حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل

هوية الكتاب

المؤلف: باقر شريف القرشي

الناشر: دار البلاغة

المطبعة: دار البلاغة

الطبعة: 1

الموضوع : سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 532

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهماالسلام

الجزء الأول

دار البلاغة

محرّر الرّقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

المكتبة الإسلامية

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) . ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) . ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) .

ص: 4

الإهداء

إليك .. يا علة الموجودات ، وسيد الكائنات

إليك .. يا منقذ الإنسانية من ظلمات الجهل ، وباعث الروح والعلم في الأجيال.

إليك .. يا رسول اللّه ، وخاتم النبيين.

أرفع بكلتا يدي هذه الوريقات التي بحثت فيها عن سيرة سبطك الأكبر ، وريحانتك الذي غذيته من كمال النبوة ، وأورثته هيبتك ، وسؤددك. وهي بضاعتى المزجاة التي أعددتها ذخري يوم الوفادة عليك ، فعسى أن تقع من مقامكم الرفيع موقع القبول وهو حسبى.

ص: 5

تقديم لامام المصلح كاشف الغطاء

ص: 6

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الإمام السبط أبو محمد الزكي أول الأسباط الأحد عشر من نسل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) سيد الأنبياء ونسل علي سيد البشر وأول من اجتمع فيه نور النبوة ونور الإمامة فكان مجمع النورين وأحد النيرين وملتقى البحرين ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) علي بحر نور الإمامة وفاطمة بحر نور النبوة والكرامة ، يخرج منهما اللؤلؤ الأخضر بخضرة السم في السماء والمرجان الأحمر بحمرة الأرض من الدماء.

الحسن أول الأئمة الامناء من صلب سيد الأوصياء ، الحسن الذي أظهر الحق وأزهق الباطل وحقن بصلحه الدماء.

وقد كانت ولادته في ليلة النصف من رمضان على أشهر الأقوال وقد صادف املائي لهذه الكلمات هذه الليلة التي هي ليلة النور وليلة الفرح

ص: 7

والسرور لأهل البيت الذين يجب أن نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم. فالى سيد الكائنات ، وعلي وفاطمة صلوات اللّه عليهم أزف الأناشيد والتهاني والترانيم مهنيا لهم بهذا المولود المبارك الذي يقول فيه علة الوجود ومرآة المعبود وفي أخيه : « نعم الجمل جملكما ونعم الراكبان أنتما ».

وإني لا أحاول من هذه المقالة التي جرى بها القلم على العجالة أن أذكر ما لأبي محمد الزكي (عليه السلام) من عظمة المآثر ومآثر العظمة وكبرياء الجبروت وجبروت الكبرياء وعلوّ المفاخر والمناقب ومفاخر العلياء كلا ثم كلاّ فان صقر باعي ونسر يراعي على سعة معرفتى واطلاعي ينحطان ويسقطان عن العروج إلى ذلك العرش المتمرد بمناعته على العقول والذي لا تنال منه الأفكار مهما تعالت وتغالت سوى الدهشة والذهول.

وإنما أريد أن أتعرض إلى ناحية من نواحي حياته وآية واحدة من آيات معجزاته ومعجزات آياته ، وهي ناحية صلحه مع الطاغية ابن الغاوي والغاوية معاوية ، فان هذه الناحية قد تعقدت ولبست أسمك جلابيب الغموض وساءت في توجيهها الظنون وباءت بالفشل كل الفروض وسرى الشك وتضعضعت أركان الإيمان حتى من أخص أصحابه وأصحاب أبيه علیه السلام ، والخلص من شيعته ومواليه فحمل الغيظ والغضب ذلك الطود الأشم على إساءة الأدب فقال : السلام عليك .. وكان الواجب أن يقول يا معز المؤمنين فقال عكسها. ولم يزل الغموض والالتباس يضفي على القضية أسوأ لباس حتى على المعتقدين بامامته وعصمته. ولكن غلبت العاطفة فيها وصدمة الرزية على التعقل والروية. ولو أمعنوا النظرة وفسحوا المجال للفكرة لتجلى لهم جلاء الشمس ، ان كل الصلاح وصلاح الكل فيما فعله سلام اللّه عليه لا من حيث التعبد والتسليم والخضوع للامر الواقع مهما كان خيرا أو شرا ولا من حيث الاعتقاد بالعصمة ، وإن عمل المعصوم لا بد

ص: 8

وأن يكون موافقا للحكمة ، كلا بل لو تدبرنا الواقعة ونظرناها من جميع أطرافها وظروفها وملابساتها ونتائجها ومقدماتها لا تضحّ لنا على القطع واليقين أن ما فعله سلام اللّه عليه هو المتعين ولا يصح غيره ، نعم هو الحزم بعينه وهو الظفر بخصمه وهو عين الفتك بعدوه من حيث الفنون الحربية والسياسة الزمنية فعل فعل القائد المحنك والحازم المجرب فحارب عدوه بالسلم وغلب عليه بالصلح ، فاخمد ناره وهتك ستاره وابدى للناس عاره وعياره ، وما كان من الصلاح إلا أن يحاربه بالصلح لا بالسلاح ويذبحه باعماله لا بقتاله ونباله وهذا اتم للحجة واقطع للمعاذير وابلغ في دفع الريب والشبهة وإيضاح كل هذا وانارته بحيث يرى بالعين ويلمس باليد يحتاج إلى فضل بيان وقوة جنان وسعة في القول ولا يساعدني على شيء من ذلك جسمي العليل وبصرى الكليل وكثرة اشغالى وبالى البالى وضيق مجالى وسوء حالى. وعسى أن يلطف جل شأنه فيسمح لى بانتهاز فرصة أخرى استطيع أن اعطي البيان حقه في هذا المضمار واكشف عن هذا الغموض الحجب والاستار حتى يظهر الحق وتسطع الانوار ، ولكن لا أجد بدا من أن اختم كلمتى هذه بالحق المحض وزبدة المخض.

وهي على الجملة والطى أنه كما كان الواجب والمتعيّن الذي لا محيص عنه في الظروف التي ثار بها الحسين سلام اللّه عليه على طاغوت زمانه أن يحارب ويقاتل حتى يقتل هو واصحابه وتسبى عياله ودائع رسول اللّه كما كان هذا هو المتعين في فن السياسة وقوانين الغلبة والكياسة مع قطع النظر عن الاوامر الإلهية والمشيئة الازلية كذلك كان المتعين والواجب الذي لا محيص عنه في ظروف الحسن (عليه السلام) وملابساته هو الصلح مع فرعون زمانه ولو لا صلح الحسن وشهادة الحسين علیهماالسلام لما بقى للاسلام أسم ولا

ص: 9

رسم ولضاعت كل جهود محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وما جاء به للناس من خير وبركة وهدى ورحمة ، فان أبا سفيان ونغله معاوية وسخله يزيد دبروا كل التدابير واعملوا كل الحيل لمحو الاسلام ورد الناس إلى جاهليتهم الاولى وعبادة اللات والعزى ولعل إلى هذه النكتة الدقيقة اشار النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بالحديث المشهور ، الظاهر بصحته ظهور النور ، يقول صلی اللّه علیه و آله « الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا » لعله يعنى أن الحسن إمام في قعوده كما أن الحسين إمام في قيامه ونهضته.

وكانت جمهرة المؤرخين وأرباب التراجم والسير تسرد قضية الحسن سلام اللّه عليه وصلحه مع معاوية على سطحها الظاهر وشكلها البسيط من غير تحليل ولا تعليل ولا تعمق وتحقيق ومن دون نظر إلى ظروف الواقعة وملابساتها ومباديها وغاياتها ولذا قد يستبق إليها نوع من الاستنكار لعدم النظر إليها بنظر التدبر والاعتبار.

ولكن بما أن الحق والحقيقة نور ، والنور إذا اشتد يشق الستور ويأبى إلا الظهور قيض اللّه في هذا العصر بعض الافاضل من ذوى الاقلام البارعة والافهام الفارعة والانظار السديدة والافكار الحرة فكشفوا بمؤلفاتهم عن حياة الحسن (عليه السلام) وسيرته وصلحه الغموض والتعقيد وازاحوا لثام بعض الاوهام التي زلق فيها بعض الكتبة من المعاصرين ومن الذين قبلهم.

وممن عرف فالف واجاد فيما جمع وصنف ، وترجم للحسن (عليه السلام) في حياته فاحسن ، واتقن ، وجمع فبرع العالم الفاضل النجيب الاديب الشيخ باقر القرشي ايده اللّه بروح العناية منه والتوفيق ، فقد رفع إلىّ بعض فصول الجزء الاول من مؤلفه ( حياة الحسن ) فوجدت فيه روح الطموح

ص: 10

وطموح الروح ووجدت فيه نفسا وثابة قد جرت في أشواط السباق ، وإذا كانت في البداية فهي على وشك الوصول إلى الغاية. واحسن شاهد على فضل كتابه نفس كتابه.

( سبوح لها منها عليها شواهد )

شكر اللّه مساعيه وبلغه امانيه.

بدعاء ابيه الروحي

محمد الحسين آل كاشف الغطاء

صدر من مدرستنا العلمية بالنجف الاشرف

بتأريخ 20 شهر الصيام المبارك سنة 1373 هج.

ص: 11

مقدّمة الطبعة الثانية

اشارة

ص: 12

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

- 1 -

للامام أبي محمد الحسن (عليه السلام) تأريخ مشرق ، حافل بأروع صفحات البطولة والجهاد ، وسيرة ندية تنبض بالعدل والتقوى ، وتتدفق بالقابليات الفذة ، والنزعات الخيرة ، وتلتقي بها سجاحة الخلق ، واصالة الرأي ، وعمق التفكير ، وقد اجمع المترجمون له أنه من احلم الناس ، واقدرهم على كظم الغيظ ، والصبر على الأذى والمكروه ، فما عرف من سيرته أنه قابل مسيئا باساءته ، ولا جازى مذنبا بذنبه ، وإنما كان يغدق عليهم بالاحسان ويقابلهم بالمعروف ، شأنه شأن جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الذي وسع الناس باخلاقه وحلمه.

وحسبها شهادة تدل على عظيم حلمه ادلى بها الد خصومه ، واحقد اعدائه مروان بن الحكم حينما بادر إلى حمل جثمانه الطاهر ، فاستغرب منه سيد الشهداء وقال له : « اتحمل جثمانه ، وكنت تجرعه الغصص؟! »

فقال مروان : « كنت افعل ذلك بمن كان يوازي حلمه الجبال » وكما كان من احلم الناس ، فقد كان من ابرز رجال الفكر في سداد الرأي وصواب التفكير ، وقد تجلى ذلك في صلحه مع معاوية ، وتجنبه من فتح باب الحرب ، فان البلاد كانت تضج بالحزبية ، وباع زعماء القبائل وقادة الجيش ذممهم على معاوية ، وانحازوا إلى معسكره لا

ص: 13

إيمانا بقضيته ، وانما طمعا بامواله ، واستجابة لرغباتهم النفسية التي تطمع بالنفوذ والسيطرة ، والثراء العريض ، مضافا إلى ذلك خبث جنوده ، وشدة خلافهم ، وايثارهم للسلم ، وغير ذلك من العوامل التي سنذكرها بالتفصيل في غضون هذا الكتاب ، فاستسلم علیه السلام للامر الواقع ، وصالح معاوية ، وقد صان بذلك الأمة ، وحفظ دماءها ، وجنبها من المضاعفات السيئة التي لا يعلم مدى خطورتها الا اللّه ، واجمع الرواة أنه كان أندى الناس كفا ، واوصلهم لعباد اللّه ، واعطفهم على الفقراء والمحرومين حتى لقب بكريم اهل البيت مع أنهم اصول الكرم ومعدن السخاء والمعروف وكانت تترى عليه وفود من الفقراء والمحتاجين فيفيض عليهم ببره ، ومعروفه وينقذهم بوافر عطاياه من ذل السؤال والحاجة إلى السعة والبسط في العيش والاستغناء عما في أيدى الناس.

واتفقت كلمة المؤرخين أنه كان اعبد أهل زمانه ، وأتقاهم واكثرهم عبادة ، وخوفا من اللّه ، وقد حج بيت اللّه الحرام خمسا وعشرين حجة وان النجائب تقاد بين يديه ، وقد عمل جميع الوسائل التي يتقرب بها إلى اللّه ، وتجرد عن لهو الحياة ، ونبذ جميع زخارفها ، وسنذكر ذلك بالتفصيل عند التحدث عن مثله ، ومظاهر شخصيته العظيمة.

ان سيرة الامام (عليه السلام) في جميع صورها من اروع سير العظماء والمصلحين الذين تعتز بهم الامة في جميع مجالاتها ، ويكفيها خلودا أنها شابهت سيرة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وحكت كريم طباعه وسجاياه.

- 2 -

ومشكلة تواجهنا في تأريخ الامام أبي محمد هي الاخبار الموضوعة التي ألصقت بتأريخه النير ، فقد دسها في التأريخ الاسلامي بعض الرواة من

ص: 14

اجراء السلطة الحاكمة فنسبوا له ما هو بعيد عنه ، اتهموا الامام انه كان عثماني الهوى ، وانه كان يندد بموقف أبيه يوم الدار ، لأنه لم يقم بعمليات النجدة ، ولم ينقذ عثمان ، وينجيه من أيدى الثوار ، كما أنه لم يكن من رأيه - كما رووا - أن يستجيب أبوه إلى رغبة الجماهير الذين هتفوا باسمه واصروا على ترشيحه لمنصب الخلافة ، وان امير المؤمنين عصاه - على حد تعبيرهم - واستجاب لدعوة الثوار.

والصقوا بسيرته الوضاءة انه كان كثير الزواج ، والطلاق ، وقد بالغوا في ذلك إلى حد بعيد فرووا أنه كان في اكثر أيامه يعقد على امرأة ويطلق أخرى ، والسبب في ذلك كله هو الحط من شأنه ، والتقليل من أهميته وقد دون تلك الروايات المؤرخون ، واستند إليها كتاب العصر وفي طليعتهم الدكتور طه حسين (1) فقد مال إليها ، وارسلها إلى القراء ارسال المسلمات ، ولم يتثبت في سندها ليتضح له أن رواتها قد وصموا بالوضع والانحراف عن أهل البيت ، وقد فندنا القسم الكثير منها في بحوثنا ودللنا على مواضع الضعف الذي فيها سواء أكان من ناحية السند أو من غيره.

إن اهم شيء تستدعيه ضرورة البحث هي غربلة الاخبار ، ومعرفة رواتها والتوثق منهم فمن كان صحيحا في نقله بعيدا عن الكذب غير متهم في دينه فيؤخذ بروايته ، ويعول عليها في بناء التأريخ الاسلامي ، ومن كان من الرواة منزلقا في احضان السلطة ويكتب لأغراضها ، ويدون لتدعيم سلطانها وهو في نفس الوقت غير متحرج ولا متأثم من الكذب والوضع فان الواجب أن ترد روايته ولا يعتمد على نقله ، والإسلام قد

ص: 15


1- استند الدكتور طه حسين في كتابه على وبنوه الى الروايات الموضوعة وسنذكرها في غضون هذا الكتاب وندلل على ما يرد عليها من المؤخذات.

أمرنا بصراحة بالتثبت في اخبار المتهمين في دينهم ، قال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1) والآية صريحة الدلالة في وجوب التثبت في اخبار الفساق ، واي أثم اعظم من ارتكاب الوضع وتعمد الكذب ، وهي في عمومها شاملة للاخبار عن الموضوعات الخارجية ، ومنها الاخبار عن الحوادث التأريخية وغيرها.

وعجيب - وان كان خارجا عن الصدد - أن تؤخذ بعين الرضا والقبول روايات شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي (2) والجلاد سمرة بن جندب ، ويعول عليها في بناء العقيدة الاسلامية مع أن في الكثير منها خروجا على سلطان العقل وحكمه ، وخروجا على حكم الاسلام الذي ما آمن - والحمد لله - بالخرافات والاوهام.

ان تنقية الاخبار ضرورة ملحة لكل باحث سواء أكانت متصلة بشئون الدين أو في غيره ولزوم طرح ما رواه المنحرفون واجراء السلطة فيما انفردوا بروايته.

- 3 -

والشيء البارز في العصر الذي عاش فيه الامام الحسن (عليه السلام) انتشار الحزبية ، وتفاعل تياراتها الهائلة ، فقد صمم الحزب القرشى - الذي شكل قبل وفاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) - على صرف الخلافة الاسلامية عن أهل البيت (عليهم السلام)

ص: 16


1- سورة الحجرات : آية 6.
2- كشف الغطاء عن خرافات ابي هريرة الامام شرف الدين فى كتابه « ابو هريرة » وكذلك بحث عن موضوعاته ومفترياته العلامة الكبير الشيخ محمود ابو رية فى كتابه « شيخ المضيرة ».

لاسباب أهمها التهالك على الامرة والسلطان ، والحسد لعترة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) على ما منحها اللّه من الفضائل والمواهب ، وقد أثر عنهم « ان النبوة والخلافة لا يجتمعان في بيت واحد » وهو كلام لا يعضده الدليل في جميع مناحيه ، وقد تعرض ابن عباس الى تزييفه بمنطقه الرصين فى محاورته مع عمر بن الخطاب ، فقد قال له عمر « بعد حديث طويل دار بينهما » :

« يا ابن عباس ، أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)؟ ». قال ابن عباس : فكرهت أن اجيبه ، فقلت له : إن لم أكن ادرى فان امير المؤمنين يدرى :

فقال عمر : « كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتجحفوا على قومكم بجحا ، بجحا ، فاختارت قريش لا نفسها فاصابت ، ووفقت. » وخاف ابن عباس من شدة عمر وغلظته أن يجابهه بتزييف كلامه فطلب منه الاذن ليصارحه بالواقع قائلا : « يا أمير المؤمنين ، إن تأذن لي في الكلام ، وتمط عني الغضب تكلمت .. ».

« تكلم يا ابن عباس ».

« أما قولك يا أمير المؤمنين : اختارت قريش لأنفسها فاصابت ووفقت ، فلو ان قريشا اختارت لانفسها من حين اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، واما قولك : انهم ابوا أن تكون لنا النبوة والخلافة ، فان اللّه عز وجل ، وصف قوما بالكراهة ، فقال : « ذلك بأنهم كرهوا ما انزل اللّه فأحبط اعمالهم ».

فثار عمر وقد لسعه قول ابن عباس : فقال له :

« هيهات يا بن عباس .. قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك منى .. » وخاف ابن عباس من سطوته فاجابه بناعم القول :

ص: 17

« ما هي يا أمير المؤمنين؟ فان كانت حقا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه ،. »

وهدأت ثورة عمر فقال له :

« بلغني أنك تقول : إنما صرفوها - اي الخلافة - عنا حسدا وبغيا وظلما! »

فاجابه ابن عباس بمنطقه الفياض :

« أما قولك يا أمير المؤمنين : ظلما فقد تبين للجاهل والحليم ، واما قولك حسدا فان آدم حسد ، ونحن ولده المحسودون!! »

فثار عمر ، وصاح به

« هيهات هيهات!! أبت واللّه قلوبكم يا بني هاشم إلاّ حسدا لا يزول .. »

وانبرى ابن عباس فرد عليه مقالته :

« مهلا يا أمير المؤمنين!! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .. » (1)

وكشفت هذه المحاورة عما تكنه قريش في نفوسها من الموجدة والكراهية لآل البيت فاختارت صرف الخلافة عنهم ، ويرى عمر أنها وفقت في ذلك ، ولكنها في الحقيقة لم توفق ، ولم تصب الرأي والرشد ، فقد انتج اختيارها أن يفوز الأمويون بالحكم ، وهم أعداء الاسلام وخصومه ، ومجزرة كربلا الرهيبة احدى مظاهر عدائهم ونقمتهم من الاسلام ، فقد صدرت الأوامر المشددة من القيادة العسكرية العليا إلى الجيش بإبادة اهل البيت واستئصال شأفتهم ، وأن لا يبقى على مسرح الحياة أحد من نسل آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فابيدت تلك الصفوة الطاهرة من عترة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 18


1- تأريخ ابن الأثير 3 / 24 ، شرح نهج البلاغة 3 / 107.

وتقطعت أوصالها على صعيد كربلا ، وحملت ودائع النبوة وكرائم الوحي سبايا تطوف بها ارذال العرب واجلافهم من بلد إلى بلد ، ولما انتهيت سبايا آل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الى يثرب يلتفت عمرو بن سعيد عامل يزيد عليها وهو جذلان مسرور الى قبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فيخاطب جدثه الطاهر ويقول له :

« يوم بيوم بدر يا رسول اللّه. » (1)

ثم رقى منبر النبي ، وخاطب المسلمين فقال : - ويا لهول ما قال - « أيها الناس. إنها لدمة بلدمة ، وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة ، حكمة بالغة فما تغني النذر. »

وقبله قال يزيد :

لست من خندف إن لم انتقم

من بني أحمد ما كان فعل

هذا هو اختيار قريش الذي وفقت فيه - كما يقولون - قد اوجب هضم العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم في لزوم مراعاتها والاحتفاء بها ، فانا لله وإنا إليه راجعون

- 4 -

وقد نظرنا الى الحوادث - التي جرت في عصر الامام أبي محمد (عليه السلام) - نظرة امعان وتدبر ، فان التاريخ - كما ذكرنا - قد خلط بالموضوعات حتى اصبح من العسير أن يخلص المؤرخ إلى الحق في أيسر الأمور ، وقد استلخصنا من تلكم الحوادث كثيرا من الجوانب التي لها صلة في الكشف عن حياة الامام (عليه السلام) وبتصوير العصر الذي نشأ فيه.

وقد نشر هذا الكتاب قبل احدى عشرة سنة ، ونفذت نسخه ، ولم

ص: 19


1- شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 361.

يعد لها أي وجود في الأسواق ، وقد ترجمه إلى اللغة الاوردية فضيلة العلامة الجليل السيد محمد باقر النقوي حفظه اللّه ، وقد طبع في الهند بمطبعة ( اصلاح كجهو ابهار ) وإن كثيرا ممن تهمهم امثال هذه البحوث قد رغبوا في اعادة طبع الكتاب بعد نفاذ نسخه ، وكنت أرجئ ذلك إلى وقت آخر أملا في اعادة النظر فيه لأني اعتقد أن فيه بعض الفصول تحتاج إلى مزيد من البسط والتفصيل وقد تفضل عليّ أخي العلامة التقي الشيخ هادي القرشي فابدى رغبته الملحة في مراجعة الكتاب ومعاودة النظر فيه فلم أر بدا من اجابته فراجعت الجزء الاول منه ، واضفت إليه كثيرا من البحوث ، ولعل القارئ يجد أن هذه الطبعة غير الطبعة الأولى لما فيها من الاضافات ، واناقه الطبع ، وروعة التنسيق ودقة الاخراج التي اشتهرت بها مطابع الآداب.

وقبل أن انهى هذا التقديم ارفع اعمق الامتنان ، وجزيل الشكر إلى حضرة المحسن الوجيه الحاج محمد رشاد عجينة لتبرعه بطبعه سائلا من اللّه أن يوفقه لكل مسعى نبيل وأن يتولى جزاءه عن ذلك انه ولي التوفيق.

النجف الأشرف

28 ذي القعدة سنة 1384

باقر شريف القرشي

ص: 20

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

(1)

لريحانة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسبطه الأول الإمام الزكي الحسن بن المؤمنين علي (عليه السلام) حياة مثالية وسيرة فواحة عطرة تتدفق بها طاقات الاسلام الثرة الندية ، وتتمثل فيها سيرة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) واخلاقه واتجاهاته ، وتتجسد فيها جميع عناصر التربية الاسلامية الرفيعة فهي - بحق - من اروع الشخصيات الفذة التي لمعت في سماء الأمة الإسلامية ، وفي طليعة الذوات الخيرة التي تحلى بها قاموس الإنسانية ، وذلك لما اتصفت به من الحلم والعلم والخلق والسجاحة والسخاء وغير ذلك من الصفات الرفيعة التي شابهت صفات الرسول وحكت اخلاقه.

وحفلت حياة الامام (عليه السلام) بالمصاعب والكوارث ، وامتحن امتحانا عسيرا بالامويين الذين جرعوه اقسى الوان الخطوب والآلام فقد ابتلى بهم الامام كما ابتلى بهم جده وأبوه من قبل ، فقد كان الامويون يكنون في دخائل نفوسهم واعماق قلوبهم بغضا عارما للهاشميين ، ومصدر ذلك العداء يرجع الى التنافر الذاتي بين الاسرتين واختلاف طباعهما وتباين اتجاههما ، فقد كان الهاشميون يمثلون الاريحية والشمم والإباء والوفاء وحماية الضعيف وقرى الضيف ، وكانت أندية العرب ومجالسهم تتحدث عن مكارمهم ولين طباعهم ، وعما تركوه فى ربوع مكة من أنظمة للعدل واسباب للنعيم والتجارة ، وأما ( الامويون )

ص: 21

فقد عرفوا باللؤم والجفاء والغلظة والغدر والخيانة ، وعدم الاستجابة أو المساهمة فى أي عمل من اعمال الخير ، وهم فى جاهليتهم واسلامهم سواء لم تصدر منهم بادرة من بوادر الكرم أو ظاهرة من ظواهر الاصلاح والنفع العام يقول فيهم الجاحظ :

« ليس لهم قدم مذكور ولا يوم مشهود فلا سابقة ولا جهاد ، وإذا كان شيء من هذا فانما يكون فيما يضر الناس ».

ولما أسس الهاشميون فى الجاهلية حلف الفضول الذي كان شعاره مناصرة المظلوم حتى يدفعوا عنه ظلامته ، ومنع القوي من ظلم الضعيف ، والقاطن من الاعتداء على الغريب كان الامويون وحدهم قد تخلفوا عن مناصرة هذا الحلف والانتماء إليه لدوافع أهمها ان هذا الحلف يتنافى مع ميولهم التي طبعت على الظلم والاعتداء ، والغرور والحسد للهاشميين.

(2)

ولما صدع الرسول الاعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) برسالته الخالدة الداعية الى يقظة الضمير وتحرير العقول ثقل على الامويين هذا المجد الذي اختص بالهاشميين ، وعظم عليهم الأمر فألهبت قلوبهم بالحقد والكراهية ، وقد تحدث الحكم ابن هشام مع قرينه فى الشرك أبي جهل فاعرب له عما يكنه فى قرارة نفسه من البغض العارم للهاشميين وعدم الاستجابة لدعوة الاسلام قائلا :

« تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فاطعمنا ، وحملوا فحملنا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذا ، واللات لا نؤمن به ولا نصدقه ». وقد اجمعت كلمتهم على مكافحة الدعوة الاسلامية فألّبوا على الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) القبائل وقادوا الجيوش لمناجزته ، ولكن اللّه رد كيدهم فى نحرهم

ص: 22

ونصر الاسلام وأعز رسوله فقد تحطمت قوى الامويين ومن تابعهم من شذاذ الآفاق وأعداء الاسلام ، واتجهت الجيوش الاسلامية الظافرة الى احتلال مكة المكرمة ، وقد وقع أبو سفيان أسيرا هو والعباس بيد القوات الاسلامية الزاحفة فأمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بحبسهما في المضيق ليشاهد أبو سفيان قوة المسلمين وضخامة جيشهم ، واجتازت عليه القوات العسكرية الهائلة فوقف مذهولا مبهوتا قد انهارت قواه وانطلق يقول للعباس :

« لقد اصبح ملك ابن اخيك اليوم عظيما!! »

فأجابه العباس : انها النبوة

فقال أبو سفيان بصوت خافض متحجر : نعم اذن

إنها لكلمة يسمعها بأذنه فلا يفقهها قلبه فما كان مثل هذا القلب ليفقه الا معنى الملك والسلطان ، كما يقول السيد قطب : (1)

واطلق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) سراح أبي سفيان ، ومنحه العفو كما منح أهل مكة فانطلق يهرول قد غمرته عظمة المسلمين وقوتهم وهو يهتف بين قومه. « من دخل داره فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن »

ولما سمعت هند زوجته ذلك وشعرت بخوفه وايثاره العافية وطلبه للسلم جعلت تصيح وهي حانقة مغيضة « اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه ، قبح من طليعة قوم ، هلا قاتلتم ، ودفعتم عن انفسكم وبلادكم!! » تحرض بذلك قريشا على الحرب ، وتلهب فى نفوسهم نار الثورة ، وروح العصبية ، ودخل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) مكة فاتحا ، وقام بتطهير البيت الحرام من الاوثان والاصنام ، وقد حطمها امير المؤمنين (عليه السلام) فكسر لاتهم وهبلهم ، وصعد بلال فوق ظهر الكعبة يؤذن للصلاة فلما سمعه

ص: 23


1- العدالة الاجتماعية فى الاسلام ص 181.

أبو سفيان انخلع قلبه وصرخ مناديا بلا اختيار.

« لقد أسعد اللّه عتبة بن ربيعة إذ لم يشهد هذا المشهد ».

(3)

ولما اندحرت قوى الإلحاد وانهارت معنوية المشركين لم يجد الامويون بدا من الدخول في حظيرة الاسلام فدخلوا فيه وهم أذلاء صاغرون ، قد كسرت شوكتهم ، واخمدت نارهم ، وقد ظلت قلوبهم مترعة بالحقد والكراهية للاسلام ، وقد شعر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بذلك فاصدر قراره الحاسم بابعاد رءوسهم عن يثرب عاصمة المسلمين وحرم عليهم الدخول إليها ، وقابلهم بالاستهانة والتحقير ، فقد أقبل أبو سفيان راكبا ومعه معاوية وأخوه أحدهما قائد ، والآخر سائق فلما رآهم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال :

« اللّهم ، ألعن القائد والسائق والراكب » (1)

وأقبلت امرأة الى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أرادت التزويج بمعاوية فنهاها عن ذلك وقال لها :

« إنه صعلوك » (2).

ومتى كان هذا الصعلوك كاتب الوحي أو مقربا عند النبي (3) - كما يقولون -

ص: 24


1- تاريخ الطبري 11 / 357 وقعة صفين 344.
2- تاريخ الخميس 2 / 296.
3- ذكر الفيروزآبادي في سفر السعادة ص 149 في فضل ما روى فى فضل معاوية ما نصه : « ليس فيه حديث صحيح » وقال العلامة المحقق محمد بن عقيل! في « النصائح الكافية » ما نصه « اما كتابة معاوية ، للوحي والتنزيل فلم تصح ، ومن ادعى ذلك فليثبت أية آية نزلت فكتبها معاوية ، اللّهم الا ان يأتينا بالحديث الموضوع انه كتب آية الكرسي بقلم من ذهب جاء به جبرئيل هدية لمعاوية من فوق العرش ، نعوذ باللّه من الفرية على اللّه وعلى امينه ورسوله » وقال السيد قطب : في ( العدالة الاجتماعية ) ص 182 إن أبا سفيان حين اسلم رجا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في ان يسند إلى معاوية شيئا يعتز به أمام العرب ، ويعوضه عن سبة التأخر في الاسلام ، وانه من الطلقاء الذين لا سابقة لهم في الاسلام ، فاستخدمه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في الرسائل والحوائج والصدقات ولم يقل احد من الثقات انه كتب للنبي كما اشاع انصاره بعد استقرار الملك كما يصنع سائر الدعاة ، وإن كان استخدام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لمعاوية محل ريب لأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كان ينظر إليه وإلى اسرته نظرة ريبة لشكه (صلی الله عليه وآله وسلم) فى اسلامهم.

لقد قابل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) عموم الامويين بالاستهانة والتحقير والحط من شأنهم وذلك لأنه استشف من وراء المغيبات أنهم مصدر الفتن والاضطراب والقلق بين المسلمين فباعدهم ، وقد رأى (صلی الله عليه وآله وسلم) في منامه أنهم ينزون على منبره نزو القردة والخنازير فانزل اللّه تعالى عليه قوله : ( وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) وما رؤي بعد ذلك ضاحكا (1).

(4)

ولما انقصم ظهر الاسلام وانحسرت روحه بموت الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) انصبت الفتن على المسلمين كقطع الليل المظلم حتى فقدوا الرشد والصواب فناصبوا عترة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الذين هم وديعة النبي فابعدوهم عن مراتبهم التي رتبهم اللّه فيها وسلبوا الخلافة الاسلامية من أيديهم ، وتهالكوا على الإمرة والسلطان ، وقد مهد الخليفة الثاني الحكم للامويين فاستعمل معاوية واليا على الشام واطلق له العنان فلم يحاسبه على إسرافه ، ولم يعاتبه على تبذيره وبذخه كما فعل مع بقية عماله وقد قيل له في ذلك فاعتذر لنفسه ، واعتذر عنه قائلا : ذاك كسرى العرب؟

ص: 25


1- تأريخ الخطيب 9 / 44 ، تفسير الطبري 5 / 77 ، اسد الغابة 3 / 14.

ولم يكتف بهذا المد للأمويين ، وبهذا الاحسان الذي أسداه إليهم فقد فتل حبل الشورى الذي انتج فوزهم بالخلافة وتلاعبهم بمقدرات الأمة وامكانياتها ، وجر الخطوب والويلات لها ، وانتهاك كرامة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في عترته وذريته.

ولما استولى الامويون على زمام الحكم كان هدفهم طوي هذا الدين ، وقلع جذوره ، ومحو سطوره ، وابادة معالمه وآثاره ، ولو لا فيض عارم في مبادئه ، وقوة كامنة في طاقاته ، وتضحيات العلويين لانتشاله ، وعناية قبل كل شيء فيه من اللّه تعالى لا صبح الاسلام معدوم الأثر من دنيا الوجود لأنه حينما استتب لهم الأمر وصفا لهم الجو ظهر مدى حقدهم البالغ على الاسلام ، وظهرت رغباتهم فى الملك والسلطان فكانوا لا يفكرون الا بذلك ولا يحلمون الا بأن تكون دولة المسلمين العوبة بأيدي ابنائهم وصبيانهم ، وقد ادلى بذلك أبو سفيان بكلمته التي القاها أمام أسرته وذويه قائلا لهم :

« يا بني أمية ، تلاقفوها تلقف الكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار وما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة » (1).

قال هذه الكلمة أبو سفيان : بمرأى ومسمع من عثمان وهي صريحة في ارتداده وظاهرة في الحاده والواجب الشرعي يحتم على عثمان أن يقيم عليه الحد باعتباره خليفة المسلمين ، وهو مسئول عن تنفيذ احكام الدين وتطبيق حدوده ولكنه اعار ذلك أذنا صماء ، واهمل ما وجب عليه.

وحينما نشبت اظفار معاوية بالملك اتضح عداؤه السافر للاسلام والمسلمين ، وقد برز ذلك في أقواله وأعماله واتجاهاته فقد خطب في النخيلة وكانت نشوة الظفر عليه بادية فقال :

« يا أهل العراق ، واللّه إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ،

ص: 26


1- مروج الذهب 1 / 440.

ولا لتحجوا ولا لتزكوا ، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطانى اللّه ذلك .. » (1)

وأي قيمة للصلاة والصوم والزكاة والحج ، واي أثر لسائر الطقوس الدينية عند ابن هند التي نهشت كبد سيد الشهداء حمزة ، انه ما قاتلهم من اجل ذلك ولا من اجل المطالبة بدم عثمان الذي أقام الدنيا وأقعدها بسببه ، وانما قاتلهم من اجل الظفر بالملك والسلطان.

لقد منيت البلاد الاسلامية أيام حكمه وسلطانه بالظلم والجور والاستبداد ، ومني المسلمون بالاستعباد والاستغلال ، فقد قضت سياسته الارهابية الملتوية بارسال الاخيار والمصلحين الى ساحات الاعدام وظلمات السجون ، فقد اعدم الصحابى العظيم حجر بن عدي وإخوانه الصالحين لأنهم انكروا على ولاته سبهم لامير المؤمنين وسيد المتقين.

إن البارز في سياسة معاوية نشر الارهاب والخوف ، واشاعة الفتن والاضطراب ، واباحة الغدر والخيانة ، والولوغ في دماء المسلمين فقد أسرف هو وعماله فى ذلك حتى قتلوا الاطفال الصغار والشيوخ العاجزين بعد ما تجاوزوا الحد فى قتل الرجال وسجن النساء ، وقد ارتطمت البلاد بالفتن وضج الناس من الظلم والجور.

وقد ساند سياسته فريق من المرتزقة وباعة الضمير الذين وضعوا دنياهم فوق رءوسهم ودينهم تحت أقدامهم فراحوا يلقون عليه التقديس ، ويخلعون عليه النعوت الحسنة ويبررون جرائمه وموبقاته ، وهم ما بين راو وخطيب وزعيم فاخذوا يذيعون بين الشاميين قربه من الرسول وانه وارثه حتى انقضى ردح من الزمن وهم لا يظنون ان هناك احدا أقرب إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من معاوية وبني أميّة ، كما افتعلوا الاحاديث الكثيرة في

ص: 27


1- شرح النهج 4 / 16.

الثناء عليه وضرورة تكريمه وتقديره ، ومضافا لهذا الفريق المرتزق البطانة التي ظفر بها كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه وأضرابهم من دهاة العرب وابالسة الدنيا فقد اخذوا فى تسديده واحكام سلطانه وتخذيل اعدائه حتى اصبحت مقاومة حكمه من الصعوبة بمكان ، فقد عجز أمير المؤمنين (عليه السلام) عن مقاومته ومناجزته حيث افسد عليه جيشه وتركه في ارباض الكوفة يتمنى النزوح عن هذه الدنيا ومفارقة ذلك المجتمع المصاب باخلاقه حتى قضى علیه السلام شهيدا صابرا.

(5)

ولما فجع الاسلام ونكب المسلمون بقتل وصي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وبايعت الحواضر الاسلامية سبط النبي الامام الحسن اخذ معاوية وعملاؤه يدبّرون نفس الخطة التي دبّروها مع أبيه من قبل فافسدوا عليه جيشه وخواصه بالمال تارة وبالارهاب أخرى حتى بلغ بهم التخاذل والانحطاط مبلغا فظيعا فقد كاتبوا معاوية بتسليم الامام له أسيرا سرا أو علانية إن شاء ذلك وانضمت إلى ذلك عوامل أخرى سنذكرها مشفوعة بالتفصيل فى غضون هذا الكتاب ، فرأى علیه السلام أنه إن قاوم معاوية قاومه بيد جذاء ولو ضحى بنفسه لذهبت تضحيته سدى وتعود بالضرر الجسيم على الاسلام والمسلمين فوقف (عليه السلام) مع عدوه موقف الحازم اليقظ والبصير المحنك فصالح معاوية وحفظ دمه ودم أهل بيته والبقية الصالحة من المؤمنين ، وقد كشف ذلك عن سمو رأيه وعمق نظره ، ولم يترك (عليه السلام) بعد الصلح جهاده المقدس فقد انبرى يعمل في تحطيم عروش الدولة الأموية ، ويبين اخطارها على العقيدة الاسلامية ، وقد تصدى لمعاوية بالذات فذكر مثالبه وموبقاته في بلاطه وذلك حين سافر (عليه السلام) الى الشام.

ص: 28

وسيقف القارئ الكريم في بحوث هذا الكتاب على مدى الآلام المرهقة التي تجرعها سبط الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وريحانته من معاوية ، ومن جلاوزته ، ويقف على ما ألمّ به من المحن والبلوى ، والاستهانة به حتى من خلص أصحابه وأصحاب أبيه ، فقد جابهوه بعد ابرام الصلح باقسى القول وأمره وكان أشد على نفسه من ضربات السيوف ، وقد صبر سلام اللّه عليه على ما انتابه من الخطوب ، وبث حزنه وشكواه الى اللّه.

وبحثنا في هذا الكتاب عن مظاهر شخصيته ، وعن سيرته الندية ، التي هي - بحق - من اروع ما حفل به تأريخ المسلمين من المآثر والمفاخر ، كما ذكرنا الأدوار التي اجتازت عليه ، وما في عصره من الظواهر الاجتماعية فان الاحاطة بذلك - فيما نعلم - ضرورة ملزمة يقتضيها البحث ، وقد بحثنا عن ذلك كله ببحث حر جهد ما توصل إليه تتبعنا ، ومن اللّه التوفيق وهو ولي القصد.

النجف الأشرف : 1 / صفر سنة 1373 ه

باقر شريف القرشي

ص: 29

اجتماع النورين

اشارة

ص: 30

نشأت الصديقة فاطمة سيدة بنات حواء في إبان الدعوة الاسلامية وترعرعت والاسلام في مرحلة الارتقاء ، وقد قام بدور تربيتها منقذ الانسانية وسيد ولد آدم الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فغذاها من حكمه وكماله ، وأفرغ عليها أشعة من روحه المقدسة ، واشبعها من مكرمات نفسه العظيمة ، لتكون قدوة لنساء أمته ، ومثالا للكمال الانساني ، وعنوانا للطهر والعفاف.

وحمل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في نفسه من الحب لها ما لم يحمله لغيرها ذلك لأنها البقية الصالحة من زوجته الطاهرة أم المؤمنين خديجة (رضي الله عنه) (1)

ص: 31


1- خديجة بنت خويلد بن اسد القرشية الأسدية زوج النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) واول من آمنت به وصدقته باجماع المسلمين وكانت تدعى فى الجاهلية « الطاهرة » وهي ذات ثراء عريض كانت تستأجر الرجال للتجارة فى اموالها ، وقد بلغها عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) صدق حديثه وعظم امانته وكرم اخلاقه فبعثت إليه وعرضت عليه التجارة في اموالها فاجاب الى ذلك وخرج الى الشام مع غلام لها اسمه ميسرة فلما قدم (صلی الله عليه وآله وسلم) الى الشام استظل تحت شجرة وكانت قريبة من صومعة راهب فاطل الراهب وقال لميسرة من هذا الرجل؟ فقال له : إنه من قريش من اهل الحرم فقال الراهب. ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي ، ثم باع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الأموال التي جاء بها ، واشترى ما اراد ثم قفل راجعا إلى مكة واعطى خديجة الأموال وقد ربحت ربحا كثيرا ، وحدثها ميسرة عن قول الراهب ، فبعثت خلف النبي فقالت له : إني قد رغبت فيك لقرابتك منى وشرفك في قومك وامانتك عندهم ، وحسن خلقك وصدق حديثك ، وعرضت عليه الزواج بها ، وكانت من اوسط قريش نسبا واعظمهم شرفا واكثرهم مالا ، وخرج الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فعرض مقالتها على اعمامه فخرج عمه حمزة ودخل على ابيها خويلد فخطبها منه فاجابه الى ذلك فتزوج بها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وكان عمرها اربعين سنة وعمره الشريف خمس وعشرون سنة وقيل غير ذلك ، ولما بعث رسول اللّه كانت اول من آمنت به وآزرته ، وكان لا يسمع شيئا يكرهه - من رد عليه وتكذيب له مما يحزنه إلاّ خففت عنه وهونت عليه امر الناس وصدقته ، ولعظم جهادها في الاسلام بشرها رسول اللّه ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ، وكان جبرئيل يحمل لها السلام من اللّه ، وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) في حقها : « خير نساء العالمين اربع : مريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة ابنة خويلد وفاطمة بنت محمد » وما فتئ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يذكرها حتى انه إذا ذبح شاة يتتبع رفيقات خديجة فيهدي لهن من لحمها ، وقد توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل إنها توفيت بعد موت ابي طالب بثلاثة ايام فتتابعت على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) المصائب بعد فقده لهما. توفيت فى رمضان وكان عمرها خمسا وستين سنة ودفنت بالحجون ، جاء ذلك فى اسد الغابة والاصابة والاستيعاب.

التي منحته بعطفها وحنانها ، وآمنت به قبل غيرها ، ورصدت جميع أموالها وامكانياتها لتقويم دعائم الاسلام وتشييد دعوته حتى نفذ جميع ما عندها من الثراء العريض ، ولم ينس الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) تلك اليد البيضاء التي اسدتها على الاسلام فقد قابلها بالشكر الجزيل والثناء العاطر ، فكان بعد موتها دوما يترحم عليها ويذكر وفاءها واحسانها حتى وجدت عليها عائشة ، وانطلقت تقول له :

« ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين (1) قد أبدلك اللّه خيرا منها » فغضب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من هذا التوهين فقال لها :

« ما أبدلني اللّه خيرا منها آمنت بي حين كذبني الناس ، وواستني بما لها حين حرمني الناس ، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها .. » (2)

ص: 32


1- الشدقين : مفرده شدق - بالكسر والفتح - جانب الفم.
2- اسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الابصار ص 96 ، وروى ما يقرب من ذلك في مسند احمد 6 / 150 والاستيعاب واسد الغابة والاصابة فى ترجمة خديجة ، وسنن ابن ماجة في باب الغيرة من ابواب النكاح.

لقد واسته خديجة حينما وجدت عليه جبابرة قريش ، فوقفت الى جانبه تحميه وتصون دعوته بأموالها الضخمة كما رزق منها الولد ولم يرزقه من غيرها فقد رزق منها سيدة نساء العالمين شبيهة القديسة مريم بنت عمران في عفافها وطهارة ذيلها فاطمة الزهراء علیهاالسلام التي بتلها اللّه عن النظير وهو السبب في تسميتها « بالبتول » كما ان السبب في تسميتها بفاطمة ان اللّه قد فطمها وذريتها من النار (1)

سمو منزلتها :

وادلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بعظيم منزلة الزهراء علیهاالسلام وسمو مكانتها عند اللّه فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) مخاطبا لها :

« إن اللّه يرضى لرضاك ويغضب لغضبك » (2)

وأخذ بيدها وقال للمسلمين :

« من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وهي بضعة مني ، وهي قلبي ، وهي روحي التي بين جنبي

ص: 33


1- الصواعق المحرقة لابن حجر ص 96 وقد جاء فيه ان عليا سأل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لم سميت فاطمة؟ فقال (صلی الله عليه وآله وسلم). « إن اللّه قد فطمها وذريتها من النار » وذكره الحافظ محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص 26 وجاء فيه ان الامام علي بن موسى الرضا روى الحديث في مسنده ولفظه ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال : « إن اللّه عز وجل فطم ابنتى فاطمة وولدها ومن احبهم من النار » وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال : قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إن ابنتى فاطمة حوراء إذ لم تحض ولم تطمث وانما سماها فاطمة لأن اللّه عز وجل فطمها ومحبيها عن النار ، اخرجه النسائي.
2- ذكر فى كل من اسد الغابة والاصابة وذخائر العقبى ص 39.

من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه » (1)

لقد قرن الرسول راحتها براحته وسعادتها بسعادته ، وقد تظافرت الاخبار التي أثرت عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بذلك فقد قال (صلی الله عليه وآله وسلم) :

« إنما فاطمة شجنة مني (2) يبسطني ما يبسطها (3) ويقبضني (4) ما يقبضها » (5).

وروت عائشة عن مدى حفاوته (صلی الله عليه وآله وسلم) وتكريمه للزهراء (عليهاالسلام) فقالت : إنها إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها وأخذ بيدها فأجلسها في مجلسه (6).

وسئلت عائشة فقيل لها :

- أي الناس كان أحب الى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)؟

فقالت : فاطمة

فقيل لها ، ومن الرجال؟

فقالت : زوجها إن كان ما علمت صواما قواما (7).

وأخرج الامام احمد بن حنبل في ( مسنده ) ان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال :

ص: 34


1- نور الابصار ص 41.
2- الشجنة : العضو المشتبك والغصن.
3- البسط : السرور.
4- القبض : الاستياء.
5- مستدرك الحاكم 3 / 154.
6- مستدرك الحاكم 3 / 157 ، اسعاف الراغبين ص 169.
7- مستدرك الحاكم 3 / 157 ، وذخائر العقبى ص 35 وجاء فيه زيادة على الرواية جديرا بقول الحق ، وعن بريدة كما في الاستيعاب قال : كان أحب النساء الى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فاطمة ومن الرجال علي.

( فداؤها أبوها ) قال ذلك ثلاث مرات (1).

وبلغ من حبه ، وتقديره لها أنه إذا سافر جعلها آخر الناس عهدا به ، وإذا قدم من سفره جعلها أول من يقصده (2).

وروى أنس بن مالك أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت ، ويتلو قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) الآية.

لقد كان كلف النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) واشفاقه على بضعته الزهراء (عليهاالسلام) فوق كلف الآباء واشفاقهم على أبنائهم (3) ومن المعلوم الذي لا ريب فيه ان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يمنحها هذا العطف ، ولم يفض عليها هذا التكريم لأنها ابنته ولا عقب له سواها فان شأن النبوة بعيد كل البعد عن المحاباة والاندفاع بعاطفة الهوى والحب ، وانما صنع ذلك لتشييد الفضيلة

ص: 35


1- الصواعق المحرقة ص 109.
2- مستدرك الحاكم 3 / 154.
3- كتب المستشرق « لامنس » فى كتابه « فاطمة وبنات محمد » مغالطات وبحوثا معكوسة يقول عند التحدث عن سيدة النساء فاطمة (عليهاالسلام) ما نصه « ولم يكن شأنها في بيت والدها خطيرا ظاهر الأثر بادي الخطورة ، بل لقد كان خطرها اقل من خطر عائشة وزينب ، وحفصة ، واضاف يقول : ولقد كانت تعامل فى بيت والدها معاملة عادية » ان لا منس معروف بعمالته للاستعمار وبحقده على الاسلام ، فمن اي مصدر استنتج منه هذه النتائج ، وقد طفحت الكتب الاسلامية بالاخبار المتظافرة الواردة عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فى سمو منزلتها وعظيم شأنها عنده (صلی الله عليه وآله وسلم) وما ذكرناه من الاحاديث السابقة التي اجمع المسلمون على روايتها تدل بوضوح على مدى تكريم النبي لها (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وانما اراد ( لا منس ) تشويه الاسلام والحط من اهم شخصياته الرفيعة.

ورفع مستوى القيم الرفيعة فانه (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يجد في بنات المسلمين ونسائهم من تضارع ابنته في كمالها وعفافها وطهارة ذيلها فقد تجسمت فيها جميع المثل الخيرة من العلم والعبادة والتقوى وغير ذلك من الصفات التي عز وجود بعضها في بنات حواء.

خطبة الامام لها :

ولما أشرفت كريمة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على ميعة الشباب تشرفت مشيخة الصحابة بمقابلة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وعرضوا عليه رغبتهم في التشرف بمصاهرته فقد جاء أبو بكر خاطبا فرده (صلی الله عليه وآله وسلم) وقال له : « أنتظر بها القضاء » وأعقبه عمر فرده بمثل ما رد به صاحبه (1) ، ولما علم المسلمون أن أمر الزهراء بيد اللّه تعالى وليس للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يبت فيه ، وجموا عن مذاكرته في ذلك ، ومضت فترة من الزمن اجتمع في خلالها نفر من الصحابة بعلي فذكروا له قربه من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وشدة بلائه في الاسلام ومناصرته للنبي في جميع المواقف والمشاهد ، وحفزوه على خطبة كريمته ليفوز بمصاهرته ويحوز الى شرف جهاده شرف المصاهرة ، فسار (عليه السلام) بين احجام واقدام يمشي في خطو متمهل وئيد حتى دخل على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد أخذه صمت رهيب (2) فالتفت (صلی الله عليه وآله وسلم) إليه مستفسرا :

ص: 36


1- طبقات ابن سعد 8 / 11 ، تأريخ الخميس 1 / 407 ذخائر العقبى ص 29
2- علل بعض الحاقدين على امير المؤمنين ذلك الصمت انه كان يخاف من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ان يرده لفقره ، وهو تعليل موهوم فان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لا يعني من المسلم الا فضائله وتقواه ولم يعر اي اهتمام للثراء وتضخم الاموال ، ولقد آخى بينه وبين علي مع علمه بفقره ، فقد جاء فى مستدرك الحاكم 3 / 14 وفي الاستيعاب 3 / 35 ما نصه : ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لما آخى بين اصحابه جاءه علي (عليه السلام) فقال : آخيت بين اصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد فقال له رسول اللّه : « أنت اخي في الدنيا والآخرة » الى غير ذلك من الاخبار التي دلت على أنه نفس النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وانه اخوه ووصيه ووزيره وخليفته من بعده على امته ولم يحز الامام هذه المنزلة الا الا لعظيم اتصاله باللّه.

« ما حاجة ابن أبي طالب؟ »

فغالبه الحياء برهة ثم اجاب :

« ذكرت فاطمة يا رسول اللّه »

فاجابه الرسول والسرور باد على وجهه ، وابتسامة ظاهرة على شفتيه قائلا :

« مرحبا إن اللّه أمرني أن أزوجك من ابنتي » (1)

وتغمر المسرات قلب الامام بما أراد له الخالق الحكيم من خير الدنيا والآخرة فهو ابن عم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسيصبح له صهرا ، وورد في بعض التفاسير انه هو المعنى بهذه الآية « وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا » (2) ويلتفت النبي الى أصحابه فيخبرهم بما أمره اللّه به قائلا :

« لقد أتاني ملك ، فقال لي : يا نبي اللّه ، إن اللّه يقرئك السلام ، ويقول لك : إني زوجت فاطمة من علي في الملأ الأعلى فزوجها منه في الأرض » (3).

ويدخل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على ابنته ، وقد اترعت نفسه الشريفة بالافراح فيخبرها بذلك قائلا لها « زوجتك خير أمتي اعلمهم علما وافضلهم

ص: 37


1- نور الابصار ص 42 كنز العمال 6 / 218 ، المستدرك 3 / 153.
2- مجمع البيان 9 / 175 طبع بيروت.
3- ذخائر العقبى ص 32.

حلما وأولهم سلما » (1).

ويقول لها مرة اخرى.

« يا فاطمة ، أما علمت أن اللّه عز وجل اطلع على اهل الارض ، فاختار منهم أباك فبعثه نبيا ، ثم اطلع ثانية فاختار بعلك فاوحي إلي فانكحته ، واتخذته وصيا .. » (2)

ويقول لها :

« إنه لأول أصحابي اسلاما أو أقدم أمتي سلما ، وأكثرهم علما وأعظمهم حلما » (3).

ومع توفر هذه المثل الرفيعة والقيم العليا في شخصية الامام (عليه السلام) كيف لا يزوجه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من كريمته التي لا كفؤ لها في المسلمين سوى أمير المؤمنين كما جاء بذلك الحديث الشريف « لو لم يخلق علي ما كان لفاطمة كفؤ » (4).

المهر :

وأنبرى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد غمرته موجات من السرور الى الامام قائلا له :

« ما عندك من المهر؟ »

اجابه الامام أنه لا يملك شيئا من متع الدنيا سوى فرسه ، ودرعه ، وكانت الدرع مما أفاء اللّه بها عليه من غنائم بدر ، فقال له النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) :

ص: 38


1- اخرجه الخطيب فى المتفق والسيوطي في جمع الجوامع 6 / 398.
2- كنز العمال 6 / 153.
3- مسند أحمد 5 / 26 ، مجمع الزوائد 6 / 101 ، الرياض النضرة 2 / 194.
4- كنوز الحقائق للمناوي ص 124 ، من لا يحضره الفقيه 3 / 249.

« أما فرسك فلا بد لك منها ، وأما درعك فبعه ».

وانطلق الامام الى السوق فباع درعه باربعمائة وثمانين درهما ، وجاء بالثمن معقودا في طرف ثوبه (1) فوضعه بين يدي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد غلبه الحياء حيث يعلم ان هذا المهر هو اقل ما يبذله الفقراء مهرا لازواجهم ولكن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أحب مصاهرته لا لشيء من حطام الدنيا ولا لغير ذلك مما يئول أمره الى التراب بل انما خصه بهذه المكرمة لأنه الفرد الاول في أمته الذي امتاز على غيره بسبقه الى الاسلام (2) وجهاده عن حياض هذا الدين بالاضافة الى عبقرياته الاخرى التي لا تتوفر بعضها في أي انسان.

الجهاز :

وعند ما قبض الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) المهر ناول بعضا منه بلالا ليشتري شيئا من الطيب والروائح وناول بعضه الآخر سلمان وأم سلمة ليشتريا بقية الأثاث ، وما هي إلا ساعة حتى تم جهاز العرس وكان إهاب كبش إذا ارادا أن يناما قلباه على صوفه ، ووسادة من أدم حشوها ليف (3)

ص: 39


1- كنز العمال 7 / 114 ، وجاء في تأريخ الخميس 1 / 407 انه باع بعيرا له وبعض أمتعته وأعطاه مهرا وهو مخالف لما عليه المشهور من أنه باع درعه واعطى ثمنه مهرا لفاطمة.
2- جاء فى كل من المستدرك 3 / 112 والاستيعاب 3 / 31 أنه بعث النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء ، وكذا جاء فى غيرهما من المصادر وقد اجمع المسلمون انه اول من اسلم وآمن بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).
3- الطبقات الكبرى 8 / 14 رواه بسنده عن جعفر بن محمد عن ابيه (عليه السلام)

وسريرا مشروطا (1) ورحيين وسقاء وجرتين (2) وغير ذلك مما هو زهيد في بادئ الرأي ولكنه في نظر الاسلام أثمن من الجوهر واعلى من الأمتعة الثمينة التي توجد عند الملوك وذوي الثراء العريض ، وقد استنتج المستشرق الانگليزي « لامنس » من هذا الجهاز المقدس نتيجة معكوسة يقول :

« وبالاحرى أن هذا الجهاز الذي أمر به محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) دليل على الكراهية التي في نفس محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لابنته فاطمة ولزوجها وكانت كراهيته له لا تقل عنها » (3)

ولحقد « لامنس » على الاسلام وجهله بحكم تشاريعه استنتج ذلك فقد اعتقد أن مظاهر الحب من الوالد تجاه ولده تتجلى فيما اذا اكثر له من ملاذ الحياة ونعيمها ومباهجها ، ولم يعلم أن مقام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) اسمى من أن يخضع لعاطفة الحب التي تجر إلى زخارف الحياة ، فانه في عمله هذا كان في مقام التشريع والتأسيس لأهم نقطة حيوية في الاسلام تبتنى عليها سعادة المسلمين وهي تسهيل الزواج وعدم تعقيده بزيادة المهر ، فان المهر الذي ارتضاه لابنته ، وهذا الجهاز الزهيد الذي هيأه لها مع أنها أعز ابنائه وبناته انما هو سنة من نظامه الرفيع الخالد الذي كره المغالاة في المهر فان

ص: 40


1- مشروطا : اي مشدودا بشريط ، وهو خوص مفتول - يشرط ، اي : يشد ويربط به السرير والرواية ذكرها ابو نعيم فى حلية الاولياء 3 / 329 رواها بسنده عن عكرمة.
2- مسند احمد بن حنبل 1 / 104 ، كنز العمال 7 / 113 ، وجاء فى مستدرك الحاكم 2 / 185 قال جهز رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : فاطمة فى خميل وقربة ووسادة حشوها ليف ، وجاء في ذخائر العقبى ص 35 ان عليا (عليه السلام) قال : لقد تزوجت فاطمة ومالي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه الناضح بالنهار.
3- فاطمة وبنات محمد.

زيادته تمنع الفقراء والبؤساء من الاقتران ، ولهذه الغاية النبيلة قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « أفضل نساء امتي أقلهن مهرا » (1) ويقول الامام موسى بن جعفر علیه السلام : كان الرجل على عهد رسول اللّه يتزوج المرأة على السورة من القرآن وعلى الدرهم وعلى الحنطة ، القبضة (2) وقد زوج (صلی الله عليه وآله وسلم) أحد أصحابه وجعل صداق زوجه تعليم سورة من القرآن الكريم (3) ، لقد حثت الشريعة الاسلامية على الزواج وتساهلت في صداقه ، والغت التفاضل بين الزوجين ، وجعلت المسلم كفء المسلمة ، والحكمة فى ذلك هو قمع الفساد والقضاء على البغاء ، وتكثير النسل ، وقد خفيت هذه العلل والاسباب على « لامنس » الذي لا ينظر الى الاشياء الا من زاوية المادة فاستنتج النتيجة السالفة على غير هدى جاهلا بالنظم الاسلامية الداعية الى سعادة المجتمع ودفع الشقاء عنه.

خطبة العقد :

ولما تم شراء الجهاز دعا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) جماعة من المهاجرين والانصار لحضور مجلس العقد فلما مثلوا عنده اجرى (صلی الله عليه وآله وسلم) خطبة النكاح وهذا نصها :

« الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع بسلطانه ، المرهوب من عذابه وسطواته ، النافذ أمره في سمائه وارضه ، الذي خلق الخلق بقدرته ، وميزهم بأحكامه ، وأعزهم بدينه ، وأكرمهم بنبيه محمد صلی اللّه علیه و آله إن اللّه تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سببا لاحقا وأمرا مفترضا

ص: 41


1- من لا يحضره الفقيه 3 / 243.
2- تهذيب الاحكام 7 / 366.
3- صحيح مسلم 1 / 545.

او شج به الارحام والزمها الأنام ، فقال عزّ من قائل : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) وأمر اللّه يجري الى قضائه ، وقضاؤه يجري إلى قدره ، ولكل قضاء قدر ، ولكل قدر أجل ، ولكل أجل كتاب ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) ثم ان اللّه عز وجل أمرني أن ازوج فاطمة من علي ، وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي على اربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك على السنة القائمة والفريضة الواجبة ، فجمع اللّه شملهما ، وبارك لهما ، وأطاب نسلهما وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة ومعادن الحكمة ، وأمن الأمة اقول قولي هذا واستغفر اللّه لي ولكم .. »

ولم يكن الامام حاضرا مجلس العقد ، وإنما كان في حاجة لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وحينما انتهت خطبة العقد دخل امير المؤمنين على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فلما رآه تبسم وقال له :

« يا علي ، إن اللّه أمرني أن أزوجك فاطمة ، واني قد زوجتكها على اربعمائة مثقال فضة » فقال أمير المؤمنين : رضيت ، وخر (عليه السلام) ساجدا لله شاكرا له ، ولما رفع رأسه من السجود قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « بارك اللّه لكما وعليكما وأسعد جدكما واخرج منكما الكثير الطيب » (1)

وأمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يقدم للمدعوين وعاء فيه بسر ، وقال لهم : « انتهبوا فتخاطف المدعوون منه (2) وبعد الفراغ تفرقوا وهم يدعون للزوجين بالسعادة والهناء والذرية الطاهرة.

ص: 42


1- نور الابصار ص 42 وذكرت مع اختلاف يسير في الرياض النضرة 2 / 183 وذخائر العقبى ص 29 وغيرها.
2- ذخائر العقبى ص 30 ، الرياض النضرة 2 / 181.

الوليمة :

ولما حانت ليلة اقتران النورين قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد غمرته الافراح :

يا علي : لا بد للعروس من وليمة

فانطلق سعد بن عبادة فتبرع بكبش وتبرع الانصار بأصوع من ذرة (1) ودعي المسلمون لتناول طعام العشاء وتقول اسماء : ما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمة علي (2) وقام المدعوون فتناولوا الطعام ، وبعد الفراغ منه اقبلوا يهنئون الامام ويباركون له.

الزفاف :

وطلب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من أم سلمة أن تذهب بكريمته الى دار أمير المؤمنين فمضت أم سلمة مع حفنة من النساء تقدمهن أمهات المؤمنين قد زففن الصديقة الطاهرة الى بيت الامام وهن يرتلن الاهازيج والأشعار ، وبعد ما فرغ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من صلاة العشاء انطلق الى دار علي فاستقبلته أم أيمن فقال لها بصوت فياض بالبشر :

« هاهنا أخي؟ »

وملكت الدهشة أم أيمن فراحت تقول :

ص: 43


1- طبقات ابن سعد 8 / 13 اسد الغابة 5 / 521 وفي كنز العمال 7 / 114 ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال : لا بد للعروس من وليمة ثم امر بكبش فجمعهم عليه.
2- طبقات ابن سعد 8 / 14 وجاء فى الرياض النضرة 2 / 182 عن جابر قال : حضرنا عرس على فما رايت عرسا كان احسن منه حشونا البيت طيبا وأتينا بتمر وزيت فاكلنا منه.

« بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه! ... فمن أخوك؟ »

« علي بن أبي طالب »

« وكيف يكون أخاك وقد زوجته ابنتك؟ »

« هو ذلك يا أم أيمن »

ودخل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فنهض الزوجان تكريما واجلالا له فالتفت إلى فاطمة وأمرها بان تناوله ماء فاحضرت له قعبا فيه ماء فاخذه ومج فيه وقال لها : قومي فنضح بعض ذلك الماء على ثدييها (1) ورأسها وهو يرفع صوته بالدعاء الى اللّه.

« اللّهم ، إني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم »

وقال لعلي : عليّ بماء ، فاحضره له فاخذ منه شيئا ثم مجه فيه وصبه على رأسه وانطلق يدعو له :

« اللّهم : إني اعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم »

ثم قال له ادبر فادبر وصب بقية ذلك الماء بين كتفيه ، ودعا له وقال له : ادخل باهلك باسم اللّه والبركة (2) وانصرفت النسوة إلى منازلها وتخلفت أسماء بنت عميس فقال لها (صلی الله عليه وآله وسلم) : « من أنت؟ »

« أنا التي أحرس ابنتك ، إن الفتاة ليلة بنائها لا بد لها من امرأة قريبة منها ، إن عرضت لها حاجة أو ارادت أمرا أفضت بذلك إليها .. »

فشكر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ذلك منها وانطلق يوافي ابنته بدعائه :

« إني اسأل الهي أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان الرجيم ... »

وقام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فاغلق الباب بيده وانصرف وهو يدعو لهما خاصة

ص: 44


1- وفي رواية فصب الماء بين يديها.
2- كنز العمال 7 / 114.

لا يشرك أحدا في دعائه حتى توارى في حجرته (1) وكان تأسيس هذا البيت الجديد في السنة الثانية من الهجرة (2). ويمتد الزمن بعد زواج الامام علیه السلام والعيش هادئ ، والحياة البيتية كل يوم في سرور قد غمرتها المودة والوداعة ، وبذل المعونة وترك الكلفة واجتناب هجر الكلام ومره ، فكان الامام يشارك زوجته في شئونها البيتية ويعينها بما تحتاج إليه فكانت حياتهما أسمى مثل للرابطة الزوجية الرفيعة.

وفي فترات تلك المدة السعيدة عرض للصديقة (عليهاالسلام) حمل وكان الرسول يبشر بطلائعه وأنه غلام وذلك حينما جاءت إليه أم الفضل تطلب منه تفسير رؤياها (3) قائلة له يا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إني رأيت

ص: 45


1- مجمع الهيثمي 6 / 207.
2- تأريخ الخميس ج 1 ص 407 جاء فيه ان عليا تزوج فى السنة الثانية في رمضان وبنى بها فى ذي الحجة ، وذكر المسعودي في مروج الذهب ج 2 ص 187 ان تزويج الامام علیه السلام بفاطمة كان بعد سنة من الهجرة وقيل اقل من ذلك وكان عمر الامام علي علیه السلام فى ذلك الوقت إحدى وعشرين سنة وخمسة اشهر وعمر الصديقة علیهاالسلام خمس عشرة سنة وخمسة اشهر كما ذكر ذلك ابن حجر في المواهب اللدنية ج 1 ص 257 وذكر المسعودي في مروج الذهب ج 1 ص 403 ان عمر الزهراء علیهاالسلام كان ثماني عشرة سنة وعلي علیه السلام عمره خمس عشرة سنة وجاء هذا أيضا فى طبقات الصحابة ج 8 ص 13 وجاء فى البحار ج 10 ص 4 ان عمرها الشريف كان عشر سنين وانها توفيت وعمرها ثماني عشرة سنة.
3- أمّ الفضل : هى زوجة العباس بن عبد المطلب واسمها لبابة وهى بنت الحارث الهلالية وهى اول امرأة آمنت بعد خديجة (رضي الله عنه) وهى شقيقة ميمونة زوجة النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) وهي إحدى الروايات عن النبي كذا جاء في الاصابة ج 4 ص 483 وفي الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ج 4 ص 398 ، ان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يزورها ويقيل عندها وروت عنه احاديث كثيرة ، وقد ولدت أمّ الفضل للعباس ست رجال لم تلد امرأة مثلهم وهم الفضل وبه كانت تكنى ويكنى زوجها العباس أيضا ابا الفضل ، وعبد اللّه الفقيه ، وعبيد اللّه الفقيه ، ومعبد ، وقثم ، وعبد الرحمن ، وأم حبيبة سابعة ، وفي أمّ الفضل يقول عبد اللّه بن يزيد الهلالي : ما ولدت نجيبة من فحل *** بجبل نعلمه وسهل كستة من بطن أمّ الفضل *** اكرم بها من كهلة وكهل عم النبي المصطفى ذي الفضل *** وخاتم الرسل وخير الرسل

في المنام أن عضوا من أعضائك سقط في بيتي ، فقال لها (صلی الله عليه وآله وسلم) : خيرا رأيت تلد فاطمة غلاما فترضعيه بلبن قثم (1).

وكان المسلمون آنذاك ينتظرون بفارغ الصبر وخصوصا الرسول صلی اللّه علیه و آله ساعة ولادة الصديقة شوقا الى المولود المبارك لتطيب به للإمام (عليه السلام) ولزوجته الحياة وتظللهما السعادة ، ونختم الفصل لنستقبل الوليد الجديد.

ص: 46


1- تأريخ الخميس ج 1 ص 418 جاء فيه ان الحسن (عليه السلام) لما ولد ارضعته أمّ الفضل ، وفي الإصابة ج 4 ص 484 ان الرؤيا التي قصتها أمّ الفضل كانت قبل ولادة الحسين (عليه السلام) فلما ولد ارضعته.

الوليد الجديد

ص: 47

ص: 48

أطل على العالم الاسلامي نور الامامة من بيت أذن اللّه أن يرفع ، ويذكر فيه اسمه ، وانبثق من دوحة النبوة والإمامة فرع طيب زاك رفع اللّه به كيان الاسلام ، وأشاد به صروح الايمان ، وأصلح به بين فئتين عظيمتين.

لقد استقبل حفيد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسبطه الاكبر سيد شباب أهل الجنة دنيا الوجود في شهر هو أبرك الشهور وأفضلها حتى سمي شهر اللّه ، وهو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، وكان ذلك في السنة الثانية ، أو الثالثة من الهجرة (1) وقد شوهدت في طلعة الوليد طلعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبدت فيه شمائل النبوة ومحاسن الإمامة.

ص: 49


1- الاصابة ج 1 ص 328 ، الاستيعاب ج 1 ص 368 تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 73 ، دائرة المعارف للبستاني ج 7 ص 38. ذكر هؤلاء ان ولادته علیه السلام كانت فى السنة الثالثة من الهجرة فى النصف من شهر رمضان ، وجاء فى شذرات الذهب ج 1 ص 10 ان ولادته كانت فى الخامس من شهر شعبان. وهو اشتباه ظاهر ولعله اشتبه بالامام الحسين (عليه السلام) فان ولادته كانت في الخامس من شهر شعبان وذهب جماعة ان ولادته «ع» كانت في السنة الثانية من الهجرة ، وجاء في مرآة العقول ص 390 ما نصه : إن التحقيق انه لا منافاة بين تأريخى الولادة لأن كلا مبنى على اصطلاح فى مبدأ التأريخ غير الاصطلاح الذي عليه بناء الآخر وتفصيله ان فيه ثلاث اصطلاحات « الأول » : ان يكون مبدؤه فى شهر ربيع الأول فان الهجرة إنما كانت فيه ، وبناء الصحابة عليه إلى سنة ستين ورواية ان الحسن ولد سنة اثنتين من الهجرة محمول على هذا المبنى. « الثاني » ان يكون مبدؤه شهر رمضان السابق على شهر ربيع الأول الذي وقعت فيه الهجرة لأنه اول السنة الشرعية ورواية ان الحسن (عليه السلام) ولد سنة ثلاث مبنى على هذا. « الثالث » : ما اخترعه عمر وهو ان مبدأه المحرم انتهى. وما افاده صاحب « مرآة العقول » رافع للتعارض بين القولين واما ما افاده الاستاذ محمد فريد وجدي فى « دائرة المعارف ج 3 ص 443 » ان ولادة الحسن 7 كانت قبل الهجرة بست سنين فهو مخالف لاجماع المؤرخين فانه قبل الهجرة لم يكن الامام امير المؤمنين متزوجا بالصديقة كما اوضحنا ذلك ، واما كيفية ولادة الصديقة بالامام (عليه السلام) فقد جاء بيانها فى تأريخ الخميس ج 1 ص 470 انه لما حان وقت ولادتها بعث إليها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) اسماء بنت عميس وأم ايمن فقرأتا عليها آية الكرسي والمعوذتين وحدثت اسماء فقالت : قبلت فاطمة بالحسن (عليه السلام) فلم أر لها دما فقلت يا رسول اللّه إني لم أر لفاطمة دما فى حيض ولا نفاس فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) أما علمت ان فاطمة طاهرة مطهرة لا يرى لها دم فى طمث ولا ولادة ، وكانت مدة حملها به ستة اشهر ، وذهب صاحب « الفصول المهمة » الى خلافه وعليه فلم يولد مولود عمره ستة اشهر فعاش إلا عيسى بن مريم 7 كما ذكر ذلك فقيد العلم الأمينى ; فى « اعيان الشيعة ج 4 ص 3 ».

ولما أذيع نبأ ولادة الصديقة بالمولود المبارك غمرت موجات من السرور والفرح قلب النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) فسارع إلى بيت ابنته - أعز الباقين ، والباقيات عليه من ابنائه - ليهنئها بمولودها الجديد ويبارك به لاخيه امير المؤمنين ، ويفيض على المولود شيئا من مكرمات نفسه التي طبق شذاها العالم باسره ولما وصل (صلی الله عليه وآله وسلم) الى مثوى الامام نادى :

« يا أسماء : هاتيني ابني .. »

فانبرت أسماء ، ودفعته إليه في خرقة صفراء فرمى بها.

وقال :

« الم أعهد إليكم أن لا تلفوا المولود في خرقة صفراء؟ »

وقام (صلی الله عليه وآله وسلم) فسرّه ، وألباه بريقه (1) وضمه إلى صدره ، ورفع يديه بالدعاء له.

ص: 50


1- سرأه : قطع سرته ، ألباه بريقه ، مأخوذ من اللباء ، وهو اول اللبن عند الولادة ، والمراد انه (صلی الله عليه وآله وسلم) اطعمه بريقه كما يطعم الصبي اللباء.

« اللّهم : إني أعيذه بك ، وذريته من الشيطان الرجيم .. » (1) سنن الولادة :

واخذ (صلی الله عليه وآله وسلم) باجراء مراسيم الولادة وسننها على مولوده المبارك وهى :

1 - الأذان والإقامة :

وأذن (صلی الله عليه وآله وسلم) في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى (2) وفي الخبر « ان ذلك عصمة للمولود من الشيطان الرجيم » (3).

همسة رائعة همس بها خير بني آدم في أذن وليده ، ليستقبل عالم الوجود باسمى ما فيه ، فاى بداية منح بها الانسان افضل من هذه البداية التي منح بها السبط الاكبر؟! فان اول صوت قرع سمعه هو صوت جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) علة الموجودات ، وسيد الكائنات ، وأنشودة ذلك الصوت.

« اللّه اكبر لا إله إلا اللّه. »

بهذه الكلمات المنطوية على الإيمان بكل ماله من معنى يستقبل بها الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) سبطه فيغرسها في اعماق نفسه ، ويغذي بها مشاعره ، وعواطفه لتكون انشودته في بحر هذه الحياة.

2 - التسمية :

والتفت (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى أمير المؤمنين ، وقد أترعت نفسه العظيمة بالغبطة والمسرات فقال له :

ص: 51


1- دائرة المعارف للبستاني 7 / 38.
2- مسند الامام احمد بن حنبل 6 / 391 ، صحيح الترمذي 1 / 286 ، صحيح أبي داود 33 / 214 ، وقيل إنه لم يفعل ذلك بنفسه ، وإنما او عز إلى اسماء بنت عميس وأمّ سلمة أن تفعلا ذلك به ساعة الولادة ذكره الشبلنجي في نور الابصار ص 107.
3- الجواهر كتاب النكاح.

« هل سميت الوليد المبارك؟ »

فأجابه الامام :

« ما كنت لاسبقك يا رسول اللّه. »

وانطلق النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له :

« ما كنت لأسبق ربي .. »

وما هي الا لحظات وإذا بالوحي يناجى الرسول ، ويحمل له « التسمية » من الحق تعالى يقول له جبرئيل : « سمه حسنا » (1).

ص: 52


1- تاريخ الخميس ج 1 ص 470 وجاء فيه ان امين الوحي جبرئيل هبط على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له : إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك علي منك بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبي بعدك فسم ابنك هذا باسم ولد هارون ، فقال له (صلی الله عليه وآله وسلم) وما كان اسم ابن هارون يا جبرئيل؟ فقال شبر فقال له (صلی الله عليه وآله وسلم) : إن لساني عربي فقال : سمه الحسن ففعل (صلی الله عليه وآله وسلم) ذلك. وقريب من هذا ذكره العاملي ; في « اعيان الشيعة » وجاء في « اسد الغابة » ، وتأريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٠ ان اسم الحسن لم يكن معروفا فى الجاهلية وجاء في تأريخ الخميس ان رسول اللّه اسماه بهذا الاسم في اليوم السابع من ولادته ، وهذا القول بعيد لأن التسمية وقعت عقيب الولادة بلا فصل كما ذهب إليه كافة المؤرخين ، وجاء فى الاستيعاب ج ١ ص ٣٦٨ ، وفى الأدب المفرد ص ١٢٠ انه لما ولد الحسن ٧ جاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال اروني ابني فما اسميتموه؟ قالوا حربا ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) بل هو حسن ، فلما ولد الحسين قال اروني ابني فما اسميتموه؟ قالوا حربا ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) بل هو حسين ، فلما ولد الثالث قال ما اسميتموه؟ قالوا حربا ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) بل هو محسن ، ثم قال ٦ إني سميتهم باسماء ولد هارون شبر وشبير ، ويمكن ان يقال إن هذه الرواية موضوعة ، اولا إن العداء بين الهاشميين وآل حرب غير خفي فما هو المحبذ لآل البيت بتسمية ابنائهم باسم حرب الذي ينتمى إليه الأمويون وثانيا إن إعراض الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) عن اسم حرب حين ولادة الحسن «ع» هو كاف في إعراض آل البيت عن تسمية الحسين والمحسن بهذا الاسم ، وثالثا إن المحسن لم يولد في حياة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فهذه الامور تبعد صحة الرواية التي ذكرها صاحب « الاستيعاب » وغيره وروى احمد بن حنبل فى مسنده عن علي «ع» انه قال : لما ولد لي الحسن سميته باسم عمي حمزة ولما ولد الحسين سميته باسم اخى جعفر فدعاني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال إن اللّه قد امرني ان اغير اسم هذين فسماهما حسنا وحسينا ، وهذه الرواية أيضا ضعيفة فان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) اسمى حفيديه عقيب ولادتهما ولم يذهب احد الى ما ذكره الامام احمد.

حقا إنه اسم من أحسن الأسماء وكفى به جمالا وحسنا أن الخالق الحكيم هو الذي اختاره ليدل جمال لفظه على جمال المعنى وحسنه.

3 - العقيقة :

(1) وانطوت سبعة أيام على ولادة حفيد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فاتجه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى بيت الإمام (عليه السلام) ليقوم ببعض التكريم والاحتفاء فجاء بأقصى ما عنده من البر والتوسعة فعق عنه بكبش واحد (2) واعطى القابلة منه الفخذ وصار فعله هذا سنة لأمته من بعده.

4 - حلق رأسه :

وحلق (صلی الله عليه وآله وسلم) رأس حفيده بيده المباركة ، وتصدق بزنته فضة على

ص: 53


1- العقيقة في اللغة صوف الجذع وشعر كل مولود من الناس وهى مأخوذة من العق وهو الشق والقطع سمى الشعر المذكور بذلك لأنه يحلق عنه والعقيقة من المستحبات الأكيدة وذهب بعض الفقهاء الى وجوبها ، وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) حين ذبحها بسم اللّه عقيقة عن الحسن اللّهم عظمها بعظمه ولحمها بلحمه اللّهم اجعلها وقاء لمحمد وآله.
2- تأريخ الخميس ج 1 ص 470 مشكل الآثار 1 / 456 ، الحلية 7 / 116 ، صحيح الترمذي 1 / 286 ، اعيان الشيعة ج 4 ص 108 ، وذكر الشبلنجي في نور الابصار والطحاوى في مشكل الآثار 1 / 456، والحاكم في المستدرك ج 4 ص 237 ان رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله عق عن الحسن والحسين عن كل واحد بكبشين وهذه الرواية ضعيفة فقد طعن بها شمس الدين الذهبي في تلخيص المستدرك المطبوع على هامش مستدرك الحاكم ج 4 ص 237 فقال إن راويها سوار وهو ضعيف الرواية هذا اولا وثانيا ان أئمة الفقه لم يذكروا في تشريع العقيقة إلا واحدة.

المساكين (1) وطلى رأسه بالخلوق (2) حقا لم نر حنانا مثل هذا الحنان ، ولا عطفا يضارع هذا العطف.

5 - الختان :

واجرى (صلی الله عليه وآله وسلم) عليه الختان في اليوم السابع من ولادته (3) لأن ختان الطفل في ذلك الوقت اطيب له وأطهر (4).

6 - كنيته :

وكناه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أبا محمد (5) ولا كنية له غيرها ، وبهذا

ص: 54


1- تأريخ الخميس 1 / 470 ، نور الابصار ص 107 صحيح الترمذي 1 / 286 وجاء فيها ان زنة شعره كانت درهما او بعض درهم.
2- الخلوق : طيب مركب من زعفران وغيره ، وفي البحار 10 / 68 ان العادة في الجاهلية كانوا يطلون رأس الصبي بالدم ، فقال صلی اللّه علیه و آله : الدم من فعل الجاهلية ، ونهى اسماء عن فعل ذلك.
3- نور الابصار : ص 108.
4- جواهر الاحكام كتاب النكاح ، وجاء فيه ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : طهروا اولادكم يوم السابع فانه اطيب ، واطهر ، واسرع لنبات اللحم ، وان الارض تنجس من بول الأغلف اربعين يوما.
5- اسد الغابة 2 / 9 ، والكنية هى ان تصدر بأب او أم ، وهى من سنن الولادة فعن الامام محمد الباقر علیه السلام : إنا لنكني اولادنا في صغرهم مخافة النبز ان يلحق بهم.

انتهت جميع مراسيم الولادة التي قام النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) بها لسبطه الأكبر. ألقابه :

ولقب (عليه السلام) بالسبط ، والزكي ، والمجتبى ، والسيد ، والتقي. ملامحه :

أما ملامحه ، فكانت تحاكي ملامح جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد حدث أنس ابن مالك قال : لم يكن أحد أشبه بالنبى من الحسن بن علي (1) وقد صور رواة الأثر صورته بما ينطبق على صورة جده (صلی الله عليه وآله وسلم) فقالوا : إنه كان ابيض مشربا بحمرة ادعج العينين (2) ذا وفرة (3) عظيم الكراديس (4) بعيد المنكبين (5) جعد الشعر (6) كث اللحية (7)

ص: 55


1- فضائل الاصحاب : ص 166 ، وفي صحيح الترمذي 2 / 307 عن علي علیه السلام قال : الحسن اشبه برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما بين الصدر الى الرأس ، والحسين اشبه بالنبي صلی اللّه علیه و آله ما كان اسفل من ذلك ، وفي الاصابة عن البهي قال : تذاكرنا من اشبه النبي صلی اللّه علیه و آله من اهله فدخل علينا عبد اللّه بن الزبير ، فقال : انا احدثكم بأشبه اهله به ، واحبهم إليه الحسن بن علي ، ورواه الهيثمى فى مجمعه 9 / 175 ، وفي المحبر ص 469 ان فاطمة علیهاالسلام كانت ترقص ولدها الحسن وتقول له : وا بأبي شبه ابي *** غير شبيه بعلي
2- الادعج : شدة فى سواد العين مع سعتها.
3- الوفرة : الشعر السائل على الأذنين ، او هو الشعر المجتمع على الرأس.
4- الكراديس : جمع مفرده الكردوسة ، وهى كل عظمين التقيا في مفصل او العظم الذي يجتمع عليه اللحم ، والمراد ضخم الاعضاء.
5- المنكبين تثنية منكب ، وهو مجتمع راس الكتف والعضد.
6- الجعد : الشعر الذي فيه التواء ، وتقبض ، وهو خلاف المسترسل.
7- كث اللحية : قصرها مع كثرة شعرها.

كأن عنقه إبريق فضة (1) وهذه الأوصاف تضارع أوصاف النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) حسب ما ذكره الرواة من أوصافه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وكما شابه جده في صورته فقد شابهه وماثله في اخلاقه الرفيعة (2).

رأى النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) أن سبطه الحسن (عليه السلام) صورة مصغرة عنه ، يضارعه في أخلاقه ، ويحاكيه في سمو نفسه ، وانه قبس من سناه ، يرشد أمته من بعده الى طريق الحق ، ويهديها إلى سواء السبيل ، واستشف (صلی الله عليه وآله وسلم) من وراء الغيب أن كل ما يصبو إليه في هذه الحياة من المثل العليا سيحققه على مسرح الحياة ، فافرغ عليه أشعة من روحه العظيمة ، وقابله بالعناية والتكريم ، وأفاض عليه حنانه وعطفه ، من حين ولادته ونشأته ، وسنقدم عرضا مفصلا لإلوان ذلك التكريم والاحتفاء الذي صدر من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) تجاه الحسن في حال طفولته وصباه.

ص: 56


1- تأريخ الخميس 1 / 171 ، وذكر البستاني في دائرة المعارف 7 / 38 بعض هذه الاوصاف.
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 201 ، وعن الغزالي فى احياء العلوم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال للحس : « اشبهت خلقي وخلقي ».

ذكاء وعبقريّة

اشارة

ص: 57

ص: 58

ومما لا شبهة فيه أن للتربية الصالحة أهمية كبرى في تكوين الطفل ، وتنمية مداركه ، كما أن سلوك الوالدين لهما الأثر الفعال في نمو ذكائه ، وفي سلوكه العام ، وطفولة الامام الحسن (عليه السلام) قد التقت بها جميع هذه العناصر الحية ، فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) تولى تربية سبطه ، وافاض عليه بمكرمات نفسه ، والامام أمير المؤمنين (عليه السلام) غذاه بحكمه ومثله ، والعذراء القديسة أفضل بنات حواء قد غرست في نفس وليدها الفضيلة والكمال ، وبذلك سمت طفولته فكانت مثالا للتكامل الانساني ، وعنوانا للسمو والتهذيب ، ورمزا للذكاء والعبقرية.

لقد ذهب بعض علماء النفس إلى أن الطفل في اصغر ما يلزمه من العادات ، وفي أهم الخصائص العقلية ، والخلقية ، وفي الموقف العام الذي يقفه من الناس ، وفي وجهة النظر العامة التي ينظر بها إلى الحياة أو العمل في كل هذه الأشياء مقلد إلى حد كبير ، وقد يكون التقليد أحيانا شعوريا مقصودا ، ولكنه في أغلب الحالات يكون لا شعوريا ، فاذا منح الطفل بتقليده الأشخاص المهذبين ظل متأثرا باخلاقهم وعواطفهم ، وإن هذا التأثير في أول الأمر يعتبر تقليدا ، ولكنه سرعان ما يصبح عادة ، والعادة طبيعة ثانية ، والتقليد هو أحد الطريقين اللذين تكتسب بهما الخصائص الفردية ، وتتكون بهما الأخلاق الشخصية (1).

إن الامام الحسن (عليه السلام) على ضوء هذا الرأي ، هو الفرد الاول في خصائصه العقلية ، والخلقية لأنه نشأ في بيت الوحي ، وتربى في مدرسة التوحيد ، وشاهد جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الذي هو اكمل انسان ضمه هذا الوجود ، يقيم في كل فترة من الزمن صروحا للعدل ، ويشيد دعائم الفضيلة والكمال ، قد وسع الناس باخلاقه ، وجمعهم على كلمة التوحيد وتوحيد

ص: 59


1- علم النفس فى الحياة لما ندر.

الكلمة ، فتأثر السبط بذلك ، وانطلق يسلك خطى جده في نصح الناس وارشادهم فقد اجتاز مع أخيه سيد الشهداء (عليه السلام) ، وهما في دور الطفولة على شيخ لا يحسن الوضوء ، فلم يدعهما السمو في النفس ، وحب الخير للناس أن يتركا الشيخ على حاله لا يحسن وضوءه ، فاحدثا نزاعا صوريا أمامه ، وجعل كل منهما يقول للآخر : أنت لا تحسن الوضوء ، والتفتا إلى الشيخ باسلوب هادئ وجعلاه حاكما بينهما قائلين له :

« يا شيخ ، يتوضأ كل واحد منا أمامك ، وانظر أي الوضوءين أحسن؟ » فتوضآ أمامه ، وجعل الشيخ يمعن في ذلك فتنبه إلى قصوره ، والتفت إلى تقصيره من دون أن يأنف فقال لهما :

« كلاكما ، يا سيدي : تحسنان الوضوء ، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لا يحسن ، وقد تعلم الآن منكما ، وتاب على يديكما ... » (1)

وهذه البادرة ترينا بوضوح ان اتجاه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في هداية الناس بالطرق السليمة والاخلاق الرفيعة قد انطبعت في ذهن الامام الحسن علیه السلام وهو في دور الصبا حتى صارت من خصائصه ومن طبائعه لقد ذهب بعض علماء النفس إلى وراثة الخلق الفردي ، وان لها أثرا مهما في تكوين اخلاق الشخص وأنها لا تقل أهمية عن التقليد ، يقول « هكسلي » :

« ما من أثر أو خاصة لكائن عضوي الا ويرجع كلها الى الوراثة ، أو إلى البيئة ، فالتكوين الوراثي يضع الحدود ، لما هو محتمل ، والبيئة تقرر أن هذا الاحتمال سيتحقق ، فالتكوين الوراثي ليس الا القدرة على التفاعل مع أية بيئة بطريق خاص .. ».

وقد أيد هذه النظرية ( جنجز ) فقال : « إن كل انسان لديه

ص: 60


1- البحار 10 / 89.

قوى موروثة كامنة ، ولكن اظهار أية واحدة يقف على الظروف التي تحيط بهذه القوى عند نموها ».

وقاعدة الوراثة تقضى ان الامام الحسن (عليه السلام) في طليعة من ظفر بهذه الظاهرة فقد ورث ما استقر في نفس جده (صلی الله عليه وآله وسلم) من القوى الروحية ، والثروة الاصلاحية الهائلة يضاف إلى ذلك تأثره بالبيئة الصالحة التي تكونت من أسرته ومن خيار المسلمين وصلحائهم.

وملك الامام الحسن (عليه السلام) بمقتضى ميراثه من الذكاء ، وسمو الادراك ما لا يملكه غيره ، فقد حدث الرواة عن مدى نبوغه الباكر ، فقالوا : إنه كان لا يمر عليه شيء إلاّ حفظه ، وكان يحضر مجلس جده (صلی الله عليه وآله وسلم) فيحفظ الوحي فينطلق إلى أمه فيلقيه عليها ، فتحدث به أمير المؤمنين (عليه السلام) فيتعجب ، ويقول :

« من أين لك هذا؟!! »

« من ولدك الحسن. »

واختفى الامام (عليه السلام) في بعض زوايا البيت ليسمع ولده ، ويقبل الحسن على عادته ليلقي على أمه ما حفظه من آيات الوحي والتنزيل فيرتج عليه ، ولا يستطيع النطق فتبادر البتول قائلة :

« يا بني ، لما ذا أرتج عليك؟!! »

« يا أماه .. لا تعجبي مما عراني ، فان كبيرا يرعاني!! » (1).

وهذه البادرة تدل بوضوح على مدى ادراكه الواسع ، الذي يبصر به الاشياء من بعيد ، ويستشف به ما غاب عنه من وراء حجاب.

ص: 61


1- مناقب ابن شهر اشوب 2 / 148 ، البحار 10 / 93.

حفظه للحديث :

وحفظ (عليه السلام) وعمره الشريف اربع سنين الشيء الكثير مما سمعه من جده (صلی الله عليه وآله وسلم) ونشير إلى بعض ما رواه عنه.

1 - قال (عليه السلام) : علمنى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كلمات أقولهن في الوتر : ( اللّهم ، اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما اعطيت ، وقنى شر ما قضيت ، فانك تقضى ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت » (1)

2 - وروى عمير بن مأمون ، قال : سمعت الحسن بن علي (عليه السلام) يقول : ( من صلى صلاة الغداة ، فجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس كان له حجاب من النار ، أو قال : ستر من النار ) (2).

3 - وقال له بعض أصحابه : ما تذكر من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)؟ فقال (عليه السلام) : أخذت تمرة من تمر الصدقة ، فتركتها في فمي فنزعها بلعابها ، فقيل يا رسول اللّه ، ما كان عليك من هذه التمرة ، قال إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة (3).

4 - وسئل (عليه السلام) عما سمعه من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال : سمعته يقول لرجل : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فان الشر ريبة والخير

ص: 62


1- صحيح الترمذي 1 / 93 مستدرك الحاكم 3 / 172 تاريخ ابن عساكر 4 / 20.
2- اسد الغابة 2 / 11.
3- اسد الغابة 2 / 11 والمراد من الصدقة المحرمة على آل البيت هي الصدقة الواجبة كالزكاة والفطرة دون غيرهما من الصدقات المندوبة.

طمأنينة » (1).

5 - وحدث (عليه السلام) أصحابه عن خلق جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسيرته فقال : كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إذا سأله أحد حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول.

6 - قال (عليه السلام) : سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول : « ادعوا لي سيد العرب - يعنى عليا - فقالت له عائشة : الست سيد العرب؟ فقال لها أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب ، فدعى له الإمام فلما مثل بين يديه أرسل خلف الأنصار ، فلما حضروا التفت إليهم قائلا :

يا معشر الأنصار ألا ادلكم على شيء ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا ، قالوا بلى يا رسول اللّه فقال : هذا علي فأحبوه بحبي واكرموه بكرامتى فان جبرئيل أخبرني بالذي قلت لكم عن اللّه عز وجل (2) وقد

ص: 63


1- تأريخ اليعقوبى 2 / 201 وفي مسند احمد 1 / 200 انه علیه السلام قال سمعت رسول اللّه قد قال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فان الصدق طمأنينة ، وان الكذب ريبة.
2- حياة علي بن ابي طالب للشيخ محمد حبيب اللّه الشنقيطي ص 83 وذكر الدكتور زكي مبارك فى التصوف الإسلامي ج 1 ص 274 في بيان مأخذ عقيدة الصوفية في سيد الأنبياء محمد صلی اللّه علیه و آله يقول : ومن الخير ان ننص على ان هذا الشطط استند فيه الصوفية إلى حديث « أنا سيد الأنبياء » وهو حديث شك فيه العلماء فقد جاء في كتاب العجلونى المسمى « كشف الخفاء والالتباس ، عما اشتهر من الاحاديث على السنة الناس » ان الحسن بن علي روى ان الرسول قال ( ادعوا لي سيد العرب ) يعني عليا فقالت له عائشة : الست سيد العرب ، فقال أنا سيد ولد آدم وعلى سيد العرب ، ثم حدثنا العجلوني ان الذهبي يجنح إلى الحكم على هذا الحديث بالوضع ، اقول : لم يتبين لنا بجلاء ما افاده الدكتور زكي مبارك في مأخذ عقيدة الصوفية ولبيان الحال نقول إنهم قد انفردوا عن بقية فرق الاسلام بالتزامهم بجهتين ( الاولى ) إن هناك تعينا اوليا وهو مجمع التعينات وهو المسمى بالعقل الأول والصادر الأول في لسان الفلاسفة القدامى ، ومستندهم في ذلك هي البراهين التي اقيمت فى الفلسفة التي منها إن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد ( الثانية ) تطبيق العقل الأول والصادر الأول على الحقيقة الأحمدية المقدسة وبهذا التطبيق انحازوا عن الفلاسفة ، وحجتهم في ذلك هي الأخبار كحديث ( أنا سيد الناس ) ( ولو لاي لما خلقت الأكوان ) وانا نبي وآدم بين الماء والطين ، ونحوها من الأخبار الدالة على إثبات مطلوبهم بنحو من الدلالة العقلية ، والمتصوفة إنما كانوا متصوفة بالتزامهم بالجهة الأولى التي ذهبت إليها الفلاسفة ، فكان الأجدر بالدكتور زكي مبارك ان لا يطلق القول في ان عقيدة الصوفية قد اخذت من الأخبار وعليه ان يبين ان استنادهم إلى الأخبار إنما هو لتطبيق العقل الأول والصادر الأول على الحقيقة الأحمدية ، وكان المناسب له التعرض الى مناقشة الصوفية في الجهة الأولى ، وبيان السر في تشكيك العلماء في حديث ( أنا سيد الناس ) هل كان مصدره ضعف الراوى ، او من جهة اعتماد الصوفية عليه والأخير غير صالح للتضعيف والأول غير معلوم.

نقل علماء الفقه ورواة السنة الشيء الكثير عنه (عليه السلام) مما سمعه وشاهده من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما يتعلق بأحكام الشريعة المقدسة وآدابها وذلك يدل على نبوغه وعبقريته وإدراكه الواسع ، والناظر في دور طفولته (عليه السلام) يهيم بها إعجابا وإكبارا وتقديسا وذلك لما لها من آيات للكمال والفضيلة والذكاء ، ولما أنيطت بلون من التربية الرفيعة التي لم يظفر بها إنسان فيما نحسب.

ص: 64

تكريم وحفاوة

اشارة

ص: 65

ص: 66

واشاد كتاب اللّه العزيز بفضل اهل البيت واحتفى بهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقرنهم بمحكم الكتاب ، وفرض على الأمة مودتهم وحبهم ، ولا بد لنا أن نشير إلى بعض ما ورد في الكتاب ، والسنة في حق أهل البيت (عليهم السلام) فان ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بما نحن فيه ويكشف لنا عن مدى خطورة الامام الحسن (عليه السلام) وعظم شأنه ، وسمو منزلته ، وإلى القراء ذلك :

الكتاب العزيز :

ونطق كتاب اللّه العظيم - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه - بفضل أهل البيت ، وبسمو مكانتهم عند اللّه ، وحسبنا أن نشير إلى بعض آياته :

1 - آية المودة :

وفرض اللّه على المسلمين مودة أهل البيت (عليهم السلام) وقد نطق القرآن بذلك قال تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (1) وروى ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال بعض المسلمين : يا رسول اللّه من قرابتك الذين أوجبت علينا طاعتهم؟ فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : علي وفاطمة وابناهما (2) وروى أبو نعيم بسنده عن جابر ، قال جاء اعرابي إلى النبي

ص: 67


1- سورة الشورى : آية 23
2- تفسير الفخر الرازي 7 / 406 ، الدر المنثور 7 / 7 ، تفسير النيسابوري في تفسير سورة الشورى ، تفسير ابن جرير الطبري 5 / 16، الكشاف في تفسير سورة الشورى ، الصواعق المحرقة : ص 102 ، ذخائر العقبى : ص 25 نور الابصار : ص 100.

(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال : يا محمد أعرض عليّ الاسلام ، فقال : تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وان محمدا عبده ورسوله ، قال : تسألني عليه أجرا؟ قال : - لا - إلا المودة في القربى ، قال : قرباي أو قرباك؟ قال : قرباي ، قال هات أبايعك ، فعلى من لا يحبك ولا يحب قرباك لعنة اللّه ، قال (صلی الله عليه وآله وسلم) آمين (1) وصرح الامام الحسن (عليه السلام) أنه من المعنيين بهذه الآية فى بعض خطبه قال (عليه السلام) :

« وأنا من أهل البيت الذين أفترض اللّه مودتهم على كل مسلم ، فقال تبارك وتعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ، وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت. » (2)

وإلى مضمون الآية الكريمة يشير الامام الشافعي فى قوله :

يا أهل بيت رسول اللّه حبكم

فرض من اللّه في القرآن أنزله (3)

وأفاد الفخر الرازي ما نصه : « وإذا ثبت هذا - يعنى أنها نزلت في علي وفاطمة وابناهما - وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ، وتدل عليه وجوه « الاول » قوله تعالى : ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ووجه الاستدلال به ما سبق ، وهو ما ذكره من قبل من أن آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 68


1- حلية الأولياء 3 / 201.
2- مستدرك الحاكم 3 / 172 ، مجمع الزوائد 9 / 146 ، الصواعق المحرقة ص 101 ، مجمع البيان في تفسير سورة الشورى 9 / 29.
3- الصواعق المحرقة : ص 88.

هم الذين يئول أمرهم إليه ، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شك ان فاطمة وعليا والحسن والحسين (عليهم السلام) كان التعلق بينهم وبين رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أشد التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل « الثانى » لا شك ان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يحب فاطمة (عليهاالسلام) قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » وثبت بالنقل المتواتر عن محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه كان يحب عليا والحسن والحسين علیهم السلام ، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله ، لقوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ولقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) ولقوله : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) ولقوله سبحانه :

و ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) « الثالث » إن الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : اللّهم صل على محمد وآل محمد ، وارحم محمدا وآل محمد » وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، فكل ذلك يدل على أن حب آل محمد واجب » (1)

إن مودة أهل البيت من أهم الواجبات الاسلامية ، ومن أقدس الفروض الدينية لأن فيها أداء لأجر الرسالة ، وصلة للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وشكرا له على ما لاقاه من عظيم العناء في سبيل انقاذ المسلمين من الشرك وعبادة الأوثان ، فحقه على الأمة أن توالي عترته ، وتكن لها المودة والاحترام.

2 - آية التطهير :

ومن آيات اللّه البينات الدالة على عصمة اهل البيت من الذنوب ، وعلى طهارتهم من الزيغ والآثام ، آية التطهير قال تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ

ص: 69


1- تفسير الفخر الرازي في ذيل تفسير آية المودة فى سورة الشورى.

لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) وهي صريحة الدلالة في العصمة ، ويقع البحث في الآية من جهات : أ - دلالتها على العصمة :

وكيفية الاستدلال بها على عصمة أهل البيت ، انه تعالى حصر إرادة إذهاب الرجس - أي المعاصي - بكلمة انما ، وهي من أقوى أدوات الحصر وبدخول اللام في الكلام الخبري وبتكرار لفظ الطهارة وذلك يدل - بحسب الصناعة - على الحصر والاختصاص ، ومن المعلوم أن ارادة اللّه تعالى يستحيل فيها تخلف المراد عن الارادة ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) وبذلك يتم الاستدلال بها على عصمة أهل البيت من كل ذنب ومعصية. ب - المختصون بها :

واجمع ثقاة الرواة أنها نزلت في رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وفي أمير المؤمنين علیه السلام وفاطمة ، والحسنين (عليهماالسلام) ولم يشاركهم أحد في هذه الفضيلة (2) فقد روى الحاكم بسنده عن أم سلمة أنها قالت : في بيتي نزلت هذه الآية ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) قالت : فأرسل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، قالت أم سلمة : يا رسول اللّه ما أنا من أهل

ص: 70


1- سورة الأحزاب :
2- انظر تفسير الفخر 6 / 783 ، النيسابوري في تفسير سورة الاحزاب ، صحيح مسلم 2 / 331 ، الخصائص الكبرى 2 / 264 ، الرياض النضرة 2 / 188 ، خصائص النسائي 4 ، تفسير ابن جرير 22 / 5 ، مسند الامام احمد بن حنبل 4 / 107 سنن البيهقي 2 / 150 ، مشكل الآثار 1 / 334 وغيرها.

البيت؟ قال « إنك إلى خير وهؤلاء أهل بيتي ، اللّهم أهل بيتي احق » (1).

وفي رواية أم سلمة الأخرى : « قالت في بيتي نزلت : « إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت » ، وفي البيت فاطمة وعلى والحسن والحسين فجللهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بكساء كان عليه ، ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » (2)

وروى الخطيب البغدادي بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى : إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » قال : جمع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عليا وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ثم أدار عليهم الكساء فقال : هؤلاء أهل بيتي اللّهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وأم سلمة على الباب فقالت : يا رسول اللّه ألست منهم؟ فقال : إنك لعلى خير ، أو إلى خير » (3).

ويدل على اختصاص الآية بهم وعدم شمولها لغيرهم ما رواه ابن عباس قال : « شهدت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) تسعة أشهر يأتى كل يوم باب علي بن أبي طالب (عليه السلام) عند وقت كل صلاة فيقول : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته أهل البيت « إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » الصلاة رحمكم اللّه ، كل يوم خمس مرات » (4).

واخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء قال : حفظت من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغد إلا أتى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب ، ثم قال : الصلاة ،

ص: 71


1- مستدرك الحاكم 2 / 416 ، اسد الغابة 5 / 521.
2- الدر المنثور 5 / 199.
3- تأريخ بغداد 10 / 278.
4- الدر المنثور.

الصلاة « إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » (1)

وروى أبو برزة قال : صليت مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) سبعة أشهر فاذا خرج من بيته أتى باب فاطمة (عليهاالسلام) فقال : السلام عليكم « إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » (2)

وروى أنس بن مالك قال : كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر ، ويقول : الصلاة يا أهل البيت « إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا » (3)

وقال الامام الحسن (عليه السلام) في بعض خطبه :

« وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل إلينا ، ويصعد من عندنا ، وأنا من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا. » (4)

لقد تواترت الاخبار الصحيحة التي لا مجال للشك في سندها ، وفي دلالتها ، على اختصاص الآية الكريمة فى الخمسة من أهل الكساء علیهم السلام ، وعدم تناولها لغيرهم من أسرة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم). ج - خروج نساء النبي :

وليس لنساء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) نصيب في هذه الآية ، فقد اختص بها أهل الكساء ، وللتدليل على ذلك نذكر ما يلي :

1 - خروجهن موضوعا عن الأهل ، فإنه موضوع لعشيرة الرجل

ص: 72


1- الدر المنثور.
2- مجمع الزوائد 9 / 169.
3- ذخائر العقبى : ص 24.
4- مستدرك الحاكم 3 / 172.

وذوى قرباه ، ولا يشمل الزوجة ، ويؤكد هذا المعنى ما صرح به زيد ابن ارقم حينما سئل من أهل بيته - اي النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) - نساؤه؟ فقال - لا - وأيم اللّه ، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها ، وقومها ، أهل بيته أصله ، وعصبته ، الذين حرموا الصدقة بعده (1).

2 - انا لو سلمنا أن الأهل يطلق على الزوج فلا بد من تخصيصه ، وذلك للاخبار المتواترة التي تقدم ذكرها وهي توجب تقييد الاطلاق من دون شك. د - مزاعم عكرمة :

وزعم عكرمة أن الآية نزلت في نساء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وكان ينادى بذلك في السوق (2) وبلغ من اصراره وعناده أنه كان يقول : ( من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبيّ ) (3) وعكرمة لا يعول على روايته ، ولا يوثق به ، وذلك لما يلي :

1 - انه من الخوارج (4) وموقف الخوارج من الامام أمير المؤمنين معروف ، من ناحية النصب والعداء.

2 - انه قد عرف بالكذب واشتهر به فعن ابن المسيب « انه قال لمولى اسمه برد لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس » (5) وعن عثمان بن مرة أنه قال للقاسم : ان عكرمة حدثنا عن ابن عباس كذا :

ص: 73


1- صحيح مسلم 2 / 238 ، تفسير ابن كثير 3 / 486.
2- اسباب النزول للواحدي : ص 268.
3- الدر المنثور 5 / 198.
4- طبقات القراء 1 / 15 ، طبقات ابن سعد 5 / 216.
5- الكلمة الغراء للامام شرف الدين نقلا عن ميزان الاعتدال.

فقال القاسم : يا بن اخي إن عكرمة كذاب يحدث غدوة حديثا يخالفه عشيا (1) ومع اتهامه بالكذب كيف يمكن التعويل على حديثه.

3 - انه كان فاسقا يسمع الغناء ، ويلعب بالنرد ، ويتهاون في الصلاة وانه كان خفيف العقل (2).

4 - إنه كان منبوذا عند المسلمين ، فقد جفوه ، وتجنبوه ، وبلغت من كراهيتهم له أنه لما توفى لم يصلوا عليه ، ولم يشهدوا تشييع جنازته (3) ومع هذه الطعون التي احتفت به كيف يمكن التعويل على روايته؟ مضافا إلى أنها من أخبار الآحاد حتى لو لم تمن بالضعف فانها لا تصلح لمعارضة الأخبار الصحيحة المتواترة.

3 - آية المباهلة :

من آيات اللّه الباهرات التي أشادت بفضل أهل البيت (عليهم السلام) آية المباهلة قال تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (4) فقد روى الجمهور بطرق مستفيضة (5) أنها نزلت

ص: 74


1- معجم الأدباء فى ترجمة عكرمة.
2- تهذيب التهذيب 7 / 263.
3- تهذيب التهذيب
4- سورة آل عمران :
5- تفسير الجلالين 1 / 35 ، تفسير روح البيان 1 / 457 ، تفسير الكشاف 1 / 149 ، تفسير البيضاوي ص 76 ، تفسير الرازي 2 / 699 ، صحيح الترمذي 2 / 166 سنن البيهقي 7 / 63 ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ، مسند احمد بن حنبل 1 / 185 مصابيح السنة للبغوي 2 / 201.

في أهل البيت (عليهم السلام) وان ابناءنا اشارة إلى ( الحسنين ) ، ونساءنا الى فاطمة ، وانفسنا إلى علي.

وموجز قصة المباهلة ان وفدا من نصارى نجران قدموا على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليناظروه في دينه ، وبعد حديث دار بينهما اتفقا على « المباهلة » وهي أن يبتهلوا أمام اللّه تعالى فيجعلوا لعنته الخالدة وعذابه المعجل على الكاذبين ، وعينوا زمانا خاصا لها.

وخرج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في اليوم الذي اتفقا عليه ، وقد اختار للمباهلة أعز الناس لديه ، وأكرمهم عند اللّه ، وهم الحسن والحسين ، وسيدة النساء فاطمة ، وأمير المؤمنين ، واحتضن (صلی الله عليه وآله وسلم) الحسين وامسك بيده الأخرى الحسن ، وسارت خلفه الزهراء وهي مغشاة بملاءة من نور اللّه ، وأمير المؤمنين يسير خلفها وهو باد الجلال ، وخرج السيد والعاقب بولديهما وعليهما الحلي والحلل ، ومعهم نصارى نجران وفرسان بني الحرث على خيولهم ، وهم على أحسن هيئة واستعداد ، وقد اجتمعت الجماهير الحاشدة وهي تراقب الحادث الخطير ، ويسأل الناس بعضهم بعضا ، هل تباهل النصارى؟ أو تكف عن ذلك وبينما هم على هذا الحال إذ تقدم السيد والعاقب إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد بدا عليهما الذهول والارتباك قائلين :

« يا أبا القاسم بمن تباهلنا؟. ».

فأجابهم (صلی الله عليه وآله وسلم) :

« أباهلكم بخير أهل الأرض وأكرمهم على اللّه ، وأشار إلى علي وفاطمة والحسنين. »

وقدما له سؤالا مقرونا بالتعجب :

« لمّ لا تباهلنا بأهل الكرامة ، والكبر ، وأهل الشارة ، ممن آمن

ص: 75

بك ، وأتبعك؟!! »

فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) :

« أجل. أباهلكم بهؤلاء خير أهل الأرض وأفضل الخلق. »

فذهلوا ، وذابت قلوبهم من الخوف والرعب ، ورجعوا قافلين الى الاسقف زعيمهم يستشيرونه في الأمر قائلين :

« يا أبا حارثة. ما ذا ترى في الأمر؟ »

فأجابهم الاسقف ، وقد غمرته هيبة آل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قائلا :

« أرى وجوها لو سأل اللّه بها أحد أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله »

ولا يكتفي بذلك بل يدعم قوله : بالبرهان واليمين التي تؤيد مقالته :

« أفلا تنظرون محمدا رافعا يديه ، ينظر ما تجيئان به ، وحق المسيح - إن نطق فوه بكلمة - لا نرجع إلى أهل ، ولا إلى مال!! »

وجعل يصيح بهم :

« ألا ترون إلى الشمس ، قد تغير لونها ، والأفق تنجع فيه السحب الداكنة (1) ، والريح تهب هائجة سوداء ، حمراء ، وهذه الجبال يتصاعد فيها الدخان ، لقد أطل علينا العذاب ، أنظروا إلى الطير وهي تقيء حواصلها وإلى الشجر كيف تتساقط أوراقها ، وإلى هذه الأرض كيف ترجف تحت أقدامنا.!!! »

اللّه أكبر .. لقد غمرت المسيحيين عظمة تلك الوجوه المقدسة ، وآمنوا بما لها من الكرامة والشأن عند اللّه ، ووقفوا خاضعين أمام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ونفذوا طلباته ، وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) :

« والذي نفسي بيده إن العذاب تدلى على أهل نجران ، ولو لا عنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولأضطرم عليهم الوادي نارا ، ولأستأصل اللّه

ص: 76


1- الداكنة : السحابة السوداء.

نجران وأهله حتى الطير على الشجر ، وما حال الحول على النصارى كلهم ... » (1)

ودلت قصة المباهلة على عظيم منزلة أهل البيت ، وسمو مكانتهم ، وانهم افضل خلق اللّه وأحبهم إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولا يداني فضلهم أحد من سائر العالمين.

4 - سورة هل أتى :

ونزلت في أهل البيت (عليهم السلام) سورة مباركة من سور القرآن الكريم وهي سورة « هل أتى » فقد روى جمهور المفسرين والمحدثين أنها نزلت فيهم (2) والسبب في نزولها ان الحسن والحسين (عليهماالسلام) مرضا فعادهما جدهما رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) مع بعض الصحابة ، فقالوا للامام : لو نذرت لله إن عافى ولديك ، فنذر (عليه السلام) صوم ثلاثة أيام شكرا لله إن برئا ، وتابعته الصديقة علیهاالسلام وجاريتها فضة في هذا النذر ، ولما ابل الحسنان من المرض صاموا جميعا ، ولم يكن عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك الوقت شيء من الطعام ليجعله افطارا لهم فاستقرض ثلاثة أصواع من الشعير ، فعمدت الصديقة (عليهاالسلام) في اليوم الاول إلى صاع فطحنته وخبزته فلما آن وقت الإفطار ، وإذا بمسكين يستمنحهم من القوت شيئا ، فتبرع الامام في افطاره ، وتابعه الجميع في صنعه ، وناولوا طعامهم إلى المسكين وقضوا ليلتهم ، ولم يذوقوا من الطعام شيئا ، واصبحوا وهم صائمون ،

ص: 77


1- نور الابصار : ص 100.
2- تفسير الفخر 8 / 392 ، روح البيان 6 / 546 ، النيسابوري في تفسير سورة هل اتى ، اسباب النزول للواحدي : ص 331 ، الدر المنثور في تفسير سورة هل اتى ، ينابيع المودة 1 / 93 ، الرياض النضرة 2 / 227.

فلما حل وقت الافطار ، والطعام بين أيديهم ، وإذا بيتيم على الباب يشكو ألم الجوع ، فتبرعوا جميعا بقوتهم ، وطووا ليلتهم ، ولم يذوقوا سوى ماء القراح ، وفي اليوم الثالث قامت سيدة النساء فطحنت ما فضل من الطعام وخبزته ، فلما حان وقت الافطار قدمت لهم الطعام ، وسرعان ما طرق الباب أسير يشكو الجوع فسحبوا أيديهم من الطعام ، ومنحوه له ، سبحانك اللّهم أي مبرة أعظم من هذه المبرة ، وأي ايثار اعظم من هذا الايثار!!!

وفي اليوم الرابع جاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لزيارتهم ، فرآهم ويا لهول ما رأى ، رأى الصفرة بادية على الوجوه ، الارتعاش حل في أجسامهم من الضعف ، فتغير حاله وانطلق يقول :

« وا غوثاه أهل بيت محمد يموتون جياعا!! ».

ولم ينته الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من كلامه حتى هبط عليه أمين الوحى ، وهو يرفع إليه سورة « هل اتى » وفيها اجمل الثناء وعاطر الذكر لاهل البيت قال تعالى : ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً. )

لقد شكر اللّه سعيهم على هذا الايثار الذي لا نظير له في عالم المبرات والاحسان ، وأورثهم في دار الآخرة الفردوس يتقلبون في نعيمه ، وجعل ذكرهم خالدا ، وحياتهم قدوة ، وجعلهم أئمة للمسلمين حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها.

وبهذا ينتهي بنا المطاف عن بعض الآيات التي نزلت في حق أهل البيت علیهم السلام ، وهي من دون شك تتناول الامام الحسن (عليه السلام) ، وتدل على خطورة شأنه ، وسمو منزلته عند اللّه.

ص: 78

السنة :

أما الأخبار التي أثرت عن النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) في سبطه الاكبر ، وأشادت بعظيم شأنه ، وبينت عما يكنه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في نفسه من عميق الود ، وخالص الحب فهي على طوائف ثلاثة « الاولى » إنها مختصة به « الثانية » وردت فيه وفي أخيه سيد الشهداء (عليه السلام) « الثالثة » في أهل بيته ، ومن المعلوم ان الامام الحسن (عليه السلام) من أبرارهم فتشمله بالضرورة تلك الأخبار وهذه المناحي قد تظافرت بها النصوص وتواترت حتى افادت القطع واليقين ، وإلى القراء ذلك.

الطائفة الاولى :

اما ما أثر عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما يخص سبطه فهى روايات عدة نقتصر منها على ما يلي :

1 - روى البراء بن عازب (1) قال : رأيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والحسن على عاتقه ، يقول : « اللّهم ، إنى أحبه فاحبه ) (2)

2 - وروت عائشة قالت : إن النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يأخذ حسنا ، فيضمه

ص: 79


1- البراء بن عازب يكنى ابا عمارة ، شهد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واقعة بدر ، ولكنه لم يأذن له في الجهاد لصغر سنه ، وغزا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اربع عشرة غزوة ، وهو الذي فتح الري سنة اربع وعشرين فى قول ابى عمرو الشيباني ، وشهد مع امير المؤمنين علیه السلام الجمل وصفين ، والنهروان ، نزل الكوفة وابتنى بها دارا ، ومات ايام مصعب بن الزبير ، جاء ذلك فى اسد الغابة 1 / 171 ، والاستيعاب.
2- صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق ، ورواه الترمذي في صحيحه 2 / 307 ورواه مسلم فى صحيحه فى كتاب فضائل الصحابة ، ورواه ابن كثير في البداية والنهاية 8 / 34.

إليه ثم يقول : « اللّهم ، إن هذا ابنى ، وأنا أحبه ، فأحبه ، وأحب من يحبه .. » (1)

3 - وروى زهير بن الاقمر قال : بينما الحسن بن علي يخطب بعد ما قتل علي (عليه السلام) إذ قام إليه رجل من الأزد آدم طوال ، فقال : لقد رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) واضعه في حبوته ، يقول : ( من أحبني فليحبه ، فليبلغ الشاهد الغائب ) ولو لا عزمة من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما حدثتكم (2).

4 - وروى أبو بكرة قال : رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه ، وهو يقبل على الناس مرة ، وعليه أخرى ، ويقول : ( إن ابني هذا سيد. ولعل اللّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين

ص: 80


1- كنز العمال 7 / 104 ، وذكره الهيثمي فى مجمعه 9 / 176 ، وتظافرت الاخبار بهذا المضمون عن النبي صلی اللّه علیه و آله فعن سعيد بن زيد قال : احتضن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حسنا ثم قال : ( اللّهم إني قد احببته فأحبه ) ذكره المتقي الهندي فى كنز العمال 7 / 105 وقال اخرجه الطبراني وابو نعيم ، وذكر ابن حجر في الاصابة 3 / 78 قال : واخرج البغوي من طريق يزيد بن ابي زياد عن يزيد بن ابي الحسن عن سعد بن زيد الانصاري ان النبي صلی اللّه علیه و آله حمل حسنا ، ثم قال : اللّهم إني احبه فاحبه مرتين ، وروى ابو نعيم فى حليته عن ابي هريرة ان النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « اللّهم ، إني احبه ، فأحبه واحب من يحبه » يقولها ثلاث مرات.
2- تهذيب التهذيب 2 / 297 ، مسند الامام احمد بن حنبل 5 / 366 الصواعق المحرقة : ص 82.

من المسلمين » (1).

5 - وروى ابن عباس قال : اقبل النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد حمل الحسن على رقبته فلقيه رجل ، فقال نعم المركب ركبت يا غلام ، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ونعم الراكب هو. (2)

6 - وروى عبد اللّه بن عبد الرحمن بن الزبير قال : أشبه أهل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وأحبهم إليه الحسن رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته أو قال : ظهره فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل ، ولقد رأيته وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر (3)

7 - وروى ان النبي صلی اللّه علیه و آله صلى احدى صلاتي العشاء فسجد سجدة أطال فيها السجود ، فلما سلم قال له الناس : في ذلك فقال : ( إن ابنى هذا - يعنى الحسن - ارتحلنى فكرهت أن أعجله ) (4)

ص: 81


1- الاصابة 1 / 330 ، صحيح البخاري ذكره فى الصلح ، ورواه الامام احمد بن حنبل فى مسنده 5 / 44 باسناده عن المبارك عن الحسن عن ابي بكرة قال : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصلي بالناس ، وكان الحسن بن علي يثب على ظهره إذا سجد ، ففعل ذلك غير مرة ، فقالوا له : واللّه إنك لتفعل بهذا شيئا ، ما رأيناك تفعله باحد ، قال المبارك : فذكر شيئا ثم قال : إن ابني هذا سيد وسيصلح اللّه تبارك وتعالى به بين فئتين من المسلمين ، وذكره ابن حجر في صواعقه وجاء في العقد الفريد 1 / 164 ان الرسول صلی اللّه علیه و آله دخل على ابنته فاطمة فوجد الحسن طفلا يلعب بين يديها ، فقال لها : إن اللّه سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
2- الصواعق : ص 82 ، حلية الاولياء.
3- الاصابة 2 / 11
4- البداية والنهاية 8 / 33

8 - وصعد صلی اللّه علیه و آله على المنبر ليخطب ، فجاء الحسن فصعد المنبر ، فوضعه على رقبته حتى كان يرى بريق خلخاليه من اقصى المسجد ، وهما يلمعان على صدر الرسول ، ولم يزل على هذه الحالة حتى فرغ صلی اللّه علیه و آله من خطبته (1)

9 - وقال صلی اللّه علیه و آله : « من سره أن ينظر إلى سيد شباب اهل الجنة فلينظر الى الحسن » (2)

10 - وقال صلی اللّه علیه و آله : « الحسن ريحانتي من الدنيا » (3) 11 - وروى انس بن مالك قال دخل الحسن على النبي صلی اللّه علیه و آله فأردت أن أميطه عنه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « ويحك يا أنس دع ابنى ، وثمرة فؤادي ، فان من آذى هذا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه » (4)

هذه طائفة من الاخبار التي وردت عن النبي صلی اللّه علیه و آله في سبطه الاكبر ، ويلمس فيها أسمى الوان التكريم والحفاوة والحب العميق.

الطائفة الثانية :

أما ما أثر عن النبي صلی اللّه علیه و آله في حق السبطين علیهماالسلام فكوكبة من الروايات الصحاح التي دونها الثقات والحفاظ ، وهي صريحة

ص: 82


1- البحار 6 / 58
2- فضائل الاصحاب : ص 165 ، البداية والنهاية 8 / 35
3- الاستيعاب 2 / 369
4- كنز العمال 6 / 222

الدلالة في أنهما علیهماالسلام من أعز الناس عند رسول اللّه صلى عليه وآله ومن أحبهم له ، ونذكر منها ما يلي :

1 - روى سعيد بن راشد ، قال : جاء الحسن والحسين علیهماالسلام يسعيان الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأخذ أحدهما فضمه الى إبطه ، ثم جاء الآخر فضمه إلى إبطه الاخرى ، وقال : ( هذان ريحانتي من الدنيا من أحبنى فليحبهما ) (1) وكان النبي صلی اللّه علیه و آله دوما يضفى عليهما هذا اللقب ، وقد وردت بذلك روايات عديدة (2)

2 - وروى انس بن مالك قال : سئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « الحسن والحسين » وكان يقول : لفاطمة ادعي ابني فيشمهما ويضمهما إليه (3)

3 - وروى أسامة بن زيد قال : طرقت النبي صلی اللّه علیه و آله ذات ليلد في بعض الحاجة فخرج النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو مشتمل

ص: 83


1- ذخائر العقبى : ص 124
2- روى ابو نعيم في حلية الاولياء 3 / 201 عن جابر ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لعلي بن ابي طالب علیه السلام سلام عليك يا ابا الريحانتين اوصيك بريحانتي من الدنيا خيرا فعن قليل ينهد ركناك واللّه خليفتي عليك ، قال فلما قبض النبيّ صلی اللّه علیه و آله : قال علي علیه السلام : هذا احد الركنين اللذين قال النبي صلی اللّه علیه و آله فلما ماتت فاطمة علیهاالسلام قال علي (عليه السلام) : هذا الركن الآخر الذي قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : وفي كنز العمال 7 / 110 عن سعد بن مالك قال دخلت على النبيّ صلی اللّه علیه و آله والحسن والحسين يلعبان على ظهره ، فقلت يا رسول اللّه أتحبهما؟ فقال : ومالي لا احبهما ، وانهما ريحانتى من الدنيا
3- صحيح الترمذي 2 / 306 فيض القدير 1 / 148

على شيء لا ادري ما هو؟ فلما فرغت من حاجتي ، قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ قال فكشفه فاذا هو حسن وحسين على وركيه ، فقال : ( هذان ابناي ، وابنا ابنتي ، اللّهم ، إني احبهما فأحبهما وأحب من يحبهما ) (1)

4 - وروى سلمان الفارسي قال سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : ( الحسن والحسين ابناي من احبهما احبني ، ومن احبني أحبه اللّه ، ومن أحبه اللّه ادخله الجنة ، ومن أبغضهما ابغضني ومن ابغضني ابغضه اللّه ، ومن ابغضه اللّه ادخله النار » (2)

5 - وروى ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما » (3)

6 - واعتلى صلی اللّه علیه و آله أعواد المنبر يخطب ، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران ، وهما يمشيان ويعثران ، فنزل صلی اللّه علیه و آله عن المنبر فحملهما ، ووضعهما بين يديه ، وقال : صدق اللّه

ص: 84


1- صحيح الترمذي 2 / 240 ، كنز العمال 7 / 110 ، وذكر آخر الحديث ابن حجر فى صواعقه ص 114
2- مستدرك الحاكم 3 / 166 ، وبتغيير يسير رواه الهيثمي في مجمعه 9 / 811 وكذلك فى كنز العمال 6 / 221
3- مستدرك الحاكم 3 / 167 ، صحيح ابن ماجة ، وتظافرت الاخبار الواردة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ان سبطيه سيدا شباب اهل الجنة ، روى الترمذي في صحيحه 2 / 306 عن ابي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة » ورواه احمد بن حنبل فى مسنده 3 / 3 ، وروى الخطيب البغدادي في تاريخه 1 / 140 بسنده عن علي علیه السلام قال قال : رسول اللّه : ( الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة )

إذ يقول : ( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ( لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ) (1)

7 - وروى ابن عباس قال : بينا نحن ذات يوم مع النبي صلی اللّه علیه و آله إذ أقبلت فاطمة سلام اللّه عليها تبكى ، فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فداك أبوك ، ما يبكيك؟ قالت إن الحسن والحسين خرجا ، ولا أدرى أين باتا ، فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا تبكين فان خالقهما ألطف بهما مني ومنك ، ثم رفع يديه ، فقال : اللّهم احفظهما وسلمهما ، فهبط جبرئيل ، وقال يا محمد ، لا تحزن فانهما في حظيرة بني النجار ، نائمان ، وقد وكل اللّه بهما ملكا يحفظهما ، فقام النبي صلی اللّه علیه و آله ومعه أصحابه حتى أتى الحظيرة فاذا الحسن والحسين علیهماالسلام معتنقان نائمان ، وإذا الملك الموكل بهما قد جعل أحد جناحيه تحتهما والآخر فوقهما ، يظلهما ، فأكب النبي صلی اللّه علیه و آله عليهما يقبلهما ، حتى انتبها من نومهما ، ثم جعل الحسن على عاتقه الايمن ، والحسين على عاتقه الايسر ، فتلقاه أبو بكر ، وقال يا رسول اللّه : ناولني أحد الصبيين أحمله عنك ، فقال صلی اللّه علیه و آله نعم المطي مطيهما ، ونعم الراكبان هما ، وأبوهما خير منهما ، حتى أتى المسجد فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على قدميه وهما على عاتقيه ثم قال :

« معاشر المسلمين ، ألا أدلكم على خير الناس جدا وجدة؟

« بلى يا رسول اللّه »

« الحسن والحسين ، جدهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خاتم المرسلين ، وجدتهما خديجة بنت خويلد ، سيدة نساء أهل الجنة »

ص: 85


1- صحيح الترمذي 2 / 306 ، صحيح النسائي 1 / 209

ثم قال صلی اللّه علیه و آله : « ألا أدلكم على خير الناس عما وعمة؟ » قالوا : بلى يا رسول اللّه

« الحسن والحسين عمهما جعفر بن أبي طالب ، وعمتهما أم هاني بنت أبي طالب. »

ثم قال : « أيها الناس ، ألا أدلكم على خير الناس خالا وخالة؟ » قالوا : بلى يا رسول اللّه

« الحسن والحسين ، خالهما القاسم بن رسول اللّه ، وخالتهما زينب بنت رسول اللّه ».

ثم قال : اللّهم ، انك تعلم أن الحسن والحسين في الجنة ، وعمهما ، في الجنة ، وعمتهما في الجنة ، ومن أحبهما في الجنة ، ومن أبغضهما في النار. (1)

ودل الحديث على مدى حبه صلی اللّه علیه و آله لسبطيه ، وانهما أحب أهل بيته إليه ، وآثرهما عليه ، ومن المعلوم أن شأن النبوة بعيد عن الاندفاع بعواطف الحب ، فانه صلی اللّه علیه و آله لم يمنحهما هذا الحب الا لانهما مصدرا كل فضيلة ، ومنبعا كل خير.

8 - وروى جابر ، قال دخلت على النبي صلی اللّه علیه و آله والحسن والحسين على ظهره ، وهو يقول : « نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما » (2) وبهذا المضمون روى عمر قال رأيت الحسن والحسين علیهماالسلام على عاتقي النبي صلی اللّه علیه و آله فقلت نعم الفرس تحتكما فقال النبي صلی اللّه علیه و آله ونعم الفارسان هما (3) وقد نظم ذلك

ص: 86


1- ذخائر العقبى : ص 130
2- كنز العمال 7 / 108 ، مجمع الهيثمي 9 / 182
3- مجمع الهيثمي 9 / 181 ، كنز العمال 7 / 106

شاعر العقيدة السيد الحميرى فى قوله :

اتى حسنا والحسين الرسول *** وقد برزا ضحوة يلعبان

فضمهما وتفداهما *** وكانا لديه بذاك المكان

ومرا وتحتهما عاتقاه *** فنعم المطية والراكبان

9 - وروى يعلى بن مرة الثقفي (1) قال : جاء الحسن والحسين يستبقان الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فضمهما إليه ، وقال : إن الولد مبخلة مجبنة (2)

10 - وقال صلی اللّه علیه و آله : ( الحسن والحسين سبطان من الاسباط ) (3)

11 - وبلغ من مزيد حبه واشفاقه على سبطيه أنه كان يعوذهما خوفا عليهما من الحسد ، فقد روى أبو نعيم بسنده عن عبد اللّه ، قال : كنا جلوسا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ مرّ الحسن والحسين وهما صبيان ، فقال : هات ابنى أعوذهما بما عوذ به إبراهيم ابنيه اسماعيل ، واسحاق ، فقال : « اعيذكما بكلمات اللّه التامة من كل عين لامة ، ومن

ص: 87


1- روي في المستدرك الحديث عن يعلى بن منبه الثقفي ، وراجعنا كتب التراجم فلم نجد يعلى بن منبه وانما الموجود يعلى بن مرة ، ولعل ما وقع ما فى المستدرك كان سهوا ، وجاء فى كل من الاصابة ، واسد الغابة ان يعلى بن مرة من افاضل الصحابة ، روى عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعن امير المؤمنين علیه السلام وشهد مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله الحديبية ، وبايع بيعة الرضوان وشهد خيبر ، والفتح وهوازن والطائف.
2- مستدرك الحاكم 3 / 168 ، مسند الامام احمد بن حنبل 4 / 172
3- الصواعق المحرقة : ص 114 ، كنز العمال 6 / 221

كل شيطان وهامة » (1) وليس في سجل المودة الانسانية أجمل من هذا الحنان ، ولا أكرم من هذا العطف.

12 - ومما اشتهر بين المسلمين قوله صلی اللّه علیه و آله : « الحسن والحسين إمامان إن قاما وان قعدا » (2) واضفى صلی اللّه علیه و آله على حفيديه حلة الامامة ، وهي من أهم الصفات الماثلة فيهما وذلك لما تستدعيه من المثل العليا التي لا تتوفر إلا عند من اختاره اللّه واصطفاه من بين عباده ، فقد خص اللّه بها خليله إبراهيم قال تعالى : ( قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) وسنتحدث عن الامامة ، وما يعتبر في الامام من المؤهلات ، والصفات عند عرض مثله علیه السلام .

الطائفة الثالثة :

وتواترت النصوص الصحيحة عن النبي صلی اللّه علیه و آله في لزوم مودة أهل بيته ، وانه حرب لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم ، وقرنهم بمحكم الكتاب ، وجعلهم سفن النجاة ، وأمان الأمة ، وإلى القراء بعض تلك السنن.

ص: 88


1- حلية الاولياء 5 / 44 الفضائل الخمسة من الصحاح الستة 3 / 177
2- البحار 10 / 78 ، وجاء في نزهة المجالس 2 / 184 ، وفى الاتحاف بحب الاشراف : ص 129 ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال للحسن والحسين : « انتما الامامان ولامكما الشفاعة » وجاء فى منهاج السنة 4 / 210 ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : للحسين علیه السلام « هذا امام ابن امام اخو امام ابو أئمة تسعة ».
3- سورة البقرة : آية 124

1 - روى زيد بن أرقم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لعلي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام : ( أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم » (1)

2 - وعن أبي بكر قال : رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خيم خيمة ، وهو متّكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام فقال : « معشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، وحرب لمن حاربهم ، وولي لمن والاهم ، لا يحبهم إلا سعيد الجد ، طيب المولد ، ولا يبغضهم إلا شقي الجد ردىء الولادة » (2)

3 - وروى احمد بن حنبل أن النبي صلی اللّه علیه و آله أخذ بيد الحسن والحسين ، وقال : « من احبني ، وأحب هذين وأباهما ، وامهما كان معي فى درجتي يوم القيامة » (3)

4 - وروى جابر ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ذات يوم بعرفات ، وعلى تجاهه « ادن منى يا علي خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها فمن تعلق بغصن منها ادخله اللّه الجنة » (4)

5 - وروى ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتى أمان لأمتي من الاختلاف

ص: 89


1- كنز العمال 7 / 102 ، سنن ابن ماجة ص 14 ورواه ابن كثير فى البداية والنهاية عن ابي هريرة.
2- الرياض النضرة 2 / 252
3- مسند احمد 1 / 77 ينابيع المودة ص 164 صحيح الترمذي 2 / 2 / 301
4- مسند احمد 1 / 77

فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس ) (1)

6 - روى زيد بن أرقم قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ، احدهما اعظم من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتى ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (2)

إن حديث الثقلين من أوثق الأحاديث النبوية ، واكثرها ذيوعا ، وقد اهتم العلماء به اهتماما بالغا لانه يحمل جانبا مهما من جوانب العقيدة الاسلامية ، كما انه من اظهر الأدلة التي تستند إليها الشيعة في حصر الامامة في اهل البيت ، وفي عصمتهم من الاخطاء والاهواء لان النبيّ صلی اللّه علیه و آله قرنهم بكتاب اللّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلا يفترق أحدهما عن الآخر ومن الطبيعي أن صدور آية مخالفة لاحكام الدين تعتبر افتراقا عن الكتاب العزيز ، وقد صرح النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعدم افتراقهما حتى يردا عليه الحوض ، فدلالته على العصمة ظاهرة جلية ، وقد كرر النبي صلی اللّه علیه و آله هذا الحديث في غير موقف من المواقف لأنه يهدف الى صيانة الأمة والمحافظة على استقامتها وعدم انحرافها في المجالات العقائدية ، وغيرها أن تمسكت باهل البيت ولم تتقدم عليهم ، ولم تتأخر عنهم.

واستيفاء البحث في جوانب الحديث يستدعى وضع كتاب خاص ، وقد كفانا مئونة البحث عنه ما ذكره العلماء من التحقيق الرائع في جميع مناحى الحديث سواء أكان من ناحية السند أم الدلالة وغيرها (3)

ص: 90


1- مستدرك الحاكم 3 / 149
2- صحيح الترمذي 2 / 308 ، اسد الغابة 2 / 12
3- المراجعات : ص 49 - 52 ، الاصول العامة للفقه المقارن ص 164 - 187

7 - روى أبو سعيد الخدرى قال : سمعت النبي صلی اللّه علیه و آله يقول : « إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له .. » (1)

يقول الامام شرف الدين في مرجعاته القيمة في بيان الحديث ما نصه « وأنت تعلم أن المراد من تشبيههم علیهم السلام بسفينة نوح أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأصوله عن أئمتهم الميامين نجا من عذاب النار ، ومن تخلف عنهم كان كمن آوى « يوم الطوفان » إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه ، غير أن ذاك غرق فى الماء وهذا في الحميم والعياذ باللّه. والوجه في تشبيههم علیهم السلام بباب حطة هو أن اللّه تعالى جعل ذلك الباب مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سببا للمغفرة.

هذا وجه الشبه ، وقد حاوله ابن حجر إذ قال : - بعد أن أورد هذه الاحاديث وغيرها من أمثالها -

« ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم وأخذ بهدي علمائهم نجا ، من ظلمة المخالفات ، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان » إلى أن قال : ( وبباب حطة - يعني ووجه تشبيههم بباب حطة - ان اللّه جعل دخول

ص: 91


1- مجمع الزوائد 9 / 168 ، وجاء في مستدرك الحاكم عن حنش الكناني قال : سمعت أبا ذر يقول : وهو آخذ بباب الكعبة : أيها الناس من عرفنى فأنا من عرفتم ، ومن انكرني فأنا أبو ذر سمعت رسول اللّه يقول : « مثل اهل بيتى مثل سفينة نوح من ركبها نجا. ومن تخلف عنها غرق » وقد تظافرت الأخبار بهذا النص.

ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سببا للمغفرة ، وجعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سببا لها » (1)

8 - قال صلی اللّه علیه و آله : « معرفة آل محمد براءة من النار وحب آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب. » (2)

9 - قال صلی اللّه علیه و آله : « من مات على حب آل محمد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الايمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس الى بيت زوجها ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة اللّه .. » (3)

10 - قال صلی اللّه علیه و آله : « واجعلوا أهل بيتى منكم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العينين من الرأس ، ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين » (4)

ص: 92


1- المراجعات : ص 54
2- المراجعات : ص 58 نقلا عن كتاب الشفاء ص 40
3- المراجعات : ص 59 نقلا عن الامام الثعلبي في تفسير آية المودة من تفسيره الكبير
4- المراجعات نقلا عن الشرف المؤبد ص 58.

ان الواجب على المسلمين أن يجعلوا أهل بيت نبيهم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العينين من الرأس ، فيتمسكوا بأهدافهم ، ويأخذوا بأفعالهم وأقوالهم ، ولو انهم حققوا ذلك لكانوا سادات الامم وهداة الشعوب ولكنهم ناصبوهم العداء ، واخروهم عن مراتبهم ، وأزالوهم عن مكانتهم ، فاصيبت الامة بالنكسات ، وحفت بها الخطوب والاخطار فانا لله وإنا إليه راجعون.

11 - قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : لا تزول قدما عبد - يوم القيامة - حتى يسأل عن أربع ، عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله فيما أنفقه ، ومن أين اكتسبه ، وعن محبتنا أهل البيت » (1)

إن المسلمين مسئولون أمام اللّه عن مودة أهل البيت وعن حبهم ، ومن اظهر ألوان الحب الأخذ بأقوالهم والاقتداء بهم في جميع المجالات.

12 - قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال عليا من بعدي ، وليوال وليه وليقتد بأهل بيتى من بعدي فانهم عترتي ، خلقوا من طينتى ورزقوا فهمي وعلمي فويل للمكذبين بفضلهم من امتي ، القاطعين فيهم صلتى ، لا أنالهم اللّه شفاعتي » (2)

ونقتصر على هذه السنن التي أثرت عن الرسول صلی اللّه علیه و آله في أهل بيته ، وهناك عشرات أمثالها ذكرت في كتب الحديث وهي تهتف بفضلهم ، وتلزم المسلمين بالرجوع إليهم في جميع المجالات.

ص: 93


1- المراجعات نقلا عن السيوطي في احياء الميت ، والنبهانى فى اربعينه.
2- كنز العمال 6 / 217.

احتفاء المسلمين به :

واحتفى المسلمون بالامام الحسن احتفاء بالغا فكان كبار الصحابة يقابلونه بالتجلة والتكريم ، ويتسابقون الى القيام بخدمته ، فهذا عبد اللّه بن عباس حبر الأمة كان إذا ركب الحسن والحسين علیهماالسلام بادر فأمسك لهما الركاب وسوى عليهما الثياب ، وقد لامه مدارك بن زياد على ذلك فنهره وقال له :

« يا لكع أو تدري من هذان؟! هذان ابنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو ليس مما أنعم اللّه به علي أن أمسك لهما الركاب ، وأسوي عليهما الثياب .. » (1)

وبلغ من تعظيم المسلمين وتكريمهم لهما انهما كانا يفدان الى بيت اللّه الحرام ماشيين فما اجتازا على ركب الا ترجل ذلك الركب اجلالا واكبارا لهما ، وإذا طافا بالبيت الحرام بلغ زحام الناس عليهما مبلغا هائلا لم يشاهد نظيره لاجل السلام عليهما والتبرك بزيارتهما (2) وكان أبو هريرة إذا رأى الامام الحسن (عليه السلام) مقبلا قام إليه فقبله بسرته لأنه رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يفعل ذلك (3) وحقا للمسلمين أن يكرموا حفيد نبيهم ويقدسوه بعد ما كرمه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ورفع من شأنه.

ص: 94


1- تاريخ ابن عساكر 4 / 212 ، مناقب ابن شهرآشوب 2 / 143
2- البداية والنهاية 8 / 37
3- مسند الامام احمد بن حنبل 2 / 255 ، انساب الاشراف للبلاذري

الفاجعة الكبرى

اشارة

ص: 95

ص: 96

وقطع الحسن علیه السلام شوطا من طفولته مع جده الرسول صلی اللّه علیه و آله حتى توسعت مداركه ونمت ملكاته ، وهو ناعم البال قرير العين ، يستقبل الحياة كل يوم بثغر باسم وبهناء وسعادة ، يرى من جده صلی اللّه علیه و آله الحنان والعطف ، ومن مشيخة الصحابة التعظيم والتكريم ، وقد رأى علیه السلام ما منح به الاسلام من التوسع وكثرة الغزوات حتى دخل الناس في دين اللّه افواجا افواجا ، فقد تحطمت عروش الشرك واندحرت قوى الالحاد ، وغزت الجيوش الاسلامية مكة التي هي اعز بلد وامنعه في الجزيرة العربية ، وقام الاسلام وهو عبل الذراع مفتول الساعد شامخ الكيان وسرت موجات فتحه الى أغلب شعوب الأرض ، وقد غمرت قلوب المسلمين المسرات على هذا النصر الذي أعزهم اللّه وأيدهم به وكان أشد المسلمين فرحا واعظمهم سرورا بهذه الانتصارات التي حققها الاسلام أهل البيت.

ولكن لم تدم لهم الحالة الهانئة فقد عبس الزمن فى وجوههم ، واكفهر ، وغزا قلوبهم بخوف غامض وحزن بهيم فقد آن للرسول صلی اللّه علیه و آله أن يفد على اللّه ، وينتقل الى حظيرة القدس ، وقد بدت له طلائع الرحيل وامارات الانتقال وهي :

1 - وكانت أول النذر بمغادرته لهذه الحياة نزول الوحي عليه بهذه الآية ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقد اثارت كوامن التوجس في نفسه فقد سمعه المسلمون ينعى نفسه ويقول :

« ليتنى اعلم متى يكون ذلك؟ »

ونزلت عليه بعد هذه الآية سورة « النصر » فكان يسكت بين التكبير والقراءة ويقول :

« سبحان اللّه وبحمده ، استغفر اللّه واتوب إليه »

ص: 97

وقد ساور قلوب المسلمين الخوف والجزع فانطلقت قلوبهم قبل السنتهم تستفهم عن هذه الحالة الرهيبة فاجابهم صلی اللّه علیه و آله :

« إن نفسي قد نعيت لي » (1)

وحينما سمع المسلمون ذلك قدّت قلوبهم وانهارت قواهم ، وغامت أبصارهم بفيض من الدموع ، وأصابتهم رجفة هزت كيانهم واشاعت في نفوسهم الجزع والخوف.

2 - ونزل عليه القرآن الكريم في تلك السنة مرتين فاستشعر بذلك حضور الاجل المحتوم (2) واخذ ينعى نفسه ، ويعلن مفارقته لهذه الحياة وقد تصدعت القلوب لهذا النبأ وطافت بالمسلمين أمر الوان المحن والخطوب

حجة الوداع :

ولما علم الرسول صلی اللّه علیه و آله بانتقاله الى دار الخلود ، وهو قد تحمل في سبيل ارشاد المسلمين وهدايتهم من العنت والعناء ما تنوء بحمله النفوس رأى أن يتم النهاية لرسالته المقدسة ويضع الخطة السليمة التي تضمن لامته من بعده السعادة والنجاح فحج صلی اللّه علیه و آله من اجل ذلك حجته الأخيرة الشهيرة بحجة الوداع ، في السنة العاشرة من الهجرة واشاع بين الوافدين لبيت اللّه الحرام ان هذا الالتقاء هو آخر العهد بهم قائلا :

« انى لا ادري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف ابدا .. »

وجعل يطوف على الجماهير ويعرفهم بما يضمن لهم السعادة والنجاح « يا أيها الناس ، اني تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل

ص: 98


1- مناقب ابن شهر اشوب 1 / 127.
2- الخصائص الكبرى 2 / 368

بيتى .. » (1)

لقد قرن بين الكتاب والعترة الطاهرة وجعل التمسك بهما منجاة من الفتن والزيغ ، ولو أن الامة تابعته في قوله ، وتمسكت بهما لما حلت بها الاهواء والخطوب وما عراها الذل والهوان ، وما اختلفت كلمتها ، ولا تشعبت الى فرق واحزاب ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )

غدير خم :

ولما فرغ النبي صلی اللّه علیه و آله من أداء مناسك الحج اتجه الى يثرب فلما وصل موكبه الى غدير خم هبط عليه أمين الوحي فأمره أن يحط رحله في رمضاء الهجير ، وينصب الامام أمير المؤمنين خليفة من بعده ومرجعا لأمته ، وكان أمر السماء يحمل طابعا مهما بالغ الخطورة ، فقد نزل عليه الوحي بهذه الآية :

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (2) واضطرب النبي من هذا الانذار وهذا التهديد ، إنه إن لم ينفذ ما أراد اللّه في تقليد أمير المؤمنين بهذا المنصب الخطير فما بلغ رسالة اللّه وضاعت جميع اتعابه وجهوده ، فانبرى صلی اللّه علیه و آله بعزم ثابت الى تنفيذ ذلك وإن اغضب الطامعين بالخلافة والمنحرفين عن الامام علیه السلام ، فوضع صلی اللّه علیه و آله اعباء المسير وحط رحله في ذلك المكان القاحل وكان الوقت قائضا حتى كان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتقى من الحر وامر صلى اللّه

ص: 99


1- صحيح الترمذي 2 / 308
2- سورة المائدة نزلت هذه الآية فى يوم الغدير ذكر ذلك الواحدى فى اسباب النزول ص 150 والفخر الرازي فى تفسيره الكبير وغيرهما.

عليه وآله باجتماع الجماهير فلما اجتمعوا صلى بهم فلما انفلت من صلاته أمر أن توضع حدائج الابل لتكون له منبرا فصنعوا له ما اراد فاعتلى عليها وكان عدد الحاضرين مائة الف أو يزيدون ، وقد اتجهوا بقلوبهم قبل اسماعهم الى الرسول ليسمعوا ما يلقى عليهم ، وانبرى صلی اللّه علیه و آله فبين لهم - اولا - جهاده المقدس واتعابه الشاقة فى سبيل ارشادهم وانقاذهم من حضيض الشرك والعبودية ، وذكر لهم - ثانيا - جملة من الاحكام الاسلامية والآداب الدينية فأمرهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، وبعد ذلك قال لهم :

« فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين »

فناداه مناد من القوم

« وما الثقلان يا رسول اللّه؟ »

فاجابه صلی اللّه علیه و آله : « الثقل الاكبر كتاب اللّه طرف بيد اللّه عز وجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا ، والآخر الاصغر عترتي وان اللطيف الخبير نبأني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا »

ثم أخذ بيد علي حتى بان بياض إبطيهما وعرفه القوم اجمعون وقال :

« أيها الناس ، من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم؟

فاجابوه « اللّه ورسوله اعلم »

فقال صلی اللّه علیه و آله : إن اللّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من انفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه قال ذلك ثلاث مرات او أربع مرات ، ثم قال :

« اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ، واحب من أحبه ، وابغض

ص: 100

من ابغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وادر الحق معه حيث دار الا فليبلغ الشاهد الغائب » (1)

ولما انهى صلی اللّه علیه و آله خطابه الشريف الحافل بتكريم أمير المؤمنين علیه السلام وتقليده للخلافة العظمى انبرى الى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حسان ابن ثابت فاستأذنه ان يتلو احدى روائع نظمه ليصف بها هذه المناسبة الخالدة فاذن له في ذلك فانطلق يقول :

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم واسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا *** ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له : قم يا على فانني *** رضيتك من بعدى إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه *** فكونوا له اتباع صدق مواليا

هناك دعا اللّهم وال وليه

وكن للذى عادى عليا معاديا (2)

واقبل المسلمون على اختلاف طبقاتهم يبايعونه بالخلافة ويهنئونه بامرة المؤمنين ، وأمر الرسول صلی اللّه علیه و آله أمهات المؤمنين أن يسرن إليه ويهنئنه (3) وممن هنأه عمر بن الخطاب فقد صافحه وقال له :

ص: 101


1- حديث الغدير من الاحاديث المتواترة القطعية ، اجمع المسلمون على روايته ، وقد بحث عنه من حيث السند والدلالة نابغة الاسلام سماحة الحجة الاميني سلمه اللّه في موسوعته الخالدة « الغدير » وقد خص الجزء الاول من كتابه في البحث عن ذلك ، وصحب معه في بقية الاجزاء جيشا من الشعراء والادبا الذين أشادوا بذكرى الغدير فترجم لهم وذكر ما لهم من التراث الأدبى والعلمي.
2- الغدير 2 / 34
3- الغدير 1 / 271 نقلا عن روضة الصفا للمؤرخ خاوندشاه في الجزء الثانى ص 1 / 273

« هنيئا يا ابن أبي طالب اصبحت وامسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ... » (1)

وفي ذلك اليوم الخالد في دنيا الحق والفضيلة نزلت هذه الآية الكريمة : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (2)

لقد تمت النعمة الكبرى ، وكمل الدين بولاية أمير المؤمنين ، وامام المتقين ، وقد خطا النبي صلی اللّه علیه و آله بذلك الخطوة الاخيرة للمحافظة على المجتمع الاسلامي وعلى التشريع الاسلامي فلم يترك الامة حيرى تسودها الفوضى والانحلال بل نصب لها علما وهاديا ومرشدا الى سواء السبيل.

ان بيعة الغدير من اوثق الادلة واكثرها وضوحا على اختصاص الخلافة والامامة بالامام أمير المؤمنين علیه السلام ، وقد احتج بها الامام الحسن على احقية أبيه بالخلافة وذلك في خطابه الذي القاه بعد الصلح فقد جاء فيه : « إنا أهل بيت أكرمنا اللّه بالاسلام ، واختارنا واصطفانا واذهب عنا الرجس ، وطهرنا تطهيرا ، لم تفترق الناس فرقتين إلا جعلنا اللّه في خيرهما من آدم الى جدي محمد صلى اللّه فلما بعثه اللّه للنبوة واختاره للرسالة وانزل عليه كتابه ثم امره بالدعاء الى اللّه عز وجل فكان أبي اول من استجاب لله ولرسوله ، وأول من آمن وصدق اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله وقد قال اللّه في كتابه المنزل على نبيه المرسل : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) فجدى الذي على بينة من ربه وأبي الذي يتلوه وهو شاهد منه « إلى أن قال » وقد سمعت هذه الامة جدي

ص: 102


1- مسند احمد 4 / 281
2- سورة المائدة ذكر نزول الآية في يوم الغدير السيوطي فى الدر المنثور والخطيب البغدادي في تاريخه 8 / 290 وغيرهما

يقول : ما ولت امة امرها رجلا ، وفيهم من هو اعلم منه الا لم يزل يذهب أمرهم سفالا حتى يرجعوا الى ما تركوه. وسمعوه يقول لابي : أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي. وقد رأوه وسمعوه حين أخذ بيد أبي بغدير خم ، وقال لهم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وآل من والاه وعاد من عاده ثم أمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب » (1)

لقد حفلت كتب التاريخ الاسلامي بذكر احتجاج أهل البيت علیهم السلام واعلام شيعتهم ببيعة الغدير على أحقية الامام أمير المؤمنين بمنصب الخلافة الاسلامية ، ولكن القوم أعرضوا عن الحديث وأولوه حسب ميولهم وأهوائهم.

استغفاره لاهل البقيع :

ولما رجع الرسول اللّه عليه وآله من حجه إلى يثرب اقام بها حفنة من الايام ، وقد احاطت به الهواجس والهموم وارق ليلة طال فيها أرقه فاستدعى أبا مويهبة (2) في الليل البهيم فلما مثل عنده أمره بمصاحبته الى البقيع وقال له :

« لقد أمرت بالاستغفار لاهل البقيع فلذا بعثت إليك للانطلاق معى ... »

وسار الرسول صلی اللّه علیه و آله حتى انتهى الى البقيع فسلم على الاموات وهنأهم بما هم فيه وأخذ يخبر عن الفتن السود التي ستنصب على أمته من بعده قائلا :

ص: 103


1- الغدير 1 / 197
2- ابو مويهبة مولى لرسول اللّه اشتراه واعتقه

« السلام عليكم يا أهل المقابر ليهنئكم ما اصبح الناس فيه ، فقد اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها اولها ، الآخرة شر من الاولى .. »

وانطلق يحدث ابا مويهبة عن مغادرته لهذه الحياة قائلا له :

« إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلود فيها ثم الجنة بعد ذلك فاخترت لقاء ربي والجنة »

فقال له أبو مويهبة : بأبي أنت وأمي ألا تأخذ مفاتيح خزائن الدنيا وتكون مخلدا فيها ثم الجنة بعد ذلك؟ .. »

فاجابه الرسول صلی اللّه علیه و آله عن رغبته الملحة في ملاقاة اللّه « لا واللّه لقد اخترت لقاء ربي » ثم استغفر لاهل البقيع وانصرف الى منزله (1)

سرية اسامة :

ولما علم الرسول صلی اللّه علیه و آله أن لقاءه بربه لقريب أراد أن يعزز خلافة أمير المؤمنين علیه السلام التي عقد أواصرها فى « غدير خم » وأن يقضي على روح الشغب والتمرد ليتم الامر بعد وفاته بسهولة الى الامام علیه السلام فرأى أن خير ضمان لتحقيق ذلك اخلاء عاصمته من جميع المناوئين للامام علیه السلام وارسالهم الى ساحة الجهاد لغزو الروم فأمر أصحابه بالتهيؤ الى ذلك ولم يبق احدا من أعلام المهاجرين والانصار كابي بكر وعمرو أبي عبيدة وبشير بن سعد وامثالهم (2) وأمر

ص: 104


1- سيرة ابن هشام 3 / 93 تاريخ الطبري 3 / 190 وذكر المجلسي في بحاره 6 / 121 ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لما احس بالمرض اخذ بيد علي علیه السلام وتبعه فريق من الناس فتوجه الى البقيع واستغفر لاهله.
2- كنز العمال 5 / 312 ، طبقات ابن سعد 4 / 46 ، تاريخ الخميس 2 / 46

عليهم اسامة بن زيد (1) وذلك لأربع ليال بقين من صفر سنة احدى عشر للهجرة ، وقال لاسامة : « سر الى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش ، فاغز صباحا على أهل ابنى (2) وحرّق عليهم ، واسرع السير لتسبق الاخبار ، فان أظفرك اللّه عليهم فاقل اللبث فيهم ، وخذ معك الأدلاء ، وقدم العيون والطلائع معك .. »

وفى اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر ألم المرض به فاصابته حمى ملازمة وصداع شديد قيل انهما كانتا مسببين عن الطعام المسموم الذي ذاقه في خيبر فكان يقول! « ما زلت أجد ألم الطعام الذي اكلته بخيبر (3)

ولما اصبح اليوم التاسع والعشرين من صفر رأى أصحابه وقد دب فيهم التمرد والتخاذل خرج بنفسه مع ما مني به من المرض فحثهم على

ص: 105


1- اسامة بن زيد : بن حارثة بن شراجيل بن كعب بن عبد العزى الكلبي أمه أم ايمن ، واسمها بركة مولاة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وحاضنته اختلف فى سنه يوم مات رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقيل ابن عشرين سنة ، وقيل ابن تسع عشرة ، وقيل ابن ثمان عشرة سنة ، سكن بعد موت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وادى القرى ثم رجع الى المدينة فمات بالجرف في آخر خلافة معاوية وكانت وفاته سنة ثمان او تسع وخمسين من الهجرة وقيل سنة اربع وخمسين جاء في الاستيعاب المطبوع عن هامش الاصابة 1 / 34 - 35 ، ومما يؤسف انه انحرف عن الحق فانه لم يبايع امير المؤمنين حينما آلت إليه الخلافة والسبب في ذلك ان هبات الامويين واموالهم الوفيرة التي اغدقوها عليه حرفته عن امير المؤمنين.
2- ابنى - بضم الهمزة وسكون الباء ثم نون مفتوحة بعدها الف مقصورة - : ناحية بالبلقاء من ارض سوريا بين عسقلان والرملة وهي قرب موتة التي استشهد عندها زيد بن حارثة وجعفر بن ابي طالب.
3- مستدرك الحاكم 3 / 58

المسير وحفزهم على الخروج ، وعقد اللواء بنفسه لأسامة وقال له :

« اغز بسم اللّه ، وفي سبيل اللّه ، وقاتل من كفر باللّه »

فخرج بلوائه معقودا ودفعه الى بريدة ، وعسكر بالجرف ، وتثاقل القوم من الالتحاق به واظهروا التمرد والتخاذل يقول عمر لاسامة :

« مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنت علي امير؟! » (1)

وانطلقت السنتهم بالنقد اللاذع والاعتراض المر على تأمير أسامة ، وتثاقلوا من الالتحاق بالجيش فوصلت كلماتهم الى مسمع الرسول صلی اللّه علیه و آله وقد ازدادت به الحمى المبرحة واخذ منه الصداع القاسي مبلغا ليس بالقليل فغضب صلی اللّه علیه و آله وخرج وهو معصب الرأس مدثر بقطيفته وقد برّح به الحزن لانه رأى أن الوسيلة التي مهدها لغايته ستبوء بالفشل وعدم النجاح فصعد المنبر وذلك في يوم السبت لعشر خلون من ربيع الاول ، فاظهر سخطه البالغ وغضبه الشديد على عدم تنفيذهم لأوامره قائلا :

« أيها الناس ، ما مقالة بلغتنى عن بعضكم في تأميرى أسامة؟ ولئن طعنتم في تاميرى اسامة لقد طعنتم في تأميرى أباه من قبله وايم اللّه إنه كان لخليقا بالامارة وان ابنه من بعده لخليق بها »

ثم نزل عن المنبر ودخل بيته (2) وجعل يوصى بالالتحاق به وهو يقول :

« جهزوا جيش اسامة »

« نفذوا جيش اسامة »

« لعن اللّه من تخلف عن جيش أسامة »

ص: 106


1- السيرة الحلبية 3 / 34 وغيره من المحدثين والمؤرخين
2- السيرة الحلبية 3 / 34

ولم تثر حفائظ نفوسهم هذه الأوامر المشددة ، ولم يرهف عزيمتهم هذا الاهتمام البالغ من النبي صلی اللّه علیه و آله وهو في ساعاته الأخيرة فقد تثاقلوا عن الخروج ، وتخلفوا عن الجيش ، واعتذروا للرسول صلی اللّه علیه و آله بشتى المعاذير وهو - بأبي وأمي - لم يمنحهم العذر ، وأظهر لهم الغيظ والسخط ، والمتأمل في هذا الحادث الخطير يستنتج ما يلي :

1 - إن اهتمام النبيّ صلی اللّه علیه و آله بشأن اخراج القوم من يثرب ولعنه لمن تخلف من الالتحاق بجيش اسامة يدل بوضوح لاخفاء فيه على غايته المنشودة وهي اخلاء عاصمته من الحزب المعارض لامير المؤمنين علیه السلام ليصفو له الأمر بسهولة ، وتتم له الخلافة بهدوء وسلام.

2 - ان تخلف القوم عن الجيش وطعنهم في تأمير اسامة ما كان المقصود منه الا الظفر بالسلطة والحكم ، واحكام قواعد سياستهم فانهم اذا انصرفوا الى الغزو ونزحوا عن عاصمة الرسول صلی اللّه علیه و آله فان الخلافة لا محالة تفوت من أيديهم ، ولا مجال لهم حينئذ الى التمرد والخلاف.

3 - ان السبب في عدم تولية الرسول صلی اللّه علیه و آله قيادة الجيش لذوي السن والموجهين من الصحابة انما هو للاحتياط على مستقبل الأمة ، وصيانتها من الاضطراب والفتن من بعده ، فانه لو اسند القيادة إليهم لاتخذوها وسيلة الى أحقيتهم بالخلافة ومطالبتهم بالحكم فسد صلی اللّه علیه و آله عليهم هذه النافذة لئلا يتصدع شمل الامة ، ويضطرب أمنها.

وأما الحكمة من تأميره صلی اللّه علیه و آله لأسامة وهو حدث السن فقد كان عمره آنذاك سبعة عشر عاما او يزيد عليها بيسير فهي ما يلي :

( أ ) - سد جميع نوافذ الخلاف والطعن في خلافة امير المؤمنين عليه

ص: 107

السلام لأنه حدث السن فان أسامة اصغر منه سنا وقد اسند إليه اهم الوظائف العسكرية في جيشه.

( ب ) - الغاء التقدم في السن ، وعدم الاعتناء به في استحقاق المناصب الرفيعة مع حرمان الشخص من القابليات والمواهب ، فان ادارة شئون الامة وقيادتها انما يستحقها ذوو الكفاءات والحزم والادارة وقد صرح صلی اللّه علیه و آله بهذه الفكرة الاصلاحية بقوله :

« من تقدم على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان اللّه ورسوله ، والمسلمين » (1)

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من استعمل عاملا من المسلمين ، وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه فقد خان اللّه ورسوله وجميع المسلمين » (2) ان الاسلام يحرص كل الحرص على تعيين خيرة الرجال واكثرهم كفاءة للعمل في جهاز الحكم ليضعوا المصلحة العامة نصب اعينهم ويكونوا أمناء فيما يجبونه من الناس وفيما ينفقونه على المرافق العامة ، وان يسيروا بين الناس بسيرة قوامها العدل الخالص ، ولا يكون ذلك بتقدم السن وانما يكون بالدراية والاطلاع على ما تحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها العامة (3)

( ج ) - انه صلی اللّه علیه و آله في تاميره لاسامة قد كبح جماح المناوئين لأمير المؤمنين ، وكسر شوكتهم وحطم معنوياتهم ، واقصاهم الى حد بعيد ، وقد فطنوا الى ما دبر صلی اللّه علیه و آله فطعنوا في تأمير

ص: 108


1- سنن البيهقي : 10 / 111 مجمع الزوائد
2- تمهيد الباقلاني : ص 190
3- قد بسطنا البحث فى هذه الجهة في كتابنا الماثل للطبع نظام الحكم والادارة فى الاسلام.

أسامة ، وتثاقلوا من الالتحاق بكتيبته ، ولم يبرحوا مقيمين بالجرف حتى لحق الرسول صلی اللّه علیه و آله بالرفيق الاعلى.

هذه بعض البوادر التي تطل على المتأمل في سرية أسامة وهي صريحة الدلالة على قصده صلی اللّه علیه و آله من تمهيد الأمر للامام امير المؤمنين بعد وفاته بهدوء وسلام (1) كما تدل بوضوح على وجود الموامرة الخطيرة التي دبرها القوم ضد خليفته ووصيه كما ولعلنا سنذكر ذلك مفصلا فى بعض الفصول.

اشتداد مرضه :

واشتدت الحمى عليه حتى كأن به لهبا منها ، وكانت عليه قطيفة فاذا وضع أزواجه وعواده أيديهم عليها شعروا بحرها (2) ووضعوا الى جواره إناء فيه ماء بارد فما زال يضع يده فيه ويمسح به وجهه ، واقبل المسلمون يهرعون الى عيادته وقد خيم عليهم الجزع والذهول فازدحمت حجرته بهم فنعى إليهم نفسه واوصاهم بما يضمن لهم السعادة والنجاح قائلا :

« أيها الناس يوشك أن اقبض قبضا سريعا فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم الا اني مخلف فيكم كتاب اللّه عز وجل وعترتى أهل بيتي »

ثم اخذ بيد علي فرفعها وقال :

« هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض » (3)

ص: 109


1- المراجعات والنص والاجتهاد للامام شرف الدين ، وقد حلل فيهما سرية اسامة ، تحليلا رائعا.
2- حياة محمد لهيكل ص 484.
3- الصواعق المحرقة لابن حجر

وكان الاجدر بالأمة أن تتابع الرسول صلی اللّه علیه و آله وتواكب أرائه فتتبع أمير المؤمنين وتسلم له قيأتها لانه يسير بمنهج القرآن ويحكم بما انزل اللّه ، ولو انها حققت ذلك بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لنجت من جميع النكسات وما اصيبت به من الفتن والخطوب ، ولتقدم الاسلام بخطى ثابتة متزنة وسادت في العالم مبادئ الحق والعدالة.

اعطاء القصاص من نفسه :

وخرج علة الكائنات وسيد الموجودات وهو مثقل قد تعصب بعمامته ليعلن المساواة العادلة التي جاء بها ، ويعطي القصاص من نفسه لو كان منه اعتداء على اي انسان فاعتلى أعواد المنبر وبين للمسلمين مدى ما عاناه من الجهود في سبيل ارشادهم وهدايتهم ثم قال :

« ان ربي عز وجل حكم واقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم ، فانشدكم باللّه أي رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة الا قام ليقتص مني فالقصاص في دار الدنيا أحب الى من القصاص فى دار الآخرة على رءوس الملائكة والأنبياء .. »

ووجم الحاضرون عن الجواب ، وذهلوا حتى عن نفوسهم ، وساد فيهم صمت رهيب أى واحد له ظلامة او حق عند الرسول صلی اللّه علیه و آله وهو مشرع العدالة الكبرى ومثال اللطف الالهي ، وقد خيم عليهم الجزع لأنهم عرفوا أن كلامه كلام مودع لهذه الحياة ، وانبرى من اقصى القوم شخص يسمى سوادة بن قيس فادعى ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اصابه بسوط في بطنه ، وهو يريد القصاص منه فأمر صلی اللّه علیه و آله بلالا أن يحضر له السوط ليقتص منه سوادة وانطلق بلال وهو مبهور قد ملكت احاسيس نفسه هذه العدالة الكبرى فراح يجوب في ازقة يثرب

ص: 110

وهو رافع عقيرته قائلا :

« أيها الناس اعطوا القصاص من أنفسكم في دار الدنيا ، فهذا رسول اللّه قد اعطى القصاص من نفسه »

ومضى الى دار النبي صلی اللّه علیه و آله فاخذ السوط ، وجاء به الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأمره أن يدفعه الى سوادة ليقتص منه وتوجه المسلمون بقلوبهم قبل ابصارهم الى سوادة ينظرون هل يقتص من النبي صلی اللّه علیه و آله ؟ وهو بتلك الحالة قد فتك به المرض وأضناه السقام ، وانبرى سوادة وهو مرتعش الخطا قد غمرته عظمة الرسول وهيبته فقال له :

« يا رسول اللّه اكشف لي عن بطنك .. »

فكشف صلی اللّه علیه و آله عن بطنه فقال له سوادة بصوت خافض :

يا رسول اللّه ، أتاذن لي أن اضع فمي على بطنك؟

فاذن له صلی اللّه علیه و آله فوضع سوادة فمه على بطن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودموعه تتبلور على خديه وهو يقول :

« اعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار يوم النار »

فقال له النبي صلی اللّه علیه و آله : اتعفو يا سوادة أم تقتص؟

بل اعفو يا رسول اللّه

فرفع صلی اللّه علیه و آله يده بالدعاء له قائلا :

اللّهم ، اعفو عن سوادة كما عفا عن نبيك محمد (1)

وتصدعت قلوب المسلمين ، وبلغ بهم الحزن الى قرار سحيق ، وايقنوا بنزلة القضاء المرهوب والرزء القاصم

ص: 111


1- البحار 6 / 1035

توجع الزهراء

واحاط الاسى بابنة الرسول وألم بها الخطب واضر الحزن بقلبها الرقيق المعذب ، فقد شاهدت أباها يعاني اشد الألم والكرب وهو يقول :

( وا كرباه )

ويمتلئ قلبها باللوعة والحزن فتجيبه

« وا كربا لكربك يا أبتي »

فنظر إليها وقد غام بصرها بالدموع فاشفق عليها وقال لها :

« لا كرب على أبيك بعد اليوم .. »

ولما اشتدت حالته تغير وضع الزهراء (عليهاالسلام) فكانت شاحبة اللون خائرة القوى ذاهلة اللب قد ساورتها الهواجس والهموم واحاطت بها الآلام والاحزان فلما رآها تصدع قلبه وأراد أن يزيل عنها كابوس الحزن فاجلسها الى جنبه فاسر إليها بحديث فلم تملك عند سماعه الا ان تجرى عيناها بالدموع ومال صلی اللّه علیه و آله إليها ثانية فالقى عليها كلاما قابلته ببسمات فياضة بالبشر والرضا ، وعجبت عائشة من هذا الصنيع وراحت تقول :

« ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن!! »

وسألتها عما قال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فامتنعت عن اجابتها ، ولما تصرمت الايام اخبرت عن سبب ذلك البكاء والسرور فقالت أخبرني :

« ان جبرئيل كان يعارضني بالقرآن فى كل سنة مرة ، وانه عارضني هذا العام مرتين ، وما اراه الا قد حضر أجلى »

فهذا سبب لوعتها وبكائها واما سبب سرورها فتقول أخبرني.

ص: 112

« انك اول أهل بيتي لحوقا بي ، ونعم السلف انا لك .. ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الامة .. »

لقد دفع صلی اللّه علیه و آله عن حبيبته الأسى باخبارها بعدم طول الفراق بينها وبينه ، ولما علمت أن لقاء أبيها بربه لقريب انطلقت الى بيتها فجاءت بولديها وهي تذرف من الدموع مهما ساعدتها الجفون فقالت له : « أبه هذان والداك فورثهما منك شيئا .. »

فافاض عليهما الرسول من مكرمات نفسه ، وورثهما من كمالاته قائلا :

« اما الحسن فان له هيبتي ، وسؤددي ، وأما الحسين فان له جرأتى وجودي » (1)

ويقوم الحسن من عنده وقد ورث منه الهيبة والسؤدد ، وورث منه سيد الشهداء الجرأة والجود ، وهل هناك مما تحويه البسيطة ميراث خير من هذا الميراث الحاوي لكمالات النبوة وسؤددها ، وقد كان الحسن بحكم ميراثه رمزا للهيبة الأحمدية ، ومثالا للسؤدد النبوي فقد روى ( أنه كان عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك. ) (2)

التصدق بما عنده

وكانت عند الرسول صلی اللّه علیه و آله قبل مرضه سبعة دنانير فخاف أن يقبضه اللّه إليه وهي عنده فأمر أهله أن يتصدقوا بها ، ولكن انشغالهم بتمريضه والقيام بخدمته انساهم تنفيذ أمره ، فلما افاق من مرضه سألهم ما فعلوا بها؟ فاجابوه أنها ما تزال باقية عندهم فطلب منهم أن

ص: 113


1- كنز العمال 7 / 110 شرح النهج 4 / 4.
2- مناقب ابن شهر اشوب.

يحضروها فلما جيء بها إليه وضعها فى كفه وقال :

« ما ظن محمد بربه لو لقى اللّه وعنده هذه » (1)

ثم تصدق بها على فقراء المسلمين ، ولم يبق منها عنده شيء.

الرزية الكبرى

واستشف الرسول صلی اللّه علیه و آله من وراء الغيب أن امته من بعده سوف تنصب عليها الفتن كقطع الليل المظلم وتتوالى عليها الخطوب السود فترتد على اعقابها بعد الايمان - كما اخبر صلی اللّه علیه و آله - فكبر ذلك وعظم عليه ، وزاد في حزنه وأساه وهو في ساعاته الأخيرة اطلاعه على المؤامرة الكبرى التي دبرت ضد وصيه وخليفته وباب مدينة علمه وذلك بتخلف القوم وتثاقلهم عن الالتحاق بسرية أسامة فرأى صلی اللّه علیه و آله أن يسلك طريقا آخر يصون امته من الضلال ويحميها من الفتن والاخطاء فقال صلی اللّه علیه و آله :

« ائتوني بالكتف والدواة ، اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا .. (2)

ما اعظمها من نعمة ، واغلاها من فرصة لو استغلوها وسارعوا الى تنفيذها وتحقيقها لوقوا انفسهم ووقوا الاجيال اللاحقة من الزيغ والانحراف ولكنهم حرموا أنفسهم السعادة ، وسدوا نوافذ الرحمة والهداية عليهم وعلى من يليهم من الاجيال ، فقد خدعتهم الدنيا وتهالكوا على الامرة وعلموا قصد الرسول صلی اللّه علیه و آله وعرفوا غايته انه سيوصي بامير المؤمنين ويعزز بيعة يوم الغدير فتفوت بذلك أهدافهم وتضيع مصالحهم فانبرى إليه أحدهم بكل وقاحة

ص: 114


1- مسند احمد 1 / 355 وغيره.
2- الرواية اخرجها الطبراني فى الاوسط ، والبخاري ومسلم.

وصلافة رادا عليه قائلا :

« حسبنا كتاب اللّه »

والمتأمل في هذا الرد تنفتح أمامه الكوة التي تطل على تآمرهم وعلى مخططاتهم في اقصاء أمير المؤمنين عن جهاز الحكم فانهم لو كانوا يحتملون ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يوصي بالخلافة إليه وانما يوصي بحماية الثغور أو بالمحافظة على طقوسه الدينية لما قابلوه بهذه الجرأة وماردوا رغبته ، ولكنهم علموا ما يريده فقاموا بعمليات التخريب والافساد ، وعلى اي حال فقد كثر الخلاف والتشاجر فى ذلك ، وانطلقت النسوة من وراء الستر فقلن لهم :

« الا تسمعون ما يقول رسول اللّه :؟ »

فثار عمر وصاح فيهن لئلا يفسد عليهم الامر قائلا :

« انكن صويحبات يوسف إذا مرض عصرتن اعينكن ، واذا صح ركبتن عنقه .. »

فرمقه الرسول صلی اللّه علیه و آله بطرفه وقد ازعجه كلامه فقال له :

« دعوهن فانهن خير منكم »

وكادت أن تفوز الجبهة التي رغبت في تنفيذ ارادة الرسول فانبرى احد المعارضين فسدد لهم سهما افسد عليهم أمرهم فقال : ويا لهول ما قال :

« إن النبي ليهجر .. » (1)

ص: 115


1- ذكر الحادثة البخاري عدة مرات في 4 / 69 وص 99 وفي ج 6 / 8 وكتم اسم القائل لهذه الكلمة وصرح ابن الاثير فى نهاية غريب الحديث وغيره ان القائل هو عمر بن الخطاب ، وقد اعترف عمر في حديثه مع ابن عباس انه صد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عن الكتابة فى علي وعترته ، كما في شرح النهج المجلد الثالث ص 114

اي خطب حل بالاسلام مثل هذا الخطب ، وأى رزية مني بها المسلمون مثل هذه الرزية أفيحكم على علة الموجودات وسيد الكائنات بالهجر؟ لقد رجع القوم الى جاهليتهم الاولى وتناسوا مقام النبي صلی اللّه علیه و آله فقابلوه بأمر الكلام وأقساه ، فانا لله وإنا إليه راجعون.

إنها الرزية الكبرى ، والرزء القاصم الذي يذيب هوله القلوب ، فقد حيل بين المسلمين وبين سعادتهم ، وأقصي عنهم الخير ، وكان ابن عباس اذا ذكر الحادث المؤلم يتفجع ويبكي حتى تسيل دموعه على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ويتنهد ويقول : يوم الخميس ، وما يوم الخميس! قال رسول اللّه : ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا ان تضلوا بعده أبدا فقالوا ان رسول اللّه يهجر (1)

ولم يسمعوا نصوص القرآن الكريم وهي تتلى عليهم آناء الليل ، وأطراف النهار ، وقد دلت على عصمة النبي صلی اللّه علیه و آله قال تعالى : ( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) الى غير ذلك من الآيات التي نصت على عصمته من الهجر ، ولكن القوم قد غرتهم الدنيا ، وراقهم زبرجها فانحرفوا عن طريق الحق ، ومالوا عن سنن العدل ، وتركوا الأمة تتردى فى ميادين الجهالة والغواية ، وسدوا عليها نوافذ الرحمة والهداية.

الى الرفيق الاعلى

ولما قرب دنو النبي صلی اللّه علیه و آله الى حظيرة القدس بعث اللّه

ص: 116


1- مسند احمد 1 / 355

إليه ملك الموت ليسمو بروحه الطاهرة الى جنة المأوى ، والى سدرة المنتهى وجاء ملك الموت فاستأذن من أهل بيت الوحي بالدخول على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبرته الزهراء علیهاالسلام بأن النبي صلی اللّه علیه و آله في شغل عنه لأنه كان قد أغمي عليه من شدة المرض ، وبعد برهة كرر الطلب فافاق الرسول صلی اللّه علیه و آله من اغمائه فقال لابنته :

- أتعرفيه؟

- لا يا رسول اللّه

- إنه معمر القبور ، ومخرب الدور ، ومفرق الجماعات

فانهد كيانها ، واحاط بها الذهول ، وارسلت ما في عينها من دموع وراحت تقول بصوت خافت حزين النبرات « وا ويلتاه لموت خاتم الأنبياء وا مصيبتاه لممات خير الاتقياء ، ولانقطاع سيد الاصفياء ، وا حسرتاه لانقطاع الوحي من السماء ، فقد حرمت اليوم كلامك .. »

واشفق الرسول صلی اللّه علیه و آله على بضعته فارسل لها كلمة فيها سلوى وعزاء فقال لها :

« لا تبكي فانك اول أهلي لحوقا بي .. » (1)

واذن صلی اللّه علیه و آله لملك الموت بالدخول عليه فلما مثل عنده قال له :

« يا رسول اللّه ، إن اللّه ارسلني إليك وأمرني أن اطيعك فى كل ما تأمرني إن أمرتني أن اقبض نفسك قبضتها ، وان امرتني أن أتركها تركتها ... »

فقال صلی اللّه علیه و آله أتفعل يا ملك الموت؟

بذلك أمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني.

ص: 117


1- درة الناصحين ص 66

ثم دخل جبرئيل فقال : يا احمد ان اللّه قد اشتاق إليك .. » (1)

ولما علم أهل البيت أن النبي صلی اللّه علیه و آله سيفارقهم فى هذه اللحظات اذهلهم الخطب وبلغ بهم الحزن الى قرار سحيق ، وجاء الحسن والحسين فالقيا بانفسهما على الرسول ليودعاه الوداع الأخير وهما يذرفان الدموع فجعل صلی اللّه علیه و آله يقبلهما وهما يقبلانه وأراد أمير المؤمنين أن ينحيهما عنه فقال صلی اللّه علیه و آله :

« دعهما يتمتعان مني واتمتع منهما فستصيبهما بعدي أثرة ... »

ثم التفت الى عواده فقال لهم :

« قد خلفت فيكم كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، فالمضيع لكتاب اللّه كالمضيع لسنتي ، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي انهما لن يفترقا حتى اللقاء على الحوض .. » (2)

واستدعى وصيه وخليفته امير المؤمنين فقال له :

« ضع رأسي فى حجرك فقد جاء أمر اللّه فاذا فاضت نفسي فتناولها وامسح بها وجهك ، ثم وجهنى الى القبلة وتولىّ أمرى ، وصل عليّ أول الناس ولا تفارقنى حتى تواريني فى رمسي واستعن باللّه عز وجل .. »

واخذ أمير المؤمنين رأس النبي صلی اللّه علیه و آله فوضعه في حجره ومد يده اليمنى تحت حنكه ، واذن صلی اللّه علیه و آله لملك الموت باستلام روحه المقدسة ، واخذ صلی اللّه علیه و آله يعاني آلام الموت وشدة النزع حتى فاضت نفسه الزكية فمسح بها الامام وجهه (3) ونعاه الى الحاضرين

ص: 118


1- طبقات ابن سعد 2 / 48
2- مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 114
3- المناقب 1 / 29 ، وتظافرت الاخبار بأن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) توفى في حجر علي علیه السلام فقد جاء في كنز العمال 4 / 55 ان ابا غطفان قال سألت ابن عباس فقلت له لما توفى رسول اللّه 6 راسه فى حجر من؟ فقال توفى وهو الى صدر على ، فقلت له ان عروة حدثني عن عائشة انها قالت توفي رسول اللّه 6 بين سحرى ونحرى فقال لى : أتعقل؟! واللّه لتوفي رسول اللّه وهو الى صدر على وهو الذي غسله واخرجه ابن سعد فى ص 51 من القسم الثانى من الطبقات.

لقد انطوت ألوية العدالة في ذلك اليوم الخالد في دنيا الاحزان ، واخمدت مصابيح الكمال والفضيلة ، وما اصيبت الانسانية بكارثة كهذه الكارثة فقد مات المنقذ العظيم ، واحتجب النور الذي اضاء الطريق للانسان وهداه الى سواء السبيل.

وطاشت احلام المسلمين أمام هذا الخطب المريع فما بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للناس عزاء ولا للأسى على فقده مدى ولا انتهاء ، لقد ذهب محمد عن هذه الدنيا وغرب نور محياه فانطلقت الالسن نادبة والاعين باكية ، وعلى الصراخ والعويل من بيت النبي صلی اللّه علیه و آله وكان اكثر أهل بيته لوعة واشدهم مصابا هي بضعته الزهراء فقد وقعت على جثمانه وهي مذهولة اللب من شدة الوله والحزن وهي تبكي امر البكاء وتقول :

« وا أبتاه ، الى جبرئيل انعاه! ... وا أبتاه جنة الفردوس مأواه! .. وا أبتاه أجاب ربا دعاه!!. » (1)

وسرى النبأ المفجع الى مدينة الرسول صلی اللّه علیه و آله فتركها تمور في الحزن واجتمع المسلمون وهم حيارى قد أخرسهم الخطب وألم بهم الحادث المريع وهم ما بين وآجم وصائح ومشدوه ونائح ونتهوا الى

ص: 119


1- سنن ابن ماجة وجاء فيه ان حماد بن زيد قال رايت ثابت راوى الحديث حينما يحدث به يبكى حتى تختلف اضلاعه

واد من الالم ماله قرار.

وقام أمير المؤمنين وقد حفت به الآلام والاحزان فأخذ في تجهيز الرسول صلی اللّه علیه و آله فغسله (1) وهو يقول : « بابي أنت وأمي طبت حيا وميتا .. » (2)

وبعد الفراغ من تجهيزه وضعه على السرير ، فاول من صلى عليه هو اللّه من فوق عرشه ثم جبرئيل ثم ميكائيل ثم اسرافيل ثم الملائكة زمرا زمرا (3) ودخل المسلمون يلقون على الجثمان المقدس نظرة الوداع ، ويؤدون فريضة الصلاة (4) وبعد الانتهاء قام الإمام فحفر القبر ولما فرغ منه

ص: 120


1- وفاء الوفاء 1 / 227 وجاء في كنز العمال 4 / 53 ان الامام عليا غسل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وكان الفضل واسامة يناولانه الماء من وراء الستر ، وجاء فيه أيضا انه قد اختلف في كفنه فقيل كفن فى ثلاثة اثواب وقيل في حلة يمانية وقميص ، وذكر اقوالا اخرى فى كفنه (صلی الله عليه وآله وسلم) ونقل ان ابا قلاعة كان يقول الا تعجب من اختلافهم فى كفن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)
2- طبقات ابن سعد ج 2 / القسم 2 / 63
3- حلية الاولياء 4 / 77
4- كنز العمال 4 / 54 وجاء فيه ان الامام امير المؤمنين (عليه السلام) لما وضع الجثمان - المعظم على السرير لاجل الصلاة عليه قال للمسلمين لا يقوم عليه امام منكم ، هو امامكم ، حيا وميتا فكان الناس يدخلون رسلا رسلا فيصلون عليه صفا صفا ليس لهم امام وامير المؤمنين (عليه السلام) واقف الى جانب الجثمان وهو يقول السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، اللّهم ، انا نشهد انه قد بلغ ما انزل إليه ونصح لأمته وجاهد فى سبيل اللّه حتى اعز اللّه دينه وتمت كلمته ، اللّهم فاجعلنا ممن يتبع ما انزل إليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه وكان الناس يقولون آمين آمين حتى صلى عليه الرجال والنساء والصبيان ، واختلف في تاريخ وفاته صلی اللّه علیه و آله فقيل في اليوم الثاني عشر من ربيع الاول ( جاء في وفاء الوفاء 1 / 226 و227 وقيل في اليوم الثامن والعشرين من صفر ذكره الطبرسي في اعلام الورى ص 1. وقيل في اليوم الثاني من ربيع الاول ذكره ابن واضح فى تاريخه 2 / 93 وقيل غير ذلك.

القى المغيرة خاتمه في القبر ، وقال لأمير المؤمنين علیه السلام خاتمي ، فقال علیه السلام لولده الحسن : أدخل فناوله خاتمه ، ففعل علیه السلام ذلك ، وكان مقصد المغيرة من ذلك أن يدخل القبر الشريف بعد ما خرج منه أمير المؤمنين ليفتخر على الصحابة بأنه آخر الناس عهدا برسول اللّه فالتفت أمير المؤمنين الى مقصده ، فامر الحسن بدخول القبر ، فكان آخر الناس عهدا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1)

وقام الامام أمير المؤمنين فوارى الجسد العظيم في مقره الأخير ووقف على القبر يرويه بماء عينيه ، وارسل كلمات تنم عن لواعج حزنه وثكله قائلا :

« ان الصبر لجميل الا عنك ، وان الجزع لقبيح الا عليك ، وان المصاب بك لجليل ، وانه قبلك وبعدك لجلل ... » (2)

واذاب الهول العظيم ، والمصاب المؤلم قلب الامام الحسن (عليه السلام) وهو في سنه المبكر فذبلت منه نضارة الصبا وروعته فقد رأى من يحدب عليه ويفيض عليه من رقيق حنانه يوارى في الثرى ، ورأى أبويه وقد اضناهما الذهول واحاط بهما الأسى على فقد الراحل العظيم فترك ذلك في نفسه شديد الألم ولاذع الحزن ... لقد مضى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الى الرفيق الاعلى وكان عمر

ص: 121


1- طبقات ابن سعد 2 / 77
2- نهج البلاغة محمد عبده 3 / 224 ، والجلل الهين الحقير ، والمراد ان المصائب قبل مصيبة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبعدها هينة حقيرة.

الحسن سبع سنين (1) وهو دور تنمو فيه مدارك الطفولة ، وتكون فيه فكرة الطفل كالعدسة اللاقطة تنقل الى دخائل النفس كثيرا من المشاهدات والصور وينطبع فيها جميع ما يمر عليها من حزن وسعادة ، كما انه قد تكون لبعض الاطفال النابهين اللياقة والاستعداد لأن يفهم الغاية من بعض الاعمال والمواقف ، وقد رافق الامام الحسن فى ذلك الدور الاحداث الخطيرة التي وقعت قبل وفاة جده الرسول صلی اللّه علیه و آله من امتناع القوم من الالتحاق بسرية أسامة وعدم استجابتهم للنبي صلی اللّه علیه و آله حينما امر باعطائه الدواة والكتف ليكتب لأمته كتابا يقيها من الفتن والضلال فعرف - من غير شك - الغاية من ذلك ، وعلم ما دبره القوم من المؤامرات ضد أبيه فترك ذلك في نفسه كامن الحزن والوجد وانبرى ينكر على القوم غصبهم لحق أبيه كما سنبينه في عهد الشيخين.

ص: 122


1- كشف الغمة : ص 154.

فى عهد الشيخين

اشارة

ص: 123

ص: 124

وحينما مضى النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) الى جنة المأوى ، وسمت روحه الى الرفيق الاعلى ، انثالت الفتن على المسلمين تترى كقطع الليل المظلم ، وعصفت بهم امواج عارمة من الانشقاق والاختلاف زعزعت كيانهم وصدعت شملهم ، ومزقت وحدتهم ، وقد بين تعالى ما يمنى به المسلمون بعد وفاة نبيه من الارتداد والاختلاف قال تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .. ) (1)

فاي رزية اعظم من رزية الانقلاب؟ وأي كارثة اقسى من كارثة الارتداد بعد الايمان!! لقد ترك القوم جثمان نبيهم لم يواروه في مقره الأخير وتهالكوا على الامرة والسلطان ، وصمموا على صرف الخلافة الاسلامية عن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل ، وقد تحدث الامام أمير المؤمنين علیه السلام عن غب ما فعلوه وسوء ما ارتكبوه يقول علیه السلام :

« حتى اذا قبض رسوله رجع قوم على الاعقاب ، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج (2) ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص أساسه (3) فبنوه في غير موضعه معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة » (4)

لقد استأثروا بالامر ، ونقلوه عن اهله ومعدنه ، ووضعوه في غير محله ، وقد فاجئوا أهل البيت (عليهم السلام) - والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر

ص: 125


1- سورة آل عمران : آية 144
2- الولائج : جمع وليجة وهي بطانة الانسان وخاصته
3- الرص : مصدر رصص الشى اى الصق بعضه ببعض ومنه قوله تعالى ( كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) .
4- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 48

بصرف الامر عنهم والاعتداء عليهم ، وتركوهم يتجرعون الغصص ، ويتوسدون الارق وتساورهم الهموم ، فما اعظم رزيتهم؟! وما اشد محنتهم وبلاءهم!!

لقد تسرع القوم الى عقد البيعة ، وانتهزوا الفرصة في انشغال امير المؤمنين بتجهيز جثمان النبي صلی اللّه علیه و آله فلم يمهلوه حتى يفرغ من مواراته صلی اللّه علیه و آله لئلا يفوت الامر منهم ، وتضيع امانيهم وآمالهم فى الاستيلاء على زمام الحكم والسلطان .. وعلى أي حال فلا بدلنا من البحث عن فصول تلك المأساة الكبرى - بايجاز - فانها ترتبط ارتباطا وثيقا بحياة الامام الحسن علیه السلام ، فان صرف الامر عن أهل البيت علیهم السلام كانت له مضاعفاته السيئة ونتائجه الخطيرة ، واهمها طمع الطلقاء وابنائهم خصوم الاسلام واعداء اللّه في الخلافة الاسلامية ، ومناجزتهم لاهل بيت النبوة ومعدن الرحمة ، حتى اضطر سبط النبي صلی اللّه علیه و آله الامام الحسن علیه السلام في دوره الى الصلح مع معاوية وتسليم الامر له ، والى القراء بيان ذلك.

السقيفة

وترك القوم النبي صلی اللّه علیه و آله مسجى في فراش الموت ، لم يهتموا في شيء من أمره فقد سارع الانصار الى سقيفة بني ساعدة (1) وعقدوا لهم اجتماعا سريا أحاطوه بكثير من الكتمان والتحفظ ، واحضروا معهم شيخ الخزرج سعد بن عبادة (2)

ص: 126


1- السقيفة : الصفة تشبه البهو ، كانت مجمعا للانصار ودارا لندوتهم
2- سعد بن عبادة : سيد الخزرج ، وزعيم الانصار اعترف له قومه بالسيادة ، وقد اشتهر بالجود والسخاء هو وابوه وجده وابنه قيس ، ويقال لم يكن فى الأوس والخزرج بيت واحد فيه اربعة اشخاص اسخياء متتالون الا بيت سعد ، وهو احد النقباء ، شهد مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) العقبة وبدرا ، وقد تخلف عن بيعة ابي بكر ، وخرج غاضبا من المدينة فتبعه خالد بن الوليد وصاحب له فكمنا له له ليلا فطعناه والقياه فى البئر ، واوهم خالد على بعض الحمقى ان الجن هي التي قتلته وانشدوا على لسانها بيتين من الشعر : نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة *** ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده كانت وفاته بحوران من ارض الشام سنة خمس عشرة من الهجرة وقيل سنة اربع عشرة ترجم في كل من الاصابة ، والاستيعاب واسد الغابة وغيرها

فتداولوا في شئون الخلافة والسلطان ، وكان شيخ الخزرج قد ألم به المرض فخطب في القوم فلم يتمكن أن يسمع كلامه للناس وانما كان يقول ويبلغ مقالته بعض اقربائه ، وكان منطق خطابه ان الغنم بالغرم ، والانصار هم الذين غرموا في سلسلة الحروب وحركات الجهاد التي قام بها الرسول صلی اللّه علیه و آله فهم احق بالأمر وأولى به من غيرهم وهذا هو نص خطابه :

يا معشر الانصار لكم سابقة في الدين وفضيلة فى الاسلام ليست لقبيلة من العرب ، ان محمدا صلی اللّه علیه و آله لبث بضع عشر سنة في قومه يدعوهم الى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به من قومه الا القليل ، وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا أن يعزوا دينه ، ولا أن يدفعوا عن انفسهم ضيما عموا به حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ، وخصكم بالنعمة فرزقكم اللّه الايمان به وبرسوله والمنع له ولاصحابه والاعزاز له ولدينه والجهاد لاعدائه ، فكنتم اشد الناس على عدوه منكم ، وأثقله على عدوه من غيركم حتى استقامت العرب لامر اللّه طوعا وكرها ، واعطى البعيد المقادة صاغرا

ص: 127

داخرا ، حتى اثخن اللّه عز وجل لرسوله بكم الأرض ودانت بأسيافكم له العرب وتوفاه اللّه وهو عنكم راض وبكم قرير العين ، استبدوا بهذا الأمر دون سائر الناس فانه لكم دون الناس ... » فاجابه الأنصار بالرضا والطاعة قائلين « وفقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدوا ما رأيت نوليك هذا الامر فانك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضى .. ، (1)

لقد القى الانصار المقادة والسمع لسيد الخزرج ، واعربوا له عن رغبتهم الملحة في ترشيحه لمنصب الخلافة ، وهنا امور تدعو الى العجب وتبعث الى التساؤل في أمر الانصار وهي :

1 - إنهم حضنة الاسلام ، واعضاد الملة ، وحماة الدين فلما ذا أسرعوا في شأن الخلافة ، وتناسوا مبايعتهم لأمير المؤمنين في غدير خم ، وتنكروا لوصايا النبي صلی اللّه علیه و آله في أهل بيته وعترته؟!!

2 - لما ذا هذا التستر في مكان منزو عن الانظار والابصار؟! ولما ذا هذا التكتم والحيطة في اخفاء الامر؟!!

3 - لما ذا لم يأخذوا رأي العترة الطاهرة في شأن البيعة واستبدوا بالأمر؟؟!!

واكبر الظن انهم وقفوا على المؤامرة الخطيرة التي دبرها كبار المهاجرين ضد أمير المؤمنين فخافوا أن يفوز المهاجرون بالخلافة ، ويحرموا منها لذا اسرعوا لانتهاز الفرصة وبادروا الى ترشيح سعد الى مركز الخلافة. فذلكة عمر

ولم يكن أبو بكر في يثرب عند وفاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وانما كان بالسنح (2)

ص: 128


1- تأريخ الطبري 3 / 207
2- السنح : محل يبعد عن المدينة بميل ، وقيل هو احد عواليها يبعد عنها باربعة اميال او ثلاثة.

فخاف عمر بن الخطاب أن يفوز احد بالخلافة قبل مجيء أبي بكر فصنع فذلكة دلت على سياسته النفسية وخبرته الفائقة باحوال المجتمع فقد اوقف حركة البيعة ، وشغل الناس حتى عن تفكيرهم فقد راح يهز بيده السيف ويهتف بصوت عال.

« إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد مات. وإنه واللّه ما مات ولكنه ذهب الى ربه كما ذهب موسى بن عمران .. واللّه ليرجعن رسول اللّه فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن ارجفوا بموته ... »

وجعل لا يمر باحد يقول : مات رسول اللّه الا خبطه بسيفه ، وتهدده وتوعده (1) واستغرب المسلمون من هذه البادرة ، واستطابها السذج والبسطاء ، فقد جاءهم بالأمل اللذيذ والحلم الجميل فان النفوس تأبى أن تذعن بموت العظيم ، وتتمسك بحياته بالخيال والأوهام ، وقد ساق إليها عمر أطيب الاماني واروع الآمال ، اخبرها بحياة عزيزها ومنقذها ، وأملها باظهار دينه على الدين كله ، واضاف الى كلامه اعنف الارهاب والتهديد وعزاه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بتقطيعه الايدي والارجل ممن ارجف بموته ، كما توعد هو بالقتل لمن فاه بموت النبيّ صلی اللّه علیه و آله واستمر على هذا الحال يبرق ويرعد ، ويتهدد ويتوعد حتى وصل أبو بكر إلى يثرب فاحتف به عمر وانطلقا إلى بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكشف أبو بكر الرداء عن وجه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وإذا بجثمانه الطاهر قد رحلت منه روحه الزكية ، فخرج وهو يفند مقالة عمر والتفت إلى الجماهير الحائرة التي اذهلها الخطب فقال لها :

« من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فان

ص: 129


1- شرح ابن ابي الحديد.

اللّه حي لا يموت ... وتلا قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) .

وتلقى الجمهور مقالة أبي بكر بالإذعان ، وراحوا يلهجون بالآية واسرع عمر الى تصديق مقالة أبي بكر ولم يبد اية معارضة له ، واحتف به ، وسار معه يشد عضده ، ويحمي جانبه.

ولا بد لنا من وقفة قصيرة امام هذه البادرة الغريبة فانها تدعو إلى التساؤل من عدة امور وهي :

1 - هل صحيح ان عمر قد خفي عليه موت الرسول صلی اللّه علیه و آله ؟؟ والقرآن الكريم قد أعلن أن كل انسان لا بد أن يتجرع كأس الحمام قال تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) وقال تعالى في نبيه : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقال تعالى : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ ) الآية ، بالاضافة الى أن الرسول صلی اللّه علیه و آله قد نعى نفسه غير مرة الى المسلمين وأخبرهم بأنه يوشك أن يدعى فيجيب ، وكان عمر نفسه يقول لأسامة قبل وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله : مات رسول اللّه وأنت علي أمير.

2 - ما هو السر في تهديده وتوعيده لمن أرجف بموت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ ولما ذا ينكل رسول اللّه المرجفين؟ فهل أن قولهم ارتداد عن الدين او خروج عن حظيرة الاسلام كي يستحقون تقطيع الأيدي والأرجل؟

ان من امعن النظر في هذه الحادثة يتضح له المقصود من فعل عمر وهو اشغال الناس عن مبايعة أي انسان قبل مجيء أبي بكر. إن عمر لم يكن من البلهاء والأغبياء كي يخفى عليه موت الرسول صلی اللّه علیه و آله وان حماسه البالغ وقيامه بعمليات التهديد والتوعيد ، وسكون

ص: 130

ثورته حينما جاء أبو بكر كل ذلك يدل بوضوح لا خفاء فيه على أن هذه الحادثة جزء من المخطط المرسوم قبل وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله في صرف الخلافة عن أهل بيته واستئثارهم بها ، ويذهب المستشرق لامنس الى أنه كانت بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة مؤامرة في صرف الخلافة عن أهل البيت علیهم السلام قبل وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله يقول :

« إن الحزب القرشي الذي يرأسه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح لم يكن وضع حاضر ، ولا وليد مفاجأة أو ارتجال ، وانما كان وليد مؤامرات سرية مبرمة حيكت أصولها وربت أطرافها بكل احكام ، وإن ابطال هذه المؤامرة ، أبو بكر ، عمر بن الخطاب ، أبو عبيدة بن الجراح ، ومن اعضاء هذا الحزب عائشة وحفصة ،. »

وهو رأي وثيق للغاية فان الامعان في تتبع خطوات القوم ، والتدبر في افعالهم يقضي بقدم المؤامرة ، وانهم حاكوا اصولها منذ زمان بعيد ، فان تثاقلهم من الالتحاق بسرية اسامة ، ومراسلة بعض ازواج النبي صلی اللّه علیه و آله لآبائهن في التريث عن المسير ، وترشيحهن لآبائهن لامامة الجماعة ، والرد على النبي صلی اللّه علیه و آله فيما رامه من الكتابة وغير ذلك من القرائن والشواهد مما يدل بوضوح على قدم المؤامرة ، وانهم بنوها على خطط وثيقة مدروسة احيطت بالامعان والتدبر ، وليست وليدة الوقت الحاضر ، ولا وليدة المباغتة والمفاجأة.

مباغتة الانصار :

ولما عقد الانصار أمرهم على تولية سيد الخزرج سعد بن عبادة كان ابن عمه بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي ، واسيد بن خضير زعيم الاوس ينافسانه في السيادة ، وحسداه على ترشيحه لهذا المنصب الرفيع ، فاضمرا

ص: 131

له الحقد وأجمع رأيهما على صرف الأمر عنه وانضم إليهما عويم بن ساعدة الأوسي ، ومعن بن عدى حليف الانصار ، وكانا من حزب أبي بكر ومن اوليائه على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالاضافة الى ذلك انهما كانا يضمر ان الحقد والشحناء لسعد بن عبادة فانطلقا الى أبي بكر وعمر مسرعين فاخبرهما باجتماع الانصار في السقيفة وانهم قد اجمعوا على تولية سعد بن عبادة (1) فذهل أبو بكر وقام مسرعا ومعه عمر وتبعهما أبو عبيدة بن الجراح (2) وسالم مولى أبي حذيفة ولحقهم آخرون من حزبهم من المهاجرين ، فكبسوا الانصار في ندوتهم فغاض لون سعد واسقط ما في أيدي الانصار وساد عليهم الوجوم والذهول ، واراد عمر أن يتكلم فمال إليه أبو بكر فهمس في أذنه قائلا :

« رويدك يا عمر حتى اتكلم .. »

وافتتح أبو بكر الحديث فقال :

« نحن المهاجرون أول الناس اسلاما ، وأكرمهم احسابا ، وأوسطهم دارا ، وأحسنهم وجوها ، وأمسهم برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رحما وانتم اخواننا في الاسلام ، وشركاؤنا في الدين نصرتم وواسيتم فجزاكم اللّه خيرا. فنحن الأمراء وانتم الوزراء ، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش ، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضلهم اللّه به ، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين - يعني عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح ... » (3)

ان أوثق الأدلة التي أقامها أبو بكر على احقية المهاجرين بالخلافة

ص: 132


1- العقد الفريد 3 / 62
2- تأريخ الطبرى 3 / 208
3- العقد الفريد 3 / 62

والإمرة هي ما يلي :

1 - إنهم أول الناس اسلاما

2 - إنهم أمس الناس رحما برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ولم يفصح في استدلاله عن أول من آمن باللّه ، واستجاب لدعوة نبيه ، ووقف إلى جانبه يصد عنه الاعتداء ، ويحميه من جبابرة قريش وهو الامام أمير المؤمنين علیه السلام ابن عم النبي صلی اللّه علیه و آله وزوج ابنته ، وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فقد تناساه أبو بكر ورشح أبا عبيدة ، وابن الخطاب لمنصب الخلافة ، وهل كانت له ولاية على المسلمين حتى يرضى لهم ويختار من يتولى قيادتهم ويدير شئونهم وقد علق الامام أمير المؤمنين على احتجاجه بقوله : « احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة » وما ابلغ هذا القول!! وما أروع هذا الاحتجاج!! فقد تمسك المهاجرون بقربهم للنبي صلی اللّه علیه و آله واستدلوا به على احقيتهم بالأمر ، وتغافلوا عن عترته وذريته ووديعته وعدلاء كتاب اللّه ، وقد خاطب أمير المؤمنين أبا بكر بذلك ، واستدل عليه بعين ما استدل به أبو بكر على الانصار فقال له :

فان كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك اولى بالنبي وأقرب

وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غيب

وخاطب علیه السلام القوم مرة أخرى فقال لهم : « واللّه ، إني لأخوه - اى أخ الرسول صلی اللّه علیه و آله - ووليه وابن عمه ووارث علمه ، فمن احق به منى » (1) لقد عدل القوم عن أبي الحسين وتناسوا فضائله ومآثره ووصايا النبي صلی اللّه علیه و آله فيه طمعا في الخلافة وتهالكا على الامارة.

ص: 133


1- خصائص النسائي : ص 18 ، مستدرك الحاكم 3 / 126

بيعة ابي بكر :

ولما انهى أبو بكر خطابه السالف الذي رشح فيه عمر وأبا عبيدة لمنصب الخلافة اسرع إليه عمر فقال له : « يكون هذا وأنت حى؟! ما كان أحد ليؤخرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... »

ولا نعلم متى أقامه الرسول صلی اللّه علیه و آله في مقامه الذي هو فيه ، وقد أخرجه صلی اللّه علیه و آله من يثرب مع بقية اصحابه جنودا مسلحين وولى عليهم أسامة بن زيد وهو شاب حدث السن ، بمثل هذا اللف والدوران تمت البيعة لأبي بكر ، وقد تسابق إلى بيعته عمر وبشير ، وتبارى إلى البيعة جميع اعضاء حزبهم فبايعه اسيد بن حضير ، وعويم بن ساعدة ، ومعن بن عدى ، وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وخالد بن الوليد ، واشتد هؤلاء على حمل الناس على البيعة ، وكان اشدهم حماسا عمر فقد لعبت درته شوطا في الميدان وارغم الممتنعين على البيعة وقابلهم بالقسوة والعنف ، وقد سمع الانصار يقولون في سعد :

« قتلتم سعدا »

فاندفع يقول :

« اقتلوه ، قتله اللّه فانه صاحب فتنة » (1)

ولما تمت البيعة لابي بكر بهذه الصورة التي يحف بها الارهاب والتهديد اقبل به حزبه يزفونه الى مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زفاف العروس (2) والنبي صلی اللّه علیه و آله ملقى على فراش الموت ، قد

ص: 134


1- العقد الفريد 3 / 62
2- شرح النهج لابن ابي الحديد 2 / 8

انشغل أمير المؤمنين علیه السلام بتجهيزه ، فلما أخبر تمثل بقول القائل :

واصبح أقوام يقولون ما اشتهوا

ويطغون لما غال زيدا غوائل (1)

لقد بويع أبو بكر بمثل هذه العجالة والمباغتة ، وكان عمر يرى عدم مشروعية هذه البيعة ووجه إليها لاذع النقد فقال فيها كلمته المشهورة :

« إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقى اللّه المسلمين شرها ، فمن دعاكم الى مثلها فاقتلوه. » (2)

وحفلت هذه الكلمة باقسى الوان النقد والتشهير واحتوت على ما يلي :

1 - إن عمر وصم البيعة ( بالفلتة ) وسواء أكان معناها الشر والخطيئة والزلة ، أو المباغتة والمفاجأة فانها اعظم ما تكون في ميدان القدح والذم.

2 - إنه دعا اللّه أن ينقذ المسلمين من شرها ويقيهم من مضعفاتها السيئة.

