم يكن اللبن مستندا إلي الدخول.

و أخري يكون من الزنا.

و ثالثة من سبق الماء إلي الحليلة من دون دخول.

و رابعة من الوطء شبهة.

______________________________

(1). ابن رشد الاندلسي، في بداية المجتهد و نهاية المقتصد 2/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 468

و خامسة من الوطء الجائز مع الحمل.

و سادسة من الوطء الجائز بعد الولادة، قبل ولوج الروح، و بعده مع كونه لا يعيش، و مع كونه يعيش، فهذه ثلاث صور.

أضف إلي ذلك كله صورة اخري، سيأتي الكلام فيها بأقسامه، و هي ما إذا كان بعد الطلاق.

لا شك في شمول الأحكام للأخيرة، أي السادسة ببعض اقسامها، فانّه القدر المتيقن من الحرمة.

[أحكام الصور]
1- حكم الدرّ من دون حمل

كما أنّه لا شك في خروج الاولي، أي الدرّ مطلقا من دون حمل، عن حكم الحرمة، لأنّه القدر المتيقن من عدم الحرمة؛ فيبقي الكلام في الصور الأربع الباقية.

2- عدم نشر الحرمة بالزنا

أما الصورة الثانية، أي اعتبار حلية الوطء و عدم نشر الحرمة بالزنا، فقد ادعي في الجواهر الإجماع بقسميه عليه. «1»

قال: لا ينشر لو كان عن وطئ زنا، و لو مع الولادة بالإجماع.

و لكن حكي عن ابن الجنيد: أنّها لو أرضعت بلبن حمل من زنا، حرمت و أهلها علي المرتضع، و كان تجنبه من أهل الزاني احوط و أولي. «2»

و قال النراقي (قدس سره) في المستند: فلا يحصل الرضاع المحرم للنكاح، باللبن الحادث من الزنا إجماعا محققا و محكيا في السرائر و التذكرة، و شرحي القواعد للمحقق الثاني و الهندي، و شرح النافع للسيد، و المفاتيح و شرحه، و ظاهر المسالك و الكفاية و غير ذلك. «3»

«1» و 2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 265 و 266.

______________________________

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 231.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 469

و وافقنا في ذلك الشافعي و بعض الحنابلة؛ و قال بعضهم ينشر الحرمة بينهما. «1»

و يستدل له بامور:

1- أصالة الحلية، و لكنها مدفوعة بقاعدة يحرم من الرضاع.

2- بما في الدعائم، عن علي عليه السّلام انه قال: لبن الحرام لا يحرم الحلال، و مثل ذلك ارضعت بلبن زوجها، ثم أرضعت بلبن فجور. قال: و من أرضع من فجور بلبن صبية، لم يحرم نكاحها، لأن اللبن الحرام لا يحرم الحلال. «2»

و سند الرواية و إن كان ضعيفا، إلّا أنّه مجبور بعمل الأصحاب.

3- هذا مضافا إلي انصراف ادلة الحرمة، مثل قوله تعالي: وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اللّٰاتِي أَرْضَعْنَكُمْ …، عن محل الكلام؛

و كذا قوله صلّي اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ الحلال هو الغالب جدا، و الغلبة توجب الانصراف عند الشك، كما ذكرنا في محله.

4- و ربما يتمسك له بما مرّ من اعتبار لبن الفحل في الروايات السابقة، أو التعبير بامرأتك الظاهر في الزوجة المحللة شرعا؛ و لكن الانصاف- بعد ما عرفت أنّ روايات لبن الفحل ناظرة إلي الشرط الرابع و هو اتحاد الفحل لا الشرط الأول، فانّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة- عدم جواز الاستدلال بها. و لكن فيما عرفت أولا غني و كفاية.

و استدل لقول ابن الجنيد بأمرين:

1- قاعدة يحرم من الرضاع؛ و لكن رواية الدعائم أخص منها، فلا بدّ من تخصيصها بها.

2- قد يقال بإمكان القول بنشر الحرمة من لبن الفجور، فان المدار في نشر الحرمة أمر تكويني و هو اشتداد العظم و إنبات اللحم، و لا فرق في ذلك بين لبن الفجور و غير ذلك.

و يرد عليه أنّه منقوض بفروع كثيرة، مثل مسألة الدرّ؛ فان اشتداد العظم و إنبات اللحم بلبن الدرّ من ناحية الام حاصل، فلم لا تنشر الحرمة بنص الرواية و فتوي الأصحاب؟

______________________________

(1). العلامة الحلي، في تذكرة الفقهاء 2/ 615 ط. ق.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 374، الحديث 1.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 470

كذلك عند عدم اتحاد الفحل، فان الحكمة من ناحية الام حاصل، و هكذا في اللبن بعد الحولين إلي غير ذلك؛ فيعلم منها أنّ ما ذكر، حكمة لا علّة.

و من هنا يظهر فساد ما حكي عن ابن الجنيد، و العجب أنّه فرق بين حكم الزانية و الزاني هنا، مع أنّه لو لم تعتبر حلية الوطء، لم

يكن بينهما فرق؛ لأنّ الولد مستند إليهما عرفا.

3- الحاصل من سبق الماء من دون دخول

اما الصورة الثالثة، أي الولادة الحاصلة من سبق الماء من غير دخول، فظاهر بعض الأصحاب عدم كفايته في نشر الحرمة، لاشتراطهم كون اللبن عن وطئ صحيح شرعي؛ و لكن الانصاف عدم اعتبار الدخول و كفاية سبق الماء، لإلغاء الخصوصية عرفا قطعا لأنّهم لا يفرقون- بعد سماع أدلة الرضاع- بينهما، لا سيما بعد جريان جميع أحكام الولد عليه حتي الارث و شبهه.

هذا مضافا إلي ما ورد في روايات الدرّ من قوله: إذا درّ لبنها من غير ولادة؛ «1» و مفهومها كفاية استناد اللبن إلي الولادة. اللّهم إلّا أن يقال إن المفهوم في هذه المقامات، لا اطلاق له كما ذكر في محلّه، و لذا لا يمكن الأخذ باطلاق هذا المفهوم لنفي وحدة الفحل، أو اعتبار الارضاع في الحولين أو غير ذلك. و إن شئت قلت هذه الرواية و أمثالها ليست في مقام البيان إلّا عن حكم المنطوق لا المفهوم إلّا إجمالا.

و قد استدل بعض المعاصرين لإلحاق سبق الماء بمسألة الدخول، بما ورد في غير واحد من الروايات من قضاء عليّ عليه السّلام في عهده أو عهد عثمان، في شيخ كبير كانت له امرأة باكرة، فاتت بولد، فانكر الشيخ الولد، لعدم الدخول و بقاء البكارة، فسأله عليّ عليه السّلام فعلم أنّه كان ينزل مائه عليها، فحكم بالحاق الولد بهما. «2»

و لكن الاستدلال بها و أشباهها لما نحن بصدده ضعيف جدا، لأنّه لا شك في

______________________________

(1). الوسائل 15/ 114، الحديث 2، الباب 16 من أبواب احكام الاولاد.

(2). الوسائل 14/ 301، باب 9 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 471

الحاق الولد بهما؛ أنّما الكلام في كفاية مجرّد الحاق

الولد في باب الرضاع أو يشترط فيه الدخول.

4- الحاصل من وطي الشبهة

أما الصورة الرابعة، و هي وطؤ الشبهة، ظاهر الأكثر الحاقه بولد النكاح حتي ادعي عدم وجدان الخلاف فيه؛ و عن الحلّي التردد فيه؛ و الصحيح هو الأول بل لا ينبغي التأمل فيه.

و قال المحقق النراقي في المستند: هل تنشر الحرمة باللبن الحاصل من وطئ الشبهة أم لا؟، المشهور الأوّل … و عن الحلي التردد فيه، و يظهر نوع ميل إليه من المسالك و الكفاية. «1»

و أما الحلّي، فقد صرّح في أول كلامه بأنّ الحكم خاص لا يشمل ولد الشبهة، و أنّه بحكم النكاح الفاسد؛ ثم قال: إن قلنا في وطئ المشبهة بالتحريم كان قويا، و قال في آخر كلامه: ولي في ذلك نظر و تأمل. «2»

و الانصاف، الحاق ولد الشبهة بولد النكاح، لأنّه ولد حلال يجري فيه جميع أحكام الولد، من النسب و الارث و الولاية و الحضانة و غيرها؛ و لا وجه لاستثناء حكم الرضاع عنها، و هذا استقراء قوي؛ هذا أولا:

و ثانيا، الاطلاقات شاملة له، لأنّ عنوان الولادة؛ أو ولدك؛ في بعض الروايات، عام؛ و كذلك عموم يحرم من الرضاع، الخ.

اللّهم إلّا ان يقال ولد الشبهة فرض نادر تنصرف الاطلاقات عنه.

و استدل له ثالثا، بأنّه لا شك في ثبوت أحكام الرضاع عندنا بين أهل الكتاب، مع أن نكاحهم فاسد عندنا، و أولادهم أولاد شبهة، بمقتضي قوله: لكل قوم نكاح؛ (يعني أنّه بمنزلة النكاح لا انّه نكاح).

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 232.

(2). ابن ادريس الحلّي، في السرائر 2/ 552.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 472

و فيه أولا: أنّ ظاهر الرواية المعروفة، أنّ نكاحهم طبق مذهبهم و سنتهم صحيحة؛ لا أنّه بمنزلة الصحيح. و

لذا يترتب عليه جميع آثاره، لا من باب التنزيل كما هو المتبادر منها.

و ثانيا: أنّ النكاح الصحيح لا يحتاج إلّا إلي إنشاء من الطرفين، و هذا حاصل منهم أمّا باللفظ أو بالكتابة أو كليهما؛ و نحن و إن كنّا نحتاط بألفاظ خاصة و اللغة العربية إلّا أنّه لا دليل قطعي علي شي ء منها.

و قد يتوهم أنّ روايات لكل قوم نكاح؛ ناظرة إلي مسألة عدم جواز رمي المجوس و أشباههم بالزنا لبعض ما لا يجوز في مذهبنا لأنّه عندهم نكاح، لا إلي امضاء أنكحتهم.

و فيه، أنّ الإشكال نشأ عن عدم تدبر جميع روايات هذا الباب، فراجع روايات الباب 83 من أبواب نكاح العبيد و الاماء، (ج 14 وسائل الشيعة)، تجدها عامة و شاملة للجميع.

ففي رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: كل قوم يعرفون النكاح من السفاح، فنكاحهم جائز. «1» و راجع أيضا أبواب القذف، الباب الأول؛ و اللّه العالم.

5- الحاصل من وطي جائز شرعا
اشارة

أمّا الصورة الخامسة، اللبن الحاصل من وطئ جائز شرعا، و لكن مع الحمل و قبل الولادة، إذا علمنا أنّ اللبن مستند إليه.

صرّح الماتن قدّس سرّه باعتبار الولادة في نشر الحرمة، و تبع في ذلك العلّامة في تحرير، خلافا لما اختاره في قواعده.

قال شيخنا الأنصاري (قدس سره)، في كتاب النكاح: و هل يعتبر انفصال الولد أو يكفي الحمل، وجهان بل قولان: اختار العلّامة أولهما في التحرير، و ثانيهما في القواعد، و هو الأظهر. انتهي. «2» و حكي هذا القول عن الشيخ في المبسوط، و عن ثاني الشهيدين في المسالك و الروضة، كما حكي القول الأول عن صاحب الحدائق.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 588، الحديث 3، الباب 83 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

(2). الشيخ الانصاري، في

كتاب النكاح/ 291.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 473

استدل للثاني- أعني نشر الحرمة بلبن الحمل- أوّلا بالاطلاقات، و ثانيا بما ورد في نشر الحرمة بلبن الفحل، فانّه يصدق عليه أنّه لبن الفحل، و قد مرّ من قول الصادق عليه السّلام في صحيحة بريد العجلي، كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة …؛ إلي غير ذلك ممّا ورد في الباب 6 من أبواب الرضاع. فراجع.

هذا، و لكن يعارضها ما دل علي عدم كفاية الدرّ من غير ولادة، الذي ورد في الباب 9 من أبواب الرضاع، و قد مرّ ذكرها، آنفا.

فان قوله: درّ من غير ولادة؛ لا يختص بمن درّ لبنها من غير نكاح أو من غير حمل، بل يشمل كل من درّ لبنها قبل أن يلد منه ولد، و لو كانت حاملا و يؤيده أنّ درّ اللبن بالحمل كثير و لكن درّه بغير الحمل و النكاح نادر؛ و حمل الاطلاق علي خصوص الفرد النادر بعيد جدّا.

و إذا وقع التعارض بينهما- و النسبة عموم مطلق- يقيد الاطلاقات بهذين الخبرين.

و قد يستدل بما ورد في رواية عبد اللّه بن سنان، قال: سالت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن لبن الفحل. قال: هو ما أرضعت امرأتك من لبنك و لبن ولدك، ولد امرأة اخري، فهو حرام. «1»

باعتبار عدم صدق الولد إلّا بعد الولادة، و لكن قد يقال بصدقه عند الحمل أيضا؛ يقال:

هذا ولد زيد في بطن زوجته؛ و قد صرحوا في أبواب اللعان بأنّه لا يحصل اللعان بانكار الولد حتي تضعه لمدة ستة أشهر فصاعدا.

و لكن لا يبعد أن يكون هذه الاطلاقات مجازية، لأنّ الحمل لم يولد بعد، و لا أقل أن يكون مثل هذا مؤيدا.

بقي هنا شي ء: هل يكفي مجرد العلقة أو المضغة؟

و

هو أنّه لو قلنا بكفاية الحمل، فهل يكفي مجرّد العلقة و المضغة، أو يعتبر كونه تاما

______________________________

(1). الوسائل 14/ 294، الحديث 4، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 474

لأربعة أشهر علي الأقل لعل ظاهر كلا القائلين به الاطلاق، و مقتضي اطلاق دليلهم أيضا ذلك.

نعم، لو كان الدليل روايات الفحل و ما فيها من ذكر الولد، لا يصدق الولد علي العلقة و المضغة و شبهه، و إنّما يصدق عليه عنوان الولد بعد كمال الجنين و ولوج الروح، علي فرض التسليم بكون اطلاقه عليه قبل الولادة حقيقيا.

6- إذا حصل اللبن بعد ولادة الطفل
اشارة

و أمّا الصورة السادسة، و هي ما إذا كان اللبن بعد ولادة الطفل، فهو علي أقسام: تارة، يولد قبل كماله و ولوج الروح فيه. و اخري، بعد كماله و ولوج الروح فيه و لكن يخرج ميتا. و ثالثة، عند خروجه كاملا حيّا و لكن في شهور لا يعيش عادة، مثل ابن خمسة شهور. و رابعة، عند خروجه حيا في سنّ يعيش كستة شهور أو أكثر.

فان قلنا إنّ ظاهر الأدلة هو اعتبار الولادة في نشر الحرمة- كما هو الأقوي-، فكل ما يصدق عليه الولادة كان كافيا في حصول الشرط، سواء كان حيا أو ميتا، في سنّ يعيش أولا يعيش، بعد كماله و ولوج الروح فيه؛ نعم، قبل ولوج الروح فيه أو قبل كماله، يبعد صدق ولادة الولد عليه، فلا تنشر منه الحرمة.

بل لو كان قلنا بانصراف الاطلاقات إلي ما هو الغالب من ولادته حيا في زمان يعيش، أشكل الحكم في غيره؛ و اللّه العالم.

فقد تلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الفتاوي التي ذكرها الماتن، موافقة للتحقيق عندنا، فلبن الدرّ من غير ولادة، و لبن الولد

الحرام، و ما يستند إلي ما تولد قبل ولوج الروح، و ما كان من غير طريق تركيب نطفتها مع نطفة زوجها، لا توجب نشر الحرمة؛ و غيرها يوجب نشرها كما عرفت.

بقي هنا أمور:

الأول: لا فرق في الولادة أن تكون من الطريق المعمول الطبيعي، أو من طريق شق

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 475

البطن المسمي بسزارين، لإلغاء الخصوصية منه قطعا. و لو قلنا بعدم شمول الاطلاقات له لندرته لا سيما في عصر الشارع المقدس و الأئمة المعصومين (عليهم السلام). و لذا نقول بأنّ الدم الخارج منها بعد الولادة من الطريق المعمول، يكون نفاسا و أن خرج الطفل بشق البطن.

إن قلت: كيف تقول عدم وجود شق البطن في مسألة الولادة أو ندرته جدّا، مانع عن الأخذ بالعموم؛ و لا تقول بذلك في عمومات أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و تقول بشمولها لمثل عقد التأمين و شبهه.

قلنا: الفرق بينهما ظاهر؛ أحكام الرضاع أحكام تعبدية، و أحكام المعاملات أحكام عقلائية امضائية و الشارع المقدس لم يتدخل في جزئيات هذه المعاملات، بل جعل لها شروطا كلية، مثل وجوب كون أطراف المعاملة معلومة، و عدم الغرر فيها، و كذا عدم الضرر، و عدم تعلقها بالمحرمات (لأنّ اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه)، و عدم الاكراه و الاجبار فيها، و أمثال ذلك من الاصول الكلية، و مسألة الرضاع و أشباهها ليس كذلك.

الثاني: هل تنشر الحرمة بلبن الطفل الحاصل من الاستنساخ؟ وجهان:

أحدهما، انه لا تنشر، لأنّ اللبن هنا ليس للفحل قطعا لعدم النكاح، بل لعدم استناد الولادة لا إلي نطفة الرجل و لا إلي المرأة.

ثانيهما، أنّه تنشر منه الحرمة لأنّه يصدق كون اللبن بعد الولادة، و روايات الفحل ليست ناظرة إلي هذه المسالة؛ و لكن الأول

أقوي.

الثالث: إذا زرع النطفة في رحم امرأة، فولدت ولدا و أرضعت طفلا، فهل تنشر الحرمة بينهما أم لا؟

للمسألة صور مختلفة:

تارة، يكون التركيب بين نطفة المرأة و نطفة رجل أجنبي، و هذا حرام قطعا؛ و الذي يتولد منه بحكم ولد الزنا، فان ولد الحلال لا بدّ أن يكون مستندا إلي نكاح أو شبهه، و قد عرفت أنّ ولد الزنا لا تنشر الحرمة بلبنه.

و اخري، يكون بين نطفة الزوج و زوجته خارج الرحم، ثم تزرع في رحم امرأة

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 476

اخري؛ و هذا جائز مع قطع النظر عن اللمس أو النظر الحرام. و لكن اللبن ليس لبن فحل المرأة، بل لبن فحل آخر، فيشكل نشر الحرمة منه.

و ثالثة، يكون بأخذ النطفة منها و من زوجها، و تركيبها خارج الرحم، و تقويتهما باسباب خاصة، ثم زرعها في رحم الزوجة؛ فهذا لبن الحلال و لبن الفحل و مستند إلي الزوج و الزوجة، و لا إشكال في نشر الحرمة منها.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 477

[المسألة 1: لا يعتبر في النشر، بقاء المرأة في حبال الرجل]
اشارة

المسألة 1: لا يعتبر في النشر، بقاء المرأة في حبال الرجل، فلو طلقها الزوج أو مات عنها و هي حامل منه أو مرضعة، فأرضعت ولدا نشرت الحرمة؛ و أن تزوجت و دخل بها الزوج الثاني و لم تحمل منه، أو حملت منه و كان اللبن بحاله لم ينقطع و لم تحدث فيه زيادة، بل مع حدوثها إذا احتمل كونه للأول …

لا يعتبر في نشر الحرمة بقاء الزوجية

أقول: الكلام هنا في المرضعة المطلّقة، أو من مات عنها زوجها و هي حامل أو مرضعة.

و للمسألة صورا كثيرة من حيث نكاحها و عدم نكاحها، و حملها بعد النكاح، و عدم حملها، و زيادة لبنها بالحمل، و عدم زيادتها.

و من أحسن ما في المقام ما ذكره المحقق الثاني، في جامع المقاصد، حيث ذكر للمسألة صورا ستة:

1- أن يكون الرضاع قبل ان تنكح زوجا غيره.

2- أن يكون بعد تزويجها مع عدم الحمل من الثاني.

3- أن يكون بعد الحمل و قبل الولادة و اللبن بحاله.

4- أن يكون كذلك مع زيادة اللبن.

5- أن ينقطع اللبن انقطاعا بيّنا و مدة طويلة ثم يعود.

6- أن يكون بعد الوضع …

و ذكر لكل منها حكمه، ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه. «1»

و ذكر ابن قدامة، في المغني أيضا بعض هذه الصور، «2» و لكن ما ذكره المحقق الثاني أحسن و أشمل.

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 205.

(2). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 9/ 208.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 478

و في المتن ذكر لها صورا أربع.

و الظاهر أنّه ليس نص خاص في المسالة، بل يستدل بالاطلاقات و العمومات، و بعض الاصول العمليّة كالاستصحاب.

مقتضي الأصل العملي عند الشك، هو الحليّة لأصالة الحلّ، إلّا أن يكون للبن حالة سابقة، كما

إذا كان مستندا إلي الزوج الأول ثم شك في ذلك فيستصحب.

و قد ادعي الإجماع في بعض صور المسالة و من الواضح أنّه من الإجماع المدركي لاستناده- باحتمال قوي- إلي الاطلاقات أو الأصل العملي.

إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلي أحكام الصور الستة:

أما إذا لم تنكح زوجا غيره، أو نكح و لم تحمل منه؛ فلا شك في كون اللبن للزوج الأول، و انّه لبن الفحل و لبن الولادة و غير ذلك من هذه العناوين. و عدم كون الزوج حيا أو عدم بقاء الزوجية بحالها، فانّه لا يضر شيئا لعدم قيام دليل علي بقاء الزوج أو الزوجية.

و من هنا يعلم عدم الفرق بين أن يكون الارضاع في العدة أو بعدها و بين أن ينقطع اللبن ثم يعود، و عدمه، بعد العلم باستناده إلي الولادة السابقة؛ لا إذا كان درّ جديد.

و أمّا الصورة الثالثة؛ و هي ما كان بعد نكاح جديد و بعد الحمل من الزوج الثاني قبل الولادة و لم يحدث فيه زيادة، فظاهر حالها أنّ لبنها للأول فيجري حكمه.

و لو شك أنّ استمراره بسبب الحمل أو بسبب الولادة السابقة، فقد يقال بالحاقه بها للاستصحاب، و هذا مبني علي ما ذكر في محلّه من جريان الاستصحاب في الامور التدريجية كجريانه في الامور القارة، فكل جزء من اللبن و إن كان غير الجزء السابق بالدقة العقلية (و كذا في جريان دم الحيض و النفاس و شبههما)، و لكن العرف يراه شيئا واحدا مستمرا؛ فأركان الاستصحاب- و هو اليقين السابق و الشك اللاحق و وحدة الموضوع- حاصل.

و أمّا الصورة الرابعة؛ و هي الصورة السابقة و لكن يحدث في اللبن زيادة يحتمل كونها مستندا إلي الحمل؛ و قد صرّح في التذكرة و

جامع المقاصد بأن اللبن للأول، فتنشر الحرمة بالنسبة إليه استنادا إلي الاستصحاب، و الحمل و الزيادة غير مانعين فان اللّبن قد

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 479

يزيد و قد ينقص.

و قد حكي في جامع المقاصد عن الشافعي قولا بأنه أن زاد اللبن بعد أربعين يوما من الحمل الثاني فأحد القولين أنّه لكل من الزوجين عملا بالظاهر؛ انتهي. «1»

و لكن الظاهر أنّه اجتهاد ظنّي لا يعتني به في مقابل الاستصحاب.

أمّا الصورة الخامسة؛ فهي الصورة السابقة و لكن اللبن انقطع انقطاعا بينا في مدّة طويلة، بحيث لا يكون هذا في اللبن الواحد. و ذلك لا يكون إلّا بعد مضي مدة من الحمل الثاني أربعين يوما أو أكثر؛ فاللبن حينئذ للثاني لانقطاع الاستصحاب، فإن قلنا بكفاية لبن الحمل، تنشر الحرمة و إلّا فلا. و هذا هو المختار كما عرفت.

و أمّا الصورة السادسة، و هي أن يكون استمرار اللبن بعد وضع الحمل من الثاني و لم ينقطع. فقد حكي الإجماع من الخاصة و العامة (في جامع المقاصد و المغني)، علي أنّ اللبن للثاني بمقتضي ظاهر الحال القاطع للاستصحاب؛ و إن اتصل اللبنان. و ظاهر الحال في امثال المقام معتبر عند العقلاء.

***

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 206.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 480

… الثاني، ان يكون شرب اللبن بالامتصاص من الثدي فلو وجر في حلقه اللبن أو شرب المحلوب من المرأة لم ينشر الحرمة …

2- لا بد ان يكون شرب اللبن بالامتصاص
اشارة

أقول: المشهور اشتراط الامتصاص من الثدي؛ و عن بعض خلافه. قال المحقق الثاني، في جامع المقاصد: اختلفوا في اشتراط الامتصاص من الثدي، فالأكثر علي اشتراطه؛ فلو احتلب اللبن ثم وجر في حلق الرضيع، لم تنشر الحرمة؛ و قال ابن الجنيد: تنشر،

و هو قول الشيخ في المبسوط. «1»

و لكن صاحب الجواهر حكي عن مواضع آخر من المبسوط، أنّه قوي المشهور؛ «2» (فيظهر منه عدوله عن رأيه السابق، فتأمل).

و يظهر من النراقي في المستند، أنّ صاحب المفاتيح أيضا قوّاه. «3»

و لكن المسألة بين العامة محل الخلاف، فقال ابن رشد: فان مالكا قال يحرّم الوجور و اللدود. «4» و قال عطاء، و داود، لا يحرّم. «5»

و لكن يظهر من بعض العبارات، أنّ المشهور بين العامّة نشر الحرمة.

أدلّة القول بالاشتراط

و يدل علي القول الأول امور:

الأوّل، عدم صدق الرضاع عليه، فانّ الرضاع لا يكون إلّا من الثدي و احتمال دخله في الحكم غير بعيد، فالعدول إلي غيره يحتاج إلي دليل، فيرجع إلي أصالة الحلية بعد عدم

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 211.

(2). الشيخ محمّد حسن، في جواهر الكلام 29/ 294.

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 258.

(4). اللدود، ما يصب في احد شقي الفم.

(5). ابن رشد الاندلسي، في بداية المجتهد و … 2/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 481

شمول العمومات.

الثاني، هناك روايات تدل علي المطلوب:

1- ما رواه زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع. فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أرتضعا من ثدي واحد حولين كاملين. «1»

و لكن في سند الرواية و دلالتها ضعف؛ أما الأول، فلوجود حسن بن حذيفة بن منصور في سندها، و قد صرح ابن الغضائري بأنّه ضعيف جدّا؛ و لو قلنا بعدم اعتبار تضعيف ابن الغضائري لأنّه يضعف بأدني شي ء، فلا أقل من أن الرجل مجهول الحال فلا اعتبار بالسند.

و أمّا دلالتها، فلأنّ الرضاع حولين كاملين مخالف للإجماع، مضافا إلي أنّه نادر جدّا؛ اللّهم إلّا أن يقال المراد وقوع

الرضاع في حولين كاملين لا بعدهما، و هو شرط آخر و لكنه حمل بعيد لا سيما مع ملاحظه قوله عليه السّلام: كاملين.

هذا مضافا إلي إمكان حمل الثدي علي الغالب، و القيود الغالبية لا مفهوم لها.

2- ما رواه الحلبي، بسند صحيح، عن الصادق عليه السّلام قال: جاء رجل إلي أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال: يا أمير المؤمنين أنّ امرأتي حلبت من لبنها في مكوك «2» و اسقته جاريتي. فقال: أوجع امرأتك و عليك بجاريتك. «3»

و لكن دلالتها أيضا مخدوشة، فانّ الظاهر كون الجارية كبيرة لا رضيعة؛ و إلّا لم يكن للزوجة داعيا لعدم ارضاعها من ثديها؛ و حينئذ يمكن أن يكون عدم الحرمة المستفادة منها من باب فقدان هذا الشرط.

3- ما رواه العلاء بن رزين، بسند معتبر، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضع من ثدي واحد سنة. «4»

و يأتي من المناقشة في دلالتها ما مرّ في الرواية الاولي، بل أشد منه؛ فانّ السنة لا

______________________________

(1). الوسائل 14/ 292، الحديث 8، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). المكوك، مع تشديد الكاف و بدونه، مكيال او ظرف.

(3). الوسائل 14/ 298، الحديث 1، الباب 7 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 286، الحديث 13، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 482

محمل لها إلّا التقية؛ مضافا إلي ما عرفت من إمكان كون القيد (أعني الثدي) قيدا غالبيا.

أدلّة القول بعدم الاشتراط

و استدل للقول بنشر الحرمة مطلقا بطائفتين من الروايات:

الطائفة الاولي، بعض الروايات المرسلة أو المسندة الدالة علي أنّ الوجور في حلق الصبي كاف في نشر الحرمة. منها:

1- ما رواه الصدوق، عن الصادق عليه السّلام قال: قال ابو

عبد اللّه عليه السّلام: و جور الصبي بمنزلة الرضاع. «1»

و فيه، أنّه ضعيف سندا بالارسال، و إن كان ارساله من نوع الارسال الراجح، لأنّه أسند القول إلي الإمام عليه السّلام بقوله: قال الصادق عليه السّلام؛ لا أنّه روي عن الصادق عليه السّلام و لكنه علي كل حال رواية مرسلة.

سلمنا صحة سندها، و لكن أعراض الأصحاب عنها سبب لطرحها أو حملها علي التقية.

و قد يورد علي دلالتها بأنّه يقول بمنزلة الرضاع لا أنّه من الرضاع، و لكنه مناقشة ضعيفة لأنّ التنزيل دليل علي إجراء أحكامه عليه، كما في قولنا الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة أي يجري عليه أحكامها.

2- ما رواه في دعائم الإسلام، عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: إذا أوجر الصبي أو اسعط باللبن- يعني في الحولين- فهو رضاع. «2»

و فيه مضافا إلي ضعف سنده بالارسال و باعراض الأصحاب، أنّه يدل علي كفاية السعوط من طريق الانف، مع أنّ الظاهر أنّه لا يمكن القول به علي مذهب الأصحاب، لاعتبار عشر رضعات علي الأقل، أو خمسة عشر كاملة؛ و فعله من طريق الأنف مشكل أو غير ممكن. نعم، يصح علي مذهب المخالفين؛ فان جمعا كثيرا منهم قالوا بكفاية أيّ

______________________________

(1). الوسائل 14/ 298، الحديث 3، الباب 7 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 370، الحديث 16986.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 483

مقدار منه و لو قليلا جدا؛ كما يظهر من بداية ابن رشد؛ فراجع. «1» فحينئذ تحمل الرواية علي التقية.

3- ما في الجعفريات بسنده المتقدم عن علي عليه السّلام مثله. «2»

و الإشكال في سنده بالضعف، و في دلالته كما مرّ.

الطائفة الثانية، ما دل علي أنّ حدّ الرضاع ما شدّ العظم و أنبت

اللحم، منها:

1- ما رواه حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و الدم. «3»

2- ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم. «4»

3- ما رواه ابن مسكان، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، قال: إذا رضع الغلام من نساء شتّي، و كان ذلك عدّة أو نبت لحمه و دمه عليه، حرم عليه بناتهن كلّهن. «5»

و محصل هذه الروايات و بعض ما ورد من طرق العامة، هو دوران الأمر في أبواب الرضاع مدار شدّ العظم و إنبات اللحم و الدم؛ و هذا حاصل، سواء شرب من الثدي، أو مما صبّه في الظرف، أو غير ذلك.

و لكن الانصاف، عدم جواز الركون إلي أمثال هذه الروايات لما نحن فيه، فانّه ليس من القياس المنصوص علته، بل هو من قسم مستنبط العلة استنباطا ظنيا، مضافا إلي أنا نعلم بعدم كون شدّ العظم و إنبات اللحم تمام علة الحرمة، بل هو جزء للعلّة؛ و كذا هناك قيود اخري من اتحاد الفحل و الولادة و استناد اللبن إليها و غير ذلك.

فتلخص أن قول المشهور هو الأقوي؛ و اللّه العالم.

***

______________________________

(1). ابن رشد الاندلسي، في بداية المجتهد و … 2/ 29.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 370، الحديث 16986.

(3). الوسائل 14/ 289، الحديث 1، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 289، الحديث 2، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(5). الوسائل 14/ 289، الحديث 3، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 484

… الثالث: أن تكون المرضعة حية؛ فلو

ماتت في اثناء الرضاع و أكمل النصاب حال موتها و لو رضعة، لم تنشر الحرمة …

3- لا بدّ ان تكون المرضعة حيّة

أقول: الظاهر أنّ اعتبار هذا الشرط مجمع عليه بين الأصحاب، كما صرّح به في الرياض، حيث قال: و يعتبر في النشر حياة المرضعة وفاقا؛ كما يظهر من التذكرة و الصميري، فلو ماتت في اثناء الرضاع فأكمل النصاب ميتة، لم تنشر الحرمة. «1»

و قال المحقق النراقي: الشرط الثالث أن تكون المرضعة حيّة؛ بالإجماع، كما عن ظاهر التذكرة و الصميري. «2»

و يظهر من صاحب الجواهر، نفي الخلاف فيه؛ و نقل الإجماع عن كاشف اللثام. «3»

و لكن فقهاء العامة مختلفون في ذلك، و جماعة كثيرة منهم- كما ذكره ابن قدامة، في المغني- اختاروا عدم اشتراط الحياة، و لكن عن الشافعي و احمد في احدي روايتيه اعتبار الحياة. «4»

و الظاهر أنّه لم يرد نص خاص في المسألة، و المرجع فيها هو القواعد و الاصول. و الذي يدل علي اعتبار الحياة، هو أصالة الحليّة، بعد عدم شمول عمومات الرضاع له؛ أمّا لانصرافها عن مثل هذا الفرد النادر جدّا، أو لظهور قوله تعالي: وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اللّٰاتِي أَرْضَعْنَكُمْ، و أمثاله في اعتبار كون الرضاع بارادة الام و فعلها. و لكن الأخير ضعيف، لأنّ العموم لا تنحصر بذلك؛ بل عموم ما دل علي عنوان الرضاع (دون الارضاع) كثير شامل له؛ مضافا إلي النقض الوارد فيه بالنائمة و المغمي عليها؛ فالأولي الاستناد إلي الانصراف و التمسك بالعمومات.

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 134، (2/ 86 ط. ق).

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 236.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 295.

(4). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 9/ 199.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 485

و

أمّا كون اللبن نجسا حينئذ أو حراما، علي فرض تسليمه، لا يمنع عن نشر الحرمة.

و غاية ما يدل علي القول الثاني، هو العمومات التي عرفت الكلام فيها. و قد يستدل بالاستصحاب، فانّ هذا اللبن كان قبل موتها سببا للحرمة، فكذا بعده؛ و يرد عليه مضافا إلي الإشكال في حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية، أنّ الموضوع قد تبدل و تغيّر.

و ذكر بعض العامة بأنّه لو حلبته في وعاء ثم شربه الصبي، نشر الحرمة؛ فلو كان في ثديها كان أولي بالحرمة.

و فيه، أنّه إنّما يتمّ علي مذهبهم من القول بعدم اعتبار الامتصاص من الثدي، مضافا إلي أنّه قياس مع الفارق، فانّ المقيس لبن الميّت، و المقيس عليه لبن الحي؛ فالحاصل أنّ هذا الشرط معتبر؛ و عمدة الدليل أصالة الحلية بعد انصراف العمومات عنه، و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 486

… الرابع: أن يكون المرتضع في أثناء الحولين و قبل استكمالها، فلا عبرة برضاعه بعدهما، و لا يعتبر الحولان في ولد المرضعة علي الأقوي، فلو وقع الرضاع بعد كمال حوليه، نشر الحرمة إذا كان قبل حولي المرتضع.

4- لا بد ان يكون المرتضع في حولين
اشارة

أقول: هذه المسالة مشتملة علي فرعين:

الفرع الأوّل: أدلّة اشتراط كون المرتضع في الحولين

هذا الشرط مورد وفاق بين الأصحاب. قال في المستند، بعد الحكم باعتبار هذا الشرط و أنه: لا عبرة برضاعة بعدهما (أي بعد الحولين)، إجماعا محققا و محكيا عن الخلاف و الغنية، و في التذكرة و المختلف و القواعد و شرحه و الايضاح و نكت الشهيد و المسالك و شرح الصيمري و غيرها؛ «1» فقد ادعي الإجماع بنفسه و حكاه من عشرة كتب.

و قال في الجواهر: فلا خلاف معتد به في اعتبار كون الرضاع في حولي المرتضع، فلا عبرة بما بعدها و لو في الشهر و الشهرين؛ بل الإجماع بقسميه عليه. «2»

و تعبيره بعدم وجدانه الخلاف المعتد به، يشعر بوجود خلاف غير معتد به، و لكن لم نجد مخالفا في المسألة بين الأصحاب. و لعله إشارة إلي وجود الخلاف غير معتد به بين أهل السنة؛ فقد حكي شيخ الطائفة في الخلاف، ذهاب الجمهور إلي عدم نشر الحرمة إذا لم تكن المولود صغيرا، و حكاه عن أبي حنيفة و مالك و الشافعي و غيرهم، و لكن حكي عن عائشة و أهل الظاهر، نشر الحرمة في الكبير أيضا!. «3»

و علي كل حال يدل علي اعتبار هذا الشرط، أولا، أنّه موافق لأصالة الحليّة في ما بعد

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 250.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 296.

(3). الشيخ الطوسي، في الخلاف 5/ 98، المسألة 4 من كتاب الرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 487

الحولين؛ اللّهم إلّا أن يقال باستصحاب الحرمة فيما قبل الحولين، و لكنه استصحاب تعليقي لم يثبت اعتباره كما ذكرنا في محله.

توضيح ذلك، أنّ الموضوع في الاستصحابات التعليقية، في الواقع مركب من جزءين (أحدهما قيد، و الآخر

مقيد)، ففي المثال المعروف، إذا قلنا بأنّ العصير العنبي يحرم عند الغليان (كما هو الحق)؛ فهل العصير الزبيبي أيضا كذلك. و هذا من الاستصحاب التعليقي، فانّ الحرام المتيقن هو العصير العنبي إذا غلي؛ و هذا الأمر التعليقي أمر ذهني اعتباري، ليس في الخارج حتي يستصحب. و كذلك في المقام، فانّ موضوع الحرمة هو شرب اللبن؛ و بعبارة اخري، اللبن الموجود في الخارج، يحرم إذا شربه الصبي في الحولين، فهل يحرم إذا شربه بعد الحولين، فليس هنا أمر محقق يقيني شك فيه، فتدبّر جيدا.

و ثانيا، قوله تعالي: وَ الْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلٰادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضٰاعَةَ … «1»

بان يقال الرضاع، بحكم الشرع يتمّ في الحولين الكاملين، و بعدهما لا يعد رضاعا، و كذلك قوله تعالي: … وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلٰاثُونَ شَهْراً … «2»

و استدل بهما في المسالك و غيره، و بعضهم استدل بهما للمسألة الآتية، أعنيّ كون الرضاع في حولين من ولادة الام.

و الانصاف إمكان الاستدلال بهما، لا سيما بالآية الاولي (لأنّ التمسك بالثانية لا يخلو من إشكال) للمسألتين، لأنّ الرّضاع إذا تمّ بحكم الشرع بعد الحولين، فلا يكون المرتضع مرتضعا بعد ذلك، و لا الام مرضعة بعدهما.

اللّهم إلّا أن يقال إن الآية ليست بصدد البيان من هذه الجهات، و فيه تأمل؛ و سيأتي الاستدلال بالآية في بعض الروايات.

و يدل عليه أيضا طوائف من الروايات:

الطائفة الاولي: ما دل علي أنّه لا رضاع بعد فطام، بناء علي أنّ المراد منه جعل حد

______________________________

(1). البقرة/ 233.

(2). الاحقاف/ 15.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 488

الفطام ما ورد في الاية الشريفة من تمام الحولين؛ و هي روايات، منها:

1- ما رواه منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا رضاع بعد فطام، و لا وصال في صيام، و لا يتمّ بعد احتلام؛ الخ.

و في آخر الحديث ما نصّه: فمعني قوله لا رضاع بعد فطام، أنّ الولد إذا شرب لبن المرأة بعد ما تفطمه، لا يحرم ذلك الرضاع التناكح. «1»

و سند الرواية لا يخلو عن ضعف، فانّ راويها و هو منصور بن حازم، و إن كان من الاجلاء الذين رووا عن الصادق عليه السّلام، و الكاظم عليه السّلام، و لكن وجود منصور بن يونس يوجب المناقشة فيها، فانّ النجاشي الذي هو شيخ علماء الرجال و إن كان وثّقه، و لكن روي الكشي رواية تدل علي ضعفه، و هو أنّ موسي بن جعفر عليه السّلام أخبره بأن ولده عليا عليه السّلام وصيه من بعده و أراه ولده عند تصريحه بهذا القول؛ و لكن أنكره بعد ذلك، (و وقف علي موسي بن جعفر عليه السّلام)، لأموال كانت عنده؛ و لعله لذلك صرّح العلّامة في الخلاصة، بأنّه يتوقف في روايته.

2- ما رواه الحلبي عن ابي عبد اللّه عليه السّلام: لا رضاع بعد فطام. «2» و سند الرواية صحيح.

3- ما عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام، في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: يا علي، لا رضاع بعد فطام، و لا يتمّ بعد احتلام. «3» و هو ضعيف، لجهالة أنس بن محمد.

4- ما رواه المفيد مرسلا في المقنعة، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا رضاع بعد فطام، و لا يتمّ بعد احتلام. «4» و حال سنده معلوم؛ فلا يبقي سند صحيح إلّا للرواية الثانية، و كفي بها

سندا للمطلوب، مضافا إلي تضافر الأحاديث، و قد عرفت أنّه من أسباب الحجية.

و أمّا مفاد هذه الروايات و ظاهرها، أنّ الأمر يدور مدار الفطام الفعلي، سواء كان قبل الحولين أو بعدهما. اللّهم إلّا أن يقال إن المراد هو زمن الفطام، كما صرّح به القرآن الكريم و هو الحولين؛ و لكن الانصاف أنّ حملها علي الفطام بالقوة لا بالفعل، مخالف للظاهر لو كان

______________________________

(1). الوسائل 14/ 290، الحديث 1، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(2). الوسائل 14/ 291، الحديث 2، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(3). الوسائل 14/ 293، الحديث 11، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(4). الوسائل 14/ 293، الحديث 12، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 489

الدليل منحصرا فيها.

الطائفة الثاني: عدم اعتبار الحولين في ولد المرتضعة:

ما دل علي اعتبار الحولين فقط، و هو الرواية الثامنة و العاشرة من هذا الباب (الباب 5 من أبواب الرضاع).

1- ما عن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين.

2- ما عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما كان حولين كاملين.

و الأول منهما ضعيف بالحسن بن حذيفة بن منصور، فانّه مجهول أو ضعيف؛ و لكن لا يبعد اعتبار الثاني. هذا، و لكن عمدة الإشكال فيهما من ناحية الدلالة، فانّ ظاهرهما اشتراط الرضاع في جميع الحولين، و لم يقل به أحد من أصحابنا فيما نعلم؛ و لا من فقهاء العامة.

و قد حمله الشيخ و غيره (قدس اللّه أسرارهم)، علي أن المراد لا بدّ من كون الرضاع في

الحولين و حينئذ يمكن الاستدلال بهما لما هو المطلوب.

