ص :2

مع الائمة الهداة فی شرح الزیارةالجامعةالکبیرة

تالیف السیدعلی الحسینی المیلانی

ص :3

ص :4

ص:6

سفید

ص:8

بقیّة القسم الرابع

الإمامة و معرفة الإمام

ص:9

ص:10

أَنْتُمُ ( السَّبِیلُ الْأَعْظَمُ ) (1) وَالصِّرَاطُ الْأَقْوَمُ ، وَشُهَدَاءُ دَارِالْفَنَاءِ ، وَشُفَعَاءُ دَارِ الْبَقَاءِ ، وَالرَّحْمَةُ الْمَوْصُولَةُ ، وَالآْیَةُ الَْمخْزُونَةُ ، وَالْأَمَانَةُ الَْمحْفُوظَةُ ، وَالْبَابُ الْمُبْتَلَی بِهِ النَّاسُ .

مَنْ أَتَاکُمْ نَجَا وَمَنْ لَمْ یَأْتِکُمْ هَلَکَ .

ص:11

ص:12

ثم قال الراغب الإصفهانی :

« وَ یُستَعمَلُ لکلِّ ما یتوصل به إلی شیءٍ خیراً کان أوْ شرّاً ، قال... .

« وَ لِتَسْتَبِینَ سَبِیلُ الْمُجْرِمِینَ »1 ». (1)وعلیه ، فالطریق الّذی یصلُ إلی اللّه ، والطریق الّذی یصل إلی الشّیطان ، کلاهما سبیل ، ولذا، فإنَّ القرآن الکریم یقول :

« وَ إِنْ یَرَوْا سَبِیلَ الغَیِّ یَتَّخِذُوهُ سَبِیلاً»3 .

فالمراد من " سبیل الغَیّ " فی هذه الآیة ، هو طریق الضلال .

وبناءاً علی ما مرَّ بیانه ،فإنَّ الأئمّة علیهم السّلام ، قد وصفوا بالسبیل الأعظم الَّذی هو طریق عامٌّ ، ویسلکه الناس بشکل عادّی ، وإنْ أمکن وجود طرق فرعیَّة إلی جنب هذا الطریق العام ، وهو کنایة عن إنَّ الأئمّة علیهم السّلام قد نُصبوا وعُیِّنوا لهدایة عموم البشریّة وإیصال کلِّ الناس إلی اللّه ، وفی نفس الوقت، فإنَّ هذا الطریق هو الطریق الوحید الَّذی یوصل إلی اللّه ، لأنَّ الصّراط الواجب إتّباعه هو حصراً ذلک الطریق الَّذی یعتبر طریق اللّه تعالی .

قال الراغب الإصفهانی :

« الصّراط : الطریق المستقیم » (2).

ووصف " الصِّراط " بالإستقامة ، إنَّما هو للتأکید .یقول القرآن الکریم :

« وَ أَنَّ هذا صِراطِی مُسْتَقِیماً فَاتَّبِعُوهُ »5 .

ص:14

أیْ ، أُسلکوا هذا الطریق فإنّه طریقی ، فمن أراد الوصول إلیَّ ، فعلیه أن یسیر فی هذا الطریق لا غیر .

ویقول عزَّوجلّ فی آیة اخری :

« وَ اللّهُ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ »1 .

وفی آیة أخری من الذکر الحکیم ، إستعمل " الصّراط " و" السبیل " معاً فی سیاقٍ واحد ، کما فی قوله تعالی :

« وَ أَنَّ هذا صِراطِی مُسْتَقِیماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِکُمْ عَنْ سَبِیلِهِ »2 .

أیْ سیروا فی الصّراط المستقیم ولازموه .

وقد إستعمل " السبیل " فی هذه الآیة بصیغة الجمع ، ومنه یُعلم وجود طرق متعدّدة فی قبال الطریق الوحید الموصل إلی اللّه تعالی ، وإنَّ الناس قد نهوا عن أن یسلکوا تلک الطرق المتعدّدة الّتی لا توصل إلی اللّه .

ومن جهة أخری ، یُعلم أیضاً عدم وجود أکثر من طریق واحدة للوصول إلی اللّه ، وهو الصّراط المستقیم وإنْ اطلق علیه " السبیل " أیضاً بلحاظ بعض الإعتبارات، فإنَّ " الصّراط " هو الطریق المنحصر الوحید الّذی تکون الهدایة فیه من قبل اللّه تعالی لسالکیه . هذا، وإنَّ سلوک " الصّراط المستقیم " والکون فیه ، مشروط بشروط یأتی بیانها إنْ شاء اللّه .

وعلیه ، فإنَّ " السبیل " متعدِّدٌ ، ولکنَّ " الصّراط " واحدٌ ، وهو الطریق الوحید الموصل إلی اللّه تعالی ، ذلک الطریق المستقیم الّذی لا إعوجاج فیه ولا إنحراف .

ص:15

ونقرأ فی آیة ثالثة :

« إِنَّ رَبِّی عَلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ »1

وعلی الجملة ، فإنَّ الصّراط المستقیم إنَّما هو بید اللّه تعالی ، ومنهُ یطلب الإهتداء إلیه، وکلُّ مَن هَدی الناس إلی هذا الصّراط ، فإنَّه مأمورٌ من قبل اللّه تعالی ، وإنَّه قد قام بفعل إلهیّ .

ومن هنا ، فإنَّ القرآن الکریم یخاطب النبیَّ الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله ویقول :

« وَ إِنَّکَ لَتَهْدِی إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ »2

یقول القرآن المجید :

« وَ مَنْ یَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِیَ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ »1

وبالإلتفات إلی مضمون الآیة المبارکة یُعلم بأنَّ هذه الخصوصیَّة لم تؤخذ فی مفهوم " السبیل " وإنَّما فیه عمومیَّة .

الشرط الثانی :

ویُبَیِّنُهُ القرآن الکریم بهذا النحو ، حیث یقول :

« وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ کُلاًّ هَدَیْنا وَ نُوحاً هَدَیْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِهِ داوُدَ ... وَ اجْتَبَیْناهُمْ وَ هَدَیْناهُمْ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ ... وَ لَوْ أَشْرَکُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما کانُوا یَعْمَلُونَ »2

دلَّت الآیات علی أنَّ الأنبیاء قد إجتباهم اللّه وهداهم إلی الصّراط المستقیم ، وقد انیط ذلک بعدم الشرک و الکفر .

الشرط الثالث :

ویستفاد من قوله تعالی :

« وَ إِنَّ اللّهَ رَبِّی وَ رَبُّکُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِیمٌ »3

أنَّ العبادة الخالصة للّه تعالی حدوثاً و بقاءً ، هی شرط للکون والبقاء علی الصّراط المستقیم .

ص:18

الشرط الرابع :

ونفهمه من الآیة الکریمة :

« فَاتَّبِعْنِی أَهْدِکَ صِراطاً سَوِیًّا»1

فالمتابعة والتسلیم شرطٌ فی الهدایة إلی الصّراط المستقیم .

ومن خلال ذلک یظهر أنَّ " الصّراط المستقیم " أخصَّ بکثیر من " السبیل " ، فإنَّه مقیَّدٌ بقیود ومحفوف بضوابط ، ولا یتسنّی لکلِّ أحد أن یکون علی الصّراط المستقیم ، وإنَّ الذین یُوفّقون لنیل هذا المقام هم قلَّة قلیلة فی کلِّ زمانٍ من الأزمنة ، وذلک، لأنَّ الشیء إذا کثرت قیوده عزَّ تحصیله وقلَّ وجوده وندر .

وفی آیة أخری من الذکر الحکیم، جاءت قضیّة الصّراط بلسان النفی ، حیث یقول تعالی :

« وَ إِنَّ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناکِبُونَ »2

فاتّضح، أنَّ أهل الصّراط المستقیم هم المؤمنون باللّه غیر المشرکین به ، والمؤمنون بالآخرة والمطیعون لرسول اللّه التابعون له ، والمعتصمون بأهل بیته لقوله تعالی :

« وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا»3

فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السّلام فی ذیل هذه الآیة قال :

« نحن حبل اللّه »

ص:19

أی ، یا أیّها الناس، یجب علیکم الإعتصام بنا أهل البیت ، فلا یکفیکم الإقرار بالشهادتین والإیمان بعالم الآخرة .وهذا الحدیث مرویٌّ فی کتب السنّة والشیعة معاً ، فی ذیل هذه الآیة الشریفة .(1)ومن هذا البیان ظهر إشتراط الإیمان بأصول الدین الخمسة ، وأن من لم یعتقد بأصلٍ منها لم یکن من أهل الصّراط المستقیم .

وممّا لاریب فیه هو أنَّ الأئمَّة علیهم السّلام قد نصبوا لهدایة الناس إلی الصّراط المستقیم . کما ورد بتفسیر قوله تعالی :

« اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ »2

أنَّ المراد هو أمیر المؤمنین علیه السَّلام و معرفته .(2)أجل ، إنَّ الأئمَّة علیهم السَّلام هم الصّراط المستقیم الذی أمر الله باتّباعه حیث قال :

« وَ أَنَّ هذا صِراطِی مُسْتَقِیماً فَاتَّبِعُوهُ »4

ولذا ، فإنَّ من أطاعهم وتابعهم فقد أطاع اللّه ورسوله، وکان من أهل الصّراط المستقیم الموصل إلی اللّه عزَّوجلّ إذ قال :

« إِنَّ رَبِّی عَلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ »5

ص:20

ولکنْ ، فی الزیارة الجامعة وصفهم ب " الصّراط الأقوم " أی : الأقوی الأکثر إستقامةً ، الذی لا ریبَ فی وصول من سلکه ، ولعلَّ ذلک لوجهین :

الأوّل : إنَّ الإمام هو المحور الأساس فی الإسلام ، لأنَّ بواسطته یعرف المبدأ و المعاد و القرآن و السنن و الأحکام ، وهذا ما أوضحناه مراراً .

والثانی : إنَّ حکم الأئمَّة فی الجهاز الربوبی حکم الملائکة المقرَّبین الموکّلین فی إدارة امور العالم ، وأنَّ إرادة اللّه تجری علی ید هؤلاء .

یقول القرآن الکریم :

« وَ لِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ »1

نعم ، کلُّ هؤلاء مأمورون وجنود للّه المتعال ، ولکنَّ الجنود علی مراتب ودرجات ، فمنهم مَن رتبته ودرجته أعلی من سائرهم ، فیکون الآخرون تحت إمرته وطاعته .

ومن هنا ، ففی الوقت الّذی یدعو فیه اللّه تعالی الناس إلی الإیمان به ، فإنَّه یدعوهم أِیضاً إلی الإیمان برسوله وبالأئمّة علیهم السّلام ویقول :

« أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ »2

وقد تقدَّم منّا بیان وجود الإرتباط الوثیق بین مقام العصمة ووجوب الطاعة من جهة أخری ، وقد ذکرنا بعض الآیات وتطبیقاتها فی هذا الشأن .

وقد اتّضح ممّا تقدّم علی ضوء الآیات والرّوایات أنّ الأئمّة علیهم السّلام هم " السَّبیل الأعظم إلی اللّه " ، أی إنَّهم الطریق الواضح العامّ نحو اللّه تعالی ،

ص:21

والّذی یؤدّی بالناس جمیعاً إلی اللّه عزَّوجلّ ، وإنَّهم علیهم السّلام - کرسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله - رحمةٌ للعالمین وللبشریّة جمعاء .

الخاصّة ، لأنَّ کلام الأئمّة علیهم السّلام واحدٌ .وقد جاء فی روایة عن الإمام الصادق علیه السّلام ، قال :

« حدیثی حدیث أبی ، وحدیث أبی حدیث جدّی ، وحدیث جدّی حدیث الحسین ، وحدیث الحسین حدیث الحسن علیهما السّلام ، وحدیث الحسن حدیث أمیر المؤمنین علیه السّلام ، وحدیث أمیر المؤمنین حدیث رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، وحدیث رسول اللّه قول اللّه عزَّوجلّ »(1)

حیثُ ذُکر القرآن أوَّلاً ، ثمَّ ذُکر أهلُ البیت علیهم السّلام ، بل ورد فی بعض الروایات التعبیر عن القرآن الکریم ب " الثقل الأکبر " ، وعن العترة ب "الثقل الأصغر "(1)لکنّ الزیارة الجامعة وصفت الأئمَّة علیهم السَّلام ب " الصّراط الأقوم " أی الأکثر إستحکاماً ، والشواهد علی ذلک فی الروایات کثیرة .

وقال أمیر المؤمنین علیه السّلام ، حینما بعث إبن عباس إلی الخوارج :

« لا تخاصمهم بالقرآن ، فإنَّ القرآن حمّالٌ ذو وجوه ، تقول ویقولون ، ولکن حاججهم بالسُنَّة ، فإنَّهم لَنْ یجدوا عنها محیصاً »(2)

فالمجبِّرة ، المفوِّضة ، المجسِّمة وبعض الفرق الباطلة الاُخری ، یتمسّکون بظواهر بعض ألفاظ القرآن الکریم .وأمّا کلام الأئمّة علیهم السّلام فهو - مثل کلام رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله - قاطعٌ ولا مجال لأصحاب العقائد الفاسدة لأن یتمسّکوا بألفاظهم المعتبرة .

وبدیهیّ ، إنَّ عمل الإنسان کلّما کان أکبر ، وأکثر إنطباقاً علی عملهم علیهم السّلام ، وأکثر خلوصاً للّه ، کان أکثر قبولاً وصاحبه أکثر قرباً من اللّه تعالی .

ولذا ، فإنَّ التاریخ یحدّثنا عن حالات بعض الأشخاص الذین تابعوا أهل البیت علیهم السّلام وأطاعوهم، حتّی أنّهم أُلقی إلیهم علم المنایا والبلایا، وکانوا من أصحاب الکرامات والمقامات الرفیعة .

نعم ، فما أکثر باعة التمر فی الکوفة ، ولکن ، لماذا لم یصل إلاّ میثم التمّار إلی ذلک المقام الرفیع ؟

وکذا الحال فی رشید الهجری ، الکمیل بن زیاد النخعی، و حبیب بن مظاهر الأسدی .

قال أبوعمر الکشی : مرّ میثم التمّار علی فرسٍ له ، فاستقبل حبیب بن مظاهر الأسدی عند مجلس بنی أسد ، فتحدّثا حتّی اختلف أعناق فرسیهما . ثم قال حبیب : لکأنی بشیخ أصلع ضخم البطن یبیع البطّیخ عند دار الرزق، قد صلب فی حبّ أهل بیت نبیّه علیه السّلام، تبقر بطنه علی الخشبة . فقال میثم :

وإنّی لأعرف رجلاً أحمر له ضفیرتان یخرج لینصر ابن بنت نبیّه، فیقتل و یجال برأسه بالکوفة .

ثمّ افترقا .

فقال أهل المجلس : ما رأینا أحداً أکذب من هذین .

قال : فلم یفترق أهل المجلس حتّی أقبل رشید الهجری، فطلبهما ، فسأل أهل المجلس عنهما، فقالوا : افترقا وسمعناهما یقولان کذا وکذا .

ص:25

فقال رشید : رحم الله میثماً ، نسی : ویزداد فی عطاء الذی یجیء بالرأس مئة درهم .

ثم أدبر .

فقال القوم : واللّه ما ذهبت الأیّام و اللّیالی حتّی رأیناه مصلوباً علی باب دار عمرو بن حریث ، وجیء برأس حبیب بن مظاهر قد قتل مع الحسین ، و رأینا کلّ ما قالوا » (1)نعم ، هذه الحالات المعنویّة نتیجة متابعة أهل البیت و ملازمتهم ، ولقد ظهرت منهم الکرامات بعد موتهم کذلک ، فقد حدَّث والدی رحمه اللّه :

جاء رجلٌ إلی زیارة قبر میثم التمّار ، وقبره قریب من مسجد الکوفة ، وکان وقت الظهر ، فجاعَ هذا الرجل ، ولم تکن مقبرة میثم فی ذلک الوقت علی ما هی علیه الیوم -حیث قام أحد أخیار النجف الأشرف بتشییدها -ولم یکن فی أطراف المقبرة دکاکین ومحلّات لبیع الطعام ، فالتفت الرجل إلی قبر میثم التمّار وقال : یا میثم ! أنا جائع !!

ثم قرأ سورة الفاتحة وأهداها لروح میثم ، ولمّا أراد النهوض ، رأی علی أرض المقبرة خبزاً حارّاً وکباباً ساخناً ، ولم یکن أحدٌ فی ذلک المکان .

وقوله تعالی :

« ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِیِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِکَ أَهْلِهِ »1

وتارةً تتعدّی بحرف " اللام " ، کما فی قوله تعالی :

« کُونُوا قَوّامِینَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ »2

وتارةً تتعدّی بحرف " الباء " کما فی قوله :

« وَ لا یَمْلِکُ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ »3

وتارة تتعدّی بحرف " علی " ، کما فی قوله تعالی :

« وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَیْنا»4

فإنْ تعدَّت مادة " الشهادة " بحرف " اللّام " ، کانت الشهادة لنفع المشهود له .وإنْ تعدَّت بحرف " علی " کانت الشهادة فی ضرره کما فی الآیة .وإنْ تعدّت بنفسها ، کانت بمعنی الحضور ، وهو المعنی الموضوع له مادّة " الشهادة " فی لغة العرب کما فی الآیة :

« فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ...»5

قال الراغب الإصفهانیّ فی هذا الشأن :

« شهد : الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة ، إمّا بالبصر أو بالبصیرة » (1)

فالإنسان إذا ما حضر الواقعة و رأی ما کان ببصره أو سمع الکلام باُذنه ، أمکنه الشهادة ، بل وجبت علیه فی بعض الأحوال .

ص:27

هذا بالنسبة إلی المشاهدة بالبصر . وقد تکون المشاهدة بالبصیرة ، فإنَّ الإنسان قد یتیقَّن بالشیء ، إذ یراه بعینه الباطنیَّة فیشهد به ، ومن ثمَّ فإنَّنا نشهد ، وعلی أساس بصیرتنا ، بوجود اللّه المتعال ، القیامة و...فالإنسان المؤمن له من الإعتقاد القطعیّ بهذه الأمور إلی درجة إنَّه یشهد علیها وکأنَّه یراها بعینه الباصرة .

وعلیه ، فلا الاُمَّة مرادةٌ من هذه الآیة المبارکة ، ولا الصحابة ، فما هو المراد إذن ؟

وقبل أن نرجع فی تفسیر الآیة إلی الروایات الواردة الواردة فی ذیلها، لابدّ من النظر والتأمّل فی مفرداتها:

1- کلمة " جعلناکم "

إنَّ الجعل یرتبط بشکل مباشر باللّه سبحانه وتعالی لا بأحدٍ من الناس مطلقاً ، فالجعلُ جعلٌ إلهیّ ، وإنَّ اللّه سبحانه وتعالی هو الَّذی أراد ذلک وأقرَّه .

فإنْ کانت الآیة المبارکة مرتبطةً ب " الإمام والإمامة » کما سنبیِّن ذلک ، فإنَّ ذلک یعنی أنَّ الرسول أیضاً غیر دخیل فی تعیین الإمام وتنصیبه ، وإنَّ تعیین وتنصیب الإمام ینحصر باللّه سبحانه وتعالی ، وما الرسول إلاّ مبلِّغٌ لذلک التعیین ، وکما قال عزّوجلّ یوم الغدیر :

« یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ »1

2- کلمة " امَّةً وَسَطاً "

ذکر المفسِّرون فی المراد من «الوسط» هنا أربعة أقوال ، ولکنّ الصّحیح غیرذلک، وهو یتوقف علی تعیین المراد من «الاُمّة».

فإذا لم یکن المراد من " الاُمَّة " فی هذه الآیة المبارکة ، أفراد الاُمَّة الإسلامیّة فرداً فرداً ، ولا خصوص الصّحابة ، فسیکون المراد حینئذٍ الأئمّة من أهل البیت علیهم السّلام ، نظیر الآیة المبارکة :

ص:29

« کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ »1

وقد جاء عن الصادق علیه السّلام أنه قال :

« فی قراءة علیٍّ علیه السّلام : کُنتُم خَیرَ أئمّةٍ اخرِجَت للناس . قال : هم آل محمد صلّی اللّهُ علیه وآله » (1)

وبناءاً علی ذلک ، فإنَّ الأئمّة علیهم السّلام هم " الوسط "، بمعنی أنهم الواسطة بین الخلق واللّه سبحانه وتعالی ، لأنَّ الإمام هو الدلیل الدالّ علی اللّه، فیکون موقعه الوسط بینهم وبینه، کما هو حال إمام الجماعة، إذ یکون وسطاً وواسطةً بین اللّه والمأمومین .

وهذا الّذی بیَّناه ، تعبیرٌ آخر عن " الصّراط الأقوم " فی الزیارة وعن " حبل اللّه " ، فی الآیة المبارکة. لأنّ الحبلَ رابطٌ بین هذا الطرف وذاک ، وهو الَّذی یوصل الطرفین ببعضهما .

ومن ثمَّ ، عُبِّرَ عن القرآن والعترة فی بعض روایات " حدیث الثقلین " ب " الحبلین " ، حیث ورد أنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« أیُّها النّاس إنّی قَدْ تَرَکتُ فیکُم حَبلَینِ ، إنْ أخَذتُم بِهِما لَن تَضِلُّوا بَعْدی ... »(2)

وجاء فی بعض الروایات الأخری :

« طرفٌ بید اللّه تعالی وطَرَفٌ بأیدیکُم » (3)

ص:30

3- کلمة " شهداء " :

إنَّ کلمة " شهداء " فی هذه الآیة المبارکة ، لا تصدق علی غیر الأئمّة علیهم السَّلام أبداً ، لأنَّ الشَّهادة هنا لا تخلو من أن تکون بمعنی " النّظارة " و "الرِّقابَة " کما فی الآیة عن لسان عیسی علیه السَّلام :

« وَ کُنْتُ عَلَیْهِمْ شَهِیداً ما دُمْتُ فِیهِمْ فَلَمّا تَوَفَّیْتَنِی کُنْتَ أَنْتَ الرَّقِیبَ عَلَیْهِمْ وَ أَنْتَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ شَهِیدٌ »1

أو بمعنی الشهادة لهم أو علیهم ، کما هو المعنی المعروف لهذه المادَّة ، فإنَّه لمّا کان المشهود علیهم أو المراقبون هم " الناس " الظاهر فی العموم لجمیع الاُمم ، لزم أنْ یکون المخاطبون فی " جعلناکم " حاضرین و ناظرین علی الناس کلّهم ، وهذه الإحاطة بأحوال جمیع الاُمم لا تتحقَّق إلّا للنّبیّ و المعصومین من أهل بیته الطاهرین .

فالآیة واردة فی خصوص الرَّسول و الأئمَّة علیهم الصَّلاة و السَّلام ، وهذا من خصائصهم ، لأنَّ الإشراف والرّقابة علی الناس أجمعین أو الشهادة لهم أو علیهم خارجٌ عن عهدة البشر العادیّین ، لأنَّ من له أهلیَّة النظارة والإشراف علی هذه الاُمَّة والاُمم السّابقة والشَّهادة فی أعمالهم ، لابدَّ أن یکون ذا مؤهلات ولیاقات فائقة خارقة للعادة ، ولیس ذلک إلاّ أهلُ البیت علیهم السّلام ، فهم فقط من لهم أهلیّة مثل هذه النظارة والإطّلاع ، فإنَّ هذه الشهادة أمرٌ وفعلٌ إلهیّ .

ص:31

وعلی الجملة، فإنَّ الشهادة هنا - سواءٌ بهذا المعنی أو ذاک - تستلزم لا محالة الإشراف والإحاطة ، والعلم الکامل ، وهذا المطلب یؤول إلی بحث " علم الإمام " ، والّذی لا نرید الدخول فیه هنا ، ونکتفی بالقول :

أوَّلاً : إنَّه بعد أن ثبت بأدلَّة الکتاب والسُنَّة و...أنَّه هناک فی یوم القیامة حسابٌ وکتابٌ ، وأنَّ کلَّ شخص لابدَّ أن یحاسب علی أعماله ، لزم بالضرورة وجود محاسبین یتولّون محاسبة الناس علی أعمالهم .

وذات الباری عزَّوجل لا یتولّی حسابهم ، إنَّما هناک من یأذن لهم عزَّوجلّ بالتصدِّی للحساب ، وهم الأئمَّة علیهم السّلام، لأنَّهم ضمن الجهاز الربوبیّ ، کما مرَّ بنا سابقاً .

ثانیاً : إنَّ العلم والإحاطة الکاملة بأمور هذه الاُمَّة وسائر الاُمم ، ثابت للنبیّ الأکرم محمد صلّی اللّهُ علیه وآله وسلّم ، یقول القرآن الکریم فی هذا الشأن :

« وَ یَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیداً»1

وهذا المقام ثابتٌ أیضاً للأئمَّة الأطهار علیهم السّلام ، بالبیان السّابق .

وبناءً علی ما مرَّ ، فإنَّ الأئمّة علیهم السّلام شهداء علی أهل هذا العالم من الأوَّلین و الآخرین ، وناظرون علی أعمال هذه الاُمَّة وسائر الاُمم ، بقرینة قوله تعالی : «عَلَی النّاسِ » ، وهم الَّذین سیتولّون حسابهم فی الآخرة کما تقدّم بالتفصیل بشرح: وإیاب الخلق إلیکم وحسابهم علیکم .

ص:32

« هُوَ رَسولُ اللهِ صلّی اللّهُ علیه وآله والأئمّة ، تُعرَض علیهم أعمال العباد کلَّ خمیس » (1)

فلا تَصْدق مثلُ هذه الرؤیة علی غیر الأئمّة علیهم السّلام .

ومن هنا ، قالوا ، کما ورد عنهم فی روایات اخری فی ذیل هذه الآیة :

« هم نحنُ »

أظهرنا فهو خیر لنا ، فکیف تکون مفارقتک إیّانا خیراً لنا ؟

فقال صلّی اللّهُ علیه وآله : وأمّا مقامی بین أظهرکم خیر لکم ، لأنَّ اللّه عزَّوجلّ یقول :

« وَ ما کانَ اللّهُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِیهِمْ وَ ما کانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ »1

یعنی یعذّبهم بالسّیف .

فأمّا مفارقتی إیّاکم فهو خیر لکم ، لأنَّ أعمالکم تعرض علیَّ کلّ إثنین وخمیس ، فما کان من حسن، حمدت اللّه تعالی علیه ، وما کان من سّیء، استغفرت لکم » (1)

وعن داود بن کثیر قال : کنت عند أبی عبد اللّه الصادق علیه السّلام فابتدأنی قائلاً :

« یا داوود ! لقد عرضت علیَّ أعمالکم یوم الخمیس ، فرأیت فیما عرض علیَّ من عملک صلتک لإبن عمّک فلان ، فسرَّنی ذلک ، إنِّی علمت صلتک له أسرع لفناء عمره وقطع أجله ».

قال داود : وکان لی ابن عمّ معاندٍ خبیثٍ بلغنی عنه وعن عیاله سوء حاله فصککت له نفقةً قبل خروجی إلی مکّة ، فلمّا صرت بالمدینة أخبرنی أبو عبد اللّه علیه السلام بذلک .

هذا، وقد جاء فی ذیل قوله تعالی : «وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ ...» روایات عدیدة ، منها ماروی عن أمیر المؤمنین علیه السّلام ، أنه قال :

ص:35

« إنَّ اللّه طهَّرنا وعَصَمَنا وجعلنا شهداءَ علی خلقه وحجّة فی أرضه ، وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا یفارقنا »(1)

وفی الروایة نکاتٌ عدَّة :

الاُولی : إشتملت الروایة علی الطهارة والعصمة ، وقوله «طهرنا »مطلقٌ ، فهو التطهیر من کلِّ نقص ، خاصَّة الجهل الّذی هو أکبر نقص متصوَّر .

الثانیة : إنَّ الأئمّة علیهم السّلام ، شهداء علی الناس ، وحجّة علیهم أیضاً، فکما جعلهم اللّه شهداء علی سائر الناس ، فإنَّه یحتجّ بهم علیهم ، فتکون عواقب امورهم مستندة إلیهم ، وإنَّ القضایا تُحلُّ وتُفْصَل علی أیدیهم علیهم السّلام .

هذا ، وقد ذکرنا فیما سبق بأنَّ کلّاً منهم علیهم السّلام هو القاضی والشاهد والمدَّعی والشفیع فی نفس الوقت .

الثالثة : قِران الأئمّة بالقرآن المجید علی الدوام ، أی ، إذا کان القرآن حَکَماً فنحن أیضاً حَکَم ، وإذا کان القرآن شفیعاً فنحن أیضاً شفعاء ، وإذا کان القرآن دستوراً ، میزاناً وقانوناً ، فنحن أیضاً کذلک ، وإذا کان القرآن کلامَ اللّه تعالی ، فنحن أیضاً کلمة اللّه تعالی . نعم ، إنَّ الأئمّة علیهم السّلام ، لیسوا بأقلَّ من عیسی بن مریم علیه السّلام .

وقد جاء فی القرآن الکریم تعبیر لطیف فی هذا الخصوص ، حیث یقول عزّوجلّ :

ص:36

« اَللّهُ یَصْطَفِی مِنَ الْمَلائِکَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ سَمِیعٌ بَصِیرٌ* یَعْلَمُ ما بَیْنَ أَیْدِیهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَی اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ »1

أی إنَّ الأنبیاء علیهم السّلام تحت نظارة اللّه تعالی ، وهو محیط بهم ، وکلُّ حرکاتهم وسکناتهم بعین اللّه .

ثمَّ یقول عزَّوجلَّ :

« یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ارْکَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّکُمْ وَ افْعَلُوا الْخَیْرَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ * وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ فَأَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّکاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاکُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلی وَ نِعْمَ النَّصِیرُ »2

وکلُّ هذه المقامات ثابتة للأئمَّة الکرام علیهم السَّلام ، ففی الکافی ، فی " باب أنَّ الأئمَّة شهداء اللّه علی خلقه "،(1) فروی بسند صحیح عن برید العجلی قال :

« قلت لأبی جعفر علیه السّلام : قول اللّه تبارک وتعالی « وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ وَ یَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیداً »4

قال : نحن امَّة الوسط ،

ونحن شهداء اللّه تباک وتعالی علی خلقه ، وحججه فی أرضه .

قلت : قوله تعالی : « یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ارْکَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّکُمْ وَ افْعَلُوا الْخَیْرَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ * وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ » .

ص:37

قال : إیّانا عنی ونحن المجتبون ، ولم یجعل اللّه تبارک وتعالی فی الدین من حرج ، فالحرج أشدّ من الضّیق « مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ »

إیّانا عنی خاصَّة و« مِنْ قَبْلُ »

فی الکتب الّتی مضت وفی هذا القرآن « لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ »

فرسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله الشهید علینا بما بلغنا عن اللّه تعالی ، ونحن الشهداء علی الناس ، فمن صدّق یوم القیامة صدّقناه ومن کذّب کذّبناه ؛ »(1)

وعلی الجملة ، فإنَّ الآیة المبارکة خاصَّة بالأئمَّة الأطهار ، وهم إنّما بلغوا هذا المقام الرفیع ببرکة عبودیّتهم للّه عزَّوجلّ وجهادهم فیه حقَّ جهاده ، وکانوا علی هذه الحالة حتّی آخر لحظات حیاتهم الکریمة .

وعلیه ، فکلّ من یشهد الشهادتین من أهل المدینة ومن حولها قد رآه ولو لحظةً ؛ کما لو مرّ به صلّی اللّه علیه و آله وهو جالسٌ فی المسجد ، کمن جاء من الیمن مثلاً لیشتری بضاعةً فدخل المسجد فرآه و رجع إلی بلده ، فهو صحابی عادل .

بل یقولون أکثر من ذلک ، وهو إنَّ کلَّ من نطق بالشهادتین وکان معاصراً للرسول الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله ، وحتّی لو لم یکن قد رآه للحظة واحدة ، فهو صحابی (!!)(1)تُری ، أیمکن قبول مثل هذه الآراء ، وإعتبار کلّ من تظاهر بالإسلام عدولاً؟

إنَّ أکثر الأشخاص الذین کانوا حول الرسول صلّی اللّهُ علیه وآله لم تکن تتوفر فیهم العدالة ، فضلاً عن توفرها فیمن رأی النبی صلّی اللّهُ علیه وآله للحظة واحدة ، فکیف بمن لم یره أصلاً واقتصر حاله علی معاصرته ؟!

فکیف یمکن إعتبار هؤلاء مصداقاً للآیة المبارکة ؟

وهذه الآراء من قبل علماء العامّة ؛ لیست عجیبة وغریبة ، بعد أن أسّسوا مذهبهم علی القول بعدالة الصّحابة أجمعین ، فکانوا مضطرّین إلی معالجة إشکالیّاته والإنحرافات الواقعة فیه بمثل هذه التوجیهات .

ولکنَّ العجب من شخص فی الحوزة العلمیَّة ، یکتب کتاباً ویحاول فیه تطبیق هذه الآیة علی الصّحابة ، ثمَّ ینتقد تفسیر المیزان وغیره من تفاسیرنا لردّها علی مثل هذه الآراء ورفضها لها .(2)عجباً من سوء عاقبة الإنسان . نعوذ باللّه .

ص:39

والدرجات ، وإنَّ رسول اللّه والأئمّة الأطهار علیهم السّلام هم علی رأس الشفعاء وسادتهم ، ولذا خصّوا بالذّکر ؛ وأیضاً ، هی غیر مختصَّة بعالم الآخرة ، ولکنْ لمّا کانت الحاجة إلیها هناک أشدّ خُصَّ بالذّکر کذلک .

ینفع ، وأمّا عصای فإنّی أتوکأ علیها »(1)وسنبحث لاحقاً عن الشفاعة بشکل مفصَّل، ونبیّن أنَّ الشفاعة ثابتة لأئمَّة أهل البیت علیهم السّلام، کثبوت الشهادة لهم وعرض الأعمال علیهم ، إنْ شاء اللّه .

« وَ مِنْ آیاتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ »1

وجاء فی آیة اخری :

« خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لِلْمُؤْمِنِینَ »2

إذن ، فأصل خلق الإمام ونصبه بجهة الإمامة ، رحمةٌ وفضل ولطفٌ إلهیّ ، ومادام هناک بشرٌ وتکالیف ، یجب أن یکون هناک إمام ، ولذا نصفهم بأنَّهم :

الرَّحمَةُ المَوْصولَة .

ومن جهة اخری ، فإنَّ وجود الإمام یکون منشأً لأنواع الرحمة ، فببرکة وجود الإمام فی کلّ زمان تنزل أنواع البرکات والنعم علی الخلائق بأجمعها ، بکلِّ أنواعها المعنویَّة والمادیَّة .

یقول تعالی :

« فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِیِّ الْأُمِّیِّ الَّذِی یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ کَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ »1

وهل توجد نعمةٌ أکبر من نعمة الهدایة ؟

ویقول القرآن الکریم فی آیة اخری :

« إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ»2

وقد ورد فی ذیل هذه الآیة المبارکة أحادیث کثیرة فی کتب السنَّة والشیعة فی أنَّ الهادی للاُمَّة بعد رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله هو أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السّلام .

فقد قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« یا عَلی ! أنا المُنذِرُ وَأنتَ الهادی ، بکَ یهتدی المهتَدونَ مِنْ بَعدْی » (1)

وقد دلّ قوله عزّوجلّ :

« وَ ما کانَ اللّهُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِیهِمْ وَ ما کانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ »1

علی أنّ من برکات وجود النبیّ صلّی اللّه علیه وآله بین الناس هو الأمان من العذاب.

ولایخفی النکتة فی کلمة «وما کان اللّه...»، هذه الکلمة التی تکرّرت فی القرآن الکریم: کقوله تعالی:

«وَ ما کانَ اللّهُ لِیُضِیعَ إِیمانَکُمْ ...»2

وقوله تعالی:

«وَ ما کانَ اللّهُ لِیُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ »3

وأمثالهما، فإنّها تفید الامتناع علی اللّه.

لکنّ امتناع العذاب فی الآیة هو بسبب حرمة النبیّ وشأنه عنداللّه.

وإذا کان کذلک، فإنّ نفس الأثر مترتّب علی وجود الإمام من بعده، ولا یتوهَّم بأنَّ مقتضی الآیة حصول الأمن من العذاب بعد الرسول بالإستغفار ، فلا حاجة إلی وجود الإمام من هذه الناحیة .

فقد روی جابر الجعفی عن الإمام الباقر علیه السّلام فی ذیل هذه الآیة المبارکة قال :

ص:47

قلت لأبی جعفر علیه السّلام :

« لأیِّ شیء یُحتاجُ إلی النَّبیّ والإمام ؟

فقال علیه السّلام : لبقاء العالم علی صلاحه ، وذلک أنَّ اللّه عزَّوجلّ یرفع العذاب عن أهل الأرض إذا کان فیها نبیٌّ أو إمام . قال اللّه عزَّوجلّ : « وَ ما کانَ اللّهُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِیهِمْ »

وقال النبیّ صلّی اللّهُ علیه وآله : النُّجوم أمان لأهل السماء وأهل بیتی أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهبت النجوم أتی أهل السماء ما یکرهون ، وإذا ذهب أهل بیتی أتی أهل الأرض ما یکرهون ؛ یعنی بأهل بیته الأئمَّة الَّذین قرن اللّه عزَّوجل طاعتهم بطاعته » (1)

وروی أحمد بن حنبل فی " مناقب الصحابة " عن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله أنه قال :

« النجوم أمانٌ لأهل السماء فإذا ذهبت النّجوم ذهب أهل السماء ، وأهل بیتی أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بیتی ذهب أهل الأرض » (2)

وروی الحاکم النیشابوری فی المستدرک علی الصحیحین ، عن إبن عباس أنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق وأهل بیتی أمانٌ لاُمَّتی من الإختلاف ، فإذا خالفتها قبیلة من العرب إختلفوا فصاروا حزب إبلیس ؛ » (3)

ص:48

نعم ، فلو کان الناس قد أطاعوا أهل البیت علیهم السّلام وإتَّبعوهم ، لما وقع الإختلاف بینهم ، فالقضیَّة واضحةٌ . وکما ذکرنا سابقاً، فإنَّه لا یوجد إلاّ حزبان وطریقان ولا ثالث لهما ، کما لا یمکن تصوّر مرکَّب من الطریقین معاً .

فحزب اللّه هم أتباع أهل البیت علیهم السّلام .

والحقیقة هی إنَّ عنوان " حزب اللّه " قد اخذ من القرآن الکریم حیث یقول تعالی :

« وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ »1

فمن لم یکن تابعاً لأهل البیت علیهم السّلام ، کان من حزب الشیطان لا محالة ، إذ لا ثالث لهما ولا مرکَّب منهما ، و هذه القضیَّة قضیَّة منفصلة .

إذن ، فوجود النبیّ الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله ، ووجود أهل البیت علیهم السّلام ، أمانٌ ، أمانٌ من الهلکة والإختلاف والتفرقة ، وهذا الأمان إنّما هو برکة مادیَّة ، وبرکة معنویَّة فی الوقت ذاته .

وقد وردت الإشارة فی القرآن الکریم إلی کلا القسمین من الرحمة .

فالأئمَّة علیهم السّلام هم رحمة لکلِّ الأمَّة ولکلِّ الخلق ، قال تعالی فی القرآن الکریم :

« وَ رَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْ ءٍ »1

نعم ، فرسول اللّه والأئمَّة علیهم السّلام رحمة للجمیع ، ولولا هذه الرحمة لکان الخلق فی عذاب وضلال وخسران .

یقول تعالی فی القرآن الکریم :

« فَلَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَیْکُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَکُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِینَ »2

وقد فُسِّرت عبارة " فضل اللّه " فی الآیة المبارکة برسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، وفسِّرت کلمة " رحمته " بأمیر المؤمنین علیٍّ والأئمَّة المعصومین علیهم السّلام .(1)

وبعبارة اخری ، لا شکَّ فی أنَّ کلَّ الموجودات تتنعَّم ببرکات الأئمَّة علیهم السّلام ، ولکنَّ أهل الولایة ، وهم المهتدون بالفعل ، یتنعَّمون بأعلی نِعم وجود الإمام علیه السّلام وهی الهدایة والوصول إلی الکمال ، ولهم منازل ومقامات عالیة فی الدنیا والآخرة .

وقد اشیر إلی هذه الرحمة الخاصَّة فی عدَّة آیات من القرآن الکریم ، کما فی قوله تعالی :

« إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَقُصُّ عَلی بَنِی إِسْرائِیلَ أَکْثَرَ الَّذِی هُمْ فِیهِ یَخْتَلِفُونَ * وَ إِنَّهُ لَهُدیً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِینَ »1

وجاء فی آیة أخری :

« هُدیً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِینَ »2

وفی آیة ثالثة :

« وَ هُدیً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ »3

وجاء فی آیة اخری :

« فَأَمَّا الَّذِینَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَیُدْخِلُهُمْ فِی رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ »4

وإلیک عدَّة روایات حول هذه الرحمة .