3 - انه حكم بقتل من دعا لمثل هذه البيعة

وانما طعن عمر في انتخاب أبي بكر وقدح في بيعته لانها لم تعتمد على اسس سليمة ، ولم تبتن على منطق رصين وحفلت بما يلي من المؤاخذات :

1 - إن القوم لم يأخذوا رأي العترة الطاهرة فيها واستبدوا بالأمر وقد تناسوا وصايا النبي صلی اللّه علیه و آله فيها ، واهملوا ما أمرهم الرسول صلی اللّه علیه و آله من الاقتداء والتمسك بذريته يقول الامام شرف الدين طيب اللّه مثواه :

ص: 135


1- شرح النهج 2 / 5
2- صحيح البخاري 10 / 44 ومسند احمد 1 / 55 وتمام المتون ص 137

« فلو فرض أن لا نص بالخلافة على أحد من آل محمد صلی اللّه علیه و آله وفرض كونهم مع هذا غير مبرزين في حسب أو نسب او اخلاق أو جهاد ، أو علم ، أو عمل ، او ايمان ، أو اخلاص ، ولم يكن لهم السبق في مضامير كل فضل ، بل كانوا كسائر الصحابة ، فهل كان مانع شرعي ، أو عقلي ، أو عرفي يمنع من تأجيل عقد البيعة الى فراغهم من تجهيز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ ولو بأن يوكل حفظ الامن الى القيادة العسكرية موقتا حتى يستتب أمر الخلافة؟

أليس هذا المقدار من التريث كان أرفق باولئك المفجوعين؟ وهم وديعة النبي لديهم ، وبقيته فيهم. وقد قال اللّه تعالى : ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) أليس من حق هذا الرسول - الذي يعز عليه عنت الامة ويحرص على سعادتها ، وهو الرءوف بها الرحيم لها - أن لا تعنت عترته فلا تفاجأ بمثل ما فوجئت به - والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر » (1)

النبيّ صلی اللّه علیه و آله مسجى على فراش الموت لم يغيبه عن عيون القوم مثواه ، وراحوا بهلع وجشع يتسابقون الى الحكم والسلطان ، واهملوا عترته ، واجمعوا على مجافاتهم ، وهضم حقوقهم ، وسلب تراثهم ، ومنذ ذلك اليوم واجهت العترة الوانا قاسية من النكبات والخطوب فاريقت دماؤها ، وسبيت نساؤها ، ولم ترع فيها قرابة النبي صلی اللّه علیه و آله التي هي اولى بالرعاية والعطف من كل شيء.

2 - ومما يؤخذ على هذه البيعة انها لم تكن جامعة لاهل الحل والعقد الذي يعتبرونه هم شرطا اساسيا فى حصول الاجماع وفي مشروعية الانتخاب ، فقد الغى القوم استشارة الطبقة الرفيعة في الاسلام فلم يعتنوا

ص: 136


1- النص والاجتهاد ص 7

بآرائها ولم يأخذوا موافقتها في الخليفة الجديد ، كما ان المكان الذي اجرى فيه الانتخاب كان مخفيا الى ابعد الحدود يقول عبد الوهاب النجار

« يرى المطلع على الشكل الذي حصلت به بيعة أبي بكر ان الاستشارة فى أمرها كانت ناقصة نقصا ظاهرا لان المعقول في مثل هذه الحال أن يتخذ المسلمون مكانا يجتمعون فيه وان يؤذن الناس به من قبل .. » (1)

إن انتخاب أبي بكر كان مشوها الى أبعد الحدود ، فقد انسحبت عن اختياره وانتخابه الشخصيات الفذة التي ساهمت في بناء كيان الاسلام وفي طليعتها الامام أمير المؤمنين علیه السلام ومن يمت إليه من الهاشميين ووجوه الصحابة كسلمان الفارسي ، وأبي ذر وعمار بن ياسر ، وأبي بن كعب ، ومن الهاشميين الزبير وعتبة بن أبي لهب والعباس وغيرهم كما امتنع جميع الانصار أو بعضهم عن البيعة ، وقالوا » لا نبايع الا عليا » (2) ومع انسحاب هذا العدد الضخم من الانتخاب ، وفيهم الضروس ، والرءوس ، والاعلام من المهاجرين والانصار كيف تكون البيعة مشروعة ، والانتخاب صحيحا؟!!

3 - ان المسلمين قد أرغموا على بيعة أبي بكر ، وأكرهوا عليها ولم تكن ناشئة عن اختيارهم وارادتهم فقد لعبت درة عمر في تحقيقها وايجادها حتى ذهل المسلمون ، ولم يشترطوا فى ضمن العقد أن يسير الخليفة على كتاب اللّه وسنة نبيه كما اشترطوا ذلك على الخلفاء من بعده ولعل لهذه الاسباب حكم عمر بعدم مشروعيتها ، وعدم مشروعية أساليبها ، كما حكم بالقتل لمن يعود لمثلها.

ص: 137


1- الخلفاء الراشدون : ص 16
2- تأريخ ابن الاثير

امتناع امير المؤمنين عن البيعة :

وامتنع أمير المؤمنين علیه السلام عن البيعة ، واعلن سخطه البالغ على أبي بكر لأنه نهب تراثه ، وسلب حقه ، وهو يعلم أن محله من الخلافة محل القطب من الرحى ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير - على حد تعبيره - لذلك كان علیه السلام لا يظن ان احدا يرقى منبر الخلافة غيره وقد اعلن ذلك بوضوح لما جاء إليه عمه العباس وطلب منه أن يبايعه فقال له :

يا بن أخي امدد يدك أبايعك ، فيقول الناس : عم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بايع ابن عم رسول اللّه فلا يختلف عليك اثنان. »

فاجابه الامام :

« ومن يطلب هذا الأمر غيرنا » (1)

لقد قلده النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا المنصب الرفيع يوم غدير خم ، واعلن له الولاية على ملأ من الناس ، بالاضافة الى وصاياه المتظافرة التي حث فيها أمته على متابعته ، وتسليم قيادتها بيده ، يقول الدكتور طه حسين فى هذا الموضوع ما نصه :

« نظر العباس في الأمر فرأى ابن أخيه أحق منه بوراثة هذا السلطان لأنه ربيب النبي ، وصاحب السابقة فى الاسلام ، وصاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد كلها ، ولأن النبيّ كان يدعوه أخاه حتى قالت له أم أيمن : ذات يوم مداعبة تدعوه أخاك وتزوجه ابنتك! ولأن النبي قال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدى. وقال للمسلمين يوما آخر : من كنت مولاه فعلى مولاه. من أجل ذلك اقبل العباس

ص: 138


1- الامامة والسياسة 1 / 4

بعد وفاة النبي على ابن اخيه فقال له : ابسط يدك ابايعك .. » (1)

لقد تخلف امير المؤمنين عن البيعة فلم يسالم القوم ، ولم يمنحهم الرضا واعلن سخطه عليهم ، وحاججهم وناظرهم ، وقد حفل نهجه بتذمره البالغ وسخطه الشديد على القوم لأنهم سلبوا تراثه ، وجحدوا ولايته وحقه.

احتجاج ومناظرات :

واحتج الامام أمير المؤمنين علیه السلام على القوم بأنه أولى بالامر واحق به منهم ، وكذلك احتج عليهم من يمت إليه من الهاشميين ، وذوي السابقة في الاسلام من اعلام المهاجرين والانصار ، والى القراء بعض تلك الاحتجاجات :

1 - الامام امير المؤمنين

ولما اخذ أمير المؤمنين علیه السلام قسرا ليبايع أبا بكر قال له القوم بعنف :

« بايع أبا بكر »

فاجابهم وهو رابط الجأش ثابت الجنان

« أنا احق بالأمر منكم ، لا أبايعكم وانتم اولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الامر من الانصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلی اللّه علیه و آله وتأخذونه منا أهل البيت غصبا ، ألستم زعمتم للانصار أنكم اولى بهذا الامر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الامارة ، وأنا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الانصار نحن اولى برسول اللّه حيا وميتا ، فانصفونا ان كنتم تؤمنون وإلا فبوءوا بالظلم وانتم تعلمون .. »

ص: 139


1- على وبنوه ص 19

وسلك علیه السلام بهذا الاحتجاج الصارم الطريقة التي سلكها المهاجرون أمام الانصار من انهم امس الناس رحما برسول اللّه ، وهذا الملاك الذي هتف به المهاجرون واتخذوه وسيلة لتحطيم آمال خصومهم موجود فى الامام علیه السلام على النحو الاكمل فهو ابن عم النبي صلی اللّه علیه و آله وختنه على ابنته ، ومما وسع ابن الخطاب أمام هذا المنطق الا أن يسلك طريق العنف ، وهو طريق من يعوزه الدليل والبرهان فقال له :

« إنك لست متروكا حتى تبايع »

فصاح به أمير المؤمنين

« احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا .. »

وثار الامام وهتف يزأر

« واللّه ، يا عمر لا اقبل قولك ، ولا ابايعه .. »

وخاف ابو بكر ان يصل الأمر الى ما لا تحمد عقباه فاقبل على الامام يتلطف به ويقول له بناعم القول.

« إن لم تبايع فلا أكره .. »

وحاول أبو عبيدة ارضاء الامام فقال له :

« يا بن عم إنك حدث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالامور ولا ارى أبا بكر إلا أقوى على هذا الامر منك وأشد احتمالا واضطلاعا به ، فسلم لأبي بكر هذا الأمر ، فانك إن تعش ويطل بك بقاء ، فانت لهذا الامر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك ، وفهمك وسابقتك ، ونسبك وصهرك .. »

وأثارت هذه المخادعة كوامن الالم والاستياء في نفس الامام فاندفع يخاطب المهاجرين ويذكر لهم مآثر اهل البيت علیهم السلام قائلا :

ص: 140

« اللّه اللّه يا معشر المهاجرين! .. لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره ، وقعر بيته الى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه فى الناس وحقه؟ .. فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن احق الناس به - لأنا أهل البيت - ونحن أحق بهذا الامر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، الفقيه في دين اللّه ، العالم بسنن رسول اللّه ، المضطلع بأمر الرعية ، الدافع عنهم الامور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، واللّه إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحق بعدا .. » (1)

ودفع الامام باحتجاجه الرائع جميع شبه القوم فلم يترك لهم نافذة الا سدها ببليغ حجته وقوة برهانه ، فان أبلغ ما تمسك به أبو عبيدة لاثبات ولاية أبي بكر أنه اكبر سنا من امير المؤمنين وذلك عنده مقياس الصواب وفصل الخطاب ، ولكنه منطق مفلوج فى نظر الاسلام ، فان المقياس عنده في قيم الرجال أن تتوفر فيهم المواهب والكفآت والعبقريات فمن تمتع بها فهو الخليق بزعامة الامة ، وبادارة شئونها ، ولهذه الجهة نظر الامام في احتجاجه فبين لهم الصفات الرفيعة الماثلة فى أهل البيت علیهم السلام من الفقه بدين اللّه ، والعلم بسنن رسوله والاضطلاع بامور الرعية ودفع الشر والمكروه عنها ، والقسم بينها بالسوية ، وهذه الصفات التي اعتبر الاسلام مثولها في الحاكمين والمسئولين لم تتوفر الا عند أهل البيت علیهم السلام فهم احق بالأمر وأولى به من غيرهم.

2 - الزهراء

واحتجت سيدة نساء العالمين بحجج بالغة على القوم ، وبينت لهم سوء ما فعلوا ، وعظيم ما ارتكبوا قالت سلام اللّه عليها :

ص: 141


1- الامامة والسياسة 1 / 11 - 12

« ويحهم انى زحزحوها - أي الخلافة - عن رواسي الرسالة؟! وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الأمين ، الطبن (1) بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا واللّه منه نكير سيفه وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات اللّه ، وتاللّه لو تكافئوا (2) على زمام نبذه إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لاعتقله (3) وسار بهم سيرا سجحا (4) لا يكلم خشاشه (5) ولا يتتعتع راكبه (6) ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا (7) تطفح ضفتاه (8) ولا يترنم جانباه (9) ولأصدرهم بطانة (10) ونصح لهم سرا واعلانا ، غير متحل منهم بطائل الا بغمر الناهل (11) وردعة سورة الساغب (12) ولفتحت عليهم بركات من السماء والارض ، وسيأخذهم اللّه بما كانوا يكسبون ، الا هلمّ فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبا!! وإن تعجب فقد اعجبك

ص: 142


1- الطبن : الخبير
2- التكافؤ : التساوي
3- اعتقله : اي وضعه بين ركابه ، وساقه كما يعتقل الرمح
4- سجحا : أي سهلا
5- الخشاش : عود يجعل فى انف البعير يشد به الزمام
6- لا يتتعتع راكبه. اى لا يصيبه اذى
7- فضفاضا : اي يفيض منه الماء
8- تطفح ضفتاه : اي يمتلئ ويفيض جانباه
9- الترنم : الصوت
10- اصدرهم بطانة : اي اشبعهم وافاض عليهم بالنعم والخيرات
11- غمر الناهل : اي رى الظمآن
12- ردعة سورة الساغب : كسر شدة الجوع

الحادث الى أي لجأ لجئوا؟! وبأى عروة تمسكوا لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، استبدلوا واللّه الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل (1) فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، الا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، يحهم أفمن يهدى الى الحق أحق أن يتبع امن لا يهدّي إلا ان يهدى فما لكم كيف تحكمون ، أما لعمر إلهكن لقد لقحت ، فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا وذعافا ممقرا (2) هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غب ما اسس الاولون ، ثم طيبوا عن انفسكم نفسا وطامنوا للفتنة جأشا ، وابشروا بسيف صارم ، وبقرح شامل يدع فيئكم زهيدا ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة لكم انلزمكموها وانتم لها كارهون .. » (3)

وشجبت بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله في خطابها الرائع البليغ الاعتداء الصارخ على آل البيت علیهم السلام ، ونددت بمن غصب الخلافة الاسلامية منهم ، فان القوم قد وضعوها في غير موضعها ، وضيعوا بذلك عترة نبيهم وهم رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة والامامة ، وفي بيوتهم هبط الروح الامين ، وتنزل الذكر الحكيم ، وقد حفل خطابها القيم بامور بالغة الخطورة وهي :

1 - انها ذكرت اهم الاسباب الوثيقة التي من اجلها زهد القوم

ص: 143


1- الكاهل : سند القوم ومعتمدهم يقال « فلان شديد الكاهل » اي منيع الجانب
2- الذعاف : الطعام الذي يجعل فيه السم ، الممقر : المر
3- بلاغات النساء ص 23 ، اعلام النساء م 3 / 1219 - 1220 الاحتجاج للطبرسي البحار للمجلسي شرح النهج

فى أبي الحسين ، ونقموا منه :

( أ ) - نكير سيف الامام الذي حصد به رءوس المشركين والملحدين ونافح به عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جميع المواقف والمشاهد ، ووتر به الاقربين والابعدين فى سبيل اقامة دعائم الدين ، ومن الطبيعي أن ذلك اولد في نفوس القوم عظيم الحقد والكراهية.

( ب ) - شدة وطأته علیه السلام فقد كان حتف الكافرين ، وغيظ المنافقين ، لم يصانع ، ولم يحاب ، ولم تأخذه في اللّه لومة لائم وهو القائل « وأيم اللّه لانصفن المظلوم من ظالمه ، ولآخذن الظالم بخرامته ، حتى اورده منهل الحق وان كان كارها »

( ج ) - تنمره في ذات اللّه ، فقد وهب علیه السلام نفسه لله ، ورصد جميع طاقاته لاحياء دين اللّه ، واقامة سننه ، وقد قذف نفسه فى لهوات الحروب ، وخاض الغمرات والأهوال ، ووطأ صماخ المشركين باخمصه حتى استقام امر هذا الدين ، وقام على سوقه عبل الذراع كل ذلك ببركة جهوده ، وعظيم جهاده.

ان هذه الاسباب : هي التي أدت الى بغض القوم وحقدهم عليه ، بالاضافة الى حسدهم على ما منحه اللّه من المواهب والكمالات ، والحسد يولد ضغنا وحقدا في النفوس ، ويلقى الناس في شر عظيم.

2 - ان الامة لو قلدت امورها الى أمير المؤمنين ، وتابعت قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيه لظفرت بما يلي :

1 - انه يسير فيهم بسيرة العدل والحق ، ويحكم بما انزل اللّه تعالى ولا يضام في ظل حكمه احد ، ولا تهدر كرامة اي فرد منهم.

2 - انه يوردهم منهلا عذبا ، ويقود ركبهم الى شاطئ الامن والسلامة ويفيض عليهم بالخير والبركات ، ويغدق عليهم بالنعم فلا يشكو

ص: 144

احد في ظل عدله الحرمان والجوع والفقر.

3 - انه ينصح لهم في السر والعلانية ، ويهديهم الى سواء السبيل

4 - ان الامام سلام اللّه عليه لو تقلد زمام الحكم لما تحلى من دنياهم بطائل ، وما استأثر من اموالهم بشيء ، ولشاركهم في البأساء والضراء وقد حقق ذلك حينما آلت إليه أمور المسلمين ، فقد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه وما وضع لبنة على لبنة ، وواسى الفقراء والمحرومين وقد قال كلمته الخالدة في المواساة.

« أأقنع من نفسي بان يقال أمير المؤمنين ، ولا اشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش »

ولم يحفل تأريخ المسلمين بحاكم مثله في زهده ، وورعه ، وعدله ، وتجنبه عن اموال الرعية ، وقد بقيت سيرته من اروع الامثلة التي يعتز بها المسلمون.

5 - ان الامام (عليه السلام) لو تولى الخلافة من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله لانتشرت الخيرات والبركات ، وعمت النعم جميع ارجاء البلاد ، واكل الناس من فوق رءوسهم ومن تحت ارجلهم ، ولكن المسلمين حرموا انفسهم السعادة وحرموها للاجيال اللاحقة من بعدهم ، فقد استبدلوا الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، وتركوا من يهديهم الى الحق ويسير فيهم بسيرة العدل.

3 - واستشفت بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله من وراء الغيب النتائج الفظيعة التي تترتب على ما ارتكبه القوم وهي كما يلي :

( أ ) انتشار الفتن بين المسلمين ، وانشقاق صفوفهم وتفلل وحدتهم

( ب ) - تنكيلهم وارهاقهم من قبل السلطات الجائرة.

( ج ) - استبداد الظالمين بشئونهم

ص: 145

وقد تحققت هذه النتائج الخطيرة على مسرح الحياة حينما استولى الأمويون على زمام الحكم ، فقد حكم معاوية رقاب المسلمين وولى عليهم جلاوزته الجلادين امثال سمرة بن جندب ، وبسر بن ارطاة ، وزياد بن أبيه ، فامعنوا فى ارهاق المسلمين والتنكيل بهم ، واذاعوا الخوف بين المسلمين ، وفي عهد زياد كان الناس يقولون : « انج سعد فقد هلك سعيد » وتولى من بعده يزيد فاستعمل على المسلمين ابن مرجانة ففعل الأفاعيل المنكرة التي سود بها وجه التاريخ ، وهكذا اخذت الخلافة الاسلامية تنتقل من ظالم الى ظالم ، ومن جائر الى جائر حتى ضجت البلاد من الظلم والجور والاستبداد.

ولهذه الاسباب الوثيقة التي بينتها فى خطابها ناهضت الحكم القائم ، وناجزته بجميع امكانياتها ، وطالبت المسلمين بالقيام لقلب الحكم ، ودعتهم الى الثورة لاستنقاذ الحق الغصيب فقد طاف بها زوجها المظلوم اربعين يوما على بيوت المهاجرين والانصار تسألهم النجدة والنصرة فكانوا يقولون لها :

« يا بنت رسول اللّه .. قد مضت بيعتنا لهذا الرجل »

فتجيبهم مستنكرة

« افتدعون تراث رسول اللّه يخرج من داره الى غير داره؟ »

واخذوا يعتذرون لها قائلين :

« يا بنت رسول اللّه ... لو أن زوجك سبق إلينا قبل أبي بكر لما عدلنا به »

ويجيبهم أمير المؤمنين

« أفكنت أدع رسول اللّه فى بيته لم ادفنه ، ثم أخرج انازع الناس سلطانه؟ »

ص: 146

وتدعم بضعة الرسول قول أمير المؤمنين فتقول :

« ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له .. وقد صنعوا ما اللّه حسيبهم عليه » (1)

وقد خطبت سلام اللّه عليها خطبتها الشهيرة واستنهضت - في كثير من فصولها - همم المسلمين وحفزتهم على الثورة وطالبتهم بارجاع الخلافة الى أمير المؤمنين فقد قالت مخاطبة بني قيلة :

« أيها بنى قيلة ، أأهضم تراث أبي وانتم بمرأى ، ومسمع تبلغكم الدعوة ، وشملكم الصوت وفيكم العدة ، ولكم الدار والجنن ، وانتم نخبة اللّه التي انتخبت وخيرته التي اختار. باديتم العرب ، وبادهتم الامور ، وكافحتم البهم ، حتى دارت بكم رحى الاسلام ، ودر حلبه وخبت نيران الحرب ، وسكنت فورة الشرك ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوثق نظام الدين ، أفتأخرتم بعد الاقدام ، ونكصتم بعد الشدة ، وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكصوا أيمانهم من بعد عهدهم ، وطعنوا في دينكم ، فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون .. » (2)

وقد اثارت حفائظ النفوس ، والهبت نار الثورة في خطابها الكبير إلا أن أبا بكر استقبلها بالاعتذار ، واللين ، واظهر لها بالغ الاحترام والتقدير فاخمد الثورة وشل حركتها ، فلم تجد سلام اللّه عليها مجالا لاسترجاع حق امير المؤمنين علیه السلام واخذت تبث الشكوى والشجى الى أبيها وخلدت الى الصبر على ما انتابها من المحن والخطوب.

3 - الامام الحسن

وما استقر في نفس أمير المؤمنين علیه السلام من اللوعة والأسى على

ص: 147


1- الامامة والسياسة 1 / 12
2- اعلام النساء 3 / 1214

ضياع حقه وغصب تراثه قد استقر فى نفس وليده الامام الحسن علیه السلام فقد انطلق إلى مسجد جده صلی اللّه علیه و آله فرأى أبا بكر على منبر المسجد يخطب الناس فالتاع ووجه إليه لاذع النقد قائلا له :

« انزل ... انزل عن منبر أبي ، واذهب الى منبر أبيك!! »

وبهت ابو بكر ، وتطلعت ابصار الناس إلى القائل فاذا هو حفيد الرسول صلی اللّه علیه و آله وريحانته ، فاخذتهم الحيرة والدهشة ، وساد عليهم الوجوم ، واسترد أبو بكر خاطره فتدارك الموقف فقال له بناعم القول :

« صدقت واللّه. إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي .. » (1)

إن احتجاج الامام الحسن علیه السلام - وهو في غضون الصبا - انبعث عن نضوج وطموح وذكاء ، وكشف عن آلام مرهقة كان يكنها في اعماق نفسه على ضياع حق أبيه.

كان يرى المنبر يرقاه جده الرسول صلی اللّه علیه و آله وهو يدعو الناس الى اللّه ، ويهديهم الى سواء السبيل ، وقد اختفى ذلك النور ، واحتجب ذلك الصوت ، وهو لا يجد أحدا خليقا بأن يخلفه سوى أبيه سيد الاوصياء الذي نافع عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جميع المواقف والمشاهد.

ص: 148


1- الرياض النضرة 1 / 139 ، شرح النهج لابن ابى الحديد 2 / 17 مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 93 المناقب 2 / 172 وجاء في الاصابة 2 / 15 ان هذا الاحتجاج كان من الامام الحسين ، وجاء في الصواعق المحرقة ص 105 وفي الصبان المطبوع على هامش نور الابصار ص : 125 ان الحسن قال لأبي بكر هذه الكلمة ، ووقع للحسين ذلك مع عمر بن الخطاب.

4 - سلمان الفارسي

واندفع سلمان الفارسي ابن الاسلام البار ، ومنبع التقوى والصلاح ، الى الانكار على القوم والاحتجاج عليهم فقد راح يتكلم مع أبي بكر قائلا له :

« يا أبا بكر .. الى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه؟! وإلى من تفزع اذا سئلت عما لا تعلمه؟ وما عذرك في تقدم من هو اعلم منك ، واقرب الى رسول اللّه ، واعلم بتأويل كتاب اللّه عز وجل ، وسنة نبيه ، ومن قدمه النبي في حياته ، واوصاكم به عند وفاته ، فنبذتم قوله ، وتناسيتم وصيته ، واخلفتم الوعد ، ونقضتم العهد ، وحللتم العقد ، الذي كان عقده عليكم ، من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد! » (1)

5 - عمار بن ياسر

وانطلق الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر الى محاججة القوم فقال لهم :

« يا معاشر قريش .. ويا معاشر المسلمين ، إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم اولى به واحق بارثه ، وأقوم بامور الدين ، وآمن على المؤمنين ، واحفظ لملته ، وانصح لأمته فمروا صاحبكم فليرد الحق الى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ، ويضعف أمركم ، ويظهر شقاقكم ، وتعظم الفتنة بكم ، وتختلفون فيما بينكم ، ويطمع فيكم عدوكم ، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الامر منكم ، وعلي أقرب منكم الى نبيكم ، وهو من بينهم وليكم بعهد اللّه ورسوله ، وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سد النبي صلی اللّه علیه و آله أبوابكم التي كانت الى المسجد كلها غير بابه ، وايثاره اياه بكريمته فاطمة ، دون ساير من خطبها إليه منكم ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : انا مدينة العلم ، وعلى بابها ، ومن

ص: 149


1- احتجاج الطبرسي ص 42 - 43

أراد الحكمة فليأتها من بابها ، وانكم جميعا مضطرون فيما اشكل عليكم من أمور دينكم إليه ، وهو مستغن عن كل أحد منكم الى ما له من السوابق التي ليست لأفضلكم عند نفسه ، فما بالكم تحيدون عنه ، وتبتزون عليا على حقه ، وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، بئس للظالمين بدلا ، اعطوه ما جعله اللّه له ، ولا تولوا عنه مدبرين ، ولا ترتدوا على اعقابكم فتنقلبوا خاسرين .. (1)

6 - خزيمة بن ثابت

وانبرى الصحابي العظيم خزيمة بن ثابت فقال : « أيها الناس ، الستم تعلمون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل شهادتي وحدى ، ولم يرد معي غيرى؟ فقالوا بلى. قال : فاشهد أني سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل ، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم ، وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين .. »

7 - أبو الهيثم بن التيهان

وانطلق الصحابي الكبير أبو الهيثم بن التيهان فقال : « وأنا أشهد على نبينا صلی اللّه علیه و آله أنه أقام عليا يوم غدير خم ، فقالت الانصار ما أقامه الا للخلافة ، وقال بعضهم : ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مولى له ، وكثر الخوض في ذلك فبعثنا رجالا منا الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسألوه عن ذلك؟ فقال : قولوا لهم : على ولي المؤمنين بعدي ، وانصح الناس لأمتى ، وقد شهدت بما حضرني فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، إن يوم الفصل كان ميقاتا .. »

ص: 150


1- احتجاج الطبرسي ص 43

8 - سهل بن حنيف

واندفع سهل بن حنيف فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلى على النبيّ وآله ثم قال :

« يا معشر قريش ، اشهد على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد رأيته في هذا المكان - يعنى في جامعه - وقد أخذ بيد علي بن أبي طالب علیه السلام وهو يقول : أيها الناس هذا علي إمامكم من بعدي ، ووصيي فى حياتي؟ وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، وأول من يصافحنى على حوضي ، وطوبى لمن تبعه ، ونصره ، والويل لمن تخلف عنه وخذله .. ».

9 - عثمان بن حنيف

وقام عثمان بن حنيف فقال : « سمعنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم فهم الولاة من بعدي فقام إليه رجل فقال : يا رسول اللّه ، وأي أهل بيتك؟ فقال : علي والطاهرون من ولده .. »

10 - أبو أيوب الانصاري

وقال أبو أيوب الانصاري : « اتقوا اللّه عباد اللّه في أهل بيت نبيكم ، وردوا إليهم حقهم الذي جعله اللّه لهم ، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا علیه السلام ومجلس بعد مجلس يقول : أهل بيتى أئمتكم بعدي ، ويومىء الى على ويقول : هذا أمير البررة ، وقاتل الكفرة مخذول من خذله ، منصور من نصره فتوبوا الى اللّه من عملكم ، إن اللّه تواب رحيم ، ولا تتولوا عنه مدبرين ، ولا تتولوا عنه معرضين .. » (1)

ص: 151


1- الاحتجاج للطبرسي 43 - 44 وذكره غيره.

11 - عتبة بن أبي لهب

وقام عتبة بن أبي لهب وهو يذرف الدموع وينشد :

ما كنت أحسب أن الامر منصرف *** عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن

عن أول الناس إيمانا وسابقة *** واعلم الناس بالقرآن والسنن

وآخر الناس عهدا بالنبي ومن *** جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم لا يمترون به *** وليس في القوم ما فيه من الحسن (1)

الى غير ذلك من الاحتجاجات الصارمة التي اقامها كبار المسلمين وثقاتهم على احقية الامام علیه السلام بالأمر ، ولكن القوم اعاروا ذلك أذنا صماء واصروا على صرف الخلافة عن أهل البيت علیهم السلام .

كبس دار الامام

وتخلف امير المؤمنين علیه السلام عن بيعة أبي بكر ، واحتج عليه بأنه اولى بالخلافة منه ، واعلن سخطه البالغ على القوم ، وقد انضم إليه اعلام الاسلام ، ووجوه المسلمين كعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، والزبير ، وخالد بن سعيد ، وغيرهم ، فكانوا يعقدون الاجتماع في داره ، ويتداولون فيها الاحاديث ، وثقل على أبي بكر ذلك ، وعظم عليه ، فاقتضت سياسته أن يكبس دار الامام ، ويقابله بالشدة والصرامة ، ويتخذ معه جميع الإجراءات الحاسمة ، فاصدر أوامره الى عمر بكبس داره ، وحمله على البيعة قسرا ، فراح عمر يشتد ومعه الشرطة والجنود ، وقد رأى ان خير وسيلة لحمل الامام على الطاعة ان يحرق داره ، ويشعل فيها النار ، فحمل مشعلا من النار ، وحمل القوم حزمة الحطب وانطلقوا مسرعين يعلوهم الغضب ليحرقوا البيت الذي اذن اللّه أن يرفع ، ويذكر فيه اسمه!! البيت الذي

ص: 152


1- تأريخ ابى الفداء 1 / 156

اذهب اللّه عن أهله الرجس ، وطهرهم تطهيرا!! وهجم عمر على الدار وهو مغيظ محنق يصيح باعلى صوته.

« والذي نفس عمر بيده ليخرجن ، أو لأحرقنها على من فيها؟ » (1) فعذلته طائفة ، وحذرته من عقوبة اللّه قائلة :

« ان فيها فاطمة .. »

فصاح فيها غير مكترث ولا مبال

« وإن! وإن! »

وطالعتهم حبيبة الرسول صلی اللّه علیه و آله وبضعته ، وقد علاها الرعب ، واستولى عليها الذهول فوجهت إليهم لاذع القول :

« لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جنازة بين أيدينا ، وقطعتم امركم بينكم لم تستأمرونا ، ولم تردوا لنا حقا ».

وتبدد جبروت القوم ، وذاب عنفهم ، واسرع عمر الى أبى بكر يحفزه على المضى في حمل الامام على البيعة قائلا :

ص: 153


1- ان تهديد عمر لامير المؤمنين بحرق داره إن لم يبايع ثبت بالنصوص المتواترة ودونه اغلب المؤرخين فقد ذكرت في الامامة والسياسة 1 / 12 - 13 ، شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 34 تاريخ الطبري 3 / 202 ط دار المعارف تاريخ ابى الفداء 1 / 156 ، تاريخ اليعقوبى 2 / 105 ، اعلام النساء 3 / 205 ، الاموال لابي عبيد 131 ، مروج الذهب 1 / 414 ، الامام على لعبد الفتاح 1 / 213 وذكرها في الجزء الرابع ص 171 ، ونظمها شاعر النيل حافظ ابراهيم فقال : وقولة لعلي قالها عمر *** اكرم بسامعها اعظم بملقيها حرقت دارك لا ابقى عليك بها *** ان لم تبايع وبنت المصطفى فيها ما كان غير ابي حفص بقائلها *** امام فارس عدنان وحاميها

« ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟! »

فارسل أبو بكر قنفذا خلف الامام فابى علیه السلام من الحضور ، فانطلق عمر ومعه معاونوه الى بيت الامام فقرع الباب ، واقتحم على الاسد عرينه فانطلقت بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله وهي تهتف بابيها وتستغيث به قائلة :

« يا أبت ، يا رسول اللّه ... ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب ، وابن أبي قحافة!!؟ »

وتصدعت القلوب ، وذابت النفوس من هول المصاب ، وانصرف القوم باكين ، وبقى ابن الخطاب ومعه حزبه وبدا عليه الحنق والغضب ولم يجد معه تعنيف بضعة الرسول ، فاخرج أمير المؤمنين بعنف وانطلق به إلى أبي بكر ، فقال له :

« بايع »

« وإن لم افعل؟ » »

فبادر القوم ، وقد اضلهم الهوى قائلين له :

« واللّه. الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك .. »

فصمت علیه السلام برهة ، ونظر الى القوم ، فاذا ليس له معين ولا ناصر فقال بصوت حزين النبرات.

« إذا تقتلون عبد اللّه ، وأخا رسوله!! »

واندفع ابن الخطاب ، وهو مندلع الثورة فرد على الامام

« اما عبد اللّه فنعم ، وأما أخو رسوله فلا!! »

وتناسى عمر ان امير المؤمنين اخو النبي ، ونفسه وباب مدينة علمه ، والتفت الى أبي بكر يحثه على الايقاع به ، قائلا :

« الا تأمر فيه بأمرك؟؟ »

ص: 154

وحاذر أبو بكر من الفتنة ، وخاف ان تندلع نيران الثورة فقال :

« لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة الى جانبه .. »

واطلقوا سراح الامام فراح يهرول الى قبر النبي صلی اللّه علیه و آله يستنجد به ويناجيه وهو يبكي أمر البكاء رافعا صوته.

( يَا بْنَ أُمَ ) .. ( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي ، وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي .. )

لقد استضعفه القوم ، واستوحدوه ، واستباحوا حرمته ، وقفل علیه السلام الى البيت راجعا وهو كئيب حزين قد أحاط به الهم والاسى ، واتضح له ما يكنه القوم في نفوسهم من الحقد والكراهية له.

مصادرة فدك

ولما فتحت الجيوش الاسلامية حصون خيبر قذف اللّه الهلع والرعب في قلوب أهالي فدك ، وخيم عليهم الذعر والخوف فهرعوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونزلوا على حكمه ، وصالحوه على نصف اراضيهم فكانت ملكا خالصا له لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ، ولما انزل اللّه تعالى على نبيه قوله : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) بادر صلی اللّه علیه و آله فانحل فاطمة فدكا ، ووضعت يدها عليها وتصرفت فيها تصرف الملاك في املاكهم ، وبعد وفاته صلی اللّه علیه و آله اقتضت سياسة أبي بكر أن يصادرها ، وينتزعها من يد الزهراء علیهاالسلام لئلا تقوى شوكة الامام ، ويغلب جانبه ، وهو حرب اقتصادى باعثه اضعاف الروح المعارضة ، وشل الحركة المعادية له ، وهذا ما عليه الدول قديما وحديثا أمام خصومها ، وقد مال الى هذا الرأي علي بن مهنأ العلوي قال :

« ما قصد أبو بكر ، وعمر بمنع فاطمة عنها - اي عن فدك - إلا

ص: 155

أن يقوى علي بحاصلها وغلتها على المنازعة فى الخلافة .. » (1)

وبعد ما استولى أبو بكر على فدك ، واخرج منها عامل الزهراء انبرت سلام اللّه عليها إليه فطالبته بردها فما اجابها الى ذلك ، وطلب منها إقامة البينة على صدق دعواها ، وهو من الغرابة بمكان - اولا - ان ذلك لا ينطبق بحال على ما قرر في الفقه الاسلامى من أن صاحب اليد لا يطالب بالبينة ، وانما البينة على المدعي ومع عدم وجودها فلا حق له الا اليمين على المنكر ، والزهراء سلام اللّه عليها هي صاحبة اليد ، فلا تطالب بالبينة وانما يطالب بها أبو بكر ، ومع عدم وجودها عنده فلا حق له سوى اليمين عليها ، ولكنه أهمل ذلك وصمم على أن تقيم البينة - وثانيا - ان فاطمة سيدة نساء هذه الأمة ، وخير نساء العالمين ، على حد تعبير أبيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واجمع المسلمون على أنها ممن انزل اللّه فيهم آية التطهير ، وهي تدل على طهارة ذيلها وعصمتها ، وهي اصدق الناس لهجة حسب قول عائشة (2) أفلا يكفى ذلك كله في تصديقها ، واجابة قولها؟

وعلى اي حال فقد مضت ريحانة الرسول صلی اللّه علیه و آله فاحضرت أمير المؤمنين ، وأم أيمن فشهدا عنده ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انحلها فدكا ، فرد الشهادة واعتذر بأن البينة لم تتم ، وهذا لا يخلو أيضا من المؤاخذات - اولا - انه لا يتفق مع القواعد الفقهية فانها صريحة في أن الدعوى اذا كانت على مال أو كان المقصود منها المال فانها تثبت بشاهد ويمين فان اقام المدعي شاهدا واحدا فان على الحاكم أن يحلفه بدلا من الشاهد الثاني فان حلف اعطاه الحق ، وإن نكل رد الدعوى ،

ص: 156


1- اعلام النساء 3 / 1215
2- حلية الأولياء 2 / 41 ، مستدرك الحاكم 3 / 160

ولم يطبق ذلك أبو بكر فالغى الشهادة ورد الدعوى ، وثانيا - انه رد شهادة أمير المؤمنين ، وهو مع القرآن ، والقرآن معه لا يفترقان كما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1) - وثالثا - انه رد شهادة السيدة الصالحة أم ايمن وقد شهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأنها من أهل الجنة (2)

وخرجت سيدة النساء من عند أبي بكر وهي تتعثر باذيالها من الخيبة قد انهد كيانها والم بها الشجى والحزن يقول الامام شرف الدين نضّر اللّه مثواه.

فليته اتقى فشل الزهراء في مواقفها بكل ما لديه من سبل الحكمة ، ولو فعل لكان ذلك أحمد في العقبى ، وابعد عن مظان الندم ، وأنأى عن مواقف اللوم ، واجمع لشمل الامة واصلح له بالخصوص

وقد كان فى وسعه أن يربأ بوديعة رسول اللّه ووحيدته عن الخيبة ويحفظها عن أن تنقلب عنه وهي تتعثر باذيالها ، وما ذا عليه ، إذ احتل محل أبيها لو سلمها فدكا من غير محاكمة؟! فان للامام أن يفعل ذلك بولايته العامة ، وما قيمة فدك في سبيل هذه المصلحة ، ودفع هذه المفسدة؟ » (3)

إن أبا بكر لم يصنع الجميل ، ولم يفعل المعروف مع بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله فقد كان بوسعه أن يقر يدها على فدك ، ولا يستعمل معها اللف والدوران ، ولا يواجهها بمثل هذه القسوة والجفوة ، ولكن الأمر كما حكاه على بن الفارقي احد اعلام بغداد ومن المدرسين في مدرستها

ص: 157


1- مستدرك الحاكم 3 / 124 الصواعق المحرقة ص 75
2- الاصابة
3- النص والاجتهاد : ص 37

الغربية ، واحد شيوخ ابن أبي الحديد فقد سأله

- أكانت فاطمة صادقة - في دعواها النحلة -؟

- نعم

- فلم لم يدفع لها أبو بكر فدكا وهي عنده صادقة؟

قال ابن أبي الحديد : فتبسم ، ثم قال : كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه ، وحرمته وقلة دعابته ، قال : لو اعطاها اليوم فدكا بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا ، وادعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكن حينئذ الاعتذار بشيء ، لأنه يكون قد سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة الى بينة ولا شهود »

نعم لهذه الجهة اجمع القوم على هضمها ، وسلب تراثها ، واستباحوا رد شهادة أمير المؤمنين ، وتركوا عترة النبيّ صلی اللّه علیه و آله يتقطعون حسرات ، ويتصعدون زفرات قد خيم عليهم الهم والغم واخذهم من الحزن ما يذيب لفائف القلوب ومن الوجل ما تميد به الجبال.

ندم ابى بكر

وندم أبو بكر أشد الندم على ما فرط مع بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله وأخذ يؤنبه ضميره على ما صدر منه من كبس دارها ، وحمل مشاعل النار لاحراقها فقال :

« وددت أني لم اكشف بيت فاطمة ، ولو انهم اغلقوه على الحرب. » (1)

وجزع جزعا شديدا على ما ارتكبه مع وديعة النبي صلی اللّه علیه و آله فانطلق مع صاحبه عمر الى بيتها ليطيبا خاطرها ويفوزا برضاها ،

ص: 158


1- كنز العمال 3 / 135 ، الطبري 4 / 52

فاستأذنا عليها فأبت أن تأذن لهما ، ثم استأذنا ثانيا فأبت ، فسارا الى أمير المؤمنين وطلبا منه أن يمنحهما الإذن لمقابلة وديعة النبي صلی اللّه علیه و آله فانطلق علیه السلام الى الدار فالتمس من سيدة النساء أن تأذن لهما فاجابته الى ذلك فأذن (عليه السلام) لهما ودخلا فسلما عليها فلم تجبهما ، وتقدما فجلسا أمامها فازاحت بوجهها عنهما ، وراحا يلحان أن تسمع مقالتهما ، فاذنت لهما فى ذلك فقال أبو بكر : « يا حبيبة رسول اللّه واللّه ان قرابة رسول اللّه أحب الى من قرابتى ، وإنك لأحب الى من عائشة ابنتي ولوددت يوم مات أبوك أني مت ، ولا ابقى بعده ... أفتراني اعرفك وأعرف فضلك وشرفك وامنعك حقك وميراثك من رسول اللّه؟ الا أني سمعت رسول اللّه يقول :

« لا نورث ما تركناه فهو صدقة »

وقد فندت روايته بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله بما اقامته - في خطابها الكبير - من اوثق الأدلة على بطلان قوله ومساواة النبي لعموم المسلمين في الميراث ، والتفتت سلام اللّه عليها إلى أبي بكر وقد اشركت عمر معه فى خطابها قائلة :

« ونشدتكما اللّه ... ألم تسمعا رسول اللّه يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي ، فمن احب فاطمة ابنتي فقد أحبنى ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن اسخط فاطمة فقد أسخطني؟ »

فاجابا بالتصديق قائلين :

« اجل سمعناه يقول ذلك »

فرفعت كفيها إلى السماء وراحت تقول بفؤاد مكلوم

« فاني اشهد اللّه وملائكته أنكما أسخطتماني ، وما أرضيتماني ... ولئن لقيت رسول اللّه لأشكو كما إليه! »

ص: 159

وانطلق أبو بكر يبكي فقالت له :

« واللّه لأدعون عليك في كل صلاة اصليها .. » (1)

( فما كان أشدها كلمات أخف من وقعها ضربات السيف! مادت الارض تحتهما ، ودارت كالرحى حتى سارا من هول ما لقيا يترنحان. وغادرا الدار وقد خبا أملهما في رضا زهراء الرسول ، وعلما مدى الغضب الذي أثاراه عليهما في قلبها ومدى السخط الذي باءا به ) (2)

وحقا لأبي بكر أن يبكي ويحزن من غضب سيدة النساء عليه فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لها :

« إن اللّه يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك » (3)

لقد ضاقت الدنيا على أبي بكر ، ولاذ بدموعه ليخفف بها آلامه واحزانه فقد فاته رضاء بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله الذي هو من رضاء اللّه

كل هذه الحوادث كانت بمرأى من الامام الحسن ومسمع فكان لها الاثر في موطن شعوره فقد جعلته واجدا على من تقمص حق أبيه وناقما على من احتل مركزه شجون الزهراء

وطافت بوديعة النبي صلی اللّه علیه و آله موجات من الهموم والاحزان

ص: 160


1- الامامة والسياسة 1 / 14 ، اعلام النساء 3 / 1214 ، الامام على 1 / 217
2- الامام على 1 / 217 - 218
3- مستدرك الحاكم 3 / 153 ، اسد الغابة 5 / 522 ، تهذيب التهذيب 12 / 441 ، ميزان الاعتدال 2 / 72 ، كنز العمال 6 / 219 ، ذخائر العقبى ص 39 مقتل الخوارزمي 1 / 52

وغشيتها سحب من الكدر واللوعة ، على ضياع حقها ، وعلى فقد أبيها ، فقد حدثوا أنها لم تر ضاحكة ، ولا داخلها السرور بعده حتى لحقت به فكانت لا تفكر الا به ، ولا تذكر اسمه إلا مقرونا بالتفجع والآلام.

وكانت تزور جدثه الطاهر فتطوف به وهي حيرى فتبل أديمه المقدس بدموع سخية ، وتلقي بنفسها على القبر وهي ذاهلة اللب ، مصدوعة الجسم ، منهدة الكيان فتأخذ من ثرى القبر قبضة فتضعها على عينيها ووجهها وتطيل من شمها وتقبيلها وهي تبكي أمر البكاء وترفع صوتها الحزين النبرات قائلة :

ما ذا على من شم تربة أحمد *** أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت علي مصائب لو أنها *** صبت على الأيام صرن لياليا(1)

ينظر الحسن علیه السلام الى هذا الحزن البهيم الذي حل بأمه الرؤم فينصدع قلبه ، ويذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون ، يرى الحسن وهو في غضون الصبا لوعة المصائب التي دهت أمه الحنون حتى وهت قوتها ولوّن الاسى وجهها كانها صورة جثمان قد فارقته الحياة ، فيغرق في الدموع والشؤون.

أي حزن هذا الذي حل بابنة الرسول صلی اللّه علیه و آله وريحانته

ص: 161


1- نور الابصار ص 42 ، وذكر ابن شهرآشوب فى المناقب 2 / 131 زيادة على هذين البيتين وهي : قل للمغيب تحت اطباق الثرى *** إن كنت تسمع صرختى وندائيا قد كنت ذات حمى بظل محمد *** لا اختشي ضيما وكان جماليا فاليوم اخضع للذليل واتقي *** ضيمي وادفع ظالمي بردائيا فاذا بكت قمرية في ليلها *** شجنا على غصن بكيت صباحيا فلأجعلن الحزن بعدك مؤنسي *** ولأجعلن الدمع فيك وشاحيا

حتى ضربوا بها المثل في الحزن ، وعدوها من البكائين الخمس (1) الذين مثلوا الحزن والاسى على مسرح الحياة؟؟

وبلغ من عظيم حزنها ان أنس بن مالك استأذن عليها ليعزيها بمصابها الجليل فاذنت له وكان ممن وسد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مقره الأخير فقالت.

« أنس بن مالك »

« نعم ، يا بنت رسول اللّه »

فقدمت له سؤالا مقرونا بالتفجع والآلام

« كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول اللّه؟. » (2)

وخرج أنس وقلبه كاد أن يقضي حسرة ، قد علا صوته بالبكاء ، وكانت سلام اللّه عليها تطالب أمير المؤمنين بالقميص الذي غسل فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاذا رأته شمته ووضعته على عينيها ، ويذوب قلبها من الم الحزن حتى يغشى عليها.

وهكذا بقيت بضعة الرسول بعد أبيها قد اضناها الحزن ، وزاد في احزانها جحد القوم حقها وسلبهم لتراثها ، وبقي الحسن يشاهد ما منيت به أمه من الكوارث والخطوب وهو مصدوع الجسم ، قد ذبلت نضارة صباه لا يعرف في نهاره إلا شجرة الأراك حيث يمضي مع أمه ليساعدها في النوح ويخفف عنها اللوعة والحسرة ويستمر معها طيلة النهار في حزن وكمد فاذا اوشكت الشمس أن تغرب تقدمها مع أبيه وأخيه قافلين الى الدار فيجد الوحشة والهم قد خيما عليها ،

ص: 162


1- البكاءون الخمس : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وعلي بن الحسين ، وفاطمة ، ذكر ذلك المجلسي فى البحار 10 / 44
2- سنن ابن ماجة ص 18

وقلع القوم الشجرة التي كانت تستظل بها فكانت تبكي مع ولديها في حر الشمس ، فقام أمير المؤمنين فبنى لها بيتا أسماه بيت الاحزان فكانت تجلس فيه وتبكي على أبيها وتناجيه وتبثه الشكوى.

وأحاطت بها الآلام ، وفتكت بها الامراض فلازمت الفراش ، ولم تتمكن من النهوض والقيام وبادرت نساء المسلمين يعدنها فقلن لها :

« كيف اصبحت من علتك يا بنت رسول اللّه؟. »

فرمقتهن بطرفها ، واعربت لهن عما تكنه في نفسها من الاسى قائلة « أجدني كارهة لدنياكن ، مسرورة لفراقكن ، القى اللّه ورسوله بحسرات منكن فما حفظ لي الحق ، ولا رعيت منى الذمة ، ولا قبلت الوصية ، ولا عرفت الحرمة. » (1)

وعدنها بعض نساء النبي صلی اللّه علیه و آله فقلن لها :

« يا بنت رسول اللّه ... صيرى لنا فى حضور غسلك حظا ... »

فأبت وقالت :

« اتردن أن تقلن في ، كما قلتن في أمي ، لا حاجة لي فى حضوركن »

الى الرفيق الاعلى

وبرح المرض بابنة الرسول ، وانهك الحزن جسمها النحيل ، واضر الأسى بقلبها الرقيق المعذب ، حتى مشى إليها الموت وهي في فجر الصبا وروعة الشباب ... فوا لهفتاه على حبيبة النبيّ وريحانته ، لقد دنا إليها الموت سريعا ، وحان موعد اللقاء بينها وبين أبيها الذي اشتاقت إليه وتطلبت لقياه بفارغ الصبر.

ص: 163


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 95.

ولما علمت بدنو الاجل المحتوم منها استدعت امير المؤمنين فاوصته بوصيتها ، وأهم ما فيها أن يواري جثمانها فى غلس الليل البهيم ، وأن لا يصلي عليها ، ولا يقوم على قبرها أحد من الذين ظلموها وجحدوا حقها لأنهم اعداؤها وأعداء أبيها - على حد تعبيرها - وانصرف الامام وهو غارق في البكاء ، قد استجاب لأحاسيس نفسه الولهى الذي لم يترك الزمن فيها فراغا لغير الاسى والحزن.

واحبت ان يصنع لها نعش يواري جثمانها المقدس لان الناس كانوا يضعون الميت على سرير تبدو فيه جثته فكرهت ذلك ، وما احبت أن ينظر إليها أحد فاستدعت اسماء بنت عميس (1) واخبرتها بما ترومه فعملت لها سريرا يستر من فيه قد شاهدته يوم كانت في الحبشة ، فلما نظرت إليه تبسمت وهي اول ابتسامة شوهدت لها بعد وفاة أبيها (2)

ص: 164


1- اسماء بنت عميس بن سعيد بن الحارث الخثعمي ، وامها هند بنت عوف ابن زهير من كنانة ، اسلمت قبل دخول رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) دار الارقم بمكة ، وبايعت وهاجرت الى ارض الحبشة مع زوجها جعفر بن ابى طالب. وقالت يا رسول اللّه ، ان رجالا يفخرون علينا أن لسنا من المهاجرين الاولين ، فقال صلی اللّه علیه و آله : بل لكم هجرتان هاجرتم الى ارض الحبشة ونحن مرهنون بمكة ، ثم هاجرتم بعد ذلك. روت عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ستين حديثا ، وكان عمر بن الخطاب يسألها عن تفسير المنام ، وفرض لها الف درهم ، ولما استشهد زوجها تزوجها ابو بكر فولدت له الطيب محمد ولما مات ابو بكر تزوجها امير المؤمنين (عليه السلام) وهي اخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) واخت أمّ الفضل زوج العباس، ترجمت في اسد الغابة 5 / 395 وتهذيب التهذيب والاستيعاب ، واعلام النساء وطبقات ابن سعد وغيرها.
2- مستدرك الحاكم 3 / 162

وفي اليوم الاخير من حياتها كانت فرحة مسرورة لعلمها باللحاق بابيها الذي بشرها انها تكون اول أهل بيته لحوقا به ، وعمدت لولديها فغسلت لهما ، وأمرتهما ، بالخروج لزيارة قبر جدهما فخرجا وهما يفكران في الأمر هل ان أمهما قد انهكتها العلة ، واضر الداء بها حتى لا تستطيع ان تمضي الى بيت الاحزان الذي الفته؟! او انها تريد أن تبكي في هذا اليوم فى ثويها؟! كيف البكاء وشيوخ المدينة قد منعوها من البكاء؟! وغرقا فى بحر من الهموم وتيار من الهواجس.

والتفتت الى سلمى بنت عميس (1) وكانت تتولى خدمتها وتمريضها فقالت لها.

« يا أماه »

« نعم يا حبيبة رسول اللّه »

« اسكبي لي غسلا »

فانبرت وأتت لها بما طلبته من الماء فاغتسلت فيه ، وهي على احسن ما تكون ، وقالت لها :

« ايتني بثيابي الجدد »

فناولتها ثيابها ، وهتفت بها ثانية « اجعلي فراشي وسط البيت »

فذهلت المرأة وقامت تتعثر باذيالها فصنعت لها ذلك فاضطجعت على فراشها ، واستقبلت القبلة والتفتت الى سلمى قائلة :

« يا أمه ... اني مقبوضة الآن ، وقد تطهرت ، فلا يكشفني احد » (2)

ص: 165


1- سلمى بنت عميس اخت اسماء وهي احدى الاخوات اللاتي قال فيهن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم). الاخوات مؤمنات ، وهي زوج حمزة بن عبد المطلب جاء ذلك في اسد الغابة 5 / 479
2- طبقات ابن سعد 8 / 17 وفى مسند الامام احمد بن حنبل 6 / 461 وفي ذخائر العقبى ص 53 ان التي شهدت وفاة الصديقة هي أمّ سلمة لا سلمى بنت عميس.

وقبضت في وقتها وقد انطوت في ذلك اليوم الخالد في دنيا الاحزان اروع صفحة من صفحات الفضيلة والطهر والعفاف ، وانقطع بموتها آخر من كان في دنيا الوجود من نسل رسول اللّه

وقفل الحسنان راجعين الى الدار فنظرا فاذا ليس فيها أمهم فبادرا الى سلمى فقالا.

« سلمى اين امنا؟ »

فبادرت إليهما ، وقد احاطت بها رعشة الذهول والارتباك ، وغامت عيناها بالدموع فقالت :

« يا سيدى إن أمكما قد ماتت ... فاخبرا بذلك أباكما .. »

وا شرفا على الموت بهذا النبأ المريع فبادرا الى المسجد ، وقد علا منهما البكاء فاستقبلهما المسلمون ، قائلين :

« ما يبكيكما يا بني رسول اللّه؟ لعلكما نظرتما الى موقف جدكما فبكيتما شوقا إليه؟ »

فاجابا بصوت مشفوع بالاسى والعبرات

« أو ليس قد ماتت أمنا فاطمة »

وسلبا شعور المسلمين بهذا النبأ المؤلم ، وتركا الالم يحز في قلوبهم لانهم فقدوا بضعة نبيهم واعز ابنائه وبناته عنده ، وهم لم يحفظوا مكانتها ولم يؤدوا حقها ، وهرعوا من كل جانب الى دار الامام ليفوزوا بتشييع بقية النبوة ، القديسة الطاهرة ، وازدحموا على بيت الامام ، وقد علاهم الندم والاسى على عدم قيامهم بمراعاة بضعة نبيهم صلی اللّه علیه و آله الذي برّ بدينهم ودنياهم.

وامر الامام سلمان الفارسي أن يصرف الناس فخرج سلمان وصرفهم

====

ص: 166

واقبلت عائشة فارادت الدخول الى بيت الامام فمنعتها اسماء وقالت لها :

« لقد عهدت الي فاطمة أن لا يدخل عليها أحد .. » (1)

وقام الامام الثاكل الحزين فغسل الجسد الطاهر وطيبه بالحنوط ، وادرجه في الاكفان ودعا باطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان امهم فالقوا عليها نظرة الوداع ، وقد علا منهم الصراخ والعويل ، وبعد الفراغ من ذلك انتظر الهزيع الاخير من الليل فلما حل خرج مع حفنة من الرجال وهم يحملون الجثمان المقدس الى مقره الاخير ، ولم يخبر امير المؤمنين احدا من الناس سوى الصفوة من اصحابه تنفيذا لوصيتها (2) وحفر (عليه السلام) لها قبرا في البقيع على ما قيل (3) ووسدها فيه واهال عليها التراب ، ولما انصرف من كان معه من المشيعين وقف على حافة القبر ونار الحزن قد لسعت قلبه ، فجعل يناجى الرسول ، ويؤبن زهراءه بكلمات تنم عن قلب افعم بالآلام والحسرات.

ص: 167


1- اسد الغابة 5 / 524 ، كنز العمال 7 / 113
2- ذكر ذلك شراح البخاري من المجلد الثامن ص 157 وفي مستدر الحاكم 3 / 162 عن عائشة قالت : دفنت فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليلا ودفنها على (عليه السلام) ولم يشعر ابو بكر حتى دفنت وصلى عليها علي ، ويوجد هذا الحديث في مسند احمد 1 / 6 و9 وفى صحيح مسلم 2 / 72 وفي تاريخ الطبرى 3 / 212 وفي سنن البيهقي 6 / 300 وفي مشكل الآثار للطحاوي وذكره ابن كثير فى تاريخه 5 / 285 وقال فى ج 6 / 333 لم تزل فاطمة تبغضه مدة حياتها ، وفى السيرة الحلبية 3 / 390 قال الواقدي : ثبت عندنا ان عليا كرم اللّه وجهه دفنها رضي اللّه عنها وصلى عليها ومعه العباس والفضل ولم يعلموا بها احدا.
3- البحار 10 / 52 وجاء فيه ان ابن بابويه يذهب الى انها دفنت في بيتها وذهب شيخنا ابو جعفر الطوسي الى انها دفنت اما فى دارها او فى الروضة.

« السلام عليك يا رسول اللّه ، عنى وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ... قلّ يا رسول اللّه عن صفيتك صبرى ، ورق عنها تجلدي ... الا أن في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعز فلقد وسدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحرى وصدرى نفسك ... إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، أما حزني فسرمد وأما ليلى فمسهد (1) الى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فاحفها السؤال (2) واستخبرها الحال ... هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر. والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم (3) فان انصرف فلا عن ملالة ، وان اقم فلا عن سوء ظن بما وعد اللّه الصابرين .. » (4)

ص: 168


1- الليل المسهد : الذي ينقضي بالسهر
2- الاحفاء بالسؤال : الاستقصاء ، ويطلب سلام اللّه عليه من النبيّ ان يكثر من سؤال بضعته لتخبره بما جرى عليها من الخطوب والكوارث والآلام التي تجرعتها من صحابته.
3- القالى : المبغض ، والسئم ماخوذ من السامة وهى ملال الشيء
4- شرح النهج محمد عبده 2 / 207 - 208 واختلف فى تأريخ وفاتها ففي طبقات ابن سعد 8 / 18 انها توفيت بعد وفاة ابيها (صلی الله عليه وآله وسلم) بثلاثة اشهر ، وكان عمرها يوم وفاتها عشرين سنة ، وفي مستدرك الحاكم 3 / 162 انها توفيت بعد وفاة ابيها بثمانية اشهر ، وقيل لم تمكث إلاّ شهرين ، وكان عمرها الشريف احدى وعشرين سنة ، وفي البحار 10 / 60 انها توفيت بعد ابيها بخمسة وسبعين يوما ، وقيل باربعين يوما وكان عمرها ثمانى عشر سنة وشهرين نقله عن السيد المرتضى علم الهدى وذكر اقوالا أخر.

واعلن الامام (عليه السلام) بهذه المناجاة الحزينة عن تظافر الأمة على هضم وديعة النبي صلی اللّه علیه و آله في الوقت الذي لم يطل فيه غيابه ، ولم ينقطع ذكره ويطلب منه أن يستقصي في السؤال من بضعته لتخبره بما جرى عليها بعده من الشؤون والشجون ، وتعرفه بما لاقته من الظلم والاذى والاضطهاد يصغي الامام الحسن علیه السلام الى هذه المناجاة الحزينة من أبيه فتلم به آلام مبرحة ، ويحف به حزن مرهق ، وتضاعف حزنه وشجاه حينما رأى أعز ما في الحياة عنده أمه الرءوم قد عاشت في هذه الدنيا وعمرها كعمر الزهور ، وفاجأها الموت وهي في شبابها الغض الاهاب ، وقد حملت على الآلة الحدباء فى غلس الليل البهيم ولم يحضر أحد من المسلمين تشييعها عدا نفر قليل ، وهي بضعة النبي صلی اللّه علیه و آله وريحانته ، ووديعته في امته واعز من أحب من أبنائه وبناته ، وقد ذاق من هذه الكوارث وهو فى دوره الباكر مرارة الحياة ، وصار قلبه موطنا للهموم ، ومركزا للاحزان والشجون.

اعتزال الامام

وانصرف امير المؤمنين علیه السلام بعد أن ودع بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله في الثرى ، وهو يبكي أمر البكاء ، وعاد الى البيت وهو كئيب حزين ، ينظر الى اطفاله وهم يندبون امهم ويبكون على فادح المصاب ، فتهيج أحزانه ، وتزداد آلامه ، ويشاهد حقه وتراثه فيرى الرجال قد تناهبوه فتلم به الكوارث والخطوب ، فآثر علیه السلام العزلة ، واحب الخلود الى السكون في داره ، وقد اعتزل علیه السلام عن الناس فصار جليس بيته ، لا يجتمع بالناس ، ولا يجتمعون به قد اعرض عن القوم ، واعرضوا عنه ، لا يراجعهم ، ولا يراجعونه ، ولا يشار كونه فى جميع الامور اللّهم إلا إذا حلت في ناديهم مشكلة لا يعرفون جوابها ، ولا يهتدون لحلها ، فزعوا إليه ليكشف لهم الستار عنها ، وكان علیه السلام تارة يتولى جواب ذلك

ص: 169

بنفسه ، واخرى يحيله الى ولده الحسن للتدليل على فضله ومواهبه ، فمن ذلك ما حدث به الرواة ان اعرابيا سأل أبا بكر فقال له :

« إني اصبت بيض نعام فشويته وأكلته ، وانا محرم فما يجب علي؟. »

فتحير ابو بكر ولم يطق جوابا ، واحال الجواب الى عمر فتحير أيضا ، واحال الجواب الى عبد الرحمن فعجز عنه ، وفزعوا جميعا الى باب مدينة علم النبي صلی اللّه علیه و آله ليهديهم الى الجواب ، ووجه إليه الاعرابي السؤال السالف فقال (عليه السلام) :

« سل أي الغلامين شئت - واشار الى الحسن والحسين - »

ووجه الاعرابي سؤاله الى الامام الحسن فقال (عليه السلام) له

- ألك إبل؟

- نعم

- فاعمد الى ما أكلت من البيض نوقا فاضر بهن فى الفحول ، فما ينتج منها ، اهده الى بيت اللّه العتيق ، الذي حججت إليه .. »

والتفت إليه أمير المؤمنين

« يا بني. إن من النوق السلوب ، وما يزلق (1) »

فاجابه الحسن عن اشكاله.

« يا ابة. إن يكن من النوق السلوب ، وما يزلق فان من البيض ما يمرق (2) وكان جوابه علیه السلام على وفق ما قرر في الفقه الاسلامي في كفارة الاحرام ، واستحسن أمير المؤمنين جوابه فالتفت علیه السلام الى حضار مجلسه ، وهو يشيد بمواهب ولده ، وغزارة علمه وفضله ، قائلا :

« معاشر الناس .. إن الذي فهم هذا الغلام هو الذي فهمه سليمان بن داود (3)

ص: 170


1- السلوب : الناقة التي مات ولدها او القته بغير تمام ، الزلوق : الناقة التي تلقى ولدها بغير تمام.
2- يمرق : مأخوذ من مرقت البيضة اي فسدت
3- مناقب ابن شهر اشوب 2 / 150 نقله عن القاضي فى شرح الاخبار

لقد كان امير المؤمنين علیه السلام مرجعا للفتيا في حياة أبي بكر وعمر ومفزعا للمسلمين إن حلت يناديهم مشكلة ، وقد اتفقت الكلمة انه اعلم الصحابة بشئون الدين واحكام الشرع.

وفاة ابي بكر

وظل أبو بكر متقمصا للخلافة زمنا يسيرا يدير شئون الامة ، ويتصرف في أمورها ، قد اعتمد على عمر وأسند إليه مهام الدولة ، ولما مرض مرضه الذي توفي فيه وثقل حاله ادلى بالامر من بعده إليه وقد انكر عليه طلحة هذا الاختيار فقال له :

« ما ذا تقول لربك ، وقد وليت علينا فظا غليظا؟ تفرق منه النفوس وتنفض منه القلوب » (1)

فسكت أبو بكر ، واندفع طلحة قائلا :

« يا خليفة رسول اللّه ، إنا كنا لا نحتمل شراسته وأنت حي تأخذ على يديه ، فكيف يكون حالنا معه ، وأنت ميت وهو الخليفة .. » (2)

ولم ينفرد طلحة بهذا الانكار بل شاركه جمهور المهاجرين والانصار فقد بادروا الى أبي بكر وقالوا له :

« نراك استخلفت علينا عمر ، وقد عرفته ، وعلمت بوائقه فينا ، وأنت بين أظهرنا ، فكيف اذا وليت عنا ، وأنت لاق اللّه عز وجل فسائلك ، فما أنت قائل؟ .. »

فاجابهم أبو بكر بصوت خافض

ص: 171


1- شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 55
2- شرح النهج 6 / 343 ط دار احياء الكتب العربية

« لئن سألني اللّه لاقولن استخلفت عليهم خيرهم فى نفسي ... » (1)

وكون عمر خيرهم في نفسه ليس مبررا له في ترشيحه للخلافة ، فان الاجدر أن يأخذ رأي المسلمين في ذلك ويستشير أهل الحل والعقد منهم عملا بقاعدة ( الشورى ) ولكنه اهمل ذلك ، واستجاب لعواطفه ورغبته الملحة في أن يتولى زمام الحكم من بعده خدنه وزميله ، وعلى أي حال فقد كان عمر الى جانبه يعزز مقالته ورأيه فيه قائلا :

« أيها الناس ، اسمعوا ، واطيعوا قول خليفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .. » (2)

ودعا أبو بكر عثمان بن عفان ، وامره أن يكتب له العهد في عمر وأملاه عليه وهذا نصه :

« هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة ، آخر عهده في الدنيا نازحا عنها. وأول عهده بالآخرة داخلا فيها ، إني استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب ، فان تروه عدل فيكم فذلك ظني به ورجائى فيه ، وإن بدل وغير فالخير أردت ، ولا اعلم الغيب ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (3)

وتناول عمر الكتاب ، وانطلق يهرول الى الجامع ليقرأه على الناس فقال له رجل :

« ما في الكتاب يا أبا حفص.؟ »

« لا ادري. ولكني أول من سمع وأطاع .. »

فنظر الرجل إليه نظرة ريبه وانبرى قائلا :

ص: 172


1- الامامة السياسة 1 / 19
2- تأريخ الطبرى 4 / 52
3- الامامة والسياسة 1 / 19 ، تأريخ الطبرى ، طبقات ابن سعد

« ولكني واللّه أدرى ما فيه : أمرته عام أول ، وأمرك العام .. » (1)

لقد مهد أبو بكر الأمر الى عمر ، وعبدّ له الطريق ، وتناسى أمير المؤمنين فلم يشاوره في الامر ، ولم يرع حقه ، وقد نطق علیه السلام بعد سنين عما يكنه في نفسه من عميق الالم والحزن يقول في خطبته الشهيرة بالشقشقية :

فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا ، حتى مضى الاول لسبيله ، فادلى بها الى فلان بعده ، ثم تمثل بقول « الأعشى » :

شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر

فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته (2) إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها .. (3)

وهذه الكلمات قد عبرت عن عظيم الوجد ، وبالغ الاسى الذي استقر في نفس الامام على ضياع حقه ، ويعتقد بعض كتاب العصر أن السبب في عدول أبي بكر عن اختياره ، هو تخلفه عن بيعته ، واحتجاجه عليه بأنه أحق بالأمر منه لقرابته من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مما اوجب بغض أبي بكر له ، وحقده عليه.

وزاد المرض بأبي بكر ، وثقل حاله حتى وافاه الأجل المحتوم (4)

ص: 173


1- الامامة والسياسة 1 / 20
2- اشارة الى قول ابي بكر بعد ما بويع « اقيلوني فلست بخيركم »
3- نهج البلاغة محمد عبده 1 / 26 - 27
4- توفى ابو بكر ليلة الثلاثاء لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة ، وعمره ثلاث وستون سنة ، ومدة خلافته سنتان وثلاثة اشهر ذكر ذلك المسعودى في مروج الذهب 2 / 191 وكان في الجاهلية معلما للصبيان ، وفى الاسلام خياطا ، وكان ابوه فقيرا ، يكتسب من صيد القمارى والدباسي ، ولما عمى وعجز ابنه عن القيام به التجأ إلى عبد اللّه بن جدعان احد رؤسا. مكة فنصبه ينادى على مائدته جاء ذلك فى حق اليقين 1 / 181

فقام عمر في شئونه ، ودفنه في بيت النبي صلی اللّه علیه و آله وفي جواره ، وبيت النبي صلی اللّه علیه و آله لا يخلو اما أن يكون ميراثا كما تقول به بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله أو يكون صدقة كما زعم أبو بكر فان كان ميراثا فلا يحل دفنه فيه الا بعد ارضاء الورثة ، وان كان صدقة فلا بد من ارضاء جماعة المسلمين ، ولم يتحقق كل ذلك. خلافة عمر

وتولى عمر بن الخطاب أزمة الحكم بعد وفاة أبي بكر ، وتسلم قيادة الأمة بهدوء وسلام ، فساس البلاد بشدة وعنف بالغين ، وقد تحامى لقاءه أكابر الصحابة ، فلم يستطع أحد منهم أن يجاهر بآرائه ، أو ينقد الحكم القائم ، فان درة عمر - كما يقولون - كانت أهيب في النفوس من سيف الحجاج ، حتى ان ابن عباس لم يتمكن أن يصرح برأيه في جواز المتعة ، وحليتها الا بعد وفاة عمر ، وقد وصف الامام أمير المؤمنين علیه السلام بعد اعوام سياسة عمر ، وشدة عنفه يقول علیه السلام :

« فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن اشنق لها خرم وان اسلس لها تقحم ، فمني الناس لعمر اللّه بخبط وشماس ، وتلون واعتراض .. » (1)

وهو وصف دقيق للسياسة العمرية التي انتهجت منهج الشدة والغلظة في جميع مجالاتها حتى مني الناس بخبط وشماس وتلون واعتراض ، وبلغ من

ص: 174


1- نهج البلاغة لابن ابي الحديد 1 / 162

عظيم عنفها ان امرأة جاءت تسأله عن أمر ، وكانت حاملا ، ولشدة خوفها اجهضت حملها (1) ويقول عثمان في شدة عمر وقسوته : « لقد وطئكم ابن الخطاب برجله ، وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه فخفتموه ، ورضيتم به » ويذهب الناقدون الى هذه السياسة انها لا تمثل وجهة السياسة الاسلامية ، فانها لا تقر بحال سياسة العنف والارهاب ، فقد جاء رجل إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأخذته هيبة النبيّ فارتعدت اعضاؤه فنهره صلی اللّه علیه و آله وقال له : « انما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد » إن الاسلام بنى على الرفق ، واللين ، والتسامح وليس لرئيس الدولة أن يسلك أي طريق يؤدي الى ارهاق المواطنين وعنائهم.

ومما يؤخذ على السياسة العمرية انها كانت تنهج إلى ايجاد الطبقية في الاسلام ، فقد التزم في سياسته المالية بتقديم بعض الطبقات على بعض في العطاء ، فقدم امهات المؤمنين على غيرهن ، وقدم البدريين على من سواهم ، والمهاجرين على الانصار (2) ومن الطبيعي أن ذلك يتنافى مع المساوات التي جاء بها الاسلام.

ومما يرد على سياسة عمر أنه فرض الحصار على الصحابة في يثرب ولم يسمح لهم بمغادرتها وذلك يجافي الحرية التامة التي اقرها الاسلام ، ومنحها لجميع المواطنين.

ولعل لهذه الجهات وصف أمير المؤمنين عهد عمر بأن المجتمع قد منى فيه بخبط وشماس وتلون واعتراض.

ص: 175


1- نهج البلاغة 1 / 174
2- الأموال لأبى عبيد ص 224

اعتزال الامام

واعتزل الامام امير المؤمنين علیه السلام في دور الخليفة الثاني كما اعتزل في عهد الخليفة الاول ، فلم يشترك في شأن من شئون القوم ، ولم يتدخل في أمر من أمورهم ، حتى خفت صوته في جميع الحروب والمواقف اللّهم الا رأيه الوثيق اذا استفتي حتى اشتهرت كلمة عمر في ذلك : لو لا علي لهلك عمر » (1) فقد كان عمر لا يستغنى عن الامام من ناحية الفتيا لأن معلومات الخليفة في الفقه الاسلامي كانت ضئيلة للغاية فقد قضى في ميراث الجد مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة ثم خاف في الحكم فى هذه المسألة فقال : من أراد أن يقتحم جرائيم جهنم فليقل في الجد برأيه ، (2) وقال : لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي صلی اللّه علیه و آله الا ارتجعت ذلك منها ، فقالت إليه امرأة :

« ما جعل اللّه لك ذلك ، إنه تعالى قال : ( وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (3)

فانطلق عمر وهو يبدى للمسلمين عجزه قائلا :

« كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال! ألا تعجبون من إمام أخطأ ، وامرأة اصابت فاضلت إمامكم ففضلته .. (4)

ص: 176


1- السنن الكبرى 7 / 442 ، تفسير الرازي 7 / 484
2- نهج البلاغة 1 / 181
3- سورة النساء : آية 20
4- نهج البلاغة 1 / 182

وعلى أي حال فقد كان عمر قليل البضاعة في الفقه الاسلامي ليست له دراية في كثير من مسائله ، فكان بطبيعة الحال مضطرا الى الرجوع الى باب مدينة علم النبي صلی اللّه علیه و آله ووصيه ليكشف له الستار عما أشكل عليه ، وقد تصدى علیه السلام بسخاء لهذه الناحية ، ولم يظن على القوم بعلومه ومعارفه لئلا تهمل أحكام اللّه وتتعطل حدوده ، وهو في نفس الوقت كان بعيدا عن القوم كل البعد فلم يشترك في شأن من شئونهم قد خلد الى الانعزال ، والابتعاد عنهم ، وأظهر لهم المسالمة حرصا منه على كلمة الإسلام ، وخوفا على كلمة المسلمين من الانشقاق.

وقد قطع الامام الحسن علیه السلام في عهد عمر دور الصبا حتى أشرف على ميعة الشباب ، وقد اقتضت سياسة عمر أن يجل السبطين ويجعل لهما نصيبا فيما يغتنمه المسلمون ، ووردت إليه حلل من وشي اليمن فوزعها على المسلمين ونساهما ، فبعث الى عامله على اليمن أن يرسل له حلتين ، فأرسلهما إليه فكساهما وقد جعل عطاءهما مثل عطاء أبيهما ، وألحقهما بفريضة أهل بدر ، وكانت خمسة آلاف (1).

ولم تظهر لنا أي بادرة عن الامام الحسن علیه السلام ما عدا ذلك ، ويعود السبب الى عدم تدخل أبيه أمير المؤمنين علیه السلام في شئون عمر وعدم اشتراكه في أي جانب من الجوانب العامة.

اغتياله :

واغتاله أبو لؤلؤة غلام المغيرة فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت سرته وهي التي قضت عليه ، وتعزو بعض المصادر سبب ذلك الى ان المغيرة جعل

ص: 177


1- تأريخ ابن عساكر 4 / 321

عليه خراجا ثقيلا فشكا حاله الى عمر فزجره وقال له :

« ما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها .. »

فتأثر أبو لؤلؤة ، وأضمر له الشر في نفسه ، واجتاز عليه فى وقت آخر فسخر منه عمر قائلا :

« بلغنى أنك تقول : لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت .. »

فاندفع أبو لؤلؤة وقد لسعته سخريته فاخبره بما يبيت له من الشر قائلا :

لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها .. »

وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال (1) وقيل ان اغتياله كان وليد مؤامرة دبرها الناقمون على سياسته التي انتهجت منهج الشدة والقسوة ، وخلقت الطبقية بين المسلمين.

ومهما يكن من أمر فقد حمل عمر الى داره ، وجراحاته تنزف دما وبادر أهله فأحضروا له طبيبا فقال له :

« أي الشراب أحب إليك؟. »

« النبيذ »

فسقوه منه ، فخرج من بعض طعناته ، فقال الناس : خرج صديدا ثم سقوه لبنا فخرج من بعض طعناته ، فيئس منه الطبيب وقال له :

لا أرى أن تمسى (2) ولما أيقن ولده عبد اللّه بموته قال له :

« يا أبة. استخلف على امة محمد صلی اللّه علیه و آله فانه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك ، وترك إبله أو غنمه لا راعى لها لمته ، وقلت له :

ص: 178


1- مروج الذهب 2 / 212 ، الاستيعاب
2- الامامة والسياسة 1 / 21

كيف تركت أمانتك ضائعة؟! فكيف بأمة محمد صلی اللّه علیه و آله فاستخلف عليهم .. »

فنظر إليه نظرة ريبة فقال له :

« إن استخلف عليهم فقد استخلف أبو بكر ، وإن أتركهم فقد تركهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .. » (1)

وأقام عبد اللّه في حديثه برهانا تدعمه الفطرة على ضرورة نصب الوصي ، وتعيين ولى العهد ، وان من أهمله يستحق اللوم والتقريع ، وهو أمر واضح لا مجال للشك فيه ، والعجب من عمر وهو في ساعاته الأخيرة كيف يقول إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ترك امته ولم يستخلف عليها أحدا من بعده!! وهو صلی اللّه علیه و آله الحريص على امته الذي يعز عليه عنتها واختلافها ، وانشقاقها وقد لاقى في سبيل هدايتها أعظم العناء وأشقه ، ولعل ( الوجع ) قد غلب على عمر فنسي النصوص المتضافرة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أمير المؤمنين علیه السلام وأنه ولى عهده وخليفته من بعده ، وتناسى بيعته له يوم غدير خم ، وقوله له : « بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة » ولكن إنا لله ، وإنا إليه راجعون.

الشورى :

ولما يئس عمر من الحياة ، وأيقن بنزول الأجل المحتوم أخذ يطيل التفكير ، ويمعن النظر فيمن يتولى شئون الحكم من بعده ، وتذكر أقطاب حزبه الذين شاركوه في تمهيد الأمر الى أبي بكر ، وصرفه عن أهل بيت

ص: 179


1- مروج الذهب 2 / 212

النبوة فطافت به آلام مبرحة لأنه لم يكن أحد منهم إلا اختطفته يد المنون فجزع عليهم وقال بنبرة الآسف : « لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته لأنه أمين هذه الامة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته لأنه شديد الحب لله تعالى ... »

لقد اسف على هلاك أبي عبيدة وسالم ، ولو كانا حيين لرشحهما لمنصب الخلافة ، فهل لهما سابقة الجهاد في الاسلام؟ أو أنهما كانا أثيرين عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليستحقا هذا المنصب الخطير.

لقد فتش عمر في سجل الاموات عمن هو أهل للخلافة ، ونسي أمير المؤمنين علیه السلام الذي هو نفس النبيّ صلی اللّه علیه و آله وباب مدينة علمه ، وباب دار حكمته ، وأقضى امته ، وأبو سبطيه ، وناصره في جميع المشاهد والمواقف ، لقد نساه عمر فلم يذكره بقليل ولا بكثير ، وعلى اي حال فقد رأى عمر ان يجعلها شورى في جماعة زعم أن الامام أحدهم ، وهي مؤامرة خطيرة دبرت ضد أمير المؤمنين علیه السلام يقول الامام كاشف الغطاء رحمه اللّه :

« الشورى بجوهرها وحقيقتها مؤامرة واقعية ، وشورى صورية ، وهي مهارة بارعة لفرض عثمان خليفة على المسلمين رغما عليهم ولكن بتدبير بارع عاد على الاسلام والمسلمين بشر ماله دافع .. »

ودعا عمر أعضاء الشورى فلما مثلوا عنده قال لهم :

« أكلكم يطمع بالخلافة بعدي؟ .. »

ووجموا عن الكلام ، فأعاد القول عليهم ثانيا فانبرى إليه الزبير فرد عليه مقالته قائلا :

« وما الذي يبعدنا منها!! وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في

ص: 180

قريش ، ولا في السابقة ولا فى القرابة .. »

والتفت إليهم فقال :

« أفلا أخبركم عن أنفسكم؟! »

« قل : فانا لو استعفيناك لم تعفنا .. »

وأخذنا يدلي برأيه فيهم ، ويخبر عن نفسياتهم واتجاهاتهم واحدا بعد واحد فقال في الزبير :

« أما أنت يا زبير ، فوعق لقس (1) مؤمن الرضا كافر الغضب ، يوما انسان ، ويوما شيطان ، ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير!! أفرأيت إن أفضت إليك ، فليت شعرى من يكون للناس يوم تكون شيطانا ، ومن يكون يوم تغضب!! وما كان اللّه ليجمع لك أمر هذه الامة ، وأنت على هذه الصفة. »

ومع علمه بنفسية الزبير ، وأنه يوم إنسان ، ويوم شيطان وأنه مبتل بالبخل والشح ويلاطم بالبطحاء على مد من شعير كيف يرشحه للخلافة ، ويجعله من أعضاء الشورى؟؟!!

وأقبل على طلحة فقال له :

« أقول أم أسكت؟. »

فزجره طلحة وقال له :

« إنك لا تقول من الخير شيئا .. »

« أما إني أعرفك منذ اصيبت إصبعك يوم أحد وائيا (2) بالذي حدث لك ، ولقد مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ساخطا عليك بالكلمة

ص: 181


1- الوعق : الضجر المتبرم ، واللقس من لا يستقيم على وجه
2- وائيا : غاضبا

التي قلتها يوم انزلت آية الحجاب ... »

وإذا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد توفى وهو ساخط على طلحة كيف يرشحه للخلافة الاسلامية التي هي نيابة عن الرسول؟ كما أنه يناقض ما قاله أخيرا في أعضاء الشورى من أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مات وهو راض عنهم ، يقول الجاحظ : « لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مات وهو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة : إنه مات علیه السلام ساخطا عليك للكلمة التي قلتها ، لكان قد رماه بمشاقصه (1) ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا فكيف هذا »

وأقبل على سعد بن ابي وقاص فقال له :

« إنما أنت صاحب مقنب (2) من هذه المقانب ، تقاتل به ، وصاحب قنص وقوس ، وأسهم ، وما زهرة والخلافة وأمور الناس!! »

فسعد بن أبي وقاص - حسب فراسة عمر - رجل حرب ، وقتال ، وصاحب قنص وقوس فلا يصلح للخلافة ، وليس خليقا بها هو وأسرته فكيف يرشحه عمر لها ويجعله من أعضاء الشورى الذين لهم الأهلية لتسلم قيادة الحكم؟!

والتفت الى عبد الرحمن بن عوف فقال له :

« وأما أنت يا عبد الرحمن ، فلو وزن نصف إيمان المسلمين بايمانك لرجح إيمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الامر لمن فيه ضعف كضعفك وما زهرة وهذا الامر!. »

ص: 182


1- المشاقص : جمع مشقص وهو نصل السهم اذا كان طويلا
2- المقنب : جماعة الخيل

ان عبد الرحمن رجل إيمان وتقوى - حسب رأي عمر - ومن إيمانه الذي اضفاه عليه الخليفة أنه عدل عن انتخاب العترة الطاهرة ، وسلم قيادة الامة ، ومقدراتها بأيدى الامويين خصوم الاسلام واعداء الرسول صلی اللّه علیه و آله ثم ان الايمان بذاته - كما يقول عمر - لا يصلح لترشيح صاحبه للخلافة ما لم تكن له دراية تامة بشئون المجتمع ، وخبرة وافرة بما نحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها ، وعبد الرحمن - حسب اعتراف عمر - رجل كيف لا يليق للخلافة فكيف يرشحه لها ويجعله من أعضاء الشورى البارزين؟! وأقبل على أمير المؤمنين فقال له :

« لله أنت ، لو لا دعابة فيك! أما واللّه لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والمحجة البيضاء .. »

ومتى كانت لأمير المؤمنين علیه السلام الدعابة والمزاح ، وهو الذي ما الف في حياته لغير الجد في القول والعمل ، وعلى تقدير اتصافه بها ، فهى من خلق الأنبياء ومن خلق الرسول صلی اللّه علیه و آله بالاخص ، فقد ورد أنه كان صلی اللّه علیه و آله يداعب الرجل ليسره بذلك.

وهل من الحيطة على الاسلام ، والمحافظة على وحدة الامة ، ورعاية صالحها أن يفتل عمر حبل الشورى ويجعل أمير المؤمنين علیه السلام أحد أعضائها ، وهو - حسب اعترافه - لو تولى زمام الحكم لحمل المسلمين على الحق الواضح والمحجة البيضاء ، ولسار بهم سيرا سجحا لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح ضفتاه ، ولا يترنم جانباه ، ولأصدرهم بطانا ، ونصح لهم سرا واعلانا - كما تقول بضعة الرسول ووديعته - ويقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إن ولوا عليا فهاديا مهديا » (1)

ص: 183


1- الاستيعاب 3 / 5

ان الامام أمير المؤمنين علیه السلام لو استولى على زمام السلطة لوفر للمسلمين ما يحتاجون إليه من خيرات الحياة وأوجد لهم الفرص المتساوية ، وصان المثل الاسلامية من التدهور والانحطاط ، فهل من الانصاف أن تصرف الخلافة عنه وتجعل شورى بأسلوب يؤدي الى فوز الامويين بالحكم؟!!

وأقبل عمر على عثمان فقال له :

« هيها إليك!! كأني بك قد قلدتك قريش هذا الامر لحبها إياك فحملت بني أمية ، وبني أبي معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفىء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحا. واللّه لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ، ثم أخذ بناصيته ، فقال : فاذا كان ذلك فاذكر قولي .. » (1)

ومع علمه بأنه يحمل بنى أمية ، وبنى أبي معيط على رقاب الناس ، ويؤثرهم بفىء المسلمين كيف يرشحه للخلافة ، ويمكنه من رقاب المسلمين ويعرض الامة للويلات والخطوب!!

وبعد ما أدلى بحديثه التفت الى الجمهور قائلا :

إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش ، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم واحدا منهم .. »

ثم قال للمرشحين : « احضروا معكم من شيوخ الانصار ، وليس لهم من أمركم شيء ، واحضروا معكم الحسن بن علي ، وعبد اللّه بن عباس فان لهما قرابة ، وارجو لكم البركة فى حضورهما وليس لهما من

ص: 184


1- شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 185 - 186

أمركم شيء .. » (1)

وما هى البركة التي تحصل لأعضاء الشورى بحضور الامام الحسن ، وعبد اللّه بن عباس ، وهما لا يملكان من الامر شيئا ، قد جردهما من الادلاء بالرأي ، كما جرد شيوخ الانصار من ذلك ، ولم يسمح لأحد منهم أن يبدي برأيه ، ثم التفت الى أبي طلحة الانصاري (2) فقال له :

« يا أبا طلحة ، إن اللّه أعز الاسلام بكم فاختر خمسين رجلا من الانصار ، فالزم هؤلاء النفر بامضاء الامر وتعجيله .. »

والتفت الى المقداد بن الاسود فاوصاه بمثل ذلك ثم قال :

« اذا اتفق خمسة ، وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه ، وان اتفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقيهما ، وان اتفق ثلاثة منهم على رحل ، ورضي ثلاثة منهم برجل آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس .. »

وخرج الامام أمير المؤمنين المظلوم المهتضم ، وهو ملتاع حزين من الشورى العمرية قد أيس من الامر فالتقى بعمه العباس فبادره قائلا :

« يا عم لقد عدلت عنا .. »

ص: 185


1- الامامة والسياسة 1 / 24
2- ابو طلحة الانصارى هو زيد بن سهل النجار ، شهد مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله بدرا ، ولما آخى صلی اللّه علیه و آله بين اصحابه آخى بينه وبين ابى عبيدة الجراح ، وكان ابو طلحة من الرماة المعدودين ، ومن الشجعان المشهورين ، قتل يوم حنين عشرين رجلا ، وتزوج بام انس بن مالك ، توفى بالمدينة سنة احدى وثلاثين ، وكان عمره سبعين عاما ، وقد صلى عليه عثمان بن عفان ، اسد الغابة 5 / 334

ومن أعلمك بذلك؟! »

« لقد قرن بي عثمان .. وقال : كونوا مع الاكثر ، ثم قال : كونوا مع عبد الرحمن ، وسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهر لعثمان ، وهم لا يختلفون فاما أن يوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن .. » (1)

لقد كشف علیه السلام عن المؤامرة التي دبرها الخليفة الراحل ضده فقد فتل حبل الشورى بهذا الاسلوب ليصرف الامر عنه ، وقد كوت هذه الصور المؤلمة قلبه فراح يقول بعد سنين :

« حتى اذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الاول منهم حتى صرت أقرن الى هذه النظائر .. »

أجل واللّه ، متى اعترض الريب فيه مع أبي بكر حتى صار يقرن بطلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف فهل فى هؤلاء من هو كفؤ للامام فى دينه وعلمه ، وجهاده ، وسابقته للاسلام ، وإنما استجاب علیه السلام لئن يكون من أعضاء الشورى مع وجود هذه المفارقات بينه ، وبين القوم ، فقد بينه في حديثه مع عبد اللّه بن عباس ، وخلاصته أن عمر قد أهله للخلافة وكان من قبل يقول : لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد فاراد أن يظهر أن أقواله تناقض أفعاله ، ولهذا السبب الوثيق انضم مع أعضاء الشورى

نظرة في الشورى :

وتواجه الشورى العمرية عدة من المؤاخذات فقد ذكر الناقدون لها

ص: 186


1- الطبري 5 / 35

أنها لم تستند الى الاساليب الصحيحة ، ولم تبتن على الاسس الوثيقة ، وانها لم تنشد بأي حال صالح الامة ، ولم تهدف الى حماية المجتمع وصيانته من القلق والاضطراب ، وإنما الغرض منها صرف الخلافة عن أمير المؤمنين علیه السلام وحرمان الامة من التمتع فى ظل حكمه العادل ، فهي لم تكن شورى واقعية ، وإنما كانت شورى صورية مشفوعة بالعصبية والاحقاد ، والى القراء بعض تلك النقود التي ترد عليها :

1 - إن حقيقة الشورى ان تشترك الامة بجميع هيآتها فى الانتخاب والاختيار في جو تتوفر فيه الحريات العامة لجميع الناخبين ، والشورى العمرية قد فقدت هذه العناصر فقد حيل بين الشعب والاختيار فان عمر منح الاختيار الى ستة اشخاص ومن الطبيعي أنهم لا يملكون إلا آراءهم الخاصة فلا يمثلون الامة ولا يحكون ارادتها على أنه ضيق الدائرة فجعل المناط بآراء الثلاثة الذين ينضم إليهم عبد الرحمن بن عوف ، وجعل آراءهم تعادل آراء بقية الشعوب الاسلامية ، وهذا شكل من اشكال التزكية التي تستعملها بعض الحكومات التي تفرض ارادتها على شعوبها ، لقد تصادمت هذه الشورى مع إرادة الشعوب الاسلامية ، وتنافت مع حرياتهم ، وقد فرضت عليهم فرضا.

2 - إن هذه الشورى قد ضمت اكثر العناصر المعادية لأمير المؤمنين علیه السلام والحاقدة عليه ففيها طلحة التيمي وهو من أسرة أبي بكر الذي نافس الامام على الخلافة ، وكانت بين تيم والامام أشد المنافرة والخصومة وضمت الشورى عبد الرحمن بن عوف ، وهو صهر عثمان ، بالاضافة الى أنه كان حقودا على امير المؤمنين علیه السلام فهو من جملة الذين حملوا الحطب في بيعة أبي بكر لحرق بيت الامام ، وضمت الشورى سعد بن أبي

ص: 187

وقاص ، وكان يحقد على الامام من أجل اخواله الامويين فان أمه حمنة بنت سفيان بن أميّة ، وقد أباد الامام صناديدهم في سبيل الاسلام فكانت نفس سعد مترعة بالحقد والعداء على الامام من أجلهم ، ولما بايع المسلمون الامام كان سعد في طليعة المتخلفين عن بيعته ، واحتوت الشورى على عثمان وهو شيخ الاسرة الاموية التي عرفت بالنصب لآل بيت النبي صلی اللّه علیه و آله وقد ألب عمر هذه القوى كلها ضد الامام ، لئلا تؤل الخلافة إليه ، وقد تحدث علیه السلام بعد ان ولى الامر عن ضغن أعضاء الشورى وحقدهم عليه فقال :

« لكني اسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره مع هن وهن »

لقد ألب عمر عن عمد جميع أحقاد قريش ، واضغانها ضد أخي رسول اللّه ووصيه وباب مدينة علمه استجابة لأحقاد قريش التي وترها الامام في سبيل الاسلام.

3 - لقد عمد عمر الى اقصاء جميع العناصر الموالية للامام فلم يجعل لها نصيبا في الشورى ولم يرشح أحدا من الانصار وهم الذين آووا النبي صلی اللّه علیه و آله ونصروه لأنه كان لهم هوى وميل للامام علیه السلام كما لم يجعل نصيبا فيها لعمار بن ياسر الذي هو أحد المؤسسين في يناء الاسلام ، وكذلك أقصى أبا ذر ، والمقداد وأمثالهم من أعلام الاسلام لأنهم كانوا شيعة لعلي ، وقصر الشورى على القوى المنحرفة عن الامام والمعادية له.

4 - ومن عجيب أمر الشورى التي وضع برامجها عمر أنه يشهد بحق أعضائها ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مات وهو راض عنهم ثم يأمر

ص: 188

بضرب أعناقهم إن تأخروا عن انتخاب أحدهم فهل ان ذلك موجب للخروج عن الدين ، والمروق من الاسلام حتى تباح دماؤهم!!؟

5 - ومن غريب أمر هذه الشورى ان عمر جعل الترجيح للكفة التي تضم عبد الرحمن فيما اذا اختلف أعضاؤها ، وغض طرفه عن الجماعة التي تضم أمير المؤمنين علیه السلام فلم يعرها أي اهتمام بل الزمها بالخضوع لرأي عبد الرحمن بن عوف ، وتقديمه على أمير المؤمنين وهو صاحب المواهب والعبقريات الذي لا ند له فى علمه وورعه وتقواه فكيف يساويه بغيره ، واللّه تعالى يقول : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) أف لك يا زمان ، وتعسا لك يا دهر أيكون أمير المؤمنين ندا لأعضاء الشورى ، ويرجح عليه عبد الرحمن ، ولكنها الاحقاد والعصبيات التي أترعت نفوسهم بها قد أنستهم المقاييس ، وصدتهم عن جادة العدل.

6 - ومما يؤخذ على هذه الشورى انها أوجدت التنافس بين أعضائها فقد رأى كل واحد منهم أنه كفؤ للآخر ، ولم يكونوا قبلها على هذا الرأي فقد كان سعد تبعا لعبد الرحمن ، وعبد الرحمن تبعا لعثمان ، والزبير من شيعة الامام ، وهو القائل على عهد عمر : « واللّه لو مات عمر بايعت عليا » ولكن الشورى قد نفخت فيه روح الطموح ففارق أمير المؤمنين وخرج عليه يوم الجمل ، وقد تولدت في نفوسهم بسبب الشورى الاطماع والاهواء ، ورجا الخلافة وتطلبها من ليس أهلا لها حتى ضجت البلاد بالفتن والاختلاف ، واضطربت كلمة المسلمين ، وتصدع شملهم ، وقد صرح بهذا الواقع المرير معاوية بن ابي سفيان في حديثه مع ابن حصين الذي أوفده زياد لمقابلته ، فقد قال له معاوية :

- بلغنى ان عندك ذهنا ، وعقلا فاخبرني عن شيء أسألك عنه؟

ص: 189

- سلنى عما بدا لك :

- أخبرني ما الذي شتت أمر المسلمين ، وملأهم وخالف بينهم؟؟

- قتل الناس عثمان

- ما صنعت شيئا

- مسير علي إليك وقتاله اياك

- ما صنعت شيئا

- مسير طلحة ، والزبير ، وعائشة ، وقتال علي إياهم!!

- ما صنعت شيئا

- ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين

- أنا أخبرك انه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر الى ستة نفر ، وذلك ان اللّه بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فعمل بما أمره اللّه به ، ثم قبضه اللّه إليه ، وقدم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأمر دينهم ، فعمل بسنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسار بسيرته حتى قبضه اللّه ، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته ، ثم جعلها شورى بين ستة نفر فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلعت الى ذلك نفسه ، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك خلاف .. » (1)

هذه بعض آفات الشورى التي فتحت باب الفوضى والنزاع بين المسلمين ، وتركت الطلقاء وأبناءهم يتسابقون الى ميدان الخلافة الاسلامية وينزون على منابر المسلمين ، ويستأثرون بالفيء وينكلون باخيار المسلمين

ص: 190


1- العقد الفريد 3 / 73 - 74

وصلحائهم فانا لله وإنا إليه راجعون.

الانتخاب :

ولاقى عمر ربه ، ومضى الى مقره الأخير (1) فاحاط البوليس بأعضاء الشورى ، وألزمهم بالاجتماع لينفذوا وصية عمر ، ويختاروا للمسلمين حاكما منهم ، فاجتمع المرشحون في بيت المال ، وقيل في بيت مسرور بن محرمة وأشرف على الانتخاب الامام الحسن علیه السلام وعبد اللّه بن عباس ، وازدلف عمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة الى محل الانتخاب فجلسا في الباب ، فعرف قصدهما سعد بن أبي وقاص فنهرهما وقال :

« تريدان ان تقولا : حضرنا ، وكنا في أهل الشورى؟! »

وتداول الاعضاء الحديث فيما بينهم عمن هو أحق بالامر وأولى به وأكثرهم قدرة وقابلية على ادارة شئون الحكم ، وانبرى إليهم أمير المؤمنين علیه السلام فأقام عليهم الحجة ، وحذرهم مغبة ما يحدث في البلاد من الفتن ان استجابوا لنزعاتهم ولم يؤثروا الحق فقال علیه السلام :

« لم يسرع أحد قبلي الى دعوة حق ، وصلة رحم ، وعائدة كرم فاسمعوا قولي ، وعوا منطقى ، عسى أن تروا هذا الامر من بعد هذا اليوم

ص: 191


1- توفى عمر يوم الاربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، وكانت ولايته عشر سنين وستة اشهر ، واربع ليال وهو ابن ثلاث وستين سنة جاء ذلك في مروج الذهب 2 / 198 وكان قبل الاسلام من الفقر والبؤس بمكان ، يقول عمرو بن العاص : « واللّه لقد رايت عمر واباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية ، لا تجاوز مأبض ركبتيه ، وعلى رقبته حزمة حطب » ذكر ذلك ابن ابي الحديد في شرح النهج 1 / 175

تنتضى فيه السيوف ، وتخان فيه العهود ، حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلال وشيعة لأهل الجهالة .. » (1)

ولم يعوا منطق الامام ، ولم يتأملوا فيه ، وانطلقوا مدفوعين وراء أطماعهم وأهوائهم ، وكشف الزمن بعد حين صدق تنبؤ الامام ، فقد انتضوا السيوف ، وخانوا العهود ليصلوا الى صولجان الحكم والسلطان وصار بعضهم أئمة لأهل الضلالة ، وشيعة لأهل الجهالة

وعلى اي حال ، فقد كثر الجدال فى الموضوع ، وانفضت الجلسة ولم تنته على محصل ، وكان الناس ينتظرون بفارغ الصبر النتيجة الحاسمة التي تسفر عن اجتماعهم ، فلم يظفروا بشيء ، وانعقد الاجتماع مرة أخرى ولكنه لم يسفر عن اي نتيجة وأخذت فترة الزمن التي حددها عمر تضيق فأشرف أبو طلحة الانصارى على الاعضاء وقال لهم :

« لا والذي نفس عمر بيده!. لا أزيدكم على الايام الثلاثة التي أمرتم .. »

واقترب اليوم الثالث ، فانعقد الاجتماع فانبرى طلحة ، ووهب حقه لعثمان وانما فعل ذلك لعلمه بانحرافه عن أمير المؤمنين علیه السلام ، فاراد يقوي جانبه ، ويضعف جانب الامام ، وانطلق الزبير فوهب حقه للامام لأنه رأى الامام قد ضعف جانبه ، واندفع سعد فوهب حقه لعبد الرحمن ابن عوف لأنه ابن عمه (2) أما عبد الرحمن الذي أناط به عمر أمر الشورى وجعل رأيه هو الفيصل فكان يرى في نفسه الضعف وعدم القدرة على ادارة شئون الحكم ، فاتجه الى ترشيح غيره ، وكانت ميوله مع عثمان ،

ص: 192


1- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 31
2- شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 189

واستشار القرشيين فزهدوه في أمير المؤمنين وحببوا له عثمان ، ودفعوه الى اختياره وانتخابه.

وحلت الساعة الرهيبة التي تغير فيها مجرى التأريخ فقال عبد الرحمن لابن اخته :

« يا مسور .. اذهب فادع لي عليا وعثمان.

« بأيهما أبدأ يا خال؟ »

« بأيهما شئت. »

فانطلق مسور ، فاحضر الامام ، وعثمان وحضر المهاجرون والانصار وازدحمت الجماهير في الجامع لتأخذ القرار الحاسم فقام عبد الرحمن وقال :

« أشيروا علي في هذين - واشار الى سليل هاشم ، وشيخ الامويين - » فانبرى إليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر فقال له :

« ان أردت ألا يختلف الناس فبايع عليا .. »

وأشار عليه بالرأي الصائب الذي يصون الامة من الاختلاف ، ويحميها من النزاع والانشقاق ، وانطلق المقداد فأيّد مقالة عمار ، فقال :

« صدق عمار .. وإن بايعت عليا ، سمعنا واطعنا .. »

فقام عبد اللّه بن ابي سرح أحد أعلام الامويين الذين ناهضوا النبي صلی اللّه علیه و آله وناجزوه فخاطب ابن عوف فقال له :

« إن أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان .. »

واندفع عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي فقال :

« صدق إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا .. »

وانبرى عمار بن ياسر فشتم ابن أبي سرح وقال له :

« متى كنت تنصح للإسلام؟؟! »

ص: 193

وصدق عمار فمتى كان ابن أبي سرح يقيم وقارا للاسلام ، او ينصح المسلمين ، ويهديهم الى طريق الحق ، وقد كان من اعدى الناس الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولما فتح مكة أمر صلی اللّه علیه و آله بقتله ولو كان متعلقا باستار الكعبة (1) ، أمثل هذا الوغد يتدخل في شئون المسلمين؟ ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.

وتكلم بنو هاشم وبنو أميّة ، واحتدم الجدال بين الاسرتين ، فانطلق ابن الاسلام البار عمار بن ياسر فقال :

« أيها الناس إن اللّه اكرمكم بنبيه ، وأعزكم بدينه ، فالى متى تصرفون هذا الامر عن اهل بيت نبيكم!!؟ »

لقد كان كلام عمار حافلا بمنطق الاسلام الذي وعاه قلبه فان قريشا وسائر العرب إنما اعزها اللّه بدينه وأسعدها بنبيه ، فهو مصدر عزهم وشرفهم ومجدهم ، فليس من الانصاف ولا من العدل أن يصرفوا الامر عن أهله وعترته ويضعونه تارة في تيم واخرى في عدي ، ويجهدون الآن ليضعونه في قبيلة اخرى وانبرى إليه رجل من مخزوم فقطع عليه كلامه قائلا :

« لقد عدوت طورك يا ابن سمية .. وما أنت وتأمير قريش لأنفسها!!؟ » وقد أترعت نفس الرجل بروح الجاهلية فراح يندد بابن سمية ، ويرى أنه عدا طوره ، وتجاوز حده لتدخله فى شئون قريش ، وأي حق لقريش في هذا الامر؟! وهي التي ناهضت النبي صلی اللّه علیه و آله وناجزته ، ووقفت في وجه دعوته ، وإنما الامر للمسلمين يشترك فيه ابن سمية - الذي أعزه اللّه بدينه - وسائر الضعفاء الذين ساندوا الرسول ، وحاموا عن دعوته فهؤلاء لهم الرأى ولهم الحكم وليس لطغاة قريش أي رأي

ص: 194


1- الاستيعاب 2 / 375

لو كان هناك منطق أو حساب

وعلى أي حال فبعد ما كثر النزاع بين القوى الاسلامية الواعية ، وبين القوى المنحرفة عنه التفت سعد الى عبد الرحمن فقال له :

« يا عبد الرحمن .. افرغ من امرك قبل أن يفتتن الناس .. » »

فاسرع عبد الرحمن الى الامام :

« هل أنت مبايعي على كتاب اللّه وسنة نبيه ، وفعل ابي بكر وعمر؟ :

فرمقه الامام بطرفه واجابه بمنطق الايمان ، ومنطق الاحرار قائلا « بل على كتاب اللّه وسنة رسوله واجتهاد رأيي .. »

ولا يتوقع من الامام علیه السلام غير ذلك فان مصدر التشريع في الاسلام كتاب اللّه وسنة نبيه فعلى ضوئهما تسير الدولة ، وتعالج مشاكل الرعية ، وليس فعل ابي بكر وعمر من مصادر التشريع ، وقد نهج أبو بكر في سياسته منهجا خاصا لم يوافقه عمر فيه ويرى انه كان بعيدا عن سنن التشريع فقد كان لأبي بكر رأيه الخاص في خالد بن الوليد حينما قتل مالك بن نويرة (1) وزنى بزوجته فقد رأى أبو بكر أن خالدا تأول فأخطأ

ص: 195


1- مالك بن نويرة بن حمزة التميمي ، اليربوعى ، يكنى أبا حنظلة ، ويلقب « الجفول » كان شاعرا فارسا شريفا ، معدودا فى قومه من فرسان بني يربوع في الجاهلية ، وكان من ارداف الملوك ، استعمله النبي صلی اللّه علیه و آله لوثاقته ونباهته على صدقات قومه ، فلما بلغه وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله امسك عن الصدقة ، وفرقها في قومه ، ولعله عمل فى ذلك بالسنة التي نصت على توزيع الزكاة على فقراء المنطقة فان فضل منها شيء يحمل الى بيت المال وإلا فلا ، ويقول فى ذلك فقلت خذوا اموالكم غير خائف *** ولا ناظر فيما يجيء من الغد فان قام بالدين المخوف قائم *** اطعنا وقلنا الدين دين محمد وهذا الشعر يدل على إيمانه وتمسكه الوثيق بدينه ، وقد زحف إليه خالد بن الوليد ، ولم يؤمر بقتاله فغشيه في الليل ، وبعد اداء فريضة الصلاة خف بجيشه الى الاستيلاء على اسلحتهم ، وامساكهم ، وساقوهم اسرى الى خالد ، وفيهم زوجة مالك ليلى بنت المنهال ، وهى من اشهر نساء العرب فى جمالها ، فافتتن بها خالد ، وتجادل بالكلام مع مالك فقال له خالد : إني قاتلك : قال له مالك : أو بذلك امرك صاحبك - يعنى ابا بكر - قال واللّه إني قاتلك ، وكان عبد اللّه ابن عمر وابو قتادة الانصاري الى جانبه فعذلاه عن قتله فأبى وقال : لا اقالنى اللّه إن لم اقتله ، وامر ضرار بن الازور بضرب عنقه ، فالتفت مالك الى زوجته ، وقال لخالد : هذه التي قتلتني ، فقال له خالد : بل اللّه قتلك برجوعك عن الاسلام ، فرد عليه مالك قائلا : إني على الاسلام ، وقام ضرار فقتله صبرا وجعل خالد رأسه اثفية لقدر ، وقبض على زوجته وبنى بها في تلك الليلة ، ودرأ ابو بكر عنه الحد بدعوى انه تأول فأخطأ ، يراجع فى تفصيل الحادث المؤسف النص والاجتهاد للامام شرف الدين.

فلا يستحق أن يقام عليه الحد ، ويرى عمر أنه لا بد من اقامة الحد عليه ولا مجال لاعتذار ابي بكر ، وسلك أبو بكر في سياسته المالية منهجا اقرب الى المساواة من سياسة عمر التي انتهجت في كثير من شئونها منهج الطبقية وتقديم بعض المسلمين على بعض في العطاء ، وحرم عمر المتعتين وهما حسب اعترافه كانتا مشروعتين في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولعمر فتواه المتعارضة فى ميراث الجدة وغيرها فعلى أي منهج منها يسير ابن أبي طالب رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الارض ، ولو كان علیه السلام يروم الأمرة والسلطان لالتزم لابن عوف بشرطه ، وبعد ذلك يسير برأيه الخاص في الحكم ، ويعتقل المعارضين له ولكنه علیه السلام أبى ذلك وحجزه إيمانه الوثيق أن يقر شيئا لا يراه مشروعا.

ولما يئس ابن عوف من الامام انبرى الى عثمان فشرط عليه ذلك فابدأ عثمان الموافقة لأي شرط وأرسل يده فصفق عبد الرحمن بكفه عليها وقال :

« اللّهم. إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان .. »

وعلا الضجيج والصخب بين الناس ، فقد فاز عميد الامويين بالحكم وآلت إليه امور الخلافة ، وانطلق أمير المؤمنين علیه السلام فقال لابن عوف :

« واللّه ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ،

ص: 196

دق اللّه بينكما عطر منشم » (1)

والتفت الى القرشيين فقال لهم :

« ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل ، واللّه المستعان على ما تصفون. »

واندفع ابن عوف الى الامام يهدده

« يا علي ، لا تجعل على نفسك سبيلا »

وغادر الامام المسجد وهو يقول :

« سيبلغ الكتاب أجله. »

وانطلق الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر ، وهو يخاطب ابن عوف :

ص: 197


1- منشم : - بكسر الشين - اسم امراة كانت بمكة عطارة ، وكانت خزاعة وجرهم اذا ارادوا القتال تطيبوا من طيبها ، وكانوا اذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم ، فكان يقال اشأم من عطر منشم ، صحاح الجوهرى 5 / 2041 وقد استجاب اللّه دعاء الامام فكانت بينهما اشد المنافرة والخصومة واوصى ابن عوف ان لا يصلي عليه عثمان.

« يا عبد الرحمن .. أما واللّه لقد تركته ، وانه من الذين يقضون بالحق ، وبه كانوا يعدلون .. »

وخرج المقداد ، وهو مثقل الخطا ويقول :

« تاللّه ما رأيت مثل ما أتى الى أهل هذا البيت بعد نبيهم!! واعجبا لقريش!! لقد تركت رجلا ما اقول ولا أعلم أن أحدا أقضى بالعدل ولا اعلم ولا اتقى منه أما لو أجد أعوانا .. »

وقطع عليه عبد الرحمن كلامه فقال له :

« اتق اللّه يا مقداد ، فاني خائف عليك الفتنة .. » (1)

واشرف الامام الحسن على الانتخاب فراعه ما رأى من انقياد القوم نحو الاغراض الشخصية ، والمطامع ، واستبان له أن المهاجرين من قريش يحملون في نفوسهم حقدا وضغنا على أبيه ، وان الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه حيث ما درّت معايشهم ، وقد تركت تلكم الصور التي اجتازت عليه في نفسه أشد الاستياء والتذمر ، وعرفته ان القوم يسيرون وراء مصالحهم وأطماعهم ، ولا شأن لهم بالمصلحة العامة ، وهنا نودع الامام الحسن لنلتقي معه في عهد الخليفة الثالث.

ص: 198


1- شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 194

فى عهد عثمان

اشارة

ص: 199

ص: 200

نستقبل الحسن علیه السلام في عهد عثمان وهو في شرخ الشباب وعنفوانه فقد كان عمره ينيف على عشرين عاما وهو دور يسمح لصاحبه أن يخوض معترك الحياة ، وأن يعطي رأيا في الناحية الاجتماعية فدخل الامام علیه السلام في دوره هذا - على ما قيل - ميدان الجهاد « والجهاد باب من أبواب الجنة » فانضم الى المجاهدين حيث اتجهت ألويتهم الفاتحة الى احتلال افريقية ، سنة ست وعشرين من الهجرة (1) وتذكر المجاهدون في حفيد الرسول صلی اللّه علیه و آله شخصية جده ، فأبلوا بلاء حسنا حتى فتح اللّه على أيديهم وبعد ما وضعت الحرب أوزارها اتجه الحسن علیه السلام الى عاصمة جده صلی اللّه علیه و آله والنصر حليفه وقلبه مفعم بالسرور والارتياح لتوسع النفوذ الاسلامى وانتشار دين جده ، ولما كانت سنة ثلاثين من الهجرة اتجهت الجيوش الاسلامية الفاتحة والتي يرف النصر عليها

ص: 201


1- العبرج 2 ص 128 و129 لابن خلدون ، وجاء فيه ان عثمان وجه جيشا الى غزو افريقية فى سنة خمس وعشرين وكانت قيادة الجيش بيد عبد اللّه ابن نافع وعقبة بن نافع بن عبد القيس ، فتوجه الجيش الى افريقية وكان عدده عشرة آلاف ، فلما وصلوا إليها لم يتمكنوا على فتحها وصالحهم اهلها على مال يؤدونه إليهم ، ثم ان عبد اللّه بن ابى سرح اخا عثمان من الرضاعة استأذن عثمان على غزو افريقية وطلب منه ان يمده بالجيش فاستشار عثمان الصحابة فحبذ إليه اكثرهم ذلك ، فجهز عثمان إليه جيشا من المدينة فيهم ابن عباس وابن العاص وابن جعفر والحسن والحسين فساروا الى افريقية ففتحوها وذلك في سنة ست وعشرين ولم يذكر صاحب الفتوحات الاسلامية انضمام الحسن والحسين علیهماالسلام الى الجيش.

الى احتلال طبرستان فانضم الحسن علیه السلام إليها (1) وببركته فتح اللّه على أيديهم ورف لواء الاسلام عليها ، ففي سبيل المصلحة العامة وخدمة الدين اللذين هما فوق سائر الاعتبارات دخل الامام الحسن علیه السلام في ميدان الجهاد والكفاح ، والقى الستار على ما يكنه في نفسه من الاستياء على ضياع حق أبيه ، وهو درس رائع يجب أن تستفيد منه الاحزاب السياسية القائمة في البلاد من ان عنعنات الحزبية يجب ان تلغى أمام صالح البلاد والمجتمع.

وساس عثمان الامة حفنة من السنين فكانت سياسته بعيدة كل البعد عن سنة الرسول صلی اللّه علیه و آله وسيرة الشيخين وبعيدة كل البعد عن روح ذلك العصر لأنها لم تتفق مع الناحية الدينية والاجتماعية لذلك كتب لها الفشل والخذلان ، وسبب ذلك يرجع الى عدم قدرة الخليفة على ادارة شئون الامة وعجزه من الناحية الادارية ، وضعف ارادته ضعفا يلمس في كافة أعماله ، وصدق « امرسن » في قوله :

« إن قوة الارادة سر النجاح ، والنجاح غاية الوجود ، فان قوة إرادة نابليون ، وكرنت ، والاسكندر وغيرهم من رجال التأريخ هي التي

ص: 202


1- تأريخ الامم والملوك ج 5 ص 57 و58 العبر ج 2 ص 134 الفتوحات الاسلامية ج 1 ص 175 جاء فى كل هذه المصادر انه غزا سعيد بن العاص طبرستان سنة ثلاثين من الهجرة ، وكان الأصبهبد قد صالح سويد بن مقرن على مال بذله له في ايام عمر بن الخطاب ، فلما كان دور عثمان جهز إليهم جيشا بقيادة سعيد بن العاص ، كان فيه الحسن والحسين وعبد اللّه بن عباس وغيرهم فلما وصلوا إليها فتحوها ، وقال الراغب الاصفهاني فى محاضرات الادباء ج 1 ص 76 الأصبهبد هو صاحب الجبل وهو الصواب لا الأصبهبد.

خلدت اسماءهم ، وإنا لنرى عددا كبيرا من رجال التأريخ لم ينتج انخذالهم على ما اشتهروا به من الشجاعة والحنكة والذكاء إلا عن ترددهم ، وضعف إرادتهم ، وان من المحال أن ندخل معترك الحياة ، ونرجو الفوز فيها دون أن تكون لدينا إرادة قوية » (1)

إن قوة الارادة لها الاثر التام في تكوين الشخص وفي خلوده فى هذه الحياة ، وان الشخص الضعيف المغلوب على امره يستحيل أن يحقق أي هدف للامة أو يبني لها كيانا ، وقد حرص الاسلام كل الحرص على ابعاد ضعيف الارادة عن قيادة الامة ، ومنعه من مزاولة الحكم لأنه يعرض البلاد للاخطار ، ويجر لها الويلات والخطوب ، ويذهب بهيبة الحكم ومعنويته ويغري ذوي القوة بالتمرد والخروج من الطاعة.

إن عثمان كان فاقد الارادة الى حد بعيد ، فلم تكن له قدرة لمواجهة الاحداث ، ولا قابلية له للتغلب عليها فقد او كل شئون الدولة الى مروان يتصرف بها حسب ما يشاء ، ونقل ابن ابي الحديد عن بعض مشايخه ان الخليفة فى الحقيقة والواقع مروان ، وعثمان له اسم الخلافة لا غير.

وعلى أي حال فلا بد لنا أن نتبين قصة عثمان ، ونقف على حقيقتها وواقعها فان لها ارتباطا وثيقا بما نحن فيه ، فقد زعم غير واحد من المؤرخين أن الامام الحسن علیه السلام كان عثمانى الهوى ، وانه وقف يوم الدار مدافعا عن عثمان ، وحزن عليه بعد مقتله حزنا بالغا ، وانه كان يندد بأبيه لأنه لم يقم بنجدته وحمايته ، وقد مال لذلك الدكتور طه حسين وأرسلها الى القراء ارسال المسلمات من دون ان يتبين فيها ، ولا يعرف مدى واقعية ذلك إلا بعد التعرف على سياسة عثمان وسيرته فانها هي التي

ص: 203


1- قوة الارادة لاوريسون سويت ماردن

تكشف عن زيف هذه الامور وعدم التقائها بواقع الامام علیه السلام الذي كان يحمل هدي جده الرسول صلی اللّه علیه و آله وسيرة أبيه.

وقبل التحدث عن سياسة عثمان نود أن نبين أنا نلتقي في كثير من بحوثنا الآتية مع الدكتور طه حسين فقد حاول تبرير عثمان ، وتنزيهه عن التهم التي الصقت به بوجوه بعيدة خالية من التحقيق العلمي ، وقد تنصل في طليعة بحوثه عن عثمان عن كل هوى وتعصب طائفى ، فليس هو شيعة لعثمان وليس شيعة لعلي ، وانما يريد أن يخلص في بحوثه للحق ما وسعه اخلاصه للحق وحده (1) ولكنه لم يلتزم بوعده فانطلق يتمسك بالاسباب الواهية لتصحيح أخطاء السياسة العثمانية التي لم تساير فى اي مرحلة من مراحلها كتاب اللّه وسنة نبيه ، وسيرة الشيخين ، حتى نقم عليها خيار المسلمين وصلحاؤهم ، وثارت عليه الاقاليم الاسلامية ، واحاطت به جماهير المسلمين يطالبونه أن يعتدل في سياسته وأن يسير على الطريق الواضح والمحجة البيضاء فلم يستجب لذلك فاردوه صريعا ، قد شقيت الامة بحكمه ، وامتحنت بعد مقتله.

إن الواجب يقضى بأن ننظر الى هذه الاحداث بدقة وأمانة ، ونتعمق فيها ، ونبين معطياتها فانها ترتبط بواقعنا الدينى ، وليس لنا ان نلتمس المعاذير لأي شخص كان فيما اذا جافت سيرته تعاليم الاسلام ، وتنافت مع مبادئه واحكامه ، والى القراء بعض تلك المؤاخذات التي تواجه سياسة عثمان :

ص: 204


1- الفتنة الكبرى 1 / 5

عفوه عن عبيد اللّه

واستقبل عثمان خلافته بالعفو عن عبيد اللّه بن عمر الذي ثار لمقتل أبيه فقتل بغير حق الهرمزان ، وجفينة ، وبنت أبي لؤلؤة ، وأراد قتل كل سبي بالمدينة فانتهى إليه سعد بن أبي وقاص فساوره وقابله بناعم القول حتى أخذ منه السيف ، وأودع في السجن حتى ينظر عثمان في امره ، ولما تمت البيعة لعثمان اعتلى أعواد المنبر ، وعرض على المسلمين قصة عبيد اللّه فقال :

« وقد كان من قضاء اللّه ان عبيد اللّه بن عمر أصاب الهرمزان ، وكان الهرمزان من المسلمين ، ولا وارث له إلا المسلمون عامة ، وأنا إمامكم وقد عفوت أفتعفون؟ .. »

فانبرى جمع من الناس فاعلنوا الرضا ، والاقرار للعفو سوى الامام أمير المؤمنين علیه السلام فقد انكر على عثمان ولم يرض بقضائه وقال له :

« أقد الفاسق فانه أتى عظيما ، قتل مسلما بلا ذنب .. »

وصاح الامام بعبيد اللّه « يا فاسق .. لئن ظفرت بك لأقتلنك بالهرمزان. » (1)

واندفع المقداد بن عمر فرد على عثمان قائلا :

« إن الهرمزان مولى لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله .. » (2)

ولم يرض ثقات المسلمين وصلحاؤهم بهذا العفو واعتبروه تعديا على الاسلام وخرقا لحدوده فكان زياد بن لبيد إذا لقى عبيد اللّه يقول له :

ألا يا عبيد اللّه مالك مهرب *** ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر

ص: 205


1- الانساب للبلاذري 5 / 24
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 141

أصبت دما واللّه في غير حله *** حراما وقتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل *** أتتهمون الهرمزان على عمر

فقال سفيه والحوادث جمة *** نعم أتهمه قد أشار وقد أمر

وكان سلاح العبد في جوف بيته *** يقلبه والامر بالامر يعتبر

وشكا عبيد اللّه الى عثمان فدعا زيادا فنهاه عن ذلك ، ولكنه لم ينته وقد تناول بالنقد عثمان فقال فيه :

أبا عمرو عبيد اللّه رهن *** - فلا تشكك - بقتل الهرمزان

فانك ان غفرت الجرم عنه *** وأسباب الخطا فرسا رهان

لتعفو إذ عفوت بغير حق *** فما لك بالذي تخلي يدان

وغضب عثمان على زياد فنهاه وزجره حتى انتهى (1) واخرج عبيد اللّه من يثرب الى الكوفة ، وأنزله دارا فنسب الموضع إليه فقيل « كويفة ابن عمر » وروى الطبري ان عثمان استشار الصحابة في شأن عبيد اللّه ، فاشار عليه قوم بالعفو ، وقالوا : يقتل عمر امس ويقتل ابنه اليوم ، وأشار عليه جماعة منهم الامام أمير المؤمنين بالقود ، فقال له عمرو بن العاص يا أمير المؤمنين ، ان اللّه قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان ، إنما كان هذا الحدث ، ولا سلطان لك ، فاستجاب عثمان لرأيه وقال : أنا وليهم وقد جعلتها دية ، واحتملها في مالى (2)

وقد حفلت هذه البادرة بما يلي من المؤاخذات :

1 - ان الاسلام قد ألزم ولاة الامور باقامة الحدود وعدم التسامح

ص: 206


1- تاريخ الطبري 5 / 41
2- تاريخ الطبري 5 / 41

والتساهل فيها للحفاظ على النظام العام ، وصيانة النفوس ، وحمايتها من الاعتداء وليس للحاكم ان يقف موقف اللين والتسامح مع المعتدى مهما كانت له من مكانة مرموقة في المجتمع ، وقد أعلن ذلك الرسول صلی اللّه علیه و آله وطبقه على واقع الحياة فقد سئل أن يعفو عن سارقة لشرف أسرتها فأجاب :

« انما هلك من كان قبلكم لأنهم كانوا إذا أذنب الضعيف فيهم عاقبوه ، واذا أذنب الشريف تركوه ، واللّه لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها .. » (1)

وجلد صلی اللّه علیه و آله أصحاب الإفك ، وفيهم سطح بن اثاثة (2) وكان من أهل بدر ، هذا ما يقتضيه العدل الاسلامى الذي لا يفرق بين الابيض والاسود ، والضعيف والقوي ، والرئيس والمرءوس فهم سواسية أمام القانون ، وقد جافى عثمان ذلك ، وخالف ما يقتضيه العدل فلم يفد عبيد اللّه لأنه ابن عمر ، وفتى من فتيان قريش فآثر رضا آل الخطاب ورضا قريش فعفا عنه ، وابعده الى الكوفة ، ومنحه دارا يسكن فيها ، وقد فتح بذلك باب الفوضى والفساد ، ومكن ذوي النفوذ أن ينالوا من الضعفاء ، الذين ليس لهم ركن يأوون إليه.

2 - ان عثمان قد الغى رأى أمير المؤمنين الذي الزم بالقود ، وهو من دون شك أعلم بحدود اللّه واحكامه ، واستجاب لرأي ابن العاص الذي عرف ببغيه وحقده على الاسلام.

3 - ان المصلحة العامة كانت تقضى بالقود وعدم العفو عنه لأنه

ص: 207


1- النظام السياسي فى الاسلام ص 227 نقلا عن الخراج لأبي يوسف ص 50
2- اسد الغابة

لو قتله لكان اقطع للفساد ، وأنفى للقتل ، ولم يقدم أحد من ذوى النفوذ على ارتكاب هذه الجريمة ، فان ابن الخليفة قد اقتص منه ولكن عثمان لم يرع المصلحة العامة ، واستجاب الى الاغراض الخاصة التي تتنافى مع مصلحة الامة.

4 - إن الولاية للامام إنما تثبت فيما اذا علم ان المقتول لا وارث له والهرمزان من فارس فكان اللازم على عثمان أن يفحص عن وارثه ويتبين واقعيته ، ومع عدمه تثبت له الولاية ، ولكنه لم يفعل ذلك ، ولم يتحقق في أمره فاضفى على نفسه أنه وارثه ووليه.

5 - وليس للحاكم ان يعفو عن الدية ، وإنما له ان يصالح عليها كما يرى ذلك ملك العلماء الحنفى يقول :

« ان الامام له ان يصالح على الدية إلا أنه لا يملك العفو ، لأن القصاص حق المسلمين بدليل أن ميراثه لهم ، وإنما الامام نائب عنهم في الاقامة ، وفي العفو إسقاط حقهم أصلا ورأسا وهذا لا يجوز ، ولهذا لا يملكه الاب والجد وإن كانا يملكان استيفاء القصاص ، وله ان يصالح على الدية » (1). وعلى ضوء هذه الفتيا الحنفية فليس لعثمان صلاحية العفو عن الدية ، وهذا الاشكال يسجل على عثمان على ما رواه بعضهم من انه عفا عن الدية. هذه بعض المؤاخذات التي تواجه عثمان في عفوه عن عبيد اللّه وعدم قوده.

دفاع طه حسين

وحاول الدكتور طه حسين تبرير عثمان ، ونفي المسئولية عنه ، وكان اعتذاره لا يحمل طابعا علميا ، ونسوق الى القراء مواضع دفاعه :

ص: 208


1- بدائع الصنائع 7 / 245

1 - فما كان عثمان ليستفتح خلافته بقتل فتى من فتيان قريش ، وابن من أبناء عمر. وما كان عثمان ليهدر دم مسلم وذميين. وهو من أجل ذلك آثر العافية ، فأدى دية القتلى من ماله الخاص الى بيت مال المسلمين وحقن دم عبيد اللّه بن عمر ، وفي امضائه الحكم على هذا النحو سياسة رشيدة لو نظر الناس الى القضية نظرة سياسية خالصة (1).

ان عثمان لو استفتح خلافته بقتل عبيد اللّه لوفى للمسلمين ما عاهدهم عليه من السير على ضوء كتاب اللّه وسنة نبيه ، وتطبيق أحكام الشرع على واقع الحياة ولكنه انطلق في ميدان السياسة فآثر العافية وأهمل أحكام الدين وقد علق سماحة الامام كاشف الغطاء رحمه اللّه على هذا الاعتذار بقوله :

« هذا من الاغلاط الواضحة فان دم عبيد اللّه قد هدره الشرع ولم يحقنه - هذا أولا - وثانيا ان القتل كان عن عمد وحكمه القصاص لا الدية وقد غلط الاولون وجاء الآخرون يوجهون غلطهم بغلط آخر .. » (2)

2 - ونعود فنقول إن عثمان كان ولي أمر المسلمين وله بحكم هذه الولاية أن يعفو ، ونزيد على ذلك أنه حين عفا لم يعطل حدا من حدود اللّه ، ولم يهدر دم الهرمزان وصاحبيه ، وإنما ادى ديتهم من ماله لبيت مال المسلمين الذي كان يرثهم وحده .. » (3)

وقد علق عليه سماحة المغفور له كاشف الغطاء قال ما نصه :

ص: 209


1- الفتنة الكبرى 1 / 66
2- تعليقة مهمة للامام كاشف الغطاء على الفتنة الكبرى مخطوطة توجد فى مكتبته العامرة ، ودفاع طه حسين ونقد كاشف الغطاء إنما يتم على رواية الطبري من انه دفع الدية من ماله ولم يعف عنه
3- الفتنة الكبرى 1 / 67

« وهذا أيضا غلط ادهى وأمر فان واجب ولي أمر المسلمين اقامة حدود اللّه لا تعطيلها ، واعطاء الدية في مورد القصاص من دون رضاء أولياء الدم تحكم في احكام الشرع وتلاعب بالدين. »

3 - وقد أمر النبي ان تدرأ الحدود بالشبهات ، فلعل عثمان قد درأ هذا الحد عن عبيد اللّه بالشبهة التي تأتي من غضبه لأبيه واندفاعه مع شهوته الجامحة. واللّه قد حبب الى المسلمين العفو حين يقدرون وجزاهم عليه خيرا ... »

وهذا من الاغلاط الفظيعة فان الغضب لا يصلح أن تدرأ به الحدود وإلا لوجب أن يدرأ الحد عن كل قاتل على نحو القتل على الاكثر إنما يصدر عن الغضب والثورة الجامحة ، وقاعدة الحدود تدرأ بالشبهات لا تنطبق على ما نحن فيه فلها مواردها الخاصة والمورد ليس من مصاديقها ، ولو كان الغضب موجبا لسقوط القود لاعتذر به عثمان ، ودافع به عن نفسه حينما أنكر عليه أمير المؤمنين وغيره ، فهل الدكتور اعرف بمواقع السنة من عثمان؟!

إن دفاع الدكتور خال من التحقيق ، وليست له أي صبغة تشريعية ولا يمكن ان يبرر عثمان ويقصى عنه المسئولية.

ومهما يكن من أمر فان عفو عثمان عن عبيد اللّه لم يكن المقصود منه إلا تطييب قلوب آل الخطاب ، وارضاء القرشيين ، وليس فيه أي مصلحة للامة.

سياسته المالية

واحتاط الاسلام احتياطا شديدا في أموال الدولة ، وألزم الولاة

ص: 210

والحكام ان ينفقوها على المرافق العامة وعلى اصلاح الحياة ، ومكافحة الفقر ، واعالة الضعيف ، والانفاق على العاجزين كالارامل والايتام ، وليس لهم ان يدخروا منها لأنفسهم ، ولا أن يصطفوا منها لذراريهم ، فليست طعمة لهم ، ولا ملكا يتصرفون فيها حيثما شاءوا ، يقول الامام أمير المؤمنين لعبد اللّه بن زمعة لما قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا :

« إن هذا المال ليس لي ولا لك ، وإنما هو فيء للمسلمين وجلب أسيافهم ، فان شركتهم في حرب كان لك مثل حظهم ، وإلا فجناة ايديهم لا تكون لغير أفواههم .. » (1)

وكتب علیه السلام الى قثم بن العباس عامله على مكة :

« وانظر الى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه الى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيبا به مواضع الفاقة والخلات ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا » (2)

ويقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ان رجالا يتخوضون في مال اللّه بغير حق فلهم النار يوم القيامة » (3)

هذا هو نظر الاسلام بايجاز في الناحية المالية فهو يلزم المسئولين بصرف أموال الدولة على انعاش المواطنين ، وانقاذهم من البؤس والحاجة ، وليس لهم بأي حال أن يتاجروا بها في شراء الضمائر ، وصلة غير المحتاج ، ولكن عثمان لم يطبق ذلك لا بكثير ولا بقليل ، فقد تسلط على الخزينة المركزية ، ووهب الاموال الطائلة بسخاء الى الامويين والى آل أبي معيط لتقوية نفوذهم

ص: 211


1- نهج البلاغة 1 / 461
2- نهج البلاغة 2 / 128
3- صحيح البخاري 5 / 17

وتركيزهم في البلاد ، فقاموا بدورهم باستغلال المسلمين ، والتلاعب بمقدراتهم والتحكم في مصيرهم ، كما منح الاموال الطائلة الى الوجوه والاعيان الذين يخاف جانبهم ، ويحذر سطوتهم نظرا لنفوذهم السياسي فى البلاد ، وقد أدى ذلك الى تضخم الثراء وتكدس الاموال عند طائفة من الناس حاروا في صرفها وفي انفاقها ، ومن الطبيعي أن ذلك يؤدي الى نشر الفاقة وذيوع الفقر والبؤس بين الناس الامر الذي يتنافى مع اتجاه الاسلام الذي يحرص كل الحرص على اسعاد المجتمع ، ونشر الرفاهية ، وبسط السعة بين الناس ونسوق بعض البوادر للاستدلال بها على ما ذكرناه :

1 - هباته للأمويين

ومنح عثمان أموال المسلمين الى اسرته ، وذوي قرباه الذين تنكروا للإسلام ، وقابلوه ، وناجزوه الحرب ، فأوصلهم وبرّ بهم ، وحملهم على رقاب الناس ، ووهبهم الثراء العريض يتمتعون فيه ، ويبالغون في البذخ والاسراف ، والى القراء بعض اولئك الذين أغدق عليهم بهباته : أ - أبو سفيان

ووهب عثمان الى أبي سفيان مائتى الف من بيت المال (1) أعطاه هذه المنحة وهو رأس المشركين يوم أحد ، ويوم الاحزاب ، وفي طليعة الحاقدين على الاسلام ، والناقمين منه ، وما دخل الدين في قلبه ، ولا انتزعت روح الجاهلية من نفسه ، وهو الذي انطلق الى قبر حمزة فركله برجله ، وقال : « يا أبا عمارة! .. إن الامر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا يتلعبون به. » ثم مضى مثلوج القلب ، ودخل على عثمان بعد أن فقد بصره فقال :

ص: 212


1- شرح النهج 1 / 67

« اللّهم ، اجعل الامر أمر جاهلية ، والملك ملك غاصبية ، واجعل أوتاد الارض لبني أمية .. » (1)

فهل من العدل والانصاف أن تمنح أموال المسلمين الى هذا المنافق الذي اترعت روحه بالعداء والبغض للإسلام؟!! وهل تبيح الشريعة الاسلامية إعطاء هذه الاموال الى شخص ما آمن باللّه طرفة عين؟!

ب - الحارث بن الحكم

وأجزل عثمان بالعطاء الى الحارث بن الحكم لأنه صهره من عائشة فقد أعطاه ثلاثمائة الف درهم (2) ووردت ابل الصدقة الى المدينة فوهبها له (3) وأقطعه سوقا في يثرب يعرف بتهروز بعد أن تصدق به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على جميع المسلمين (4) وبما ذا استحق الحارث أن يمنح هذه الاموال الطائلة؟ فهل اسدى خدمة للاسلام او قام بعمل نفع به المسلمين حتى يستحق أن يوصل بهذه الاموال؟! هذا مع ان ابل الصدقة يجب ان تنفق على الفقراء والمعوزين ، كما أنه كيف خصه بصدقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع أنها لجميع المسلمين ، فلا مبرر ولا مسوغ له في هذا العطاء الذي خالف أحكام اللّه ، وتنافى مع صالح الامة

ج - عبد اللّه بن سعد

وأعطى عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة جميع ما أفاء اللّه به من فتح إفريقية بالمغرب وهي من طرابلس الغرب الى طنجة ، ولم

ص: 213


1- تأريخ ابن عساكر 6 / 407
2- انساب الاشراف 5 / 52
3- الانساب ص 28
4- شرح النهج 1 / 67

يشرك في عطائه أحدا من المسلمين (1) وهو أحد أعلام المشركين ، ومن الذين تنكروا للإسلام ، وكفروا بقيمه ، وسنذكر ترجمته في البحوث الآتية ما يثبت ذلك ، فكيف جاز لعثمان أن يوصله بهذه الاموال الهائلة ، ويمنحه هذا الثراء العريض.

د - الحكم بن أبي العاص

ويجدر بنا قبل أن نذكر هبات عثمان وصلاته للحكم أن نتعرف على واقعيته ، وبعض شئونه ليتضح أنه كان خليقا بالقطيعة والاقصاء ، وجديرا بالتوهين والاستخفاف ، وإن منحه أموال المسلمين أمر لا مبرر له بأي حال والى القراء ذلك :

1 - محاربته للإسلام

ووقف الحكم فى وجه الدعوة الاسلامية فكان يحرض الناس على البقاء على عبادة الاوثان ، ويمنعهم من الدخول في حظيرة الاسلام ، وقد التقى مروان بحويطب فسأله عن عمره فأخبره به فقال له مروان : « تأخر اسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الاحداث؟! »

فقال حويطب :

« واللّه لقد هممت بالاسلام غير مرة ، كل ذلك يعوقني أبوك يقول : تضع شرفك ، وتدع دين آبائك ، لدين محدث ، وتصير تابعا .. » (2)

إن الحكم وبقية الاسرة الاموية ناهضت الاسلام ، وبذلت جميع امكانياتها في صد الدعوة الاسلامية ومكافحتها بشتى الاساليب ، ولكن اللّه رد كيدهم ، ونصر الاسلام واعز دينه.

ص: 214


1- شرح النهج 1 / 67
2- تاريخ ابن كثير 8 / 70

2 - استهزاؤه بالنبي

كان الحكم من ألد أعداء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن أحقدهم عليه وقد بالغ في إيذائه والتوهين به ، والاستخفاف بمقامه الرفيع ، فكان يمر خلفه فيغمز به ، ويحكيه ، ويخلج بأنفه وفمه (1) والتفت النبي فرآه يفعل ذلك فقال : كذلك فلتكن ، فكان الحكم مختلجا يرتعش حتى مات ، وقد عيره بذلك عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال فى هجاء عبد الرحمن بن الحكم :

إن اللعين أبوك فارم عظامه *** إن ترم ترم مخلجا مجنونا

يمسي خميص البطن من عمل التقى *** ويظل من عمل الخبيث بطينا (2)

3 - لعن النبي له

واستأذن هذا الخبيث الماكر على النبي صلی اللّه علیه و آله فقال صلی اللّه علیه و آله : ائذنوا له لعنة اللّه عليه وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنين ، وقليل ما هم ، ذوو مكر وخديعة يعطون الدنيا ، وما لهم في الآخرة من خلاق (3) وأمر صلی اللّه علیه و آله الامام عليا أن يقوده كما تقاد الشاة ويأتي به إليه فأنطلق الامام وجاء به وهو آخذ بأذنه حتى أوقفه بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلعنه ثلاثا ، ثم قال : أحله ناحية حتى راح إليه قوم من المهاجرين والانصار ، ثم دعا به ثانيا فلعنه ، وقال : إن هذا سيخالف كتاب اللّه وسنة نبيه ، وستخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء ، فقال إليه قوم هو أقل ، وأذل من أن

ص: 215


1- الانساب 5 / 27
2- الاستيعاب 1 / 118
3- السيرة الحلبية 1 / 337

يكون هذا منه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : بلى وبعضكم يومئذ شيعته (1)

4 - نفيه الى الطائف

وكان هذا الرجس الخبيث يفشى أحاديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويبالغ فى ايذائه فنفاه الى الطائف ، وقال : لا يساكننى (2) ولم يزل منفيا هو وأولاده طيلة خلافة الشيخين ، وقد توسط عثمان في شأنه عندهما فلم يستجيبا له وظل مبعدا منفيا.

5 - رجوعه الى يثرب

ولما آل الامر الى عثمان أصدر عنه العفو فقدم الى يثرب ، وعليه فزر خلق وهو يسوق تيسا والناس ينظرون الى رثة ثيابه ، وسوء حاله ، فدخل دار عثمان ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان (3) وأوصله بمائة الف (4).

6 - توليته على الصدقات

وولاه على صدقات قضاعة فبلغت ثلاث مائة الف درهم فوهبها له (5) وقد ادى ذلك الى شيوع السخط والانكار عليه لأنه آوى طريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومنحه أموال الصدقة التي جعلها اللّه للفقراء والمحرومين وذوي الحاجة ، فكيف ساغ له أن يمنحها لهذا اللعين على لسان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والحكم في هذه المسألة للقراء.

ص: 216


1- كنز العمال 6 / 39
2- الانساب 5 / 27
3- تأريخ اليعقوبي 2 / 41
4- المعارف : ص 84
5- الانساب 5 / 28

5 - سعيد بن العاص

ومنح عثمان سعيد بن العاص مائة الف درهم (1) وهو من فساق بني أمية ، ومن فجارهم ، وكان أبوه من أعلام المشركين قتله الامام أمير المؤمنين يوم بدر (2) وقد أثار ذلك السخط على عثمان فانكر عليه ثقات المسلمين وصلحاؤهم.

6 - الوليد بن عقبة

والوليد بن عقبة أخو عثمان من أمه ، وكان فاسقا ماجنا لا يرجو لله وقارا - كما سنبين ذلك عند التحدث عن ولاة عثمان وعماله - قدم الكوفة فاستقرض من عبد اللّه بن مسعود أموالا طائلة من بيت المال فأقرضه ، وطلبها منه عبد اللّه فكتب الوليد الى عثمان بذلك ، فرفع عثمان مذكرة الى ابن مسعود جاء فيها ، إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال ، فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : كنت أظن أني خازن للمسلمين فأما اذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك ، وأقام بالكوفة بعد ان استقال من منصبه (3) وكيف ساغ لعثمان أن يبدد أموال المسلمين ، ويهبها الى أعداء اللّه وخصوم الاسلام ، ولنترك الحكم في ذلك للقراء.

7 - مروان بن الحكم

ومروان بن الحكم هر الذي لعنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو فى صلب أبيه كما رواه الامام الحسن علیه السلام (4) ولما ولد جيء

ص: 217


1- الانساب 5 / 28
2- اسد الغابة 2 / 310
3- الانساب 5 / 30
4- مجمع الزوائد 10 / 72

به الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : هو الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون (1) ونظر إليه الامام أمير المؤمنين فقال له :

« ويل لك ، وويل لأمة محمد منك ومن بيتك إذا شاب صدغاك » (2) وكان رأسا من رءوس المنافقين ، ووجها من وجوه أهل الضلال والباطل ، وكان يلقب خيط باطل وفيه يقول الشاعر :

لعمرك ما أدرى واني لسائل *** حليلة مضروب القفا كيف يصنع

لحى اللّه قوما أمروا خيط باطل *** على الناس يعطي ما يشاء ويمنع (3)

وقد عرف بالغدر ، ونقض الوعد ، وخيانة العهد ، يقول الامام أمير المؤمنين حينما كلمه السبطان في مبايعة مروان له :

لا حاجة لي في بيعته ، إنها كف يهودية لو بايعنى بيده لغدر بسبابته أما إن له امرة كلعقة الكلب انفه ، وهو أبو الاكبش الاربعة ، وستلقى الامة منه ومن ولده يوما أحمر .. » (4)

وهذا الوزغ الرجس قد بر به عثمان وأحسن إليه ، ومكنه من بيت المال يهب منه لمن شاء ، ويمنع عنه من شاء ، ونسوق الى القراء الهبات الضخمة التي منحها عثمان لمروان وهى :

1 - اعطاه خمس غنائم إفريقية ، وقد بلغت خمس مائة الف دينار وقد عيب عثمان على ذلك وهجاه عبد الرحمن بن حنبل بقوله :

سأحلف باللّه جهد اليمي *** ن ما ترك اللّه أمرا سدى

ص: 218


1- مستدرك الحاكم 4 / 479
2- شرح ابن ابي الحديد 2 / 55
3- اسد الغابة 4 / 348
4- نهج البلاغة

ولكن خلقت لنا فتنة *** لكي نبتلي لك أو تبتلى

فان الامينين قد بينا *** منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غيلة *** وما جعلا درهما في الهوى

دعوت اللعين فأدنيته *** خلافا لسنة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس العبا *** د ظلما لهم وحميت الحمى (1)

2 - انه منحه الف وخمسين أوقية ولا نعلم انها من الذهب او الفضة وهي من جملة الامور التي سببت النقمة على عثمان (2)

3 - اعطاه مائة الف من بيت المال ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى فنهره عثمان وقال له :

« اتبكى إن وصلت رحمي؟ »

« ولكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت انفقته في سبيل اللّه ، في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لو اعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا .. »

فزجره عثمان وصاح به

« الق المفاتيح .. يا بن أرقم ، فانا سنجد غيرك. » (3)

4 - واقطعه فدكا ، ووهبها له (4) وهي على كل حال لا تصح هبتها لأنها إن كانت نحلة لفاطمة علیهاالسلام كما تقول فهي لأبنائها ، وان كانت صدقة كما زعم أبو بكر فهي لجميع المسلمين ، وليس لعثمان ان

ص: 219


1- تأريخ ابى الفداء 1 / 168
2- سيرة الحلبي 2 / 87
3- شرح ابن ابي الحديد 1 / 67
4- تأريخ ابي الفداء 1 / 168 ، المعارف ص 84

يتصرف فيها على كلا الوجهين.

وعلى اي حال ، فأي خدمة أسداها مروان للامة ، وأي مكرمة أو مأثرة صدرت منه حتى يستحق هذا العطاء الجزيل ، ويمنح هذا الثراء العريض

هذه بعض اعطيات الخليفة ومنحه الى اسرته ، وذوى قرباه ، وهي من دون شك لا تتفق مع كتاب اللّه وسنة نبيه فانهما الزما بالمساواة بين القريب والبعيد ، وأهابا بالحاكمين ان لا يميزوا قوما على آخرين وأن يطبقوا العدل في جميع المجالات.

الانكار على عثمان :

وكان من الطبيعي أن تثير هذه السياسة سخط الاخيار ، والصلحاء والمتحرجين في دينهم بل وسخط العامة الذين ينظرون الى بني أميّة نظرة ريبة وشك في اسلامهم ، ويرون في هذا العطاء امتدادا لهم وتقوية لنفوذهم وبسطا لسلطانهم ، حتى نقم من عثمان عبد الرحمن بن عوف الذي انتخبه وعينه حاكما على المسلمين ، فكان يقول : عاجلوه قبل ان يتمادى في ملكه وكان يقول للإمام أمير المؤمنين : خذ سيفك وآخذ سيفي فانه قد خالف ما اعطاني ، ولما حضرته الوفاة اوصى أن لا يصلي عليه (1)

لقد شاع التذمر بين المسلمين من جراء هذه السياسة الملتوية ، وقد انكرت عليه الخاصة والعامة حينما استأثر بالسفط الذي كان في بيت المال فأخذ منه ما حلى به بعض أهله وصعد على أثر ذلك أعواد المنبر فقال :

« لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت به أنوف أقوام .. »

وقد اثار سخط الناس هذا الكلام فتصدى أمير المؤمنين الى رده فقال له :

ص: 220


1- الانساب للبلاذري

« إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه ».

واندفع الصحابي العظيم عمار بن ياسر فأيد مقالة الامام ، وأعلن نقمته على عثمان فقال :

« أشهد ان أنفى أول راغم من ذلك .. »

ولما منح سعيد بن العاص مائة الف درهم ، انطلق الامام أمير المؤمنين مع جماعة من اعلام الصحابة فعابوا عليه عمله ، وانكروا عليه هذا العطاء فقال لهم :

« إن له قرابة ورحما .. »

فردوا عليه حجته ، وقالوا له :

« أفما كان لأبي بكر وعمر قرابة؟ .. »

فأجابهم :

« ان ابا بكر ، وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وأنا أحتسب في اعطاء قرابتى .. » (1)

لقد نقم المسلمون من عثمان ، وسخط عليه خيارهم لأنه استأثر بالفيء ، ومنح أموال المسلمين الى بني أميّة ، ولم يطبق فى سياسته العدل الاجتماعى الذي جاء به الاسلام.

اعتذار عثمان

واعتذر عثمان للناقدين لسياسته بأنه أوصل رحمه ، وبرّ بذي قرباه وليس فى ذلك مأثم عليه او مخالفة للشرع - كما يراه - ولا بد لنا من وقفة قصيرة أمام هذا الاعتذار لنعرف مدى واقعيته ، وصحته ، والذي

ص: 221


1- الانساب 5 / 28

يقتضيه النظر أنه منطق مفلوج لا يتفق مع الشرع ، ولا يلتقي بصالح الامة وذلك - أولا - ان الاموال التي منحها لأسرته لم تكن من أمواله الخاصة لتكون له مندوحة في انفاقها عليهم ، وانما هي أموال المسلمين فيجب انفاقها عليهم ، وليس لرئيس الدولة أن يتصرف فيها بقليل ، ولا بكثير فقد ورد عقيل من يثرب وهو بائس مضطر الى أخيه أمير المؤمنين علیه السلام فطلب منه وفاء دينه ، فقال له الامام :

- كم دينك؟

- أربعون الفا

- ما هي عندي ، ولكن اصبر حتى يخرج عطائي فادفعه إليك - بيوت المال بيدك وأنت تسوفنى بعطائك؟

- أتأمرني ان أدفع إليك أموال المسلمين ، وقد ائتمنوني عليها. (1)

هذا هو منطق الاسلام ، وهذا عدله ، وهذه مساواته إنه لا يفرق بين القريب والبعيد فالجميع سواسية في العطاء وغيره.

و - ثانيا - إن اسرته التي برّ بها خليقة بالقطيعة وجديرة بأن لا توصل لأنها ناهضت الاسلام وناجزته الحرب ، وهي الشجرة الملعونة في القرآن فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو ان النبي صلی اللّه علیه و آله قال : رأيت ولد الحكم بن ابي العاص على المنابر كأنهم القردة فانزل اللّه : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة : يعنى الحكم وولده (2) وقالت عائشة لمروان سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول

ص: 222


1- اسد الغابة 3 / 423
2- تفسير الطبري 15 / 77 ، تفسير القرطبي 10 / 283

لأبيك : « أبي العاص بن أميّة » انكم الشجرة الملعونة في القرآن (1) وقد نهى اللّه عن موادة المعادين له ، وحرم مواصلتهم قال تعالى : « لا تجد قوما يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادون من حاد اللّه ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم » (2)

لقد كان عثمان شديد الحب للامويين فقد قال : « لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بنى أميّة حتى يدخلوا عن آخرهم .. » (3) وهذا الحب العارم لأسرته هو الذي اجهز عليه ، وحفز القوى الاسلامية الى الثورة عليه والاطاحة بحكمه وقتله.

2 - منحه للاعيان

ووهب عثمان أموال المسلمين الى الوجوه والاعيان ، وذوي النفوذ السياسى ممن يحذر جانبهم ، فوصل طلحة بمائتي الف دينار (4) وكانت له عليه خمسون الفا ، فقال له طلحة : تهيأ مالك فاقبضه ، فوهبه له ، وقال : هو لك يا أبا محمد على مروءتك (5) ووصل الزبير بستمائة الف ، ولما قبضها جعل يسأل عن خير المال ليستغل صلته فدل على اتخاذ الدور فى الاقاليم والامصار (6) فبنى احدى عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة

ص: 223


1- الدر المنثور 4 / 191
2- سورة المجادلة : آية 22
3- مسند احمد 1 / 62
4- طبقات ابن سعد
5- تأريخ الطبري 5 / 139
6- طبقات ابن سعد

ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر (1) ووهب أموالا طائلة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء انه لما توفى خلف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الاموال والضياع مائة الف دينار (2) ومنح أموالا أخرى الى السائرين في ركابه ، والمؤيدين لسياسته ، وقد ذكر بالتفصيل تلك الهبات شيخ المحققين الاميني في موسوعته الخالدة (3)

وبأي وجه تصحح هذه الهبات وهي أموال المسلمين وقد فرض فيها ان تصرف على اصلاح المجتمع ، وانقاذ الفقير والمحروم من البؤس والفاقة ، لا أن يتاجر بها في شراء الضمائر ، وتأييد الحكم القائم فان ذلك لا يقره الاسلام بحال من الاحوال. 3 - استئثاره بالاموال

واستنزف عثمان بيوت الاموال فاصطفى منها ما شاء لنفسه وعياله ، وبالغ في البذخ والاسراف فبنى دارا فى يثرب شيدها بالحجر والكلس ، وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة (4) وكان ينضد اسنانه بالذهب ، ويتلبس بأثواب الملوك ، وانفق اكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (5) ولما قتل كان عند خازنه ثلاثون الف الف درهم ، وخمسمائة الف درهم وخمسون ومائة الف دينار ، وترك الف

ص: 224


1- صحيح البخاري 5 / 21
2- مروج الذهب 1 / 334
3- الغدير الجزء الثامن
4- مروج الذهب 1 / 433
5- السيرة الحلبية 2 / 87

بعير وصدقات ببراديس وخيبر ، ووادي القرى قيمة مائتى الف دينار (1)

إن عثمان قد نهج منهجا خاصا في سياسته المالية ، فلم يتقيد بكتاب اللّه ، ولا بسنة نبيه ، فتصرف في بيت المال تصرفا كيفيا فأخذ منه ما شاء ومنح من أحب ، ووهب لمن سار في ركابه ، وقد وصف الامام امير المؤمنين هذه السياسة الملتوية بقوله :

« الى ان قام ثالث القوم - يعني عثمان - نافجا حضنيه (2) بين نثيله ومعتلفه (3) وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الابل نبتة الربيع .. »

وهذا أبدع ما توصف به السياسة المنحرفة التي تتخذ الحكم وسيلة للثراء والتمتع بملاذ الحياة ، ولا تقيم وزنا للامة ، ولا تعتني بمصالحها وأهدافها.

وقد أصدر الامام أمير المؤمنين قراره الحاسم بعد ان استولى على زمام الحكم بمصادرة جميع الاموال التي استأثر بها عثمان لنفسه ، والتي وهبها لخاصته وأقربائه ، وهذا نص قراره :

« الا ان كل قطيعة اقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال اللّه فهو مردود في بيت المال ، فان الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج به النساء ، وفرق في البلدان لرددته الى حاله فان في العدل سعة

ص: 225


1- طبقات ابن سعد 3 / 53
2- نافجا حضنيه : اي رافعا لهما ، والحضن ما بين الابط والكشح ، يقال للمتكبر : جاء نافجا حضنيه ، ويقال لمن امتلأ بطنه طعاما : جاء نافجا حضنيه ، ومراده (عليه السلام) هو الثاني.
3- النثيل : الروث ، والمعتلف : موضع العلف يريد به ان همه الاكل والرجيع ، وهذا من ممض الذم كما يقول ابن ابى الحديد.

ومن ضاق عنه الحق فالجور عنه أضيق .. » (1)

وكان هذا الاجراء الذي اتخذه الامام على وفق العدل الاسلامي الذي حدد صلاحية المسئولين ، ولم يطلق لهم العنان فى التصرف بأموال الامة ، والاستئثار بها ، فليس لهم أن يصطفوا منها لأنفسهم ولا لذراريهم فهذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد جاءته ابنته الوحيدة التي لا عقب له سواها تطلب منه ان يبغي لها وصيفا يخدمها لأن يديها قد مجلت من الرحى ، فلم يجد صلی اللّه علیه و آله مجالا لأن يأخذ من بيت المال ما يشتري به وصيفا يعين ابنته فردها ، وعلمها التسبيح الذي ينسب لها ، وقد سار على هذه السيرة وصيه وباب مدينة علمه الامام امير المؤمنين علیه السلام فقد جاء أخوه عقيل يستميحه البر ، ويطلب منه السعة والرفاهية فاحمى له حديدة كاد ان يحترق من ميسمها ، هذا هو منطق الاسلام الذي جاء لاسعاد الشعوب واصلاحها وانقاذها من البؤس والفقر والحرمان.

مع الدكتور طه حسين

وتناقضت أقوال الدكتور طه حسين تناقضا صريحا في تصوير السياسة المالية التي انتهجها عثمان ، فتارة يسف في قوله فيزعم انه كان محافظا على سيرة عمر فى سياسة المال فلم يخالفه فى ذلك ، ولم يشذ عنه فى جميع أعماله الادارية والحربية ، وفيما كان يأخذ به عامة المسلمين من الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والتزام السنة الموروثة ، واجتناب التكلف والابتداع (2) واخرى يستقيم فى قوله فيذهب الى أنه انحرف عن سياسة عمر فى الابقاء على بيت المال ، وفى ألا ينفق منه إلا بمقدار الحاجة الى الانفاق ، وأنه

ص: 226


1- نهج البلاغة 1 / 46
2- الفتنة الكبرى 1 / 72

كان ينكر تشدد عمر ، ويرى أن فى بيت المال ما يسع الناس اكثر مما وسعهم أيام عمر فهو نقد غير مباشر لسيرة عمر فى سياسة بيت المال (1) ومعنى هذا انه لم يتقيد بسيرة عمر ، ولم يطبق سياسته على واقع حكومته وهذا ينافى ما ذكره أولا ، من انه كان يسير على وفق الاهداف التي سار عليها عمر.

وعلى أي حال فقد مال أخيرا الى تصحيح سياسته المالية وانها لم تخالف السنة الموروثة ، ولم تخل من الخير ومراعاة الصالح العام ، ونسوق نص كلامه فى ذلك مع مواقع النظر فيه وهو كما يلي :

أفاد الدكتور ما نصه : « الشيء المحقق هو ان عثمان لم يدهن في دينه والشيء المحقق أيضا هو ان عثمان لم ير في سياسته تلك مخالفة خطيرة او غير خطيرة لسيرة الشيخين ، فهو لم يعتمد الجور ولا المحاباة ، وإنما وسع على الناس من أموالهم ، رأى فى بيت المال غنى فآثر الناس به ، ولم يغل فى الادخار. وأي حرج فى أن يصل اصحاب النبي بشيء من هذا المال قليل او كثير ، وهم أئمة الاسلام وبناة الدولة وأصحاب البلاء الحسن ايام النبيّ ، وهم قد احتملوا من الشدة والحرمان شيئا كثيرا! وقد صدق اللّه وعده واكثر الخير ، فأي الناس أحق من هؤلاء المهاجرين ان يستمتعوا بشيء من هذا الخير الكثير .. » (2)

ومواقع النظر فى كلامه ما يلي :

1 - انه ذهب الى أن عثمان لم يدهن فى دينه ، وأنه لم ير في سياسته مخالفة خطيرة او غير خطيرة لسيرة الشيخين ، ولم يتعمد الجور ولا المحاباة.

ص: 227


1- الفتنة الكبرى 1 / 74
2- الفتنة الكبرى 1 / 77

أما ان عثمان لم يدهن فى دينه فيزيفه اعلانه للتوبة ، وانه قد جافى العدل ، وانحرف عن الطريق القويم وهذا نص توبته :

« أما بعد : أيها الناس ، فو اللّه ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله وما جئت إلا وأنا أعرفه ، ولكني منتنى نفسي ، وكذبتني ، وضل عني رشدي ، ولقد سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : من زلّ فليتب (1) ومن أخطأ فليتب ، ولا يتمادى في الهلكة إن من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق ، فانا أول من اتعظ ، استغفر اللّه عما فعلت وأتوب إليه » (2)

وهي صريحة في أنه سلك غير الجادة ، وشذ عن السنة الموروثة ، وأنه على بصيرة من ذلك لم يجهله ، ولم يغب عنه علمه وانما ارتكب ما ارتكب من المخالفات للسنة كهباته للأمويين ، وصلاته لآل أبى معيط ، وتنكيله باعلام الصحابة الناقدين لسياسته ، وغير ذلك من الاحداث الجسام ، انما هو استجابة لعواطفه ورغباته فان نفسه قد منته بذلك حتى ضل عنه رشده وفقد صوابه - على حد تعبيره - ومع اعترافه بذلك ، وتسجيله على نفسه انه انحرف عن الطريق كيف يمكن ان يقال إنه لم يدهن في دينه ، ولم يتعمد الجور والمحاباة.

2 - أما ما ذكره من أن عثمان وسع على الناس من أموالهم لأنه رأى فى بيت المال غنى فآثر الناس به ، ولم يغل في الادخار .. فان هذا لا يمكن المساعدة عليه بوجه فان عثمان لم يوسع على الناس ، ولم يبسط لهم فى العيش وإلا لما ثاروا عليه ، وقتلوه ، وإنما وسع على نفسه وخاصته ،

ص: 228


1- في رواية البلاذري من زل فلينب
2- تاريخ الطبري

ووسع على بنى أميّة والمؤيدين لسياسته فآثرهم بالفىء ، وخصهم بأموال الدولة الامر الذي اوجب شيوع التذمر ، ونقمة المسلمين عليه في جميع اقطارهم وأقاليمهم حتى أطاحوا بحكمه ، وأردوه قتيلا لم يواروه فى قبره حتى ندم خيار المسلمين على عدم حرق جثته (1)

3 - وأما ما أفاده من أنه لا حرج ، ولا اثم على عثمان في صلته لأصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله بالاموال لأنهم أئمة المسلمين ، وأصحاب البلاء الحسن ، فأي الناس احق منهم بالاستمتاع بشيء من هذا الخير. فانه ظاهر البطلان لأن بيت المال - كما ذكرنا غير مرة - هو للمسلمين جميعا لا يختص به قوم دون آخرين ، ويجب صرفه على مصالحهم ، واصلاح شئونهم ، وليس لطائفة مهما علا شأنها ان تختص به ، وتحرم منه الاكثرية الساحقة ، على ان الاسلام فى ذلك الوقت احوج ما يكون الى بسط عدله الاجتماعي بين الشعوب المتعطشة الى مساواته العادلة التي لا تميز قوما على آخرين ، ولكن عثمان آثر بنى أميّة في كل شيء آثرهم بالاموال والوظائف وحملهم على رقاب الناس الامر الذي أدى الى تحطيم المساواة التي جاء بها الاسلام.

وأما سبق المهاجرين من اصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الاسلام ودفاعهم عن حياضه ، وتحملهم للعناء والبلاء فى سبيله فامر لا مجال للشك فيه ، وهم مشكورون عليه ، واللّه هو الذي يتولى جزاءهم عن ذلك ، ولكن منحهم بالاموال والاغداق عليهم بالنعم فامر لا مساغ له لأن فيه إحياء للطبقية التي حاربها الاسلام وشجب جميع مظاهرها.

ويمضى الدكتور فى تصحيح سياسة عثمان ، ومشروعية هباته للصحابة

ص: 229


1- قال ذلك الصحابي العظيم عمار بن ياسر انظر الغدير 9 / 216

وانه لم يخالف بذلك السنة الموروثة ، وإنما جرى على طبعه السخي ، ولم يذكر هباته الضخمة ، وعطاياه الوافرة للامويين وآل أبي معيط فقد اعرض سيادته عن ذلك ولم يذكره بقليل ولا بكثير ، وهو فيما نحسب من أهم الاسباب التي أدت الى الانكار عليه ، لقد أهمل الدكتور هذه الناحية أما لأنه لم يجد مجالا للاعتذار عنها أو انه لا يرى بأسا في ذلك كما لا يرى بأسا في عطاياه للصحابة ، ومن المؤسف ان يسف فى ذلك ، ويبرر ما خالف السنة.

ولاته على الامصار

ويحتم الاسلام على خليفة المسلمين ، وولي أمرهم أن يجهد نفسه في اختيار ذوي القابليات والمواهب ممن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة من العدالة والتقوى ، والنزاهة ، والنصح للرعية ، والسهر على صالحها ، ورعاية شئونها بأمانة واخلاص ليجعلهم ولاة على الامصار والاقاليم ، ولا يجوز ان يولي أي احد مهما كان قريبا له محاباة او اثرة فان ذلك خيانة لله ولرسوله ، وللمسلمين لأن الولاة يتحملون مسئولية الحكم ، والقضاء بين الناس ، وادارة شئونهم والاصلاح فيما بينهم ، والائتمان على أموالهم ودمائهم فلا بد ان يكونوا من خيرة الرجال ومن اكثرهم دينا ، ووقوفا في الشبهات ، وأبعدهم عن الطمع والحرص ، واصبرهم على تكشف الامور هذا هو رأي الاسلام ، وهذه خطته التي حفل بها نظامه الخالد ، وقد ابتعد عثمان عن ذلك فعمد الى توظيف اسرته وذوى قرباه الذين حاربوا اللّه ورسوله وسعوا في الارض فسادا فحملهم على رقاب المسلمين وأسند إليهم اهم الوظائف فجعلهم أمراء على الامصار والاقاليم ، ونشير الى بعضهم مع بيان تراجمهم وهم :

1 - الوليد بن عقبة

ص: 230

وكان على الكوفة واليا سعد بن أبي وقاص الزهري فعزله عثمان عنها وولى عليها الوليد بن عقبة بن ابي معيط ولم يعهد الى اهل الكفاية والقدرة من المهاجرين والانصار الذين احسنوا البلاء فى الاسلام ليتولوا شئون هذا المصر الذي هو من اعظم امصار المسلمين أهمية وأكثرها ثغورا.

وعلى أي حال فهل ان الوليد كان خليقا لأن يعهد إليه بهذا المنصب الخطير الذي يوكل إليه القضاء بين الناس وإتمامهم به في الصلاة ، والائتمان على بيت المال وغير ذلك من الشؤون التي تتوقف على العدالة والتقوى والحريجة فى الدين ونقدم عرضا موجزا لبعض شئونه ليتضح حاله وهي :

أ - نشأته

نشأ فى مجتمع جاهلي ، وتربى تربية جاهلية ، ولم يدخل بصيص من نور الاسلام فى قلبه ، كان ابوه من ألد اعداء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله روت عائشة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : كنت بين شرّ جارين بين أبي لهب وبين عقبة بن ابي معيط ، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي حتى أنهم ليأتون ببعض ما يطرحونه من الاذى فيطرحونه على بابي (1) وقد بصق هذا اللعين فى وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وشتمه ، فقال له النبي : إن وجدتك خارجا من جبال مكة اضرب عنقك صبرا ، فلما كان يوم بدر وخرج اصحابه امتنع من الخروج فقال له اصحابه اخرج معنا ، قال وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة ان يضرب عنقى صبرا ، فقالوا له : لك جمل احمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم ، فلما هزم اللّه المشركين حمل به جمله في جدود من الارض فأخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 231


1- طبقات ابن سعد 1 / 186 ط مصر

أسيرا في سبعين من قريش فقدم إليه فقال عقبة أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال نعم بما بزقت في وجهي ، ثم أمر عليا فضرب عنقه (1) وقد اترعت نفس الوليد بالحقد والكراهية من النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأنه قد وتره بأبيه ، ولما لم يجد بدا من الدخول فى الاسلام اسلم ولكن قلبه كان مطمئنا بالكفر والنفاق. ب - فسقه

ونطق القرآن الكريم بفسقه ، وعدم ايمانه مرتين « الاولى » انه جرت بينه وبين امير المؤمنين مشادة ، فقال الوليد له : اسكت فانك صبي وأنا شيخ ، واللّه اني ابسط منك لسانا ، وأحد منك سنانا ، واشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكثيبة ، فقال له علي : اسكت فانك فاسق فانزل اللّه تعالى فيهما قوله : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ) (2) وقد نظم ذلك حسان بن ثابت بقوله :

أنزل اللّه والكتاب عزيز *** في علي وفى الوليد قرانا

فتبوا الوليد من ذاك فسقا *** وعلي مبوأ إيمانا

ليس من كان مؤمنا عرف اللّه *** كمن كان فاسقا خوانا

فعلي يلقى لدى اللّه عزا *** ووليد يلقى هناك هوانا

سوف يجزى الوليد خزيا ونارا *** وعلي لا شك يجزى جنانا (3)

« الثانية » أنه غش النبيّ وكذب عليه وذلك حينما ارسله في بنى المصطلق ، فعاد الى النبيّ يزعم انهم منعوه الصدقة ، فخرج النبي

ص: 232


1- الغدير 8 / 273
2- تفسير الطبري 21 / 62
3- تذكرة الخواص ص 115

صلی اللّه علیه و آله إليهم غازيا فتبين له كذب الوليد ، ونزلت عليه الآية بفسقه قال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1)

ومع اعلان القرآن بفسقه وأثمه كيف يجوز أن يجعل حاكما على المسلمين واماما لهم ومؤتمنا على أموالهم ودمائهم.

ج - ولايته على الكوفة

واستعمله عثمان واليا على الكوفة بعد عزله لسعد ، فسار فيها سيرة عبث ومجون وتهتك ، ولم يرع للدين حرمة ووقارا ، وأخذ يعيث فسادا في الارض حتى ضجت الكوفة من مجونه واستهتاره وتذمر الاخيار والصلحاء من سوء سيرته.

د - شربه للخمر

واقترف الوليد افحش جريمة ، وافظع ذنب فقد ثمل وصلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات ، وصار يقول : في ركوعه وسجوده : اشرب واسقنى. ثم قاء فى المحراب وسلم ، وقال هل ازيدكم؟ فقال له ابن مسعود : لا زادك اللّه خيرا ، ولا من بعثك إلينا ، وأخذ فردة نعله ، وضرب به وجه الوليد ، وحصبه الناس فدخل القصر والحصباء تأخذه ، وهو مترنح (2) وفي فعله يقول الحطيئة جرول بن أوس العبسي :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** إن الوليد أحق بالعذر

نادى وقد تمت صلاتهم *** أأزيدكم؟ ثملا ولا يدرى

ص: 233


1- سورة الحجرات : آية 6 يقول ابن عبد البر فى الاستيعاب 2 / 62 لا خلاف بين اهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت ان الآية نزلت فى الوليد.
2- السيرة الحلبية 2 / 314

ليزيدهم خيرا ولو قبلوا *** منه لزادهم على عشر

فأبوا أبا وهب ولو فعلوا *** لقرنت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك اذ جريت *** ولو خلوا عنانك لم تزل تجري (1)

وقال الحطيئة فيه أيضا :

تكلم في الصلاة وزاد فيها *** علانية وجاهر بالنفاق

ومج الخمر عن سنن المصلي *** ونادى والجميع الى افتراق

أزيدكم على أن تحمدوني *** فما لكم وما لي من خلاق (2)

وهذه البادرة قد دلت على تهتكه ، وتماديه فى الاثم والفسوق ، فلم يرع حرمة للصلاة التي هي من اهم الشعائر الدينية ، واعظمها حرمة عند اللّه رأي طه حسين

ويعتقد طه حسين ان صلاة الوليد بالمسلمين ، وهو ثمل وزيادته فيها قصة مخترعة لا نصيب لها من الصحة قد وضعها خصوم الوليد والصقوها به ويستدل على ذلك أنه لو زاد فيها لما تبعته جماعة المسلمين من اهل الكوفة ، وفيهم نفر من اصحاب النبي ، وفيهم القراء والصالحون ، ولما رضى المسلمون من عثمان بما اقام عليه من حد الخمر ، فان الزيادة في الصلاة والعبث بها اعظم خطرا عند اللّه وعند المسلمين من شرب الخمر ، كما يذهب الى ان الشعر الذي هجي به الوليد لم يقله الحطيئة ، وانما قال الحطيئة شعرا يمدح به الوليد مدح حب حريص على رضاه ، وذكر أبياتا قالها في مدحه والثناء عليه (3) والذي ذكره الدكتور لا يمكن المساعدة

ص: 234


1- الاغاني 4 / 178 - 179
2- الاغاني 4 / 178 ، الاستيعاب
3- الفتنة الكبرى 1 / 96 - 97

عليه بوجه وذلك - أولا - ان النصوص قد تضافرت بذلك ودونها الكثير ممن ترجم الوليد أو تعرض لأحداث عثمان فقد قال ابو عمر في الاستيعاب : « ان صلاته - اي الوليد - بهم وهو سكران ، وقوله ازيدكم؟ بعد ان صلى الصبح اربعا مشهورة من رواية الثقات من أهل الحديث وأهل الاخبار » وقال ابن حجر في الاصابة : « قصة صلاته بالناس الصبح وهو سكران مشهورة مخرجة » وحكى أبو الفرج في الاغاني ( 14 / 178 ) عن ابى عبيد والكلبي والاصمعي ان الوليد بن عقبة كان زانيا شريب خمر فشرب الخمر بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح فى المسجد الجامع فصلى بهم اربع ركعات ثم التفت إليهم ، وقال لهم ازيدكم؟ وتقيأ في المحراب ، وقرأ بهم في الصلاة :

علق القلب الربابا *** بعد ما شابت وشابا

إن التشكيك في هذا الحادث والاعتقاد بأنه من الموضوعات انكار للضروريات ، وتشكيك في البديهيات وفي الهامش ثبت الى المصادر التي دونت ذلك ، وهي توجب القطع بصحته ، وعدم الريب فيه (1) - وثانيا - إن اللّه تعالى هو العالم بسرائر عباده ونياتهم ، وقد اعلن في كتابه الكريم فسق الوليد وفجوره في آيتين فلا يستبعد منه بعد ذلك أن تصدر منه افحش الموبقات واعظم الجرائم - وثالثا - ان صلحاء المسلمين وخيارهم

ص: 235


1- مسند احمد 1 / 144 ، سنن البيهقي 8 / 318 ، اسد الغابة 5 / 91 - 92 ، مروج الذهب 2 / 224 ، الكامل لابن الاثير 3 / 42 ، تأريخ ابى الفدا 2 / 176 ، تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 104 ، تأريخ اليعقوبي 2 / 142 ، الاصابة 3 / 638 ، هذه بعض المصادر التي نصت على ذلك ، فعلى اي مصدر اعتمد الدكتور فى افتعال القصة وعدم صحتها.

قد انكروا عليه ونقموا منه وثاروا في وجهه ، فقد ضربه عبد اللّه بن مسعود بنعله ، وحصبه الناس - كما تقدم - وخرج رهط من الكوفة فاستجاروا باعلام الصحابة ، لينقذوهم من امارة الوليد واستهتاره - كما سنذكر ذلك - وما زعمه الدكتور طه حسين ان جماعة من المسلمين من أهل الكوفة قد تبعته وفيهم من أصحاب النبيّ والصالحين ، قد غالط بذلك الحقائق التأريخية التي نصت على ما ذكرناه - ورابعا - ان الحطيئة وان كان قد مدح الوليد واخلص له فانه لا ينافي أنه نقم منه وهجاه على ارتكابه هذه الجريمة النكراء التي سود بها وجه التأريخ الاسلامى والعربي.

إن الحطيئة عرف بالهجاء والمدح فهو قد يمدح شخصا يأمل منه البر والخير فاذا لم يعطه هجاه وذمه فقد قصد بنى ذهل يسترفدهم ، ويستميحهم العطاء ، ويقول في مدحهم :

إن اليمامة خير ساكنها *** أهل القرية من بني ذهل

قوم اذا انتسبوا ففرعهم *** فرعي وأثبت أصلهم اصلي

فلم يعطوه شيئا فقال يهجوهم :

ان اليمامة شر ساكنها *** أهل القرية من بني ذهل

وكان اذا غضب على بنى عبس يهجوهم ويقول انا من بنى ذهل وإذا غضب على بنى ذهل يهجوهم ويقول لهم : أنا من بنى عبس ، وقد غضب على أمه فهجاها بقوله :

تنحي فاجلسى منى بعيدا *** أراح اللّه منك العالمينا

أغربالا اذا استودعت سرا *** وكانونا على المحدثينا

حياتك ما علمت حياة سوء *** وموتك قد يسر الصالحينا

ص: 236

والتمس انسانا يهجوه فلم يجده فانشأ يقول :

أبت شفتاي اليوم إلا تكلما *** بشر فما ادري لمن انا قائله

وجعل يردد البيت ، ولا يرى انسانا حتى اذا طلع على حوض فرأى وجهه فقال :

أرى لي وجها شوه اللّه خلقه *** فقبح من وجه وقبح حامله (1)

هذا هو الحطيئة فهل خفى حاله على الدكتور حتى يستبعد منه ان يمدح الوليد ويهجوه؟

وعلى أي حال فان طه حسين قد حاول تبرير الوليد ، وتنزيهه عن الموبقات والآثام وإلحاقه بالامراء الصالحين الذين لم يجوروا عن القصد فى حكمهم وقد قال فيه ما نصه :

« إن الوليد قد سار في اثناء ولايته على الكوفة سيرة فيها كثير جدا من الغناء وحسن البلاء. فهو لم يقصر في سد الثغور والامعان فى الفتح ، وإنما بلغ من ذلك غاية عرفت له وتحدث بها الناس في حياته وبعد موته وهو قد ساس الكوفة سياسة حزم وعزم ومضاء ، فاقر الامن ، وضرب على ايدي المفسدين من الاحداث والذين لا يرعون للنظام حرمة ، ولا يرجون للدين وقارا. » (2)

وهل يستطيع الدكتور ان يثبت ذلك ويدلنا على معالم تلك السياسة الرشيدة التي سار عليها الوليد وتحدث الناس بها في حياته وبعد وفاته ، ولو كان الامر كما ذكره لما قام سعيد بن العاص - الذي عينه عثمان واليا على الكوفة بعد عزله للوليد - بغسل المنبر تحرجا من موبقات الوليد

ص: 237


1- الاغاني المجلد الثانى القسم الاول ص 76 - 84 ط دار الفكر
2- الفتنة الكبرى 1 / 94 - 95

وآثامه. نعم لقد تحدث الناس ، ولا زالوا يتحدثون عن مهازل الحكم الاموي الذي بنى على الاثرة والاستغلال والتحكم فى رقاب المسلمين ، وخيانة الامة ، وقهرها واذلالها باستعمال الوليد وأمثاله من الماجنين والمستهترين حكاما وولاة عليها وإنا لنأسف من الدكتور ان يدافع عن هؤلاء الخونة الذين هم صفحة عار وخزي على الامة العربية والاسلامية. ه - اقامة الحد عليه

واسرع قوم من الكوفيين ممن يهمهم الاصلاح الى يثرب ليعرضوا على عثمان جريمة الوليد ، وانتهاكه لحرمة الاسلام ، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه وهو في حالة السكر ، ولما انتهوا الى يثرب قابلوا عثمان ، وشهدوا عنده ان الوليد قد شرب الخمر فزجرهم عثمان وقال لهم :

« وما يدريكما أنه شرب خمرا؟. »

« هى الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية »

وأخرجوا له خاتمه الذي انتزعوه منه ، فثار عثمان ، وقام فدفع في صدورهم ، وقابلهم بأمر القول ، فانطلقوا الى امير المؤمنين (1) وأخبروه بالامر فأقبل الامام الى عثمان وقال له :

ص: 238


1- وذكر ابو الفرج فى الاغاني 4 / 179 ان القوم فزعوا الى عائشة فاستجاروا بها واصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة فقال : اما يجد مراق اهل العراق وفساقهم ملجأ الا بيت عائشة ، فسمعت فرفعت نعل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقالت تركت سنة رسول اللّه صاحب هذا النعل. فتسامع الناس فجاءوا حتى ملأوا المسجد فمن قائل : احسنت ، ومن قائل ما للنساء ولهذا؟ حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ودخل رهط من اصحاب رسول اللّه على عثمان فقالوا له : اتّق اللّه لا تعطل الحد واعزل اخاك.

« دفعت الشهود وأبطلت الحدود؟ »

« ما ترى؟ »

« أرى ان تبعث الى صاحبك فان اقاما الشهادة في وجهه ، ولم يدل بحجة أقمت عليه الحد. »

ولم يجد عثمان بدا من الاذعان ، والاستجابة لقول الامام فكتب الى الوليد يأمره بالشخوص إليه ، ولما وصلت رسالته إليه نزح عن الكوفة فانتهى الى يثرب ، ودعا عثمان الشهود فأقاموا عليه الشهادة ، ولم يدل الوليد بأي حجة يدافع بها عن نفسه ، وامتنع حضار المجلس من القيام بحده نظرا لقربه من عثمان ، فانبرى امير المؤمنين فأخذ السوط ودنا منه فسبه الوليد ، وقال : يا صاحب مكس (1) فاندفع عقيل بن أبي طالب ، فرد على الوليد قائلا :

« إنك لتتكلم يا بن ابي معيط ، كأنك لا تدري من أنت ، وأنت علج من أهل صفورية - وهى قرية بين عكة واللجون من اعمال الاردن من بلاد طبرية ، كان ذكوان اباه يهوديا منها -

وجعل الوليد يروغ من الامام فاجتذبه ، وضرب به الارض وعلاه بالسوط ، فثار عثمان ، وقد علاه الغضب فقال للامام :

« ليس لك ان تفعل به هذا .. »

« بلى وشر من هذا اذا فسق ومنع حق اللّه ان يؤخذ منه .. » (2)

واقام الامام عليه الحد وكان اللازم بعد هذا الحادث أن يبعده عثمان ولا يقربه إليه حتى يرتدع هو وغيره من ارتكاب المنكر والفساد ولكنه

ص: 239


1- المكس : النقص والظلم.
2- مروج الذهب 2 / 225

لم يلبث ان رق عليه وولاه صدقات كلب ، وبلقين (1) وكيف يؤتمن هذا الخليع الفاسق على صدقات المسلمين وأموالهم؟

إن الامصار الاسلامية التي استجد تأسيس بعضها ، والتي لم يستجد تأسيسها كان يقيم فيها العربي وغيره من النازحين عن أوطانهم لطلب الرزق والعيش ، والاسرى الذين كانوا يقيمون مع الفاتحين وكل اولئك كانوا جديدى عهد بالاسلام فكانوا ينتظرون من خليفة المسلمين وولي أمرهم ان يستعمل عليهم رجالا اترعت نفوسهم بالتقوى والصلاح ، وتوفرت فيهم النزعات الخيرة ليكونوا قدوة لهم وهداة قبل ان يكونوا حكاما وامراء ولكن عثمان آثر في الحكم بنى أميّة وآل أبي معيط وهم لا يمثلون إلا الترف والدعارة والبطالة والفراغ والتهالك على اللذة والمجون.

2 - سعيد بن العاص

وبعد ان اقترف الوليد تلك الجريمة النكراء اقصاه عثمان عن امارة الكوفة على كره منه ، وكان من المتوقع ان يسند الحكم الى أحد اعلام الصحابة من الذين أبلوا فى الاسلام بلاء حسنا ، ولكنه عمد الى سعيد ابن العاص فولاه هذا المصر العظيم ، وقد استقبله الكوفيون بالكراهية وعدم الرضا لأنه كان شابا مترفا (2) لا يتحرج من الاثم ولا يتورع من الإفك روى ابن سعد أنه قال مرة في فطر رمضان - بعد أن ولي المصر - من رأى منكم الهلال؟ فقال إليه هاشم بن عتبة الصحابي العظيم « انا رأيته »

فوجه إليه لاذع القول وأقساه قائلا :

« بعينك هذه العوراء رأيته؟! »

ص: 240


1- تأريخ اليعقوبي 2 / 142
2- طبقات ابن سعد 5 / 21 ، تاريخ ابن عساكر 6 / 135

فالتاع هاشم واجابه

« تعيرني بعينى ، وإنما فقئت في سبيل اللّه - وكانت عينه اصيبت يوم اليرموك - ».

واصبح هاشم في داره مفطرا عملا بقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته » وفطر الناس لإفطاره ، وبلغ ذلك سعيدا ، فأرسل إليه وضربه ، وحرق داره ، وقد أثار حفائظ النفوس بهذا الاعتداء الصارخ على علم من أعلام الاسلام.

وأثر عنه انه قال : إنما السواد - اي سواد الكوفة - بستان لقريش فقام إليه الاشتر فقال له : أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء اللّه علينا بستانا لك ولقومك؟ واللّه لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ، وانضم الى الاشتر قراء المصر وفقهاؤهم فأيدوا مقالته ، وغضب صاحب شرطة سعيد فرد عليهم ردا غليظا فقاموا إليه فضربوه ضربا منكرا حتى اغمي عليه ، وقاموا من مجلسه وهم يطلقون ألسنتهم بنقده ، ويذكرون مثالب عثمان ، وسيئات قريش ، وجرائم بنى أميّة وكتب سعيد الى عثمان بخبره بأمر هؤلاء ، فأجابه عثمان ان يسيرهم الى الشام ، وكتب في نفس الوقت الى معاوية يأمره باستصلاحهم.

والمهم ان هؤلاء لم يرتكبوا اثما او فسادا ، ولم يقترفوا جرما حتى يستحقوا هذا التنكيل والنفى وانما نقدوا اميرهم لأنه شذ عن الطريق ، وقال غير الحق ، والاسلام قد منح الحرية التامة للمواطنين ، ومنها حرية النقد للحاكمين إن سلكوا غير الجادة ، وعدلوا عن الطريق القويم ، فعلى اي وجه يصحح نفيهم عن اوطانهم وهم لم يخلعوا يدا عن طاعة ولم يفارقوا جماعة .. وعلى أي حال فقد اخرجهم سعيد بالعنف ، وأرسلهم الى الشام

ص: 241

الى بلد لا يألفون الى اهلها ولا يسكنون الى من فيها ، وتلقاهم معاوية فانزلهم في كنيسة ، واجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويعظهم ولكنه لم ينجح في اقناعهم ، فقد كان منطقهم منطق الاحرار ، فأي ، مزية تمتاز بها قريش حتى يكون السواد ملكا لها ، وأي مأثرة صدرت لها حتى تمتاز على بقية العرب والمسلمين ، ولما يئس منهم معاوية كتب الى عثمان يستعفيه من بقائهم فى الشام خوفا من ان يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره ان يردهم الى الكوفة ، فعادوا إليها وهم مصرون على نقد الحكم القائم وأطلقوا السنتهم في ذكر مثالب سعيد ومعاوية وعثمان وأعاد سعيد الكتابة الى عثمان يطلب منه ابعاد القوم عن مصرهم ، فأجابه عثمان الى ذلك ، وأمره ان ينفيهم الى حمص والجزيرة فاخرجهم من وطنهم الى حمص ، فقابلهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عامل معاوية على حمص اعنف لقاء وأشده ، وأخذ يسومهم سوء العذاب ، ويقابلهم بأغلظ القول وأفحشه ، وكان اذا ركب أمر بهم فساروا حول ركابه ، ليظهر هوانهم واذلالهم ، ويغري الناس بانتقاصهم ولما رأوا تلك القسوة اظهروا الطاعة وأعلنوا التوبة ، وطلبوا منه ان يقيلهم من ذنوبهم فأقالهم ، وكتب الى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله العفو عنهم فأجابه الى ذلك وردهم الى الكوفة ونزح سعيد بن العاص الى يثرب في مهمة له فوجد القوم هناك يشكونه الى عثمان ويسألونه عزله ، ولكن عثمان ابى وامتنع من اجابتهم ، وأمره ان يرجع الى عمله فقفل القوم راجعين الى مصرهم قبله فاحتلوا الكوفة وأقسموا ان لا يدخلها سعيد ما حملوا سيوفهم ، ثم خرجوا في جمع بقيادة الاشتر حتى بلغوا الجرعة ، فانتظروا سعيدا فلما أقبل ردوه ومنعوه من دخول المصر ، وأجبروا عثمان على عزله وتولية غيره فاستجاب عثمان على

ص: 242

كره منه لذلك. (1)

والمهم ان عثمان قد نكل بالناقدين لسعيد بن العاص وهم قراء المصر وفقهاؤه ونفاهم عن اوطانهم وبالغ في ارهاقهم من أجل شاب طائش لأنه من ذويه واسرته الامر الذي أوجب شيوع التذمر وانتشار السخط عليه ، وكراهية الامة لحكمه.

3 - عبد اللّه بن عامر

وعزل عثمان أبا موسى الاشعري عن ولاية البصرة ، واختار لها ابن خاله عبد اللّه بن عامر بن كريز (2) فولاها اياه وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة (3) وبلغ ذلك ابا موسى فقال للناس : « يأتيكم غلام خراج ولاج ، كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان. (4)

والمهم أنه ولاه هذا المصر العظيم وهو شاب حدث السن ، وكان الاولى ان يختار له من خيار الصحابة وثقاتهم ليستفيد الناس من هديه وصلاحه ، ولكنه عمد الى اختيار هذا الفتى لأنه ابن خاله ، وقد سار في اثناء ولايته سيرة ترف وبذخ ، فكان - كما قال الاشعري - ولاجا خراجا فهو أول من لبس الخز في البصرة ، وقد لبس جبة دكناء فقال الناس : لبس الامير جلد دب ، فغير لباسه ولبس جبة حمراء (5) وقد انكر عليه

ص: 243


1- الانساب 5 / 39 - 43 ، تأريخ الطبري 5 / 88 ، تأريخ ابي الفداء 1 / 168
2- تهذيب التهذيب 5 / 282 ، وجاء فيه ان أم عثمان اروى بنت كريز
3- الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة 2 / 253
4- الكامل 3 / 38
5- اسد الغابة 3 / 192

عامر بن عبد اللّه التميمي الزاهد العابد وعاب عليه سياسته كما عاب على عثمان فقد روى الطبري : انه اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان ، وما صنع فاجتمع رأيهم أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه فارسلوا إليه عامر بن عبد اللّه ، ولما التقى به قال له :

« إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في اعمالك فوجدوك قد ركبت امورا عظاما ، فاتق اللّه عز وجل وتب إليه ، وانزع عنها. »

فاحتقره عثمان وقد لسعه قوله فقال لمن حوله :

« انظروا الى هذا فان الناس يزعمون انه قارة ثم هو يجيء فيكلمنى في المحقرات ، فو اللّه ما يدري أين اللّه؟. »

فقال له عامر : أنا لا أدري اين اللّه؟

- نعم

- اني لأدرى أن اللّه بالمرصاد

وارسل عثمان الى مستشاريه وعماله فعرض عليهم الامر فأشار عليه عبد اللّه بن عامر فقال له :

« رأيي لك ، يا أمير المؤمنين ان تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وان تجمهرهم فى المغازي حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة احدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته .. »

واشار عليه آخرون بغير ذلك إلا انه استجاب الى رأى عبد اللّه فرد عماله ، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم ، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث ، كما عزم على تحريم اعطياتهم ليطيعوه ، ويحتاجوا إليه. (1)

ولما وصل عبد اللّه بن عامر الى البصرة عمد الى التنكيل بعامر بن

ص: 244


1- تأريخ الطبري 5 / 94 ، تاريخ ابن خلدون 2 / 39

عبد اللّه ، فقد اوعز الى عملائه واذنابه أن يشهدوا عنده بأن عامرا قد خالف المسلمين في امور أحلها اللّه فهو لا يأكل اللحم ، ولا يرى الزواج ولا يشهد الجمعة (1) ورفع تقريرا الى عثمان فامره بنفيه الى الشام على قتب فحمل إليها ، وانزله معاوية ( الخضراء ) وبعث إليه بجارية ، وأمرها ان تتعرف على حاله وتكون عينا عليه ، فرأت أنه يقوم في الليل متعبدا ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة ولا يتناول من طعام معاوية شيئا ، وكان يجىء بكسر من الخبز وبجعلها فى ماء ، ويشرب من ذلك الماء ، فأخبرته الجارية بشأنه ، فكتب معاوية الى عثمان بأمره ، فأوعز إليه بصلته (2)

وقد نقم المسلمون من عثمان لأنه نفى رجلا من صلحاء المسلمين (3) وأبعده عن اهله ووطنه لأنه نقد عماله وعاب ولاته ، وليس لولي الامر الصلاحية في هذا النفي فانه إنما شرع لمن حارب اللّه ورسوله وسعى في الارض فسادا.

وعلى اي حال فان عبد اللّه بن عامر ظل واليا على البصرة الى أن قتل عثمان فلما سمع بمقتله نهب ما في بيت المال ، وسار الى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضم إليهم ، وأمد المتمردين بالاموال ، وكان من عزمهم ان يتوجهوا الى الشام إلا انه صرفهم عنه ، وأشار عليهم بالمسير الى البصرة (4)

ص: 245


1- الفتنة الكبرى 1 / 116
2- الاصابة 3 / 85
3- العقد الفريد 2 / 261
4- اسد الغابة 3 / 192

4 - معاوية بن أبي سفيان

ومعاوية بن أبي سفيان اكثر ولاة عثمان حظا ، وأعظمهم نفوذا ، واسبقهم امرة كما ان شعبه من اكثر الشعوب طاعة واخلاصا له قد أحبه وأحبهم ، وقد منحه عمر بالامارة ، وحباه بالولاية ، وأيده بجميع ألوان التأييد فرفع شأنه ، وأعلا قدره فكان في كل سنة يحاسب عماله ، ويشاطرهم أموالهم وان اكتسبوها بالتجارة او ربحوها بسائر الوجوه المشروعة ، سوى معاوية فانه لم يحاسبه ، ولم يشاطره ، ولم يتفقد اموره وانما كان يضفى عليه المديح والثناء ، ويبالغ في تسديده والاعتذار عنه ، فكانوا يقولون له : إنه يلبس الديباج والحرير وهو لباس محرم في الاسلام ، وانه يسرف ويبذخ وهو مجاف للنظم الادارية التي جاء بها الاسلام فانها تلزم الولاة بالاقتصاد وعدم البسط في العيش من أموال المسلمين.

كانوا يقولون لعمر ذلك : فيعتذر عنه ، ويقول : ذاك كسرى العرب ، ولو فرضنا انه كان كذلك فهل يباح له أن يلبس المحرم ، ويسرف في أموال المسلمين؟ ولم يكتف بهذا المد والتأييد ، فقد نفخ فيه روح الطموح ، وفتح له باب الامل بالخلافة ، فقد قال لأعضاء الشورى : « ان تحاسدتم وتقاعدتم ، وتدابرتم ، وتباغضتم ، غلبكم على هذا معاوية بن ابي سفيان ، وكان إذ ذاك أميرا على الشام (1) وقد دفعه ذلك الى الاتجاه للخلافة ، واتخاذ جميع الوسائل للظفر بالحكم ، واعلانه للتمرد على حكومة الامام أمير المؤمنين ، ومناجزته له ، كما سنذكر ذلك بالتفصيل في غضون هذا الكتاب.

وعلى اي حال فقد ظل معاوية واليا على الشام والاردن طيلة خلافة

ص: 246


1- نهج البلاغة لابن ابي الحديد 1 / 187

عمر يتصرف حيثما شاء ، قد استأثر بالاموال فشرى بها الضمائر ، واحاط نفسه بالاتباع لا رقيب عليه ، ولم توجه له اي مسئولية ، وانما يرى التسديد ، والمديح والرضا بما يعمل ، وبعد وفاة عمر أقره عثمان على عمله ، وزاد في سلطانه فضم إليه فلسطين بعد موت عاملها عبد الرحمن ابن علقمة الكناني ، كما ضم إليه حمص بعد ان استعفاه عاملها عمير بن سعد الانصاري ، وبذلك خلصت له ارض الشام كلها ، واصبح من اعظم الولاة قوة ، ومن اكثرهم نفوذا ، واصبح قطره من اهم الاقطار الاسلامية وامنعها واكثرها هدوءا واستقرارا.

ومما لا شبهة فيه ان عثمان قد زاد في نفوذه ، ووسع رقعة سلطانه ، ومهد له نقل الخلافة الاسلامية الى آل ابي سفيان ، وقد صرح بذلك الدكتور طه حسين قال ما نصه :

« وليس من شك في ان عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم الى آل أبي سفيان وتثبيتها في بنى أميّة. فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية فضم إليه فلسطين وحمص ، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الارجاء ، وجمع له قيادة الاجناد الاربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين. ثم مد له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر ، واطلق يده فى امور الشام اكثر مما اطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فاذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيته. » (1)

إن عثمان قد عبّد له الطريق ، وأتاح له الفرصة لمنازعة أمير المؤمنين ومحاربته ، وارتكابه لفظائع المنكرات والموبقات ، وقتله صلحاء المسلمين

ص: 247


1- الفتنة الكبرى 1 / 120

وثقاتهم كحجر بن عدي واخوانه المؤمنين ، وغير ذلك من المآثم والجرائم 5 - عبد اللّه بن سعد

وحبا عثمان اخاه من الرضاعة عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح بولاية مصر ، ومنحه إمارة هذا القطر العظيم فجعل بيده امر صلاته وخراجه (1) وقبل ذلك منحه الاموال الطائلة ، ووهبه خمس غنائم إفريقية ، ولم يكن خليقا بذلك كله لأن له تأريخا أسودا حافلا بالآثام والموبقات فقد ارتد مشركا بعد اسلامه ، وصار الى قريش بمكة يسخر بالنبي ويقول لهم : اني اصرفه حيث اريد ، واهدر النبي دمه يوم الفتح ، وان وجد متعلقا باستار الكعبة ، ففر الى عثمان ، واستجار به فغيبه ، وبعد ما اطمأن أهل مكة أتى به الى النبي صلی اللّه علیه و آله فصمت طويلا ثم آمنه وعفا عنه فلما انصرف عثمان قال النبي صلی اللّه علیه و آله : ما صمت الا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ، فقال له رجل من الانصار : هلا أومأت الي يا رسول اللّه؟ فقال : إن النبي لا ينبغى ان تكون له خائنة الاعين (2)

ونزل القرآن الكريم بكفره وذمه قال تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللّهُ ) (3) واجمع المفسرون أنه هو المعنى بهذه الآية ، وسبب ذلك انه لما نزلت الآية ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) دعاه النبي فأملاها عليه فلما انتهى الى قوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) عجب عبد اللّه فى تفصيل خلق الانسان فقال : تبارك اللّه أحسن الخالقين ، فقال

ص: 248


1- الولاة والقضاة : ص 11
2- تفسير القرطبى 7 / 40 ، تفسير الشوكاني 2 / 134 ، سنن ابى داود 2 / 220
3- سورة الانعام : آية 93

النبي : هكذا انزلت علي فشك عبد اللّه ، وقال : لئن كان محمد صادقا لقد اوحي الي كما اوحى إليه ، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال : فارتد عن الاسلام ولحق بالمشركين (1)

أمثل هذا المرتد الذي سخر بالنبي ورجع عن حظيرة الاسلام يكون واليا على المسلمين وتسلم له قيادتهم ، ويكون مؤتمنا على أموالهم ، ودمائهم إن ذلك واللّه هو الرزء القاصم الذي يذيب لفائف القلوب ، وتذوب النفوس من هوله اسى وحسرات ، أتعطي امارة المسلمين ، وتمنح اقطارهم وامصارهم الى اعداء الاسلام وخصومه الذين لم يألوا جهدا في البغى على الاسلام والكيد له فانا لله وإنا إليه راجعون.

وعلى اي حال فقد مكث الرجل واليا على مصر سنين ، وكلف المصريين فوق ما يطيقون ، وساسهم سياسة عنف وجور ، واظهر الكبرياء والغطرسة ، فضجر الناس منه ، وسئموا حكمه فخف أخيارهم يشكونه الى عثمان فبعث إليه رسالة يتهدده فيها ، ويتوعده بالعزل ان لم يئوب الى الرشاد ولكنه ابى أن ينزع عما نهاه ، ونكل بمن شكاه الى عثمان حتى قتله فخرج سبع مائة رجل من مصر الى يثرب فنزلوا الجامع ، وشكوا الى اصحاب النبيّ ما صنع بهم ابن ابي سرح ، فانبرى طلحة الى عثمان فكلمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة ان ينصف القوم من عاملهم ، ودخل عليه أمير المؤمنين فقال له :

« إنما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما فأعزله عنهم ، واقض بينهم ، فان وجب عليه حق فانصفهم منه ».

فاستجاب لذلك ، وقال لهم : اختاروا رجلا اوليه عليكم مكانه ،

ص: 249


1- تفسير الرازي 4 / 96 تفسير الخازن 2 / 37 الكشاف 1 / 461

فاشار الناس عليه بمحمد بن ابي بكر فكتب عهده الى مصر ، ووجه معه عدة من المهاجرين والانصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن ابي سرح (1) ونزحوا عن يثرب فلما بلغوا الى المحل المعروف ( بحمس ) وإذا بقادم من المدينة تأملوه فاذا هو ورش غلام عثمان فتفحصوا عن حاله واذا يحمل رسالة الى ابن ابي سرح يأمره التنكيل بالقوم ، تأملوا الكتاب فاذا هو بخط مروان ، فرجعوا الى يثرب ، وصمموا على خلع عثمان او قتله.

إن عثمان قد سمى لحتفه بظلفه ، وجر البلاء لنفسه ، وعرض الامة للخطوب والويلات في سبيل اسرته ، وتدعيم كيانها ، ولو أنه استجاب لرأي الامام ، والناصحين له فاقصى بنى أميّة عن مراكز الحكم لكان بمنجاة عن تلك الثورة التي اودت بحياته ، وفتحت باب الفتن بين المسلمين ، وفرقت كلمتهم ، وجعلتهم احزابا ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض عماله وولاته الذين ما استعملهم الا اثرة ومحاباة.

تنكيله بالصحابة :

ونكل عثمان بخيار المسلمين وثقاتهم من الذين أبلوا في الاسلام بلاء حسنا. وساهموا فى بنائه ، لأنهم عابوا عليه سياسته ، وطلبوا منه أن يسير على المحجة البيضاء ، ويهتدي بسنة الرسول ، ويقتفى اثره ، فلم يستجب لارشادهم ولم يثب لنصحهم ، فشددوا عليه فى المعارضة والنكير فصب عليهم جام غضبه ، وبالغ في اضطهادهم وارهاقهم ، وهم كما يلي :

1 - عبد اللّه بن مسعود

وعبد اللّه بن مسعود اشبه الناس هديا وسمتا برسول اللّه صلى اللّه

ص: 250


1- الانساب 5 / 26

عليه وآله (1) ويقول فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من سره ان يقرأ القرآن غضا او رطبا كما انزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد » (2) واثنى عليه قوم عند أمير المؤمنين فقال علیه السلام : أقول فيه مثل ما قالوا : وهو أفضل من قرأ القرآن ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فقيه فى الدين ، عالم بالسنة (3) وهو ممن نزلت فيهم الآية الكريمة (4) ( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (5) وهو أيضا ممن نزلت فيهم الآية (6) قال تعالى : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (7)

ان عبد اللّه بن مسعود من أقطاب المسلمين فى هديه ، وصلاحه ، وورعه ، وتحرجه فى الدين ، سيره عمر فى عهده الى الكوفة مع عمار بن ياسر ، وكتب لأهل الكوفة كتابا جاء فيه :

« إني قد بعثت عمار بن ياسر اميرا وعبد اللّه بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من اصحاب رسول اللّه من اهل بدر فاقتدوا بهما ، واطيعوا

ص: 251


1- مسند احمد 5 / 389 ، حلية الاولياء 1 / 126 كنز العمال 7 / 55
2- صفة الصفوة 1 / 156 سنن ابن ماجة 1 / 63
3- مستدرك الحاكم 3 / 315
4- طبقات ابن سعد 3 / 108
5- سورة آل عمران آية 172
6- تفسير الطبرى 7 / 128 الدر المنثور 3 / 13
7- سورة الانعام آية 52

واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد اللّه على نفسى (1)

وبقى ابن مسعود فى الكوفة طيلة خلافة عمر وهو يفقه المسلمين فى دينهم ، ويعلمهم كتاب اللّه ، ويغذيهم بمعارف الاسلام وهديه ويرشدهم الى سواء السبيل ، وكان في نفس الوقت خازنا لبيت المال ، ولما آل الامر الى عثمان وبعث الوليد واليا على الكوفة جرت بينه وبين الوليد مشادة - ذكرناها عند البحث عن امارة الوليد على الكوفة - أوجبت أن يستقيل من منصبه وبقى فى الكوفة وقتا ثم غادرها فشيعه الكوفيون وحزنوا على فراقه ، وقالوا له عند وداعه :

« جزيت خيرا فلقد علمت جاهلنا ، وثبت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، فنعم أخو الاسلام أنت ، ونعم الخليل »

ثم ودعوه وانصرفوا وواصل ابن مسعود المسير حتى انتهى الى يثرب وكان عثمان على منبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يخطب فلما رآه قال للمسلمين وأشار الى ابن مسعود « ألا انه قدمت عليكم دويبة سوء ، من يمشي على طعامه يقىء ويسلح .. »

أيشتم صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا الكلام المر ، ويقابل بمثل هذه الجفوة من أجل الوليد الذي خان اللّه ورسوله ونهب أموال المسلمين؟! ورد عليه ابن مسعود قائلا :

« لست كذلك ، ولكني صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم بدر ، ويوم بيعة الرضوان. »

وقد اثار كلام عثمان حفائظ النفوس فاندفعت عائشة تعلن انكارها وسخطها عليه قائلة :

ص: 252


1- اسد الغابة 3 / 258

« أي عثمان. اتقول هذا لصاحب رسول اللّه؟! »

وأمر عثمان جلاوزته فاخرجوا الصحابي العظيم من المسجد اخراجا عنيفا ، وقام إليه عبد اللّه بن زمعة فضرب به الارض ، وقيل بل احتمله « يحموم » غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الارض فدق ضلعه.

وثار أمير المؤمنين فانبرى الى عثمان فقال له :

- يا عثمان ، أتفعل هذا بصاحب رسول صلی اللّه علیه و آله بقول الوليد بن عقبة؟؟

- ما بقول الوليد فعلت هذا ، ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي الى الكوفة ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال

- احلت عن زبيد على غير ثقة!! (1)

وحمل امير المؤمنين ابن مسعود الى منزله فقام برعايته حتى أبل من مرضه ، فقاطعه عثمان ، وهجره ، ولم يأذن له في الخروج من يثرب ، كما قطع عطاءه ، ومرض ابن مسعود مرضه الذي توفى فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له :

- ما تشتكي؟

- ذنوبي

- فما تشتهي؟؟

- رحمة ربي

- ألا ادعو لك طبيبا؟

- الطبيب امرضني

ص: 253


1- الانساب 5 / 36

- آمر لك بعطائك

- منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطينه وأنا مستغن عنه

- يكون لولدك

- رزقهم على اللّه

- استغفر لي يا ابا عبد الرحمن؟

- أسأل اللّه ان يأخذ لي منك بحقى

وانصرف عثمان ولم يظفر برضائه ولما ثقل حاله اوصى ان لا يصلي عليه عثمان ، وان يصلي عليه صاحبه عمار بن ياسر ، ولما انتقل الى دار الحق قامت الصفوة من اصحابه بأمره فدفنوه بالبقيع ، ولم يخبروا عثمان فلما علم غضب وقال : سبقتموني ، فرد عليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر قائلا :

« انه اوصى ان لا تصلي عليه .. »

وقال ابن الزبير :

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفى حياتي ما زودتني زادي (1)

لقد صب عثمان جام غضبه على ابن مسعود فاهانه وحقره وجفاه ، وقطع عطاءه ، واوعز الى شرطته بضربه ، وفرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب ، ولم يرع شبهه بالنبي فى هديه وسمته ، وماله من عظيم الجهاد وحسن البلاء في الاسلام ، لقد نقم منه عثمان لأنه انكر عليه منحه للوليد أموال المسلمين وهو خازن لها ، ولم يجد اي مبرر لهذا التلاعب في ميزانية الدولة ، فراح بوحى من دينه وعقيدته ينكر عليه ويشجب تصرفاته

ص: 254


1- الانساب تأريخ ابن كثير 7 / 163 ، مستدرك الحاكم 3 / 13 وغيرها

2 - أبو ذر

وأبو ذر أعظم شخصية عرفها التأريخ الاسلامى فقد تجسدت فيه جميع طاقات الاسلام ، وعناصره ومقوماته ، ووعى حقيقة الاسلام ، وتغذى بجوهره وواقعه ، وهو اقدم من سبق الى اعتناقه والايمان به (1) وجهر بالشهادتين أمام قريش فانبرت إليه عتاتهم فأوجعوه ضربا ، والهبوا جسمه بالسياط حتى كاد أن يتلف (2) ولم يثنه ذلك فقد انطلق كالمارد الجبار يدعو قومه الى الاسلام ، وهجر الاوثان ، وكان من ابرز الصحابة في علمه وورعه وتقواه وزهده وتحرجه في الدين ، وقد أثر عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنه قال فيه :

« ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة اصدق من أبي ذر ، من سره أن ينظر الى زهد عيسى بن مريم فلينظر الى ابي ذر .. » (3)

لقد كان ازهد الناس فى الدنيا ، وأقلهم احتفالا بمنافعها ، وأشدهم خوفا من اللّه وانصرافا عن اباطيل الحياة ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يأتمنه حين لا يأتمن أحدا ، ويسر إليه حين لا يسر الى احد (4) وهو أحد الثلاثة الذي أحبهم اللّه ، وامر نبيه بحبهم (5) كما انه احد

ص: 255


1- طبقات ابن سعد 4 / 161 ، وجاء فيه عن ابي ذر قال : كنت في الاسلام خامسا.
2- مسند الامام احمد 5 / 174 ، مجمع الزوائد 9 / 329
3- سنن ابن ماجة 1 / 68
4- كنز العمال 8 / 15
5- مجمع الزوائد 9 / 330

الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنة (1).

