الإمام الصادق عليه السلام المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد حسين المظفّر

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 4

الموضوع : سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)

تاريخ النشر : 1409 ه.ق

الصفحات: 268

المكتبة الإسلامية

500

الإمام الصادق عليه السلام

تأليف: العلامة الجليل الشيخ الحسين المظفر قدس سره

الجزء الأول

مؤسسة النشر الإسلامي (التابعة)

لجماعة المدرسين بقم المشرفة (ايران)

ص: 1

اشارة

الكتاب: الإمام الصادق عليه السلام (ج1و2)

المؤلف: العلامة الشيخ محمد حسين المظفر -قدس سره-

الموضوع: سيرة

اللغة: عربي

عدد الأجزاء: جزءان

الصفحات: 456

الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

الطبع: مطبعة مؤسسة النشر الاسلامي

الطبعة: الرابعة

المطبوع: 2000 نسخة

التاريخ: 1409 ه . ق

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

لا يخفى على أيّ أحد من المسلمين ومن روّاد العلم وغيرهم منزلة ومكانة الامام أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه أفضل الصلاة والسلام بأنّه مشعل الهداية ومصباح الدين الذي انتشر في عصره الاسلام في جميع أرجاء العالم وتشعشعت أضواؤه فى أقصى أنحائه وتخرّجت من مدارسه الرّواة والمحدّثون والمتكلّمون من العامّة والخاصّة ، وليس بإمكاننا التعرّف على هذه الشخصيّة الاسلامية العظيمة حقّ المعرفة مع هذه الألسنة الكالّة والأقلام العاجزة عن فهمها ومعرفتها ، فليس لنا إلاّ المرور الخاطف على حياته علیه السلام .

ولذلك قامت المؤسّسة - ولله الحمد - على طبع كتاب للعلاّمة المحقّق الشيخ محمّد الحسين المظفّر وهو يدرس حياة الامام الصادق علیه السلام بصورة موجزة مع اشتماله على كثير من زوايا حياته سلام اللّه عليه من مدرسته العلمية وتعاليمه ومناظراته وخطبه وأقواله ورواته من العامّة والخاصّة.

نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لنشر الكتب الاسلاميّة وتقديمها لروّاد العلم والحوزات العلميّة ، إنّه وليّ التوفيق.

مؤسّسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 3

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ و - إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً و - سَلامٌ عَلى آلْ ياسِينَ.

ص: 4

الإهداء

سيّدي أبا عبد اللّه :

أرفع بكلتا يديّ هذه الصحائف الوجيزة ، لأهديها إلى رفيع قدسك موقنا أنّي لست ممّن يقوى على الرقي لأمثال هذه المعارج العالية ، أو تنفق بضاعته في مثل هذه السوق الغالية ، غير أنّي مستمسك بعروة هذه العترة الطاهرة ، ومتعلّق بأغصان هذه الشجرة المباركة ، وأرغب جهدي في أن أحسب في عداد من أدركه الحظ بإسداء الخدمة إليهم. وهذا الذي بين يدي ما انتهى إليه عرفاني ، ووصل إليه علمي ، من الجمع والتأليف والتعليق وقيمة كلّ امرئ ما يحسنه ، فإن كانت فيه حسنة فهي منك وإليك ، وإن كانت فيه كبوة فتلك من قلمي الجموح ، ومن أولى منك بالإقالة من العثرات ، وقلّما يسلم منها أحد مثلي ، وما أملي إلاّ أن تمنّ بابتياع هذه البضاعة المزجاة من وليّك ، وثمنها القبول ، وما أغلاه من ثمن.

رقّك

محمّد الحسين المظفّر

ص: 5

الطليعة

لمّا كان الوقوف على حياة هذا الامام يتطلّب درسا لشؤون الدولتين الامويّة والعبّاسيّة اللتين عاصرهما أبو عبد اللّه علیه السلام ، وموقف هاتين السلطتين من أهل البيت ، ومعرفة من هم أهل البيت ، ومعرفة ما كان في عهده من المذاهب والنحل ، وما رأته الناس في الإمامة ، حقّ أن نذكر هذه الشؤون في الطليعة ، فإن بها تعرف ما كان من حياته السياسيّة والعلميّة والاجتماعيّة ، والسبب الذي من أجله بثّ العلوم والمعارف ، وندب إلى الأخلاق والمحاسن وحثّ على التكتّم في نشر هذه الفضائل وكتمان نسبتها إلى أهل البيت ، كما منع أولياءهم عن إظهار الولاء لهم والاعلان في التردّد عليهم ، وهو ما نسمّيه ب- « التقيّة ».

فهذه الطليعة يكون القارئ على بصيرة من حياة هذا الامام قبل أن يستعرض تفاصيلها.

* * *

ص: 6

أهل البيت

من هم أهل البيت؟

يأتينا الكتاب الكريم ناطقا مبينا بقوله جلّ شأنه « إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا » (1) إنّها لفضيلة لهم لا يدانيهم فيها أحد من الناس كافّة.

ولا كرامة أنفس من إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من العيوب كافّة ، ذلك التطهير الذي يريده اللطيف تعالى لهم بعنايته ، وهو غير مقيّد برجس خاصّ ولا من شيء معيّن ، فيدلّ على عموم التطهير من كلّ عيب وذنب.

ويستفاد من هذه الآية الجليلة عصمة أهل البيت النبوي ، لأنّ كلّ ذنب رجس ، وارتكاب الذنوب لا يجتمع مع إذهابها عنهم وطهارتهم منها ، فهم إذن بحكم هذه الآية مطهّرون من الأرجاس والذنوب ، وهل العصمة شيء وراء هذا؟

نعم وإنما الشأن كلّه في المعنيّ بهذه الفضيلة التي امتازوا بها على جميع الامّة. أهم الذين كانوا في البيت حين نزلت هذه الآية الكريمة؟ أم كلّ من يمت إلى الرسول الأطهر بسبب أو نسب؟ فإن قيل بالثاني فالواقع شاهد على خلافه ، لأنّا نجد في نسائه من خالفته وتظاهرت عليه ، ولا رجس أعظم من ذلك. فلا بدّ من أن يكون نساؤه غير معنيّات بها ، واستثناء بعض النساء دون

ص: 7


1- الأحزاب : 33 ..

بعض تحكّم.

هذا فيمن يمت إليه بالسبب ، ونجد البعض ممّن يمت إليه بالنسب يداني الموبقة ، ويقارب الجريمة ، ولا يصحّ أن يريد القدير سبحانه شيئا بالإرادة التكوينيّة (1) ثم لا يقع ، فلمّا كان مستحيلا أن يريد تكوين شيء فلا يكون عرفا أن النساء وعامّة الهاشميّين غير مقصودين من الآية ، لإتيانهنّ وإتيانهم ما ينافي التطهير ، على أنه لم يقل أحد بعصمة نسائه والهاشميّين عامّة.

ولو كان المقصود بها الإرادة التشريعيّة فلا وجه لارادة التطهير من أهل البيت خاصّة ، لأنه تعالى يريده من الناس كافّة ، فاختصاصه بهم على وجه الميزة والفضيلة يدلّنا على تكوينه فيهم ، ثمّ ان الإرادة التشريعيّة إنما تتعلّق بفعل الغير ، ومتعلّقها في الآية فعل اللّه تعالى نفسه ، ولو كانت الإرادة تشريعيّة لقال : لتذهبوا وتطهروا أنفسكم.

فلا شكّ في أن المعنيّ من الآية هو المعنى الأول ، أعني أن المقصود منها أناس مخصوصون ، وهم الذين كانوا في بيت سيّد الرسل صلی اللّه علیه و آله وقد جلّلهم بكسائه والتحف معهم به ، فنزلت هذه الآية عليهم وفيهم ، وهم عليّ وفاطمة وابناهما علیهم السلام ، وعلى ذلك صحاح الأحاديث من طرق الفريقين (2).

ولو لم يكن هناك نقل يدلّ بصراحته على اختصاص هذه الصفوة الكريمة

ص: 8


1- الإرادة التكوينيّة هي التي تتعلّق بفعل المريد نفسه وتقابلها الإرادة التشريعيّة التي تتعلّق بفعل الغير على أن يصدر من الغير وهي التي تكون في التكاليف .
2- انظر مجمع البيان وما رواه القوم في تفسيرها : 4 / 356 وتفسير الشوكاني : 4 / 270 ورواه من عدّة طرق عن أمّ سلمة وعن عائشة وعن غيرهما ، وذكر ابن حجر في الصواعق ص 87 : أن اكثر المفسّرين انها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام ، الى غيرهم من أهل التفسير والحديث والتاريخ . وحاول الآلوسي في تفسيره روح المعاني بعد أن ذكر الأحاديث الجمّة الواردة في اختصاصها بأهل الكساء أن يعمّم الآية لهم وللنساء وللمؤمنين من بنى هاشم ، وما ذكرناه كاف في ردّه.

بهذه الآية الشريفة لكان من آثارهم اكبر برهان على هذا الاختصاص ، فانّ أفعالهم وأقوالهم ترغمنا على الاعتراف بتلك النزاهة لهم.

وما خفيت هذه الحقيقة الناصعة على أهل البصائر من بدء نزول هذه الآية المحكمة حتى اليوم ، فكان أهل البيت عندهم أهل الكساء ، خاصّة ، الذين حبوا بمكارم لا يأتي عليها الحصر ، وكان منها الطهارة من العيوب ، وذهاب الأرجاس والذنوب.

نعم ربّما استغلّ بعض الهاشميّين ومنهم العبّاسيّون ظاهر عموم كلمة أهل البيت لتحقيق مآربهم والوصول إلى العروش ، فكان الهاشميّون عامّة يدلون على الناس بهذه الآية.

كما كان اسم التشيّع أيضا قد يستغل فيراد به ولاء عليّ وأهل البيت بالمعنى العام ، لا خصوص أصحاب الكساء والأئمة من أولاد الحسين علیهم السلام إلاّ عند الذين لا تجرفهم سيول الرعاع ، ولا يعدل بهم عن الحقّ الصخب أو الضغط ، وما عرفت الناس التشيّع بولاء هؤلاء الأئمة خاصّة إلاّ بعد أن خيّم السكون على الناس بعد الثلث الأوّل من الدولة العبّاسيّة ، حين قرّت شقشقة العلويّين وثوراتهم ، فتمخّض القول وقتذاك بأهل البيت لهؤلاء السادة الأئمة.

وشاهدنا على ذلك أن بني العبّاس ما دبّوا دبيب النمل على الصفا لارتقاء عروش الملك وتحطيم دعائم الدولة المروانيّة إلاّ بذلك الاسم ، بزعم أنهم أهل البيت الأقربون إلى صاحب الرسالة ، ليعطفوا بذلك عليهم قلوب الشيعة ويتّخذوا منهم فعلة لبناء الكيان لسلطانهم ، وهدم بناء الدولة الامويّة التي قاومت أهل البيت وشيعتهم طيلة أيامها ، وصبغت وجه الأرض من دمائهم المسفوحة.

ص: 9

وما كان ليتمّ لبني العبّاس ما أملوه لو لا ادعاؤهم ذلك ، ولو لم يكن الذين نهضوا بهم واتخذوا منهم جسرا عبروا عليه إلى مآربهم شيعة لأهل البيت ، من دون تفريق بين العبّاسي والطالبي ، ولا بين العلوي والجعفري والعقيلي ، ولا بين الحسني والحسينى.

وهكذا كانت الدعوة والنهضة من كلّ هاشمي كنهضة عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بالكوفة ثمّ بفارس وفيهما أولياء لأهل البيت ، وقد قضى عليه أبو مسلم بعد تفرّق الناس عنه والتجائه إليه ، وما كان من زيد وابنه يحيى من النهضة ، ولا من الأخوين محمّد وإبراهيم من الدعوة إلاّ لأنهم من أهل البيت وأن غاياتهم من الدعوة أخذ التراث من أعداء أهل البيت.

ولكن قد وضح للناس بعد ذلك أنّ بني العبّاس ليسوا من أهل البيت ، حين سلّوا سيف البغي على أهل البيت قربى الرسول صلی اللّه علیه و آله وعرف الناس أنّ الدعوة من بني العبّاس لقلب دولة أميّة باسم الثأر لقتلى الطف وصليب الكناسة والجوز جان وغيرهم كانت سبيلا للوصول إلى أمنيّتهم المقصودة ، لأنه بعد أن بنوا من جماجم اولئك الاغرار من محبّي أهل البيت قواعد سلطانهم ظهرت كوامن صدورهم ، وما قصدوه من الوليجة إلى غاياتهم ، حتى أن محمّدا وإبراهيم اختفيا عند قبض السفّاح عن أعنة الحكم ، وما اختفيا إلاّ لما يعلمانه من سوء نواياه مع الادنين من الرسول ، والشواهد على ذلك من ضغطهم على أهل البيت وشيعتهم اكثر من أن تحصر ، وفي ثنايا الكتاب سيمرّ عليك من هذا القبيل ما فيه مقنع.

* * *

ص: 10

بنو أميّة

من هم بنو أميّة؟

يفصح القرآن الكريم معلنا بقوله : « وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن » (1) ويحدّثنا التفسير في سبب نزول هذه الآية الكريمة أنّ النبي رأى في المنام أنّ قردة تنزو على منبره فأعلمه جبرئيل أنهم بنو أميّة يتغلّبون على الأمر فيتنازعون على منبره وأنهم هم الشجرة الملعونة ، ثم انّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يستجمع ضاحكا بعد ذلك حتى مات (2).

وجاء في ذمّ بني أميّة والطعن فيهم كثير من التنزيل ، انظر الحاكم في حديث علي في قوله « وأحلّوا قومهم دار البوار » (3) قال : هما الأفجران من قريش بنو أميّة وبنو المغيرة ، وتفسير ابن جرير في قوله : « وجاهدوا في اللّه حقّ جهاده » (4) فإنه قال : إن الذين أمر تعالى بجهادهم مخزوم وأميّة (5) ، إلى غير ذلك.

ثمّ انّ الرسول الصادق الأمين صلی اللّه علیه و آله يتبع القرآن المجيد بقوله : اللّهمّ العن بني أميّة قاطبة ، وبأمثال ذلك ، لا سيّما فيما يخصّ أبا سفيان وابنيه

ص: 11


1- بني إسرائيل : 60 ..
2- مجمع البيان : 3 / 424 ، وشرح النهج : 3 / 488 و 2 / 466 و 467 ، وقال الشوكاني في تفسيره أنهم آل أبي العاص خاصّة وعليه روايات ..
3- إبراهيم : 28 ..
4- الحج : 78 ..
5- تفسير الطبري : 17 / 142 ..

يزيد ومعاوية ، ولا تنس ما جاء عنه في آل أبي العاص ولا سيّما في الحكم وابنه مروان. (1)

أترى لما ذا يمنح الكتاب المبين أهل البيت بذلك الثناء الجزيل ويذكر بني أميّة بذلك السوء والذمّ ، أيكيل العادل تعالى لأولئك المدح جزافا ، ولهؤلاء الذمّ اعتداء ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

نعم إنّ الطاعة هي التي تقرّب الخلق من الخالق ، وإنّ المعصية هي التي تبعد العبيد عن البارىء ، وإلاّ فانّ عباده لديه بالعطف واللطف وبالرحمة للمطيع وبالنقمة على العاصي شرع سواء ، فإنّه يدخل الجنّة من أطاعه وإن كان عبدا حبشيّا ، والنار من عصاه وإن كان سيّدا قرشيّا.

فما كان دنوّ أهل البيت من حظيرة القدس حتى منحهم تعالى بذلك الوسام الأرفع الذي لم يحظ به بشر سواهم إلاّ لتقواهم وامتثالهم لأوامره ، وما كان بعد بني أميّة عن ساحة الرحمة حتى صاروا الشجرة الملعونة في القرآن ، وحتى عمّتهم لعنة الرسول صلی اللّه علیه و آله مرّة ، وخصّت الكثير منهم اخرى ، مشفوعة بالدعاء عليهم ، إلاّ لعصيانهم لجبّار السموات والأرضين ، واستمرارهم على العصيان.

ولو لم يقرئنا التاريخ قدر تلك الطاعة ، التي كان عليها أهل البيت ومبلغ ذلك العصيان الذي استقام عليه الامويّون ، لكفى ذلك التقديس من الجليل في كتابه لأولئك ، وهذا الحظ من هؤلاء ، كاشفا عمّا عليه الآل من الطاعة

ص: 12


1- لا يحتاج الخبير في هذا إلى المصادر لكثرتها ، وإن أحببت الوقوف على شيء من ذلك فانظر شرح ابن أبي الحديد في التعليقة الماضية من الجزء والصحيفة و: 1 / 361 و: 2 / 106 و 410 و 4 / 148 والاستيعاب لابن عبد البر في مروان ، والحاكم عن أبي هريرة في آل أبي العاص ومروان وأبيه وبنيه الى غير ذلك ..

والانقياد ، وأميّة من التمرّد والابتعاد.

وهذه النتيجة تلمسها من هذه النصوص الفرقانيّة والأحاديث النبويّة من دون شحذ قريحة وغور في التفكير ، نعم لو سبرت السيرة الاموي ة قبل الاسلام وبعده الى انقراض دولتهم ، لعرفت أنّ اللّه تعالى ورسوله صلی اللّه علیه و آله إنّما كشفا بالكتاب والسنّة عن تلك السيرة والسريرة الفائتتين ، وأنبأ عن الآتيتين ، وما كان ليخفى على الناس حالهما ، ولكنّ كان هذا التصريح قطعا لاعتذار أوليائهم ودحضا لمكابرات مشايعيهم ، ومع هذه الصراحة من الكتاب والحديث ما زال للقوم حتى اليوم أولياء وأشياع ، ومدافعون وأتباع.

ولأجل أن تطمئنّ القلوب بهذه الحقيقة ، نستطرد نبذا من أعمال أميّة وبنيه أخبرنا عنها التاريخ الموثوق به.

مات عبد مناف وترك عدّة بنين ، كان منهم هاشم والمطّلب ونوفل وعبد شمس ، وكان هاشم أرجحهم عقلا وأسماهم فضيلة فاصطلحت قريش على أن تولّيه الرفادة والسقاية (1) وكانتا لأبيه عبد مناف ، فكان هاشم حيث رأت قريش ، وزاد في شرف أبيه أن سنّ الرحلتين رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام ، وقد ذكر هاتين الرحلتين الكتاب الكريم (2) ، وما كانت غاية هاشم من الرحلتين إلاّ أن يكثر المال في قريش فيقووا به على إطعام الحاجّ ، وهذه فضيلة سامية أرادها هاشم لقومه ، وهذا شأن العظام الذين ينحون بقومهم عظائم الامور ، ومراقي الشرف الرفيعة.

ثمّ تقدم هو في الاطعام ليكون قدوة لقومه ، فأطعم وأجزل حتى غنّت

ص: 13


1- الرفادة بالكسر : إطعام الحاج ، والسقاية بالكسر أيضا : سقيهم ..
2- قريش : 2 ..

الركبان بجوده ، وحتّى قال شاعره :

عمرو العلى هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنّتون عجاف

في أبيات مشهورة ، فصار يلقب بهاشم لذلك ، وغلب على اسمه عمرو (1) فكان الجود بعض فضائل هاشم التي سوّدته على قريش سادات العرب.

وانشطرت اخوته فصار المطّلب الى جنب هاشم ، وصار نوفل وعبد شمس في جانب ، وهما ينافسانه ويحاولان أن يجارياه في مفاخره ، فيقصر بهما العمل ، فكان هاشم لكرم فعاله وجميل خصاله سيّد البطحاء غير مدافع.

ولمّا مات عبد شمس وظهر أميّة حاول أن يلحق بهاشم في شأنه بما عجز عنه أبوه من قبل ، وأين أميّة من هاشم في سنّه وشأنه ، وما ساد هاشم إلاّ لأنّه مجمع الفضائل ، ولم يكن لأميّة ما يسود به الفتى خلا المال والولد ولا يكفيان للسيادة اذا لم تكن الأعمال تلحقه بالمعارج السامية.

وطمع أميّة يوما أن ينافر هاشما ، وذلك إقدام لم يرتقب من مثله لمثل هاشم ؛ ولا نعرف سببا في قناعة هاشم بهذه المنافرة - وهو سيد الأبطح وشيخ قريش - سوى علمه بأنه سوف ينفر أميّة ، وبذلك كبح لجماع أميّة وإذلال لنفسه المتطلّعة لما ليس له كما كان ذلك ، فإنّه قد نفره هاشم فأخرجه من مكّة عشر سنين ، ولعلّ أميّة كان يعتقد أن هاشما سيّد الأبطح لا محالة ينفره ، إلاّ انّه قنع من الشرف أن يقال ان أميّة نافر سيّد الحرم وجرى في مضماره.

ولمّا نبغ عبد المطّلب بعد أبيه هاشم وعمّه المطّلب ، علا على شرف أهله ومفاخر آبائه ، فانبطّ ماء زمزم ولم يتوفّق لها قرشي من قبل ، فحسدته قريش

ص: 14


1- شرح النهج : 3 / 457 ..

وراموا أن يشاركوه في هذه الكرامة والسقاية منها ، فأبى عليهم ، وطلبوا محاكمته عند كاهنة هذيل في الشام ، وعند ما رأوا منه الكرامات في طريقهم الى الشام عدلوا عن محاكمته ، وتركوا له زمزما وسقاية الحاج.

وهو الذي أنذر أبرهة - قائد الأحباش والأمير على اليمن من قبل النجاشي ملك الحبشة - حين جاء من اليمن بجيش كثيف قاصدا هدم البيت ليتحوّل العرب عن الحجّ إليه ، ولم يخرج عبد المطّلب من البيت كما خرجت قريش هاربة من سطوة الأحباش ، فكان آخر أمر الأحباش الدمار ، كما أفصح عن ذلك الكتاب المجيد (1) فجاء الحال وفقا لما أنذرهم به سيّد الأبطح.

فكانت قريش تحسده لهذه المفاخر ، وصاحب الفضيلة محسود ، وما اكتفى أميّة بما لقيه من منافرة هاشم حتّى حاول منافسة عبد المطّلب ، فحمل أميّة عبد المطّلب على المسابقة ، فسبقه عبد المطّلب واستعبده عشر سنين.

وكان حرب بن أميّة أيضا يفاخر عبد المطّلب بوفره وبأهله ، تجاهلا منه بأن الشرف إنّما هو بالفضيلة ، والأعمال الجليلة ، حتى طلب منافرة عبد المطّلب ، وتلك جرأة كبرى يدفعه إليها الحسد والغرور ، وإن علم يقينا أنه لا يشقّ غبار شيخ قريش ، غير انّا نحسبه انّه كان يعتقد أن المنافرة وحدها تجعل له المكانة العالية وإن نفره عبد المطّلب ، ولقد تعجّب النافر من طمع حرب في منافرة شيخ البطحاء ، والأعمال وجدها كافلة بخسران حرب ، فقال النافر لحرب :

أبوك معاهر وأبوه عفّ *** وذاد الفيل عن بلد حرام

وهذا شاهد على ما كان عليه عبد المطّلب وأهله ، وحرب وآباؤه من خلّتين شهيرتين دعت وجوه الناس على الحكم لهاشم وولده في كلّ منافرة ومنافسة.

ص: 15


1- سورة الفيل ..

ولا تنس حلف الفضول الذي هو خير حلف عقدته قريش بل العرب كلّها ، لردّ عادية الظلم ، والانتصار للمظلوم ، قد دخل فيه الرسول - عليه وعلى آله السلام - وذلك قبل الاسلام ، وقال فيه بعد ذلك : « لو دعيت إلى مثله لأجبت ». ذلك حلف هدّد بالهتاف به الحسين - علیه السلام - معاوية بن أبي سفيان ، ووقف للطغاة الغاصبين بالمرصاد. فكم ردّ من مال نهب ، وعرض غصب ، وكان السبب فيه الزبير بن عبد المطّلب ، ولم يدخل فيه النوفليّون والعبشميّون ، ويحقّ للسائل أن يسأل عن سبب امتناعهم عن الدخول فيه ، ألأنّ سببه الهاشميّون؟ أم لأنه فضيلة سامية؟ أم لما ذا؟

هذه حال أميّة لو استطردت بعضها قبل بزوغ شمس الاسلام. وأمّا لو نظرت الى مواقفهم بعد بزوغ تلك الشمس النيّرة ، لأيقنت كيف كانت هذه الشجرة جديرة بنزول ذلك الكتاب الكريم ، لا لأنّ الايمان لم يدخل أعماق قلوبهم فحسب ، لأنهم لم يتركوا ذريعة لستر ذلك النور الساطع إلاّ توسّلوا بها ، ولا معولا لهدم بنائه الشامخ إلاّ حملوه ، سوى ما كان منهم من أعمال يأباها العدل والمروءة ويمقتها الشرف والفضيلة.

وهل ينسى أحد ما قام به أبو سفيان من إيذاء الرسول قبل الهجرة ، وما ألّبه عليه بعدها ، هذه أحد والأحزاب والحديبيّة وما سواها من أعمال خلّدها التاريخ تنبئك عن حاله ، ومن صاحب العير وصاحب النفير غيره وغير بني أبيه العبشميّين ، وكيف ينسى ابن الاسلام تلك الوقائع والتاريخ يذكره بها كلّ حين ، وما دخل أبو سفيان وابنه معاوية في الاسلام إلاّ حين أخذ الاسلام منهما بالخناق ، ولم يجدا مفرّا منه ، وقد ألفهما النبيّ الحكيم بعد الفتح بالعطاء الوفر من غنائم حنين ، فأعان الطمع الخوف على ذلك التظاهر والقلوب منطوية على وثنيّتها القديمة وعلى الحسد والحقد وانتهاز الفرصة للوثبة وأخذ تراث الأبناء

ص: 16

والأخوال والأجداد ، الذين فرت أوداجهم سيوف الاسلام الصارمة.

ولم يطلق أبو سفيان أن يكتم تلك الضغائن النفسية ، فكانت تطفح على فلتات لسانه ، وكان اكثرها أيام عثمان (1) لأمانه من المؤاخذة على كلامه ، ومن أمن العقوبة أساء الأدب ، وكيف لا يأمن والأمر بأيدي صبيانهم على حدّ تعبيره حين ركل قبر حمزة بن عبد المطّلب برجله.

وأما ابنه معاوية (2) فانه عند ما رأى الاسلام قد ضرب بجرانه الأرض ، ووشجت أصوله ، وبسقت فروعه ، تذرع به إلى اقتلاع جذوره وقد ملك معاوية ناصية البلاد والاسلام غضّ جديد ، فخالف كلّ شريعة من شرائعه ، وناصب كلّ حكم من أحكامه ، سوى أنّه لم يخلع عند الظاهر ربقة الاسلام ، وكيف يخلعها وهي الوسيلة لنيله ذلك الملك الفسيح الأرجاء ، الملك الذي ما كان يحلم به صخر بن حرب بل ولا أميّة من قبل ، وما كان يضرّه من تلك الظاهرة إذا كانت الذريعة لاقتناص مآربه الواسعة ، ولتحطيم قواعد الاسلام الرفيعة.

وكفى من حربه لسيّد الرسل حربه لأمير المؤمنين علیه السلام وقد قال فيه الرسول صلی اللّه علیه و آله : « سلمك سلمي وحربك حربي » (3) وقال فيه :

ص: 17


1- الأغاني : 6 / 90 - 96 ..
2- جاء في معاوية عن الرسول صلی اللّه علیه و آله الشيء الكثير ، وإن شئت أن تلمس بعضه فدونك الأحاديث القائلة « يا عمّار تقتلك الفئة الباغية بصفّين » وعدّه السيوطي في الأخبار المتواترة ، ودونك الأحاديث القائلة « إن عليّا يحارب القاسطين وهم معاوية وجنده » ودونك شرح النّهج : 1 / 347 و: 3 / 443 و: 1 / 254 و: 2 / 363 و: 2 / 102 و: 1 / 372 ، 361 ، 355 ، 373 ، 113 ، وانظر فيها رأي الناس في معاوية و: 1 / 463 واقرأ فيها ما يقوله الناس عن معاوية وبني أميّة و: 3 / 15 و 4 / 192 ودونك الاستيعاب في معاوية ..
3- مسند أحمد بن حنبل : 2 / 442 واسد الغابة : 3 / 11 ..

« تحارب من بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين » (1) ولو كان القصد من حربه لأبي الحسن - علیه السلام - الطلب بقتلة عثمان لما أغضى عنهم حين انتهى الأمر إليه ، ولا أدري كيف كان معاوية وليّ عثمان والمرتضى هو أمير المؤمنين ووليّهم.

لعمر الحق ما كان شأن معاوية خافيا لندلّل ونأتي بالشواهد عليه ، ولو لم يكن حربا للاسلام ولرسوله لما سنّ الشفرة للقضاء على آل الرسول ، والقرآن يهتف باحترامهم ومودّتهم ، والرسول يدعو إلى ولائهم والتمسك بهم ، وما ذنبهم لدى معاوية إلاّ أنّهم عترة الرسول ورهطه ، ورعاة الدين ودعاته ، ولو صافحهم أو صفح عنهم لم ينل مأربه من الزعامة ، ومقصده من حرب الرسول وشريعته. (2)

ولم يهلك معاوية مستوفيا لأمانيه من محاربة الرسول والرسالة حتى أرجأ ذلك إلى دعيّه يزيد ، غير أن يزيد لم يكن لديه دهاء أبيه معاوية فيدسّ السمّ بالدسم لكيد الاسلام ، فمن ثمّ برزت نواياه على صفحات أعماله واضحة من دون غشاء ولا غطاء ، فما أصبح إلاّ وأوقع بالحسين سبط الرسول وريحانته وسيّد شباب أهل الجنّة ، وبرهطه صفوة الناس في الصلاح والفضيلة ، وما أمسى إلاّ وتحكّم ما يشاء في دار الهجرة وبقايا الصحابة ، من دون أن يحول عن العبث بها دين أو مروّة أو عفاف ، وما عتم إلاّ وهو محاصر للبيت ترميه حجارته وتفتك بأهليه ورمايته.

وأيّ رهط أذب عن الاسلام وأحمى لحوزته من الحسين وأهله؟ وأيّ بلد

ص: 18


1- معاني الأخبار : 204 وسنن ابن ماجه : 8 ح 3950 ..
2- شرح النّهج : 1 / 463 ، ومروج الذهب : 1 / 341 فيما يرويانه عن المغيرة بن شعبة في تكفيره لمعاوية وهو المغيرة فكيف إذن معاوية ، ويل لمن كفره النمرود ..

أظهر في اتباع الاسلام من الحرمين يوم ذاك؟ وهل أبقى ابن ميسون شيئا من مقدوره في مبارزة الاسلام لم يصنعه ، ومحاربة النبي صلی اللّه علیه و آله وعترته وصحابته لم يفعله؟! ولو أردنا استقصاء أعمال أميّة التي حاربت بها الشريعة وصاحبها الأمين لكثر عليك العدّ ، وخرجنا عن القصد ، أجل لا ضير لو أوردنا نتفا أشار إليها المقريزي صاحب الخطط في رسالته « النزاع والتخاصم » والجاحظ في رسالته التي ضربها مثلا للمفاخرة بين بني أميّة وبني هاشم ، فكان مما أورداه :

إنّ بني أميّة كانوا يختمون أعناق الصحابة ، وينقشون أكفّ المسلمين علامة استعبادهم ، وجعلوا الرسول دون الخليفة ، ووطئوا المسلمات في دار الاسلام بالسباء ، وأخّروا الصلاة تشاغلا بالخطبة ، وكانوا يأكلون ويشربون على منبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويبيعون الرجل في الدين يلزمه (1).

وهذا بعض ما ذكراه من المنكر منهم ومخالفتهم للشريعة ، وهل يا ترى خفي عليهم الدين وحدوده ، وأنظمته وقيوده ، وكفى من تلك الحرب الشعواء التي أقاموها لمنازلة الشريعة الأحمديّة زيادة على ما سبق أنهم اعتبروا الرسالة ملكا تلعب به هاشم ، وجعلوا الكتاب غرضا للنبال ، وجاهدوا أن يحوّلوا الحجّ إلى بيت المقدس ثمّ إلى المسجد الذي بنوه بدمشق ، ورميهم من على المجانق البيت الحرام.

ولا تسل عمّا لقيته العترة الطاهرة الأحمديّة منهم ، فمن صليب الكناسة وصليب الجوزجان زيد وابنه يحيى إلى قتيل بالسمّ كالحسن والسجّاد والباقر علیهم السلام وأبي هاشم بن الحنفيّة وإبراهيم بن محمّد أخ السفّاح ،

ص: 19


1- شرح النهج : 3 / 469 ، 470 ..

ونظائرهم. هذا سوى المشرّدين في الآفاق ، والمغيّبين في قعر السجون.

وكان خيرة القوم في سيرته عمر بن عبد العزيز ، فانّه عرف ما عليه الناس من بغضهم لأهله ، فحاول أنّ يغيّر الرأي فيهم ، والقول عنهم. (1)

ولا غرابة لو رضي الناس بحكومة هؤلاء القوم ، لأن الناس إلى أمثالهم أميل وبأشباههم أرغب.

إنّ الدين يتطلّب من الناس التقوى سرّا وإعلانا ، والسيرة العادلة فى القريب والبعيد ، كما يتطلّب الانتهاء عن الفحشاء ما ظهر منها وما بطن ، والكفّ عن الاعتداء في الرضى والغضب ، وما أبعد الناس عمّا يتطلّبه منهم الدين ، وأين من تقوده نفسه - والنفس أمّارة بالسوء - إلى اتباع الشريعة وإن ضيّقت عليه سبل الشهوات وحرّمت عليه الظلم والاعتداء.

ولو أراد الناس الهدى لما خفي عليهم الرعاة أرباب العدل والحقّ والايمان والصدق ، ولما ارتضى منهم أولئك الرعاة غير هذه الخلال الكريمة ، وإنّ الناس لتبتعد عن هذه الفضائل العلويّة ابتعاد الوحش من الملائك ، والحصباء من نجوم السماء.

ولو سبرت أحوال الناس لأيقنت بصدق تلك الكلمة النبويّة الخالدة : « كيفما تكونون يولّى عليكم » (2) ، وهل يرتضي ذو العلم أن يحكمه الجاهل ، والعادل أن يقوده الفاسق.

ص: 20


1- ولقد استوفى القاضي أبو حنيفة النعمان المصري في كتابه ( المناقب والمثالب ) ما للهاشميّين من المناقب وللامويّين من المثالب ، ولو قرأت هذا الكتاب لعرفت ما كان عليه بنو أميّة من شنيع الأعمال ولو أردنا الاستقصاء لذكرنا أضعاف ما أوردناه وبما ذكرناه يحصل المطلوب ، والكتاب المذكور ما زال مخطوطا لم يطبع ورأيت منه نسخة في بعض مكتبات النجف ..
2- مسند أحمد بن حنبل : 4 / 437 ..

ولو لم يجد رعاة الجهل والجور والفجور أعضادا من أمثالهم وسكوتا عن أعمالهم ، لم تطمع نفوسهم بالانقياد إلى الهوى ، والاسترسال مع الشهوات ، ولم تطمح إلى الغضّ من كرامة الرسول صلی اللّه علیه و آله ومنابذة رسالته ومحاربة عترته.

إنّ درس نفسيّات اولئك الأقوام وسبر أعمالهم تجسّم لك الغدر والخيانة والتحزّب للضلال على الهدى ، وللباطل على الحقّ ، حتى لتكاد أن تعجب كيف لم يندرس الحق ، وتنطمس أعلام الهداية إلى اليوم ، ما دام أنصار الحقّ في كلّ عصر ومصر قليلين جدّا « وقليل من عبادي الشكور ». (1)

وأين تغيب عن هذه الحقيقة ، ونظرة واحدة في عصرنا الحاضر تريك كيف تتمثل المنافسة بين الباطل والحقّ ، وتغلّب الأول بأنصاره على الثاني وأعوانه ، وليس الغريب ذلك إنّما الغريب أن يتّفق انتصار أرباب الحقّ في بعض الأعصار وينخذل الباطل ، ولو انتصر أبو الحسن والحسن على معاوية ، والحسين على يزيد لكان بدعا في الزمن دون العكس في الحال ، وما كان انتصار الرسول صلی اللّه علیه و آله بعد تلك الحروب الدامية إلاّ إقامة للحجّة ، « ليحيى من حيّ عن بيّنة ، ويهلك من هلك عن بيّنة » (2) ولو غلب الكفر على الاسلام لم يتمّ نوره ، ولا قامت حجّته.

إنّ الرسول الأمين جاء للناس بكلّ فضيلة وسعادة وخلق كريم وقد وقفوا دون أداء رسالته ، وتنفيذ دعوته ، وما رسالته إلاّ لخيرهم ، وما دعوته إلاّ لسعادتهم ، ولأيّ شيء أبت نفوسهم عن الاستسلام لتلك الفضائل غير مخالفتهم لها في السيرة والسريرة دأب البشر في كلّ عصر ، وهل خضع الناس لقبول تلك

ص: 21


1- سبأ : 13 ..
2- الأنفال : 42 ..

السعادة إلاّ بعد أن علا رءوسهم بالسيف ، وضرب خراطيمهم بالسوط ، وما أسرع ما انقلبوا على الاعقاب بعد انتقاله إلى حظيرة القدس ناكصين عن سنن الطريق ، حين وجدوا مناصا للعدول « وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئا » (1).

بيد أن الأمويّة مخّضت عن أفذاذ ثبت الايمان في قلوبهم ، ونهضوا مع الحقّ حربا للباطل ، ولا عجب فإنه تعالى : « يخرج الحيّ من الميت » (2) ولا شكّ أن اللعن لا يعمّهم ، والكتاب الكريم يقول : « لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم » (3) « ولا تزر وازرة وزر اخرى » (4) « من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها » (5) « ما على المحسنين من سبيل » (6).

* * *

ص: 22


1- آل عمران : 144 ..
2- الأنعام : 95 ..
3- المائدة : 105 ..
4- الأنعام : 164 ..
5- فصّلت : 46 ..
6- التوبة : 91 ..

بنو العبّاس

ساد ظلم الأمويّين الناس عامّة ، وما اختصّ بالأبرار ، ولا بعترة المختار صلی اللّه علیه و آله فمقتهم آخر الأمر أهل السوء كما أبغضهم أهل الصلاح ، فقام الباكيان باك يبكي على دينه وباك يبكي على دنياه ، وصار الناس تتطلّب المهرب من جورهم ، وتريد الخلاص من حكمهم ، كانت أميّة تهدّد بلاد الاسلام كافّة بأهل الشام ، لأن الشام جندهم الطيّع الذي لا يحيد عن رأيهم ، ولا يتخلّف عن أمرهم ، وبأهل الشام واجتماعهم ملك معاوية مصر والعراق والحجاز ، مع ما في الحجاز والعراق من رجال الرأي والشجاعة الذين كان افتراقهم مطمعا للشام باجتماعهم ، وما ساق ابن زياد الكوفة على ابن الرسول صلی اللّه علیه و آله بغير الوعيد بأجناد دمشق والوعد بالمال ، وما تغلّب عبد الملك على العراقين والحرمين واستلبها من آل الزبير إلاّ بتلك الأجناد ، كانت الشام لا تعرف غير أميّة للملك بل للخلافة ، بل لكلّ دعوة وطاعة وما زالت أميّة مهيمنة على البلاد الوسيعة.

حتى إذا اختلف بنو أميّة بينهم وصار بعضهم يقتل بعضا اختلف أهل الشام باختلافهم ، وافترقت كلمتهم لافتراق القادة الذين ضلّلوهم وأضلّوا بهم.

ولمّا اختلفت كلمة الأمويّين اشرأبّت الأعناق لسلطانهم ، وطمعت

ص: 23

النفوس في بلادهم ، ولكن من الذي يجهر بتلك الأماني والرعب من الشام آخذ بالقلوب ، وكيف ينسى الناس تلك القسوة والسطوة وجندهم أهل الشام ولم يطل العهد على حادثة الطف التي أظهر فيها الأمويّون فنون الارهاب وضروب اللؤم والانتقام ، ولا على واقعة الحرّة التي أبانوا فيها غرائب الخسّة والدعارة والهتك للحرمات والمحارم والسفك للدماء البريئة ، ولا على حصار البيت من يزيد مرّة ، ومن عبد الملك أخرى حتى رمته المجانيق وأضرموا فيه النار فهدموه ، ولا على قتل زيد وصلبه وإحراقه ، وقتل يحيى وصلبه ، والحوادث المثيرة التي أنزلوها بالناس ، من دون أن يجدوا حرمة لحريم ولا رادعا عن محرم ، فكأن النفوس والنفائس والأعراض والعروض لم تكن إلاّ طعمة لهم ، ومنفذا لشهواتهم ، فكيف والحال هذه يجهر ابن حرّة بعداء بني أميّة ، أو يتظاهر بالكيد لدولتهم.

نعم لم تأمل الناس من أحد أن ينتزع منهم التيجان ، ويسلبهم السلطان غير بني هاشم ، لأنهم أرباب ذلك العرش ، سواء كانت الخلافة بالنصّ أو القربى أو الفضيلة فصارت الناس تستنهضهم سرّا ، وتحثهم على الوثبة همسا.

غير أن في الهاشميّين رجالا كثيرة تصلح للرئاسة ، وتقوى على التدبير والسياسة ، أفيثب بهم ربّ الخلافة وربيب الامامة أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق علیهماالسلام ، أم عبد اللّه بن الحسن فاضل بني الحسن وشيخهم أم ابنه محمّد من جمع من المكارم كلّ خلّة ، أم أخوه ابراهيم أبي الضيم ، أم ابراهيم بن محمّد العبّاسي ، أم أخواه السفّاح والمنصور ، أرباب الهمم والشمم ، أم عبد اللّه بن معاوية الجعفري الذي أهّلته المفاخر والمكارم لذلك المقام ، أم سواهم وهم عدّة كاملة ، لو رشّح نفسه كلّ فرد منهم لتلك الزعامة لزانها بجميل خصاله.

ص: 24

بيد أن الصادق علیه السلام لو تقدم لها لم يسبقه إليها أحد ، لفضله وكثرة شيعته ، ولكنه كان يدافع من يستحثّه ، ولا يجيب من يستنهضه.

ولمّا لم يجدوا عنده أملا للنهوض عدلوا عنه إلى غيره ، فتارة يبايعون محمّدا وفي طليعتهم أبوه وأخوه وينو الحسن وبنو العبّاس ، وأخرى يدعو أبو مسلم في خراسان للعبّاسيّين وأبو سلمة الخلاّل بالكوفة للرضا من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله وطورا يثب ابن جعفر في كوفان فلا يتمّ له أمر ، وتارة يظهر في فارس فلا يستقيم له شأن ، فيهرب إلى أبي مسلم في خراسان ، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار ، لأنّ حتفه كان على يديه ، ولم تمض برهة طويلة على تلك الأعاصير الهائجة ، والأجواء المضطربة ، حتى استقرّ الأمر في بني العبّاس.

تلك الأقدار هي التي طوحت بالأمر حتى جعلته في أحضان السفّاح والمنصور ، وإلاّ فمن الذي كان يحتسب أن الأخوين اللذين كانا يتنقّلان فى الأحياء يرويان للناس فضائل أبي الحسن ذريعة للاستعطاف والاستجداء واللذين بايعا ابن الحسن يوم اجتماعهم بالأبواء من دون تلكّؤ وأمل بالملك واللذين كانا تحت راية ابن جعفر وفي جنده يوم ظهر في فارس ينيلهما من وفره ، هما اللذين يتواليان على دسّت الحكم ، ويكونان السالبين لعروش أميّة ، ومن الذي كان يخال أن ابن جعفر فارس الوثبة يكون قتيل داعيتهما أبي مسلم ، وما هما إلاّ بعض جنده ، ومن الذي كان يظنّ أن ابن الحسن الذي أمّل نفسه وأمّلته الناس بالخلافة وبايعته على الموت يصبح وأخوه إبراهيم صريعين بسيف المنصور.

شاءت الأقدار - ومن يغلب القدر - أن يثب على كرسيّ الحكم بنو العبّاس ، وتصبح الدولة الامويّة أثرا بعد عين ، وخبرا بعد حسّ ، فلا أسف على من فات ، ولا فرح بالآت ، تذهب أمة فاجرة وتأتي دولة جائرة.

ص: 25

ارتقى السفّاح منصّة الحكم فضحكت له الدنيا بعد تقطيب وأقبلت عليه بعد إدبار ، ولكن هل يسلم المرء - وإن أقبلت عليه الدنيا بأسرها - من نوازل الهم؟ أصبح ابن عبّاس بين همّين همّ تطهير البلاد من الأمويّين لتخلص له الأمّة ، وهمّ المنافسة على العرش من بني علي ، العرش الذي لم ترسخ أسسه بعد ، ولم تثبت قوائمه ، وما أسرع ما يميد إذا عصفت أعاصير الوثبات عليه ، ولم يسترح بعد من همّه الأوّل حتى أقلقه الثاني ، وكيف يأمن من العلويّين ، وأبو عبد اللّه الصادق علیه السلام إمام مفترض الطاعة عند شطر من هذه الامّة ، وعند كثير من أجنادهم الذين قلبوا بهم عروش بني مروان ، وهل قتلوا أبا سلمة الخلاّل إلاّ لأنهم أحسّوا منه أنه يريدها لبني علي ، وأن البيعة للسفّاح كانت بالغلبة عليه وإعجاله عليها.

وكيف يأمن ألاّ ينافسه العلويّون ومحمّد بن الحسن كانت له البيعة يوم الأبواء ، وهو الذي صفّق السفّاح والمنصور بيديهما على يده ، وهو الذي كان المؤهّل للعرش الذي وثبوا عليه ، وما زالت تلك الأماني تخالج نفسه ولأيّ شيء اختفى يوم ظهر السفّاح؟ أليس الليث قد يربض للوثبة؟

حاول ابن عبّاس أن يستريح من هذا الهمّ فأرسل خلف الصادق علیه السلام إلى الحيرة ليوقع به وإن لم يظهر ما يتخوّفه على سلطانهم ، فلما وصلها ضيّق عليه ، ولكن لمّا لم يجد عنده هاتيك المخاوف سرّحه إلى المدينة راجعا والهواجس تساوره.

ثمّ صار يتطلّب ابني عبد اللّه بن الحسن ، وهما مختفيان خوفا من بطشه وكلّما جدّ في العثور عليهما جدّا في الاختفاء.

انقضى دور السفّاح القصير والصادق علیه السلام وادع في المدينة وابنا الحسن خلف ستور الخفاء ، وما جاءت أيام المنصور إلاّ واشتدّ على العلويّين ،

ص: 26

فما ترك الصادق يقرّ في دار الهجرة بل صار يجلبه إليه مرّة بعد أخرى ويلاقيه بالاساءة عند كلّ جيئة ، ويهمّ بقتله في كل مرّة ، وما زال معه على هذه الحال إلى أن قضى عليه بالسمّ.

وأما محمّد وإبراهيم فكان يفحص عنهما بكلّ ما أوتي من حول وحيلة فكان يعلن بالأمان لهما مرّة ، ويشتدّ على أبيهما وبني الحسن اخرى ، فلم تنفعه هذه الوسائل للوصول إليهما ، والعثور عليهما ، ثم حمل بني الحسن إلى العراق ، واستودعهم غياهب السجون ، حتى قضى أكثرهم بأشنع قتلة وما فتئ أن فوجئ بوثبة محمّد بالمدينة والبصرة ، وهذا ما كان يرقبه ويتذرّع بالوسائل لصدّه ، ويتخوّف عقباه ، غير أن القضاء غالب.

ملك بنو العبّاس فظهر مكرهم وغدرهم ، بايعوا ابن الحسن ثمّ جدّوا في طلبه وطلب أخيه للقضاء عليهما ، حاول ابن عبّاس أن يضعا يديهما بيده استسلاما ، وكيف يستسلمان وفي النفوس إباء وعزّة وآمال تؤيّدها الناس في طلب الوثبة ، وإن خمدت فيهما تلك الروح الوثّابة استفزّها الناس بالحثّ على النهضة ، فما زالوا بهما حتى وثبا بعد ذاك الاختفاء الطويل.

وما كانت تلك الغدرة من بني العبّاس ببني الحسن الوحيدة في سلطانهم ، غدر المنصور بأبي مسلم باني كيان دولتهم ، وقتلوا أبا سلمة الخلاّل وحبسوا يعقوب بن داود ، وقتلوا الفضل بن سهل ، وما سوى هؤلاء وكم همّوا بعليّ بن يقطين وجعفر بن محمّد الأشعث الوزيرين.

وغدر المنصور أيضا بعيسى بن موسى العبّاسي وعزله عن ولاية العهد وولّى مكانه ابنه المهدي ، وكانت الولاية لعيسى جعلها له المنصور بدلا عن بلائه في حرب محمّد وإبراهيم وقضائه عليهما وعلى نهضتها ، تلك النهضة التي أقلقت المنصور وجعلته يعتقد بزوال سلطانه.

ص: 27

وغدر الرشيد بوزرائه البرامكة وبيحيى الحسني بعد الأمان ، وغدر الأمين بأخيه المأمون حين عزله عن العهد ، والمأمون بالرضا علیه السلام حين سمّه بعد بيعته بولاية عهده ، إلى ما لا يحصى ممّا كان منهم من غدرة وفجرة وإن أعظم غدر منهم ما كان مع بني الحسين علیه السلام ، كانت شيعة بني علي جند بني العبّاس في إزالة دولة بني مروان كما تقدم ، وكان شعارهم الطلب بثأر القتلى من أهل البيت ، وهل قتل بسيف الأمويّين غير الطالبيين؟ وهل لقى الشدّة والضيق من الامويين غير العلويين؟ ولئن لاقى سواهم من الهاشميّين شيئا من ذلك فلا يشبه ما حلّ بآل أبى طالب.

ندب العبّاسيّون الناس لطلب الثأر بل ندبهم الناس إليه ، وكانت هذه أمضى وسيلة لنيل إربهم ، فما استقرّت أقدامهم في حظيرة الملك إلاّ وراحوا يتتبعون آل الرسول صلی اللّه علیه و آله فكأن العترة هم الذين جنوا في تلك الحوادث القاسية يوم الطفّ ، وسبوا عقائل النبوة ، وأنزلوا بزيد ويحيى وغيرهما هاتيك الفظائع المؤلمة ، وكأنّما القتلى والأسرى كانت من بني العبّاس والجناة عليهم العلويّون ، وكأن لم يكن العلويّون هم الذين نهض الناس انتقاما لهم ، وللأخذ بتراتهم.

ما انجلت الحوادث عن طرد الأمويّين إلاّ وأهل البيت صرعى تلك الحوادث بدلا من أن ينالوا العطف من بني العبّاس لما حلّ بهم من فواجع دامية من الأمويّين ، ولما ناله العبّاسيّون أنفسهم من الملك الفسيح بهم.

هكذا انجلت الغبرة بعد استلام العبّاسيّين أزمة الحكم ، فما نسيت الناس حوادث أهل البيت من الأمويّين حتى كانت المقارع على رءوسهم من بني العبّاس يتبع بعضها بعضا من دون رحمة ، ولا هوادة ، ولا فترة ، لما ذا هذا كلّه ، ولما ذا كان أهل البيت دون غيرهم بيت المصائب والنوائب؟ فلنبحث عن السبب في الفصل الآتي :

ص: 28

ما جناية أهل البيت؟

هتف القرآن المجيد بآيات كثيرة في شأن أهل البيت ، آمرا بمودّتهم مخبرا عن طهارتهم ، حاثّا على الاعتصام بهم ، حاضّا على طاعتهم ، معلنا عمّا لهم من جزيل الفضل وعظيم المنزلة.

وأتبعه الرسول صلی اللّه علیه و آله طيلة حياته كاشفا عمّا جمعه آله من الفضائل ، وحبوا به من المفاخر ، يوجب تارة طاعتهم واتّباعهم ، ويلزم أخرى بمودّتهم ويعطف طورا للقلوب عليهم ويستميل مرّة النفوس إليهم إلى ما سوى ذلك. (1)

وما كان ذلك إلاّ لسعادة الناس أنفسهم ليأخذوا الدين من أهله والعلم من معدنه ، فكان الحقّ على الناس احترامهم ، والانقطاع إليهم والانصراف عن غيرهم.

كان أهل البيت - أعني عليّا والزهراء وابنيهما وأبناء الحسين علیهم السلام - مثالا للنبي صلی اللّه علیه و آله في شمائله وفضائله وخصاله وفعاله ، فمن أراد علم الرسول كانوا باب مدينته ، ومن أراد منطقه كانوا مظهر فصاحته وبلاغته ، ومن أراد خلقه وجدهم أمثلة سيرته ، ومن أراد دينه وجدهم مصابيح شريعته ،

ص: 29


1- ذكرنا في كتابنا « الشيعة وسلسلة عصورها » بعض ما جاء في الكتاب والسنّة في شأن أهل البيت وفضلهم والدعوة الى ولائهم ..

ومن أراد زهده وجد فيهم منهاج طريقته ، ومن أراد البرّ بعترته كانوا صفوة ذرّيته ، ومن أراد النظر إليه كانوا جمال صورته ، هكذا كان أهل البيت إن قستهم إلى صاحب البيت ، وهذا بعض ما كانوا فيه مثالا لشخصيّته الكريمة صلی اللّه علیه و آله .

ومن كانت له عند الرسول صلی اللّه علیه و آله ترة فمنهم الأخذ بترته ، أو كان له مع الاسلام عداء فهم للاسلام أقوم عدّته ، أو كان له مع الدين غضاضته فإنهم للدين أوقى جنّته ، أو كان له مع المعروف حرب فهم للمعروف أبناء دعوته أو كان له مع المنكر ولاء فهم أعداء خطّته.

وإن ذكر الخير كانوا أدلاّءه ، أو سار الفضل كانوا لواءه ، أو نشر العدل كانوا أخلاّءه ، أو خاض الناس في المفاخر كانوا أبعدهم قعرا وأثمنهم درّا ، أو تسابق أهل الفخر إلى المكارم كانوا أسبقهم جولة ، وأبعدهم شوطا ، وإن تنافسوا في الشرف كان عندهم الوقوف والاحجام ، فما من فضيلة إلاّ وإليهم مآلها ، ومنهم انتقالها.

فاذا كان أهل البيت كما وصفنا فكيف لا يقف معهم بنو أميّة موقف العدوّ اللدود ، والخصم العنود ، ألم يكن النبي صلی اللّه علیه و آله قد قتل منهم في اللّه من قتل ، فمتى يأخذون منه تراتهم ، ولو أغضوا عن حماة الاسلام ، ودعاة الدين لعاد النبيّ بدعوته ، كأنه لم يمت ولم يمت ذكره ، ولسار الاسلام وأحكامه ونظامه كما أراده الجليل تعالى والرسول صلی اللّه علیه و آله ، ولو وقفوا معهم موقف المحايد لعرف الناس فضل أهل البيت وبأن للعالم حقّهم ، ولما بقيت عندئذ لأميّة وسيلة لارتقاء منابر الاسلام ، وذريعة للاستيلاء على البلاد واسترقاق العباد.

ما برحت أميّة تظهر وتضمر العدل للرسول الأطهر صلی اللّه علیه و آله فلا

ص: 30

بدع لو كانت مواقفهم مع آل الرسالة تلك المواقف المشهودة ولو كانوا على غير ما عرفته الأيام منهم لكان ذلك بدعا من خلائقهم وأخلاقهم.

وأما بنو العبّاس ، فإنهم حين ملكوا الأمر ، وعبروا الجسر إلى مآربهم ، الجسر الذي أقاموه على أكتاف الشيعة ، ورفعوا أعمدته من جماجم أولئك السذّج ، عرفوا أن الحال إن هدأت سوف يحاسبهم الناس على الحقّ وموضعه والخلافة وأهلها ، لأنهم لم ينهضوا معهم إلاّ لهدم عروش أميّة ، وللأخذ بترات الدماء الزكيّة التي أريقت من غير جرم ، ولبناء خلافة الرضا من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله وما قاموا وقاوموا لأن يقيموا عرشا لبني العبّاس دون بني علي فارتأى العبّاسيّون أن يفتكوا بالرجال الذين عبّدوا لهم السبل ، ووطّدوا لهم الطريق لاعتلاء أسرّة الحكم ، كأبي سلمة الخلاّل وغيره ، حذرا من ذلك الحساب ورأوا أن يضيّقوا على أبناء علي ، ويضعوا عليهم العيون والرصد ، خوفا من تلك النزعات التي تخالج نفوسهم أو يحملهم عليها الناس ، ورأوا أن يكمّوا أفواه الشيعة بالإرهاب خشية من ذلك السؤال والحساب.

فما كانت جناية أبناء عليّ لديهم إلاّ أنّهم أهل الحقّ والمقام ، وأهل البيعة والخلافة ، بالقرابة أو بالنصّ أو بالفضيلة.

ولم يكن شيء يدعوهم لإنزال الضربات بالعلويّين سوى أن العلويّين أجدر بالخلافة التي غلب عليها العبّاسيّون ، وأن العبّاسيّين لا يأمنون من وثباتهم ما برح لأبناء عليّ مكانة سامية بين الناس ، وما برح فيهم قروم تطمح إليهم الأنظار وتهوى إليهم القلوب ، فاتخذ العبّاسيّون الغضّ من كرامة آل الرسول صلی اللّه علیه و آله والفتك باولئك القروم ذريعة لميل النفوس وانكفاء الأهواء عنهم ، ولو حذرا من الفتك والبطش ، كما كان دأبهم الإرغام لمعاطس شيعة أهل البيت والتنكيل بهم ، لئلاّ تكون لهم قوّة وشوكة يستعين بها أهل البيت على النهضة.

ص: 31

والفرق بين الأمويّين والعبّاسيّين هو أن الذي دعا الأمويّين لحرب الهاشميّين شيئان : الانتقام من الرسول ، والتسلّق للزعامة ، والذي دعا العبّاسيّين : نيل العروش والذبّ عنها فقط ، دون أن يكون منهم حرب مع النبيّ وشريعته بقصد ، وإن كان حربهم لعلماء الشريعة حربا للشريعة وللصّادع بها.

ولو ألقيت نظرة مستعجلة على ما لقيه أهل البيت من أجل تقمّصهم بالفضائل لعرفت كيف تحارب الدنيا الدين ، وكيف انطبع الناس على حبّ الدنيا وحلفائها ، وعلى عداء الدين وحلفائه ، ولأبصرت أن بني العبّاس جروا في مضمار بني أميّة ، وإن سبقوهم شوطا بعيدا في حرب أهل البيت.

قتل بنو أميّة الحسين بن علي علیهماالسلام في الطفّ ومعه صفوة زاكية من أهل بيته ، ونخبة صالحة من أصحابه ، حين وثب منكرا عليهم تلاعبهم بالدين حسب الأهواء ، وقتل بنو العبّاس الحسين بن علي بفخّ ومعه غرانيق من العلويّين عزّ على وجه الأرض نظيرهم ، حين نهض منكرا عليهم ما ارتكبوه من الأعمال التي أغضبوا بها الدين وأهله.

سمّ بنو أميّة من الأئمة ثلاثة : الحسن والسجّاد والباقر علیهم السلام ، وسمّ بنو العبّاس منهم ستة : الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري علیهم السلام .

أرسل هشام بن عبد الملك على الباقر والصادق علیهماالسلام إلى الشام لينال منهما سوء فحين حلاّ بالشام لم يجد بدّا من إكرامهما وتسريحهما إلى المدينة حذرا من أن يفتتن بهما الناس ، وأمّا بنو العبّاس فلم يتركوا إماما يقرّ في بيته ، أرسل السفّاح خلف الصادق ، وأرسل المنصور أيضا خلفه مرّات عديدة ، وأرسل الرشيد خلف الكاظم وحبسه ثمّ أطلقه ، ولم يطل العهد حتّى أرسل عليه مرّة أخرى ، فما خرج من الحبس إلاّ وهو قتيل السمّ ، ولا تسل عمّا ارتكبه معه حين

ص: 32

إخراجه من السجن والنداء عليه على الجسر ، وأرسل المأمون خلف الرضا إلى طوس ، فما عاد إلى أهله بل عاجله بالسمّ وهو في خراسان ، وأرسل خلف الجواد ثمّ سرّحه من دون أن يأتي إليه بسوء ، وما قبض المعتصم زمام الأمر إلاّ وأرسل خلف أبي جعفر الجواد علیه السلام وحبسه ، وما أطلقه من السجن حتّى دبّر الحيلة في قتله بالسمّ ، وأرسل المتوكّل خلف أبي الحسن الهادي علیه السلام وجدّ في النيل من كرامته إلى أن هلك ، وما زال يلاقي من ملوك العبّاسيّين ضروب الأذى والتضييق ، يسجن مرّة ويطلق أخرى إلى أن سقاه المعتز السمّ ، وبقى ولده أبو محمّد الحسن علیه السلام في سامراء ، لا يأذنون له بالإياب إلى المدينة ، ولا يتركونه قارّا في بيته ، بل يحبسونه مرّة ويطلقونه أخرى ، إلى أن قضي بسمّ المعتمد ، وصار يفحص عن ابنه أبي القاسم حين علم أن له ولدا ابن خمس يريد أن يقبضه ليقضي عليه ، فتغيّب هاربا من جورهم وفتكهم حتى اليوم.

أباد الامويّون جماعة من العلويّين بالسمّ والحبس والقتل والصلب أمثال زيد ويحيى وفئة أخرى يوم الحرّة ، وعبد اللّه أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة على قول وغيرهم ، وأين هؤلاء من تلك العدّة التي أبادها العبّاسيّون وكفى منهم قتلى فخ والعصابة التي قضوا في قعر السجون ، وما ارتقى العرش عبّاسي إلاّ وقتل جماعة من العلويّين.

هرب من جور الامويّين أمثال يحيى وعبد اللّه الجعفري وعدّة أخرى ولكن أنّى تقاس كثرة بالذين هربوا واختفوا خوفا من العبّاسيّين ، وأين أنت عن القاسم وأحمد ابني الامام الكاظم علیه السلام وعيسى بن زيد وغيرهم ، بل لم ينتشر العلويّون فى الأقطار النائية كالهند وايران إلاّ هربا من بني العبّاس وحذرا من بطشهم ، وكان الكثير منهم يخفي نسبه حذرا من ولاتهم.