یقول تعالی فی القرآن الکریم :

ص:51

« قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِکَ فَلْیَفْرَحُوا هُوَ خَیْرٌ مِمّا یَجْمَعُونَ »1

قال الإمام الباقر علیه السّلام فی ذیل هذه الآیة المبارکة :

« الإقرار بنبوَّة محمد صلّی اللّهُ علیه وآله والإئتمام بأمیر المؤمنین علیه السّلام هو خیرٌ ممّا یجمع هؤلاء فی دنیاهُم » (1)

وعن الإمام الرضا علیه السّلام أنه قال :

« بولایة محمدٍ وآل محمد علیهم السّلام ، هو خیرٌ ممّا یجمع هؤلاء من دنیاهم » (2)

والآن ، نحاول أن نبیِّن هذه الرحمة الخاصَّة بعبارة اخری .

یقول تعالی فی القرآن المجید :

« وَ إِنِّی لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدی »4

فقد جاء فی هذه الآیة الشریفة ، تأکیدان وثلاث شروط . فالآیة قد بدأت بکلمة " إنّی " و" اللام " وهما للتأکید ، واشترط فیها : التوبة من الکفر ، الإیمان والعمل الصالح ، فلا تتحقّق الهدایة إلاّ بعد تحقّقها .

وهذه المغفرة الإلهیَّة ، هی تلک الرحمة واللّطف الخاصّ ، ولا تشمل إلاّ من تحقَّقت فیهم الشروط الثلاث ، فلا یکفی التوبة والإستغفار لوحدهما .

وهذا هو تفسیر الإستغفار فی قوله تعالی «وَ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ » لا إنَّ مجرَّد الإستغفار بعد رحیل النبی الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله وسلم هو الأمان الثانی ، لأنَّ اللّه تعالی قد وعد بالمغفرة من تابَ وآمن وعمل صالحاً ثم إهتدی .

ص:52

إذن ، فهذه الرحمة الخاصَّة إنّما هی لمن آمن باللّه ورسوله ، وعمل عملاً صالحاً ، ثم إهتدی ، وقد جاء فی المصادر الروائیَّة السنیَّة والشیعیّة :

« ثمَّ إهتدی إلی ولایة علیِّ بن أبی طالب علیهما السّلام » (1)

وفی روایة اخری ذُکرت فی عدَّةٍ من المصادر المعروفة عند الفریقین ، عن الإمام الباقر علیه السّلام قال :

« ألا تری کیف اشترط ؟! ولم ینفعه التوبة والإیمان والعمل الصالح حتّی اهتدی ، واللّه لو جهد أن یعمل بعمل ما قبل منه حتّی یهتدی .

قلت : إلی من ؟ جعلنی اللّه فداک .

قال : إلینا » (2)

بل نقول أکثر من ذلک ، فبالنظر الدقیق یُعلم بأنَّ إستغفار غیر أهل الولایة ، لیس باستغفارٍ أصلاً ، بل سیکون لهم عذاباً .

قال الراغب الإصفهانی فی مفهوم لفظ «الآیة» :

« الآیة هی العلامة الظاهرة وحقیقته لکلِّ ظاهر هو ملازم لشیء لا یظهر ظهوره . فمتی أدرک مدرک الظاهر منهما علم أنَّه أدرک الآخر الّذی لم یدرکه بذاته إذ کان حکمهما سواء، وذلک ظاهر فی المحسوسات والمعقولات ، فمن علم ملازمة العلم للطریق المنهج ثمّ وجد العلم علم أنَّه وجد الطریق، وکذا إذا علم شیئاً مصنوعاً علم أنَّه لابدّ له من صانع » (1)

ومن الواضح ، إنَّ المتلازمین یجب أن یتّحدا من حیث الحُکم ، فلا یمکن أن یکون الشیئان متلازمین ویکون حکمُ أحدهما غیر حکم الآخر .

ففی علم الأخلاق ، یستفاد من المحسوسات لفهم المعقولات بسبب صعوبة فهمها ، فمن المحسوس نصل إلی فهم المعقول ، ولذا یقولون :

« ما من معقول إلاّ وله محسوس »

إذن ، فإذا علم الإنسان بأنَّ السّیر علی وفق العلامات والإشارات المنصوبة فی الشوارع والطرق ، ملازمة للوصول إلی مقصده ، فإنَّه سوف لا یتجاوز العلائم ولا یتخطّاها ولا یقصّر فی تطبیقها .

والحاصل ، إنَّ هناک ملازمة ومطابقة بین العلامة التی یسهل علینا درکها، وبین ذی العلامة الَّذی یخفی أمره ویصعب علینا فهمه .

فمتی ما رأینا العلامة ، وعلمنا بوجود الملازمة ، فإنّنا نکون فی الواقع قد رأینا ذا العلامة .

وهذا هو معنی " الآیة " .

ص:54

بعیسی علیه السّلام من جهة ، ومرتبطة بمریم علیها السّلام من جهة اخری ، ولذا، فإنَّ کلمة " آیة " جاءت بصیغة المفرد .

وهکذا الحال فی مقامنا وإستعمال کلمة آیة بصیغة المفرد فی خصوص الأئمّة علیهم السّلام . فصحیح أنَّ الأئمّة علیهم السّلام هم اثنا عشر عدداً ، ولکنّهم واحدٌ فی منهجهم ، قولهم ، فعلهم ، دعوتهم وهدایتهم للاُمَّة ، ولذا، فإنَّ علینا الإعتقاد بهم جمیعاً دون إنقاصٍ أو إضافة ، وکأنَّهم إمامٍ واحد ، لماذا ؟

لأنَّ المقصد هو إمامتهم وکونهم قادةً لنا ، وهم متّحدون من هذا الحیث .

ولذا ، فإنَّنا فی زمان الإمام الثانی عشر علیه السلام ، یجب علینا أن نعتقد بأحد عشر إماماً سبقوه ، ومن کان فی زمن الإمام السادس -مثلاً -علیه أن یعتقد به وبالأئمّة الخمسة الذین سبقوه وبالأئمّة الستّة الذین سیلحقوه .

وکلُّ ذلک ، لأنَّ إمامتهم إمامةٌ واحدة ، وطریقهم واحد ، ودعوتهم واحدة ، ولذا، فإنَّ بعض الأحکام قد بلَّغها الإمام السّابق وأوکل بیانها تقییداً أو تخصیصاً أو غیر ذلک إلی الإمام اللاّحق ، کما أنَّ بعض الأحکام سیبیّنها الإمام الثانی عشر ، ولی العصر والزمان عجّل اللّه تعالی فرجه الشریف . والحال ، إنَّ الدِّین واحد والشریعة واحدة . وکما أسلفنا من قبل بأنَّ الحکم الّذی نسمعه من أحد الأئمّة یمکننا نسبته إلی الإمام الآخر ، لأنَّ الإمامة ، العصمة ، المحبَّة ووجوب الإطاعة المطلقة ، واحدة فی کلِّ هؤلاء الأئمّة علیهم السّلام .

وعلی الجملة ، فإنَّ کونهم علامةً وآیة للّه سبحانه وتعالی یعنی أنَّ کلَّ هؤلاء الأئمَّة الأطهار علیهم السّلام ، هم العلامة المنصوبة للوصول إلی معرفة الباری تعالی ، وإلی العبودیّة له عزَّوجل ، وهو طریق واحد لا غیر ، لأنَّ الصّراط المستقیم لا یتعدَّد .

ص:56

ونقرأ فی القرآن الکریم :

« وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ »1

وقد روی عن الإمام الصادق والإمام الرضا علیهما السّلام فی ذیل هذه الآیة ، أن :

« النجم رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله، والعلامات الأوصیاء، بهم یهتدون » (1)

نعم ، إنَّ الأئمّة علیهم السّلام هم الهُداة ، وهم وإنْ تعدّدوا ولکنَّ هدایتهم واحدة .

وکما أنّ السّفینة تهتدی إلی طریقها لیلاً بواسطة النجوم ، وتطوی مسیرها الصحیح فتصل إلی مقصدها ، والسّائح فی الصحاری والفیافی یهتدی إلی الطریق من خلال النجوم، کذلک حال الأئمة بالنسبة إلی هذه الاُمّة .

والجدیر بالذکر هو أنَّ النَّبی صلّی اللّهُ علیه وآله قد شبّه الأئمة المعصومین من أهل البت بالسفینة وشبّههم کذلک بالنجوم ، فقد ورد عنه أنَّه قال :

« إنّما مثل أهل بیتی فیکم کمثل سفینة نوح من رکبها نجا » (2)

وورد عنه قوله :

« ...فإنّما مثل أصحابی فیکم کمثل النجوم ، بأیِّها اخذ إهتُدی وبأیِّ أقاویل أصحابی أخذتم إهتدیتم ... .

ص:57

قیل یا رسول اللّه ! ومن أصحابُک ؟

قال : أهلُ بیتی » (1)

وهذا الحدیث رواه أهل السنَّة أیضاً ولکنْ بحذف عبارة : « قیل یا رسول اللّه من أصحابک ؟ قال : أهلُ بیتی » ؛ ولکنَّ جمعاً کثیراً من کبار علمائهم کذّبوا هذا اللّفظ المبتور .(2) وللأسف فإنَّ أحد علماء الشیعة قد نقل هذا الحدیث المبتور فی کتابه ، ونسبه إلی رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله !!

وقد نقل الفخر الرازی عن بعض المذکِّرین(3) أنه أراد أن یجمع بین حدیث " السفینة " الوارد فی أهل البیت، وحدیث " النجوم " الذی یروونه فی الصّحابة ، فقال :

کما إنَّ المسافر فی البحر یحتاج إلی السفینة لیرکبها وإلی النجوم لیهتدی بها إلی مقصده ، فکذلک المسلمون یحتاجون إلی أهل البیت وإلی الصحابة معاً ، وینبغی إحترام الجمیع وإطاعتهم .(4)ولکنَّ هذا الکلام باطلٌ ، وذلک لعدم صحّة " حدیث أصحابی کالنجوم " بدون الذیل المذکور ، ولوضوح عدم عدالة جمیع صحابة رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله . بل إنَّ الصحیح هو أنَّ أهل البیت علیهم السّلام هم السفینة ، وهم النجوم التی یُهتدی بها .

ص:58

ومن ثمَّ جاء خطاب رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله لأمیر المؤمنین علیّ علیه السّلام :

« یا علیّ ما عرف اللّه إلاّ أنا وأنت ، وما عرفنی إلاّ اللّه وأنت ، وما عرفک إلاّ اللّه وأنا » (1)

فهنا نفیٌ وإستثناءٌ .إنَّ هذا النوع من المعرفة مختصٌّ باللّه المتعال ، النبیّ الأکرم والأئمَّة علیهم السّلام .

ومن جهة اخری ، فإنَّ الطاعة والتعبُّد ، فرعُ المعرفة ، فالآیة تستتبع المعرفة ، والمعرفة تستتبع الطاعة والعبادة ، فالعبادة والعبودیَّة للّه تعالی والتعبُّد بالأئمّة علیهم السّلام ، فرعُ المعرفة .

إنه یجب علینا أن نعرف الأئمَّة علیهم السّلام فیعرِّفونا اللّه تعالی ، کما هو الحال فی معرفة کلّ ما جعل علامةً ، فإنَّه إذا عرفنا العلّامة جیّداً فإنَّنا سنعرف ذا العلامة جیّداً . هذا ، وکلما إزدادت المعرفة ، إزدادت الطاعة ، وکلّ ما إزدادت الطاعة إزداد القرب ، وإنَّه ستترتب علی ذلک آثارٌ وبرکات .

فاتّضح أنَّ حقیقة الأئمّة علیهم السّلام سرُّ مخزون ، وأنَّ معرفتهم بالحدِّ الأعلی غیر مقدورةٍ لنا ، ولکن یجب علینا أن نحاول قدر إمکاننا ووسعنا ، وأن نسعی لنحصل علی ما یناسب وسعنا واستعدادنا من المعرفة .

وإنّ هذا هو معنی الإمامة ، ولذا یقول الإمام الرضا علیه السّلام :

« ...إنَّ الإمامة أجلَّ قدراً و أعظم شأناً وأعلی مکاناً وأمنع جانباً وأبعد

ص:60

غوراً من أن یبلغها الناس بعقولهم أو ینالوها بآرائهم أو یقیموا إماماً بإختیارهم... ؛ » (1)

وهدیهم ، ولکنّ السبب فی حرمان الاُمَّة من قیادة الأئمَّة وترکت وصیّة رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله بهم وهجر القرآن.

وإذا کان الإمام الثانی عشر ولیُّ العصر عجّل اللّه تعالی فرجه الشریف غائباً ولیس من السهل الوصول إلیه من قبل الناس، لیستفیدوا منه کما کان بإمکان أصحاب الأئمّة فی زمانهم أنْ یتشرّفوا بخدمة الأئمّة الکرام -فإنَّ هذا بسبب تقصیر الناس أنفسهم .

ولکنَّ اللّه تعالی قد تعهّد بحفظ الأئمّة علیهم السّلام ، ولیس المراد من حفظهم هو سلامة أجسامهم ودفع الخطر عنهم والإبقاء علی حیاتهم، فإنّ هذا لم یکنّ حتی بالنسبة إلی الأنبیاء، وإنَّما حفظهم بحفظ شخصیّاتهم الکریمة.

إنَّ شخصیَّة کلَّ إنسان قائمةٌ بمبانیه الإعتقادیّة وعلومه ، أعماله وأخلاقه ، فالإنسان یتجلّی فی هذه الأبعاد الثلاثة ، ویُعرف من خلالها .

فإذا إجتمعت هذه الأبعاد الثلاث فی الشخص ، کمُلت شخصیَّتُهُ .

وقد وجدت المرتبة الأعلی من هذه الأبعاد الثلاث فی شخصیَّة الأئمّة الأطهار علیهم السّلام ، فهل قدر أحدٌ لحدِّ الآن علی إیراد خدشة مهما کانت صغیرة علی شخصیّة أئمتنا الکرام ، سواء فی مبانیهم الإعتقادیَّة ، أو فی أفعالهم وتروکهم ، أو فی صفاتهم وملکاتهم ؟

کلّا ، فحتّی أعداءُ أهل البیت قد أقرّوا وأذعنوا بتوفر هذه الجهات الثلاث بأعلی مستویاتها فی أئمّتنا علیهم السّلام ، فخضع لهم حتی اولئک الذین لم یتبعوهم وخالفوا منهجهم .

ص:62

إذن ، فشخصیَّة الأئمّة علیهم السّلام محفوظة ، حتّی وإنْ لم تکن شخوصهم محفوظة ، وإنَّهم إستشهدوا سلام اللّه علیهم .

وعلیه ، فإنّنا دائماً متمکّنون من الوصول إلیهم والأخذ منهم والإقتداء بهم ، واللّه تعالی حافظهم .

وأمّا فی زمن الحضور، فإنّ علی جمیع المسلمین المحافظة علی حیاة رسول اللّه والأئمة الطّاهرین، قال تعالی:

«ما کانَ لِأَهْلِ الْمَدِینَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ یَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَ لا یَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ »1

وقال تعالی :

« إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلی أَهْلِها»2

وحفظ حضرات الأئمّة الأطهار فی هذا الزمان ، یکون من خلال :

1- حفظ " الولایة " ، فإنَّ ولایة الأئمّة الأطهار علیهم السّلام ، أمانة بأیدینا ، وهی أغلی ودیعة عندنا ، والتی بذل سلفنا النفیس من أموالهم وأرواحهم الطّاهرة فی سبیل المحافظة علیها وإیصالها إلینا .

2- المحافظة علی تعالیم الأئمّة ومعارفهم وآدابهم علیهم السّلام ، فی الأقوال ، الأفعال ، الصفات ، والمبانی الإعتقادیّة ، بالأخذ بها ونشرها بین الناس، ومن ثمَّ جاء عن الصّادق علیه السّلام أنه قال :

« کونوا لنا زیناً ولا تکونوا علینا شیناً » (1)

ص:63

وعن زید الشحّام قال ، قال الصادق علیه السّلام :

« یا زید ! خالقوا الناس بأخلاقهم ، صلّوا فی مساجدهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، وإنْ إستطعتهم أن تکونوا الأئمَّة والمؤذّنین فافعلوا ، فإنَّکم إذا فعلتم ذلک قالوا : هؤلاء الجعفریَّة ، رحم اللّه جعفراً ، ما کان أحسن ما یؤدّب أصحابه ، وإذا ترکتم ذلک قالوا : هؤلاء الجعفریَّة ، فعل اللّه بجعفر ، ما کان أسوأ ما یؤدّب أصحابه ؛ »(1)

نعم ، إنَّ اللّه سبحانه وتعالی قد تعهَّد بحفظ الأئمّة علیهم السّلام من جهة الشخصیَّة ، کما تعهد وضمن حفظ القرآن الکریم ، فکما إنَّ أحداً لا یمکنه المسِّ بالقرآن الکریم منطقیّاً ، فکذلک لا یمکن لأحد أن یمسَّ شخصیَّة الأئمّة الأطهار علیهم السّلام بأیِّ خدشة فی شخصیّاتهم .

وأوَّل من حاول النیل من شخصیَّة الرسول الأعظم صلّی اللّهُ علیه وآله بعد رحیله وبصورةٍ صریحة وعلنیّة، ثمّ هو معاویة بن أبی سفیان حاول الطعن فی شخصیَّة الأئمة الأطهار الکرام . وأصدر أوامره بلعن أمیر المؤمنین علیه السلام علی المنابر .

ولکنَّ کبار بنی امیَّة قد إعترفوا بأنَّهم مهما حاولوا فی أهل البیت لم یرجع علیهم إلاّ بالخیبة وبزیادة عزَّة أهل البیت وإعظامهم .

ولذا ، فإنَّ معاویة قرَّر والقضاء علیهم جسدیّاً ، تصفیتهم فتواطأ مع الخوارج فقتل أمیر المؤمنین علیه السّلام .

وهکذا خطَّط لقتل الإمام الحسن المجتبی علیه السّلام والإمام الحسین سید الشهداء علیه السّلام ، کلٌّ علی حِدة ، بالتواطیء بین الاُمویین والخوارج .

ص:64

ولا یخفی ، إنَّ أمیر المؤمنین ، الإمام الحسن المجتبی وسید الشهداء علیهم السّلام ، قد فضحوا الاُمویّین ، بسیرتهم ثمّ باستشهادهم، وکان عمل کلِّ واحدٍ من هؤلاء الأطهار مکمّلاً لدور ، فأطاحوا لیس فقط بکیان بنی امیَّة ، بل وحتّی کیان من مهّد لهم للتسلّط علی رقاب المسلمین وأجلسهم قسراً علی کرسیّ الحکم .

هذا فی حال حیاتهم.

وکذلک الحال باستشهادهم علی ید الاُمویین والخوارج، خاصّةً قضیّة أبی عبداللّه الحسین علیه السّلام وواقعة الطف الفجیعة، ولذا ، فإنَّنا نجد إنَّ أعداء أهل البیت علیهم السّلام ، حاربوا ویحاربون مراسم عزاء الحسین سید الشهداء علیه السّلام ، ویقولون : إنَّ هذه المراسم تقترن بلعن بنی امیَّة ومعاویة ، فإذا ما فتح باب لعن معاویة فإنَّه سیؤدّی إلی لعن من تقدّم ومن أسّس أساس الظلم .

ومن هنا کان حفظ مراسم عزاء الإمام الحسین علیه السّلام ، والاستمرار علیها من جملة تکالیف الموالین لأهل البیت وبذلک أفتی فقهاء مدرستهم.

ثم قال :

« إذا قیل : إبتلی فلان کذا وأبلاه ، فذلک یتضمّن أمرین :

أحدهما : تعرّف حاله والوقوف علی ما یجهل من أمره .

والثانی : ظهور جودته ورَداءته .

وربما قصد به الأمران، وربما یقصد به أحدهما .

فإذا قیل فی اللّه تعالی بلا کذا ، أو أبلاه ، فلیس المراد إلاّ ظهور جودته ورداءته دون التعرّف لحاله... إذ کان اللّه علّام الغیوب ، وعلی هذا قوله عزَّوجل : « وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ » » (1)

ومعنی " الباب " معروف ، فهو اللّفظ الذی یقال لمدخل الأمکنة، کباب البیت والدار والمدینة وغیرذلک .

ویطلق " الباب " علی طریق الوصول إلی العلم، فیقال مثلاً:

فلانٌ باب الفقه .

وبحسب ما جاء فی الروایات ، فإنَّ الأئمّة علیهم السّلام هم أبواب " اللّه " ، " الإیمان " ، " العلم " و" التُقی " ، وإنَّ من أراد الوصول إلی اللّه ، الدین ، العلم وسائر الحقائق الدینیّة ، لا یمکنه الوصول إلیها إلاّ من خلال طریق الأئمّة علیهم السّلام ، فلا طریق سواهم ، ولا باب غیرهم ، فإنَّ اللّه تعالی یقول : «وَ أْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوابِها »2

ولکنَّ هذه العبارات الواردة فی الزیارة الجامعة ، قد جعلت الأئمّة علیهم

ص:66

السّلام باب إمتحان الناس -لا فی هذه الاُمَّة فقط بل فی کلِّ الاُمم البشریّة -وهو إشارة علی ما یظهر ، إلی ما وقع فی بنی إسرائیل .

فالقرآن الکریم یحکی لنا هذه الحقیقة حیث یقول تعالی :

« وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْیَةَ فَکُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَکُمْ خَطایاکُمْ وَ سَنَزِیدُ الْمُحْسِنِینَ * فَبَدَّلَ الَّذِینَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَیْرَ الَّذِی قِیلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما کانُوا یَفْسُقُونَ »1

فالآیة تُشیر إلی إنَّ بنی إسرائیل قد امروا بأن یدخلوا الباب -وهو باب بیت المقدس -ساجدین ، وأن یستغفروا ویعتذروا مما صدر منهم من خطایا ، لیُغفر لهم ، ولکنّهم إمتنعوا من إمتثال هذا الأمر وحرَّفوا الأمر الإلهی وقالوا غیر ما امروا بقوله ، فاستحقّوا العذاب .

فالإمتحان سنّة إلهیَّة وقانون عامّ فی کلِّ الاُمم وعلی ذلک تدلّ الآیات القرآنیّة ، وهذه الاُمَّة الإسلامیَّة أیضاً مشمولة بهذه السنَّة الإلهیَّة .

یقول عزّوجلّ :

«إِنّا جَعَلْنا ما عَلَی الْأَرْضِ زِینَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَیُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»2

ویقول القرآن الکریم :

« أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ یُتْرَکُوا أَنْ یَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا یُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَیَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ لَیَعْلَمَنَّ الْکاذِبِینَ »3

ص:67

وطبقاً لما جاء فی الأحادیث التی نقلها السُنَّة والشیعة ، إنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« یکون فی هذه الاُمَّة کلَّ ما کان فی بنی إسرائیل حذو النعل بالنعل و[ حذو ] القذَّة بالقذَّة » (1)

فإنّه نصٌّ علی أن کلّ ماجری فی بنی إسرائیل خاصّةً سیقع فی هذه الاُمّة فی جریان ما جری فی بنی إسرائیل علی هذه الاُمَّة أیضاً .

ومن ثمَّ نجد أنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله -وطبقاً للروایة المشهورة - قد شبَّه أمیر المؤمنین علیّاً وأهلَ بیته علیهم السّلام ، بباب حطّة فی هذه الاُمَّة ، فقال :

« علیٌّ بابُ حطَّة » (2)

إذن ، فلابدَّ أن تکون هناک ضابطةٌ فی الإمتحان والإختبار لیمتاز المحسن عن المسیء ، والصّادق عن الکاذب ، وهذه الضابطة فی هذه الاُمّة هم أهل البیت علیهم السّلام ، فهم المیزان الفاصل بین الحقِّ والباطل .

وبطبیعة الحال ، فإنَّ قاعدة العدل تقتضی أن یثاب الأخیار علی أعمالهم ویعاقب الأشرار علی سیِّئاتهم ، فلا یتساوی الفریقان ، لأنَّ المساواة بین الأشرار والأخیار ، والعاصین والمطیعین ، مخالفٌ لحکم العقل وقاعدة العدل ، وحاشا للّه من ذلک ، فلا یجوز أن یکون الطّائفتان فی مستقّر واحدٍ فی یوم القیامة .

ص:68

إذن ، فالملاک للتمییز والتفریق هم الأئمّة علیهم السّلام ، قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله فی حدیث الثقلین :

«إنّی تارکٌ فیکم الثقلین : کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی ما إنْ تمسَّکتم بهما لن تضلّوا » (1)

إذن ، فالقرآن والعترة هما المیزان الَّذی یمیِّز الضالّین من المهتدین ، ومن الواضح ، إنّه أینما کان أهلُ البیت علیهم السّلام ، کان القرآن موجوداً ، فیمکن القول حینئذٍ بأنَّ العترة هم الملاک وهم بابُ حطّة ، وقد اشیر إلی ذلک فی الأحادیث الاُخری أیضاً .

ومن هذا الباب ما رواه کبار علماء العامّة ، کالدار قطنی ، الحاکم النیشابوری ، الطبرانی ، أبوبکر البزّار ، أبو نعیم الإصفهانی وغیرهم فی ذیل الآیة المبارکة :

« وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ »2

وعن سلیمان الجعفری قال : سمعتُ من الإمام الرضا علیه السّلام فی هذه الآیة قال : قال الباقر علیه السّلام :

« نحن بابُ حطَّتکُمْ » (2)

وفی حدیث آخر جاء فی المصادر الشیعیَّة والسنیَّة ، إنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

ص:69

« مثل أهل بیتی فیکم کمثل باب حطّة فی بنی إسرائیل من دخله غفر له » (1)

وفی روایات کثیرة ورد تشبیه أهل البیت علیهم السّلام بسفینة نوح علیه السّلام وباب حطَّة فی سیاق واحد وسند واحد ، وإنَّ حُکم الأئمّة هو حکم سفینة نوح من جهة وحکم باب حطَّة من جهة اخری .(2)

إشارات إلی ذلک، ویکفی أنْ نقول هنا: بأن اللّه یرید أنْ یعطی العباد نتیجة أعمالهم بأیدیهم ، إنْ کان خیراً أو کان شرّاً .

ولذا ، یجب إقامة الحجَّة علیهم ، وإتمام هذه الحجَّة لکی لا یکذّب أهل الضلالة ویقولوا : لم نفعل ذلک ، ولم نکن کذلک .

یقول القرآن الکریم فی هذا الباب :

« لِئَلاّ یَکُونَ لِلنّاسِ عَلَی اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ »1

وبناءاً علی ما مرَّ ، فإنَّ الأئمَّة هم المعیار ، المیزان ووسیلة الإمتحان .

وقد ورد فی روایة عن الإمام الباقر علیه السّلام :

« بلیَّة الناس علینا عظیمة ، إنْ دعوناهم لم یستجیبوا لنا ، وإنْ ترکناهم لم یهتدوا بغیرنا » (1)

وهذا کلامٌ مهمٌّ جدّاً ، فهذا هو حال الناس فی کلّ زمان ، وهو حال عجیب ، وقد أفاد علیه السّلام - فی هذا الکلام - أمرین، أحدهما: إنَّ الأئمَّة علیهم السّلام هم وسیلة .

وهذا ما نصّ علیه رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله فی حدیثٍ یخاطب أمیر المؤمنین علیه السّلام ویقول :

« ألا إنّک المبتلی بک ، أما إنّک الهادی لمن اتّبعک ، ومن خالف طریقتک ضلَّ إلی یوم القیامة » (2)

ص:71

ثم إنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله قد وصف نفسه - فی الحدیث الثابت المشهور - ب «مدینة العلم» وجعل علیّاً هو «الباب» لها، ولتوضیح هذا الحدیث لابدّ من بیان أمرین:

1- إنّ الهدایة والنجاة فی الدنیا والآخرة ودرجات الجنّة منوطة بالعلم والمعرفة ، ولا یحصل شئ من ذلک مالم یوجد العلم والمعرفة .

وبطبیعة الحال ، فإنَّ علی کلِّ إنسان أن یسعی بمقدار وسعه وراء کسب العلم والمعرفة ، فالجهل لا یوصل الإنسان إلی النجاة والهدایة ، مع إنَّ تعامل اللّه تعالی مع الجاهل القاصر یختلف عن حسابه للجاهل المقصِّر ، فالمقصِّر مذموم عقلاً وشرعاً .

فکلُّ الأمور إذن ، مرهونة بالعلم ، ومنزلة الإنسان عنداللّه، فی الدنیا والآخرة، إنما تکون بمقدار علمه ومعرفته .

یقول أمیر المؤمنین علیه السّلام :

« قیمة کلُّ إمرئٍ ما یُحسِنُهُ » (1)

2- إنَّ المعارف والعلوم کلَّها عند رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، فی أعلی مراتبها، بلاخلافٍ بین المسلمین، وعلیه ، فکلّ للدنیا وللآخرة ، هی موجودة عند رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله و سلم ، وإنّما تکون بواسطته .

وإذا کان کذلک، فإنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله قد نصَّ علی أنْ لا طریق للوصول إلیه، ولا باب للدخول فی معارفه وعلومه وتعالیمه إلّاعلیٌّ أمیرالمؤمنین، إذ قال:

ص:72

« أنا مدینة العلم وعلیٌّ بابُها، فمن أراد المدینة فلیأتها من بابها » (1)

هذا، وهنا فائدة لا بأس بذکرها، وهی: إنه قد ورد فی القرآن الکریم عنوانان متفاوتان فی المعنی وهما عنوان " المدینة " وعنوان " القریة " ، وکلَّما أراد القرآن بیان الخراب المعنویّ عبّر عنه بالقریة ، کما فی قوله تعالی :

« وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْیَةً کانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً یَأْتِیها رِزْقُها رَغَداً مِنْ کُلِّ مَکانٍ فَکَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذاقَهَا اللّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما کانُوا یَصْنَعُونَ »2

وفی آیة اخری :

« وَ کَمْ مِنْ قَرْیَةٍ أَهْلَکْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَیاتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ »3

وکلَّما أراد القرآن الکریم بیان العمار المعنوی ، عبَّر عنه بالمدینة ، حتّی وإنْ لم تکن عامرة من الجهة المادیّة ، یقول تعالی :

« وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِینَةِ یَسْتَبْشِرُونَ »4

وفی آیة اخری :

« قالُوا رَبُّکُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَکُمْ بِوَرِقِکُمْ هذِهِ إِلَی الْمَدِینَةِ فَلْیَنْظُرْ أَیُّها أَزْکی طَعاماً »5

ص:73

ففی الحدیث الآنف الذکر ، نجد إنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله یُعبِّر عن نفسه الشریفة بالمدینة والمکان العامر ، لتوفُّره علی کلِّ المعنویّات اللازمة لصلاح البشریَّة وهدایتها .

ولکنَّ هذه المدینة العامرة لیس لها إلاّ بابٌ واحد لمن أرادها ، فمن رام الحصول علی تلک المعنویّات والمنازل والمراتب ، علیه أن یأتی المدینة من هذا الباب .

یقول القرآن الکریم :

« وَ أْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوابِها»1

إذن ، فمن تقدَّم نحو أهل البیت وجاءهم یسعی ، کان من أهل النَّجاة ، ومن تخلَّف عنهم وترکهم ، کان من أهل الشّقاء والهلکة ، وأیّ هلکة بعد حرمان الإنسان من المعنویّات والهدایة بالکامل ؟

تُری ، إلی ماذا یؤول أمر اولئک الذین إختاروا لأنفسهم طرقاً اخری غیر طریق أهل البیت علیهم السّلام ؟

حقَّاً إنَّهم إنقطعوا عن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله .

إنَّ مثل هؤلاء ، ولکی یتخلّصوا من الهلکة -بزعمهم -إضطرّوا إلی تکذیب هذا الحدیث الشّریف وإهانة رواته وإلافتراء علیهم، ولمّا لم ینفعهم ذلک عمدوا إلی التصرّف فی لفظه، فاختلقوا أبواباً متعدّدة لهذه المدینة المحمّدیَّة جعلوا لها سقفاً ، وجُدُراً ومحراباً ، فقالوا :

ص:74

« وعثمانُ سقفُها وعمر وأبوبکر حیطانُها (!!) »(1)

نعم ، لمّا رأی القوم أن الخلفاء الذین نصبوهم لیسوا مؤهلین لأن یکونوا باباً لمدینة رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، لجهلهم حتّی بأبسط المسائل الشّرعیّة لجأوا إلی التحّریف والکذب والوضع، وقاموا بهتک الرّواة للحدیث الصّحیح الثابت عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله.

فقد ذکر العلماء أنَّ الحاکم النیشابوری - وهو المحدّث الأکبر فی مدینة نیشابور - لمّا روی حدیث " مدینة العلم " المشهور ، بل المتواتر ،(2) هجم الناسُ علی داره وکسَّروا باب منزله وکرسیِّ درسه وخدشوا کتابه المستدرک ، وصیَّروه جلیس الدار .(3)

فقال : إنَّ اللّه تعالی بعث محمَّداً صلّی اللّهُ علیه وآله إلی الناس أجمعین رسولاً وحجَّةً للّه علی جمیع خلقه فی الأرض ، فمن آمن باللّه وبمحمَّد رسول اللّه واتبعه وصدَّقه ، فإنَّ معرفة الإمام منّا واجبة علیه ، ومن لم یؤمن باللّه وبرسوله ولم یتّبعه ولم یصدّقه ویعرف حقَّهما، فکیف تجب علیه معرفة الإمام وهو لا یؤمن باللّه ورسوله ویعرف حقَّهما ؟

قال قلت : فما تقول فی من لا یؤمن باللّه ورسوله ویصدّق رسوله فی جمیع ما أنزل اللّه ، أیجب علی اولئک حق معرفتکم ؟

قال : نعم ، ألیس هؤلاء یعرفون فلاناً وفلاناً ؟

قلت : بلی .

قال : أتری أنَّ اللّه هو الّذی أوقع فی قلوبهم معرفة هؤلاء ؟ واللّه ما أوقع ذلک فی قلوبهم إلاّ الشیطان ، لا واللّه ما ألهم المؤمنین حقّنا إلاّ اللّه ؛ » (1)

ص:76

إِلَی اللَّهِ تَدْعُونَ ، وَعَلَیْهِ تَدُلُّونَ ، وَبِهِ تُؤْمِنُونَ ، وَلَهُ تُسَلِّمُونَ ، وَبِأَمْرِهِ تَعْمَلُونَ ، وَإِلَی سَبِیلِهِ تُرْشِدُونَ ، وَبِقَوْلِهِ تَحْکُمُونَ .

سَعِدَ مَنْ وَالاکُمْ ، وَهَلَکَ مَنْ عَادَاکُمْ ، وَخَابَ مَنْ جَحَدَکُمْ ، وَضَلَّ مَنْ فَارَقَکُمْ ، وَفَازَ مَنْ تَمَسَّکَ بِکُمْ ، وَأَمِنَ مَنْ لَجَأَ إِلَیْکُمْ ، وَسَلِمَ مَنْ صَدَّقَکُمْ ، وَهُدِیَ مَنِ اعْتَصَمَ بِکُمْ .

مَنِ اتَّبَعَکُمْ فَالْجَنَّةُ مَأْوَاهُ ، وَمَنْ خَالَفَکُمْ

ص:77

فَالنَّارُ مَثْوَاهُ ، وَمَنْ جَحَدَکُمْ کَافِرٌ ، وَمَنْ حَارَبَکُمْ مُشْرِکٌ ، وَمَنْ رَدَّ عَلَیْکُمْ فَهُوَ فِی أَسْفَلِ دَرْکٍ مِنَ الْجَحِیمِ .

أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا سَابِقٌ لَکُمْ فِیمَا مَضَی وَجَارٍ لَکُمْ فِیمَا بَقِیَ ، وَأَنَّ أَرْوَاحَکُمْ وَنُورَکُمْ وَطِینَتَکُمْ وَاحِدَةٌ طَابَتْ وَطَهُرَتْ ، بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ، خَلَقَکُمْ أَنْوَاراً فَجَعَلَکُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِینَ حَتَّی مَنَّ عَلَیْنَا بِکُمْ ، فَجَعَلَکُمُ اللَّهُ فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ ،

ص:78

وَجَعَلَ صَلَاتَنَا عَلَیْکُمْ وَمَا خَصَّنَا بِهِ مِنْ وَلَایَتِکُمْ ، طِیباً لِخَلْقِنَا ، وَطَهَارَةً لِأَنْفُسِنَا ، وَتَزْکِیَةً لَنَا ، وَکَفَّارَةً لِذُنُوبِنَا ، فَکُنَّا عِنْدَهُ مُسَلِّمِینَ بِفَضْلِکُمْ وَمَعْرُوفِینَ بِتَصْدِیقِنَا إِیَّاکُمْ .

فَبَلَغَ اللَّهُ بِکُمْ أَشْرَفَ مَحَلِّ الْمُکَرَّمِینَ ، وَأَعْلَی مَنَازِلِ الْمُقَرَّبِینَ ، وَأَرْفَعَ دَرَجَاتِ الْمُرْسَلِینَ ، حَیْثُ لَا یَلْحَقُهُ لَاحِقٌ ، وَلَا یَفُوقُهُ فَائِقٌ ، وَلَا یَسْبِقُهُ سَابِقٌ ، وَلَا یَطْمَعُ فِی إِدْرَاکِهِ طَامِعٌ ،

ص:79

حَتَّی لَا یَبْقَی مَلَکٌ مُقَرَّبٌ ، وَلَا نَبِیٌّ مُرْسَلٌ ، وَلَا صِدِّیقٌ وَلَا شَهِیدٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ وَلَا دَنِیٌّ وَلَا فَاضِلٌ ، وَلَا مُؤْمِنٌ صَالِحٌ ، وَلَا فَاجِرٌ طَالِحٌ ، وَلَا جَبَّارٌ عَنِیدٌ ، وَلَا شَیْطَانٌ مَرِیدٌ ، وَلَا خَلْقٌ فِیمَا بَیْنَ ذَلِکَ شَهِیدٌ، إِلَّا عَرَّفَهُمْ جَلَالَةَ أَمْرِکُمْ ، وَعِظَمَ خَطَرِکُمْ ، وَکِبَرَ شَأْنِکُمْ ، وَتَمَامَ نُورِکُمْ ، وَصِدْقَ مَقَاعِدِکُمْ ، وَثَبَاتَ مَقَامِکُمْ ، وَشَرَفَ مَحَلِّکُمْ وَمَنْزِلَتِکُمْ عِنْدَهُ ، وَکَرَامَتَکُمْ عَلَیْهِ وَخَاصَّتَکُمْ لَدَیْهِ وَقُرْبَ مَنْزِلَتِکُمْ مِنْهُ .

ص:80

3- إنَّ الضمائر فی هذه العبارات ، کلّها تعود إلی لفظ الجلالة ، وهذا یعنی أنّ کلّ سعی حضرات الأئمَّة علیهم السّلام للّه، وأنهم قد فنَوا فی اللّه، وأنهم الواسطة بینه سبحانه وتعالی وخلقه .

إذن ، فالأئمَّة علیهم السّلام لم یدعوا الناسَ إلی أنفسهم أبداً ، ولم یعتبروا أنفسهم فی عَرض اللّه عزَّوجلّ ، وإنَّ کلَّ ما أرادوه فهو للّه عزَّوجل ، وکلّما فعلوه فهو بأمر اللّه تعالی ، وکلَّ أحکامهم هی قول اللّه عزَّوجل ، فأرادوا أن یوجِّهوا الناس إلی اللّه فقط ، وإلی العمل بأحکامه وإمتثالها .

فالأئمَّة علیهم السّلام هم الواسطة بین اللّه عزَّوجلّ وبین خلقه ، ولقد کانوا ولا زالوا هکذا فی جمیع العوالم .

وفی آیة أخری ، یخاطب اللّه تعالی رسولَه الکریم بقوله :

« قُلْ هذِهِ سَبِیلِی أَدْعُوا إِلَی اللّهِ عَلی بَصِیرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی»1

والأئمَّة علیهم السّلام کانوا مکلَّفین بنفس هذا التکلیف وبالقیام بهذه والمهمَّة ، وهم المراد من «وَ مَنِ اتَّبَعَنِی» کما عن الأئمَّة علیهم السلام ، فقد روی سلام بن المستنیر عن أبی جعفر علیه السّلام أنه قال :

« ذلک رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وأمیر المؤمنین والأوصیاء علیهم السّلام من بعدهما » (1)

وهذه الدعوة هی خیر الدعوات وعلی رأسها وأحسنها ، یقول تعالی :

« وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَی اللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِی مِنَ الْمُسْلِمِینَ »3

ومن أحسن قولاً من الأئمَّة الأطهار علیهم السّلام بعد رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وأحسن دعوةً للناس بأحسن القول إلی اللّه تعالی منهم ؟

ومَن مِنَ الناسِ کان له عمل صالح کالأئمَّة الأطهار علیهم السّلام ؟

نعم ، إنَّ هؤلاء هم سادة المسلمین ، ولذا جاء فی تفسیر هذه الآیة بأنَّ المراد منها هو أمیر المؤمنین علیه السّلام ، لکونه المصداق الأتمّ لعنوان الإسلام و المسلمین .(2)

ص:83

وإنْ کان المراد من «

وقال إنّنی مِنَ المُسلمینَ » هو مقام التسلیم ، حیث ورد عنه علیه السّلام :

« الإسلام هو التسلیم » (1)

فالأئمَّة أیضاً هم علی رأس أهل التسلیم ، کما جاء فی الزیارة :

« وله تُسلّمون »

والتسلیم، ولذا فإنهم علیهم السّلام لایریدون إلّامایرید ولا یفعلون شیئاً من عند أنفسهم ، بل یعملون بما یؤمرون من قبل اللّه تعالی فیرشدون إلیه ، ویحکمون بقوله، بل إنّ کلّ امورهم إلهیّة ، فأین من حالاتهم حال المخالفین لهم ؟ وما عمل الآخرین ممّن یدّعی له العلم والمعرفة إلّاکسرابٍ بقیعةٍ یحسبه الظمآن ماءً !!