ولما حدثت الفتن ، واستأثر عثمان مع بني أميّة بأموال المسلمين فكنزوا لأنفسهم ، واكثروا من شراء الضياع وبناء القصور وقف أبو ذر عملاق الامة الاسلامية فأخذ يندد ، ويهدد عثمان ، ويدعو المسلمين الى الثورة ، وقلب الحكم ، واعادة النظام الاسلامي الحافل بكل مقومات النهوض والارتقاء وتطبيق سياسته البناءة على واقع الحياة.

إن صيحة ابي ذر كانت صيحة رجل يقظ وعى الاسلام ، ووقف على اهدافه ، واحاط بواقعه فانه ليس من الاسلام فى شيء أن تستغل أموال المسلمين ، وتمنح للوجوه والاعيان ، فيمعنون في التلذذ والاسراف وقد اخذ الفقر بخناق المسلمين ، وعمت في بلادهم المجاعة والفاقة والبطالة فانكر أبو ذر ذلك ، واندفع بوحي من عقيدته الى تلك الصيحة التي دوخت عثمان وانكرها المستغلون من اتباعه. يقول الاستاذ السيد قطب : « إن صيحة ابي ذر كانت دفعة من دفعات الروح الاسلامى أنكرها الذين فسدت قلوبهم ولا يزال ينكرها امثالهم من مطايا الاستغلال فى هذه الايام ، لقد كانت هذه الصيحة يقظة ضمير لم تخدره الاطماع امام تضخم فاحش فى الثروات يفرق الجماعة الاسلامية طبقات ، ويحطم الاسس التي جاء هذا الدين ليقيمها .. » (2)

وانطلق أبو ذر يوالي انكاره ، ومعارضته للحكم القائم لا يعبأ به ، ولا يبالي بشدة ارهابه وقسوته فكان يقف على اولئك الذين منحهم عثمان بهباته فيتلو قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها

ص: 256


1- مجمع الزوائد 9 / 330
2- العدالة الاجتماعية : ص 211

فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ورفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان فارسل إليه ينهاه عن ذلك فقال أبو ذر :

« اينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه ... فو اللّه لأن ارضي اللّه بسخط عثمان أحب الي وخير لي من أن اسخط اللّه برضاه .. »

فالتاع عثمان من ذلك ، ولكنه كظم غيظه ، وقد أعياه امر ابي ذر وضاق به ذرعا.

نفيه الى الشام

واستمر صاحب رسول اللّه في اداء رسالته الاصلاحية لم يصانع ولم يحاب ، وانما يبغي الحق ويلتمس وجه اللّه ورضاه ، وقد وجد عليه عثمان وامر بنفيه الى الشام ، ويقول الرواة : إن السبب في ذلك هو ان عثمان سأل حضار مجلسه فقال لهم :

« أيجوز ان يأخذ من المال فاذا ايسر قضى؟ »

فانبرى كعب الاحبار فأجاب عن سؤاله فقال :

« لا ارى بذلك بأسا .. »

ولما رأى أبو ذر كعب الاحبار يتدخل في امور الدين وهو يهودي النزعة ، ويشك في اسلامه غضب من ذلك ورد عليه قائلا :

« يا ابن اليهوديين. أتعلمنا ديننا؟ »

فثار عثمان وقال له :

« ما اكثر أذاك ، وأولعك بأصحابي؟ الحق بمكتبك في الشام. »

وذهب أبو ذر الى الشام ، فلما انتهى إليها ورأى منكرات معاوية وبدعه جعل ينكر على معاوية ويندد بالسياسة الاموية ، ويذيع مساوئ

ص: 257

عثمان وبعد سيرته عن سيرة الرسول وسنته ، وقد نقم من معاوية حينما قال : المال مال اللّه ، فقال له : المال مال المسلمين ، وانكر عليه بناء الخضراء التي انفق عليها الاموال الطائلة من بيت المال فكان يقول له :

« يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال اللّه فهي الخيانة ، وان كانت من مالك فهذا الاسراف؟ »

واخذ يوقظ النفوس ، ويبعث روح الثورة على معاوية فكان يقول لأهل الشام :

« واللّه لقد حدثت أعمال ما أعرفها. واللّه ما هي فى كتاب اللّه ولا في سنة نبيه ، واللّه اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه .. » (1)

وكان الناس يسمعون قوله ، ويؤمنون بحديثه ، وخاف معاوية من دعوة أبي ذر فكتب الى عثمان يخبره بخطره على الشام ، فكتب عثمان إليه ان يرسله على اغلظ مركب وأوعره ، فارسله معاوية مع جماعة لا يعرفون مكانته ، ولا يحترمون مقامه فساروا به ليلا ونهارا حتى تسلخت بواطن أفخاذه وكاد ان يتلف ، ولما بلغ المدينة مضى في دعوته فكان ينكر على عثمان أشد الانكار ويقول له :

« تستعمل الصبيان ، وتحمى الحمى (2) وتقرب أولاد الطلقاء؟! »

ص: 258


1- الانساب 5 / 52
2- اشار بذلك الى ما فعله عثمان فى منحه جميع المراعى التي حول المدينة لبنى أميّة ترعى فيها اغنامهم ، وحمى مواشي المسلمين منها وهو مناف للسنة فانها جعلت المراعي التي لا مالك لها لجميع المسلمين لأنها من المباحات الاصلية ، وقد قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : الناس شركاء فى ثلاث فى الكلأ والماء والنار.

وانطلق يبين للمسلمين ما سمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذم الامويين ، ومدى خطرهم على الاسلام يقول : قال رسول اللّه :

« اذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد اللّه دولا ، وعباد اللّه خولا ودين اللّه دغلا .. »

واصدر عثمان اوامره بمنع مجالسة أبي ذر ، كما حرم الكلام معه ، والاختلاط به.

نفيه الى الربذة

وثقل أبو ذر على عثمان ، وضاق به ذرعا ، فقد ايقظ النفوس ، واوجد فيها وعيا أصيلا يبعثها على الثورة العارمة ، والاجهاز على النظام القائم الذي آثر الاغنياء بأموال الدولة ، وحجبها عن المصالح العامة ، الامر الذي أدى الى فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية ، وشيوع الفقر والمجاعة في البلاد.

ورأى عثمان ان خير وسيلة له من الخطر الذي يتهدده ابعاد ابي ذر عن يثرب ونفيه عن سائر الامصار الاسلامية الى بعض المجاهل والقرى التي لا تزدحم بالسكان ، فأرسل خلفه فلما حضر بادره أبو ذر بالكلام فقال له :

« ويحك يا عثمان!! أما رأيت رسول اللّه ، ورأيت ابا بكر وعمر هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش الجبارين. »

فقطع عثمان كلامه ، وصاح به

- اخرج عنا من بلادنا

- اتخرجني من حرم رسول اللّه؟

- نعم وانفك راغم

ص: 259

- اخرج الى مكة؟

- لا

- الى البصرة؟

- لا

- الى الكوفة

- لا

- الى اين اخرج؟

- الى الربذة حتى تموت فيها

وأوعز الى مروان باخراجه فورا من المدينة ، وهو مهان الجانب محقر الكيان ، وحرم على المسلمين ان يشايعوه ويخرجوا لتوديعه ، ولكن أهل الحق ، ومن طبعوا على نصرته ابوا إلا مخالفة عثمان فقد خف الامام أمير المؤمنين لتوديعه ، ومعه عقيل وعبد اللّه بن جعفر ، والحسن والحسين وبادر مروان الى الحسن فقال له :

« إيه يا حسن!! ألا تعلم ان عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟

فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك .. »

فحمل امير المؤمنين عليه ، وضرب أذنى راحلته بالسوط ، وصاح به : تنح نحاك اللّه الى النار ، وولى مروان منهزما الى عثمان يخبره بالحال.

ووقف الامام أمير المؤمنين على أبي ذر فودعه والقى إليه كلمات كانت له سلوى طيلة حياته في تلك البقعة الجرداء قال له :

« يا أبا ذر ، انك غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما احوجهم الى ما منعتهم وما اغناك عما

ص: 260

منعوك ، وستعلم من الرابح غدا ، والاكثر حسدا؟ ولو ان السموات والارض كانتا على عبد رتقا ، ثم اتقى اللّه لجعل اللّه منهما مخرجا ، لا يؤنسنك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لآمنوك .. »

وحدد الامام - بهذه الكلمات الرائعة - الموقف الرهيب الذي وقفه أبو ذر من عثمان فانه لم يكن من اجل المادة ، ولا من اجل سائر الاعتبارات الاخرى التي يئول امرها الى التراب ، وانما كان من أجل المبادئ الاصيلة والقيم العليا التي جاء بها الاسلام وهي تهيب بالحاكمين والمسئولين أن لا يستأثروا بأموال المسلمين ، وقد جافى عثمان ذلك ، وانتهج سياسة خاصة بنيت على الاستغلال والإثرة ، فلهذا ثار أبو ذر في وجهه وناجزه ، وقد خافه عثمان على ملكه وسلطانه ، وخافه أبو ذر على دينه وعقيدته ، وقد امره الامام ان يترك ما بأيديهم ، ويهرب بدينه ليكون بمنجاة من شرور القوم وآثامهم.

وبيّن علیه السلام - فى كلماته - اتجاه ابي ذر وميوله ، فانه لا يؤنسه إلا الحق ، ولا يوحشه إلا المنكر والباطل ولو انه غيّر اتجاهه فسالم القوم ووادعهم لأحبوه واخلصوا له ، وأجزلوا له العطاء ، ومنحوه الثراء.

وبادر إليه الامام الحسن فصافحه وودعه ، وألقى عليه كلمات تنم عن قلب موجع لهذا الفراق قائلا :

« يا عماه. لو لا انه ينبغي للمودع أن يسكت ، وللمشيع ان ينصرف لقصر الكلام وإن طال الاسف ، وقد اتى القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها ، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيك ، وهو عنك راض .. »

ص: 261

لقد امره الامام الحسن علیه السلام بالصبر على ما انتابه من الكوارث والخطوب التي صبها عليه القوم ليلقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو عنه راض.

والقى ابو ذر على أهل البيت نظرة مقرونة بالتفجع والاسى والحسرات وتكلم بكلمات يلمس فيها ذوب قلبه على هذا الفراق المرير قال :

« رحمكم اللّه يا أهل بيت الرحمة ، اذا رأيتكم ذكرت بكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما لي بالمدينة سكن ولا شجن (1) غيركم إني ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن اجاور أخاه وابن خاله بالمصرين (2) فأفسد الناس عليهما فسيرنى الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا اللّه ، واللّه ما أريد إلا اللّه صاحبا ، وما اخشى مع اللّه وحشة .. »

وانصرف أبو ذر طريدا في فلوات الارض شريدا عن حرم اللّه وحرم رسوله قد باعدته السياسة العمياء ، وفرقت بينه وبين اهل البيت الذين يكن لهم أعمق الود وخالص الحب من أجل حبيبه وصاحبه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

لقد مضى أبو ذر الى الربذة ليموت فيها جوعا ، وفي يد عثمان ذهب الارض يصرفه على بني أمية ، وعلى آل ابي معيط ، ويحرمه على شبيه المسيح عيسى بن مريم في هديه وسمته.

ورجع الامام امير المؤمنين مع اولاده من توديع ابي ذر ، وقد علاه الاسى والحزن فاستقبلته جماعة من الناس فاخبروه بغضب عثمان واستيائه منه

ص: 262


1- السكن : الاهل والشجن : من يهواه ويحبه
2- المصرين : البصرة ، ومصر وكان والي البصرة عبد اللّه بن عامر ابن خال عثمان ، ووالي مصر عبد اللّه بن سعد بن ابي سرح وهو اخو عثمان.

لأنه خالف أمره وخرج لتوديع خصمه فقال علیه السلام :

« غضب الخيل على اللجم. » (1)

وبادر عثمان الى الامام فقال له :

- ما حملك على رد رسولي؟

- اما مروان فانه استقبلني يردني فرددته عن ردي ، وأما امرك فلم ارده

- او لم يبلغك أني قد نهيت الناس عن تشييع ابي ذر؟

- أو كل ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة اللّه والحق في خلافه أتبعنا فيه أمرك؟!!

- أقد مروان

- وما أقيده؟

- ضربت بين اذني راحلته

- أما راحلتي فهي تلك ، فإن اراد ان يضربها كما ضربت راحلته فليفعل ، وأما أنا فو اللّه لئن شتمني لأشتمنك أنت بمثلها بما لا اكذب فيه ولا أقول إلا حقا.

- ولم لا يشتمك إذ شتمته ، فو اللّه ما أنت عندي بأفضل منه.

وغضب الامام من عثمان لأنه ساوى بينه وهو من النبي بمنزلة هارون من موسى ، وبين الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم الذي لعنه رسول اللّه وهو في صلب أبيه ، فقال علیه السلام له :

- إلي تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟!! فانا واللّه افضل منك وأبي افضل من أبيك ، وأمي أفضل من أمك ، وهذه نبلي قد نثلتها .. »

ص: 263


1- يضرب مثلا لمن يغضب غضبا لا ينتفع به

فسكت عثمان ، وانصرف الامام وهو ملتاع حزين منه لأنه لم يرع مقامه ، ولم يلحظ جانبه وقرن بينه وبين مروان.

3 - عمار بن ياسر

وعمار بن ياسر فذ من أفذاذ الاسلام ، وعلم من أعلامه ، وقطب من أقطابه ، وصاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخليله لقي في سبيل الاسلام أعظم الجهد ، وأمر البلاء ، وعذب مع أبويه اعنف التعذيب وأقساه ، فقد استضعفتهم جبابرة قريش فصبت عليهم وابلا من العذاب الأليم فألهبت ابدانهم بمكاوى النار ، وضربتهم ضربا موجعا ، ووضعت على صدورهم الاحجار الثقيلة ، وصبت عليهم قربا من الماء ، وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يجتاز عليهم فيرى ما هم فيه من المحنة والعذاب فتذوب نفسه اسى وحزنا ، ويقول :

« اصبروا آل ياسر : موعدكم الجنة. » (1)

ويقول وقد اضناه الحزن « اللّهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت .. » (2)

وبقيت هذه الاسرة التي وهبت حياتها لله تحت التعذيب والارهاق لم تحتفل بما تعانيه من ألم التعذيب وشدته وأصرت على ايمانها بدعوة محمد صلی اللّه علیه و آله وهي تسخر بأوثان قريش واصنامها فورم من ذلك أنف أبي جهل ، وانتفخ سحره ، وجعلت عيناه تقدحان شررا وغيظا فعمد الى سمية فطعنها في قلبها فماتت وهي اول شهيدة في الاسلام ، وعمد الاثيم بعد ذلك الى ياسر فقتله.

وظل عمار تحت التعذيب حتى اعياه ، وأرهقه فعرضت عليه قريش

ص: 264


1- كنز العمال 6 / 85 ، مجمع الزوائد 9 / 293
2- مسند احمد 1 / 62

سب النبي والعدول عن دينه فاجابهم على كره فعفوا عنه ، فانطلق الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يبكي فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ، وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، وانزل اللّه تعالى فيه :

( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. ) (1)

وملئت نفس عمار بالايمان باللّه فكان الدين قطعة من طبعه ، وعنصرا مقوما لمزاجه ، وانزل اللّه فيه غير آية من القرآن كلها ثناء عليه وتمجيد له ، واشادة به ، وقد عناه تعالى بقوله : ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ) (2) ونزلت فيه الآية الكريمة : ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (3) كما نزلت فى الثناء عليه وفى ذم الوليد الآية المباركة وهي قوله تعالى : ( أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. ) (4)

واهتم النبي صلی اللّه علیه و آله في شأن عمار اهتماما بالغا فكان يرفع من شأنه ، ويشيد بذكره ، ويقدمه على غيره فقد رأى خالدا يغلظ له

ص: 265


1- سورة النحل : آية 106 ذكر نزولها في عمار ابن سعد في طبقاته 3 / 178 الواحدي في اسباب النزول صفحة 212 الطبري في تفسيره 14 / 122 وغيرهم
2- سورة الزمر : آية 9 ذكر نزولها في عمار القرطبي في تفسيره 1 / 239 وابن سعد في طبقاته 3 / 178
3- سورة الانعام : آية 122 نص على نزولها في عمار السيوطى في تفسيره 3 / 43 ، وابن كثير في تفسيره 2 / 172.
4- سورة القصص : آية 61 نص على نزولها في عمار والوليد الزمخشري في تفسيره 2 / 386 ، الواحدي في اسباب النزول صفحة 255

في القول فالتاع من ذلك وانبرى يقول : « من عادى عمارا عاداه اللّه ، ومن أبغض عمارا ابغضه اللّه. » (1) وجرت بينه وبين شخص مشادة فقال لعمار : سأعرض هذه العصا لأنفك ، فلما سمع ذلك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) غضب واندفع يقول : « ما لهم ولعمار يدعوهم الى الجنة ، ويدعونه الى النار ، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفى فاذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه » (2) ويقول فيه : « ما خير عمار بين امرين الا اختار ارشدهما » (3)

وظل عمار موضع عناية النبي وتبجيله وتقديره لما يرى فيه من الاخلاص والزهد فى الدنيا ، والحب للحق وقد شهد مع النبي بدرا وأحدا والمشاهد كلها ، وشارك فى بناء المسجد النبوي فكان المسلمون يحمل كل واحد منهم لبنة لبنة ، وهو يحمل لبنتين لبنتين ، وهو يقول : « نحن المسلمين نبتنى المساجد » وكان النبي يرجع عليه بعض قوله فيقول « المساجد » وشارك كذلك في حفر الخندق وكان يمسح التراب عنه ، وهكذا كان عمار فى طليعة أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله في ايمانه واخلاصه وعظيم بلائه وعنائه في سبيل الاسلام ، ولما انتقل النبي الى حضيرة القدس لازم أمير المؤمنين وكان متفانيا في حبه ، ولا يرى أحدا خليقا بالخلافة غيره ومن أجل ذلك تخلف عن بيعة أبي بكر واحتج عليه ، وقد تقدم بيان ذلك ولما آل الامر الى عثمان ، وسلك غير الجادة نقم منه عمار واشتد فى معارضته والانكار عليه ، وقد نكل به عثمان ، واعتدى عليه ، وقابله بافحش القول وأمره ، وكان ذلك في مواضع عدة وهي :

ص: 266


1- مسند احمد 4 / 89
2- سيرة ابن هشام 2 / 114
3- سنن ابن ماجة 1 / 66 مصابيح السنة 2 / 288

1 - انه لما استأثر بالسفط ، وحلى به بعض نسائه انكر عليه أمير المؤمنين ، وايد عمار معارضته ، كما تقدم بيانه قال له عثمان : أعليّ يا بن المتكاء (1) تجترئ؟ واوعز الى شرطته بأخذه فأخذوه وأدخلوه عليه فضربه حتى غشي عليه ، وهو شيخ قد علاه الضعف وحمل الى منزل السيدة أم سلمة زوج النبي ، ولم يفق من شدة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين والمغرب ، فلما افاق توضأ وصلى العشاء ، وقال : الحمد لله ليس هذا اول يوم أوذينا فيه فى اللّه ، وغضبت من اجل ذلك السيدة عائشة فاخرجت شعرا من شعر رسول اللّه وثوبا من ثيابه ، ونعلا من نعاله ، ثم قالت ما اسرع ما تركتم سنة نبيكم ، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد وغضب عثمان حتى لا يدري ما يقول ، ولا يعرف كيف يعتذر عن عمله؟ (2)

2 - ان أعلام الصحابة رفعوا مذكرة لعثمان ذكروا فيها احداثه ، ومخالفة سياسته للسنة ، وانهم يناجزونه إن لم يثب الى الرشاد ، ولم يغير خطته ، وقد دفع إليه المذكرة عمار ، فأخذها عثمان وقرأ صدرا منها فثار واندفع وهو مغيظ محنق فقال له :

- أعلي تقدم من بينهم؟؟!

- إني انصحهم لك

- كذبت يا ابن سمية

- أنا واللّه ابن سمية وابن ياسر

وأمر عثمان غلمانه فمدوا بيديه ورجليه ، ثم ضربه عثمان برجليه ، وهي

ص: 267


1- المتكاء : العظيمة البطن ، والتي لا تمسك البول
2- الانساب 5 / 48

في الخفين على مذاكيره فاصابه الفتق ، وكان ضعيفا فأغمي عليه (1)

3 - ولما نفى عثمان أبا ذر صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الربذة ، وتوفى فيها غريبا ، وجاء نعيه الى يثرب قال عثمان أمام جماعة من الصحابة :

« رحمه اللّه »

فاندفع عمار قائلا :

« نعم رحمه اللّه من كل أنفسنا .. »

فانتفخت اوداج عثمان ، وقال لعمار بافحش القول ، وأقساه :

« يا عاض أير أبيه ، أتراني ندمت على تسييره؟ »

وأمر غلمانه فدفعوا عمارا ، وأرهقوه ، كما أمر بنفيه الى الربذة ، فلما تهيأ للخروج أقبلت بنو مخزوم الى امير المؤمنين فسألوه ان يذاكر عثمان في شأنه ، فانطلق الامام إليه ، وقال له :

- اتق اللّه ، فانك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك ثم أنت الآن تريد ان تنفي نظيره؟ فثار عثمان وقال للامام :

- أنت احق بالنفي منه

- رم إن شئت ذلك

واجتمع المهاجرون فعذلوه ، ولاموه على ذلك فاستجاب لقولهم ، وعفا عن عمار (2).

لقد بالغ عثمان في اضطهاد عمار وارهاقه ، فضربه اعنف الضرب وأقساه ، واغلظ له فى القول ، ولم يرع بلاءه فى الاسلام ، ونصرته للنبي

ص: 268


1- الانساب 5 / 49 ، العقد الفريد 2 / 272
2- الانساب 5 / 54 ، اليعقوبي 2 / 150

في جميع المواقف والمشاهد ، واهتمام النبي بشأنه ، وتقديمه على غيره ، وانه جلدة ما بين عينيه - على حد تعبيره - كل ذلك لم يلحظه فاعتدى عليه ، ونقم منه لأنه أمره بالعدل ، ودعاه الى الحق الواضح ، والى الاعتدال في سياسته.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن تنكيله باعلام الصحابة من الذين سبقوا الى الاسلام ، وجاهدوا اعظم الجهاد في سبيله ، وهم - من دون شك - لم يكونوا مدفوعين بدافع الرغبة في الحكم أو الامرة على بعض الامصار والاقاليم الاسلامية ، او الظفر بالمال ، كل ذلك لم يدفعهم الى الصيحة عليه ، وإنما رأوا أنه احدث من الاعمال ما ليست في كتاب اللّه ، ولا في سنة نبيه ، رأوا حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى - كما يقول أبو ذر - من اجل ذلك اعلنوا نقمتهم وانكارهم عليه ، وطالبوه بأن يسلك الجادة الواضحة ، ويسير على الطريق القويم ، ويتبع هدي النبي ويقتفى اثره.

الافتراء على الامام الحسن

وافترى بعض المؤرخين على الامام الحسن فزعم أنه كان عثماني الهوى وانه يكن له في دخائل نفسه أعمق الحب ومزيد الولاء والاخلاص ، وقد حزن عليه بعد مقتله حزنا بالغا ، وقد ذهب الى ذلك الدكتور طه حسين قال ما نصه :

« ولم يفارق الحسن حزنه على عثمان ، فكان عثمانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، إلا انه لم يسل سيفا للثأر بعثمان لأنه لم ير ذلك حقا له ، وربما غلا في عثمانيته حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب

ص: 269

فقد روى الرواة أن عليا مر بابنه الحسن وهو يتوضأ فقال له : اسبغ الوضوء فاجابه الحسن بهذه الكلمة المرة : « لقد قتلتم بالأمس رجلا كان يسبغ الوضوء » فلم يزد علي على ان قال : لقد اطال اللّه حزنك على عثمان. » (1)

إن السياسة التي انتهجها عثمان ، والاحداث الجسام التي صدرت منه لم تترك له أي حميم أو صديق في البلاد فقد سخط عليه عموم المسلمين ، وخافوه على دينهم ، فكانت عائشة تخرج ثوب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول اللّه لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنته ، ونقم عليه حتى طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف ، وغيرهم ممن اغدق عليهم بالنعم والاموال ، ولم يعد له أي صديق أو مدافع عنه سوى بني أمية وآل ابي معيط ، وبعد هذه الكراهية الشاملة فى نفوس المسلمين لعثمان كيف يكون الامام الحسن - الذي يحمل هدي جده الرسول - عثمانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة - كما يقول طه حسين - لقد كان الحسن من جملة الناقمين على عثمان والناكرين عليه لأنه رأى ما لاقاه أصحاب أبيه كأبي ذر وعمار ، وابن مسعود من الاضطهاد والارهاق ، وشاهد ما لاقاه أبوه بالذات من الاستهانة بحقه ، والاعتداء عليه حينما خرج لتوديع ابي ذر وبعد هذا كيف يكون الحسن عثمانيا ، او مغاليا في حبه له؟!!

وأي مظهر من مظاهر الكآبة والحزن بدت من الامام الحسن على عثمان بعد مقتله ، أفي قيامه بالدور البطولي في بعث الجماهير ، واخراجها الى ساحة الحرب في موقعة الجمل التي اثيرت للطلب بدم عثمان ، وقد كان معه في كثير من تلك المواقف عمار بن ياسر ، وكان ينال من عثمان

ص: 270


1- الفتنة الكبرى 2 / 193 - 194

ويتهمه في دينه ، ويقول فيه : قتلنا عثمان يوم قتلناه وهو كافر (1) وكان الحسن يسنده ، ويدعم أقواله ، أو أنه ظهر منه الاسى على عثمان في حرب صفين الذي ثأر فيه معاوية للطلب بدم عثمان ، ففى أي موقف أظهر الامام حزنه وأساه على عثمان؟؟

وأما الرواية التي استند إليها الدكتور طه حسين لتدعيم قوله ، فقد رواها البلاذري عن المدائني (2) الذي عرف بالنصب والعداء لأهل البيت وافتعال الروايات الحسنة في بني أميّة (3) والغرض من وضع هذه الرواية أن يضفي على عثمان ثوب القداسة ، ويجعل له رصيدا من الحب في نفوس صلحاء المسلمين ، ومضافا لضعف سندها فيرد عليها بعض المؤاخذات وهي

1 - إن الامام امير المؤمنين قد تلطف في خطابه مع ولده الحسن ، وبين له الحكم الشرعي ، ولم يواجهه بلاذع القول فما الذي دعا الحسن ان يقابله بتلك الكلمات المرة ، وهو وارث النبي صلی اللّه علیه و آله وشبيهه في سمو أخلاقه وكريم طباعه.

2 - إن الامام الحسن كان من جملة المدافعين عن عثمان - كما يقولون - وكان ذلك بأمر من أبيه فكيف يتهمه بقتل عثمان؟

3 - إن الامام لم يكن له أي دخل في قتل عثمان ، ولا في التآمر عليه ، وإنما قتلته أعماله ، وأجهزت عليه الاحداث التي ارتكبها ، فكيف يتهم الحسن أباه بقتله؟

وبعد الاحاطة بما ذكرنا لا تبقى للرواية اي قيمة في سندها ولا في

ص: 271


1- التمهيد للباقلانى صفحة 220
2- الانساب 5 / 81
3- الطبري 4 / 240

دلالتها ، والغريب من الدكتور أن يعتمد عليها ، ولا يمعن النظر فيها وفى امثالها من الروايات التي تعمد وضعها ذوو النزعات الاموية وأجراء السلطة

الثورة

وأخذ المسلمون يتحدثون في أنديتهم عن مظالم عثمان ، وعن احداثه واستبداده بشئونهم ، وتبديده لثرواتهم ، وتنكيله بأخيار الصحابة وأعلام الدين ، وتلاعب مروان وبني أميّة بشئون الدولة ، وغير ذلك من الاحداث الجسام ، وقد انتشر التذمر ، وعم السخط والاستياء جميع انحاء البلاد ، فاجتمع أهل الحل والعقد ، وذوو السابقة في الاسلام فكاتبوا الامصار يستنجدون بهم ، ويطلبون منهم العون ، وارسال القوات المسلحة للقيام بقلب الحكم القائم وهذا نص مذكرتهم لأهل مصر :

« من المهاجرين الاولين وبقية الشورى ، الى من بمصر من الصحابة والتابعين ، أما بعد : ان تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول اللّه قبل أن يسلبها أهلها ، فان كتاب اللّه قد بدل ، وسنة رسوله قد غيرت ، واحكام الخليفتين قد بدلت ، فننشد اللّه من قرأ كتابنا من بقية اصحاب رسول اللّه والتابعين باحسان إلا أقبل إلينا ، وأخذ الحق لنا ، وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا ان كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقنا ، واستولى على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله .. » (1)

وحفلت هذه الرسالة بذكر الاحداث الخطيرة التي ابتلي بها العالم

ص: 272


1- الامامة والسياسة 1 / 35

الاسلامي من جراء الحكم القائم وهي :

1 - تبديل كتاب اللّه ، والغاء أحكامه العادلة

2 - تغيير سنة النبي صلی اللّه علیه و آله واهمال ما اثر عنه في عالم الحكم والسياسة

3 - الاعراض عن سيرة الشيخين

4 - استئثار السلطة بالفيء وصرفه على مصالحها الخاصة

5 - صرف الخلافة الاسلامية عن مفاهيمها البناءة ، وطاقاتها الثرة الى ملك عضوض لا يعتني باهداف الامة ، ولا يرع مصالحها

وقد اوجبت هذه الاحداث زعزعة الكيان الاسلامي ، وتهديد الحياة الاسلامية بالدمار ، وقد واصل الناقمون على عثمان جهادهم فبعثوا برسالة أخرى الى المرابطين في الثغور من اصحاب النبي يطلبون منهم القدوم الى يثرب لإقامة الخلافة ، وهذا نص رسالتهم :

« انكم انما خرجتم ان تجاهدوا في سبيل اللّه عز وجل ، تطلبون دين محمد صلی اللّه علیه و آله فان دين محمد قد أفسده خليفتكم فاقيموه .. »

واستجابت الامصار الاسلامية لهذا النداء فارسلت وفودها الى يثرب للاطلاع على الاوضاع الراهنة ودراسة الموقف ، وما يحتاجه من علاج ، والوفود التي أقبلت هي :

أ - الوفد المصري

وأرسلت مصر وفدا عدده اربع مائة شخص ، وقيل اكثر من ذلك بقيادة محمد بن أبي بكر ، وعبد الرحمن بن عديس البلوي

ب - الوفد الكوفي

وأرسلت الكوفة وفدها بقيادة الزعيم مالك الاشتر ، وزيد بن صوحان

ص: 273

العبدي ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد اللّه بن الاصم العامري ، وعلى الجميع عمرو بن الاهثم

ج - الوفد البصري

ونزح من البصرة حكيم بن جبلة في مائة رجل ، ولحقه بعد ذلك خمسون ، وفيهم ذريح بن عباد العبدي وبشر بن شريح القيسي ، وابن المحرش وغيرهم من الاعيان والوجوه

ورحبت الصحابة بالوفود ، واستقبلتها بمزيد من الابتهاج والشكر وأخذت تذكر لها احداث عثمان التي لا تتفق بظاهرها وواقعها مع الدين وحرضوها على الايقاع به والاجهاز عليه لتستريح الامة من حكمه.

ورأى الوفد المصري - قبل كل شيء - أن يرفع مذكرة الى عثمان يدعوه فيها الى التوبة والاستقامة في سياسته فكتبوا ذلك ، وهذا نصه :

« أما بعد فاعلم ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فاللّه اللّه ثم اللّه اللّه ، فانك على دنيا فاستتم معها آخرة ، ولا تنسى نصيبك من الآخرة ، فلا تسوغ لك الدنيا ، واعلم انا لله ولله نغضب ، وفي اللّه نرضى وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة أو ضلالة مجلحة مبلجة (1) فهذه مقالتنا لك وقضيتنا إليك واللّه عذيرنا منك والسلام .. » (2)

واضطرب عثمان من الامر ، وقرأ الرسالة بامعان ، وأحاط الثوار به فبادر إليه المغيرة وطلب منه الاذن بالكلام معهم ، فاذن له وانطلق

ص: 274


1- مجلحة. من جلح على الشيء اقدم عليه اقداما شديدا ، مبلجة : واضحة بينة
2- الانساب 5 / 64 - 65 ، تاريخ الطبري 5 / 111 - 112

إليهم فلما رأوه صاحوا به

« يا أعور وراءك! يا فاجر وراءك! يا فاسق وراءك! »

فرجع خائبا ودعا عثمان عمرو بن العاص ، وطلب منه ان يكلم القوم فمضى إليهم وسلم فما ردوا علیه السلام ، وقالوا له :

« ارجع يا عدو اللّه! ارجع يا ابن النابغة! فلست عندنا بأمين ولا مأمون » وعلم عثمان ان لا ملجأ له إلا الامام أمير المؤمنين فاستغاث به ، وطلب منه ان يدعو القوم الى كتاب اللّه وسنة نبيه ، فأجابه الامام الى ذلك ولكن شرط عليه ان يعطيه عهد اللّه وميثاقه على الوفاء بما قال فأعطاه ذلك ومضى الامام الى القوم فلما رأوه قالوا له :

- وراءك!

- لا. بل امامي ، تعطون كتاب اللّه ، وتعتبون من كل ما سخطتم وعرض عليهم ما بذله عثمان لهم

- أتضمن ذلك عنه؟

- نعم

- رضينا

وأقبل وجوههم وأشرافهم مع أمير المؤمنين حتى دخلوا على عثمان ، فعاتبوه على اعماله فاعتبهم من كل شيء ، وطلبوا منه أن يكتب لهم كتابا يلتزم فيه على نفسه بالعمل على كتاب اللّه وسنة نبيه وتوفير الفيء للمسلمين فأجابهم الى ذلك ، وكتب لهم ما نصه :

« هذا كتاب من عبد اللّه عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين أن لكم أن اعمل فيكم بكتاب اللّه وسنة نبيه ، يعطى المحروم ويؤمن الخائف ، ويرد المنفي ، ولا تجمر فى البعوث. ويوفر الفيء ، وعلي

ص: 275

ابن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين ، على عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب »

وشهد فيه كل من الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد اللّه ، وسعد ابن مالك أبي وقاص ، وعبد اللّه بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وأبو ايوب خالد بن زيد ، وكتب ذلك في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا (1) ، وطلب منه الامام أمير المؤمنين ان يخرج الى الناس ، ويعلن لهم أنه قد استجاب لهم ونفذ طلباتهم ، ففعل عثمان ذلك ، واعطى الناس عهدا ان يسير فيهم على كتاب اللّه وسنة نبيه ، وأن يوفر لهم الفيء ، ولا يؤثر به أحدا من أرحامه ، وذوي قرباه ، ورجع المصريون الى بلادهم ، ودخل مروان على عثمان فقال له :

« تكلم واعلم الناس ان اهل مصر قد رجعوا ، وان ما بلغهم عن امامهم كان باطلا ، فان خطبتك تسير في البلاد قبل ان يتحلب الناس عليك من امصارهم فيأتيك من لا تستطيع دفعه .. »

لقد دعاه ان يعلن الكذب ، ويقول غير الحق فامتنع من اجابته - اولا - ولكنه انصاع أخيرا لقوله فخرج ، واعتلى أعواد المنبر وقال :

« أما بعد : إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن امامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم رجعوا الى بلادهم ... »

واندفع المسلمون الى الانكار عليه فناداه عمرو بن العاص

« اتّق اللّه يا عثمان فانك قد ركبت نهابير (2) وركبناها معك فتب الى اللّه نتب معك .. »

ص: 276


1- الانساب
2- النهابير : المهالك.

فزجره عثمان وصاح به :

« وإنك هناك يا ابن النابغة؟ قملت واللّه جبتك منذ تركتك من العمل؟ .. »

وارتفعت من جميع جنبات المسجد أصوات الانكار وهي ذات لهجة واحدة

« اتق اللّه يا عثمان اتق اللّه. »

فانهارت قواه ، ولم يجد بدا من أن يعلن التوبة على هذا الإفك ، ونزل عن المنبر ومضى الى منزله (1)

وهذه البادرة تدل على ضعفه ، وهزال ارادته ، وتلاعب مروان فى شئونه ، وسيطرته على جميع اموره ، وأنه لا قدرة له على مخالفته ، والتغلب عليه.

استنجاده بالامصار

ولما ازداد نشاط الثوار ، وحاصروه فى داره استنجد بمعاوية ، واستغاث به ، وكتب إليه هذه الرسالة :

« أما بعد : فان اهل المدينة قد كفروا ، وخلعوا الطاعة ، ونكثوا البيعة ، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول .. » (2) وتربص معاوية حينما اطلع على الكتاب فلم يندفع الى نصرته واجابته وتنكر للأيادي التي اسداها عليه ، وعلى اسرته.

ولما ابطأ معاوية على عثمان ، ولم يقم بنجدته بعث عثمان رسالة الى يزيد بن اسد بن كرز وإلى أهل الشام يستفزهم ويحثهم على الخروج

ص: 277


1- تأريخ الطبري 5 / 110 ، الانساب 5 / 74
2- تاريخ اليعقوبي 2 / 152 الكامل لابن الاثير 5 / 67

لنصرته ، ولما انتهى إليهم الكتاب نفروا للخروج تحت قيادة يزيد القسري ولكن معاوية أمره أن يقيم بذي خشب ، ولا يتجاوزه ، فأقام الجيش هناك حتى قتل عثمان ، والسبب في ذلك هو أن يتخذ من قتله وسيلة للمطالبة بدمه لتؤل الخلافة الى بني أميّة ، إن معاوية ممن دبر الحيلة في قتله ، والى ذلك يشير أبو أيوب الانصاري بقوله لمعاوية : « إن الذي تربص بعثمان ، وثبط يزيد بن اسد عن نصرته لأنت. »

وعلى اي حال فان عثمان قد كتب رسائل متعددة الى الامصار ، والى من حضر الموسم في مكة يستنجد بهم ويطلب منهم القيام بنجدته.

يوم الدار

ورجع الوفد المصري من اثناء الطريق لما تبينت له المكيدة الخطيرة التي دبرت ضده ، فاحاطوا بقصر عثمان وهم يهتفون بسقوطه ، ويطالبونه بالاستقالة من منصبه ، وخرج إليهم مروان فشتمهم ونال منهم قائلا :

« ما شأنكم؟ كأنكم قد جئتم لنهب؟ شاهت الوجوه. تريدون ان تنزعوا ملكنا من ايدينا اخرجوا عنا. »

فألهبت هذه الكلمات نار الثورة في نفوسهم فاحاطوا بعثمان ، وعزموا على قتله فاستنجد بالامام فاقبل إليه وقد نقلت له كلمات مروان فقال (عليه السلام) :

« أما رضيت من مروان ، ولا رضى منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك ، مثل جمل الضعينة يقاد حيث يسار به ، واللّه ما مروان بذي رأي فى دينه ، ولا فى نفسه ، وأيم اللّه لأراه سيوردك ثم لا يصدرك وما أنا بعائد بعد مقامى هذا لمعاتبتك ، اذهبت شرفك ، وغلبت على امرك .. »

إن الذي اجهز على عثمان وقتله هو مروان وبنو أميّة ، وقد صرحت

ص: 278

بذلك نائلة زوج عثمان فقالت للامويين :

« أنتم واللّه قاتلوه وميتمو أطفاله .. »

ونصحت زوجها بأن لا يطيع مروان تقول له : « انك متى اطعت مروان قتلك .. »

إن عثمان يحمل قسطا ليس بالقليل فى الجناية على نفسه لأنه لما علم أنه ضعيف الارادة ، ولا قابلية له للتغلب على الاحداث وان بني أمية قد استولوا على اموره ، وهو يعلم من دون شك كراهية المسلمين لهم ، فكان اللازم عليه أن يترك الامر لغيره ويستقيل من منصبه ، ولا ينكب الامة بقتله. وأيقن الثوار أنه لا مجال لإصلاحه لأنه إن ابرم أمرا نقضه مروان فاصروا عليه أن يخلع نفسه عن الخلافة فأبى وقال : « انما هي ثوب البسنيها اللّه. » وفي الحقيقة انها ثوب كساه بها عمر ، وألبسها اياه عبد الرحمن بن عوف.

وعلى أي حال فقد اندلعت نيران الثورة ، واشتد أوارها حتى بلغ السيل الزبى فقد صمم الثوار على قتله بعد إبائه عن الاستقالة من منصبه فمنع عنه طلحة الماء ، واستولى على بيوت الاموال ، واحاط الثوار بقصره وتسلق بعضهم عليه الدار فجعلوا يرمونه بالحجارة ، ويبالغون في سبه وشتمه وقذفه

موقف الامام الحسن

وزعم غير واحد من المؤرخين ان الامام الحسن وقف يوم الدار مدافعا عن عثمان بايعاز من أبيه ، وقد أبلى في ذلك بلاء حسنا حتى خضب بدمائه ، وهذا القول - من دون شك - من موضوعات الامويين

ص: 279

ومن مفترياتهم فان الامام الحسن (عليه السلام) وسائر البقية الصالحة من المهاجرين والانصار كانوا في معزل عن عثمان بل ومن الناقمين عليه ، ولم يحضر من يدافع عنه فى حصاره سوى بني أمية وبعض المنتفعين منهم ولو كان له أي رصيد في المجتمع لما تمكن الثائرون من قتله.

لقد اتفقت كلمة الصحابة على خذلانه ، ولم تظهر منهم بادرة من بوادر المساعدة والمؤازرة له بل كانوا يمجدون الثورة ، ويبعثون روح الحماس في نفوس الثوار ، وبعد هذا فكيف يمكن ان يخرق الامام الحسن الاجماع ويمضي للدفاع عنه وعلى أى حال فقد تعرض المحقق الاميني الى تزييف تلك الاخبار ، وعدها في سلسلة الموضوعات (1)

الاجهاز على عثمان

واجهز الثوار على عثمان ، وقد تولى قتله جماعة في طليعتهم محمد ابن ابي بكر فكان من أحقدهم عليه فقد شهر السيف في وجهه وقال له :

- على أي دين أنت يا نعثل؟

- على دين الاسلام ولست بنعثل ، ولكني أمير المؤمنين

- غيرت كتاب اللّه

- كتاب اللّه بيني وبينكم

وأخذ بلحيته فسحبه الى الارض وهو يقول : إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول : ربنا إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل.

وهجم القوم عليه فاردوه قتيلا يتخبط بدمائه ، وتركوه جثة

ص: 280


1- الغدير 9 / 218 - 247

هامدة (1) لم يواروه ، ولم يسمحوا لأحد بمواراته ، وتكلم بعض خواصه مع الامام أمير المؤمنين في ذلك فتوسط في شأنه فأذنوا لهم في ذلك ولكنهم لم يسمحوا لهم بدفنه في البقيع فدفنوه في حش كوكب (2)

لقد امتحن المسلمون امتحانا عسيرا في امر عثمان ، وقد أورثهم قتله عناء أي عناء ، وقد تولدت في ايام حكومته وبعد مقتله أحزاب نفعية لا يهمها إلا الوصول الى الحكم لتتخذ منه وسيلة الى الثراء ، وأخذت تلك الاحزاب تعيث فسادا في الارض ، وتتآمر على مصالح المسلمين فأبادت وحدتهم ، وفرقت كلمتهم ، وخلقت في المجتمع أهم المصاعب والمشاكل حتى أصبح من المتعذر على الامام أمير المؤمنين في دور حكومته أن يصلح الاوضاع الراهنة ، ويعيد سيرة الرسول وسنته بين الناس ، واتسعت تلك المشاكل حتى بلغت الذروة فى دور الامام الحسن ، فرأى أن لا خطة له أفضل ولا أحسن من الاستسلام كما سنوضحه بالتفصيل في البحوث الآتية.

وبهذا ينتهى بنا المطاف عن عهد عثمان ، وقد اسهبنا القول في امره واطلنا الحديث فى تصوير سياسته التي أشعلت نار الفتنة الكبرى فى البلاد وفتحت باب الخلاف والنزاع بين المسلمين ، ومهدت الطريق للامويين ان يتدخلوا في شئون المسلمين ، ويختلسوا السلطة من أيديهم ، ويمعنوا في قتل الاخيار ومطاردة المصلحين ، وإبادة جميع الاسس التي جاء هذا الدين ليقيمها وبسطنا القول في ذكر بعض المؤاخذات التي تواجه بحوث الدكتور

ص: 281


1- قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشر ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين من الهجرة ، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما وعمره اثنان وثمانون سنة.
2- اسم بستان في المدينة كانت اليهود تدفن موتاهم فيها

طه حسين فى عثمان ، وتبرير سياسته ، ولم نكن - يعلم اللّه - مدفوعين في ذلك كله بدافع العصبية أو الحقد على عثمان ، وإنما رائدنا الاخلاص للحق وحده ، وخدمة القضية الاسلامية ، فان الكثير من كتاب العصر قد حاول تصحيح تلكم الاحداث بوجوه بعيدة لا يسندها منطق ، ولا يدعمها برهان ، ونحن في أمس الحاجة الى دراسة التأريخ الاسلامي على واقعه ، والامعان في الحوادث التي جرت في العصور الاسلامية الاولى ، لنقف على الذوات الخيرة التي خدمت الاسلام ورفعت مناره ونتميز الذين خدعتهم السلطة ، وغرهم الثراء فتنكروا لدينهم وأمتهم في سبيل مصالحهم الضيقة ، وعسى ان تكون هذه البحوث التي رسمناها بدقة وامانة قد صورت لنا الواقع الذي جرى في تلكم العصور.

ص: 282

المثل العليا

اشارة

ص: 283

ص: 284

وتوفرت فى الامام أبي محمد الصفات الرفيعة والمثل الكريمة ، وتجسدت فيه طاقات الاسلام وعناصره ومقوماته ، فهو بحكم قابلياته ونزعاته فذ من أفذاذ العقل الانساني ، ومثل من امثلة التكامل البشري ، وعظيم من عظماء الاسلام.

لقد بلغ الامام الذروة في فضائله ، ومآثره ، واصالة رأيه ، وسمو تفكيره ، وشدة ورعه ، وسعة حلمه ، ودماثة اخلاقه الى غير ذلك من ملكاته التي كان بها موضع اعتزاز المسلمين وفخرهم ، ونشير الى بعضها

امامته

ومن أبرز الصفات الماثلة فيه هي الامامة وذلك لما تستدعيه من المثل والقابليات التي لا تتوفر إلا عند من اصطفاه اللّه واختاره من بين عباده ، وقد حباه تعالى بها ، وأعلن ذلك الرسول الكريم بقوله فيه وفي أخيه : « الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا. »

ولا بد لنا من وقفة قصيرة لنتبين فيها معنى الامامة ، وبعض الشؤون التي تتعلق بها فانها تكشف عن سمو مكانة الامام وعظيم شأنه والى القراء ذلك :

أ - معنى الامامة

وحددها علماء الكلام فقالوا : « الامامة رئاسة عامة في امور الدين والدنيا لشخص انساني. » فالامام - حسب هذا التحديد - هو الزعيم العام والرئيس المتبع وله السلطة الشاملة على الناس في جميع شئونهم الدينية والدنيوية ب - الحاجة الى الامامة

والامامة ضرورة من ضروريات الحياة لا يمكن الاستغناء عنها بحال

ص: 285

من الاحوال فبها يقام ما أعوج من نظام الدنيا والدين ، وبها تتحقق العدالة الكبرى التي ينشدها اللّه في ارضه ، ويتحقق الامن العام والسلام بين الناس ، ويدفع عنهم الهرج والمرج ، ويمنع القوي من أن يتحكم في الضعيف ، ومن اهم الامور الداعية الى وجود الامام ايصال الناس الى عبادة اللّه ، ونشر احكامه وتعاليمه ، وتغذية المجتمع بروح الايمان والتقوى ليبتعد الانسان بذلك عن الشر ويتجه الى الخير ، ويجب على الامة كافة الانقياد إليه ، والامتثال لأوامره ليقيم أودها ، ويلم شعثها ويهديها الى سواء السبيل. ج - واجبات الامام

إن على امام المسلمين وولي أمرهم ان يقوم بما يلي :

1 - حفظ الدين ، وحراسة الاسلام ، وصيانته من المستهترين بالقيم والاخلاق.

2 - تنفيذ الاحكام ، والقضاء على الخصومات ، وانصاف المظلوم من ظالمه.

3 - حماية البلاد الاسلامية من الغزو الخارجي سواء أكان الغزو عسكريا أم فكريا كما في هذه العصور التي غزت بلادنا بعض المبادئ الهدامة التي تدعو الى تحطيم الاسس التي أقامها الاسلام.

4 - اقامة الحدود ، والقضاء على كافة الجرائم التي توجب شقاء الانسان.

5 - تحصين الثغور

6 - الجهاد

7 - جباية الاموال كالزكاة والخراج وغيرها من الامور التي نص

ص: 286

عليها التشريع الاسلامي.

8 - استخدام الامناء في جهاز الحكم ، وعدم استعمال الموظف محاباة او اثرة.

9 - النظارة على امور الرعية بالذات ، ولا يجوز له أن يعول على الغير لينظر فيها لأن ذلك من حقوق الرعية (1)

10 - القضاء على البطالة ، ونشر الرفاهية الشاملة في ربوع الامة ، وانقاذها من الفقر والحرمان.

هذه بعض الامور التي يجب على الامام أن يطبقها على مسرح الحياة العامة ، وقد استوفينا البحث فى هذه الجهات في كتابنا « النظام الاداري فى الاسلام ».

د - اوصافه

ولا بد في الامام ان تتوفر فيه الشروط الآتية وهي :

1 - العدالة على شروطها الجامعة وهي الامتناع من ارتكاب كبائر الذنوب والاصرار على صغائرها

2 - العلم بما تحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها ، ومعرفة النوازل والاحكام

3 - سلامة الحواس ، كالسمع ، والبصر ، واللسان ، ليصح معها مباشرة ما يدرك كما يشترط سلامة الاعضاء الاخرى من أي نقص.

4 - الرأي المفضي الى سياسة الرعية وتدبير المصالح العامة.

5 - الشجاعة والنجدة ، والقدرة على حماية بيضة الاسلام وجهاد العدو

6 - النسب وهو ان يكون الامام من قريش

ص: 287


1- السياسة الشرعية : ص 7

وقد ذكر هذه الشروط والاوصاف كل من الماوردي وابن خلدون (1)

7 - العصمة ، وعرفها المتكلمون : بأنها لطف من اللّه يفيضها على اكمل عباده وبها يمتنع من ارتكاب الجرائم والموبقات عمدا وسهوا ، وقد أجمعت الشيعة على اعتبارها في الامام ، ويدل عليها حديث الثقلين ، فقد قرن الرسول صلی اللّه علیه و آله بين الكتاب والعترة وكما ان الكتاب معصوم من الخطأ والزلل فكذلك العترة الطاهرة وإلا لما صحت المقارنة والمساواة بينهما وقد تقدم الكلام في بيان ذلك.

وهذه الاوصاف لم تتوفر إلا في أئمة أهل البيت حضنة الاسلام وحماته ، والادلاء على مرضاة اللّه وطاعته ، وقد وصفهم الكميت شاعر العقيدة الاسلامية بقوله :

القريبين من ندى والبعيدين *** من الجور في عرى الاحكام

والمصيبين ما أخطأ النا *** س ومرسي قواعد الاسلام

والحماة الكفاة في الحرب إن لف *** ضرام وقوده بضرام

والغيوث الذين ان أمحل النا *** س فمأوى حواضن الايتام

راجحي الوزن كاملي العدل في ال *** سيرة طبين بالامور الجسام

ساسة لا كمن يرى رعية النا *** س سواء ورعية الاغنام (2)

إن أئمة أهل البيت سلام اللّه عليهم قد دللوا بسيرتهم وهديهم على عصمتهم من الخطأ والزيغ ، وقد برهنت الحوادث والوقائع على ذلك ، ودلت على أنهم نسخة لا مثيل لها فى تأريخ الانسانية وذلك لما لهم من عظيم الفضل والتقوى والحراجة في الدين.

ص: 288


1- الاحكام السلطانية صفحة 4 المقدمة ص 135
2- الهاشميات

ه - تعيينه

وذهبت الشيعة الى أن تعيين الامام ليس بيد الامة ، ولا بيد أهل الحل والعقد منها ، والانتخاب فى الامامة باطل والاختيار فيها مستحيل ، فحالها كحال النبوة فكما أنها لا تكون بايجاد الانسان وتكوينه كذلك الامامة لأن العصمة - التي هي شرط في الامامة - لا يعرفها اللّه المطلع على خفايا النفوس ، وقد اوضح ذلك واستدل عليه حجة آل محمد ومهدي هذه الأمة القائم المنتظر علیه السلام في حديثه مع سعد بن عبد اللّه فقد سأل الامام عن العلة التي تمنع الناس من اختيار امام لأنفسهم فقال علیه السلام له :

- يختارون مصلحا او مفسدا؟

- بل مصلحا

- فهل يجوز ان تقع خيرتهم على المفسد بعد ان لا يعلم أحد بما يخطر ببال غيره من صلاح او فساد

- بلى

- فهي العلة أوردها لك ببرهان يثق به عقلك ، اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم اللّه ، وانزل الكتب عليهم ، وأيدهم بالوحي والعصمة ، إذ هم أعلام الامم ، وأهدى الى الاختيار ، منهم مثل موسى وعيسى ، هل يجوز مع وفور عقلهما ، وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنه مؤمن

- لا

- هذا موسى كليم اللّه مع وفور عقله ، وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن

ص: 289

لا يشك في ايمانهم واخلاصهم ، فوقعت خيرته على المنافقين ، قال اللّه عز وجل : ( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) الى قوله ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) بظلمهم. » فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه اللّه للنبوة واقعا على الافسد دون الاصلح وهو يظن أنه الاصلح علمنا ان الاختيار ليس إلا لمن يعلم ما تخفى الصدور ، وتكن الضمائر .. » (1)

إن الطاقات البشرية قاصرة عن ادراك الاصلح الذي تسعد به الامة فليس اختياره بيد الانسان وإنما هو بيد اللّه العالم بخفايا الامور ، هذه صورة مجملة عن الامامة وتفصيل الكلام يجده المتتبع مستوفى في كتب الكلام.

اخلاقه الرفيعة

قال بعض علماء الاجتماع : إنما تتفاضل الامم في حال البداوة بالقوة البدنية فاذا ارتقت تفاضلت بالعلم ، ثم اذا بلغت من الارتقاء غايته تفاضلت بالاخلاق. فالاخلاق هي غاية ما يصل إليه الانسان في سموه وكماله وتهذيبه

إن الخلق الكامل اذا انطبع في النفس لا يمكن ان تنحرف عن الطريق القويم ، أو تحل الانانية محل الايثار ، او تستولي عليها المغريات والنقائص من اجل ذلك كانت الاخلاق من أهم العناصر التي تبتني عليها الحياة الاجتماعية والفردية ، كما انها من اوثق الاسباب في بقاء الامم وفى دوام حضارتها واصالتها.

إن من أقوى العلل في ظهور الشرائع السماوية ، وبقاء سلطانها الروحي عنايتها بالخلاق واهتمامها بتهذيب النفوس وتربيتها بالنزعات الخيرة ، وقد

ص: 290


1- البحار 13 / 127

اهتم النبي بها اهتماما بالغا واعتبرها من ابرز الاسباب التي بعث من اجلها يقول صلی اللّه علیه و آله « إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق » وقد استطاع بمكارم اخلاقه أن يوقظ البشر من سباته ، ويؤسس معالم الحضارة فى العالم ويغير مجرى التأريخ فقد الف ما بين القلوب ، ووحّد المشاعر والعواطف وجمع الناس على صعيد المحبة والاخاء.

كان النبي فى عظيم أخلاقه مثالا للرحمة الإلهية التي تملأ القلوب البائسة الحزينة رجاء ورحمة ، كان يزور ضعفاء المسلمين ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم ، ويجيب دعوة من دعاه ، ولا يرد دعوة مملوك ولا فقير (1) ومن جالسه صابره حتى يكون جليسه هو المنصرف ، وما أخذ أحد بيده فجذبها منه حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها ، وكان حريصا على تطييب النفوس واجتناب الإساءة لأي انسان.

وهذه الاخلاق الرفيعة قد تمثلت فى الامام الحسن بحكم ميراثه من جده العظيم ، وقد ذكر التأريخ بوادر كثيرة من مكارم اخلاقه نسوق بعضها وهي :

1 - انه اجتاز على جماعة من الفقراء قد وضعوا على وجه الارض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها من الطريق ، وهم يأكلون منها فدعوه الى مشاركتهم فأجابهم الى ذلك وهو يقول : « إن اللّه لا يحب المتكبرين » ولما فرغ من تناول الطعام دعاهم الى ضيافته فاطعمهم وكساهم (2) واغدق عليهم بنعمه واحسانه.

إن التواضع دليل على كمال النفس وسموها وشرفها ، وفي الحديث

ص: 291


1- مستدرك الحاكم 2 / 466
2- اعيان الشيعة 4 / 24

« إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرحمكم اللّه » (1)

2 - ومن آيات أخلاقه أنه مرّ على صبيان يتناولون الطعام فدعوه لمشاركتهم فاجابهم الى ذلك ثم حملهم الى منزله فمنحهم ببره ومعروفه وقال : « اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما اطعموني ونحن نجد مما اعطيناهم » (2)

3 - ومن مكارم اخلاقه أنه كان يغضي عمن اساء إليه ، ويقابله بالاحسان ، فقد كانت عنده شاة فوجدها يوما قد كسرت رجلها فقال علیه السلام لغلامه :

- من فعل هذا بها؟

- أنا

- لم ذلك؟!

- لأجلب لك الهم والغم

فتبسم علیه السلام ، وقال له : لأسرك ، فاعتقه وأجزل له في العطاء (3)

4 - ومن عظيم أخلاقه أنه كان جالسا في مكان فأراد الانصراف منه فجاءه فقير فرحب به ولاطفه وقال له :

- إنك جلست على حين قيام منا أفتأذن لي بالانصراف؟؟

- نعم يا ابن رسول اللّه (4)

ص: 292


1- نهاية الارب في فنون الادب 3 / 443
2- الصبان المطبوع على هامش نور الابصار : ص 176
3- مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 147
4- تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 73

إن مراعاة حق الجليس من الآداب الاجتماعية التي توجب المحبة والإلفة ، وتوجد التعاون والترابط بين الناس فلذا أمر الإسلام بها وحث عليها.

5 - واجتاز على الامام شخص من أهل الشام ممن غذاهم معاوية بالكراهية والحقد على آل البيت فجعل يكيل للامام السب والشتم ، والامام ساكت لم يرد عليه شيئا من مقالته ، وبعد فراغه التفت الامام فخاطبه بناعم القول وقابله ببسمات فياضة بالبشر قائلا :

« أيها الشيخ : أظنك غريبا؟ لو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا حملناك ، وإن كنت جائعا أطعمناك ، وإن كنت محتاجا أغنيناك ، وإن كنت طريدا أويناك .. » وما زال (عليه السلام) يلاطف الشامي بهذا ومثله ليقلع روح العداء والشر من نفسه حتى ذهل ولم يطق رد الكلام وبقي حائرا خجلا كيف يعتذر للامام ، وكيف يمحو الذنب عنه؟ وطفق يقول :

( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) فيمن يشاء. » (1)

وهكذا كان علیه السلام مثالا للانسانية الكريمة ، ورمزا للخلق العظيم لا يثيره الغضب ، ولا يزعجه المكروه قد وضع نصب عينيه قوله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. ) وقد قابل جميع ما لاقاه من سوء وأذى ومكروه من الحاقدين عليه بالصبر والصفح الجميل ، حتى اعترف الد خصومه مروان بن الحكم بسمو حلمه ، وعظيم خلقه ، وذلك حينما انتقل الامام إلى الرفيق الاعلى

ص: 293


1- مناقب ابن شهر اشوب 2 / 149 ، الكامل للمبرد 1 / 190 وجاء فيه ان الأعرابى انصرف وهو يقول واللّه ما على وجه الأرض أحد أحب الي منه.

فبادر مروان إلى حمل جثمانه فقال له سيد الشهداء :

- تحمل اليوم سريره ، وقد كنت بالأمس تجرعه الغيظ؟!!

- إني كنت افعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (1)

لقد كان الامام كجده الرسول في سعة حلمه ، وعظيم أخلاقه ، وصفحه عمن أساء إليه ، وقد روى التأريخ بوادر كثيرة من أخلاقه دلت على أنه في طليعة الأخلاقيين والمساهمين فى بناء الأخلاق والآداب في دنيا العرب والمسلمين.

كرمه وسخاؤه :

من كان ندى الكف مبسوط اليدين بالعطاء متمسكا بأهداب السخاء بعيدا عن البخل وضروبه فاعظم به من خير عميم ، كبير الثقة باللّه ، عظيم النفس ، شريف الذات ، وقد تحدث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عن شرف هذه الظاهرة فقال : « خلقان يحبهما اللّه وهما : حسن الخلق والسخاء » وقال : « السخاء من الايمان ».

إن السخاء ينم عن طيب القلب ، ويكشف عن الفضائل النفسية ، ويحكى عن رحمة الانسان ورأفته ، ومن الطبيعي انه انما يكون كذلك فيما اذا كان بذله بداعي الخير والمعروف لا بداعي السمعة والمديح والثناء وغير ذلك من الدواعي التي لا تمت إلى الاحسان بصلة ، وقد حدث التأريخ عن أناس كانوا يهبون الألوف للوافدين ، ويبذلون القرى للاضياف ، ولكن سرعان ما انكشف أنه تصنع لا اتصال له بحقيقة الكرم والمعروف ، وذلك كعطاء معاوية بن أبي سفيان وهباته للوافدين عليه فان ذلك لم يكن

ص: 294


1- شرح النهج 4 / 5.

بداعي الاحسان وإنما كان لشراء الضمائر لأجل التمسك بزمام الحكم.

إن السخاء الحقيقي هو بذل الخير بداعي الخير ، وبذل الاحسان بداعي الاحسان ، وقد تجلت هذه الصفة الرفيعة بأجلى مظاهرها ، واسمى معانيها في الامام أبي محمد (عليه السلام) حتى لقب بكريم أهل البيت.

تلقى هذه المكرمة من سلفه الطاهر الذي عرف بالسخاء والمعروف ونجدة الضعيف والاحسان إلى كل منقطع ومحروم وفى جده الاعلى يقول القائل :

عمرو العلى هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف

وزاد الحسن على سلفه الطاهر فى ذلك فقد كان لا يعرف للمال قيمة ، ولا يرى له أهمية سوى ما يرد به جوع جائع ، أو يكسو به عاريا ، أو يغيث به ملهوفا ، أو يفي به دين غارم.

ان السخاء عنصر من عناصر ذاته ، ومقوم من مقومات مزاجه ، وقد أثر عنه أنه ما قال لسائل لا قط (1) وقيل له لأي شيء لا نراك ترد سائلا؟ فأجاب :

« إني لله سائل ، وفيه راغب ، وأنا استحي أن أكون سائلا ، وأرد سائلا ، وان اللّه عودني عادة أن يفيض نعمه علي ، وعودته أن أفيض نعمه على الناس فأخشى ان قطعت العادة أن يمنعني العادة وأنشأ يقول :

إذا ما أتاني سائل قلت مرحبا *** بمن فضله فرض علي معجل

ومن فضله فضل على كل فاضل *** وأفضل أيام الفتى حين يسأل (2)

ص: 295


1- الطبقات الكبرى للشعرانى 1 / 23 ، جوهرة الكلام للقراغولي ص 112
2- نور الابصار ص 111.

ونسبت له أبيات نظمها في الجود والسخاء منها قوله :

إن السخاء على العباد فريضة *** لله يقرأ في كتاب محكم

وعد العباد الأسخياء جنانه *** وأعد للبخلاء نار جهنم

من كان لا تندى يداه بنائل *** للراغبين فليس ذاك بمسلم

وله أيضا :

خلقت الخلائق من قدرة *** فمنهم سخي ومنهم بخيل

فأما السخي ففي راحة *** وأما البخيل فحزن طويل (1)

وكانت الوفود من المرتزقة والمحتاجين تزدحم عليه فيغدق عليهم ببره واحسانه ، ويجزل لهم المزيد من العطاء ، وقد ذكر التأريخ بوادر كثيرة من كرمه وجوده نسوق إلى القراء بعضها.

1 - جاءه اعرابي سائلا فقال (عليه السلام) : اعطوه ما في الخزانة ، وكان فيها عشرة آلاف درهم فقال له الاعرابي : يا سيدي هلا تركتني أبوح بحاجتي ، وأنشر مدحتي؟ فاجابه الامام :

نحن أناس نوالنا خضل *** يرتع فيه الرجاء والأمل

تجود قبل السؤال أنفسنا *** خوفا على ماء وجه من يسل

لو علم البحر فضل نائلنا *** لغاض من بعد فيضه خجل (2)

2 - واجتاز علیه السلام على غلام أسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ويدفع لكلب كان عنده لقمة اخرى.

فقال له الامام :

- ما حملك على ذلك؟

ص: 296


1- المناقب 2 / 156.
2- اعيان الشيعة 4 / 89 - 90.

- إني لأستحيي أن أكل ولا أطعمه.

رأى الامام فيه خصلة من أحب الخصال عنده ، فاحب أن يجازيه على صنعه ، ويقابل إحسانه بإحسان فقال له :

لا تبرح من مكانك ، ثم انطلق فاشتراه من مولاه واشترى الحائط (1) الذي هو فيه فاعتقه ، وملكه إياه (2).

3 - وأجتاز يوما فى بعض أزقة المدينة فسمع رجلا يسأل اللّه أن يرزقه عشرة آلاف درهم ، فانطلق إلى بيته ، وأرسلها إليه بالوقت (3).

4 - وجاءه شخص يظهر الاعواز والحاجة فقال له (عليه السلام) ما هذا حق سؤالك ، يعظم لدى معرفتي بما يجب لك ، ويكبر على ويديّ تعجز عن نيلك بما أنت اهله ، والكثير في ذات اللّه قليل ، وما في ملكى وفاء لشكرك ، فان قبلت منا الميسور ، ورفعت عنا مئونة الاحتفال والاهتمام فعلت ، فأجابه الرجل : يا بن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أقبل القليل واشكر العطية ، واعذر على المنع ، فاحضر (عليه السلام) وكيله وحاسبه وقال له : هات الفاضل ، وكان الفاضل خمسين الف درهم فدفعها إليه ولم يكتف (عليه السلام) بذلك بل قال لوكيله ما فعلت بالخمس مائة دينار التي عندك؟ فقال له : هي عندي ، فأمره باحضارها ثم دفعها إلى الرجل وهو يعتذر منه (4)

ص: 297


1- الحائط : البستان.
2- البداية والنهاية 8 / 38.
3- الطبقات الكبرى للشعراني 1 / 23 ، الصبان ص 177.
4- دائرة المعارف للبستانى ج 7 ص 39 ، إحياء العلوم للغزالي ج 3 ص 171 وزاد فيه انه «ع» قال للرجل هات من يحمل هذه الاموال فاتاه بحمالين فدفع علیه السلام رداءه لكراء الحمالين ، فقال له مواليه يا بن رسول اللّه واللّه ما عندنا درهم ، فقال «ع» لهم : ارجو ان يكون لي عند اللّه اجر عظيم.

إن قوله (عليه السلام) ( الكثير في ذات اللّه قليل ) ينم عن أن هذا العطاء إنما هو في سبيل اللّه تعالى لا يبتغي من احد جزاء أو شكورا.

5 - ومن مكارمه (عليه السلام) انه خرج هو وأخوه الحسين (عليه السلام) وابن عمهما عبد اللّه بن جعفر (1) وافدين إلى بيت اللّه الحرام ، وفى أثناء الطريق أصابهم جوع وعطش وقد سبقتهم اثقالهم ، فانعطفوا على بيت قد ضرب أطنابه في وسط تلك البيداء القاحلة ، فلما وصلوا إلى البيت لم يروا فيه إلا عجوزا فطلبوا منها شرابا وطعاما ، فأجابت بما طبعت عليه نفس الكريم قائلة :

نعم.

ص: 298


1- عبد اللّه بن جعفر بن ابي طالب الهاشمي ، وأمه اسماء بنت عميس الخثعمية ولد بأرض الحبشة لما هاجر إليها ابوه ، ولما قتل جعفر مسح النبي على راس عبد اللّه وقال : اللّهم اخلف جعفرا فى ولده ، وقال فيه صلی اللّه علیه و آله عبد اللّه يشبه خلقى وخلقى ، واطلع (صلی الله عليه وآله وسلم) عليه يوما وهو يبيع مع الصبيان فقال اللّهم بارك له فى بيعه او صفقته ، وهو احد الاجواد المشهورين ، ونقلت عن جوده وسخائه اخبار كثيرة وفيه يقول عبد اللّه بن قيس الرقيات وما كنت إلا كالأغر ابن جعفر *** راى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا ويقول فيه الشماخ بن ضرار : إنك يا ابن جعفر نعم الفتى *** ونعم مأوى طارق إذا اتى ورب ضيف طرق الحى سرى *** صادف زادا وحديثا ما اشتهى توفي سنة ثمانين من الهجرة ، وقد عرف ذلك العام الذي توفي فيه بعام الجحاف لحدوث سيل كان ببطن مكة اجحف الحاج وذهب بالابل وعليها الحمولة جاء ذلك فى الاصابة ج 2 ص 289 - 290.

إنها النفس إذا جبلت على الخير وطبعت فيها الأريحية قدمت في سبيل العز والمجد كل ما تملك ، لم يك عند العجوز سوى شاة هى كل ما تملك مما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء ، فتقدمت وبيدها الشاة قائلة لهم :

دونكم هذه الشاة فاحلبوها واشربوا لبنها ، فلما فعلوا ذلك تقدمت إليهم مرة أخرى قائلة :

أقسم عليكم إلا ما ذبحها أحدكم حتى أهيّئ لكم الحطب لشيها ، ففعلوا ذلك وهيأت العجوز الحطب ، وبعد الفراغ من تناول الطعام عزموا على الرحيل فتقدموا إليها وعرفوها بشخصياتهم ليجازوها على صنعها خيرا إن رجعوا إلى وطنهم ، قائلين :

« يا أمة اللّه إنا نفر من قريش نريد حج بيت اللّه الحرام ، فاذا رجعنا سالمين فهلمي إلينا لنكافئك على هذا الصنع الجميل ».

ثم انصرفوا لشأنهم ، ولما عنّ غياب القرص عن السماء أقبل رب البيت على عادته فأخبرته العجوز بالقصة ، فاستولى عليه الغضب ، ذلك لأن الشاة هي مصدر القوت وإدرار الرزق عليهم ، فقال لها : ويحك أتذبحين الشاة لأناس لا تعرفينهم؟ ثم تقولين إنهم نفر من قريش.

وطوى الدهر عجلته فمضت سنة وأقبلت أخرى فاعترت البادية أزمة شديدة لأن السماء قد منعتها قطرها حتى قلت موارد العيش وانعدمت أسباب القوت ، فرحلا عن البادية ونزلا المدينة ، ولم يجدا عملا يحيطان به خبرا سوى التقاط البعر من الطرقات والشوارع ، فاتخذا ذلك مهنة لهما ، وفي يوم من الأيام وهما على عملهما ارادت السعادة أن تحنو عليهما فلمح الحسن (عليه السلام) العجوز فعرفها ، وقد حل وفاء الدين ، والمعروف في ذمة الأحرار دين فأمر (عليه السلام) غلامه أن يأتي بها إليه ، فلما مثلت بين يديه

ص: 299

قال (عليه السلام) لها :

أتعرفيني يا أمة اللّه؟

- لا ..

- أنا أحد ضيوفك يوم كذا سنة كذا.

- لست أعرفك.

- إن لم تعرفيني فانا أعرفك ، ثم أمر (عليه السلام) غلامه فاشترى لها من غنم الصدقة الف شاة وأعطاها الف دينار ، ثم أمر (عليه السلام) غلامه أن يذهب بها إلى أخيه الحسين (عليه السلام) ويعرفه بها ، فأخذها الغلام فلما دخلت عرفها الحسين (عليه السلام) ، فقال للغلام : كم اعطاها أخي؟ فأخبره الغلام بعطائه ، فأوصلها (عليه السلام) بمثل ذلك ، ثم بعث الحسين بها إلى عبد اللّه بن جعفر ، فلما دخلت عليه عرفها ، فأمر لها بألفي شاة والفي دينار فأخذت ذلك جميعا وانصرفت (1) وفد تغير حالها من فقر مدقع إلى غناء وثروة حسدها عليه كل من عرفها كل ذلك من بر الحسن وفضله ،.

6 - ومن آيات مكارمه (عليه السلام) أنه اشترى حائطا من الأنصار بأربعمائة الف فبلغه أنهم قد احتاجوا إلى ما في أيدي الناس فرده إليهم (2) إن إنقاذ هؤلاء من ذل السؤال ورد شرفهم إليهم من أفضل أنواع السخاء ومن أسمى مراتب الجود.

7 - ومن مكارمه (عليه السلام) أن جارية حيته بطاقة من ريحان ، فقال علیه السلام لها : أنت حرة لوجه اللّه ، فلامه أنس على ذلك ، فأجابه علیه السلام : أدبنا اللّه فقال تعالى : ( إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها )

ص: 300


1- إحياء العلوم للغزالي 3 / 173 ، دائرة المعارف للبستاني 7 / 39.
2- الصبان ص 176.

وكان أحسن منها إعتاقها (1).

8 - ومن مكارمه (عليه السلام) أن مروان بن الحكم قال : إني لمشغوف ببغلة الحسن بن علي فمن يأتيني بها؟ فأنبرى إليه ابن أبي عتيق قائلا :

- أنا آتيك بها لكن بشرط أن تقضي لي ثلاثين حاجة؟

- التزم لك بذلك.

فقال ابن أبي عتيق لمروان : إذا اجتمع الناس عندك العشية فاني آخذ في مآثر قريش وأمسك عن الحسن فلمنى على ذلك ، فلما اجتمع الناسى أخذ ابن أبي عتيق في مآثر قريش وسكت عن ذكر فضائل الامام الحسن (عليه السلام) ، فقال له مروان ألا تذكر أولية أبي محمد ، وله فى هذا ما ليس لأحد منا ، فقال ابن أبي عتيق : إنما كنا في ذكر الاشراف ولو كنا في ذكر الأنبياء لذكرنا فضائل أبي محمد ، ولما خرج الامام (عليه السلام) تبعه ابن ابي عتيق فلما نظر إليه الحسن (عليه السلام) تبسم وعرف الغاية من مديحه فقال (عليه السلام) له : ألك حاجة؟ فقال : نعم ذكرت البغلة ، فنزل (عليه السلام) عنها ودفعها إليه (2).

9 - ومن جوده (عليه السلام) أن رجلا سأله أن يعطيه شيئا فقال له (عليه السلام) إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح (3) أو فقر مدقع أو حمالة مفظعة (4) فقال ما جئت إلا فى إحداهن ، فأمر (عليه السلام) له بمائة دينار ،

ص: 301


1- المناقب 2 / 23.
2- الكامل للمبرد 2 / 13.
3- الغرم الفادح هو لدين الثقيل.
4- الحمالة. بالفتح هو ما يتحمله الشخص من الدية والغرامة عن قومه ، المفظعة الشيء الشديد.

ثم انعطف الرجل نحو الحسين (عليه السلام) فسأله مثل سؤال اخيه فأعطاه مائة دينار سوى دينار لأنه كره أن يساوى أخاه في عطائه وانعطف الرجل بعد ذلك إلى عبد اللّه بن عمر فسأله فأعطاه سبعة دنانير ، فقال الرجل : لعبد اللّه إني أتيت الحسن والحسين وحكى له ما جرى له معهما فقال ابن عمر : ويحك أنى تجعلني مثلهما؟! انهما غرا العلم (1). غرا المال (2).

10 - ومن مكارمه (عليه السلام) أنه ما اشترى من أحد حائطا ثم أفتقر البائع إلا ورده عليه وأردفه بالثمن معه (3).

11 - وجاءه فقير يشكو حاله ولم يك عنده (عليه السلام) في ذلك اليوم شيء فعز عليه الامر واستحى من رده فقال (عليه السلام) له : إني أدلك على شيء يحصل لك منه الخير ، فقال الفقير يا بن رسول اللّه ما هو؟! قال علیه السلام اذهب إلى الخليفة فان ابنته قد توفيت وانقطع عليها وما سمع من أحد تعزية بليغة فعزه بهذه الكلمات يحصل لك منه الخير ، قال يا بن رسول اللّه حفظني إياها ، قال (عليه السلام) قل له الحمد لله الذي سترها بجلوسك على قبرها ولم يهتكها بجلوسها على قبرك ، وحفظ الفقير هذه الكلمات وجاء إلى الخليفة فعزاه بها ، فذهب عنه حزنه وأمر له بجائزة وقال له :

أكلامك هذا؟

- لا : وإنما هو كلام الامام الحسن.

الخليفة : صدقت فانه معدن الكلام الفصيح وأمر له بجائزة أخرى (4).

ص: 302


1- غرا العلم اي القما العلم ومنه حديث معاوية كان النبي يغر عليا بالعلم.
2- عيون الاخبار لابن قتيبة 3 / 140.
3- الطبقات الكبرى للشعرانى 1 / 23.
4- نور الابصار ص 111.

وذكر المترجمون للإمام صورا كثيرة من ألوان بره ومعروفه على الفقراء وقيامه بانقاذهم من كابوس الحاجة والفقر الى الدعة والسعة فى العيش ، وجميع تلك المبرات التي أسداها عليهم كانت خالصة لوجه اللّه ، ولم تكن مشفوعة بأي غرض من الاغراض فإنه كان يمنحهم العطاء والبر قبل أن يبوحوا بحاجاتهم ، ويذكروا مديحهم وثناءهم لئلا يظهر عليهم ذل السؤال والاحتياج.

عبادته وتقواه

ان الانسان كلما ازداد معرفة باللّه ازداد إيمانا به ، وحبا له ، وانقيادا لأوامره وطاعته ، وسعيا في جميع الوسائل التي تقربه إليه.

والامام الحسن قد تغذى بلباب المعرفة ، وبجوهر الايمان ، وبواقع الدين وانطبعت مثله في دخائل نفسه واعماق ذاته ، فكان من اشد الناس إيمانا ، ومن اكثرهم اخلاصا وطاعة لله ، وقد حدث الرواة عن مدى طاعته فقالوا : إنه لم ير في وقت من الاوقات إلا وهو يلهج بذكر اللّه ، (1) وانه اذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم (2) فسأل اللّه الجنة وتعوذ من النار ، واذا ذكر الموت وما يعقبه من البعث والنشور بكى بكاء الخائفين والمنيبين (3) واذا ذكر العرض على اللّه شهق شهقة يغشى عليه منها (4) ، وكان من اشد المعتبرين بالموت فاذا حضر جنازة

ص: 303


1- أمالي الصدوق صفحة 108
2- السليم : من لسعه العقرب
3- اعيان الشيعة 4 / 11
4- أمالي الصدوق : صفحة 108

ظهرت عليه السكينة أياما ، واذا مات فى جواره ميت سمع منه النحيب والبكاء كما يسمع من دار الميت (1) ودلت هذه الامور على عظيم طاعته وخوفه من اللّه ، ونسوق الى القراء بعض مظاهر عبادته : 1 - وضوؤه وصلاته

كان الامام اذا اراد الوضوء تغير حاله ، وداخله خوف عميق حتى يصفر لونه وترتعد فرائصه ، وسئل عن سر ذلك فقال :

« حق على من وقف بين يدي رب العرش أن ترتعد فرائصه ، ويصفر لونه .. »

واذا فرغ من الوضوء وأراد الدخول الى المسجد رفع صوته قائلا :

« إلهي : ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء ، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم » (2)

واذا اقبل على صلاته بدا عليه الخضوع والخشوع ، وظهر عليه الخوف حتى ترتعد جميع فرائصه واعضائه (3) واذا فرغ من صلاة الفجر لا يتكلم الا بذكر اللّه حتى تطلع الشمس (4) 2 - حجه

ومن مظاهر عبادته وعظيم اخلاصه وطاعته لله تعالى انه حج بيت اللّه الحرام خمسا وعشرين حجة ماشيا على قدميه وكانت النجائب (5) ،

ص: 304


1- مجموعة ورام صفحة 317
2- البحار 10 / 93 ، أمالي الصدوق صفحة 108 ، روضة الواعظين
3- أمالي الصدوق صفحة 108
4- البحار 10 / 93
5- النجائب : جمع ، مفرده نجيبة وهي الفاضل من الحيوانات وفي بعض المصادر وان الجنائب لتقاد بين يديه ، والجنائب. جمع جنيبة وهي الدابة التي تقاد.

تقاد بين يديه (1) وسئل عن كثرة حجه ماشيا فأجاب : « اني استحي من ربي أن لا امضي الى بيته ماشيا على قدمي (2)

3 - تلاوته للقرآن

كان الامام يتلو الذكر الحكيم تلاوة امعان وتدبر فلا يمر بآية تشتمل على نداء المؤمنين إلا قال : لبيك. اللّهم لبيك (3) وكان يقرأ في كل ليلة سورة الكهف (4) 4 - التصدق بأمواله

وقدم الامام في سبيل مرضاة اللّه كل غال ونفيس ، فقد خرج عن جميع ما يملك مرتين ، وشاطر اللّه أمواله ثلاث مرات حتى أعطى نعلا وامسك اخرى (5)

زهده

ورفض الامام جميع مباهج الحياة ، وزهد في ملاذها ونعيمها ، واتجه الى الدار الآخرة التي أعدها اللّه للمتقين من عباده ، وقد تحدث علیه السلام

ص: 305


1- اللمعة كتاب الحج واعيان الشيعة ، وقيل انه حج خمس عشرة حجة ، وقيل عشرون ، وذكر الصدوق فى أماليه انه ربما مشى حافيا الى بيت اللّه.
2- اعيان الشيعة 4 / 11
3- أمالي الصدوق ص 108
4- تاريخ ابن كثير 8 / 37
5- اسد الغابة 2 / 13 ، البحار 10 / 94

عن عزوفه عن الدنيا ، واقتناعه بالقليل منها يقول :

لكسرة من خسيس الخبز تشبعني *** وشربة من قراح الماء تكفيني

وطرة من دقيق الثوب (1) تسترني *** حيا وان مت تكفيني لتكفيني (2)

ورسم على خاتمه بيتين من الشعر يلمس فيهما مدى زهده وهما :

قدم لنفسك ما استطعت من التقى *** إن المنية نازل بك يا فتى

أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى *** أحباب قلبك في المقابر والبلى (3)

وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت *** يا اهل لذات دنيا لا بقاء لها

ان اغترارا بظل زائل حمق (4)

ومما ينسب له في ذم المغرور في الدنيا والمفتون بحبها قوله :

قل للمقيم بغير دار اقامة *** حان الرحيل فودع الاحبابا

ان الذين لقيتهم وصحبتهم *** صاروا جميعا في القبور ترابا (5)

ومن مظاهر زهده ما حدث به مدرك بن زياد (6) قال : كنا في حيطان ابن عباس فجاء الحسن والحسين ، وابنا العباس فطافوا فى تلك البساتين ثم جلسوا على ضفاف بعض السواقي ، فقال الحسن : يا مدرك : هل عندك غذاء؟ فقلت له : نعم ثم انطلقت فجئته بخبز وشيء من الملح

ص: 306


1- الدقيق : الحقير من الثياب
2- البحار 10 / 94
3- تاريخ ابن عساكر 4 / 219
4- الفصول المهمة لابن الصباغ : ص 162
5- المناقب 2 / 145
6- مدرك بن زياد احد الصحابة ، توفى في دمشق بقرية يقال لها « راوية » وهو اول مسلم دفن فيها ، الاصابة 3 / 394

مع طاقتين من بقل فأكل منه ، وقال يا مدرك ما أطيب هذا؟

وجيء بعد ذلك بالطعام وكان في منتهى الحسن والجودة فالتفت علیه السلام الى مدرك وأمره بأن يجمع الغلمان ويقدم لهم الطعام ، فدعاهم مدرك فأكلوا منه ولم يأكل الامام منه شيئا فقال له مدرك : لما ذا لا تأكل منه؟ فقال علیه السلام : ان ذاك الطعام أحب عندي (1) لأنه طعام الفقراء والمحرومين ، ومما يدل على عظيم زهده أنه زهد في الملك طلبا لمرضاة اللّه ، وخوفا على دماء المسلمين ، وقد الف فى زهده محمد ابن بابويه القمي (2) كتابا اسماه زهد الحسن وأجمع المترجمون له انه كان أزهد الناس وأفضلهم بعد جده وأبيه

هيبته ووقاره

إن شخصية الامام كانت تملأ العيون وتهيمن على النفوس لأنه قد التقت بها عناصر النبوة والامامة ، وتمثلت فيها هيبة النبيّ ، وقد حدث واصل بن عطاء (3) قال :

ص: 307


1- تاريخ ابن عساكر 4 / 212
2- محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، من اعظم علماء الشيعة ، ورئيس المحدثين لم ير فى القميين مثله في حفظه وكثرة علمه ، وهو استاذ الشيخ المفيد ، له من المؤلفات ثلاث مائة مؤلف توفى بالري سنة 381 ه جاء ذلك في الكنى والالقاب 1 / 212
3- واصل بن عطاء البصري : كان متكلما بليغا متشدقا ، وكان يلثغ بالراء نقل عنه انه هجر الراء وتجنبها فى خطابه وقيل فيه ويجعل البر قمحا فى تصرفه *** وخالف الراء حتى احتال للشعر ولم يطق مطرا والقول يعجله *** فعاذ بالغيث اشفاقا من المطر له من المؤلفات : اصناف المرجئة ، التوبة ، معاني القرآن ، وكان يتوقف من القول بعدالة اهل الجمل ، وهو شيخ المعتزلة ومن اجلائها ، ولد فى يثرب سنة ثمانين ، وتوفى سنة مائة واحدى وثلاثين من الهجرة جاء ذلك فى لسان الميزان 6 / 214

« كانت على الحسن سيماء الأنبياء وبهاء الملوك » (1)

وقال ابن الزبير :

« واللّه ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي في هيبته وسمو منزلته » (2)

وبلغ من عظيم هيبته انه كان يفرش له على باب البيت فاذا خرج وجلس انقطع الطريق لأنه لا يمر أحد إلا جلس اجلالا واكبارا له ، فاذا علم ذلك قام ودخل البيت (3)

ومن عظيم هيبته وسمو مكانته في نفوس المسلمين أنه ما أجتاز مع أخيه على ركب في حال سفرهما إلى بيت اللّه الحرام ماشيين إلا ترجل ذلك الركب تعظيما واكبارا لهما حتى ثقل المشي على جماهير الحجاج فكلموا سعد بن أبي وقاص في ذلك فبادر إلى الامام وقال له :

« يا أبا محمد ، إن المشي قد ثقل على الحجاج لأنهم إذا رأوا كما لم تطب نفوسهم بالركوب ، فلو ركبتما رحمة لهم .. »

فاجابه الامام بما ينم عن نفس قد عاهدت اللّه أن تبذل فى مرضاته

ص: 308


1- اعيان الشيعة 4 / 12 ، المناقب.
2- تأريخ ابن كثير 8 / 37.
3- اعلام الورى فى اعلام الهدى ص 125.

كل غال ونفيس قائلا :

« لا نركب فقد عاهدنا اللّه أن نؤم بيته ماشيين ، ولكن نتنكب الطريق .. » (1)

وسار علیه السلام فى بعض طرق يثرب وقد لبس حلة فاخرة ، وركب بغلة فارهة ، ووجهه الشريف يشرق حسنا وجمالا ، وقد حفت به خدمه ، وحاشيته فرآه بعض اغبياء اليهود فبادر إليه وقال له :

يا بن رسول اللّه عندى سؤال؟

- ما هو؟

- إن جدك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فأنت المؤمن وأنا الكافر ، وما الدنيا إلا جنة لك تتنعم فيها ، وتستلذ بها وأنت مؤمن ، وما أراها الا سجنا قد أهلكني حرها وأجهدني فقرها؟

- لو نظرت إلى ما أعد اللّه لي وللمؤمنين في الدار الآخرة مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر لعلمت أني قبل انتقالي إليها وأنا فى هذه الحالة فى سجن ، ولو نظرت إلى ما أعد اللّه لك ولكل كافر في دار الآخرة من سعير نار جهنم ، ونكال العذاب الأليم المقيم لرأيت قبل مصيرك إليه أنك في جنة واسعة ونعمة جامعة (2) وتركه الامام ، واليهودي يتميز من الغيظ والحقد.

ورأى هيبة الامام ووقاره بعض الأغبياء من الحاقدين عليه فقال له إن فيك عظمة فاجابه الامام ان في عزة ثم تلا قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ

ص: 309


1- المناقب 2 / 142 ، اعيان الشيعة 4 / 20.
2- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 161.

وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (1) ان الحسن كان يحكى جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فى هيبته وسؤدده وكريم طباعه.

فصاحته وبلاغته :

وكل ظاهرة من ظواهر الكمال قد تمثلت في الامام أبي محمد ، وتحلت بها شخصيته الكريمة ، ومن أروع صفاته البلاغة والفصاحة في الكلام فقد كان (عليه السلام) من أبرع البلغاء في اصابته للمناسبات ، ومن أقدرهم على الايجاز والاعجاز والابداع فى الكلام ، وحقا أن يكون كذلك فقد تفرع من دوحة الفصاحة والبلاغة وفصل الخطاب ، فالجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أفصح من نطق بالضاد ، والأب علي (عليه السلام) سيد البلغاء وامير البيان.

إن الحسن (عليه السلام) في فصاحته وبلاغته كأبيه ، وقد ترك (عليه السلام) تراثا رفيعا وحكما بالغة تحتوى على أصول الآداب الاجتماعية والنصح والارشاد والوعظ الخالد ، قد رصعت بجمال اللفظ وسمو المعنى وإلى القراء بعضها. الآداب الاجتماعية :

وجه الامام علي (عليه السلام) الى الحسن اسئلة تتعلق بأصول الأخلاق والفضائل ، فأجابه الحسن (عليه السلام) بما هو عفو البداهة والخاطر فكان الجواب آية من آيات البلاغة والاعجاز :

الامام علي : يا بني ما السداد؟

الحسن : يا أبت السداد دفع المنكر بالمعروف.

- ما الشرف؟

- اصطناع العشيرة وحمل الجريرة.

- ما المروءة؟

ص: 310


1- المناقب 2 / 149.

- العفاف واصلاح المرء ماله.

- ما الدنيئة؟

- النظر في اليسير ومنع الحقير.

- ما اللوم؟

- احتراز المرء نفسه وبذله عرسه (1).

- ما السماحة؟

- البذل في العسر واليسر.

- ما الشح؟

- أن ترى ما في يديك شرفا وما أنفقته تلفا.

- ما الاخاء؟

- الوفاء في الشدة والرخاء.

- ما الجبن؟

- الجرأة على الصديق والنكول عن العدو.

- ما الغنيمة؟

- الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا.

- ما الحلم؟

- كظم الغيظ وملك النفس.

- ما الغنى؟

- رضى النفس بما قسم اللّه وإن قل فانما الغنى غنى النفس.

- ما الفقر؟

ص: 311


1- وفى رواية انه قال ما اللؤم؟ احتراز المرء ماله وبذله عرضه جاء ذلك فى دائرة المعارف للبستاني 7 / 39.

- شره النفس في كل شيء.

- ما المنعة؟

- شدة البأس ومقارعة أشد الناس.

- ما الذل؟

- الفزع عند المصدوقية؟

- ما الجرأة؟

- موافقة الأقران.

- ما الكلفة؟

- كلامك فيما لا يعنيك.

- ما المجد؟

- أن تعطى في الغرم وأن تعفو عن الجرم.

- ما العقل؟

- حفظ القلب كل ما استرعيته. (1)

- ما الحزق؟

- معاداتك إمامك ورفعك عليه كلامك.

- ما الثناء؟

- اتيان الجميل وترك القبيح.

- ما الحزم؟

- طول الأناة (2) والرفق بالولاة والاحتراس من الناس بسوء الظن

ص: 312


1- وفى رواية ابى نعيم في الحلية 2 / 36 حفظ القلب كل ما استوعيته ، وفى رواية اخرى حفظ القلب لكل ما استتر فيه.
2- الأناة : الوقار والحلم والانتظار.

هو الحزم.

- ما الشرف؟

- موافقة الاخوان.

- ما السفه؟

- إتباع الدناة ومصاحبة الغواة.

- ما الغفلة؟

- تركك المسجد وطاعتك المفسد.

- ما الحرمان؟

- تركك حظك وقد عرض عليك.

- ما السيد؟

- الأحمق في ماله المتهاون في ... ، يشتم فلا يجيب ، المتحزن (1) بأمر العشيرة هو السيد (2).

إن النفس لتقف حائرة أمام هذا الاسترسال العجيب من الامام الحسن وعدم تكلفه في الجواب واحاطته خبرا بمعانى هذه النقاط الحيوية ، فلن يسع النفس إلا الاكبار والاعجاب والاعتراف بالعظمة والخضوع لتلك المواهب العلمية. مكارم الأخلاق :

قال جابر : سمعت الحسن (عليه السلام) يقول : مكارم الأخلاق عشرة ، صدق اللسان ، وصدق البأس ، واعطاء السائل ، وحسن الخلق ، والمكافاة

ص: 313


1- وفى رواية المهتم بأمر عشيرته.
2- تأريخ ابن كثير ج 8 ص 39.

بالصنائع ، وصلة الرحم ، والتذمم (1) على الجار ، ومعرفة الحق للصاحب ، وقرى الضيف ، ورأسهن الحياء (2).

والتفت معاوية يوما إلى الامام (عليه السلام) قال له : يا أبا محمد ثلاث خلال لم أجد من يجيبني عنها!!!

- ما هي؟

- المروءة ، الكرم ، النجدة.

- أما ( المروءة ) فاصلاح الرجل أمر دينه وحسن قيامه على ماله وإفشاء السلام والتحبب إلى الناس.

( الكرم ) العطية قبل السؤال ، والتبرع بالمعروف والاطعام في المحل.

( النجدة ) الذب عن الجار ، والمحامات في الكريهة ، والصبر عند الشدائد.

وجاء إليه شخص فقال : يا بن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من أحسن الناس؟

- من أشرك الناس في عيشه.

- من أشر الناس؟

- من لا يعيش فى عيشه أحد (3). الجرائم الاخلاقية :

قال «ع» : هلاك الناس في ثلاث ، الكبر ، الحرص ، الحسد.

« الكبر » به هلاك الدين ، وبه لعن إبليس.

ص: 314


1- التذمم ماخوذ من اذمه اي اجاره واخذه تحت حمايته.
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 201.
3- تأريخ اليعقوبي 2 / 202.

« الحرص » عدو النفس وبه اخرج آدم من الجنة.

« الحسد » رائد السوء وبه قتل هابيل قابيل (1).

لا شك ان هذه الرذائل الثلاث التي حرض الامام «ع» على اجتنابها واقام الشواهد على اضرارها هي اصول الاجرام وامهات الرذائل. التحريض على طلب العلم :

قال «ع» : لبنيه تعلموا العلم فانكم صغار القوم ، وكبارهم غدا ، ومن لم يحفظ منكم فليكتب (2).

وقال «ع» علم الناس ، وتعلم علم غيرك فتكون قد اتقنت علمك وعلمت ما لم تعلم (3).

وقال «ع» : حسن السؤال نصف العلم (4). فضل العقل :

قال «ع» : لا أدب لمن لا عقل له ، ولا مودة لمن لا همة له ، ولا حياء لمن لا دين له ، ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل ، وبالعقل تدرك سعادة الدارين ، ومن حرم العقل حرمهما جميعا (5). فضل القرآن الكريم :

قال «ع» : إن هذا القرآن فيه مصابيح النور ، وشفاء الصدور ،

ص: 315


1- نور الابصار ص 110.
2- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 142.
3- الاثنى عشرية ص 37.
4- نور الابصار ص 110.
5- اعيان الشيعة 4 / 88.

فليجل جال بضوئه ، وليلجم (1) الصفة قلبه ، فان التفكير حياة القلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور (2). الدعاء :

قال «ع» ما فتح اللّه عز وجل على أحد باب مسألة فخزن (3) عنه باب الاجابة ، ولا فتح على رجل باب عمل فخزن عنه باب القبول ، ولا فتح لعبد باب شكر فخزن عنه باب المزيد (4). السياسة :

سأله شخص عن رأيه في السياسة؟ فقال «ع» : هي أن ترعى حقوق اللّه ، وحقوق الاحياء ، وحقوق الأموات ( فأما حقوق اللّه ) فأداء ما طلب ، والاجتناب عما نهى « وأما حقوق الأحياء » فهي أن تقوم بواجبك نحو اخوانك ، ولا تتأخر عن خدمة أمتك ، وأن تخلص لولى الأمر ما اخلص لأمته ، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما حاد عن الطريق السوى « وأما حقوق الأموات » فهي أن تذكر خيراتهم ، وتتغاضى عن مساوئهم فان لهم ربا يحاسبهم (5).

وقال له معاوية : ما يجب لنا في سلطاننا؟

الامام : ما قال سليمان بن داود!!!

ص: 316


1- لجم : اي شد.
2- كشف الغمة ص 171.
3- خزن : اغلق وسد.
4- اعيان الشيعة 4 / 88.
5- مجلة العرفان الجزء الثالث المجلد الاربعون ص 254 نقلا عن المجلد التاسع من التذكرة المعلوفية.

معاوية : وما قال سليمان؟

الامام : انه قال لبعض أصحابه ، أتدري ما يجب على الملك فى ملكه وما لا يضره إذا أدى الذي عليه منه ، إذا خاف اللّه في السر والعلانية وعدل في الغضب والرضا ، وقصد في الفقر والغنى ، ولم يأخذ الأموال غصبا ، ولم يأكلها إسرافا وتبذيرا ، ولم يضره ما تمتع به من دنياه إذا كان من خلته (1).

هذه هي السياسة الصحيحة التي لو سارت عليها الدول لدام لها البقاء وكان الشعب والحكومة في راحة ونعيم ، وقد ادلى الامام «ع» بهذه الآراء القيمة إلى عدوه لأجل المصلحة العامة علّه أن يسير خصمه على ضوء الحق. الصديق والصاحب :

قال «ع» : ألا اخبركم عن صديق كان لي من اعظم الناس في عيني ، وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه ، كان خارجا من سلطان بطنه فلا يتشهى ما لا يحل ولا يكنز إذا وجد ، وكان خارجا من سلطان الجهالة فلا يمد يدا إلا على ثقة لمنفعة ، كان لا يتشكى ولا يتبرم ، كان أكثر دهره صامتا فاذا قال بذ (2) القائلين ، كان ضعيفا مستضعفا فاذا جاء الجد فهو الليث عاديا ، كان إذا جامع العلماء على أن يسمع احرص منه على أن يقول ، كان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت كان لا يقول ما يفعل ويفعل ما لا يقول كان إذا عرض له أمران لا يدري أيهما أقرب إلى الحق نظر اقربهما من هواه فخالفه كان

ص: 317


1- تأريخ اليعقوبي 2 / 202.
2- بذ اي تفوق وغلب.

لا يلوم أحدا على ما قد يقع العذر في مثله ، كان لا يقول حتى يرى قاضيا عدلا وشهودا عدولا (1)

وقال «ع» لبعض ولده : يا بني لا تواخ احدا حتى تعرف موارده ومصادره القريب من قربته المودة والبعيد من باعدته المودة وإن قرب نسبه.

وسأله رجل أن يكون صديقا له وجليسا ، فقال له «ع» : إياك أن تمدحني فانا اعلم بنفسي منك ، أو تكذبني فانه لا رأى لمكذوب ، أو تغتاب عندى أحدا ، فقال الرجل : ائذن لي في الانصراف قال له : نعم إذا شئت (2). السخاء والمعروف :

كان «ع» يطوف في بيت اللّه الحرام فسأله رجل عن معنى الجواد فقال له : إن لكلامك وجهين ، فان كنت تسأل عن المخلوق فان الجواد الذي يؤدى ما افترض عليه ، والبخيل الذي يبخل بما افترض عليه ، وإن كنت تسأل عن الخالق فهو الجواد إن اعطى وهو الجواد إن منع لأنه إن أعطى عبدا اعطاه ما ليس له وإن منع منع ما ليس له (3) وقال «ع» المعروف ما لم يتقدمه مطل ولا يتبعه منّ ، والاعطاء قبل السؤال من اكبر السؤدد (4).

ص: 318


1- عيون الاخبار لابن قتيبة ج 2 ص 55 ، وذكره غيره مع اختلاف فى التعبير.
2- تحف العقول ص 55.
3- مجمع البحرين مادة جود.
4- اعيان الشيعة ج 4 ص 88.

البخل :

قال «ع» البخل جامع للمساوئ والعيوب ، وقاطع للمودات من القلوب.

وسئل «ع» عن البخل فقال : هو أن يرى الرجل ما انفقه تلفا وما امسكه شرفا (1). التواضع :

قال «ع» : أعرف الناس بحقوق اخوانه واشدهم قضاء لها اعظمهم عند اللّه شأنا ، ومن تواضع في الدنيا لاخوانه فهو عند اللّه من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب «ع» (2). التوكل على اللّه :

قيل له «ع» : إن أبا ذر كان يقول الفقر أحب إلى من الغنى ، والسقم أحب إلى من الصحة. فقال : رحم اللّه أبا ذر ، أما أنا فأقول من اتكل على حسن اختيار اللّه لم يتمن أنه في غير الحالة التي اختارها اللّه له (3). ابطال الجبر :

ورفع أهالي البصرة إليه «ع» رسالة يطلبون منه رأيه في مسألة الجبر (4) فأجابهم علیه السلام :

ص: 319


1- نهاية الارب في فنون الادب ج 3 ص 398.
2- مجموعة ورام ص 312.
3- تأريخ ابن كثير ج 8 ص 39.
4- مبحث الجبر والتفويض من اهم المسائل الكلامية واشكلها ، وقد اضطربت فيها اقوال العلماء واختلفت إلى ابعد الحدود ، وقد شاعت فكرة الجبر في البصرة بسبب الحسن البصري وابي الحسن الاشعري حفيد ابي موسى الاشعري ، ومجمل فكرة الجبر ان الفعل الصادر من العبد ليس مخلوقا له وإنما هو مخلوق لله تعالى ، وإن ارادة العبد وقدرته لا مدخل لهما في ايجاد الفعل سواء كان الفعل الصادر من العبد باختياره او مضطرا عليه ، وقد تعرض آية اللّه الأستاذ السيد ابو القاسم الخوئي سلمه اللّه فى بحثه إلى المسألة فأوفاها بالتحقيق وبين فساد الجبر والتفويض واثبت ( ان الأمر بين الأمرين ) وهي الفكرة التي تذهب إليها الشيعة وقد كتبنا ما افاده سلمه اللّه برسالة مستقلة.

من لم يؤمن باللّه وقضائه وقدره فقد كفر ، ومن حمل ذنبه على ربه فقد فجر ، إن اللّه لا يطاع استكراها ، ولا يعصى لغلبة لأنه المليك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم فان عملوا بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما فعلوا فاذا لم يفعلوا فليس هو الذي أجبرهم على ذلك ، فلو اجبر اللّه الخلق على الطاعة لأسقط عنهم الثواب ، ولو أجبرهم على المعاصي لاسقط عنهم العقاب ، ولو اهملهم لكان عجزا فى القدرة ولكن له فيهم المشيئة التي غيبها عنهم فان عملوا بالطاعات كانت له المنة عليهم ، وإن عملوا بالمعصية كانت الحجة عليهم (1). تقوى اللّه :

قال «ع» إن اللّه لم يخلقكم عبثا وليس بتارككم سدى ، كتب آجالكم وقسم بينكم معايشكم ليعرف كل ذى منزلة منزلته وإن ما قدر له أصابه وما صرف عنه فلن يصيبه قد كفاكم مئونة الدنيا وفرغكم لعبادته وحثكم على الشكر وافترض عليكم الذكر وأوصاكم بالتقوى وجعل التقوى منتهى رضاه ، والتقوى باب كل توبة ورأس كل حكمة وشرف كل عمل بالتقوى فاز من فاز من المتقين ، قال اللّه تبارك وتعالى : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ

ص: 320


1- رسائل جمهرة العرب ج 2 ص 25.

مَفازاً ) وقال : ( وَيُنَجِّي اللّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) فاتقوا عباد اللّه واعلموا أن من يتق اللّه يجعل له مخرجا من الفتن ويسدده في أمره ويهيأ له رشده ، ويفلحه بحجته ويبيض وجهه ويعطيه رغبته مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا » (1). الوعظ والارشاد

قال علیه السلام : يا ابن آدم عف عن محارم اللّه تكن عابدا وارض بما قسم اللّه تكن غنيا ، واحسن جوار من جاورك تكن مسلما وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عادلا ، إنه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا اصبح جمعهم بورا وعملهم غرورا ومساكنهم قبورا ، يا ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك مذ سقطت من بطن أمك ، فجد بما في يديك فان المؤمن يتزود والكافر يتمتع وكان يتلو عقيب كلامه هذا ، قوله تعالى : ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ) (2).

وقال علیه السلام : اتقوا عباد اللّه وجدّوا في الطلب وتجاه الهرب وبادروا العمل قبل مقطعات النقمات وهادم اللذات ، فان الدنيا لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجيعتها ولا تتوقى في مساويها ، غرور حائل ، وسناد مائل فاتعظوا عباد اللّه بالعبر واعتبروا بالأثر وازدجروا بالنعم وانتفعوا بالمواعظ ، فكفى باللّه معتصما ونصيرا وكفى بالكتاب حجيجا وخصيما وكفى

ص: 321


1- تحف العقول ص 55.
2- نور الابصار ص 110

بالجنة ثوابا وكفى بالنار عقابا ووبالا (1).

وعزى علیه السلام رجلا قد مات بعض ذويه فقال له. إن كانت هذه المصيبة احدثت لك موعظة وكسبتك اجرا فهو ، وإلا فمصيبتك في نفسك أعظم من مصيبتك في ميتك (2).

وجاءه رجل من الاثرياء فقال له : يا ابن رسول اللّه اني أخاف من الموت!!!

فقال له علیه السلام : ذاك لأنك أخرت مالك ولو قدمته لسرك أن تلحق به (3).

ومر علیه السلام على قوم يلعبون ويضحكون في يوم عيد الفطر فوقف علیه السلام والتفت إليهم قائلا : إن اللّه جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته الى مرضاته فسبق قوم ففازوا ، وقصر آخرون فخابوا ، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون ، وأيم اللّه لو كشف الغطاء لعلموا ان المحسن مشغول باحسانه والمسيء مشغول بإساءته. ثم تركهم علیه السلام وانصرف (4)

وقال علیه السلام : اوصيكم بتقوى اللّه وادامة التفكر فان التفكر أبو كل خير وأمه.

وقال علیه السلام : من عرف اللّه احبه ومن عرف الدنيا زهد فيها

ص: 322


1- كذا وجد في تحف العقول ص 56.
2- مجموعة ورام ص 411
3- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 202
4- جامع السعادات ج 3 ص 376 ، تحف العقول ص 56 مجموعة ورام ص 54

والمؤمن لا يلهو حتى يغفل واذا تفكر حزن (1).

ومر علیه السلام على ميت يراد دفنه فقال : إن امرا هذا آخره لحقيق بأن يزهد في اوله ، وان امرا هذا اوله لحقيق أن يخاف من آخره (2).

وقال علیه السلام : الناس في دار سهو وغفلة يعملون ولا يعلمون فاذا صاروا الى دار الآخرة صاروا الى دار يقين يعلمون ولا يعملون (3). طلب الرزق

قال علیه السلام : لا تجاهد الطلب جهاد الغالب ولا تتكل على القدر اتّكال المستسلم فان ابتغاء الفضل من السنة والاجمال فى الطلب من العفة وليست العفة بدافعة رزقا ولا الحرص بجالب فضلا فان الرزق مقسوم واستعمال الحرص استعمال المآثم (4).

المساجد

قال علیه السلام : من ادام الاختلاف الى المسجد أصاب ثمان خصال آية محكمة ، وأخا مستفادا ، وعلما مستطرفا ، ورحمة منتظرة ، وكلمة تدله على هدى أو تردعه عن ردى ، وترك الذنوب حياء او خشية (5). آداب المائدة

قال علیه السلام : غسل اليدين قبل الطعام ينفى الفقر وبعده ينفي

ص: 323


1- مجموعة ورام صفحة 37
2- المحاسن والمساوئ للجاحظ صفحة 256
3- الاثنى عشرية صفحة 37
4- تحف العقول صفحة 55
5- عيون الاخبار لابن قتيبة ج 3 ص 3

الهم (1).

وقال علیه السلام : في المائدة اثنتا عشرة خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها ، أربع فيها فرض ، واربع سنة ، واربع تأديب.

الفرض : المعرفة ، الرضا ، التسمية ، الشكر.

السنة : الوضوء قبل الطعام ، الجلوس على الجانب الايسر ، الاكل بثلاثة اصابع ولعق الاصابع.

التأديب : الاكل مما يليك ، تصغير اللقمة ، تجويد المضغ. قلة النظر فى وجوه الناس ، (2) ولاء اهل البيت

قال له رجل : يا ابن رسول اللّه إني من شيعتكم!!!

فقال علیه السلام : يا عبد اللّه إن كنت لنا فى أوامرنا وزواجرنا مطيعا فقد صدقت ، وان كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها ، لا تقل أنا من شيعتك ، ولكن قل أنا من مواليكم ومحبيكم ومعادى اعدائكم وأنت في خير والى خير (3). التحذير من المحرفين لكتاب اللّه

قال علیه السلام : أيها الناس إنه من نصح لله وأخذ قوله دليل هدى للتي هي أقوم ، وفقه اللّه للرشاد وسدده للحسنى ، فان جار اللّه آمن محفوظ وعدوه خائف مخذول ، فاحترسوا من اللّه بكثرة الذكر واخشوا

ص: 324


1- الاثنى عشرية ص 37
2- مصابيح الانوار فى حل مشكلات الاخبار للحجة السيد عبد اللّه شبر اعلى اللّه مقامه ج 2 ص 271 وقد اوضح السيد فقرات الحديث.
3- مجموعة ورام صفحة 301

اللّه بالتقوى وتقربوا الى اللّه بالطاعة فانه قريب مجيب ، قال اللّه تعالى : ( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) فاستجيبوا لله وآمنوا به فانه لا ينبغي لمن عرف عظمة اللّه أن يتعاظم ، فان رفعة الذين يعلمون عظمة اللّه أن يتواضعوا ، والذين يعرفون ما جلال اللّه ان يتذللوا وسلامة الذين يعلمون ما قدرة اللّه ان يستسلموا له ولا ينكرون انفسهم بعد المعرفة ولا يضلون بعد الهدى ، واعلموا علما يقينا انكم لن تعرفوا التقى حتى تعرفوا صفة الهدى ولن تمسكوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نبذه ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه ، فاذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف ورأيتم الفرية على اللّه ورأيتم كيف يهوي من يهوي ولا يجهلنكم الذين لا يعلمون ، والتمسوا ذلك عند أهله فانهم خاصة نور يستضاء بهم وأئمة يقتدى بهم ، بهم عيش العلم وموت الجهل وهم الذين اخبركم حلمهم عن جهلهم ، وحكم منطقهم عن صمتهم ، وظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه ، وقد خلت لهم من اللّه سابقة ومضى فيهم من اللّه حكم ، إن في ذلك لذكرى للذاكرين ، واعقلوه اذا سمعتموه عقل رعاية ، ولا تعقلوه عقل رواية فان رواة الكتاب كثير ورعاته قليل واللّه المستعان (1). الشاهد والمشهود

وجاء رجل الى مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليسأل عن المراد من قوله تعالى : ( وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) فرأى في المسجد ثلاثة اشخاص قد احتف بكل واحد منهم جمع من الناس وهم يحدثونهم عما سمعوه من

ص: 325


1- كذا وجد في تحف العقول صفحة 53

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الاحكام والآداب فقصد واحدا منهم فسأله عن مسألته؟!!!

فقال له : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. ثم انعطف الى الثاني ، فسأله عن مسألته؟!!!

فقال له : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر. ثم انعطف نحو الشخص الثالث فسأله عن مسألته؟!!!

فقال له : الشاهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمشهود يوم القيامة ودعم كلامه بالبرهان قائلا : أما سمعت اللّه يقول في كتابه العزيز : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) وقال تعالى : ( وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) فسأل من هو الاول؟ قيل له هو عبد اللّه بن عباس (1)

ص: 326


1- عبد اللّه بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم عم النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمه أمّ الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية ، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل بخمس وقد دعا له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال اللّهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقال صلی اللّه علیه و آله : اللّهم زده علما وفقها ، فكان ببركة دعاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من اساطين العلماء ، وقال مسروق إذا رايت عبد اللّه بن عباس قلت اجمل الناس فاذا تكلم قلت افصح الناس وإذا تحدث قلت اعلم الناس ، وقيل لو سمعت فارس والروم والترك كلامه لأسلمت ، وقد عمى فى آخر عمره فقال : إن يأخذ اللّه من عيني نورهما *** ففي لساني وقلبى منهما نور قلبي ذكى وعقلى غير ذى دخل *** وفي فمي صارم كالسيف مأثور مات في الطائف سنة ثمان وستين في ايام ابن الزبير وكان عمره سبعين سنة وقيل إحدى وسبعون وقيل اربع وسبعون ، وصلى عليه محمد بن الحنفية وكبر عليه اربعا وقال : اليوم مات رباني هذه الامة جاء ذلك فى الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ج 2 ص 350

فسأل من هو الثاني؟ قيل له عبد اللّه بن عمر (1).

فسأل من هو الثالث؟ قيل له الحسن بن علي (2). بعض خطبه :

وكان علیه السلام خطيبا مفوها من أبرع الخطباء واقدرهم على الارتجال والابداع في القول وإليك أيها القارئ الكريم بعضا من خطبه :

قال علیه السلام : نحن حزب اللّه المفلحون ، وعترة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الاقربون ، وأهل بيته الطاهرون الطيبون ، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والثاني كتاب اللّه فيه تفصيل كل شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمعول عليه في كل شيء لا يخطئنا تأويله ، بل نتيقن حقائقه ، فاطيعونا فاطاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة اللّه والرسول وأولي الامر مقرونة ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) وأحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان إنه

ص: 327


1- عبد اللّه بن عمر بن الخطاب ولد بعد المبعث النبوي بثلاث سنين ومات سنة اربع وثمانين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، جاء ذلك فى الاصابة ج 2 ص 347 وجاء في الاستيعاب ج 2 ص 343 انه لم يتبع عليا وقعد وندم على ذلك ولما حضرته الوفاة قال : ما اجد فى نفسي شيئا إلا انى لم اقاتل الفئة الباغية مع علي بن ابي طالب علیه السلام وذكر المسعودي فى مروج الذهب ج 2 ص 238 جماعة تخلفوا عن بيعة علي ذكر منهم عبد اللّه بن عمر وكان سبب تخلفهم خروجا عن الامر ، ومخالفة لعلي علیه السلام .
2- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 160.

لكم عدو مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم : ( لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ) فتلقون للرماح أزرا ، وللسيوف جزرا ، وللعمد خطأ ، وللسهام غرضا ، ثم لا ينفع نفسا إيمانها ما لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا ، واللّه اعلم.

ومرض الامام علي علیه السلام يوما فأمر الحسن ان يصلي بالناس صلاة الجمعة ، فصعد علیه السلام المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : إن اللّه لم يبعث نبيا إلا اختار له نفسا ورهطا وبيتا ، فو الذي بعث محمدا بالحق لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إلا نقصه اللّه من عمله ، مثله ولا يكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة ، ولتعلمن نبأه بعد حين (1) كلماته الحكمية القصار :

فضح الموت الدنيا (2).

كن في الدنيا ببدنك وفى الآخرة بقلبك.

اجعل ما طلبت من الدنيا فلم تظفر به بمنزلة ما لم يخطر ببالك.

ما تشاور قوم إلا هدوا الى رشدهم.

إن من طلب العبادة تزكى لها.

المزاح يأكل الهيبة وقد اكثر من الهيبة الصامت.

تجهل النعم ما أقامت فاذا ولت عرفت.

الوعد مرض في الجود والانجاز دواؤه.

ص: 328


1- مروج الذهب ج 2 صفحة 306
2- مجموعة ورام صفحة 201 ، وقال خالد بن صفوان افصح الناس الحسن ابن علي علیه السلام لقوله هذه الكلمة الذهبية التي مثلت الاعجاز والابداع والايجاز

المسئول حر حتى يعد ومسترق بالوعد حتى ينجز.

لا تعاجل الذنب بالعقوبة ، واجعل بينهما للاعتذار طريقا.

قطع العلم عذر المتعلمين.

اليقين معاذ السلامة.

لا يغش العاقل من استنصحه :

إذا أضرت النوافل بالفريضة فاتركوها.

الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود.

وسأله شخص عن الصمت؟ فقال «ع» : هو ستر العى وزين العرض وفاعله في راحة وجليسه في أمن.

فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها.

أشد من المصيبة سوء الخلق.

من تذكر بعد السفر اعتدّ.

القريب من قربته المودة وإن بعد نسبه ، والبعيد من باعدته المودة وإن قرب نسبه.

وقال «ع» : لرجل قد برىء من مرضه ، إن اللّه قد ذكرك فاذكره وأقالك فاشكره.

إن لم تطعك نفسك فيما تحملها عليه مما تكره فلا تطعها فيما تحملك عليه مما تهوى.

من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه.

العار أهون من النار.

قال «ع» لأصحابه : هل رأيتم ظالما أشبه بمظلوم؟ قالوا وكيف ذاك يا بن رسول اللّه؟!!

ص: 329

قال : الحاسد ، فانه فى تعب ومن حسده فى راحة.

مروءة القناعة والرضا أكثر من مروءة الاعطاء.

تمام الصنيعة خير من ابتدائها. نظمه للشعر :

إما نظم الامام «ع» للشعر فقليل وقد تقدمت فى بحوث هذا الكتاب أبيات نسبت له ولكن ابن رشيق قد عد الامام « ع ، من الشعراء واستشهد له ببيت واحد كان الامام قد أنشده وهو مختضب بالسواد فقال «ع» :

نسود أعلاها وتأبى أصولها

فليت الذي يسود منها هو الأصل (1)

وجاء فى أعيان الشيعة أنه «ع» قال في الوعظ :

ذرى كدر الأيام ان صفاءها *** تولى بأيام السرور الذواهب

وكيف يغر الدهر من كان بينه *** وبين الليالي محكمات التجارب

وجاء في المناقب أنه «ع» قال :

لئن ساءني دهر عزمت تصبرا *** وكل بلاء لا يدوم يسير

وإن سرني لم أبتهج بسروره *** وكل سرور لا يدوم حقير

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن تراثه ومثله :

ص: 330


1- العمدة ج 1 ص 21 ومعنى البيت : إنا نسود الظاهر من الشعر ولكن جذوره تأبى إلا البقاء على الشيب.

فى عهد الإمام على «ع»

اشارة

ص: 331

ص: 332

واستقبل جمهور المسلمين خلافة الامام أمير المؤمنين بمزيد من السرور والابتهاج واتساع الأمل والرجاء فقد أيقنوا أن الامام سيرجع لهم الحريات المنهوبة. ويحطم عنهم أركان العبودية التي أقامها الحكم الأموي المهدوم ، ويعيد لهم عهد النبوة الزاهر الذي انبسطت فيه الرحمة ، وعم فيه العدل والرجاء ، وانهم سينعمون - من دون شك - في ظل حكمه العادل الذي لا يعرف الإثرة والاستغلال ، ولا يميز قوما على آخرين لقد وثق الجمهور أن الامام سيحقق لهم الأهداف النبيلة التي يصبون إليها من تحقيق العدل الاجتماعي والعدل السياسي في البلاد ، وتطبيق المبادئ والنظم التي جاء بها الاسلام ، والقضاء على جميع الفوارق والامتيازات التي خلفها عثمان ، وقد هبوا بجميع طبقاتهم إلى الامام وهم يهتفون باسمه ، ويعلنون رغبتهم الملحة فى أن يلي أمورهم ليحملهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء ، ونضع بين يدي القراء صورة مجملة عن البيعة وعن الأحداث التي رافقتها وهي : البيعة :

واجتمع المهاجرون والأنصار ومعهم الثوار وبقية الجماهير ومن بينهم طلحة والزبير فهرعوا إلى الامام أمير المؤمنين وهو معتزل بداره فأحاطوا به من كل جانب وقالوا له :

« يا أبا الحسن. إن هذا الرجل قد قتل. ولا بد للناس من إمام. ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ، ولا أقرب قرابة من رسول اللّه .. ».

فامتنع الامام من أجابتهم وقال لهم :

« لا حاجة لي فى أمركم فمن اخترتم رضيت به .. »

فهتفوا بلسان واحد

ص: 333

« ما نختار غيرك .. »

وكثر اصرار الجماهير على الامام ولكنه لم يستجب لهم فخرجوا منه ولم يظفروا بشيء ، وعقدت القوات المسلحة اجتماعا خاصا عرضت فيه الأحداث الخطيرة التي تواجه الأمة إن بقت بلا إمام يدير شئونها ، وقد قررت على احضار المدنيين وارغامهم على انتخاب إمام للمسلمين فقالوا لهم :

« أنتم أهل الشورى ، وأنتم تعقدون الإمامة. وحكمكم جائز على الأمة فانظروا رجلا تنصبونه ، ونحن لكم تبع ، وقد أجلناكم يومكم ، فو اللّه لئن لم تفرغوا لنقتلن عليا وطلحة والزبير وتذهب من أضحية ذلك أمة من الناس .. » (1)

وفزع المدنيون بعد هذا الانذار والتهديد إلى الامام أمير المؤمنين ، وهم يهتفون بلسان واحد

البيعة. البيعة

أما ترى ما نزل بالاسلام ، وما ابتلينا به من أبناء القرى

وأجابهم الامام بهدوء قائلا :

« دعوني والتمسوا غيري. »

ثم أعرب لهم عن السر في توقفه من قبول الخلافة قائلا :

« أيها الناس ، إنا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول .. » (2)

لقد علم علیه السلام بما دب في نفوس الأمة من الشر ، وبما ساد في نفوس زعمائها من الأهواء لا سيما ولاة عثمان وأسرته ومن يمت إليه فانهم

ص: 334


1- تاريخ ابن الأثير 3 / 80
2- شرح النهج محمد عبده 1 / 182

جميعا سيقفون أمامه ويحولون بينه وبين تحقيق أهدافه العريضة ، ولا بد أن يخلقوا المشاكل والمصاعب في وجه حكومته لذلك أصر على الامتناع من قبول الأمر.

وفكر الامام فى الأمر فقال لهم :

« إني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فانما أنا كأحدكم ألا واني من أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه .. »

وصاحوا به هاتفين :

« ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك ».

وقد وصف علیه السلام مدى انثيالهم عليه وشدة اصرارهم واقبالهم عليه بقوله :

« فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلى (1) ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي (2) مجتمعين حولي كربيضة الغنم (3) » وأجلهم الامام إلى صباح اليوم الآخر لينظر فى الأمر فافترقوا على ذلك ، وقد خيم الليل على سماء المدينة وبرك بحمله على بيوتها فبات المدنيون ولكن في غير هدوء واطمئنان ، ولما أصبح الصبح اجتمع الناس فى الجامع الأعظم فاقبل الامام ، واعتلى أعواد المنبر فخطب فيهم قائلا :

ص: 335


1- عرف الضبع : الشعر الكثير الذي يكون على عنق الضبع يضرب به المثل فى الكثرة والازدحام.
2- شق عطفاي : المراد انه خدش جانباه من كثرة زحام الناس عليه من اجل البيعة.
3- ربيضة الغنم : الطائفة الرابضة من الغنم يصف علیه السلام جثومهم بين يديه.

« يا أيها الناس ، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم وقد افترقنا بالأمس وكنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ألا وانه ليس لي أن آخذ درهما دونكم فان شئتم قعدت لكم والا فلا آخذ على أحد .. »

وتعالى هتاف الجماهير بلهجة واحدة

« نحن على ما رقناك عليه بالأمس .. »

« اللّهم اشهد عليهم. »

وتدافع الناس كالموج المتلاطم إلى البيعة ، وتقدم طلحة فبايع بتلك اليد التي سرعان ما نكث بها عهد اللّه (1) وجاء بعده الزبير فبايع كما بايع رفيقه وبايعه الوفد المصري والوفد العراقي ، وبايعه الجمهور العام ولم يظفر أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة في شمولها ، وعمت المسرة جميع المسلمين وقد وصف الامام مدى سرور الناس ببيعته بقوله :

« وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب. »

لقد ابتهج المسلمون ببيعتهم إلى وصي رسول اللّه وباب مدينة علمه ، وعمت الأفراح جميع أنحاء البلاد فقد أطلت على عالم الوجود حكومة العدل والمساواة ، وتقلد الخلافة امام الحق ، وناصر المظلومين ، وأبو الأيتام الذي واسى الفقراء والمحرومين في سغبهم ومحنهم ، القائل فى دور حكمه.

« أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم فى مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش .. »

ص: 336


1- كانت يد طلحة شلاء فتطير منها الامام ، وقال ما اخلقه ان ينكث فكان كما قال جاء ذلك في العقد الفريد 3 / 93

لقد نشرت في ذلك اليوم الخالد ألوية العدالة الكبرى ، وتحققت الأهداف الأصيلة التي ينشدها الإسلام فى عالم السياسة والحكم فلا استغلال ولا مواربة ولا استبداد ولا انقياد للنزعات والعواطف كل ذلك حققه ابن أبي طالب في دور خلافته وحكمه.

تأييد الصحابة :

وانبرى كبار الصحابة وأعلام الاسلام من الذين آمنوا بحق أمير المؤمنين منذ وفاة النبي فأبدوا سرورهم البالغ بهذه البيعة ، وأعلنوا تأييدهم الشامل لحكومة الامام وحثوا المسلمين إلى تدعيمها وهم :

1 - ثابت بن قيس

ووقف ثابت بن قيس خطيب الأنصار فخاطب الامام قائلا :

« واللّه يا أمير المؤمنين لئن كان قد تقدموك فى الولاية فما تقدموك في الدين ولئن كانوا سبقوك أمس لقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ، ولا يجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون وما احتجت إلى أحد مع علمك .. »

2 - خزيمة بن ثابت

وانطلق الصحابي العظيم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال :

« يا أمير المؤمنين ، ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك ولا كان المنقلب إلا إليك ولئن صدقنا أنفسنا فيك لأنت أقدم الناس إيمانا ، واعلم الناس باللّه وأولى المؤمنين برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لك ما لهم وليس لهم مالك .. »

وجرت على لسانه أبيات من الشعر فخاطب الجماهير بها :

إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا *** أبو حسن مما نخاف من الفتن

ص: 337

وجدناه أولى الناس بالناس انه *** أطب قريش بالكتاب وبالسنن

وإن قريشا ما تشق غباره *** إذا ما جرى يوما على الضمر البدن

وفيه الذي فيهم من الخير كله *** وما فيهم كل الذي فيه من حسن (1)

3 - صعصعة بن صوحان

وقام صعصعة بن صوحان فقال للامام :

« واللّه يا أمير المؤمنين لقد زينت الخلافة وما زانتك ، ورفعتها وما رفعتك ولهي إليك أحوج منك إليها ،. » (2)

4 - مالك الأشتر

واندفع الزعيم الكبير مالك الأشتر فخاطب المسلمين قائلا :

« أيها الناس هذا وصي الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، العظيم البلاء الحسن العناء ، الذي شهد له كتاب اللّه بالايمان ورسوله بجنة الرضوان ، من كملت فيه الفضائل ، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل .. »

ص: 338


1- مستدرك الحاكم 3 / 115 وذكر السيد المرتضى في الفصول المختارة 2 / 67 زيادة على هذه الأبيات وهي : وصي رسول اللّه من دون اهله *** وفارسه قد كان في سالف الزمن واول من صلى من الناس كلهم *** سوى خيرة النسوان واللّه ذو المنن وصاحب كبش القوم في كل وقعة *** يكون لها نفس الشجاع لدى الذقن فذاك الذي تثنى الخناصر باسمه *** امامهم حتى اغيب في الكفن
2- وبهذا المضمون قال الامام احمد بن حنبل : « إن الخلافة لم تزين عليا بل علي زانها » ذكر ذلك ابن الجوزي في مناقب احمد ص 163.

5 - عقبة بن عمرو

وقام عقبة بن عمرو فأشاد بفضل الامام قائلا :

« من له يوم كيوم العقبة ، وبيعة كبيعة الرضوان ، والامام الأهدى الذي لا يخاف جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله .. » (1)

وتتابعت الصحابة وهي تشيد بفضائل أبي الحسين وتذكر مناقبه ومآثره وتدعوا المسلمين إلى تأييد حكومته.

وجوم القرشيين :

واستقبلت قريش وسائر القوى المنحرفة عن الحق خلافة الامام أمير المؤمنين فى كثير من الوجوم والقلق والاضطراب لأن الامام قد وترهم في سبيل الدعوة الاسلامية وقضى على الكثير من عيونهم ووجوههم فقد قتل من أعلام بني أمية عتبة بن ربيعة جد معاوية ، والوليد بن عتبة خاله ، وحنظلة أخاه وقتل غير هؤلاء من أقطاب الشرك ودعائم الالحاد ما أوغر به الصدور وأثار الحفائظ عليه ومضافا لذلك فان سياسة الامام تتصادم مع مصالحهم ومنافعهم فانها تحارب الإثرة والاستغلال ، ولا تقر بأي حال من الأحوال سياسة النهب والإيثار التي سار عليها عثمان لذلك أظهرت قريش تمردها على حكومته ، وقد أعرب عن هذه المناحي بأسرها الوليد حينما حمل على البيعة ومعه الأمويون فقال للإمام :

« إنك وقد وترتنا جميعا أما أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر وكان أبوه من نور قريش ، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه ، فنبايع على أن تضع عنا ما أصبنا

ص: 339


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 155

وتعفي لنا عما في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا .. »

فرد عليه الامام مقالته وأجابه بمنطق الاسلام الذي لا تعيه قريش قائلا :

« أما ما ذكرت من وتري إياكم فالحق وتركم ، وأما وضعي عنكم عما فى أيديكم فليس لي أن أضع حق اللّه ، وأما إعفائي عما في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم ، وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غدا ولكن لكم أن أحملكم على كتاب اللّه وسنة نبيه فمن ضاق الحق فالباطل عليه أضيق ، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم .. » (1)

ان قريشا تريد المساومة من الامام على أموال الأمة ، وتريد منه أن ينحرف عن خطته القويمة التي تنشد المصلحة العامة ، وحمل الناس على الحق الواضح والمحجة البيضاء ، ولكن الامام قد عاهد اللّه وعاهد المسلمين أن يطبق أحكام القرآن ويحيي معالم الإسلام ، ويسير على ضوء سنة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وأن لا ينصاع للأحداث والظروف مهما كانت قاسية وشديدة ، وأن يقف بالمرصاد لكل ظالم ومعتد على المسلمين ، لذا أظهرت قريش حقدها البالغ على حكومته ، وهبت بأحلافها وأبنائها على اعلان التمرد والعصيان ، ويصف ابن أبي الحديد مدى اضطرابهم وقلقهم بقوله :

« كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه من اظهار ما في النفوس وهيجان ما في القلوب حتى الأحلاف من قريش ، والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه ، وفتكاته في أسلافهم وآبائهم فعلوا ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله .. »

لقد امتحن الامام امتحانا عسيرا بهؤلاء العتاة الذين لم ينفث الاسلام إلى قلوبهم ومشاعرهم ، وقد أترعت نفوسهم بالحقد عليه لأنه وقف إلى

ص: 340


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 155

جانب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يحمي دعوته ، ويصد عنه اعتداء الغادرين والمعتدين وأطاح برءوس الكافرين والملحدين منهم ، وقد أعرب عن مدى استيائه منهم بقوله :

« ما لي ولقريش لقد قتلتهم كافرين ، ولأقتلنهم مفتونين .. واللّه لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته .. فقل لقريش فلتضج ضجيجها. »

لقد وجدت قريش على الامام وحالت بينه وبين حقه منذ وفاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فصرفت عنه الخلافة تارة إلى تيم وأخرى إلى عدي ، وثالثة إلى أمية ، وهي جادة على أن تخلق الشغب والتمرد حتى تجهز على حكومته ، وقد ظهر ذلك منها في موقعة الجمل وصفين.

القعاد :

وتخلف جماعة عن البيعة لأمير المؤمنين سماهم المسعودي ( بالقعاد ) (1) وسماهم أبو الفداء « بالمعتزلة » (2) وسئل الامام عنهم فقال : « أولئك قوم قعدوا عن الحق ولم يقوموا مع الباطل » (3) وهم سعد بن أبي وقاص ، وعبد اللّه بن عمر ، وحسان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ورافع بن خديج ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة ، وعبد اللّه بن سلام وصهيب بن سنان ، وسلامة بن سلامة ، وأسامة بن زيد ، وقدامة بن مظعون

ص: 341


1- مروج الذهب المطبوع على هامش ابن الأثير 6 / 78 - 79.
2- تاريخ ابي الفداء 1 / 178 - 179.
3- الاستيعاب 3 / 55.

والمغيرة بن شعبة (1) وهؤلاء قد انحرفوا عن الحق وضلوا عن الطريق فان بيعة الامام قد قام عليها الاجماع وليس لهم أي عذر في التأخر عن مبايعته فتخلفهم كان خرقا للاجماع ، وخروجا على ارادة الأمة ، وقد فتحوا بذلك باب البغي والتمرد على حكومة الامام ، وأشعلوا نار الفتنة في البلاد ، وقد اعتذر سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة في الجنة - كما يقولون - عن سبب اعتزاله عن الامام وعن بني أمية أيام الفتنة الكبرى فقال : إني لا أقاتل حتى يأتوني بسيف مبصر عاقل ناطق ينبئني أن هذا مسلم وهذا كافر ، وهو اعتذار مهلهل لا يدعمه منطق ولا برهان فان بيعة الامام كانت شرعية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة فقد اصحر بها الامام وبايعه جمهور المسلمين ولم تكن بيعته فلتة كبيعة أبي بكر ، ولا بادلاء شخص معين كبيعة عمر ، ولم تستند إلى جماعة معينة كبيعة عثمان فالفئة التي خرجت عليه كانت باغية يجب قتالها كما أمر اللّه بذلك قال تعالى : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر اللّه » ولكن سعدا كان يحمل حقدا على الامام وهو الذي وهب صوته إلى عبد الرحمن بن عوف لاضعاف كفة الامام كما بينا ذلك في حديث الشورى ، وأخيرا ندم على ما فرط في أمره وود أن يكون مع الامام ، كما ندم عبد اللّه بن عمر فقال عند موته : إني لم أخرج من الدنيا وليس في قلبي حسرة إلا تخلفي عن علي ، وقد انتقم اللّه منه فأراه الذل والهوان فى أواخر أيامه فقد عاش إلى زمن عبد الملك فجاء الحجاج ليأخذ البيعة له فجاء عبد اللّه في آخر الناس لئلا يراه أحد فعرف الحجاج ذلك فاحتقره واستهان به وقال له :

« لم لم تبايع أبا تراب وجئت تبايع آخر الناس لعبد الملك أنت أحقر

ص: 342


1- الكامل لابن الأثير 3 / 74.

من أن أمد لك يدي دونك رجلي فبايع .. »

ومد إليه رجله وفيها نعله فبايعها ، ان هؤلاء القعاد يعلمون - من دون شك - ان الحق مع علي وانه أولى بالأمر من غيره لسابقته في الاسلام ولعلمه وفقهه وتحرجه في الدين ولكن الأهواء ودواعي الغرور هي التي باعدت بينهم وبين دينهم فناصبوا عترة نبيهم وأبعدوهم عن مراتبهم التي رتبهم اللّه فيها فإنا لله وإنا إليه راجعون.

مصادرة الاموال المنهوبة :

وكانت فاتحة الأعمال التي قام بها الامام أمير المؤمنين أن أصدر قراره الحاسم برد القطائع التي أقطعها عثمان ، وباسترجاع الأموال التي استأثر بها والأموال التي منحها لذوي قرباه لأنها أخذت بغير وجه مشروع ، وقد صودرت أموال عثمان حتى سيفه ودرعه ، وفي ذلك يقول الوليد بن عقبة يخاطب بني هاشم :

بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم *** ولا تنهبوه لا تحل مناهبه

بني هاشم كيف الهوادة بيننا *** وعند علي درعه ونجائبه

بني هاشم : كيف التودد منكم *** وبزّ ابن أروى فيكم وحرائبه

بني هاشم : ألا تردوا فاننا *** سواء علينا قاتلاه وسالبه

بني هاشم إنا وما كان منكم *** كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه *** كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فرد عليه عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث بأبيات منها :

فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم *** أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه

وشبهته كسرى وقد كان مثله *** شبيها بكسرى هديه وضرائبه

ص: 343

وقد أثارت هذه الاجراءات العادلة سخط الذين استباحوا نهب أموال المسلمين وتمرغوا بالدنيا فقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها « ما كنت صانعا فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه ، كما تقشر عن العصا لحاها » (1)

وأوجس خيفة كل من طلحة والزبير ومن شابهما ممن أقطعهم عثمان ووهبهم الأموال الطائلة والثراء فخافوا على ما في أيديهم من أن يصدر الحكم بمصادرته فأظهروا بوادر الشقاق والبغي وأعلنوا التمرد على الامام.

عزل الولاة :

ومضى أمير المؤمنين يؤسس معالم العدل في البلاد فأصدر أوامره بعزل ولاة عثمان واحدا بعد واحد لأنهم أظهروا الجور والفساد في الأرض. وقد أبى الامام أن يبقيهم في جهاز الحكم لحظة واحدة لأن في ابقائهم اقرارا للظلم والطغيان ، وقد عزل بالفور معاوية بن أبي سفيان ، وقد نصحه جماعة من المخلصين له أن يبقيه على عمله حتى تستقر الحال فأبى وامتنع من المداهنة في دينه ، وقد دخل عليه زياد بن حنظلة ليعرف رأيه فى معاوية فقال له الامام :

- تيسر يا زياد

- لأي شيء يا أمير المؤمنين؟

- لغزو الشام

- الرفق والأناة أمثل

فأجابه الامام :

متى تجمع القلب الذكي وصارما *** وأنفا حميا تجتنبك المظالم

ص: 344


1- الغدير 8 / 288.

وعبأ جيوشه لغزو الشام والقضاء على الحكم الأموي الجاثم عليها الا انه فوجئ بتمرد طلحة والزبير وعائشة فانشغل بهم وانصرف إلى القضاء على تمردهم كما سنبينه بالتفصيل في البحوث الآتية ،

اعلان المساواة :

وانطلق رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الارض فاعلن المساواة العادلة بين جميع المسلمين سواء فى العطاء أو في غيره ، وقد عوتب على خطته فاجاب :

« أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ، واللّه ما أطور به ما سمر سمير ، وما أم نجم في السماء نجما ، لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال اللّه! الا وإن اعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند اللّه .. » (1).

إن المساواة التي اعلنها الإمام كانت تهدف إلى ايجاد مجتمع لا تطغى فيه العنصريات والقوميات ، ولا يوجد فيه بائس ومحروم وعاطل ، وينعدم فيه الظلم والطغيان والاستبداد والاستغلال.

ان المساواة التي طبقها الامام في دور حكمه كانت ترتكز على المفاهيم الإسلامية البناءة التي تهدف إلى تطبيق العدل السياسي والعدل الاجتماعي في الأرض ، والى القضاء على جميع افانين الظلم وضروب الجور والاستبداد وقد هبت القوى النفعية الى معارضتها كما ناجزت الرسول في بدء دعوته ، وناهضت مبادئه وأهدافه ،

ص: 345


1- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 10.

وصاياه لولده الحسن :

وللامام أمير المؤمنين وصايا تربوية لولده الحسن حافلة بالقيم العليا والمثل الانسانية الكريمة ، وأهمها وصيته الخالدة التي كتبها بحاضرين (1) حال انصرافه من صفين ، وقد حفلت بالدروس القيمة ، والآداب الاجتماعية ، وحقا أن ترسم على صفحات القلوب ، وأن يجعلها المسلمون دستورا لهم في سلوكهم الفردي والاجتماعي ، ونسوق الى القراء بعضا من فصولها :

« من الوالد الفان المقر للزمان (2) المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، والظاعن عنها غدا ، إلى المولود المؤمل ما لا يدرك (3) السالك سبيل من قد هلك غرض الاسقام ، ورهينة الايام ، ورمية المصائب (4) وعبد الدنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا. وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ونصب الآفات (5) وصريع الشهوات ، وخليفة الاموات ... ».

لقد اعرب علیه السلام بهذه الكلمات الذهبية عن استسلامه للدهر وإدباره عن الدنيا فقد كان عمره الشريف حين كتابته لهذه الوصية ينيف

ص: 346


1- حاضرين : احدى نواحي صفين.
2- المقر للزمان - اي - المعترف له بالشدائد والمصاعب.
3- المؤمل ما لا يدرك : يؤمل البقاء والخلود فى الدنيا وذلك لا يدركه أحد.
4- رمية : هدف المصائب.
5- النصب : - بالضم - الذي لا تفارقه الآفات.

على ستين عاما ، وهو سن من يفارق الحياة ، ويقبل على الآخرة ، وقد وصف كل من يولد في الدنيا بأنه يؤمل ما لا يدركه ، في الوقت الذي يسلك فيه سبيل الهالكين ، وانه غرض للاسقام وحليف للهموم والاحزان وقد ذكر «ع» بعد هذا الاسباب الوثيقة التي دعته لرسم هذه الوصية فيقول :

« .. أما بعد ، فان فيما تبينت من إدبار الدنيا عنى ، وجموح الدهر علىّ (1) ، وإقبال الآخرة إلىّ ، ما يرغبني عن ذكر من سواى والاهتمام بما ورائى (2) غير أنى حيث تفرد بي - دون همموم الناس - هم نفسى ، فصدقنى رأيى وصرفني عن هوائي ، وصرح لى محض أمرى ، فأفضى بي إلى جد لا يكون فيه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب ، ووجدتك بعضي بل وجدتك كلى حتى كأن شيئا لو أصابك اصابني. وكأن الموت لو أتاك أتاني فعنانى من أمرك ما يعنيني من امر نفسى ، فكتب إليك ( كتابى ) مستظهرا به (3) إن أنا بقيت لك أو فنيت .. »

وبعد ما ذكر العوامل التي دعته لأن يرسم هذه الوصية شرع في بيان المثل الكاملة التي ينبغي لولده أن يتمسك بها ويسير عليها فقال :

« .. فانى أوصيك بتقوى اللّه ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله ، وأى سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به؟

أحى قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهادة ، وقوه باليقين ، ونوره

ص: 347


1- الجموح : التغلب والاستعصاء
2- يريد به امر الآخرة.
3- مستظهرا اى مستعينا.

بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت ، وقرره بالفناء (1) ، وبصره فجائع الدنيا وحذره صولة الدهر ، وفحش تقلب الليالى والأيام ، وأعرض عليه أخبار الماضين وذكره بما اصاب من كان قبلك من الأولين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا ، وعما انتقلوا ، وأين حلوا ونزلوا ، فانك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة وحلوا ديار الغربة ، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم ، فاصلح مثواك. ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم تكلف وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فان الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال ، وأمر بالمعروف تكن من أهله وأنكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين من فعله بجهدك ، وجاهد في اللّه حق جهاده ، ولا تأخذك في اللّه لومة لائم ، وخض الغمرات (2) للحق حيث كان ، وتفقه في الدين ، وعود نفسك التصبر على المكروه ، ونعم الخلق التصبر ( فى الحق ) وألجئ نفسك فى الأمور كلها إلى إلهك فانك تلجئها إلى كهف حريز (3) ، ومانع عزيز وأخلص في المسألة لربك فان بيده العطاء والحرمان ، واكثر الاستخارة (4) ، وتفهم وصيتي ، ولا تذهبن عنها صفحا (5) فان خير القول ما نفع ، وأعلم أنه لا خير في علم لا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه (6).

ص: 348


1- قرره : اى اطلب منه الاقرار بالفناء.
2- الغمرات : الشدائد.
3- الكهف : الملجأ ، الحريز ، الحافظ.
4- الاستخارة اجالة الراي في الأمر قبل فعله لاختيار احسن وجوهه.
5- صفحا : اى جانبا ، والمراد انك لا تعرض عنها.
6- لا يحق - بكسر الحاء وضمها - اى : لا يكون من الحق تعلمه ومعرفته وذلك كالسحر والشعبذة ونحوهما من العلوم التي لا تنفع.

إن هذه الحكم التي تضمنها كلامه الشريف هى برامج السعادة وخلاصة الحكمة والآداب والتهذيب ، ويعرب «ع» في كلماته الآتية عن بلوغه سن الشيخوخة وهو يخاف أن يهجم عليه الموت دون أن يدلى بهذه الحكم إلى ولده فيقول :

« .. أى بنى ، إنى لما رأيتنى قد بلغت سنا (1) ورأيتنى أزداد وهنا بادرت بوصيتي إليك ، وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلى دون أن أفضى (2) إليك بما في نفسى ، وأن انقص (3) في رأيي كما نقصت في جسمى ، أو يسبقنى إليك بعض غلبات الهوى ، أو فتن الدنيا (4) ، فتكون كالعصب النفور (5) ، وإنما قلب الحدث كالارض الخالية ، ما القى فيها من شيء قبلته. فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك. لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته (6) وتجربته ، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه ، واستبان لك ما ربما اظلم علينا منه .. »

انه علیه السلام لما طعن في السن أراد أن يضع في نفس ولده ما استقر في نفسه الشريفة من الآداب والكمال ، ويغذيه بأطرف الحكم ويلمسه

ص: 349


1- اي وصلت النهاية من جهة السن.
2- افضى : القى إليك.
3- ( وان انقص ) معطوف على ( ان يعجل ).
4- اي يسبقني بالاستيلاء على قلبك غلبات الأهواء فلا تتمكن نصيحتى من النفوذ إلى فؤادك.
5- الصعب الفرس غير المذلل ، والنفور ضد الأنس.
6- البغية : بالكسر والضم : الطلبة والحاجة.

أهم العبر التي حدثت في عالم الوجود والتي أخذ خلاصتها الحكماء وأهل التجارب ، يضع كل ذلك أمام ولده ليستبين له كل شيء ، ويعرف خلاصة الأمور واهمها ، ثم يسترسل الامام الحكيم في وصيته فيقول.

« .. أى بنى ، إنى - وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلى - فقد نظرت في أعمالهم ، وفكرت في اخبارهم ، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إلى من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله (1) وتوخيت لك جميله ، وصرفت عنك مجهوله ورأيت - حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت (2) عليه من أدبك - أن يكون (3) ذلك وأنت مقبل العمر ، ومقتبل الدهر ، ذو نية سليمة ونفس صافية ، وأن ابتدئك بتعليم كتاب اللّه وتأويله وشرائع الاسلام واحكامه ، وحلاله وحرامه ، ( و) لا اجاوز لك إلى غيره (4) ثم اشفقت (5) أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من اهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلى من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة (6) ورجوت

ص: 350


1- النخيل : المختار المصفى.
2- اجمعت : عزمت.
3- ان يكون : مفعول ( رأيت ).
4- لا اتعدى بك كتاب اللّه إلى غيره ، بل اقف بك عنده.
5- ( اشفقت ) اي خشيت.
6- اى : إنك وإن كنت تكره ان ينبهك احد لما ذكرت لك فاني اعد إتقان التنبيه على كراهتك له احب إلى من القائك إلى امر تخشى عليك به الهلكة

أن يوفقك اللّه لرشدك ، وأن يهديك لقصدك ، فعهدت إليك بوصيتى هذه .. »

سيدي أيها الخبير بأحوال الناس العارف بصفو الأمور وكدرها المحيط بجوهر الاشياء ، حدثنا عن أحب الامور إليك وأهمها عندك فيقول

« .. واعلم يا بنى ، أن أحب ما أنت آخذ به إلىّ من وصيتي ، تقوى اللّه والاقتصار على ما فرضه اللّه عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك فانهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر. وفكروا كما أنت مفكر ، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والامساك عما لم يكلفوا فان أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم ، لا بتورط الشبهات وعلو الخصوصيات ، وأبدأ - قبل نظرك في ذلك - بالاستعانة بالهك ، والرغبة إليه في توفيقك ، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة (1) ، أو اسلمتك إلى ضلالة ، فاذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتم رأيك فاجتمع ، وكان همك فى ذلك هما واحدا ، فانظر فيما فسرت لك ، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك وفراغ نظرك وفكرك ، فاعلم أنك إنما تخبط العشواء (2) وتتورط الظلماء ، وليس طالب الدين من خبط أو خلط! والامساك عن ذلك امثل ..

فتفهم يا بني وصيتي ، واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة ، وأن الخالق هو المميت ، وأن المفنى هو المعيد » وأن المبتلى هو المعافي ، وأن

ص: 351


1- الشائبة : ما يشوب الفكر من شك وحيرة ، واولجتك : ادخلتك.
2- العشواء : الضعيفة البصر : اى تخبط الناقة العشواء لا تأمن ان تسقط فيما لا خلاص منه.

الدنيا لم تكن لتستقر إلا على ما جعلها اللّه عليه من النعماء (1) والابتلاء والجزاء في المعاد ، أو ما شاء مما لا نعلم فان أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك به فانك أول ما خلقت جاهلا ثم علمت ، وما اكثر ما تجهل من الأمر » ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك فاعتصم بالذى خلقك ورزقك وسواك ، وليكن له تعبدك ، وإليه رغبتك ، ومنه شفقتك (2).

وبعد هذا شرع (عليه السلام) في توحيد اللّه وإقامة الادلة عليه وبعد فراغه من ذلك أخذ في بيان الآداب الاجتماعية فقال :

يا بنى ، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم واحسن كما تحب أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك (3) ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك.

واعلم أن الاعجاب ضد الصواب ، وآفة الألباب (4) فاسع في كدحك (5)

ص: 352


1- اي : لا تثبت الدنيا على حال لما اودع اللّه فيها من التلون بالنعيم تارة وبالبلاء اخرى.
2- « شفقتك » اي : خوفك.
3- اي إذا عاملوك بمثل ما تعاملهم فارض بذلك ، ولا تطلب منهم ازيد مما تقدم لهم.
4- الاعجاب : استحسان ما يصدر منه وهو من رذائل الأخلاق.
5- الكدح : اشد السعي.

ولا تكن خازنا لغيرك (1) وإذا كنت هديت لقصدك فكن اخشع ما تكون لربك.

إن هذه الحكم القيمة لو سار عليها الانسان لكان اسمى مثل للتهذيب والسمو والكمال ، فقد احتوت على اصول العدل واسس الفضيلة والكمال ومن جملة هذه الحكم الخالدة قوله :

وأعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك ، ولن تعدو أجلك ، وأنك في سبيل من كان قبلك فخفض في الطلب (2) وأجمل في المكتسب ، فإنه رب طلب قد جر إلى حرب (3) فليس كل طالب بمرزوق ، ولا كل مجمل بمحروم ، وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب فانك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا (4) ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرا ، وما خير خير لا ينال إلا بشر (5) ويسر لا ينال إلا بعسر؟! (6) ،

ص: 353


1- اي لا تحرص على جمع المال فان الوارثين ياخذونه بعدك فيكون الاثم عليك وغيرك يتنعم.
2- خفض : امر من ( خفض ) بالتشديد اي : ارفق.
3- الحرب - بالتحريك - : سلب المال.
4- إن رغائب المال إنما تطلب لصون النفس عن الابتذال فلو بذل الانسان نفسه لتحصيل المال فقد ضيع ما هو المقصود من المال فكان جمع المال عبثا عوضا لما ضيع.
5- يريد «ع» ان الخير الذي لا يناله الإنسان إلا بالشر كيف يكون خيرا.
6- المراد ان العسر الذي يخاف منه الانسان هو الذي يضطره إلى الوقوع فى الرذائل فاذا جعلها الانسان وسيلة وطريقا لجمع المال فقد وقع فيما هرب منه ، وحينئذ فما الفائدة من جمع المال وهو لا يحميه من النقص.

وإياك أن توجف بك مطايا الطمع (1) فتوردك مناهل الهلكة وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين اللّه ذو نعمة فافعل ، فانك مدرك قسمك ، وآخذ سهمك! وإن اليسير من اللّه - سبحانه - اعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كان كل منه.

وتلا فيك (2) ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك ، وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء ، وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يد غيرك (3) ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور ، والمرء احفظ لسره (4) ورب ساع فيما يضره (5) من اكثر أهجر (6) ومن تفكر أبصر!

قارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشر تبن عنهم! بئس الطعام الحرام ، وظلم الضعيف افحش الظلم. إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا (7) ربما كان الدواء داء والداء دواء ، وربما نصح غير

ص: 354


1- توجف : تسرع ، والمناهل ما ترده الابل ونحوها للشرب.
2- التلافى : التدارك لاصلاح ما فسد.
3- إرشاد للاقتصاد فى المال.
4- إرشاد إلى عدم إفشاء سر الانسان إلى غيره.
5- قد يسعى الانسان بقصد فائدته فينقلب سعيه بالضرر عليه لجهله او سوء قصده.
6- الهجر : الهذيان في الكلام.
7- الخرق - بالضم - العنف والمراد ان المقام إذا الزمه العنف كان إبداله بالرفق عنفا ، ويكون العنف من الرفق وذلك كمقام التأديب.

الناصح وغش المستنصح (1) وإياك واتكالك على المنى فانها بضائع الموتى والعقل حفظ التجارب. وخير ما جربت ما وعظك. بادر الفرصة قبل أن تكون غصة. ليس كل طالب يصيب ، ولا كل غالب يؤوب ، ومن الفساد اضاعة الزاد ، ومفسدة المعاد ، ولكل أمر عاقبة ، سوف يأتيك ما قدر لك ، التاجر مخاطر!! ورب يسير أنمى من كثير ، ولا خير في معين مهين ولا في صديق ظنين ، ساهل الدهر ما ذلّ لك قعوده (2) ولا تخاطر بشيء رجأ اكثر منه وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج!! احل نفسك من أخيك - عند صرمه - على الصلة (3) وعند صدوده على اللطف والمقاربة وعند جموده (4) على البذل وعند تباعده على الدنو ، وعند شدته على اللين ، وعند جرمه على العذر ، حتى كأنك له عبد ، وكأنه ذو نعمة عليك ، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه ، أو أن تفعله بغير أهله ، لا تتخذن عدو صديقك عدوا فتعادي صديقك ، وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة ، وتجرع الغيظ فاني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة (5) ولن لمن غالظك فانه يوشك أن يلين لك وخذ على عدوك بالفضل فانه أحلى الظفرين ، وان أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك

ص: 355


1- المستنصح - على زنة اسم المفعول - المطلوب منه النصح ، فيلزمه التفكر والتروي في جميع الاحوال لئلا يروج غش او تنبذ نصيحة.
2- المراد ساهل الدهر ما دام منقادا لك ، وخذ حظك منه.
3- الصرم : القطيعة.
4- الجمود : البخل.
5- المغبة : - بفتحتين ثم باء مشددة - بمعنى العاقبة وكظم الغيظ.

يوما ما ومن ظن بك خيرا فصدق ظنه ، ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه فانه ليس لك بأخ من أضعت حقه ، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ، ولا ترغبن فيمن زهد عنك ، ولا يكونن أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته ، ولا يكونن على الاساءة أقوى منك على الاحسان ، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فانه يسعى في مضرته ونفعك وليس جزاء من سرك أن تسؤه. »

وهكذا يسترسل الامام «ع» فى كلامه فيضع جواهر الحكم القيمة واسمى الدروس النافعة واثمن الآراء الصائبة في وصيته ، ونكتفي بهذا المقدار منها وبها ينتهى بنا المطاف لنلتقي مع الامام فى البصرة.

ص: 356

فى البصرة

اشارة

ص: 357

ص: 358

تمت البيعة للامام من جميع الحواظر الاسلامية سوى الشام ، وآمن المسلمون بالأهداف الاصيلة التي ينشدها الحكم الجديد ، وايقنوا أن الامام سيعيد لهم رحمة الاسلام وعدله ، وان حكمه امتداد لحكم النبي وسيرته ، وقد قام الامام في اليوم الاول من خلافته بتطبيق العدالة الاسلامية الكبرى ، وتحقيق المساواة الشاملة بين المسلمين سواء فى العطاء أو فى غيره من المجالات العامة ، وحطم الفوارق والامتيازات التي اوجدها عثمان على مسرح الحياة الاسلامية ، وقام بمصادرة الأموال المنهوبة التي منحها عثمان لأسرته وأقاربه وقد قضى بذلك على الغبن الاجتماعي ، والظلم الاجتماعي ، كما قام بحماية المسلمين من الاستغلال والاستبداد ، وصيانتهم من التدهور والانحطاط ، وقد أثارت هذه المبادئ والأهداف سخط النفعيين والمنحرفين فلم تمض أيام قليلة حتى اظهروا بوادر البغي والشقاق ، واعلنوا التمرد والعصيان وقاموا بعد وانهم المسلح لاجل الاطاحة بالحكم القائم واعادة سياسة النهب والتجويع ، وأبطال هذه المؤامرة عائشة وطلحة والزبير فقد أثاروها حربا شعواء من اجل مطامعهم الرخيصة ، فكانت موقعة البصرة التي صدعت شمل المسلمين ، وأشاعت الحزن والحداد فى ربوعهم ، وعلينا أن ننظر إلى فصول هذه المأساة الكبرى التي نشرت الفتن والكوارث في أجواء العالم الاسلامي لنتبين بواعثها ودوافعها.

تمرد طلحة والزبير

وتعرض كثير من المسلمين لأسباب الفتن ودواعي الغرور وطرأت عليهم من الأحداث ما باعدت بينهم وبين دينهم وبين عهدهم الأول ، والسبب فى ذلك انهم امتحنوا بالسلطة وبالثراء الواسع العريض ، ومن

ص: 359

هؤلاء طلحة والزبير فقد انطلقا إلى الامام أمير المؤمنين فقالا له :

« هل تدرى على م بايعناك يا أمير المؤمنين؟؟ »

فرمقهما الامام بطرفه وقال لهما :

- نعم على السمع والطاعة ، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان - لا - ولكن بايعناك على أنا شريكاك فى الأمر

- لا - ولكنكما شريكان فى القول والاستقامة والعون على العجز والأود إن بيعتهما للامام فى قرارة أنفسهما كانت مدفوعة بالدوافع المادية البحتة ، فهما يريدان الحكم ، والمساومة على السلطة ، وهمها فى نظر الامام شريكان له فى الاستقامة وفى تحقيق العدالة بين المسلمين ، ولما استبان لهما أنه لا يوليهما شيئا اظهرا الشكاة واعلنا التمرد فقال الزبير فى ملأ من قريش :

« هذا جزاؤنا من علي ، قمنا له فى أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب وسببنا له القتل ، وهو جالس فى بيته وكفى الأمر فلما نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا .. »

وقال طلحة :

« ما اللوم الا انا كنا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا (1) ، وبايعناه ، واعطيناه ما فى أيدينا ، ومنعنا ما فى يده فأصبحنا قد اخطأنا ما رجونا .. »

وانتهى حديثهما إلى الامام أمير المؤمنين فاستدعى عبد اللّه بن عباس فقال له :

ص: 360


1- يريد به سعد بن ابى وقاص فانه امتنع عن بيعة الامام وهو من اهل الشورى والذي حمله على ذلك حقده على الامام وكراهيته له على حد تعبير طلحة.

- بلغك قول الرجلين؟

- نعم

- أرى أنهما أحبا الولاية فول البصرة الزبير ، وول طلحة الكوفة وأنبرى الامام يفند رأى ابن عباس ، ويبين له أن فى ولايتهما خطرا على الأمة قائلا :

« ويحك!! إن العراقين بهما الرجال والأموال ، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع ، ويضربا الضعيف بالبلاء ، ويقويا على القوى بالسلطان ، ولو كنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام ، ولو لا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي » (1) ودلت هذه البادرة على مدى حرص طلحة والزبير على الامارة والسلطان ، وانهما إنما أثارا سخط الناس على عثمان طمعا بالخلافة والولاية ولم يكونا مدفوعين بدافع المصلحة العامة ، وحب النصح للمسلمين ، وقد خسرا الصفقة ، وذهبت مساعيهما أدراج الرياح حينما آل الأمر إلى أمير المؤمنين لأن المحور الذي تدور عليه رحى سياسته مسايرة الدين والعمل على وفق المبادئ الاسلامية وهي لا تقر بأي حال من الأحوال أن تمنح الوظائف أثرة أو محاباة لأن ذلك خيانة للامة ، وقد اعرب الامام عن الاسباب التي دعته أن لا يوليهما العراقين وهي :

1 - إنهما يستميلان السفهاء بالمنافع والاطماع.

2 - إنهما يصبان على الضعفاء وابلا من العذاب والبلاء.

3 - يستغلان النفوذ والسلطان ويقويان به على القوى.

ومع علمه بهذه الاتجاهات كيف يجعلهما ولاة وحكاما على المسلمين يتصرفان في أموالهم ودمائهم .. وقد انتقد شفيق جبرى الامام في ذلك

ص: 361


1- الامامة والسياسة 1 / 52

واعتبر أن حرمانهما من الولاية كان غلطة منه - على حد تعبيره الرخيص - (1)

ان شفيق جبري قد آمن بالسياسة الغربية التي تبيح جميع الوسائل فى سبيل الوصول الى الحكم وان كانت غير مشروعة وهذه السياسة لا يقرها الاسلام بحال فقد بنى سياسته الخلاقة على الايمان بحقوق الانسان وتجنب المكر والخداع وان توقف عليهما النصر والظفر وعلى ضوء هذه السياسة العادلة سار ابن ابي طالب رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض.

ان السياسة التي سار عليها الملوك ولا يزال يسيرون عليها عشاق الملك والسلطان لا يلتقى معها الامام بصلة ، ولا تتفق مع أهدافه العليا ، وقد اوضح علیه السلام اسباب ذلك بقوله :

« لو لا التقى والورع لكنت ادهى العرب »

ان التقى والورع والخوف من اللّه تقف امامه وتصده عن ارتكاب اى وسيلة لا يقرها الشرع ، ومضافا لذلك فان المصلحة كانت تقضي ان لا يوليهما الكوفة والبصرة لان لهما حزبين وشيعة بهما ولا يؤمن أن يتسرب نفوذهما يوما ما إلى الدولة الاسلامية كافة

وعلى أي حال فلما استبان لطلحة والزبير ضياع املهما وعدم فوزهما بمقعد الحكم انطلقا إلى الامام طالبين منه الاذن بالخروج قائلين :

- ائذن لنا يا أمير المؤمنين.

- إلى اين؟!!

- نريد العمرة.

فرمقهما الامام هينهة وقد عرف حفايا نفوسهما فقال لهما برنة المستريب

واللّه ما العمرة تريدان!! بل الغدرة ونكث البيعة!!

ص: 362


1- العناصر النفسية ، وقد تعرض لخطل آرائه كثير من الكتاب.

واقسما له بالايمان المغلظة انهما لا يخلعان البيعة ، وانهما يخرجان ليعتمرا بالبيت الحرام ، وانهما يعلمان أنها قسم حانث ، ولكن لم يجدا وسيلة يصلان بها إلى الغاية سوى اليمين الكاذب ، والتفت الامام لهما ونفسه مترعة بالشك والريبة منهما قائلا :

« أعيدا البيعة لي ثانية ».

ففعلا دون تردد ، ومضيا منهزمين إلى مكة ، وكأنه قد اتيح لهما الخلاص من سجن أو عقاب ، ولحقا بعائشة يستفزانها على الثورة فانهما على علم بما تكنه من الحقد والعداء للامام.

خروج عائشة :

كانت عائشة في طليعة من أشعل نار الثورة على عثمان ، وقالت فيه أمر القول وأقساه ، وما كان اسمه عندها الا نعثلا ، وتعزو بعض المصادر السبب في ذلك إلى أنه نقصها مما كان يعطيها عمرو صيرها كغيرها من أزواج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) (1) وقد بالغت في التشهير به والتحريض على قتله ولما احاط الثوار به خرجت إلى مكة وبعد ادائها لمناسك الحج قفلت راجعة إلى يثرب وهي تجد في السير لتنظر ما آل إليه أمر عثمان فلما انتهت إلى سرف (2) لقيها رجل من أخوالها يقال له عبيد بن أبي سلمة وكان قادما من المدينة فاستعجلت قائلة له :

ص: 363


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 132.
2- سرف : موضع على ستة اميال من مكة وقيل اكثر من ذلك ، وبه تزوج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بميمونة بنت الحارث وتوفيت فيه ، وقال رواة البخاري : هو « شرف » بالشين المعجمة جاء ذلك في معجم البلدان 5 / 71.

- مهيم؟ (1).

- قتلوا عثمان.

- ثم صنعوا ما ذا؟

- اجتمعوا على بيعة علي فجازت بهم الأمور الى خير مجاز!!

فانهارت أعصابها ، وتحطمت قواها ، وبلغ بها الحزن إلى قرار سحيق ، وهتفت وهي حانقة مغيظة وبصرها يشير إلى السماء ، ثم ينخفض فيشير إلى الأرض قائلة :

« واللّه ليت هذه انطبقت على هذه ، إن تم الأمر لابن أبي طالب قتل عثمان مظلوما واللّه لأطلبن بدمه ».

فاجابها عبيد باستنكار وسخرية :

« ولمّ؟ فو اللّه إن أول من أمال حرفه لأنت!!! ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا فقد كفر! » لما ذا هذا الحزن والجزع من عائشة؟

وقد عادت للاسلام نضارته بحكومة الامام ، وظفر المسلمون بما يصبون إليه؟؟

وأجابت عائشة ابن خالها فقالت له :

« إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا؟ وقولي الأخير خير من قولي الأول .. »

وهل كانت حاضرة حينما استتابوه؟ وهل لها دراية بكيفية توبته ، ولكنها افتعلت دلك لتبرير موقفها وفد رد عليها عبيد فقال لها :

منك البداء ومنك الغير *** ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الامام *** وقلت لنا إنه قد كفر

ص: 364


1- مهيم : كلمة استفهام من معانيها ما وراءك؟

فهبنا (1) اطعناك فى قتله *** وقاتله عندنا من أمر

ولم يسقط السقف من فوقنا *** ولم تنكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا تدرإ *** يزيل الشبا ويقيم الصعر (2)

ويلبس للحرب أثوابها *** وما من وفى مثل من قد غدر

فاعرضت عنه وانصرفت راجعة الى مكة (3) وقد علاها الحزن والاكتئاب ، واحاط بها الاسى والذهول.

دوافع تمردها :

وليس شيء أو هى من القول بأن السبب في خروج عائشة هو المطالبة بدم عثمان فانها هي التي حفزت المسلمين إلى الاجهاز عليه ودعتهم إلى الاطاحة بحكمه يقول شوقي :

أثار عثمان الذي شجاها *** أم غصة لم ينتزع شجاها

ذلك فتق لم يكن بالبال *** كيد النساء موهن الجبال

نعم تذرعت بدم عثمان واتخذته وسيلة إلى اعلان العصيان والتمرد وإلى اغراء السذج والبسطاء فزجت بهم فى الحرب التي أثارتها ضد أمير المؤمنين وأخي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وباب مدينة علمه.

إن دم عثمان لا يصلح باي حال ان يكون من بواعث ثورتها على النظام القائم وانما بواعث ذلك ما يلي :

1 - إن نفسها كانت مترعة بالبغض والكراهية للامام ولزوجته سيدة

ص: 365


1- وفي رواية « ونحن ».
2- ذو تدرإ : اي ذو عزيمة ومنعة » الشبا : المكروه ، الصعر : ميل في الوجه او فى احد الشقين : والمراد انه يقيم الشيء الملتوي.
3- الطبري 3 / 454 وغيره.

النساء وأولادهما وسبب ذلك انها رأت اتجاه النبي واقباله عليهم وانه قد خصهم بمزيد الحب والعطف على نحو لم يشاركهم فيه أحد (1) ولم تحض عائشة بقليل ولا بكثير من تلك الرعاية وذلك الحنان بل كان يعاملها معاملة عادية بل ويزدري بها فى كثير من الاحيان فقد وقف خطيبا على منبره فأشار إلى مسكنها قائلا : « هاهنا الفتنة ، هاهنا الفتنة هاهنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان (2) وقد هددها غير مرة بالطلاق نظرا لما كان يعانيه منها فقد قالت له مرة فى كلام غضبت عنده أنت الذي تزعم أنك نبي (3) وكان اذا صلى تمد رجلها في قبلته ثم لا ترفعها عن سجوده حتى يغمزها فاذا غمزها رفعتها ، حتى يقوم فتمدها ثانية (4) لقد رأت عائشة اقبال النبي على فاطمة وعلى زوجها واعراضه عنها الأمر الذي اثار كوامن الحقد في نفسها ، وقد جابهت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بذلك فقد استأذن أبو بكر على رسول اللّه فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول له : « واللّه لقد عرفت أن عليا أحب إليك من أبي ومنى مرتين أو ثلاثا » (5) وليس شيء يثير عواطف المرأة ويترك العقد النفسية فيها مثل ما ترى أحدا أثيرا عند زوجها ، ومقدما عليها في الحنان والحب ، وزاد في تأثرها وانفعالها انها حرمت الولد من

ص: 366


1- بسطنا القول في ذكر الأخبار التي وردت عن النبي فى حبه لأهل بيته في بداية بحوث هذا الكتاب.
2- البخاري 2 / 125 باب فرض الخمس وصحيح مسلم 2 / 503 وجاء فيه انه قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : راس الكفر من هاهنا حيث يطلع قرن الشيطان.
3- احياء العلوم 2 / 35 كتاب آداب النكاح.
4- صحيح البخاري 1 / 143.
5- مسند الامام احمد 4 / 275

النبي كما حرم من غيرها ، وقد تبنى ابناء ابنته الوحيدة فاقام لهم في نفسه اعمق الحب والاخلاص ، وقد ترك ذلك كوامن الحسد فى نفسها من الامام وزوجته ، وقد بذلت جميع طاقاتها في مقابلة أمير المؤمنين وصرف الخلافة عنه فقد رشحت أباها للصلاة فى مرض رسول اللّه لئلا يصلي بالمسلمين الامام ، وبعد وفاة النبي كان لها ضلع كبير في ترشيح ابيها للخلافة وحرمان الامام منها ، وبلغ من عظيم حقدها ان بضعة النبي لما توفيت جئن نساؤه الى بني هاشم في العزاء الا هي ونقل عنها كلام يدل على سرورها وفرحها (1)

ولما آل الأمر إلى الامام انهارت جميع قواها واندفعت إلى مقاومته وإلى اعلان الثورة على حكومته ، وقد وصف علیه السلام مدى ضغنها وحقدها عليه بقوله :

« أما فلانة فقد أدركها ضعف رأي النساء ، وضعن غلا في صدرها كمرجل القين (2) ولو دعيت لتنال من غيرى ما أتت إلى ما تفعل » (3)

ان من أقوى العوامل التي دفعتها إلى مقاومة الامام هي الاحقاد والضغائن التي تكنها في نفسها حتى انها لم تستطع إلى كبتها واخفائها ، وقد ابدت بالغ المسرات والأفراح حينما بلغها مقتله ، وقد تناسب أنه أخو النبي ووليه وانه منه بمنزلة هارون من موسى ، واعرضت عما قال فيه : « اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله .. » لقد سمعت ذلك ووعته ، ولم يخف عليها شيء مما أثر عن

ص: 367


1- شرح النهج لابن ابي الحديد
2- المرجل : قدر كبيرة ، القين : الحداد
3- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 63

النبي فيه وفي أبنائه.

2 - ومن بواعث ثورتها انها كانت تتوقع أن ترجع الخلافة إلى تيم ويتقلدها ابن عمها طلحة - كما يرى ذلك العقاد - (1) وكانت تدعو له وتشيد به ولما بلغها مقتل عثمان وهي في مكة بادرت قائلة : إن أحق الناس بهذا الأمر ذو الأصبع - يعنى طلحة - ثم اقبلت مسرعة إلى المدينة وهي لا تشك أنه هو صاحب الأمر ، وكانت تقول : بعدا لنعثل وسحقا ، إيه ذا الأصبع ، إيه أبا شبل ، إيه ابن عم لله أبوك ، أما انهم وجدوا طلحة لها كفؤا ، لكأني أنظر إلى إصبعه حثو الابل » (2)

وهي بذلك كانت مدفوعة بدافع العصبية القبلية فلم تنظر لصالح الأمة فقد أرادت أن تعيد المجد ثانيا لأسرتها ، وأن تبسط نفوذها وتستأثر بالأموال وذلك لا يتحقق الا بأن ترجع الخلافة إلى تيم.

3 - ويرى الاستاذ العلائلى ان السبب في خروجها من اجل الحزبية السائدة فى ذلك العصر يقول :

« والتاريخ لا يحدثنا لما ذا خرجت على علي ولم تر بعد من سياسته شيئا ما ، ودعوى انها خرجت طلبا بدم عثمان توهيم لأنها لم تكن جاهلة بالشريعة التي تقضي بترك الأمر إلى الحاكم المركزي فان لم يكن فلولي القتيل وليست من اوليائه (3)

إذن فلم نخرج عائشة طلبا بدم عثمان بل لشيء آخر وهو ما لم

ص: 368


1- عبقرية الامام علي ص 87
2- شرح النهج لابن ابي الحديد 2 / 76
3- إن الشريعة تقضي بان ولي الدم ابتداء هو ولي المقتول فان لم يكن فالحاكم الشرعي الذي هو ولي من لا ولى له

يذكره التأريخ بصراحة ، والذي يستقيم عندي في هذا الأمر ان الحزبية بلغ من نفوذها مبلغا عظيما حتى عدت إلى زوجات النبي فكانت أم سلمة من حزب المحافظين « أي حزب علي » وعائشة من حزب طلحة والزبير كما ذكرت فى « مقدمة الحلقة الاولى » وكانتا كذلك في عهد النبي فقد كانت أم سلمة زعيمة طائفة من نسائه ، وعائشة زعيمة طائفة أخرى ، ولا ريب في أن هذه الحزبية ولدت في نفسيهما حزازة تأريخية اتصلت بمسلكيهما العام .. » (1)

هذه بعض البواعث التي حفزتها على الخروج على حكومة الامام وقد فتحت بذلك باب التمرد والعصيان ، ومهدت السيل للقوى المنحرفة عن الحق أن تتكتل وتجتمع على حرب ابن أبي طالب فتغرق البلاد في المآسي والدموع ، وتجر للأمة الويلات والخطوب.

اعلان العصيان :

واعلنت عائشة العصيان والخروج على الحكم القائم في خطابها الذي القته بمكة فقد جاء فيه :

« أيها الناس .. إن الغوغاء من أهل الأمصار ، وأهل المياه ، وعبيد أهل المدينة اجتمعوا إن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الأرب (2) واستعمال من حدث سنه ، وقد استعمل أسنانهم قبله ومواضع من الحمى حماها لهم ، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها ، فتابعهم

ص: 369


1- الحلقة الثانية من سيرة الحسين ص 267
2- الأرب : الخداع والحيلة

ونزع لهم عنها استصلاحا لهم فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا خلجوا (1) وبادروا بالعدوان ، ونبا فعلهم عن قولهم ، فسفكوا الدم الحرام ، واستحلوا البلد الحرام ، واستحلوا الشهر الحرام ، واللّه لأصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! .. فنجاة من اجتماعكم عليهم حتى ينكل بهم غيرهم ويشرد من بعدهم وو اللّه لو ان الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه او الثوب من درنه إذ ماصوه (2) كما يماص الثوب بالماء » (3)

وحفل خطابها بالمغالطات والتنكر للحقائق فقد جاء فيه ان الغوغاء عابوا على عثمان وهو مجاف للواقع فان الذي عاب عليه ، وشهر به إنما هم كبار المهاجرين والانصار ، وكانت هي بالذات اول من قدح زناد الثورة عليه فقد قالت فيه كلمتها الشهيرة : اقتلوا نعثلا فقد كفر ، انها وغيرها من الاعلام والرءوس هم الذين اجهزوا عليه ولا علاقة لغيرهم بدمه

وجاء فى خطابها أنه رجع عن احداثه ، وتابع الثوار استصلاحا لهم فلما لم يجدوا حجة عليه استحلوا دمه وقتلوه ، وهذا أيضا لا يلتقى بالواقع فان عثمان قد اعلن التوبة وأظهر الندم على الأحداث التي ارتكبها الا انه اعلن للناس اخيرا انه إنما قال ذلك من أجل ضغط الثوار عليه وهو ماض على سياسته التي رسمها لنفسه ، ولما قفل الثوار راجعين بعد المكيدة التي دبرها ضدهم طالبوه بالاستقالة من منصبه فابى وامتنع من اجابتهم فلم يجدوا بدا من قتله ، كما ذكرنا ذلك بالتفصيل وهو لا يتفق مع ما ذكرته عائشة في خطابها من انهم لم يجدوا حجة لقتله.

وعلى أي حال فان خطاب عائشة كان أول اعلان للعصيان والتمرد

ص: 370


1- خلجوا : اي انتزعوه وجذبوه
2- الموص : الغسل اللين والدلك باليد
3- تأريخ الطبري 3 / 468

والاختلاف يقول الاستاذ عبد الفتاح مقصود : « وتفرق الناس بعد حديثها هذا شيعا ، وكان اولى بهم أن تتوحد كلمتهم في هذه المحنة الحازبة التي اصابت الاسلام ، ففيم تدعوهم اليوم أم المؤمنين؟ وإلى أية غاية تريد أن تسير بهم!. لحرب الغوغاء؟. للزحف على المدينة وفيها الأمير الشرعي للبلاد؟. » (1)

لقد احدثت عائشة في خروجها الشقاق والاختلاف بين المسلمين ، وغرست بذور العداء والفتن فى جميع أنحاء البلاد.

مع أمّ سلمة :

واستنجدت عائشة بازواج النبي ودعتهن أن يخرجن معها لحرب وصي رسول اللّه وباب مدينة علمه وأبي سبطيه واجتمعت بأم سلمة فجعلت تخادعها وتقول لها :

« يا بنت أبي أمية ، أنت أول مهاجرة من أزواج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنت كبيرة أمهات المؤمنين ، وكان رسول اللّه يقسم لنا من بيتك وكان جبرئيل أكثر ما يكون في منزلك .. »

فتريبت أم سلمة من كلامها وقالت لها :

« لأمر ما قلت هذه المقالة؟. »

فاجابتها عائشة بما تروم قائلة :

« إن القوم استتابوا عثمان ، فلما تاب قتلوه صائما فى الشهر الحرام وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ، ومعي الزبير وطلحة ، فاخرجى معنا لعل اللّه يصلح هذا الأمر على أيدينا .. »

ص: 371


1- الامام علي 2 / 267

وانبرت أم سلمة إلى تفنيد مقالتها وإلى تسديدها ونصحها قائلة :

« إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان ، وتقولين فيه أخبث القول وما كان اسمه عندك الا نعثلا ، وانك لتعرفين منزلة علي عند رسول اللّه أما أذكرك؟ .. »

- نعم

- أتذكرين يوم أقبل ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال فخلا بعلي يناجيه فأطال ، فاردت أن تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني وهجمت عليهما ، فما لبثت أن رجعت باكية فقلت : ما شأنك؟ فقلت : أتيتهما وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول اللّه الا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي؟ فاقبل رسول اللّه علي وهو محمر الوجه غضبا ، فقال ارجعي وراءك واللّه لا يبغضه أحد الا وهو خارج من الايمان. فرجعت نادمة ساخطة.

- نعم اذكر ذلك.

- أو أذكرك.

- نعم

- كنت أنا وأنت مع رسول اللّه فقال لنا : أيتكن صاحبة الجمل الادب (1) تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط؟ فقلنا نعوذ باللّه وبرسوله من ذلك ، فضرب على ظهرك فقال : إياك أن تكونيها يا حميراء.

- نعم اذكر ذلك

- أو أذكرك؟

ص: 372


1- الأدب : الجمل الكثير الشعر

- نعم

- كنت أنا وأنت مع رسول اللّه فى سفر له ، وكان علي يتعاهد نعل رسول اللّه فيخصفها ، وثيابه ، فيغسلها ، فنقب نعله ، فأخذها يومئذ يخصفها ، وقعد في ظل سمرة ، وجاء أبوك ومعه عمر فاستأذنا عليه فقمنا إلى الحجاب ، ودخلا يحدثانه فيما أرادا ، ثم قالا يا رسول اللّه : إنا لا ندري قدر ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا؟ فقال لهما : أما إني قد أرى مكانه ، ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرق بنو إسرائيل عن هارون بن عمران ، فسكتا ثم خرجا فلما خرجا خرجنا إلى رسول اللّه فقلت له أنت وكنت أجرأ عليه منا : يا رسول اللّه من كنت مستخلفا عليهم؟ فقال : خاصف النعل. فنزلنا فرأيناه عليا فقلت يا رسول اللّه ، ما أرى الا عليا ، فقال : هو ذاك.

- نعم اذكر ذلك

- فاي خروج تخرجين بعد هذا؟

- إنما أخرج للاصلاح بين الناس وأرجو فيه الأجر

- أنت ورأيك

وانصرفت أم سلمة وكتبت بالأمر الى الامام أمير المؤمنين (1) وقد أبدت لها تمام النصح وذكرتها بما تناسته من فضائل أمير المؤمنين ومآثره ولكن عائشة استسلمت لاحقادها وعواطفها فلم تستجب لذلك.

ص: 373


1- شرح النهج 2 / 79 وذكر الزمخشري فى الفائق 1 / 290 ما يقرب من ذلك.

الزعف الى البصرة :

واستجاب لدعوة عائشة جميع رجال الحكم المباد من ولاة عثمان واقربائه وذوى الاطماع الذين اعتقدوا أن حكومة الامام تبدد أحلامهم فى النفوذ السياسي ، والمغرر بهم والسذج من الناس الذين تلونهم الدعاية كيف شاءت ، كل هؤلاء جرفتهم دعوة عائشة ودعايتها وخضعوا لأوامرها وقد تداول زعماء الفتنة الآراء في غزو أي بلد ، وعرضوا المدينة الا انهم عدلوا عنها لأن فيها الخليفة الشرعي وهو يتمتع بالقوى العسكرية ولا قبل لهم بها ، وعرضوا ثانيا الشام وفيها الرجال والأموال وعليها ابن عثمان واليا فهي اولى بلد واجدره بالاجابة ولكن الأمويين لم يستجيبوا لذلك لأنهم جعلوا الشام في حوزتهم وخافوا عليها من التصدع ، فاجمع الرأي على غزو البصرة لأن فيها أعوانا وانصارا لهم ونادى المنادي فى مكة :

« أيها الناس ، إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة فمن كان يريد اعزاز الاسلام ، وقتال المحلين ، والطلب بثار عثمان ، ولم يكن عنده مركب ولا جهاز فهذا جهازه وهذه نفقته .. »

وزودوا الجند بالسلاح والعتاد فاعان يعلى بن أمية (1) بأربعمائة الف

ص: 374


1- يعلى بن أميّة بن ابى عبيدة التميمي كان واليا على بعض نواحي اليمن من قبل عمر ، واستعمله عثمان على صنعاء ، وقال المدائني : كان يعلي اميرا على الجند باليمن فبلغه قتل عثمان فاقبل لينصره فسقط عن بعيره في الطريق فانكسر فخذه فقدم مكة بعد انقضاء الحج فاجتمع الناس به فاخذ يحرضهم على الطلب بدم عثمان فاعان الزبير باربعمائة الف وحمل سبعين رجلا من قريش وحمل عائشة على الجمل الذي شهدت القتال عليه واسمه « عسكر » ولما فشلت حرب الجمل لحق بالامام امير المؤمنين وصار من اصحابه وقتل معه بصفين ، جاء ذلك في اسد الغابة 5 / 138.

وحمل سبعين رجلا ، واعتلت عائشة جملها المسمى ( بعسكر ) قد احتف بها بنو أمية وهي تتقدم أمام الحشد الزاخر ، تقودهم إلى تمزيق الوحدة الاسلامية والى محاربة الحكومة الشرعية ، ولما انتهت إلى ذى قار التقى بها سعيد ابن العاص (1) فقال لها :

- أين تريدين يا أم المؤمنين؟

- البصرة

- وما تصنعين بها؟

- أطلب بدم عثمان

فضحك ساخرا وقال متبهرا :

- هؤلاء قتلة عثمان يا أم المؤمنين

فازاحت بوجهها عنه إذ لا حجة لها تدافع بها عن نفسها ، وتركها وانصرف إلى مروان فقال له :

- وأنت أيضا تريد البصرة

- نعم

- ما تريد؟

- أطلب بدم عثمان

- فهؤلاء قتلة عثمان معك - وأشار الى طلحة والزبير - فقال : إن

ص: 375


1- سعيد بن العاص الأموي ولد عام الهجرة ، قتل علي اباه يوم بدر وهو من فصحاء قريش استعمله عثمان واليا على الكوفة ثم عزله عنها وارجع سعيدا إليها فارجعوه اهل الكوفة وكتبوا إلى عثمان لا حاجة لنا في سعيدك ولا في وليدك ، وكان فيه تجبر وشدة وغلظة ، ولما قتل عثمان لزم سعيد بيته واعتزل ايام الجمل وصفين ولم يشهد شيئا من تلك الحروب ، ولما استتب الأمر الى معاوية ولاه المدينة ثم ولاها مروان بن الحكم وكان يعاقب بينهما في ولايتها توفى في خلافة معاوية سنة تسع وخمسين ، الاستيعاب 2 / 8

هذين الرجلين قتلة عثمان ، وهما يريدان الأمر لأنفسهما ، فلما غلبا عليه قالا : نغسل الدم بالدم والحوبة بالتوبة (1) ولم تجد معهم هذه المحاورة شيئا ، وانطلقوا مصممين على الغي والعدوان. ماء الحوأب :

وانطلقت قافلة عائشة تطوى البيداء فاجتازت على مكان يقال له « الحوأب » (2) فتلقت الركب كلاب الحي الساهرة بهرير وعواء فذعرت عائشة من ذلك النباح الذي اطلقته الكلاب على القافلة ، فقالت لمحمد بن طلحة : (3).

ص: 376


1- الامامة والسياسة 1 / 63
2- الحوأب بالفتح ثم السكون وهمزة مفتوحة وباء موحدة موضوع للاودية الواسعة والعلبة الضخمة ومكان في طريق البصرة وقال ابو منصور : الحوأب موضع بئر نبحت كلابه على عائشة عند مجيئها الى البصرة وانشد ما هي الاشربة بالحوأب *** فصعدى من بعدها او صوبى معجم البلدان 3 / 355
3- محمد بن طلحة القرشي التميمي : ولد في حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو الذي سماه محمدا وكناه بابى القاسم قتل يوم الجمل وكان هواه مع علي ومر به الامام بعد مقتله فقال : هذا الذي قتله بره بأبيه امره ابوه ان يتقدم للقتال فتقدم ونثل درعه بين رجليه وقام عليها وجعل كلما مر عليه رجل قال له : نشدتك بحاميم فشد عليه رجل فقتله وانشد يقول : واشعث قوام بآيات ربه *** قليل الاذى فيما ترى العين مسلم ضممت إليه بالقناة قميصه *** فخر صريعا لليدين وللفم على غير ذنب غير ان ليس تابعا *** عليا ومن لا يتبع الحق يظلم يذكرني حاميم والرمح شاجر *** فهلا تلا حاميم قبل التقدم يقال قتله كعب بن مدلج ، وقيل معاوية بن شداد ، وقيل غيرهما الاستيعاب 3 / 349.

- أي ماء هذا؟

- ماء الحوأب.

فذعرت ، وذاب قلبها أسى وحسرات على ما فرطت في أمرها وقالت :

- ما أراني إلا راجعة!!

- لمّ - يا أم المؤمنين؟

- سمعت رسول اللّه يقول لنسائه : كأني بإحداكنّ قد نبحتها كلاب الحوأب ، (1) وإياك أن تكوني أنت يا حميراء.

- تقدمي رحمك اللّه ودعى هذا القول ولم تقتنع عائشة واصرت على الانسحاب فعلم ذلك طلحة والزبير فاقبلا يلهثان لأنها متى انفصلت عن الجيش ذهبت آمالهما أدراج الرياح فتكلما معها في الامر فاصرت على

ص: 377


1- روى ابن عباس عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) انه قال يوما لنسائه وهن جميعا عنده : ايتكن صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلهم فى النار وتنجو بعد ما كادت ، شرح النهج 2 / 497 وهذا الحديث من اعلام النبوة ومن اخباره بالمغيبات.

الانسحاب فجاءوا لها بشهود اشتروا ضمائرهم فشهدوا أنه ليس بماء الحوأب وهي اول شهادة زور تقام في الاسلام (1) وبهذه الشهادة الكاذبة استطاعوا أن يقلعوا رأيها وكان الواجب عليها بعد ما ذكرت قول الرسول أن ترجع إلى بيتها فلا تقود الجيوش لمحاربة أخي رسول اللّه

في ربوع البصرة :

وسارت قافلة عائشة تطوي البيداء حتى اشرفت على البصرة فلما علم ذلك عامل البصرة عثمان بن حنيف (2) أرسل إليها أبا الأسود الدئلى ليسألها عن قدومها ، ولما التقى بها قال لها :

- ما أقدمك يا أم المؤمنين؟

- أطلب بدم عثمان

- ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد!!

ص: 378


1- مروج الذهب 2 / 342 ، تأريخ اليعقوبي.
2- عثمان بن حنيف الانصاري من الأوس ، كان واليا من قبل عمر ، ثم ولاه الامام على البصرة ولما خرج الامام منها عزله عنها وولى عبد اللّه بن عباس ، وقيل إن عمر بن الخطاب استشار الصحابة فى رجل يوجهه الى العراق فاجمعوا على عثمان بن حنيف ، وقالوا : إن تبعثه على اهم من ذلك فان له بصرا وعقلا ومعرفة وتجربة ، فاسرع عمر فولاه مساحة ارض العراق فضرب عثمان على كل جريب من الارض يناله الماء عامرا وغامرا درهما وقفيزا من الطعام فبلغت جباية سواد الكوفة قبل ان يموت عمر بعام مائة الف الف ونيفا ، وبعد حادثة البصرة اقام فى الكوفة ، وبقى فيها الى زمان معاوية ، الاستيعاب 3 / 79

- صدقت ، ولكنهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة ، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله ، انغضب لكم من سوط عثمان ، ولا نغضب لعثمان من سيوفكم؟

فرد عليها بمنطقه الفياض قائلا :

- ما أنت من السوط والسيف؟ إنما أنت حبيسة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أمرك أن تقري في بيتك ، وتتلي كتاب ربك ، وليس على النساء قتال ، ولا لهن الطلب بالدماء ، وإن عليا لأولى منك وأمس رحما ، فانهما ابنا عبد مناف!!

- لست بمنصرفة حتى امضي لما قدمت إليه ، افتظن أبا الأسود أن أحدا يقدم على قتالي؟!

- أما واللّه لتقاتلن قتالا أهونه الشديد.

ثم تركها وانصرف عنها واقبل الى الزبير فذكره بماضي ولائه للامام أمير المؤمنين قائلا :

- يا أبا عبد اللّه ، عهد الناس بك ، وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك ، تقول : لا أحد أولى بهذا الامر من ابن أبي طالب ، واين هذا المقام من ذاك.؟؟

- نطلب بدم عثمام

- أنت وصاحبك وليتماه فيما بلغنا

وانصاع الزبير لمقالة أبي الاسود ورأى فيها النصح والرشاد إلا انه طلب منه مواجهة طلحة ومذاكرته في الأمر ، فمضى أبو الاسود مسرعا وعرض عليه الامر فلم يستجب له وأصر على الغي والعدوان (1)

ص: 379


1- شرح النهج 2 / 81

وأنطلق أبو الأسود الى ابن حنيف فأخبره بنية القوم ، واصرارهم على الحرب فجمع أصحابه فخطب فيهم فقال في خطابه :

« أيها الناس ، إنما بايعتم اللّه ، يد اللّه فوق أيديهم ، فمن نكث فانما ينكث على نفسه ، ومن أو فى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه اللّه أجرا عظيما ، واللّه لو علم علي أحدا احق بهذا الامر منه ما قبله ، ولو بايع الناس غيره لبايع وأطاع وما به الى أحد من صحابة رسول اللّه حاجة ، وما باحد عنه غنى ولقد شاركهم في محاسنهم وما شاركوه في محاسنه ولقد بايع هذان الرجلان وما يريدان اللّه ، فاستعجلا الفطام قبل الرضاع. والرضاع قبل الولادة والولادة قبل الحمل ، وطلبا ثواب اللّه من العباد ، وقد زعما أنهما بايعا مستكرهين فان كانا استكرها قبل بيعتها وكانا رجلين من عرض قريش لهما أن يقولا ولا يأمرا ، إلا وان الهدى ما كانت عليه العامة ، والعامة على بيعة على. فما ترون أيها الناس؟ »

وانبرى إليه حكيم بن جبلة فخاطبه بمنطق الايمان قائلا.

« نرى إن دخلا علينا قاتلناهما ، وإن وقفا تلقيناهما ، واللّه ما أبالي أن أقاتلهما وحدي ، وإن كنت أحب الحياة ، وما أخشى في طريق الحق وحشة ، ولا غيرة ولا غشا ولا سوء منقلب الى بعث وانها لدعوة قتيلها شهيد وحيها فائز ، والتعجيل الى اللّه قبل الأجر خير من التأخير في الدنيا ، وهذه ربيعة معك .. » (1)

وصمم القوم بذلك على رد العدوان ، ومقابلتهم بالمثل إن اعتدوا عليهم ، وعدم التعرض لهم إن لم يبدؤهم بقتال.

ص: 380


1- الامامة والسياسة 1 / 64 - 65

عقد الهدنة :

وجرت بين الفريقين مصادمات عنيفة ادت الى قتل البعض وجرح الآخر منهما ، وكان ابن حنيف يروم السلم ولا يحب مناجزة القوم قبل أن يأتيه أمر بذلك من أمير المؤمنين ، فاوقف القتال وعقد هدنة موقتة حتى يستبين له رأى الامام وهذا نصها.

« هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الانصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين على بن أبي طالب. وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما. إن لعثمان بن حنيف دار الامارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر ، وان لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شأوا من البصرة ولا يضار بعضهم بعضا فى طريق ولا فرضة (1) ولا سوق ولا شريعة ، ولا مرفق حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فان أحبوا دخلوا في ما دخلت فيه الامة ، وان أحبوا لحق كل قوم بهواهم ، وما أحبوا من قتال او سلم أو خروج أو إقامة وعلى الفريقين بما كتبوا عهد اللّه وميثاقه. واشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة. »

ووقعها الفريقان ، ومضى ابن حنيف إلى دار الامارة ، وأمر اصحابه بالقاء السلاح والالتحاق بمنازلهم.

غدر وخيانة :

وقام طلحة والزبير بمراسلة الوجوه والاشراف يدعونهم الى الطلب

ص: 381


1- الفرضة : الثلمة من النهر التي يستقى منها.

بدم عثمان وخلع أمير المؤمنين واخراج ابن حنيف ، فاستجابت لهم قبائل الأزد وضبة وقيس عيلان ، وتابعهم كثير من البسطاء وذوى الاطماع ، ولما استوثق لهم الأمر غدروا وخانوا ونقضوا ما اتفقوا عليه من الهدنة ، فقد هجموا على ابن حنيف في غلس الليل وهو في دار الإمارة فاعتقلوه ونكلوا به فأمروا بنتف شعر رأسه ولحيته وحاجبيه (1) ونهبوا ما في بيت المال ، ولما حضر وقت الصلاة تنازع طلحة والزبير على الصلاة بالناس فجعل كل واحد منهما يمنع صاحبه من التقدم عليه حتى فات وقت الصلاة فصاح الناس بهما ، فقطعت عائشة النزاع فيما بينهما وقالت يصلي بالناس يوما محمد بن طلحة ، ويوما عبد اللّه بن الزبير (2) فذهب ابن الزبير ليصلي بالناس فجذبه محمد بن طلحة وتقدم محمد ليصلي بالناس فمنعه ابن الزبير ، ورأى الجميع أن خير وسيلة لفصل الخصومة وقطع النزاع هي القرعة فاقترعا فخرج محمد بن طلحة فتقدم وصلى بالناس وقرأ سأل سائل بعذاب واقع » (3) وفي ذلك يقول الشاعر :

تبارى الغلامان إذ صليا *** وشح على الملك شيخاهما

ومالي وطلحة وابن الزبير *** وهذا بذي الجذع مولاهما

فأمهما اليوم عزتهما *** ويعلى بن منية دلاهما (4)

ص: 382


1- شرح النهج 2 / 50 وجاء فيه انهم طردوا عثمان فلحق بعلي فلما رآه بكى وقال له : فارقتك شيخا ، وجئتك امرد فقال علي : إنا لله وإنا إليه راجعون قال ذلك ثلاثا.
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 157.
3- طبقات ابن سعد 5 / 39
4- الاغاني 11 / 120.

ان القوم مدفوعون بدافع الملك والسلطان ، ولو تم الأمر لهما لأجهز كل واحد منهما على صاحبه ، فانهما بعد في بداية الطريق وقد ظهرت منهما بوادر الانشقاق والاختلاف.

إنهما لم يخرجا على حكم الامام الا من أجل المنافع المادية الضيقة وقد اعترف بذلك الزبير فقد جاء إليهما رجل وهما في جامع البصرة فقال لهما :

« نشدتكما باللّه في مسيركما أعهد إليكما فيه رسول اللّه شيئا؟ ... »

فسكت طلحة ولم يجبه بشيء فاجابه الزبير :

« - لا - ولكن بلغنا أن عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها ... » (1)

لقد حدد الزبير خروجهم على وصي رسول اللّه فهو انما كان من أجل الاطماع والمنافع وليس فيه أى عهد من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).

وعلى أى حال فقد سقطت البصرة بايديهم واحتلت قواتهم جميع مواقعها وأمرت عائشة بقتل عثمان بن حنيف الا ان احدى السيدات استعظمت هذا الأمر وقالت لعائشة :

« نشدتك اللّه يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول اللّه » فعدلت عن رأيها وأمرت بحبسه (2) وأمرت بقتل الشرطة وحراس بيت المال وعددهم سبعون شخصا وهم من خيار المسلمين وصلحائهم فقتلوا صبرا (3) ولم تتحرج أم المؤمنين فى إراقة دمائهم ، ولم تتأثم فى اشاعة الثكل والحزن والحداد بين أهليهم ، قد أعرضت عما أمر اللّه به من الحريجة في الدماء وحرمة سفكها بغير الحق.

ص: 383


1- الطبري 5 / 183.
2- الطبري 5 / 178.
3- شرح النهج 2 / 50.

مقتل حكيم بن جبلة :

ولما بلغ حكيم بن جبلة ما ارتكبه القوم بعثمان بن حنيف من التنكيل وما قاموا به من قتل الشرطة وخزان بيت المال خرج في ثلاثمائة رجل من عبد القيس (1) فخرج القوم وحملوا عائشة على جمل ، فسمى ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر ويومها مع امير المؤمنين يوم الجمل الأكبر ، وتجالد الفريقان بالسيوف ، وأبلى حكيم مع أصحابه المؤمنين بلاء حسنا ، وشد عليه رجل من الأزد من عسكر عائشة فضرب رجله فقطعها ، وجثا حكيم فأخذ رجله المقطوعة فضرب بها الأزدي الذي قطعها فقتله ولم يزل يقاتل ورجله مقطوعة وهو يقول :

يا ساق لن تراعى *** ان معى ذراعي *** أحمي بها كراعي

وما زال على مثل هذه الحالة التي ضرب بها الرقم القياسي في البطولة والشجاعة ونكران الذات والدفاع عن المبدأ والعقيدة حتى نزف دمه ، فانطلق إلى الرجل الذي قطع رجله فاتكأ عليه وهو قتيل فاجتاز عليه شخص فقال له : من فعل بك هذا؟ فقال : وسادتي ثم قتله سحيم الحداني (2) وقتل معه اخوة له ثلاثة كما قتل جميع أصحابه (3) ففى ذمة اللّه تلك الدماء الزكية التي أريقت ، والنفوس الكريمة التي أزهقت فى سبيل الذب عن دين اللّه ، والدفاع عن وصي رسول اللّه.

ص: 384


1- وفى رواية خرج مع سبعمائة من اصحابه.
2- اسد الغابة 2 / 40.
3- شرح النهج 2 / 51.

استنجاد الامام بالكوفة :

كان الامام أمير المؤمنين متهيأ لغزو الشام حيث اعلن معاوية التمرد على حكومته ورفض بيعته وبينما هو جاد في تدبير الأمر إذ فاجأه الخبر عن هياج أهل مكة للطلب بدم عثمان بتحريض طلحة والزبير وعائشة واتباعهم من الامويين ، فاشفق من انشقاق العصا واختلاف شمل المسلمين ، ورأى أن خطرهم أقوى من خطر معاوية ، وشرهم أقوى من شره ، وإذا لم يبادر لاخماد هذه الفتنة فانها يوشك أن تتسع ، ويكثر التمرد والاختلاف فتجهز للشخوص إليهم ، وخفت لنصرته البقية الصالحة من المهاجرين والانصار وخرجوا مسرعين ليلحقوا بهم قبل أن يدخلوا مصرا من الامصار فيفسدوه فلما بلغوا الربذة علموا بسبقهم إلى البصرة وبالحوادث التي جرت فيها فاقام الامام بالربذة أياما يحكم أمره ، وارسل إلى جماهير أهل الكوفة يستنجد بهم ويدعوهم الى نصرته والقيام معه لاخماد نار الفتنة ، وأوفد للقياهم محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر (1) وزودهما برسالة جاء فيها

« إني اخترتكم على الامصار ، وفزعت إليكم لما حدث فكونوا لدين

ص: 385


1- محمد بن جعفر بن ابي طالب الهاشمي : هو اول من سمى محمدا في الاسلام من المهاجرين ، قيل انه ولد بأرض الحبشة ، وتزوج بام كلثوم بنت الامام امير المؤمنين ، قيل انه استشهد بتستر ، وقيل انه قتل بصفين اعترك هو وعبيد اللّه ابن عمر فقتل كل منهما الآخر ، الاصابة 3 / 372 وجاء في اسد الغابة 4 / 313 لما جاء نعى جعفر إلى رسول اللّه جاء إلى بيت جعفر ، وقال : اخرجوا لي أولاد اخي جعفر ، فاخرج إليه عبد اللّه ومحمد وعون فوضعهم على فخذه ودعا لهم ، وقال : انا وليهم فى الدنيا والآخرة ، ثم قال : اما محمد فيشبه عمنا ابا طالب.

اللّه أعوانا وانصارا ، وأيدونا وانهضوا إلينا ، فالاصلاح ما نريد لتعود الأمة إخوانا ، ومن أحب ذلك وآثره فقد أحب الحق ، ومن ابغض ذلك فقد أبغض الحق وأغمضه » (1).

وطوى الرسولان البيداء حتى وصلا الكوفة فعرضا رسالة الامام على أبي موسى والي المصر إلا انهما لم يجدا منه أي اجابة أو انطلاق فى الامر وانما وجدا منه موقفا غير طبيعي فقد كان يثبط العزائم ، ويوهن القوى ويمنع الناس من الاستجابة لنداء الامام ، وتكلم معه الرسولان بشدة فاجابهما أبو موسى مبررا لعناده قائلا :

« واللّه إن بيعة عثمان لفى عنقي وعنق صاحبكما ، فان لم يكن بد من القتال ، لا نقاتل أحدا حتى يفرغ من قتلة عثمان .. » (2).

وبعث المحمدان الأنباء بالتفصيل إلى الامام ، وعرفاه بتمرد أبي موسى وتثبيطه عزائم الناس ، فأوفد الامام للقياه هاشم المرقال وزوده برسالة جاء فيها :

« إني وجهت هاشما لينهض بمن قبلك من المسلمين إلي ، فاشخص الناس ، فاني لم أولك إلا لتكون من أعواني على الحق .. ».

وسار هاشم حتى انتهى إلى الكوفة فرأى أبا موسى مصرا على تمرده وممعنا في غلوائه وعدائه ، وكلما حاول اقناعه وارجاعه إلى طريق الحق لم يتمكن ، واستدعى أبو موسى سائب بن مالك الأشقري ليستشيره فى الأمر فاشار عليه بالنصيحة وملازمة الامام ، وتنفيذ أوامره الا انه لم يسترشد وبقي مصمما على عصيانه وعناده ، فارسل هاشم إلى الامام رسالة يخبره فيها

ص: 386


1- الطبري 3 / 393.
2- الطبري 3 / 394.

بفشله في مهمته ، واخفاقه في سفارته.

ايفاد الحسن :

وبعث الامام ولده الحسن ومعه عمار بن ياسر وارسل معه رسالة فيها عزل أبي موسى عن منصبه وتعيين قرضة بن كعب (1) في وظيفته ، وهذا نص رسالته :

« أما بعد : فقد كنت أرى أن تعزب عن هذا الأمر الذي لم يجعل اللّه لك نصيبا منه ، بمنعك عن رد أمري ، وقد بعثت الحسن بن علي وعمار بن ياسر يستفزان الناس ، وبعثت قرضة بن كعب واليا على المصر فاعتزل عملنا مذموما مدحورا ، فان لم تفعل فاني قد أمرته أن ينابذك .. »

ووصل الامام الحسن إلى الكوفة فالتأم حوله الناس زمرا ، وهم يعربون له الانقياد والطاعة ، ويظهرون له الولاء والاخلاص ، واعلن الامام الحسن بالوقت عزل الوالي المتمرد عن منصبه ، وتعيين قرضة في محله ، ولكن أبا موسى بقي مصمما على مكره وغيه ، فقد اقبل على عمار ابن ياسر يحدثه فى أمر عثمان عله أن يجد في حديثه فرجة فيتهمه بدم عثمان ليتخذ من ذلك وسيلة إلى خذلان الناس عن الامام فقال له :

ص: 387


1- قرضة بن كعب بن ثعلبة الانصارى الخزرجي شهد مع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) احدا وما بعدها من المشاهد ، وفتح اللّه على يديه فى زمن عمر بن الخطاب ، وهو احد العشرة الذين ارسلهم عمر الى الكوفة لتعليم اهلها ، وولاه الامام على الكوفة ، ولما خرج إلى حرب صفين حمله معه ، وولاها ابا مسعود البدري ، وشهد مع الامام جميع مشاهده ، وتوفى فى خلافته في دار ابتناها بالكوفة ، وصلى عليه الامام الاستيعاب 3 / 266.

« يا أبا اليقظان ، أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار.؟ »

فاجابه عمار :

« لم أفعل ولم تسؤني؟. »

وعرف الحسن غايته فقطع حبل الجدال وقال له :

« يا أبا موسى ، لم تثبط عنا الناس؟ »

وأقبل الامام الحسن يحدثه برفق ولين ليقلع روح الشر والعناد من نفسه قائلا :

« يا أبا موسى .. واللّه ما أردنا الا الاصلاح ، وليس مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء .. »

فبهت أبو موسى ، وضاقت به مكابرته ، وطغيانه فقال للامام :

« صدقت بأبي أنت وأمي! ... ولكن المستشار مؤتمن .. »

- نعم

- سمعت رسول اللّه يقول : إنها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الراكب!. وقد جعلنا اللّه عز وجل اخوانا وحرم علينا أموالنا ودماءنا ، فقال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) (1) وقال عز وجل : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ) (2) ... »

فانبرى إليه عمار فرد عليه أباطيله وخداعه قائلا :

ص: 388


1- سورة النساء : آية 29
2- سورة النساء : آية 93

« أنت سمعت هذا من رسول اللّه؟ ... »

« نعم وهذه يدى بما قلت. »

فالتفت عمار الى الناس قائلا :

« إنما عنى رسول اللّه بذلك أبا موسى ، فهو قاعد خير منه قائم؟ .. »

ولم يجد كلام عمار ولا ترفق الحسن ، وطول صبره وعظيم حلمه مع هذا الجلف المتمرد الذي لا يخضع لغير الشدة والقسر ، فقد بقي شديد الاصرار على ما هو عليه من تثبيط عزائم الناس وخذلانهم من الخروج مع الامام.