الطائفة الثالثة: ما دل علي تفسير الفطام بالحولين؛ فيكون شاهدا للجمع بين الأوليين؛ و هي روايات كثيرة، منها:

1- ما عن الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: الرضاع قبل الحولين، قبل أن يفطم. «1»

و تضافر هذه الروايات يغني عن ملاحظة اسنادها واحدا بعد واحد؛ و لكن دلالتها فرع كون قوله: قبل أن يفطم؛ تفسيرا لقوله: قبل الحولين؛ و لو كان كل واحد قيدا مستقلا، سقط عن الدلالة.

2- عن حماد بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا رضاع بعد فطام. قلت: و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 291، الحديث 4، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 490

ما الفطام؟ قال: الحولين الذي قال اللّه عزّ و جلّ. «1»

و هذا صريح في تفسير الفطام بالحولين.

3- ما ورد من أنّه سال ابن فضال ابن بكير في المسجد، فقال: ما تقولون في أرضعت غلاما سنتين ثم، أرضعت صبية لها أقل من سنتين حتي تمت السنتان، أ يفسد ذلك بينهما؟

قال: لا يفسد ذلك بينهما، لأنّه رضاع بعد فطام. و إنّما قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا رضاع بعد فطام. أي أنه إذا تم للغلام سنتان أو الجارية، فقد خرج من حدّ اللبن، و لا يفسد بينه و بين من شرب لبنه. قال: و أصحابنا يقولون أنّه لا يفسد إلّا أن يكون الصبي و الصبية يشربان شربة شربة. «2»

و الاستدلال بالحديث، باعتبار قوله: إنّما قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لا رضاع بعد فطام؛ و تفسيره بالحولين، و تفسير ابن بكير بحولي ولد المراة، لا اعتبار به؛

لدلالة غيره علي خلافه، مضافا إلي مخالفته لفتوي الأصحاب، سيأتي إن شاء اللّه.

4- ما رواه محمد بن علي بن الحسين، مرسلا قال: قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: لا رضاع بعد فطام.

و معناه أنّه إذا رضع حولين كاملين، ثم شرب من لبن امرأة اخري ما شرب، لم يحرم الرضاع، لأنّه رضاع بعد فطام. «3»

الطائفة الرابعه: ما دل علي أنّ رضاع الكبير و الكبيرة، لا يوجب نشر الحرمة. و هو روايتان:

1- ما رواه محمد بن قيس، قال: سألته عن امرأة حلبت من لبنها، فاسقت زوجها لتحرم عليه. قال: أمسكها و أوجع ظهرها. «4»

2- ما رواه الحلبي، في الصحيح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: جاء رجل إلي أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال: يا أمير المؤمنين، إن امرأتي حلبت من لبنها في مكوك، فاسقته

______________________________

(1). الوسائل 14/ 291، الحديث 5، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(2). الوسائل 14/ 291، الحديث 6، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(3). الوسائل 14/ 292، الحديث 9، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(4). الوسائل 14/ 291، الحديث 3، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 491

جاريتي. فقال: أوجع امرأتك و عليك بجاريتك. «1»

و الجمع بين هذه الطوائف الأربع، ظاهر بعد حمل المطلق علي المقيد، و تفسير بعضها ببعض؛ و حاصلها عدم نشر الحرمة بعد حولي المرتضع.

و لكن هناك رواية واحدة معارضة لها، و هي ما رواه داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الرضاع بعد الحولين قبل أن يفطم، محرم. «2» و في كثير من النسخ يحرّم؛ بل محرّم؛ و المعني واحد.

و مقتضي هذه الرواية، ان المدار علي الفطام

و لو كان بعد الحولين، و لكن اعراض الأصحاب عنها، و موافقتها لمذهب العامة و مخالفتها للروايات للمشهورة بين الأصحاب رواية و فتوي، يسقطها عن الاعتبار كما لا يخفي.

الفرع الثاني، فالمشهور هو ما اختاره الماتن (قدس سره الشريف) من عدم اعتبار الحولين في ولد المرضعة

؛ فلو شرب منه بعدهما و قبل كمال حولي المرتضع، نشرت الحرمة.

قال النراقي (قدس سره) في المستند: و الحق عدم اعتبار الحولين في ولد المرضعة، فينشر الحرمة لو وقع الرضاع بعد حوليه، إذا كان قبل حولي المرتضع؛ وفاقا للأكثر، بل ادعي بعضهم عليه الإجماع؛ لعموم أدلة نشر الحرمة بالرضاع، و للاستصحاب. خلافا للمحكي عن الحلبي و ابني حمزة و زهرة، بل عن الأخير الإجماع عليه!. «3»

و يظهر من بعض كلمات الجواهر، الميل إليه. «4»

و استدل لقول المشهور، أولا بالعمومات، مثل قوله تعالي: وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اللّٰاتِي أَرْضَعْنَكُمْ … و قوله صلّي اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من القرابة.

و ثانيا بالاستصحاب، فان الرضاع من المرأة قبل الحولين من ولادة ولدها، كان سببا للتحريم، و الآن كذلك.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 298، الحديث 1، الباب 7 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(2). الوسائل 14/ 292، الحديث 7، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 252.

(4). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 299 و 300.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 492

و فيه أولا، أنّه استصحاب تعليقي. و ثانيا، أنّه استصحاب حكمي؛ و لا شي ء منهما حجة علي المختار.

فالعمدة هي العمومات لو كانت في مقام بيان هذه الجهات.

و استدل للقول الآخر الشاذ، بامور:

1- أصالة الاباحة.

2- ظهور قوله عليه السّلام: لا رضاع بعد فطام- بناء علي تفسيره بالحولين- فإنه يشمل ولد المرضعة و المرتضع.

3- ما روي عن ابن بكير، من تفسير قوله: لا رضاع

بعد فطام؛ بولد المرضعة. و قد مر روايته. «1»

و لكن الأول، مدفوع بعمومات الحرمة.

و الثاني، بأنّه ظاهر في المرتضع، لظهور كون الفاعل في الفعلين شخصا واحدا، فالمرتضع هو المفطم و المفطم هو المرتضع.

و الثالث، بأنّه اجتهاد غير صواب من ابن بكير و لا يهمّنا.

و يظهر من الجواهر، امكان تأييد هذا القول ببعض المؤيدات، مثل أنّه: لو نزل كلام الأصحاب علي إرادة حولي المرتضع خاصة، يكون لا حدّ عندهم لمدّة الرضاع بالنسبة إلي المرضعة، فانّه يبقي رضاعها مؤثرا و لو سنين متعددة، و هو مع إشكاله في نفسه لكونه حينئذ كالدّر، مناف لعادتهم من عدم إهمال مثل ذلك، خصوصا بعد أن تعرض له العامة. «2»

و فيه، أنّه إذا صدق عنوان الدرّ أو مثل ذلك لطول الزمان، خرج عن عنوان لبن الفحل و الولادة، و كان خارجا عن محل الكلام؛ مضافا إلي أنّ بقائه سنين متعددة فرد شاذ نادر خارج عن الاطلاقات، و أما الأصحاب، فقد عرفت أنّهم تعرضوا له إجمالا، و هو عدم تحديده بشي ء عدا صدق لبن الفحل و الولادة.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 291، الحديث 6، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 299.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 493

بقي هنا شي ء:

أنّه قد أفتي بعض فقهاء العامة، في المقام، بفتوي عجيب قبيح، و هو أنّهم رووا روايات في باب رضاع الكبير، (و قد أفرد له مسلم، في صحيحه المعروف، بابا لرضاعة الكبير، أورد فيها خمسة أو ستة أحاديث). «1»

و حاصلها أنّ حذيفة كان من البدريين، و كانت له زوجة اسمها سهلة؛ و تبني ولدا باسم سالم؛ فكبر و زوجه بعض أقربائه؛ و لما نزل قوله تعالي: ادْعُوهُمْ لِآبٰائِهِمْ … الحقه

أبو حذيفة باهله؛ و كان يأتي بيته عند سهلة، و كانت سهلة تري الكراهة في وجه أبي حذيفة، و تكلمت النبي صلّي اللّه عليه و آله في ذلك؛ فقال: أرضعيه! قالت: كيف، و هو كبير. قال: قد علمت أنّه كبير!

و من هنا، قال جماعة منهم، بجواز الامتصاص من ثديها للضرورة. و يا للفضاحة في هذه الفتاوي.

***

______________________________

(1). مسلم النيشابوري، في صحيح مسلم 4/ 168 و 169 رقمها 2936 و 2637 و 2638 و …

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 494

[المسألة 2: المراد بالحولين، أربع و عشرون شهرا هلاليا من حين الولادة]
اشارة

المسألة 2: المراد بالحولين، أربع و عشرون شهرا هلاليا من حين الولادة. و لو وقعت في أثناء الشهر، يكمل من الشهر، الخامس و العشرين، ما مضي من الشهر الأول علي الأظهر. فلو تولد في العاشر من شهر، تكمل حولاه في العاشر من الخامس و العشرين …

المراد بالحولين

أقول: قد تعرض للمسألة جماعة من الأصحاب، مثل الشهيد الثاني في المسالك، «1» و النراقي في المستند، «2» و صاحب الجواهر في أول كلامه، «3» و افتوا بعين ما جاء في المتن من اعتبار الشهر الهلالي، و تكميل الناقص من أشهر الخامس و العشرين.

و الدليل عليه واضح، فانه المتبادر من ذكر الحولين؛ و ليس المراد منه الأيام و العدد، بان يجعل كل شهر ثلاثين يوما فيكون المدار علي سبعمائة و عشرين يوما الذي يتفاوت مع الحولين الهلاليين بعشرة أيّام تقريبا.

و لكن في كلمات بعضهم احتمال اعتبار الحساب بالعدد، و هو عجيب. فانّ كل من يحاسب أسنان أولاده ينظر إلي يوم ولادته، و يجعل ذلك اليوم من السنة القادمة، كمال حوله الأول و دخوله في الحول الثاني، و هكذا في جميع المحاسبات في بيان السنين في التواريخ و غيرها؛ فاذا جاء يوم بعثة النبي صلّي اللّه عليه و آله قلنا اليوم مضت كذا و كذا سنة من بعثته صلّي اللّه عليه و آله، و لا نحاسب الأيّام بحسب العدد قطعا، و لا ينبغي الشك في ذلك.

إن قلت: فلما ذا يحاسب شهران متتابعان بحسب العدد، و يقال المراد بالتتابع مضي واحد و ثلاثون يوما و أنّ المجموع هو ستون يوما.

قلنا: أولا، ما ذكرت غير ثابت بحسب الفتوي؛ فراجع الشرائع، و الجواهر، كتاب

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 236.

(2). المحقق النراقي،

في مستند الشيعة 16/ 252.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 296.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 495

الصوم، فقد ذكر في الشرائع و الجواهر: و لا يجوز لمن كان عليه شهران متتابعان، أنّ يصوم شوالا مع يوم من ذي القعدة و يقتصر علي ذلك؛ و كذا الحكم في ذي الحجة مع يوم آخر من المحرم، ضرورة نقصان الشهر بالعيد فلا يحصل المطلوب باليوم. نعم، لو صام يومين اتجه الأجزاء، لحصول الشهر و يوم كما هو واضح. «1»

و لم يفرقا بين كون الشهر ثلاثين يوما أو تسعة و عشرين؛ و هذا كالتصريح في كفاية شهرين هلاليين.

هذا، مضافا علي أنّه لو قال قائل بعدم الكفاية في أبواب كفارة الصيام و ما أشبهها، كان له وجه في الجملة، نظرا إلي أنّه عدل لإطعام ستين مسكينا؛ و نعلم أنّ كل اطعام يكون بدل يوم، حتي صرّح في بعض كفارات الحج في الكتاب العزيز: … كَفّٰارَةٌ طَعٰامُ مَسٰاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذٰلِكَ صِيٰاماً … «2»

فلا ينثلم ما ذكرناه من القاعدة العامة.

*** بقي هنا أمور:
1- اذا شك في مضي الحولين فما حكمه؟

إذا شك في مضي الحولين و عدمه، لعدم العلم بمبدإ تاريخ الولادة، فقد حكي عن القواعد و جامع المقاصد، الحكم بالحل. و استدل له باصالة الاباحة، و أنّ الشك في الشرط شك في المشروط.

و لكن قد يستشكل علي ذلك، بأن الاستصحاب الموضوعي هنا مقدم علي أصالة الحل؛ فان استصحاب بقاء الحولين، كاف لإثبات الحرمة بسبب الرضاع الواقع عند الشك.

إن قلت: هذا من قبيل الاصل المثبت، لأنّ بقاء الحولين لا يثبت كون الرضاع واقعا فيهما، فهو من اللوازم العقلية.

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 17/ 88.

(2). المائدة/ 95.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 496

قلنا: هذا من قبيل كون الموضوع

مركبا من جزءين، أحدهما يثبت بالوجدان، و الثاني بالأصل؛ كما إذا قلنا أنّ فالغسل وقع بماء يشك في كرّيته، و الاستصحاب يدل علي كونه كرا، فالغسل ثابت بالوجدان، و الكرية ثابتة بالأصل، و يحصل المطلوب.

إن قلت: ما نحن فيه من قبيل التقييد لا التركيب، فيكون مثبتا، لعدم جواز إثبات التقييد بمجرّد استصحاب بقاء الحولين.

قلنا: كلّا، هذا المقدار لا يكون من قبيل الاصل المثبت، فان أكثر موارد روايات الاستصحاب من هذا القبيل، فانّ الطهارة شرط للصلاة و قيد لها، فاذا انضمت الطهارة الاستصحابية بالركوع و السجود و الحمد و السورة، فقد حصل التركيب و التقييد بين ما ثبت بالوجدان و ما ثبت بالأصل؛ فافهم و اغتنم.

2- إذا تمّت الرضعة الأخيرة مع تمام الحولين

ظاهر الآية الشريفة- التي فسرت الفطام بها في الروايات، بل هي ظاهرة في المطلوب مع قطع النظر عنها،- هو الكفاية؛ نعم، في بعض الأحاديث المعتبرة، كحديث الفضل بن عبد الملك البقباق، «1» عن الصادق عليه السّلام، قال: الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم. «2»

لكنه محمول علي الغالب، كما هو ظاهر، و إن شئت قلت المراد منه نفي تاثير ما بعد الحولين.

3- المقدار الواجب من الرضاع

هناك مسألة اخري، و لعلها أشد ابتلاء من مسائل الرضاع في عصرنا، يناسب ذكرها هنا بمناسبة بحث الحولين؛ و هو المقدار الواجب من الرضاع الذي لا يجوز أقل منه و لا أكثر؛ المشهور جواز الأكثر من الحولين، و أنّه لا يجوز الأقل من 21 شهرا.

قال في الشرائع: و لا يجوز نقصه عن ذلك (أي أحد و عشرين شهرا)، و لو نقص كان

______________________________

(1). البقباق، هو كثير الكلام؛ و قد يقال انه اسم للقمر.

(2). الوسائل 14/ 291، الحديث 4، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 497

جورا؛ و يجوز الزيادة علي الحولين شهرا أو شهرين. «1»

و أضاف في الجواهر، في الأول، أي عدم جواز النقصان من المقدار المذكور: بل في كشف اللثام دعوي الاتفاق عليه، و لعله ظاهر غيره أيضا؛ و أضاف في الثاني: المشهور بين الأصحاب أنّه يجوز الزيادة علي الحولين؛ من دون تقييده بالشهر و الشهرين، و ظاهره جعل استثناء الشهر و الشهرين قولا غير مشهور. «2»

و قال في المسالك: لا خلاف بين أصحابنا في أنّ مدّة الرضاع بالأصالة حولان كاملان، لقوله تعالي: وَ الْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ و … ظاهر الآية كون تمام الرضاعة حولين، و هو لا ينافي جواز النقص عنهما. و قد جوز أصحابنا الاقتصار علي أحد

و عشرين شهرا، لظاهر قوله تعالي: وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلٰاثُونَ شَهْراً؛ فاذا حملت بتسعة أشهر، و هو الغالب، بقي فصاله و هو مدّة رضاعه أحد و عشرون شهرا.

و ذكر في ذيل كلامه: و أمّا الزيادة علي الحولين، فمقتضي الآية أنّه ليس من الرضاعة، لتمامها بالحولين؛ لكن ليس فيها دلالة علي المنع من الزائد، و المصنف و جماعة قيدوه بشهر و شهرين. «3»

و حكي في الحدائق، عن شرح النافع، انه لو قيل بجوازه (جواز الأقل من أحد و عشرين شهرا)، إذا اقتضت مصلحة الولد لذلك، و تراضي عليه الأبوان، لم يكن بعيدا. «4»

هذه جملة من كلمة الأصحاب يعرف بها حال المسألة من ناحية الأقوال.

ففي ناحية الأقل، قولان بل أقوال:

1- لا يجوز الأقل من أحد و عشرين شهرا.

2- يجوز إذا كان عن تراض من الأبوين و تشاور منهما.

3- يجوز مطلقا، (لو كان له قائل).

و في ناحية الأكثر، أقوال:

______________________________

(1). شرايع، ص 566.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 31/ 277 و 278 في احكام الاولاد.

(3). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 8/ 416.

(4). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 25/ 80.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 498

1- لا يجوز اكثر من الحولين مطلقا، (لو كان له قائل).

2- يجوز بمقدار شهر أو شهرين.

3- يجوز مطلقا.

امّا بالنسبة إلي الأقل، فقد يتوهم أن ظاهر قوله تعالي: وَ الْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلٰادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضٰاعَةَ … «1»

و لكن الانصاف عدم دلالته علي ذلك، بل يدل علي أن من أراد أن يتمّ الرضاعة، يتمها في حولين.

نعم، ظاهر قوله تعالي: … وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلٰاثُونَ شَهْراً …، «2» أنّه يجوز أحد و عشرين شهرا، لأنّ الغالب كون الحمل تسعة أشهر، و

لا يمكن إخراج الفرد الغالب عن الآية، فيجوز أحد و عشرين شهرا؛ أمّا لا يجوز أقل من ذلك، لا دلالة فيها.

كما أنّ ظاهر قوله تعالي في ذيل آية البقره: … فَإِنْ أَرٰادٰا فِصٰالًا عَنْ تَرٰاضٍ مِنْهُمٰا وَ تَشٰاوُرٍ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا …، جواز الأقل من ذلك مع التراضي و التشاور من الأبوين.

و أمّا قوله تعالي في سورة لقمان … وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ …، «3» يمكن حمله علي بيان الفرد المتعارف منه، فلا يستفاد من الآيات الثلاثة القرآنية، ما يدل علي أقل الواجب في الرضاع و أكثره.

و أمّا بحسب الروايات؛ فهناك روايتان تدل علي عدم جواز الأقل من احد و عشرين شهرا:

1- ما رواه عبد الوهاب بن الصباح، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الفرض في الرضاع أحد و عشرون شهرا، فما نقص عن أحد و عشرين شهرا فقد نقص المرضع، و أن أراد أن يتمّ الرضاعة فحولين كاملين. «4» و سند الرواية ضعيف بعبد اللّه بن الصباح، فإنّه مجهول في الرجال، و لكنه مجبور؛ و أمّا دلالته علي المقصود، ظاهرة.

______________________________

(1). البقرة/ 233.

(2). الاحقاف/ 15.

(3). لقمان/ 14.

(4). الوسائل 15/ 177، الحديث 2، الباب 70 من أبواب احكام الاولاد.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 499

2- ما رواه سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الرضاع واحد و عشرون شهرا، فما نقص فهو جور علي الصبي. «1» و هو أيضا ضعيف بمحمد بن سنان، لاختلاف الآراء فيه و عدم إمكان إثبات وثاقته؛ و وجه دلالته أنّ عنوان الجور بمعني الظلم، يدل علي الحرمة. و لكن ضعف سنده أيضا مجبور بعمل الأصحاب.

و يعارضها ما رواه الحلبي في الصحيح، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

ليس للمرأة أن تأخذ في رضاع ولدها أكثر من حولين كاملين؛ إن أرادا الفصال قبل ذلك عن تراض منهما و تشاور، فهو حسن؛ و الفصال هو الفطام. «2» و مثله الرواية الثالثة من الباب، و الروايه السابعة من نفس الباب؛ و هذه الروايات الثلاث تدل علي معني واحد، و هي في الحقيقة روايتان عن الحلبي و عن أبي بصير.

و الجمع بينهما في بدو النظر إنّما هو بحمل المطلق و المقيد؛ فانّ الأخير مطلق يدل علي جواز الأقل من عامين بأي مقدار كان؛ و الأولان يدلان علي جوازه إلي أحد و عشرين شهرا.

و يمكن الجمع بينهما بنحو آخر، بأنّ يقال الأولان مطلقان من حيث التراضي و التشاور، و الأخيرة بالعكس؛ فتكون النسبة علي عكس الأول؛ و حاصله، جوازه إلي أحد و عشرين من دون تشاور و تراض، و جوازه إلي الأقل منه بتراض و تشاور.

أو يقال إن النسبة هو العموم من وجه، فيرجع إلي المرجحات، و هو الشهرة في المقام فيثبت قول المشهور؛ و لكن الثاني موافق لكتاب اللّه.

و هنا جمع ثالث، و هو حمل الروايات المانعة علي الكراهة، فانّ التعبير بالنقص و الجور علي الصبي و أمثال ذلك، له ظهور ضعيف في الوجوب، لو لم يكن ظاهرا في الكراهة.

هذا، و لعل سيرة المسلمين أيضا مستقرة علي عدم الالتزام عملا بأحد و عشرين شهرا؛ و هذا مؤيد آخر لعدم الوجوب. و لكن لا يترك الاحتياط بهذا المقدار مهما أمكن، و

______________________________

(1). الوسائل 15/ 177، الحديث 5، الباب 70 من أبواب احكام الاولاد.

(2). الوسائل 15/ 176، الحديث 1، الباب 70 من أبواب احكام الاولاد.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 500

قد أفتي في تحرير الوسيلة، في ما يأتي

من كلامه في أحكام الأولاد، في المسألة 15، بوجوبه لو لا الضرورة.

و أمّا بالنسبة إلي الأكثر، فظاهر الروايات الثلاثة الأخيرة، النهي عن تجاوز الحولين؛ و العمل بها ممّا لا منع منه، إلّا أنّ يقال باعراض المشهور عنها؛ و لعله لجريان السيرة علي خلافه، لأنا لم نر النساء المؤمنات من المسلمين، ملتزمات بذلك؛ و لكن الأحوط هنا أيضا هو الترك مهما امكن.

و أمّا الشهر و الشهران، فالظاهر أنّها مقدمة للفطام؛ فانّ الفطام لا يتيسر غالبا في يوم معين بل اللازم الممارسة له في مدّة غير قصيرة.

ان قلت: لما ذا لا يشرع فيه في الشهر الآخر من الحول الثاني.

قلنا: لمنافاته لقوله تعالي: وَ الْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلٰادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ …

*** بقي هنا شي ء: دور الارضاع في سلامة الطفل

أنّ المتعارف في عصرنا عدم التزام الامهات بارضاع أولادهن، بل التزامهم بعدمه إلّا بمقدار قليل، مع أنّ العلوم العصرية توكّد علي وجوب الارضاع، و أنّ سلامة الطفل كسلامة الامّ مرهونه به، و كم من أنواع الأمراض تعرض الصبي أو الامّ لترك ذلك؛ و الإسلام أيضا توكد علي ذلك، فان المستفاد من ظاهر الاية الشريفة مطلوبة ارضاع الامّ ولدها إجمالا؛ و قد عرفت شبهة وجوبه في أحد و عشرين شهر، لبعض الروايات في ذلك.

فقد ورد في كثير من الروايات الماثورة من المعصومين (عليهم السلام)، ترتب ثواب عظيم عليه، و وجود بركات كثيرة في ارضاع الامّ ولدها؛ و إليك شطر منها:

1- عن أبي خالد الكعبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: أيّما امرأة- إلي أن قال- فاذا ارضعت كان لها بكل مصّة كعدل عتق محرر من ولد اسماعيل؛ فاذا فرغت

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 501

من رضاعه، ضرب ملك كريم

علي جنبها و قال استأنفي العمل! فقد غفر لك. «1»

2- عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما من لبن رضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن امّه. «2»

3- و عنه صلّي اللّه عليه و آله في حديث: فاذا وضعت حملها و اخذت في رضاعه، فما يمص الولد مصّة من لبن امّه إلّا كان بين يديها نورا ساطعا يوم القيامة يعجب من رآها من الأولين و الآخرين. «3»

4- و عنه صلّي اللّه عليه و آله: ليس للصبي لبن خير من لبن امّه. 4

و المستفاد من هذه الروايات مع الإشارة إلي ما وردت في الكتاب العزيز، أنّ في الارضاع لا سيّما ارضاع الام، مصلحة و بركة للأمّ و للولد؛ فلا ينبغي الغفلة عنه.

***

______________________________

(1). الوسائل 15/ 174، الحديث 1، الباب 67 من أبواب احكام الاولاد.

(2). الوسائل 15/ 175، الحديث 2، الباب 68 من أبواب احكام الاولاد.

(3) 3 و 4. مستدرك، ج 5، ح 1، باب 47 و 48 از أبواب احكام الاولاد.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 502

… الشرط الخامس: الكميّة، و هي بلوغه حدا معينا، فلا يكفي مسمي الرضاع و لا رضعة كاملة؛ و له تحديدات و تقديرات ثلاثة:

الأثر

و الزمان

و العدد

و أيّ منها حصل كفي في نشر الحرمة؛ و لا يبعد كون الأثر هو الأصل و الباقيان امارتان عليه، لكن لا يترك الاحتياط لو فرض حصول أحدهما دونه. فأمّا الأثر، فهو أن يرضع بمقدار نبت اللحم و شدّ العظم. و أمّا الزمان، فهو أن يرتضع من المرأة يوما و ليلة، مع اتّصالهما بأن يكون غذائه في هذه المدّة منحصرا بلبن المرأة. و أمّا العدد، فهو

أن يرتضع منها خمس عشرة رضعة كاملة.

[5-] الكميّة
اشارة

أقول: هذه المسألة معركة للآراء بين الأصحاب، فانّ الشهرة لا سيما بين المتأخرين و إن استقرت علي ما ذكره في المتن، إلّا أن هناك خلافات كثيرة، كما ستأتي الإشارة إليها؛ و قد بحث عنه في الجواهر في خمسة و عشرين صفحة.

و لكن في الأصحاب من يقول بكفاية العشر أيضا، و هم عدد كثير من أكابر الفقهاء.

و قال شاذ منّا بنشر الحرمة بما يسمي رضاعا و لو كان قليلا؛ حكاه في الجواهر عن قاضي نعمان المصري، في دعائم الإسلام، و ابن الجنيد حيث قال الأول منهما: روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: يحرم من الرضاع كثيره و قليله حتي المصة الواحدة. ثم قال: و هذا قول بيّن صوابه لمن تدبره و وفّق لفهمه، لأنّ اللّه تعالي شأنه يقول: … وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اللّٰاتِي أَرْضَعْنَكُمْ … و الرضاع يقع علي القليل و الكثير.

و قال الثاني منهما: قد اختلف الرواية من الوجهين جميعا في قدر الرضاع المحرّم، إلّا أنّ الذي أوجبه الفقه عندي، و احتياط المرء لنفسه، أنّ كلما وقع عليه اسم رضعة و هو

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 503

ملأة بطن الصبي إمّا بالمص أو الوجور، محرم للنكاح.

و أمّا العامة، فهم أيضا مختلفون في ذلك، قال شيخ الطائفة قدّس سرّه في الخلاف: من أصحابنا من قال أنّ الذي يحرم من الرضاع، عشر رضعات متواليات لم يفصل بينهن برضاع امرأة اخري. و منهم من قال خمس عشر رضعة، و هو الأقوي؛ أو رضاع يوم و ليلة؛ أو ما أنبت اللحم و شدّ العظم إذا لم يتحلل بينهن رضاع امرأة اخري. و حدّ الرضعة ما يروي به الصبي، دون المصة.

و

قال الشافعي: لا يحرم إلّا في خمس رضعات متفرقات … و به قال ابن الزبير، و عائشة؛ و في التابعين سعيد بن جبير، و طاوس، و في الفقهاء أحمد و اسحاق.

و قال قوم: قدرها ثلاث رضعات فما فوقها..، ذهب إليه زيد بن ثابت في الصحابة، و إليه ذهب أبو ثور و أهل الظاهر. و قال قوم: أنّ الرضعة الواحدة أو المصة الواحدة، حتي لو كان قطرة تنشر الحرمة؛ ذهب إليه علي ما رووه عليّ عليه السّلام و ابن عمر و ابن عباس؛ و به قال في الفقهاء، مالك و الأوزاعي و الليث بن سعد و الثوري و ابن حنيفة و أصحابه. «1»

و حكي في الجواهر قولا رابعا عنهم، و هو العشر؛ حكاه عن طائفة منهم. «2»

فالأقوال بيننا ثلاثة:

1- عدم اشتراط بشي ء ما عدا صدق الرضاع.

2- كون المدار علي الأثر و الزمان و العدد، (مع كون العدد خمس عشر رضعة).

3- كون المدار علي الأثر و الزمان و العدد، (مع كونه عشر رضعات).

و عند العامة أربع أقوال:

1- ثلاث رضعات.

2- خمس رضعات.

3- عشر رضعات.

4- عدم اشتراط بشي ء.

***

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف 5/ 95، المسألة 3.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 282.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 504

المقامات التي يجب البحث عنها
اشارة

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الكلام في هذه المسالة يقع في مقامات:

الأول- الأقوال في المسألة.

الثاني- عدم كفاية المسمي، بل اللازم مراعاة حدّ معلوم.

الثالث- المدار علي الأثر و الزمان و العدد.

الرابع- المعتبر في العدد، هو خمس عشرة أو عشرة رضعات.

الخامس- هل الاصل هو الاثر و الباقي امارات عليه، أو كل مستقل.

السادس- كيف تتوافق هذه المعيارات الثلاث، هل يعادل رضاع يوم و ليلة، ما انبت اللحم و شدّ العظم و هكذا.

و

بتنقيح هذه الأمور يتمّ البحث في المسألة علي نحو مستوفي. فنقول (و من اللّه تعالي شأنه نستمد التوفيق و الهداية):

1- الاقوال في المسألة

المقام الأول، فقد عرفتها.

2- عدم كفاية المسمّي

المقام الثاني، فحاصل القول فيه، أنّ المعروف بين الأصحاب عدم كفاية مسمي الرضاع، و قد ادعي الإجماع عليه في كشف اللثام، و قال: الكمية معتبرة عند علمائنا أجمع. «1»

و صرّح في الرياض بأنّ الكمية معتبرة بإجماع الطائفة، خلافا للمحكي عن مالك و أبي حنيفة. «2»

و قال الشهيد الثاني، في المسالك: اتفق أصحابنا علي أنّ مطلق الرضاع و مسماه غير

______________________________

(1). الفاضل الهندي، في كشف اللثام ج 7/ 134.

(2). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 134.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 505

كاف في نشر الحرمة؛ «1» و هكذا.

و كأنهم لم يعتنوا بشأن بعض من خالف هذا الفتوي، مثل ابن الجنيد و قاضي نعمان المصري، (و قد مرّ كلامهما).

و كيف كان فغاية ما يمكن ان يستدل به لهذا القول (قول المخالف)، أمران:

الأوّل، اطلاق الاية الشريفة، وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اللّٰاتِي أَرْضَعْنَكُمْ …

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 505

و الجواب عنه، أولا، بان صدق الام الرضاعي بمجرد رضعة أو أقل، أول الكلام؛ و كذا الاخت و غيرها، بل لا بدّ في ثبوت هذه العناوين مضيّ مدّة غير يسيرة، و هذه نكتة لطيفة في الجواب عن من تمسك باطلاق الآية. و ثانيا، لو سلمنا الاطلاق، فهو مقيد بالكمية عددا و أثرا و زمانا بمقتضي الروايات الكثيرة التي ربّما تبلغ حد التواتر.

الثاني، بعض الروايات الدالة عليه؛ منها:

1- ما رواه علي بن مهزيار، عن أبي الحسن عليه السّلام، أنّه كتب إليه يسأله عمّا يحرم من الرضاع؟ فكتب عليه السّلام:

قليله و كثيره حرام. «2» و الرواية صحيحة من حيث السند، ظاهرة من حيث الدلالة.

2- ما عن زيد بن علي، عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام، قال: الرضعة الواحدة كالمائة رضعة، لا تحل له أبدا، «3» و السند غير خال عن الإشكال، لاشتماله علي جماعة من الزيدية.

3- ما عن أبان، عن ابن أبي يعفور، قال: سألته عمّا يحرم من الرضاع. قال: إذا رضع حتي يمتلي بطنه، فان ذلك ينبت اللحم و الدم، و ذلك الذي يحرم. «4»

هذا، و يمكن حمل الرواية علي تفسير الرضعات، أنّه لا بدّ في كل واحد، من امتلاء بطن الصبي؛ لا سيما مع قوله: فان ذلك ينبت اللحم..؛ فانه من البعيد كفاية رضعة واحدة في إنبات اللحم.

و يشهد له رواية اخري في هذا الباب نفسه، و هي مرسلة ابن أبي عمير، عن بعض

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 213.

(2). الوسائل 14/ 285، الحديث 10، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 285، الحديث 12، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 290، الحديث 1، الباب 4 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 506

أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الرضاع الذي ينبت اللحم و الدم، هو الذي يرضع حتي يتضلع و يمتلي و ينتهي نفسه. «1»

4- ما رواه المستدرك، عن الجعفريات، باسناده عن علي عليه السّلام، أنّه كان يقول: المصة الواحدة تحرّم. «2»

5- بهذا الاسناد أيضا، عن عليّ عليه السّلام قال: يحرم قليل الرضاع و كثيره. «3»

6- ما رواه في دعائم الإسلام، عن عليّ عليه السّلام، أنّه قال: يحرم من الرضاع قليله و كثيره و المصة الواحد تحرّم. «4»

و لكن

اسنادها غير نقية.

و لكن هذه الروايات علي فرض دلالتها و صحة اسنادها، معارضة بما هو أكثر منها سندا و عملا و فتوي؛ بل لعلها متواترة؛ و الروايات العارضة علي قسمين: قسم منها يدل بالدلالة المطابقية علي نفي مسمي الرضاع؛ و قسم يدل بالدلالة الالتزامية البيّنة الواضحة.

أمّا القسم الأوّل، فهي روايات كثيرة، منها:

1- ما عن علي بن رئاب، قال: قلت له: ما يحرم من الرضاع؟ قال: ما أنبت اللحم و شدّ العظم: قلت: فيحرم عشر رضعات؟ قال: لا، لأنّه لا تنبت اللحم و لا تشد العظم عشر رضعات. «5»

2- ما عن موسي بن بكر، عن أبي الحسن، قال: … أمّا الرضعة و الرضعتان و الثلاث فليس بشي ء إلّا ان يكون ظئرا مستأجرة مقيمة عليه. «6»

3- ما عن صباح بن سيّابة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا بأس بالرضعة و الرضعتين و الثلاث. «7»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 290، الحديث 2، الباب 4 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 366، الحديث 3.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 366، الحديث 16973.

(4). وسائل، ج 14، ح 4، باب 2 از أبواب رضاع.

(5). الوسائل 14/ 283، الحديث 2، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(6). الوسائل 14/ 284، الحديث 8، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(7). الوسائل 14/ 288، الحديث 22، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 507

و يدل عليه أيضا الرواية 9 و 19 و 23 و 24 من نفس الباب.

فهذه روايات سبعة تشهد بدلالتها المطابقية، علي نفي مجرّد المسمي، و تدل علي لزوم الكميّة إجمالا.

و القسم الثاني، ما يدل علي نفي المسمي بالدلالة الالتزامية

البيّنة، و هي بنفسها طوائف كثيرة، منها:

1- ما دل علي لزوم الأثر.

2- ما دل علي لزوم العدد، خمسة عشر أو عشرة.

3- ما دل علي لزوم الزمان، أعني يوما و ليلة كاملة.

إلي غير ذلك.

و من الواضح أنّها أشهر رواية من الروايات الدالة علي كفاية المسمي؛ مضافا إلي موافقتها لعمل الأصحاب، و مخالفتها لفتوي مالك، و أبي حنيفة و هما من فقهائهم المعروفين.

3- في بيان أنواع الكميّة،
اشارة

و هي ثلاثة:

الف) الاثر
اشارة

أمّا الاثر، المشهور بين الاصحاب، بل ادعي عليه الإجماع جماعة منهم، أنّه يكفي في مقام الكمية، ارتضاعه بمقدار يوجب شدّ العظم و إنبات اللحم؛ و قد دل عليه روايات كثيرة؛ تزيد علي عشرة؛ منها:

1- ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام، يقول: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم. «1»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 289، الحديث 2، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 508

2- ما رواه علي بن رئاب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: ما يحرم من الرضاع. قال:

ما أنبت اللحم و شدّ العظم … «1»

3- ما رواه مسعدة بن زياد العبدي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما شدّ العظم و أنبت اللحم … «2»

و يدل عليه أيضا كثير من الروايات الواردة في الباب 2 من هذه الأبواب، و غيره، و هي الرواية 14 و 18 و 19 و 20 و 23 من الباب 2، و الرواية 1 و 2 من الباب 4.

و لكن في بعضها، اللحم و الدم؛ مثل رواية محمد بن مسلم؛ «3» و في هذا المعني روايات اخري ربما تبلغ المجموع أربع روايات أو أكثر؛ (20/ 2 و 3/ 3 و 1/ 4 و 2/ 4 من أبواب الرضاع).

بقي هنا امور:

الأوّل: هل هناك تعارض بين ما دل علي إنبات اللحم و شدّ العظم، و بين ما دل علي إنبات اللحم و الدم؟ الظاهر انه لا تعارض بينهما، لأنّ ظهور الشدّة في العظم عادتا يكون بعد ظهور إنبات اللحم و الدم، و أن تلازما في الواقع.

الثاني: هل المعتبر في

هذا الأثر، الفعلية، أو يكفي كونه بالقوة؛ و تظهر الثمرة في ما إذا كان للصبي مرض لا تكثر وزنه مثلا طول ثلاثة أو أربعة أشهر، فعلي الأول، لا يحرم؛ و علي الثاني، يحرم. ظاهر النصوص و الفتاوي هو الفعلية و وجوده الخارجي، كما أن ظاهر جميع العناوين و الأوصاف كذلك، مثل التغيير في باب أوصاف الماء، أو الضرر في باب صوم المريض، أو الاستطاعة في الحج، و غير ذلك. نعم، لو حصل العدد أو الزمان الكاشف عن الأثر، يكفي في موارد الشك.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 283، الحديث 2، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 285، الحديث 9، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 289، الحديث 3، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 509

الثالث: هل المعتبر وجود كليهما، أو يكفي احدهما من الشد، و الإنبات؟ فيه خلاف بين الأصحاب، فعن جماعة كفاية أحدهما، للعلم بالتلازم بينهما. و عن جماعة اخري اعتبارهما معا، لعدم ثبوت التلازم.

أقول: من المعلوم اليوم، تقسيم الغذاء من طريق الدم علي جميع أجزاء البدن، فكل جزء يأخذ سهمه من المواد الغذائية و المائية و الاكسيجن، حتي أعماق العظام، و من البعيد وقوع الإنبات في اللحم دون شدّ العظم؛ هذا مضافا إلي أنّه قد عرفت ورود إنبات اللحم و الدم، بدون ذكر شدّ العظم، في روايات كثيرة بعضها معتبرة؛ و ظاهرها جواز الاكتفاء به، و لو لم يعلم بشدّ العظم؛ و ليس ذلك إلّا من جهة تلازمهما عادة.

إن قلت: إن كانا متلازمين، فلم ذكر كلاهما بعنوان الشرط؟

قلت: كأنه إشارة إلي أنّ سبب نشر الحرمة، وجود الأثر في جميع وجود الطفل.

إن قلت: هل

إنبات اللحم و الدم متلازمان؟

قلت: نعم، متلازمان، لأنّ اللحم إذا ازداد كان فيه عروق الدم، فلا محالة يزداد الدم.

إن قلت: أمّا إنبات اللحم، فهو أمر محسوس لا سيما في عصرنا الذي صار توزين الاطفال امرا متعارفا؛ و لكن كيف يمكن إثبات اشتداد العظم، و اين الطريق إلي معرفته.

قلت: الظاهر أنّه لا طريق له في العرف إلّا من ناحية التلازم.

*** ب) الزمان

و أمّا الزمان، فالمعروف و المشهور بين الأصحاب كفاية رضاع يوم و ليلة كاملتين؛ و ذهب شاذ إلي خلافه. و لعل أجمع كلام في نقل الأقوال في المقام، هو ما افاده الفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدس سره الشريف)، حيث قال:

لا شك في ثبوت التحريم لو رضع يوما و ليلة، للموثق المزبور المعتضد بمرسل المقنع المذكور و فتوي الطائفة قديما و حديثا؛ بل قد يظهر من محكي التبيان و مجمع البيان و الغنية و الايضاح و غيرها، عدم الخلاف فيه؛ و في الخلاف اجماع الفرقة عليه، و في

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 510

محكيّ التذكرة نسبته إلي علماء الاماميّة، و في كشف اللثام الاتفاق عليه. «1»

ثم حكي قولين آخرين شاذين في المسألة:

أحدهما، ميل بعض المتاخرين- و لم يسمّه باسمه- إلي اعتبار الحولين! لتعدد رواياته، ثم قال: يمكن أن يكون هذا القول مخالفا لإجماع المسلمين، بل يمكن أن يكون مخالفا للضرورة من الدين.

ثانيهما، التفصيل في المسالة، بان يكون الزمان (يوما و ليلة) لمن لم يضبط العدد، و مقتضاه أنّه مع العلم بالنقص عن العدد لا يعتبر الزمان؛ حكاه عن الشيخ و عن العلّامة في التذكرة، و رماه بمخالفته لإطلاق النص و الفتوي. «2»

هذه خلاصة القول في مسألة اعتبار الزمان، ففي الحقيقة المسألة إجماعية مع قطع النظر عن

هذه الشواذ.

و يدل عليه روايتان:

1- ما رواه زياد بن سوقة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: هل للرضاع حدّ يؤخذ به؟ فقال:

لا يحرم الرضاع أقل من يوم و ليلة، أو خمس عشرة رضعة متواليات … «3»

و رجال الرواية معتمدون، و لكن لما كان عمار بن موسي فطحيّا (يعتقد بامامة عبد اللّه بن أفطح بعد الصادق عليه السّلام) وصف الحديث بالموثق؛ و كان لعمار اخوان، صباح و قيس، و كانا أيضا ثقتان و لم أر في الرجال ما يدل علي كونهما من الفطحيين.

2- مرسلة الصدوق في المقنع، قال- بعد ذكر إنبات اللحم و شدّ العظم- و سئل الصادق عليه السّلام، هل لذلك حدّ؟ قال: لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع يوم و ليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات لا يفصل بينهن. «4» و سيأتي إن المراد بالتوالي و عدم الفصل، عدم الفصل برضاع امرأة اخري.

و هي أيضا منجبرة بعمل المشهور، أو بضم الرواية الاولي، و كفي بذلك في اثبات

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 286.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 287.

(3). الوسائل 14/ 282، الحديث 1، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 286، الحديث 14، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 511

الحكم المذكور.

و لكن هناك روايات معارضة لهما؛ بعضها تدل علي اعتبار الرضاع طول حولين، و بعضها طول سنة و بعضها طول خمسة عشر يوما، و بعضها ثلاثة أيام متواليات.

أمّا الأول، 1- ما رواه زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع. فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين! «1»

2- و مثله ما رواه عبيد

بن زرارة الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما كان حولين كاملين. «2»

و حيث إنّ في اسناد الصدوق إلي عبيد، الحكم بن مسكين، و هو غير موثق به، كان الحديث الثاني ضعيفا. و في الأول، الحسن بن حذيفة بن المنصور، و هو مجهول او ضعيف جدا علي رأي ابن الغضائري.