فعلی المؤمن الذی یطلب المعارف الإلهیّة ویرجو الفلاح والهدایة والنجاة فی الآخرة أنْ یتّبع أهل البیت ویترک الطریق الآخر، وقد کررّنا أنْ لاطریق ثالث.

هذا ، ولا یخفی أنه لو رفع الإنسان یده عمّا یرید و سلّم أمره للّه ، أعطاه الله ما یرید ، وهذا ما وعد اللّه به المسلّمین کما جاء فی الروایة عن الأئمَّة الأطهار علیهم السَّلام من أنَّ اللّه تعالی خاطب داود النّبی علیه السَّلام فقال :

أنت ترید و أنا أرید ، فإنْ سلَّمت إلیّ فی ما أُرید أعطیتک ما ترید ، وإلاّ أتعبتک فیما ترید ثم لا یکون إلاّ ما ارید .

وحالاتهم ، کانت للّه وتدلُّ علیه وتدعوا إلیه ، وخاصَّة حالاتهم فی العبادة وما کانوا علیه من الخضوع والخشوع للّه العلّی الکبیر، تلک الحالات التی لم یکن أحدٌ مثلهم فیها ، ولا شکَّ فی تأثیر الأفعال والحالات السلوکیَّة فی الدلالة علی اللّه ، والهدایة إلی الحقّ ، بل هی أکثر وقعاً من الأقوال ، ومن هنا أوصی الإمام علیه السّلام شیعته قائلاً :

« کونوا دعاةً لنا بغیر ألسنتکم » (1)

وقد عُبِّر عن هذا المعنی بتعابیر عدیدة مثل : الوسیلة ، السبب ، الحبل ، النجم ، الآیة ، الرایة ، العَلَم ، و....

ومن تلک الروایات المشتملة علی ذلک ما ورد عن الإمام الباقر علیه السّلام من قوله :

« إنَّما نَحنُ کَنُجوم السَّماء کُلَّما غابَ نَجمٌ طَلَعَ نجم »(1)

وعن الإمام الصادق علیه السّلام أنه قال :

« نحن حبل اللّه الّذی قال اللّه تعالی : «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا »2 ؛ (2)

وعن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« ... نحنُ الوسیلة إلی اللّه والوصلة إلی رضوان اللّه »(3)

وقال صلّی اللّهُ علیه وآله فی حدیث آخر :

« یا علیّ أنت منّی وأنا منک ، نیط لحمک بلحمی ودمک بدمی ، وأنت السبب فیما بین اللّه وبین خلقه بعدی ، فمن جحد ولایتک قطع السبب الّذی فیما بینه وبین اللّه وکان ماضیاً فی الدرکات ؛ » (4)

ص:88

ویعترفون ویذعنون بأنَّ أتباع أهل البیت علیهم السّلام هم من أهل السّعادة ، وقد سُعدوا فعلاً .

إذن ، فنتیجة الطاعة الواقعیَّة والحقیقیَّة لأهل البیت علیهم السّلام هی السعادة ، حُسن العاقبة والنجاة فی الآخرة ، والورود إلی جنّات الخلد .یقول القرآن الکریم فی هذا الشأن :

« وَ أَمَّا الَّذِینَ سُعِدُوا فَفِی الْجَنَّةِ خالِدِینَ فِیها»1

لماذا ؟ لأنَّ الأئمَّة علیهم السّلام هم الواسطة ، السبب والرابط ، فکلُّ أقوالهم وأفعالهم ، هی أقوال وأفعال إلهیَّة ، فکلامهم کلامُ اللّه ، وفعلهم فعل اللّه .فإطاعتهم والتبعیَّة لهم ، إطاعةٌ للّه، وهذه هی «السعادة» ومخالفتهم وعداوتهم مخالفة للّه، وهذه هی «الشقاوة» .

فظهر السّبب فی قولنا : سعد من والاکم .

ثمَّ إنَّ السعادة تقع دائماً فی قبال الشقاء . قال الراغب:

الشقاوة خلاف السعادة(1)ولکنَّ السعادة فی هذه الفقرة من الزیارة الجامعة ، قد جُعلت فی مقابل الهلکة ، وبین الهلکة والشقاوة تفاوتٌ ، وسیأتی معنی الهلاک.

ولعلَّ ذلک من أجل أنَّ الشقاء ، یعنی سوء الحال ، وأمّا الهلکة فمساویة للفناء والإضمحلال والزوال ، فلیتأمَّل فی عاقبة الّذین خالفوا أهل البیت وعادوهم وظلموهم !

ص:90

ومن المناسب هنا إیراد الحدیث التالی عن بعض المصادر المعتبرة غیر الشیعیَّة فی هذا الباب .

روی أبو القاسم الطبرانی بسنده عن السیّدة الزهراء علیها السّلام أنها قالت :

« خرج علینا رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله عشیَّة عرفة فقال : إنَّ اللّه باهی بکم وغفر لکم عامَّة ولعلیّ خاصَّة ، وإنّی رسول اللّه إلیکم غیر محارب لقاربتی ، هذا جبریل یخبرنی أنَّ السعید حقّ السعید من أحبَّ علیّاً فی حیاته وبعد موته ، وأنَّ الشقیّ کلّ الشقیّ من أبغض علیّاً فی حیاته وبعد موته ؛ » (1)

هذا مختصر الکلام حول سعادة أهل الولایة فی عالم الآخرة .

وإنَّ لولایة أهل البیت علیهم السّلام ، آثاراً مادّیة ومعنویَّة فی عالم الدنیا أیضاً .

وإنَّ أهمَّ وأوضح آثار هذه الولایة فی الدنیا ، هی التقوی والورع .

ومن هنا ، فإنَّ الروایات -الشیعیَّة والسنیَّة معاً -تصف أمیر المؤمنین علیّ ابن أبی طالب بأنَّه " إمام المُتَّقین " .

وفی الحدیث عن جابر عن الإمام الباقر علیه السّلام ، قال :

« یا جابر ! أیکتفی من ینتحل التشیُّع أن یقول بحبّنا أهل البیت ؟ فواللّه ، ما شیعتنا إلاّ من اتّقی اللّه وأطاعه ، وما کانوا یُعرفون یا جابر ! إلاّ بالتواضع والتخشُّع والأمانة وکثرة ذکر اللّه والصَّوم والصّلاة والبرّ بالوالدین والتعاهد للجیران من الفقراء وأهل المسکنة والغارمین والأیتام وصدق الحدیث وتلاوة القرآن وکفّ الألسن عن الناس إلاّ من خیر ؛ وکانوا امناء عشائرهم فی الأشیاء .

قال جابر : فقلت : یابن رسول اللّه ! ما نعرف الیوم أحداً بهذه الصفة .

ص:91

فقال : یا جابر ! لا تذهبنَّ بک المذاهب ، حسب الرّجل أن یقول : احبُّ علیّاً وأتولّاه ثمَّ لا یکون مع ذلک فعالاً ؟

فلو قال : إنّی احبُّ رسول اللّه - فرسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله خیرٌ من علیّ علیه السّلام - ثمَّ لا یتّبع سیرته ولا یعمل بسنّته، ما نفعه حبّه إیّاه شیئاً .

فاتّقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه ، لیس بین اللّه وبین أحد قرابة ، أحبُّ العباد إلی اللّه عزَّوجلّ [ وأکرمهم علیه ] أتقاهم وأعملهم بطاعته .

یا جابر ! واللّه ، ما یتقرّب إلی اللّه تبارک وتعالی إلاّ بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا علی اللّه لأحد من حجَّة . من کان للّه مطیعاً فهو لنا ولی ، ومن کان للّه عاصیاً فهو لنا عدوّ . وما تنال ولایتنا إلاّ بالعمل والورع ؛ » (1)

فالمطلوب من أهل الولاء لأهل البیت علیهم السَّلام أن یأخذوا بالتقوی فی جمیع الأمور ، بل إنَّ التشیُّع لهم هو التقوی ، والفائزون فی الآخرة هم الشیعة ، کما سیأتی فی الحدیث عن رسول اللّه أنَّه قال لعلی علیهما الصَّلاة والسَّلام :

«یا علی ، أنت و شیعتک هم الفائزون »

وقد قال سبحانه و تعالی :

« إِنَّ لِلْمُتَّقِینَ مَفازاً* حَدائِقَ وَ أَعْناباً* وَ کَواعِبَ أَتْراباً* وَ کَأْساً دِهاقاً* لا یَسْمَعُونَ فِیها لَغْواً وَ لا کِذّاباً* جَزاءً مِنْ رَبِّکَ عَطاءً حِساباً »2

بل المطلوب منهم هو الورع ، وهو الوقوف عند الشبهات ، وهو أعلی من " التقوی " ، وقد ورد فی الروایات أنَّ الشیعة یُعرفون من ورعهم ، أی إنَّ أهمّ

ص:92

علامات التشیُّع هو الورع ، وإنَّ الأئمَّة علیهم السّلام کانوا یوصون شیعتهم بالورع ویؤدبونهم به ، ویربّونهم علیه .

فعن أبی اسامة قال : قال الصادق علیه السّلام :

« علیک بتقوی اللّه والورع والإجتهاد وصدق الحدیث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار ، وکونوا دعاةً إلی أنفسکم بغیر ألسنتکم، وکونوا زیناً ولا تکونوا شیناً ... ؛ » (1)

وفی حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السّلام ، قال :

« لیس منّا -ولا کرامة -من کان فی مصر فیه مائة ألف أو یزیدون وکان فی ذلک المصر أحدٌ أورع منه »(2)

وعن إبن رئاب قال : قال الصادق علیه السّلام :

« إنّا لا نعدّ الرجل مؤمناً حتّی یکون بجمیع أمرنا متّبعاً مریداً . ألا ومن اتّباع أمرنا وإرادته الورع ، فتزیَّنوا به، یرحکم اللّه » (3)

وعن عمرو بن سعید بن هلال ، قال قلت للإمام أبی عبد اللّه علیه السّلام :

« أوصنی .

قال : اوصیک بتقوی اللّه وَالوَرَع والإجتهاد. وإعلم أنَّه لا ینفع إجتهادٌ لا ورعَ فیه » (4)

وعن عبید اللّه بن علی عن الإمام الکاظم علیه السّلام أنه قال :

ص:93

« کثیراً ما کنت أسمع أبی یقول : لیس من شیعتنا من لا تتحدّث المخدّرات بورعه فی خدورهنَّ ، ولیس من شیعتنا من هو فی قریة فیها عشرة آلاف رجل فیهم من خلق اللّه أورع منه . » (1)

وفی الحدیث عن إبن عبّاس ، إنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال لعلیِّ بن أبی طالب علیه السّلام :

« سَعد من أطاعک ، وشقی من عصاک ، وربح من تولّاک ، وخسر من عاداک ، وفاز من لزمک ، و هلک من فارقک ... »(1)

إذن ، " سعد من أطاعک " لأنَّ " الموالاة " تستتبعُ " الطاعة " .

و " خسر من عاداک " ، لأنَّ " العداء " مع الحق ، " باطلٌ " ، وصاحبه ضالٌّ قطعاً ، واللّه تعالی یقول :

« وَ خَسِرَ هُنالِکَ الْمُبْطِلُونَ »2

و" هلک من فارقک ". فمن فارق أمیر المؤمنین وأهل البیت علیهم السّلام ، فهو من الهالکین ، ولیس له نصیب فی الآخرة ، کما هَلَکَ قومُ نوح الذین فارقوا نبیَّهم ولم یلازموه ، وقد صُرِّح بهذا المعنی فی حدیث السفینة ، کما تقدم وسیأتی إنْ شاء اللّه .

قال الراغب الإصفهانی :

« الجحود نفی ما فی القلب إثباتُه ، وإثباتُ ما فی القلب نفیُه » (1)

وجاء فی القرآن الکریم :

« وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا»2

وعلیه ، فإنَّ کلمة " جَحَد " أخصَّ من الإنکار ، وفی هذا النوع من الإنکار ینکر الإنسانُ بلسانه ما قد تیقَّنَه بقلبه .

وما معنی " خاب " ؟

وإنَّ کلمة " خاب " مأخوذة من مادَّة " الخیبة " ، وهی عدم نیل المقصود ، فیقال للإنسان الذی سعی للوصول إلی شیءٍ ولم ینله : خائب . قال الجوهری فی ذلک :

« خابَ الرجل خیبةً : إذا لم یَنَل ما یطلب » (2)

وعلیه ، فمن أنکر إمامة الأئمّة علیهم السّلام ، حسداً أوعداءاً أو لمصالح وأغراض دنیویَّة -مع إنّهم لو رجعوا إلی ما تیقَّنته قلوبهم لم یقولوا بإمامة غیرهم -سیکون من الخائبین النادمین ، لأنَّ الحقائق ستنکشف فی یوم القیامة وتتَّضح ، وسیری کلُّ إنسان عاقبة سعیه وعمله فی دار الدنیا .

قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم :

« إنّی تارکٌ فیکم الثقلین : کتاب اللّه وعترتی ، ما إنْ تمسّکتم بهما لن تضلّوا

ص:96

وإنَّهما لن یفترقا حتّی یردا علیَّ الحوض ، وإنّی سائلکم عنهما ... » (1)

فالفلاح والنجاح فی الدنیا والآخرة ، یکون فقط عن طریق التمسُّک بالقرآن الکریم وبالعترة الطاهرة ، وبغیر التمسّک بهما لیس إلاّ الخسران والخیبة .

وقد أوضحنا کراراً أنه لا یوجد أکثر من طریقین ، فإمّا طریق الهدایة ، وإمّا طریق الضلالة ولا ثالث لهما ، فإذا ما قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله بأنَّ طریق الهدایة والنجاة فی الآخرة هو التمسُّک بالقرآن والعترة ، فهذا یعنی إنَّ عدم التمسُّک بهما هو طریق الضلالة والخیبة .

ومن هنا ، جاء فی حدیث المعراج بأنَّ اللّه سبحانه وتعالی قال لرسوله الکریم محمّد صلّی اللّهُ علیه وآله وسلم :

« یا محمَّد ، إنّی إطَّلعت إلی أهل الأرض إطلاعة فاخترتک منها ، فشققت لک اسماً من أسمائی ، فلا اذکر فی موضع إلاّ ذکرت معی ، فأنا المحمود وأنت محمَّد .

ثمَّ اطَّلعت الثانیة ، فاخترت علیّاً ، وشققت له اسماً من أسمائی ، فأنا الأعلی وهو علی .

یا محمَّد ، إنّی خلقتک وخلقت علیّاً وفاطمة والحسن والحسین والأئمّة من ولده من نوری ، وعرضت ولایتکم علی أهل السماوات وأهل الأرض ، فمن قبلها کان عندی من المؤمنین ، ومن جحدها کان عندی من الکافرین .

یا محمَّد ، لو أنَّ عبداً من عبیدی عبدنی حتّی ینقطع أو یصیر کالشنّ البالی ثمَّ أتانی جاحداً لولایتکم ما غفرت له حتّی یقرّ بولایتکم ... » (2)

ص:97

فهل من ملجأ یومئذٍ ؟

قال تعالی :

« اِسْتَجِیبُوا لِرَبِّکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَ یَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللّهِ ما لَکُمْ مِنْ مَلْجَإٍ یَوْمَئِذٍ وَ ما لَکُمْ مِنْ نَکِیرٍ »1

نعم ، ففی ذلک الیوم ، لا ملجأ للإنسان إلاّ اللّه تعالی ورحمته الواسعة ، فعلی الإنسان أن یجد طریقاً للّجوء إلیه ، ولذا نجد أنَّ أمیر المؤمنین علیه السّلام یقول فی معرض دعائه :

« أَستَشفِعُ بکَ إلی نَفسِکَ » (1)

أیْ أتوسل برحمتک إلیک لکی تؤمننی من غضبک وسخطک .

ویقول الإمام السجاد علیه السّلام فی ضمن دعائه فی یوم عرفة :

« یَا مَنْ سَبَقَتْ رَحمَتُه غَضبَه » (2)

ولکنَّ اللّه عزَّوجلّ سوف لا یعامل المتّقین معاملة الکفّار و المنافقین ، وقد عرفت أن أهل التقوی هم أهل الولایة للنّبی وآله المنقادین لهم والمطیعین لأوامرهم ونواهیهم ، یقول سبحانه :

« وَ یَوْمَ الْقِیامَةِ تَرَی الَّذِینَ کَذَبُوا عَلَی اللّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَیْسَ فِی جَهَنَّمَ مَثْویً لِلْمُتَکَبِّرِینَ * وَ یُنَجِّی اللّهُ الَّذِینَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا یَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ »4

ص:101

هذا ، وقد أذن سبحانه و تعالی للرّسول الأعظم وأهل البیت الأطهار بالشّفاعة ، فمن لجأ إلیهم وأذن تعالی بالشفاعة له خلص من العذاب وکان من الآمنین .

ولا شکَّ أنَّه من أهل النّجاة والسلامة، وتکون عاقبة أمره ما یشیر إلیه القرآن الکریم بقوله :

« إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنّاتٍ وَ عُیُونٍ *اُدْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِینَ »1

« فاطمة بهجة قلبی، وابناها ثمرة فؤادی، وبعلها نور بصری، والأئمَّة من ولدها امناء ربّی وحبله الممدود بینه وبین خلقته ، من اعتصم بهم نجا ومن تخلَّف عنهم هوی » (1)

« من أطاعنی فقد أطاع اللّه ومن عصانی فقد عصی اللّه. ومن أطاع علیّاً فقد أطاعنی ومن عصی علیّاً فقد عصانی » (1)

وفی حدیث آخر ، قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله لعمار بن یاسر :

« فإن سلک الناس کلّهم وادیاً وسلک علی وادیاً، فاسلک وادی علی وخلّ عن الناس .

یا عمّار ! إنَّ علیّاً لا یردّک عن هدی ولا یدخلک فی ردی .

یا عمّار ! طاعة علی طاعتی وطاعتی طاعة اللّه عزَّوجلّ » (2)

وفی حدیث آخر ، إنّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال لعبد اللّه ابن مسعود :

« أما والَّذی نفسی بیده لَئن أطاعوه لَیَدخُلُنَّ الجنَّة أجمعین أکتعین » (3)

إذن ، فإمّا أن یتابع الإنسان طریق اللّه والرسول والأئمَّة الأطهار علیهم السّلام ، وإمّا أن یتّبع هواه ویتابع طریق الشیطان . یقول تعالی فی القرآن المجید :

« فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْکُبْری * یَوْمَ یَتَذَکَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعی * وَ بُرِّزَتِ الْجَحِیمُ لِمَنْ یَری * فَأَمّا مَنْ طَغی * وَ آثَرَ الْحَیاةَ الدُّنْیا* فَإِنَّ الْجَحِیمَ هِیَ الْمَأْوی * وَ أَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَی النَّفْسَ عَنِ الْهَوی * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِیَ الْمَأْوی »4

فلیس هنا أکثر من إمامین ، فإمّا إمام هدایة أو إمام ضلال ، ولکلٍّ منهما منهجه وعاقبة إتّباع کلٍّ منهما واضحة .

ص:105

وبعبارة أدقّ ، إنَّه لیس هناک إلاّ طریق واحد وهو طریق أهل البیت الَّذی هو طریق اللّه ورسوله، وکلَّما کان غیر هذا الطریق وأیّاً من کان القائد فی ذلک الطریق ، فهو ضلال .

ولذا ، فإنَّ الذین لم یقبلوا إمامة أهل البیت علیهم السّلام ، ونصبوا لأنفسهم أئمَّة من غیر أهل البیت فتابعوهم فی الاُصول و الفروع ، لمّا کانوا عالمین بهذه الحقیقة ، یضطرّون إلی إدّعاء متابعة أهل البیت ومودّتهم .

فهذا إبن حجر المکّی ، ولأنَّه یعلم جیِّداً بأنَّ طریق النجاة منحصر بتبعیّة أهل البیت علیهم السّلام ، یقول فی کتابه " الصواعق المحرقة " :

أنَّ الشیعة لیسوا أتباع أهل البیت ، بل السُنَّة هم أتباعهم .(1)

وقال :

« الثواء : الإقامة مع الإستقرار ...وقال : «أَ لَیْسَ فِی جَهَنَّمَ مَثْویً لِلْمُتَکَبِّرِینَ "»1

وکلمة " مثوی " أیضاً إستعملت فی أهل جهنم ، کما فی قوله تعالی :

« أَ لَیْسَ فِی جَهَنَّمَ مَثْویً لِلْمُتَکَبِّرِینَ »2

وقوله تعالی :

« قِیلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِینَ فِیها فَبِئْسَ مَثْوَی الْمُتَکَبِّرِینَ »3

وحاصل معنی الجملة :

إنَّ من اتّبع أهل البیت ، فالمکان الذی یأوی إلیه هو الجنَّة ، لأنَّه قد انضمَّ إلیهم باتّباعه لهم ، ومن کان کذلک فمصیره الجنَّة لأنَّهم أهله . ومن تکبَّر علیهم فلم یتّبعهم ، فالنار مستقرّه ولا یمکنه الخلاص من العذاب .

وحکم المشرک ، علی بعض الوجوه والإعتبارات ، أسوء من الکافر ، إذ کلُّ مشرکٍ کافر ، ولیس کلُّ کافرٍ بمشرک .

وبناءاً علی هذا ، فإنَّ عقاب المنکر لإمامة أهل البیت علیهم السّلام ، مساوٍ لعقاب الکفّار ، وإنْ کان فی ظاهره مسلماً ، وأمّا عقاب من یحارب الإمام الحقّ ، فهو عقاب المشرکین ، وإنْ قال " لا إله إلاّ اللّه "

قال السید المرتضی علم الهدی رحمه اللّه فی هذا المعنی :

« ثمَّ مذهبنا نحن فی محاربی أمیر المؤمنین علیه السّلام معروفٌ ، لأنَّهم عندنا کانوا کفّاراً بحربه بوجوه و... منها : إنَّ من حاربه کان مستحلّاً لقتله مظهراً لأنَّه فی ارتکابه علی حق ، ونحن نعلم أنَّ من أظهر استحلال شرب جرعة خمرٍ فهو کافر بالإجماع ، واستحلال دم المؤمن - فضلاً عن أکابرهم وأفاضلهم - أعظم من شرب الخمر واستحلاله ، فیجب أن یکونوا من هذا الوجه کُفّاراً .

ومنها : أنَّ النبیّ صلّی اللّهُ علیه وآله قال له علیه السّلام بلا خلاف بین أهل النقل :

« حربک یا علیّ حربی وسلمک سلمی » . (1)

ونحن نعلم أنَّه لم یرد إلاّ التشبیه بینهما فی الأحکام، ومن أحکام محاربی النبی صلّی اللّهُ علیه وآله الکفر بلا خلاف .

ص:108

ومنها : أنَّه علیه السّلام قال بلا خلاف أیضاً : « اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » (1). وقد ثبت عندنا أنَّ العداوة من اللّه لا تکون إلاّ للکفّار الّذین یعادونه دون فسّاق أهل الملَّة ... » (2)

والحدیثان المذکوران فی کلام السید المرتضی ، مذکوران فی کتب السُنَّة والشیعة جمیعاً . فمن حارب النبیَّ الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله فهو کافرٌ بلا شکّ فإذا ما قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله « حربُ علیٍّ حربی » فهذا یعنی أنَّ من حارب أمیر المؤمنین علیه السّلام فحکمه حکم من حارب رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وسلّم .

والنبی الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله قد دعا اللّه تعالی وقال :

« اللهم وال من والاه ... »

وهذا یعنی أنَّ من لم یواله اللّهُ فهو مخذول لا محالة ، والمخذول کافرٌ .

وإلی هنا تبیَّن حکمُ من أنکر إمامة الأئمَّة علیهم السّلام و أطاع غیرهم وهو عالم متیقّن بإمامتهم .

وکذا تبیَّن حکم من حارب أمیر المؤمنین علیه السّلام ، وهو علی حدِّ قول السید المرتضی ؛ مذهبنا .

والآن ، نحاول بیان حکم من بایع أمیر المؤمنین علیه السّلام فی یوم الغدیر ، ثمَّ نقض بیعته ودعا الناس إلی نفسه .

ص:109

یقول تعالی فی القرآن المجید :

« یَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ یُنْکِرُونَها وَ أَکْثَرُهُمُ الْکافِرُونَ »1

وروی الشیخ الکلینیّ رحمه اللّه عن الإمام أبی عبداللّه الصادق علیه السّلام فی تفسیر هذه الآیة المبارکة أنه قال :

« لمّا نزلت « إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا»

الآیة . اجتمع نفر من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله فی مسجد المدینة ، فقال بعضهم لبعض :

ماتقولون فی هذه الآیة ؟

فقال بعضهم : إنْ کفرنا بهذه الآیة نکفر بسائرها ، وإنْ آمنّا فإنَّ هذا ذلٌّ حین یسلّط علینا ابن أبی طالب .

فقالوا : قد علمنا أنَّ محمَّداً صادق فیما یقول ، ولکنّا لا نتولاّه ولا نطیع علیّاً فیما أمرنا .

قال : فنزلت هذه الآیة : « یَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ یُنْکِرُونَها »

یعرفون ، یعنی ولایة علی[ بن أبی طالب علیهما السّلام ] وأکثرهم الکافرون بالولایة » (1)

وهنا یأتی هذا السؤال : هل إنَّ الکفر الَّذی عناه السید المرتضی رحمه اللّه فی کلامه ، هو الکفر المقابل للإیمان ، أم إنَّه الکفر المقابل للإسلام ؟

للفقهاء والمتکلّمین فی هذا المجال بحثٌ . فمن عبارة السید المرتضی رحمه اللّه یظهر أنَّ المراد هو الکفر المقابل للإسلام ، أی إنَّ مثل هذا الإنسان یکون خارجاً عن ملّة الإسلام .

ص:110

ولکنَّ بعض الأکابر قالوا بأنَّ مراده هو الکفر المقابل للإیمان لا الإسلام .

ولهذا البحث ثمرات إعتقادیَّة ، وله أیضاً ثمرات عملیَّة ، وجذور هذا البحث تعود إلی مسألة الإمامة ، وهل إنَّ إمامة أهل البیت علیهم السلام ، من اصول الدین أم إنّها من اصول المذهب ؟

ولمزیدٍ من الأدلَّة علی إثبات أنَّ أثر الإنکار هو الکفر ، وأنَّ أثر المحاربة هو الشرک ، ننقل لکم بعض الروایات فی هذا المضمار :

عن المفضَّل بن عمر عن الإمام الصادق علیه السّلام ، أنَّ الإمام الباقر علیه السّلام قال :

« إنَّ اللّه تبارک وتعالی جعل علیّاً علیه السّلام عَلَماً بینه وبین خلقه ، لیس بینه وبینهم عَلمٌ غیره ، فمن تبعه کان مؤمناً ، ومن جحده کان کافراً ، ومن شکّ فیه کان مشرکاً » (1)

ومن هذه الروایة یُفهم بأنَّ الشکّ هو أصلُ کلِّ أسباب الحروب مع أمیر المؤمنین علیه الصلاة والسّلام .

وجاء فی روایة اخری عنه علیه السّلام أنه قال :

« امِرَ الناسُ بمعرفتنا ، والردُّ إلینا والتسلیم بنا.

ثمَّ قال : وإنْ صاموا وصلّوا وشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وجعلوا فی أنفسهم أن لا یردّوا إلینا ، کانوا بذلک مشرکین » (2)

فهؤلاء ، عندهم شکٌّ فی حقانیّة أهل البیت ووجوب طاعتهم ، وهم

ص:111

یشرکون الآخرین فی الطاعة والعبودیَّة ، لأنَّ إطاعة الأئمَّة علیهم السّلام هی العبودیَّة المحضة للّه تعالی ، فإذا ما أطاع أحدٌ غیر الأئمَّة أیضاً ، فهو فی الحقیقة صار عبداً للشیطان ، وأشرک باللّه تعالی .

إذن ، فجذور محاربة الأئمَّة علیهم السّلام هی عدم التسلیم ، وعدم الطاعة ، والتی یلزم أن تکون إطاعة مطلقة .

إنَّ الأئمَّة علیهم السّلام ، عَلَمٌ بین اللّه و خلقه ودلیل لهم علیه ولا أحدَ غیرهم علمٌ ودلیل ، فإن أراد أحدٌ أن ینصب له عَلَماً آخر إلی جنبهم ویتّخذه إماماً یقتدی به دون الإمام ، کان مشرکاً .

یقول تعالی فی کتابه :

« فَلا وَ رَبِّکَ لا یُؤْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَیْتَ وَ یُسَلِّمُوا تَسْلِیماً »1

وعن عبد اللّه الکاهلی عن الإمام أبی عبداللّه الصادق علیه السّلام فی ذیل هذه الآیة : قال :

« لو أنَّ قوماً عبدوا اللّه وحده لا شریک له ، وأقاموا الصّلاة ، وآتوا الزّکاة ، وحجّوا البیت ، وصاموا شهر رمضان ، ثمّ قالوا لشیء صنعه اللّه تعالی أو صنعه النبی صلّی اللّهُ علیه وآله : ألا صنع خلاف الّذی صنع ؟ أو وجدوا ذلک فی قلوبهم . لکانوا بذلک مشرکین .

ثمَّ تلا هذه الآیة : «فَلا وَ رَبِّکَ لا یُؤْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَیْتَ وَ یُسَلِّمُوا تَسْلِیماً »

ص:112

ثمَّ قال أبو عبد اللّه علیه السّلام : وعلیکم بالتسلیم » (1)

فإذا ما کان الإنسان مؤمناً باللّه حقّاً ، ممتثلاً للأحکام الإلهیَّة ، مؤدّیاً للصّلاة ، الصّوم ، الحجّ و...ویعتبر نفسه عبداً مطیعاً للّه ، وجب علیه التسلیم فی کلِّ اموره لإرادة الحقّ تعالی ، وعدم الإعتراض علیه ، وحینئذٍ علیه أن یرضی بالإمام المنصوب من قبل اللّه ، وأن یطیعه ویسلّم له تسلیماً .

وعلی هذا ، لن یکون للعبادات التی یؤدیها الإنسان فائدة بدون التسلیم للإمام المنصوب من قبل اللّه . فما بالک بمن یخرج علی الإمام المنصوب من قبل اللّه ؟!! ولذا نقول :

وبعبارة أوضح ، ذُکر فی هذا المقطع من الزیارة ، ثلاث طوائف :

1- من جحدکم .

2- من حاربکم .

3- من ردَّ علیکم .

فالمجموعة الاولی محکومةٌ بالکفر ، والثانیة محکومة بالشرک ، والمجموعة الثالثة - وهم لا ینکرون الأئمَّة علیهم السّلام علانیة ، ولا یخرجون علیهم ولا یحاربونهم ، ولکنَّهم یکذِّبونهم - " منافقون " ، واللّه تعالی یقول :

« إِنَّ الْمُنافِقِینَ فِی الدَّرْکِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ»1

ولا یخفی ، إنَّنا قسمنا الطائفة الاُولی إلی قسمین :

الاول : الذین بایعوا الإمام ثمَّ نقضوا بیعتهم ودعوا الناس إلی أنفسهم .

الثانی : الذین خذلوا الأئمّة مع علمهم بحقیَّتهم علیهم السّلام ، وأطاعوا أئمّة آخرین .

وبعبارة اخری ، فإنَّ الطائفة الاُولی تنقسم إلی رؤساء وأتباع .

الماضی والحاضر ، فتلک المنازل والمقامات لا تزال ثابتةً لهم ، وستبقی کذلک فی المستقبل .

والشهادة لابدَّ أن تکون عن عِلمٍ ، ونحن إنَّما نعتقد بهذه المقامات عن علم ومن خلال الأدلَّة ، ونؤمن بثبوت وإستمرار المقامات المذکورة لهم ، کالولایة ، وجوب الطاعة المطلقة ، هدایة الاُمَّة وأنَّهم حجَجُ اللّه تعالی .

وهذه المقامات عامَّةٌ لکلِّ أئمَّتنا وغیر خاصَّة بمولانا أمیر المؤمنین علیٍّ علیه السّلام ، وهی ثابتة لهم فی کلِّ العوالم ، لا فقط فی هذا العالم .

وهذا المعنی إستفدناه من الروایات والآیات الکریمة .

ففی هذه الجهات ، لا فرق بین الأئمَّة علیهم السّلام ، فلا یؤثر الحُضور والغیبة وإختلاف حالاتهم وغیر ذلک علی ثبوت هذه المقامات فیهم .

ومن هنا أیضاً ، نحن نشهد :

وهذا المعنی ورد فی کلمات الأئمّة علیهم السّلام وفی موارد مختلفة ، مثل ما ورد عنهم فی ذیل الآیة المبارکة :

« وَ تَقَلُّبَکَ فِی السّاجِدِینَ »1

والآیة المبارکة :

« ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ »2 .

عن الإمام الباقر علیه السّلام فی حدیث طویل ، قال :

« ... فرسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله أوّل من عبد اللّه تعالی ، وأوَّل من أنکر أن یکون له ولد أو شریک ، ثمَّ نحن بعد رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله .

ثمَّ أودعنا بذلک النور صلب آدم علیه الصلاة والسّلام ، فما زال ذلک النور ینتقل من الأصلاب والأرحام من صلب إلی صلب ، ولا استقرَّ فی صلب إلاّ تبین عن الّذی انتقل منه انتقاله ، وشرف الّذی استقرّ فیه ، حتّی صار فی صلب عبد المطّلب ، فوقع بأمّ عبد اللّه فاطمة ، فافترق النور جزئین : جزء فی عبد اللّه ، وجزء فی أبی طالب . فذلک قوله تعالی : « وَ تَقَلُّبَکَ فِی السّاجِدِینَ »

؛ یعنی فی أصلاب النبیّین وأرحام نسائهم .

فعلی هذا أجرانا اللّه تعالی فی الأصلاب والأرحام وولدنا الآباء والاُمَّهات من لدن آدم علیه السّلام ؛ » (1)

ص:116

وفی روایة اخری فی ذیل هذه الآیة عن الإمام الباقر علیه السّلام ، أنه قال :

« فی علیٍّ وفاطمة والحسن والحسین وأهل بیته صلوات اللّه علیهم » (1)

وعن سدیر عن الإمام أبی جعفر الباقر علیه السّلام أیضاً فی ذیل قوله تعالی :

« إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ * ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ »2 قال :

« نحن منهم ونحنُ بقیَّة تِلکَ العِترَة » (2)

وبناءاً علی ما جاء فی الروایات ، فإنَّ صغر سنِّ الإمام وکبره ، حضور الإمام أو غیبته ، کونُه فی الحبس أو خارج الحبس ، إقبال الناس علیه أو إدبارهم ، لا یؤثر علی تلک المقامات ، بل هی محفوظة لهم فی کلِّ الأحوال والحالات ، ولیس لتلک الاُمور دخالةٌ فی هذه المقامات والمنازل ، بعد وضوح أنَّه لولا العصمة لما وجدت الولایة المطلقة ، وإذا لم تکن الولایة المطلقة متوفّرة لم یتمکن الإمام من الهدایة ، وإذا لم تکن الهدایة لم یکن هناک حجیَّة إلهیَّة .

وعن زید الشحّام أنه سأل الإمام أبا عبداللّه الصادق علیه السّلام عن أفضلیَّة الإمام الحَسَن من الإمام الحسین أو العکس ، قال علیه السّلام :

« ... خَلْقُنا واحدٌ، وعلمُنا واحدٌ، وفضلُنا واحدٌ، وکلُّنا واحدٌ من عند اللّه عزّوجلّ ... » (3)

ص:117

وفی روایة اخری عن الإمام الکاظم علیه السّلام قال :

« نَحنُ فی العلم والشّجاعة سواء ، وفی العطایا علی قدر ما نؤمر » (1)

وفی روایة أخری :

« وَنَحنُ فی الأمر والنهی والحلال والحرام نجری مجری واحد ، فأمّا رسول اللّه وعلیّ علیهما السّلام فلهما فضلهما » (2)

نعم ، فلرسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله إمتیاز خاصّ من أجل مقام نبوَّته ، وکذا أمیر المؤمنین علیه السّلام ، فله إمتیاز خاصّ من أجل بعض حالاته الخاصَّة ، وأمّا فی الجهات العامَّة التی یجب أن تتوفر فی الإمام ، فهم فیها سواء .

ولقد کان الأئمَّة علیهم السّلام فی ذلک العالم معلِّمی وأساتذة الملائکة ، فتعلّمت الملائکة العُبودیَّة للّه من هؤلاء الکرام علیهم السّلام .

وهذه المطالب ، هی من الأمور الغیبیَّة التی لا طریق لنا لکشفها والتعرّف علی حقائقها إلاّ من خلال کلمات النبیّ الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله والأئمَّة المعصومین علیهم السّلام .

ولذا ، لا وجه للرّجوع إلی عقل الإنسان القاصر لکشف أحوالات ، ملکات ، مقامات وخصوصیّات الأئمَّة الکرام علیهم السّلام ، التی هی من الأمور الغیبیَّة ، بقطع النظر عن الروایات .

ثم إنّ الروایات الواردة فی خلقة الأئمة النوریّة کثیرة فی کتب الفریقین، إلی درجة لایمکن إنکارها.

والقسم الکبیر منها واضحٌ معنیً وتامٌ سنداً.

وکل روایةٍ إذا کانت واضحةً فی معناها، بحسب ظواهر الألفاظ والمفاهیم العرفیَّة، وتمّت حجیّتها علی القواعد المقرَّرة، وجب الأخذ بظاهرها والإعتقاد بمدلولها ومعناها ، کما هو الحال فی الأبواب الاُخری ، حیث نأخذ بظواهر الروایات ونعمل بمضامینها ، أو نعتقد بها .

أجل ، إنَّ بعض هذه الروایات غیر واضحة المعنی ، ولیس لها ظهورٌ تامٌّ ، ومثل هذه الروایات إمّا أن تکون مشتبهة أو إنَّ فیها مشکلة، فأمّا ما کان منها بسندٍ معتبرٍ فلا یجوز تکذیبه، بل یردّ علمه إلی أهله .

ص:119

وفی حدیث آخر :

« جَعَلَ فی علیٍّ الخلافة » (1)

وعن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل بسنده عن الصحابی سلمان رضی اللّه عنه قال : سمعت حبیبی رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله یقول :

« کنت أنا وعلیّ نوراً بین یدی اللّه عزَّوجل قبل أن یخلق اللّه آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلمّا خلق اللّه آدم قسّم ذلک النور جزئین : فجزءٌ أنا وجزءٌ علی .

فلم نزل فی شیء واحد ، حتّی افترقنا فی صلب عبد المطّلب ، ففیّ النبوَّة وفی علیٍّ الخلافة » (2)

وأخرج إبنُ مردویه بسنده عن الإمام الباقر علیه السّلام : عن أبیه عن جدِّه علیهم السّلام عن أمیر المؤمنین علیٍّ علیه السّلام قال : قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« کنتُ أنا وعلیّْ نوراً بین یدی اللّه تعالی من قبل أن یخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلمّا خلق اللّه تعالی آدم سلک ذلک النور فی صلبه ، فلم یزل اللّه تعالی ینقله من صلب إلی صلب حتّی أقرَّه فی صلب عبد المطّلب ، فقسمه قسمین : قسماً فی صلب عبد اللّه ، وقسماً فی صلب أبی طالب .

ص:121

فعلیّ منّی وأنا منه ، لحمه لحمی ودمه دمی ، فمن أحبَّه فبحبّی أحبَّه ، ومن أبغضه فببغضی أبغضه ؛ » (1)

وعن الحافظ الخطیب البغدادیّ عن إبن عبّاس ، أنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« خلق اللّه قضیباً من نور قبل أن یخلق اللّه الدنیا بأربعین ألف عام . فجعله أمام العرش حتّی کان أوّل مبعثی ، فشقَّ منه نصفاً ، فخلق منه نبیّکم والنصف الآخر علی بن أبی طالب » (2)

وفی روایة اخری عن أبی ذر الغفّاری ، قال : سمعتُ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله یقول :

« کنت أنا وعلیّ نوراً عن یمین العرش ، یسبّح اللّه ذلک النور ویقدّسه ، قبل أن یخلق اللّه آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلم أزل أنا وعلی فی شیء واحد ، حتّی افترقنا فی صلب عبد المطّلب » (3)

وعن بن عبد اللّه الأنصاری عن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« إنَّ اللّه عزَّوجلّ أنزل قطعةً من نور فأسکنها فی صلب آدم فساقها حتّی قسّمها جزئین ، فجعل جزءاً فی صلب عبد اللّه وجزءاً فی صلب أبی طالب ، فأخرجنی نبیّاً وأخرج علیّاً وصیّاً » (4)

ص:122

وأخرج الحافظ أبو نعیم الإصفهانی عن سلمان رضی اللّه تعالی عنه ، قال :

قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وسلّم :

« خلقت أنا وعلی بن أبی طالب من نور عن یمین العرش ، نسبّح اللّه ونقدّسه من قبل أن یخلق اللّه عزَّوجل آدم بأربعة عشر آلاف سنة ، فلمّا خلق اللّه آدم نقلنا إلی أصلاب الرجال وأرحام النساء الطاهرات .