واخذ سبط النبي يوقظ الهمم ، ويبعث النشاط في النفوس ويحفزها للجهاد ، وخطب فيهم قائلا :

« أيها الناس .. قد كان في مسير أمير المؤمنين علي بن أبى طالب ما قد بلغكم ، وقد أتيناكم مستنصرين لأنكم جبهة الانصار ، ورءوس العرب وقد كان من طلحة والزبير بعد بيعتهما وخروجهما بعائشة ما قد بلغكم. وتعلمون أن وهن النساء وضعف رأيهن الى التلاشي ، ومن أجل ذلك جعل اللّه الرجال قوامين على النساء ، وأيم اللّه لو لم ينصره منكم أحد لرجوت أن يكون فيمن أقبل معه من المهاجرين والانصار كفاية ، فانصروا اللّه ينصركم .. »

وقام عمار فاخذ يحفز الناس للجهاد ويبين لهم حقيقة الحال في شأن عثمان قائلا :

« يا أهل الكوفة .. إن غابت عنكم انباؤنا فقد انتهت إليكم امورنا إن قتلة عثمان لا يعتذرون من قتله الى الناس ولا ينكرون ذلك ، وقد جعلوا كتاب اللّه بينهم وبين محاججتهم فيه أحيا اللّه من أحيى ، وأمات

ص: 389

من أمات ، وان طلحة والزبير كانا أول من طعن وآخر من أمر ، وكانا أول من بايع ، فلما اخطأهما ما أملا نكثا بيعتهما من غير حدث! .. وهذا ابن بنت رسول اللّه قد عرفتموه وقد جاء يستنصركم ، وقد دلكم علي في المهاجرين والبدريين والانصار الذين تبؤوا الدار والايمان .. »

وقام على أثرهما قيس بن سعد فجعل يدعوهم الى القيام بالواجب ونصرة أمير المؤمنين قائلا :

« .. إن الأمر لو استقبلنا به أهل الشورى لكان علي أحق الناس به ، وكان قتال من أبى حلالا فكيف والحجة على طلحة والزبير ، وقد بايعاه طوعا ، وخالفاه حسدا وقد جاءكم علي في المهاجرين والانصار. ثم أنشأ يقول :

رضينا بقسم اللّه إذ كان قسمنا *** عليا وأبناء الرسول محمد

وقلنا لهم أهلا وسهلا ومرحبا *** نمد يدينا من هوى وتودد

فما للزبير الناقض العهد حرمة *** ولا لأخيه طلحة اليوم من يد

أتاكم سليل المصطفى ووصيه *** وأنتم بحمد اللّه عار من الهد (1)

فمن قائم يرجى بخيل الى الوغا *** وصم العوالي والصفيح المهند

يسود من أدناه غير مدافع *** وإن كان ما نقضيه غير مسود

فان يأتى ما نهوى فذاك نريده *** وإن نخط ما نهوى فغير تعمد (2)

وقد بقى أبو موسى مصرا على طغيانه يثبط عزائم الناس ، ويدعوهم إلى التخاذل وعدم الاجابة لنصرة الامام ، وقد جعل كلما سمعه من الحسن ومن الخطباء دبر أذنيه حتى اعيى الامام الحسن حلمه فاندفع يصيح به في

ص: 390


1- الهد الضعيف والجبان.
2- الغدير 2 / 77

ثورة وعنف قائلا له :

« اعتزل عملنا أيها الرجل ، وتنح عن منبرنا لا أم لك!. »

وأخذ الحسن يجد في تحفيز الناس للجهاد ويحثهم على الخروج لنصرة أبيه ، وقد قام فيهم خطيبا فقال لهم :

« أيها الناس .. أجيبوا دعوة أميركم ، وسيروا إلى إخوانكم ، فانه سيوجد الى هذا الامر من ينفر إليه ، واللّه لئن يليه أولو النهي أمثل في العاجل والآجل وخير في العاقبة ، فاجيبوا دعوتنا واعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم ، وان أمير المؤمنين يقول : قد خرجت مخرجي هذا ظالما او مظلوما واني اذكر اللّه رجلا رعى حق اللّه إلا نفر ، فان كنت مظلوما اعانني ، وان كنت ظالما أخذ. واللّه ان طلحة والزبير لاول من بايعني ، وأول من غدر فهل استأثرت بمال او بدلت حكما ، فانفروا وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر .. »

فاجابه الناس بالسمع والطاعة ، والامتثال والانقياد لأمره ، والاجابة لدعوته ، ولكن الزعيم مالك الاشتر رأى ان الامر لا يتم الا بإخراج أبي موسى مهان الجانب محطم الكيان ، فاقبل مع جماعة من قومه فاحاطوا بالقصر فلما نظر إليهم غلمانه اقبلوا يشتدون الى أبي موسى وقد خيم عليهم الخوف والذعر فقالوا له :

« يا أبا موسى. هذا الاشتر قد دخل القصر فضربنا واخرجنا. »

فنزل الوغد من القصر وقد استولى عليه الذهول فصاح به الاشتر :

« أخرج من قصرنا لا أم لك .. »

وتردد الاشعرى برهة فصاح به مالك ثانيا :

« اخرج ... اخرج اللّه نفسك!. فو اللّه إنك لمن المنافقين!. »

ص: 391

ونطق الاشعرى بصوت واهن ضعيف

- أجلني هذه العشية.

- هي لك ، ولا تبيتن فى القصر الليلة ..

ودخلت الجماهير تنهب امتعته وأمواله ، ولكن الاشتر لم يتنكر لعدوه المهزوم فقد وقف معه موقف الكريم النبيل فحال وبين الجماهير وبين ما ابتغوه من نهبه والتنكيل به ، فقال لهم :

« إني أجلته الليلة وقد أخرجته فكفوا عنه. »

فكف الناس عنه ، وفى الصباح خرج الباغي الأثيم وهو يجر سرابيل الخزي والخيانة ، وقد صفا الجو للامام الحسن ، واقبل يتحدث الى الناس بالخروج قائلا :

« أيها الناس. إني غاد ، فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر (1) ومن شاء فليخرج في الماء .. »

واستجابت الجماهير لدعوة الامام فلما رأى ذلك قيس بن سعد غمرته الافراح والمسرات وأنشأ يقول :

جزى اللّه اهل الكوفة اليوم نصرة *** أجابوا ولم يأبوا بخذلان من خذل

وقالوا! علي خير حاف وناعل *** رضينا من ناقضي العهد من بدل

هما أبرزا زوج النبي تعمدا *** يسوق بها الحادى المنيخ على جمل

فما هكذا كانت وصاة نبيكم *** وما هكذا الإنصاف اعظم بذا المثل

فهل بعد هذا من مقال لقائل *** ألا قبح اللّه الاماني والعلل (2)

وعجت الكوفة بالنفار فقد نزحت منها آلاف كثيرة ، فريق منها

ص: 392


1- اي على الدواب
2- الغدير 2 / 76

ركب السفن ، وفريق آخر ركب المطي ، وقد بدا عليهم الرضا والقبول وقد ساروا وهم تحت قيادة الحسن فانتهوا الى ذي قار (1) وقد التقوا بالامام أمير المؤمنين حيث كان مقيما هناك فسر بنجاح ولده ، وشكر له جهوده ومساعيه النبيلة.

الافتراء على الحسن :

وروى الطبرى في تأريخه حديثا موضوعا فيه افتراء على الامام الحسن نسوقه الى القراء ثم نبين ما يثبت وضعه ، فقد ذكر أنه أقبل على أبيه بعد خروج طلحة والزبير فقال له :

- أمرتك فعصيتنى ، فانت اليوم تقتل بمضيعة لا ناصر لك! ..

- لا تزال تحن حنين الجارية ، ما الذي أمرتني فعصيتك؟؟

- أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة ، فيقتل ولست بها ، ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى تأتيك وفود أهل الامصار والعرب وبيعة كل مصر.

ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فان كان الفساد كان على يد غيرك ، فعصيتني في ذلك كله.

فرد أمير المؤمنين عليه قائلا :

« أي بني ، أما قولك : « لو خرجت من المدينة حين احيط بعثمان » لقد احيط بنا كما أحيط بعثمان ، وأما قولك : « لا تبايع حتى تأتي بيعة الامصار » فان الامر أمر أهل المدينة ، وكرهنا أن يضيع هذا الامر ،

ص: 393


1- ذي قار : ماء لبكر بني وائل قريب من الكوفة يقع بينها وبين واسط ، معجم البلدان 7 / 8

وأما قولك : « حين خرج طلحة والزبير » فان ذلك كان وهنا على أهل الاسلام ، وو اللّه ما زلت مقهورا منذ وليت ، منقوصا لا أصل الى شيء مما ينبغي.

وأما قولك : « اجلس في بيتك » فكيف لي بما قد لزمنى!! أو من تريدني؟ أتريدني أن اكون مثل الضبع التي يحاط بها ، ويقال : دباب دباب (1) ليست هاهنا حتى يحل عرقوباها (2) ثم تخرج ، وإذا لم انظر فيما لزمني من هذا الامر ويعنيني فيمن ينظر فيه فكف عنك اي بنى » (3)

وهذا الحديث رواه الطبرى عن سيف بن عمر الاسدى التميمي وهو من موضوعاته ومختلقاته ، وقد اجمع الثقات على ضعفه وعدم الاعتماد على احاديثه لانه عرف بالكذب والوضع ، واختلاق الحديث ، وقد اتهمه بعضهم في دينه وقد بين حاله وواقعه ، وعرض موضوعاته ومفترياته العلامة المحقق السيد مرتضى العسكري في كتابه « عبد اللّه بن سبأ »

ومما يزيد وضوحا في وضع الرواية وافتعالها أنه جاء فيها أن الامام الحسن قال لأبيه : « أمرتك فعصيتني » وهذا من اسمج الكلام وأمره فكيف يستقبل الحسن أباه بذلك وهو العارف بحقيقته والعالم بعظيم شأنه وقد قال فيه : إنه لم يسبقه الأولون بعمل ولم يدركه الآخرون بعمل » ومما لا ريب فيه ان ذلك يتنافى مع هدى الامام الحسن الذي تجنب الاساءة

ص: 394


1- دباب اسم فعل امر مشتق من الدبيب ، وهو استدعاء للضبع لتخرج.
2- عرقوباها : تثنية عرقوب - بالضم - وهو العصب الغليظ فوق عقب الانسان ، ومن الدابة في رجلها بمنزلة الركبة فى يدها.
3- الطبري 3 / 170

وهجر الكلام ومره حتى مع أعدائه ومناوئيه فكيف يخاطب أباه بذلك؟!!

وعلق عبد الوهاب النجار على هذا الحديث الموضوع فقال : « وكأني به - يعنى أمير المؤمنين - في هذا الامر الاخير يقول بمقالة عثمان : « لا اخلع لباسا البسنيه اللّه عز وجل » وهو اعتذار لا يقبله من يريد له وللمسلمين السلامة ، أو هو مثل اعتذار دول الاستعمار بأنه لا مناص لهم من تحمل التبعة الملقاة على عاتقهم بإزاء الامم التي يحتلون بلادها ويهيمنون عليها وعلى مرافقها ومقومات حياتها » (1)

وعبد الوهاب النجار قد عرف بالتعصب لبني أميّة والتنكر لاهل البيت ، ولم يوفق في كثير من بحوثه فقد اعتمد على الموضوعات والمختلقات ولم يمعن النظر فيها ، وقد تجرأ بهذه الكلمات القاسية على الامام امير المؤمنين فقد شبهه بالدول الاستعمارية الظالمة التي نشرت الجور والظلم في الارض والامام أمير المؤمنين هو الذي بسط العدالة والمساواة ونشر جميع القيم الانسانية فى دور حكمه ، ولم يعهد في تأريخ الانسانية حاكم مثله في عدله وتحرجه وعدم انخداعه بمظاهر الملك والسلطان ، فقد دخل عليه ابن عباس وهو يخصف نعله بيده فقال له :

- يا ابن عباس ، ما قيمة هذا النعل؟

- لا قيمة له يا أمير المؤمنين

- واللّه لهى أحب إلي من أمرتكم ، إلا أن أقيم حقا أو ادفع باطلا هذا هو نظر الامام الى الحكم فهو عنده وسيلة لاقامة الحق ودحض الباطل ، ولو كان يروم الحكم لما فاز بالخلافة عثمان كما ذكرنا ذلك في

ص: 395


1- الخلفاء الراشدون : ص 414 ، وقد بسط القول فى الرد عليه السيد سعيد الافغاني في كتابه عائشة والسياسة ص 96.

بحث الشورى ، فكيف يصح أن يشبه بالدول الاستعمارية الكافرة ، وهو نفس النبي ووصيه وباب مدينة علمه؟!!

التقاء الفريقين :

وتحركت كتائب الامام من ذي قار تجد السير حتى انتهت الى الزاوية (1) فنزل الامام فصلى فيها اربع ركعات ولما فرغ من صلاته جعل يعفر خده الشريف على التربة وهو يبكي ، ثم رفع يديه بالدعاء الى اللّه قائلا :

« اللّهم ، رب السموات وما أظلت ، والارضين وما أقلت ، ورب العرش العظيم ، هذه البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرها ، اللّهم انزلنا فيها خير منزل ، اللّهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا علي ، ونكثوا بيعتي ، اللّهم احقن دماء المسلمين .. » (2)

ولما استقر الامام بعث بالوقت عبيد اللّه بن عباس ، وزيد بن صوحان الى عائشة يدعوها إلى حقن الدماء وجمع كلمة المسلمين ، وقال لهما :

قولا لها :

« إن اللّه أمرك ان تقري في بيتك وأن لا تحرجي منه ، وانك لتعلمين ذلك غير أن جماعة قد أغروك ، فخرجت من بيتك ، فوقع الناس لاتفاقك معهم في البلاء والعناء ، وخير لك أن تعودي الى بيتك ولا تحومي حول الخصام والقتال ، وإن لم تعودي ولم تطفئ هذه النائرة فانها سوف تعقب

ص: 396


1- الزاوية : موضع قريب من البصرة ، وبه كانت الواقعة المشهورة بين الحجاج وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، معجم البلدان 4 / 37
2- مروج الذهب 2 / 254

القتال ، ويقتل فيها خلق كثير فاتقي اللّه يا عائشة وتوبي الى اللّه فان اللّه يقبل التوبة من عباده ويعفو. وإياك أن يدفعك حب عبد اللّه بن الزبير وقرابة طلحة الى أمر يعقبه النار .. ».

ولو وعت عائشة هذه النصيحة وارتدعت عما هي عليه لعادت بخير عميم على الأمة ، ولكنها جعلت ذلك دبر أذنيها ، وقالت للرسولين :

إني لا ارد على ابن ابي طالب بالكلام لأني لا أبلغه فى الحجاج » (1)

إنها لا ترده بالكلام لأنها ليست لها حجة تدلى بها في الدفاع عن نفسها ، وبعث الامام برسالة الى طلحة والزبير يدعوهما فيها الى الوئام ونبذ الشقاق وهذا نصها :

« أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى بايعوني وإنكما ممن أرادنى وبايعني ، وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر ، وان كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا الى اللّه من قريب ، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة ، وإسراركما المعصية ، ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان ، وان دفعكما هذا الامر من قبل أن تدخلا فيه كان اوسع عليكما من خروجكما منه بعد اقراركما به ، وقد زعمتما اني قتلت عثمان فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة ، ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل ، فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما ، فان الآن اعظم امركما العار من قبل أن يجتمع العار والنار .. » (2)

ولم يستجيبا لنداء الحق واصرا على الفساد والتمرد والبغي ، واعلنا مقاومة الامام ومناجزته.

ص: 397


1- تأريخ ابن اعثم ص 175
2- نهج البلاغة 3 / 122

خطاب ابن الزبير :

وكان عبد اللّه بن الزبير من اشد المحرضين الى اثارة الفتنة ، واراقة الدماء ، وقد افسد جميع الوسائل التي صنعها امير المؤمنين لتحقيق السلم ، وقد خطب في جموع البصريين ودعاهم الى الحرب ومناجزة الامام وهذا نص خطابه :

« أيها الناس ، ان علي بن أبي طالب قتل الخليفة بالحق عثمان ، ثم جهز الجيوش إليكم ليستولي عليكم ، ويأخذ مدينتكم ، فكونوا رجالا تطلبون بثأر خليفتكم ، واحفظوا حريمكم ، وقاتلوا عن نسائكم وذراريكم وأحسابكم وانسابكم ، أترضون لأهل الكوفة ان يردوا بلادكم ، اغضبوا فقد غوضبتم ، وقاتلوا فقد قوتلتم ، ألا وإن عليا لا يرى معه في هذا الأمر أحدا سواه واللّه لئن ظفر بكم ليهلكن دينكم ودنياكم .. »

وحفل خطابه بالمغالطات والاكاذيب ، واثارة النعرات والعصبيات ضد امير المؤمنين ، وهو يعلم - من دون شك - كذب ما قاله ولكن نفسه سولت له ذلك طمعا بالامرة والسلطان.

خطاب الحسن :

وبلغ الامام أمير المؤمنين خطاب ابن الزبير فاوعز الى ولده الحسن بالرد عليه فقام الحسن خطيبا فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال :

« قد بلغتنا مقالة ابن الزبير في أبي وقوله فيه : إنه قتل ، عثمان ، وانتم يا معشر المهاجرين والانصار وغيرهم من المسلمين علمتم بقول الزبير في عثمان ، وما كان اسمه عنده ، وما كان يتجنى عليه ، وان طلحة

ص: 398

يومذاك ركز رايته على بيت ماله وهو حي ، فانى لهم أن يرموا أبى بقتله وينطقون بذمه ، ولو شئنا القول فيهم لقلنا.

وأما قوله : إن عليا ابتز الناس أمرهم ، فان أعظم حجة لأبيه زعم أنه بايعه بيده ولم يبايعه بقلبه ، فقد أقر بالبيعة وادعى الوليجة فليأت على ما ادعاه ببرهان وانى له ذلك؟

وأما تعجبه من تورد أهل الكوفة على أهل البصرة ، فما عجبه من أهل حق توردوا على أهل باطل.

أما انصار عثمان فليس لنا معهم حرب ولا قتال ، ولكننا نحارب راكبة الجمل واتباعها .. » (1)

واندفع عمرو بن أحيحة فابدى اعجابه البالغ بخطاب الامام فقال :

حسن الخير يا شبيه أبيه *** قمت فينا مقام خير خطيب

قمت بالخطبة التي صدع الل *** ه بها عن أبيك أهل العيوب

وكشفت القناع فاتضح الامر *** وأصلحت فاسدات القلوب

لست كابن الزبير لجلج في القو *** ل وطأطأ عنان فسل مريب

وأبى اللّه أن يقوم بما قا *** م به ابن الوصي وابن النجيب

ان شخصا بين النبي - لك الخير - وبين الوصي غير مشوب (2)

لقد فند الامام ابو محمد مزاعم ابن الزبير ، ورد عليه اكاذيبه فان الذي اشعل نار الفتنة على عثمان انما هو الزبير وطلحة وعائشة ، وليس للامام امير المؤمنين ضلع في ذلك ، كما اوضحناه في البحوث المتقدمة

ص: 399


1- الجمل ص 158 - 159
2- شرح النهج 1 / 146 ، ط دار احياء الكتب العربية

الدعوة الى كتاب اللّه

وبذل الامام قصارى جهوده فى تدعيم السلم وعدم ايقاع الحرب والدعوة الى العمل بما في كتاب اللّه فقد رفع المصحف بيمينه وجعل يطوف به بين أصحابه وفي نفسه بقية امل في الصلح قائلا :

« أيكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه؟ .. فان قطعت يده أخذه بيده الأخرى ، وإن قطعت أخذه باسنانه ، وهو مقتول .. »

فنهض إليه فتى كوفي ونفسه تفيض حماسا ونبلا فقال له :

« أنا له يا أمير المؤمنين »

فأشاح الامام بوجهه عنه برهة ، وطاف في أصحابه ينتدبهم لمهمته فلم يجبه أحد سوى ذلك الفتى النبيل فدفع له المصحف وقال له :

« اعرض عليهم هذا ، وقل هو بيننا وبينكم ... واللّه في دمائنا ودمائكم. »

وانطلق الفتى مزهوا لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب وهو يلوح بالمصحف أمام عسكر عائشة يدعوهم الى العمل بما فيه ، ويدعوهم الى الأخوة والوئام ، فتنكروا له ، فقد دفعتهم الانانية وكراهية الحق الى الفتك به فقطعوا يمناه ، فأخذ المصحف بيساره وهو يدعوهم الى العمل بكتاب اللّه فعدوا عليه ثانيا فقطعوا يساره فأخذ المصحف باسنانه وقد اغرق في الدماء ، وهو يدعوهم فى آخر مراحل حياته الى السلم والصلح وحقن الدماء قائلا :

« اللّه في دمائنا ودمائكم »

فانثالوا عليه وهم مصرون على الغي والعناد فرشقوه بنبالهم فوقع على الارض جثة هامدة وانطلقت أمه ترثيه.

يا رب إن مسلما أتاهم *** يتلو كتاب اللّه لا يخشاهم

ص: 400

فخضبوا من دمه لحاهم *** وأمه قائمة تراهم (1)

ولم يجد الامام بعد هذا الاعذار وسيلة سوى الحرب فقال لاصحابه « الآن حل قتالهم وطاب لكم الضراب. » (2)

اعلان الحرب :

ودعا الامام بعد مقتل سفيره قادة جيشه فأقامهم على أماكنهم ، وعبأ الجنود للحرب وقد رسم لهم خطة تمثلت فيها الفضيلة والرحمة والعدل فقد قال لهم :

« أيها الناس .. إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيرا ، ولا تتبعوا موليا ، ولا تطلبوا مدبرا ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ولا تهتكوا سترا ولا تقربوا من أموالهم إلا ما تجدونه في معسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد او امة ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب اللّه .. »

واعتلت عائشة جملها المسمى بعسكر ، وقد البسوه المسوح ، وجلود البقر ، وجعلوا دونه اللبود (3)

ولها القيادة العامة فهي التي تنظم العساكر وتصدر الأوامر ، ووجه جيشها النبل الى معسكر الامام فقتل بعض اصحابه ، فلم يجد بعد ذلك بدا من الحرب فتقلد الامام سيفه ، ودفع الراية الى ولده محمد (4) وقال للحسن

ص: 401


1- مروج الذهب 2 / 246
2- الطبري 5 / 204
3- اللبود : - جمع مفردها اللبد - الكساء من الشعر ، وبساط من الشعر.
4- محمد بن علي بن ابي طالب الهاشمي المعروف بابن الحنفية ، أمه خولة بنت جعفر الحنفية ، قال ابراهيم بن الجنيد لا نعلم احدا اسند عن علي اكثر ولا اصح مما اسند محمد قال ابو نعيم توفي سنة ثمانين خلاصة تهذيب الكمال ص 21.

والحسين : انما دفعت الراية الى أخيكما وتركتكما لمكانكما من رسول اللّه وانطلق محمد الى ساحة الوغى بعزم ثابت ونفس جياشة وهو يطلب الظفر والنصر ، ولكن سهام القوم قد مطرت عليه من كل جانب فتريث عن المسير برهة فلم يشعر الا ويد أبيه تدفعه من الخلف وهو يقول له بنبرات تقطر حماسا :

« أدركك عرق من امك! »

ثم خطف الراية من يده وهزها في وجهه وهو يقول له :

اطعن بها طعن أبيك تحمد *** لا خير في الحرب إذا لم توقد

بالمشرفي والقنا المسدد

لم يكن موقف محمد خورا وجبنا وانما هو من دهاء القائد المحنك الذي أراد أن يبلغ الغاية بعد أن تنكشف عنه سهام القوم ، ولم يرد أمير المؤمنين بفعله الا ليرى أهل البصرة فى بداية الحرب الحزم والعزم والبسالة لعلهم عن غيهم يرتدعون.

وحمل الامام على القوم وقد رفع العلم بيسراه ، وشهر فى يمينه ذا الفقار الذي حارب به الملحدين والمشركين على عهد رسول اللّه واليوم يحارب به المارقين من الدين والمنحرفين عن الاسلام ، واحتف به اعلام المهاجرين والانصار فكان العدو أمام بواترهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف مصرع الزبير :

وخرج أمير المؤمنين حاسرا بين الصفوف فنادى باعلا صوته :

ص: 402

« أين الزبير.؟ »

فخرج إليه الزبير وهو شاك في سلاحه فلما رآه اعتنقه وقال له :

- يا أبا عبد اللّه ما جاء بك هاهنا؟؟

- جئت أطلب دم عثمان

فرمقه بطرفه وقال له بنبرة المستريب.

- تطلب دم عثمان؟!!

- نعم

- قتل اللّه من قتل عثمان

واقبل عليه يحدثه برفق ، ويذكره بما نساه قائلا :

« أنشدك اللّه يا زبير ، هل تعلم أنك مررت بي وأنت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو متّكئ على يدك ، فسلم علي رسول اللّه وضحك إلي ، ثم التفت إليك فقال لك : يا زبير إنك تقاتل عليا وأنت له ظالم. »

فاطرق الزبير ، وقد غاض لونه ، وذاب قلبه أسى وحسرات ، وندم على ما فرط من أمره وقال للامام :

- اللّهم نعم

- فعلام تقاتلني؟

- نسيتها واللّه ، ولو ذكرتها ما خرجت إليك ، ولا قاتلتك (1)

- ارجع

- وكيف ارجع وقد التقت حلقتا البطان ، هذا واللّه العار الذي لا يغسل؟؟

- ارجع قبل أن تجمع العار والنار

ص: 403


1- الامامة والسياسة 1 / 73

فانصرف وهو يقول :

اخترت عارا على نار مؤججة *** ما إن يقوم لها خلق من الطين

نادى على بأمر لست أجهله *** عار لعمرك في الدنيا وفي الدين

فقلت حسبك من عدل أبا حسن *** فبعض هذا الذي قد قلت : يكفيني (1)

وعزم على الانسحاب من هذه الفتنة الا انه أراد أن يخرج منها بسلام فقال لعائشة :

« يا أم المؤمنين ... إني واللّه ما وقفت موقفا قط إلا عرفت اين أضع قدمي فيه إلا هذا الموقف؟ فاني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر ..؟ »

عرفت عائشة خبيئته ، وما يرومه في حديثه من الانسحاب ، فالتفتت إليه وكانت عارفة بما يثيره وينقض عزيمته فقالت له باستهزاء.

« يا أبا عبد اللّه .. خفت سيوف بنى عبد المطلب؟! »

وعاثت هذه السخرية في نفسه ، وزاد في اضطرابه وقلقه وارجاعه الى ساحة التمرد ابنه المشوم عبد اللّه فقد قال له :

« إنك خرجت على بصيرة ، ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت أن تحتها الموت فجبنت؟! »

لقد اتهمه ابنه بالحور والجبن وهو عار وذل ومنقصة عليه فالتفت إليه وقد مشت الرعدة باوصاله فقال له :

- ويحك إني قد حلفت له أن لا أقاتله؟

- كفر عن يمينك بعتق غلامك سرجس.

فاعتق غلامه (2) ثم انعطف يجول فى الميدان ليرى عائشة وابنه

ص: 404


1- مروج الذهب 2 / 247
2- تأريخ الطبري 5 / 200 وجاء فيه ان عبد الرحمن بن سليمان التميمي قال متعجبا من فعل الزبير!! لم ار كاليوم اخا اخوان *** اعجب من مكفر الايمان بالعتق من معصية الرحمن وقال رجل آخر من شعرائهم يعتق مكحولا لصون دينه *** كفارة لله عن يمينه والنكث قد لاح على جبينه

شجاعته وبسالته وعدم مبالاته بحتفه ، فشد في الميسرة ، ثم رجع فشد في القلب ، ورجع الى ابنه وقال له :

« ايفعل هذا جبان؟؟ »

ومضى منصرفا حتى أتى ( وادي السباع ) وكان الاحنف بن قيس مع قومه مقيمين فيه ، فقالوا له : هذا الزبير قد اجتاز فقال : ما اصنع بالزبير؟ وقد جمع بين فئتين عظيمتين من الناس يقتل بعضهم بعضا؟ ولحقه نفر من بنى تميم فسبقهم إليه عمرو بن جرموز ، وقد نزل الزبير الى الصلاة فقال : أتؤمنى أو أؤمك؟ فأمه الزبير ، فقتله عمرو بن جرموز وهو فى حال صلاته(1)

لقد كانت النهاية الأخيرة من حياة الزبير مشفوعة بالغدر والخيانة والتمرد على الحق وهو مما يؤسف له ، فله ماضيه الزاهر الحافل بالمكرمات والفضائل فهو صاحب حلف الفضول الذي كان شعاره مناصرة المظلوم فما باله في هذه المرحلة قد تنكر لأمير المؤمنين ونسيى ظلامته ، فقد ابتزت حقه تيم تارة وعدى أخرى وأمية ثالثة ، وقد جاء هو لينتزع منه حقه.

انه مما يؤسف على الزبير أن تكون له هذه النهاية المؤلمة وهو صاحب

ص: 405


1- مروج الذهب 2 / 247

المواقف الكريمة الذي جلى بسيفه الكرب عن وجه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ووقف من بعده ، مع أمير المؤمنين يحمي جانبه ويهتف بفضله ويقدمه على غيره فما الذي حداه على الخروج عليه فهل استأثر ابن أبى طالب باموال المسلمين وهل ادخر وفرا لنفسه ولعياله حتى يناجزه ويخرج عليه؟

الاحتفاف بعائشة :

واستطابت الموت واستلذته بعض القبائل العربية في سبيل عائشة فقدموا لها الضحايا والقرابين ، وبالغوا في حمايتها والدفاع عنها وهم :

أ - الأزد

وهامت الازد بحب عائشة ، وتفانت في ولائها ، فكانوا يأخذون بعر جملها يشمونه ويقولون : بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك (1) وقد هبوا للدفاع عنها مستميتين ، وقد انطلق شيخ في المعركة يستنجد بهم لما رأى من عظيم ولائهم واخلاصهم لها فقد خاطبهم قائلا :

يا معشر الأزد عليكم امكم *** فانها صلاتكم وصومكم

والحرمة العظمى التي تعمكم *** فاحضروها جدكم وحزمكم

لا يغلبن سم العدو سمكم *** إن العدو إن علاكم زمكم

وخصكم بجوره وعمكم *** لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم (2)

واحتفوا بهودجها ، وامسكوا بخطام « عسكرها » فبهرت عائشة وقالت!

- من انتم؟

ص: 406


1- تأريخ ابن الاثير 3 / 97
2- شرح النهج 1 / 254.

فاخذت تلهب في نفوسهم روح الحماس وتدفعهم الى الموت قائلة :

« إنما يصبر الأحرار .. ما زلت أرى النصر مع بني ضبة! »

واشعلت هذه الكلمات نار الثورة فى نفوسهم فاندفعوا إلى الموت ، وقاتلوا أشد القتال في سبيلها (1)

ب - بنو ضبة

وبنو ضبة من أرذال العرب وأوباشهم ، وكانوا غلاظ القلوب والطباع ، قد أترعت نفوسهم بروح الجاهلية ومساوئها ، وقد وهبوا أرواحهم بسخاء لعائشة ، وأحاطوا بجملها مستميتين وهم يقولون :

يا أمنا يا زوجة النبي *** يا زوجة المبارك المهدي

نحن بنو ضبة لا نفر *** حتى نرى جماجما تخر

يخر منها العلق المحمر

ووقفوا صامدين حتى قطعت أيديهم وبدرت رءوسهم ، واتخذوا في ذلك اليوم دم عثمان شعارا لهم فكانوا يقاتلون اعنف القتال وأشده وشاعرهم يرتجز ويقول :

نحن بنو ضبة أصحاب الجمل *** ننازل القرن اذا القرن نزل

والقتل اشهى عندنا من العسل *** نبغي ابن عفان بأطراف الأسل

ردوا علينا شيخنا ثم بجل

وقتل حول خطامها اربعون رجلا منهم ، وكانت عائشة تقول : ما زال جملي معتدلا حتى فقدت اصوات بني ضبة.

ج - بنو ناجية

ص: 407


1- شرح النهج 2 / 81

ومن القبائل التي فتنت بحب عائشة بنو ناجية ، فقد انطلقوا الى ساحة الموت في سبيلها فأخذوا بخطام جملها فسألت عنهم؟ فقيل لها بنو ناجية فأخذت تستفز حميتهم ، وتقذف بهم فى لظى الحرب قائلة :

« صبرا يا بنى ناجية. فاني اعرف فيكم شمائل قريش .. » (1)

هذه بعض القبائل التي قدمت المزيد من الضحايا في سبيل عائشة ، قد غرتهم امهم وفتنتهم في سبيل أطماعها واحقادها.

عقر الجمل :

واستمر اعنف القتال بين الفريقين يريد أصحاب أمير المؤمنين أن يحموا امام المسلمين ووصيي نبيهم ويريد أصحاب عائشة أن يحموا أمهم ويموتوا دونها حتى شاعت المقتلة بينهما ، ورأى امير المؤمنين ان الحرب لا تنتهي ما دام الجمل موجودا ، فدعا بعمار وبالاشتر فلما مثلا بين يديه قال لهما.

« اذهبا فاعقرا هذا الجمل فان الحرب لا يخمد ضرامها ما دام حيا!!! فانهم قد اتخذوه قبلة لهم. »

انطلق الأشتر وعمار ومعهما فتية من مراد فوثب فتى يعرف بمعمر ابن عبد اللّه (2) الى الجمل فضربه على عرقوبه فهوى الى الارض وله عجيج منكر لم يسمع مثله ، وتفرق اصحاب عائشة فقد تحطم الصنم الذي

ص: 408


1- شرح النهج
2- وقيل غيره هو الذي عقره وفي رواية ان الامام دعا ولده محمد بن الحنفية فاعطاه رمحا وقال له : اقصد بهذا الرمح الجمل فذهب فحال القوم بينه وبينه فرجع ولم يظفر ببغيته فاخذ الحسن الرمح من يده وقصد الجمل فطعنه.

قدموا له القرابين ، وأمر الامام بحرقه وتذرية رماده في الهواء لئلا تبقى منه بقية يفتتن بها السذج والبسطاء وبعد ما فرغ من ذلك قال :

« لعنه اللّه من دابة. فما اشبهه بعجل بني اسرائيل!! »

ومد بصره الى الرماد الذي اخذه الريح فتلا قوله تعالى : « وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في أليم نسفا » (1)

الصفح عن عائشة :

وقابل الامام عائشة بالاحسان والصفح الجميل فبعث إليها أخاها محمدا يسألها عن حالها فانطلق إليها محمد فادخل يده في هودجها فجفلت مرعوبة منه وصاحت به :

- من أنت؟

- ابغض أهلك إليك

عرفته في الوقت فقالت له ونفسها مترعة بالكراهية له والحقد عليه :

- ابن الخثعمية؟

- نعم أخوك البر

- عقوق

وأزاحت بوجهها عنه ، والتفت إليها يسألها برفق ولين :

- هل أصابك مكروه؟

- سهم لم يضرني

فانتزعه منها ، وأخذ بخطام هودجها ، وادخلها في الربع الأخير

ص: 409


1- سورة طه : آية 97

من الليل الى دار عبد اللّه بن خلف الخزاعي (1) على صفية بنت الحارث (2) فاقامت هناك اياما.

العفو العام :

واصدر الامام اوامره بالعفو عن جميع اعدائه ، والمعارضين له ، وطلبت عائشة ان يؤمن ابن اختها عبد اللّه بن الزبير وهو من ألد اعدائه فاجابها إلى ذلك ، وتكلم معه الحسن والحسين فى شأن مروان فآمنه وعفا عنه ونادى مناديه :

« ألا لا يجهز على جريح ، ولا يتبع مول ، ولا يطعن في وجه مدبر ومن القى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .. »

ثم آمن الاسود والأحمر - على حد تعبير اليعقوبي - (3) ولم ينكل بأحد من خصومه ، وبذلك فقد انتشر السلام وعم الهدوء في جميع ربوع البصرة

تسريح عائشة :

وبعث أمير المؤمنين عبد اللّه بن عباس الى عائشة لتخرج من البصرة الى يثرب فتقر فى بيتها كما أمرها اللّه فانطلق إليها ابن عباس واستأذن

ص: 410


1- عبد اللّه بن خلف بن اسعد الخزاعي والد طلحة الطلحات قال ابو عمر : لا اعلم له صحبة ، كان كاتبا لعمر بن الخطاب على ديوان البصرة ، قتل في واقعة الجمل وكان من حزب عائشة واخوه عثمان من اصحاب الامام ، الاصابة 2 / 303
2- صفية بنت الحارث بن طلحة قتل ابوها يوم بدر كافرا ، وهي زوج عبد اللّه بن خلف وأم طلحة الطلحات ، الاصابة 4 / 346
3- تأريخ اليعقوبي 2 / 159

منها فأبت أن تأذن له فدخل بغير أذن وهوى الى متاعها فأخرج منه وسادة فجلس عليها ، فتأثرت منه وقالت له :

« تاللّه يا ابن عباس .. ما رأيت مثلك تدخل بيتنا وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا!! »

فانبرى إليها ابن عباس وهو فياض المنطق قائلا :

« واللّه ما هو بيتك ، ولا بيتك الا الذي أمرك اللّه أن تقرى فيه فلم تفعلي ، إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي الى بلدك الذي خرجت منه. »

فاظهرت كوامن غيظها وبغضها للامام فقالت :

- رحم اللّه أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطاب.

- نعم. وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

- أبيت ، أبيت

- ما كان إباؤك إلا فواق ناقة بكيئة (1) ثم صرت ما تحلين ولا تمرين ولا تأمرين ولا تنهين.

فالتاعت من كلامه وأرسلت ما في عينيها من دموع ، ثم قالت له :

« نعم ارجع فان ابغض البلدان الي بلد انتم فيه. »

فثار ابن عباس من كلامها ورد عليها :

« أما واللّه ما كان ذلك جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين أما ، وجعلنا أباك لهم صديقا. »

فاجابته باسخف القول

ص: 411


1- الفواق : الوقت ما بين الحلبتين فان الناقة تحلب ثم تترك ليرضعها الفصيل حتى تدر فتحلب ، البكيئة : الناقة التي قل لبنها.

« أتمن علي برسول اللّه؟!! »

وما ابعد هذا القول عن منطق الايمان فمن تكون هي لو لا رسول اللّه فبسببه علا لها نجم وصار لها ذكر ، وقد انبرى ابن عباس فرد عليها منطقها الرخيص قائلا :

« نمن عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننت به علينا!! »

وتركها وانصرف فاخبر الامام بحديثه معها ، وباستجابتها لقوله فشكره الامام على ذلك (1) ولما عزمت على الخروج جهزها الامام باحسن جهاز واعد لها قافلة كاملة لا ينقصها شيء ، وفي اليوم المقرر لسفرها دخل عليها ومعه الحسن والحسين فلما رأينه النسوة بكين وصحن في وجهه ، والتفتت إليه صفية ربه الدار فقالت له :

يا قاتل الأحبة. يا مفرق الجماعات. أيتم اللّه بنيك منك كما ايتمت بنى عبد اللّه .. »

اجابها الامام : لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذا البيت ، وأشار الى بيت فى دارها قد اختفى فيه فريق من أعدائه وخصومه ، وأراد من كان معه الهجوم عليهم فمنعهم من ذلك ، وجرى بعد ذلك حديث بين الامام وعائشة فقالت له : إني احب أن أقيم معك فاسير إلى قتال عدوك ، فابى الامام وأمرها أن تقر في البيت الذي تركها فيه رسول اللّه ولو أراد السياسة الوقتية لأجابها إلى ذلك ولكنه منبع التقوى والايمان أراد أن يسير معها على وفق الشريعة الاسلامية التي تلزم المرأة بالحجاب وبالعمل لتهذيب نفسها واصلاح منزلها ، وليس لها باي حال أن تدخل في المعمعات الحزبية والمعتركات السياسية ، ورحلت عائشة من البصرة وقد

ص: 412


1- العقد الفريد 3 / 103 - 104.

اسكنت بيوتها الثكل والحزن والحداد ، وروعت المسلمين وأشاعت القتل فيما بينهم فقد كان عدد الضحايا بسببها عشرة آلاف نصفهم من اصحابها والنصف الآخر من أصحاب الامام (1) وقد دمرت بخروجها على الامام وشائج الصلات بين المسلمين ، ونسفت أواصر الأخوة الاسلامية التي عقدها الرسول الكريم ، وفتحت باب الفتن والشر بين أمة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) كما مهدت العصيان لمعاوية وبني أميّة ، وعبدت لهم الطريق ليتخذوا من دم عثمان وسيلة الى الظفر بالحكم وإلى استعباد المسلمين واذلالهم.

لقد اجمع أئمة المسلمين على تأثيم القائمين بهذا التمرد وانه لا مبرر له بحال من الاحوال كما نعتوهم بالبغاة وان الواجب الديني يقضي بمناجزتهم عملا بقوله تعالى : ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ ) يقول أبو حنيفة :

« وما قاتل أحد عليا الا وعلي أولى بالحق منه ، ولو لا ما سار علي فيهم ما علم أحد كيف السيرة فى المسلمين. ولا شك ان عليا إنما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه ، وفى يوم الجمل سار على فيهم بالعدل ، وهو علم المسلمين فكانت السنة في قتال أهل البغي » (2)

وقال ابن حجر :

« ان أهل الجمل وصفين رموا عليا بالمواطاة مع قتلة عثمان وهو برىء من ذلك وحاشاه واضاف يقول : ويجب على الامام قتال البغاة لاجماع الصحابة عليه ولا يقاتلهم حتى يبعث إليهم أمينا عدلا فطنا ناصحا يسألهم عما ينقمونه على الامام تأسيا بعلي (عليه السلام) فى بعثه ابن عباس الى

ص: 413


1- تأريخ الطبري 5 / 224 وقيل ان عدد القتلى اكثر من ذلك
2- مناقب ابي حنيفة للخوارزمي 2 / 82 - 83

الخوارج بالنهروان » (1)

وقال امام الحرمين الحويني : « كان على بن أبي طالب امام حق في توليته ومقاتلوه بغاة » (2)

ان الشريعة الاسلامية تلزم بمناجزة الخارجين على السلطة الشرعية لان في خروجهم تصديعا لوحدة المسلمين ، وتدميرا لاخوتهم.

لقد مرت هذه الحادثة الرهيبة على الامام الحسن وقد عرفته باضغان القوم وأحقادهم على أبيه ، وقد كان فى تلك الموقعة البطل الوحيد والقائد المحنك الذي استطاع أن يحفز الجماهير ويجهزهم لقتال القوى الباغية على أبيه ، وبهذا ينتهى بنا المطاف عن مشكلة البصرة لنلتقى به في موقعة صفين

ص: 414


1- تحفة المحتاج للنووى 4 / 110
2- الارشاد في اصول الاعتقاد ص 433

فى صفّين

اشارة

ص: 415

ص: 416

تمر بعض الحوادث في دنيا الوجود وتذهب من دون أن تترك أثرا مهما يذكره التأريخ وإن كان لها في وقتها من الخطورة شأن كبير ، وتمر بعض الحوادث الأخرى في ميدان الحياة فتبقى خالدة خلود الدهر لأنها تركت أثرا اجتماعيا عاد بالخير العميم على الانسان ، وتجتاز بعض الحوادث على مسرح الحياة فتملأ الدنيا بالمآسي والخطوب وتعود بشقاء الانسان واستعباده ، من هذه الحوادث المفجعة والرزايا المؤلمة حادثة صفين التي تجسم فيها الصراع بين الحق والباطل ، وبين العدل والجور والظلام والنور وبين الخلافة الدينية التي تنشد صالح الانسان واسعاده. وبين الحكم الفوضوي الذي لا يهدف إلا إلى الإثرة والاستغلال والمتاجرة بمصالح الشعوب.

إن الشعوب الاسلامية لم تقرر مصيرها الحاسم في وقعة صفين فقادها ذلك الى الاستعباد والاذلال والخضوع للظلم والجور ، وقد المع الى ذلك الاستاذ مالك الجزائري في ايضاحه للاسس القويمة التي تبناها مؤتمر ( باندونج ) اذ يقول :

ولقد عرف التأريخ الاسلامي لحظة كهذه - اي فى تقرير حق المصير - في معركة صفين تلك الحادثة الموسفة المؤثرة التي نتج عنها التذبذب في الاختيار ، الاختيار الحتم بين علي ومعاوية ، بين المدينة ودمشق ، بين الحكم الديمقراطي الخليفي والحكم الاسري ، ولقد اختار المجتمع الاسلامي في هذه النقطة الفاصلة في تأريخه الطريق الذي قاده اخيرا الى القابلية للاستعمار والى الاستعمار » (1)

لقد انخذل المجتمع الاسلامى في حادثة صفين فلم يقرر مصيره الحاسم فانتج ذلك خذلان الامام أمير المؤمنين وارغام الامام الحسن من بعده على

ص: 417


1- فكرة الافريقية الآسيوية ، في ضوء مؤتمر باندونج / 111

الصلح ، وتسلم الامويين لقيادة الحكم في البلاد فامعنوا في قتل الاخيار ومطاردة المصلحين واشاعة الظلم والجور في الأرض ، وعلينا أن نتبين فصول هذه المأساة - بايجاز - وننظر الى متاركها الفظيعة وهي :

تمرد معاوية :

واعلن معاوية التمرد على حكومة الامام ، ورفض البيعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون اما بواعث عصيانه فهي ما يلي :

1 - لقد علم معاوية أن الامام لا يقره في منصبه ، ولا بد أن يجرده من جميع امواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين ، ولو كان يحتمل أنه يبقيه على حاله ويقره على بذخه واسرافه لما اعلن العصيان والخروج عليه إن الامام لا يداهن في دينه ، ولا يطلب النصر بالجور ، ولا يقر الظلم ، وهو حتف الظالمين والمعتدين فكيف يبقى معاوية في جهاز الحكم ، وهو يعلم أنه لا واقعية له ولا حريجة له في الدين ، وقد اصدر في اليوم الأول من خلافته عزله عن مقره ، وقد كتب إليه معاوية يسأله أن يبقيه على حاله أو يجعله واليا على مصر فامتنع من اجابته ، وقد لام عقبة بن أبي معيط معاوية على ذلك وكتب له رسالة جاء فيها.

معاوية إن الشام شامك فاعتصم *** بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا

فان عليا ناظر ما تجيبه *** فأهد له حربا تشيب النواصيا

وحام عليها بالصوارم والقنا *** ولاتك مخشوش الذراعين واصيا

والا فسلم ان فى الأمن راحة *** لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وان كتابا يا ابن حرب كتبته *** على طمع جان عليك الدواهيا

سألت عليا فيه ما لا تناله *** ولو نلته لم تبق إلا لياليا

ص: 418

الى أن ترى منه الذي ليس بعدها *** بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا

ومثل علي تغترره بخدعة *** وقد كان ما خربت من قبل بانيا

ولو نشبت أظفاره فيك مرة *** فراك ابن هند بعد ما كنت فاريا (1)

إن معاوية ومن يمت به يعلمون اتجاه الامام وأهدافه الرامية الى تحقيق العدل في البلاد والقضاء على الغبن الاجتماعي واقصاء الظالمين عن مراكزهم ، وانهم سيعودون في ظل حكومته نكرات لا امتياز لهم كما كانوا فى عهد الرسول فلذا اعلنوا عليه البغي حفظا على مصالحهم الضيقة.

2 - ورأى معاوية أن له قوة على مقاومة الامام ومناجزته وذلك لما له من النفوذ والمكانة في بلاده فانه لم يعمل فيها عمل وال يظل واليا طول حياته ويقنع بهذا المنصب ثم لا يتطاول إلى ما وراءه ولكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها ويدعمها له ولا بنائه من بعده فجمع الأقطاب ، واشترى الانصار بكل ثمن في يديه وأحاط نفسه بالقوة والثروة واستعد للبقاء الطويل (2) وقد حفزته هذه القوى التي يتمتع بها الى مناجزة الامام ومقاومته.

3 - ومما دفعه الى التمرد خروج عائشة وطلحة والزبير فقد فتحوا له الطريق ، ومهدوا له السبيل فان واقعة صفين انما هي امتداد لحرب الجمل ، ونتيجة من نتائجها فلو لا خروجهم واعلانهم للعصيان وتطبيلهم بدم عثمان لما استطاع معاوية أن يشق الكلمة ويخرج على الامام ويناجزه الحرب.

ص: 419


1- تأريخ ابن كثير 8 / 129
2- عبقرية الامام علي ص 115.

4 - وشيء آخر جدير بالاهتمام علل به معاوية عصيانه وخروجه على النظام القائم وذلك في رسالته التي بعثها لمحمد بن أبي بكر وقد جاء فيها

« كان ابوك وفاروقه أول من ابتزه - يعني عليا - حقه وخالفاه على امره ، على ذلك اتفقا واتسقا ثم دعواه الى بيعتهما فابطأ عنهما وتلكأ عليهما فهما به الهموم واردا به العظيم ، ثم انه بايع لهما وسلم لهما ، وأقاما لا يشاركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما اللّه ... واضاف يقول : فان يك ما نحن فيه صوابا فابوك استبد به ونحن شركاؤه ولو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا إليه ولكن رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا واخذنا بمثله .. » (1)

وهو تعليل وثيق للغاية فانه لو لا منازعة الشيخين للامام وابتزازهما لحقه لما استطاع معاوية ان يخالفه ويخرج عليه ولكنه احتذى حذوهما وسار على طريقتهما فبغى على الامام وأفسد عليه جيشه وتركه في أرباض الكوفة يتمنى الموت ليستريح مما ألم به من الشؤون والشجون.

5 - ومن الامور التي حفزته على العصيان والتمرد على الامام هو المطالبة بدم عثمان فقد اتخذ قتله وسيلة الى نيل أهدافه وبلوغ أمانيه ، وقد ارصد جميع أبواق دعايته لتهويل أمره والاشادة بذكره وتنزيهه عن كل ذنب حتى انقادت له قلوب اهل الشام وأترعت نفوسهم بالحقد والكراهية للامام فاذا بهم يظهرون الحزن والاسى اكثر مما يظهر وإذا بهم يحثونه ويستعجلونه على الحرب والمطالبة بدمه اكثر مما يستعجل.

ولم يكن هناك ادنى مجال للشك في أن معاوية لا يهمه أمر عثمان ولا يقيم لمقتله وزنا فقد استنجد به لما حوصر وضويق ، وطلب منه المعونة

ص: 420


1- المسعودي على هامش ابن الاثير 6 / 78 - 79

فلم يخف لنصرته ، ولم يستجب له ولم يسعفه بشيء ، ولو كان يروم المطالبة بدمه لكان اولى الناس بالعقوبة والتنكيل مستشاره ووزيره عمرو بن العاص فهو الذي سعر الدنيا نارا على عثمان وكان يقول : « واللّه لالفى الراعى فاحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء والوجوه » (1) فمطالبته بدم عثمان ليست الا وسيلة لتحقيق غايته والظفر بالملك الذي يحلم به.

هذه بعض الاسباب والبواعث التي دعت معاوية لمناجزة الامام واعلانه للحرب عليه.

ايفاد جرير :

ولما اعلن معاوية تمرده على حكومة الامام طلب أصحاب الامام أن ينهض بهم لحربه بعد فراغهم من حرب الجمل وكأنهم أرادوا أن يحوزوا لنصرهم نصرا فابى الامام لأن خطته كانت المسالمة وايثار العافية فرأى أن يبعث إليه السفراء يدعونه الى الطاعة والدخول فيما دخل فيه الناس فاوفد للقياه جرير بن عيد اللّه البجلى (2)

ص: 421


1- شرح النهج 1 / 163
2- جرير بن عبد اللّه البجلي اختلف فى وقت اسلامه قيل انه اسلم حينما بعث النبي وقيل ان اسلامه كان قبل وفاة النبي باربعين يوما ، وقيل غير ذلك ، وكان جميل الصورة قال فيه عمر : هو يوسف هذه الامة ، وقدمه فى حروب العراق على جميع بجيلة وكان لهم الاثر فى فتح القادسية وقد سكن الكوفة ولما ارسله الامام سفيرا الى معاوية اخفق فى سفارته فاعتزل الفريقين وآثر العافية فسكن فى قرقيسيا حتى توفى بها سنة احدى وخمسين وقيل اربع وخمسين ، الاصابة 1 / 232

وزوده بهذه الرسالة :

« أما بعد فان بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لانه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد. وانما الشورى للمهاجرين والانصار فاذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا ، فان خرج من امرهم خارج بطعن او رغبة ردوه الى ما خرج منه ، فان أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه اللّه ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا ، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فان أحب الامور إلى فيك العافية ، إلا أن تتعرض للبلاء ، فان تعرضت له قاتلتك واستعنت اللّه عليك. وقد اكثرت فى قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إلىّ أحملك وإياهم على كتاب اللّه. فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن ، ولعمرى لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان. واعلم أنك من الطلقاء (1) اللذين لا تحل لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشورى. وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد اللّه ، وهو من أهل الايمان والهجرة. فبايع ولا قوة إلا باللّه (2)

وكانت هذه الرسالة رسالة حق داعية واعية. دعت الى الحق من

ص: 422


1- الطلقاء : جمع طليق ، وهو الاسير الذي اطلق سراحه ، ويراد بهم فى المقام الاسراء الذين خلى عنهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة ولم يسترقهم.
2- وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 34.

أقصر سبله ، وبأوضح أساليبه. ووعت قصة الاستخلاف التي أثارت كل هذا الخلاف ، بما سبقها وما لحقها من المقدمات والخواتيم.

وكانت فوق هذا وذاك عظة جارية ، وحكمة هادية لمن أراد الهداية وشرح اللّه صدره وفجر في فؤاده ينبوع النور ، فلم يغفل الامام فيها أمرا جرت ألسن الناس بذكره إلا بينه. ولم يدع ثغرة ينفذ منها خصمه إلا سدها دونه وما من شيء كان معاوية يستطيع أن يحتال به ، أو يدعيه حجة تؤيد خلافه وتسند انحرافه الا مد له الامام معولا من سطورها - حديدا شديدا - يدمر باطله ويقوض معاقله ، كما قال الاستاذ السيد عبد الفتاح مقصود (1) :

وطوى جرير البيداء حتى وصل الى بلاط معاوية ، فانطلق يتكلم معه قائلا :

أما بعد يا معاوية فانه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين (2) وأهل الحجاز وأهل اليمن ، وأهل العروض وعمان وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلا أهل هذه الحصون التي أنت فيها ، لو سال عليها سيل من اوديته غرقها وقد أتيتك أدعوك الى ما يرشدك ويهديك الى مبايعة الرجل (3)

ولما سمع معاوية ذلك خارت قواه وبقي مبهور النفس لم يفه بشيء ولكنه بقي يطاوله ، ويسرف في مطاولته لا يجد لنفسه مهربا سوى الامهال والتسويف ، وقد جمع في خلال تلك المدة وجوه أهل الشام وقادة الجيش فجعل يستشيرهم في

ص: 423


1- الامام على بن ابي طالب ج 4 ص 27.
2- الحرمان : مكة والمدينة ، والمصران البصرة والكوفة.
3- وقعة صفين ص 33

الخضوع لحكومة الامام والاستجابة لسفيره أو اعلان التمرد والمطالبة بدم عثمان فاظهروا له رغبتهم الملحة في الطلب بدم عثمان ، واعلان العصيان على حكومة الامام.

مراسلة معاوية لعمرو :

وعلم معاوية أن الامر لا يتم له إلا إذا انضم إليه داهية العرب عمرو ابن العاص ليقوم بتسديده ويستعين به في مهامه ، فبعث إليه رسالة يطلب فيها قدومه إليه وهذا نصها :

« أما بعد : فانه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة ، وقدم علينا جرير بن عبد اللّه في بيعة علي ، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني أقبل أذاكرك أمرا ... »

ولما قرأ الرسالة تحير في أمره فاستشار ولديه عبد اللّه ومحمدا فقال له عبد اللّه وكان رجل صدق وصلاح.

« أرى أن نبي اللّه قبض وهو عنك راض والخليفتان من بعده ، وقتل عثمان وأنت عنه غائب ، فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة ، ولا تريد أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أو شك أن تهلك فتشقى فيها .. »

وأشار عليه عبد اللّه بالنصيحة والورع والتقوى وعدم الاستجابة لدواعي الفتن والغرور ، وأما ابنه محمد فقد فتنته الدنيا وطمع بالملك فقد قال له :

« أرى أنك شيخ قريش وصاحب أمرها ، وان تصرم هذا الامر وأنت فيه خامل تصاغر أمرك فالحق بجماعة أهل الشام فكن يدا من ايديها وأطلب بدم عثمان ، فانك قد استلمت فيه الى بني أمية .. »

وقد دفعه محمد الى هلاك آخرته واصلاح دنياه ، والتفت عمرو الى

ص: 424

ولده عبد اللّه فقال له : أما أنت فأمرتني بما هو خير في ديني؟ وقال لولده محمد : أما أنت أمرتني بما هو خير لي فى دنياى؟

حيرة وذهول :

واعتركت الدنيا والآخرة في نفس عمرو وملأت الحيرة اهابه واحاطت به الهواجس ، وقد انفق ليلا ساهرا يفكر فى الامر فهل يلتحق بمعسكر معاوية فيناجز أخا رسول اللّه ووصيه وباب مدينة علمه فيكون قد فرط في أمر دينه أو يلتحق بعلي فيكون رجلا كسائر الناس له ما لهم وعليه ما عليهم ولكنه يضمن بذلك آخرته ودينه ، وأطال التفكير فى الأمر وسمعه أهله يقول :

تطاول ليلى للهموم الطوارق *** وخوف التي تجلو وجوه العوائق

وإن ابن هند سائلي أن أزوره *** وتلك التي فيها بنات البوائق

أتاه جرير من على بخطة *** أمرّت عليه العيش ذات مضائق

فان نال منى ما يؤمل رده *** وإن لم ينله ذل ذل المطابق

فو اللّه ما ادري وما كنت هكذا *** اكون ومهما قادني فهو سائقي

أخادعه إن الخداع دنية *** أم اعطيه من نفسي نصيحة وامق

أم أقعد في بيتي وفي ذاك راحة *** لشيخ يخاف الموت في كل شارق

وقد قال عبد اللّه قولا تعلقت *** به النفس إن لم تقتطعني عوائقي

وخالفه فيه أخوه محمد *** وانى لصلب العود عند الحقائق

ودل هذا الشعر على تردده وحيرته إلا ان ابنه عبد اللّه فهم منه الاستجابة لدعوة معاوية فقال :

« بال الشيخ على عقبيه ، وباع دينه بدنياه!! »

ولما اندلع لسان الصبح دعا غلامه وردان وكان ذكيا يقرأ ما فى

ص: 425

النفوس فقال له : « حط يا وردان ، ثم قال له : ارحل ، ثم قال له حط يا وردان ».

فعرف غلامه حيرته وذهوله فقال له :

- خلطت أبا عبد اللّه؟! أما إن شئت أنبأتك بما فى نفسك؟

- هات ويحك!!

- اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : على معه الآخرة فى غير دنيا ، وفى الآخرة عوض من الدنيا. ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة وليس في الدنيا عوض الآخرة فانت واقف بينهما.

- إنك واللّه ما أخطأت!! ما ترى؟

- أرى أن تقيم في بيتك فان ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك.

ولم يستجب لنصحه وصمم على الالتحاق بمعاوية وهو يقول :

يا قاتل اللّه وردانا وفطنته *** أبدى لعمرك ما فى النفس وردان

لما تعرضت الدنيا عرضت لها *** بحرص نفسى وفي الاطباع ادهان

نفس تعف واخرى الحرص يغلبها *** والمرء يأكل تبنا وهو غرثان (1)

أما علي فدين ليس يشركه *** دنيا وذاك له دنيا وسلطان

فاخترت من طمعي دنيا علي بصر *** وما معي بالذي اختار برهان

اني لاعرف ما فيها وأبصره *** وفي أيضا لما أهواه الوان

لكن نفسي تحب العيش في شرف *** وليس يرضى بذل العيش انسان

عمرو لعمر أبيه غير مشتبه *** والمرء يعطس والوسنان وسنان

لقد استجاب لعاطفته فآثر الدنيا على الآخرة ، وعزم على الالتحاق

ص: 426


1- الغرثان : الجائع.

بمعسكر معاوية ليحارب امير المؤمنين الذي هو نفس رسول اللّه ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى.

قدومه الى الشام :

وارتحل ابن العاص ومعه ابناه الى دمشق فلما بلغها جعل يبكي كما تبكي المرأة وهو يقول :

« وا عثماناه انعى الحياء والدين!! » (1)

لقد اصطنع البكاء ليغري السذج ويظهر الاخلاص والطاعة لمعاوية ولما التقى به تذاكر معه معاوية في الوسائل والطرق التي يسلكها في حربه مع الامام ، فقال له ابن العاص :

« أما علي فو اللّه لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء من الاشياء وإن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش الا أن تظلمه .. »

وانطلق معاوية يبين له الدوافع في حربه وعصيانه قائلا :

« صدقت. ولكنا نقاتله على ما في أيدينا ، ونلزمه قتلة عثمان!! »

إنه إنما يقاتل الامام من أجل السلطة والامرة والثراء العريض الذي اختلسه من بيت المال ، واندفع ابن العاص يبين له وهن المطالبة بدم عثمان قائلا :

- وا سوأتاه إن احق الناس أن لا يذكر عثمان!!

- ولم ويحك؟!!

- أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتى استغاث بيزيد بن اسد

ص: 427


1- تأريخ ابن الأثير 3 / 129

البجلي فسار إليه ، وأما أنا فتركته عيانا وهربت الى فلسطين!! (1)

فلم يلتفت معاوية الى قوله لأنه لم يجد وسيلة يتمسك بها في عصيانه سوى المطالبة بدم عثمان.

المساومة الرخيصة :

وكان ابن العاص يحن الى مصر حنينا متصلا وقد باع دينه وضميره على معاويه من اجلها فقد قال له معاوية :

- أتحبني يا عمرو؟

- لما ذا؟ للآخرة فو اللّه ما معك آخرة ، أم للدنيا. فو اللّه لا كان حتى أكون شريك فيها!!

- أنت شريكي فيها

- فاكتب لي مصر وكورها

- لك ما تريد

فكتب له ولاية مصر وكتب في آخر الوثيقة وعلى عمرو السمع والطاعة فقال له عمرو :

- إن السمع والطاعة لا ينقصان من الشرط شيئا.

- نعم ، ولا ينظر الناس الى هذا.

ونفذ له ما أراد (2) وبذلك فقد باع دينه على معاوية ، وسمع وهو يقول :

معاوي لا اعطيك ديني ولم أنل *** به منك دنيا فانظرن كيف تصنع

ص: 428


1- تأريخ اليعقوبي 2 / 162
2- العقد الفريد 3 / 113

فان تعطنى مصر فاربح بصفقة *** أخذت بها شيخا يضر. وينفع

وما الدين والدنيا سواء وإنني *** لآخذ ما أعطي ورأسي مقنع

ولكنني أعطيك هذا وإنني *** لأخدع نفسي والمخادع يخدع

أأعطيك أمرا فيه للملك قوة *** وأبقى له إن زلت النعل اضرع

وتمنعني مصر وليست برغبة *** وان ثرى القنوع يوما لمولع (1)

لقد ظفر معاوية بأهم سياسي ماكر مخادع يجيد اللعب على الحبل ويتغلب على الأحداث وهو القائل عن دهائه أنا أبو عبد اللّه ما حككت قرحة إلا أدميتها.

رد جدير :

ولما اجتمع لمعاوية امره واحكم وضعه رد سفير الامام ( جرير ) الى الكوفة ولم يجبه الى شيء ، وأرسل معه رسالة الى الامام جاء فيها :

« اما بعد. لو بايعك الذين ذكرت وأنت برىء من دم عثمان لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان ، ولكنك اغريت بدم عثمان ، وخذلت الانصار فأطاعك الجاهل ، وقوى بك الضعيف ، وقد أبى اهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان فان فعلت كانت شورى بين المسلمين وانما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم ، فلما فارقوه كان الحكام على الناس اهل الشام ، ولعمري ما حجتك على اهل الشام كحجتك على طلحة والزبير إن كانا بايعاك فلم ابايعك انا ، فأما فضلك في الاسلام وقرابتك من رسول اللّه فلست ادفعه ... »

ص: 429


1- في البيت الأخير اضطراب ورواه ابن ابي الحديد في شرح النهج 1 / 137 بما يلي « وإني بذا الممنوع قدما لمولع »

وكانت هذه الرسالة حاملة للبهتان والاباطيل ففيها اتهام الامام بدم عثمان ، وهو يعلم أن الامام برىء منه ، ولكنه لم يجد حجة يتعلق بها سوى هذه الاكاذيب.

وهبط جرير على الامام وهو خافق فى سفارته ، ومعه رسالة معاوية فاطلع عليها الامام وعرف ما يرومه معاوية من البغي والخروج عليه ، وقد رأى أن يقيم عليه الحجة مرة اخرى فبعث إليه السفراء يدعونه الى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون فلم يجد ذلك شيئا وأصر على عناده.

زحف معاوية لصفين :

وأخذ معاوية البيعة من أهل الشام على المطالبة بدم عثمان والأخذ بثأره ، وتوفرت لديه الامكانيات والقوى العسكرية ، وانضم إليه كل من لم تنطبع في نفسه العقيدة الدينية من ذوى الاطماع والمنحرفين عن الحق والباغين على الاسلام ، ولما تم أمره زحف بجيوشه الى صفين (1) لمحاربة السلطة الشرعية والاطاحة بالحكم الاسلامي واعادة المثل الجاهلية ، ولما انتهى في مسيره الى صفين نزل بها واحتل الفرات وعد هذا أول الفتح لانه حبس الماء على عدوه ، وبقيت جيوشه رابضة هناك تصلح امرها ، وتنضم قواها لتستعد للحرب.

ص: 430


1- صفين - بكسرتين وتشديد الفاء - موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالسن وبه كانت الواقعة بين الامام ومعاوية فى سنة 37 فى غرة صفر واختلف فى عدة اصحاب الفريقين فقيل كان معاوية في مائة وعشرين الفا وكان مع الامام تسعون الفا وقيل بالعكس ، معجم البلدان 3 / 414 ط دار صادر بيروت.

تهيؤ الامام للحرب :

ولما اخفقت جميع الوسائل التي اتخذها الامام من أجل السلم تهيأ للحرب بعد ما علم أن خصمه قد زحف الى صفين لمناجزته ، وقد استدعى المهاجرين والانصار الذين خفوا لنجدته فقال لهم :

« إنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والامر ، وقد أردنا المسير الى عدونا فاشيروا علينا برأيكم؟ »

فانطلق هاشم بن عتبة فقال له :

« يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء وهم لمن يطلب حرث الدنيا اولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك (1) لا يبقون جهدا ، مشاحة على الدنيا ، وضنا بما في أيديهم منها وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان ، كذبوا ليسوا بدمه يثأرون ، ولكن الدنيا يطلبون فسر بنا إليهم ، فان اجابوا الى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال. وإن أبوا الا الشقاق فذلك الظن بهم واللّه ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ويسمع إذا أمر .. » (2)

إن هاشما كان خبيرا بنفوس القوم ، وعالما باتجاههم وميولهم فانهم يطلبون حرث الدنيا ، وهم يقاتلون الامام من اجل مطامعهم ، وقد تذرعوا بدم عثمان واتخذوه وسيلة لعصيانهم ، ولا يتركون نفاقهم وغيهم ما دام لهم شاخص يتمتع بالنفوذ والقوة ، فلا بد من مناجزتهم والزحف إليهم للقضاء على غيهم وتمردهم وانبرى غير واحد من اعلام المهاجرين والانصار

ص: 431


1- وفي رواية ومجادلوك
2- وقعة صفين : ص 103

فاعلنوا تأييدهم لمقالة هاشم ، وأظهروا الطاعة والانقياد للامام ، وقد اتجه بعد ذلك الى الاستعداد للحرب فراسل الوجوه وامراء القبائل وقادة الجنود يستحثهم على نصرته والخروج معه لحرب البغاة ، واستجاب الجميع لنداء الحق واعربوا عن استعدادهم الشامل لنصرته.

خطبة الحسن :

وأخذ الامام الحسن يوقظ الهمم ، ويبعث الحزم والنشاط في النفوس ويحثها على الخروج لحرب معاوية كما فعل ذلك من قبل في معركة الجمل وقد قام خطيبا بين الجماهير يدعوهم الى الجهاد وهذا نص خطابه.

« الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له ، واثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال :

إن مما عظم اللّه عليكم من حقه ، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ، ولا يؤدى شكره ، ولا يبلغه صفة ولا قول ونحن إنما غضبنا لله ولكم ، فانه منّ علينا بما هو أهله ان نشكر فيه آلاءه وبلاءه ونعماءه ، قولا يصعد الى اللّه فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق يصدق اللّه فيه قولنا ، ونستوجب فيه المزيد من ربنا ، قولا يزيد ولا يبيد ، فانه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد امرهم ، واستحكمت عقدتهم. فاحتشدوا فى قتال عدوكم معاوية وجنوده ، فانه قد حضر. ولا تخاذلوا فان الخذلان يقطع نياط القلوب ، وإن الاقدام على الاسنة نجدة وعصمة لأنه لم يمتنع (1) قوم قط الا رفع اللّه عنهم العلة ، وكفاهم جوائح (2) الذلة ، وهداهم الى معالم الملة ، ثم انشد.

ص: 432


1- الامتناع : العزة والقوة.
2- الجوائح : - جمع مفردة جائحة - وهي الدواهي والشدائد

والصلح تأخذ منه ما رضيت به *** والحرب يكفيك من انفاسها جرع (1)

وحفل خطابه البليغ بالدعوة الى الوحدة والتعاون ، وبذل الجهود لمحاربة القوى الباغية ، وقد استجاب الناس لدعوته فخفوا سراعا لنصرة الحق والدفاع عن الاسلام.

الحسن مع سليمان :

وكان بعض زعماء العراق قد اعتزل معركة الجمل ، ولم يقم بنجدة الامام ومن بينهم سليمان بن صرد الخزاعي (2) وقد وجه الامام امير المؤمنين إليه - بعد انقضاء الحرب - أعنف اللوم والتقريع فقد قال له :

« أرتبت وتربصت وراوغت ، وقد كنت من أوثق الناس في نفسي وأسرعهم - فيما أظن - الى نصرتي فما قعد بك عن أهل بيت نبيك ، وما زهدك في نصرهم؟؟ »

ص: 433


1- البيت للعباس بن مرداس السلمى كما في الخزانة ( 2 / 82 )
2- سليمان بن صرد الخزاعي الكوفي كان من ذوى الوجاهة والشرف فى قومه ، وقد روى عن النبي وعن امير المؤمنين والحسن ، وهو احد الذين كتبوا الى سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) بالقدوم الى الكوفة ، ولما استجاب الامام لندائهم تخلف سليمان عنه ، وبعد ما روع الاسلام بقتل حفيد الرسول ندم سليمان وجماعة من قومه على عدم قيامهم بنصرته فهبوا للطلب بثأره ، وساروا حتى التقوا بالاثيم الوغد عبيد اللّه بن زياد في موضع يقال له : « عين الوردة » فوقعت الحرب بينهم فقتل سليمان ومن معه وذلك في ربيع الآخر سنة خمس وستين ، وكان عمره ثلاثا وتسعين عاما ، تهذيب التهذيب 4 / 200

وضاق سليمان ذرعا بتأنيب الامام له فقال له :

« يا أمير المؤمنين .. لا تردن الأمور على أعقابها ، ولا تؤنبني بما مضى منها ، واستبق مودتي تخلص لك نصيحتي ، وقد بقيت امور تعرف فيها وليك من عدوك .. »

ثم قام مسرعا إلى الامام الحسن ليعرض عليه حديث أبيه فقال له :

« ألا أعجبك من أمير المؤمنين وما لقيت منه من التبكيت والتوبيخ!! » وانطلق الحسن فتكلم معه برفق ولين ليزيل ما في نفسه من وجد قائلا :

« إنما يعاتب من ترجى مودته ونصيحته .. »

ولكن سليمان بقي على ثورته فقد لذعته مرارة العتب والتقريع فقال للامام الحسن :

« إنه بقيت أمور سيستوسق فيها القنا (1) وينتضى فيها السيوف ، ويحتاج فيها الى اشباهي ، فلا تستغشوا عتبى ، ولا تهموا نصيحتي .. »

فهدأ الحسن روعه ، واعرب له عن ثقته به فقال له :

« رحمك اللّه : ما أنت عندنا بالظنين .. » (2)

وهدأت ثورة سليمان ، وسكن روعه لما قابله الامام الحسن بالرفق وسجاحة الطبع ، وقد استطاع الحسن أن يزيل ما في نفسه من الم الوجد ويرجعه الى صفوف المجاهدين.

المسير الى صفين :

ولما توفرت القوى العسكرية للامام تهيأ للخروج الى صفين ، وأمر

ص: 434


1- الاستيساق : الاجتماع
2- وقعة صفين : ص 9 - 10

الحارث بن الأعور أن ينادي في الناس بالخروج إلى معسكرهم في النخيلة فنادى فيهم بذلك فعجت الكوفة بالنفار ، وخرج الامام تحف به صحابة النبي وقد زحفت معه الكتائب كأنها السيل وهي ما بين راكب وراجل ، وهم يعرفون القصد في خروجهم فانهم خرجوا لنصرة الحق ومحاربة اعداء الاسلام وخصومه.

ولزمت جيوش الامام الفرات فى زحفها السريع فلما انتهت الى الانبار استقبلها أهلها ثم جاءوا يهرعون إلى الامام فتنكر منهم وقال لهم :

« ما هذه الدواب التي معكم؟ وما أردتم بهذا الذي صنعتم؟ .. »

فقالوا وهم يبدون عظيم الولاء ومزيد التكريم.

« يا أمير المؤمنين. أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الامراء وأما هذه البراذين فهدية لك ، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاما وهيأنا لدوابكم علفا كثيرا .. »

فزجرهم الامام ونهاهم عن ذلك فقال :

« أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون به الامراء ، فو اللّه ما ينفع هذا الامراء ، وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم ، فلا تعودوا له. وأما دوابكم هذه فان أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم. وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فانا نكره أن نأكل من أموالكم شيئا الا بثمن .. »

هذا هو منطق العدل الذي سار عليه ابن أبي طالب فلم يسمح للمهرجانات ولا لسائر المظاهر التي اعتادها الملوك والأمراء لأن فيها جهدا للرعية وتعظيما للامراء وهم في نظر الاسلام لا ميزة لهم على بقية أفراد الشعب واندفع الانباريون فقالوا له :

ص: 435

« يا أمير المؤمنين نقومه - اي الطعام - ثم نقبل ثمنه »

« لا تقومونه قيمته »

ثم تركهم وانصرف عنهم (1) وسارت جيوشه تطوى البيداء حتى انتهت الى صفين فانزلها الامام بإزاء اصحاب معاوية.

القتال على الماء :

ولم يجد أصحاب الامام على الفرات شريعة يستقون منها الماء إلا وعليها الحرس الكثير وهم يمانعونهم أشد الممانعة من الوصول إليه فاقبلوا الى الامام يخبرونه بذلك فدعا صعصعة بن صوحان وقال له :

« ائت معاوية فقل : إنا سرنا مسيرنا هذا وأنا أكره قتالكم قبل الاعذار إليكم ، وإنك قدمت بخيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ، وبدأتنا بالقتال ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ، ونحتج عليك. وهذه اخرى قد فعلتموها ، حتى حلتم بين الناس وبين الماء. فخل بينهم وبينه حتى ننظر فيما بيننا وبينكم ، وفيما قدمنا له وقدمتم. وان كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له وندع الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا .. »

وانطلق صعصعة الى معاوية فعرض عليه كلام الامام فاستشار اصحابه فقال له الوليد بن عقبة :

« امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان : حصروه اربعين يوما يمنعونه برد الماء ، ولين الطعام ، اقتلهم عطشا قتلهم اللّه ... »

وأشار عليه ابن العاص بالسماح لهم ولكن الوليد اعاد مقالته ،

ص: 436


1- وقعة صفين : ص 160 / 161

وانبرى عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح فقال له :

« امنعهم الماء الى الليل ، فانهم إن لم يقدروا عليه رجعوا ، وكان رجوعهم هزيمتهم. امنعهم الماء منعهم اللّه يوم القيامة .. »

فثار صعصعة ولم يسعه السكوت فقال له :

« إنما يمنعه اللّه يوم القيامة الكفرة الفجرة شربة الخمر ، ضربك وضرب هذا الفاسق - واشار الى الوليد - .. » وتواثبوا عليه يشتمونه ويتهددونه ، فأمرهم معاوية بالكف عنه ، ورجع صعصعة ولم تنتج سفارته شيئا ، فخف الى الامام الأشعث بن قيس (1) فقال له :

« يا أمير المؤمنين. أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا ومعنا السيوف

ص: 437


1- الاشعث بن قيس الكندي وفد على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) مع قومه وكان زعيمهم في السنة العاشرة من الهجرة فاسلم واسلم معه قومه ، ولما توفى النبيّ ارتد الاشعث عن الاسلام ثم رجع إليه في خلافة ابى بكر ، فزوجه ابو بكر اخته أمّ فروة بنت ابي قحافة ، وهي أمّ محمد بن الاشعث ولما مات ابو بكر خرج الاشعث ، مع سعد بن ابي وقاص الى القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند. وبنى له دارا بالكوفة في محلة كندة فنزلها هلك سنة اثنتين واربعين من الهجرة وقيل سنة اربعين وصلى عليه الامام الحسن الاستيعاب 1 / 1. وجاء في شرح النهج 1 / 130 ان الاشعث طمع بالملك بعد وفاة النبي فدعا قومه ان يتوجوه فاجابوه لذلك فحارب المسلمين مع المرتدين حتى حوصر في حصنه اياما ولما يئس من الغلبة استسلم على ان يصان دمه ودم عشرة من اصحابه فاعطاه المسلمون ذلك ونجا من القتل واسف ابو بكر على عدم قتله فقال عند احتضاره : وددت اني يوم جيء بالاشعث كنت ضربت عنقه فانه يخيل لي انه لا يرى شرا الا اعان عليه.

خل عنا وعن القوم فو اللّه لا نرجع حتى نرده أو نموت. ومر الاشتر فليعل بخيله فيقف حيث تأمره .. »

فمنحه الامام الأذن ، ولما ظفر الاشعث بذلك رجع الى قومه وهو يهتف بهم :

« من كان يريد الماء او الموت فميعاده الصبح ، فانى ناهض الى الماء .. ».

فأجابه اثنا عشر الفا ، فلما رآهم قام مزهوا يشد عليه لامة حربه وهو يقول :

ميعادنا اليوم بياض الصبح *** هل يصلح الزاد بغير ملح

لا لا ، ولا أمر بغير نصح *** دبوا الى القوم بطعن سمح

مثل العزالى بطعان نفح (1)

لا صلح للقوم واين صلحى *** حسبي من الاقحام قاب رمح

ولما اندلع لسان الصبح دبت جماهير العراقيين الى الاشعث فحمل بهم على أهل الشام وهو يقول لقومه :

« بأبي أنتم وأمي تقدموا قاب رمحي .. » (2)

ولم يزل يهتف بقومه ، ويبعث في نفوسهم روح العزم والنشاط حتى خالطوا أهل الشام ، وصاح بهم الاشعث :

« خلوا عن الماء .. »

ص: 438


1- العزالى : - جمع عزلاء بالفتح - فم المزادة شبه بها اتساع الطعنة واندفاق الدماء منها ، النفح : الدفع ، وطعنة نفاحة دفاعة بالدم
2- قاب رمحي : اي قدره

فأجابه أبو الأعور السلمي (1) : بعدم السماح لهم ، وهجم الاشعث ومن معه على صفوف أهل الشام فار الوهم عن الفرات والحقوا بهم خسائر فادحة في الاموال والنفوس ، ولما ملك العراقيون الفرات سمح الامام لأهل الشام أن يردوا منه ، ولم يكل لهم صاعا بصاع ولم يعمل معهم الا عمل المحسن الكريم.

ايفاد السفراء الى معاوية :

وقبل أن يدق جرس الحرب أوفد الامام رسل السلام الى معاوية كما اوفدهم من قبل في معركة الجمل رجاء في الصلح وحقن الدماء ، والذين بعثهم للقياهم : عدى بن حاتم ، وشبث بن ربعي ، ويزيد بن قيس ، وزياد بن حفصة ، فتكلم معه عدى بن حاتم فقال له :

« أما بعد : فانا أتيناك لندعوك الى أمر يجمع اللّه به كلمتنا وأمتنا ويحقن به دماء المسلمين ، وندعوك الى افضلها سابقة واحسنها في الاسلام آثارا (2) وقد اجتمع له الناس ، وقد ارشدهم اللّه بالذي رأوا ، فلم يبق احد غيرك وغير من معك ، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك اللّه واصحابك بمثل يوم الجمل .. »

ص: 439


1- ابو الأعور السلمي : هو عمرو بن سفيان قال ابو حاتم الرازي لا يعد من الصحابة ولا تصح روايته ، شهد حنينا وهو كافر ثم اسلم ، وكان من اشد الناس على الامام في صفين ، وكان الامام يدعو عليه في قنوته في صلاة الغداة الاستيعاب 4 / 14
2- وجاء في تأريخ الطبري : ان ابن عمك سيد المسلمين افضلها سابقة واحسنها في الاسلام آثارا.

وهي دعوة حق لو وعاها ابن هند واستجاب لها لحقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم ولكنه آثر مصالحه على ذلك فقال لعدى :

« كأنك إنما جئت متهددا ولم تأت مصلحا. هيهات يا عدي. كلا واللّه لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان (1) أما واللّه إنك لمن المجلبين على ابن عفان ، وانك لممن قتلته ، وإني لارجو أن تكون ممن يقتله اللّه. هيهات يا عدى قد حلبت بالساعد الاشد .. »

لقد اظهر له الغي والتمرد والإيثار للحرب وذلك لما يتمتع به من القوى العسكرية والقدرة على مناجزة الامام وتكلم معه يزيد بن قيس فقال له :

« إنا لم نأتك الا لنبلغك ما بعثنا به إليك ، ولنؤدى عنك ما سمعنا منك ، لن ندع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما ظننا أن لنا به عليك حجة او أنه راجع بك الى الالفة والجماعة. إن صاحبنا لمن قد عرفت وعرف المسلمون فضله ، ولا أظنه يخفى عليك : إن أهل الدين والفضل لن يعدلوك بعلي ولن يميلوا بينك وبينه (2) فاتق اللّه يا معاوية ، ولا تخالف عليا ، فانا واللّه ما رأينا رجلا قط اعمل بالتقوى ، ولا ازهد في الدنيا ، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه .. »

إن معاوية يعلم فضل أمير المؤمنين ولكن احقاده واطماعه يحولان بينه وبين الحق فآثر حربه ومناجزته فاجاب القوم قائلا :

« أما بعد : فانكم دعوتم الى الطاعة والجماعة. فأما الجماعة التي

ص: 440


1- الشنان : جمع شن ، وهو القربة الخلق فقد كانوا يحركونها اذا ارادوا حث الابل على المسير.
2- التمييل بين الشيئين الترجيح بينهما.

دعوتم إليها فنعما هي. وأما الطاعة لصاحبكم فانا لا نراها. إن صاحبكم قتل خليفتنا ، وفرق جماعتنا ، وآوى ثأرنا ، وقتلتنا ، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد ذلك عليه ، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون انهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ونحن نجيبكم الى الطاعة والجماعة .. »

وحفل كلام ابن هند بالاكاذيب والاغاليط فقد أتهم الامام بقتل عثمان وهو يعلم ببراءته منه ، فقد قتله خيار المسلمين لما انحرف عن الحق وغيّر كتاب اللّه - كما ذكرنا ذلك عند عرض احداثه - وقد انبرى إليه شبث بن ربعي (1)

فقال له :

« أيسرك باللّه يا معاوية إن أمكنت من عمار بن ياسر فقتلته؟ »

وقد عرض شبث لمعاوية اعظم شخصية اسلامية ثارت على عثمان وهو عمار بن ياسر فهل يقتص منه إن ظفر به ، فقال له معاوية.

« وما يمنعني من ذلك؟ واللّه لو امكنني صاحبكم من ابن سمية ما قتلته بعثمان ، ولكن كنت اقتله بنائل مولى عثمان بن عفان .. »

وما الذي يمنع معاوية من قتل عمار لو ظفر به في سبيل الملك والبغي على الاسلام ، وثار شبث حينما سمع مقالته فقال له :

« لا واللّه الذي لا إله إلا هو لا تصل الى قتل ابن ياسر حتى تنذر

ص: 441


1- شبث بن ربعي التميمي كان مؤذنا لسجاح التي ادعت النبوة ثم اسلم ، وصار من اصحاب امير المؤمنين ، ثم صار مع الخوارج ثم تاب عن ذلك ، وكان هذا الاثيم ممن اشترك في قتل سيد الشهداء ، هلك في حدود السبعين من الهجرة ، الاصابة 2 / 163

الهام عن كواهل الرجال ، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها .. »

ورجع القوم وهم خافقون في سفارتهم لم يستجب لهم معاوية فقد رأوا أنه مصمم على الحرب وممعن في البغي والتمرد فجعلوا يدعون الناس للحرب ، ويحرضونهم على مناجزة معاوية.

اعلان الحرب :

ولما اخفقت جميع الوسائل التي اتخذها الامام من أجل السلم تهيأ للحرب ، وقد اصدر تعاليمه الى عموم جيشه وقد جاء فيها :

« لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم ، فانتم بحمد اللّه على حجة ، وترككم قتالهم حجة اخرى ، فاذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ، فاذا وصلتم الى رجال القوم فلا تهتكوا سترا ، ولا تدخلوا دارا إلا بأذني ، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في معسكرهم ، ولا تهيجوا امرأة وإن شتمن أعراضكم ، وتناولن امراءكم وصلحاءكم فانهن ضعاف القوى والانفس والعقول .. »

هذه خطته التي رسمها لجيشه وهي تمثل ما يكنه في نفسه من الرحمة والرأفة وحب الخير حتى لاعدائه ومناوئيه.

وعقد الامام الالوية ، وأمرّ الأمراء فاستعمل على الخيل عمار بن ياسر ، وعلى الرجالة عبد اللّه بن بديل ، ودفع اللواء الى هاشم المرقال ، وجعل على الميمنة الاشعث بن قيس وعلى الميسرة عبد اللّه بن عباس ، وعقد ألوية القبائل فاعطاها لأعيانهم ، وكذلك عبأ معاوية أصحابه على راياتهم فاستعمل عبيد اللّه بن عمر على الخيل ، وعلى الرجالة مسلم بن عقبة المري

ص: 442

وعلى الميمنة عبيد اللّه بن عمرو بن العاص وعلى الميسرة حبيب بن مسلم الفهرى ، واعطى اللواء عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وجعل على اهل دمشق الضحاك بن قيس الفهرى.

وجعلت كتائب من جيش الامام نخرج الى فرق أهل الشام فيقتتل الفريقان نهارا كاملا أو طرفا منه ، ولم يرغب الامام في أن تقع حرب عامة بين الفريقين رجاء أن يجيب خصمه الى الصلح ، ويثوب الى الرشاد ، ودام على هذا الحال حفنة من الايام حتى أطل شهر المحرم وهو من الاشهر التي يحرم القتال فيها في الجاهلية والاسلام فتركوا القتال فيه ، وتوادعوا شهرهم كله وأتيح للقوم أن يلتقوا فيه آمنين من دون أن تقع بينهم أي حرب ولكن كان بينهم أعنف الجدال واشد الخصام يدعو العراقيون أهل الشام الى جمع الكلمة وإلى العمل بكتاب اللّه ومبايعة وصي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ويدعوهم أهل الشام الى الطلب بدم عثمان ورفض بيعة الامام ، ولما انقضى شهر المحرم مضى القوم على حربهم كما كانوا قبله ، وجعل مالك الاشتر ينظر الى رايات أهل الشام ويتأملها فاذا هي رايات المشركين التي خرجت لحرب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فاندفع يخاطب قومه قائلا :

« أكثر ما معكم رايات كانت مع رسول اللّه ، ومع معاوية رايات كانت مع المشركين على عهد رسول اللّه فما يشك فى قتال هؤلاء الا ميت القلب .. »

واندفع عمار بن ياسر فجعل يبين للمسلمين واقع معاوية ويحرضهم على قتاله قائلا :

« يا أهل الاسلام (1) أتريدون أن تنظروا الى من عادى اللّه ورسوله

ص: 443


1- وفي رواية يا اهل الشام

وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين ، فلما أراد اللّه أن يظهر دينه ، وينصر رسوله أتى النبي فأسلم وهو واللّه فيما يرى راهب غير راغب وقبض اللّه رسوله وإنا واللّه لنعرفه بعداوة المسلم ومودة المجرم ، الا وانه معاوية فالعنوه لعنه اللّه ، وقاتلوه فانه ممن يطفئ نور اللّه ويظاهر اعداء اللّه .. »

إن معاوية قبل أن يسلم قد عادى اللّه ورسوله ، وبغى على المسلمين وما اسلم الا خوفا من حد السيوف التي أخذت اسرته ، وقد اضمر الشرك والنفاق والبغي على الاسلام والمسلمين فلما وجد أعوانا نهض بهم لمحاربة أخي رسول اللّه وباب مدينة علمه.

الحسن مع عبيد اللّه

وحاول معاوية أن يلعب دورا مع الامام الحسن فبعث إليه عبيد اللّه ابن عمر (1) يمنيه بالخلافة ويخدعه حتى يترك أباه فانطلق عبيد اللّه فقال له :

- لي إليك حاجة

- نعم .. ما تريد؟

- إن أباك قد وتر قريشا أولا وآخرا ، وقد شنئوه فهل لك ان تخلعه ونوليك هذا الامر؟ نعم ان الامام قد وترهم ولكن فى سبيل الاسلام فقد حاولوا لف لوائه ، فناجزهم الامام فقتل جبابرتهم ، وأباد طغاتهم

ص: 444


1- عبيد اللّه بن عمر بن الخطاب ولد على عهد رسول اللّه ولم يرو عنه شيئا ، وهو الذي قتل الهرمزان وجفينة وقد توعده الامام باقامة الحد عليه ان ظفر به ، التحق بمعاوية فى صفين ، وخرج في بعض ايامها وعليه جبة خز وسواك وهو يقول : « سيعلم علي غدا اذا التقينا » فقال الامام دعوه فانما دمه دم بعوضة ، وقد قتل بصفين ، الاستيعاب 2 / 431

وهزم جموعهم ، وهم من أجل ذلك يحملون له حقدا وعداء ، ولما سمع الامام مقالته صاح به وقد لذعته عقرب الخيانة فقال له :

« كلا واللّه لا يكون ذلك!! »

والقى الامام الحسن عليه نظرة غضب واستياء ، وأخبره انه سيلاقي حتفه عما قليل فقال له :

« لكأنّي انظر إليك مقتولا فى يومك أو غدك. أما ان الشيطان قد زين لك ، وخدعك حتى اخرجك مخلقا بالخلوق (1) ترى نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك اللّه ويبطحك لوجهك قتيلا .. »

ورجع عبيد اللّه الى معاوية وهو خائب حسير وقد اخفق في مهمته وأخبره بحديث الامام فقال معاوية متبهرا :

« انه ابن أبيه!! » (2)

وخرج عبيد اللّه في ذلك اليوم الى ساحة الحرب يقاتل مع الجبهة المعادية للاسلام فلاقى حتفه سريعا على يد فذ نبيل من همدان ، واجتاز الامام الحسن فى ساحة المعركة فرأى رجلا قد توسد رجلا قتيلا وقد ركز رمحه في عينه وربط فرسه في رجله ، فقال الحسن لمن حوله : انظروا من هذا؟ فأخبروه أن الرجل من همدان ، وان القتيل عبيد اللّه بن عمر ، فسر بذلك وقال مبتهجا : الحمد لله على ذلك (3) وقد قضى عبيد اللّه نهايته الأخيرة وهو معاد لله ورسوله ، وباغ على الاسلام ، وخارج على امام المسلمين.

ص: 445


1- الخلوق : الطيب
2- البحار
3- وقعة صفين : ص 334

الحرب العامة :

واستمرت المناوشات بين الفريقين أمدا غير يسير من دون أن تقع بينهما حرب عامة ، وقد سئم كل منهما هذه المطاولة التي لم تكن تجدي شيئا فانه لم يكن هناك أي أمل في الاصلاح والوئام وجمع الكلمة ، وإنما كانت هذه المطاولة تزيد الفتنة امتداد والشر انتشارا ، فلما رأى الامام ذلك عبأ أصحابه وتهيأ للحرب العامة ، ولما رأى معاوية ذلك فعل مثل فعله ، والتقى كل منهما بالآخر ، وبادر الحسن ليحمل على صفوف أهل الشام فلما بصر به الامام ذهل وأريع وقال لمن حوله :

« املكوا عنى هذا الغلام لا يهدنى (1) فانني أنفس (2) بهذين - يعنى الحسن والحسين - لئلا ينقطع بهما نسل رسول اللّه .. (3)

واستعرت نار الحرب ، واشتد أوارها حتى جفل الناس وخيم عليهم الذعر والموت ، وقد انكشفت ميمنة الامام ، وتضعضع قلب الجيش وبدت الهزيمة فيه فدعا سهل بن حنيف فلما مثل بين يديه أمره أن يلتحق بمن معه في الميمنة ، فامتثل ما أمر به فحملت عليهم جيوش أهل الشام فكشفتهم ورجعوا منهزمين الى الميسرة ، وانكشفت عن الميسرة مضر وثبتت ربيعة فيها ، وإن قائلهم ليقول : « يا معشر ربيعة ، لا عذر لكم بعد اليوم عند العرب إن أصيب أمير المؤمنين وهو فيكم. »

تحالفت ربيعة على الموت وثبتت فى الميدان وهي رابطة الجاش لا تبالى

ص: 446


1- يهدني : اي يهلكني.
2- انفس : ابخل.
3- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 212

بالحمام قد أخذت على عاتقها أن تقوم بنصرة الحق وتفدى ارواحها للامام وكان الامام معهم يحمل على اعدائه وقد مطرت عليه سهام القوم ، وكان ابناؤه يقونه بأنفسهم ولم يفارقه أحد منهم ، وبصر به حين اشتباك الأسنة مولى لبني أميّة يدعى بأحمر بن كيسان فجاء كالكلب نحو الامام وهو يقسم على قتل الامام قائلا :

« ورب الكعبة قتلني اللّه ان لم أقتلك أو تقتلنى »

فانبرى إليه مولى للامام يدعى بكيسان فبدر إليه الكلب المهاجم فأرداه صريعا على الارض يتخبط بدمه ، وجعل الخبيث يشتد نحو الامام فتناوله الامام بيده وحمله على عاتقه ثم ضرب به الارض فكسر منكبه وعضديه وشد عليه الحسين ومحمد فقتلاه.

ودنا الامام من جموع اهل الشام فخاف الحسن أن يغتال العدو أباه فقال له :

« لو سعيت حتى تنتهى الى هؤلاء الذين قد صبروا لعدوك ( يعني بهم ربيعة ) من اصحابك. »

وعرف الامام مغزى كلام الحسن فقال له برفق ولين :

« يا بني .. إن لأبيك يوما لن يعدوه ولا يبطئ به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي ، ان اباك واللّه ما يبالى أوقع على الموت أو وقع الموت عليه. »

واقبل الأشتر يركض وهو مذهول اللب مندهش الفكر لما انهزمت الكتائب وولت على اعقابها خوفا من الموت ، فلما بصر الامام به قال له :

- يا مالك.

- لبيك.

ص: 447

- ائت هؤلاء القوم فقل لهم : اين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه الى الحياة التي لا تبقى لكم.

مضى الاشتر الى المنهزمين فالقى عليهم رسالة الامام فهدأ روعهم ثم قال معرفا لهم بشخصيته.

- أنا مالك بن الحارث. أنا مالك بن الحارث.

وخطر له أن هذا الاسم غير كاف لهم فى تعريفه فقال معرفا نفسه بما اشتهر به.

- أنا الأشتر.

فبادرت فصيلة من الناس إليه فهتف فيهم بنبرات تقطر حماسا وعزما قائلا :

« أيها الناس. عضضتم بهن آبائكم ، ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم. »

ثم هتف ثانيا قائلا :

« أخلصوا لى مذحجا. »

فأنبرت إليه مذحج. فقال لها :

« عضضتم بصم الجندل ، ما ارضيتم ربكم ولا نصحتم له في عدوكم وكيف بذلك وانتم ابناء الحروب ، واصحاب الغارات ، وفتيان الصباح ، وفرسان الطراد ، وحتوف الأقران ، ومذحج الطعان الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم ولا تطل دماؤهم ، ولا يعرفون في موطن بخسف ، وأنتم حد أهل مصركم واعد حي في قومكم ، وما تفعلون فى هذا اليوم فانه مأثور بعد اليوم ، فاتقوا ماثور الاحاديث في غد ، واصدقوا عدوكم اللقاء فان اللّه مع الصادقين ، والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء ( وأشار لأهل الشام ) رجل على مثال جناح بعوضة من محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) أنتم ما احسنتم

ص: 448

القراع ، اجلوا سواد وجهي دمى ، عليكم بهذا السواد الأعظم ، فان اللّه عز وجل ، لو قد فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع مؤخر السيل مقدمه! »

لقد هيمن الزعيم مالك على النفوس واستولى عليها بخطابه الحماسي الرائع فقد بعث روح العزم والنشاط في نفوس الجيش. وتعالت الاصوات من كل جانب تعرب له الطاعة والانقياد.

- خذ - حيث احببت.

وسارعوا إليه يتسابقون نحو الموت صامدين امام العدو ، وكانت كتائب من همدان قد أبيد فريق من زعمائها وقوادها الباسلين فى المعركة وكان آخر من أخذ اللواء بيده وهب بن كريب فبادر إليه جمع من احبائه قائلين له :

« رحمك اللّه قد قتل أشراف قومك حولها - اي حول الراية - فلا تقتل نفسك ولا من بقى من قومك. »

انصرف وهب ومن معه عن ساحة الحرب وهم يطلبون فئة قوية ينضمون إليها وهتفوا امام الجموع بما يرومونه قائلين :

« ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا على الموت ثم نستقدم نحن وهم فلا ننصرف حتى نقتل أو نظفر. »

واجتازوا على الاشتر فسمع نداءهم ، فرحب بفكرتهم وقال لهم.

« أنا أحالفكم واعاقدكم على ان لا نرجع ابدا حتى نظفر أو نهلك » وابتهجوا بكلام الاشتر وانضمونا تحت لوائه ، وفي فعلهم هذا يقول كعب بن جعيل : « وهمدان زرق تبتغي من تحالف »

وهجم الأشتر بمن معه من البهاليل على جموع أهل الشام فكانوا أمام بواترهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، وظهر الضعف في

ص: 449

جيش معاوية وكاد اصحاب معاوية يبلغون فسطاطه وهمّ معاوية بالفرار لو لا أن ذكر قول ابن الاطنابة :

أبت لى عفتي وحياء نفسي *** وإقدامي على البطل المشيح

وإعطائي على المكروه مالي *** واخذى الحمد بالثمن الربيح

وقولى كلما جشأت وجاشت *** مكانك تحمدى أو تستريحي

فرده ذلك الشعر الى الصبر والثبات كما كان يتحدث بذلك ايام العافية.

مصرع عمار :

ولما رأى الصحابي العظيم عمار بن ياسر الرءوس تتساقط ، والارض قد صبغت بالدماء أخذ يناجى نفسه قائلا :

« صدق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) هؤلاء القاسطون ، إنه اليوم الذي وعدني فيه رسول اللّه ، إني قد أربيت على التسعين فما ذا انتظر؟! رحماك ربي قد اشتقت الى إخواني الذين سبقوني بالايمان إليك .. سأمشي الى لقاء ربي مجاهدا أعداءه بين يدي وليه ووصيي رسوله وخليفته من بعده ، فاني أراه اليوم الذي وعدني به رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... »

وأطال النظر في رايات معاوية فانطلق يقول : « إن مراكزنا على مراكز رايات رسول اللّه يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين ، وإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الاحزاب .. » (1)

وتمثلت أمامه في ذلك اليوم صفحات من تأريخه البعيد والقريب ، فعرضت له صورة أبويه ياسر وسمية وهما يعذبان أعنف التعذيب وأمره

ص: 450


1- شرح ابن ابى الحديد 1 / 506

وهو شاب معهما يلاقى ما لاقياه من الارهاق على يد جبابرة قريش ففاضت روح أبويه ، وأفلت هو من التعذيب ، وتذكر ما عناه فى شيخوخته من عثمان من التنكيل والتعذيب كل ذلك في سبيل مبدئه وعقيدته ، وقد اودعت هذه الذكريات في نفسه شوقا عارما الى ملاقاة اللّه فانفجر في البكاء وأخذ يناجي اللّه قائلا :

« اللّهم انك تعلم. أنى لو أعلم أن رضاك ان اضع ظبة سيفى (1) في صدري ثم انحنى عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت ، ولو اعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت ، ولو اعلم أن رضاك أن أرمى بنفسي من هذا الجبل فاتردى واسقط فعلت ، وإني لا اعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم من الاعمال هو أرضى لك منه لفعلته. »

ثم انعطف الى أمير المؤمنين ودموعه تتبلور على كريمته الشريفة فلما رأه الامام قام إليه وعانقه واحتفى به فالتفت الى الامام.

- يا أخا رسول اللّه أتأذن لي في القتال؟

فقد قلب الامام وأريع من كلامه لانه ساعده الذي به يصول فقال له بصوت راعش النبرات.

مهلا يرحمك اللّه!

انصرف عمار فلم يلبث الا قليلا حتى عرضت له تلك الذكريات فحفزته الى لقاء اللّه فرجع الى الامام قائلا :

- اتأذن لي فى القتال؟

- مهلا يرحمك اللّه

ص: 451


1- الظبة : حد السيف او السنان جمع ظبات

ومضى فلم يمكث الا برهة حتى عاوده الشوق الى لقاء احبائه الذين سبقوه الى الايمان فكر راجعا الى الامام فقال له :

« أتأذن لي بالقتال؟ فانى أراه اليوم الذي وصفه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد اشتقت الى لقاء ربي والى اخواني الذين سبقوني. »

فلم يجد الامام بدا من اجابته فقام إليه وعانقه وقد ذابت نفسه اسى وحسرات وقال له :

« يا أبا اليقظان. جزاك اللّه عنى وعن نبيك خيرا فنعم الاخ كنت ونعم الصاحب. »

واجهش الامام بالبكاء وبكى عمار لبكائه وقال له :

« واللّه يا أمير المؤمنين ما تبعتك الا ببصيرة فانى سمعت رسول اللّه يقول يوم حنين : « يا عمار ستكون بعدي فتنة فاذا كان كذلك فاتبع عليا وحزبه ، فانه مع الحق والحق معه ، وسيقاتل بعدي الناكثين والقاسطين » فجزاك اللّه يا أمير المؤمنين عن الاسلام أفضل الجزاء فلقد أديت ، وبلغت ونصحت .. »

ثم تقدم عمار الى ساحة الشرف وميدان القتال وهو جذلان مسرور بملاقاة اللّه وقد استرد قوته ونشاطه ، وارتفع صوته عاليا وهو يقول :

« الجنة تحت ظلال العوالي ، اليوم القى الأحبة محمدا وحزبه .. »

وتبعه المهاجرون والانصار والشباب المؤمن فانعطف بهم الى القائد العام هاشم بن عتبة المرقال (1) فطلب منه أن يتولى القيادة فاجابه إلى

ص: 452


1- هاشم بن عتبة بن ابي وقاص الزهري القرشي يكنى ابا عمرو ويعرف بالمرقال اسلم يوم فتح مكة ، كان من ذوي الفضيلة والدين وفي طليعة شجعان العرب فقئت عينه في واقعة اليرموك بالشام ، وهو الفاتح لجلولاء من بلاد الفرس ، وكانت جلولاء تسمى فتح الفتوح بلغت غنائمها ثمانية عشر الف الف ، كان على الرجالة في واقعة صفين فقطعت رجله فجعل يقاتل كل من دنا إليه وهو بارك وهو يقول : « الفحل يحمى شوله معقولا » وفيه يقول ابو الطفيل عامر بن وائلة : يا هاشم الخير جزيت الجنة *** قاتلت في اللّه عدو السنة اسد الغابة 5 / 49

ذلك وحمل هاشم فجعل عمار يحثه على الهجوم وهو يقول له :

« احمل فداك أبي وأمي .. »

وجعل هاشم يزحف باللواء زحفا فضاق على عمار ذلك لأنه في شوق عارم لملاقاة اللّه والوفود على حبيبه محمد فوجه لهاشم اعنف التقريع قائلا له :

« يا هاشم. أعور وجبان؟ »

وثقل على هاشم هذا العتاب المر فقال له :

« رحمك اللّه يا عمار. إنك رجل تأخذك خفة في الحرب ، وإني إنما أزحف باللواء زحفا أرجو أن أنال بذلك حاجتي ، وإني إن خففت لم آمن الهلكة. »

وما زال عمار بهاشم يحرضه ، ويحثه على الهجوم حتى حمل وهو يرتجز :

قد أكثروا لومي وما أقلا *** إني شريت النفس لن اعتلا

أعور يبغى نفسه محلا *** لا بد أن يفل أو يفلا

قد عالج الحياة حتى ملا *** أشدهم بذى الكعوب شلا

فجال هاشم فى ميد القتال ، وعمار يقاتل معه فنظر الى راية ابن العاص فجعل يقول :

ص: 453

« واللّه إن هذه الراية قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن. »

وجعل يقاتل أشد القاتل وهو موفور النشاط خفيف الحركة وهو يرتجز ويقول :

نحن ضربناكم على تنزيله *** واليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق الى سبيله

لقد قاتل عمار قريشا مع النبي على الاقرار بكلمة التوحيد واليوم يقاتلهم على الايمان بما في القرآن وعلى التصديق بما جاء به الاسلام.

وبعد كفاح رهيب سقط عمار الى الارض صريعا قد قتلته الفئة الباغية (1) التي طبع على قلوبها بالزيغ ، ونسيت ذكر اللّه فسبحت في ظلام قاتم ، ولما أذيع خبر مقتله انهد ركن الامام ، واحاطت به موجات وموجات من الهموم والأحزان لأنه فقد بمقتله كوكبة من الاعوان والانصار ومشى لمصرعه حزينا باكيا تحف به قواد الجيش وأمراء القبائل والبقية الصالحة من المهاجرين والانصار ، وهم يهرقون الدموع وعلا منهم النحيب والبكاء ، ووقف الامام عليه فلما رأه صريعا متخبطا بدمه انهارت قواه وجعل يؤبنه بكلمات تنم عن قلب موجع قائلا :

« إن امرأ من المسلمين لم يعظم عليه قتل ابن ياسر ، وتدخل عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد. رحم اللّه عمارا يوم اسلم ، ورحم اللّه عمارا يوم قتل ، ورحم اللّه عمارا يوم يبعث حيا. لقد رأيت عمارا وما

ص: 454


1- قتله ابو العادية وكان يدخل على معاوية فيقول لحاجبه قاتل عمار بالباب فياذن له ، اسد الغابة 5 / 267 واثر عن النبي انه قال : لو ان عمارا قتله اهل الارض لدخلوا النار.

يذكر من أصحاب رسول اللّه أربعة الا كان رابعا ، ولا خمسة إلا كان خامسا. وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول اللّه يشك أن عمارا قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا اثنين. فهنيئا لعمار بالجنة .. »

وأخذ الامام رأس عمار ووضعه في حجره وجعل ينظم ذوب الحشا وهو يقول :

ألا أيها الموت الذي ليس تاركي *** أرحنى فقد أفنيت كل خليل

أراك بصيرا بالذين أحبهم *** كأنك تسعى نحوهم بدليل

ووقف الامام الحسن واجما مستعبرا عند مصرع الشهيد العظيم الذي ساهم في بناء الاسلام فأخذ يتلو على المسلمين ما سمعه من جده النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في فضله والاشادة بعظيم منزلته فقال (عليه السلام) : ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال لاصحابه : « ابنوا لى عريشا كعريش موسى » وجعل يتناول اللبن من قومه ، وهو يقول : اللّهم لا خير الا خير الآخرة ، فاغفر للانصار والمهاجرة ، وجعل يتناول اللبن من عمار ، وهو يقول : ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية.

وقال : إن جدى قال إن الجنة لتشتاق الى ثلاثة علي وعمار وسلمان » ولما اذيع خبر مقتله حدثت الفتنة والانشقاق في صفوف أهل الشام فقد سمعوا ممن سمع من رسول اللّه أنه قال : في عمار تقتله الفئة الباغية وقد حدثهم بذلك عمرو بن العاص ، وقد اتضح لهم بعد مقتله انهم هم الفئة الباغية التي عناها الرسول ، ولكن ابن العاص قد استطاع بمكره وأكاذيبه أن يزيل ذلك ، ويرجع الحياة الى مجراها الطبيعي ، فقد القى المسئولية على الامام زاعما انه هو الذي أخرجه وقتله ، واذعن جهال أهل الشام ، وصدقوا مقالته وراحوا يهتفون.

ص: 455

« انما قتل عمارا من جاء به. »

وثقل على أمير المؤمنين مقتل عمار ، وأحاطت به المآسي والشجون ، فهتف بربيعة وهمدان ، فاستجابوا له فقال لهم :

« انتم درعي ورمحي »

فأجابه اثنا عشر الفا منهم فحمل بهم وهو هائج غصبان ، فلم يبق صف لأهل الشام الا انتقض ، وأبادوا كل فصيلة انتهوا إليها حتى قربوا من فسطاط معاوية ، وكان الامام يرتجز ويقول في رجزه :

أضربهم ولا أرى معاوية *** الجاحظ العين العظيم الحاوية

ووجه خطابه الى معاوية فقال له :

علام يقتتل الناس بيننا؟ هلم احاكمك الى اللّه فأينا قتل صاحبه استقامت له الامور. »

فانبرى ابن العاص الى معاوية مستهزءا به قائلا :

- انصفك الرجل

- ما انصفت ، وانك لتعلم أنه لم يبارزه أحد إلا قتله

- وما يجمل بك الا مبارزته

- طمعت فيها بعدى (1)

واستمر القتال عنيفا بين الفريقين وهم ماضون فى الحرب لا يريحون ولا يستريحون ، وقد بان الضعف في جيش معاوية ، وتحطمت جميع كتائبه وتفللت جميع قواه حتى همّ بالفرار والانهزام.

ص: 456


1- تاريخ الطبرى 5 / 231

رفع المصاحف :

ولما رأى معاوية بسالة جيش الامام وخور جيشه ، وعجزه عن المقاومة ونهاية أمره دعا وزيره الماكر عمرو بن العاص وقد مشت الرعدة باوصاله وخيم عليه الخوف فقال له :

« إنما هي الليلة حتى يغدو علينا بالفيصل ، فما ترى؟. »

وقد اعرب عن قرب نهايته وعدم قدرته على مقاومة جيش الامام فقال له ابن العاص :

« أرى رجالك لا يقومون برجاله ، ولست مثله فهو يقاتلك على امر وأنت تقاتله على أمر آخر ، إن أهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون من على إن ظفر بهم .. »

لقد حدد ابن العاص النزاع القائم بين الامام ومعاوية فالامام يقاتله من اجل الاسلام والذب عن مثله ومعاوية يقاتله من اجل الملك والسلطان فكل واحد منهما يقاتل على امر لا ينشده الآخر ، وقد اعرب له عن السر في بسالة جيش الامام وخور جيشه فجيش الامام يدافع عن كرامته وحياته لأنه على علم بنفسية معاوية واتجاهه ان تغلب عليهم فانه ينكل بهم ويصب عليهم وابلا من العذاب الأليم فلذلك كان جادا في حربه وأما جيشه فانه يعرف اتجاه الامام إن ظفر بهم فانه يقابلهم بالمعروف والاحسان وقد سمعوا عن عفوه واحسانه حينما ظفر بخصومه في واقعة الجمل. فجيش الامام لا بد أن يحوز النصر والظفر ، وقد ادلى له ابن العاص بفكرة كانت هي السبب فى تغلبه على الأحداث والسبب في تدمير جيش الامام فقال له :

ص: 457

« الق إليهم أمرا إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردوه اختلفوا ، ادعهم إلى كتاب اللّه حكما فيما بينك وبينهم ، فانك بالغ حاجتك في القوم فاني لم أزل أؤخر هذا الأمر لحاجتك إليه .. »

ورأى معاوية الصواب في رأي ابن العاص فبادره بالتصديق والاجابة وأمر بالوقت أن ترفع المصاحف فرفعت زهاء خمس مائة مصحف على الرماح ، وارتفعت الصيحة من أهل الشام وهم يهتفون بلهجة واحدة قائلين :

« هذا كتاب اللّه بيننا وبينكم من فاتحته الى خاتمته ، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام؟ ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق؟ ومن لجهاد الروم؟ ومن للترك؟ ومن للكفار؟ .. »

لقد رفعوا المصاحف حيلة ومكرا ، وتذرعوا بها لحقن دمائهم فانهم من دون شك لا يؤمنون بما فيها ولا يحزنون على مصير الاسلام والمسلمين ولا يرجون لله وقارا ، ولا يهمهم سوى الحكم والسلطان ، ولو كان في نفوسهم بصيص من نور الاسلام لما فتحوا باب الحرب على وصيي رسول اللّه وأراقوا دماء المسلمين بغير حق.

الفتنة الكبرى :

إن من أبشع المهازل وأسوئها في التأريخ الانساني هي حيلة رفع المصاحف فقد افتتن بها الجيش العراقي ، وانقلب رأسا على عقب. فاذا بهم يخلعون الطاعة ويعلنون العصيان والتمرد من دون تفكير ولا تدبر وهم قد أشرفوا على الفتح والظفر بعدوهم الذي أراق سيلا عارما من دمائهم.

ص: 458

يا للمصيبة والأسف لقد استعلى الباطل على الحق باسم الحق ، فقد عملت مكيدة ابن العاص عملها الفظيع في قلب حكومة العدل والمساواة فقد اندفعت كتائب منهم كالسيل فأحاطوا بالامام مرغميه على الاذعان والخضوع لدعوة معاوية وهم يهتفون بلسان واحد.

« لقد اعطاك معاوية الحق ، دعاك الى كتاب اللّه فاقبل منه!! »

وكان في طليعة الهاتفين بدعوة التحكيم الأشعث بن قيس الذي كان سوسة تنخر في المعسكر العراقي ، وأداة للشغب والتمرد ، أما بواعث ذلك فانه كانت له رئاسة كندة وربيعة وقد عزله الامام عنها وجعلها لحسان ابن مخدوج ، وتكلم جماعة مع الامام فى ارجاعه وعدم عزله فابى (1) وقد أثار ذلك كوامن الحقد في نفسه على الامام وجعلته يتطلب الفرصة المواتية للانتقام وقد وجدها في تلك الفترة الرهيبة ، ومن الخطأ أن يقال إنه انخدع بدعوة معاوية فانه ليس من السذج والبسطاء حتى يخفى عليه الامر وعلى أي حال فقد جاء يشتد كأنه الكلب نحو الامام وهو يقول :

« ما أرى الناس إلا قد رضوا ، وسرهم أن يجيبوا القوم الى ما دعوهم إليه من حكم القرآن فان شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد؟ فنظرت ما يسأل. »

وأخذ يلح على الامام بان يوفده الى معاوية فامتنع من اجابته ولكنه اصر عليه اصرارا شديدا فلم يجد «ع» بدا من إجابته ، فمضى وهو يحمل شارات الشر والشقاء ، فقال لمعاوية :

« لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ »

فأجابه معاوية بالخداع والأباطيل قائلا :

ص: 459


1- وقعة صفين : ص 153

« لنرجع نحن وأنتم إلى أمر اللّه عز وجل في كتابه ، تبعثون منكم رجلا ترضون به ونبعث منا رجلا ، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب اللّه لا يعدوانه ، ثم نتبع ما اتفقا عليه. »

وانبرى مصدقا لمقالة معاوية :

« هذا هو الحق. »

وأغلب الظن ان معاوية مناه وارشاه لأنه كان يعلم بانحرافه عن أمير المؤمنين ، وقد استجاب لدعوته وقفل راجعا الى الامام وهو ينادي بالتحكيم ، فقال الامام (عليه السلام) له ولغيره من المعاندين الذين لا يجدون لذة سوى العناد والتمرد :

« عباد اللّه ، إني أحق من أجاب إلى كتاب اللّه ، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال ، إنها كلمة حق يراد بها باطل. إنهم يعرفونها ولا يعملون بها ، وما رفعوها لكم إلا خديعة ومكيدة ، اعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا. ».

لقد اعرب (عليه السلام) في كلامه كذب ما يدعيه معاويه من الانقياد إلى كتاب اللّه ، وأبان لهم عن غيهم وتمردهم عن الدين فهو أدرى بهم من غيره ، ولكن ذلك المجتمع الهزيل لم يذعن لكلام الامام واعار حديثه أذنا صماء ، فقد انبرى إليه زهاء أثنى عشر الفا من الذين يظهرون القداسة والدين وهم لا يفهمون منهما شيئا فخاطبوه باسمه الصريح منذرين ومتوعدين إن لم يخضع لما يرومونه قائلين :

ص: 460

« يا علي .. أجب القوم إلى كتاب اللّه إذ دعيت إليه ، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فو اللّه لنفعلنها إن لم تجبهم. »

فأجابهم علیه السلام

« ويحكم ، أنا أول من دعا الى كتاب اللّه ، وأول من أجاب إليه وليس يحل لى ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب اللّه فلا أقبله ، إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن ، فانهم قد عصوا اللّه فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ، ولكن قد اعلمتكم أنهم قد كادوكم ، وأنهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون. »

وكلما حاول الامام إقناعهم وإفهامهم بشتى الاساليب بأنها خديعة بعد فشلهم وعجزهم عن المقاومة فلم يتمكن ، وأخذوا يصرون عليه بأن يأمر قائده الأشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب.

ورأى الامام الشرفي وجوههم وقد اجمعوا على مناجزته واحاطوا به مهددين ومنذرين فلم يجد (عليه السلام) بدا من إجابتهم فانفذ بالوقت الى الأشتر يزيد بن هانئ يأمره بالانسحاب عن الحرب ، فلما انتهى الرسول الى الاشتر وبلغه رسالة الامام ، انبرى الأشتر قائلا مقالة رجل تهمه مصلحة الأمة والنفع العام.

« قل لسيدى : ليست هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي ، إني قد رجوت اللّه أن يفتح لي فلا تعجلني. »

رجع الرسول الى الامام فأخبره بمقالة الحازم اليقظ ، وكانت إمارة الفتح والظفر قد بدت على يده وأوشك أن ينتهى الأمر ، وارتفعت الأصوات من كتائب جيشه معلنة بالفتح المبين ، فلما سمع هؤلاء المتمردون ذلك أحاطوا بالامام قائلين له :

ص: 461

واللّه ما نراك إلا امرته أن يقاتل.

- أرأيتموني ساررت رسولى ( إليه )؟ أليس إنما كلمته على رءوسكم علانية وانتم تسمعون.

فانطلقوا يهتفون بلسان واحد :

فابعث إليه فليأتيك ، وإلا فو اللّه اعتزلناك.

فأريع الامام منهم وقد أوشكوا أن يفتكوا به فقال (عليه السلام) :

« ويحك يا يزيد ، قل له : اقبل إلى ، فان الفتنة قد وقعت!! »

فانطلق يزيد مسرعا إلى الأشتر فقال له :

« أقبل إلى أمير المؤمنين ، فان الفتنة قد وقعت. »

فقد قلب الأشتر فقال ليزيد والذهول باد عليه مستفهما عن مدرك هذه الفتنة والانقلاب الذي وقع في الجيش :

- الرفع هذه المصاحف؟

- نعم.

وقال الأشتر مصدقا تنبؤ نفسه وحدسها في وقوع هذا الانقلاب : « أما واللّه لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع اختلافا وفرقة ، إنها مشورة ابن العاهرة ، ثم التفت الى الرسول والألم يحز في نفسه.

« ألا ترى إلى الفتح ، ألا ترى الى ما يلقون ، ألا ترى الى الذي يصنع اللّه لنا ، أينبغى أن ندع هذا وننصرف عنه؟. »

فانطلق يزيد يخبره بحراجة الموقف والاخطار التي تحف بالامام قائلا :

- أتحب أنك ظفرت هاهنا ، وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم الى عدوه؟

- سبحان اللّه. لا واللّه ما احب ذلك.

ص: 462

- فانهم قالوا : لترسلن الى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا ابن عفان ، أو لنسلمنك الى عدوك.

فقفل الأشتر راجعا إلى الامام والحزن قد استولى عليه لضياع أمله المنشود ، فقد ظفر بالفتح واهريقت دماء جيشه حتى اشرف على النهاية وإذا بتلك المتاعب والجهود تذهب سدى لمكر ابن العاص ، وخاطب اولئك الاراذل بشدة وصرامه منددا بهم قائلا :

« يا أهل الذل والوهن ، أحين علوتم القوم فظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟! وقد واللّه تركوا ما أمر اللّه به فيها وسنة من أنزلت عليه ، فلا تجيبوهم ، أمهلوني فواقا ، فاني قد أحسست بالفتح. »

فانطلق هؤلاء المتمردون مظهرين له الغي والعناد قائلين بلسان واحد « لا. لا. »

- امهلوني عدوة الفرس ، فاني قد طمعت في النصر.

- إذن ندخل معك في خطيئتك.

وانبرى الأشتر يحاججهم ويقيم لهم الأدلة على خطل رأيهم وبعدهم عن الصواب حدثوني عنكم - وقد قتل أماثلكم وبقى أراذلكم - متى كنتم محقين ، أحين كنتم تقتلون أهل الشام ، فانتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون ، أم انتم الآن فى إمساككم عن القتال محقون؟ فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم ، في النار. »

ولم يجد هذا الكلام المشفوع بالأدلة معهم شيئا فأجابوه :

« دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في اللّه وندع قتالهم في اللّه ، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا »

ص: 463

فقال لهم الاشتر :

« خدعتم واللّه فانخدعتم ، ودعيتم الى وضع الحرب فأجبتم ، يا اصحاب الجباه السود ، كنا نظن أن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق إلى لقاء اللّه فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ، ألا فقبحا يا اشباه النيب الجلالة ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا فابعدوا كما بعد القوم الظالمون. »

وما انهى الأشتر كلامه حتى اقبلوا عليه يكيلون له أصواعا من السب والشتم ، فقابلهم بالمثل والتفت الى الامام بحماس قائلا :

« يا أمير المؤمنين. احمل الصف على الصف يصرع القوم. »

ولم يجبه الامام وأطرق برأسه وهو يفكر فى العاقبة المرة التي جرها هؤلاء المتمردون على الأمة ، وقد اتخذ هؤلاء سكوته رضى منه بالأمر فهتفوا :

« إن عليا أمير المؤمنين. قد رضى الحكومة ، ورضى بحكم القرآن » ولم يسع الامام الا الرضا كما لم يسع الأشتر إلا الاذعان والقبول فقال :

« إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضى بحكم القرآن فقد رضيت بما رضى به أمير المؤمنين. »

فانبروا يهتفون :

« رضى أمير المؤمنين. رضى أمير المؤمنين. »

والامام (عليه السلام) ساكت لا يجيبهم بشيء قد استولى عليه الهم والحزن لأنه ينظر الى جيشه قد فتكت به ومزقته حيلة ابن العاص ، وليس بوسعه اصلاحهم وارجاعهم إلى طريق الحق والصواب ، فانه لم يكن له نفوذ وسلطان عليهم كما أعرب (عليه السلام) عن ذلك بقوله :

« لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا. وكنت أمس

ص: 464

ناهيا فأصبحت اليوم منهيا » (1)

انتخاب الاشعرى :

ولم تقف محنة الامام وبلاؤه في جيشه على هذا التمرد ، وإنما أخذوا يسعون جاهدين للاطاحة بحكومته فقد اصروا عليه في ترشيح عدوه الخبيث أبي موسى الأشعرى ، وانتخابه للتحكيم ، وعدم الرضا بغيره ممن رشحه الامام كابن عباس ومالك الأشتر وغيرهما من ذوي البصيرة والرأي ، والسبب في ذلك انهم يعلمون بانحراف الاشعرى عن أمير المؤمنين فاذا تولى مهمة التحكيم فانه لابه أن يختار للخلافة غير الامام ، ويذهب الدكتور طه حسين إلى ان اصرارهم لم يأت مصادفة وانما كان عن مؤامرة وتدبير بين طلاب الدنيا من أصحاب على وأصحاب معاوية جميعا (2) وعلى أي حال فقد أحاطوا بالامام يهتفون :

« إنا رضينا بأبى موسى الاشعرى. »

فزجرهم الامام ونهاهم عن انتخابه قائلا :

« إنكم قد عصيتموني في أول الامر. فلا تعصوني الآن ، إني لا أرى أن أولى أبا موسى!! »

ولم يجد معهم نصح الامام شيئا وانما أخذوا يلحون عليه قائلين :

« لا نرضى إلا به ، فما كان يحذرنا وقعنا فيه »

وأخذ الامام يبين لهم الوجه في كراهيته له قائلا لهم :

« إنه ليس لي بثقة ، قد فارقني وخذل الناس عني ، ثم هرب مني

ص: 465


1- نهج البلاغة محمد عبده ج 2 ص 212
2- علي وبنوه : ص 90

حتى آمنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عباس نوليه ذلك .. »

فلم يقنعوا واصروا على غيهم وجهلهم قائلين :

« ما نبالي أنت كنت أم ابن عباس ، لا نريد إلا رجلا هو منك ، ومن معاوية سواء ليس الى واحد منكما بادنى منه الى الآخر .. »

فدلهم الامام على الاشتر فانه ليس رحما له فردوا عليه قائلين :

« وهل سعر الأرض غير الأشتر!! »

ولم يجد الامام بعد هذه المحاورة وسيلة يسلكها في اقناعهم فاطلق سراحهم وخلى بينهم وبين جهلهم وأصبحت الأمور بيد هؤلاء العصاة المتمردين.

وثيقة التحكيم :

وتسابق القوم الى تسجيل ما يرومونه في وثيقة التحكيم وهذا نصها كما رواها الطبرى :

بسم اللّه الرحمن الرحيم : هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين إنا ننزل عند حكم اللّه عز وجل وكتابه ولا يجمع بيننا غيره ، وان كتاب اللّه عز وجل بيننا من فاتحته الى خاتمته نحيي ما احيا ونميت ما امات فما وجد الحكمان في كتاب اللّه عز وجل. وهما أبو موسى الاشعرى عبد اللّه بن قيس وعمرو بن العاص القرشي ، عملا به وما لم يجدا في كتاب اللّه عز وجل فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة ، وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق والثقة

ص: 466

من الناس انهما آمنان على انفسهما وأهلهما ، والامة لهما انصار على الذي يتقاضيان عليه وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد اللّه وميثاقه ، إنا على ما في هذه الصحيفة وان قد وجبت قضيتهما على المؤمنين فان الامن والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما ساروا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وشاهدهم وغائبهم ، وعلى عبد اللّه بن قيس وعمرو بن العاص عهد اللّه وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يرداها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا ، وأجل القضاء الى رمضان ، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراض منهما وإن توفي أحد الحكمين فان أمير الشيعة يختار مكانه ولا يألو من أهل المعدلة والقسط ، وإن مكان قضيتهما الذي يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام وإن رضيا وأحبا فلا يحضرهما فيه إلا من أرادا ويأخذ الحكمان من ارادا من الشهود ثم يكتبان شهادتهما على ما في هذه الصحيفة وهم انصار على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيه إلحادا وظلما ، اللّهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة » (1)

وسجل فريق من زعماء العراق والشام شهادتهم في هذه الوثيقة ، وتدل بنصها الصريح على عدم اهتمام معاوية وحزبه بدم عثمان ولو كان لهم إرب في ذلك لجاء ذكر قتله فيها صريحا أو ضمنا.

لقد أقاموا الدنيا وأقعدوها من أجل عثمان فنشروا ثيابه على منبر دمشق ، وهم يبكون على مصابه وأثاروا هذه الحرب من أجل المطالبة بدمه ، فما بالهم لم يتعرضوا له في وثيقة التحكيم ، ولم يذكروه بقليل ولا كثير.

وعلى أي حال فقد حفلت هذه الصحيفة بتحقيق رغبات الاشعث

ص: 467


1- تاريخ الطبري ج 6 ص 30

وسائر ذوي الاطماع والمنحرفين من قومه لأنه قد تم لهم ما أرادوا من تفلل الجيش العراقي وانقلابه وتغلب القوى الباغية على قوى الحق والاسلام

انبثاق الفكرة الحرورية :

واعقبت مهزلة رفع المصاحف انبثاق الفكرة الثورية الهدامة وهي فكرة الخوارج التي لم يكن الباعث لها الا التماس المصالح الدنيوية ، والسعي وراء النفوذ والسلطان ، وتحقيق المطامع الشخصية الرخيصة ، وقد اتخذوا « الحكم لله » شعارا لهم ، ولكنهم سرعان ما جعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الابرياء ونشر الذعر والخوف بين المسلمين ، وكان سمتهم الذي اتصفوا به هو اعلان البغي والتمرد ، والحكم بالكفر على من لا يدين بفكرتهم واباحة دماء المسلمين ، وقد تظافرت الاخبار الواردة عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بكفرهم ومروقهم من الاسلام قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « سيكون بعدي من أمتي قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة » (1) وروى أبو سعيد الخدري ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أتاه مال فجعل يضرب بيده فيه فيعطي يمينا وشمالا وفيهم رجل مقلص الثياب ذو سيماء بين عينيه أثر السجود فجعل رسول اللّه يضرب يده يمينا وشمالا حتى نفد المال ، فلما نفد المال ولى مدبرا ، وقال واللّه ما عدلت منذ اليوم ، قال فجعل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقلب كفه ويقول : إذا لم أعدل فمن يعدل بعدي؟ أما إنه ستمرق مارقة يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه حتى

ص: 468


1- صحيح مسلم 1 / 398

يرجع السهم على فوقه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يحسنون القول ويسيئون الفعل ، فمن لقيهم فليقاتلهم فمن قتلهم فله أفضل الأجر ، ومن قتلوه فله أفضل الشهادة ، برىء اللّه منهم تقتلهم أولى الطائفتين بالحق (1) إلى غير ذلك من الاخبار التي رواها الفريقان عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فى خروجهم من الدين ومروقهم عن الاسلام وهي تعد من معاجزه (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن آيات نبوته وذلك لما فيها من انباء الغيب التي تحققت بعده وعلى أي حال فقد تكتل هؤلاء المارقون وانحازوا إلى جانب آخر وهم ينادون بفكرتهم ، ويعلنون تمردهم ، ولما نزح الامام من صفين الى الكوفة ، لم يدخلوا معه إليها وانحازوا الى ( حروراء ) (2) فنسبوا إليها وكان عددهم اثني عشر الفا وقد اذن مؤذنهم ان أمير القتال شبث بن ربعي التميمي وعلى الصلاة عبد اللّه بن الكواء اليشكري والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عز وجل والامر بالمعروف والنهى عن المنكر

احتجاج ومناظرات :

واضطرب الامام من هؤلاء المارقين عن الدين فأرسل إليهم عبد اللّه ابن عباس وأمره أن لا يخوض معهم في ميدان البحث والخصومة حتى يأتيه ولما اجتمع بهم ابن عباس لم يجد بدا من الدخول معهم في مسرح البحث فقال لهم :

« ما نقمتم من الحكمين؟ وقد قال اللّه عز وجل : ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما ) (3) فكيف بأمة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ».

ص: 469


1- مستدرك الحاكم 2 / 154
2- حروراء - بفتح الحاء والراء وسكون الواو - قيل هي قرية بظهر الكوفة ، وقيل موضع على ميلين منها ، معجم البلدان 3 / 256
3- سورة النساء : آية 35

فأجابه الخوارج :

« أما ما جعل حكمه الى الناس وأمر بالنظر فيه والاصلاح له فهو إليهم كما أمر به ، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه ، حكم في الزاني مائة جلدة ، وفي السارق بقطع يده فليس للعباد أن ينظروا فيه » واندفع ابن عباس يجيبهم :

- إن اللّه عز وجل يقول : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (1) - أو تجعل الحكم في الصيد ، والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وهذه الآية بيننا وبينك ، أعدل عندك ابن العاص؟ وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا ، فان كان عدلا فلسنا بعدول ونحن اهل حربه وقد حكمتم في أمر اللّه الرجال وقد امضى اللّه عز وجل حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا وقبل ذلك دعوناهم الى كتاب اللّه عز وجل فأبوه ثم كتبتم بينكم وبينه كتابا وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة وقد قطع اللّه الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت ( براءة ) إلا من أقر بالجزية.

وبقى ابن عباس يحاججهم ويحاججونه ، لم تغن معهم شيئا الأدلة القطعية والبراهين الحاسمة التي أقامها على خطل رأيهم.

ورحل الامام إليهم تصحبه زمرة من اصحابه ليناظر هؤلاء المارقين فانتهى (عليه السلام) الى فسطاط يزيد بن قيس فدخل فيه وتوضأ وصلى ركعتين ثم اقبل نحو القوم فرأى ابن عباس يناظرهم فزجره قائلا : : انته عن كلامهم ، ألم انهك رحمك اللّه؟ ثم التفت الى القوم قائلا :

« اللّهم. إن هذا مقام من افلج فيه كان اولى بالفلج يوم

ص: 470


1- سورة المائدة آية 95

القيامة ، ومن نطق فيه وأوعث فهو في الآخرة اعمى واضل سبيلا ثم قال لهم :

- من زعيمكم؟

- ابن الكواء

فوجه (عليه السلام) خطابه إليه وإليهم :

- ما اخرجكم علينا؟

- حكومتكم يوم صفين

- انشدكم باللّه أتعلمون انهم حيث رفعوا المصاحف ، فقلتم نجيبهم الى كتاب اللّه ، قلت لكم إني اعلم بالقوم منكم إنهم ليسوا باصحاب دين ولا قرآن ، اني صحبتهم وعرفتهم اطفالا ورجالا فكانوا شر اطفال وشر رجال ، امضوا على حقكم وصدقكم فانما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهنا ومكيدة فرددتم علىّ رأيي وقلتم لا. بل نقبل منهم ، فقلت لكم اذكروا قولى لكم ومعصيتكم اياى ، فلما ابيتم الا الكتاب اشترطت على الحكمين ان يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن فان حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكما يحكم بما في القرآن ، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء

فدحضت هذه الحجة النيرة جميع ما تمسكوا به لاثبات فكرتهم الواهنة واندفعوا بلين لا عسف فيه نحو الامام قائلين له :

- اتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟

- لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن انما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق انما يتكلم به الرجال.

- فخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم؟

ص: 471

- ليعلم الجاهل ، ويثبت العالم ، ولعل اللّه عز وجل يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة.

ورأى الامام (عليه السلام) منهم اذعانا لكلامه ومقاربة شديدة له ، فقال لهم :

« ادخلوا مصركم رحمكم اللّه »

فاجابوا الى ذلك ورحلوا عن آخرهم معه الى الكوفة ، ولكنهم بقوا على فكرتهم يذيعونها بين الكوفيين وينشرون الشغب ويدعون الى البغي وقد شاع أمرهم وقويت شوكتهم واندفع بعضهم الى الامام وهو يخطب فقطع عليه خطابه تاليا قوله تعالى ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) (1) فأجابه الامام بآية اخرى ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (2)

وجعل الأمر يمعن في الفساد بين الامام وبين هؤلاء المارقين ، فقد أخذوا يتعرضون للآمنين ، وينشرون الرعب والفزع فى البلاد الأمر الذي أوجب اضطراب الامن العام وشيوع الخوف بين جميع المواطنين.

اجتماع الحكمين :

واسترد معاوية قواه واحكم أمره بعد الانهيار الذي أصابه ، وقد أوفد الى الامام رسله يستنجزه الوفاء بالتحكيم ، ويطلب منه المبادرة باجتماع الحكمين ، وانما بادر لذلك لعلمه بالفتن والخطوب التي منى بها الجيش العراقي حتى تفرق الى طوائف وأحزاب يضاف الى ذلك علمه بانحراف ابي موسى الاشعرى عن الامام ، وقد أراد أن يحوز بذلك الى

ص: 472


1- سورة الزمر آية 65
2- سورة الروم آية 60

نصره نصرا ، وقد اجابه الامام (عليه السلام) الى ذلك وانفذ اربع مائة رجل عليهم شريح بن هانى الحارثي (1) ومعهم عبد اللّه بن عباس يصلى بهم ويلي أمورهم : ومن بينهم ابو موسى الأشعرى المنتخب للتحكيم ، وكذلك فعل معاوية فأشخص عمرو بن العاص ومعه اربع مائة شخص ، وزوده بدراسة وافية عن نفسية الخامل أبي موسى قائلا :

« إنك قد رميت برجل طويل اللسان قصير الرأى فلا ترمه بعقلك كله » (2)

وسارت الكتائب فانتهت الى أذرح (3) أو دومة الجندل (4)

ص: 473


1- شريح : بن هاني بن يزيد بن الحرث : كان جاهليا فاسلم يكنى ابا المقدام وابوه هاني له صحبة مع النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وشريح من اجل اصحاب الامام ، الاستيعاب 2 / 149
2- العقد الفريد ج 3 ص 115.
3- اذرح : - بفتح اوله وسكون الذال وضم الراء - جمع مفرده ذريح ، وهو اسم لبلد من اطراف الشام تقرب من ارض الحجاز وفيها كان التحكيم بين ابن العاص والأشعري ، وهو الصحيح لقول ذى الرمة يمدح بلالا حفيد ابى موسى : ابوك تلافى الدين والناس بعد ما *** تساءوا وبيت الدين منقطع الكسر فشد إصار الدين ايام اذرح *** ورد حروبا قد لقحن الى عقر معجم البلدان ج 1 ص 161.
4- دومة الجندل بفتح اوله وضمه وقد انكر ابن دريد الفتح وعده من اغلاط المحدثين ، وهو اسم مكان على سبع مراحل من دمشق ومن مدينة الرسول ، وقال ابو عبيد السكوني : دومة الجندل حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طىء كانت به بنو كنانة من كلب ويقال إن بدومة الجندل كان التحكيم فقد حدث عبد اللّه بن عيسى حفيد ابى ليلى قال مررت مع ابى موسى بدومة الجندل ، فقال ابو موسى حدثني رسول اللّه انه حكم في بني اسرائيل في هذا الموضع حكمان بالجور ، وانه يحكم فى امتي فى هذا المكان حكمان بالجور ، قال : فما ذهبت الايام حتى حكم هو وعمرو ابن العاص فيما حكما ، وقد اكثر الشعراء فى ذكر الاجتماع بأذرح إلا قول الأعور الشنى فانه ذكر دومة الجندل في قوله : رضينا بحكم اللّه فى كل موطن *** وعمرو وعبد اللّه مختلفان فليس بهادى امة من ضلالة *** بدومة شيخا فتنة عميان بكت عين من يبكى ابن عفان بعد ما *** نفا ورق الفرقان كل مكان ثوى تاركا للحق متبع الهوى *** ووارث حزنا لاحقا بطعان كلا الفتنتين كان حيا وميتا *** يكادان لو لا القتل يشتبهان وإن كان الوزن يستقيم لو جيء بمكان دومة اذرح جاء ذلك فى معجم البلدان ج 4 ص 106 ، واحتمل الدكتور ( طه حسين ) فى كتابه ( علي وبنوه ) ص 107 ، ان الاجتماع كان في دومة الجندل اولا ثم فى اذرح بعد ذلك.

فكان هناك الاجتماع والتحكيم ، واجتمع الماكر المخادع عمرو بن العاص بضعيف العقل الخامل ابي موسى ، فأمهله ثلاثة ايام وافرد له مكانا خاصا به وجعل يقدم له ما لذّ من الطعام والشراب ولم يفتح معه الحديث حتى استبطنه وارشاه ، ولما علم بأنه قد هيمن عليه وصار زمامه بيده أخذ يحدثه بانخفاض ولين مبديا له الاكبار والتقديس والتعظيم قائلا له :

« يا أبا موسى .. انك شيخ اصحاب محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وذو فضلها ،

ص: 474

وذو سابقتها ، وقد ترى ما وقعت فيه هذه الامة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها ، فهل لك ان تكون ميمون هذه الأمة فيحقن اللّه بك دماءها ، فانه يقول : في نفس واحدة. ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا ، فكيف بمن احيا انفس هذا الخلق كله. »

ومتى كان ابو موسى شيخ صحابة النبي ومن ذوي الفضائل والسوابق في الاسلام ،؟!! وقد لعبت هذه الكلمات في نفسه فطفق يسأل عن الكيفية التي يحسم بها النزاع قائلا : كيف ذلك؟

« تخلع أنت على بن ابي طالب ، واخلع انا معاوية بن ابي سفيان ونختار لهذه الامة رجلا لم يحضر في شيء من الفتنة ولم يغمس يده فيها » فبادره ابو موسى عن الشخص الذي يرشح لكرسى الخلافة قائلا :

« ومن يكون ذلك؟ »

وكان عمرو قد فهم ميول ابي موسى واتجاهه نحو عبد اللّه بن عمر فقال له :

« انه عبد اللّه بن عمر. »

واسترّ الاشعري بذلك اى سرور واندفع إليه يطلب منه المواثيق على وفائه بما قال ، قائلا له :

- كيف لى بالوثيقة منك؟

- يا أبا موسى .. الا بذكر اللّه تطمئن القلوب ، خذ من العهود والمواثيق حتى ترضى.

ثم انبرى يكيل له العهود والمواثيق والايمان المغلظة ، حتى لم يبق يمين او شيء مقدس إلا واقسم به على الوفاء والالتزام بما قال ، وبقى الشيخ الكبير السن الصغير العقل مبهورا بهذه اللباقة التي ابداها ابن العاص فأجابه بالرضا والقبول ، واذيع بين المجتمع اتّفاقهما ، والوقت الذي يكون

ص: 475

فيه الاجتماع.

وأقبلت الساعة الرهيبة التي تغير فيها مجرى التأريخ ، فاجتمعت الجماهير لتأخذ النتيجة الحاسمة من هذا التحكيم المنتظر بفارغ الصبر ، فأقبل الخاتل ابن العاص مع أبي موسى المخدوع الى منصة الخطابة ليعلنا للجماهير الصورة التي اتّفقا عليها ، فالتفت ابن العاص الى أبي موسى قائلا :

- قم فاخطب الناس ، يا أبا موسى.

- قم. أنت فاخطبهم.

- سبحان اللّه أنا اتقدمك ، وأنت شيخ أصحاب رسول اللّه واللّه لا فعلت ذلك أبدا.

- أفي نفسك شيء؟

فزاده أيمانا مغلظة على الالتزام بالعهد الذي أعطاه له (1) وعرف ابن عباس هذه المخادعة من ابن العاص وتجلت له الحيلة التي يرومها هذا الماكر فالتفت الى الأشعري قائلا :

« ويحك واللّه ، إني لأظنه قد خدعك ، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك ، ثم تكلم أنت بعده ، فان عمرو رجل غادر ولا آمن من أن يكون قد اعطاك الرضا فيما بينك وبينه فاذا قمت فى الناس خالفك » (2).

فلم يلتفت الصعلوك الى كلام ابن عباس وراح يشتد كأنه الحمار نحو منصة الخطابة فلما استوى عليها ، حمد اللّه واثنى عليه وصلى على النبي الكريم ، ثم قال :

ص: 476


1- العقد الفريد ج 3 ص 115.
2- تأريخ الطبرى ج 6 ص 39.

« أيها الناس ، إنا قد نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الالفة ، خلعنا عليا ومعاوية وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتى هذه ( وأهوى الى عمامته فخلعها ) واستخلفنا رجلا قد صحب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بنفسه وصحب أبوه النبي صلی اللّه علیه و آله فبرز في سابقته وهو عبد اللّه بن عمر ».

وأخذ يثنى عليه بالثناء العاطر ويخلع عليه النعوت الحسنة والأوصاف الشريفة.

وقد عدل الاشعري عن انتخاب الامام أمير المؤمنين وهو نفس النبيّ وباب مدينة علمه فرشح عبد اللّه بن عمر وهو لا يحسن طلاق زوجته - على حد تعبير أبيه - أف للزمان وتعسا للدهر أن يتحكم فى المسلمين ويفرض رأيه عليهم مثل هذا الصعلوك النذل ، وعلى اى حال فقد انبرى ابن العاص فحمد اللّه واثنى عليه وصلى على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال :

« أيها الناس ، إن أبا موسى عبد اللّه بن قيس خلع عليا واخرجه من هذا الأمر الذي يطلب ، وهو اعلم به ، ألا وإنى خلعت عليا معه وأثبت معاوية علىّ وعليكم ، وإن أبا موسى قد كتب فى الصحيفة (1) إن عثمان قد قتل مظلوما شهيدا وإن لوليه أن يطلب بدمه حيث كان ، وقد صحب معاوية رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بنفسه ، وصحب أبوه النبي وأخذ يفيض عليه بالثناء والمديح ، ثم قال : هو الخليفة علينا ، وله طاعتنا وبيعتنا على الطلب بدم عثمان.

وانطلق الخامل المخدوع أبو موسى الى ابن العاص قائلا :

ص: 477


1- يشير بالصحيفة الى إقرار ابى موسى حول قتلة عثمان الذي سجله عنده ، وقد ذكر المسعودي تفصيل ذلك فى مروج الذهب ج 2 ص 277

« ما لك؟ عليك لعنة اللّه! ما أنت إلا كمثل الكلب تلهث. »

فزجره ابن العاص بعد أن جعله جسرا فعبر عليه ، قائلا له :

« لكنك مثل الحمار يحمل اسفارا » (1)

نعم هما كلب وحمار وقد احسن كل منهما فى وصف صاحبه ، وانطلق أبو موسى الى مكة يصحب معه الخزي والعار بعد ما أحدث هذه الفتنة العمياء والفتق الذي لا يرتق وترك إمام الحق يئن من جراء حكمه المهزول ، وقد سجل للعراقيين بتحكيمه عارا وخزيا لا ينساه التأريخ ، وقد اكثر الشعراء فى الهجاء المقذع لهم فمن ذلك ما قاله أيمن بن خريم الأسدي (2) :

لو كان للقوم رأي يعصمون به *** من الضلال رموكم بابن عباس

لله در أبيه أيما رجل *** ما مثله لفصال الخطب فى الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن *** لم يدر ما ضرب اخماس لأسداس

إن يخل عمرو به يقذفه في لجج *** يهوى به النجم تيسا بين أتياس

ابلغ لديك عليا غير عاتبه *** قول امرئ لا يرى بالحق من باس

ما الأشعري بمامون ، أبا حسن *** فاعلم هديت وليس العجز كالراس

فاصدم بصاحبك الادنى زعيمهم *** إن ابن عمك عباس هو الآسى

لقد سجل العراقيون فى تأريخهم صفحات من الخزي بانتخابهم لأبي موسى الخامل الرأي ، الضعيف العقل الذي لم يمتع به النظر ، ولا باصالة في التفكير ، فكيف ينتخبونه ليقرر مصيرهم ومصير الاجيال اللاحقة؟

ص: 478


1- الامامة والسياسة ج 1 ص 143.
2- أيمن بن خريم - بالراء المهملة - وهو ابن شداد الاسدى ، احد الشعراء ، وقد اختلف فى صحبته للنبي ، وقد روى عنه فى شهادة الزور ، تهذيب التهذيب 1 / 392

خطاب الامام الحسن :

ولما أذيع الخبر المؤلم بين العراقيين في خلع أبي موسى للامام زادت الفتنة ، وكثر الاختلاف والانشقاق بينهم ، وجعل بعضهم يتبرأ من بعض ويشتم بعضهم بعضا ، ورأى الامام أن خطورة الموقف تقضي بأن يقوم تفر من أهل بيته فيخطب بين الناس ليوقفهم على حقيقة الحال ويبين لهم فساد التحكيم ، فقال للحسن : قم يا بني. فقل في هذين الرجلين عبد اللّه ابن قيس ، وعمرو بن العاص فقام الحسن فاعتلى أعواد المنبر فقال :

« أيها الناس. قد أكثرتم في هذين الرجلين ، وإنما بعثا ليحكما بالكتاب على الهوى ، فحكما بالهوى على الكتاب ، ومن كان هكذا لم يسم حكما ولكنه محكوم عليه ، وقد أخطأ عبد اللّه بن قيس إذ جعلها لعبد اللّه ابن عمر فأخطأ في ثلاث خصال ، واحدة انه خالف ( يعني ابا موسى ) أباه ( يعني عمر ) إذ لم يرضه لها ولا جعله من اهل الشورى واخرى إنه لم يستأمره في نفسه (1) وثالثها : إنه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين يعقدون الامارة ويحكمون بها على الناس. وأما الحكومة فقد حكم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) سعد بن معاذ (2) في بني قريضة فحكم بما يرضى اللّه به ،

ص: 479


1- وفى رواية ابن قتيبة فى الامامة والسياسة 1 / 144 إنه لم يستأمر الرجل فى نفسه ولا علم ما عنده من رد او قبول.
2- سعيد بن معاذ بن النعمان الانصارى من الاوس اسلم على يد مصعب بن عمير لما ارسله النبي الى المدينة ليعلم المسلمين ، ولما اسلم سعد قال لبني عبد الاشهل : كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تسلموا فأسلموا وكان من اعظم الناس بركة فى الاسلام ، وقد شهد مع النبي بدرا بغير خلاف ، ولما توجه النبيّ الى بدر جاءه الخبر بتوجه قريش الى حربه فاستشار (صلی الله عليه وآله وسلم) اصحابه في الامر فأنبرى إليه المقداد وابو بكر يعلنان الطاعة ، وكان نظره (صلی الله عليه وآله وسلم) الى الانصار لان اكثرية جيشه منهم ، وعرف سعد انه يريد باستشارته الانصار فقال له : لكأنك تريدنا يا رسول اللّه ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : اجل ، فقال سعد يا رسول اللّه قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به الحق واعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اللّه لما اردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره ان تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، لعل اللّه يريك فينا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة اللّه فسر (صلی الله عليه وآله وسلم) وابتهج من كلامه ونشط للقاء المشركين ولما صارت وقعة الخندق خرج سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه وفي يده حربة وهو يقول : لبث قليلا يلحق الهيجا جمل *** لا بأس بالموت إذا حان الاجل فالتفتت إليه أمه قائلة الحق يا بنى قد واللّه اخرت ، واصابه فى ذلك اليوم سهم فقطع اكحله ، ولما اذعن بنو قريظة على النزول على حكم سعد جاء وهو جريح ، فقال النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) لاصحابه قوموا الى سيدكم او خيركم فلما حل بالمجلس قال رسول اللّه له : يا سعد احكم فيهم فقال سعد حكمت فيهم ان تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) حكمت فيهم بحكم اللّه : ولما فرغ من التحكيم انفجر جرحه فاحتضنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجعلت الدماء تسيل عليه وقبض من جرحه ، وبكى عليه رسول اللّه ومشيخة الصحابة وقالت أمه راثية له : ويل أم سعد سعدا *** براعة ونجدا ويل أم سعد سعدا *** صرامة وجدا فلما سمع النبي رثاءها قال : إن كل نادبة كاذبة إلا نادبة سعد ، جاء ذلك فى اسد الغابة ج 2 ص 296.

ولا شك لو خالف لم يرضه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم نزل عن منصة الخطابة.

ص: 480

لقد ذكر الحسن في خطابه الرائع أهم النقاط الحساسة التي هي محور النزاع ومصدر الفتنة فأشبعها بالتفصيل وبين جلية الحال للجموع الحاشدة حتى لم يترك ثغرة ينفذ منها المتمردون إلا وسدها في وجوههم فأبان (عليه السلام) أن المختار للتحكيم إنما يتبع قوله ويكون رأيه فيصلا للخصومة فيما إذا حكم بالحق ولم يخضع للنزعات والأهواء الفاسدة ، وأبو موسى لم يكن في تحكيمه هذا خاضعا للحق بل اتبع هواه وميوله فرشح عبد اللّه ابن عمر للخلافة مع أن أباه كان لا يراه أهلها ولو كان يراه اهلا للخلافة لرشحه لها او جعله من اعضاء الشورى مضا الى أن الشرط الأساسي في الانتخاب هو أن يجتمع على المنتخب المهاجرون والأنصار ولم يحصل ذلك له ، وأعرب (عليه السلام) في خطابه عن مشروعية التحكيم الامر الذي أنكرته الخوارج مستدلا على ذلك بتحكيم النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) لسعد بن معاذ في بني قريظة ، ولو كان التحكيم غير مشروع لما ارتكبه الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم).

وقام بعد الحسن عبد اللّه بن عباس فحمد اللّه واثنى عليه وقال :

« أيها الناس. إن للحق أناسا أصابوه بالتوفيق والرضا ، والناس بين راض به ، وراغب عنه وإنما سار أبو موسى يهدى الى ضلال ، وسار عمرو بضلال إلى هدى ، فلما التقيا رجع أبو موسى عن هداه ، ومضى عمر على ضلاله ، فو اللّه لو كانا حكما عليه بالقرآن لقد حكما عليه ، ولئن كانا حكما بهواهما على القرآن ، ولئن مسكا بما سارا به ، لقد سار أبو موسى وعلى إمامه وسار عمرو ومعاوية إمامه ».

ولما انهى خطابه أمر الامام عبد اللّه بن جعفر أن يخطب فتقدم عبد اللّه فصعد المنبر فقال :

« أيها الناس. هذا أمر كان النظر فيه لعلى. والرضا فيه الى غيره

ص: 481

جئتم بأبي موسى ، فقلتم قد رضينا هذا فارض به ، وأيم اللّه ما أصلحا بما فعلا الشام ، ولا أفسدا العراق ، ولا اماتا حق علي ، ولا أحييا باطل معاوية ، ولا يذهب الحق قلة رأى ، ولا نفخة شيطان ، وانا لعلى اليوم كما كنا أمس عليه » ثم نزل عن المنبر (1) وقد استجاب الناس لندائهم وارتدع الكثيرون منهم عن الغي والتمرد.

تمرد الخوارج :

ولما فشل أمر التحكيم ورجع الوفد الكوفي وهو يجر رداء الخيبة والفشل أخذ الامام يبذل قصارى جهوده على إخراج الناس لمحاربة القوى الباغية عليه فأجابه الناس الى ذلك ، ولكن الخوارج أخذوا يعيثون في الارض فسادا فقد رحلوا عن الكوفة وعسكروا في النهروان (2) فاجتاز

ص: 482


1- الامامة والسياسة ج 1 ص 144
2- النهروان : كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدها الأعلى متصل ببغداد ، وفيها عدة بلدان منها اسكاف والصافية وغيرهما وقد تخرج منها جماعة من اهل العلم والأدب وكانت بها الواقعة بين الامام على والخوارج ، وكان فيها نهر عظيم ، وقد خرب وسبب خرابه اختلاف الملوك وقتال بعضهم بعضا فى ايام السلجوقية إذ ان كل من ملك لا يحفل بتعميره بل كان قصده ان يحوصل ويطير ، وكان أيضا في ممر العساكر ، وهذه الاسباب اوجبت ان يجلوا عنه اهله حتى استولى عليه الخراب ، جاء ذلك في معجم البلدان ج 8 ص 347.

عليهم الصحابي الجليل عبد اللّه بن خباب بن الأرت (1) فأقبلوا إليه قائلين له :

- من أنت؟

- رجل مؤمن.

- ما تقول في على بن أبي طالب؟

- إنه أمير المؤمنين ، وأول المسلمين إيمانا باللّه ورسوله.

- ما اسمك؟

- عبد اللّه بن خباب بن الارت صاحب رسول اللّه.

- أفزعناك؟

- نعم.

- لا روع عليك.

- حدثنا عن أبيك بحديث سمعه من رسول اللّه ، لعل اللّه أن ينفعنا به.

ص: 483


1- عبد اللّه بن خباب بن الأرت المدني حليف بني زهرة ، روى عن أبيه وعن أبي بن كعب وروى عنه جماعة منهم عبد اللّه بن الحارث وعبد الرحمن بن ابزى الصحابى ، وقال العجلى فيه إنه ثقة من كبار التابعين قتلته الحرورية ، وقد ارسله الامام على إليهم فقتلوه ، وذكره ابن حيان فى الثقات ، وقال الغلابى كان عبد اللّه من سادات المسلمين جاء ذلك في تهذيب التهذيب ج 5 ص 196 ، اقول : لم تنص كتب التأريخ والتراجم على إرسال الامام الى الخوارج عبد اللّه وقد انفرد العجلى في هذا القول ، وجاء في الاصابة ج 2 ص 302 ان عبد اللّه كان متوجها الى الكوفة للاجتماع بالامام فصادف الخوارج فقتلوه وذكر القصة في قتله.

- نعم حدثني عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال : ستكون فتنة بعدى يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه ، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا.

- لهذا الحديث سألناك؟ واللّه لنقتلنك قتلة ما قتلنا بمثلها احدا.

ثم أوثقوه كتافا ، واقبلوا به وبامرأته وكانت حبلى قد اشرفت على الولادة ، فنزلوا بهما تحت نخل ، فسقطت رطبة منها فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه ، فأقبل إليه بعضهم منكرا عليه قائلا :

« بغير حل أكلتها!! »

فالقاها بالوقت من فيه ، واخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيرا لأهل الذمة فقتله ، فصاح بعضهم فيه :

« إن هذا من الفساد في الأرض. »

فبادر الرجل الى صاحب الخنزير فأرضاه ، فلما نظر الى ذلك عبد اللّه ابن خباب قال لهم :

« لئن كنتم صادقين فيما أرى ، ما علي منكم بأس ، وو اللّه ما احدثت حدثا في الاسلام ، وإني لمؤمن ، وقد آمنتموني ، وقلتم لا روع عليك » فلم يلتفتوا الى قوله ، فجاءوا به وبامرأته ، فأضجعوه على شفير النهر ووضعوه على ذلك الخنزير الذي قتلوه ، ثم ذبحوه ، وأقبلوا الى امرأته وهي ترتعد من الخوف ترى شبح الموت قد خيم عليها وتنظر الى زوجها وهو جثة هامدة فقالت لهم مسترحمة ومتضرعة :

« إنما أنا امرأة ، أما تتقون اللّه؟ »

فلم يعتنوا باسترحامها وتضرعها ، وأقبلوا عليها كالكلاب فقتلوها وبقروا بطنها ، وانعطفوا على ثلاث نسوة فقتلوهن وفيهن أمّ سنان الصيداوية وكانت قد صحبت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولم يقف شرهم عند هذا الحد بل أخذوا

ص: 484

يستعرضون الناس ، ويذيعون الذعر بين المسلمين وينشرون الفساد في الارض

واقعة النهروان :

وأرسل الامام الى الخوارج الحارث بن مرة العبدى يسألهم عن ترويعهم للآمنين ونشرهم للخوف وعن الفساد الذي أحدثوه فى الأرض ، فحينما انتهى إليهم قتلوه ، ولما جاء خبر قتله الى الامام قام إليه فريق من اصحابه فقالوا له :

« يا أمير المؤمنين ، علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في اموالنا وعيالنا ، سربنا الى القوم فاذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا الى عدونا من أهل الشام ».

فاستصوب الامام رأيهم ورأى ان الخطر الناجم من هؤلاء أشد وأعظم من خطر معاوية وذلك لقربهم من عاصمته وهم لا شك سيحدثون الاضطراب والقلق فيما لو نزح لجرب معاوية فأزمع الامام على الرحيل إليهم ونادى مناديه في الجيش :

« الرحيل ، عباد اللّه ، الرحيل. »

وتحركت قوات الامام تحدوها العقيدة الى محاربة هؤلاء المارقين عن الدين والعابثين بالأمن فلما انتهوا إليهم بعث الامام لهم رسولا يطلب منهم قتلة عبد اللّه بن خباب ومن كان معه وقتلة رسوله الحارث بن مرة ، فاندفعوا مجيبين بجواب واحد.

« إنا كلنا قتلناهم ، وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم. »

فأقبل (عليه السلام) بنفسه إليهم فوجه لهم خطابا مشفوعا بالنصح والارشاد وحب الخير قائلا :

ص: 485

« أيتها العصابة ، إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدا ، وانتم صرعى بازاء هذا النهر بغير برهان ولا سنة ، ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة ، واخبرتكم أن طلب القوم لها مكيدة ، وانبأتكم ان القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وأني أعرف بهم منكم ، قد عرفتهم اطفالا ، وعرفتهم رجالا ، فهم شر رجال ، وشر أطفال ، وهم أهل المكر والغدر ، وانكم إن فارقتموني ورأيى جانبتم الخير والحزم ، فعصيتموني وأكرهتموني ، حتى حكمت ، فلما أن فعلت شرطت واستوثقت ، واخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فاختلفا ، وخالفا حكم الكتاب والسنة ، وعملا بالهوى ، فنبذنا أمرهم ، ونحن على أمرنا الاول ، فما نبؤكم ومن أين أتيتم؟ »

لقد بين (عليه السلام) فى خطابه اجبارهم وإكراههم له في بادئ الامر على التحكيم ، وإنه ما قبله إلا وهو مكره مخاطر على حياته منهم ، وانه قد شرط على الحكمين أن يحكما بما وافق كتاب اللّه وسنة نبيه ولما لم يحكما بذلك ولم يتبعا الحق كان حكمهما مردودا ولكن هؤلاء العتاة الذين لم يفهموا من المنطق شيئا اجابوا الامام بجواب دل على تماديهم في الجهل قائلين :

« .. إنا حيث حكمنا الرجلين أخطأنا بذلك ، وكنا كافرين ، وقد تبنا من ذلك ، فان شهدت على نفسك بالكفر ، وتبت كما تبنا واشهدنا فنحن معك ومنك ، وإلا فاعتزلنا ، وإن أبيت فنحن منابذوك على سواء » فأجابهم الامام منكرا عليهم ذلك قائلا :

« أبعد إيماني باللّه وهجرتي وجهادى مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أبوء وأشهد على نفسي بالكفر ، لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين ، ويحكم

ص: 486

بم استحللتم قتالنا والخروج من جماعتنا إن اختار الناس رجلين ، فقالوا لهما : انظرا بالحق فيما يصلح العامة ليعزل رجل ، ويوضع آخر مكان آخر. أحل لكم أن تضعوا سيوفكم على عواتقكم تضربون بها هامات الناس وتسفكون دماءهم ، إن هذا لهو الخسران المبين » (1)

ولما علموا أنهم لا يستطيعون أن يناقشوا الامام في كلامه نادى بعضهم بعضا :

« لا تخاطبوهم ولا تكلموهم ، تهيئوا للقاء الحرب ، الرواح الرواح إلى الجنة. »

ولما يئس الامام من ارشادهم وإرجاعهم الى طريق الحق عبأ جيشه وأمر بان لا يبدءوهم بقتال حتى يقاتلوهم ، ولما نظر الخوارج الى هذا التهيؤ استعدوا وتهيئوا ، وكانت نفوسهم مترعة بالشوق الى الحرب وقلوبهم تتحرق الى القتال تحرق الظمآن الى الماء ، وهتف بعضهم فيهم :

« هل من رائح الى الجنة؟ »

فأجابوه جميعا الرواح الى الجنة ، ثم حملوا حملة منكرة وهم يهتفون بشعارهم ( لا حكم إلا لله ) فانفرجت لهم خيل الامام فرقين ، فرق تمضي الى الميمنة وفرق تمضي الى الميسرة ، والخوارج يندفعون بين الفريقين ، فتلقاهم أصحاب الامام بالنبل وما هي إلاّ ساعة حتى قتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم الا تسعة (2)

ص: 487


1- الامامة والسياسة ج 1 ص 155.
2- الملل والنحل للشهرستانى ج 1 ص 159 وجاء فيه انه انهزم منهم اثنان الى عمان ، واثنان الى كرمان ، واثنان الى سجستان ، واثنان الى الجزيرة ، وواحد الى تل موزون ، واخذ هؤلاء يبثون فكرتهم في هذه المواضع حتى ظهرت فيها بدعة الخوارج.

ولما وضعت الحرب أوزارها طلب الامام من اصحابه أن يلتمسوا له ذا الثدية (1) في القتلى فبحثوا عنه بحثا دقيقا فلم يظفروا به فعادوا إليه يخبرونه بعدم ظفرهم به ، فأمرهم أن يلتمسوه له مرة اخرى قائلا :

ص: 488


1- ذو الثدية ، قال فيه انس كان في عهد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) رجل يعجبنا تعبده وقد ذكرنا ذلك لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وسميناه له فلم يعرفه فبينما نحن فى ذكره إذ طلع علينا الرجل ، فقلنا له يا رسول اللّه هو هذا ، فلما نظر إليه قال (صلی الله عليه وآله وسلم) إنكم لتخبروني عن رجل إن وجهه لسفعة ( السفعة العلامة والسمة ) من الشيطان فاقبل حتى وقف ولم يسلم ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انشدك اللّه هل قلت حين وقفت على المجلس ما في القوم احد افضل مني او خير مني ، قال اللّهم نعم. ثم دخل يصلى فقال رسول اللّه من يقتل الرجل؟ فقال ابو بكر انا فمضى إليه فوجده يصلى ، فقال سبحان اللّه اقتل رجلا يصلى ، وقد نهى رسول اللّه عن قتل المصلين فخرج فقال له رسول اللّه ما فعلت؟ فقال كرهت ان اقتله وهو يصلي وأنت قد نهيت عن قتل المصلين ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) لاصحابه من يقتل الرجل؟ فقال عمر انا فمضى إليه فوجده واضعا جبهته على الارض ، فقال عمر ابو بكر افضل منى ثم خرج ، فقال له رسول اللّه ما فعلت؟ فقال عمر وجدته واضعا وجهه لله فكرهت ان اقتله ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : من يقتل الرجل ، فقال الامام انا ، فقال له رسول اللّه أنت له إن ادركته ، فمضى الامام إليه فوجده قد خرج ، فجاء الى رسول اللّه فأخبره بالامر فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) لو قتل ما اختلف من امتي رجلان كان اولهم وآخرهم سواء ، جاء ذلك في الاصابة ج 1 ص 484.

« ما كذبت ، ولا كذبت ، ويحكم!! التمسوا الرجل فانه في القتلى .. »

فانطلقوا يفتشون عنه ، فظفر به رجل من اصحابه بين القتلى ، فمضى يهرول فأخبر الامام به فقال : « اللّه اكبر!! ما كذبت على محمد ، وإنه لناقص اليد ليس فيها عظم في طرفها حلمة مثل ثدي المرأة عليها خمس شعرات أو سبع رءوسها معقفة .. »

وأمر باحضار جثته ، فاحضرت له فتبين عضده فاذا على منكبه ثدى كثدي المرأة وعليه شعرات سود تمتد حتى تحاذي بطن يده الأخرى فاذا تركت عادت الى منكبه ، فلما رأى ذلك خرّ لله ساجدا ، ثم قسم بين اصحابه سلاح الخوارج ودوابهم ، ورد الأمتعة والعبيد الى أهليهم (1) وبذلك انتهت حادثة النهروان.

المتارك البغيضة :

واعقبت حادثة صفين والنهروان أعظم المحن والمشاكل واغرقت البلاد في الاحداث والخطوب ، وقد اوجبت خذلان الامام وولده الحسن في دوره ، ونشير الى بعضها :

1 - تمرد الجيش

لقد منى الجيش العراقي عقيب الحادثتين بالانشقاق والتمرد ، والضعف والسئم من الحرب وسبب ذلك يرجع الى كثرة من قتل منه ، وان القتلى كانوا ينتمون الى تلك الكتائب العسكرية فشاع فيها الحزن وانتشر الجزع والتذمر ، واصبح الجيش على أثر ذلك يسأم من الحرب ، ويحب السلم ويؤثر العافية ، وقد ظهر ذلك بوضوح حينما أراد الامام أن يزحف الى

ص: 489


1- مروج الذهب 2 / 385

حرب معاوية عقيب حادثة النهروان فانهم لم يجيبوه الى ذلك ، وقد تصدى الاشعث بن قيس الى جوابه فقال له :

« يا أمير المؤمنين .. نفذت نبالنا ، وكلت سيوفنا ، ونصلت أسنة رماحنا ، فارجع بنا الى مقرنا لنستعد بأحسن عدتنا ، ولعل أمير المؤمنين يزيد فى عددنا عدد من هلك منا ، فانه أوفى لنا على عدونا .. »

وعلى أثر كلام هذا الماكر الخبيث تسلل الجنود من معسكراتهم ، منهزمين ولاذ من لاذ منهم بالمدن القريبة ، وأيقن الامام أنهم مارقون من يده ، ولا طاعة له عليهم ، فاضطر الى الرجوع إلى عاصمته وبهذا نقف على مدى رغبة الجيش في الاستسلام وسئمه من الحرب ، وكلما حاول الامام بعد ذلك بشتى الوسائل والاساليب أن يقضى على هذا الانحلال والتمرد فلم يتمكن.

2 - فقده لأعلام أصحابه

وفقد الامام في صفين أهم أصحابه الذين يعتمد على اخلاصهم وايمانهم بقضيته ، وهم البقية الصالحة من المهاجرين والانصار الذين ناضلوا عن كرامة الاسلام وشيدوا صروحه ، ولو كانوا في قيد الحياة لما حدث التفكك في جيشه ، وقد حزن عليهم حزنا مرهقا ، وبكى عليهم أمر البكاء وقد تذكرهم وهو يخطب على منبر الكوفة فصعد آهاته وبث زفراته وانطلق يقول : « ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص ويشربون الرنق (1) ،! - قد واللّه - لقوا اللّه فوفاهم اجورهم ، واحلهم دار الأمن بعد خوفهم ، اين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق ، اين عمار ، واين ابن التيهان (2) واين

ص: 490


1- الرنق : بكسر النون ، وفتحها ، الشيء الكدر.
2- ابن التيهان هو مالك بن التيهان بن مالك الأوسى كان احد الستة الذين لقوا رسول اللّه ، وهو اول من لقيه من الانصار ، وهو اول من بايعه في ليلة العقبة ، وقيل ليس هو اول من بايع، وكان مالك نقيب بنى عبد الأشهل هو واسيد بن خضير ، وشهد بدرا واحدا والمشاهد كلها قيل مات في خلافة عمر سنة عشرين ، وقيل شهد مع الامام صفين ومات بعدها بقليل جاء ذلك في اسد الغابة ج 4 ص 274 وجاء في الاستيعاب ان مالكا شهد مع الامام صفين وقتل فيها وصريح خطاب الامام يدل على ذلك.

ذو الشهادتين (1) واين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على النية ، وأبرد برءوسهم الى الفجرة؟! »

ثم وضع يده على كريمته الشريفة فأطال البكاء ثم قال :

« أوه (2) على إخواني الذين قرءوا القرآن فأحكموه ، وتدبروا

ص: 491


1- ذو الشهادتين : هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه الانصارى الأوسي يكنى ابا عمارة ، وقد جعل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) شهادته كشهادة رجلين ، وسبب ذلك ان النبي اشترى فرسا من سواء بن قيس المحاربى فجحد سواء الشراء فشهد خزيمة بن ثابت للنبى فقال له رسول اللّه : ما حملك على الشهادة ولم تكن معنا حاضرا فقال : صدقتك بما جئت به وعلمت انك لا تقول إلا حقا فكيف لا اصدقك في هذا الأمر ، فقال رسول اللّه من شهد له خزيمة او عليه فحسبه ، وقد شهد مع رسول اللّه بدرا واحدا والمشاهد كلها وشهد مع الامام الجمل وصفين ولم يقاتل فيهما ولما قتل عمار بن ياسر بصفين قال خزيمة سمعت رسول اللّه يقول : تقتل عمارا الفئة الباغية ، ثم سل سيفه وقاتل حتى قتل جاء ذلك في اسد الغابة ج 2 ص 114.
2- اوه - بفتح الهمزة وسكون الواو وكسر الهاء - كلمة توجع.

الفرض فأقاموه ، أحيوا السنة ، وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فأتبعوه (1)

لقد ذابت نفسه أسى على فقده لهذه الصفوة التي عرفت مكانته ووعت أهدافه ، وسارت على ضوء إرشاداته القيمة وتعاليمه الرفيعة حتى صارت أمثلة للكمال والتهذيب والسمو ، ولما طحنت هؤلاء المثاليين حرب صفين صار الامام أعزلا لا يجد أحدا في ذلك المجتمع الهزيل يسانده ويساعده على تحقيق ما يصبو إليه فى هذه الحياة من إصلاح المجتمع ونشر ألوية العدالة والمساواة بين الناس ، .. وأما خصمه معاوية فانه لم يخسر فى حرب صفين أحدا من بطانته والدهاة الذين عنده بل انضم إليه جمع كثير من الذين باعوا ضمائرهم عليه حتى قوي أمره. 3 - الاحتلال والغزو

لقد درس معاوية نفسية الجيش العراقي ووقف على تخاذله وعدم انقياده للامام فجعل يحتل الاقطار الاسلامية قطرا بعد قطر فبعث جيشا جرارا لاحتلال مصر التي هي أمل ابن العاص وبغيته ، فاحتلها وقتل حاكمها الطيب محمد بن أبي بكر قتلة مروعة ، والعراقيون متقاعسون عن إجابة الامام والنهوض معه الى رد هذا العدوان.

وبعث جيشا آخر بقيادة الوغد الأثيم بسر بن أبي أرطاة (2) لاحتلال الحجاز واليمن ، فتوجه القائد القاسي الى المدينة وكان حاكمها أبا أيوب

ص: 492


1- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 130.
2- بسر بن ابي ارطاة القرشي واسم ابي ارطاة عمير ، وقيل عويمر العامري وقد ارتكب هذا الجافي من الجرائم والآثام ما لا يرتكبه احد ، منها قتله ولدى عبيدي اللّه بن العباس ، وهما عبد الرحمن وقثم وكانا طفلين » ولم يرع قرابتهما من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وصغر سنهما ، ومنها غارته على همدان وسبى نسائهم فكن اول مسلمات سبين فى الاسلام ، ومنها قتله أحياء من بني سعد ، الى غير ذلك من الجرائم التي ارتكبها ، وقد برز هذا الأثيم يوم صفين لمحاربة الامام ، فطعنه الامام فسقط الى الأرض وكشف عن عورته فتركه الامام وفى فعله يقول الحرث احد الشعراء : أفي كل يوم فارس ليس ينتهي *** وعورته وسط العجاجة باديه يكف لها عنه على سنانه *** ويضحك منها فى الخلاء معاويه بدت امس من عمرو فقنع راسه *** وعورة بسر مثلها حذو حاذيه فقولا لعمرو ثم بسر الا انظرا *** سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما *** هما كانتا واللّه للنفس واقيه ولولاهما لم تنجوا من سنانه *** وتلك بما فيها عن العود ناهيه متى تلقيا الخيل المشيحة صبحة *** وفيها علي فاتركا الخيل ناحيه وكونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا *** نحور كما ان التجارب كافيه وقد خرف فى آخر عمره ومات بالمدينة ، وقيل بل مات بالشام في بقية ايام معاوية الاستيعاب 1 / 154 - 163.

الأنصاري (1) فهرب وقد استولى عليه الخوف ، ودخل بسر الى المدينة

ص: 493


1- ابو ايوب هو خالد بن زيد بن كليب الانصاري من بني النجار وهو معروف باسمه وكنيته ، شهد مع النبي العقبة وبدرا وما بعدها من المشاهد ، ولما قدم النبي الى المدينة نزل في بيته الى ان بنى بيوته ومسجده وآخى النبيّ بينه وبين مصعب بن عمير ، وقد استخلفه الامام علي على المدينة لما خرج الى العراق ، ثم لحق به بعده وشهد معه قتال الخوارج ولزم ابو ايوب الجهاد بعد النبي الى ان توفى بالقسطنطينية سنة خمسين ، وقيل اثنتين وخمسين جاء ذلك فى الاصابة ج 1 ص 405

فأدخل الرعب والخوف في القلوب ، وخطب الناس فكان خطابه حافلا بالجفاء والغلظة والقسوة فمن جملة خطابه.

« يا أهل المدينة ، واللّه لو لا ما عهد الي معاوية ما تركت بها محتلما إلا قتلته. »

ولما انهى هذا الأثيم أمر المدينة توجه إلى مكة فاحتلها ، وأخذ البيعة من أهلها قسرا ، ثم انعطف بعد ذلك الى اليمن وكان واليها عبيد اللّه ابن العباس فانهزم بنفسه ناجيا من شره قاصدا نحو الكوفة ليعرف الامام بذلك ولما دخل بسر الى اليمن أخذ البيعة من أهلها ، وفتش عن طفلين لعبيد اللّه فلما ظفر بهما قتلهما (1) ولما انتهى خبرهما الى امهما ضاقت بها الدنيا وأكلها الحزن وبرى البكاء عينيها ، فكان الحزن والجزع لها غذاء وشرابا حتى فقدت شعورها وقد رثتهما بذوب روحها قائلة :

يا من احس بابنيّ اللذين هما *** كالدرتين تشطى عنهما الصدف

يا من أحس بابنيّ اللذين هما *** قلبي وسمعي ، فقلبي اليوم مختطف

من ذل والهة حيرى مدلهة *** على صبيين ذلا : إذ غدا السلف

خبرت بسرا وما صدقت ما زعموا *** من افكهم ومن القول الذي اقترفوا

أنحى على ودجى ابني مرهفة *** مشحوذة وكذاك الأثم يقترف (2)

ولما انتهت الأنباء المريعة الى الامام أقبل الى اصحابه وانمسه المقدسة ملؤها اللوعة والاستياء على هذا التمرد الناشب فى جيشه فخطب فيهم فمن جملة خطابه قوله :

ص: 494


1- تأريخ ابي الفداء 1 / 180
2- شرح النهج محمد عبده ج 1 ص 59

« أنبئت بسرا قد اطلع اليمن (1) وانى واللّه لأظن ان هؤلاء القوم سيدالون (2) منكم ، باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ، وبمعصيتكم امامكم في الحق ، وطاعتهم امامهم في الباطل ، وبأدائهم الامانة الى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم فى بلادهم وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب (3) لخشيت أن يذهب بعلاقته (4)! اللّهم اني قد مللتهم وسئمتهم وسئموني فابدلني بهم خيرا منهم وابدلهم بي شرا مني ، اللّهم مث في قلوبهم كما يماث الملح في الماء (5) أما واللّه لوددت ان لي الف فارس من بني فرس ابن غنم (6) :

هنالك ، لو دعوت ، أتاك منهم *** فوارس مثل أرمية الحميم

ثم نزل (عليه السلام) عن المنبر (7) وبهذا الخطاب نقف على مدى فساد جيشه وخيانته ، ولا عجب في رفض الامام الحسن له والتخلية بينه وبين معاوية فان شعبا لا يساند الحق ولا يدافع عن كرامته لجدير بأن يكون لقمة سائغة لذوي الأطماع والأهواء.

ص: 495


1- اطلع اليمن : بلغها واحتلها بجيشه.
2- سيدالون : اى ستكون لهم الدولة بدلكم وذلك بسبب اجتماع كلمتهم ووحدة رايهم وانشقاق العراقيين وعدم اتفاقهم.
3- القعب : بالضم القدح الضخم.
4- علاقته : بكسر العين ما يعلق به من ليف ونحوه.
5- ماث : اي ذاب
6- بنو فرس قبيلة مشهورة بالشجاعة والاقدام منهم علقمة بن فراس وهو جذل الطعان ، ومنهم ربيعة بن مكدم حامي الظعن حيا وميتا ، ولم يحم احد حريمه غيره.
7- شرح النهج محمد عبده 1 / 60

ولم يكتف معاوية بذلك فأرسل جيشا جرارا بقيادة سفيان بن عوف للاغارة على أهل العراق في عقر دارهم فغزى جيشه هيت (1) والانبار (2) وقد أوقع بنفوس اهليهما قتلا فظيعا ، وبأموالهم أضرارا جسيمة ، ولما انتهت الانباء الى الامام بلغ منه الحزن أقصاه لأنه يرى الباطل قد قويت شوكته ولا يمكنه تحطيمه والقضاء عليه ، وينظر الى اصحابه وقد امتلأت قلوبهم خوفا وذلا وجبنا ، فصعد علیه السلام على المنبر فخطبهم بخطاب رائع مثل ما في نفسه من هم مقيم وأسى شديد ، وصور ما في نفوس اصحابه من خنوع وخور وتخاذل قائلا :

« ألا وإني قد دعوتكم الى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا ، وسرا واعلانا ، وقلت لكم : اغزوهم قبل أن يغزوكم فو اللّه ما غزى قوم في عقر دارهم الا ذلوا (3) فتواكلتم ، وتخاذلتم حتى شنت الغارات عليكم ، وملكت عليكم الاوطان. وهذا أخو غامد (4) وقد وردت خيله الانبار

ص: 496


1- هيت بكسر الهاء قال ابن السكيت : إنما سميت هيت بهذا الاسم لأنها فى هوة من الأرض ، وقد انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وهي بلدة من نواحي بغداد فوق الأنبار وهى ذات نخل كثير وخيرات واسعة جاء ذلك فى المعجم ج 8 ص 486.
2- الأنبار : بفتح اوله ، مدينة. على الفرات تقع فى غربي بغداد بينهما عشرة فراسخ ، وكان اول من عمرها سابور بن هرمز ذو الاكتاف ثم جددها ابو العباس السفاح اول خلفاء بني العباس وبنى بها قصورا ، وقام بها الى ان مات ، معجم البلدان 1 / 340
3- عقر الدار : بالضم وسطها واصلها.
4- اخو غامد : هو سفيان بن عوف من بني غامد قبيلة من اليمن

وقد قتل حسان بن حسان البكري ، وأزال خيلكم عن مسالحها (1) ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والاخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها (2) ما تمنع منه الا بالاسترجاع (3) والاسترحام ثم انصرفوا وافرين (4) ما نال رجلا منهم كلم (5) ولا أريق لهم دم ، فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما ، بل كان به عندى جديرا ، فيا عجبا - واللّه - يميت القلب ويجلب الهم اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم فقبحا لكم وترحا ، حين صرتم غرضا يرمى يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى اللّه وترضون فاذا امرتكم بالسير إليهم في ايام الصيف قلتم هذه حمارة القيظ (6) امهلنا يسلخ عنا الحر (7) واذا امرتكم بالسير إليهم فى الشتاء قلتم : هذه صبارة القر (8) امهلنا ينسلخ عنا البرد ، كل هذا فرارا من الحر والقر ، فأنتم واللّه من السيف افر ، يا أشباه الرجال ولا رجال!

ص: 497


1- المسالح : جمع مسلحة بالفتح ، وهي الثغر الذي يزود بالجيش لئلا يطرق العدو الى البلاد.
2- المعاهدة : الذمية ، والحجل ، بالكسر : الخلخال ، والقلب ، بالضم : السوار ، والرعاث : جمع رعثة بالفتح : القرط.
3- الاسترجاع : ترديد الصوت بالبكاء.
4- وافرين : اى تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم.
5- الكلم : بالفتح ، الجرح.
6- حمارة القيظ : بتشديد الراء ، وهي شدة الحر.
7- يسبخ : اي يخف وتذهب شدته.
8- صبارة القر : الصبارة بتشديد الراء وهي شدة الشيء ، والقر بالضم هو البرد.

حلوم الأطفال ، وعقول ربات الحجال (1) لوددت اني لم اركم ولم اعرفكم معرفة واللّه جرت ندما ، واعقبت سدما (2) قاتلكم اللّه!! لقد ملأتم قلبي قيحا ، وشحنتم صدرى غيظا ، وجرعتموني نغب التهمام انفاسا (3) وافسدتم علي رأيى بالعصيان والخذلان ».

ولم يثر هذا الخطاب الحماسي الرائع حفائظ نفوسهم ولم يقلع روح الخور والتمرد منهم ، قد اسلموا انفسهم للعداء المسلح ، يصيب معاوية من اموالهم وانفسهم ما شاء ومتى اراد. 4 - فتنة الخريت

ولم يقف بلاء الامام ومحنته فى أصحابه ، وخصمه معاوية الى هذا الحد فقد تجاوز البلاء والشر الى ما هو اعظم واشد ، تلك هي فكرة الخوارج التي لم يقض عليها يوم النهروان وانما قضى على بعض معتنقيها وقد اخذت تتسع ويكثر انصارها ، وقد خلقوا افظع المشاكل في الحقل الاسلامي فدعوا الى التمرد على حكومة الامام وكان من اهمهم هو الخريت (4) ، فقد خرج هو وفريق من اصحابه وقد اعلنوا الحرب والعصيان ، فأرسل الامام إليهم جيشا لردهم الى الطاعة وحربهم ان أبوا ذلك ، فلحق بهم الجيش

ص: 498


1- الحجال : جمع حجلة وهي القبة ، وربات الحجال : النساء.
2- السدم : بالتحريك الهم مشفوع بالاسف او الغيظ.
3- النغب : جمع نغبة وهي الجرعة ، التهمام بالفتح : الهم. انفاسا ، اى جرعة بعد جرعة.
4- الخريت بن راشد الناجي ، كان على مضر كلها يوم الجمل واستعمله عبد اللّه بن عامر على كورة من كور فارس ، وكان مع الامام حتى صار امر الحكمين ففارقه الى بلاد فارس مخالفا. ( الاصابة 1 / 422 ).

فكانت بينهم - أولا - مناظرة وجدال ، ولما امتنع الخريت من الرجوع الى الطاعة وقع بين الفريقين قتال عنيف ، ولكن لم يتغلب أحدهما على الآخر وهرب الخريت بأصحابه نحو البصرة ، فرجع جيش الامام ولم يظفر بشيء فأرسل الامام له جيشا آخر اكثر منه عدة وأعظم قوة وأمره بأن يتعقبهم وكتب الى عبد اللّه بن عباس عامله على البصرة أن يمد الجيش ويزوده بما يحتاج إليه فامتثل عبد اللّه بن عباس ذلك ، والتقى الفريقان فكان بينهما أشد القتال وأعنفه ، وبدت امارة الانحلال والخور في جيش الخريت الا أنه استطاع أن ينهزم بأصحابه فى غلس الليل البهيم ، فولى هاربا نحو الأهواز فأخذ يبذر الفتنة ويبشر بفكرته بين اولئك البسطاء الذين لم يعوا المفاهيم الاسلامية ولم يتعقلوا أهدافها وواقعها فاستجابوا له ، وقد أخذ يزهد الاسلام في نفوسهم ، فمنع العرب من اعطاء الصدقة ، والنصارى من اعطاء الجزية ، حتى ارتد كثير من النصارى ممن كان قد اسلم وقد التف حوله جمع كثير من اولئك الاغبياء حتى ظهر امره وقويت شوكته ، ولكن جيش الامام قد تتبعهم الى ان ظفر بهم فكانت بينهما موقعة ادت اخيرا الى قتل الخريت وفريق من حزبه ، واخذ قائد جيش الامام ما بقى من اصحاب الخريت اسرى فمن اسلم منهم منّ عليه ، ومن ارتد استتابه ، فان اسلم منّ عليه ، وان لم يسلم اخذه أسيرا معه.

وهكذا أخذت الفتن تتسع وتتزايد فى الحاضرة الاسلامية التي هي تحت سيطرة حكم الامام حتى اوجبت خذلان الامام وقتله وخذلان ولده الحسن في دوره والحقت اضرارا كثيرة في المجتمع الاسلامي جعلته غارقا فى المآسي والشجون.

ان حادثة صفين بما اعقبته من المتارك الفظيعة قد اوجبت تدهور

ص: 499

المسلمين وانحطاطهم ، وتغلب قوى البغي على قوى الحق والاسلام ، ومهدت الطريق للامويين أن يتحكموا في رقاب المسلمين ، وان يستأثروا باموالهم وسائر امكانياتهم ، وان يسعوا جاهدين في محاربة الاصلاح وسائر النزعات الخيرة حتى ضج المسلمون من جورهم واستبدادهم وظلمهم.

ص: 500

مصرع الحقّ

اشارة

ص: 501

ص: 502

بقي الامام أمير المؤمنين بعد حادثة صفين في أرباض الكوفة وهو محزون النفس مكلوم القلب يتلقى في كل فترة من زمانه الوانا مريعة من الرزايا والخطوب ، ينظر الى العدل وهو مضام ، وإلى الخير مضيع ، والى البغي قد كثر والى الجور قد طغى ، ويرى باطل معاوية قد استحكم ، وأمره قد تم ، وهو لا يتمكن على مناجزته لأن جيشه اصبح متمردا عليه بأمره فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب قد خلد الى الراحة ، وسئم التعب وكره الجهاد فى سبيل اللّه.

وتركت هذه الكوارث أسى مريرا فى نفسه فكان يتمنى الرحيل عن الدنيا في كل آونة من الزمن ليستريح من مشاكلها وشرورها ، وقد انطلق يدعو اللّه ليعجل انتقاله إليه قائلا : « اللّهم عجل للمرادى شقاءه » ويقول مخاطبا لأهل الكوفة :

« أما واللّه لوددت أن اللّه أخرجني من أظهركم ، وقبضني الى رحمته منكم .. »

لقد قرر « ماكس نورداو » بقاء الأحيل دون الأصلح لأن الأصلح لا يدوم طويلا فى دنيا الاباطيل. وقد كان الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) من المع المصلحين في الدنيا فقد اجهد نفسه على اقامة العدل وبسط المساواة في الأرض ، فكيف يبقى فى عالم المنافع والاضاليل فقد حاربه النفعيون وقاومه طلاب الجاه والسلطان ، وتنكر له ذلك المجتمع الذي لعبت به الاهواء ، وافسدته الاطماع فكيف يدوم حكمه في ذلك المجتمع الهزيل؟!!

وزاد في أسى الامام وأحزانه فقده للبقية الصالحة من صحابة الرسول صلی اللّه علیه و آله من الذين عرفوا اتجاهه ودرسوا في مدرسته امثال عمار ابن ياسر ، وهاشم المرقال وذى الشهادتين وامثالهم من عيون المؤمنين الذين

ص: 503

يعتمد عليهم في إقامة الحق ودحض الباطل واحياء معالم الدين ، وبعد فقده لهم اصبح غريبا في ذلك المجتمع لا ناصر له ولا صديق وأخذ يبتهل الى اللّه ويتضرع إليه أن ينقله الى جواره ليستريح من آلام هذه الحياة التي ما وجد فيها غير الارهاق والعناء.

المؤامرة الدنيئة :

وشهد موسم الحج جمع من الخوارج فتذاكروا من قتل من رفاقهم ومن قتل من سائر المسلمين وقد جعلوا تبعة ذلك على ثلاث من الكفار - في زعمهم - وهم : الامام أمير المؤمنين ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص فقال ابن ملجم : انا أكفيكم على بن أبي طالب ، وقال عمرو بن بكير التميمي : أنا أكفيكم عمرو بن العاص ، وقال الحجاج بن عبد اللّه الصريمي أنا اكفيكم معاوية ، واتفقوا على يوم معين يقومون فيه بعملية الاغتيال وهو اليوم الثامن عشر من شهر رمضان سنة اربعين من الهجرة ، كما عينوا ساعة الاغتيال وهي ساعة الخروج الى صلاة الصبح ، ثم تفرقوا وقصد كل واحد منهم الجهة التي عينها ، ووصل الأثيم ابن ملجم الى الكوفة ، وهو يحمل معه الشر والشقاء لجميع سكان الأرض ، فقد جاء ليخمد ذلك النور الذي اضاء الدنيا ، وقد قصد الماكرة الخبيثة ابنة عمه قطام ، وكان هائما بحبها ، وكانت تدين بفكرة الخوارج وقد قتل أبوها وأخوها فى واقعة النهروان فكانت مثكولة بهم ، وقد خطبها ابن ملجم (1) فلم ترض به زوجا إلا أن يشفى غليلها ، ويحقق اربها ، فقال لها :

ص: 504


1- مروج الذهب 2 / 289. وفي الاخبار الطوال ص 197 : ان ابن ملجم خطب الرباب بنت قطام.

« ما تريدين شيئا الا أنفذته وحققه .. »

فعرضت عليه المهر الذي تريده وهو ثلاثة آلاف درهم ، وعبد وقينة وقتل علي ، فقال لها الأثيم :

« ما سألت هو لك مهر الا قتل على فلا أراك تدركينه » وقد قصد إخفاء الأمر عليها ، ولكن الاثيمة اندفعت تحبذ له قتل الامام وتشجعه على ارتكاب الجريمة قائلة :

« إن أصبته شفيت نفسي ونفعك العيش ، وإن هلكت فما عند اللّه خير لك من الدنيا » ولما عرف الأثيم الجد فى قولها عرفها بنيته ، وأنه ما جاء لهذا المصر إلا لهذه الغاية ، وفى هذا المهر المشوم يقول الفرزدق :

ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة *** كمهر قطام من فصيح واعجم

ثلاثة آلاف وعبد وقينة *** وضرب على بالحسام المسمم

فلا مهر أغلى من علي وإن غلى *** ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم (1)

وقد أوجس أصحاب الامام الخوف عليه من اغتيال الخوارج فتكلموا معه في أن يجعل له رصدا يحرسونه إن خرج لعبادة اللّه او في بعض مهامه ، فامتنع (عليه السلام) من ذلك وقال لهم :

« إن علي من اللّه جنة حصينة (2) فاذا جاء يومي انفرجت عنى

ص: 505


1- مستدرك الحاكم ج 3 ص 143 ونور الابصار ص 95 وذكر زيادة على هذه الأبيات بيتين وهما. ولا غرو للاشراف إن ظفرت بها *** كلاب الأعادي من فصيح واعجم فحربة وحشى سقت حمزة الردى *** وحتف علي من حسام ابن ملجم وفى بعض المصادر ان الابيات لابن ابي مياس المرادي.
2- الجنة بالضم ، الوقاية.

واسلمتني ، فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم » (1)

الفاجعة الكبرى :

ولما أطل على الوجود شهر رمضان ، أفضل الشهور ، واعظمها حرمة وقدرا عند اللّه حتى نسب إليه فقيل شهر اللّه ، كان الامام على علم بانتقاله إلى حضيرة القدس في ظرف هذا الشهر العظيم ، فكان يتناول طعام الافطار الليلة عند الحسن ، وأخرى عند الحسين ، ومرة عند عبد اللّه بن جعفر وهو لا يزيد فى طعامه على ثلاث لقم ، ويحدث عن السبب فى قلة اكله قائلا : « أحب أن يأتيني أمر اللّه ، وأنا خميص البطن » (2)

ولما أقبلت الليلة الثامنة عشرة من شهر رمضان اضطرب الامام أشد الاضطراب ، فجعل يمشي في صحن الدار وهو محزون النفس خائر القوى ينظر إلى الكواكب ويتأمل فيها فيزداد همه وحزنه ، وهو يقول متنبّئا عن وقوع الحادث الخطير في تلك الليلة :

« ما كذبت ، ولا كذبت ، إنها الليلة التي وعدت فيها » (3)

وبقي «ع» طيلة تلك الليلة ، قلقا حزينا يناجي ربه ويطلب منه المغفرة والرضوان ، ويتلو آى الذكر الحكيم ، وقبل أن تشرق أنوار الفجر وينسلخ ظلام الليل القاتم ، أقبل فسبغ الوضوء ، ولما عزم على الخروج من بيته الى مناجاة اللّه وعبادته في بيته الكريم صاحت في وجهه وز (4)

ص: 506


1- طاش السهم : اي جاوز الهدف ولم يصبه : الكلم : بالفتح الجرح جمعه كلوم وكلام.
2- تأريخ ابن الاثير ج 3 ص 168.
3- الصواعق ص 80.
4- الوز : نوع من الطيور.

كانت قد أهديت الى الحسن ، فتنبأ «ع» من صياحهن وقوع الحادث العظيم والرزء القاصم قائلا :

« لا حول ولا قوة إلا باللّه ، صوائح تتبعها نوائح » (1)

وأقبل الحسن وهو مضطرب من خروج أبيه في هذا الوقت الباكر فقال له :

- ما أخرجك في هذا الوقت؟

- رؤيا رأيتها فى هذه الليلة أهالتني.

- خيرا رأيت ، وخيرا يكون قصها على.

- رأيت جبرئيل قد نزل من السماء على جبل أبي قبيس ، فتناول منه حجرين ، ومضى بهما الى الكعبة ، فضرب احدهما بالآخر فصارا كالرميم ، فما بقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله من ذلك الرماد شيء - ما تأويل هذه الرؤيا؟

- إن صدقت رؤياي ، فان أباك مقتول ، ولا يبقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله الهم والحزن من أجلى.

فالتاع الحسن وذهل وانبرى قائلا بصوت خافت حزين النبرات :

- متى يكون ذلك؟

- إن اللّه تعالى يقول ( وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) (2) ولكن عهد الي حبيبي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه يكون في العشر الأواخر من شهر رمضان ، يقتلني عبد الرحمن بن ملجم.

ص: 507


1- مروج الذهب ج 2 ص 291
2- سورة لقمان آية 34.

- إذا علمت ذلك فاقتله.

- لا يجوز القصاص قبل الجناية والجناية لم تحصل منه.

وأقسم الامام على ولده الحسن أن يرجع الى فراشه ، فلم يجد الحسن بدا من الامتثال (1) وخرج الامام الى بيت اللّه في السحر ، وقد جاء فى الأخبار أن السحر وقت تجلى اللّه فينفح فيه الرحمات ويهب به البر والخير ويستجيب فيه الدعاء.

ولما انتهى الامام الى بيت اللّه ، جعل على عادته يوقض الناس لعبادة اللّه ومناجاته ، وحينما فرغ من ذلك شرع في صلاته ، وبينما هو ماثل بين يدي الخالق الحكيم والصلاة بين شفتيه وقلبه مشغول بذكر اللّه إذ هوى عليه الوغد الأثيم ابن ملجم (2) وهو يهتف بشعار الخوارج ( الحكم لله لا لك ) وضرب الامام على رأسه فقد جبهته الشريفة التي طالما عفرها بالخضوع لله بكل ما للخضوع من معنى ، وانتهت الضربة القاسية إلى دماغه المقدس الذي ما فكر إلا فى نفع الناس وسعادتهم ورفع الشقاء عنهم ، ولما احس

ص: 508


1- وجاء فى الاستيعاب ان الحسن خرج مع ابيه ولم ينفصل عنه.
2- لم يكن الاثيم وحده هو الذي قدم على قتل الامام بل كان معه شبيب بن بحيرة ومجاشع بن وردان ، واقبلوا الى قطام فعصبتهم بحرير وكانت معتكفة بالمسجد ، فاخذ هؤلاء اسيافهم وقعدوا مقابلين لباب السدة التي يخرج منها الامام للمسجد ، وقد علم الاشعث نية ابن ملجم فقال له محفزا على ارتكاب الجريمة ( النجا فضحك الصبح ) ولما سمع حجر بن عدى كلامه قال له : قتلته يا اعور قتلك اللّه ، إما ابن ملجم فضرب الامام على راسه ، وإما شبيب فوقعت ضربته بعضادة المسجد وإما ابن وردان فهرب جاء ذلك في مروج الذهب ج 2 ص 290

علیه السلام بلذع السيف في رأسه صاح :

« فزت ورب الكعبة »

لقد فاز الامام ، وأى فوز اعظم من فوزه؟ فقد جاءته النهاية المحتومة وهو بين يدي اللّه وذكره بين شفتيه ، فى أقدس بيت ، واعظم شهر.

لقد فاز إمام الحق لأنه أرضى ضميره الحي فلم يوارب ولم يخادع منذ بداية حياته حتى النهاية ، ولقد قتل على غير مال احتجبه ولا على دنيا أصابها ولا سنة في الاسلام غيرها.

لقد فاز الامام ، وأى فوز أعظم من فوزه؟ فقد أفاض عليه الخلود لباس البقاء ليكون مظهرا للعدالة وعنوانا للحق. ومثالا للانسانية الكاملة التي ارتقت سلم الكمال حتى بلغت نهايته.

لقد فاز الامام ، وأى فوز اعظم؟ من أن يذكر قرينا للحق والعدل وتذكر مبادئه المقدسة اعجوبة لقادة الفكر الانساني يسيرون على ضوئها للعمل في حقل الاصلاح ، ولما وقع الامام صريعا في محرابه هتف معرفا بقاتله :

« قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم ، فلا يفوتنكم. »

فهرع الناس الى المسجد بجميع طبقاتهم وهم معولون نادبون قد اذهلهم الخطب وروعهم المصاب وبلغ بهم الحزن الى قرار سحيق وفى مقدمتهم أولاد أمير المؤمنين ، فوجدوا الامام طريحا في محرابه وجعدة ابن هبيرة (1) وجماعة حافون به يعالجونه للصلاة وهو لا يستطيع ولما وقع نظره

ص: 509


1- جعدة بن هبيرة المخزومي ابن أم هاني بنت ابي طالب له صحبة مع النبي. وقال ابن معين لم يسمع من النبيّ شيئا ، وقال العجلى : إنه تابعي ثقة ، جاء ذلك فى خلاصة تهذيب الكمال ص 53 ، وجاء فى الاستيعاب : ان جعدة كان فقيها ، قد ولاه خاله الامام على خراسان وقال ابو عبيدة ولدت أم هاني بنت ابي طالب من هبيرة ثلاث بنين : جعدة وهاني ويوسف.

على ولده الحسن أمره أن يصلى بالناس (1) وصلى الامام وهو جالس والدم ينزف منه ، ولما فرغ الحسن من صلاته أخذ رأس أبيه فوضعه في حجره ودموعه تتبلور على وجهه الشريف ، فقال له :

- من فعل بك هذا؟

- ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم.

- من أي طريق مضى؟

- لا يمض أحد فى طلبه ، إنه سيطلع عليكم من هذا الباب ، وأشار الى باب كندة ، فاشتغل الناس بالنظر إليها وما هي إلا فترات وإذا الصيحة قد ارتفعت فقد ظفر بالأثيم المجرم ابن ملجم (2) فجيء به مكتوفا مكشوف الرأس ، فأوقف بين يدى الحسن فقال له » :

« يا ملعون ، قتلت أمير المؤمنين ، وإمام المسلمين ، هذا جزاؤه حين آواك وقربك حتى تجازيه بهذا الجزاء ».

والتفت الى أبيه قائلا : يا أبة هذا عدو اللّه وعدوك ابن ملجم قد أمكننا اللّه منه. ففتح الامام عينيه وقال له بصوت خافت :

« لقد جئت شيئا إدا وأمرا عظيما ، ألم أشفق عليك واقدمك على

ص: 510


1- مطالب السئول فى مناقب آل الرسول ص 63.
2- ذكر المسعودى في مروج الذهب ج 2 ص 290 ان الاثيم ابن ملجم لما ضرب الامام شد عليه الناس فجعلوا يرمونه بالحصباء ويصيحون عليه ، فضرب المغيرة بن نوفل بن الحرث وجهه فصرعه واقبل به الى الحسن ، وهناك اقوال أخر فى كيفية القبض عليه.

غيرك في العطاء؟ فلما ذا تجازيني بهذا الجزاء؟ » وقال للحسن يوصيه ببره والاحسان إليه.

« يا بني ارفق بأسيرك وارحمه ، واشفق عليه. »

فقال له الحسن :

« يا أبتاه ، قتلك هذا اللعين ، وفجعنا بك ، وأنت تأمرنا بالرفق به!! »

فاجابه أمير المؤمنين :

يا بني نحن أهل بيت الرحمة والمغفرة ، أطعمه مما تأكل ، واسقه مما تشرب ، فان أنامت فاقتص منه بأن تقتله ، ولا تمثل بالرجل فانى سمعت جدك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور وإن أنا عشت فأنا أعلم ما افعل به ، وأنا أولى بالعفو ، فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا عفوا وكرما. »

وأمر (عليه السلام) بحمله الى الدار فحمل والناس تهرول خلفه قد اشرفت على الهلاك من البكاء والعويل قد أخذتهم المائقة وهم يهتفون بذوب الروح :

قتل إمام الحق ، قتل إمام الحق.

واستقبلته بناته وعياله بالبكاء والعويل ولما استقر في ثويه ، التفت إليه الحسن وقد حرق الهم والجزع قلبه قائلا :

« يا أبة ، من لنا بعدك؟ إن مصابنا بك مثل مصابنا برسول اللّه » فضمه الامام وقال مهدا روعه :

يا بني ، اسكن اللّه قلبك بالصبر ، وعظم أجرك ، واجر اخوتك بقدر مصابكم بي.

وجمع الحسن لجنة من الاطباء لمعالجته وكان ابصرهم بالطب أثير بن

ص: 511

عمرو السكوني (1) فاستدعى برئة شاة حارة فتتبع عرقا منها فاستخرجه فأدخله في جرح الامام ثم نفخ العرق فاستخرجه فاذا هو مكلل ببياض الدماغ ، لأن الضربة قد وصلت الى دماغ الامام فارتبك أثير والتفت إلى الامام - واليأس في صوته - قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، اعهد عهدك ، فانك ميت » (2)

فالتفت الحسن الى ابيه ودموعه تتبلور على وجهه ، وشظايا قلبه يلفظها بنبرات صوته قائلا :

« أبة. كسرت ظهري ، كيف استطيع أن أراك بهذه الحالة؟ » وبصر الامام فرأى الأسى قد استوعب نفسه فقال له برفق :

« يا بنى لا غم على أبيك بعد هذا اليوم ولا جزع ، اليوم القى جدك محمد المصطفى ، وجدتك خديجة الكبرى ، وامك الزهراء ، وإن الحور العين ينتظرن أباك ويترقبن قدومه ساعة بعد ساعة ، فلا بأس عليك ، يا بني لا تبك. »

وتسمم دم الامام ، ومال وجهه الشريف الى الصفرة ، وكان في تلك الحالة هادئ النفس قرير العين لا يفتر عن ذكر اللّه وتسبيحه وهو ينظر الى آفاق السماء ، ويبتهل الى اللّه بالدعاء قائلا :

« إلهي. أسألك مرافقة الأنبياء ، والأوصياء وأعلى درجات الجنة » وغشى عليه فذاب قلب الحسن وجعل يبكى مهما ساعدته الجفون ، فسقطت قطرات من دموعه على وجه الامام فأفاق ، فلما رأه قال له :

ص: 512


1- اثير بن عمرو السكوني ، كان احد الاطباء الماهرين يعالج الجراحات الصعبة وكان صاحب كرسي ، وله تنسب صحراء اثير.
2- الاستيعاب ج 2 ص 62.

مهدأ روعه :

« يا بني ما هذا البكاء؟ لا خوف ولا جزع على أبيك بعد اليوم ، يا بني لا تبك ، فأنت تقتل بالسم ، ويقتل أخوك الحسين بالسيف. »

وصاياه :

وأخذ الامام يوصى أولاده بمكارم الاخلاق ، ويضع بين أيديهم المثل الرفيعة ويلقي عليهم الدروس القيمة ، وقد وجه «ع» نصائحه الرفيعة أولا لولديه الحسن والحسين ، وثانيا لبقية اولاده ولعموم المسلمين.

قائلا :

« أوصيكما بتقوى اللّه ، وان لا تبغيا الدنيا وان بغتكما (1) ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا للحق واعملا للاجر ، وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا.

أوصيكما ، وجميع ولدى وأهلي ومن بلغه كتابي ، بتقوى اللّه ، ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم ، فاني سمعت جدكما صلی اللّه علیه و آله يقول : صلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام. اللّه اللّه في الأيتام ، فلا تغبوا أفواههم (2) ولا يضيعوا بحضرتكم ، واللّه اللّه في جيرانكم ، فانهم وصية نبيكم ، ما زال يوصى بهم حتى ظننا أنه سيورثهم واللّه اللّه في القرآن ، لا يسبقكم بالعمل به غيركم ، واللّه اللّه في الصلاة ، فانها عمود دينكم ، واللّه اللّه في بيت ربكم ، لا تخلوه ما بقيتم فانه إن ترك

ص: 513


1- المعنى : لا تطلبا الدنيا ، وإن طلبتكما.
2- لا تغبوا افواههم : اى لا تقطعوا صلتكم عنهم وصلوا افواههم بالطعام دوما.

لم تناظروا (1) واللّه اللّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم والسنتكم فى سبيل اللّه ، وعليكم بالتواصل والتباذل (2) وإياكم والتدابر والتقاطع ، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم.