فالروايتان ضعيفتان، مضافا إلي اعراض المشهور عنه، بل قد عرفت رمي الفتوي بهما بأنّه مخالف لإجماع المسلمين بل ضرورة الدين.

و يمكن أن تكونا ناظرتين إلي لزوم كون الرضاع في الحولين أي حولي المرتضع.

أمّا الثاني، فهو ما رواه العلاء بن رزين، بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع. فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضع من ثدي واحد سنة. «3»

سند الحديث و إن كان صحيحا، و لكن العمل علي خلافه؛ فهو مهجور ممنوع، يرد علمه إلي أهله. و قال بعضهم يحتمل كون، سنّة؛ بضم السين و تشديد النون، يعني علي نحو السنّة، أي العدد أو الأثر أو الزمان أو شبه ذلك؛ و هو أيضا بعيد.

و أمّا الثالث، فيدل عليه ما رواه في الوسائل، من مرسلة الصدوق قال: و روي لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع خمسة عشر يوما و لياليهن ليس بينهن رضاع. «4»

و ما رواه في المستدرك، عن الصدوق (قدس سره) أيضا في الهداية عن الصادق عليه السّلام

______________________________

(1). الوسائل 14/ 292، الحديث 8، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 292، الحديث 10، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 286، الحديث 13، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 286، الحديث 15، الباب 2 من أبواب

ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 512

قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، و لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع خمسة عشر يوما و لياليهن و ليس بينهن رضاع. «1»

و حال سند الحديثين معلوم؛ و لعلهما حديث واحد، و لكن دلالتها علي اعتبار خمسة عشر يوما ظاهرة؛ لكنهما مهجوران عند الأصحاب، لم يعمل بهما أحد فيما نعلم، بل هما معارضتان بالروايات الكثيرة الدالة علي كفاية خمس عشرة رضعة، و قد حملهما بعضهم علي كون المراد خمس عشرة رضعة في كل يوم رضعة واحدة، و هو بعيد جدا؛ لأنّ الفصل برضاع امرأة اخري مناف؛ و الاكتفاء بسائر الاغذية، لا سيما في تلك الأيام، أيضا بعيد.

أمّا الرابع، فهو ما ورد في الفقه المنسوب إلي الرضا عليه السّلام: و الحدّ الذي يحرم به الرضاع، ممّا عليه عمل العصابة- دون كلّ ما روي فانّه مختلف- ما أنبت اللحم و قويّ العظم، و هو رضاع ثلاثة أيّام متواليات أو عشر رضعات متواليات. «2»

و سند الرواية ضعيف مرسل؛ بل كونه رواية، مشكوك؛ بل نفس تعبيرات هذه الرواية ليست مثل رواية المعصومين. فانّ قوله: مما عليه عمل العصابه؛ لا يشابه كلماتهم كما هو واضح. هذا أولا، و ثانيا، لم يعمل به أحد من العصابة، فكيف يقول: عليه عمل العصابة؛ و ذكر العشر فيه أيضا من الموهنات.

و الحاصل أنّ شيئا من المعارضات لا ينبغي عدّه معارضا؛ و لو فرض التعارض، كانت أدلة المشهور أقوي بلا ريب.

ج) العدد

و أمّا العدد، و المعروف بين الأصحاب، أنّه لا يكون أقل من العشر، و لا أكثر من خمس عشرة، و قد ادعي الإجماع علي كليهما كما يظهر من المسالك، فراجع. «3»

______________________________

(1). الميرزا النوري،

في مستدرك الوسائل 14/ 366، الحديث 1.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 366، الحديث 16972 و فقه الرضا، ص 234.

(3). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 215.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 513

و لكن الخلاف الشديد في كفاية العشر أو وجوب خمسة عشر؛ و قد ذهب إلي كل واحد منهما جماعة من أكابر الفقهاء؛ و اختار بعضهم كلا القولين في مواضع مختلفة.

قال ثاني الشهيدين (قدس سره) في المسالك: ذهب أكثر المتقدمين كالمفيد و سلّار و ابن البراج و أبي الصلاح و ابن حمزة؛ و من المتأخرين، العلّامة في المختلف و ولده فخر المحققين و الشهيد في اللمعة، إلي أنّ المعتبر عشر رضعات؛ و ذهب الشيخ و المصنف و أكثر المتأخرين، إلي اعتبار خمس عشرة؛ و كلا القولين لابن ادريس. «1»

و قال في الجواهر: ذهب ابن ادريس في أول كتاب النكاح، إلي القول بالعشر و جعله الأظهر في الفتوي و الصحيح؛ و رجع عنه في باب الرضاع و حكم بان الخمس عشرة هو الأظهر من الأقوال. «2» و العجب أنّهم اختلفوا في أشهر القولين، فقال بعضهم الأشهر هو الأول، و قال بعضهم هو الثاني؛ و الظاهر أنّ شهرة القول الأخير (خمس عشرة)، بين المتأخرين ممّا لا كلام فيه. إنّما الكلام في الشهرة بين القدماء، فقد يقال أنّها الأوّل؛ و قد وقع التشكيك فيه من بعض الأكابر.

و علي كل حال الذي يدل علي القول الأخير (خمس عشرة رضعة)، روايات كثيرة، و هي علي قسمين:

الأول، ما يدل علي وجوب خمس عشرة، و هو روايتان:

1- موثقة زياد بن سوقه، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: هل للرضاع حدّ يؤخذ به؟ فقال:

لا يحرم الرضاع أقل من يوم و

ليلة، أو خمس عشرة رضعة متواليات … «3»

2- ما رواه الصدوق في المقنع، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم. قال: و سئل الصادق عليه السّلام، هل لذلك حدّ؟ فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع يوم و ليلة، أو خمس عشرة رضعة متواليات … «4»

و هاتان الروايتان مع اعتبار سند إحداهما و وضوح دلالتهما، كافيتان في اثبات

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 214.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 278.

(3). الوسائل 14/ 282، الحديث 1، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 286، الحديث 14، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 514

المقصود مع قطع النظر عن معارضتهما.

الثاني، ما يدل علي نفي كفاية العشر؛ فانها بضميمة الإجماع علي أنّ العدد أمّا العشر أو خمس عشرة، تثبت المطلوب بالملازمة الظاهرة. و هي:

1- ما عن علي بن رئاب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت: ما يحرم من الرضاع؟ قال:

ما أنبت اللحم و شدّ العظم. قلت: فيحرّم عشر رضعات؟ قال: لا؛ لأنّه لا تنبت اللحم و لا تشد العظم عشر رضعات. «1»

2- ما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سمعته يقول: عشر رضعات لا يحرمن شيئا. «2»

3- ما عن عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سمعته يقول: عشر رضعات لا تحرّم. «3»

و هذه الروايات مع اعتبار اسناد بعضها، أيضا دليل علي المطلوب.

و اما ما استدل به علي كفاية العشر فقط، فهي أيضا روايات؛ منها:

1- عن عمرو بن يزيد، قال: سالت أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن الغلام يرضع الرضعة و الثنتين؟

فقال:

لا يحرم. فعددت عليه حتي أكملت عشر رضعات؛ فقال: إذا كانت متفرقة، فلا. «4»

فإنّها تدل بالمفهوم علي أنّه لو كانت غير متفرقة، فهي كافية؛ و الظاهر أنّ المراد بالمتفرقة ما كان بينها رضاع امرأة اخري. و لكن سنده ضعيف؛ فانّه إن كان عمرو بن يزيد، فهو مجهول؛ و إن كان عمر بن يزيد، فهو أيضا محل تأمل.

2- ما عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا المخبورة أو خادم أو ظئر، ثم يرضع عشر رضعات يروي الصبي و ينام. «5»

و هذا هو العمدة في روايات الباب، لدلالته علي المقصود بالمنطوق. و لكن سنده

______________________________

(1). الوسائل 14/ 283، الحديث 2، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 283، الحديث 3، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 283، الحديث 4، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 283، الحديث 5، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(5). الوسائل 14/ 285، الحديث 11، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 515

مشكل بمحمد بن سنان، مضافا إلي أنّ الحصر في المخبورة (أو المجبورة علي ما في النسخ المعتبرة ظاهرا) أو خادم أو ظئر ممّا لم يقل به أحد؛ بل إذا كانت متبرعة نشرت الحرمة؛ فيكون ضعيفا من حيث الدلالة كما أنّ النوم بعد التروي لا يكون شرطا إلّا أن يحمل علي الغالب.

3- عن عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أمّا أهل بيت كبير، فربما كان الفرح و الحزن الذي يجتمع فيه الرجال و النساء، فربما استخفت المرأة أن تكشف رأسها عند الرجل الذي بينها و بينه

رضاع، و ربما استخف الرجل أن ينظر إلي ذلك؛ فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال: ما أنبت اللحم و الدم. فقلت: ما الذي ينبت اللحم و الدم؟ فقال:

كان يقال عشر رضعات. قلت: فهل تحرم عشر رضعات؟ فقال: دع ذا؛ و قال: ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع. «1»

و لا يبعد صحة سنده، و لكن دلالته مشكل جدا، لإجماله و استشمام التقية منه.

4- عن مسعدة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما شدّ العظم و أنبت اللحم، فاما الرضعة و الرضعتان و الثلاث حتي بلغ عشرا، إذا كن متفرقات، فلا بأس. «2»

و هو أيضا يدل بالمفهوم، و في سنده مسعدة، و هو بقرينة رواية 9/ 2، هو مسعدة بن زياد العبدي؛ و لا يبعد وثاقته.

5- ما عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن الرضاع، ما أدني ما يحرم منه؟ قال: ما ينبت اللحم و الدم؛ ثم قال: أ تري واحدة تنبته؟ فقلت: اثنتان أصلحك اللّه؛ فقال: لا. فلم أزل أعد عليه حتي بلغت عشر رضعات. «3»

و سنده أيضا مشكل بعلي بن يعقوب، فانّه مجهول الحال؛ و دلالته أيضا لا تخلو عن ابهام كما هو واضح.

فتلخص، أنّ الذي يدل علي المقصود هو الرواية الاولي و الرابعة، و هما تدلان

______________________________

(1). الوسائل 14/ 287، الحديث 18، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 287، الحديث 19، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 287، الحديث 21، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 516

بالمفهوم مع ضعف سندهما.

و لكن الروايات النافية للعشر، صريح في النفي و

أصحّ سندا؛ و كذا المثبتة لخمس عشرة. فالترجيح بالطائفة الاولي، أي ما دل علي اعتبار خمس عشرة عند ذكر العدد.

هذا مضافا إلي أنّ مقتضي أصالة الاباحة بعد عدم كون عمومات، يحرم من الرضاع …؛

و أمثالها في مقام بيان جميع الشرائط، هو عدم الاكتفاء بالعشر؛ فلا يبقي إلّا خمس عشرة.

4- هل الكميّات الثلاث كلها اصول؟

هل هذه الأمور الثلاثة، (الأثر و العدد و الزمان)، كلها اصول أو بعضها أصل و بعضها الآخر دليل و امارة عليه.

و نتيجة هذا البحث، أنّه لو كان جميعها اصولا، كفي حصول واحد منها و إن علم بانتفاء الآخرين. و أمّا لو كان أحدها اصلا، (مثلا كان الأثر أصلا، و الآخرين دليلا عليه)، لا يكفي حصول العدد أو الزمان لو علم بعدم حصول الأثر، اصلا.

و علي كل حال، ففي المسألة اقوال:

الأول: ان كل واحد اصل برأسه؛ ذكر في المسالك انه ظاهر المصنف، (المحقق)، و الأكثر. «1»

الثاني: أن الأصل هو العدد، و الباقيان إنّما يعتبران عند عدم انضباطه؛ حكاه في المسالك عن الشيخ. «2»

الثالث: أنّ الأصل هو الأثر، و الباقيان أمارة عليه؛ اختاره في كشف اللثام «3» و تبعه عليه بعض آخر.

و الانصاف أنّ ظاهر اخبار هذه الأبواب هو الأخير؛ و هي علي طائفتين:

الطائفة الاولي، ما يدل علي حصر طريق الرضاع المحرم، في إنبات اللحم و شدّ العظم،

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 222.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 222.

(3). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 134.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 517

أو إنبات اللحم و الدم؛ منها:

1- ما رواه حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و الدم. «1»

2- ما رواه عبد اللّه

بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام، يقول: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم. «2»

3- ما رواه مسعدة بن زياد العبدي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما شدّ العظم و أنبت اللحم؛ الحديث. «3»

4- ما رواه أيضا مسعدة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما شدّ العظم و أنبت اللحم؛ الحديث. «4»

و لكن يمكن أن يعارض هذه الروايات بما ورد نظيره في العدد أو الأثر، مثل:

1- ما رواه زياد بن سوقة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: هل للرضاع حدّ يؤخذ به؟ قال:

لا يحرم الرضاع أقلّ من يوم و ليلة، أو خمس عشرة رضعة متواليات. «5»

2- ما رواه الصدوق قدّس سرّه في المقنع، قال: و روي لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع خمسة عشر يوما و لياليهن ليس بينهن رضاع. «6» بناء علي حملها علي خمس عشرة رضعة.

و من هنا يعلم أنّ الحصر فيها اضافي، ليس بمعني نفي الغير مطلقا.

الطائفة الثانية، و هي العمدة؛ ما يجعل الأصل فيه الأثر، ثم يجعل حدّه، أي الامارة عليه، العدد أو الزمان. مثل:

1- علي بن رئاب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: ما يحرم من الرضاع؟ قال: ما أنبت اللحم و شد العظم. قلت: فيحرم عشر رضعات؟ قال: لا، لأنّه لا تنبت اللحم و لا تشدّ

______________________________

(1). الوسائل 14/ 289، الحديث 1، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 289، الحديث 2، الباب 3 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 285، الحديث 9، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 287، الحديث 19،

الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(5). الوسائل 14/ 282، الحديث 1، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(6). الوسائل 14/ 286، الحديث 15، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 518

العظم عشر رضعات. «1»

2- محمّد بن علي بن الحسين في (المقنع) قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم. قال: و سئل الصادق عليه السّلام هل لذلك حدّ؟ فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع يوم و ليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات لا يفصل بينهن. «2»

3- عن عبيد بن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: … (إلي أن قال:) فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال: ما أنبت اللحم و الدّم. فقلت: و ما الذي ينبت اللحم و الدم؟ فقال: كان يقال عشر رضعات. قلت: فهل تحرم عشر رضعات؟ فقال: دع ذا … «3»

4- عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن الرضاع ما أدني ما يحرم منه؟ قال: ما ينبت اللحم و الدّم. ثم قال: أ تري واحدة تنبته؟ فقلت: اثنتان أصلحك اللّه؟

فقال: لا؛ فلم أزل اعد عليه، حتّي بلغت عشر رضعات. «4»

5- عبد اللّه بن سنان، عن أبي الحسن عليه السّلام قال: قلت له: يحرم من الرضاع الرضعة و الرضعتان و الثلاثة؟ قال: لا، إلّا ما اشتدّ عليه العظم و نبت اللحم. «5»

أضف إلي ذلك؛ حكمة الحكم أيضا تؤيد كون الأثر أصلا، و الباقيان طريقا إليه. فان إنبات لحم الولد و اشتداد عظمه سبب لاتحاده مع أولاد المرضعة من حيث الجسم الموجب للمحرمية. و قوله صلّي اللّه عليه و آله: الرضاع لحمة كلحمة النسب؛ المذكور

في كتب الفتاوي و التفسير، و إن لم نجده في كتب الحديث، أيضا مؤيد له؛ فان اللحمة، إمّا بمعني القرابة، و إمّا بمعني لحمة الثوب المقابل لسداة، (كما ورد في كتب اللغة)؛ و كلاهما فرع أثر اللبن في إنبات اللحم و شدّ العظم؛ و اللّه العالم.

5- هل هذه الامور الثلاثة، متفقة في النتيجة أو مختلفة؟

من البعيد جدّا أن يجعل الشارع المقدس أمورا مختلف المآل، ملاكا لحكم واحد، و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 283، الحديث 2، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 286، الحديث 14، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 287، الحديث 18، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 287، الحديث 21، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(5). الوسائل 14/ 288، الحديث 23، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 519

من هنا يعلم تقارب هذه الامور الثلاثة إجمالا، و هو غير بعيد.

إن قلت: كيف يقارب الزمان و العدد، هنا، مع أنّ الصبي لا يشرب اللبن عادة في يوم و ليلة خمس عشرة مرّة.

قلنا: قد يكون كذلك، فيشرب في كل ساعة و نصف مرّة؛ هذا مضافا إلي أنّ العدد، قد يكون بينها التغذية بشي ء آخر، و الزمان لا يكون بينه بشي ء ابدا.

إن قلت: كيف يحصل الأثر في يوم و ليلة؟

قلنا: نموّ الصبي سريع جدا، لا يكون مثل الكبير. فحينئذ لا يبعد حصول الأثر في كل يوم و ليلة.

6- كيف يعلم حصول الأثر، مع أنّه أمر خفي عادة؟

ذكر صاحب الجواهر له طريقين:

أحدهما: الرجوع إلي اهل الخبرة، كما نص عليه جماعة؛ ثم اشترط فيه حصول شرائط الشهادة من الإيمان و العدالة و العدد.

ثانيهما: تحقق الرضاع مدّة طويلة، كشهرين و ثلاثة مثلا، مع اختلال شرط الزمان و العدد. كما إذا كانت الرضعات ناقصة أو تحقق فيها الفصل برضاع امرأة اخري، أو غير ذلك. «1»

هذا، و لكن الانصاف انّ شهادة عدل واحد، بل قول ثقة، كافية. لما ذكرنا في محله من كفاية قول الثقة و لو كان واحدا في إثبات الموضوعات. نعم، في التنازع لا يكفي إلّا شهادة

عدلين. و اعلم أنّ الرجوع إلي أهل الخبرة إنّما هو في الموضوعات الخفيّة التي تحتاج إلي خبروية و ما نحن فيه كذلك.

***

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 277.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 520

[المسألة 3: المعتبر في إنبات اللحم و شدّ العظم، استقلال الرضاع]
اشارة

المسألة 3: المعتبر في إنبات اللحم و شدّ العظم، استقلال الرضاع في حصولهما علي وجه ينسبان إليه؛ فلو فرض ضم السكّر و نحوه إليه علي نحو ينسبان إليهما، أشكل ثبوت التحريم؛ كما أنّ المدار هو الإنبات و الشدّ المعتد به منهما، علي نحو مبان يصدقان عرفا و لا يكفي حصولهما بالدقة العقلية؛ و إذا شك في حصولهما بهذه المرتبة أو استقلال الرضاع في حصولهما يرجع إلي التقديرين الآخرين.

اعتبار استقلال الرضاع في حصول الاثر

أقول: هذه المسألة تشتمل علي فرعين من فروع المسألة السابقة:

أحدهما: أنّ الأثر لا بدّ أن يكون منسوبا إلي اللبن مستقلا، لا إليه و إلي أمر آخر مثل السكّر الملقي في فم الصبي، أو أكله قبل اللبن أو بعده، أو تغذيه بغذاء آخر قبل الرضاع أو بعده.

ثانيهما، لا يكفي الأثر بالدقة العقليّة، بل لا بدّ و أن يكون الأثر أمرا ظاهرا بيّنا عرفا.

[للمسألة فرعان]
1- الأثر لا بد أن يكون مستندا إلي اللبن مستقلا

فهو مفهوم من ظاهر روايات الباب؛ فان قوله عليه السّلام في غير واحد من روايات- الباب 3 من أبواب ما يحرم بالرضاع-: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شد العظم؛ أو ما في معناه، هو استناد الأمرين إلي الرضاع، لا إليه و إلي أمر آخر؛ فلا بد من الاستقلال في الأثر.

قال المحقق السبزواري، في مهذب الأحكام، بعد ذكر عنوان المسألة: إجماعا و نصوصا تقدم بعضها؛ ثم استدل له بالأصل بعد الشك في شمول الادلة. «1»

هذا؛ و لكن باب المناقشة في المسالة واسع، لأنّ استناد الإنبات و الشدّ إلي طعامين

______________________________

(1). المحقق السبزواري، في مهذب الاحكام 25/ 23 و 24.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 521

مختلفين، فيما إذا دام مدّة غير قصيرة، أمر عرفي ظاهر، مثلا من أكل الخبز و الأرز مدة طويلة فزاد ثقل بدنه مثلا أربع كيلوغرام، يمكن أن يقال إن ازدياد ثقله مستند إلي الخبز كما أنّه مستند إلي الأرز؛ فكل منهما علة مستقلة في بعض زيادة الثقل، لأنّ المعلول أمر مركب يمكن استناده إلي اسباب متعددة مستقلا؛ فالخبز مستقل في تأثيره الخاص كما أنّ الأرز كذلك. و إن أبيت عن صدق الاستقلال في التاثير و لكن صدق النسبة حاصل؛ و لذا لو سئل عن سبب ازدياد وزنه،

يجيب بأنّ كلا من الخبز و الأرز سبب له. و يمكن اختبار ذلك في مثال آخر، فلو فرض هناك مخزن للماء يرد عليه الماء من أنابيب متعددة لا شك أنّ مستوي الماء في المخزن يرتفع تدريجا كما أنّه لا شك في نسبة الارتفاع إلي كل واحد في الجملة، يعني كل واحد سببا لارتفاعه مثلا بمقدار شبر، و المجموع بمقدار أشبار؛ و بدن الإنسان مثل مخزن الماء، و الأغذية مثل الماء الجاري من الأنابيب. (فافهم و اغتنم، فانّه ينفعك في سائر المقامات التي تشابه المقام).

فالأقوي أنّ صدق النسبة لا يتوقف علي عدم ضمّ شي ء آخر إليه، و به يرفع اليد عن أصالة الحلّ هنا.

2- المدار علي المقدار المعتد به

استدل له في المهذب، بالأصل، و عدم ابتناء أحكام الشرع علي الدّقة العقلية. «1»

و أحسن منه ما ذكره في الجواهر بعد الحكم بلزوم ظهور الأثر لدي حس أهل الخبرة، بان: لأنّ الاكتفاء بمطلق التأثير يقتضي فساد التحديد، فانّه لا يزيد علي اعتبار أصل الرضاع … و لوقوع التصريح في النصوص بعدم حصول الإنبات و الاشتداد بالرضعة فما فوقها إلي العشر، بل بانتفائهما فيها. فمع ملاحظة الجمع بين النصوص و الفتاوي يعلم كون المراد مرتبة خاصة من الإنبات و الاشتداد، لا مطلق التأثير كما هو واضح. «2»

و يظهر من كلام هذا الفقيه الماهر، بعد الدّقة، أنّ مراتب التأثير ثلاثة:

______________________________

(1). المحقق السبزواري، في مهذب الاحكام 25/ 24.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 274.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 522

1- التأثير بالدقة العقلية، و هذا غير معتبر عقلا.

2- التأثير العرفي، مثل ما حصل بعد عشر رضعات مثلا.

3- التأثير العرفي المحسوس لأهل الخبرة.

و الذي يظهر من أخبار الباب هو الأخير، للروايات التي أشار بها

صاحب الجواهر.

و الظاهر إمكان معرفة الاثر بالوزن، فاذا زاد وزن الصبي مقدارا معتدا به يدل علي إنبات لحمه و يلازمه اشتداد عظمه، كما في بعض الروايات؛ و إنبات دمه، كما في بعض آخر.

يبقي الكلام في موارد الشك، فاذا شك في الاستقلال- بناء علي اعتباره- أو حصول الأثر عرفا، فالأصل هو العدم من هذه الناحية؛ فانّ حصل فيه ما يوجب الحرمة من ناحية الزمان أو العدد، يؤخذ به؛ و إلّا يحكم بالحلية بمقتضي الأصل.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 523

[المسألة 4: يعتبر في التقدير بالزمان أن يكون غذاؤه في اليوم و الليلة منحصرا باللبن]
اشارة

المسألة 4: يعتبر في التقدير بالزمان أن يكون غذائه في اليوم و الليلة منحصرا باللبن، و لا يقدح شرب الماء للعطش و لا ما يأكل أو يشرب دواء، إن لم يخرج ذلك عن المتعارف؛ و الظاهر كفاية التلفيق في التقدير بالزمان لو ابتدء بالرضاع في اثناء الليل أو النهار.

شرائط كمية الزمانية
اشارة

أقول: في هذه المسألة أيضا فرعان؛

[للمسألة فرعان]
1- لا يتغذي بغير اللبن

أمّا الأول، فقد صرح به غير واحد من الأعلام؛ فقد ذكر في المسالك: أنّ المعتبر في رضاع اليوم و الليلة، كون مجموع غذاء الولد في ذلك الوقت، من اللبن بحيث كلّما احتاج إليه يجده. «1»

قال في الرياض: و أن لا يفصل بين الرضعات برضاع غير المرضعة و المأكول و المشروب في الزمانية خاصة، دون العددية؛ فيمنع فيها، الفصل برضاع غير المرضعة خاصة. كل ذلك للأصل و التبادر. «2»

و قد صرّح في الجواهر بمثل ما أفاده في المسالك. «3»

و الظاهر أنّه لم يرد نص خاص في المسألة و لذا استدل له في مهذب الأحكام بأنّه الظاهر من الأخبار مضافا إلي الإجماع و أصالة عدم نشر الحرمة في غيره، ثم قال: نعم، لا يقدح تناول شي ء خارجي قليل جدّا بما هو المتعارف في الرضع كما سيأتي، و لا يقدح شرب الماء للعطش و لا ما يأكل أو يشرب دواء، لما عرفت في سابقه و أن المناط الغذاء

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 224.

(2). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 11/ 142.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 289.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 524

الواصل إلي الجوف و لا يصدق ذلك في الماء و الغذاء. «1»

قلت: أمّا دعوي الإجماع فهو كما تري، لأنّ الظاهر أنّه لم يتعرض له إلّا القليل. و أمّا ظهور الأخبار فقد عرفت أنّ الدليل عليه موثقة زياد بن سوقة، و مرسلة الصدوق فقط، «2» و مضمون كليهما واحد: لا يحرم الرضاع أقل من يوم و ليلة، الخ. و الانصاف أنّ ظهورهما في انحصار الغذاء باللبن واضح. نعم، يستثني منه ما هو المتعارف كأكل شي ء قليل مثل

وضع شي ء قليل من التفاح مثلا و الخبز تحت يده لأن يلهو به فأكل قليلا منه؛ و كذلك الدواء و الماء فانّه متعارف فلا ينصرف الاطلاق إلي غيره.

فالعمدة كونه من المصاديق المتعارفة، يحمل الاطلاق عليه.

2- كفاية التلفيق

أمّا الثاني، و هو كفاية التلفيق، فهي ممّا لا ينبغي التأمّل فيها، لأنّ المتفاهم من روايتي الباب كون الرضاع بمقدار أربع و عشرين ساعة، لا أنّه يبدأ من أول طلوع الفجر إلي طلوع الفجر في الليلة الآتية، أو من أول طلوع الشمس، أو شبه ذلك، فانّه فرد نادر؛ كما أنّ الأمر في أشباهه كذلك من إقامة عشرة أيّام أو ثلاثين يوما في المسافر، أو لزوم استمرار ثلاثة أيّام في الحيض، أو تجاوزه عن العشرة، أو غير ذلك؛ ففي جميع ذلك يكفي التلفيق لانصراف الأدلة إليه، كما هو ظاهر.

***

______________________________

(1). المحقق السبزواري، في مهذب الاحكام 25/ 24.

(2). الوسائل 14/ 282 و 286، الحديث 1 و 14، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 525

[المسألة 5: يعتبر في التقدير بالعدد أمور]
اشارة

المسألة 5: يعتبر في التقدير بالعدد امور:

منها: كمال الرضعة، بان يروي الصبي و يصدر من قبل نفسه، و لا تحسب الرضعة الناقصة، و لا تضم الناقصات بعضها ببعض بأن تحسب رضعتان ناقصتان أو ثلاث رضعات ناقصات مثلا، واحدة؛ نعم لو التقم الصبي الثدي ثم رفضه لا بقصد الاعراض بان كان للتنفس أو الالتفات إلي ملاعب أو الانتقال من ثدي إلي آخر أو غير ذلك كان الكلّ رضعة واحدة.

و منها: توالي الرضعات بأن لا يفصل بينها رضاع امرأة اخري رضاعا تاما كاملا علي الأقوي، و مطلقا علي الأحوط. نعم لا يقدح القليل جدّا، و لا يقدح في التوالي تخلل غير الرضاع من الماكول و المشروب، و إن تغذي به.

و منها: أن يكون كمال العدد من امرأة واحدة، فلو ارتضع بعض الرضعات من و أكملها من امرأة اخري لم ينشر الحرمة، و إن اتحد الفحل؛ فلا تكون واحدة من

المرضعتين امّا للمرتضع، و لا الفحل أبا له.

و منها: اتحاد الفحل بان يكون تمام العدد من لبن فحل واحد، و لا يكفي اتحاد المرضعة، فلو أرضعت امرأة من لبن فحل واحد ثمان رضعات، ثم طلقها الفحل و تزوجت بآخر و حملت منه، ثم أرضعت ذلك الطفل من لبن الفحل الثاني تكملة العدد، من دون تخلل رضاع امرأة اخري في البين، بأن يتغذي الولد في هذه المدّة المتخللة بالمأكول و المشروب لم ينشر الحرمة.

شرائط كمية العددية
اشارة

أقول: قد مر الكلام في شرائط التقدير بالأثر، في المسألة 3، و في التقدير الزماني في

المسألة 4؛ و الكلام هنا (في المسألة 5) في شرائط التقدير العددي، أي خمس عشرة رضعة علي الأقوي أو عشرة علي قول ضعيف؛ و فيه شرائط أربعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 526

1- كمال كل رضعة

فقد صرح في الجواهر بأنّه لم يجد فيه خلافا بيننا. «1» و صرح في المهذب بأنّه إجماعي.

و اشار إلي أصل المسالة- أي اعتبار الكمال- في المسالك، «2» و الرياض، «3» كما صرح باعتباره في متن الشرائع؛ و تعبير الرياض بأنّ ضعف بعض أخبار الباب منجبر بعمل الأصحاب، يشعر أو يدل علي دعوي الإجماع في المسالة؛ و نحن أيضا لم نر مخالفا بين الأصحاب، و يوجد بين العامة.

و علي كل حال فقد استدل لاعتباره بعد الإجماع، المعلوم حاله في هذه المسائل، بامور:

1- الأصل، فان مقتضاه عدم نشر الحرمة من دون كمال الرضعات، و هو جيّد إذا لم يكن هناك دليل آخر.

2- ظهور اطلاق الروايات الدالة علي اعتبار العدد، فانّ الرضعة ظاهر بحسب التبادر في الرضعة الكاملة.

3- الروايات الخاصة الواردة في المسالة، منها:

1- ما رواه ابن أبي يعفور، قال: سألته عمّا يحرم من الرضاع؟ قال: إذا رضع حتي يمتلي بطنه، فانّ ذلك ينبت اللحم و الدم، و ذلك الذي يحرم. «4»

و قد وصف سنده بالاعتبار.

2- ما رواه ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: الرضاع الذي ينبت اللحم و الدم هو الذي يرضع حتي يتضلّع و يمتلي و ينتهي نفسه. «5»

و قد وصف سنده أيضا بالاعتبار.

و لكن باب المناقشة في دلالة الخبرين واسع؛ أولا، أنّ الظاهر أنّهما ناظرتان إلي

______________________________

(1). المحقق النجفي، في

جواهر الكلام 29/ 288.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 224.

(3). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 11/ 140.

(4). الوسائل 14/ 290، الحديث 1، الباب 4 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(5). الوسائل 14/ 290، الحديث 2، الباب 4 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 527

التقدير بالأثر دون العدد. و يمكن الجواب عنه، بأنّه لو اعتبر في الأثر، فاعتباره في العدد بطريق أولي. و ثانيا، الظاهر أن هذا الشرط غير معتبر في الأثر، للعلم الوجداني بان الأثر لا يتوقف علي الرضعات الكاملات، بل يحصل بالوجدان بالرضعات الناقصات مدة غير يسيرة.

فالروايتان بحسب الدلالة ضعيفتان.

و يمكن الجواب عن هذا الإشكال أيضا، بانّ عدم اعتبار هذا الشرط في الأثر دليل علي أنّهما ناظرتان إلي العدد، و لذا فهم هذا المعني منه جماعة من الأصحاب و استدلوا بهما، فتأمل.

و الانصاف، أنّ الاستدلال بالروايتين- مع ذلك- لا يخلو عن ضعف.

3- ما رواه الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا المخبورة أو خادم أو ظئر، ثم يرضع عشر رضعات يروي الصبي.

لكن يرد عليه أولا، من ناحية السند، للإشكال المعروف في محمد بن سنان، اللّهم إلّا أن يقال بانجباره بعمل الأصحاب.

و ثانيا، من حيث الدلالة لأنّه متروك الظاهر بالإجماع كما صرّح به الشيخ (قدس سره) في بعض كلماته، لأنّه قد يحرم من الرضاع من لا يكون مجبورا (كما في النسخ المعتبرة) و لا خادما و لا ظئرا، بأن يكون امرأة متبرعة.

مضافا إلي أنّه من روايات العشر التي قد مرّ ضعفها في مقابل روايات خمس عشرة.

فتلخص من جميع ذلك أنّ العمدة في دليل المسألة، هو منصرف اطلاقات أخبار الباب.

2- اعتبار التوالي
اشارة

و هو بمعني

عدم الفصل بين الرضعات برضعة امرأة اخري، فلو أنّ امرأة رضعت طفلا خمس عشرة رضعة كاملة، و لكن وقع الفصل بينها برضعة امرأة اخري، لم يكف؛ فليس رضاع امرأة اخري مكملا للعدد فانّ العدد كامل من امرأة الاولي، و إنّما الإشكال في

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 528

بطلان التوالي. هذا، و أمّا الفصل بينها بالمأكول و المشروب فهو غير مانع، حتي أنّه لو رضعت عشر رضعات، ثم وقع الفصل بعدة أشهر يشرب الصبي فيها لبن البقر أو يأكل بعض الأغذية، ثم رضعته خمس رضعات اخري، تمّ العدد و نشرت الحرمة بعد كمال العدد.

هذا هو المدعي، و قد ادعي إجماع أصحابنا عليه.

قال في الخلاف، بعد ذكر هذا الشرط، و أنّ الشافعي لم يعتبره، و لم يفرق بين أن يدخل بينها فصل بذلك أم لا: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. «1»

و قال المحقق النراقي في المستند، بعد ذكر هذا الشرط ما نصّه: إجماعا كما في التذكرة و عن الخلاف و الغنية. «2»

و صرح في الجواهر بعدم وجدانه الخلاف في المسألة. «3»

هذا؛ و حيث أن غير واحد من الأصحاب عبروا عن هذا الشرط و الشرط الآتي- (أي كون الإكمال من امرأة واحدة، أنّه لو أرضعت واحدة بعض العدد و الاخري بعضه الآخر، لم تنشر و لو كانتا من فحل واحد)- بعبارة واحدة وقع الابهام في بعض كلماتهم، مثلا أنّ المحقق في الشرائع عبّر عن كليهما بهذه العبارة: أنّه لا بدّ من توالي الرضعات بمعني أنّ المرأة الواحدة تنفرد بإكمالها، فلو رضع من واحدة بعض العدد ثم رضع من اخري، بطل حكم الأول.

و صدر هذه العبارة كما تري ظاهر في الشرط الثالث، و ذيلها في الشرط الثاني و

الثالث كليهما؛ و لذا صرّح الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك، بان اعتبار التوالي له جهتان:

إحداهما، ما أشار إليه المصنف بقوله: بمعني أنّ المرأة الواحدة تنفرد بإكمالها فلو رضع بعض العدد من امرأة و أكمله من اخري لم ينشر الحرمة؛ … و الجهة الثانية للتوالي، أن يرتضع العدد المعتبر من المرأة متواليا بحيث لا يفصل بينه رضاع اخري، و إن أكملت

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف 5/ 100.

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 255.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 291.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 529

الاولي العدد. «1»

و هذا الكلام يدل علي أنّ الخلط بين المسالتين في بعض العبارات، أوجب ابهاما في المسالة من حيث الأقوال إجمالا.

و كيف كان فقد استدل علي اعتبار هذا الشرط- أي التوالي بمعني عدم الفصل برضاع امرأة اخري و أن أكمل الاولي العدد-، بروايات:

1- ما رواه مسعدة بن زياد العبدي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم الرضاع إلّا ما شدّ العظم و أنبت اللحم، فاما الرضعة و الثنتان و الثلاث حتي بلغ العشر إذا كن متفرقات، فلا بأس. «2»

2- ما رواه عمر بن يزيد، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغلام يرضع الرضعة و الثنتين؟ فقال: لا يحرم. فعددت عليه حتي أكملت عشر رضعات؛ فقال: إذا كانت متفرقة فلا. «3»

و الاستدلال بهاتين الروايتين مشكل جدّا، فان التفرق غير عدم التوالي، لأنّ التوالي يصدق و لو كانت الرضعات متفرقة إذا لم يتخلل بينها برضاع امرأة اخري؛ فلعل هاتين ناظرتان إلي خصوص الأثر، و انّ الأثر لا يظهر بالتفرق، مضافا إلي ذكر العشر فيهما.

و لعله لذا لم يستدل بهما صاحب الجواهر و بعض آخر، فتدبّر

جيدا.

3- ما رواه زياد بن سوقة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: هل للرضاع حد يؤخذ به؟ فقال:

لا يحرم الرضاع أقل من يوم و ليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها؛ فلو أنّ امرأة ارضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد و أرضعتهما امرأة اخري من فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما. «4» و الظاهر أن عطف الجارية علي الغلام بالواو لا بأو، بقرينة ذيل الرواية.

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 226- 229.

(2). الوسائل 14/ 285، الحديث 9، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 283، الحديث 5، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 282، الحديث 1، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع. و في نسخة التهذيب (ج 7/ 315)،

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 530

و صدر هذه الرواية واضحة الدلالة علي المطلوب (إلي قوله: لم يفصل بينها رضعة امرأة اخري)، و لكن الكلام كل الكلام في ذيلها، فان الإشكال فيه إن كان من ناحية عدم اتحاد الفحل، فهذا لا ربط له بصدرها، فلا يمكن ذكره بعنوان التفريع عليه.

و يمكن أن يقال إن المذكور في الرواية شروط ثلاثه: التوالي، و اتحاد المرضعة، و اتحاد الفحل؛ و ما ورد في ذيلها تفريع علي اتحاد الفحل فقط، و معناه أنّه لو اتحد الفحل ارتفع الإشكال من هذه الناحية، و إن كان الإشكال باقيا من ناحية عدم اتحاد المرضعة أيضا أو جهة اخري.

و علي كل حال لا يبعد الاستناد إلي هذه الرواية في إثبات هذا الشرط مع عدم وجود الخلاف فيه، بل دعوي الإجماع

عليه.

*** بقي هنا امور:

الأوّل: ان المعروف عدم المنع عن تغذية الطفل بماكول أو مشروب اخر، و أنّ كثر و طال. قال في الجواهر: كوضوح كون المراد بالتوالي، عدم الفصل بخصوص رضاع اخري نصا و فتوي، فلا يقدح الفصل بالأكل و نحوه، بل و بوجور اللبن في فمه، بلا خلاف أجده فيه.

ثم اشكل عليه بأنّه لو كان العدد كاشفا عن الإنبات، يشكل الحكم بالحرمة لو كان الفصل بالأكل علي وجه يعلم عدم الإنبات بهذا العدد؛ ثم اجاب عن هذا الإشكال بانّ العدد المزبور كاشف عنه شرعا. (انتهي). «1»

هذا و لكن المحقق النراقي بعد ما استدل بروايتي مسعدة بن زياد، و عمر بن يزيد، و زياد بن سوقة، منع من عدم صدق التفريق و عدم التوالي مع تخلل المأكول و المشروب،

______________________________

- و الاستبصار (ج 3/ 193)، «أرضعتها» بدل «أرضعتهما»، و قال بعض المحشين: الصحيح «و» بدل «او» و «أرضعتهما» كما ذكرنا.

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 292 و 293.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 531

سيّما مع طول مدّة التخلل. «1»

و الانصاف أنّ هذا الكلام أشبه شي ء بالاجتهاد في مقابل النص؛ لأنّ رواية زياد بن سوقة، فسّر المتواليات بأنّه لم يفصل بينهما رضعة امرأة اخري، و ليس فيها كلام عن الماكول. اللّهم إلّا أن يقال إنّه ناظر إلي الغالب، فتأمل.

الثاني: هل المعتبر في العدد، حصوله كيف اتفق أو يعتبر مع صحة مزاج الولد؛ ذكر في المسالك و الجواهر ان فيه وجهين نظرا إلي عموم النص، مع احتمال انصرافه إلي صحيح المزاج و بالمقدار المعهود.

و لكن الانصاف عموم النص، إلّا أن يكون رضاع الطفل قليلا جدّا بحيث لا يعد رضعة.

الثالث: هل المانع عن التوالي هو مسمي الرضاع أو الرضاع

الكامل؛ فيه وجهان بل قولان، كما في الجواهر «2» نسب إلي ظاهر الاصحاب كفاية المسمي و هو غير بعيد بحسب اطلاق النص، و الفرق بينه و بين الرضعات ظاهر، بناء علي الاستدلال بروايتي مسعدة، و عمر بن يزيد، أو دعوي الانصراف هناك إلي الكامل دون المقام، فتأمل.

3- اعتبار اتحاد المرضعة

و هو اعتبار اتحاد المرضعة في جميع العدد، فهو من حيث الأقوال كالأول، بل أولي منه كما هو الظاهر؛ و قد عرفت إدغام هذا الشرط مع الشرط السابق من حيث العنوان و الأقوال في كلام جماعة.

قال في الرياض: و هل يشترط في التوالي اتحاد المرضعة، أم يكفي اتحاد الفحل؛ ظاهر الموثقة و الصحاح المتقدمة قريبا، الأول؛ و عليه الإجماع عن الغنية و الخلاف و التذكرة … خلافا للعامة. «3»

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 254.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 293.

(3). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 143.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 532

و يمكن الاستدلال له مضافا إلي موثقة زياد بن سوقة، (فقد وقع التصريح فيها بكون العدد من امرأة واحدة)، بقياس الأولوية بالنسبة إلي اشتراط التوالي و عدم الفصل برضاع امرأة اخري، فانّ الفصل مع كمال العدد أن كان مضرا، كان الفصل مع عدم تمام العدد كذلك بطريق الأولي.

بل الانصاف أنّه مع الشرط السابق لا يبقي محل لهذا الشرط، و لعله لذلك ذكروهما جماعة من المحققين تحت عنوان واحد.

4- اتّحاد الفحل
اشارة

و هو اتحاد الفحل، أي الأب الرضاعي، فهو المشهور بين الأصحاب بل ادعي عليه الإجماع خلافا للعامة حيث لم يشترطوا اتحاد الأب الرضاعي و اكتفوا باتحاد الام الرضاعي كالنسبي سواء.

قال العلّامة (قدس سره) في التذكرة: يشترط في الرضاع المحرم، أن يكون اللبن لفحل واحد عند علمائنا أجمع؛ فلو أرضعت امرأة بلبن فحل واحد مأئة، حرم بعضهم علي بعض؛ و كذا لو نكح شخص مأئة امرأة و ارضعت كل واحدة، واحدا أو أكثر، حرم التناكح بينهم جميعا؛ و لو أرضعت امرأة بلبن فحل صبيّا، ثم طلقها الزوج و نكحت غيره، و

أرضعت بلبن الثاني صبية، لم يحرم الصبي علي الصبية … و خالفت العامة في ذلك و لم يشترطوا اتحاد الفحل. «1»

و صرّح النراقي في المستند، باعتبار وحدة الفحل، ثم نقل الإجماع عن التذكرة عليه، ثم حكي نسبة الخلاف إلي الطبرسي. «2»

و نسبه في كشف اللثام إلي الشهرة؛ ثم قال: و لم يعتبره الطبرسي، صاحب التفسير، فاعتبر الاخوة من الرضاعة للأم خاصة، و كذا الراوندي في فقه القرآن. «3»

______________________________

(1). العلّامة الحلي، في تذكرة الفقهاء 2/ 621، ط. ق.