ص: 33

ولئن غدر الامويّون ببعض العلويّين والعبّاسيّين فقتلوهم سمّا فلا تسل عمّن غدر به العبّاسيّون من العلويّين ، ولو تصفّحت « مقاتل الطالبيّين » لعرفت ما ارتكبه منهم بنو العبّاس.

ولئن أحرق الامويّون بيوت أبناء الرسالة يوم الطف ، فلقد أحرق العبّاسيّون دار الصادق عليه وعلى عياله ، حتّى خرج الصادق إليها فأطفأها وقد سرت في الدهليز.

ولئن سلب الأمويّون بنات الرسالة يوم الطف ، فلقد أرسل الرشيد قائده الجلودي إلى المدينة ليسلب ما على الطالبيّات من حليّ وحلل ، فكان الجلودي أقسى من الجلمد في إمضاء ما أراده فلم يترك لعلويّة ولا طالبيّة حلّة ولا حلية.

وسيّر هشام بعد حادثة زيد كلّ علوي من العراق إلى المدينة وأقام لهم الكفلاء ألاّ يخرجوا منها ، وسيّر موسى الهادي بعد حدثة فخ كلّ علوي من المدينة إلى بغداد حتى الأطفال فأدخلوا عليه وقد علتهم الصفرة ممّا شاهدوه من الرعب والتعب والأحداث.

وهكذا لو أردنا أن نقايس بين أعمال الدولتين ، فلا نجد للامويّين حدثا في الإساءة لأهل البيت إلاّ وللعبّاسيّين مثله مضاعفا ، فكأنما اتخذوا تلك الخطّة مثالا لهم يسيرون عليها ، وزاد العبّاسيّون أن اختصّوا بأشياء من فوادحهم مع العلويّين لم يكن للامويّين مثلها ، كجعلهم العلويّين بالأبنية والاسطوانات حتّى جعل المنصور أساس بغداد عليهم ، ولا تنسل عمّن وضعه الرشيد في تلك المباني من الفتية العلوية البهاليل.

وقطع الرشيد شجرة عند قبر الحسين علیه السلام كان يستظلّ بها زائروه ، وهدم المتوكّل قبره وما حوله من الأبنية والبيوت ، وحرث أرض كربلاء وزرعها ليخفي القبر وتنطمس آثاره ، حتّى قيل في ذلك :

ص: 34

تاللّه إن كانت أميّة قد أتت *** قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتته بنو أبيه بمثله *** فغدا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على ألاّ يكونوا شاركوا *** في قتله فتتبعوه رميما

ولقد كانت أيام بني أميّة ألف شهر وقد قتلوا فيها الأماثل من العلويّين ولو حسبت من بدء أيام بني العبّاس إلى ألف شهر لوجدت إن العبّاسيّين قد قتلوا من العلويين أضعاف ما قتله الأمويّون ، وما قتلوهم إلاّ وهم عالمون بما لهم من فضل وقربى ، وهذا موسى بن عيسى الذي حارب أهل فخ يقول عن الحسين صاحب فخ وأصحابه : هم واللّه أكرم خلق اللّه وأحقّ بما في أيدينا منّا ولكنّ الملك عقيم ، لو أنّ صاحب هذا القبر - يعني النبي صلی اللّه علیه و آله - نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف. (1)

على أن هذا الآثم الجريء اعترف بذنبه ، ولكنه لم يذكر الحقيقة كلّها لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والصفوة من آله لم يطلبوا الملك للملك ، وإنّما يطلبونه للدين وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولإزالة البدع والضلالات ولو طلبوا الملك للملك لما رشقنا الامويّين والعبّاسيّين بنبال اللوم على ما جنوه مع الطالبيّين ، وهل يلام الظافر بقرينه إذا تجالدا على السلطان.

أترى أن الحسين في نهضته ، وزيدا في وثبته ، ويحيى في جهاده ، والحسين بفخّ في دفاعه ، وأمثالهم من الطالبيّين أهل الدين والبصائر ، كانوا يضحّون بالنفس والنفائس لأجل السلطان ، وكيف يتطلّبون الدنيا محضا وهم دعاة الدين ، وأدلاّء الهدى ، ومصابيح الرشاد ، وكيف يتطلّبون الملك وهم يعلمون أن ما لديهم من قوّة لا يفوز بها الناهض بالظفر والنصر ، نعم ضحّوا بتلك النفوس

ص: 35


1- مقاتل الطالبيّين في مقتل الحسين بن علي صاحب فخ ..

الثمينة والنفائس لما عرفوه من أن الدين أنفس من نفوسهم ، ومن استغلى الثمن هان عليه البيع ، وهل عرف الناس الحقّ صراحا ، والدين يقينا ، إلاّ بعد تلك القرابين ، وهل ظهر الحقّ على الباطل في الحجّة والبرهان إلاّ بعد ذلك الفداء.

كانت واقعة الطفّ وتضحيات العلويّين مثالا لأرباب الدين وتعليما لرجال الحقّ عند المنافسة بين الهدى والضلال ، والحقّ والباطل ، ولم تدع عذرا لدعاة الدين عن الفداء في سبيل النصرة ، فإنهم بأعمالهم علّموهم كيف يكون الانتصار في هذه التضحية ، وكيف تكون الحياة في هذا الممات ، وإنّ تلك التجارب للجام الأفواه عن العذر بالعجز ، إذ ليس النصر لفوز العاجل وإلاّ فإن يوم الحسين وأيام العلويّين كانت أيام الظفر لأعدائهم ، ولكن ما عرف النّاس إلاّ بعد حين أن الظفر والفوز كانا لأولئك العلويين الناهضين الذين بذلوا ما لديهم في سبيل الدين ، وأن الخسران في الدنيا والدين لأعدائهم الظافرين في يومهم.

وبتلك الحوادث بانّ للعالم ما كان عليه أهل البيت من الدين والجهاد في إحياء الشريعة ، وما كان عليه أعداؤهم من الدنيا والحرب للدين ، واتضحت نوايا الفريقين ، وبانت أقصى غاياتهم من أعمالهم هاتيك ، وإلاّ فأيّ ذنب للطفل الرضيع وقد جفّ لبنه وذبلت شفتاه عطشا أن يقتل على صدر أبيه ، حتّى يتركه السهم يرفرف كالطير المذبوح.

وأيّ ذنب للأطفال الذين لم يحملوا السلاح ، ولم يلجوا حومة الحرب أن يذبحوا صبرا ، أو يداسوا بالخيل قسرا.

وأيّ ذنب للنساء عقائل الرسول صلی اللّه علیه و آله أن تسبى على الهزل بعد السلب والسبّ الضرب ، ولما ذا تحمل من بلد لآخر كما تساق الإماء.

ولو أن الحسين ورهطه قد حاربوا طلبا للسلطان لما استحقّ بعد القتل أن

ص: 36

يداس جسمه ويرفع على القناة رأسه ، وتسبى على المهازيل أهله ، أترى أن قطع الرءوس ، ورضّ الصدور والظهور بسنابك الخيل ، وسلب الجثث وتركها عارية ، وإبقاءها بالعراء بلا دفن ، وأخذ النساء أسارى ممّا يجازى به القتيل الناهض للملك والسلطان.

إنّ الذي يذر الملح على الجرح ، وينكأ القرحة ، ويزيد في النكبة أن القوم لم يفعلوا بالحسين وأهله تلك الفعلة النكراء الفظيعة عن جهل بمقامه ، واعتقاد بخروجه عن الدين ، بل إنهم ليعلمون أنه صاحب الدين ، وربّ الخلافة والامامة ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة الرسول ، بل يعلمون بكل ما له من سابقة وفضل.

وهكذا لو فتّشت عن الأمر في غير الحسين علیه السلام فإنك لتجد الحال في زيد ويحيى وأهل فخ ، وما سواهم من أمثال أهل البيت الذين كانوا طعمة للسيوف ، ومنتجعا للسمّ ، ووقفا على الحبوس ، كالحال في الحسين في المعرفة بهم والعمد على ظلمهم.

فلا بدع إذن لو وضح للعالم من تلك المواقف المشهودة ، والمشاهد المعلومة ، أن الحرب بين أهل البيت وبين أعدائهم من نوع حرب الفضيلة والرذيلة ، وأن الذين يريدون العروش لا يستطيعون نيلها إلاّ بمحاربة أهل البيت ومحوهم من صفحة الوجود ، لأنهم يعتقدون أنهم لا يصلون إلى الغاية ولأهل البيت شبح قائم ، وظلّ يتفيّؤه الناس ، فما كانت جناية أهل البيت إذن لدى الناس إلاّ أنهم أهل الدين ، وأرباب الفضائل ، فلا ترتقي الناس أرائك الخلافة وأهل البيت أكفاؤها الذين خلقت لهم وخلقوا لها تعرفهم الأمّة قياما بين أبناء الاسلام.

* * *

ص: 37

المذاهب والنحل

اشارة

كانت أيام أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام أيام نحل ومذاهب ، وآراء وأهواء ، وكلام وبحث ، وبدع وأضاليل ، وشبه وشكوك ، ونحن الآن نذكر أصول تلك الفرق والمذاهب موجزا ، جريا على السنن الذي درجنا فيه ، لأن التبسّط في البحث يخرجنا عن خطّة الكتاب ، وفي كتب الملل والنحل المعدّة لهذا الشأن بعض الاغناء.

اصول الفرق الإسلاميّة :

اشارة

إنّ الأمّة الاسلاميّة قد افترقت ثلاث وسبعين فرقة كما أنبأ عن ذلك نبيّنا الصادق الأمين صلی اللّه علیه و آله بقوله : ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة (1) ، وتلك من أعلام نبوّته وما أكثرها.

والذي نريد أن نبحث عنه في هذا الفصل هو ما كان من الفرق في عصر الصادق بارزا يعرف ، ونخصّ البحث في الأصول التي ترجع إليها الفرق المتشعّبة ، وقد نشير إلى بعض تلك الشعب بعد ذكر الأصل ، وذلك أقرب للقصد ، وأمسّ بالخطّة.

ص: 38


1- سنن ابن ماجة : 2 / 1321 ..

إن جميع أصول الفرق الاسلاميّة ، التي إليها المرجع والمآل أربعة : المرجئة ، المعتزلة ، الشيعة ، الخوارج (1) فإن كلّ فرقة تنتمي إلى أحد هذه الأصول ، وأما الغلاة وإن رمتهم الفرق الأخرى بالكفر إلاّ أنهم أيضا من شعب هذه الأصول - ولو بزعمهم - فالكلام في هذه الأصول الأربعة عنوان البحث.

1 - المرجئة :

يمكننا أن نقول : إن المرجئة اليوم يقصد منها الأشاعرة فحسب ، وهم عامّة أهل السنّة في الاعتقاد في هذه الآونة ، إذ لم يبق على مذهب أهل الاعتزال في هذه الأزمنة أحد معروف.

كانت المرجئة قبل الأشعري فرقا متكثّرة ، وكلّها قسم من أهل السنّة المقابل للشيعة والخوارج ، غير أنه لمّا حدث مذهب الأشعري في الاعتقاد أصبح عنوان المرجئة عنوانا آخر لأهل السنّة ، أو للمذهب الأشعري بوجه عامّ ، قال الشهرستاني في الملل والنحل (2) : « وقيل الارجاء تأخير علي علیه السلام عن الدرجة الأولى إلى الرابعة » انتهى. وهذا كما ترى هو ما عليه أهل السنّة أجمع.

وليس من قصدنا أن نبحث عن جهة اجتماع هذه العناوين في المذهب الأشعري أو افتراقها عنه ، وإنما القصد الأوّلي أن نعرف ما كان عليه المرجئة في ذلك اليوم ، وليس من شكّ بأن المرجئة في ذلك العهد كانت فرقا ومذاهب يجمعها قولهم بالاكتفاء في الايمان بالقول وإن لم يكن عمل ، حتّى لو ارتكب مدّعي الايمان من الجرائم والمآثم كلّ موبقة لما أخرجه ذلك عندهم عن ربقة

ص: 39


1- فرق الشيعة لابي محمّد الحسن النوبختي : 17 ، وذكر ابن حزم في الفصل : 2 / 88 أنها خمسة بجعل أهل السنّة فرقة في قبال المرجئة والمعتزلة ..
2- المطبوع في هامش الفصل : 1 / 145 ..

الايمان ، بل كان على ايمان جبرئيل وميكائيل ، ورجوا لهؤلاء مرتكبي الكبائر المغفرة ، ولعلّه من هنا سمّوا المرجئة أو من جهة أنّ اللّه تعالى أرجأ تعذيبهم ، من الارجاء - التأخير - أو لتأخيرهم عليّا علیه السلام عن الدرجة الأولى إلى الرابعة ، كما ينقله الشهرستاني.

إن أقصى ما يمكن استفادته في القول الجامع لفرق المرجئة هو ما أشرنا إليه ، وهو الذي تفيده كتب الفريقين ، التي تذكر اجتماع الفرق وافتراق النحل.

وهل كان أبو حنيفة ونظراؤه من المرجئة الماصريّة (1) وهم مرجئة أهل العراق ، والشافعي والثوري ومالك بن أنس وابن أبي ليلى وشريك بن عبد اللّه ونظراؤهم من المرجئة الذين يسمّون الشكاك ، أو البتريّة ، وهم أهل الحشو والجمهور العظيم المسمّون بالحشويّة؟ ذلك ما لا نستطيع البتّ به ، لأن كتب الفرق اختلفت في تلك النسب ، ولم تستند في تحقيق ما تقوله إلى مصدر صريح لنتعرّف صحّة الأقاويل ، فإن تعصّب أولئك المؤلّفين لنحلهم ومذاهبهم يجعل النحل الأخرى هدفا لهم ، وساعد على هذه الجناية رجال السلطات الزمنيّة في تلك العصور ، لأنهم إذا حاولوا ترويج فرقة أو محاربة أخرى استأجروا لهذا الغرض أقلاما ومحابر ، وخطباء ومنابر ، فمن هنا قد تضيع الحقيقة على من لا دراية له وتتبّع.

ولربما أوقعت تلك المؤلّفات كثيرا من الكتّاب في أشراك الخبط والخلط وصفوة القول ان الاعتماد على تلك الكتب في صحّة النسب ليس بالسهل ،

ص: 40


1- الملل والنحل في هامش الفصل : 1 / 147 في كلامه على المرجئة الغسّانية ، وص 151 في كلامه على رجال المرجئة ، وقد جاء في بعض المناظرات التي جرت مع أبي حنيفة خطابهم له بقولهم : بلغنا عنكم أيها المرجئة ، فلم ينكر أبو حنيفة هذه النسبة إليه ، انظر في ذلك تأريخ الخطيب : 13 / 370 وما بعدها فإنك تجد فيها تفصيل نسبته إلى الارجاء ..

فمن ثمّ لا يصحّ لدينا من تلك الفرق التي نسبت إلى المرجئة إلاّ الجهميّة أصحاب جهم بن صفوان لصراحة اعتقادهم بما ذكرناه عنهم ولإجماع المؤلّفين.

كما أنه قد رووا في لعن المرجئة عن النبي صلی اللّه علیه و آله ما نحن براء من تبعته مثل قوله : لعنت المرجئة على لسان سبعين نبيّا ، قيل : من المرجئة يا رسول اللّه؟ قال : الذين يقولون : الايمان كلام (1).

والخلاصة : أن المرجئة كانت ولا شكّ في ذلك العهد ، كما أنها كانت وهي ذات فرق ، ويجمعها في الاعتقاد ما ذكرناه من كفاية القول في الايمان وإن لم يكن عمل يطابق ذلك الاعتقاد ، بل حتّى لو كان العمل على نقيض ذلك القول ، ولسنا في حاجة إلى الغور في تشعّباتها وخصوصيّات ما اعتقدته تلك الشعب لجواز ألاّ نصيب شاكلة الهدف ، ونحن في فسحة من الوقوع في أمثال هذه المزالق ، نسأله تعالى العصمة من الخطأ ، والأمان من العثار.

2 - المعتزلة :

لا نشكّ في أن الاعتزال وليد عصر الصادق علیه السلام ، وفي ذلك العصر نشأ وشبّ ، وذلك حين اعتزل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما حوزة الحسن البصري فنبذوهم بهذا اللقب ، وما قيل من أنه وليد عصر أمير المؤمنين علیه السلام حينما اعتزل سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد حروب أمير المؤمنين فلا وجه له ، لأن ذلك الاعتزال لم يكن اعتزالا مذهبيّا على أساس في الرأي أو شبهة في الدين ، وما كان إلاّ انحرافا عن أمير المؤمنين علیه السلام ولذا لم يكن اسم الاعتزال معروفا في ذلك العهد ، ولا سمّي هؤلاء بالمعتزلة في ذلك

ص: 41


1- الفرق بين الفرق ص 190 ..

اليوم ، ولا أن المعتزلة ينتمون إلى أولئك في المذهب.

والمعتزلة افترقت فرقا كثيرة بعد أن اتفقت على الاعتزال ، وليس في يومنا الحاضر أحد معروف النسبة إليه على ما أحسب ، والذي يجمع عقيدة الاعتزال ما نقله صاحب « الفرق بين الفرق » ص 94 عن الكعبي في مقالاته : إن المعتزلة أجمعت على أن اللّه عزّ وجل شيء لا كالأشياء ، وأنه خالق الأجسام والاعراض ، وأنه خلق كلّ ما خلقه من لا شيء ، وأن العباد يفعلون أعمالهم بالقدر التي خلقها اللّه سبحانه وتعالى فيهم ، قال : وأجمعوا على أن اللّه لا يغفر لمرتكبي الكبائر بلا توبة.

هذا ما حكاه عن الكعبي في القول الجامع في الاعتقاد لفرق المعتزلة ، ونكتفي به عن الكلام عمّا يعتقدون ، ولسنا بصدد التمحيص لنضع هذا الكلام في ميزان النقد ، ونتعرّف صحة ما صوّبه صاحب الفرق نحو هذا الزعم كما دعانا هذا لإغفال ما ينسبه إليهم ابن حزم والشهرستاني وصاحب الفرق من الأقوال الكثيرة.

ثمّ اننا بعد هذا لا نتبسّط في البحث عن فروع ذلك الأصل ، وما يمتاز به كلّ فرع منها في الاعتقاد فيما يزيد على الجامع ، فإن التبسّط خروج عن الخطّة الموسومة ، مع اننا لا نأمن من العثار.

وهل القدريّة هم هؤلاء المعتزلة؟ أو هم نفس الأشاعرة؟ ذلك موضع الشكّ ، لأنّا إن أردنا من القدريّة من يقول : بأن أفعال العباد مخلوقة لهم وأنها من صنعهم وتقديرهم وإنما خلق اللّه فيهم قوّة وقدرة بها يفعل العباد أعمالهم فهم المعتزلة ، على ما نقل عنهم من القول الجامع السابق ، ولا يكونون على هذا نفس الأشاعرة ، لأن الأشاعرة على العكس من ذلك يرون أن الأفعال كلّها من صنع اللّه تعالى وتقديره دون العبد.

ص: 42

وإن أردنا من القدريّة من يقول بأن القدر خيره وشرّه من اللّه تعالى فيكونون حينئذ هم الأشاعرة يقينا.

وقد روى الشهرستاني عن النبي صلی اللّه علیه و آله قوله : القدريّة مجوس هذه الأمّة ، وقوله : القدريّة خصماء اللّه في القدر. (1)

ولا ندري - إن صحّت الرواية - أين يتوجّه هذا الذمّ الصريح ، والسمة الفاضحة.

3 - الشيعة :

اشارة

كان التشيّع على عهد صاحب الشريعة الغرّاء وسمّى بعض الصحابة بالشيعة من ذلك اليوم ، أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحذيفة وخزيمة وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي أيوب وخالد بن سعيد بن العاص وقيس بن سعد وغيرهم (2).

والشيعة لغة : - الأتباع والأنصار والأعوان ، وأصله من المشايعة - المطاوعة والمتابعة ، ولكن هذا اللفظ اختصّ بمن يوالي عليّا وأهل بيته علیهم السلام (3).

وأوّل من نطق بلفظ الشيعة قاصدا به من يتولّى عليّا والأئمة من بنيه هو صاحب الشريعة سيد الأنبياء صلی اللّه علیه و آله وقد جاءت عنه في ذلك عدّة أحاديث (4).

ص: 43


1- انظر الملل والنحل المطبوع على هامش الفصل : 1 / 50 - 51 ..
2- الاستيعاب في أبي ذر ، والدرجات الرفيعة للسيد علي خان في ترجمة سلمان ، وروضات الجنّات نقلا عن كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي ، وشرح النّهج : 4 / 225 ، وخطط الشام لمحمّد كرد علي : 5 / 251 - 256 ..
3- القاموس ولسان العرب ونهاية ابن الأثير ومقدّمة ابن خلدون ص 138 إلى كثير غيرها ..
4- راجع في ذلك الصواعق بعد الآية الثامنة والآية العاشرة من الآيات الواردة في فضل اهل البيت ، ونهاية ابن الأثير في قمح ، والدرّ المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى : « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك خير البريّة » إلى نظائرها من الكتب ..

وأما فرق الشيعة فهي كثيرة ، وقد أنهتها بعض كتب الملل والنحل إلى أكثر ممّا نعرفه عنها ، فذكرت فرقا كثيرة ، ورجالا تنسب الفرق إليهم ، أمثال الهشاميّة نسبة إلى هشام بن الحكم ، والزراريّة نسبة إلى زرارة بن أعين ، والشيطانيّة نسبة إلى مؤمن الطاق محمّد بن النعمان الأحول ، واليونسيّة نسبة إلى يونس بن عبد الرحمن ، إلى غيرها ، والحقّ اننا من أهل البيت وأهل البيت أدرى بما فيه لا نعرف عينا ولا أثرا لهذه الفرق ، ولا للبدع التي نسبت لهؤلاء الرجال.

وإنّ من نظر في كتب الحديث وكتب الرجال للشيعة عرف أن هؤلاء من خواصّ الأئمة الذين يعتمدون عليهم ويرجعون الشيعة إليهم ، ولو كان لهم آراء ومذاهب لا يرتضيها الأئمة لسخطوا عليهم وأبعدوهم عنهم ، ومن سبر ما جاء عنهم في الرجال الذين انتحلوا البدع لعلم أن هؤلاء برآء مما نسبوه إليهم ، فإنهم برءوا من ابن سبأ ولعنوه وحذّروا من بدعه ، وبرءوا من المغيرة بن سعيد حين صار يكذب على الباقر علیه السلام ويدّعي الأباطيل ، كما برىء الصادق علیه السلام من أبي الخطّاب وجماعته ، ومن أبي الجارود وكما قالوا في بني فضال : خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا ، وكما برىء الحجّة المغيب من جماعة خلطوا في الدين وادّعوا أنهم أبوابه ، إلى غير هؤلاء (1) ولو كان مثل هؤلاء الصفوة على مثل تلك الضلالات التي نسبت إليهم لكان نصيبهم من الأئمة نصيب غيرهم من الضالّين البراءة منهم والذمّ واللعن لهم.

نعم كانت للشيعة فرق قبل عصر الصادق علیه السلام وبعده وقد ذهبت ذهاب أمس الدابر ، ولم يبق منها اليوم شيء معروف إلاّ ثلاث فرق :

ص: 44


1- انظر في ذلك كلّه غيبة الشيخ الطوسي طاب ثراه .

1 - الإماميّة : وهم القائلون بإمامة الاثنى عشر ، وولادة الثاني عشر ووجوده اليوم حيّا ويترقّبون كلّ حين ظهوره.

2 - الزيديّة : وهم الذين يرون إمامة زيد وكلّ من قام بالسيف من بني فاطمة ، وكان مجمعا للخصال الحميدة.

3 - الاسماعيليّة : وهم الذين يجعلون الامامة بعد الصادق علیه السلام في ابنه إسماعيل دون موسى وبنيه علیهم السلام .

هذا ما بقي من فرق الشيعة ظاهرا يعرف منذ عهد بعيد حتّى الزمن الحاضر ، وأما ما كان منهم في الزمن الماضي ، فقد بحث عنه النوبختي في كتابه « فرق الشيعة » وليس اليوم منها فرقة معروفة عدا ما ذكرناه.

والذي يهمّنا ذكره من بينها هو ما كان في أيام الصادق علیه السلام وإن لم يبق اليوم منهم نافخ ضرمة.

الكيسانيّة :

الكيسانيّة : (1)

فمن فرق الشيعة في عهد الصادق علیه السلام ( الكيسانيّة ) وهم الذين قالوا بإمامة محمّد بن الحنفيّة ، وقد اختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم ، وهم ينتهون إلى فرق :

فرقة قالت بأن محمّدا ، هو المهدي ، وهو وصيّ أمير المؤمنين علیه السلام وليس لأحد من أهل بيته مخالفته ، وأن مصالحة الحسن علیه السلام لمعاوية كانت بإذنه ، وخروج الحسين علیه السلام أيضا بإذنه ، كما أن خروج المختار

ص: 45


1- اننا نستند على الكثير ممّا نذكره عن الكيسانيّة إلى كتاب فرق الشيعة ، والملل والنحل ، والفرق بين الفرق ..

طالبا بالثأر أيضا بإذنه ، وفرقة قالت بإمامته بعد أخويه الحسنين علیهماالسلام ، وإنه هو المهدي وبذلك سمّاه أبوه ، وإنه لم يمت ولا يموت ولا يجوز ذلك ، ولكنه غاب ولا يدري أين هو ، وسيرجع ويملك الأرض ، ولا إمام بعد غيبته إلى رجوعه وهم أصحاب ابن كرب ويسمّون « الكربيّة ».

وفرقة قالت : بأنه مقيم بجبال رضوى بين مكّة والمدينة ، وهو عندهم الإمام المنتظر.

وفرقة قالت : بأنه مات والامام بعده ابنه عبد اللّه ، ويكنّى أبا هاشم وهو أكبر ولده ، وإليه أوصى أبوه ، وسميّت هذه الفرقة « الهاشميّة » بأبي هاشم ، وهذه الفرقة قالت فيه كما قالت الفرق الاول في أبيه ، بأنه المهدي وأنه حيّ لم يمت بل غلوا فيه وقالوا إنه يحيي الموتى ، ولكن لمّا توفي أبو هاشم افترقت أصحابه إلى فرق.

وكان من الكيسانيّة رجال لهم ذكر ونباهة ، منهم كثير عزّة وله بذلك شعر يروى.

وكان منهم السيد إسماعيل الحميري الشهير. وله أيضا شعر يشهد بما نسبوه إليه ، ولكنه عدل عن ذلك إلى القول بإمامة الصادق علیه السلام بعد أن ناظره الصادق وأقام الحجّة عليه ، وله في العدول والذهاب إلى إمامة الصادق شعر مذكور.

ومنهم حيّان السّراج ، وقد دخل يوما على الصادق علیه السلام فقال له أبو عبد اللّه : يا حيّان ما يقول أصحابك في محمّد بن الحنفيّة؟ قال : يقولون : إنه حيّ يرزق ، فقال الصادق علیه السلام : حدّثني أبي علیه السلام : إنه كان فيمن عاده في مرضه وفيمن غمضه وأدخله حفرته وزوّج نساءه وقسّم ميراثه ، فقال : يا أبا عبد اللّه إنّما مثل محمّد في هذه الأمّة كمثل عيسى بن مريم شبّه أمره

ص: 46

للناس ، فقال الصادق علیه السلام : شبّه أمره على أوليائه أو على أعدائه؟ قال : بل على أعدائه ، فقال علیه السلام : أتزعم أن أبا جعفر محمّد بن علي علیهماالسلام عدوّ عمّه محمّد بن الحنفيّة؟ فقال : لا ، ثمّ قال الصادق علیه السلام : يا حيّان إنكم صدفتم (1) عن آيات اللّه وقد قال تبارك وتعالى « سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون » (2).

وقال بريد العجلي (3) : دخلت على الصادق علیه السلام فقال لي : لو سبقت قليلا لأدركت حيّان السرّاج ، واشار إلى موضع في البيت ، فقال : كان هاهنا جالسا ، فذكر محمّد بن الحنفيّة وذكر حياته ، وجعل يطريه ويقرضه ، فقلت له : يا حيّان أليس تزعم ويزعمون ، وتروي ويروون : لم يكن في بني إسرائيل شيء إلاّ وهو في هذه الأمّة مثله؟ قال : بلى ، فقلت : هل رأينا ورأيتم ، وسمعنا وسمعتم بعالم مات. على أعين الناس ، فنكحت نساؤه وقسّمت أمواله ، وهو حيّ لا يموت؟ فقام ولم يردّ عليّ شيئا (4).

والكيسانيّة من الفرق البائدة ، ولا نعرف اليوم قوما ينتسبون إليها.

الزيديّة :

ومن الفرق التي تنسب إلى التشيّع ( الزيديّة ) نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين علیهماالسلام ، لأنهم قالوا بإمامته.

ص: 47


1- أعرضتم ..
2- إكمال الدين للصدوق طاب ثراه ص 22 ، ورجال الكشي ص 203 ، والآية في سورة الأنعام : 157 ..
3- من أصحاب الصادق ومشاهير ثقاتهم ..
4- رجال الكشى في ترجمة حيّان ص 202 ..

وزيد علیه السلام ما ادّعى الامامة لنفسه بل ادّعتها الناس له ، وما دعاه للنهضة إلاّ نصرة الحقّ وحرب الباطل ، وزيد أجلّ شأنا من أن يطلب ما ليس له ، ولو ظفر لعرف أين يضعها ، وقد نسبت بعض الأحاديث ادّعاءه الإمامة لنفسه ، ولكن الوجه فيها جليّ ، لأن الصادق علیه السلام كان يخشى سطوة بني أميّة ، ولا يأمن من أن ينسبوا إليه خروج زيد ، وإن قيامه بأمر منه ، فيؤخذ هو وأهله وشيعته بهذا الجرم ، فكان يدفع ذلك الخطر بتلك النسبة ، ولو كان زيد كما تذكره هذه الأحاديث لم يبكه قبل تكوينه جدّاه المصطفى والمرتضى عليهما وآلهما السّلام ، ولم تبلغ بهما ذكريات ما يجري عليه مبلغا عظيما من الحزن والكآبة ، كما هو الحال في آبائه عند ما يذكرون مقتله وما يجري عليه بعد القتل.

وكفى في إكبار نهضته وبراءته مما يوصم به بكاء الصادق علیه السلام عليه وتقسيمه الثائرين معه بالمؤمنين ، والمحاربين له بالكافرين.

وكيف يكون قد طلب الامامة لنفسه والصادق علیه السلام يقول : رحمه اللّه أما أنه كان مؤمنا وكان عارفا وكان عالما وكان صدوقا ، أما أنه لو ظفر لوفى ، أما أنه لو ملك لعرف كيف يضعها (1). ويقول : ولا تقولوا خرج زيد فإن زيدا كان عالما ، وكان صدوقا ، ولم يدعكم إلى نفسه ، إنما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله (2) ولو ظفر (3) لوفى بما دعاكم إليه ، وإنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه (4).

ص: 48


1- رجال الكشي في ترجمة السيّد الحميري ص 184 ..
2- الرضا : كناية عن إمام الوقت من أهل البيت وإنما يكنّي عنه حذرا عليه من التصريح باسمه ..
3- ظهر : في نسخة ..
4- الوافي : عن الكافي ، كتاب الحجّة ، باب أن زيد بن علي مرضي : 1 / 141 ..

ويقول الرضا علیه السلام للمأمون : لا تقس أخي زيدا إلى زيد بن علي علیهماالسلام فإنه كان من علماء آل محمّد صلی اللّه علیه و آله غضب لله عزّ وجلّ فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ، إلى أن يقول : إن زيد بن علي علیه السلام لم يدع ما ليس له بحق ، وإنه كان أتقى لله من ذلك ، إنه قال : أدعوكم للرضا من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله (1).

ولم تكن هذه الصراحة من الرضا علیه السلام إلاّ لأن العهد عهد العبّاسيّين ويقول ابنه يحيى : رحم اللّه أبي كان أحد المتعبّدين قائما ليلة صائما نهاره جاهد في سبيل اللّه حقّ جهاده ، فقال عمير بن المتوكل البلخي : فقلت : يا بن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هكذا يكون الامام بهذه الصفة ، فقال : يا عبد اللّه إن أبي لم يكن بإمام ، ولكن كان من السادة الكرام وزهّادهم ، وكان من المجاهدين في سبيل اللّه ، قال : قلت : يا بن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إن أباك قد ادعى الامامة لنفسه وخرج مجاهدا في سبيل اللّه ، وقد جاء عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيمن ادّعى الامامة كاذبا ، فقال : مه مه يا عبد اللّه إن أبي كان أعقل من أن يدّعي ما ليس له بحق ، إنما قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، عنّى بذلك ابن عمّي جعفرا علیه السلام ، قال : قلت : فهو اليوم صاحب فقه ، قال : نعم هو أفقه بني هاشم. (2)

وهذا الحديث كما كشف عن منزلة زيد الرفيعة في الدين والفضيلة وبطلان ما نسبوه إليه ، فقد أثبت ليحيى مقاما عليّا في الورع والعلم والفقه.

والأحاديث عن نزاهة زيد عن تلك الدعوى وافرة جمّة ، فهو أتقى وأنقى من

ص: 49


1- نفس المصدر ..
2- كفاية الأثر : 304 ..

أن يلوّث نفسه الطاهرة بدعوى الامامة ، وإنّما ادّعتها له بعض الناس بعد وفاته فعرفوا بالزيديّة لتلك المقالة.

والزيديّة فرق يجمعها القول : بأن الامامة في أولاد فاطمة علیهاالسلام ولم يجوّزوا ثبوت إمامة في غيرهم ، إلاّ أنهم جوّزوا أن يكون كلّ فاطميّ عالم زاهد شجاع سخيّ خرج بالسيف إماما واجب الطّاعة سواء كان من أولاد الحسن علیه السلام أو من أولاد الحسين علیه السلام ، ومن ثم قالت طائفة منهم بإمامة محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن بن الحسن علیه السلام (1) أحسب أن اشتراط الامامة في بني فاطمة إنما كان منهم فيمن يكون إماما بعد زيد ، لأن بعض الفرق منهم رأت ثبوت الامامة للشيخين كما ستعرف.

البتريّة :

فمن فرق الزيديّة ( البتريّة ) وهم أصحاب كثير النواء ، والحسن بن صالح بن حي ، وسالم بن أبي حفصة ، والحكم بن عيينة ، وسلمة بن كهيل ، وأبي المقدام ثابت الحدّاد ، وهم الذين دعوا إلى ولاية علي علیه السلام ثم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر وأثبتوا لهما الامامة ، وطعنوا في عثمان وطلحة والزبير وعائشة. وقيل : سمّوا بالبتريّة لأن زيد بن علي قال لهم عند ما أخذوا يذكرون معتقداتهم : بترتم أمرنا بتركم اللّه ، وقيل : سمّوا بذلك لأنّهم منسوبون إلى كثير النواء وكان أبتر اليد (2).

ولو صحّت هذه النسبة لكان الأصح فيها أن يقال - الأبتريّة - لا البتريّة.

ص: 50


1- الملل والنحل المطبوع في هامش الفصل : 1 / 159 ..
2- منهج المقال للشيخ أبي علي الحائري في الألقاب ..
السليمانيّة :

ومنهم ( السليمانيّة ) نسبة إلى سليمان بن جرير ، وكانوا يرون إمامة الشيخين ، ولكن يطعنون في عثمان وطلحة والزبير وعائشة ، وينسبونهم إلى الكفر ، ويرون أن الامامة شورى ، وتنعقد بعقد رجلين من خيار الأمّة ، وأجازوا إمامة المفضول مع وجود الأفضل وزعموا أن الأمّة تركت الأصلح في البيعة لما بايعوا أبا بكر وعمر ، وتركوا عليّا علیه السلام لأن عليّا كان أولى بالامامة منهما ، إلاّ أن الخطأ في بيعتهما لا يوجب كفرا ولا فسقا (1).

ومن هاهنا نستظهر أن ما ينسب إلى الزيديّة من الدعوى بأن الامامة لا تثبت في غير أولاد فاطمة إنما هو فيمن بعد زيد من القائمين بالسيف.

كما انّنا لا نعرف وجها في عدّ هاتين الفرقتين في عداد فرق الشيعة.

الجاروديّة :

ومنهم ( الجاروديّة ) نسبة إلى زياد بن المنذر أبي الجارود السرحوب الأعمى الكوفي ، وقد يسمّون السرحوبيّة ، وقيل : إن السرحوب اسم شيطان أعمى يسكن البحر فسمّي أبو الجارود به ، وكان أبو الجارود من أصحاب الباقر والصادق علیهماالسلام ، ولمّا خرج زيد تغيّر ، وجاء عن الصادق علیه السلام لعنه وتكذيبه وتكفيره ومعه كثير النواء وسالم بن أبي حفصة وجاء فيه أيضا أعمى البصر أعمى القلب (2).

والجاروديّة يرون أن الناس قصّروا في طلب معرفة الامام لأنه كان

ص: 51


1- الفرق بين الفرق : ص 23 ، والملل على الفصل : 1 / 164 ..
2- انظر ترجمته في كتب الرجال ..

بإمكانهم معرفته ، بل كفروا حين بايعوا أبا بكر ، فهم لا يرون إمامة الخلفاء الثلاثة ، بل يرون كفرهم ، حيث ادّعوا الامامة ولم يبايعوا عليّا علیه السلام . (1)

الصالحيّة :

وقيل : إن منهم ( الصالحيّة ) نسبة إلى الحسن بن صالح ، وقد عرفت انّهم من البتريّة ، لأن الحسن هذا من رجال البتريّة ، فلا وجه لعدّهم فرقة مستقلّة ، نعم هناك فروق طفيفة بينه وبين كثير النواء أوّل رجال البتريّة لا تستدعي أن تكون فرقته فرقة تباين البتريّة.

وقد ذكر الزيديّة النوبختي في كتابه - فرق الشيعة - على غير هذا النهج ، وزاد فيها : غير أننا رأينا أن ما سطّرناه أقرب إلى ما ذكرته كتب الملل والنحل ، فراجع إن طلبت الاستيضاح.

الإسماعيليّة :

ومن فرق الشيعة ( الإسماعيليّة ) وقد نشأ القول بإمامة إسماعيل أيّام الصادق علیه السلام ، إلاّ أنه كان من بعضهم على سبيل الظنّ لأن الامامة في الاكبر وإسماعيل اكبر اخوته ، مع ما كان عليه من الفضل ، فلمّا مات أيّام أبيه انكشف لهم الخطأ.

وأما من بقي مصرّا على إمامته فهم على فرق ، لأنّهم بين من أنكر موته في حياة أبيه علیه السلام ، وقالوا : كان ذلك على وجه التلبيس من أبيه على الناس ، لأنه خاف عليه فغيّبه عنهم ، وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتّى يملك

ص: 52


1- الفرق بين الفرق : ص 22 ، والملل على هامش الفصل : 1 / 163 ..

الأرض ويقوم بأمر الناس ، وأنه هو القائم ، لأن أباه أشار إليه بالامامة بعده ، فلمّا ظهر موته علمنا أنه قد صدق ، وأنه القائم لم يمت.

وبين من قال بموته وأن الامامة انتقلت الى ابنه محمّد ، لأن الامامة لا تكون إلاّ في الأعقاب ، ولا تكون في الاخوة إلاّ في الحسن والحسين علیهماالسلام فلما مات إسماعيل وجب أن يكون الامام بعد جعفر علیه السلام محمد بن إسماعيل ، ولا يجوز أن يكون أحد من اخوة إسماعيل هو الامام ، كما لم يكن لمحمّد بن الحنفيّة حقّ مع علي بن الحسين علیهماالسلام ، وأصحاب هذا القول يسمّون « المباركة » برئيس لهم يسمّى المبارك.

وأمّا ( الخطّابيّة ) أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأسدي الأجدع فقد دخلوا في الفرقة التي قالت بإمامة محمّد بن إسماعيل بعد قتل أبي الخطّاب ، وهم من الأصناف الغالية ، وتشعّبوا على فرق والقرامطة منهم (1).

وكان أبو الخطّاب من أصحاب الصادق علیه السلام ، ولمّا بلغ الصادق أنه يكذب عليه طرده وتبرّأ منه ولعنه.

ثمّ أنه ادّعى النبوّة واولوهيّة جعفر بن محمّد علیهماالسلام ، وأنه مرسل من قبله ، وظهرت منه ومن جماعته بدع وأهواء وإباحات ، ولمّا بلغ عيسى بن موسى عامل المنصور على الكوفة ما عليه أبو الخطّاب وجماعته وكانوا سبعين رجلا مجتمعين في مسجد الكوفة حاربهم فقتلهم جميعا ، فلم يفلت منهم إلاّ رجل واحد أصابته جراحات فعدّ في القتلى فتخلّص ، وحمل أبو الخطّاب أسيرا فقتله عيسى ابن موسى على شاطئ الفرات ، وصلبه مع جماعة منهم ثم أمر بإحراقهم فأحرقوا ، وبعث برءوسهم إلى المنصور فصلبها على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام ، ثمّ

ص: 53


1- فرق الشيعة : ص 67 ، 76 ..

أحرقت (1).

الإماميّة :

ومن فرق الشيعة ( الإماميّة ) ويعرفون بالجعفريّة نسبة إلى جعفر بن محمّد علیهماالسلام ، لأنه المذهب الذي ينسبون إليه ، وسيأتي أنه كيف صار مذهبا دون سائر الأئمة وكلّهم مذهب في الأحكام.

والإماميّة هم الذين يرون الامامة في الاثنى عشر : علي ، والحسن والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمّد بن علي ، وجعفر بن محمّد ، وموسى بن جعفر ، وعلي ابن موسى ، ومحمّد بن علي ، وعلي بن محمّد ، والحسن بن علي ، وابنه المهدي المغيب الذي يترقّبون ظهوره كلّ حين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ويعتقدون أن إمامتهم بالنصّ الصريح الجلي من النبي صلی اللّه علیه و آله عن اللّه عزّ شأنه ، وأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نصّ على خلافة علي أمير المؤمنين وإمامته كما نصّ على اخوّته ووصايته ، وكان النصّ منه في مواطن عديدة ، منها يوم الغدير ، كما أنه صلی اللّه علیه و آله أخبر بأسماء الخلفاء والأئمة الذين هم بعد أمير المؤمنين علیه السلام واحدا بعد آخر ، على نحو ما ذكرناه من أسمائهم ، وأكّدوا ذلك النصّ من بعضهم على بعض ، فنصّ علي على الحسن ، والحسن على الحسين ، والحسين على ابنه علي ، وهكذا الأب على ابنه إلى أن انتهت إلى ابن الحسن المنتظر ، كما أنهم يعتقدون حياته ووجوده بعد ولادته عام 255 ، ليلة النصف من شعبان ، وأنه تغيب فرقا من فراعنة عصره ، وأنه هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا. (2)

ص: 54


1- فرق الشيعة : ص 69 ..
2- ذكر كثير من أهل السنّة الامام المهدي وأنه ابن الحسن العسكري واعترفوا بوجوده وأنه الموعود به ، انظر مطالب السؤل ، والحجّة لابن عرب ، ولواقح الأنوار ، والتذكرة ، وشرح الدائرة ، والفصول المهمّة ، وفرائد السمطين ، الى غيرها ، بل ادّعى بعضهم مشاهدته والاجتماع به .

ويعتقدون أيضا في هؤلاء الأئمة أنهم معصومون عن الذنب وعن الخطأ والنسيان والغفلة كما في نبيّنا وجميع الأنبياء علیهم السلام وأن علمهم ليس باكتسابي وإنما هو إلهامي ووارثة من النبي صلی اللّه علیه و آله يورثه الأب لابنه والأخ لأخيه كما في الحسن للحسين ، ولمّا كان الرسول صلی اللّه علیه و آله وارث علم الأنبياء والمرسلين ، وعنده علم الأوّلين والآخرين ، كان أمير المؤمنين واجدا لهذا العلم كلّه ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، ولغير ذلك من الأحاديث وآي الكتاب (1) وورث أولاده الأئمة هذا العلم جميعه.

ويعتقدون فيهم أيضا أنهم عبيد لله سبحانه مخلوقون له ، مرزوقون منه ليس لهم تصرّف في شيء من أمر العباد من حياة أو موت ، وعطاء أو منع وشيء سوى ذلك ، إلاّ باذن منه تعالى على حدّ ما كان عليه النبيّ صلی اللّه علیه و آله في شأن الخليقة ، وقد جاء في الكتاب عن عيسى علیه السلام « ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه ».

واستدلّوا على ذلك كلّه بالبراهين العقليّة ، وبالأخبار والآثار ، وقد يأتي شيء من هذا طيّ هذا السفر.

كما استدلّوا على النصّ عليهم بالخصوص ، بالوارد عن النبي صلی اللّه علیه و آله من طرق الفريقين من قوله صلی اللّه علیه و آله : الأئمة من قريش وانهم

ص: 55


1- كتبت رسالة عن حديث الثقلين ودلالته على عصمة الأئمة وعلمهم بكلّ شيء ، وقد أخرجتها المطابع ، ورسالة في علم الامام وكيفيّته وعسى أن نتوفّق لطبعها .

اثنى عشر (1) وانهم من ولد عليّ وفاطمة علیهماالسلام ، وتسميتهم بأسمائهم واحدا بعد آخر. (2)

هذا فضلا عن الاستدلال على الامامة باللطف ، وانحصارها فيهم لو كان ثمّة إمام تجب إمامته وطاعته ومعرفته.

والاماميّة ترجع إلى هؤلاء الأئمّة في أحكام الدين ، فما ثبت عن النبيّ أو عنهم أخذوا به ، وما اختلفت فيه الأخبار أعملوا فيه قواعد التعادل والتراجيح ، حسبما هو مقرّر عندهم في أصول الفقه.

وعندهم من الأدلّة على الأحكام غير الكتاب والسنّة الاجماع وحكم العقل القطعي ، وعند فقدان الأدلّة الأربعة يرجعون إلى الأصول العملية ، حسبما تقتضيه المقامات وهي قواعد فقهيّة عامّة تثبت بالأدلّة.

ويرون أن الأحاديث المرويّة عنهم من السنّة ، لأنهم حملة علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله وحفّاظ شريعته ، فما عندهم فهو عن الرسول صلی اللّه علیه و آله لا عن اجتهاد ورأي منهم ، والسنّة أحد الأدلّة الأربعة في استنباط الأحكام الفرعيّة ، والأدلّة الأربعة كما أشرنا إليها : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل ، والبيان عن حجّيّتها وكيفيّة الرجوع إليها مذكور في كتب أصول الفقه.

وأمّا اعتقادهم في اللّه تعالى شأنه ، فهو أنّه سبحانه شيء لا كالأشياء ليس بجسم ولا صورة ، ولا تقع عليه الرؤية في الدنيا ولا الآخرة ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، وأن صفاته عين ذاته ، وأنّه تعالى عادل لا يظلم أحدا من عبادة لقبح الظلم بحكم العقل ، وأنّه خلق الأشياء لا من شيء.

ص: 56


1- مسلم من صحيح جابر ، ومسند أحمد : 5 / 89 و 2 / 29 و 128 ، والصواعق : الفصل الثالث من الباب الأول ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 5 ، إلى غيرهم ..
2- ينابيع المودّة : ص 427 و 430 و 442 ، وكفاية الأثر ، والمقتضب والكنز وغيرها ..

وأمّا اعتقادهم في نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله فهو أنّه معصوم من الخطأ والزلل والنسيان والغفلة والذنوب الكبائر والصغائر ، وأنّه ما ارتكب شيئا منها قبل النبوّة ولا بعدها ، وأنه مرسل إلى العالم كلّه وهكذا اعتقادهم في الرسل والأنبياء من جهة العصمة.

ويرون أن الامامة من الاصول ويجب إثباتها بالأدلّة العقليّة عدا النصوص النقليّة ، ومن البراهين العقليّة قاعدة اللطف.

وأمّا المعاد فيعتقدون فيه أن اللّه جلّ اسمه يعيد الناس للحساب بتلك الأجسام التي كانت في الدنيا ، وهي التي تنعّم في الجنان ، أو تعذّب في النيران.

وأمّا أفعال العباد فيعتقدون أنها أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض أي أنّ اللّه تعالى لم يجبر الخلق على أفعالهم حتى يكون قد ظلمهم في عقابهم على المعاصي ، بل لهم القدرة والاختيار فيما يفعلون ، ولا فوّض اللّه إليهم خلق أفعالهم حتى يكون قد خرج من سلطان قدرته على عباده ، بل له الحكم والأمر وهو قادر على كلّ شيء ومحيط بالعباد.

وربّما يهيّىء اللّه تعالى للعبد أسباب الطاعة والهداية ، كما يصدّ عنه أسباب العصيان والضلالة ، لطفا منه بعبده ، وهذا ما نسمّيه بالتوفيق.

وهذا بعض ما تعتقده الاماميّة في الوجود والوحدانيّة ، والصفات ، وفي النبوّة والامامة والمعاد ، وفي أفعال العباد.

وذكرنا لذلك كان استطرادا على سبيل الايجاز ، واستيفاء الكلام على هذه المعتقدات في كتب الكلام والاعتقاد.

والإماميّة اليوم هم السواد الأعظم من الشيعة في جميع الأقطار الاسلاميّة وكتبهم في العلوم كافّة من أوّل يوم ابتدأ فيه التأليف حتّى اليوم مبثوثة بين

ص: 57

الامم يقرأها الحاضر والبادي ، والعالم والجاهل.

وليس اليوم غير الاماميّة ، والزيديّة ، والاسماعيليّة ، فرقة ظاهرة تعرف اللّهمّ سوى بعض الفرق الغالية التي تنتمي إلى التشيّع.

ولمّا كان كلامنا عن الفرق التي كانت في عهد الصادق علیه السلام أهملنا عن بعض الفرق التي حدثت بعد الصادق علیه السلام أمثال الفطحيّة والناووسيّة والواقفيّة.

4 - الخوارج :

اشارة

ظهرت هذه الفرقة يوم صفّين بخدعة ابن العاص ، حين أشار على معاوية - وقد عجز عن المناهضة - برفع المصاحف ، والدعوة لتحكيمها ، فلمّا رفعوها مرقت طائفة من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام وقالوا هؤلاء يدعوننا إلى كتاب اللّه وأنت تدعوننا إلى السيف ، فعذلهم عن ذلك ، وحاول رجوعهم عن الاغترار بهذه الخدعة ، وقال لهم ويحكم أنا أعلم بكتاب اللّه ، فلم ينفع معهم عذل وردع ، ولا إقامة حجّة وبرهان ، بل قالوا لترجعن مالكا عن قتال المسلمين ، أو لنفعلنّ بك كما فعلنا بعثمان ، فاضطر إلى ارجاع مالك بعد أن هزم الجمع وولّوا الدبر ، فحملوه على التحكيم ، فأراد أن يبعث عبد اللّه بن عباس فأبوا إلاّ أن يبعث أبا موسى الأشعري ، فلمّا كان التحكيم قالت الخوارج : لم حكمت في دين اللّه الرجال؟ لا حكم إلاّ لله ، فمن هنا سمّوا ( المحكّمة ) وبعد أن رجع أمير المؤمنين من صفّين وهم مصرّون على المروق والعصيان اجتمعوا بحروراء قرب الكوفة فسمّوا ( الحروريّة ).

وكان آخر أمرهم أن قتل أمير المؤمنين بالنهروان من أصرّ منهم على المروق ، بعد أن أقام عليهم الحجج ، وقطع المعاذير ، وبعد أن عاثوا في الأرض فسادا ،

ص: 58

وقتلوا خبابا أحد خيار الصحابة ، وبقروا بطون الحبالى.

ولم يستأصل تلك الروح استئصالهم بالنهروان ، وما زال في كلّ عصر وزمن قوم على ذلك الرأي والمروق ، وقد أزعجوا الملوك والولاة في تلكم الأعصر ، وكلّما فني قوم منهم نبغ آخرون ، وكانت الناس منهم على رهبة ووجل لما يلاقونه منهم من الفتك الذريع والعمل الفظيع ، والقسوة وانتهاك الحرمة ، وكانوا يحاربون الملوك والولاة عن عقيدة واطمئنان ، فمن ثمّ تجدهم يستبسلون ويحاربون بشجاعة ورباطة جأش ، فلا تقف الناس لهم وإن كانوا أضعافهم ، إذ لا يحملون عقيدة يناهضون بها تلك العقيدة ، ولكنهم إذا عرفوا من أنفسهم الضعف قوّضوا ليلا وبعدوا شاحطين ، ومن ذاك لا تسلم بلدة من وبالهم وسوء أعمالهم.

وكان لهم ظاهر نسك وعبادة ، وما زالوا يستميلون الهمج الرعاع بتلك المظاهر الصالحة ، ودعوى الخروج على سلطان الباطل ، والدعوة للعمل بالكتاب والسنّة ، وإن ناقضوا تلك المظاهر والدعاية بشدة الوطأة والعيث فسادا ، إلاّ أن السذّج من الناس ربما انخذعوا بظاهرة النسك والصلاح ، وقد خدعوا بهاتيك الظواهر الجميلة بعض أهل الكتاب ومن لا يعتقد صحّة دين الاسلام ، فضمّوهم إليهم ، وكاثروا بهم.

وقد ضعفت بعد ذلك شوكتهم ، وهدرت شقاشقهم ، واستراح الناس منهم برهة من الزمن ، ولكن ظهر لهم شأن أيّام الصادق علیه السلام فإنّ أحد رؤسائهم عبد اللّه بن يحيى الكندي - الملقّب بطالب الحق - نهض في حضرموت بعد ما استشار الأباضيّة في البصرة وأوجبوا عليه النهوض ، وشخّص إليه منهم أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي وبلخ بن عقبة المسعودي في رجال من الأباضيّة ، وقد بايعه ألفان وبهم ظهر ، ولمّا كثر جمعه توجّه إلى صنعاء وكتب

ص: 59

بذلك إلى من بها من الخوارج ، فجرت بينه وبين عاملها حروب انتصر فيها عبد اللّه واستولى على خزائن الأموال ، ثم استولى على اليمن ، فلمّا كان وقت الحجّ وجّه أبا حمزة وبلخا وأبرهة بن الصباح إلى مكّة والأمير عليهم أبو حمزة في ألف ، وأمره أن يقيم بمكّة إذا صدر النّاس ، ويوجّه بلخا إلى الشام ، فدخلوا مكّة يوم التروية وعليها وعلى المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك في خلافة مروان الحمار ، فكره عبد الواحد قتالهم وفزع الناس منهم فراسلهم عبد الواحد في ألاّ يعطّلوا على النّاس حجّهم ، وأنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتّى ينفر الناس النفر الأخير ، فلمّا كان النفر الأخير نفر عبد الواحد وترك مكّة لأبي .. حمزة من غير قتال ، ولمّا دخل عبد الواحد المدينة جهّز له جيشا منها فالتقوا بقديد فكانت الدبرة على جيش المدينة والنصرة للشراة ، فبلغ قتلى أهل المدينة ألفين ومائتين وثلاثين رجلا ثم دخل بلخ المدينة بغير حرب ، ورحل عبد الواحد إلى الشام فجهّز مروان لهم جيشا عدده أربعة آلاف في فرسان عسكره ووجوههم ، ومعهم العدّة الوافرة ، وعليه عبد الملك بن عطية السعدي ، فلمّا بلغ الشراة توجّه جند الشام إليهم خفوا إليه في ستمائة وعليهم بلخ بن عقبة المسعودي فالتقوا بوادي القرى لأيام خلت من جمادي الاولى سنة ثلاثين ومائة فتواقفوا ثمّ كانت الدبرة على الخوارج فقتل بلخ والشراة ولم يبق منهم إلاّ ثلاثون ، فهربوا إلى المدينة ، وكان على المدينة المفضل الأزدي ، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب الناس الحرب الشراة بالمدينة فلم يجبه أحد ، واجتمع عليه البربر والزنوج وأهل السوق ، فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل وعامّة أصحابه وهرب الباقون ، فأقبل ابن عطيّة إلى المدينة وأقام بها شهرا ، وأبو حمزة بمكّة ، ثمّ توجّه إليه إلى مكّة فوقعت بينهما حرب شعواء قتلت فيها الشراة قتلا ذريعا وقتل أبو حمزة وأبرهة بن الصباح وأسر منهم أربعمائة ثم قتلوا كلّهم ، وصلب ابن عطيّة

ص: 60

أبا حمزة وأبرهة وعلي بن الحصين على شعب الخيف ، إلى أن أفضى الأمر إلى العبّاسيّين فأنزلوا أيام السفاح ، ثمّ أن ابن عطيّة خرج الى الطائف وقد بلغ عبد اللّه بن يحيى طالب الحقّ وهو بصنعاء ما آل إليه أمر أبي حمزة وجماعته فتوجّه الى حرب ابن عطيّة ، فشخّص ابن عطيّة إليه ، ولمّا التقوا قتل من الفريقين جمع كبير ، وترجّل عبد اللّه في ألف مقاتل ، فقاتلوا حتّى قتلوا كلّهم وقتل عبد اللّه ، وبعث ابن عطيّة رأسه الى مروان ، ثمّ أقام ابن عطيّة بحضر موت بعد ظفره بالخوارج ، فأتاه كتاب مروان بالتعجيل الى مكّة ليحجّ بالناس ، فشخّص الى مكّة متعجّلا مخفّفا في تسعة عشر فارسا ، فندم مروان وقال : قتلت ابن عطيّة سوف يخرج متعجّلا مخفّفا من اليمن ليدرك الحجّ فيقتله الخوارج ، فكان كما قال ، فإنه صادفه جماعة متلفّقة من الخوارج وغيرهم فعرفه الخوارج فحملوا عليه وقتلوه (1).

ثمّ لم يكن الخروج بعد هذا إلاّ عقيدة ورأيا من دون أن يكون لهم شأن في محاربة الملوك ، وما زال حتّى اليوم منهم أناس على ذلك المروق ، ومنهم قوم في عمان ، ولكن لا شأن لهم يرعى ولا سطوة تهاب.

والخوارج هم المارقون الذين أنبأ النبي صلی اللّه علیه و آله أمير المؤمنين علیه السلام بأنه سيحاربهم ويظفر بهم.

وكانوا فرقا كثيرة يجمعها القول بتكفير علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وكلّ من رضي بتحكيم الحكمين ، وتكفير مرتكبي الذنوب ، ووجوب الخروج على الامام الجائر ، كما حكاه في ( الفرق بين الفرق ) عن الكعبي ص 55.

ص: 61


1- انظر شرح النّهج : 1 / 455 - 463 تجد تفصيل ما أوجزناه ..

لكن حكى عن أبي الحسن الأشعري إنكار إجماعهم على تكفير مرتكبي الذنوب ، ونقل عنهم تفصيلا في ذلك ، وانتهوا في التفريع على هذا الأصل إلى فرق كثيرة ، ولكن أخنى عليها الدهر ، والموجودون اليوم منهم في عمان من الأباضيّة ، على ما يظهر منهم ويسمع عنهم.

الغلاة ومن خرج عن الاسلام ببعض العقائد :

قد ذكرنا في بدء هذا الفصل أن اصول الفرق الاسلاميّة أربعة ، ومنها تتفرّع الفرق جميعا ، وأن فرق الغلاة من فروع تلك الاصول ، فلا تجد أصلا إلاّ وله بعض الفروع الغالية.

وهكذا الشأن فيمن ينتحل شيئا كالتناسخ والحلول والتشبيه أو غير ذلك ممّا يرجع الى الكفر عند فرق المسلمين ، ولكن التهجّم عليهم بالكفر لما ينسب إليهم من الاعتقاد ليس بالأمر السهل ، فإن تكفير من يعترف بالشهادتين لا ينبغي أن يقدم عليه من له حريجة في الدين ، دون أن يعتمد على ركن وثيق وما دمنا في فسحة من ذلك فلا نلج هذا الباب ، ولا نلقي بأنفسنا من شاهق ثمّ نفحص عن سلّم النجاة ، ولا سيّما أن تلك الفرق التي رميت بالخروج عن ربقة الاسلام الصحيح بانتحالها بعض العقائد الباطلة قد أصبحت في خبر كان ، ولم يبق منها إلاّ شواذ لا مقام لهم يلحظ بين أبناء الاسلام ، ولا يخاف من تسرّب معتقداتهم الفاسدة بل أصبحوا يتكتّمون فيما يعتقدون حذرا من سطوة بني الدين في الحجج والبراهين وإبطال ما يدينون به أو نبزهم بالكفر والمروق عن الاسلام.

والحذر من سراية ذلك الداء الى أرباب الجهل أهمّ ما كان لدى الأوائل ممّن قاوم تلك البدع والضلالات بكلّ ذريعة ، ونحن اليوم في أمان من الانخداع

ص: 62

بضلالات فرقهم الحاضرة ، فكيف ببدع هاتيك الفرق البائدة التي أصبحت دائرة العين والأثر.

شبه الإلحاد :

إنما الحذر اليوم من سراية شبه الإلحاد ، وشكوك عبدة الدهر وأبناء الطبيعة الذين تسول لهم أنفسهم التخلّص من قيود الدين بكلّ وسيلة ، تلك القيود التي تجعل الانسان في صفوف الملائكة والروحيّين ، وتخرجه عن الوحشيّة الكاسرة ، والشهوات الفاتكة ، كما تجعله في أمان من اعتداء أحد على أثمن ما يجده في هذه الحياة : النفس والعرض والمال ، كما تجعل الناس في أمان منه على نفائسهم تلك ، وتلك الحرّية التي ينشدونها ، والتي خرجوا بها عن ربقة أهل العقول والعفاف الى أسراب الوحوش وأرباب الخلاعة والدعارة هي التي خدعت بعض الشباب ، وجعلته يقع في تلك الفخاخ ، وتصيده هاتيك الشباك ، والشباب سريع الانجذاب الى الشهوات ونزع القيود المزعومة ، من دون أن يرجع الى رشده ويحكّم قبل الانخداع عقله.