ثم قال علیه السلام مخاطبا لآله وذويه :

يا بني عبد المطلب لا ألفينكم (3) تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون قتل أمير المؤمنين ، قتل امير المؤمنين ، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلى

انظروا إذا أنامت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يمثل بالرجل ، فاني سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور » (4)

وأخذ (عليه السلام) يوصى ولده الحسن خاصة بمعالم الدين وإقامة شعائره قائلا :

« أوصيك ، اى بني ، بتقوى اللّه ، وإقام الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة عند محلها وحسن الوضوء ، فانه لا صلاة إلا بطهور ، واوصيك بغفر الذنب وكظم الغيظ ، وصلة الرحم ، والحلم عن الجاهل والتفقه فى الدين ، والتثبت في الامر ، والتعاهد للقرآن ، وحسن الجوار والأمر بالمعروف

ص: 514


1- لم تناظروا ، مبني للمجهول : اي لا ينظر إليكم بالكرامة والرحمة من اللّه وغيره إن إن اهملتم تعاليم الدين وفروضه.
2- التباذل : العطاء.
3- لا الفينكم : اي لا اجدنكم تخوضون دماء المسلمين بالسفك انتقاما منهم بقتلى.
4- شرح النهج محمد عبده ج 3 ص 85.

والنهي عن المنكر ، واجتناب الفواحش » (1)

وفي اليوم العشرين من شهر رمضان ازدحمت الجماهير من الناس على بيت الامام طالبين الاذن لعيادته ، فاذن لهم اذنا عاما ، فلما استقر بهم المجلس التفت لهم قائلا :

« سلوني قبل أن تفقدوني ، وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم »

فاشفق الناس أن يسألوه ، نظرا لما ألم به من شدة الألم والجرح.

اقامة الحسن من بعده :

ولما علم أمير المؤمنين أنه مفارق لهذه الدنيا ، وان لقاءه بربه لقريب عهد بالخلافة والامامة لولده الحسن فاقامه من بعده لترجع إليه الأمة في شئونها كافة ، ولم تختلف كلمة الشيعة في ذلك فقد ذكر ثقة الاسلام الكليني (2) ان أمير المؤمنين اوصى إلى الحسن ، واشهد على وصيته الحسين ومحمدا وجميع ولده ، ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثم دفع إليه الكتب والسلاح ، وقال له : يا بني. أمرني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن أوصى إليك ، وأن ادفع إليك كتبي وسلاحي كما اوصى الى رسول اللّه ، ودفع إلي كتبه وسلاحه

ص: 515


1- تاريخ ابن الاثير ج 3 ص 170.
2- الكليني : هو محمد بن يعقوب بن اسحاق ، وهو من اعظم علماء الشيعة ، ومن المجددين لمذهب الامامية في المائة الثالثة من الهجرة ومن اشهر مؤلفاته : الكافي انفق على تأليفه من الوقت عشرين سنة ، وهو من اجل الكتب الاسلامية ومن اهمها » وقال محمد امين الأسترآبادي في محكى فوائده : انه سمع من بعض العلماء انه لم يصنف فى الاسلام كتاب يوازى الكافي ويدانيه ، توفى رحمه اللّه فى بغداد سنة 329 هجرية وصلى عليه محمد ابن جعفر الحسيني ودفن بباب الكوفة ( الكنى والالقاب 3 / 98 )

وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها الى أخيك الحسين. »

وروى أيضا انه قال له : « يا بني أنت ولي الدم فان عفوت فلك وإن قتلت فضربة مكان ضربة » (1)

وذهب جماعة من اهل السنة والجماعة الى أن أمير المؤمنين لم يعهد بالامر الى ولده الحسن مستدلين على ذلك بما رواه شعيب بن ميمون الواسطي (2) ان عليا قيل له ألا تستخلف؟ فقال : إن يرد اللّه بالأمة خيرا يجمعهم على خيرهم. وهذه الرواية من موضوعات شعيب ومن مناكيره كما نص على ذلك ابن حجر (3)

ان الامام الحسن ريحانة رسول اللّه ، وسيد شباب أهل الجنة ، وهو امام إن قام أو قعد - على حد تعبير رسول اللّه - وقد هذبه اللّه عن كل نقص ورجس - كما دلت على ذلك آية التطهير - بالاضافة الى توفر جميع ما تتطلبه الخلافة من الصفات الرفيعة في شخصيته كالعلم والتقوى والحزم والجدارة فكيف لا يرشد الامام أمير المؤمنين الى مبايعته ولا يجعله علما من بعده؟!!

ان أمير المؤمنين من احرص المسلمين على جمع كلمتهم وتوحيد أمرهم فكيف يترك الأمر فوضى من بعده ولا يجعل لهم مفزعا وملجأ يلجئون إليه لا سيما في تلك الفترة الرهيبة التي احاطت بهم الاخطار والمشاكل؟!!

ص: 516


1- اصول الكافى 1 / 297 - 298
2- شعيب بن ميمون الواسطي صاحب البزور ، قال ابو حاتم : مجهول وكذا قال العجلى : وقال البخاري : فيه نظر ، وقال ابن حبان يروى المناكير عن المشاهير على قلته لا يحتج به اذا انفرد ، تهذيب التهذيب 4 / 357.
3- تهذيب التهذيب 4 / 357 وجاء فيه : ومن مناكيره عن حصين عن الشعبي عن أبي وائل قال قيل لعلي الا تستخلف الرواية.

الى الرفيق الاعلى :

ولما فرغ الامام امير المؤمنين من وصاياه اخذ يعاني آلام الموت وشدته ، وهو يتلو آى الذكر الحكيم ويكثر من الدعاء والاستغفار ، ولما دنا منه الأجل المحتوم كان آخر ما نطق به قوله تعالى ( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) ثم فاضت روحه الزكية الى جنة المأوى وسمت الى الرفيق الاعلى (1) وارتفع ذلك اللطف الإلهي الى مصدره فهو النور الذي خلقه اللّه ليبدد به غياهب الظلمات.

لقد مادت اركان العدل وانطمست معالم الدين ، ومات عون الضعفاء وأخو الغرباء وأبو الايتام.

سيدى : أبا الحسن لقد مضيت الى عالم الخلود وأنت مكدود مجهود مجهول حقك وقدرك ، فقد قضيت حياتك في ذلك الجيل القاتم الذي لا يقيم وزنا للعلم ولا للعدل ، ولا يعي ما تنشده من الأهداف الرامية الى بناء مجتمع تسوده العدالة والرفاهية والخير ، ولو كان للانسانية حظ لثنيت لك الوسادة وتسلمت قيادة الامة لتفيض على العالم بمعارفك وعلومك فانا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 517


1- اختلف المؤرخون فى الليلة التي ضربه فيها ابن ملجم فقيل : ليلة الثامن عشر من رمضان. ذهب الى ذلك المسعودي في مروج الذهب ، وقيل ليلة السابع عشر ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب. وذهب مؤرخو الشيعة ان ذلك كان في الليلة التاسعة عشرة ، واما عمره الشريف فقيل اربع وستون وقيل ثلاث وستون وقيل غير ذلك ، ومدة خلافته اربع سنين وتسعة اشهر وستة ايام ، وعمر الحسن في ذلك الوقت سبع وثلاثون سنة. جاء ذلك في كشف الغمة ص 154

تجهيزه ودفنه :

وأخذ الحسن (عليه السلام) في تجهيز أبيه فغسل الجسد الطاهر وطيبه بالحنوط ، وأدرجه في اكفانه ، ولما حل الهزيع الأخير من الليل خرج ومعه حفنة من آله وأصحابه يحملون الجثمان المقدس الى مقره الأخير فدفنه في النجف الأشرف حيث مقره الآن كعبة للوافدين ومقرا للمؤمنين والمتقين ومدرسة للمتعلمين ، ورجع الامام الحسن بعد أن وارى أباه الى بيته وقد استولى عليه الاسى والذهول وأحاط به الحزن.

القصاص من ابن ملجم :

وفي صبيحة ذلك اليوم الخالد فى دنيا الأحزان طلب الامام الحسن احضار المجرم الأثيم عبد الرحمن بن ملجم فلما مثل بين يديه قال له ابن ملجم :

- ما الذي أمرك به أبوك؟

- أمرني أن لا أقتل غير قاتله ، وأن أشبع بطنك وانعم وطأك ، فان عاش اقتص أو عفا وإن مات ألحقتك به.

فقال الأثيم متبهرا :

« إن كان أبوك ليقول الحق ، ويقضي به في حال الغضب والرضا!! » ثم ان الامام الحسن ضربه بالسيف فاتقى اللعين الضربة بيده فبدرت ثم جهز عليه فقتله ولم يمثل به (1) « وحلت على ابن ملجم لعنة اللّه ولعنة اللاعنين ومن ولدوا ومن ماتوا ومن قال اللّه لهم : كونوا فكانوا!! لعنة

ص: 518


1- تاريخ اليعقوبى 2 / 191 ، تاريخ الطبري 6 / 86 ، مقاتل الطالبيين ص 16 ، تأريخ ابن الأثير 3 / 170

تجفف النبع وتخضم الزرع ، وتحرق النبت في الارض وهو وسيم ، وجعل اللّه زفير جهنم وشهيقها في أصول تكوينه! وأهلكه الف شيطان كبوه على وجهه في سواء الجحيم وفيها لفح وفيها أفواه من اللّهب ذات أجيج وذات صفير » (1)

وأما التمثيل به فقد ذهب إليه فريق من المؤرخين ولا شك انه من الموضوعات وذلك لنهي أمير المؤمنين عنه ، مكررا لقول النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : « المثلة حرام ولو بالكلب العقور » فكيف يسوغ لريحانة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسبطه أن يعرض عن وصية أبيه ، ويرتكب ما خالف الشريعة الاسلامية؟ وقد اختلف القائلون بذلك في الشخص الذي مثل بابن ملجم : فالمحب الطبري ذكر ان الذي مثل به الامام الحسين ومحمد بن الحنفية ، وقد نهاهما الحسن عن ذلك فلم يذعنا له (2) وذكر أبو الفداء ان الذي قام بذلك عبد اللّه بن جعفر (3) وذكر ابن أبي الحديد ان الحسن هو الذي قام به (4)

ان هذا الاختلاف يزيدنا وثوقا بافتعال ذلك وعدم صحته ، وجزم الدكتور طه حسين بصدور التمثيل من اولياء الدم قال :

« والشيء المحقق هو ان ولاة الدم لم ينفذوا وصية علي في أمر قاتله فهو قد امرهم أن يلحقوه به ، ولا يعتدوا ، ولكنهم مثلوا به أشنع التمثيل فلما مات حرقوه بالنار » (5)

ص: 519


1- الامام علي صوت العدالة الانسانية 4 / 1003
2- الرياض النضرة.
3- تأريخ ابى الفداء 1 / 180
4- شرح النهج 5 / 452
5- على وبنوه ص 184

ان الشيء المحقق على خلاف ما ذكره الدكتور وذلك لما ذكرناه من عدم اتفاق المؤرخين على التمثيل به ، والذين اتفقوا عليه قد اختلفوا في ذلك كما ذكرنا ، بالاضافة الى أن أولياء الدم بعيدون كل البعد عن ارتكاب ما خالف الشريعة الاسلامية.

وعلى أي حال فان الامام الحسن بعد ما فرغ من قتل ابن ملجم ، انثال الناس على مبايعته - كما سنذكر ذلك بالتفصيل - وقد استقبل الحسن الخلافة بما لم يستقبلها احد من الذين سبقوه فقد اصبحت الحاظرة الاسلامية الخاضعة لنفوذه مهددة بخطر معاوية فقد قوى أمره ، واستحكم سلطانه ، وعظم شره ، وانضم إليه كل من لم يع الاسلام من ذوي الاطماع والأهواء فعملوا جاهدين على إفساد امر الامام وتقويض خلافته ، ومضافا لهذا الخطر الخارجي الفتن الداخلية التي نشبت أظفارها في المجتمع العراقي وأهمها خطرا واعظمها محنة وبلاء هي فتنة الخوارج التي كانت سوسة تنخر في المعسكر العراقي ، وخطرا مسلحا من أهم الاخطار الفتاكة في الدولة الجديدة ، فقد انجرف بفكرتهم السذج والمغرر بهم من البسطاء.

هذان الخطران معظم ما استقبله الامام الحسن في دور خلافته ، ولقد ابتلى بهما أشد البلاء ، ولم يبتل وحده بهما ، فقد ابتلى بهما النظام الاسلامي والخلافة الرشيدة فقد كان يرجى في دوره ان تنتشر مفاهيم الاسلام وتسود العدالة الاجتماعية في الارض ويقضى على الغبن الاجتماعي والظلم الاجتماعي وهنا ينتهي بنا المطاف عن الحلقة الأولى من هذا الكتاب ونستقبل الامام الحسن في عهد خلافته لنقف على انبائها بالتفصيل.

ص: 520

محتويات الكتاب

ص: 521

البسملة مع آي من الذكر الحكيم... 5

الاهداء... 6

تقديم لسماحة الامام كاشف الغطاء... 7

تقديم الطبعة الثانية... 12

تقديم الطبعة الأولى... 20

اجتماع النورين... 29

نشأة الصديقة... 31

سمو منزلتها... 33

خطبة الامام لها... 36

المهر... 38

الجهاز... 39

خطبة العقد... 41

الوليمة ، الزفاف... 43

الوليد الجديد... 47

ولادة الامام الحسن... 49

سنن الولادة... 51

(1) الأذان والاقامة (2) التسمية

(3) العقيقة (4) حلق رأسه (5)

الختان (6) كنيته ، ألقابه ، ملامحه

ص: 522

ذكاء وعبقرية... 57

العوامل المؤثرة في نمو الذكاء ، التربية الصالحة ، سلوك... 59

الوالدين ، الوراثة

حفظه للحديث... 62

تكريم وحفاوة... 65

اشادة الكتاب العزيز بفضله... 67

(1) آية المودة... 67

(2) آية التطهير... 69

( أ ) دلالتها على العصمة ( ب ) المختصون بها ( ج )

خروج نساء النبي ( د ) مزاعم عكرمة

(3) آية المباهلة ... 74

قصة المباهلة... 75

(4) سورة هل أتى... 77

السنة ... 79

الطائفة الاولى في عرض الاخبار الواردة في فضل

الامام الحسن خاصة ،

الطائفة الثانية في ذكر الاخبار الواردة في الحسنين

الطائفة الثالثة... في عرض الأخبار الواردة في فضل

أهل البيت (عليهم السلام)

ص: 523

احتفاء المسلمين به... 94

الفاجعة الكبرى... 95

حجة الوداع... 98

غدير خم... 99

استغفاره لأهل البقيع... 103

سرية أسامة... 104

اهتمام النبي بها ، التخاذل من الالتحاق بالجيش السبب

في عدم تولية النبي قيادة جيشه لشيوخ الصحابة

الحكمة في تأمير أسامة

اعطاء القصاص من نفسه... 110

توجع الزهراء ... 112

التصدق بما عنده... 113

الرزية الكبرى طلب النبي احضار الدواة والكتف... 114

امتناعهم من اجابته

الى الرفيق الاعلى... 116

في عهد الشيخين ... 123

السقيفة ... 126

فذلكة عمر ، انكاره لموت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أسباب ذلك... 128

ص: 524

مباغتة الانصار... 131

بيعة أبي بكر ... 134

امتناع أمير المؤمنين عن البيعة... 138

احتجاج ومناظرات... 139

(1) أمير المؤمنين (2) الزهراء (3) الامام الحسن

(4) سلمان الفارسي (5) عمار بن ياسر (6) خزيمة

ابن ثابت (7) أبو الهيثم بن التيهان (8) سهل بن حنيف (9) عثمان بن حنيف (10) أبو أيوب

الانصاري (11) عتبة بن أبي لهب

كيس دار الامام... 152

مصادرة فدك... 155

ندم أبي بكر ... 158

شجون الزهراء ... 160

الى الرفيق الاعلى... 163

اعتزال الامام... 169

وفاة أبي بكر... 171

خلافة عمر... 174

اعتزال الامام... 176

اغتيال عمر... 177

الشورى... 179

نظرة في الشورى... 186

ص: 525

الانتخاب... 191

في عهد عثمان... 199

عفوه عن عبيد اللّه المؤاخذات التي ترد على ذلك ،... 205

دفاع طه حسين

سياسته المالية ... 210

هباته للامويين... 212

( أ ) أبو سفيان ( ب ) الحارث بن الحكم ( ج )

عبد اللّه بن سعد ( د ) الحكم بن أبي العاص (1)

محاربته للاسلام (2) استهزاؤه بالنبي (3) لعن النبي له (4) نفيه الى الطائف (5) رجوعه الى يثرب (6) توليته على الصدقات

( ه ) سعيد بن العاص ( و) الوليد بن عقبة

( ز ) مروان بن الحكم

الانكار على عثمان... 220

اعتذار عثمان... 221

منحه للاعيان... 223

استئثاره بالأموال... 224

مع الدكتور طه حسين... 226

ولاته على الامصار... 230

(1) الوليد بن عقبة ( أ ) نشأته ( ب ) فسقه

ص: 526

( ج ) ولايته على الكوفة ( د ) شربه للخمر

رأى طه حسين ( ه ) اقامة الحد عليه

(2) سعيد بن العاص... 240

(3) عبد اللّه بن عامر... 243

(4) معاوية بن أبي سفيان ... 246

(5) عبد اللّه بن سعد... 248

تنكيله بالصحابة... 250

(1) عبد اللّه بن مسعود (2) أبو ذر ، نفيه الى

الشام ، نفيه الى الربذة (3) عمار بن ياسر

الافتراء على الامام الحسن... 269

الثورة ، الثوار ( أ ) الوفد المصري ( ب ) الوفد الكوفى... 272

( ج ) الوفد البصري

استنجاده بالامصار... 277

يوم الدار... 278

موقف الامام الحسن... 279

الاجهاز على عثمان... 280

المثل العليا

امامته ( أ ) معنى الامامة ( ب ) الحاجة الى الامامة

( ج ) واجبات الامام ( ه ) تعيينه

اخلاقه الرفيعة... 290

ص: 527

كرمه وسخاؤه... 294

عبادته وتقواه (1) وضوؤه وصلاته (2) حجه... 303

(3) تلاوته للقرآن (4) التصدق بأمواله

زهده... 305

هيبته ووقاره... 307

فصاحته وبلاغته... 310

الآداب الاجتماعية ، مكارم الاخلاق ، الجرائم

الاخلاقية ، التحريض على طلب العلم ، فضل العقل

فضل القرآن الكريم ، الدعاء ، السياسة ، الصديق

والصاحب ، البخل ، التواضع ، ابطال الجبر ، الوعظ

والارشاد ، طلب الرزق ، المساجد ، آداب المائدة

ولاء اهل البيت ، التحذير من المحرفين لكتاب اللّه

الشاهد والمشهود ، بعض خطبه ، كلماته الحكمية

القصار ، نظمه للشعر

في عهد الامام على... 331

البيعة... 333

تأييد الصحابة... 337

(1) ثابت بن قيس (2) خزيمة بن ثابت (3)

صعصعة بن صوحان (4) مالك (5) عقبة بن عمرو

وجوم القرشيين... 339

ص: 528

القعاد... 341

مصادرة الاموال المنهوبة... 343

عزل الولاة... 344

اعلان المساواة... 345

وصاياه لولده الحسن... 346

في البصرة... 357

تمرد طلحة والزبير... 359

خروج عائشة... 363

دوافع تمردها... 365

اعلان العصيان... 369

مع أم سلمة... 371

الزحف الى البصرة... 374

ماء الحوأب... 376

في ربوع البصرة... 378

عقد الهدنة... 381

غدر وخيانة... 381

مقتل حكيم بن جبلة... 384

استنجاد الامام بالكوفة... 385

ايفاد الحسن... 387

الافتراء على الحسن... 393

ص: 529

التقاء الفريقين... 396

خطاب ابن الزبير... 398

خطاب الحسن... 398

الدعوة الى كتاب اللّه... 400

اعلان الحرب... 401

مصرع الزبير ... 402

الاحتفاف بعائشة ( أ ) الأزد ( ب ) بنو ضبة... 406

( ج ) بنو ناجية

عقر الجمل... 408

الصفح عن عائشة... 409

العفو العام... 410

تسريح عائشة... 410

في صفين ... 415

تمرد معاوية ، بواعث ذلك... 418

ايفاد جرير... 421

مراسلة معاوية لعمرو... 424

حيرة وذهول... 425

قدومه الى الشام... 427

المساومة الرخيصة... 428

رد جرير ... 429

ص: 530

زحف معاوية لصفين... 430

تهيؤ الامام للحرب... 431

خطبة الحسن... 432

الحسن مع سليمان... 433

المسير الى صفين... 434

القتال على الماء... 436

ايفاد السفراء الى معاوية... 439

اعلان الحرب... 442

الحسن مع عبيد اللّه... 444

الحرب العامة... 446

مصرع عمار... 450

رفع المصاحف... 457

الفتنة الكبرى... 458

انتخاب الاشعري... 465

وثيقة التحكيم... 466

انبثاق الفكرة الحرورية... 468

احتجاج ومناظرات... 469

اجتماع الحكمين... 472

خطاب الامام الحسن... 479

تمرد الخوارج... 482

واقعة النهروان... 485

ص: 531

المتارك البغيضة ... 489

(1) تمرد الجيش (2) فقده لاعلام أصحابه

(3) الاحتلال والغزو (4) فتنة الخريت

مصرع الحق... 501

المؤامرة الدنيئة... 504

الفاجعة الكبرى... 506

وصاياه... 513

اقامة الحسن من بعده... 515

الى الرفيق الاعلى... 517

تجهيزه ودفنه... 518

القصاص من ابن ملجم... 518

محتويات الكتاب... 521

ص: 532

المجلد 2

هوية الكتاب

حياة الإمام الحسن بن علي عليهماالسلام

ص: 1

ص: 2

المؤلف: باقر شريف القرشي

الناشر: دار البلاغة

المطبعة: دار البلاغة

الطبعة: 1

الموضوع : سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 527

المكتبة الإسلامية

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهماالسلام

الجزء الثاني

دار البلاغة

ص: 1

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1413 ه - 1993 م

دار البلاغة للطبعة والنشر والتوزيع

هاتف وفاكس: 317425 - 820320 - 834265 - ص ب: 25/16 - تلكس: 22597 بلاغ - بيروت - لبنان

ص: 2

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) . ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ) . ( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) .

« القرآن الكريم »

ص: 3

ص: 4

الاهداء

إليك. يا من لا تحصى مواهبه وملكاته وعبقرياته.

إليك يا من تمت بخلافته في يوم « عيد الغدير » النعمة الكبرى ، وكمل الدين.

إليك. يا وصى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصهره ، وصاحبه وخليله إليك. يا أمير المؤمنين.

أتقدم الى روحانيتك المقدسة ، وبيدى « الحلقة الثانية » من حياة الامام الحسن ، كبير ولدك وشريكك في آية التطهير ، وولي عهدك ، الذي سكبت في نفسه كمالك اللامتناهي ، وغذيته بأروع المثل العليا راجيا من مقامك الرفيع قبولها واذا منحتني القبول وتلطفت علي بالرضا ، فهو غاية النجاح ومنتهى الأمل والسعادة لعبدك.

المؤلف

ص: 5

ص: 6

امام الكتاب

قدم الجزء الاول من هذا الكتاب سماحة الامام المغفور له الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء نضّر اللّه مثواه وقد وعد في تقديمه أن يعطي البيان حقه ويكشف الحجب والغموض ، ويرفع الابهام والالتباس في صلح الامام الحسن مع معاوية - فيما اذا سمحت له ظروفه بذلك - وعند ما انتهى الكتاب من الطبع وعرض عليه كتب هذه الكلمة الرائعة ، وهو في أواخر أيام حياته ، وقد اشتملت على مواضيع خطيرة ، وأبحاث مهمة ، وقد ابرز فيها دقائق التأريخ ، وهي تعد - بحق - آية من آيات الفن من حيث العمق والتحليل وروعة الاسلوب وبما أن الكتاب هو الباعث على تحريرها رأينا أن نتوج الجزء الثاني بها ، ونتحف القراء بهذه الاضبارة الممتعة من بحوث الامام كاشف الغطاء.

ص: 7

ص: 8

بنو هاشم ، وبنو أمية والحسن ومعاوية

العداوات ، والتباغض بين الأفراد والقبائل ، والجماعات غريزة بعيدة المدى في طبيعة البشر من أول عهده ، وبدء وجوده على هذه الكرة من عهد هابيل وقابيل ، مستمرة في جميع الاجيال إلى هذا الجيل ، ومنشأ العداوة وبواعثها غالبا هو التنافس والتعالي والانانية التي تدفع إلى حب الأثرة والغلبة والسيطرة ، والاستيلاء على مال أو جاه ، أو ولاية وإمرة وانكى العداوات العداوات التي تبعث عن ترة وطلب ثار وغسل عار وللتشفى والانتقام ، ولكن اسوأ العداء أثرا ، وأبعده مدى ، والذي يستحيل تحويله ولا يمكن زواله هو عداوة الضدية الذاتية ، والمباينة الجوهرية كعداوة الظلام للنور ، والرذيلة للفضيلة ، والقبح للحسن. والشر للخير وامثال ذا ، فان هذا العداء والتنافر يستحيل من أن يزول إلا بزوال احدهما إذ كل يضاد الآخر في اصل وجوده وطباع ذاته ، وكل واحد يمتنع على الآخر فلا يجتمعان ولا يرتفعان ، فالذوات الشريرة بذاتها وفي جوهرها تضاد الذوات الخيرة وتعاديها ، وكل واحد من هذين المتضادين المتعاندين يجد ويجتهد في ازالة الآخر ومحوه من الوجود كالنور والظلام لا يجتمعان في محل واحد أبدا ، وكل منهما بطباعه يتنافى مع الآخر ويعاديه وكالفضيلة والرذيلة في الانسان ، وعلى هذا الطراز ، ومن هذا النوع عداوة بنى هاشم وبنى

ص: 9

أمية عداوة جوهرية ذاتية يستحيل تحويلها ويمتنع زوالها عداوة الظلام للنور والشر للخير ، والخبيث للطيب ، ويعرف كل واحد منهما بثماره وآثاره ، وقديما قيل : « من ثمارهم تعرفونهم » الشجرة لا تعرف إلا من ثمرها أنها خبيثة أم طيبة ، والانسان لا يعرف خبثه وطيبه إلا من أعماله وملكاته وخصاله.

أولد عبد مناف هاشما ، وعبد شمس ، ونشب العداء بينهما منذ نشا وشبا لا لشيء سوى اختلاف الجوهرين ، وتباين الذاتين ، ثم استشرى الشر واتسعت عدوى العداء بين القبيلين بحكم الوراثة ، وكان لكل واحد من هذا القبيل ضد له من القبيل الآخر ، فعدوه بالنسب ، هاشم وعبد شمس ، وعبد المطلب وأمية ، وأبو طالب وحرب ، ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبو سفيان ، ما اشرقت أول بارقة من اشعة الاسلام ، وما اعلن البشير النذير بدعوة التوحيد إلا وثارت نعرة الشرك والوثنية لطمس أنوار الاحدية وقام بحمل معاول المعارضة والهدم لما يبنيه ، ويتبناه منقذ البشرية من مخالب الوحشية ، قام بها ثالوث الجبت والطاغوت ، أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان ، وكان الثالث زعيم الحزب الأموى أشدهم مناوئة للاسلام ومحاربة له ، نصبوا كل الحبائل ، وتوسلوا بجميع الوسائل لاخفات صوته واخماد ضوئه ، واعملوا كل بأس ، وسطوة في مقاومة تلك الدعوة حتى الجأت جماعة ممن تدين بها فهاجروا إلى الحبشة ، وتحمل النبي واصحابه من الاضطهاد والأذى أكثر من عشر سنين حتى اضطر إلى الجلاء من وطنه ووطن آبائه ، ومركز عزه ، فهاجر إلى يثرب فطارده أبو سفيان وتلاحقه إلى دار هجرته ، وما رفعت راية حرب على الاسلام إلا وبنو أمية وزعيمهم أبو سفيان قائدها ورافعها يلهب نارها ويثير غبارها ويتربص باخماد ذلك

ص: 10

النور ، الدوائر ، ويهيج نعرة القبائل ، إلى أن فتح اللّه الفتح المبين وأمكن اللّه نبيه من جبابرة قريش وملكهم عنوة ، فصاروا عبيدا وملكا بحكم قوانين الحرب ، والاستيلاء على المحاربين ، بالقوة والسلاح ولكنه سلام اللّه عليه أطلقهم وعفا عنهم ، وقال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء واكتفى منهم بظاهر الاسلام واطلاق لسانهم بالشهادتين ، وقلوبهم مماوءة بالكفر والحقد على الاسلام ، يتربصون الفرص لمحو سطوره. وقلع جذوره « ما اسلموا بل استسلموا. ولما وجدوا اعوانا على الاسلام وثبوا » ما تغير شيء من نفسيات أبى سفيان وبنى أميه بعد دخولهم في حظيرة الاسلام قلامة ظفر ، إنما تغير وضع المحاربة ، وكيفية الكفاح والمقاومة ، دخل أبو سفيان ومعاوية في الاسلام ، ليفتكوا في الاسلام ويكيدوا له ، والعدو الداخل أقدر على الكيد والفتك من العدو الخارج وهذه العداوة ذاتية متأصلة ، والذاتي لا يزول وليست هى من تنافس على مال ، أو تزاحم على منصب أو جاه ، بل هى عداوة المبادئ عداوة التضاد الطبيعي ، والتنافر الفطري عداوة الظلام للنور ، والضلال للهدى والباطل للحق والجور للعدل ، ولذا بقى بنو أمية على كفرهم الداخلي ومكرهم الباطني مع عدادهم في المسلمين وتمتعهم بنعم الاسلام وبركاته لكن لم يمس الاسلام شعرة من شعورهم ولا بلّ ريشة من اجنحتهم ، كالبط يعيش طول عمره في الماء ولا يبل الماء ريشة منه ( فيما يقولون ) نعم أقروا باسلامهم حقنا لدمائهم وتربصا لسنوح الفرصة لهدم عروش الاسلام وقواعده ، حتى إذا أدلى من كانت له السلطة بالخلافة إلى أول خليفة منهم طاروا فرحا ، وأعلنوا ببعض ما كانت تكنه صدورهم ، فجمعهم أبو سفيان وقال : « تلقفوها يا بنى أمية ، تلقف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار ».

ص: 11

ثم أخذوا زمام الخليفة الأموي بأيديهم ، وصاروا يقودونه « كالجمل الذلول » حيث شاءوا ، فاتخذوا مال المسلمين دولا ، وعباد اللّه خولا ، وانتفضت بلاد المسلمين من جميع أقطارها عليه وعليهم إلى أن حاصروه في داره ، وضايقوه على أن يخلع نفسه من الخلافة ، ويجعلها شورى بين المسلمين فتقاعس وتصلب أولا ، ثم لما اشتد الحصار عليه وحبسوا عنه حتى الماء والطعام تراخت اعصابه ، ووهنت اطنابه ، وحاول أن يخمد نار الفتنة بخلع نفسه اجابة للثائرين الذين شددوا الحصار فاحس بنو أمية وقيادتهم يومئذ بيد مروان في المدينة ، ومعاوية في الشام ، بأن صاحبهم إذا خلع نفسه فسوف يفلت الحبل من ايديهم ، وقد غلط الدهر أو غلط المسلمون غلطة يستحيل أن يعودوا لمثلها أبدا ، وبأي سابقة ، أو مكرمة لبني أمية أو جهاد في الاسلام يستحقون أن تكون خلافة المسلمين في واحد منهم ، وهم اعداء الاسلام وخصومه في كل موقف من مواقفه ، وفي كل يوم من ايامه ، أدرك كل ذلك مروان ومن معه من حزبه فتواطئوا مع زعيمهم بالشام أن يجهزوا على صاحبهم فيقتلوه قبل أن يخلع نفسه وقبل أن يفلت حبل الحيلة من أيديهم ، نعم يقتلونه ويتخذون قتله ذريعة إلى مطالبة فئة من المسلمين بدمه ، ويتظاهرون لسائر المسلمين بأنه قتل مظلوما ولا بد من الأخذ بثاره فيكون أقوى وسيلة إلى استرجاع الخلافة إليهم ، ولو لا قتل عثمان وقميص عثمان لما صارت الخلافة إلى معاوية ومروان وابناء مروان ، ولكان من المستحيل أن يحلموا بها في يقظة أو منام ولكن جاءت صاحبهم الاول من غير ثمن ، وقد دفعها إليه من قبله دفعا نعم اراد السابق أن يحولها عن بني هاشم إلى خصومهم الألداء بني أمية ففتل حبل الشورى ، وابرمه بحيث تصير الخلافة لا محالة إلى عثمان ، وما اكتفى

ص: 12

بذلك حتى نفخ روح الطموح إليها في نفس معاوية الطليق ابن الطليق ، وهو وأبوه اكبر الاعداء الألداء للاسلام ، كان كل سنة يحاسب عماله ويصادر أموالهم ، ويعاملهم بأشد الأحوال إلا معاوية ، تتواتر الاخبار لديه بأن معاوية يسرف في صرف أموال المسلمين ويلبس الحرير والديباج فيتغاضى عنه بل يعتذر له ، ويقول : « ذاك كسرى العرب » (1) مع أن معاوية كان من الضعة والفقر والهوان باقصى مكان ، كان من الصعاليك الساقطين في نظر المجتمع حتى أن أحد أشراف العرب وفد على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ولما أراد الخروج أمر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معاوية أن يشيعه إلى خارج المدينة وكان الحر شديدا والأرض يغلى رملها ويفور ومعاوية حافي القدمين فقال للوافد الذي خرج في تشييعه :

اردفني خلفك.

- أنت لا تصلح أن تكون رديف الأشراف والملوك!.

- ألا فاعطني نعليك اتقى بهما حرارة الشمس.

- أنت احقر من ان تلبس نعلى.

- ما أصنع وقد احترقت رجلاى؟

- امشى في ظل ناقتي ولا تصلح لأكثر من هذا!!.

ص: 13


1- كان عمر يضفى على معاوية ثوب البطولات ، ويخلع عليه النعوت والألقاب ويبالغ في تسديده ، ولا يسمح بانتقاصه ، فقد جاء في الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ( ج 3 ص 377 - 378 ) ان قوما ذموا معاوية عند عمر فقال : دعونا من ذم فتى من قريش ، من يضحك في الغضب ولا ينال ما عنده الاعلى الرضا ، ولا يؤخذ ما فوق راسه الا من تحت قدميه. ولا ندرى لما هذا الاطرء على هذا الطليق الذي نظر إليه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نظرة ريبة وشك في اسلامه.

تعسا لك يا زمان وأف لك يا دهر هذا الصعلوك النذل صار أو صيروه كسرى العرب!!!.

نعم : معاوية ومروان هما اللذان دبرا الحيلة في قتل عثمان ، ومكنوا الثائرين من قتله ، وقضية الجيش الذي أرسله معاوية من الشام إلى المدينة ووصيته له بأن لا يدخل المدينة حتى يقتل عثمان تشهد لذلك وهي مشهورة

نعم : وقد اعانهم على قتله أيضا احدى زوجات النبي التي كانت تهرج على عثمان وتصرخ في النوادى « اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا » ثم بعد أن امتثلوا أمرها وقتلوه ، ثارت أو أثاروها إلى الطلب بدمه ، وكانت من جراء ذلك واقعة الجمل التي ذهب ضحيتها عشرون الفا من المسلمين ، وفتحت باب الحروب بين أهل القبلة ، وقال أحد شعراء ذلك العصر يخاطبها ويؤنبها

وأنت البلاء وأنت الشقاء *** وأنت السحاب وأنت المطر

وأنت أمرت بقتل الامام *** وقلت لنا إنه قد كفر

وقال الآخر :

جاءت مع الأشقين في هودج *** تزجى إلى البصرة أجنادها

كأنها في فعلها هرة *** من جوعها تأكل أولادها

وهذه النكات التي رشح القلم بها هنا وهي من أسرار دقائق التأريخ والتي قلّ من تنبه لها إنما جاءت عفوا ، وما كانت من القصد في شيء ، إنما المقصود بالبيان ان معاوية وأبا سفيان لما بهرهما الاسلام وقهرهما على الدخول فيه حفظا لحوبائهما (1) من التلف ، أظهرا الاسلام صورة واضمرا الكيد والفتك به سريرة ، وبقيا يتربصان فكلما سنحت فرصة لذلك ظهرت ركيزتهم في اقوالهم وفي اعمالهم.

ص: 14


1- حوبائهما : تثنية حوباء وهي النفس تجمع على حوباوات.

وكان معاوية أدهى من أبيه الذي كبر وخرف في آخر عمره ومن دهائه وعزمه كان يحتفظ بصورة الاسلام مدة إمرته بالشام عشرين سنة فلا يصطدم بشعيرة من شعائره ، ولا يتطاول إلى اعتراض قاعدة من قواعده فلا يتجاهر بشرب الخمر والاغاني ، ولا يقتل النفس المحرمة ولا يلعب بالفهود ، ولا يضرب على المزمار والعود ، نعم : قد يلبس الحرير والديباج وطيلسان الذهب ولا بأس بذلك فانه « كسرى العرب » وما احتفظ بشعائر الاسلام إلا لحاجة في نفس يعقوب ، ومن باب الهدوء قبل العاصفة والمشى رويدا لأخذ الصيد.

بقى على ظاهر الايمان المبطن بالكفر مدة مخالفته ومحاربته لامير المؤمنين في صفين ، فلما استشهد سلام اللّه عليه ، تنفس الصعداء ، وغمرته المسرة وامكنته الفرصة من اللعب على الحبل وتدبير الحيل ، ولكن بعد أن بويع الحسن «ع» والتف عليه الأبطال من أصحاب أبيه. وشيعته ومواليه ، ومنهم الرءوس ، والضروس ، والانياب ، والعديد ، والعدة ، والسلاح ، والكراع ، فوجد أنه وقع في هوة أضيق وأعمق من الأولى ، فان الحسن سبط رسول اللّه ، وابن بنته ، وريحانته ، وهو لوداعته ، وسلامة ذاته محبوب للنفوس لم يؤذ أحدا مدة عمره ، بل كان كله خير وبركة ، ولم تعلق به تهمة الاشتراك بقتل عثمان ، بل قد يقال إنه كان من الذابين عنه فكيف يقاس معاوية به وكيف يعدل الناس عن ابن فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى ابن هند آكلة الأكباد ، اقلق معاوية ، وأقضّ مضجعه التفكير بهذه النقاط المركزة التي لا مجال فيها للنقاش والجدال ، ولكن سرعان ما اهتدى بدهائه ومكره إلى حل عقدتها وكشف كربتها ، فلجأ إلى عاملين قويين ، « أولهما » المال الذي يلوى اعناق الرجال ، ويسيل في لعبه

ص: 15

لعاب الأبطال ، وبعث إلى اعظم قائد من قادة جيش الحسن الذين بايعوه على الموت دونه ، وأمسهم رحما به وهو عبيد اللّه بن العباس الذي جعله أميرا حتى على قيس بن سعد بن عبادة ذلك الزعيم العظيم الفارس المغوار المتفاني اخلاصا في حب الحسن وأبيه ، نعم : بعث إليه معاوية باكثر من خمسين الفا ، ووعده عند مجيئه إليه بمثلها ، فانسل إلى معاوية في جنح الظلام ، وأصبح الناس ولا أمير لهم فصلى بهم قيس ، وهوّن عليهم ، هذه الفادحة التي أوهت عزيمة الجيش ، وهيئتهم للهزيمة ، قبل النضال ، وقل ساعد اللّه قلبك يا أبا محمد كيف تحملت هذه الرزايا التي أقبلت عليك متتابعة كقطع الليل ، وصار معاوية يعمل بهذه الخطة مع كل بارز من الشيعة ورجالهم وأبطالهم فاستمالهم إليه جميعا ، ولم يستعص عليه ويسلم من مكره وحبائله إلا عدد قليل لا يتجاوز العشرة كقيس بن سعد ، وحجر بن عدى وأمثالهم ممن ناطحوا صخرة الظلم والضلال براسخ إيمانهم ، وما اختلجهم الشك في كفر معاوية وأبيه وبنيه ، طرفة عين ، وكان قيس « أقسم باللّه أن لا يلقى معاوية إلا وبينهما الرمح أو السيف » في قضية معروفة ، هذا أول تدبير أتخذه معاوية للغلبة على الحسن ، واستبداده بالأمر واغتصاب الخلافة منه « الثاني » وهي حيلة تأثيرها أشد من الأولى استطابها السواد الأعظم وانجرف إليها الرأي العام تلك دعوى معاوية الحسن إلى الصلح (1) نعم : أشد ما فتّ في عضد الحسن طلب معاوية الصلح ، فقد كانت أفتك غيلة ، وأهلك حيلة لأن المال كان يستميل به معاوية عيون الرجال ، والخواص منهم ، اما العامة فلا ينالهم منه شيء ولكن الناس

ص: 16


1- وهي تضارع خديعته في رفع المصاحف التي استطابها الجيش العراقي فلم يقرر حق مصيره بعد ما أشرف على الفتح والظفر.

كانوا قد عضتهم أنياب الحروب حتى أبادت خيارهم ، وأخربت ديارهم في أقل من خمس سنين ثلاثة حروب ضروس : الجمل ، وصفين ، والنهروان فاصبحت الدعوة الى الحرب ثقيلة وبيلة ، والدعوة إلى الصلح والراحة لذيذة مقبولة ، وهنا تأزمت ظروفه سلام اللّه عليه وحاسب الموقف حسابا دقيقا ، حساب الناظر المتدبر في العواقب ، فوضع الرفض والقبول في كفتى الميزان ليرى لأيهما الرجحان ، فوجد أنه لو رفض الصلح وأصر على الحرب ، فلا يخلو أما أن يكون هو الغالب ، ومعاوية المغلوب وهذا وإن كانت تلك الأوضاع والظروف تجعله شبه المستحيل ، ولكن فليكن بالفرض هو الواقع ، ولكن هل مغبة ذلك إلا تظلم الناس لبني أمية ، وظهورهم باوجع مظاهر المظلومية ، بالامس قتلوا عثمان عين الامويين ، وامير المؤمنين « كما يقولون » واليوم يقتلون معاوية عين الأمويين ، وخال المؤمنين ( يا لها من رزية ) ويتهيأ لبني أمية قميص ثانى فيرفعون قميص عثمان مع قميص معاوية ، والناس رعاع ينعقون مع كل ناعق لا تفكير ولا تدبر ، فما ذا يكون موقف الحسن إذا؟ لو افترضناه ، هو « الغالب ».

أما لو كان هو « المغلوب » فاول كلمة تقال من كل متكلم إن الحسن هو الذي القى نفسه بالتهلكة ، فان معاوية طلب منه الصلح الذي فيه حقن الدماء فابى وبغى ، وعلى الباغي تدور الدوائر ، وحينئذ يتم لمعاوية وأبى سفيان ما أرادا من الكيد للاسلام وارجاع الناس الى جاهليتهم الأولى وعبادة اللات والعزى ، ولا يبقي معاوية من أهل البيت نافخ ضرمة ، بل كان نظر الحسن «ع» فى قبول الصلح أدق من هذا وذاك ، أراد أن يفتك به ويظهر خبيئة حاله ، وما ستره في قرارة نفسه قبل أن يكون غالبا أو مغلوبا ، وبدون أن يزج الناس في حرب ، ويحملهم على ما يكرهون من إراقة الدماء.

ص: 17

فقد ذكرنا أن معاوية المسلم ظاهرا العدو للاسلام حقيقة ، وواقعا كان لوجود المزاحم يخدع الناس بغشاء رقيق من التزمت في ارتكاب الكبائر والموبقات ، وما ينطوى عليه من معاداة الاسلام وتصميم العزيمة على قلع جذوره واطفاء نوره ، يتكتم بكل ذلك خوفا من رغبة الناس إلى الحسن وأبيه من قبل فاراد الحسن أن يخلى له الميدان ، ويسلم له الأمر ويرفع الخصومة ، حتى يظهر ما يبطن ، ويبوح بكفره ، ويعلن ويرفع عن وجهه ذلك الغشاء الصفيق ويعرف الناس حقيقة أمره ، وكامن سره ، وهكذا فعل ، وفور إبرام الصلح صعد المنبر في جمع غفير من المسلمين ، وقال :

« إني ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد اعطيت الحسن شروطا كلها تحت قدمي. »

أنظر الى القحة والصلف وعدم الحياء وضيق الوعاء وصفاقة الوجه ، أما وأيم اللّه إنه لو لم يكن لقبول الصلح الا ظهور هذه الكلمات من معاوية لكفى بها دليلا على افتضاح معاوية ، ومعرفة الناس بكفره ، فما ظنك به وقد استمر على هذه الخطة الكافرة ، والخطيئة السافرة ، والتحدى للاسلام وهدم قواعده جهارا.

لو لا صلح الحسن لما استلحق معاوية زيادا بأبى سفيان ، وهو ولده من الزنا ، فضرب قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) « الولد للفراش وللعاهر الحجر » ضربها بالحجر وبعرض الجدار بلا خيفة ، ولا حذر.

لو لا الصلح لما قتل حجر بن عدي سيد الأوابين ، وعشرة من أعلام خيار الصحابة والتابعين ، قتلهم بمرج عذراء صبرا ، من دون أى سبب مبرر

لو لا الصلح لما قتل معاوية الصحابي الجليل عمرو بن الحمق ، وحمل رأسه الى الشام ، وهو أول رأس حمل في الاسلام.

لو لا الصلح لما سقى معاوية الحسن السم على يد جعيدة بنت الاشعث

ص: 18

لو لا الصلح لما أجبر معاوية البقية الصالحة من أولاد المهاجرين والانصار على أخذ البيعة ليزيد ، وحاله في الفسق والفجور مشهور إلى كثير من أمثال هذه المخازى ، والفظائع التي لا يبلغها الاحصاء. ولكن تأمل مليا وأنظر من الغالب ومن المغلوب.

انظر ما صنع الحسن بمعاوية في صلحه وكيف هدّ جميع مساعيه وهدم كل مبانيه حتى ظهر الحق وزهق الباطل ، وخسر هنالك المبطلون فكان الصلح في تلك الظروف هو الواجب والمتعين على الحسن ، كما أن المحاربة والثورة على يزيد في تلك الظروف كان هو الواجب والمتعين على أخيه الحسين ، كل ذلك للتفاوت بين الزمانين ، والاختلاف بين الرجلين

ولو لا صلح الحسن الذي فضح معاوية ، وشهادة الحسين التي قضت على يزيد ، وانقرضت بها الدولة السفيانية بأسرع وقت.

لو لا تضحية هذين السبطين لذهبت جهود جدهما بطرفة عين ، ولصار الدين دين آل أبي سفيان دين الغدر والمكر ، دين الفسق والفجور ، دين الحانات والخمور ، دين العهار ، دين الفهود والقرود ، دين إبادة الصالحين واستبقاء الفجرة الفاسقين.

فجزا كما اللّه يا سيدى شباب الجنة ويا سبطي رسول اللّه ، جزا كما اللّه عن الاسلام وأهله أفضل الجزاء ، فو اللّه ما عبد اللّه عابد ولا وحده موحد. وما حقت فريضة ولا أقيمت سنة ولا ساغت في الاسلام شريعة ولا زاغت من الضلال إلى الهدى أمة إلا ولكما بعد اللّه ورسوله الفضل والمنة والحجة البالغة والمحجة.

جاء رسول اللّه بالهدى والنور والخير والبركة للانسانية أجمع من غير لون ولون وعنصر وآخر وأمة دون أمة وقوم سوى آخرين جاء بالاسلام والنور المبين فشيّد قواعده وأحكمه وأقومه وأكمله وأتمه ولم يترك فيه أى

ص: 19

نقص وأى عوج وجاء أبو سفيان والشجرة الملعونة في القرآن معاوية ويزيد ومروان فحملوا معاول الكفر والشرك وتحاملوا على تلك الأسس والقواعد يقلعون جذورها ويخمدون نورها « يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون » فوقف السبطان بما لهما من قوة وسلطان سدا منيعا دون ذلك البنيان ، وما تم لهما ما أرادا من حفظ شريعة جدهما إلا بالتضحية العظمى بانفسهم وأموالهم ورجالهم وأطفالهم وبكل ما في دنيا النعمة والنعيم والعيش الوسيم ، بذلوا كل ذلك في سبيل اللّه ولحفظ دين اللّه ، ولو لا هذه التضحية وتلك المفادات لأصبح دين الاسلام أسطورة من الاساطير لا تجده إلا في الكتاب والقماطير يذكره التأريخ كما يذكر الحوادث العابرة والأمم المنقرضة.

« سبحان اللّه واللّه أكبر ولله الحمد » من هنا تعرف ويجب أن تعرف السر في حفاوة المنقذ الأعظم تلك الحفاوة البليغة والتعظيم الخارج عن نطاق العرف والمعتاد بل وعن رواق التعقل والسداد ذلك النبي العظيم والشخصية الحبيبة إلى المبدء الاعظم التي ملأها هيبة وعظمة ووقارا ، والذي لا تهزه العواصف ولا تستميله العواطف ولا خامره في لحظة من عمره العبث واللّهو واللعب الذي كانت غريزته التي فطر عليها قوله : « ما أنا من دد ولا الددمني » والذي كان من الوقار والهيبة والاتزان ربما يدخل عليه الرجل الذي مار آه من ذى قبل فترتعد فرائصه من هيبته فيقول له النبي : « لا تفزع فاني ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد » حذرا من أن يقول المسلمون فيه ما قالت النصارى في المسيح ، هذا الطود العظيم ، يحمل الحسن والحسين وهما طفلان على كتفيه ، ويمشي بهما وهما على متنيه في ملأ من المسلمين رافعا صوته ليسمعوا « نعم الجمل جملكما ، ونعم الراكبان أنتما » ثم يأتي الحسين وهو غلام فيعلو على ظهر النبي والنبي ساجد فلا يرفع رأسه حتى ينزل

ص: 20

الحسين حسب إرادته ، النبي يخطب والحسين يدرج في المسجد فيعثر فيقطع النبي خطبته ، ويعدو إليه ويحتضنه ويقول : « قاتل اللّه الشيطان ، الولد فتنة لما عثر ولدى هذا أحسست أن قلبي قد سقط مني » الى كثير من أمثال هذا مما صدر عنه سلام اللّه عليه في ولديه مما لست بصدد احصائه وجمعه ، ولكن أقول : إن هذا الشغف ، والحب اللامتناهي ليس لكونهما ابني بنته فحسب فان هذه النسبة لا تستوجب كل هذا العطف الخارق لسياج العرف والعادة ، ولكن لا شك ان هناك أسرارا وأسبابا هي أدق وأعمق ، أسرار روحية هي فوق هذه الوشائج الجسمية ، فهل ترى معى أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعله ارتفع عن أفق الزمان : وأشرف بروحيته المقدسة من نافذة الدهر ، وأطل على صحيفة التكوين من ألّفه إلى يائه ، فنظر الى الماضي والحاضر والآتى نظرة واحدة ، رأى الحوادث الآتية ممثلة بعينها في صحيفة الوجود لا بصورها على شاشة التمثيل ، رأى ما كابد ولداه من الدفاع عن دينه ، والحماية لشريعته والتضحية بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، وأنهم ارخصوا في المفادات كل غال وعزيز ، تجرع الحسن السم من معاوية مرارا حتى قضى بالمرة الأخيرة التي تقيا بها كبده قطعة قطعة ، ثم ضرب الحسين المثل الأعلى في التضحية والمفادات لحفظ شريعة جده ، فاستقبل السيوف والرماح والسهام وجعل صدره ونحره ورأسه ورئته ، وقاية عن المعاول التي اتخذها بنو أمية لهدم الاسلام ، وقلعه من اساسه ، ونصب نفسه وأولاده وانصاره ، الغر الميامين هدفا وشبحا لوقاية الاسلام من أن تنهار دعائمه ، وتنهد قواعده وقوائمه ، بهجمات الأمويين عليه ، حتى سلم الاسلام واشرقت أنواره ، وعلمت أسراره ، وهلك الكافرون وخسر هنالك المبطلون ، وكانت كلمة اللّه العليا ، وكلمة اعدائه السفلى ، وكل مسلم من أول اسلام الناس إلى اليوم بل وإلى يوم القيامة مدين ورهين بالشكر والمنة لهذين الامامين ، ولو لا

ص: 21

تضحيتهما التي ما حدث التأريخ بمثلها أبدا ، نعم لو لا تلك التضحية لعاد الناس بمساعي الأمويين الى جاهليتهم الأولى بل اتعس إذا ، فهل تستغرب من النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تلك الحفاوة والتعظيم لهما وهما طفلان صغيران ، وقد عرف بل رأى بعين بصره تلك الحوادث الفجيعة ، وذلك الكفاح المرير من أجله وفي سبيله ، وكان يشمهما ويضمهما ويقول : « هما ولداى وريحانتاى » وباليقين انه كان يتنسم منهما العبق الربوبي ، ويتوسم بهما الألق الالهي وبهذا نعرف ويجب ان نعرف أن الحسن والحسين ، نور واحد لا يفضل احدهما على الآخر قدر عرض شعرة كل واحد منهما قد قام بواجبه ، وأدى رسالته وعمل بالمنهاج المقرر له من جده وأبيه ، والصك الذي تسلمه في أول يوم من إمامته ، إذا أردت التوسع في معرفة عظمة الحسن سلام اللّه عليه وشجاعته ، وبسالته ، وقوة قلبه ، وشدة عارضته ، وبليغ حجته ، وعدم أكتراثه بزخارف الملك ، وأبهة السلطان ، فانظر الى كلماته واحتجاجاته في مجلس معاوية مع رءوس المنافقين ، وضروس الكفرة الملحدين الذين كان معاوية يحرش بينهم وبين الحسن ليضحك على ذقونهم ، كابن العاص وابن شعبة ومروان ونظرائهم من زبانية جهنم الذين ما آمنوا باللّه طرف عين ، انظرها واعجب بها ما شئت هناك تتمثل لك العظمة في أوج رفعتها وتتصور لك البسالة في موج لجتها ، وإن شئت المزيد فانظر الى كلماته في ساعة الموت ، ويوم انطلاقه من هذا السجن ، الكلمات التي قالها لأخيه محمد بن الحنفية فى حق أخيه الحسين ، هنالك تنفتح لك أغلاق أسرار الامامة ، ويتضح لديك إشراق أنوار النبوة والزعامة ، وتعرف المرعوية النبوية ، والولاية الكلية ، هنالك الولاية لله « والنبيّ أولى بالمؤمنين من انفسهم » ( ومن كنت مولاه فعلى مولاه ) « وإنما وليكم اللّه ورسوله » الآية

وقد زحف القلم ، وخرج عن المحدد ، واشتمر عن قصد الجادة

ص: 22

وجادة القصد ، إنما القصارى التي أردتها من كلمتى هذه ان العداوة بين بنى هاشم وبنى أميّة ذاتية متأصلة هى عداوة الهدى للضلال ، والنور للظلام ويشهد لذلك انك لو استعرضت سيرة بنى أميّة من اولهم من عبد شمس إلى آخرهم مروان الحمار لم تجد في صحيفة الكثير بل الأكثر منهم إلا الغدر والمكر ونكث العهود ، والفسق والفجور ، والعهر والخنا وانباء الزنا إلى كل ما يتحمله لفظ الرذيلة من المعاني.

وإذا استعرضت سيرة بنى هاشم من أولهم ليومنا هذا لم تجد في صحيفة الكثير بل الأكثر منهم إلا كلما يتحمله لفظ الفضيلة من الوفاء والصدق والشجاعة والعفة ، وطهارة المولد ، وشرف النفس وعلو الهمة ، والتضحية في سبيل المبدأ ، وما الى ذلك من كرم الأخلاق ، وطهارة الأعراق ، وهب أن هناك من يعذر بنى أميّة في عداوتهم لبني هاشم ويقول : إنهم اتخذوها ذريعة ووسيلة الى الملك والسلطان ، ولكن ما عذر الموالين لبني أميّة في هذا العصر ما عذر الأموية الحديثة ، التي لا تنال بذلك حظا من حظوظ الدنيا ولا نصيبا في الآخرة.

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) .

والحمد لله الذي فقأ عيني الكفر والنفاق ، وأقر عينى الاسلام والإيمان بالحسن والحسين ، والعترة الطاهرة ، ونسأله تعالى كما منّ علينا بمعرفتهم وولايتهم أن يحشرنا في زمرتهم ، ويكرمنا بشفاعتهم والبراءة من اعدائهم وعداوتهم :

أو إليكم ما دجت مزنة *** وما اصطخب الرعد أو جلجلا

وأبرأ ممن يعاديكم *** فان البراءة شرط الولا

ص: 23

وحقا إن الزكى أبا محمد سلام اللّه عليه في المدة القصيرة التي عاشها بعد ابيه تحمل من الرزايا والمحن ما لم يحتملها نبي ، وما هي بأقل من المصائب التي جرت على أخيه أبي عبد اللّه «ع» يوم الطف ، فان النكبة الأليمة ، والضربة الأثيمة في الأخوين واحدة وإن اختلفت الأشكال والأساليب ، وكما أن الحسين قابل رزاياه بالصبر الذي عجبت منه ملائكة السماوات ، فكذلك الحسن قاتل عدوه ، وقابل الامة وارزائه بصبر عجيب. وصدر رحيب ما هان يوما ولا لان ، ولا تضرع ولا استكان ، وما أخذ من امواله التي اغتصبها معاوية منه وصارت العوبة بايدى بنى أميّة ، ما أخذ واحدا من آلاف بل من مئات الآلاف وكما لا مساغ للتفاضل بين هذين النيرين ، كذلك لا يصح القول بأن صبر الحسن دون صبر الحسين ، أو ان مصيبته اهون المصيبتين ، فسلام اللّه عليكما يا إمامى الهدى وسليلى على والزهراء ما ازهرت الفضيلة واكفهرت الرذيلة.

واختم كلمتي بابيات من خاتمة قصيدة رثاء لسيد الشهداء نظمتها منذ مدة تزيد على خمسين سنة استهلها :

حذوا الماء من عيني والنار من قلبي *** ولا تحملوا للبرق منا ولا السحب

واختها :

بنى الشرف الوضاح والحسب الذي *** تناهي فاضحى قاب قوسين للرب

لئن عدت الأحساب للفخر اوغدت *** تطاول بالأنساب سيارة الشهب

فما نسبي إلا انتسابي إليكم *** وما حسبي إلا بأنكم حسبى

حرر هذه الكلمة بانامله الرقيمة ، واقلامه السقيمة مرتجلا مترسلا في بضع سويعات آخرها يوم الحادي والعشرين من شهر رمضان يوم وفاة سيد الوصيين وإمام الصديقين امير المؤمنين عليه آلاف السلام والتحية سنة 1373 ه-

محمد الحسين آل كاشف الغطاء

بمدرسة العلمية بالنجف الاشرف

ص: 24

البيعة

اشارة

ص: 25

ص: 26

واعتنى الاسلام بالخلافة (1) اعتناء بالغا فأناط بها المسئوليات الضخمة فجلها مسئولة عن نهضة المسلمين وتطوهم وانطلاقهم في ميادين العلم ، وتوجيههم نحو الخير وابعادهم عن مسالك الضلال والفساد ، والعمل على ايجاد الوسائل السليمة لأسباب قوتهم ورخائهم ، كما أوكل إليها حراسة الدين والحفاظ على شئونه ، وصيانة مثله فهي المحور الذي تدور عليه سياسته وسائر شئونه.

إن حقيقة الاسلام وفكرته شاملة لجميع المناحي الدينية والسياسية فقد الف بينهما وحدة متسقة وجعلهما كلا لا يتجزأ ، وقد ادرك هذه الحقيقة جمهور كبير من علماء المستشرقين يقول بعضهم :

( إن الاسلام ليس ظاهرة دينية فقط ، وانما اتى بنظام سياسي ذلك ان مؤسسه كان نبيا وكان حاكما مثاليا خبيرا بأساليب الحكم. )

وقال جيت : ( ان الاسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية ، وانما استوجب اقامة مجتمع مستقل له أسلوبه المعين في الحكم وله قوانينه وانظمته الخاصة به. ) (2)

إن الخلافة ترتبط بالاسلام ارتباطا وثيقا فهي جزء من برامجه وفصل من فصوله فلا بد من اقامتها على مسرح الحياة يقول الشيخ محمد عبده :

( الاسلام دين وشرع فقد وضع حدودا ، ورسم حقوقا وليس كل معتقد في ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله فقد يغلب الهوى وتتحكم

ص: 27


1- الخلافة : في الاصل مصدر خلف ، يقال : خلفه في قومه خلافة فهو خليفة ، ومنه قوله تعالى : « وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى في قومى » ثم أطلقت في العرف على الزعامة العظمى وهي الولاية العامة على كافة الأمة ، والقيام بأمورها والنهوض بأعبائها.
2- النظام السياسي فى الاسلام : ص 15.

الشهوة فيغمط الحق ، ويتعدى المعتدي الحد فلا تكمل الحكمة إلا إذا وجدت قوة لاقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي وصون نظام الجماعة. ) (1)

إن الاسلام جاء بمجموعة كاملة من النظم والقوانين تهدف إلى تنظيم الحياة وصيانة الحقوق والقضاء على الغبن والظلم ، وبسط الأمن والعدل فى البلاد ، ومن الطبيعي انها تحتاج إلى قوة ودولة لتقوم بحمايتها وتطبيقها على واقع الحياة.

أما من يتولى قيادة الحكم وإدارة شئون البلاد فقد تحدث الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) عما يعتبر فيه من الصفات بقوله :

( وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالى على الفروج ، والدماء ، والمغانم ، والاحكام وإمامة ، المسلمين البخيل فتكون في اموالهم نهمته (2) ولا الجاهل فيضلهم بجهله ، ولا الجافى فيقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدول (3) فيتخذ قوما دون قوم ، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ، ويقف فيها دون المقاطع (4) ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة ... ) (5)

إن من يلى امور المسلمين ويتولى ادارة شئونهم - فى نظر الامام -

ص: 28


1- الاسلام والنصرانية : ص 65.
2- النهمة : - بالفتح - الافراط فى الشهوة ، المبالغة فى الحرص.
3- الحائف : من الحيف : الجور والظلم ، والدول : جمع دولة - بالضم - وهو المال لأنه يتداول به وينتقل من يد إلى يد ، وفى التنزيل ( كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) والمراد من كلامه (عليه السلام) ان الوالى ليس له أن يحيف فى الأموال بأن يفضل قوما على قوم فى العطاء من دون سبب موجب لذلك.
4- المقاطع : الحدود التي عينها اللّه لها.
5- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 19.

لا بد أن يكون ندي الكف بعيدا عن البخل عالما بما تحتاج إليه الامة غير حائف للدول ، ولا مرتشي فى اعماله ، ولا معطل لحدود اللّه وسنة نبيه فانه اذا تجرد من هذه الصفات واجهت الأمة - فى عهده - سيلا عارما من المحن وتعرضت البلاد للازمات والنكبات.

وأعرب الذكر الحكيم فى قصة ابراهيم (عليه السلام) عمن يستحق الامامة من ذريته قال تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) وذكر المفسرون أن المراد بالعهد هو الامامة والإمامة هى الخلافة (2) فلا ينالها من تلبس بالظلم فى أي مرحلة من حياته (3) سواء أكان الظلم للنفس (4) أو للغير فانه لا يمنح بذلك اللطف.

لقد اهتم الاسلام اهتماما كثيرا فيمن يلى امور المسلمين فالزم ان يكون مثالا للعدل وعنوانا للحق ورمزا للعدل والفضائل ليرعى مصالح الأمة ويحقق فى ربوعها جميع ما تصبوا إليه من العزة والكرامة ولم نتوفر الصفات الرفيعة التي يتطلبها الاسلام فى القيادة الرشيدة إلا فى أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، والذين قرنهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 29


1- سورة البقرة : آية 124.
2- مجمع البيان 1 / 2. 2 ط صيدا.
3- هذا مبني على ما ذهب إليه بعض علماء الاصول فى بحوث المشتق من أنه حقيقة فى الأعم ممن تلبس بالمبدإ ومن انقضى عنه.
4- الظلم للنفس : كالسجود للاصنام وغير ذلك من الاخلاق الذميمة ، وقد استدل علماء الشيعة بالآية الشريفة على أحقية أمير المؤمنين بالخلافة دون غيره لأنه لم يظلم نفسه بالسجود للاصنام التي سجد لها غيره من الصحابة قبل بزوغ نور الاسلام.

بكتاب اللّه العزيز - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - وجعلهم سفنا للنجاة وأمنا للعباد ، ومن الطبيعي أن ذلك لم يكن ناشئا إلا عن مدى أهميتهم ، وقد تحدث الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) عما مثل فيهم من الصفات والنزعات بقوله :

« هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم. لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه هم دعائم الاسلام ، وولائج الاعتصام (1) بهم عاد الحق فى نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية (2) لا عقل سماع ورواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل ... » (3)

وبالاضافة الى هذه القابليات والمواهب التي يتمتعون بها فان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نصّ على اختصاص الخلافة فيهم وانهم أحق بالأمر من غيرهم ، وقد تواترت النصوص (4) الواردة منه بذلك كقوله :

« لا يزال هذا الدين قائما حتى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة .. كلهم من قريش ».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « يكون بعدي اثنا عشر أميرا. وقال : كلهم من قريش .. »

ص: 30


1- الولائج : جمع وليجة ، وهي المحل الذي يعتصم فيه من المطر والبرد.
2- عقل الوعاية : الحفظ في فهم ، الرعاية : ملاحظة تعاليم الدين وتطبيق العمل عليها أما السماع والرواية من درن فهم وعمل فمنزلتهما منزلة الجهل.
3- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 259.
4- التواتر : الاستفاضة في نقل الخبر بحيث يؤدي الى القطع بصدقه وذلك فيما إذا أحال العقل تواطؤ المخبرين على الكذب ، ولذا كان الخبر المتواتر من أهم الأسباب المؤدية الى القطع بالأشياء.

الى غير ذلك من الأحاديث الدالة بصراحتها وحصرها على اختصاص الخلافة فيهم ، وانهم سفن النجاة وهداة العباد.

ومن الأئمة الطاهرين الاثنى عشر الذين أقامهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خلفاء من بعده وأمناء على تبليغ رسالته الامام الحسن ريحانته وسبطه الأكبر فقد نصبه اماما على أمته وقال فيه وفي أخيه : « الحسن والحسين امامان إن قاما وإن قعدا ». ونص على امامته الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأقامه علما من بعده ، بعد أن اغتاله ابن ملجم ، وقد فزع إليه المسلمون بعد موت أمير المؤمنين وأجمعوا على مبايعته ، فقد اجتمعوا في جامع الكوفة سنة أربعين من الهجرة في صبيحة احدى وعشرين من شهر رمضان المبارك ، وأقبل علیه السلام وقد احتفت به البقية الباقية من صالحاء المهاجرين والأنصار فاعتلى منصة الخطابة فابتدأ - بعد حمد اللّه والثناء عليه - بتأبين فقيد العدالة الكبرى الامام أمير المؤمنين وتعداد بعض فضائله ومواهبه فقال :

« لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، ولم يدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيقيه بنفسه ، وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوجهه برايته فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، لا يرجع حتى يفتح اللّه على يديه ، ولقد توفي في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم (عليهما السلام) وقبض فيها يوشع بن نون وصي موسى (عليه السلام) وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادما لأهله ».

وتمثلت صورة أبيه أمامه فخنقته العبرة وأرسل ما في عينيه من دموع وكذلك بكى جميع من حضر في جنبات الحفل ، وساد الحزن وعم الأسى ثم استأنف الامام خطابه فأعرب للناس سمو مكانته وما يتمتع به من الشرف

ص: 31

والمجد قائلا :

« أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن ابن علي ، وأنا ابن النبي ، وأنا ابن الوصي ، وأنا ابن البشير النذير ، وأنا ابن الداعي الى اللّه باذنه ، وأنا ابن السراج المنير ، وأنا من أهل البيت الذي كان جبرئيل ينزل إلينا ، ويصعد من عندنا ، وأنا من أهل البيت الذي أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وأنا من أهل بيت افترض اللّه مودتهم على كل مسلم فقال تبارك وتعالى لنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، ومن يقترف حسنة نزد له منها حسنا » فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت ».

وحفل خطابه البليغ بما يلي :

1 - انه عرف الناس بجهاد ابيه وعظيم بلائه في الإسلام ووقايته لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه في جميع المواقف والمشاهد وقد أبّنه بكلمة تمثلت فيها بلاغة الاعجاز وروعة الايجاز وهي قوله : « فهو لم يسبقه الأولون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل » ومن كان لم يسبقه الأولون ولم يدركه الآخرون كان أعظم شخصية بزت جميع المصلحين والعظماء في جميع مراحل التاريخ وحقا انه كذلك ، فليس في جميع فترات الزمن وآناته قديما وحديثا أحد فاق الامام أو يفوقه في مثله وأعماله وجهاده وذبه عن حظيرة الإسلام.

2 - وأبان (عليه السلام) في خطابه الرائع قداسة الليلة التي رحل فيها أبوه الى جنان الخلد. فلقد عرج فيها الى السماء المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) ورحل فيها إلى جواره تعالى يوشع بن نون وصي موسى (عليه السلام). وفي هذه الليلة العظيمة انتقل الى جوار اللّه سيد الأوصياء ، وعميد الأتقياء ، وحامى

ص: 32

حوزة الإسلام الامام علي (عليه السلام) فهي - بحق - أشرف الليالي وأسماها عند اللّه.

3 - وأعرب (عليه السلام) لذلك الحفل الحاشد زهد أبيه وعدم اعتنائه بدنياه فلقد رحل عنها ولم يخلف من حطامها شيئا ، وقد كان في استطاعته أن يسكن أفخم القصور ، ويلبس الحرير والديباج ، ويأكل ما لذّ من الطعام ويتخذ العبيد والاماء ولكنه ترك كل ذلك رغبة فيما أعد اللّه له فى دار البقاء من النعيم والكرامة والسعادة ، وما أفاض عليه في هذه الدنيا من خلود الاسم والثناء العاطر والذكر الحسن المقرون بالاكبار والتقديس عند الناس جميعا!! لقد وافى الامام عليا الأجل المحتوم وما خلف سوى ثمالة من المال يتركها أقل البائسين والضعفاء ، وهو سلطان المسلمين وزعيمهم ، تجبى له الأموال الطائلة من شتى الأقطار الإسلامية ولكنه (عليه السلام) أبى أن يأخذ منها شيئا.

4 - وتضمن خطابه (عليه السلام) دعوة الناس إلى مبايعته ، وقد كانت دعواه رائعة بكل ما للروعة من معنى ، فلقد عرّف نفسه إلى الجماهير بأنه ابن الداعي إلى اللّه ، وابن السراج المنير ، وانه ممن أذهب اللّه عنهم الرجس والأباطيل ، وهل هناك أحد أحق بالخلافة من شخص التقت به هذه الكمالات ، واجتمعت فيه هذه الفضائل.

ولما انهى (عليه السلام) خطابه الذي لم يرو التأريخ الا شطرا منه انبرى عبيد اللّه بن العباس فحفز المسلمين إلى المبادرة لمبايعته قائلا :

( معاشر الناس هذا ابن نبيكم ، ووصي إمامكم فبايعوه ).

واستجاب الناس لهذه الدعوة المباركة فهتفوا بالطاعة ، واعلنوا الرضا والانقياد قائلين :

ص: 33

( ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة ) (1).

وانثالوا على الامام يبايعونه وهم ( إنما يبايعون اللّه ورسوله )

وأول من بايعه المؤمن الثائر والحازم اليقظ الزعيم قيس بن سعد الأنصاري فقال له بنبرات تقطر حماسا وشوقا إلى حرب اعداء اللّه وخصوم الاسلام :

( ابسط يدك أبايعك على كتاب اللّه وسنة نبيه وقتال المحلين ).

وثقل على الامام أن يعزب عن قيس من أن العمل على كتاب اللّه وسنة نبيه والسير على أضوائهما يغني عن اشتراط قتال المحلين لأن فيهما تبيانا لكل شيء ، فقال له بلطف ولين :

( على كتاب اللّه ، وسنة نبيه ، فانهما يأتيان على كل شرط ) (2)

وذكر ابن قتيبة أن الامام كلما قصدته كوكبة من الناس لتبايعه يلتفت إليها قائلا :

( تبايعون لى على السمع والطاعة ، وتحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت ).

ولما سمعوا هذا الشرط احجموا عن البيعة (3) وأمسكوا أيديهم عنها ،

ص: 34


1- مقاتل الطالبيين ص 34 ، الارشاد ص 167.
2- تأريخ ابن الأثير ج 3 ص 174 ، تأريخ ابن خالدون ج 2 ص 186.
3- البيعة : هى العهد على الطاعة لأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له أمر النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه على ذلك ... ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر ... وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم فى يده تأكيدا للعهد فاشبه ذلك كلا من البائع والمشتري ... فسمي بيعة ذكر ذلك ابن خالدون في مقدمته ص 197 ، والبيعة نوع من العقد الاجتماعي الذي ذكره ( جان جاك روسو ) وتقوم هذه النظرية على اساس ان الاجتماع الذي يقع بين الناس في صورة شعب أو أمة انما يقوم على تعاقد بين الافراد ... فكل فرد قد دخل مع أفراد فراد مجتمعه فى عملية تعاقد ، ويقضي ذلك بأن يصبح الفرد جزءا من المجتمع، وقد استدل على هذه النظرية ( روسو ) وأوضح كثيرا من جوانبها فى كتابه العقد الاجتماعي.

وقبض الحسن يده ، فانثالوا نحو الحسين ، وهم يهتقون :

( ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك ، وعلى حرب المحلين الضالين أهل الشام ).

فردعهم الحسين قائلا :

( معاذ اللّه أن أبايعكم ما كان الحسن حيا ).

وبعد ما رفض الحسين (عليه السلام) طلبهم أقبلوا نحو الحسن فبايعوه وهم مكرهون (1) وهذا القول بعيد فانه يدل على رغبة الامام في السلم فى أول الأمر وهو مناف لمواقفه العديدة فى إمضائه للحرب وعدم رغبته فى الموادعة والمسالمة مع خصمه كما - سنذكره بالتفصيل - ولو سلمنا صحة ذلك فانما كان مع الخوارج الذين يريدون خلق الاضطرابات والشغب في المجتمع العراقي واذاعة الخوف والارهاب بينهم بعزم الامام على الحرب ويدل على ذلك إحجامهم عن البيعة فى أول الأمر وذلك يكشف عن اضطراب نفوسهم وعدم ثقتهم وايمانهم بالخليفة الجديد ، وهذا مما عرفت به الخوارج وأما شيعته وأصحابه وخواصه فان نفوسهم قد ملئت ايمانا وثقة وحبا واخلاصا له.

ومهما يكن من شي ، فان هذا الحديث كما كان يتضمن السلم كذلك يتضمن إمضاء الحرب والتصميم عليه ، فهو جامع بين الأمرين السلم لمن دخل في الطاعة والحرب لمن خرج عنها سواء أكانوا من الخوارج أم من أهل الشام ولكن

ص: 35


1- الامامة والسياسة 1 / 170.

لم يرق ذلك للخوارج فلذا شاغبوا فى الأمر وأرادوا الحرب خاصة لأهل الشام لا تتعداها الى غيرهم ، وقبل ان نسدل الستار على هذا الفصل نقدم إلى القارئ الكريم أمورا تتعلق فى هذا الفصل وهي كما يلى :

1 - قبول الخلافة :

اشارة

ويتساءل كثير من النقاد عن السبب في قبول الامام للخلافة مع ما منيت به الحاضرة الاسلامية من اخطار وعواصف وفتن ، فكان الأجدر به أن يتريث فى الأمر ولا يتسرع ( كما يقولون ) ولندع الجواب إلى سماحة المغفور له الحجة آل ياسين قال نضر اللّه مثواه :

أما أولا :

فلما كان الواجب على الناس دينا ، الانقياد إلى بيعة الامام المنصوص عليه كان الواجب على الامام - مع قيام الحجة بوجود الناصر - قبول البيعة من الناس.

أما قيام الحجة - فيما نحن فيه - فقد كان من انثيال الناس طواعية إلى البيعة فى مختلف بلاد الاسلام ما يكفي - بظاهر الحال - دليلا عليه ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه.

وأما ثانيا :

فان مبعث هذا الانعكاس البدائي عن قضية الحسن علیه السلام هو النظر إليها من ناحيتها الدنيوية فحسب بينما الأنسب بقضية ( إمام ) ان يستنطقها الباحث من ناحيتها الدينية على الأكثر ، وكثير هو الفرق بين الدنيا والدين

ص: 36

في نظر إمام ، والقضية من هذه الناحية ظفر لا خسارة - كما سنأتي على توضيحه في محله المناسب - وهي وإن تكن معرض آلام ، ولكنها آلام في سبيل الاسلام ، ومن أولى بالاسلام من الحسن (عليه السلام) وتحمل آلامه وإنما هو نبت بيته.

واما ثالثا :

فلم يكن الحسن في رفعة مكانه من زعماء المسلمين ، وفي نسبه الممتاز ومركزه من العلم ، بالذي يستطيع الفراغ وإن أراده عن عمد ، ولا بالذي يتركه الناس وإن أراد هو ان يتركهم ، وكان لا بد للرجات العنيفة في المجتمع الاسلامي أن تتدافع إليه ، تستدعيه للوثوب إحقاقا للحق وانكارا للمنكر كما وقع لأخيه الحسين علیه السلام في ظرفه (1).

ويأخذ شيخنا في الاستدلال على ضرورة قبول الامام للخلافة ، ولزوم تسرعه لإجابة الجماهير الهاتفة باسمه ، وعلى كل فليس هناك مجال للشك في أنه (عليه السلام) لو تقاعس عن الاعتلاء على العرش ، وترك الأمة حبلها على غاربها لوقعت في محاذير ومصاعب لا يمكن حلها ، ثم ما هو المبرر له في عدم التسرع في الأمر بعد ما أجمعت الأمة على مبايعته كما ذكر ذلك بالتفصيل سماحة المغفور له آل ياسين.

2 - عموم البيعة :

واجمع العالم الاسلامي من اقصاه إلى ادناه على مبايعة الامام والانقياد لحكومته والخضوع لأمره ، فبايعه من الكوفة اثنان واربعون الفا على السمع

ص: 37


1- صلح الحسن ص 47.

والطاعة وكذلك بايعه أهل البصرة والمدائن ، وجميع أهل العراق وبايعته فارس على يد زياد بن ابيه ، وبايعه الحجازيون واليمانيون ، على يد القائد العسكري الحازم اليقظ جارية بن قدامة وما تخلف أحد عن البيعة سوى معاوية ومن يمت به كما تخلف عن مبايعة الامام علي (عليه السلام) من قبل فكانت بيعته (عليه السلام) عامة على غرار بيعة أبيه.

3 - احكام الدولة :

ولما تمت البيعة أخذ (عليه السلام) في إحكام دولته فرتب العمال ، ووظف المحنكين والأشراف من عدول المؤمنين وصالحاء المسلمين واعطى الاوامر الحازمة إلى الامراء وزاد في عطاء الجيش مائة مائة ، وكان الامام علي قد فعل ذلك يوم الجمل ، هذه هي الخطة الاولى من الاحسان والبر والمعروف التي افاضها على الجيش فملك بها القلوب والسيوف حتى قال ابن كثير : ( وأحبوه أشد من حبهم لأبيه ) (1) وهكذا أخذ (عليه السلام) يعمل مجدا في اصلاح دولته ، وإحكامها وصيانتها ، وقد خطب فيهم فكان منطق خطابه الحث على لزوم طاعته ووجوب الانقياد إليه لأنه من العترة الطاهرة ومن حلقات الثقل الأكبر الذي خلفه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمته وحذر (عليه السلام) رعيته من الاصغاء والانجراف بدعاية معاوية وبهتانه وكذبه وأمرهم بالتكاثف والاتحاد والوحدة ، لرد العدوان الأموي الذي يهدد المجتمع الاسلامي بالخطر ، وينذره بفقدان الحياة ، وقد تقدم نص هذا الخطاب في الحلقة الأولى من هذا الكتاب (2).

ص: 38


1- البداية والنهاية ج 8 ص 41.
2- الجزء الأول ص 327.

4 - اخطاء تأريخية :

ووقع فريق من المؤرخين وكتاب العصر في اخطاء حول بيعة الامام الحسن نشأت من قلة التتبع رأينا من اللازم التنبيه عليها.

1 - المسعودي :

ذكر المسعودى : ( أن الامام بويع بعد وفاة أبيه بيومين ) (1) وهذا القول لا يتفق مع ما ذكره جمهور المؤرخين من أنه بويع له في صبيحة الليلة التي وارى فيها جثمان أبيه علیه السلام .

2 - فريد وجدي :

وذكر الاستاذ السيد محمد فريد وجدي أن الحسن (عليه السلام) : ( بويع له في الخلافة قبل وفاة والده ، ولما انتهت البيعة توفي والده ) (2) وهذا القول كالقول السالف في مخالفته لاجماع المؤرخين ، فقد أجمعوا على أن البيعة كانت بعد مقتل الامام بلا فصل ، ولم يذكر مؤرخ - فيما نعلم - أنه بويع للامام في حياة أبيه.

3 - الخضري :

ذكر الشيخ محمد الخضري في بيعة الامام ما نصه : ( نظر الحسن إلى بيعته في انها ليست كبيعة أبيه لأنها ليست عامة ، ولكنها قاصرة على شيعتهم من أهل العراق ) (3) وهذا القول مجاف للواقع فان بيعة الامام لم تكن قاصرة على أهل العراق من الشيعة ، فان عمال الامام في جميع الاقطار الاسلامية قد أخذوا له البيعة من المسلمين - كما ذكرناه سابقا - ولم

ص: 39


1- التنبيه والاشراف ص 260.
2- دائرة المعارف ج 3 ص 443 ، كنز العلوم واللغة ص 380 لفريد وجدي
3- اتمام الوفاء في سيرة الخلفاء ص 225.

تبق هناك أي حاظرة من الحواظر الاسلامية إلا بايعته سوى البلاد الخاضعة لمعاوية. 4 - طه حسين :

قال الدكتور طه حسين في بيعة الامام الحسن : ( ومهما يكن من شيء فلم يعرض الحسن نفسه على الناس ، ولم يتعرض لبيعتهم وانما دعا الناس إلى هذه البيعة قيس بن عبادة فبكى الناس ، واستجابوا واخرج الحسن للبيعة .. ) (1) وما ذكره بعيد عن الصحة كل البعد وذلك لما يلي

1 - إن قوله : ( إن الحسن لم يعرض نفسه على الناس ، ولم يتعرض لبيعتهم ) لا واقعية له ويرده خطاب الحسن في تأبين أبيه ، فقد دعا الناس إلى مبايعته وحفزهم إلى طاعته وذلك بذكره للفضائل النسبية والنفسية التي اختص بها فان بيانها وهو في مقام تأبين أبيه ليس المقصود منه إلا إلا الدعوة لمبايعته ، وارشاد المجتمع الإسلامى الى أحقيته بالخلافة دون غيره.

2 - وأما قوله : إن قيس بن سعد دعا الناس الى البيعة ولم يكن الإمام حاظرا فاستجابوا له ، وأخرج فبويع. فانه اشتباه ظاهر وخلط غريب لأن الدعوة الى البيعة إنما كانت بعد ما أنهى الإمام خطابه السالف ولم تكن قبل ذلك الوقت والذي دعا إليها عبيد اللّه بن العباس وأول من بايعه قيس بن سعد كما بينّا ذلك فيما تقدم .. إن أغلب بحوث الدكتور فى الإمام الحس كانت خالية عن التحقيق وبعيدة عن الصواب ، فقد مرّ فى صلح الإمام وفى سائر مناحي حياته مرور منطلق فلم يقف على الحقيقة ولم يقرب من الواقع ، وسنشير الى مواضع اشتباهه إن من الناحية التأريخية أو الاستنتاج التأريخي فى كثير من الجهات التي تخص البحث

ص: 40


1- على وبنوه : ص 195.

الحرب الباردة

اشارة

ص: 41

ص: 42

وما أذيع مصير الخلافة الاسلامية إلى حفيد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا وموجات من الهموم والأحزان قد طافت بابن هند ، فملكته الحيرة واستولى عليه الجزع والذهول ، وذلك لعلمه أن للامام مركزا عظيما في نفوس المسلمين ، ومكانة مرموقة في جميع الأوساط ، لأنه سبط النبي العظيم وأعز الناس عنده وأقربهم إليه ، وقد شاعت بين المسلمين الأحاديث المتواترة عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في رفع كيانه وتعظيم شأنه وتقديمه بالفضل على غيره فكيف يعدل الناس عنه إلى ابن هند وكيف يقاس معاوية به وهو من الاسرة الملعونة في القرآن وقد عرف الجميع عداء أبيه وأسرته للاسلام والمسلمين من يوم بزغ نوره

اضطرب معاوية وطارت نفسه شعاعا ، وأقضّ التفكير مضجعه لما ازدانت الخلافة الاسلامية بالامام الحسن ، وذلك لعلمه ان الامام لا يتحول عن شريعة جده وسيرة أبيه التي تقضي بلزوم محاربة الباغين والقضاء عليهم ومعاوية هو رافع لوائهم وعميدهم ، فالحسن لا بد وأن يعمل كل جهوده ويبذل جميع مساعيه لمناجزة معاوية والقضاء عليه ، مضافا إلى ذلك كله انه لم يجد منفذا وثغرا يسلك فيه للطعن بشخصية الامام أو اتهامه بشيء ما فدم عثمان بريء منه ، بل قد قيل إنه من الذابين والمدافعين عنه ، فبما ذا يتهم الامام اذا وقد نزه من كل نقص ورذيلة كما تجرد هو من كل مكرمة وفضيلة.

المؤتمر الاموي :

وعقد معاوية على أثر ذلك اجتماعا مفاجئا في بلاطه دعا فيه خلص أتباعه وأشياعه فاخبرهم بالموقف الرهيب ، والخطر المفاجئ الذي حل في مملكته ، وأعلمهم ان الأمر إذا لم تتخذ فيه القرارات الحاسمة ، ولم تبذل الجهود الجبارة لانتشاله فسوف يحدق بهم الخطر المنذر بالفناء ، وبعد مداولة

ص: 43

الآراء والأفكار اجمعت كلمتهم على ما يلي :

1 - نشر الجواسيس ، وبث العيون في الأقطار الإسلامية الخاضعة لحكم الامام ، خصوصا البصرة والكوفة ، ليعرفونه الأنباء بالتفصيل ويخبرونه باتجاه المجتمع ونياته ومدى اخلاصه لآل البيت (عليهم السلام) كما ويقومون بعمليات الذعر والخوف والإرهاب بين المسلمين بقوة معاوية وضعف الحسن

2 - مراسلة الزعماء والوجوه والشخصيات البارزة وارشائهم بالأموال الطائلة والوظائف المهمة في مناصب الدولة إن اتبعوه وانقادوا له وخذلوا الإمام الحسن ، أما هذا الأمر فقد أرجئ تنفيذه - بالاجماع - إلى وقت آخر قريب ، واما الأمر ( الأول ) فقد نفذ فورا فقد استدعى معاوية رجلين خبيرين يثق بكفاءتهما ويطمئن بدرايتهما وحذاقتهما في عالم التجسس ، أما الرجلان ( فاحدهما ) من حمير وقد ارسله إلى الكوفة ، وأما ( الآخر ) فمن بني القين وقد بعثه إلى البصرة.

ولما وصل الحميري إلى الكوفة ، والقيني إلى البصرة ، اخذا بتنفيذ الخطط المقررة لهما ، وبعد ما انتشر أمرهما قبضت عليهما الشرطة المحلية ، اما الحميري فجيء به إلى الامام فأمر بقتله ، واما القيني فجيء به مخفورا إلى عامل الامام على البصرة عبد اللّه بن عباس فأمر باعدامه أيضا.

مذكرة الامام :

وعلى أثر وقوع هذا الاعتداء الصارخ من معاوية رفع الامام إليه مذكرة تهدده فيها وتوعده باعلان الحرب عليه وهذا نصها :

( أما بعد : فانك دسست إلي الرجال ، كأنك تحب اللقاء ، لا شك في ذلك فتوقعه إن شاء اللّه ، وبلغني أنك شمتّ بما لم يشمت به ذوو

ص: 44

الحجى (1) وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول :

فانا ومن قد مات منا لكالذي

يروح فيمسي في المبيت ليغتدي

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تجهز لأخرى مثلها فكأن قد

ويلمس في هذه الرسالة مدى روح العزم والحزم والتصميم على الحرب إن اصر معاوية على البغي ، والتمرد والتمادي في الاثم ، كما احتوت على الاستنكار لما أظهره من السرور والغبطة بمقتل الامام أمير المؤمنين.

جواب معاوية :

ولما وردت رسالة الامام إلى معاوية فزع منها ، فانبرى يفتش في حقيبة مكره عذرا يدفع به عن نفسه القبيح الذي ارتكبه ، والمنكر الذي فعله ، فلم بجد عذرا إلا انكار ما أظهره من السرور بمقتل الامام ولا بأس عليه في الكذب ، فقد استساغه واستحله وهو كل ما يملك في خزانة نفسه وأما بعثه العيون والجواسيس فرأى أن يتغاضى عن ذكره ويعرض عن جوابه ويهمل الاعتذار منه وهذا نصه :

( أما بعد : فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، ولقد علمت بما حدث ، فلم أفرح ، ولم أحزن ، ولم أشمت ، ولم آس (2) وإن عليا

ص: 45


1- الحجى : العقل والفطنة.
2- لم آس : أي لم أحزن وذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن معاوية أظهر الحزن والأسى والتوجع بمقتل الامام أقول : - أولا - لا يتفق مع ما ذكره معاوية من عدم حزنه بموت الامام - وثانيا - انه لا يتفق مع سيرة معاوية وعدائه السافر للامام الذي جعل سبه فريضة من فرائض الاسلام وتتبع شيعته واصحابه فقتلهم تحت كل حجر ومدر.

أباك لكما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة (1) :

فأنت الجواد وأنت الذي *** إذا ما القلوب ملأن الصدورا

جدير بطعنة يوم اللقا *** يضرب منها النساء النحورا

وما مزبد من خليج البحا *** ر يعلو الاكام ويعلو الجسورا (2)

بأجود منه بما عنده *** فيعطي الالوف ويعطي البدورا (3)

ص: 46


1- أعشى بني قيس : هو الأعشى الكبير أسمه ( ميمون ) بن قيس ولد بقرية باليمامة يقال لها منفوحة وفيها داره وقبره ويقال انه كان نصرانيا وهو أول من سأل بشعره ، وفد إلى مكة يريد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد مدحه بقصيدة أولها : ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا *** وبت كما بات السليم مسهدا ومنها : أجدك لم تسمع وصاة محمد *** نبي الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى *** ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على ألا تكون كمثله *** وأنك لم ترصد بما كان أرصدا فلقيه أبو سفيان فى الطريق فأخبره بقصته فجمع له مائة من الابل ورده عن قصده فلما صار بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله ومن شعره : قد يترك الدهر فى خلقاء راسية *** وهيا وينزل منها الأعصم الصدعا وكان شيء إلى شيء ففرقه *** دهر تعود على تفريق ما جمعا الخلقاء : الصخرة الثابتة. الأعصم : الذي فى يده بياض. الصدع. الفتى من الوعول جاء ذلك فى معجم الشعراء للمرزباني ( ج 2 ص 401 )
2- مزبد : مشتق من أزبد البحر إزبادا فهو مزبد ( بالتحريك ) وهو كالرغوة. الاكام : جمع أكمة كقصبة وهي التل.
3- البدور : جمع مفرده بدرة كوردة وهي كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار.

ويلمس في هذه الرسالة دهاء معاوية وخداعه ، كما يلمس خوره وضعف عزيمته وفزعه من الامام الحسن وذلك لمدحه وثنائه على الامام علي (عليه السلام) وانكاره لما اظهره من الفرح والسرور والغبطة بموته ولو لا ذلك لما سجل لخصمه هذا الثناء العاطر.

مذكرة ابن عباس :

ورفع عامل الامام على البصرة عبد اللّه بن عباس مذكرة إلى معاوية يستنكر فيها بعثه العيون والجواسيس إلى البصرة ويهدده على هذا الاعتداء السافر ، وهذا نصها :

( أما بعد : فانك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية بن أبي الصلت (1)

لعمرك إني والخزاعي طارقا

كنعجة غادت حتفها تتحفر (2)

ص: 47


1- جاء فى رسالة جمهرة العرب ( ج 2 ص 4 ) ان الصحيح هو ( أمية بن الأسكر ) لا أمية بن أبي الصلت فانه خطأ وقد استند إلى ما ذكره برواية الأغاني حيث ذكر هذه الأبيات إلى أمية بن الأسكر قالها لما تغلب اصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على رهط أمية بسبب طارق الخزاعي وكان قاطنا معهم فدل اصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليهم لأن خزاعة كان مشركها ومؤمنها يميلون إلى النبي على قريش فتأثر أمية من فعل طارق فقال فيه هذه الأبيات وأجابه طارق بأبيات استشهد فيها معاوية فى جوابه عن رسالة عبد اللّه بن عباس.
2- غادت : أي باكرت. الحتف : الموت ، ومنع نعجة من الصرف لأجل الضرورة.

اثارت عليها شفرة بكراعها *** فظلت بها من آخر الليل تنحر (1)

شمت بقوم هم صديقك أهلكوا *** أصابهم يوم من الدهر أعسر (2) جواب معاوية :

ولما وردت رسالة ابن عباس على معاوية انبرى إليها مجيبا بجواب تمثلت فيه المواربة والخداع ، وهذه صورته :

( أما بعد : فان الحسن كتب إلينا بنحو الذي كتبت به ، انبنى بما لم يحقّق سوء ظن ورأي فيّ ، وانك لم تصب مثلي ومثلكم ، وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أمية على هذا الشعر :

فو اللّه ما أدري ( وإني لصادق ) *** إلى أي من يتظنني اتعذر (3)

أعنف إن كانت زبينة أهلكت *** ونال بني لحيان شر فأنفروا (4)

وهذا الجواب يضارع الجواب الذي بعثه إلى الامام فى انكاره لما أبداه من السرور والفرح بموت الامام ، كما احتوى جوابه على الدهاء والمؤاربة ، فاما قوله لابن عباس إن الحسن قد انبنى ، فالامام الحسن وإن أنبه ولامه على إظهاره

ص: 48


1- الشفرة : السكين العريضة ، وحد السيف ، وجانب النصل ، الكراع : مستدق الساق وجاء فى المثل ( كالباحث عن المدية ) ويروى عن ( الشفرة ) وفي آخر ( كباحثة عن حتفها بظلفها ) وأصله ان رجلا كان جائعا فوجد شاة ولم يكن معه ما يذبحها به فبحثت الشاة الأرض بأظلافها فسقطت على شفرة فذبحها بها يضرب مثلا لكل من أعان على نفسه بسوء تدبيره.
2- الأغاني : ( ج 8 ص 62 ) شرح ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 12 )
3- يتظننى : يتهمني.
4- نفروا : شردوا.

للمسرات بمقتل الإمام إلا أنه تهدده وتوعده باعلانه للحرب لما هو أهم من ذلك وأعظم وهو بعثه للعيون والجواسيس الى مملكته فان هذه الجهة قد أعرض عنها لئلا يذاع نشاط الإمام وعزمه على إعلان الحرب فتخور عزائم جنده وتقوى نفوس أصحاب الإمام.

رسالة ابن عباس للامام :

وعلى أثر ذلك بعث الحازم اليقظ عبد اللّه بن عباس رسالة الى الإمام ينشطه فيها على إثارة الحرب ومقاومة معاوية ومناجزته ، حتى النفس الأخير وقد دلت رسالته على درايته الواسعة واطلاعه الوافر بفنون السياسة ومعرفته التامة بنفوس المجتمع ووقوفه التام على نفسيات الأمويين واتجاههم السيئ نحو الإسلام والمسلمين وهذا نصها :

« أما بعد : فان المسلمين ولّوك أمرهم بعد علي علیه السلام فشمر للحرب وجاهد عدوّك وقارب أصحابك ، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دنياه (1) وولّ (2) أهل البيوت والشرف تستصلح به عشائرهم حتى يكون الناس جماعة فان بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق ، وكانت عواقبه تؤدي (3) إلى ظهور العدل وعز الدين خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعوا الى ظهور الجور وذل المؤمنين وعز الفاجرين. واقتد بما جاء عن أئمة العدل فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلا في حرب ، أو اصلاح

ص: 49


1- الظنين : المتهم. ويروى ( واستر من الظنين ذنبه بما لا يثلم دينك ).
2- وفى رواية ( واستعمل ) وفى أخرى ( ووال ).
3- وفى رواية ( تدعو ).

بين الناس فان الحرب خدعة (1) ولك فى ذلك سعة إذ كنت محاربا ما لم تبطل حقا.

واعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه الى معاوية أنه آسى (2) بينهم فى الفيء وسوّى بينهم في العطاء ، فثقل عليهم ، واعلم أنك تحارب من حارب اللّه ورسوله فى ابتداء الإسلام حتى ظهر أمر اللّه. فلما وحد الرب ، ومحق الشرك وعز الدين أظهروا الإيمان وقرءوا القرآن مستهزئين بآياته ، وقاموا الى الصلاة وهم كسالى وأدّوا الفرائض وهم لها كارهون ، فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأتقياء الأبرار توسموا بسيما الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا فما زالوا بذلك حتى شركوهم فى أماناتهم وقالوا حسابهم على اللّه فان كانوا صادقين فاخواننا في الدين وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين ، وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم ، واللّه ما زادهم طول العمر إلا غيا ، ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلا مقتا فجاهدهم ولا ترض دنية ولا تقبل خسفا (3) فان عليا أباك لم يجب الى الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب وإنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل فلما حكموا بالهوى رجع الى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله ولا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك والسلام (4) واحتوت هذه الرسالة على أمور بالغة الأهمية هي :

1 - أن ابن عباس عرض على الإمام أن يولي الأشراف وذوي

ص: 50


1- الحرب خدعة : مثلاثة الخاء ، وبضمها مع فتح الدال أي تنقضي بخدعة.
2- آسى : أي سوى.
3- خسفا : أي ذلا.
4- شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 8. رسائل جمهرة العرب ج 2 ص 1.

النفوذ ، ويشرى من الظنين دينه ليقضي بذلك على روح التفرقة ، ويكون الناس جماعة واحدة ، حتى يتمكن من مناجزة معاوية ومقاومته ، وغفل ابن عباس ان ذلك يتنافى مع السياسية الرشيدة التي انتهجها أهل البيت فانها بنيت على الحق الخالص ، وعلى شجب كافة الوسائل التي لا تتفق مع المبادئ الإسلامية وإن توقف عليها الظفر والنصر ، وسنذكر ذلك بمزيد من التوضيح عند عرض أسباب الصلح.

2 - واشتملت هذه الرسالة على أهم الأسباب الوثيقة التي أدت الى خذلان الإمام فى دور خلافته ونجاح معاوية فى عهد حكومته ، فان الإمام قد انتهج سياسة العدل والمساواة فسوى بين المسلمين فى العطاء فلم يقدم أحدا على أحد فى العطاء عملا بما أمر به الإسلام ونصت عليه مبادئه العادلة التي محت التفاوت بين الأبيض والأسود وهدمت الحواجز بين الغني والفقير وجعلت ( الناس سواسية كأسنان المشط كلهم من آدم وآدم من تراب ) لا ميزة لأحد على أحد إلا بالتقوى ، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل والكفاءة ، سار الإمام علي (عليه السلام) على هذه السياسة العادلة ومشى على هذه الخطة الواضحة حتى ضرب الرقم القياسي للمساواة والعدل فمن بوادر عدله انه ساوى بين سيدة قرشية ، وبين أمة في العطاء فغاظ القرشية ذلك وأقبلت إليه وهي محنقة مغيظة تقول بحرارة :

« أتساوي فى العطاء بيني وبين هذه الأمة؟ »

فرمقها الإمام بطرفه وأخذ بيده قبضة من التراب وجعل يقلبه بيده وهو يقول :

« لم يكن بعض هذا التراب أفضل من بعض ».

لقد ثقل على الناس هذه المساواة وشق عليهم هذا العدل لأنهم

ص: 51

لا يتطلبون إلا مصالحهم الخاصة ، فلذا زهدوا في حكومته وخضعوا لحكومة الظلم حكومة معاوية الذي لا هدف له إلا إشباع شهواته ، وتحقيق رغباته.

3 - وأعرب ابن عباس في رسالته عن دراسته الوثيقة لنفسيات الأمويين ومعرفته بما انطوت عليه قلوبهم ، فلقد بيّن أنهم مجموعة من الملحدين والمشركين « كما هم كذلك » فاذا حاربهم الإمام فانما يحارب من حارب اللّه ورسوله حينما بزغ نور الاسلام فانه لما كتب اللّه النصر لدينه وقهر سلطان الإسلام العرب دخلت أمية فيه لكن لا إيمانا منهم بقضيته بل خوفا من حر السيف ، ورهبة الموت ، فكانوا يتظاهرون باعتناق الإسلام فيقرءون آيات الذكر الحكيم ولكن قراءة استهزاء وسخرية لا إيمانا واعتقادا به وكانوا يقيمون الصلاة ولكنهم يؤدونها وهم كسالى ، ويقيمون فرائض الإسلام ولكن عن كره ونفاق ، ولما رأوا أن خطتهم مغلوطة ولا تضمن لهم النجاح ، ولا تكفل لهم السعادة إذ لا يعز في هذا الدين إلا الأبرار الصلحاء لقوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ) (1). أظهروا - تدليسا ورياء - الصلاح والتقى والإيمان وأضمروا في دخائل نفوسهم الشرك والنفاق والحقد على الإسلام ، وظلوا على هذا الحال يظاهرون الطاعة لله والانقياد لأوامره وأحكامه حتى أشركهم المسلمون في امورهم وشئونهم ولكن المسلمين مع ذلك كانوا مرتابين منهم شاكين في أمرهم على ريب من صدقهم.

4 - واحتوت هذه الرسالة على حث الإمام وتحريضه لمحاربة هؤلاء المنافقين والمارقين من الدين ، ومواصلة حربهم حتى النفس الأخير لتستريح الأمّة من شرهم ، وتسلم من مكرهم وغوائلهم. ولا شك ان هذه

ص: 52


1- سورة الحجرات آية 13.

الرسالة التي دبجتها يراعة هذا الحبر الجليل كان لها موقع حسن في نفس الإمام فقد حفزته الى مناجزة معاوية ومقاومته ، وإعلان الحرب عليه.

رسالة الامام الى معاوية :

وأرسل الإمام رسالة أخرى الى معاوية يدعوه الى مبايعته ، وطاعته والدخول فيما دخل فيه المسلمون. وقد أرسل هذه الرسالة بيد شخصين من عيون المؤمنين وثقات الإسلام وهما الحارث بن سويد التميمي (1) وجندب الأزدي (2) وإليك نص رسالته :

« من عبد اللّه الحسن أمير المؤمنين ، الى معاوية بن أبي سفيان.

أما بعد : فان اللّه بعث محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين فأظهر به الحق ، وقمع به الشرك ، وأعزّ به العرب عامة ، وشرّف به قريشا خاصة ،

ص: 53


1- الحارث بن سويد التميمي : هو أبو عائشة الكوفي روى عن جماعة من ثقات الصحابة منهم الإمام علي وابن مسعود ، وروى عنه جماعة من الثقات وقد عظّم الروات شأنه فقال ابن معين : إنه ثقة. وقال غيره : إنه أجود اسناد روى عن الإمام علي وقد أطرى على الرجل وأثنى عليه بثناء عاطر ويكفيه فضلا أنه ثقة الإمام الحسن ومعتمده الذي بعثه لمعاوية توفى في أواخر أيام عبد اللّه بن الزبير ، جاء في تهذيب التهذيب ج 2 ص 173.
2- جندب الأزدي العامري يكنى أبو عبد اللّه وهو أحد الصحابة وقد روى عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : ( حد الساحر ضربه بالسيف ) روى عن جماعة من الصحابة منهم الإمام علي (عليه السلام) وسلمان الفارسي ، وروى عنه جماعة آخرون وذكره ابن حيان من ثقات التابعين ، توفي في آخر خلافة معاوية. جاء ذلك في تهذيب التهذيب ج 2 ص 118.

فقال : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) (1) ، فلما توفاه اللّه تنازعت العرب في الأمر بعد ، فقالت قريش : نحن عشيرته وأولياؤه فلا تنازعونا سلطانه فعرفت العرب لقريش ذلك وجاحدتنا قريش ما عرفت لها العرب ، فهيهات ما انصفتنا قريش ، وقد كانوا ذوي فضيلة في الدين ، وسابقة في الإسلام ، ولا غرو إلا منازعتك إيانا الأمر بغير حق في الدنيا معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، فاللّه الموعد ، نسأل اللّه معروفه أن لا يؤتينا في هذه الدنيا شيئا ينقصنا عنده في الآخرة.

إن عليا لما توفاه اللّه ولاني المسلمون الأمر بعده ، فاتق اللّه يا معاوية وانظر لأمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها والسلام » (2)

وتروى هذه الرسالة بصورة أخرى أبسط من هذه الصورة وأوفى نذكرها لما فيها من مزيد الفائدة :

« من الحسن بن علي أمير المؤمنين ، الى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك فاني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو. أما بعد فان اللّه جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين ، ومنة للمؤمنين ، وكافة للناس أجمعين ( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ) (3) فبلغ رسالات اللّه وقام بأمر اللّه حتى توفاه اللّه غير مقصر ولا وان ، وبعد أن أظهر اللّه به الحق ، ومحق به الشرك ، وخصّ به قريشا خاصة. فقال له : « وإنه لذكر لك ولقومك » ، فلما توفى تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه ،

ص: 54


1- سورة الزخرف آية 44.
2- شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 9.
3- سورة يس آية 70.

فرأت العرب أن القول ما قالت قريش وان الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد ، فأنعمت لهم (1) وسلمت إليهم ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه الى محاججتهم وطلب النصف (2) منهم باعدونا ، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا (3) والعنت منهم لنا ، فالموعد اللّه وهو الولي النصير.

ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا فى حقنا وسلطان بيتنا ، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب (4) في ذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من إفساده ، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله. لا بفضل فى الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكتابه ، واللّه حسيبك ، فسترد وتعلم لمن عقبى الدار ، وباللّه لتلقينّ عن قليل ربك ثم ليجزينك بما قدّمت يداك ، وما اللّه بظلاّم للعبيد.

ص: 55


1- أنعم له : أي قال له نعم.
2- النصف : الإنصاف.
3- راغمهم : نابذهم وعاداهم.
4- الأحزاب : هي التي تحزبت على قتال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قريش وغطفان وبني مرة وبني أشجع وبني سليم وبني أسد في غزوة الأحزاب وهي غزوة الخندق وكان قائدهم العام أبا سفيان وذلك في السنة الخامسة من الهجرة.

إن عليا لما مضى لسبيله - رحمة اللّه عليه يوم قبض ، ويوم منّ اللّه عليه بالإسلام ويوم يبعث حيا - ولاني المسلمون بعده ، فأسأل اللّه أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة ، وإنما حملني على الكتاب إليك الاعذار فيما بيني وبين اللّه عز وجل فى أمرك ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم ، والصلاح للمسلمين فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فانك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند اللّه وعند كل أوّاب (1) حفيظ ومن له قلب منيب ، واتق اللّه ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فو اللّه ما لك خير فى أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به وادخل فى السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك ليطفئ اللّه النائرة (2) بذلك ، ويجمع الكلمة ، ويصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين » (3)

وحفلت هذه الرسالة - على كلتا الروايتين - بأمور مهمة :

1 - إن الإمام أعرب فيها عن شعوره تجاه الخلافة الإسلامية فهو فهو يرى أنها من حقوق أهل البيت (عليهم السلام) لا يشاركهم فيها أحد ، وان من ابتزها منهم فقد اعتدى عليهم وسلب تراثهم ، وقد سلك الإمام في الاستدلال على رأيه الوثيق بعين ما استدلت به قريش على العرب في أحقيتهم بالخلافة من أنهم أقرب الناس الى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمس الناس رحما به ، فان هذا الشعار الذي هتفوا به موجود في أهل البيت على النحو الأكمل

ص: 56


1- آب الى اللّه رجع عن ذنبه وتاب فهو أواب مبالغة.
2- النائرة : العداوة والبغضاء.
3- شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 12 ،

فانهم فرع دوحته والصق الناس به وأقربهم إليه ، ومن الغريب ان العرب قنعت بحجة قريش ، ولكن القرشيين لم يخضعوا لمقالة أهل البيت ، نعم يعود السبب فى ذلك الى الأضغان والأحقاد التي أترعت نفوسهم بها فناصبوا عترة نبيهم ، وبالغوا في ارهاقهم ، والتنكيل بهم ، فواجهت العترة الطاهرة ألوانا قاسية من المحن والخطوب.

2 - وذكر الإمام الحسن السر في إمساكهم وإحجامهم عن المطالبة بحقهم وذلك خوفا منهم على بيضة الإسلام وكلمة التوحيد من الأحزاب والمنافقين الذين مردوا على النفاق ، فقد قويت شوكتهم بموت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخذوا ينتهزون الفرصة لمحق الإسلام واستئصال شأفته ، فاثروا مصلحة الإسلام على ضياع حقهم ، وقد صرح الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك في كتابه الذي بعثه الى أهل مصر وقد جاء فيه :

« فلما مضى علیه السلام ، تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو اللّه ما كان يلقى فى روعي ، ولا يخطر ببالي ، ان العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلی اللّه علیه و آله عن أهل بيته ، ولا انهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس عن الإسلام يدعون الى محق دين محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخشيت إن لم انصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوات ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب ... »

فلأجل الحفاظ على الإسلام والاحتياط على مصلحة المسلمين أمسكوا عن المطالبة بحقوقهم ، ولم يناجزوا القوم بالسيف ، وسلموا الأمر الى اللّه.

3 - وأعرب الإمام الحسن في رسالته عن استغرابه من نزاع معاوية

ص: 57

وتطاوله عليه وهو من الحزب الذي سعر الدنيا حربا على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأثاروا عليه حفائظ الجاهلية وأحقادها ، فكيف ينازع حفيد النبي ووريثه على منصبه ومقامه!! وهناك باعث آخر من بواعث استغراب الإمام على منازعة معاوية له ، وهو أن معاوية ليس له فضل فى الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وليست أي موهبة أو فضيلة حتى يستحق هذا المنصب العظيم في الإسلام.

4 - وذكر (عليه السلام) لمعاوية عموم البيعة له بعد وفاة أبيه وان الأمّة قد أجمعت على مبايعته وعلى الانقياد إليه وهي حجة بالغة لو وعاها معاوية ورجع الى منطق الحق والصواب.

جواب معاوية :

ولما وصلت رسالة الإمام الى معاوية أجاب عنها بجواب يلمس فيه المكر والخداع ، وهذه صورته :

« أما بعد : فقد فهمت ما ذكرت به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله ، وذكرت تنازع المسلمين الأمر بعده ، فصرّحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر وأبي عبيدة الأمين وصالحاء المهاجرين فكرهت لك ذلك إن الأمّة لما تنازعت الأمر بينها رأت قريشا أخلقها به ، فرأت قريش والأنصار وذوو الفضل والدين من المسلمين أن يولوا من قريش أعلمها باللّه وأخشاها له وأقواها على الأمر فاختاروا أبا بكر ولم يألوا (1) ولو علموا مكان رجل غير أبي بكر يقوم مقامه ، ويذب عن حرم الإسلام ذبه ، ما عدلوا بالأمر الى أبي بكر ، والحال اليوم بيني وبينك على ما كانوا عليه

ص: 58


1- لم يألوا : أي لم يقصروا.

فلو علمت أنك أضبط لأمر الرعية ، وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة ، وأكيد للعدو ، وأقوى على جمع الفيء ، لسلمت لك الأمر بعد أبيك ، فان أباك سعى على عثمان حتى قتل مظلوما فطالب اللّه بدمه ، ومن يطلبه اللّه فلن يفوته ، ثم ابتز الأمّة أمرها ، وفرّق جماعتها فخالفه نظراؤه من أهل السابقة والجهاد والقدم فى الإسلام ، وادعى أنهم نكثوا بيعته فقاتلهم فسفكت الدماء ، واستحلت الحرم ، ثم أقبل إلينا يدعي علينا بيعة ولكنه يريد أن يملكنا اغترارا فحاربناه وحاربنا ، ثم صارت الحرب الى أن اختار رجلا واخترنا رجلا ليحكما بما تصلح عليه الأمّة ، وتعود به الجماعة والألفة ، وأخذنا بذلك عليهما ميثاقا ، وعليه مثله ، وعلينا مثله على الرضا بما حكما ، فأمضى الحكمان عليه الحكم بما علمت وخلعاه فو اللّه ما رضى بالحكم ، ولا صبر لأمر اللّه ، فكيف تدعوني الى أمر إنما تطلبه بحق أبيك ، وقد خرج منه فانظر لنفسك ولدينك والسلام » (1).

وروى هذا الجواب بصورة أخرى أوسع وأبسط من الأولى وهذا نصه :

« من عبد اللّه معاوية أمير المؤمنين الى الحسن بن علي : سلام عليك فاني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به محمدا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الفضل وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله قديمه وحديثه وصغيره وكبيره وقد واللّه بلغ وأدى ونصح وهدى حتى أنقذ اللّه به من الهلكة ، وأنار به من العمى ، وهدى به من الجهالة والضلالة ، فجزاه اللّه أفضل ما جزى نبيا عن أمته وصلوات اللّه عليه يوم ولد ويوم بعث ويوم قبض ويوم يبعث حيا ، وذكرت وفاة

ص: 59


1- شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 9.

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتنازع المسلمين بعده وتغلبهم على أبيك فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواري (1) رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصالحاء المهاجرين والأنصار فكرهت ذلك لك ، إنك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين ، ولا المسيء ، ولا اللئيم ، وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل.

إن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم ، ولا قرابتكم من نبيكم ، ولا مكانكم في الإسلام وأهله ، فرأت الأمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانتها من نبيها ، ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار ، وغيرهم من سائر الناس وعوامهم ، أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما ، وأعلمها باللّه ، وأحبها له ، وأقواها على أمر اللّه فاختاروا أبا بكر. وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل ، والناظرين للأمة فأوقع ذلك فى صدوركم لهم التهمة ، ولم يكونوا متهمين ولا فيما أتوا بالمخطئين ولو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه (2) ، ويقوم مقامه ، ويذب عن حريم الإسلام ذبه ما عدلوا بالأمر الى غيره رغبة عنه ، ولكنهم علموا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله ، واللّه يجزيهم عن الإسلام وأهله خيرا وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح ، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلو علمت أنك أضبط مني للرعية ، وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال ، وأكيد للعدو لأجبتك الى ما دعوتني إليه ، ورأيتك لذلك أهلا ، ولكن قد علمت اني أطول منك ولاية ، وأقدم منك بهذه

ص: 60


1- الحواري : الناصر والمعين أو ناصر الأنبياء.
2- الغناء : النفع ، وأغنى غناءه أجزأ عنه ، وقام مقامه.

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة اللّه ، أعاننا اللّه وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام » (1).

واشتملت هذه الرسالة - بكلتا الروايتين - على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي » (2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 - جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

ص: 61


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.
2- عصر المأمون 1 / 17.

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 - ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها - كما يقولون - فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 - ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

ص: 62

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان اللّه يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة *** فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى *** ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وباللّه أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

ص: 63

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

ص: 64

اعلان الحرب

اشارة

ص: 65

ص: 66

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن - انه بالإضافة الى ذلك - إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 - إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 - علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 - علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 - مقتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور - فيما نعلم - هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

ص: 67

الهدنة المؤقتة - كما فعل ذلك مع ملك الروم - حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر (1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد اللّه معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن اللّه بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد اللّه الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك اللّه أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته » (2).

ص: 68


1- المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.
2- شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول اللّه وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج (1).

ص: 69


1- جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله : قيل بمنبج مثواه ونائله *** فى الأفق يسأل عمن غيره سألا ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله : وليلة عين المرج زار خياله *** فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا *** بألمح آماقي وأنظر انساني لعلي أرى أبيات منبج رؤية *** تسكن من وجدي وتكشف أشجاني جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (عليه السلام) فاعتلى المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان اللّه كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن اللّه مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم اللّه الى معسكركم في النخيلة (1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون » (2).

ولما أنهى (عليه السلام) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

ص: 70


1- النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا : إني أدين بما دان الشراة به *** يوم النخيلة عند الجوسق الحرب جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.
2- شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم (1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

ص: 71


1- عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى واللّه أعرفك ، أكرمك اللّه بأحسن المعرفة ، أعرفك واللّه أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 1. وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان اللّه ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت اللّه ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب اللّه بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده (1).

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي (2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

ص: 72


1- شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.
2- معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (عليه السلام) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم اللّه خيرا ».

وخرج الامام (عليه السلام) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث (1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (عليه السلام) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل - وسيأتي وصفه بعد قليل - حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه (2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

ص: 73


1- المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (عليه السلام) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (عليه السلام) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حديثا واحدا وهو قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.
2- جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (عليه السلام) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد اللّه بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد اللّه فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين - قيس بن سعد وسعيد بن قيس - وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 - إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

ص: 74

2 - وأما أمره أن لا يعتدي عبيد اللّه على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل اللّه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن اللّه لا يحب المعتدين » (1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (عليه السلام) أن لا يبتدي عبيد اللّه بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 - ونصت وصية الامام على الزام عبيد اللّه بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (عليهم السلام) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 - اختيار عبيد اللّه :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد اللّه لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

ص: 75


1- سورة البقرة آية 189.

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » - أولا - ان الامام (عليه السلام) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه - وثانيا - ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (عليه السلام) واليا على اليمن. - وثالثا - إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. - ورابعا - ان الامام (عليه السلام) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين (1).

2 - عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد اللّه فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر (2). وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا (3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (عليه السلام) وهو في مقام التقريع له

ص: 76


1- صلح الحسن ص 96.
2- شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.
3- تأريخ الطبري 6 / 94.

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق » (1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا (2) ، وقيل أنه سبعون ألفا (3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي (4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

ص: 77


1- الإمامة والسياسة 1 / 151.
2- تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول اللّه فى تسعين ألفا.
3- البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي اللّه فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.
4- نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (عليه السلام) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف (1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه (2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتل علیه السلام ، وإذا أراد اللّه أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية » (3).

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا » (4).

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

ص: 78


1- شرح النهج محمد عبده 2 / 132.
2- تاريخ أبي الفداء 1 / 193.
3- الكامل 3 / 61.
4- شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا (1).

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 - وصف الجيش :

اشارة

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

ص: 79


1- صلح الحسن ص 106.

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيد رحمه اللّه وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب اللّه مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين » (1).

وأعرب الشيخ المفيد نضّر اللّه مثواه في كلامه - أولا - عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد - ثانيا - في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 - الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (عليه السلام) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

ص: 80


1- الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.
2 - المحكمة :

وهم الخوارج الذين ضمهم جيش الامام وكانوا يرومون قتال معاوية بكل حيلة ووسيلة لا إيمانا منهم بقضية الحسن وباطل معاوية ، بل كانوا يرون الحسن ومعاوية في صعيد واحد ، وإنهما لا يستحقان الخلافة وإنما كانوا يستعجلون حرب معاوية ومناجزته لأنهم يعلمون انه أوفر قوة من الامام فرأوا أن ينضموا الى جيشه مؤقتا حتى ينهوا أمره ، فان قضي عليه فيكون أمر الحسن سهلا لأن اغتياله ليس بالعسير عليهم فقد اغتالوا أباه من قبل :

3 - اصحاب المطامع :

وضم جيش الإمام فصيلة من الجند لا تؤمن بالقيم الروحية ولا تقدس العدل ولا تفقه الحق وإنما كانوا ينشدون مصالحهم وأطماعهم وكانوا يرقبون من كثب أي الجهتين قد كتب لها النصر والظفر حتى يلحقوا بها.

4 - الشكاكون :

وأكبر الظن ان الشكاكين هم الذين أثرت عليهم دعوة الخوارج ودعاية الأمويين حتى شككوا في مبدأ أهل البيت (عليهم السلام) ، وفي رسالتهم الإصلاحية ولو اندلعت نيران الحرب لما ساعدوا الإمام بشيء ، لأنهم لم يكونوا مدفوعين بدافع الإيمان والعقيدة.

ص: 81

5 - اتباع الرؤساء :

وهم أكثر العناصر عددا ، وأعظمهم خطرا ، فهم يتبعون زعماءهم ورؤساءهم اتّباع أعمى لا إرادة لهم ولا تفكير ولا شعور بالواجب ، وهم المعبر عنهم بالهمج الرعاع. وكان أغلب سواد العراق قد انتمى الى أحد الزعماء على غرار العشائر العراقية في هذا الوقت ، وأكثر زعماء العراق ممن كاتب معاوية بالطاعة والانقياد كقيس بن الأشعث ، وعمرو بن الحجاج وحجار بن أبجر وأضرابهم من الخوارج والمنافقين الذين اشتركوا في أعظم مأساة سجلها التأريخ وهي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين (عليه السلام).

هذه هي العناصر التي تكوّن منها الجيش العراقي ، بل العراق كله من نفر منه الى الحرب ومن لم ينفر ينطبق عليه أحد هذه العناوين التي ذكرها شيخ الإسلام المفيد رحمه اللّه في كلامه القيم ، وأكثر هؤلاء لا يؤمن من شرهم فى السلم فضلا عن الحرب.

4 - أخطاء تاريخية :

اشارة

وقع فريق من المؤرخين والكتاب فى أخطاء تتعلق فى هذا الفصل يجدر التنبيه عليها وهي :

1 - الحاكم :

أفاد الحاكم النيسابوري أن الحسن (عليه السلام) أسند قيادة مقدمته إلى ابن عمه عبد اللّه بن جعفر ، وضم إليه عشرة آلاف جندي (1) وفد تفرد

ص: 82


1- مستدرك الحاكم 3 / 174.

الحاكم بهذا القول وهو مخالف لما اجمع عليه رواة الأثر من أن قيادة المقدمة كانت لعبيد اللّه بن العباس باشراك قيس بن سعد وسعيد بن قيس ، كما أن عدد المقدمة كان اثنى عشر الفا حسب ما ذكروه لا عشرة آلاف.

2 - اليعقوبى :

ذكر المؤرخ الشهير اليعقوبي : ان الإمام الحسن تجهز لحرب معاوية بعد ثمانية عشر يوما من وفاة أبيه (1) وهو اشتباه لأن الإمام لم يتجهز لمحاربة خصمه إلا بعد أن راسله بتلك الرسائل التي مرّ ذكرها فى الفصل السالف ، وعلى الظاهر أن مدة المراسلة كانت تزيد على شهرين كما أن الإمام لم يستعد للحرب إلا بعد ما فشلت جميع الوسائل التي اتخذها لأجل السلم والوئام ، وعلم أن معاوية قد زحف إليه بجنده ففى ذلك الوقت تجهز للحرب لا قبله كما أجمع عليه المؤرخون وإذا أردنا تصحيح ما ذكره اليعقوبي فان هذه المدة التي ذكرها كانت فاتحة المراسلات التي دارت بينهما.

3 - ابن كثير :

قال ابن كثير : ولم يكن فى نية الحسن أن يقاتل أحدا ، ولكن غلبوه على رأيه ، فاجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله ، فأمر الحسن بن علي قيس بن سعد بن عبادة على المقدمة في اثنى عشر ألفا بين يديه. الخ (2). وهذا القول ليس بوثيق لأن الإمام الحسن لو لم يكن من رأيه الحرب لما بعث الى معاوية تلك المذكرات التي يتهدده فيها ويتوعده باعلان الحرب

ص: 83


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 191.
2- البداية والنهاية 8 / 14.

إن لم يدخل فى طاعته ، ولو لم يكن من نيته الحرب لما اعتلى المنبر وحفز الناس الى الجهاد ، ودعاهم الى الحرب كما ذكرنا ذلك بالتفصيل ، وأما قوله : ان الناس اجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله وهم يدعون الإمام الى الحرب. فينافيه ويرده تقاعسهم ، وعدم اجابتهم له ، وسكوتهم لما دعاهم (عليهم السلام) الى الجهاد في خطابه السالف الذكر.

4 - طه حسين :

قال الدكتور طه حسين : « ومكث الحسن بعد البيعة شهرين أو قريبا من ذلك لا يذكر الحرب ، ولا يظهر استعدادا لها ، حتى ألح عليه قيس بن سعد ، وعبيد اللّه بن العباس ، وكتب إليه عبد اللّه بن عباس من مكة يحرضه على الحرب ويلح عليه في أن ينهض فيما كان ينهض فيه أبوه » (1) ومواقع النظر في كلامه ما يلي :

1 - إن قوله : ومكث الحسن بعد البيعة شهرين أو قريبا من ذلك لا يذكر الحرب ولا يظهر استعدادا لها. فانه بعيد عن الواقع ، وهو قريب مما ذكره ابن كثير في كلامه المتقدم ، ولعل الدكتور استند إليه ، وتفنده رسائل الإمام - التي مرّ بيانها - فانها صريحة في تصميمه وعزمه على الحرب ، وللاستدلال على ذلك نسوق بعض فقراتها يقول (عليه السلام) : « وإن أنت أبيت إلا التمادي فى غيك سرت إليك بالمسلمين حتى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين ». وهذه الفقرات واضحة صريحة فيما ذكرناه ، ولعل الدكتور لم يلحظ هذه الجوانب من رسائل الإمام فأرسل حكمه محفوفا بالخلط والاشتباه ، وبالاضافة الى ذلك فان الإمام ملزم بمناجزة معاوية ،

ص: 84


1- علي وبنوه ص 195.

لأن اللّه أوجب حرب البغاة الذين يشقون عصا الطاعة ، ويخرجون على إمام المسلمين ، قال تعالى : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر اللّه ». وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من دعا الى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة اللّه فقاتلوه ». ومعاوية قد خرج على أمير المؤمنين من قبل وبغى عليه ، وقد أغرق البلاد في الدماء ، وأشاع بين المسلمين الحزن والثكل والحداد ، فمناجزته من أهم الواجبات الإسلامية ، فكيف يتخلف الإمام عنها وهو سبط النبي وريحانته.

2 - وأما قوله : إن قيس بن سعد ، وعبيد اللّه بن العباس ألحّا عليه فى أن ينهض للحرب ، فان هذا من الوهم والخلط لأنا ذكرنا - في أوائل هذا البحث - النصوص التأريخية التي دلت على أن الإمام نفر الى الحرب حينما علم أن معاوية قد زحف إليه ، ولم يكن أحد قد ألحّ عليه في ذلك ، وإنما كانت حراجة الموقف والضرورة البالغة تقضيان بخروجه ، فانه لو لم ينفر لحرب معاوية ورد عدوانه لاحتل الكوفة ، وأخذ الإمام أسيرا ، فكان خروجه للدفاع والجهاد أمرا لازما ، ولم يكن هناك أي أحد ألحّ عليه في ذلك.

إن بحوث الدكتور طه حسين فى هذه الجهات محفوفة بالإسفاف والخلط وفاقدة للتحقيق الذي يتطلبه البحث العلمي الذي لا يخضع للعاطفة والأهواء ، فان التاريخ - كما يقول - قد خلط بالموضوعات حتى أصبح من العسير أن يخلص المؤرخ للحق في أبسط الامور وأيسرها فضلا عن أمثال هذه الجوانب التي لبست أسمك جلابيب الغموض بسبب الروايات التي تعمد أصحابها على وضعها انتصارا للأمويين وتقليلا لجانب أهمية أهل البيت (عليهم السلام) ، فيجب التثبت والوقف فى كثير مما انفردوا بروايته ،

ص: 85

وملاحظة أقوال المؤرخين الذين عرفوا بالاستقامة وعدم الانحراف ، وتحرجوا من الوضع ، وليس من الحق أن يعتمد الدكتور على روايات ابن كثير وأمثاله ممن جرفتهم العصبية ، ومالوا عن القصد فدونوا ما هو مجاف للواقع وبعيد عن الحق.

إن مصدر الخطأ والالتباس في بحوث المتأخرين إنما جاءت من الاعتماد على أمثال هذه المصادر ، وعدم التحقيق والتدقيق فيما انفردوا بروايته انتصارا للحكم القائم ، وليس شيء أدعى للمؤرخ الذي يريد أن يخلص للحق من التثبت فى ذلك فانه مما يقتضيه البحث الحر الذي نحن في أمس الحاجة إليه.

ص: 86

في المدائن

اشارة

ص: 87

ص: 88

فى سجل التاريخ حوادث مفجعة يذوب القلب من هولها أسى وحسرات ، وذلك بما تتركه من الآثار المريعة ، والمضاعفات السيئة ، وبما تخلفه من المشاكل والمصاعب كانتشار الظلم ، وذيوع الجور ، وهضم الحق ، وضياع العدل. ومن أفجع هذه الحوادث وأقساها ، انتصار الظالمين وتغلبهم على أئمة الحق والعدل ، فانه يؤدي حتما الى شل الحركة الإصلاحية ، وتدمير القيم الإنسانية ، وظهور البغي والجور في البلاد.

وتمثلت هذه المأساة المحزنة بأبشع صورها على مسرح الزمن الهازل في صراع الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية ، وغلبة معاوية عليه ، وقد انتصرت بذلك القوى الحاقدة على الإسلام ، والباغية على المسلمين ، واندحرت المبادئ العليا التي جاء هذا الدين ليقيمها.

إن من نكد الدنيا غلبة معاوية وانتصاره على سبط النبي وريحانته ، وابتزازه لحقه ، وفرضه حاكما على المسلمين باسم الإسلام ، وهو من ألدّ خصومه وأعدائه. إن السر في انتصار معاوية يرجع الى أسباب كثيرة وعوامل متعددة وأهمها الحوادث القاسية التي وقعت في « مسكن » (1) التي كانت تضم مقدمة جيش الإمام ، والحوادث المؤسفة التي جرت فى « المدائن » التي استقرت فيها عامة جيوشه ، وقد عانى الإمام منها ألوانا شاقة من

ص: 89


1- مسكن : بفتح أوله وكسر ثالثه ، قال أبو منصور : يقال للموضع المعروف الذي يسكنه الإنسان « مسكن » بفتح الثالث وكسره ، واللغة الثانية شاذة ، والقياس الفتح ، وهو موضع قريب من « أوانا » على نهر الدجيل ، وبها كانت الواقعة بين عبد الملك بن مروان ، ومصعب بن الزبير ، سنة ( 72 ه ) ، وفيها قتل مصعب ، وابراهيم بن مالك الأشتر ، ودفنا هناك ولهما قبر معروف ، معجم البلدان 8 / 54.

المحن والخطوب حتى اضطر الى الصلح ، والتجأ الى مسالمة الخصم ، وعلينا أن ننظر الى تلكم الأحداث ونتأملها فانها من أهم علل الصلح وأسبابه - فيما نحسب - وهي كما يلي :

حوادث مسكن

وبعد ما أسند الإمام القيادة العامة في مقدمة جيشه الى عبيد اللّه بن العباس ، انطلق عبيد اللّه يطوي البيداء مع الجيش حتى انتهى الى « سينور » ومنها خرج الى « شاهي » (1) ، فلزم الفرات والفلوجة حتى وصل الى مسكن فاستقام فيها وقابل العدو وجها لوجه ، وقد قام معاوية بدوره بعمليات التخريب والإفساد فسلك جميع الوسائل للقضاء على أصالة « المقدمة » وتمزيق وحداتها ، واماتة نشاطها العسكري ، فنشر بها المخاوف والأراجيف ، وبث فيها العصيان والتمرد ، ونقدم عرضا لبعضها :

ص: 90


1- شاهي : موضع قريب من القادسية ، وكان شريك بن عبد اللّه قاضي الكوفة قد خرج الى شاهي يستقبل الخيزران فأقام فيه ثلاثة أيام ينتظرها حتى نفذ طعامه ، وكان عنده خبز يابس ، فجعل يبلله بالماء ، فنظر إليه العلاء بن منهال فقال فيه : فان كان الذي قد قلت حمقا *** بأن قد أكرهوك على القضاء فما لك موضع فى كل يوم *** تلقى من يحج من النساء مقيما فى قرى شاهي ثلاثا *** بلا زاد سوى كسر وماء معجم البلدان 5 / 224.

بث الجواسيس

وكانت باكورة الدسائس الخطيرة التي قام بها معاوية فى إفساده « المقدمة » ، انه بعث الجواسيس ، ونشر العيون ليذيعون الذعر والإرهاب ويقومون بخذلان الجيش ، وكانت دعايتهم ذات طابع واحد وهي :

« إن الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلم تقتلون أنفسكم؟. » (1)

وتركت هذه الموجة من الافتراء اضطرابا فظيعا ، وخوفا بالغا فى النفوس ، وأحدثت تمردا شاملا في جميع الوحدات العسكرية.

رشوة الوجوه

ولم يقتصر معاوية في عمليات التخريب على ذلك ، فقد صنع ما هو أفتك منها وهو شراؤه الضمائر الرخيصة من قادة الجيش وزعمائه المقيمين في « مسكن » فقد بذل لهم أموالا ضخمة ، ومناهم بالوظائف والمراتب ، فأجابوه الى ذلك ، وتسللوا إليه ، والتحقوا بمعسكره في غلس الليل وفى وضح النهار ، وكتب عبيد اللّه أنباءهم بالتفصيل الى الإمام الحسن «ع» (2)

اغراؤه لعبيد اللّه

ولما رأى معاوية ان عملية الرشوة قد نجح بها الى حد كبير راح يعمل بنشاط فى اغرائه لذوي الضمائر القلقة ، والنفوس المريضة ، فمدّ أسلاك مكره الى عبيد اللّه بن العباس ، فجذبه إليه ، وصار العوبة بيده ، وقد خان

ص: 91


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 215.
2- شرح ابن أبي الحديد 4 / 28.

عبيد اللّه بذلك ثقل رسول اللّه ، وترك موكب الحق والهدى ، وانضم الى معسكر الخيانة والجور ، أما نص رسالة معاوية التي خدعه بها فهي :

« إن الحسن قد راسلني فى الصلح ، وهو مسلم الأمر إليّ فان دخلت فى طاعتي الآن كنت متبوعا ، وإلا دخلت وأنت تابع ، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم ، أعجل لك في هذا الوقت نصفها ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر ... » (1)

وتمثل الكذب الصريح ، والمكر السافر في قوله : « إن الحسن قد راسلني في الصلح. » إن الإمام متى راسله فى الصلح؟ أفي رسائله ومذكراته التي احتوت على تهديده وتوعيده باعلانه للحرب عليه إن لم يثب لطاعته ، أم بخروجه لمناجزته؟ مضافا الى أنه لم تجر أي اتصالات بينه وبين الإمام في ذلك الوقت.

وليس هناك أدنى مجال للشك فى أن عبيد اللّه كان يؤمن في قرارة نفسه بكذب هذا الادعاء لأن الإمام لو كان قد راسله في الصلح فلأي شيء يمنيه معاوية بهذه الأموال الطائلة ، وما قيمته إن أجابه الإمام إلى ذلك.

غدر وخيانة

وغزى معاوية برسالته مشاعر عبيد اللّه فقد أخذ يطيل التفكير فى ارتكاب الجريمة والخيانة ، وتمثلت أمامه النقاط المغريات التي عرضها عليه معاوية وهي :

1 - مراسلة الحسن له في الصلح حسب الادعاء المزعوم.

2 - الدخول فى معسكر معاوية وهو متبوع خير له من أن يكون تابعا.

ص: 92


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 28.

3 - الحصول على مائة ألف درهم.

وانفق ليله ساهرا يفكر في الأمر ، قد ملأت الحيرة اهابه ، وتمثلت أمامه ( المادة ) التي منّاه بها معاوية وهو لم يظفر ببعضها فى ظل الحكومة الهاشمية التي بنيت على بسط العدل والمساواة ، وأخيرا سولت له نفسه الأثيمة بالغدر ونكث العهد ، فاستجاب لدنيا معاوية ، ومال عن الحق ، وانحرف عن الطريق القويم ، وخان اللّه ورسوله ، وترك سبط النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وريحانته ، والتحق بمعسكر الظلم والجور ، وقد تسربل بثياب العار والخزي.

لقد تسلل عبيد اللّه الى معاوية فى غلس الليل البهيم ومعه ثمانية آلاف من الجيش (1) من ذوي الأطماع والأهواء الذين لم ينطبع الدين في قلوبهم ففي عنق عبيد اللّه الخائن الأثيم تقع المسئولية الكبرى ، فقد أدت خيانته الى زعزعة الجيش وتفلل وحداته واضطرابه.

إن هذه الخطة التي سلكها معاوية كانت من أهم الأسباب التي مهدت نجاحه ، وفوزه بالموقف وتغلبه على الأحداث ، فقد سببت اندحار جيش الإمام ، وقضت على عزائمه ، وفتحت باب الخيانة ، والغدر على مصراعيهما.

اضطراب الجيش

وأصبحت البقية الباقية من الجيش تفتش عن قائدها ليصلي بها صلاة الصبح فلم تجده ، ولما علمت خيانته وغدره والتحاقه بالعدو اضطربت أشد الاضطراب ، وماجت فى الفتن ، وارتطمت بالنزاع والخلاف ، ولما رأى قيس بن سعد الرجات العنيفة ، والفتن السود قد ضربت أطنابها على الجيش قام فصلى بهم صلاة الصبح ، وبعد الفراغ منها قام خطيبا فهدأ روعهم

ص: 93


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 191.

وأثابهم الى الصواب والرشاد ، وهذا نص خطابه.

« إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خيرا قط ، إن أباه عمّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خرج يقاتله ببدر ، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري (1) فأتى به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخذ فداءه ، فقسمه بين المسلمين وإن أخاه ولاّه علي على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين فاشترى به الجواري ، وزعم أن ذلك له حلال ، وإن هذا ولاّه علي على اليمن فهرب من بسر بن أبي أرطاة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الآن هذا الذي صنع » (2).

وملك قيس أحاسيس الجيش وشعورهم بخطابه المؤثر الرصين ، فقد رأوا في كلامه منطق الحق ، وفي شخصيته صلابة الإيمان ، وتبين لهم أن عبيد اللّه خليق بالخيانة ، ومظنة لكل سوء ، وانه لو كان عنده شعور نبيل أو عاطفة انسانية لما هرب من اليمن وترك ولديه بيد الجزار بسر بن أبي أرطاة فقتلهما.

ص: 94


1- كعب بن عمرو الأنصاري السلمي ، شهد بدرا بعد العقبة ، وهو الذي أسر العباس يوم بدر ، وانتزع راية المشركين وكانت بيد أبي عزيز ، وشهد مع أمير المؤمنين صفين ، توفي في يثرب سنة (55) جاء ذلك في الاستيعاب 4 / 215 ، وجاء في تهذيب التهذيب 8 / 437 ، انه آخر من مات من أهل بدر وأنه شهد مع أمير المؤمنين جميع مشاهده ، توفي وله من العمر مائة وعشرون سنة ، وفي المسند من حديث له : أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعثه في حاجة فرآه موليا فقال : « اللّهم امتعنا به » فكان من آخر الصحابة موتا ، وكان إذا حدث بهذا الحديث بكى ، وقال : امتعوا بي لعمري حتى كنت من آخرهم.
2- مقاتل الطالبيين ص 35.

وانبرى الجيش بجميع كتائبه فأعلن التأييد والخضوع لمقالته وهم يهتفون « الحمد لله الذي أخرجه من بيننا. » (1)

وتسلم قيس القيادة - بعد غدر عبيد اللّه - بنص الإمام وبالترشيح من جميع القوات المسلحة ، وحينما تسلم منصبه الجديد رفع للإمام مذكرة أخبره فيها بوقوع الحادث المؤسف وبتسلمه مهام القيادة ، وهذا نصها :

« إنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها ( الجنوبية ) بإزاء ( مسكن ) وان معاوية أرسل الى عبيد اللّه بن العباس يرغبه فى المصير إليه ، وضمن له ألف ألف درهم ، يعجل له منها النصف ، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة ، فانسل عبيد اللّه في الليل الى معسكر معاوية في خاصته ، وأصبح الناس قد فقدوا أميرهم ، فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في امورهم ... (2)

وساعد اللّه قلب الإمام الحسن حينما انتهى إليه هذا النبأ المؤسف ، فقد أترعت نفسه الشريفة بالآلام والهواجس ، ويئس من الظفر والنصر ، وعلم أن أكثر من معه لا واقعية لهم ، وانهم يسلمونه عند الوثبة ويغدرون به عند اندلاع نار الحرب. وأما جيشه الرابض معه فى « المدائن » فانه لما علم بخيانة عبيد اللّه ، والتحاقه بمعسكر العدو ارتطم في الفتن ، وماج في الشر ، واستولى عليه الذعر والخوف ، وأخذ أكثر قادته يلتمسون الطرق للاتّصال بمعاوية والظفر بأمواله.

اكاذيب واضاليل :

وبعد ما طعن معاوية الجيش العراقي في صميمه بعمليات الرشوة ، سلك

ص: 95


1- مقاتل الطالبيين ص 35.
2- الإرشاد ص 170.

طرقا أخرى في إفساده واماتة نشاطه ، فقد أرسل عيونه وخواصه ينشرون الأكاذيب ، ويبثون الإرهاب في جميع كتائب الجيش سواء المقيمة في المدائن ، أو فى مسكن ، وكانت تلكم الإشاعات ذات صور وهي :

أ - إذاعتهم في « المدائن » أن قيس بن سعد قد صالح معاوية ، وصار معه (1) ، ولم يشك الجيش في صدق هذه الدعاية ، فان عبيد اللّه بن العباس الذي هو أمس الناس رحما بالإمام قد غدر به وخانه فكيف بغيره.

ب - إشاعتهم في « مسكن » ان الإمام قد صالح معاوية وأجابه (2).

ج - افتراؤهم على من في « المدائن » ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا (3).

ومزقت هذه الدعايات الكاذبة أعصاب الجيش ، وأماتت نشاطه العسكري ، وأصبح متفككا تسوده الفتن والأهواء.

خلاصة الأحداث :

ومجمل ما تقدم من الفتن السود ، والخيانة المفضوحة التي منيت بها المقدمة التي هي أقوى فصائل الجيش أمور :

1 - تسلل ذوي الوجاهة والنفوذ من ذوي البيوتات الشريفة والأسر البارزة الى معاوية.

2 - غدر القائد العام عبيد اللّه بن العباس وخيانته لسبط النبي وريحانته.

ص: 96


1- البداية والنهاية 8 / 14.
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 191.
3- حياة الحيوان للدميري 1 / 57.

3 - خيانة ثمانية آلاف من الجيش ، والتحاقهم بمعسكر معاوية ، وناهيك بالضعف والاختلال الذي منيت به المقدمة بعد انسحاب هذا العدد الخطير منها.

4 - اضطراب الجيش على الإطلاق سواء أكان في مسكن أو فى المدائن بسبب الإشاعات الكاذبة التي أذاعها أتباع معاوية من أن الحسن قد صالح معاوية ، وأن قيسا قد قتل.

هذه خلاصة الأخطار الفظيعة التي اصيبت بها « المقدمة » وقد أوجبت انهيارها وأماتت نشاطها ، وأصبحت لا لياقة لها على مواجهة الأحداث ، ولا قابلية لها على الدفاع ورد العدوان الأموي الذي يتمتع بأتم القابليات وأضخم الطاقات. وبعد هذه الزعازع التي فتكت بالمقدمة هل يصح أن يقال إنها جبهة قوية لها القدرة على مناجزة معاوية؟!!

حوادث المدائن :

ونزح الإمام الحسن عن عاصمته ، وقد نفر معه أخلاط من الناس ، وأخذ في مسيره على حمام عمر حتى أتى دير كعب في « مظلم ساباط » (1) فاستقوا فيه ، وأخذ معاوية يعيث فسادا فى جيش الإمام حقى ارتطم بالفتن والخطوب ، ونقدم عرضا من النكبات التي مني بها ، والى الأحداث الهائلة

ص: 97


1- مظلم ساباط : يقع قرب المدائن ، ولم يعلم سبب التسمية ، وذكر مظلم ساباط زهرة بن حوية في قوله : ألا أبلغا أبا حفص آية *** وقولا له قول الكمي المغاور بأنا أثرنا آل طوران كلهم *** لدى مظلم يهفو بحمر الطواهر معجم البلدان 8 / 91.

التي واجهها الإمام الحسن.

اذاعة الذعر :

وكانت أول بادرة فعلها معاوية لإفساد جيش الإمام أنه بعث عبد اللّه ابن عامر ليبثّ الخوف والجزع فى نفوس العراقيين فانطلق عبد اللّه فنادى بأعلى صوته بين صفوف الجيش العراقى :

« يا أهل العراق ، إني لم أر القتال ، وإنما أنا مقدمة معاوية وقد وافى الأنبار في جموع أهل الشام ، فأقرءوا أبا محمد « يعني الحسن » عني السلام وقولوا له : أنشدك اللّه في نفسك وأنفس هذه الجماعة التي معك ».

وحينما سمعوا ذلك داخلهم من الخوف والرهبة الى حد لا سبيل الى تصويره ، وأخذ بعضهم يخذل بعضا ، وسئموا القتال ، وكرهوا الحرب.

رشوة الزعماء :

لا تزال الرشوة قديما وحديثا هي الثغرة الوحيدة التي يسلك فيها المستعمرون للاستيلاء على الشعوب ، وسلب سيادتها ، والقضاء على أصالتها وقد أمعن معاوية في استعمال الرشوة بنطاقها الواسع في شراء الضمائر والذمم والأديان لأجل تدعيم ملكه ، والقضاء على حكومة الإمام ، استعمل في سبيل هذه الغاية كل وسيلة ، وسلك كل طريق لأن « الغاية تبرر الواسطة » والرشوة التي استعملها كانت ذات طوابع مختلفة وهي :

أ - منح الوظائف المهمة ، والمناصب الخطيرة في الدولة كالولاية على قطر من الأقطار أو القيادة العامة على جيش من جيوشه لمن غدر بالإمام الحسن ، واستجاب له.

ب - بذل الأموال الضخمة من المائة ألف فما فوق.

ص: 98

ج - الوعد بتزويج إحدى بناته ، ومن الغريب ان تتوصل خساسة الرشوة الى مثل هذا اللون الذي ينم عن انحطاط النفس وتماديها في الرذائل والموبقات.

ودلت هذه الأساليب على دراسة معاوية لنفوس العراقيين ، فقد عرف الأشخاص الذي تشترى ضمائرهم بالمادة فبذلها لهم بسخاء ، والأشخاص الذين لا يقيمون وزنا للمادة منّاهم بالوظائف والنفوذ ، والأشخاص الذين يحبون الاتصال والقرب منه منّاهم بزواج إحدى بناته ، وقد نص على هذه الجهات الصدوق رحمه اللّه فى كلامه قال :

« وبعث معاوية لكل من عمرو بن حريث (1) ، والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر (2) عينا من عيونه يمنى كل واحد منهم بقيادة جند من

ص: 99


1- عمرو بن حريث بن عثمان القرشي المخزومى الكوفي ، كان عمره يوم توفى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اثنى عشر سنة ، وكان من الطلقاء الصغار ولى الكوفة عن زياد وابنه عبيد اللّه توفى سنة 85 وقيل 98 هج تهذيب التهذيب 7 / 17.
2- حجار بن أبجر العجلي كان أبوه نصرانيا فقال له : يا أبت أرى قوما قد دخلوا فى هذا الدين فشرفوا وقد أردت الدخول فيه ، فقال له أبوه : يا بني أصبر حتى أقدم معك على عمر ليشرفك ، وإياك أن تكون لك همة دون الغاية القصوى ، ووفد على عمر فقال أبجر لعمر : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن حجارا يشهد أن محمدا رسول اللّه ، فقال عمر : وما يمنعك أن تقولها أنت؟ فقال أبجر : « إنما أنا هامة اليوم أو غد ». وذكر المرزباني في معجم الشعراء : إن أبجر مات على نصرانيته في زمن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قبل قتله بيسير ، ولما مات شيّعته النصارى ، وكان حجار يمشي فى جانب مع أناس من المسلمين ، جاء ذلك فى الاصابة 1 / 2. وجاء في كثير من المصادر التاريخية : أن حجارا كان من الأشخاص الذين راسلوا سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) بالقدوم الى العراق ، ولما قدم (عليه السلام) الى العراق كان هذا الأثيم في طليعة الواثبين عليه.

جنوده ، أو بتزويج إحدى بناته ، أو بمائة ألف درهم إن هم قتلوا الحسن وقد بلغه ذلك فاستلأم (1) ولبس درعا ، فكان لا يتقدم للصلاة إلا وعليه وقاية » (2).

تأثير الرشوة :

واستجابت النفوس المريضة التي لم يهذبها الدين الى دعوى معاوية ، وانجرفت بدنياه الحلوة وانخدعت بوعوده المعسولة ، فأخذت تتهاوى على أعتابه ملبية طلباته ، وممتثلة لأمره ، فراسله جمع من الأشراف والوجوه والبارزين برسائل متعددة أعربوا فيها عن استعدادهم الى الفتك بالإمام متى طلب وأراد وهي ذات مضمونين :

1 - تسليم الحسن له سرا أو جهرا.

2 - اغتياله وقتله متى أراد ذلك.

وقد بعث معاوية بتلكم الرسائل الى الإمام ليطلع فيها على خيانة جيشه ، وعند ما عرضت عليه تلك الرسائل أيقن بفسادهم وتخاذلهم وسوء نياتهم (3).

ومن تأثير الرشوة على تلك النفوس المريضة التي انمحت عنها جميع النواميس الإنسانية ، ان الإمام (عليه السلام) وجه قائدا من كندة فى أربعة آلاف وأمره أن يعسكر بالأنبار وأن لا يحدث شيئا حتى يأتيه أمره ، فلما نزل بها عرف معاوية فوجّه إليه رسولا وكتب معه « إنك إن أقبلت إليّ أو لك بعض كور الشام والجزيرة غير منفس عليك » وأرسل إليه بخمسمائة ألف

ص: 100


1- استلأم : أي لبس لامة حربه.
2- علل الشرائع ص 84.
3- جنات الخلود الفصل التاسع منه ، وكشف الغمة ص 154 وغيرها.

درهم ، فقبض الكندي المال وانحاز الى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته ، فبلغ الحسن (عليه السلام) ذلك فتأثر وقام خطيبا وهو متذمر ومتألم أشد الألم من ذلك المجتمع الذي جرفته الخيانة ، وصار فريسة للباطل والضلال فقال علیه السلام :

« هذا الكندي توجه الى معاوية ، وغدر بي وبكم وقد أخبرتكم مرة بعد مرة انه لا وفاء لكم ، أنتم عبيد الدنيا ، وأنا موجّه رجلا آخر مكانه وإني أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبكم ، ولا يراقب اللّه فيّ ولا فيكم ».

وبعث علیه السلام رجلا آخر من مراد في أربعة آلاف ، وتقدم إليه بمشهد من الناس وتأكد عليه ، ولكنه أخبره انه سيغدر كما غدر الكندي فحلف له بالأيمان الموثقة أنه لا يفعل ذلك ، فلم يطمئن منه الحسن وقال متنبئا : « إنه سيغدر ».

وسار حتى انتهى الى الأنبار ، فلما علم معاوية به أرسل إليه رسلا وكتب إليه بمثل ما كتب الى صاحبه ، وبعث إليه بخمسة آلاف ولعلها خمسمائة ألف درهم ، ومنّاه أي ولاية أحب من كور الشام والجزيرة ، فقلب على الحسن وأخذ طريقه الى معاوية ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود (1).

وارتكب هذه الخيانة جمع غفير من الأشراف والوجوه. وقد أدّى ذلك الى زعزعة كيان الجيش واضطرابه ، وتفلل جميع وحداته.

4 - نهب أمتعة الامام :

وانحطت نفوس ذلك الجيش انحطاطا فظيعا ، واستولت على ضمائره

ص: 101


1- البحار 10 / 110.

سحب قاتمة لا بصيص فيها من نور الكرامة والشرف ، فارتكبوا كل جريمة وموبقة. ومن انحطاط نفوسهم ان بعضهم جعل ينهب بعضا ، ولم يكتفوا بذلك حتى عدوا الى أمتعة الإمام وأجهزته فنهبوها ، وأكبر الظن أن للخوارج ضلعا كبيرا في هذا الإجرام ، فانهم لا يرون حرمة للإمام ، ولا حرمة لأموال غيرهم ، فقد أباحت خططهم الملتوية أموال من لا يدين بفكرتهم ولا يخضع لدينهم ، وقد وقعت جريمة نهب الإمام فى موردين هما :

1 - حينما دس معاوية عيونه في جيش الإمام ليذيعون أن الزعيم قيس بن سعد قد قتل فانهم حينما سمعوا ذلك نهب بعضهم بعضا حتى انتهبوا سرادق الحسن (1) وتنص بعض المصادر انهم نزعوا بساطا كان الإمام جالسا عليه واستلبوا منه رداءه (2).

2 - لما أرسل معاوية المغيرة بن شعبة ، وعبد اللّه بن عامر ، وعبد الرحمن بن الحكم الى الإمام ليفاوضونه في أمر الصلح ، فلما خرجوا من عنده أخذوا يبثون بين صفوف الجيش لإيقاع الفتنة فيه قائلين : « إن اللّه حقن الدماء بابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد أجابنا الى الصلح » ولما سمعوا بمقالتهم اضطربوا اضطرابا شديدا ووثبوا على الإمام فانتهبوا مضاربه وأمتعته (3).

5 - تكفيره :

وخيم الجهل على قلوب ذلك الجيش المصاب بأخلاقه وعقيدته ، فراح يسرح في ميادين الشقاء والغواية متماديا في الإثم والضلال ، وبلغ

ص: 102


1- الطبري 4 / 122 ، البداية والنهاية 8 / 14.
2- البحار ، أعيان الشيعة ، تأريخ اليعقوبي.
3- البحار ، شرح ابن أبي الحديد.

من طيشه وجهله أن بعضهم حكم بتكفير حفيد نبيهم ، فلقد انبرى له الجراح بن سنان الذي أراد قتله قائلا :

« أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل!! ».

إن مجتمعا يرى هذا الاعتداء الصارخ على حفيد نبيهم ولا يقومون بنجدته لجدير بأن ينبذ ويترك لأنه لا ينفعه النصح ، ولا يثوب الى الحق والرشاد ، وأغلب الظن أن الذين حكموا بكفر الإمام كانوا من الخوارج إذ لا يصدر هذا الاعتداء إلا من هؤلاء الأشرار.

6 - اغتياله :

ولم تقف محنة الحسن وبلاؤه في جيشه الى هذا الحد فلقد عظم بلاؤه الى أكثر من ذلك فقد قدم المرتشون والخوارج على قتله ، وقد اغتيل (عليه السلام) ثلاث مرات وسلم منها وهي :

1 - انه كان يصلي فرماه شخص بسهم فلم يؤثر شيئا فيه.

2 - طعنه الجراح بن سنان في فخذه ، وتفصيل ذلك ما رواه الشيخ المفيد رحمه اللّه قال : « إن الحسن أراد أن يمتحن أصحابه ليرى طاعتهم له وليكون على بصيرة من أمره ، فأمر (عليه السلام) أن ينادى ( بالصلاة جامعة ) فلما اجتمع الناس قام علیه السلام خطيبا فقال :

« الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا اللّه كلما شهد له شاهد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق وائتمنه على وحيه.

أما بعد : فإني واللّه لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد اللّه ومنّه وأنا أنصح خلق اللّه لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريد له بسوء ، ولا غائلة وإن ما تكرهون فى الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم فلا تخالفون أمري ،

ص: 103

ولا تردوا عليّ رأيي ، غفر اللّه لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا ».

ونظر الناس بعضهم الى بعض وهم يقولون ما ترونه يريد؟

واندفع بعضهم يقول :

« واللّه يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه!!! »

وما سمعوا بذلك إلا وهتفوا :

« كفر الرجل!!! »

وشدوا على فسطاطه فانتهبوه ، حتى أخذوا مصلاه من تحته ، وشدّ عليه الأثيم عبد الرحمن بن عبد اللّه بن جعال الأزدي ، فنزع مطرفه من عاتقه ، فبقى الإمام جالسا متقلدا سيفه بغير رداء ، ودعا (عليه السلام) بفرسه فركبه ، وأحدقت به طوائف من خاصته وشيعته محافظين عليه ، وطلب علیه السلام أن تدعى له ربيعة وهمدان فدعيتا له ، فطافوا به ودفعوا الناس عنه ، وسار موكبه ولكن فيه خليطا من غير شيعته ، فلما انتهى (عليه السلام) الى مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له الجراح بن سنان فأخذ بلجام بغلته ، وبيده مغول (1) فقال له :

« اللّه أكبر ، اشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل! ».

ثم طعن الإمام في فخذه فاعتنقه الإمام وخرّا جميعا الى الأرض ، فوثب إليه رجل من شيعة الحسن يقال له عبد اللّه بن حنظل الطائي ، فانتزع المغول من يده فخضض به جوفه ، وأكب عليه شخص آخر يدعى بظبيان بن عمارة فقطع أنفه ، ثم حمل الإمام (عليه السلام) جريحا على سرير الى المدائن في المقصورة البيضاء لمعالجة جرحه (2).

ص: 104


1- المغول : آلة تشبه السيف.
2- الارشاد ص 170.

3 - طعنه بخنجر فى أثناء الصلاة (1).

واتضحت للإمام (عليه السلام) بعد هذه الأحداث الخطيرة نوايا هؤلاء الأجلاف وانه سيبلغ بهم الاجرام والشر الى ما هو أعظم من ذلك وهو تسليمه الى معاوية أسيرا فتهدر بذلك كرامته أو يغتال ويضاع دمه الشريف من دون أن تستفيد الأمّة بتضحيته شيئا.

الموقف الرهيب :

وكان موقف الإمام الحسن علیه السلام من هذه الزعازع ، والفتن السود التي تدع الحليم حيرانا ، موقف الحازم اليقظ ، فقد كان من حنكته وحسن تدبيره ، وبراعة حزمه فى مثل الانقلاب الذي مني به جيشه أن جمع الزعماء والوجوه ، فأخذ يبين لهم النتائج المرة والأضرار الجسيمة التي تترتب على مسالمة معاوية قائلا :

« ويلكم ، واللّه إن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي ، وإني أظن أني إن وضعت يدي فى يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدي ، وإني أقدر أن أعبد اللّه عز وجل وحدي ، ولكن كأني أنظر الى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويطعمونهم بما جعل اللّه لهم فلا يسقون ولا يطعمون ، فبعدا وسحقا لما كسبته أيديهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ».

ولم تنفع جميع المحاولات التي بذلها الإمام من أجل استقامتهم وصلاحهم فقد أخذ الموقف تزداد حراجته ، ويعظم بلاؤه ، وتشتد فيه الفتن والخطوب وقد وجد زعماء الجيش انشغال الإمام بمعالجة جرحه فرصة إلى الاتصال

ص: 105


1- ينابيع المودة ص 292.

المفضوح بمعاوية ، والتزلف إليه بكل وسيلة ، وقد علم الإمام (عليه السلام) جميع ما صدر منهم من الخذلان والاتصال بالعدو.

حقا لقد كان موقف الإمام موقفا تمثلت فيه الحيرة والذهول ، ينظر الى معاوية فيرى حربه ضروريا يقضي به الدين ويلزم به الشرع وينظر الى الانقلاب والتفكك الذي أصيب به جيشه ، والى المؤمرات المفضوحة على اغتياله فينفض يده منهم وييأس من صلاحهم ، ومع ذلك أراد علیه السلام أن يمتحنهم ليرى موقفهم من الحرب لو اندلعت نارها ، فأمر (عليه السلام) بعض أصحابه أن ينادى في الناس ( الصلاة جامعة ) فاجتمع الجمهور فقام فيهم خطيبا فقال بعد حمد اللّه والثناء عليه :

« واللّه ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم ، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم فى مسيركم الى صفين ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين ، قتيل بصفين تبكون عليه ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره ، وأما الباقي فخاذل وثائر ».

وأعرب (عليه السلام) بهذا الخطاب البليغ عن بعض العوامل التي أدت الى تفككهم وانحلالهم ، وعرض عليهم بعد هذا دعوة معاوية في الصلح قائلا :

« ألا وان معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ، ولا نصفة فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه بظبات السيوف ، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذناه بالرضا ».

وما انتهى (عليه السلام) من هذه الكلمات إلا وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الجمع وهي ذات مضمون واحد :

ص: 106

البقية ، البقية (1).

ورأى (عليه السلام) بعد هذا الموقف أنه إن حارب معاوية حاربه بيد جذاء إذ لا ناصر له ولا معين ، ولم يكن هناك ركن شديد حتى يأوي إليه ، واستبانت له الخطط المفضوحة التي سلكها زعماء الجيش من تسليمه الى معاوية أسيرا أو اغتياله ، رأى بعد هذا كله ان الموقف يقضي بالسلم واستعجال الصلح.

وحدث يزيد بن وهب الجهني عن مدى استياء الامام وتذمره من أجلاف الكوفة وأوباشهم ، قال : دخلت عليه لما طعن فقلت له :

« يا ابن رسول اللّه ، ان الناس متحيرون ».

فاندفع الامام يقول بأسى بالغ وحزن عميق :

« واللّه أرى معاوية خيرا لي ، هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي ، وأخذوا مالي ، واللّه لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمى وآمن به أهلي وشيعتي خير لي من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتى ، لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، واللّه لئن اسالمه وأنا عزيز أحب من أن يقتلني وأنا أسير ، أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منّا والميت ».

وأعرب الإمام فى حديثه عن مدى ما لاقاه من الاعتداء الغادر على حياته وكرامته من هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم شيعة له ، وانه سيبلغ بهم التفسخ الى أقصى حد فسيقتلونه أو يسلمونه أسيرا الى معاوية فيقتله أو يمن عليه فيسجل له بذلك يدا على الإمام وتكون سبة وعارا على بني هاشم الى آخر الدهر.

ص: 107


1- حماة الاسلام 1 / 123 ، المجتنى لابن دريد ص 36 ،

وأخذ (عليه السلام) بعد هذه الأحداث الخطيرة يجيل النظر ويقلب الرأي على وجوهه ، فى حرب معاوية وتصور المستقبل الملبد بالزعازع والاضطرابات التي تقرر المصير المخوف والنهاية المحتومة لدولته وحياته معا بل وعلى حياة الإسلام أيضا لأن القلة المؤمنة التي يحويها جيشه كانت بين ذرية النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبين حملة الدين الإسلامى المقدس ، من بقايا الصحابة وتلامذة أمير المؤمنين (عليه السلام) وهؤلاء إن طحنتهم الحرب تفنى معنويات الإسلام ، ويقضى على كيانه وتحطم عروشه ، لأنهم هم القائمون بنشر طاقاته ، ومضافا الى ذلك ان الإسلام لا يستفيد بتضحيتهم شيثا لأن معاوية بمكره سوف يلبسهم لباس الاعتداء ، ويوصمهم بالخروج عن الطاعة والإخلال بالأمن العام والقضاء عليهم أمر ضروري حفظا لحياة المسلمين من القلق والاضطراب.

حقا لقد تمثلت الحيرة والذهول في ذلك الموقف الرهيب والخروج من مأزقه يحتاج الى فكر ثاقب والى مزيد من التضحية والإقدام ، رأى الامام علیه السلام أن المصلحة التامة تقضي أن يصالح معاوية ويعمل بعد ذلك على تحطيم عروش دولته ، ويعرب للناس عاره وعياره ، ويظهر لهم الصور الإجرامية التي تتمثل فيه! لقد سالم (عليه السلام) وكانت المسالمة أمرا ضروريا يلزم بها العقل ويوجبها الشرع المقدس ، وتقتضيها حراجة الموقف ، واضافة لهذه الأحداث سوف نقدم أسبابا أخرى توضح المقام وترفع أثر الشك وترد شبهات الناقدين

ص: 108

اسباب الصّلح

اشارة

ص: 109

ص: 110

تحوم حول صلح الامام الحسن (عليه السلام) مع خصمه معاوية كثير من الظنون والأقوال ، ويستفاد منها حكمان متباينان بكل ما للتباين من معنى والحق أن أحدهما خطأ وبعيد عن الصواب كما هو الشأن في كل حكمين متباينين :

« الأول » من هذين الحاكمين تبرير موقف الامام في صلحه وموفقيته فيه الى أبعد الحدود ، ويختلف مبنى التعليل فيه ، فطائفة من العلماء والبحاث عللته بأنه إمام والإمام معصوم من الخطأ ، فلا يفعل إلا ما هو الصالح العام لجميع الأمّة ، وسنذكر في أواخر هذا البحث الذاهبين الى هذا القول وتعليل آخر يكشف عن مناط القول الأول ، ويوضح مدركه وهو يستند الى العلل المادية التي اضطرت الامام الى الصلح كخذلان جيشه ، وفساد مجتمعه ، وخيانة الزعماء والمبرزين والوجهاء من شعبه وغير ذلك من العوامل ،

« الثاني » من هذين الحاكمين تعود خلاصته الى ضعف ارادة الامام وعدم احاطته بشئون السياسة العامة وعجزه عن ادارة دفة الدولة ، وعدم تداركه للموقف بالاعتماد على الأساليب السياسية وإن منع عنها الدين ، فان نال الظفر فذاك وإلا فالشهادة في سبيل المجد التي هي شعار الهاشميين ، وهدف المصلحين ، وهذا الرأي مبني على ظواهر لا تمت الى الواقع بصلة ولا تلتقي معه بطريق وذلك لعدم ابتنائه على دراسة الظروف المحيطة بالامام ، وعدم الوقوف على اتجاه شعبه الذي اصيب بأخلاقه وعقيدته ، فلذا كان هذا الرأي سطحيا وخاليا عن التحقيق وبعيدا عن الواقع ، أما الذاهبون لهذا الرأي فهم :

1 - الصفدي :

قال الصفدي فى شرحه لهذا البيت من لامية العجم :

ص: 111

حب السلامة يثني عزم صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

وقد رضى بالخمول جماعة من الرؤساء والأكابر المتقدمين في العلم والمنصب وفارقوا مناصبهم ، وأخلوا الدسوت من تصديرهم ، ثم ذكر جماعة من الذين رضوا بالخمول ونزعوا عن أنفسهم الخلافة ثم قال :

« وهذا الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال لمعاوية : إن عليّ دينا فأوفوه عني وأنتم فى حل من الخلافة ، فأوفوا دينه وترك لهم الخلافة » (1).

2 - الدكتور فيليب حتى :

قال الاستاذ فيليب حتى : « وفي بدء حكم معاوية قامت حركة أخرى كان لها شأن كبير في الأجيال التي تلت أعني اعلان أهل العراق الحسن بن علي الخليفة الشرعي ، ولعلمهم هذا أساس منطقي لأن الحسن كان أكبر أبناء علي وفاطمة ابنة النبيّ الوحيدة الباقية بعد وفاته ، ولكن الحسن الذي كان يميل الى الترف والبذخ لا الى الحكم والادارة لم يكن رجل الموقف ، فانزوى عن الخلافة مكتفيا بهبة سنوية منحه إياها » (2).

3 - العلائلي :

قال الاستاذ العلائلي : « ولكنه ( يعني الحسن ) كان قديرا على أن يعد الجماعات المنحلة عن طريق الاستشارة والحماس ، وبث روح العزم والإرادة كما رأينا في القادة الحديديين أمثال « نابليون » الذي تولى شعبا أنهكته الثورة الطويلة كما أنهكت العرب ، وزاد هو فى انهاكه بالحروب

ص: 112


1- شرح لامية العجم 2 / 27 وقد خبط الصفدي خبط عشواء ، فان الامام متى باع الخلافة على خصمه بوفاء دينه؟ نعوذ باللّه من هذا الافتراء.
2- العرب ص 78.

المتتالية المستمرة التي اخذ بها أوربا ، ولكن القائد غمرته موجة السأم التي غمرت الناس » (1).

4 - المستشرق « روايت م رونلدس » :

قال هذا المستشرق : « فان الأخبار تدل على أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية والقابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح » (2).

5 - لامنس :

اشارة

قال هذا الإنگليزي المتهوس الأثيم الذي لم يفهم من التاريخ الإسلامى شيئا : « وبويع للحسن بعد مقتل علي فحاول أنصاره أن يقنعوه بالعودة الى قتال أهل الشام ، وقلب هذا الإلحاح من جانبهم حفيظة الحسن القعيد الهمة ، فلم يعد يفكر إلا في التفاهم مع معاوية ، كما أدى إلى وقوع الفرقة بينه وبين أهل العراق ، وانتهى بهم الأمر إلى اثخان امامهم اسما لا فعلا بالجراح فتملكت الحسن منذ ذلك الوقت فكرة واحدة هي الوصول الى اتفاق مع الأمويين ، وترك له معاوية أن يحدد ما يطلبه جزاء تنازله عن الخلافة ، ولم يكتف الحسن بالمليوني درهم التي طلبها معاشا لأخيه الحسين بل طلب لنفسه خمسة ملايين درهما أخرى ، ودخل كورة فى فارس طيلة حياته وعارض أهل العراق بعد ذلك في تنفيذ الفقرة الأخيرة من هذا الاتفاق ، بيد انه اجيب إلى كل ما سأله حتى ان حفيد النبي اجترأ فجاهر بالندم على أنه لم

ص: 113


1- الحلقة الثانية من حياة الحسين ص 283.
2- عقيدة الشيعة تعريب ع م ص. وهذا المستشرق من الحاقدين على الإسلام ، وقد شحن كتابه بالكذب والطعن على الإسلام والحط من قيمة أعلامه النابهين وقد تعرض الاستاذ السيد عبد الهادي المختار في مجلة البيان الزاهرة في عددها الخاص بسيد الشهداء من السنة الثانية عدد2. 39 إلى تزيفه وعرض أكاذيبه.

يضاعف طلبه وترك العراق مشيعا بسخط الناس عليه ليقبع في المدينة » (1)

وهؤلاء الناقدون لصلح الامام كان بعضهم مدفوعا بدافع الحقد والعداء للإسلام ، وبعضهم لم يكن رأيه خاضعا لحرية الفكر ولم يحتضن

ص: 114


1- دائرة المعارف الاسلامية ج 7 ص 400 وهذه الدائرة لم تكن إلا دائرة كذب وافتراءات فقد حفلت بالطعن على الاسلام والسب لأعلامه خصوصا في بحوث ( لامنس ) عن الشيعة وعن أئمتهم فانها مليئة بالبهتان والتهريج عليهم ، والسبب في ذلك ان لجان التبشير المسيحي هي التي تدفع أمثال هذه الأقلام المأجورة لتشويه الاسلام والكيد له ، مضافا الى أن بحوث المستشرقين تعتمد على دراسة سطحية خالية عن التحقيق والتدقيق ، ومن الجدير بالذكر أن بعض المستشرقين زار ( طهران ) عاصمة إيران بعد أن تعلم اللغة الفارسية في مدارس الألسنة الشرقية وقد حاول أن يضع تأريخا عن حالة إيران الاجتماعية والأخلاقية كما يشاهدها فرأى حمالين وعلى رءوسهم أوانيا وأسبابا فاخرة ، وأمامهم الدفوف والمزامير فسأل عن ذلك فقال له بعض الحاضرين إنهم يحملون جهاز عروس ، ثم سأل عن اسم الزوج فقال له بعض الحاضرين ( ما ذا يهمك؟ ) ، وفي المساء رأى هذا المستشرق رجلا يضرب امرأة في الشارع فسأل بعض الحاضرين عن القصة فأخبره أن الضارب زوجها وقد تركته بغير حق ، ثم سأل عن أسم الزوج فقال له ( ما ذا يهمك؟ ) فظن المستشرق ان اسم الرجل ما ذا يهمك ، وإنه العريس الذي رأى جهازه صباحا ، فكتب هذا المستشرق في كتابه تاريخ ايران انه رأى في عاصمتها عريسا يقترن صباحا ويضرب عروسه في الشارع مساء وان اسمه ما ذا يهمك ، هذا حال المستشرقين في الأمور الظاهرة البديهية فكيف حالهم في النظريات الدقيقة الغامضة هذا إذا لم يعتمدوا على التحريف فكيف إذا اعتمدوا عليه ومن المؤسف ان شبابنا قد عكف على دراسة مؤلفاتهم والاعتماد عليها في اطروحاتهم مع انها لا نصيب لها من الصحة والواقع.

قولهم الدليل فى جميع أحواله ، وذلك لعدم وقوفهم على العوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته إلى مسالمة خصمه ، ويجب على الكاتب الذي يريد أن يمثل للمجتمع صورة عن شخصية مهمة لها من الخطورة شأن كبير أن يحيط بأطرافها من جميع النواحي ليكون رأيه قريبا الى الصواب وبعيدا عن الخطأ وبما أنا وقفنا بعض الوقوف أو أقله على بعض العلل والعوامل التي دعت الامام لمسالمة عدوه ، وهي تتلخص في أمور استنبطنا بعضها من الابحاث السالفة والبعض الآخر استنتجناه من دراسة نفسية معاوية وملاحظة أعماله ، ومن الوقوف على أضواء سيرة الامام الرفيعة ، ومعرفة سياسة أهل البيت (عليهم السلام) التي لا تتذرع بالوسائل التي شجبها الاسلام في سبيل الوصول الى الحكم وقبل أن نعرض أسباب الصلح نود أن نبين انا قد نعيد نماذج بعض المواضيع السالفة لأجل الاستدلال على ما نذهب إليه فان في الاعادة ضرورة ملزمة يقتضيها البحث ، فان تفصيل هذا الموضوع والاحاطة به أهم من غيره ، ولعل نظر القراء إليه وهي كما يلي :

1 - تفلل الجيش :
اشارة

إن أعظم ما تواجهه الدولة فى جميع مجالاتها مسبب - على الأكثر - من خبث الجند ، وشدة خلافه ، وعصيانه لقيادته العامة ، وقد مني الجيش العراقي آنذاك بالتمرد والانحلال بما لم يبتل به جيش معاوية فانه ظل محتفضا بالولاء لحكومته ولم يصب بمثل هذه الرجات والانتكاسات ، أما العلل التي أدت الى اضطراب الجيش العراقي وانشقاقه فهي :

أ - تضارب الحزبية فيه :

إن الأحزاب إذا تضاربت في الجيش وكانت مدفوعة بالحقد للحكم

ص: 115

القائم ، أو كان لها اتصال بدولة أجنبية تعمل بوحي منها ، وتستمد منها التوجيهات للإطاحة به ، فان الدولة لا تلبث أن تلاقي النهاية المحتومة إن عاجلا أو آجلا ، وقد ابتلي الجيش العراقي في ذلك الوقت بحزبين ليس فيهما صديق للدولة الهاشمية ولا محافظ عليها ، وإنما كانا يبذلان المساعي والجهود للقضاء عليها ، وهما :

الحزب الاموي :

وهؤلاء هم أبناء الأسر البارزة وذوو البيوتات الشريفة الذين لا يهمهم غير الزعامة الدنيوية ، والظفر بالمال والسلطان وهم كعمر بن سعد ، وقيس ابن الأشعث ، وعمرو بن حريث ، وحجار بن أبجر ، وعمرو بن الحجاج ، وأمثالهم من الذين لا صلة لهم بالفضيلة والكرامة ، وكانوا أهم عنصر مخيف فى الجيش ، فقد وعدوا معاوية باغتيال الامام أو بتسليمه له أسيرا كما قاموا بدورهم باعمال بالغة الخطورة وهي :

1 - إنهم سجلوا كل ظاهرة أو بادرة فى الجيش فارسلوها الى معاوية للاطلاع عليها.

2 - كانوا همزة وصل بين معاوية وبقية الوجوه.

3 - قاموا بنشر الأراجيف والارهاب فى نفوس الجيش بقوة معاوية وضعف الحسن.

وأدت هذه الأعمال الى انهيار الجيش ، وزعزعة كيانه ، وضعف معنوياته في جميع المجالات.

ص: 116

الحزب الحروري :

وهذا الحزب قد أخذ على نفسه الخروج على النظام القائم ، ومحاربته بجميع الوسائل ، وقد انتشرت مبادئه في الجيش العراقي انتشارا هائلا لأن المبشرين بأفكارهم كانوا يحسنون غزو القلوب والأفكار ويجيدون الدعاية وقد وصف زياد بن أبيه مدى قابلياتهم بقوله : « لكلام هؤلاء أسرع الى القلوب من النار الى اليراع » (1) ووصف المغيرة بن شعبة شدة تأثر يهم في النفوس بقوله : « إنهم لم يقيموا ببلد إلا أفسدوا كل من خالطهم » (2) وقد استولوا على عقول السذج والبسطاء من الجيش بشعارهم الذي هتفوا به « لا حكم إلا لله » ولم يقصد بذلك إلا حكم السيف كما يقول فان فلوتن (3)

لقد قضت خطط الخوارج الملتوية بوجوب الخروج على ولي أمر المسلمين إذا لم ينتم إليهم وهو عندهم جهاد ديني تجب التضحية في سبيله وقد قاموا بأعنف الثورات ضد الولاة حتى عسر عليهم مقاومتهم. وكان الخوارج يحملون حقدا بالغا في نفوسهم على الحكومة الهاشمية لأنها قد وترتهم بأعلامهم ، وقضت على الكثيرين منهم فى واقعة النهروان ، وقد فتكوا بالإمام أمير المؤمنين وتركوه صريعا في محرابه انتقاما منه بما فعله فيهم ، كما اغتالوا الإمام الحسن (عليه السلام) وطعنوه في فخذه ، وحكموا بتكفيره ، وكانت كمية هذه العصابة كثيرة للغاية فقد نصت بعض المصادر أن أكثرية الجيش

ص: 117


1- اليراع : القصب.
2- الطبري 6 / 109.
3- السيادة العربية ص 69.

كانت من الخوارج (1).

وهذان الحزبان السائدان في العراق قد بذلا جميع الطاقات لإفساد الجيش ، وبذر الخلاف والانشقاق في جميع وحداته حتى ارتطم في الفتن والأهواء ، ويضاف لذلك أن هناك مجموعة كبيرة منه كان موقفها موقفا سلبيا في قضية الإمام الحسن (عليه السلام) لأنها لا تفقه الأهداف الأصيلة التي ينشدها الامام ، ولضيق تفكيرها ترى أن الامام كل من ارتقى دست الحكم من أي طريق كان فالحسن ومعاويه سيان ، وإن حارب الحسن معاوية على الدين ، وحارب معاوية الحسن على الدنيا.

ولم يعد بعد ذلك من يناصر الحكومة الهاشمية ، ويقف الى جانبها سوى الفئة الشيعية التي ترى رأي العلويين في أحقيتهم بالخلافة وهم أمثال الزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وعدي بن حاتم الطائي ، وحجر ابن عدي ، ورشيد الهجري ، وحبيب بن مظاهر ، وأضرابهم من تلامذة أمير المؤمنين (عليه السلام) وهم الأقلية عددا كما قال اللّه تعالى « وقليل ما هم » وليس باستطاعتهم أن ينتشلوا الحكومة من الأخطار الحافة بها فانهم لو كانوا كثرة في الجيش لما اضطر الامام أمير المؤمنين على قبول التحكيم ولما التجأ الامام الحسن الى الصلح. ب - السأم من الحرب :

ان من طبيعة الكوفة التي جبلت عليها نفوس أهلها السأم والملل « ولا رأي لملول » ومضافا لهذه الظاهرة النفسية التي عرفوا بها أن هناك سببين أوجبا زيادته ومضاعفته وهما :

ص: 118


1- أعيان الشيعة 4 / 42.

1 - الحروب المتتالية :

ومما سبب شيوع الملل والسأم فى نفوس الجيش العراقي الحروب المتتالية فان الدولة كانت تستعمله فى الفتوحات والدفاع عنها ، وزاد في ضعف أعصابه وانهياره حرب صفين والنهروان ، فقد طحنت الحرب فيها جمعا غفيرا منهم حتى أصبحوا يكرهون الحرب ويؤثرون السلم ويحبون العافية.

2 - اليأس من الغنائم :

ولم يربح الجيش العراقي في حرب الجمل وصفين والنهروان شيئا من العتاد والأموال ، لأن الامام أمير المؤمنين لم يعاملهم معاملة الكفار فيقسم غنائمهم على المسلمين ، وإنما أمر بارجاع جميع الأموال التي اغتنمها جيشه إلى أهلها بعد انتهاء حرب البصرة (1) وقد علم الجيش أن الامام الحسن (عليه السلام) لا يتحول عن سيرة أبيه ونهجه ، فلم يثقوا بالأموال والغنائم إن حاربوا معاوية فاعلنوا العصيان وأظهروا التمرد والسأم من الحرب.

إن كراهية الجيش العراقي للحرب وإيثاره للعافية لم يكن ناشئا في « مسكن » وإنما كان عقيب رفع المصاحف وواقعة النهروان فقد خلد بجميع كتائبه إلى السلم ، وقد ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا الكتاب صورا من الاعتداءات الغادرة التي قامت بها قوات معاوية على الحدود العراقية وغزوهم لمدن العراق ، وترويعهم للآمنين ، وقتلهم الأبرياء ، وهم متخاذلون متقاعسون عن ردها لا تحركهم العواطف الدينية ولا يهزهم الشعور الانساني لدفع الضيم والذل عنهم ، يأمرهم الامام أمير المؤمنين بالجهاد فلا يطيعونه ، ويدعوهم إلى مناصرته فلم يستجيبوا له ، وقد ترك ذلك أسى مريرا وشجى مقيما في نفسه ، وقد اندفع فى كثير من خطبه إلى انتقاصهم وذمهم يقول (عليه السلام) :

ص: 119


1- علي وبنوه ص 55.

« لقد سئمت عتابكم أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا ، وبالذل من العز خلفا ، إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ، ومن الذهول في سكرة ».

ويستمر في تقريعه ولومه لهم ، وإبداء تأثره على تخاذلهم ونكوصهم عن الحرب فيقول :

« وما أنتم بركن يمال بكم ، وأيم اللّه إني لأظن أن لو حمس الوغى ، واستحر الموت قد انفرجتم من ابن أبي طالب انفراج الرأس ... ».

ويصف (عليه السلام) فى خطاب آخر عدم اندفاعهم للجهاد في سبيل اللّه ، ومدى محنته وبلائه فيهم فيقول :

« ودعوتهم سرا وجهرا ، وعودا وبدء فمنهم الآتي كرها ، ومنهم المعتل كاذبا. ومنهم القاعد خاذلا ، واسأل اللّه أن يجعل منهم فرجا عاجلا واللّه لو لا طمعي عند لقائي عدوي في الشهادة لا حببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا ولا ألتقي بهم أبدا » (1).

ويقول (عليه السلام) في خطاب آخر له :

« المغرور واللّه من غررتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز واللّه بالسهم الأخيب ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل (2) أصبحت واللّه لا أصدق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو بكم ، ما بالكم! ما دواؤكم

ص: 120


1- النهج محمد عبده 3 / 67.
2- الأفوق من السهام : مكسور الفوق وهو موضع الوتر من السهم ، الناصل : العاري عن النصل أي : من رمى بهم فكأنما رمى بسهم لا يثبت في الوتر حتى يرمى ، وإن رمى به لم يصب مقتلا إذ لا نصل له.

ما طبكم ... » (1).

وقد احتوى « نهج البلاغة » على طائفة كبيرة من خطب الامام تدل على استيائه البالغ ، وحزنه العميق من تخاذل جيشه وعدم استجابتهم لنصرته حتى ملأوا قلبه غيظا وجرعوه نغب التهمام انفاسا - على حد تعبيره - وبقي سأمهم من الحرب وكراهيتهم للجهاد مستمرا طيلة أيام أمير المؤمنين. ولما آل الأمر إلى الحسن (عليه السلام) ظهر ذلك بأبشع الصور فانه لما عرض عليهم دعوة معاوية للصلح ارتفعت أصواتهم وهم يهتفون :

« البقية البقية ».

ودل ذلك على مدى جزعهم من الحرب ، وكراهيتهم للجهاد ، وانهم لم يكونوا بأي حال مع الإمام لو فتح باب الحرب مع معاوية.

ج - فقد القوى الواعية :

ومما سبب تفلل الجيش العراقي فقده للقوى الواعية من أعلام الإسلام الذين آمنوا بحق أهل البيت (عليهم السلام) وعرفوا فضلهم ، وكان الجيش بجميع كتائبه يكن لهم أعمق الولاء والتقدير لأنهم من خيار المسلمين ومن الذين أبلوا في الإسلام بلاء حسنا ، وكان لهم شأن كبير فى تنظيم الحركة العسكرية ، وفي توجيه الجيش في خدمة الأهداف الإسلامية ، وهم أمثال الصحابي العظيم عمار بن ياسر ، والقائد الملهم هاشم المرقال ، وثابت بن قيس ، وذو الشهادتين ونظائرهم من الذين سبقوا إلى الإسلام والإيمان ، وقد طحنتهم حرب صفين وقد أحصى رواة الأثر عدد البدرين منهم فكانوا ثلاثا وستين بدريا ، وهناك كوكبة أخرى من أبرار الصحابة وخيارهم قد استشهدوا فى تلك الحروب التي أثارها الطامعون والمنحرفون عن الإسلام ضد وصي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 121


1- نهج البلاغة محمد عبده 1 / 70.

وباب مدينة علمه ، وقد ترك فقدهم فراغا هائلا في الجيش العراقي فقد خسر الضروس والرءوس ، وبلي من بعدهم بالمنافقين والخوارج الذين كانوا سوسة تنخر فى كيانه ، ولو ضم جيش الإمام أمثال أولئك الأبرار لما التجأ إلى الصلح والموادعة مع خصمه.

د - الدعوة إلى الصلح :

ومما سبب ضعف العزائم ، وإخماد نار الثورة في نفوس الجيش دعوة معاوية إلى الصلح وحقن الدماء ، فقد كانت هذه الدعوى لذيذة مقبولة إلى حد بعيد ، فقد استطابها البسطاء والسذج ورحب بها عملاء معاوية وأذنابه من الذين ضمهم جيش الإمام ، ولم تكن الاكثرية الساحقة في الجيش تعلم بنوايا معاوية وما يبيته لهم من الشر فانخدعوا بدعوته إلى الصلح كما انخدعوا من قبل في رفع المصاحف ، مضافا لذلك خيانة زعمائهم ، والتحاقهم بمعسكر معاوية.

وعلى أي حال فقد رحبت أكثرية الجيش بالدعوة إلى الصلح وآثرت السلم على الحرب ، ولم يكن في استطاعة الامام أن يرغمهم على مناجزة معاوية ومقاومته.

ه - خيانة عبيد اللّه :

ويعتبر خذلان عبيد اللّه بن العباس من العوامل المهمة التي سببت تفكك الجيش وتخاذله ، فقد طعن بخيانته الجيش العراقي طعنة نجلاء ، وفتح باب الخيانة والغدر ، ومهد السبيل للالتحاق بمعاوية ، وقد وجد ذوو النفوس الضعيفة مجالا واسعا للغدر بخيانتهم للإمام ، فاتخذوا من غدر عبيد اللّه وسيلة لذلك فهو ابن عم الامام وأقرب الناس إليه ، وقديما قد قيل :

إذا فاتك الادنى الذي أنت حزبه *** فلا عجب إن أسلمتك الاباعد

ص: 122

وقد أولد غدر عبيد اللّه في نفس الامام حزنا بالغا وأسى مريرا ، فانه لم يرع « الدين ، ولا الوتر ، ولا العنعنات القبلية ، ولا الرحم الماسة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولا من قائده الاعلى ، ولا الميثاق الذي واثق اللّه عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس إلى بيعة الحسن في مسجد الكوفة ، ولا الخوف من حديث الناس ، ونقمة التاريخ ».

و - رشوات معاوية :

وبالأموال تشترى ذمم الرجال ، وتباع الأوطان ، وتخمد الافكار ، وتسيل لها لعاب الابطال ، وقد عمد معاوية إلى بذلها بسخاء إلى الوجوه والاشراف والزعماء فانه لم ير وسيلة للتغلب على الاحداث إلا بذلك ، فغدروا بالامام ، وتسللوا إليه في غلس الليل وفى وضح النهار غير حافلين بالعار والخزي وعذاب اللّه ، وقد أدت خيانتهم إلى اضطراب الجيش وتفلله ، وإعلانه للعصيان والتمرد.

إن الاكثرية الساحقة من الجيش لم يكن لها أي هدف نبيل. وإنما كانت تسعى نحو المنافع والاطماع ، وقد أدلى بعضهم بذلك في بعض المعارك فقال :

« من أعطانا الدراهم قاتلنا معه ».

وهجا بعض الشعراء شخصا قتل في تلك المعارك يقول لابنائه :

ولا فى سبيل اللّه لاقى حمامه

أبوكم ولكن في سبيل الدراهم (1)

إن الجيش إذا كان مدفوعا بالدوافع المادية فانه لا يخلص في دفاعه ، ولا يؤمن من انقلابه ، وخطره على حكومته أعظم من الخطر الخارجي.

لقد بلغ من فساد العراقيين وجشعهم فى الحصول على أموال معاوية

ص: 123


1- الطبري 2 / 19.

ان الإمام الحسن لما نزل بالمدائن للاستشفاء من جرحه في دار سعد بن مسعود الثقفي (1) وكان واليا على المدائن من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) وأقره الإمام الحسن عليها أقبل إليه ابن اخيه المختار - على ما قيل - وكان آنذاك غلاما فقال له :

« يا عم هل لك في الغنى والشرف؟ ».

« وما ذاك؟ ».

« توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية! ».

فانبرى إليه عمه وقد لسعه قوله قائلا :

« عليك لعنة اللّه أثب على ابن بنت رسول اللّه فاوثقه بئس الرجل أنت » (2).

ولم يكن المختار وحده - على تقدير صحة هذه الرواية - قد غمره هذا الشعور بالخيانة ، فقد غمر ذلك أكثرية الجيش الذي كان مع الإمام ، فقد تسابقوا إلى مطامع الدنيا ، وليس ذلك في زمان الحسن (عليه السلام) وانما كان في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) « إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه » (3) ان معاوية عرف نقطة الضعف في جيش

ص: 124


1- سعد بن مسعود الثقفي ذكره البخاري في الصحابة ، وقال الطبراني : له صحبة ، ولاه أمير المؤمنين (عليه السلام) على بعض أعماله. واستصحبه معه إلى صفين ، وروى عنه أنه قال : كان نوح إذا لبس ثوبا حمد اللّه ، وإذا أكل وشرب حمد اللّه ، فلذا سمي عبدا شكورا ، الاصابة 2 / 34.
2- الطبري ، والاصابة ، ونفى بعض المحققين صحة الخبر وجعله من الموضوعات ، ولا يبعد ذلك لأن المختار من خيرة الرجال في هديه وورعه وسائر نزعاته
3- خطط المقريزي 2 / 439.

الإمام فأغدف عليهم بالرشوات حتى استجابوا له وتركوا عترة نبيهم ووديعته في أمته.

ز - الاشاعات الكاذبة

ومما سبب انحلال الجيش الاشاعات الكاذبة التي أذاعها عملاء معاوية فى ( المدائن ) بأن قيس بن سعد قد قتل ، واشاعوا أخرى بأنه قد صالح معاوية ، وقد اعتقد الجيش بصحة هذه الأنباء فارتطم بالفتن والاختلاف وأعظم هذه الدعايات بلاء وأشدها فتكا هي ما بثّه الوفد الذي أرسله معاوية للإمام ، فانه لما خرج منه أخذ يفتري عليه بأنه قد أجابهم إلى الصلح ، وحينما سمعوا بذلك اندفعوا كالموج فنهبوا أمتعته ، واعتدوا عليه ، ولو كانت عند الزعماء والوجوه صبابة من الانسانية والكرامة لقاموا بحماية الامام ، ورد الغوغاء عنه حتى يتبين لهم الأمر ، ولكنهم أقاموا في ثكناتهم العسكرية ولم يقوموا بحمايته ونجدته.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن العوامل التي أدت إلى تفكك الجيش والقضاء على اصالته ، ومن البديهي ان القوى العسكرية قلب الدولة ومصدر حمايتها فاذا أصيبت بمثل هذه الزعازع والأخطار فهل يتمكن القائد الاعلى أن يحقق أهدافه أو يفتح باب الحرب مع القوى المعادية له؟!.

2 - قوة العدو :

العامل الثاني الذي دعى الامام إلى المصالحة والمسالمة هو ما يتمتع به خصمه من القوى العسكرية وغيرها التي لا طاقة للإمام على مناجزتها ، ولا قابلية له للوقوف أمامها ، حتى استطاع معاوية أن يناجز أمير المؤمنين من قبل ويرغم الامام الحسن على الصلح ، ونقدم عرضا لبعضها وهي :

ص: 125

أ - طاعة الجيش :

وغرس معاوية حبه في قلوب جيشه ، وهيمن على مشاعرهم وعواطفهم فقد عرف ميولهم واتجاههم فسايرها حتى أحبهم وأحبوه وصاروا طوع إرادته وقد اختمر في أذهانهم بسبب دعايته وتمويهه أنه الحجة من بعد الخلفاء ، وان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس له وارث شرعي غير بني أمية فقد نقل المؤرخون أن أبا العباس السفاح (1) لما فتح الشام أقبلت إليه طائفة من الزعماء والوجوه فحلفوا له أنهم ما علموا للرسول قرابة ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حنى تولى بنو العباس الخلافة ، وفى ذلك يقول ابراهيم بن المهاجر البجلي (2) :

أيها الناس اسمعوا أخبركم *** عجبا زاد على كل العجب

عجبا من عبد شمس إنهم *** فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثوا أحمد فيما زعموا *** دون عباس بن عبد المطلب

كذبوا واللّه ما نعلمه *** يحرز الميراث إلا من قرب (3)

ويعود السبب في ذلك إلى الروايات التي تعمد وضعها الرواة المستأجرون وأشاعوها في أوساط دمشق من أن معاوية هو وارث النبيّ وأقرب الناس

ص: 126


1- أبو العباس أول خلفاء بني العباس ولد سنة (108) بالحمية من ناحية البلقاء ، ونشأ بها ، وبويع له بالكوفة في 3 ربيع الاول سنة (132) وكان سريعا إلى سفك الدماء ، وسار على منواله عماله بالمشرق والمغرب ، توفى بالجدري سنة (136) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 100.
2- ابراهيم بن المهاجر البجلي : هو أبو اسحاق الكوفي روى عن جماعة من الثقات وروى عنه آخرون اختلف فى روايته فقيل إنه ثقة وقيل إنه ضعيف ، تهذيب التهذيب 1 / 167.
3- مروج الذهب 2 / 335.

إليه وقد أفاضوا عليه وعلى الشجرة الملعونة من اسرته النعوت الحسنة والاوصاف الشريفة حتى جعلوهم فى الرعيل الأول من المصلحين الاخيار وأصبحت طاعتهم فرضا من فروض الدين ، واعتقدوا فيه وفي بني أمية أكثر من ذلك يقول الاستاذ ( فان فلوتن ) : « وكان السواد الاعظم يرى في حزب بني أمية حزب الدين والنظام » وقال : « وكان معاوية فى نظر الحزب الاموي خليفة اللّه كما كان ابنه يزيد إمام المسلمين ، وعبد الملك إمام الاسلام وأمين اللّه » (1) وبلغ من ودهم وطاعتهم له أنه كان يسلك بهم جميع المسالك البعيدة التي تتنافى مع الدين حتى استطاع أن يحقق بهم جميع ما يصبو إليه ، ونظرا لمزيد طاعتهم له تمنى أمير المؤمنين أن يصارفه معاوية بأصحابه فيعطيه واحدا منهم ويأخذ عشرة من العراقيين الذين عرفوا بالشغب والتمرد.

ب - بساطة وسذاجة :

وأتاح الزمن الهزيل إلى معاوية أن يسيطر على جيش كان مثالا للسذاجة والبساطة فلم يعرف الاكثر منهم أي طرفيه أطول وقد احتفظ التأريخ بصور كثيرة من بلاهتهم تدل على مدى خمولهم وعدم نباهتهم ، فقد ذكر المؤرخون أن رجلا من أهل الكوفة قدم على بعير له إلى دمشق حال منصرفهم من صفين فتعلق به رجل من أهل دمشق قائلا له :

« هذه ناقتي أخذت مني بصفين ».

وحدث بينهما نزاع حاد فرفعا أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي بينة على دعواه تتألف من خمسين رجلا يشهدون انها ناقته فقضى معاوية على الكوفى وأمره بتسليم البعير إليه فورا ، فالتفت إليه العراقي متعجبا من هذا

ص: 127


1- السيادة العربية ص 70.

الحكم قائلا :

« أصلحك اللّه إنه جمل وليس بناقة! ».

« حكم قد مضى ».

ولما انفض الجمع أمر معاوية باحضار العراقي فلما مثل عنده سأله عن ثمن البعير فاخبره به فدفع إليه ضعفه وبرّ به وأحسن إليه ثم قال له :

« أبلغ عليا أني أقابله بمائة الف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل » (1).

ان خمسين رجلا منهم لا يفرقون بين الناقة والجمل ، وليس من شك أن الاكثرية الساحقة منهم لا يميزون بين الحق والباطل ولا يتدبرون الفرق بين المحسوسات همج رعاع لا تفكير لهم ولا تدبر ، وأدل دليل على غفلتهم قصة الصحابي العظيم عمار بن ياسر حينما نال الشهادة فوقع الاختلاف فيما بينهم لقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) « ان ابن سمية تقتله الفئة الباغية » ولما رأى ابن العاص الخلاف قد دب فيهم قال لهم إن الذي قتله من أخرجه فصدقوا قوله ورجعوا إلى طاعة معاوية ومن الطبيعي ان الدولة إذا ظفرت بمثل هذا الجند المطيع الغافل توصلت الى غاياتها وتحقيق أهدافها.

وأبقى معاوية أهل الشام على غفلتهم يتخبطون في دياجير الجهالة ويسرحون في ميادين الشقاء رازحين تحت نير الاستعباد الاموي قد وضع بينهم وبين الناس حجابا حديديا فلم يسمح للغير أن يتصل بهم ولم يسمح لهم بالاتصال بالغير لئلا تتبلور أفكارهم ويقفون على الحقيقة فيتبين لهم باطل معاوية وابتزازه للخلافة من أهلها.

ص: 128


1- مروج الذهب 2 / 332.

ج - اتفاق الكلمة :

ذكرنا فى بحوثنا السابقة ما منى به العراق من الاختلاف والتفكك بسبب الأحزاب التي كانت تعمل على زعزة كيان الدولة الهاشمية وتحطيم عروشها وعلى العكس من ذلك كانت الشام فانها بجميع طبقاتها لم تبتل بتلك الأحزاب ولم تصب بالافكار المعادية للحكم القائم فقد كان السلام والوئام والهدوء مخيما على دمشق وجميع ملحقاتها ولم يكن في الجيش ولا في المملكة وكر للخوارج ولا دعاة لهم ولا لغيرهم ممن يعملون على قلب الحكم ، وهذا الاتفاق الداخلي هو السبب في قوة معاوية واتساع نطاقه ونفوذه.

د - ضخامة القوى العسكرية :

وانفق معاوية جميع جهوده المعنوية والمادية فى إصلاح جيشه وتقويته فانه لما منيت الشام بخطر الروم بادر فعقد هدنة مؤقتة مع ملكها ودفع إليه أموالا خطيرة ولم يفتح معه باب الحرب لئلا تضعف أعصاب جيشه ومضافا إلى ذلك فانه لم يستعمله في الفتوح والحروب ، فلم يكن قد ولج به حربا غير صفين فكان محتفظا بنشاطه وقوته.

وبالإضافة لجيشه الذي كان مقيما معه في دمشق فانه لما عزم على حرب الإمام الحسن كتب إلى عماله وولاته في جميع الأقطار يطلب منهم النجدة والاستعداد الكامل لحرب ريحانة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفى فترات قصيرة التحقت به قوى هائلة ضخمة فضمها إلى جيوش أهل الشام ، وزحف إلى العراق بجيش جرار كامل العدد حسن الهيئة موفور القوة ، مطيع لأمره فرأى الإمام الحسن (عليه السلام) أنه لا يتمكن على مقابلته ولا يستطيع أن يحاربه بجيشه المتخاذل الذي تسوده الخيانة والغدر.

ص: 129

ه - حاشيته :

ومضافا إلى ما كان يتمتع به معاوية من القوى العسكرية فقد ظفر بقوة أخرى لها أثرها الفعال فى تقوية جبهته وتوجيهه وتدبير شؤنه وهي انضمام المحنكين والسياسيين إليه طمعا بماله ودنياه ، وهم كالمغيرة بن شعبة الذي قيل في حيلته ودهائه « لو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج منها إلا بالمكر والخداع لخرج المغيرة من أبوابها كلها. » وقيل فى عظيم مكره « كان المغيرة لا يقع في أمر إلا وجد له مخرجا ، ولا يلتبس عليه أمران إلا أظهر الرأي في أحدهما » ومن حاشيته عمرو بن العاص الذي كان قلعة من المكر والباطل ، وقد قيل في وصفه « ما رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص » وهو في طليعة من رفع علم الثورة على عثمان لأنه عزله عن منصبه ، وكان يثير عليه حفائظ النفوس ويحفز القريب والبعيد لمناجزته وقال فى ذلك : « واللّه لألقى الراعي فاحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء والوجوه » ولما بلغه مقتله قال : « أنا أبو عبد اللّه ما نكأت قرحة إلا أدميتها » وهو الذي خدع الجيش العراقي برفع المصاحف ، فتركه ممزق الأوصال ، مختلف الأهواء.

لقد جذب معاوية هؤلاء الدهاة الماكرين الذين يخلطون السم بالعسل ، ويلبسون الباطل لباس الحق ، ولم يتحرجوا من الاثم والمنكر في سبيل نزعاتهم الشريرة ، ولم يكن لهم هدف إلا القضاء على ذرية النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن يمت إليهم من صالحاء المسلمين ليتسنى لهم القضاء على الإسلام حتى يمعنوا في التحلل حيثما شاءوا ، وقد وقف الإمام الحسن (عليه السلام) معهم في صلحه أحزم موقف يتخذه المفكرون فقد حفظ ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحقن دماء المؤمنين من شيعته لأن التضحية في ذلك الوقت لا يمكن بأي حال من الأحوال

ص: 130

أن تعود بالصالح العام للمسلمين لأنهم يضفون عليها أصباغا من التمويه والتظليل ما تفقد به معنويتها وأصالتها.

و - ضخامة الأموال :

ويسر لمعاوية من الثراء العريض الذي مهدته له بلاد الشام طيلة ملكه لها فانه لم ينفقها فى صالح المسلمين وانما شرى بها الضمائر والاديان ، ليمهد بذلك الطريق الموصل لفوزه بالإمرة والسلطان والتحكم في رقاب المسلمين. لقد وجه معاوية الجباة السود إلى أخذ الضرائب من الشعوب الإسلامية التي احتلها ، وقد عمدوا إلى أخذ أموال المسلمين بغير حق ، حتى بالغوا في إرهاقهم وإرغامهم على أدائها ، كما فرض عليهم من الضرائب ما لا يقره الإسلام كهدايا النيروز وغيرها ، وقد امتلأت خزائنه بها فأنفقها بسخاء على حرب ريحانة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتغلب عليه ، وقد رأى السبط بعد هذه القوى التي ظفر بها ابن هند أنه لا يمكن مناجزته ، ولا الانتصار عليه ، وان الموقف يقضي بالصلح والمسالمة لا بالحرب والمناجزة فانها تجر للأمة من المضاعفات السيئة ما لا يعلم خطورتها إلا اللّه.

3 - اغتيال أمير المؤمنين :

ومن العوامل التي دعت الإمام الى الصلح ما روع به من اغتيال أبيه ، فقد ترك ذلك حزنا مقيما وأسى شديدا في نفسه لأنه قد قتل على غير مال احتجبه ولا سنة في الإسلام غيرها ، ولا حق اختص به دونهم ، وكان يحيى بينهم حياة الفقراء والضعفاء ، ويتطلب لهم حياة حافلة بالنعم والخيرات ، ويسعى جادا فى اقامة العدل ، واماتة الجور ، ونصرة المظلومين واعالة الضعفاء والمحرومين ، فعمدوا على اغتياله وتركوه صريعا في محرابه

ص: 131

لم يحافظوا حرمته ، ولا حرمة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيه وقد رأى الإمام الحسن (عليه السلام) بعد ارتكابهم لهذه الجريمة النكراء أنه لا يمكن إصلاحهم ، وإرجاعهم الى طريق الحق والصواب ، فتنكر منهم ، وزهد في ولايتهم ، وقد أدلى (عليه السلام) بذلك بقوله :

« وقد زهدني فيكم اغتيالكم أبي ».

حقا أن يكون اغتيال الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) رائد العدالة الاجتماعية الكبرى من الأسباب الوثيقة التي زهدت الامام الحسن في ذلك الشعب الجاهل الذي غمرته الفتن والأطماع ، وانحرف عن الطريق القويم.

4 - حقن الدماء :

ومن دواع الصلح رغبة الإمام الملحة في حقن دماء المسلمين ، وعدم اراقتها ، ولو فتح باب الحرب مع معاوية لضحى بشيعته وأهل بيته ، ويجتث بذلك الإسلام من أصله ، وقد صرح (عليه السلام) بذلك في جوابه عن دوافع صلحه فقال :

« إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعي ... »

وأجاب (عليه السلام) بعض الناقمين عليه من شيعته فى الصلح فقال : « ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل » (1). وأعرب في خطابه الذي ألقاه في المدائن عن مدى اهتمامه في دماء المسلمين فقد جاء فيه.

« أيها الناس. إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة ، وحقن دمائها. » (2)

ص: 132


1- الدينوري ص 303.
2- أعيان الشيعة 4 / 42.

ومن حيطته ورعايته لذلك أنه أوصى أخاه الحسين حينما وافاه الأجل المحتوم أن لا يهرق في أمره ملء محجمة دما. »

إن أحب شيء للإمام (عليه السلام) الحفاظ على دماء المسلمين ، ونشر الأمن والوئام فيما بينهم ، وقد بذل في سبيل ذلك جميع جهوده ومساعيه.

5 - منة معاوية :

لقد علم الإمام (عليه السلام) أنه إن حارب معاوية فان اجلاف العراقيين وأوباشهم سوف يسلمونه أسيرا الى معاوية وأغلب الظن انه لا يقتله بل يخلي عنه ويسجل له بذلك مكرمة وفضيلة ويسدي يدا بيضاء على عموم الهاشميين ويغسل عنه العار الذي لحقه من أنه طليق وابن طليق ، وقد صرح الحسن (عليه السلام) بهذه الخاطرة قائلا :

« واللّه لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، واللّه لئن أسالمه وأنا عزيز ، أحب إليّ من أن يقتلنى وأنا أسير أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها هو وعقبه على الحي منّا والميت. »

وهذا السبب له مكانته من التقدير فان الإمام أراد أن لا يسجل لخصمه أي فضيلة ومكرمة.

6 - حوادث المدائن :

ومن جملة الأسباب التي دعت الامام الى الصلح هي الحوادث القاسية التي لاقاها في المدائن ، وقد ذكرناها مشفوعة بالتفصيل وخلاصتها.

أ - خيانة الزعماء والوجوه واتصالهم بمعاوية.

ص: 133

ب - الحكم عليه بالتكفير من قبل الخوارج.

ج - اغتياله.

د - نهب أمتعته.

هذه بعض العوامل التي أدت الامام الى السلم ، وفيما نعلم انها تلزم بالصلح وعدم فتح أبواب الحرب.

7 - الحديث النبوي :

نظر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الى الحوادث الآتية من بعده فرآها بعينها وحقيقتها لا بصورها وأشكالها ، رأى أمّته ستخيم عليها الكوارث ، وتنصب عليها الفتن والخطوب ، حتى تشرف على الهلاك والدمار ، وإن إنقاذها مما هي فيه من الواقع المرير سيكون على يد سبطه الأكبر ، وريحانته من الدنيا الامام الحسن (عليه السلام) فأرسل كلمته الخالدة قائلا :

« إن ابني هذا سيد ولعل اللّه أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين » (1).

وانطبع هذا الحديث في أعماق الامام الحسن وفي دخائل ذاته منذ نعومة أظفاره ، وتمثل أمامه في ذلك الموقف الرهيب ، « وإنه ليطمئن الى قول جده كما يطمئن الى محكم التنزيل وها هو ذا جده العظيم يقول له : وكأن صوته الشريف يرن بعذوبته المحببة في أذنه ، ويقول لأمّه الطاهرة البتول ، ويقول على منبره ، ويقول بين أصحابه ، ويقول ما لا يحصى كثرة : إن ابني هذا سيد وسيصلح اللّه به بين فئتين من المسلمين ».

وزادت هذه الذكرى تفاعلا شديدا في نفسه فقد رأى ما عناه

ص: 134


1- تقدمت مصادر الحديث في الجزء الأول من هذا الكتاب ص 81.