ثمَّ نقلنا إلی صلب عبد المطّلب وقسّمنا بنصفین : فجعل النصف فی صلب أبی ، عبد اللّه ، وجعل النصف فی صلب عمّی أبی طالب ، فخلقت من ذلک النصف ، وخلق علی من النصف الآخر .

واشتقّ اللّه لنا من أسمائه اسماً ، واللّه محمود وأنا محمَّد ، واللّه الأعلی وأخی علی ، واللّه فاطرٌ وابنتی فاطمة ، واللّه محسن وابنای الحسن والحسین ، وکان اسمی فی الرسالة والنبوَّة ، وکان اسمه فی الخلافة والشجاعة . فأنا رسول اللّه ، فعلیّ سیف اللّه » (1)

وعن إبن عباس قال : قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم :

« لمّا خلق اللّه آدم عزَّوجل ونفخ فیه من روحه عطس فألهمه اللّه : ( الحمد للّه ربّ العالمین ) .

فقال له ربَّه : یرحمک اللّه .

فلمّا أسجد له الملائکة تداخله العُجْبُ (عَجَب) فقال : یا ربِّ ! خلقت خلقاً أحبّ إلیک منّی ؟ فلم یجب .

ص:123

ثمَّ قال ثانیة ، فلم یجب .

ثمَّ قال ثالثة ، فلم یجب .

ثمَّ قال اللّه عزَّوجل له : نعم ، ولولاهم ما خلقتک .

فقال : یا ربّ ! فأرنیهم !

فأوحی اللّه عزَّوجلّ إلی ملائکة الحجب أن ارفوا الحجب .

فلمّا رفعت، إذا آدم بخمسة أشباح قدّام العرش .

فقال : یا ربّ ! من هؤلاء ؟

قال : یا آدم ! هذا محمَّد نبیّی، وهذا علی أمیر المؤمنین ابن عمّ نبیّی ووصیّه ، وهذه فاطمة إبنة نبیّی ، وهذان الحسن والحسین ابنا علی وولدا نبیّی .

ثمَّ قال : یا آدم ! هم ولدک .

ففرح بذلک .

فلمّا اقترف الخطیئة قال : یا ربّ ! أسئلک بحقّ محمّد وعلی وفاطمة والحسن والحسین لمّا غفرت لی .

فغفر اللّه له بهذا .

فهذا الّذی قال اللّه عزَّوجل :«فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ »1

، فلمّا هبط إلی الأرض صاغ خاتماً فنقش علیه : محمّد رسول اللّه وعلی أمیر المؤمنین . ویکنّی آدم بأبی محمَّد (1)

ص:124

وفی روایة اخری فی ذیل نفس قصّة آدم علیه السّلام ، هکذا ورد :

« قال آدم : فمن هؤلاء الخمسة الّذین أری أسمائهم فی هیئتی وصورتی ؟

قال : هؤلاء خمسة من ولدک ، لولاهم ما خلقتک ، ولولاهم ما خلقت الجنَّة والنار ولا العرش ولا الکرسی ولا السماء ولا الأرض ولا الملائکة ولا الإنس ولا الجن ، هؤلاء خمسة شققتُ لهم خمسة أسماء من أسمائی ، فأنا المحمود وهذا محمَّد ، وأنا العالی وهذا علی ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا الإحسان وهذا الحسن ، وأنا المحسن وهذا الحسین . آلیت بعزَّتی أنَّه لا یأتینی أحد بمثقال حبَّة من خردلٍ من بغض أحدهم إلاّ أدخلته ناری ولا ابالی .

یا آدم ! هؤلاء صفوتی بهم أُنجیهم وأُهلکهم ، فإذا کان لک إلیَّ حاجة فبهؤلاء توسَّل .

فقال النبی صلّی اللّهُ علیه وآله : نحن سفینة النجاة من تعلَّق بها نجا ومن حاد عنها هلک ، فمن کان له إلی اللّه حاجة فلیسأل بنا أهل البیت » (1)

کان ذلکم بعض الروایات الواردة فی کتب أهل السنّة عن أبی حاتم الرازی ، عبد اللّه بن أحمد بن حنبل ، الخطیب البغدادی ، إبن عساکر الدمشقی ، أبی نعیم الإصبهانی، أبی بکر إبن مردویه الإصفهانی و...بأسانید متعدّدة ، وإنَّ هذا المقدار من الروایات یکفی لهذا البحث .

ص:125

ولمّا لم یکن غرضنا الدخول فی هذا المطلب بالتفصیل ، فإنّنا سنقتصر علی شرح عبارات الزیارة الجامعة ، وهی قوله علیه السّلام :

کما إنَّ البعض قد تأمَّل وقال : ما هو المراد من الإطاعة والتفویض فی الروایة ؟!

ونقول لهم : إنَّ هذا المعنی هو نفس " الولایة " التی شرحناها فی الکتاب .

والمستفاد من الروایة إنَّ مثل هذه المطالب والحقائق لا یسهل علی الجمیع درکها وفهمها ، ولذا ینبغی أن لا یباح بها للجمیع ، وما کنّا لنذکرها لولا أنَّها کتبت فی الکتب ووصلت إلینا .

وفی روایة اخری عن الإمام الصادق علیه السّلام ، قال :

« إنَّ بعض قریش قال لرسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله : بأی شیء سبقت الأنبیاء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ؟

قال : إنِّی کنت أوّل من آمن بربّی وأوّل من أجاب حین أخذ اللّه میثاق النبیّین « وَ أَشْهَدَهُمْ عَلی أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلی »

فکنت أنا أوّل نبیّ قال بلی ، فسبقتهم بالإقرار باللّه » (1)

وعن المفضَّل بن عمر قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السّلام :

« کیف کنتم حیث کنتم فی الأظلّة ؟

فقال : یا مفضَّل ! کنّا عند ربّنا لیس عنده أحد غیرنا فی ظلِّة خضراء نسبّحه ونقدّسه ونهلّلهُ ونمجِّده ، وما من ملک مقرَّب ولا ذی روح غیرنا ، حتّی بدا له فی خلق الأشیاء ، فخلق ما شاء کیف شاء من الملائکة وغیرهم ، ثمَّ أنهی علم ذلک إلینا » (2)

ص:128

وعن الإمام أبی عبداللّه الصادق علیه السّلام قال :

« إنّا أوّل بیت نوَّه اللّه بأسماءنا . إنَّه لمّا خلق السماوات والأرض أمر منادیاً فنادی : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه -ثلاثاً -أشهد أنَّ محمّداً رسول اللّه -ثلاثاً -أشهد أنَّ علیّاً أمیر المؤمنین حقّاً - ثلاثاً -» (1)

وکلمة " حقَّاً " فی حقِّ أمیر المؤمنین علیه السّلام ، کلمة مهمّة ، وذلک لأنَّ المستفاد منها بأنَّ البعض لم یؤمن بولایة أمیر المؤمنین علیه السّلام منذ ذلک الوقت .

وعن أمیر المؤمنین علیه السلام ، إنَّه قال :

« إنَّ اللّه کان إذ لا کان ، فخلق الکان والمکان ، وخلق نور الأنوار الذی نُوّرت منه الأنوار ، وأجری فیه من نوره الّذی نوّرت منه الأنوار ، وهو النور الّذی خلق منه محمّداً وعلیّاً . فلم یزالا نورین أوّلین ، إذ لا شیء کوِّن قبلهما ، فلم یزالا یجریان طاهرین مطهَّرین فی الأصلاب الطاهرة ، حتّی افترقا فی أطهر الطاهرین، فی عبد اللّه وأبی طالب . » (2)

وعن جابر بن یزید الجعفی رحمه اللّه ، قال : قال لی أبو جعفر الباقر علیه السّلام :

« یا جابر ! إنَّ اللّه أوَّل ما خلق خلق محمَّداً صلّی اللّهُ علیه وآله وعترته الهداة المهتدین ، فکانوا أشباح نور بین یدی اللّه .

قلتُ : وما الأشباح ؟

ص:129

قال : ظلّ النور ، أبدان نورانیَّة بلا أرواح ، وکان مؤیّداً بروح واحدةٍ وهی روح القدس ، فبه کان یعبد اللّه ، وعترته ، (1)ولذلک خلقهم حلماء علماء بررة أصفیاء ، یعبدون اللّه بالصلاة والصّوم والسجود والتسبیح والتهلیل ، ویصلون الصلوات ویحجّون ویصومون . » (2)

وفی کلام لأمیر المؤمنین علیٍّ علیه السّلام فی بعض خطبه ، قال :

« إنّا آل محمد، کنا أنواراً حول العرش ، فأمرنا اللّه بالتسبیح ، فسبّحنا فسبّحته الملائکة بتسبیحنا .

ثمَّ أهبطنا إلی الأرض ، فأمرنا بالتسبیح فسبّحنا فسبّحت أهل الأرض بتسبیحنا ، فإنّا لنحن الصافّون وإنّا لنحن المسبّحون . » (3)

وعن إبن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« خلقنی اللّه نوراً تحت العرش قبل أن یخلق آدم بإثنی عشر ألف سنة ، فلمّا أن خلق اللّه آدم ألقی النور فی صلب آدم ، فأقبل ینتقل ذلک النور من صلب إلی صلب حتّی تفرقنا فی صلب عبد اللّه بن عبد المطلب وأبی طالب ، فخلقنا ربّی من ذلک النور لکنّه لا نبیَّ بعدی » (4)

وجاء فی روایة اخری أنَّ النبی الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله ، قال :

« کنت أنا وعلی نوراً بین یدی اللّه جلَّ جلاله قبل أن یخلق آدم بأربعة آلاف

ص:130

عام ، فلمّا خلق اللّه آدم سلّط ذلک النّور فی صلبه ، فلم یزل اللّه عزَّوجل ینقله من صلب إلی صلب حتّی أقرّه فی صلب عبد المطّلب .

ثمَّ أخرجه من صلب عبد المطّلب فقسَّمه قسمین ، فصیّر قسم فی صلب عبد اللّه وقسم فی صلب أبی طالب .

فعلیٌّ منّی وأنا من علی ، لحمه من لحمی ودمه من دمی ، فمن أحبَّنی فبحبّی أحبّه ، ومن أبغضه فببغضی أبغضه » (1)

وعن معاذ بن جبل ، قال : قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« إنَّ اللّه عزّوجل خلقنی وعلیّاً وفاطمة والحسن والحسین قبل أن یخلق الدنیا بسبعة آلاف عام .

قلت : فأین کنتم یا رسول اللّه ؟

قال : قدّام العرش نسبّح اللّه تعالی ونحمده ونقدّسه ونمجده .

قلت : یا علی أیّ مثال ؟

قال : أشباه النور ... » (2)

وعن الإمام الصّادق علیه السّلام قال :

« أما علمت إنَّ محمّداً وعلیّاً صلوات اللّه علیهما کانوا نوراً بین یدی اللّه جلَّ جلاله قبل خلق الخلق بألفی عام ، وإنَّ الملائکة لمّا رأت ذلک النور رأت له أصلاً قد تشعّب فیه شعاعٌ لامع .

فقالت : إلهنا وسیّدنا ! ما هذا النور ؟!

ص:131

فأوحی اللّه عزَّوجل إلیهم : هذا نور من نوری أصله نبوَّة وفرعه إمامة ، أمّا النبوَّة، فلمحمّد عبدی ورسولی ، وأمّا الإمامة، فلعلی حجّتی وولیّی ، ولولاهما ما خلقت خلقی ... » (1)

وعن الإمام زین العابدین علیه السّلام ، قال :

« إنَّ اللّه تبارک وتعالی خلق محمّداً وعلیّاً والأئمَّة الأحد عشر من نور عظمته ، أرواحنا فی ضیاء نوره ، یعبدونه قبل خلق الخلق ، یسبّحون اللّه عزَّوجل ویقدّسونه ، وهم الأئمَّة الهادیة من آل محمَّدٍ علیهم السّلام . » (2)

وروی الشیخ المفید رحمه اللّه عن سلمان رضی اللّه تعالی عنّه أنّ النبیَّ الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« خلقنی اللّه من صفوة نوره ودعانی فأطعت ، وخلق من نوری علیّاً فدعاه فأطاعه ، وخلق من نوری ونور علی فاطمة ، فدعاها فأطاعته ، وخلق منّی ومن نور علی وفاطمة الحسن والحسین فدعاهما فأطاعاه .

فسمّانا بالخمسة الأسماء من أسمائه : اللّه المحمود وأنا محمَّد ، واللّه العلی وهذا علی ، واللّه الفاطر وهذه فاطمة ، واللّه ذو الإحسان وهذا الحسن ، واللّه المحسن وهذا الحسین .

ثمَّ خلق منّا من صلب الحسین تسعة أئمَّة ، فدعاهم فأطاعوه قبل أن یخلق اللّه سماءاً مبنیَّةً ولا أرضاً مدحیَّة أو هواءً أو ماءً أو ملکاً أو بشراً ، وکنّا بعلمه نوراً نسبّحه ونسمع ونطیع » (3)

ص:132

وروی الشیخ الطوسی فی أمالیه ، إنَّ أمیر المؤمنین علیه السّلام کان ذات یوم جالساً فی رحبة الکوفة وقد إجتمع الناس حوله ، فجاء رجلٌ وسأل سؤالاً ، فأجابه الإمام إلی أن قال علیه السّلام :

« و الَّذی بعث محمّداً صلّی اللّهُ علیه وآله بالحقّ نبیّاً ، إنَّ نور أبی طالب یوم القیامة لیطفیء أنوار الخلق إلاّ خمسة أنوار : نور محمّد صلّی اللّهُ علیه وآله ونوری ونور فاطمة ونور الحسن والحسین ومن ولده من الأئمَّة ؛ لأنَّ نوره من نورنا الّذی خلقه اللّه عزَّوجل من قبل أن یخلق آدم بألفی عام . » (1)

وینبغی الإشارة هنا إلی أنّ فی کلِّ واحدةٍ من هذه الروایات نکتة أو نکاتٍ مهمّة فی أبواب المعرفة، سنشیر إلی بعضها قریباً .

وعن الإمام الصادق علیه السّلام عن جدِّه أمیر المؤمنین علیه السَّلام عن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله عن جبرئیل علیه السّلام قال :

« یا محمد ! إنَّ اللّه جعلک سیّد الأنبیاء ، وجعل علیّاً سیّد الأوصیاء وخیرهم ، وجعل الأئمَّة من ذریّتکما إلی أن یرث الأرض ومن علیها . فسجد علی صلوات اللّه علیه وجعل یقبّل الأرض شکراً للّه تعالی .

وإنَّ اللّه جلّ إسمه خلق محمّداً وعلیّاً وفاطمة والحسن والحسین علیهم السّلام أشباحاً یسبّحونه ویمجّدونه ویهلّلونه بین یدی عرشه قبل أن یخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فجعلهم نوراً ینقلهم فی ظهور الأخیار من الرجال وأرحام الخیرات المطهّرات والمهذّبات من النساء من عصرٍ إلی عصر .

ص:133

فلمّا أراد اللّه عزَّوجل أن یبیّن لنا فضلهم ویعرّفنا منزلتهم ویوجب علینا حقّهم ، أخذ ذلک النور فقسّمه قسمین : جعل قسماً فی عبد اللّه بن عبد المطّلب ، فکان منه محمّد سید النبیّین وخاتم المرسلین وجعل فیه النبوَّة .

وجعل القسم الثانی فی عبد مناف وهو أبو طالب بن عبد المطّلب بن هاشم ابن عبد مناف ، فکان منه علی أمیر المؤمنین وسیّد الوصیّین وجعله رسول اللّه ولیّه ووصیّه وخلیفته وزوج إبنته وقاضِیَ دِیْنه ( دینِه ) وکاشف کربته ومنجز وعده وناصر دینه . » (1)

والروایات فی هذا المضمار کثیرة ، نکتفی بما نقلناه منها .

4- إنَّ الأئمَّة علیهم السّلام ، أفضل من آدم وسائر الأنبیاء ، ما عدا رسول اللّه محمّد صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم .

5- إنَّ أمیر المؤمنین علیّاً علیه السّلام مساوٍ لرسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله فی کلِّ الکمالات ما عدا النبوَّة .

6- إنَّ أمیر المؤمنین علیّاً علیه السّلام ، أفضل الخلائق بعد رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، ولا شکَّ فی تعیُّن الفرد الأفضل للخلافة والإمامة والوصایة .

7- إنَّ الأئمّة علیهم السّلام ، کانوا فی ذلک العالم محدقین بعرش اللّه سبحانه وتعالی ، یعبدون ویسبِّحون ویهلِّلون ویحمدون اللّه و...

وأمّا الراغب الإصفهانی فیقول فی معنی العرش :

« العرش فی الأصل شیءٌ مسقف ... وسمّی مجلس السلطان عرشاً إعتباراً بعلوّه ، قال تعالی : « وَ رَفَعَ أَبَوَیْهِ عَلَی الْعَرْشِ » (1) «أَیُّکُمْ یَأْتِینِی بِعَرْشِها »2 ... وکنّی به عن العزّ والسّلطان والملکة ... وعرش اللّه ما لا یعلمه البشر علی الحقیقة إلاّ بالإسم ، ولیس کما تذهب إلیه أوهام العامَّة . » (2)

إذن ، فمتی ما جاءت کلمة " العرش " فی القرآن المجید والروایات ، فهی کنایة عن السّلطنة الإلهیَّة العظیمة ، وإشارة إلی قدرة اللّه عزَّوجل ، إذ لیس اللّه تعالی بجسمٍ حتّی یحتاج إلی مکان یجلس علیه ویستقرَّ فیه .

ومع إنَّ الراغب الإصفهانی ، أشعریّ المذهب ، ولکنّک رأیت ما قاله حول العرش .

ولإبن تیمیَّة کتاب " العرش " . (3)ویقول کبار علماء العامَّة : إنَّ إبن تیمیَّة یصرِّح فی کتابه بأنَّ اللّه تعالی جسمٌ وهو مستقرٌّ علی العرش .(4)ولابدَّ من الإشارة هنا إلی إنَّ علماء العامّة المعاصرین لإبن تیمیَّة ، قد تکلّموا فیه بسبب کتابه لمذکور حتی أنهم لعنوه، کالشیخ أبی حیّان الأندلسی النحوی اللّغوی المفسّر صاحب البحر المحیط فی التفسیر، فقد قال الزبیدی فی کتاب

ص:136

إتحاف السّادة المتَّقین فی شرح إحیاء علوم الدین :

« کتاب العرش من أقبح کتبه ( إبن تیمیَّة ). ولما وقف علیه الشیخ أبو حیّان ما زال یلعنه حتّی مات بعد أن کان یعظِّمه » (1)

وعلی الجملة ، فإنَّ بعض ألفاظ القرآن الکریم إنْ کان لها ظهور فی جسمانیَّة اللّه تعالی ، أو إدُّعی ظهورُها فیها ، فلا مناص من تفسیر تلک الآیات الکریمات بما یتناسب مع نصوص القرآن الکریم ، ومع الأدلَّة القطعیَّة التی تدلُّ علی نفی الجسمانیَّة عنه تعالی .

وبناءاً علی ذلک ، فإنَّ المراد من عرش اللّه تعالی هو العظمة والقدرة وسلطنة اللّه عزَّوجل ، والمراد من کون الأئمة محدقین بالعرش أنّ اللّه مکنّهم من القیام ببعض الامور، وأقدرهم علی التصرّف فی الخلق، فهم کالوزراء الذین یحیطون بالسلطان ویُعَدّون من جملة أدوات جهازه الجهاز الحاکم علی الکون .

« لمّا اسری بی إلی السّماء إذا علی العرش مکتوب : لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه أیَّدتُه بعلیٍّ » (1)

وفی روایة اخری یقول : سمعت عن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله إنَّه قال :

« لمّا اسری بی إلی السماء رأیت علی ساق العرش الأیمن : أنا اللّه وحدی ، لا إله غیری ، غرستُ جنَّة عدنٍ بیدی ، محمّدٌ صفوتی ، أیَّدته بعلیٍّ » (2)

وفی روایة اخری یقول صلّی اللّهُ علیه وآله :

« مکتوب علی ساق العرش :

أنا غرست جنّة عَدنٍ بیدی ، محمَّدٌ صفوتی من خلقی ، أیَّدتُه بعلیٍّ » (3)

وروی الحافظ محبّ الدین الطبری فی کتاب " الریاض النضرة فی مناقب العشرة المبشَّرة " فی قسم " فضائل أمیر المؤمنین علیه السّلام " تحت عنوان : " ذکر إختصاصه بتأیید اللّه نبیّه صلّی اللّهُ علیه وآله به وکتبه ذلک علی ساق العرش " عن أبی الحمراء قال

قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« لیلة اسری بی إلی السماء نظرت إلی ساق العرش الأیمن ، فرأیتُ کتاباً عن یمینه : محمّد رسول اللّه أیَّدته بعلی ونصرته به » (4)

وعن إبن عبّاس قال :

«کُنّا عند النبیّ صلّی اللّهُ علیه وآله إذا بطائر فی فیه لوزة خضراء ، فألقاها فی

ص:138

حجر النبی ، فقبلها ثمّ کسرها فإذا فی جوفها ورقة خضراء مکتوبة : لا إله إلاّ اللّه ، محمّد رسول اللّه ، نصرته بعلیّ » (1)

أخرج أحمد بن حنبل :

« مکتوب علی باب الجنَّة : لا إله إلاّ اللّه ، محمد رسول اللّه ، علیُ أخو رسول اللّه قبل أن یخلق اللّه السماوات » .

وجاء فی لفظ آخر :

« قبل أن تُخلق السماوات بألفی عام » (2)

وفی هذا الباب روایة مفصَّلة رواها القوم عن إبن مسعود قال ، قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم :

« لمّا أُسری بی إلی السماء، أُمر بعرض الجنّة و النار علیّ ، فرأیتهما جمیعاً، رأیت الجنّة و ألوان نعیمها، و رأیت النار و أنواع عذابها .

فلمّا رجعت قال لی جبرئیل علیه السّلام: هل قرأت یا رسول اللّه ما کان مکتوباً علی أبواب الجنّة ، وما کان مکتوباً علی أبواب النار؟

فقلت: لا، یا جبرئیل !

فقال: إنّ للجنّة ثمانیة أبواب، علی کلّ باب منها أربع کلمات؛ کلّ کلمة خیر من الدّنیا و ما فیها لمن علمها وعمل بها ، وإنَّ للنار سبعة أبواب ، علی کلِّ باب منها ثلاث کلمات ، کلّ کلمة خیر من الدنیا والآخرة لمن علمها وعرفها .

ص:139

فقلت: یا جبرئیل ! إرجع معی لأقرأها .

فرجع معی جبرئیل ، فبدأ بأبواب الجنّة .

فإذا علی الباب الأول منها مکتوب: لا إله إلّا اللّه، محمد رسول اللّه، علیّ ولیّ اللّه ، لکلّ شیء حیلة و حیلة طیب العیش فی الدّنیا أربع خصال: القناعة، و نبذ الحقد، و ترک الحسد، و مجالسة أهل الخیر .

و علی الباب الثّانی منها مکتوب: لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، علیّ ولیّ اللّه. لکلّ شیء حیلة، و حیلة السرور فی الآخرة أربع خصال: مسح رأس الیتامی ، و التعطّف علی الأرامل، و السعی فی حوائج الناس ، و تفقّد الفقراء و المساکین .

و علی الباب الثّالث منها مکتوب: لا إله الا اللّه، محمّد رسول اللّه، علیّ ولیّ اللّه ، کلّ شیء هالک إلاّ وجهه ، لکلّ شیء حیلة و حیلة الصحّة فی الدّنیا أربع خصال: قلّة الکلام، و قلّة المنام، و قلّة المشی، وقلَّة الطعام .

و علی الباب الرّابع منها مکتوب: لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، علیّ ولیّ اللّه ، ومن کان یؤمن باللّه و الیوم الآخر فلیکرم جاره ، ومن کان یؤمن باللّه والیوم الآخر فلیبرّ والدیه، ومن کان یؤمن باللّه و الیوم الآخر فلیقل خیراً أو لیسکت .

و علی الباب الخامس منها مکتوب: لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، علیّ ولیّ اللّه ، من أراد أن لا یذلّ فلا یذلّ ، و من أراد أن لا یشتم فلا یشتم، و من أراد أن لا یظلم فلا یظلم، و من أراد أن یستمسک بالعروة الوثقی فلیستمسک بقول : لا إله إلّا اللّه ، محمد رسول اللّه ، علی ولی اللّه .

و علی الباب السّادس منها مکتوب: لا إله إلّا اللّه ، محمد رسول اللّه ، علیّ ولیّ اللّه ، من أحبّ أن یکون قبره واسعاً فسیحاً فلینفق علی المساجد ، ومن أحبّ

ص:140

أن لا تأکله الدیدان تحت الأرض فلیکنس المساجد ، ومن أحبّ أن لا یظلم لحده فلینوّر المساجد ، ومن أحبّ أن یبقی طریّاً تحت الأرض فلیبسط المساجد .

و علی الباب السّابع منها مکتوب: لا إله إلّا اللّه، محمد رسول اللّه، علیّ ولیّ اللّه ، بیاض القلوب فی أربع خصال: فی عیادة المریض، و إتّباع الجنائز، وسدی أکفان الموتی ودفع القرض .

و علی الباب الثّامن منها مکتوب: لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، علیّ ولیّ اللّه ، من أراد الدخول من هذه الأبواب الثمانیة فلیستمسک بأربع خصال: بالصّدقة، و السخاء، و حسن الخلق، و کفّ الأذی عن عباد اللّه عزّوجلّ .

ثمّ جئنا إلی أبواب جهنّم : فإذا علی الباب الأوّل منها مکتوب ثلاث کلمات : من رجی اللّه سعد ، ومن خاف اللّه أمن ، والهالک المغرور من رجی سوی اللّه وخاف غیره .

و علی الباب الثّانی منها مکتوب: ویل لشارب خمر ، ویل لشاهد زور ، ویل لعاق أبویه .

و علی الباب الثّالث منها مکتوب: من أراد أن لا یکون عریاناً فی القیامة فلیکس الجلود العاریة فی الدنیا ، و من أراد أن لا یکون جائعاً فی القیامة فلیطعم البطون الجائعة فی الدنیا ، ومن أراد أن لا یکون عطشاناً فلیسق العطشان فی الدّنیا .

و علی الباب الرّابع منها مکتوب ثلاث کلمات : أذلّ اللّه من أهان الإسلام، أذلّ

اللّه من أذلَّ أهل بیت نبیّ اللّه، أذلّ اللّه من أعان الظّالمین علی ظلم المخلوقین .

و علی الباب الخامس منها مکتوب ثلاث کلمات : لا تتّبع الهوی ، فإنّ الهوی یجانب الإیمان ، ولا تکثر منطقک فیما لا یعنیک فتسقط من عین ربّک ، و لا تکن عوناً للظالمین ؛ فإنّ الجنّة لم تخلق للظالمین.

ص:141

و علی الباب السّادس منها مکتوب ثلاث کلمات : حاسبوا أنفسکم من قبل أن تحاسبوا، و وبّخوا أنفسکم قبل أن توبّخوا، و ادعوا اللّه عزَّوجل قبل أن تردوا علیه ولا تقدروا علی ذلک .

و علی الباب السّابع منها مکتوب ثلاث کلمات : أنا حرام علی المتهجّدین ، أنا حرام علی الصّائمین، أنا حرام علی المتصدّقین . » (1)

وجاء فی روایة اخری :

« إنَّ للجنَّة ثمانیة أبواب علی کلّ أبواب منها أربع کلمات ، کلّ کلمة خیر من الدنیا وما فیها لمن تعلمها واستعملها ، وإنَّ للنار سبعة أبواب علی کلّ باب منها ثلاث کلمات کلّ کلمة خیر من الدنیا وما فیها لمن تعلمها وعرفها ... » (2)

وفی روایة اخری ، إنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« لمّا عُرِجَ بی إلی السماء رأیت علی باب الجنَّة مکتوباً بالذهب : لا إله إلاّ اللّه ، محمد حبیب اللّه ، علی ولی اللّه ، فاطمة أمة اللّه ، الحسن والحسین صفوة اللّه ، علی مبغضیهم لعنة اللّه » (3)

وجاء فی روایة اخری :

« لا إله إلاّ اللّه ، محمد رسول اللّه ، علیٌّ حبیبُ اللّه » (4)

ص:142

وعن عبد اللّه بن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

«لمّا أنْ خلق اللّه آدم ونفخ فیه من روحه ، عطس آدم فقال : الحمد للّه .

فأوحی اللّه تعالی إلیه : حمدنی عبدنی ، وعزّتی وجلالی ، لولا عبدان أرید أن أخلقهما فی دار الدنیا ما خلقتک .

قال : إلهی فیکونان منّی ؟

قال : نعم یا آدم ! ارفع رأسک وانظر .

فرفع رأسه فإذا هو مکتوب علی العرش : لا إله إلاّ اللّه ، محمّد رسول اللّه نبی الرحمة ، علی مقیم الحجَّة ، ومن عرف حقّ علی زکی وطاب ، ومن أنکر حقَّه لعن وخاب . أقسمت بعزَّتی أن أدخل الجنَّة من أطاعه وإنْ عصانی ، وأقسمت بعزَّتی أن أدخل النار من عصاه وإنْ أطاعنی . » (1)

وجاء فی روایة اخری إنَّ إسمَ أمیر المؤمنین علیه السّلام قد کتب علی کتف ملک من الملائکة إسمُه صرصائیل .

فقد روی عن الإمام الصادق عن أبائه أنَّ أمیر المؤمنین علیهم السّلام قال :

« بینا رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله فی بیت أمّ سلمة ، إذ هبط علیه ملک له عشرون رأساً ، فی کلّ رأس ألف لسان ، یسبّح اللّه ویقدّسه بلغة لا تشبه الأخری ، وراحته أوسع من سبع سماوات وسبع أرضین ، فحسب النبیّ صلّی اللّهُ علیه وآله أنَّه جبرئیل.

فقال : یا جبرئیل ! لم تأتنی فی مثل هذه الصورة قط .

ص:143

قال الملک : ما أنا جبرئیل ، أنا صرصائیل ، بعثنی اللّه إلیک لتزوّج النور من النور .

فقال النبی صلّی اللّهُ علیه وآله: من ممّن ؟

قال : إبنتک فاطمة من علی بن أبی طالب .

فزوّج النبیّ فاطمة من علی بشهادة جبرئیل ومیکائیل وصرصائیل .

قال : فنظر النبی صلّی اللّهُ علیه وآله فإذا بین کتفی صرصائیل : لا إله إلاّ اللّه ، محمّد رسول اللّه ، علی بن أبی طالب مقیم الحجَّة .

فقال النبیّ صلّی اللّهُ علیه وآله : یا صرصائیل ! منذ کم کتب هذا بین کتفیک ؟

قال : من قبل أن یخلق اللّه الدنیا بإثنی عشر ألف سنة . » (1)

وفی روایة اخری إنَّ إسم علیٍّ علیه السّلام مکتوب علی جناح جبرائیل .

فعن الصادق علیه السّلام عن آبائه الطاهرین إنَّ علیّاً علیه السّلام قال : قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم :

« أتانی جبرئیل وقد نشر جناحَیه فإذا فیهما مکتوب : لا إله إلاّ اللّه محمّد النبیّ ومکتوب علی الآخر : لا إلّه إلاّ اللّه علیّ الوصیّ » (2)

وکذلک ورد أنَّه مکتوب علی جبهة ملک لواء الحمد . قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« لمّا عرج بی إلی السماء رأیت فی السماء الرابعة أو السادسة ملکاً نصفه من نار ونصفه من ثلج وفی جبهته مکتوب : أیّد اللّه محمّداً بعلیّ .

ص:144

فبقیت متعجّباً ، فقال لی ذلک الملک : ممّ تعجّب ؟ کتب اللّه فی جبهتی ماتری قبل خلق الدنیا بألفی عام » (1)

وروی الحافظ أبو نعیم الإصفهانی ، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاری رضی اللّه عنه قال :

« بینا رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله یوماً فی مسجد المدینة ، فذکر بعض أصحابنا الجنَّة .

فقال : أما علمت أنَّ للّه لواءً من نور وعموداً من زبرجد خلقهما قبل أن یخلق السماوات بألفی سنة . مکتوب علی رداء ذلک اللواء : لا إله إلاّ اللّه ، محمّد رسول اللّه ، آل محمّد خیر البریَّة » (2)

وعلی الجملة ، فإنَّ هذه المجموعة من الروایات ، مضافاً إلی أخبار النور المتقدِّمة وما تشتمل علیه من دلالات فی خلقة أهل البیت ومنازلهم عند اللّه یمکن أنْ تکون شرحاً مناسباً لهذا المقطع من الزیارة الجامعة .

لنفترض - لتقریب المطلب إلی الأذهان - أنَّ أمیر المؤمنین قد أرسل أخصّ أصحابه وأحبَّ الناس إلیه والیاً علی بعض البلاد ، ألیس من حقِّه أنْ یمتنّ علی أهل البلد و یکتب إلیهم أنّی قد أثرتکم علی نفسی فأرسلته إلیکم ؟ ألیس من حقّه أنْ یکتب إلیهم : علیکم أن تعرفوا قدره ، وتغتنموا وجوده بینکم وتغترفوا من نمیره وعلمه وأن تسمعوا له وتطیعوه وتوقِّروه ، ثمَّ من حقّه علیهم أن یسألهم عن کیفیَّة تعاملهم معه .

ولقد کان الرسم إلی أواخر هذه الأیّام ، أن یرسل مراجع التقلید وأعاظم الحوزات العلمیَّة ، أحد مقرّبی تلامذتهم بعنوان " الوکیل " إلی البلاد ، لیستفیدوا من علمه وفضله ، وکانوا یکتبون الکتب إلی أهالی تلک البلاد یُبیِّنون فیه ضرورة الإهتمام بهذا الوکیل ، والإستفادة منه کمال الإستفادة ، لأنَّه کان عزیزاً عندنا فآثرناکم علی أنفسنا به .

وإنَّ رسول اللّه وأمیر المؤمنین والأئمَّة الطاهرین علیهم السَّلام أجمعین ، کانوا فی ذلک العالم ، فأرسلهم اللّه تعالی إلی هذا العالم منَّةً منه علی الخلائق .

فاللّه تعالی قد منَّ علینا بأن بعث سیدنا رسول اللّه محمداً صلّی اللّهُ علیه وآله إلی العالمین .یقول القرآن الکریم :

« لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ »1

وکذلک أراد عزَّوجل أن یکونَ الأئمَّة علیهم السّلام فی هذا العالم ، لنفس الغرض الذی من أجل تحقّقه بعث جدّهم ، وهذه أیضاً منَّة منه علینا ، ویتلخَّص

ص:147

الغرض النهائی فی الهدایة إلی اللّه بمعرفته وإطاعته وعبادته والوصول عن هذا الطریق إلی مقام القرب .

وقد جاء هذا المعنی فی القرآن المجید . حیث یقول تعالی :

« بَلِ اللّهُ یَمُنُّ عَلَیْکُمْ أَنْ هَداکُمْ لِلْإِیمانِ »1

نعم ، إنَّ الغرض هو الهدایة ، هدایة الخلائق إلیه بواسطة الأنبیاء والأولیاء .

وللهدایة مراحل ، فأوّلها معرفة الباری والإیمان به ، ولذا شرع رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله دعوته بقوله :

« قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا »

وقوله تعالی : «یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ »2 إشارة إلی هذه المرحلة .

ثمّ تأتی مرحلة إخراج الناس من ظلام الجاهلیَّة الأولی والفساد الأخلاقی ، بتزکیة قلوبهم و تهذیب نفوسهم ، حتّی إذا استعدّوا للعلم والعمل یعطیهم المنهاج الإلهی وهو الشّریعة المطهّرة فی اصولها وفروعها ، وإلی ذلک یشیر قوله تعالی :

«وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ »3.

ومن الواضح أنَّ تحقق هذا الأمر لا یکون إلاّ من خلال مدرسة الوحی، وهی مدرسة النّبی وأهل بیته .

وأمّا المدارس الاُخری فعاجزة عن إیصال الإنسان إلی هذا المقام .

وکلُّ من إدّعی غیر ذلک فهو فی جهلٍ مرکّب ، إذ کیف یمکن للإنسان المنقطع عن الوحی -الوحی الَّذی یتوفر فی مدرسة أهل البیت علیهم السّلام

ص:148

فقط -أنْ یصل إلی مقام التزکیة والعلم و کمال الإنسانیَّة ؟

والحاصل ، إنَّ اللّه تعالی قد منَّ علی الخلائق ، فجاء بالنبیّ وآله الطّاهرین علیهم السّلام من ذلک العالم إلی عالم الدنیا من أجل هدایتهم .

وأمّا أهلها ، القائمون بذلک، فهم یسبّحون له فیها علی الدّوام ولا تلهیهم عن ذکره الدنیا ومافیها .

وهذا حال بیوت الأئمَّة الأطهار التی هی من أفاضل بیوت الأنبیاء کما سیأتی فی الحدیث ، وهکذا أهلها الذین لا یقاس بهم أحد کما فی الحدیث کذلک .

ولذا یقول تعالی فی آیة التطهیر :

« إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً»1

ولا یخفی ما نکنُّه من الإحترام لاُمِّ سلمة ، ولکنَّ زوجات النبیّ صلّی اللّهُ علیه وآله غیر مشمولات بآیة التطهیر ، کما تقدّم منّا ذلک .(1)

لقد ذکرت کتب أهل السنَّة فی ذیل هذه الآیة المبارکة أنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله لمّا قرأ هذه الآیة المبارکة ، قام إلیه رجل وسأله عن هذه البیوت .

فقال له رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« بیوت الأنبیاء » ؛

فقام أبوبکر وقال : وهل بیت علیٍّ وفاطمة منها ؟

فقال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« نعم ، من أفاضلها » (1)

وفی روایة اخری ، عن إبن شهر آشوب ، عن أبی حمزة الثمالی ، قال :

« لما کانت السنة التی حجَّ فیها أبو جعفر محمّد بن علی علیهما السّلام ولقیه هشام بن عبد الملک ، أقبل الناس ینثالون علیه .

فقال عکرمة : من هذا علیه سیماء زهرة العلم ؟! لأجربنَّه .

فلمّا مثل بین یدیه ارتعدت فرائصه واسقط فی ید أبی جعفر علیه السّلام وقال :

یابن رسول اللّه ! لقد جلست مجالس کثیرة بین یدی إبن عبّاس وغیره ، فما أدرکنی ما ادرکنی آنفاً !

فقال أبو جعفر علیه السّلام : ویلک یا عبید أهل الشام ! إنَّک بین یدی «بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ »»2

ص:151

وفی حدیثٍ عن أبی حمزة عن الإمام الباقر :

« ...إنَّما الحجَّة فی آل إبراهیم ، لقول اللّه عزَّوجل : «فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً».

فالحجَّة الأنبیاء وأهل بیوتات الأنبیاء حتّی تقوم الساعة ، لأنَّ کتاب اللّه ینطق بذلک ووصیّة اللّه جرت بذلک فی العقب من البیوت الّذی رفعها اللّه تباک وتعالی علی الناس فقال :

«فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ »

وهی بیوتات الأنبیاء والرسل والحکماء وأئمَّة الهدی » (1)

وعن أبی بصیر عن الإمام الصادق علیه السّلام فی هذه الآیة المبارکة :

« هی بیوت النبیّ صلّی اللّهُ علیه وآله » (2)

وعن محمّد بن الفضیل عن الإمام أبی الحسن علیه السّلام ، قال : سألته عن الآیة ، فقال :

« بُیوتُ مُحمَّد ثمَّ بیوتُ علیّ منها » (3)

وعن عبد الرحمن بن أبی لیلی عن أبیه ، قال : قال الصادق علیه السّلام :

« ... وَصَلَ اللّه طاعة ولیّ أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته ، فمن ترک طاعة ولاة الأمر لم یطع اللّه ولا رسوله وهو الإقرار بما أنزل من عند اللّه عزَّوجل ، «خُذُوا زِینَتَکُمْ عِنْدَ کُلِّ مَسْجِدٍ »4

والتمسوا البیوت التی أذن اللّه أن ترفع

ص:152

ویذکر فیها اسمه ، فإنَّه أخبرکم أنَّهم «رِجالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ »1»2

وعن قتادة -وهو من کبار المفسّرین عند أهل السنَّة -قال :

أتیت محمد بن علیّ -أی الإمام الباقر علیه السّلام -فقال :

من أنت ؟

قلت : قتادة بن دعامة البصری .

قال : أنت فقیه أهل البصرة ؟

قلت : نعم .

فقال له الإمام الباقر علیه السّلام :

« وَیحَک یا قتادة ! إنَّ اللّه جلَّ وعزّ خلق خلقاً من خلقه فجعلهم حججاً علی خلقه ، فهم أوتاد فی أرضه ، قُوّامٌ بأمره ، نجباء فی علمه ، اصطفاهم قبل خلقه أظلّة عن یمین عرشه .

قال : فسکت قتادة طویلاً . ثمّ قال : أصلحک اللّه ! واللّه لقد جلست بین یدی الفقهاء وقدّام ابن عبّاس ، فما اضطرب قلبی قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامک .

قال له أبو جعفر علیه السّلام : ویحک أتدری أین أنت ؟ بین یدی «بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ *رِجالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِیتاءِ الزَّکاةِ »

فأنت ثَمَّ ، ونحن اولئک .