* * *

ص: 63

الإمامة

إن المسلمين على مذاهب في الإمامة بعد أن أجمعوا على وجوبها ، باعتبار أنّ الإمام هو الجامع لشتاتها ، والهادي لضلالها ، والناهض بها لنشر أعلام الشريعة ، وبثّ روح تعاليمها الحيّة.

ومن سياسة صاحب الشريعة وبدائع حكمة أمره بمعرفة الإمام ، حتّى أنه جعل « من مات ولم يعرف إمام زمانه ميتا على الجاهلية » (1) ، كأن لم يدخل في ربقة الاسلام.

فهذا الفرض لو عمل به المسلمون ، وقاموا بما يحتّمه الواجب من معرفته والاستماع لقوله بعد الوصول إليه لأصبحوا جيشا واحدا وقائدهم الإمام ، فلا يبقى عند ذاك امرؤ مسلم يجعل أحكام الدين ، أو يعلمها ولا يعمل بها ، ولا يبقى بلد في العالم لا تخفق عليه بنود الاسلام.

كانت الخلافة والإمامة ميدانا للسباق ، لا يقبض على ناصيتها إلاّ من حاز قصب السبق ، ولو بالدماء المراقة ، والحرمات المنتهكة ، بل حتّى لو كان الخليفة نفسه بعد استلامه زمام الحكم ما جنا خليعا لا يبالي بما فعل.

ص: 64


1- هكذا الحديث في أصل الكتاب ولم نعثر عليه في الكتب الموجودة ، والذي عثرنا عليه هو هذا النص « من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية » كنز العمال : 1 / 103 ..

غير أن الشيعة الإمامية كانت من العهد الأوّل لا تقيم وزنا لمثل هذه الخلافة ولا تعترف بمثل هذه الإمامة ، بل ترى أن الخليفة والإمام من كان جامعا لصفات الكمال كلّها ، عاريا عن خصال النقص جميعا ، عاملا بأوامر الشريعة في السرّ والعلن آمرا بها ، مرتدعا عن نواهيها فيما ظهر وبطن ناهيا عنها ، منصوصا عليه من صاحب الشريعة ، أو من الإمام قبله أمرا من اللّه سبحانه ، لأنه تعالى أنظر لعباده ، وأبصر بمن يصلح لهذا المنصب الخطير.

ولا ترى الإمام من قام بالناس بل الإمام من قامت الدلالة عليه ، ودلّت الاشارة إليه ، وإن قعد الناس عن اتباعه ، بل وإن قاموا في وجهه صدّا له عن أدائه فروض إمامته وواجبات زعامته.

وإن قعودهم عن طاعته أو قيامهم في معارضته لا تخدش في كفايته للنهوض بأعباء الإمامة ، بل حظّهم أخطئوه وسبيل هدى أضاعوه.

فالإمام - على ما تراه الإماميّة - هو الحامل لأعباء الإمامة قام أو قعد ، نطق أو سكت ، تقدّم للسباق أو تأخّر ، لأن إمامته ليست باللباس المستعار يلبسه إن استلبه من غيره ، ويتعرّى عنه إن استلبوه منه.

ولمّا كان الإمام هو الحجّة البالغة ، وجب عليه إعلام الناس بإمامته وإقامة الأدلّة عليها عند الحاجة الماسّة ، كما وجب على الامّة معرفته وطاعته إذا عرفوه.

وأما إقامته الدلالة على إمامته فبالتصريح مرّة وبالتلويح اخرى ، وكفى في الدلالة أن يدلي بالكرامات والمعجزات ، ويبدي من العلم ما يعجز الناس عن الحصول على مثله ، إلاّ أن تحجز السيوف دون بيانه ، ولكن أعماله وسجاياه ناطقة بمقامه وإن صمت لسانه.

والإمامة من الأبحاث التي ما زالت موضع الجدل والخصام بين المسلمين من

ص: 65

يوم مضى صاحب الدعوة الاسلاميّة ، قلما ولسانا ، وسيفا وسنانا ، وإنما تبتني اسسها اليوم على أنقاض الماضي ، وهي اليوم وغدا كما كانت أمس الفارق بين الفرق ، مع وحدتهم في النبي والكتاب والقبلة ، وفي الفرق اليوم وأمس من ذوي العقول الراجحة والآراء السديدة رجال بإمكانها أن يجمعوها تحت لواء واحد ، كاشفين لهم الستار عمّا حدا بالامامة إلى التخالف والتنابز ، ويعرّفوها فوائد الالفة ، وينذروها سوء الفرقة ، ويلمسوها ما أنزله ذلك الخصام بالاسلام من الويلات والتدمير والشتات.

ولمّا كانت الامامة هي المفترق للطرق ، وجب أن يكون عندها اجتماع ذلك الافتراق ، فلو عرف الناس اليوم حقيقة الامامة ومن الامام ، لأوشك أن يهبّ ولو بعضهم إلى وحدة عندها مجتمع الفرق ، ولمّ الشتات ، في هذه الساعة العصيبة التي سادت فيها الفوضويّة وانشقاق الكلمة.

وإنّي لأحاول أن أرمز إلى بعض ما يجب في الامام ، وإن ذهبت كلمتي أدراج الرياح ، لا تسترعي انتباه غافل ، ولا هبة يقظان ، ولا يغيظني ذلك ما دام القصد صحيحا والغاية غالية ، وهي طلب مراضيه سبحانه.

أقول : إن النظام الذي جاء به خاتم الأنبياء صلی اللّه علیه و آله نظام عامّ يجمع بين السيرتين ، سيرة المرء مع الخالق ، وسيرته مع المخلوق ، وإنّ من جاء بهذا النظام وجب أن يكون قديرا على تطبيقه وتنفيذه حتّى لو ثنيت له الوسادة ، فانبسطت دعوته على المعمورة جمعاء ، وخيّمت شريعته على العالم كلّه ، فالنبي عند تطبيق شريعته وتنفيذها يكون ذا سلطتين زمنيّة وروحيّة ، ولمّا دعاه اللّه إليه ، انتبهت الامّة إلى الضرورة التي دعته إلى عقد الامامة في حياته ، فرأوا أن القيام بوظائف صاحب الدعوة حتميّ ولا يقوم بها إلاّ إمام تكون له الزعامة العامّة على الامّة الاسلاميّة كلّها وتكون له السلطتان اللتان كانتا للرسول

ص: 66

الأمين صلی اللّه علیه و آله وإلاّ بقي ذلك النظام الكافل للسعادتين بلا تنفيذ ، فلا تتمّ الفوائد من تلك الجهود التي قاساها صاحب الرسالة.

فلمّا كانت الامامة على الامّة واجبة بحكم الضرورة ، فمن الأليق بتلك الوظيفة الكبرى؟ أترى الأليق بها من هو كصاحب الرسالة وصورة حاكية له في العلم والعمل ، ومهديّ في نفسه هاد لغيره ، يقوم بالحجّة فيقطع الحجج ، لا يعتري برهانه وهن ، ولا حجّته فلل ، إن طلب الناس منه المعجز في الفعل والقول استطاع الإتيان به من غير مطل وعناء ، وإن احتيج لقطع العذر من المسترشد أو المتعنّد على المجيء بالكرامة الباهرة قويّ عليها من دون كدّ وجهد ، يعلم كلّ ما جاء به صاحب الشريعة عاملا به ، يعرف القرآن تنزيله وتأويله ، مرتديا بجميل الخصال لا تفرّ عنه منها واحدة ، بل هو أفضل في كلّ خصلة من الناس كافة ، عاريا عن ذميم الصفات لا يرتدي منها واحدة ولو لحظة ، وجملة القول أنه المثال الصادق للرسول في جميع ملكاته وصفاته وخصاله وفعاله.

أو الأليق بها من لا يعرف هذه الخلال ولا تعرفه ، أو يتقمّص ببعض ويتعرّى عن بعض ، لا ريب في أنك سوف تقول : إن الأوّل أليق وأحقّ بهذا المنصب الرفيع ، وهل يقدم بصير على القول بأحقّيّة الثاني.

ولكني أحسبك تقول : إن الشأن كلّه في إثبات أمرين في هذا الباب الأول وجوب نصب إمام على هاتيك السجايا والمزايا ، الثاني وجوده جامعا لهذه الخلال والخصال في الامّة الاسلاميّة ، ولو ثبت لدينا أن الامام يجب أن يجمع هذه الصفات ، وأنه يوجد في الامّة ذلك الجامع ، لكان التخلّف عن القول بإمامته ، لأوامره عنادا محضا لا يرتضيه ذو دين وبصيرة.

فأقول : إني سأثبت لك هذين الأمرين ، راجيا أن تكون ممّن ألقى السمع

ص: 67

وهو شهيد.

أمّا الدليل على الأول فموجزه : إن النبي صلی اللّه علیه و آله كان عليما بما صدع به ، لا يجهل ما يسأل عنه ، شريعته واحدة ليس فيها اختلاف ، وخالدة إلى يوم البعث ، حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فلو ألقى الحبل على الغارب للامّة في ارتياد الامام القائم بوظائفه لألفينا الامّة جاهلة بأحكام الشريعة لا تعرف الحرام من الحلال ، ولا الحلال من الحرام إذ ليس لديها حكم فصل في علم الشريعة ترجع إلى قوله ، وحاكم عدل في إمضاء الحدود تخضع لأمره ، فتتشعّب لذلك إلى مذاهب ونحل ، وكلّ يقوم بالحجّة على صحّة رأيه ويقيم الأدلّة على صدق عقيدته كما كان ذلك كلّه حين اختار بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم إماما وخليفة اختاروا خلفاء لا يعلمون جميع ما جاء به الرسول صلی اللّه علیه و آله ويجهلون كثيرا ممّا يسألون عنه ، ولمّا كانوا بعد الاختيار لهم هم الحكم الفصل والحاكم العدل ، ولمّا لم يجد الناس عند هؤلاء القائمين بالأمر مطلوبهم في الحكومة والأحكام صار كلّ يبدي مذاهبه وآراءه ، وليس عند أحد حجّة قاهرة ، وبرهان نيّر يصدع به شبه تلك المذاهب ، وشكوك هذه الآراء ، وتعارضت النحل ، وكلّ ينسب ما لديه إلى الشريعة ، وما عنده إلى الدين ، فأين الحلال والحرام اللذان لا يتبدّلان إلى الساعة الأخيرة من هذا الوجود ، وأين الشريعة الواحدة الخالدة عمر الدهر ، وقد أصبح في الاسلام بعد نبيّه مشرّعون وشرائع ، وأديان ومذاهب.

ولمّا كان هذا التبديل والتحريف طارئا عن اختيار الناس لمن لا يعلم جميع ما جاء في الشريعة ليكون العالم والحاكم في ساعة واحدة ، يقطع حجج المتأوّلين وألسنة المتقوّلين بالبرهان مرّة وحدود الشفار اخرى فلا تخالفه الناس بعد ذاك ولا تختلف في الآراء والأهواء ، وجب على الامّة أن تختار لها إماما

ص: 68

عالما بكلّ ما جاءت به الشريعة الأحمديّة ، عاملا في تنفيذ علمه ، عنده علم ما يسأل عنه ولديه الحجّة على إزالة الأوهام والأباطيل والجهالات والأضاليل ، لتبقى الشريعة الغرّاء على ما صدع بها الرسول صلی اللّه علیه و آله أبد الدهر وحلاله وحرامه لا يتبدّلان مدى العمر ، فلا شرائع ولا مشرّعين ولا مذاهب ولا أديان.

ولكن أين للأمّة اختيار ذلك الحاكم العالم؟ ومن أين تعرفه؟ ولو عرفته فمن أين له اتفاق الكلمة عليه ، والناس مختلفو النزعات متباينو الأغراض؟

فوجب عليه تعالى أن ينصب لهم هذا الامام ، ويعرّفهم بواسطة الرسول ذلك الخلف العادل ، والعالم العامل ، لأن اللّه سبحانه أنظر لعباده ، وأدرى بمن يليق لهذا المنصب الخطير ، والمقام العظيم.

فاذا كان نصب الامام واجبا عليه تعالى استحال في العقول أن يهمل سبحانه الواجب فيما يصلح عباده ، ويهدي خليقته ، كما يستحيل على الرسول أن يترك التبليغ عنه تعالى بنصب هذا الامام ، ولو جاز عليه ترك هذا الواجب لجاز عليه غيره.

فمتى وجب الرسول وجب الامام ، ومتى بعث اللّه رسولا نصب الامام ، فلا رسول بلا إمام ، ولا شريعة بغير تفسير وتنفيذ.

وأمّا الدليل على الثاني وهو وجود هذا الامام فالأمر فيه سهل بعد ما تقدّم ، لأنا إذا اعتقدنا بوجوب نصب الامام على تلك الصفات وأنه قد نصبه اللّه تعالى لخلقه اعتقدنا أنه تعالى لا يجعله مجهول الاسم والنسب ويعسر على الامّة معرفته ، ولا نعرف في الامّة أئمة ادّعي فيهم ذلك وادّعوها لأنفسهم غير علي وبنيه علیهم السلام ، فلو لم يكونوا هم الأئمة لكانت الامامة وذلك الوجوب لغوا.

فلم يبق إذن إلاّ أن نعرف عنهم أنهم اولئك العلماء الذين لا يجهلون ،

ص: 69

والعدول الذين لا يجورون ، أمّا العدل فلم يحكم منهم أحد غير أمير المؤمنين وشأنه لا يحتاج إلى إيضاح ، وأمّا العلم فآثارهم ناطقة به فتتبع تجد صدق ما قيل ويقال وهذا الكتاب بين يديك رشحة من ذلك العلم الغمر (1).

* * *

ص: 70


1- إن شئت المزيد في بحث الإمامة فارجع إلى رسالتنا المطبوعة « الشيعة والإمامة » ..

من هو الصادق؟

حقّا على الكاتب أن يعطي صورة إجمالية للمترجم له قبل أن يتغلغل في أعماق الترجمة ، لئلاّ يكون غريبا عن القارئ عند قراءته لكلّ فصل من حياته.

وهنا رأيت أن أنقل شطرا من آراء العلماء في كلماتهم عن الصادق جعفر علیه السلام ، لأنها تعبّر عن آراء أجيال في هذه الشخصيّة الكريمة ، وإليك شيئا منها : فهذا الذهبي (1) في ميزان الاعتدال ( 1 : 192 ) يقول عند ذكره للامام : « جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي أبو عبد اللّه أحد الأئمة الأعلام برّ صادق كبير الشأن ».

وممّا قاله النووي (2) في تهذيب الأسماء واللغات ( 1 : 149 - 150 ) : « روى عنه محمّد بن إسحاق ، ويحيى الأنصاري ، ومالك ، والسفيانان ، وابن جريح ، وشعبة ، ويحيى القطّان ، وآخرون ، واتفقوا على إمامته وجلالته وسيادته ، قال عمرو بن أبي المقدام : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنه من سلالة النبيّين ».

ص: 71


1- الحافظ المحدّث شمس الدين أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد بن عثمان الدمشقي المولود عام 673 ، والمتوفى عام 748 ..
2- الحافظ أبو زكريا محي الدين بن شرف الدين المتوفى عام 676 ..

وابن خلكان (1) يقول : « أحد الأئمة الاثنى عشر على مذهب الاماميّة ، وكان من سادات أهل البيت ، ولقّب بالصادق لصدقه في مقالته ، وفضله أشهر من أن يذكر ». وقال : « وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي (2) قد الّف كتابا يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة ، وقال : ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر ، وجدّه زين العابدين ، وعمّ جدّه الحسن بن علي علیهم السلام ، فلله درّه من قبر ما أكرمه وأشرفه ».

والشبلنجي (3) في نور الأبصار ص 131 يقول : « ومناقبه كثيرة تكاد تفوت حدّ الحاسب ، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب » وقال : وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب : وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق ابن محمّد الباقر ، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة ، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله :

لقد عجبوا لآل البيت لما *** أتاهم علمهم في جلد جفر

فمرآة المنجم وهي صغرى *** تريه كلّ عامرة وقفر

وقال محمّد الصبّان (4) في كتابه إسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور

ص: 72


1- أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان ولد بمدينة اربل قرب الموصل وانتقل إلى الموصل وسافر إلى حلب ودخل الديار المصرية وناب في القضاء عن السخاوي ، ثم ولّي القضاء بالشام عشر سنين وتوفي بدمشق عام 681 ، ترجم له في طبقات الشافعيّة : 5 / 14 ، وفي فوات الوفيّات : 1 / 55 ، والسيوطي في حسن المحاضرة : 1 / 267 ، ومعجم المطبوعات : 1 / 98 وغيرها ..
2- سوف نشير في حياته العلميّة إلى علم الصادق علیه السلام بالكيمياء وأخذ جابر عنه وشيء من حياة جابر ..
3- مؤمن بن حسن مؤمن المصري. وشبلنج قرية من قرى مصر ، اشتغل في طلب العلوم في الجامع الأزهر ولد في نيف و 1250 ولم تذكر وفاته ..
4- محمّد بن علي الصبّان الشافعي الحنفي ولد بمصر ، ترجم له في معجم المطبوعات : 2 / 1194 ..

الأبصار ص 208 : « وأمّا جعفر الصادق فكان إماما نبيلا. وقال : وكان مجاب الدعوة إذا سأل اللّه شيئا لا يتمّ قوله إلاّ وهو بين يديه ».

والشعراني (1) في لواقح الأنوار يقول : « وكان سلام اللّه عليه اذا احتاج الى شيء قال : يا ربّاه أنا أحتاج الى كذا ، فما يستتمّ دعاؤه إلاّ وذلك الشيء بجنبه موضوع ».

وسبط ابن الجوزي (2) في تذكرة خواصّ الامّة ص 192 يقول : « قال علماء السير : قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة » وقال : « ومن مكارم أخلاقه ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن الشقراني مولى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : خرج العطاء أيام المنصور ومالي شفيع ، فوقفت على الباب متحيّرا وإذا بجعفر بن محمّد قد أقبل فذكرت له حاجتي ، فدخل وخرج واذا بعطائي في كمّه فناولني إيّاه ، وقال : إن الحسن من كلّ أحد حسن وأنه منك أحسن لمكانك منّا ، وأن القبيح من كلّ أحد قبيح وأنه منك أقبح لمكانك منّا ، وإنما قال له جعفر ذلك لأن الشقراني كان يشرب الشراب ، فمن مكارم أخلاق جعفر أنه رحّب به وقضى له حاجته مع علمه بحاله ، ووعظه على وجه التعريض ، وهذا من أخلاق الأنبياء ».

ومحمّد بن طلحة (3) في مطالب السؤل ص 81 يقول : « وهو من عظماء أهل البيت وساداتهم ذو علوم جمّة ، وعبادة موفرة ، وأوراد متواصلة ، وزهادة

ص: 73


1- أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني دخل القاهرة عام 911 وبها توفى ، ترجم له في معجم المطبوعات : 1 / 1126 ..
2- أبو مظفر شمس الدين يوسف بن قزغلي الواعظ الشهير الحنفي المولود عام 582 أو 581 والمتوفى عام 654 في 21 ذي الحجّة ..
3- كمال الدين الشافعي المتوفى عام 654 ..

بيّنة ، وتلاوة كثيرة ، يتبع معاني القرآن الكريم ، ويستخرج من بحره جواهره ، ويستنتج عجائبه ، ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات ، بحيث يحاسب عليها نفسه ، رؤيته تذكّر الآخرة ، واستماع حديثه يزهد في الدنيا ، والاقتداء بهديه يورث الجنّة ، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة ، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرّيّة الرسالة. وقال : وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوت عدد الحاصر ، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر ، حتّى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها ، تضاف إليه ، وتروى عنه ».

وفي صواعق ابن حجر (1) : « ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ».

وفي ينابيع المودّة (2) طبع اسلامبول ص 380 « ومن أئمة أهل البيت أبو عبد اللّه جعفر الصادق » وقال : « وكان من سادات أهل البيت » وقال : « وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السالمي في طبقات المشايخ الصوفيّة : جعفر الصادق فاق جميع أقرانه من أهل البيت ، وهو ذو علم غزير ، وزهد بالغ في الدنيا ، وورع تامّ في الشهوات ، وأدب كامل في الحكمة ».

وإليك ما يقوله الحافظ أبو نعيم (3) في حلية الأولياء ( 3 : 192 ) : « ومنهم الامام الناطق والزمام السابق ، أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق أقبل على العبادة

ص: 74


1- المحدّث شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي نزيل مكّة ..
2- هي للشيخ سليمان بن إبراهيم المعروف بخواجه كلان ، وكان فراغه من تأليفها تاسع شهر رمضان عام 1291 ..
3- أحمد بن عبد اللّه الاصبهاني المتوفى عام 430 ..

والخضوع ، وآثر العزلة والخشوع ، ونهى (1) عن الرئاسة والجموع » ثم روى عن عمرو بن أبي المقدام كلامه السابق ، وروى عن الهياج بن بسطام (2) قوله : « وكان جعفر بن محمّد يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء ».

ويقول ابن الصبّاغ المالكي (3) في الفصول المهمّة : « كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه ، والقائم بالامامة من بعده برز على جماعته بالفضل وكان أنبههم ذكرا ، وأجلّهم قدرا ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته وذكره في سائر البلدان » ، وقال في أخريات كلامه : « مناقب أبي عبد اللّه جعفر الصادق فاضلة ، وصفاته في الشرف كاملة ، وشرفه على جهات الأيام سائلة ، وأندية المجد والعزّ بمفاخره ومآثره آهلة ».

وهذا السويدي (4) في سبائك الذهب ص 72 يقول : « كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه ، نقل عنه من العلوم ما لم ينقل عن غيره ، وكان إماما في الحديث » وقال : « ومناقبه كثيرة ».

وفي عمدة الطالب (5) ص 184 : « ويقال له عمود الشرف ، ومناقبه متواترة بين الأنام ، مشهورة بين الخاصّ والعامّ ، وقصده المنصور الدوانيقي بالقتل مرارا فعصمه اللّه منه ».

ص: 75


1- هكذا في الأصل وفي كشف الغمّة عن الحلية « ولها » وكلّ منهما يناسب المقام ..
2- التميمي الحنظلي الهروي رحل إلى العراق وسمع علماء عصره ودخل بغداد وحدّث بها ، مات عام 177 ، ترجم له الخطيب البغدادي : 14 / 80 ..
3- نور الدين علي بن محمّد بن الصبّاغ المالكي المولود عام 784 والمتوفى عام 855 ، ترجم له السخاوي في الضوء اللامع : 5 / 283 وذكر مشايخه وكتابه الفصول المهمّة في معرفة الأئمة وهم اثنى عشر ..
4- محمد أمين البغدادي ، وآل السويدي من البيوتات الرفيعة في بغداد حتّى اليوم وهو من رجال القرن الماضي ، وفرغ من كتابه في شوّال عام 1229 ..
5- للنسّابة الشهير جمال الدين أحمد بن علي الداودي الحسني المتوفى عام 828 ..

والشهرستاني (1) في الملل والنحل : « وهو ذو علم غزير في الدين والأدب ، كامل في الحكمة ، وزهد بالغ وورع تامّ في الشهوات ، وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين إليه ، ويفيض على الموالين أسرار العلوم ، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة ما تعرّض للامامة قط (2) ولا نازع أحدا في الخلافة ، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط ، وقيل من آنس باللّه توحّش عن الناس ، ومن استأنس بغير اللّه نهبه الوسواس ».

واليافعي (3) في مرآة الجنان ( 1 : 304 ) فيمن توفي عام 148 ، يقول : « وفيها توفي الامام السيد الجليل سلالة النبوّة ومعدن الفتوّة ، أبو عبد اللّه جعفر الصادق ، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر ، وجدّه زين العابدين وعمّ جده الحسن ابن علي رضوان اللّه عليهم أجمعين ، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام اولي المناقب ، وإنما لقّب بالصادق لصدقه في مقالته ، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها ، وقد الّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتابا يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة ».

والصدوق طاب ثراه (4) يروي في أماليه المجلس ال 42 عن سليمان بن داود

ص: 76


1- أبو الفتح محمّد بن أبي القاسم كان فقيها متكلّما على مذهب الأشعري ، دخل بغداد عام 510 وأقام بها ثلاث سنين وكانت ولادته بشهرستان وبها توفى عام 548 ، ترجم له في الوفيّات ومعجم الادباء وطبقات السبكي وروضات الجنّات ، ومفتاح السعادة وغيرها ..
2- يراد من الامامة هنا الامامة التي يعقدها الناس ، وإلاّ فهو إمام اجتمع عليه الناس أو تفرّقوا ، تعرّض للأمر أو صفح ..
3- أبو محمّد عبد اللّه بن سعد بن علي بن سليمان عفيف الدين اليافعي اليماني نزيل الحرمين المتوفى عام 768 ..
4- محمّد بن علي بن بابويه القميّ المحدّث الجليل صاحب التآليف القيّمة الكثيرة البالغة نحوا من 300 مؤلّف ، وقد ورد بغداد عام 352 وسمع منه شيوخ الطائفة على حداثة سنّه ، ومات بالري عام 381 ..

المنقري (1) عن حفض بن غياث (2) انه كان إذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد علیه السلام قال : « حدّثني خير الجعافرة ».

وروى الصدوق أيضا فيه مسندا عن علي بن غراب (3) انه كان إذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد قال : « حدّثنا الصادق عن اللّه ، جعفر بن محمّد ... ».

وروى أيضا في ال 32 مسندا عن محمّد بن زياد الأزدي (4) قال : سمعت مالك ابن أنس (5) يقول : أدخل الى الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام فيقدّم لي مخدّة ، ويعرف لي قدرا ، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال إمّا صائما وإما قائما وإما ذاكرا ، وكان من عظماء العبّاد واكابر الزهّاد ، الذين يخشون اللّه عزّ وجلّ وكان كثير الحديث ، طيّب المجالسة ، كثير الفوائد ، فإذا قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اخضرّ مرّة ، واصفرّ اخرى ، حتّى ينكره من يعرفه ، ولقد

ص: 77


1- المعروف بابن الشاذكوني وهو ممن روى عن الصادق علیه السلام وعن رواته وكان من ثقات الرواة ..
2- الكوفي القاضي ، وسيأتي في الثقات من مشاهير رواة الصادق علیه السلام ، والظاهر أنه من أهل السنّة ..
3- ابن عبد العزيز وهو ممّن روى عن الصادق علیه السلام واستظهر بعض الرجاليين أنه من أهل السنّة إلاّ أن ابن النديم في الفهرست عدّه من مشايخ الشيعة الذين رووا الفقه عن الأئمة علیهم السلام ..
4- هو المعروف بابن أبي عمير وقد لقي الكاظم والرضا والجواد علیهم السلام ، حبسه الرشيد ليلي القضاء ، وقيل ليدلّه على مواضع الشيعة وأصحاب الكاظم علیه السلام ، وقيل ضرب أسواطا ونالت منه فلم يقر ، وقد رويت عنه كتب مائة رجل من أصحاب الصادق علیه السلام ، وله مصنّفات كثيرة ، وهو ممّن لا يروي إلاّ عن ثقة ، وقد أجمع العصابة على قبول مراسيله ، وهو من العصابة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنهم ، وقد اتفق الفريقان على وثاقته وعلوّ منزلته ، وقيل : إنما قبلوا مراسيله لأنه دفن كتبه يوم حبس فتلفت فروى ما علق منها في ذهنه ، فمن ثمّ قد ينسى الراوي وإن حفظ الرواية ، مات عام 217 ..
5- المدني أوّل المذاهب الأربعة ، وهو ممّن أخذ عن الصادق علیه السلام كما سيأتي في أصحاب الصادق علیه السلام ، وهو مذهب أهل الحجاز والنسبة إليه مالكي ..

حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الاحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه ، وكاد أن يخرّ عن راحلته ، فقلت : يا بن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا بدّ لك من أن تقول ، فقال : يا بن عامر كيف أجسر أن أقول لبّيك اللّهمّ لبّيك ، وأخشى أن يقول عزّ وجل : لا لبّيك ولا سعديك.

وابن شهر اشوب (1) في كتابه المناقب في أحوال الصادق علیه السلام يروي عن مالك بن أنس أيضا قوله : ما رأت عين ولا سمعت اذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلا وعلما وعبادة وورعا ، وزاد الصدوق في أماليه في ال 81 قوله : كان واللّه إذا قال صدق.

وقال أيضا : وذكر أبو القاسم البغار في مسند أبي حنيفة (2) قال الحسن بن زياد : سمعت أبا حنيفة وقد سئل : من أفقه من رأيت؟ قال : جعفر بن محمّد ، لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له مسائلك الشداد ، فهيّأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إليّ أبو جعفر وهو في الحيرة فأتيته فسلّمت عليه ، فأورد إليّ المجلس فجلست ثم التفت إليه فقال : يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة ، قال : نعم أعرفه ، ثمّ التفت إليّ فقال : الق على أبي عبد اللّه من مسائلك ، فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعناكم ، وربما تابعناهم ، وربما خالفنا جميعا ، حتّى أتيت على الأربعين مسألة ، فما أخلّ منها

ص: 78


1- محمّد بن علي المازندراني رشيد الدين من مشايخ الطائفة وفقهائها وكان شاعرا بليغا منشأ وله مصنّفات عديدة منها : معالم العلماء ، وكتاب أنساب آل أبي طالب ، وكتاب مناقب آل أبي طالب ، وهو الذي أشرنا إليه في الأصل ، وكثيرا ما نروي عنه في هذا الكتاب ..
2- النعمان بن ثابت ثاني المذاهب لأهل السنّة وهو أيضا ممّن أخذ عن الصادق علیه السلام ، والنسبة إليه حنفي ، وسيأتي الكلام عليه في أصحاب الصادق علیه السلام ..

بشيء ، ثمّ قال أبو حنيفة : أليس أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.

بل ان المنصور نفسه وهو من علمت كيف يحرّق الارّم (1) على أبي عبد اللّه علیه السلام قد ينطق بالحقّ ، عند ذكره أو مقابلته ، فيقول : هذا الشجي المعترض في حلقي من أعلم الناس في زمانه (2) ويقول أخرى : وإنه ممّن يريد الآخرة.

لا الدنيا (3) ويقول تارة : إنه ليس من أهل بيت نبوّة إلاّ وفيه محدّث ، وإن جعفر بن محمّد محدّثنا اليوم (4) ويقول مخاطبا للصادق علیه السلام : لا نزال من بحرك نغترف ، وإليك نزدلف ، تبصر من العمى ، وتجلو بنورك الطخياء (5) فنحن نعوم في سحاب قدسك ، وطامي بحرك (6) ، ويقول لحاجبه الربيع : وهؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إلاّ جاهل لا حظّ له في الشريعة (7).

ويقول إسماعيل بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس : دخلت على أبي جعفر المنصور يوما وقد اخضلّت لحيته بالدموع ، وقال لي : ما علمت ما نزل بأهلك فقلت : وما ذاك يا أمير المؤمنين ، قال : فإنّ سيّدهم وعالمهم وبقيّة الأخيار منهم توفي ، فقلت ومن هو؟ قال : جعفر بن محمّد ، فقلت : أعظم اللّه أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه ، فقال لي : إن جعفرا كان ممّن قال اللّه فيه « ثمّ اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا » وكان ممّن اصطفى اللّه ، وكان من السابقين في

ص: 79


1- كركع - الأضراس ، ولتولّد الحرارة فيها من حكّ بعضها ببعض يقال يحرقها ، وهو مثل يضرب لمن يبلغ به الغيظ شدّته لأن الحكّ من آثاره ..
2- كتاب الوصيّة للمسعودي ..
3- كشف الغمّة عن تذكرة ابن حمدون : 2 / 209 ..
4- الكافي : باب مولده علیه السلام : 1 / 475 ، وبصائر الدرجات ، والمناقب ، والخرائج والجرائح ..
5- الليلة المظلمة ، ولعلّه كناية عن الأمور المشكلة التي لا يهتدي الناس إلى حلّها ..
6- بحار الأنوار : في أحوال الصادق علیه السلام : 47 / 199 ..
7- مهج الدعوات لابن طاوس : ص 192 ، بحار الأنوار : 47 / 199 ..

الخيرات (1).

هذا وهو المنصور العدوّ الألدّ للصادق ، الذي كان مجاهدا في النيل من كرامته والقضاء عليه.

بل أن الملاحدة على كفرهم وعدائهم للاسلام ورجاله كانوا يعظّمونه ويعترفون له بغزارة العلم ، والميزة بالصفات الروحيّة والملكات القدسيّة ، أمثال ابن المقفّع وابن أبي العوجاء والديصاني وغيرهم ، فهذا ابن المقفع يقول : ترون هذا الخلق - وأومأ بيده الى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له اسم الانسانيّة إلاّ ذلك الشيخ الجالس ، يعني الصادق علیه السلام ، وقال ابن أبي العوجاء : ما هذا ببشر ، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ويتروّح اذا شاء باطنا فهو هذا ، يعني الصادق علیه السلام . (2)

وكان ابن أبي العوجاء اذا سأل أحد أصحاب الصادق علیه السلام عن شيء غامض واستمهله ، ثمّ أتاه بالجواب بعد حين واستحسنه ، قال : هذه نقلت من الحجاز.

وهكذا كان الديصاني مع أصحاب الصادق علیه السلام ، وما يقوله فيم يحملون إليه جوابه.

وهذه قطرة من غيث ممّا نطق به أهل الفضل في شأن الصادق علیه السلام مع اختلاف الزمن والبلد والذوق والرأي في القائلين ، اقدّمها أمام الدخول في حياته التفصيليّة لتعطيك صورة إجماليّة عن هذه الشخصيّة الفذّة ، فإن هذه الكلمات مع وجازتها تعلم القارئ عمّا لأبي عبد اللّه علیه السلام من فضيلة بل فضائل ، وعمّا له من آثار ومآثر.

ص: 80


1- تأريخ اليعقوبي : 3 / 117 ..
2- الكافي : كتاب التوحيد منه ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث : 1 / 74 ..

التقيّة

تمهيد :

مني الامام الصادق علیه السلام من بين الأئمة بمعاصرة الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة ، اللتين حاربتا الشريعة وصاحبها النبيّ الأمين بمطاوعة الشهوات والتفنّن باللذات.

ثمّ تنبغ من بين هاتيك المعازف والقيان وذلك الجور والفجور رجالات البدع والمذاهب ، والآراء والأهواء ، ناصبين فخاخهم لصيد السمعة والصيت حين لا محاسب ولا معاقب ، ولا ناهي ولا آمر ، بل كانت السلطة قد تروّج تلك الاختلافات ، فيما يضعف من مذهب أهل البيت ويقلّل من أنصاره.

ولقد كان أبو عبد اللّه الصادق علیه السلام يشاهد ذلك الصراع القائم بين الدين والحكومتين ، وبين الحقّ وأرباب هاتيك البدع.

فما ذا تراه سيتّخذ من موقف في وسط هذا المحيط المائج؟ أيعلن الحرب على السلطة والبدع وهو يعرف الناس وتخاذلهم عن الحق.

وكم شاهد وسمع من غدرة بعلوي ، ونكثة بهاشمي ، ولا يهمّه ذلك لو كان يصل الى غرضه كما فعل الحسين علیه السلام ، فليست نفسه بأعزّ من الدين عليه ، ولكنه يعلم يقينا بأن ذلك سيقضي على نفيس حياته ، دون أن يسدي إلى الدين نفعا ، ويجرّ له مغنما أو أنه يلتزم الصمت أمام ذلك الصراع وفيه

ص: 81

مسئوليّة كبرى أمام اللّه وأمام صاحب الشريعة فلا بدّ إذن من مخرج لتخليص الدين من هذا الصراع ، مع سلامة نفسه وصفوة رجاله من مخالب تلك الاسود الضارية.

فكانت سياسته الرشيدة في سبيل ذلك نشر العلوم والمعارف وبثّ الأحكام والحكم وافشاء الفضائل ، وكبح الضلالات بالحجّة في ظلّ ( التقيّة ) التي اتّخذ منها جنّة ودريئة لتنفيذ سياسته الحكيمة ، فكانت تعاليمه خدمة للشريعة ، وعباداته إرشادا للناس ، ومناظراته مناهضة للبدع ، فاستقام مجاهدا على ذلك الى أن وافاه الأجل.

فوجب أن نتكلّم عن التقيّة لأجل ذلك في فصل مستقل.

دليل التقيّة :

إن التقيّة من الوقاية ، فهي جنّة تدرأ بها المخاوف والأخطار وموردها الخوف على النفيس من نفس وغيرها.

ودليلها : الكتاب ، والسنّة ، والعقل ، والاجماع عند الشيعة ، أمّا الكتاب فيكفي منه قوله تعالى « لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ويحذّركم اللّه نفسه » (1) فجوّز تعالى للمؤمنين أن يتظاهروا في ولاء الكافرين عند التقيّة والخوف من شرّهم ، الى غيرها من الآيات التي سيرد عليك بعضها.

وأمّا السنّة فما جاء عن أهل البيت وغيرهم أكثر من أن يحصر ، وسنذكر شطرا منه في طيّ هذا المبحث ، وكفى من السنّة ما رواه الفريقان في قصّة عمّار ، حتّى عذره اللّه سبحانه

ص: 82


1- آل عمران : 28 ..

في كتابه العزيز فنزل في حقّه « إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالايمان » (1).

وأمّا إجماع الشيعة على المشروعيّة بل الوجوب فلا نقاش فيه ، لنذكر مصادره ، لأن أمر التقيّة ولزومها عند أهل البيت وشيعتهم لا يختلف فيه اثنان.

وأمّا العقل فلأنه بالبداهة يحكم بوجوب المحافظة على النفس والنفيس ما استطاع المرء إليها سبيلا ، ويمنع من إلقاء النفس بالمهالك ، وقد نهى عن ذلك الكتاب العزيز أيضا فقال تعالى : « ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة » (2) وقال سبحانه « ولا تقتلوا أنفسكم إن اللّه كان بكم رحيما » (3).

وسيرة أرباب العقول جارية على وفق هذا الحكم العقلي ، بل ان غريزة البشر على التقيّة ، فإنك لو حللت بدار قوم يخالفونك في المذهب أو المبدأ السياسي ، وتخشى منهم لو علموا ما أنت عليه لكنت تسرّ ما عندك بطبعك وفطرتك ما استطعت ، من دون أن تعرف حكم العقل أو الشرع في هذا الشأن.

ولو استعرضت تأريخ الاسلام من البدء لوجدت أن التقيّة كانت ضرورة يلتجأ إليها ، فقد أخفى النبي صلی اللّه علیه و آله بدء الدعوة أمره حتّى دعا بني هاشم وأمره اللّه سبحانه أن يصدع بأمره (4) ، وتكتّم المسلمون في إسلامهم قبل ظهوره وانتشاره ، وتستّر أبو طالب في إسلامه ليتسنّى له الدفاع عن الرسول صلی اللّه علیه و آله وليبعد عنه التهمة في دفاعه.

وكيف عاد الأمر عكسا يوم ارتفع منار الإسلام فصار أهل الكفر في مكّة والمدينة يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر.

ص: 83


1- النحل : 106 ..
2- البقرة : 195 ..
3- النساء : 29 ..
4- الحجر : 94 ..

ابتداء التقيّة ومبرّراتها :

ما كانت تقيّة الشيعة مبتدأة من عصر الصادق علیه السلام بل كانت من عهد أمير المؤمنين علیه السلام حتّى أنه كان قد استعمل التقيّة بنفسه في اكثر أيامه ، إنك لتعلم أنه من بدء الخلافة كان يرى أن الخلافة له ، ويراها ثلّة من الناس فيه ، ولكنّه لمّا لم يجد أنصارا وادع وصمت هو وأصحابه ، ولو وجد أربعين ذوي عزم منهم لناهض القوم - على حدّ تعبيره نفسه - وان النّاس حتّى من يخالفه لتعلم أن له رأيه في القوم ومن ثمّ أرادوه للبيعة في الشورى على اتباع سيرة السلف فأبى إلاّ على كتاب اللّه وسنّة رسوله.

وكان يتكتّم كثيرا بما يرى التقيّة في إبدائه حتّى بعد ما صار الأمر إليه لعلمه بأن في الناس من يخالفه ويناوئه ، فلو باح بكلّ ما عنده لم يأمن خلاف الناس عليه ، كيف وقد نكثت طائفة ، وقسطت اخرى ، ومرق آخرون ، فلو صارح بكلّ ما يعلم ويرى لانتقضت عليه أطراف البلاد.

ومع أن الكوفة يغلب عليها الولاء والتشيّع وهي عاصمة ملكه ما استطاع أن يغيّر فيها كلّ ما ورثوه من العهد السابق ، كما لم يطق أن يبوح فيها بكلّ ما يعلم إلاّ القليل ، هذا وهو صاحب السلطتين : الروحيّة والزمنيّة ، فكيف إذن به يوم كان أعزل ، وكيف بأولاده والسطوة والقوّة عليهم.

لم يتّخذوا التقيّة جنّة إلاّ لما يعلمون بما يجنيه عليهم وعلى أوليائهم ذلك الإعلان ، وقد أمر بها أمير المؤمنين قبل بنيه ، فإنه قال في بعض احتجاجاته كما يرويه الطبرسي (1) في الاحتجاج : وآمرك أن تستعمل التقيّة في دينك - إلى أن

ص: 84


1- أحمد بن علي أبي طالب من علماء الطائفة وشيوخهم ، وكتابه الاحتجاج كثير الفوائد جليل النفع ..

يقول - : وتصون بذلك من عرف من أوليائنا واخواننا فإن ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك ، وتنقطع به عن عمل في الدين وصلاح إخوانك المؤمنين ، وإيّاك ثم إيّاك أن تترك التقيّة التي أمرتك بها فإنك شاحط بدمك ودماء إخوانك ، متعرّض لنفسك ولنفسهم للزوال ، مذلّ لهم في أيدي أعداء الدين وقد أمرك اللّه بإعزازهم ، فإنك إن خالفت وصيّتي كان ضررك على إخوانك ونفسك أشدّ من ضرر الناصب لنا الكافر بنا.

فانظر كيف يأمر أمير المؤمنين وليّه بالتقيّة ، ويكشف له عن فوائدها والضرر في خلافها.

ظهر التشيّع والشيعة أيام أمير المؤمنين ، لأن السلطان بيده مرجعه ومآله حتّى عرفتهم أعداؤهم في كلّ مصر وقطر ، فما ذا ترى سيحلّ بهم بعد تقويض سلطانه؟

لقد حاربهم معاوية بكلّ ما اوتي من حول وقوّة وحيلة وخديعة ، فكان من تلك الوسائل سبابه لأبي الحسن وأمره به ليربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير كما يقول هو ، وفي ذلك أيّ حرب لهم و

إذلال ، ثمّ قتل المعروفين من رجالهم ، والمشهورين من أبدالهم وكان أكثرهم بالكوفة فاستعمل عليهم زيادا وضمّ إليه البصرة وهو بهم عارف ، يقول المدائني : فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشرّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم (1).

وأمّا الذين لم يتمكّنوا من الهرب لمعروفيّتهم في البلاد أو هربوا وأدركهم الطلب فكان نصيبهم الموت الأحمر ، أمثال حجر بن عدي وأصحابه ،

ص: 85


1- شرح النهج : 3 / 15 ..

وعمرو بن الحمق وأضرابه.

ويقول العبري في تاريخه ص 87 : وكان معاوية قد أذكى العيون على شيعة علي فقتلهم أين أصابهم.

ويقول الباقر علیه السلام عند ذكرى النوازل بهم وبأوليائهم : وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن علیه السلام فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن ونهب ماله وهدمت داره (1).

كان معاوية يخشى الحسن علیه السلام ، لأن الناس منتظرة لنهضته ، وما ..

صالح معاوية إلاّ على شروط ، منها أن تعود الخلافة إليه بعده ومن ثمّ عاجله بالسمّ ، فالناس طامحة الأنظار لأبي محمّد ، ما دام أبو محمّد في قيد الحياة ومع تلك الرهبة من أبي محمّد وخشيته جانبه كان تلك فعاله ، فكيف حاله مع الشيعة بعد موت الحسن علیه السلام .

ولمّا عاد الأمر ليزيد وابن زياد كانا أقوى في الفتك وأجرأ في السفك من معاوية وزياد ، فقد قتل ابن زياد مسلما وهانيا ورشيدا الهجري وميثما التمّار وفتية شيعيّة ، وملأ من الشيعة ووجوهها السجون ، حتّى بلغت في حبسه اثني عشر ألفا ، ثمّ لحق ذلك حادثة الطف.

وما نسيت هذه المشانق والمرازئ حتّى جاء دور الحجّاج وفتكه ، ولنترك إمامنا الباقر علیه السلام يحدّثنا عن هذا الدور الذي شاهده بنفسه ، فيقول : ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم - يعني الشيعة - كلّ قتلة وأخذهم بكلّ ظنّة وتهمة ، حتّى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال له شيعة علي

ص: 86


1- شرح النهج : 3 / 15 ..

علیه السلام (1).

فكان هذا دأب الأمويّين مع العلويّين وشيعتهم ، وقد عرفت شطر تلك السيرة ممّا سبق.

ولو استطردت أنباء العصر العبّاسي لعلمت أن الدولة العبّاسيّة اقتدت بالامّة الامويّة في سيرتها القاسية مع العلويّة وأوليائهم ، وأمامك ما سلف ممّا حدّثناك به عن الامويّة والعبّاسيّة وما جنتاه على أهل البيت من قسوة واعتداء.

أفيستطيع بعد تلك النوائب والمصائب أن يجهر أهل البيت أو شيعتهم بما يرونه من الدين ومعارضة السلطة في المبدأ والمعتقد والسيرة والعمل؟

بوجدانك أيها البصير ما كنت صانعا لو تمرّ عليك وعلى أتباعك أمثال تلك الوقائع وأتت رائد ومسئول ، أفتغريهم بإعلان ما يجعلهم مجزرة للأعداء وهدفا للناقمين ، أم تحتّم عليهم الكتمان والتستّر هربا من تلك المجازر ، وفرارا من مرارة العذاب والتنكيل؟

واذا كانت العترة أحد الثقلين الذين بهما حفظ الدين ونواميسه تستأصلهم الحراب والحروب فهل يبقى للدين منار مرفوع أو ظلّ ممدود.

إذن لا محيص من التقيّة إذا أرادت العترة ملازمة القرآن وتعليم ما فيه حتّى يردا الحوض معا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإذا أرادوا كشف ما عليه اولئك المسيطرون على الناس من الظلم وبيان ما عليه اولئك المبتدعون في الدين من الضلالة والجهالة.

ولذلك يقول الصادق علیه السلام : التقيّة ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا

ص: 87


1- نفس المصدر ..

تقيّة له ، وإنّ المذيع لأمرنا كالجاحد به ، وقال علیه السلام لجماعة من أصحابه كانوا عنده يحدّثهم : لا تذيعوا أمرنا ولا تحدّثوا به إلاّ أهله فإنّ المذيع علينا سرّنا أشد مؤونة من عدوّنا ، انصرفوا رحمكم اللّه ولا تذيعوا سرّنا (1).

ويقول علیه السلام : نفس المهموم لظلمنا تسبيح ، وهمّه لنا عبادة ، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل اللّه (2).

ويقول علیه السلام لمدرك بن الهزهز (3) : يا مدرك إن أمرنا ليس بقبوله فقط ولكن بصيانته وكتمانه عن غير أهله ، أقرأ أصحابنا السلام ورحمة اللّه وبركاته ، وقل لهم رحم اللّه امرأ اجتر مودّة الناس إلينا فحدّثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون (4).

وكانوا دائبين على تلك الوصايا لأصحابهم حتّى أن جابرا الجعفي الثقة الثبت الراوية عن الباقر والصادق يقول : رويت خمسين ألف حديث ما سمعها أحد مني ، بل قيل كانت سبعين وقيل تسعين ألفا عن الباقر فحسب ولم يحدّث بها أحدا من الناس (5).

ولذلك يقول الصادق علیه السلام للمعلّى بن خنيس : لا تكونوا أسرى في أيدي الناس بحديثنا ، إن شاءوا أمنوا عليكم ، وإن شاءوا قتلوكم. وكان يقول علیه السلام : ما قتل المعلّى إلاّ من جهة إفشائه لحديثنا الصعب (6).

ص: 88


1- بحار الأنوار : 2 / 74 / 42 ..
2- بحار الأنوار : 2 / 64 / 1 ..
3- أو ابن أبي الهزهاز النخعي الكوفي روى عن الصادق علیه السلام وروى عنه الثقات ..
4- بحار الأنوار : 2 / 77 / 62 ..
5- بحار الأنوار : 2 / 69 / 21 - 22 ..
6- بحار الأنوار : 21 / 71 / 34 ..

وما اكثر ما جاء عنه من الردع عن إذاعة سرّهم والإفشاء لحديثهم وأن المذيع له قاتلهم عمدا لا خطأ (1) ، فهذه الأحاديث وغيرها تكشف لك سرّ أمرهم بالتقيّة ، فكأنّهم يعلمون بأن الناس سوف تستهدف الشيعة على التقيّة فأبانوا الوجه في إلزامهم بها واستمرارهم عليها.

أثر التقيّة في خدمة الدين :

وأمّا أثر التقيّة في خدمة الدين والمجتمع الشيعي فلا يكاد يجهل ، فإن الكوفة أيام زياد ضعف فيها التشيّع حتّى لم يبق بها من الشيعة معروف وبلغ الحال بها أيام الحجّاج إلى أن ينسب الرجل إلى الكفر والزندقة أحبّ إليه من أن ينسب إلى التشيّع ، ولكن لم تمض برهة على تشديدهم على الشيعة في اعتزال الناس والسياسة واختفائهم وراء حجب التقيّة حتّى بلغ رواة الصادق علیه السلام أربعة آلاف أو يزيدون كما أحصاهم ابن عقدة ، والشيخ الطوسي طاب ثراه في كتاب الرجال ، والطبرسي في أعلام الورى ، والمحقّق الحلّي في المعتبر ، وكان اكثرهم من أهل الكوفة ، وكان الحسن بن علي الوشاء (2) يقول : لو علمت أن هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإني أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كلّ يقول : حدّثني جعفر بن محمّد علیهماالسلام ، على أن الوشاء لم يدرك من تلك الطبقة إلاّ قليلا.

فهنا تعرف السرّ لما ذا كثرت الرواية عنه علیه السلام ؟ ولما ذا صار منهل العلوم والمعارف ومصدر الأحكام والحكم؟ ولما ذا صار مذهبا لأهل التشيّع؟

ص: 89


1- بحار الأنوار : 2 / 74 / 45 ..
2- البجلي الكوفي من وجوه الطائفة ومن أصحاب الرضا علیه السلام وثقات رواته ، وله كتب ، وله مسائل الرضا علیه السلام ، ترجم له الرجاليّون كلّهم ..

ولما ذا روى عنه حتّى أئمة القوم وأعلامهم ، أمثال مالك وأبي حنيفة والسفيانين وأيوب السختياني وشعبة وابن جريح وغيرهم؟ ، كلّ ذلك لما كان عليه من البعد عن مجتمع الناس الذي يجلب التهمة إليه بطلب الرئاسة والخلافة ، ولتستّره في نشر العلم والأخلاق ، ولو لا ذلك لما ظهرت علومه وفضائله ، ولو لا ذلك لما عرف الناس شأن أهل البيت وحقيقة القرآن وعلوم الدين ، ولو لا ذلك لما وضح ما كان عليه أرباب السلطتين ، ولو لا ذلك لما بادت كثير من الفرق الباطلة ، وقامت الحجّة عليها من ذوي الفقه والكلام ، ولو لا ذلك لما بلغت الشيعة سبعين مليونا ، وحلّت في كلّ صقع واحتلّت كثيرا من البلاد (1).

فمن هاهنا تعرف أثر التقيّة في خدمة الدين والشريعة ، وردّ عوادي الظلم والضلالة ، وتعريف الناس حقائق الايمان ، وبطلان الشبهات والمبتدعات.

فلا أخالك بعد هذا البيان تصغي إلى شيء من الغمز في التقيّة ونسبة الشيعة إلى الباطنيّة من جرّاء ذلك التكتّم في الاعتقاد ، والتستّر في المذاهب.

وما كان هذا الإسهاب إلاّ لرفع النقاب عن محيا الحقيقة لمن يزعم أن التقيّة مجهولة المحاسن ، لأنها حجاب كثيف وعسى أن يكون ما وراء الحجاب ألف عيب وألف نقص ، ومن يتّقي في عقيدته كيف يعرف الناس ما لديه ويرون جمال ما يضمره ، أترى يصحّ هذا الغمز والنبز بعد ما ألمسناك فوائدها ، وأريناك منافعها؟

على أن اليوم بفضل المطابع قد انتشرت علوم الشيعة وعقائدهم ، فأين الكتمان وأين الاتّقاء؟ وما كان الاتّقاء إلاّ في ذلك العهد يوم كانت الشيعة

ص: 90


1- استوفينا البيان عن الشيعة وعددهم وبلدانهم في كتابنا « تاريخ الشيعة » وقد أخرجته المطابع فاقرأه ففيه عن ذلك بلغة ومتعة ..

قليلي العدد والاهبة ، ولو مسحهم السيف لم يبق للبيت وأهله ذكر وعلم وحجّة ورواية ، وأمّا اليوم فهم في جنّة واقية من نشر هاتيك الكتب التي ملأت الخافقين ، ولم تدع عذرا لكاتب وقارىء يزعمان أن مذهب الاماميّة باطنيّا يتستّر بالتقيّة ، لا نعرف مباديه وعقائده ، ولا اصوله وفروعه ، فإن كتبهم بالأيدي ، في كلّ علم وفن ، ومصادرهم مقروّة ومداركهم مبثوثة.

* * *

ص: 91

الصادق والمحن

كفى في امتحان أهل الدين هذا التصارع الدائم بين الدين والدنيا وقلّما ائتلفا في عصر ، ولولاه لما كانت التقيّة ، ولما كانت تلك الفوادح النازلة بساحة أهل البيت.

ليس الصراع بين أهل البيت وبين اميّة والعبّاس غريبا ما دام أهل البيت مثال الدين ، واولئك مثال الدنيا.

يعلم المروانيّون والعبّاسيّون أن الصادق علیه السلام زعيم هذا التصارع ولئن صمت عن مصارعتهم بالحراب فلا يكفيهم أمانا من حربه لهم ، ولربما كان الصمت نفسه أداة الصراع أو هو الصراع نفسه ، فإن السكوت قد يكون جوابا كما يقولون.

فمن ثمّ تجدهم يوجّهون إليه عوادي المحن كلّ حين ، وما كفّهم عن تعاهده بالأذى ذلك الانعزال والانشغال بالعبادة والعلم ، فإن هذا الشغل هو سلاح الحرب ، لأنه ظاهرة الدين وبه تتّجه الأنظار إليه ، وكلّما ارتفع مقام الصادق قويت شوكة الدين ، وإذا قوي الدين انصرع أهل الدنيا.

ولو لا تشاغل الامويّين بالفتن بينهم لما أبقوا على الصادق علیه السلام ، كما لم يبقوا على آبائه ، أجل كأنهم تركوا ذلك إلى أبناء عمّه الأقربين ،

ص: 92

« واولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض »! (1)

كانت أيام السفّاح أربع سنين ، وهذا الزمن لا يكفي لتطهير الأرض من أميّة ، ولبناء اسّ الملك وترسيخ دعائمه ، فلم يشغله ذلك عن الصادق علیه السلام ، فإنه لم يطمئن بعد من أميّة والروح الموالية لهم ، ولم يفرغ من تأسيس ذلك البناء حتّى أرسل على الصادق من المدينة إلى الحيرة ، ليفتك به ، ولكن كفى بالأجل حارسا.

ولما ذا كان الصادق إحدى شعب همّه ، وهو ابن عمّهم الذي اشتغل بالعبادة والتعليم والارشاد ، والذي أخبرهم بما سيحظون به من الملك دون بني الحسن ، وقد كانوا بأضيق من جحر الضب من بني أميّة ، وأقلق من الريشة في مهبّ الريح خوفا منهم.

ما كان يدفع السفّاح على ذلك العمل الشائن إلاّ ما قلناه من ذلك الصراع حذرا من أن يتّجه الناس إلى الصادق علیه السلام ، ويعرفوا منزلته ، والناس إلى ذلك العهد كانت ترى أن الخلافة مجمع السلطتين الروحيّة والزمنيّة ، ولا تراها سلطانا خالصا لا علاقة لها بالدين ، فلا يصرف الناس عن الصادق أنه رجل الدين الخالص ، بل أن هذا ادّعى عند بعض الناس للامامة ، ليكونوا منه في أمان على دنياهم ، كما هم في أمان على دينهم.

وبذلك الحذر وقف المنصور بمرصد للصادق علیه السلام ، فشاهد علیه السلام منه ضروب الآلام والمكاره ، وما كفّ ولا عفّ عنه حتّى أذاقه السمّ.

ولا عجب ممّا كان يلاقيه أبو عبد اللّه علیه السلام من تلك المكاره ، فإنّ

ص: 93


1- الأنفال : 75 ..

محن المرء على قدر ما له من فضيلة وكرامة ، وعلى قدر مقامه بين الناس وطموحه إلى الرتب العالية.

كان بين ولاية المنصور ووفاة الصادق علیه السلام اثنتا عشرة سنة لم يجد الصادق فيها راحة ولا هدوء على ما بينهما من البعد الشاسع ، الصادق في الحجاز ، والمنصور في العراق ، وكان يتعاهده بالأذى ، كما يتعاهد المحبّ حبيبه بالطرف والتحف.

يقول ابن طاوس أبو القاسم علي طاب ثراه (1) في كتاب « مهج الدعوات » في باب دعوات الصادق علیه السلام : إن المنصور دعا الصادق سبع مرّات كان بعضها في المدينة والربذة حين حجّ المنصور ، وبعضها يرسل إليه إلى الكوفة وبعضها إلى بغداد ، وما كان يرسل عليه مرّة إلاّ ويريد فيها قتله ، هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول ، ونحن نذكرها بالتفصيل :

الاولى : روى ابن طاوس عن الربيع حاجب المنصور قال : لما حجّ المنصور (2) وصار بالمدينة سهر ليلة فدعاني فقال : يا ربيع انطلق في وقتك هذا على أخفض جناح وألين مسير ، وإن استطعت أن تكون وحدك فافعل حتّى يأتي أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد فقل له : هذا ابن عمّك يقرأ عليك السّلام ويقول

ص: 94


1- رضيّ الدين أبو القاسم علي بن موسى الحسني الحلّي من آل طاوس جمع بين العلم والعبادة والزهادة وبين الشعر والأدب والانشاء والبلاغة ، تنسب إليه الكرامات العالية ، وقيل : إنه كان أعبد أهل زمانه وأزهدهم ، وعن العلاّمة الحلّي في بعض إجازاته وهو ممّن روى عنه ، يقول عند ذكره : وكان رضيّ الدين علي صاحب كرامات حكي بعضها وروى لي والدي البعض الآخر ، وكان أزهد أهل زمانه ..
2- حجّ المنصور أيّام الصادق علیه السلام ثلاث مرّات عام 140 و 144 و 147 وبعد وفاة الصادق مرّتين عام 152 وعام 158 فلم يتمّ الحجّ ، انظر تاريخ اليعقوبي : 3 / 122 طبع النجف ، والذي يظهر أن المنصور في كلّ مرّة من الثلاث يأمر بجلب الصادق علیه السلام ..

لك : إن الدار وإن نأت والحال وإن اختلفت فإنّا نرجع إلى رحم أمسّ من يمين بشمال ، ونعل بقبال (1) وهو يسألك المصير إليه في وقتك هذا ، فإن سمح بالمصير معك فأوطئه خدّك ، وإن امتنع بعذر أو غيره فاردد الأمر إليه في ذلك ، وإن أمرك بالمصير إليه في تأنّ فيسّر ولا تعسّر ، واقبل العفو ولا تعنف في قول ولا فعل ، قال الربيع : فصرت إلى بابه فوجدته في دار خلوته فدخلت عليه من غير استئذان ، فوجدته معفّرا خدّيه مبتهلا بظهر كفّيه قد أثّر التراب في وجهه وخدّيه ، فأكبرت أن أقول شيئا حتّى فرغ من صلاته ودعائه ، ثم انصرف بوجهه فقلت : السّلام عليك يا أبا عبد اللّه فقال : وعليك السّلام يا أخي ، ما جاء بك ، فقلت : ابن عمّك يقرأ عليك السّلام ، حتّى بلغت إلى آخر الكلام ، فقال : ويحك يا ربيع « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم » (2) ويحك يا ربيع « أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ، أفأمنوا مكر اللّه فلا يأمن مكر اللّه إلاّ القوم الخاسرون » (3) قرأت على أمير المؤمنين السّلام ورحمة اللّه وبركاته ، ثمّ أقبل على صلاته ، وانصرف إلى توجّهه ، فقلت : هل بعد السّلام من مستعتب أو اجابة ، فقال : نعم ، قل له : « أفرأيت الذي تولّى ، وأعطى قليلا واكدى ، أعنده علم الغيب فهو يرى ، أم لم ينبّأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفّى ، ألاّ تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للانسان إلا ما سعى ، وأنّ سعيه سوف يرى » (4) إنّا واللّه

ص: 95


1- بالكسر زمام بين الاصبع الوسطى والتي يليها ..
2- الحديد : 15 ..
3- الأعراف : 97 - 99 ..
4- النجم : 33 - 40 ، وأن هذه الآيات فيها تذكير ووعظ وتهديد ، وأن الانسان مقرون بعمله ولا يؤاخذ بغير وزره .