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 260.

(3). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 142، (2/ 29 ط. ق).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 533

و هنا أمر مهم جدّا يجب التنبيه عليه قبل الورود في أخبار الباب، و هو أنّ اتحاد الفحل له معنيان:

أحدهما: أنّه لا بدّ ان يكون كمال العدد من فحل واحد، فلا يكفي من فحلين؛ فلو ان امرأة أرضعت غلاما خمس رضعات، ثم طلقت و تزوجت و أرضعت من لبن الفحل الثاني عشر رضعات، لم يكف.

ثانيهما، أنّه لو كانت امرأة أرضعت غلاما رضاعا كاملا من فحل، ثم أرضعت صبية رضاعا كاملا من فحل آخر، لا يحرم هذا علي هذه، لعدم اتحاد الفحل؛ و قد وقع الخلط بينهما في مقام الاستدلال بالروايات. فليكن هذا علي ذكر منك.

و الحاصل أنّ وحدة الفحل تارة يذكر بعنوان شرط في باب العدد، و اخري بعنوان شرط في الأثر و الزمان و العدد، فيكون شرطا مستقلا؛ و بعبارة اخري قد يكون وحدة الفحل مع وحدة الام (كما في العدد)، و قد يكون مع تعدد الام؛ و بعبارة ثالثة قد يكون ناظرا إلي نسبة الام و الأب مع ولدها الرضاعي، و قد

يكون ناظرا إلي ولدين رضاعيين. و علي كل حال لا يمكن قياس أحدهما بالآخر، لأنّه قياس مع الفارق.

و علي كل حال؛ لا شك أن مقتضي عمومات الرضاع، الحرمة و لو مع عدم اتحاد الفحل، فانه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فكما أنّ وحدة الام في النسب كافية في الحرمة فكذا في الرضاع، و لكن هناك أخبار خاصة تمنع عن ذلك؛ منها:

1- موثقة زياد بن سوقة، التي مرت مرارا، قال: من لبن فحل واحد. «1»

فهذا كما يدل علي عدم نشرها لو كان العدد من فحلين، فكذا تدل علي أنّه لو كان تمام العدد لغلام من فحل، ثم رضعت تمام العدد لجارية من فحل آخر، لم يحرم أحدهما علي الآخر.

و الظاهر أنّ هذه الرواية منفردة في الدلالة علي اعتبار اتحاد الفحل بكلا معنييه، و إلّا فالروايات الآتية لا تدل إلّا علي اعتبار الاتحاد بالمعني الثاني.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 282، الحديث 1، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 534

2- ما رواه بريد العجلي، في حديث، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فسّر لي ذلك. فقال: كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة اخري من جارية أو غلام، فذلك الذي قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله. و كل امرأة ارضعت من لبن فحلين كانا لها واحدا بعد واحد، من جارية أو غلام، فانّ ذلك رضاع ليس بالرضاع الذي قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ و إنّما هو من نسب ناحية الصهر رضاع و لا

يحرم شيئا و ليس هو سبب رضاع من ناحية لبن الفحولة فيحرم. «1»

و المراد بالصهر هنا، الام (زوجة الفحل)، بقرينة ما ورد في صدر الرواية في الكافي؛ فراجع. «2»

و قد يتوهّم دلالة ذيلها علي اعتبار اتحاد الفحل بالمعني الأول، حيث يقول: و كل امرأة ارضعت من لبن فحلين كانا لها واحدا بعد واحد من جارية أو غلام، فانّ ذلك رضاع ليس بالرضاع الذي قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

فانّ ذلك دليل علي كون العدد بين فحلين (أي المعني الأول)، و لذا نفي فيه الرضاع و آثاره مطلقا؛ و إلّا لو كان بالمعني الثاني، كان الرضاع موجودا بين الام و ولده الرضاعي، و بينه و بين أبيه الرضاع (الفحل)؛ فنفي الرضاع مطلقا دليل علي كونه ناظرا إلي المعني الأول.

و يرد عليه من وجهين: أولا، أنّ قوله عليه السّلام: واحدا بعد واحد؛ ليس ناظرا إلي الزوجين للمراة (حتي ينحصر في المعني الأول)، بل الظاهر كونه ناظرا إلي الرضيعين بقرينة تفسيره بعد بقوله من جارية أو غلام.

و ثانيا، قوله عليه السّلام في ذيل الرواية: و انما هو من نسب ناحية الصهر رضاع؛ إشارة إلي كونه محرما للأم؛ فتدبر جيدا.

3- ما رواه عمار الساباطي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غلام رضع من امرأة، أ يحل

______________________________

(1). الوسائل 14/ 293، الحديث 1، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الشيخ الكليني، في الكافي 5/ 442.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 535

له أن يتزوج أختها لأبيها من الرضاع؟ فقال: لا، فقد رضعا جميعا من لبن فحل واحد من امرأة واحدة. قال: فيتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ قال: فقال: لا

بأس بذلك، أنّ اختها التي لم ترضعه، كان فحلها غير فحل التي أرضعت الغلام، فاختلفا الفحلان فلا بأس. «1»

4- ما عن الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرضع من امرأة و هو غلام، أ يحل له أن يتزوج اختها لأمها من الرضاعة؟ فقال: إن كانت المرأتان رضعتا من واحدة من لبن فحل واحد، فلا يحلّ؛ فان كان المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحلين، فلا بأس بذلك. «2»

5- ما عن عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن لبن الفحل؟ قال: هو ما أرضعت امرأتك من لبنك و لبن ولدك، امرأة اخري فهو حرام. «3»

6- ما عن سماعة، قال: سألته عن رجل كان له امرأتان، فولدت كل واحدة منهما غلاما، فانطلقت احدي امرأتيه، فارضعت جارية من عرض الناس، أ ينبغي لابنه أن يتزوج بهذه الجارية؟ قال: لا، لأنّها أرضعت بلبن الشيخ. «4»

7- ما رواه الكليني بسند صحيح، عن البزنطي، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن أرضعت جارية و لزوجها ابن من غيرها، أ يحل للغلام ابن زوجها انّ يتزوج الجارية التي أرضعت؟

فقال: اللبن للفحل. «5»

8- ما رواه علي بن مهزيار، قال: سأل عيسي بن جعفر بن عيسي، أبا جعفر الثاني عليه السّلام أن امرأة أرضعت لي صبيا، فهل يحل لي ان أتزوج ابنة زوجها؟ فقال لي: ما أجود ما سألت، من هاهنا يؤتي أن يقول الناس حرمت عليه امرأة من قبل لبن الفحل، هذا هو لبن الفحل لا غيره. فقلت له: الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي، هي ابنة غيرها؛ فقال:

______________________________

(1). الوسائل 14/ 294، الحديث 2، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل

14/ 294، الحديث 3، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 294، الحديث 4، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 295، الحديث 6، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(5). الوسائل 14/ 295، الحديث 7، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 536

لو كنّ عشرا متفرقات ما حلّ لك شي ء منهن، و كنّ في موضع بناتك. «1»

9- عن مالك بن عطية، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في الرجل يتزوج المرأة فتلد منه، ثم ترضع من لبنه جارية، يصلح لولده من غيرها أن يتزوج تلك الجارية التي أرضعتها؟ قال:

لا، هي بمنزلة الاخت من الرضاعة، لأنّ اللبن لفحل واحد. «2»

10- ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن امرأة أرضعت جارية، ثم ولدت أولادا، ثم أرضعت غلاما، يحلّ للغلام أن يتزوج تلك الجارية التي أرضعت؟ قال: لا، هي اخته. «3»

11 و 12- و هناك روايتان، رواهما في المستدرك، عن دعائم الإسلام، تدلان علي هذا المعني بوضوح. «4»

هذا؛ و هناك روايات معارضة لما ذكرنا، منها:

1- عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل تزوج امرأة فولدت منه جارية ثم ماتت المرأة فتزوج اخري فولدت منه ولدا ثم أنّها أرضعت من لبنها غلاما؛ أ يحلّ لذلك الغلام الذي أرضعته أن يتزوج ابنة المرأة التي كانت تحت الرجل قبل المرأة الاخيرة؟

فقال: ما احبّ أن يتزوّج ابنة فحل قد رضع من لبنه. «5»

2- عن الحلبي، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أم ولد رجل أرضعت صبيّا و له ابنة من غيرها، أ يحل لذلك الصبيّ هذه الابنة؟ قال:

ما أحبّ أن اتزوج ابنة رجل قد رضعت من لبن ولده. «6»

3- عن محمّد بن عبيدة الهمداني، قال: قال الرضا عليه السّلام … - إلي أن قال- فقال أبو الحسن عليه السّلام: فما بال الرضاع يحرّم من قبل الفحل و لا يحرم من قبل الامّهات؛ و إنّما

______________________________

(1). الوسائل 14/ 296، الحديث 10، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 297، الحديث 13، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 297، الحديث 14، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 369، الحديثان 16982 و 16983.

(5). الوسائل 14/ 294، الحديث 5، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(6). الوسائل 14/ 295، الحديث 8، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 537

الرضاع من قبل الامهات و إن كان لبن الفحل أيضا يحرم. «1»

4- عن بسطام، عن أبي الحسن عليه السّلام قال: لا يحرم من الرضاع إلّا الذي ارتضع منه. «2»

5- عن عبد اللّه بن أبان الزيات، عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: سألته عن رجل تزوج ابنة عمّه، و قد أرضعته أمّ ولد جدّه؛ هل تحرم علي الغلام؟ قال: لا. «3»

و لكن هذه الروايات المعارضة، في نفسها غير خالية عن القصور، (فكيف بمقام التعارض مع الطائفة الاولي التي هي مستفيضة، و فيها صحاح، و ظاهرة أو صريحة في المدعي).

لأنّ روايتين منها معتبرتان من حيث السند، و لكن دلالتها ضعيفة؛ فانّ استعمال، ما احبّ؛ في الحرمة، غير بعيد. و قول ابراهيم عليه السّلام: لٰا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، (أنعام/ 76)؛ و قوله تعالي حكاية عن صالح عليه السّلام: وَ لٰكِنْ لٰا تُحِبُّونَ النّٰاصِحِينَ (أعراف/

79)؛ و قوله تعالي:

وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ الْفَسٰادَ (بقرة/ 205)؛ و قوله تعالي: وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ الظّٰالِمِينَ* (آل عمران/ 57)؛ و قوله تعالي: إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْخٰائِنِينَ (انفال/ 58)؛ إلي غير ذلك ممّا هو كثير في القرآن المجيد، كلّها شاهدة علي استعمال نفي الحبّ في موارد الحرمة.

و الروايات الثلاثة الباقية، واحدة منها مبهمة؛ و اثنان منها ضعيفتان بحسب السند؛ و قد أعرض الأصحاب عنها و كفي بذلك في سقوطها عن الحجية، لو كانت حجة.

و لو فرض التعارض بينهما، لا ينبغي الشك في تقديم الطائفة الأولي، أمّا من باب الجمع الدلالي لكونها أكثر و أظهر و اصرح في مقابل الطائفة الثانية التي لها ظهور ضعيف، كما عرفت.

و لو فرض عدم الجمع الدلالي، تصل النوبة إلي أعمال المرجحات؛ و الثانية، و إن كانت موافقة لظاهر كتاب اللّه (لإطلاق قوله تعالي: و اخواتكم من الرضاعة)، و لكن الأولي موافقة للشهرة و مخالفة للعامة، و هذان المرجحان أقوي.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 295، الحديث 9، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 297، الحديث 11، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 297، الحديث 12، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 538

أمّا القول الآخر الذي ذهب إليه الطبرسي (قدس سره) في مجمع البيان حيث قال ذيل قوله تعالي: «وَ أَخَوٰاتُكُمْ مِنَ الرَّضٰاعَةِ»،:

يعني بنات المرضعة و هن ثلاث: الصغيرة الاجنبية التي أرضعتها امك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع ولدها قبلك أو بعدك؛ و الثانية، اختك لأمك دون أبيك و هي التي أرضعتها امك بلبان غير أبيك؛ و الثالثة، اختك لأبيك دون امك و هي التي أرضعتها زوجة

أبيك بلبن أبيك … «1»

و هذا الكلام كما تري صريح في مخالفة المشهور، و من العجب انكار بعضهم لكون الطبرسي مخالفا.

هذا؛ و يظهر من الشهيد الثاني في المسالك، الميل إلي قول الطبرسي حيث قال: و استند أصحابنا في الشرطين (اشتراط اتحاد الفحل بكلا معنييه) معا، إلي رواياتهم؛ مثل رواية زياد بن سوقة، و رواية عمار الساباطي، (1/ 2 و 2/ 6 منه)، و لا يخفي عليك ضعف الخبرين بعمّار، (لوقوع عمار في سند رواية زياد بن سوقة أيضا)؛ لكن الحكم بهما مشهور بين الأصحاب إلي حدّ ادعي فيه الإجماع. ثم ذكر قول الطبرسي، ثم قال: و هذا القول في غاية الجودة بشرط اطراح الخبرين المتقدمين، اما لضعف السند، أو للمعارضة و الرجوع إلي عموم الأدلة. (انتهي). «2»

و هذا الكلام من هذا الفقيه البارع بعيد، فانّ الروايات الدالة علي هذا الشرط (اتحاد الفحل) غير منحصرة في هاتين الروايتين، بل تدل عليه روايات كثيرة تبلغ عشر روايات و فيها صحاح؛ مضافا إلي أنّ الروايتين أيضا معتبرتان موثقتان؛ و من هنا و امور اخري رجع عنه في ذيل كلامه، و إن لم يكن بتلك الصراحة؛ فراجع.

و علي كل حال يمكن الاستدلال لهذا القول بامور:

1- عموم قوله تعالي: … وَ أَخَوٰاتُكُمْ مِنَ الرَّضٰاعَةِ …، فانّها تدل علي حرمة الاخوات من ناحية الأب أو الام أو كليهما.

______________________________

(1). الشيخ الطبرسي، في مجمع البيان، ذيل آية 23 من سورة النساء.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 237 و بعده.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 539

2- عموم قوله صلّي اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ الاخت من ناحية نسب الام محرمة قطعا، فكذا من ناحية الرضاع.

3-

الروايات الدالة عليه بالخصوص، و قد مرّ في الطائفة الثانية.

و يناقش في الدليل الاول و الثاني، بانهما عامّان قابلان للتخصيص بالروايات الخاصة الكثيرة التي مرّت آنفا؛ و قد ورد عليهما تخصيصات من ناحية الكميّة و الكيفية و السنّ و غيرها، فليكن هذا الشرط منها.

كما يرد علي الأخير، أنّها أجنبية عن المدعي، فإنّها تدل علي جواز النكاح و لو مع اتحاد الفحل؛ و هذا أمر لم يقل به المحقق الطبرسي أيضا، و إنّما مدعاه حرمة كليهما، أي الاخوة من ناحية الأب و من ناحية الام.

نعم، هناك رواية واحدة تدل علي ذلك، و هي رواية محمد بن عبيدة الهمداني، حيث يقول عليه السّلام: فما بال الرضاع يحرم من قبل الفحل و لا يحرم من قبل الامهات. «1» و قد عرفت أنّها رواية ضعيفة.

و هناك روايتان اخريان، قد يتوهم دلالتهما علي هذا القول؛

أحدهما: ما رواه زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع، فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضعا من ثدي و أحد حولين كاملين. «2»

ثانيهما: ما رواه علاء بن رزين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع. قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضع من ثدي واحد سنة! «3»

و لكن يناقش فيهما، أولا، بان الثانية تدل علي اعتبار رضاع سنة، و قد قال الشيخ (قدس سره) بعد ذكرها: هذا حديث نادر يخالف الأحاديث كلها؛ و الاولي كذلك لأنّها تدل علي اعتبار رضاع حولين كاملين و لم يقل به أحد.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 296، الحديث 9، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(2). الوسائل 14/ 292، الحديث 8، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(3). الوسائل 14/ 286، الحديث 13،

الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 540

و ثانيا، أنّهما تدلان علي اعتبار وحدة الام، و لا تنفيان اشتراط وحدة الأب بدليل آخر، مثل روايات اتحاد الفحل.

*** بقي هنا امور:

الأول: قد عرفت أنّ اعتبار اتحاد الفحل، له معنيان: أحدهما، لزوم كون العدد (خمس عشرة رضعة) من فحل واحد. ثانيهما، أنّ الاخوة الرضاعية لا بدّ أن تكون من ناحية الفحل أي الأب، و لا تكفي من ناحية الام. و قد عرفت أنّ جميع روايات هذه الأبواب ناظرة إلي المعني الثاني، ما عدا واحدة و هي موثقة زياد بن سوقة، فانّها تدل علي الأول أيضا.

الثاني: إذا اختلف الفحلان في المسالة الثانية، تنتفي الحرمة بين الرضيعين أو الرضيع و الاخت النسبي؛ و لكن أحكام الرضاع ثابتة بين كل واحد من الولدين و امهما، و كذا بالنسبة إلي أبيهما و فروعهما أي العم و الخال و غير ذلك.

الثالث: مسألة لبن الفحل معنونة بين العامة أيضا، و لكن له معني آخر، و يظهر بعد ذكر كلماتهم:

قال ابن رشد، في بداية المجتهد: و أمّا هل يصير الرجل الذي له اللبن، أعني زوج المرأة، أبا للمرتضع حتي يحرم بينهما، و من قبلهما ما يحرم من الآباء و الأبناء الذين من النسب و هي التي يسمونها، لبن الفحل؛ فانهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك و أبو حنيفة و الشافعي و أحمد و الأوزاعي و الثوري: لبن الفحل يحرّم؛ و قالت طائفة: لا يحرم لبن الفحل. و بالأول قال عليّ عليه السّلام و ابن عباس. و بالقول الثاني، قالت عائشة و ابن الزبير و ابن عمر. «1»

و حاصل هذا الكلام أنّ حرمة الرضاع كما يكون من ناحية الام، يكون من

ناحية

______________________________

(1). ابن رشد الاندلسي، في بداية المجتهد … 2/ 38.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 541

الأب؛ و بعبارة اخري ليس الكلام في الرضيعين بل في رضيع واحد، إذا رضع من حرم علي الام و الأب و فروعهما، و يسمي هذا عندهم بلبن الفحل؛ و من الواضح أنّه لا دخل له باتحاد الفحل بالمعنيين السابقين.

و ذكر هذه الأقوال بعينها (مع اختلاف يسير)، شيخ الطائفة، في الخلاف، في كتاب الرضاع، المسألة 2؛ ثم استدل علي القول الأول بامور:

1- إجماع الطائفة.

2- أخبارهم.

3- ما روي أنّ عليا عليه السّلام قال: قلت: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله هل لك في ابنة عمك ابنة حمزة، فانها أجمل فتاة في قريش؟ فقال صلّي اللّه عليه و آله: أمّا علمت أنّ حمزة أخي من الرضاعة، و أنّ اللّه حرّم من الرضاع ما حرّم من النسب. «1» و هذه الرواية المعروفة بين أهل السنّة دليل واضح علي تحريم الرضاع من ناحيه لبن الفحل.

إن قلت: اخوّة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و حمزة من جهة الرضاع، كانت من ناحية الام، فانّ كلا منهما ارتضع من أمّ حمزة، فلا دخل لها بمسألة لبن الفحل.

قلت: هذا امر معلوم، و لكن بنت حمزة لا تكون حراما علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إلّا من ناحية لبن الفحل، فانه صلّي اللّه عليه و آله لم يرتضع من زوجة حمزة حتي تكون الحرمة من ناحية الام، بل تكون الحرمة من ناحيه لبن الفحل أي لبن حمزة (فتدبّر في ذلك فانّه دقيق)؛ و لكن مع ذلك لا يخلو عن تامل.

4- ما عن عائشة، قالت: دخل عليّ أفلح بن أبي القعيس، فاستترت منه، فقال

تستترين مني و أنا عمّك؟ قالت: قلت من اين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي؛ قلت: إنّما أرضعتني امرأة و لم يرضعني الرجل. فدخلت علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، فحدثته. فقال: أنّه عمك، فليلج عليك. «2» قال في بداية المجتهد بعد ذكر هذا الحديث: اخرجه البخاري و مسلم و مالك. «3» و

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف 5/ 93 و 94.

(2). الشيخ الطوسي، في الخلاف 5/ 95 و 94.

(3). ابن رشد الاندلسي، في بداية المجتهد … 2/ 38.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 542

هذا دليل علي كمال اعتباره عندهم.

و من العجب ذهاب جماعة من العامة إلي خلاف هذا القول، و أنّ اكثرهم موافقون لنشر الحرمة من لبن الفحل.

و أعجب منه ذهاب عائشة إلي خلافه مع نقلها رواية الحرمة، و كأنها بعد سماعها كلام رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لم تقتنع به، و أصرّ علي كلامها السابق، و أنّ الحرمة تنشر من ناحيه الام فقط؛ فيا للعجب العجاب؟!

5- و ما ورد مرسلا عنه صلّي اللّه عليه و آله: أنّ لبن الفحل يحرم. «1» فانّه دليل علي المطلوب.

هذا كله مضافا إلي أنّ قوله صلّي اللّه عليه و آله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ دليل واضح علي الحرمة، فان البنت النسبي حرام، فكذا البنت الرضاعي.

و استند المخالف إلي دليل ضعيف جدّا. قال: أنّ الآية و الحديث النبوي، لا يشملان محل الكلام، و لا بدّ من إثباتهما بحديث بنت حمزة و حديث عائشة، فيلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ إلّا أن يكون هذا الحكم ناسخا لكتاب اللّه و السنة، و هو بعيد. «2»

و فيه، أولا: أنّ الآية شاملة، فانّ الاخت قد يكون من ناحية

الأب فقط فيدخل في عموم الآية، و القول بخروجها عنها مكابرة واضحة؛ و كذا عموم قوله صلّي اللّه عليه و آله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ الأب النسبي حرام علي بنته، و كذا الأب الرضاع.

و ثانيا: أنّ ما ورد في السنة من التخصيص و التقييد و التعميم كثيرة جدّا، فلو نوقش في جميع ذلك، لزم فقه جديد.

و استدل بعضهم- كما في المغني لابن قدامة و لم يسمّ قائله- بأنّ اللبن لا ينفصل من الرجل و إنّما ينفصل من المرأة، فكيف تنشر الحرمة إلي الرجل. ثم أجاب عنه بأنه قياس في مقابل النص فلا يلتفت إليه. و أيضا أن سبب اللبن هو ماء الرجل و المرأة معا فوجب أن يكون الرضاع منهما؛ و إليه أشار ابن عباس بقوله: اللقاح واحد. «3»

و لنعم ما قال في الجوابين.

______________________________

(1). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 9/ 208.

(2). ابن رشد الاندلسي، في بداية المجتهد … 2/ 38، (نقل بالمعني).

(3). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 9/ 208.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 543

[المسألة 6: ما ذكرناه من الشروط، شروط لناشرية الرضاع للحرمة]
اشارة

المسألة 6: ما ذكرناه من الشروط، شروط لناشرية الرضاع للحرمة؛ فلو انتفي بعضها لا أثر له و ليس بناشر لها أصلا، حتي بين الفحل و المرتضعة، و كذا بين المرتضع و المرضعة، فضلا عن الاصول و الفروع و الحواشي.

و في الرضاع شرط آخر زائد علي ما مرّ مختص بنشر الحرمة بين المرتضعين، و بين أحدهما و فروع الآخر؛ و بعبارة اخري شرط للتحقق الاخوة الرضاعية بين المرتضعين، و هو اتحاد الفحل الذي ارتضع المرتضعان من لبنه؛ فلو ارتضع صبي من امرأة من لبن شخص رضاعا كاملا، و ارتضعت صبيّة من تلك المرأة من

لبن شخص آخر كذلك، بان طلقها الأول و زوجها الثاني و صارت ذات لبن منه فأرضعتها رضاعا كاملا، لم تحرم الصبيّة علي ذلك الصبي و لا فروع أحدهما علي الآخر؛ بخلاف ما إذا كان الفحل و صاحب اللبن واحدا و تعددت المرضعة، كما إذا كانت لشخص نسوة متعددة و ارضعت كل واحدة منهن من لبنه طفلا رضاعا كاملا، فانه يحرم بعضهم علي بعض و علي فروعه، لحصول الاخوة الرضاعية بينهم.

شرط آخر لنشر الحرمة بين المرتضعين: اتحاد الفحل

أقول: قد ظهر حال المسألة بجميع أدلتها، ممّا ذكرناه في المسالة السابقة، فقد شرحناها شرحا وافيا جامعا بحمد اللّه، و نحن موافقون لما أفاده في المتن، بل هو المشهور، بل ادعي الإجماع فيه كما عرفت.

لكن لنا في كلامه قدّس سرّه نظر، و هو أنّ هذا الشرط لا يتفاوت عن سائر شرائط الرضاع، و هو شرط عام، أي يعتبر في نشر الحرمة بالرضاع اتحاد الفحل في جميع الموارد، و لكن ثمرته عمدتا هو نشر الحرمة بين الرضيعين، و في غيرهما من موارد نشر الحرمة، هذا الشرط أيضا حاصل.

و يؤيد ما ذكر أنّ المحقق قدّس سرّه في الشرائع، ذكر هذا الشرط في عداد سائر الشرائط، فجعل الشرط الأول أن يكون اللبن عن نكاح، و الثاني الكميّة، و الثالث أن يكون الرضاع

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 544

في الحولين، و الرابع اتحاد الفحل؛ و تبعه علي ذلك الفقيه الماهر (قدس سره) في الجواهر.

و لنعم ما قال في خلال كلامه، من أنه بهذا المعني شرط في أصل الحرمة بالرضاع علي قياس الشرائط السابقة له. «1»

و ما يري من وجود الحرمة في المقام لكل واحد من الرضيعين بالنسبة إلي امه و أبيه و فروعهما، فهو أيضا من مصاديق وحدة

الفحل.

هذا، و لكن صاحب المسالك صرّح بأنّه فليس هذا الشرط علي نهج ما قبله لأن أصل التحريم هنا ثابت بدون الشرط. «2»

و كأنّ التحرير، أخذ منه؛ و لكن الانصاف، أنّ الحق هنا مع المحقق و صاحب الجواهر و من يحذو حذوهما، فانّ اتحاد الفحل شرط علي كل حال، و إن كان مصاديقه محدودة معينة، و ما يقال أنّ كلّا من الرضيعين محرم علي الأب و الام و اصولهما و فروعهما، حق؛ و لكن اتحاد الفحل فيه حاصل.

***

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 302.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 238.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 545

[المسألة 7: إذا تحقق الرضاع الجامع للشرائط، صار الفحل و المرضعة أبا و أمّا للمرتضع]

اشارة

المسألة 7: إذا تحقق الرضاع الجامع للشرائط، صار الفحل و المرضعة أبا و أمّا للمرتضع، و اصولهما أجدادا و جدّات، و فروعهما اخوة و أولاد اخوة له، و من في حاشيتهما و في حاشية أصولهما أعماما أو عمات، و أخوالا أو خالات له؛ و صار هو أعني المرتضع ابنا أو بنتا لهما، و فروعه احفادا لهما. و إذا تبين ذلك، فكل عنوان نسبي محرم من العناوين السبعة المتقدمة، إذا تحقق مثله في الرضاع يكون محرما؛ فالام الرضاعية كالأم النسبية، و البنت الرضاعية كالبنت النسبية، و هكذا.

فلو أرضعت امرأة من لبن فحل طفلا، حرمت المرضعة و امها و أم الفحل، علي المرتضع للأمومة؛ و المرتضعة و بناتها و بنات المرتضع، علي الفحل و علي أبيه و أب المرضعة للبنتية؛ و حرمت اخت الفحل و اخت المرضعة، علي المرتضع لكونهما عمة و خالة له؛ و المرتضعة، علي أخ الفحل و أخ المرضعة لكونها بنت أخ أو بنت اخت لهما؛ و حرمت بنات الفحل علي المرتضع، و المرتضعة علي أبنائه،

نسبيين كانوا أم رضاعيين؛ و كذا بنات المرضعة علي المرتضع، و المرتضعة علي أبنائها، إذا كانوا نسبيين للأخوة.

و أمّا الأولاد المرضعة الرضاعيون ممن أرضعتهم بلبن فحل آخر غير الفحل الذي ارتضع المرتضع بلبنه، فلم يحرموا علي المرتضع لما مرّ من اشتراط اتحاد الفحل في نشر الحرمة بين المرتضعين.

الحرمة الحاصلة من الرضاع يشمل العناوين السبعة

أقول: هذه المسألة في الواقع من قبيل تطبيق القاعدة المستفادة من الإجماع و السنة علي مواردها، و هي أنّ كل عنوان من العناوين النسبية السبعة المذكورة في كتاب اللّه، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ وَ عَمّٰاتُكُمْ وَ خٰالٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُ الْأَخِ وَ بَنٰاتُ

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 546

الْأُخْتِ …، «1» يحرم مثله من الرضاع الذي اجتمع فيه الشرائط الأربعة أو الخمسة السابقة.

و يدل علي ذلك مضافا إلي الإجماع المصرح به في كلام كثير منهم، (و وافقنا أكثر علماء أهل السنة، و خالفنا قليل منهم لإنكارهم لبن الفحل)، أمران:

الأوّل: الحديث النبوي المعروف المشهور بين الفريقين: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. «2»

فكما أنّ النطفة من الرجل و المراة، لها تأثير في المحرمات السبع النسبية، فكذا اللبن الحاصل من فعل الرجل و المراة، له أثرها؛ و هذا تعبير حسن وجدناه في كلام بعضهم.

الثاني: قد وردت هناك روايات خاصة في موارد معينة، يمكن اصطياد العموم منها؛ و قد وردت هذه الروايات في الغالب، في الباب 8 من أبواب الرضاع من الوسائل، و في الباب 6 من أبوابه من المستدرك، و هي علي طوائف:

الأولي: ما يدل علي حرمة بنت الأخ من الرضاع؛ منها:

1- ما رواه أبو عبيدة في الصحيح، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أنّ عليا ذكر لرسول اللّه ابنة حمزة؛ فقال: أما

علمت أنّها ابنة أخي من الرضاعة. و كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و عمّه حمزة قد رضعا من امرأة. «3»

2- ما عن عثمان بن عيسي، عن أبي الحسن عليه السّلام، قال: قلت له: أنّ أخي تزوج فأولدها، فانطلقت امرأة أخي فأرضعت جارية من عرض الناس، فيحل لي أن أتزوج تلك الجارية التي أرضعتها امرأة أخي؟ فقال: لا، أنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. «4»

و التعليل بالقاعدة الكليّة، دليل علي جواز التعدي عن المورد إلي ساير القرابات النسبية.

3- ما رواه ابان بن عثمان، عمن حدثه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال

______________________________

(1). النساء/ 23.

(2). راجع الوسائل 14/ 280، الحديث 1، الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(3). الوسائل 14/ 300، الحديث 6، الباب 8 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(4). الوسائل 14/ 300، الحديث 7، الباب 8 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 547

أمير المؤمنين عليه السّلام: عرضت علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، ابنة حمزة؛ فقال: أما علمت أنّها ابنة أخي من الرضاع. «1»

4- صحيحة الحلبي عن الصادق عليه السّلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: في ابنة الأخ من الرضاع لا آمر به احدا و لا انهي عنه، و أنا انهي عنه نفسي و ولدي؛ فقال: عرض علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله ابنة حمزة، فأبي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، و قال: هي ابنة أخي من الرضاع. «2»

و قد يتوهّم من هذا الحديث خلاف المقصود، و لكن تفسره رواية أخري عن معمر بن يحيي بن سام، عن أبي جعفر عليه السّلام، الواردة في نفس الباب، و حاصلها

أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان يخشي أن ينهي و لا يطاع. «3»

5- ما رواه عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يصلح للمرأة أن ينكحها عمّها و لا خالها من الرضاعة. «4»

يعني لا يجوز نكاح ابنة الأخ أو ابنة الاخت للعم و الخال من الرضاعة.

الثانية: ما يدل علي حرمة العمة و الخالة و الامّ الرضاعيّات، منها:

1- ما رواه مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

ثمانية لا تحل مناكحتهم- إلي ان قال- امتك و هي عمتك من الرضاع، امتك و هي خالتك من الرضاع، امتك و هي أرضعتك؛ الحديث. «5» ففيها تحريم العمة و الخالة و الامّ من الرضاع.

2- و قريب منه، ما رواه مسعدة بن زياد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: يحرم من الإماء عشر- إلي أن قال- و لا أمتك و هي عمتك من الرضاعة، و لا أمتك و هي خالتك من الرضاعة، و لا أمتك و هي اختك من الرضاعة، و لا أمتك و هي ابنة أخيك من الرضاعة؛ الحديث. «6»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 299، الحديث 2، الباب 8 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(2). الوسائل 14/ 299، الحديث 1، الباب 8 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 547

(3). الوسائل 14/ 301، الحديث 8، الباب 8 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(4). الوسائل 14/ 300، الحديث 5، الباب 8 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(5). الوسائل 14/

300، الحديث 4، الباب 8 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

(6). الوسائل 14/ 301، الحديث 9، الباب 8 من أبواب ما يحرم بالرّضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 548

و فيها تحريم العمة و الخالة و الاخت و ابنة الأخ من الرضاع.

الثالثة: ما يدل علي حرمة الاخت من الرضاعة:

و هي رواية صفوان بن يحيي، عن أبي الحسن عليه السّلام؛ و حيث إنّ حرمة الاخت مصرّح بها في كتاب اللّه، الامر فيه سهل.

و يظهر من هذه الروايات و مما رواه المحدث النوري (قدس سره) في المستدرك، أنّ حرمة العناوين السبع النسبية في الرضاع، ممّا لا ريب فيه. و هناك روايات من طرق العامة في هذا المعني، فراجع السنن الكبري للبيهقي. «1»

*** بقي هنا شي ء: و هو أنّ صريح كلام الجواهر و غيره و الماتن (قدّس اللّه اسرارهم) حصر اشتراط اتحاد الفحل، بمسالة الرضاعيين واحد منهما ارتضع من هذه الامّ، و الثاني منها أو من أمّ آخر، فلا تنشر الحرمة إلّا مع اتحاد الفحل؛ و قد عرفت تصريح الماتن بقوله:

و كذا (أي يحرم) بنات المرضعة علي المرتضع، و المرتضعه علي أبنائها إذا كانوا نسبيين، للأخوة.

و الحاصل أنّه إذا كان أحد الطرفين نسبيا و الآخر رضاعيا، يحرمان من دون اشتراط اتحاد الفحل. بل صرّح في الجواهر بانّه: لا خلاف في أنّه تحرم أولاد هذه المرضعة نسبا علي المرتضع منها، و إن لم يكن بلبن فحلهم، لعموم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، السالم عن المعارض؛ و إنّما يشترط اتحاد الفحل بين المتراضعين. «2»

و قال صاحب الجواهر، في موضع آخر: و هل يحرم عليه (علي المرتضع) نسل الاخوة من الام نسبا و رضاعا، بمعني المرتضع بلبن الاخ من الام؟

الظاهر ذلك، لعموم الخبر و اختصاص الاشتراط في المرتضعين من امرأة واحدة، كما سمعت البحث فيه

______________________________

(1). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 451- 453.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 304.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 549

مفصلا. و اللّه العالم. «1»

مع أنّ هناك روايات في باب اتحاد الفحل، ظاهرها اشتراط الحرمة فيما لو كان أحدهما نسبيا أيضا، نذكرها ملخّصة:

1- ما رواه أبو بصير، عن الصادق عليه السّلام، و فيه التصريح بالسؤال عن نكاح الأخ النسبي مع الاخت الرضاعي من امرأتين لفحل واحد. فقال عليه السّلام: ما أحبّ أن يتزوج ابنة فحل قد رضع من لبنه. «2»

فلو حملت الرواية علي الحرمة، كانت دليلا علي أنّ علة الحرمة هي لبن الفحل.

2- رواية سماعة، و فيها السؤال عن نفس المسالة، فقد أجاب عليه السّلام بعدم الجواز استنادا إلي لبن الشيخ، (أي الفحل). «3»

3- ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا عليه السّلام سأله عليه السّلام عن نفس المسألة؛ فأجابه بأنّ اللبن للفحل؛ (أي لا يجوز لاتحاد الفحل). «4»

4- ما رواه الحلبي، عن الصادق عليه السّلام في نفس المسألة، فأجابه بقوله: ما أحب أن أتزوج ابنة رجل قد رضعت من لبن ولده. «5» بناء علي إرادة الحرمة من الحبّ، و استنادا إلي لبن ولده.

5- ما رواه مالك بن عطية، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في نفس المسألة، فأجابه عليه السّلام بأنّه بمنزلة الاخت من الرضاعة، لأنّ اللبن لفحل واحد. «6»

و هذه روايات متضافرة، و بعض أسانيدها صحيحة، و ظاهرها عدم اختصاص اشتراط اتحاد الفحل بالرضيعين، بل يشمل نكاح الرضيع مع أولاد النسبي للمرضعة؛

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 314.

(2). الوسائل 14/ 294، الحديث 5،

الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 295، الحديث 6، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 295، الحديث 7، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(5). الوسائل 14/ 295، الحديث 8، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(6). الوسائل 14/ 297، الحديث 13، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 550

و لم نر من تعرض لهذه المسألة مع رواياتها، فالقول بالاشتراط غير بعيد. و لكن الأحوط ترك النكاح، لأنّ غير واحد من هذه الروايات واردة في مورد تعدد الامّ؛ و بعضها لا يدل إلّا بالاطلاق؛ فتدبر.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 551

[المسألة 8: تكفي في حصول العلاقة الرضاعية المحرمة، دخالة الرضاع فيه في الجملة]

اشارة

المسألة 8: تكفي في حصول العلاقة الرضاعية المحرمة، دخالة الرضاع فيه في الجملة؛ فقد تحصل من دون دخالة غيره فيها، كعلاقة الابوّة و الامومة و الابنية و البنتية، الحاصلة بين الفحل و المرضعة و بين المرتضع؛ و كذا الحاصلة بينه و بين أصولهما الرضاعيين؛ كما إذا كان لهما أب أو أمّ من الرضاعة، حيث إنّهما جدّ و جدّة للمرتضع من جهة الرضاع محضا.

و قد تحصل به مع دخالة النسب في حصولها، كعلاقة الاخوة الحاصلة بين المرتضع و أولاد الفحل و المرضعة النسبيين؛ فإنّهم و إن كانوا منسوبين إليهما بالولادة، إلّا أنّ اخوّتهم للمرتضع حصلت بسبب الرضاع، فهم اخوة أو أخوات له من الرضاعة.

توضيح ذلك: أنّ النسبة بين شخصين قد تحصل بعلاقة واحدة، كالنسبة بين الولد و والده و والدته؛ و قد تحصل بعلاقتين، كالنسبة بين الاخوين، فانها تحصل بعلاقة كل منهما مع الأب أو الام أو كليهما؛ و كالنسبة بين الشخص و جدّه الادني، فإنّها تحصل بعلاقة بينه و بين أبيه

مثلا، و علاقة بين أبيه و بين جدّه؛ و قد تحصل بعلاقات ثلاث، كالنسبة بين الشخص و بين جدّه الثاني، و كالنسبة بينه و بين عمّه الأدني، فانّه تحصل بعلاقة بينك و بين أبيك، و بعلاقة كل من أبيك و أخيه مع أبيهما مثلا، و هكذا تتصاعد و تتنازل النسب، و تنشعب بقلة العلاقات و كثرتها، حتي أنّه قد تتوقف نسبة بين شخصين علي عشر علائق أو أقلّ أو أكثر.

و إذا تبين ذلك، فان كانت تلك العلائق كلها حاصلة بالولادة، كانت العلاقة نسبية؛ و إن حصلت كلها أو بعضها و لو واحدة من العشر، بالرضاع، كانت العلاقة رضاعيّة.

حصول العلاقة الرضاعية مختلفة

أقول: هذه المسألة في الواقع تكون من قبيل تطبيق قاعدة، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 552

و حاصلها أنّ العلاقة بين إنسانين قد تكون من ناحية الرضاع فقط، و قد يكون من ناحية النسب، و قد تكون من تركيب النسب و الرضاع؛ فالابن و البنت النسبي تكون علاقتهما من ناحية النسب فقط، كما أنّ الرضاعي منهما تكون من ناحية الرضاع فقط، و لكن الأخ الرضاعي تحصل العلاقة من الأمرين، فانّ أحدهما يكون بالنسب و الاخري بالرضاع فيشتركان في الاخوّة؛ و قد تكون بتركيب علاقتين نسبيين مع علاقة رضاعية، كما في حرمة بنت الرضاعي علي جدّها الأعلي.

و بعبارة اخري- كما في التحرير- قد تكون النسبة بين إنسانين بعلاقة واحدة كالأبوة و البنوة، و قد تكون بعلاقتين كالجدودة الأدني و العمومة، و قد تكون بثلاثة كالجدودة الأعلي، إلي غير ذلك. فإذا كان واحد منها أو أكثر بالرضاع، حرم من باب القاعدة الكلية المستفاد من النصوص.

و بعبارة ثالثة، كما في مهذب الأحكام: العلاقة

الرضاعية المحضة قد تحصل برضاع واحد، كالحاصلة بين المرتضع و بين المرضعة و صاحب اللبن؛ و قد تحصل برضاعين، كالحاصلة بين المرتضع و بين أبوي الفحل و المرضعة الرضاعيين؛ و قد تحصل برضاعات متعددة، فاذا كان لصاحب اللبن مثلا أب من جهة الرضاع، و كان لذلك الأب الرضاعي أيضا أب من الرضاع، و كان للأخير أيضا أب من الرضاع، و هكذا إلي عشرة آباء، كان الجميع أجدادا رضاعيين للمرتضع الأخير، و جميع المرضعات جدات له؛ فان كانت انثي حرمت علي جميع الأجداد، و إن كان ذكرا حرمت عليه جميع الجدات. «1»

و الدليل علي حرمة جميع ذلك، هو قوله عليه السّلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ عموم هذه القاعدة المستفادة من النصوص، شاملة لمحل البحث. و اللّه العالم.

***

______________________________

(1). المحقق السبزواري، في مهذب الأحكام 25/ 34.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 553

[المسألة 9: لما كانت المصاهرة- التي هي أحد أسباب تحريم النكاح كما يأتي- علاقة بين أحد الزوجين]

اشارة

المسألة 9: لما كانت المصاهرة- التي هي أحد أسباب تحريم النكاح كما يأتي- علاقة بين أحد الزوجين و بعض أقرباء الآخر، فهي تتوقف علي أمرين: مزاوجة و قرابة و الرضاع إنّما يقوم مقام الثاني دون الأول؛ فمرضعة ولدك لا تكون بمنزلة زوجتك حتي تحرم امها عليك، لكن الام و البنت الرضاعيتين لزوجتك تكونان كالأم و البنت النسبيين لها، فتحرمان عليك، و كذلك حليلة الابن الرضاعي كحليلة الابن النسبي، و حليلة الأب الرضاعي كحليلة الأب النسبي، تحرم الاولي علي أبيه الرضاعي، و الثانية علي ابنه الرضاعي.