ص:153

فقال له قتادة : صدقت واللّه جعلنی اللّه فداک ، واللّه ما هی بیوت حجارة ولا طین » (1)

وجاء فی نهج البلاغة إنَّ أمیر المؤمنین علیه السّلام قرأ الآیة المذکورة فقال :

« وإنَّ للذکر لَأهْلاً ، أخذوه من الدنیا بدلاً فلم تشغلهم تجارة ولا بیع عنه ، یقطعون به أیّام الحیاة ویهتفون بالزَّواجر عن محارم اللّه فی أسماع الغافلین ویأمرون بالقسط ویتأمرون به وینهون عن المنکر ویتناهون عنه .

فکأنَّما قطعوا الدنیا إلی الآخرة وهم فیها فشاهدوا ما وراء ذلک ، فَکَأنَّما اطّلعوا غیوب أهل البرزخ فی طول الإقامة فیه ، وحقّقت القیامة علیهم عداتها فَکَشفوا غطاء ذلک لأهل الدنیا ، حتّی کأنّهم یرون ما لا یَری الناس ویسمعون ما لا یسمعون ؛ » (2)

وأمّا فیما یرتبط بسبب جعل بیت علیٍّ وفاطمة علیها السّلام من جملة بیوت الأنبیاء. فنقول : ذلک، لأنَّ کلَّ ما کان فی بیوت الأنبیاء علیهم السَّلام فهو موجود فی بیت علیٍّ وفاطمة علیهما السّلام ، ومن هذا البیت ینتشر ، بل إنَّ فی بیت علیٍّ وفاطمة ما لم یکن موجوداً فی بیوت الأنبیاء ، ولذا قال النبیّ الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله :

« من أفاضلها » .

ص:154

والبحوث المتعلّقة بما قبل عالم الدنیا کثیرة .

فهل کان هناک عالَمٌ بعنوان عالَم الأرواح ؟

وهل إنَّ الأرواح مخلوقة قبل الأجساد ؟

وهل إنَّ الأرواح فی ذلک العالم کانت عاقلة مُدرکة ؟

وهل کان هناک عالمٌ بعنوان عالم الذر ؟

وهل إنَّ المراد من الإقرار المذکور فی الآیة هو الإقرار اللّسانی ، والَّذی یعبَّر عنه ب " اللّسان الملکوتی " ؟

وهل إنَّ المیثاق المأخوذ من ذریَّة آدم ، قد اخذ بعد خلق آدم علیه السّلام ؟

إلی غیرذلک من المسائل بالعوالم المتقدمة.

قال السید المرتضی رحمه اللّه فی کتاب الأمالی حول عالم الذَر :

« وَقد ظنَّ بعض من لا بصیرة له ولا فطنة عنده أن تأویل هذه الآیة إنَّ اللّه سبحانه استخرج من ظهر آدم علیه السّلام جمیع ذریَّته وهم فی خلق الذرّ ، فقرّرهم بمعرفته وأشهدهم علی أنفسهم .

وهذا التأویل -مع أنَّ العقل یبطله ویحیله -ممّا یشهد ظاهر القرآن بخلافه ، لأنَّ اللّه تعالی قال : « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ »

ولم یقل : من آدم ، وقال : « مِنْ ظُهُورِهِمْ »

ولم یقل : من ظهره ، وقال : « ذُرِّیَّتَهُمْ »

، ولم یقل : ذریته .

ثمّ أخبر تعالی بأنَّه فعل ذلک لئلّا یقولوا [

یوم القیامة ]

: إنَّهم کانوا عن هذا غافلین أو یعتذروا بشرک آبائهم وأنَّهم نشؤا علی دینهم وسنّتهم ، وهذا یقتضی أنَّ

ص:156

الآیة لم تتناول ولد آدم علیه السّلام لصلبه ، وأنّها تناولت من کان له آباء مشرکون ... . » (1)

وتوهم بعضُ متعصّبی أهل السنَّة من هذا الکلام ، بأنَّ السید المرتضی رحمه اللّه ، ینکر عالم الذر . وقد نسب إلیه ذلک بعض الشیعة أیضاً ، وقد بحثنا عن هذا الموضوع فی محلّه وناقشناه هناک . فراجع .(2)والأمر الآخر هو ؛ إذا کان ذلک العالَمُ موجوداً ، وإذا کان هناک إقرارٌ فی الواقع ، فهل إنَّ الآیة المذکورة وافیة بإثبات ذلک ؟

هذا ما یُستفاد من کلام السید المرتضی رحمه اللّه ، کما إنَّ بعض المعاصرین الأکابر له مثل هذا الرأی .

والحاصل ، إنَّ ولایة أهل البیت علیهم السّلام قد اخذ المیثاق علیها من کلِّ الخلائق ، إلی جنب ربوبیَّة اللّه تعالی ونبوَّة النبیِّ الأکرم محمَّد صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم ، أی إنَّ هناک عهداً مع ذریَّة آدم علیه السَّلام حول أهل بیت النَّبی .

وهذا المیثاق والعهد علی ولایة أهل البیت علیهم السّلام لم یُذکر فی کتب أهل السُنَّة ، وإنْ رَوَوْا فی مصادرهم المیثاق علی الربوبیَّة وعلی نبوَّة خاتم الأنبیاء محمد صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم ، ولکنّهم یروون بتفسیر قوله تعالی :

« وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رُسُلِنا»3

ص:157

أن کلَّ الأنبیاء السابقین ، کانوا مأمورین بإبلاغ ولایة أهل البیت علیهم السّلام إلی الناس ، وإنَّ هذا الإبلاغ کان من جملة وظائفهم الإلهیَّة :

ففی الحدیث عن عبد اللّه بن مسعود ، قال : قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« أتانی ملک فقال : یا محمَّد ! «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رُسُلِنا»

علی ما بعثوا ؟

قلت : علی ما بعثوا ؟

قال : علی ولایتک وولایة علی بن أبی طالب » (1)

وهذا الخبر رواه أصحابنا أیضاً فی ذیل الآیة المبارکة ، وهو موجود فی التفاسیر خاصَّة فی تفسیر " کنز الدقائق " .

فقد جاء فی روایة :

« إنَّ النَّبی صلّی اللّهُ علیه وآله لیلة اسری به إلی السماء ، جمع اللّه بینه وبین الأنبیاء ثمَّ قال له : سلهم یا محمَّد ، علی ماذا بعثتم ؟

فقالوا : بعثنا علی شهادة أن لا إله إلاّ اللّه والإقرار بنبوَّتک والولایة لعلی بن أبی طالب » ؛

وفی روایة اخری :

« ولایة علیّ مکتوبة فی جمیع صحف الأنبیاء ، ولم یَبعَث اللّه رسولاً إلاّ بنبوَّة محمّد ووصیَّة علیّ علیه السّلام . » (2)

ص:158

ونفس هذا الاُسلوب إتّبعه المنصور الدوانیقی ، فإنَّه لما تسلّم زمام الحکم ، وثار علیه العلویّون -ولقد کانت أیّام حکومته قاسیة وصعبة علی أهل البیت علیهم السّلام -أمر بذکر أبی بکر وعمر فی الخطب .

فقد ذکر العلّامة فی جملة البدع ذکر الخلفاء فی الخطب ، قال :

لم یکن فی زمن النبی ولا فی زمن أحدٍ ... بل هو شیءٌ أحدثه المنصور لمّا وقع بینه و بین العلویَّة فقال : واللّه لارغمنَّ أنفی واُنوفهم وأرفع علیهم بنی تیم وعدی ، وذکر الصّحابة فی خطبته و استمرّت هذه البدعة إلی هذا الزمان .(1)لقد حدثت هذه البدعة - أی ذکر الشیخین وغیر الشیخین فی خطبة الصلاة - منذ عهد المنصور ، وکانت الغایة منها التقلیل من شأن النبی الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم ولمحاربة الولایة لأهل البیت علیهم السّلام .

فحمّلهم العلم والدین ، ثمَّ قال للملائکة : هؤلاء حملة دینی وعلمی واُمنائی فی خلقی وهم المسئولون .

ثمّ قال لبنی آدم : أقرّوا للّه بالربوبیَّة ولهؤلاء النفر بالولایة والطاعة .

فقالوا : نعم ربّنا أقررنا .

فقال اللّه للملائکة : اشهدوا .

فقالت الملائکة : شهدنا علی أن لا یقولوا غداً : « إِنّا کُنّا عَنْ هذا غافِلِینَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَکَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ کُنّا ذُرِّیَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِکُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ »1

یا داوود ! ولایتنا مؤکّدة علیهم فی المیثاق ؛ (1)

وعن حمران عن الإمام الباقر علیه السّلام ، قال :

« إنَّ اللّه تبارک وتعالی حیث خلق الخلق خلق ماءً عذباً وماء مالحاً أجاجاً ، فامتزج الماءان ، فأخذ طیناً من أدیم الأرض فعرکه عرکاً شدیداً ، فقال لأصحاب الیمین وهم کالذر یدبّون : إلی الجنَّة بسلام ، وقال لأصحاب الشمال : إلی النار ولا أُبالی .

ثمَّ قال : « أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلی شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا یَوْمَ الْقِیامَةِ إِنّا کُنّا عَنْ هذا غافِلِینَ »3

ثمَّ أخذ المیثاق علی النبیّین فقال : ألست بربّکم وأنّ هذا محمّد رسول اللّه وأن هذا علی أمیر المؤمنین ؟

ص:161

قالوا : بلی .

فثبتت لهم النبوَّة وأخذ المیثاق علی اولی العزم . إنَّنی ربّکم ومحمّد رسولی وعلی أمیر المؤمنین وأوصیاؤه من بعده ولاة أمری وخزّان علمی ، وأنَّ المهدی انتصرُ به لدینی أظهر به دولتی وانتقم به من أعدائی واعبد به ( یعنی بسببه ) طوعاً وکُرهاً.

قالوا : أقررنا یا ربّ وشهدنا ... »(1)

إنَّ نبوَّة الأنبیاء إنَّما ثبتت لهم بعد إقرارهم بنبوَّة رسول اللّه وولایة أمیر المؤمنین ، فحتّی الأنبیاء أولوا العزم أقرّوا بذلک . وهذه الروایة مهمَّة وخاصَّة لاُولئک الذین یتردّدون فی أفضلیَّة الأئمَّة المعصومین علیهم السّلام علی الأنبیاء من أولی العزم .

وعن الإمام الباقر علیه السّلام عن أبیه وعن جدِّه علیه السّلام ، قال :

« إنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال لعلی علیه السّلام : أنت الذی احتجّ اللّه بک فی ابتدائه الخلق حیث أقامهم أشباحاً ، فقال لهم : ألست بربّکم ؟

قالوا : بلی .

قال : ومحمد رسولی ؟

قالوا : بلی .

قال : وعلی بن أبی طالب وصیّی ؟

ص:162

فأبی الخلق جمیعاً إلاّ إستکباراً وعتوّاً من ولایتک إلاّ نفر قلیل وهم أقلّ القلیل من أصحاب الیمین . » (1)

وروی شیخ الطّائفة أبوجعفر الطوسی دعاء عن الإمام الصادق علیه السّلام ، یُقرأ بعد صلاة یوم الغدیر ، جاء فیه :

« وَمَنَنْتَ علینا بِشَهادة الإخلاص لک بموالاة أولیائک الهداة من بعد النذیر المنذر والسراج المنیر ، وأکملت الدین بموالاتهم والبراءة من عدوّهم ، وأتممت علینا النعمة الّتی جددت لنا عهدک ، وذکرتنا میثاقک المأخوذ منّا فی مبتدأ خلقک إیّانا ، وجعلتنا من أهل الإجابة ، وذکرتنا العهد والمیثاق ولم تنسنا ذکرک ، فإنَّک قلت : « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلی أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلی »

. اللّهم بلی شهدنا بمنّک ولطفک بأنَّک أنت اللّه لا إله إلاّ أنت ربّنا ، ومحمّدٌ عبدک ورسولک نبیّنا ، وعلی أمیر المؤمنین والحجّة العظمی وآیتک الکبری والنبأ العظیم الّذی هم فیه مختلفون ... . » (2)

وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاری عن الإمام الباقر علیه السّلام ، قال :

« یا جابر ! لو یعلم الجهّال متی سُمّی أمیر المؤمنین علی لم ینکروا حقَّه .

قال : قلت : جعلت فداک ، متی سُمّی ؟

فقال لی : قوله : « إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ »

إلی « أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ »

وأنَّ محمّداً نبیُّکم رسول اللّه ، وأنَّ علیّاً أمیر المؤمنین .

ص:163

قال : ثمَّ قال لی : یا جابر ! هکذا واللّه جاء بها محمّد صلّی اللّهُ علیه وآله ؛ » (1)

والروایات کثیرة فی هذا المعنی ، وفی کلّ واحدةٍ منها نورانیَّة خاصَّة بها .

« لا تُصلّوا علیَّ صلاة مبتورة ، بل صِلوا إلیَّ أهل بیتی ولا تقطعوهم ، فإنَّ کلّ نسبٍ وسببٍ یوم القیامة منقطعٌ إلاّ نسبی [ وسببی ] » (1)

ولا یخفی ، إنَّ أکثر أهل السنَّة قد خالفوا رسول صلّی اللّه علیه وآله وسلّم فی هذا الموضع:

فإمّا صلّوا علیه الصّلاة البتراء، فلم یمتثلوا نهید.

وإمّا زادوا فی الصّلاة علیه ألفاظاً فی الصیّغة التی ذکرها أو وضعوا من عند أنفسهم فوضعوا صیاغات اخری للصلاة علیه .

وکذلک بالنسبة إلی فصول الأذان ، فقد تصرَّفوا فیها ، وغیَّروه ، وأشاعوا اللّفظ المحرَّف، فکان هو المعمول به إلی زماننا هذا ، اللهمَّ إلاّ فی البلدان التی لا یسیطرون علیها .

فأعداء أهل البیت حذفوا من الأذان «

حیَّ علی خَیر العَمَل » ، لأنَّهم یعلمون بأنَّ معناه الدَّعوة إلی ولایة النبیّ وآله .

کما حاربوا التسمّی بإسم " علیّ " ، " فاطمة " ، " حسن " ، " حسین " و" جعفر " محاربة شدیدة .ولمّا تزلزل حکمهم وزال سلطانهم ، رجعت هذه الأسماء إلی واجهة المجتمع وتغیَّر الوضع .

کما حاربوا التختُّم بالیمین ، لأنَّه شعار .

یقول الزمخشری :

« أوَّل من تَختَّم بالیسار ، معاویة » (2)

ص:165

لقد خالفوا سنن النبیّ صلّی اللّه علیه وآله وهم یسمّون بأهل السنّة!!

وحتّی کیفیَّة لفِّ العمائم ، غیَّرها هؤلاء وخالفوا رسول اللّه وَأهل البیت علیهم السّلام .

والآن هم یحاربون بقوَّة لقب " أمیر المؤمنین " ، لکونه اللّقب المختصّ بمولانا علی بن أبی طالب علیه الصّلاة والسّلام.

نعم ، إنَّ مثل هذه التصرّفات قد تکون عن جهل وعدم التفات ، ولکنّ المؤسّسین لها لهم أغراض عدائیّة للنبیّ وأهل البیت. -نعوذ باللّه - لأغراض اخری .

ومن جملة شواهدنا علی إنَّ الصلوات علی النبی صلّی اللّهُ علیه وآله شعارٌ مقدّس ، ما ورد من أنَّ الصلاة علی محمد وآل محمد تذهب بالنفاق .

فعن الإمام الصادق علیه السّلام ، إنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« إرفعوا أصواتکم بالصلاة علیَّ ، فإنَّها تذهب بالنفاق » (1)

ثمَّ ضُمّوا إلی هذه الروایة ، الأحادیث التی تقول بصراحةٍ بأنَّ العداء لأهل البیت علیهم السّلام من علامات النفاق ، وهی واردة فی المصادر الشیعیَّة والسُنیَّة .

وقد تقدَّم منا آنفاً ، أنَّ النبی الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله قال لبریدة : لمّا أظهر بغضه لأمیر المؤمنین علیه السّلام:

« أنافَقْتَ یا بریدة ؟! »

فاعتذر بریدة وتاب من فعلته ، وجدَّد البیعة للنبی الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله وأعلن أنَّ علیّاً خیر الناس عنده من ذلک الوقت .

ص:166

« لا تُصَلّوا عَلَیَّ الصلاة البتراء

قیل یا رسول اللّه ، وما الصلاة البتراء ؟

قال : تقولون : " اللهم صلّ علی محمَّد " وتمسکون ، بل قولوا " اللهمَّ صلّ علی محمد وعلی آل محمد " » (1)

وقد دلّ نهی النبی عن الصّلاة البتراء علی أنْ لا أجر للصّلاة کذلک إنْ لم یترتّب علیها العقاب!

وهکذا فقد إتَّضح وجه الإرتباط بین ذکر الصلوات وبین المیثاق وأصل ولایة أهل البیت علیهم السّلام .

ثمَّ إنَّ للصلاة علی النبیّ الأکرم وأهل بیته ، آثاراً وبرکات کثیرة بالإضافة إلی ما تمتاز به من کونها شعاراً وإعلاناً للوفاء بذلک المیثاق والعهد المأخوذ فی ذلک العالم ، کما سیأتی قریباً .

"

باب إنَّ حبَّهم علیهم السّلام علامة طیب الولادة ، وبغضهم علامة خبث الولادة "

من ذلک: الحدیث المشهور عن النبی صلّی اللّه علیه وآله:

« مَن أحبَّنا أهل البیت فلیحمد اللّه علی أوّل النعم ؛

قیل : وما أوّل النعم ؟

قال : طیب الولادة ، ولا یحبّنا إلاّ من طابت ولادته » (1)

وعن الإمام الباقر علیه السّلام قال :

« مَن أصبح یجد برد حبّنا علی قلبه فلیحمد اللّه علی بادیء النعم .

قیل : وما بادیء النعم ؟

قال : طیب المولد » (2)

وفی روایة اخری ، قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله لأمیر المؤمنین علیه السّلام :

« یا علیّ من أحبّنی وأحبَّک وأحبّ الأئمَّة من ولدک فلیحمد اللّه علی طیب مولده ، فإنَّه لا یحبّنا إلاّ مؤمن طابت ولادته ، ولا یبغضنا إلاّ من خَبُثَت ولادته » (3)

وإعلم بأنَّ هذه الروایات لیست مختصَّة بنا ، بل إنَّ أهل السنَّة أیضاً لهم روایات لطیفة فی هذا الباب .

ص:169

فعن عبادة بن الصّامت :

« کنّا نبور أولادنا بحبِّ علیّ بن أبی طالب ، فإذا رأینا أحدهم لا یحبُّ علی ابن أبی طالب علمنا أنَّه لیس منّا وأنَّه لغیر رشدة » (1)

هذا لفظ الحدیث ، وإنْ حاول البعض تحریفه ، فوضعوا کلمة " بنور " بدل نبور ! و" إیماننا " بدل " أبناءنا " ، فصار الحدیث :

« کنّا بنور إیماننا نحبُّ علیّ بن أبی طالب » (2)

وهذا الکلام وإنْ کان جیِّداً ، ولکنَّه محرَّف .

والمستفاد من هذه الروایة هو أنَّ الصّلاة علی النبیّ وآله ذکرٌ من الأذکار .

وفی روایة اخری عن أمیر المؤمنین علیه السّلام ، قال :

« بالشهادة تدخلون الجنَّة وبالصلاة تنالون الرحمة ، فأکثروا من الصلاة علی نبیّکُم » (1)

وعن الإمام الباقر أو الصادق علیهما السّلام ، قال :

« أثقل ما یوضع فی المیزان یوم القیامة الصلاة علی محمد وعلی أهل بیته » (2)وعن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« مَنْ نَسیَ الصَلاة عَلیَّ أخطأ طریق الجنَّة » (3)

وعنه أنّه قال :

« صَلاتُکُم علیَّ إجابة لدعائکم وزکاة لأعمالکم » (4)

وعن أبی حمزة الثمالی أنَّه سأل أبا عبد اللّه الصادق علیه السّلام :

« فما ثوابُ من صلّی علی النبیِّ وآله بهذه الصلاة ؟

قال علیه السّلام : الخروج من الذنوب -واللّه -کهیئة یوم ولدتُه امُّه » (5)

وفی روایة اخری عن أمیر المؤمنین علیه السّلام ، قال :

« الصّلاة علی النبیّ وآله أمحق للخطایا من الماء للنار » (6)

ص:171

وینبغی الإشارة هنا إلی إنَّ هذه الروایات ظاهرة فی أنَّ الصلاة علی النبی وآله علیهم السَّلام تمحق حتّی الذنوب الکبیرة ، بل إنَّ بعض تلک الروایات صریحٌ فی ذلک .

وقد نقلنا سابقاً روایة -والظّاهر أنَّ سندها معتبرٌ أیضاً -عن الإمام الصادق علیه السّلام عن جدّه رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« إرفَعوا أصواتکم بالصلاة علیَّ فإنَّها تذهب بالنفاق » (1)

وفی وصایا النبی الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله لأمیر المؤمنین علیٍّ علیه السّلام ، قال :

« یا علیّ من صلّی علیَّ کلَّ یوم أو کلَّ لیلة وجبت له شفاعتی، ولو کان من أهل الکبائر » (2)

وفی روایة اخری ، أنَّ الصلوات من العلم المکنون ، حیث ورد :

« قیل یا رسول اللّه ! أرأیت قول اللّه تعالی : « إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِکَتَهُ یُصَلُّونَ عَلَی النَّبِیِّ »

کیف هو ؟

فقال صلّی اللّهُ علیه وآله : هذا من العلم المکنون . ولولا أنّکم سئلتمونی ما أخبرتکم .

إنَّ اللّه تعالی وکّل بی ملکین ، فلا أذکر عند مسلم فیصلّی علیّ إلاّ قال له ذلک الملکان :

غفر اللّه لک وقال اللّه وملائکته : آمین . ولا أذکر عند مسلم فلا یصلّی علیَّ إلاّ قال له الملکان : لا غفر اللّه لک ، وقال اللّه وملائکته : آمین . » (3)

ص:172

وبهذه الروایات ، یتّضح تماماً معنی هذه الفقرة من الزیارة ، وکیفیَّة صیرورة الصلاة علی محمد وآل محمد علیهم السّلام مزکّیة للأعمال ومکفِّرة للذنوب .

وحرف " الباء " ، فی قوله " فبلغ اللّه بکم " ، هی للتعدیة .

وبعبارة اخری ، إنَّ اللّه تعالی قد رفعکم ، کما یأخذ أحدٌ بید غیره ویرفعها ویرتفع ، فرفعکم واُوصلکم إلی هذا المقام .

وقد أوردنا سابقاً فی ذیل «

وَعباده المکرمین الذین لا یَسبقونه بالقول وهم بأمره یعملون » (1)بعض ما له نفع فی المقام ، وهنا نذکر جانباً آخر من ذلک البحث :

یقول تعالی فی القرآن الکریم :

« وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ * لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ * یَعْلَمُ ما بَیْنَ أَیْدِیهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا یَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضی وَ هُمْ مِنْ خَشْیَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَ مَنْ یَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّی إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِکَ نَجْزِیهِ جَهَنَّمَ کَذلِکَ نَجْزِی الظّالِمِینَ »2

ففی هذه الآیة المتعلّقة بالأنبیاء عدَّة مطالب :

أحدها : الردّ علی القول بأنَّ الله اتّخذ عیسی ولداً .

والثانی : أنَّ الأنبیاء عباد للّه ولکنْ عباد مکرمون مقرّبون عنده ، وکلّ أفعالهم بأمره ، وهم مطیعون له علی کلّ حال .

والثالث : أن من منازلهم عند اللّه الشفاعة ، ولکنّهم لمّا کانت أفعالهم أفعال اللّه ، فإنَّهم لا یشفعون إلاّ لمن أراد اللّه له الشفاعة .

والرابع : إنَّهم مع ذلک من خشیة اللّه مشفقون .

ص:174

والخامس : إنَّه لیس لأحدٍ منهم أنْ یدّعی الاُلوهیَّة لنفسه ، فلو إدّعی ذلک کان جزاؤه جهنَّم .

« وَ لِأُبَیِّنَ لَکُمْ بَعْضَ الَّذِی تَخْتَلِفُونَ فِیهِ »1

وعلیه ، فإنَّ کتب الأنبیاء السابقین لم تکن مشتملةً علی کلِّ الحقائق ومبیِّنة لکلِّ الاُمور .

أمّا فی خصوص القرآن الکریم ، فاللّه تعالی یقول :

« تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ »2

إذن ، فالقرآن الکریم أفضل من کتب الأنبیاء السّابقین ، وهذا القرآن الأفضل بکلِّ ما فیه من حقائق ومعارف وأسرار و علوم ، هو موجود عند رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله والأئمَّة الأطهار علیهم السّلام وقد قال سبحانه :

« ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا»3

ثم یقول فی شأن أمیر المؤمنین علیه السّلام :

« وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتابِ »4

هذا ، وقد استدلّ الإمام علیه السّلام بهذه الآیة ، فقد ورد :

عن عبد اللّه بن الولید ، قال : قال أبو عبد اللّه علیه السّلام :

« ما یقول أصحابک فی أمیر المؤمنین وعیسی وموسی ؟ أیُّهم أعلم ؟

قال : قلت : ما یقدّمون علی اولی العزم أحداً .

قال : أما أنّک لو خاصمتهم بکتاب اللّه لحججتهم .

قال : قلت : وأین هذا فی کتاب اللّه ؟

ص:176

قال : إنَّ اللّه قال فی موسی : « وَ کَتَبْنا لَهُ فِی الْأَلْواحِ مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ مَوْعِظَةً »1

ولم یقل : کلّ شیء . وقال عیسی : « وَ لِأُبَیِّنَ لَکُمْ بَعْضَ الَّذِی تَخْتَلِفُونَ فِیهِ »2

ولم یقل :

کلّ شیء . وقال فی صاحبکم : « کَفی بِاللّهِ شَهِیداً بَیْنِی وَ بَیْنَکُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتابِ »3 » (1)

وفی روایة اخری :

«عن عبد اللّه بن الولید ، قال : قال لی أبو جعفر علیه السّلام :

یا عبد اللّه ! ما تقول الشیعة فی علی وموسی وعیسی ؟

قال : جعلت فداک ، وعن أیِّ حالاتٍ تسألنی ؟

قال : أسألک عن العلم ، فأمّا الفضل فهم سواء .

قال : قلت : جعلت فداک ، فما عسی أن أقول لهم ؟

قال : هو -واللّه -أعلم منهما .

ثمَّ قال : یا عبد اللّه ! ألیس یقولون : إنَّ لعلیّ ما لرسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله من العلم ؟

قلت : بلی .

قال : فخاصمهم فیه ، إنَّ اللّه تبارک وتعالی قال لموسی :« وَ کَتَبْنا لَهُ فِی الْأَلْواحِ مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ »5

فأعلمنا أنَّه لم یبیّن له الأمر کلّه . وقال اللّه تبارک وتعالی

ص:177

لمحمَّدٍ صلّی اللّهُ علیه وآله : «وَ جِئْنا بِکَ شَهِیداً عَلی هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ »1 » (1)

وبناءاً علی ذلک، فإن الأئمَّة علیهم السّلام أفضل من الأنبیاء الماضین ، حتّی اولی العزم ، لأنَّ موسی وعیسی علیهما السّلام منهم .

و الدلیل الآخر لبیان أفضلیَّة الأئمَّة علیهم السّلام ، هو آیة المباهلة . (2)فإذا کان علیٌّ علیه السّلام نفس رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، وإنَّ رسول اللّه أفضل من کلِّ الأنیباء السابقین بما فیهم اولوا العزم ، فلامحالة یکون أمیر المؤمنین علیه السّلام أفضل من الأنبیاء السابقین علیهم السّلام .

وأیضاً ، ففی القرآن الکریم موارد کثیرة قد صدر من الأنبیاء ما لا ینبغی صدوره منهم ، وذلک ما یعبّر عنه بترک الاُولی رعایة لحفظ جهة العصمة فیهم - والمستفادة من القرآن نفسه -. ولکنّنا لا نری فی سیرة الأئمَّة علیهم السّلام ما یدلُّ علی ترکهم للأولی أبداً ، ولو کان قد صدر منهم مثل ذلک ، لشنَّع به أعداؤهم علیهم ، ولحاکوا منه القصص والأساطیر للنیل منهم .

إذن ، فالأئمَّة علیهم السّلام ، أفضل من الأنبیاء السابقین فی جهة العصمة وجهة العلم .ولذا فإنَّنا نقول فی الزیارة :

ص:178

ثم نقول : فإذا کان الأئمَّة علیهم السّلام أفضل من سائر الأنبیاء والمرسلین ، ومن اولی العزم منهم، فهم بالأولویَّة أفضل من کلِّ صحابة رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، فلا یتقدَّم علیهم أحدٌ أبداً .

وإلیک بعض نصوص حدیث التشبیه .(1)عن عبد الرزاق ، عن معمر، عن الزهری، عن سعید بن المسیِّب عن أبی هریرة قال : کان رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله فی جمع من أصحابه ، فقال :

« إنْ تنظروا إلی آدم فی علمه ، ونوح فی همّه ، وإبراهیم فی خلقه ، وموسی فی مناجاته ، وعیسی فی سننه ، ومحمّد صلّی اللّهُ علیه وآله فی هدیه وحلمه ، فانظروا إلی هذا المقبل . » .

فأدار الناس رقابهم لینظروا مَن المُقبل ، فإذا هو علیّ بن أبی طالب علیه السّلام . (2)وعن إبن عبّاس ، إنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« من أراد أن ینظر إلی آدم فی علمه ، وإلی نوح فی فهمه ، وإلی موسی فی مناجاته ، وإلی عیسی فی سمته ، وإلی محمد فی تمامه وکماله وجماله ، فلینظر إلی هذا الرجل المقبل .

قال : فتطاول الناس بأعناقهم فإذا هم بعلیّ ... . » (3)

وعن أنس بن مالک قال :

ص:180

کُنّا فی بعض حُجر مکّة نتحدث فی علیّ إبن أبی طالب ، فدخل علینا رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وقال :

« أیُّها الناس ! من أراد أن ینظر إلی آدم فی علمه ، وإلی نوح فی فهمه ، وإلی إبراهیم فی حلمه ، وإلی موسی شدّته ، وإلی عیسی فی زهادته ، وإلی محمّد فی بهائه ، وإلی جبرئیل فی أمانته ، وإلی الکوکب الدرّی والشمس الضّحی والقمر المضی فلیتطاول ولْیَنظُرْ إلی هذا الرجل ، وأشار إلی علی بن أبی طالب . »

وعن أبی سعید الخدری : کنّا عند رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله فدخل علیُّ ابن أبی طالب ، فنظر إلیه رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وقال :

« من أراد أن ینظر إلی آدم فی علمه وإلی نوح فی حکمه وإلی إبراهیم فی حلمه ، فلینظر إلی هذا »

وفی روایة اخری عن إبن عبّاس إنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله کان جالساً بین أصحابه ، فدخل علیٌّ ، فلما وقع بصر رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله علی أمیر المؤمنین علیه السّلام ، قال :

« من أراد أن ینظر إلی آدم فی علمه وإلی نوح فی حکمته وإلی إبراهیم فی حلمه ، فلینظر إلی علی بن أبی طالب . »

وعن أبی الحمراء قال : قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« من أراد أن ینظر إلی آدم فی علمه ، وإلی نوح فی فهمه ، وإلی یحیی بن زکریا فی زهده ، وإلی موسی بن عمران فی بطشه ، فلینظر إلی علی بن أبی طالب . »

وعن الحارث الهمدانی من أصحاب أمیر المؤمنین المعروفین :

« بَلَغَنا أن النبی صلّی اللّهُ علیه وآله کان فی جمع من أصحابه فقال : أُریکم

ص:181

آدم فی علمه ، ونوحاً فی فهمه ، وإبراهیم فی حکمته .

فلم یکن بأسرع من أن طلع علی علیه السّلام .

فقال أبوبکر : یا رسول اللّه ! أقست رجلاً بثلاثة من الرسل ؟ بخ بخ لهذا الرجل ، من هو یا رسول اللّه ؟

قال النبیّ صلّی اللّهُ علیه وآله : ألا تعرفه یا أبا بکر ؟

قال : اللّه ورسوله أعلم .

قال : أبو الحسن علی بن أبی طالب .

قال أبو بکر : بخ بخ لک یا أبا الحسن ! وأین مثلک یا أبا الحسن ؟! » (1)

وأخرج أبونعیم بإسناده عن النبی الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

«مَن سرَّه أن ینظر إلی آدم فی علمه ، وإلی نوح فی فهمه ، وإلی إبراهیم فی خلّته ، فلینظر إلی علی بن أبی طالب » (2)

وجاء فی حدیث آخر أنَّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« مَن أراد أن ینظر إلی إبراهیم فی حلمه وإلی نوح فی فهمه وإلی یوسف فی جماله ، فلینظر إلی علیّ بن أبی طالب » (3)

وعلیه ، فالصفات التی کانت موجودة عند الأنبیاء منفردة ، موجودة عند أمیر المؤمنین علیه السّلام مجتمعة .

وفی حدیث آخر قال :

« من أراد أن ینظر إلی آدم فی علمه ، وإلی نوح فی تقواه ، وإلی إبراهیم

ص:182

فی حلمه ، وإلی موسی فی هیبته ، وإلی عیسی فی عبادته ، فلینظر إلی علی ابن أبی طالب » (1)

وفی حدیث طویل عن جابر بن عبد اللّه الأنصاری قال : قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

« مَن أراد أن ینظر إلی إسرافیل فی هیبته ، وإلی میکائیل فی رتبته ، وإلی جبرائیل فی جلالته ، وإلی آدم فی سلمه ، وإلی نوح فی حسنه ، و إلی إبراهیم فی خلّته ، وإلی یعقوب فی حزنه ، وإلی یوسف فی جماله ، وإلی موسی فی مناجاته ، وإلی أیّوب فی صبره ، وإلی یحیی فی زهده ، وإلی عیسی فی سنته ، وإلی یونس فی ورعه ، وإلی محمّد فی جسمه وخلقه ، فلینظر إلی علی ، فإنَّ فیه تسعین خصلة من خصال الأنبیاء ، جمعها اللّه فیه ولن تجمع فی أحدٍ غیره » (2)

کان ذلک بعض الروایات التی رواها أهل السُنَّة فی کتبهم ، وقد إستدللنا بها من باب الإلزام والإحتجاج ، وإنْ کانت قد وردت بأسانید اخری فی مصادرنا أیضاً .

قال عبد اللّه بن شقیق : سأل رجلٌ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله : متی کنت نبیّاً ؟

فقال صلّی اللّهُ علیه وآله :

« کُنتُ نَبیّاً وآدَمُ بینَ الماءِ والطّین » (1)

وهذا الحدیث مرویٌّ فی کتب الشیعة والسنَّة معاً .

وقد ثبت بالأحادیث کون أمیر المؤمنین مع رسول اللّه فی جمیع العوالم ،

کما ثبت أنَّ أنبیاء اللّه کلّهم کانوا مکلَّفین بإبلاغ نبوَّة النبیّ الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله وولایة الأئمَّة علیهم السّلام إلی امَمهم .

وممّا یدلّ علی الأفضلیَّة ما رواه الفریقان من أنَّ النبیّ الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« نَحنُ أهلُ البیتِ لا یُقاسُ بنا أحدٌ » (2)

کما إنَّه مذکور فی نهج البلاغة أیضاً .

وفی بعض الروایات :

« أحدٌ من الناس » (3)

وأیضاً :

ص:184

« لا یقاس به أحدٌ ممَّن خلق اللّه » (1)

ثمَّ إنَّ أفضلیَّة الأئمَّة علیهم السّلام علی الخلائق من الأوَّلین والآخرین -ما عدا رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله -غیر مختصَّة بعالم دون عالم ، بل هی جاریة ومتحقِّقة فی کلِّ العوالم - الدنیا ، عالم ما قبل الدنیا ، عالم ما بعد الدنیا - ، وخاصَّة فی عالم الآخرة ، حیث تجتمع کلُّ الخلائق من الأوَّلین والآخرین ، ویظهر شأنُ أهل البیت علیهم السَّلام أکثر ممّا سبق .

بل إنَّ ظهور الحقائق مؤجّلٌ إلی ذلک العالم ، لکونها فی عالمنا هذا مختلطة بغیرها ، وناهیک بأخبار جلالة قدر الزهراء الطّاهرة المجهولة القدر فی هذا العالم ، وخاصَّةً خبر ورودها المحشر المرویّ فی کتب الفریقین . (2)

إنَّ عالم الآخرة ، عالم الحقیقة ولیس عالم المجاز والإعتبار ، وفی ذلک العالم سیعرف کلّ فردٍ قدر نفسه فلا یطمع بأکثر مما یستحقّه .

نعم ، إنَّ التقدّم والتأخّر الإعتباری إنّما هو من مظاهر عالم الدنیا ، حیث یتمکن بعض الناس من إحتلال مالا یستحقّون من المقامات والرتب ، عن طریق القهر و الغلبة أو ببذل الأموال وإتّباع الأسالیب الملتویة والوساطات والعلاقات العائلیَّة و... .

وأمّا فی عالم الآخرة ، فلیس هناک إلاّ سببُ واحد لنیل المقامات ، وهو الأعمال التی قام بها الإنسان فی عالم الدنیا ، فهناک الحق المحض، لا کعالم الدنیا حیث تختلط الحقائق بغیرها، فتشتبه الاُمور فی أکثر الأوقات وتضیع الموازین .

وعلی هذا ، فإنَّ الناس فی ذلک العالم ، الأخیار منهم والأشرار ، سیستقرّون فی منازلهم المناسبة وستنکشف الحقائق للجمیع هناک .

ص:186

حَتَّی لَا یَبْقَی مَلَکٌ مُقَرَّبٌ ، وَلَا نَبِیٌّ مُرْسَلٌ ، وَلَا صِدِّیقٌ وَلَا شَهِیدٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ وَلَا دَنِیٌّ وَلَا فَاضِلٌ ، وَلَا مُؤْمِنٌ صَالِحٌ ، وَلَا فَاجِرٌ طَالِحٌ ، وَلَا جَبَّارٌ عَنِیدٌ ، وَلَا شَیْطَانٌ مَرِیدٌ ، وَلَا خَلْقٌ فِیمَا بَیْنَ ذَلِکَ شَهِیدٌ إِلَّا عَرَّفَهُمْ جَلَالَةَ أَمْرِکُمْ ، وَعِظَمَ خَطَرِکُمْ ، وَکِبَرَ شَأْنِکُمْ ، وَتَمَامَ نُورِکُمْ ، وَصِدْقَ مَقَاعِدِکُمْ ، وَثَبَاتَ مَقَامِکُمْ ، وَشَرَفَ مَحَلِّکُمْ وَمَنْزِلَتِکُمْ عِنْدَهُ ، وَکَرَامَتَکُمْ عَلَیْهِ وَخَاصَّتَکُمْ لَدَیْهِ قُرْبَ مَنْزِلَتِکُمْ مِنْهُ ؛

ص:187

ص:188

فلم یعرفهم الناس حقَّ المعرفة ، ولم یستفیدوا منهم حقَّ الإستفادة ، بل جاروا علیهم وصبّوا علیهم ألوان الظلم والإیذاء .

إنَّ اللّه تعالی قد بیَّن فی العوالم السابقة مقام أهل البیت علیهم السّلام بنحو لم یبق ملک مقرَّب ، نبیٌّ مرسل ، صدّیق ، شهید ، عالم ، جاهل وغیر ذلک من الخلائق إلاّ وعرف " جلالة أمرهم... " .

ولا یخفی أنَّ " عرَّفهم " غیر " أعلمهم " ، فإنَّ المعرفة غیر العلم ، فمعرفة کلُّ إنسان بأهل البیت علیهم السّلام ، تتناسب مع إستعداداته ومؤهلاته ، ولعلَّ ذکر هذه الأصناف واحداً واحداً هو من أجل هذه الحقیقة ، وهی إنَّ کلَّ صنف من هذه الأصناف قد عرف وسیعرف فی الآخرة أهل البیت علیهم السّلام بقدر إستعداده ولیاقته .

والمراد من " الملک المقرب " و" النبیّ المرسل " و" الشهید " معلوم ، فمن هو " الصدِّیق " ؟

ذکر الراغب الإصفهانی فی لفظة " صدّیق " أربعة معان ، قال :

« الصدّیق ، من کثر منه الصدق ، وقیل : بل یقال لمن لا یکذّب قط ، وقیل : بل لمن لا یتأتی منه الکذب لتعوّده الصدق ، وقیل : بل لمن صدق بقوله وإعتقاده وحقق صدقه بفعله ، قال : «وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ إِبْراهِیمَ إِنَّهُ کانَ صِدِّیقاً نَبِیًّا»1 وقال : «وَ أُمُّهُ صِدِّیقَةٌ »2 وقال : «مِنَ النَّبِیِّینَ وَ الصِّدِّیقِینَ وَ الشُّهَداءِ »3 » . (1)

ص:190

والظاهر أنَّ المعنی الرابع هو المتعیَّن ، وإنَّ الصدّیق هو من صدق بقوله وإعتقاده ومن حقَّق صدقه بفعله وسلوکه فی الخارج .

ولقد کان أمیر المؤمنین علیٌّ علیه السّلام ، کذلک ، وکان السابق علی غیره فی هذا المجال ، لذا یقول علیه السّلام :

« أنا الصدّیق الأکبر » (1)

تُری ، أیصحُّ علی هذا الأساس ، أن یقال لأبی بکر أیضاً : صدّیق ؟!