جده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ( المدائن ) رأى طائفتين :

( إحداهما ) شيعته وهم من خيار المسلمين ، وصالحائهم من الذين وقفوا على أهداف الاسلام ، وعرفوا حقيقته وواقعه.

( الثانية ) اتباع معاوية من السذج والبسطاء والمنحرفين عن الاسلام ، وهؤلاء وإن كانوا بغاة قد خرجوا على إمام زمانهم ولكنهم يدعون الاسلام وهاتان الطائفتان إن دارت رحى الحرب فانها ستطحن الكثير منهم وبذلك يتضعضع كيان الاسلام وتنهار قواه ، ومن يصد عن المسلمين العدو الرابض الذي يراقب الأحداث ليثب عليهم ، ومن هو يا ترى حريص على رعاية الاسلام والحفاظ على المسلمين غير سبط النبي ووارثه ، فاثر الصلح على ما فيه من قذى في العين ، وشجى في الحلق ، ويذهب شمس الدين الصقلي ( المتوفى سنة 565 ه ) الى أن الباعث لخلع الحسن نفسه عن الخلافة حديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك (1).

وزعم الرواة ان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يحدث أصحابه عن عمر الخلافة الاسلامية فقال لهم : « إن الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا. » ولاحظوا أن في مصالحة الحسن لمعاوية قد كملت الثلاثون سنة حسب ما يقولون (2).

ص: 135


1- أنباء نجباء الأبناء ص 56.
2- البداية والنهاية 8 / 41 ، وعندي أن هذا الحديث من الموضوعات لأن الخلافة قد صارت ملكا عضوضا في أيام عثمان فهو الذي حولها عن مفاهيمها الخلاقة وآثر الأمويين في الحكم والأموال وأتاح لهم من القوى ما هيأهم لمنازعة أمير المؤمنين ، وقد تحدث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عما يئول إليه الأمر من بعده فقال : « إن أول دينكم بدء نبوة ورحمة ، ثم يكون ملكا وجبرية » رواه السيوطي في تأريخ الخلفاء ص 6، وقد تحقق قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فان الدين أول بدئه كان نبوة ورحمة ، ثم تحول في زمان الأمويين الى ملك وطغيان وجبرية.

نظر الحسن (عليه السلام) الى قول جده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فعلم أن الأمر لا بد أن ينتقل الى معاوية ، ومضافا لذلك فقد أخبره أبوه بذلك كما حدث عنه فقال :

« قال لي أبي ذات يوم : كيف بك يا حسن إذا ولي هذا الأمر بنو أميّة؟ وأميرها الرحب البلعوم ، الواسع الاعفجاج ، يأكل ولا يشبع ، فيستولي على غربها وشرقها ، تدين له العباد ، ويطول ملكه ، ويسن البدع والضلال ، ويميت الحق وسنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، يقسم المال في أهل ولايته ، ويمنعه عمن هو أحق به ، ويذل في ملكه المؤمن ، ويقوى في سلطانه الفاسق ، ويجعل المال بين أنصاره دولا ، ويتخذ عباد اللّه خولا ، ويدرس في سلطانه الحق ، ويظهر الباطل ، ويقتل من ناوأه على الحق .. » (1)

إن النبي والوصي قد استشفا من حجاب الغيب ما تمنى به الأمّة الاسلامية من المحن والبلاء بسبب تخاذلها عن مناصرة الحق ومناجزة الباطل وانها من جراء ذلك سيتولى أمرها الأدعياء من الطلقاء وأبنائهم فيسومونها سوء العذاب ، ويستأثرون بمال اللّه ، ويتخذون المسلمين عبيدا لهم وخولا.

وكان معاوية يعلم بمصير الأمر إليه في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد صنع فذلكة استعلم بها منه عما يؤول إليه أمره ، فبعث جماعة من أصحابه الى الكوفة ليشيعون أن معاوية قد مات ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين ، وتكرر حديث الناس حول هذه الاشاعة فقال (عليه السلام).

« قد أكثرتم من نعي معاوية ، واللّه ما مات ، ولا يموتن حتى يملك

ص: 136


1- البحار

ما تحت قدمي. » (1)

ولما بلغه ذلك اعتقد به لعلمه أن الامام هو باب مدينة علم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومستودع سره ، وان قوله لا يتخلف عن الواقع ولا يخطئ الحق.

ومهما يكن الأمر فان الامام الحسن (عليه السلام) بصلحه مع معاوية قد لقبه المسلمون بالمصلح العظيم ، وقد أفاض عليه هذا اللقب جده الرسول من قبل.

8 - العصمة :

وذكرت طائفة من العلماء الأعلام صلح الامام علیه السلام فعللته بالعصمة وان الامام المعصوم لا يرتكب الخطأ ولا يفعل إلا ما فيه الخير والصلاح لجميع الأمّة ولعل الوجوه التي ذكرناها قد كشفت عن مناط هذا القول وأوضحت حسنه وذلك للأسباب والعوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته الى الصلح ، ونشير الى بعض الذاهبين الى هذا القول وهم :

1 - الشريف المرتضى :

قال الشريف المرتضى علم الهدى (2) رحمه اللّه : « إنه ( يعني الحسن )

ص: 137


1- مروج الذهب 2 / 295.
2- الشريف المرتضى : هو علي بن الحسين ينتهي نسبه الوضاح الى امام المسلمين موسى بن جعفر علیه السلام ، كانت له نقابة الطالبيين لقب بالمرتضى وعلم الهدى كانت ولادته في سنة ( 355 هج ) ووفاته في سنة (436) ، وكان أكبر من أخيه الشريف الرضي. قال أبو جعفر الطوسي : قد توحّد المرتضى في علوم كثيرة وكان مجمعا على فضله ومقدما في العلوم كعلم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب وغير ذلك وله ديوان شعر يزيد على عشرة آلاف بيت وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون جاء ذلك في معجم الأدباء 13 / 146.

قد ثبت انه المعصوم المؤيد بالحجج الظاهرة ، والأدلة القاهرة ، فلا بد من التسليم لجميع أفعاله وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل أو كان له ظاهر نفرت منه النفوس » (1).

2 - السيد ابن طاوس :

وعلل نابغة الإسلام السيد الجليل ابن طاوس طيب اللّه مثواه (2) في وصيته لولده صلح الإمام بالعصمة وببعض الأسباب التي ذكرناها قال رحمه اللّه يخاطب ولده :

« وليس بغريب من قوم عابوا جدك الحسن على صلح معاوية وهو كان بأمر جده وقد صالح جده الكفار وكان عذره في ذلك أوضح

ص: 138


1- تنزيه الأنبياء ص 69.
2- السيد ابن طاوس : هو السيد الجليل الكامل العابد المجاهد رضي الدين أبو القاسم على بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني الحسيني ، لقب بالطاوس من جهة حسن وجهه وخشونة رجليه ، وكان من سكنة الحلة ، وهو من السادة المعظمين ، ومن النقباء وله مؤلفات كثيرة ، وقد ذكر جميع مناقبه وعلومه الحجة الثبت السيد محمد باقر الخونساري في مؤلفه روضات الجنات 3 / 43 - 47 وجاء في الكنى والألقاب 1 / 328 ان السيد تولى نقابة الطالبيين وكان يجلس فى قبة خضراء والناس تقصده وقد لبسوا لباس الخضرة بدل السواد وذلك عقيب وقعة بغداد ، وفي ذلك يقول علي بن حمزة : فهذا علي نجل موسى بن جعفر *** شبيه علي نجل موسى بن جعفر فذاك بدست للامامة أخضر *** وهذا بدست للنقابة أخضر يشير بذلك الى الامام الرضا (عليه السلام) لما ولى العهد فقد لبس لباس الخضرة توفى السيد ابن طاوس يوم الاثنين خامس ذي العقدة سنة ( 664 هج ).

الأعذار فلما قام أخوه الحسين بنصرهم وإجابة سؤالهم وترك المصالحة ليزيد المارق كانوا بين قاتل وخاذل حتى ما عرفنا أنهم غضبوا في أيام يزيد لذلك القتل الشنيع ولا خرجوا عليه ولا عزلوه عن ولايته وغضبوا لعبد اللّه ابن الزبير وساعدوه على ضلالته وافتضحوا بهذه المناقصة الهائلة وظهر سوء اختيارهم النازلة فهل يستبعد من هؤلاء ضلال عن الصراط المستقيم؟ وقد بلغوا الى هذا الحال السقيم العظيم الذميم » (1).

وعلل السيد رحمه اللّه صلح الامام ( أولا ) بالعصمة من الخطأ وقاس صلحه بصلح جده الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع المشركين في قصة الحديبية فكما ان صلح الرسول لا يتطرقه الشك ولا يأتيه النقد نظرا لوجود المصلحة فيه فكذلك صلح الإمام مع خصمه فانه محفوف بالمصلحة العامة لعموم المسلمين و ( ثانيا ) ببلاء الإمام ومحنته بذلك المجتمع الضال الذي لم يقم وزنا للفضيلة ولم يفقه من القيم الروحية شيئا فانه هو الذي اضطر الإمام الى الصلح والمسالمة. وأقام السيد الدليل على تفسخ أخلاق ذلك المجتمع وتماديه في الشر وذلك بمتابعته ليزيد شارب الخمور ، ومعلن الفسق والفجور ، ومناصرته والاشتراك معه في أفظع فظع جريمة سجلها التأريخ وهي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين علیه السلام ولم يظهر أحد منهم الأسف والحزن على هذه الجريمة ، وما ثاروا عليه ، ولا عزلوه عن منصبه. وقد ذكرنا في الابحاث السالفة الأسباب التي أوجبت هذا الانحطاط الهائل في جموع أهل العراق.

9 - ابراز الواقع الاموي :
اشارة

كان معاوية قبل أن يستولي على زمام الحكم ملتزما بتعاليم الإسلام

ص: 139


1- كشف المحجة لثمرة المهجة يحتوي على وصايا رفيعة لولده ص 46.

ظاهرا ، ويظهر الاهتمام بشئون المسلمين ، ولكن كان ذلك - من دون شك - رياء منه ومكيدة من باب المشي رويدا لأخذ الصيد ، كان يبطن الكفر والنفاق ويضمر السوء والعداء للمسلمين فأراد الإمام الحسن (عليه السلام) بصلحه أن يبرز حقيقته ، ويظهر للناس عاره وعياره ، ويعرفه للذين خدعهم بمظاهره من أنه أعدى عدو للإسلام ، فأخلى له الميدان ، وسلم له الأمر ، فاذا بكسرى العرب - كما يقولون - تتفجر سياسته الجهنمية بكل ما خالف كتاب اللّه ، وسنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإذا به يعمد الى فصم عرى الإسلام وإلى نسف طاقاته ، وإلى الإجهاز على القوى الواعية فيه ، فيصب عليها وابلا من العذاب الأليم ، فيعدم وينكّل بمن شاء منها ، ويرغم المسلمين على البراءة من عترة نبيهم ، واعلان سبهم وانتقاصهم على الأعواد والمنابر وبذلك ظهرت خفايا نفسه ، وفهم المسلمون جميعا حقيقة هذا الطاغية وما يبغيه من الغوائل لهم ، ولو لم تكن للصلح من فائدة إلا إظهار ذلك لكفى بها كما نصّ على ذلك الامام كاشف الغطاء رحمه اللّه في مقدمته لهذا الكتاب (1).

إن معاوية بعد أن آل إليه الأمر حمل معول الهدم على جميع الأسس الاسلامية محاولا بذلك اطفاء نور الاسلام ، ولف لوائه ، ومحو أثره ، وقلع جذوره ، واعادة الحياة الجاهلية الأولى ، وقبل أن نعرض بعض موبقاته ومردياته التي سود بها وجه التأريخ نذكر ما أثر عن أبويه من الحقد والعداء للإسلام. وما ورد من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الأخبار فى انتقاصه وذمه لنرى هل كان خليقا بأن تسند إليه الامارة ويفرض حاكما على المسلمين ويخلى بينه وبين الحكم يتصرف فيه كيفما يشاء من دون أن يحاسب أو يراقب وإلى القراء ذلك.

ص: 140


1- ص 18 - 19.
أبو سفيان وهند :

وأبو سفيان من ألدّ أعداء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو الذي قاد الأحزاب ، وظاهر اليهود ، وناصر جميع القوى المعادية للإسلام ، وتضاعف حقده على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما وتره بأسرته وبسبعين رجلا من صناديد قريش ممن كانوا تحت لواء الشرك في غزوة بدر الكبرى ، فأترعت نفسه الأثيمة بالحزن عليهم ، وظل يناجز الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويؤلب عليه الأحقاد ، ولكن اللّه رد كيده ، فنصر رسوله ، وأعز دينه ، وأذل أبا سفيان وحزبه ، فقد فتح النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة ودخل ظافرا منتصرا فحطم الأصنام ، وكسر الأوثان ودخل أبو سفيان - على كره منه - في الاسلام ذليلا مقهورا يلاحقه العار والخزي ، وظل بعد إسلامه محتفضا بجاهليته لم يغير الاسلام شيئا من طباعه وأخلاقه ، وكان بيته وكرا للخيانة وكان هو كهفا للمنافقين (1).

ولما فجع المسلمون بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتقمص أبو بكر الخلافة أقبل أبو سفيان يشتد إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يطلب منه الثورة ومناجزة أبي بكر لارجاع الخلافة إليه ، ولم يكن ذلك منه إيمانا بحق أمير المؤمنين ، ولكن ليجد بذلك منفذا يسلك فيه للتخريب والهدم ، ولم يخف على الامام نواياه الشريرة فأعرض عنه وزجره ، وظل أبو سفيان بعد ذلك قابعا في زوايا الخمول ينظر إليه المسلمون نظرة ريبة وشك في اسلامه ، ولما آل الأمر الى عثمان وقرّب بني أمية ، وفوض إليهم أمور المسلمين ، ظهر أبو سفيان وعلا نجمه ، وراح يظهر الأحقاد ، والعداء الى النبي ، فوقف يوما قبال مرقد سيد الشهداء حمزة (عليه السلام) فألقى ببصره المتغور على القبر ثم حرّك شفتيه قائلا :

ص: 141


1- الاستيعاب

« يا أبا عمارة! .. إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس في يد غلماننا يلعبون به. »

ثم ركل القبر الشريف برجله ، ومضى مثلوج الصدر ، ناعم البال ، قرير العين ، كل ذلك بمرأى ومسمع من عثمان فلم يوجّه له عتابا ولم ينزل به عقابا ( فإنا لله وإنا إليه راجعون ).

هذا واقع أبي سفيان في كفره وحقده على الإسلام ، وأما زوجته هند فانها لا تقل ضراوة عن زوجها وكانت أحقد منه على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكانت تحرض المشركين على قتاله ومناجزته ، ولما انتهت واقعة بدر بقتل أهلها ومن يمت إليها من المشركين ، لم تظهر الحداد والحزن (1) عليهم ، تحرض بذلك قريشا على الطلب بثارهم وجاءتها نسوة قريش قائلات لها :

« ألا تبكين على أبيك ، وأخيك ، وعمك ، وأهل بيتك »؟

فانبرت إليهن قائلة بحرارة :

« حلأني أن أبكيهم فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بنا ونساء بني الخزرج لا واللّه حتى أثأر محمدا وأصحابه ، والدهن عليّ حرام إن دخل رأسي حتى نغزوا محمدا ، واللّه لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت ، ولكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعينى من قتلة الأحبة. »

ومكثت على حالها لم تظهر الأسى ، ولم تقرب من فراش أبي سفيان

ص: 142


1- كانت العادة في الجاهلية تأخير البكاء على القتيل منهم حتى يؤخذ بثأره فاذا أخذ بكت عليه نسوتهم وفي ذلك يقول شاعرهم : من كان مسرورا بمقتل مالك *** فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا يندبنه *** يلطمن حر الوجه بالاسحار صبح الأعشى 1 / 405.

ولم تدهن حتى صارت واقعة أحد (1) فأخذت ثارها من سيد الشهداء حمزة فمثلت به ، وفعلت معه ذلك الفعل الشنيع ، فعند ذلك أظهرت السرور والفرح وأخذت ترتجز قائلة :

شفيت نفسي بأحد *** حين بقرت بطنه عن الكبد

أذهب عني ذاك ما كنت أجد *** من لوعة الحزن الشديد المعتمد

والحرب تعلوكم بشؤبوب برد *** نقدم إقداما عليكم كالأسد

ولما رأى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما فعلته هند بعمه من التنكيل غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، وقال :

« ما وقفت موقفا أغيظ إلي من هذا الموقف ».

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثانيا :

« لن أصاب بمثل حمزة أبدا .. » (2)

ولما كان يوم الفتح ودخل المسلمون مكة قام أبو سفيان في أزقة مكة وشوارعها مناديا على كره منه من ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فلما سمعت هند منه ذلك لطمته على وجهه وجعلت تصيح بلا اختيار :

« اقتلوا الخبيث الدنس ، قبّح من طليعة قوم .. »

ثم التفت الى جماهير قريش محرضة لهم على الحرب قائلة بنبرات تقطر حماسا : « هلاّ قاتلتم عن بلادكم ، ودفعتم عن أنفسكم .. »

تثير بذلك حفاظ النفوس ، وتلهب نار الثورة في قومها ، ولكن اللّه ردّ كيدها ، وخيّب سعيها ، فنصر الاسلام وأهله. هذان أبوا معاوية

ص: 143


1- شرح ابن أبي الحديد 3 / 342.
2- شرح ابن أبي الحديد 3 / 387.

وبقاعدة الوراثة نجزم بأن ما استقر في نفسيهما من الغل والحقد والبغض والعداء للإسلام ولرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد انتقل إلى معاوية ، ومضافا إلى ذلك فان رسول اللّه قد لاقى الأمويين عموما بالاستهانة والتحقير وذلك لما لاقى منهم من العناء والآلام ، فأمر بابعادهم عن يثرب كالحكم وابنه مروان وسعيد بن العاص والوليد ، وأمر المسلمين بالتجنب عنهم وسماهم بالشجرة الملعونة ، وهذه الامور التي شاهدها معاوية قد أولدت في نفسه حقدا على النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى أهل بيته.

ما أثر عن النبي في معاوية :

وتضافرت الأخبار الواردة عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذم معاوية وفي الاستهانة به وهي :

1 - قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يطلع من هذا الفج رجل يحشر على غير ملتي.

فطلع معاوية (1).

2 - ورأى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبا سفيان مقبلا على حمار ، ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به ، قال : لعن اللّه القائد والراكب والسائق (2).

3 - وروى البراء بن عازب قال : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية فقال

ص: 144


1- تاريخ الطبري 11 / 357 ، وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين ص 247 ان النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت حين يموت على غير سنتي.
2- تاريخ الطبري 11 / 357 ، ورواه الإمام السبط الحسن (عليه السلام) عن جده ذكره نصر بن مزاحم في كتاب صفين 247.

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّهم عليك بالأقيعس ، وسأل ابن البراء أباه عن الأقيعس ، فقال له : إنه معاوية (1).

4 - وجاءت الى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) امرأة تستشيره في الزواج من معاوية فنهاها ، وقال لها : إنه صعلوك.

5 - وروى أبو برزة الأسلمي (2) قال : كنا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسمعنا غناء فتشرفنا له ، فقام رجل فاستمع له وذاك قبل أن تحرم الخمر فأتانا وأخبرنا أنه معاوية وابن العاص يجيب أحدهما الآخر بهذا البيت :

يزال حواري تلوح عظامه *** زوى الحرب عنه أن يحس فيقبرا (3)

فلما سمع بذلك رسول اللّه رفع يديه بالدعاء وهو يقول :

« اللّهم اركسهم في الفتنة ركسا ، اللّهم دعهم إلى النار دعا (4) » (5)

ص: 145


1- كتاب صفين ص 244 ورواه الإمام الحسن أيضا.
2- أبو برزة : هو نضلة بن عبيد كان صاحبا لرسول اللّه ، وروى عنه وعن أبي بكر وروى عنه جماعة آخرون قال ابن سعد : كان من ساكني المدينة ثم البصرة ، وغزا خراسان ، وقال الخطيب شهد مع علي (عليه السلام) فقاتل الخوارج بالنهروان ، وغزا بعد ذلك خراسان ، فمات بها ، وقيل إنه مات بنيسابور ، وقيل بالبصرة وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب 10 / 446.
3- الحس القتل الشديد وفي الكتاب ( إذ تحسونهم بأذنه ).
4- الأركاس والركس : الرد والإرجاع. وفي التنزيل ( واللّه أركسهم بما كسبوا ) والدع : الدفع الشديد. وفى الكتاب ( يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ) وقد ورد الحديث في اللسان ركس. بلفظ ( اللّهم اركسهما في الفتنة ركسا ).
5- وقعة صفين ص 246 مسند أحمد 4 / 421.

واستشف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من وراء الغيب ان معاوية سوف يتولى شئون الحكم فحذر المسلمين منه وأمرهم بقتله فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاضربوا عنقه (1).

وكان الحسن (عليه السلام) إذا حدث بهذا الحديث يقول والتأثر ظاهر عليه.

« فما فعلوا ولا أفلحوا .. » (2).

وهكذا كان معاوية في زمان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مهان الجانب ، محطم الكيان ، صعلوكا ذليلا ، يلاحقه العار ، ويتابعه الخزي ، يتلقى من النبي صلی اللّه علیه و آله اللعن ، ومن المسلمين الاستهانة والتحقير ، ولما آل الأمر الى عمر جافى ما أثر عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيه فقربه وأدناه ، ورفعه بعد الضعة والهوان ، فجعله واليا على الشام ، ومنحه الصلاحيات الواسعة ، وفوض إليه أمر القضاء والصلاة ، وجباية الأموال ، وغير ذلك من الشؤون العامة التي تتوقف على الوثاقة والعدالة ، وبلغ من عظيم حبه وتسديده له أنه كان في كل سنة يحاسب عماله ، وينظر في أعمالهم إلا معاوية فانه لم يحاسبه ، ولم يراقبه ، وقد قيل له إنه قد انحرف عن الطريق القويم فبدد في الثروات

ص: 146


1- تناول المحرفون هذا الحديث الشريف فرووه بصورة أخرى رواه الخطيب في تاريخه عن جابر مرفوعا قال رسول اللّه ( إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فانه أمين ) وروى الحاكم في تاريخه عن ابن مسعود قال رسول اللّه : ( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقبلوه فانه أمين مأمون ) ومتى كان ابن هند أمينا ومأمونا أبمحاربته لوصي رسول اللّه ، أو لولوغه فى دماء المسلمين ، وقتله الأخيار والصلحاء ، وغير ذلك من الأحداث الجسام التي تكشف عن جاهليته وعدم تحرجه فى الدين.
2- وقعة صفين.

ولبس الحرير والديباج ، فلم يلتفت لذلك ، وأضفى عليه ثوب الأبهة والمجد ، فقال : « ذاك كسرى العرب » ولما فتل حبل الشورى لأجل إقصاء عترة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن الحكم ، وجعله في بني أمية ، أشاد بمعاوية وهو في أواخر حياته ، ونفخ فيه روح الطموح ، فقال لأعضاء الشورى : « إن تحاسدتم وتقاعدتم ، وتدابرتم ، وتباغضتم غلبكم على هذا معاوية بن أبي سفيان ، وكان إذ ذاك أميرا على الشام » (1).

وما أكثر عماله وولاته فلما ذا أشاد به دونهم؟! وكيف ساغ له أن يهدد أعضاء الشورى بسطوته وهم ذوو المكانة العليا وقد مات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو عنهم راض - كما يقول - وإذا كان يخاف عليهم منه فكيف أبقاه فى جهاز الحكم إن هذه الأمور تدعو إلى التساؤل والاستغراب.

وعلى أي حال فان معاوية كان أثيرا عند عمر وعزيزا عليه ، ولما آل الأمر إلى عثمان زاد في رقعة سلطانه وفي تقوية نفوذه كما أوضحنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب (2) فصار يعمل في الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، ولما قتل المسلمون عثمان نظرا للأحداث الجسام التي ارتكبها ، اتخذ معاوية قتله وسيلة لتحقيق مأربه وأهدافه ، فبغى على أمير المؤمنين بدعوة أنه رضى بقتله وآوى قتلته ، وأعقبت ذلك من الخطوب والمحن ما بلي بها الإسلام ، وتصدع بها شمل المسلمين فأدت الأحداث المؤسفة إلى انتصاره ، وخذلان الإمام أمير المؤمنين ، وولده الإمام الحسن ، ولما صار الأمر إليه بعد الصلح أخذ يعمل مجدا في إحياء جاهليته الأولى والقضاء على كلمة الإسلام وتحطيم أسسه ، وإلغاء نصوصه ، وقد ظهرت منه تلك الأعمال

ص: 147


1- نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 187.
2- ص 247.

بوضوح لما خلا له الجو وصفا له الملك ، فلم يخش أو يراقب أحدا في اظهار نواياه ، وفي ابراز اتّجاهه وعدائه للإسلام وللمسلمين ، وقد أوضح الإمام الحسن في صلحه حقيقته وبين واقعه وسلبه ذلك الغشاء الرقيق الذي تستر به باسم الدين ودونك أيها القارئ الكريم النزر اليسير من نواياه وأعماله :

1 - عداؤه للنبى :

كان معاوية يكن في نفسه بغضا عارما للنبى ولذريته ويحاول بكل جهوده القضاء على كلمة الإسلام ومحو أثره وقد أدلى بذلك في حديثه مع المغيرة بن شعبة فقد حدث عنه ولده مطرف قال وفدت مع أبي المغيرة على معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلىّ فيذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه ، وأقبل ذات ليلة فأمسك عن العشاء وهو مغتم أشد الغم ، فانتظرته ساعة وظننت أنه لشىء حدث فينا أو في عملنا فقلت له :

- مالي أراك مغتما منذ الليلة؟.

- يا بني إني جئت من أخبث الناس!!.

- وما ذاك؟.

- خلوت بمعاوية فقلت له : إنك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا فانك قد كبرت ، ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فو اللّه ما عندهم اليوم شيء تخافه.

فقال لي :

« هيهات هيهات!! ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فو اللّه ما عدا أن هلك ، فهلك ذكره ، إلا أن يقول قائل أبو بكر. ثم ملك أخو عدى فاجتهد ، وشمر عشر سنين ، فو اللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلا أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك ، رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ،

ص: 148

فعمل ما عمل وعمل به ، فو اللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره وذكر ما فعّل به ، وإن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات « أشهد أن محمدا رسول اللّه » فأي عمل يبقى بعد هذا لا أم لك ، إلا دفنا دفنا » (1).

وهذه البادرة تدل بوضوح على كفره والحاده ، وعلى حقده البالغ على النبي فقد أزعجه وساءه أن يذكر اسمه كل يوم خمس مرات في الأذان ولو وجد سبيلا لمحا ذلك ولشدة بغضه وعدائه لذريته أنه مكث في أيام خلافته أربعين جمعة لا يصلي فيها على النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد سئل عن ذلك فقال :

« لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بانافها » (2).

2 - تعطيله الحدود :

ولم يعتن معاوية بالحدود الإسلامية ولم يهتم باقامتها فقد عفا عمن ثبت عليه الحد ، فقد جيء إليه بجماعة سارقين فقطع أيديهم ، وبقى واحد منهم فقال السارق :

يميني أمير المؤمنين أعيذها *** بعفوك أن تلقى مكانا يشينها

يدى كانت الحسناء لو تمّ سترها *** ولا تعدم الحسناء عيبا يشيبها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة *** إذا ما شمالي فارقتها يمينها

وغزت هذه الأبيات قلب معاوية فقال له :

« كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك ».

فاجابته أم السارق :

« يا أمير المؤمنين اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها ».

ص: 149


1- ابن أبي الحديد ( ج 2 ص 357 ).
2- النصائح الكافية ص 97.

فخلى سبيله وأطلق سراحه ، فكان أول حد ترك في الإسلام (1).

3 - اباحته الربا :

ومنع الإسلام من الربا أشد المنع وجعله من الموبقات والكبائر ، فلعن المعطي والآخذ والوسيط والشاهد ، ولم يعتن معاوية بتحريم الإسلام له فعن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب ، أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء (2) : « سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل ».

فانبرى معاوية مظهرا له عدم اعتنائه بنهي رسول اللّه ، وتحريمه له قائلا :

« ما أرى بمثل هذا بأسا ».

فاستاء أبو الدرداء من هذه الجرأة واندفع وهو غضبان متألم قائلا :

« من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت بها ».

ص: 150


1- البداية والنهاية 8 / 136.
2- أبو الدرداء : اختلف في اسمه فقيل عامر وعويمر ، واختلف في اسم أبيه فقيل عامر ومالك وعبد اللّه ، ينتهي نسبه إلى كعب بن الخزرج الأنصاري ، أسلم أبو الدرداء يوم بدر وشهد أحدا قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حقه : ( أبو الدرداء حكيم أمتي ) كان تاجرا قبل الإسلام فلما أسلم ترك التجارة ، ولاه معاوية قضاء دمشق في خلافة عمر توفى لسنتين بقيتا من خلافة عثمان ، وقيل مات سنة 32 ، وقيل مات بعد صفين ، جاء ذلك فى الإصابة 4 / 46 وجاء في الكنى والأسماء ص 72 أن أبا الدرداء روى عن رسول اللّه أنه قال : ( إن أثقل شيء في ميزان المؤمن خلق حسن وإن اللّه يبغض الفاحش البذى ).

ثم ترك الشام وانصرف إلى عاصمة الرسول وهو ثائر غضبان واستقال من وظيفته (1).

4 - الأذان فى صلاة العيد :

وقضى الشرع الإسلامي باتيان الأذان والإقامة في خصوص الصلاة اليومية الواجبة ، وأما ما عداها من الصلاة المندوبة كصلاة النوافل أو الواجبة كصلاة العيدين والآيات فان الشرع قد حكم بتركهما ، فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ليس في العيدين أذان ، ولا إقامة » (2) وسار على هذه السنة الخلفاء من بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (3) ولكن معاوية لم يبال بذلك فقد أحدث الأذان والإقامة في صلاة العيد (4) وبذلك خالف رسول اللّه وجافى ما أثر عنه وكان مبدعا في تشريعه.

5 - الخطبة قبل صلاة العيد :

والزمت السنة الإسلامية فى صلاة العيد بالخطبة بعد فراغ الإمام من الصلاة فقد صلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلاة عيد الفطر وبعد الفراغ منها قام خطيبا بين أصحابه وفعل النبيّ كقوله سنة يجب اتباعه ، وصلى من بعده الخلفاء على وفق صلاته (5) ولكن معاوية لم يعتن بذلك فقد قدّم الخطبة على الصلاة »

ص: 151


1- النصائح ص 94.
2- كشف الغمة للشعراني 1 / 123.
3- سنن أبى داود 1 / 79.
4- شرح ابن أبي الحديد 1 / 470.
5- سنن أبي داود 1 / 178.

واقتفي بفعله الأمويون (1) وبذلك فقد هجر سنة النبيّ.

6 - أخذه الزكاة من الأعطية :

وفرض الإسلام الزكاة في موارد مخصوصة ذكرها الفقهاء وما عداها فلا تجب فيه الزكاة ، ولكن معاوية قد أعرض عن ذلك فأخذ الزكاة من الأعطية ولم تشرع فيها الزكاة باجماع المسلمين وقد ارتكب معاوية ذلك (2).

أما جهلا منه بالحكم الشرعي أو تعمدا منه على مخالفة السنة والثاني أولى بسيرته.

7 - تطيبه فى الإحرام :

ويجب على المحرم في الحج أن يترك الطيب ما دام محرما ، فاذا حلّ من إحرامه جاز له استعماله ، ولكن معاوية خالف ذلك فتطيب في حال إحرامه (3) عنادا منه للإسلام أو لجهله بتعاليمه وفروضه.

8 - استعماله أواني الذهب والفضة :

ويحرم استعمال أواني الذهب والفضة إلا أن معاوية قد عمد إلى مخالفة ذلك وأخذ يستعملها في مأكله ومشربه ، ولما تلي عليه قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في التحريم قال :

« لا أرى بأسا في ذلك » (4).

9 - لبسه الحرير :

وحرم الإسلام لبس الحرير على الرجال إلا في حال الحرب ولكن

ص: 152


1- شرح ابن أبي الحديد 3 / 470.
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 207.
3- النصائح ص 100 وغيره.
4- النصائح ص 101.

معاوية قد جافى ذلك فقد عمد إلى لبسه (1) غبر معتن بتحريم الإسلام ونهيه عنه.

10 - استحلاله أموال الناس :

وحرم الإسلام أموال الناس وأخذها بالباطل ، ولكن معاوية لم يلتزم بذلك فقد استصفى أموال الناس من دون عوض (2).

11 - شراؤه الأديان :

وليس في سوق التجارة رذيلة أسوأ من شراء ضمائر الناس وأديانهم فانه ينم عن سوء سريرة البائع والمشتري ، وقد مهر معاوية في هذه الصنعة وكان يتجاهر بها من دون خيفة وحذر فقد ذكر الرواة أنه وفد عليه الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة والجون بن قتادة والحتات بن يزيد فأعطى معاوية كل واحد منهم مائة الف ، وأعطى الحتات سبعين الفا ، فلما كانوا فى الطريق ذكر كل منهم جائزته فرجع الحتات مغضبا فالتفت إليه معاوية قائلا له :

« ما ردّك؟ ».

- فضحتني في بني تميم أما حسبى فصحيح ، أو لست ذا سن؟

ألست مطاعا في عشيرتي؟ ».

فأجابه معاوية :

« بلى ».

واندفع الحتات قائلا :

« فما بالك خست بي دون القوم وأعطيت من كان عليك أكثر ممن

ص: 153


1- النصائح ص 101.
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 207.

كان لك - يريد الأحنف وجارية فهما كانا مع علي في حرب الجمل - وهو قد اعتزل القتال ».

فقال له معاوية بلا حياء ولا خجل.

- إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك.

- وأنا اشتري مني ديني.

فأمر له باتمام الجائزة (1).

12 - خلاعة ومجون :

واتسعت الدعارة وانتشر المجون في الحاظرة الإسلامية في عصر بني أمية ، فكان الشعراء يتشببون ويتغزلون بالنساء ، وأول من فتح باب الدعارة معاوية فقد حدثوا أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت (2) قد تشبب بابنة

ص: 154


1- الكامل 3 / 185.
2- عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي : ولد في زمن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان شاعرا قليل الحديث ، ذكره ابن معين في تابعي أهل المدينة ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، توفى سنة 104 ، وأبطل هذا القول ابن عساكر فقال : إنه قيل إنه عاش ثماني وأربعين ، ومقتضاه أنه ما أدرك أباه لأنه مات بعد الخمسين بأربع أو نحوها وقد ثبت أنه كان رجلا في زمان أبيه وأبوه القائل : فمن للقوافي بعد حسان وابنه *** ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت ( قلت ) وإن يثبت أنه ولد في العهد النبوي وعاش إلى سنة 104 يكون عاش 98 فلعل الأربعين محرفة ، جاء ذلك في الإصابة 3 / 67 وذكر الزمخشري في الكشاف أن عبد الرحمن قال في معاوية قصيدة منها : ألا أبلغ معاوية بن حرب *** أمير الظالمين نثا كلامى معاوية بن هندو ابن صخر *** لحاك اللّه من مرء حرامى جشمنا بامرتك المنايا *** وقد درج الكرام بنو الكرام أمير المؤمنين أبو حسين *** مفلق رأس جدك بالحسام وإنا صابرون ومنظروكم *** إلى يوم التغابن والخصام

معاوية فبلغ ذلك يزيد فغضب ودخل على أبيه قائلا بنبرات تقطر ألما :

- يا أبة أقتل عبد الرحمن بن حسان.

- لم؟.

- تشبب بأختي.

- وما قال؟

- قال :

طال ليلي وبت كالمحزون

ومللت الثواء في جيرون

فأجابه معاوية باستهزاء وسخرية :

« يا بني وما علينا من طول ليله وحزنه ، أبعده اللّه ».

فالتفت يزيد إلى أبيه انه يقول :

فلذا اغتربت بالشام حتى

ظن أهلي مرجات الظنون

« يا بني وما علينا من ظن أهله ».

- إنه يقول :

هي زهراء مثل لؤلؤة الغوا

ص ميزت من جوهر مكنون

- صدق يا بني هي كذلك.

- إنه يقول :

وإذا ما نسبتها لم تجدها

في سناء من المكارم دون

- صدق يا بني :

- إنه يقول :

ص: 155

ثم خاصرتها إلى القبة الخض *** راء تمشي في مرمر مسنون

- : ولا كل هذا يا بني.

وما زال يزيد يذكر له ما قاله عبد الرحمن من التشبيب بأخته ، ومعاوية يدافعه عن ذلك ، ويظهر براءته وعدم استحقاقه العقاب ، وانتشر تشبب عبد الرحمن ، وافتضحت ابنة معاوية ، فأقبلت إليه طائفة فأكبروا هذه الجسارة على ابنته وقالوا له : « لو جعلته نكالا » فامتنع معاوية من اجابتهم ، وقال لهم : - لا - ولكن أداويه بغير ذلك ، واتفق أن عبد الرحمن وفد على معاوية فاستقبله أحسن استقبال وأجلسه على سريره وأقبل عليه بوجهه ، ثم قال :

إن ابنتي الأخرى عاتبة عليك.

- في أي شيء؟

- في مدحك أختها وتركك إياها.

- لها العتبى وكرامة أنا أذكرها.

وأخذ يتغزل بابنة معاوية فلما علم الناس ذلك قالوا : « قد كنا نرى أن تشبب حسان بابنة معاوية لشيء فاذا هو على رأي معاوية وأمره » (1)

وهذه البادرة تدل على ميوعته وتفسخ أخلاقه وقد فتح بذلك باب الفساد ومكن الماجنين من التعرض ببنات المسلمين حتى بلغ التهالك على اللذة منتهاه في عصره وعصر بني أمية.

وتشبب أبو دهبل الجحمي (2) بابنته فعامله باللين وأوصله

ص: 156


1- الأغاني 13 / 149.
2- أبو دهبل الجحمي : اسمه وهب بن زمعة بن أسيد ، كان شاعرا محسنا مداحا وهو القائل : يا ليت من يمنع المعروف يمنعه *** حتى يذوق رجال غب ما صنعوا وليت رزق أناس مثل نائلهم *** قوت كقوت ووسع كالذي وسعوا وليت للناس حظا في وجوههم *** تبين أخلاقهم فيه إذا اجتمعوا وليت ذا الفحش لاقى فاحشا أبدا *** ووافق الحلم أهل الجهل فارتدعوا جاء ذلك في معجم الشعراء 1 / 117 وقد نشر الشيء الكثير من شعره في مجلة الآسيوية البريطانية.

وأعطاه (1) وسار بنو أمية على هذه الخطة ، وقد حاولوا أن يقلبوا الدنيا إلى مسارح للعبث والمجون ، فحببوا إلى الناس الفسق والدعارة وساقوهم إلى الضلال والباطل والفساد.

ومن تهتك معاوية ومجونه أنه اشترى جارية بيضاء جميلة ، فادخلها عليه مولاه ( خديج ) وهي مجردة عارية ليس عليها شيء ، وكان بيده قضيب فجعل يهوى به إلى ( متاعها ) وهو يقول :

« هذا المتاع ، لو كان لي متاع » (2).

وأمر بها إلى يزيد ، ثم عدل عن ذلك ووهبها إلى عبد اللّه بن مسعدة الفزاري (3) فقال له :

ص: 157


1- الأغاني 6 / 39 ، 159.
2- البداية والنهاية 8 / 140.
3- عبد اللّه بن مسعدة بن حكمة الفزارى جيء به وهو صغير في سبى فزارة فوهبه رسول اللّه لابنته فاطمة فأعتقته وكان صغيرا ثم كان عند علي ، والتحق بمعاوية فكان من أشد الناس وأعداهم إلى علي ، وكان على جند دمشق بعد وقعة ( الحرة ) وبقى الى خلافة مروان ، وقيل أنه غزا سنة 49 ، وكان أميرا على الجيش عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فمات في أرض الروم فاستخلف من بعده عبد اللّه الفزاري وهي أول ولاية وليها وفيه يقول الشاعر : أقم يا ابن مسعود قناة قويمة *** كما كان سفيان بن عوف يقيمها ولما دخل على معاوية سأله عن الشعر ، فقال إن الشاعر ضمني إلى من لست له بكفء وهو سفيان بن عوف جاء ذلك في الإصابة 2 / 359.

« دونك هذه الجارية الرومية فبيض ولدك » (1).

وذكر المؤرخون بوادر كثيرة من استهتاره ومجونه دلت على تحلله من جميع القيم الإنسانية. 13 - افتعال الحديث :

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم : « إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات اللّه وأولئك هم الكاذبون » (2) وقرب معاوية من يفترى الكذب على اللّه ورسوله ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر فقربهم إليه وأدناهم منه ومنحهم الأموال الضخمة ، وأوعز إليهم أن يضعوا الأحاديث الكاذبة على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فى فضله وفي فضل الأمويين والصحابة ، وفي الحط من كرامة العترة الطاهرة وانتقاصها خصوصا سيدها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكتب مذكرة بذلك إلى جميع عماله وولاته جاء فيها :

« أنظروا من قبلكم من شيعة عثمان الذين يرون فضله ، ويتحدثون بمناقبه فاكرموهم ، وشرفوهم ، واكتبوا إليّ بما يروي كل واحد منهم فيه باسمه واسم أبيه وممن هو ».

فامتثل عماله وولاته ذلك فأدنوا الرواة المستأجرين وأشادوا بهم ، ومنحوهم الأموال الكثيرة ودونوا ما افتعلوه في فضل عثمان ، وأرسلوه إليه ، .

ص: 158


1- البداية والنهاية 8 / 140.
2- سورة النحل - آية 105.

ولما رأى الناس أن الحكومة تشجع الوضاعين وتقابلهم بالحفاوة والتكريم ، وتمنحهم الأموال والثراء العريض بادر من غرته الدنيا إلى وضع الأحاديث وأخذ عوضها من الجهة المختصة ، وقد رووا فى فضل معاوية طائفة كبيرة ، فمن جملة ما وضعوه : أن النبي قال : « اللّهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب ، وادخله الجنة ». وأخرج الترمذي أن النبيّ قال لمعاوية : اللّهم اجعله هاديا مهديا.

وروى الحارث بن أسامة أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : أبو بكر أرق أمتي ، وأرحمها ، ثم ذكر مناقب الخلفاء الأربعة ، ومناقب جماعة آخرين من أصحابه ثم ذكر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معاوية فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ومعاوية بن أبي سفيان أحلم أمتي وأجودها (1).

ورووا أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشاد بفضل أصحابه ، ثم قال في معاوية : وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان (2).

وحكى القدسي أنه كان بجامع واسط وإذا برجل قد اجتمع عليه الناس فدنا منه فإذا هو يروي حديثا بسنده عن النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ان اللّه يدني معاوية يوم القيامة فيجلسه إلى جنبه ويغلفه؟ بيده ثم يجلوه على الناس كالعروس

ص: 159


1- تطهير الجنان واللسان المطبوع على هامش الصواعق المحرقة ص 24.
2- تطهير الجنان واللسان ص 26 ، وقد استند ابن حجر إلى هذه الروايات الموضوعة في فضل معاوية ونزهه عن كل ما ارتكبه من الماثم والموبقات ، والحقه بالصحابة المتحرجين في دينهم ، وقد أعمى اللّه بصيرة ابن حجر وأضله عن الطريق القويم ، فراح يمجد أعداء اللّه ، وخصوم الإسلام الذين هم صفحة عار وخزي على المجموعة الإنسانية ، لقد بلي المسلمون بأمثال هؤلاء المؤرخين الذين لا ينظرون إلى الواقع إلا بمنظار أسود فجنوا على الإسلام والمسلمين بمفترياتهم وأكاذيبهم.

فقال له المقدسي : بما ذا؟ قال بمحاربته عليا ، فأجابه المقدسي : كذبت يا ضال!! فقال خذوا هذا الرافضي فتدافع الناس عليه للبطش به وأنقذه شخص كان يعرفه (1) وحكى المقدسي أيضا أنه تعرض للقتل حينما أنكر على رجل قوله : ان معاوية نبى مرسل (2).

وحدث بعضهم قال رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ، إذ جاء رجل فقال عمر يا رسول اللّه هذا ينتقصنا فكأنه انتهره رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال يا رسول اللّه : إني لا أنتقص هؤلاء ولكن هذا - يعنى معاوية - فقال : ويلك أوليس هو من أصحابي؟ قالها ثلاثا ثم أخذ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حربة فناولها معاوية ، فقال جابهه في لبته فضربه بها ، وانتبهت إلى منزلي فاذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات وهو راشد الكندي (3).

وتعصب البسطاء والسذج لمعاوية ، وبالغوا في تقديره نظرا لهذه الأخبار الموضوعة والدعايات الكاذبة ، فقد ذكر المؤرخون ان عبد الرحمن النسائي دخل دمشق فسئل عن معاوية وما روى من فضائله فقال : أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضّل؟ وفي رواية أنه قال : ما أعرف له فضيلة إلا « لا أشبع اللّه له بطنا » فثاروا عليه وداسوه فحمل إلى الرملة فمات بسبب ذلك (4).

لقد أراد معاوية بهذه الأحاديث التي أصدرتها لجان الوضع أن يضفي

ص: 160


1- المقدسي ص 126.
2- المنتظم ص 60.
3- الغدير 10 / 138.
4- طبقات السبكي 2 / 84 وفيات الأعيان 1 / 37.

على نفسه ثوب القداسة والإيمان لتمنحه الأمة ثقتها ، وتنقاد إليه بدافع العقيدة ، ولكنها محاولة فاشلة لأن المسلمين ينظرون إليه نظرة ريبة وشك في إسلامه لأنه من الشجرة الملعونة في القرآن التي ناجزت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقادت الجيوش لمحاربته ، بالاضافة إلى الأحداث الجسام التي ارتكبها كمناجزته لوصي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وباب مدينة علمه ، وقتله الأخيار ، ومطاردته الصلحاء ، وبدعه التي أحدثها في الإسلام ، وغير ذلك من الكبائر والموبقات التي سود بها وجه التأريخ ، ومن الطبيعي أن هذه الدعايات والأكاذيب لا تمحو عنه العار والخزي.

وعلى أي حال فقد كثرت الأحاديث التي وضعها الدجالون في فضل معاوية ، وفي فضل عثمان بن عفان ، وقد خاف أن يفوت غرضه ، ويفتضح أمره ، ولا يصل إلى هدفه من البغي على العترة الطاهرة ، فكتب مذكرة إلى عماله يأمرهم فيها بأن يكف الوضاعون عن ذلك ، ويضعوا الأحاديث في فضل الشيخين ، لأن ذلك من أقرب الطرق ومن أهم الوسائل فى محاربة ذرية النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والحط من قيمتهم ، وهذا نص ما كتبه :

« إن الحديث قد كثر في عثمان ، وفشا في كل مصر ، وفي كل ناحية ، فإذا جاءكم كتابي فادعوهم إلى الرواية في أبي بكر وعمر ، فان فضلهما وسوابقهما أحب إلي وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أهل هذا البيت - يعني أهل بيت النبيّ - وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله ».

وقرأ القضاة والأمراء كتابه على الناس ، فبادر الوضاعون إلى افتعال الأحاديث فى مناقب أبي بكر وعمر ، وأمر معاوية بتدوينها وإنفاذ نسخ منها إلى جميع العمال والولاة ليقرؤها على المنابر ، ويتلوها في الجوامع ، وأوعز إليهم أن ينفذوها إلى المعلمين ليجعلوها من مناهج دروسهم ، ويرغموا

ص: 161

الأطفال على حفظها ، وقد اهتمت الحكومات المحلية فى ذلك اهتماما بالغا فالزمت الناشئة وسائر الطبقات بحفظ تلك الأخبار المفتعلة حتى حفظها الأولاد وحفظتها النساء والخدم والحشم (1) وقد عرض الإمام الباقر علیه السلام بعض تلك الأخبار الموضوعة في حديثه مع أبان ، وندد بها فقد قال له أبان :

« أصلحك اللّه ، سم لي من ذلك شيئا؟ ».

قال (عليه السلام) رووا :

« إن سيدي كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر » (2).

« إن عمر محدث - بصيغة المفعول أي تحدثه الملائكة - ».

« إن عمر يلقنه الملك ».

« إن السكينة تنطق على لسان عمر ».

« إن الملائكة لتستحي من عثمان » (3).

ثم استرسل (عليه السلام) في عرض الأخبار المفتعلة حتى عدّ أكثر من مائة

ص: 162


1- سليم بن قيس ( ص 29 ) شرح ابن أبي الحديد 3 / 15.
2- وضع المستأجرون هذا الحديث لمعارضة الخبر المتواتر الوارد عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في حق السبطين « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » وقد سئل الإمام الجواد عنه ففنده وقال : واللّه ليس في الجنة كهول بل كلهم شباب مرد.
3- وإمارة الوضع على هذا الحديث ظاهرة فان الملائكة لما ذا تستحي من عثمان بن عفان فهل انه اجتاز عليها فرآها تعمل القبيح وترتكب المنكر فاستحيت منه أو أنه فعل ذلك فاستحيت منه إنا لا نتصور وجها لهذا الاستحياء المزعوم.

رواية (1) يحسبها الناس أنها حق ، ثم قال (عليه السلام) : واللّه كلها كذب وزور (2)

ويقول المحدث ابن عرفة المعروف بنفطويه (3) « إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية ، تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم » (4).

ولم يكتف معاوية بتلك الأخبار الكثيرة التي وضعت في مناقب الشيخين فقد عمد إلى تشجيع الوضاعين لاختلاق الحديث ضد أهل البيت (عليهم السلام) وقد أنفق عليهم الأموال الطائلة في سبيل ذلك ، فقد أعطى الجلاد سمرة بن جندب أربع مائة الف على أن يخطب في أهل الشام ، ويذكر لهم أن الآية الكريمة وهي « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث .

ص: 163


1- وفي رواية حتى عد أكثر من مائتى حديث.
2- سليم بن قيس ( ص 45 ).
3- ابراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي ، ولد سنة ( 244 هج ) ، بواسط ، وهو صاحب المؤلفات الحسنة ، لقب بنفطويه لدمامته ، وأدمته تشبيها له بالنفط ومن شعره : قلبى أرق عليك من خديكا *** وقواي أوهى من قوى جفنيكا لم لا ترق لمن يعذب نفسه *** ظلما ويعطفه هواه عليكا هجاه أبو عبد اللّه الواسطي بقوله : من سره أن لا يرى فاسقا *** فليجتهد أن لا يرى نفطويه أحرقه اللّه بنصف أسمه *** وصير الباقي صراخا عليه توفى في صفر (323) وفيات الأعيان 1 / 30.
4- النصائح الكافية ( ص 74 ) وغيره.

والنسل واللّه لا يحب الفساد » (1).

نزلت في علي ، فروى لهم سمرة ذلك (2) وأخذ العوض من بيت مال المسلمين ، وقد الزم الإسلام بانفاقه على صالح المسلمين ، وإعالة ضعيفهم ومحرومهم ، ولكن ابن هند أنفقه على حرب الإسلام وعلى الكيد والطعن في أعلامه الذين نافحوا عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جميع المواقف والمشاهد وأرغموا معاوية وأباه على الدخول في حظيرته.

وعلى أي حال فقد انطلق ذوو الأطماع والمنحرفون عن الإسلام إلى افتعال الأحاديث في الحط من قيمة أهل البيت للظفر بالأموال والثراء العريض ، وروى ابن العاص لأهل الشام أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال في آل أبي طالب : « إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، انما ولي اللّه وصالح المؤمنين » (3).

وهكذا أخذت لجان الوضع تفتعل أمثال هذه الأحاديث ضد عترة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، محاولة بذلك إطفاء نور اللّه ، وحجب المسلمين عن قادتهم الواقعيين الذين نصّ عليهم النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجعلهم خلفاء من بعده على أمته.

وتحدث الإمام الباقر (عليه السلام) عن زيف تلك الأخبار وكذبها فقال : « ويرون عن علي أشياء قبيحة ، وعن الحسن والحسين ما يعلم اللّه أنهم قد رووا في ذلك الباطل والكذب والزور » (4).

ص: 164


1- سورة البقرة آية 203 و 204.
2- النصائح الكافية ص 253 وغيره.
3- شرح ابن أبي الحديد 3 / 15.
4- سليم بن قيس ص 45.

وقال ابن أبي الحديد : « وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي أن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي علیه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير » (1).

إن هذه الإجرءات التي اتخذها معاوية ضد أهل البيت قد أشاعت الفرقة بين المسلمين ، وفتحت باب الكذب على اللّه وعلى رسوله ، وقد أعرض خيار الصحابة عن تلك الأخبار ، ولم يصغوا لرواتها ، فقد نقل الرواة ان بشير العدوى (2) جاء إلى ابن عباس ، وجعل يحدثه ، ويقول له : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وابن عباس لا يأذن لحديثه ، ولا ينظر إليه ، وقابله بالاستخفاف والاستهانة ، فاندفع بشير قائلا :

« ما لي لا أراك تسمع الحديث؟ أحدثك عن رسول اللّه ولا تسمع ».

فزجره ابن عباس قائلا :

« إنا كنا إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول اللّه ابتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه باذاننا ، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرفه » (3).

ص: 165


1- شرح ابن ابي الحديد 4 / 63 ، ط دار احياء الكتاب العربية.
2- بشير بن كعب بن أبي الحميري العدوي ، ويقال العامري ، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة ، وقال انه ثقة ان شاء اللّه ، وقال النسائي : إنه ثقة ، تهذيب التهذيب 1 / 471. ولا نعلم أنه كيف كان ثقة مع اعراض ابن عباس عن حديثه.
3- فجر الإسلام ص 258 وغيره.

إن الناس قد ركبوا الصعبة والذلول - على حد تعبير ابن عباس - وسلكوا جميع المسالك التي تتنافى مع الدين فلم يتحرجوا من الكذب على اللّه ولم يتأثموا من الوضع على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلذا كان التوقف والتثبت في الأخبار أمرا ضروريا.

والمحنة الكبرى التي امتحن المسلمون بها امتحانا عسيرا هو ان تلك الأخبار التي افتعلتها لجان الوضع قد وصلت إلى الثقات والحفاظ فدونوها في كتبهم وهم - من دون شك - لو علموا واقعها لأسقطوها وتبرءوا منها وما رووها ، وقد ألمع إلى ذلك المدائني في حديثه عن الوضاعين في عصر معاوية ، ونسوق نص كلامه في ذلك قال :

« وظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون ، والمستضعفون ، الذين يظاهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجلسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع ، والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب ، والبهتان ، فقبلوها ، ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها » (1).

وقد فاضت الكتاب بتلك الأخبار الموضوعة ، وامتلأت بالإسرائيليات (2) وبخرافات أبي هريرة ، ومما لا شبهة فيه أنها أضرت بالإسلام فشوهت شريعته

ص: 166


1- ابن أبي الحديد 3 / 16.
2- الاسرائيليات : هي الخرافات التي وضعها المنافقون من اليهود الذين أسلموا وتظاهروا بالإسلام فدسوا في الإسلام ما هو بريء منه ، وعلى رأس قائمة الوضاعين من اليهود كعب الأحبار.

السمحاء ، وأفسدت عقائد المسلمين ، وفرقتهم شيعا وأحزابا.

وليس من شك في أن الخلفاء لو بادروا إلى تدوين ما أثر عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الأحاديث لصانوا الأمة من الاختلاف ووقوها من الفتن والخطوب ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك فقد عمد أبو بكر إلى جمع بعض الأحاديث فأحرقها (1) وجاء بعده عمر فاستشار الصحابة في تدوينها فأشار عليه عامتهم بذلك ، ولبث مدة يفكر في الأمر ثم عدل عنه ، وقال لهم : « إني كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم. ثم تذكرت ، فاذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب اللّه كتبا فأكبوا عليها ، وتركوا كتاب اللّه ، وإني واللّه لا ألبس كتاب اللّه بشيء أبدا. » ثم ترك ذلك وعدل عنه (2).

وهو تعليل لا يساعده الدليل لأن حديث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يشذ عن كتاب اللّه ، ولا يخالفه بحال من الأحوال ، وليس تدوينه موجبا لهجر القرآن الكريم ، ولا مستلزما للاعراض عنه ، وأكبر الظن أنهم إنما أبوا من تدوينه لأن شطرا كبيرا منه يتعلق فى فضل العترة الطاهرة. وفي لزوم مودتها ، ووجوب الرجوع إليها في جميع المجالات ، وليس من الممكن التبعيض في كتابة الحديث بأن تدون السنن ، وتترك الأخبار الواردة في حق أهل البيت ، ومن الطبيعي أن تدوينها يتنافى مع ابتزازهم حقهم واجماعهم على هضمهم ، واقصائهم عن مراتبهم التي رتبهم اللّه فيها ، وقد بلغ من عظيم وجدهم وحقدهم عليهم ، أنهم لما شعروا أن النبي يريد أن يعهد بالأمر إليهم ويكتب فى ذلك كتابا ردوا عليه وهو في ساعاته الأخيرة فقالوا له : « حسبنا كتاب اللّه ».

ص: 167


1- تذكرة الحفاظ 1 / 5.
2- تقييد العلم ص 50 ، وقريب منه فى طبقات ابن سعد 3 / 1 ص 206.

وأثر عنهم أنهم قالوا : « لا تجتمع النبوة والخلافة فى بيت واحد » وبعد هذا فكيف يثبتون اخبار النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أهل بيته.

وعلى أي حال فان أعظم ما مني به المسلمون من الكوارث هي الروايات المفتعلة التي عهد معاوية بوضعها فانها قد أوجبت تشتت المسلمين واختلافهم في كل شيء ، وهي مما لا شبهة فيه من أعظم موبقات ابن هند. 14 - استلحاقه زيادا :

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ». لقد ضرب معاوية كلام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعرض الجدار بلا خيفة ولا حذر.

فعاكس قوله ، ورد حكمه علانية لأجل تدعيم ملكه ، وإقامة سلطانه ، فاستلحق به زياد بن أبيه طبقا لما كان عليه العمل قبل الإسلام!

يقول اللّه تعالى : « أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون » (1) لقد بغى معاوية حكم الجاهلية ، وأحيى سننها فألحق به زياد بن أبيه وهو ابن بغية ، فان سمية كانت من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة الى الحارث بن كلدة (2) من بغيها ، وكانت تنزل .

ص: 168


1- سورة المائدة آية 50.
2- الحارث بن كلدة بن عمر الثقفي كان طبيبا مشهورا عند العرب وكان من الشعراء ومن شعره : ان اختياريك لا عن خبرة سلفت *** ولا الرجاء ومما يخطئ النظر كالمستغيث ببطن السيل يحسبه *** جزرا يبادره إذ بله المطر فقد رأيت بعبد اللّه واعظة *** تنهى الحليم فما أناني الغرر إن السعيد له في غيره عظة *** وفي التجارب تحكيم ومعتبر لأعرفنك إن أرسلت قافية *** تلقى المعاذير إذ لا تنفع العذر جاء ذلك في معجم الشعراء ص 172.

بالموضع الذي تنزل فيه البغايا خارجا عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا (1) هذه أم زياد في قذارتها وفجورها ولم يأنف معاوية من إلحاق هذا الدعى به.

أما بواعث هذا الاستلحاق فيقول عنه المؤرخون ان أمير المؤمنين «ع» كان قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس ، واصطنعه لنفسه ، فلما قتل «ع» بقى زياد في مله وخاف معاوية جانبه ، وعلم صعوبة ناحيته ، وأشفق من ممالاته الحسن بن علي «ع» فكتب إليه هذه الرسالة :

« من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، إلى زياد بن عبيد ، أما بعد : فانك عبد قد كفرت النعمة ، واستدعيت النقمة ، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر وإن الشجرة لتضرب بعرقها ، وتتفرع من أصلها إنك لا أم لك ، بل لا أب لك قد هلكت وأهلكت ، وظننت أنك تخرج من قبضتي ، ولا ينالك سلطاني ، هيهات ما كل ذي لب يصيب رأيه ولا كل ذي رأي ينصح في مشورته ، أمس عبد واليوم أمير خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية ، إذا أتاك كتابى هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة واسرع الإجابة فانك إن تفعل فدمك حقنت ونفسك تداركت ، وإلا اختطفتك بأضعف ريش ونلتك بأهون سعي ، وأقسم قسما مبرورا أن لا أوتى بك إلا في زمارة (2) تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدا وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه والسلام ».

وفي هذه الرسالة قد نسب زيادا إلى عبيد ، واعترف برقيته ، وإنه إذا تمكن منه يبيعه في أسواق دمشق ويرده إلى أصله ، ولما وصلت هذه

ص: 169


1- مروج الذهب 2 / 310.
2- الزمارة : آلة من القصب يغنى بها.

الرسالة إلى زياد ورم أنفه من الغضب وأمر بجمع الناس وخطب فيهم فقال بعد حمد اللّه والثناء عليه :

« ابن آكلة الأكباد ، وقاتلة أسد اللّه ، ومظهر الخلاف ، ومسر النفاق ، ورئيس الأحزاب ، ومن أنفق ماله في إطفاء نور اللّه كتب إلى يرعد ويبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها ، وعما قليل تصيرها الرياح قزعا (1) والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة ، أفمن اشفاق على تنذر وتعذر كلا؟ ولكن ذهب إلى غير مذهب وقعقع لمن ربي بين صواعق تهامة ، كيف أرهبه وبينى وبينه ابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابن ابن عمه في مائة الف من المهاجرين والأنصار ، واللّه لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأرينه الكواكب نهارا ولأسعطنه ماء الخردل (2) دونه الكلام اليوم ، والجمع غدا والمشورة بعد ذلك إن شاء اللّه ».

وقد أبرق زياد وأرعد وتهدد وأوعد وذلك لعدم علمه بما مني به جيش الإمام من التخاذل والانحلال معتقدا بأن الجيش على وضعه الأول محتفضا بنشاطه وقواه ، وانه مائة الف من المهاجرين والأنصار ولم يعلم بما نكب به من الانحلال والفتن التي مزقته وقضت على نشاطه ، وان أعلام المهاجرين والأنصار قد طحنتهم حرب صفين وأبادتهم واقعة النهروان وأصبح الجيش لا يضم من أولئك الرءوس والضروس إلا ما هو أقل من الصبابة ، وأقسم باللّه إن الإمام لو استدعى زيادا حينذاك لغدر به وما استجاب له ، وآية ذلك أنه لما علم بوهن جيش الإمام انحاز إلى معاوية وغدر بالإمام ، وكيف لا ينخدع وهو من ذوي الضمائر القلقة وقد أبان الزمان خبثه ، وكشف عن

ص: 170


1- القزع : قطع السحاب المتفرقة.
2- الخردل : حب شجر معروف.

عدم طيب إنائه ، فقد عاد بعد الاستلحاق من ألد الأعداء إلى أمير المؤمنين وذريته وشيعته.

ومهما يكن من شيء فان زيادا عقيب خطابه أجاب معاوية عن رسالته وهذا نص جوابه :

« أما بعد ، فقد وصل إلي كتابك يا معاوية ، وفهمت ما فيه فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب ويتعلق بأرجل الضفادع طمعا فى الحياة إنما يكفر النعم ويستدعي النقم من حاد اللّه ورسوله وسعى في الأرض فسادا فاما سبك لي فلولا حلم ينهاني عنك ، وخوفي أن أدعى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء ، وأما تعييرك لي بسمية فان كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة (1) وأما زعمك انك تخطفنى بأضعف ريش وتتناولني بأهون سعي فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر؟ أم هل سمعت بذئب أكله خروف؟

فامض الآن لطيتك ، واجتهد جاهدك فلست أنزل إلا بحيث تكره ، ولا اجتهد إلا فيما يسوؤك ، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه ، الطالع إليه والسلام »

ولما قرأ معاوية رسالة زياد طار قلبه رعبا وداخله فزع شديد فاستدعى داهية العرب « المغيرة بن شعبة » فقال له :

« يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمنى فانصحنى فيه وأشر علي برأي المجتهد ، وكن لي أكن لك ، فقد خصصتك بسري وآثرتك على ولدي ».

فقال له المغيرة :

« فما ذاك؟ واللّه لتجدني في طاعتك أمضى من الماء في الحدور ومن ذى الرونق في كف البطل الشجاع ».

ص: 171


1- يشير بذلك إلى ما يرويه التاريخ من أن هند قد حملت به قبل أن تتزوج أبا سفيان ، وكان زواجها به سترا عليها. وإن المتهمين بها جماعة من الأعراب.

ولما أظهر له المغيرة الانقياد والخضوع لطاعته عرض عليه مهمته قائلا :

« يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي (1) وهو رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة جوال الفكر مصيب إذا رمى ، وقد خفت منه الآن ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حيا ، وأخشى ممالأته حسنا : فكيف السبيل إليه؟ وما الحيلة في إصلاح رأيه؟ ».

ولما عرف الداهية الماكر مهمة معاوية أشار عليه بأن يخدعه ويمنيه ، ويكتب له بناعم القول وكان رأيه في ذلك مبنيا على دراسته لنفسية زياد ومعرفته باتجاهه وميوله قائلا له :

« ان زيادا رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر ، فلو لاطفته المسألة وألنت له الكتاب لكان لك أميل وبك أوثق ، فاكتب إليه وأنا الرسول »

واستجاب معاوية لنصيحة المغيرة ، فكتب إلى زياد رسالة تمثلت فيها المواربة والخداع وهذا نصها :

« من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان ، أما بعد : فان المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب ، وانك للمرء المضروب به المثل قاطع الرحم ، وواصل العدو ، وحملك سوء ظنك بي وبغضك لي على أن عققت قرابتي ، وقطعت رحمي وبتت نسبى وحرمتي حتى كأنك لست أخي ، وليس صخر بن حرب أباك وأبي ، وشتان ما بيني وبينك ، أطلب بدم ابن أبي العاص وأنت تقاتلني ، ولكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء فكنت « كتاركة بيضها بالعراء ، وملحفة بيض أخرى جناحها » وقد رأيت أن أعطف عليك ولا أؤاخذك بسوء سعيك ، وان أصل رحمك ، وأبتغي الثواب في أمرك ، فاعلم أبا المغيرة أنك

ص: 172


1- كشيش الأفاعي : صوت جلدها.

لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا ، فان بني شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح ، فارجع رحمك اللّه إلى أصلك ، واتصل بقومك ولا تكن كالموصول يطير بريش غيره ، فقد أصبحت ضال النسب ، ولعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج فدعه عنك ، فقد أصبحت على بينة من أمرك ووضوح من حجتك ، فان أحببت جانبي ووثقت بي فامرة بامرة وان كرهت جانبي ولم تثق بقولي ففعل جميل لا عليّ ولا لي والسلام ».

وأخذ المغيرة الرسالة التي كتبت على وفق رأيه وهي لا تحمل جانبا من الواقعية ، ولا بصيص فيها من نور الحق والصدق فغادر دمشق إلى فارس وأقبل إلى زياد فلما رآه رحب به وأدناه من مجلسه وأخذ الداهية الماكر يكلم زيادا بمختلف الطرق وشتى الأساليب حتى غزى قلبه وهيمن على مشاعره فأجابه إلى ما أراد.

وبعد ما وقع زياد في اشباك المغيرة غادر فارس إلى دمشق فلما انتهى إليها ومثل عند معاوية رحب به وادناه ، وأمر أخته جويرية بنت أبي سفيان أن تستدعيه ، فلما حضر عندها كشفت عن شعرها بين يديه ، وقالت له : « أنت أخي أخبرني بذلك أبو مريم » ثم أخرجه إلى المسجد وجمع الناس ليعلن أمامهم أن زيادا أخوه ، وقام أبو مريم السلولي الخمار أمام ذلك المجتمع الحاشد فادى شهادته بزنا أبى سفيان بسمية شهادة أخزت أبا سفيان ومعاوية والحقت العار بزياد وهذا نصها :

« أشهد أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف وأنا خمار فى الجاهلية ، فقال أبغى بغيا. فاتيته وقلت : لم أجد إلا جارية الحرث بن كلدة ،

ص: 173

سمية. فقال ائتني بها على ذفرها (1) وقذرها » وثار زياد فقطع على أبى مريم شهادته قائلا له بصوت يقطر غضبا :

« مهلا يا أبا مريم ، إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما ».

فقال أبو مريم :

« لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إليّ ، وإنما شهدت بما عاينت ورأيت ».

ثم استرسل فى بيان شهادته فقال :

« واللّه لقد أخذ بكم درعها ، وأغلقت الباب عليهما ، وقعدت دهشانا فلم ألبث أن خرج عليّ يمسح جبينه ، فقلت ، مه يا أبا سفيان. فقال : ما أصبت مثلها يا أبا مريم لو لا استرخاء من ثديها ، وذفر من فيها ».

هذه شهادة أبى مريم في فجور سمية وتندى لفضاعتها وخزيها وجه الإنسانية ولكن معاوية ما خجل منها وما أنف ولا استحى ، وكيف يخجل ابن هند من هذه المساوئ والمخازي وهو الذي جر ذيله على الرذائل والخداع كما يقول (2) حتى صارت الرذيلة عنصرا من عناصره ومقوما من مقوماته.

لقد ألحق معاوية زياد بن أبيه به ليستريح من خصومته ، ويستعين به على تحقيق أهدافه وتدعيم سلطانه.

الاستياء الشامل :

وأثر استلحاق معاوية لزياد استياء شاملا في نفوس المسلمين ، فقد

ص: 174


1- الذفر : الرائحة النتنة.
2- التاج للجاحظ ص 103.

رووا أن معاوية قد عمد إلى مخالفة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والى هجر سنته ، وقد خافوه على دينهم ، فاندفع جمع من الأحرار والمصلحين إلى إعلان سخطهم وإنكارهم عليه وعلى زياد ونشير إلى بعض المنكرين والناقدين له وهم :

1 - الإمام الحسن :

ورفع الإمام الحسن رسالة إلى زياد بين فيها فساد استلحاقه بمعاوية ، وأعرب له ان الإسلام لا يقر ذلك بحال من الأحوال ، وهذا نصها :

« من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية أما بعد : فان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال الولد للفراش ، وللعاهر الحجر والسلام » (1)

وقال «ع» له في حضور معاوية وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم : « وما أنت يا زياد وقريشا؟ لا أعرف لك فيها أديما صحيحا ، ولا فرعا نابتا ، ولا قديما ثابتا ، ولا منبتا كريما ، بل كانت أمك بغيا تداولها رجال قريش وفجار العرب فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا - يعنى معاوية - بعد ممات أبيه ، مالك افتخار ، تكفيك سمية ويكفينا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) » (2).

2 - الإمام الحسين :

ولما رأى سيد الشهداء الإمام الحسين معاوية قد حمل معول الهدم على جميع الأسس الإسلامية اندفع (عليه السلام) ثائرا في وجهه ورفع له رسالة سجل فيها موبقاته ، وقد عرض فيها استلحاقه لزياد ، وهذا نص ما كتبه في ذلك :

« أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الولد للفراش وللعاهر الحجر ،

ص: 175


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 73.
2- المحاسن والمساوي للبيهقي 1 / 58.

فتركت سنة رسول اللّه تعمدا واتبعت هواك بغير هدى من اللّه » (1).

3 - يونس بن عبيد :

وكان يونس بن عبيد ممن حضر هذه المأساة ، وشاهد فصولها ، فانطلق إلى معارضة معاوية وإلى الإنكار عليه قائلا :

« يا معاوية قضى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ان الولد للفراش ، وللعاهر الحجر وقضيت أنت أن الولد للعاهر مخالفة لكتاب اللّه تعالى ، وانصرافا عن سنة رسول اللّه بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان ».

فانبرى إليه معاوية يتهدده ويتوعده بالقتل قائلا :

« واللّه يا يونس لتنتهي أو لأطيرن بك طيرة بطيئا وقوعها ».

فقال له يونس : « هل إلا إلى اللّه ، ثم أقع؟ ».

قال له معاوية : - نعم - (2).

4 - عبد الرحمن بن الحكم :

وما رضى بهذا الاستلحاق حتى بنو أمية ، فقد نقموا عليه ذلك فقد أقبل عبد الرحمن بن الحكم ومعه جماعة من بني أمية فقال عبد الرحمن لمعاوية :

« يا معاوية ، لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا - يعني على بني العاص قلة - وذلة ».

فالتفت معاوية إلى مروان قائلا :

« اخرج عنا هذا الخليع ».

« أى واللّه إنه لخليع ما يطاق ».

ص: 176


1- رجال الكشي ص 33.
2- مروج الذهب 2 / 311.

فقال معاوية : « واللّه لو لا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق ، ألم يبلغنى شعره في وفي زياد ».

قال مروان وما ذا قال؟ :

- إنه يقول :

ألا أبلغ معاوية بن حرب *** لقد ضاقت بما يأتي اليدان

أتغضب أن يقال أبوك عف *** وترضى أن يقال أبوك زاني

فاشهد أن رحمك من زياد *** كرحم الفيل من ولد الأتان

وأشهد انها حملت زيادا *** وصخرا من سمية غير دان

وتألم معاوية حينما قرأها فقال : واللّه لا أرضى عنه حتى يأتي زيادا فيترضاه ويعتذر إليه.

وخرج عبد الرحمن وقد غضب عليه معاوية ، فجاء إلى الكوفة وقصد زيادا يعتذر منه فاستأذن عليه بالدخول فلم يأذن له ، وتوسط في شأنه وجهاء قريش فسمح له بالدخول ، فلما دخل عليه أعرض عنه ، ثم التفت له قائلا :

« أنت القائل؟ ما قلت!! ».

- ما الذي قلت؟.

- قلت ما لا يقال!!

- أصلح اللّه الأمير أنه لا ذنب لمن أعتب ، وإنما الصفح عمن أذنب فاسمع مني ما أقول :

- هات ما عندك.

إليك أبا المغيرة تبت مما *** جرى بالشام من خطل اللسان

وأغضبت الخليفة فيك حتى *** دعاه فرط غيظ أن هجاني

وقلت لمن لحاني فى اعتذاري *** إليك أذهب فشأنك غير شاني

ص: 177

عرفت الحق بعد ضلال رأيى *** وبعد الغي من زيغ الجنان

زياد من أبي سفيان غصن *** تهادى ناضرا بين الجنان

أراك أخا وعما وابن عم *** فما أدري بعيب ما تراني

وإن زيادة في آل حرب *** أحب إلي من وسطى بناني

ألا بلغ معاوية بن حرب *** فقد ظفرت بما تأتي اليدان

فقال زياد :

« أراك أحمق صرفا شاعرا صنع اللسان ، يسوغ لك ريقك ساخطا ومسخوطا ولكنا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك ، فهات حاجتك ».

- تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني.

- نعم.

ثم دعا كاتبه فرسم له العفو والرضا ، فأخذ الكتاب ومضى إلى معاوية فلما قرأ الأبيات قال :

« لحا اللّه زيادا ألم ينتبه لقوله : وإن زيادة في آل حرب؟ ».

ثم رضى عن عبد الرحمن ورده إلى حالته الأولى (1).

5 - أبو العريان :

وكان أبو العريان شيخا مكفوفا ذا لسان وعارضة شديدة فاجتاز عليه زياد فى موكبه فقال أبو العريان :

« ما هذه الجلبة؟ ».

« إنه موكب زياد بن أبي سفيان ».

« واللّه ما ترك أبو سفيان إلا يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمدا فمن أين جاء زياد؟ ».

ص: 178


1- شرح ابن أبى الحديد 4 / 71 ، الإستيعاب 1 / 552 - 554.

ونقل المتزلفون حديث أبي العريان إلى زياد فأشار عليه بعض خواصه أن يوصله بالمال حتى يكف لسانه عنه ، فاستصوب الرأي وأمر له بمائتي دينار فجاء بها الرسول إليه ، فقال له :

« يا أبا العريان ابن عمك زياد الأمير قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها » فلما سمع أبو العريان بذلك طار فرحا فقال :

« وصلته رحم أى واللّه ابن عمي حقا ».

واجتاز موكب زياد عليه في اليوم الثاني ، فسلم عليه زياد ، فبكى أبو العريان ، فقيل له :

« ما يبكيك؟ ».

« عرفت صوت أبي سفيان في صوت زياد ».

هكذا تفعل المادة بالضمائر القذرة التي لم تنطبع فيها العقيدة ، وكان أبو العريان عاريا من الإيمان فتغير بهذه الصلة الضئيلة ، ولما سمع حديثه معاوية كتب إليه :

ما ألبثتك الدنانير التي بعثت *** أن لونتك أبا العريان الوانا

أمسى إليك زياد فى أرومته *** نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانا

لله در زياد لو تعجلها *** كانت له دون ما يخشاه قربانا

فلما قرأت على أبي العريان هذه الأبيات أجابه :

احدث لنا صلة تحيا النفوس بها *** قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا

أما زياد فقد صحت مناسبه *** عندي فلا أبتغي في الحق بهتانا

من يسد خيرا يصبه حين يفعله *** أو يسد شرا يصبه حيثما كانا (1)

6 - أبو بكرة :

ص: 179


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 71.

ومن جملة الناقمين على معاوية والناقدين لزياد على هذا الاستلحاق الفظيع أبو بكرة (1) أخو زياد ، فقد أنكر على أخيه أشد الإنكار ، فقاطعه ولم يتصل به ، ولما عزم زياد على السفر إلى بيت اللّه الحرام أقبل إليه أبو بكرة فلما بصر به بعض الحرس أقبل مسرعا إلى زياد ، فقال له :

« أيها الأمير هذا أخوك أبو بكرة قد دخل القصر ».

- ويحك أنت رأيته؟.

- ها هو ذا قد طلع!!.

أقبل أبو بكرة فوقف على رأس زياد وكان قد احتضن غلاما له فوجه أبو بكرة خطابا إلى الغلام ولم يوجهه إلى زياد ترفعا واستحقارا له :

« يا غلام ، إن أباك ركب في الإسلام عظيما ، زنى أمه وانتفى من أبيه ، ولا واللّه ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط ، ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك يوافى الموسم غدا ، ويوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي من أمهات المؤمنين ، فان جاء ان يستأذن عليها فأذنت له فاعظم بها

ص: 180


1- أبو بكرة : اسمه نفيع بن الحارث بن كلدة ، قيل اسم أبيه مسروح ، وكان عبدا للحارث ، فاستلحقه الحارث وهو أخو زياد ، وإنما لقب بأبى بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف ببكرة إلى النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلذا سمى بهذا الاسم ، وارتكب جريمة هو وجماعة من أصحابه فجلدهم عمر بن الخطاب ثم تابوا ، فكان يقبل شهادتهم بعد التوبة إلا أبا بكرة فانه لم يجز شهادته ، قال ابن سعد مات بالبصرة في ولاية زياد ، وقال المدائني : مات سنة 50 هج ، وقيل مات هو والحسن (عليه السلام) في سنة واحدة ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب 10 / 469 وجاء في الإستيعاب المطبوع على هامش الإصابة 3 / 537 أن أبا بكرة أوصى بنيه حين الوفاة فقال لهم : « إن أبي مسروح الحبشي ».

فرية على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومصيبة وان هي منعته فاعظم بها على أبيك فضيحة ».

ثم تركه وانصرف ، فقال زياد :

« جزاك اللّه يا أخي عن النصيحة خيرا ساخطا كنت أو راضيا » (1)

7 - يزيد بن المفرغ :

وهجا هذا الشاعر العبقرى زيادا ببيتين من الشعر كانتا وصما عليه وعارا مدى الأجيال والأحقاب وهما :

فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر *** هل نلت مكرمة إلا بتأمير

عاشت سمية ما عاشت وما علمت *** أن ابنها من قريش في الجماهير

وارتاع زياد وحزن من هذا الهجاء ، فقال :

« ما هجيت قط أشد علي من هذين البيتين » (2).

ولم يقتصر هذا الشاعر الفذ على ذلك فقد نظم أقسى الشعر والذعه نقدا وهجاء لزياد ومعاوية على ارتكابهما هذه الجريمة التي انتهكت بها حرمة الإسلام وإليك بعض ما جادت به قريحته وخياله الخصب :

شهدت بأن أمك لم تباشر *** أبا سفيان واضعة القناع

ولكن كان أمر فيه لبس *** على حذر شديد وارتياع

إذا أودى معاوية بن حرب *** فبشر شعب قعبك بانصداع

وقال أيضا :

إن زيادا ونافعا وأبا *** بكرة عندي من أعجب العجب

ص: 181


1- ابن أبي الحديد 4 / 70 ، الإستيعاب 1 / 550 مع اختلاف يسير.
2- نهاية الأرب فى فنون الأدب 3 / 281 وفي رواية ( ما شجيت بشيء أشد علي من قول ابن المفرغ ).

هم رجال ثلاثة خلقوا *** في رحم أنثى وكلهم لأب

ذا قرشي كما تقول وذا *** مولى وهذا ابن عمه عربي (1)

وذكر المسعودى في « مروج الذهب » ان هذه الأبيات إلى خالد النجاري وانه قال في هجاء زياد لما استلحق به عبادا :

أعباد ما اللؤم عنك محول *** ولا لك أم من قريش ولا أب

وقل لعبيد اللّه مالك والد *** بحق ولا يدري امرؤ كيف تنسب

لقد كان استلحاق زياد لعباد على غرار استلحاق معاوية له مخالفا لسنة رسول اللّه وقد قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه فالجنة عليه حرام » وما جرأ زيادا على ارتكاب هذه الموبقة إلا معاوية فهو الذي فتح باب الفساد ، وخالف أحكام الإسلام وتعاليمه وفروضه من دون خيفة ولا حذر.

8 - الحسن البصري :

ومن جملة الناقمين على معاوية والناكرين عليه الحسن البصري (2) فقد

ص: 182


1- الإصابة 1 / 563.
2- الحسن البصري : أبوه أبو يسار كان مولى لزيد بن ثابت الأنصاري ، وأمه خيرة كانت مولاة لأم سلمة زوج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب ، بالمدينة يقال أنه ولد على الرق ، وكان من سادات التابعين وكبرائهم ، توفى بالبصرة مستهل رجب سنة 110 ، وكان تشييعه حافلا لم يشهد له أحد نظيرا ، قال حميد الطويل توفى الحسن عشية الخميس ، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره ، وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به فلم تقم صلاة العصر بالجامع ، ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ لأنهم تبعوا كلهم جنازته ، ولم يبق بالمسجد من يصلي العصر ، ولم يحضر ابن سيرين جنازته لشيء كان بينهما ، جاء ذلك في وفيات الأعيان 4 / 124 وكان الحسن من المؤازرين لبني مروان حتى قالوا عنه : لو لا لسان الحسن وسيف الحجاج لوئدت الدولة المروانية في لحدها ، وأخذت من وكرها ، وذكر الحفاظ أنه كان مدلسا في حديثه.

جعل هذا الاستلحاق إحدى موبقاته وسيئاته ومردياته فقال : « اربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها ( يعني الخلافة ) بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير والديباج ، ويضرب بالطنابير ، وادعاؤه زيادا ، وقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » ويلا له من حجر وأصحاب حجر مرتين » (1)

وهذه الجرائم الأربعة التي هي بعض موبقات معاوية تعد من أفظع فظع الكبائر التي اقترفها ، وسيحاسب عليها حسابا عسيرا عند اللّه ، وذلك لما أحدثته من المضاعفات السيئة التي مني بها المسلمون. 9 - السكتواري :

وقال العلامة السكتواري : « أول قضية ردت من قضايا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علانية دعوة معاوية زيادا ، وكان أبو سفيان تبرأ منه وادعى أنه ليس من أولاده ، وقضى بقطع نسبه ، فلما تأمر معاوية قربه واستأمره ، ففعل ما فعل زيادا بن أبيه - يعني ابن زنية - من الطغيان والإساءة في حق أهل بيت النبوة » (2).

وهؤلاء بعض الناقمين على معاوية والمنكرين عليه في استلحاقه زيادا ،

ص: 183


1- تاريخ الطبري 6 / 157 ، تأريخ أبي الفداء 1 / 196.
2- محاضرة الأوائل ص 136.

وهم - من دون شك - كانوا مدفوعين بدافع العقيدة والغيرة على الإسلام فقد رأوا أن معاوية قد عمد بذلك إلى احياء سنن الجاهلية وبدعها ، واماتة ما فرضه الإسلام ، استجابة لعواطفه ورغبته الملحة في السيطرة على المسلمين وإخضاع القوى المعارضة له بشتى الوسائل والأساليب.

وعلى أي حال فان زيادا قد استخدم جميع الوسائل لإثبات نسبه وإلحاقه بالعنصر الأموي فقد كتب إلى عائشة رسالة افتتحها بقوله : « من زياد بن أبي سفيان » وقد ظن أنها ستقر نسبه فيتخذ من ذلك دليلا يستدل به على صحة نسبه ، ولم يخف ذلك على عائشة فقد أجابته « من عائشة أم المؤمنين إلى ولدها زياد » (1) وقد خاب بذلك سعيه ، وباء بالفشل والخزي ، ولما ولي الكوفة قال لأهلها :

- قد جئتكم في أمر ما طلبته إلا لكم.

- أدعنا إلى ما شئت.

- تلحقون نسبي إلى معاوية.

فاعلن الأحرار والمؤمنون عدم إجابتهم له قائلين :

« أما بشهادة الزور فلا!! » (2).

لقد أبت العرب من أن تلحق هذا الدعي بها ، ولكن السلطة الأموية سجلته في ديوان قريش ، وظل على هذا الحال هو وأبناؤه ولما انقرضت الدولة الأموية وجاءت دولة بني العباس الغى الخليفة المهدي هذا الاستلحاق وأمر باخراج آل زياد من ديوان قريش ومن العرب وذلك في سنة 159 هج وبذلك فقد عادت ذرية زياد إلى جدها الأول عبيد الرومي.

ص: 184


1- النصائح ص 58.
2- الطبري 6 / 123.

15 - عماله وولاته :

وعانت الشعوب الإسلامية في أيام معاوية ألوانا مريعة من المحن والخطوب لأن الحكم القائم فيها مبني على العنف والجبروت ، وعلى البطش والإرهاق ، واستنزاف الثروات ، وعلى التنكر لجميع القيم الإنسانية ، حتى ضج المجتمع من الظلم والجور والاستبداد ، فلم تبق حاضرة من الحضّر الإسلامية إلا عمها الخوف ، وساد فيها الإرهاب والاضطراب.

ومن مظاهر ذلك الظلم الاجتماعي أن معاوية سلط على المسلمين حثالة من شذاذ الجلادين والسفاكين ، فاسرفوا في سفك الدماء ، وعمدوا إلى نهب امكانيات البلاد ، وحكموا البلاد حكما كيفيا يستند إلى الأهواء والشهوات فلا عهد له بالدعة والعدل ، وقد وصف الخوارج قسوة ذلك الحكم ومدى شذوذه وجوره ، فقالوا : « إن بني أميّة فرقة بطشهم بطش الجبارين ، يأخذون بالظنة ويقضون بالهوى ، ويقتلون على الغضب » (1).

وهو وصف دقيق للسياسة الأموية الجائرة التي انتهجت منهج الشدة في جميع مجالاتها ، فلم تؤمن بحقوق الإنسان ، ولا بكرامته ، واستحقاقه الحياة ، فكانت تسوق المواطنين إلى المجازر والسجون ، وتقضي بالهوى والشهوات ، فلا تستند فى حكمها إلى كتاب اللّه وسنة نبيه ، وتقتل على الغيظ والغضب في سبيل مصالحها وأهدافها الضيقة.

وقد عبر عمرو بن العاص وزير معاوية ، وو الى مصر عما يكنه في نفسه الشريرة من الاستهتار والاستهانة بحقوق المسلمين ، فقال : « إنما السواد بستان لقريش » إن السواد الذي هو ملك للمسلمين ، وسائر الشؤون الاقتصادية

ص: 185


1- البيان 1 / 95.

الأخرى فى رأيه ملك لقريش ، وأي حق لها في ذلك وهي التي ناجزت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأعلنت الحرب على أهدافه ومبادئه ، ووقفت صامدة تدافع عن جاهليتها وأوثانها ، فأي حق لها بأموال المسلمين ، وأي حق لها في السيطرة على شئونهم.

وعلى أي حال فان كسرى العرب - كما يقولون - قد مكن المجرمين والسفاكين من رقاب المسلمين ، فاسند لهم الحكم المطلق ، يتصرفون فى العباد والبلاد كيفما شاءوا ، قد أقر جورهم ، وأمضى ظلمهم ، وحمى جانبهم فقاموا بدورهم على استعباد المسلمين وإذلالهم وإرهاقهم ، ونذكر عرضا موجزا من تراجم هؤلاء السفاكين مع بيان بعض ما صدر منهم من الأعمال البربرية ، وإلى القراء ذلك :

1 - سمرة بن جندب :

ومن سماسرة معاوية وأعوانه على نشر الظلم والجور سمرة بن جندب الشقي الأثيم ، فقد سودت جرائمه وجه التأريخ وصحائف السير ، وقبل التحدث عن سيرته فى زمن ولايته من قبل السلطة الأموية نذكر - بايجاز - سيرته أيام النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لقد كان هذا الوغد في زمان النبيّ معروفا بالنفاق والتمرد ، فقد ذكر الرواة انه زاحم أحد الأنصار في نخل - وما أهونها - كانت له في بستان ذلك الأنصاري فشكا أمره إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاستدعى سمرة فلما مثل بين يديه قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له :

« بع نخلك من هذا وخذ ثمنه ».

- لا أفعل.

- خذ نخلا مكان نخلك.

- لا أفعل.

ص: 186

- فاشتر منه بستانه.

- لا أفعل.

- فاترك لي هذا ولك الجنة.

- لا أفعل.

ولما رأى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عناد سمرة وشره وخبثه وضراوته وإضراره للأنصاري التفت (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - والاستياء بادي عليه - إلى الأنصاري قائلا :

« اذهب فاقطع نخله فانه لا حق له فيه » (1).

وتدل هذه القصة على تمادي سمرة فى الأثم والشقاء ، وانعدام الانسانية والمثل الكريمة من نفسه فقد ترجاه سيد النبيين وأشرف المخلوقين في حسم النزاع والخصومة ، وضمن له عوض تلك النخيلات الزهيدة بقعة في الفردوس مقر الأنبياء والصالحين يتنعم فيها فلم يجبه وأصر على تمرده وعصيانه فحرم نفسه السعادة ورضى لها بالشقاء ، ومن موبقات سمرة ومردياته انه كان يبيع الخمر بعد ما حرمها الإسلام فبلغ عمر بن الخطاب ذلك فقال :

« قاتل اللّه سمرة ان رسول اللّه قال لعن اللّه اليهود حرمت عليهم

ص: 187


1- شرح ابن أبي الحديد 1 / 363 وذكر الزمخشري في الفائق ان رسول اللّه قال لسمرة انك رجل مضار لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ، وفي رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانه لا ضرر ولا ضرار ، وادعى فخر المحققين في الايضاح في باب الرهن تواتر هذا الحديث ، والتواتر المدعى أما اجمالي أو معنوي ، وأما اللفظى فغير حاصل نظرا لاختلاف اللفظ في نقل الحديث وقد بسطنا الكلام في هذه القاعدة في الجزء الثالث من مؤلفنا ( إيضاح الكفاية ).

الشحوم فباعوها » (1) هذا وضع سمرة في غلظته وجفائه وتمرده ولما آل الأمر إلى معاوية استعمله زياد على البصرة نائبا عنه فاسرف في قتل الأبرياء وإزهاق الأنفس بغير حق فقد حدث محمد بن سليم قال سألت أنس بن سيرين (2) :

« هل كان سمرة قتل أحدا؟ ».

فاندفع أنس بحرارة والتأثر بادى عليه قائلا :

« وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس ، فقال له ( يعني زيادا ) « هل تخاف أن تكون قد قتلت أحدا بريئا!! ».

فانبرى الأثيم معلنا عدم اهتمامه باراقة دماء المسلمين قائلا :

« لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت » (3).

وقال أبو سوار العدوي (4) : قتل سمرة من قومى في غداة سبعة

ص: 188


1- مسند أحمد بن حنبل 1 / 25 وفي رواية الزمخشري في « الفائق » قال لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها « أي أذابوها فباعوها ».
2- أنس بن سيرين الأنصاري ولد لسنة أو لسنتين بقيتا من خلافة عثمان روى عن جماعة من الصحابة وروى عنه جماعة. قال ابن معين وغيره إنه ثقة وقال ابن سعد إنه ثقة قليل الحديث وقال العجلى تابعي ثقة مات سنة « 118 هج » وقيل مات سنة « 120 هج » جاء ذلك في تهذيب التهذيب « 1 / 374 ».
3- الكامل 3 / 183 الطبري 6 / 132.
4- أبو سوار العدوي : قيل اسمه حسان بن حريث وقيل حريث بن حسان وقيل منقذ روى عن أمير المؤمنين «ع» وعن الإمام الحسن وروى عنه جماعة آخرون قال ابن سعد كان ثقة وعن أبي داود انه من ثقات الناس وقال النسائي في الكنى ابو السوار حسان بن حريث العدوي ثقة جاء ذلك في تهذيب التهذيب 12 / 123.

وأربعين رجلا قد جمع القرآن (1). وحدّث عوف عن اجرام سمرة قال : أقبل سمرة من المدينة فلما كان عند دور بنى أسد خرج رجل من بعض أزقتهم ففاجأ أول القوم فحمل عليه رجل فاوجره الحربة « عبثا وعتوا » قال ثم مضت الخيل فأتى عليه سمرة وهو متشحط بدمه فقال :

« ما هذا؟ ».

« أصابته أوائل خيل الأمير!! ».

فقال « عتوا واستكبارا » : « إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا (2) وكان هذا الطاغي الظامئ إلى إراقة الدماء يقتل على الظنة والتهمة فقيل له :

« يا سمرة : ما تقول لربك غدا؟ تؤتى بالرجل فيقال لك هو من الخوارج فتأمر بقتله ، ثم تؤتى بآخر فيقال لك ليس الذي قتلته بخارجي إنما وجدناه ماضيا في حاجته فشبه علينا وإنما الخارجي هذا فتأمر بقتل الثاني!! »

فأجاب سمرة عما انطوت عليه نفسه من الوحشية والإجرام وما طبع عليه من الزيغ والضلال قائلا :

« وأي بأس في ذلك؟!! إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة وإن كان من أهل النار مضى إلى النار » (3).

وحدث الحسن البصري قال جاء رجل من أهل خراسان إلى البصرة فزكى مالا كان معه في بيت المال ، وأخذ براءة ثم دخل المسجد فصلى ركعتين ، فأخذه سمرة واتهمه برأي الخوارج فقدمه فضرب عنقه فنظروا

ص: 189


1- تأريخ الطبري 6 / 132 وغيره.
2- الكامل 3 / 183 وذكره الإمام شرف الدين في الفصول المهمة ( ص 122 ).
3- ابن أبي الحديد 1 / 363.

فيما معه فاذا البراءة - أي البراءة من فكرة الخوارج - بخط بيت المال فاندفع أبو بكرة نحو سمرة وهو منكر عليه قائلا :

« يا سمرة أما سمعت اللّه تعالى يقول : ( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى؟ ».

فقال سمرة : « أخوك ( يعني زيادا ) أمرني بذلك » (1).

وبقى سمرة ملازما لزياد فلما هلك صار بخدمة الأثيم الوغد ابنه ( عبيد اللّه ) فكان مديرا لشرطته واشترك معه في أفظع جريمة سجلها التأريخ وهي : قتل سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام فكان يحرض الناس على حربه والخروج إلى قتله (2) ومن اجرامه وموبقاته انه جيء إليه بجمهور من المسلمين فكان يقول للرجل ما دينك؟ فيقول : أشهد أن لا إله إلا اللّه ، واني بريء من الحرورية ، فيأمر به فتضرب عنقه حتى أعدم في جلسة واحدة ما يزيد على عشرين مسلما (3) وما فعل سمرة هذه الموبقات إلا إرضاء لمعاوية وقد قال بعد ما عزله عن ولاية البصرة : « لعن اللّه معاوية ، واللّه لو أطعت اللّه كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا » (4).

ص: 190


1- شرح ابن أبي الحديد.
2- شرح ابن أبي الحديد.
3- النصائح ص 54.
4- نفس المصدر ، والعجب من البخاري حيث أخذ بأقوال سمرة واعتمد على حديثه في 8 / 138 وبموجب هذه الأعمال التي ذكرتها رواة الأثر يجب أن يعد من جملة المارقين عن الدين ولا تؤخذ رواياته وأخباره ولكن قاتل اللّه العصبية فانها القت الناس فى شر عظيم ، وحرفتهم عن الطريق القويم.

ومهما يكن من شيء فان هذه الفظائع التي صدرت من سمرة تدل نفس تجردت منها الإنسانية والرحمة وتمادت فى العقوق والإجرام والشر.

2 - بسر بن ارطاة :

ومن ولاة معاوية وأعوانه على تحقيق الظلم والجور والعسف والإرهاب بسر بن ارطاة الوغد الأثيم الذي فعل الأفاعيل المنكرة فقتل الشيوخ الركع وذبح الأطفال الرضع لتدعيم ملك معاوية وسلطانه ، فانه لما وجهه معاوية مع جيشه إلى اليمن فعل الأفاعيل المنكرة التي لم يشاهد التأريخ نظيرا لها في فظاعتها وقسوتها ، وقبل أن يتوجه هذا الأثيم إلى مهمته استدعاه معاوية فزوده بوصيته النارية التي احتوت على ترويع المسلمين وقتلهم وهذا نصها :

« سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس وأخف من مررت به وانهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل فى طاعتنا فاذا دخلت المدينة فارهم أنك تريد أنفسهم واخبرهم أنه لا براءة لهم عندك ولا عذر حتى إذا ظنوا أنك موقع بهم فاكفف عنهم ثم سر حتى تدخل مكة ولا تعرض فيها لأحد وارهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة واجعلها شرودات حتى تأتي صنعاء والجند فان لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم » (1).

وقد امتثل هذا المجرم وصية ابن هند فروع المسلمين وأدخل الفزع والخوف فيهم وأشاع القتل والفساد في الأرض ، فقد سبى نساء همدان وأقمن في الأسواق فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت فكن أول مسلمات سبين في الإسلام (2) واجتاز على قوم واقفين على بئر لهم فالقاهم مع غلمانهم

ص: 191


1- شرح ابن أبي الحديد 1 / 117.
2- الإستيعاب 1 / 165 العلم الشامخ ص 570.

في تلك البئر (1) ثم ولى عنهم وزحف إلى يثرب فدخلها بغير حرب وصعد المنبر فاعرب عن طغيانه وكفره قائلا : « واللّه لو لا ما عهد إلي معاوية ما تركت بها ( يعنى المدينة ) محتلما » واستقام فيها شهرا فهدم دور أهلها وجعل يستعرض الناس فلا يقال له عن أحد أنه شرك في دم عثمان إلا قتله ثم زحف بجيشه إلى اليمن فقتل جمهورا غفيرا. شيعة أمير المؤمنين علیه السلام وطلب طفلين لعبيد اللّه بن العباس فلما ظفر بهما أمر بقتلهما فقام إليه رجل من كنانة فقال له :

« على م تقتل هذين؟ ولا ذنب لهما ، فان كنت قاتلهما فاقتلني »

فأمر بقتل الكناني ثم قتل الطفلين ، فانبرت إليه امرأة من كنانة وقد طاش لبها من هذا العمل الفظيع فقالت بنبرات تقطر ألما وحزنا :

( يا هذا قتلت الرجال ، فعلى م تقتل هذين واللّه ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام ، واللّه يا ابن أبي أرطاة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء ) (2).

نعم واللّه إن سلطة معاوية لسلطة سوء فقد قامت على الظلم والجور وأسست على إراقة الدماء وإدخال الرعب والفزع في نفوس الأبرياء.

وذكر الرواة أن هذا الأثيم قتل ثلاثين ألفا من المسلمين عدا من

ص: 192


1- النصائح ص 54.
2- الكامل 3 / 194 الطبري 6 / 80 وذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج 1 / 120 أن بسرا التفت إلى نسوة كنانة فقال لهن : واللّه لهممت أن أضع فيكن السيف ، فقالت له : الناقدة لجوره : ( واللّه لأحب إلي إن فعلت ) ثم زحف هذا المجرم إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس لأن ابني عبيد اللّه بن العباس كانا متسترين في بيت امرأة من أبنائهم تعرف بابنة بزرج.

أحرقهم بالنار (1).

3 - أبو هريرة :

كان شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي ذليل الجانب محطم الكيان نشأ في صباه ، وهو عاشق للهرة ، مولع بحبها حتى لقب بها (2) قضى شطرا من حياته وهو بائس فقير معدم يعيش على التسول فان لم يجده كان خادما فى البيوت يستأجر نفسه لشبع بطنه (3) راضيا بهذه الضعة والهوان ، ولما انبثق نور الإسلام دخل فيمن دخل في الإسلام فكان على وضعه الأول من الفقر والبؤس وقد أدرج نفسه بفقراء الصفة (4) يعيش بفضلات البيوت وصدقات المسلمين ، وقد وصف فقره وسوء حاله فقال : « كنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة » (5) وكان يتصل برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليشبع بطنه ويسد خلته (6) وهكذا بقى على هذا الحال المرير حفنة من السنين وهو جائع عريان لا مأوى له ولا مال فلما انتهى أمر الخلافة إلى عمر تفضل عليه

ص: 193


1- ابن أبي الحديد 1 / 120.
2- المعارف 1 / 93 وجاء فيه أن أبا هريرة كان يقول : ( وكنيت بأبي هرة بهرة صغيرة كنت العب بها ) ولغرامه بالهرة وهيامه بحبها حدث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ان امرأة دخلت النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ) ذكره البخاري فى صحيحه 2 / 149.
3- الإصابة 4 / 207 وذكره أبو نعيم في الحلية وابن سعد في الطبقات.
4- الصفة : موضع مظلل من مسجد النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان أضياف الاسلام يبيتون بها ، ذكر ذلك الفيروزآبادي في ( القاموس ) في مادة الصف.
5- صحيح البخاري 2 / 1.
6- الإصابة 4 / 204.

فأنقذه من هوة الفقر وحضيض البؤس فاستعمله واليا على البحرين سنة احدى وعشرين من الهجرة فلما كانت سنة ثلاث وعشرين عزله لأنه ظهرت منه الخيانة ، ولم يكتف بعزله حتى استنقذ منه ما اختلسه من أموال المسلمين فقال له :

« علمت أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ثم بلغنى أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار ».

فقال أبو هريرة وقد استولى عليه الخوف :

« يا أمير المؤمنين ، كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت ».

فقال له عمر وهو ثائر غضبان : « حسبت لك رزقك ومئونتك وهذا فضل فأده ».

- ليس لك ذلك.

- بلى واللّه وأوجع ظهرك.

ثم قام عليه بالدرة فضربه حتى أدماه ، ولما أخذ الألم منه مأخذا عظيما وافق على إرجاعها وقال :

« ائت بها وأحتسبها عند اللّه ».

فانبرى إليه عمر مبطلا زعمه في هذا الاحتساب قائلا :

« ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعا ، أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة (1) إلا لرعية الغنم ».

ثم أخذ الأموال التي اختلسها (2) ورجع أبو هريرة إلى حاله الأول

ص: 194


1- الرجع والرجيع : العذرة والروث ( أميمة ) أم أبى هريرة.
2- العقد الفريد 1 / 25.

قابعا في زوايا الخمول قد وصم بالخيانة والاختلاس ولما انتهى الأمر إلى عثمان انضم إليه وصار من أعوانه وأخذ يفتعل الأحاديث في فضله ، فقال قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

« إن لكل نبي خليلا من أمته وإن خليلي عثمان » (1).

« لكل نبى رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان » (2).

إلى غير ذلك من الأحاديث التي زورها على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فى فضل عثمان والأمويين ، ولما انتفضت الأمة على عثمان وقتلته لسوء تصرفاته وعدم تدبيره ، وصارت الخلافة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) رجع أبو هريرة إلى الذبول بعد النضارة ، فهاجر من يثرب إلى دمشق فعقد صلته بمعاوية وأخذ يتزلف إليه ويعمل في إرضائه بكل طريق وجعل يروي لأهل الشام عن رسول اللّه قائلا لهم إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال :

« إن اللّه ائتمن على وحيه ثلاثا أنا وجبرئيل ومعاوية!! ».

وقال لهم : « إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ناول معاوية سهما ، فقال له : خذ هذا السهم حتى تلقاني في الجنة » (3).

وهكذا أخذ أبو هريرة يفتعل الحديث تلو الحديث في فضل معاوية والأمويين والصحابة يتقرب بذلك إلى معاوية لينال من دنياه وقد أغدق

ص: 195


1- ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة اسحاق بن نجيح وجزم ببطلانه
2- أورده الذهبى في ميزان الاعتدال في ترجمة عثمان بن خالد وعده من منكراته.
3- رواهما الخطيب البغدادي في تأريخه وأثبتهما سماحة الإمام شرف الدين من الموضوعات في كتابه ( أبو هريرة ) ص 27.

عليه بالأموال الطائلة ورفع من شأنه فكساه الخز والبسه الكتان المشيق (1) ولما كان عام الجماعة قدم مع معاوية إلى العراق فلما رأى كثرة المستقبلين له جثا على ركبتيه ، ثم ضرب صلعته مرارا وقال :

« يا أهل العراق ، أتزعمون أني أكذب على اللّه ورسوله ، وأحرق نفسي بالنار؟!! واللّه لقد سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إن لكل نبي حرما ، وان المدينة حرمى فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين ، وأشهد أن عليا أحدث فيها .. ».

فلما بلغ معاوية ذلك أجازه وأكرمه ، وولاه إمارة المدينة (2) لقد استحق أبو هريرة هذا المنصب العظيم لأنه افتعل الحديث ضد أمير المؤمنين تقربا لمعاوية ، وسعيا وراء منافعه وأطماعه.

لقد فتك شيخ المضيرة بالإسلام فتكا ذريعا بسبب رواياته المفتعلة التي شوهت الشريعة الإسلامية ، والصقت بها الخرافات والأوهام ، وأضافت الى الدين ما ليس منه ، وشتّت شمل المسلمين ، وتركتهم أشياعا وأحزابا مختلفين في أصول الدين وفي فروعه وفي كل شيء ، وقد بحث سماحة الإمام المغفور له شرف الدين عن موضوعات أبي هريرة في كتابه الخالد « أبو هريرة » وكذلك تناوله بالنقد سماحة العلامة الكبير الشيخ محمود أبو رية في كتابه « شيخ المضيرة » وأثبت أنه في طليعة الوضاعين والمحرفين للسنة الاسلامية المقدسة ، والمسلمون في أمس الحاجة إلى أمثال هذه البحوث الحرة التي تكشف الغطاء عن هؤلاء الدجالين الذين لم يألوا جاهدا فى الكيد للإسلام ، والبغي للمسلمين بما وضعوه من الروايات التي لا واقعية ولا نصيب

ص: 196


1- صحيح البخاري 1 / 175.
2- ابن أبي الحديد 1 / 358.

لها من الصحة.

4 - زياد بن أبيه :

ومن أخطر ولاة معاوية وأكثرهم جورا وظلما زياد بن أبيه ، فقد ذكر الرواة أنه أول من شدد السلطة ، وأكد الملك لمعاوية فجرد سيفه ، وأخذ بالظنة ، وعاقب على الشبهة (1) وهو أول من مشى بين يديه بالأعمدة الحديدية ، وأول من جلس الناس بين يديه على الكراسي ، وأول من اتخذ العسس والحرس (2) وقد زاد معاوية في ربقة سلطانه فولاه البصرة والكوفة وسجستان وفارس والسند والهند (3).

وقد ارتطمت هذه الأقطار الاسلامية الخاضعة لنفوذه بالبلاء والمحن والشقاء وعم فيها الهرج والمرج وانتزعت منها جميع الحريات واضطربت أفكار أهلها بالخوف والفزع من تلك السلطة الجائرة التي لم تعرف الرحمة والرأفة ، فقد أخذت بالظنة والتهمة وقطعت الأيدي والأرجل ، وسملت الأعين ، حتى خيم الموت على جميع الأحرار والنبلاء وبلغت الشدة والصرامة في الحكم إلى حد لا سبيل إلى تصويره ، وقد عبر زياد عن سياسته العمياء وخطته الارهابية في خطبته البتراء (4) فقد جاء فيها :

« وإني اقسم باللّه لآخذن الولى بالولى ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول : أنج سعد فقد هلك سعيد ».

ص: 197


1- الكامل 10 / 183.
2- صبح الأعشى 1 / 416.
3- الطبري 6 / 134.
4- إنما سميت خطبة زياد بالبتراء لأنه لم يحمد اللّه فيها.

ومنها :

« وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قوما غرقناه ، ومن حرق على قوم حرقناه ، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه ، ومن نبش قبرا دفنته حيا. ثم قال : وأيم اللّه إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي » (1).

ومعنى هذا الخطاب أن ما بينه اللّه ورسوله للمسلمين من الحدود لم يكن في رأي زياد كافيا لحمل أهل البصرة والكوفة على الجادة والرجوع بهم إلى الصراط المستقيم ، فالاسلام لا يغرق من أغرق ، ولا يحرق من أحرق ولا ينقب عن قلب السارق وإن نقب عن البيوت والاسلام لا يدفن الناس في القبور أحياء وإن نبشوا عن الموتى في قبورهم والاسلام لا يقيم الحدود بالشبهة وإنما يدرؤها بها فهذا من التشريع في الدين وهو أقل ما قام به زياد من الموبقات ، إن هذه السياسة المنكرة التي أعلنها زياد لم يعرفها المسلمون ولم يألفوها ، وقد دلت على أن صاحبها طاغية يريد أن يحكم الناس بالبغي ويملأ قلوبهم رعبا ورهبا ويغتصب منهم الطاعة والخضوع للسلطان اغتصابا

لقد قضت سياسة زياد الملتوية بأخذ الصحيح بذنب السقيم والمقبل بذنب المدبر وهو حكم كيفي يبرأ من العدل والرحمة ، وحينما القى خطابه القاسي قام إليه أبو بلال مرداس بن أدية وهو يهمس ويقول :

« أنبأنا اللّه بغير ما قلت قال اللّه عز وجل ( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (2) ( أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (3) ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ

ص: 198


1- الكامل 3 / 226.
2- سورة النجم آية 37.
3- سورة النجم آية 38.

ما سَعى ) (1) فأوعدنا اللّه خيرا مما وعدت يا زياد.

فانبرى إليه زياد قائلا بنبرات تقطر غضبا وانتقاما :

« إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلا حتى تخوض إليها الدماء » (2)

وسار زياد على هذه الخطة الارهابية الجائرة التي تحمل شارات الموت والاعدام لجميع الأحرار والمفكرين حتى ضرب الرقم القياسي للسلطة الجائرة وقد بلغ به الاجرام أنه كان يقتل بعض النفوس وهو يعلم ببراءتها وعدم تدخلها واشتراكها فى أي أمر من الأمور السياسية ، فقد قبضت شرطته على أعرابي فجيء به مخفورا إليه فقال له زياد :

- هل سمعت النداء؟.

- لا واللّه ، قدمت بحلوبة لي ، وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع فأقمت لأصبح ، ولا علم لي بما كان من الأمير.

- أظنك واللّه صادقا ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة.

ثم أمر به فضربت عنقه صبرا (3) من دون أن يقترف أي ذنب ، وهكذا كان زياد يلغ فى دماء المسلمين ، لا حرمة لها عنده ، ولا حريجة له في سفكها ، وقد بالغ هذا الوغد الأثيم فى سفك دماء شيعة آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقتلهم تحت كل كوكب ، وتحت كل حجر ومدر ، وقطع الأرجل والأيدي منهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشردهم (4) ففي ذمة اللّه تلك الدماء الزكية التي سفكت ، والنفوس الكريمة

ص: 199


1- سورة النجم آية 39.
2- الطبري 6 / 135.
3- الطبري 6 / 135.
4- ابن أبي الحديد 3 / 15.

التي روعت ، والنساء التي رملت ، والأطفال التي يتمت.

هؤلاء بعض ولاة معاوية وجلاديه الذين سلطهم على الأمة الاسلامية فذبحوا أبناءها ، واستحيوا نساءها ، ونهبوا ثرواتها ، وعمدوا إلى اشاعة المنكرات والفساد فيها.

الجور الشامل :

وعمد ولاة ابن هند إلى نشر الجور والظلم في جميع أنحاء البلاد فكانت دوائرهم مصدرا للقلق والاضطراب وبابا من أبواب البلاء على الناس فما راجعها أحد إلا اكتوى بنارها ، يقول عبد الملك في وصفها : « أنعم الناس عيشا من له ما يكفيه ، وزوجة ترضيه ، ولا يعرف أبوابنا الخبيثة فتؤذيه » (1).

لقد بالغ الولاة فى ظلم المواطنين واضطهادهم فأخذوا ينهبون الاموال بغير حق ، ويشددون في أمر الخراج ، ويرغمون الناس على أدائها يقول « فان فلوتن » « وبدل أن يتخذ الخلفاء - أي ملوك الأمويين - التدابير لمحاسبة الولاة ، ومنعهم من الظلم نجدهم يقاسمونهم فى فوائدهم من الأموال التي جمعوها بتلك الطرق المفضوحة ، وهذا معناه رضى الخلفاء بسوء تصرف العمال مع أهل البلاد بالاضافة إلى أنه دليل على أن بعضهم كان يهمه مصالح الخزينة المركزية بالدرجة الأولى » (2).

ان معاوية وسائر ملوك بنى أمية لم يحاسبوا واليا من ولاتهم ، ولم يمنعوهم من الظلم والاعتداء على الناس ، يقول عاقبة بن هبيرة الأسدي لمعاوية

ص: 200


1- الكامل 10 / 183.
2- السيادة العربية : ص 28.

منددا بطمع ولاته واستصفائهم أموال الرعية :

معاوي إننا بشر فاسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديد (1)

أكلتم أرضنا فجردتموها *** فهل من قائم أو من حصيد

فهبنا أمة ذهبت ضياعا *** « يزيد » أميرها وأبو يزيد

أتطمع في الخلافة إذ هلكنا *** وليس لنا ولا لك من خلود

ذروا خيل الخلافة واستقيموا *** وتأمير الأراذل والعبيد

وأعطونا السوية لا تزركم *** جنود مردفات بالجنود (2)

ويقول الشاعر الراعي النميري لعبد الملك بن مروان : مبينا له جور عماله واضطهادهم لقومه حتى افتقروا ، وهربوا في البيداء وليس معهم سوى إبل مهزولة يقول الراعي :

أخليفة الرحمن إنا معشر *** حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

إن السعاة عصوك يوم أمرتهم *** وأتوا دواهي لو علمت وغولا

أخذوا العرين فقطعوا حيزومه *** بالأصبحية قائما مغلولا (3)

حتى إذا لم يتركوا لعضامه *** لحما ولا لفؤاده معقولا (4)

جاءوا بصكهم واحدر أسأرت *** منه السياط يراعه اجفيلا (5)

أخذوا حمولته فأصبح قاعدا *** لا يستطيع عن الديار حويلا

ص: 201


1- السجح : السهولة واللين.
2- خزانة الأدب 2 / 225 - 226.
3- الحيزوم : وسط الظهر ، الأصبحية : السياط جمع أصبح.
4- المعقول : الادراك.
5- أسأرت : أي بقيت فى الإناء بقية ، الاجفيل : الخائف.

يدعو أمير المؤمنين ودونه *** خرق تجر به الرياح ذيولا (1)

كهداهد كسر الرماة جناحه *** يدعو بقارعة الطريق هديلا

أخليفة الرحمن إن عشيرتي *** أمسى سوامهم عزين فلولا (2)

قوم على الإسلام لما يتركوا *** ما عونهم ويضيعوا التهليلا (3)

قطعوا اليمامة يطردون كأنهم *** قوم أصابوا ظالمين قتيلا

شهرى ربيع ما تذوق لبونهم *** إلا حموضا وخمة وذبيلا (4)

وأتاهم يحيى فشد عليهم *** عقدا يراه المسلمون ثقيلا (5)

كتبا تركن غنيهم ذا عيلة *** بعد الغنى وفقيرهم مهزولا

فتركت قومي يقسمون أمورهم *** إليك أم يتربصون قليلا (6)

وهذا الشعر طافع بالأسى والألم قد صور فيه الشاعر الجور والمظالم التي صبها الولاة على الناس وقد استمر الجور حتى في دور عمر بن عبد العزيز الذي هو أعدل ملوك بنى أمية - كما يقولون - فان عماله لم يألوا جاهدا قي نهب أموال الناس وسلب ثرواتهم ، وفى ذلك يقول كعب الأشعري مخاطبا له :

إن كنت تحفظ ما يليك فانما *** عمال أرضك بالبلاد ذئاب

لن يستجيبوا للذي تدعو له *** حتى تجلد بالسيوف رقاب

ص: 202


1- الخرق : الصحراء الواسعة.
2- عزين : الجماعات.
3- الماعون : أراد به الزكاة.
4- الحموض : المر المالح من النبات.
5- يحي : هو أحد السعاة الظالمين.
6- طبقات فحول الشعراء ص 439 - 441 ، جمهرة أشعار العرب ص 341.

باكف منصلتين أهل بصائر *** في وقعهن مزاجر وعقاب (1)

وانبرى لعمر رجل وهو على المنبر فقال له :

إن الذين بعثت في أقطارها *** نبذوا كتابك وأستحلّ المحرم

طلس الثياب على منابر أرضنا *** كل يجور وكلهم يتظلم (2)

وأردت أن يلي الأمانة منهم *** عدل وهيهات الأمين المسلم (3)

لقد امتحن المسلمون امتحانا عسيرا ، وأرهقوا إرهاقا شديدا من الحكم الأموي الذي عمد إلى اماتة الحق ، ومناهضة العدل ، ونشر الفقر والبؤس في جميع انحاء البلاد.

ومهما يكن الأمر فان هذه البوادر التي ذكرناها عن معاوية وعن بني أمية قد شددت نقمة الناس عليهم في جميع مراحل التاريخ فقد أبرزت واقعهم الجاهلي الذي لا التقاء له مع النواميس الدينية ، وكان هذا هو الانتصار الرائع الذي أحرزه الإمام الحسن (عليه السلام) في صلحه ، فقد عاد الصلح بالنكاية ببنى أمية ، وبالتشهير والقدح بمعاوية حيا وميتا ، وعاد الحكم الأموي مثالا للسلطة الجائرة التي تحمل شعار الظلم والاستبداد ، والاستهانة بحقوق الناس. ونكتفي بهذا العرض - الموجز - من موبقات معاوية التي سودت وجه التأريخ وقد ابرزها الإمام الحسن (عليه السلام) في صلحه.

سياسة أهل البيت :

ويجدر بنا ونحن في بيان أسباب الصلح ، وفي إيضاح علله أن نعرض

ص: 203


1- البيان والتبيان 3 / 358.
2- الطلس : الوسخ من الثياب.
3- البيان والتبيان 3 / 359.

بعض الجوانب من سياسة أهل البيت (عليهم السلام) لنتبين مدى اصالة سياستهم البناءة ، ونقف على الأهداف الرفيعة التي ينشدون تحقيقها في ظلال الحكم فان إيضاح هذه الجوانب - فيما نحسب - يعطينا أضواء عن صلح الإمام الحسن مع طاغية زمانه ، ويكشف لنا عن الأسباب التي أدت إلى تظافر القوى الباغية على مناجزته ، ومناجزة أبيه من قبل ، وإلى القراء ذلك.

السياسة البناءة :

إن السياسة التي يجب أن تسود جميع انحاء البلاد - عند أهل البيت - هي السياسة البناءة التي تضمن مصالح المجتمع ، وتعمل على ايجاد الوسائل السليمة لرقيه وبلوغ أهدافه وآماله ، وحمايته من الظلم والاعتداء ، وتحقيق المساوات العادلة في ربوعه ، والفرص المتكافئة بين أبنائه لوقايتهم من البؤس والحرمان.

إن سياسة أهل البيت قد تبنت العدل الخالص ، والحق المحض ، ومثلت وجهة الإسلام وأهدافه في عالم السياسة والحكم ، فهي أرقى سياسة عرفها الناس وأجدرها بتحقيق العدل السياسي ، والعدل الاجتماعي بين الناس لأنها في جميع مجالاتها تنشد الاطمئنان الذي لا يشوبه قلق ، والأمن الذي لا يشوبه خوف ، والعدل الذي لا يشوبه ظلم ، وهي بجميع مفاهيمها تباين السياسة الأموية الجائرة التي رفعت شعار الظلم والجور ، وتذرعت بجميع وسائل المكر والخداع للمساومة على مصالح الشعوب ، وابتزاز إمكانياتها والتغلب عليها.

إن السياسة الأصيلة عند أهل البيت هي التي لا تعتمد على المكر والمواربة والخداع والتهريج والتضليل وغير ذلك من الأساليب التي لا تحمل جانبا من الواقعية ، وانها لا بد أن تكون صريحة واضحة في جميع أهدافها ومعالمها ، لتحقق العدل فى البلاد ، ولصلابة سياستهم فى الحق وصرامتها في العدل

ص: 204

ثار عليهم النفعيون والمنحرفون ، وطالبوهم أن ينهجوا منهجا خاصا لا يتنافى مع مصالحهم وأطماعهم ، ولو أنهم استجابوا لهم لما آلت الخلافة الى غيرهم ولكنهم سلام اللّه عليهم آثروا رضا اللّه وسلكوا الطريق الواضح ، وابتعدوا عن الخطط الملتوية التي لا يقرها الدين ،

نظرهم الى الخلافة :

ان الخلافة عندهم هي ظل اللّه في الأرض فيجب أن يتحقق في ظلالها العدل الشامل ، وتسود الرفاهية ، ويعم الأمن بين جميع المواطنين ، وإذا تجردت السلطة من هذه الأهداف فلا طمع ولا ارب لهم بها يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس ، وكان يخصف نعله بذي قار :

- يا ابن عباس ما قيمة هذا النعل؟.

- لا قيمة له يا أمير المؤمنين.

- واللّه لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا وأدفع باطلا.

إن حذاءه الذي كان من ليف أثمن عنده من الإمرة التي لا يقام فيها الحق ، ولا يدفع فيها الباطل فضلا عن السلطة الجائرة التي تضيع العدل وتحي الجور وتميت الحق ، وقد كشف (عليه السلام) - في بعض كلماته - السر في إحجامه عن مبايعة أبي بكر في دور السقيفة قائلا :

« اللّهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطلة من حدودك (1) ».

ولهذه الأسباب الوثيقة أعلن سخطه على أبي بكر ، وامتنع من مبايعته

ص: 205


1- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 18.

وأقام عليه سيلا من الأدلة على أحقيته بالخلافة دونه ، ولكنه لم يناجزه الحرب لأنه يرى أن الأمة من واجبها أن تنقاد إليه كما أمره رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك فقد قال له :

« يا علي أنت بمنزلة الكعبة تؤتى ، ولا تأتي فان أتاك هؤلاء القوم فسلموها إليك - يعني الخلافة - فاقبل منهم ، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك » (1).

إن الواجب على المسلمين كان هو الانقياد لعترة نبيهم ، والرجوع إليهم ليحكموا فيهم بما أنزل اللّه ، ويردوهم إلى الحق الواضح ، وإلى الطريق المستقيم ، ولكن القوم قد غرتهم الدنيا ، وخدعتهم السلطة ، فانطلقوا وراء أطماعهم وأهوائهم فصرفوا الأمر عن أهله ، ووضعوه في غير محله ، فأدى ذلك إلى المحن الشاقة والخطوب السود التي منى بها المسلمون في جميع مراحل تأريخهم.

المثل العليا :

أما الأهداف السليمة والمثل العليا التي رفع شعارها أهل البيت ، وتبنوها في جميع المجالات فهي كما يلي.

أ - العدل :

إن السياسة الإسلامية بجميع مفاهيمها قد تبنت العدل ، وآمنت به إيمانا مطلقا ، وركزت جميع أهدافها على أضوائه ، فأهابت بالحكام والأمراء أن يطبقوه على مسرح الحياة ، وأن لا يكون الحكم الصادر منهم مبعثه الهوى وسائر الأغراض التي لا تمت بصلة للعدل قال تعالى : « وإذا حكمتم بين

ص: 206


1- أسد الغابة 4 / 31.

الناس أن تحكموا بالعدل » (1) وقال تعالى : « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه » (2)

وقد أجمع المسلمون على أن الحاكم إذا انحرف في حكمه وجب عزله ، وقد عزل أمير المؤمنين أحد ولاته حينما أخبرته سودة بنت عمارة الهمدانية بأنه قد جار في حكمه فجعل الإمام يبكي ويقول :

« اللّهم أنت الشاهد علي وعليهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقك ».

ثم عزله في الوقت (3) ويقول الإمام الصادق : « اتقوا اللّه ، واعدلوا فانكم تعيبون على قوم لا يعدلون » (4).

إن سعادة الأمة ورقيها بعدل حكامها ، فاذا جافى الحكام العدل وجاروا في الحكم تعرضت البلاد للأزمات والنكسات وسادت فيها الفوضى والنزعات ، ومن ثمّ فان الإسلام يحرص كل الحرص عل أن يكون الحكم بيد الصلحاء والثقات لأن للحكم إغراء لا يفلت من ربقته إلا ذوو النفوس الزكية الكريمة - وما أقل عددهم - وقد تحدثنا عن مظاهر العدل وبسطنا القول فيه في كتابنا « النظام السياسي في الإسلام » ولا نرى أن هنا حاجة فى عرض تلك البحوث ، وانما نريد أن نقول إن سياسة أهل البيت (عليهم السلام) قد تركزت على العدل الشامل وبنت جميع أهدافها عليه.

ص: 207


1- سورة النساء : آية 56.
2- سورة ص : آية 26.
3- العقد الفريد 1 / 211.
4- أصول الكافى 2 / 147.

ب - المساواة :

إن الإسلام أسبغ نعمة المساواة على الإنسانية بصورة لم يسبق لها مثيل فى تأريخ المجتمع العالمي ، فقد أعلن المساواة العادلة ما بين الأفراد والجماعات وما بين الأجناس فلا فضل لأبيض على أسود ، ولا لعربي على أعجمي ، فالناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لبعضهم على بعض إلا بالتقوى والعمل الصالح يقول الأستاذ جيب :

« إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ما زال في قدرته أن ينجح نجاحا باهرا في تأليف العناصر والأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة. وإذا وضعت منازعات الشرق والغرب موضع الدرس فلا بد من الالتجاء إلى الإسلام » (1).

وقد طبق الامام أمير المؤمنين المساواة العادلة تطبيقا شاملا في دور حكمه ، فامر عماله وولاته أن يساووا بين الناس حتى فى اللحظة والنظرة فقد جاء في بعض رسائله ما نصّه :

« وأخفض للرعية جناحك وأبسط لهم وجهك وألن لهم جانبك ، وآس بينهم في اللحظة والنظرة (2) والإشارة والتحية ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك » (3).

وهذه السياسة العادلة هى التي أثارت عليه الأحقاد والضغائن وأدت إلى تكتل القوى الباغية وتظافرها على مناجزته ، وقد نص على ذلك المدائنى بقوله :

ص: 208


1- النظام السياسي في الإسلام ص 319.
2- آس : أى شارك بين الرعية حتى في هذه الأمور البسيطة.
3- النهج محمد عبده 3 / 85.

« إن من أهم الأسباب في تخاذل العرب عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان أتباعه لمبدإ المساواة بين الناس حيث كان لا يفضل شريفا على مشروف ولا عربيا على عجمي ولا يصانع الرؤساء والقبائل » (1).

إن طغاة قريش ، ومن سار في ركابهم من جبابرة العرب لم يكونوا بأي حال قد وعوا الأهداف الأصيلة التي جاء بها الإسلام لتعميم المساواة وبسط العدل والقضاء على الغبن ، إنهم يريدون الامتيازات والاستئثار بأموال المسلمين ، والاستعلاء على الفقراء والضعفاء وكل ذلك يتنافى مع سيرة ابن أبي طالب رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، وقد سار الإمام الحسن على خطته وسيرته ولم يتحول عن نهجه فأثار ذلك عليه الأحقاد والأضغان.

ج - الحرية :

وتبنى الإسلام الحرية العامة لجميع المواطنين ، وألزم الدولة بحمايتها ، وتطبيقها على مسرح الحياة سواء أكانت الحرية في العقيدة أو في التفكير ، والتعبير عن الرأي ، أو في المناحي السياسية ، واعتبر الإسلام كل ذلك من الحقوق الطبيعية للانسان التي لا غنى عنها بحال من الأحوال ، وقد طبق الإمام أمير المؤمنين الحرية بأرحب مفاهيمها في دور خلافته ، فانه لم يرغم القعاد على مبايعته ، ولم يكرههم على طاعته ، وإنما تركهم وشأنهم يتمتعون بحريتهم من دون أن يتعرض لهم بأذى أو مكروه ، وكذلك عامل الخوارج فانه لم يناجزهم الحرب حتى أنذرهم وأعذر فيهم ، وحاججهم فأبطل شبههم ولما صمموا على فكرتهم ولم يتنازلوا عنها خلّى سبيلهم ، وأطلق سراحهم ولكن لما عاثوا فسادا في الأرض ، وأخلّوا بالأمن العام ناجزهم عملا

ص: 209


1- شرح ابن أبي الحديد 1 / 180.

بقوله تعالى : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه ». ولما فرغ من حربهم كان في المجتمع العراقي جمهور غفير ممن يعتنق فكرتهم ، فلم يتعرض لهم بمكروه ، ولم يمنعهم من الفيء ، ولم يرد أحدا منهم عن الخروج إن أراده ، ومنحهم الحرية التامة ، فلم تراقبهم السلطة ، ولم تتبعهم أو تنكّل بأحد منهم ، وكذلك أعطى الحرية الواسعة الى الحزب الأموي ، فلم يتعرض لهم بأذى أو مكروه مع العلم أنهم كانوا من ألدّ خصومه وأعدائه. وهذه الحرية الواسعة التي أعطاها الإمام للأحزاب المناوئة له كانت أوسع حرية عرفها التأريخ ، لقد قضت سياسته البنّاءة على عدم استكراه الناس على الطاعة ، وعدم ارغامهم على ما لا يحبون.

د - الصراحة والصدق :

ان السياسة الرشيدة التي رفع شعارها أهل البيت تسير على ضوء الصدق والواقع فلا توارب ، ولا تنافق ، ولا تغري الشعوب بالوعود الكاذبة ، ولا تمنيها بالأماني المعسولة ، رائدها في جميع مخططاتها الصراحة والصدق.

لقد حفلت سياستهم بالصراحة في جميع الميادين ، فليس من منطقها الخداع والنفاق ، وقد صارح الإمام الحسين (عليه السلام) سبط النبي وممثل الإسلام الجماهير التي صحبته من مكة والتي التحقت به فى أثناء الطريق حينما بلغه مقتل سفيره وممثله فى العراق الشهيد العظيم مسلم بن عقيل (عليه السلام) صارحهم بمقتله ، وخيانة أهل الكوفة به ، وغدرهم بعهودهم ومواثيقهم ، وانه متوجه فى سفره الى ساحة الموت ، فتفرّق ذوو الأطماع والأهواء عنه ، لقد أدلى (عليه السلام) في تلك الساعة الرهيبة بالحقيقة الراهنة ، وكشف لهم الستار عن خطته وأهدافه ، ليكونوا على بصيرة من أمرهم عملا بأوامر الإسلام التي

ص: 210

تلزم بالصراحة والصدق ولا تبيح أي وسيلة من وسائل الغدر والخداع.

إن المواربة لو كانت سائغة فى الإسلام بأي شكل من الأشكال لما تغلب معاوية بن أبي سفيان خصم الإسلام على الإمام أمير المؤمنين علیه السلام فكان بامكانه أن يساومه بعد مقتل عثمان ويبقيه على ولايته في دمشق ، ثم يعزله بعد ذلك عن منصبه ويتخلص من شرّه وتمرده ، ولكن الإسلام يأبى له تلك المساومة الرخيصة فامتنع من بقائه في جهاز الحكم ولو زمنا قصيرا ، وهناك أمر آخر هو أعمق أثرا ، وأبعد مدى في عالم الصراحة من ذلك هو امتناع الإمام من اجابة عبد الرحمن بن عوف أحد أعضاء الشورى الذين رشحهم الخليفة الثاني لانتخاب الخليفة الجديد من بعده ، فقد ألحّ عبد الرحمن على الإمام إلحاحا بالغا أن يبايعه وينتخبه لمركز الخلافة الإسلامية العظمى ، ولكن شرط عليه أن يسير بسيرة الشيخين ، ويقتفي بسياستهما فامتنع (عليه السلام) من اجابته على هذا الشرط وأبى إلا أن يسير على كتاب اللّه ، ويقتدي بسنة نبيه في سياسته وأعماله الإدارية وغيرها ، لقد كان بامكانه أن يوافق على ذلك الشرط ابتداء ثم يعدل عنه ويسير فى سياسته على وفق الأهداف التي رسمها الإسلام ويعتقل كل من يعارضه ويقف فى وجه حكومته ، ولكنه أبى إلا الصراحة والصدق فى القول والفعل.

إن الإسلام يأمر بالتمسك بالصدق ، ولا يسيغ استعمال الطرق الملتوية التي لا تمت بصلة الى الواقع في تثبيت الحكم ، وتدعيم السلطة.

يقول الرسول صلی اللّه علیه و آله :

« عليكم بالصدق ، فان الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما زال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقا ، وإياكم والكذب ، فان الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور

ص: 211

يهدي الى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذابا » (1).

إن أهل البيت قد ركزوا سياستهم على الصدق والصراحة ، وجنبوها من المكر والخداع.

يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) :

« لو لا ان المكر والخداع في النار لكنت أمكر الناس ».

وكان (عليه السلام) كثيرا ما يتنفس الصعداء من الآلام المرهقة التي يلاقيها من خصومه ويقول :

« وا ويلاه ، يمكرون بي ويعلمون أني بمكرهم عالم ، وأعرف منهم بوجوه المكر ، ولكني أعلم أن المكر والخديعة فى النار ، فأصبر على مكرهم ولا أرتكب مثل ما ارتكبوا .. » (2)

ويقول فى الغدر :

« لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة » (3).

إن الغدر إنما ينبعث عن نفس لا تؤمن بالمثل الإنسانية ، والقيم الدينية ، ويصف الإمام أمير المؤمنين الغادر بأنه قد نسخ من كيان نفسه الإيمان باللّه يقول :

« ولا يغدر من علم كيف المرجع ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا ، ونسبهم أهل الجهل فيه الى حسن الحيلة ، ما لهم قاتلهم اللّه!! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر اللّه

ص: 212


1- رواه مسلم.
2- جامع السعادات 1 / 202.
3- نهج البلاغة

ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين .. »

وتحدث عمن قال فى دور حكومته من عبيد الشهوات والمناصب :

بأنه لا دراية له في شئون السياسة ، وإن معاوية خبير بها ، وخليق بادارة دفة الحكم. قال (عليه السلام) :

« واللّه ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس » (1).

ان سياسة الإمام أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت في جميع شئونها قد عبرت عن جميع القيم السياسية الخيرة التي أعلنها الإسلام ، فهي لا تقرّ الغدر ، ولا المكر ، ولا الخداع ، ولا تؤمن بأي وسيلة من وسائل النفاق الاجتماعي وإن توقف عليها النجاح السياسي المؤقت ، لأن الخلافة الإسلامية من أهم المراكز الحساسة في الإسلام ، فلا بد لها من الاعتماد على الخلق الرصين والإيمان العميق بحق المجتمع والأمة.

وسار الإمام الحسن (عليه السلام) على مخططات أبيه ومقرراته فى عالم السياسة والحكم ، فلم يعتمد على أي وسيلة لا يقرّها الدين ، وتجنب جميع الطرق الشاذة التي لا تلتقي مع الواقع ، ولو أنه سلك بعض الأساليب التي سلكها معاوية لما تغلب عليه ، وقد أدلى (عليه السلام) بذلك الى سليمان بن صرد فقال له :

« ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا ، وللدنيا أعمل ، وأنصب ، ما كان معاوية بأبأس مني ، وأشد شكيمة ، ولكان رأيي غير ما رأيتم .. »

ودلّ ذلك على أنه لو كان يعمل للدنيا لكان أقوى عليها من خصومه ولكن التغلب على الأحداث والظفر بالحكم يتوقف على اتخاذ الوسائل التي

ص: 213


1- نهج البلاغة 2 / 206.

لا تتفق مع الدين وهو (عليه السلام) أحرص المسلمين على صيانة الاسلام ورعايته.

ه - الولاة والعمال :

ويرى أهل البيت (عليهم السلام) أن الموظفين في جهاز الحكم لا بد أن يكونوا من خيرة الرجال في الجدارة والنزاهة والكفاءة والقدرة على إدارة شئون البلاد ، ليضعوا المصلحة العامة نصب أعينهم ، ويسيروا بين الناس سيرة قوامها العدل الخالص ، والحق المحض ، ويكونوا أمناء فيما يجبونه من الناس وفيما ينفقونه على المرافق العامة ، وأن يكونوا - قبل كل شيء - بعيدين عن الرشوة ، وعما في أيدي الناس ، فان الرشوة تؤدي الى انهيار الأخلاق وشيوع الباطل ، والفساد في الأرض ، وقد بعث الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) الى أمراء الأجناد بهذه الرسالة :

« أما بعد : فانما هلك من كان قبلكم ، إنهم منعوا الناس الحق فاشتروه ، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه. » (1)

إن من أهم الأسباب التي تؤدي الى دمار الحكومة وزوالها هي أن تحجب المواطنين عن الحق حتى يضطروا الى استنقاذه بالرشوة ، ومن الطبيعي ان ذلك يؤدي الى فقدان الأمن ، واضطراب المجتمع ، وانتشار الظلم والجور.

وقد نظر أهل البيت (عليهم السلام) الى ما هو أبعد من ذلك وأعمق بكثير ، فقد فرضوا على ولاتهم أن يبتعدوا عن الناس بكل نحو من أنحاء الصلة ، ولو كانت موجبة للربط الودي أو العاطفي لما عسى أن يكون لذلك أثر على مجرى العدل ، ولذلك ان أمير المؤمنين (عليه السلام) لما بلغه ان عامله بالبصرة سهل بن حنيف قد دعي الى مأدبة فأجاب إليها ، فكتب إليه يستنكر منه

ص: 214


1- نهج البلاغة 1 / 151.

ذلك ، ويوبخه على ما صدر منه ، وهذا نص ما كتبه إليه :

« أما بعد : يا ابن حنيف فقد بلغنى أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك الى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان وما ظننت أنك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفو (1) ، وغنيهم مدعو ، فانظر الى ما تقضمه من هذا المقضم (2) فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه (3) فنل منه. » (4).

وأراد الأشعث بن قيس أن يتقرب الى أمير المؤمنين ويتصل به فصنع له حلوى جيدة فقدمها إليه ، ولندعه (عليه السلام) يحدثنا عن موقفه تجاه هذا الأمر يقول :

« وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها (5) ، ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها ، فقلت : أصلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت ، فقال : لا ذا ولا ذاك ، ولكنها هدية ، فقلت : هبلتك الهبول (6) أعن دين اللّه أتيتني لتخدعني؟ أمختبط ، أم ذو جنة ، أم تهجر (7)؟ واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها

ص: 215


1- عائلهم : أي محتاجهم ، مجفو : أي مطرود من البؤس والجفاء.
2- المقضم : المأكل.
3- بطيب وجوهه : أي بالحل في طرق كسبه.
4- نهج البلاغة محمد عبده 3 / 78.
5- الملفوفة : نوع من الحلواء.
6- هبلتك - بكسر الباء - : ثكلتك ، الهبول - بفتح الهاء - : المرأة لا يعيش لها ولد.
7- المختبط : من اختل نظام ادراكه ، تهجر : أي تهذي بما لا معنى له.

على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة (1) ما فعلت ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلي ولنعيم يفنى ، ولذة لا تبقى ، نعوذ باللّه من سبات العقل (2) ، وقبح الزلل وبه نستعين (3)

وبهذه السياسة البناءة تتحقق العدالة الاجتماعية ، ويسود الأمن والرخاء ويقضى على جميع أفانين الظلم والغبن. د - الخدمة العسكرية :

ولم تقض سياسة أهل البيت بارغام الناس على الخدمة العسكرية ، فلم يؤثر عنهم أنهم أكرهوا الناس على الخروج الى الحرب ، وإنما كانوا يدعون الى الجهاد كفرض من فروض اللّه فمن شاء أن يخرج خرج مؤديا لما فرض عليه ، ومن قعد فانما يقعد غير تمتثل لما أوجبه اللّه عليه من دون أن ينال عقوبة أو يتعرض للسخط والارهاب ، وكانت هذه خطة الحسن (عليه السلام) لما أراد مناجزة معاوية ، فانه لم يكره أحدا على ذلك ، وإنما ندبهم الى الجهاد ، وقد فعل ذلك أمير المؤمنين من قبل في حرب الجمل وصفين ، والنهروان ، وقد أرادوا بذلك أن يكون الناس مندفعين بدافع الايمان والعقيدة لما أوجبه اللّه عليهم من الفرض ، وعلى عكس ذلك سار بنو أمية ، فانهم كانوا يفرضون أشد العقاب على من تخلف عن الحرب ، كما يحدثنا التأريخ بذلك في سيرة عبيد اللّه بن زياد لما امر بالخروج الحرب

ص: 216


1- جلب الشعيرة - بكسر الجيم - : قشرها ، وأصل الجلب : غطاء الرحل فتجوز فى اطلاقه على غطاء الحبة.
2- سبات العقل : نومه.
3- النهج محمد عبده 2 / 244.

سيد الشهداء (عليه السلام) فقتل الشامى على أنه لم يكن ممن أمر بالخروج الى الحرب وقتل الحجاج عمرو بن ضابي البرجمي لأنه لم يستجب للالتحاق بجيش المهلب ابن أبي صفرة ، وفي ذلك يقول الشاعر :

تخير فأما ان تزور ابن ضابي *** عميرا وأما أن تزور المهلبا

وأدت هذه الخطة الارهابية الى ارغام الناس على الاستجابة لهم عن كره ، ولو أن الامام الحسن (عليه السلام) أجبر جيشه على الطاعة ، وأنزل العقاب الصارم بالمتمردين والمتخاذلين ، وعاقب على الظنة والتهمة لما اصيب جيشه بتلك الزعازع والانتكاسات ، ولكنه سلام اللّه عليه قد سلك الطريق الواضح الذي لا تعقيد فيه ولا التواء ، وآثر رضاء اللّه في كل شيء.

ه- - السياسة المالية :

أما السياسة المالية التي انتهجها أهل البيت فكانت تلزم بصرف الخزينة المركزية على المصالح العامة كانشاء المؤسسات ، وايجاد المشاريع الحيوية التي تنتظم بها الحياة ، ويقضى بها على شبح الفقر والحرمان ، ولا يسوغ عندهم صرف درهم واحد فيما لا تعود فيه منفعة أو فائدة للأمة ، وقد احتاطوا فى هذه الجهة احتياطا بالغا ، فقد اطفأ الامام أمير المؤمنين سراج بيت المال عن طلحة والزبير لما أرادا أن يفاوضاه في مصالحهما الشخصية ، فان الضياء الذي في بيت المال ملك للمسلمين ، فلا يجوز استعماله إلا في مصالحهم.

وقد أثارت عليه هذه السياسة الصارمة أحقاد العرب ، وأضغان قريش ، وأقبلت إليه طائفة من أصحابه يطلبون منه أن يغير سياسته قائلين :

« يا أمير المؤمنين ، اعط هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، واستمل من تخاف خلافه من الناس ».

ص: 217

فلذعه هذا المنطق الرخيص وانبرى قائلا :

« أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور .. » (1)

ان تفضيل العرب على الموالي ، ومنح الأموال للوجوه كل ذلك جور واعتداء على حقوق المسلمين في نظر ابن أبي طالب رائد المساواة والعدالة الكبرى في الأرض.

ان أموال المسلمين يجب أن تنفق على مصالحهم ، وضمان عائلهم ومحرومهم ، وليس لزعيم الدولة أن يصطفي منها ، أو يؤثر بها أقاربه ومن يمت إليه ، فان ذلك خيانة لله وللمسلمين ، وقد طبق الامام أمير المؤمنين هذه السياسة العادلة على واقع الحياة حينما آل إليه الأمر ، فانه لم يقتن الدور والضياع ، ولم يرفّه على نفسه فيعير لبالي ثوبه اهتماما ، أو يأكل ما لذّ من الطعام ، أو يتمتع بشيء من متع الحياة ، وإنما كان يعيش عيشة الفقراء والبؤساء ، فقد روى هارون عن أبيه عنترة قال دخلت على علي وهو بالخورنق ، وعليه خلق قطيفة ، وكان الوقت شديد البرد فقلت له :

« يا أمير المؤمنين إن اللّه قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا ، وأنت تفعل هذا بنفسك ».

فانبرى (عليه السلام) مجيبا له :

« واللّه ما أرزأكم شيئا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة. » (2)

انه ليس عنده من اللباس ما يقيه من البرد سوى خلق قطيفة جاء بها من يثرب ، وفي استطاعته أن يلبس الحرير الموشى ، ولكنه أبى أن يصطفي من أموال المسلمين شيئا ، كما انه لم يؤثر بها أحدا من أهل بيته وأبنائه ،

ص: 218


1- شرح ابن أبي الحديد 1 / 182.
2- الكامل 8 / 173.

فقد روى أبو رافع (1) وكان خازنا لبيت المال ، قال : دخل عليّ أمير المؤمنين وقد أعطيت ابنته لؤلؤة من بيت المال ، فلما رآها عرفها ، وقد تغير لونه ومشت الرعدة بأوصاله فقال :

« من أين لها هذه؟ واللّه لأقطعن يدها. »

فلما رأى أبو رافع جده في الأمر ، وعزمه على ذلك قال له :

« أنا واللّه يا أمير المؤمنين أعطيتها وهي عارية مضمونة »

فهدأ روعه ، وسكن غضبه ، واندفع قائلا :

« لقد تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار ، وما لي خادم غيرها. » (2)

إن مثله الرفيعة لم تسمح له أن يؤثر ابنته على بنات المسلمين ، وهذا هو منتهى العدل الذي لم يحققه أحد غيره ، ومن مساواته بين المسلمين ، واحتياطه البالغ في أموالهم ما رواه عاصم بن كليب (3) عن أبيه قال :

ص: 219


1- أبو رافع : قيل اسمه ابراهيم ، وقيل أسلم ، كان قبطيا ، قيل كان ملكا للعباس فوهبه الى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولما أسلم العباس بشر أبو رافع رسول اللّه باسلامه فأعتقه توفي فى خلافة عثمان ، وقيل في خلافة أمير المؤمنين ، الإستيعاب 4 / 70.
2- الكامل 8 / 173.
3- عاصم بن كليب بن شهاب الجرمى الكوفى ، روى عن جماعة من أعيان الصحابة ، وروى عنه جماعة آخرون ، قال ابن معين والنسائي : إنه ثقة ، وقال ابن شهاب : إنه من العباد ، ومن أفضل أهل الكوفة ، اتهم بالمرجئة ثم نزّه من ذلك ، وعدّه ابن حبان في الثقات ، وقال : إنه ثقة مأمون توفى سنة 137 ه تهذيب التهذيب 5 / 55.

« قدم على عليّ مال من اصبهان فقسمه على سبعة أسهم ، فوجد فيه رغيفا فقسمه على سبعة أقسام ، ودعا امراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولا ... » (1)

إن هذا هو العدل الذي لم تحققه الانسانية فى جميع مراحل تأريخها فانها على ما جربت من تجارب. وبلغت من رقي وابداع في فنون الحكم فانها لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تنشئ نظاما سياسيا تتحقق فيه العدالة الكبرى كهذا النظام الذي وضعه ابن أبي طالب ، وسار على منهاجه أبناؤه من بعده.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض المثل العليا التي ينشدونها أهل البيت فى ظلال الحكم ، ولو أن الامام الحسن (عليه السلام) انحرف عنها ، ونهج في سياسته منهج من يعمل للدنيا ، وسلك مسلك من يبغي الملك والسلطان ، فراوغ وداهن ، وأنفق المال في غير محله ، لما آل الأمر الى ابن هند الذي سلك جميع الوسائل في سبيل الوصول الى الحكم ، ولكنه سلام اللّه عليه آثر صيانة الاسلام ، والحفاظ على مقدراته ومعنوياته ، فسار بسيرة جده وأبيه التي لا تقر كل طريق يتصادم مع الدين.

وبقي هنا شيء ذكره الناقدون للصلح ، وهو عدم استشهاد الامام فقد كان الأجدر به أن يناجز معاوية حتى ينال الشهادة ، كما استشهد أخوه سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) ، وسنذكر جواب ذلك مشفوعا بالتفصيل عند التحدث عن موقف الامام الحسين علیه السلام من الصلح.

ص: 220


1- الكامل 8 / 173.

بُنود الصُّلح

اشارة

ص: 221

ص: 222

واختلف المؤرخون اختلافا كثيرا فيمن بادر لطلب الصلح فأبن خالدون وجماعة من المؤرخين ذهبوا الى أن المبادر لذلك هو الامام الحسن علیه السلام بعد ما آل أمره الى الانحلال (1) ، وذهب فريق آخر الى أن معاوية هو الذي بادر لطلب الصلح بعد ما بعث إليه برسائل أصحابه المتضمنة للغدر والفتك به متى شاء معاوية أو أراد (2) ، وذكر السبط ابن الجوزي أن معاوية قد راسل الامام سرا يدعوه الى الصلح فلم يجبه ، ثم أجابه بعد ذلك (3) ، وأكبر الظن ان معاوية هو الذي استعجل الصلح وبادر إليه وذلك خوفا من العراقيين أن ترجع إليهم أحلامهم ، ويثوب إليهم رشدهم وذلك لما عرفوا به من سرعة الانقلاب وعدم الاستقامة على رأي ، ومما يدل على ان معاوية هو الذي ابتدأ في طلب الصلح ، خطاب الامام الحسن الذي ألقاه في المدائن فقد جاء فيه « ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة ».

ص: 223


1- تاريخ ابن خالدون 2 / 186 ، وفي الاصابة انه لما طعن الامام بخنجر دعا عمرو بن سلمة الأرحبى وأرسله الى معاوية يشترط عليه ، وفي الكامل 3 / 205 قال لما رأى الامام الحسن تفرق الأمر عنه كتب الى معاوية ، وذكر ذلك ابن أبي الحديد 4 / 8.
2- الارشاد ص 170 ، كشف الغمة ص 154 ، مقاتل الطالبيين ص 26
3- تذكرة الخواص ص 206 ، وذكر الحاج احمد افندي في فضائل الأصحاب ص 157 انه يمكن الجمع بين الأخبار بأن معاوية أرسل له أولا في الصلح فكتب الحسن إليه ثانيا يطلب ما ذكر ، وأجملت بعض المصادر الأمر ، فقال اليعقوبي في تأريخه 2 / 192 : لما رأى الحسن أن لا قوة به وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له صالح معاوية ، وكذا ذكر غيره.

ومهما يكن من شيء فان تحقيق ذلك ليس بذي أهمية ، لأن الامام إن كان هو الذي استعجل الصلح فلا ضير عليه نظرا للمحن الشاقة التي أحاطت به حتى ألجأته الى المسالمة ، وإن كان معاوية هو الذي استعجل الصلح فلا ضير على الامام أيضا لما أوضحناه في أسباب الصلح ، والمهم البحث عن الشروط التي اشترطها الإمام على خصمه.

فقد اختلف التأريخ فيها اختلافا فاحشا ، واضطربت كلمات المؤرخين فى ذلك ، وفيما يلي بعض تلك الاقوال.

1 - ذكر بعض المؤرخين ان الامام أرسل سفيرين الى معاوية ، هما عمرو بن سلمة الهمداني ، ومحمد بن الأشعث الكندي ليستوثقا من معاوية ويعلما ما عنده. فأعطاهما معاوية هذا الكتاب وهذا نصه :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم : هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان ، إني صالحتك على ان لك الأمر من بعدي ، ولك عهد اللّه وميثاقه وذمته ، وذمة رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأشد ما أخذه اللّه على أحد من خلقه من عهد وعقد ، لا أبغيك غائلة ولا مكروها ، وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال ، وعلى أن لك خراج پسا ودارابجرد ، تبعث إليهما عمالك ، وتصنع بهما ما بدا لك ». شهد بها عبد اللّه بن عامر ، وعمرو بن سلمة الكندي ، وعبد الرحمن بن سمرة ، ومحمد ابن الأشعث الكندي ، كتب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى واربعين هجرية.

وتنص هذه الوثيقة على اعطاء معاوية للحسن ثلاثة أشياء :

1 - جعله ولي عهده.

2 - للإمام من بيت المال راتب سنوي ألف ألف درهم.

3 - منحه كورتين من كور فارس يرسل إليهما عماله ، ويصنع بهما ما شاء.

ص: 224

واحتفظ الامام برسالة معاوية ، فأرسل إليه رجلا من بني عبد المطلب وهو عبد اللّه بن الحارث بن نوفل وأمّه اخت معاوية فقال له : ائت خالك وقل له إن أمنت الناس بايعتك.

ولما انتهى عبد اللّه الى معاوية وعرض عليه مهمة الامام وهي طلب الأمن العام لعموم الناس ، استجاب له وأعطاه طومارا وختم في أسفله وقال له : فليكتب الحسن فيه ما شاء ، فجاء عبد اللّه بن الحارث بهذا التفويض المطلق الى الامام ، فكتب (عليه السلام) ما رامه من الشروط ، وسنذكر نص ما كتبه عند التعرض لبعض الروايات ، لأنه لا يختلف عنها ، وقد عول على هذه الرواية الدكتور طه حسين (1).

2 - وروى كل من الطبري وابن الأثير صورة غير هذه وخلاصتها ان الامام راسل معاوية فى الصلح واشترط عليه امورا فان التزم بها ونفذها أجرى الصلح وإلا فلا يبرمه ، فلما وصلت رسالة الامام الى معاوية أمسكها واحتفظ بها ، وكان معاوية قبل ورود هذه الرسالة عليه قد بعث للامام صحيفة بيضاء مختوما في أسفلها ، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت وقد وصلت هذه الصحيفة الى الامام بعد ما بعث الى معاوية الوثيقة التي سجل فيها ما أراده ، وسجل الامام في تلك الصحيفة البيضاء اضعاف الشروط التي اشترطها أولا ثم أمسكها ، فلما سلم له الأمر طلب منه الوفاء بالشروط التي اشترطها أخيرا ، فلم يف له بها وقال له : « لك ما كنت كتبت إليّ أولا تسألني أن أعطيكه فاني قد أعطيتك حين جاءني كتابك ، فقال له الحسن (عليه السلام) : وأنا قد اشترطت حين جاءني كتابك وأعطيتني العهد على

ص: 225


1- الفتنة الكبرى 2 / 200.

الوفاء بما فيه ، فاختلفا في ذلك ، فلم ينفذ للحسن من الشروط شيئا » (1).

وهذه الرواية لم تذكر لنا الشروط التي اشترطها الامام « أولا » ولا ما سجله. « ثانيا » في الصحيفة البيضاء التي بعث بها معاوية إليه إلا أن أبا الفداء في تأريخه نص على الشروط الاولى التي اشترطها الامام فقال : « وكتب الحسن الى معاوية واشترط عليه شروطا وقال : إن أجبت إليها فأنا سامع مطيع ، فأجاب معاوية إليها ، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة ، وخراج دارابجرد من فارس ، وأن لا يسب عليا ، فلم يجبه الى الكف عن سب علي فطلب الحسن أن لا يشتم عليا وهو يسمع فأجابه الى ذلك ، ثم لم يف له به » (2).

وعندي ان ما ذكره ابن الأثير والطبري بعيد عن الصحة كل البعد وذلك لأن الشروط التي اشترطها الامام أخيرا إن كانت ذات أهمية بالغة فلما ذا أهملها ولم ينص عليها في بداية الأمر؟ ولو اغمضنا النظر عن ذلك فأي فائدة فى تسجيلها مع عدم اطلاع معاوية عليها وإقراره لها ، مضافا لذلك ان معاوية في تلك المرحلة لو سأله الإمام أي شيء لأجابه إليه.

3 - وروى ابن عبد البر : « ان الإمام كتب الى معاوية يخبره أنه يصيّر الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه ، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلا أنه قال : أما عشرة انفس فلا أؤمنهم ، فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول : إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده ، فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيساً

ص: 226


1- الكامل 3 / 205 ، الطبري 6 / 93.
2- تأريخ ابي الفداء 1 / 192.

أو غيره بتبعة ، قلت : أو كثرت! فبعث إليه معاوية حينئذ برق أبيض وقال : اكتب ما شئت فيه وأنا التزمه ، فاصطلحا على ذلك ، واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده ، فالتزم ذلك كله معاوية » (1).

وقد احتوت هذه الرواية على أن أهم ما طلبه الامام الأمن العام لعموم اصحابه واصحاب أبيه ، ولا شك ان هذا الشرط من أوليات الشروط وأهمها عند الامام أما ان الصلح جرى بهذا اللون فأنا أشك في ذلك.

4 - وذكر جماعة من المؤرخين ان الإمام ومعاوية اصطلحا وارتضيا بما احتوته الوثيقة الآتية وقد وقّع عليها كل منهما وهذا نصها :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

« هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب ، معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على ان يعمل فيهم بكتاب اللّه ، وسنّة رسوله ، وسيرة الخلفاء الصالحين ، وليس لمعاوية بن ابي سفيان ان يعهد الى احد من بعده عهدا ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ، وعلى ان الناس آمنون حيث كانوا من ارض اللّه فى شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى ان اصحاب علي وشيعته آمنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم ، وعلى معاوية بن ابي سفيان بذلك عهد اللّه وميثاقه ، وما أخذ اللّه على احد من خلقه بالوفاء ، وبما اعطى اللّه من نفسه ، وعلى ان لا يبغي للحسن بن علي ، ولا لأخيه الحسين ، ولا لأحد من اهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غائلة سرا ولا جهرا ، ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق ، شهد عليه فلان ابن فلان بذلك ، وكفى

ص: 227


1- الاستيعاب 1 / 370.

باللّه شهيدا » (1).

وهذه الصورة افضل صورة وردت مبينة لكيفية الصلح فقد احتوت على امور مهمة يعود صالح الأكثر منها الى عموم المسلمين إلا انا نشك في ان ما احتوت عليه هذه الوثيقة هو مجموع ما طلبه الإمام واراده ، ونذكر فيما يلي مجموع الشروط التي ذكرها رواة الأثر وإن كان كل واحد منهم لم يذكرها بأسرها إلا ان بعضهم نص على طائفة منها ، والبعض الآخر ذكر طائفة اخرى ، وقد اعترف الفريقان ان ما ذكره كل واحد من الشروط ليس جميع ما اشترطه الإمام وإنما هي جزء من كل ، وها هي :

1 - تسليم الأمر الى معاوية على ان يعمل بكتاب اللّه ، وسنة نبيه صلی اللّه علیه و آله (2) وسيرة الخلفاء الصالحين (3).

2 - ليس لمعاوية ان يعهد بالأمر الى احد من بعده والأمر بعده للحسن (4)

ص: 228


1- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 145 ، كشف الغمة للإربلي ص 170 البحار 10 / 115 ، فضائل الأصحاب ص 157 ، الصواعق المحرقة ص 81.
2- ذكرت هذه المادة في صورة المعاهدة التي ذكرناها ، وذكرها ابن ابي الحديد في شرح النهج 4 / 8.
3- البحار 10 / 115 ، النصائح الكافية ص 159 ( الطبعة الثانية ) اخذه عن فتح الباري ، وصحيح البخاري.
4- الاصابة 1 / 329 ، الطبقات الكبرى للشعراني ص 23 ، حياة الحيوان للدميري 1 / 57 ، تهذيب 2 / 229 ، تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 199 ، ذخائر العقبى ص 139 ، الامامة والسياسة 1 / 171 ، ينابيع المودة ص 293 ، وجاء فيه ان يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.

فان حدث به حدث فالأمر للحسين (1).

3 - الأمن العام لعموم الناس الأسود والأحمر منهم سواء فيه ، وان يحتمل عنهم معاوية ما يكون من هفواتهم ، وان لا يتبع احدا بما مضى ، وان لا يأخذ اهل العراق بإحنة (2).

4 - ان لا يسميه امير المؤمنين (3).

5 - ان لا يقيم عنده الشهادة (4).

6 - ان يترك سب امير المؤمنين (5) وان لا يذكره إلا بخير (6).

7 - ان يوصل الى كل ذي حق حقه (7).

8 - الأمن لشيعة امير المؤمنين وعدم التعرض لهم بمكروه (8).

9 - يفرق في أولاد من قتل مع ابيه في يوم الجمل وصفين الف الف درهم ، ويجعل ذلك من خراج دارابجرد (9).

ص: 229


1- عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب لجمال الحسني ص 52.
2- الدينوري ص 200 ، مقاتل الطالبيين ص 26.
3- تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 206.
4- اعيان الشيعة 4 / 43.
5- نفس المصدر.
6- مقاتل الطالبيين ص 26 ، شرح النهج 4 / 15.
7- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 144 ، ومناقب ابن شهر اشوب 2 / 167.
8- اعيان الشيعة 4 / 43 ، الطبري 6 / 97 ، علل الشرائع ص 81.
9- البحار 10 / 101 ، تأريخ دول الإسلام 1 / 52 ، الامامة والسياسة ص 200 ، تاريخ ابن عساكر 4 / 221 ، وجاء فيه ان يعطيه خراج پسا ودارابجرد.

10 - ان يعطيه ما في بيت مال الكوفة (1) ويقضي عنه ديونه ويدفع إليه في كل عام مائة الف (2).

11 - ان لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غائلة سرا ولا جهرا ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق (3).

هذه بنود الصلح ومواده التي ذكرها رواة الأثر اما ان الإمام قد اشترطها كلها او بعضها فسوف نذكر ذلك عند دراسة الشروط وتحليلها ، وقبل ان نلقي الستار على هذا الفصل لا بد لنا من التعرض الى انه فى اي مكان جرى الصلح وفى اي زمان نفذ؟

مكان الصلح :

اما المكان الذي جرى فيه الصلح فقد كان في مسكن حسب ما ذكرته اوثق المصادر ، ففي تلك البقعة ابرم الصلح ونفذ امام جمع حاشد من الجيش العراقي والشامى ، وذهب بعض المؤرخين إلى انه وقع في بيت المقدس (4) ، وذهب بعض آخر إلى انه وقع بأذرح من ارض الشام (5) وهذان القولان من الشذوذ بمكان فلا يعول عليهما.

ص: 230


1- تأريخ دول الإسلام 1 / 53.
2- جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام ص 112.
3- البحار 10 / 115 ، النصائح الكافية ص 160.
4- تأريخ الخميس 2 / 323 ، دائرة المعارف للبستاني 7 / 38.
5- تذكرة الخواص ص 206.

عام الصلح :

وكما اختلف المؤرخون في المكان الذي وقع فيه الصلح فقد اختلفوا في الزمان أيضا ، فقد قيل : إنه كان سنة 41 هجرية فى ربيع الأول ، وقيل : فى ربيع الآخر ، وقيل : في جمادى الأولى ، وعلى الأول تكون خلافته خمسة أشهر ونصف ، وعلى الثاني فستة أشهر وأيام ، وعلى الثالث فسبعة أشهر وايام (1) ، وقيل : وقع الصلح سنة اربعين من الهجرة فى ربيع الأول (2) ، وقيل غير ذلك ، والأصح ان مدة خلافته كانت ستة اشهر حسب ما ذكره اكثر المؤرخين.

وعلى أي حال فقد اصطلح بعض المؤرخين على تسمية ذلك العام - الخالد في دنيا الأحزان - بتسميته بعام الجماعة ، نظرا لاجتماع كلمة المسلمين بعد الفرقة ، ووحدتهم بعد الاختلاف ، ولكن الحق ان هذه التسمية من باب تسمية الضد باسم ضده لأن المسلمين منذ ذلك العام قد وقعوا في شر عظيم ، وانصبت عليهم الفتن كقطع الليل المظلم ، حتى تغيرت معالم الدين ، وتبدلت سنن الإسلام ، وآلت الخلافة الإسلامية الى المصير المؤلم تنتقل بالوراثة من ظالم الى ظالم حتى اغرقت البلاد فى الدماء والماسي والشجون ، يقول الجاحظ : « فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية

ص: 231


1- تأريخ أبي الفداء 1 / 193.
2- تهذيب التهذيب 2 / 299 ، وجاء فى الاستيعاب ان الإمام سلم الأمر الى معاوية فى النصف من جمادى الاولى سنة 41 ه وكل من قال : إنه كان سنة اربعين فقد توهم ، وفي تأريخ سينا ان الامام تنازل عن الخلافة في 26 ربيع الثاني سنة 41 ه.

الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه ( عام الجماعة ) وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا ، والخلافة منصبا قيصريا » (1).

لقد انفتح باب الجور على مصراعيه منذ ذلك العام الذي تم فيه الملك الى ( كسرى العرب ) فقد لا فى المسلمون وخصوصا شيعة آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من العناء والظلم والإرهاق ما لم يشاهد له التاريخ نظيرا فى فظاعته وقسوته يقول ابن أبي الحديد عما جرى على المسلمين بعد عام الصلح : « ولم يبق أحد من المؤمنين إلا وهو خائف على دمه أو مشرد في الأرض ، يطلب الأمن فلا يجده » ، وبعد هذا الظلم الشامل والجور المرهق هل يصح أن يسمى ذلك العام عام الجماعة والألفة؟

دراسة وتحليل :

اشارة

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى تحقيق الشروط التي اشترطها الإمام على معاوية ، كما لا بد من دراستها والإحاطة بها - ولو إجمالا - لأنها قد احتوت على امور بالغة الأهمية ، فقد الغمت نصر معاوية ببارود ، وعادت عليه بالخزي ، واخرجته من حكام العدل الى حكام الجور والظالمين.

اما الشروط التي ذكرت فانا نؤمن بجميعها سوى شرطين ، وهما : ان يكون للإمام ما في بيت مال الكوفة ، ومنحه راتب سنوي له ، ولأخيه

اما ( الاول ) فهو بعيد لأن ما في خزانة الكوفة من الأمتعة والأموال قد كانت تحت قبضة الإمام وبيده ، يتصرف فيها حيثما اراد ، ولم تكن

ص: 232


1- الغدير 10 / 227.

محجوبة عنه أو ممنوعة عليه حتى يشترط على معاوية أن يمكنه منها ، على أنا نشك ان خزانة الدولة قد احتوت على أموال كثيرة لأن سياسة أهل البيت تقضي بصرف المال فورا على ما خصصه الإسلام لها.

وأما ( الثاني ) فهو بعيد لأن الإمام كان في غنى عن أموال معاوية ، وليس بحاجة لها ، ولو سلمنا ذلك فانه لا ضير على الإمام من أخذها ، لأن انقاذ أموال المسلمين من حكام الجور أمر لازم كما سنوضحه عند التعرض لسفر الإمام الى دمشق ، والذي أراه أن معاوية قد أعطى الامام فى بداية الأمر هذين الشرطين ، فتوهم بعض المؤرخين أنهما من جملة الشروط التي اشترطها الإمام عليه.

وعلى أي حال ، فان تلك الشروط كانت تهدف الى طلب الأمن العام ، والسلم الشامل لجميع المسلمين ، وتدعوهم في نفس الوقت الى اليقظة والتحرر من الاستعباد الأموي ، كما دلت على براعة الإمام في الاحتفاظ بحقه الشرعي ، والتدليل على غصب معاوية له ، وإنه لم يتنازل له عن حقه ، اما محتويات الشروط فهي كما يلي :

1 - العمل بكتاب اللّه :

ولم يخل الإمام بين معاوية وبين المسلمين يتصرف في شئونهم حيثما شاء ، فقد أخذ عليه أن لا يعدو الكتاب والسنة في سياسته وسياسة عماله ، ولو كان يراه يسير على ضوء القرآن ، ويسير على منهج الإسلام لما شرط عليه ذلك ، وجعله من أهم الشروط الأساسية التي ألزمه بها.

ص: 233

2 - ولاية العهد :

وعالج الإمام نقطة مهمة في تلك المعاهدة ، وهي مصير الخلافة الاسلامية بعد هلاك معاوية ، فقد شرط عليه أن تكون الخلافة له ولأخيه من بعده ، وصرحت بعض المصادر ان الامام اشترط عليه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين بعد هلاك معاوية ، وعلى كلا القولين فقد أرجع الامام الخلافة الى كيانها الرفيع ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه باتجاهاته السيئة ، وانه لا بد أن ينقل الخلافة الاسلامية من واقعها الى الملك العضوض ، ويجعلها في عقبه من شذاذ الآفاق والمجرمين ، فأراد الامام ايقاظ المجتمع ، وبعثه الى مناجزته إن قدم على ذلك.

3 - الأمن العام :

وأهم ما ينشده الإمام من تلكم الشروط هو بسط الأمن ، ونشر العافية بين جميع المسلمين سواء الأسود منهم والأحمر ، وقد دلّ ذلك على مدى حنانه وعطفه على جميع المسلمين ، كما نصت هذه المادة على أن لا يتبع أحدا بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة مما قد مضى ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيعاملهم به من الارهاق والتنكيل انتقاما لما صدر منهم فى أيام صفين.

4 - عدم تسميته بأمير المؤمنين :

وفي رفض الامام (عليه السلام) تسمية معاوية بأمير المؤمنين تجربد له من

ص: 234

السلطة الدينية عليه وعلى سائر المسلمين ، ولم يلتفت معاوية الى هذه الطعنة النجلاء ، فانه إذا لم يكن على الحسن أميرا لم تكن له بالطبع على المسلمين امرة أو سلطان ، وكان بذلك حاكم جور وبغي ، وقد جرده بذلك من منصب الامامة والخلافة ، وأثبت له الغصب لهذا المركز العظيم.

5 - عدم اقامة الشهادة :

وهذه المادة قد فضحت معاوية وأخزته ، ودلت على أنه من حكام الجور ، فان اقامة الشهادة حسب ما ذكره الفقهاء إنما تقام عند الحاكم الشرعي ، فهي من الوظائف المختصة به ، وإذا لم تصح إقامة الشهادة عند معاوية فهو ليس بحاكم عدل وإنما هو حاكم جور ، وحكام الجور لا يكون حكمهم نافذا ، ولا تصرفهم ماضيا عند الشرع ، ويجب على الأمّة أن تزيلهم عن هذا المنصب الذي انيط به حفظ الدماء ، وصيانة الاعراض ، وحفظ الأموال ، وفى هذا الشرط بيّن الامام أنه صاحب الحق ، وان معاوية غاصب له ،

6 - ترك سب أمير المؤمنين :

وأظهر (عليه السلام) بهذا الشرط تمادي معاوية فى الاثم ، فقد علم أنه لا يترك سبّ أمير المؤمنين والحطّ من كرامته ، فأراد (عليه السلام) أن يبيّن للمجتمع الاسلامى مدى استهتاره ، وعدم اعتنائه بشئون الإسلام وتعاليمه ، فان سب المسلم وانتقاصه قد حرّمه الاسلام ، ولكن ابن هند لم يقم للإسلام وزنا ، فقد أخذ بعد إبرام الصلح يسب أمير المؤمنين على رءوس الأشهاد

ص: 235

كما سنبين ذلك عند التعرض لخرقه شروط الصلح. ولا يخفى أن الامام قد فضحه بهذا الشرط وأماط عنه الستر الصفيق الذي تستر به باسم الدين.

7 - الامن العام للشيعة :

كان الامام (عليه السلام) حريصا أشد الحرص على شيعته وشيعة أبيه ، فقد صالح معاوية حقنا لدمائهم ، وحفظا عليهم ، وقد اشترط على معاوية أن لا يتعرض لهم بمكروه وسوء ، وهذا الشرط عنده من أهم الشروط وأعظمها قال سماحة المغفور له آل ياسين : « واعتصم فيها - أي في المعاهدة - بالأمان لشيعته وشيعة أبيه وإنعاش أيتامهم ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ، ووفائهم مع أبيه ، وليحتفظ بهم امناء على مبدئه ، وانصارا مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه يوم يعود الحق الى نصابه » (1).

إن أغلب الشروط التي اشترطها الامام كانت تهدف لصالح شيعته وضمان حقوقهم وعدم التعرض لهم بأذى أو مكروه.

8 - خراج دارابجرد :

واشترط الامام على معاوية أموالا خاصة ينفقها على شيعته وشيعة أبيه وهي خراج دارابجرد (2) والوجه في هذا التخصيص إن الذي يجلب الى الدولة من الأموال يسمى بعضه بالفيء ، وهو المال المأخوذ من الأراضي

ص: 236


1- صلح الحسن ص 258.
2- دارابجرد : اراض واسعة بفارس على حدود الأهواز قد فتحها المسلمون عنوة.

المفتوحة عنوة ، وهذا يصرف على المصالح العامة ، وعلى الشؤون الاجتماعية وذلك كتحسين الجيش ، وإنشاء المؤسسات وما شاكل ذلك من المشاريع الحيوية ، وقسم من الأموال يسمى ( بالصدقة ) وهي الضرائب المالية التي فرضها الاسلام في اموال مخصوصة وانواع من الواردات يدور عليها رحى سوق التجارة في العالم فرضها على الأغنياء تجلب منهم وتدفع الى الفقراء لمكافحة الفقر وقلع بذور البؤس ، فقد قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « أمرت في الصدقة ان آخذها من اغنيائكم واردها فى فقرائكم » ، وقد كره الحسن ان يأخذ من هذه الأموال لنفسه أو لشيعته ، اما له فانها محرمة عليه لأن الصدقة حرام على آل البيت ، واما كراهة اخذها لشيعته فلأن اموال الصدقة لا تخلو من حزازة عليهم لأنها اوساخ الناس ، وقد كره (عليه السلام) ان يأخذ منها لشيعته ، وخصّ ما يأخذه لهم من دارابجرد ، لأنها قد فتحت عنوة ، وما فتح عنوة فهو ليس بصدقة ، وبذلك قد اختار لشيعته من الأموال ما هو ابعد عن الشبهة الشرعية وهي خراج دارابجرد التي هي للمسلمين وعلى الامام أن ينفقها على صالحهم.

9 - عدم البغى عليهم :

ومن مواد المعاهدة أن لا يبغي معاوية للحسن والحسين ، ولا لأهل بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غائلة ، ولا يخيف أحدا منهم ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيبغيه لهم من الشر والمكر ، فكان من غوائله لهم أنه دس السم للإمام - كما سنبينه - فأراد الإمام بهذا الشرط وبغيره من بنود الصلح أن يكشف الستار عن معاوية ، ويبدي عاره وعياره ، وانه لا ذمة ولا حريجة له في الدين.

ص: 237

هذه بعض بنود الصلح ، وقد حفلت بعناصر ذات أهمية بالغة دلت على براعة الإمام ، وقابلياته الفذة فى التغلب على خصمه ، يقول سماحة المغفور له آل ياسين فى هذه المعاهدة :

« ومن الحق أن نعترف للحسن بن علي على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل إليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف ، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين ، وحكام الاسلام اللامعين ، ولن يكون الحرمان يوما من الأيام ، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان دليلا على ضعف أو منفذا الى نقد ، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير ، وسمو الرأي ، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش.

وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل ، مهما حدّ من تيارها الحرمان أو ثنى من عنانها الفشل ، وها هي من لدن هذا الرجل تستجد - منذ الآن - ميدانها البكر القائم على الفكرة الجديدة القائمة على صيانة حياة أمّة بكاملها في حاضرها ومستقبلها ، بما تضعه المعاهدة من خطوط وبما تستقبل به خصومها من شروط » (1).

ص: 238


1- صلح الحسن ص 257.

موقف الإمام الحسين

ص: 239

ص: 240

كان موقف سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) من قضية الصلح كموقف أخيه الحسن (عليه السلام) ، فكان يرى ضرورة المهادنة ، ولزوم المسالمة ، وانه ليس من الحكمة ، ولا من الصالح فتح باب الحرب مع معاوية ، فانه يعود بالمضاعفات السيئة على الإسلام ، ويجر الويلات والخطوب للمسلمين وذلك لتفلل الجيش الذي نزح معهم ، فقد ذكرنا فى البحوث السابقة الخيانات المفضوحة التي ظهرت من أغلب الأمراء والوجوه ، والتحاقهم بمعسكر معاوية ، وضمانهم له الفتك بالامام الحسن ، أو تسليمه أسيرا له ، فكيف يحاربه بهذه القوى الغادرة التي تبغي له الغوائل ، وتتربص به الفرص للفتك به؟

إن الإمام الحسين (عليه السلام) كان من رأيه أن يستجيب أخوه للصلح ، ولا يناجز معاوية نظرا للعوامل المريرة التي أحاطت به حتى جعلت من المستحيل التغلب على معاوية ، والانتصار عليه ، فما عمله الامام الحسن من الصلح كان أمرا متعينا ، ولا سبيل لغيره - كما أوضحنا ذلك في أسباب الصلح - ، فكيف يخالف الإمام الحسين أخاه في ذلك ، ولا يقره عليه.

وزعم بعض المؤرخين ان الإمام الحسين (عليه السلام) كان كارها لما فعله أخوه ، وانه قال له :

« أنشدك اللّه أن تصدق احدوثة معاوية ، وتكذب احدوثة أبيك!! » فأجابه الحسن :

« أنا أعلم بهذا الأمر منك » (1).

ورووا أيضا : « ان الحسن (عليه السلام) قال لابن عمه عبد اللّه بن جعفر :

« إني رأيت رأيا أحب أن تتابعني عليه » فانبرى إليه ابن جعفر قائلا :

ص: 241


1- أسد الغابة وغيره.

« ما هو »؟

« رأيت أن أعمد الى المدينة فأنزلها ، وأخلي بين معاوية ، وبين هذا الحديث ، فقد طالت الفتنة ، وسفكت فيها الدماء ، وقطعت الأرحام ، وعطلت الفروج » (1).

فأيد ابن جعفر رأيه قائلا :

« جزاك اللّه عن أمّة محمد خيرا ، وأنا معك ».

ثم بعث نحو الحسين ، فلما مثل بين يديه قال له :

« إني رأيت رأيا ، وأحب أن تتابعني عليه ».

« ما هو؟ »

فذكر له رأيه في ذلك.

فانبرى الحسين وهو غضبان قائلا :

« أعيذك باللّه أن تكذب عليا في قبره ، وتصدق معاوية ».

فتأثر الحسن من كلامه ، وقال له :

« واللّه ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه الى غيره ، واللّه لقد هممت أن أقذفك فى بيت فأطينه عليك ، حتى أقضى أمري ».

فلما رأى الحسين غضب أخيه وجدّه في الأمر انسحب عن فكرته وتنازل عن رأيه وقال له بصوت خافت : « أنت أكبر ولد عليّ ، وأنت خليفتي ، وأمرنا لأمرك متبع ، فافعل ما بدا لك » (2).

لا شك في افتعال ذلك كله وانه من الموضوعات لأن الامام الحسين علیه السلام كان عالما بالعلل والأسباب التي الجأت أخاه الى الصلح والزمته

ص: 242


1- الفروج : الثغور.
2- تأريخ ابن عساكر الكبير 4 / 21.

بالمسالمة ، فان رأيه في الصلح كان موافقا لرأي أخيه لا يخالفه ولا يختلف عنه ، ويدل على ذلك ان الإمام الحسن لما أبرم الصلح أقبلت الى الامام الحسين طائفة من الزعماء والوجوه يطلبون منه أن ينقض ما أبرمه أخوه ويناجز معاوية فأبى (عليه السلام) وامتنع ، ولو كان رأيه مخالفا لرأي أخيه لأجابهم الى ذلك ، ولما انتقل الإمام الحسن (عليه السلام) الى حظيرة القدس رفعت إليه طوائف من زعماء العراق عدة رسائل يطلبون منه اعلان الثورة على معاوية فامتنع من اجابتهم وقال لهم :

« ما دام معاوية في قيد الحياة فلا اتحرك بكل شيء ، وإذا مات نظرت في الأمر » (1).

إن امتناعه من القيام بالأمر ما دام معاوية حيا يدل بصراحة أنه كان يرى ضرورة المهادنة والمسالمة المؤقتة ، فان الثورة لا تنتج ولا التضحية تجدي شيئا مع وجود معاوية لأنه يلبسها ثوبا يخرجها عن اطار الإصلاح كما أوضحنا ذلك فيما تقدم ، نعم لا شك ان الصلح قد ترك في نفس الحسين أسى مريرا وحزنا مرهقا كما ترك في نفس الحسن أيضا لوعة وحزنا ، ولكنهما سلام اللّه عليهما ما ذا يصنعان والظروف لم تكن مواتية لهما حتى يقوما بمناجزة معاوية.

ومما يدل على وضع ذلك وعدم صحته انه جاء في الرواية الثانية ان الإمام قال لأخيه الحسين.

« ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه ».

ان هذا الكلام شاهد على الافتعال والوضع لأن الإمام الحسين علیه السلام تصده مثله العليا عن مخالفة أخيه وعدم طاعته له فقد تربيا معا

ص: 243


1- الارشاد ص 206 وغيره.

في حجر المشرع الأعظم ، وأفاض عليهما مثله وتهذيبه وهديه حتى صارا صورة صادقة عنه ، فكيف يخالف أوامر أخيه ولا يطيعه فى أمر يعود بالصالح العام لجميع المسلمين ، إن الامام الحسين كان يكبر أخاه ويجله ولا يخالف له أمرا. فقد روى حفيده الإمام الباقر (عليه السلام) عن مدى اجلاله وتعظيمه له قال :

« ما تكلم الحسين بين يدي الحسن اعظاما له » (1).

وبعد هذا التقدير والإكبار هل يصح أن يقول الحسن لأخيه ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه.

وانجرف الدكتور طه حسين بهذه الرواية المفتعلة فقال :

« كره صلح أخيه وهمّ أن يعارض ، فأنذره أخوه بأن يشدّه في الحديد حتى يتم الصلح ».

وقال : « وكان الحسين يعيب الصلح لأنه إنكار لسيرة أبيه ».

وقال أيضا : « رأى الوفاء لأخيه حقا فوفى له ، وأطاعه كما أطاع أباه من قبله. وما أشك في أنه أثناء هذه السنين التي قضاها فى المدينة بعد صلح أخيه كان يتحرق تشوقا الى الفرصة التي تتيح له استئناف الجهاد حيث تركه أبوه » (2).

أما قوله : « كره صلح أخيه وهمّ بالمعارضة ، فأنذره أخوه بأن يوثقه في الحديد ، وانه كان يعيب عليه لأنه إنكار لسيرة أبيه » ، فيرده انه لو كان كارها لذلك لأجاب الكوفيين الى مناجزة معاوية بعد ما جرى

ص: 244


1- مناقب ابن شهر اشوب 2 / 143.
2- الفتنة الكبرى 2 / 213 وعول على الروايات المصطنعة الاستاذ محمود العقاد في أبي الشهداء.

الصلح ، ولأعلن الثورة عليه بعد موت أخيه ، مضافا الى انه لو كان الصلح مخالفا لسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) لما سكت الحسين لحظة واحدة لأن السكوت عن الحق جبن ومعصية ، ولو كان مخالفا لسيرة أمير المؤمنين التي هي سيرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما أبرم الحسن (عليه السلام) الصلح ونفذه ، نعم كان الحسين يتحرق شوقا الى الجهاد تحرق الظمان الى الماء ، قد انطوى قلبه على شجى مكتوم وحزن مرهق ولكنه لم ينفرد بذلك ، فقد شاركه أخوه في جميع محنه وأشجانه ، وكانا معا يترقبان بفارغ الصبر الفرصة السانحة للثورة على حكومة أميّة ، ولكن الفرصة التي يؤمل بها النصر والفتح كانت معدومة ما دام معاوية حيا ، فان فتح باب الحرب معه يعود بالضرر البالغ على الإسلام والمسلمين.

بقي هنا شيء لم نذكره في أسباب الصلح ، وهو انه لما ذا لم يفتح الإمام الحسن باب الحرب مع معاوية ، وإن عدم الناصر والمعين فيستشهد كما استشهد أخوه سيد الشهداء الإمام الحسين علیه السلام ، وهذه الشبهة قد ذهب إليها بعض الناقدين للصلح ، ولندع الجواب الى إمام من أئمة المسلمين وهو آية اللّه المغفور له السيد عبد الحسين شرف الدين فقد كشف الغطاء عنها في مقال عنوانه ( ثورة الحسين صدى لصلح الحسن ) وقد نشر في أغلب الصحف المحلية ، نذكره بأسره لما فيه من مزيد الفائدة قال رحمه اللّه :

« كان بنفسي من قديم أن أعني ببحث هذه المسألة بحثا يدفع هذه الشبهة عن أبي محمد ، فى نفوس غير المتمكنين فى فهم التأريخ فهما صحيحا وكثير من هؤلاء لا يرجعون الى مصدر علمي في وزن هؤلاء النفر من أهل البيت ، واخضاع حركاتهم في حالتي مدها وجزرها للمبدإ الأسمى ،

ص: 245

الذي طوعهم لخدمته ، وأفنى ذواتهم في ذاته ، فكانوا ينقبضون حين يشاء لهم الانقباض ، وينبسطون حين يشاء لهم الانبساط كذلك ...

كان بنفسي أن أرد هذه الشبهة عن أبي محمد السبط باقامة هذا الميزان العلمي الذي يجلو هذه الحقيقة ، ويكشف خدرها ، غير أن واردا ثقيلا من المشاغل التي تنتهي كان يصرفني عما بنفسي من ذلك ، .. فها أنا الآن أوجز الإشارة الى هذه الشبهة ودفعها ، وعسى أن تعود هذه النواة غرسا أتعهده أنا بما ينميه إن سنحت الفرصة أولا فينميه قلم من هذه الأقلام الصقيلة ، المغموسة بقلوب الأحرار ، وعقول العلماء من خدام الحقائق.

أما الشبهة فقديمة كقدم النظر القاصر فيمن يأخذون من الأشياء بالظاهر والملمون بتأريخ الحسن (عليه السلام) يعرفون أن قوما من صحابته أخذوا عليه قعوده عن حرب معاوية ، ومناجزته إياه القتال ، حتى لأوشك أن يذهب يومئذ ضحية هذه الفتنة ، وحتى دخل عليه خاصته بسلام غليظ يقولون فيه : « السلام عليك يا مذل المؤمنين » ..!

وقد يكون لهؤلاء عذر بحماستهم التي نعرفها لذوي النجدة من فتيان الايمان الذين تغلب فيهم عاطفة الحماسة ، واستقرار الروية وبعد النظر.

وقد يكون ذلك ولكنا لا نقصد الآن الى الاعتذار لهم بل نريد أن نثبت طرف هذه الشبهة عن الأول لنراها تتسلسل منه فتظهر بين حين وآخر طورا على لسان أوليائه ، وتارة على لسان أعدائه ، وهي هنا وهناك لا تظهر إلا لتدل على جهل هؤلاء وأولئك.

فنحن حين نزن صلحه علیه السلام وحربه ترجح كفة الصلح من حيث اعتبرت المعايير المرعية ، وكن إن شئت ( ماديا ) ، أو كن ( روحيا )

ص: 246

تتجاوز بايمانك وفهمك مدى المحسوسات المرئية.

كن أول الأمر ماديا وناقش حرب الحسن في جيش حكم على نفسه بالهزيمة ، قبل أن يخوض المعركة ، وغزاه معاوية الذي ثبت لعلي من قبل ولعلي معنوية عسكرية ترجف الأرض من خيفتها ، مضافا الى معنوياته الأخرى التي لم يكن الحس يتمتع بمثلها فى نفوس معاصريه ، بحكم انضوائه الى لواء أبيه.

نعم لك أن تقول كان على الحسن أن يستشهد فيموت عزيزا ، ولكن أعد النظر في تاريخ هذه الفترة لترى أن الاستشهاد فيها ينمسخ الى معنى من معاني ( الخروج ) فلم تكن يومئذ حقيقة وطنية ثابتة ، ولا روح مبدئية مستقرة لتكون التضحية تضحية مقررة القواعد وليس أتفه - فى هذه الحال - من الموت يعين على صاحبه ويميته مرة أخرى فى معناه.

كانت الحياة الإسلامية تنتكس حقا ، وتتحول الى ملك عضوض وكانت المطامع تتجند في ركاب الملك هاربة من حواشي الخلافة ولكنها كانت ما تزال تحتفظ بوسيلة الإسلام وظاهر مبادئه في ( وصولية ) صاغها معاوية بدهائه ، وكان هذا وحده عذرا للحسن من ناحيتين.

1 - كان عذره في الصلح لأن ( الدنيا ) كانت تظاهر معاوية فتستلب منه ابن عمه وقائد عسكره.

2 - ثم كان عذره في القعود عن الشهادة لأن ذلك بعينه ليس ظرف الشهادة ، لأنه كان قادرا على مسخها.

فأي ربح مادي في الموت لو اختاره الحسن كما يريد هؤلاء ، غير انه يعين معاوية على نفسه حيا وميتا.

إننى لا أرى شيئا أدل على عظمة الحسن من هذه السياسة المادية التي

ص: 247

حددت موقفه على هذا النحو في أخطر دور مرّ به الإسلام. فكانت نواة لقلب الحكم الأموي ، وفضح ، كما كانت مادة ذلك البارود الجبار الذي انفجر في مصرع الحسين (عليه السلام) ذلك الانفجار ، ولو لم يكن موقف الحسن هذا لأتيح لمعاوية سلطان لا يعرف الناس منطوياته ، ولما اتيح للحسين أن يكون الفداء الخالد للمبدإ الخالد.

وبعد إن كنت ماديا فكن ( روحيا ) وناقش حرب الحسن لتجتمع لك الاعتبارات كلها على رجحان كفة الصلح.

الحسن (عليه السلام) ليس من طلاب ( الامرة ) لذات الامرة ، بل هو ممن يريدون الخلافة وسيلة للإصلاح ، وإقامة العدل والسلام بين الناس ، وما أظن هذه العقيدة الروحية تعدم دليلها المادي ، فأبوه وجده أثبتا فى الإسلام انهما كذلك ، وله قبل الإسلام إرث ينهض دليلا على انه من معدن مصلح لا يطلب النفوذ إذا استغنى عن فعل الخير.

ومن هنا كان سهلا عليه أن يتنازل عن الخلافة لأنه في فترة لا تقدر هي على ابداء الخير في ظل ذلك الجيل المكبوت المشتاق الى الشهوات يصيب منها فوق كفايته على موائد معاوية ، بل لقد كان الواجب عليه أن يتنازل مع عدم القدرة على تذليل العقبة من اخضاع ( الأموية ) المندفعة ، لأن تنازله يأتي وفق الخطة التي رسمتها له مبادئه.

وليس عائبو تنازله أشد احساسا منه بالام التنازل وهو المجروح ، ولكنها التضحية الضخمة فرضت عليه أن يتحمل آلام القعود التي كتبتها عليه مثله العليا ، ومبادئه الحسنى.

وهي تضحية لا تقل قدرا - إن لم تزد - عن تضحية الحسين (عليه السلام) وكن الآن ما شئت ، كن ماديا ، أو كن روحيا فستنتهي آخر الأمر

ص: 248

الى نتيجة رائعة ، وهي ان صلح الحسن مصدر من أكبر مصادر ثورة الحسين التحريرية ، والى أن جوهر التضحية واحد عند الاماميين وإن اختلف مظهرهما.

والحق ان يوم الطف كان صدى ليوم المدائن صلى اللّه على سيدي شباب أهل الجنة ، ونفع المسلمين بذكرياتهما المجددة المتجددة ، ووفق العرب والمسلمين الى الاهتداء بهديهما فى مرحلتهم الصعبة هذه » (1).

ورأي سماحة الامام شرف الدين رأي وثيق تعضده الأدلة ويسنده المنطق العلمي من جميع جهاته ، والحق إنه (عليه السلام) لو ضحّى بنفسه لذهبت تضحيته معدومة الأثر ، لا تقيم حقا ، ولا تغير باطلا ، لأن معاوية بمكره وخداعه ، يلقي المسئولية على الحسن ، ويبرئ نفسه عن ارتكاب الجريمة ، فيقول للناس : « إني دعوت الحسن للصلح ، ولكن الحسن أبى إلا الحرب وكنت اريد له الحياة ، ولكنه أراد لي القتل ، وأردت حقن الدماء ، ولكنه أراد هلاك الناس بينى وبينه ... » ومعاوية له هذه القابليات التي يظهر بها نفسه مظهر العادل المنصف ، وبذلك تكون التضحية مسلوبة الأثر معدومة الفائدة.

وأما الحسين (عليه السلام) فقد جاءت تضحيته الخالدة موافقة لظرفها الملائم ومنسجمة مع مقتضيات الزمن ، لأن الأثيم يزيد ليس معه من يدير شئونه ويردعه عن طيشه وغروره ، فقد هلكت تلك العصابة التي كان يعتمد عليها معاوية في تدبير شئونه كابن العاص ، والمغيرة وأمثالهما من دهاة العرب ،

ص: 249


1- جريدة الساعة الغراء عددها الخاص بسيد الشهداء (عليه السلام) من السنة 4 بعدد 908 ، ونشرتها مجلة الغرى الزاهرة بعددها الخاص بالامام الحسين (عليه السلام) من السنة 9 العدد 11.

ولم يبق منهم معه أحد ، فلذا نهض الامام الحسين علیه السلام بتلك النهضة الموفقة التي جاءت بالنهاية المحتومة لدولة أميّة.

وبالجملة إن مهادنة الحسن وشهادة الحسين علیهماالسلام قائمتان على فكرة عميقة منبعثة من وحي جدهما الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ولو لا صلح الامام الحسن ، وشهادة أخيه سيد الشهداء لما بقي للإسلام اسم ولا رسم ، وقد صرّح بهذا الامام كاشف الغطاء في مقدمته للجزء الأول من هذا الكتاب ، قال رحمه اللّه :

« إنه كما كان الواجب والمتعين الذي لا محيص عنه في الظروف التي ثار بها الحسين سلام اللّه عليه على طاغوت زمانه أن يحارب ويقاتل حتى يقتل هو وأصحابه ، وتسبى عياله ودائع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما كان هذا هو المتعين فى فن السياسة ، وقوانين الغلبة والكياسة مع قطع النظر عن الأوامر الالهية ، والمشيئة الأزلية ، كذلك كان المتعين والواجب الذي لا محيص عنه في ظروف الحسن (عليه السلام) وملابساته هو الصلح مع فرعون زمانه ، ولو لا صلح الحسن ، وشهادة الحسين علیهماالسلام لما بقي للإسلام اسم ، ولا رسم ، ولضاعت كل جهود محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما جاء به للناس من خير وبركة ورحمة ».

نعم : لو لا صلح الحسن ، وشهادة الحسين لقضي على الاسلام ولف لواؤه ، فإن الحسن علیه السلام بصلحه فضح معاوية وأظهر عداءه السافر للإسلام والمسلمين ، والحسين علیه السلام بتضحيته وشهادته فتك بدولة أميّة وقضى عليها وعلى كل ظالم مستبد ، وأعطى الدروس الخلاقة لكل مصلح يريد أن يثور على الظلم والطغيان والاستغلال.

ص: 250

اجتماع الإمام بمعاوية

اشارة

ص: 251

ص: 252

لعل أقسى محنة اجتازتها نفس أي انسان كان هي التي ألمّت بالامام الحسن (عليه السلام) حينما اجتمع بابن أبي سفيان ، فقد أودع ذلك الاجتماع ألما مرهقا ، وأسى مرّا ، استوعب نفسه الشريفة ، ذلك لأنه رأى باطل معاوية قد استحكم وجوره قد انتصر ، وزاد في أساه ما ستعانيه الأمّة في دور هذا الطاغية من الماسي والشجون ، فترك ذلك أعمق الألم والحزن في نفسه.

لقد اجتمع الامام - على كره - بمعاوية ، وكان الاجتماع بالنخيلة (1) وقيل بالكوفة (2) ، وقد حضرته جموع حاشدة من المسلمين ، تنتظر بفارغ الصبر ما يفوه به الملك الظافر من الأمن والرفاهية وما يبسطه على الناس من العدل ، وما عسى معاوية أن يفعل في هذه الساعة الرهيبة ، إنه اعتلى المنبر فأظهر خبث ذاته ، وسوء سريرته ، واعلن ما يضمره للمسلمين من الشر والارهاق ، كما أظهر لهم السر في الحرب التي أثارها على أمير المؤمنين وولده الحسن قائلا :

« أيها الناس ، ما اختلف أمر أمّة بعد نبيها إلا وظهر أهل باطلها على أهل حقها ».

ولما افتتح خطابه بهذا القول الذي حكى فيه الواقع التفت الى أنه قد عنى به نفسه فندم على ذلك فاستدرك قائلا :

« إلا هذه الأمّة ».

ثم وجه خطابه القاسي الى العراقيين معربا لهم عن حقيقة الحرب التي أثارها عليهم ، وإن الهدف الأقصى الذي ينشده من وراء ذلك إنما هو

ص: 253


1- ابن أبي الحديد 4 / 16 وذكر ان خطبة معاوية الآتية القاها في النخيلة
2- اليعقوبي 2 / 192 الارشاد 170.

الملك ، لا الطلب بدم عثمان قائلا :

« واللّه إني ما قاتلتكم لتصلوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ، ولا لتزكوا ، إنكم لتفعلون ذلك ، وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ».

ثم صرح بعد ذلك بعدم التزامه ووفائه بالشروط التي أعطاها للإمام فقال :

« ألا إن كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين (1) ولا يصلح الناس إلا ثلاث : اخراج العطاء عند محله ، وإقفال الجنود لوقتها ، وغزو العدو في داره ، فان لم تغزوهم غزوكم ».

حقا ان هذا هو التمادي في الإثم ، وكان عبد الرحمن بن شريك (2) إذا حدّث بذلك يقول : « واللّه هذا هو التهتك ». ويقول أبو اسحاق السبيعي ، وهو ممن روى خطاب معاوية : « كان واللّه غدارا ».

وأخذ معاوية يكيل السب والشتم الى أمير المؤمنين (عليه السلام) وولده الحسن غير مستأثم من ذلك ولا متحرج ، وقد خرق بذلك أبرز بنود المعاهدة التي وقع عليها.

ص: 254


1- وفى رواية أبي اسحاق السبيعي : « ألا وإن كل شيء اعطيت الحسن ابن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به » ، ذكر ذلك ابن أبي الحديد فى النهج ، وقريب منه ذكره المفيد في الارشاد.
2- عبد الرحمن بن شريك النخعي الكوفي ، روى عن أبيه ، وروى عنه البخاري فى كتاب الأدب ، عدّه ابن حبان فى الثقات ، وقال : ربما أخطأ ، توفى سنة 227 ه جاء ذلك في تهذيب التهذيب 6 / 194.

خطاب الامام الحسن :

وطلب معاوية من الإمام أن يعتلي منصة الخطابة ليبين للناس تنازله عن الأمر. وقيل ان ابن العاص أشار عليه بذلك ليظهر للناس - بحسب زعمه - عي الإمام وعدم مقدرته على الخطاب ، وقد أخطأ في ذلك ، فان الإمام قد خطب الناس غير مرة في حياة أبيه ، وبعد وفاته ولم يعرف عنه العي والحصر ، لأنه من أهل بيت كانوا معدن الفصاحة والبلاغة ، وفصل الخطاب ، وانبرى الإمام الى أعواد المنبر والناس كلهم أذن صاغية وهم ما بين راغب وراغم ، فخطبهم خطبة طويلة كانت فى منتهى الروعة والبلاغة ، وعظ فيها الناس ، ودعاهم الى الالفة والمحبة ، وصوّر فيها الأحداث الرهيبة التي جرت على أهل البيت بعد وفاة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعزى ما جرى عليهم من المحن والخطوب الى الصدر الأول الذين نزعوا الخلافة منهم ، وردّ في آخر خطابه على معاوية ، وهذا نص خطابه :

« الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا اللّه كلما شهد له شاهد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ، وائتمنه على الوحي صلی اللّه علیه و آله .

أما بعد : فو اللّه إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد اللّه ومنّه وأنا أنصح خلق اللّه لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريدا له سوءا ، ولا غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردوا عليّ رأي غفر اللّه لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه

ص: 255

المحبة والرضا. » (1)

ثم التفت الى الجماهير فقال لها :

« أيها الناس ، إن أكيس الكيس التقى ، وأحمق الحمق الفجور ، واللّه لو طلبتم ما بين جابلق (2) وجابرس (3) رجلا جده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين ، وقد علمتم أن اللّه هداكم بجدي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأنقذكم به من الضلالة ، ورفعكم به من الجهالة ، وأعزكم به بعد الذلة ، وكثركم به بعد القلة ، إن معاوية نازعني حقا هو لي دونه ، فنظرت لصلاح الأمّة ، وقطع الفتنة ، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالمون من سالمت ، وتحاربون من حاربت ، فرأيت أن أسالم معاوية ، واضع الحرب بيني وبينه ، وقد بايعته ، وقد رأيت أن حقن الدماء خير من سفكها ، ولم أرد بذلك إلا صلاحكم وبقاءكم ، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع الى حين » (4).

ص: 256


1- الارشاد ص 169.
2- جابلق : بالباء الموحدة المفتوحة واللام المسكنة ، روي عن ابن عباس أنها بأقصى المغرب واهلها من ولد عاد ، جاء ذلك في المعجم 3 / 32.
3- جابرس : مدينة بأقصى المشرق ، زعم اليهود أن أولاد نبيهم موسى علیه السلام هربوا اما فى حرب طالوت أو في حرب بخت نصر ، فسيرهم اللّه وأنزلهم فى هذا الموضع فلا يصل إليهم أحد ، وقد طويت لهم الأرض وجعل عليهم الليل والنهار سواء حتى انتهوا الى ( جابرس ) فسكنوا فيها ، ولا يحصي عددهم إلا اللّه ، فاذا قصدهم أحد من اليهود قتلوه وقالوا : ( لم تصل إلينا حتى أفسدت سنتك ) ، وبهذا الاعتبار يستحلون دمه جاء ذلك في المعجم 3 / 33.
4- كشف الغمة ص 170.

وأخذ (عليه السلام) يبين ظلامة أهل البيت فقال :

« وإن معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلا ولم أر نفسي لها أهلا ، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب اللّه عز وجل وعلى لسان نبيه ، ولم نزل - أهل البيت - مظلومين منذ قبض اللّه نبيه ، فاللّه بيننا وبين من ظلمنا ، وتوثب على رقابنا ، وحمل الناس علينا ، ومنعنا سهمنا من الفيء ، ومنع أمّنا ما جعل لها رسول اللّه ، واقسم باللّه لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول اللّه لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتها ، ولما طمعت فيها يا معاوية ، فلما خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها ، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء ، أنت وأصحابك. وقد قال رسول اللّه : ما ولت أمّة أمرها رجلا وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا الى ما تركوا. فقد ترك بنو اسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى فيهم واتبعوا السامري ، وتركت هذه الأمّة أبي وبايعوا غيره ، وقد سمعوا رسول اللّه يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة ، وقد رأوا رسول اللّه نصب أبي يوم غدير خم ، وأمرهم أن يبلغ أمره الشاهد الغائب ، وهرب رسول اللّه من قومه وهو يدعوهم الى اللّه حتى دخل الغار ، ولو انه وجد أعوانا لما هرب ، كفّ أبي يده حين ناشدهم ، واستغاث فلم يغث. فجعل اللّه هارون في سعة حين استضعفوه ، وكادوا يقتلونه ، وجعل اللّه النبي في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعوانا. وكذلك أبي وأنا في سعة من اللّه حين خذلتنا هذه الأمّة. وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضا. » (1)

والتفت الى حضار الحفل فقال لهم.

ص: 257


1- البحار 10 / 114.

« فو الذي بعث محمدا بالحق ، لا ينقص من حقنا - أهل البيت - أحد إلا نقصه اللّه من عمله ، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة ولتعلمن نبأه بعد حين. »

والتفت (عليه السلام) الى معاوية فردّ عليه سبه لأبيه فقال له :

« أيها الذاكر عليا أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر وأمىّ فاطمة ، وأمك هند ، وجدي رسول اللّه ، وجدك عتبة بن ربيعة ، وجدتي خديجة ، وجدتك فتيلة ، فلعن اللّه أخملنا ذكرا ، وألأمنا حسبا ، وشرنا قديما وحديثا ، وأقدمنا كفرا ونفاقا!! »

وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل بقول :

« آمين آمين ».

وما سمع أحد هذا الخطاب إلا شاركهم بقول : آمين ونحن نقول : آمين آمين.

وهذه الخطبة أبلغ خطبة عرفها التأريخ ، فقد وضع الإمام فيها النقاط على الحروف - كما يقولون - وصوّر الموقف الدقيق الذي هو فيه ، وربط بين الأحداث التي واجهها ، وبين الأحداث التي جرت على أبيه وانها جميعا تستند الى من تقمص الخلافة بعد وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلولاهم لما طمع معاوية في الخلافة ونازعه فيها.

موقف الزعيم قيس :

ولما سمع الزعيم الحديدي قيس بن سعد بالنبإ المؤلم جمد دمه واستولت عليه موجة من الهموم ، وغشيته سحب من الأحزان حتى تمنى مفارقة الحياة وجعل يردد في دخيلة نفسه :

كيف سالم أمير الحق أمير الباطل؟!!!

ص: 258

ووقف وهو حائر اللب ، خائر القوى يريد أن ينقل قدمه من الأرض فلم يتمكن ، قد مشت الرعدة بأوصاله ، والحيرة بصدره ، وسرى الألم العاصف في محيّاه ، ثم انفجر باكيا وهو ينظم ذوب الحشا قائلا :

أتاني بأرض العال من أرض مسكن *** بأن إمام الحق أضحى مسالما

فما زلت مذ بينته متلددا *** أراعي نجوما خاشع القلب واجما (1)

والتفت الى الجيش وقد علاه الانكسار واستولى عليه الجزع والذهول قائلا بصوت خافت حزين النبرات :

« اختاروا إحدى اثنتين ، اما قتال بغير إمام ، واما أن تبايعوا بيعة ضلال؟!! »

فأجابوه وقد علاهم الذل والهوان قائلين :

« بل نقاتل بغير إمام ».

وزحفوا الى جموع أهل الشام فضربوهم حتى أرجعوهم الى مصافهم واضطرب معاوية من ذلك أشد الاضطراب ، فراسل قيسا يمنّيه ويتوعّده

فأجابه قيس :

« لا واللّه ، لا تلقاني إلا وبيني وبينك السيف أو الرمح ».

ولما يئس منه معاوية أرسل إليه رسالة يشتمه فيها ويتوعّده وهذا نصها :

« أما بعد : فإنك يهودي تشقى نفسك ، وتقتلها فيما ليس لك ، فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وغدرك ، وإن ظهر أبغضهم إليك ، نكّل بك وقتلك ، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه ، ورمى غير غرضه ، فأكثر الجذ ، وأخطأ المفصل ، فخذله قومه ، وأدركه يومه ، فمات بحوران غريبا والسلام ».

فاجابه قيس :

ص: 259


1- المناقب 2 / 167.

« أما بعد : فإنما أنت وثن ابن وثن ، دخلت في الإسلام كرها ، واقمت فيه فرقا ، وخرجت منه طوعا ، ولم يجعل اللّه لك فيه نصيبا ، لم يقدم إسلامك ، ولم يحدث نفاقك ، ولم تزل حربا لله ولرسوله ، وحزبا من أحزاب المشركين ، وعدوّا لله ولنبيه وللمؤمنين من عباده. وذكرت أبي فلعمري ما أوتر إلا قوسه ، ولا رمى إلا غرضه ، فشغب عليه من لا تشق غباره ، ولا تبلغ كعبه ، وزعمت أني يهودي ابن يهودي وقد علمت وعلم الناس أني وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه ، وانصار الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه والسلام ».

وحكت هذه الرسالة حقيقة معاوية وواقعه ، ولمّا قرأها انتفخت أوداجه ، وورم أنفه ، فأراد أن يجيبه ، ولكن الداهية الماكر وزيره ابن العاص نهاه عن ذلك قائلا له :

«!! فإنك إن كاتبته أجابك بأشد من هذا ، وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس ».

واستصوب معاوية رأي ابن العاص فأعرض عن الشدة والعنف (1) وبعث إليه رسالة جاء فيها :

« على طاعة من تقاتل؟ وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك ».