الرضاع يقوم مقام النسب لا الزوجية

أقول: المسائل الباقية في الرضاع، أكثرها مسائل بسيطة ما عدا مسألتين: المسألة 12، الباحثة عن عدم جواز نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن. و المسألة 4 من التنبيهات، الباحثة عن عموم المنزلة. و مورد البحث من المسائل البسيطة؛ فنقول:

إنّ المحرمات بالمصاهرة، (مثل أمّ الزوجة، و بنت الزوجة و زوجة الأب و زوجة الابن) إنّما تحرم بسبب تركيب أمرين نسب و نكاح، و النسب هو الأمومة و البنتية و الابوة و البنوة في الأمثلة السابقة، و المصاهرة هي الحاصلة بالزوجية.

هذا، و لكن الرضاع يقوم مقام الجزء الأول لا الثاني؛ فأمّ ولده الرضاعي لا تكون بمنزلة زوجته حتي تحرم امها؛ و لكن النسب الأربعة السابقة لو حصلت بالرضاع و كانت الزوجية حقيقية، كفي في الحرمة. و بعبارة اخري، الام الرضاعي للزوجة الواقعية، و كذا البنت الرضاعي للزوجة كذلك، و حليلة الأب الرضاعي، و حليلة الابن الرضاعي، كلها محرمة.

فالمدعي يقوم علي أمرين، يقوم الرضاع مقام النسب في هذه المقامات، و لا يقوم مقام الزوجية أبدا.

و الظاهر انّ المسألة إجماعية؛ قال في الجواهر: و بالجملة، الرضاع يوجد العلقة

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)،

ص: 554

النسبية و يتبعها التحريم بالنسب أو بالمصاهرة؛ لا انّه يوجد المصاهرة، ضرورة عدم اقتضاء الدليل، بل ظاهر الأدلة خلافه، بل يمكن تحصيل الإجماع أو الضرورة علي ذلك. «1»

و علي كل حال، يدل علي قيام الرضاع مقام الجزء الأول، عموم الأدلة الدالة علي أنّه يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب؛ كما في روايات متعددة.

و يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة؛ كما في رواية اخري.

و يحرم بالرضاع ما يحرم بالقرابة؛ كما في رواية ثالثة.

و أمّا بالنسبة إلي الجزء الثاني، فالدليل علي عدم نشر الحرمة بسببه، هو حصر الدليل في خصوص النسب، و لم يرد أيّ دليل علي نشر الحرمة في المصاهرة من هذا الجهة، و مقتضي الأصل عدمه.

و لنا هنا كلام آخر، و هو أنّه لا معني لأن يقال: يحرم من الرضاع من يحرم من الزوجية؛ لأنّ الزوجية علقة حاصلة من النكاح، و لا معني لحصول هذه العلقة بالرضاع؛ فعدم الحرمة فيها من ناحية الرضاع، لعدم تصور موضوع و مصداق له.

و إن شئت قلت: المرضعة، لها بعض شئون الامّ فيقوم مقامها، و كذا صاحب اللبن يقوم مقام الأب، و منهما تنشر الحرمة إلي الاصول و الفروع و الحواشي، و لكن لا يتصور قيام واحد منهما مقام الزوج أو الزوجة.

و ما ذكر له من المثال من أنّ المرضعة بمنزلة زوجة أبي المرتضع، باطل؛ فإنّه ليس من العناوين المحرمة، بل من قبيل اللوازم العقلية، و سيأتي بطلانها في أبواب الرضاع.

***

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 312.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 555

[المسألة 10: قد تبين أن العلاقة الرضاعية قد تحصل برضاع واحد]

اشارة

المسألة 10: قد تبين ان العلاقة الرضاعية قد تحصل برضاع واحد … و قد تحصل برضاعين … و قد تحصل برضاعات … الخ.

قيام الرضاع مقام النسب لا ينحصر فيما اذا كانت العلاقة رضاعا واحدا

أقول: هذه المسألة بعينها هي المسألة الثامنة و إن كانت ببيان آخر؛ و حاصلها أنّ قيام الرضاع مقام النسب لا ينحصر بما إذا كان العلاقة رضاعا واحدا، بل يشمل ما إذا كان رضاعات متعددة.

و الدليل عليه هو عموم قوله صلّي اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 556

[المسألة 11: قد عرفت في ما سبق أنّه يشترط في حصول الأخوة الرضاعية بين المرتضعين اتحاد الفحل]

اشارة

المسألة 11: قد عرفت في ما سبق أنّه يشترط في حصول الاخوة الرضاعية بين المرتضعين اتحاد الفحل، و يتفرع علي ذلك مراعاة هذا الشرط في العمومة و الخؤولة الحاصلتين بالرضاع أيضا، لأنّ العم و العمة أخ و أخت للأب، و الخال و الخالة أخ و اخت للأم؛ فلو تراضع أبوك أو امك مع صبية من امرأة، فان اتحد الفحل كانت الصبية عمتك أو خالتك من الرضاعة، بخلاف ما إذا لم يتحد؛ فحيث لم تحصل الاخوة الرضاعية بين أبيك أو امك مع الصبيّة، لم تكن هي عمتك أو خالتك فلم تحرم عليك.

الحرمة يسري إلي أولاد المرتضعين

أقول: هذه المسألة فرع من فروع مسألة اتحاد الفحل في المرتضعين، و حاصله إنّ الحرمة لا تنحصر بهما بل يسري منهما إلي أولادهما، بمعني أنّه إذا كبرا و صار كل واحد منهما ذات أولاد، فأولاد المرتضع بالنسبة المرتضعة بمنزلة أولاد الأخ، و هي لهم بمنزلة العمة، كما أنّ أولاد المرتضعة بالنسبة إلي المرتضع بمنزلة أولاد الاخت، و هي لهم بمنزلة الخالة، فتسري الحرمة إليهم أيضا.

و الدليل علي ذلك، عموم قوله صلّي اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فكما إنّ العمة أو الخالة من النسب محرمة، فكذلك من الرضاع، حتي أنّ ذلك يسري إلي الحفيد و من بعدهم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 557

[المسألة 12: لا يجوز أن ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن]

اشارة

المسألة 12: لا يجوز أن ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن ولادة بل و رضاعا علي الأحوط، و كذا في أولاد المرضعة نسبا لا رضاعا؛ أمّا أولاده الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن، فيجوز نكاحهم في أولاد صاحب اللبن و في أولاد المرضعة التي ارضعت أخاهم، و إن كان الاحتياط لا ينبغي تركه.

نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن

أقول: هذه المسألة تشتمل علي فروع ثلاثة:

1- عدم جواز نكاح ابي المرتضع، في أولاد صاحب اللبن، نسبا و رضاعا علي الأحوط في الأخير.

2- عدم جواز نكاح أب المرتضع، في أولاد المرضعة، إذا كانوا نسبيين.

3- جواز نكاح ساير أولاد أب المرتضع (أي اخوة المرتضع)، في أولادهما.

[فروع المسألة]
1- عدم جواز نكاح ابي المرتضع في اولاد صاحب اللبن نسبا و رضاعا

فهو من المسائل الخلافية، و إن ادعي الشهرة علي الحرمة، بل الإجماع، كما قال شيخ الطائفة (قدس سره)، في الخلاف: إذا حصل بين صبيين الرضاع الذي يحرم مثله، فانّه ينشر الحرمة إلي اخوتهما و أخواتهما و إلي من هو في طبقتهما و من فوقهما من آبائهما؛ و قال جميع من الفقهاء خلاف ذلك؛ دليلنا إجماع الفرقة، و أيضا قوله صلّي اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب. «1»

و قال في الجواهر وفاقا للشيخ في غير المبسوط، و ابني حمزة و ادريس، بل نسبه بعضهم إلي الشهرة، بل ربّما ادعي الإجماع عليه. «2»

و عن الشيخ (قدس سره) في المبسوط عدم الحرمة، و قال العلّامة (قدس سره) في

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 302.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 314.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 558

المختلف: و قول الشيخ في المبسوط و إن كان قويا و لكن الرواية الصحيحة علي خلافه …

و لو لا هذه الرواية الصحيحة، لأعتمدت علي قول الشيخ. «1»

و قال في كشف اللثام: و يحرم أولاد الفحل ولادة و رضاعا، و أولاد زوجته المرضعة ولادة لا رضاعا علي أب المرتضع علي رأي، موافق لرأي، الشيخ في كتبه و ابني حمزة و ادريس و المحقق، للنصوص؛ و خالف القاضي في المهذب في أولادها، و لم يتعرض لأولاده لأنّه أنّما يحرم من الرضاع ما يحرم من

النسب، و أخوات الولد إنّما يحرمن علي أبيه بالمصاهرة، و هو قوي لو لا النص. «2»

و قال الشيخ (قدس سره الشريف) في المبسوط: و روي أصحابنا أنّ جميع أولاد هذه المرضعة و جميع أولاد الفحل، يحرمون علي هذا المرتضع و علي أبيه و جميع اخوته و أخواته، و أنّهم صاروا بمنزلة الاخوة و الأخوات، و خالف جميعهم في ذلك. «3»

و إلي هنا يظهر أنّ الأقوال في المسألة في الواقع ثلاثة:

1- الحرمة مطلقا. 2- الاباحة مطلقا. 3- يجوز نكاح أب المرتضع في أولاد المرضعة.

و قال في الرياض بعد ذكر قول الشيخ في المبسوط، و القاضي في مخالفة الحرمة، ما نصّه: و هو قوي لو لا هذه الأخبار الصحيحة، (إشارة إلي الروايات الثلاثة الآتية) المعتضدة بالشهرة العظيمة؛ و مراعاة الاحتياط المطلوبة في الشريعة- إلي أن قال- و كيف كان، الاحتياط لا يترك في المسالة. «4» و هذا قول رابع في المسألة.

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛ أنّ هذا الحكم مخالف للقاعدة، لا لأصالة الاباحة فقط بل للمفهوم المستفاد من قولهم (عليهم السلام): يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ الظاهر أنّ هذه الروايات في مقام البيان عن جميع ما يحرم من الرضاع، فلا يحرم غيره، مضافا إلي ما عرفت من ان تناسب الحكم و الموضوع يدل علي أنّ اللبن يقوم مقام النطفة

______________________________

(1). العلّامة الحلي، في مختلف الشيعة 7/ 19.

(2). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 146.

(3). الشيخ الطوسي، في المبسوط، 5/ 292.

(4). مبسوط، ج 11، ص 160.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 559

فيؤثر آثاره، و الابن الرضاعي شبيه بالابن النسبي لإنبات لحمه و شدّ عظمه بلبن الامّ، و لا معني لقيام المصاهرة مقام الرضاع.

هذا بحسب الكبري، و

أمّا صغراها في المقام فلان اخت المرتضع ليست إلّا اختا لولده و اخت الولد لا يحرم علي الأب إلّا في صورة واحدة، و هي أن تكون تحت عنوان الربيبة بأن تكون للزوجة المدخول بها بنتا من رجل آخر، فهذه اخت المرتضع (أي اخت ولده) و من المعلوم أن تحريم الربيبة إنّما هو من ناحية المصاهرة، (و ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ).

و إلي ذلك أشار المحقق الثاني في جامع المقاصد- و لنعم ما قال-: اختار الشيخ في المبسوط عدم التحريم، لأنّ اخت الابن من النسب إنما حرّمت لكونها بنت الزوجة المدخول بها، فتحريمها بسبب الدخول بامها و هذا المعني منتفي هنا؛ و النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله قال:

يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ و لم يقل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة. «1»

إن قلت: يمكن منع دلالة الروايات الدالة علي القاعدة علي الحصر. في ذلك، فلا منافاة بينها و بين ما دل علي حرمة المذكورات في المقام.

قلت: لا ينبغي الشك في أنّها ظاهرة في الحصر، و لذا ذكر صاحب الجواهر (قدس سره) بعد نفي الحصر ما نصه: و مع التسليم- بل لعله الظاهر المنساق منها خصوصا بعد ذكرها في مقام التحديد و البيان- يجب تخصيصها بما هنا. «2»

هذا هو مقتضي القاعدة.

و لكن هناك نصوص علي خلاف هذه القاعدة، بعضها يدل علي حرمة نكاح أب المرتضع في أولاد الفحل، و بعضها يدل علي حرمة نكاحه في أولاد المرضعة.

أما الأول، فهو صحيح عليّ ابن مهزيار، قال: سأل عيسي بن جعفر بن عيسي، أبا جعفر الثاني عليه السّلام، أنّ امرأة أرضعت لي صبيا، فهل يحل لي أن اتزوج ابنة زوجها؟ قال لي:

ما اجود

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 229.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 316.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 560

ما سألت، من هاهنا يؤتي أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل، هذا هو لبن الفحل لا غيره؛ فقلت له: الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي، هي ابنة غيرها.

فقال: لو كنّ عشرا متفرقات ما حلّ لك شي ء منهن، و كنّ في موضع بناتك. «1»

و يمكن المناقشة في سند الحديث و دلالته؛ أمّا سنده، فلان الظاهر أنّ عليّ بن مهزيار لم يكن حاضرا في المجلس، و يتحدث له عيسي بن جعفر، و عيسي بن جعفر رجل مجهول الحال بحسب كتبنا الرجالية، و ليس له اعتبار بين الشيعة، و الظاهر أنّه ليس له رواية إلّا هذه الرواية، و من أقوي الشواهد علي ما ذكرنا من عدم حضور عليّ بن مهزيار، قوله: فقال لي … فقلت له … فقال …، و لو كان الراوي للحديث هو عليّ بن مهزيار، كان اللازم أن يقول: سال عيسي بن جعفر … فقال عليه السّلام له كذا، فقال كذا، فاجابه كذا؛ فلا ينبغي الريب في كون الراوي هو عيسي بن جعفر، و أمّا ابن مهزيار فهو الناقل عنه، و الرجل مجهول جدا.

هذا من جهة السند؛ و أمّا الدلالة، فهي أيضا ضعيفة، فان قوله عليه السّلام: كن في موضع بناتك؛ ممّا لا يمكن الركون إليه، لأنّ اخت الولد لا يكون في موضع البنت، لإمكان كونه من ناحية الام، فتكون تحت عنوان الربيبة و هي لا تكون محرمة إلّا مع الدخول بامها، و هو منتف هنا لأنّها زوجة صاحب اللبن لا أب المرتضع.

و إن شئت قلت: كون البنت

اختا للولد هنا، ليس إلّا من ناحية الامّ الرضاعي.

و ثانيا، لو أغمضنا من ذلك، كان البنتية من لوازم كونها اخت الولد، و لكن سيأتي أنّ المشهور لم يقبلوا اللوازم في أبواب الرضاع، و يسمونه عموم المنزلة؛ فلا تصح دلالة الحديث علي مبناهم.

و الحاصل، أنّ الرواية ليست من قسم الصحيح بل هي من قسم المجهول، و يشكل انجبارها بعمل الأصحاب لأنّ أكثرهم سموها صحيحة، فلعلهم (قدس اللّه أسرارهم) غفلوا عن السند، و دلالتها أيضا مخدوشة بما عرفت. نعم، يمكن حملها علي الكراهة و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 296، الحديث 10، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 561

التعليل كاف لها.

أمّا الثاني، يأتي الآن في ذيل الفرع الثاني.

2- حرمة بنات المرضعة من النسب، علي أبي المرتضع

تدلّ عليه روايتان:

1- عن أيوب بن نوح، قال: كتب عليّ بن شعيب، إلي ابن الحسن عليه السّلام، امرأة أرضعت بعض ولدي، هل يجوز لي أن أتزوج بعض ولدها؟ فكتب عليه السّلام: لا يجوز ذلك، لك؛ لأنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك. «1»

2- عن عبد اللّه بن جعفر عليه السّلام، قال: كتبت إلي أبي محمد، امرأة أرضعت ولد الرجل، هل يحلّ لذلك الرجل أن يتزوج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقع: لا تحل له. «2»

و الرواية الاولي أيضا مخدوشة بحسب السند، و إن سمّوها صحيحة، لأنّ المكاتب و هو علي بن شعيب إلي أبي الحسن عليه السّلام فرد مجهول الحال في كتب الرجال؛ و تعبير أيوب بن نوح بقوله: كتب علي بن شعيب …، و إن كان يشعر باعتماده علي صدقه و لكن الاعتماد علي هذا الأشعار مشكل.

و أمّا بحسب الدلالة، فالمشكلة السابقة في حديث ابن مهزيار موجودة فيه أيضا، فان قوله: أنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك؛

لا يستقيم بأي معني كان؛ لأنّ ولد الزوجة و إن كان نسبيا لا يكون بمنزلة ولد الإنسان إلّا إذا دخل بامها، و المفروض كونها ولد المرضعة فقط، مضافا إلي ما عرفت من أنّ اخت الولد لا تكون بنتا لأبيه إلّا من باب عموم المنزلة؛ و الحمل علي الكراهة لشباهتها بالولد في الجملة أحسن طرق الحمل.

و أمّا الرواية الثانية، فهي و إن كانت صحيحة بحسب السند، و ليس فيها التشبيه بالولد حتي يرد عليها الإشكال السابق، و لكن موافقة الروايات الثلاث من حيث المضمون تدل علي أنّ الحكم فيها أيضا من هذا الباب، بل مع قطع النظر عن توافق الروايات لا وجه

______________________________

(1). الوسائل 14/ 306، الحديث 1، الباب 16 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 307، الحديث 2، الباب 16 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 562

للحرمة بحسب الظاهر إلّا من هذه الجهة، و قد عرفت أنّها لا تصلح إلّا للكراهة.

إن قلت: المرتضع أخ لأولاد صاحب اللبن و المرضعة من ناحية الأب و الام (في بعض الفروض)، فاذا كان كذلك يكون بمنزلة الولد لأب المرتضع من ناحية الأب و الامّ، و من الواضح حرمته علي الأب، فليس حرمة اخت المرتضع دائما من ناحية الربيبة المنفية هنا.

قلت: مجرد كونه كذلك في بعض الفروض غير كاف كما لا يخفي.

و بالجملة الخروج عن القواعد المسلّمة في أبواب الرضاع و تخصيصها بهذه الادلة الضعاف سندا أو متنا مشكل جدّا، و حملها علي الكراهة اولي، فالاقوي هو الجواز، و اللّه العالم.

و من هنا تنحل المشكلة العظيمة لكثير من البيوتات الصالحة الغافلة عن هذا الحكم، الحاصلة من ارضاع أمّ الزوجة ولد الرجل، فتحرم المراة في بيت

زوجها، و تتفرق الاسرة و إن كانت مستقرة عشرين سنة مع أولاد متعددة.

هذا تمام الكلام في الفرعين الأولين من هذه المسالة.

3- حلية أولاد الفحل و المرضعة علي أخي المرتضع

قال المحقق النراقي في المستند: أنّه يجوز لإخوة المرتضع نسبا و أخواته، نكاح أخواته و أخوته رضاعا، أي أولاد الفحل نسبا و رضاعا و أولاد المرضعة نسبا، وفاقا للحلّي و القاضي و المحقق و الفاضل في أكثر كتبه و الصيمري و فخر المحققين و الشهيدين، بل الأكثر كما صرّح به جماعة؛- إلي أن قال- خلافا للمحكي عن الخلاف و النهاية و المبسوط و ابن حمزة، و قواه في الكفاية، فقالوا بالتحريم. «1»

و قال في المبسوط: و روي أصحابنا أن جميع أولاد هذه المرضعة و جميع أولاد الفحل يحرمون علي هذا المرتضع و علي أبيه و جميع اخوته و اخواته، و أنّهم صاروا

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 289.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 563

بمنزلة الاخوة و الأخوات، و خالف جميعهم في ذلك. «1»

و الحاصل أنّ ظاهر الأكثر- كما في الجواهر- الجواز و ذهب جماعة إلي التحريم و من العجب أن المحكيّ عن خلاف الشيخ، الإجماع علي الحرمة «2» مع ظهور كلامه في المبسوط في الجواز و ذهاب الكل إليه.

و غاية ما يستدل به علي مذهب المشهور- أي الجواز- أمران:

1- أصالة الحلية بعد عدم شمول عمومات الحرمة للمقام.

2- ما رواه اسحاق بن عمار، في الموثق، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل تزوج اخت أخيه من الرضاعة. قال: ما أحبّ أن أتزوج اخت أخي من الرضاعة. «3» بناء علي ظهورها في الكراهة، و بناء علي كون القيد (من الرضاعة) قيدا للأخت لا للأخ، فالمعني أنّه يكره للرجل أن يتزوج الاخت الرضاعي لأخيه

النسبي.

إن قلت: يحتمل رجوع القيد إلي الأخ بل هو القريب منه، فحينئذ يدل علي كراهة تزويج الاخت النسبي للأخيه الرضاعي.

قلنا: نعم، و لكن هذا معلوم الحرمة، لأنّ الاخت النسبي للأخ الرضاعي حرام قطعا، فلا يجوز للأخ الرضاعي تزويج أخوات أخيه، فاللازم حمل الرواية علي ما ذكر من رجوع القيد إلي الاخت.

و الانصاف أنّ هذا الاستدلال لا يخلو عن ضعف، لإمكان إرادة الحرمة من قوله: لا أحبّ؛ و قد عرفت أنّ استعماله فيها كثير.

و أمّا الأصل، فسيأتي الكلام فيه.

و الدليل علي القول الثاني- أي الحرمة- امور:

1- ظاهر التعليل في روايتي ابن مهزيار، و أيوب بن نوح، فان قوله: كنّ في موضع بناتك؛ في رواية ابن مهزيار، و قوله: لأنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك؛ في رواية أيوب بن

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في المبسوط 5/ 292.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 316.

(3). الوسائل 14/ 279، الحديث 2، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالنسب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 564

نوح، بناء علي صحة الروايتين، معناه أنّ أولاد الفحل و المرضعة بمنزلة أولادك فيكون الجميع اخوة و أخوات فلا يجوز نكاح بعضهم لبعض.

و الحاصل أنّ أولاد الفحل أو المرضعة إذا كانوا بمنزلة أولاد أب المرتضع، لم ينفك ذلك عن كونهم اخوة و أخوات، فلا يجوز نكاح بعضهم بعضا.

و أجاب عنه في الجواهر و غيره، بالجمود علي عبارة الحديث، فانّ العلة المنصوصة فيهما هو كونها بمنزلة الولد، و أما أنّهم إذا صاروا بحكم أولاده، استلزم ذلك صيرورة ولده اخوة لهم، فلا يجوز نكاحهم؛ فهو قسم من مستنبط العلة و ليست بحجة.

و يرد عليه، أنّ مستنبط العلة لا تكون حجة إذا كانت ظنية، و لكن إذا كان قطعيا بحسب متفاهم

العرف، فهي حجة؛ و المقام من هذا القبيل.

و إن شئت قلت: كونها بمنزلة ولده، مستلزم بحسب فهم العرف لكونهم اخوة و أخوات، و الفصل بينهما يعدّ في العرف من الغرائب، فإذا حرمت بنت صاحب اللبن علي أب المرتضع لكونها بمنزلة ولده، حرمت علي أولاده أيضا، لمثل هذا الدليل.

2- يجوز الاستدلال للحرمة بعموم: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ و من المعلوم أن اخت الأخ من النسب محرمة، فكذا من الرضاع، فلا يجوز نكاحها.

و اجيب عنه بمنع حرمة اخت الأخ من النسب دائما؛ كما إذا كان لزيد أخ من أبيه، و كان للأخ اخت من امّه، فانّها غير محرمة علي زيد، لعدم اشتراكهما في الأب و لا في الام؛ (و هذا ما يقال في الفارسيّة: از پدر جدا و از مادر سوا).

فاشتراك المرتضع من أخيه، و إن كان في الأب و الامّ النسبيين، و لكن اشتراكه مع الاخت الرضاعي في أب و أمّ آخر، فلا تحرم الاخت علي أخ المرتضع.

3- و استدل له أيضا بقاعدة عموم المنزلة و الاخذ باللوازم العقلية في أبواب الرضاع، و لكن سيأتي فساد هذا القول.

فالعمدة في المقام، هو الدليل الأول، أي الأخذ بالعلة بمقتضي فهم العرف، و الانصاف أنّ هذا الدليل قوي.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 565

نظرة جديدة حول هذه المسألة

و الحاصل، أنّ القول بحرمة أولاد صاحب اللبن و المرضعة، علي أب المرتضع دون اخوته، مشكل جدا؛ و هذا دليل آخر علي ضعف القول بالحرمة في الفرعين السابقين. و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 566

[المسألة 13: إذا أرضعت امرأة ابن شخص بلبن فحلها، ثم أرضعت بنت شخص آخر]

اشارة

المسألة 13: إذا ارضعت امرأة ابن شخص بلبن فحلها، ثم أرضعت بنت شخص آخر من لبن ذلك الفحل، فتلك البنت و إن حرمت علي ذلك الابن، لكن تحل أخوات كل منهما لإخوة الآخر.

حكم إخوة أحد المرتضعين بالنسبة إلي إخوة الآخر

أقول: ليس في المسألة نص خاص، بل هي مبنية علي القواعد؛ و في الواقع هذه المسالة من الواضحات- كما نص عليه الشهيد الثاني في المسالك- قال: عدم التحريم هنا واضح، لأنّ اخوة أحد المرتضعين بالنسبة إلي اخوة الآخر لا رابطة بينهم بالمحرمية أصلا، فانهم ليسوا بمنزلة اخوة الاخوة الذين يحتمل فيهم التحريم، و إنّما هم اخوة اخوة الاخوة. «1»

توضيح ذلك، أنّه لو كان هنا ولد يقال له حسن، و كان ولد آخر إناث من رجل ثان يقال لها فاطمة، و كان للحسن عدة إخوة و أخوات، و كذلك كان لفاطمة عدة اخوة و أخوات، فارتضع حسن و فاطمة من لبن رجل ثالث؛ لا شك إنّهما محرمان؛ و أمّا اخوة هذا المرتضع، هل يجوز لهم نكاح أولاد صاحب اللبن (أي أولاد الرجل الثالث)، فقد عرفت الكلام فيه آنفا، و أنّه قد يقال بالحرمة.

و أمّا نكاح أولاد الرجل الأول في أولاد الرجل الثاني، فلا وجه للحرمة فيه، لعدم النسب و عدم الرضاع؛ فاخوة الحسن النسبي بالنسبة إلي اخوة فاطمة النسبية، من قبيل اخوة اخوة الأخوة.

مثلا عليّ من أولاد الرجل الأول، أخ نسبي للحسن، و هو اخ رضاعي لفاطمة، و هي اخت نسبي لزينب من أولاد الرجل الثاني، و لا وجه لحرمة زينب علي عليّ؛ و الأخذ بتعليل الروايتين هنا مشكل جدّا.

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 256.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 567

هذا؛ و لكن الانصاف لو قيل بعموم المنزلة من دون

قيد و شرط أمكن الحكم بالتحريم هنا أيضا، لأنّ اخوة اخوة الأخ من الرضاع، بمنزلة الأخ من الرضاع؛ فتأمّل.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 568

[المسألة 14: الرضاع المحرم كما يمنع من النكاح لو كان سابقا، يبطله لو حصل لاحقا]

اشارة

المسألة 14: الرضاع المحرم كما يمنع من النكاح لو كان سابقا، يبطله لو حصل لاحقا؛ فلو كانت له زوجة صغيرة فأرضعتها بنته أو امه أو اخته أو بنت أخيه أو بنت اخته أو زوجة أخيه بلبنه رضاعا كاملا، بطل نكاحها و حرمت عليه، لصيرورتها بالرضاع بنتا أو اختا أو بنت أخ أو بنت اخت له، فحرمت عليه لاحقا، كما كانت تحرم عليه سابقا.

و كذا لو كانت له زوجتان صغيرة و كبيرة، فارضعت الكبيرة الصغيرة، حرمت عليه الكبيرة، لأنّها صارت أمّ زوجته؛ و كذلك الصغيرة إن كانت رضاعها من لبنه أو دخل بالكبيرة لكونها بنتا له في الأول، و بنت زوجته المدخول بها في الثاني؛ نعم، ينفسخ عقدها و ان لم يكن الرضاع من لبنه و لم يدخل بالكبيرة و إن لم تحرم عليه.

الرضاع اللاحق محرم أيضا

أقول: الظاهر أنّه لا خلاف في هذه المسألة إجمالا.

قال المحقق النراقي (قدس سره الشريف): الرضاع الذي يحرم النكاح علي تقدير سبقه عليه، يبطله علي تقدير لحوقه، بلا خلاف كما صرّح به بعضهم؛ و اتفاقا كما قاله بعض آخر؛ بل هو إجماعي حقيقة، فهو الحجة فيه. «1»

و قال الفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدس سره الشريف): لا إشكال و لا خلاف في أنّ الرضاع المحرم يمنع من النكاح سابقا و يبطله لاحقا للقطع بعدم الفرق بين الابتداء و الاستدامة في ذلك، كما تطابقت عليه النصوص و الفتاوي من الخاصة بل و العامة. «2»

و ادعي الإجماع في كشف اللثام أيضا. «3» و إجماع المسلمين في مهذب الأحكام. «4»

و في المسألة فرعان:

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 294.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 324.

(3). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 148.

(4). المحقق السبزواري، في

مهذب الاحكام 25/ 38.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 569

الأول، ارضاع بعض محارمه لزوجته الصغيرة.

الثاني، ارضاع زوجته الكبيرة للصغيرة.

[في المسألة فرعان:]
1- ارضاع بعض محارم الرجل لزوجته الصغيرة

فقد استدل له بامور:

1- الإجماع عليه من الأصحاب، بل قد عرفت دعوي الإجماع من العامة أيضا في ظاهر كلام الجواهر؛ اللّهم إلّا أن يقال بعد وجود مدارك اخري لا يمكن الاعتماد عليه، و لكنه مؤيد قوي للمدعي.

2- اطلاقات قولهم (عليهم السلام): يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

فإنّها تشمل الاستدامة كما تشمل الابتداء؛ و القول بانصرافها إلي الابتداء ضعيف، لعدم الفرق؛ فلو ثبت كون المرأة الفلاني اختا شرعا لفلان، كيف يمكن بقاء زوجيتها.

3- اطلاق الروايات الواردة في الموارد الخاصة، مثل ما ورد في كتاب اللّه تعالي: وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اللّٰاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ مِنَ الرَّضٰاعَةِ، «1» و مثله ما ورد في الروايات في شأن الاخت أو الأخ الرضاعي أو غيرهما، فانّها باطلاقها أو عمومها تشمل السابق و اللاحق.

4- ما سيأتي إنشاء اللّه تعالي في الزوجتين الصغيرة و الكبيرة، بناء علي إمكان الغاء الخصوصية عنها، و شمولها للمقام أيضا، و إن كان فيه تأمل.

5- و يمكن الاستدلال له أيضا بما مرّ من رواية ابن مهزيار، في مسألة نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن، و قد ورد في الحديث: و من هاهنا يؤتي أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل و هذا لبن الفحل. «2»

فانّ ظاهرها أن قول الناس هنا صحيح؛ و معناه، حرمة الزوجة بقاء لصيرورتها في حكم بنت اب المرتضع فلا يحل نكاحها؛ فالاستدلال بها صحيح علي مختار المشهور، و

______________________________

(1). النساء/ 23.

(2). الوسائل 14/ 296، الحديث 10، الباب 6 من أبواب الرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 570

من العجيب ترك استدلالهم

بها مع كونها بمرأي و مسمع منهم.

و لكن قد عرفت الإشكال في الرواية سندا و دلالة، فلا يصح علي المختار، و يصح الاستدلال به علي مذهب المشهور.

و أمّا حكم المهر بعد بطلان النكاح، و حكم من تسبب فعله لبطلان النكاح و الاضرار علي الزوج، فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه ذيل المسألة الآتية.

2- ارضاع زوجته الكبيرة للصغيرة

أعني إذا كان لرجل زوجتان كبيرة و صغيرة، فارضعت الكبيرة الصغيرة، فله ثلاث صور:

1- إذا كان رضاعها من لبنه، بان تزوجها و أولدها، فأرضعت من لبنه، الصغيرة، دخل بها أو لم يكن دخل بها، كما إذا صب عليها نطفته.

2- إذا كان رضاعها من لبن غيره، بان كان للكبيرة زوجا قبل هذا الزوج، و لها لبن من الزوج السابق، فارضع به زوجته الصغيرة، و لكن دخل بهذه الزوجة.

3- إذا كان رضاعها من لبن غيره، و لم يكن دخل بها.

و قد حكموا في الأول بانفساخ العقدين و حرمتهما مؤبدا، أمّا الصغيرة فلصيرورتها بنته الرضاعية، و أمّا الكبيرة فلأنها أمّ زوجته.

و في الثاني كذلك، لأنّ الصغيرة ربيبته، و هي تحرم بالدخول بالامّ، و الكبيرة أم زوجته.

و في الثالث تحرم الكبيرة فقط، لأنّها أم زوجته؛ و لا تحرم الصغيرة لأنّ المفروض أنّها ليست ربيبته لعدم الدخول بامها. نعم، ينفسخ العقدان لعدم جواز الجمع بين الام و البنت، و لا ترجيح فتفسدان، و لكن له بعد ذلك تجديد العقد علي الصغيرة.

و الذي يدل علي هذه الأحكام أمور:

1- دعوي الإجماع عليها (مع ما فيها من الكلام و الإشكال)؛ قال في الجواهر: بلا

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 571

خلاف أجده في شي ء من ذلك بل الظاهر الاتفاق عليه. «1»

2- اطلاق قولهم عليهم السّلام يحرم من الرضاع ما يحرم

من النسب؛ و قد عرفت أنّ دعوي الانصراف عن محل الكلام ضعيف جدّا.

3- و هو العمدة، الروايات الخاصة الواردة في خصوص المسالة؛ منها:

1- ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لو أنّ رجلا تزوج جارية رضيعة، فأرضعتها امرأته، فسد النكاح.

و رواه الشيخ باسناده عن ابن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول، و ذكر مثله. و رواه في الكافي، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، مثله. «2»

و هذه الرواية في الواقع ترجع إلي ثلاث روايات، إحداها ما رواه محمد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام؛ و الثانية و الثالثة ما رواه ابن سنان و الحلبي، عن الصادق عليه السّلام. و إن ذكرت في الوسائل تحت رقم واحد، و بعض اسنادها صحيحة، مثل الأول و الثالث؛ و لكن ظاهر في فساد النكاح الصغيرة فقط، لأنّ السؤال منها و الجواب يرجع إليه؛ اللّهم إلّا أن يقال إن الجواب عام يشمل نكاحهما و لكنه بعيد، و لا أقل من الشك بالنسبة إلي الكبيرة.

2- ما رواه الحلبي، و عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في رجل تزوج جارية صغيرة فارضعتها امرأته و أمّ ولده؛ قال: تحرم عليه. «3»

و هي أيضا في قوة روايتين كما هو ظاهر، و الظاهر اعتبار اسنادها أيضا، و هي أيضا لا تدل علي أزيد من حرمة نكاح الصغيرة.

3- ما رواه علي بن مهزيار، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قيل له: أنّ رجلا تزوج بجارية صغيرة فارضعتها امرأته ثم أرضعتها امرأة له اخري. فقال: ابن شبرمة: حرمت عليه الجارية و امرأتاه؛ فقال أبو جعفر عليه السّلام: أخطأ ابن شبرمة، تحرم عليه الجارية و

امرأته التي أرضعتها أولا، فأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه، كأنّها أرضعت ابنته. «4»

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 329.

(2). الوسائل 14/ 302، الحديث 1، الباب 10 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 14/ 303، الحديث 2، الباب 10 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). الوسائل 14/ 305، الحديث 1، الباب 14 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 572

و قد أورد علي سند الرواية بأمرين:

أحدهما، ان المراد من أبي جعفر عليه السّلام، هو الباقر عليه السّلام بقرينة ذكر ابن شبرمة (و هو عبد اللّه بن شبرمة، و كان قاضيا لأبي جعفر المنصور، و توفي 144، أي أربع سنوات قبل وفاة مولانا الصادق عليه السّلام؛ و من الواضح أن ابن مهزيار و هو وكيل لأبي جعفر الجواد عليه السّلام، لا يمكن له نقل الحديث بلا واسطة عن الباقر عليه السّلام؛ ففي السند ارسال كما ذكره العلّامة المجلسي في المرآة.

و يمكن الجواب عنه، بانّ ذكر اسم ابن شبرمة لا يكون دليلا علي ما ذكره، و لعل فتواه في هذه المسألة كان معروفا مشهورا من قبل.

ثانيهما، أنّ في سندها صالح بن أبي حماد، فقد ضعفه قوم، و توقف فيه آخرون، فلا يمكن الاعتماد عليه؛ اللّهم إلّا أن يقال بانجبارها بعمل المشهور، و هو كذلك و لكن دلالتها أحسن من جميع أحاديث الباب، لبيان حكم الزوجتين. و يمكن الجواب عنه بانجبارها بعمل الأصحاب؛ فان الظاهر أنّ مستند الأصحاب هي هذه الرواية؛ لما عرفت من قصور الروايات السابقة عن بيان الحكم بجميع أطرافه؛ لأنّ الاولي تدل علي فساد نكاح الصغيرة فقط لا الحرمة الأبدية، و الثانية و إن كانت تدل علي حرمة الصغيرة و لكنها ساكتة

عن حكم الكبيرة، و إن كانت الحرمة فيها أيضا يعلم بالملازمة؛ و كذلك دلالة الفساد علي الحرمة الأبدية هنا، و لكنها لا تخلو عن خفاء.

و الحاصل، أنّ سند رواية ابن مهزيار كدلالتها قابلة للقبول، و هذا هو العمدة في المسألة.

و لكن هنا إشكال معروف، و هو أنّ حرمة الكبيرة بعنوان أم الزوجة فرع اجتماع العنوانين عليه عنوان الام؛ و عنوان الزوجية؛ و من الواضح أنّهما لا يجتمعان هنا، فانّها بمجرد كونها أمّا تنفسخ الزوجية فلا يجتمعان أبدا.

و يمكن نقل الإشكال إلي الصغيرة، فانّ عنوان البنتية إذا حصلت و لو فرض بعد انفساخ الزوجية الاولي، كفي في الحرمة، لأنّ اللبن علي كل تقدير للزوج.

و هكذا الكلام في الصورة الثالثة، (إذا ارضعتها بلبن زوج آخر من غير دخول للزوج

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 573

الأخير)، و قد عرفت أنّ الصغيرة لا تحرم، لعدم الدخول بامّها، و لكن تحرم الكبيرة من باب أمّ الزوجة.

و قد أجيب عن الإشكال، تارة بأنّ ظاهر النص و الفتوي كفاية المقارنة العرفية بين هذه العناوين و إن كان التقارن غير ممكن عقلا، فبعد ورود الدليل، يكون هذه الإشكالات من قبيل الاجتهاد في مقابل النص؛ و هذا جواب متين.

و اخري بالبناء علي كون المشتق اعم مما تلبس بالمبدإ فعلا، أو من انقضي عنه المبدأ، فالصغيرة تحرم و ينفسخ نكاحها، لكونها بنتا علي كل حال؛ و الكبيرة تحرم لأنّها أمّ من كانت زوجة، فتحرم و تفسد نكاحها.

و لكن يمكن المناقشة فيه من وجهين: أوّلا، بفساد المبني، فانّ المشتق حقيقة في من تلبس بالمبدإ في زمان النسبة، فاللازم أن تكون الزوجة الكبيرة موصوفة بالامومة في حال اتصاف الصغيرة بالزوجية، فيعود الإشكال، فانّ الوصفين لا يجتمعان

هنا.

و ثانيا، بأنّ من المقطوع بحسب الفتاوي عدم كفاية ارضاع من كانت زوجة لزيد في سابق الأيام، مثلا قبل شهر، في نشر الحرمة إلي المرضعة.

فالمناقشة في الحكم باطل؛ و اللّه العالم.

*** بقي هنا امور:

الأوّل: الإشارة إلي بعض ثمرات هذه المسألة، و سيأتي في التنبيه التالي، إن شاء اللّه

الثاني: حكم المهر هنا، و حكم الضمان بعد فسخ النكاح بفعل المرضعة، و سيأتي في المسألة 3 بعد التنبيه ان شاء اللّه.

الثالث: حكم الزوجة الكبيرة الثانية لو كانت له زوجتان كبيرتان، أرضعتا زوجته الصغيرة واحدة بعد واحدة، و لم يتعرض له المصنف صاحب التحرير هنا، و قد وقع البحث فيه بين الأكابر من الفقهاء، و هي مسألة مهمّة.

قال فخر المحققين في إيضاح الفوائد: تحرم المرضعة الاولي و الصغيرة مع الدخول

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 574

باحدي الكبيرتين بالإجماع؛ و أمّا المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف؛ و اختار والدي المصنف و ابن ادريس تحريمها، لأنّ هذه يصدق عليها أنّها أم زوجته، لأنّه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعني المشتق منه، فكذا هنا..؛ و قال الشيخ في النهاية و ابن الجنيد، لا يحرم؛ لما رواه علي بن مهزيار و الجواب، المنع من صحة سند الرواية. «1»

(لوجود صالح بن أبي حماد).

أقول: يظهر من بعض كلمات سيدنا الاستاذ العلّامة الخوئي قدّس سرّه الميل إلي وثاقته، لبعض المدائح فيه، و كونه في أسناد تفسير علي بن ابراهيم و حكاية الارتضاء به عن الفضل بن شاذان؛ و لكن الانصاف عدم كفاية هذه الامور في اثبات وثاقته مع تصريح النجاشي و العلّامة بكونه ملتبسا يعرف و ينكر، و تصريح جماعة بعدم الاعتماد علي رواية ابن مهزيار، لوقوع الرجل في سندها.

و قال المحقق الثاني في جامع

المقاصد: لا نزاع في تحريم المرضعة الاولي و كذا الصغيرة أن كان قد دخل باحدي الكبيرتين …، و إنّما النزاع في تحريم المرضعة الثانية؛ و بالتحريم قال ابن ادريس و جمع من المتأخرين كأبي القاسم ابن سعيد و المصنف (أي العلّامة)، و هو المختار؛ و وجهه ما ذكره المصنف من أنّها أمّ من كان زوجته … فيندرج في عموم قوله تعالي: وَ أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ؛ و قال الشيخ في النهاية و ابن الجنيد، لا يحرم، لما رواه علي بن مهزيار، عن أبي جعفر عليه السّلام … و المستمسك ضعيف لان سند الرواية غير معلوم فلا يعارض حجة الأولين. «2»

و قال في الجواهر: المحكي عن الاسكافي، و الشيخ في النهاية، و ظاهر الكليني، حلّية الثانية، بل هو خيرة الرياض، و سيد المدارك حاكيا له عن جماعة، بل هو ظاهر الأصفهاني (كاشف اللثام) في كشفه، أو صريحه أيضا، و قيل بل تحرم أيضا في الفرض لأنّها صارت أمّا لمن كانت زوجته بل نسبه في المسالك إلي ابن ادريس. و المصنف في

______________________________

(1). فخر المحققين، في إيضاح الفوائد 3/ 52.

(2). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 237.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 575

النافع، و اكثر المتاخرين؛ بل لم يحك القول الأول إلّا عن الشيخ في النهاية، و ابن الجنيد. «1»

و نهاية ما استدل به للقول بالحرمة، امور، ذكرها فخر المحققين في كلماته، و هي:

1- صدق عنوان أمّ الزوجة عليها، لعدم اشتراط صدق المشتق ببقاء المبدأ الذي اخذ منه.

و نجيب عنه بفساد المبني، بل المتبادر في ما لم يقم قرينة علي الخلاف، هو التلبس بالمبدإ حين النسبة، لا الأعم منه و ممّا انقضي، كما حققناه في محلّه.

2- ان عنوان الموضوع

لا يشترط صدقه حال الحكم، فيدخل تحت قوله تعالي: وَ أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ، و إن خرجت الصغيرة فعلا عن عنوان النساء.