وما معنی " خلقٌ بین ذلک شهید " ؟

ومن جملة خلائق اللّه تبارک وتعالی ، الحیوانات ، فهم أیضاً یعرفون الأئمّة الأطهار علیهم السّلام ، وفی الروایات الواردة فی کتب السنَّة والشیعة ما یدلُّ علی إرتباط الحیوانات مع رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله والأئمَّة علیهم السّلام ، وقد ذکرنا فی هذا الکتاب بعض الشواهد علی ذلک .

وقد یکون هناک أنواع اخری من الخلائق لا نعرفها .

وبناءاً علی ما مرَّ ، فإنَّ الصدّیقین أیضاً لا یدرکون شأن أهل البیت علیهم السّلام ، ولن یطمعوا بنیل تلک المنازل العالیة ، لعدم توفّر الإستعداد اللّازم فیهم للوصول إلی هنالک .

ص:191

نعم ، لقد حورب الأئمَّة علیهم السّلام فی هذا العالم محاربة شدیدة ، ولکنَّها لم تؤثر علی عظمتهم وعلو شأنهم .

فها هو معاویة بن أبی سفیان الَّذی أعلن حربَه علی أمیر المؤمنین علیه السّلام بکلِّ شراسة ، ولکنَّه فی المواقع والأوقات الحسّاسة یلجأ إلی أمیر المؤمنین علیه السّلام ، فیبعث رسولاً لیسأله عن بعض مشکلات المسائل التی کان یبتلی بها بحکم تسلّطه علی مقالید الأمور فی الشام .

وفی روایة سأل الإمام الحسن علیه السّلام أباه علیه الصّلاة والسّلام عن السّبب فی جوابه عن أسئلة معاویة الخارج علی أمیر المؤمنین علیه السّلام ، فأجاب ما معناه : أنَّه یکفی إحتیاجه إلینا .

وعلی أیِّ حال ، کلّما زاد أعداء أهل البیت من محاربتهم لهم فإنَّ منازلهم علیهم السّلام کانت تتوضح أکثر ، ویعلو شأنُهم وینتشر نورهم ، وهذا ما اعترف به بنو امیَّة أنفسهم .

ولم تقتصر محاربة أعداء أهل البیت لهم فی حیاتهم ، بل حاولوا إطفاء نورهم بعد إستشهادتهم ، بل وحاربوا کلَّ ما یتعلَّق ویرتبط بهم ، کمحاربة أصحابهم وشیعتهم بأنواع المحاربة ، وحتّی قبورهم علیهم السّلام لم تسلم من محاربة الأعداء . فقد أقدموا علی هدم قبر الحسین علیه السّلام مرَّتین أی فی حکومة اثنین من بنی العباس، فی من هارون وفی زمن المتوکل ، وأرادوا أن یمحوا آثار هذا المرقد الشریف ، ولکنَّ اللّه تعالی حفظ هذا المرقد من المکائد . (1)

ص:193

وقد تجرأ الأعداء علی هدم قباب الأئمَّة علیهم السّلام وأهل البیت فی البقیع ، ولا زالوا إلی یومنا هذا یحاربون ویقولون بأنَّ قبور أئمّتکم لیست هنا .

کما تجرّأوا علی هدم قبّة إلامامین العسکریین علیهما السّلام فی مدینة سامراء فی زماننا هذا.

کما أراد البعض تعیین محل دفن الزهراء علیها السّلام ، لا حبّاً بالزهراء وشیعتها ، وإنَّما لأنَّهم یعلمون بأنَّ خفاء قبرها سیبقی دلیلاً علی مظلومیَّتها إلی یوم القیامة ، فأرادوا إبطال هذا الدلیل .

فکلُّ ذلک محاربة ولکنّها متنوّعة الأشکال متعدّدة الأبعاد ، فتارة : ینکرون محل قبر أمیر المؤمنین علیه السَّلام ، واُخری : یحاولون تعیین محلّ دفن الزهراء علیها السّلام وثالثة: یهدمون القباب .

ولکنَّ اللّه عزَّوجل شاء أن تفشل مخطّطات الظالمین وأن لا تؤثر هذه المحاربة ، وأن تبقی ولایة الأئمَّة علیهم السّلام ، فبقیت آثار أهل البیت علیهم السّلام شامخة ، وبقی شیعتهم علی رغم حملات القمع والتشرید والتنکیل بهم علی مرِّ التأریخ ثابتین راسخین فی إعتقادهم بولایة أهل البیت علیهم السّلام علی رغم قساوة الأعداء وضراوة المحاربة وشدَّة الآلام والمصائب التی قاسوها فی هذا السبیل .

نعم ، تلک إرادة اللّه عزَّوجل التی لا تقف إرادةٌ فی قبالها .

ص:194

« ثُمَّ دَنا فَتَدَلّی*فَکانَ قابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنی »1,2

فکان ممکناً أن یقال فی الزیارة :

السّلام علیک فی جمیع الأحوال .

ولکنَّ هذا البیان حسن جمیل ، کما جاء فی القرآن الکریم فی قصَّة موسی علیه السّلام :

« وَ ما تِلْکَ بِیَمِینِکَ یا مُوسی * قالَ هِیَ عَصایَ أَتَوَکَّؤُا عَلَیْها وَ أَهُشُّ بِها عَلی غَنَمِی وَ لِیَ فِیها مَآرِبُ أُخْری »1

نعم ، فالإنسان إذا أراد أن یمدح ویُطری علی عزیز عنده ، فإنَّه سیطیل فی الخطاب ویفصل فی محاسن المحبوب ، و قد تکون هناک نکات وظرائف اخری یحملها مثل هذا التفصیل ، واللّه العالم .

ص:198

ص:200

بِأَبِی أَنْتُمْ وَأُمِّی وَأَهْلِی

وَمَالِی وَأُسْرَتِی ، أُشْهِدُ اللَّهَ وَأُشْهِدُکُمْ أَنِّی مُؤْمِنٌ بِکُمْ وَبِمَا آمَنتُمْ بِهِ ، کَافِرٌ بِعَدُوِّکُمْ وَبِمَا کَفَرْتُمْ بِهِ ، مُسْتَبْصِرٌ بِشَأْنِکُمْ وَبِضَلَالَةِ مَنْ خَالَفَکُمْ .

مُوَالٍ لَکُمْ وَلِأَوْلِیَائِکُمْ ، مُبْغِضٌ لِأَعْدَائِکُمْ ، وَمُعَادٍ لَهُمْ ، وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَکُمْ ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَکُمْ مُحَقِّقٌ لِمَا حَقَّقْتُمْ ، مُبْطِلٌ لِمَا أَبْطَلْتُمْ ، مُطِیعٌ لَکُمْ . عَارِفٌ بِحَقِّکُم ،

ص:201

مُقّرٌّ بِفَضْلِکُمْ ، مُحْتَمِلٌ لِعِلْمِکُمْ ، مُحْتَجِبٌ بِذِمَّتِکُمْ ، مُعْتَرِفٌ بِکُمْ ، مُؤْمِنٌ بِإِیَابِکُمْ ، مُصَدِّقٌ بِرَجْعَتِکُمْ ، مُنْتَظِرٌ لِأَمْرِکُمْ مُرْتَقِبٌ لِدَوْلَتِکُمْ .

آخِذٌ بِقَوْلِکُمْ ، عَامِلٌ بِأَمْرِکُمْ ، مُسْتَجِیرٌ بِکُمْ زَائِرٌ لَکُمْ لاَئِذٌ عَائِذٌ بِقُبُورِکُمْ .

مُسْتَشْفِعٌ إِلَی اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِکُمْ ، وَمُتَقَرِّبٌ بِکُمْ إِلَیْهِ ، وَمُقَدِّمُکُمْ أَمَامَ طَلِبَتِی وَحَوَائِجِی إِرَادَتِی فِی کُلِّ أَحْوَالِی وَأُمُورِی.

ص:202

مُؤْمِنٌ بِسِرِّکُمْ وَعَلَانِیَتِکُمْ وَشَاهِدِکُمْ وَغَائِبِکُمْ وَأَوَّلِکُمْ وَآخِرِکُمْ ، وَمُفَوِّضٌ فِی ذَلِکَ کُلِّهِ إِلَیْکُمْ ، وَ مُسَلِّمٌ فِیهِ مَعَکُمْ .

وَ قَلْبِی لَکُمْ مُسَلِّمٌ وَرَأْیِی لَکُمْ تَبَعٌ ، وَنُصْرَتِی لَکُمْ مُعَدَّةٌ حَتَّی یُحْیِیَ اللَّهُ تَعَالَی دِینَهُ بِکُمْ ،یَرُدَّکُمْ فِی أَیَّامِهِ ، وَیُظْهِرَکُمْ لِعَدْلِهِ ، وَیُمَکِّنَکُمْ فِی أَرْضِهِ فَمَعَکُمْ مَعَکُمْ لَا مَعَ غَیْرِکُمْ .

ص:203

ص:204

الإمام الهادی علیه السَّلام ، ولا یخفی النکتة فی ذلک ، فقد کان من أولاد الإمام الحسن المجتبی علیه السَّلام ، والحسنیّون ما کانت علاقتهم مع الأئمَّة جیّدة فی ذلک الزمان ، وخاصَّةً وأنَّه کان أکبر سنّاً من الإمام علیه السَّلام . (1)فقد روی الشیخ الصدوق رحمه اللّه ، أنَّ السید عبد العظیم الحسنی دَخَل علی الإمام علیّ بن محمد الهادی علیه السّلام ، فلمّا رآه الإمام علیه السّلام قال له :

« مرحباً بک یا أبا القاسم ! أنْت ولیّنا حقّاً .

قال : فقلت : یابن رسول اللّه ! إنّی ارید أن أعرض علیک دینی ، فإن کان مرضیّاً ثَبَتُّ علیه حتّی ألقی اللّه .

فقال : هات یا أبا القاسم .

فقلت : إنّی أقول : إنَّ اللّه تعالی واحدٌ لیس کمثله شیء ... » (2)

إذا ما واجهکم ، وأن أتحمّل کلّ المصائب والمحن فی نفسی وفی أبی واُمّی وأبنائی واُسرتی ومالی ، من أجل الحفاظ علیکم وعلی سلامتکم .

وهذا منتهی درجات الإخلاص والمحبَّة والإیمان .

2- الإستعمال فی المعنی المجازی ، وهو إظهار شدَّة الحبِّ والإخلاص والإرتباط .فإنَّه إذا ما امتنع تحقُّق المعنی الحقیقی -کما سیأتی توضیحه - فسیکون المقصود من هذه العبارات هو الإعراب عن شدَّة المودَّة .

إذن ، فالمراد من اللفظ لیس المعنی الحقیقی الموضوع له ، ولا هو صرف المجاملة المتعارفة بین الناس فی المجتمعات .

فالمعنی الحقیقی لهذه العبارة إنّما یتحقَّق فی زمن الحضور ، وأمّا فی زماننا وهو زمن الغیبة ، فما نقوله هو من باب إرادة المعنی المجازی ، وذلک :

أوّلاً : لأنَّ الأئمَّة الأطهار علیهم السّلام لیسوا فی عالم الدنیا الآن ، فلا یُتصوَّر تعرُّضهم للخطر لکی یُراد المعنی الحقیقی لهذه العبارة ، ویستثنی من ذلک زیارة الإمام المهدی أرواحنا فداه .

ثانیاً : إذا کان المراد من العبارة المعنی الحقیقی ، فلابدَّ أن یکون المفدّی به موجوداً ، وهذا لا یتحصَّل دائماً ، إذ قد یکون المتکلّم فاقداً للأبوین ، أو الأموال أو ...فلا یکون لقوله : بأبی أنت واُمّی ...مصداقیَّة ، والحال إنَّ الدعاء مطلق لکلِّ الأفراد لا خصوص من یکون والداه علی قید الحیاة ویمتلک الأموال... .

ثالثاً : هل یجوز للإنسان أن یضحی بوالدیه -فی حال حیاتهما -ویفتدی أحداً بهما ؟ أفهل للإنسان ولایة علی والدیه ؟ أم إنَّ له وکالة من قبلهما لیصحّ له أن یقول : بأبی أنت واُمّی ؟

ص:207

رابعاً : فی بعض الأحیان یقرأ الإنسان مثل هذه العبارات فی الوقت الَّذی یکون فیه القاریء أفضل من المفدّی ، فمثلاً جاء فی زیارة أصحاب الإمام الحسین علیه السّلام فی کربلاء ، الواردة عن الإمام الباقر علیه السّلام : « بأبی أنتم واُمّی » ، ولا شکَّ فی أنِّ الإمام زین العابدین علیه السّلام أفضل من أصحاب الحسین علیه السّلام ، فکیف یکون المراد من قوله بأبی أنتم واُمّی ، المعنی الحقیقی ؟!

وأمّا ما جاء بتفسیر الآیة فی قصَّة إسماعیل علیه السّلام :

« وَ فَدَیْناهُ بِذِبْحٍ عَظِیمٍ »1

من أنَّ " الذبح العظیم " هو سید الشّهداء الإمام الحسین علیه السّلام (1)وهو بلا شک أفضل من إسماعیل علیه السّلام ، فالمراد من الفداء هو الإستبدال ، ومن هذا الباب یقال " الفدیة " فی أحکام الحجِّ .

ومن هنا ، فإنَّ القرائن المذکورة ، تُعیِّن أنَّ المراد هو المعنی المجازی ، ویکون " بأبی أنتم واُمّی " ، کنایة عن شدّة المحبَّة تجاه المحبوب .

ولهذا الإستعمال نظائر کثیرة فی لغة العرب ، فمثلاً إذا سمع أحدٌ کلاماً أعجبه ، قال : « للّه درُّک » . حیث یُظهر الشخص إرتیاحه وسروره من ذلک الکلام المسموع .

کما إنَّ لعکس هذه الحالة نظائر أیضاً ، فإذا ما سمع الإنسان کلاماً غیر سلیم ، فإنَّه یقول للمتکلم : « فَضّ اللّه فاک » ، وهو کنایة عن إمتعاضه من ذلک الکلام وعدم رضاه به .

ص:208

وعلیه ، فجملة «

بأبی أنتم واُمّی » غیر مستعملة فی المعنی الموضوعة له ، بل المقصود منها هو المعنی المجازی .

ومن جهة اخری ، فقد یکون هناک محذور شرعیٌّ فی ذلک ، کما فی الخبر :

« سُئل أبو الحسن موسی بن جعفر علیه السّلام : الرّجل یقول لإبنه أو لإبنته : بأبی أنت واُمّی ، أو أبویَّ ، أتری بذلک بأساً ؟

فقال : إنْ کان أبواه مؤمنین حیَّین فأری ذلک عقوقاً ، وإنْ کانا قد ماتا فلا بأس » (1)وعلی الجملة ، فإنَّ الظاهر حمل « بأبی أنتم وأُمّی » فی الزّیارة علی المجاز ، بأنْ یراد التحامی عن دینهم ، أو یراد إظهار شدَّة المحبَّة لهم .

وأوَّل ما یعرضه هو الإیمان بولایتهم ، والبراءة من أعدائهم ومخالفیهم ، إنَّه یرید التأکید عن انفصاله وابتعاده عن اولئک الذین یسلکون غیر طریق أهل البیت علیهم السّلام ، والإعلان عن إستنکاره لمسلکهم ، فکیف باُولئک الذین یعادون أهل البیت وینصبون العداء لهم ؟

فعندما نقول : " إنّی مؤمنٌ بکُمْ " یعنی : اذعنُ بکلّ منازلکم ومقاماتکم عند اللّه من الإمامة وغیرها ، واُصدِّق بذلک تصدیقاً کاملاً .

إنَّه قد یحبُّ الإنسانُ شخصاً ، أو یدَّعی محبَّته ولکنَّهُ لا یؤمن بمقامه ومنزلته .

ولکنَّ تحقُّق هذا المعنی ، أی الحبّ المجرّد عن الإیمان، بخصوص أهل البیت علیهم السّلام ، محلُّ بحثٍ وإشکال .

فهل من یدَّعی محبَّة أهل البیت علیهم السّلام ، ولا یؤمن بإمامتهم ووجوب إطاعتهم محبٌّ لهم حقیقةً ؟

وبعبارة اخری ، هل إنَّ محبَّة أهل البیت علیهم السّلام قابلةٌ للإنفکاک عن القول بولایتهم وإمامتهم ؟

وهل إنَّ هذه المحبَّة -علی فرض تحقّقها واقعاً - تنفع هؤلاء الأشخاص ؟!

وعلی أیّ حالٍ ، فإنَّ الإیمان بإمامة الأئمَّة الأطهار علیهم السّلام لهو من أهمّ الواجبات ، بل إنَّ کلَّ العبادات منوطةٌ بولایة أهل البیت علیهم السّلام .

الثالث : إنَّ الإیمان فرع المعرفة ، ولما کانت المعرفة متفاوتة الدرجات عند الأشخاص ، فلا محالة سیکون الإیمانُ بهم متفاوت الدرجات أیضاً .

إنَّ الإیمان بإمامة أهل البیت ، هو بالضبط کالإیمان باللّه سبحانه وتعالی ، وکالإیمان برسالة رسول اللّه محمد صلّی اللّهُ علیه وآله ، حیث أنَّ معرفة الأشخاص باللّه تعالی وبرسوله لیست علی حدٍّ سواء .

فإذا کان الإیمان فرع المعرفة وکان واجباً، کانت المعرفة واجبة کذلک ، فإنَّه إذا لم تکن المعرفة ، لم یکن الإیمان .

ومن ثمَّ قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

ص:211

« مَنْ ماتَ وَلَم یَعرِفْ إمامَ زَمانِهِ ماتَ مِیتَةً جاهلیَّة » (1)

ولابدَّ من الإلتفات إلی أنَّ الإنسان مهما حصل علی درجة من المعرفة ، فإنَّ علیه أن لا یقنع بتلک الدرجة ، لأنّ القناعة وإنْ کانت من الامور الراجحة الممدوحة ، ولکن لا فی طلب المعارف والعلوم ، فیجب علی الإنسان أن لا یقف عند حدٍّ معیَّن من المعارف ، بل علیه أن یسعی جاهداً لطیِّ الخطوات الواسعة فی طریق المعرفة وتحصیلها أکثر فأکثر .

الرابع : إنَّه کلَّما إزداد إیمان الإنسان ، کلما إزدادت طاعتُه ، لأنَّ الطاعة فرعُ الإیمان والإعتقاد ، کما إنَّ الإیمان فرع المعرفة .

وعلیه ، فإنْ کان المراد من الإیمان مجرَّد الإعتقاد القلبی ، کانَ الإیمانُ والإعتقاد القلبیُّ لازماً لیکون الإنسان مطیعاً .

وأمّا إن کان المراد من الإیمان ، الإعتقاد القلبی مضافاً إلی العمل ، فذا بحثٌ آخر ، وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السّلام إنَّه قال :

« الإیمان هو الإقرار باللسان وعقد فی القلب وعمل بالأرکان » (2)

وجاء فی کتاب دعائم الإسلام :

« الإیمان قولٌ باللسان وتصدیق بالجنان وعمل بالأرکان وهذا الَّذی لا یصحُّ غیره » (3)

ص:212

وإذا کان المراد من الإیمان هو الإعتقاد والعمل ، فإنَّه کلّما إزداد الإیمان إزداد وحَسُنَ العمل والطاعة .

وبعد معرفة هذه المطالب فهنا بحوث :

1- هل کان أهلُ البیت علیهم السّلام علی حقٍّ ؟

ذکرنا سابقاً ، بأنَّ أحداً من الناس -علی الأقل بحسب تتبّعنا -لم یدَّع أنَّ أهل البیت علیهم السّلام لم یکونوا علی حقّ ، فحتّی أعداؤهم لم یقولوا بذلک ، بل بالعکس یحاولون إلصاق أنفسهم بأهل البیت علیهم السّلام ، ویدَّعون الإنتساب والتبعیَّة لهم .

وقد ذکرنا کلام إبن حجر الهیتمی المکّی فی کتابه " الصواعق المحرقة " حیث قال فی الردِّ علی الشیعة ما معناه : نحن أتباع أهل البیت ولیس الشیعة ، وإنَّ دعوی الشیعة متابعة أهل البیت لا صحّة لها . (1)ولمّا کان الحقُّ مع أهل البیت وأنّهم علی حقّ ، فلابدَّ أن یکون الذین وقفوا بوجههم وحاربوهم فی حیاتهم وبعد حیاتهم علی الباطل .

2- من الَّذی وقف بوجه أهل البیت وحاربهم ؟

نحنُ نعتقد بأنَّ کلَّ الفرق والمذاهب -ماعدا مذهب أهل البیت علیهم السّلام -هی علی باطل ، ولکنَّ علی رأس کلِّ أهل الباطل فی کلّ زمانٍ ، هم الحکّام الذین تسلّطوا علی رقاب المسلمین بإسم الإسلام ، فصبّوا ألوان الظُلم علی أهل البیت علیهم السّلام وشیعتهم . ثمَّ وعّاظ السّلاطین الذین إستماتوا فی

ص:213

الدفاع عن الظَلَمَة وظُلمهم ، محاولین تبرئة ساحتهم فقالوا عنهم :

« إجتهدوا فأخطأوا »

ولا یخفی أن هذا الکلام یتضمّن أمرین :

1- الإقرار بالظلم .

2- إدّعاء الإجتهاد للظالمین ، وإنَّهم أخطأوا ولم یتعمَّدوا .

ومن الواضح أنَّ الإقرار حجَّة ، وأمّا مجرّد الإدّعاء فلا قیمة له ما لم یقم الدلیل القطعی علیه .

وکمثال علی ذلک ، یعترفون بأنَّ طلحة والزبیر وعائشة وغیرهم ممّن خرج علی أمیر المؤمنین علیه السّلام وأشعلوا نار الحرب ضدَّه ، کانوا علی خطأ ، ولکنَّهم یقولون بأنَّهم تابوا من فعلتهم تلک .

وقد أجاب الشیخ المفید رحمه اللّه بأنَّ خروجهم علی إمام زمانهم الموجب للخروج من الدین درایة ، وأمّا القول بأنّهم تابوا فمجرَّد إدِّعاء لابدَّ من إثباته . (1)فشاهد کلامنا هو: إنَّه حتّی أُولئک الذین یدافعون عن حکّام الجور ، یُقرّون بقبح أفعالهم ، ولکنَّهم یحاولون توجیهها والدفاع عنهم بأنَّهم قد تابوا .

ولکن لما ثبت أنَّ هناک حقّاً وإنَّ ماعداه باطلٌ ، وثبت أنَّ أهل البیت علیهم السّلام وبإجماع المسلمین ، هم علی الحقِّ ، فلا محالة یکون ماعداهم علی باطل واللّه عزّوجلّ یقول :

« وَ سَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ »2

ص:214

3- هل یمکن موالاة أهل البیت وظالمیهم معاً ؟

هل یمکن قبول رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وأبی جهل معاً ؟

وبتعبیر أوسع ، هل یمکن قبول اللّه تعالی وقبول الشیطان ؟

إن قبول الظالم و حمل أفعاله علی الصحَّة یستلزم عدم التبرّی منه ، ولذا لم یتبرء أحمد الغزالی من إبلیس بل قال بأنَّه کان من الموحّدین إذ لم یسجد لآدم !

کما أصرَّ أخوه محمد الغزّالی علی عدم جواز لعن یزید بن معاویة فقال فی کتاب إحیاء العلوم ، فی قسم " آفات اللّسان " :

« الآفة الثامنة : اللعن ... .

وعلی الجملة ففی لعن الأشخاص خطر فلیجتنب ، ولا خطر فی السکوت عن لعن إبلیس مثلاً ، فضلاً عن غیره .

فإن قیل : هل یجوز لعن یزید لأنَّه قاتل الحسین أو أمر به ؟

قلنا : هذا لم یثبت أصلاً ، فلا یجوز أن یقال : إنَّه قتله ، أو أمر به ، ما لم یثبت ، فضلاً عن لعنه ، لأنَّه لا تجوز نسبة مسلم إلی کبیرة من غیر تحقیق »

ثمَّ ذکر بعض أحادیث النهی عن لعن الأموات ، ثمَّ قال :

فإن قیل : فهل یجوز أن یقال : قاتل الحسین لعنه اللّه ، أو الآمر بقتله لعنه اللّه ؟

قلنا : الصّواب أن یقال : قاتل الحسین إنْ مات قبل التوبة لعنه اللّه ، لأنَّه یحتمل أن یموت بعد التوبة ، فإنَّ وحشیاً قاتل حمزة عمّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قتله وهو کافر ، ثمَّ تاب عن الکفر والقتل جمیعاً ، ولا یجوز أن یلعن . والقتل کبیرة ولا تنتهی إلی رتبة الکفر ، فإذا لم یقیّد بالتوبة وأطلق کان فیه خطر ، ولیس فی السکوت خطر ، فهو أولی . » (1)

ص:215

إنَّ مثل هذا الإستدلال جمیلٌ فی ظاهره ، ماکرٌ فی محتواه ، فهو یقول :

بدلاً من أن تلعن یزید بن معاویة قل : "

اللهمَّ إغفر للمؤمنین والمؤمنات " ، ألیس هذا أفضل ؟!

الحقّ ، إنَّ کلام الأخوین مخالفٌ لصریح القرآن الکریم ، فإنَّ اللّه تعالی لعن إبلیس ، وأمرنا بلعنه .کما إنَّ الثابت فی کتب الفریقین إنَّ یزید بن معاویة کافرٌ ، ظالم ومفسدٌ فی الأرض ، وإنَّه مستحقّ للّعن ، بصریح القرآن الکریم .

والحاصل ، إنَّ الإعتقاد بالحقّ ، لا یتحقّق إلاّ بالبراءة من الباطل، ومن ثمَّ فإنَّنا نقول فی زیارتنا للأئمَّة علیهم السّلام :

وبعبارة اخری ، فإنَّ الإعتقاد القلبی شرطٌ فی الإیمان ، بأیِّ معنی فسَّرنا الإیمان ، والإعتقاد مأخوذ من " عقد یعقد " ، فهو یعنی " عقد القلب " .

قال الراغب الإصفهانی :

« العقد : الجمعُ بین أطراف الشیء » (1)

إنَّ القلب وعاءٌ ، وهذا الوعاء الواحد لا یجتمع فیه اللّه والشیطان ، فلو قال أحدٌ : أنا أجمع فی وعاء قلبی " اللّه " مع الصنم أو مع الشیطان ، لم یکن موحِّداً ، والمسلم هو من یعتقد برسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، فلا یمکن أن یضمَّ هذا القلب رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله مع أبی جهل ، والمؤمن هو من یوالی أهل البیت علیهم السّلام ویتبرّأ من أعدائهم ، فلا یجتمع ولاء أهل البیت مع عدم البراءة من أعدائهم فضلاً عن الولاء لهم کذلک .

ولذا ، فإنَّنا حینما نقف بین یدی الإمام علیه السّلام ونعلن إیماننا ونظهر إعتقادنا بهم علیهم السّلام ، ونلعن ونکفر بأعدائهم ونطردهم من قلوبنا ونقول :

« مُؤْمِنٌ بِکُمْ وَبِمَا آمَنتُمْ بِهِ ، کَافِرٌ بِعَدُوِّکُمْ وَبِمَا کَفَرْتُمْ بِهِ » .

فإنَّنا نؤمن :

1- بالأئمة الأطهار أنفسهم، أی ، بحقّانیَّتهم وبمنازلهم عند اللّه .

2- بکلِّ ما آمن به الأئمَّة علیهم السّلام " ، سواءٌ علمنا بذلک تفصیلاً أو إجمالاً ، أو لم نعلم به ، فنحن نؤمن بما یؤمنون به لکونه مورد إیمانهم ، وهم علی حقٍّ فی إیمانهم ، وإنَّ إیمانهم مطابق للواقع .

ص:217

وإنّا نکفر :

1- بکلِّ من عادی أهل البیت علیهم السّلام ، وبأیّ درجة کان ذلک العداء ، وفی أیّ صورة کان ، ومن أیِّ شخص صدر ، البعید والقریب ، ومهما کان مقامه ، وسواءٌ عرفناه أو لم نعرفه ، أظهر عداوته لهم أو لم یظهرها . فإنَّ صرف العداء لأهل البیت علیهم السّلام سیکون سبباً لکفرنا به وعدائنا له .

2- بکلِّ من عاداه أهلُ البیت علیهم السّلام ، رفضوه ، ردّوه وأبطلوه ، من الأشخاص ، الأفکار ، الأقوال ، الأفعال ، الصفات وکلَّ شیءٍ آخر ، سواء کان معلوماً لنا أو غیر معلوم ، لأنّنا علی یقین من أنَّ أهل البیت علی حقٍّ ، ونحن تابعون لهم .

ثمَّ إنَّنا لا نکتفی بالسکوت والحیادیَّة علی تلک الموارد ، بل إنّنا کافرون بها ، لأنَّ القرآن الکریم یقول :

« فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ یُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقی »1

ومن الواضح، إنَّ العروة الوثقی واحدةٌ لاغیر ، وإنَّ التمسُّک بالعروة الوثقی واجبٌ عقلاً وشرعاً ، وهذا التمسُّک لا یتحقّق بعد الإیمان باللّه إلاّ بالکفر بالطاغوت والبراءة منه والعداء له .

والظریف ، هو إنَّ الآیة الشریفة قدّمت الکفر علی الإیمان ، کما هو الحال فی کلمة التوحید حیث نقول أوّلاً "

لا إله" ثم نقول "

إلاّ اللّه " .

وعلی هذا ، فإنَّه لابدَّ أوّلاً من تخلیة وعاء القلب من الأغیار ، لأنَّ هذا الظرف لا یلیق إلاّ للّه الحقّ ، النور والهدایة ، لا للطاغوت والضلالة والظلمة .

ص:218

ولقد کان للطاغوت علی مرِّ التأریخ مصادیق ، والیوم أیضاً له مصادیق، وغداً سیکون له مصادیق أیضاً ، لکن روایاتنا قد جعلت الطّاغوت علماً لشخصٍ معیّن .

کما أنَّ المؤمن فی " یؤمن باللّه " هو الَّذی یؤمن باللّه وبما أمر بالإیمان به ، فالمؤمن الحقیقی هو المؤمن باللّه وبرسوله وبالأئمَّة الأطهار والیوم الآخر .

وعلیه ، فالمتمسِّکُ ب" العروة الوثقی " هو الَّذی یتبرّأ من کلِّ مصادیق الطاغوت ، ویتولّی اللّه ورسوله وأولیائه ، قال تعالی :

« لا تَجِدُ قَوْماً یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ یُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ کانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِیرَتَهُمْ أُولئِکَ کَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الْإِیمانَ »1

إذن ، لابدَّ أن یکون الإیمان مستقرّاً فی القلب بمعناه الحقیقی والواقعی ، فلا یکون ممّن " یصبح مؤمناً ویُمسی کافراً " کما ورد فی الروایات ، لأنَّ الإیمان علی قسمین :

1- الإیمان المستقرّ .

2- الإیمان المستودع .

وعن محمد بن مسلم إنَّه سمع من الباقر والصادق علیهما السّلام :

« إنَّ اللّه عزَّوجل خلق خلقاً للإیمان لا زوال له ، وخلق خلقاً للکفر لا زوال له ، وخلق خلقاً بین ذلک واستودع بعضهم الإیمان ، فإن یشأ أن یتمّه لهم أتمّه ، وإنْ یشأ أن یسلبهم إیّاه سلبهم » (1)

ص:219

وفی روایة اخری :

« إنَّ اللّه خلق النبیّین علی النبوَّة فلا یکونون إلاّ أنبیاء ، وخلق المؤمنین علی الإیمان فلا یکونون إلاّ مؤمنین ، وأعار قوماً إیماناً ، فإن شاء تمّمه لهم وإنْ شاء سلبهم إیّاه ، قال : وفیهم جرت : « فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ »1

وقال لی : إنَّ فلاناً کان مستودعاً إیمانه ، فلمّا کذب علینا

سلب إیمانه ذلک ؛ (1)

وعن الفضل بن یونس إنَّ الإمام علیه السّلام قال له :

« أکثر من أن تقول " اللهمَّ لا تجعلنی من المعارین ولا تخرجنی من التقصیر " قال : قلت :

أمّا المعارون ، فقد عرفت أنَّ الرجل یعار الدین ، ثمَّ یخرج منه ، فما معنی " لا تخرجنی من التقصیر " ؟

فقال : کلّ عمل ترید به اللّه عزَّوجل فکن فیه مقصّراً عند نفسک ، فإنَّ الناس کلّهم فی أعمالهم فیما بینهم وبین اللّه مقصّرون إلاّ من عصمه اللّه عزَّوجلّ » (2)

ثمَّ قال تعالی :

« أُولئِکَ کَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الْإِیمانَ وَ أَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ یُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها رَضِیَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِکَ حِزْبُ اللّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »4

فقوله " لا تجد " یعنی إنَّه لا یمکن ذلک ، أی لا یتحقَّق الإیمان باللّه وبالیوم

ص:220

الآخر مع مودّة أعداء اللّه ورسوله . و " حادّ اللّه ورسوله " یعنی اولئک الذین حاربوا اللّه ورسوله.

قال الراغب الإصفهانی :

« إِنَّ الَّذِینَ یُحَادُّونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ »1 أی یمانعون ، فذلک إمّا إعتباراً بالممانعة وإمّا بإستعمال الحدید » (1)

وعلی هذا ، فلایمکن الجمع بین الذین " یوادّون " والذین " یحادّون " ، حتّی لو کان المحادّون المقابلون للّه ولرسوله هم الآباء والإخوة والعشیرة ، لأنَّ الإیمان والإعتقاد فوق هذه الإعتبارات .

وهذه الآیة الکریمة ، کنایة عن إنَّ الإیمان لا یراعی فیه غیر اللّه تعالی ؛ بل لا یُعتدُّ بغیره عزَّوجلّ ، لأنَّ اللّه تعالی هو الحقّ فقط ، وما عدا اللّه هو الطاغوت .

فلا یصحُّ أن نقول : إنَّ المصلحة تقتضی أن نوادَّ " زیداً " أیضاً ، فهذا لا یمکن. نعم ، قد تقتضی المصلحة السکوت تقیَّةً ، وأمّا ما فی القلب ، فیجب أن یکون خالصاً للّه ، ولا یحقُّ لنا فی موارد التقیَّة من زید أن نوادَّه ونفتح قلوبنا له !

ومن هنا ، فإنَّ اولئک الذین کُتب الإیمان فی قلوبهم وإستقرَّ ، لایوجد موضع فی قلوبهم لأعداء اللّه ، ولیس فی قلوبهم ذرّة مودَّة لهم ، فهؤلاء لا یخافون من أعداء اللّه أبداً ، لأنَّ هؤلاء المؤمنین قد " أیَّدهم بروح منه " .

ولأنَّ هؤلاء المؤمنین لما تبرّأوا من إخوانهم وآبائهم وعشیرتهم الکافرین

ص:221

ولم یوادّوهم ، أثابهم اللّه تعالی «وَ یُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها »1

وهؤلاء ، هم الَّذین : «رَضِیَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ »2

ورضوان اللّه تعالی أمرٌ قیِّمٌ جدّاً .یقول القرآن الکریم :

« وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَکْبَرُ»3

فالآیة الشریفة المذکورة من جملة أدلّتنا علی وجود طائفتین ، طریقین ، خطّین وحزبین فی کلِّ زمان ، فإمّا " حزب اللّه " ، وإمّا الحزب المقابل لحزب اللّه ، وغیرُ " حزب اللّه " هو الباطل .

وعن الحسین بن خالد إنَّه سمع من الإمام الرضا علیه السّلام ، عن أبیه ، عن أجداده الکرام علیهم السّلام ، أنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« مَن أحبَّ أن یرکب سفینة النجاة ، ویستمسک بالعروة الوثقی ، ویعتصم بحبل اللّه المتین ، فلیوال علیّاً بعدی ، ولیعاد عدوّه ، ولیأتم بالأئمَّة الهداة من ولده ، فإنَّهم خلفائی وأوصیائی وحجج اللّه علی الخلق بعدی ، وسادة امّتی ، وقادة الأتقیاء إلی الجنَّة ، حزبهم حزبی وحزبی حزب اللّه، وحزب أعدائهم حزب الشیطان » (1)

وفی حدیث آخر عن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

ص:222

« حزبُ علیٍّ حزب اللّه ، وحزبُ أعدائه حزبُ الشیطان » (1)

وعلی هذا ، فإنَّ حزب اللّه هم الذین لا یخلطون حبَّ اللّه وأولیائه بحبِّ زید وعمروٍ وبکر ، وهذا هو المعنی الواقعی والحقیقی للإیمان ، وإنَّ نتیجة الإیمان الواقعی هی إیصال المؤمن إلی المحلِّ الَّذی یقول عنه تعالی :

« رَضِیَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِکَ حِزْبُ اللّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »2

إذن ، هؤلاء فقط هم الفائزون المفلحون النّاجون ، وأمّا الذین وقفوا فی مقابل هؤلاء ، فإنَّ مصیرهم یوم القیامة الذلُّ والهوان .

یقول تعالی فی القرآن الکریم :

« إِنَّ الَّذِینَ یُحَادُّونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِکَ فِی الْأَذَلِّینَ »3

وعلیه ، فلا یمکن للإنسان المؤمن باللّه أن یودَّ الذین یحاربون اللّه ورسوله ، وقد کتب اللّه لهم الذلّ والهوان وللمؤمنین الغلبة والقوّة و العزَّة، کما قال :

« کَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِی إِنَّ اللّهَ قَوِیٌّ عَزِیزٌ»4

وبالإستناد إلی هاتین الآیتین ، نقول : إذا ثبت المؤمنون علی عقیدتهم وعملوا حقَّاً بالقرآن الکریم وبأقوال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله بشکل کامل وصحیح ، والتزموا بها إلتزاماً بدون نقص وزیادة من أجل مصالحهم الخاصَّة والشخصیَّة ، وإذا لم یجاملوا الآخرین فی عقائدهم ، فإنَّهم سیکونون أعزَّة أقویاء .

ص:223

الثانی : إنَّ العداء للنّبی الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله مساوٍ للعداء للّه وهو کفر ، وکذلک البغض لأمیر المؤمنین ، والمقصود هو الکفر المقابل للإسلام .

« هذا أمیرُ البَرَرَة ، قایِلُ الفَجَرة ، مَنصور من نصرَه ، مُخذولٌ مَن خَذَلَه » (1)

وکلمة " بررة " جمع " بارّ " ، فمن إعتبره اللّه ورسولُه بارّاً ، لاشکَّ فی کونه فی رتبة عالیةٍ من البرّ .

وروی هذا الحدیث جمع من علماء أهل السُنَّة ، کالحاکم النیشابوری ، وأبی إسحاق الثعلبی والخطیب البغدادی .

وبمقتضی هذا الحدیث ، یجب علی المؤمن أن یتبرّأ من کلّ من خذله اللّه تعالی ، ویکون بذلک من جملة البررة .

الإصفهانی ، الطبرانی ، الحاکم النیشابوری ، الخطیب البغدادیّ ، إبن حجر العسقلانی وآخرون .

وقال إبن عبد البرّ فی کتاب " الإستیعاب " :

« روی طائفة من الصحابة أنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال لعلیّ : لا یُحبُّک إلاّ مؤمن ولا یبغضک إلاّ منافق » (1)

وبعبارة ثانیة ، إنَّ مبغض أمیر المؤمنین علیه السّلام ، یعنی المنافق ، والمنافق یعنی الکافر ، فهل یصحُّ حینئذٍ أن یدّعی الشخص بأنَّه من أتباع أمیر المؤمنین علیٍّ المرتضی علیه السّلام وأنَّه مطیع لرسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، ومع ذلک یحبُّ الکفّار ؟!

وقد رُوی هذا المعنی عن بعض الصحابة بعبارة اخری ، قال :

« ما کُنّا نعرفُ المنافقین إلاّ بتکذیبهم للّه ورسوله ، والتخلُّف عن الصلوات والبغض لعلیِّ بن أبی طالب » (1)

الذهبی ، إبن حجر العسقلانی ، أبوبکر الهیثمی وجمع کثیر من علمائهم ، وصرَّح بصحّته عدَّةٌ منهم .

وورد بلفظ :

« عدوُّکَ عدوّی وعدوّی عدوّ اللّه » (1)

وبلفظ :

« مَن عاداهُ فَقَدْ عادی اللّه »

وبلفظ :

« عادی اللّه مَن عادی علیّاً » (2)

وسواء کان المراد : إنَّ اللّه یعادی من عادی علیّاً، أو : من عادی علیّاً فقد عادی اللّه ، فإنَّ الإستدلال تام .

وجاء فی حدیث الغدیر :

« اللّهمَّ وال من والاه وعادِ مَن عاداهُ وإنصُر مَنْ نَصَرَه واخذُل مَن خَذَلَه وابغض من أبغضه ... » (3)

وکلُّ هذه الأحادیث متواترة ، ویمکن إدّعاء تواترها اللفظی أیضاً .