يا أمير المؤمنين قد خفناك وخافت بخوفنا النسوة اللاّتي أنت أعلم بهنّ ، ولا بدّ لنا من الايضاح به (1) فإن كففت وإلاّ أجرينا اسمك على اللّه عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات (2) وأنت حدّثتنا عن أبيك عن جدّك أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : أربع دعوات لا يحجبن عن اللّه تعالى : دعاء الوالد لولده ، والأخ بظهر الغيب لأخيه ، والمخلص ...

قال الربيع : فما استتمّ الكلام حتّى أتت رسل المنصور تقفوا أثري وتعلم خبري فرجعت فأخبرته بما كان فبكى ، ثمّ قال : ارجع إليه وقل له : الأمر في لقائك إليك والجلوس عنّا ، وأمّا النسوة اللاّتي ذكرتهنّ فعليهنّ السّلام فقد آمن اللّه روعتهنّ وجلى همّهنّ ، قال : فرجعت إليه فأخبرته بما قال المنصور فقال : قل له : وصلت رحما ، وجزيت خيرا ، ثمّ اغرورقت عيناه حتّى قطر من الدموع في حجره قطرات.

ثمّ قال : يا ربيع إن هذه الدنيا وان أمتعت ببهجتها ، وغرّت بزبرجها (3) فقلت : يا أبا عبد اللّه أسألك بكلّ حقّ بينك وبين اللّه جلّ وعلا إلاّ عرفتني ما ابتهلت به إلى ربّك تعالى ، وجعلته حاجزا بينك وبين حذرك وخوفك فلعلّ اللّه يجبر بدوائك كسيرا ، ويغني به فقيرا ، واللّه ما اعني غير نفسي ، قال الربيع : فرفع يده وأقبل على مسجده كارها أن يتلو الدعاء صفحا ، ولا يحضر ذلك بنيّة ، فقال : قل : اللّهمّ إني أسألك يا مدرك الهاربين ، ويا ملجأ الخائفين ، الدعاء. (4)

ص: 96


1- أحسبه يريد أنه لا بدّ من الافصاح بحقيقة الحال .
2- يريد أنه يدعو عليه بعد كلّ صلاة ، ويكون من دعاء المظلوم الذي لا يحجب .
3- سوف نذكرها في المختار من كلامه في باب مواعظه .
4- ذكرنا هذه الأدعية التي في هذا الفصل كلّها فيما جمعناه من دعاء الصادق علیه السلام فإنّا لمّارأينا أن أدعيته في هذا الفصل طويلة وكثيرة آثرنا جمعها مع ما ظفرنا به من أدعيته الأخر وجعلناها كتابا مفردا وسمّيناه دعاء الصادق وقد اجتمع لدينا حتّى اليوم ما يناهز 400 صفحة بقطع هذا الكتاب .

ليس في استدعاء المنصور للصادق علیه السلام في هذه الدفعة ظاهرة سوء ، فما الذي أقلق أبا عبد اللّه وروع نساءه ، وجعله يتوسّل إلى اللّه تعالى في كفّ شرّ المنصور ، إن أبا عبد اللّه أبصر بقومه وأدرى بنواياهم ، ومن الدفعات الآتية تتّضح لك جليّا مقاصد المنصور مع الصادق علیه السلام ، وأنه ما كان يقصد من هذا الإرسال إلاّ السوء.

الثانية : وروى ابن طاوس عن الربيع أيضا ، قال حججت مع أبي جعفر المنصور فلمّا صرت في بعض الطريق قال لي المنصور : يا ربيع إذا نزلت المدينة فاذكر لي جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي علیهم السلام فو اللّه العظيم لا يقتله أحد غيري ، احذر أن تدع أن تذكّرني به ، قال : فلمّا صرنا إلى المدينة أنساني اللّه عزّ وجل ذكره ، فلم صرنا إلى مكّة قال لي : يا ربيع ألم آمرك أن تذكّرني بجعفر بن محمّد إذا دخلنا المدينة ، قال : فقلت : نسيت يا مولاي يا أمير المؤمنين ، فقال لي : فاذا رجعنا إلى المدينة فذكّرني به فلا بدّ من قتله ، فإن لم تفعل لأضربنّ عنقك ، قال : فقلت له : نعم يا أمير المؤمنين ، ثم قلت لأصحابي وغلماني : ذكّروني بجعفر بن محمّد إذا دخلنا المدينة إن شاء اللّه قال : فلم يزل أصحابي وغلماني يذكّروني به في كلّ منزل ندخله وننزل فيه حتّى قدمنا المدينة ، فلمّا نزلنا المدينة دخلت الى المنصور فوقفت بين يديه وقلت : يا أمير المؤمنين جعفر بن محمّد ، قال : فضحك وقال لي : نعم اذهب يا ربيع فأتني به ولا تأتني به إلاّ مسحوبا ، قال : فقلت له : يا مولاي حبّا وكرامة ، وأنا أفعل ذلك طاعة

ص: 97

لأمرك ، قال : ثمّ نهضت وأنا في حال عظيم من ارتكابي ذلك ، قال : فأتيت الامام الصادق جعفر بن محمّد علیهماالسلام وهو جالس في وسط داره ، فقلت له جعلت فداك : إن أمير المؤمنين يدعوك إليه ، فقال : السمع والطاعة ، ثمّ نهض وهو معي يمشي ، قال : فقلت له : يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنه أمرني ألاّ آتيه بك إلاّ مسحوبا ، قال : فقال الصادق علیه السلام : امتثل يا ربيع ما أمرك به ، قال الربيع : فأخذت بطرف كمّه أسوقه ، فلمّا أدخلته عليه رأيته وهو جالس على سريره وفي يده عمود من حديد يريد أن يقتله به ، ونظرت الى جعفر بن محمّد يحرّك شفتيه فلم أشكّ أنه قاتله ، ولم أفهم الكلام الذي كان جعفر بن محمّد يحرّك به شفتيه ، فوقفت أنظر إليهما ، قال الربيع : فلمّا قرب منه جعفر بن محمّد قال له المنصور : ادن مني يا ابن عمّي ، وتهلّل وجهه ، وقرّبه حتّى أجلسه معه على السرير ، ثمّ قال : يا غلام ائتني بالحقّة ، فأتاه بالحقّة وفيها قدح الغالية فغلفه (1) منها ، ثمّ حمله على بغلة وأمر له ببدرة وخلعة ثمّ أمره بالانصراف ، قال : فلمّا نهض من عنده خرجت بين يديه حتّى وصل الى منزله ، فقلت له : بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إني لم أشكّ فيه ساعة تدخل عليه أنه يقتلك ، ورأيتك تحرّك شفتيك في وقت دخولك عليه فما قلت؟ قال لي : نعم يا ربيع اعلم أني قلت : حسبي الربّ من المربوبين ، حسبي الخالق من المخلوقين ، الدعاء.

الثالثة : قال ابن طاوس في استدعائه مرّة ثالثة بالربذة (2) : يقول مخرمة

ص: 98


1- أي غطّاه وغشّاه بها مبالغة في كثرة ما وضع عليه من الغالية ..
2- أرض بين مكّة والمدينة كان فيها مسكن أبي ذر قبل إسلامه وإليها منفاه ، وفيها موته ومدفنه ، رضی اللّه عنه ..

الكندي : لمّا نزل أبو جعفر المنصور الربذة وجعفر بن محمّد علیه السلام يومئذ بها ، قال : من يعذرني من جعفر هذا ، يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى يقول : انتجى (1) عن محمّد (2) فإن يظفر فإن الأمر لي وإن تكن الاخرى فكنت قد أحرزت (3) نفسي ، أما واللّه لأقتلنّه ، ثمّ التفت الى إبراهيم بن جبلة فقال : يا ابن جبلة قم إليه فضع في عنقه ثيابه ثم ائتني به سحبا ، قال إبراهيم : فخرجت حتّى أتيت منزله فلم أصبه ، فطلبته في مسجد أبي ذر فوجدته على باب المسجد ، قال : فاستحييت أن أفعل ما امرت به ، فأخذت بكمّه فقلت : أجب أمير المؤمنين ، فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، دعني حتّى اصلّي ركعتين ثمّ بكى بكاء شديدا وأنا خلفه ، ثمّ قال : اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ورجائي في كلّ شدّة. الدعاء ، ثمّ قال : اصنع ما امرت به ، فقلت : واللّه لا أفعل ولو ظننت أني اقتل ، فذهبت به لا واللّه ما أشكّ إلاّ أنه يقتله قال : فلمّا انتهيت الى باب الستر قال : يا إله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وإله إبراهيم وإسحاق ومحمّد صلی اللّه علیه و آله تولّ في هذه الغداة عافيتي ولا تسلّط عليّ أحدا من خلقك بشيء لا طاقة لي به ، قال إبراهيم : ثمّ أدخلته عليه ، قال : فاستوى جالسا ، ثمّ أعاد عليه الكلام ، فقال : قدّمت رجلا وأخّرت أخرى ، أما واللّه لأقتلنّك ، فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلت فارفق بي لقلّما أصحبك ، فقال له أبو جعفر : انصرف ، قال : ثمّ التفت الى عيسى بن علي (4) فقال : يا أبا العبّاس الحقه فاسأله أبي أم به ، قال : فخرج يشتدّ حتّى لحقه ،

ص: 99


1- اتخلّص ، وفي نسخة أتنحّى وكلاهما يناسب المقام ..
2- ابن عبد اللّه بن الحسن وينبغي أن تكون هذه الحجّة عام 144 قبل خروج محمّد ، ولعلّ الاولتين كانتا عام 140 و 147 ، ولا يلزم من ترتيب بيان الشريف ابن طاوس أن يكون على ترتيب السنين ، لا سيّما وهو لم يتعرّض لسنة الحجّ متى كانت ..
3- حفظت ..
4- ابن عبد اللّه بن العبّاس وهو عمّ المنصور ..

فقال : يا أبا عبد اللّه إن أمير المؤمنين يقول لك : أبك أم به؟ فقال : لا بل بي ، فقال أبو جعفر : صدق (1).

قال إبراهيم بن جبلة : ثمّ خرجت فوجدته قاعدا ينتظرني يتشكّر لي صنيعي به واذا به يحمد اللّه ويقول : الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وإن كنت بطيئا حين يدعوني ، الدعاء.

الرابعة : يقول الشريف ابن طاوس : إن هذه المرّة الرابعة هي التي استدعاه بها الى الكوفة ، قال : يقول الفضل بن الربيع بعد أن ذكر سند الرواية إليه : قال أبي الربيع : بعث المنصور إبراهيم بن جبلة الى المدينة ليشخّص جعفر بن محمّد ، فحدّثني إبراهيم بعد قدومه بجعفر أنه لمّا دخل إليه فخبّره برسالة المنصور سمعته يقول : اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدّة ، الدعاء.

فلمّا قدّموا راحلته وخرج ليركب سمعته يقول : اللّهمّ بك أستفتح وبك أستنجح ، الدعاء ، قال : فلمّا دخلنا الكوفة نزل فصلّى ركعتين ثمّ رفع يده الى السماء فقال : اللّهمّ ربّ السموات وما أظلّت وربّ الأرضين السبع وما أقلّت ، الدعاء ، قال الربيع : فلمّا وافى الى حضرة المنصور دخلت فأخبرته بقدوم جعفر وإبراهيم فدعا المسيّب بن زهير الضبي فدفع إليه سيفا وقال له : اذا دخل جعفر بن محمّد فخاطبته وأومأت إليه فاضرب عنقه ولا تستأمر (2) ، فخرجت إليه وكان صديقا الاقيه واعاشره اذا حججت فقلت : يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه

ص: 100


1- إن هذا الكلام ظاهر في أنه بالقرب من وفاة الصادق علیه السلام فتكون الحجّة عام 147 ، إلاّ أن تصريحه أولا في أن كلامه كان قبل خروج محمّد يعيّن أن تكون الحجّة عام 144 ، ومن الغريب أن يصدّق المنصور كلام الصادق بعد أن يسأله أن البدأة بمن ، وهو يلاقيه بما يلاقيه من سوء ومكروه ..
2- بالبناء للفاعل أي لا تشاور ..

عليه وآله إن هذا الجبّار قد أمر فيك بأمر اكره أن ألقاك به فإن كان في نفسك شيء تقوله وتوصيني به ، فقال : لا يروعك ذلك فلو قد رآني لزال ذلك كلّه ، ثمّ أخذ بمجامع الستر فقال : يا إله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ، وإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمّد صلی اللّه علیه و آله تولّني في هذه الغداة ولا تسلّط عليّ أحدا من خلقك بشيء لا طاقة لي به ، ثمّ دخل فحرّك شفتيه بشيء لم أفهمه ، فنظرت إلى المنصور فما شبّهته إلاّ بنار صبّ عليها ماء فخمدت ، ثمّ جعل يسكن غضبه حتّى دنا منه جعفر بن محمّد علیهماالسلام وصار مع سريره ، فوثب المنصور ، وأخذ بيده ورفعه على سريره ، ثمّ قال له يا أبا عبد اللّه يعزّ عليّ تعبك ، وإنما أحضرتك لأشكو إليك أهلك قطعوا رحمي ، وطعنوا في ديني ، وألّبوا الناس عليّ ، ولو ولّي هذا الأمر غيري ممّن هو أبعد رحما مني لسمعوا له وأطاعوا ، فقال له جعفر علیه السلام : فأين يعدل بك عن سلفك الصالح أن أيّوب علیه السلام ابتلي فصبر ، وأن يوسف علیه السلام ظلم فغفر ، وأن سليمان علیه السلام اعطي فشكر ، فقال المنصور : قد صبرت وغفرت وشكرت.

ثمّ قال : يا أبا عبد اللّه حدّثنا حديثا كنت سمعته منك في صلة الأرحام قال : نعم سمعت أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : البرّ وصلة الأرحام عمارة الديار وزيادة الأعمار ، قال : ليس هذا هو ، قال : حدّثني أبي عن جدّي ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من أحبّ أن ينسأ (1) في أجله ، ويعافى في بدنه ، فليصل رحمه ، قال : ليس هذا هو ، قال : نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : رأيت رحما متعلّقة بالعرش تشكو إلى اللّه عزّ وجل قاطعها فقلت : يا جبرئيل وكم بينهم؟ قال : سبعة آباء ،

ص: 101


1- يؤخّر ..

فقال : ليس هذا هو ، قال : نعم حدّثني أبي عن جدّي قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : احتضر رجل بارّ في جواره رجل عاق ، فقال اللّه عزّ وجل لملك الموت : يا ملك الموت كم بقي من أجل العاق؟ قال : ثلاثون سنة قال : حوّلها إلى هذا البار (1) فقال المنصور : يا غلام ائتني بالغالية ، فأتاه بها فجعل يغلفه بيده ، ثمّ دفع إليه أربعة آلاف دينار ، ودعا بدابته فأتى بها فجعل يقول : قدّم قدّم ، إلى أن أتي بها عند سريره فركب جعفر بن محمّد علیهماالسلام وغذوت بين يديه ، فسمعته يقول : الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني. الدعاء ، فقلت : يا ابن رسول اللّه إن هذا الجبّار يعرضني على السيف كلّ قليل ، ولقد دعا المسيّب بن زهير فدفع إليه سيفا وأمره أن يضرب عنقك وأني رأيتك تحرّك شفتيك حين دخلت بشيء لم أفهمه عنك ، فقال : ليس هذا موضعه فرحت إليه عشيّا ، قال : نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا الّبت عليه اليهود وفزارة وغطفان وهو قوله تبارك وتعالى « إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون باللّه الظنونا » (2) وكان ذلك اليوم أغلظ يوم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجعل يدخل ويخرج وينظر إلى السماء فيقول : ضيقي تتّسعي ، ثمّ خرج في بعض الليل فرأى شخصا فقال لحذيفة : انظر من هذا ، فقال : يا رسول اللّه هذا عليّ بن أبي طالب ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يا أبا الحسن أما خشيت أن تقع عليك عين ، قال : وهبت نفسي لله ولرسوله وخرجت حارسا للمسلمين في هذه الليلة ، فما انقضى كلامهما حتّى نزل جبرئيل ، قال : يا محمّد إن اللّه يقرأ عليك السّلام

ص: 102


1- لا يخفى على الصادق علیه السلام الحديث الذي أراده المنصور ، وإنما كثر عليه أحاديث الرحم ، ليعرّفه موقفه من ذوي رحمه ..
2- الأحزاب : 10 ..

ويقول لك : قد رأيت موقف علي منذ الليلة وأهديت إليه من مكنون علمي كلمات لا يتعوّذ بها عند شيطان مارد ، ولا سلطان جائر ، ولا حرق ولا غرق ، ولا هدم ولا ردم ، ولا سبع ضار ، ولا لصّ ، إلاّ آمنه اللّه من ذلك ، وهو أن يقول : اللّهمّ احرسنا بعينك التي لا تنام ... الدعاء.

الخامسة : وقد استدعاه بها المنصور إلى بغداد قبل قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن (1) روى ذلك الشريف رضيّ الدين بسنده عن محمّد بن الربيع الحاجب ، قال : قعد المنصور يوما في قصره بالقبّة الخضراء ، وكانت قبل قتل محمّد وإبراهيم تدعى الحمراء ، وكان له يوم يقعد فيه ويسمّى ذلك اليوم يوم الذبح ، وقد كان أشخص جعفر بن محمّد من المدينة ، فلم يزل في الحمراء نهاره كلّه حتّى جاء الليل ومضى اكثره قال : ثمّ دعا الربيع فقال له : يا ربيع إنك تعرف موضعك مني وأنه يكون بي الخير ولا تظهر عليه امّهات الأولاد وتكون أنت المعالج له ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين ذلك فضل اللّه عليّ وفضل أمير المؤمنين وما فوقي في النصح غاية ، قال : كذلك أنت صر الساعة إلى جعفر بن محمّد بن فاطمة فائتني به على الحال التي تجده فيها لا تغيّر شيئا ممّا عليه ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هذا واللّه هو العطب ، إن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة ، وإن لم أذهب في أمره قتلني وقتل نسلي وأخذ أموالي ، فميّزت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي إلى الدنيا ، قال محمّد بن الربيع : فدعاني أبي وكنت أفظّ ولده وأغلظهم قلبا ، فقال لي : امض إلى

ص: 103


1- كان قتلهما عام 145 ، وانتقال المنصور إلى بغداد عام 146 ، فلا وجه لأن يكون استدعاؤه إلى بغداد قبل قتلهما ، فإما أن يكون إلى الكوفة والغلط من النسّاخ أو الراوي ، أو الاستدعاء بعد قتلهما ..

جعفر بن محمّد فتسلّق عليه حائطه ولا تستفتح عليه بابه فيغيّر بعض ما هو عليه ولكن انزل عليه نزلا ، فأت به على الحال التي هو فيها ، قال : فأتيته وقد ذهب الليل إلاّ أقلّه ، فأمرت بنصب السلاليم وتسلّقت عليه الحائط ونزلت داره فوجدته قائما يصلّي وعليه قميص ومنديل وقد ائتزر به ، فلما سلّم من صلاته قلت : أجب أمير المؤمنين فقال : دعنى أدعو وألبس ثيابي ، فقلت : ليس إلى ذلك من سبيل ، قال لي : فأدخل المغتسل فأتطهّر ، قال : قلت : وليس إلى ذلك أيضا سبيل ، فلا تشغل نفسك فإني لا أدعك تغيّر شيئا ، قال : فأخرجته حافيا حاسرا في قميصه ومنديله ، وكان قد جاوز السبعين (1) فلمّا مضى بعض الطريق ضعف الشيخ فرحمته فقلت له : اركب ، فركب بغل شاكري (2) كان معنا ، ثمّ صرنا إلى الربيع فسمعته وهو يقول : ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل ويستحثّه استحثاثا شديدا ، فلمّا أن وقعت عين الربيع على جعفر وهو بتلك الحال بكى ، وكان الربيع يتشيّع ، فقال له جعفر علیه السلام : يا ربيع أنا أعلم ميلك إلينا فدعنى أصلّي ركعتين وأدعوا ، قال : شأنك وما تشاء ، فصلّى ركعتين خفّفهما ثمّ دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه إلاّ أنه دعاء طويل ، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الربيع ، فلمّا فرغ من دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعه فأدخله على المنصور فلمّا صار في صحن الايوان وقف ثمّ حرّك شفتيه بشيء ما أدري ما هو ، ثمّ أدخلته فوقف بين يديه ، فلمّا نظر إليه قال : وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل هذا البيت من بني العبّاس وما يزيدك اللّه بذلك إلاّ شدّة حسد ونكد ، ما تبلغ به ما تقدره ، فقال له : واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا من

ص: 104


1- لم يتجاوز الصادق السبعين عاما وإنما كان حدسا من محمّد ، وأحسبه لما كان يشاهده من ضعفه ..
2- أجير ومستخدم ..

ذلك ، هذا ولقد كنت في ولاية بني اميّة وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم ، وأنهم لا حقّ لهم في هذا الأمر فو اللّه ما بغيت عليهم ، ولا بلغهم عنّي مع جفائهم الذي كان لي ، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمّي وأمسّ الخلق بي رحما ، واكثرهم عطاء وبرّا ، فكيف أفعل هذا ، فأطرق المنصور ساعة ، وكان على لبد (1) وعن يساره مرفقة خز معانيّة (2) وتحت لبده سيف ذو الفقار (3) كان لا يفارقه إذا قعد في القبّة ، فقال : أبطلت وأثمت ، ثمّ رفع ثنيّ الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه ، وقال : هذه كتبك إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني ، فقال : واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي ، واني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال ، وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّى قريب ، فقال : لا ولا كرامة ، ثمّ أطرق وضرب يده على السيف فسلّ منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه ، فقلت : انّا لله ذهب واللّه الرجل ، ثمّ ردّ السّيف وقال : يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشقّ عصى المسلمين ، تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعيّة والأولياء ، فقال : لا واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطّي ولا خاتمي ، فانتضى من السيف ذراعا ، فقلت : إنا لله مضى الرجل وجعلت في نفسي إن أمرني فيه بأمر أن أعصيه ، لأني ظننت أنه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفرا ، فقلت إن أمرني ضربت المنصور وإن أتى ذلك عليّ وعلى ولدي وتبت إلى اللّه عزّ وجل ممّا كنت نويت فيه أولا ، فما

ص: 105


1- لعلّه بساط من صوف ..
2- ظاهر في النسبة إلى معان ..
3- الفقار خرزات الظهر ، ويسمّى السيف بذي الفقار اذا كان في متنه حزوز تشبه فقار الظهر ..

زال يعاتبه وجعفر يعتذر إليه ، ثمّ انتضى السيف كلّه إلاّ شيئا يسيرا منه ، فقلت : إنا لله مضى واللّه الرجل ، ثمّ أغمد السيف وأطرق ساعة ، ثمّ رفع رأسه وقال له : اظنّك صادقا ، يا ربيع هات العيبة من موضع فيه في القبّة ، فأتيت بها ، فقال : ادخل يدك فيها وكانت مملوءة غالية وضعها في لحيته ، وكانت بيضاء فاسودّت ، وقال لي : احمله على فاره من دوابي التي أركبها واعطه عشرة آلاف درهم وشيّعه إلى منزله مكرّما وخيّره إذا أتيت به المنزل بين المقام عندنا فنكرمه ، أو الانصراف إلى مدينة جدّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح لسلامة جعفر علیه السلام ومتعجّب ممّا أراده المنصور وما صار إليه من كفايته ودفاعه ، ولا عجب من أمر اللّه عزّ وجل فلمّا صرنا في الصحن قلت : يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا عجب ممّا عمل عليه هذا في بابك ، وما أصارك اللّه إليه من كفايته ودفاعه ، ولا عجب من أمر اللّه عزّ وجل ، وقد سمعتك تدعو عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إلاّ أنه طويل ، ورأيتك حرّكت شفتيك هاهنا اعني الصحن بشيء لم أدر ما هو ، فقال لي : أمّا الأوّل فدعاء الكرب والشدائد ، لم أدع به على أحد قبل يومئذ ، جعلته عوضا ، من دعاء كثير أدعو به إذا قضيت صلاتي ، لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به ، وأمّا الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم الأحزاب ، حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لمّا كان يوم الأحزاب كانت المدينة كالاكليل من جنود المشركين وكانوا كما قال اللّه عزّ وجل : « إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم » (1) ثمّ ذكر الدعاء ، ثمّ قال : لو لا الخوف من أمير المؤمنين

ص: 106


1- الأحزاب : 10 ..

لرفعت إليك هذا المال ، ولكن قد كنت طلبت منّي أرضي بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار فلم أبعك وقد وهبتها لك ، قلت : يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنما رغبتي في الدعاء الأوّل والثاني ، فاذا فعلت هذا فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض ، فقال لي : إنّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا ، نحن ننسخك الدعاء ونسلم إليك الأرض صر معي إلى المنزل فصرت معه كما تقدّم المنصور به ، وكتب لي بعهد الأرض وأملى عليّ دعاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأملى عليّ الذي دعاه بعد الركعتين ثمّ قال : فقلت : يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقد كثر استحثاث المنصور واستعجاله إيّاي وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهّلا كأنّك لم تخفه ، قال : فقال لى : نعم قد كنت أدعو بعد صلاة الفجر بدعاء لا بدّ منه ، فأمّا الركعتان فهما صلاة الغداة خفّفتهما ودعوت بذلك الدعاء بعدهما ، فقلت له : ما خفت أبا جعفر وقد أعدّ لك ما أعدّ ، قال : ما أعدّ! خيفة اللّه دون خيفته ، وكان اللّه عزّ وجل في صدري أعظم. منه ، قال الربيع : كان في قلبي ما رأيت من المنصور ومن غضبه وحنقه على جعفر ومن الجلالة في اتساعه ما لم أظنّه يكون في بشر ، فلمّا وجدت منه خلوة وطيب نفس قلت : يا أمير المؤمنين رأيت منك عجبا ، قال : ما هو؟ قلت : يا أمير المؤمنين رأيت غضبك على جعفر غضبا لم أرك غضبته على أحد قط ، ولا على عبد اللّه بن الحسن ولا على غيره من كلّ الناس حتّى بلغ بك الأمر أن تقتله بالسيف وحتّى أنك أخرجت من سيفك شبرا ثمّ أغمدته ، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجت منه ذراعا ، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجته كلّه إلاّ شيئا يسيرا ، فلم أشكّ في قتلك له ، ثمّ انحلّ ذلك كلّه ، فعاد رضى حتّى أمرتني فسوّدت لحيته بالغالية التي لا يتغلّف منها إلاّ أنت ولا تغلّف منها ولدك المهدي ولا من ولّيته عهدك ، ولا عمومتك ، وأجزته وحملته وأمرتني بتشييعه مكرما ، فقال : ويحك يا ربيع ، ليس هو ممّا ينبغي أن

ص: 107

تحدّث به وستره أولى ، ولا أحبّ أن يبلغ ولد فاطمة فيفخرون ويتيهون بذلك علينا ، حسبنا ما نحن فيه ولكن لا اكتمك شيئا ، انظر إلى من في الدار فنحّهم ، قال : فنحّيت كلّ من في الدار ، ثمّ قال لي : ارجع ولا تبق أحدا ، ففعلت ، ثمّ قال : ليس إلاّ أنا وأنت ، واللّه لئن سمعت ما ألقيه عليك من أحد لأقتلنّك وولدك وأهلك أجمعين ، ولآخذنّ مالك ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين أعيذك باللّه ، قال : يا ربيع كنت مصرّا على قتل جعفر ، ولا أسمع له قولا ، ولا أقبل له عذرا ، فلمّا هممت به في المرّة الاولى تمثّل لي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإذا هو حائل بيني وبينه باسط كفّيه حاسر عن ذراعيه قد عبس وقطب في وجهي ، فصرفت وجهي عنه ، ثمّ هممت به في المرّة الثانية وانتضيت من السيف اكثر ممّا انتضيت منه في المرّة الاولى فإذا أنا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد قرب منّي ودنا شديدا وهمّ بي لو فعلت لفعل فأمسكت ، ثمّ تجاسرت وقلت : هذا من فعل الربيء (1) ثمّ انتضيت السيف في الثالثة فتمثّل لي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باسطا ذراعيه قد تشمّر واحمرّ وعبس وقطب ، حتّى كاد أن يضع يده عليّ فخفت واللّه لو فعلت لفعل ، وكان منّي ما رأيت ، هؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إلاّ جاهل لا حظّ له في الشريعة ، فإيّاك أن يسمع هذا منك أحد ، قال محمّد بن الربيع : فما حدّثني به حتّى مات المنصور ، وما حدّثت به حتّى مات المهدي ، وموسى (2) وهارون (3) وقتل محمّد (4).

ص: 108


1- كفعيل التابع للجن ..
2- الهادي ..
3- الرشيد ..
4- الأمين ..

السادسة : يقول الشريف رضيّ الدين ابن طاوس : وقد استدعاه بها المنصور إلى بغداد مرّة ثانية بعد قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن (1) وقد روى ذلك عن صفوان بن مهران الجمّال (2) قال : رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إلى أبي جعفر المنصور ، وذلك بعد قتله لمحمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن ، إن جعفر بن محمّد بعث مولاه المعلّى بن خنيس (3) لجباية الأموال من شيعته ، وأنه كان يمدّ بها محمّد بن عبد اللّه ، فكاد المنصور أن يأكل كفّه على جعفر بن محمّد غيظا ، وكتب إلى عمّه داود بن علي ، وداود أمير المدينة (4) أن يسيّر إليه جعفر بن محمّد لا يرخص له في التلوم (5) والبقاء فبعث إليه داود بكتاب المنصور ، وقال له : اعمل في المسير إلى أمير المؤمنين في غد ولا تتأخّر ، قال صفوان : وكنت بالمدينة يومئذ فأنفذ إلى جعفر علیه السلام فصرت إليه فقال لي : تعهّد راحلتنا فإنا غادون في غد إن شاء اللّه إلى العراق ، ونهض من وقته وأنا معه إلى مسجد النبي صلی اللّه علیه و آله وكان ذلك بين الاولى والعصر فركع فيه ركعات ، ثمّ رفع يديه فحفظت يومئذ من دعائه : « يا من ليس له ابتداء ولا انتهاء (6) يا من ليس له أمد ولا نهاية » الدعاء.

ص: 109


1- وكان قتلهما عام 145 ، وقد عرفت من تعليقتنا على المرّة الخامسة أن تلك الدفعة لا تصحّ أن تكون إلى بغداد إلاّ أن تكون بعد قتلهما ، وأن بين انتقال المنصور إلى بغداد وبين وفاة الصادق سنتين وبعيد أن يرسل إليه في هاتين السنتين مرّات عديدة ..
2- سيأتي في المشاهير من ثقات الرواة لأبي عبد اللّه علیه السلام ..
3- سيأتي في ثقات المشاهير أيضا ..
4- وداود هذا هو الذي قتل المعلّى بن خنيس واستلب أمواله ، وهمّ بالصادق علیه السلام ، فدعا عليه الصادق فعاجله اللّه بالهلاك ، كما سيأتي في باب استجابة دعائه ..
5- التمكّث ..
6- ولا انقضاء في نسخة ..

قال صفوان : فلمّا أصبح أبو عبد اللّه علیه السلام رحلت له الناقة وسار متوجّها إلى العراق حتّى قدم مدينة أبي جعفر (1) وأقبل حتّى استأذن فأذن له ، قال صفوان : فأخبرني بعض من شهده عند أبي جعفر ، قال : فلما رآه قرّبه وأدناه ، ثمّ استدعى قصّة الرافع على أبي عبد اللّه علیه السلام ، يقول في قصّته : إن المعلّى بن خنيس مولى جعفر بن محمّد يجبي له الأموال من جميع الآفاق ، وإنه مدّ بها محمّد بن عبد اللّه ، فدفع إليه القصّة فقرأها أبو عبد اللّه فأقبل عليه المنصور فقال : يا جعفر بن محمّد ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلّى بن خنيس؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : معاذ اللّه من ذلك يا أمير المؤمنين ، قال له : ألا تحلف على براءتك من ذلك بالطلاق والعتاق ، قال : نعم أحلف باللّه إنه ما كان من ذلك شيء ، قال أبو جعفر : لا بل تحلف بالطلاق والعتاق فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : أما ترضى بيميني باللّه الذي لا إله إلاّ هو ، قال له أبو جعفر : لا تتفقّه عليّ ، فقال أبو عبد اللّه : وأين يذهب بالفقه مني يا أمير المؤمنين (2) قال له : دع عنك هذا فإنني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عليك حتّى يواجهك ، فأتوا بالرجل وسألوه بحضرة جعفر علیه السلام فقال : نعم هذا صحيح ، وهذا جعفر بن محمّد ، والذي قلت فيه كما قلت ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : تحلف أيها الرجل إن هذا الذي رفعته صحيح ، قال : نعم ، ثمّ ابتدأ الرجل باليمين فقال : واللّه الذي لا إله إلاّ هو الطالب الغالب الحيّ القيوم ، فقال

ص: 110


1- وهي بغداد ، وكانت تسمّى مدينة أبي جعفر لأنه هو الذي بناها وكان انتقاله إليها عام 146 ، ولعلّه في هذه السنة دعا الصادق إليها ..
2- ما كان ليخفى على المنصور ما عليه أهل البيت في اليمين بالطلاق والعتاق وأنه لا يحنث الحالف كاذبا ، أي لا تطلق نساؤه ، ولا تعتق مماليكه ، ولكنه حاول أن يحطّ من كرامة الصادق وألاّ يثبت له فقه خاص ..

له جعفر علیه السلام : لا تعجل في يمينك ، فإنني أستحلفك ، قال المنصور : ما أنكرت من هذه اليمين؟ قال : إن اللّه تعالى حيّ كريم يستحي من عبده إذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له ، ولكن قل أيها الرجل : أبرأ إلى اللّه من حوله وقوّته وألجأ إلى حولي وقوّتي إني لصادق برّ فيما أقول ، فقال المنصور للقرشي : احلف بما استحلفك به أبو عبد اللّه فحلف الرجل بهذه اليمين فلم يستتمّ الكلام حتّى أجذم وخرّ ميّتا ، فراع أبا جعفر ذلك وارتعدت فرائصه ، فقال : يا أبا عبد اللّه : سر من غد إلى حرم جدّك إن اخترت ذلك ، وإن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرّك ، فو اللّه لا قبلت قول أحد بعدها أبدا » (1).

السابعة : ذكر الشريف أبو القاسم في المرّة السابعة رواية عن محمّد بن عبد اللّه الاسكندري (2) وأنه كان من ندماء المنصور وخواصّه ، يقول محمّد ، دخلت عليه يوما فرأيته مغتمّا وهو يتنفّس نفسا باردا ، فقلت : ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين ، فقال لي : يا محمّد لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة أو يزيدون (3) وقد بقي سيّدهم وإمامهم ، فقلت له : من ذلك؟ قال : جعفر بن محمّد الصادق ، فقلت : يا أمير المؤمنين إنه رجل أنحلته العبادة واشتغل باللّه عن طلب الملك والخلافة ، فقال : يا محمّد لقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن الملك

ص: 111


1- وذكر هذه الكرامة لأبي عبد اللّه علیه السلام جملة من علماء أهل السنّة عند استطرادهم لحياة الصادق ، منهم الشبلنجي في نور الأبصار ، والسبط في التذكرة ، وابن طلحة في مطالب السؤل ، وابن الصبّاغ في الفصول ، وابن حجر في الصواعق وغيرهم ..
2- ليس له ذكر في كتب رجالنا ، ولم نعرف عنه رواية غير هذه ، وبها ذكره المتأخّرون ، والرواية صريحة في تشيّعه ..
3- أحسب أن هذه القصّة كانت بعد مقتل محمّد وإبراهيم لأن الحرب بالمدينة وبباخمرى والسجون في الهاشميّة أهلكت العدد الكثير من العلويّين هذا سوى من قتله صبرا ، ولعلّ إرساله عليه كان إلى بغداد أيضا ..

عقيم ، وقد آليت على نفسي ألاّ امسي عشيّتي هذه أو أفرغ منه ، قال محمّد : فو اللّه لقد ضاقت عليّ الأرض برحبها ، ثمّ دعا سيّافا وقال له : إذا انا أحضرت أبا عبد اللّه الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي عن رأسي فهي العلامة بينى وبينك فاضرب عنقه ، ثمّ أحضر أبا عبد اللّه علیه السلام في تلك الساعة ولحقته في الدار وهو يحرّك شفتيه فلم أدر ما الذي قرأ ، فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار ، ورأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين مكشوف الرأس قد اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه ، يحمرّ ساعة ويصفرّ اخرى ، وأخذ بعضد أبي عبد اللّه وأجلسه على سرير ملكه وجثا بين يديه كما يجثو العبد بين يدي مولاه ، ثمّ قال : يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ قال : جئتك يا أمير المؤمنين طاعة لله ولرسوله صلی اللّه علیه و آله ولأمير المؤمنين أدام اللّه عزّه (1).

قال : ما دعوتك ، والغلط من الرسول ، ثمّ قال : سل حاجتك ، فقال : أسألك ألاّ تدعوني لغير شغل ، قال : لك ذلك وغير ذلك ، ثمّ انصرف أبو عبد اللّه علیه السلام سريعا ، وحمدت اللّه عزّ وجل كثيرا ، ودعا أبو جعفر المنصور بالدواويج (2) ونام ولم ينتبه إلاّ في نصف الليل ، فلمّا انتبه كنت عند رأسه جالسا فسرّه ذلك ، وقال : لا تخرج حتّى أقضي ما فاتنى من صلاتي فاحدّثك بحديث ، فلمّا قضى صلاته أقبل على محمّد وحدّثه بما شاهده من الأهوال التي افزعته عند مجيء الصادق ، وكان ذلك سببا لانصرافه عن قتله وداعيا لاحترامه والاحسان إليه.

يقول محمّد : قلت له : ليس هذا بعجيب يا أمير المؤمنين ، فإن أبا عبد اللّه

ص: 112


1- لا بدع لو قال له : طاعة لله ولرسوله ولأمير المؤمنين ، وإن لم تكن للمنصور طاعة ، لأن الخوف على النفس والنفيس يلزمه بالمجيء ، فتكون المحافظة عليهما واجبة والتخلّف إلقاء بالتهلكة ..
2- بالجيم المعجمة جمع دواج كرمان وكغراب : اللحاف الذي يلبس ..

وارث علم النبي صلی اللّه علیه و آله وجدّه أمير المؤمنين علیه السلام وعنده من الأسماء وسائر الدعوات التي لو قرأها على الليل لأنار ، ولو قرأها على النهار لأظلم ، ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت (1).

قال محمّد : فقلت له بعد أيام : أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أخرج إلى زيارة أبي عبد اللّه الصادق؟ فأجاب ولم يأب ، فدخلت عليه وسلّمت وقلت له : أسألك يا مولاي بحقّ جدّك محمّد رسول ربّ العزّة صلی اللّه علیه و آله أن تعلّمني الدعاء الذي كنت تقرأه عند دخولك على أبي جعفر المنصور ، قال : لك ذلك ، ثمّ أخذ الصادق يصف لمحمّد شأن الدعاء قبل أن يورده له ، ثم ذكر الدعاء وهو طويل (2).

هذه بعض المحن التي شاهدها الصادق علیه السلام من المنصور وتخلّص فيها ممّا أراده فيه بدعائه ، وقد ذكر ابن طاوس طاب ثراه دفعتين اخريين يهمّ بهما المنصور في قتل الصادق فيدفع اللّه عنه فيهما سوءه.

وذكر بعض هذه المحن وسلامة الصادق من القتل فيها بدعائه جملة من أرباب التأليف عند استطرادهم لأحوال الصادق علیه السلام ، أمثال الشبلنجي في نور الأبصار ، والسبط في التذكرة ، وابن طلحة في مطالب السؤل ، وابن الصبّاغ في الفصول المهمّة ، وابن حجر في الصواعق ، والشيخ سليمان في الينابيع ، والكليني في الكافي في كتاب الدعاء ، والمجلسي في البحار ج 11 ، وابن شهرآشوب في المناقب ، والشيخ المفيد في الإرشاد ، وغيرهم.

ص: 113


1- هذا الكلام يدلّنا على معرفة محمّد فوق تشيّعه ، والعجب كيف يصارح المنصور بهذا ، ولا عجب فإن المنصور أعلم من محمّد بشأن الصادق علیه السلام ..
2- لم يفتنا ذكر هذه الأدعية إلاّ لأننا جمعناها في صحائف اخرى مع ما ظفرنا به من أدعيته الاخرى فكان ما اجتمع عندنا كما أشرنا إليه ما يناهز 400 صحيفة بقطع هذا الكتاب مع علمنا أنه قد فاتنا الشيء الكثير من دعائه ..

مواقفه مع المنصور وولاته

رزق أهل البيت فيما رزقوا الحكمة وكفى بها فضيلة ، ولربما تعجب من مواقف الصادق مع المنصور ورجاله فإنك تارة تجده يلين بالقول ويجهد في براءته واخرى يلاقيهم بالشدّة والعنف دون أن يعترف بشيء وإن أساءهم موقفه.

والصادق أعرف بما يقول ويفعل ، فقد يلين اذا عرف أن اللين أسلم ، وقد يخشن إذا عرف أن الخشونة ألزم ، وليس اللين محمودا في جميع الأوقات والحالات ، غير أن التمييز بين المواقف يحتاج إلى حكمة وعرفان ، فبينا تجده يخاطب المنصور بقوله : « واللّه ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي وإني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّي قريب » واذا به يقول للمنصور على لسان الرسول : « فإن كففت وإلاّ أجريت اسمك على اللّه عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات » إلى كثير من الموقفين ، كما عرفت كثيرا من مواقف اللين ، وستعرف الآن بعض المواقف من الشدّة.

إنّا وإن غبنا عن ذلك العهد لكننا لم نغب عن معرفة نفسيّة الامام الصادق علیه السلام ونفسيّة الدوانيقي ، كما لم نغب عن تأريخ الحوادث في ذلك العهد.

إن المنصور وإن ملك البلاد باسم الخلافة لكنه يعلم أن صاحبها حقا هو الصادق علیه السلام ، وأنه صاحب كلّ فضيلة وأنه لو أراد الأمر لم يطق المنصور

ص: 114

أن يحول دونه ، فمن ثمّ تراه أحيانا يصفح عن وخزات الصادق علیه السلام لا يريد أن تزداد الملاحاة في الكلام فتثير كوامن النفوس فتهيج ما يخافه من وثبة وثورة ، غير أن شدّة الحبّ للملك والملك عقيم ، والحبّ يعمي ويصمّ ، تبعث المنصور على الاساءة للصادق والسعي لإهلاكه ، فاذا عرف الصادق أن الموقف من الأوّل انبعث لإظهار الحقّ ، وأن الموقف من الثاني قابله بلين ليكفّ بغيه وعدوانه.

وها نحن أوّلا نورد بعض ما كان من الصادق مع المنصور وولاته من المواقف التي يعلن فيها بالحقّ غير مكترث بما له من سطوة ولولاته من قسوة.

سأل المنصور الصادق علیه السلام يوما عن الذباب وهو يتطايح على وجهه حتّى أضجره فقال له : يا أبا عبد اللّه لم خلق اللّه الذباب؟ فقال الصادق علیه السلام : ليذلّ به الجبابرة (1) فسكت المنصور علما منه أنّه لو ردّ عليه لوخزه بما هو أمضّ جرحا ، وأنفذ طعنا.

وكتب إليه المنصور مرّة : لم لا تغشانا كما تغشانا الناس؟ فأجابه الصادق علیه السلام : « ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنّيك ، ولا تراها نقمة فنعزّيك ، فما نصنع عندك » فكتب إليه : تصحبنا لتنصحنا ، فأجابه : « من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك » فقال المنصور : واللّه لقد ميز عندي منازل من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة ، وانه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا (2).

أقول : إن المنصور ما أراد النصيحة لما يصلحه ، ولو أراد صلاح نفسه

ص: 115


1- نور الأبصار للشبلنجيّ : ص 141 ..
2- كشف الغمّة في أحوال الصادق علیه السلام عن تذكرة ابن حمدون : 2 / 208 ..

لاعتزل الأمر لئلاّ يبوء بإثم هذه الامّة ، ولكنه أراد أن يستصفي الصادق ويجعله من أتباعه ، فيعلم الناس أنه الامام غير مدافع ، وتنقطع الشيعة عن مراجعة الصادق ، ويظهر لهم أنه تبع للمنصور ، والامام لا يكون تبعا لأرباب السلطان باختياره ، والصادق لا يخفى عليه قصد المنصور.

وكلمته هذه تعطينا درسا بليغا عن مواقف الناس مع الملوك والامراء وعن منازل المتزلّفين إليهم ، وكيف يجب أن تكون مواقف رجال الدين معهم.

واستقدمه المنصور مرّة وهو غضبان عليه ، فلمّا دخل عليه الصادق علیه السلام ، قال له : يا جعفر قد علمت أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال.

لأبيك عليّ بن أبي طالب علیه السلام : لو لا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ إلاّ أخذوا من تراب قدميك يستشفون به ، وقال علي علیه السلام : يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي : محبّ غال ومبغض مفرط ، قال ذلك اعتذارا منه أنه لا يرضى بما يقول فيه الغالي والمفرط ، ولعمري أن عيسى بن مريم علیه السلام لو سكت عمّا قالت النصارى فيه لعذبه اللّه ، ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان ، وإمساكك عن ذلك ورضاك به سخط الديّان ، زعم أوغاد الحجاز ورعاع الناس أنك حبر الدهر وناموسه ، وحجّة المعبود وترجمانه ، وعيبة علمه وميزان قسطه ، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور ، وأن اللّه لا يقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملا ، ولا يرفع له يوم القيامة وزنا ، فنسبوك إلى غير حدّك ، وقالوا فيك ما ليس فيك ، فقل فإن أوّل من قال الحقّ جدّك ، وأوّل من صدقه عليه أبوك ، وأنت حريّ أن تقتصّ آثارهما ، وتسلك سبيلهما.

فقال علیه السلام : أنا فرع من فروع الزيتونة ، وقنديل من قناديل بيت

ص: 116

النبوّة ، وأديب السفرة ، وربيب الكرام البررة ، ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور ، وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر.

فالتفت المنصور إلى جلسائه فقال : هذا قد حالني على بحر مواج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه ، تحار فيه العلماء ، ويغرق فيه السبحاء (1) ويضيق بالسابح عرض الفضاء ، هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء ، الّذي لا يجوز نفيه ، ولا يحلّ قتله ، ولو لا ما تجمعني وإيّاه شجرة طاب أصلها وبسق فرعها ، وعذب ثمرها ، وبوركت في الذر ، وقدّست في الزبر ، لكان منّي ما لا يحمد في العواقب ، لما يبلغني عنه من شدّة عيبه لنا وسوء القول فينا.

فقال الصادق علیه السلام : لا تقبل في ذي رحمك وأهل الرعاية من أهل بيتك قول من حرّم اللّه عليه الجنّة ، وجعل مأواه النار ، فإن النمّام شاهد زور ، وشريك إبليس في الإغراء بين الناس فقد قال اللّه تعالى : ( « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ » ) (2) ونحن لك أنصار وأعوان ، ولملكك دعائم وأركان ، ما أمرت بالمعروف والاحسان ، وأمضيت في الرعيّة أحكام القرآن ، وأرغمت بطاعتك لله أنف الشيطان ، وإن كان يجب عليك في سعة فهمك ، وكثرة علمك ، ومعرفتك بآداب اللّه أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك ، فإن المكافي ليس بالواصل ، إنما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها ، فصل رحمك يزد اللّه في عمرك ، ويخفّف عنك الحساب يوم حشرك ، فقال المنصور : قد صفحت عنك لقدرك ، وتجاوزت عنك لصدقك ، فحدّثني عن نفسك بحديث

ص: 117


1- جمع سابح ..
2- الحجرات : 6 ..

أتعظ به ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات ، فقال الصادق علیه السلام : عليك بالحلم فإنه ركن العلم ، واملك نفسك عند أسباب القدرة فإنك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظا ، أو تداوى حقدا أو يحبّ أن يذكر بالصولة ، واعلم بأنك إن عاقبت مستحقّا لم تكن غاية ما توصف به إلاّ العدل ، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر ، فقال المنصور : وعظت فأحسنت ، وقلت فأوجزت (1).

أقول : إن أمثال هذه المواقف تعطيك دروسا وافيه عمّا كان عليه أهل ذلك العصر من سياسة وعلم واعتقاد وغيرها ، وهنا نستطيع أن نتعرّف عدّة امور.

1 - إن المنصور يريد ألاّ يظهر الصادق بمظهر الامامة فحاول أن يخدعه أمام الناس بتلك الكلمات الليّنة ، وهنا تعرف دهاء المنصور ، لأن العبّاسيّين إنما تربّعوا على الدست باسم الامامة والخلافة ، فلو كان هناك إمام آخر يرى شطر من الامّة أنه صاحب المنبر والتاج لا يتمّ لهم أمر ، وهو يريد ألاّ يعارضه أحد في سلطانهم ، فكان المنصور يدفع عن عرشه بالشدّة مرّة وباللين اخرى فكان من سياسته أن جابه الصادق أمام ملأ من الناس بهذا القول وحسب أنّ الصادق سوف يبطل ما يقوله الناس فيه ، وبه يحصل ما يريد ، وهو يعلم أنّ الصادق لا يجبهه بالردّ ، حذرا من سطوته.

2 - إن الصادق إمام بجعل إلهي كما يرى ذلك ويراه الشيعة فيه ، والامامة في أهل البيت وفي الصادق ليست وليدة عصر المنصور ، وإنما هي من عهد صاحب الرسالة ، فالامام الصادق علیه السلام وقع بين لحيي لهذم فإنه إن

ص: 118


1- بحار الأنوار : 47 / 168 في أحوال الصادق علیه السلام ..

جارى المنصور فقد أبطل إمامة إلهية ، وإن عارضه لا يأمن من شرّه ، ثمّ أجابه بكلمات مجملة لا تصرّح بالامامة ولا تبطل قول الناس فيه ، ولذا قال المنصور « هذا قد حالني على بحر موّاج لا يدرك طرفه ».

3 - إن قول الشيعة في الامام من ذلك اليوم على ما هو عليه اليوم ، وهذا ما تقتضيه اصول المذهب ، وتدلّ عليه أخبار أهل البيت وآثارهم.

4 - إن سكوت الامام الصادق وعدم إبطاله لأن يكون كما يقول الناس برهان على أن حقيقة الامامة كما يحكيها المنصور عن الناس ، ولو كانت حقيقتها غير هذا لقال الصادق : إن هذا الرأي والقول باطل ، بل لوجب عليه إعلام الناس ببطلانه وردعهم عن هذا المعتقد.

5 - إن القائل بإمامة الصادق علیه السلام خلق كثير من الناس ، ممّا جعل المنصور يفكّر فيه ويخشى من اتساعه ومن عقباه ، فحاول أن يتذرّع بالصادق لمكافحته.

6 - إن المرء بأصغريه ، فالامام الصادق لو لم تسبق الأخبار والآثار عن منزلته ، لكان في مثل كلامه ومثل موقفه هذا دلالة على ما له من مقام ، أتراه كيف حاد عن جواب المنصور بما حيّره ، دون أن يصرّح بخلاف ما حكاه عن الشيعة ، ودون أن يصرّح بصحّة ما يرون ، وكيف وعيت ذلك البيان منه عن نفسه ، ببليغ من القول ، وجليل من المعنى ، وكيف وعظ المنصور بما يوافق شأن الملوك ، وما يتفق وابتلاءهم كثيرا؟

وهذا بعض ما يمكن استنباطه من هذا الموقف وفهم حال الناس ذلك اليوم ، وكفى به عن سواه.

ودخل على المنصور في إحدى جيئاته فاستقبله الربيع بالباب وقال له : يا أبا عبد اللّه ما أشدّ تلظّيه عليك لقد سمعته يقول : واللّه لا تركت له نخلا إلاّ

ص: 119

عقرته ، ولا مالا إلاّ نهبته ، ولا نهبته ، ولا ذرّية إلاّ سبيتها ، فلمّا دخل وسلّم وقعد قال له المنصور : أما واللّه لقد هممت ألاّ أترك لكم نخلا إلاّ عقرته ، ولا مالا إلاّ أخذته ، فقال له الصادق علیه السلام : يا أمير المؤمنين إن اللّه عزّ وجل ابتلى أيوب فصبر ، وأعطى داود فشكر ، وقدر (1) يوسف فغفر ، وأنت من ذلك النسل ولا يأتي ذلك النسل إلاّ بما يشبهه ، فقال : صدقت قد عفوت عنكم ، فقال الصادق : إنه لم ينل أحد منّا أهل البيت دما إلاّ سلبه اللّه ملكه ، فغضب لذلك واستشاط ، فقال : على رسلك إن هذا الملك كان في آل أبي سفيان فلمّا قتل يزيد حسينا علیه السلام سلبه اللّه ملكه ، فورثه آل مروان فلمّا قتل هشام زيدا سلبه اللّه ملكه فورثه مروان بن محمّد ، فلمّا قتل مروان إبراهيم الامام سلبه اللّه ملكه وأعطاكموه فقال : صدقت. (2)

أقول : إن الصادق علیه السلام ما اعتذر عن قوله الأول ، وإنما جاء بالشواهد عليه ، سوى إنه استعرض ذكر أخيه إبراهيم ليكفّ بذلك شرّه.

وللصادق علیه السلام مواقف كثيرة على غرار ما ذكرناه اجتزينا عنها بما أوردناه.

وكانت للصادق علیه السلام مواقف مع بعض ولاة المنصور رجاله تشبه مواقفه مع المنصور في الشدّة ، جاء إلى المدينة واليا من قبل المنصور بعد مقتل محمّد وإبراهيم رجل يقال له شيبة بن عفال ، يقول عبد اللّه بن سليمان التميمي : فلمّا حضرت الجمعة صار إلى مسجد الرسول صلی اللّه علیه و آله فرقى المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد فإن عليّ بن أبي طالب شقّ عصا

ص: 120


1- أي جعله قادرا على الانتقام من اخوته ..
2- الكافي : كتاب الدعاء ، باب الدعاء للكرب والهمّ والحزن : 2 / 563 ..

المسلمين وحارب المؤمنين ، وأراد الأمر لنفسه ، ومنعه أهله ، فحرّمه اللّه عليه ، وأماته بغصّته ، وهؤلاء ولده يتبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له فهم في نواحي الأرض مقتولون ، وبالدماء مضرّجون.

فعظم هذا الكلام منه على الناس ، ولم يجسر أحد منهم أن ينطق بحرف فقام إليه رجل فقال : ونحمد اللّه ونصلّي على محمّد خاتم النبيين وسيّد المرسلين وعلى رسل اللّه وأنبيائه أجمعين ، أمّا ما قلت من خير فنحن أهله ، وأمّا ما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى ، فاختبر يا من ركب غير راحلته واكل غير زاده ارجع مأزورا.

ثمّ أقبل على الناس فقال : ألا أنبئكم بأخلى الناس ميزانا يوم القيامة وأبينهم خسرانا ، من باع آخرته بدنيا غيره ، وهو هذا الفاسق ، فأسكت الناس وخرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف ، فسألت عن الرجل ، فقيل لي : هذا جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم أجمعين (1).

وعن الصادق علیه السلام أنه قال : كنت عند زياد بن عبد اللّه وجماعة من أهل بيتي ، فقال : يا بني فاطمة ما فضلكم على الناس؟ فسكتوا ، فقلت : إن من فضلنا على الناس إنّا لا نحبّ أن نكون من أحد سوانا ، وليس أحد من الناس لا يحبّ أن يكون منّا. (2).

أقول : لقد جاءه بالمسكت وهذه الكلمة على اختصارها جمعت الفضائل واغنت عن الدلائل.

ص: 121


1- مجالس الشيخ الطوسي طاب ثراه ، المجلس الثاني ..
2- بحار الأنوار : 47 / 166 / 8 في أحوال الصادق علیه السلام ..

وكان داود بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس واليا على المدينة من قبل المنصور ، فأرسل خلف المعلّى بن خنيس مولى الصادق علیه السلام ، وأراد أن يدلّه على أصحاب الصادق علیه السلام وخواصّه ، فتجاهل عليه المعلّى بمعرفتهم ، فألحّ عليه ثمّ هدّده بالقتل ، فقال له المعلّى : أبالقتل تهدّدني واللّه لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم ، وإن أنت قتلتني تسعدني وأشقيتك ، فلمّا رأى داود شدّة امتناع المعلّى قتله واستلب أمواله وكانت للصادق علیه السلام .

فلما بلغ الصادق ذلك قام مغضبا يجرّ رداءه ودخل على داود وقال له : قتلت مولاي وأخذت مالي ، أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب.

ثمّ أن الصادق علیه السلام طلب منه القود ، فقدّم له قاتله فقتله به ، وهو صاحب شرطته ، ولمّا قدّموه ليقتل اقتصاصا جعل يصيح : يأمروني أن أقتل لهم الناس ثمّ يقتلونني.

ثمّ أن داود بعد ذلك أرسل خمسة من الحرس خلف الصادق علیه السلام وقال لهم : ائتوني به فإن أبى فائتوني برأسه ، فدخلوا عليه وهو يصلّي فقالوا : أجب داود ، قال : فإن لم اجب ، قالوا : امرنا بأمر ، قال : فانصرفوا فإنه خير لكم في دنياكم وآخرتكم ، فأبوا إلاّ خروجه ، فرفع يديه فوضعهما على منكبيه ثمّ بسطهما ، ثمّ دعي بسبابته فسمع يقول : الساعة الساعة ، حتّى سمع صراخ عال ، فقال لهم : إن صاحبكم قد مات فانصرفوا.

أقول : هذه بعض مواقفه من رجال المنصور دعاه إلى الشدّة فيها الغضب للحق ، حين وجد أن الكلام أولى من السكوت ، وإن أبدى فيها صفحته للسيف.

ص: 122

الصادق في العراق

قضت السياسة العبّاسيّة وحذق رجالها العاملين - والقدر من ورائهم - بتقويض ملك بني مروان ، والحيلولة دون نجاح الحسنيين ، وانتشار روح الامامة.

في الناس للحسينيين ، بيد أنهم أخطئوا في سياسة الإرهاق والإرهاب مع الصادق علیه السلام ، وحملهم إيّاه إلى العراق عدّة مرّات ، لأنهم بهذا خدموا الإمامة وأظهروا أمر أهل البيت اكثر ممّا لو تركوه وادعى في مكانه.

ما زجت تربة العراق مودّة أهل البيت من بدء دخول الاسلام فيه ، لا سيّما وقد صار برهة عاصمة سلطانهم ، وبه مدفن عدّة من أعاظم رجالهم ، وبه حوادث لهم لا ينساها الناس والتأريخ ما دام بشر على وجه الأرض ، وما دام تأريخ مسطور ، كحادثة الطفّ وحادثة زيد.

وإن للنظر والمشاهدة أثرا لا يبلغه السماع ، فإن الجمال اذا اجتذب الأرواح الشفّافة ، والعواطف الرقيقة ، فبالعيان لا بالآذان ، نعم ربّ شيء يكون لسماعه أثر - والاذن تعشق قبل العين أحيانا - إلاّ أنّ السماع لا يماثل المشاهدة مهما بلغ تصويره مبلغا يجذب القلوب والمشاعر.

كما أن للمظلوميّة عاطفة في القلوب ، ورحمة في النفوس ، لا سيّما اذا كان المظلوم من أماثل الناس ، وأعاظم العلماء.

فإذا غلب على القلوب حبّ الصادق علیه السلام بالسماع ، واعتقد الناس

ص: 123

إمامته بالبرهان ، فأين ذلك من مبلغ العيان ، ومشاهدة البرهان ، وسماع البيان ، فكان لقدوم الصادق العراق بلاد الولاء للعترة ، ولمشاهدة شمائله وفضائله ، ولسماع عظاته ونوادر آياته أثر بليغ في ميل النفوس إليه ، وانعطافهم عليه ، فوق ما يجدونه من السماع عنه ، وما كان الناس كلّهم يذهب للحجّ فيجتمع به ، فكانت جملة من الأحاديث أخذوها عنه في جيئاته إلى العراق.

وربت على هذا كلّه مظلوميّته ، فإن الناس كلّهم أو جلّهم يعلمون بأن الصادق مظلوم مقهور على هذا المجيء ، ويعلمون بما ينالون منه من سوء أذى في مجيئه ، هذا فوق ما يعتقدونه من غضب مقامه والتضييق عليه ، والحيلولة دون نشر علومه ومعارفه.

وما كان حتّى الشيعة يعرفون عن الإمام من الشأن والقدر والعلم والكرامة مثلما عرفوه عنه بعد مجيئه ، لأن التقيّة وعداء السلطة حواجز دون نشر فضائله والصادق علیه السلام كما يقول عمرو بن أبي المقدام : كنت إذا نظرت إليه علمت أنه من سلالة النبيين ، وكما يقول ابن طلحة في مطالب السؤل : رؤيته تذكّر الآخرة ، واستماع حديثه يزهد في الدنيا ، والاقتداء بهديه يورث الجنّة ، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة ، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذوي الرسالة.

ومن ثمّ تجد هشام بن الحكم وكان جهميا يعدل إلى القول بالإمامة لمحاورة الصادق له ونظره إليه ، ذلك النظر الذي امتلأت نفسه منه جلالا وهيبة فأحسّ أن ذلك لشأن لا يكون إلاّ للأنبياء والأوصياء ، فكان من آثار مجيئه إلى العراق هداية هشام ، وأنت تعرف من هشام ، وما آثاره في خدمة أهل البيت ، وخدمة الدين (1).

ص: 124


1- كتبت رسالة عن هشام بن الحكم استقصيت فيها قدر الامكان أخباره وآثاره ..

ومن آثار مجيئه إلى العراق إشادته لموضع قبر أمير المؤمنين علیه السلام ودلالته خواصّ الشيعة عليه ، وكان اكثرهم لا يعلمون موضعه على اليقين ، سوى أنه على ظهر الكوفة في النجف لأن أولاده جهدوا في إخفائه خوفا من أعدائه فصارت الشيعة تقصده زائرين ، وكان الصادق علیه السلام يصحب في كلّ زيارة بعض خواصّ أصحابه ، وهو الذي أمر صفوان بن مهران الجمّال بالبناء عليه.