و فيه أنّه يرجع إلي سابقه، و إلّا فليس له معني محصل غير مسألة عمومية المشتق.

3- الرضاع مساو للنسب، فيحرم منه ما يحرم من النسب، و من المعلوم أن أمّ الزوجة و بنت الزوجة تحرمان سابقا و لاحقا، و هو يحرم.

و هذا الاستدلال أيضا ضعيف، لأنّه يتصور في النسب عنوان أمّ من كانت زوجة فانه إذا تزوج امرأة حرمت عليه امها في الحال، حرمة ابدية؛ و إذا طلقها، بقيت الامّ علي حرمتها الأبدية، لتحقق الامومة و الزوجية في زمان واحد و أثرها باق، لا أن الحرمة بسبب صدق عنوان أم من كانت زوجة؛ و الحاصل أنّ السابق و اللاحق يتصور في الربيبة لا أمّ الزوجة.

إن قلت: أنّهم حكموا بحرمة الربيبة في النسب و لو كان تولدها بعد طلاق امها. و ليس إلّا لكونها بنتا لمن كانت زوجة في السابق، فلتكن عنوان أمّ الزوجة كذلك و لو كان بالرضاع.

قلت: قد عرفت أنّه لا يتصور في النسب أمّ من كانت زوجة، بل تحرم أمّ الزوجة فعلا حرمة مؤبدة، و في الربيبة يتصور عنوان بنت من كانت زوجة، لأنّ البنت تتجدد و الام لا تتجدد، بل لو لا الاجماع و بعض الروايات الصحيحة الصريحة في حرمة البنت التي

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 332.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 576

تولدت بعد طلاق الام، امكن الإشكال فيه. و الحاصل، عدم حرمة الكبيرة الثانية مطابق للقاعدة، لعدم شمول عنوان أمّ الزوجة لها.

و لذا اختار في الجواهر، الحلّية لعدم صدق أمّ الزوجة علي المرضعة الثانية، و جعل خبر علي بن

مهزيار مؤيدا له بناء علي تضعيف سنده، و ما أفاده حق لا ريب فيه.

4- قد مرّ أنّ في المسالة صور ثلاثة: إحداها، كون ارضاع المرضعة الاولي بلبن فحلها؛ و ثانيها، بلبن زوجها السابق مع الدخول بالزوج الثاني؛ و ثالثها، ارضاعها بلبن السابق مع عدم الدخول؛ فتحرمان أي الكبيرة الأولي و الصغيرة في الأولين، و تحرم الكبيرة فقط في الصورة الثالثة.

هذا، و لكن لا شك في بطلان نكاحهما علي كل حال، لأنّ الصغيرة تكون بنتا للكبيرة علي كل حال، و لا يجوز الجمع بين الام و البنت لزوج واحد؛ فلا بدّ من بطلان واحد منهما، و حيث لا ترجيح ينفسخ نكاحهما معا و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 577

تنبيه: إذا كان أخوان في بيت واحد مثلا، و كانت زوجة كل منهما أجنبية عن الآخر، و أرادا أن تصير زوجة كل منهما من محارم الآخر حتي يحل له النظر إليها، يمكن لهما الاحتيال بأن يتزوج كل منهما بصبية و ترضع زوجة كل منهما زوجة الآخر رضاعا كاملا، فتصير زوجة كل منهما أمّا لزوجة الاخر فتصير من محارمه و حل نظره إليها، و بطل نكاح كلتا الصبيتين لصيرورة كل منهما بالرضاع بنت أخي زوجها.

احتيال لإيجاد المحرمية

اشارة

أقول: هذه المسألة كما ذكرنا من ثمرات المسالة السابقة لأنّه كثيرا ما يسكن الأخوان في بيت واحد فيشكل عليهما الآخر من جهة كون زوجة كل منهما غير محرم للآخر، و يلزم عليهما عند حضور الزوجين في البيت أن تحتجب زوجة كل منهما بحجاب كامل، و ذلك أمر صعب جدا؛ و هناك طريق سهل جدّا لتكون زوجة كل واحد منهما محرما علي الآخر، و هو يبتني علي المسألة السابقة و هي مسألة

ارضاع الزوجة الكبيرة للزوجة الصغيرة فتكون الكبيرة أمّ الزوجة فتكون محرما، و ذلك بأن يتزوج كل من الأخوين بنتا رضيعا من عرض الناس من أي شخص كان، باذن وليها، فاذا صارت زوجته يطلب من زوجة أخيه أن ترضع زوجته الصغيرة رضاعا كاملا، فتصير أمّا لزوجته فيكون محرما، و في نفس الحال تحرم الصغيرة عليه و يبطل نكاحها لأنّها صارت بنت أخيه من الرضاع فتدخل في عمومات «و بنات الأخ» و لكن بعد بطلان نكاح الصغيرة و انفساخه تبقي محرمية أمّ الزوجة بحالها كما هو واضح، بل تكون الصغيرة من محارم جميع هذه الاخوة و آبائهم.

و لكن شرطنا في ذلك في رسالتنا العمليّة (المسألة 2132)، شرطين:

أحدهما: أن يكون هذا العقد ذات مصلحة للصغيرة، و لا يبعد إذا كان فيها منفعة له من مهر أو غيره.

ثانيهما: أن تكون المدّة طويلة تقرب من زمن بلوغها، لتكون قابلة لبعض

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 578

الاستمتاعات (و لو كان النظر بقصد اللذّة)، و إن كان يعلم بأنّ عقدها سوف ينفسخ بعد الرضاع؛ و ذلك لما ذكر في محلّه من أن نكاح الصغيرة كالرضيع و شبهها لمدّة قصيرة، مشكل جدّا لأنّه أمر غير معهود عند العقلاء و لا يرون مثل الإنشاء أمرا جديا.

إن قلت: ايّ مانع لشمول العمومات له بعد ترتب بعض الآثار الشرعية علي هذا النكاح.

قلت: ترتب الأثر إنّما هو فرع صحة الزوجية، و قد عرفت أنّها في نفسها أمر غير معقول عند العقلاء، فتنصرف عنه الاطلاقات؛ فاذا كان أصل النكاح فاسدا لا تصل النوبة إلي الآثار. و التمتعات الجنسية بالصغيرة الرضيعة تعد أمرا قبيحا جدّا.

*** بقي هنا امور:

الأوّل: ان هذا الاحتيال و إن كان متينا بحسب قواعد الفقه، و لكن

الأولي تركه لما فيه من المفاسد في كثير من الاوقات، فان الشيطان عدوّ مضل مبين، و المحرميّة قد تكون سببا لاقتراب بعضهم ببعض، فيوجب وسوسة الشيطان، و المفروض أنّ كل واحدة منهما شابّة مثل الآخر؛ و هذا بخلاف أمّ الزوجة النسبية، فانّها غالبا تكون في سنّ أمّ الانسان، فالاجتناب عنه اولي، إلّا أن يكونان مطمئنين علي أنفسهما.

الثاني: قد ذكر الإمام (قدّس سره) في المتن، هذا القيد في صدر المسألة: و كانت زوجة كل منهما أجنبية عن الآخر؛ و هل يمكن أن تكون زوجة أحدهما محرما علي الآخر؟ فلو كان محرما له كانت محرما لأخيه أيضا فكيف تزوج بها.

و الجواب عنه، أنّ هذا الفرض ممكن إذا كانا أخوين من جانب الأب، و كان زوجة الأخ الثاني أختا للأخ الأول من ناحية الام، فهي محرم للأخ الأوّل و غير محرم للأخ الثاني إلّا من طريق النكاح؛ فتدبّر جيدا.

الثالث: لقائل أن يقول أنّ هذه الحيلة باطلة من أصلها، لما مر من أنّ امومة الزوجة في النسب، دائما تكون قبل النكاح، و لا تتصور امومة الزوجة النسبية المتجددة بعد النكاح،

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 579

لأنّ الامومة لا تكون إلّا مرّة واحدة و هي حين التولد، فكيف تكون بعد التولد و نكاح البنت؛ فلا يحرم مثله من الرضاع.

اللّهم إلّا أن يقال إن المراد من المماثلة ليست المماثلة من جميع الجهات، بل المراد المماثلة في العنوان، مثل عنوان أمّ الزوجة في المقام، و هذا ليس ببعيد، فتصح الثمرة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 580

[تنبيه]

[المسألة 1: إذا أرضعت امرأة ولد بنتها، و بعبارة أخري أرضعت الولد جدته]
اشارة

المسألة 1: إذا أرضعت امرأة ولد بنتها، و بعبارة اخري أرضعت الولد جدته من طرف الام، حرمت بنتها أمّ الولد علي زوجها و بطل

نكاحها، سواء أرضعته بلبن أبي البنت أو بلبن غيره، و ذلك لأنّ زوج البنت أب للمرتضع، و زوجته بنت للمرضعة جدة الولد، و قد مرّ أنّه يحرم علي أبي المرتضع نكاح أولاد المرضعة؛ فإذا منع منه سابقا، أبطله لاحقا.

و كذا إذا أرضعت زوجة أبي البنت من لبنه، ولد البنت، بطل نكاح البنت؛ لما مرّ من أنّه يحرم نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن.

و أمّا الجدّة من طرف الأب، إذا أرضعت ولد ابنها فلا يترتب عليه شي ء.

كما أنّه لو كان رضاع الجدّة من طرف الام، ولد بنتها بعد وفاة بنتها أو طلاقها أو وفات زوجها، لم يترتب عليه شي ء، فلا مانع منه و أن يترتب عليه حرمة نكاح المطلقة و اختها و كذا اخت المتوفاة.

إذا أرضعت امرأة ولد بنتها

أقول: هذه المسألة ليست مسألة جديدة، بل هي نتيجة ما مرّ في المسألة 12، من أنّه لا ينكح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن، و لكن كرره قدّس سرّه لفروع تترتب عليها و في الواقع هذه المسالة تتركب من خمسة فروع:

1- لا فرق في مسألة حرمة نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن، بين كون الرضاع سابقا علي التزويج أو لاحقا، فلو أرضعت الجدّة أولاد بنتها، (سواء كان ذكرا أو انثي)، حرمت بنتها في بيت زوجها، لأنّ الزوج و هو أبو المرتضع لا يجوز له نكاح أولاد صاحب اللبن و منها زوجته؛ و قد مرّ أنّها بمنزلة بنته، و عمدة الدليل عليه رواية ابن مهزيار.

هذا، و لكن قد ناقشنا في هذه المسألة، و أنّه لا دليل علي حرمته وفاقا لغير واحد من أكابر الأصحاب، فالحكم بالحرمة و أبطال النكاح مشكل جدا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 581

2- لا فرق

بين أن يكون لبن الجدّة، لبن ابي البنت، أو من لبن زوج آخر؛ كما إذا مات أبو البنت و تزوجت الجدة بزوج آخر و أرضعت من لبن زوجها الجديد ولد بنتها، و حينئذ تحرم البنت علي زوجها، لما عرفت من حرمة أولاد المرضعة نسبا أيضا علي أبي المرتضع علي المشهور.

و قد ناقشنا في ذلك أيضا، فلا تحرم علي المختار.

3- و لا فرق أيضا بين أن تكون المرضعة، أمّ هذا البنت أو زوجة أبيها، فانّ أب المرتضع لا يجوز له نكاح أولاد صاحب اللبن من أيّة زوجة كانت؛ لعموم الدليل علي قول المشهور؛ و قد ناقشنا في ذلك أيضا.

4- لا أثر لإرضاع الجدّة من ناحية الأب، أولاد ابنها؛ لأنّها لا تدخل في عموم لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن؛ فانّ أبا المرتضع و هو الابن يكون بمنزلة الأخ لابنه، لأنّ كلا منهما شرب من لبن الجدّة، و لا يضرّ هذا بشي ء و لا ربط له بحلّيّة زوجته. و إن شئت قلت في مسألة الجدة من ناحية الام، تكون زوجته اخت ولده، فتكون بمنزلة بنته و هنا يكون نفس الزوج أخو ولده.

5- قد ينتفي الموضوع، فينتفي الحكم بانتفاء الموضوع، و هذا في ثلاث صور: طلاق الزوجة (أي البنت) أو موتها أو وفاة زوجها، فانّه لا يبقي موضوع لحرمة البنت في بيت زوجها لعدم الزوج أو الزوجة؛ هذا كله علي مختار المشهور.

نعم، تبقي آثاره بالنسبة إليها بعد الطلاق، إذا أراد التزويج من جديد، أو بالنسبة الي اختها، لعدم جواز نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن مطلقا، هذه المرأة أو اختها؛ و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 582

[المسألة 2: لو زوّج ابنه الصغير بابنة أخيه الصغيرة، ثم أرضعت جدتهما]
اشارة

المسألة 2: لو زوّج ابنه

الصغير بابنة أخيه الصغيرة، ثم أرضعت جدتهما من طرف الأب أو الام أحدهما، و ذلك فيما إذا تزوج الأخوان الاختين، انفسخ نكاحهما؛ لأنّ المرتضع إن كان هو الذكر، فان أرضعته جدته من طرف الأب، صار عما لزوجته؛ و إن ارضعته جدته من طرف الام، صار خالا لزوجته؛ و إن كان هو الانثي، صار هي عمة لزوجها، علي الأول؛ و خالة له علي الثاني؛ فبطل النكاح علي أيّ حال.

لو زوج ابنه الصغير بابنة أخيه الصغيرة

أقول: هذه المسألة في الواقع من فروع المسألة السابقة، و هي فرض نادر؛ و لكنها و أمثالها لتقوية الذهن و تشحيذها في مسائل المحرمات بالرضاع؛ و حاصلها: أنّه إذا كان هناك أخوان (مثلا الحسن و الحسين) فتزوجا اختين (مثلا فاطمة و زينب) و كل واحد منهما صار صاحب ولد، ثم تزوج ابن الحسن (الصغير) لابنة الحسين (الصغيرة) بولاية أبيهما، ثم أرضعت الجدة للأب الصغير و الصغيرة، سبطها، صار الصغير كالأخ للزوجين الكبيرين (و المفروض أنّهما أخوان)، فلا يجوز تزويجها بابنة أخيه (لأنّه عمّ لها)؛ و الصغيرة كالأخت للزوجين الكبيرين، فتكون بمنزلة العمة لزوجها الصغير؛ فلا يصح نكاحها، فينفسخ.

و أمّا إن أرضعت الجدة من طرف الامّ، فانّ كان المرتضع هو الصغير صار كالأخ للزوجتين الكبيرتين (المفروض أنّهما اختان)، فلا يجوز له التزويج بالصغيرة التي هي بنت اخته (فهو خالها)؛ و إن كان المرتضع هو الصغيرة تصير اختا للزوجتين، فلا يجوز نكاحها بابن أخيه (فانّه خالتها).

فعلي كل تقدير ينفسخ نكاح الصغيرين، و يحرمان حرمة أبدية، لدخول أحدهما تحت عنوان بنات الأخ و بنات الاخت.

إن قلت: إنّ نكاح أمّ المرتضع أيضا يبطل، لدخولها في مسألة لا ينكح أبو المرتضع في

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 583

أولاد صاحب اللبن؛ و

هنا من هذا القبيل، فلم لم يشر إليه المصنف.

قلت: نعم، الحكم كذلك، و عدم إشارة المصنف إليه لعله لعدم كونه في مقام البيان في هذه الجهة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 584

[المسألة 3: إذا حصل الرضاع الطاري المبطل للنكاح]
اشارة

المسألة 3: إذا حصل الرضاع الطاري المبطل للنكاح، فإمّا أن يبطل نكاح المرضعة بارضاعها، كما في ارضاع الزوجة الكبيرة لشخص زوجته الصغيرة بالنسبة إلي نكاحها.

و إمّا أن يبطل نكاح المرتضعة كالمثال بالنسبة إلي نكاح الصغيرة.

و إمّا أن يبطل نكاح غيرهما، كما في ارضاع الجدة من طرف الامّ ولد بنتها؛ و الظاهر بقاء استحقاق الزوجة للمهر في الجميع إلّا في الصورة الاولي في ما إذا كان الارضاع و انفساخ العقد قبل الدخول، فان فيها تاملا.

فالأحوط، التخلص بالصلح، بل الأحوط ذلك في جميع الصور، و إن كان الاستحقاق اقرب.

و هل تضمن المرضعة ما يغرمه الزوج من المهر قبل الدخول في ما إذا كان ارضاعها مبطلا لنكاح غيرها، قولان: أقواهما العدم، و الأحوط التصالح.

حكم المهر في نكاح يبطل بالرضاع

أقول: هذه المسألة من لوازم المسألة الرابعة عشرة، فيما إذا انفسخ النكاح لاحقا للعقد، و فيه فرعان: لأنّ الكلام تارة تكون من ناحية استحقاق المهر، و اخري من ناحية ضمان المرضعة.

[في المسألة فرعان]
1- الكلام من ناحية استحقاق المهر

فقد ذكر لها في المتن ثلاث صور:

تارة يبحث عن مهر الكبيرة المرضعة، و اخري عن مهر الصغيرة المرتضعة، و ثالثة عن مهر امرأة اخري خارجة عن دائرة الارضاع و الرضاع بطل نكاحها بسبب الرضاع، كما إذا بطل نكاح البنت بسبب ارضاع الجدّة لولد بنتها.

و قد حكم في المتن باستحقاق المهر في جميع الصور، إلّا في الصورة الاولي إذا كان

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 585

الرضاع و انفساخ العقد قبل الدخول، (بان كان اللبن حاصلا عن اهراق النطفة علي المحل من غير دخول).

الذي يظهر من الشرائع، أنّه إن انفردت المرتضعة بالارتضاع، مثل إن سعت إليها فامتصت ثديها من غير شعور المرضعة، سقط مهرها، لبطلان العقد الذي باعتباره يثبت المهر؛ بل صرّح في الجواهر: بأنّه لم يذكر أحد في المقام وجها لثبوت المهر؛ «1» و أن استظهر من عبارة التذكرة: أنّ السقوط أقوي؛ أنّها تؤذن باحتمال عدم السقوط. «2»

ثم قال في الشرائع: إذا تولت المرضعة لإرضاعها، فهو أيضا كذلك، و إن حكي في الجواهر عن المبسوط و جماعة، ثبوت نصف المهر للصغيرة. «3»

هذا، و نتكلم في المسالة تارة من ناحية القواعد، و اخري من ناحية بعض النصوص الواردة في أبواب العيوب يمكن الاستيناس منها لما نحن بصدده.

أمّا القواعد: فتوضيحها: أنّ بطلان عقد النكاح قد يكون بالطلاق، و اخري بالموت، و ثالثة بالفسخ؛ لا شك في وجوب تمام المهر بالطلاق بعد الدخول، و نصفه قبل الدخول، بالإجماع و صريح القرآن؛ و أمّا لو كان البطلان بموت

الزوج أو الزوجة، و كان بعد الدخول فيثبت الجميع، بل و كذا لو كان الموت قبل الدخول يجب الجميع، لأنّ الطلاق منصّف لا الموت؛ كما حققنا في محلّه من بحث المهور.

أمّا لو كان بطلان العقد، بسبب الفسخ أو الانفساخ، ففيه أقوال ثلاثة سقوط المهر و ثبوته و ثبوت نصفه كما عرفت.

قد يقال إنّ مقتضي القاعدة هو سقوط المهر، فانّ هذا هو معني الانفساخ و مفهومه في عرف العقلاء كما في المعاملات، فان الفسخ يوجب رجوع العوضين إلي محلهما، فالثمن بتمامه يرجع إلي المشتري، و المثمن إلي البائع؛ و في النكاح يرجع البضع إلي صاحبه الزوجة، فليس للزوج حق فيه، كما أنّ المهر يرجع إلي الزوج.

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 325.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 325.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 325.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 586

إن قلت: (كما في مهذب الاحكام) هذا في المعاملات المحضة، لا في مثل النكاح الذي هو برزخ بين المعاملات المحضة و غيرها. «1»

قلنا: نعم، ليس النكاح من المعاملات، شبه البيع و أمثاله، و إن أطلق في كثير من الروايات الواردة في النكاح، عنوان الاشتراء بأغلي الثمن و شبهه، و لكن نعلم كون هذا الاطلاق اطلاقا مجازيّا.

و لكن لا شك أنّه نوع معاوضة، كيف و قد أطلق الأجر علي المهر في آيات الذكر الحكيم في النكاح الموقت و الدائم، قال اللّه تعالي: … فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً … «2» هذا في المنقطع؛ قال تعالي: يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّٰا أَحْلَلْنٰا لَكَ أَزْوٰاجَكَ اللّٰاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ … «3» و هذا في الدائم؛ إلي غير ذلك من أشباهها، و ليس هذا اطلاقا مجازيا؛ و

ما ذكر من مفهوم الفسخ ليس أمرا تعبديا، بل هو مفهوم عرفي في جميع المعاوضات، فيجري في النكاح أيضا.

إن قلت: أ ليس الفسخ من حينه لا من حين العقد، فكيف يرجع كل من العوضين إلي صاحبه؛ و لذا يترتب عليه احكام المصاهرة و لو بعد الفسخ مثل عنوان أمّ الزوجة و شبهه.

قلت: نعم، و لكن مقتضي الفسخ و إن كان من الحين و لكن لا بدّ من رجوع كل من العوضين من حينه إلي صاحبه كما في المعاملات فلا فرق بينه و بين سائر المعاملات.

إن قلت: هل تلتزمون برجوع المهر حتي إذا دخل بها، بأن يقال: كل واحد من الزوج و الزوجة يجوز له الانتفاع بنماآت ما انتقل إليه، فكما أنّ الزوجة تنتفع بالمهر و نماءاته، فكذا الزوج.

قلنا: مقتضي القاعدة ذلك، و لكن الواجب عليه المهر هنا، للنصوص الدالة علي أنّ لها المهر بما استحل من فرجها، و هذه النصوص و إن وردت في أبواب الفسخ بالعيوب، و لكن من الواضح عدم الفرق.

______________________________

(1). المحقق السبزواري، في مهذب الاحكام 25/ 43.

(2). النساء، 4/ 24.

(3). الاحزاب/ 50.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 587

و إن شئت قلت: المهر في العقد الدائم إنّما هو مقابل مسمي النكاح، و ليس له مدّة معلومة كي يوزع عليها؛ (و لكن الالتزام بذلك في المهور الثقيلة الكثيرة المتداولة في عصرنا- و قد تبلغ عشرات ملايين أو أقل أو أكثر- بمجرد دخول مرّة و لو كانت المرأة ثيّبة، مشكل جدا) و الاولي القول بمهر المثل في أمثاله، فتأمل.

و الحاصل، أنّ مفهوم الفسخ عرفا ليس إلّا ذلك، كما أنّ معني الفساد الوارد في بعض الروايات مثل قوله عليه السّلام: فسد النكاح؛ في روايات محمد

بن مسلم و عبد اللّه بن سنان و الحلبي في ارضاع الجارية الصغيرة من ناحية الكبيرة. «1»

و أمّا النصوص: فهناك روايات خاصة وردت في أبواب العيوب، يمكن الاستدلال بها علي المقصود، أو يستأنس منها لذلك، منها:

1- ما رواه ابو عبيد، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: في رجل تزوج امرأة من وليها، فوجد بها عيبا بعد ما دخل بها- إلي أن قال: - و إن لم يكن دخل بها، فلا عدة عليها و لا مهر. «2»

و هذه الرواية و إن كان بعض أسنادها ضعيفة، و لكن الظاهر صحة بعضها الآخر، و هي و إن وردت في أبواب العيوب، و لكن الظاهر أنّ هذا الحكم من جهة انفساخ النكاح من باب الغاء الخصوصية، لا القياس.

2- ما رواه في قرب الاسناد، عن علي بن جعفر، عن أخيه، قال: سألته عن دلست نفسها لرجل و هي رتقاء. قال: يفرق بينهما و لا مهر لها. «3»

و يرد عليها مضافا إلي ضعف السند، أنّه وردت في باب تدليس المرأة، و من المعلوم أنّه لو كان المهر واجبا علي الزوج، يرجع بها إلي المدلس و هي الزوجة، فلا مهر لها.

3- و في باب أنّ العبد إذا تزوج حرّة و لم تعلم، كان لها الخيار في الفسخ، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن امرأة حرّة تزوجت مملوكا علي أنّه حرّ، فعلمت

______________________________

(1). الوسائل 14/ 302 و 303، الحديث 1 و 2، الباب 10 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الوسائل 14/ 596، الحديث 1، الباب 2 من أبواب العيوب.

(3). الوسائل 14/ 598، الحديث 8، الباب 2 من أبواب العيوب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 588

- إلي أن

قال: - فان كان دخل بها، فلها الصداق؛ و إن لم يكن دخل بها، فليس لها شي ء … «1»

و هناك روايات تدل علي أنّ لها المهر (في موارد الفسخ) بما استحل من فرجها، و مفهومها أنّه إن لم يدخل بها، فلا مهر لها. مثل:

4- ما رواه الحلبي (في الصحيح) في حديث، قال: إنّما يرد النكاح من البرص و الجذام و الجنون و العفل. قلت: أ رأيت إن كان قد دخل بها. كيف يصنع بمهرها؟ قال: المهر لها بما استحلّ من فرجها، و يغرم وليها الذي أنكحها، مثل ما ساق إليها. «2»

و هذه الرواية تدل بالمفهوم، علي أنّه لو لم يدخل بها فلا مهر لها؛ كما يدل علي أن استحلال الفرج ليس بمعني مجرد كونه حلالا عليه، بل المراد الانتفاع به بالدخول.

5- ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر، قال: في كتاب علي عليه السّلام، من زوّج امرأة فيها عيب قد دلّسه (و في التهذيب: قد دلسته، و هو الصحيح)، و لم يبين ذلك لزوجها، فانّه يكون لها الصداق بما استحل من فرجها؛ الحديث. «3»

6- و في ذيل رواية الحسن بن صالح، الواردة في هذا الباب بعينه: و لها ما أخذت منه بما استحل من فرجها. «4»

7- و في رواية اخري صحيحة، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام … و كان الصداق الذي أخذت لها، لا سبيل عليها فيه بما استحلّ من فرجها … «5»

8- و في حديث آخر، عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن رجل تزوج امرأة، فعلم بعد ما تزوجها أنّها كانت قد زنت- إلي أن قال: - و لها الصداق بما استحل من فرجها … «6»

______________________________

(1).

الوسائل 14/ 605، الحديث 1، الباب 11 من أبواب العيوب.

(2). الوسائل 14/ 597، الحديث 5، الباب 2 من أبواب العيوب.

(3). الوسائل 14/ 597، الحديث 7، الباب 2 من أبواب العيوب.

(4). الوسائل 14/ 599، الحديث 3، الباب 3 من أبواب العيوب.

(5). الوسائل 14/ 601، الحديث 1، الباب 6 من أبواب العيوب.

(6). الوسائل 14/ 601، الحديث 4، الباب 6 من أبواب العيوب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 589

إلي غير ذلك ممّا قد يعثر عليه المتتبع؛ و هذه الروايات المتضافرة الواردة في أبواب مختلفة، تدل علي عدم وجوب المهر علي فرض عدم الدخول في موارد الفسخ و الانفساخ.

و القول بأنّها وردت في خصوص الفسخ لا الانفساخ، و في أبواب العيوب لا فيما نحن بصدده من الرضاع، مدفوع بأن الظاهر عدم الفرق بين هذه الامور في نظر العرف؛ و بعبارة اخري، يمكن إلغاء الخصوصية قطعا عن هذه الامور، و العرف يري ذلك من آثار طبيعة الفسخ، لا سيّما أنّ بعض موارد الروايات من قبيل تخلف الشرط، لا من قبيل العيوب، كمن تزوج رجلا علي أنّه حرّ فبان كونه عبدا.

و أمّا القائلون بوجوب المهر، فقد استدل لهم بأنّ المهر يجب بالعقد، و لا دليل علي سقوطه بالفسخ، فيستصحب؛ و فيه مضافا إلي ما ذكرنا في محله من عدم حجيّة الاستصحاب في الأحكام، أنّ الدليل هنا قائم، و هو ما عرفت من اقتضاء طبيعة الفسخ، و من دلالة روايات أبواب العيوب و الشروط.

و قد يقال بوجوب نصف المهر قبل الدخول قياسا علي الطلاق؛ و فيه، أنّه قياس لا نقول به.

2- الكلام من ناحية ضمان المهر

و هو ضمان المهر (علي فرض القول به) للزوج إذا كان سبب الانفساخ، الكبيرة، أو الجدّة من ناحية الامّ، أو

غير ذلك؛ فقد اختلفت فيه الآراء، فقال بعض بضمان المفوّت؛ و قال بعضهم بعدم الضمان؛ و احتمل بعضهم التفصيل بين ما إذا كانت قاصدة عامدة للفسخ، و بين ما إذا لم يكن كذلك.

و المسألة مبنية علي كون البضع من الأموال أم لا؛ و قد صرّح في الجواهر بعدم كونه من الأموال، ضرورة عدم صدق الماليّة عليه؛ و ربّما يشهد لذلك امور:

منها، ان وطي الشبهة لزوجة الغير، لا يوجب شيئا عليه للزوج.

و منها، أنّ الزنا أيضا ليس كذلك، و لا يعد من حقوق الناس، بل يعد من حقوق اللّه، فلا

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 590

يجب الاستحلال من الزوج، كما قد يتوهمه بعض العوام.

و منها، انه لو قتلت الزوجة نفسها، لا يحكم بإخراج المهر عن أموالها.

و لكن الانصاف، أنّ مالية البضع و إن كانت غير ثابتة و لكن يمكن الرجوع إلي أدلة نفي الضرر في المقام، فاذا تزوج الرجل بمهر كثير غال، فعمدت الزوجة الكبيرة لإبطال النكاح و ارضعت زوجته الصغيرة، أو عمدت الجدّة من ناحية الام، لذلك، فلا شك في أنّه اورد ضررا عظيما و خسارة كبيرة علي الزوج، فيمكن التوسل بأدلة لا ضرر لرفعها؛ و قد ذكرنا في محله أنّ أدلة لا ضرر سبب لرفع الحكم و وضعه. و من هنا يعلم عدم الفرق بين التعمد و غيره، فان ايقاع الضرر علي الغير علي كل حال حاصل، و اللازم جبرانه؛ و هذا شبيه الاتلاف الذي يكون سببا للضمان، عمدا كان أو غفلة و سهوا؛ و لا أقل من وجوب الاحتياط في المسالة.

و الحاصل انّ الالتزام بكون البضع من الأموال، حتي يكون اتلافها أو اتلاف منافعها سببا للضمان، مشكل جدا؛ لعدم إجراء آثار المال

عليه في النصوص و الفتاوي؛ و لكن لا ينبغي الشك في دخول محل الكلام تحت عنوان ضرر، و شمول قاعدة لا ضرر له.

و من هنا يعلم أنّه لا فرق بين العمد و غيره، لمساواتها في أبحاث الضمان و الضرر؛ فلو أورد انسان ضررا علي آخر، و لو كان سهوا و لم يدخل تحت عنوان اتلاف المال، فلا شك في وجوب جبرانه لو أمكن؛ و الظاهر أنّ سبب الفتوي بعدم وجوب تدارك الخسارة، خلط قاعدة لا ضرر بقاعدة الاتلاف المختصة بباب الأموال.

*** بقي هنا امور:
الأوّل: لو انفردت المرتضعة بالارتضاع

مثل ما إذا سعت إلي الكبيرة من غير شعور منها، هل يسقط مهرها- علي القول بثبوت المهر ذاتا لأنها تسببت إلي الضرر بزوجها- أم لا، لعدم أسناد إيراد الضرر إليه، فهي كمتلف سماوي لا تدخل تحت قاعدة لا ضرر؟ فيه وجهان، و لعل الثاني أقوي؛ و مثله ما

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 591

إذا تسبب المرتضعة لإتلاف مال مع عدم التسبيب من ناحية غيره، فهل يؤخذ العوض من أموالها لو كان لها مال؛ لا يبعد خروجها عن شمول ادلة لا ضرر، اللّهم إلّا أن يقال هي و النائم سواء في عدم الشعور، مع أنّ النائم ضامن لما يتلفه، فليكن الرضيع و الرضيعة أيضا كذلك، فتأمل.

الثاني: لو كان الرضاع بفعل الصغيرة

و لكن الكبيرة علمت بذلك و لم يمنعها، فقد ذكروا للضمان وجهين: من أن الكبيرة لم تباشر الاتلاف، و مجرد قدرتها علي منعها لا يوجب الضمان، كما إذا لم يمنعها من مباشرة اتلاف مال الغير.

و من أنّ تمكينها، بمنزلة المباشرة؛ بل عن المسالك أنّ ظاهر الأصحاب القطع بذلك.

و الانصاف أنّ الثاني أقوي، لشهادة العرف و العقلاء في هذه الأبواب بإسناد الفعل إلي العاقل الكبير، بل الظاهر أنّ الحكم في اتلاف الأموال بسبب الصغير أيضا كذلك.

و اختار في المسالك ضمان كليهما، لأنّ كل واحدة منهما سبب للفعل في الجملة، فالضمان عليهما. و هو أيضا ضعيف، لدخول المقام في باب قوة المباشر علي سبب، و أسناد الفعل إلي الكبيرة دون الصغيرة.

الثالث: إذا كانت الكبيرة متولية للرضاع

و لكن كان ذلك بسبب ضرورة و حاجة شديدة، كتوقف حياتها علي هذا الرضاع، فقد ذكر فيها أيضا وجهين: القول بعدم الضمان، لأنّها عملت بحكم الشرع المقدس، و هي محسنة، و ما علي المحسنين من سبيل؛

و من أنّ الوجوب، لا يمنع الضمان، كما في ضمان الطبيب إذا اخطأ، مع أنّه قد يكون الطبابة عليه واجبا و داخلا تحت عنوان الاحسان.

هذا، و لا يبعد انصراف أدلة الاتلاف و الضرر من محل الكلام، و كيف يمكن القول بأنّ الشارع أوجب عليها الارضاع، و أوجب عليها الخسارة أيضا بعد الارضاع؛ حتي أنّ

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 592

الطبيب لو عالج المريض لا بعنوان أخذ الاجرة بل بعنوان واجب شرعي عيني أو كفائي عليه، قاصدا وجه اللّه، فاخطأ من دون تقصير، يشكل القول بضمانه؛ و ما ورد من ضمان الطبيب إذا لم يأخذ البراءة منصرف عن هذا المصداق؛ و قياس ما نحن فيه علي وجوب الأكل في المخمصة حفظا

للنفس، و لو من مال الغير مع القطع بأنّه ضامن، قياس مع الفارق، فانّ الحنطة مثلا تباع بالمال و لو في غير المخمصة و ليست شيئا مجانيا، و لا يدخل تحت عنوان قاعدة الإحسان التي تكون ثابتا من الشرع و العقل.

الرابع: لو كانت الكبيرة مكرهة

فقد يقال بسقوط الضمان في أبواب الأموال، بالاكراه، و يكون الضمان علي المكره، لأنّ السبب هنا أقوي من المباشر.

و لكن الانصاف أنّه فرق بين الاجبار و الاكراه، فان الفعل عند الاجبار لا يستند إلي المباشر، و إنّما يستند إلي السبب، و لكن في الاكراه يستند إلي المباشر لا إلي السبب، فانّ المكره يفعل الفعل بإرادته و اختياره لأقلّ الضررين، الفعل و ضرر ايقاع المتوعد عليه به، و أنّ ارتكاب الحرام بعد الاكراه قد يكون جائزا في الشرع من باب الامتنان علي الامة؛ و الشاهد علي ما ذكرنا ما ذكروه في أبواب القتل، من أنّه لو اكره إنسان علي القتل، فلا يجوز له قتل محقون الدم، و إن أوعده المكره بالقتل، و أنّ قتل فعليه القصاص؛ و علي المكره الآمر، الحبس الأبد؛ أمّا لو أجبره بحيث سلب عنه الاختيار، فالقصاص علي المجبر.

و يشهد له أيضا ما ذكروه في أبواب الصيام: فلو اكره علي الإفطار، فافطر مباشرة فرارا عن الضرر المترتب علي تركه، بطل صومه علي الأقوي؛ نعم، لو وجر في حلقه من غير مباشرة منه، لم يبطل. «1»

فقد ذكروا الاكراه من أقسام العمد الموجب للبطلان، و إن كان الاكراه يرفع حرمته.

نعم، الاكراه في المعاملات يوجب البطلان، لأن الملاك فيه الرضا الباطني المفقود عند الاكراه.

______________________________

(1). السيد الطباطبائي اليزدي، في العروة الوثقي 3/ 583. الفصل الثاني من كتاب الصوم.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 593

و الحاصل

أنّ الكبيرة ضامن عند الاجبار، و لكن يجوز لها الرجوع إلي المكره لقاعدة لا ضرر، كما هو واضح.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 594

[المسألة 4: (المعروف بمسألة عموم المنزلة)]
اشارة

المسألة 4: (المعروف بمسألة عموم المنزلة)

قد سبق أنّ العناوين المحرمة من جهة الولادة و النسب، سبعة: الامهات و البنات و الأخوات و العمات و الخالات و بنات الأخ و بنات الاخت؛ فان حصل بسبب الرضاع أحد هذه العناوين، كان محرما كالحاصل من الولادة؛ و قد عرفت فيما سبق كيفية حصولها بالرضاع مفصلا.

و أمّا لو لم يحصل بسببه أحد تلك العناوين السبعة، و لكن حصل عنوان خاص لو كان حاصلا بالولادة، لكان ملازما و متحدا مع أحد تلك العناوين السبعة؛ كما لو أرضعت امرأة، ولد بنتها فصارت أم ولد بنتها، و أم ولد البنت [ليست] من تلك السبع، و لكن لو كانت امومة ولد البنت بالولادة، كانت بنتا له و البنت من المحرمات السبعة؛ فهل مثل هذا الرضاع أيضا محرم فتكون مرضعة ولد البنت كالبنت أم لا؟ الحق هو الثاني، و قيل بالأول، و هذا هو الذي اشتهر في الألسنة بعموم المنزلة الذي ذهب إليه بعض الأجلة، و لنذكر لذلك أمثلة …

مسألة عموم المنزلة
تاريخ هذه المسألة

أقول: اللازم قبل ذكر الأمثلة، أن نبيّن تاريخ هذه المسألة المعروفة بعموم المنزلة التي اختلفت فيها الآراء (و إن كان المشهور عدم اعتباره)، فانّ تاريخ المسألة، بعض المسألة؛ و منه يلوح أضواء عليها؛ فنقول (و من اللّه نستمد التوفيق و الهداية): أول من نسب إليه هذا القول هو شيخنا الشهيد (قدس سره) كما يظهر من كلمات المحقق الثاني، حيث قال في رسالته المعروفة: قد اشتهر علي السنة الطلبة في هذا العصر، تحريم المرأة علي بعلها بارضاع بعض من سنذكره، و لا نعرف لهم في ذلك أصلا يرجعون إليه من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول لأحد المعتبرين … ثم قال: وجدناهم (أي طلبة

عصره) يزعمون أنّه من فتاوي شيخنا الشهيد، و نحن لأجل مباينة هذا الفتوي لأصول المذهب، استبعدنا كونها

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 595

مقالة لمثل شيخنا، علي غزارة علمه و ثقوب فهمه، لا سيما و لم نجد لهؤلاء المدعين لذلك أسنادا يتصل بشيخنا في هذه الفتوي. «1»

و يظهر من هذه العبارة، أنّ الأسناد إلي الشهيد غير ثابت، و أنّ أول من عنون هذه المسألة هو جماعة من الطلاب أو من العلماء المعاصرين للمحقق الثاني، سماهم طلّابا.

و من هنا يظهر أنّ اشتهار السيد المحقق الداماد بهذا الفتوي بعنوان أول من أفتي به، ليس بصحيح؛ فانّ السيد الداماد كان متأخرا عن المحقق الثاني، اسمه محمد باقر الأسترآبادي و سمي بالداماد لأنّ أباه كان صهرا للمحقق الثاني، سمّي ابنه بهذا الاسم أيضا؛ و قد ذكروا أنّه توفي سنة 1040 (و قيل 1041، و من الطرائف، أنّه قيل في مادة تاريخ وفاته، عروس علم دين را مرده داماد؛)، و الحال أنّ المحقق الثاني توفي سنة 940 (أو 937) فيكون بين وفاتهما مأئة سنة و علي كل حال قد ألّف المحقق الداماد في رسالته المعروفة بضوابط الرضاع في تأييد مسألة عموم المنزلة علي خلاف جدّه، و قد طبعت طبعا حجريا مع رسائل ثمانية اخري، و سميت برسائل تسع، أربعة منها في مسألة الرضاع، و خمسة منها في مسائل الخراج.

أمّا الرضاعيات الأربعة، فهي:

1- ضوابط الرضاع للمحقق الداماد، (قدس سره).

2- رسالة رضاعية للمحقق الثاني، الشيخ علي الكركي (قدس سره).

3- رسالة وجيزة للعلامة المجلسي (قدس سره) بالفارسية.

4- رسالة رضاعية للشيخ ابراهيم القطيفي معاصر المحقق الثاني (قدس سرهما)، ناقش فيها رسالة المحقق الثاني.

و الرسائل الخراجية الخمس:

1- قاطعة اللجاج في حلّ الخراج، للمحقق الثاني.

2- رسالة

السراج الوهاج (في جوابه) للقطيفي.

______________________________

(1). المحقق الكركي، في رسائل الكركي 1/ 213.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 596

3 و 4- رسالتان للمحقق الأردبيلي.

5- رسالة خراجية اخري للشيخ ماجد.

و من جميع ما ذكرنا ظهر لك أنّ مسألة عموم المنزلة، لم تكن من المسائل المعنونة في لسان قدماء الاصحاب، بل و لا من كان بعدهم، حتي القرن العاشر و زمن المحقق الثاني، و ليكن هذا علي ذكر منك.

امثلة عموم المنزلة

إذا عرفت هذا، فلنرجع إلي أصل المسألة، و نتكلم في الأمثلة التي ذكروا لها؛ فقد ذكر المحقق الثاني لها أمثلة كثيرة يعبر عنها بالمسائل الثلاثة عشر، و لكنه قدس سره صرّح في كلامه بان: المسائل المتصورة في هذا الباب كثيرة لا تكاد تنحصر، و الذي سنح لنا ذكره الآن خارجا عن المسائل الثلاث المشار إليها، صور؛ (و مقصوده عن المسائل الثلاث هي ما ورد في كلمات الأصحاب، و سنشير إليها إن شاء اللّه)، ثم ذكر المسائل الثلاثة عشر، و اختار في التحرير ثمانية منها بادغام بعضها في البعض؛ فقال:

… أحدها: زوجتك أرضعت بلبنك أخاها، فصار ولدك، و زوجتك اخت له، فهل تحرم عليك من جهة أنّ اخت ولدك إما بنتك أو ربيبتك و هما محرمتان عليك، و زوجتك بمنزلتها، أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم، و من قال بالعدم، يقول: لا.

ثانيها: زوجتك أرضعت بلبنك ابن أخيها، فصار ولدك، و هي عمته، و عمة ولدك حرام عليك لأنّها اختك؛ فهل تحرم من الرضاع أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم، و من قال بالعدم، يقول: لا.

ثالثها: زوجتك أرضعت عمها أو عمتها أو خالها أو خالتها، فصارت امّهم، و أمّ عمّ و أمّ عمّة زوجتك حرام عليه،

حيث إنّها جدتها من الأب، و كذا أمّ خال أو أمّ خالة زوجتك حرام عليك، حيث إنّها جدتها من الأم، فهل تحرم عليك من جهة الرضاع أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم؛ و من قال بالعدم، يقول: لا.