« حُبُّ علیٍّ حَسَنَةٌ لا تضُرُّ مَعَها سَیِّئَةٌ ، وبُغضُهُ سیّئةٌ لا تَنفَعُ مَعَها حَسَنَةٌ » (1)

ولکنّنا وبفضل من اللّه تعالی ، سنستخرج حقیقة معنی هذا الحدیث من القرآن الکریم ، وذلک: إنّ اللّه تعالی یقول :

« قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی »2

ثمَّ یقول بعد ذلک مباشرةً :

« وَ مَنْ یَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیها حُسْناً»3

و" یقترف " یعنی : یکتسب . (2)فإذا ما إکتسب أحدٌ " حَسَنَة " فإنَّ اللّه تعالی یقول : " نَزِد لَهِ فیها " فی تلک الحسنة " حُسناً " ، أی یزید اللّه فی حسنة ذلک الشخص حسناً ، فما المراد من " الحَسَنَة " ؟

جاء فی تفاسیر الشیعة والسُنَّة للآیة المذکورة :

« الحَسَنَةُ حبُّ علیٍّ وأهل بیته » (3)

وعلیه ، یکون حاصل معنی الآیة :

إنَّ اللّه تعالی یزید فی حُسنِ هذه الحَسَنَة - وهی حبّ أمیر المؤمنین وأهل بیته علیهم السّلام - من غیر تعیین حدٍّ لتلک الزیادة .

وإذا کان کذلک ، فأیُّ سیّئةٍ تضرُّ مع مثل هذه الحسنة ؟

ص:234

وقد بحثنا مضمون هذا الحدیث تحت عنوان " الکفر والإیمان " (1)

علیه وآله ویوالی أهل البیت علیهم السّلام ویعتبر إنَّ الولایة هی الحبُّ ، وفی نفس الوقت یسکت علی أفعال أعداء أهل البیت علیهم السّلام ویتّخذ الحیادیَّة مسلکاً ، وقد یدافع أحیاناً عن اولئک الأعداء أو یتبعهم .

وبعبارة اخری ، إنَّ الإیمان برسول اللّه وأهل البیت علیهم الصلاة والسّلام فی الأساس ، هو کالإیمان باللّه تعالی ، وکلمة التوحید " أشهد أن لا إله إلاّ اللّه " ، المشتملة علی نفی وإثبات - وهی کما ذکرنا سابقاً إستمساکٌ بالعروة الوثقی الموجب للنجاة فی یوم القیامة - لا تتحقَّق إلاّ بالإیمان باللّه والکفر بالطاغوت .

وبعد ، فإنَّ المعنی الإجمالی لهذا المقطع من الزیارة الشریفة ، هو إنَّنا نرید أن نقول للإمام علیه السّلام : إنَّنا مسلِّمون لشخصک وشئونک وأوامرک کلّها .

وصحیح إنَّ لفظ " التسلیم " لم یرد فی هذا المقطع ، ولکنَّ المعنی المقصود منه هو هذا ، وسنری لاحقاً وجود هذا اللفظ فی الزیارة .

فالزائر یُعلن أنَّه مسلِّمٌ أمره بالکامل للإمام ، فی کلِّ شیء ، فهو مؤمنٌ بکلّ ما یؤمن به وتابع له فیه .

فمثلاً ، فی باب التوحید ، یؤمن الأئمَّة علیهم السّلام بأنَّ اللّه تعالی منزَّه عن الجسمیَّة ، ویؤمن بأنَّ صفات اللّه تعالی عینُ ذاته ولیست زائدة علیها ، کما أنَّهم علیهم السّلام یؤمنون بعدل اللّه تعالی ، ویؤمنون بالمعاد الجسمانی ، وقد ذکرت الکتب الحدیثیَّة والکلامیَّة أدلَّة الأئمَّة علیهم السّلام علی هذه المعتقدات .

ویقول الإمام الصادق علیه السّلام :

« لاجبرَ ولا تفویض ولکن أمرٌ بین أمرین » (1)

ص:238

فهذه هی إعتقادات الأئمَّة علیهم السّلام ، التی دَعَوا الناس إلیها .

وهم علیهم السّلام یؤمنون بکلِّ شئونات النبیّ الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله من القرآن والعصمة وسائر الجهات الاُخری المتعلِّقة بالنبوَّة .

ونحن أیضاً نؤمن بکلِّ هذه الاُمور ، وعلینا بذل الجهد بقدر الإمکان لإقامة الأدلَّة علیها ، فإن لم نقدر علی إقامة الأدلَّة حتی علی بعض هذه الأمور من أجل الإعتقاد بها بالتفصیل ، فإنَّه یجب حینئذٍ الإعتقاد بها إجمالاً ، ولذا نخاطب الإمام علیه السّلام ونقول : مؤمن بکم وبما آمنتم به ، وبما دعوتم الناس إلی الإیمان والإعتقاد به . وهذا هو معنی الطاعة والمتابعة التامَّة فی کلِّ المسائل الإعتقادیَّة ، العملیَّة ، الأوامر والنواهی التکلیفیَّة والإرشادیَّة وفی سیرة وسلوک الأئمَّة علیهم السّلام .

ثم نقول : کافرٌ بعدوّکم وبما کفرتم به ، فلا نسیر فی طریق مخالفیکم ولا نطیعهم ونتابعهم ، ونطردُ من طردتموه .

وهذه هی الولایة بالمعنی الحقیقی ، أی إنَّنا نحید عن الأشخاص ، والأنظار والأقوال والأفعال التی حِدتُم عنها ونفیتموها ، سواءاً علمنا بسبب هذا النفی والطرد أو لم نعلم ، فإنْ علمنا کان أفضل ، وإنْ لم نعلم، بالسبب فیکفی أنَّنا نعلم أنَّکم طردتموها ونفیتموها، لأنَّنا مطیعون لکم طاعة مطلقة .

وهذا هو معنی التسلیم وواقع التشیُّع ، وسیأتی مزید توضیح له إنْ شاء اللّه بحسب ما جاء فی الروایات، فی شرح :

« فثبِّتنی اللّه أبداً ما حیِیت علی موالاتکم ومحبَّتکم ودینکُم ووفّقنی لطاعتکم »

ص:239

إذن ، فحسنُ التعامل مع الشیعة ومودَّتهم ومحبَّتهم والتعاون معهم ، هو إطاعة لأمر أهل البیت علیهم السّلام وإرشاداتهم .

ثانیاً : لأنَّ المحبَّة لشیعة أهل البیت هو مکمِّل لمحبَّة أهل البیت علیهم السّلام ، فکیف یحبُّ الإنسانُ أهل البیت علیهم السّلام ولا یحبُّ شیعتهم ؟! بل إنَّ هذا المعنی هو أمرٌ کُلّی عام ، ولذا فقد ورد فی الروایة :

« أصدقاؤک ثلاثة ، وأعداؤک ثلاثة . فأصدقاؤک : صدیقک وصدیق صدیقک وعدوّ عدوّک .

وأعداؤک عدوّک ، وعدوّ صدیقک ، وصدیق عدوّک . » (1)

ثالثاً : لأنَّ محبَّة شیعة أهل البیت علیهم السّلام موافق لمقتضی خلقتهم ، حیث إنَّهم خلقوا من فاضل طینة أهل البیت علیهم السّلام ، ولما ورد عنهم أنهم قالوا : «

شیعتنا منّا » (2)

ومنه یظهر أنَّ وظیفتنا فی التعامل مع أعداء أهل البیت علیهم السّلام لا تقتصر علی الشعور القلبی والبغض الباطنی والنفرة والإعراض الخفیّ ، بل لابدَّ من إظهار هذا البغض عن طریق العداء الخارجی ، فما یقوله البعض بأنَّ " البراءة أمرٌ قلبیّ لا یجب إظهاره " ، غیر صحیح ، بل لابدَّ من عدم إدّخار الجهد مهما أمکن فی إظهار العداوة وإعلان البراءة منهم قولاً وفعلاً ، کالحبِّ الَّذی هو ضدُّ البغض ، بل مثل هذه الأمور لا تُعرَف حتّی تظهر علناً .

وبطبیعة الحال ، لابدَّ من مراعاة الموازین الشرعیَّة والعقلیَّة .

المقالات والکتب ، ویخطبون فی المحافل ، ویلقون الدروس ویقیمون المجالس فی هذا المجال .

والحاصل ، یجب إغتنام کلَّ الفرص المتاحة وبأیِّ وسیلة کانت للوقوف أمام أعداء أهل البیت وإبطال الباطل .

نحن لم نبدأ المحاربة والهجمة علی الآخرین أبداً ، بل إنَّ الأعمّ الأغلب من کلِّ ما کتبه علماؤنا العظام ، کان فی مقام الدِّفاع ، والمخالفون هم الذین تهجّموا - ومازالوا -بأقوالهم وکتاباتهم ، فوقف أکابرنا العلماء فی وجوههم للذَّود عن مدرسة أهل البیت علیهم السّلام ، وقلَّما إتَّفق أن بدأ أحد العلماء منّا الهجوم علی الأعداء بکتاباته أو أقواله ، ولکنَّ بعض الموارد تستدعی المبادرة ببیان الحقائق ، بشرط أن تکون مستندة ومتینة .

إذن ، لابدَّ أن یکون المؤمن علی إستعداد تام للوقوف بوجه المخالفین بحسب الزمان ، المکان ، الوظائف والتشخیص الصحیح .

وأمّا اولئک الذین کانوا مسالمین تجاه الأئمَّة علیهم السّلام ، فلسنا مکلَّفین بمحاربتهم ، لأنّنا قد امرنا بحسن المعاشرة مع الذین أحسنوا معاشرة أهل البیت علیهم السّلام .

ببطلان کلِّ ما قالوا ببطلانه . فمثلاً : قالوا ببطلان القیاس وعلی حدِّ قول أحد الأساتذة الکبار ، إنَّ عندنا ما یقارب 500 روایة فی بطلان القیاس ، فهل یمکننا حینئذٍ العمل به فی الفقه ؟

إذا أردنا أن نکون من التابعین لمدرسة أهل البیت علیهم السّلام ، علینا أن نعتبر کلَّ ما قالوه حقَّاً ونقبله ، فإن عثرنا علی دلیل حقّانیَّته فهو وإلاّ وجبت علینا متابعتهم أیضاً ، وما أبطلوه نقول ببطلانه سواء علمنا بالدلیل علی ذلک أوْ لا .

ألم یقل رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله فی حقِّ أمیر المؤمنین علیٍّ المرتضی علیه السّلام :

« عَلیٌّ مع الحقّ والحقَ مَعَ علیٍّ یدورُ مَعَهُ حَیثُ دار » (1)

ومن هنا ، فإنَّنا نقول فی زیارة حضرة ولیِّ العصر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء :

« فالحقُّ ما رضیتُموه والباطلُ ما أسخَطتُموه » (2)

ففی الحقیقة إنَّ الأئمَّة علیهم السّلام هم " المیزان " وبهم یعرف الحقُّ من الباطل .

هذه جهة من جهات " محقّقٌ لما حقَّقتُم " .

والجهة الثانیة هی السعیْ فی فهم ونشر وتبلیغ ما إعتبرهُ الأئمَّة حقّاً ، والأخبار الواردة فی ذلک کثیرة .

ص:244

« ذَروَة الأمرِ وسِنامُهُ ومفتاحُهُ وبابُ الأشیاءِ ورِضی الرحمان تبارک وتعالی الطاعة للإمام بعد معرفته » (1)

إنَّ إطاعة الإمام عن معرفةٍ ، هی التی تأخذ بید الإنسان إلی المراتب العلیا ، وتربطُه بالأنبیاء وتوصله إلی رضا اللّه تعالی .

فالمعرفة ثم الطاعة ، والعاقبة مجالسة الأنبیاء والأولیاء وعباد اللّه الأبرار الصالحین، والوصول إلی رضوان اللّه تعالی .

وبرهانُ هذا المطلب کلمةٌ واحدة . وهی : إنَّ الإمام لا یُرید إلاّ رضا اللّه ولا یدعو إلاّ إلی ذلک ، وهو فی الأساس منصوبٌ من أجل هذا الغرض وهو وصل الناس باللّه تعالی ، وهو ما أشرنا إلیه مراراً فیما سبق .

فنحن نقرُّ ونعلن بأنَّ الأئمَّة علیهم السّلام ، بعد رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، لهم مزیَّة علی من سواهم علی الإطلاق ومتقدّمون علیهم ، نعتقد بثبوت هذا المعنی ونحن راسخون فیه وثابتون علیه .

فإنْ عرفنا جهات مزیَّتهم وکلّما کان ما نعرفه أکثر فهو خیر ، وإنْ لم نقدر علی فهم الإمتیازات والفضائل ، فلابدَّ أن نقرّ بها ، وهذا الإقرار لابدَّ أنْ یکون بکلّ الأنحاء ، بالقلب ، وباللّسان أیضاً .

ولمّا کان هذا الأمر حَسَناً، فلابدَّ - إذن - من السعی والجدِّ فی نشره وإذاعته وتبلیغه وإیصاله إلی الآخرین .

فالأئمَّة الکرام علیهم السّلام عندما یُلقون علومهم إلی أحدٍ ، یلاحظون مستوی السامع وإستعداده لتلقّی العلوم ، فیرفدونه بقدر وسعه ، وکلٌّ یأخذ منهم بمقدار فهمه وقابلیَّته ، فإنَّ حال الأئمَّة علیهم السّلام حال النور ، کلّ یستضئ به علی قدر وسعه .

وعلیه ، فإنَّ الأئمَّة علیهم السّلام إذا ما أعطوا من علومهم لأحدٍ بمقدار معین ، وأعطوا الآخر أکثر من ذلک أو أقل ، أو لم یعطوا شیئاً ، فإنَّما ذلک من أجل إختلاف الإستعدادات والقابلیّات عند الأشخاص .

یقول تعالی فی القرآن الکریم :

« هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ »1

أجل ، لابدَّ من البحث عن هذا الأمر بالتفصیل فی باب الولایة التکوینیَّة .

إذن ، ف" محتملٌ " ، یعنی بذل الوسع لحمل علومهم ومعارفهم ، وهو شرفٌ عظیم ومقام رفیع .

ویمکن أن یکون المراد من " محتمل " هو " التعهُّد " ، یعنی إنّی مؤمنٌ ومعتقد بسعة علومکم وحقّانیَّتها ، حتّی لو لم أطّلع علی مقدار تلک العلوم وکیفیَّتها ، لذا فالإنسان المؤمن معتقدٌ بکلِّ ما أخذه عن الأئمَّة علیهم السّلام ، وبکلِّ ما لم یأخذه ولم یعرفه أیضاً .

وهذا أیضاً من جملة موارد التسلیم تجاه الأئمَّة الأطهار علیهم السّلام ، وهو من علامات الإیمان الکامل .

فقد رُوی عن الإمام الباقر علیه السّلام إنَّه قال :

ص:249

« منْ سَرَّهُ أنْ یَستَکمِلَ الإیمانَ کلَّه فَلیَقُل : القولُ منّی فی جمیع الأشیاء قولُ آل محمّد علیهم السّلام فیما أسرّوا وما أعلنوا وفی ما بلغنی عنهم وفی ما لم یَبلغنی » (1)

ومن ثمَّ ، نجد الکلینی فی الکافی ، والصفّار فی بصائر الدرجات ، والمجلسی فی البحار ، قد فتحوا باباً بعنوان " کیفیَّة علوم الأئمَّة علیهم السّلام " وذکروا فیه روایات کثیرة فی هذا المجال .

فعلی المؤمن أن یسعی دائماً لکسب المعارف و العلوم . فإن حصل علی البعض منها ولم یحصل علی البعض الآخر ، لم یجز له إنکار ما لم یتوصَّل إلیه ، وهذه مسألة مهمّة جدّاً لابدَّ من الإلتفات إلیها دائماً ، وهی أن لا ننکر ما لا نعلمه ونعرفه ، أو ما لا تدرکه أفهامنا من علومهم علیهم السّلام .

وهذا أحد معانی تلک الروایة المعروفة ، عن الإمام السجّاد علیه السّلام إذ قال :

« واللّه لو علم أبوذر ما فی قلب سلمان لقتله ، ولقد آخا رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله بینهما. فما ظنّکم بسایر الخلق ؟

إنَّ علم العالم صعب مستصعب لا یحتمله إلاّ نبیّ مرسل ، أو ملک مقرّب ، أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإیمان .

فقال : وإنَّما صار سلمان من العلماء ، لأنَّه امرؤ منّا أهل البیت علیهم السّلام فلذلک نسبته إلی العلماء . » (2)

ومن هنا نجد البحث والاختلاف بین بعض أصحاب الأئمَّة علیهم السّلام ،

ص:250

فی بعض المطالب ، إذ قد یکون بعضهم سمع شیئاً من الإمام علیه السّلام ولم یسمعه الآخرون ، لإختلاف إستعداداتهم وقابلیاتهم لدرک وفهم تلک المطالب ، فإنَّ کلَّ واحدٍ منهم قد تعلّم ما یتناسب مع مقتضی قابلیَّته وإستعداده .

ولهذا السّبب وصّونا بأنَّهم إذا أعطوا أحداً شیئاً من المعارف ، فعلیه أن لا یذکر ذلک لمن لیست له أهلیَّة إستماعها وفهمها ، وقد یکون هذا هو المراد من " محتملٌ لعلمکم " .

وعلیه ، فإن إستطاع المؤمن أن یرتقی بفهمه إلی تلک الأهلیَّة واللّیاقة التی تمکّنه من تلقّی المعارف ، فهو خیر ، وإنْ لم یستطع أن یوصل نفسه إلی تلک المرتبة التی تؤهّله لدرک ما یقوله الأئمَّة علیهم السّلام ، فعلیه حینئذٍ أن لا یُنکر ما لم یسمعه عنهم وسَمِعَه الآخرون وفهموه ، بل إنَّ علیه أن یعتقد بکلِّ ذلک ولو بنحو الإجمال .

عن أبی بصیر قال : قال أبوجعفر علیه السَّلام :

« حدیثنا صعبٌ مستصعب لا یؤمن به إلاّ ملک مقرّب ، أو نبیّ مرسل ، أو عبد (1)امتحن

اللّه قلبه للإیمان ، فما عرفت قلوبکم فخذوه وما أنکرت فردّوه إلینا . » (2)

وعن أبی حمزة الثمالی أنَّه سمع الإمام السجّاد علیه السّلام یقول :

« إنَّ حدیثنا صعبٌ مستصعب لا یحتمله إلاّ نبیّ مرسل أو ملک مقرَّب، ومن الملائکة غیر مقرَّب » (3)

ص:251

هذا ، و إنَّ إلقاء العلوم إلی الطلاّب بحسب قابلیّاتهم وإستعداداتهم وجعل الملاک فی ذلک الأهلیَّة واللّیاقة ، لا یختصّ بالأئمَّة علیهم السّلام ، فإنَّ کلَّ العلماء الکبار یراعون هذا الملاک فی إلقاء العلوم إلی تلامذتهم ، وکم من عالم مات وحبس علمه بصدره ، لأنَّه لم یجد المؤهلین لتلقّیه . فإنَّ إلقاء العلم إلی غیر أهله ، ظلمٌ ، کما إنَّ منع العلم عن أهله ظلمٌ .

إنَّه یطلب الدخول فی ذمَّة أهل البیت لخوفه من اللّه ، بلحاظ کثرة ذنوبه من جهة ، ولعظمة الباری عزَّوجلّ وشدَّة عذابه من جهة اخری ، فلیس له حیلة إلاّ الإلتجاء إلی أعزِّ خلق اللّه وأکثرهم قرباً منه .

وهذا لا ینافی توسل المؤمن بالأئمَّة علیهم السّلام فی حیاتهم وبعد مماتهم ، فی اموره الشخصیَّة، وفی مابینه وسائر الناس، ولحلِّ مشکلاته وقضاء حوائجه المادیّة والمعنویّة ، ولکنّ عمدة الإلتجاء إلیهم إنَّما هو من أجل یوم القیامة وحساب الآخرة .

وهل قول الزائر : " محتجبٌ بذمَّتکُمْ " ، طلب الإلتجاء إلیهم ، أم إنَّه إخبارٌ ، یعنی إنَّه لاجیءٌ بهم فعلاً ؟

الجواب : کلا المعنیین صحیح ، فإن کان إخباراً، فهو یخبر عن إنَّه ملتزم بذلک العهد والمیثاق الَّذی عقده مع اللّه تعالی ومع الأئمَّة فی عالم الذر ، فی جهة إمامتهم وولایتهم علیهم السّلام ، فهو یرید القول بأنَّه وإنْ کان مذنباً وخاطئاً ولکنّه لم ینکث العهد والمیثاق الَّذی عقده فی ذلک الیوم ، وحیث إنَّ ذلک المیثاق کان بین الطرفین ، فهو یطلب من الأئمَّة علیهم السّلام أن یضمنوه ویخلِّصوه من عذاب الآخرة بمقتضی مقامهم عند اللّه .

هذا، وقد تحدثنا فی الکتاب عن المیثاق فی عالم الذر . (1)وأمّا إن کان إنشاءً ، فمن الواضح إنَّه لیس للمؤمن ملجأ فی الآخرة غیر أهل البیت علیهم السّلام ، ولذا فنحن نطلب من حضراتهم علیهم السّلام أن یقبلونا ویعینوننا فی خلاصنا من العذاب .

ص:253

وعلی أیِّ حال ، فإنَّ هذه الجملة تدلُّ بالإلتزام علی وجاهة لحضرات المعصومین علیهم السّلام عند اللّه تعالی ، ومقام لم ینله أحدٌ من الأوَّلین والآخرین غیرهم .

المعرفة والعرفان، ومن هنا فقد جاء فی بعض الزیارات «عارفاً بحقکم».

ثم إنّ المراد من «الحق» هنا: إمامتهم ووجوب إطاعتهم المطلقة ومتابعتهم فی کلّ الاُمور، وأنّ الحق معهم وفیهم وإلیهم، وأنّ من خالفهم هو الباطل.

فعلینا، التفکّر والتأمّل فی حق الأئمة الطّاهرین والتدبّر لآثار ذلک، لأنّ ذلک سیزید فی معرفتنابهم، وکلّما ازدادت المعرفة إزدادت الطّاعة، وقد ثبت أنّ طاعتهم طاعة اللّه، وکلّما ازدادت الطّاعة للّه تقرّبنا إلی اللّه ورضوانه، وفی ذلک سعادة الدنیا والآخرة، وذلک هو الفوز العظیم.

ولا یخفی أنّ الإهتمام بمثل هذه المطالب التی تتضمّن معرفة الأئمَّة علیهم السّلام من جهة ، ومعرفة سلسلة من الاُمور الإعتقادیَّة من جهة اخری ، واجبٌ ، لأنَّ معارف الإنسان إذا کانت ناقصةً ، فإنَّ ذلک سیؤدّی إلی نقصان عمله ، وإذا کان عمله ناقصاً فإنَّ ذلک یستتبع مفاسد کثیرة ، وأحد تلک المفاسد تأثّر هذا الإنسان بالشبهات بسرعة ، وعندما ینتبه من غفلته یکون الأوان قد فات علی إمکان التصحیح ، کما نلاحظ ذلک فی زماننا هذا وکیف إنحرف بعض الناس عقائدیاً وبقوا علی إنحرافهم فماتوا علی تلک الحال والعاقبة السیّئة .

و" الإعتراف " إفتعالٌ ، من " المعرفة " ، یقول الراغب الإصفهانی :

« المعرفة والعرفان : إدراک الشیء بتفکّر وتدبُّر لأثره ، وهو أخصُّ من العلم . ویضادُّه الإنکار ». (1)

ص:255

فعلینا إذن ، أن ندرک منازل حضرات المعصومین علیهم السّلام ، بالتدبّر والتفکُّر بقدر وسعنا ، فإنَّ فی ذلک آثاراً کثیرة وعظیمة ، فکلما إزدادت المعرفة بهم ، إزدادت الطاعة للّه تعالی والقرب من ساحته جلَّ وعلا کما ذکرنا مراراً .

وعلیه ، فمعرفتنا ستظهر -مضافاً إلی القلب -علی اللسان والأعمال .

وبذلک تکون سبباً ووسیلةً لدعوة الآخرین إلی الحقِّ .

وذلک، إنَّنا إذا تعمَّقنا قلیلاً فی الأذی الَّذی لاقاه أهل البیت من أعدائهم ، فإنَّ براءتنا من أعدائهم ستزداد وتتأکَّد أکثر ، وحینئذٍ سنتمنّی مجازاتهم ومعاقبتهم فی دار الدنیا أیضاً .

فنحن نوالی أهل البیت علیهم السّلام ، ونتبرّأ من أعدائهم ، ولکن لماذا نتبرّأ ؟

نتبرأ منهم لأنَّهم عادوا أهل البیت وظلموهم ، ومعاداة أهل البیت معاداة للّه ورسوله صلّی اللّهُ علیه وآله ومعاداة للإسلام وللقرآن ، لذا ، فنحن نتبرأ منهم ومن أفعالهم ، وکلّما إزداد علمنا بظلمهم ومعاداتهم ، کلّما إزدادت تمنیاتنا لمعاقبتهم ورغبتنا فی مجازاتهم وإنتقام اللّه منهم ، ولکی یظهر بطلان طریقهم ومنهجهم فی هذا العالم للملأ کلِّهم ، ولکی تظهر أیضاً فی هذا العالم حقّانیَّة أهل البیت علیهم السّلام ومظلومیَّتهم .

ومن هنا ، فإنَّ من یؤمن بأهل البیت ویتبرّأ من أعدائهم ، ویعرف عظم المصائب الواردة علیهم من قبل أعدائهم ، فإنَّه سیتمنی رجعة أعدائهم إلی الدنیا لمعاقبتهم ، کما یتمنی رجعة أهل البیت علیهم السّلام وتشکیل دولتهم . فالزائر إذن، ینتظر هذه الدولة والسلطنة وعظمة أهل البیت علیهم السّلام ، وینتظر ظهور الحقّ وإنتقام اللّه من ظلمتهم وأعدائهم .

ومن ثمَّ ، کان أوّل إعتقاد یصرِّح به الزائر بعد الإیمان بالأئمَّة علیهم السّلام وولایتهم والبراءة من أعدائهم ، هو الإعتقاد بالرجعة وإنتظار أمرهم ، وهذا یُظهر وجود الإرتباط بین الرجعة وبین الولایة والبراءة .

ص:257

لقد وردت آیات کثیرة فی القرآن الکریم تعدّ بالعشرات إنْ لم تکن بالمئات مفسّرة بقضیَّة دولة الإمام المهدی علیه السّلام ورجعة الأئمَّة الأطهار والمؤمنین ، وسنذکر طرفاً منها ،

کما أنَّ الأخبار فی ذلک فوق حدِّ التواتر ،

و إنَّه لا شکَّ فی إنَّ أصل قیام دولة إمام العصر والزمان علیه السّلام من ضروریات الدین ، إنَّه سیظهر ویشکِّل دولةً عالمیَّة یحکمها المؤمنون فی ظلِّه ، ویحکم دینُ اللّه تعالی کلَّ العالم .

ولکن ، کیف ستکون هذه الدولة ؟

وبأیِّ وسیلةٍ ستتحقَّق ؟

وما هی منجزاتها ؟

ومن الَّذی سیؤیّدها ؟

ومن الَّذی سیخالفها ؟

وکم مدَّة بقائها ؟

وما هی عاقبة أمرها ؟

وماذا سیکون بعدها ؟

وأمثال هذه الأسئلة التی تخفی علینا أجوبتها التفصیلیَّة، والتی لا یکون الإعتقاد بها من الضروریّات ، ولا العلم بها من جملة العقائد الضروریَّة .

وبعبارة اخری ، فإنَّ أصل المطلب من الضروریّات ، ولکن جزئیّاته لیست من الضروریّات الدینیَّة .

ص:259

کما إنَّ الرجعة کذلک ، فقد وقع فیها الخلاف من قدیم الزمان بین العلماء وطرحت حولها الأسئلة الکثیرة، من قبیل :

من الَّذی سیرجع ؟

وفی أیِّ زمان ستکون الرجعة ؟

هل سیرتفع التکلیف فی زمن الرجعة أم لا ؟

فنحن نعتقد بهذه الأمور بنحو الإجمال ، لوجود الآیات والروایات الکثیرة الدالَّة علی ذلک ، مضافاً إلی إجماعات الأعاظم الموجودة فی هذا المطلب .

وبطبیعة الحال ، فإنَّ عقولنا قاصرة عن البحث فی مثل هذه المواضیع ، کما هی کذلک فی البحث فی مسألة المعاد والقیامة ، ونشر الأجساد بعد سنین طویلة وإحیائها ثانیة ، وکالحشر والحساب والکتاب ، فکلُّ هذه الأمور تقصر العقول عن درکها والبتِّ فیها ، ولکنَّ المخبر الصادق قد أخبرنا بها ، ونحن نؤمن ونعتقد بها لذلک ، ولو بنحو الإجمال ، وهو کافٍ فی المقام .

الأدلَّة بکلِّ صدق وأمانة ولم یصل إلی نتیجة ، فله أنْ یقول لم یثبت عندی ، وأمّا إذا أنکر ، لم یکن معذوراً ، إذ لیس من حقِّه إنکار ما لم یتوصَّل هو إلی معرفته والإعتقاد به .

وبناءاً علی ذلک ، فإنَّ من ینکر الرجعة لیس بخارج عن أحد ثلاث أحوال :

إمّا إنَّه لیس من أهل العلم ، وإنْ کان رجلاً صالحاً .

وإمّا أن لا یکون من أهل التقوی ، وقد أنکر ذلک بسبب هوی النفس .

أو أن یکون فاقداً للعلم والتقوی معاً .

ومن نظر فی أدلَّة الرجعة وهو من أهل العلم والتقوی ، فلا یخرج عن أحد حالین :

إمّا أن یعتقد ، أوْ لا یعتقد .

ولیس له الحقَّ فی إنکار ما لم یعتقد به .

ومع هذه الضابطة یتّضح حکمُ اولئک الذین یشکّکون فی الرجعة أو ینکرونها .

وقد یکون الشخص من أهل العلم ، ومن أهل التقوی ، ولکنَّه ولشبهة مّا ، لم یعتقد بالرجعة ، فمثل هذا الشخص علیه -بمقتضی تقواه - أن یسعی لرفع تلک الشبهة ، فإنْ حاول ولم یصل إلی حلّها ، لم یکن له حقُّ الإنکار أیضاً .

وبالإلتفات إلی هذه المقدَّمة نقول :

لیست المسائل الإعتقادیَّة خاضعة لآراء الأشخاص ، فلا یصحُّ القول : إنَّ فلاناً قال کذا فنحن نعتقد بما قال ، بل لابدَّ من النظر فی أدلَّة المسائل الإعتقادیَّة لغرض الوصول إلی نتیجة صحیحة .

ص:261

ومن هذا المنطلق ، یقول أمیر المؤمنین علیٌّ علیه السّلام :

« لا یُعرف الحقُّ بالرجال ، إعرف الحقَّ تعرفُ أهلَهُ » (1)

ویقول علیه السّلام فی کلام آخر له :

« إنَّ الحقَّ والباطلَ لا یُعرفان بالناس ، ولکن إعرف الحقَّ بإتّباع من إتَّبعه والباطل بإجتناب من إجتنبه » (2)

وهم طائفتان :

1- الخُلَّصُ من المؤمنین ومَن محَّض الإیمان .

2- الخُلَّصُ من المنافقین ومَن محّضَ النّفاق . (1)وهذا سیکون فی زمن صاحب الزمان علیه السّلام ودولته الحقَّة ، لأنَّ المؤمنین الذین ظُلموا فی هذه الدنیا ، سیتولّون القدرة والقوَّة وسیتمکّنون من الإنتقام من ظالمیهم من المنافقین .

قال السید المرتضی :

« قد اجتمعت الإمامیَّة علی أنَّ اللّه تعالی عند ظهور القائم صاحب الزمان علیه السّلام، یعید قوماً من أولیائه لنصرته والإبتهاج بدولته، وقوماً من أعدائه لیفعل بهم ما یستحقّون من العذاب . وإجماع هذه الطائفة قد بیّنا فی غیر موضع من کتبنا أنّه حجّة ، لأنَّ المعصوم فیهم ، فیجب القطع علی ثبوت الرجعة ، مضافاً إلی جوازها فی القدرة » (1)

وقد صرّح بذلک الشیخ الطبرسی رحمه اللّه فی تفسیر " مجمع البیان " فی ذیل عدَّة آیات من القرآن المجید ، ونصَّ علی إجماع الإمامیّة علی الرجعة، ومن ذلک قوله فی تفسیر الآیة المبارکة:

««وَ یَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ کُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ یُکَذِّبُ بِآیاتِنا فَهُمْ یُوزَعُونَ »2

أی یدفعون ، عن إبن عبّاس ، وقیل : یحبس أوّلهم علی آخرهم .

واستدلّ بهذه الآیة علی صحَّة الرجعة من ذهب إلی ذلک من الإمامیَّة ، بأن قال : إنّ دخول " من " فی الکلام ، یوجب التبعیض ، فدلّ ذلک علی أنّ الیوم المشار إلیه فی الآیة ، یحشر فیه قوم دون قوم ، ولیس ذلک صفة یوم القیامة الّذی یقول فیه سبحانه :

« وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً»3 .

وقد تظاهرت الأخبار عن أئمَّة الهدی من آل محمّد علیهم السّلام فی أنَّ اللّه تعالی سیعید عند قیام المهدی علیه السّلام قوماً ممّن تقدّم موتهم من أولیائه وشیعته ، لیفوزوا بثواب نصرته ومعونته ، ویبتهجوا بظهور دولته .

ص:264

ویعید أیضاً قوماً من أعدائه لینتقم منهم وینالوا بعض ما یستحقّونه من العذاب ، فی القتل علی أیدی شیعته والذلّ والخزی بما یشاهدون من علوّ کلمته .

ولا یشکّ عاقل أنَّ هذا مقدور للّه تعالی غیر مستحیل فی نفسه ، وقد فعل اللّه ذلک فی الاُمم الخالیة ، ونطق القرآن بذلک فی عدَّة مواضع مثل قصَّة عزیر وغیره ، علی ما فسّرناه فی موضعه .

وصحّ عن النبیّ صلّی اللّهُ علیه وآله قوله : " سیکون فی امّتی کلّ ما کان فی بنی إسرائیل ، حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذَّة ، حتّی لو أنَّ أحدهم دخل جحر ضبّ لدخلتموه (1). (2)

وقال المجلسی رحمه اللّه فی هذا المجال :

« أجمعت الشیعة علیها فی جمیع الأعصار واشتهرت بینهم کالشمس فی رابعة النهار ، حتّی نظموها فی أشعارهم ، واحتجّوا بها علی المخالفین فی جمیع أمصارهم ، وشنّع المخالفون علیهم فی ذلک وأثبتوه فی کتبهم وأسفارهم ؛ » (3)

ولقد نسب کبار علماء المخالفین کالفخر الرازی ، هذه العقیدة إلی الشیعة ولکنَّ البعض منهم حرّفوها عن عمدٍ :

فقال الحافظ النُوَوی فی معنی الرجعة :

« هو ما تقوله الرافضة وتعتقده بزعمها الباطل : أنَّ علیّاً کرّم اللّه وجهه فی

ص:265

السّحاب ، فلا نخرج یعنی مع من یخرج من ولده حتّی ینادی من السماء أن أُخرجوا معه . وهذا نوع من أباطیلهم وعظیم جهالتهم اللائقة بأذهانهم السخیفة وعقولهم الواهیة ؛ (1)

6- الإیقاظ من الهجعة بالبرهان علی الرجعة ، للشیخ محمد بن حسن الحرّ العاملی ( 1104 ) .

7- إثبات الرجعة وظهور الحجَّة ، للشیخ محمّد مؤمن الحسینی الاستر آبادی ( 1088 ) .

8- إثبات الرجعة ( باللغة الفارسیَّة ) ، للعلّامة المجلسی ( 1110 ) .

9- إثبات الرجعة ، للسیّد جمال الدین الخوانساری ( 1125 ) .

10- حیات الأموات بعد الموت ، للشیخ أحمد الدرازی البحرانی ( 1131 ) .

11- النجعة فی إثبات الرجعة ، للسید علی نقی النقوی اللکنهوی .

12- کتاب الرجعة، للشیخ محمدرضا الطبسی.

والآن نتابع هذا البحث من عدَّة جهات :

رجعةٌ إجماعاً . فَتَعَیَّنَ کون هذه الرجعة قبلها وإنَّما آیة القیامة : « وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً »1 . » (1)

فهذه الآیة لا ترتبط بالقیامة قطعاً ، لأنَّ الحشر فی یوم القیامة عامٌ وشاملٌ لکلِّ الاُمم ولیس مختصّاً بفوج من کلِّ امَّة .

إذن ، فمن المعلوم أنَّ المراد من ذلک الیوم ، یومٌ قبل یوم القیامة .

وعلی الجملة ، هناک آیتان فی القرآن الکریم تتحدَّثان عن الحشر ( إحیاء الأموات ) ، ففی آیة منهما إشارة إلی الحشر یوم القیامة ، وهی قوله تعالی :

« وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً»3

والآیة الاُخری تشیر إلی یومٍ قبل یوم القیامة ، وهی قوله تعالی :

« وَ یَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ کُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً»4

وقد روی الشیخ علیِّ إبن إبراهیم القمّی فی تفسیره فی ذیل هذه الآیة بسندٍ صحیح عن حماد ، عن الإمام الصادق علیه السّلام قال :

« ما یقول الناس فی هذه الآیة :

قال الراوی :

یقولون إنَّها فی القیامة .

قال علیه السّلام :

لیست کما یقولون ، إنَّ ذلک فی الرجعة ، أیحشر اللّه فی القیامة من کلّ

ص:268

اُمَّة فوجاً ویدع الباقین ؟ إنَّما آیة القیامة قوله : « وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» ؛ » (1)

وعن المفضّل: عن الإمام الصادق علیه السّلام أنه قال فی قوله تعالی :

« وَ یَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ کُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً»2

« لیس أحدٌ من المؤمنین قُتِلَ إلاّ ویرجع حتّی یموت ، ولا یرجع إلاّ من محَّض الإیمان محضاً ومن محَّض الکفر محضاً » (2)

فهذه الآیة الکریمة تدلُّ علی رجوع من محَّض الإیمان ومن محَّض الکفر إلی هذا العالم ، فینتقم المؤمنون من الکافرین .

ومنه یُعلم ، بأنَّ الآیة الأولی مختصَّة بیوم القیامة ، وهذه الآیة مختصَّة بیوم آخر غیر یوم القیامة ، وهو ما یعبَّر عنه بیوم الرجعة .

ونقرأ فی آیة اخری :

« وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ * وَ نُمَکِّنَ لَهُمْ فِی الْأَرْضِ وَ نُرِیَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما کانُوا یَحْذَرُونَ »4

وفی آیة اخری :

« وَعَدَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الْأَرْضِ کَمَا

ص:269

اِسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضی لَهُمْ وَ لَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً یَعْبُدُونَنِی لا یُشْرِکُونَ بِی شَیْئاً »1

قال الشیخ الحرّ العاملی فی ذیل هذه الآیة :

« قد وردت أحادیث کثیرة بتفسیرها فی الرجعة علی أنّها نصّ فی ذلک لا تحتمل سواه ، إلاّ أن تصرف عن ظاهرها وتخرج عن حقیقتها ، ولا ریب فی وجوب الحمل علی الحقیقة عند عدم القرینة ، ولیس هنا قرینة کما تری » (1)

فهاتان الآیتان تدلّان أیضاً علی الرجعة ، والمستفاد من الروایات الکثیرة هو إنَّ الآیة الاُولی أوضح دلالة من الثانیة .

وفی " اصول الکافی " عن عبد اللّه بن سنان ، قال : سألت أبا عبد اللّه عن قوله تعالی :

« وَعَدَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الْأَرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ »3

قال علیه السّلام :

« هم الأئمَّة یرجعون إلی هذا العالم » (2)

وفی روایة ذکرها العیّاشی فی تفسیره ، عن الإمام السجّاد علیه السّلام فی ذیل هذه الآیة المبارکة ، قال :

« هم واللّه شیعتنا أهل البیت ، یفعل اللّه ذلک بهم علی یدی رجل منّا ، وهو

ص:270

مهدی هذه الاُمَّة وهو الّذی قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله : " لو لم یبق من الدنیا إلاّ یومٌ واحد لطوّل اللّه ذلک الیوم حتّی یلی رجل من عترتی ، اسمه إسمی ، یملأ الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت ظلماً وجوراً " » (1)

فاتَّضح أنَّ الأئمَّة علیهم السّلام قد إستدلّوا علی الرجعة بقسمٍ من الآیات القرآنیَّة ، کما إنَّ هناک آیات اوِّلت أو فسِّرت بالرجعة .

هذا ، وقد روی الشیخ الصدوق رحمه اللّه فی کتابه " من لا یحضره الفقیه " عن الإمام الصادق علیه السّلام إنَّه قال :

« لیس منّا مَن لَم یؤمن بکرَّتنا ویستحلُّ متعتنا » (1)

وفی روایة اخری له عن الإمام الصّادق علیه السّلام قال :

« مَنْ أقرَّ بسبعة أشیاء فهو مؤمن : البراءة من الجبت والطاغوت ، والإقرار بالولایة ، والإیمان بالرجعة ، والإستحلال للمتعة ، وتحریم الجرّی والمسح علی الخفَّین » (2)

وعن الفضل بن شاذان ، أنَّ الإمام الرضا علیه السّلام قال :

« مَن أقرَّ بتوحید اللّه ونفی التشبیه ونزّهه عمّا لا یلیق به ، وأقرّ بأنّ له الحول والقوّة والإرادة والمشیئة والخلق والأمر والقضاء والقدر ، وأنّ أفعال العباد مخلوقة خلق تقدیر لا خلق تکوین ، وشهد أنّ محمّداً رسول اللّه وأنَّ علیّاً والأئمَّة بعده حجج اللّه ، ووالی أولیاءهم ، واجتنب الکبائر ، وأقرّ بالرجعة والمتعتین وآمن بالمعراج والمسألة فی القبر والحوض والشفاعة وخلق الجنَّة والنار والصّراط والمیزان والبعث والنشور والجزاء والحساب ، فهو مؤمن حقّاً ، وهو من شیعتنا أهل البیت » (3)

وفی " الکافی " و" تهذیب الأحکام " بسندٍ صحیح عن بُرید بن معاویة قال :

سمعت أبا عبد اللّه علیه السّلام یقول :

« بعث أمیر المؤمنین صلوات اللّه علیه مصدِّقاً من الکوفة إلی بادیتها ... .