وقد ذكر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي في كتابه التهذيب ، في كتاب المزار منه ، في باب فصل الكوفة عدّة زيارات للصادق علیه السلام .

كما ذكر مثل ذلك الشيخ الكليني طاب ثراه في الكافي ، والسيد ابن طاوس في فرحة الغري ، والمجلسي في مزار البحار وهو الجزء الثاني والعشرون ، والشيخ الحرّ العاملي في وسائل الشيعة في كتاب المزار الجزء الثاني إلى كثير غيرهم.

ونحن نورد لك بعض تلك الزيارات والدلالات منه ، قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : إن الصادق علیه السلام زار قبر أمير المؤمنين علیه السلام عدّة مرات ، منها يوم أقدمه السفّاح الحيرة ، ومنها ما يرويه عبد اللّه بن طلحة النهدى (1) يقول : دخلت على أبي عبد اللّه علیه السلام - ثمّ قال - فمضينا معه حتّى انتهينا إلى الغري فأتى موضعا فصلّى فيه.

وذكر أيضا مجيئه مرّة اخرى من الحيرة ومعه يونس بن ظبيان (2) ودعا عند القبر وصلّى وأعلم يونس أنه قبر أمير المؤمنين علیه السلام بعد أن كان يونس لا يدري أين هو سوى أنه في الصحراء.

ص: 125


1- عربي كوفي روى عن الصادق علیه السلام ، وروى عنه جماعة من الثقات مثل علي بن إسماعيل الميثمي ومحمّد بن سنان وابن محبوب ..
2- الكوفي ممّن روى عن الصادق علیه السلام وجاءت فيه روايات قادحة واخرى مادحة ، ولكن روى عنه جماعة كثيرة من الثقات ، وبعضهم من أصحاب الاجماع ..

وروى الكليني طاب ثراه عن يزيد بن عمرو بن طلحة (1) قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام وهو بالحيرة : أما تريد ما وعدتك ، قلت : بلى ، يعني الذهاب إلى قبر امير المؤمنين علیه السلام ، قال : فركب وركب إسماعيل وركبت معهما حتّى اذا جاء الثوية وكان بين الحيرة والنجف عند ذكوات بيض (2) نزل ونزل إسماعيل ونزلت معهما فصلّى وصلّى إسماعيل وصلّيت.

وروى عن أبان بن تغلب (3) قال : كنت مع أبي عبد اللّه علیه السلام فمرّ بظهر الكوفة فنزل فصلّى ركعتين ، ثمّ تقدّم قليلا فصلّى ركعتين ، ثمّ سار قليلا فنزل فصلّى ركعتين ، ثمّ أخبر أبان أن الصّلاة الاولى عند قبر أمير المؤمنين علیه السلام ، والثانية عند موضع رأس الحسين علیه السلام ، والثالثة عند منزل القائم.

وذكر الشيخ الحرّ أن الصادق علیه السلام زار قبر أمير المؤمنين نوبا عديدة منها ما عن الصدوق رحمه اللّه عن صفوان بن مهران الجمّال قال : سار الصادق علیه السلام وأنا معه في القادسيّة حتّى أشرف على النجف فلم يزل سائرا حتّى أتى الغري فوقف به حتّى أتى القبر ، فساق السّلام من آدم على كلّ نبي وأنا أسوق معه السّلام حتّى وصل السّلام إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ثمّ خرّ على القبر فسلّم عليه وعلا نحيبه ، فقلت : يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما هذا القبر ، فقال : قبر جدّي عليّ بن أبي طالب.

وذكر المجلسي زيادة على ما سبق زيارات أخر ، وذكر زيارة صفوان معه بصورة أخرى ، وفيها أن الصادق شمّ تربة أمير المؤمنين فشهق شهقة ظننت أنه

ص: 126


1- الكوفي ، ولم نعرف عنه غير هذه الرواية ، وكفى في شأنه رواية الكليني عنه ..
2- جمع ذكوة ، وهي الجمرة الملتهبة ، والمأسدة ، ولا يناسبان المقام ولعلّه أراد منها الربوات التي تحوط القبر ، وشبّهها بالذكوات لبريقها ، لأن أرض الغري ذات رمل وحصى فيكون لها بريق ولمعان ..
3- سوف نذكره في المشاهير من ثقات الأصحاب للصادق علیه السلام ..

فارق الدنيا ، فلمّا أفاق قال : هاهنا واللّه مشهد أمير المؤمنين ، ثمّ خطّ تخطيطا ، فقلت يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما منع الأبرار من أهل البيت من إظهار مشهده؟ قال : حذرا من بني مروان والخوارج أن تحتال في أذاه.

وروى عن عمر بن يزيد (1) انّه أتى عبد اللّه بن سنان (2) فركب معه فمضيا حتّى أتيا منزل حفص الكناسي (3) فاستخرجه وركب معهما فمضوا حتّى أتوا الغري ، فانتهوا إلى قبر ، فقال : انزلوا هذا قبر أمير المؤمنين ، فقال له عبد اللّه : من أين علمت هذا؟ قال : أتيته مع أبي عبد اللّه علیه السلام حيث كان بالحيرة غير مرّة ، وخبّرني أنه قبره.

وروى عن يونس بن ظبيان أنه كان عند الصادق علیه السلام بالحيرة أيام مقدمه على أبي جعفر في ليلة صحيانة مقمرة ، إلى أن قال : فركب وركبت معه وسار حتّى انتهينا إلى الذكوات الحمر ، قال : ثمّ دنا من اكمة فصلّى عندها ثمّ مال عليها وبكى ، إلى أن قال : قال : هو قبر أمير المؤمنين علیه السلام ولعلّ هذه الرواية رواية يونس الاولى.

وروى عن أبي الفرج السندي (4) أنه جاء من الحيرة مع الصادق علیه السلام إلى الغري وزار قبر أمير المؤمنين علیه السلام .

وروى مثل ذلك عن عبد اللّه بن عبيد بن زيد (5) وذكر انّ عبد اللّه بن

ص: 127


1- ذكر أرباب الرجال أن عمر بن يزيد اثنان : أحدهما بيّاع السابري والآخر الصيقل ، وقد رويا معا عن الصادق علیه السلام ولا يبعد أن يكونا معا ثقتين ..
2- سنذكره في ثقات المشاهير ..
3- هو ابن عبد ربّه الكوفي وعداده في أصحاب الصادق واستظهر الرجاليّون أنه إمامي ..
4- واسمه عيسى وعداده في أصحاب الصادق ورواته ..
5- لم يأت له ذكر في كتب الرجال بهذا العنوان نعم جاء في أصحاب الصادق رجال كثيرون اسمهم عبد اللّه بن عبيد .

الحسن كان معه ، وأن عبد اللّه أذّن وأقام وصلّى مع الصادق علیه السلام .

وظاهر هذا أن الزيارة كانت في عهد السفّاح ، لأنه استقدم عبد اللّه بن الحسن كما استقدم الصادق علیه السلام .

وروى أيضا عن أبي العلاء الطائي (1) حديثا طويلا يذكر فيه مجيء الصادق الى الحيرة ، وذيوع الخبر بالكوفة ، وقعوده لانتظاره ، وسؤاله عن القبر الذي في الظهر عندهم وأنه قبر أمير المؤمنين علیه السلام وقول الصادق : اي واللّه يا شيخ حقّا وروى عن صفوان أنه كان يأتي القبر بعد ما عرّفه به الصادق علیه السلام ويصلّي عنده مدّة عشرين سنة.

وقد ذكر السيّد الجليل عبد الكريم بن طاوس في فرحة الغري ما تقدم ذكره من الزيارات وغيرها شيئا كثيرا ، وليس القصد أن نوافيك بكلّ زيارة رويت له ، وإنما كان القصد أن نوقفك على تلك السياسة الخرقاء التي صنعها العبّاسيّون مع أبي عبد اللّه علیه السلام وما كان لتلك الجيئات من آثار أظهرت أمر أهل البيت.

كان الصادق علیه السلام يصحب في كلّ زيارة واحدا أو اكثر من أصحابه ليدلّهم على القبر ، ويصحب غيرهم في الزيارة الاخرى ليكثر عارفوه وزائروه ، فروى كثير من رجاله هذه الزيارات منهم صفوان الجمّال ومحمّد بن مسلم الثقفي ، وأبو بصير ، وعبد اللّه بن عبيد بن زيد ، وأبو الفرج السندي ، وأبان بن تغلب ، ومبارك الخبّاز (2) ومحمّد بن معروف الهلالي (3) وأبو العلاء الطائي ،

ص: 128


1- لم أقف على حاله .
2- لم تعرف عنه غير هذه الرواية .
3- له روايات عن الصادق علیه السلام .

والمعلّى بن خنيس ، وزيد بن طلحة ، وعمر بن يزيد ، ويزيد بن عمرو ، وعبد اللّه بن طلحة النهدي ، ويونس بن ظبيان ، الى غير هؤلاء.

وقد أعطى الصادق علیه السلام صفوان الجمّال دراهم لتجديد بنائه وكان قد جرفه السيل ، فمن هذا تعرف أن القبر كان ظاهرا وإنما كانوا يتكتّمون في زيارته والاشارة إليه ليبقى مخفيّا على الخوارج وبني مروان ، ومن هاهنا يسأله أبو العلاء عن القبر الذي عندهم بالظهر أهو قبر أمير المؤمنين علیه السلام ؟ فلو لم يكن عندهم قبر ظاهر لما كان وجه لسؤاله ، ويسأله صفوان حين خرّ على القبر ، قائلا : يا ابن رسول اللّه ما هذا القبر؟

وفي عهد الصادق علیه السلام عرف الناس القبر ودلّوه من تلك الزيارات وصاروا لا يسألونه عنه وإنما يسألون عن الآداب في زيارته ، كما سأله محمّد بن مسلم وصفوان ويونس بن ظبيان وغيرهم.

ومن آثار الصادق علیه السلام في العراق من تلك الجيئات محرابه في مسجد الكوفة ، ويقع شرقيّ المسجد قريبا من سوره ، بالقرب من قبر مسلم علیه السلام وهو بيّن معروف في المسجد ليس في جواره محراب سواه وله صلاة ودعاء ومحرابه في مسجد سهيل ( السهلة ) ويقع في وسط المسجد وله صلاة ودعاء والسبب في ذلك معروف ، وهو أن الصادق علیه السلام كان في الكوفة ودخل عليه بشّار المكاري (1) فأعلم الصادق أن جلوازا (2) يضرب رأس امرأة يسوقها الى الحبس وهي تنادي بأعلى صوتها : المستغاث باللّه ورسوله ، ولا يغيثها أحد ، وقال : ولم فعل بها ذلك؟ قال : سمعت الناس يقولون : إنها عثرت فقالت : لعن اللّه ظالميك يا فاطمة ، فارتكب منها ما ارتكب ، فقطع الصادق الأكل ،

ص: 129


1- لم أقف على ترجمته ..
2- الجلواز - بالكسر - الشرطي ..

وكان بين يديه رطب طبرزد (1) ولم يزل يبكى حتّى ابتلّ منديله ولحيته وصدره بالدموع ، ثمّ ذهب الصادق من فوره ومعه بشّار الى مسجد السهلة ، فصلّى ركعتين ودعا (2) فلمّا خرج جاء الرسول فأعلمه أنها اطلق سراحها ، فاستّر لذلك ، وبعث لها بصلة ، وكانت قد أبت أن تقبل من الوالي شيثا وقد أعطاها مائتي درهم وكانت محتاجة (3) وما زال الناس يقصدون المسجد والمحراب ويدعون بذلك الدعاء في طلب الحوائج.

وعلى ضفة نهر الحسينيّة في كربلاء محراب وعليه بنية ينسب إلى الصادق ولعلّه صلّى في هذا المكان يوم زار الحسين علیه السلام وقد ذكر زيارته للحسين علیه السلام الحسين ابن أبي العلاء الطائي في خبره الطويل الذي أشرنا إليه وقد ذكره ابن طاوس في الفرحة ، والمجلسي في البحار في مزاره ، وفي الحديث ، فقلت له : جعلت فداك بأبي وامّي هذا القبر الذي أقبلت منه قبر الحسين؟ قال : اي واللّه يا شيخ حقّا.

وفي الجانب الغربي من بغداد على ضفة النهر شمال جسره الغربي اليوم المعروف بالجسر القديم مكان يعرفه الناس بمدرسة الصادق وليس فيه اليوم أثر بيّن ولعلّه أفاد بعض الناس فيه عند مجيئه الى بغداد على عهد المنصور.

ومن الغريب أن الخطيب في تأريخه لم يذكر الصادق علیه السلام فيمن قدم بغداد ، مع أنه ذكر ابنه الكاظم وحفيده الجواد علیهماالسلام .

وكفى ما ذكرناه من آثار الصادق في مجيئه الى العراق عند إرسال السفّاح والمنصور عليه وازدياد شأن أهل البيت به ، والعود يذكو بالاحراق.

ص: 130


1- قال في القاموس : السكّر معرّب ، وقال الأصمعي : طبرزن وطبرزل ..
2- ذكرنا هذا الدعاء فيما جمعناه من دعائه ..
3- بحار الأنوار : 100 / 440 / 21 ، مزار البحار : 22 / 103.

حياته العلميّة

علمه إلهامي :

لا فضيلة كالعلم ، فإن به حياة الامم وسعادتها ، ورقيّها وخلودها ، وبه نباهة المرء وعلوّ مقامه وشرف نفسه.

ولا غرابة لو كان العلم أفضل من العبادة أضعافا مضاعفه ، لأنّ العابد صالح على طريق نجاة قد استخلص نفسه فحسب ، ولكن العالم مصلح يستطيع أن يستخرج عوالم كبيرة من غياهب الضلال ، وصالح في نفسه أيضا ، وقد فتح عينيه في طريقه ، ومن فتح عينه أبصر الطريق وليس في الفضائل ما يصلح الناس وينفعهم ويبقى أثره في الوجود مثل العلم ، فإن العبادة والشجاعة والكرم وغيرها اذا نفعت الناس فإنما نفعها ما دام صاحبها في الوجود ، وليس له بعد الموت إلاّ حسن الاحدوثة ، ولكن العالم يبقى نفعه ما دام علمه باقيا ، وأثره خالدا.

وقد جاء في السنّة الثناء العاطر على العلم وأهله ، كما جاء في الكتاب آيات جمّة في مدحه ومدح ذويه ، وهذا أمر مفروغ عنه ، لا يحتاج الى استشهاد واستدلال.

نعم إنما الشأن في أن هذا الثناء خاصّ بالعلم الديني وعلمائه ، أو عامّ لكلّ علم وعالم؟ إخال أن الاختصاص بعلم الدين وعلمائه لا ينبغي الريب فيه

ص: 131

فإن الأحاديث صرّحت به ، وكفى من الكتاب قوله تعالى : « إنما يخشى اللّه من عباده العلماء » (1) وقد لا تجد خشية عند علماء الصنعة وما سواهم غير علماء الدين ، بل إن بعضهم قد لا تجده يعترف بالوجود أو بالوحدانيّة.

وما استحق علماء الدين هذا الثناء إلاّ لأنهم يريدون الخير للناس ويسعون له ما وجدوا سبيلا ومتى كانوا وجدتهم أدلاّء مرشدين هداة منقذين.

وعلم الدين إلهامي وكسبي ، والكسبي يقع فيه الخطأ والصواب والصحّة والغلط ، وغلط العالم وخطأه يعود على العالم كلّه بالخطإ والغلط ، لأن النّاس أتباع العلماء في الأحكام والحلال والحرام ، واللّه جلّ شأنه لا يريد للناس إلاّ العمل بالشريعة التي أنزلها ، والأحكام التي شرّعها ، فلا بدّ إذن من أن يكون في الناس عالم لا يخطأ ولا يغلط ، ولا يسهو ولا ينسى ، ليرشد الناس الى تلك الشريعة المنزلة منه جلّ شأنه ، والأحكام المشرّعة من لدنه سبحانه ، فلا تقع الامّة في أشراك الأخطاء وحبائل الأغلاط ، ولا يكون ذلك إلاّ اذا كان علم العالم وحيا أو إلهاما.

فمن هنا كان حتما أن يكون علم الأنبياء وأوصياءهم من العلم الإيحائي أو الإلهامي صونا لهم وللامم من الوقوع في المخالفة خطأ.

واللّه تعالى قد أنزل شريعة واحدة لا شرائع ، وفي كلّ قضيّة حكما لا أحكاما ، ونصب للامّة في كلّ عهد مرشدا لا مرشدين ، ونجدها اليوم شرائع ولها مشرّعون لا شريعة واحدة ومشرّعا واحدا ، ونرى في كلّ قضيّة أحكاما لا حكما واحدا ، وفي كلّ زمن مرشدين متخالفين متنابذين بل يكفر بعضهم بعضا ، ويبرأ بعضهم من بعض لا مرشدا واحدا ، وليس هذا ما جاء به المصلح

ص: 132


1- فاطر : 28 ..

الأكبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا ما أراده لامّته.

فلا غرابة لو حكم العقل بأن الواجب عليه سبحانه أن ينصب في كلّ عهد عالما يدلّ الناس على الشريعة كما جاءت ، ويأتيهم بالأحكام كما نزلت ، وهل يجوز ذلك على أحد سوى عليّ وبنيه؟ وهذه آثارهم العلميّة بين يديك فاستقرئها ، لعلّك تجد على النور هدى ، ولو لم يكن لدنيا أثر أو دليل إلاّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها (1) » ، وقوله : « إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي » (2) ، لكفى في كون أهل البيت علماء الشريعة والكتاب ، الذين أخذوا العلم من معدنه ، واستقوه من ينبوعه ، ولو كان علمهم بالاكتساب لما جعلهم الرسول علماء الكتاب عمر الدهر دون الناس ، وما الذي ميّزهم على الناس اذا كانوا والناس في العلم سواء.

وممّا يسترعي الانتباه أن الناس كانوا محتاجين الى علمهم أبدا ، وكلّما رجعوا إليهم في أمر وجدوا علمه عندهم ، وما احتاجوا إلى علم الناس أبدا.

ولا نريد أن نلمسك هذه الحقيقة بالأخبار دون الآثار ، فإن في الآثار ما به غنى للبصر ، وهذه آثارهم شاهدة على صدق ما ادّعوه وادعي فيهم ، وأمر حقيق بأن تنتبه إليه ، وهو أن الجواد علیه السلام انتهت إليه الامامة وهو ابن سبع ، ونهض بأعبائها ، وقام بما قام به آباؤه من التعليم والإرشاد ، وأخذ منه العلماء خاضعين مستفيدين ، وما وجدت فيه نقصا عن علوم آياته وهذا عليّ بن جعفر شيخ العلويّين في عهده سنّا وفضلا اذا أقبل الجواد يقوم فيقبّل يده ، وإذا خرج يسوّي له نعله ، وسئل عن الناطق بعد الرضا علیه السلام فقال : أبو جعفر ابنه

ص: 133


1- تاريخ بغداد : 2 / 377 ، وكنز العمال : 6 / 156 ..
2- مسند أحمد بن حنبل : 4 / 366 ، وصحيح الترمذي : 2 / 308 ..

فقيل له : أنت في سنّك وقدرك وأبوك جعفر بن محمّد تقول هذا القول في هذا الغلام ، فقال ما أراك إلاّ شيطانا ثمّ أخذ بلحيته وقال : فما حيلتي إن كان اللّه رآه أهلا لهذا ولم ير هذه الشيبة لها أهلا (1) هذا وعليّ بن جعفر أخ الكاظم علیه السلام والكاظم جدّ الجواد ، فما ذا ترى بينهما من السن ، وعلي أخذ العلم من أبيه الصادق وأخيه الكاظم وابن أخيه الرضا ، فلو كان علمهم بالتحصيل لكان علي اكثر تحصيلا ، أو الإمامة بالسنّ لكان علي اكبر العلويّين سنّا.

على أن الجواد قد فارقه أبوه يوم سافر الى خراسان وهو ابن خمس ، فمن الذي كان يؤدّبه ويثقّفه بعد أبيه حتّى جعله بتلك المنزلة العليّة لو كان ما عندهم عن تعلّم وتأدّب؟ ولم لا يكون المعلّم والمثقف هو صاحب المنزلة دونه.

ومات الجواد وهو ابن خمس وعشرين سنة وأنت تعلم أن ابن هذا السنّ لم يبلغ شيئا من العلم لو أنفق عمره هذا كلّه في الطلب فكيف يكون عالم الامّة ومرشدها ، ومعلّم العلماء ومثقّفهم ، وقد رجعت إليه الشيعة وعلماؤها من يوم وفاة أبيه الرضا علیه السلام ؟

وهكذا الشأن في ابنه عليّ الهادي علیه السلام ، فقد قضى الجواد وابنه الهادي ابن ست أو ثمان ، فمن الذي ثقّفه وجعله بذلك المحلّ الأرفع؟ وكيف رجعت إليه العلماء والشيعة وهو ابن هذا السن؟ وما ذا يحسن من كان هذا عمره لو كان علمه بالكسب؟

فالصادق كسائر الأئمة لم يكن علمه كسيبا وأخذا من أفواه الرجال ومدارستهم ، ولو كان فممّن أخذ وعلى من تخرّج؟ وليس في تأريخ واحد من الأئمة علیهم السلام أنه تلمذ أو قرأ على واحد من الناس حتّى في سنّ الطفولة فلم

ص: 134


1- رجال الكشي 269 و 270 ..

يذكر في تأريخ طفولتهم أنه دخلوا الكتاتيب أو تعلّموا القرآن على المقرئين كسائر الأطفال من الناس ، فما علم الامام إلاّ وراثة عن أبيه عن جدّه عن الرسول عن جبرئيل عن الجليل تعالى ، وسوف نشير الى بعض آثاره العلميّة والى تعليمه لتلامذته ، وما سواها ممّا هو دخيل في حياته العلميّة.

مدرسته العلميّة :

ما كان أخذ العلم عنه على الطراز الذي تجده اليوم من الحوزات العلميّة والنقاش في الدليل والمأخذ ، بل كان تلامذته يرون إمامته عدا قليل منهم ، والاماميّة كما تقدّم ترى أن علم الامام لا يدخل فيه الرأي والاجتهاد فيحاسب الامام على المصدر والمستند ، وإنما علمه إلهي موروث ، نعم ربّما يسأله السائل عن علّة الحكم سؤال تعلّم واستفاده لا سؤال ردّ وجدل.

على أن من أخذوا عنه العلم من غير الاماميّة كانوا يرون جلالته وسيادته وإمامته (1) وقد عدّوا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها (2).

وهذا ابن أبي الحديد قد أرجع علم المذاهب الأربعة إليه في الفقه (3).

فكان السائل يأتي إليه ويستعلمه عمّا أشكل عليه ، وكان الكثير منهم قد استحضر الدواة والقرطاس ليكتب ما يمليه عليه الامام ليرويه عنه عن تثبّت.

وإذا أردت أن تعرف مبلغ علمه فانظر إلى كثرة من استقى منه العلم فقد بلغ من عرفوه منهم أربعة آلاف أو يزيدون ، ولما ذا روى هؤلاء كلّهم عنه ولم يرووا عن غيره ، مع وفرة العلماء في عصره ، ولما ذا إذا روى أحد منهم عنه وقف

ص: 135


1- تهذيب الأسماء واللغات وينابيع المودّة ..
2- مطالب السؤل ..
3- شرح النهج : 1 / 6 ..

عليه ، ولا يسأل عمّن يروي ما أملاه ، إلاّ أن يخبر هو أن ما أملاه عن آبائه عن جدّه الرسول صلی اللّه علیه و آله .

وما كانت تلك المدرسة التي خرّجت ذلك العدد الجم مدرسة تريد أن تعلّم العلوم للذكر والصيت والفخر والشرف ، وما كانت غاية تلامذتها إلاّ أن يتعلّموا العلم للعلم وخدمة الدين والشريعة ، ومن خالف هذه السيرة أبعده الامام عن حوزته ، فكم طرد اناسا ولعن قوما خالفوه في سيرته وسريرته وما زالت عظاته وارشاداته تسبق تعاليمه ، أو تطّرد مع بيانه.

تعاليمه لتلاميذه :

ما اكثر تعاليمه واكثر عظاته ونصائحه ، وستأتي لها فصول خاصّة ، وإنما نذكر منها هاهنا ما يخصّ طلب العلم.

قال عمرو بن أبي المقدام (1) : قال لي أبو عبد اللّه علیه السلام في أوّل مرّة دخلت عليه : تعلّموا الصدق قبل الحديث (2).

أقول : ما أثمنها نصيحة ، وما زال يوصي كلّ من دخل عليه من أوليائه بالصدق وأداء الأمانة ، ولا بدع فإن بهما سعادة المرء في هذه الحياة ، ووفرة المال والجاه ، والطمأنينة إليه ، والرضى به للحكومة بين الناس.

وأما إرشاده الى طلب العلم فما اكثر قوله فيه ، فتارة يقول علیه السلام : لست أحبّ أن أرى الشاب منكم إلاّ غاديا في حالين ، إما عالما أو متعلّما ، فان لم يفعل فرط ، وإن فرط ضيّع ، وإن ضيّع أثم (3).

ص: 136


1- سيأتي في ثقات المشاهير من رجاله ..
2- الكافي : باب الصدق وأداء الأمانة ..
3- مجالس الشيخ الصدوق رحمه اللّه ، المجلس / 11 ..

واخرى يقول : اطلبوا العلم وتزيّنوا معه بالحلم والوقار (1) وما اقتصر على حثهم على طلب العلم ، بل حثّهم على ما يزدان به من الحلم والوقار ، بل والتواضع كما في قوله علیه السلام : « وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم ، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ، ولا تكونوا علماء جبّارين ، فيذهب باطلكم بحقكم » (2).

أقول : ما أدقّها نصيحة ، وأسماه تعليما ، فإن العلم لا ينفع صاحبه ولا الناس ما لم يكن مقرونا بالتواضع ، سواء كان المتحلّي به معلّما أو متعلّما ، وأن الناس لتنفر من ذي الكبرياء ، فيكون الجبروت ذاهبا بما عنده من حق.

ويقول علیه السلام في إرشاده لطالب العلم : ولا تطلب العلم لثلاث : لترائي به ، ولا لتباهي به ، ولا لتماري به ، ولا تدعه لثلاث : رغبة في الجهل وزهادة في العلم ، واستحياء من الناس ، والعلم المصون كالسراج المطبق عليه (3).

أقول : إن الصادق علیه السلام يريد أن يكون طلب العلم للعلم ولنفع الامّة ، فلو طلبه المرء للرياء أو المباهاة أو المجادلة لما انتفع ونفع ، بل لتضرّر وأضرّ ، كما أن تركه للرغبة في الجهل والزهد في العلم كاشف عن الحمق ، ولا خير في حياء يقيمك على الرذيلة ويبعد عنك الفضيلة ، ولا يكون انتفاع الناس بالعلم إلاّ بنشره ، وما فائدة السراج اذا اطبق عليه.

ولنفاسة العلم حضّ على طلبه وإن كلّف غاليا ، فقال : اطلبوا العلم ولو بخوض المهج وشقّ اللجج (4).

ص: 137


1- الكافي : 1 / 36 / 1 ..
2- مجالس الشيخ الصدوق ، المجلس / 17 ، بحار الأنوار : 2 / 41 / 2 ..
3- بحار الأنوار : 17 / 270 ..
4- الكافي : 1 / 35 / 5 ..

ولمّا كان للعلم أوعية ومعادن نهاهم عن أخذ العلم من غير أهله فقال علیه السلام : اطلبوا العلم من معدن العلم وإيّاكم والولائج فهم الصادّون عن اللّه (1).

أقول : إننا لنجد عيانا أن المتعلّم يتغذّى بروح معلّمه ، ويتشبّع بتعاليمه ، فالتلميذ الى الضلالة أدنى إن كان المعلّم ضالاّ ، والى الهداية أقرب إن كان هاديا ، لأن غريزة المحاكاة تقوى عند التلميذ بالقياس الى معلّمه.

وما حثّ على طلب العلم فحسب ، بل أراد منهم اذا تعلّموه أن يعملوا به فقال علیه السلام : تعلّموا العلم ما شئتم أن تعلموا فلن ينفعكم اللّه بالعلم حتّى تعملوا به ، لأن العلماء همّهم الرعاية ، والسفهاء همّهم الرواية (2) وقال : العلم الذي لا يعمل به كالكنز الذي لا ينفق منه أتعب نفسه في جمعه ولم يصل الى نفعه (3) وقال : مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه (4) وقال : إن العالم اذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا (5).

وقد دلّهم على ما يحفظون به ما يتعلّمونه فقال علیه السلام : اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتّى تكتبوا (6).

وممّا قاله للمفضّل بن عمر : اكتب وبثّ علمك في إخوانك فإن متّ

ص: 138


1- كتاب زيد الزراد وهو من الاصول المعتبرة ..
2- بحار الأنوار : 2 / 37 / 54 ..
3- بحار الأنوار : 2 / 37 / 55 ..
4- بحار الأنوار : 2 / 38 / 56 ..
5- بحار الأنوار : 2 / 39 / 68 ..
6- الكافي : 1 / 52 / 9 ..

فورّث كتبك بنيك ، فإنّه يأتي زمان هرج ما يأنسون فيه إلاّ بكتبهم (1).

وقال : احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها. (2)

إنه علیه السلام ما أراد فضيلة العلم لأهل زمانه فحسب ، بل أرادها لكلّ جيل وعصر ، كما أنه ما أوصاهم بالتعلّم إلاّ لأن يجمعوا كلّ فضيلة معه كما ستعرفه من وصاياه ، وكما تعرفه من قوله علیه السلام .

فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث ، وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس ، قيل هذا جعفري ، ويسرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور ، وإن كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره ، وقيل هذا أدب جعفر (3).

إن الصادق وآباءه من قبل وأبناءه من بعد جاهدوا في حسن تربية الامّة وتوجيههم الى الفضائل ، وردعهم عن الرذائل بشتّى الوسائل ، ولكن ما حيلتهم اذا كان الناس يأبون أن يسيروا بنهج الحقّ ، وأن يتنكّبوا عن جادة الباطل.

وما حضّ على طلب العلم إلاّ وحضّ على العناية بشأن العلماء والعطف عليهم ، فقال علیه السلام : إني لأرحم ثلاثة ، وحقّ لهم أن يرحموا : عزيز أصابته ذلّة ، وغنيّ أصابته حاجة ، وعالم يستخفّ به أهله والجهلة (4).

وقال علیه السلام : ثلاثة يشكون الى اللّه عزّ وجل : مسجد خراب لا يصلّي به أهله ، وعالم بين جهّال ، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبار لا يقرأ فيه (5).

وقال إسحاق بن عمّار الصيرفي (6) : قلت للصادق علیه السلام : من قام من

ص: 139


1- الكافي : 1 / 52 / 11 ..
2- الكافي : 1 / 52 / 10 ..
3- الكافي : 2 / 636 ..
4- خصال الصدوق : ص 87 ..
5- بحار الأنوار : 92 / 195 ..
6- سيأتي في ثقات المشاهير من أصحابه علیه السلام ..

مجلسه تعظيما لرجل ، قال علیه السلام : مكروه إلاّ لرجل في الدين. وقال علیه السلام : من اكرم فقيها مسلما لقي اللّه يوم القيامة وهو عنه راض ، ومن أهان فقيها مسلما لقي اللّه يوم القيامة وهو عليه غضبان (1).

وما اكثر ما جاء عنه علیه السلام في رعاية أهل العلم وتقديرهم ، واكرام العلماء وتوقيرهم ، وهكذا كان مجاهدا في تثقيف أتباعه وتهذيبهم وتعليمهم الأخلاق الفاضلة.

الحديث :

عرفت أن الذي روى عنه الحديث أربعة آلاف راوية أو يزيدون وكان التدوين قبل عهده وكثر في أوانه ، وكان الحديث المدوّن عنه في كلّ علم.

وكان الشيعة يأخذون عنه الحديث كمن يتلقّاه عن سيّد الرسل صلی اللّه علیه و آله ، لأنهم يعتقدون أن ما عنده عن الرسول من دون تصرّف واجتهاد منه ، ولذا كانوا يأخذون منه مسلّمين من دون شكّ واعتراض ، ويسألونه عن كلّ شيء يحتاجون إليه فكان حديثه المروي يجمع كلّ شيء.

واذا كان الرواة أربعة آلاف أو اكثر ، فما كان عدد الرواية؟ ولقد ذكر أرباب الرجال أن أبان بن تغلب وحده روى عنه ثلاثين ألف حديث ، ومحمّد بن مسلم ستة عشر ألف حديث وعن الباقر ثلاثين ألفا ، ولا تسل عن مقدار ما رواه جابر الجعفي ، فهل يحصى إذن عدد الرواية ، والفنون المرويّة عنه؟

ولقد بقي بالأيدي من تلك الرواية بعد ضياع الكثير وإهمال البعض ما ملأ الصحف والطوامير.

ص: 140


1- بحار الأنوار : 47 / 44 / 13 ..

وقد جمعت شطرا من تلك الأحاديث التي رويت عنه وعن آبائه وأبنائه في الأخلاق والآداب والأحكام فحسب ، الكتب الأربعة ( الكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب ، والاستبصار ) ثمّ جمعها الملاّ محسن الفيض الكاشاني (1) في كتاب ( الوافي ) ، ولمّا وجد الحرّ العاملي (2) كتبا اخرى تصلح لأن تكون مصدرا للأحكام خاصّة ضمّها الى ما في الكتب الأربعة فألّف كتابه ( تفصيل وسائل الشيعة ) فكان ما روى عنه بلا واسطة ثمانين كتابا وبواسطة سبعين كتابا.

ثمّ جاء أخيرا العلاّمة النوري ميرزا حسين (3) وقد وقف على عدّة كتب اخرى صالحة لأن تكون مصدرا ، فجمع منها الشيء الوافر في الأحكام خاصّة ، وألّفه على نهج كتاب الوسائل للحرّ وسماه ( مستدرك الوسائل ).

هذا ما كان في الأحكام خاصّة ، وأما في الأخلاق والآداب ، فلم يجمع فيهما من الكتب الأربعة إلاّ الكافي ، واكثر ما روي فيها كان عنه علیه السلام خاصّة ، ولو شئت أن تحصي الكتب التي روت عنهم وعنه لأعياك العدّ ، فهذا الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن بابويه وحده قد ألّف عشرات الكتب التي اشتملت على أحاديثهم.

ص: 141


1- صاحب التآليف القيّمة الكثيرة ، وقيل إنها قريب من مائة مؤلّف منها كتاب الوافي وفيه شروح جمّة على الأحاديث ، وكتاب الصافي في التفسير ، والشافي مختصره ، والمحجّة البيضاء في إحياء الأحياء ، والحقائق ملخّصه ، ومفاتيح الشرائع في الفقه ، وعلم اليقين ، وعين اليقين وغيرها توفى عام 1091 ..
2- هو محمّد بن الحسن بن علي الحرّ العاملي ، وكتابه الوسائل من أنفس الكتب في ترتيبه وتبويبه ، وكان فراغه من تأليفه في منتصف رجب عام 1082 ، وله كتاب أمل الآمل في علماء جبل عامل ، وكانت ولادته عام 1033 ثامن رجب في قرية مشغرة من جبل عامل ووفاته في خراسان 21 من شهر رمضان عام 1104 ..
3- صاحب التآليف الجمّة القيّمة ، وكان دأبه الجمع والتأليف توفى عام 1320 ..

وكفى في وفرة الحديث عنهم ما جمعه بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي (1).

وإن اشتمل على الغثّ والسمين شأن المؤلّفات الواسعة ، غير أنك اذا استقريت بعض كتبه عرفت وفرة ما فيه ، ومن الغريب أن يكون هذا الكتاب الجامع الذي لم يؤلّف مثله حتّى اليوم قد فاته الشيء الكثير من حديثهم ، فتصدّى بعض علماء العصر وفّقه اللّه (2) لجمع كتاب مستدرك للبحار وقد جمع الى اليوم فيه الشيء الكثير.

وكان الصادق علیه السلام يرغّب أصحابه في رواية الحديث فيقول لمعاوية بن وهب (3) الراوية للحديث : المتفقّه في الدين أفضل من ألف عابد لا فقه له ولا رواية.

أقول : ولا إخالك تستغرب من هذا التفضيل ، لأن اللّه تعالى يريد من عباده أن ينفع بعضهم بعضا ، ويصلح بعضهم بعضا ، والعابد صالح ، والمحدّث المتفقّه مصلح وصالح.

الفقه :

إن الفقه هو معرفة الأحكام الفرعيّة من الطهارات الى الديات ، وهذه الأحكام مأخوذة من الأدلّة الأربعة واكثرها شرحا وبسطا - السنّة - وهي

ص: 142


1- هو شيخ الاسلام الشيخ محمّد باقر ابن الشيخ محمد تقى المجلسي طاب ثراه وكان في أيّامه صاحب النفوذ في دولة الشاه حسين الصفوي وكانت حوزته العلميّة تجمع ألف تلميذ ، وله مؤلّفات أخرى جليلة سوى البحار ، وكانت ولادته عام 1037 ، ووفاته عام 1110 أو 1111 في اصفهان ، وبها اليوم مرقده معروف يزار ..
2- هو العلاّمة الجليل الكبير سنّا وأخلاقا ميرزا محمّد الطهراني نزيل سامراء اليوم ..
3- الظاهر أنه البجلي الكوفي ، الثقة الجليل ، وقد روي عن الصادق والكاظم علیهماالسلام ، وله كتاب رواه عنه جماعة من أجلاّء الرواة ..

حديث الرسول وأهل بيته عند الشيعة ، فكتب الشيعة في الفقه مأخوذة من هذه الأدلّة الأربعة ، واكثر السنّة حديثا هو الحديث الصادقي ، ولو لا حديثه لأشكل على العلماء استنباط اكثر تلك الأحكام.

وما كان فقهاء الشيعة عيالا عليه فحسب ، بل أخذ كثير من فقهاء السنّة الذين عاصروه الفقه عنه ، أمثال مالك وأبي حنيفة والسفيانين وأيوب وغيرهم ، كما ستعرفه في بابه ، بل ان ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 1 : 6 ) أرجع فقه المذاهب الأربعة إليه ، وهذا الآلوسي في مختصر التحفة الاثنى عشريّة ص 8 يقول : وهذا أبو حنيفة وهو بين أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان : لو لا السنّتان لهلك النعمان ، يريد السنّتين اللتين صحب فيها الامام جعفر الصادق علیه السلام لأخذ العلم.

فكان الحقّ أن يصبح أبو عبد اللّه علیه السلام فقيه الاسلام الوحيد ، وكفى من فقهه كثرة الرواية والرواة عنه ، ومن سبر كتب الحديث عرف كثرة الحديث الصادقي ، وكثرة رواته وقد عاصره فقهاء كثيرون ، فما بلغ رواة أحدهم ما بلغه رواته ، وما أنفق في هذه السوق أحد مثلما أنفقه من علم وفقه ، وما سئل عن شيء فتوقّف في جوابه.

إن الفقه النظام العامّ للناس ، ولا يعرف الدين بسواه ، ومن هنا أمر الصادق رجاله بالتفقّه في الدين فقال علیه السلام : « حديث في حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضّة ».

وقال علیه السلام : « لا يشغلك طلب دنياك عن طلب دينك فان طالب الدنيا ربّما أدرك وربّما فاتته فهلك بما فاته منها ».

وقال حرصا على التفقّه في الدين : « ليت السياط على رءوس أصحابي

ص: 143

حتى يتفقّهوا في الحلال والحرام ».

وقال علیه السلام : « تفقّهوا في الدين ، فإنه من لم يتفقّه منكم فهو اعرابي » (1).

وسئل عن الحكمة في قوله تعالى : « ومن اوتي الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا » (2) فقال : « إن الحكمة المعرفة والتفقّه في الدين » (3).

والفقيه عنده العارف بالحديث ، فقال علیه السلام : « اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا ، فإنّا لا نعدّ الفقيه منهم فقيها حتّى يكون محدّثا ». (4) الأخلاق :

إن علم الأخلاق لم يكن بدء الأمر مبوّبا ، وإنما كانت الأخلاق تلتقط من تلك الآيات الكريمة التي جاء بها الكتاب الحكيم (5) ومن كلام سيّد الأنبياء وسيّد الأوصياء وأبنائهما الحكماء عليهم جميعا سلام اللّه ، وإنما ابتدأ التأليف فيه عند الشيعة في أخريات القرن الثاني من إسماعيل بن مهران بن أبي نصر السكوني وكان من أصحاب الرضا علیه السلام وثقات الرواة وله كتاب صفة المؤمن والفاجر ، ثمّ ألّف فيه من رجال القرن الثالث أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، وكان من ثقات الرواة وأبوه محمّد من أصحاب الرضا علیه السلام

ص: 144


1- بحار الأنوار : 1 / 215 / 19 .
2- البقرة : 269 .
3- بحار الأنوار : 1 / 215 / 25 .
4- بحار الأنوار : 2 / 82 / 1 .
5- جمعت الشيء الكثير من الآيات الأخلاقيّة وعلّقت عليها موجزا من البيان وسمّيته : القرآن تعليمه وإرشاده .

وثقات رواته ، وكتاب أبي جعفر ( المحاسن ) من محاسن الكتب ، وكانت وفاته عام 274 أو 280 في قم ، ومن رجال هذا القرن المؤلّفين في الأخلاق الحسن ابن علي بن شعبة ، وكتابه تحف العقول وهو كتاب نفيس يشتمل على الحكم والمواعظ والأخلاق لكل إمام إمام ، ثمّ اتّسع التأليف في الأخلاق فكان من أفضله اصول الكافي لثقة الاسلام الكليني طاب ثراه المتوفى عام 329 ، الذي جاهد طوال السنين في تأليف هذا الكتاب حتّى جعله منتخبا في أحاديثه وأسانيده ، ولو ألقيت نظرة على كتبه وأبوابه لعرفت ما هي الأخلاق وما علم الصادق وأهل البيت في الأخلاق.

ولو أمعن الناظر في هذا الكتاب لعرف أن أفضل مصدر لعلم الأخلاق بعد الكتاب الحكيم كلام من كان على خلق عظيم ، وكلام من ورثوا عنه كلّ علم وفضل ، وسوف تجد صدق ذلك اذا قرأت المختار من كلام الصادق علیه السلام في هذا الكتاب.

التفسير :

كان في الحديث عن أهل البيت الذي أشرنا إليه موارد جمّة للتفسير حتّى أن بعض المفسّرين جعلوا تفسيرهم كلّه مبنيّا على الحديث ، واذا شئت أن تعرف شيئا من كلام الصادق علیه السلام في التفسير فدونك ( مجمع البيان ) فإنه قد أورد شيئا من أحاديثه في تفسيره ، وقد يشير الى رأي أهل البيت مستظهرا ذلك من حديثهم.

وأن هناك مؤلّفات عديدة في آيات الأحكام ، وقد علّق عليهما المؤلّفون ما جاء في تفسيرها والاشارة الى مفادها من طريق أهل البيت وأحاديثهم ، والحديث الوارد عن سيّد الرسل في عدّة مقامات ومن عدّة طرق : « إني تارك

ص: 145

فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا فإنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » يعرّفنا مبلغ علمهم بالقرآن ، وان في كلّ زمن عالما منهم بالقرآن ، وتشفع لهذا الحديث الأخبار الكثيرة الواردة عن أهل البيت في شأن علمهم بالقرآن ، والصادق نفسه يقول : واللّه إني لأعلم كتاب اللّه من أوّله الى آخره كأنه في كفّي ، فيه خبر السماء وخبر الأرض ، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن ، قال اللّه عزّ وجل « فيه تبيان كلّ شيء » (1).

ويفرج أصابعه مرّة اخرى فيضعها على صدره ويقول : « وعندنا واللّه علم الكتاب كلّه » (2) الى كثير أمثال ذلك.

ولا بدّ في كلّ زمن من عالم بالقرآن الكريم على ما نزل ، كما يشهد لذلك حديث الثقلين ، ولأن القرآن إمام صامت وفيه المحكم والمتشابه ، والمجمل والمبيّن ، والناسخ والمنسوخ ، والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، الى غير ذلك ممّا خفي على الناس علمه ، وكلّ فرقة من الاسلام تدّعي أن القرآن مصدر اعتقادها وتزعم أنها وصلت الى معانيه واهتدت الى مقاصده وتأتي على ذلك بالشواهد ، فالقرآن مصدر الفرق بزعم أهل الفرق ، فمن هو الحكم الفصل ليردّ قوله وتفسيره شبه هاتيك الفرق ، ومزاعم هذه المذاهب؟ وقد دلّ حديث الثقلين على أن علماء القرآن هم العترة أهل البيت خاصّة ومنهم يكون العالم به في كلّ عصر.

وفي عصره علیه السلام اذا لم يكن هو العالم بالقرآن فمن غيره؟ ليس في الناس من يدّعي أن في أهل البيت أعلم من الصادق في عهده في التفسير أو في

ص: 146


1- يريد الاشارة الى قوله ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) ..
2- الكافي : 1 / 229 / 5 ..

سواه من العلوم.

علم الكلام :

نعني من علم الكلام العلم الذي يبحث عن الوجود والوحدانيّة والصفات وما يلزم هذه المباحث من نبوّة وإمامة ومعاد ، بالأدلّة العقليّة المبتنية على اسس منطقيّة صحيحة ، ولا نعني به علم الجدل الذي تاه فيه كثير من الناس لاعتمادهم فيه على خواطر توحيها إليهم نفوس ساقها الى الكلام حبّ الغلبة في المجادلة ، ، دون أن يستندوا الى ركن وثيق أو يأخذوا هذا العلم من معدنه الصحيح.

وإن جاء ذمّ على ألسنة الأحاديث للمتكلّمين فيعني بهم الذين تعلّموا الجدل للظهور والغلبة ولم يستقوا الماء من منبعه ، ولم يعبئوا بما يجرّهم إليه الكلام من لوازم فاسدة ، وأمّا الذين انتهلوه من مورده الروي وبنوه على اسس صحيحة ودعائم وجدانيّة فإنهم ألسنة الحقّ وهداته ودعاة الايمان وأدلاؤه.

وإن أوّل من برهن على الوجود ولوازم الوجود بالأدلّة العقليّة والآثار المحسوسة أمير المؤمنين علیه السلام حتّى كاد أن يشكّ في تلك الخطب بعض من يجهل أو يتجاهل مقام أبي الحسن من العلم الربّاني بدعوى أن العلم على تلك الاصول لم يكن معهودا في ذلك الزمن ، وليت شعري إن لم يعترف هذا الجاهل بأن علم أبي الحسن إلهامي يستقيه من المنبع الفيّاض فإنه لا يجهل ما قاله النبي صلی اللّه علیه و آله فيه : أنا مدينة العلم وعليّ بابها.

ونسج على منوال أبي الحسن بنوه في هذا العلم فإنهم ما زالوا يفيضون على الناس من علمهم الزاخر عن الوجود ولوازمه ، وكيف يعبد الناس ربّا لا يعرفونه ويطيعون نبيّا يجهلونه ويتّبعون إماما لا يفقهون مقامه ، فالمعرفة قبل كلّ علم

ص: 147

وأفضل كلّ علم ، يقول الصادق علیه السلام : أفضل العبادة العلم باللّه (1).

وليس للسمع في تلك القواعد والاصول مدخل ، لأن التقليد في العقليّات لا يصحّ عند أرباب العقول.

بلى قد يجيء النقل دليل ولكنه من الارشاد الى حكم العقل ، أو الاشارة الى الفطرة كما في قوله تعالى : « أفي اللّه شكّ فاطر السموات والأرض » (2) وأمثاله من القرآن المجيد ، فإن هذه الآية الكريمة لم تحمّلك على القول بالوجود حتما ، بل لفتتك إليه من جهة الأثر ومشاهدته.

فاذا جاء عن الرسول وعترته أدلّة على هذه الاصول فما كلامهم في هذا إلاّ إرشاد الى حكم العقل ، فإنهم ما زالوا يدلّون على العقل ويهدون الى دلالته ، وهذا الصادق نفسه يقول : العقل دليل المؤمن ، ويقول : دعامة الانسان العقل ، ويقول : لا يفلح من لا يعقل (3) ، ولو قرأت ما أملاه الكاظم علیه السلام على هشام بن الحكم في شأن العقل والعقلاء (4) لعرفت كيف عرفوا حقيقة العقل ، ودلّوا عليه وحثّوا على الاستضاءة بنوره.

ولقد جاء في كلامهم الشيء الكثير من الاستدلال على هذه الاصول ، وهذا نهج البلاغة قد جمع من البراهين ما أبهر العقول وحيّر الألباب ، كما جمعت كتب الحديث والكلام كثيرا من تلك الحجج ، ومن تلك الكتب احتجاج الطبرسي ، واصول الكافي ، وتوحيد الصدوق ، والأوّل والثّاني من البحار ، وفي كتبه الاخرى التي يترجم فيها الأئمة علیهم السلام ويذكر كلامهم طيّ

ص: 148


1- بحار الأنوار : 215 / 21 ..
2- إبراهيم : 10 ..
3- الكافي : 1 / 26 / 29 ..
4- الكافي : 1 / 13 / 12 ..

تراجمهم ، الى نظائر هذه الكتب الجليلة.

ونحن الآن نوافيك بشيء ممّا جاء عن الصادق علیه السلام في بعض هذه الاصول.

الوجود والتوحيد :

إن للصادق علیه السلام فصولا جمّة في التدليل على وجوده ووحدانيّته تعالى ، منها توحيد المفضّل ، وهو الدروس التي ألقاها على المفضّل بن عمر الجعفي الكوفي أحد أصحابه الذين جمعوا بين العلم والعمل ، ورسالته المسمّاة بالاهليلجة ، المرويّة عن المفضّل أيضا ، غير أن التوحيد أخذه منه شفاها ، والرسالة رواها مكاتبة وهاتان الرسالتان وإن كانتا مقطوعتي السند غير أن البيان يفصح لك عن صدق النسبة ، ولو لا أن نخرج عن خطّتنا المرسومة لأتينا بهما جميعا مع بعض التعاليق الوجيزة ، غير أننا نأتي بشيء منهما لئلاّ يخلو هذا السفر من تلك العقود النفيسة.

توحيد المفضّل :

اشارة

سمع المفضّل ابن أبي العوجاء والى جانبه رجل من أصحابه في مسجد النبي صلی اللّه علیه و آله وهما يتناجيان في ذكر النبي صلی اللّه علیه و آله ويستغربان من حكمته وحظوته ، ثمّ انتقلا الى ذكر الأصل فأنكر وجوده ابن أبي العوجاء وزعم أن الاشياء ابتدأت بإهمال ، فأزعج ذلك المفضّل فلم يملك نفسه غضبا وغيظا ، ثمّ أنحى عليه يسبّه ، وبعد مناظرة جرت بينهما قام المفضّل ودخل على الصادق علیه السلام ، والحزن لائح على شمائله ، يفكّر فيما ابتلى به الاسلام وأهله من كفر هذه العصابة وتعطيلها ، فسأله الصادق علیه السلام عن شأنه

ص: 149

حين رأى الانكسار باديا على وجهه ، فأخبره بما سمعه من الدهرتين ، وبما ردّ عليهما به ، فقال الصادق علیه السلام : لألقينّ إليك من حكمة الباري جلّ وعلا في خلق العالم والسباع والبهائم والطير والهوام وكلّ ذي روح من الأنعام ، والنبات والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر والحبوب والبقول المأكول وغير المأكول ما يعتبر به المعتبرون ، ويسكن إلى معرفته المؤمنون ويتحيّر فيه الملحدون فبكّر عليّ غدا.

حقّا لقد ألقى الصادق علیه السلام على المفضّل من البيان ما أنار به الحجّة وأوضح الشبهة ، ولم يدع للشكّ مجالا ، وللشبهة سبيلا ، وأبدى من الكلام عن بدائع خلائقه ، وغرائب صنائعه ، ما تحار منه الألباب ، وتندهش منه العقول ، وأظهر من خفايا حكمه ما لا يهتدي إلاّ أمثاله ممّن اوتي الحكمة وفصل الخطاب.

وكلّما حاولت أن أنتخب فصولا خاصّة من تلك البدائع لم أطق ، لأني أجدها كلّها منتخبة ، وأن أقتطف من كلّ روضة زهرتها اليانعة لم أستطع لأني أراها كلّها وردة واحدة في اللون والعرف ، فما رأيت إلاّ أن أذكر من كلّ فصل أوّله ، واشير إلى شيء منه ، والفصول أربعة :

- 1 -

قال علیه السلام - بعد أن ذكر عمى الملحدين وأسباب شكّهم وتهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه وانتظامها - : نبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الانسان فاعتبر به ، فأوّل ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة (1) حيث لا حيلة عنده في طلب

ص: 150


1- الثوب الذي يكون فيه الجنين ..

غذاه ، ولا دفع أذى ، ولا استجلاب منفعة ، ولا دفع مضرّة ، فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاءه حتّى اذا كمل خلقه واستحكم بدنه ، وقوي أديمه (1) على مباشرة الهواء وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق بامّه فأزعجه أشدّ إزعاج وأعنفه حتّى يولد ، واذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم امّه الى ثديها ، فانقلب الطعم واللون الى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم ، فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمّظ وحرّك شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثدي أمّه كالأداوتين (2) المعلّقتين لحاجته إليه ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء ليّن الأعضاء ، حتّى اذا تحرّك واحتاج الى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ، ليمضغ بها الطعام فيلين عليه وتسهل له إساغته ، فلا يزال كذلك حتّى يدرك ، فاذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبي وشبه النساء ، وإن كانت انثى يبقى وجهها نقيّا من الشعر لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه.

اعتبر يا مفضّل فيما يدبر الانسان في هذه الأحوال المختلفة ، هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ، ألم يكن سيذوي ويجفّ كما يجفّ النبات اذا فقد الماء؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ، ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤد في الأرض؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ، ألم يكن سيموت جوعا أو يغتذي بغذاء لا يلائمه ولا يصلح عليه بدنه؟

ص: 151


1- جلده ..
2- تثنية أداوة - بالكسر - إناء صغير من جلد يتّخذ للماء ..

ولو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها ، ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإساغته ، أو يقيمه على الرضاع فلا يشدّ بدنه ولا يصلح لعمل ، ثمّ كان تشتغل امّه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد؟ ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ، ألم يكن سيبقى في هيئة الصبيان والنساء ، فلا ترى له جلالا ولا وقارا؟ فمن هذا الذي يرصده حتّى يوافيه بكلّ شيء من هذه المآرب إلاّ الذي أنشأه خلقا بعد أن لم يكن ، ثمّ توكّل له بمصلحته بعد أن كان ، فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطإ والمحال لأنهما ضدّ الإهمال ، وهذا فظيع من القول وجهل من قائله ، لأن الإهمال لا يأتي بالصواب ، والتضادّ لا يأتي بالنظام ، تعالى اللّه عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا.

أقول : إن الإهمال دوما يأتي بالخطإ كما نشاهده عيانا ، أرأيت لو وجّهت الماء الى الزرع وأهملت تقسيمه على الألواح أيسقي الألواح كلّها من دون خلل ، أو إذا نثرت البذر في الأرض من دون مناسبة أيخرج الزرع بانتظام ، أو إذا جمعت قطعا من خشب وواصلتها بمسامير أتكون كرسيّا أو بابا من دون تنسيق.

ثمّ قال علیه السلام : ولو كان المولود يولد فهما عاقلا لأنكر العالم عند ولادته ، ولبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف ، وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير إلى غير ذلك ممّا يشاهده ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم ، واعتبر ذلك بأن من سبي من بلد إلى بلد وهو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع في تعلّم الكلام وقبول الأدب كما يسرع الذي يسبى صغيرا غير عاقل ، ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصّبا بالخرق مسجّى في المهد ، لأنه لا يستغني عن هذا كلّه لرقّة بدنه ورطوبته حين يولد ، ثمّ كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل ، فصار يخرج الى الدنيا غبيّا غافلا عمّا فيه أهله فيلقي الأشياء بذهن ضعيف

ص: 152

ومعرفة ناقصة ثمّ لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا وشيئا بعد شيء وحالا بعد حال ، حتّى يألف الأشياء ويتمرّن ويستمرّ عليها ، فيخرج من حدّ التأمّل لها والحيرة فيها الى التصرّف والاضطراب في المعاش بعقله وحيلته والى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية ، وفي هذا أيضا وجوه أخر فإنه لو كان يولد تامّ العقل مستقلاّ بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد ، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة ، وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافاة بالبرّ والعطف عليهم عند حاجتهم الى ذلك منهم ، ثمّ كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء أبناءهم ، لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم فيتفرّقون عنهم حين يولدون ، فلا يعرف الرجل أباه وأمّه ولا يمتنع من نكاح امّه واخته وذوات المحارم منه إذ لا يعرفهنّ ، وأقلّ ما في ذلك من القباحة ، بل هو أشنع وأعظم وأفظع وأقبح وأبشع لو خرج المولود من بطن امّه وهو يعقل أن يرى منها ما لا يحلّ له ، ولا يحسر به أن يراه ، أفلا ترى كيف اقيم كلّ شيء من الخلقة على غاية الصواب وخلا من الخطأ دقيقه وجليله.

أقول : إن بعض هذا البيان البديع من الامام عن تدرج الانسان في نموّه ، ونموّه في أوقاته كاف في حكم العقل بأنّ له صانعا صنعه عن علم وحكمة وتقدير وتدبير.

ثمّ أن الصادق علیه السلام جعل يذكر فوائد البكاء للأطفال من التجفيف لرطوبة الدماغ وأن في بقاء الرطوبة خطرا على البصر والبدن.

ثمّ ساق البيان الى جعل آلات الجماع في الذكر والانثى على ما يشاكل أحدهما الآخر ، ثمّ ذكر أعضاء البدن والحكمة في جعل كلّ منها على الشكل الموجود ، وهاهنا يقول له المفضّل : يا مولاي إن قوما يزعمون أن هذا من فعل

ص: 153

الطبيعة ، فيقول له الامام : سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال ، أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق ، فإن هذه صفته ، وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم وأن الذي سمّوه طبيعة هو سنّة في خلقه الجارية على ما أجراه عليه.

أقول : انظر إلى قول أهل الطبيعة فإنهم جروا على نسق واحد من عهد الصادق علیه السلام إلى اليوم ، وكأنهم لم يتعقّلوا هذا الجواب القاطع لحججهم أو أغضوا عنه إصرارا على العناد والجحود.

إن الامام حصر الطبيعة بين اثنين لا ثالث لهما ، وذلك لأنها إمّا أن تكون ذات علم وحكمة وقدرة ، أو تكون خالية عن ذلك كلّه ، فإن كان الأوّل فهي ما نثبته للخالق ، ولا فارق إذن بينهم وبيننا إلاّ التسمية ، وإن كان الثاني كان اللازم أن تكون آثارها مضطربة لا تقدير فيها ولا تدبير شأن من لا يعقل ويبصر ويسمع في أفعاله ، ولكننا نشاهد الآثار مبنيّة على العلم والحكمة والقدرة والتقدير ، فلا تكون إذن من فعل الطبيعة العمياء الصمّاء وكانت الطبيعة غير اللّه العالم القادر المدبّر ولا تكون الطبيعة إذن إلاّ سنّته في خلقه ، لا شيء آخر له كيان مستقلّ عن خالق الكون.

ثمّ أن الامام علیه السلام عاد الى كلامه الأول فتكلّم عن وصول الغذاء الى البدن وكيفيّة انتقال صفوه من المعدة الى الكبد في عروق رقاق واشجة بينها قد جعلت كالمصفى للغذاء ، ثمّ صيرورته دما ونفوذه الى البدن كلّه في مجار مهيّأة لذلك ، ثمّ كيفيّة تقسيمه في البدن وبروز الفضلة منه ، فكأنما الامام كان الطبيب النطاسي الذي لم يماثله أحد في الطب ، والعالم الماهر في التشريح الذي

ص: 154

قضى عمره في عملية التشريح ، بل كشف الامام في هذا البيان ( الدورة الدموية ) التي يتغنّى الغربيّون باكتشافها وقد سبقهم إليها بما يقارب اثنى عشر قرنا.

ثمّ ساق كلامه الى نشوء الأبدان ونموّها حالا بعد حال ، وما شرّف اللّه به الانسان من الميزة في الخلقة على البهائم ، ثمّ استطرد الكلام الى الحواسّ التي خصّ اللّه بها الانسان وفوائد جعلها على النحو الموجود ، واختصاص كلّ منها بأثر لا تؤدّيه الثانية ، وهكذا يفيض في بيانه عن الأعضاء المفردة والمزدوجة والأسباب التي من أجلها جعلها على هذا التركيب ، إلى أن يطّرد في بيانه عمّا منحه الجليل من النعم في المطعم والمشرب ، وما جعل فيه من التمايز في الخلقة حتّى لا يشبه أحد الآخر.

إلى أن يقول علیه السلام : لو رأيت تمثال الانسان مصوّرا على حائط فقال لك قائل : إن هذا ظهر هاهنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع ، أكنت تقبل ذلك؟ بل كنت تستهزئ به ، فكيف تنكر هذا في تمثال مصوّر جماد ولا تنكر في الانسان الحيّ الناطق.

أقول : ما أقواها حجّة ، وأسماه بيانا ، وأن كلّ ناظر فيه من أهل كلّ قرن يكاد أن يقول : إنه أتى به لأهل زمانه وقرنه في الحجّة والاسلوب لما يجده من ملائمة البيان والبرهان.

- 2 -

ثمّ أنه في اليوم الثاني أورد على المفضّل الفصل الثاني وهو في خلقة الحيوان فقال علیه السلام : أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتّضح لك من أمره ما وضح لك

ص: 155

من غيره ، فكّر في أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه ، فلا هي صلاب كالحجارة ، ولو كانت كذلك لا تنثني ولا تتصرّف في الأعمال ولا هي على غاية اللين والرخاوة ، فكانت لا تتحامل ولا تستقلّ بأنفسها ، فجعلت من لحم رخو ينثني تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب وعروق تشدّه وتضمّ بعضه الى بعض ، وعليت (1) فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كلّه.