رابعها: زوجتك أرضعت بلبنك ولد عمها أو ولد خالها، فصرت أبا ابن عمها أو أبا ابن

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 597

خالها، و هي تحرم علي أبي ابن عمها و أبي ابن خالها، لكونهما عمها و خالها، فهل تحرم عليك من جهة الرضاع أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم؛ و من قال بالعدم، يقول: لا.

خامسها: امرأة أرضعت أخاك أو اختك لأبويك، فصارت أمّا لهما، و هي محرمة في النسب لأنّها أمّ لك، فهل تحرم عليك من جهة الرضاع و يبطل نكاح المرضعة إن كانت زوجتك أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة يقول: نعم، و من قال بالعدم، يقول: لا.

سادسها: امرأة أرضعت ولد بنتك، فصارت أمّا له، فهل تحرم عليك لكونها بمنزلة بنتك، و إن كانت المرضعة زوجتك بطل نكاحها أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول:

نعم؛ و من قال بالعدم، يقول: لا.

سابعها: امرأة أرضعت ولد أختك، فصارت أمّا له، فهل تحرم عليك من جهة أن أمّ ولد الأخت حرام عليك، لأنّها أختك، و إن كانت المرضعة زوجتك بطل نكاحها أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم، و من قال بالعدم، يقول: لا.

ثامنها: امرأة أرضعت عمك أو عمتك أو خالك أو خالتك، فصارت أمّهم، و أمّ عمك و عمتك نسبا تحرم عليك، لأنّها جدتك من طرف أبيك، و كذا أمّ خالك و خالتك، لأنّها جدتك من طرف الأمّ، فهل تحرم عليك بسبب الرضاع؛

و إن كانت المرضعة زوجتك بطل نكاحها أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم؛ و من قال بالعدم، يقول: لا.

أقول: في الواقع هذه الأمثلة الثمانية مأخوذة عن الأمثلة الثلاثة عشر التي ذكرها المحقق الثاني (قدس سره) بعد إدغام بعضها في بعض، و هي علي قسمين:

قسم منها ما يكون فيه ارضاع الزوجة لبعض أرحامها، و هو الأربعة الاولي:

ففي الأول، أرضعت أخاها.

و في الثاني، أرضعت ابن أخيها.

و في الثالث، أرضعت عمها أو عمتها، و خالها أو خالتها.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 598

و في الرابع، أرضعت ابن عمها، أو ابن خالها.

و في القسم الثاني أرضعت بعض أرحام الزوج، و هي أيضا أربعة:

في الأول، أرضعت أخاه.

في الثاني، أرضعت ابن بنته.

في الثالث، أرضعت ابن اخته.

و في الرابع، أرضعت عمّ الزوج أو عمته أو خاله أو خالته.

و هذه ثمان صور.

و في الأول، تكون المرأة بحكم بنت أو ربيبة الرجل، (لأنّها صارت اخت ابن الرجل).

و في الثاني، تكون المرأة بحكم اخت الرجل، (لأنّها صارت عمة ابنك، و عمة الابن تكون اختا).

و في الثالث، تكون المرأة بحكم جدة الرجل، (لأنّها صارت أمّ عمها أو أمّ عمتها).

و في الرابع، تكون المرأة بحكم بنت أخ الرجل، (لأنّها صارت أمّ ابن عمها فتكون الرجل بمنزلة عمها، و لا يجوز للعم أن ينكح ابنة أخيها و هكذا).

و في الخامس، تكون المرأة أمّ أخ الزوج، و هي بمنزلة امه نفسه.

و في السادس، تكون المرأة بمنزلة بنته.

و في السابع، تكون المرأة بمنزلة اخته.

و في الثامن، تكون المرأة بمنزلة عمته؛ و كل ذلك في النسب حرام.

أدلّة النافين لعموم المنزلة

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّه قد استدل المحقق الثاني للقول بنفي عموم المنزلة، بامور سبعة:

1- اصاله البراءة الأصلية، فانّ التحريم حكم

شرعي يحتاج إلي دليل.

2- الاحتياط في الفروج، و لا ريب إن حلّ المراة المذكور لغير زوجها بمجرّد الرضاع المذكور، قول يجانب الاحتياط.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 599

3- الاستصحاب- و جعله من وجوه مختلفة.

4- التمسك بعموم قوله تعالي: وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰاميٰ مِنْكُمْ وَ الصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ …؛ «1» و كذا قوله تعالي: … فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ … «2»

5- قوله تعالي: … وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ …، «3» لأنّه يشمل المقام و أشباهه.

6- الإجماع، فانّ الفقهاء ممن نقلت أقوالهم إلينا، اشتهرت في مصنفاتهم عدد المحرمات في النكاح، و لم يعد أحد منهم شيئا من المتنازع فيه. (و نضيف إلي ما ذكره، أنّهم حكموا بفراق المرأة من زوجها إذا أرضعت امّها ولدها، و لو كان الفراق حاصلا في المذكورات مع شدة الابتلاء بها، لورد في شي ء من مصنفاتهم. نعم، نسب ذلك إلي شيخنا الشهيد (قدس سره)، و لكن لم نجده في مصنف منسوب إليه.

7- انتفاء المقتضي للتحريم، في المسائل المذكورة.

ثم شرع في شرح كل واحد واحد من المسائل الثلاثة عشر، (راجع رسالته المعمولة في الرضاع).

و الحق أنّ بعض دلائله قابل للمناقشة، و العمدة من بينها هو العمومات الدالة علي الحلّية من الكتاب و السنة، و عدم ثبوت تخصيصها بهذه الموارد.

أدلّة القائلين بعموم المنزلة

و استدل للقائلين بعموم المنزلة بأمرين:

أحدهما: عموم قوله صلّي اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ هذه العناوين الموجودة في الامثلة المذكورة، إذا حصلت في النسب، كان ملازما لأحد العناوين السبعة المحرمة، فاللازم الحكم بحرمتها.

و الجواب عنه ظاهر، فانّ ظاهر قوله صلّي اللّه عليه و آله: ما يحرم من النسب؛ هو العناوين المذكورة

______________________________

(1). النور/

32.

(2). النساء/ 3.

(3). النساء/ 24.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 600

في قوله تعالي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ وَ … لا غير، و أمّا العناوين الملازمة فهي غير داخلة تحتها؛ و إن شئت قلت: أنّها منصرفة عن العناوين الملازمة؛ و لو فرض الشك في شمولها، كفي في نفي الشمول.

ثانيهما: روايات وردت في باب أنّه لا يجوز أن ينكح ابو المرتضع في أولاد صاحب اللبن، يمكن التمسك بها للمقصود، و إن لم ترد في هذا المقام؛ منها:

1- ما عن علي بن مهزيار، قال: سأل عيسي بن جعفر بن عيسي، أبا جعفر الثاني عليه السّلام، أنّ امرأة أرضعت لي صبيا، فهل يحل لي أن أتزوج ابنة زوجها. فقال لي: ما أجود ما سألت، من هاهنا يؤتي أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل، هذا هو لبن الفحل لا غير. فقلت له: الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي، هي ابنة غيرها؛ فقال: لو كن عشرا متفرقات ما حلّ لك شي ء منهن و كن في موضع بناتك. «1»

و الوجه في الاستدلال به، أن قوله عليه السّلام: لو كان عشرا متفرقات ما حلّ لك شي ء منهن و كن في موضع بناتك؛ دليل علي عموم المنزلة، لأنّ المفروض أنّ بنات الفحل أخوات لابن أبي المرتضع و لسن بناته إلّا من باب التنزيل، بأن يقال اخت ولد الإنسان بنته؛ و يمكن التعدي إلي سائر الأمثلة من باب عموم التعليل، بأن يقال إن المستفاد منه أنّ كل عنوان ملازم لبعض العناوين السبع فهو بمنزلته.

و إن شئت قلت: من باب الغاء الخصوصية عن مورد التعليل، و هناك نكتة ظريفة، و هي أنّه صلّي اللّه عليه و آله

قال: يحرم من الرضاع، ما يحرم من النسب؛ و لم يقل، من يحرم من النسب.

فلو قال من؛ أمكن القول بأنّ جميع من يحرمون من ناحية النسب و لو بالعناوين الملازم (و إن كان ذلك أيضا قابلا للمناقشة و القول بالانصراف)، و لكن قال: ما يحرم؛ و لا ينبغي الريب أنّه إشارة إلي العناوين المخصوصة.

فما عسي قد يستفاد من كلام الجواهر، أنّه قياس محرم بل أسوأ حالا من القياس، لأنّ القياس عبارة عن مقايسة حال جزئي إلي جزئي آخر، و هنا يقاس حال كلي علي جزئي؛

______________________________

(1). الوسائل 14/ 296، الحديث 10، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 601

قابل للمناقشة، لأنّ هذا هو إلغاء الخصوصية العرفية القطعية، لأنّ الإمام في مقام التعليل، فإنّه لا يمكن أن يقال لعنوان البنت خصوصية من بين العناوين السبعة، فلو حصل ما يلازمه كان حراما و لكن لو حصل ما يلازم سائر العناوين السبعة ليس محرما، فانّه غريب جدا؛ فلا يجوز غضّ النظر عن دلالة الحديث بأمثال هذه الاشكالات.

فالانصاف؛ لو صح سند الحديث و دلالته و لم يرد عليه شي ء ممّا أسلفناه سابقا، لكان القول بعموم المنزلة مقبولا بسبب هذه الرواية؛ أمّا نحن لمّا ناقشنا في سنده و لم نفت بمضمونها كنّا في سعة من ذلك.

و إن شئت قلت: هناك علقة ظاهرة بين المسألتين، مسألة عدم جواز نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن، و مسألة عموم المنزلة، فكيف حكم المشهور بالحرمة هناك و حكموا بخلافه هنا، مع أنّ الدليل الدال عليه بظاهره عام يشمل الجميع؛ و أمّا نحن حيث لم نقبل القول المشهور في تلك المسألة، ففي فصحة في محل البحث.

2- و أظهر من

ذلك، ما رواه أيوب بن نوح، قال: كتب علي بن شعيب إلي أبي الحسن عليه السّلام امرأة ارضعت بعض ولدي، هل يجوز لي ان أتزوج بعض ولدها؟ فكتب: لا يجوز ذلك لك، لأنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك. «1»

و تعبيره عليه السّلام: صارت بمنزلة ولدك؛ يشبه جدّا لما اشتهر بين أصحاب هذا القول، أعني عموم المنزلة، فكأنّهم أخذوه عنه.

و الاستدلال به كالاستدلال بالحديث السابق، و إن شئت قلت: هذا الحديث مشتمل علي صغري و كبري؛ أمّا صغراه، أنّه بمنزلة ولدك؛ و كبراه، و كل ما كان بمنزلة ولدك فهو محرم عليك؛ و من البعيد جدّا الجمود علي خصوص عنوان الولد و أيّ فرق بين عنوان الولد و غيره؛ و الانصاف إمكان إلغاء الخصوصية منه، اللّهم إلّا أن يقال اعراض الأصحاب عن هذا المعني يمنع قبوله.

و لكن نحن لما ناقشنا في سند هذه الرواية أيضا، و لم نقبل القول بالحرمة في موردها،

______________________________

(1). الوسائل 14/ 306، الحديث 1، الباب 16 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 602

ففي وسعة في هذا البحث.

3- ما رواه عبد اللّه بن جعفر، قال: كتبت إلي أبي محمد عليه السّلام، امرأة أرضعت ولد الرجل، هل يحل لذلك الرجل أن يتزوج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقع: لا تحل له. «1»

و لكن هذه الرواية رغم صحة سندها لا تشتمل علي تعليل حتي يؤخذ بالعموم من ناحية التعليل و إلغاء الخصوصية منها، فالاستدلال بها في المقام مشكل.

*** بقي هنا أمران:
1- أدلّة اخري لنفي عموم المنزلة

ان صاحب الجواهر، تمسك للقول بالعدم (نفي عموم المنزلة)، بامور اخري:

منها: أنّ العموم مخالف لصريح القرآن: إِنّٰا أَحْلَلْنٰا لَكَ أَزْوٰاجَكَ- إلي قوله- وَ بَنٰاتِ عَمِّكَ وَ بَنٰاتِ عَمّٰاتِكَ «2» فان حمزة كان أخا لرسول

اللّه صلّي اللّه عليه و آله من الرضاع، و لازمه كون أخوات حمزة اختا له صلّي اللّه عليه و آله، (بناء علي عموم المنزلة) فلا يجوز له صلّي اللّه عليه و آله نكاح بناتهن، مع تصريح الآية بالجواز.

و منها: ما رواه يونس بن يعقوب، في الموثق، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أرضعتني و أرضعت صبيا معي، و لذلك الصبي أخ من أبيه و امّه، فيحل لي أن أتزوج ابنته؟ قال: لا بأس. «3»

مع أنّ مقتضي عموم المنزلة، حرمتها عليه، لان ابنة أخي أخيه بمنزلة ابنة أخيه.

و منها: ما رواه اسحاق بن عمار، في الموثق، عن أبي عبد اللّه، في رجل تزوج اخت أخيه من الرضاع؟ فقال: ما أحبّ أن أتزوج اخت أخي من الرضاعة. «4»

بناء علي دلالتها علي الكراهة، و كون القيد، (أي من الرضاعة)، قيدا للأخت لا

______________________________

(1). الوسائل 14/ 307، الحديث 2، الباب 16 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2). الاحزاب/ 50.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 602

(3). الوسائل 14/ 280، الحديث 3، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالنسب.

(4). الوسائل 14/ 279، الحديث 2، الباب 6 من أبواب ما يحرم بالنسب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 603

للأخي؛ فيكون معناه أنّ نكاح الاخت الرضاعي للأخ النسبي مكروه، مع أنّ مقتضي عموم المنزلة حرمته، لأنّ الاخت الرضاعي للأخ، بمنزلة الاخت النسبي، و هي محرمة.

هذا، و قد عرفت الإشكال في الأخير في الأبحاث السابقة، و أن ظاهرها انّ القيد راجع إلي الأخ، فيكون ما

أحب بمعني الحرمة هنا.

2- كلام من المحقق الثاني

قد ذكر المحقق الثاني (قدس سره) في رسالته قبل ذكر الأدلة السبعة علي بطلان عموم المنزلة، أنّ هناك مسائل ثلاث قد اختلف الأصحاب فيها. قال:

الأولي، جدات المرتضع بالنسبة إلي صاحب اللبن، هل تحل له أم لا؟ قولان للأصحاب، و قريب منه أمّ المرضعة و جداتها بالنسبة إلي أب المرتضع.

الثانية، أخوات المرتضع نسبا و رضاعا بشرط اتحاد الفحل، هل يحللن له (أي لصاحب اللبن) أم لا؟ قولان أيضا.

الثالثة، أولاد صاحب اللبن ولادة و رضاعا، و كذا أولاد المرتضعة ولادة، و كذا رضاعا مع اتحاد الفحل، بالنسبة إلي اخوة المرضع، هل يحللن لهم أم لا؟ قولان أيضا (انتهي). «1»

و قال قبل ذلك بيسير: نعم، أختلف أصحابنا في ثلاث مسائل، قد يتوهّم منها القاصر عن درجة الاستنباط أن يكون دليلا لشي ء من هذه المسائل أو شاهدا عليها، «2» (أي المسائل عموم المنزلة).

قلت: الظاهر عدم ورود نص خاص في هذه المسائل الثلاث، و إنّما قال من قال بها من باب عموم المنزلة في الجملة.

فان الحرمة في الاولي لو كانت، كانت بسبب أن جدة الولد (أي المرتضع) أمّ للإنسان أو أمّ لزوجته.

______________________________

(1). المحقق الكركي، في رسائل الكركي 1/ 215.

(2). المحقق الكركي، في رسائل الكركي 1/ 213.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 604

و أمّا الثانية، فلأنّ أخوات المرتضع، أخوات لابنه، و اخوة ابن الإنسان بمنزلة بنته أو ربيبة.

و أمّا الثالثة، فلأنّ أولاد صاحب اللبن، اخوة لأخوات المرتضع، و هي بمنزلة الاخت من أولاد صاحب اللبن.

و الحاصل، أنّ الاعتراف باختلاف الأصحاب في هذه المسائل الثلاث، ملازم لاختلافهم في عموم المنزلة، مع أنّ المحقق المذكور أنكر وجود القول بها بين من تقدم علي عصره.

و الحاصل أنّ المسألة لا

تخلو عن تشويش عندهم، و لكن الانصاف عدم صحة القول بعموم المنزلة مطلقا، و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 605

[المسألة 5: لو شك في وقوع الرضاع أو في حصول بعض شروطه من الكمّية]
اشارة

المسألة 5: لو شك في وقوع الرضاع أو في حصول بعض شروطه من الكمّية أو الكيفية، بني علي العدم.

نعم، يشكل لو علم بوقوع الرضاع بشروطه، و لم يعلم بوقوعه في الحولين أو بعدهما و علم تاريخ الرضاع و جهل تاريخ ولادة المرتضع، فحينئذ لا يترك الاحتياط.

حكم الشك في تحقق الرضاع

أقول: هذه المسالة ناظرة إلي الشك في تحقق الرضاع في الشبهات الموضوعية، و حاصلها أنّ الشك علي قسمين: تارة يكون في أصل الرضاع، و اخري في شروطه من الكيفية و الكمية.

أمّا إذا شك في أصل تحققه بأنّ لم يعلم أنّ المرأة أو الرجل الفلاني ارتضع من المراة الفلانية أم لا؟ فالأصل يقتضي الحلية بمقتضي استصحاب عدم تحقق الموجب للحرمة، و مع قطع النظر عنه يجري أصالة الحلّية أيضا.

و لو شك في بعض الشروط من العدد، و أنّه هل بلغ العدد اللازم أم لا، أو شك في الكيفية و أنه شرب من الثدي مثلا أو لا، و كذا سائر الشروط.

نعم، استثني هنا مورد واحد، و هو ما إذا شك في كون الرضاع في الحولين و عدمه، فان له حالات ثلاثة:

أولها، ما إذا كان الرضاع و مبدء الولادة كلاهما مجهولي التاريخ، و لا ينبغي الشك في كونه محكوما بالاباحة، لتعارض الأصلين من الجانبين، فيتساقطان؛ و إن قلنا بعدم جريان الاصول في اطراف العلم الإجمالي لعدم المقتضي له، فالحكم أظهر.

ثانيها، ما إذا شك في تاريخ الرضاع مع العلم بتاريخ الولادة، مثلا علم بأنّ الولادة كان في شهر شعبان، و لكن شك في أن الرضاع كان فيه أو في رمضان (بعد عامين)، فهنا أيضا يحكم بالحلية، لأنّ الأصل عدم تحقق الرضاع في شعبان، و لا يجري الأصل في معلوم التاريخ لعدم الشك فيه.

أنوار

الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 606

إن قلت: إثبات وقوع الرضاع في شهر رمضان بأصالة عدم كونه في شعبان، من قبيل الأصل المثبت.

قلنا: لا نحتاج إلي إثبات وقوعه في رمضان، حتي يكون مثبتا، بل يكفينا الحكم بعدم وقوعه في شعبان، و هو ليس من قبيل الأصل المثبت.

ثالثها، إذا كان الامر بالعكس، بأن كان تاريخ الرضاع معلوما (مثلا كونه في رمضان)، و لكن تاريخ الولادة غير معلومة، فلا ندري بانقضاء الحولين في شعبان أو آخر رمضان، فهل يمكن استصحاب بقاء الحولين إلي آخر رمضان حتي يكون الرضاع واقعا فيه أم لا.

لا يبعد جريان الأصل فيه، فيحكم بالحرمة.

إن قلت: هذا من قبيل الأصل المثبت، فان بقاء الحولين لا يثبت وقوع الرضاع فيه.

قلت: هذا من قبيل ضمّ الوجدان بالأصل فالرضاع وجداني و كون الحولين باقيا بالاصل.

إن قلت: ما ذكرت إنّما يصح في الأجزاء التركيبية، مثل ما إذا ثبت عدالة أحد الشاهدين بالوجدان، و الآخر باستصحاب بقائها من السابق، فتقوم البيّنة؛ و لكن هنا من قبيل الاشتراط، و في الاشتراط لا بدّ من تقييد أحدهما بالآخر (مثل تقييد الرضاع بوقوعه في الحولين).

قلت: ضمّ الوجدان بالأصل يجري في الشروط أيضا، لاتفاق الأصحاب علي جواز استصحاب بقاء الوضوء في صحة الصلاة و كذا سائر الشروط، بل مورد أخبار الاستصحاب أمّا الطهارة من الحدث أو من الخبث أو بقاء وقت الصيام أو شبهه و كل ذلك من الشروط.

فما أفاده قدس سرّه في المتن من الحكم بعدم ترك الاحتياط قابل للمناقشة، فانّ المقام مقام الفتوي لا الاحتياط، فتأمل.

و يدل علي بعض ما ذكرناه ما رواه في الوسائل، عن أبي يحيي الحناط، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أنّ ابني و ابنة أخي

في حجري، فاردت أن أزوجها إيّاه، فقال بعض أهلي: أنا قد أرضعنا هما؛ فقال: كم؟ قلت: ما أدري؛ قال: فارادني علي أنّ أوقت؛ قال قلت:

ما أدري، قال فقال: زوّجه. «1»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 303، الحديث 1، الباب 11 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 607

[المسألة 6: لا تقبل الشهادة علي الرضاع إلّا مفصلة]
اشارة

المسألة 6: لا تقبل الشهادة علي الرضاع إلّا مفصلة بأن يشهد الشهود علي ارتضاع في الحولين، بالامتصاص من الثدي، خمس عشرة رضعة، متواليات مثلا إلي آخر ما مرّ من الشروط، و لا يكفي الشهادة المطلقة و المجملة بأن يشهد علي وقوع الرضاع المحرم، أو يشهد مثلا علي أنّ فلانا ولد فلانة، أو فلانة بنت فلان من الرضاع، بل يسأل منه التفصيل؛ نعم، لو علم عرفانهما شرائط الرضاع و أنّهما موافقان معه في الرأي اجتهادا أو تقليدا، تكفي.

لا تقبل الشهادة بالرضاع الّا مفصّلة

أقول: قد صرّح بذلك، المحقق في الشرائع و قال: لا تقبل الشهادة بالرضاع إلّا مفصلة؛ ثم علّله بقوله: لتحقق الخلاف في الشرائط المحرمة، و احتمال أن يكون الشاهد قد استند إلي عقيدته.

و أضاف في الجواهر بعد قول المحقق: لا تقبل الشهاده بالرضاع إلّا مفصله؛: بجميع ما يعتبر، عند الحاكم الذي تقوم عنده الشهادة، حتي عدم قي ء اللبن بناء علي اعتباره عنده، بلا خلاف أجده ممن تعرض لها. «1»

و الوجه فيه ظاهر، و هو أنّ الشهادة مع قطع النظر عن حدودها أمر عقلائي لكشف الحقوق و الحدود و موضوعات الأحكام، و هم لا يعتمدون علي الشهادة المجملة في الامور التي تختلف فيه الآراء، و كل ما كان مثل الرضاع في تعدد الآراء و تكثرها فيه، فهو أيضا لا تقبل الشهادة فيها مجملة، مثلا إذا شهد الشاهدين بالكرية، أو بنجاسة الماء، أو غير ذلك من أشباهه ممّا يختلف فيه الفقهاء.

نعم، استثني منه ما إذا كان الشاهدان من مقلديه (أي الحاكم)، أو ممن يكون عقيدته عقيدته، و لا فرق بين أن يكون الشهادة عند الحاكم أو عند غيره إذا لم يكن محلا للدعوي و المنازعة.

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/

341.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 608

و هكذا إذا شهدا بأنّ فلانا الأخ الرضاعي لفلانة.

و لو قلنا بعدم اعتبار التعدد في اثبات الموضوعات في غير مورد الدعاوي، و قلنا بحجية خبر الواحد في الموضوعات- كما هو الاقوي- كان الأمر أيضا كذلك.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 609

[المسألة 7: الأقوي أنّه تقبل شهادة النساء العادلات في الرضاع، مستقلات]
اشارة

المسألة 7: الأقوي أنّه تقبل شهادة النساء العادلات في الرضاع، مستقلات، بأن تشهد به أربع نسوة؛ و منضمات، بأن تشهد به امرأتان مع رجل واحد.

شهادة النساء في الرضاع
اشارة

أقول: الأولي أن نتعرض لأحكام شهادة النساء في جميع الأبواب، فنتكلم أولا في حكم شهادتهن في أبواب الرضاع ثم نعقبه بشهادتهن في الموارد التالية:

1- مختصات النساء و ما لا يطلع عليه غيرهن عادة، (كالولادة و الاستهلال و العيوب الباطنة و شبهها).

2- شهادتهن في أبواب الحدود و القصاص.

3- شهادتهن في الحقوق و الأموال.

4- شهادتهن في النكاح و الطلاق.

و الواجب أخيرا، بيان فلسفة الفرق بينهن و بين الرجال في قبول شهادتهن في بعض الامور دون بعض، و كذا الفرق في العدد بينهما.

فنقول: (و من اللّه تبارك و تعالي التوفيق و الهداية):

أمّا في الرضاع

فالمشهور المعروف بين الأصحاب قبول قولهن فيه، و قد حكي هذا القول عن جماعة كثيرة من الأصحاب، حتي أنّ صاحب الجواهر حكاه عن ما يقرب من عشرين كتابا بالمباشرة، و عن عدّة كتب بالواسطة، و هو المشهور بين الأصحاب بل ادعي الإجماع عليه؛ و لكن مع ذلك ادعي شيخ الطائفة (قدس سره) في الخلاف، الإجماع علي عدم القبول؛ قال في الخلاف في كتاب الرضاع في المسألة 19:

لا تقبل شهادة النساء عندنا في الرضاع بحال، و قال ابو حنيفة و ابن أبي ليلي: لا تقبل شهادتهن منفردات إلّا في الولادة؛ و قال الشافعي: شهادتهن علي الانفراد تقبل في أربعة مواضع، الولادة و الاستهلال و الرضاع و العيوب تحت الثياب؛ و به قال ابن عباس و

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 610

الزهري و مالك و الأوزاعي؛- ثم قال- دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم …

و الإنصاف أنّ دعواه الإجماع هنا من قبيل

الإجماع علي القاعدة و شبهها، و إلّا فالمخالفون في المسالة كثيرون.

و قال المحقق الثاني، في جامع المقاصد: اختلف الأصحاب في أنّه هل تقبل شهادة النساء في الرضاع منفردات، علي قولين: فذهب الشيخ في الخلاف، و ابن إدريس، إلي عدم قبولهن؛ و ذهب المفيد و السيد و سلار و ابن حمزة و جمع من الأصحاب، إلي القبول.

و علي كل حال لا ينبغي الشك في شهرة هذا القول بين الأصحاب.

و استدل له بامور:

أحدها: و هو العمدة، دخول الرضاع في الامور الخفية التي تعم به البلوي و لا يطلع عليها غالبا إلّا النساء؛ و قد ورد أحاديث كثيرة في قبول قولهن في هذه الامور، و هي من قبيل القواعد الكلية، و حاصلها أنّه تقبل شهادة النساء في ما لا يطلع عليه الرجال أو لا يستطيع الرجال النظر إليها، منها:

1- ما عن أبو بصير، قال: سألته عن شهادة النساء؟ فقال: تجوز شهادة النساء وحدهن علي ما لا يستطيع الرجال النظر إليه … «1»

2- ما عن إبراهيم الحارثي، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه و يشهدوا عليه … «2»

3- ما عن محمد بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام، قلت له: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال: تجوز شهادة النساء فيما لا تستطيع الرجال أن ينظروا إليه و ليس معهن رجل … «3»

4- ما عن عبد اللّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا تجوز شهادة النساء

______________________________

(1). الوسائل 18/ 258، الحديث 4، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(2). الوسائل 18/ 259، الحديث 5، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3). الوسائل

18/ 259، الحديث 7، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 611

في رؤية الهلال … و قال تجوز شهادة النساء وحدهن بلا رجال في كل ما لا يجوز للرجل النظر إليه. «1»

5- ما عن داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: أجيز شهادة النساء في الغلام صاح أم لم يصح، و في كل شي ء لا ينظر إليه الرجال تجوز شهادة النساء فيه. «2»

6- ما عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليهم السّلام، أنّه كان يقول: شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود، إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجل النظر إليه. «3»

7- ما عن محمد بن سنان، عن الرضا عليه السّلام إلي أن قال: لا تجوز شهادتهن إلّا في موضع الضرورة مثل شهادة القابلة و ما لا يجوز للرجل أن ينظروا إليه … «4»

هذا، و لكن الكلام في صغري هذه القاعدة الكليّة في المقام، و أنّه هل تشمل مسألة الرضاع أم لا؟ فقد صرّح غير واحد من أكابر فقهاء الأصحاب، مثل الشهيد الثاني في المسالك، «5» و المحقق الثاني في جامع المقاصد، «6» و صاحب الجواهر في الجواهر، «7» بأنّ هذا دخل تحت عنوان القاعدة، و هو الأقوي.

و الوجه في ذلك أنّه و أن أمكن اطلاع الرجال المحارم علي أمر الرضاع- لو قلنا بجواز نظرهم إلي مثل الثدي و هو قابل للمناقشة- و كذا الزوج، بل و غير المحارم إذا اتفق نظرهم إليه بدون قصد، أو إذا لم يكن فيه إثم حال التحمل، مثل ما إذا كان صبيا مراهقا ثم كان عند الشهادة بالغا- بناء علي كفاية مثل ذلك-،

و لكن الغالب كونه ممّا يطلع عليه النساء، و المراد بالقاعدة هو الغلبة، لا كونه دائميا لانصرافه إليه، و إلّا أمكن المناقشة في الاستهلال، بل الولادة، بل و غيرها، لأنّه كثيرا تدعوا الضرورة لنظر الاطباء

______________________________

(1). الوسائل 18/ 260، الحديث 10، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(2). الوسائل 18/ 261، الحديث 12، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3). الوسائل 18/ 267، الحديث 42، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(4). الوسائل 18/ 268، الحديث 5، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(5). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 14/ 258.

(6). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 265.

(7). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 345.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 612

إليهن لا سيما في أعصارنا، أو يكون في السفر و ليس معها امرأة في مثل الولادة و شبهها.

ثانيها، هناك طائفة ثانية من الروايات، قد استدل بها للمطلوب، و هي ما دل علي جواز شهادة النساء في خصوص بعض مصاديق ما لا يحل للرجال النظر إليها، بدعوي إمكان إلغاء الخصوصية منها، أو دعوي الأولوية بالنسبة إلي الرضاع، و هي أيضا كثيرة رواها أيضا في الوسائل، في الباب 24 من أبواب الشهادات، من المجلد 18؛ منها:

1- ما عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث، و سألته عن شهادة القابلة في الولادة. قال: تجوز شهادة الواحدة؛ و قال تجوز شهادة النساء في المنفوس و العذرة. «1»

2- ما عن محمد بن مسلم، في حديث قال: سألته عن النساء تجوز شهادتهن؟ قال:

نعم، في العذرة و النفساء. «2»

3- ما عن عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: تجوز شهادة النساء في العذرة و كل عيب لا يراه الرجل. «3»

4- ما عن السكوني،

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: أتي أمير المؤمنين عليه السّلام بامراة بكر زعموا أنّها زنت، فأمر النساء فنظرت إليها، فقلن هي عذراء، فقال: ما كنت لا ضرب من عليها خاتم من اللّه، و كان يجيز شهادة النساء في مثل هذا. «4»

5- ما عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، قال: سألته- إلي أن قال- تجوز شهادة النساء في المنفوس و العذرة. «5»

6- ما عن العلاء، عن أحدهما عليهما السلام … و سألته هل تجوز شهادتهن وحدهن؟

قال: نعم، في العذرة و النفساء. «6»

7- ما عن محمّد بن مسلم، قال: سألته تجوز شهادة النساء وحدهن؟ قال: نعم، في

______________________________

(1). الوسائل 18/ 258، الحديث 2، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(2). الوسائل 18/ 260، الحديث 8، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3). الوسائل 18/ 260، الحديث 9، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(4). الوسائل 18/ 261، الحديث 13، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(5). الوسائل 18/ 261، الحديث 14، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(6). الوسائل 18/ 262، الحديث 18، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 613

العذرة و النفساء «1».

8- ما عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال تجوز شهادة امرأتين في استهلال. «2»

9- ما عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين و أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهم السّلام أنّهم قالوا:

يجوز في الأموال و في ما لا يطلع عليه إلّا النساء من النظر إلي النساء و الاستهلال و النفاس و الولادة … «3»

إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني.

و هناك روايات اخري تدل علي قبول شهادتهن في الاستهلال؛ راجع المستدرك، و هذه الروايات و إن كان جلّها أو كلّها ضعيفة الاسناد، و لكنها

مجبورة بالعمل، فتأمل.

إنّما الكلام في إمكان الغاء الخصوصية منها، أو دعوي الأولوية؛ قال صاحب الجواهر (قدّس اللّه نفسه الزكية): و الرضاع أنّ لم يكن أولي من بعضها، فهو مثله. «4»

لا شك أنّ الرضاع ليس اولي من النفاس و الولادة و العذر و العيوب الموجودة في الفرج، بل ليس مثلها؛ و لكنه اولي من الاستهلال أو مثله، فانّ سماع صيحة الولد عند الولادة أهون من مشاهدة الرضاع؛ ذاك بالسمع، و هذا بالمشاهدة، و الظاهر أنّ مراده أيضا ذلك.

ثالثها، هناك قسم ثالث من الأخبار تدل علي قيام امرأتين مقام رجل واحد علي الاطلاق، و مقتضي اطلاقها قبول شهادتهن مطلقا إلّا ما خرج بالدليل؛ منها:

1- ما في تفسير العسكري عليه السّلام … عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد، فاذا كان رجلان، أو رجل و امرأتان، أقاموا الشهادة، قضي بشهادتهم. «5»

و لكن مع الغض عن السند، يرد عليه أوّلا، انه يمكن أن يقال أنّه ليس في مقام البيان من ناحية موارد الشهادة؛ و ثانيا، لو كانت مطلقة، لزم تخصيص الأكثر لما يأتي إن شاء

______________________________

(1). الوسائل 18/ 262، الحديث 19، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(2). الوسائل 18/ 267، الحديث 41، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 17/ 425، الحديث 5.

(4). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 345.

(5). الوسائل 18/ 198، الحديث 5، الباب 15 من أبواب كيفية الحكم.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 614

اللّه، أو تخصيص كثير مستهجن.

2- ما عن عبد الكريم بن ابي يعفور، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: تقبل شهادة المرأة و النسوة، إذا كن مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر و العفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء و التبرج إلي الرجال في

انديتهم. «1»

و فيه، مضافا إلي ضعف سندها لجهالة عبد الكريم ابن أبي يعفور؛ أنّها علي الظاهر ليست في مقام البيان من ناحية موارد قبول شهادتهن.

رابعها، ما عن عبد اللّه بن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في أرضعت غلاما و جارية. قال: يعلم ذلك غيرها؟ قال: لا؛ قال: فقال لا تصدق أن لم يكن غيرها. «2»

و مفهومها قبول شهادتها إذا شهد معها غيرها رجلا كان أو امراة، و مفهوم الشرط حجة و لكن ضعف السند يمنع عن الأخذ به، إلّا أن ينجبر بعمل المشهور، فتأمل.

هذا كله في أدلة المشهور، و هي كافية في إثبات حجية شهادتهن في الجملة في الرضاع.

أمّا أدلة المخالفين؛ و استدل لهم في إثبات عدم القبول بامور:

1- الأصل، فان مقتضي أصالة عدم الحجية في الأمارات، هو عدم القبول.

و جوابه ظاهر، فان التمسك بالأصل بعد وجود الدليل علي الحجية لا معني له.

2- المرسلة التي ذكر في المبسوط قال: أصحابنا رووا أنّه لا يقبل شهادة النساء في الرضاع أصلا. «3»

و هو ضعيف السند، لا سيما مع عدم ذكره في كتابيه اللذين جعلهما لجمع الأخبار.

3- و استدل بإجماع الشيخ الذي نقله في الخلاف.

و جوابه ظاهر مع ذهاب المشهور علي خلافه، فكأنه إجماع علي القاعدة و الأصل، فالأقوي قبول شهادة النساء في الرضاع في الجملة.

______________________________

(1). الوسائل 18/ 294، الحديث 20، الباب 41 من أبواب الشهادات.

(2). الوسائل 14/ 304، الحديث 3، الباب 12 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الشيخ الطوسي، في المبسوط 8/ 172.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 615

و هناك قولان شاذان يكون كلاهما في طرف الخلاف عن قول النافين:

أحدهما، ما حكي عن القاضي، من أنّه لا يقبل دعوي الرضاع إلّا

بشهادتهن.

ثانيهما، ما حكي عن التحرير، من عدم قبول المنضمّات هنا.

و اللازم غمض النظر عنهما أيضا بعد عدم وجود دليل عليهما.

*** بقي هنا شي ء:

و هو الكلام في العدد؛ و هناك أقوال أربعة كما يظهر من كلماتهم:

1- اللازم كون العدد اربع نسوة، و هو المشهور.

2- يكفي اثنتان، و هو المحكي عن المفيد.

3- يكفي واحدة، و هو المحكي عن سلّار بن عبد العزيز.

4- الواجب هو الأربعة، و لكن يثبت بالواحدة بمقدار الربع، و بالاثنين بمقدار النصف؛ و هكذا في أمثال الارث و شبهه، و هو المحكي عن ابن الجنيد. «1» و لكنه خارج عما نحن بصدده في مسألة الرضاع، لأنّ حرمة النكاح لا تقبل التقسيم.

و يدل علي قول المشهور، الاستقراء الحاصل من الأدلّة، من كون قول امرأتين بحكم رجل واحد في الأبواب المختلفة؛ فاللازم الأخذ به ما لم يدل دليل علي خلافه، و من المعلوم أنّ الأصل في المقام عدم الحجية ما لم يقم دليل عليها، لما ذكرناه في أبواب حجية الظنون.

و هذا هو الأقوي.

و استدل علي كفاية الاثنين، بما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: تجوز شهادة امرأتين في استهلال. «2»

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 346 و غيره.

(2). الوسائل 18/ 267، الحديث 41، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 616

و في فقه الرضا أيضا، و روي أنّه تجوز شهادة امرأتين في استهلال الصبي … «1»

و قد عرفت في حديث عبد اللّه بن بكير، عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السّلام قوله: لا تصدق إن لم يكن غيرها. «2»

و اطلاق مفهومه يدل علي كفاية الاثنين.

و جميعها محل الإشكال؛ أمّا الأوّل و الثاني، فهما واردان في الاستهلال، و شمولهما للرضاع بالاولوية

مشكل، بل الأمر بالعكس كما لا يخفي.

و الثالث، مرسلة غير منجبرة بعمل الأصحاب، مضافا إلي أنّ اطلاقها قابل للتقييد.

و أمّا الدليل علي كفاية الواحدة، فهو ما رواه الحلبي في الصحيح، عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن شهادة النساء-- إلي أن قال- و سألته عن شهادة القابلة في الولادة؛ قال: تجوز شهادة الواحدة؛ الحديث. «3»

و يرد عليه أوّلا، أنّها واردة في غير الرضاع، و الأخذ بها في الرضاع من باب الأولوية مشكل كما عرفت. و ثانيا، يمكن أن تكون ناظرة إلي حكم الميراث و أنّها تقبل في ربع الميراث، كما ورد في غير واحد من روايات أبواب الشهادة، و هذا أمر غير ممكن في الرضاع. و ثالثا، يمكن حملها- بالنسبة إلي باب الرضاع- علي الاستحباب كما احتمله في الجواهر، لما أفاده السيد في الناصريات من دعوي إجماع أصحابنا علي استحباب قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، مضافا إلي ما رواه الدار قطني، في سننه من النبوي صلّي اللّه عليه و آله: دعها، كيف و قد شهدت السوداء. «4»

هذا كله، مضافا إلي اعراض الأصحاب عن جميع ذلك، فلو كانت بالغة حد الحجية أسقطها اعراض الأصحاب، كيف و لم تبلغ هذا الحدّ.

***

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 17/ 426، الحديث 8.

(2). الوسائل 14/ 304، الحديث 3، الباب 12 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(3). الوسائل 18/ 258، الحديث 2، الباب 24 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(4). علي بن عمر الدار قطني، في سنن الدار قطني 4/ 177.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 617

البحث في شهادة النساء في سائر ابواب الفقه
1- قبول شهادتهن في مختصات النساء.

لا شك في قبول شهادتهن منفردات في هذه الأمور من الاستهلال و الولادة و النفاس و العذرة و الحيض و البكارة و العيوب الخفية

و شبهها، و الظاهر أنّ المسالة من المسلمات بينهم لعدم نقل خلاف فيه.

و يدل عليه طائفتان من الروايات التي قدّمناها:

الاولي، العمومات الدالة علي قبول شهادتهن فيما لا يجوز للرجال النظر إليها، أو ما لا يحل نظرهم إليها، أو ما لا يستطيع الرجال النظر إليها؛ و قد حكيناها بالتفصيل في أحكام شهادة النساء في الرضاع آنفا و هي كثيرة مستفيضة.

الثانية، ما ورد في الموارد الخاصة مثل النفاس و العذرة و الاستهلال و الحيض مما يمكن اصطياد و العموم منها، و قد عرفتها أيضا بالتفصيل في الفصل السابق.

أضف إلي ذلك شهادة الاعتبار بذلك، فان هذه الأمور ممّا تشتد الحاجة إليها و لا يجوز في الشرع نظر الرجال إليها، (و إن كان بعضها لا يجوز نظر النساء إليها أيضا و لكن من الواضح الفرق بينهما)، فلو لم تقبل فيها شهادة النساء اختل أمر القضاء في كثير من الامور الراجعة إليهن، و هذا دليل علي قبول قولهن.

و هل يجوز قبول شهادتهن منضمات إلي الرجال بان يكون الشاهد رجلا واحدا و امرأتين؛ هذا هو المشهور كما في كشف اللثام، و قال في الجواهر: لم اتحقق فيه خلافا و إن حكي عن القاضي، أنّه قال: لا يجوز أن يكون معهن أحد من الرجال. «1»

و لكن عدّ القاضي مخالفا مشكل، لأنّ قوله: لا يجوز؛ يمكن أن يكون بعنوان الحكم التكليفي- كما هو الغالب- لا الحكم الوضعي، أي الحجية علي فرض تحقق شهادة الرجل شهادة جامعة للشرائط.

و هذا الفرض ليس بنادر و إن كان قليلا في مقام المقايسة مع شهادة النساء، فانّه قد

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 41/ 172.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 618

يكون الشاهد الزوج أو الطبيب المعالج من

باب الضرورة، أو غير الطبيب إذا توقف القضاء علي شهادة الرجال لعدم التمكن عن كمال العدد من النساء، أو إذا وقع نظرهم إليها من باب الاتفاق، أو غير ذلك.

و علي كل حال، فقد استدل له في الجواهر بالعمومات، و معلومية كون الرجال هم الأصل في الشهادة. «1»

و التمسك بالعمومات حسن لو وجد عام في مقام البيان؛ أمّا التمسك بكون الرجل هو الأصل، لا مانع منه بمعني أولوية شهادة الرجال لو فرض التمكن منه بطريق شرعي.