ولم يقتنع قيس بذلك وبقي مصرا على رأيه ، ولكن معاوية خاف من الفتنة ومن تطور الأحداث فبعث إليه طومارا ختم في أسفله ، وقال للرسول قل له فليكتب فيه ما شاء وغاظ ذلك ابن العاص ، لأن فيه نوعا

ص: 260


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 15 ، وذكر المسعودي في مروج الذهب 2 / 319 ، إن هذا الحديث دار بين معاوية وقيس في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما كان قيس عاملا له على مصر.

من التكريم والحفاوة بقيس ، فالتفت الى معاوية قائلا :

« لا تأته هذا وقاتله!! »

ولم يخف على معاوية حقد ابن العاص لقيس وعدم نصحه في مقاله فأجابه :

« على رسلك فانا لا نخلص الى قتلهم حتى يقتل اعدادهم من أهل الشام فما خير في العيش بعد ذلك واني واللّه لا أقاتله أبدا حتى لا أجد من قتاله بدّا ».

وأوصل الرسول الطومار الى قيس ، وابلغه بمقالة معاوية ، فتأمل قيس وأطال التفكير ، وأخيرا لم يجد بدا من الدخول فيما دخل فيه الناس إذ لم تكن عنده قوة يستطيع بها على مناجزة معاوية ، ولم يكن هناك ركن شديد يأوى إليه حتى يتخلص من بيعته ، فأجاب الرسول بالموافقة وسجل في الطومار الأمان له ولشيعته ، ولم يسأل غير ذلك (1) ولكنه امتنع من الاجتماع معه لأنه قد عاهد اللّه أن لا يجتمع معه إلا وبينهما السيف والرمح فلما علم معاوية ذلك أمر باحضار سيف ورمح ليجعل بينهما حتى يبر قيس بيمينه ولا يحنث ، فعند ذلك التجأ قيس الى الاجتماع به فأقبل وقد أحاطت به الجماهير ، وشخصت نحوه الأبصار ، وهو مطأطئ الرأس ، مثقل الخطى لا يبصر طريقه من الأسى والذل ، يتنفس فيلفظ شظايا قلبه مع أنفاسه ، ولما استقر به المجالس التفت الى الجموع الحاشدة قائلا :

« يا معشر الناس ، لقد اعتضتم الشر من الخير ، واستبدلتم الذل من العز ، والكفر من الإيمان ، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين ، وابن عم رسول رب العالمين ، وقد وليكم الطليق ابن الطليق ، يسومكم الخسف ، ويسير فيكم بالسيف ، فكيف تجهل ذلك أنفسكم ، أم

ص: 261


1- الكامل 3 / 207 ، الطبري 6 / 94.

طبع اللّه على قلوبكم وأنتم لا تعقلون » (1).

ثم التفت الى الإمام (عليه السلام) وقد استولى عليه الذل والانكسار قائلا بصوت خفيض وبنبرات مرتعشة.

« أفي حل أنا من بيعتك؟ »

والتاع الإمام أشد اللوعة من حديث قيس فأجابه بكلمة واحدة :

« نعم ».

ولم يكتف معاوية بذلك فقد دفعته الوقاحة وصفاقة الوجه ، وضيق الوعاء أن يقول له :

« أتبايع يا قيس؟ »

فأجابه بصوت خافت حزين :

« نعم ».

ثم أطرق برأسه ووضع يده على فخذه لم يمدها إليه ، وقام معاوية من سريره وأكب عليه ومسح يده ، وقيس لم يرفع يده.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن اجتماع الإمام بمعاوية ، وقد كان الاجتماع من أعظم المحن وأقساها عليه ، وأقبل (عليه السلام) بعد ذلك يتهيأ للسفر الى يثرب ليترك العراق الذي غدر به وبأبيه من قبل ، فلم يف لهما بعهد ووعد يتركه الى معاوية ولبني أميّة يتصرفون فيه حسبما شاءت لهم أهواؤهم الخاصة ، فقد أخرجوه من الدعة والرفاهية والأمن ، الى الشدة والقسوة والعذاب ، وجعل العراقيون بعد نزوح الإمام عنهم يذكرون أيام حياتهم تحت ظلال الحكومة الهاشمية فيحزنون أشد الحزن ، ويندمون أشد الندم على تفريطهم في جنب أمير المؤمنين ، وولده الإمام الحسن علیهماالسلام .

ص: 262


1- اليعقوبي 2 / 192.

المندّدون بالصّلح

ص: 263

ص: 264

ولم تقتصر محنة الإمام وبلواه الخالدة على ما لاقاه من عظيم البلاء وشدة المحنة في صلحه مع معاوية واجتماعه به ، فقد تجاوز بلاؤه الى ما هو أعظم من ذلك وأشد أثرا في نفسه وهو كلام المنددين بصلحه من أعدائه وأصحابه فقد جابهوه بكلام أشد عليه من وقع الحسام المهند ، فقد رأى منهم غلظة فى القول وقسوة في الحديث وجفاء أي جفاء ، فاستاء (عليه السلام) من شيعته أكثر مما استاء من اعدائه لأنهم على علم بالظروف السود ، والعوامل المرة التي ألجأته الى الصلح والهدنة ، وفيما يلي كلام المنددين في ذلك مع جواب الإمام (عليه السلام) لهم.

1 - حجر بن عدي :

وأقبل بطل العقيدة ومثال الإيمان حجر بن عدي الى الامام وقد مشت الرعدة بأوصاله ، واستولى عليه الحزن قائلا :

« أما واللّه ، لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم ، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبوا ».

ولا أدري كيف فاه حجر بهذا الكلام القاسي وهو أعلم بمركز الإمام وبواقعه من غيره ، وأدرى بالظروف العصيبة والمصاعب الشديدة التي أحاطت به (عليه السلام) حتى اضطرته الى الصلح ، ولكنه يعذر لأن لوعة المصاب وذهول النفس تخرج الإنسان عن موازين الاعتدال والاستقامة ، وقام الإمام (عليه السلام) فأخذ بيد حجر واختلى به في زاوية من زوايا البيت فبيّن له الحكمة التي من أجلها صالح معاوية قائلا :

« يا حجر ، قد سمعت كلامك في مجلس معاوية ، وليس كل انسان يحب ما تحب ، ولا رأيه كرأيك ، وإني لم أفعل إلا إبقاء عليكم ، واللّه

ص: 265

تعالى كل يوم فى شأن » (1).

وقد أبان (عليه السلام) عدم وجود المخلصين له فى الجيش العراقي ولو كان هناك أمثال حجر فى عقيدته وايمانه ورأيه واخلاصه لما صالح معاوية ، كما بيّن (عليه السلام) انه إنما صالح خصمه محافظة على حجر وأمثاله من المؤمنين.

2 - عدي بن حاتم :

وعدي بن حاتم هو الفذ المثالي الذي ضرب الرقم القياسي للعقيدة والايمان والفداء فى سبيل اللّه ، وقد اندفع هذا الصحابي العظيم بثورة نفسية عارمة الى انكار الصلح ، وكانت لهجة حديثه لهجة مؤدب كامل ، فقال للإمام وقد ذابت حشاه من الحزن والمصاب :

« يا ابن رسول اللّه ، لوددت أني مت قبل ما رأيت ، أخرجتنا من العدل الى الجور ، فتركنا الحق الذي كنّا عليه ، ودخلنا في الباطل الذي كنّا نهرب منه ، وأعطينا الدنية من أنفسنا ، وقبلنا الخسيس التي لم تلق بنا ».

وترك كلام عدي في نفس الامام بالغ الأسى والحزن ، فانبرى (عليه السلام) مبينا له العلة التي صالح من أجلها قائلا :

« يا عدي ، إني رأيت هوى معظم الناس في الصلح ، وكرهوا الحرب فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون ، فرأيت دفع هذه الحروب الى يوم ما فان اللّه كل يوم هو في شأن ».

وأعرب (عليه السلام) في جوابه عن سأم جيشه من الحرب ، وحبه للعافية وايثاره للسلم ، وإنه عازم على إثارة الحرب ومناجزة معاوية ، ولكن في

ص: 266


1- مناقب ابن شهر اشوب 2 / 169.

وقت مناسب يضمن له النجاح والنصر ، ولم يقتنع عدي بكلام الامام ، فمضى وهو مثقل الخطى نحو الإمام الحسين (عليه السلام) وقلبه يلتهب نارا وحماسا وكان معه عبيدة بن عمر ، فلما انتهى الى الإمام قال له بنبرات تقطر حماسا وعزما الى اثارة الحرب.

« يا أبا عبد اللّه شريتم الذل بالعز ، وقبلتم القليل وتركتم الكثير ، أطعنا اليوم وأعصنا الدهر ، دع الحسن وما رأى من هذا الصلح ، وأجمع إليك شيعتك من أهل الكوفة وغيرها ، وولني وصاحبي هذه المقدمة ، فلا يشعر ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف ».

فقال له (عليه السلام) :

« إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل لنقض بيعتنا » (1).

3 - المسيب بن نجبة :

والمسيب بن نجبة (2) من عيون المؤمنين وخيار الصالحين الذين عرفوا بالولاء والاخلاص لآل البيت (عليهم السلام) وقد تأثر من الصلح وتألم بكل ما للتألم من معنى فقد أقبل الى الامام وهو محزون النفس مكلوم القلب قائلا : « ما ينقضي تعجبي منك!!! بايعت معاوية ومعك اربعون ألفا ،

ص: 267


1- الدينوري ص 203.
2- المسيب بن بجبة : كوفي روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وحذيفة ، وروى عنه جماعة ، خرج مع سليمان بن صرد في الطلب بثأر الحسين فقتل سنة 65 ه وقال ابن سعد : في الطبقة الأولى من أهل الكوفة ، المسيب بن نجبة بن ربيعة بن رياح ، شهد القادسية ، ومشاهد علي (عليه السلام) ، وقتل يوم عين الوردة ، وقال العسكري : روى المسيب عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرسلا وليست له صحبة ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب 10 / 154.

ولم تأخذ لنفسك وثيقة ، وعهدا ظاهرا ، أعطاك أمرا فيما بينك وبينه ، ثم قال : ما قد سمعت ، واللّه ما أراد بها غيرك ».

فقال له الامام : « ما ترى؟ »

« أرى أن ترجع الى ما كنت عليه ، فقد كان نقض ما بينك وبينه »

فانبرى إليه الإمام مبينا له أن المصلحة كانت تقضي بالصلح قائلا :

« يا مسيب ، إني لو أردت - بما فعلت - الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء ، ولا أثبت عند الحرب مني ، ولكني أردت صلاحكم ، وكف بعضكم عن بعض » (1).

وأعرب الإمام (عليه السلام) في حديثه أنه لو كان من طلاب الدنيا وعشاق الملك والسلطان ما كان معاوية بأصبر منه ، ولا أثبت في الحرب ، ولكن الانتصار عليه يتوقف على الاعتماد على الطرق التي لا يقرها الدين كالمواربة والمداهنة والخداع وما شاكل ذلك ، ولكنه (عليه السلام) أبى أن يسلك ذلك وسار على خطة أبيه الداعية الى ملازمة الحق والعدل ، ومتابعة الشرع.

4 - مالك بن ضمرة :

ودخل على الإمام مالك بن ضمرة (2) فتكلم معه بكلام مرّ كان في

ص: 268


1- تاريخ ابن عساكر 2 / 225.
2- مالك بن ضمرة الضمري : كان معروفا بسعة العلم والفضل ، وكان ملازما للصحابي العظيم أبي ذر ، وقد أدرك النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولمّا حضرته الوفاة أوصى بسلاحه الى المجاهدين من بني ضمرة ، واشترط عليهم أن لا يقاتلوا به أهل البيت (عليهم السلام). فقال له أخوه : يا أخي عند الموت تقول هذا؟ فقال له : هو ذاك ، ولما أقبل سيد الشهداء الى العراق وخرج أهل الكوفة لقتاله ، جاء أحد أعوان ابن زياد الى موسى بن مالك مستعيرا منه رمح أبيه ليقاتل به ريحانة رسول اللّه ، فأعطاه إياه ، فلما خرج قالت إليه امرأة من أهله : يا موسى أما تذكر وصية أبيك ، فلما سمع بذلك طلبه حتى أخذ منه الرمح فكسره ، جاء ذلك فى الاصابة 3 / 460.

منتهى الشدة فأجابه الامام (عليه السلام).

« إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض ، فأردت أن يكون للدين ناعي » (1).

وأدلى الامام (عليه السلام) في حديثه عن حرصه على دماء المسلمين وانه لو فتح باب الحرب بينه وبين معاوية لما بقي مسلم على وجه الأرض ، فصالح حفظا على دماء المسلمين وابقاء عليهم.

5 - سفيان بن أبي ليلى :

وسفيان بن أبي ليلى كان ممن يدين بفكرة الخوارج ، فقد دخل على الامام وتكلم بكلمات تنمّ عن نفس مترعة بالجفاء والجهل قائلا :

« السلام عليك يا مذل المؤمنين » ،

فتأثر (عليه السلام) منه واندفع قائلا :

« ويحك أيها الخارجي ، لا تعنفني ، فان الذي أحوجني الى ما فعلت قتلكم أبي ، وطعنكم إياي ، وانتهابكم متاعي ، وإنكم لما سرتم الى صفين كان دينكم أمام دنياكم ، وقد أصبحتم اليوم ودنيا كم أمام دينكم ، ويحك أيها الخارجي!!! إني رأيت أهل الكوفة قوما لا يوثق بهم ، وما اعتز بهم إلا من ذل ، وليس أحد منهم يوافق رأي الآخر ، ولقد لقى أبي منهم امورا صعبة ، وشدائدا مرّة وهي أسرع البلاد خرابا ، وأهلها هم الذين

ص: 269


1- البحار.

فرقوا دينهم وكانوا شيعا » (1).

6 - بشير الهمداني :

ودخل بشير الهمداني على الامام وكان (عليه السلام) في يثرب فقال له :

« السلام عليك يا مذل المؤمنين ».

« وعليك السلام ، اجلس ».

فلما استقر به المجالس التفت (عليه السلام) له قائلا :

« لست مذلاّ للمؤمنين ، ولكني معزّهم ، ما أردت بمصالحتي إلا أن أدفع عنكم القتل عند ما رأيت تباطؤ أصحابي ونكولهم عن القتال » (2).

7 - سليمان بن صرد :

وسليمان بن صرد من صفوة أصحاب الامام في إيمانه وعقيدته وولائه لآل البيت علیهم السلام ، ولم يكن حاضرا في المدائن حينما جرى الصلح فلما وافته الأنباء المؤلمة توجه الى الامام وكان في يثرب فلما انتهى إليه اندفع قائلا :

« السلام عليك يا مذل المؤمنين ».

« عليك السلام ، اجلس ».

فلما جلس اندفع قائلا :

« إن تعجبنا لا ينقضي من بيعتك لمعاوية!! ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق وكلهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز ، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العهد ، ولا حظا من

ص: 270


1- تذكرة الخواص ص 207 ، وروى ابن أبي الحديد في شرح النهج والكشي فى رجاله صورة أخرى غير هذه الصورة.
2- الدينوري ص 203.

القضية ، فلو كنت إذ فعلت ما فعلت ، وأعطاك ما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق كنت كتبت عليه بذلك كتابا ، وأشهدت عليه شهودا من أهل المشرق والمغرب ، أن هذا الأمر لك من بعده ، كان الأمر علينا أيسر ، ولكنه أعطاك هذا فرضيت به من قوله ، ثم قال وزعم على رءوس الناس ما قد سمعت : إني كنت شرطت لقوم شروطا ، ووعدتهم عدات ، ومنيتهم أماني ، إرادة إطفاء نار الحرب ، ومداراة لهذه الفتنة ، إذ جمع اللّه لنا كلمتنا وألفتنا ، فان كل ما هنالك تحت قدمي هاتين ، واللّه ما أعنى بذلك إلا نقض ما بينك وبينه ، فأعد للحرب خدعة ، واذن لي أشخص الى الكوفة ، فأخرج عامله منها ، وأظهر فيها خلعه ، وأنبذ إليه على سواء إن اللّه لا يهدي كيد الخائنين ».

وقد دلّ حديث سليمان على ولائه واخلاصه للإمام (عليه السلام) وقد حفزه الى الثورة على حكومة معاوية ونقض البيعة لأنه لم يف بالعهد ولم يلتزم ببنود الصلح ، كما أعلن ذلك أمام الرأي العام ، وصادف حديث سليمان هوى في نفوس من حضر نادي الامام فهتفوا بالتأييد لمقالته قائلين :

« ابعث سليمان بن صرد ، وابعثنا معه ، ثم الحقنا إذا علمت أنا قد أشخصنا عامله ، وأظهرنا خلعه ».

ولما كانت المصلحة العامة للمسلمين لا تساعد على خلع معاوية ونقض المعاهدة ، لأن ذلك غير ممكن نظرا لتلبد الجو بالفتن والاضطرابات ، ولقلة الناصر ، وخذلان المحب ، وكثرة العدو ، فقد أمرهم (عليهم السلام) بالسكون وهدّأ ثورتهم النفسية قائلا لهم بعد حمد اللّه والثناء عليه :

« أما بعد : فإنكم شيعتنا ، وأهل مودتنا ، ومن نعرفه بالنصيحة والصحبة والاستقامة لنا ، وقد فهمت ما ذكرتم ، ولو كنت بالحزم في

ص: 271

أمر الدنيا. وللدنيا أعمل وأنصب ، ما كان معاوية بأبأس مني بأسا ، وأشد شكيمة ، ولكان رأيي غير ما رأيتم ، ولكني أشهد وإياكم أني لم أرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم ، وإصلاح ذات بينكم ، فاتقوا اللّه وارضوا بقضاء اللّه ، وسلموا الأمر لله ، والزموا بيوتكم ، وكفوا أيديكم ، حتى يستريح بر ، أو يستراح من فاجر ، مع ان أبي كان يحدثني أن معاوية سيلي الأمر ، فو اللّه لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر إن اللّه لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، وأما قولك : يا مذل المؤمنين. فو اللّه لأن تذلوا وتعافوا أحب إلي من أن تعزوا وتقتلوا ، فان رد اللّه علينا حقنا فى عافية قبلنا ، وسألنا اللّه العون على أمره وان صرفه عنا رضينا وسألنا اللّه أن يبارك في صرفه عنا فليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته ، ما دام معاوية حيا ، فان يهلك ونحن وأنتم أحياء سألنا اللّه العزيمة على رشدنا ، والمعونة على أمرنا ، وأن لا يكلنا الى أنفسنا ، فان اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. » (1)

لقد أمر الامام شيعته بالخلود الى الصبر والسكون ما دام معاوية في قيد الحياة ، وعلل صلحه بأمور تقدم بيانها بالتفصيل.

8 - عبد اللّه بن الزبير :

وعبد اللّه بن الزبير وغد خبيث عرف بالبغض والعداء لآل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد عاب على الامام صلحه مع معاوية ، فأجابه (عليه السلام) قائلا :

« وتزعم أني سلمت الأمر ، وكيف يكون ذلك - ويحك - كذلك وانا ابن أشجع العرب ، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين ، لم أفعل

ص: 272


1- المحاسن والمساوئ للبيهقي 1 / 60 - 65.

ذلك - ويحك - جبنا ولا ضعفا ، ولكنه بايعني مثلك ، وهو يطلبني بترة ويداجيني المودة ، ولم أثق بنصرته ».

لقد اتهم ابن الزبير الإمام بالجبن ، وحاشاه من ذلك ، فمن أين جاءه الجبن « أمن أبيه أسد اللّه وأسد رسوله ، أم من جديه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وشيخ البطحاء ، أم من عميه سيدي الشهداء العظمين حمزة وجعفر ، أم من أخيه أبي الشهداء ، أم من مواقفه المشهورة في مختلف الميادين ، يوم الدار ، ويوم البصرة ، وفى مظلم ساباط ، وهو ذلك الرئبال الذي ( إذا سار سار الموت حيث يسير ) على حد تعبير عدوه فيه؟؟ ».

9 - أبو سعيد :

وأقبل أبو سعيد إلى الإمام يعاتبه على صلحه ، ويؤنبه على ذلك قائلا :

« يا ابن رسول اللّه لم هادنت معاوية وصالحته ، وقد علمت أن الحق لك دونه ، وان معاوية ضال باغ؟ »

- يا أبا سعيد ألست حجة اللّه على خلقه ، وإماما عليهم بعد أبي؟

- بلى.

- يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللّه لبنى ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل.

يا أبا سعيد ، إذا كنت إماما من قبل اللّه تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا ، ألا ترى الخضر لمّا خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، سخط موسى فعله لاشتباه الحكمة عليه ، حتى أخبره فرضي. هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم وجه الحكمة ، ولو لا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على

ص: 273

وجه الأرض أحد إلا قتل ... »

إن شأن الإمام كشأن النبي ، لا يفعل إلا ما فيه الصالح العام ، ولكن المصلحة قد تخفى أحيانا على الناس فلا يعقلونها إلا بعد حين ، وقد شبه صلحه بفعل الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة ، وهدم الجدار ، وقتل الغلام ، ولما لم يفهم صاحبه المصلحة فى ذلك نقم عليه ، وراح يشتد في معارضته والإنكار عليه ، وحينما تبين له الحال أذعن له وأطاع ، وكذلك الإمام في صلحه ، فإن الحكمة قد خفيت على كثير من شيعته فاندفعوا الى اعلان سخطهم وإلى الإنكار عليه.

10 - بعض أصحابه :

ودخل على الإمام بعض أصحابه ، وهو مندلع الثورة قد أخذ منه الوجد والأسى مبلغا ليس بالقليل فقال له :

« يا ابن رسول اللّه ، أذللت رقابنا بتسليمك الأمر الى هذا الطاغية : » فأجابه الإمام :

« واللّه ، إني ما سلمت الأمر إلا لأني لم أجد أنصارا ، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم اللّه بيني وبينه ، ولكن عرفت أهل الكوفة ، وبلوتهم ، ولا يصلح لي منهم من كان فاسدا ، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ، ولا فعل ، إنهم لمختلفون ، ويقولون لنا : إن قلوبهم معنا ، وإن سيوفهم لمشهورة علينا ... »

لقد بيّن (عليه السلام) انه لا ناصر له ولا معين ليناجز معاوية ، إذ لم يكن معه سوى أهل الكوفة الذين لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل فكيف يحارب بهم معاوية؟

لقد رد علیه السلام شبه الناقدين ، وأوضح لهم الحكمة في ذلك ، وأجاب كلا على عتابه ببراعة الحجة ، وروعة العرض واصالة الرأي.

ص: 274

الى يثرب

اشارة

ص: 275

ص: 276

بقي الإمام (عليه السلام) فى الكوفة أياما وهو مكلوم القلب قد طافت به الهموم والآلام يتلقى من شيعته مرارة الكلام ، وقسوة القول ، ومن معاوية وحزبه الاستهانة بمركزه الرفيع وهو مع ذلك صابر محتسب ، قد كظم غيظه ، وأوكل أمره الى اللّه ، وقد عزم على مغادرة العراق - البلد الذي غدر به وبأبيه من قبل - والشخوص الى مدينة جده ، وقد أظهر عزمه ونيته الى أصحابه ، ولما أذيع ذلك دخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري ، وظبيان ابن عمارة التميمي (1) ليودّعاه ، فالتفت لهما ونفسه الشريفة مترعة بالألم والحزن على ما آل إليه أمر المسلمين قائلا :

« الحمد لله الغالب على أمره ، لو أجمع الخلق جميعا على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا ».

ويلمس في كلامه التسليم لقضاء اللّه وقدره والحزن واللوعة على ضياع حقه الشرعي ولما رأى المسيب الشجا قد بدا على غصني النبوة ، وفرعي الإمامة ، وذلك لخوفهم على شيعتهم من أن يضاموا في عهد هذا الطاغية التفت لهما مهدئا روعهما قائلا :

« إنه واللّه ما يكبر علينا هذا الأمر إلا أن تضاموا وتنتقصوا ، فأما نحن فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه ».

فانبرى إليه الإمام الحسين (عليه السلام) يشكره على ولائه وإخلاصه قائلا :

« يا مسيب ، نحن نعلم أنك تحبنا ».

ص: 277


1- ظبيان بن عمارة التميمي : روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكره البخاري في الصحابة ، وذكره في التابعين ابن حاتم وابن حبان ، جاء ذلك فى الاصابة 2 / 232. وجاء في لسان الميزان 3 / 215 ان ابن حبان عدّ ظبيانا من الثقات وان ابن حاتم لم يذكر فيه جرحا.

والتفت إليه الإمام الحسن (عليه السلام) فبشره بحبه لهم قائلا :

« سمعت أبي يقول : سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : من أحب قوما كان معهم ».

وطلب منه المسيب وظبيان المكث في الكوفة فأمتنع (عليه السلام) من اجابتهم وقال :

« ليس الى ذلك من سبيل » (1).

وأخذ (عليه السلام) يعمل في تهيئة سفره ، وبعدها توجه هو وأهل بيته الى عاصمة جده ، وقد خرج أهل الكوفة بجميع طبقاتهم الى توديعه وهم ما بين باك وآسف (2) يندبون حظهم التعيس وسعادتهم التي حطموها بأيديهم ، فقد نقلت الخلافة ومعها بيت المال من بلدهم الى دمشق ، وقد أقض ذلك مضاجعهم ، ولكن بعد أن سبق السيف العذل ، فقد كانوا أصحاب الدولة وإذا ببلدهم - بعد غدرهم بالامام وعدم مناصرته - قد أصبحت مصرا من الأمصار ، وإذا القطع السورية من الجيش تدخل مصرهم وتسيطر عليهم ويقام في بلدهم حكم ارهابي عنيف لا يعرف الرحمة والرأفة.

لقد رحل (عليه السلام) عن الكوفة هو وأهل بيته ومعه أبو رافع خازن بيت المال ، وقد غشيتها الكابة ، وخيم عليها الحزن ، وحل بها الشقاء والوبال والدمار ، فلقد صبّ اللّه عليها بعد خروج الامام الطاعون فقضى على كثير من أبنائها ، وفرّ منها المغيرة بن شعبة وإليها ثم بعد مدة عاد إليها فلما وصل جرفه الطاعون فمات به (3).

ص: 278


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.
2- تحفة الأنام للفاخوري ص 67.
3- المسعودي على هامش ابن الأثير 6 / 97.

وسارت قافلة الامام تطوي البيداء ، فلما انتهت الى دير هند (1) القى الامام (عليه السلام) على عاصمته نظرة ملؤها الأسى واللوعة ، ثم تمثل ببيت من الشعر يلمس فيه مدى استيائه وحزنه قائلا :

ولا عن قلى فارقت دار معاشري *** هم المانعون حوزتي وذماري (2)

لقد ودع الامام الكوفة بالأسى والحسرات ، ولم يذكر ما لاقاه من الغدر والخيانة به ، فأي « نفس ملائكية هذه التي لقيت من نشوز هذه الحاضرة ومن بوائقها ما لقيت ، ثم هي تودعها بهذا البيت من الشعر فلا تذكر من تاريخها الطويل العريض ، إلا وفاء الأوفياء « المانعين الحوزة والذمار » ، وهم الذين منعوا عنه من أراده في المدائن ، والذين ثبتوا على طاعته يوم العسرة في مسكن فكانوا اخوان صدق ، وخيرة الأنصار على قلتهم » وسار موكب الامام ولكنه لم يبعد كثيرا حتى أدركه رسول معاوية يريد أن يرده الى الكوفة ليقاتل طائفة من الخوارج خرجت عليه ، فأبى علیه السلام أن يعود وكتب الى معاوية :

« لو آثرت أن أقاتل أحدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك ، فإني تركتك لصلاح الأمّة وحقن دمائها » (3).

ثم مضى (عليه السلام) ولم يعتن بمعاوية ، وما اجتاز موكبه على حي أو قرية إلا وخف من فيهما الى استقباله والتشرف بمقابلته ، وكان أول حديث يبدءون به السؤال عما صار إليه أمره مع معاوية فيخبرهم (عليه السلام) بالحال

ص: 279


1- دير هند : يقع بالحيرة ترهبت به هند بنت النعمان بن المنذر فسمي بها.
2- شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.
3- الكامل 3 / 208.

فيظاهرون له الاستياء والتذمر وعدم الرضا وذلك لخوفهم من سلطة معاوية ولكنه (عليه السلام) ما يصنع وقد مني جيشه وشعبه بالتمرد والخذلان حتى التجأ الى الصلح والمسالمة.

وانتهت قافلة الامام الى يثرب فلما علم أهلها بتشريفه (عليه السلام) خفوا جميعا لاستقباله فقد أقبل إليهم الخير وحلت في ديارهم السعادة والرحمة ، وعاودهم الخير الذي انقطع عنهم منذ نزح أمير المؤمنين علیه السلام عنهم ، جاء الى يثرب فاستقام فيها عشر سنين ، فملأ رباعها بعطفه المستفيض ، ورقيق حنانه وحلمه ، ونقدم عرضا موجزا لبعض أعماله وشئونه حين مكثه فيها.

مدرسته :

وأنشأ الامام مدرسته الكبرى في يثرب ، وراح يعمل مجدا في نشر الثقافة الاسلامية ، وتوجيه المجتمع الاسلامى نحو الدين ، وافهامه بالنظم الاسلامية ، وقد انتمى لمدرسته كبار العلماء ، وعظماء المحدثين والرواة ، وقد وجد بهم خير عون لأداء رسالته الاصلاحية الخالدة التي بلورة عقلية المجتمع ، وأيقظته بعد الغافلة والجمود ، وقد ذكر المؤرخون بعض أعلام تلامذته ورواة حديثه وهم :

ابنه الحسن المثنى ، والمسيب بن نجبة ، وسويد بن غفلة ، والعلا ابن عبد الرحمن ، والشعبي ، وهبيرة بن بركم ، والأصبغ بن نباتة ، وجابر ابن خلد ، وأبو الجوزاء ، وعيسى بن مأمون بن زرارة ، ونفالة بن المأموم وأبو يحيى عمير بن سعيد النخعي ، وأبو مريم قيس الثقفي ، وطحرب العجلي ، واسحاق بن يسار ، والد محمد بن اسحاق ، وعبد الرحمن بن عوف

ص: 280

وسفين بن الليل ، وعمرو بن قيس الكوفيون (1) وقد ازدهرت يثرب بهذه الكوكبة من العلماء والرواة فكانت من أخصب البلاد الإسلامية علما ، وأدبا ، وثقافة.

وكما كان يتولى نشر العلم في يثرب ، كان يدعو الناس الى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، والتأدب بسنة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد رفع (عليه السلام) منار الأخلاق التي جاء بها جده الرسول لإصلاح المجتمع وتهذيبهم فمن سمو أخلاقه انه كان يصنع المعروف والاحسان حتى مع أعدائه ومناوئيه ، وقد بلغه أن الوليد بن عاقبة قد ألم به السقم فمضى لعيادته مع ما عرف به الوليد من البغض والعداء لآل البيت ، فلما استقر المجالس بالإمام انبرى إليه الوليد قائلا :

« إني أتوب الى اللّه تعالى مما كان بيني وبين جميع الناس إلا ما كان بيني وبين أبيك فاني لا أتوب منه. » (2)

وأعرض الإمام عنه ولم يقابله بالمثل ولعله أوصله ببعض ألطافه وهداياه.

عطفه على الفقراء :

وأخذ (عليه السلام) يفيض الخير والبر على الفقراء والبائسين ، وينفق جميع ما عنده عليهم وقد ملأ قلوبهم سرورا باحسانه ومعروفه ، ومن كرمه انه جاءه رجل في حاجة فقال له : « اكتب حاجتك في رقعة وادفعها إلينا » فكتبها ذلك الشخص ورفعها إليه ، فأمر (عليه السلام) بضعفها له ، فقال بعض الحاضرين :

ص: 281


1- تأريخ ابن عساكر ج 12 ، صورة فوتوغرافية في مكتبة الامام أمير المؤمنين.
2- شرح ابن أبي الحديد 1 / 364.

« ما كان أعظم بركة هذه الرقعة عليه يا ابن رسول اللّه؟! »

فأجابه (عليه السلام) :

« بركتها علينا أعظم ، حين جعلنا للمعروف أهلا. أما علمت أن المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة ، فأما من أعطيته بعد مسألة ، فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه. وعسى أن يكون بات ليلته متململا أرقا يميل بين اليأس والرجاء ، لا يعلم بما يرجع من حاجته ، أبكآبة أم بسرور النجح ، فيأتيك وفرائصه ترعد ، وقلبه خائف يخفق ، فان قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه ، فان ذلك أعظم مما نال من معروفك. »

لقد كان موئلا للفقراء والمحرومين ، وملجأ للأرامل والأيتام ، وقد تقدم في الجزء الأول من هذا الكتاب بعض بوادر جوده ومعروفه ، التي كان بها مضرب المثل للكرم والسخاء.

الاستجارة به :

كان (عليه السلام) في عاصمة جده كهفا منيعا لمن يلجأ إليه ، وملاذا حصينا لمن يلوذ به ، قد كرّس أوقاته على قضاء حوائج الناس ، ودفع الضيم والظلم عنهم ، وقد استجار به سعيد بن سرح من زياد فأجاره ، فقد ذكر الرواة انه كان معروفا بالولاء لأهل البيت (عليهم السلام) فطلبه زياد من أجل ذلك فهرب الى يثرب مستجيرا بالإمام ، ولما علم زياد ذلك عمد الى أخيه وولده وزوجه فحبسهم ، ونقض داره ، وصادر أمواله ، وحينما علم الامام الحسن ذلك شقّ عليه الأمر ، فكتب رسالة الى زياد يأمره فيها بأن يعطيه الأمان ، ويخلي سبيل عياله وأطفاله ، ويشيّد داره ، ويرد عليه أمواله ، وهذا نص كتابه :

ص: 282

« أما بعد : فانك عمدت الى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، فهدمت داره ، وأخذت ماله ، وحبست أهله وعياله ، فان أتاك كتابي هذا فابن له داره ، واردد عليه ماله ، وشفعني فيه ، فقد أجرته والسلام ».

وقد أمر الامام زيادا في هذه الرسالة بالمعروف ونهاه عن المنكر ، فقد أوصاه أن يردّ على سعيد ما أخذه منه ، وأن لا ينكّل به ، لأنه لم يحدث فسادا في الأرض حتى يستحق العذاب والتنكيل ، ولما قرأ زياد هذه الرسالة ورم أنفه من الغضب ، لأن الامام لم ينسبه الى أبي سفيان ، فأجاب الامام بجواب ينم عن مدى خبثه ، ولؤم عنصره ، وهذا نصه :

« من زياد بن أبي سفيان الى الحسن بن فاطمة.

أما بعد : فقد أتاني كتابك ، تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان ، وأنت سوقة وتأمرني فيه بأمر المطاع المسلّط على رعيته كتبت إليّ في فاسق آويته إقامة منك على سوء الرأي ، ورضا منك بذلك وأيم اللّه لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك ، وإن نلت بعضك غير رقيق بك ، ولا مرع عليك ، فإن أحب لحم عليّ أن آكله اللحم الذي أنت منه ، فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك ، فان عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه ، وإن قتلته لم أقتله إلا لحبه أباك الفاسق والسلام ».

وقد أعرب زياد بهذه الرسالة عن صفاقته ، وعدم حيائه ونكرانه المعروف فقد تناسى الأيادي البيضاء التي أسداها عليه أمير المؤمنين وولده الحسن (عليه السلام) في توليته فارس ، فقابل ذلك المعروف بالاساءة ، والنعمة بالكفران.

أف لك يا زمان ، وتعسا لك يا دهر ، أمثل ابن سمية يتطاول على

ص: 283

سبط النبي وريحانته ، وينال من كرامته ، إن الذي دعاه لأن يشمخ بأنفه ليس إلا السلطة التي يتمتع بها ، وإلا فأي فضيلة أو مكرمة ماثلة فيه حتى يعتز بها ويفتخر ، ولما وصلت رسالته الى الامام (عليه السلام) قرأها وتبسم وعلم سر غضبه وثورته ، لأنه لم ينسبه الى أبي سفيان ، وانبرى (عليه السلام) فكتب الى معاوية كتابا عرّفه فيه بمهمته ، وأودع في جوفه رسالة زياد ، ورسم (عليه السلام) رسالة أخرى الى زياد حطم بها كيانه ، ورد غلواءه ، وأفسد التحاقه بأبي سفيان ، وقد تقدم ذكرها (1).

ولما وصلت رسالة الامام الى معاوية واطّلع على جراءة زياد واستهتاره واستخفافه بمركز الامام رفع من فوره رسالة الى زياد ، وهذا نصها :

« أما بعد : فان الحسن بن علي بعث إليّ بكتابك إليه جوابا عن كتاب كتبه إليك في ابن سرح ، فأكثرت العجب منك!!! وعلمت أن لك رأيين أحدهما من أبي سفيان ، والآخر من سمية ، فأما الذي من أبي سفيان حلم وحزم ، وأما الذي من سمية فما يكون رأي مثلها ، من ذلك كتابك الى الحسن ، تشتم أباه ، وتعرض له بالفسق ، ولعمري انك أولى بالفسق من أبيه ، فأما ان الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عليك ، فان ذلك لا يضعك لو عقلت ، وأما تسلطه عليك بالأمر فحق لمثل الحسن أن يتسلط وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك الى من هو أولى به منك ، فاذا ورد عليك كتابي فخل ما في يديك لسعيد بن أبي سرح وابن له داره ، واردد عليه ماله ، ولا تعرض له فقد كتبت الى الحسن علیه السلام أن يخيره إن شاء أقام عنده ، وإن شاء رجع الى بلده ، ولا سلطان لك عليه لا بيد ولا لسان ، وأما كتابك الى الحسن (عليه السلام) باسمه

ص: 284


1- يراجع ص 175.

واسم أمّه ولا تنسبه الى أبيه ، فان الحسن ويحك من لا يرمى به الرجوان والى أي أم وكلته لا أم لك ، أما علمت أنها فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فذاك أفخر له لو كنت تعلمه وتعقله ».

ثم كتب في آخر الكتاب أبياتا في مدح الإمام من جملتها :

أما حسن فابن الذي كان قبله *** إذا سار سار الموت حيث يسير

وهل يلد الرئبال إلا نظيره *** وذا حسن شبه له ونظير

ولكنه لو يوزن الحلم والحجا *** بأمر لقالوا يذبل وثبير (1)

وقد اعترف معاوية بهذه الرسالة بمواهب الإمام وملكاته وشرفه وعظيم شأنه ، وإنه لو وزن حلمه بثبير لرجح عليه ، فتعسا للزمن الهزيل الذي جرّأ زيادا أن ينال من كرامته ، ويعتدي عليه.

مع حبيب بن مسلمة :

وحبيب بن مسلمة الفهري (2) من أوغاد قريش ومن عملاء معاوية الذين يحقدون على آل البيت ، التقى به الإمام في الطواف فقال له (عليه السلام) :

« يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة اللّه ».

فانبرى إليه حبيب بسخرية قائلا :

« أما مسيري من أبيك فليس من ذلك ».

ص: 285


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 72.
2- حبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري ، كان يقال له حبيب الروم لكثرة دحوله إليهم ونيله منهم ، وكان من خلص أصحاب معاوية ولم يفارقه في حروبه بصفين وغيرها ، وجهه معاوية واليا الى أرمينية فمات بها سنة 42 ه جاء ذلك فى الإستيعاب 1 / 327.

فردّ عليه الإمام مقالته قائلا :

« بلى واللّه ، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة ، فلئن قام بك في دنياك ، لقد قعد بك في آخرتك ، ولو كنت إذ فعلت قلت خيرا كان ذلك كما قال اللّه تعالى : « وآخرون اعترفوا بذنبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا » (1). ولكنك كما قال اللّه سبحانه : « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » (2) ، ثم تركه وانصرف (3).

رفضه لمصاهرة الامويين :

ورام معاوية أن يصاهر بني هاشم ليحوز بذلك الشرف والمجد ، فكتب الى عامله على المدينة مروان بن الحكم أن يخطب ليزيد زينب بنت عبد اللّه بن جعفر على حكم أبيها في الصداق ، وقضاء دينه بالغا ما بلغ ، وعلى صلح الحيين بني هاشم وبني أميّة ، فبعث مروان خلف عبد اللّه ، فلما حضر عنده فاوضه في أمر كريمته ، فأجابه عبد اللّه :

« إن أمر نسائنا بيد الحسن بن علي فاخطب منه ».

فأقبل مروان الى الإمام فخطب منه ابنة عبد اللّه ، فقال (عليه السلام) :

اجمع من أردت ، فانطلق مروان فجمع الهاشميين والأمويين في صعيد واحد وقام فيهم خطيبا قائلا :

« أما بعد : فان أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أخطب زينب بنت عبد اللّه بن جعفر ليزيد بن معاوية على حكم أبيها في الصداق ، وقضاء دينه

ص: 286


1- سورة التوبة : آية 102.
2- سورة المطففين : آية 13.
3- أحكام القرآن للرازي 3 / 181 ، وزهر الآداب لأبي اسحاق 1 / 55.

بالغا ما بلغ ، وعلى صلح الحيين بني هاشم وبني أميّة ، ويزيد بن معاوية كفؤ من لا كفؤ له ، ولعمري لمن يغبطكم بيزيد أكثر ممن يغبط يزيد بكم فيزيد ممن يستسقى بوجهه الغمام ».

ومروان يرى أن قيم الرجال إنما هي بالإمرة والسلطان ، وقد أعرب بذلك عن حماقته وجهله ، فردّ الإمام عليه أباطيله ، وعلّق على كل جملة من كلامه ، فقال بعد حمد اللّه والثناء عليه :

« أما ما ذكرت من حكم أبيها في الصداق ، فانا لم نكن لنرغب عن سنّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فى أهله وبناته » (1).

« وأما قضاء دين أبيها فمتى قضت نساؤنا بمهورهن ديون آبائهن ».

« وأما صلح الحيين ، فنحن عادينا كم لله وفي اللّه ، فلا نصالحكم للدنيا ».

« وأما قولك يزيد كفؤ من لا كفؤ له ، فأكفاؤه اليوم أكفاؤه بالأمس لم يزده سلطانه ».

« وأما قولك : من يغبطنا بيزيد أكثر ممن يغبطه بنا ، فان كانت الخلافة قادت النبوة (2) ، فنحن المغبطون ، وإن كانت النبوة قادت الخلافة فهو المغبوط بنا ».

« وأما قولك : إن الغمام يستسقى بوجه يزيد ، فان ذلك لم يكن إلا لآل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ».

وقد فنّد (عليه السلام) بكلامه مزاعم مروان ، ورد عليه بهتاته ، ثم أخذ علیه السلام في إحباط مساعيه ، وتحطيم آماله قائلا :

« وقد رأينا أن نزوجها ( يعني زينب ) من ابن عمها القاسم محمد بن

ص: 287


1- كانت سنّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مهر أزواجه وبناته اربعمائة درهم.
2- كذا فى الأصل ، ولعل المراد ان الخلافة تابعة للنبوة والنبوة قائدة لها.

جعفر ، وقد زوجتها منه ، وجعلت مهرها ضيعتي التي لي بالمدينة ، وقد أعطاني بها معاوية عشرة آلاف دينار ».

ولما سمع ذلك مروان فقد شعوره وصاح بلا اختيار :

« أغدرا يا بني هاشم ».

إن مروان أولى بالغدر والخبث ، وقد صنع الإمام خيرا حيث لم يزوج العلوية من يزيد الفاسق الفاجر.

ورفع مروان في الوقت رسالة الى معاوية أخبره بالحادث ، فلما وصلت إليه قال متأثرا :

« خطبنا إليهم فلم يفعلوا ، ولو خطبوا إلينا لما رددناهم » (1).

لقد كان (عليه السلام) يعلم بدوافع معاوية وبما يبغيه من تشييد أسرته فكان يسعى لإحباط الوسائل التي يتخذها ويفسد عليه أمره وقد بلغه أنه قال :

« لا ينبغي أن يكون الهاشمي غير جواد ، ولا الأموي غير حليم ، ولا الزبيري غير شجاع ، ولا المخزومى غير تياه ».

وعرف (عليه السلام) أن غرض معاوية بذلك إنما هو تحطيم هذه الأسر ،

ص: 288


1- مقتل الحسين للخوارزمى 1 / 124 ، وجاء في مجمع الزوائد 4 / 278 عن معاوية بن خديج قال : أرسلني معاوية بن أبي سفيان الى الحسن بن على أخطب على يزيد بنتا له - أو أختا له - فأتيته فذكرت له يزيد فقال : إنا قوم لا نزوج نساءنا حتى نستأمرهن ، فأتيتها فذكرت لها يزيد فقالت : واللّه لا يكون ذلك حتى يسير فينا صاحبك كما سار فرعون فى بني اسرائيل يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم ، فرجعت الى الحسن فقلت له : أرسلتني الى قلقة تسمي أمير المؤمنين فرعون ، قال (عليه السلام) : يا معاوية إياك وبغضنا ، فان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : لا يبغضنا ولا يحسدنا أحد إلا زيد يوم القيامة عن الحوض بسياط من نار.

وتشييد أسرته ، فردّ عليه مقالته وقال.

« قاتله اللّه ، أراد أن يجود بنو هاشم فينفذ ما بأيديهم ، ويحلم بنو أميّة فيتحببوا إلى الناس ، ويتشجع آل الزبير فيفنوا ، ويتيه بنو مخزوم فيبغضهم الناس » (1).

وهكذا كان علیه السلام يندد بأعمال معاوية ويكشف الستار عن خبثه وسوء سريرته ، غير مكترث بسلطته ، ولا هياب لسلطانه.

مع معاوية في يثرب :

وروى الخوارزمى أن معاوية سافر الى يثرب فرأى تكريم الناس وحفاوتهم بالإمام وإكبارهم له ، فساءه ذلك فاستدعا أبا الأسود الدؤلي ، والضحاك بن قيس الفهري ، فاستشارهم في أمر الحسن وأنه بما ذا يوصمه ليتخذ من ذلك وسيلة الى الحط من شأنه ، والتقليل من أهميته أمام الجماهير فأشار عليه أبو الأسود بالترك قائلا :

« رأي أمير المؤمنين أفضل ، وأرى ألا يفعل فان أمير المؤمنين لن يقول فيه قولا إلا أنزله سامعوه منه به حسدا ، ورفعوا به صعدا ، والحسن يا أمير المؤمنين معتدل شبابه ، أحضر ما هو كائن جوابه ، فأخاف أن يرد عليك كلامك بنوافذ تردع سهامك ، فيقرع بذلك ظنوبك (2) ، ويبدي به عيوبك ، فاذن كلامك فيه صار له فضلا ، وعليك كلاّ ، إلا أن تكون تعرف له عيبا في أدب ، أو وقيعة في حسب ، وإنه لهو المهذب ، قد أصبح من صريح العرب فى عز لبابها ، وكريم محتدها ، وطيب عنصرها ، فلا تفعل يا أمير المؤمنين ».

ص: 289


1- عيون الأخبار لابن قتيبة 1 / 196.
2- الظنوب : العظم اليابس من الساق.

وقد أشار عليه أبو الأسود بالصواب ، ومنحه النصيحة ، فأي نقص أو عيب في الإمام حتى يوصمه به ، وهو المطهّر من كل رجس ونقص كما نطق بذلك الذكر الحكيم ، ولكن الضحاك بن قيس قد أشار على معاوية بعكس ذلك فحبذ له أن ينال من الإمام ويتطاول عليه قائلا :

« امض يا أمير المؤمنين فيه برأيك ولا تنصرف عنه بدائك ، فانك لو رميته بقوارص كلامك ، ومحكم جوابك ، لذل لك كما يذل البعير الشارف (1) من الإبل ».

واستجاب معاوية لرأي الضحاك ، فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ، ثم ذكر أمير المؤمنين وسيد المسلمين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فانتقصه ، ثم قال :

« أيها الناس ، إن صبية من قريش ذوي سفه وطيش ، وتكدر من عيش ، أتعبتهم المقادير ، فاتخذ الشيطان رءوسهم مقاعد ، وألسنتهم مبارد فباض وفرخ فى صدورهم ، ودرج في نحورهم ، فركب بهم الزلل ، وزين لهم الخطل ، وأعمى عليهم السبل ، وأرشدهم الى البغي والعدوان ، والزور والبهتان ، فهم له شركاء وهو لهم قرين ( ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ) ، وكفى لهم مؤدبا ، والمستعان اللّه ».

فوثب إليه الإمام الحسن مندفعا كالسيل رادا عليه افتراءه وأباطيله قائلا :

« أيها الناس ، من عرفني فقد عرفنى ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن ابن علي بن أبي طالب ، أنا ابن نبي اللّه ، أنا ابن من جعلت له الأرض مسجدا وطهورا ، أنا ابن السراج المنير ، أنا ابن البشير النذير ، أنا ابن خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، وامام المتقين ، ورسول رب العالمين ، أنا ابن من بعث الى الجن والأنس ، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين ».

ص: 290


1- البعير الشارف : المسن الهرم.

وشق على معاوية كلام الإمام فبادر الى قطعه قائلا :

« يا حسن عليك بصفة الرطب ». فقال علیه السلام : الريح تلقحه ، والحر ينضجه ، والليل يبرده ويطيبه ، على رغم أنفك يا معاوية ، ثم استرسل علیه السلام فى تعريف نفسه قائلا :

« أنا ابن مستجاب الدعوة ، أنا ابن الشفيع المطاع ، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب ، ويقرع باب الجنة ، أنا ابن من قاتلت الملائكة معه ولم تقاتل مع نبي قبله ، أنا ابن من نصر على الأحزاب ، أنا ابن من ذلت له قريش رغما ».

وغضب معاوية واندفع يصيح :

« أما انك تحدث نفسك بالخلافة ».

فأجابه الإمام علیه السلام عمن هو أهل للخلافة قائلا :

« أما الخلافة فلمن عمل بكتاب اللّه وسنّة نبيه ، وليست الخلافة لمن خالف كتاب اللّه ، وعطّل السنّة ، إنما مثل ذلك مثل رجل أصاب ملكا فتمتع به ، وكأنه انقطع عنه وبقيت تبعاته عليه ».

وراوغ معاوية ، وانحط كبرياؤه فقال :

« ما في قريش رجل إلا ولنا عنده نعم جزيلة ويد جميلة ».

فردّ عليه الإمام قائلا :

« بلى ، من تعززت به بعد الذلة ، وتكثرت به بعد القلة ».

« من أولئك يا حسن؟ ».

« من يلهيك عن معرفتهم ».

ثم استمر (عليه السلام) في تعريف نفسه الى المجتمع فقال :

« أنا ابن من ساد قريشا شابا وكهلا ، أنا ابن من ساد الورى كرماً

ص: 291

ونبلا ، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالجود الصادق ، والفرع الباسق ، والفضل السابق ، أنا ابن من رضاه رضى اللّه ، وسخطه سخطه ، فهل لك أن تساميه يا معاوية؟ ». فقال معاوية : أقول لا ، تصديقا لقولك. فقال الحسن : « الحق أبلج ، والباطل لجلج ، ولم يندم من ركب الحق ، وقد خاب من من ركب الباطل ، ( والحق يعرفه ذوو الألباب ) ».

فقال معاوية على عادته من المراوغة : لا مرحبا بمن ساءك.

الحزب السياسي :

واعتقد الدكتور طه حسين ان الإمام أيام مكثه في المدينة قد شكل حزبا سياسيا وتولى هو رئاسة الحزب ، ومن الخير سوق كلامه قال :

« واعتقد أنا ان اليوم الذي لقي الحسن فيه هؤلاء الوفد من أهل الكوفة فسمع منهم ما سمع ، وقال لهم ما قال ، ورسم لهم خطتهم ، هو اليوم الذي أنشئ فيه الحزب السياسي المنظم لشيعة علي وبنيه. نظم الحزب في ذلك المجالس ، وأصبح الحسن له رئيسا ، وعاد أشراف أهل الكوفة الى من وراءهم ينبئونهم بالنظام الجديد والخطة المرسومة ، ويهيئونهم لهذا السلم الموقوت ولحرب يمكن أن تثار حين يأتي الأمر باثارتها من الإمام المقيم في يثرب.

وكان برنامج الحزب في أول إنشائه كما ترى واضحا يسيرا ، لا عسر فيه ولا تعقيد ، طاعة الإمام من بني علي والانتظار في سلم ودعة حتى يؤمروا بالحرب فيثيروها. ورأى الدكتور رأي وثيق ويدل عليه سفر الإمام (عليه السلام) الى دمشق لنقد معاوية واذاعة مساوئه ومخازيه في عاصمته وبلاطه ، فان من جملة أهداف ذلك السفر التبشير بالحزب الذي عقده لقلب الحكم الأموي وارجاع الدولة الإسلامية الى نظامها العادل.

ص: 292

الى دمشق

اشارة

ص: 293

ص: 294

واتفق جمهور المؤرخين ان الإمام الحسن (عليه السلام) قد وفد على معاوية في دمشق ، واختلفوا فى أن وفادته كانت مرة واحدة أو أكثر ، واطالة الكلام في تحقيق هذه الجهة لا تغنينا شيئا ، وإنما المهم البحث عن سر سفره ، فالذي نذهب إليه ان المقصود منه ليس إلا الدعاية لمبدإ أهل البيت وابراز الواقع الأموي أمام ذلك المجتمع الذي ظلله معاوية وحرفه عن الطريق القويم ، أما الاستدلال عليه فانه يظهر من مواقفه ومناظراته مع معاوية - التي سنذكرها - فانه قد هتك بها حجابه. وأبدا عاره وعياره ، وفلّ بها عروش دولته ، ثم انه على تقدير أن يكون سفره لأخذ العطاء من معاوية - كما يقول به البعض - فقد قيل إنه كيف جاز له أن يأخذ صلاته مع أن جلها أموال مغصوبة ، وقد كفانا مئونة البحث عن هذه المسألة علماء الفقه الإسلامى فقد ذكروا أن صلاة السلطان الجائر وهداياه جائزة ما لم تشتمل على أموال مغصوبة يعلم غصبها على نحو التعيين ، فحينئذ لا يجوز أخذها ، وإن أخذت وجب ردها الى أهلها (1) ، وأكثر الأموال التي كانت بيد معاوية إنما هي من أموال الخراج والزكاة وما شاكل ذلك من الأموال التي تجبيها الدولة فان استيلاء معاوية عليها وإن كان غير مشروع لأنه من حكام الظلم والجور إلا ان لخيار المسلمين الحق في استنقاذها وردها الى أهلها ، فضلا عن الإمام الذي له الولاية العامة على جميع المسلمين.

أما الذاهبون الى أن سفره كان لأخذ العطاء فقد استندوا الى إحدى الروايات الموضوعة - فيما نحسب - فقد روي أنه كان يفد فى كل سنة الى معاوية فيوصله بمائة ألف ، فلم يمض في بعض السنين فنساه معاوية ولم يبعث له بصلة فهمّ الإمام أن يكتب له فرأى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فى منامه

ص: 295


1- المكاسب للشيخ الأنصاري وقد بسط الكلام في هذه الجهة.

وهو يقول له :

« يا حسن أتكتب الى مخلوق تسأله حاجتك وتدع أن تسأل ربك؟ »

فقال له : « ما أصنع يا رسول اللّه؟ »

فعلمه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذا الدعاء : « اللّهم إني أسألك من كل أمر ضعفت عنه حيلتي ، ولم تنته إليه رغبتي ، ولم يخطر ببالي ، ولم يجر على لساني من الشيء الذي أعطيته أحدا من المخلوقين الأولين المهاجرين ، والآخرين الأنصار. »

وانتبه الحسن من منامه وهو حافظ للدعاء ، فدعا به ، فلم يلبث معاوية أن بعث إليه بصلته بعد ما نبهه بعض خواصه ان الإمام لم يفد عليه في تلك السنة (1). وهذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها لأن الإمام قد عرف بالعزة والإباء والشمم ، فكيف يتنازل لابن هند فيهمّ أن يكتب له ويسأله العطاء ، فينهاه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن ذلك ، على انه كان فى غنى عن صلاة معاوية لأن له ضياعا كبيرة في يثرب كانت تدر عليه بالأموال الطائلة مضافا الى ما كان يصله من الحقوق التي يدفعها خيار المسلمين وصالحاؤهم له ، على أن الأموال التي كان يصله بها معاوية على القول بذلك لم يكن ينفقها على نفسه وعياله. فقد ورد أنه لم يكن يأخذ منها مقدار ما تحمله الدابة بفيها (2) ، ومع هذا فكيف يكون سفره لمعاوية لأخذ العطاء منه؟!!

ص: 296


1- تأريخ ابن عساكر ، مشارق الأنوار ، نور الأبصار.
2- جامع أسرار العلماء مخطوط بمكتبة كاشف الغطاء العامة.

مناظراته :

وضاق معاوية ذرعا بالإمام حينما كان في دمشق ، فقد رأى من اقبال الناس واحتفائهم به ما ساءه فعقد عدة مجالس حشدها بالقوى المنحرفة عن أهل البيت والمعادية لهم كابن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومروان بن الحكم والوليد بن عاقبة ، وزياد بن أبيه ، وعبد اللّه بن الزبير ، وأوعز لهم بالتطاول على ريحانة الرسول ، والنيل منه ، ليزهد الناس فيه ، ويشفي نفسه من ابن فاتح مكة ، ومحطم أوثان قريش ، وقد قابله هؤلاء الأوغاد بمرارة القول وبذاءة الكلام ، وبالغوا في الاستهتار والاعتداء عليه ، وكان (عليه السلام) يسدد لهم سهاما من منطقه الفياض فيرديهم صرعى ، يلاحقهم العار والخزي ، ويلمسهم مساوئهم وما عرفوا به من الزيغ والانحطاط ، كان يجيبهم - وهو مكره - ، ويرد على بذاءتهم وهو يقول : « أما واللّه لو لا أن بني أميّة تنسبني الى العجز عن المقال لكففت تهاونا » ، ولروعة كلامه ، وقوة حجته كان عبد اللّه بن عباس يقبل ما بين عينيه ويقول له : « أفديك يا ابن العم واللّه ما زال بحرك يزخر وأنت تصول حتى شفيتني من أولاد ... »

لقد كان الإمام في جميع تلك المناظرات هو الظافر المنتصر وخصومه الضعفاء قد عرتهم الاستكانة والهزيمة والذهول ، وقد أوصاهم كبيرهم بعد ما شاهد أشلاءهم مضرجة بطعناته ، أن يجتنبوا محاوراته (1).

وعلى أي حال فان « نصوص هذه المشاجرات بصيغها البلاغية ، وقيمها الأدبية جديرة بالعرض ، كتراث عربي أصيل يدل بنفسه على صحة نسبه ، وتعطينا بأسلوبه وصياغته صورة عن ( أدب المشاجرات ) في عصره »

ص: 297


1- أعلام الزركلى 2 / 215.

وقد تركت نوادي دمشق ومحافلها مشغولة بها ترددها مقرونة بالإكبار والتقدير للإمام ، وبالاستهانة والاحتقار لخصومه ، وفيما يلي نصوصها :

1 - وأقبل معاوية على الإمام (عليه السلام) فقال له :

« يا حسن ، أنا خير منك!! »

- وكيف ذاك يا ابن هند؟!!

- لأن الناس قد أجمعوا عليّ ، ولم يجمعوا عليك.

وحيث أن الامرة لم تكن في الإسلام موجبة للتمايز ، وإنما توجبه التقوى وعمل الخير ، وقد انبرى (عليه السلام) مبطلا دعوى معاوية :

« هيهات!! لشر ما علوت به يا ابن آكلة الأكباد ، المجتمعون عليك رجلان ، بين مطيع ومكره ، فالطائع لك عاص لله ، والمكره معذور بكتاب اللّه ، وحاشا لله أن أقول أنا خير منك لأنك لا خير فيك ، فان اللّه قد برّ أني من الرذائل كما برّأك من الفضائل » (1).

ان هذا هو منطق الثورة ، ومنطق الأحرار الذين يشجبون الظلم ، ويقاومون المنكر ، وليس هذا هو منطق من يريد العطاء والأموال.

2 - ودخل الإمام على معاوية ، فلما رأى ابن العاص ما في الإمام من عظيم الهيبة والوقار ساءه ذلك ، وتميز من الغيظ والحسد فاندفع قائلا :

« قد جاءكم الفهه العي ، الذي كأن بين لحييه عقله. »

وكان عبد اللّه بن جعفر حاضرا فلذعه قوله فصاح به :

« مه ، واللّه لقد رمت صخرة ململمة ، تنحط عنها السيول ، وتقصر دونها الوعول ، ولا تبلغها السهام ، فإياك والحسن إياك ، فانك لا تزل راتعا في لحم رجل من قريش ، ولقد رميت فما برح سهمك ، وقدحت

ص: 298


1- روضة الواعظين لأبي علي النيسابوري.

فما أورى زندك ».

وسمع الإمام الحديث ، فلما اكتظ مجلس معاوية بالناس انبرى (عليه السلام) فوجّه خطابه الى معاوية ، فألقى عليه ذنب وزيره ابن العاص ، وتهدده باعلان الحرب عليه إن لم ينته عن مكره وغيه ، وذكر له الصفات الرفيعة الماثلة في شخصيته الكريمة قائلا :

« يا معاوية لا يزال عندك عبد راتعا في لحوم الناس ، أما واللّه لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الامور ، وتحرّج منه الصدور ».

ثم أنشأ يقول :

أتأمر يا معاوي عبد سهم *** بشتمي والملا منّا شهود

إذا أخذت مجالسها قريش *** فقد علمت قريش ما تريد

أأنت تظل تشتمني سفاها (1) *** لضغن ما يزول وما يبيد

فهل لك من أب كأبي تسامى (2) *** به من قد تسامى أو تكيد

ولاجد كجدي يا ابن حرب (3) *** رسول اللّه إن ذكر الجدود

ولا أم كأمي من قريش *** إذا ما حصل الحسب التليد

فما مثلي تهكم يا ابن حرب *** ولا مثلي ينهنهه الوعيد (4)

فمهلا لا تهج منا أمورا *** يشيب لهولها الطفل الوليد (5)

ص: 299


1- وروي قصدت إلي تشتمنى.
2- وروي فما لك من أب.
3- وروي ابن هند.
4- وروي ولا مثلي تجاريه العبيد.
5- المحاسن والأضداد للجاحظ ص 95 ، والمحاسن والمساوى للبيهقي 1 / 62 ، شرح ابن أبي الحديد 2 / 102 ، جمهرة الخطب 1 / 428.

لقد عرض (عليه السلام) بعض فضائله ومآثره ، ونشر مساوئ معاوية ومخازيه بهذا الكلام الرائع الذي تمثلت فيه بلاغة الإعجاز ، وروعة الإيجاز ، وسرعة البديهة ، وقوة الحجة ، فحط به من غلواء معاوية ، وأصاب أبرز مقوماته من حسبه المعروف ، ونسبه الموصوف ، فأين الفهاهة والعي يا ابن العاص؟.

3 - وعظم أمر الإمام فى الشام ، فقد أقبلت الناس تترى لزيارته والى الاستماع لحديثه ، فملك (عليه السلام) القلوب والمشاعر والعواطف ، وتحدثت الأندية والمجالس بعظيم فضله ومواهبه ، ولما رأى ذلك أذناب معاوية وعملاؤه وهم : عمرو بن العاص ، والوليد بن عاقبة ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة ابن شعبة ، فخافوا أن يحدث ما لا تحمد عقباه ، وينفلت الأمر من أيديهم ، وتندك عروش الدولة الأموية ، فعقدوا في البلاط الأموي اجتماعا ، وذكروا لمعاوية حفاوة الجماهير بالإمام ، وتكريمهم له ، وازدحامهم على زيارته ، وان وجوده فى دمشق خطر على الدولة الأموية ، وقد رأوا أن خير وسيلة للحط من كرامته ، ولإعراض الناس عنه ، أن يستدعوه فيتهمون أباه بقتل عثمان ، ويسبّونه على ذلك ، وهذا نص حديثهم :

« إن الحسن قد أحيا أباه وذكره ، وقال فصدّق ، وأمر فأطيع ، وخفقت له النعال ، وان ذلك لرافعه الى ما هو أعظم منه ، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا ».

فقال لهم معاوية : ما تريدون؟

قالوا : « ابعث عليه فليحضر لنسبه ونسب أباه ، ونعيّره ونوبخه ، ونخبره أن أباه قتل عثمان ، ونقرره بذلك ، ولا يستطيع أن يغير علينا شيئا من ذلك. »

ص: 300

ولم يخف على معاوية سخافة رأيهم ، وبعد تفكيرهم عن الصواب ، وذلك لعلمه ان الإمام سوف يفلجهم ، ويخرج ظافرا بخزيهم ، فقال لهم :

« إني لا أرى ذلك ولا أفعله ».

« عزمنا عليك يا أمير المؤمنين لتفعلن ».

« ويحكم لا تفعلوا ، فو اللّه ما رأيته قط جالسا عندي إلا خفت مقامه ، وعيبه لي. »

« ابعث إليه على كل حال ».

« إن بعثت إليه لأنصفنه منكم. »

فقال ابن العاص : أتخشى أن يأتي باطله على حقنا ، أو يربى قوله على قولنا؟.

ولما رأى معاوية إصرارهم عليه قال لهم : أما إني إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلم بلسانه كله.

فقالوا له : مره بذلك.

وأجلبهم الى ما أرادوا ، وأمرهم أن يسلكوا خطة خاصة في حديثهم مع الإمام قائلا :

« أما إذا عصيتموني وبعثتم إليه ، وأبيتم إلا ذلك ، فلا تمرضوا له فى القول ، واعلموا أنهم أهل بيت لا يعيبهم العائب ، ولا يلصق بهم العار ولكن اقذفوه بحجره ، تقولون له : إن أباك قتل عثمان ، وكره خلافة الخلفاء من قبله ».

ثم بعث خلف الإمام ، فقام (عليه السلام) واستدعى بثيابه فلبسها وعرف الغاية من هذه الدعوى فخرج وهو يدعو بهذا الدعاء :

« اللّهم إني أعوذ بك من شرورهم ، وأدرأ بك في نحورهم ، وأستعين

ص: 301

بك عليهم ، فاكفنيهم كيف شئت ، وأنّى شئت ، بحول منك وقوة يا أرحم الراحمين ».

ثم سار (عليه السلام) حتى انتهى الى معاوية ، فلما رآه مقبلا قابله بحفاوة وتكريم ثم التفت إليه معتذرا :

« يا أبا محمد ، إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني ».

فانبرى إليه الإمام مبينا له عدم واقعية هذا الاعتذار قائلا :

« سبحان اللّه!! الدار دارك ، والإذن فيها إليك ، واللّه إن كنت أجبتهم الى ما أرادوا وما في أنفسهم إني لأستحي لك من الفحش ، وإن كانوا غلبوك على رأيك إني لأستحيى لك من الضعف ، فأيهما تقر وأيهما تنكر؟ أما أني لو علمت بمكانهم لجئت بمثلهم من بني عبد المطلب ، ومالي أن أكون مستوحشا منك ومنهم ، إن وليي اللّه ، وهو يتولى الصالحين ».

فقال معاوية : « إني كرهت أن أدعوك ، ولكن هؤلاء حملوني على ذلك مع كراهتي له ، وإن لك منهم النصف ومني ، وإنما دعوناك لنقررك أن عثمان قتل مظلوما ، وان أباك قتله فاستمع منهم ثم أجبهم ، ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم أن تتكلم بكل لسانك ».

ولما سكت معاوية ابتدأ بالحديث أولا :

عمرو بن العاص :

واندفع ابن العاص فسب الإمام أمير المؤمنين ، واتهمه بسب أبي بكر وكراهته لخلافته ، وانه شرك في دم عمر بن الخطاب ، وقتل عثمان ظلما ولا أبقى شيئا من صفات الذم إلا وألصقها به ، ثم التفت الى الإمام الحسن قائلا :

« إنكم يا بني عبد المطلب ، لم يكن اللّه ليعطيكم الملك على قتلكم

ص: 302

الخلفاء واستحلالكم ما حرّم اللّه من الدماء ، وحرصكم على الملك ، وإتيانكم ما لا يحل ، ثم إنك يا حسن تحدّث نفسك أن الخلافة صائرة إليك ، وليس عندك عقل ذلك ولا لبّه ، كيف ترى اللّه سبحانه سلبك عقلك ، وترك أحمق قريش يسخر منك ، ويهزأ بك ، وذلك لسوء عمل أبيك ، وإنما دعوناك لنسبك وأباك ، فأما أبوك فقد تفرد اللّه به وكفانا أمره ، وأما أنت فانك فى أيدينا نختار فيك الخصال ، ولو قتلناك ما كان علينا إثم من اللّه ولا عيب من الناس ، فهل تستطيع أن تردّ علينا وتكذبنا؟ فان كنت ترى أنا كذبنا في شيء فاردده علينا فيما قلنا ، وإلا فاعلم أنك وأباك ظالمان ».

وليس في هذا الكلام سوى القذف والسب المنبعث عن نفس مترعة بالباطل والعداء لآل البيت (عليهم السلام) ثم انبرى من بعده.

الوليد بن عاقبة :

وانطلق هذا الأثيم قائلا :

« إنكم كنتم أخوال عثمان فنعم الولد كان لكم فعرف حقكم وكنتم أصهاره فنعم الصهر كان لكم ، يكرمكم فكنتم أول من حسده ، فقتله أبوك ظلما لا عذر له ولا حجة ، فكيف ترون اللّه طلب بدمه وأنزلكم منزلتكم واللّه إن بني أميّة خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أميّة وإن معاوية خير لك من نفسك ».

ثم سكت وتكلم من بعده عتبة بن أبي سفيان :

وانبرى عتبة فأظهر خبث سريرته وعداءه لآل البيت قائلا :

« يا حسن ، كان أبوك شر قريش لقريش لسفكه لدمائها ، وقطعه لارحامها ، طويل السيف واللسان ، يقتل الحي ويعيب الميت ، وانك ممن

ص: 303

قتل عثمان ، ونحن قالموك به ، وأما رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادحا ولا في ميراثها راجحا ، وإنكم يا بني هاشم قتلتم عثمان ، وإن في الحق أن نقتلك وأخاك به ، فأما أبوك فقد كفانا اللّه أمره ، وأقاد منه ، وأما أنت فو اللّه ما علينا لو قتلناك بعثمان إثم ولا عدوان ».

واندفع من بعده المغيرة بن شعبة :

وابتدأ المغيرة أولا بشتم أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم قال :

« واللّه ما أعيبه فى قضية يخون ، ولكنه قتل عثمان ».

ثم سكتوا عن الكلام ، فانبرى إليهم الإمام فوضعهم على طاولة التشريح ، فنشر عيوبهم ومخازيهم ، وأشاد بفضل أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام).

جوابه لمعاوية :

وقد وجّه خطابه أولا الى معاوية قائلا :

« يا معاوية ، ما هؤلاء شتموني ، ولكنك شتمتني ، فحشا ألفته ، وسوء رأي عرفت به ، وخلقا سيئا ثبّت عليه ، وبغيا علينا عداوة منك لمحمد صلی اللّه علیه و آله ، ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا فلأقولن فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم. أنشدكم اللّه أيها الرهط ، أتعلمون ان الذي شتمتموه منذ اليوم صلى القبلتين كلتيهما؟ وأنت يا معاوية بهما كافر تراهما ضلالة ، وتعبد اللات والعزى غواية. وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنه بايع البيعتين كلتيهما بيعة الفتح وبيعة الرضوان؟ وأنت يا معاوية باحداهما كافر ، وبالأخرى ناكث. وأنشدكم اللّه هل تعلمون أنه أول الناس إيمانا؟ وإنك يا معاوية وأباك من المؤلفة قلوبهم ، تسرّون الكفر ، وتظهرون الإسلام ، وتستمالون بالأموال. وأنشدكم اللّه ألستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم بدر وإن راية المشركين كانت مع معاوية ومع

ص: 304

أبيه ، ثم لقيكم يوم احد ، ويوم الأحزاب ومعه راية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومع أبيك راية الشرك ، وفي كل ذلك يفتح اللّه له ويفلج حجته (1) ، وينصر دعوته ، ويصدق حديثه ، ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تلك المواطن كلها عنه راض ، وعليك وعلى أبيك ساخط. وأنشدك باللّه يا معاوية أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده فرآكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال : « اللّهم العن الراكب والقائد والسائق ». أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته الى أبيك لمّا همّ أن يسلم تنهاه عن ذلك؟.

يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا *** بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا

خالي وعمي وعم الأم ثالثهم *** وحنظل الخير قد أهدى لنا الارقا

لا تركنن الى أمر تكلفنا *** والراقصات به في مكة الخرقا

فالموت أهون من قول العداة لقد *** حاد ابن حرب عن العزى إذا فرقا

واللّه لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت. وأنشدكم اللّه أيها الرهط أتعلمون أن عليا حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأنزل فيه : « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم » (2) وإن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث أكابر أصحابه الى بني قريضة فنزلوا من حصنهم فهزموا ، فبعث عليا بالراية فاستنزلهم على حكم اللّه وحكم رسوله ، وفعل في خيبر مثلها ، ثم قال : يا معاوية أظنك لا تعلم أني أعلم ما قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيك لما أراد أن يكتب كتابا الى بني خزيمة فبعث إليك فلم تأته فدعا عليك بالنهم الى أن تموت. وأنتم أيها الرهط نشدتكم اللّه ألا تعلمون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن

ص: 305


1- وفي رواية ويعلم صحته.
2- سورة المائدة : آية 87.

لا تستطيعون ردها :

( أولها ) يوم لقي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خارجا من مكة الى الطائف يدعو ثقيفا الى الدين فوقع به وسبه وسفهه وشتمه وكذبه وتوعده وهمّ أن يبطش به فلعنه اللّه ورسوله وصرف عنه.

( الثانية ) يوم العير إذ عرض لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي جائية من الشام فطردها أبو سفيان ، وساحل بها فلم يظفر المسلمون بها ، ولعنه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودعا عليه فكانت واقعة بدر لأجلها.

( الثالثة ) يوم احد حيث وقف تحت الجبل ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أعلاه وهو ينادي أعل هبل مرارا فلعنه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشر مرات ، ولعنه المسلمون.

( الرابعة ) يوم جاء بالأحزاب وغطفان اليهود فلعنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وابتهل.

( الخامسة ) يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله يوم الحديبية فلعن رسول اللّه أبا سفيان ، ولعن القادة والأتباع ، وقال : ملعونون كلهم وليس فيهم من يؤمن ، فقيل : يا رسول اللّه أفما يرجى الإسلام لأحد منهم فكيف باللعنة؟ فقال : لا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع ، وأما القادة فلا يفلح منهم أحد ( السادسة ) يوم الجمل الأحمر.

( السابعة ) يوم وقفوا لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقبة ليستنفروا ناقته وكانوا اثنى عشر رجلا منهم أبو سفيان ، فهذا لك يا معاوية ».

وأنزل (عليه السلام) بكلامه معاوية من قصره الى قبره ، ومن عرشه الى نعشه وتركه والحزن يحز في نفسه. ثم التفت (عليه السلام) الى عمرو بن العاص فقال له :

ص: 306

« وأما أنت يا ابن العاص فان أمرك مشترك ، وضعتك أمك مجهولا من عهر وسفاح فتحاكم فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزارها ألأمهم حسبا ، وأخبثهم منصبا ، ثم قام أبوك فقال : أنا شانئ محمد الأبتر ، فأنزل اللّه فيه ما أنزل. وقاتلت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جميع المشاهد ، وهجوته وآذيته بمكة ، وكدته كيدك كله ، وكنت من أشد الناس له تكذيبا وعداوة ، ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة لتأتي بجعفر وأصحابه الى أهل مكة ، فلما أخطأك ما رجوت ، وأرجعك اللّه خائبا ، وأكذبك واشيا ، جعلت حدك على صاحبك عمارة بن الوليد فوشيت به الى النجاشي حسدا لما ارتكب من حليلته ، ففضحك اللّه وفضح صاحبك فأنت عدو بني هاشم فى الجاهلية والإسلام ، ثم انك تعلم وكل هؤلاء الرهط يعلمون انك هجوت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بسبعين بيتا من الشعر ، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي ، اللّهم العنه بكل حرف الف لعنة ، فعليك إذا من اللّه ما لا يحصى من اللعن. وأما ما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعرت عليه الدنيا نارا ثم لحقت بفلسطين فلما أتاك قتله قلت : أنا أبو عبد اللّه إذا نكأت قرحة أدميتها ثم حبست نفسك الى معاوية وبعت دينك بدنياه فلسنا نلومك على بغض ، ولا نعاتبك على ود ، وباللّه ما نصرت عثمان حيا ولا غضبت له مقتولا ، ويحك يا ابن العاص ألست القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة الى النجاشي :

تقول ابنتى أين هذا الرحيل *** وما السير مني بمستنكر

فقلت ذريني فاني امرؤ *** اريد النجاشي فى جعفر

لأكويه عنده كية *** اقيم بها نخوة الأصعر

وشأني أحمد من بينهم *** وأقولهم فيه بالمنكر

ص: 307

وأجرى الى عتبة جاهدا *** ولو كان كالذهب الأحمر

ولا أنثني عن بني هاشم *** وما اسطعت في الغيب والمحضر

فان قبل العتب مني له *** وإلا لويت له مشفري

فهذا جوابك هل سمعته؟

لقد ذكر (عليه السلام) ما هو ماثل في ابن العاص من الرذائل والمخازي ، ومن الحقد العارم للإسلام والمسلمين ، واشتراكه في دم عثمان ، وانضمامه بعد ذلك الى معاوية طمعا بدنياه. ثم التفت (عليه السلام) الى الوليد بن عاقبة فقال له :

« وأما أنت يا وليد فو اللّه ما ألومك على بغض علي ، وقد جلدك ثمانين جلدة في الخمر ، وقتل أباك بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنت الذي سماه اللّه الفاسق ، وسمى عليا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له : أسكت يا علي فأنا أشجع منك جنانا ، وأطول منك لسانا. فقال لك علي : أسكت يا وليد فأنا مؤمن وأنت فاسق فأنزل اللّه في موافقة قوله : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (1). ثم أنزل على موافقة قوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (2) ويحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر فيك وفيه ، ثم ذكر (عليه السلام) الأبيات التي قيلت فيه :

ليس من كان مؤمنا عمرك *** اللّه كمن كان فاسقا خوانا

سوف يدعى الوليد بعد قليل *** وعلي الى الحساب عيانا

فعلي يجزى بذاك جنانا *** ووليد يجزى بذاك هوانا

وما أنت وقريش إنما أنت علج من أهل صفورية ، وأقسم باللّه لأنت

ص: 308


1- سورة السجدة : آية 18.
2- سورة الحجرات : آية 6.

أكبر في الميلاد واسن ممن تدعى إليه ».

ان السبب الداعي الى بغض الوليد وعدائه الى أمير المؤمنين (عليه السلام) ان الإمام مثال للإيمان والوليد رمز للكفر ، ومن المعلوم ان التضاد بين الإيمان والكفر تضاد ذاتي وتنافر طبيعي ، ومضافا الى ذلك فان أمير المؤمنين قد جلده ثمانين جلدة لشربه الخمر ، وقد أولد ذلك في نفسه عداء لأمير المؤمنين أي عداء ، وبعد ما أخزى (عليه السلام) الوليد. التفت الى عتبة بن أبي سفيان فقال له :

« وأما أنت يا عتبة ، فو اللّه ما أنت بحصيف فأجيبك ، ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك ، وما عندك خير يرجى ، ولا شر يتقى ، وما عقلك وعقل أمتك إلا سواء ، وما يضر عليا لو سببته على رءوس الأشهاد ، وأما وعيدك إياي بالقتل فهلا قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك. أما تستحيي من قول نصر بن الحجاج فيك :

يا للرجال وحادث الأزمان *** ولسبة تخزي أبا سفيان

نبئت عتبة خانه في عرسه *** جنس لئيم الأصل من لحيان

وبعد هذا ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه ، فكيف يخاف أحد سيفك ولم تقتل فاضحك؟!! وكيف ألومك على بغض علي وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر ، واشترك مع حمزة فى قتل جدك عتبة وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد؟!! ».

لقد بين (عليه السلام) سفاهة عتبة وعدم عقله ، وفقدانه الشرف ، وان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حصد ببتاره رأس جده وخاله وأخيه يوم بدر ، فلهذا كان يكنّ في نفسه الحقد والبغض له ، ثم التفت (عليه السلام) بعد ذلك الى المغيرة بن شعبة فقال له :

ص: 309

« وأما أنت يا مغيرة ، فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه ، وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة : « استمسكي فاني طائرة عنك. فقالت النخلة : وهل علمت بك واقعة عليّ فأعلم بأنك طائرة عنى ». واللّه ما نشعر بعداوتك إيانا ، ولا اغتممنا إذ علمنا بها ، ولا يشق علينا كلامك وإن حدّ اللّه فى الزنا لثابت عليك ، ولقد درأ عمر عنك حقا اللّه سائله عنه ، ولقد سألت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هل ينظر الرجل الى المرأة يريد أن يتزوجها؟ فقال : لا بأس بذلك يا مغيرة ، ما لم ينو الزنا لعلمه بأنك زان ، وأما فخركم علينا بالامارة فان اللّه تعالى يقول : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) » (1).

وانتهى بذلك حديث الإمام مع خصومه ، وقد دلهم (عليه السلام) على عيوبهم ورذائلهم النفسية والنسبية ، وكشف الستار عن مخازيهم ، وسلبهم ثوب الافتخار ، وترك (عليه السلام) الكمد والحزن يحزان في نفوسهم ، فلما أراد الانصراف تعلق بطرف ثوبه ابن العاص وهو يقول :

« يا أمير المؤمنين ، قد شهدت قوله فى قذف أمي ، وأنا مطالب له بحق القذف ».

فصاح به معاوية في غيظ :

« خل عنه لا جزاك اللّه خيرا ».

ثم التفت الى بطانته منددا بهم ولائما لهم على عصيانهم ومخالفتهم له قائلا :

« قد أنبأتكم أنه ممن لا يطاق عارضته ، ونهيتكم أن تسبوه فعصيتموني واللّه ما قام حتى أظلم عليّ البيت ، قوموا عني ، فلقد فضحكم اللّه وأخزاكم

ص: 310


1- سورة بني اسرائيل آية 16.

بترككم الحزم وعدولكم عن رأي الناصح المشفق ، واللّه المستعان » (1).

4 - واجتمع معاوية مع بطانته فجعل بعضهم يفخر على بعض ويتطاولون فيما بينهم ، فأراد معاوية أن يضحك على ذقونهم فقال لهم :

« أكثرتم الفخر ، فلو حضركم الحسن بن علي (عليه السلام) وعبد اللّه بن عباس لقصرا من أعنتكم ما طال ».

فاندفع زياد بن سمية فقال :

« وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ ما يقومان لمروان بن الحكم فى غرب منطقه (2) ، ولا لنا فى بواذخنا (3) ، فابعث إليهما فى غد حتى تسمع كلامنا ».

فالتفت معاوية الى وزيره ابن العاص يستشيره فى ذلك :

« ما تقول؟ ».

« ابعث إليهما فى غد ».

وبعث معاوية ابنه يزيد خلفهما ، فلما حضرا قال لهما معاوية :

« إني أجلكما وارفع قدركما عن المسامرة بالليل ولا سيما أنت يا أبا محمد فانك ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيد شباب أهل الجنة ».

فشكر الإمام وابن عباس مقالته ، واندفع ابن العاص قائلا :

« يا حسن ، إنا قد تفاوضنا فقلنا إن رجال بني أمية أصبر عند اللقاء وأمضى في الوغى ، وأوفى عهدا ، وأكرم خيما (4) ، وأمنع لما وراء

ص: 311


1- ابن أبي الحديد 2 / 101.
2- غرب منطقه : أي في حدة منطقه.
3- البواذخ : جمع مفرده البذخ بالتحريك : الفخر والتطاول.
4- الخيم : الطبيعة والسجية.

ظهورهم من بني عبد المطلب ».

ثم سكت ، وتكلم من بعده مروان بن الحكم فقال :

« وكيف لا نكون كذلك وقد قارعناكم فغلبناكم ، وحاربناكم فملكناكم فان شئنا عفونا وإن شئنا بطشنا ».

وسكت مروان فتكلم زياد فقال :

« ما ينبغي لهم أن ينكروا الفضل لأهله ، ويجحدوا الخير في سلطانه نحن أهل الحملة في الحروب ، ولنا الفضل على سائر الناس قديما وحديثا ».

فانبرى إليهم الامام كالأسد محطما لكيانهم ، ومبيدا لفخرهم قائلا :

« ليس من العجز أن يصمت الرجل عند إيراد الحجة ، ولكن من الإفك أن ينطق الرجل بالخنا ، ويصور الباطل بصورة الحق ، ثم وجّه علیه السلام خطابه الى عمرو بن العاص فقال له :

« يا عمرو ، افتخارا بالكذب ، وجرأة على الإفك ، ما زلت اعرف مثالبك الخبيثة ، أبديها مرة وأمسك عنها اخرى ، فتأبى إلا انهماكا فى الضلالة ، أتذكر مصابيح الدجى ، واعلام الهدى ، وفرسان الطراد ، وحتوف الأقران ، وابناء الطعان ، وربيع الضيفان ، ومعدن النبوة ، ومهبط العلم؟ وزعمتم انكم أحمى لما وراء ظهوركم ، وقد تبين ذلك يوم بدر حين نكصت الأبطال ، وتساورت الأقران ، واقتحمت الليوث ، واعتركت المنية ، وقامت رحاها على قطبها ، وأ فترت عن نابها ، وطار شرار الحرب ، فقتلنا رجالكم ، ومنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ذراريكم فكنتم لعمري في ذلك اليوم غير مانعين لما وراء ظهوركم من بني عبد المطلب ».

ثم التفت (عليه السلام) الى مروان فقال له :

« وأما أنت يا مروان ، فما أنت والإكثار فى قريش وأنت طليق

ص: 312

وأبوك طريد يتقلب من خزاية الى سوأة ، ولقد جيء بك الى أمير المؤمنين فلما رأيت الضرغام قد دميت براثنه ، واشتبكت أنيابه كنت كما قال القائل :

ليث إذا سمع الليوث زئيره *** بصبصن ثم قذفن بالأبعار (1)

فلما منّ عليك بالعفو وأرخى خناقك بعد ما ضاق عليك ، وغصصت بريقك لم تقعد معنا مقعد أهل الشكر ، ولكن تساوينا وتجارينا (2) ونحن مما لا يدركنا عار ، ولا تلحقنا خزاية ».

ثم وجّه (عليه السلام) خطابه إلى زياد فقال له :

« وما أنت يا زياد وقريشا لا أعرف لك فيها أديما صحيحا (3) ، ولا فرعا نابتا ، ولا قديما ثابتا ، ولا منبتا كريما ، بل كانت أمك بغيا تداولها رجال من قريش ، وفجار العرب ، فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا - وأشار الى معاوية - بعد ممات أبيه مالك افتخار ، تكفيك سمية ، ويكفينا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) سيد المؤمنين الذي لم يرتد على عقبيه وعمي حمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار وأنا وأخي سيدا شباب أهل الجنة ».

وبعد ما القم الحجر أفواه خصومه التفت الى ابن عباس قائلا :

« يا ابن العم ، إنما هي بغاث الطير انقضّ عليها أجدل ».

وأراد ابن عباس أن يتكلم فخاف معاوية من حديثه فأقسم عليه أن يسكت فسكت ، ثم خرج الإمام وابن عباس ، فالتفت معاوية الى بطانته مستهزئا بهم :

ص: 313


1- ويروى رمين بالأبعار.
2- هكذا جاء في الأصل والأصح ، ولكن كيف تساوينا.
3- أديما صحيحا : أي نسبا صحيحا.

« أجاد عمرو الكلام لو لا أن حجته دحضت ، وتكلم مروان : لو لا انه نكص ».

ثم التفت الى زياد فأنكر عليه هذا التدخل قائلا :

« ما دعاك الى محاورته ما كنت إلا كالحجل فى كف البازي ».

والتفت ابن العاص الى معاوية :

« ألا رميت من ورائنا؟ ».

« إذا كنت شريككم فى الجهل ، أفاخر رجلا رسول اللّه جدّه ، وهو سيد من مضى ومن بقى ، وأمّه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ».

ثم التفت الى ابن العاص :

« واللّه لئن سمع به أهل الشام لهي السوءة السواء ».

فقال عمرو : لقد أبقى عليك ولكنه طحن مروان وزيادا طحن الرحا بثفالها ، ووطأهما وطىء البازل القراد بمنسمه.

واندفع زياد يؤيد مقالة ابن العاص في تحطيم الإمام لهم قائلا :

« قد واللّه فعل ، ولكن معاوية يأبى إلا الإغراء بيننا وبينهم ، لا جرم واللّه لا شهدت مجلسا يكونان فيه إلا كنت معهما على من فاخرهما ».

وخلا ابن عباس بالإمام فقبّل ما بين عينيه وأظهر له الإعجاب بحديثه ورده على هؤلاء الأوغاد قائلا :

« أفديك يا ابن العم ، واللّه ما زال بحرك يزخر ، وأنت تصول حتى شفيتني من أولاد البغايا ».

5 - وغاب الإمام عن دمشق أياما ثم رجع إليها فدخل على معاوية وكان في مجلسه عبد اللّه بن الزبير ، فلما رأى معاوية الإمام قام إليه فاستقبله ، وبعد ما استقر به المجالس التفت إليه قائلا :

ص: 314

« يا أبا محمد ، إني أظنك تعبا نصبا فأت المنزل فأرح نفسك فيه ».

وخرج الإمام من عنده ، والتفت معاوية الى عبد اللّه بن الزبير مغريا له :

« لو افتخرت على الحسن ، فانك ابن حواري رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابن عمته ، ولأبيك في الإسلام نصيب وافر ».

فانخدع ابن الزبير بمقالة معاوية فأظهر له الاستعداد على مطاولة الإمام ومفاخرته قائلا :

« أنا ، له ».

وانصرف ابن الزبير وقد انفق ليله ساهرا وهو يفكر بما ذا سيوصم به الإمام؟ فلما أصبح جاء يشتد الى مجلس معاوية ليطاول الإمام ويعتدي عليه حتى يرضي عواطف معاوية ، وأقبل الامام (عليه السلام) فقام إليه معاوية واحتفى به ، ولما استقر به المجالس اندفع ابن الزبير قائلا :

« لو لا انك خوار في الحرب غير مقدام ما سلمت لمعاوية الأمر ، وكنت لا تحتاج الى اختراق السهوب (1) ، وقطع المفاوز ، تطلب معروفه وتقوم ببابه ، وكنت حريا أن لا تفعل ذلك وأنت ابن علي فى بأسه ونجدته فما أدري ما الذي حملك على ذلك؟ أضعف في الرأي أم وهن نحيزة (2) فما أظن لك مخرجا من هاتين الخلتين ، أما واللّه لو استجمع لي ما استجمع لك لعلمت أني ابن الزبير ، وإني لا أنكص عن الأبطال ، وكيف لا أكون كذلك وجدتي صفية بنت عبد المطلب ، وأبي الزبير من حواري رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأشد الناس بأسا ، وأكرمهم حسبا فى الجاهلية ،

ص: 315


1- السهوب : جمع ، مفرده سهب ، وهو الأرض البعيدة.
2- النحيزة : الطبيعة.

وأطوعهم لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ».

واندفع الامام فردّ عليه أباطيله وبهتانه قائلا :

« أما واللّه ، لو لا أن بني أميّة تنسبني الى العجز عن المقال لكففت عنك تهاونا ، ولكن سأبين لك ذلك لتعلم أني لست بالعي ، ولا الكليل اللسان إياي تعيّر ، وعليّ تفتخر؟! ولم يكن لجدك بيت في الجاهلية ولا مكرمة فزوجته جدتي صفية بنت عبد المطلب فبذخ على جميع العرب بها ، وشرف بمكانها ، فكيف تفاخر من هو من القلادة واسطتها ، ومن الأشراف سادتها نحن اكرم أهل الأرض زندا؟ لنا الشرف الثاقب ، والكرم الغالب ، ثم تزعم أني سلمت الأمر ، فكيف يكون ذلك ويحك - كذلك.؟ - وأنا ابن أشجع العرب ، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين (عليه السلام) وخيرة الاماء ، لم أفعل ذلك ويحك جبنا ولا ضعفا ، ولكنه بايعني مثلك ، وهو يطلبني بترة ، ويداجيني المودة ، ولم أثق بنصرته ، لأنكم أهل بيت غدر ، وكيف لا يكون كما أقول :؟ وقد بايع أبوك أمير المؤمنين ثم نكث بيعته ونكص على عقبيه ، واختدع حشية من حشايا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليضل بها الناس ، فلما دلف نحو الأعنة ورأى بريق الأسنة قتل مضيعة لا ناصر له ، وأتى بك أسيرا ، قد وطأتك الكماة بأظلافها ، والخيل بسنابكها ، واعتلاك الأشتر فغصصت بريقك وأقعيت على عقبيك كالكلب إذا احتوشته الليوث ، فنحن ويحك نور البلاد وأملاكها ، وبنا تفخر الأمة ، وإلينا تلقى مقاليد الأزمة ، أتصول وأنت تخدع النساء!! ثم تفخر على بني الأنبياء ، لم تزل الأقاويل منا مقبولة ، وعليك وعلى أبيك مردودة ، دخل الناس في دين جدي طائعين وكارهين ، ثم بايعوا أمير المؤمنين (عليه السلام) فسار الى

ص: 316

أبيك وطلحة حين نكثا البيعة ، وخدعا عرس رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1) فقتل أبوك وطلحة وأتي بك أسيرا فبصبصت بذنبك وناشدته الرحم أن لا يقتلك فعفا عنك ، فأنت عتاقة أبي ، وأنا سيدك وسيد أبيك فذق وبال أمرك ».

وخجل ابن الزبير وندم على ما فرط في أمره ، فتقدم الى الإمام باسلوب لين ناعم يلتمس فيه العفو والرضا ، معربا له ان معاوية هو الذي أغراه بذلك قائلا :

« أعذر يا أبا محمد ، فإنما حملني على محاورتك هذا - وأشار الى معاوية - فهلا إذ جهلت أمسكت عني ، فإنكم أهل بيت سجيتكم الحلم والعفو ».

والتفت الامام الى معاوية فقال له :

« انظر هل أكيع عن محاورة أحد؟ ويحك أتدري من أي شجرة أنا؟ والى من أنتمي؟ انته قبل أن أسمك بميسم تتحدث به الركبان في الآفاق والبلدان ».

فقال ابن الزبير :

« هو لذلك أهل ».

فالتفت معاوية الى ابن الزبير قائلا :

« أما انه قد شفى بلابل صدري منك ، ورمى مقتلك ، فصرت كالحجل في كف البازي يتلاعب به كيف أراد ، فلا أراك تفتخر على أحد بعدها » (2).

ص: 317


1- أراد (عليه السلام) بذلك عائشة زوج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم).
2- المحاسن والمساوى للبيهقي 1 / 58 - 61 ، والمحاسن والأضداد للجاحظ 92 - 94.

6 - ومن مناظراته القيّمة ، ومشاجراته مع خصومه التي حطّم بها كيانهم انه (عليه السلام) أقبل الى معاوية فلما بصر به حاجبه أسرع إليه فعرّفه بتشريف الامام ، فالتفت معاوية الى بطانته قائلا.

« إنه إن دخل علينا أفسد ما نحن فيه ».

فقال له مروان : « ائذن له ، فاني أسأله عما ليس عنده جواب ».

فنهره معاوية وقال له : « لا تفعل ، انهم قوم ألهموا الكلام ».

وأذن معاوية للإمام ، فلما دخل قام إليه فرحب به والتفت مروان قائلا باستهزاء.

« أسرع الشيب الى شاربك يا حسن ، ويقال إن ذلك من الخرق » (1)

فأجابه الامام قائلا :

« ليس كما بلغك ، ولكنا معشر بني هاشم طيبة أفواهنا ، فنساؤنا يقبلن علينا بأنفاسهن ، وأنتم معاشر بني أميّة فيكم بخر شديد (2) فنساؤكم يصرفن أفواههن ، وأنفاسهن عنكم الى أصداغكم (3) فانما يشيب موضع العذار من أجل ذلك ».

فغضب معاوية وصاح بأصحابه :

« قد كنت أخبرتكم فأبيتم حتى سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم ، وأفسد مجلسكم »

وخرج الامام من عندهم وقد ترك الكمد ملأ نفوسهم وهو يقول :

ومارست هذا الدهر خمسين حجة *** وخمسا أرجى قائلا بعد قائل

ص: 318


1- الخرق ( بالضم ) ضعف الرأي ، سوء التصرف ، الجهل.
2- البخر : الرائحة الكريهة في الفم.
3- الأصداغ : جمع ، مفرده صدغ ( بالضم ) وهو ما بين العين والأذن أو الشعر المتدلى على هذا الموضع.

فما أنا في الدنيا بلغت جسيمها *** ولا فى الذي أهوى كدحت بطائل

وقد أسرعت في المنايا أكفها *** وأيقنت أني رهن موت معاجل (1)

7 - وتحدث (عليه السلام) في مجلس معاوية عن عظيم فضله ، وشرف نسبه قائلا :

« قد علمت قريش بأسرها أني منها فى عز أرومتها ، لم أطبع على ضعف ، ولم أعكس على خسف ، أعرف بشبهي ، وأدعى لأبي ».

وساء ذلك ابن العاص فانبرى قائلا :

« قد علمت قريش أنك من أقلها عقلا ، وأكثرها جهلا ، وإن فيك خصالا لو لم يكن فيك إلا واحدة منهن لشملك خزيها كما شمل البياض الحالك (2) لعمر اللّه ، لتنتهين عما أراك تصنع أو لأكبسن لك حافة كجلد العائط (3) أرميك من خلالها بأحر من وقع الأثافي (4) أعرّك منها أديمك عرك السلعة (5) فانك طالما ركبت صعب المنحدر ، ونزلت في اعراض الوعر التماسا للفرقة ، وارصادا للفتنة ، ولن يزيدك اللّه إلا فظاعة ».

فردّ عليه الامام مقالته :

« أما واللّه لو كنت تسمو بحسبك ، وتعمل برأيك ، ما سلكت فج قصد ، ولا حللت رابية مجد ، وأيم اللّه لو أطاعني معاوية لجعلك بمنزلة

ص: 319


1- وفيات الأعيان 4 / 121.
2- الحالك : شدة السواد.
3- العائط : الناقة.
4- الأثافي : الأحجار التي توضع عليها القدور.
5- السلعة : المتاع وما يتاجر به ، وباعتبار تقلب الأيدي عليها فهي فى عراك.

العدو الكاشح (1) ، فانه طال ما طويت على هذا كشحك ، وأخفيته في صدرك ، وطمع بك الرجاء الى الغاية القصوى التي لا يورق لها غصنك ، ولا يخضرّ لها مرعاك ، أما واللّه ليوشكن يا ابن العاص أن تقع بين لحيي ضرغام من قريش ، قوي ممتنع ، فروس ذي لبد ، يضغطك ضغط الرحا للحب ، لا ينجيك منه الروغان (2) إذا التقت حلقتا البطان » (3).

لقد كان ابن العاص يتحرى في كل مناسبة انتقاص أهل البيت ، ويعلن عداءه وبغضه لهم وما سبب ذلك إلا لخبث ذاته ، وعدم طهارة انائه ، وقد رأى الامام في الطواف فجعل يشتد نحوه ، فلما انتهى إليه رفع عقيرته :

« يا حسن أزعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك ، فلقد رأيت اللّه عز وجل أقامه بمعاوية فجعله راسيا بعد ميله ، وبيّنا بعد خفائه ، أفرضي اللّه قتل عثمان أم من الحق أن تدور بالبيت كما يدور الجمل بالطحين عليك ثياب كغرقىء البيض (4) وأنت قاتل عثمان ، واللّه إنه لألم للشعث وأسهل للوعث (5) أن يوردك معاوية حياض أبيك ».

فوجّه (عليه السلام) إليه سهاما من قوله قائلا :

« ان لأهل النار علامات يعرفون بها ، وهي الالحاد لأولياء اللّه ، والموالاة لأعداء اللّه ، واللّه إنك لتعلم أن عليا (عليه السلام) لم يتريب في الأمر

ص: 320


1- الكاشح : هو الذي يضمر العداء في نفسه للغير.
2- الروغان : الحيلة والمكر.
3- المحاسن والمساوي 1 / 65.
4- الغرقئ : القشرة المتصلة ببياض البيض ، أو بياض البيض الذي يؤكل.
5- الوعث : الأمر الشاق.

ولم يشك في اللّه طرفة عين ، وأيم اللّه لتنتهين يا ابن أم عمرو أو لأقرعن جبينك بكلام تبقى سمته عليك ما حييت ، فاياك والابراز علي فاني من قد عرفت لست بضعيف الغميزة (1) ولا بهش المشاشة (2) ولا بمرئ المأكلة وإني من قريش كاوسط القلادة ، يعرف حسبي ، ولا أدعى لغير أبي وقد تحاكمت فيك رجال من قريش فغلب عليك ألأمهم نسبا وأظهرهم لعنة فاياك عنى فانك رجس ، وأما نحن بيت الطهارة أذهب اللّه عنا الرجس ، وطهرنا تطهيرا » (3).

8 - ومما وقع للإمام في دمشق انه دخل على معاوية فلما رآه قام إليه واحتفى به فساء ذلك مروان واضطرب غيظا وموجدة واندفع قائلا :

يا حسن ، لو لا حلم أمير المؤمنين وما قد بنى له آباؤه الكرام من المجد والعلا ما أقعدك هذا المقعد ، ولقتلك وأنت له مستوجب بقودك الجماهير

فلما أحسست بنا وعلمت أن لا طاقة لك بفرسان أهل الشام ، وصناديد بني أمية اذعنت بالطاعة ، واحتجزت بالبيعة ، وبعثت تطلب الأمان ، أما واللّه لو لا ذلك لأريق دمك ، وعلمت أنا نعطي السيوف حقها عند الوغى فاحمد اللّه اذا ابتلاك بمعاوية فعفا عنك بحلمه ثم صنع بك ما ترى!. ».

فرد عليه الإمام قائلا :

ويحك يا مروان ، لقد تقلدت مقاليد العار في الحروب عند مشاهدتها والمخاذلة عند مخالطتها ، نحن - هبلتك الهوابل - لنا الحجج البوالغ ، ولنا إن شكرتم عليكم النعم السوابغ ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار ، فشتان ما بين المنزلتين تفخر ببني أمية وتزعم أنهم صبر في الحروب أسد عند اللقاء

ص: 321


1- الغميزة : ضعف العقل أو العمل.
2- المشاشة : الأرض اللينة كنى (عليه السلام) بذلك عن مقدرته وحزمه.
3- شرح ابن ابى الحديد 4 / 10 المحاسن والمساوى.

ثكلتك أمك أولئك البهاليل السادة والحماة الذادة والكرام القادة بنو عبد المطلب أما واللّه لقد رأيتهم وجميع من في هذا البيت ما هالتهم الأهوال ولم يحيدوا عن الأبطال كالليوث الضارية الباسلة الحنقة فعندها وليت هاربا وأخذت أسيرا فقلدت قومك العار لأنك في الحروب خوار ، أيراق دمى زعمت؟!! أفلا أرقت دم من وثب على عثمان في الدار فذبحه كما يذبح الجمل؟ وأنت تثغو ثغاء النعجة!! وتنادي بالويل والثبور كالأمة اللكعاء ألا دفعت عنه بيد أو ناضلت عنه بسهم؟! لقد أرتعدت فرائصك!! وغشي بصرك فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربه فأنجيتك من القتل ومنعتك منه ثم تحث معاوية على قتلي؟ ولو رام ذلك معك لذبح كما ذبح ابن عفان ، أنت معه أقصر يدا وأضيق باعا وأجبن قلبا من أن تجسر على ذلك ثم تزعم أنى ابتليت بحلم معاوية أما واللّه لهو أعرف بشأنه ، وأشكر لما وليناه هذا الأمر فمتى بدا له ، فلا يغضين جفنه على القذى معك فو اللّه لاعقبن أهل الشام بجيش يضيق عنه فضاؤها ويستأصل فرسانها ثم لا ينفعك عند ذلك الهرب والروغان ، ولا يرد عنك الطلب تدريجك الكلام فنحن من لا يجهل آباؤنا القدماء الأكابر ، وفروعنا السادة الأخيار ، أنطلق إن كنت صادقا ».

فقال ابن العاص مستهزا بمروان :

« ينطق بالخنا وتنطق بالصدق ». ثم أنشأ يقول :

قد يضرط العير والمكواة تأخذه *** لا يضرط العير والمكواة في النار

« ذق وبال أمرك يا مروان ».

وصاح معاوية بمروان :

« قد كنت نهيتك عن هذا الرجل وأنت تأبى إلا إنهما كما فيما لا يعنيك أربع على نفسك فليس أبوك كأبيه ولا أنت مثله ، أنت ابن الطريد الشريد وهو ابن

ص: 322

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الكريم ، ولكن رب باحث عن حتفه وحافر عن مديته ».

وانتفخت أوداج مروان غضبا وحنقا فاندفع نحو معاوية قائلا :

« ارم من دون بيضتك ، وقم بحجة عشيرتك ».

ثم التفت إلى ابن العاص قائلا :

« وطعنك أبوه فوقيت نفسك بخصييك فلذلك تحذره ».

ثم قام وهو محطم الكيان قد أهين وحقر فقال معاوية :

« لا تجار البحور فتغمرك ، ولا الجبال فتبهرك » (1).

9 - ودخل الإمام على معاوية وكان في مجلس ضيق فجلس (عليه السلام) عند رجليه فتحدث معاوية بما شاء أن يتحدث به ثم قال « عجبا لعائشة!! تزعم أني في غير ما أنا أهله ، وان الذي أصبحت فيه ليس لي بحق ، مالها ولهذا يغفر اللّه لها ، انما كان ينازعنى أبو هذا الجالس - وأشار إلى الحسن - وقد استأثر اللّه به ».

فقال (عليه السلام) : « أوعجب ذلك يا معاوية!! ».

- أي واللّه! :.

- أفلا اخبرك بما هو أعجب؟!!.

- ما هو؟

- جلوسك في صدر المجالس وأنا عند رجليك.

فضحك معاوية وراوغ على عادته وقال :

« يا ابن أخي بلغنى أن عليك دينا ، كم هو؟ ».

- مائة الف.

- أمرنا لك بثلاثمائة ألف ، مائة ألف منها لدينك ، ومائة ألف تقسمها

ص: 323


1- المحاسن والمساوى 1 / 63 - 65.

في أهل بيتك خاصة ، ومائة ألف لخاصة نفسك ، فقم مكرما فاقبض صلتك.

وخرج الإمام من عنده وكان يزيد حاضرا في مجلس أبيه فلما رأى حفاوته بالإمام ساءه ذلك وحينما انصرف من في المجالس اندفع قائلا :

« تاللّه ما رأيت رجلا مثلك ، استقبلك بما استقبلك به ثم أمرت له بثلاثمائة ألف! »

- يا بني ، إن الحق حقهم فمن جاءك منهم فاحث له (1).

وقد اعترف معاوية أن الخلافة الإسلامية لأهل البيت وانه قد غصبها منهم.

هذه بعض مناظرات الإمام مع خصومه ، قد روى أكثرها البيهقي والجاحظ ، ونصّ عليها غيرهما من المؤرخين ، وقد فضح بها الإمام معاوية وأتباعه ، وأبدا عارهم وعيارهم ، وأظهر لأهل الشام مخازي بنى أمية ، وعيوب آل أبي سفيان ، فهي بحق ثورة على حكومة معاوية ، فقد حطمت كيانه ، وأنزلته من عرشه إلى قبره.

وشكك بعض أهل العلم فى بعض تلك المناظرات ، واحتمل فيها الوضع لأنها قد اشتملت على تعيير الإمام لخصومه باسلوب يستبعد صدور منه وقد استدل على ذلك بما روى من أن الإمام لم تسمع منه كلمة فحش قط إلا قوله لمروان : « ليس لك عندي إلا ما رغم به أنفك » ومع هذا فكيف يصدر ذلك منه ، وهو احتمال موهوم لأن خصومه الحقراء قد تجرءوا عليه وجابهوه بألفاظ قاسية بذيئة ، فرد عليهم اعتداءهم ، ولكن لم يستعن بالكذب ، ولم يتذرع بالبذاء كما تذرعوا به.

وعلى أي حال فان معاوية بالرغم مما انزله الإمام به من الذل والهوان فانه كان يحذر جانبه ويخشاه وذلك لما له من المكانة المرموقة في نفوس المسلمين ، وتقديمهم له بالفضل على غيره ، وكانوا يعلنون ذلك أمام معاوية

ص: 324


1- شرح ابن ابي الحديد 4 / 4.

فقد ذكر رواة الأثر ان معاوية تحدث في مجلسه فقال :

« اخبروني بخير الناس أبا وأما ، وعما وعمة ، وخالا وخالة ، وجدا وجدة ».

وانما قال ذلك ليرى مدى انطباع المسلمين عن الإمام ، فقام إليه مالك بن عجلان فقال له : « هذا - وأشار إلى الحسن - خير الناس أبوه علي بن أبي طالب ، وأمه فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعمه جعفر الطيار في الجنان ، وعمته أم هاني بنت أبي طالب ، وخاله القاسم بن رسول اللّه ، وخالته زينب بنت رسول اللّه ، وجده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وجدته خديجة بنت خويلد ... ».

فسكت معاوية ولم يطق جوابا ، ولما انصرف الإمام انبرى ابن العاص الى مالك فانكر عليه قوله ، قائلا له :

« أحب بني هاشم حملك على أن تكلمات بالباطل؟! ».

فرد عليه مالك قائلا :

« ما قلت إلا حقا : وما أحد من الناس يطلب مرضاة المخلوق بمعصية الخالق ، إلا لم يعط أمنيته في دنياه ، وختم له بالشقاء في آخرته ، بنو هاشم أنضرهم عودا ، واوراهم زندا ».

والتفت إلى معاوية فقال له : « أليس هم كذلك؟ » ولم يسع معاوية إلا التصديق لكلامه (1).

ان معاوية كان يخشى من الإمام ويحذر من انتفاضته عليه ، ولا تزال ذكريات صفين ماثلة امامه فيفزع منها ، ويخاف ان تعود عليه مرة اخرى ، ولهذا كان يرعى عواطف الإمام ، وقد ذكر المؤرخون ان عمرو ابن عثمان بن عفان ، واسامة بن زيد مولى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تخاصما عند

ص: 325


1- المحاسن والمساوى 1 / 62.

معاوية في ارض فقال عمرو لأسامة : « كأنك تنكرني؟! » فرد عليه اسامة مقالته ، وكثر التشاجر بينهما فهدده أسامة بالهاشميين ، ثم قام فجلس إلى جانب الحسن (عليه السلام) وقام الهاشميون فجلسوا إلى جانبه ، ولما راى الأمويون ذلك انضموا إلى ابن عثمان ، وخاف معاوية من اثارة الفتنة فبادر الى حسم النزاع قائلا :

« لا تعجلوا أنا كنت شاهدا إذ أقطعها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اسامة ».

وقد حكم بذلك لأسامة وقدمه على عمرو ولما خرج الإمام اقبل الأمويون على معاوية يلومونه على ذلك ، وقالوا له : « الا كنت اصلحت بيننا؟ » فأجابهم معاوية بما ينم عن فزعه وخوفه قائلا :

« دعوني فو اللّه ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين إلا لبس علي عقلي ، وإن الحرب اولها نجوى ، واوسطها شكوى ، وآخرها بلوى ».

ثم تمثل بأبيات لامرئ القيس قائلا :

الحرب اول ما تكون فتية *** تدنو بزينتها لكل جهول

حتى إذا حميت وشب ضرامها *** عادت عجوزا غير ذات حليل

شمطاء جزت راسها وتنكرت *** مكروهة للّثم والتقبيل

ثم قال : ما في القلوب يشب الحروب ، والأمر الكبير يدفعه الأمر الصغير ، وتمثل بقول الشاعر :

قد يلحق الصغير بالجليل *** وإنما القرم من الأفيل

وتسحق النخل من الفسيل (1)

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن سفر الإمام إلى دمشق ، وعن مناظراته فيها.

ص: 326


1- مروج الذهب 2 / 309.

خرق معاوية شروط الصّلح

اشارة

ص: 327

ص: 328

والتزمت أغلب الأمم والشعوب على اختلاف عناصرها وأديانها بالوفاء بالعهود ، وتنفيذ الشروط ، وعدم مجافاتها لما تلتزم به ، وذلك حرصا منها على الروابط الاجتماعية ، وحفظا على النظام العام ، وقد اهتم الإسلام بهذه الناحية اهتماما بالغا فأكد رعاية العهود ، وضرورة الوفاء بها قال تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) (1) وقال تعالى : ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) (2) لقد دعا تعالى المسلمين - بهذه الآية - إلى أن يهبوا إلى نصرة إخوانهم في الدين وإلى الاشتراك معهم في عمليات الحروب إذا دعوهم إلى ذلك وقد استثنى تعالى المسلمين الذين بينهم وبين المشركين عهد وميثاق فانه لا يجوز لهم خرق ذلك الميثاق ، وذلك لما للعهود من الأهمية عند اللّه ، يقول الرسول صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم ، وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « المؤمن إذا وعد وفى » ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر :

« وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة ، أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت.

فانه ليس من فرائض اللّه شيء الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود.

وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استبلوا من عواقب الغدر. فلا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك ، ولا تختلن عدوك فانه لا يجترئ على اللّه إلا جاهل شقي. وقد جعل اللّه عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته ، وحريما يسكنون إلى منعته ، ويستفيضون إلى

ص: 329


1- سورة بني إسرائيل : آية 34.
2- سورة الأنفال : آية 72.

جواره .. ».

هذا هو موقف الإسلام تجاه المعاهدات والشروط فقد الزم بوفائها ورعايتها ، وحرم نكثها ، ولنرجع بعد هذا إلى اتفاقية الصلح التي تمت بين الإمام ومعاوية ، لنرى مدى الالتزام بها من الجانبين ، أما ما يخص الإمام الحسن (عليه السلام) من الشروط التي اشترطها معاوية عليه فانه لم يكن سوى شرط واحد وهو أن لا يخرج الإمام عليه ، وقد وفى له بذلك ، فقد خف إليه خلص شيعته بعد أن أعلن معاوية نقضه للشروط التي أعطاها للإمام ، فعرضوا عليه أن يخرج على معاوية ، ويناجزه فأبى (عليه السلام) أن ينقض ما أعطاه من العهد ، وبعد خروجه من الكوفة وشخوصه إلى يثرب جاءه زعماء شيعته فطلبوا منه مناجزة معاوية ، وضمنوا له احتلال الكوفة وإخلائها من عامل معاوية ، فامتنع (عليه السلام) من إجابتهم وأمرهم بالخلود الى الصبر - كما تقدم بيان ذلك -.

وأما ما يخص معاوية فانه قد خان بعهده ، وحنث بيمينه ، وكذب بمواعيده ، بالرغم من أنه الزم نفسه بالإيمان المغلظة والعهود المؤكدة على الوفاء بما أعطاه للإمام من شروط فقد جاء فى ختام المعاهدة بتوقيعه : « وعلى معاوية بن أبي سفيان ، عهد اللّه وميثاقه ، وما أخذ اللّه على أحد من خلقه بالوفاء ، وبما أعطى اللّه من نفسه. » فلم تمض أيام على امضاء المعاهدة حتى أعلن نقضها فقال أمام المسلمين : « الا ان كل شيء أعطيته للحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به! » يقول الحصين بن نمير : « ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه ، قتل حجرا وأصحاب حجر ، وبايع لابنه وسم الحسن. » (1).

ص: 330


1- شرح ابن ابي الحديد 4 / 16.

إن جميع ما شملته بنود المعاهدة من شرط قد نقضها « كسرى العرب » فلم يف بشيء منها ، وقد أسفر بذلك عن سياسته التي رفعت شعار الغدر ونكث الذمم ونقض العهود ، وفيما بلي الشروط التي نقضها ولم يف بها.

1 - سبه لأمير المؤمنين :

إذا مات الإنسان وجب أن تموت معه الحزازات ، وتنطوي معه الأحقاد ، وسائر المؤثرات ، وقد جرت سيرة الناس على ذلك منذ فجر التأريخ ، ولكن ابن هند قد جافى ذلك ، فقد أخذ بعد إبرام الصلح يعلن سب أمير المؤمنين علیه السلام ويبالغ فى انتقاصه ، لم يمنعه عنه أنه قد اشترط عليه تركه فى اتفاقية الصلح ، ولم يمنعه عنه انتقال الإمام إلى جوار اللّه ، وقد قيل :

واحترام الأموات حتم وإن كا

نوا بعادا فكيف بالقرباء (1)

لقد اندفع معاوية بجميع طاقاته وقواه إلى النيل من الإمام وإلى الحط من شأنه ، وقد سخّر جميع أجهزة دولته فى ذلك حتى جعل سب العترة الطاهرة سنة من سنن المسلمين يحتجون على تركها ، ويتنادون عليها ويأثمون على عدم أدائها.

ومما لا شبهة فيه أن سب أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما هو سب للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وانتقاص له فقد أثر عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « من سب عليا فقد سبني ، ومن سبني فقد سب اللّه » (2) وأثر عنه أنه قال : من آذى عليا فقد

ص: 331


1- ديوان الرصافى ص 589.
2- مستدرك الحاكم 3 / 121 ، ذخائر العقبى ص 66.

آذاني. » (1) وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ».

وتواترت الأخبار عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أن الإمام أخوه ، ووصيه ، وخليله وباب مدينة علمه ، ولو لا جهاده ودفاعه عن دين اللّه لما قام الإسلام ، وما عبد اللّه عابد ، ولا وحّده موحد ، وقديما قيل :

أعلى المنابر تعلنون بسبه *** وبسيفه نصبت لكم أعوادها

أما بواعث سبه ، فان معاوية علم أنه لا يستقيم له الأمر إلا بانتقاص الإمام والنيل منه وقد صرح بذلك مروان بن الحكم فقال :

« لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك - أي بسب علي - ». (2)

وعلى أي حال فان معاوية حينما رجع إلى دمشق بعد الصلح أمر بجمع الناس فقام فيهم خطيبا فقال :

« أيها الناس ، إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لي : إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فان فيها الأبدال ، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب .. ».

ص: 332


1- مسند الامام أحمد بن حنبل 3 / 483 ، أسد الغابة 4 / 113 » وجاء في مجمع الهيثمي 9 / 129 عن سعد بن أبي وقاص قال كنت جالسا في المسجد أنا ورجلين معي ، فنلنا من علي فأقبل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غضبان يعرف فى وجهه الغضب ، فتعوذت باللّه من غضبه ، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : مالكم ومالي؟ من آذى عليا فقد آذاني ، وفي ذخائر العقبى ص 65 عن عمرو بن شاس الأسلمي قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من أحب عليا فقد أحبني ، ومن أبغض عليا فقد أبغضني ، ومن آذى عليا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه ».
2- الصواعق المحرقة ص 33.

فأخذ الناس في لعنه وانتقاصه (1) ثم اتخذ سبه سنة جارية في خطب الجمعة والأعياد ، فكان يخطب على الناس ويقول في آخر خطبته :

« اللّهم إن أبا تراب ألحد في دينك وصد عن سبيلك ، فالعنه لعنا وبيلا وعذبه عذابا أليما » فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر (2) ثم كتب إلى جميع عماله وولاته بلعن أخي رسول اللّه وسيد هذه الأمة.

فانبرت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنونه ويبرءون منه (3)

ص: 333


1- شرح ابن أبي الحديد 3 / 361.
2- النصائح الكافية ص 72 نقله عن أبي عثمان الجاحظ فى كتاب « الرد على الإمامية ».
3- شرح ابن أبي الحديد 3 / 15 ومن الخير أن نذكر موقف أمير المؤمنين وولده الحسن من سب معاوية فقد جاء في شرح النهج 1 / 420 أن أمير المؤمنين 7 سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام صفين فنهرهم ونهاهم وقال لهم : « إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب فى القول وأبلغ فى العذر ، وقلتم مكان سبكم إياهم اللّهم احقن دماءنا ودماءهم واصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ». وأما موقف الإمام الحسن من سب معاوية فقد جاءه رسول معاوية فلما رأى الرسول هيبة الإمام وعظمته قال له : « أسأل اللّه أن يحفظك ويهلك هؤلاء القوم ». فنهره الإمام وقال له : « رفقا لا تخن من ائتمنك ، وحسبك أن تحبني لحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولأبي وأمى ، ومن الخيانة أن يثق بك قوم وأنت عدو لهم وتدعو عليهم » الملاحم والفتن ص 143.

وسار عماله على ذلك ، ومن أبى منهم عزله ، فقد عزل سعيد بن العاص عن إمارة يثرب لأنه امتنع من سب الإمام ، وجعل في مكانه مروان بن الحكم ، وقد بالغ هذا الوغد الخبيث في لعن الإمام وانتقاصه حتى امتنع الإمام الحسن (عليه السلام) من الحضور فى الجامع (1) وكان المغيرة بن شعبة يبالغ فى كثرة السب حتى لم يحص أحد كثرة سبه له (2) وكان زياد يحرض الناس على ذلك ، ومن أبى عرضه على السيف (3).

لقد بالغ الولاة في لعن الإمام حتى جعلوا سبه من أجزاء صلاة الجمعة وبلغ الحال أن بعضهم نسي اللعن في خطبة الجمعة فذكره وهو في السفر فقضاه ، وبنوا مسجدا سموه « مسجد الذكر » (4) وخطب هشام بن عبد الملك بعرفة فلم يتناول الإمام بسوء فانكر عليه عبد الملك بن الوليد قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب »

فقال له هشام : « ليس لهذا جئنا » (5) ولما ولي عبد الملك بن مروان جعل في طليعة مهامه سب أمير المؤمنين ، وتعميم لعنه على جميع الحضر الإسلامية ، وقد رمى بالفجور فى مجلسه ، وكان خالد بن عبد اللّه القسرى (6) وهو أحد ولاة الأمويين على مكة والعراق يجاهر في لعن

ص: 334


1- تطهير الجنان واللسان ص 142.
2- شرح ابن أبي الحديد 1 / 361.
3- المسعودي على هامش ابن الأثير 6 / 99.
4- مقتل الحسين للمقرم ص 198.
5- شرح ابن أبي الحديد 3 / 476.
6- خالد بن عبد اللّه القسري كان امير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك وكانت أمه نصرانية فبنى لها كنيسة تتعبد بها وفي ذلك يقول الفرزدق فى هجائه : ألا قبح الرحمن ظهر مطية *** أتتنا تهادى من دمشق بخالد وكيف يؤم الناس من كانت أمه *** تدين بأن اللّه ليس بواحد بنى بيعة فيها الصليب لأمه *** ويهدم من بغض منار المساجد وعزله هشام عن العراقين لأنه قد أكره امرأة مسلمة على الزنا ثم قتله في أيام الوليد ، جاء ذلك فى وفيات الأعيان 5 / 152 - 162 وقريب منه ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 10 / 20 والعجب من ابن حبان حيث عد هذا المجرم الأثيم من الثقات كما ذكر ذلك ابن حجر فى تهذيب التهذيب 3 / 101 قاتل اللّه العصبية فانها تلبس الباطل لباس الحق.

أمير المؤمنين والحسن والحسين فكان ينزو على المنبر ويقول :

« اللّهم العن علي بن ابي طالب بن عبد المطلب بن هاشم صهر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ابنته ، وأبا الحسن والحسين ».

ثم يلتفت إلى الناس ويقول لهم :

« هل كنيت؟ » (1).

وذكر الحافظ السيوطى أنه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين الف منبر يلعن عليها ابن أبي طالب (عليه السلام) وذلك بما سنه لهم معاوية ، وفي ذلك يقول العلامة أحمد حفظي مصطفى الشافعي في أرجوزته :

وقد حكى الشيخ السيوطي أنه *** قد كان فيما جعلوه سنة

سبعون الف منبر وعشرة *** من فوقهن يلعنون حيدرة

وهذه في جنبها العظائم *** تصغر بل توجه اللوائم (2)

ولما رأى سواد الناس والطبقة الواطئة في الشعب أن أحب شيء .

ص: 335


1- النصائح ص 80.
2- النصائح ص 79.

للسلطة الأموية وأقوى سبب للاتّصال بها سب أمير المؤمنين (عليه السلام) وانتقاصه أخذوا يتقربون إليها بذلك فقد أقبل بعض الأوغاد إلى الحجاج وهو رافع عقيرته قائلا :

« أيها الأمير ، إن أهلي عقوني فسموني عليا ، وإني فقير بائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج ».

فأنس الحجاج بذلك وتضاحك وقال له :

« للطف ما توصلت به فقد وليتك موضع كذ » (1).

لقد انتشر سب أمير المؤمنين ولعنه في جميع الأقطار الإسلامية سوى سجستان فانه لم يلعن على منابرها إلا مرة واحدة ولما أصر الأمويون على ذلك امتنعوا عليهم حتى أضطر الأمويون أخيرا إلى موافقتهم (2) وبذلك فقد حاز أهل سجستان الشرف والمجد وسجلت لهم هذه المأثرة بمداد من الشرف والنور.

وظل الأمويون مصرين على سب بطل الإسلام وحامى حوزته وقد بذلوا قصارى جهودهم فى نشر ذلك إلى أن جاء دور عمر بن عبد العزيز فمنع السب وكتب بالمنع إلى جميع عماله وولاته ، وأمر أن يجعل بدل اللعن فى خطبة الجمعة والأعياد قوله تعالى : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (3).

وقيل بل جعل مكان ذلك قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ

ص: 336


1- النصائح الكافية وشرح ابن أبي الحديد 1 / 356.
2- معجم البلدان.
3- سورة الحشر : آية 10.

وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (1).

وقيل بل جعلهما معا (2) وقد سجل بذلك مكرمة لا تنسى مدى الأجيال والأحقاب ، وقد مدحه شاعر العبقرية والنبوغ السيد الشريف الرضي رحمه اللّه على ذلك وشكر له هذه اليد البيضاء التي أسداها على عموم المسلمين فقال :

يا ابن عبد العزيز لو بكت الع

ين فتى من أمية لبكيتك

ص: 337


1- سورة النحل : آية 90.
2- الغدير 10 / 266 وذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج 1 / 356 ان عمر حدث عن السبب في تركه لسب أمير المؤمنين قال : كنت غلاما أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود فمر بي يوما وأنا العب مع الصبيان ونحن نلعن عليا فكره ذلك ودخل المسجد فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وردى فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة شبه المعرض عني حتى أحسست منه بذلك فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي فقلت له ما بال الشيخ؟ فقال لي أنت اللاعن عليا منذ اليوم؟ قلت نعم قال فمتى علمت أن اللّه سخط على أهل بدر بعد أن رضى عنهم؟ فقلت له يا أبت وهل كان علي من أهل بدر؟ فقال ويحك وهل كانت بدر كلها إلا له ، فقلت له لا أعود ، فقال باللّه عليك لا تعود فقلت له نعم وقال كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة وهو حينئذ أمير المدينة فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه حتى يأتي إلى لعن علي (عليه السلام) فيجمجم ويعرض له من الفهاهة والحصر ما اللّه عالم به ، فكنت أعجب من ذلك ، فقلت له يوما يا أبت أنت أفصح الناس ، وأخطبهم فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عييا ، فقال يا بني لو علم من تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد ، فقال عمر فوقرت كلمته فى صدري مع ما قال لي معلمي أيام صغرى فأعطيت اللّه عهدا لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأغيرنه فلما منّ اللّه علي بالخلافة اسقطت ذلك ، وجاء فى « الاسلام بين السنة والشيعة » ص 25 أن عمر بن عبد العزيز لما ألغى سب أمير المؤمنين خطب بعض الخطباء بجامع « حران » ولما ختم خطابه لم يسب أمير المؤمنين فتصايح الناس من كل جانب ويحك السنة السنة ، تركت السنة وذكرت بعض للصادر ان جميع الحضر الاسلامية تركت سب أمير المؤمنين بعد تحريم عمر بن عبد العزيز له سوى أهل حمص فإنهم أصروا على ذلك.

غير أني أقول إنك قد طب *** ت وإن لم يطب ولم يزك بيتك

أنت نزهتنا عن السب والقذ *** ف فلو أمكن الجزاء جزيتك

ولو اني رأيت قبرك لاستحيي *** ت من أن أرى وما حييتك

وقليل ان لو بزلت دماء ال *** بدن ضربا على الذرى وسقيتك

دير سمعان فيك مأوى أبي حفص *** فبودي لو أنني آويتك

دير سمعان لا أغبك غيث *** خير ميت من آل مروان ميتك (1) لقد قدم له السيد الشريف آيات الشكر والثناء بهذه الأبيات الرائعة وشكره على محوه لهذه البدعة التي أثبتت جاهلية معاوية ، ومروقه من الدين المنكرون ذلك :

وأثار سب الامام أمير المؤمنين سخط الأخيار والمتحرجين فى دينهم لأن الامام نفس النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخوه وأبو سبطيه ، وصاحب العناء فى الاسلام ، ولأن سب المسلم من أفحش المحرمات ، فقد أثر عن النبي أنه

ص: 338


1- شرح ابن أبي الحديد 1 / 357.

« سباب المسلم فسوق » (1) ، وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « لا يكون المؤمن لعانا » (2) الى غير ذلك من الأحاديث التي وردت عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فى تحريم سب المسلم وقذفه ، فلذا اندفعوا الى اعلان سخطهم والى الانكار عليه وعلى ولاته ، ونسوق نص كلامهم في ذلك :

1 - سعد بن أبي وقاص :

وعزّ على سعد أن يسمع سب أمير المؤمنين وهو يعير ذلك أذنا صماء من دون أن ينكر عليه ، فقد ذكر المؤرخون ان معاوية بعد عام الصلح قصد بيت اللّه الحرام ، وبعد فراغه من الطواف توجه الى دار الندوة فلما استقرّ به المجالس شرع فى سبّ أمير المؤمنين فغضب سعد والتفت الى معاوية قائلا :

« يا معاوية أجلستني على سريرك ثم شرعت فى سبّ عليّ ، واللّه لان يكون فيّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، واللّه لأن أكون صهرا لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولي من الولد ما لعلي أحب إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس واللّه لأن يكون رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لي ما قال له فيه يوم خيبر : « لأعطين الراية غدا رجلا يحبه اللّه ورسوله ، ويحب اللّه ورسوله ليس بفرّار ، يفتح اللّه على يديه » أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، واللّه لأن يكون رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لي ما قال له فى غزوة تبوك : « ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، وأيم اللّه

ص: 339


1- الترغيب والترهيب 3 / 394 ، وفيض القدير 4 / 84.
2- صحيح الترمذي.

ما دخلت لك دارا ما بقيت ، ثم نهض وهو غضبان ثائر » (1).

2 - السيدة أم سلمة :

وكانت السيدة أم سلمة عالمة بمنزلة أمير المؤمنين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولما له من المنزلة الكريمة عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولما رأت أن معاوية يسبه علانية وجهرا اندفعت الى انكار ذلك وقد رفعت الى معاوية مذكرة جاء فيها : « إنكم تعلنون اللّه ورسوله على منابركم ، وذلك أنكم تلعنون علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومن أحبه ، وأنا أشهد أن اللّه أحبه ورسوله ».

ولكن انكارها لم يجد شيئا فقد بقي معاوية مصرّا على غيه وإثمه (2).

3 - عبد اللّه بن عباس :

واجتاز حبر الأمّة عبد اللّه بن عباس على قوم يسبون أمير المؤمنين فقال لقائده : ادنني منهم فأدناه ، فانبرى إليهم وقد قدّ قلبه قائلا لهم بنبرات تقطر غضبا وألما :

- أيّكم الساب رسول اللّه؟

- نعوذ باللّه أن نسب رسول اللّه!!

- أيّكم الساب علي بن أبي طالب!

ص: 340


1- مروج الذهب 2 / 317 ، وذكره ابن كثير فى تاريخه ، ومسلم فى صحيحه ، والترمذي في صحيحه مع اختلاف يسير بين الروايات ، وذكر المسعودي جواب معاوية لسعد ما يقبح التصريح به رأينا من المناسب تركه.
2- العقد الفريد 3 / 127 ، وجاء فى مستدرك الصحيحين 1 / 121. عن أبي عبد اللّه الجدلي قال : دخلت على أم سلمة فقالت لي : أيسب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيكم؟ فقلت : معاذ اللّه ، أو سبحان اللّه ، أو كلمة نحوها فقالت : سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : من سبّ عليا فقد سبني.

- أما هذه فنعم.

- أشهد لقد سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : « من سبني فقد سبّ اللّه ومن سبّ علي بن أبي طالب فقد سبني ».

فأطرقوا برءوسهم الى الأرض خجلا لا يطيقون جوابا ثم تركهم وانصرف وقد ترك الحزن يحز في نفوسهم والتفت الى قائده فقال له :

« كيف رأيتهم؟ »

فأجابه وهو جذلان بما فعله بهؤلاء المجرمين قائلا :

نظروا إليك بأعين محمرة *** نظر التيوس الى شفار الجازر

فأنس ابن عباس وقال له : زدني فداك أبي وأمي!؟

خزر العيون منكسي أذقانهم *** نظر الذليل الى العزيز القاهر

- زدني فداك أبي وأمي!؟

- ما عندي مزيد ، ولكن عندي :

أحياؤهم تجني على أمواتهم *** والميتون فضيحة للغابر (1)

وجرت محاورة بين ابن عباس وبين معاوية ، وهي تكشف عن الخطط الرهيبة التي سلكها معاوية في اخفاء مآثر الامام وفى حجب مناقبه وفضائله ، نسوق نصها لما لها من الأهمية البالغة ، فقد ذكر المؤرخون ان معاوية بعد عام الصلح حج بيت اللّه الحرام فاجتاز على جماعة من قريش فقاموا إليه سوى ابن عباس ، فبادره معاوية قائلا :

- يا ابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلا لموجدة علي بقتالي إياكم يوم صفين؟ يا ابن عباس ، إن ابن عمي عثمان قتل مظلوما.

- فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما ، فسلم الأمر الى ولده ، وهذا

ص: 341


1- مروج الذهب 2 / 299 ، الرياض النضرة 2 / 166.

ابنه - وأشار الى عبد اللّه بن عمر -.

- إن عمر قتله مشرك.

- فمن قتل عثمان؟

- قتله المسلمون.

- فذلك أدحض لحجتك ، إن كان المسلمون قتلوه ، وخذلوه فليس إلا بحق!!

- فانا كتبنا الى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته ، فكف لسانك يا ابن عباس.

- فتنهانا عن قراءة القرآن؟

- لا.

- فتنهانا عن تأويله؟

- نعم.

- فنقرأه ، ولا نسأل عما عنى اللّه به؟

- نعم.

- فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

- العمل به.

- فكيف نعمل به ، حتى نعلم ما عنى اللّه بما أنزل علينا؟

- سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.

- إنما أنزل القرآن على أهل بيتي ، فاسأل عنه آل أبي سفيان ، وآل أبي معيط؟؟

- فاقرءوا القرآن ، ولا ترووا شيئا مما أنزل اللّه فيكم ، ومما قال رسول اللّه ، وارووا ما سوى ذلك.

ص: 342

- قال اللّه تعالى « يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفوافهم ، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ».

- يا ابن عباس اكفني نفسك ، وكفّ عني لسانك ، وإن كنت فاعلا فليكن سرا ، ولا تسمعه أحدا علانية (1).

ودلت هذه المحاورة على عمق الأساليب التي اعتمد عليها معاوية فى محاربة أهل البيت ، وفي ستر فضائلهم ، وحجب المسلمين عنهم.

4 - الأحنف بن قيس :

ودخل الأحنف بن قيس على معاوية فلما استقر به المجالس قام وغد أثيم من الشاميين خطيبا فافتتح خطابه بسب أمير المؤمنين وثقل ذلك على الأحنف ، فالتفت الى معاوية وقد اسودّ الفضاء فى وجهه مما داخله من الحزن قائلا :

« إن هذا القائل لو يعلم أن رضاك فى لعن المرسلين لعنهم ، فاتق اللّه يا معاوية ، ودع عنك عليا فلقد لقى ربه ، وأفرد بقبره ، وخلي بعمله كان واللّه مبرورا فى سبقه - أي الى الإسلام - طاهر الثوب ، ميمون النقيبة ، عظيم المصيبة ».

فالتاع معاوية من هذا التقريع ، وتألم من هذا الثناء العاطر على أمير المؤمنين أمام أهل الشام ، فالتفت الى الأحنف قائلا :

« يا أحنف. لقد أغضيت العين على القذى وقلت ما ترى ، أما واللّه لتصعدن المنبر وتلعن عليا كرها أو طوعا ».

فقال له الأحنف : إن تعفنى فهو خير لك ، وإن تجبرني على ذلك فو اللّه لا تجري شفتاي به أبدا.

ص: 343


1- شرح النهج ابن ابى الحديد 3 / 15 ، وسليم بن قيس.

فلم يعتن معاوية بكلامه وقال له بشدة :

« قم فاصعد المنبر ».

- أما واللّه لأنصفنك فى القول والفعل.

- وما أنت قائل إن أنصفتني؟!

- أصعد المنبر فأحمد اللّه وأثني عليه ، وأصلي على نبيه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم أقول أيها الناس ، إن أمير المؤمنين معاوية أمر أن العن عليا ، وإن عليا ومعاوية اختلفا واقتتلا فادعا كل واحد منهما أنه بغي عليه وعلى فئته ، فاذا دعوت فأمنوا رحمكم اللّه ، ثم أقول اللّهم العن أنت وملائكتك وأنبيائك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه ، والعن الفئة الباغية ، اللّهم ألعنهم لعنا كثيرا ، أمنوا رحمكم اللّه ، يا معاوية لا ازيد على هذا ولا انقص حرفا ، ولو كان فيه ذهاب روحي.

فراوغ معاوية وقال : « إذا نعفيك يا أبا بحر » (1). 5 - كثير بن كثير :

ومن جملة المنكرين لسب الإمام الشاعر العبقري كثير بن كثير السهمي (2)

ص: 344


1- العقد الفريد 2 / 144 ، المستطرف 1 / 54 ، ثمرات الأوراق ص 59.
2- كثير بن كثير بن المطلب بن ابي وداعة القرشي السهمي ، روى عن ابيه وعن سعيد بن جبير وجماعة ، وروى عنه جماعة آخرون ، قال ابن سعد كان شاعرا قليل الحديث ، وقال احمد وابن معين إنه ثقة ، وذكره ابن حبان فى الثقات ، جاء ذلك فى تهذيب التهذيب 8 / 426. وذكره المرزباني في معجم الشعراء 2 / 348 وقال إن السبب في نظمه لهذه الأبيات انه سمع عبد اللّه بن الزبير يتناول اهل البيت فنظمها ، وقيل إن السبب في نظمها ان هشام بن عبد الملك كتب الى عامله بالمدينة أن يأخذ الناس بسب امير المؤمنين فمن اجل ذلك نظم كثير هذه الأبيات. وذكر ابن أبي الحديد هذه الأبيات ونسبها الى عبد اللّه بن كثير السهمي وهو اشتباه إذ لم يوجد في كتب التراجم هذا الاسم ، والموجود كثير بن كثير ، وان هذه الأبيات له.

فقد دفعته عقيدته الدينية وشعوره الحي الى شجب ذلك ، واعلان سخطه وقد نظم ذلك بأبيات تمثلت فيها الروعة والرقة :

لعن اللّه من يسب عليا *** وحسينا من سوقة وإمام

أيسب المطهرون جدودا *** والكرام الأخوال والأعمام

يأمن الطير والحمام ولا *** يأمن آل الرسول عند المقام

طبت بيتا وطاب أهلك أهلا *** أهل بيت النبي والإسلام

رحمة اللّه والسلام عليهم *** كلما قام قائم بسلام (1)

6 - أنيس الأنصاري :

ولما أقام معاوية الخطباء يعلنون سب أمير المؤمنين (عليه السلام) وانتقاصه اندفع أنيس الأنصاري وهو من أطائب الصحابة ، فأنكر على معاوية ذلك فقد خطب ، وقال بعد حمد اللّه والثناء عليه :

« إنكم قد أكثرتم اليوم في سب هذا الرجل - يعني عليا - وشتمه وإني أقسم باللّه إني سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : « إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على الأرض من مدر وشجر » ، وأقسم باللّه ما أحد أوصل لرحمه منه ، أفترون شفاعته تصل إليكم وتعجز عن أهل بيته » (2).

7 - زيد بن أرقم :

ورأى الصحابي زيد بن أرقم المغيرة بن شعبة يعلن سب أمير المؤمنين

ص: 345


1- شرح ابن أبي الحديد 3 / 475.
2- الاصابة 1 / 89 ، أسد الغابة 1 / 134.

فانبرى إليه منكرا سبه للإمام قائلا :

« يا مغيرة ، ألم تعلم أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نهى عن سب الأموات؟

فلم تسب عليا وقد مات؟ » (1).

8 - أبو بكرة :

وخطب بسر بن أبي ارطاة الأثيم المجرم في البصرة فشتم أمير المؤمنين علیه السلام على المنبر ، ثم التفت الى الناس فقال لهم :

« ناشدت اللّه رجلا علم أني صادق إلا صدقني أو كاذب إلا كذبني ».

فقال أبو بكرة :

« اللّهم لا نعلمك إلا كاذبا!! ».

فطاش عقل بسر وأمر بأبي بكرة فخنق ثم أنقذوه منه (2).

وعلى أي حال ، فإن هؤلاء الناقمين على معاوية كانوا مدفوعين بدافع الحرص على كرامة الإسلام المتمثلة في الإمام أمير المؤمنين ، فقد رأوا أن معاوية قد عمد الى إبادة مآثر الإمام ، فاندفعوا الى الإنكار عليه.

لقد حاول معاوية وأتباعه القضاء على أمير المؤمنين ، وتحطيم شخصيته الرفيعة ، ولكن اللّه بارادته الأزلية قد حكم ببقاء الحق وخلوده. وبزوال الباطل وانعدامه ، وإنه وإن انتصر على الحق زمانا ، فان انتصاره لا بد أن يتلاشى كما يتلاشى الدخان في الفضاء ، فها هو أمير المؤمنين قد استوعب ذكره جميع لغات الأرض ، وعجت المحافل والنوادي بذكره ومدحه ، وبالافتخار والاعتزاز بشخصيته المقدسة ، وها هو قبره الشريف قد أصبح كعبة للوافدين وملجأ للملهوفين ، وملاذا للمؤمنين ، تؤمه الملايين من المسلمين

ص: 346


1- الأغاني 6 / 2 ، شرح ابن أبي الحديد 1 / 360.
2- الطبري 6 / 96.

كما تؤم بيت اللّه الحرام يتبركون بزيارته ، ويتقربون الى اللّه بالوفادة عليه حقا هذا هو الظفر والفتح ، والعاقبة للمتقين.

وها هو معاوية لا يذكر إلا مع الاحتقار والاستخفاف وسوء المصير ووخز الضمير ، وها هو قبره المحطم في مزبلة من مزابل الشام قد استولى عليه الهوان ، وخيّم عليه الذل ، حقا هذه هي الميتة ، وهذا هو الخزي والعار.

وقد وقف الشاعر الكبير محمد مجذوب السوري على قبر معاوية ، فرأى قذارة ذلك القبر المهان ، ورأى الذباب تعربد فيه ، فاندفع الى نظم قصيدته العصماء وقد جاء فيها :

هذا ضريحك لو بصرت ببؤسه *** لأسال مدمعك المصير الأسود

كتل من الترب المهين بخربة *** سكر الذباب بها فراح يعربد

خفيت معالمها على زوارها *** فكأنها في مجهل لا يقصد

ومشى بها ركب البلى فجدارها *** عار يكاد من الضراعة يسجد

والقبة الشماء نكّص طرفها *** فبكل جزء للفناء بها يد

تهمي السحائب من خلال شقوقها *** والريح في جنباتها تتردد

حتى المصلى مظلم فكأنه *** مذ كان لم يجتز به متعبد

لقد مشى موكب الزمن ، وإذا بالإمام أمير المؤمنين هو عملاق الإنسانية ورائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، وإذا بمعاوية قد عاد فى عرف المسلمين وغيرهم هو الباغي الأثيم الذي تلاحقه النقمة والاحتقار.

2 - خراج دارابجرد :

ومن جملة الشروط التي اشترطها الإمام على معاوية أن يعطيه خراج دارابجرد ليرفه بذلك على الفقراء والمعوزين من شيعته ، ولكن معاوية قد

ص: 347

خاس بذلك ولم يف به كما صرح بذلك أبو الفداء. وذكر الطبري ان أهل البصرة حالوا بين الإمام وبين خراج دارابجرد. ونص ابن الأثير ان منعهم كان بايعاز من معاوية ، والغرض منه لئلا تقوى شوكة الإمام ويعظم أمره.

3 - شيعة أمير المؤمنين :

اشارة

ومن أهم الشروط التي اشترطها الإمام على خصمه الأمن العام لشيعته وشيعة أبيه وعدم التعرض لهم بسوء أو مكروه ولكن ابن أبي سفيان قد نقض عهده فلم يف للإمام بذلك ، وجعل أهم أهدافه القضاء على هذه الطبقة المؤمنة التي آمنت بحق أهل البيت (عليهم السلام) ، لقد أسرف معاوية فى ارهابها وارهاقها ، فأذاق بعضها كأس الحمام ، وأودع البعض الآخر فى ظلمات السجون ، وقد وجد الشيعة من العناء والمحن والخطوب ما تنوء بحمله الجبال ، وما نحسب أن أمّة من الأمم لاقت من الأذى والاضطهاد كما لاقته شيعة أهل البيت ، وكان أشدهم بلاء وأعظمهم محنة وشقاء أهل الكوفة ، فقد استعمل عليهم معاوية زيادا بعد هلاك المغيرة ، وكان بهم عالما ، فأشاع فيهم القتل والاعدام ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل عيونهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وشردهم وطردهم (1) ، ورفع معاوية مذكرة الى جميع عماله وولاته جاء فيها : « انظروا الى من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه » ، ثم شفع ذلك بنسخة أخرى جاء فيها : « ومن اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به وأهدموا داره ».

ص: 348


1- شرح ابن أبي الحديد 3 / 15.

وتحدث الامام الباقر (عليه السلام) عما جرى على أهل البيت وعلى شيعتهم من الاضطهاد والأذى في زمن معاوية فقال : « وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره » (1).

انه منذ ولي الأمر ابن هند انفتح باب الظلم والجور على شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) فلقد جابهوا من المشكلات السياسية والمعضلات الاجتماعية ولاقوا من الهوان والعذاب والتنكيل الى حد لا سبيل الى تصويره في فضاعته ومرارته ، فقد بلغ الحال أن حب أهل البيت (عليهم السلام) أصبح عارا ومنقصة أو ذنبا وخطيئة يقترفها الشخص ، وحكم بعضهم أن مودة أهل البيت كفر والحاد ومروق من الدين ، وقد حكى لنا ذلك شاعر الإسلام والعقيدة الكميت بقوله :

يشيرون بالأيدي إلي وقولهم *** ألا خاب هذا والمشيرون أخيب

فطائفة قد كفرتني بحبكم *** وطائفة قالوا مسيء ومذنب

يعيبونني من خبهم (2) وضلالهم *** على حبكم بل يسخرون وأعجب

وقالوا ترابي هواه ورأيه *** بذلك أدعى فيهم وألقب (3)

ويقول أبو الأسود الدؤلي :

أحب محمدا حبا شديدا *** وعباسا وحمزة والوصيا (4)

هوى أعطيته منذ استدارت *** رحى الإسلام لم يعدل سويا (5)

ص: 349


1- نفس المصدر.
2- الخب : الخداع.
3- الهاشميات.
4- الوصي : هو الإمام أمير المؤمنين.
5- أي لا مثيل له.

بنو عم النبي وأقربوه *** أحب الناس كلهم إليّا

فان يك حبهم رشدا أصبه *** ولست بمخطئ إن كان غيا (1)

ويرد عبد اللّه بن كثير السهمي على من عابه على موالاة آل النبيّ صلی اللّه علیه و آله بقوله :

إن امرأ أمست معايبه *** حب النبي لغير ذي ذنب

وبني أبي حسن ووالدهم *** من طاب فى الأرحام والصلب

أيعد ذنبا أن أحبهم!!

بل حبهم كفارة الذنب (2)

وقد سار على منهاج معاوية فى ظلم الشيعة واحتقارهم خلفاؤه الأمويون وملوك بني العباس من بعدهم ، ولو أردنا أن نستعرض الى ما لاقوه من المحن والخطوب السود لاحتجنا فى بيان ذلك الى مجلد ضخم.

ومهما يكن من شيء فان الشيعة لم يعتنوا بارهاب معاوية وتنكيله وتعذيبه لهم ، فقد قدموا أنفسهم قرابين وضحايا لفكرتهم الدينية المقدسة وها نحن نقدم أسماء بعض الشهداء الذين قتلهم معاوية صبرا لا لذنب اقترفوه ، سوى مودتهم لأهل البيت وهم :

حجر بن عدي :

وحجر بن عدي من أهم الشخصيات الإسلامية الرفيعة فقد كان في طليعة صحابة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فضله وعلمه وقداسته وزهده وعبادته ، فقد بلغ من عظيم طاعته الى اللّه انه ما أحدث إلا توضأ وما توضأ إلا صلى ، وكان يصلي فى اليوم والليلة الف ركعة ، وكان مستجاب الدعوة فانه لما

ص: 350


1- الكامل للمبرد ص 545.
2- البيان والتبيين 3 / 360.

أخذ اسيرا الى معاوية اصابته جنابة في أثناء الطريق فقال للموكل به : اعطني شرابي اتطهر به ، فأجابه الموكل به : اخاف ان تموت عطشا إذا اعطيته لك فيقتلني معاوية ، فشقّ على حجر أن يبقى جنبا ، فدعا اللّه ان يمكنه من الماء ، فاستجاب اللّه دعاءه ، فبعث سحابة اسكبت ماء غزيرا ، فأخذ منه ما احتاجه (1) ، إن فضائل حجر ومآثره أكثر من أن تحصى وعلينا ان نبحث عن سبب شهادته :

بقي حجر بعد صلح الإمام الحسن (عليه السلام) ينسج من حيوط محنته بلواه الخالدة فى التأريخ ، ويضرب الرقم القياسي لنكران السياسة الأموية العمياء التي تهدد المجتمع الإسلامى بفقدان الحياة والتي تحيي العصبيات الجاهلية التي حطمها الإسلام ، وتهدم الكفاءات والمواهب ، وتحتكر الصلاحيات وتنتهب الأقوات ، وتروع المجتمع بعد أمنه وتفرقه بعد اجتماعه ، وتفقره بعد غناه ، وتذله بعد عزه ، وتستعبده بعد حريته ، وتتجاهر بارتكاب الباطل والمنكر ، وقد رأى حجر واصحابه الصفوة المؤمنون أن السكوت وعدم النقد لهذه السياسة المجرمة ما هو إلا التمادي فى الباطل ، والتعزيز للمنكر والاستهانة بالحق ، وعلى المسلم الذي فهم الإسلام حقا أن يسير على سنّة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الداعية الى مناجزة الظالمين والمستبدين وأعداء الشعوب.

ان حجرا هو الذي فهم الإسلام حقا ، وعرف اهدافه ، واحاط بقيمه كان تلميذا فى مدرسة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخريجا من مدرسة الإمام ، فكيف لا ينكر باطل معاوية ، ولا يقاوم ظلمه وظلم ولاته وعماله ، ولا يحارب بدعهم وأهواءهم.

ص: 351


1- الاصابة 1 / 313.

لقد رأى حجر المغيرة قد نزى على المنبر بجامع الكوفة وتعرض فى أثناء خطابه الى سب أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يسعه السكوت فانبرى إليه منكرا عليه قائلا : « كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل ، ومن تزكون اولى بالذم ... »

ووثب قوم من أصحاب حجر فقالوا بمثل مقالته فالتفت المغيرة الى حجر قائلا : « يا حجر لقد رمى بسهمك إذ كنت أنا الوالي عليك يا حجر اتّق غضب السلطان اتّق غضبه وسطوته ، فإن غضبة السلطان مما تهلك أمثالك كثيرا .. »

ولم يزل حجر متحمسا على نكران السياسة الأموية ، حتى أشار على المغيرة جمع من المرتزقين والمتزلفين الى السلطة بقتل حجر ، فامتنع من اجابتهم وقال :

« لا أحب أن يبتدأ أهل هذا المصر بقتل خيارهم ، وسفك دمائهم فيسعدوا بذلك ، وأشقى ، ويعز في الدنيا معاوية ، ويذل يوم القيامة المغيرة ».

ولم تزل بطانة المغيرة تلح عليه في أمر حجر ، فأجابهم جواب المنافق الخبير :

« إني قد قتلته ».

« كيف ذاك؟ .. »

« إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه يصنع بي فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة .. »

وهلك المغيرة ، وولي الكوفة من بعده زياد بن سمية فجعل حجر

ينكر عليه خططه الملتوية ، ويشدد النقمة على سياسته الإرهابية ، فقد نزى زياد على المنبر يوم الجمعة فأطال في خطابه حتى ضاق وقت الصلاة

ص: 352

فانبرى إليه حجر منكرا عليه تأخير الفريضة قائلا :

« الصلاة ».

فلم يعتن ابن سمية بمقالة حجر ولم يعر للصلاة أي اهتمام ثم مضى في خطبته ، فانبرى إليه حجر ثانيا رافعا صوته « الصلاة » ولم يقم زياد وزنا لإنكار حجر ، فاسترسل في خطابه فخشى حجر فوت الصلاة ، فضرب بيده الى كف من الحصا ، وثار الناس معه ، فلما رأى ذلك زياد نزل عن المنبر وصلى بالناس ، وقد انتفخت أوداجه غيظا وغضبا من حجر ، وعزم على التنكيل به ، وقد اعرب عن عزمه السيئ فى خطابه الذي ألقاه فى الجامع قائلا فيه :

« ما انا بشيء إن لم أمنع ساحة الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده ، ويل أمّك يا حجر « سقط العشاء بك على سرحان » ثم تمثل بقول الشاعر :

ابلغ نصيحة أن راعي ابلها

سقط العشاء به على سرحان

وأرسل زياد الى جماعة من وجوه الكوفة وأشرافها فأمرهم أن يردوا حجرا عن خطته ، فامتنع عليهم حجر ، وأخيرا أمر الشرطة أن يأتوه به فانطلقت الشرطة للقبض عليه ، فحدثت بينهم وبين أصحابه مناوشات ، وأخيرا لم تستطع القبض عليه ، فقد التفت حوله جموع من المؤمنين تمنعه وتمنع أصحابه من تسليمهم الى زياد ، وكان قيس بن فهدان الكندي يلهب نار الحماس والثورة فى نفوس الكوفيين فكان يقوم خطيبا فى المحافل والنوادي فيمجد حجرا وأصحابه ويدعو المسلمين الى حمايته ونصرته وكان يرتجز ويقول :

يا قوم حجر دافعوا وصاولوا *** وعن أخيكم ساعة فقاتلوا

لا يلقين منكم لحجر خاذل *** أليس فيكم رامح ونابل

ص: 353

وفارس مستلئم وراجل *** وضارب بالسيف لا يزايل

وتحصن حجر وأصحابه فلم يتمكن عليهم زياد فخاف منهم فجمع الزعماء وأبناء البيوت الذين تستعين بهم السلطة على تحقيق أهدافها فقال لهم :

« يا أهل الكوفة ، أتشجون بيد ، وتأسون بأخرى ، أبدانكم معي وأهواءكم مع حجر الهجهاجة ، الأحمق المذبوب ، انتم معي وإخوانكم وأبناؤكم وعشائركم مع حجر ، هذا واللّه من دحسكم (1) وغشكم واللّه لتظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم » (2).

فانبروا إليه يظاهرون له الطاعة والولاء قائلين : « معاذ اللّه سبحانه أن يكون لنا فيما هاهنا رأى إلا طاعتك وطاعة أمير المؤمنين - يعني معاوية - وكل ما ظننا أن فيه رضاك وما يستبين به طاعتنا وخلافنا لحجر فمرنا به ».

فقال لهم : « فليقم كل امرئ منكم الى هذه الجماعة حول حجر فليدع كل رجل منكم اخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته حتى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه ... »

وقام هؤلاء الأجلاف بافساد أمر حجر وخذلان الناس عنه وأمر زياد مدير شرطته العام شداد بن الهيثم الهلالي بالقبض على حجر وأصحابه ثم عرف أن مدير شرطته لا يتمكن عليه فاستدعا محمد بن الأشعث الكندي (3)

ص: 354


1- الدحس : الافساد.
2- الصعر : الميل الى احد الشقين.
3- محمد بن الأشعث بن قيس الكندي الكوفي أمّه فروة أخت أبي بكر قيل ولد على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذا لا يصح لأن الأشعث تزوج بفروة في خلافة أبي بكر ، ولاّه ابن الزبير الموصل ، وقتله المختار سنة 66 ، وقيل سنة 70 جاء ذلك في تهذيب التهذيب 9 / 64.

فقال له :

« يا أبا ميثاء أما واللّه لتأتيني بحجر ، أو لا أدع لك نخلة إلا قطعتها ولا دارا إلا هدمتها ثم لا تسلم حتى أقطعك إربا إربا ».

« أمهلني ثلاثا حتى أطلبه ».

« أمهلتك فان جئت به وإلا عد نفسك من الهلكى ».

وقام ابن الأشعث مع مدير الشرطة فتتبعوا حجرا واصحابه وبعد مصادمات عنيفة جرت بين الفريقين استطاعت جلاوزة زياد القبض على حجر واصحابه فجيء بهم إليه فأمر بايداعهم فى السجن.

وطلب زياد من اهل الكوفة ان يشهدوا على حجر واصحابه ، فشهد قوم بأنهم تولوا عليا ، وعابوا عثمان ، ونالوا من معاوية ، فلم يرض زياد بهذه الشهادة وقال : إنها غير قاطعة ، فانبرى ابو بردة بن ابي موسى الأشعري الوغد فكتب شهادة هذا نصها :

« هذا ما شهد عليه ابو بردة بن أبي موسى الأشعري لله رب العالمين اشهد ان حجر بن عدي خلع الطاعة ، وفارق الجماعة ، ولعن الخليفة ، ودعا الى الحرب ، وجمع إليه الجموع يدعوهم الى نكث البيعة وكفر باللّه عز وجل كفرة صلعاء ».

فرضى زياد بهذا وطلب الى الناس ان يمضوا هذه الشهادة فأمضاها خلق كثير حتى بلغ الشهود سبعين رجلا فيما قال المؤرخون : ورفع الوثيقة الى معاوية ، فأمره بأن يحمله إليه ويشده موثوقا بالحديد ، وامر زياد باخراج حجر واصحابه ليلا الى دمشق ، فاخرجوا ، ووقعت النياحة ، وعلا الصراخ المؤلم في دار حجر ، وصعدت ابنته ولا عقب له غيرها فوق سطح الدار تلقي على القافلة - التي تسير الى الموت - نظرة الوداع وهي تبكي أمر

ص: 355

البكاء واشجاه ، واخذت تناجي القمر وتبثّه احزانها ولوعتها وتصوغ من محنتها وبلواها ومصابها ابياتا يلمس فيها ذوب قلبها :

ترفع أيها القمر المنير *** لعلك أن ترى حجرا يسير

يسير الى معاوية بن حرب *** ليقتله كذا زعم الأمير

ويصلبه على بابي دمشق *** وتأكل من محاسنه الطيور

تجبرت الجبابر بعد حجر *** وطاب لها الخورنق والسدير (1)

الا يا حجر حجر بني عدي *** تلقتك السلامة والسرور

اخاف عليك ما اردى عليا *** وشيخا فى دمشق له زئير

الا يا ليت حجرا مات موتا *** ولم ينحر كما نحر البعير

فان تهلك فكل عميد قوم *** الى هلك من الدنيا يصير (2)

وانتهت القافلة الى مرج عذراء فلما عرف حجر انه بهذه القرية قال : « واللّه اني لأول مسلم نبحته كلابها ، واول مسلم كبر بواديها » (3) ، وتقدم البريد بأخبارهم الى معاوية ، فأنس وارتاح بذلك ، فأرسل إليهم رجلا

ص: 356


1- الخورنق والسدير : قصران يقعان بالقرب من الحيرة بناهما النعمان ابن امرئ القيس ، ويقال : ان السبب فى بنائهما ان يزدجرد بن سابور كان لا يعيش له ولد فسأل عن مكان صحيح الهواء فذكروا له ظهر الحيرة ، فدفع ابنه بهرام الى النعمان وامره ببناء الخورنق فبناه في عشرين سنة ، وكان الباني له رجل يسمى سنمار جاء ذلك في نهاية الارب 1 / 372.
2- مروج الذهب 2 / 307 ، وقيل ان الأبيات الى هند بنت زيد الأنصارية ترثي بها حجرا ، وكانت تتشيع.
3- الكامل 3 / 192 ، وذكر ابن حجر في الاصابة ان حجرا هو الذي فتح مرج عذراء واخيرا كانت شهادته بها.

اعور فأمره باعدامهم إن لم يتبرّءوا من أمير المؤمنين ويسبوه ، فلما قدم عليهم رآه بعضهم فقال متنبئا :

« ان صدق الزجر (1) فانه سيقتل منا النصف وينجو الباقون ».

« وكيف ذاك!!؟ »

« أما ترون الرجل المقبل مصابا بإحدى عينيه؟ »

وقدم عليهم الجلاد فالتفت الى حجر قائلا :

« إن أمير المؤمنين أمرني بقتلك يا رأس الضلال ، ومعدن الكفر والطغيان ، والمتولي لأبي تراب ، وقتل أصحابك إلا ان ترجعوا عن كفركم وتلعنوا صاحبكم وتتبرءوا منه ».

فانبرى إليه حجر مع الزمرة الصالحة التي آمنت بايمانه وهم يضربون أمثلة للعقيدة وللفداء في سبيل اللّه قائلين بلسان واحد :

« إن الصبر على حدّ السيف لأيسر علينا مما تدعونا إليه ثم القدوم على اللّه وعلى نبيه وعلى وصيه احب إلينا من دخول النار ».

ورجع نصف من اصحاب حجر عن عقيدتهم والنصف الآخر بقوا على عقيدتهم وولائهم لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وصدق زجر من قال منهم انه يقتل منهم النصف ، ثم حفرت قبورهم وقام الجلادون لتنفيذ حكم الاعدام فيهم فطلب منهم حجر حاجة - قبل تنفيذ اعدامه - غالية عنده رخيصة عند القوم قائلا :

« اتركوني أتوضأ واصلي ، فأني ما توضأت إلا صليت ».

فسمحوا له بذلك فصلى حجر وأطال في صلاته وبعد الفراغ منها التفت الى القوم قائلا :

ص: 357


1- الزجر : الحدس.

« واللّه ما صليت صلاة أخف منها ولو لا أن تظنوا فيّ جزعا من الموت لاسكثرت منها ».

وأخذ يناجي ربه ويبثه شكواه واحزانه من هذه الأمّة التي اسلمته الى عدوه الماكر قائلا :

« اللّهم إنا نستعديك على امتنا فان اهل الكوفة شهدوا علينا وان اهل الشام يقتلوننا ، أما واللّه لئن قتلتموني بها فاني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها واول رجل من المسلمين نبحته كلابها ».

وانطلق إليه الخبيث الأعور هدبة بن فياض القضاعي شاهرا سيفه فلما رآه حجر ارتعدت اوصاله ، وخارت قواه فقالوا له :

« زعمت انك لا تجزع من الموت ، فابرأ من صاحبك وندعك!؟ »

فقال لهم حجر :

« وما لي لا اجزع وارى قبرا محفورا ، وكفنا منشورا ، وسيفا مشهورا ، وإني واللّه إن جزعت من القتل لا اقول ما يسخط الرب » (1).

ثم اجري عليه الاعدام فكان آخر ما انطلق من حنجرته :

لا تطلقوا عني حديدا ، ولا تغسلوا عني دما ، فاني ملاق معاوية على الجادة » (2) ، والقي حجر الى الأرض جثة هامدة يتخبط بدمه مع ستة من اصحابه الشهداء الأبرار ، ففي ذمة اللّه يا حجر أنت وأصحابك ، فقد مضيتم الى عالم الخلود وانتم شهداء العقيدة ، وشهداء الانسانية الكاملة فأنتم من اروع امثلة البطولة الفذة التي ثارت على الظلم والطغيان ، وقاومت جور الحاكمين واستبداد الطغاة الظالمين.

ص: 358


1- الكامل 3 / 192.
2- الاستيعاب 1 / 256.
ضحايا العقيدة من اصحاب حجر :

ولم يذق حجر الحمام ويقتل صبرا وحده فقد قتل معه ومن بعده جماعة من اصحابه المثاليين الذين ضحّوا بحياتهم الغالية تجاه عقيدتهم الدينية ، ومبدأهم المقدس غير مبالين بالموت ، وبهؤلاء وامثالهم من ابطال الخلود ، وعظماء العالم ترتكز العقائد ، ويستقيم الحق ، ويعم العدل ويزول الظلم ، وها نحن نذكر اسماءهم مع ما جرى عليهم من العسف والتنكيل من قبل معاوية وولاته :

أ - عبد الرحمن :

وكان عبد الرحمن بن حسان العنزي فى طليعة اصحاب حجر ، وأخذ معه مكبلا بالحديد الى مرج عذراء ، فطلب من الجلاوزة مواجهة معاوية لعله ان يعفو عنه فاستجابوا لقوله ، فجيء به إليه ، فلما مثل عنده قال له معاوية :

« إيه أخا ربيعة ، ما تقول في علي؟ »

- دعني ولا تسألني ، فهو خير لك!!

- واللّه لا ادعك.

- أشهد أنه كان من الذاكرين اللّه كثيرا ، والآمرين بالحق ، والقائمين بالقسط ، والعافين عن الناس.

ولم يجد معاوية بعد هذا وسيلة يستبيح بها اراقة دمه ، فعرج الى دم عثمان الذي بلى به المسلمون حيا وميتا فقال له :

- ما قولك فى عثمان؟.

- هو أول من فتح باب الظلم ، وارتج أبواب الحق.

ص: 359

- قتلت نفسك!!

- بل إياك قتلت ولا ربيعة بالوادي.

لقد ظن أن أسرته تتشفع به وتفك أسره ، وتدفع عنه ظلامته ، فلم يجبه أحد ، وأشاح معاوية بوجهه عنه ثم رفع رسالة الى عامله زياد جاء فيها :

« أما بعد : فان هذا العنزي شر من بعثته فعاقبه عقوبته التي هو أهلها وأقتله أشر قتلة ».

ولما وردت رسالته الى زياد بعث به الى قس الناطف (1) وأمر بدفنه حيا فيه فدفن وهو حي (2). ب - صيفي بن فسيل :

وصيفي بن فسيل الشيباني من أبطال المسلمين وعباقرتهم وأفذاذهم ومن خيرة أصحاب حجر سعى به الى زياد فبعث الدعي خلفه ، فلما حضر عنده بادره بالسؤال عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ليتخذ من ذلك وسيلة يستحل بها دمه فقال له بنبرات تقطر غيظا وغضبا.

- يا عدو اللّه!! ما تقول في أبي تراب؟

- ما أعرف أبا تراب.

- ما أعرفك به!!

- ما أعرفه ،

- أما تعرف علي بن أبي طالب؟

- بلى.

ص: 360


1- موضع قريب من الكوفة.
2- الطبري 6 / 155.

- فذاك أبو تراب.

- كلا ، ذاك أبو الحسن والحسين (عليهما السلام).

والتفت مدير شرطة زياد الى صيفي منكرا عليه مقاله ليتقرب الى ابن سمية قائلا :

« يقول لك الأمير : هو ابو تراب ، وتقول أنت : لا؟!! »

فنهره صيفي ورد عليه وهو غير معتن به ولا بأميره قائلا :

« وإن كذب الأمير أتريد أن اكذب وأشهد له على باطل كما شهد! »

فثار ابن سمية وانتفخت اوداجه غضبا ، فقال له :

« وهذا أيضا مع ذنبك ».

والتفت الى شرطته وهو مغيظ فقال لهم : « علي بالعصا » فأتى بها فالتفت الى صيفي :

« ما قولك؟ ».

فقال له بكل شجاعة وايمان :

« أحسن قول أنا قائله فى عبد من عباد اللّه المؤمنين. »

وأمر زياد جلاوزته بضرب عاتقه حتى يلصق بالأرض ، فبادروا إليه وضربوه ضربا عنيفا حتى وصل عاتقه الى الأرض ، ثم أمرهم بالكف عنه والتفت إليه :

« إيه ما قولك فى علي؟ »

وأصر بطل العقيدة على ايمانه فقال :

- واللّه لو شرحتني بالمواسي والمدى ما قلت إلا ما سمعت مني.

- لتلعننه أو لأضربن عنقك!

- إذا تضربها واللّه قبل ذلك فان أبيت إلا أن تضربها. رضيت

ص: 361

باللّه وشقيت أنت!

« ادفعوا في رقبته ».

ثم أمر به ثانيا أن يوقر في الحديد ويلقى فى ظلمات السجون (1) وأخيرا بعثه مع حجر فاستشهد معه في مرج عذراء. ج - قبيصة بن ربيعة :

ومن جملة أصحاب حجر الذين أرهقهم زياد قبيصة بن ربيعة العبسي فقد بعث إليه مدير شرطته شداد بن الهيثم فهجم عليه خفية فلما أحس به قبيصة أخذ سيفه ووقف للدفاع عن نفسه ولحق به فريق من قومه فقال مدير الشرطة الى قبيصة مخادعا :

« أنت آمن على دمك ومالك ، فلم تقتل نفسك؟ »

ولما سمع بذلك اصحابه انخدعوا فلم يحاموا عنه ولم ينقذوه لأن خوفهم من سلطة زياد كان اشد وقعا في نفوسهم من خطر الموت ، فاندفعوا قائلين :

« قد امنت فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك؟ »

ولم يذعن لمقالة اصحابه وذلك لعلمه بغدر الأمويين وعدم وفائهم بالعهد والوعد فقال لهم :

« ويحكم إن هذا الدعي ابن العاهرة ، واللّه لئن وقعت فى يده لا افلت ابدا أو يقتلني ».

- كلا.

ولما لم يجد بدا من ذلك وضع يده في ايديهم وأخذ اسيرا الى زياد فلما مثل عنده قال له :

« أما واللّه لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح الفتن والتوثب على الامراء »

ص: 362


1- الطبري 4 / 198 ، الكامل 3 / 139.

- إني لم آتك إلا على الأمان.

- انطلقوا به الى السجن (1).

لقد نقض زياد الأمان وخاس بالميثاق ، ثم أمر به أن يحمل مع حجر وأصحابه الى مرج عذراء ، فحمل معهم ، فلما انتهت قافلتهم الى جبانة ( عرزم ) وكانت فيها داره ، نظر إليها وإذا بناته قد أشرفن من أعلا الدار ينظرن إليه ، وهن يخمشن الوجوه ، ويخلطن الدموع بالدعاء ، قد أخذتهن المائقة ، ومزق الأسى قلوبهن ، فلما نظر الى ذلك المنظر الرهيب طلب من الشرطة الموكلة بخفارته أن يسمحوا له بالدنو من بناته ليوصيهن بما أراد ، فسمحوا له بذلك ، فلما دنا منهن علا صراخهن فأمرهن بالسكوت والخلود الى الصبر ، وأرضاهن بوصيته التي مثلت الإيمان والرضا بقضاء اللّه قائلا :

« اتقين اللّه عز وجل ، واصبرن ، فاني أرجو من ربي في وجهي هذا إحدى الحسنيين إما الشهادة وهي السعادة ، وإما الانصراف إليكن في عافية ، وإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مئونتكن هو اللّه تعالى ، وهو حي لا يموت ، أرجو أن لا يضيعكن ، وأن يحفظني فيكن ».

ثم ودعهن وانصرف ، ولما رأى من معه شجو بناته وما داخلهن من الفزع والمصاب رقّوا لهن ، ثم رفعوا أيديهم بالدعاء والابتهال الى اللّه تعالى طالبين منه العافية والسلامة الى قبيصة فانبرى إليهم قائلا :

« إنه لمما يعدل عندي خطر ما أنا فيه هلاك قومي حيث لا ينصرونني » (2).

ص: 363


1- تاريخ الطبري 6 / 149.
2- نفس المصدر.

أراد بذلك عدم نصرة قومه وخذلانهم له ، وان ذلك أشد وقعا على نفسه من هلاكه ، وسار قبيصة مع حجر الى مرج عذراء فاستشهد معه ، وأما بقية اصحاب حجر الذين استشهدوا معه فلم نعثر على معلومات وافية عنهم ، ونشير الى أسمائهم وهم : شريك بن شداد الحضرمي. كدام بن حيان العنزي. محرز بن شهاب التميمي.

وهؤلاء الحماة الذين قدموا نفوسهم ضحايا للعقيدة ، وقرابين للحق

كانوا من خيار المسلمين ومن صالحائهم ، قد ساقتهم السلطة الأموية الى ساحة الإعدام ، فاستباحت دماءهم ، لا لذنب اقترفوه ، سوى مودتهم للعترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم في لزوم مراعاتها ومودتها.

صدى الفاجعة :

وذعر المسلمون لهذا الحادث الخطير ، وعم السخط جميع ارجاء البلاد لأن حجرا من أعلام الإسلام ، ومن خيار صحابة النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد انتهكت في قتله حرمة الإسلام ، لأنه لم يحدث فسادا في الأرض ، وإنما رأى منكرا فناهضه ، وجورا فناجزه ، رأى زيادا يؤخر الصلاة فطالبه باقامتها ورآه يسب امير المؤمنين فطالبه بالكف عنه ، فقتل من اجل ذلك ، وقد اندفعت الشخصيات الرفيعة في العالم الإسلامى الى اعلان سخطها على معاوية والى الإنكار عليه ، ومن الخير ان نذكر بعضهم ونستمع الى نقدهم وهم :

أ - الإمام الحسين (عليه السلام).

ورفع الإمام الحسين (عليه السلام) من يثرب رسالة الى معاوية أنكر فيها

ص: 364

اشد الإنكار على ما ارتكبه من قتل حجر واصحابه الأبرار وهذا نصها :

« الست القاتل حجرا اخا كندة ، والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون فى اللّه لومة لائم؟ قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت اعطيتهم الإيمان المغلظة ، والمواثيق المؤكدة أن لا تأخذهم بحدث ، كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك عليهم » (1).

لقد انكر الإمام (عليه السلام) برسالته على معاوية استباحته لدم حجر واصحابه المثاليين الذين انكروا الظلم وناهضوا الجور ، واستعظموا البدع وقد قتلهم ظلما وعدوانا ، بعد ما أكد على نفسه واعطاهم المواثيق المؤكدة ان لا يأخذهم بحدث ولا بإحنة فيما مضى ، ولكن ابن هند قد خاس بذلك ولم يف به.

ب - عائشة :

ومن جملة المنكرين على معاوية عائشة ، فقد دخل عليها في بيتها بعد منصرفه من الحج فقالت له :

« أأمنت ان اخبأ لك من يقتلك؟ »

فقال لها مخادعا :

« بيت الأمن دخلت ».

- اما خشيت اللّه في قتل حجر واصحابه؟ (2).

وكانت دوما تتحدث عن مصاب حجر فقد حدثت عما سمعته من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فى فضله قالت : سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول :

ص: 365


1- البحار 10 / 149.
2- الطبري 6 / 156.

سيقتل بعذراء أناس يغضب اللّه لهم وأهل السماء » (1) وقالت منددة بأهل الكوفة : « أما واللّه لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة ما اجترأ على أن يأخذ حجرا وأصحابه من بينهم حتى يقتلهم بالشام ، ولكن ابن آكلة الأكباد علم أنه قد ذهب الناس ، أما واللّه إن كانوا لجمجمة العرب عزا ومنعة وفقها ولله در لبيد حيث يقول :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

لا ينفعون ولا يرجى خيرهم *** ويعاب قائلهم وان لم يشغب (2) ج - الربيع بن زياد :

ومن الناقمين على معاوية الربيع بن زياد البصري (3) عامله على خراسان فانه لما سمع بالنبإ المؤلم طاش لبّه وذهبت نفسه حسرات فقال والحزن باد عليه :

« لا تزال العرب تقتل صبرا بعده - أي بعد مقتل حجر - ولو نفرت عند قتله لم يقتل واحد منهم صبرا. ولكنها أقرت فذلت!! »

إن أهل الكوفة لو منعوا السلطة الأموية من قتل حجر وأصحابه لما

ص: 366


1- البداية والنهاية 8 / 55 ، الاصابة 1 / 314.
2- الاستيعاب 1 / 357.
3- الربيع بن زياد بن أنس الحارثي البصري كان عاملا لمعاوية على خراسان وكان كاتبه الحسن البصري ، روي عن أبي بن كعب ، وعن جماعة وروى عنه قوم ، توفي سنة 51 ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب 3 / 43 ، وجاء في الاصابة 1 / 491 ، ان الربيع وفد على عمر بن الخطاب فقال له : يا أمير المؤمنين واللّه ما وليت هذه الأمّة إلا ببلية ابتليت بها ، ولو أن شاة ضلت بشاطئ الفرات لسئلت عنها يوم القيامة ، فبكى عمر حينما سمع منه هذا الكلام.

تمكن الأمويون من قتل أحرارهم وأخيارهم ، ولكنهم رضوا بالخمول والذل وكرهوا الموت في سبيل اللّه ، فهان أمرهم وذلوا ، وعمل فيهم الأمويون ما أرادوا من اخضاعهم للذل والهوان.

وبقي الربيع ذاهل النفس ، خائر القوى ، قد مزق الأسى قلبه ، فلما صار يوم الجمعة صلى بالناس صلاة الجمعة ، وبعد الفراغ منها خطب الناس فقال فى خطابه :

« أيها الناس ، إني قد مللت الحياة وإني داع فأمنوا » ثم رفع يديه بالدعاء فقال :

« اللّهم ، إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك وعجل ».

فاستجاب اللّه دعاءه فما فارق المجالس حتى وافاه الأجل المحتوم (1).

د - الحسن البصري :

وعدّ الحسن البصري قتل حجر إحدى الموبقات الأربعة التي ارتكبها معاوية ، فقال فيما يخص حجرا :

« ويل له من حجر وأصحاب حجر مرتين » (2).

ه - عبد اللّه بن عمر :

لقد ذعر ابن عمر حينما علم بمقتل حجر ، فقد أخبر بقتله وهو بالسوق وكان محتبى فأطلق حبوته وولى وهو يبكي أشد البكاء وأمرّه (3).

و - معاوية بن خديج :

ص: 367


1- الكامل 3 / 195.
2- ذكرنا حديثه بكامله مع ترجمته فى فصول هذا الكتاب.
3- الاصابة 1 / 314.

وانتهى الخبر المؤلم الى معاوية بن خديج (1) وكان في افريقية مع الجيش ، فقال لقومه الذين كانوا معه من كندة :

« ألا ترون أنا نقاتل لقريش ونقتل أنفسنا لنثبت ملكها ، وأنهم يثبون على بنى عمنا فيقتلونهم ».

لقد كان قتل حجر من الأحداث الكبار وكان صدعا في الاسلام وبلاء على عموم العرب ، وكان معاوية نفسه لا يشك فى ذلك فكان ينظر إليه شبحا مخيفا ويردد ذكره في خلواته ، وقد ذكره كثيرا في مرضه الذي هلك فيه فكان يقول : « ويلي منك يا حجر » وكان يقول : « يوم لي من ابن الأدبار - يعني حجرا - طويل » قال ذلك ثلاث مرات (2).

نعم ، أن يومه لطويل من حجر وأمثاله من المؤمنين والصالحين الذين سفك دماءهم لا لذنب اقترفوه ، سوى حبهم لأهل البيت ، وهنا ينتهي بنا الحديث عن محنة حجر وأصحابه لنلتقي بزملاء له آخرين.

رشيد الهجري :

ورشيد الهجري يعد في طليعة رجال الإسلام ورعا وتقى وعلما وفضلا ، فقد تتلمذ فى مدرسة أمير المؤمنين ونال الكثير من علومه ومعارفه فكان (عليه السلام) يسميه ( رشيد البلايا ) وحدثت ابنته قنو قالت : سمعت أبي يقول :

ص: 368


1- معاوية بن خديج بن جفنة السكوني ، وقيل الكندي : هو الذي قتل العبد الصالح الطيب محمد بن أبي بكر بأمر ابن العاص ، وقد غزا افريقية ثلاث مرات ، جاء ذلك في الاستيعاب 3 / 389.
2- الطبري 6 / 156.

« قال لي أمير المؤمنين ، يا رشيد كيف صبرك إذا أرسل إليك دعي بني أمية فقطع يديك ورجليك ولسانك؟ »

- يا أمير المؤمنين آخر ذلك الى الجنة؟

- يا رشيد أنت معي في الدنيا والآخرة.

وخرج رشيد مع أمير المؤمنين الى بستان فاستظلا تحت نخلة ، فقام صاحب البستان الى نخلة ، فأخذ منها رطبا وقدمه الى أمير المؤمنين فأكل علیه السلام منه ، فالتفت رشيد الى الإمام قائلا له :

« ما أطيب هذا الرطب!؟ »

- أما انك ستصلب على جذعها!!

فكان رشيد بعد حديث الإمام يتعاهد تلك النخلة التي أكل من رطبها فيسقيها ويتعبد تحتها واجتاز عليها يوما فرأى سعفها قد قطع فشعر بدنو أجله ، واجتاز عليها مرة أخرى فرأى نصفها قد جعل زرنوقا يستسقى عليه فتيقن بدنو الأجل المحتوم منه (1) ، وفي فترات تلك المدة الرهيبة بعث خلفه ابن سمية ، فلما حضر عنده قال له :

« ما قال لك خليلك إنا فاعلون بك؟ »

- تقطعون يديّ ورجليّ وتصلبونني.

- أما واللّه لأكذّبن حديثه ، خلّوا سبيله.

فخلت الجلاوزة سراحه ، فلما خرج قال زياد لجلاوزته : ردّوه ، فردوه إليه ، فالتفت له قائلا :

« لا نجد لك شيئا أصلح مما قال صاحبك ، إنك لا تزال تبغي لنا سوءا إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه » ، فامتثلت الجلاوزة أمره ، فقطعوا

ص: 369


1- التعليقات على منهج المقال ص 140.

يديه ورجليه وهو يتكلم ، فغاظ كلامه زيادا ، فقال لجلاوزته : اصلبوه خنقا ، فقال رشيد لهم : « قد بقي لي عندكم شيء ما أراكم فعلتموه - أراد بذلك قطع لسانه - » فأمر ابن سمية بقطع لسانه ولما أرادوا قطع لسانه قال لهم : « نفسوا عني حتى أتكلم كلمة واحدة » ، فأعطوه ذلك ، فقال : « هذا واللّه تصديق خبر أمير المؤمنين (عليه السلام) أخبرني بقطع لساني » ، ثم قطع الجلاوزة لسانه (1).

أي ذنب اقترفه هذا العابد العظيم حتى يستحق هذا التنكيل ويمثل به بدلك التمثيل الفظيع ، ولكن ابن سمية ومعاوية قد راما بذلك تصفية الحساب مع شيعة أهل البيت والقضاء على روح التشيع.

عمرو بن الحمق الخزاعي :

وكان عمرو بن الحمق يحمل شعورا دينيا قويا حيا ، وكان من خيرة

الصحابة في ورعه وتقواه ، وهو الذي سقى النبي لبنا فدعا له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يمتعه اللّه بشبابه ، فاستجاب اللّه دعاء نبيه فأخذ عمرو بعنق الثمانين عاما ولم تر في كريمته شعرة بيضاء (2).

وكان من صفوة أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن خلص أصحابه ، وقد دعا علیه السلام له فقال : « اللّهم نوّر قلبه بالتقى ، واهده الى صراطك المستقيم » (3) ، وكان (عليه السلام) يكبره ويجله ويقدمه على غيره ، فقد قال

ص: 370


1- سفينة البحار 1 / 522 ، وقال الحافظ الذهبي في التذكرة قتل زياد رشيدا الهجري لتشيعه ، فقطع لسانه وصلبه.
2- الاصابة 2 / 526.
3- سفينة البحار 2 / 360.

له : « ليت في جندي مثلك مائة ». وقال لأمير المؤمنين معربا له عن ولائه واخلاصه :

« يا أمير المؤمنين ، واللّه ما أحببتك للدنيا ولا للمنزلة تكون لي بها ، وإنما أحببتك لخمس خصال ، إنك أول المؤمنين إيمانا ، وابن عم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأعظم المهاجرين والأنصار ، وزوج سيدة النساء علیهاالسلام ، وأبو ذريته الباقية من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلو قطعت الجبال الرواسي ، وعبرت البحار الطوامي في توهين عدوك وتلقيح حجتك لرأيت ذلك قليلا من كثير ما يجب علي من حقك » (1).

وقد دلّ حديثه على عقيدته وإيمانه وعظيم ولائه لأمير المؤمنين (عليه السلام) ولاء يلتمس منه وجه اللّه ويبغي فيه الدار الآخرة.

ولما ولى زياد الكوفة وتتبع زعماء الشيعة ووجوههم خاف الخزاعي من سلطته الغاشمة ففرّ الى المدائن ومعه رفاعة بن شداد فمكثا فيها برهة من الزمن ثم هربا الى الموصل وقبل أن يصلا إليها مكثا في جبل هناك ليستجما فيه ، وبلغ بلتعة بن أبي عبد اللّه عامل معاوية أن رجلين قد كمنا في جبل من جبال الموصل فاستنكر شأنهما فسار إليهما مع فريق من أصحابه ، فلما انتهوا الى الجبل خرج إليهما عمرو ورفاعة ، فأما عمرو فقد كان مريضا لأنه قد سقي سما وليس عنده قوى يستطيع بها على خلاص نفسه فوقف ولم يهرب ، وأما رفاعة فقد كان في شرخ الشباب فاعتلى فرسه ثم التفت الى عمرو فقال له : « أقاتل عنك؟ ».

فنهاه عن ذلك وقال له :

« وما ينفعني أن تقاتل انج بنفسك إن استطعت. »

ص: 371


1- التعليقات ص 246.

ومضى رفاعة فهجم على القوم فأفرجوا له ، ثم خرجوا فى طلبه فلم يتمكنوا عليه لأنه كان راميا ، وأخذ عمرو أسيرا وطلبوا منه أن يعرفهم شخصيته فامتنع وقال لهم :

« أنا من إن تركتموه كان أسلم لكم ، وإن قتلتموه كان أضر لكم ».

وأصروا عليه أن يعرفهم نفسه ، فأبى ، فارتابوا من أمره ، فأرسلوه مخفورا الى عبد الرحمن بن عبد اللّه الثقفي حاكم الموصل ، فلما رآه عرفه ورفع بالوقت رسالة الى معاوية عرفه بالأمر ، فأجابه :

« إنه زعم أنه طعن عثمان بن عفان تسع طعنات بمشاقص (1) كانت معه ، وإنا لا نريد أن نعتدي عليه ، فاطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان ».

فأخرجه عبد الرحمن وأمر بطعنه تسع طعنات فمات في الاولى أو الثانية منها (2) ثم احتز رأسه وبعثه الى معاوية فأمر أن يطاف به في الشام وغيره فكان أول رأس طيف به في الإسلام (3) ثم أمر به أن يبعث الى زوجته آمنة بنت الشريد وكانت في سجنه فجيء به فوضع فى حجرها وهي غافلة لا تعلم من أمره شيئا ، فلما بصرت به اضطربت حتى كادت أن تموت ثم قالت ودموعها تتبلور على وجهها :

« وا حزناه لصغره في دار هوان ، وضيق من ضيمه سلطان ، نفيتموه عني طويلا ، وأهديتموه إليّ قتيلا ، فأهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية ، وأنا له اليوم غير ناسية ».

ص: 372


1- المشاقص : جمع مفرده - مشقص - النصل العريض ، أو سهم فيه نصل عريض.
2- تاريخ الطبري.
3- الاستيعاب 2 / 517.

ثم التفتت الى الحرسي فقالت له :

« ارجع به أيها الرسول الى معاوية فقل له : ولا تطوه دونه ، أيتم اللّه ولدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنبك ».

ورجع الرسول الى معاوية فأخبره بمقالتها فغضب وغاظه كلامها فأمر باحضارها في مجلسه ، فجيء بها إليه فقال لها :

« أنت يا عدوة اللّه صاحبة الكلام الذي بلغنى؟ »

فانبرت إليه غير مكترثة ولا هيّابة لسلطانه قائلة :

« نعم ، غير نازعة عنه ، ولا معتذرة منه ، ولا منكرة له ، فلعمري لقد اجتهدت فى الدعاء ان نفع الاجتهاد وإن الحق لمن وراء العباد ، وما بلغت شيئا من جزائك وإن اللّه بالنقمة من ورائك!! »

فالتفت إياس بن حسل الى معاوية متقربا إليه :

« أقتل هذه يا أمير المؤمنين؟ فو اللّه ما كان زوجها أحق بالقتل منها ».

فقالت له : « تبا لك ، ويلك بين لحييك كجثمان الضفدع ، ثم أنت تدعوه الى قتلي كما قتل زوجي بالأمس!!! إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ».

فضحك معاوية وقال متبهرا :

« لله درك اخرجي!! ثم لا أسمع بك في شيء من الشام ».

فقالت له : « وأبي لأخرجن ثم لا تسمع لي في شيء من الشام فما الشام لي بحبيب ولا اعرج فيها على حميم ، وما هي لي بوطن ، ولا أحن فيها الى سكن ، ولقد عظم فيها ديني ، وما قرت فيها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة ».

وثقل كلامها على معاوية فأشار إليها ببنانه بالخروج ، فخرجت

ص: 373

وهي تقول :

واعجبي لمعاوية يكف عنى لسانه ويشير الى الخروج ببنانه ، أما واللّه ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد شديد أوجع من نوافد الحديد ، أو ما أنا بابنة الشريد ».

ثم خرجت من مجلسه (1) لقد كان قتل عمرو من الأحداث الجسام في الإسلام لأنه من صحابة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد عمد معاوية الى اراقة دمه فخالف بذلك ما أمر اللّه به من حرمة سفك دماء المسلمين إلا بالحق ، ولم يشف قتله غليل معاوية فقد أمر بأن يطاف برأسه في بلاد المسلمين وبعث به الى زوجته فروعها وكادت أن تموت من ألم المصاب ، وقد رفع الإمام الحسين (عليه السلام) من يثرب رسالة الى معاوية انكر فيها ارتكابه لهذا الحادث الخطير وهذا نصها :

« أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه ، واصفر لونه بعد ما أمنته وأعطيته من عهود اللّه ومواثيقه ما لو اعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل ثم قتلته جرأة على ربك ، واستخفافا بذلك العهد » (2).

لقد اشاد الإمام بفضل عمرو فذكر أنه صاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وانه قد أبلت العبادة جسمه ، كما ذكر ان معاوية قد ابرم عهدا خاصا فى شأنه يتضمن أمنه وعدم البغي عليه ولكنه قد خاس بعهده ولم يف به.

ص: 374


1- أعلام النساء 1 / 4.
2- التعليقات ص 246.
أوفى بن حصن :

وكان أوفى بن حصن من المنددين بالسياسة الأموية ، ومن الناقدين لسلطتهم ، وكان يذيع مساوئهم بين أوساط الكوفيين فبلغ ذلك زيادا فبعث في طلبه فاختفى أوفى واستعرض زياد الناس فاجتاز عليه أوفى فشك في أمره فقال لمن معه :

« من هذا؟ »

- أوفى بن حصن.

- عليّ به.

فجيء به إليه فقال متبهرا : « أتتك بخائن رجلاه تسعى ». ثم التفت إليه قائلا :

- ما رأيك في عثمان؟

- ختن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ابنتيه.

- ما تقول في معاوية؟

- جواد حليم.

- ما تقول فيّ؟

- بلغني أنك قلت بالبصرة : « واللّه لآخذن البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر »

- قد قلت ذلك.

- خبطتها خبط عشواء!!

- ليس النفاخ بشر الزمرة.

ثم أمر بقتله (1) ، إن نكران أوفى لسياسة زياد في ذلك الظرف

ص: 375


1- الكامل 3 / 183.

العصيب من اعظم الأعمال التي قام بها ، ومن أفضل الجهاد الذي عناه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله : « أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ، وأفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل تكلم عند سلطان جائر ، فأمر به فقتل » (1).

جويرية بن مسهر العبدي :

وكان جويرية من خلّص أصحاب الإمام أمير المؤمنين ومن حملة حديثه ومن المقربين عنده فقد نظر إليه يوما فناداه : يا جويرية الحق بي فأني إذا رأيتك هويتك ، ثم حدثه ببعض أسرار الإمامة وقال له : « يا جويرية أحب حبيبنا ما أحبنا فاذا أبغضنا فابغضه ، وابغض بغيضنا ما ابغضنا فاذا أحبنا فأحبه » (2) ، ودخل على أمير المؤمنين يوما وكان مضطجعا فقال له جويرية :

« أيها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب منها لحيتك ».

فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وانبرى إليه فأخبره بما يجري عليه من بعده من ولاة الجور قائلا :

« وأحدثك يا جويرية بأمرك ، أما والذي نفسي بيده لتعتلن (3) الى العتل الزنيم ، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر » (4).

وما دارت الأيام حتى استدعى ابن سمية جويرية فأمر بقطع يده ورجله

ص: 376


1- النصائح ص 60.
2- ابن أبي الحديد وقريب منه جاء في التعليقات ص 366.
3- لتعتلن : أي لتجذبن.
4- الكافر : القصير.

ثم صلبه على جذع قصير (1) ، وقد ألف هشام بن محمد السائب كتابا فى فاجعة جويرية ورشيد وميثم التمار (2).

عبد اللّه بن يحيى الحضرمي :

وكان عبد اللّه الحضرمى من أولياء أمير المؤمنين ومن صفوة أصحابه وكان من شرطة الخميس (3) وقد قال (عليه السلام) له يوم الجمل :

« أبشر يا عبد اللّه فانك وأباك من شرطة الخميس حقا لقد أخبرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس (4).

ولما قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) حزن عليه عبد اللّه حزنا مرهقا فترك الكوفة وبنى له صومعة يتعبد فيها هو وأصحابه المؤمنون ، ولما علم ابن هند بجزعهم وحزنهم على موت أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر باحضارهم عنده ، فلما جيء بهم أمر بقتلهم صبرا فقتلوا (5) ففي ذمة اللّه هؤلاء الصلحاء الأخيار الذين سفكت دماؤهم ، وتقطعت أوصالهم ، ولم يرتكبوا ذنبا أو يحدثوا في الإسلام حدثا سوى ولائهم لأمير المؤمنين (عليه السلام) امتثالا لرسول اللّه صلى اللّه

ص: 377


1- شرح ابن أبي الحديد.
2- التعليقات ص 366.
3- الخميس : اسم من أسماء الجيش سمي به لأنه قد قسم الى خمسة أقسام المقدمة والميمنة والميسرة والقلب والساقة ، وقيل : إنما سمى به لأن الغنائم تخمّس فيه جاء ذلك فى نهاية ابن الأثير ، وذكرت بعض المصادر أن شرطة الخميس كانوا معروفين بالثقة والعدالة حتى كانت شهادة أحدهم تعدل شهادة رجلين.
4- التعليقات ص 214.
5- البحار 10 / 102.

عليه وآله الذي فرض ودّه على جميع المسلمين.

ولم يقتصر معاوية في عدائه للشيعة على قتل زعمائهم ، فقد قام بأمور بالغة الخطورة وهي :

هدم دور الشيعة :

وبذل معاوية جميع جهوده في سبيل القضاء على شيعة أمير المؤمنين فأمر عماله أن يهدموا دورهم ، فقامت جلاوزته بهدمها (1) وقد تركهم بلا مأوى يأوون إليه كل ذلك لأجل القضاء على التشيع ومحو ذكر أهل البيت علیهم السلام .

عدم قبول شهادة الشيعة :

وعمل معاوية جميع ما يمكنه في اذلال الشيعة وفهرهم ، فقد كتب الى جميع عماله أن لا يجيزوا لأحد من شيعة أمير المؤمنين وأهل بيته شهادة (2) فامتثل العمال أمره ، فلم تقبل شهادة الشيعة وهم من ثقات المسلمين وعدولهم وأخيارهم.

اشاعة الارهاب والاعتقال :

وأذاع معاوية الرعب والإرهاب فى نفوس الشيعة فخلّد بعضهم في السجون حتى ماتوا ، وروّع جمعا آخرين حتى تركوا أوطانهم وفرّوا هائمين على وجه الأرض يطاردهم الخوف والرعب ، وقد قبضت شرطته

ص: 378


1- اعيان الشيعة 4 / 46.
2- شرح ابن أبي الحديد 3 / 15 ، ذخيرة الدارين ص 19.

على الكثيرين منهم فجيء بهم مخفورين إليه فقابلهم بالاستخفاف والاستهانة والتحقير ونحن نذكر أسماءهم مع ما جرى عليهم من العسف والظلم وهم :

1 - محمد بن أبي حذيفة :

محمد بن أبي حذيفة يعد في طليعة ثقات الإسلام ومن خيرة صالحاء المسلمين فقد كان من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حقه : « ان المحامدة تأبى أن يعصى اللّه » ثم عده منهم ، وكان ملازما لأمير المؤمنين وفى خدمته ، ولما قتل (عليه السلام) وانتهى الأمر الى معاوية أراد قتله ثم بدا له أن يسجنه فسجنه أمدا غير قصير ، والتفت يوما الى أصحابه فقال لهم : « ألا نرسل الى هذا السفيه محمد بن أبي حذيفة فنبكته ونخبره بضلاله ، ونأمره أن يقوم فيسب عليا » فأجابوه الى ذلك ، ثم أمر باحضاره فلما مثل عنده التفت إليه قائلا :

« يا محمد ألم يأن لك أن تبصر ما كنت عليه من الضلالة بنصرتك علي بن أبي طالب (عليه السلام) ألم تعلم أن عثمان قتل مظلوما وان عائشة وطلحة والزبير خرجوا يطلبون بدمه وان عليا هو الذي دس الناس في قتله ونحن اليوم نطلب بدمه ».

فأجابه محمد : « إنك لتعلم أني أمس القوم بك رحما وأعرفهم بك ».

فقال له معاوية : أجل. واندفع محمد فقال له :

« فو اللّه الذي لا إله غيره ما اعلم أحدا شرك في دم عثمان والّب الناس عليه غيرك لما استعملك ، ومن كان مثلك فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى ففعلوا به ما بلغك ، واللّه ما أحد شرك فى قتله بدئا وأخيرا إلا طلحة والزبير وعائشة فهم الذين شهدوا عليه بالعظمة وألّبوا عليه الناس وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار والأنصار جميعا ».

ص: 379

فارتاع معاوية وقال منكرا عليه :

« قد كان ذلك؟!! »

« أي واللّه ، وإني لأشهد أنك منذ عرفتك في الجاهلية والإسلام لعلى خلق واحد ، ما زاد الإسلام فيك لا قليلا ولا كثيرا وإن علامة ذلك فيك لبينة تلومنى على حبي عليا ، خرج مع علي كل صوام قوام مهاجري وانصاري وخرج معك ابناء المنافقين والطلقاء والعنقاء خدعتهم عن دينهم ، وخدعوك عن دنياك ، واللّه يا معاوية ما خفي عليك ما صنعت ، وما خفي عليهم ما صنعوا إذ احلوا انفسهم بسخط اللّه في طاعتك ، واللّه لا ازال احب عليا لله ولرسوله ، وابغضك في اللّه ورسوله ابدا ما بقيت!! »

ففزع معاوية وقال : « إني اراك على ضلالك بعد ردوه الى السجن »

فردوه للسجن فمكث فيه مدة من الزمن حتى مات فيه (1).

لقد لاقى محمد حتفه وهو مروع في ظلمات السجون لأنه لم يرتض اعمال معاوية ولم يقره على منكراته ومساوئه ، وهكذا كان مصير الأحرار والنبلاء المعارضين لحكومة معاوية يلاقون التعذيب والتنكيل والتخليد في السجون.

2 - عبد اللّه بن هاشم المرقال :

ومن زعماء الشيعة وعيونهم الذين روعهم معاوية الزعيم المثالي عبد اللّه ابن هاشم المرقال ، فقد كان معاوية يحمل فى نفسه كمدا وحقدا عليه وذلك لولائه واخلاصه لأمير المؤمنين (عليه السلام) ولموقف ابيه هاشم في يوم صفين ذلك الموقف الخالد الذي اخافه وارهبه حتى صمم على الهزيمة والفرار ، وللتشفي والانتقام منه فقد كتب الى عامله زياد رسالة يطلب فيها القبض على عبد اللّه

ص: 380


1- رجال الكشي ص 47.

لينكل به ، وهذا نص كتابه :

« أما بعد : فانظر عبد اللّه بن هاشم بن عتبة فشدّ يده الى عنقه ثم ابعث به إليّ ».

ولما وصلت رسالة معاوية الى زياد قام فى طلبه وحينما علم بذلك عبد اللّه هرب واختفى منه ، وعلم به بعض الأوغاد فجاء الى معاوية ليتقرب إليه فأخبره انه قد اختفى عند امراة مخزومية ، فكتب معاوية الى زياد ما يلي :

« أما بعد : فاذا اتاك كتابي هذا فاعمد الى حي بنى مخزوم ففتشه دارا دارا حتى تأتي الى دار فلانة المخزومية فاستخرج عبد اللّه بن هاشم المرقال منها ، فاحلق راسه والبسه جبة شعر وقيّده وغل يده الى عنقه واحمله على قتب بغير وطاء ولا غطاء واقدمه إلي ».

وقام زياد ففتش حي بنى مخزوم حتى ظفر بعبد اللّه فحمله إليه بالكيفية التي ارادها وهو مهان الجانب ، محطم الكيان فوصل الى دمشق في يوم الجمعة وهو يوم القبول الذي اعده معاوية لمقابلة اشراف قريش ووجوه العراقيين ولم يشعر معاوية إلا وابن هاشم قد ادخل عليه فعرفه ولم يعرفه ابن العاص فالتفت معاوية إليه قائلا :

« يا أبا عبد اللّه ، هل تعرف هذا الفتى؟ » قال : لا.

فقال معاوية هذا الذي يقول أبوه يوم صفين :

إني شريت النفس لما اعتلا *** وأكثر اللوم وما أقلا

أعور يبغي أهله محلا *** قد عالج الحياة حتى ملا

لا بد أن يفل أو يفلا *** أسلهم بذي الكعوب سلا

لا خير عندي في كريم ولى

ص: 381

فبهر ابن العاص وقال متمثلا :

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى

وتبقى حزازات النفوس كما هيا

وتذكر ابن العاص مواقف أبيه يوم صفين فقال لمعاوية :

« دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب فاشخب اوداجه على أثباجه ولا ترده الى أهل العراق ، فانه لا يصبر على النفاق ، وهم أهل غدر وشقاق ، وحزب ابليس ليوم هيجانه ، وإن له هوى سيوديه ، ورأيا سيطغيه ، وبطانة ستقويه ، وجزاء سيئة سيئة مثلها.

فانبرى إليه عبد اللّه كالأسد الغضبان مسددا له سهاما من القول غير هياب له قائلا :

« يا عمرو ، إن أقتل فرجل اسلمه قومه ، وأدركه يومه ، أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال ونحن ندعوك الى النزال ، وأنت تلوذ بشمال النطاف (1) ، وعقائق الرصاف (2) كالأمة السوداء ، والنعجة القوداء ، لا تدفع يد لامس؟ »

فالتاع ابن العاص ولم يستطع أن يقول شيئا سوى التهديد والتوعيد له قائلا :

« أما واللّه لقد وقعت في لهازم شدقم (3) للأقران ذي لبد ، ولا أحسبك منفلتا من مخالب أمير المؤمنين ».

فأجابه ابن هاشم غير معتن بتهديده قائلا :

ص: 382


1- النطاف : الماء القليل.
2- العقائق : سهام الاعتذار. والرصاف : الحجارة التي توضع عند مسيل الماء ..
3- اللّهازم : جمع مفرده لهزم وهي الأنياب. والشدقم : الأسد.

« أما واللّه يا ابن العاص إنك لبطر فى الرخاء ، جبان عند اللقاء ، غشوم إذا وليت ، هياب إذا لقيت ، تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجرى الشوك ، لا يستعجل في المدة ، ولا يرتجي في الشدة ، أفلا كان هذا منك إذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغارا ، ولم يمزقوا كبارا لهم أيد شداد وألسنة حداد ، يدعمون العوج ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل؟ »

فلم يطق ابن العاص جوابا وبقي يفتش في حقيبة مكره عيبا يوصم به عبد اللّه فلم يجد شيئا سوى افتعال الكذب فقال :

« أما واللّه لقد رأيت أباك يومئذ تخفق احشاؤه (1) وتبق أمعاؤه وتضطرب أصلاؤه (2) كأنما انطبق عليه ضمد ».

فانبرى إليه عبد اللّه مجيبا عن بهتانه وكذبه قائلا له :

« يا عمرو ، إنا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوبا غادرا ، خلوت بأقوام لا يعرفونك ، وجند لا يساومونك ، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ عليك عقلك (3) ، ولتلجلج لسانك ، ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي أثقله حمله ».

والتفت إليهما معاوية فقطع حديثهما قائلا : « إيها عنكما » ثم أمر باطلاق سراح عبد اللّه ، فاستاء ابن العاص لهذا العفو ، وانبرى الى معاوية يحرضه على الفتك والبطش به ويذكره مواقف أبيه هاشم في أيام صفين وقد نظم ذلك بأبيات من الشعر قال :

ص: 383


1- تخفق : أي تضطرب.
2- الاصلاء : أواسط الظهر.
3- جحظ عقله : أي نظر الى رأيه فرأى سوء ما ارتأى.

أمرتك أمرا حازما فعصيتني *** وكان من التوفيق قتل ابن هاشم

أليس أبوه يا معاوية الذي *** أعان عليا يوم حز الغلاصم

فلم ينثن حتى جرت من دمائنا *** بصفين أمثال البحور الخضارم

وهذا ابنه والمرء يشبه شيخه *** ويوشك أن تقرع به سن نادم

فأجابه عبد اللّه :

معاوي إن المرء عمرا أبت له *** ضغينة صدر غشها غير نائم

يرى لك قتلي يا ابن هند وإنما *** يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم

على انهم لا يقتلون أسيرهم *** إذا منعت منه عهود المسالم

وقد كان منا يوم صفين نقرة *** عليك جناها هاشم وابن هاشم

قضى ما قضى منها وليس الذي مضى *** ولا ما جرى إلا كأضغاث حالم

فان تعف عني تعف عن ذي قرابة *** وإن تر قتلي تستحل محارمى

واندفع معاوية قائلا :

أرى العفو عن عليا قريش وسيلة *** الى اللّه فى يوم العضيب القماطر

ولست أرى قتل العداة ابن هاشم *** بادراك ثاري في لؤي وعامر

بل العفو عنه بعد ما بان جرمه *** وزلت به إحدى الجدود العواثر

فكان أبوه يوم صفين جمرة *** علينا فأردته رماح نهابر (1)

لقد روع عبد اللّه وأفزعه معاوية وهو لم يقترف ذنبا سوى ولائه لأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي جعله ابن هند من أعظم الموبقات والجرائم ، وصرحت بعض المصادر أنه لم يعفو عنه بل أودعه فى ظلمات السجون.

3 - عبد اللّه بن خليفة الطائي.

وعبد اللّه بن خليفة الطائي ممن عرف بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين

ص: 384


1- مروج الذهب 2 / 312 - 314 ، وشرح ابن أبي الحديد.

فقد جاء إليه حينما توجه (عليه السلام) الى البصرة فقال له :

« الحمد لله الذي ردّ الحق الى أهله ، ووضعه في موضعه ، فان كره ذلك قوم فقد واللّه كرهوا محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونابذوه وقاتلوه ، فرد اللّه كيدهم في نحورهم وجعل دائرة السوء عليهم ، واللّه لأجاهد معك في كل موطن تحفظا لحق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) » (1).

وقد دلّ حديثه على تبصره في دينه ، وعلى طيب عنصره ، وحسن رأيه ، ولعظيم ايمانه ووفور عقله ، كان من المقربين عند الإمام ومن الذين يستشيرهم في مهام اموره (2).