ومن أشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل من العيدان وتلفّ بالخرق وتشدّ بالخيوط ويطلى فوق ذلك بالصمغ ، فتكون العيدان بمنزلة العظام والخرق بمنزلة اللحم ، والخيوط بمنزلة العصب والعروق ، والطلاء بمنزلة الجلد ، فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرّك حدث بالإهمال من غير صانع ، جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميّتة ، فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحريّ ألاّ يجوز في الحيوان.

وفكّر بعد هذا في أجساد الأنعام فإنها خلقت على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب اعطيت أيضا السمع والبصر ، ليبلغ الانسان حاجياته منها ، ولو كانت عميا صمّا لما انتفع بها الانسان ، ولا تصرّفت في شيء من مآربه ، ثمّ منعت الذهن والعقل لتذلّ للانسان ، فلا تمتنع عليه إذا كدّها الكدّ الشديد ، وحملها الحمل الثقيل ، فإن قال قائل : إنه قد يكون للانسان عبيد من الإنس يذلّون ويذعنون بالكدّ الشديد وهم مع ذلك غير عديمي العقل والذهن ، فيقال في جواب ذلك : إن هذا الصنف من الناس قليل ، فأمّا اكثر البشر فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل والطحن وما أشبه ذلك ، ولا يقومون بما يحتاجون إليه منه ، ثمّ لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن

ص: 156


1- غلفت في نسخة ..

سائر الأعمال ، لأنه كان يحتاج مكان الجمل الواحد والبغل الواحد الى عدّة اناسي ، فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتّى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات ، مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم والضيق والكدّ في معاشهم.

ثمّ أنه علیه السلام أخذ يذكر المميّزات ، لكلّ نوع من الأنواع الثلاثة للحيوان وهي : الانسان ، وآكلات اللحوم ، وآكلات النبات ، وما يقتضي كلّ نوع منها حاجته من كيفيّة الأعضاء والجوارح ، فيأتيك بلطائف الحكمة ، وبدائع القدرة ، ومحاسن الطبيعة.

ويدلّك على الحكمة في جعل العينين في وجه الدابّة شاخصتين والفم مشقوقا شقا في أسفل الخطم (1) ولم يجعل كفم الانسان ، الى غير ذلك من خصوصيّات الأعضاء والجوارح.

ويرشدك الى الفطنة في بعضها اهتداء لمصلحته كامتناع الايل (2) الآكل للحيّات عن شرب الماء ، لأن شرب الماء يقتله ، واستلقاء الثعلب على ظهره ونفخ بطنه اذا جاع ، حتّى تحسبه الطير ميّتا ، فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها ، الى غيرهما من الحيوانات ، فيقول الصادق علیه السلام : من جعل هذه الحيلة طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة؟

ثمّ أنه علیه السلام تعرّض في كلامه للذرة والنملة والليث ، وتسمّيه العامّة أسد الذباب وتمام خلقة الذرة مع صغر حجمها ، والنملة وما تهتدي إليه لاقتناء قوتها ، والليث وما يهتدى إليه في اصطياد الذباب ، ثمّ يقول : فانظر الى هذه

ص: 157


1- بفتح وسكون ، من الطائر منقاره ومن الدابة مقدم أنفها وفمها ..
2- كقنب وخلب وسيد : الوعل ..

الدويبة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الانسان إلاّ بالحيلة واستعمال الآلات ، فلا تزدر بالشيء اذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرة والنملة وما أشبه ذلك ، فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشيء الحقير فلا يضع منه ذلك ، كما لا يضع من الدينار وهو ذهب أن يوزن بمثقال من حديد.

ثمّ أنه علیه السلام استطرد ذكر الطائر وكيف خفّف جسمه وأدمج خلقه وجعل له جؤجؤا ليسهل عليه أن يخرق الهواء الى غير ذلك من خصوصيّات خلقته ، والحكمة في خلق تلك الخصوصيّات ، وهكذا يستطرد الحكمة في خصوصيّات خلقة الدجاجة ، ثمّ العصفور ، ثمّ الخفّاش ، ثمّ النحل ، ثمّ الجراد ، وغيرها من صغار الطيور ، وما جعله اللّه فيها من الطبائع والفطن والهداية لطلب الرزق ، وما سوى ذلك ممّا فيها من بدائع الخلقة.

ثمّ استعرض خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه ، ثمّ يقول علیه السلام : فاذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين ، فانظر الى ما في البحار من ضروب السمك ودواب الماء والاصداف والأصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلاّ الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث ... إلى آخر كلامه ، وبه انتهى هذا الفصل.

أقول : ليس العجب من خالق أمثال هذه الذرة والدودة وأصناف الأسماك الغريبة ، التي اختلفت اشكالها ، وتنوّعت الحكمة فيها وليس العجب ممّن يهتدي الى الحكمة في كلّ واحد من تلك المصنوعات بعد وجودها وتكوينها ، وإنما العجب ممّن ينكر فاطر السموات والأرضين وما فيهنّ وبينهنّ مع اتقان الصنعة ، وإحكام الخلقة ، وبداعة التركيب ، ولو نظر الجاحد الى نفسه مع غريب الصنع وتمام الخلق لكان اكبر برهان على الوجود ووحدانيّة الموجود.

ص: 158

- 3 -

ثمّ بكّر المفضّل في اليوم الثالث فقال له الصادق علیه السلام : قد شرحت لك يا مفضّل خلق الانسان وما دبر به وتنقّله في أحواله وما فيه من الاعتبار وشرحت لك أمر الحيوان ، وأنا ابتدئ الآن بذكر السماء والشمس والقمر والنجوم والفلك والليل والنهار والحرّ والبرد والرياح والمطر والصخر والجبال والطين والحجارة والمعادن والنبات والنخل والشجر وما في ذلك من الأدلّة والعبر.

فكّر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير ، فإن هذا اللون أشدّ الألوان موافقة وتقوية للبصر ، حتّى أن من وصفات الأطباء لمن أصابه شيء أضرّ ببصره إدمان النظر الى الخضرة ، وما قرب منها الى السواد ، وقد وصف الحذّاق منهم لمن كلّ بصره الاطلاع في إجانة (1) خضراء مملوءة ماء ، فانظر كيف جعل اللّه جلّ وتعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر الى السواد ، ليمسك الأبصار المنقلبة (2) عليه ، فلا تنكأ (3) فيها بطول مباشرتها له ، فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر والرويّة والتجارب يوجد مفروغا عنه في الخلقة ، حكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون ، ويفكّر فيها الملحدون قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون.

فكّر يا مفضّل في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي الليل والنهار فلو لا طلوعها لبطل أمر العالم كلّه ، فلم يكن الناس يسعون في معايشهم ، وينصرفون

ص: 159


1- بكسر وتشديد ..
2- المتقلّبة في نسخة ..
3- أي لا يحصل فيها جرح وتضرّر ..

في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم ولم يكن يتهنّئون بالعيش مع فقدهم لذّة النور وروحه ، والارب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الاطناب في ذكره ، والزيادة في شرحه ، بل تأمّل المنفعة في غروبها ، فلو لا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم الى الهدوء والراحة لسكون أبدانهم ، ووجوم (1) حواسهم ، وانبعاث القوّة الهاضمة لهضم الطعام وتنفيذ الغذاء الى الأعضاء ، ثمّ كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم ، فإن كثيرا من الناس لو لا جثوم (2) هذا الليل لظلمته عليهم لم يكن لهم هدوء ولا قرار حرصا على الكسب والجمع والادّخار ، ثمّ كانت الأرض تستحمي (3) بدوام الشمس ضياءها ، وتحمي كلّ ما عليها من حيوان ونبات فقدّرها اللّه بحكمته وتدبيره تطلع وقتا وتغرب وقتا ، بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ثمّ يغيب عنهم مثل ذلك ليهدءوا ويقرّوا ، فصار النور والظلمة مع تضادّهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه.

إلى أن يقول علیه السلام في آخر هذا الفصل : فكّر في هذه العقاقير وما خصّ بها كلّ واحد منها من العمل في بعض الأدواء ، فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول مثل الشيطرج (4) وهذا ينزف المرّة السوداء مثل الافتيمون (5) وهذا ينفي الرياح مثل السكبينج (6) وهذا يحلّل الأورام وأشباه هذا من أفعالها ،

ص: 160


1- سكوت ..
2- جثوم الليل : انتصافه ..
3- تشتدّ حرارتها ..
4- بكسر الشين وفتح الطاء ، انظر شرحه في تذكرة الأنطاكي 1 / 153 ..
5- يقول الأنطاكي في التذكرة 1 / 45 : يوناني معناه دواء الجنون ..
6- بفتح السين وسكون الكاف ، انظره في التذكرة : 1 / 173 ..

فمن جعل هذه القوى فيها إلاّ من خلقها للمنفعة ، ومن فطن الناس بها إلاّ من جعل هذا فيها.

إلى أن يقول : واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين ، وربّما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم ، فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته ، فلو فطن طالبو الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها.

- 4 -

ثمّ أن المفضّل بكّر إليه في اليوم الرابع ، فقال له الصادق علیه السلام : يا مفضّل قد شرحت لك من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد في الانسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر ، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهّال ذريعة إلى جحود الخالق والخلق والعمد والتدبير ، وما انكرت المعطّلة والمانويّة من المكاره والمصائب ، وما أنكروه من الموت والفناء ، وما قاله أصحاب الطبائع ، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق ليتّسع ذلك القول في الردّ عليهم ، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون.

اتّخذ أناس من الجهّال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد والجراد ذريعة الى جحود الخلق والتدبير والخالق ، فيقال في جواب ذلك : إنه إن لم يكن خالق ومدبّر فلم لا يكون ما هو اكثر من هذا وأفظع؟ فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوى الأرض فتذهب سفلا ، وتتخلّف الشمس عن الطلوع أصلا ، وتجفّ الأنهار والعيون حتّى لا يوجد ماء

ص: 161

للشفة ، وتركد الريح حتّى تحمّ الأشياء وتفسد ، ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها.

ثمّ هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتدّ حتّى تجتاح كلّ ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثمّ لا تلبث أن ترفع؟ أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة ، التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره ، ويلدغ أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم ، ثمّ لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم ، فيكون وقوعها بهم موعظة ، وكشفها عنهم رحمة؟ وقد أنكرت المعطّلة ما انكرت المانويّة من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم يحدث فيه هذه الامور المكروهة؟ والقائل بهذا القول يذهب به الى أنه ينبغي أن يكون عيش الانسان في هذه الدنيا صافيا من كلّ كدر ، ولو كان هكذا كان الانسان يخرج من الأشرّ والعتوّ الى ما لا يصلح في دين ودنيا ، كالذي ترى كثيرا من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون إليه ، حتّى أن أحدهم ينسى أنه بشر أو أنه مربوب أو أن ضررا يمسّه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنّن على ضعيف أو يتعطّف على مكروب ، فاذا عضّته المكاره ووجد مضضها اتّعظ وأبصر كثيرا ممّا كان جهله وغفل عنه ، ورجع الى كثير ممّا كان يجب عليه ، والمنكرون لهذه الأدوية المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمّون الأدوية المرّة البشعة ، ويتسخّطون من المنع من الأطعمة الضارّة ويتكرّهون الأدب والعمل ، ويحبّون أن يتفرغوا للهو والبطالة وينالوا كلّ مطعم ومشرب ، ولا يعرفون ما تؤدّيهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة ، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارّة من الأدواء والأسقام ، وما لهم في الأدب من الصلاح ،

ص: 162

وفي الأدوية من المنفعة ، وإن شاب ذلك بعض المكاره.

أقول : وعلى هذا ومثله مثّل الصادق علیه السلام أقوال اولئك الملحدين في شأن الآفات وأجاب عنها بنير البرهان ، الى أن انتهى في البيان إلى ذات الخالق تعالى في شبه الملحدين ، فقال : وأنه

كيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به.

فيقول في الجواب : إنما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته ، كما أن الملك لا يكلّف رعيّته أن يعلموا أطويل هو أم قصير ، أبيض هو أم أسمر وإنما يكلّفهم الإذعان بسلطانه والانتهاء الى أمره ، ألا ترى أن رجلا لو أتى الى باب الملك فقال : اعرض عليّ نفسك حتّى أتقصّى معرفتك وإلاّ لم أسمع لك ، كان قد أحلّ نفسه العقوبة ، فكذا القائل أنه لا يقرّ بالخالق سبحانه حتّى يحيط بكنهه متعرّض لسخطه.

أقول : وعلى مثل هذا البديع من البيان ، والساطع من البرهان ، أتمّ الصادق علیه السلام دروسه التي ألقاها على المفضّل بن عمر ، فقال في آخر كلامه : يا مفضّل خذ ما أتيتك وكن من الشاكرين ، ولآلائه من الحامدين ، ولأوليائه من المطيعين ، فقد شرحت لك من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد قليلا من كثير وجزء من كلّ ، فتدبّره وفكّر فيه واعتبر به.

يقول المفضّل : فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله (1).

ص: 163


1- طبع هذا التوحيد المعروف بتوحيد المفضّل عدّة مرّات ورواه في بحار الأنوار 20 / 17 - 47 وكانت الطبعات كلّها غير خالية من الغلط المطبعي ، فكان النقل عنه بعد التدبّر والتطبيق ، وأصحّها طبعا ما طبع في المطبعة الحيدريّة في عام 1369 ه. والشواهد على نسبة هذا التوحيد الى الصادق علیه السلام كثيرة ليس هذا محلّ ذكرها .

أقول : حقيق بأن يغتنم أرباب المعارف جلائل هذه الحكم كما اغتنمها المفضّل ، فقد أوضح فيها أبو عبد اللّه من حكم الأسرار وأسرار الحكم ما خفي على الكثير علمه وصعب على الناس فهمه.

وهذه الدروس كما دلّتنا على الحكيم في صنائعه تعالى أرشدتنا الى إحاطته علیه السلام بفلسفة الخلقة ، بل تراه في هذه الدروس فيلسوفا إلهيّا ، وعالما كلاميا ، وطبيبا نطاسيّا ، ومحلّلا كيمياويّا ، ومشرّحا فنّيّا ، وفنّانا في الزراعة والغرس ، وعالما بما بين السماء والأرض من مخلوقاته ، وقادرا على التعبير عن أسرار الحكم في ذلك الخلق.

الإهليلجة :

سميّ هذا التوحيد بالاهليلجة لأن الصادق علیه السلام كان مناظرا فيه لطبيب هندي في إهليلجة كانت بيد الطبيب ، وذلك أن المفضّل بن عمر كتب الى الصادق علیه السلام يخبره أن أقواما ظهروا من أهل هذه الملّة يجحدون الربوبيّة ويجادلون على ذلك ، ويسأله أن يردّ عليهم قولهم ويحتجّ عليهم فيما ادّعوا بحسب ما احتجّ به على غيرهم.

فكتب إليه الصادق فيما كتب : وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتابا كنت نازعت فيه بعض أهل الأديان من أهل الإنكار ، وذلك أنه كان يحضرني طبيب من بلاد الهند ، وكان لا يزال ينازعني في رأيه ويجادلني عن ضلالته ، فبينا هو يوما يدقّ إهليلجة ليخلطها دواء احتجت إليه من أدويته إذ عرض له شيء

ص: 164

من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه ، من ادّعائه أن الدنيا لم تزل ولا تزال شجرة تنبت واخرى تسقط ، ونفس تولد وأخرى تتلف ، وزعم أن انتحالي المعرفة لله دعوى لا بيّنة عليها ولا حجّة لي فيها ، وأن ذلك أمر أخذه الآخر عن الأول والأصغر عن الأكبر ، وأن الأشياء المختلفة والمؤتلفة والباطنة والظاهرة إنما تعرف بالحواسّ الخمس : النظر والسمع والشمّ والذوق واللمس ، ثمّ قاد منطقه على الأصل الذي وضعه ، فقال : لم يقع شيء من حواسّي على خالق يؤدّي الى قلبي إنكار اللّه تعالى.

ثمّ قال : أخبرنى بم تحتجّ في معرفة ربّك الذي تصف قدرته وربوبيّته وإنما يعرف القلب الأشياء كلّها بالدلالات التي وصفت لك؟

قلت : بالعقل الذي في قلبي ، والدليل الذي أحتجّ في معرفته ، قال : فأنّى يكون ما تقول وأنت تعرف أن القلب لا يعرف شيئا بغير الحواس ، فهل عاينت ربّك ببصر ، أو سمعت صوته بإذن ، أو شممته بنسيم ، أو ذقته بفم ، أو مسسته بيد ، فأدّى ذلك المعرفة الى قلبك؟

قلت : أرأيت اذا أنكرت اللّه وجحدته لأنك زعمت أنك لا تحسّه بحواسك التي تعرف بها الأشياء وأقررت أنا به هل بدّ من أن يكون أحدنا صادقا ، والآخر كاذبا ، قال : لا ، قلت : أرأيت إن كان القول قولك ، فهل تخاف عليّ شيء ممّا اخوّفك به من عقاب اللّه ، قال : لا ، قلت : أفرأيت إن كان كما أقول والحقّ في يدي ، ألست قد أخذت فيما كنت أحاذر من عقاب اللّه بالثقة ، وإنك قد وقعت بجحودك وإنكارك في الهلكة ، قال : بلى ، قلت : فأيّنا أولى بالحزم وأقرب من النجاة ، قال : أنت ، إلاّ أنك من أمرك على ادّعاء وشبهة وأنا على يقين وثقة ، لأني لا أرى حواسّي الخمس أدركته ، وما لم تدركه حواسّي فليس عندي بموجود ، قلت : إنه لمّا عجزت حواسّك عن إدراك اللّه أنكرته ، وأنا لمّا

ص: 165

عجزت حواسّي عن إدراك اللّه صدّقت به ، قال : وكيف ذلك؟ قلت : لأن كلّ شيء جرى فيه أثر التركيب لجسم أو وقع عليه بصر للون (1) فما أدركته الأبصار ونالته الحواس فهو غير اللّه سبحانه لأنه لا يشبه الخلق ولا يشبهه الخلق ، وأن هذا الخلق ينتقل بتغيير وزوال ، وكلّ شيء أشبه التغيير والزوال فهو مثله ، وليس المخلوق كالخالق ، ولا المحدث كالمحدث (2).

ثمّ أن الصادق علیه السلام قال : قلت له : أخبرنى هل أحطت بالجهات كلّها وبلغت منتهاها؟ قال : لا ، قلت : فهل رقيت الى السماء التي ترى ، أو انحدرت الى الأرض السفلى فجلت في أقطارها؟ أو هل خضت في غمرات البحور واخترقت نواحي الهواء فيما فوق السماء أو تحتها إلى الأرض وما أسفل منها ، فوجدت ذلك خلاء من مدبّر حكيم عالم بصير؟ قال : لا ، قلت : فما يدرك لعلّ الذي انكره قلبك هو في بعض ما لم تدركه حواسّك ولم يحط به علمك ، قال : لا أدري لعلّ في بعض ما ذكرت مدبّرا وما أدري لعلّه ليس في شيء من ذلك شيء.

أقول : ربّما يتوهّم بأن في كلام الصادق هذا إشعارا بالتجسيم لأنه جوّز أن يكون في جهة معيّنة وهو من شئون الجسم ، ولكن ذلك كان منه إنكارا على الطبيب الذي يريد أن يستدلّ على عدم الوجود بعد الوجدان ، وإنما أراد الصادق أن يكذّب دعواه بعدم الوجدان فيورد عليه احتمال وجوده في جهة لم يصل إليها الطبيب ، وأن احتمال وجوده في جهة كاف في ردّ دعواه بعدم الوجدان ، وهذا من باب الإلزام للخصم وإبطال حجّته لا من باب إثبات وجوده في جهة ، وقد

ص: 166


1- اللام في لجسم وللون لام الابتداء المفتوحة وجسم ولون خبر أن ..
2- الأول اسم مفعول وهو بفتح الدال والثاني بكسره وهو اسم فاعل ..

سبق من كلامه إنكار إدراكه بالحواس ، والمثبت في جهة خاصّة مدرك بالحواس.

ثمّ قال الصادق علیه السلام : قلت : أما إذ خرجت من حدّ الإنكار الى منزلة الشكّ فإني أرجو أن تخرج الى المعرفة ، قال : فإنما دخل عليّ الشكّ لسؤالك إيّاي عمّا لم يحط به علمي ، ولكن من أين يدخل عليّ اليقين بما لم تدركه حواسّي؟ قلت : من قبل إهليلجتك هذه ، قال : ذاك إذن أثبت للحجّة ، لأنها من آداب الطبّ الذي اذعن بمعرفته.

ثمّ أن الصادق علیه السلام صار يلقي عليه الأسئلة عمّا يخصّ الاهليلجة من كيفيّة صنعتها ، ومن وجود أمثالها في الدنيا ، والطبيب يراوغ في الجواب حذرا من الالتزام بالصنعة الدالّة على الصانع ، الى أن ألزمه بما لا يجد محيصا من الاعتراف به وهو أنها خرجت من شجرة.

ثمّ قال الصادق : أرأيت الاهليلجة قبل أن تعقد ، إذ هي في قمعها ماء بغير نواة ولا لحم ولا قشر ولا لون ولا طعم ولا شدّة ، قال : نعم ، قال الصادق علیه السلام : قلت له : أرأيت لو لم يرقق الخالق ذلك الماء الضعيف الذي هو مثل الخردلة في القلّة والذلّة ولم يقوّه بقوّته ويصوّره بحكمته ويقدّره بقدرته ، هل كان ذلك الماء يزيد على أن يكون في قمعه غير مجموع بجسم ولا قمع ولا تفصيل ، فإن زاد زاد ماء متراكبا غير مصوّر ولا مخطّط ولا مدبّر بزيادة أجزاء ولا تأليف أطباق.

قال : أريتني من تصوير شجرتها وتأليف خلقتها وحمل ثمرتها وزيادة أجزائها وتفصيل تركيبها أوضح الدلالات وأظهر البيّنات على معرفة الصانع ، ولقد صدقت بأن الأشياء مصنوعة ، ولكني لا أدري لعلّ الاهليلجة والأشياء صنعت نفسها.

ص: 167

ثمّ أن الصادق علیه السلام أثبت له أنها مصنوعة لغيرها ، لسبقها بالعدم ولأن صنعتها تدلّ على أن صانعها حكيم عالم ، الى غير ذلك من البراهين.

ثمّ ما زال الصادق يسايره في الكلام ، ومحور الكلام الاهليلجة ، إلى أن أرغمه الدليل على الاعتراف بالصانع الواحد ، بعد أن صار كلامهما إلى النجوم والمنجّمين.

ثمّ صار الصادق يدلي عليه بالبيان عن تلك العلامات على ذلك الصانع الواحد ، والدلالات على ذلك الحكيم القدير والعالم البصير ، من مصنوعاته من السماء والأرض والشجر والنبات والأنعام وغيرها وكيفيّة دلالتها عليه.

ثمّ أخذ في بيان صفاته من اللطف والعلم والقوّة والسمع والبصر والرأفة والرحمة والإرادة (1).

أقول : وما حداني على الاشارة الى مواضع هذه الرسالة دون إيرادها إلاّ رعاية الإيجاز ، على أن هذه الرسالة جمعت فنونا من العلم الى قوّة الحجّة وجودة البيان ، وما كان محور المناظرة فيها إلاّ اهليلجة ، وهي من أضعف المصنوعات ، وأصغرها جرما وشأنا.

موجز براهينه على الوجود والوحدانيّة :

تعرف المواهب الغزيرة من المقدرة في البيان ، فبينا تجده يطنب في الدليل كما في توحيد المفضل وغيره إذ تراه يأتي بأوجز بيان في البرهان مع الوفاء بالقصد ، وذلك حين يسأل عن الدليل على الخالق فيقول علیه السلام : ما بالناس من حاجة (2).

ص: 168


1- بحار الأنوار : 3 / 152 - 170 ..
2- تحف العقول ..

أقول : ما أوجزها كلمة ، واكبرها حجّة ، فإنّا نجد الناس في حاجة مستمرّة في كلّ شأن من شئون الحياة ، وهذه الحاجة تدلّ على وجود مآل لهم في حوائجهم غنيّ عنهم بذاته ، وأن ذلك المآل واحد ، إلاّ لاختلف السير والنظام.

ويسأله مرّة هشام بن الحكم بقوله : ما الدليل على أن اللّه تعالى واحد؟

فيقول علیه السلام : اتّصال التدبير ، وتمام الصنع (1).

أقول : إن كلّ واحدة من هاتين الكلمتين تصلح لأن تكون دليلا برأسه ، وذلك لأن اتّصال التدبير شاهد على وحدانيّة المدبّر ، إذ لو كان اثنين أو اكثر لكان الخلاف بينهما سببا لحدوث فترة أو تضارب ، فلا يكون التدبير متّصلا ، والتقدير دائما ، كما أن تمام الصنعة في الخلقة دائما شاهد آخر على الوحدانيّة ، لأن استمرار الاتفاق في الاثنين مع التكافؤ في كلّ شأن لا يكون أبدا ، كما نشاهده في الذين يديرون دولاب البلاد ، فإن حصل اختلاف ولو برهة فسد المخلوق ، فأين تمام الصنع؟ فالتمام دليل الوحدة أيضا.

ويسأله أبو شاكر الديصاني بقوله : ما الدليل على أن لك صانعا؟ فيقول علیه السلام : وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين إمّا اكون صنعتها أنا أو صنعها غيري ، فإن كنت صنعتها فلا أخلو من إحدى معنيين ، إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا ، فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا وهو ربّ العالمين ، فقام وما أحار جوابا (2).

وسأل الصادق مرّة ابن أبي العوجاء فقال له : أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟

ص: 169


1- توحيد الصدوق : باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ص 243 ..
2- التوحيد : باب أنه عزّ وجل لا يعرف إلاّ به ..

فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غير مصنوع ، فقال له الصادق علیه السلام : فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ فبقي مليّا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول : طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن ، كلّ ذلك من صفة خلقه ، فقال له الصادق علیه السلام : فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الامور ، فقال ابن أبي العوجاء : سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها (1).

أقول : إن إثبات هذه العوارض على الانسان لكونه مصنوعا ظاهر ، لأن طوله بعد القصر واختلافه في العمق والعرض آنا بعد آخر ، وسكونه مرّة وحركته اخرى أحداث دلّت على وجوده بعد العدم ومصنوعيّته بعد أن لم يكن ، ولا بدّ للمصنوع من صانع وللمخلوق من خالق.

نفي التجسيم :

لعلّ شبهة التجسيم جاءت من قبل بعض الزنادقة فدخلت في بعض معتقدات أهل الآراء والمذاهب من المسلمين ، الذين يجمدون في الدين على الظواهر ، فإن أهل الزندقة لمّا خابوا في الدعوة الى التعطيل والإلحاد أفلحوا في دسّ هذه الشبهة ، لأنّا نجد الكلام عنها كثيرا في ذلك العصر ، ونقرأ الكثير عنها في الأسئلة التي توجّه الى الإمام ، فمن ذلك قوله في الجواب عن هذه الشبهة : إن الجسم محدود متناه ، والصورة محدودة متناهية ، فاذا احتمل الحدّ احتمل الزيادة والنقصان ، واذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا.

ص: 170


1- توحيد الصدوق : باب إثبات حدوث العالم ..

قال السائل : فما أقول؟ قال علیه السلام : لا جسم ولا صورة وهو مجسّم الأجسام ، ومصوّر الصور ، لم يتجزّأ ولم يتناه ، ولم يتزايد ولم يتناقص ، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق ، ولا بين المنشئ والمنشأ ، لكن هو المنشئ فرّق بين جسمه وصوره وأنشأه ، إذ لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا (1).

أقول : كاد أن يسيل هذا البيان رقّة ولطفا مع قوّة الحجّة ومتانة التركيب وقد أغنى بوضوحه عن ايضاحه.

وقال مرّة اخرى : فمن زعم أن اللّه في شيء أو على شيء أو يحول من شيء الى شيء أو يخلو منه شيء أو يشتغل به شيء فقد وصفه بصفة المخلوقين واللّه خالق كلّ شيء لا يقاس بالقياس ، ولا يشبّه بالناس ، لا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ، قريب في بعده بعيد في قربه ، ذلك اللّه ربّنا لا إله غيره (2).

أقول : ما أبدع هذا الوصف منه علیه السلام ، وما أدقّ معنى قوله « قريب في بعده بعيد في قربه » ويحتاج إدراكه الى لطف قريحة وفطرة ثانية.

وما اكثر ما جاء عنه علیه السلام في هذا المعنى ونجتزي عنه بهذا القدر. وممّا يجب أن يعلم أن نفي الجسم والصورة عنه - تقدّست ذاته - ممّا يقتضيه حكم العقل ، وقد استوفت البيان عنه كتب الكلام ، وأن النبي وأهل بيته علیهم السلام جميعا أجمعوا على هذا التنزيه إرشادا الى حكم العقل ، وما اكثر ما جاء عن سيّد الرسل صلی اللّه علیه و آله من البيان عن هذا التنزيه ، ومن التأويل لما جاء ظاهرا في التجسيم من التنزيل ، أمثال قوله تعالى : « على العرش

ص: 171


1- الكافي : باب النهي عن الجسم والصورة ، وتوحيد الصدوق : باب أنه ليس بجسم ولا صورة ..
2- بحار الأنوار : 3 / 287 / 2 ..

استوى » وقوله « يد اللّه فوق أيديهم » وقوله : « فثمّ وجه اللّه » وغيرها ، ولو لا أن نخرج عن الصدد لوافيناك ببعض كلامه ، بيد أننا نذكر كلمة واحدة فحسب وهو ما يروى عن ابن عباس ، قال : قدم يهودي على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقال له نعثل فقال : يا محمّد إني أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين ، فإن أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك ، قال : سل يا أبا عمارة ، فقال : يا محمّد صف لي ربّك ، فقال صلی اللّه علیه و آله : إن الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه ، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواسّ أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الاحاطة به جلّ عمّا يصفه الواصفون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، كيّف الكيفيّة فلا يقال له كيف ، وأيّن الأين فلا يقال له أين ، فهو الأحد الصمد ، كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

قال : صدقت يا محمّد ، أخبرني عن قولك : أنه واحد لا شبيه له ، أليس اللّه واحدا والانسان واحدا ، فوحدانيّته أشبهت وحدانيّة الانسان ، فقال صلی اللّه علیه و آله : اللّه واحد واحديّ المعنى ، والانسان ثنويّ المعنى ، جسم وعرض وبدن وروح ، فإنما التشبيه في المعاني لا غير ، قال : صدقت يا محمّد (1).

أقول : فهذه الكلمة من الرسول صلی اللّه علیه و آله صريحة في تنزيهه تعالى عمّا يشابه الخليقة في الذات والصفات ، والقرآن ينادي بفصيحه في ذلك التنزيه بأمثال قوله تعالى : « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » (2) فليت شعري أما يكفي في تأويل هاتيك الآيات الظاهرة مثل هذه الآيات الصريحة ،

ص: 172


1- بحار الأنوار : 3 / 303 / 40 ..
2- الأنعام : 103 ..

ومثل كلام الرسول السالف ، ومثل ما جاء عنه وعن آله في تفسير تلك الظواهر ، ومن ورائها جميعا حكم العقل بنزاهته تعالى عن مشابهة الحوادث ومجانسة الممكنات.

ولا أدري كيف نفث ذلك السحر فأعمى بعض الأبصار والبصائر ، فجعل ناسا من الأوائل يخبطون خبط عشواء في التوحيد؟

صفات الحدوث :

إن هناك صفات تستلزم الحدوث مثل المكان والزمان والكيف والحيث والحركة والانتقال ، وما سواها ، فقد يتوهّم بعضهم من ظاهر بعض الآيات هذه الصفات اللازمة للجسميّة ، فكان الصادق علیه السلام يدفع أمثال هذه التوهّمات ببالغ حجّته ، كما توهّم بعضهم أنه تعالى جسم من قوله جلّ شأنه في كتابه المجيد « ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم » (1) الآية ، فقال الصادق علیه السلام في جوابه : هو واحد واحديّ الذات بائن من خلقه ، وبذلك وصف نفسه ، وهو بكلّ شيء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة ، لا يعزب عنه ذرّة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر ولا اكبر ، بالاحاطة والعلم لا بالذات ، لأن الأماكن عنده محدودة تحويها حدود أربعة ، فإذا كان بالذات لزمها الحواية (2).

وأجاب علیه السلام آخر بأوجز من هذا البيان فقال : من زعم أن اللّه تعالى من شيء فقد جعله محدثا ، ومن زعم أنه في شيء فقد جعله محصورا ، ومن زعم أنه

ص: 173


1- المجادلة : 7 ..
2- التوحيد : باب الحركة والانتقال ..

على شيء فقد جعله محمولا (1).

وسأله محمّد بن النعمان عن قوله تعالى : « وهو اللّه في السموات وفي الأرض » (2) فقال الصادق علیه السلام : كذلك هو في كلّ مكان ، قال : بذاته؟

قاله علیه السلام : ويحك إن الأماكن أقدار فاذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا ، وليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السماء ، لا يبعد منه شيء ، والأشياء له سواء علما وقدرة وسلطانا وملكا وإحاطة (3).

وسأله سليمان بن مهران الأعمش (4) بقوله : هل يجوز ان تقول إن اللّه عزّ وجل في مكان؟ فقال علیه السلام : سبحان اللّه وتعالى عن ذلك أنه لو كان في مكان لكان محدثا ، لأن الكائن في مكان محتاج الى المكان ، والاحتياج من صفات المحدث لا من صفات القديم (5).

ويقول لأبي بصير (6) : إن اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل خالق الزمان والمكان والحركة والسكون ، تعالى اللّه عمّا يقولون علوّا كبيرا (7).

وقال علیه السلام لعبد اللّه بن سنان (8) : ولا يوصف بكيف ولا أين ولا

ص: 174


1- التوحيد : باب الحركة والانتقال ..
2- الأنعام : 3 ..
3- بحار الأنوار : 3 / 323 / 20 ..
4- سيأتي في المشاهير من الثقات ..
5- توحيد الصدوق : باب نفي الزمان والمكان ..
6- سيأتي في ثقات المشاهير ..
7- التوحيد : باب نفي الزمان والمكان ..
8- سيأتي أيضا في المشاهير ..

حيث ، وكيف أصفه وهو الذي كيّف الكيف حتّى صار كيفا فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف ، أم كيف أصفه بأين وهو الذي أيّن الأين حتّى صار أينا فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين ، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا فعرفت الحيث بما حيّث لنا من الحيث ، فاللّه تبارك وتعالى داخل في كلّ مكان ، وخارج من كلّ شي ( « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ » ) (1).

أقول : إن المراد بالكيف والأين والحيث السؤال أو الإخبار عن ذي الحيّز من الممكنات.

ولازم هذا أن يكون تعالى اذا استفسر عنه بالكيف والأين أن يكون ذا جسم أو مكان ، واذا اخبر عنه بالحيث أن يكون متحيّزا في محل ، وإذا كان كذلك فالأبصار تدركه لأن ذا الجسم المتحيّز الحال بمكان لا بدّ أن تدركه الأبصار ، واللّه تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

وجرت بينه علیه السلام وبين ابن أبي العوجاء (2) محاورة ، فمنها قول ابن أبي العوجاء للصادق : ذكرت اللّه فأحلت على غائب ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ويرى اشخاصهم ويعلم أسرارهم ، فقال ابن أبي العوجاء : أهو في كلّ مكان ، أليس اذا كان في السماء كيف يكون في الأرض ، واذا كان في الأرض كيف يكون في السماء ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنما وصفت المخلوق اذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان فخلا منه مكان ، فلا يدري في

ص: 175


1- التوحيد : باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه ..
2- اسمه عبد الكريم ، وقد عدّه السيد المرتضى في أماليه من ملاحدة العرب المشهورين ، وقتله محمّد بن سليمان والي الكوفة من قبل المنصور على الالحاد ..

المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه ، فأمّا اللّه العظيم الشأن الملك الديّان فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ولا يكون الى مكان (1).

أقول : وما اكثر ما جاء عنه من أمثال هذا الكلام في تنزيه البارىء تعالى شأنه عن صفات صنائعه ، واجتزينا بما أوردناه.

لا تدركه الأبصار :

ذهب بعض أبناء الفرق الاسلاميّة الى أنه جلّ شأنه يرى بالبصر في الآخرة فقط ، أو في الدنيا والآخرة معا وما زال أهل البيت - لا سيّما الصادق علیه السلام - يبطلون هذه النسبة ويمنعون عليه تعالى الرؤية ، وسوف نورد عليك بعض الحجج من كلامه.

قال هشام : كنت عند الصادق علیه السلام إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين (2) فقال له معاوية بن وهب : يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رأى ربه ، على أي صورة رآه؟ وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربّهم في الجنّة على أيّ صورة يرونه؟ فتبسّم علیه السلام ثمّ قال : يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك اللّه ويأكل من نعمه ثمّ لا يعرف اللّه حقّ معرفته ، ثمّ قال علیه السلام : يا معاوية إن محمّدا صلی اللّه علیه و آله لم ير الربّ تبارك وتعالى بمشاهدة العيان وأن الرؤية على وجهين : رؤية

ص: 176


1- توحيد الصدوق : باب الحركة والانتقال ..
2- هما من أصحاب الصادق علیه السلام وأعلامهم المشهورين ..

القلب ، ورؤية البصر ، فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب ومن عنى برؤية البصر فقد كفر باللّه وبآياته لقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من شبّه اللّه بخلقه فقد كفر ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي علیهم السلام قال : سئل أمير المؤمنين علیه السلام فقيل : يا أخا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هل رأيت ربّك؟ فقال : وكيف أعبد من لم أره ، لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان ، فإذا كان المؤمن يرى ربّه بمشاهدة البصر فإن كلّ من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق ، ولا بدّ للمخلوق من الخالق ، فقد جعلته إذن محدثا مخلوقا ، ومن شبّهه بخلقه فقد اتخذ مع اللّه شريكا ، ويلهم أو لم يسمعوا بقول اللّه تعالى « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » (1) وقوله « لن تراني ولكن انظر الى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا » (2) وإنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سمّ الخياط فدكدكت الأرض وصعقت الجبال فخرّ موسى صعقا - أي ميّتا - فلمّا أفاق وردّ عليه روحه قال : سبحانك تبت إليك من قول من زعم أنك ترى ورجعت الى معرفتي بك أن الأبصار لا تدركك ، وأنا أول المؤمنين وأول المقرّين بأنك ترى ولا ترى وأنت بالمنظر الأعلى.

ثمّ قال علیه السلام : إن أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الربّ ، والإقرار له بالعبوديّة ، وحدّ المعرفة أن يعرف أنه لا إله غيره ، ولا شبيه له ولا نظير ، وأن يعرف أنه قديم مثبت موجود غير فقيد ، موصوف من غير شبيه ولا مبطل ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وبعده معرفة الرسول والشهادة

ص: 177


1- الأنعام : 103 ..
2- الأعراف : 143 ..

بالنبوّة ، وأدنى معرفة الرسول الإقرار بنبوّته وأن ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك من اللّه عزّ وجلّ ، وبعده معرفة الإمام الذي تأتمّ به بنعمته وصفته واسمه ، في حال العسر واليسر ، وأدنى معرفة الإمام أنه عدل النبي إلاّ درجة النبوّة ووارثه وأن طاعته طاعة اللّه وطاعة رسول اللّه والتسليم له في كلّ أمر ، والردّ إليه والأخذ بقوله.

ثمّ أنه أورد على معاوية ذكر الأئمة وأسمائهم ، ثمّ قال : يا معاوية جعلت لك أصلا في هذا فاعمل عليه ، فلو كنت تموت على ما كنت عليه لكان حالك أسوأ الأحوال ، فلا يغرّنك قول من زعم أن اللّه تعالى يرى بالبصر.

ثمّ ذكر لمعاوية أعاجيب ما نسبوه من المكروه والباطل للأنبياء ولأبويه النبيّ وعليّ علیهم السلام جميعا.

وهذا بعض ما جاء عن الصادق في استحالة الرؤية البصريّة عليه تعالى وبما سبق غنى ، كما وأن للصادق علیه السلام كلاما في كلّ باب من أبواب التوحيد ، وفي كلّ آية من الآيات المتشابهة وما كان القصد أن نأتي بكلّ ماله من بيان في ذلك لأن بسط البحث والإتيان بكلّ شاردة وواردة له يبعدنا عن الغاية ، وبما وافيناك به كفاية.

الطبّ :

نزّل اللّه تعالى الكتاب تبيانا لكلّ شيء ، وقد جمع الكتاب الطبّ كما يقولون في كلمتين وهما قوله تعالى : « كلوا واشربوا ولا تسرفوا » (1) فلا غرابة إذن لو كان العلماء بما في القرآن علماء في الطبّ أيضا ، وكان ما يظهر منهم ، من

ص: 178


1- الأعراف : 31 ..

البيان عن طبائع الأشياء والأمزجة والمنافع والمضار يرشدنا الى وجود هذا العلم لديهم ، ولقد جمع بعض علماء السلف شيئا كثيرا من كلامهم في ذلك وسمّاه « طبّ الأئمة » وإخال أن الكتاب لا وجود له اليوم ، غير أن المجلسي طاب ثراه يروي عنه كثيرا في بحار الأنوار ، كما يروي عنه الحرّ العاملي في الوسائل.

وكفى دلالة على علم الصادق بالطبّ ما جاء في توحيد المفضّل من الأخبار عن الطبائع وفوائد الأدوية وما جاء فيه من معرفة الجوارح التي تكفّل بها علم التشريح ، وسيأتي ما في بعض مناظراته مع الطبيب الهندي ممّا يدلّ على ذلك ، ويسع الكاتب أن يجمع كتابا فيما ورد عنه في خواصّ الأشياء وفوائدها ، وفي علاج الأمراض والأوجاع وفي الحميّة والوقاية ، وهي متفرقة في غضون كتب الأحاديث ونحوها ، وربّما لم يكشف عنها إلاّ العلم الحديث مثل مداواة الحمّى بالماء البارد ، فإنه ذكروا له الحمّى فقال علیه السلام : « إنّا أهل بيت لا نتداوى إلا بإفاضة الماء البارد يصبّ علينا ».

ومثل وجوب غسل الفاكهة قبل الأكل ، قال علیه السلام : « إن لكلّ ثمرة سمّا فاذا أتيتم بها فأمسوها الماء واغمسوها في الماء ».

ونحن نحيلك على كتاب الأطعمة والأشربة من الوسائل : 3 / من 276 - 311 لترى الشيء الكثير من ذلك.

الجفر :

الجفر في الأصل ولد الشاة اذا عظم واستكرش ، ولعلّ مبدأ هذا العلم كان يكتب على جلد ولد الشاة فسمّي به ، وعلم الجفر علم الحروف الذي تعرف به الحوادث المستقبلة ، وجاء عن الصادق علیه السلام أن عندهم الجفر وفسّره بأنه وعاء من أدم فيه علم النبيّين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل ، وجاء

ص: 179

عنهم الشيء الكثير عن الجفر الذي عندهم ، وإنّا وإن لم نعرف هذا العلم وما القصد منه إلاّ أننا نعرف من هاتيك الأحاديث التي ذكرت الجفر وأنه من مصادرهم أن هذا العلم شريف منحهم اللّه إيّاه ، وجاء في الكافي أحاديث كثيرة عن الجفر الذي عندهم.

وذكر بعض علماء أهل السنّة الجفر وأنه ممّا يعلمه الصادق علیه السلام ، قال الشبلنجي في نور الأبصار ص 131 : وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة ، قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب : وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق بن محمّد الباقر ، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة ، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله :

لقد عجبوا الآل البيت لمّا *** أتاهم علمهم في جلد جفر

فمرآة المنجم وهي صغري *** تريه كلّ عامرة وقفر

وقال في الفصول المهمّة : نقل بعض أهل العلم أن كتاب الجفر الذي بالمغرب يتوارثونه بنو عبد المؤمن بن علي من كلام جعفر الصادق ، وله فيه المنقبة السنيّة ، والدرجة التي في مقام الفضل عليه.

الكيمياء وجابر بن حيّان :

ذكر علم الصادق علیه السلام بالكيمياء كثير من المؤلّفين ، وأن تلميذه جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي أخذ عنه هذا العلم ، وألّف خمسمائة رسالة فيه في ألف ورقة ، وهي تتضمّن رسائل جعفر الصادق علیه السلام (1).

وللقدماء والمتأخّرين من المستشرقين كلام كثير في شأن جابر وقد ذكره

ص: 180


1- تاريخ ابن خلكان في أحوال الصادق : 1 / 105 ..

ابن النديم في الفهرست ص 498 - 503 ، وأطال فيه الكلام وذكر له من الكتب والرسائل في مختلف العلوم لا سيّما الكيمياء والطبّ والفلسفة والكلام شيئا كثيرا لا يكاد يتّسع وقت الانسان في العمر الطبيعي لتأليفها ، نعم إلاّ لأفذاذ في الدهر منحوا ذكاء وفطنة مفرطين وانكبّوا على الكتابة والتأليف ، وذكر أن له تآليف على مذاهب الشيعة ومن ثمّ استظهر تشيّعه ولعلّ أخذه عن الصادق وائتمان الصادق به على هذا العلم شاهد على تشيّعه.

وذكره في الذريعة في عداد مؤلّفي الشيعة في 2 / 451 - 452 عند ذكره لكتابه ( الايضاح ) في الكيمياء.

ولو تصفّحت شيئا من رسائله التي نشرها المستشرق « كراوس » لأيقنت بتشيّعه وأخذه عن الامام الصادق ، لأنه أخذ عنه كإمام مفترض الطاعة متّبع الرأي ، ولعرفت أنه لم يأخذ عنه الكيمياء فحسب ، بل الكلام وغيره.

وقد اكبر مؤلفو الاسلام منزلة جابر وعدّوه مفخرة من مفاخر الاسلام ولا بدع فإن من تزيد مؤلّفاته على ثلاثة آلاف كتاب ورسالة في مختلف العلوم ، وجلّها من العلوم النظريّة والطبيعيّة التي تحتاج الى زمن طويل في تجاربها وتطبيقها - هذا عدا الفلسفة والكلام - لجدير بالتقدير والإكبار وأن يكون مفخرة يعتزّ به.

وقد كبر على المستشرقين أن يكون عربي مسلم ومن أهل القرن الثاني للهجرة يمتاز بتلك الآراء السديدة وتكون نظريّاته الاسس العامّة التي قام عليها علم الكيمياء قديمه وحديثه ، فصاروا يخبطون في تعرّضهم لكتبه كحاطب ليل ، فمرّة يشكّون في وجوده ، وتارة في زمانه ، واخرى فيما نسب إليه من تلك الكتب ، ورابعة في نسبة البعض ممّا يرويه عن استاذه الصادق علیه السلام ، وخامسة في التبويب والوضع والاسلوب لأنه لم يكن يعرفه أهل ذلك العصر ، الى غير ذلك ،

ص: 181

وقد فنّد بعض تلك الشكوك والمزاعم الكاتب إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور فيما نشره في المقتطف ( 68 / 544 - 551 ومن 617 - 625 ) وجلى في هذه الحلبة الاستاذ أحمد زكي صالح فيما كتبه في مجلة الرسالة المصريّة السنة الثامنة ( ص 1204 - 1206 ومن 1235 - 1237 ومن 1268 - 1270 ومن 1299 - 1302 ) ، ولقد فنّد تلك الأوهام والمزاعم تفنيدا حكيما علميّا.

وصرّح مرارا بتشيّعه ، وقال في مناقشة رأي الاستاذ ( كراوس ) ص 1299 : ومن الجليّ الواضح لدى كلّ من درس علم الكلام أن فرق الشيعة كانت أنشط الفرق الاسلاميّة حركة ، وكانت أولى من أسّس المذاهب الدينيّة على اسس فلسفية ، حتّى أن البعض ينسب فلسفة خاصّة لعليّ بن أبي طالب.

وكان هذا الكلام من أحمد زكي لتصحيح ما ينسب الى جابر من المقارنة بين الآراء الكلاميّة والفلسفيّة.

وجملة القول أنه قد أصبح من الواضح تشيّع جابر وتقدّمه في عدّة علوم لا سيّما الكلام والفلسفة والطبّ والكيمياء والطبيعيّات عامّة ، وما كادت لتكون آراؤه الاسّ العامّ لدعائم علم الكيمياء إلاّ لأنه أخذ ذلك من معدنه الصحيح الامام الصادق علیه السلام .

وكنت قد جمعت عدّة مصادر عن جابر لا تبسط في ترجمته غير أني اكتفيت بهذا الوجيز عن الإطالة فيها ، فإنّا لو استقصينا الكلام على كلّ ما يقتضي التوسعة في البحث عنه لكان هذا الكتاب عدّة أجزاء ، وهو وإن كان لا يخلو من فائدة ، غير أنه يكون أبعد عن حياة الصادق الخاصّة.

سائر العلوم :

لا نعني بما ذكرناه من العلوم التي كتبنا عنها وأوضحنا أخذ الناس عن

ص: 182

الصادق فيها أن تلك جميع ما لديه ، بل إن الامام على رأي الإمامية يجب أن يكون عالما بكلّ شيء وأعلم الناس في كلّ علم وفنّ ولسان ولغة ، كما يقتضيه حكم العقل (1) ولو نظرنا الى الدليل السمعي من دون أن نثبت له الإمامة الإلهية لفهمنا منه أن في كلّ زمان عالما من العترة بالكتاب والسنّة كما هو مفاد حديث الثقلين وأن عالم الكتاب الذي نزل على الرسول تبيانا لكلّ شيء يجب أن يكون عالما بكلّ شيء ، وما دام الكتاب موجودا فالعالم به من العترة موجود الى يوم الحشر ، ولا يعدو أن يكون ذلك العالم في عهد الصادق نفسه ، إذ ليس في زمانه من هو أعلم منه في العترة ، وكفت آثاره دلالة على ذلك العلم.

فصادق أهل البيت إذن عالم أهل البيت في عصره وعالم العترة بالكتاب الجامع للعلوم والفنون ، فمن ثمّة نستغني بما سلف عن التعرّض لبقيّة العلوم والشواهد على علمه فيها ، فليس غريبا لو جاء الحديث أن الصادق كلّم الفرس بلسانهم وأهل اللغات بلغاتهم وناظر أهل كلّ علم وفنّ فخصمهم مثل علماء النجوم والفلك والطبيعيات والطبّ وما عداها ، وكلّ ذلك نطقت به الأخبار ودلّت عليه الآثار.

* * *

ص: 183


1- وقد أوضحنا ذلك في رسالتنا « الشيعة والإمامة » فانظرها إن أردت التحقيق ..

كيف صار مذهبا؟

إن المذهب في عرف أهل الاسلام هو المرجع في أحكام الدين ، وهذا لا يقتضي أن يكون الصادق علیه السلام دون الأئمة الاثنى عشر مذهبا ، لأن الشيعة الإماميّة ترى أن كلّ إمام من اولئك الأئمة من عليّ أمير المؤمنين الى الغائب المنتظر يجب الأخذ بقوله والعمل برأيه ، لأن علمهم - كما يرون - علم واحد موروث من الرسول صلی اللّه علیه و آله لا يختلفون في أخذه ولا يروون عن غيره ، وعلمهم سلسلة واحدة يرثه الابن عن أبيه من دون اجتهاد فيه ولا تحريف في أخذه ونقله.

بيد أن الفرص لم تسنح لواحد منهم في إظهار ما استودعهم الرسول صلی اللّه علیه و آله وإبلاغ ما استحفظهم عليه ، كما سنحت للصادق جعفر علیه السلام فإن الذي ساعد على بثّه للمعارف ونشره للعلوم الموروثة لهم من سيّد الرسل صلی اللّه علیه و آله اجتماع عدّة امور :

1 - إن زمن استقلاله بالإمامة قد طال حتّى جاوز الثلاثين عاما ، ولئن كان جدّه زين العابدين وابنه موسى الكاظم وحفيده عليّ الهادي علیهم السلام قد شاركوه في طول الزمن ، وكانت أيام إمامتهم تجاوزت الثلاثين عاما أيضا فإنه لم يتّفق لهم ما اتّفق له ممّا يأتي.

ص: 184

2 - إن أيامه كانت أيام علم وفقه ، وكلام ومناظرة ، وحديث ورواية ، وبدع وضلالة ، وآراء ومذاهب ، وهذه فرصة جديرة بأن يبدي العالم فيها علمه ، ليقمع بذلك الأضاليل والأباطيل ، ويبطل الآراء والأهواء ، ويصدع بالحقّ ، وينشر الحقيقة.

3 - إنّه مرّت عليه فترة من الرفاهيّة على بني هاشم لم تمرّ على غيره من الأئمة ، فلم يتّفق له على الأكثر ما كان يحول دون آبائه وأبنائه من الجهر بمعارفهم بالتضييق عليهم ومنع الناس عنهم ومنعهم عن الناس من ملوك أيامهم.

ولم يملك من الأئمة زمام الأمر سوى أمير المؤمنين علیه السلام ، ولكن كانت أيامه على قصرها بين حرب وكفاح وبين مناهضة للبدع والضلالات فحمّلوه على السير في محجّة لا يجد مناصا من السلوك فيها ، على أنه لم تكن في أيامه ما كان في عهد الصادق من انتشار العلم بين طبقات الناس وظهور الأهواء والآراء والنحل والمذاهب.

أمّا الصادق فقد عاصر الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة ووجد فترة لا يخشى فيها سطوة ظالم ولا وعيد جبّار ، وتلك الفترة امتزجت من اخريات دولة بني مروان واوليات دولة بني العبّاس ، لأن الأمويين وأهل الشام لمّا أجهزوا على الوليد بن يزيد وقتلوه انتقضت عليهم أطراف البلاد وتضعضعت أركان سلطانهم ، وكانت الدعوة لبني هاشم قد انتشرت في جهات البلاد فكانت تلك الامور كلّها صوارف لبني مروان عمّا عليه الصادق علیه السلام من الحياة العلميّة ، ولمّا انكفأ بهم الزمن وسالم بني العبّاس اشتغل بنو العبّاس بتطهير الأرض من أميّة وبتأسيس الدولة الجديدة ، وأنت تعلم بما يحتاجه الملك الغضّ من الزمن لتأسيسه ورسوخه ، فكان انصرافهم لبناء الملك وإحاطته شاغلا لهم برهة من

ص: 185

الزمن عن شأن الصادق في بثّه العلوم والمعارف وإن لم يتناسه السفّاح ولكن لم يجد عنده ما يخشاه ، ولمّا جاء دور المنصور وصفى الملك له ناصب العداء للصادق فكان يضيّق عليه مرّة ويتغاضى عنه اخرى.

روى العلاّمة ابن شهر اشوب (1) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عن المفضّل بن عمر : « أن المنصور قد همّ بقتل أبي عبد اللّه علیه السلام غير مرّة ، فكان اذا بعث إليه ودعاه ليقتله فاذا نظر إليه هابه ولم يقتله ، غير أنه منع الناس عنه ومنعه عن القعود للناس واستقصى عليه أشدّ الاستقصاء حتّى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك ، فلا يكون علم ذلك عندهم ولا يصلون إليه فيعتزل الرجل أهله ، فشقّ ذلك على شيعته وصعب عليهم ، وحتّى ألقى اللّه عزّ وجل في روع المنصور أن يسأل الصادق علیه السلام ليتحفه بشيء من عنده لا يكون لأحد مثله ، فبعث إليه بمخصرة (2) كانت للنبي صلی اللّه علیه و آله طولها ذراع ، ففرح بها فرحا شديدا وأمر أن تشقّ أربعة أرباع ، وقسّمها في أربعة مواضع ، ثمّ قال له : ما جزاؤك عندي إلاّ أن اطلق لك وتفشي علمك لشيعتك ، ولا أتعرّض لك ولا لهم فاقعد غير محتشم (3) وافت الناس ولا تكن في بلد أنافيه ، ففشى العلم عن الصادق ، وأجاز في المنتهى ».

فلهذا وغيره قد فشى عن الصادق علیه السلام من العلوم ما لم تسمح الظروف به لسواه من الأئمة ، وهذه كتب الحديث والفقه والأخلاق والاحتجاج وغيرها من كتب المعارف والعلوم ترشدك الى ما كان منه ، وكفت كثرة رواته والرواية عنه ، ولقد كتب عن رواته جملة من المؤلّفين وذكروا أن

ص: 186


1- أشرنا الى شيء من حاله في تعليقة ص 78 ..
2- بالكسر والسكون فالفتح ما يتوكّا عليه كالعصا ونحوها وما يأخذه الملك بيده يشير به إذا خاطب ..
3- على زنة اسم الفاعل ، أي غير هائب ومنقبض ..

عددهم أربعة آلاف أو يزيدون ، ومن المؤلّفين ابن عقدة (1) ، فإذا كانت الرواة عنه أربعة آلاف فكم كانت الرواية؟ واذا كان راو واحد يروي عنه ثلاثين ألف حديث فكم تكون رواية الباقين؟ وكم هي العلوم والمعارف التي اسندت إليه؟

وجملة القول أن الصادق علیه السلام إنما عرف بأنه مذهب تنتسب إليه الاماميّة والجعفريّة ، لما انتشر عنه من العلم وحفظ منه من الحديث حتّى أن اكثر ما في كتب الحديث الشيعيّة مرويّ عنه.

وما كانت الرواية عنه مقصورة على الشيعة بل أخذ عنه اكابر معاصريه من أهل السنّة ، ومنهم مالك وأبو حنيفة والسفيانان وأيوب وابن جريح وشعبة وغيرهم ، بل أرجع ابن أبي الحديد فقه المذاهب الأربعة إليه ، كما في شرح النهج : ( 1 / 6 ).

وكان انتساب الشيعة إليه من عهده ، وهو القائل في وصاياه لأصحابه : فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل : هذا جعفريّ ويسرّني ذلك ، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل : هذا أدب جعفر (2).

وكانت هذه النسبة معروفة في ذلك العهد حتّى أن شريكا القاضي شهد

ص: 187


1- هو أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفي ، وكان زيديّا جاروديّا ، وشأنه في الجلالة والوثاقة وكثرة الحفظ معروف مشهور ، وقد حكي عنه أنه قال : أحفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها وأذاكر بثلاثمائة ألف حديث ، وله كتب كثيرة منها كتاب أسماء الرجال الذين رووا عن الصادق علیه السلام وهم أربعة آلاف رجل ، وأخرج فيه لكلّ رجل الحديث الذي رواه ، ولم يعرف اليوم كتابه في الوجود ، مات بالكوفة عام 233 ..
2- الكافي : 2 / 636 / 5 ..

عنده شيعيّان وهما محمّد بن مسلم الثقة الشهير المعروف بصحبته للصادق وأبو كريبة الأزدي ، فنظر شريك في وجهيهما مليّا ثمّ قال : جعفريّان فاطميّان (1).

فنعرف من هذا أن النسبة كانت من أيامه واستمرّت الى هذا اليوم.

* * *

ص: 188


1- بحار الأنوار : 47 / 393 / 115 ..

مناظراته

اشارة

لأبي عبد اللّه علیه السلام الكثير من الحجج البوالغ التي أظهر فيها الحقّ وقطع فيها العذر ، نوافيك بشطر منها لأنها ناحية من نواحي حياته العلميّة المليئة بالعبر والعظات لا يستغني المسلم عن الوقوف عليها.

مناظراته في التوحيد :

سبق شيء من كلامه علیه السلام في التوحيد ، وكان في طيّه بعض المناظرات ، ونورد هاهنا شيئا منها غير ما سلف.

فمن تلك المناظرات ما يروى عن هشام بن الحكم ، قال : كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللّه علیه السلام أشياء ، فخرج الى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، وقيل : إنه خارج بمكّة ، فخرج الى مكّة ونحن مع أبي عبد اللّه علیه السلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد اللّه في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد اللّه ، فضرب كتفه كتف أبي عبد اللّه علیه السلام ، فقال له : ما اسمك؟ قال : عبد الملك ، قال : فما كنيتك؟ قال : أبو عبد اللّه ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : فمن هذا الملك الذي أنت عبده؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السماء؟ واخبرنى عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ قل ما شئت

ص: 189

تخصم. فلم يحر جوابا.

ثمّ أن الصادق علیه السلام قال له : اذا فرغت من الطواف فأتنا ، فلما فرغ أبو عبد اللّه علیه السلام أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد اللّه علیه السلام ونحن مجتمعون عنده ، فقال أبو عبد اللّه للزنديق : أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟ قال :

نعم ، قال : فدخلت تحتها؟ قال : لا ، قال : فما يدريك ما تحتها؟ قال : لا أدري إلاّ أني أظن أن ليس تحتها شيء ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : فالظنّ عجز فلم لا تستيقن ، ثمّ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : أفصعدت الى السماء؟ قال : لا ، قال : أفتدري ما فيها؟ قال : لا ، قال : عجبا لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ، ولم تنزل الى الأرض ولم تصعد الى السماء ، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ ، وأنت جاحد بما فيهنّ ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟ قال الزنديق : ما كلّمني بها أحد غيرك.

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو ، فقال الزنديق : ولعلّ ذلك ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ، ولا حجّة للجاهل ، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فإنّا لا نشكّ في اللّه أبدا ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان ، قد اضطرّا ليس لهما مكان إلاّ مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان؟ وإن كانا غير مضطرّين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرّا واللّه يا أخا أهل مصر الى دوامهما والذي اضطرّهما أحكم منهما واكبر (1) فقال الزنديق : صدقت.

ثمّ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : يا أخا أهل مصر إن الذي تذهبون إليه

ص: 190


1- أي اكبر في القوّة والقدرة وما شابه ذلك ..