2- شهادة النساء في الحدود و القصاص.
اشارة

أمّا الحدود، فالمعروف و المشهور عدم قبول شهادة النساء فيها؛ قال في المبسوط بعد تقسيم الحقوق إلي ضربين حق اللّه و حق الآدمي، و بعد شرح أحكام حقوق الآدمي من ناحية الشهادة ما نصه: فأمّا حقوق اللّه (و مراده من ذلك، الحدود) فجميعها لا مدخل للنساء و لا مدخل للشاهد مع اليمين فيها … و روي أصحابنا أنّ الزنا يثبت بثلاثة رجال و امرأتين، و برجلين و أربع نسوة. «2»

و قال المفيد في المقنعة: و لا يقبل في الزنا و اللواط و لا شي ء ممّا يوجب الحدود، شهادات النساء؛ و لا يقبل في ذلك إلّا شهادات الرجال العدول البالغين … و لا تقبل في الزنا و اللواط و السحق شهادة أقل من أربعة رجال مسلمين عدول، و لا تقبل شهادة النساء في النكاح و الطلاق و الحدود. «3»

و صرّح في الجواهر- في موضع- بأنّ حق اللّه، منه ما لا يثبت إلّا بأربعة رجال كالزنا و اللواط و السحق؛ «4» و في موضع آخر: و منه ما يثبت بشاهدين عدلين، و هو ما عدا ذلك من الجنايات الموجبة للحدود كالسرقة و شرب الخمر و الردة؛ و في موضع ثالث: و لا

______________________________

(1).

المحقق النجفي، في جواهر الكلام 41/ 171.

(2). الشيخ الطوسي، في المبسوط 8/ 172.

(3). الشيخ المفيد، في المقنعة/ 775.

(4). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 41/ 154، 158 و 159.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 619

يثبت شي ء من حقوق اللّه تعالي بشاهد و امرأتين، و لا بشاهد و يمين، و لا بشهادة النساء منفردات و إن كثرن، بلا خلاف اجده فيه.

و استدل لذلك، اما بالنسبة إلي الزنا، بقوله تعالي: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ … «1»

و قوله تعالي: … فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ … «2»

و قوله تعالي: لَوْ لٰا جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ … «3»

و الظاهر أنّ هذه الآيات الكريمة، في مقام البيان عمّا يكفي لإثبات الزنا؛ فلو كان غير أربعة رجال كافيا لإثبات هذه الجريمة لكان من الواجب الإشارة إليه، كما في قوله تعالي في آية كتابة الدين: … وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ …؛ «4» فليست هذه الآيات من قبيل إثبات الشي ء، الذي لا ينفي ما عداه.

و من المعلوم أنّ ذكر العدد بصورة المؤنث دليل علي أنّ المراد بالشهداء هو الرجال، مضافا إلي أن الشهداء جمع شهيد، (و مؤنثه شهيدة).

و يدل عليه أيضا روايات كثيرة أوردها في الوسائل و غيره، منها:

1- ما رواه جميل بن دراج و محمد بن حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلنا: أ تجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: في القتل وحده؛ أنّ عليّا كان يقول لا يبطل دم امرء مسلم. «5»

و دلالتها من ناحية المفهوم واضحة، فانّ حصر شهادتهن في هذه الأبواب بالقتل الذي من حقوق الناس دليل علي عدم نفوذها في الحدود الإلهيّة، و سندها

أيضا صحيح معتبر، بل هي في حكم روايتين.

2- ما عن غياث بن ابراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ عليه السّلام قال: لا تجوز

______________________________

(1). النور/ 4.

(2). النساء/ 15.

(3). النور/ 13.

(4). البقرة/ 282.

(5). الوسائل 18/ 258، الحديث 1، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 620

شهادة النساء في الحدود و لا في القود. «1»

3- ما عن موسي بن اسماعيل بن جعفر، عن ابيه، عن آبائه، عن عليّ عليه السّلام قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود و لا في القود. «2»

4- عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليه السّلام أنّه كان يقول شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه. «3»

و الرواية الاولي معتبرة بحسب السند ظاهرا، فانّ غياث بن ابراهيم و إن كان من البتريّة (أي زيدية العامة) و لكنه ثقة؛ و أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، هو أحمد بن محمد بن خالد البرقي الذي كان من الثقات، حتي أنّ ابن الغضائري صرّح بوثاقته في نفسه، و إن كان يكثر النقل عن الضعاف حتي عابوا عليه ذلك، و حتي أنّ أحمد بن محمد بن عيسي من رؤساء القميين بعّده عن قم ثم أعاده و اعتذر إليه، و لما مات مشي في جنازته حافيا حاسرا و كأنه عمل بسياسة القطع و الوصل لإرشاده إلي ما هو الأفضل و كذا إرشاد غيره؛ (و ما أبعد ما بينه و بين ما يجري في قم في زماننا هذا؛ و إلي اللّه المشتكي).

و الثانية ضعيفة، فانّ محمد بن هلال من المجاهيل.

و حال السكوني في الرواية الثالثة

أيضا معلوم.

و هناك روايات اخري رواها في المستدرك عن الجعفريات و دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام و أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام، فراجع. «4»

و الاستدلال بها مع تعاضد بعضها ببعض و صحة بعضها و تضافرها و عمل المشهور بها ممّا لا إشكال فيه.

نعم، هناك رواية تعارضها و هي ما عن عبد الرحمن، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن

______________________________

(1). الوسائل 18/ 264، الحديث 29، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(2). الوسائل 18/ 264، الحديث 30، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3). الوسائل 18/ 267، الحديث 42، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(4). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 17/ 425، الأحاديث 2 و 5 و 6.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 621

المرأة- إلي أن قال- و تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال. «1»

و يرد عليه أولا بضعف سند الحديث، فانّ القاسم هو القاسم بن سليمان الذي يروي عنه الحسين بن سعيد و هو مجهول الحال.

و بعدم المكافئة لأدلة المشهور، ثانيا، لإمكان الجمع الدلالي بينهما بحمل الأخير علي قبول شهادتهن في الجملة في حدّ الزنا، كما سيأتي إن شاء اللّه، و الشاهد لهذا الجمع الروايات الدالة علي هذا المعني.

سلمنا؛ و لكن الترجيح للأول، لموافقة الشهرة و موافقه كتاب اللّه تعالي؛ اللّهم إلّا أن يقال إن النسبة بينهما بالعموم و الخصوص المطلق، فلا تصل النوبة إلي المرجحات.

*** بقي هنا أمران:

الأوّل: ان المعتبر في الشهادة هنا، أربعة رجال، و لكن لا دليل عليه في غير الزنا، من اللواط و المساحقة؛ و لكن الأصحاب الحقوهما به لما ورد في اللواط من لزوم الأقارير الأربعة مضافا إلي كون المساحقة في النساء بمنزلة اللواط في الرجال، و

مضافا إلي أنّ الأمر فيهما أشدّ، و مضافا إلي أنّ الحدود و الدماء لا بدّ من الاحتياط فيها؛ و اللّه العالم.

الثاني: قد استثني الأصحاب من عدم حجية شهادة النساء في أبواب الحدود، موردا واحدا؛ و هو الزنا بشرط أن تكون شهادتهن منضمات إلي الرجال و كانوا ثلاثة رجال و امرأتين، أو رجلان و أربع نسوة، إلّا أنّ الأخير لا يثبت به الرجم و يثبت به الجلد، بخلاف الأول فانّه يثبت به الجلد و الرجم.

كل ذلك بدلالة روايات مستفيضة معتبرة، رواها في الوسائل، في الباب 24 من أبواب الشهادات تحت رقم 3 و 10؛ و ما رواه في الباب 30 من أبواب الحدود، تحت رقم 1؛ إلي غير ذلك، و تفصيله في محله من أبواب أحكام الزنا.

______________________________

(1). الوسائل 18/ 262، الحديث 21، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 622

و هذا الحكم تعبدي لا نعلم مصلحته- و كم له من نظير- و قد قال اللّه تعالي: … وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّٰا قَلِيلًا.

و أمّا القصاص و الديات: اختلف الأصحاب في قبول شهادتهن علي القتل؛ قال شيخ الطائفة (قدس سره): و يجوز شهادة النساء في القتل و القصاص إذا كان معهن رجال، أو رجل، بان يشهد رجل و امرأتان علي رجل بالقتل أو الجراح؛ فأمّا شهادتهن علي الانفراد فإنّها لا تقبل علي حال. «1»

و لكن صرّح في الخلاف بعدم قبول شهادتهن في القتل، حيث قال: لا يثبت النكاح و الخلع و الطلاق و القذف و القتل الموجب للقود … إلّا بشهادة رجلين، و لا يثبت بشهادة رجل و امرأتين، و به قال مالك و الشافعي و الاوزاعي و النخعي، ثم قال: و

قال الثوري و أبو حنيفة و أصحابه، يثبت كل هذا بشاهد و امرأتين إلّا القصاص، فانّه لا خلاف فيه. «2»

و صرح المحقق في كتاب الشهادات، بثبوت القصاص بالشاهد و المرأتين علي الأظهر بعد اظهار التردد فيه.

و قال في المسالك فيما حكاه في الجواهر: و اعلم أنّ محل الإشكال شهادتهن منضمات إلي الرجال، و أمّا علي الانفراد فلا تقبل شهادتهن قطعا. «3»

و السبب في الخلاف تعارض الروايات في المسالة، فقد ورد فيها طائفتان:

الأولي، ما دل علي عدم القبول؛ منها:

1- ما عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شهادة النساء … تجوز شهادة النساء مع الرجال في الدّم؟ قال: لا. «4»

2- ما عن محمد بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام قلت له: تجوز شهادة النساء … و لا تجوز شهادتهن في الطلاق و لا في الدّم. «5»

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في النهاية/ 332.

(2). الشيخ الطوسي، في الخلاف 6/ 252.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 41/ 165.

(4). الوسائل 18/ 260، الحديث 11، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(5). الوسائل 18/ 259، الحديث 7، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 623

3- ما رواه ابراهيم الحارثي، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: تجوز شهادة النساء …

و لا في تجوز في الطلاق و لا في الدّم. «1»

4- ما عن أبي بصير، قال: سألته عن شهادة النساء؛ فقال: … و تجوز شهادة النساء في النكاح إذا كان معهن رجل و لا تجوز في الطلاق و لا في الدّم. «2»

5- ما عن موسي بن اسماعيل بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ عليه السّلام قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود و

لا قود. «3»

إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني؛ و دلالتها كإسنادها وافية بالمقصود لا سيما مع تضافرها.

الطائفة الثانية، ما يدل علي قبول شهادتهن؛ منها:

1- ما عن جميل بن دراج، و محمد بن حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلنا أ تجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: في القتل وحده، أنّ عليا عليه السّلام كان يقول: لا يبطل دم امرء مسلم. «4»

2- ما عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال عليّ عليه السّلام- إلي أن قال: - و قال: تجوز شهادة النساء في الدّم مع الرجال. «5»

3- ما عن زيد الشحّام، قال سألته- إلي أن قال- قال: فقلت أ فتجوز شهادة النساء مع الرجال في الدّم؟ قال: نعم. «6»

و التعارض بين الطائفتين ظاهرة، و اللازم التوصل إلي الجمع الدلالي لو وجد، و إلّا فالرجوع إلي المرجحات.

و قد ذكر للجمع بينهما وجوه ثلاثة:

______________________________

(1). الوسائل 18/ 259، الحديث 5، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(2). الوسائل 18/ 258، الحديث 4، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3). الوسائل 18/ 264، الحديث 30، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(4). الوسائل 18/ 258، الحديث 1، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(5). الوسائل 18/ 263، الحديث 25، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(6). الوسائل 18/ 263، الحديث 32، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 624

أولها: ما عن شيخ الطائفة، أنّه تحمل ما دل علي القبول علي الدية، و ما دل علي عدمه علي القصاص، و قد اختاره جماعة- كما في المسالك-

و هذا الجمع كما تراه جمع تبرعي، لعدم الشاهد عليه، و قد ذكرنا في محله عدم اعتبار الجمع التبرعي.

مضافا إلي ما أورده عليه في

الجواهر، بانه مخالف للقواعد جدّا، لأنّ المفروض شهادتهن بما يقتضي القصاص (و من الواضح أنّ مقتضي القاعدة في قتل العمد هو القصاص، و أخذ الدية مخالف للقاعدة، و لذا لا يعدل إليها إلّا بعد قبول القاتل).

ثانيها: الجمع الذي مال إليه في الجواهر، و حاصله أنّه تحمل النافية علي موارد القصاص- أي قتل العمد-، و المثبتة علي موارد الدية و هو قتل الخطأ و شبه العمد، فانّ الثاني من الامور المالية التي سيأتي قبول شهادة النساء فيها، بخلاف الأول.

و فيه أيضا أنّه من الجمع التبرعي، لعدم وجود شاهد في روايات الباب عليه.

ثالثها: حمل النافية علي شهادتهن منفردات، و المثبتة علي شهادتهن منضمات؛ و هذا الجمع أسوأ حالا من الجميع، لكونه من الجمع التبرعي الذي لا شاهد له، كالأوّلين، مضافا إلي أنّه مخالف لظاهر كثير من الروايات الناهية، فانّ مورد رواية زرارة (11/ 24)، هو السؤال عن شهادتهن منضمات إلي الرجال، فقال عليه السّلام: لا تجوز؛ و في حديث محمد بن الفضيل (7/ 24)، و كذا حديث أبي بصير (4/ 24)، هذا الحكم مسبوق بحكم آخر ورد في شهادتهن منضمات؛ إلي غير ذلك ممّا قد يعثر عليه المتتبع.

فحينئذ لا يبقي مجال إلّا لمراجعة المرجحات، و مقتضي كون النافية موافقة لأكثر العامة كما قد عرفت في كلام الخلاف، تقديم المثبتة عليها؛ و لكن لما كان إراقة الدم من موارد اهتمام الشارع بها، و تدرأ القصاص كالحدود بالشبهات، يشكل قبول شهادتهن في القصاص و إراقة الدماء، كما لا يخفي.

إن قلت: فما حكم ما ورد في غير واحد من الروايات، من أنه لا يبطل دم امرء مسلم.

قلت: لا يبطل الدم بعدم قبول شهادتهن، لأنّ شهادتهن يمكن أن يكون من مصاديق

اللوث- و هو غير بعيد- فلا يبطل الدم؛ مضافا إلي أنّ الرجوع إلي بيت المال في هذه

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 625

الأبواب، له باب واسع.

هذا كله في قتل العمد، و أمّا قتل الخطاء و شبه العمد، فلما كان يرجع إلي الأمور المالية فلا يبعد قبول شهادة النساء فيها، كما سيأتي إن شاء اللّه.

3- شهادتهن في الحقوق و الاموال
اشارة

المعروف بين الأصحاب، قبولها في حقوق الآدميين. قال في الشرائع: و منها ما يثبت بشاهدين، و بشاهد و امرأتين، و بشاهد و يمين، و هو الديون و الأموال كالقرض و القراض و الغصب، و عقود المعاوضات كالبيع و الصرف و السلم و الصلح و الاجارة و المساقات و الرهن و الوصية له و الجناية التي توجب الدية. «1»

و ذكر صاحب الجواهر في ذيل كلامه ما نصه: بل الظاهر ثبوت ذلك كله بهما (أي بامرأتين) مع اليمين، وفاقا للمشهور شهرة عظيمة؛ بل عن الشيخ في الخلاف، الإجماع عليه. «2» و من الواضح إذا كان شهادة امرأتين مع اليمين مقبولة، كان شهادتهما مع رجل واحد، بل شهادة أربع نسوة مقبولة، و دعوي أنّه مخالف للإجماع، ممنوع.

و قال العلّامة في المختلف: المال سواء كان دينا كالقرض أو عينا، يثبت بشاهد و امرأتين إجمالا، و كذا بشاهد و يمين، و هل يثبت بشهادة امرأتين و يمين المدعي؟ نصّ في النهاية و الخلاف و المبسوط. علي قبوله؛ و به قال ابن الجنيد … و الوجه ما قاله الشيخ في النهاية؛ «3» و خالف ابن ادريس في السرائر في الأخير- أي شهادة امرأتين مع اليمين-. «4»

و كيف كان، يدل عليه قبل كل شي ء الآية الشريفة- و إن كانت في خصوص الدين- قال اللّه تعالي: … وَ

اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ

______________________________

(1). المحقق الحلّي، في شرايع الإسلام 4/ 921.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 41/ 167.

(3). العلامة الحلّي، في مختلف الشيعة 8/ 477، (716 ط. ق).

(4). ابن ادريس الحلّي، في السرائر 2/ 116.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 626

وَ امْرَأَتٰانِ …؛ «1» و لكنه في خصوص الدين، و فيما لا توجد فيها شهادة الرجال، و لكن الأخير محمول علي الغالب، و ذيل الآية تدل علي قبول شهادتهن في البيوع أيضا، و هو قوله تعالي: وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ، بقرينة صدر الآية.

و تدل عليه أيضا أخبار كثيرة، بعضها واردة في قبول شهادتهن مع رجل واحد، و بعضها في قبول شهادتهما مع اليمين، و بعضها في قبول شهادة النساء بدون الرجال مطلقا؛ فهي طوائف ثلاثة.

الاولي، ما يدل علي قبول شهادتهن مطلقا و لو بدون الرجل؛ منها:

1- ما عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أجاز شهادة النساء في الدين و ليس معهن رجل. «2»

و هذه رواية معتبرة تدل علي قبول شهادتهن و لو بدون الرجال، و مقتضي القاعدة أن تكون حينئذ اربع نسوة.

و مثله رواية اخري له (43/ 24)، و الظاهر أنّهما رواية واحدة بلا زيادة و لا نقصان.

2- ما عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام أنّه كان يقول: شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه. «3»

و هذه أيضا مطلقة بل بقرينة ذيلها دليل علي قبول شهادتهن وحدهن.

الثانية، ما يدل علي قبولها منضمة إلي الرجال؛ منها:

1- ما عن الحلبي،

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام سئل عن شهادة النساء في النكاح- إلي أن قال- قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال: نعم. «4»

و هذه مع اعتبار سنده، واردة في خصوص المنضمات.

2- ما عن داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- إلي أن قال- فقلت: أني ذكر اللّه قوله: فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ؟ فقال: ذلك في الدين إذا لم يكن رجلان، فرجل و امرأتان، و

______________________________

(1). البقرة/ 282.

(2). الوسائل 18/ 262، الحديث 20، الباب 24 من أبواب الشهادات. و مثله 43/ 24 و الظاهر أنّهما واحدة.

(3). الوسائل 18/ 267، الحديث 42، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(4). الوسائل 18/ 258، الحديث 2، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 627

رجل واحد و يمين المدعي، إذا لم يكون امرأتان، قضي بذلك رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام. «1»

الثالثة، ما يدل علي كفاية شهادة المرأتين مع اليمين؛ منها:

1- ما عن منصور بن حازم، أنّ أبا الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام قال: إذا شهد لطالب الحق امرأتان و يمينه فهو جائز. «2»

2- ما عن منصور بن حازم، قال حدثني الثقة، عن أبي الحسن عليه السّلام قال: إذا شهد لصاحب الحق امرأتان و يمينه فهو جائز. «3»

و هاتان الروايتان صحيحتان، و لا يبعد أن يكون منصور بن حازم سمع هذا الحديث مرتين مرّة بلا واسطة و مرّة مع الواسطة.

نعم، يمكن أن يقال أنّهما رواية واحدة، و انّ الصحيح كونها مرسلة؛ و أمّا المسندة فهي من خطاء الراوي عن منصور بن حازم، أو عن خطاء النساخ.

و لكن فرض قبول ذلك (مع كونه بعيدا)، لا يضر بالمطلوب بعد تصريح

منصور بن حازم بأن من روي عنه كان ثقة.

أضف إلي ذلك، ما عرفت من عمل المشهور بها و الفتوي بمضمونها.

و جدير بالذكر، أنّ قوله: طالب الحق؛ الوارد في الاولي منهما، عام كما أنّ الأخيرة أيضا مطلقة تشمل جميع الحقوق.

و من المعلوم، أنّه إذا كانت شهادتهما مع اليمين مقبولة، كان شهادة أربع نسوة أيضا مقبولة بطريق اولي.

و تحصل من جميع هذه الروايات الواردة في الطوائف الثلاثة، بعد ضمّ بعضها إلي بعض، أنّ شهادتهن مقبولة في الأموال و الحقوق منضمات و منفردات و شهادة امرأتين مع اليمين.

______________________________

(1). الوسائل 18/ 265، الحديث 35، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(2). الوسائل 18/ 197، الحديث 1، الباب 15 من أبواب كيفية الحكم.

(3). الوسائل 18/ 198، الحديث 4، الباب 15 من أبواب كيفية الحكم.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 628

إن قلت: الآية الشريفة واردة في خصوص الدين، و كذلك غير واحد من روايات الباب، فاين الدليل علي العموم؟

قلت: أوّلا، ذيل الاية و هو قوله تعالي: وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ الناظر إلي صدر الاية، دليل علي قبول شهادتهما مع رجل واحد في البيوع، و يمكن إلغاء الخصوصية عن البيع، بالنسبة إلي الإجارة و المساقاة و المضاربة و ما أشبهها، عرفا و إن لم يشمل مثل الوصية و الديات و شبهها.

و ثانيا، روايتا منصور بن حازم دليل علي قبول شهادتهن في الحقوق و الاموال، فتكونان قرينة علي سائر روايات الباب.

و ثالثا، يمكن تاييد العموم أيضا بما ورد في قبول شهادتهن في الوصية، مثل رواية يحيي بن خالد الصيرفي. «1»

*** بقي هنا أمران:

الأوّل: هل تقبل شهادتهن في الأوقاف؟، تردّد فيه المحقق في الشرائع أولا، ثم قال:

أظهره أنه يثبت بشاهد و امرأتين و بشاهد و يمين. «2»

و وافقه علي ذلك المبسوط و السرائر و ابن البراج، خلافا للشيخ في الخلاف علي ما حكي عنهم.

و الانصاف إمكان إثباتها بها إذا كانت من الأموال، بل و كذا إذا كانت من غيرها كالمساجد و شبهها بناء علي كونها من قبيل الفك؛ أمّا الأول فظاهر، و أمّا الثاني فلبعض العمومات السابقة.

الثاني: و من هنا يظهر جواز قبول شهادتهن في الديات، و الجنايات التي فيها الدية، و في جميع الحقوق المرتبطة بالأموال كحق الخيار، و تحقق فسخ العقد، و الأخذ بالشفعة، و الابراء، و اسقاط بعض الحقوق، و غير ذلك من أشباهه، للأولوية، أو لبعض العمومات

______________________________

(1). الوسائل 18/ 268، الحديث 47 و 48، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(2). العلّامة الحلّي، في شرايع الإسلام 4/ 921.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 629

السابقة، و اللّه العالم.

4- شهادة النساء في النكاح و الطلاق

أمّا في النكاح، ففيه خلاف بينهم، و أحسن كلام في المقام، كلام النراقي (قدس سره) في المستند، حيث قال: اختلفوا في قبول شهادتهن مع الرجال في النكاح، فعن المفيد و الخلاف و الديلمي و ابن حمزة و الحلّي و ظاهر التحرير، المنع؛ و عن الصيمري نسبته إلي المشهور، لرواية السكوني المتقدمة.

و عن العماني و الاسكافي و الصدوقين و الحلبي و التهذيبين و المبسوط و ابن زهرة و الشرائع و الإرشاد و القواعد و الايضاح و الدروس و غيرهم من المتأخرين، بل الأكثر- كما عن المسالك- القبول؛ و عليه الإجماع عن الغنية. «1»

و هذا الخلاف نشأ من اختلاف الروايات، بعضها تدل علي قبول شهادتهن و بعضها علي عدم القبول؛ و ما يدل علي القبول أكثر و أشهر و هي متضافرة يغنينا تضافرها عن ملاحظة أسنادها. منها طائفة تدل علي قبولها مطلقا؛ منها:

1-

عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال عليّ عليه السّلام: شهادة النساء تجوز في النكاح و لا تجوز في الطلاق. «2»

و هذه الرواية مطلقة.

2- ما عن إبراهيم الحارقي، قال سمعت أبا عبد اللّه يقول: … و تجوز شهادتهن في النكاح و لا تجوز في الطلاق. «3»

و كذا هذه الرواية مطلقة.

3- ما عن زرارة، قال: سألت ابا جعفر عليه السّلام عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال:

نعم، و لا تجوز في الطلاق. «4»

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 18/ 289.

(2). الوسائل 18/ 263، الحديث 25، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3). الوسائل 18/ 259، الحديث 5، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(4). الوسائل 18/ 260، الحديث 11، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 630

و هي مثل ما مرّ من جهة الاطلاق.

و هذه الروايات الثلاثة، تدل علي قبول شهادتهن و لو منفردات، بل الأخيرة صريحة فيها.

و هناك طائفة اخري تدل علي قبول شهادتهن منضمات فقط؛ منها:

1- ما عن أبي بصير قال: سألته عن شهادة النساء. فقال: … و تجوز شهادة النساء في النكاح إذا كان معهن رجل، و لا يجوز في الطلاق. «1»

و مفهوم الشرط دليل علي عدم قبول شهادة المنفردات.

2- ما عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن شهادة النساء في النكاح؛ فقال:

تجوز إذا كان معهن رجل؛ و كان عليّ عليه السّلام يقول لا أجيزها في الطلاق. «2» و مفهوم هذه الرواية أيضا ظاهرة.

3- ما عن محمد بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام قلت له: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال: … و تجوز شهادتهن في النكاح

إذا كان معهن رجل … و لا تجوز شهادتهن في الطلاق … «3»

4- ما عن اسماعيل بن عيسي، قال: سألت الرضا عليه السّلام هل تجوز شهادة النساء في التزويج من غير أن يكون معهن رجل. قال: لا، هذا لا يستقيم. «4» و هذا يدل علي عدم قبول المنضمات، بالمنطوق.

و من الواضح أنّ الجمع بين الطائفتين تقتضي التقييد، فإنّهما من قبيل المثبت و النافي.

و لكن هنا روايتان معارضتان، رواية معارضة للطائفة الاولي، و رواية معارضة للطائفة الثانية.

أمّا الاولي، أعني ما يدل علي نفي قبول شهادة النساء مطلقا، علي خلاف الطائفة الاولي الدالة علي قبولها مطلقا، و هي ما رواه السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليهم السّلام

______________________________

(1). الوسائل 18/ 263، الحديث 24، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(2). الوسائل 18/ 258، الحديث 2، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3). الوسائل 18/ 259، الحديث 7، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(4). الوسائل 18/ 266، الحديث 39، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 631

أنّه كان يقول شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح … «1»

و الثانية، ما دل علي قبول شهادتهن منفردات، و هي ما رواه داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام … و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار … «2»

و من الواضح أن اعراض الأصحاب عن كليهما، يسقطها عن الحجية؛ و لو سلمنا التعارض بينهما و بين ما مرّ لا شك في ترجيح الطائفتين الأولتين عليهما.

و أمّا في الطلاق، فالمشهور بينهم عدم قبول شهادة النساء فيه مطلقا، بل عن الغنية دعوي الإجماع عليه، و لم ينقل الخلاف فيه إلّا عن الشيخ في

المبسوط، و أبي عليّ؛ و قال المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة، ما حاصله:

أنّ دليل عدم قبول شهادة النساء في الطلاق، الروايات؛ ثم قال قد تقرر عندهم أنّ كل دعوة تكون المقصود به الأموال تثبت برجل و امرأتين؛ و المشهور في الطلاق، عدم ثبوته إلّا برجلين؛ ثم قال الطلاق إن لم يكن بعوض فليس بمال، و إن كان في ضمنه اسقاط مال و هو النفقة؛ و إن كان بعوض مثل الخلع، فتدخل في تلك القاعدة، و اللازم العمل بها و لكن ليست هذه القاعدة منصوصة و لا مجمعا عليها. «3»

و الحاصل، أنّ الطلاق إذا لم يكن طلاق خلع لا دخل له بالامور الماليّه لأنّ مطالبة المهر لا يكون بالطلاق بل بالزواج فما قد يتوهمه بعض العوام من أنّ الطلاق له أثر مالي و هو أداء المهر خطاء محض. نعم، قد تداول بين الناس عدم مطالبة المهر غالبا إلّا عند الطلاق. و أمّا الخلع ففي متنه هو البذل و هو أمر مالي واضح فلذا قيل بقبول شهادتهن فيه.

هذا، و قد يستدل علي ما ذكر بالقاعدة المشار إليها في كلام المحقق الأردبيلي و لكن الانصاف أنّها ممّا لا دليل عليها من الإجماع أو النصوص المعتبرة. فلا يقبل فيه شهادة النساء منفردات و لا منضمات، و يدل عليه قبل كل شي ء، الآية الشريفة 2 من سورة الطلاق، أعني قوله تعالي: وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ، فإنّهما في مقام

______________________________

(1). الوسائل 18/ 267، الحديث 42، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(2). الوسائل 18/ 265، الحديث 35، الباب 24 من أبواب الشهادات.

(3). المحقق الأردبيلي، في مجمع الفائدة … 12/ 422.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 632

البيان و لم يذكر إلّا شهادة عدلين،

لا سيما مع ذكر شهادة النساء في آية الكتابة. و لكن العمدة هي الروايات الكثيرة المتضافرة، بل لعلها تبلغ حد التواتر، و أكثرها واردة في الباب 24 من أبواب الشهادات، من المجلد 18 من الوسائل؛ منها: أحاديث 2 و 4 و 5 و 7 و 8 و 11 و 17 و 25 و 32 و 50 إلي غير ذلك.

و أمّا القاعدة التي ذكرها المحقق الأردبيلي (قدس سره) من أنّ كل أمر مالي تقبل فيه شهادة النساء، و غيرها لا تقبل؛ فهي- كما ذكره- غير منصوص و لا إجماعي.

و أمّا الخلع فهو و إن كان أمرا ماليا من بعض الجهات- لأنّ البذل وارد في ذاته- و لكنه غير مالي من جهة اخري. و لذا يجوز للزوجة الرجوع بالبذل في العدّة، و مع ذلك لا يبطل النكاح، بل يصير رجيعا بعد إن كان بائنا.

*** بقي هنا شي ء: ما هو حكمة هذه الاحكام

قد يقع السؤال- لا سيما في هذه الأيّام- عن حكمة هذه الأحكام، و فلسفة الفرق بين الرجال و النساء في أمر الشهادة، و عدم قبول شهادتهن في بعض الامور؛ و علي فرض القبول، لما ذا تعدّ شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد.

و قد صدرت في هذه الأيّام صورة معاهدة بين الغربيين، تنفي جميع إشكال الاختلاف و التفاوت بين الجنسين من دون أيّ استثناء، و قد هجموا علينا من كل جانب لإمضاء هذه المعاهدة التي تسمي عندهم بالمعاهدة الدولية، و هذه في الواقع خطوة كبيرة إلي العلمانية و سكولاريسم، و يهدد كيان المذاهب كلها؛ و في الواقع هم يريدون تحميل ثقافتهم اللادينية علينا، لأنّ أكبر الموانع تجاه منافعهم غير المشروعة هو المذهب لا سيما الإسلام و بالأخص مذهب أهل البيت عليهم السّلام.

و لنذكر إشارة

إلي هذه المعاهدة أوّلا، ثم نجيب عنها إجمالا، ثم نشير إلي حكمة الفرق بين شهادات النساء و الرجال بالخصوص.

امّا الأول، يتم بذكر مقدمتين: الاولي، أنّه لا شك في الفرق بين الجنسين من

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 633

الجهات الروحية و الجسمية و الخلقية بحسب الطبيعة؛ فالرجل جنس خشن، و المرأة ريحانة لا قهرمانة، و لذا لا نري في الجنود و الحروب و قواد القوات العسكرية من النساء إلّا قليلا لا يمكن أن يذكر. و لو كانت المساواة موجودة من جميع الجهات لا بدّ أن يكون- بطبيعة الحال- نصف الجنود من الرجال و نصفهم من النساء؛ و نصف الرجال السياسي منهم و نصف منهن؛ و نصف من قيادة السيارات و القطارات و الطيارات منهم؛ و نصف منهن و نصف من رجال الأمن و الشرطي و خدمة نظافة المدن و أرباب البنوك و عملة بناء المساكن و غيرها من أشباهها منهم و نصف منهن؛ و لكن لا نري شيئا من ذلك!؛ لما ذا؟

الثانية، إنّ اللّه خلق كلا من الجنسين بخلقة خاصة له، و القوانين مهما كانت، لا تعارض و لا تنازع الفطريات و قوانين الخلقة، حتي أنا لا نري في البلاد التي قررت المساواة بينهما منذر زمن طويل، المساواة التي يدّعونها.

بل اللازم اعطاء كل ذي حق حقه، و اعطاء كل من الجنسين ما يليقه، و تحميل غير ما خلق له، ظلم ظاهر.

و هل يوجد في المراكز الدولية من أحد الجنسين ما يساوي الآخر.

و يتلخص من ذلك امور لا بدّ من التنبيه عليها:

1- هل المدار علي المساواة، أو رعاية المناسبات؟ (تساوي محوري، يا تناسب محوري)؛ و بعبارة اخري هل المدار علي العدالة، أو المساواة؛ (عدالت محوري يا

تساوي محوري)؛ و العدالة تقتضي وضع كل شي ء وضعه سواء كان مساويا أو غير مساو، مثلا العدالة بين الأطفال و الشباب و الشائبين، في أمر التغذية مثلا، مقتضي اطعام كل واحد منهم بما يقتضيه مزاجه، و الحال أنّ المساواة تقتضي خلافه.

مثلا العدالة في أبواب الارث و الديات، فانّ العدالة تقتضي زيادة سهام من عليه النفقات من الارث، و زيادة الدية لمن يقوم بالواجبات الاقتصادية أكثر من غيره، فانه لا شك أنّ الرجال غالبا يقومون بهذه الواجبات أكثر من النساء، و لا اعتبار بالأفراد النادرة في القوانين العامة، و لكن المساواة تحكم بعدم الفرق مع ما فيه من الظلم الفاحش.

2- الغرب يدعي المساواة بين الجنسين، و لكن يخدع المراة و يمكر لها و لا يعطيها

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 634

إلّا الحرية الجنسية، بل قد لا يتعامل معها تعامل إنسان بل تعامل بضاعة، و لا يزال يظهر ذلك من خلال اعمالهم.

3- و من المحتمل جدا أنّ اصرارهم علي هذه الامور إنّما هو لمحو المذاهب، فانّ من أسباب تضعيف المذهب القاء فكرة التبعيض بين الجنسين في المذهب الإسلامي، و الحال أنّهم يدافعون عن المساواة في حقوق المراة.

و أمّا بالنسبة إلي عدم قبول شهادة المراة في بعض الامور، فانّ فيه حكمة بل حكما واضحة فيها حفظ كيان المراة و كرامتها؛ منها:

1- لا شك أنّ المحاكم و محضر القضاة محل للمنازعات و الدعاوي الخشنة، و الأصلح للمراة عدم حضورها في تلك الميادين، كما لا تحضر في أي بلاد العالم في الحروب إلّا نادرا؛ و ليس عدم الحضور في هذه المجادلات نقصا و عيبا لهن، فالشارع المقدس ترك قبول شهادتهن حتي لا يحضرن فيها كما منعهم عن الاشتراك في

الحروب.

2- أضف إلي ذلك أنّ الشهادة فرع تحملها، و لو قبلت شهادتها تحضر المراة بطبيعة الحال في الحوادث المنتهية إلي القتل و الجرح و الأعمال المنافية للعفة، و هذا أمر تمس كرامتها.

إن قلت: فلما ذا تقبل شهادتهما في الامور المالية، مثل الديون و المعاملات و النكاح و لو منضمات.

قلت: الظاهر أنّ هذا من باب الضرورة، لأنّ الدعاوي المالية كثيرة، و لو لم تقبل فيها شهادات النساء لضاعت الحقوق و انتهك الأموال، و حضور المراة في مجلس الدين و المعاملة ليس كحضورها عند القتال و الجنايات و الأعمال المنافية للعفة لتمس كرامة المرأة.

3- المرأة لها عواطف رقيقة أكثر من الرجل جدا، و هذا من مفاخرها و صفاتها الكريمة، و لهذا السبب يتيسر لها أن تكون أمّا تربي أطفالها في حضنها و تقبل المشاكل العظيمة في هذا المجال ممّا لا يتيسر للرجال؛ و كل شي ء ترتبط بالعواطف الإنسانية فللمرأة دور هام بخلاف الرجل.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 635

و من الواضح أنّ هذه العواطف الرقيقة كثيرا ما تمنع المراة عن الشهادة بالقتل و الجنايات الموجبة للقصاص، و الأعمال الشنيعة الموجبة للحد و التعزير، فهي لا ترضي بهذه الامور فلا تشهد بما هو الواقع، بل قد تشهد بخلافه دفعا للقصاص و الحدود و التعزيرات أو الطلاق ممّا لا توافق طبعها.

و من هنا يظهر أنّه لما ذا يشترط قبول شهادتهن في بعض المواضع بعدد أكثر من الرجال، فانّه بسبب التأكيد علي عدم ميلهن إلي عواطفهن الرقيقة ممّا يتسبب لترك الشهادة بالحق.

و الحاصل، أنّ عدم قبول شهادتهن ليس نقصا لهن كما أن قبولها من الرجال ليس فخرا لهم، بل هو سبب لمزيد مشاكلهم في هذا السبيل، بل قد يكون

الشاهد معرضا لبلايا و الآفات من ناحية بعض أرباب الدعوي الذين كانت الشهادة علي خلاف منافعهم غير المشروعة، و لا شك ان المرأة أشدّ ضررا من الرجل في هذه المجالات. و قد أشير إلي بعض ما ذكرنا في رواية العلل، و عيون الأخبار، عن محمد بن سنان، عن الرضا عليه السّلام قال: و علة ترك شهادة النساء في الطلاق و الهلال لضعفهن عن الرؤية، و محاباتهن النساء في الطلاق. «1»

و من الواضح أنّه ليس عيونهن أضعف من الرجال؛ و كان المراد أنّ رؤية الهلال تحتاج إلي صعود السطح أو البروز إلي الصحاري، و هذا الأمر مشكل علي النساء؛ كما أنّ المراد بالمحاباة هي جذب عواطفهن علي المراة التي تريد أن تنفصل عن زوجها و أولادها لو كان لها أولاد؛ و اللّه العالم بحقيقة الحال.

***

______________________________

(1). الوسائل 18/ 268، الحديث 50، الباب 24 من أبواب الشهادات.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 636

[المسألة 8: يستحب أن يختار لرضاع الأولاد، المسلمة العاقلة العفيفة الوضيئة ذات الأوصاف الحسنة]
اشارة

المسألة 8: يستحب أن يختار لرضاع الأولاد، المسلمة العاقلة العفيفة الوضيئة ذات الأوصاف الحسنة، فان للبن تأثيرا تامّا في المرتضع كما يشهد به الاختبار و نطقت به الأخبار و الآثار، فعن الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا تسترضعوا الحمقاء و العمشاء فانّ اللبن يعدي؛ و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تسترضعوا الحمقاء فانّ اللبن يغلب الطباع؛ و عنه عليه السّلام: انظروا من ترضع أولادكم فانّ الولد يشبّ عليه؛ إلي غير ذلك من الأخبار المستفادة منها رجحان اختيار ذوات الصفات الحميدة خلقا و خلقا، و مرجوحية اختيار أضدادهن و كراهة.

لا سيما الكافرة، فانّ اضطرّ إلي استرضاعها، فليختر اليهودية و النصرانية علي المشركة و المجوسية، و مع ذلك

لا يسلّم الطفل إليهن، و لا يذهبن بالولد إلي بيوتهن، و يمنعها عن شرب الخمر و اكل لحم الخنزير.

و مثل الكافرة أو اشد كراهة استرضاع الزانية بلبن الحاصل من الزنا، و المرأة المتولدة من الزنا؛ فعن الباقر عليه السّلام: لبن اليهودية و النصرانية و المجوسيّة أحب إلي من ولد الزنا؛ و عن الكاظم عليه السّلام: سئل عن امرأة زنت، هل يصلح أن تسترضع؟ قال: لا يصلح، و لا لبن ابنتها التي ولدت من الزنا.

المستحبات في باب الرضاع

أقول: كلامه في هذه المسالة الناظرة إلي المستحبات في باب الرضاع و يشتمل علي ثلاثة فروع:

أولها، الصفات الحسنة التي ينبغي وجودها في المرضعة، «1» كالإسلام و العقل و العفة و الجمال؛ و قد نطقت الأخبار بها، تارة علي نحو عام، مثل ما عن

______________________________

(1). و قبل ذلك ينبغي الإشارة إلي نكته مهمة و هي أنه- كما ورد في الحديث النبوي-: ليس للصبي خير من لبن امّه، (5/ 78 من أحكام الأولاد)، و دليله ظاهر فان الصبي و لبنه كلاهما من الام. و ما أبعد بينه و بين ما تداول في أيامنا من ترك تغذيته بلبن امّه بلا عذر، و الاقبال علي اللبن اليابس، و قد نشاء من ذلك أمراض كثيرة حسب ما نعلم.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 637

أمير المؤمنين عليه السّلام انظروا من يرضع أولادكم فانّ الولد يشبّ عليه؛ «1» و في خبر آخر: … فانّ الرضاع يغير الطباع. «2»

و اخري بالتصريح علي بعض الصفات الجميلة، مثل ما عن الباقر عليه السّلام: استرضع لولدك بلبن الحسان و إيّاك و القباح، فانّ اللبن قد يعدي. «3»

و قد ثبت صدق ذلك في العصر الحاضر في العلوم- لا سيما علم الغدد- من أنّ

أنواع الأطعمة و الأشربة تؤثر في الصفات الخلقية من ناحية ما يخرج من الغدد المسمي بهورمون؛ فانّها تبعث الإنسان إلي أخلاق مناسبة لها و حاملة لصفات صاحبها، (من دون ان تكون علة تامة حتي يلزم الجبر).

و في رواية العيون عنه صلّي اللّه عليه و آله: لا تسترضعوا الحمقاء و لا العمشاء، فان اللبن يعدي. «4»

(العمشاء: المرأة المبتلاة بضعف العين).

و أما استرضاع الكفار، فيظهر من غير واحد من الروايات جوازها و لكن مع الكراهة، ففي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: هل يصلح للرجل أن ترضع له اليهودية و النصرانية و المشركة. قال: لا بأس؛ و قال: امنعوهم عن شرب الخمر. «5»

و في رواية اخري، النهي عن استرضاع المشركة و الزانية دون اليهودية و النصرانية؛ «6» و في نفس هذه الرواية المنع عن ذهاب الولد معهم في بيوتهم.

و أمّا بالنسبة إلي الزانية، فقد عرفت المنع عنه في رواية (6/ 76).

و قد وردت روايات كثيرة في المنع عن استرضاع الزانية و لبن ولد الزنا، (راجع الباب 75). «7»

______________________________

(1). الوسائل 15/ 187، الحديث 1، الباب 78 من أبواب احكام الاولاد.

(2). الوسائل 15/ 188، الحديث 6، الباب 78 من أبواب احكام الاولاد.

(3). الوسائل 15/ 189، الحديث 1، الباب 79 من أبواب احكام الاولاد.

(4). الوسائل 15/ 188، الحديث 4، الباب 78 من أبواب احكام الاولاد.

(5). الوسائل 15/ 186، الحديث 5، الباب 76 من أبواب احكام الاولاد.

(6). الوسائل 15/ 186، الحديث 6، الباب 76 من أبواب احكام الاولاد.

(7). الوسائل 15/ 186.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 638

و في رواية: و كان لا يري بأسا بولد الزنا إذا جعل مولي الجارية الذي فجر بالمراة

في حلّ!. «1»

و للجواهر كلام جيّد في هذا الباب، و أنّه هل هو من باب اجازة الفضولي بعد أنّ تعقبه الإجازة أم لا؟ «2»

و إن كان ما ذكره لا يخلو عن بعد، للمنع عن الكشف الحقيقي، لا سيما في مثل الآثار التكوينية كما في المقام؛ و اللّه العالم.

***

______________________________

(1). الوسائل 15/ 184، الحديث 2، الباب 75 من أبواب احكام الاولاد.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 309.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.