وفي محنة حجر كان عبد اللّه في طليعة أصحابه ومن المعارضين للسياسة الأموية ، ومن المشتركين معه في ثورته ، ولما قبض زياد على حجر وأصحابه أمر شرطته أن يأتوه بعبد اللّه ، ففتشوا عنه فوجدوه ، فناجزهم عبد اللّه ، وبعد صراع جرى فيما بينهم لم يتمكن عبد اللّه على انقاذ نفسه منهم فاستولوا عليه ، فاستنجدت اخته النوار بقومها واسرتها فطلبت نصرة أخيها قائلة :

« يا معشر طيء أتسلمون سنانكم ولسانكم عبد اللّه بن خليفة؟ » فثار الطائيون على الشرطة فضربوهم وناجزوهم حتى انتزعوا منهم عبد اللّه فرجعت الشرطة الى زياد وأخبرته بالأمر فاستدعا زعيم طيء وعميدها عدي ابن حاتم فقال له :

« ائتني بعبد اللّه بن خليفة؟ »

وبعد حديث جرى بينهما أجابه ابن حاتم بمنطق الأحرار قائلا :

« لا واللّه لا أتاك به أبدا ، أجيئك بابن عمي تقتله؟ واللّه لو كان

ص: 385


1- الفوائد المطبوع على هامش التعليقات ص 202.
2- نفس المصدر.

تحت قدمي ما رفعتهما عنه ».

فالتاع زياد وأمر به الى السجن ، ولم يبق بالكوفة يماني ولا ربعي إلا أتوا زيادا فكلموه في شأن عدي ، وأخبروه بعظم شأنه وشرفه ، فاضطر زياد الى اطلاق سراحه ، ولكنه شرط عليه أن يغيب ابن عمه عن الكوفة فوافق عدي على ذلك ، وأمر عبد اللّه أن يغادر الكوفة ويلحق با ( لجبلين ) ، فغادر عبد اللّه الكوفة ، وقد سرى الألم العاصف في محياه على بعده عن وطنه وعلى فراقه لأصحابه وأهله ، وقد أرسل الى عدي بعد نفيه قصيدة عصماء يرثي بها حجرا وأصحابه ويذكر فيها ما يعانيه من ألم الفراق فيقول في رثاء حجر :

ولاقى بها (1) حجر من اللّه رحمة *** فقد كان أرضى اللّه حجر وأعذرا

ولا زال تهطال ملث وديمة *** على قبر حجر أو ينادى فيحشرا

فيا حجر من للخيل تدمى نحورها *** وللملك المغزى إذا ما تغشمرا (2)

ومن صادع بالحق بعدك ناطق *** بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا

فنعم أخو الإسلام كنت وانني *** لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا

وقد كنت تعطي السيف في الحرب حقه *** وتعرف معروفا وتنكر منكرا

ثم يسترسل فى رثاء حجر فيذكر صفاته ومواهبه وملكاته ويبكيه أمر البكاء وينتهي في قصيدته الى وصف محنته وبلواه والى ما يلاقيه من الألم والأسى في غربته فيقول :

فها أنا ذا آوي بأجبال طيء *** طريدا فلو شاء الإله لغيرا

نفاني عدوي ظالما عن مهاجري *** رضيت بما شاء الإله وقدرا

ص: 386


1- الضمير يرجع الى مرج عذراء.
2- تغشمرا : أي أخذ قهرا وظلما.

وأسلمني قومى بغير جناية *** كأن لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا

وذكر الطبري وابن الأثير بقية قصيدته التي أعرب فيها عن شجونه وأحزانه ، وظل عبد اللّه منفيا حتى مات بالجبلين قبل موت زياد (1).

4 - صعصعة بن صوحان :

وصعصعة بن صوحان من سادات العرب وفصحائهم النابهين وخطبائهم المفوهين كان من ذوي الفضيلة والدين ، أسلم على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو صغير ولم يجتمع به لصغر سنه ، ووفد على عمر وكان يقسم أموال الغنائم وكان مقدارها ألف ألف درهم ففضها على المسلمين وبقيت منها فضلة فاختلفت الصحابة فيها فقام فيهم عمر خطيبا فقال في خطابه :

« أيها الناس ، قد بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس ، فما تقولون فيها؟ »

فانبرى إليه صعصعة منكرا عليه تحيره فى هذه المسألة البسيطة قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنما تشاور الناس فيما لم ينزل اللّه فيه قرآنا ، وأما ما أنزل اللّه به القرآن ووضعه مواضعه فضعه فى مواضعه التي وضعه اللّه تعالى ».

فاستحسن عمر رأيه وقال له : « صدقت أنت مني وأنا منك » ثم قسم المال بين المسلمين » (2).

وكان صعصعة من صفوة أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن الملازمين له ، وقال الإمام الصادق علیه السلام في حقه : « ما كان مع أمير المؤمنين من يعرف حقه إلا صعصعة وأصحابه » (3). ومرض صعصعة فعاده (عليه السلام) فقال له :

ص: 387


1- الطبري 6 / 157 ، الكامل 3 / 241.
2- الاستيعاب 2 / 189.
3- التعليقات ص 183.

« يا صعصعة ، لا تتخذ عيادتي لك أبهة على قومك!! »

- بلى واللّه أعدها منّة من اللّه وفضلا علي.

- إنك إن كنت على ما علمتك فأنت خفيف المؤنة حسن المعونة.

- وأنت واللّه يا أمير المؤمنين باللّه عليما وبالمؤمنين رءوفا رحيما (1).

ولحصافة رأيه ، وسداد منطقه كان الإمام (عليه السلام) يرسله فى مهامه فقد أرسله مرة الى معاوية ومعه كتاب منه ، فلما انتهى إليه قال معاوية مشيدا بنفسه ومبررا لأعماله :

« الأرض لله وأنا خليفة اللّه فما آخذ من مال اللّه فهو لي وما تركت منه كان جائزا لي ».

وثقل على صعصعة هذا الكلام الملتوي فانبرى إليه مجيبا.

تمنيك نفسك ما لا يكو

ن جهلا معاوي لا تأثم

فتألم معاوية وقال منددا به :

« تعلمت الكلام؟ »

- العلم بالتعلم ومن لا يعلم يجهل.

- ما أحوجك الى أن أذيقك وبال أمرك.

- ليس ذلك بيدك ، ذلك بيد الذي لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها.

- من يحول بيني وبينك؟

- الذي يحول بين المرء وقلبه.

- اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير.

- اتسع بطن من لا يشبع ، ودعا عليه من لا يجمع (2).

ص: 388


1- التعليقات.
2- مروج الذهب 2 / 342.

ودلت هذه المحاورة على قوة جنان صعصعة وانه ليس بالرعديد ولا الهياب ، فقد ردّ على معاوية مقالته بالمثل وقابله بالاستخفاف والاستهانة وهو غير خائف من سلطانه.

وخطب معاوية بعد ما تم له الأمر ، فقام إليه صعصعة فعلق على كل جملة من خطابه ، وفيما يلي خطاب معاوية مع رد صعصعة عليه.

قال معاوية :

- لو أن أبا سفيان ، ولد الناس كلهم كانوا أكياسا ..

- قد ولد الناس كلهم من هو خير من أبي سفيان آدم ، فمنهم الأحمق والكيّس!!

- إن أرضنا قريبة من المحشر.

- إن المحشر لا يبعد على مؤمن ، ولا يقرب من كافر.

- إن أرضنا أرض مقدسة.

- إن الأرض لا يقدسها شيء ، ولا ينجسها ، إنما تقدسها الأعمال.

- عباد اللّه اتخذوا اللّه وليّا ، واتخذوا خلفاءه جنة تحرزوا بها.

- كيف؟! وقد عطلت السنة ، واخفرت الذمة ، فصارت عشواء مطلخمة ، في دهياء مدلهمة ، قد استوعبتها الأحداث ، وتمكنت منها الانكاث.

فثار معاويه وصاح به :

- يا صعصعة ، لإن تقع على ضلعك خير لك من استبراء رأيك ، وإبداء ضعفك ، تعرض بالحسن بن علي ، ولقد هممت أن أبعث إليه ، فأجابه صعصعة قائلا :

« أي واللّه ، وجدتهم أكرمكم جدودا ، وأحياكم حدودا ، وأوفاكم

ص: 389

عهدا ، ولو بعثت إليه لوجدته في الرأي أديبا ، وفي الأمر صليبا ، وفى الكرم نجيبا ، يلذعك بحرارة لسانه ، ويقرعك بما لا تستطيع إنكاره!! »

ولسع قوله معاوية فراح يهدده قائلا :

- لأجفينك عن الوساد ، ولأشردن بك في البلاد.

- واللّه إن فى الأرض لسعة ، وإن فى فراقك لدعة.

- واللّه لأحبسن عطاءك.

- إن كان ذلك بيدك فافعل ، إن العطاء وفضائل النعماء في ملكوت من لا تنفذ خزائنه ، ولا يبيد عطاؤه ، ولا يحيف في قضيته.

- لقد استقتلت!!

- مهلا ، لم أقل جهلا ، ولم أستحل قتلا ، لا تقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ، ومن قتل مظلوما كان اللّه لقاتله مقيما ، يرهقه أليما ، ويجرعه حميما ، ويصليه جحيما (1) ...

وانصرف صعصعة وترك معاوية يتميز غيظا وكمدا ، وعمد بعد ذلك الى سجنه مع جماعة من أصحابه ، وبقوا فى سجنه مدة من الزمن فدخل عليهم قائلا لهم :

« نشدتكم باللّه إلا ما قلتم حقا وصدقا ، أي الخلفاء رأيتموني؟ ».

فانبرى إليه عبد اللّه بن الكواء قائلا :

« لو لا انك عزمت علينا ما قلنا ، لأنك جبار عنيد ، لا تراقب اللّه فى قتل الأخيار ، ولكنا نقول : قد علمنا أنك واسع الدنيا ضيق الآخرة قريب الثرى ، بعيد المرعى ، تجعل الظلمات نورا والنور ظلمات!! »

فقال معاوية له : « إن اللّه أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابين عن

ص: 390


1- تاريخ ابن عساكر 6 / 425.

بيضته ، التاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم اللّه ، والمحلين ما حرم اللّه ، والمحرمين ما أحل اللّه ».

فأجابه ابن الكواء : « يا ابن أبي سفيان ، إن لكل كلام جوابا ونحن نخاف جبروتك ، فان كنت تطلق السنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها فى اللّه لومة لائم ، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم اللّه ويضعنا على فرجه ».

فقال له معاوية : « لا واللّه لا يطلق لك لسان ».

وسكت عبد اللّه فتكلم صعصعة :

« تكلمات يا ابن أبي سفيان فأبلغت ، ولم تقصر عما أردت ، وليس الأمر كما ذكرت ، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ، ودانهم كبرا واستولى بأسباب الباطل كذبا ومكرا!! أما واللّه مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى وما كنت فيه إلا كما قال القائل : « لا حلي ولا سيري » (1) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنما أنت طليق ابن طليق أطلقكما رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فانى تصلح الخلافة لطليق؟ »

وامتلأ قلب معاوية غيظا وكمدا فالتفت إليهم :

« لو لا أني أرجع الى قول أبي طالب حيث يقول :

قابلت جهلهم حلما ومغفرة

والعفو عن قدرة ضرب من الكرم

لقتلتكم » (2).

وكان صعصعة من جملة الأشخاص الذين طلب لهم الإمام الحسن (عليه السلام)

ص: 391


1- أصل هذا المثل ( لا حاء ولا ساء ) ومعناه أنه ليس لك فيه أمر ولا نهي ، جاء ذلك في مجمع الأمثال 2 / 158.
2- مروج الذهب 2 / 341.

من معاوية الأمن وعدم التعرض لهم بسوء ومكروه (1) ولكن معاوية لم يف بذلك فقد روعه وأفزعه وأودعه في سجنه كما روع غيره من زعماء الشيعة ، وصرحت بعض المصادر ان المغيرة نفى صعصعة بأمر معاوية من الكوفة الى الجزيرة أو الى البحرين أو الى جزيرة ابن كافان فمات بها معتقلا منفيا عن وطنه وبلاده وفي رثائه يقول المرزباني (2) :

هلا سألت بني الجارود أي فتى *** عند الشفاعة والبان ابن صوحانا

كنا وكانوا كأم أرضعت ولدا *** عق ولم نجز بالإحسان إحسانا (3)

5 - عدي بن حاتم :

وعدي بن حاتم من أهم الشخصيات الرفيعة الفذة في العراق ، فقد كان قبل الإسلام يتمتع بمجد أصيل وشرف أثيل ، فهو ابن حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، وبالإضافة الى مجده الموروث فقد كان في الإسلام من ابطال العقيدة ، ومن عيون المؤمنين ، ومن رجال الإسلام البارزين ، وقد تقدم في هامش هذا الكتاب شيء موجز عن ترجمته ، والمهم التعرض الى ما لاقاه من الهوان والاستخفاف من قبل ابن هند لأجل ولائه واخلاصه لأمير المؤمنين (عليه السلام) فقد دخل يوما على معاوية فقال له متشمتا به :

ص: 392


1- رجال الكشي ص 46.
2- المرزباني : بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاء وفتح الباء الموحدة وهو جد من انتسب إليه من الأعيان جاء ذلك في اللباب 3 / 124 ، وجاء فى وفيات الأعيان 3 / 443 ، أن لفظ المرزبان لفظ فارسي معناه صاحب الحد ، فان مرز معناه الحد وبان معناه صاحب ، وهو في الأصل عندهم اسم لمن كان دون الملك.
3- الاصابة 2 / 192.

- ما فعلت الطرفات؟ (1).

- قتلوا مع علي.

- ما أنصفك علي قتل أولادك وأبقى أولاده!!.

- ما أنصفك علي إذ قتل وبقيت بعده.

فتألم ابن هند من مقال عدي وقال مهددا له :

« أما إنه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلا دم شريف من أشراف اليمن - يعني به عديا - ».

فانبرى إليه عدي وهو غير مكترث بتهديده قائلا له :

« واللّه إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا ، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فترا ، لندنين إليك من الشر شبرا ، وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم (2) لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي ، فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف ».

فراوغ معاوية على عادته وقال :

« هذه كلمات حكم فاكتبوها ».

ثم أقبل عليه يحدثه كأنه لم يخاطبه بشيء (3) ثم قال له :

« صف لي عليا ».

- إن رأيت أن تعفيني.

- لا أعفيك.

فأخذ عدي في وصف أمير المؤمنين فقال :

ص: 393


1- الطرفات : أولاد عدي وهم طريف وطارف وطرفة.
2- الحيزوم : وسط الظهر.
3- مروج الذهب 2 / 309.

« كان واللّه بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول عدلا ، ويحكم فصلا تتفجر الحكمة من جوانبه ، والعلم من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان واللّه غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يحاسب نفسه إذا خلا ، ويقلب كفيه على ما مضى ، يعجبه من اللباس القصير ، ومن المعاش الخشن ، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويدنينا إذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا ، وقربه منا لا نكلمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته ، فان تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويتحبب الى المساكين ، لا يخاف القوي ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل فى محرابه وأرخى الليل سرباله ، وغارت نجومه ، ودموعه تتحادر على لحيته ، وهو يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأني الآن أسمعه وهو يقول :

« يا دنيا ، إليّ تعرضت أم إليّ أقبلت؟ غري غيري لا حان حينك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعيشك حقير ، وخطرك يسير ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، وقلة الأنيس ».

فوكفت عينا معاوية ، وجعل ينشفهما بكمه وهو يقول :

« يرحم اللّه أبا الحسن ، كان كذلك ، فكيف صبرك عنه؟ »

- كصبر من ذبح ولدها في حجرها فهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تسكن عبرتها.

- فكيف ذكرك له؟

- وهل يتركني الدهر أن أنساه؟ (1) ،

وقد دل هذا الحديث على ولاء عدي لأمير المؤمنين ومن أجل ولائه

ص: 394


1- المحاسن والمساوي 1 / 32.

واخلاصه فقد روع وأفزع ، وقد تقدم أن زيادا أودعه في السجن حفنة من الأيام من أجل عبد اللّه بن خليفة الطائي ولم يراع شخصيته الكريمة ، ومكانته الاجتماعية ، وعظم منزلته ، وإنما فعل ذلك به ليقضي على شيعة أمير المؤمنين علیه السلام .

6 - جارية بن قدامة :

ووفد معاوية بن قدامة السعدي على معاوية ، فقال له معاوية :

- أنت الساعي مع علي بن أبي طالب ، والموقد النار في شعلك ، تجوس قرى عربية تسفك دماءهم؟

- يا معاوية دع عنك عليا ، فما أبغضنا عليا منذ أحببناه ، ولا غششناه منذ صحبناه.

- ويحك يا جارية!! ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية!!

- أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية (1)!

- لا أمّ لك.

- أم ما ولدتني (2) ، إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا.

- إنك لتهددني؟

- إنك لم تملكنا قسرة ، ولم تفتحنا عنوة ، ولكن أعطيتنا عهودا ومواثيق ، فان وفيت لنا وفينا ، وإن ترغب الى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا ، وأدرعا شدادا ، وأسنّة حدادا ، فان بسطت إلينا

ص: 395


1- وفي رواية ابن عبد ربه ( ما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية ) وهي الأنثى من الكلاب.
2- وفي رواية ابن عبد ربه أمي ولدتني للسيوف.

فترا من غدر ، زلفنا إليك بباع من ختر.

- لا كثر اللّه في الناس من أمثالك.

وتركه جارية والأسى ملأ اهابه (1) ، لقد لقي جارية هذا الهوان ، والتبكيت من أجل ولائه للعترة الطاهرة التي فرض اللّه مودتها على جميع المسلمين.

ترويع نساء الشيعة :

ولم يقتصر معاوية فى ارهابه واضطهاده على رجال الشيعة وزعمائهم فقد أخذ يتحرى نساءهم فما ذكرت له امرأة منهم ذات مكانة مهمة إلا وبعث خلفها فقابلها بالاستخفاف والاستهانة ، وأدخل الفزع والخوف فى نفسها ، وإذا وفدت عليه امرأة منهم قابلها بالإذلال ، وأظهر لها ما يكنه في نفسه من الحقد والبغض العارم للإمام أمير المؤمنين ولشيعته وها نحن نقدم الى القارئ الكريم أسماء بعض السيدات اللاتي بعث خلفهن ، واللاتي وفدن عليه مع ما جرى بينهن وبينه من الحديث :

1 - الزرقاء بنت عدي :

وكانت الزرقاء بنت عدي بن غالب ممن عرفت بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكانت من ربات البلاغة والفصاحة والرأي الصائب وكانت في واقعة صفين تدعو الجماهير الى نصرة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتحرضهم على قتال عدوه ، ولما فجع الإسلام بقتل أمير المؤمنين وانتهى الأمر الى ابن هند كتب الى عامله بالكوفة أن يحمل إليه الزرقاء بنت عدي فبعث بها إليه ، فلما دخلت عليه رحب بها ثم قال لها :

ص: 396


1- تأريخ الخلفاء ص 199.

« هل تعلمين لم بعثت إليك؟ ».

- سبحان اللّه أنّى لي بعلم ما لم أعلم!! وهل يعلم ما فى القلوب إلا اللّه.

- بعثت إليك أن أسألك ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين الصفين توقدين الحرب ، وتحرضين على القتال ، فما حملك على ذلك؟

- يا أمير المؤمنين ، إنه قد مات الرأس ، وبتر الذنب ، والدهر ذو غير ، ومن تفكر أبصار ، والأمر يحدث بعده الأمر!!!

- صدقت فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟

- ما أحفظه.

- ولكني واللّه أحفظه لله أبوك لقد سمعتك تقولين : أيها الناس إنكم فى فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن المحجة فيا لها من فتنة عمياء صماء تسمع لناعقها ، ولا تسلس لقائدها ، إن المصباح لا يضيء في الشمس وإن الكواكب لا تنير مع القمر ، وإن البغل لا يسبق الفرس وان الزف (1) لا يوازن الحجر ، ولا يقطع الحديد إلا الحديد ، ألا من استرشدنا أرشدناه ومن استخبرنا أخبرناه ، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها ، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار ، فكان قد اندمل شعب الشتات ، والتأمت كلمة العدل ، وغلب الحق باطله ، فلا يعجلن أحد فيقول : كيف العدل وأنى؟ ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا ، ألا إن خضاب النساء الحناء ، وخضاب الرجال الدماء ، والصبر خير عواقب الأمور ، إيها الى الحرب غير ناكصين ، ولا متشاكسين فهذا يوم له ما بعده.

وبعد ما تلى معاوية كلامها تأثر منه واندفع وهو مغيظ محنق فقال لها :

ص: 397


1- الزف : الصغير من الريش.

« واللّه يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه ».

« أحسن اللّه بشارتك ، وأدام سلامتك ، مثلك من بشر بخير وسر جليسه ».

« وقد سرّك ذلك؟ »

« نعم واللّه لقد سرني قولك فأنّى لي بتصديق الفعل!؟ »

فتبهر معاوية من اخلاصها لأمير المؤمنين فقال :

« واللّه لوفاؤكم له بعد موته احبّ إليّ من حبكم له فى حياته ، اذكري حاجتك؟ »

- إني قد آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه شيئا أبدا ومثلك أعطى من غير مسألة ، وجاد عن غير طلب.

- صدقت.

ثم أقطعها ضيعة وأوصلها وردها الى أهلها (1).

إنه وإن أكرمها أخيرا ، وأجزل لها العطاء إلا أنه قد روعها وأفزعها أولا وأظهر لها الظفر والغلبة والنصر عليها.

2 - أم الخير البارقية :

كانت أم الخير بنت الحريش البارقية من سيدات النساء ومن البليغات البارعات ، وقد عرفت بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكانت في واقعة صفين تحرض الجماهير على حرب ابن هند ، وتحفزهم الى الذب عن أمير المؤمنين ونصرته ، وقد تألم معاوية من مواقفها ، وأضمر لها الحقد والعداء ، ولما انحسرت روح الإسلام باستيلائه على زمام الحكم كتب الى واليه على الكوفة يأمره بأن يحمل إليه أم الخير لينتقم منها ، فلما ورد

ص: 398


1- بلاغات النساء لطيفور طبع النجف ص 32 صبح الأعشى ، المستطرف.

الكتاب الى عامله بعثها إليه ، فلما دخلت على معاوية قالت :

« السلام عليك يا أمير المؤمنين ».

- وعليك السلام ، وبالرغم واللّه دعوتنى بهذا الاسم.

- مه يا هذا ، فان بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه.

- صدقت يا خالة ، وكيف رأيت مسيرك؟

- لم أزل في عافية وسلامة حتى أوفدت الى ملك جزل ، وعطاء بذل ، فأنا في عيش أنيق ، عند ملك رفيق.

- بحسن نيتي ظفرت بكم وأعنت عليكم.

- مه يا هذا ، لك واللّه من دحض المقال ما تردّى عاقبته.

- ليس لهذا أردناك.

- إنما أجرى فى ميدانك إذا أجريت شيئا أجريته ، فاسأل عما بدا لك؟

- كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟

- لم أكن واللّه رويته قبل ، ولا زورته بعد ، وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة ، فان شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت؟

- لا أشاء ذلك!!

ثم التفت الى أصحابه فقال لهم : أيكم حفظ كلام أم الخير؟ فانبرى إليه أحدهم فقال له : أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد فقال له : هاته ، فقال : كأني بها وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية وعلى جمل أرمك (1) وقد احيط حولها وبيدها سوط منتشر الضفر وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول :

« يا أيها الناس ، اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ، إن اللّه

ص: 399


1- جمل أرمك : أي لونه كلون الرماد.

قد أوضح الحق ، وأبان الدليل ، ونوّر السبيل ، ورفع العلم ، فلم يدعكم فى عمياء مبهمة ، ولا سوداء مدلهمة ، فإلى أين تريدون رحمكم اللّه! أفرارا عن أمير المؤمنين؟ أم فرارا من الزحف؟ أم رغبة عن الإسلام؟ أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم اللّه عز وجل يقول : « ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرون ونبلو أخباركم ».

ثم رفعت رأسها الى السماء وهي تقول : « اللّهم قد عيل الصبر ، وضعف اليقين ، وانتشر الرعب ، وبيدك يا رب أزمة القلوب ، فاجمع الكلمة على التقوى ، والّف القلوب على الهدى ، ورد الحق الى أهله ، هلموا رحمكم اللّه الى الإمام العادل ، والوصي الوفي ، والصديق الأكبر ، إنها احن بدرية ، وأحقاد جاهلية ، وضغائن أحدية ، وثب بها معاوية حين الغافلة ، ليدرك بها ثارات بني عبد شمس ».

ثم قالت : « قاتلوا أئمة الكفر انهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون » صبرا معاشر المهاجرين والأنصار ، قاتلوا على بصيرة من ربكم ، قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة ، فرت من قسورة ، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض ، باعوا الآخرة بالدنيا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا البصيرة بالعمى ، وعما قليل ليصبحن نادمين حين تحل الندامة فيطلبون الاقالة إنه واللّه من ضل عن الحق وقع فى الباطل ، ومن لم يسكن الجنة نزل النار ، أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها ، واستبطئوا مدة الآخرة فسعوا لها ، واللّه أيها الناس لو لا أن تبطل الحقوق ، وتعطل الحدود ، ويظهر الظالمون ، وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه ، فإلى أين تريدون رحمكم اللّه؟ عن ابن عم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وزوج ابنته وأبي ابنيه؟ خلق من طينته ، وتفرع من

ص: 400

نبعته. وخصه بسره ، وجعله باب مدينته ، وأعلم بحبه المسلمين ، وأبان ببغضه المنافقين ، فلم يزل كذلك يؤيده بمعونته ، ويمضى على سنن استقامته لا يرجع لراحة اللذات وهو مفلق الهام ، ومكسر الأصنام ، إذ صلى والناس مشركون ، وأطاع والناس مرتابون ، فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر ، وأفنى أهل أحد ، وفرق جمع هوازن ، فيا لها وقائع زرعت فى قلوب قوم نفاقا ، وردة وشقاقا ، وقد اجتهدت فى القول ، وبالغت فى النصيحة ، وباللّه التوفيق وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته ».

فانتفخت أوداج معاوية غيظا وحنقا وقال لها بنبرات تقطر غضبا :

« واللّه يا أم الخير ما أردت بهذا إلا قتلي ، واللّه لو قتلتك ما حرجت فى ذلك ».

فأجابته وهي غير خائفة منه :

« واللّه ما يسؤني يا ابن هند أن يجري اللّه ذلك على يد من يسعدني اللّه بشقائه ».

- هيهات يا كثيرة الفضول ، ما تقولين فى عثمان بن عفان؟

- وما عسيت أن أقول فيه استخلفه الناس وهم كارهون ، وقتلوه وهم راضون.

وبعد حديث جرى بينهما أطلق أخيرا سراحها وعفا عنها (1).

3 - سودة بنت عمارة :

وسودة بنت عمارة بن الأشتر الهمداني من سيدات نساء العراق ، ومن ربات الفصاحة والبيان ، ورثت حب أمير المؤمنين من آبائها الكرام الذين عرفوا بالحب والأخلاص له ، وفدت على معاوية تشتكي عنده جور عامله

ص: 401


1- اعلام النساء 1 / 332 ، بلاغات النساء ص 36 صبح الأعشى.

فلما دخلت عليه عرفها فقال لها :

ألست القائلة يوم صفين؟ :

شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة *** يوم الطعان وملتقى الأقران

وانصر عليا والحسين ورهطه *** واقصد لهند وابنها بهوان

إن الإمام أخا النبي محمد *** علم الهدى ومنارة الإيمان

فقد الجيوش وسر أمام لوائه *** قدما بأبيض صارم وسنان

قالت : « أي واللّه ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب ».

- فما حملك على ذلك؟!

- حب علي وإتباع الحق.

- فو اللّه ما أرى عليك من أثر علي شيئا؟!

- يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب ، فدع عنك تذكار ما قد نسي واعادة ما مضى.

- هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى ، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك.

- صدق فوك لم يكن أخي ذميم المقام ، ولا خفي المكان كان واللّه كقول الخنساء :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم فى رأسه نار

- صدقت كان كذلك.

- مات الرأس وبتر الذنب ، وباللّه أسأل أمير المؤمنين اعفائي مما استعفيت منه.

- قد فعلت فما حاجتك؟

- إنك أصبحت للناس سيدا. ولأمرهم متقلدا ، واللّه سائلك من

ص: 402

أمرنا ، وما افترض من حقنا. ولا يزال يقدم علينا من ينوء بعزك. ويبطش بسلطانك فيحصدنا حصد السنبل ، ويدوسنا دوس البقر ، ويسومنا الخسيسة ، ويسلبنا الجليلة هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك فقتل رجالي وأخذ مالي ، ولو لا الطاعة لكان فينا عز ومنعة ، فأما عزلته عنا فشكرناك ، وإما لا فعرفناك.

فتأثر معاوية من كلامها وقال لها :

« أتهدديني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه ».

فأطرقت الى الأرض وهي باكية العين حزينة القلب ثم أنشأت تقول :

صلى الإله على جسم تضمنه *** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا *** فصار بالحق والإيمان مقرونا

- ومن ذلك؟

- علي بن أبي طالب.

- وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟

- قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين ، فأتيت عليا علیه السلام لأشكو إليه ما صنع ، فوجدته قائما يصلي فلما نظر إلي انفتل من صلاته ، ثم قال لي برأفة وتعطف : ألك حاجة؟ فأخبرته الخبر فبكى ثم قال : « اللّهم إنك أنت الشاهد عليّ وعليهم أني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقك » ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب ، فكتب فيها : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ، قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، بقية اللّه خير لكم إن كنتم مؤمنين ، وما أنا

ص: 403

عليكم بحفيظ ، إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام » فأخذته منه ، واللّه ما ختمه بطين ولا حزمه بحزام.

فتبهر معاوية وتعجب من هذا العدل والإنصاف وقال : « أكتبوا لها بالانصاف والعدل لها ».

فانبرت إليه قائلة :

« ألي خاصة أم لقومى عامة؟ »

- وما أنت وغيرك؟

- هي واللّه إذن الفحشاء واللؤم ، إن لم يكن عدلا شاملا ، وإلا فأنا كسائر قومى.

- هيهات لمظكم ابن أبي طالب الجرأة وغركم قوله :

فلو كنت بوابا على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

ثم قال : « اكتبوا لها ولقومها بحاجتها » (1).

4 - أم البراء بنت صفوان :

وكانت أم البراء بنت صفوان بن هلال من سيدات النساء في عفتها وطهارة ذيلها ، عرفت بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين علیه السلام ، وكان لها موقف مشرف في صفين فكانت تحرض الجماهير الحاشدة على مناجزة معاوية وقتاله ، ولما انتهى الأمر إليه وفدت عليه فقال لها :

« كيف أنت يا بنت صفوان؟ »

- بخير يا أمير المؤمنين.

- كيف حالك؟

ص: 404


1- أعلام النساء 2 / 663 ، العقد الفريد 1 / 211 ، بلاغات النساء ص 30.

- ضعفت بعد جلد ، وكسلت بعد نشاط.

- شتان بينك اليوم وحين تقولين :

يا عمرو دونك صارما ذا رونق *** غضب المهزة ليس بالخوار

أسرج جوادك مسرعا ومشمرا *** للحرب غير معرد لفرار

أجب الإمام ودب تحت لوائه *** وافر العدو بصارم بتار

يا ليتني أصبحت ليس بعورة *** فأذب عنه عساكر الفجار

- قد كان ذاك يا أمير المؤمنين ، ومثلك عفا واللّه تعالى يقول :

« عفا اللّه عما سلف ».

- هيهات أما انه لو عاد لعدت ، ولكن أخترم دونك فكيف قولك حين قتل؟ » فقالت نسيته.

فانبرى إليه بعض جلسائه فقال إنها تقول :

يا للرجال لعظم هول مصيبة *** فدحت فليس مصابها بالهازل

الشمس كاسفة لفقد إمامنا *** خير الخلائق والإمام العادل

يا خير من ركب المطي ومن مشى *** فوق التراب لمحتف أو ناعل

حاشا النبي لقد هددت قواءنا *** فالحق أصبح خاضعا للباطل

فتألم ابن هند وقال لها :

« قاتلك اللّه يا بنت صفوان ، ما تركت لقائل مقالا اذكري حاجتك ».

ولما رأت بنت صفوان الاستهانة والتحقير من معاوية امتنعت أن تفوه بحاجتها وتسأله بمسألتها فقالت له :

« هيهات بعد هذا واللّه لا سألتك شيئا ».

ولما قامت من مجلسه عثرت فقالت : « تعس شاءني علي » (1).

ص: 405


1- بلاغات النساء ص 75 ، وصبح الأعشى.

وقد لاقت هذه المرأة النبيلة الكريمة المحتد والطيبة العنصر الاستهانة والإذلال لحبها لأمير المؤمنين.

5 - بكارة الهلالية :

وبكارة الهلالية من سيدات النساء الموصوفات بالشجاعة والإقدام والفصاحة والبلاغة ، كانت من أنصار أمير المؤمنين في واقعة صفين وقد خطبت فيها خطبا حماسية دعت فيها جنود الحق للذب عن سيد المسلمين وأمير المؤمنين (عليه السلام) ولحرب عدوه.

وفدت بكارة على معاوية بعد أن تم له الأمر ، وقد كبرت ودق عظمها ، ومعها خادمان وهي متكئة عليهما وبيدها عكاز ، فسلمت على معاوية بالخلافة فأحسن لها الرد وأذن لها بالجلوس ، وكان عنده مروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، فعرفها مروان فالتفت الى معاوية قائلا : « أما تعرف هذه يا أمير المؤمنين؟ »

- ومن هي؟

- هي التي كانت تعين علينا يوم صفين وهي القائلة :

يا زيد دونك فاستثر من دارنا *** سيفا حساما فى التراب دفينا

قد كان مذخورا لكل عظيمة *** فاليوم أبرزه الزمان مصونا

واندفع ابن العاص قائلا : يا أمير المؤمنين وهي القائلة :

أترى ابن هند للخلافة مالكا *** هيهات ذاك وما أراد بعيد

منتك نفسك في الخلاء ضلالة *** أغراك عمرو للشقاء وسعيد

فارجع بأنكد طائر بنحوسها *** لاقت عليا أسعد وسعود

وانبرى بعدهما سعيد قائلا : يا أمير المؤمنين وهي القائلة :

قد كنت آمل أن أموت ولا أرى *** فوق المنابر من أميّة خاطبا

ص: 406

فاللّه أخر مدتي فتطاولت *** حتى رأيت من الزمان عجائبا

في كل يوم لا يزال خطيبهم *** وسط الجموع لآل أحمد عائبا

وسكت القوم ، فالتفتت بكارة الى معاوية قائلة له :

« نبحتنى كلابك يا أمير المؤمنين واعتورتني ، فقصرت محجتي وكثر عجبي ، وغشي بصري ، وأنا واللّه قائلة ما قالوا لا أدفع ذلك بتكذيب ، فامض لشأنك ، فلا خير فى العيش بعد أمير المؤمنين » (1).

ثم انصرفت والألم يحز فى فؤادها ، قد نبحتها كلاب معاوية واحتوشها جلساؤه الأوغاد.

6 - أروى بنت الحارث :

وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب من سيدات نساء المسلمين فى اقدامها وشجاعتها وحسن منطقها ، قد عرفت بالولاء والحب لأمير المؤمنين علیه السلام ، وفدت على معاوية فوجهت له سهاما من القول ، وعرضت في كلامها عن محنة أهل البيت (عليهم السلام) وما لاقوه بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المحن والبلاء وهذا نص كلامها :

« أنت يا ابن أخي لقد كفرت بالنعمة ، وأسأت لابن عمك - يعني عليا - الصحبة ، وتسميت بغير اسمك ، وأخذت غير حقك بغير بلاء كان منك ولا من آبائك في الإسلام ، ولقد كفرتم بما جاء به محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأتعس اللّه منكم الجدود ، وأصعر منكم الخدود ، حتى رد اللّه الحق الى أهله ، وكانت كلمة اللّه هي العليا ، ونبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو المنصور على من ناوأه ولو كره المشركون ، فكنا أهل البيت أعظم الناس فى الدين حظا ونصيبا وقدرا حتى قبض اللّه نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مغفورا ذنبه ، مرفوعا

ص: 407


1- بلاغات النساء ص 34 ، عقد الفريد.

درجته شريفا عند اللّه مرضيا فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون يذبحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى حيث يقول : « يا ابن أم ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » ، ولم يجمع بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لنا شمل ، ولم يسهل لنا وعر ، وغايتنا الجنة ، وغايتكم النار ».

وكان ابن العاص حاضرا فلسعه كلامها فاندفع قائلا :

« أيتها العجوز الضالة أقصري من قولك ، وغضي من طرفك ».

- ومن أنت لا أم لك؟

- عمرو بن العاص.

- يا ابن اللخناء النابغة ، أتكلمني؟!! أربع على ضلعك ، وأعن بشأن نفسك ، فو اللّه ما أنت من قريش فى اللباب من حسبها ، ولا كريم منصبها ، ولقد ادعاك ستة من قريش كل واحد يزعم أنه أبوك ، ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر فأتم بهم فانك بهم أشبه.

والتفت لها مروان بن الحكم فقال لها :

« أيتها العجوز الضالة ساخ بصرك مع ذهاب عقلك ، فلا تجوز شهادتك ».

فانبرت إليه قائلة :

« يا بني أتتكلم؟ فو اللّه لأنت الى سفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم ، وإنك لتشبهه فى زرقة عينيك ، وحمرة شعرك ، مع قصر قامته ، وظاهر دمامته ، ولقد رأيت الحكم ماد القامة ، ظاهر الأمة ، سبط الشعر وما بينكما من قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرب

ص: 408

فاسأل أمك عما ذكرت لك فانها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت ».

ثم التفتت الى معاوية فقالت له :

« واللّه ما عرضني لهؤلاء غيرك وإن أمك هند القائلة فى يوم أحد في قتل حمزة رحمة اللّه عليه :

نحن جزيناكم بيوم بدر *** والحرب يوم الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر *** أبي وعمي وأخي وصهرى

شفيت وحشي غليل صدري *** شفيت نفسي وقضيت نذري

فشكر وحشي عليّ عمري *** حتى تغيب أعظمي في قبري

فأجبتها :

يا بنت رقاع عظيم الكفر *** خزيت فى بدر وغير بدر

صبحك اللّه قبيل الفجر *** بالهاشميين الطوال الزهر

بكل قطاع حسام يفري *** حمزة ليثي وعلي صقري

إذ رام شبيب وأبوك غدري *** أعطيت وحشي ضمير الصدر

هتك وحشي حجاب الستر *** ما للبغايا بعدها من فخر

فثار معاوية والتفت الى ابن العاص ومروان قائلا :

« ويلكما أنتما عرضتماني لها وأسمعتماني ما أكره ».

ثم التفت إليها فقال لها :

« يا عمة اقصدي حاجتك ودعي عنك أساطير النساء ».

- تأمر لي بألفي دينار ، وألفي دينار ، وألفي دينار.

- ما تصنعين بألفي دينار؟

- أشتري بها عينا خرخارة ، في أرض خوارة تكون لولد الحارث ابن عبد المطلب.

ص: 409

- نعم الموضع وضعتها ، فما تصنعين بألفي دينار؟

- أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم.

- نعم الموضع وضعتها ، فما تصنعين بألفي دينار؟

- أستعين بها على عسر المدينة ، وزيارة بيت اللّه الحرام.

- نعم الموضع وضعتها ، هي لك نعم وكرامة.

ثم التفت إليها بعد هذا العطاء الجزيل ليرى مدى اخلاصها لأمير المؤمنين قائلا :

« أما واللّه لو كان علي ما أمر لك بها!! »

- صدقت ، إن عليا أدى الأمانة ، وعمل بأمر اللّه وأخذ به ، وأنت ضيعت أمانتك ، وخنت اللّه فى ماله ، فأعطيت مال اللّه من لا يستحقه وقد فرض اللّه في كتابه الحقوق لأهلها وبيّنها فلم تأخذ بها ، ودعانا علي الى أخذ حقنا الذي فرض اللّه لنا فشغل بحربك عن وضع الأمور في مواضعها ، وما سألتك من مالك شيئا فتمن به إنما سألتك من حقنا ، ولا نرى أخذ شيء غير حقنا ، أتذكر عليا فضّ اللّه فاك وأجاهد بلاءك؟.

ثم بكت وقالت راثية لأمير المؤمنين :

ألا يا عين ويحك أسعدينا *** ألا وابكي أمير المؤمنينا

رزينا خير من ركب المطايا *** وفارسها ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال أو احتذاها *** ومن قرأ المثاني والمئينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين *** رأيت البدر راع الناظرينا

ولا واللّه لا أنسى عليا *** وحسن صلاته في الراكعينا

أفي الشهر الحرام فجعتمونا *** بخير الناس طرا أجمعينا

ص: 410

فأمر لها معاوية بستة آلاف دينار فأخذتها وانصرفت (1) وقد أراد معاوية بتكريمه لها استمالة قلبها وصرفها عن حب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد خاب سعيه ، فان من طبع على حب أمير المؤمنين والإخلاص إليه كيف يغيره المال؟ وتقلب عقيدته المادة ، وقد فاهت بهذا الشعور الطيب كريمة أبي الأسود الدؤلي فقد بعث معاوية حلوى هدية الى أبيها ليستميله عن حب أمير المؤمنين (عليه السلام) فتناولت ابنته قطعة من تلك الحلوى ووضعتها في فيها فقال لها أبوها :

« يا بنتي القيها فانها سم ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين ويردنا عن محبة أهل البيت!! »

فلما سمعت بذلك انبرت الى أبيها تعرب له عن شعورها الطيب وعن مدى حبها لأمير المؤمنين قائلة :

« قبحه اللّه ، يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر ، تبا لمرسله وآكله!! »

ثم قاءت ما أكلته وأنشأت تقول :

أبا لشهد المزعفر يا ابن هند *** نبيع عليك أحسابا ودينا

معاذ اللّه كيف يكون هذا *** ومولانا أمير المؤمنينا (2)

7 - عكرشة بنت الأطرش :

وعكرشة بنت الأطرش سيدة جليلة تعد في طليعة نساء العرب فى شجاعتها ، وقوة بيانها ، كانت فى صفين تدعو الناس الى نصرة الإمام ومناجزة عدوه ، ولما تم الأمر الى معاوية وفدت عليه فسلمت عليه بالخلافة

ص: 411


1- بلاغات النساء ص 27 ، العقد الفريد 1 / 219.
2- الكنى والألقاب 1 / 8.

فتذكر موقفها في صفين فقال لها :

« يا عكرشة الآن صرت أمير المؤمنين؟ »

فقالت له :

« نعم إذ لا عليّ حي ».

فلم يقتنع بذلك وأخذ يذكرها بموقفها وخطبها فى صفين قائلا :

« ألست صاحبة الكور المسدول ، والوسيط المشدود ، والمتقلدة بحمائل السيف ، وأنت واقفة بين الصفين تقولين :

« يا أيها الناس ، عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إن الجنة دار لا يرحل عنها من قطنها ، ولا يحزن من سكنها ، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ، ولا تنصرم همومها ، كونوا قوما مستبصرين ، إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب ، غلف القلوب ، لا يفقهون الإيمان ، ولا يدرون ما الحكمة؟ دعاهم بالدنيا فأجابوه ، واستدعاهم الى الباطل فلبوه ، فاللّه اللّه عباد اللّه في دين اللّه!! وإياكم والتواكل ، فان فى ذلك نقض عروة الإسلام ، وإطفاء نور الإيمان ، وذهاب السنة ، وإظهار الباطل هذه بدر الصغرى ، والعقبة الأخرى ، قاتلوا يا معشر الأنصار والمهاجرين على بصيرة من دينكم ، واصبروا على عزيمتكم ، فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة ، والبغال الشحاجة تضفع ضفع البقر ، وتروث روث العتاق ».

وبعد ما تلى معاوية عليها خطابها قال لها بنبرات تقطر غضبا :

« فو اللّه لو لا قدر اللّه ، وما أحب أن يجعل لنا هذا الأمر لقد كان انكفأ علي العسكران فما حملك على ذلك؟ »

فقابلته بناعم القول قائلة :

ص: 412

« إن اللبيب إذا كره أمرا لم يحب إعادته ».

- صدقت اذكري حاجتك.

- إن اللّه قد رد صدقاتنا علينا ورد أموالنا فينا إلا بحقها ، وإنا قد فقدنا ذلك ، فما ينعش لنا فقير ، ولا يجبر لنا كسير فان كان ذلك عن رأيك فما مثلك من استعان بالخونة ، ولا استعمل الظالمين.

فما اعتنى معاوية باسترحامها وقال لها :

« يا هذه إنه تنوبنا أمور هي أولى بنا منكم ، من بحور تنبثق ، وثغور تنفتق ».

- يا سبحان اللّه!! ما فرض اللّه لنا حقا جعل لنا فيه ضررا على غيرنا ما جعله لنا وهو علام الغيوب.

ولم يجد حينئذ معاوية بدا من إجابتها فقال لها :

- هيهات يا أهل العراق نبهكم ابن أبي طالب فلن تطاقوا.

ثم أمر لها بقضاء حاجتها وردها الى أهلها (1). 8 - الدارمية الحجونية :

ومن سيدات النساء وخيارهن الدارمية الحجونية ، عرفت بالصلاح والنسك ، وبقوة الحجة ، وشدة العارضة ، قد والت الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، ولما تم الأمر الى معاوية بعث خلفها وكان آنذاك في الحجاز فلما مثلت عنده قال لها :

« كيف حالك يا ابنة حام »

- بخير ، ولست لحام إنما أنا امرأة من قريش من بني كنانة ، ثمت من بني أبيك.

ص: 413


1- بلاغات النساء ص 70 ، العقد الفريد 1 / 215 ، صبح الأعشى.

- صدقت ، هل تعلمين لم بعثت إليك؟

- لا ، يا سبحان اللّه!! وأنّى لي بعلم ما لم أعلم؟

- بعثت إليك أن أسألك علام أحببت عليا (عليه السلام) وأبغضتيني؟ وعلام وأليتيه وعاديتيني؟

- أو تعفيني من ذلك؟

- لا أعفيك ، لذلك دعوتك.

- فأما إذا أبيت فإني أحببت عليا (عليه السلام) على عدله في الرعية ، وقسمه بالسوية ، وأبغضتك على قتالك من هو أولى بالأمر منك ، وطلبك ما ليس لك ، وواليت عليا على ما عقد له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الولاية وحب المساكين ، واعظامه لأهل الدين ، وعاديتك على سفكك الدماء ، وشقك العصا.

فتأثر ابن هند من مقالها وقال فاحشا ومستهزئا :

« صدقت فلذلك انتفخ بطنك ، وكبر ثديك ، وعظمت عجيزتك » فردت عليه مقالته بالمثل :

« يا هذا بهند واللّه يضرب المثل لا أنا ».

- لا تغضبي فانا لم نقل إلا خيرا ، إنه إن انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها ، وإذا كبر ثديها حسن غذاء ولدها ، وإذا عظمت عجيزتها وزن مجلسها.

فهدأ روعها ، وسكن غضبها ، ثم التفت لها :

- هل رأيت عليا؟

- أي واللّه لقد رأيته.

- كيف رأيته؟

ص: 414

- لم ينفخه الملك ، ولم تصقله النعمة (1).

- هل سمعت كلامه؟

- كان واللّه كلامه يجلو القلوب من العمى ، كما يجلي الزيت صداء الطست.

- صدقت ، هل لك من حاجة؟

- أو تفعل إذا سألتك؟

- نعم.

- تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها.

- ما تصنعين بها؟

- أغذو بألبانها الصغار ، وأستحيي بها الكبار ، واكتسب بها المكارم واصلح بها بين العشائر.

- فان أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟

- سبحان اللّه!!! أو دونه أو دونه.

فتبهر معاوية وقال :

إذا لم أعد بالحلم مني عليكم *** فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم

خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد *** جزاك على حرب العداوة بالسلم

أما واللّه لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا.

- لا واللّه ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (2).

ص: 415


1- وفي العقد الفريد : رأيته واللّه لم يفتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النعمة التي شغلتك.
2- بلاغات النساء ص 72 ، العقد الفريد 1 / 216 ، صبح الأعشى 1 / 259.

الى هنا يننهي بنا الحديث عما لاقته شيعة أمير المؤمنين علیه السلام من التنكيل ، والتعذيب ، والإعدام ، والعسف ، والإرهاب ، والإذلال ، والتحقير من قبل معاوية وعامله زياد ، وبذلك فقد نقض معاوية أهم شروط الصلح ، وهو عدم التعرض لشيعة آل البيت بسوء ومكروه وغائلة :

المؤتمر الحسيني :

ولما رأى سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) الإجرءات الحاسمة التي اتخذها معاوية ضد العترة الطاهرة ، عقد (عليه السلام) مؤتمرا في مكة ، دعا فيه جمهورا غفيرا ممن شهد موسم الحج من المهاجرين والأنصار ، والتابعين ، وغيرهم من سائر المسلمين ، وعرض عليهم ما ألمّ بأهل البيت وبشيعتهم من المحن والخطوب من جراء الحكم القائم الذي عمد الى اتخاذ جميع الوسائل للكيد لآل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واخفاء فضائلهم ، وستر ما أثر عن الرسول فى حقهم وقد ألزم حضار مؤتمره باذاعة ذلك بين المسلمين ، ونسوق ما رواه سليم ابن قيس فى ذلك قال :

« ولما كان قبل موت معاوية بسنة ، حج الحسين بن علي ، وعبد اللّه ابن عباس ، وعبد اللّه بن جعفر ، فجمع الحسين بني هاشم ، رجالهم ونساءهم ، ومواليهم ، ومن حج منهم من الأنصار ، ممن يعرفه الحسين علیه السلام وأهل بيته ، ثم أرسل رسلا وقال لهم : لا تدعوا أحدا حج العام من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعروفين بالصلاح والنسك إلا اجمعوهم لي ، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل وهم فى سرادقه. عامتهم من التابعين ، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله فقام فيهم خطيبا :

ص: 416

« فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فان هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم ، وعلمتم وشهدتم. وإني أريد أن أسألكم عن شيء فان صدقت فصدقوني ، وإن كذبت فكذبوني ، اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا الى أمصاركم وقبائلكم ، فمن أمنتم من الناس ، ووثقتم به فادعوهم الى ما تعلمون من حقنا. فاني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويغلب ، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون ».

« وما ترك شيئا مما أنزله اللّه فيهم من القرآن إلا تلاه وفسره ، ولا شيئا مما قاله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فى أبيه وأخيه وأمه وفى نفسه وأهل بيته إلا رواه .. وكل ذلك يقول أصحابه اللّهم نعم ، وقد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي : اللّهم قد حدثني به من أصدقه وائتمنه من الصحابة ، فقال : أنشدكم اللّه إلا حدثتم به من تثقون به وبدينه ... » (1)

وكان هذا المؤتمر الذي عقده الإمام أول مؤتمر عرفه العالم الإسلامى في ذلك الوقت ، فقد شجب فيه الإمام سياسة معاوية ، ودعا المسلمين الى مناهضة حكمه ، والى الإطاحة بسلطانه.

4 - البيعة ليزيد :

ومن أهم بنود الصلح إرجاع الخلافة الإسلامية الى الإمام الحسن ، ومن بعده الى أخيه الحسين علیهماالسلام بعد هلاك معاوية ، فقد كانت هذه المادة من أهم شروط الصلح التي وقع عليها معاوية ، ولكنه بعد ما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، صمم على نقضها ، وعلى عدم الوفاء بها ، فقد أخذ يعمل مجدّا في جعل الخلافة وراثة في أهل بيته ، وهو بهذا الفعل

ص: 417


1- سليم بن قيس.

كما يقول الاستاذ السيد قطب : « مدفوع بدافع لا يعرفه الإسلام ، دافع العصبية العائلية والقبلية ، وما هي بكثيرة على معاوية ولا بغريبة عليه ، فمعاوية بن أبي سفيان وابن هند بنت عتبة ، وهو وريث قومه وأشبه شيء بهم في بعد روحه عن حقيقة الإسلام » (1).

لقد كان معاوية في فعله هذا مدفوعا بدافع الجاهلية العمياء ، وبدافع العصبية القبلية التي شجبها الإسلام فقد اعتبر المواهب والكفاءة والعلم والجدارة فيمن يتولى شئون الحكم ، والغى جميع الاعتبارات التي لا تمت لذلك ، فقد صح عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمّر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة اللّه لا يقبل منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم » (2) ولكن معاوية الذي برىء من الإسلام راح يعمل بوحي من جاهليته الى الانتقام من الإسلام والى تمزيق صفوف المسلمين فعمد الى جعل الخلافة الى ولده الفاسق الأثيم يزيد وقد صور فسقه ومجونه الشاعر العبقري الاستاذ الكبير بولس سلامة بقوله :

وترفق بصاحب العرش مشغو *** لا عن اللّه بالقيان الملاح

ألف ( اللّه أكبر ) لا يساوي *** بين كفي يزيد نهلة راح

تتلظى في الدنان بكرا فلم *** تدنس بلثم ولا بماء قراح (3)

وقال فيه عبد اللّه بن حنظلة الصحابي العظيم المنعوت بالراهب قتيل واقعة الحرة : واللّه ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ، إنه رجل ينكح الامهات ، والبنات ، والأخوات ، ويشرب الخمر

ص: 418


1- العدالة الاجتماعية ص 180.
2- النصائح ص 39.
3- ملحمة الغدير ص 227.

ويدع الصلاة ، واللّه لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسنا » (1). وقال فيه المنذر بن الزبير لما قدم المدينة : « إن يزيد قد أجازني بمائة الف ، ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره ، واللّه إنه ليشرب الخمر ، واللّه إنه ليسكر حتى يدع الصلاة » (2) ، وقال ابن فليح إن أبا عمرو بن حفص وفد على يزيد فأكرمه ، وأحسن جائزته ، فلما قدم المدينة قام الى جنب المنبر وكان مرضيا صالحا فخطب الناس فقال لهم : « ألم أحب؟ ألم أكرم؟ واللّه رأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة مسكرا ، (3).

لقد كان معاوية يعلم فسق ولده وارتكابه للموبقات ، وادمانه على شرب المسكر ، وتركه للصلاة ، وقد أدلى بذلك في كتابه الذي ندد فيه بأفعاله فقد جاء فيه ما نصه :

« بلغني أنك اتخذت المصانع والمجالس للملاهي والمزامير كما قال تعالى : « أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخالدون » ، وأجهرت الفاحشة حتى اتخذت سريرتها عندك جهرا. اعلم يا يزيد ، ان أول ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة ، وآلائه المتواترة ، وهي الجرحة العظمى ، والفجعة الكبرى : ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها ، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها ، ثم استحسان العيوب ، وركوب الذنوب ، وإظهار العورة ، وإباحة السر ، فلا تأمن نفسك على سرك ، ولا تعتقد على فعلك » (4).

ص: 419


1- تأريخ ابن عساكر 7 / 372 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 81.
2- البداية والنهاية 8 / 216 ، الكامل لابن الأثير 4 / 45.
3- تاريخ ابن عساكر 7 / 28.
4- صبح الأعشى 6 / 388.

ومع علمه بمروق ولده عن الدين ، واستحلاله لما حرّم اللّه ، واغراقه في الشهوات ، كيف يمكنه من رقاب المسلمين ويفرضه حاكما عليهم ، إنه بذلك مدفوع بدافع الحقد على الإسلام ، وبدافع العصبية الجاهلية التي أترعت بها نفسه الشريرة.

لقد أجاهد معاوية نفسه في فرض يزيد حاكما على المسلمين ، فقد ظل سبع سنين يروض الناس ، ويعطي الأقارب ، ويدني الأباعد من أجل ذلك (1) ، ولما هلك زياد وكان كارها لبيعة يزيد أظهر عهدا مفتعلا عليه فيه عقد الخلافة ليزيد من بعده (2) ، وهكذا اعتمد على جميع الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين فى سبيل جعل الملك في بني أميّة وتحويل الخلافة عن مفاهيمها الخلاقة الى الملك العضوض. وقد جرت تلك المقدمات التي عملها معاوية فى حياة الإمام الحسن (عليه السلام) ولكنه لم يعلن البيعة الرسمية ليزيد إلا بعد اغتياله للإمام ، وعلينا أن نعرض بعض الوسائل التمهيدية التي عملها معاوية من أجل ذلك.

دعوة المغيرة :

وأول من تصدى الى الدعوة لهذه البيعة المشومة المنافق الأثيم أعور ثقيف المغيرة بن شعبة صاحب الأحداث والموبقات في الإسلام (3) وسبب

ص: 420


1- العقد الفريد 2 / 302.
2- تاريخ الطبري 6 / 270 ، العقد الفريد 2 / 302.
3- من موبقات المغيرة انه أول من رشى في الإسلام كما يروي ذلك البيهقي وغيره ، ومن جرائمه انه الوسيط في استلحاق زياد بمعاوية ، وهو صاحب الدعوة الى البيعة ليزيد ،

ذلك فيما يرويه المؤرخون أن معاوية أراد عزله عن الكوفة فبلغه ذلك ، فرأى أن يسافر الى دمشق ويبادر بتقديم استقالته عن منصبه حتى لا تكون عليه حزازة ، وليرى الناس أنه كاره للإمارة والحكم ، ولما وصل الى دمشق عنّ له أن يلتقي بيزيد قبل التقائه بمعاوية فيحبذ له الخلافة من بعد أبيه ليتخذ من اغرائه وسيلة الى اقراره فى الحكم ، كما أدلى بذلك لأصحابه ولما التقى بيزيد قال له :

« إنه قد ذهب أعيان أصحاب محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم ، وأحسنهم رأيا ، وأعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟. »

ولما سمع ذلك يزيد الطائش المغرور طار لبه فرحا وسرورا فانبرى إليه قائلا :

« أو ترى ذلك يتم؟ »

« نعم ».

ومضى يزيد مستعجلا الى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فارتاح معاوية بذلك وبعث بالوقت خلفه فعرض عليه مقالته ليزيد فأجابه بصدور ذلك منه ثم انبرى إليه يحفزه على تحقيق هذه الفكرة قائلا له مقال المنافق الذي لا يعرف الخير ولا يفكر به :

« يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فان حدث بك حدث كان كهفا للناس وخلفا منك ، ولا تسفك دماء ، ولا تكون فتنة!! »

وأصابت هذه الكلمات الهدف المقصود لمعاوية فقال له مخادعا ومستشيرا :

« ومن لي بهذا؟ »

ص: 421

« أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. »

فاستحسن معاوية رأيه ، وأجازه على ذلك فأقره فى عمله ، ثم أمره بالخروج الى الكوفة ليعمل على تحقيق ذلك ، ولما انصرف عنه اجتمع بقومه فبادروه بالسؤال عن مصيره فأجابهم بما جلبه من البلاء والفتن لعموم المسلمين من أجل غايته قائلا :

« لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد الغاية على أمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا » وتمثل :

بمثلي شاهد النجوى وغالى *** بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى انتهى الى الكوفة ، ففاوض بمهمته جماعة ممن عرفهم بالولاء والإخلاص للبيت الأموي فأجابوه الى ما أراد فأوفد منهم عشرة الى معاوية بعد أن أرشاهم بثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم عميدا ولده موسى ، فلما انتهوا الى معاوية حبذوا له الأمر ودعوه الى انجازه فشكرهم معاوية ، وأوصاهم بكتمان الأمر ، ثم التفت الى ابن المغيرة فساره قائلا :

« بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ »

- بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية وقال :

« لقد هان عليهم دينهم » (1).

لقد توصل معاوية الى تحقيق ذلك بشراء الأديان والضمائر والى الاعتماد

ص: 422


1- تأريخ الطبري 6 / 169 ، الكامل لابن الأثير 3 / 214 ، وكان قدوم المغيرة على معاوية في سنة 45 ، ففي هذه السنة عمل معاوية مقدمات البيعة لولده.

على الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين.

وفود الأمصار :

ووجه معاوية دعوة رسمية الى جميع الشخصيات الرفيعة فى العالم الإسلامى يدعوهم الى الحضور في دمشق ليفاوضهم في أمر البيعة ليزيد ، فلما حضروا عنده دعا الضحاك بن قيس الفهري سرّا وقال له :

« إذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامى ، فاستاذني للقيام ، فاذا أذنت لك فاحمد اللّه تعالى ، واذكر يزيد وقل فيه الذي يحق له عليك ، من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني الى توليته من بعدي فاني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فاسأل اللّه في ذلك ، وفى غيره الخيرة وحسن القضاء ».

ثم دعا فريقا آخر من الأذناب والعملاء الذين هان عليهم دينهم فباعوه بأبخس الأثمان ، فأمرهم بتصديق مقالة الضحاك وتأييد فكرته ، وهم : عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد اللّه بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد اللّه بن عصام الأشعري ، فاستجابوا لدعوته ، ونزى معاوية على المنبر فحدث الناس بما شاء أن يتحدث به ، وبعد الفراغ من حديثه انبرى إليه الضحاك فاستأذنه بالكلام فأذن له ، فقال بعد حمد اللّه والثناء عليه : « أصلح اللّه أمير المؤمنين ، وأمتع به ، إنا قد بلونا الجماعة والألفة والاختلاف ، والفرقة ، فوجدناها ألمّ لشعثنا ، وأمنة لسبلنا ، وحاقنة لدمائنا وعائدة علينا فى عاجل ما نرجو ، وآجل ما نؤمل ، مع ما ترجو به الجماعة من الألفة ، ولا خير لنا أن نترك سدى ، والأيام عوج رواجع واللّه يقول : « كل يوم هو في شأن » ، ولسنا ندري ما يختلف به العصران ، وأنت

ص: 423

يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء اللّه وخلفائه ، نسأل اللّه بك المتاع ، وقد رأينا من دعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وحسن مذهبه وقصد سيرته ، ويمن نقيبته ، مع ما قسم اللّه له من المحبة في المسلمين ، والشبه بأمير المؤمنين ، في عقله ، وسياسته وشيمته المرضية ، ما دعانا الى الرضا به في امورنا ، والقنوع به في الولاية علينا ، فليوله أمير المؤمنين - أكرمه اللّه - عهده ، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده ، نأوي إليه إن كان كون ، فانه ليس أحد أحق بها منه ، فاعزم على ذلك عزم اللّه لك في رشدك ، ووفقك في امورنا ».

ودل هذا الكلام على أن صاحبه رجل سوء ونفاق ، فقد عمد الى سحق جميع القيم الإنسانية في سبيل أطماعه ومنافعه.

ولما فرغ الضحاك من مقالته انبرى من بعده زملاؤه فأيدوا مقالته ، وأخذوا ينسبون ليزيد فضائل المحسنين ، ويضفون عليه مواهب العبقريين ، ويطلقون عليه الألقاب الضخمة ، والنعوت الشريفة التي اتصف بعكسها ، وأخذوا يموهون على المجتمع أنهم إنما تكلموا من صالحه واسعاده ، وهم - يعلم اللّه - إنما أرادوا هلاكه وتحطيمه ، والقضاء على نواميسه ومقدساته وبعد ما انتهى حديث هؤلاء التفت معاوية الى الوفد العراقي ليسمع رأيه وكان شخصية الوفد الأحنف بن قيس حليم العرب وسيد تميم فطلب منه معاوية الرأي فى الأمر ، فقام الأحنف خطيبا فحمد اللّه وأثنى عليه ثم التفت الى معاوية قائلا :

« أصلح اللّه أمير المؤمنين ، ان الناس قد أمسوا فى منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد بن أمير المؤمنين ، نعم الخلف وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين فاعرف من تسند إليه الأمر من

ص: 424

بعدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ، ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا » :

لقد منح الأحنف النصيحة الى معاوية وأرشده الى الحق فأشار عليه بعدم سماع أقوال المرتزقين الذين ينظرون الى صالح أنفسهم أكثر مما ينظرون لصالحه ، وبيّن له أن العراقيين والحجازيين لا يرضون بهذه البيعة ما دام حفيد الرسول وسبطه الأول حيا ، وقد اثارت هذه الكلمات غضب النفعيين والمرتشين الذين تذرع معاوية بهم الى تحقيق هدفه فقام إليه الضحاك بن قيس فندد بمقالته وشتم العراقيين وهذا نص كلامه :

« أصلح اللّه أمير المؤمنين ، إن أهل النفاق من أهل العراق مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، والفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من اللّه راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا ابليس لهم ربا ، واتخذهم ابليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين فى نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان اللّه الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم ، وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل ».

ولم نحسب أن العراق قد ذم بمثل هذا الذم الفظيع ، أو وصم بمثل هذه الامور ، ولكن العراقيين هم الذين جروا لأنفسهم هذا البلاء وتركوا هذا الوغد وأمثاله يحط من كرامتهم ، ويتطاول عليهم.

ص: 425

وعلى أي حال ، فان الأحنف لم يذعن لمعاوية ولم يعتن بمقالة الضحاك فقد انبرى يهدد معاوية باعلان الحرب إن أصرّ على تنفيذ فكرته قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنا قد فررنا (1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود اللّه ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فان تف فأنت أهل الوفاء وإن تغدر تعلم ، واللّه إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم فى ذلك غير من السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم اللّه إن الحسن لأحب لأهل العراق من علي ».

لقد بالغ الأحنف فى نصح معاوية ، وذكر له تمسك العراقيين بولاء أهل البيت (عليهم السلام) وان اخلاصهم للإمام الحسن أكثر من أبيه ، وهم على استعداد الى مناجزته إن نفذ بيعة يزيد ، وانطلق عبد الرحمن بن عثمان فندد بمقالة الأحنف ، وحرض معاوية على تنجيز مهمته قائلا له :

« أصلح اللّه أمير المؤمنين ، ان رأي الناس مختلف ، وكثير منهم منحرف ، لا يدعون أحدا الى رشاد ، ولا يجيبون داعيا الى سداد ، مجانبون لرأي الخلفاء ، مخالفون لهم في السنة والقضاء ، وقد وقفت ليزيد فى أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية ، فاذا خار اللّه لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام فان يزيد أعظمنا حلما وعلما ، وأوسعنا كنفا ، وخيرنا سلفا ، قد

ص: 426


1- فررنا : أي بحثنا وفتشنا.

أحكمته التجارب ، وقصدت به سبل المذاهب فلا يصرفنك عن بيعته صارف ، ولا يقفن بك دونها واقف ، ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو ، وفي صدره داء دوّى ، إن قال فشر قائل ، وإن سكت فذو دغائل ، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والكلف للتفريق فاجعل ببيعته عنا الغمة ، واجمع به شمل الأمّة ، فلا تحد عنه إذا هديت له ، ولا تنش عنه إذا وقفت له ، فان ذلك الرأي لنا ولك ، والحق علينا وعليك ، اسأل اللّه العون وحسن العاقبة لنا ولك ».

وصورت لنا هذه الكلمات ضميرا قلقا ، ونفسا أثيمة ، قد اعتنقت الشر ، وابتعدت عن الخير ، وانبرى معاوية يهدد من لا يوافقه على رغبته ليفرض على المجتمع الخضوع لفكرته ، والرضا ببيعة يزيد قائلا :

« أيها الناس : إن لإبليس إخوانا وخلاّنا ، بهم يستعد ، وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أو جفوا ، وإن استغنى عنهم أرجفوا ، ثم يلحقون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، إن ولوا عروة أمر حنقوا ، وإن دعوا الى غي أسرفوا وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين ، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث اصولهم كاجتثاث اصول الفقع (1) فأولى لأولئك ثم أولى ، فانا قد قدما وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر ».

بمثل هذا الإرهاب الفظيع الذي لم يعهد له نظير تذرع معاوية الى تحقيق فكرته ، ثم استدعى الضحاك بن قيس فولاه الكوفة جزاء لكلامه

ص: 427


1- الفقع : بالفتح والكسر ، البيضاء الرخوة من الكماة.

بعد هلاك المغيرة ، واستدعى عبد الرحمن فولاه الجزيرة ، وقام يزيد بن المقفع رافعا عقيرته قائلا :

« أمير المؤمنين هذا - وأشار الى معاوية - ».

ثم قال : « فإن هلك ، فهذا - وأشار الى يزيد - ».

ثم قال : « فمن أبى ، فهذا - وأشار الى السيف -!!! »

فاستحسن معاوية كلامه وقال له :

« اجلس ، فأنت سيد الخطباء وأكرمهم!! »

بهذا اللون من الإرهاب فرض معاوية ابنه الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين ، فلولا السيف لما وجد الى ذلك سبيلا. ولما رأى الأحنف بن قيس تصميم معاوية على فكرته وعدم تنازله عنها انبرى إليه قائلا :

« يا أمير المؤمنين : أنت أعلمنا بليله ونهاره ، وبسره وعلانيته ، فان كنت تعلم أنه خير لك فوله واستخلفه ، وإن كنت تعلم أنه شر لك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر الى الآخرة ، فانه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند اللّه إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » (1).

ولم يعتن معاوية بمقالة الأحنف ونصحه ، ولم يفكر في مصير المسلمين إذا استخلف عليهم ولده قرين الفهود والمدمن على الخمور ، وأخذ معاوية ولده يزيد فأجلسه فى قبة حمراء وبايعه بولاية العهد وأمر الناس بمبايعته ، وأقبل بعض العملاء فسلم عليهما ثم أقبل على معاوية فقال له :

« يا أمير المؤمنين : اعلم انك لو لم تول هذا - وأشار الى يزيد -

ص: 428


1- الامامة والسياسة 1 / 174 - 180.

أمور المسلمين لاضعتها ».

فالتفت معاوية الى الأحنف :

« ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ »

- أخاف اللّه إذا كذبت ، وأخافكم إذا صدقت.

- جزاك اللّه على الطاعة خيرا.

وخرج الأحنف فلقيه ذلك الرجل بعد أن أجزل له معاوية بالعطاء فقال للأحنف معتذرا من مقالته :

« يا أبا بحر : إني لأعلم ان شر من خلق اللّه هذا وابنه - يعنى معاوية ويزيد - ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت » (1).

لقد أحدث معاوية بهذه البيعة المشومة صدعا في الإسلام ، وقد صور لنا الشاعر الموهوب عبد اللّه بن هشام السلولي بمقطوعته الرائعة جزعه وجزع خيار المسلمين من خلافة يزيد بقوله :

فان تأتوا برملة أو بهند *** نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى *** نعد ثلاثة متناسقينا

فيا لهفا لو أن لنا ألوفا *** ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتموا حتى تعودوا *** بمكة تلعقون بها السخينا

خشينا الغيظ حتى لو شربنا *** دماء بني أميّة ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم *** تصيدون الأرانب غافلينا (2)

لقد ذعر المسلمون في جميع أقطار الأرض من هذا الحادث الخطير

ص: 429


1- تاريخ ابن خلكان 1 / 230 ، التمدن الإسلامى 4 / 76 - 77.
2- مروج الذهب 2 / 339.

لأن الخلافة عندهم ليست كسروية ولا قيصرية حتى تورث بل أمرها شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا وذلك عند الجمهور من أبناء السنة والجماعة ، وأما عند الشيعة فإنها حق شرعي لأمير المؤمنين وأولاده الطيبين كما نصّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ذلك.

ومهما يكن من شيء فإن معاوية بعد ما أخذ البيعة ليزيد من أهل دمشق رفع مذكرة الى جميع عماله يطلب فيها أخذ البيعة ليزيد من جميع المواطنين ، واستجاب جميع عماله لذلك سوى مروان بن الحكم فإنه قد ورم أنفه لصرف الأمر عنه وهو شيخ الأمويين بعد معاوية ، وتوجّه فورا بحاشيته الى دمشق ، فلما مثل عند معاوية انبرى إليه وهو مغيظ قائلا :

« أقم الامور يا ابن أبي سفيان ، واعدل عن تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك من قومك نظراء ، وأن لك على مناوءتهم وزراء ».

فاندفع إليه معاوية يخادعه قائلا له بناعم القول :

« أنت نظير أمير المؤمنين ، وعدته في كل شديدة ، وعضده ، والثاني بعد ولي عهده. »

ثم أعطاه ولاية العهد حيلة منه ومكرا وأخرجه من عاصمته مكرما فلما وصل الى يثرب عزله عن منصبه (1) وجعل مكانه سعيد بن العاص وقيل الوليد بن عاقبة ، وكتب إليه أن يأخذ البيعة من أهل المدينة لولده إلا انه فشل أخيرا فى أداء مهمته فقد أصرت الجماهير على رفض دعوة معاوية وعدم طاعته في شأن خليفته الجديد ، خصوصا الشخصيات الرفيعة من أبناء المهاجرين والأنصار فإنهم قد شجبوا ذلك وأعلنوا سخطهم وإنكارهم على معاوية ، فإنهم كانوا يحقرون يزيد ويأنفون أن يعد في مصافهم ،

ص: 430


1- مروج الذهب 2 / 330.

فضلا عن أن يكون خليفة عليهم.

سفرة معاوية الاولى بشرب :

ورأى معاوية بعد امتناع المدنيين عن بيعة يزيد واجماعهم على رفضها أن ينطلق بنفسه الى المدينة ليفاوض أهل الحل والعقد ، وليشتري الذمم والضمائر بالأموال ، ويتوعد ويرهب من لم يخضع للمادة ليفوز ولده بالخلافة وسافر من أجل هذه الغاية الى يثرب وذلك سنة خمسين من الهجرة ، فلما انتهى إليها بعث فورا نحو عبد اللّه بن عباس ، وعبد اللّه بن جعفر ، وعبد اللّه بن عمر ، وعبد اللّه بن الزبير. فلما حضروا عنده أمر حاجبه أن لا يسمح لأحد بالدخول عليه حتى يخرج هؤلاء النفر من عنده ثم التفت إليهم قائلا :

« الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فإني قد كبر سني ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن أستخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارهم ، وأبناء خيارهم ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي ، على حسن رأيي فيهما ، وشديد محبتي لهما فردوا على أمير المؤمنين خيرا ، رحمكم اللّه ».

وقد احتوى كلامه على اللين والمدح والثناء ، ولكن هؤلاء الأبطال الذين هم نخبة العرب والمسلمين رأيا وإقداما ، لم يذعنوا لمعاوية وردوا عليه مقاله وعرفوه بمن هو أهل للخلافة وأول من تكلم منهم حبر الأمّة عبد اللّه

ص: 431

ابن عباس فقال :

« الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده ، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى اللّه على محمد وآل محمد.

أما بعد : فانك قد تكلمات فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن اللّه جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه اختار محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمّة التسليم لنبيها ، إذا اختاره اللّه لها ، فإنه إنما اختار محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر اللّه لي ولكم ».

وتكلم من بعده عبد اللّه بن جعفر فقال :

« الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه : نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا اللّه واحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

أما بعد : فان هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه ، وإن أخذ فيها بسنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأولو رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأيم اللّه لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمّة سيفان ، فاتق اللّه يا معاوية ، فانك قد صرت راعيا ، ونحن رعية ، فانظر لرعيتك ، فانك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي ، وتركك أن تحضرهما ، فو اللّه ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم انهما معدن العلم

ص: 432

والكرم ، فقل أودع واستغفر اللّه لي ولكم ».

وبيّن عبد اللّه بن جعفر استحقاق أهل البيت (عليهم السلام) للخلافة على جميع الوجوه فان كان مدرك استحقاقها القرآن الكريم فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ، وإن كانت السنة المقدسة قال الرسول أولى بالأمر من غيرهم ، وإن كانت سنة الشيخين قال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أولى بالأمر وذلك لمواهبهم وكمالهم وتقدمهم على غيرهم بالعلم والفضل ، ثم بيّن الأضرار الناجمة من ترك الأمّة لهم وعدم اتباعهم ، وانبرى من بعده عبد اللّه بن الزبير فقال :

« الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فان هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتق اللّه يا معاوية وأنصف نفسك ، فإن هذا عبد اللّه بن عباس ابن عم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا عبد اللّه بن جعفر ذي الجناحين ابن عم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنا عبد اللّه بن الزبير ابن عمة رسول اللّه ، وعلي خلف حسنا وحسينا وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق اللّه يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك ».

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وحفزهم لمعارضة معاوية وإفساد مهمته ، وانبرى من بعده عبد اللّه بن عمر فقال :

« الحمد لله الذي أكرمنا بدينه ، وشرفنا بنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو اللّه ما أدخلنى مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست

ص: 433

شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم انه لا يغني عنك من اللّه شيئا ».

لقد شجب ابن عمر بيعة يزيد ولكنه لم يلبث أن سمع وأطاع وبايع له لأن معاوية قد أرشاه بمائة ألف دينار (1) وبذلك فقد باع عليه ضميره ودينه.

ومهما يكن من شيء فان معاوية قد ثقل عليه كلام هؤلاء النفر فلقد جابهوه بعدم صلاحية ابنه للخلافة ، وانهم أولى بها منه ، وانبرى إليهم مجيبا :

« قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع ان ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما مضى رسول اللّه ولىّ الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك الى بني عبد مناف فلا يزال فيهم الى يوم القيامة وقد أخرجك اللّه يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء اللّه ».

وعلى أي حال فقد فشل معاوية فى مهمته ونزح عن يثرب وولى الى عاصمته ، وأعرض عن ذكر بيعة يزيد (2) فلقد عرف انها لا تتم ما دام الحسن حيا ، فأخذ يطيل التفكير في كيفية اغتيال الإمام حتى يتم له الأمر وقد توصل الى ما أراد ، فاغتاله بالسم كما سنبينه عند نهاية المطاف من هذا الكتاب.

ص: 434


1- سنن البيهقي 8 / 159 ، تأريخ ابن كثير 8 / 137 ، فتح الباري 13 / 59.
2- الامامة والسياسة 1 / 180 - 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 - 236.

لقد اتخذ معاوية بعد اغتياله للإمام جميع التدابير ، واعتمد على جميع الوسائل فى ارغام المسلمين على بيعة يزيد ، وفرضه حاكما عليهم ، وقد راسل الوجوه من أبناء المهاجرين والأنصار يدعوهم الى ذلك ، وذكر المؤرخون نصوص رسائله مع أجوبتهم له ، وقد كتب الى الإمام الحسين علیه السلام ما نصه :

« أما بعد : فقد انتهت إلي منك امور ، لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك ، في خطرك وشرفك ، ومنزلتك التي أنزلك اللّه بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق اللّه ، ولا تردن هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون .. »

وأجابه أبو الشهداء (عليه السلام) فذكر له الاحداث الجسام التي ارتكبها وعرض عليه ما مني به المسلمون من الظلم والجور فى دوره ، وقد استشهدنا ببعض فصوله للاستدلال به على شجب الإمام الحسين (عليه السلام) لموبقات معاوية وقد جاء فى آخر جوابه ما لفظه :

« وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأمّة في فتنة. وإني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة محمد ، وإني واللّه ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة الى ربي ، وإن لم أفعل فأستغفر اللّه لذنبي وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، فكدني ما بدا لك.

ص: 435

واتق اللّه يا معاوية ، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها! واعلم أن اللّه ليس بناس لك ، قتلك بالظنة ، وأخذك بالتهمة وامارتك صبيا يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب!! ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام. » (1)

ولم يجد مع ابن هند النصح ، ولا التحذير من عقوبة اللّه ، فقد راح يعمل بوحي من جاهليته الى ضرب الإسلام ، والى ارغام المسلمين على مبايعة يزيد المستحل لجميع ما حرم اللّه.

سفره الثاني الى يثرب :

ولما رأى معاوية أن خيار الصحابة ، وأبناء المهاجرين والأنصار لم يستجيبوا لدعوته ، وأصروا على رفض بيعة يزيد سافر مرة أخرى الى يثرب ، وقد أحاط نفسه بالقوى العسكرية ليرغم الجبهة المعارضة على الاستجابة له ، وفي اليوم الثاني من قدومه أرسل الى الإمام الحسين ، والى عبد اللّه بن عباس ، وسبق ابن عباس فأجلسه معاوية عن يساره وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين (عليه السلام) فأجلسه عن يمينه وسأله عن بني الحسن وعن أسنانهم فاخبره بذلك ، وخطب معاوية خطبة أشاد فيها بيزيد ، وذكر علمه بالقرآن والسنة ، وحسن سياسته ، ثم دعاهم الى بيعته والى الاستجابة لقوله.

خطبة الامام الحسين :

وقام أبي الضيم بعد خطاب معاوية فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال :

ص: 436


1- الإمامة والسياسة 1 / 188 - 190.

« أما بعد : يا معاوية ، فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من ايجاز الصفة ، والتنكب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبّق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول!! فما أغناك أن تلقي اللّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فو اللّه ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حنى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثا ، ولقد لعمر اللّه أورثنا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان الى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا اولي الأبصار.

ص: 437

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر اللّه يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول فى أوكد الأحكام ، وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا ، وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد فى دينه وقرابته وتتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي فى دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر اللّه لي ولكم. »

وذهل معاوية فنظر الى ابن عباس فقال له :

« ما هذا يا ابن عباس؟؟ »

« لعمر اللّه إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، قاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم اللّه بأمره وهو خير الحاكمين » (1).

وانصرف الإمام (عليه السلام) وترك الأسى يحر في نفس معاوية ، واعتمد معاوية بعد ذلك على جميع وسائل العنف والإرهاب ، فقد روى المؤرخون أنه لما كان في مكة أحضر الإمام الحسين ، وعبد اللّه بن الزبير ، وعبد الرحمن ابن أبي بكر ، وابن عمر وقال لهم : إني أتقدم إليكم ، إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم ، فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة ، فأقسم باللّه لئن ردّ عليّ

ص: 438


1- الإمامة والسياسة 1 / 195 - 196.

أحدكم كلمة فى مقامى هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!

ودعا صاحب حرسه بحضورهم فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فان ذهب رجل يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما؟!

وخرج وخرجت الجماعة معه فنزى على المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال :

« إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتز أمر دونهم ، ولا يقضى إلا عن مشورتهم ، وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد ، فبايعوا على اسم اللّه » (1).

وبهذه الوسائل الرهيبة ، والكذب السافر حمل معاوية المسلمين على بيعة يزيد وقد انتهك بذلك الحرمات ، والقى المسلمين فى الفتن والبلاء.

عائشة وبيعة يزيد :

ولم تعارض عائشة هذه البيعة المشومة ، ولم تعمل أي عمل إيجابي ضد هذه الكارثة الكبرى التي روع بها المسلمون ، وانتهكت بها حرمة الإسلام ، فقد كانت تدلي بالرأي لمعاوية في حمل المعارضين على الطاعة فقد أوصته بالرفق بهم ، واللين معهم ليستجيبوا له قائلة :

« وارفق بهم - أي بالمعارضين - فإنهم يصيرون الى ما تحب إن شاء اللّه!! » (2)

ص: 439


1- الكامل لابن الأثير وغيره.
2- الإمامة والسياسة.

لقد وقفت عائشة هذا الموقف المؤسف من بيعة يزيد الماجن الخليع وهي من دون شك تعلم بفسقه ، وبلعبه بالفهود والقرود ، واستباحته لما حرم اللّه ، إن الفكر ليقف حائرا أمام موقفها هذا ، وموقفها من بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو أخو النبي وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فإنها لما أخبرت ببيعته انهارت أعصابها ، وهتفت وهي حانقة مغيظة ، وبصرها يشير الى السماء ثم ينخفض فيشير الى الأرض قائلة :

« واللّه ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب!! »

وقفلت راجعة الى مكة تحفز الجماهير لحرب الإمام رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، فقادت الجيوش لمناجزته حتى أغرقت الأرض بالدماء ، وأشاعت الثكل والحزن والحداد بين المسلمين للإطاحة بحكمه.

وعلى أي حال ، فإن موقف عائشة من بيعة يزيد ، وتأييد ابن عمر وسائر القوى النفعية لها قد أخلد للمسلمين الفتن والمصاعب وجرّ لهم الويلات والخطوب ، فقد سارت الخلافة الإسلامية تنتقل بالوراثة الى الطلقاء وأبنائهم الذين لم يألوا جاهدا في الكيد للإسلام ، وفى نشر البغي والفساد في الأرض.

ص: 440

أزواجه وعقبه

اشارة

ص: 441

ص: 442

وتساءل السائلون عن كثرة أزواج الإمام الحسن (عليه السلام) وأرجف المرجفون فى ذلك ، وقد بلغ الحقد وسوء الظن ببعض الجاهلين أن قالوا إنه إنما تزوج بهذه الكثرة اجابة لداعي الهوى واشباعا للشهوة ، وما عرفوا أن الإمام بعيد كل البعد عن الانقياد لهذه الغرائز فهو سيد شباب أهل الجنة وممن نطق القرآن الكريم بعصمته وطهارته ، وسنذكر نص كلام القائلين بذلك مشفوعا ببيان بطلانه وفساده ، وحيث أن الموضوع قد حامت حوله الشكوك والظنون ، وحفّت به التهم والطعون فلا بد من البحث عنه وبيان الواقع فيه ولو اجمالا ، فنقول : قد ذهب بعض أهل العلم الى تصحيح ذلك والى عدم منافاته لسيرة الإمام وهديه ، وذهب بعض آخر الى وضع ذلك وعدم صحته ، ومن الخير أن نسوق أدلة الطرفين ، أما المصححون فقد استدلوا عليه بما يلي :

1 - انه لا مانع بحسب الشريعة الإسلامية المقدسة من كثرة الزواج فقد ندب الإسلام إليه كثيرا ، وقد اشتهرت كلمة المنقذ الأعظم في الحث على ذلك فقد قال صلی اللّه علیه و آله : « تناكحوا تناسلوا حتى أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالقسط ». وقال سفيان الثوري : « ليس فى النساء سرف ». وقال الخليفة الثاني : « إني أتزوج المرأة ومالي فيها من أرب ، وأطؤها ومالي فيها من شهوة » ، فقيل له : « فلما ذا تتزوجها؟ » فقال : « حتى يخرج مني من يكاثر به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) » وتزوج المغيرة بن شعبة بألف امرأة (1) ، وقد كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) أربع نسوة ، وتسعة عشر وليدة (2) هذا في الإسلام. وأما قبل الإسلام فقد كان لسليمان بن

ص: 443


1- الإستيعاب 4 / 370.
2- شرح الشفاء لعلي القاري 1 / 208.

داود سبعمائة حرة وثلاثمائة سرية ، وتزوج أبوه داود (عليه السلام) بمائة حرة وثلاثمائة سرية ، فكثرة التزويج لا مانع منها بحسب الشرع الإسلامى وغيره ، وعليه فأي حزازة على الإمام في ارتكابه لذلك؟

2 - إنما تزوج بهذه الكثرة لتقوى شوكته ، ويشتد أزره بالمصاهرة على الأمويين الذين بذلوا جميع جهودهم للقضاء على الهاشميين وتحطيم كيانهم ومحو ذكرهم.

3 - إن أولياء النسوة كانوا يعرضون بناتهم على الإمام ويلحون عليه بالتزويج بهن لأجل التشرف به ، والتقرب إليه ، فهو حفيد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسبطه الأكبر ، وسيد شباب أهل الجنة ، ومضافا الى ذلك انهم رأوا أن عائشة بنت أبي بكر كان أبوها من أواسط قريش شرفا وبسبب زواج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بابنته قد احتل مكانة مرموقة فى العالم الإسلامى ، ولهذا الأمر كانوا يعرضون بناتهم على الإمام ويلحون عليه بالتزويج بهن ليحضوا بالعز والشرف بمصاهرة الإمام لهم ، هذا ما استدل به المصححون للكثرة وأما النافون فقد استدلوا على ذلك بأمور :

1 - كراهة الطلاق شرعا.

لقد ثبت عند القائلين بالكثرة والملتزمين بها ان الإمام كان مطلاقا وانه كان يفارق من تزوجها بأقرب وقت ، ومن المعلوم ان الطلاق من أبغض الأشياء في الإسلام ، وقد تواترت الأخبار في كراهته وفي النهي عنه ، فقد أثر عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) انه لما بلغه أن أبا أيوب يريد أن يطلق زوجه ، قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إن طلاق أم أيوب لحوب - أى أثم - وقال أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) : إن اللّه يحب البيت الذي فيه العرس ، ويبغض البيت الذي فيه الطلاق ، وما من شيء أبغض الى اللّه عز وجل من الطلاق

ص: 444

وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : ما من شيء مما أحله اللّه أبغض إليه من الطلاق وإن اللّه عز وجل يبغض المطلاق الذواق ، وقال علیه السلام : تزوجوا ، ولا تطلقوا ، فإن الطلاق يهتز منه العرش (1) ومع هذه الكراهة الشديدة كيف يرتكبه الإمام ويبالغ فيه؟

2 - منافاته لهدي الإمام.

وقد ثبت ان الإمام حليم المسلمين والمثل الأعلى للأخلاق الفاضلة ، ومن المعلوم أن الطلاق ينافي الحلم إذ فيه كسر لقلب المرأة وإذلال لها وذلك لا يتفق مع ما عرف به الإمام من الحرص على ادخال السرور على الناس واجتناب المساءة ، والأذى لكل انسان.

3 - انشغاله عن ذلك.

لقد كان الإمام مشغولا عن أمثال هذه الأمور بعبادته واتجاهه نحو اللّه وعمله المستمر في حقل الإصلاح وقضاء حوائج الناس وجلب الخير لهم ودفع الشر والشقاء عنهم فلا تفكير له إلا بالأمور الإصلاحية ، وليس عنده مزيد من الوقت ليقضيه فى ذلك.

هذا مجموع ما استدل به النافون ، وإن كان بعضه لا يخلو من ضعف.

أما أنا فبحسب تتبعي عن أحوال الإمام أرى أن هذه الكثرة موضوعة وبعيدة عن الواقع كل البعد ، وبيان ذلك لا يتم إلا بعرض الروايات ، والبحث عن سندها الذي هو شرط فى قبول الرواية فنقول : قد اختلف رواة الأثر فى ذلك اختلافا كثيرا فقد روي أنهن :

1 - سبعون.

2 - تسعون.

ص: 445


1- وسائل الشيعة 15 / 267 - 268.

3 - مائتان وخمسون.

4 - ثلاثمائة.

وروي غير هذا إلا أنه من الشذوذ بمكان ، والمهم البحث عن سند هذه الروايات فعليها يدور البحث نفيا واثباتا فنقول :

أما الرواية ( الأولى ) : فقد ذكرها ابن أبي الحديد وغيره (1) وقد أخذوها عن علي بن عبد اللّه البصري الشهير بالمدائني المتوفى سنة ( 225 هج ) وهو من الضعفاء الذين لا يعول على أحاديثهم ، فقد امتنع مسلم من الرواية عنه فى صحيحه (2) ، وضعفه ابن عدي فى الكامل فقال فيه : « ليس بالقوي الحديث ، وهو صاحب الأخبار قل ماله من الروايات المسندة » (3) وقال له الأصمعي : واللّه لتتركن الإسلام وراء ظهرك (4) ، وكان من خلص أصحاب أبي اسحاق الموصلي ، وقد رافقه من أجل أمواله وثرائه. فقد روى أحمد بن أبي خيثمة قال : كان أبي ويحيى بن معين ، ومصعب الزبيري يجلسون على باب مصعب فمر رجل على حمار فاره ، وبزة حسنة فسلم ، وخص بسلامه يحيى فقال له : يا أبا الحسن الى أين؟ قال : الى دار هذا الكريم الذي يملأ كمي دنانير ودراهم اسحاق الموصلي ، فلما ولى قال يحيى : ثقة ، ثقة ، ثقة فسألت أبي من هذا؟ فقال : هذا المدائني (5) وكان يروي عن عوانة بن الحكم المتوفى سنة ( 158 هج ) وهو عثماني وكان

ص: 446


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 8.
2- ميزان الاعتدال 3 / 138 ط دار احياء الكتاب العربية.
3- لسان الميزان 4 / 252.
4- ميزان الاعتدال 3 / 139.
5- لسان الميزان 4 / 253 ، معجم الأدباء 12 / 126.

يضع الأخبار لبني أمية (1) ، ولذا كان المدائني يشيد بالأمويين ويبالغ فى تمجيدهم وبالإضافة لذلك ، فقد كان مولى لسمرة بن حبيب الأموي (2) ، والموالي على الأكثر تنطبع في نفوسهم ميول مواليهم وسائر نزعاتهم ، وقد تأثر المدائني بنفسية سمرة ، فكان أموي النزعة ومن المنحرفين عن أهل البيت وبعد هذا فلا يبقى لنا أي وثوق برواياته واحاديثه.

وأما الرواية ( الثانية ) : فقد اقتصر على روايتها الشبلنجي (3) وقد رواها مرسلة فلا يصح التعويل عليها نظرا لارسالها.

وأما الرواية ( الثالثة ) و ( الرابعة ) : فقد رواهما المجلسي (4) ، وابن شهر اشوب (5) ، وقد نص كل منهما انه قد أخذهما عن ( قوت القلوب ) لأبي طالب المكي المتوفى سنة ( 380 هج ) ، وقد راجعنا هذا الكتاب فوجدناه قد ذكر ذلك ، وهذا نص ما جاء فيه :

« وتزوج الحسن بن علي (عليه السلام) مائتين وخمسين ، وقيل ثلاثمائة ، وكان علي يضجر من ذلك ويكره حياء من أهلهن إذ طلقهن ، وكان يقول : ان حسنا مطلق فلا تنكحوه ، فقال له رجل من همدان : واللّه يا أمير المؤمنين لننكحنه ما شاء ، فمن أحب أمسك ، ومن كره فارق ، فسرّ علي بذلك وأنشأ يقول :

ص: 447


1- لسان الميزان 4 / 386.
2- معجم الأدباء 14 / 124 ، وفى لسان الميزان 4 / 253 انه مولى لعبد الرحمن بن سمرة.
3- نور الأبصار ص 111.
4- البحار 10 / 137.
5- المناقب 2 / 246.

ولو كنت بوابا على باب جنة *** لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وهذا أحد ما كان الحسن يشبه فيه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان يشبهه فى الخلق والخلق ، فقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اشبهت خلقي وخلقي وقال : حسن مني وحسين من علي ، وكان الحسن ربما عقد له على أربعة وربما طلق أربعة » (1).

وأبو طالب المكي لا يعول على مؤلفه ، فقد ورد في ترجمته انه لما ألف ( قوت القلوب ) ، كان طعامه عروق البردي حتى اخضر جلده من كثرة تناولها ، وكان مصابا ( بالهستيريا ) ، قدم بغداد واعظا فاحتف به البغداديون فرأوا في حديثه هذيانا وخروجا عن موازين الاستقامة فتركوه ونبذوه ، ومن هجره وشذوذ قوله : « ليس على المخلوقين أضر من الخالق » وكان يبيح سماع الغناء فدعا عليه عبد الصمد بن علي ودخل عليه معاتبا فقال له أبو طالب :

فيا ليل كم فيك من متعة *** ويا صبح ليتك لم تقرب

فخرج منه عبد الصمد وهو ساخط عليه ، ومن شذوذه انه لما حضرته الوفاة دخل عليه بعض أصدقائه فقال له أبو طالب : « إن ختم لي بخير فانثر على جنازتي لوزا وسكرا » ، فقال له صديقه : وما علامة الغفران لك؟ قال : إن قبضت على يدك. فلما حان موته قبض على يد صاحبه قبضا شديدا ، فامتثل زميله ذلك فنثر على جنازته لوزا وسكرا (2) ، ونص المترجمون له أيضا أنه ذكر في كتابه أحاديث لا أصل لها.

ص: 448


1- قوت القلوب 2 / 246.
2- البداية والنهاية 11 / 319 ، لسان الميزان 5 / 300 ، الكنى والألقاب 1 / 106 ، المنتظم لابن الجوزي 7 / 190.

ومع هذا فكيف يعول على رواياته ويؤخذ بها ، ومن أخذ عنه فهو غير عالم بحاله ، وعلى كل فالرقم القياسي لكثرة أزواج الإمام مستندة إليه ومأخوذة عنه ، ونظرا لما هو فيه من الشذوذ والانحراف فلا يمكن التعويل على ما ذكره.

ومهما يكن من شيء فليس عندنا دليل مثبت لكثرة أزواج الإمام سوى هذه الروايات ، وهي لا تصلح للاعتماد عليها نظرا للشبه والطعون التي حامت حولها ، ويؤيد افتعال تلكم الكثرة امور :

1 - انها لو صحت لكان للإمام من الأولاد جمع غفير يتناسب معها والحال أن النسابين والرواة لم يذكروا للإمام ذرية كثيرة فان الرقم القياسي الذي ذكر لها اثنان وعشرون ولدا ما بين ذكر وانثى وهذا لا يلتئم كليا مع تلك الكثرة ولا يلتقي معها بصلة.

2 - ومما يزيد وضوحا في افتعال تلكم الروايات هي المناظرات التي جرت بين الإمام الحسن (عليه السلام) وبين خصومه فى دمشق وغيره ، وقد أجهدوا نفوسهم ، وانفقوا كثيرا من الوقت للتفتيش عما يشين الامام ليتخذوه وسيلة الى التطاول عليه ، والنيل منه ، فلم يجدوا لذلك سبيلا ، كما تقدم بيانه عند عرض مناظراته ، ولو كان الامام (عليه السلام) كثير الزواج والطلاق - كما يقولون - لقالوا له : أنت لا تصلح للخلافة لأنك مشغول بالنساء ، ولطبلوا بذلك ، واتخذوه وسيلة للتشهير به ، وجابهوه به عند اجتماعهم به فسكوتهم عنه وعدم ذكرهم له مما يدل على عدم واقعيته وصحته.

3 - ومما يؤيد عدم صحة تلك الروايات أن أبا جعفر محمد بن حبيب المتوفى سنة ( 245 هج ) قد ذكر فى كتابه ( المحبر ) ثلاثة أصهار للإمام ، وهم : الامام علي بن الحسين (عليه السلام) وعنده أم عبد اللّه ، وعبد اللّه بن الزبير

ص: 449

وعنده أم الحسن ، وعمرو بن المنذر وعنده أم سلمة (1) ولم يزد على ذلك ولو كان الامام (عليه السلام) كثير الأزواج لكان له من الأصهار ما يتناسب مع تلك الكثرة ، ومضافا لذلك فان أبا جعفر من المعنيين بأمثال هذه البحوث فقد ذكر في ( المحبر ) كثيرا من نوادر الأزواج ، ولو كان للإمام تلك الكثرة من الأزواج لألمع لها في محبره.

4 - ومما يدل على وضع ذلك وعدم صحته ما روي أن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يصعد المنبر فيقول : « لا تزوجوا الحسن فانه مطلاق » كما روى ذلك أبو طالب وغيره ، إن نهي أمير المؤمنين الناس عن تزويج ولده على المنبر لا يخلو إما أن يكون قد نهى (عليه السلام) ولده عن ذلك فلم يستجب له حتى اضطر (عليه السلام) الى الجهر به والى نهي الناس عن تزويجه ، وإما أن يكون ذلك النهي ابتداء من دون أن يعرف ولده الامام الحسن (عليه السلام) مبغوضية ذلك وكراهته لأبيه وكلا الأمرين بعيدان كل البعد

أما « الأول » فهو بعيد لأن الامام الحسن من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وممن باهل بهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن المستحيل أن يخالف أباه ويعصي أمره.

وأما « الثاني » فبعيد أيضا لأن الاولى بالامام أمير المؤمنين أن يعرف ولده بمبعوضية ذلك وكراهته له ولا يعلن ذلك على المنبر أمام الجماهير الحاشدة الأمر الذي لا يخلو من حزازة على ولده ووصيه وشريكه فى آية التطهير ، ومضافا الى ذلك أن الأمر إما أن يكون سائغا شرعا أو ليس بسائغ فان كان سائغا فما معنى نهى الامام (عليه السلام) عنه ، وإن لم يكن سائغا فكيف يرتكبه الحسن؟ إنا لا نشك في افتعال هذا الحديث ووضعه من

ص: 450


1- المحبر ص 57.

خصوم الامام ليشوهوا بذلك سيرته العاطرة التي تحكي سيرة جده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسيرة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام).

5 - ومما يؤيد افتعال تلك الكثرة لأزواجه ما روي أن الامام الحسن علیه السلام لما وافاه الأجل المحتوم خرجت جمهرة من النسوة حافيات حاسرات خلف جنازته ، وهن يقلن نحن أزواج الامام الحسن (1). ان افتعال ذلك صريح واضح ، فانا لا نتصور ما يبرر خروج تلك الكوكبة من النسوة حافيات حاسرات ، وهن يهتفن أمام الجماهير بأنهن زوجات الامام ، فان كان الموجب لخروجهن إظهار الأسى والحزن ، فما الموجب لهذا التعريف والسير فى الموكب المزدحم بالرجال مع أنهن قد أمرن بالتستر وعدم الخروج من بيوتهن ، إن هذا الحديث وأمثاله قد وضعه خصوم العلويين من الأمويين والعباسيين ، والغرض منه الحط من قيمة الامام ، وتقليل أهميته.

ومن الأخبار الموضوعة التي تشابه تلك الأخبار ما رواه محمد بن سيرين ان الامام الحسن (عليه السلام) تزوج بامرأة فبعث لها صداقا مائة جارية مع كل جارية الف درهم (2) إنا نستبعد أن يعطي الامام هذه الأموال الضخمة مهرا لاحدى زوجاته فان ذلك لون من ألوان الاسراف والتبذير ، وهو منهى عنه في الاسلام ، فقد أمر بالاقتصار ، على مهر السنة ، وكره تجاوزه ، فقد أثر عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « أفضل نساء أمتي أقلهن مهرا » ، وتزوج (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نساءه بمهر السنة ، وكذلك تزوج أمير المؤمنين به ولم يتجاوزه ، وسبب ذلك تسهيل أمر الزواج لئلا يكون فيه ارهاق وعسر

ص: 451


1- البحار
2- البداية والنهاية 8 / 38 ، المسالك للشهيد الثاني.

على الناس ، ومن المقطوع به ان الامام الحسن (عليه السلام) لا يجافى سنة جده ولا يسلك أي مسلك يتنافى مع شريعته. إن هذا الحديث وأمثاله من الموضوعات فى المقام تؤيد وضع كثرة الأزواج ، وتزيد فى الافتعال وضوحا وجلاء.

وعلى أي حال ، فليس هناك دليل يثبت كثرة أزواج الإمام سوى تلكم الروايات ، ونظرا لما ورد عليها من الطعون فلا تصلح دليلا للإثبات.

فرية المنصور :

وأكبر الظن أن أبا جعفر المنصور هو أول من افتعل ذلك ، وعنه أخذ المؤرخون ، وسبب ذلك هو ما قام به الحسنيون من الثورات التي كادت أن تطيح بسلطانه ، وعلى أثرها القى القبض على عبد اللّه بن الحسن وخطب على الخراسانيين في الهاشمية خطابا شحنه بالسبّ والشتم لأمير المؤمنين ولأولاده ، وافتعل فيه على الحسن ذلك ، وهذا نص خطابه :

« إن ولد آل أبي طالب تركناهم والذي لا إله إلا هو والخلافة ، فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير ، فقام فيها علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فما أفلح وحكم الحاكمين ، فاختلفت عليه الأمة ، وافترقت الكلمة ، ثم وثب عليه شيعته وأنصاره وثقاته ، فقتلوه ، ثم قام بعده الحسن بن علي فو اللّه ما كان برجل عرضت عليه الأموال فقبلها ، ودسّ إليه معاوية أني أجعلك ولي عهدي ، فخلعه ، وانسلخ له مما كان فيه وسلمه إليه ، وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ، ويطلق غدا أخرى ، فلم يزل كذلك حتى مات على فراشه » (1) ..

وحفل خطابه بالمغالطات والأكاذيب فقد جاء فيه :

ص: 452


1- مروج الذهب 3 / 226.

1 - إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حكم الحاكمين ، وهو افتراء محض ، فان الذي حكم الحاكمين إنما هم المتمردون من جيش الإمام ، فقد أصرّوا على ذلك ، وأرغموه على قبوله ، فاضطر (عليه السلام) الى اجابتهم كما بيّنا ذلك في الحلقة الأولى من هذا الكتاب.

2 - وجاء في خطابه ان الإمام قد وثبت عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه ، وقد جافى بذلك الواقع ، فان الذي قتله إنما هم الخوارج ، وهم ليسوا من شيعته ، ولا من أنصاره ، وإنما كانوا من ألدّ أعدائه وخصومه.

3 - وذكر ان الإمام الحسن (عليه السلام) أقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ، ويطلق غدا أخرى ، وهو بعيد كل البعد ولم يفه به أحد سواه.

وإنما عمد الى تلفيق هذه الأكاذيب لأجل تدعيم ملكه وسلطانه ، وقهر الحسنيين والحط من شأنهم ، لأنه قد بايع محمدا ذا النفس الزكية مرتين ، ولم يكن له أي أمل بالخلافة كما لم يكن له أي شأن في المجتمع فقد كان فقيرا بائسا يجوب في القرى والأرياف وهو يمدح العترة الطاهرة فيتصدق عليه المسلمون ، وليس له ولأسرته أي خدمة للمجتمع حتى يستحق هذا المنصب الخطير.

ومن مفتريات هذا الطاغية السفاك على سبط الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وريحانته ما جاء في كتابه الى ذي النفس الزكية ، وهذا نصه :

« وأفضى أمر جدك - يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) - الى الحسن فباعها الى معاوية بخرق ودراهم ، ولحق بالحجاز ، وأسلم شيعته بيد معاوية ، ودفع الأمر الى غير أهله ، وأخذ مالا من غير ولائه ، ولا حله ، فان كان لكم فيها شيء فقد بعتموه ، وأخذتم ثمنه. » (1)

ص: 453


1- صبح الأعشى 1 / 233 ، جمهرة رسائل العرب 3 / 92.

لقد عمد المنصور الى هذا التهريج ، والى هذه المغالطات ليبرر تقمصه للخلافة فقد أخذها بغير حق لأن الثورة التي أطاحت بالحكم الأموي كانت من أجل العلويين ، ولارجاع حقهم الغصيب ، وليس للعباسيين فيها أي نصيب.

مخاريو لامنس :

وطالما تحدى لامنس كرامة الإسلام ، فألصق به التهم ، وطعن برجاله وحماته ، وقد ذكرنا في أسباب الصلح شطرا من مفترياته على الإمام ، وقد كتب في بحثه عن أزواج الإمام ما نصه :

« ولما تجاوز - يعنى الإمام الحسن (عليه السلام) - الشباب ، وقد انفق خير سني شبابه في الزواج والطلاق فاحصي له حوالي المائة زوجة ، والصقت به هذه الأخلاق السائبة لقب المطلاق ، وأوقعت عليا في خصومات عنيفة وأثبت الحسن كذلك أنه مبذر كثير السرف ، وقد خصص لكل من زوجاته مسكنا ذا خدم وحشم ، وهكذا نرى كيف يبعثر المال أيام خلافة علي التي اشتد عليها الفقر .. » (1)

لقد اعتمد لامنس في قوله : إن الإمام كان كثير الزواج والطلاق على أقوال المدائني وأمثاله من المؤرخين الذين تابعوا السلطة الحاكمة فكتبوا لها لا للتاريخ ، وقد استقى المستشرقون الذين كادوا للإسلام في بحوثهم من منهل المؤرخين الذين ساندوا تلك الدول الجائرة التي ناهضت أهل البيت ، وعملت على تشويه واقعهم والحط من كرامتهم ، وقد زاد عليهم ( لامنس ) فذكر من المخاريق والأكاذيب بما لم يقل به أحد غيره فقد قال :

ص: 454


1- دائرة المعارف 7 / 400.

1 - إنه القى أباه بسبب كثرة زواجه وطلاقه في خصومات عنيفة ، ولم يشر أحد ممن ترجم الإمام الى تلك الخصومات العنيفة التي زعمها لامنس.

2 - وذكر ان الإمام خصص لكل من زوجاته مسكنا ذا خدم وحشم ، إن جميع المؤرخين لم ينقلوا ذلك ، وهو من الكذب السافر والافتراء المحض.

إن لجان التبشير المسيحي التي حاربت الإسلام وبغت عليه هي التي تدفع هذه الأقلام المأجورة وتزج بها للنيل من الإسلام ، والى تشويه واقعه والحط من قيم رجاله واعلامه الذين أناروا الطريق للركب الإنساني ، ورفعوا منار الحضارة في العالم.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن كثرة أزواج الإمام مع ما حف بها من الطعون والشكوك ، وقد بقي علينا أن نشير الى أسماء أزواجه اللاتي ذكرهن المؤرخون مع بيان ما عثرنا عليه من تراجمهن وإليك ذلك : 1 - خولة الفزارية :

وخولة بنت منظور الفزارية من سيدات النساء في وفور عقلها وكمالها تزوج بها الإمام ، وفي ليلة اقترانه بها بات معها على سطح الدار فشدت خمارها برجله ، وشدت الطرف الآخر بخلخالها فلما استيقظ وجد ذلك فسألها عنه فقالت له معربة عن اخلاصها وحرصها على حياته :

« خشيت أن تقوم من وسن النوم فتسقط فأكون أشأم سخلة على العرب ».

فلما رأى ذلك منها أحبها وأقام عندها سبعة أيام (1) وقد بقيت عنده حولا لم تتزين ولم تكتحل حتى رزقت منه السيد الجليل ( الحسن ) فتزينت

ص: 455


1- تاريخ ابن عساكر 4 / 216.

حينئذ ، فدخل عليها الامام فرآها متزينة فقال لها : « ما هذا؟ » فقالت له : « خفت أن أتزين وأتصنع فتقول النساء تجملت فلم تر عنده شيئا ، فأما وقد رزقت ولدا فلا أبالي » ، وبقيت عنده إلى أن توفي (عليه السلام) فجزعت عليه جزعا شديدا فقال لها أبوها مسليا :

نبئت خولة أمس قد جزعت *** من أن تنوب نوائب الدهر

لا تجزعي يا خول واصطبري *** إن الكرام بنوا على الصبر (1)

وذكرت السيدة زينب بنت علي العاملية في ترجمة خولة ما حاصله انها لما بلغت مبالغ النساء خطبها جملة من وجهاء قريش وأشرافهم فأمتنع أبوها من إجابتهم لأنهم ليسوا بأكفاء لها ، ثم انه طلق امها مليكة بنت خارجة فتزوجها من بعده طلحة بن عبيد اللّه ، وتزوج ابنه محمد بخولة فأولدت له ابراهيم وداود وأم القاسم ، وقتل زوجها محمد في واقعة الجمل فخطبها جماعة من الناس فجعلت أمرها بيد الحسن (عليه السلام) فتزوجها ، ولما نزح الإمام الى يثرب حملها معه ، فبلغ أباها ذلك ، فأقبل الى مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبيده راية فركزها في المسجد فلم يبق قيسي إلا وانضم تحتها ، وهو يهتف بقومه ويستنجد بهم على أخذ بنته من الامام ، فلما بلغه (عليه السلام) ذلك خلى سراحها فأخذها وخرج فجعلت خولة تتوسل به على ارجاعها وتندد بعمله وتذكر له فضل الامام ، فندم على فعله وقال لها : البثي هاهنا فان كان للرجل بك من حاجة سيلحق بك ، فلحقه الامام مع أخيه الحسين ، وعبد اللّه بن عباس ، فلما انتهوا إليه قابلهم بحفاوة وتكريم وأرجعها الى الامام ، وفي ذلك يقول جبير العبسي :

إن الندى في بني ذبيان قد علموا *** والجود في آل منظور بن سيار

ص: 456


1- الأمالي للزجاج ص 7.

والماطرين بأيديهم ندى ديما *** وكل غيث من الوسمى مدرار

تزور جارتهم وهنا قواضبهم *** وما فتاهم لها سرا بزوار

ترضى قريش بهم صهرا لأنفسهم *** وهم رضا لبني أخت وأصهار

ثم انها بقيت عند الإمام حتى أسنت ، ولما مات الإمام لم تتزوج من بعده. وقيل انها تزوجت بعبد اللّه بن الزبير ودخلت عليها النوار زوج الفرزدق مستشفعة بزوجها فأجابتها الى ذلك ، فكلمات عبد اللّه به فأجابها الى ذلك وفي هذا يقول الفرزدق :

أما بنوه فلم تقبل شفاعتهم *** وشفعت بنت منظور بن زبانا

ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا *** مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا (1)

وعندي ان هذه القصة ضرب من الخيال ولا نصيب لها من الواقع وذلك لأن زواج الإمام بها من دون مراجعة أبيها أمر لا يتناسب مع كرامة الإمام ومحال أن يقدم عليه من دون مراجعته وأخذ رأيه فى ذلك ، ومضافا لهذا فانه من المستبعد عدم علم أبيها بقتل زوجها الأول في تلك المدة الطويلة من الزمن حتى تزوج بها الإمام ، ويبعده أيضا نزوحه الى يثرب واستنجاده بأسرته ليأخذ ابنته من الامام ، وقد كان يتطلب مصاهرة الأشراف ، ومناسبة العظماء ، فردّ جماعة من الأشراف الذين خطبوا ابنته لأنهم ليسوا أكفاء لها ، وبعد هذا فكيف لا يرضى بمصاهرة الامام له وهو من ألمع الشخصيات في العالم الاسلامى ، إنا لا نشك في افتعال ذلك وعدم صحته.

2 - جعدة بنت الأشعث :

واختلف المؤرخون في اسمها ، فقيل سكينة ، وقيل شعثاء ، وقيل

ص: 457


1- الدر المنثور ص 187 ، وعمدة الطالب ص 73.

عائشة ، والأصح انها جعدة حسب ما ذكره أكثر المؤرخين (1) ، وسبب زواج الامام بها أن أمير المؤمنين خطب من سعيد بن قيس الهمداني ابنته أم عران لولده الحسن فقال له سعيد : أمهلني يا أمير المؤمنين حتى أستشير ثم خرج من عنده فلقيه الأشعث فسأله عن مجيئه فأخبره بالأمر فقال له هذا المنافق مخادعا :

« كيف تزوج الحسن وهو يفتخر عليها ولا ينصفها ويسيء إليها؟! فيقول لها : أنا ابن رسول اللّه ، وابن أمير المؤمنين ، وليس لها هذا الفضل ولكن هل لك فى ابن عمها فهي له وهو لها ».

- ومن ذلك؟

- محمد بن الأشعث.

فانخدع هذا الغبي من مقالته وقال : « قد زوجته من ابنتي ».

وأخذ الأشعث يشتد نحو أمير المؤمنين ، فقال له :

« خطبت الى الحسن ابنة سعيد؟ »

- نعم.

- فهل لك فى أشرف منها بيتا ، وأكرم منها حسبا ، وأتم منها جمالا وأكثر مالا؟

- ومن هي؟

- جعدة بنت الأشعث بن قيس.

- قد قاولنا رجلا - يعني سعيدا الهمداني -.

- ليس الى ذلك الذي قاولته من سبيل.

- إنه فارقني ليستشير أمها.

ص: 458


1- مقاتل الطالبيين ص 33 وغيره.

- قد زوجها من محمد بن الأشعث.

- متى؟!!

- قبل أن آتيك.

فوافق أمير المؤمنين ، ولما فهم سعيد باغراء الأشعث ومخادعته له أقبل نحوه يشتد فقال له : « يا أعور خدعتني!! »

- أنت أعور خبيث ، حيث تستشير في ابن رسول اللّه ألست الأحمق؟!

وأقبل الأشعث الى الامام فقال له : « يا أبا محمد ألا تزور أهلك » مستعجلا فى الأمر خوفا من فواته ، ثم إنه فرش أبسطة من باب بيته الى بيت الامام وزف ابنته إليه (1) بهذه الصورة كان زواج الامام بجعدة.

3 - عائشة الخثعمية :

ومن جملة أزواج الامام عائشة الخثعمية تزوجها في حياة أمير المؤمنين ولما قتل (عليه السلام) أقبلت الى الامام الحسن فأظهرت الشماتة بوفاة أبيه فقالت له :

« لتهنك الخلافة ». ولما علم علیه السلام شماتتها قال لها :

« ألقتل علي تظهرين الشماتة؟ اذهبي فأنت طالق ».

فتلفعت بثيابها وقعدت حتى انقضت عدتها فبعث لها بقية صداقها وعشرة آلاف درهم صدقة لتستعين بها على أمورها ، فلما وصلت إليها قالت : « متاع قليل من حبيب مفارق » (2) ، ولم يذكر التاريخ ان الإمام طلق زوجه سوى هذه وأم كلثوم وامرأة من بني شيبان ، فأين كثرة الزواج والطلاق التي طبل بها بعض المؤرخين؟

وأما بقية أزواجه اللاتي لم نعثر على تراجمهن فهن :

ص: 459


1- الأذكياء لابن الجوزي ص 27.
2- تأريخ ابن عساكر 4 / 216.

4 - أم كلثوم بنت الفضل بن العباس ، تزوجها (عليه السلام) ثم فارقها فتزوجها من بعده أبو موسى الأشعري (1).

5 - أم اسحاق بنت طلحة بن عبيد اللّه التميمي ، أولدت منه ولدا أسماه طلحة.

6 - أم بشير بنت أبي مسعود الأنصاري ، أولدت منه ولدا أسماه زيدا

7 - هند بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.

8 - امرأة من بنات عمرو بن أهيم المنقري.

9 - امرأة من ثقيف ، أولدت له ولدا أسماه عمرا.

10 - امرأة من بنات زرارة.

11 - امرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة

، فقيل له إنها ترى رأي الخوارج فطلقها وقال : « إنى أكره أن أضم الى نحري جمرة من جمر جهنم » (2).

12 - أم عبد اللّه

، وهي بنت الشليل بن عبد اللّه أخو جرير البجلي.

13 - أم القاسم ، وهي أم ولد ، وقيل اسمها نفيلة ، وقيل رملة.

فمجموع ما تزوجه الامام من النساء هذا العدد المذكور لم يتجاوزه بقليل ، وهو كما ترى لا يمت الى الكثرة المزعومة بصلة ، الى هنا ينتهي بنا الحديث عن أزواج الامام

وقد بقي علينا الاشارة الى عدد أولاده ذكورا وأناثا ، وقد اختلف المؤرخون في ذلك اختلافا كثيرا فقد روي أنهم :

1 - اثنا عشر ، ثمانية ذكورا وأربع اناث (3).

ص: 460


1- الاستيعاب 3 / 204.
2- شرح ابن أبي الحديد 4 / 8 ، وقد ذكر اسماء هذه النسوة.
3- الارشاد.

2 - خمسة عشر ، الذكور احدى عشر ، والاناث أربع (1).

3 - ستة عشر ، الذكور احدى عشر ، والاناث خمس (2).

4 - تسعة عشر ، الذكور ثلاثة عشر ، والبنات ست (3).

5 - عشرون ، ستة عشر ذكرا ، وأربع بنات (4).

6 - اثنان وعشرون ، الذكور أربعة عشر ، والاناث ثمان (5).

وقيل غير ذلك ، وقد اتفق المؤرخون أنه لم يعقب أحد من أولاده سوى الحسن وزيد ، اما أعلام أولاده فهم :

ص: 461


1- النفحة العنبرية.
2- زينب ، والزينبات للعبيدلي ، اتعاض الحنفا في أخبار الخلفاء للمقريزي المجدي ، وقد نص على أسمائهم فالذكور : زيد ، والحسن ، والحسين الأثرم ، وطلحة ، واسماعيل ، وعبد اللّه ، وحمزة ، ويعقوب ، وعبد الرحمن ، وأبو بكر ، وعمر. وأما الاناث : أم الخير ، ورملة ، وأم الحسن ، وأم سلمة ، وأم عبد اللّه. وجاء فيه أن زيدا ، وأم الخير ، وأم الحسن أمهم خزرجية ، وأم الحسن خولة بنت منظور الفزارية ، وزوجه عمه الحسين بنته فاطمة ، وعمر أمه أم ولد ، والحسين أمه أم ولد ، وطلحة أمه من تيم قرشية ، وذكر ان عبد الرحمن بن الامام الحسن مات محرما بالأبواء فكفنه عمه الحسين ولم يحنطه ولا غطى وجهه.
3- سر السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري.
4- تذكرة الخواص لابن الجوزي ،
5- الحدائق الوردية ص 107.

1 - القاسم :

وفي طليعة أولاد الامام الحسن القاسم ، وقد استشهد مع عمه سيد الشهداء في واقعة كربلا الخالدة في دنيا الأحزان ، وكان حينذاك فى ريعان الشباب وغضارة العمر ، وكالقمر فى جماله ، وبهائه ، ونضارته ، برز يوم الطف حينما رأى ريحانة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحيدا ، قد أبيدت الصفوة من أهل بيته ، وعلا الصراخ والعويل من ثقل النبوة ، فلم يتمكن أن يرى ذلك ، فانبرى الى عمه يقبل يديه ورجليه يطلب منه الاذن للدفاع عنه ، فأذن له ، أما كيفية شهادته فتذوب لها النفس لهولها أسى وحسرات ، وقد ذكرها المؤرخون وأرباب المقاتل والسير بالتفصيل.

2 - أبو بكر :

واسمه عبد اللّه ، أمه أم ولد (1) يقال لها رملة (2) برز يوم الطف يحامى عن دين اللّه ، ويذب عن ريحانة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فاستشهد فى تلك الواقعة التي وتر فيها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

3 - عبد اللّه :

استشهد مع عمه سيد الشهداء في كارثة كربلا ، وله من العمر احدى عشر سنة ، نظر الى عمه الحسين وقد أحاطت به جيوش الأمويين ، فأقبل يشتد للدفاع عنه ، وأهوى أبحر بن كعب بالسيف ليضرب الإمام الحسين فصاح به الغلام ، ويلك يا ابن الخبيثة أتضرب عمي؟ واتقى الغلام الضربة بيده فأطنها الى الجلد فاذا هي معلقة ، فاستنجد الغلام بعمه ، فانبرى إليه

ص: 462


1- تاريخ الطبري 6 / 269.
2- الحدائق الوردية ص 107.

الإمام فضمه إليه (1) ، وبينما هو في حجره إذ رماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه (2) وليس في تأريخ الإنسانية قديما ولا حديثا مثل أولئك الفتية من آل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فى نخوتهم ونبلهم وبطولتهم.

4 - زيد :

وزيد أمّه خزرجية كان جليل القدر ، كريم الطبع ، كثير البر والاحسان ، قصده الناس من جميع الآفاق لطلب بره ومعروفه ، وكان يلي صدقات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما ولي سليمان بن عبد الملك عزله عنها ، ولما هلك واستخلف عمر بن عبد العزيز أرجعها إليه ، وقد مدحه محمد بن بشير الخارجي بقوله :

إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة *** نفى جدبها واخضرّ بالنبت عودها

وزيد ربيع الناس في كل شتوة *** إذا اخلقت انواؤها ورعودها

حمول لأشتات الديات كأنه *** سراج دجى قد فارقته سعودها (3)

وكان يركب فيأتي سوق ( الظهر ) فيقف به فتزدحم الناس على النظر إليه ويعجبون من خلقه ، ويقولون يشبه جده رسول اللّه (4) توفي سنة مائة وعشرين وله من العمر تسعون سنة وقيل مائة ، ورثاه جماعة من الشعراء منهم قدامة بن موسى الجحمي بقوله :

فان يك زيد غالت الأرض شخصه *** فقد بان معروف هناك وجود

وإن يك أمسى رهن رمس فقد ثوى *** به وهو محمود الفعال فقيد

ص: 463


1- تاريخ الطبري 6 / 259.
2- اللّهوف ص 68.
3- البحار 10 / 180.
4- طبقات ابن سعد 5 / 34.

سميع الى المضطر يعلم أنه *** سيطلبه المعروف ثم يعود

وليس بقوال وقد حط رحله *** لملتمس المعروف اين تريد

إذا قصر الوعد الذي قد نمى به *** الى المجد آباء له وجدود

مناديل للمولى محاشيد للقرى *** وفي الروع عند النائبات أسود

إذا مات منهم سيد قام سيد *** كريم فيا بني مجدهم ويشيد (1)

5 - الحسن :

كان الحسن سيدا جليلا عظيم القدر ، وهو وصي أبيه ، ووالي صدقته (2) ، حضر مع عمه الحسين (عليه السلام) في واقعة كربلا ، فقاتل معه حتى سقط الى الأرض جريحا ، ولما أقبل أجلاف أهل الكوفة على حزّ رءوس الشهداء وجدوا في الحسن رمقا فجاء اسماء بن خارجة الفزاري ، وكان من أخواله فاستشفع به فشفعوه فيه فحمله معه الى الكوفة وعالجه حتى بريء ثم لحق بالمدينة ، وكان يلي صدقات جده أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد تزوج بابنة عمه فاطمة بنت الحسين ، ولما مات جزعت عليه جزعا شديدا فضربت على قبره فسطاطا سنة كاملة فكانت تصلي في الليل وتصوم في النهار (3) توفي وعمره خمس وثلاثون سنة مسموما قد سقاه السم الوليد بن عبد الملك (4).

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن أولاده وقد بحثنا عنهم بحثا موجزا وعسى أن يساعدني التوفيق فأتشرف بالبحث عن سيرتهم وثورات احفادهم الإصلاحية ضد الظالمين والمستبدين من خلفاء الأمويين والعباسيين.

ص: 464


1- البحار 10 / 234.
2- الحدائق الوردية ص 107.
3- البحار 10 / 138 ، تنقيح المقال 1 / 272.
4- عمدة الطالب ص 78.

نهاية المطاف

اشارة

ص: 465

ص: 466

وحقق معاوية جميع ما يصبو إليه فى هذه الحياة ونال من دنياه كل ما اشتهى وأراد ولكن بقيت عنده فكرة واحدة تراوده في جميع أوقاته قد أقضت مضجعه ، لو تمت لتم له كل شيء بحسابه وهي جعل الخلافة والملك العضوض وراثة في أبنائه وذريته ، وقد بذل جميع جهوده ومساعيه في تحقيق ذلك ، فأدنى الأباعد ، وأنفق الأموال الطائلة ، وسافر الى يثرب مع ما هو فيه من الشيخوخة والضعف ، فلم يظفر بذلك ما دام الإمام الحسن حيا ، فعلم أنه لا يتمكن من انجاز مهمته إلا باغتيال شخصية الإمام التي ينتظر دورها العادل جميع المسلمين لينتشر العدل ويعم الخير والرفاهية في جميع أنحاء البلاد.

وأخذ معاوية يفكر في ذلك فيطيل التفكير ، ويقلب الرأي على وجوهه باي وسيلة يتوصل الى تحقيق أمنيته ، فمثل أمامه قوله الذي ضربه مثلا للفتك والغدر : « إن لله جنودا من عسل » ، وقد طبق ذلك فنجح به مع سعد بن أبي وقاص ، والزعيم مالك الأشتر ، فانحصرت وسيلته بتطبيق ذلك فأرسل الى الإمام غير مرة سما مميتا حين ما كان فى دمشق فلم ينجح به ، فراسل عاهل الروم يطلب منه أن يبعث إليه سما فاتكا سريع التأثير فامتنع من إجابته قائلا له : « انه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا » ان ملك الروم لم يسمح له دينه أن يغتال بريئا ، ولكن معاوية قد استباح ذلك واعرب عن كفره ، فراسله مرة ثانية يخبره بمشروعية هذا الأمر قائلا : « إن هذا الرجل ابن الذي خرج بأرض تهامة - يعني رسول اللّه - قد خرج يطلب ملك أبيه ، وأنا أريد إليه السم ، فاريح منه العباد والبلاد » لقد استحل اغتيال الإمام لأنه ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي حطم أوثان الجاهلية ، وقضى على الشرك ، وقد وجد ملك الروم عند ذلك

ص: 467

مجالا فبعث إليه سما مميتا (1) ، ولما وصل السم الى معاوية جعل يفكر فى إيصاله الى الإمام فاستعرض أقرباء الإمام ومن يمت إليه فلم يجد أحدا يعينه على ارتكاب هذه الجريمة ، فاستعرض ثانيا أزواج الإمام فوجد في جعدة بنت الأشعث طلبته فأبوها الذي أرغم أمير المؤمنين على قبول التحكيم وأفسد جيشه ولعله يجد فى ابنته تحقيق اربه وبلوغ أمنيته فأرسل إليها السم بتوسط الأثيم مروان بن الحكم وأمره أن يمينيها بزواج يزيد وأن يقدم لها مائة ألف درهم (2) وحري بهذه الأثيمة أن تجيب نداء ابن هند فهي من اسرة انتهازية لها تأريخها الأسود فقد جبلت على الطمع وعلى الاستجابة لجميع الدوافع المادية ، وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) فيها : « ان الأشعث شرك فى دم أمير المؤمنين ، وابنته جعدة سمت الحسن ، وابنه شرك فى دم الحسين » (3). ويضاف لذلك أن جعدة كانت مصابة بالعقد النفسية لأنها لم ترزق من الامام ولدا ، وكانت تعامل في بيتها معاملة عادية.

ولما وصل السم الى مروان حمله إليها فقدم لها الأموال ومناها بزواج يزيد ان أجابت طلبته ، فأخذ الشيطان يوسوس لها فانخدعت وفرحت بالأموال وباقترانها بيزيد ، فوافقت على ارتكاب الجريمة فأخذت منه السم وكان الامام صائما في وقت شديد الحر فأخرجت له افطاره والقت السم في لبن فتناول منه الامام جرعة فلما وصل الى جوفه تقطعت أمعاؤه ،

ص: 468


1- البحار 10 / 173.
2- مروج الذهب 2 / 353 ، وقيل إن معاوية بعث لها عشرة آلاف دينار وأقطعها ضياعا من سواد الكوفة جاء ذلك فى تحف العقول ص 391.
3- اعيان الشيعة 4 / 78.

فقال (عليه السلام) لما أحس بألمه الشديد :

« إنا لله وإنا إليه راجعون ، الحمد لله على لقاء محمد سيد المرسلين وأبي سيد الوصيين ، وأمى سيدة نساء العالمين ، وعمي جعفر الطيار ، وحمزة سيد الشهداء. »

ثم التفت الى جعدة فقال لها :

« يا عدوة اللّه ، قتلتيني قتلك اللّه ، واللّه لا تصيبين منى خلفا ، ولقد غرك - يعني معاوية - وسخر منك يخزيك اللّه ويخزيه » (1).

لقد أخزاها اللّه فلقد أصبحت مضرب المثل للسوء والخزي والاثم والخيانة فقد أصبحت عارا لذريتها وأبنائها من غير الامام فقد وصموا بابناء مسممة الأزواج (2) ولقد سخر منها معاوية فلم يف لها بزواج يزيد حيث طلبت منه ذلك فقد ردها بسخرية واستهزاء قائلا :

« أنا نحب حياة يزيد ، ولو لا ذلك لوفينا لك بتزويجه!! » (3).

واتفق أكثر المؤرخين ان الامام مات مسموما وان معاوية هو الذي دسّ إليه السم فقتله (4) ، وذهب فريق آخر أن يزيد هو الذي سم

ص: 469


1- تحف العقول ص 391.
2- أعيان الشيعة 4 / 76.
3- مروج الذهب 2 / 303.
4- شرح ابن أبي الحديد 4 / 17 ، تأريخ الدول الاسلامية 1 / 53 ، تذكرة الخواص ص 222 ، الاستيعاب 1 / 374 ، النصائح الكافية ص 62 تأريخ أبي الفداء 1 / 194 ، وهذه المصادر كلها لأبناء السنة والجماعة وقد عزت قتل الامام الى معاوية ، وبهذا يتضح فساد ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن الشيعة هي التي روت أن معاوية قد سم الامام كما انه يتضح فساد ما ذكره الدكتور فيليب حتى في كتابه ( العرب ) ص 79 ما نصه : « وأما الشيعة فتعزوا مقتله - يعني الحسن - الى معاوية وتجعل الحسن شهيدا لا بل سيد الشهداء أجمعين » وقد استقى الدكتور قوله من ابن خالدون ولم يتتبع بقية المصادر ليطلع على جلية الحال وهذا دليل على فقدان المستشرقين للتحقيق العلمي وعدم تركيز بحوثهم على المنطق والدليل.

الإمام (1) ولو سلمنا ذلك فانه إنما كان بأمر من أبيه إذ لا يعقل أن يرتكب مثل هذا الحادث الخطير من دون مراجعته واحراز موافقته ، ومن الغريب جدا ما ذهب إليه ابن خالدون حيث حاول تبرير ساحة معاوية ونفي الجريمة عنه ، قال :

« وما ينقل من أن معاوية قد دس السم الى الامام الحسن على يد زوجته جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة ، وحاشا لمعاوية ذلك » (2).

وابن خالدون مدفوع بدافع العصبية وهي داء خبيث قد القت الناس في شر عظيم وقد منى بها هذا المؤرخ ، فهو لم يكتب فى أمثال هذه

ص: 470


1- تاريخ أبي الفداء 1 / 193 ، نور الأبصار ص 112 ، تأريخ ابن الوردي 8 / 43 ، وعند اين كثير ان هذا ليس بصحيح من يزيد فضلا عن معاوية ولم يبين مدرك عدم الصحة وما سبب ذلك إلا العصبية الهوجاء وإلا فما يمنع يزيد من ذلك وهو الذي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين وأباح عاصمة الرسول لجنده ثلاثة أيام ، وزنى بعمته أم الحكم.
2- تأريخ ابن خالدون 2 / 187 ، واستند عبد المنعم فى كتابه التأريخ السياسي 2 / 20 ، الى قول ابن خالدون فقال فى معرض حديثه عن وفاة الامام : « ولكنا نستبعد قيام معاوية بذلك ».

البحوث إلا ليرضي عصبيته وعاطفته وميوله وإنا لنسأله ما الذي يمنع معاوية من ارتكاب هذه الجريمة في سبيل توطيد ملكه وسلطانه وقد ارتكب من أجل ذلك افحش الموبقات واعظم الجرائم ، فحارب الخليفة الشرعي أمير المؤمنين وولده الحسن وقتل الصحابي حجر بن عدي واصحابه المؤمنين ، وسم مالك الأشتر ، وسعد بن أبي وقاص واستلحق به زياد بن ابيه إلى غير ذلك من جرائمه التي لا تحصى وبعد هذا فما الذي يمنعه من اغتيال الامام وسمه وقد علم أن الأمر لا يتم لولده إلا بذلك ،

أقوال غريبة :

ولا بأس بالاشارة الى بعض الاقوال الغريبة التي تضارع قول ابن خالدون في عدم الصحة وفى البعد عن الواقع وهي :

1 - موته بالسل :

ذكر المستشرق ( روايت م. رونلدس ) ان الإمام الحسن (عليه السلام) مات بالسل عند ما بلغ من العمر خمسا واربعين سنة (1) ، وهذا القول من الغرابة بمكان ولم يذهب إليه أحد من المؤرخين فقد أجمعوا أنه مات مسموما ولم يصب بداء السل ، وقد كتب هذا المستشرق جميع بحوثه على هذا الطراز في الخلو عن التحقيق وفي الاعتماد على الافتراء والكذب.

2 - سمه في العصا :

ذكر الاستاذ حسين واعظ : « أن الإمام الحسن قد ترك المدينة الى الموصل في العراق بقصد الاستشفاء لأنه شعر بتأخر في صحته من بعد حوادث

ص: 471


1- عقيدة الشيعة ص 90 ، وذكر عين هذا المعنى لامنس في دائرة المعارف الإسلامية 7 / 400

التسميم ، إلا أن شخصا فقيرا أعمى قد جاء يطلب منه أن يتصدق عليه وكان (عليه السلام) جالسا على الأرض فرمى الأعمى عصاه على رجل الحسن ثم ضغطها على رجله ، وكانت عصاه متسممة إلا أنه عولج على أيدي الأطباء هناك فبريء من ذلك » (1).

وهذا القول بعيد عن الصحة كل البعد إذ لم يصرح مؤرخ بما ذكره وهو افتراء محض لا نصيب له من الصحة.

3 - سمه في الطواف :

ذكر المؤرخ الشهير أحمد بن سهل البلخي الشهير بالمقدسي : « أن الإمام كان يطوف فى البيت الحرام فطعنه شخص بظهر قدمه بزج (2) مسموم فتوفى على أثر ذلك » (3).

وهذا القول من الغرابة بمكان قد انفرد به هذا المؤرخ ولعله أراد تنزيه معاوية ورفع المسئولية عنه بارتكابه هذه الجريمة ، ولم نحسب أن مؤرخا قد ذهب الى ذلك.

4 - موته حتف أنفه :

ذكر الدكتور حسن ابراهيم أن بعض المؤرخين ذهب الى أن الإمام مات حتف أنفه بعد رجوعه من العراق الى يثرب بأربعين يوما (4) وهذا

ص: 472


1- روضة الشهداء ص 107.
2- الزج : الحديدة في أسفل الرمح.
3- البدء والتاريخ 6 / 5 ط باريس.
4- تاريخ الإسلام السياسي 1 / 398 ، وذكر قريب من ذلك محمد أسعد طلس في كتابه تاريخ الأمة العربية ص 9 وص 16 ، فقال : « وغادر الحسن - بعد الصلح - الى المدينة ، ولم يلبث أكثر من شهرين حتى مات ».

القول ظاهر الفساد فان الإمام ( أولا ) لم يمت حتف أنفه ، و ( ثانيا ) انه قد مكث فى يثرب حفنة من السنين بعد وصوله إليها حتى وافاه الأجل المحتوم كما أجمع على ذلك المؤرخون.

ونعود بعد هذا الى تفصيل حالة الإمام فانه لما وصل السم الى جوفه أخذ يعاني آلام الموت فبقي في فراش المرض أربعين يوما (1) ، وقيل : شهرين (2) وفي كل يوم تزداد فعالية السم في جسمه حتى ذاب قلبه الشريف من الألم ذلك القلب الذي يضم الحب والعطف للناس جميعا ، ودخل عليه عائدا شقيقه الحسين فلما رآه وهو خابئ اللون ، معصوب الرأس ، قد ذابت حشاه من السم التفت إليه وقد أذهله المصاب ، وأفزعه الخطب قائلا :

« أخي من سقاك السم؟ »

- وما تريد منه؟

- أريد أن أقتله.

« إن يكن الذي أظنه فاللّه أشد بأسا وأشد تنكيلا ، وإن لم يكن هو فما أحب أن يقتل بي بريء » (3).

وهكذا كان (عليه السلام) محتاطا في الدماء حريصا عليها ، لا يحب أن يهراق في أمره ملأ محجمة دما ، وجيء له بطبيب ففحصه فحصا دقيقا وبعد الامعان في التشخيص يئس منه فالتفت الى أهله قائلا لهم :

ص: 473


1- دائرة المعارف للبستاني 7 / 38 ، شرح ابن أبي الحديد 4 / 4.
2- حياة الحيوان للدميري 1 / 53 ، وقيل انه مكث يومين بعد التسمم لا غير ، جاء ذلك فى تحف العقول ص 391.
3- الاستيعاب 1 / 374.

« ان السم قد قطع أمعاءه » (1).

فعند ذلك يئس الإمام من حياته ودخل عليه عائدا الصحابي العظيم جنادة بن أبي أميّة فالتفت الى الإمام قائلا :

« عظني يا ابن رسول اللّه ».

فاجاب (عليه السلام) طلبته وهو في أشد الأحوال حراجة ، وأقساها ألما ومحنة فاتحفه بهذه الكلمات الذهبية التي هي أغلى وأثمن من الجوهر وقد كشفت عن أسرار إمامته ، قائلا :

« يا جنادة ، استعد لسفرك ، وحصل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلا كنت فيه خازنا لغيرك ، واعلم أن الدنيا في حلالها حساب ، وفى حرامها عقاب ، وفي الشبهات عتاب ، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك فان كان حلالا كنت قد زهدت فيه ، وإن كان حراما لم يكن فيه وزر فأخذت منه كما أخذت من الميتة ، وإن كان العقاب فالعقاب يسير ، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ، وإذا أردت عزا بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فاخرج من ذل معصية اللّه الى عز طاعة اللّه عز وجل ، وإذا نازعتك الى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك ، وإذا أخذت منه صانك ، وإذا أردت منه معونة أعانك وان قلت صدق قولك ، وان صلت شدّ صولتك ، وإن مددت يدك بفضل مدها ، وإن بدت منك ثلمة سدها ، وإن رأى منك حسنة عدها وإن سألته أعطاك ، وإن سكت عنه ابتدأك ، وإن نزلت بك إحدى

ص: 474


1- البداية والنهاية 8 / 43.

الملمات واساك ، من لا تأتيك منه البوائق ، ولا تختلف عليك منه الطرائق ولا يخذلك عند الحقائق ، وان تنازعتما منقسما آثرك » (1).

لقد اعطى (عليه السلام) لجنادة بهذه الوصية الخالدة الدروس النافعة ، والحكم القيامة ، والآراء الصائبة التي استقاها من جده الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن أبيه أمير المؤمنين ، فقد أرشده الى أفضل المناهج التي تضمن له النجاح في آخرته ودنياه.

ودخل على الإمام عائدا عمير بن اسحاق فالتفت (عليه السلام) له قائلا.

« يا عمير سلني قبل أن لا تسلني! »

وثقل على عمير أن يسأله وهو بهذه الحالة فقال له :

« لا واللّه لا أسألك حتى يعافيك اللّه ثم أسألك » (2).

والتفت علیه السلام إلى أهل بيته معربا لهم عما يعانيه من ألم السم ، « لقد القيت طائفة من كبدي ، واني سقيت السم مرارا ، فلم اسقه مثل هذه المرة ، لقد لفظت قطعة من كبدي (3) ، فجعلت أقلبها بعود

ص: 475


1- أعيان الشيعة 4 / 85.
2- صفة الصفوة 1 / 320 ، البداية والنهاية 8 / 42.
3- لقد نصت الرواية - على تقدير ثبوتها - ان السم أثر في كبد الإمام علیه السلام حتى قاء بعضا منه ، وقد تحقق في الطب الحديث ان السم لا يوجب قيء الكبد ، وإنما يحدث التهابا بالمعدة ، وتهيجا في الأمعاء إذا كان التسمم حادا وإذا كان غير حاد فإنه يؤدي الى هبوط فى ضغط الدم ، والى التهاب في الأعصاب وقد يؤدي فى أحوال نادرة الى التهاب كبدي وغير ذلك من العوارض التي نص عليها الأطباء المختصون في الطب العدلي ، وقد يتوهم ان هذا يتصادم مع ما جاء في الرواية وهو مدفوع فان الكبد فى الاستعمالات العربية يطلق على الجهاز الخاص في الجانب الأيمن الذي يفرز الصفراء ، كذلك يطلق على ما فى الجوف بكامله كما جاء في القاموس 1 / 332 ، وفى تاج العروس 2 / 481 ما نصه : وربما سمي الجوف بكامله كبدا حكاه ابن سيده عن كراع انه ذكره فى المنجّد وأنشد : إذا شاء منهم ناشئ مد كفه *** الى كبد ملساء أو كلفل نهد قال : ومن المجاز الكبد الجنب ، وفي الحديث : فوضع يده على كبده وإنما وضعها على جنبه من الظاهر ، وفى حديث مرفوع : « وتلقي الأرض أفلاذ كبدها » أي تلقي ما خبئ في بطنها من الكنوز والمعادن فاستعار لها الكبد ، وجاء ذلك أيضا في لسان العرب 4 / 378 ، وعلى ذلك فيكون المراد من الرواية انه القى من جوفه قطعا من الدم المتخثر تشبه الكبد وبهذا ظهر عدم التنافي بين الرواية وبين ما ذكره الأطباء فيما نحسب واللّه العالم.

معي » (1).

ودخل عليه عائدا أخوه سيد الشهداء فلما نظر الى ما يعانيه من ألم السم غامت عيناه بالدموع ، فنظر إليه الحسن فقال له :

- ما يبكيك يا أبا عبد اللّه؟

- أبكي لما صنع بك.

واستشف الإمام الحسن بما سيجري على أخيه من بعده فهان عليه ما هو فيه ، وأرخى عينيه بالدموع وقال له بنبرات مرتعشة حزينة :

« إن الذي أوتي إلي سم اقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه وقد ازدلف إليك ثلاثون ألفا ، يدعون أنهم من أمّة جدنا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك ، وسفك دمك ، وانتهاك

ص: 476


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 17.

حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك .. » (1)

إن جميع ما واجهته العترة الطاهرة بعد وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الشجون والخطوب لا يضارع كارثة أبي عبد اللّه (عليه السلام) فلا يوم كيومه فقد ذل فيه الإسلام ، وانتهكت فيه كرامة المسلمين وحرمة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي هي أولى بالرعاية والعطف من كل شيء ، ويشتد الوجع به ويسعر عليه الألم فيجزع ، فيلتفت إليه بعض عواده قائلا له :

« يا ابن رسول اللّه ، لم هذا الجزع؟ أليس الجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأب علي والأم فاطمة ، وأنت سيد شباب أهل الجنة؟!! »

فاجابه بصوت خافت :

« أبكي لخصلتين : هول المطلع ، وفراق الأحبة » (2).

وصيته للحسين :

ولما ازداد ألمه وثقل حاله علم أنه قد قرب دنوه من دار الآخرة ، وبعده عن هذه الدنيا ، فاستدعا أخاه سيد الشهداء فأوصاه بوصيته وعهد إليه بعهده ، وقد روت الشيعة وصيته بلون لا يتفق مع ما روته أبناء السنة والجماعة.

أما ما روته الشيعة فهذا نصه :

« هذا ما أوصى به الحسن بن علي الى أخيه الحسين ، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا اللّه ، وحده لا شريك له ، وأنه يعبده حق عبادته ، لا شريك له فى الملك ، ولا ولي له من الذل ، وأنه خلق كل شيء فقدره

ص: 477


1- البحار 10 / 123.
2- أمالي الصدوق ص 133 ،

تقديرا ، وأنه أولى من عبد ، وأحق من حمد ، من أطاعه رشد ، ومن عصاه غوى ، ومن تاب إليه اهتدى ، فاني أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ، أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم وتكون لهم خلفا ووالدا ، وأن تدفنني مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاني أحق به وببيته ، فان أبوا عليك فأنشدك اللّه وبالقرابة التي قرب اللّه منك ، والرحم الماسة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا يهراق من أمري محجمة من دم حتى تلقى رسول اللّه فتخصمهم وتخبره بما كان من أمر الناس إلينا » (1).

وقد اشتملت فقرات هذه الوصية على توحيد اللّه تعالى وتنزيهه عن المماثل ، ونفي الشريك عنه ، وقد أمر فيها أخاه بالصفح عمن أذنب من أهل بيته ، والإحسان لمن أساء منهم ، ومواراة جثمانه بجوار جده ، فهو أولى الناس به فان عارضه المناوئون لهم بذلك فلا يهريق من أجل ذلك محجمة دم ، وقد عرف (عليه السلام) بالمحافظة على هذه الجهات ، فقد أنفق جميع ما عنده في سبيل اللّه ، وقابل جميع من أساء إليه بالصفح والإحسان ، وترك الخلافة محافظة على دماء المسلمين.

وأما ما روته أبناء السنة والجماعة فهذا نصه :

« يا أخي إن أباك لما قبض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استشرف لهذا الأمر ورجا أن يكون صاحبه فصرفه اللّه عنه ووليها أبو بكر ، فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوف لها أيضا ، فصرفت عنه الى عمر ، فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم ، فلم يشك أنها لا تعدوه ، فصرفت عنه الى عثمان ، فلما هلك عثمان بويع ثم نوزع حتى جرد السيف وطلبها فما

ص: 478


1- أعيان الشيعة 4 / 79 ، أمالي الصدوق ، عيون المعجزات للسيد المرتضى مرآة العقول 1 / 226.

صفا له شيء منها ، وإني واللّه ما أرى أن يجمع اللّه فينا أهل البيت النبوة والخلافة فلا أعرفن ما استخفك سفهاء أهل الكوفة فأخرجوك ، إني وقد كنت طلبت الى عائشة إذا مت أن تأذن لي فأدفن في بيتها مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالت نعم. وإني لا أدري لعلها كان ذلك منها حياء فاذا أنا مت فأطلب ذلك منها فان طابت نفسها فادفني في بيتها ، وما أظن القوم إلا سيمنعونك إذا أردت ذلك ، فان فعلوا فلا تراجعهم فى ذلك ، وادفني في بقيع الغرقد فان لي فيمن فيه أسوة » (1).

وقد اشتملت هذه الوصية على الحط من كرامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وانتقاصه ، وهذا لا يتفق مع سيرة الإمام الحسن بحال من الأحوال ولكن فى التأريخ صورا هزيلة أثبتت لأغراض غير خفية على النبيه.

وصيته لمحمد :

ومشى الموت الى الإمام علیه السلام فعلم انه على أبواب الآخرة ، فأمر قنبرا أن يحضر أخاه محمد بن الحنفية ، فمضى إليه مسرعا فلما رآه محمد ذعر فقال :

« هل حدث إلا خير؟ »

فأجابه بصوت خافت : « أجب أبا محمد ».

فذهل محمد واندهش وخرج يعدو حتى انه لم يسو شسع نعله من كثرة ذهوله ، فدخل على أخيه وهو مصفر الوجه قد مشت الرعدة بأوصاله فالتفت علیه السلام له :

« اجلس يا محمد ، فليس يغيب مثلك عن سماع كلام تحيى به الأموات

ص: 479


1- الاستيعاب 1 / 375 ، تاريخ الخميس 2 / 227.

وتموت به الأحياء ، كونوا أوعية العلم ، ومصابيح الدجى ، فان ضوء النهار بعضه أضوأ من بعض ، أما علمت أن اللّه عز وجل جعل ولد ابراهيم أئمة ، وفضل بعضهم على بعض ، وآتى داود زبورا ، وقد علمت بما استأثر اللّه به محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يا محمد بن علي إني لا أخاف عليك الحسد ، وإنما وصف اللّه به الكافرين ، فقال تعالى : « كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق » (1) ، ولم يجعل اللّه للشيطان عليك سلطانا ، يا محمد بن علي ألا اخبرك بما سمعت من أبيك فيك؟ »

- بلى.

- سمعت أباك يقول يوم البصرة : من أحب أن يبرني في الدنيا والآخرة فليبر محمدا ، يا محمد بن علي لو شئت أن أخبرك وأنت نطفة في ظهر أبيك لأخبرتك ، يا محمد بن علي أما علمت أن الحسين بن علي بعد وفاة نفسي ، ومفارقة روحي جسدي إمام بعدي ، وعند اللّه فى الكتاب الماضي وراثة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصابها في وراثة أبيه وأمه ، علم اللّه أنكم خير خلقه فاصطفى منكم محمدا ، واختار محمد عليا ، واختارني علي للإمامة واخترت أنا الحسين.

فانبرى إليه محمد مظهرا له الطاعة والانقياد قائلا :

« أنت إمامي ، وأنت وسيلتي إلى محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واللّه لوددت إن نفسي ذهبت قبل أن أسمع منك هذا الكلام ، ألا وإن فى رأسي كلاما لا تنزفه الدلاء ، ولا تغيره بعد الرياح ، كالكتاب المعجم في الرق المنمنم ، أهم بابدائه فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل ، وما جاءت به الرسل وإنه لكلام يكل به لسان الناطق ، ويد الكاتب ، ولا يبلغ فضلك ، وكذلك

ص: 480


1- سورة البقرة آية 109.

يجزي اللّه المحسنين ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه ، إن الحسين أعلمنا علما وأثقلنا حلما ، وأقربنا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحما ، كان إماما فقيها قبل أن يخلق ، وقرأ الوحي قبل أن ينطق ، ولو علم اللّه أن أحدا خير منّا ما اصطفى محمدا منا ، فلما اختار محمد عليا إماما ، واختارك علي بعده واخترت الحسين بعدك سلمنا ورضينا بمن هو الرضا » (1).

وذكر الدينوري : أن الإمام في ساعاته الأخيرة بعث خلف أخيه محمد وكان في ضيعة له ، فلما مثل عنده فتح (عليه السلام) عينيه ، وكان مغمى عليه ، فالتفت الى أخيه الحسين أولا موصيا له بمحمد قائلا له :

« يا أخي ، أوصيك بمحمد خيرا ، فانه جلدة ما بين العينين ».

ثم التفت إلى محمد :

« يا محمد ، وأنا أوصيك بالحسين كانفه ووازره » (2).

الى الرفيق الاعلى :

وثقل حال الإمام واشتد به الوجع فأخذ يعاني آلام الاحتضار فعلم أنه لم يبق من حياته الغالية إلا بضع دقائق فالتفت إلى أهله قائلا :

« أخرجوني الى صحن الدار ، أنظر في ملكوت السماء ».

فحملوه الى صحن الدار فلما استقر به رفع رأسه الى السماء وأخذ يناجي ربه ويتضرع إليه قائلا :

« اللّهم إني احتسب عندك نفسي فإنها أعز الأنفس عليّ لم أصب بمثلها ، اللّهم آنس صرعتي ، وآنس في القبر وحدتي ».

ص: 481


1- محمد بن الحنفية ص 52.
2- الأخبار الطوال ص 203.

ثم حضر فى ذهنه غدر معاوية به ، ونكثه للعهود ، واغتياله إياه فقال :

« لقد حاقت شربته ، واللّه ما وفى بما وعد ، ولا صدق فيما قال » (1).

وأخذ يتلو آي الذكر الحكيم ويبتهل الى اللّه ويناجيه حتى فاضت نفسه الزكية الى جنة المأوى ، وسمت الى الرفيق الأعلى ، تلك النفس الكريمة التي لم يخلق لها نظير فيما مضى من سالف الزمن ، وما هو آت حلما وسخاء وعلما وعطفا وحنانا وبرا على الناس جميعا.

لقد مات حليم المسلمين ، وسيد شباب أهل الجنة ، وريحانة الرسول وقرة عينه ، فاظلمت الدنيا لفقده ، وأشرقت الآخرة بقدومه (2).

وارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميين ، وعلا الصراخ والعويل من بيوت يثرب ، وهرع أبو هريرة وهو باك العين ، مذهول اللب الى مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو ينادي بأعلى صوته :

ص: 482


1- تذكرة الخواص ص 23 ، تاريخ ابن عساكر 4 / 226 ، حلية الأولياء 2 / 38 ، صفة الصفوة 1 / 320.
2- اختلف المؤرخون في السنة التي توفى فيها الإمام فقيل سنة 49 هج ، ذهب الى ذلك ابن الأثير ، وابن حجر في تهذيب التهذيب ، وقيل سنة 51 هج ، ذهب الى ذلك الخطيب البغدادي في تاريخه ، وابن قتيبة فى الإمامة والسياسة ، وقيل غير ذلك ، وأما الشهر الذي توفي فيه فقد اختلف فيه أيضا ، فقيل في ربيع الأول لخمس بقين منه ، وقيل في صفر لليلتين بقيتا منه ، وقيل يوم العاشر من المحرم يوم الأحد سنة 45 من الهجرة ، كما في المسامرات ص 26 ، والمشهور عند الشيعة انه توفى في صفر في السابع منه إذ تقام فيه مراسيم الذكرى له ، وقد ذكر السيد مهدي الكاظمي في دوائر المعارف ص 23 تفصيل الأقوال في وفاته.

« يا أيها الناس ، مات اليوم حب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فابكوا » (1).

وصدعت كلماته القلوب ، وتركت الأسى يحز في النفوس ، وهرع من في يثرب نحو ثوى الإمام وهم ما بين واجم وصائح ومشدوه ونائح قد نخب الحزن قلوبهم على فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذا لهم وملجأ ومفزعا إن نزلت بهم كارثة أو حلت بهم مصيبة.

تجهيز الامام :

وأخذ سيد الشهداء في تجهيز أخيه وقد أعانه على ذلك عبد اللّه بن عباس ، وعبد الرحمن بن جعفر ، وعلي بن عبد اللّه بن عباس ، فغسله وكفنه وحنطه وهو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون ، وبعد الفراغ من تجهيزه أمر (عليه السلام) بحمل الجثمان المقدس الى مسجد الرسول لأجل الصلاة عليه (2).

مواكب التشييع :

كان تشييع الإمام تشييعا حافلا لم تشهد نظيره عاصمة الرسول ، فقد بعث الهاشميون الى العوالي والقرى المحيطة بيثرب من يعلمهم بموت الإمام فنزحوا جميعا الى يثرب ليفوزوا بتشييع الجثمان العظيم (3) وقد حدث ثعلبة ابن مالك عن كثرة المشيعين فقال :

« شهدت الحسن يوم مات ، ودفن في البقيع ، ولو طرحت فيه

ص: 483


1- تهذيب التهذيب 2 / 301 ، تاريخ ابن عساكر 4 / 227.
2- أعيان الشيعة 4 / 80.
3- تاريخ ابن عساكر 8 / 228.

ابرة لما وقعت إلا على رأس انسان » (1) ،

وقد بلغ من ضخامة التشييع أن البقيع ما كان يسع أحدا من كثرة الناس ، وحق على المسلمين أن يخفوا لتشييع حفيد نبيهم الذي تكفل بصالحهم ، وعال بضعيفهم وعاجزهم ، وأوقف نفسه على البر والمعروف إليهم.

الصلاة على الجثمانه :

وحمل الجثمان المقدس من ثوي الإمام الى مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أطراف الأنامل قد حفت به الوجوه والأشراف ، فوضع في الجامع فتقدم الإمام الحسين (عليه السلام) فصلى عليه وقد ائتمت به بقية الصحابة والناس على اختلاف طبقاتهم ، وذكر ابن أبي الحديد : ان الإمام الحسين (عليه السلام) أمر سعيد بن العاص بالصلاة عليه وقال له : لو لا انها سنة لما قدمتك (2) وهذا القول بعيد نظرا لتوتر العلاقات بين الأمويين والهاشميين فكيف يقدم الإمام الحسين عميدهم للصلاة عليه؟ والصحيح ما روي أنه لم يحضر أحد من الأمويين فى موكب التشييع سوى سعيد بن العاص (3).

الفتنة الكبرى :

واتجهت مواكب التشييع نحو المرقد النبوي ليجددوا بالجثمان الطاهر عهدا عند جده ويوارونه بجواره ، ولما علم الأمويون ذلك تكتلوا وانضم

ص: 484


1- الاصابة 1 / 330.
2- شرح ابن أبي الحديد 4 / 18.
3- تاريخ الخميس 2 / 323.

بعضهم الى بعض فقد دفعتهم الأنانية والعداء للهاشميين الى إحداث المعارضة والشغب في دفن الإمام بجوار جده ذلك لأنهم رأوا أن عميدهم عثمان قد دفن في حش كوكب مقبرة اليهود ، ويدفن الحسن مع جده فيكون ذلك عارا عليهم وخزيا ، وأخذوا يهتفون بلسان واحد :

« يا رب هيجاء ، هي خير من دعة ، أيدفن عثمان بأقصى المدينة ، ويدفن الحسن عند جده!!؟ ».

وانعطف مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص نحو عائشة وهما يستفزانها ويستنجدان بها في مناصرتهم ، وقد عرفا دخيلة نفسها وما تكنه من الموجدة والغيرة والحسد لولد علي وفاطمة قائلين لها :

« يا أم المؤمنين ، إن الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن مع رسول اللّه واللّه لئن دفن الحسن بجوار جده ليذهبن فخر أبيك ، وصاحبه عمر الى يوم القيامة ».

وألهبت هذه الكلمات نار الثورة في نفسها فاندفعت بغير اختيار لمناصرتهما كما اندفعت قبل ذلك لحرب أمير المؤمنين (عليه السلام) لا على أساس وثيق ، بل للعاطفة والميول التي طبعت المرأة نفسيا على الانقياد إليهما ، والتفتت الى مروان قائلة :

« ما أصنع يا مروان؟ »

- الحقي به ، وامنعيه من أن يدفن معه.

فقامت مسرعة مدهوشة ، فجيء لها ببغلة فامتطتها وأقبلت الى مواكب التشييع الحاشدة ، وهي تصيح بلا اختيار قائلة :

« لا تدخلوا بيتي من لا أحب!! إن دفن الحسن في بيتي لتجز

ص: 485

هذه - وأومأت الى ناصيتها - » (1).

وما علمت عائشة أن كلامها سيؤدي الى إراقة الدماء ، والى تفريق صفوف المسلمين ، وهي من دون شك لا يهمها ذلك ، فقد أراقت يوم الجمل سيلا عارما من دمائهم استجابة لعواطفها المترعة بالحقد تجاه أمير المؤمنين.

وإنا لنتساءل - أولا - : من أين جاء لها البيت الذي دفن فيه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ ألم يزعم أبوها أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : « إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ، ولا فضة ، ولا دارا ولا عقارا » فهل إن هذه الرواية اختصت بسيدة النساء فاطمة سلام اللّه عليها فمنعت من ارثها ، وحرمت من حقها ، وإذا كانت عامة فلما ذا لا تعمل بها أم المؤمنين؟ ولو سلمنا أنها ترث من البيت فما هو مقدار حصتها منه ، لأنها لا تستحق إلا التسع من الثمن ، وقد قيل :

لك التسع من الثمن *** وبالكل تملكت

وبالاضافة لذلك فان الزوجة لا ترث من الأرض ، وإنما ترث من العمارات ، وسائر الأموال المنقولة.

ونتساءل - ثانيا - : لما ذا لا تحب ريحانة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وثمرة

ص: 486


1- ذكر فريق كبير من المؤرخين منع عائشة لدفن الامام الحسن بجوار جده منهم ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 18 ، والسبط الجوزي فى تذكرة الخواص ص 223 ، واليعقوبي في تاريخه 1 / 200 ، وأبو الفداء فى تاريخه 1 / 192 ، وأبو علي النيسابوري فى روضة الواعظين ص 143 ، وأبو الفرج فى مقاتل الطالبيين ص 52 ، وجاء أيضا في الخرائج والجرائح ص 23 ، وفي روض المناظر ، وفي البحار.

فؤاده ، وقد قال فيه : « اللّهم إني أحبه ، وأحب من يحبه » لقد جافت عائشة بذلك ما أثر عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في سبطه وريحانته (1).

نعم استجابت عائشة لرغبات الأمويبن ، وانطلقت فى موكبهم فمنعت سبط النبي أن يدفن مع جده ، وما راعت حرمة العترة الطاهرة التي فرض اللّه مودتها فى كتابه الكريم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

اجازة عائشة لدفن عبد الرحمن :

ونصّ المؤرخون أن عائشة سمحت بأن يدفن عبد الرحمن بن عوف فى حجرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2) وهو من الغرابة بمكان ، فهل ان عبد الرحمن أولى بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الإمام الحسن الذي هو سبطه وريحانته ، رحماك يا رب!! أي موقف هذا الذي وقفته عائشة ، فإنها تسمح لابن عوف أن يوارى مع رسول اللّه ، ويحضى بجواره ، وتبعد عنه ريحانته ، وفلذة كبده ، فتحول بينه وبين أغلى أمانيه ، ولم ترع عواطف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشدة حبه له وتعلقه به ،

وعلق الاستاذ السيد سعيد الأفغاني على موقف عائشة فقال : ولعل آخر تعبير عن موقفها - يعنى عائشة - السلبى من علي ، انقباضها عن ولديه الحسن والحسين ، فلقد كانت تحتجب منهما وهما لها من المحارم ، انهما سبطا زوجها ولا تحل لهما ، ولا يحلان لها ، ومن المعروف بداهة انه لا تحل امرأة الرجل لولده ولا لولد ولده وأولاد بناتهم ، وهي تعرف

ص: 487


1- ذكرنا الأحاديث الواردة من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي أجمع عليها المسلمون في حق الإمام الحسن في الحلقة الأولى من هذا الكتاب.
2- الدرة الثمينة فى تاريخ المدينة ص 404.

ذلك حق المعرفة لكنها حجبتهما ، ولم تكن تأذن لهما إلا من وراء حجاب مبالغة في مباعدتهما ، ولقد علّق على هذا الحادث ابن عباس بقوله : ان دخولهما عليها لحل (1) ثم كانت الأمنية الأخيرة للحسن بعد وفاة علي وتنازله لمعاوية عن الخلافة أن يدفن عند جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي أمنية حق ما كان ينبغي أن يحرمها إذ كان أقرب الأحياء يومئذ من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو أمسهم به رحما بعد ابنته وأزواجه ، ولكن للأهواء السياسية منحى لا يخضع لحق ولا منطق (2).

لقد ارتكبت عائشة في فعلها شططا ، وأوضحت عما تكنه من العداء لأمير المؤمنين ولأولاده ، ونحن لا نجد ما يبرر فعلها ، ولما رأى محمد بن الحنفية موقفها المرير انبرى إليها وقد قد قلبه قائلا بنبرات تقطر غضبا : « يا عائشة ، يوما على جمل ، ويوما على بغل ، فما تملكين نفسك ، ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم ».

فأثارت هذه الكلمات الغضب في نفسها فأرادت أن تفصل محمدا عن الفاطميين وتفرق بينهم وبينه قائلة له.

« هؤلاء بنو الفواطم لا يتكلمون ».

ولم يخف على الحسين ما ارادته عائشة من التفرقة وصدع الشمل فاندفع إليها رادا عليها مقالها قائلا :

« وأنت تبعدين محمدا من الفواطم ، فو اللّه لقد ولدته ثلاث من الفواطم ، فاطمة بنت عمران بن عائد بن مخزوم ، وفاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت زائدة ».

ص: 488


1- طبقات ابن سعد 8 / 50.
2- عائشة والسياسة ص 218.

فقالت عائشة وهي مغيظة حانقة :

« نحوا ابنكم واذهبوا به فإنكم قوم خصمون » (1).

وانعطف نحو عائشة ابن أخيها القاسم بن محمد الطيب ابن الطيب فزجرها وردعها عن موقفها قائلا :

« يا عمة ، ما غسلنا رءوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال يوم البغلة السهباء؟!! » (2)

وأقبل إليها ابن عباس وهو لا يبصر طريقه من الغضب فسدد لها سهما من منطقه الفياض قائلا :

« وا سوأتاه ، يوما على بغل ، ويوما على جمل ، تريدين أن تطفئي نور اللّه ، وتقابلين أولياءه ».

ثم التفت الى مروان فقال له :

« ارجع يا مروان من حيث جئت ، فانا لا نريد دفن صاحبنا عند رسول اللّه ، ولكن نريد أن نجدد به عهدا ، ثم ندفنه عند جدته فاطمة بنت أسد عملا بوصيته ، ولو أوصانا بدفنه عند جده لعلمت من هو أقصر باعا » (3).

ولما رأى ذلك أبو هريرة أخذ ينادي بأعلى صوته :

« أرأيتم لو مات ابن لموسى بن عمران ، أما كان يدفن مع أبيه؟

ص: 489


1- اعلام الورى في اعلام الهدى ص 126.
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 200.
3- روضة الواعظين ص 143 ، أعيان الشيعة 4 / 81 ، وابن عباس ليس هو حبر الأمّة عبد اللّه فانه كان في دمشق ، بل المراد هو أحد ولد العباس أما عبيد اللّه أو غيره.

وإني سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. »

ولم يسجل التاريخ لأبي هريرة موقفا كريما سوى هذا الموقف ، وقد اغتاظ مروان من مقالته وصاح به لقد ضاع حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1). وخرج أبان بن عثمان وهو رافع عقيرته قائلا :

« إن هذا لهو العجب يدفن ابن قاتل عثمان مع رسول اللّه وأبي بكر وعمر ، ويدفن أمير المؤمنين الشهيد المظلوم ببقيع الغرقد » (2).

ولما رأى الهاشميون موقف بني أميّة ومنعهم من دفن الإمام بجوار

ص: 490


1- أعيان الشيعة 4 / 81 ، وجاء قريبا منه فى مستدرك الحاكم 3 / 171 وجاء فى تاريخ ابن عساكر ان محرز بن جعفر روى عن أبيه قال : سمعت أبا هريرة يقول يوم دفن الحسن بن علي : قاتل اللّه مروان ، قال : واللّه ما كنت لأدع ابن أبي تراب يدفن مع رسول اللّه ، وقد دفن عثمان فى البقيع ، فقلت : يا مروان اتق اللّه ، ولا تقل لعلي إلا خيرا ، أشهد لقد سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : يوم خيبر لأعطي الراية رجلا يحبه اللّه ورسوله ليس بفرار ، وأشهد سمعت رسول اللّه يقول في حسن : « اللّهم إني أحبه فأحبه ، وأحب من يحبه ». قال مروان : إنك واللّه أكثرت على رسول اللّه ، فلا نسمع منك ما تقول ، فهل غيرك يعلم ما تقول؟ قال : قلت : هذا أبو سعيد الخدري ، فقال مروان : لقد ضاع حديث رسول اللّه ، حين لا يرويه إلا أنت وأبو سعيد الخدري واللّه ما أبو سعيد الخدري إلا غلام ، ولقد جئت من جبال دوس قبل وفاة رسول اللّه بيسير فاتق اللّه يا أبا هريرة ، قال : قلت : نعم ما أوصيت به ، وسكت عنه.
2- تاريخ ابن عساكر الجزء الثاني عشر صورة فوتغرافية بمكتبة الإمام أمير المؤمنين.

جده عزموا على مناجزتهم ، فانحاز كل منهما في جانب ، وهمّ بعضهم على بعضهم بالهجوم ، فلما رأى الإمام الحسين (عليه السلام) ذلك بادر نحو الهاشميين فصاح بهم :

« اللّه اللّه يا بني هاشم ، لا تضيعوا وصية أخي ، واعدلوا به الى البقيع ، فانه أقسم عليّ إن أنا منعت من دفنه مع جده أن لا أخاصم فيه أحدا وأن أدفنه في البقيع مع أمّه ».

ثم التفت الى الأمويين فقال لهم :

« واللّه لو لا عهد الحسن إليّ أن لا أهريق في أمره محجمة من دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف اللّه منكم مأخذها ، وقد نقضتم العهد الذي بيننا وبينكم ، وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا » (1).

ثم أمر (عليه السلام) بحمل الجثمان المقدس الى البقيع ، فحمل على الأنامل قد حفّ به الهاشميون والطالبيون وهم يذرفون الدموع ، ويصعدون من الحسرات ما يسعره الألم ، قد أخذتهم المائقة ، وأذاب الحزن قلوبهم على

ص: 491


1- وذهب مؤرخو الشيعة أن عائشة أمرت بني أميّة برمي جنازة الحسن فرموها حتى استل منها سبعون سهما ذكر ذلك في ناسخ التواريخ وغيره ، ويؤيده ما جاء في تاريخ ابن عساكر ج 12 « وانتهى الحسين الى قبر النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال : احفروا هاهنا ، فسكت عنه سعيد بن العاص وهو الأمير ولم يحل بينه وبينه ، وصاح مروان في بني أميّة فلبسوا السلاح ، وقال مروان : لا كان هذا أبدا فقال له الحسين : يا ابن الزرقاء مالك ولهذا أو أولى أنت به؟!!. قال مروان : لا كان هذا ولا يخلص إليه وأنا حي ، وصاح بحلف الفضول فاجتمعت هاشم ، وتيم ورهن أسد و ... وقد لبسوا السلاح ، وعقد مروان لواء وعقد الحسين لواء ، فقال الهاشميون : يدفن مع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى كانت بينهم المراماة في النبل. الخ. »

فقيدهم العظيم ، وعلى ما ارتكبه الأمويون منهم.

وجيء بالجثمان الطاهر إلى البقيع فأودع في مقره الأخير بجوار جدته فاطمة بنت أسد (1) لقد أودع في الثرى ريحانة الرسول وسبطه ، فاقبر معه الحلم والكرم والفضل.

على حافة القبر :

ووقف سيد الشهداء على حافة القبر وهو شاخص العين لم يطرف له هدب ، ولم يهدأ له قلب ، وأخذ يؤبّن أخاه ، ويصوغ من حزنه كلمات :

« رحمك اللّه أبا محمد ، إن كنت لتباصر الحق مظانه ، وتؤثر اللّه عند التداحض فى مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يدا طاهرة الأطراف ، نقية الأسرة ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤنة عليك ، ولا غرو فأنت ابن سلالة النبوة ، ورضيع لبان الحكمة ، فالى روح وريحان ، وجنة ونعيم ، أعظم اللّه لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم حسن الأسى (2) عنه » (3).

ثم جلس على القبر وأخذ يروي أديمه بماء عينيه ، وينشد :

أأدهن رأسي أم تطيب محاسني *** وخدك معفور وأنت سليب

أأشرب ماء المزن من غير مائه *** وقد ضمن الأحشاء منك لهيب

أو أستمتع الدنيا لشيء أحبه *** الى كل ما أدنى إليك حبيب

ص: 492


1- كفاية الطالب ص 268 وغيره.
2- الأسى : بضم أوله وكسره ، جمع أسوة بالضم والكسر ، وهو ما يتعزى به.
3- عيون الأخبار.

سأبكيك ما ناحت حمامة أيكة *** وما اخضر في دوح الحجاز قضيب

غريب وأكناف الحجاز تحوطه *** ألا كل من تحت التراب غريب

فلا يفرح الباقي ببعد الذي مضى *** فكل فتى للموت فيه نصيب

وليس حريبا من أصيب بماله *** ولكن من وارى أخاه حريب

بكائي طويل والدموع غزيرة *** وأنت بعيد والمزار قريب

نسيبك من أمسى يناجيك طيفه *** وليس لمن تحت التراب نسيب (1)

وأقبل أخوه ، الثاكل الحزين محمد بن الحنفية فوقف على حافة القبر كأنه يعاني آلام الاحتضار قد استجاب لأحاسيس نفسه الولهى ، وقلبه المتصدع الذي ليس فيه فراغ لغير الأسى والحزن وهو يصوغ من حزنه كلمات قائلا :

« رحمك اللّه يا أبا محمد ، فو اللّه لئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك ولنعم الروح روح عمّر بدنك ، ونعم البدن بدن تضمنه كفنك ، ولنعم الكفن كفن تضمنه لحدك ، وكيف لا تكون كذلك وأنت سليل الهدى ، وحليف أهل التقى ، وخامس أصحاب الكساء ، وجدك المصطفى ، وأبوك المرتضى ، وأمّك فاطمة الزهراء ، وعمك جعفر الطيار في جنة المأوى ، غذتك أكف الحق ، وربيت في حجر الإسلام ، وأرضعتك ثدى الإيمان فطبت حيا وميتا ، وإن كانت أنفسنا غير قالية لحياتك ، ولا شاكة في الخيار لك ، وإنك وأخاك لسيدا شباب أهل الجنة ، فعليك أبا محمد منا السلام » (2).

وبعد الفراغ من دفن الإمام وتأبينه أقبلت الجماهير ترفع للإمام

ص: 493


1- مقتل الحسين 1 / 142 ، وقيل ان الأبيات أنشدها محمد بن الحنفية
2- زهر الآداب 1 / 55 ، تأريخ اليعقوبي 2 / 200.

الحسين التعازي الحارة وتواسيه بمصابه الأليم وهو (عليه السلام) واقف يشكرهم على مواساتهم وتعازيهم.

صدى الفاجعة :

وما أذيع النبأ المؤلم فى العالم الإسلامى إلا واهتز من أقصاه الى أدناه حزنا ووجدا ، فلقد مات سيد المسلمين وإمامهم ، والملجأ الوحيد لهم ، وقد أدخل موته ذلا على عموم العرب والمسلمين (1) وعلينا أن ننظر الى العواصم الإسلامية التي غمرها الحزن وهي :

1 - يثرب :

أما يثرب عاصمة الإسلام فقد لبست الحزن والحداد على الفقيد الراحل فعطلت أسواقها ومكاسبها (2) ، وبكاه الرجال والنساء سبعة أيام واستمرت نساء بنى هاشم فى النياحة عليه شهرا ، وأظهرن الحداد ، ولبسن السواد سنة كاملة (3).

2 - مكة :

وعم الحزن والأسى أهل مكة ، فانه لما انتهى إليهم النبأ المريع أغلقوا حوانيتهم ، وعطلوا مكاسبهم ، واستمروا بالنياحة ، يبكون رجالا ونساء سبعة أيام (4).

ص: 494


1- مقاتل الطالبيين 1 / 53 وجاء فيه ان عمر بن بشير سأل أبا اسحاق فقال له : متى ذل الناس؟ فقال : حين مات الحسن.
2- مستدرك الحاكم 3 / 173 ، أسد الغابة 2 / 11 ، أعيان الشيعة 4 / 80.
3- البداية والنهاية 8 / 44.
4- تاريخ ابن عساكر 4 / 228.

3 - البصرة :

وحمل النبأ المؤلم الى البصرة عبد اللّه بن سلمة ، فأخبر به حاكمها زياد بن أبيه ، وفهم بذلك الحكم بن أبي العاص الثقفي فخرج الى الناس فنعى إليهم الإمام ، فلما سمعوا بذلك ، علا منهم البكاء والضجيج ، وسمع أبو بكرة أخو زياد الصراخ والعويل وكان سقيما ، فقال لزوجه ميسة بنت سخام :

« ما هذا؟ »

- مات الحسن بن علي ، والحمد لله الذي أراح الناس منه.

فقال لها بصوت خافت :

« اسكتي ويحك ، فقد أراحه اللّه من شر كثير ، وفقد الناس بموته خيرا كثيرا ، يرحم اللّه حسنا » (1).

ورثاه شاعر البصرة الجارود بن أبي سبرة فقال :

إذا كان شر سار يوما وليلة *** وإن كان خيرا خرد السير أربعا

إذا ما يريد الشر أقبل نحونا *** باحدى الدواهي الربدسار وأسرعا (2)

4 - الكوفة :

وحينما أذيع النبأ المؤلم في الكوفة تصدعت القلوب وارجفت من هوله النفوس ، وأخذ الكوفيون بالبكاء والنحيب ، وهم يعددون مزايا الإمام ويذكرون خطأهم وتقصيرهم تجاهه ، وقد رثاه شاعرهم الموهوب سليمان ابن قتة بقوله :

يا كذب اللّه من نعى حسنا *** ليس لتكذيب نعيه ثمن

ص: 495


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 4.
2- نفس المصدر ص 6.

كنت خليلي وكنت خالصتي *** لكل حي من أهله سكن

أجول في الدار لا أراك وفي *** الدار أناس جوارهم غبن

بدلتهم منك ليت انهم *** أضحوا وبيني وبينهم عدن (1)

ورثاه شاعر الكوفة الكبير قيس بن عمر الشهير بالنجاشي بأبيات ذكر فيها جريمة بنت الأشعث وذكر فضل الإمام وجوده وسخاءه :

جعدة ابكيه ولا تسأمي *** بعد بكاء المعول الثاكل

لم يسبل الستر على مثله *** في الأرض من حاف ومن ناعل

كان إذا شبت له ناره *** يرفعها بالسند الغاتل

كيما يراهما يائس مرمل *** وفرد قوم ليس بالآهل

يغلى بنيء اللحم حتى إذا *** أنضجه لم يغل من آكل

أعنى الذي أسلمنا هلكه *** للزمن المستحرج الماحل (2)

واجتمع زعماء الشيعة وشخصياتهم فى ثوي سليمان بن صرد الخزاعي فرفعوا الى الإمام الحسين رسالة يعزونه بمصابه المؤلم ويعربون له الولاء والإخلاص والطاعة لأمره وهذا نصها :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم : للحسين بن علي ، من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين علیه السلام ، سلام عليك ، فانا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو.

أما بعد : فقد بلغنا وفاة الحسن بن علي ، فسلام عليه يوم ولد ، ويوم يموت ، ويوم يبعث حيا ، غفر اللّه ذنبه ، وتقبل حسناته ، وألحقه بنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وضاعف لك الأجر فى المصاب به ، وجبّر بك المصيبة

ص: 496


1- شرح ابن أبي الحديد 4 / 18.
2- مروج الذهب 2 / 303.

من بعده فعند اللّه تحتسبه ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ما أعظم ما أصيبت به هذه الأمّة عامة ، وأنت وهذه الشيعة خاصة ، بهلاك ابن الوصي وابن بنت النبي ، علم الهدى ، ونور البلاد المرجو لإقامة الدين ، وإعادة سيرة الصالحين ، فاصبر رحمك اللّه على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ، فان فيك خلفا ممن كان قبلك ، وإن اللّه يؤتى رشده من يهتدي بهديك ، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك المحزونة بحزنك ، المسرورة بسرورك ، السائرة بسيرتك ، المنتظرة لأمرك ، شرح اللّه صدرك ، ورفع ذكرك ، وأعظم أجرك ، وغفر ذنبك ، ورد عليك حقك ، والسلام » (1).

سرور معاوية :

كان معاوية يتشوف بفارغ الصبر أنباء يثرب ، ويترقب البريد ساعة فساعة ، قد ألح على عامله أن يعرفه بأخبار الإمام في كل يوم ، ولما انتهى إليه النبأ بموت الإمام لم يملك نفسه من السرور حتى خرّ ساجدا ، وكبّر وكبّر من كان معه في الخضراء ، ولما سمعت ذلك زوجه فاختة بنت قرضة خرجت من خوخة لها فرأت زوجها قد غمره الفرح والسرور فقالت له :

« سرك اللّه يا أمير المؤمنين ، ما هذا الذي بلغك فسررت به؟ »

- موت الحسن.

فاستعبرت ، وقالت : « إنا لله وإنا راجعون ». ثم بكت وقالت :

« مات سيد المسلمين ، وابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) » (2).

ص: 497


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 203.
2- مروج الذهب 2 / 305.

وأخذ معاوية يتعجب من سرعة تأثير السم الذي بعثه للإمام قائلا :

« يا عجبا من الحسن شرب شربة من عسل بماء رومة فقضى نحبه!! » (1).

وبلغ معاوية ما أراده الهاشميون من دفن الحسن في بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال : ما أنصفتنا بنو هاشم حين يزعمون أنهم يدفنون حسنا مع النبيّ وقد منعوا عثمان أن يدفن إلا في أقصى البقيع ، إن يك ظنى بمروان صادقا لا يخلصون الى ذلك وجعل يقول : ويها مروان أنت لها .. » (2)

ووفد عليه المقدام بن عدي بن كرب وكان من شيعة أمير المؤمنين فقال له معاوية مظهرا له الشماتة بموت الإمام :

« يا مقدام ، أعلمت أن الحسن بن علي توفي؟ »

فاسترجع المقدام ، واستعبر ، فالتفت إليه معاوية والسرور باد على وجهه ، وابتسامة ظاهرة على شفتيه قائلا له باستهزاء :

« أترى موت الحسن مصيبة؟!! »

- ولم لا أراها مصيبة؟ وقد وضعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فى حجره وقال : هذا مني ، وحسين من علي (3).

لقد فرح معاوية بموت الإمام ، لأنه قد تمت بحسابه بوارق آماله وأحلامه وتحقق عنده جعل الملك العضوض وراثة في أبنائه وذريته ، وقد وصف لنا الفضل بن العباس مدى سرور معاوية وشماتته بموت الإمام بقوله :

أصبح اليوم ابن هند شامتا *** ظاهر النخوة إذ مات الحسن

ص: 498


1- الاستيعاب 1 / 374.
2- تاريخ ابن عساكر.
3- كفاية الطالب ص 268 ،

رحمة اللّه عليه إنه *** طالما أشجى ابن هند وأرن

استراح اليوم منه بعده *** إذ ثوى رهنا لأحداث الزمن

فارتع اليوم ابن هند آمنا *** إنما يقمص بالعير السمن

لست بالبافى فلا تشمت به *** كل حي بالمنايا مرتهن

يا ابن هند إن تذق كأس الردى *** تك فى الدهر كشيء لم يكن (1)

وذكر المؤرخون أن ابن عباس دخل على معاوية فلما استقر به المجالس التفت إليه معاوية - وهو جذلان مسرور بموت الإمام - قائلا : « يا ابن عباس هلك الحسن!!! »

- نعم هلك ، إنا لله وإنا إليه راجعون - قال ذلك مكررا - وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته ، أما واللّه ما سدّ جسده حفرتك ، ولا زاد نقصان أجله في عمرك ، ولقد مات وهو خير منك ، ولئن أصبنا به لقد أصبنا بمن كان خيرا منه جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فجبر اللّه مصيبته ، وخلف من بعده أحسن الخلف ».

وشهق ابن عباس من الحزن ثم انفجر باكيا فبكى من حضر في بلاط معاوية ، وتباكى معاوية رياء ، فلم ير أكثر باك في ذلك اليوم ، والتفت معاوية والفرح والسرور باد على سحنات وجهه قائلا له : « يا ابن عباس إنه ترك بنين صغارا ».

ولم يخف على ابن عباس ما فى كلام معاوية من الشماتة فقال له : كلنا كنا صغارا فكبرنا ».

- كم أتى له من العمر؟

- أمر الحسن أعظم من أن يجهل أحد مولده.

ص: 499


1- مقتل الحسين للخوارزمى 1 / 141.

وسكت معاوية برهة ثم التفت إليه ليعرف مدى اتجاهه نحو الحسين قائلا : « يا ابن عباس ، أصبحت سيد قومك!؟ »

وعرف ابن عباس غايته فقال له : « أما ما أبقى اللّه أبا عبد اللّه الحسين فلا ».

فأجابه معاوية على عادته من المراوغة : « لله أبوك يا ابن عباس!! ما استنبأتك إلا وجدتك معدا!! »

وبهذا ينتهي بنا المطاف عن حياة الإمام أبي محمد ، فسلام عليه يوم ولد ، ويوم مات ، ويوم يبعث حيا ، فقد خسر المسلمون بفقده قيادته الروحية والزمنية ، وأسلمهم فقده للخطوب والنكبات ، وجاهد الأمويون من بعده الى اذلال المسلمين ، والى ارغامهم على ما يكرهون.

وأعرض الى القراء ان هذا الكتاب انما هو خلاصة ما توصلت إليه من الدراسة لحياة الإمام الزكي أبي محمد ، وعن تراثه ومثله ، وعن عصره وخلافته ، وما أحاط به من الظروف العصيبة التي ألجأته الى الصلح ، ولا أزعم أني قد وفقت الى الكمال فيه ، فان الكمال لله ، ولكني لم أدع جاهدا في البحث والتنقيب ، وفى عرض الأخبار وتحليلها ، ومناقشة بعضها ، وعسى أن أكون قد وفقت في جميع ذلك الى اعطاء صورة حية عن الإمام وعن العصر الذي عاش فيه ، وقد توسعت كثيرا في عرض الأحداث التي رافقت الإمام ، وفيما أحسب أن في عرض ذلك ضرورة ملحة يقتضيها البحث.

وإني أرى من الحق - وأنا في ختام البحث - أن أرفع أعمق الشكر الى حضرة المحسن النبيل الحاج محمد رشاد نجل الوجيه الحاج محمد جواد عجينة على تبرعه بطبع هذا الكتاب رغبة منه في خدمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وفي احياء مآثر هذا الإمام العظيم سائلا من اللّه أن يعوضه المزيد من الأجر ويحسن له الصنيع إنه تعالى ولي القصد والتوفيق.

ص: 500

مصادر البحث

ص: 501

ص: 502

أهم المصادر

التي ورد ذكرها في الجزء الاول والثاني

اسم الكتاب / اسم المؤلف

( أ )

أحكام القرآن / لأبي اسحاق الرازي

أنساب الأشراف / للبلاذري

أسد الغابة / لابن الأثير

الاصابة / لابن حجر العسقلاني

الاستيعاب / لابن عبد البر المالكي

الامامة والسياسة / لابن قتيبة

اصول الكافي / للكليني

أمالي الصدوق / للصدوق

أمالي الزجاج / للزجاج

الإرشاد / للشيخ المفيد

أنباء نجباء الأبناء / لمحمد الصقلي

الأخبار الطوال / للدينوري

أحياء العلوم / للغزالي

الأموال / لأبي عبيد

الإمام علي / لعبد الفتاح عبد المقصود

ص: 503

اسم الكتاب / اسم المؤلف

الإمام علي صوت العدالة الإنسانية / لجورج جرداق

الإسلام والنصرانية / لمحمد عبده

أسباب النزول / للواحدى

الاصول العامة للفقه المقارن / لمحمد تقي الحكيم

الإرشاد في اصول الاعتقاد / للجويني

الأغاني / لابي الفرج الاصفهاني

أبو الشهداء/ للعقاد

أبو هريرة / للإمام شرف الدين

أعيان الشيعة / للسيد محسن العاملي

الأذكياء / لابن الجوزي

الإيضاح / لفخر المحققين

الأدب المفرد / للبخاري

اتعاض الحنفاء في أخبار الخلفاء / للمقريزي

أعلام النساء / لكحالة

الأعلام / للزركلي

الأحكام السلطانية / للماوردي

الهاشميات / للكميت

أنوار التنزيل وأسرار التأويل / للبيضاوي

اتمام الوفاء فى سيرة الخلفاء / للخضري

الإسلام بين السنة والشيعة / لهاشم الدفتر

اسعاف الراغبين / لمحمد الصبان

ص: 504

اسم الكتاب / اسم المؤلف

إيضاح الكفاية / للمؤلف

أعلام الورى في أعلام الهدى / للسيد المرتضى

الاثنى عشرية / لمحمد بن قاسم الحسيني

اتمام الوفاء / للخضري

احتجاج الطبرسي / للطبرسي

( ب )

بحار الأنوار / للمجلسي

بلاغات النساء / لأحمد بن أبي طاهر

البدء والتاريخ / لأبي طاهر المقدسي

البداية والنهاية / لابن كثير

البيان والتبيين / للجاحظ

بدائع الصنائع / علاء الدين الكاشاني الحنفي

( ت )

تهذيب التهذيب / لابن حجر العسقلاني

تهذيب الأسماء واللغات / للنووي

تهذيب الأحكام / للطوسي

تطهير الجنان واللسان / لابن حجر

الترغيب والترهيب / لعبد العظيم المنذري

التصوف الإسلامى / لزكي مبارك

التنبيه والاشراف / للمسعودي

تاريخ اليعقوبي / لأحمد بن أبي يعقوب

ص: 505

اسم الكتاب / اسم المؤلف

تاريخ الخميس / للحسين بن محمد الديار بكري

تاريخ بغداد / للخطيب أحمد بن علي

تاريخ ابن خالدون / لعبد الرحمن بن محمد

تاريخ ابن خلكان / لأحمد بن محمد بن خلكان

تاريخ أبي الفداء / لإسماعيل بن علي عماد الدين

تمام المتون / صلاح الدين الصفدي

تحفة المحتاج / للنووي

تذكرة الحفاظ / للذهبي

تقييد العلم

تفسير ابن كثير / لإسماعيل بن كثير القرشي

التاج / للجاحظ

التعليقات / لمحمد باقر البهبهاني

تنزيه الأنبياء / السيد المرتضى

تاريخ الأمم والملوك / أبو جعفر محمد بن جرير

تحف العقول / حسن بن شعبة

تاريخ سينا / شقير نعوم

تاريخ الخلفاء / عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

تفسير الفخر الرازي / للإمام الرازي

تلخيص المستدرك / للذهبي

تاريخ التمدن الإسلامى / جرجي زيدان

تاريخ العرب العام / المستشرق ل. أ. سيديو

ص: 506

اسم الكتاب / اسم المؤلف

تحفة الأنام / للفاخوري

تاريخ دول الإسلام / لصدفي

تذكرة الخواص / السبط ابن الجوزي

تاريخ الأمة العربية / لمحمد سعد

تاريخ الإسلام السياسي / الدكتور ابراهيم حسن

تنقيح المقال / المامقاني

تاريخ ايران / لبعض المستشرقين

( ث )

ثمرات الأوراق / أبو بكر بن علي الحموي

( ج )

جامع السعادات / للنراقي

جامع أسرار العلماء / قاسم بن محمد الكاظمي

جوهرة الكلام فى مدح السادة الأعلام / القراغولي

جريدة الساعة / شرف الدين

جمهرة رسائل العرب / أحمد زكى صفوت

جمهرة الخطب / محمد رضا المدرس

جنات الخلود / » » »

جمهرة اشعار العرب / لأبي زيد القرشي

جواهر الأحكام / لمحمد حسن

جمع الجوامع / للسيوطي

جامع البيان فى تفسير القرآن / لمحمد بن جرير الطبري

ص: 507

اسم الكتاب / اسم المؤلف

الجامع لأحكام القرآن / للقرطبى

( ح )

حلية الأولياء / أبو نعيم الأصفهاني

حياة الحيوان / الدميري

حماة الإسلام / حياة الحسين

العلائلي / حياة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

محمد حبيب اللّه الشنقيطي / حياة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

محمد حسين هيكل / الحدائق الوردية

لحميد بن زيد اليمانى / ( خ )

خطط المقريزي / المقريزي

الخصائص الكبرى / للسيوطي

خلاصة تهذيب الكمال / أحمد الخزرجي

خزانة الأدب / للشيخ عبد القادر البغدادي

الخرائج والجرائح / للراوندي

الخراج / لأبي يوسف

الخلفاء الراشدون / لعبد الوهاب النجار

( د )

دائرة المعارف / للبستاني

دائرة معارف القرن العشرين / محمد فريد وجدي

دائرة المعارف الإسلامية / لجماعة من المستشرقين

ص: 508

اسم الكتاب / اسم المؤلف

دوائر المعارف / محمد مهدي الكاظمي

ديوان الرصافي / شاعر العرب الرصافي

درة الناصحين / عثمان بن حسن الخوبوي

الدر المنثور / لجلال الدين السيوطي

الدر المنثور في ربات الخدور / لزينب بنت علي العاملية

( ذ )

ذخائر العقبى / محب الدين الطبري

ذخيرة الدارين / عبد المجيد

( ر )

روضات الجنات / محمد باقر الخونساري

روضة الواعظين / أبو علي النيسابوري

ربيع الأبرار / الزمخشري

رجال الكشي / محمد الكشي

روح المعاني / الآلوسي

روض المناظر / لابن شحنة

روضة الشهداء / حسين واعظ

( ز )

زهر الآداب / لإبراهيم القيروانى

زينب والزينبات / العبيدلي

( س )

سنن ابن ماجة / ابن ماجة

ص: 509

اسم الكتاب / اسم المؤلف

سنن أبي داود / أبو داود

سفينة البحار / الشيخ عباس القمي

سر السلسلة العلوية / أبو نصر البخاري

سيرة ابن هشام / ابن هشام

سيرة الحلبي / الحلبي

سفر السعادة / الفيروزآبادي

سليم بن قيس / لسليم بن قيس الهلالي العامرى

السيادة العربية / لفان فلوتن

السنن الكبرى / للبيهقي

( ش )

شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد

شرح نهج البلاغة / محمد عبده

شعراء الغدير / الشيخ عبد الحسين الأميني النجفي

شذرات الذهب / ابن عماد الحنبلي

شرح الشفاء / علي القاري

شرح لامية العجم / الصفدي

شيخ المضيرة / للشيخ محمود أبورية

(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

صحيح مسلم / مسلم

صلح الحسن / الشيخ راضي آل ياسين

صحيح الترمذي / الترمذي

ص: 510

اسم الكتاب / اسم المؤلف

صبح الأعشى / القلقشندي

صفة الصفوة / ابن الجوزي

( ط )

طبقات ابن سعد / لابن سعد

طبقات فحول الشعراء / لابن سلام

طبقات الشافعية / للسبكي

طبقات القراء / لمحمد بن الجزري

الطبقات الكبرى / للشعراني

(ع)

علل الشرائع / محمد بن على بن بابويه

عيون الأخبار / ابن قتيبة

عائشة والسياسة / سعيد الأفغاني

علم النفس في الحياة / ماندر

عبقرية الإمام علي / العقاد

عصر المأمون / أحمد رفاعي

عقيدة الشيعة / روايت م. رونلدس

عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب / لابن المهنا

العلم الشامخ / لصالح المقبلي

العمدة / ابن رشيق

العقد الفريد / لابن عبد ربه الأندلسي

العدالة الاجتماعية / لسيد قطب

ص: 511

اسم الكتاب / اسم المؤلف

العرب / لفيلب حتى

العناصر النفسية / لشفيق جبري

( غ )

غرائب القرآن / للحسن بن محمد النيسابوري

( ف )

فكرة الافريقية الآسيوية / لمالك الجزائري

الفتوحات الاسلامية / لأحمد دحلان

الفتنة الكبرى / طه حسين

الفصول المهمة / لابن الصباغ

فضائل الأصحاب / أحمد مصطفى

فاطمة وبنات محمد / لامنس

فجر الإسلام / أحمد أمين

فتح الباري في شرح صحيح البخاري / لابن حجر العسقلاني

فيض القدير / للمناوي

الفائق / للزمخشري

الفصول المهمة / لشرف الدين

الفوائد / لمحمد باقر البهبهاني

( ق )

قوت القلوب / أبو طالب المكي

قوة الإرادة / اويسون سويت ماردن

القاموس / للفيروزآباديّ

ص: 512

اسم الكتاب / اسم المؤلف

( ك )

كشف الخفاء الالتباس / العجلوني

كنز العلوم / محمد فريد وجدي

كشف الغمة / علي بن عيسى الأربلي

كنوز الحقائق / للمناوي

الكنى والأسماء / للدولابي

كشف الغمة / عبد الوهاب الشعراني

كنز العمال / لعلي المنقي الهندي الحناني

كفاية الطالب / محمد القرشي الشافعي

كشف المحجة / السيد ابن طاوس

الكامل / للمبرد

الكشاف عن حقائق التنزيل / للزمخشري

الكامل / لابن الأثير

الكنى والألقاب / للقمي

( ل )

لسان الميزان / ابن حجر

لسان العرب / ابن منظور

لباب التأويل / للخازن

اللّهوف / لابن طاوس

اللباب في معرفة الأنساب / لابن الأثير

( م )

مجمع البيان / الفضل بن الحسن الطبرسي

ص: 513

اسم الكتاب / اسم المؤلف

معجم البلدان / ياقوت الحموي

الملل والأهواء / لابن حزم

المستطرف / لشهاب الدين

المنتظم / لابن الجوزي

معجم الأدباء / ياقوت الحموي

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد / نور الدين الهيثمي

مجمع الأمثال / أحمد بن محمد الميداني

معجم الشعراء / محمد بن عبد المرزباني

مشكل الآثار / للطحاوي

المواهب اللدنية / لابن حجر

الملل والنحل / للشهرستاني

المجتبى / لابن دريد

المحاسن والأضداد / للجاحظ

مجمع البحرين / الطريحي

محاضرات الأدباء / الراغب الاصفهانى

ميزان الاعتدال / الذهبي

مروج الذهب / المسعودي

مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الاصفهاني

منهاج السنة / ابن تيمية

مقتل الحسين / الخوارزمى

مطالب السؤل / كمال الدين الشافعي

المحبر / لمحمد بن حبيب

ص: 514

اسم الكتاب / اسم المؤلف

المكاسب / للأنصاري

مناقب أحمد / لابن الجوزي

مناقب أبي حنيفة / للخوارزمى

مقتل الحسين / للمقرم

المعارف / لابن قتيبة

محاضرات الأوائل / للسكتواري

المحاسن والمساوي / للبيهقى

مجموعة ورام / لورام

المجدي / لعلي بن محمد الصوفي

محمد ابن الحنفية / السيد على الهاشمي

مجلة العرفان / أحمد عارف الزين

مجلة الأسيوية البريطانية

مجلة البيان / علي الخاقاني

مجلة الغري / شيخ العراقين آل كاشف الغطاء

مناقب ابن شهر اشوب / ابن شهر اشوب

مسند حنبل / أحمد بن حنبل

مرآة العقول / المجلسى

من لا يحضره الفقيه / للطوسي

مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار / السيد عبد اللّه شبر

ملحمة الغدير / بولس سلامة

مقدمة ابن خالدون / ابن خالدون

مشارق الأنوار / الأجهوري

ص: 515

اسم الكتاب / اسم المؤلف

المراجعات / للإمام شرف الدين

المسالك / للشهيد الثاني

الملاحم والفتن / للسيد ابن طاوس

( ن )

النزاع والتخاصم / للمقريزي

النفحة العنبرية / لمحمد كاظم اليماني

نور الأبصار / الشبلنجى

نزهة المجالس / الصفوري

نهاية غريب الحديث / ابن الأثير

نهاية الأرب في فنون الأدب / أحمد النويري

ناسخ التواريخ / محمد تقي

النصائح الكافية / لمحمد بن عقيل

نظام الحكم والادارة فى الإسلام / للمؤلف

النظام السياسي فى الإسلام / للمؤلف

النص والاجتهاد / للإمام شرف الدين

( و )

وسائل الشيعة / للحر العاملي

وقعة صفين / نصر بن مزاحم

وفاء الوفاء / نور الدين السمهودي

وفيات الأعيان / ابن خلكان

( ي )

ينابيع المودة / سليمان الحنفي

ص: 516

محتويات الكتاب

ص: 517

ص: 518

محتويات الكتاب

البسملة مع آي من الذكر الحكيم... 5

الإهداء... 6

أمام الكتاب كلمة المغفور له الامام كاشف الغطاء... 7

البيعة :... 25

خطاب الإمام الحسن... 31

مبايعته... 34

قبول الخلافة... 36

عموم البيعة... 37

إحكام الدولة... 38

أخطاء تاريخية... 39

المسعودي ، فريد وجدي ، الخضرى ، طه حسين

الحرب الباردة :... 41

المؤتمر الأموي... 43

مذكرة الإمام... 44

جواب معاوية... 45

مذكرة ابن عباس... 47

جواب معاوية... 48

ص: 519

رسالة ابن عباس للإمام... 49

رسالة الإمام الى معاوية... 53

جواب معاوية... 58

مذكرة معاوية ، جواب الإمام... 63

اعلان الحرب :... 65

مذكرة معاوية لعماله... 68

فزع العراقيين... 70

اختيار عبيد اللّه... 75

عدد الجيش... 76

وصف الجيش ، عناصره... 79

الشيعة ، المحكمة ، أصحاب المطامع ، الشكاكون ،

أتباع الرؤساء

أخطاء تاريخية للحاكم ، اليعقوبي ، ابن كثير ، طه حسين... 82

فى المدائن :... 87

حوادث مسكن... 90

بث الجواسيس ، رشوة الوجوه ، اغراؤه لعبيد اللّه

غدر وخيانة... 92

اضطراب الجيش... 93

أكاذيب وأضاليل... 95

ص: 520

خلاصة الأحداث... 96

إذاعة الذعر ، رشوة الزعماء ، تأثير الرشوة

نهب أمتعة الإمام... 101

تكفيره... 102

اغتياله... 103

الموقف الرهيب... 105

أسباب الصلح :... 109

« الناقدون للصلح » الصفدي ، فيليب حتى ، العلائلي

روايت م رونلدس ، لامنس ، « علل الصلح »

(1) تفلل الجيش ناشئ من ( أ ) تضارب الحزبية فيه ،... 115

الحزب الأموي ، الحزب الحروري ، ( ب ) السأم

من الحرب ، سببه الحروب المتتالية ، والياس من

الغنائم ، ( ج ) فقد القوى الواعية ، ( د ) الدعوة

الى الصلح ، ( ه ) خيانة عبيد اللّه ، ( و ) رشوات

معاوية ، ( ز ) الإشاعات الكاذبة

(2) قوة العدو ، ناشئة من ( أ ) طاعة الجيش ،... 125

( ب ) بساطة وسذاجة ، ( ج ) اتفاق الكلمة ،

( د ) ضخامة القوى العسكرية ، ( ه ) حاشيته ،

( و ) ضخامة الأموال

(3) اغتيال أمير المؤمنين... 131

ص: 521

(4) حقن الدماء... 132

(5) منة معاوية ، (6) حوادث المدائن... 133

(7) الحديث النبوي... 134

(8) العصمة... 137

(9) ابراز الواقع الأموي... 139

أبو سفيان وهند... 141

ما أثر عن النبي في معاوية ... 144

عداؤه للنبي ، تعطيله الحدود ، إباحته للربا ،... 148

الأذان في صلاة العيد ، الخطبة قبل صلاة العيد ،

أخذ الزكاة من الأعطية ، تطيبه في الاحرام ، استعماله

أواني الذهب والفضة ، لبسه الحرير استحلاله أموال

الناس ، شراؤه الأديان ، خلاعة ومجون ، افتعال

الحديث ، استلحاقه لزياد ، المنكرون ذلك ، الإمام

الحسن ، الإمام الحسين ، يونس بن عبيد ، عبد الرحمن

ابن الحكم ، أبو العريان ، أبو بكرة ، يزيد بن

المفرغ ، الحسن البصري ، السكتواري

عماله وولاته ، سمرة بن جندب ، بسر بن أرطاة... 185

أبو هريرة ، زياد بن أبيه

الجور الشامل... 200

سياسة أهل البيت ... 203

السياسة البناءة ، نظرهم الى الخلافة ، المثل العليا

ص: 522

( أ ) العدل ، ( ب ) المساواة ، ( ج ) الحرية ،

( د ) الصراحة والصدق ، ( ه ) الولاة والعمال ،

( و ) الخدمة العسكرية ، ( ز ) السياسة المالية

بنود الصلح : ... 221

وثيقة الصلح... 227

مكان الصلح... 230

عام الصلح... 231

دراسة وتحليل ،... 232

العمل بكتاب اللّه ، ولاية العهد ، الأمن العام ،

عدم تسميته بأمير المؤمنين ، عدم اقامة الشهادة ، ترك

سبّ أمير المؤمنين ، الأمن العام للشيعة ، خراج

دارابجرد ، عدم البغي عليهم

موقف الامام الحسين : ... 239

اقرار الإمام الحسين للصلح ، افتعال الأخبار المنافية

لذلك ، السبب فى عدم استشهادة الإمام الحسن ،

جواب الإمام شرف الدين ، والإمام كاشف الغطاء

اجتماع الامام بمعاوية :... 251

خطاب معاوية ، خطاب الإمام الحسن ، موقف

ص: 523

الزعيم قيس

المنددون بالصلح :... 263

حجر بن عدي ، عدي بن حاتم ، المسيب بن نجبة

مالك بن ضمرة ، سفيان بن أبي ليلى ، بشير الهمداني

سليمان بن صرد ، عبد اللّه بن الزبير ، أبو سعيد ،

بعض أصحابه

الى يثرب : ... 275

سفر الإمام الى يثرب ، مدرسته ، عطفه على الفقراء

الاستجارة به ، مع حبيب بن مسلمة ، رفضه

لمصاهرة الأمويين ، مع معاوية فى يثرب ، الحزب

السياسي

الى دمشق :... 293

مناظراته مع معاوية والحزب الأموي

خرق معاوية شروط الصلح :... 327

أهمية الشروط في الاسلام ، خرق معاوية لاتفاقية الصلح... 329

(1) سبه لأمير المؤمنين... 331

المنكرون ذلك ، سعد بن أبي وقاص ، السيدة أم سلمة... 338

ص: 524

عبد اللّه بن عباس ، الأحنف بن قيس ، كثير بن كثير

أنيس الأنصاري ، زيد بن أرقم ، أبو بكرة

(2) خراج دارابجرد... 347

(3) شيعة أمير المؤمنين... 348

اضطهاد الشيعة ، حجر بن عدي ، سبب شهادته ،

ضحايا العقيدة من أصحاب حجر ، عبد الرحمن ، صيفى

ابن فسيل ، قبيصة بن ربيعة ، شريك بن شداد

الحضرمى ، كدام بن حيان العنزي ، محرز بن شهاب

التميمي

صدى الفاجعة... 364

الناقمون على معاوية من أجل قتله لحجر ( أ ) الامام

الحسين ، ( ب ) عائشة ، ( ج ) الربيع بن زياد ،

( د ) الحسن البصري ، ( ه ) عبد اللّه بن عمر ،

( و ) معاوية بن خديج

رشيد الهجري... 368

عمرو بن الحمق الخزاعي... 370

أوفى بن حصن... 375

جويرية بن مسهر العبدي... 376

عبد اللّه بن يحيى الحضرمى... 377

هدم دور الشيعة ، عدم قبول شهادة الشيعة ، اشاعة... 378

الارهاب والاعتقال ، المروعون من أعلام الشيعة

ص: 525

محمد بن أبي حذيفة ، عبد اللّه بن هاشم المرقال ،

عبد اللّه بن خليفة الطائي ، صعصعة بن صوحان ،

عدي بن حاتم ، جارية بن قدامة

ترويع نساء الشيعة... 395

الزرقاء بنت عدي ، أم الخير البارقية ، سودة بنت

عمارة ، أم البراء بنت صفوان ، بكارة الهلالية ،

أروى بنت الحارث ، عكرشة بنت الأطرش ،

الدارمية الحجونية

المؤتمر الحسيني ... 416

(4) البيعة ليزيد... 417

دعوة المغيرة للبيعة ، وفود الأمصار ، سفرة معاوية

الأولى ليثرب ، سفره الثاني الى يثرب ، خطبة

الامام الحسين ، عائشة وبيعة يزيد

ازواجه وعقبه :... 441

المصححون لكثرة أزواجه ، النافون ، أدلة

الطرفين ، الأدلة المثبتة للافتعال والافتراء ، فرية

المنصور ، مخاريق لامنس ، ترجمة نسائه وأولاده

نهاية المطاف :... 265

اغراء معاوية لجعدة بسم الامام ، كيفية سمه ،

ص: 526

أقوال غريبة... 471

موته بالسل ، سمّه في العصا ، سمّه في الطواف ،

موته حتف أنفه

وصيته لجنادة... 474

وصيته للحسين... 477

وصيته لمحمد... 479

الى الرفيق الأعلى... 481

تجهيز الامام ، مواكب التشييع... 483

الصلاة على الجثمان ، الفتنة الكبرى... 484

اجازة عائشة لدفن عبد الرحمن... 487

على حافة القبر... 492

صدى الفاجعة ... 494

يثرب ، مكة ، البصرة ، الكوفة

سرور معاوية... 497

مصادر البحث... 501

محتويات الكتاب... 518

ص: 527

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.