وتظنّون أنه الدهر إن كان الدهر يذهب بهم فلم لا يردّهم؟ وإن كان يردّهم لم لا يذهب بهم؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر ، لم السماء مرفوعة والأرض موضوعة؟ لم لا تنحدر السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها؟

ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها؟ قال الزنديق : أمسكهما اللّه ربّهما سيّدهما.

قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللّه علیه السلام ، فقال حمران بن أعين (1) : جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك ، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد اللّه علیه السلام : اجعلني من تلامذتك ، فقال أبو عبد اللّه : يا هشام بن الحكم خذه إليك ، فعلّمه هشام ، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الايمان ، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد اللّه علیه السلام (2).

وجاء إليه زنديق آخر وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي : قال له : كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه؟ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : رأته القلوب بنور الايمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثمّ الرسل وآياتها ، والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته ، قال : أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين؟ قال علیه السلام : ليس للمحال جواب.

أقول : إنما الرؤية تثبت للأجسام وإذا لم يكن تعالى جسما استحالت رؤيته ، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور.

ص: 191


1- سنذكره في المشاهير من ثقاته ..
2- الكافي : 1 / 74 ..

قال الزنديق : فمن أين أثبت أنبياء ورسلا ، قال علیه السلام : إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أن له سفراء في خلقه وعبادة يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.

ثمّ قال الزنديق : من أيّ شيء خلق الأشياء؟ قال علیه السلام : من لا شيء ، فقال : كيف يجيء شيء من لا شيء؟ قال علیه السلام : إن الأشياء لا تخلو إما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء فإن كانت خلقت من شيء كان معه ، فإن ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثا ، ولا يتغيّر ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا ، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي انشئت منه الأشياء حيّا؟ أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميّتا؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا ، لأن الحيّ لا يجيء منه ميّت وهو لم يزل حيّا ، ولا يجوز أيضا أن يكون الميّت قديما لم يزل لما هو به من الموت ، لأن الميّت لا قدرة به ولا بقاء.

أقول : إن هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الامام بأحسن بيان وردّده بين امور لا يجد العقل سواها عند الترديد ، وحقّا إن كان الشيء الذي خلقت الأشياء منه قديما لزم أن يكون مع اللّه تعالى شيء قديم غير مخلوق له ، ولو فرض أنه

ص: 192

مخلوق له عاد الكلام الأول أنه من أيّ شيء كان مخلوقا ، هذا غير أن القديم لا يكون حادثا ، والميّت لا يكون منه الحيّ ، والحيّ لا يكون منه الميّت ، والحياة والممات لا يتركّبان ، ولو تركّبا عاد الكلام السابق ، فإن الموت لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة ، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقيا إلى أن خلق اللّه منه الأشياء الحيّة ، فلا بدّ إذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا شيء.

ثمّ قال : من أين قالوا إن الأشياء أزليّة؟ قال علیه السلام : هذه مقالة قوم جحدوا مدبّرا الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم ، والأنبياء وما أنبئوا عنه ، وسمّوا كتبهم أساطير ، ووضعوا لأنفسهم دينا بآرائهم واستحسانهم ، وإن الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه وهي سبعة أفلاك ، وتحرّك الأرض ومن عليها ، وانقلاب الأزمنة ، واختلاف الحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان ، وموت وبلى ، واضطرار الأنفس الى الإقرار بأن لها صانعا ومدبّرا ، ألا ترى الحلو يصير حامضا ، والعذاب مرّا ، والجديد باليا ، وكلّ الى تغيّر وفناء (1).

أقول : إن الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك من أدقّ الأدلّة العلميّة على حدوث العالم ، الذي قصرت عنه أفهام كثير من الفلاسفة العظام كما أنه جعل الفلك الدائر فلكا واحدا ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة لا ينطبق إلاّ على نظرية الهيئة الحديثة إذ يراد به النظام الشمسي ، ومثله تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين ، وهي من مكتشفات العلم الحديث.

وللصادق علیه السلام مناظرات جمّة مع ابن أبي العوجاء ، وكان بعضها في التوحيد ، وكان ابن أبي العوجاء واسمه عبد الكريم من الملاحدة المشهورين

ص: 193


1- الاحتجاج للشيخ الطبرسي : 336 - 345 ..

واعترف بدسّه الأحاديث الكاذبة في أحاديث النبي صلی اللّه علیه و آله وكفى في معرفة حاله هذه المناظرات ، وقد قتل على الإلحاد كما قتل صاحبه ابن المقفّع (1).

فمن تلك المناظرات أنه كان يوما هو وعبد اللّه بن المقفّع في المسجد الحرام فقال ابن المقفّع : ترون هذا الخلق - وأومأ بيده الى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له اسم الانسانيّة إلاّ ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد اللّه جعفر بن محمد علیهماالسلام - وأما الباقون فرعاع وبهائم ، فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء ، فقال : لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم ، فقال ابن أبي العوجاء : لا بدّ من اختبار ما قلت فيه منه ، فقال له ابن المقفّع : لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك ، فقال : ليس ذا رأيك لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إيّاه هذا المحلّ الذي وصفت ، فقال ابن المقفّع : أمّا اذا توسّمت عليّ فقم إليه وتحفّظ من الزلل ولا تثن عنانك الى استرسال فيسلمك الى عقال ، وسمة ما لك وعليك ، فقام ابن أبي العوجاء فلمّا رجع قال : ويلك يا ابن المقفّع ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ظاهرا ويتروّح اذا شاء باطنا فهو هذا ، فقال له : كيف ذلك؟ فقال : جلست إليه فلمّا لم يبق عنده أحد غيري ابتدأني فقال : إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون - يعني أهل الطواف - فقد سلموا وعطبتم ، وإن يكن الأمر كما تقولون ، وليس كما تقولون ، فقد استويتم

ص: 194


1- قتل محمّد بن سليمان عامل الكوفة من قبل المنصور ابن أبي العوجاء وكان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري ، فانحرف عن التوحيد واعتزل حوزة الحسن البصري ، وأمّا ابن المقفّع فقد كان مجوسيّا وأسلم ظاهرا ، غير أن أعماله وأقواله لا تدلّ على إسلامه ، وكان فارسيّا ماهرا في صنعة الإنشاء والأدب ، وهو الذي عرّب كتاب كليلة ودمنة ، وقتله سفيان المهلبي أمير البصرة عام 143 بأمر المنصور ..

وهم ، فقلت : يرحمك اللّه وأيّ شيء نقول وأيّ شيء يقولون ، ما قولي وقولهم إلاّ واحد ، فقال : وكيف يكون قولك وقولهم واحدا ، وهم يقولون إن لهم معادا وثوابا وعقابا ، ويدينون بأن للسماء إلها وأنها عمران ، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد ، قال : فاغتنمتها منه فقلت له : ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم الى عبادته حتّى لا يختلف فيه اثنان؟ لم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب الى الإيمان به ، فقال لي : ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك؟ نشوّك (1) ولم تكن ، وكبرك بعد صغرك ، وقوّتك بعد ضعفك ، وضعفك بعد قوّتك ، وسقمك بعد صحتك ، وصحتك بعد سقمك ، ورضاك بعد غضبك ، وغضبك بعد رضاك ، وحزنك بعد فرحك ، وفرحك بعد حزنك ، وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبّك ، وعزمك بعد إنابتك (2) ، وإنابتك بعد عزمك ، وشهوتك بعد كراهتك ، وكراهتك بعد شهوتك ، ورغبتك بعد رهبتك ، ورهبتك بعد رغبتك ، ورجاءك بعد يأسك ، ويأسك بعد رجائك ، وخاطرك لما لم يكن في وهمك ، وغروب (3) ما أنت معتقده عن ذهنك وما زال يعدّ (4) عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها ، حتّى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه (5).

ودخل على الصادق علیه السلام يوما فقال : أليس تزعم أن اللّه تعالى خالق كلّ شيء؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : بلى ، فقال : أنا أخلق ، فقال له :

ص: 195


1- نشأك في نسخة ..
2- الإنابة : الرجوع ، وفي نسخة : إبائك ، وفي نسخة اخرى : إناءتك وهي الإبطاء ..
3- وفي نسخة عزوب ..
4- وفي نسخة يعدّد ..
5- الكافي : كتاب التوحيد منه ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ..

كيف تخلق؟ فقال : أحدث في الموضع ثمّ ألبث عنه فيصير دوابا فكنت انا الذي خلقتها ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه؟ قال : بلى ، قال علیه السلام : فتعرف الذكر من الانثى وتعرف عمرها؟

فسكت.

وللصادق علیه السلام نظير ذلك مع الجعد بن درهم ، وكان من أهل الضلال والبدع ، وقتله والي الكوفة يوم النحر لذلك ، قال ابن شهر اشوب : قيل إن الجعد بن درهم جعل في قارورة ماء وترابا فاستحال دودا وهواما فقال لأصحابه : أنا خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه ، فبلغ ذلك جعفر بن محمّد علیهماالسلام ، فقال : ليقل كم هي؟ وكم الذكران منه والاناث إن كان خلقه ، وكم وزن كلّ واحدة منهنّ ، وليأمر الذي سعى الى هذا الوجه أن يرجع الى غيره ، فانقطع وهرب.

ثمّ أن ابن أبي العوجاء عاد إليه في اليوم الثاني فجلس وهو ساكت لا ينطق فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : كأنك جئت تعيد بعض ما كنّا فيه ، فقال : أردت ذلك يا ابن رسول اللّه ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ما أعجب هذا تنكر اللّه وتشهد أني ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ! فقال : العادة تحملني على ذلك ، فقال له الصادق علیه السلام : فما يمنعك من الكلام ، قال : إجلال لك ومهابة ، ما ينطق لساني بين يديك ، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلّمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك ، قال علیه السلام : يكون ذلك ، ولكن أفتح عليك سؤالا ، وأقبل عليه فقال له : أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟

فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غير مصنوع ، فقال له الصادق علیه السلام : فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ فبقي عبد الكريم مليّا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول : طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن

ص: 196

كلّ ذلك من صفة خلقه ، فقال له الصادق علیه السلام فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الامور ، فقال له عبد الكريم : سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها ، فقال له أبو عبد اللّه : هبك علمت أنك لم تسأل فيما مضى فما علمك إنك لم تسأل فيما بعد؟ على أنك يا عبد الكريم نقضت قولك ، لأنك تزعم أن الأشياء من الأوّل سواء فكيف قدّمت وأخّرت؟ ثمّ قال : يا عبد الكريم : أنزيدك وضوحا؟ أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر ، فقال لك قائل : هل في الكيس دينار فنفيت كون الدينار في الكيس ، فقال لك قائل : صف لي الدينار؟ وكنت غير عالم بصفة ، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم؟ قال : لا ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : فالعالم اكبر وأطول وأعرض من الكيس ، فلعلّ في العالم صنعة من حيث لا تعلم ، لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة ، فانقطع عبد الكريم ، وأجاب إلى الإسلام بعض أصحابه وبقي معه بعض.

فعاد في اليوم الثالث فقال : أقلب السؤال ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام سل عمّا شئت فقال : ما الدليل على حدوث الأجسام؟ فقال : إني ما وجدت صغيرا ولا كبيرا إلاّ واذا ضمّ إليه مثله صار اكبر ، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الاولى ، ولو كان قديما ما زال ولا حال ، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يجود ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونه في الاولى دخوله في العدم ، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد.

فقال عبد الكريم : هبك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها؟ فقال الصادق علیه السلام : إنما نتكلّم على هذا العالم

ص: 197

الموضوع فلو رفعناه ووضعنا عالما آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إيّاه ووضعنا غيره ، ولكن أجبت من حيث قدرت إنك تلزمنا وتقول : إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ما ضمّ شيء منه الى مثله كان اكبر ، وفي جواز التغيّر عليه خروجه من القدم كما بان في تغيير دخوله في الحدث ، ليس وراءه شيء يا عبد الكريم ، فانقطع وخزي.

أقول : إن خلاصة كلام الصادق علیه السلام : أن هذا العالم إذا ضمّ شيء منه إلى شيء آخر حدث شيء اكبر ، وفي ذلك زوال عن الحالة الاولى وانتقال الى حال اخرى ، والقديم لا تطرأ عليه هذه التحوّلات ، ولو كان ذلك التأليف بالفرض والوهم ، كما لو كانت الأشياء حسب فرض ابن أبي العوجاء باقية على صغرها لا تكبر ، لأنه من الامور البديهيّة بل أبده البديهيّات أنه بضمّ شيء إلى شيء تحصل زيادة على كلّ من الشيئين ، وهذه إحدى بديهيّات أربع هي أساس العلوم الرياضيّة كلّها ، فقد أرجع الإمام الدليل على حدوث العالم الى أوضح بديهيّة في العقول التي لا يختلف فيها اثنان ، على أنه علیه السلام مع ذلك أجاب على تقدير هذا الفرض المحال وهو أن الأشياء تبقى على ما هي عليه بضمّ بعضها الى بعض أجاب بأن هذا الفرض نفسه هو فرض جواز التغيير عليه وخروجه من القدم ودخوله في الحدث ، لأن المفروض أن العالم تقبل الأشياء فيه الزيادة بضمّ بعضها الى بعض ، فلو فرضناه عالما آخر لا يقبل ذلك فقد فرضنا رفع هذا العالم وتغييره ، فيتحقّق فيه الاستدلال على المطلوب. ما أدقّ هذا الدليل وأبدعه ، ولذلك انقطع به ابن أبي العوجاء وخزي.

ولمّا كان في العام القابل التقى معه في الحرم ، فقال له بعض شيعته : إن ابن أبي العوجاء قد أسلم ، فقال الصادق علیه السلام : هو أعمى من ذلك لا يسلم ، فلمّا بصر بالصادق علیه السلام قال : سيّدي ومولاي ، فقال له : ما جاء

ص: 198

بك الى هذا الموضع؟ فقال : عادة الجسد وسنّة البلد ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة ، فقال له الصادق علیه السلام : أنت بعد على عتوّك وضلالك يا عبد الكريم ، فذهب يتكلّم ، فقال له : لا جدال في الحجّ ونفض رداءه من يده ، وقال : إن يكن الأمر كما تقول وليس كما تقول نجونا ونجوت ، وإن يكن الأمر كما نقول وهو كما نقول نجونا وهلكت (1).

وناظر الصادق علیه السلام يوما في تبديل الجلود في النار ، فقال : ما تقول في هذه الآية « كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها » (2) هب هذه الجلود عصت فعذّبت فما بال الغير يعذّب؟ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : ويحك هي هي وهي غيرها ، قال : اعقلني هذا القول ، فقال له : أرأيت لو أن رجلا عهد الى لبنة فكسرها ثم صبّ عليها الماء وجبلها (3) ثم ردّها الى هيئتها الأولى ، ألم تكن هي هي وهي غيرها؟ فقال : بلى أمتع اللّه بك (4).

أقول : هذا ما توصّل إليه عظماء الفلاسفة بعد جهد وبحوث طويلة في تحليل صحّة عذاب الانسان المجرم ، مع أن ذرّات جسمه الذي وقع منه الجرم تتبدّل وتتحوّل دائما ( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (5). وبهذا البيان الدقيق يجاب عن شبهة الآكل والمأكول المعروفة ، فمن أين تعلم هذه الفلسفة الدقيقة في تلك العصور التي ما شمّت رائحتها؟ إنه الامام ، وكفى.

وكان لأبي شاكر الديصاني - أحد ملاحدة العرب - مع الصادق علیه السلام

ص: 199


1- توحيد الصدوق طاب ثراه ، باب حدوث العالم .
2- النساء : 56 .
3- طبعها وليّنها .
4- الاحتجاج للشيخ الطبرسي : 354 .
5- الدخان : 53 .

مناظرات وأسئلة ، واخرى بينه وبين هشام بن الحكم ويفزع هشام بها الى إمامه الصادق علیه السلام ، قال يوما لهشام : إن في القرآن آية هي من قولنا ، قال هشام : وما هي؟ فقال : « وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله » (1) قال هشام : فلم أدر بم اجيبه ، فحججت فخبّرت أبا عبد اللّه علیه السلام ، قال : هذا كلام زنديق خبيث ، اذا رجعت إليه فقل له ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول لك فلان فقل له : ما اسمك بالبصرة؟ فإنه يقول فلان ، فقل له : كذلك ربّنا في السماء إله ، وفي الأرض إله ، وفي البحار إله ، وفي القفار إله ، وفي كلّ مكان إله ، قال : فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته ، فقال : هذه نقلت من الحجاز (2).

وسأل أبو شاكر هشام بن الحكم يوما فقال : ألك رب؟ فقال : بلى ، فقال : أقادر هو؟ قال : نعم قادر ، قال : يقدر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ قال هشام : النظرة ، فقال له : قد أنظرتك حولا ، ثمّ خرج عنه ، فركب هشام الى أبي عبد اللّه علیه السلام فاستأذن عليه فأذن له ، فقال له يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أتاني عبد اللّه الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلاّ على اللّه وعليك ، فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : يا هشام كم حواسّك؟ قال : خمس ، قال : أيّها أصغر؟ قال : الناظر ، قال : وكم قدر الناظر؟

قال : مثل العدسة أو أقلّ منها ، فقال له : يا هشام فانظر أمامك وفوقك واخبرني بما ترى ، فقال : أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا ، فقال له أبو عبد اللّه : إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن

ص: 200


1- الزخرف : 84 ..
2- الكافي : باب الحركة والانتقال ..

يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة ، فأكبّ هشام عليه يقبّل يديه ورأسه ورجليه ، وقال : حسبي يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وانصرف الى منزله.

أقول : إن هذا الجواب صدر عن الإمام علیه السلام على سبيل الإسكات والإقناع ، والجواب البرهاني أن يقال : إن اللّه تعالى لا يقدر على مثل ذلك لأنه محال والمحال غير مقدور له ، كما أنه لا يقدر على إيجاد شريك له وعلى الجمع بين النقيضين والضدّين ، وهذا ليس من النقص في القدرة بل للنقص في المقدور ، لأن القدرة تحتاج الى أن يكون متعلّقها ممكنا في ذاته ، والفرق واضح بين النقص في القدرة والنقص في المقدور ، ولعلّ الديصاني لو أجيب بمثل هذا لما اقتنع به أو لما عقله.

وروي أن أمير المؤمنين علیه السلام سئل عن مثل ذلك ، فأجاب بأن اللّه لا ينسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون ، وهذا هو الجواب الحقيقي ، ومفاده ما أوضحناه.

ثمّ إن الديصاني غدا على هشام ، فقال له هشام : إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب ، فقال له : إني جئتك مسلّما ولم أجئك متقاضيا للجواب ، فخرج الديصاني عنه حتّى أتى باب أبي عبد اللّه علیه السلام فاستأذن عليه فأذن له ، فلمّا قعد قال له : يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي ، فقال له أبو عبد اللّه : ما اسمك؟ فخرج عنه ولم يخبره باسمه ، فقال له أصحابه : كيف لم تخبره باسمك؟ قال : لو كنت قلت له عبد اللّه كان يقول من الذي أنت له عبد؟

فقالوا : عد إليه وقل له يدلّك على معبودك ولا يسألك عن اسمك ، فرجع إليه وقال : يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي ولا تسألني عن اسمي ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : اجلس ، واذا غلام له صغير في كفّه بيضة يلعب بها

ص: 201

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ، ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها ، لا يدرى للذكر خلقت أم للانثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس أترى لهذا مدبّرا؟ قال : فأطرق مليّا ، ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمّدا عبده ورسوله ، وأنك إمام وحجّة من اللّه على خلقه ، وأنا تائب ممّا كنت فيه (1).

مناظرته مع طبيب :

حضر أبو عبد اللّه علیه السلام مجلس المنصور يوما وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطبّ فجعل أبو عبد اللّه الصادق علیه السلام ينصت لقراءته ، فلما فرغ الهندي قال له : يا أبا عبد اللّه أتريد ممّا معي شيئا؟ قال : لا ، فإن معي ما هو خير ممّا معك ، قال : وما هو؟ قال : أداوي الحار بالبارد والبارد بالحار ، والرطب باليابس واليابس بالرطب ، وأردّ الأمر كلّه الى اللّه عزّ وجل ، وأستعمل ممّا قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، واعلم أن المعدة بيت الداء وأن الحميّة هي الدواء ، واعوّد البدن ما اعتاد ، فقال الهندي : وهل الطبّ إلاّ هذا؟ فقال الصادق : أفتراني عن كتب الطبّ أخذت ، قال : نعم ، قال : لا واللّه ما أخذت إلاّ عن اللّه سبحانه ، فأخبرني أنا أعلم بالطبّ أم أنت؟ فقال الهندي : لا بل أنا ، فقال الصادق علیه السلام : فأسألك شيئا ، قال : سل.

ص: 202


1- الكافي : كتاب التوحيد منه ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ..

قال : أخبرني يا هندي لم كان في الرأس شؤن؟ (1) قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل الشعر عليه من فوقه؟ قال : لا أعلم.

قال : فلم خلت الجبهة من الشعر؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كان لها تخطيط وأسارير؟ (2) قال : لا أعلم ، قال : فلم كان الحاجبان من فوق العينين؟

قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل العينان كاللوزتين؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل الأنف فيما بينهما؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كان ثقب الأنف في أسفله؟

قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل الشفّة والشارب من فوق الفم؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم احتدّ السنّ وعرض الضرس (3) وطال الناب؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعلت اللحية للرجال؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم خلت الكفّان من الشعر؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم خلا الظفر والشعر من الحياة؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كان القلب كحبّ الصنوبر (4) قال : لا أعلم ، قال : فلم كانت الرئة قطعتين ، وجعل حركتها في موضعها؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كانت الكبد حدباء؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم كانت الكلية كحبّ اللوبياء؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم جعل طيّ الركبتين الى خلف؟ قال : لا أعلم ، قال : فلم تخصّرت القدم؟ (5) قال : لا أعلم ، فقال الصادق علیه السلام : لكنّي أعلم ، قال : فأجبا.

ص: 203


1- روى في البحار في شرح هذه المناظرة عن ابن سينا في التشريح أن الجمجمة مركّبة من سبعة أعظم أربعة كالجدران وواحد كالقاعدة والباقيان يتألّف منها العجف وبعضها موصول الى بعض بدروز يقال لها الشؤن. أقول : لعلّه يريد بالعجف : العظام الفصار ..
2- الأسارير : الخطوط ..
3- يراد منه الطواحن خاصّة ..
4- الصنوبر شجر لا يزال مخضرا وهو رفيع الورق وحبّه مستدير طويل ..
5- مخصر القدم : من تمسّ قدمه الأرض من مقدمها وعقبها ويخوى أخمصها مع دقّة فيه ..

قال الصادق علیه السلام : كان في الرأس شؤن لأن المجوّف إذا كان بلا فصل أسرع إليه الصداع ، فاذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد وجعل الشعر من فوقه لتوصل بوصوله الأدهان الى الدماغ ويخرج بأطرافه البخار منه ، ويردّ الحرّ والبرد عليه ، وخلت الجبهة من الشعر لأنها مصبّ النور الى العينين (1) وجعل فيها التخطيط والأسارير ليحتبس العرق الوارد من الرأس الى العين قدر ما يميطه الانسان عن نفسه وهو كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه ، وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردّا (2) عليهما من النور قدر الكفاية ، ألا ترى يا هندي أن من غلبه النور جعل يده على عينيه ليردّ عليهما قدر كفايتهما منه ، وجعل الأنف فيما بينهما ليقسم النور قسمين الى كلّ عين سواء ، وكانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء ويخرج منها الداء ولو كانت مربّعة أو مدوّرة ما جرى فيها الميل وما وصل إليها دواء ولا خرج منها داء ، وجعل ثقب الأنف في أسفله لتنزل منه الأدواء المتحدّرة من الدماغ ويصعد فيه الأراييح الى المشام ، ولو كان في أعلاه لما نزل منه داء ولا وجد رائحة ، وجعل الشارب والشفة فوق الفم لحبس ما ينزل من الدماغ الى الفم لئلاّ يتنغّص على الانسان طعامه وشرابه فيميطه عن نفسه ، وجعلت اللحية للرجال ليستغنى بها عن الكشف (3) في المنظر ويعلم بها الذكر من الانثى ، وجعل السنّ حادّا لأنه به يقع العض ، وجعل الضرس عريضا لأنه به يقع الطحن والمضغ ، وكان الناب طويلا ليسند (4) الأضراس والأسنان كالاسطوانة في البناء ، وخلا الكفّان من الشعر لأن بهما يقع

ص: 204


1- فلو كان في الجبهة لحال دون النور ..
2- ليورد في نسخة ..
3- أي كشف العورة ..
4- وفي نسخة ليشدّ. والمعنى عليهما معا لا يختلف ..

اللمس ، فلو كان فيهم شعر ما درى الانسان ما يقابله ويلمسه ، وخلا الشعر والظفر من الحياة لأن طولهما سمج يقبح وقصّهما حسن فلو كانت فيهما حياة لألم الانسان قصّهما ، وكان القلب كحبّ الصنوبر لأنه منكس فجعل رأسه دقيقا ليدخل في الرئة فيتروّح عنه ببردها لئلاّ يشيط الدماغ بحرّه (1) ، وجعلت الرئة قطعتين ليدخل (2) بين مضاغطها (3) فيتروّح عنه بحركتها ، وكانت الكبد حدباء لتثقل المعدة ويقع جميعها عليها فيعصرها ليخرج (4) ما فيها من البخار ، وجعلت الكلية كحبّ اللوبياء لأن عليها مصبّ المني نقطة بعد نقطة ، فلو كانت مربّعة أو مدوّرة احتبست النقطة الاولى الى الثانية فلا يلتذّ بخروجها الحي ، إذ المني ينزل من فقار الظهر الى الكلية ، فهي كالدودة تنقبض وتنبسط ترميه أوّلا فأوّلا الى المثانة كالبندقة من القوس ، وجعل طيّ الركبة الى خلف لأن الانسان يمشي الى ما بين يديه فتعتدل الحركتان (5) ولو لا ذلك لسقط في المشي ، وجعلت القدم مخصّرة (6) لأن المشي اذا وقع على الأرض جميعه ثقل ثقل حجر الرحى ، فإذا كان على طرفه (7) دفعه الصبي ، واذا وقع على وجهه صعب نقله على الرجل.

فقال له الهندي : من أين لك هذا العلم؟ فقال علیه السلام : أخذته عن آبائي علیهم السلام عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن جبرئيل عن ربّ

ص: 205


1- لاتصال ما بين القلب والدماغ بالشرايين فاذا احترّ القلب احترّ الدماغ ..
2- أي القلب ..
3- وفي نسخة مساقطها ..
4- وفي نسخة فيخرج ..
5- وفي نسخة الحركات ..
6- متخصّرة في نسخة ..
7- وفي نسخة حرفه ..

العالمين جلّ جلاله الذي خلق الأبدان والأرواح ، فقال الهندي : صدقت وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأن محمّدا رسول اللّه وعبده وأنك أعلم أهل زمانه (1).

تفضيل النبي صلی اللّه علیه و آله :

قال أبو خنيس الكوفي : حضرت مجلس الصادق علیه السلام وعنده جماعة من النصارى ، فقالوا : فضل موسى وعيسى ومحمّد سواء ، لأنهم علیهم السلام أصحاب الشرائع والكتب ، فقال علیه السلام : محمّد أفضل منهما علیهماالسلام وأعلم ، ولقد أعطاه اللّه تبارك وتعالى من العلم ما لم يعط غيره ، فقالوا : آية من كتاب اللّه تعالى نزلت في هذا؟ قال علیه السلام : نعم قوله تعالى « وكتبنا له في الألواح من كلّ شيء » (2) وقوله تعالى لعيسى : « وليبيّننّ لكم بعض الذي تختلفون فيه » (3) وقوله تعالى للسيّد المصطفى صلی اللّه علیه و آله « جئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكلّ شيء » (4) وقوله تعالى : « ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم وأحصى كلّ شيء عددا » (5) فهو واللّه أعلم منهما ، ولو حضر موسى وعيسى محضرتي وسألاني لأجبتهما ، وسألتهما ما أجابا (6).

أقول : إذا كان أمير المؤمنين باب مدينة علم الرسول وأولاده ورثة علمه فهم

ص: 206


1- بحار الأنوار : 10 / 207 ..
2- الأعراف : 145 ..
3- الزخرف : 63 ..
4- النحل : 89 ..
5- الجن : 28 ..
6- بحار الأنوار : 10 / 215 / 15 ..

إذن أعلم الناس كلّهم ، الأنبياء وغيرهم.

العدل بين النساء :

سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول (1) فقال : أخبرني عن قول اللّه تعالى : « فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة » (2) وقال تعالى في آخر السورة « ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كلّ الميل » (3) فبين القولين فرق؟ فقال أبو جعفر الأحول : فلم يكن عندي جواب فقدمت المدينة فدخلت على أبي عبد اللّه علیه السلام فسألته عن الآيتين ، فقال : أمّا قوله « فان خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة » فإنما عنى في النفقة ، وقوله « ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم » فإنما عنى في المودّة ، فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة ، فرجع أبو جعفر الى الرجل فأخبره ، فقال : هذا حملته من الحجاز (4).

أقول : حاول هذا الزنديق أن يناقض بين الآيتين لأن الثانية جعلت العدل غير مستطاع ، ولكن هذا التناقض إنما يصحّ اذا كان متعلّق الآيتين واحدا ، وأمّا اذا كان متعلّق الاولى النفقة والثانية المودّة فلا تناقض بين العدلين.

رؤساء المعتزلة في البيعة لمحمّد :

دخل عليه أناس من المعتزلة ، وفيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء

ص: 207


1- مؤمن الطاق وسنشير إليه في ثقات رواته ..
2- النساء : 3 ..
3- النساء : 129 ..
4- بحار الأنوار : 10 / 202 / 6 ..

وحفص بن سالم (1) وأناس من رؤساء المعتزلة ، وذلك حين قتل الوليد واختلف أهل الشام بينهم ، فتكلّموا وأكثروا ، وخطبوا فأطالوا ، فقال لهم الصادق علیه السلام : إنكم قد أكثرتم عليّ فأطلتم فأسندوا أمركم الى رجل منكم ، فليتكلّم بحجّتكم وليوجز ، فأسندوا أمرهم الى عمرو بن عبيد فأبلغ وأطال ، فكان فيما قال : قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب اللّه بعضهم ببعض وتشتّت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروّة ومعدن لخلافة ، وهو محمّد بن عبد اللّه بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ثمّ نظهر أمرنا معه ، وندعو الناس إليه ، فمن بايعه كنّا معه وكان معنا ، ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ، ونصبنا له على بغيه ، ونردّه الى الحقّ وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك فإنه لا غناء لنا عن مثلك ، لفضلك وكثرة شيعتك.

فلما فرغ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : أكلّكم على مثل ما قال عمرو؟

قالوا : نعم ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على النبي صلی اللّه علیه و آله ثمّ قال : إنّما نسخط اذا عصي اللّه فاذا اطيع اللّه رضينا ، أخبرني يا عمرو لو أن الامّة

ص: 208


1- أمّا عمرو بن عبيد فهو بصري من تلامذة الحسن البصري ، وشهرته تغني عن تعريفه ، وهو ممّن لقي الصادق وروى عنه ، وسأله عن الكبائر فأجابه علیه السلام عنها مفصّلا ، وكانت ولادته عام 80 ووفاته 144 . وأما واصل فشهرته أيضا تغني عن بيان حاله ، وكان بليغا فصيحا وهو من رؤساء المعتزلة ، وكان يلتغ بالراء ويتجنّبها في كلامه ، ولد عام ٨٠ ومات ١٣١. وأمّا حفص فلم أظفر بترجمته غير أن في ميزان الاعتدال ذكر حفص بن سلم أبا مقاتل السمرقندي وقد طعن فيه. قال أبو الفرج في المقاتل : كان اجتماعهم في دار عثمان بن عبد الرحمن المحزومي للمذاكرة في أمر من يقوم بالناس فرجّحوا محمدا قبل أن يغدوا على الصادق عليه السلام.

قلّدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤونة فقيل لك : ولّها من شئت ، من تولّي؟

قال : كنت أجعلها شورى بين المسلمين ، قال : بين كلّهم؟ قال : نعم ، قال : بين فقهائهم وخيارهم؟ قال : نعم ، قال : قريش وغيرهم؟ قال : العرب والعجم ، قال : يا عمرو أتتولّى أبا بكر وعمر أو تتبرّأ منهما؟ قال : أتولاّهما ، قال : يا عمرو إن كنت رجلا تتبرّأ منهما فإنه يجوز لك الخلاف عليهما ، وإن كنت تتولاّهما فقد خالفتهما ، قد عهد عمر الى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحدا ، ثمّ ردّها أبو بكر عليه ولم يشاور أحدا ، ثمّ جعلها عمر شورى بين ستة ، فأخرج منها الأنصار غير اولئك الستة من قريش ، ثمّ أوصى الناس فيهم بشيء ما أراك ترضى به أنت ولا أصحابك ، قال : وما صنع؟ قال : أمر صهيبا أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، وأن يتشاور اولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم إلاّ ابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء ، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت الثلاثة أيام ولم يفرغوا ويبايعوا أن يضرب أعناق الستة جميعا ، وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان ، أن يضرب أعناق الاثنين ، أفترضون بذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟ قالوا : لا ، قال : يا عمرو دع ذا ، أرأيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعو إليه ، ثمّ اجتمعت لكم الامّة ولم يختلف عليكم منهم رجلان ، فأفضيتم الى المشركين؟

قالوا : نعم ، قال : فتصنعون ما ذا؟ قال : ندعوهم الى الاسلام فإن أبوا دعوناهم الى الجزية ، قال : فإن كانوا مجوسا وعبدة النار والبهائم وليسوا بأهل كتاب؟

قال : سواء.

قال علیه السلام : فأخبرني عن القرآن أتقرءونه؟ قال : نعم ، قال :

اقرأ : « قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين اوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم

ص: 209

صاغرون » (1). قال : فاستثنى عزّ وجل واشترط من الذين اوتوا الكتاب فيهم والذين لم يؤمنوا سواء ، قال علیه السلام : عمّن أخذت هذا؟ قال : سمعت الناس يقولونه.

قال : فدع ذا فإنهم إن أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم ، كيف تصنع بالغنيمة؟ قال : اخرج الخمس واقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليها ، قال : تقسمه بين جميع من قاتل عليها؟ قال : نعم ، قال علیه السلام : فقد خالفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في فعله وسيرته ، وبيني وبينك فقهاء المدينة ومشيختهم فسلهم فإنهم لا يختلفون ولا يتنازعون في أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم وألاّ يهاجروا على أنه إن دهمه من عدوّه دهم فيستنفرهم فيقاتل بهم وليس لهم من الغنيمة نصيب وأنت تقول بين جميعهم ، فقد خالفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في سيرته في المشركين.

دع ذا ، ما تقول في الصدقة؟ قال : فقرأ الآية : « إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها » (2) الى آخرها ، قال : نعم فكيف تقسّم بينهم؟ قال : اقسّمها على ثمانية أجزاء ، فاعطي كل جزء من الثمانية جزء ، فقال علیه السلام إن كان صنف منهم عشرة آلاف ، وصنف رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد مثلما جعلت لعشرة آلاف؟ قال : نعم ، قال : وتصنع بين صدقات أهل الحضر والبوادي فتجعلهم سواء؟ قال : نعم ، قال : فخالفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كلّ ما به قلت في سيرته ، كان رسول اللّه

ص: 210


1- التوبة : 29 ..
2- التوبة : 60 ..

صلی اللّه علیه و آله يقسّم صدقة البوادي في أهل البوادي ، وصدقة الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسّمها بينهم بالسويّة ، إنما يقسّمها قدر ما يحضره منهم ، وعلى ما يرى وعلى ما يحضره ، فإن كان في نفسك شيء ممّا قلت فإن فقهاء أهل المدينة ومشيختهم كلّهم لا يختلفون في أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كذا كان يصنع.

ثمّ أقبل على عمرو وقال : اتّق اللّه يا عمرو وأنتم أيها الرهط فاتّقوا اللّه فإن أبي حدّثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب اللّه وسنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : من ضرب الناس بسيفه ودعاهم الى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف (1).

أقول : قد يخال الناظر عند أوّل نظرة أن أسئلة الامام بعيدة عن القصد أجنبيّة عن شأن البيعة لمحمّد ، ولكن بعد الرويّة يعرف أن القصد منها جليّ والمناسبة بارزة ، وذلك لأنه يريد أن يفهمهم أنهم جهلاء بالشريعة وأحكامها وأن إمامهم الذي يدعون له مثلهم في الجهل بقواعد الدين ، وكيف يتولّى الجاهل امور الامّة وفيهم الأعلم الأفضل.

مناظرته في الزهد :

دخل سفيان الثوري على الصادق علیه السلام فرأى ثيابه بيضا كأنها غرقى البيض (2) فقال له : إن هذا اللباس ليس من لباسك ، فقال له : اسمع مني ما أقول لك ، فإنه خير لك عاجلا وآجلا ، إن أنت متّ على السنّة والحقّ

ص: 211


1- احتجاج الطبرسي : 2 / 364 ..
2- كزبرج : الفشرة الملتزقة ببياض البيض ، والتشبيه بها إمّا لشدّة البياض أو للرقة أو لهما معا ..

ولم تمت على البدعة.

اخبرك أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان في زمان مقفر جدب فأمّا إذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها ، ومؤمنوها لا منافقوها ، ومسلموها لا كفّارها ، فما أنكرت يا ثوري ، فو اللّه أنني لمع ما ترى عليّ منذ عقلت ما مرّ صباح ولا مساء ولله في مالي حقّ أمرني أن أضعه موضعا إلاّ وضعته.

وأتاه قوم ممّن يظهر التزهّد ويدعو الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشّف ، فقالوا له : إن صاحبنا حصر عن كلامك ولم تحضره حججه ، فقال لهم : فهاتوا حججكم ، فقالوا له : حجّتنا من كتاب اللّه ، فقال لهم : فادلوا بها ، فإنها أحقّ ما اتبع وعمل به ، فقالوا : يقول اللّه تبارك وتعالى مخبرا عن قوم من أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله : « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (1) ومن يوق شحّ نفسه فاولئك هم المفلحون » (2) فمدح فعلهم ، وقال في موضع آخر : « ويطعمون الطعام على حبّه مسكينا ويتيما وأسيرا » (3) فنحن نكتفي بهذا.

فقال رجل من الجلساء : إنّا رأيناكم تزهدون في الأطعمة الطيّبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتّى تمتعوا أنتم بها ، فقال لهم أبو عبد اللّه : دعوا عنكم ما لا ينتفع به ، أخبروني أيّها النفر ، ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه ، ومحكمه من متشابهه ، الذي في مثله ضلّ من ضلّ وهلك من هلك من هذه الامّة؟ فقالوا له : أو بعضه فأمّا كلّه فلا ، فقال علیه السلام لهم : فمن هاهنا

ص: 212


1- بالفتح الفقر ..
2- الحشر : 9 ..
3- الدهر : 8 ..

أتيتم ، وكذلك أحاديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأمّا ما ذكرتم من أخبار اللّه إيّانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن فعالهم فقد كان مباحا جائزا ولم يكونوا نهوا عنه ، وثوابهم منه على اللّه عزّ وجل ، وذلك أن اللّه جلّ وتقدّس أمر بخلاف ما عملوا به فصار أمره ناسخا لفعلهم وكان نهى تبارك وتعالى رحمة منه للمؤمنين ، ونظرا لكي لا يضرّوا بأنفسهم وعيالاتهم ، منهم الضعفة الصغار والوالدان والشيخ الفاني والعجوزة الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع ، فان تصدّقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعا ، فمن ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : خمس تمرات أو خمسة قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الانسان وهو يريد أن يمضيها ، فأفضلها ما أنفقه الانسان على والديه ، ثمّ الثانية على نفسه وعياله ، ثمّ الثالثة على قرابته من الفقراء ، ثمّ الرابعة على جيرانه الفقراء ، ثمّ الخامسة في سبيل اللّه وهو أفضلها أجرا.

وقال صلی اللّه علیه و آله للأنصاري حين أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق ولم يملك غيرهم وله أولاد صغار : لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنونه مع المسلمين ، يترك صبيانه يتكفّفون الناس (1).

ثمّ قال : حدّثني أبي أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ابدأ بمن تعول الأدنى فالأدنى.

ثمّ قال علیه السلام : هذا ما نطق به الكتاب ردّا لقولكم ونهيا عنه مفروضا من اللّه العزيز الحكيم قال : « والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما » (2) أفلا ترون أن اللّه تبارك وتعالى قال غير ما أراكم تدعون إليه من

ص: 213


1- تكفّف الناس : مدّ كفّه إليهم يستعطي ..
2- الفرقان : 67 ..

الاثرة على أنفسكم وسمّى من فعل ما تدعون إليه مسرفا ، وفي غير آية من كتاب اللّه يقول : « إنه لا يحبّ المسرفين » (1) فنهاهم عن الإسراف ونهاهم عن التقتير لكن أمر بين أمرين ، لا يعطي جميع ما عنده ثمّ يدعو اللّه أن يرزقه فلا يستجيب له ، للحديث الذي جاء عن النبي صلی اللّه علیه و آله : أن أصنافا من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم ، رجل يدعو على والديه ، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه ، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل اللّه عزّ وجل تخلية سبيلها بيده ، ورجل يقعد في بيته ويقول ربّ ارزقني ولا يخرج ولا يطلب الرزق ، فيقول اللّه عزّ وجل له : عبدي ألم أجعل لك السبيل الى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة فتكون قد اعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري ولكي لا تكون كلاّ على أهلك ، فإن شئت رزقتك وإن شئت قتّرت عليك ، وأنت معذور عندي.

ورجل رزقه اللّه مالا كثيرا فأنفقه ثمّ أقبل يدعو يا ربّ ارزقني ، فيقول اللّه عزّ وجل : ألم أرزقك رزقا واسعا فهلاّ اقتصدت فيه كما أمرتك ، ولم تسرف فيه وقد نهيتك عن الإسراف.

ورجل يدعو في قطيعة رحم ، ثمّ علّم اللّه جلّ اسمه نبيّه صلی اللّه علیه و آله كيف ينفق ، وذلك أنه كان عنده اوقية من الذهب فكره أن تبيت عنده فتصدّق بها ، فأصبح وليس عنده شيء ، وجاء من يسأله ولم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل ، واغتمّ هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيما رقيقا فأدّب اللّه عزّ وجل نبيّه صلی اللّه علیه و آله بأمره فقال : « ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوما محسورا » (2) يقول : إن الناس قد

ص: 214


1- الأنعام : 141 ..
2- بني إسرائيل : 29 ، والحسر : الانكشاف ، ويراد به هاهنا العراء من المال ..

يسألونك ولا يعذرونك ، فاذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال.

فهذه أحاديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصدّقها الكتاب ، والكتاب يصدّقه أهله من المؤمنين ، ثمّ من علمتم من بعده في فضله وزهده سلمان رضی اللّه عنه وأبو ذر رضی اللّه عنه فأمّا سلمان فكان اذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنة ، حتّى يحضر عطاؤه من قابل ، فقيل له : يا أبا عبد اللّه أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلّك تموت اليوم أو غدا ، فكان جوابه أن قال : مالكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليّ الفناء ، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث (1) على صاحبها اذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه فاذا أحرزت معيشتها اطمأنت.

وأمّا أبو ذر رحمه اللّه فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها اذا اشتهى اللحم أو نزل به ضيف ، أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة ، نحر لهم الجزور أو من الشاة على قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم (2) فيقسّمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضّل عليهم ، ومن أزهد من هؤلاء؟ وقد قال فيهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما قال ، ولم يبلغ من أمرهما أن صار لا يملكان شيئا البتّة ، كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون على أنفسهم وعيالاتهم.

واعلموا أيّها النفر أني سمعت أبي يروي عن آبائه علیهم السلام أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال يوما : ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن

ص: 215


1- تختلط ..
2- القرم - محرّكة - شدّة شهوة اللحم ..

انه اذا قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له ، وإن ملك ما بين مشارق الأرض ومغاربها كان خيرا له ، وكلّ ما يصنع به فهو خير له ، فليت شعري هل يحقّ فيكم ما قد شرحت لكم منذ اليوم أم أزيدكم؟

أما علمتم أن اللّه عزّ وجل قد فرض على المؤمنين في أوّل الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولّي وجهه عنهم ، ومن ولاّهم يومئذ دبره فقد تبوّأ (1) مقعده من النار ، ثمّ حوّلهم من حالهم رحمة منه لهم ، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من اللّه عزّ وجل للمؤمنين فنسخ الرجلان العشرة.

أقول : لمّا هاجر المسلمون من مكّة الى المدينة بدء الهجرة كانوا لا يجدون مأوى ولا مطعما ، فكان الإيثار من الأنصار أمرا لازما إلى أن يتمّ للمهاجرين ما يحتاجون إليه ، ولمّا أن تمّ له ما احتاجوه نسخ الإيثار بالتوسّط في الإنفاق فكان كلام الصادق علیه السلام عن العشرة بدء الجهاد ، وعند ما كثر المسلمون وأحسن منهم الضعف والعجز ونسخه بالرجلين تنظيرا لكلامه الأوّل.

ثمّ قال علیه السلام : واخبروني أيضا عن القضاة أجورة (2) هم حيث يقضون على الرجل منكم نفقة امرأته اذا قال : إني زاهد وإني لا شيء لي؟ فإن قلتم جورة ظلمتم أهل الاسلام ، وإن قلتم بل عدول خصمتم أنفسكم ، وحيث يردون صدقة من تصدق على المساكين عند الموت باكثر من الثلث.

أقول : وذلك فيما اذا أوصى أحد باكثر من ثلث ماله بعد الموت ، فإنها لا تمضي الوصيّة إلاّ في الثلث دون ما زاد ، وقوله « وحيث يردون » أي يرد

ص: 216


1- هيّأ ..
2- الهمزة للاستفهام ، والجورة جمع جائر ..

القضاة.

ثمّ قال علیه السلام : أخبروني لو كان الناس كلّهم كالذين تريدون زهّادا لا حاجة لهم في متاع غيرهم ، فعلى من يصدق بكفّارة الأيمان والنذور والصدقات من فرض الذهب والفضّة والتمر والزبيب وسائر ما أوجب فيه الزكاة من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك؟ اذا كان الأمر كما تقولون لا ينبغي لأحد أن يحبس شيئا من عرض الدنيا إلاّ قدمه وإن كان به خصاصة ، فبئس ما ذهبتم فيه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب اللّه عزّ وجل وسنّة نبيّه صلی اللّه علیه و آله وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل ، وردّكم إيّاها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه والأمر والنهي.

واخبروني أين أنتم عن سليمان بن داود علیهماالسلام حيث سأل اللّه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فأعطاه اللّه عزّ وجلّ اسمه ذلك ، وكان يقول الحقّ ويعمل به ، ثمّ لم نجد اللّه عزّ وجل عاب عليه ذلك ولا أحد من المؤمنين ، وداود النبي قبله في ملكه وشدّة سلطانه.

ثمّ يوسف النبي علیه السلام حيث قال لملك مصر : اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ، فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها الى اليمين ، وكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم وكان يقول الحقّ ويعمل به ، ثمّ لم نجد احدا عاب عليه ذلك.

فتأدّبوا أيّها النفر بآداب اللّه عزّ وجل للمؤمنين ، اقتصروا على أمر اللّه ونهيه ، ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم ممّا لا علم لكم به ، وردّوا العلم إلى أهله تؤجروا وتعذروا عند اللّه تبارك وتعالى ، وكونوا في طلب علم ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه ، وما أحلّه اللّه فيه ممّا حرّم فإنه أقرب لكم من اللّه ، وأبعد

ص: 217

لكم من الجهل ، ودعوا الجهالة لأهلها ، فإن أهل الجهل كثير ، وأهل العلم قليل ، وقد قال اللّه عزّ وجل : « وفوق كلّ ذي علم عليم » (1).

أقول : ما أوقع الناس في مهامه الجهالة ، ومتائه الضلالة إلاّ الاعتماد على آرائهم وخواطرهم دون ان يراجعوا في الكتاب والسنّة الى الثقل الثاني - العترة - علماء الكتاب والسنّة ، وقد رأيت كيف أوضح لهم الحقّ في شأن الزهد.

مناظرته في صدقة :

لا ريب في أن الناس تقع بالجهل والتيه اذا اعتمدوا على أنفسهم دون أن يرجعوا الى أهل العلم الصادق ، فيكون الجاهل تائها في قفار الجهل ويحسب أنه عالم بالشريعة ، ومن الذي يرشده الى الهدى والناس مثله اذا لم يكن المرشد العالم بالشريعة كما جاءت.

ولقد كانت بين الصادق علیه السلام وبين جاهل يدّعي العلم مناظرة في صدقة يحدّثنا عنها الصادق نفسه فيقول : إن من اتّبع هواه واعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظّمه وتصفه ، فأحببت لقاءه حيث لا يعرفني ، فرأيته قد أحدق به كثير من غثاء العامّة ، فما زال يراوغهم حتّى فارقهم ولم يقر فتبعته ، فلم يلبث أن مرّ بخبّاز فتغفّله وأخذ من دكّانه رغيفين مسارقة ، فتعجّبت منه ، ثمّ قلت في نفسي : لعله معاملة ، ثمّ أقول : وما حاجته إذن الى المسارقة ، ثمّ لم أزل أتبعه حتّى مرّ بصاحب رمّان ، فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمّانتين مسارقة ، فتعجّبت منه ثم قلت في نفسي : لعلّه معاملة ، ثمّ أقول : وما حاجته إذن إلى المسارقة ، ثمّ لم أزل

ص: 218


1- يوسف : 76 ، وهذه المناظرة في أوّل كتاب المعيشة من فروع الكافي ..

أتبعه حتّى مرّ بمريض فوضع الرغيفين والرمّانتين بين يديه.

ثمّ سألته عن فعله فقال : لعلّك جعفر بن محمّد ، قلت : بلى ، فقال لي : وما ينفعك شرف أصلك مع جهلك؟ فقلت : وما الذي جهلت منه؟ قال : قول اللّه عزّ وجل « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيّئة فلا يجزى إلاّ مثلها » (1) وإني لمّا سرقت الرغيفين كانت سيّئتين ، ولمّا سرقت الرّمانتين كانت سيّئتين ، فهذه أربع سيّئات فلما تصدّقت بكلّ واحدة منها كان لي أربعين حسنة ، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيّئات وبقي لي ستّ وثلاثون حسنة ، فقلت : ثكلتك امّك أنت الجاهل بكتاب اللّه ، أما سمعت اللّه تعالى يقول « إنما يتقبّل اللّه من المتّقين » إنك لمّا سرقت رغيفين كانت سيّئتين ، ولمّا سرقت رمّانتين كانت أيضا سيّئتين ، ولمّا دفعتها الى غير صاحبها بغير أمر صاحبها كنت إنما أضفت أربع سيّئات الى أربع سيّئات ، ولم تضف أربعين حسنة الى أربع سيّئات ، فجعل يلاحظني فانصرفت وتركته.

قال الصادق علیه السلام : بمثل هذا التأويل القبيح المستكره يضلّون ويضلّون (2).

أقول : وما اكثر أمثال هذا المتأوّل ولا غرابة بعد أن أعرضوا عن المنهل واستقوا من السراب.

وهذه شذرات من مناظرات الصادق علیه السلام ومحاججاته مع من تنكّب عن سبيل الهدى ، وحاد عن سنن الحقّ ، وهي قطرة من غيث ، جئنا بها نموذجا من تلك الحياة العلميّة في الحجج والأدلّة.

ص: 219


1- الأنعام : 160 ..
2- وسائل الشيعة : 2 / 57 باب استحباب الصدقة بأطيب المال ..

سيرته وأخلاقه

تمهيد :

إن سيرة المرء تفصح عن سريرته ، وسريرته مطويّة في سيرته.

قد يحاول غواة التدليس والرياء بحسن السمت والهدي إخفاء ما انطوت عليه ضمائرهم وأجنته سرائرهم من الخديعة والاغواء ، بيد أنه ما أسرع ما تفضح الأعمال تلك الطوايا ، والأقوال هاتيك النوايا ، فإن ما في القلب تظهره فلتات اللسان وحركات الأعمال.

ثوب الرّياء يشفّ عمّا تحته *** فاذا التحفت به فإنّك عار

وقد يروم رجال من ذوي الأخلاق الفاضلة وأرباب العرفان ألاّ تظهر منهم تلك السرائر النقيّة والضمائر الزكيّة ، حذر الافتتان أو الشهرة ، فلا يلبث دون أن تضوع تلك النفحات الذكيّة ، ويضيء سنا تلك النفس القدسيّة.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وهذه ألسنة الخلق فإنها في الكشف عن الحقائق أقلام الحق.

نعم ربما تنبري فئة للدفاع عن تلك الشرذمة الخادعة عصبيّة أو اغترارا بظاهر تلك الشؤون الصالحة ، أو تندفع زمرة للمسّ بكرامة هؤلاء الأبدال أتباعا لقوم فتكت فيهم أدواء الحسد والأحقاد ، أو الجهل والعناد ، ولكن الحقيقة لا يجهلها البصير ، وأن الشمس لا يسترها الغربال.

ص: 220

وها هو ذا الصادق علیه السلام تدلّنا سيرته وتعلمنا عن سريرته ، أنه من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، ومن العترة التي تركها النبي صلی اللّه علیه و آله في امّته لتكون بيانا عن كتابه الصامت ، وليكونا معا العروة الوثقى التي لا انفصام لها والتي ينجو المستمسك بها من مهاوي الضلال.

فكانت سيرته القويمة تريد بالناس إخراجهم من الغواية الى الهداية ، ومن العمى الى البصر ، ومن الجهل الى العلم ، وتلك السريرة مطويّة في هذه السيرة.

ونحن نورد من سيرته ما يعرب عن تلك الأخلاق العظيمة والنفسيّة القدسيّة العلويّة ، التي لا ترى غير الجهاد في الإرشاد والإصلاح همّا ولا همّة.

آدابه في العشرة :

إن الأخلاق الحميدة قد تكون غرائز نفسيّة ، وطبائع فطريّة ، أمثال السماحة والشجاعة والبشاشة والبلاغة ، وقد تكون بالتعلّم والاكتساب مثل العبادة والزهادة والمعارف والعلوم والآداب.

وإن من يسبر سيرة هاشم وبنيه يجدهم قد جمعوا الفضائل بقسميها ، والأخلاق بشطريها ، حتّى اذا نبغ الرسول صلی اللّه علیه و آله من بينهم وأخذ من كلّ فضيلة بأسماها كما يقتضيه منصبه الإلهي كان بنوه أحقّ من درج على سنّته واتّبع جميل أثره لا سيّما والفضيلة شعار قبيلتهم قبل هذا التراث من رسول الأخلاق والفضائل.

ومن يستقص سيرة أبي عبد اللّه علیه السلام يعرف أنه الشخصيّة المثاليّة لأبيه المصطفى صلی اللّه علیه و آله وما المرء إلاّ بعمله ، ولئن سكت عن بيان حاله فأعماله ترجمان ذاته وصفاته.

ص: 221

ولقد مرّ عليك ما قاله العلماء في شأنه ، وكفى عن تعريف شخصيّته ما قرأته من حياته العلميّة ، وسوف تقرأ المختار من كلامه فتتمثل له منزلته في الأخلاق والفضيلة من تلك النوادر الغالية ، وكان الجدير أن يكون مثالا لكلامه قبل أن يحمل عليه رجاله والآخذين عنه.

فلا نستكبر منه إذن أن يكون بين أصحابه كأحدهم لا تظهر عليه آثار العزّة وحشمة الإمامة ، فقد خرج يوما وهو يريد أن يعزّي ذا قرابة بفقد مولود له ، ومعه بعض أصحابه فانقطع شسع نعله ، فتناول نعله من رجله ، ثمّ مشى حافيا ، فنظر إليه ابن أبي يعفور (1) فخلع نعل نفسه من رجله وخله الشسع منها وناولها أبا عبد اللّه علیه السلام ، فأعرض عنه كهيئة المغضب ثمّ أبى أن يقبله ، وقال : لا ، صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها ، فمشى حافيا حتّى دخل على الرجل الذي أتاه ليعزّيه.

وكان اذا بسط المائدة حثّهم على الأكل ورغّبهم فيه ، ولربّما يأتيهم بالشيء بعد الشبع ، فيعتذرون فيقول : ما صنعتم شيئا إن أشدّكم حبّا لنا أحسنكم أكلا عندنا ، ثمّ يروي لهم عن النبي صلی اللّه علیه و آله أمثال ذلك لتطيب نفوسهم بالأكل وترغب بالزيادة ، ويروي لهم هذا القول ، أعني « أشدّكم حبّا لنا أحسنكم أكلا عندنا » عن النبي صلی اللّه علیه و آله مع سلمان والمقداد وأبي ذر.

وقد يجيء بالقصعة من الارز بعد انتهائهم من الأكل ، فاذا امتنع أحدهم من الأكل قال له : يعتبر حبّ الرجل لأخيه بانبساطه في طعامه ، ثمّ يجوز له حوزا ويحمله على أكله ، واذا رآهم يقصرون في الأكل خجلا قال لهم : تستبين

ص: 222


1- سيأتي في مشاهير الثقات من أصحابه ..

مودّة الرجل لأخيه في أكله (1).

وكان اذا أطعم أصحابه يأتيهم بأجود الطعام ، قال بعضهم : كان أبو عبد اللّه علیه السلام ربّما أطعمنا الفراني والأخبصة ، ثمّ أطعمنا الخبز والزيت فقيل له : لو دبّرت أمرك حتّى يعتدل يوماك ، فقال : إنما نتدبّر بأمر اللّه اذا وسّع وسّعنا واذا قتّر قتّرنا.

وقال أبو حمزة : كنّا عند أبي عبد اللّه علیه السلام جماعة فاتينا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذة وطيبا ، وأتينا بتمر ننظر فيه وجوهنا من صفائه وحسنه (2).

وكان مع ذلك الشأن والسنّ يمنع ضيفه من القيام لبعض الحوائج فإن لم يجد أحدا قام هو بنفسه ، ويقول : نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن أن يستخدم الضيف (3).

ولرغبته في بقاء الضيف عنده كان لا يساعده على الرحيل عنه ، كما صنع ذلك مع قوم من جهينة ، فإنه أمر غلمانه ألاّ يعينوهم على الرحلة ، فقالوا له : يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقد أضفت فأحسنت الضيافة ، وأعطيت فأجزلت العطيّة ، ثمّ أمرت غلمانك ألاّ يعينونا على الرحلة ، فقال علیه السلام : إنّا أهل بيت لا نعين أضيافنا على الرحلة من عندنا (4).

وكان من حبّه للبرّ والإطعام والتزاور أن يأمر بها أصحابه تصريحا وتلويحا ، ولربّما كان التلويح أجمل في الترغيب بالعمل ، حيث يخبر عن حبّه لتلك الخصال الكريمة ، فيقول : لئن آخذ خمسة دراهم وأدخل الى سوقكم هذه فأبتاع

ص: 223


1- بحار الأنوار : 47 / 40 / 47 ..
2- وسائل الشيعة : 3 / 268 ..
3- بحار الأنوار : 47 / 40 / 48 ..
4- مجالس الصدوق رحمه اللّه ، المجلس / 18 ..

بها الطعام وأجمع نفرا من المسلمين أحبّ إليّ من أن أعتق نسمة (1).

ويقول : لئن أطعم مؤمنا محتاجا أحبّ إليّ من أن أزوره ، ولئن أزوره أحبّ إليّ من أن أعتق عشر رقاب (2). وما أكثر ما جاء عنه من أمثال ما أوردناه.

وإخال أن السرّ في تقديم بعض هذه الامور على بعض هو رعاية الالفة والتوادد فما كان أدخل في الاجتماع كان أفضل.

وانظر كيف يقرّب لك حسن الصنيعة والافضال ليحملك على هذا العمل الجميل فيقول : ما من شيء أسرّ إليّ من يد أتبعتها الاخرى ، لأن من الأواخر يقطع شكر الأوائل (3).

أقول : إن الوجدان شاهد صدق على ذلك ، لأن اليد الواحدة اذا اتبعها الانسان بقطيعة فوّتت القطيعة شكر تلك الصنيعة ، فلا يدوم الشكر إلاّ إذا تتابعت الأيدي.

وإن شئت أن تقف على عمله الذي يمثّل لك العطف والبرّ فانظر الى ما كان يعمله في ( عين زياد ) وهي ضيعة كانت له حول المدينة فيها نخل كثير ، فإن بعض أصحابه طلب منه أن يذكر لهم ذلك.

قال علیه السلام : كنت آمر اذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا ، وكنت آمر في كلّ يوم أن يوضع عشر ثبنات (4) يقعد على كلّ ثبنة عشرة ، كلّما أكل عشرة جاء عشرة اخرى ، يلقي لكلّ منهم مد من

ص: 224


1- الكافي : 2 / 203 / 15 ..
2- الكافي : 2 / 203 / 18 ..
3- كشف الغمّة ، في أحوال الصادق علیه السلام : 2 / 205 ..
4- جمع ثبنة بالضم وهي الموضع الذي تحمل فيه من ثوبك تثنيه بين يديك ثمّ تحمل فيه من التمر أو غيره ..

رطب ، وكنت آمر لجيران الضيعة كلّهم الشيخ والعجوز والصبي والمريض والمرأة ومن لا يقدر أن يجيء فيأكل منها ، لكلّ إنسان مد ، فاذا كان الجداد (1) وفيت القوام والوكلاء والرجال أجرتهم ، وأحمل الباقي الى المدينة ، ففرّقت في أهل البيوتات والمستحقّين الراحلتين والثلاث والأقلّ والأكثر على قدر استحقاقهم ، وحصل لي بعد ذلك ألف دينار ، وكان غلّتها أربعة آلاف دينار (2).