ص:272

ثمّ قال : أما واللّه لا تذهب الأیّام واللّیالی حتّی یحیی اللّه الموتی ویمیت الأحیاء ویردّ اللّه الحقّ إلی أهله ویقیم دینه الّذی إرتضاه لنفسه ونبیّه ، فأبشروا ثمّ أبشروا ثمّ أبشروا ، فواللّه ، ما الحقّ إلاّ فی أیدیکم ؛ » (1)

وعلیه ، فلا وجه لإنکار الرجعة إلی هذا العالم فی زمان حضرة ولیِّ العصر عجّل اللّه تعالی فرجه ، بعد إخبار القرآن المجید والروایات بذلک .

فقد أخبرنا اللّه عزَّوجل فی کتابه الکریم برجوع عزیر إلی الحیاة بعد موته ، وذلک فی قوله تعالی :

« أَوْ کَالَّذِی مَرَّ عَلی قَرْیَةٍ وَ هِیَ خاوِیَةٌ عَلی عُرُوشِها قالَ أَنّی یُحْیِی هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ کَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ یَوْماً أَوْ بَعْضَ یَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلی طَعامِکَ وَ شَرابِکَ لَمْ یَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلی حِمارِکَ وَ لِنَجْعَلَکَ آیَةً لِلنّاسِ وَ انْظُرْ إِلَی الْعِظامِ کَیْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَکْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَیَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ »1

وفی آیة اخری یقول تعالی :

« وَ إِذْ قُلْتُمْ یا مُوسی لَنْ نُؤْمِنَ لَکَ حَتّی نَرَی اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْکُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْناکُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ »2

إذن ، فالإحیاء ممکنٌ ، وقد وقع فعلاً فیما سبق .

هذا ، وقد إستدلَّ علماؤنا ، ولتتمیم الإستدلال علی وقوع الرجعة فی الاُمم السابقة ، بحدیث متَّفق علیه بین الشیعة والسنَّة عن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله :

قال الشیخ الطبرسیُّ فی مجمع البیان فی تفسیر القرآن :

« و قد تظاهرت الأخبار عن أئمَّة الهدی من آل محمد صلّی اللّهُ علیه وآله فی

ص:275

أن اللّه سیعید عند قیام المهدی قوماً ممّن تقدم موتهم من أولیائه وشیعته ، لیفوزوا بثواب نصرته ومعونته ، ویبتهجوا بظهور دولته .

ویعید أیضاً قوماً من أعدائه لینتقم منهم ، وینالوا بعض ما یستحقّونه من العذاب ، فی القتل علی أیدی شیعته ولیبتلوا بالذلّ والخزی بما یشاهدون من علوّ کلمته . ولا یمتری عاقل أنّ هذا مقدور للّه تعالی غیر مستحیل فی نفسه ، وقد فعل اللّه ذلک فی الاُمم الخالیة ، ونطق القرآن بذلک فی عدَّة مواضع ، مثل قصَّة عزیر وغیره ، علی ما فسّرناه فی موضعه ، وصحّ عن النبیّ صلّی اللّهُ علیه وآله قوله : " سیکون فی امّتی کلّ ما کان فی بنی إسرائیل حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذَّة ، حتی لو أن أحدهم دخل جُحر ضبّ لدخلتموه . » (1)

وقد روی الشیخ الصدوق رحمه اللّه استدلال الإمام الرضا علیه السّلام فی جواب سؤال المأمون عن الرجعة ، فقال علیه السّلام :

« إنَّها لحقّ ، قد کانت فی الاُمم السّالفة ونطق به القرآن ، وقد قال رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله : " یکون فی هذه الاُمَّة کلّ ما کان فی الاُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذَّة » (2)

ویبدو إنَّ الشیخ الطبرسی رحمه اللّه قد أخذ هذا الإستدلال من الإمام الرضا علیه السّلام مع التنصیص علی صحَّة الحدیث .

وورد فی المصادر السنیَّة عن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله أنه قال :

« و الّذی نفسی بیده ، لتتبعنّ سنن الّذین من قبلکم شبراً بشبر وذراعاً بذراع

ص:276

وباعاً فباعاً، حتّی لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه ؛

قالوا : ومن هم یا رسول اللّه ! أهل الکتاب ؟

قال : فمن »

رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة، والبیهقی، عن أبی سعید الخدری ، والحاکم النیشابوری عن أبی هریرة (1).

وأخرج الحاکم عن ابن عباس أنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم قال :

« لترکبنَّ سنن من کان قبلکم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، حتّی لو أنَّ أحدکم دخل جحر ضبّ لدخلتم ، وحتّی لو أنّ أحدهم جامع امرأته فی الطریق لفعلتموه » (2)

وعن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« لا تترک هذه الاُمَّة شیئاً من سُنن الأوَّلین حتّی تأتیه » .

رواه الطبرانی . (3)وأخرج الترمذی :

« إنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله لما خرج إلی حنین مرّ بشجرة للمشرکین یقال لها :

ذات أنواط ، یعلّقون علیها أسلحتهم ، قالوا : یا رسول اللّه ، لنا ذات أنواط کما لهم ذات أنواط ؟ فقال النبی صلّی اللّهُ علیه وآله : سبحان اللّه ، هذا کما قال قوم موسی : « اِجْعَلْ لَنا إِلهاً کَما لَهُمْ آلِهَةٌ » .

ص:277

والّذی نفسی بیده ، لترکبن سنّة من کان قبلکم » (1)

والحاصل ، إنَّه ورد فی القرآن الکریم أکثر من سبعین آیة کریمة فی الرجعة ، کما سیأتی عن بعض العامَّة .

وولادة عیسی من غیر أب ، ومسخ کثیر من السابقین قردة وخنازیر ، وغیر ذلک مما لا یسعنا إحصاؤه . » (1)

وقد قلنا فی محلِّه :

إنَّ الجواب الأوَّل غیر تام ، فلا فائدة من إنکار تواتر هذه الروایات ، بل الظاهر عدم الدقَّة فی المقام ، ویشهد بذلک قوله :

« ولم یذکر من هذه الروایات شیءٌ فی الکتب الأربعة » ، والحال إنَّها مذکورة فی کتاب " من لا یحضره الفقیه "للشیخ الصدوق رحمه اللّه -وهو أحد الکتب الأربعة -. (2)والجواب الثانی ضعیف ، لأنَّ إحتمال وقوع التحریف فی القرآن المجید بالزیادة فی المستقبل یتنافی مع إطلاقات أدلَّة نفی التحریف ، والتی إستدلَّ بها هو أیضاً ، ومنها قوله تعالی :

« إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ »3

الظاهر فی سلامة القرآن من التحریف إلی آخر عمر هذه الدنیا ، وأنَّ اللّه تعالی حافظ له .

نعم ، الجواب الثالث هو الصحیح ، أی لابدَّ أن نرفع الید عن العموم والإطلاق فی تلک الأحادیث ، کما فعل ذلک صاحب " تفسیر المیزان " بعد أن طرح هذه الشبهة وأجاب بهذا الوجه فقط . (3)

ص:279

وذلک ، لوقوع کثیر من الاُمور فی الاُمم السابقة ، وعدم وقوعها فی هذه الاُمَّة ، وقد طلب رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله فی المعراج من ربِّه أن لا تقع فی هذه الاُمَّة إذ قال :

« رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا»1

إذن ، فالمقصود من هذه الأحادیث هو المماثلة والمشابهة من بعض الوجوه ، لا کلَّها .

فلا تنتقض أدلَّة نفی تحریف القرآن المجید بهذه الشبهة . (1)

وجلال الدین السیوطی فی " الخصائص الکبری " .

ولعلَّ من ألطفها ما رواه محبّ الدین الطبری الشافعی المکّی ، وأبو حفص إبن شاهین ، والخطیب البغدادی ، وأبو الحسن الدار قطنی ، وإبن عساکر الدمشقی ، وأبو القاسم السهیلی ، وجلال الدین السیوطی ، والقرطبی ، والقسطلانی وآخرون ، رووه عن عائشة قالت: إنَّه لما کانت حجَّة الوداع ودخلنا مکّة مع النبی صلّی اللّهُ علیه وآله ، ذهبنا إلی الحجون (1)، فترجَّل رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله عن راحلته ، وکان باکیاً حزیناً مغموماً ، فبکینا لبکائه ، فأمرنی رسول اللّه أن أبقی فی مکانی وذهب، ثمَّ عاد مسروراً فقال :

« ذَهَبْتُ لقبر امّی ، فسألتُ ربِّی أن یُحییها ، فأحیاها ، فآمنت بی ، وردَّها اللّه » .

قال الحافظ القسطلانی :

« ولقد جزم بعض العلماء ، بأنَّ أبویه ناجیان ولیسا فی النار ، تمسّکاً بهذا الحدیث وغیره » .

وقال الحافظ القرطبی :

« لیس إحیاؤهما وإیمانهما به ممتنعاً عقلاً ولا شرعاً .

فقد ورد فی الکتاب العزیز إحیاء قتیل بنی إسرائیل وإخباره بقاتله ، وکان عیسی یحیی الموتی ، وکذلک نبیّنا صلّی اللّهُ علیه وآله أحیی اللّه تعالی علی یدیه جماعة من الموتی ، وإذا ثبت هذا ، فما یمتنع من إیمانهما بعد إحیائهما زیادة فی کرامته وفضیلته . » (2)

ص:281

وحاصل کلامهم : عدم وجود دلیل عقلیٍّ أو شرعی علی الإمتناع ، بل القضیَّة واقعة ، والمقصود ردُّ المناقشة فی سندها . (1)

1- مسلم بن نذیر السعدی وهو من التابعین ، قالوا :

« کان یروی عن علیٍّ وعن حذیفة ، وکان قلیل الحدیث ، ویذکرون إنَّه کان یؤمن بالرجعة » (1)

2- عبد اللّه بن الحسین الأزدی قاضی مدینة سجستان ، قال الراوی :

« قال لی عبد اللّه بن الحسین الأزدی : هل تؤمن بالرجعة ؟

قلت : لا .

قال : فی الرجعة إثنتان وسبعون آیة فی کتاب اللّه المجید »

وهذا الرجل من رجال الصحاح الستَّة ، کما فی کتاب " تهذیب الکمال " وهو من أکثر کتب أهل السنَّة إعتباراً فی علم الرجال . (2)3- المحاربیّ . قال شمس الدین الذهبی فی کتاب " سیر أعلام النبلاء " :

« المحاربیّ ، الشیخ المحدّث المعمّر ، أبو عبد اللّه محمّد بن القاسم ابن زکریا ...

حدّث عنه : الدارقطنی ومحمّد بن عبد اللّه الجعفی وجماعة .

قال ابن حماد الحافظ ، توفی فی صفر سنة ستّ وعشرین وثلاث مائة ... .

قال : وکان یؤمن بالرجعة » (3)

وممّا مرَّ یتبیَّن بأنَّ الإعتقاد بالرجعة لا یختصُّ بالشّیعة والتشیُّع .

هذا ، وذکر الشیخ المفید فی أخبار السیّد الحمیری الشاعر المعروف :

ص:283

« و کان أیضاً ممّا جری له مع سوّارٍ: ما حدّث به الحرث بن عبید اللّه الرّبعیّ قال:

کنت جالساً فی مجلس المنصور و هو بالجسر الأکبر، و سوّار عنده والسّیِّد ینشده :

إنّ الإله الّذی لا شیء یشبهه آتاکم الملک للدّنیا وللدّین

حتّی أتی علی القصیدة و المنصور مسرورٌ، فقال سوّارٌ: هذا و اللّه یا أمیر المؤمنین یعطیک بلسانه ما لیس فی قلبه، و اللّه إنّ القوم الّذین یدین بحبّهم لغیرکم و إنّه لینطوی فی عداوتکم.

فقال السّیّد: و اللّه إنّه لکاذبٌ ، و إنّنی فی مدیحک لصادقٌ ، و لکنّه حمله الحسد إذ رآک علی هذه الحال، و إنّ انقطاعی إلیکم و مودّتی لکم أهل البیت لمعرقٌ فیها عن أبویّ ، و إنّ هذا و قومه لأعداؤکم فی الجاهلیّة و الإسلام، وقد أنزل اللّه عزّ و جلّ علی نبیّه صلّی اللّه علیه وآله فی أهل بیت هذا «إِنَّ الَّذِینَ یُنادُونَکَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَکْثَرُهُمْ لا یَعْقِلُونَ » فقال المنصور: صدقت .

فقال سوّارٌ: یا أمیر المؤمنین: إنّه یقول بالرّجعة و یتناول الشّیخین بالسّبّ والوقیعة فیهما.

فقال السّیّد: أمّا قوله بأنّی أقول بالرّجعة، فإنّ قولی فی ذلک علی ما قال اللّه تعالی «وَ یَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ کُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ یُکَذِّبُ بِآیاتِنا فَهُمْ یُوزَعُونَ » و قد قال فی موضعٍ آخر «وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» فعلمت أنّ هاهنا حشرین، أحدهما عامٌّ و الآخر خاصٌّ و قال سبحانه «رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَیْنِ وَ أَحْیَیْتَنَا اثْنَتَیْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلی خُرُوجٍ مِنْ سَبِیلٍ » و قال اللّه تعالی «فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ

ص:284

ثُمَّ بَعَثَهُ » و قال اللّه تعالی «أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ خَرَجُوا مِنْ دِیارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْیاهُمْ » فهذا کتاب اللّه عزّوجلّ .

وقد قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله:

یحشر المتکبّرون فی صور الذّرّ یوم القیامة.

و قال صلّی اللّه علیه وآله: لم یجر فی بنی إسرائیل شیءٌ إلاّ و یکون فی أمّتی مثله حتّی المسخ و الخسف و القذف.

و قال حذیفة: و اللّه ما أبعد أن یمسخ اللّه کثیراً من هذه الأمّة قردةً و خنازیر.

فالرّجعة الّتی نذهب إلیها هی ما نطق به القرآن و جاءت به السّنّة، و إنّنی لأعتقد أنّ اللّه تعالی یردّ هذا - یعنی سوّاراً - إلی الدّنیا کلباً أو قرداً أو خنزیراً أو ذرّةً ، فإنّه واللّه متجبّرٌ متکبّرٌ کافرٌ.

قال: فضحک المنصور.

و أنشد السّیّد یقول :

جاثیت سوّاراً أبا شملةٍ عند الإمام الحاکم العادل

فقال قولًا خطأً کلّه عند الوری الحافی و النّاعل

قال: فقال المنصور : کفّ عنه .

فقال السّیّد : یا أمیر المؤمنین ، البادئ أظلم ، یکفّ عنّی حتّی أکفّ عنه .

فقال المنصور لسوّارٍ : تکلّم بکلامٍ فیه نصفةٌ ، کفّ عنه حتّی لا یهجوک . (1)وهذه القصَّة نقلها السید المرتضی رحمه اللّه فی کتاب " الفصول المختارة من العیون والمحاسن " وهی مطالب الشیخ المفید رحمه اللّه .

ص:285

والملفت هو: إنَّ المنصور لم یردَّ إستدلال السید الحمیری علی الرجعة ، ولا غیره من الحاضرین فی المجلس ، وهذا مما یشهد بأنَّ الرجعة عقیدةٌ قرآنیَّة ، حدیثیَّة وإجماعیَّة .

والحاصل ، إنَّه لا یمکن إنکار الإعتقاد بالرجعة .نعم ، إنَّ عقول بعض الناس قاصرة ، وأذهانُهم محدودة ، وأفهامهم قلیلة ، فیستبعدون هذه العقیدة ، ولکنَّ الأدلَّة من الکتاب والسُنَّة ترفع هذا الإستبعاد .

أضف إلی ذلک ، وقوع الرجعة فی الاُمم السابقة ، بل وفی هذه الاُمَّة أیضاً .وکلُّ شیءٍ تحقّقت له نظائر وخاصَّة إذا کانت کثیرة ، لم یکن إستبعاده إلاّ عناداً وتعنُّتاً .

إذن ، فالإعتقاد بالرجعة له جذور قرآنیَّة ، وقد دلَّت علیه الروایات الکثیرة التی لا یجوز ترکها ولا موجب لتأویلها .

ولکنَّ جمهور أهل السنَّة تمرّدوا علی الإعتقاد والعمل بها ، وبمرور الزمان صارت من مختصَّات الشیعة ، ومن علاماتهم الممیَّزة لهم .

والأعجب من ذلک ، هو إنَّ أهل السنَّة عندما یتعرّضون لمثل تلک الأمور ، ینسبونها إلی الشیعة ویشنّعون بها علیهم ، وقد ذکرنا فیما سبق بعض ذلک، ونحن مضطّرون إلی تکراره هنا:

فالتختُّم بالیمین مستحبٌّ بحسب ما رواه السُنَّة والشیعة عن رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ، واستقرَّت السنَّة علیه ، ولکنّهم ترکوه .

قال جار اللّه الزمخشری :

« أوَّل من تختَّم بالیسار معاویة بن أبی سفیان » (1)

والیوم ، فإنَّ غیر الشیعة یتبعون سنَّة معاویة وبنی امیَّة ، فیتختّمون بالیسار ویترکون سنَّة رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله ویقولون : إنَّ التختُّم بالیمین شعارُ الشیعة .

وفی کیفیَّة لفِّ العمائم کذلک . (2)وفی کیفیَّة القبر ، فالسُنَّة هی أن یکون مسطَّحاً ، وحتّی أنَّ کبار علماء العامَّة یُصرِّحون بأنَّه هو السنَّة :

قال الشافعی فی کتابه " الاُمّ " :

« ...ویُسطَّح القبر وکذلک بلغنا عن النبی صلّی اللّهُ علیه وآله أنّه سطح قبر

ص:287

إبراهیم إبنه ... وقد بلغنی عن القاسم بن محمّد قال : رأیت قبر النبی صلّی اللّهُ علیه وآله وأبی بکر وعمر مسطّحة ... » (1)

لکنّ قبور غیر الشیعة الیوم مسنَّمة کسنام البعیر ، واختصَّ التسطیح بقبور الشیعة .

ففی کلِّ هذه الموارد وغیرها لم یکن قصدهم غیر الإحداث فی الدین عناداً مع رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله . (2)ولکنَّ فی الرجعة خصوصیَّة زائدة، لأنّ الإعتقاد بها یعنی الإعتقاد بحقیّة أهل البیت علیهم السّلام ومظلومیّتهم وتشکیل الحکومة الحقَّة وتحکیم الإسلام الحقیقی الأصیل للأخذ بحقوقهم المغصوبة وإزالة البدع ، وإذلال مخالفی أهل البیت علیهم السّلام فی هذا العالم .ومن الواضح بأنَّ المخالفین لا یروق لهم کلَّ هذا ، ولذا، فإنَّهم ینکرون الرجعة أو یستهزئون بها .

وقصَّة أبی حنیفة مع مؤمن الطاق معروفة فی هذا السیاق ، حیث طلب أبو حنیفة من مؤمن الطاق أن یقرضه قرضاً علی أن یرجعه له فی الرجعة !!

فقال له مؤمن الطاق : إضمن لی إنَّکَ ترجع ذلک الیوم بصورة إنسان لا بصورة قرد ، حتّی اقرضک . (3)وعلی أیِّ حال ، فإنَّ أهل السنَّة علی مرور الأیّام أنکروا الإعتقاد بالرجعة ، وإعتبروه من مختصَّات الشیعة .

ص:288

قال الشیخ المظفّر فی کتاب عقائد الإمامیَّة :

« قد جاء القرآن الکریم بوقوع الرجعة إلی الدنیا ، وتظافرت بها الأخبار عن بیت العصمة . والإمامیَّة بأجمعها علیه ، إلاّ القلیلون منهم تأوّلوا ما ورد فی الرجعة بأنَّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهی إلی آل البیت علیهم السّلام بظهور الإمام المنتطر ، من دون رجوع أعیان الأشخاص وإحیاء الموتی .

والقول بالرجعة یعدّ عند أهل السنَّة من المستنکرات الّتی یستقبح الإعتقاد بها ، وکان المؤلّفون منهم فی رجال الحدیث یعدّون الإعتقاد بالرجعة من الطعون فی الراوی والشناعات علیه التی تستوجب رفض روایته وطرحها .

ویبدو أنّهم یعدّونها بمنزلة الکفر والشرک بل أشنع ، فکان هذا الإعتقاد من أکبر ما تنبز به الشیعة الإمامیَّة ویشنّع به علیهم .

ولا شکّ فی أنَّ هذا من نوع التهویلات الّتی تتخذها الطوائف الإسلامیَّة فیما غبر ذریعة لطعن بعضها فی بعض والدعایة ضدّه .

ولا تری فی الواقع ما یبرر هذا التهویل ، لأنَّ الإعتقاد بالرجعة لا یخدش فی عقیدة التوحید ولا فی عقیدة النبوَّة ، بل یؤکّد صحَّة العقیدتین ، إذ الرجعة دلیل القدرة البالغة للّه تعالی کالبعث والنشر ، وهی من الأمور الخارقة للعادة الّتی تصلح أن تکون معجزة لنبیّنا محمّد وآل بیته صلّی اللّهُ علیه وآله ، وهی عیناً معجزة إحیاء الموتی التی کانت للمسیح علیه السّلام ، بل أبلغ هنا ، لأنّها بعد أن یصبح الأموات رمیماً « قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ * قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِکُلِّ خَلْقٍ عَلِیمٌ »1 . (1)

ص:289

کیفیَّة حکومته وأوضاع دولته الکریمة

من الَّذی سیقوم ضدَّه من الناس ؟

المعارضون له ولمبادئه ، وکیفیَّة تعامل الإمام علیه السّلام معهم .

ما هو نوع الأسلحة التی سیستخدمها الإمام علیه السّلام ؟

وهل إنَّ هناک ضرورة للسلاح أم لا ؟

ما الَّذی سیحدث فی الکوفة ؟

ما هی عاقبة أمر الحکومة المهدویَّة ؟

هل إنَّ الإمام سیموت أم إنَّه یُقتل ؟

وغیر هذه الأمور التفصیلیَّة التی تبحث فی هذا القسم .

القسم الثالث :

الحوادث التی تقع بعد رحیل الإمام المهدی علیه السّلام عن الدنیا ، من قبیل :

هل ستستمر حکومة الأئمَّة علیهم السّلام بعد الإمام المهدی أرواحنا فداه ؟

من الَّذی سیأتی لیحکم ؟

وما هو عددهم ؟

إلی متی ستستمر هذه الحکومة والدولة ؟

وإنْ کان التکلیف الشرعیّ قائماً ، والمکلّفون موجودون ، فلابدَّ من أن یکون هناک إمامٌ ، للملازمة بینهما .

ص:291

المعرفة واضحة جدّاً، ومنها قوله: من مات ولم یعرف إمام زمانه مات میقة جاهلیّة(1)ومن العقل، إنه یجب تحصیل معرفة اللّه ورسوله والأئمة من باب وجوب شکر المنعم، فالعقل یستقلُّ بوجوب معرفتهم لذلک.

وأیضاً: یستقّل العقل بوجوب معرفتهم من باب وجوب دفع الضّرر المحتمل، لاحتمال الضّرر فی ترکها.

قال المحقق الإصفهانی رحمه اللّه: إن الشّکر له مراتب ثلاثة: علمٌ وحالٌ وعملٌ ، فمعرفة المنعم، من الأوّل والتخضّع له قلباً، من الثانی وصرف النعمة فیما خلقت لأجله بأداء ماهو وظیفة السّمع والبصر واللّسان، من الثالث. (قال): فمعرفة المنعم من أفضل مراتب شکر النعمة.(2)أقول: وسیأتی بعض النعم الواصلة إلی الخلق بواسطة الأئمة.

قال الشیخ الأنصاری رحمه اللّه: ومن هنا، قد یقال: إنّ الإشتغال بالعلم المتکفّل لمعرفة اللّه ومعرفة أولیائه صلوات اللّه علیهم أهم من الإشتغال بعلم المسائل العملیّة، بل هو المتعیّن، لکنّ الإنصاف یقتضی عدم التمکّن من ذلک إلّا للأوحدیّ من الناس...(3)أقول:

إنّ المعرفة المطلوبة من المکلّف منوطة باستعداده وقوّة فهمه للمطالب،

ص:294

ولا یکلّف اللّه نفساً إلّاما آتاها، کما نصّ فی القرآن المجید،(1) فمن الناس من یعرف النبیّ ، والأئمة بأسمائهم وأنسابهم ولا یستطیع أن یعرفهم بأکثر من ذلک.

ومنهم من یستطیع مع ذلک التوصّل إلی بعض مناقبهم وخصوصیّات أحوالهم.

ومنهم من یستطیع معرفة منازلهم عند اللّه وشئونهم معه وولایتهم الممنوحة لهم منه ونحو ذلک...

ومن المعلوم، أنّه کلّما ازدادت المعرفة، إزدادت الطّاعة، وکلّما إزدادت معرفة الإنسان للإمام ازداد قربه منه ونصیبه من هدایته، فعن أبی عبداللّه الحسین علیه السلام قال:

أیّها الناس، إنّ اللّه جلّ ذکره ما خلق العباد إلّالیعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه.

فقال له رجل: یا ابن رسول اللّه، بأبی أنت واُمّی، فما معرفة اللّه ؟

قال: معرفة أهل کلّ زمانٍ إمامهم الذی تجب علیهم طاعته(2)وعن أبی جعفر علیه السّلام أنه سُئل فی حدیثٍ :

فما معرفة اللّه ؟

قال: تصدیق اللّه عزّوجلّ وتصدیق رسوله وموالاة علی والائتمام به وبأئمة الهدی، والبراءة إلی اللّه عزّوجلّ من عدوّهم. هکذا یعرف اللّه عزّوجلّ (3)دلّت هذه النصّوص علی أنّ معرفة الإمام هی الطّطریق الوحید لمعرفة اللّه وعبادته وطاعته، وهذا دلیلٌ آخر علی وجوب معرفة الإمام.

ص:295

وعنه فی قوله تعالی: «وَ مَنْ یَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَکُورٌ»:1 الإقتراف التسلیم لنا والصّدق علینا وألّا یکذب علینا.(1)

ج. الفیوضات الإلهیّة

والأئمة - بالإضافة إلی ما تقدّم - هم الواسطة للفیوضات الإلهیّة المادیّة والمعنویّة، فعن أبی عبداللّه علیه السّلام أنه قال:

إنّ اللّه عزّوجلّ خلقنا فأحسن خلقنا، وصوّرنا فأحسن صورنا، وجعلنا عینه فی عباده ولسانه الناطق فی خلقه ویده المبسوطة علی عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذی یؤتی منه وبابه الذی یدلّ علیه وخزائنه فی سمائه وأرضه.

بنا أثمرت الأشجار وأینعت الثمار وجرت الأنهار، وبنا نزل غیث السماء ونبث عشب الأرض. بعبادتنا عُبداللّه، لولا نحن ما عبداللّه.(1)

هذا، وللأمّة تکالیف ووظائف تجاه الإمام المهدی علیه السّلام خاصّة، منها:

فمن الطبیعی إذن ، أن نلجأ إلیهم فی کلِّ امورنا ، وأن نلوذ بقبورهم ونطلب شفاعتهم ونجعلهم الوسیلة إلی التقرّب من اللّه تعالی وقضاء الحوائج .

فقولنا : " مستجیرٌ بکم " ، -مضافاً إلی کونه مقدَّمة للعبارات اللاّحقة ، إذ کلٌ من " زیارة القبور " ، " الإستشفاع " ، و" التوسّل " هی من مصادیق " الاستجارة " - مطلبٌ مستقلّ وغیر مقیَّد بشرائط وظروف خاصَّة .

فنحن علی الدوام برعایة الأئمَّة علیهم السّلام ، سواء علمنا بذلک أو لم نعلم ، وإنْ کان مقتضی العقل و النقل عدم الغفلة عن ولیِّ نعمتنا ولو آناً واحداً ، فهم حفظتنا من الضلالة والضیاع والإنحراف ، وهم حفظتنا من المخاطر الدنیویَّة ، وهم السبب لنجاتنا فی الآخرة ، واللّه عزَّوجلّ هو الذی أعطاهم هذا الشأن وأوصلهم إلی هذه المنزلة .

ولایخفی: أنّ " الزیارة " و" الإستشفاع " و" التوسّل " ، من الأفعال، لکن من الممکن جعلها من العقائد لکونها مرتبطة بمقامات حضرات الأئمَّة علیهم السّلام ، فما لم یؤمن الإنسان بمقام الإمام عند اللّه تعالی ، فإنَّه لن یذهب لزیارة مرقده ، ولا یستشفع ولا یتوسّل به .

والزیارة والتوسل والشفاعة ، هی من الأمور الثابتة بالأدلّة المتقنة عندنا وعند عموم المسلمین .

نعم ، ظهرت الفرقة الوهّابیَّة الضالَّة ، التابعة لإبن تیمیَّة، فخالفت المسلمین بل کفّرتهم من أجل ذلک .

وسنبحث عن هذه المطالب الثلاثة إنْ شاء اللّه وبمعونته عزَّوجلّ بقدر الضّرورة -کما فی الرجعة -، لیتّضح معنی کلَّ واحدٍ من الزیارة ، الشفاعة والتوسل ، وأدلّتنا الشّرعیّة علیها، لکی یتقوّی إعتقادنا بصحّة هذه الأفعال ، ولکی یتبیَّن للجمیع بأنَّ عملنا قائم علی أساسٍ محکم ومتین ، ولکی یتسنّی ردُّ الشبهات المثارة حول هذه المواضیع .

وجملة " زائر لکم " فیها إطلاق یشمل حال الحیاة والمماة . هذا أمرٌ .

والأمر الآخر هو إنَّنا عندما نزور الأئمَّة علیهم السّلام فی مراقدهم ، فإنَّنا نزورهم هم ، فإنَّ من یحضر فی حرم الإمام علیه السّلام یکون فی محضر ذلک الإمام ، ویخاطب نفس الإمام ، فالإمام إمامٌ فی موته وفی حیاته ، ولذا نقول له عندما نقف بین یدیه :

« أشهَدُ أنَّکَ تَسمَعُ کَلامی وتردُّ سَلامی » (1)

وذلک، لأنَّ الأئمَّة علیهم السّلام ، أحیاءٌ ، کما یقول القرآن الکریم :

« أَحْیاءٌ وَ لکِنْ لا تَشْعُرُونَ »2

ومن هنا ، فإنَّنا فی الزیارة الجامعة وعندما نقول : " زائر لکم " لم نلحظ زیارة القبر أبداً ، بل الملحوظ هو زیارة نفس الإمام ، وحتّی عندما یضاف لفظ " الزیارة " إلی " القبر " فإنَّ المقصود هو الإمام علیه السّلام ، کما جاء فی عبارة :

" لائذٌ عائذ بقبورکم " .

إذن ، فالزیارة لیست زیارة القبور ، لأنَّنا فی الواقع نزور الأئمَّة الکرام لا قبورهم .

ولکن ، ومع ذلک ، نتطرّق لبحث " زیارة القبور " بنحو الإجمال .

وإنَّ هذا العمل یعدُّ عند المسلمین من الطاعات ، وجرت سیرتهم علیه منذ صدر الإسلام ، وعلی هذا المعتقد کلُّ الفرق الإسلامیَّة إلی یومنا هذا .

ولکن ، ظهر فی القرن الثامن الهجری ، رجل إسمه عبدالحلیم بن تیمیَّة وقال بحرمة الذهاب إلی زیارة قبر رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم .

ولقد ردَّ کبار علماء أهل السنَّة المعاصرین له ، ومن جاء بعدهم ، رأیه هذا وأبطلوه ، ولم یعتن المسلمون بفتواه ، إلاّ عدَّة قلیلة تابَعَتْهُ علی ذلک .

وقد صدرت فتاوی کثیرة لکبار علماء أهل السنَّة فی الردّ علی فتوی إبن تیمیَّة ، وصُنِّفت کتب فی ذلک ، مثل کتاب " شفاء السقام فی زیارة خیر الأنام " ، للحافظ تقیّ الدین السبکی ، وهو من کبار علماء أهل السُنَّة ، وکان معاصراً لإبن تیمیَّة .وقد طبع هذا الکتاب طبعات عدیدة ، وهو کتاب جیِّد .

وقد إستدلَّ السبکیُّ فی هذا الکتاب بروایات عدیدة ، وصحَّح أسانیدها ، کما إستشهد بفتاوی العلماء وآرائهم وبیَّن أنظارهم فی شرح تلک الأحادیث . (1)

وهذا الحدیث - فی الحقیقة - أمرٌ بزیارة قبره الشّریف، ولو لا ترتّب الأثر علی زیارة قبره لما أمر، مضافاً إلی أنه قد وعد الزائر لقبره بالشفاعة، ولا ریب أن کلّ الناس یرجون شفاعته .

وقد روی هذا الحدیث کلُّ من: الدارقطنی ، والبیهقی ، وجلال الدین السیوطی ، والمتّقی الهندی فی کنز العمّال. وآخرون . (1)

وفی حدیث آخر أنَّ رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله قال :

« من جائنی زائراً لا یعلم له حاجة إلاّ زیارتی، کان حقّاً عَلیَّ أن أکون له شفیعاً یوم القیامة » (2)

رواه الطبرانی فی کتاب " المعجم الکبیر " ، وهو فی مختصر تاریخ مدینة دمشق ، والمواهب اللدنیَّة. وفی مصادر اخری . (3)وفی حدیث آخر عنه صلّی اللّهُ علیه وآله وسلَّم :

« مَنْ حَجَّ فزار قبری بعد وفاتی کانَ کمَن زارَنی فی حیاتی » (4)

رواه الطبرانی فی المعجم الکبیر ، وهو فی: سنن الدارقطنی ومشکاة المصابیح، وکنز العمّال .

ص:306

وقال " إبن حجر العسقلانی " فی کتابه " فتح الباری " :

« استنبط بعضهم من مشروعیّة تقبیل الأرکان ، جواز تقبیل کلّ ما یستحقّ التعظیم ، من آدمیّ وغیره .

فأمّا تقبیل ید الآدمی فیأتی فی کتاب الأدب ، وأمّا غیره، فنقل عن الإمام أحمد أنّه سئل عن تقبیل منبر النبی صلّی اللّهُ علیه وآله وتقبیل قبره، فلم یر به بأساً » (1)

ولا یخفی ، أنَّ إبن تیمیَّة ، حنبلیُّ المذهب، وقد خالف إمامَه أحمد بن حنبل فی مثل هذه الموارد .

ومن قضیّة مروان وأبی أیوب الأنصاری یظهر أن الأصل فی المنع من زیارة قبر الرّسول هم بنو امیّة ولیس غیرهم من الصّحابة، وإنما قصد ابن تیمیّة تجدید ما أسّسه بنو أُمیّة، فهذه القضیّة من جملة الشواهد علی أن الرجل وأنّ الوهابیّة أتباع بنی أُمیّة.

« کنت قد نهیتکم عن زیارة القبور ، فزوروها » (1)

وهذا الحدیث فی السنن الکبری للنسائی ، وسنن الترمذی ، وأخرجه الحاکم النیشابوری فی المستدرک علی الصحیحین .

وجاء فی حدیث عن النبیّ الأکرم صلّی اللّهُ علیه وآله :

« ألا فزوروا القبور ، فإنَّها تُزَهِّد فی الدُّنیا وتُذَکِّر فی الآخرة » . (2)

وبهذا المضمون أحادیث کثیرة، رواها: مسلم فی الصحیح ، وأحمد بن حنبل ، وهی فی صحیح إبن ماجة ، والسنن الکبری للبیهقی ، والمستدرک علی الصحیحین للحاکم النیشابوری ، وغیرها من المصادر أیضاً .

وجاء فی کتاب " التاج الجامع للاُصول فی أحادیث الرسول " :

« الأمر للندب عند الجمهور والوجوب عند إبن حزم ولو مرَّة واحدة فی العمر » (1)

لقد کانت قبور عظماء الدین موضع إحترام المسلمین جمیعاً ، فکان أهل کلِّ مذهب من المذاهب یزورون قبورعلمائهم وعظمائهم ، ویبنون لهم مراقد وأضرحة ، ویهتمّون بتشییدها وترمیمها علی مرِّ الزمان ، ویتبرَّکون بها وینذرون ویقیمون المراسم تخلیداً لهم .

ومن الواضح أنَّ قبور الأئمَّة علیهم السّلام تختلف عن سائر القبور ، لأنّ أئمَّتنا علیهم السّلام هم موضع إحترام کلِّ الاُمَّة الإسلامیَّة ، وإنَّ آثار وبرکات زیارتهم مسلَّمة ولا شکَّ فیها .

« ما همَّنی أمرٌ فقصدت قبر موسی بن جعفر علیهما السّلام فتوسّلت به إلاّ سهَّل اللّه لی ما احبُّ » (1)

وما ذکره الحافظ إبن حجر العسقلانی عن الحاکم النیشابوری.. قال :

« سمعت أبابکر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عیسی یقول : خرجنا مع إمام أهل الحدیث أبی بکر إبن خزیمة وعدیله أبی علی الثقفی مع جماعةٍ من مشایخنا -وهم إذ ذاک متوافرون -إلی زیارة قبر علی بن موسی الرضا علیهما السّلام ب " طوس " . قال : فرأیت من تعظیمه -یعنی إبن خزیمة -لتلک البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحیَّرنا » (2)

ویلاحظ إنَّ الحاکم النیشابوری وإبن حجر قد رویا زیارة کبار علمائهم لقبور أئمتّنا وتوسّلهم بهم، ولم ینقلا عن أحدٍ أیّ إیرادٍ علی ذلک، وهو یؤکّد أنّ الکلّ علی هذه العقیدة وعلیه العمل عند الکلّ .

وإذا کان الآخرون یعتقدون بمثل هذا الإعتقاد بزیارة قبور الأئمَّة وبمقاماتهم عند اللّه ، فنحن أولی منهم بالإیمان والتمسّک بهذا المعتقد .

فنحن نجد هذا التغیُّر فی أنفسنا وفی الآخرین ، ونشعر به حقیقةً ، ولا یمکن لأحدٍ إنکاره وهذا من جملة برکات الزیارة .

والأثر المعنوی الآخر للزیارة هو إنَّ الزائرین یکونون بصدر تعلّم مزیدٍ من المعارف الدینیّة والأحکام الشّرعیّة ویسألون من بعضهم البعض عن مزید من الأعمال العبادیَّة وما ینبغی أن یقوم به الزائر فی هذا المشهد الشریف ، توخّیاً للثواب الأکثر ، فهم فی حالة التحقیق والتعلّم والسؤال عن أفضل الأعمال التی تقرّبهم إلی اللّه تعالی للقیام بها .

وقد اتّفق لکاتب هذه السطور مراراً وتکراراً أن سُئل من قبل الزائرین عن أفضل الأعمال وأکثرها ثواباً فی هذه المشاهد .

نعم ، إنَّ الشیعة ، وبلطفٍ من اللّه ، لا یوجد فیهم خُبث باطنیّ وشقاوة تمنعهم من التأثر بمعنویّات هذه المشاهد المقدَّسة .

إنَّ الشیعی ، عندما یدخل حرم أمیر المؤمنین أو حرم سید الشهداء الحسین أو الإمام الرضا علیهم السّلام ، یری نفسه فی بحر من نور یغمر کلَّ جوارحه وجوانحه ، فیخرج لا محالة نظیفاً طاهراً من کلِّ ما علق بروحه من أدران عالم الدنیا .

وما زال علماء الطّائفة یوصون الزائرین بحفظ هذه النورانیّة والطهارة المعنویَّة، وأنه متی ما أحسّوا بقلّتها أو ضعفها علیهم أن یبادروا إلی زیارة أحد تلک المشاهد المقدَّسة للإستزادة من نورانیَّة مراقد أئمَّة أهل البیت علیهم السّلام ، حتّی تصیر مَلَکَةً فیهم مدی الحیاة .

فلیس إعتباطاً کلُّ هذا التأکید الَّذی ورد فی کتب الشیعة والسنَّة علی زیارة

ص:312

رسول اللّه صلّی اللّهُ علیه وآله والأئمَّة الأطهار علیهم السّلام ، بل وحتّی قبور المؤمنین ، وقد کانت سیرة کلِّ المتشرّعة ولا زالت قائمة علی ذلک .

ومن هذا المنطلق ، فإنَّنا نزور الأئمَّة علیهم السّلام فی حیاتهم ، ونزورهم فی مراقدهم بعد إستشهادهم ، ونلوذ بقبورهم ، ونتوسّل بهم إلی اللّه ، فهذه الزیارات والتوسّلات فی واقع الأمر هی لإیجاد حالة إرتباطٍ معنوی مع حضرات الأئمَّة علیهم السّلام ، وبهذه الطریقة نتقرّب إلی اللّه تعالی .

هو من قولهم : لاوذ بکذا یلاوذ لواذاً وملاوذة : إذا استتر به ... » (1)