وهذا الإنفاق وإن بلغ ثلاثة آلاف دينار لا يستكثر على سماحة أهل البيت ، وإنما الجميل فيه اهتمامه في صلة المعوزين ومواصلة البرّ لهم.

وإن الأفضل في الأخلاق ما يحكيه عن نفسه بقوله : إنه ليعرض لي صاحب الحاجة فابادر الى قضائها مخافة أن يستغني عنها صاحبها (3).

هذه بعض أخلاقه العالية التي تمثّل لك البرّ والعاطفة وتجسّم لك الحنان والرأفة ، فكأنما الناس كلّهم عياله وإخوانه وآله ، ولا بدع فذلك شأن الإمام في الامّة.

سخاؤه :

إن السخاء وإن كان خلّة كريمة في نفسه ، وفائدة لمن يجىء بالعطاء ، إلاّ أن فيه عدا هذا فوائد اخرى اجتماعيّة ملموسة ، إن الكريم يحمل الناس على حبّ الكريم ، والحبّ داعية الائتلاف ، بل ربما كان الحبّ سلّما لرئاسة ذي الجود والإصغاء لقوله ، وكم تكون من جدوى زعامة المرء واستماع كلامه اذا كان من أهل الصلاح والخير.

ص: 225


1- بالمهملتين والمعجمتين : قطع التمر ..
2- بحار الأنوار : 47 / 51 / 83 ..
3- المجلس / 31 من أمالي الطوسي طاب ثراه ..

وهو القائل للمعلّى بن خنيس : يا معلّى تحبّب الى إخوانك بصلتهم ، فان اللّه تعالى جعل العطاء محبّة والمنع مبغضة ، فأنتم واللّه إن تسألوني واعطيكم أحبّ إليّ من ألاّ تسألوني فلا اعطيكم فتبغضوني (1).

فكان الصادق علیه السلام يعطي العطاء الجزيل ، العطاء الذي لا يخاف صاحبه الفقر ، وقد سبق في الأخلاق بعض هباته ، كما سيأتي الوفر من صلاته.

وقد أعطى مرّة فقيرا أربعمائة درهم فأخذها وذهب شاكرا ، فقال لعبده : ارجعه ، فقال : يا سيّدي سئلت فأعطيت فما ذا بعد العطاء؟ فقال له : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : خير الصدقة ما أبقت غنى وإنّا لم نغنك ، فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة (2).

أحسب أن الصادق علیه السلام إنّما زاده للشكر ، والشكر داعية المزيد يقول تعالى : « ولئن شكرتم لأزيدنكم » ولقد زاد سائلا من ثلاث حبّات عنب الى كفّين الى نحو من عشرين درهما الى قميص ، وما ذاك إلاّ لأن السائل قنع في الاولى وحمد اللّه تعالى وما كفّ عن عطائه إلاّ بعد أن كفّ عن الحمد ودعا للصادق علیه السلام (3).

ودخل عليه أشجع السلمي (4) فوجده عليلا فجلس وسأل عن علّة مزاجه ، فقال الصادق له : تعدّ عن العلّة واذكر ما جئت له ، فقال :

ألبسك اللّه منه عافية *** في نومك المعتري وفي أرقك

ص: 226


1- المجلس / 11 من أمالي الطوسي طاب ثراه ..
2- بحار الأنوار : 47 / 61 ..
3- نفس المصدر ..
4- هو من الشعراء المجيدين والمجاهرين بالولاء والحبّ لأهل البيت ، ترجم له في الأغاني : 17 / 30 وأعيان الشيعة : 13 / 346 ..

يخرج من جسمك السقام كما *** أخرج ذلّ السؤال من عنقك

فقال : يا غلام أيّ شيء معك ، قال : أربعمائة ، قال : اعطها لأشجع (1) ودخل عليه المفضّل بن قيس بن رمّانة ، وكان من رواته الثقات وأصحابه الأخيار فشكا إليه بعض حاله وسأله الدعاء ، فقال : يا جارية هاتي الكيس الذي وصلنا به أبو جعفر ، فجاءت بكيس ، فقال : هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن به ، فقال له : لا واللّه جعلت فداك ما أردت هذا ولكن أردت الدعاء ، فقال له : ولا أدع الدعاء ، ولكن لا تخبر الناس بكلّ ما أنت فيه فتهون عليهم (2).

وهذه بعض نفحاته الجزيلة ، وما ذكرناها إلاّ مثالا لذلك الخلق السامي وتدليلا على تخلقه بهذه الخلّة الحميدة ، ولا نريد أن نذكر له كلّ نفحة طيّبة وبما مضى ويأتي كفاية.

هباته السرّية :

إن الصلة وإن كانت من الأب أو ممّن هو أرفق منه كالإمام قد تحدث في القابل انكسارا وذلّة ، لأنها تنبّئ عن تفضّل المعطي وحاجة الآخذ ، والحاجة نقص ، والشعور به يحدث الانكسار في النفس.

وقد تحدث في المعطي هزّة الإفضال ، وتبجّح المتفضّل ، هذا سوى ما قد يكون للعطيّة في بعض النفوس من حبّ الذكر والفخر والسمعة أو الرياء أو ما سوى ذلك ممّا تكرم عنه النفوس النزيهة النقيّة.

ص: 227


1- مناقب ابن شهرآشوب : 4 / 274 ..
2- الكشي : ص 121 ..

فلهذا أو لغيره كان دأب أرباب الأخلاق الفاضلة التكتّم في الصلة وشأن أهل البيت خاصّة التستّر في صلاتهم ، فلا تكاد تمرّ عليك سيرة إمام منهم إلاّ وتجد فيها ترقّبه للغلس ليتّخذه سترا في الهبات والصّلات.

فلا أرى ذلك الإصرار على الأسرار إلاّ لأنّهم لا يريدون أن يشاهدوا على الآخذ ذلّة الحاجة والخضوع للمتفضّل المحسن ، وإنهم أزكى نفسا وأعلى شأنا من أن يخافوا الفتنة في الإعلان.

ومن ثمّ تجد الصادق اذا جاء الغلس أخذ جرابا فيه الخبز واللحم والدراهم فيحمله على عاتق ، ثمّ يذهب الى أهل الحاجة من أهل المدينة فيقسّمه فيهم وهم لا يعرفونه ، وما علموا ذلك حتّى مضى لربّه فافتقدوا تلك الصلات ، فعلموا أنها كانت من أبي عبد اللّه علیه السلام (1).

وهذه السيرة درج عليها آباؤه من قبل ، ونهج عليها بنوه من بعد.

وما كانت سيرته تلك مع أهل المدينة خاصّة بل يعمل ذلك حتّى مع الهاشميّين ، فإنه كان يتعاهدهم بالصلة ويتخفّى في نسبتها إليه ، وكان يرسل إليهم بصرر الدنانير ويقول للرسول : قل لهم إنها بعث بها من العراق ، ثمّ يسأل الرسول بعد عودته عمّا قالوه فيقول : إنهم يقولون : أمّا أنت فجزاك اللّه خيرا بصلتك قرابة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمّا جعفر فحكم اللّه بيننا وبينه فيخرّ أبو عبد اللّه علیه السلام ساجدا ويقول اللّهمّ أذل رقبتي لولد أبي (2).

وأعطى يوما صرّة لأبي جعفر الخثعمي (3) وأمره بأن يدفعها الى رجل من بني هاشم وأمره بكتمان الأمر ، فلمّا أوصله بالصرّة قال : جزاه اللّه خيرا ما يزال

ص: 228


1- بحار الأنوار : 47 / 38 / 40 ..
2- نفس المصدر ..
3- وهو محمّد بن حكيم من أصحاب الصادق ورواته ، وروى عنه الثقات وأصحاب الاجماع ..

كلّ حين يبعث بها فنعيش بها الى قابل ، ولكنّي لا يصلني جعفر بدرهم مع كثرة ماله (1).

وكان لا يترك صلاته حتّى لقاطعيه منهم ، وحتّى ساعة الاحتضار ، فإنه حين دنا أجله وكان في سكرات الموت أمر بإجراء العطاء ، وأمر للحسن بن عليّ الأفطس (2) بسبعين دينارا فقيل له : أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة ليقتلك؟ فقال علیه السلام : ويحكم أما تقرءون : « والذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب » (3). إن اللّه خلق الجنّة فطيّبها وطيّب ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم (4).

هذه نفحات من هباته السرّيّة ، وصلاته الخفيّة ، التي تمثّل لك الرحمة والرأفة.

حلمه :

وكان التجاوز عليه يأتيه من القريب والبعيد ، فلا يقابله إلاّ بالصفح بل ربما قابله بالبرّ والإحسان.

وقد مرّ عليك شطر منه في العنوان الماضي وكثير في حياته السياسيّة في محنه وسيأتي في أبواب كثيرة ، ونحن نورد لك الآن بعض ما ينبيك عن هذا الخلق

ص: 229


1- مناقب ابن شهرآشوب : 4 / 273 ..
2- هو الحسن بن علي الأصغر بن علي بن الحسين علیهماالسلام وخرج مع محمّد بن عبد اللّه وكانت بيده راية بيضاء وابلى ، ويقال : إنه لم يخرج معه أشجع منه ولا أصبر وكان يقال له رمح آل أبي طالب لطوله وطوله ولما قتل محمّد اختفى الحسن هذا ، وحين دخل الصادق العراق ولقي أبا جعفر تشفّع به فشفعه ، ومع هذه الصنيعة وتلك الصلات حمل عليه بالشفرة ..
3- الرعد : 21 ..
4- غيبة الشيخ الطوسي طاب ثراه ، والمناقب : 4 / 273 ..

الكريم.

فكان اذا بلغه نيل منه ووقيعة وشتم يقوم فيتهيّأ للصلاة فيصلّي ثمّ يدعو طويلا ملحّا في الدعاء سائلا ربّه ألاّ تؤاخذ ذلك الجاني بظلمه ولا يقايسه على ما جنى ، لأن الحقّ حقّه ، وقد وهبه للجاني غافرا له ظلمه (1).

بل يزيد على ذلك في ذوي رحمه فيقول : إني لا حبّ أن يعلم اللّه أني أذللت رقبتي في رحمي ، وأني لأبادر أهل بيتي أصلهم قبل أن يستغنوا عني (2).

إن الحوادث محكّ ، وبها تعرف مقادير الرجال ، وبها تبلى السرائر ومن ثمّ تعرف الفرق بين أبي عبد اللّه وبين ذوي قرابته ، فكان يجفوه أحدهم ، بل ينال منه الآخر شتما ونبزا ، بل يحمل عليه الثالث بالشفرة عامدا على قتله ، وليس هناك ما يدعوهم الى تلك الجفوة والقسوة والقطيعة فيعاملهم على عكس ما فعلوه معه ، فتراه واصلا بدل القطيعة ، وبارّا عوض الجفاء ، وعاطفا بدل القسوة.

لقد أحزنته تلك النكبات التي أوقعها المنصور ببني الحسن حتّى لقد بكى وظهر عليه الجزع والاستياء بل حمّ أياما حين حمل المنصور شيوخ بني الحسن ورجالهم من المدينة الى الكوفة ، وهم قد لاقوه بسيّئ القول بالابواء يوم أرادوا البيعة لمحمّد ، وما زال محمّد وأبوه عبد اللّه يلاقيانه بالقول السيّئ زعما منهما أنه كان حجر عثرة في سبيل البيعة لمحمّد ، ولمّا أن ظهر محمّد بالمدينة أرسل على الصادق يريد منه البيعة ، وحين امتنع عليه قابله بسوء القول والفعل ، وكم تجرّع غصصا من بني العبّاس ورجالهم ، ولو لم يكن قادرا على شيء ينتقم به منهم إلاّ الدعاء لكفى به سلاحا ماضيا.

ص: 230


1- مشكاة الأنوار : 217 ..
2- الكافي : 2 / 156 / 25 ..

وما كان الحلم شعاره مع الأقربين من أهله فحسب ، بل كان مع مواليه وسائر الناس ، فقد بعث غلاما له في حاجة فأبطأ فخرج على أثره فوجده نائما فجلس عند رأسه يروّح له حتّى انتبه ، فلمّا انتبه لم يكن منه معه إلاّ أن قال : يا فلان ما ذلك لك تنام الليل والنهار ، لك الليل ولنا منك النهار (1).

وبعث مرّة غلاما له أعجميّا في حاجة ثمّ جاء الغلام فاستفهم الصادق علیه السلام الجواب والغلام يعني عن إفهامه ، حتّى تردّد ذلك منه مرارا والغلام لا ينطق لسانه ولا يستطيع إفهامه ، فبدلا من أن يغضب عليه أحدّ النظر إليه وقال : لئن كنت عيي اللسان فما أنت بعيي القلب ، ثمّ قال علیه السلام : إن الحياء والعفاف والعي - عيّ اللسان لا عيّ القلب - من الإيمان ، والفحش والبذاءة والسلاطة (2) من النفاق (3).

ونهى أهل بيته عن الصعود فوق البيت فدخل يوما فإذا جارية من جواريه ممّن تربّي بعض ولده قد صعدت في سلّم والصبيّ معها ، فلما بصرت به ارتعدت وتحيّرت وسقط الصبيّ الى الأرض فمات ، فخرج الصادق وهو متغيّر اللون فسئل عن ذلك فقال : ما تغيّر لوني لموت الصبي وإنما تغيّر لوني لما أدخلت على الجارية من الرعب ، وكان قد قال لها : أنت حرّة لوجه اللّه لا بأس عليك ، مرّتين (4).

وما كان هذا رأيه مع أهله وغلمانه فحسب بل كان ذلك شأنه مع الناس كافّة ، فإنّه نام رجل من الحاجّ في المدينة فتوهّم أن هميانه سرق فخرج فرأى

ص: 231


1- الكافي : 8 / 87 ..
2- طول اللسان ..
3- بحار الأنوار : 47 / 61 ..
4- المناقب : 4 / 275 ..

الصادق مصلّيا ولم يعرفه فتعلّق به وقال : أنت أخذت همياني ، قال : ما كان فيه؟ قال : ألف دينار ، فحمله الى داره ووزن له ألف دينار ، وعاد الرجل الى منزله ووجد هميانه ، فعاد الى الصادق معتذرا بالمال ، فأبى قبوله ، وقال : شيء خرج من يدي لا يعود إليّ ، فسأل الرجل عنه ، فقيل : هذا جعفر الصادق ، قال : لا جرم هذا فعال مثله (1).

بل دأب على هذه الخلّة حتى مع ألدّ أعدائه ، فإنّه لمّا سرّحه المنصور من الحيرة خرج ساعة أذن له وانتهى الى موضع السالحين في أوّل الليل فقال له : لا أدعك أن تجوز فألحّ عليه وطلب إليه فأبى إباء شديدا وكان معه من أصحابه مرازم (2) ومن مواليه مصادف (3) فقال له مصادف : جعلت فداك إنما هذا كلب قد آذاك ، وأخاف أن يردك ، وما أدري ما يكون من أمر أبي جعفر ، وأنا ومرازم أتأذن لنا أن نضرب عنقه ثمّ نطرحه في النهر ، فقال : كيف يا مصادف ، فلم يزل يطلب إليه حتّى ذهب من الليل اكثره ، فأذن له فمضى ، فقال : يا مرازم هذا خير أم الذي قلتما؟ قلت : هذا جعلت فداك ، فقال : يا مرازم إن الرجل يخرج من الذلّ الصغير ذلك في الذلّ الكبير (4).

أقول : لعلّه عنى من الذلّ الكبير القتل ، والذلّ الصغير الطلب ، والخطاب خطاب إنكار.

هذا بعض ما كان منه ممّا دلّك على ذلك الحلم العظيم ، الذي كان يلاقي به تلك الاعتداءات والمخالفات لقوله ولأمره.

ص: 232


1- المناقب : 4 / 274 ..
2- سيأتي في المشاهير من ثقات رواته ..
3- سيأتي في مواليه ..
4- روضة الكافي : 8 / 87 / 49 ..

عطفه :

إن الإمام لا يعرف فرقا في البرّ والعطف بين الناس ، فالناس قريبهم وبعيدهم لديه شرع سواء ، وما كلّ من ينيلهم بذلك البرّ والصلة في جوف الليل ، ويسعفهم من التمر من عين زياد ، ممّن يرى إمامته وولاءه ، فالمسلمون كلّهم - لو استطاع - مغرس برّه ، ومنال عطفه.

فمن بوادر عطفه ما كان منه مع مصادف مولاه ، فإنه دعاه فأعطاه ألف دينار ، وقال له : تجهّز حتّى تخرج الى مصر فإن عيالي قد كثروا فتجهّز بمتاع وخرج مع التجّار الى مصر ، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر ، فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة ، وكان متاع العامّة ، فأخبروهم أن ليس بمصر منه شيء ، فتحالفوا وتعاقدوا على ألاّ ينقصوا من ربح دينار دينارا ، فلمّا قبضوا أموالهم انصرفوا الى المدينة ، فدخل مصادف على أبي عبد اللّه علیه السلام ومعه كيسان في كلّ واحد ألف دينار ، فقال : جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح ، فقال علیه السلام : إن هذا الربح كثير ، ولكن ما صنعتم في المتاع ، فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا ، فقال : سبحان اللّه تحلفون على قوم مسلمين ألاّ تبيعوهم إلاّ بربح الدينار دينارا ، ثمّ أخذ أحد الكيسين ، فقال : هذا رأس مالي ، ولا حاجة لنا في الربح ، ثمّ قال : يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال (1).

أقول : إن هذا الربح الذي أخذه مصادف ما كان حراما حسب القواعد الشرعيّة ، ولكن الصادق علیه السلام لا يريد من الناس إلاّ الإرفاق من بعضهم

ص: 233


1- بحار الأنوار : 47 / 59 / 111 ..

ببعض ، شأن الاخوة المتحابّين لا سيّما ساعة العسرة ، وكان ذلك التحالف والتعاقد على خلاف ما تدعو إليه المروّة ، وذلك الربح على غير ما يتطلّبه الإرفاق ، ومن ثمّ استنكر الصادق هذا العمل حتّى عدّ الربح بهذا الوجه غير حلال فسمّاه حراما على نحو المجاز ، وكان ذلك تعليما منه لمصادف ومن سمع منه من أوليائه.

وتشاجر أبو حنيفة سائق الحاجّ (1) مع ختنه (2) فيه ميراث فمرّ عليهما المفضّل بن عمر ، وكان وكيلا للصادق علیه السلام في الكوفة ، وبعد ساعة من وقوفه عليهما أمرهما بالمجيء معه الى الدار وأصلح أمرهما بأربعمائة درهم ودفعها من عنده ، وبعد استيثاق كلّ واحد من صاحبه قال لهما : أما أنها ليست من مالي ، ولكن أبو عبد اللّه علیه السلام أمرني اذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وافتديهم من ماله ، فهذا مال أبي عبد اللّه علیه السلام (3).

أجل ما أفضل إصلاح ذات البين ، ولكن الأفضل فيه أن يفتدي المصلح من ماله ، وهذه هي العاطفة حقا التي تريك الرأفة والرحمة ملموستين.

وما كان حاله مع الغلامين والجارية فيما سبق في الحلم حلما فحسب ، بل حلم وعطف ، فإنه لم يقنع بأن يصفح عمّا كان منهم دون أن يعطف على الأول فيروّح له ، وهو إمام الامّة ، ويمدح الثاني بأنه غير عيي القلب ، ويهب للجارية جرمها ، وما اكبره ، بل يزيد في الإحسان لها أن يحرّرها من رقّ العبوديّة.

وما أوفر عطفه فكم دعا لسجين بإطلاق سراحه كما في دعائه لسدير وعبد الرحمن وهما من أصحابه وكانا في السجن ، وعلّم أمّ داود الحسني ، وكان في

ص: 234


1- واسمه سعيد بن بيان وكان من أصحاب الصادق وثقات رواته ..
2- الختن - بالتحريك - الصهر ..
3- الكافي : 2 / 209 / 4 ..

سجن المنصور مع بني الحسن ، دعاء وعملا وصوما في الأيام البيض من رجب ، فعملت ما قال فاطلق سراحه وما زال العمل يعرف الى اليوم بعمل أمّ داود ، الى كثير سواهم.

وكم دعا لمريض بالعافية فعوفي ، كما في دعائه لحبابة الوالبيّة وكانت من النساء الفاضلات ، وليونس بن عمّار الصيرفي وهو من رجال الصادق الثقات ، ولرجل عرض له وقد سئل له الدعاء ، ولا مرأة بها وضح في عضدها ، ولرجل جاءه في البيت متعوّذا وبه بلاء شديد ، الى غير هؤلاء.

وكم دعا لناس بسعة الحال فأصابوا الدعوة ، كما في طرخان النخاس وحمّاد بن عيسى وغيرهما ، وسنذكر ذلك في استجابة دعائه.

ولا غرابة أن يكون أبو عبد اللّه علیه السلام على تلك العاطفة النبيلة ، وما هي إلاّ بعض ما يجب أن يستشعره.

جلده :

إن من يلمس في أبي عبد اللّه علیه السلام تلك العاطفة الرقيقة التي تدر دمعته وتذكي النار في قلبه رحمة ، وتختطف الدم من وجهه ، يستغرب كيف يكون له الجلد الذي لا توازنه الجبال الشمّ في احتماله.

كان ابنه إسماعيل اكبر أولاده ، وهو ممّن جمع الفضيلة والعقل والعبادة فكان الصادق علیه السلام يحبّه حبّا شديدا ، حتّى حسب بعض الناس أن الامامة فيه بعد أبيه ، فلمّا مات وكان الصادق عند مرضه حزينا عليه جمع أصحابه وقدّم لهم المائدة وجعل فيها أفخر الأطعمة وأطيب الألوان ، ودعاهم الى الأكل وحثّهم عليه لا يرون للحزن أثرا عليه ، وكانوا يحسبون أنه سيجزع ويبكي ويتأثّر ويتألّم ، فسألوه عن ذلك فقال لهم : وما لي لا اكون كما ترون

ص: 235

وقد جاء في خبر أصدق الصادقين : إنّي ميّت وإيّاكم.

ومات ابن له من غصّة اعترته وهو يمشي بين يديه فبكى وقال : لئن أخذت لقد أبقيت ، ولئن ابتليت لقد عافيت ، ثمّ حمله الى النساء فصرخن حين رأينه ، فأقسم عليهنّ ألاّ يصرخن ، ثمّ أخرجه الى الدفن وهو يقول : سبحان من يقتل أولادنا ولا نزداد له إلاّ حبّا ، ويقول بعد الدفن : إنّا قوم نسأل اللّه ما نحبّ فيمن نحبّ فيعطينا ، فاذا أحبّ ما نكره فيمن نحبّ رضينا (1).

لا أدري من أيّها يعجب المرء أمن جلد أبي عبد اللّه علیه السلام على هذه المفاجأة المشجية ، أم من هذا الشكر المتوالي على مثل هذه النوائب المؤلمة ، أم من ذلك الحبّ للخالق على كلّ حال ، والرضى بما يصنع في كلّ أمر ، أم من تلك البلاغة والفصاحة وتدافع الحكم البليغة ومطاوعتها له ساعة الدهشة والذهول؟

أجل لو لا هذه الملكات القدسيّة ، والأحوال المتضادّة في شخصيّة أبي عبد اللّه علیه السلام لم تكن الشخصية الوحيدة في خصالها وصفاتها.

وكفى إكبارا لجلده سقوط الولد من يد الجارية وموته ، وتغيّر لونه لفزع الجارية وارتهابها ، ولم يظهر عليه الحزن والجزع لهذه المفاجأة بموت الصبي على هذه الصور المشجية.

وما زال يشاهد الآلام والنوائب والمكاره طيلة أيامه من الدولتين ولم يعرف التاريخ عنه تطامنا وخضوعا وجزعا وذهولا بل ما زال يظهر عليه الصبر والجلد وتوطين النفس.

هيبته :

قد تكون الهيبة للرجال العظام من تلك الكبرياء التي يرتديها المرء نفسه ،

ص: 236


1- بحار الأنوار : 47 / 18 / 8 ..

أو من الذين حوله من خدم وأهل وقبيلة ، أو جند ودولة ، وهذه الهيبة لا تختصّ بقوم ، فإن كلّ من تلبّس بأحد هذه الشؤون اكتسى هذه الهيبة ، وهذه الهيبة جديرة بأن تسمّى الهيبة المصطنعة.

وقد تكون للمرء من دون أن يحاط بجيش وخدم وعشيرة ودولة وإمرة وكبرياء ، تلك الهيبة التي لا تكون باللباس المستعار ، بل هي التي يفيضها اللّه تعالى على من يشاء من عباده ، تلك الهيبة التي لا يزيلها التواضع وحسن الخلق والانبساط ، تلك التي يلبسها العلم والعمل به ، من أراد عزّا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان ، فليخرج من ذلّ معصية اللّه الى عزّ طاعته ، وإن من خاف اللّه أخاف منه كلّ شيء ، ومن لم يخف اللّه أخافه من كلّ شيء ، وهذه الهيبة جديرة بأن تسمّى الهيبة الذاتيّة.

إن المنصور كان صاحب تلك الهيبة المصطنعة ، ومن أوسع منه ملكا ، وأكثر جندا ، وأقوى فتكا؟ ولكنه كان اذا نظر الى جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام وهو عازم على قتله هابه وانثنى عن عزمه.

يقول المفضّل بن عمر : إن المنصور قد همّ بقتل أبي عبد اللّه علیه السلام غير مرّة فكان اذا بعث إليه ودعاه ليقتله فاذا نظر إليه هابه ولم يقتله (1) ولا تختلف هذه الهيبة لأبي عبد اللّه علیه السلام باختلاف الناس معه فإن كلّ واحد يشعر من نفسه بتلك الهيبة له ، سواء الوليّ والعدوّ ، والمؤالف والمخالف ، فهذا هشام بن الحكم كان جهميّا قبل أن يقول بالإمامة ، ولمّا التقى بالصادق علیه السلام في صحراء الحيرة سكت وأطرق هيبة وإجلالا وهو اللّسن المفوّه ، فأحسّ أن هذه الهيبة هي الهيبة التي يجلّل اللّه بها أنبياءه وأوصياءهم

ص: 237


1- مناقب ابن شهرآشوب : 4 / 238 ..

علیهم السلام (1).

وهذه الهيبة التي أحسّها هشام يوم كان جهميّا كان يحسّها يوم كان إماميّا وكانت بين هشام وبين عمرو بن عبيد مناظرة في الإمامة ، وقد قصد هشام عمروا الى البصرة ، فسأله الإمام عمّا كان بينهما ليحكي له ما كان ، فقال هشام : يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إني أجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك (2).

وهذا ابن أبي العوجاء مع إلحاده كان أحيانا يحجم عن مناظرة الصادق علیه السلام لتلك الهيبة ، فإنه حضر يوما لمناظرة الصادق ولكنه بعد أن جلس سكت ، فقال له الصادق : فما يمنعك من الكلام؟ قال : إجلال لك ومهابة ، ما ينطق لساني بين يديك ، فإني شاهدت العلماء ، وناظرت المتكلّمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك (3).

على أن الصادق علیه السلام كان بين أصحابه وجلسائه كواحد منهم لا يتظاهر بالعظمة وحشمة الإمامة ، وينبسط لهم بالكلام ، ويجلس معهم على المائدة ، ويؤنسهم بالحديث ، ويحثّهم على زيادة الأكل ، لئلاّ تمنعهم الهيبة من الانبساط على المائدة واكل ما يشتهونه ، غير أن تلك الهيبة التي كانت شعاره من الهيبة الذاتيّة التي تمنع العيون من ملاحظته والألسنة من الانطلاق بين يديه ولم يكن محاطا بخدم ولا حجاب.

ص: 238


1- رجال الكشي : ص 166 ..
2- الكافي : 1 / 169 / 3 ..
3- كتاب التوحيد : باب إثبات حدوث العالم ..

عبادته :

إن المفهوم من العبادة عند إطلاق هذه الكلمة ، هو العبادة البدنيّة من الصوم والصلاة والحجّ وما سواها ، ممّا يحتاج الى نيّة القربة ، وكان الصادق علیه السلام في هذه العبادات زين العبّاد.

وهذا السبط في التذكرة يقول : قال علماء السير : قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة ، وابن طلحة في المطالب يقول : ذو علوم جمّة وعبادة موفرة وأوراد متواصلة ، ويقول : ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات ، وهذا أبو نعيم في الحلية يقول : أقبل على العبادة والخضوع ، وآثر العزلة والخشوع ولها عن الرئاسة والجموع ، ومالك بن أنس يقول : كان جعفر بن محمّد لا يخلو من إحدى ثلاث خصال : إمّا صائما ، وإمّا قائما ، وإمّا ذاكرا ، وكان من عظماء العبّاد ، واكابر الزهّاد ، الذين يخشون اللّه عزّ وجل ، ولقد حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه ، وكاد أن يخرّ من راحلته ، وقال : ما رأت عين ولا سمعت اذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق علما وعبادة وورعا ، الى سوى هؤلاء ممّن ذكره بالعبادة ، وقد مرّت عليك هذه الكلمات وغيرها من ص 72 الى 80.

ولا بدع اذا كان أبو عبد اللّه أفضل الناس عبادة وزهادة وورعا ، فإن عبادة المرء على قدر علمه بالخالق تعالى « إنما يخشى اللّه من عباده العلماء » وأنت على يقين بما كان عليه الصادق من العلم والمعرفة.

هذا شأن الصادق علیه السلام في العبادة البدنيّة ، وأمّا شأنه في العبادة الفضلى التي هي أزكى أثرا ، وأذكى نشرا ، وهي عبادة العلم ونشره وتعليمه والإرشاد والإصلاح ، فلا يخفى على أحد ، وقد عرفت من حياته العلميّة ومن

ص: 239

الفصول الماضية من سيرته وأخلاقه قدر جهاده في التعليم والتثقيف وجهوده في البرّ والعطف والتربية الأخلاقيّة ، وستعرف في المختار من كلامه عظيم اهتمامه في حمل الناس على جدد الطريق ، والعمل بالشريعة الغرّاء ، والاتّصاف بفاضل الأخلاق.

شجاعته :

لم تكن في أيام الصادق علیه السلام حروب يحتم الدين عليه الولوج في ميادينها ليعرف الناس عنه تلك الملكة النفسيّة ، نعم إن هناك ظواهر تدلّ على تلك القوى الراسخة ، أمثال قوّة القلب واطمئنان الجأش ، ومرّ عليك في مواقفه مع المنصور وولاته من ص 114 - 122 ، وفي جلده ما ينبيك عن تلك القوى الغريزيّة ، والجبن إنما يكون من ضعف القلب وضعة النفس.

ومن ثمّ يجب أن يكون المؤمن شجاعا غير هيّاب ولا نكل في سبيل الدين والحق ، وكلّما كان أقوى إيمانا كان أبسل وأشجع ولذلك تجد أنصار الحسين علیه السلام وأهل بيته أبهروا العالم في موقفهم يوم الطف ، وما كانوا أشجع الناس لو لا ذلك الإيمان الثابت واليقين الراسخ والتوطين على معانقة الرماح والسيوف ، ولو كان أهل الكوفة على مثل ذلك اليقين والتوطين والإيمان لما استقامت الحرب الى ما بعد الظهر في ذلك اليوم القايض وهم سبعون ألفا والأنصار سبعون نفرا ، ولما كان قتلى أهل الكوفة لا يحصون عدّا.

ومن هاهنا يستبين لنا أن الصادق لا بدّ أن يكون أشجع الناس وأربطهم جأشا اذا دارت رحى الحرب ، الحرب التي يفرضها الدين وتدعو إليها الشريعة.

ص: 240

زهده :

إن الزهد في الشيء الإعراض عنه ، وإنما يكون للزهد شأن يكسب الزاهد فضلا اذا كان المزهود فيه ذا قيمة وثمن كبير ، وأمّا اذا كان المزهود فيه بخسا لا شأن له يحتسب ، ولا قدر يعرف فلا فضل في الزهد فيه ، أترى أن الزهد في الشابّة النضرة الخلوق التي جمعت ضروب المحاسن والجمال وفنون الآداب والكمال ، مثل الزهد في الشوهاء السوداء العجوز؟ ولا سواء.

فإنما يكون الزهد في الدنيا والإعراض عن لذائذها وشهواتها ذا شأن يزيد المرء قدرا ورفعة ، ويكشف عن نفس زكيّة نقيّة ، إذا نظرها فوجدها حسناء فاتنة الشمائل ، فولاّها ظهره معرضا عن جمالها ، صافحا عن محاسنها طالبا بهذا الإعراض ما هو أفضل عند اللّه وأطيب ، وأمّا اذا تجلّت لديه سافرة النقاب مجرّدة الثياب ، واختبرها معاشرة وصحبة ، فرآها شوهاء عجفاء ، بارزة العيوب ، قبيحة المنظر ، سيّئة المخبر والمعشر ، لا تفي بوعد ، ولا تركن الى عهد ، ولا تصدق بقول ، ولا تدوم على حال ، ولا يسلم منها صديق ، فكيف لا يقلاها ساخطا عليها متوحّشا منها ، وكيف لا ينظرها بمؤخّر عينيه نظر المحتقر الملول.

وإننا على قصر نظرنا ، وقرب غورنا ، لنعرف حقّا أن حياتنا هذه وإن طالت صائرة إلى فناء ، وعيشنا وإن طاب آئل الى نكد ، وإننا سوف ننتقل من هذه الدار البائدة الى تلك الدار الخالدة ، ومن هذا العيش الوبيل الى ذلك العيش الرغيد ، وإن كلّ لذّة في هذه الحياة محفوفة بالمكاره ، وكلّ عيش مشوب بالكدر ، وإن هذه الأيام الزائلة مزرعة لهاتيك الأيام الباقية ، وهل يحصد المرء غير ما يزرع ، ويجازي بغير ما يفعل ، وهل يجمل بالعاقل البصير أن يفتن بمثل هذه الحياة واللذائذ؟.

ص: 241

نعم إنما يحملنا على الافتتان بهذه العاجلة والصفح عن تلك الحياة الآجلة مع فناء هذه وبقاء تلك ، امور لا يجهلها البصير وإن لم تكن عذرا عند مناقشة الحساب ، ألا وهي حبّ العاجل ، وضعف النفس ، ونضارة هذه المناظر والزينة اللتان نصبتهما الدنيا فخاخا وحبائل ، ولو شاء الانسان - وإن كان أضعف الناس بصرا وبصيرة - أن ينجو من هذه الشباك لكان في مقدوره ، فكيف بأقوى الناس عقلا وأثبتهم يقينا ، وأدراهم بالحقائق ، حتّى كأنّ الأشياء لديه مكشوفة الغطاء بل لو كشف لهم الغطاء لما ازدادوا يقينا.

فإعراض محمّد وآل محمّد عليه وعليهم الصلاة والسلام عن هذه الحياة الدانية ورغائده إلاّ بقدر البلغة لتلك الحياة الباقية ، إنما هو لأنهم يرونها أخسّ من حثالة القرظ وأنجس من قراضة الجلم (1) فما كانوا عليه شيء غير الزهد ، بل هو أعلى من الزهد ، غير أن ضيق المجال في البيان يلجئونا الى تسميته بالزهد ، تنظيرا له بما نعرفه من نفائس هذا الوجود ومن الإعراض عنها.

فلا نستكبر بعد أن نعرف هذا عن محمّد وعترته ما يرويه أهل الحديث والسيرة والتأريخ عن صادقهم أنه كان يلبس الجبّة الغليظة القصيرة من الصوف على جسده والحلّة من الخزّ على ثيابه ، ويقول : نلبس الجبّة لله والخزّ لكم (2).

أو يرى وعليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه ، وفوقه جبّة صوف ، وفوقها قميص غليظ.

أو يطعم ضيفه اللحم ينتفه بيده ، وهو يأكل الخلّ والزيت ويقول : إن هذا

ص: 242


1- القرظ : ورق السلم ، والجلم : ما يجز به ..
2- لواقح الأنوار للشعراني عبد الوهاب بن أحمد الشافعي : 1 / 28 ، ومطالب السؤل ..

طعامنا وطعام الأنبياء (1) الى أمثال ذلك من مظاهر الزهد.

إن من قبض عنان نفسه بيده وتجرّد عن هذه الفتن الخدّاعة في هذه الحياة ، واتجه بكلّ جوارحه لرضى خالقه يستكثر منه اذا روت الثقات عنه هذا وأشباهه.

وما كان غريبا ما يروى من دخول سفيان الثوري (2) عليه ، وكان على الصادق علیه السلام جبّة من خز ، وقول سفيان منكرا عليه : إنكم من بيت نبوّة تلبسون هذا ، وقول الصادق علیه السلام : ما تدري أدخل يدك ، فاذا تحته مسح من شعر خشن ، ثمّ قال علیه السلام : يا ثوري أرني ما تحت جبّتك ، فإذا تحتها قميص أرقّ من بياض البيض ، فيخجل سفيان ثمّ يقول له الصادق علیه السلام : يا ثوري لا تكثر الدخول علينا تضرّنا ونضرّك (3).

وأمثال هذا ممّا روي عنه جمّ كثير ، نحن في غنى عن سرده ، فإنّ سادات أهل البيت أعلى كعبا ، وأرفع شأنا ، من أن تحسب مثل هذه الشؤون فضائلهم الجليلة.

وأمّا سفيان فجدير بالامام ألاّ يرغب في دنوّه ما دام يخالفه في رأيه وسيره وعمله وعلمه ، وأمّا الضرر على الامام وعليه من دخوله على الامام ، فلأن السلطان قد وقف للإمام بالمرصاد ، لا يريد أن يظهر له شأن ولا أن يكثر عليه التردّد ، فالدخول عليه يجعل الإمام معرّضا للخطر ، ويجعل الداخل معرّضا للأذى ، لا سيّما اذا كان الداخل ذا شأن ومقام بين الناس كسفيان الثوري.

ص: 243


1- الكافي : 6 / 328 / 4 ..
2- هو سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي الشهير وله رواية عن الصادق علیه السلام ولد أيّام عبد الملك ، ومات بالبصرة عام 161 ..
3- لواقح الأنوار ومطالب السؤل وحلية الأولياء : 3 / 193 وقد روي إنكاره على الإمام حسن بزّته من طرق عديدة وفي كيفيّات عديدة ، ولعلّها كانت متعدّدة ، فلا يمتنع في الثانية بعد جوابه في الأولى ، وممّن روى ذلك أبو نعيم في حلية الأولياء : 3 / 193 وقد ذكرنا مناظرة الصادق علیه السلام الطويلة في الزهد مع سفيان وجماعته في اخريات حياته العلميّة ..

كراماته

اشارة

إن اللّه تعالى أراد بخلقه لخلقه أن يعرفوه ، ومن معرفته أن يعبدوه « وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون » (1) وكانت مخلوقاته آية وجوده ، وجمال الصنع ، واتصال التدبير دلالة وحدانيّته ، وجعل من أنفسهم مرشدا الى ذلك كلّه ، وهو العقل.

غير أن العقل لا يهتدي بنفسه الى كيفيّات عبادته ، وخصوصيّات طاعته ، لأن ذلك لا يعلم إلاّ من قبله تعالى ، ومن ثم وجب عليه تعالى - حين أراد منهم عبادته - أن يرسل إليهم من يدلّهم على ما أراد ، ويعرّفهم ما أوجب.

ولا يصحّ للعقل أن يصدّق دعوى كلّ من يدّعي النبوّة من دون بيّنة ومعجز ، فكان على الأنبياء أن يأتوا بالبرهان على تلك الدعوى ، ولا نعرف أن المدّعي نبيّ مرسل إذا لم تكن لديه حجّة بالغة ، بل شأن اكثر الناس الجحود والإنكار مع الآيات والدلالات ، فكيف إذا لم تكن آية أو دلالة ، فإن لم تكن لتلك الدعوى حجّة كانت الحجّة على رفضها قائمة بل هي تخصم نفسها بنفسها.

ما الآية؟

جدير بهذا السؤال العناية والنظر ، لأن تصديق النبوّة متوقّف على صحّة

ص: 244


1- الذاريات : 56 ..

الآية.

وإخال أن الجواب عنه سهل جدّا ، نظرا الى ما جاء في الكتاب المنير من استطراد آيات الأنبياء والرسل ، فإنك اذا نظرت الى آية موسى وهي اليد البيضاء والعصا ، وآية عيسى وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وخلق الطير ، وآية محمّد صلی اللّه علیه و آله وهي القرآن نفسه ، لعرفت أن آيات الأنبياء ما يعجز البشر بما هو بشر وبما له من علم وقوّة عن الإتيان بمثلها ، ومن الذي يقدر بعلمه وقوّته وقدرته أن يجعل النار بردا وسلاما ، ويقطّع الطير أجزاء ويفرّقها على الجبال فيدعوها فتأتي إليه فتأتلف بيده بعد ما كانت أجزاء متفرّقة ويجعل يده بيضاء من غير سوء متى أراد ، وعصاه حيّة تسعى تلقف ما يأفك الساحرون ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى ، ويجعل من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا ، ويجاري القرآن في خصوصيّاته أجمع ، الى غير ذلك من آيات الأنبياء التي نطق بها القرآن الحكيم.

وبذلك تعرف الفارق بين المعجزة والسحر ، وبينها وبين هذه الصناعة في هذا العصر ، لأن المعجزة ما جرت على غير النواميس الطبيعيّة ، غير أن الشيء المعجز لا بدّ أن يكون في نفسه ممكنا ذاتيّا لأن المحال لا يقع ، ولا تجري المعجزة إلاّ على أيدي أفذاذ من البشر عند الدعوة إليه تعالى ، والدلالة عليه سبحانه ، لأن المفروض أنها فوق مستوى قدرة البشر فلا تكون إلاّ من موهبة من اللّه تعالى يمنحها من يشاء من عباده المقرّبين.

وأمّا السحر فإنما هو فنّ يقوى عليه كلّ أحد اذا تعلّمه إذ هو تخييل وتضليل ، وليس له واقع وحقيقة.

وأمّا الصناعة فإنما هي أيضا علم تجري على النواميس الطبيعيّة ، يقوى عليها من تعلّمها ، ويعرف طبائع الأشياء وتركيبها.

ص: 245

ولربّما يقال : إن العلم يرفض المعجز اذا كان جاريا على غير النواميس الطبيعيّة ، لأن به جريا على غير الأسباب العاديّة ، وكيف يمكن أن تجري الامور على غير أسباب اعتياديّة ، والجواب عنه من وجوه :

1 - إن القرآن صريح بإتيان الأنبياء بتلك الآيات الخارقة للعادة الجارية على غير النواميس الطبيعيّة ، مثل سلامة إبراهيم من النار ، وإتيان الطيور له بعد تقطيعها ، وجعل موسى يده بيضاء من غير سوء وعصاه حيّة تسعى ، وإبراء عيسى الأمراض التي عجز الطبّ عن إبرائها كالأكمه والأبرص وأعظم منه إحياؤه الموتى ، وخلقه الطير ، الى ما سوى هذه الآيات ، وما قيمة العلم اذا خالف صريح القرآن ، بل لا يكون هذا علما صحيحا لوجود الخطأ في بعض مقدّماته.

2 - إن هذه الآيات إن كانت ممكنة في حدّ ذاتها فلأيّ شيء نجحدها وهي غير مستحيلة ، مع أن الحاجة ماسّة إليها ، وقدرة اللّه تعالى شاملة لا يشوبها نقص ولا عجز ، إنه على كلّ شيء قدير.

نعم إنما نمنع الأشياء المستحيلة بالذات والعرض كإيجاده لشريك له ، وجمعه بين النقيضين والضدّين ، وجعله الدنيا على كبرها في البيضة على صغرها ، لأن المحلّ غير صالح ، فالنقص من جهة المقدور لا من جهة القدرة ، وأمّا مثل تكلّم الحصا وانشقاق القمر ومشي الشجر ، وما ضارع هذا ، فلا مانع فيه من جهة المحلّ وقابليّته ، ولا من جهة القدرة منه تعالى عليه.

3 - اذا أحلنا هذه الآيات عليه تعالى ، فأيّ شيء يكون المصدق لدعوى الأنبياء النبوّة ، واذا جازت النبوّة بلا دليل فكلّ أحد يمكن أن يدّعيها ، فأيّ فرق إذن بين النبيّ الصادق وبين النبيّ الكاذب.

واذا قيل : إن النبوغ والذكاء والفصاحة والعلم والأمانة والصدق اذا كانت متوفّرة في مدّعي النبوّة على الوجه الأكمل الذي يمتاز به عن سائر البشر

ص: 246

كافية في تصديق دعوى النبوّة منه.

فإنّا نقول : إن اكثر الناس لا يقيم وزنا لهذه الامور ، بل لا يستطيع تمييزها فيمن هي فيه حقّ التمييز ، فضلا أن يعرف أنها موجودة في النبي على الوجه الأكمل فلا بدّ من ظهور شيء محسوس على يده يعجز عنه البشر يكون قاطعا لعذرهم وبرهانا نيّرا يستوي في الخضوع له وإدراكه العالم والجاهل والنبيه والعاقل.

4 - لما ذا يمنع العلم عن الامور الجارية على غير النواميس الطبيعيّة؟ أليس خالق النواميس العاديّة وغير العاديّة واحدا؟ ومن اقتدر على إجراء الامور بأسبابها العاديّة يقتدر على إجرائها بأسباب فوق مستوى قدرتنا وعلمنا.

واذا نظرنا بعض مصنوعاته تعالى وجدناها جارية على غير نواميس العادة وذلك في بدء الخلقة فإنه ما النواميس الطبيعيّة في صنعة آدم وحواء وابتداء خلق السّماوات والأرضين والأشجار والأنهار والمعادن والفلزّات وما سواها فإنه خلقها لا من شيء سبق ، ولا على مثال احتذاه ، واذا كان ناموسها الطبيعي هو تلك العناصر التي كان منها تركيبها ، فما كان الناموس الطبيعي لخلق تلك العناصر أنفسها.

نعم إنما صرنا نتطلّب النواميس الطبيعيّة في المصنوعات لما اعتدناه في الخليقة من جريانها مستمرّة على تلك النواميس ، ولكن ذلك لا يجب في كلّ شيء ما دام خالق النواميس على غير النواميس موجودا ، وكانت له في خلقها على غير النواميس الحجّة على عباده والإرشاد لهم على ألوهيّته وقدرته ونبوّة رسله.

بيد أننا نحتاج الى تصديق تلك الآيات التي جرت على غير العادة في الأسباب مع إمكانها الى المشاهدة مع الحضور ، والى صحّة النقل مع الغيبة.

ص: 247

وهذه الآيات والكرامات كما تكون للأنبياء تكون لأوصيائهم بذلك الغرض الذي دعا الأنبياء الى الإتيان بها ، فإن إرسال الأنبياء ما كان إلاّ لإرشاد الناس الى معرفة الخالق جلّ شأنه والى عبادته ، وإن نصب الأوصياء ما كان إلاّ لدلالة على تلك المعرفة ، والإشارة الى الصحيح من تلك العبادة ، فالحجّة إذن كما تدعو الى المعجزة في النبي تدعو إليه في الامام الوصي.

ولا فرق في المعجز عند الحاجة إليه في الإمكان عليه بين إحياء الموتى وخلق الطير وبين إنطاق الحجر والشجر ، ولا بين غيرهما ممّا هو أقلّ شأنا لأن القدرة منه تعالى على الجميع واحدة ، ولا فرق لديه سبحانه في الخلق بين الذرّة والطود ولا بين السّماوات والحشرات ، فلا ينبغي لذي بصر أو بصيرة أن يستنكر أمثال إحياء الأموات وجعل التراب ذهبا والإخبار عن الغيب من الأنبياء والأوصياء بعد ثبوت النبوّة والإمامة الإلهيّتين ، في حين أنه لا يستنكر منهم إنباط الماء وإنزال الغيث وإطعام الناس العنب لغير أوانه وأشباه ذلك ، وما هما إلاّ واحد في القدرة ، وسواء في الإمكان وسيّان عند الحاجة.

فالصادق علیه السلام اذا كان إماما معصوما منصوبا منه تعالى لتنفيذ شريعة الرسول صلی اللّه علیه و آله وجب عليه الدلالة على إمامته بالمعجز عند الحاجة إليه ، وعند الأمن من الخطر ، كما وجب على النبي عند الدعوة ، هذا عند الإماميّة ، وأمّا أهل السنّة فالصادق لديهم من العترة الطاهرة الذي جمع الفضائل كلّها ، كما أفصحت به كلماتهم ، ورويناه عنهم في عنوان - من هو الصادق - ص 71 ، فلا غرابة لديهم لو ظهرت له الآيات والكرامات بل لقد رووها عنه وآثروا نقلها ، فلا بدع إذن لو استطردنا من كراماته ومناقبه ما ينبيك عن علوّ مقامه وسموّ منزلته لديه جلّ شأنه.

ولقد ذكر له صاحب مدينة المعاجز ما ينوف على ثلاثمائة كرامة ومنقبة

ص: 248

وها نحن اولاء نذكر شيئا ممّا روته الكتب الجليلة والمؤلّفات القيّمة ، وما اتفق على الكثير منها الفريقان ، وتسالمت عليه الفرقتان.

دعاؤه المجاب :

يقول الصبّان في « إسعاف الراغبين » : وكان مجاب الدعوة اذا سأل اللّه شيئا لا يتمّ قوله إلاّ وهو بين يديه ، ويقول الشعراني في « لواقح الأنوار » : وكان سلام اللّه عليه اذا احتاج الى شيء قال : يا ربّاه أنا محتاج الى كذا فما يستتمّ دعاؤه إلاّ وذلك الشيء بجنبه موضوع.

وهذا القول منهما لا يدلّ على استجابة دعائه فحسب بل وعلى سرعة الإجابة ، حتّى لكأنّ المسئول عنه كان الى جنبه أو بين يديه ، وما كان جزم هؤلاء المؤلّفين بإجابة دعائه بسرعة الإجابة إلاّ لكثرة ما تناقلته الطروس والسطور وحفظته الصدور من ذلك ، حتّى صار لديهم شيئا محسوسا وأمرا معلوما.

وممّا ذكروه له علیه السلام ما كان من قصد المنصور له بالقتل مرارا عديدة ، فيحول اللّه تعالى بينه وبين ما عزم عليه ببركة دعائه ، بل ينقلب حاله الى ضدّ ما نواه وعزم عليه ، فينهض لاستقباله ويبالغ في إكرامه (1).

ومن ذلك : أن الحكم بن العبّاس الكلبي قال :

صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة *** ولم نر مهديّا على الجذع يصلب

وقستم بعثمان عليّا سفاهة *** وعثمان أزكي من عليّ وأطيب

ص: 249


1- المناقب : 4 / 231 انظر في ذلك نور الأبصار للشبلنجيّ ، وتذكرة الخواص للسبط ، ومطالب السؤل لابن طلحة الشافعي ، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي ، والصواعق المحرقة لابن حجر ، وينابيع المودّة للشيخ سليمان عند استطرادهم لأحوال الصادق علیه السلام ، الى كثير سواهم ، وقد ذكرنا ذلك مفصّلا في محلّه ..

ولمّا بلغ الصادق ذلك غضب ودعا عليه ، فقال : اللّهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك يأكله ، فبعثه بنو أميّة الى الكوفة فافترسه الأسد في الطريق (1).

ولمّا كان داود بن علي العبّاسي واليا على المدينة من قبل المنصور بعث على المعلّى بن خنيس مولى الصادق علیه السلام فقتله ، ولم يقنع بذلك حتّى أراد السوء مع الامام ، فغضب الامام لذلك ودعا على داود حتّى سمعوه يقول : الساعة الساعة ، فما استتمّ دعاؤه حتّى سمعت الصيحة في دار داود وقالوا : إنه مات فجأة (2).

ومن دعائه المستجاب ما حدّث به الليث بن سعد (3) قال : حججت سنة 113 ، فلما صلّيت العصر رقيت أبا قبيس فإذا رجل جالس يدعو فقال : يا ربّ يا ربّ حتّى انقطع نفسه ، ثمّ قال : يا حيّ يا حيّ يا حيّ حتّى انقطع نفسه ، ثمّ قال : إلهي أشتهي العنب فأطعمنيه ، وإن بردي قد خلقا فاكسني ، قال الليث : فما تمّ كلامه حتّى نظرت الى سلّة مملوءة عنبا ، وليس على الشجر يومئذ عنب ، واذا ببردين لم أر مثلهما ، فأراد الأكل فقلت أنا شريكك لأنك دعوت وأنا أؤمّن ، قال : كل ولا تخبئ ولا تدّخر ، ثمّ دفع إليّ أحد البردين ، فقلت : لي عنه غنى ، فاتّزر بأحدهما وارتدي بالآخر ، ثمّ أخذ الخلقين ونزل ، فلقيه رجل فقال : اكسني يا ابن رسول اللّه ، فدفعهما إليه فقلت : من هذا ، قال : جعفر الصادق (4) وفي رواية مطالب السؤل : فتقدّمت فأكلت شيئا لم آكل مثله قط ،

ص: 250


1- نور الأبصار ، والصواعق ، والفصول ، والمناقب : 4 / 234 ..
2- المصادر المتقدمة ، والمناقب : 4 / 230 ..
3- الخزاعي من فقهاء الجمهور روى عن سعيد بن جبير وأضرابه ، ولم تعرف له رواية عن الصادق علیه السلام على أنه شاهد منه هذه الكرامة الكبرى ، وكم روى عنه من أقرانه خلق كثير ..
4- إسعاف الراغبين ، ومطالب السؤل ، والصواعق ، وكشف الغمّة ، وصفوة الصفوة ، والمناقب : 4 / 233 ..

واذا عنب لا عجم (1) له فأكلت حتّى شبعت والسلّة لم تنقص.

أقول : إن هذه الكرامة كانت منه على عهد أبيه الباقر علیه السلام قبل رجوع الإمامة إليه لأن وفاة الباقر كانت عام 114 ، أو عام 117.

وكانت الناس تستشفع بدعائه لما تجد فيه من الإجابة ، وهذه حبابة الوالبيّة دخلت عليه وهي من فاضلات النساء ، فسألته عن مسائل في الحلال والحرام فتعجّب الحضور من تلك المسائل ، لأنهم ما رأوا سائلا أحسن منها ، ثمّ سالت دموعها ، فقال الصادق علیه السلام : مالي أرى عينيك قد سالت ، قالت : يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله داء قد ظهر بي من الأدواء الخبيثة التي كانت تصيب الأنبياء علیهم السلام والأولياء ، وأن أهل قرابتي وأهل بيتي يقولون : قد أصابتها الخبيثة ، ولو كان صاحبها كما قالت مفروض الطاعة لدعا لها ، وكان اللّه يذهب عنها ، وأنا واللّه سررت بذلك ، وعلمت أنه تمحيص وكفّارات ، وأنه داء الصالحين ، فقال لها الصادق علیه السلام : وقد قالوا : أصابك الخبيثة؟

قالت : نعم يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فحرّك شفتيه بشيء فلا يدرى أفي دعاء كان ، فقال : ادخلي دار النساء حتّى تنظري الى جسدك ، فدخلت وكشفت عن ثيابها فلم تجد في صدرها ولا جسدها شيئا فقال : اذهبي الآن وقولي لهم : هذا الذي يتقرّب الى اللّه بإمامته (2).

وحبابة هذه هي ابنة جعفر الأسدي ، والوالبيّة نسبة الى بني والبة بطن من أسد ، وهي صاحبة الحصاة التي طبع فيها أمير المؤمنين علیه السلام علامة

ص: 251


1- العجم : النوى ..
2- بحار الأنوار : 47 / 121 / 169 عن كتاب طبّ الأئمة ، وكتاب طبّ الأئمة من جمع عبد اللّه أبي عتاب وأخيه الحسين ابني بسطام الزيّات ، وقيل في حقّ الكتاب أنه جمعا في الطبّ على طريقة الطبّ في الأطعمة وفوائدها والرقى والعوذ ، وهو كثير الفوائد والمنافع ..

للإمامة ، وعمّرت حتّى أدركت الرضا علیه السلام وماتت في أيّامه وكفّنها في قميصه ، ولم تكن هذه الكرامة الاولى التي شاهدتها من أئمّة أهل البيت ، بل جاءت الى الحسين علیه السلام وبها برص فعوفيت منه والى السجّاد علیه السلام وهي تعدّ يومئذ 113 عاما وقد بلغ بها الكبر حتّى أرعشت فرأته راكعا وساجدا فيئست من الدلالة فأومأ إليها بالسبابة فعاد إليها شبابها ، ولمّا جاءت الى الرضا أعاد عليها شبابها في رواية ، ولكنها اختارت الموت فماتت في داره.

وجاءته امرأة اخرى فقالت له : جعلت فداك ، أبي وأمّي وأهل بيتي نتولاّكم ، فقال : صدقت فما الذي تريدين؟ قالت : جعلت فداك يا ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصابني وضح (1) في عضدي فادع اللّه أن يذهبه عنّي فقال علیه السلام : اللّهمّ إنك تبرئ الأكمه والأبرص وتحيي العظام وهي رميم ، ألبسها عفوك وعافيتك ما ترى أثر إجابة دعائي ، فقالت المرأة : واللّه لقد قمت وما بي منه قليل ولا كثير (2).

وقال بكر بن محمّد الأزدي (3) : عرض (4) لقرابة لي ونحن في طريق مكّة ، فلمّا صرنا الى أبي عبد اللّه علیه السلام ذكرنا ذلك له وسألناه الدعاء له ففعل ، قال بكر : فرأيت الرجل حيث عرض له ، ورأيته حيث أفاق (5).

ص: 252


1- برص ..
2- أمالي الشيخ الطوسي : المجلس / 14 ..
3- روى عن الصادق والكاظم والرضا علیهم السلام وهو من ثقات الرواة وروى عنه الكثير منهم ..
4- أصابه جنون ..
5- بحار الأنوار : 47 / 122 / 170 عن قرب الاسناد ، وهو لأبي جعفر محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري القمّي طاب ثراه ، وهو من وجوه الأصحاب وثقاتهم ، وقد كاتب صاحب الأمر عجّل اللّه فرجه وسأله مسائل في أبواب الشريعة ، وله اخوة وهم جعفر وأحمد والحسين وكلّ منهم له مكاتبة ، وقيل إن الكتاب لأبيه .

وجاءه شيخ وهو تحت الميزاب في البيت ومعه جماعة من أصحابه فسلّم عليه ، ثمّ قال : يا ابن رسول اللّه إني احبّكم أهل البيت وأبرأ من عدوّكم وإني بليت ببلاء شديد ، وقد أتيت البيت متعوّذا به ممّا أجد ، ثمّ بكى واكبّ على الصادق يقبّل رأسه ورجليه والصادق يتنحّى عنه فرحمه وبكى ، ثمّ قال : هذا أخوكم وقد أتاكم متعوّذا بكم فارفعوا أيديكم ، فرفع الصادق يديه ورفع القوم أيديهم ، ثمّ قال : اللّهمّ إنك خلقت هذه الأنفس من طينة أخلصتها ، وجعلت منها أولياءك وأولياء أوليائك ، وإن شئت أن تنحي عنهم الآفات فعلت ، اللّهمّ وقد تعوّذنا ببيتك الحرام الذي يأمن به كلّ شيء وقد تعوّذ بنا ، وأنا أسألك يا من احتجب بنوره عن خلقه أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين يا غاية كلّ محزون وملهوف ومكروب ومضطرّ مبتلى أن تؤمنه بأماننا ممّا يجد ، وأن تمحو من طينته ممّا قدّر عليها من البلاء ، وأن تفرّج كربته يا أرحم الراحمين ، فلما فرغ من الدعاء انطلق الرجل فلمّا بلغ باب المسجد رجع وبكى ، ثمّ قال : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته ، واللّه ما بلغت باب المسجد وبي ممّا أجد قليل ولا كثير (1).

واستحال وجه يونس بن عمّار (2) الى البياض فنظر الصادق علیه السلام الى جبهته فصلّى ركعتين ، ودعا ببعض الدعوات فما خرج من المدينة حتّى ذهب ما كان بوجهه من البياض (3).

ص: 253


1- بحار الأنوار : 47 / 122 / 170 .
2- الصيرفي الكوفي وهو أخو إسحاق وإسماعيل الثقتين ، ولربّما عدّ يونس أيضا في الثقات .
3- مناقب ابن شهر اشوب : 4 / 232 .

وقال طرخان النخاس (1) : مررت بأبي عبد اللّه علیه السلام وقد نزل الحيرة ، فقال : ما علاجك؟ قلت : نخّاس ، قال : اصب لي بغلة فضخاء ، قلت : جعلت فداك وما الفضخاء؟ قال : دهماء بيضاء البطن بيضاء الأفخاذ بيضاء الجحفلة (2) فقلت : واللّه ما رأيت مثل هذه الصحيفة ، فرجعت من عنده فساعة دخلت الخندق اذا أنا بغلام قد أسقى بغلة على هذه الصفة ، فسألت الغلام : لمن هذه البغلة؟ قال : لمولاي ، قلت يبيعها؟ قال : لا أدري ، فتبعته حتّى أتيت مولاه فاشتريتها منه وأتيته فقلت : هذه الصفة التي أردتها جعلت فداك ادع اللّه لي ، فقال : اكثر اللّه مالك وولدك ، قال : فصرت من اكثر أهل الكوفة مالا وولدا (3).

وسأله حمّاد بن عيسى (4) أن يدعو اللّه بأن يرزقه ما يحجّ به كثيرا وأن يرزقه ضياعا حسنة ودارا حسنة وزوجة من أهل البيوتات صالحة وأولادا أبرارا ، فدعا له الصادق علیه السلام بما طلب ، وقيّد الحجّ بخمسين حجّة ، فرزقه اللّه جميع ما سأله ، وحجّ خمسين حجّة ، ولمّا ذهب في الواحدة والخمسين وانتهى الى وادى الجحفة - بين مكّة والمدينة - جاء السيل فأخذه فأخرجه غلمانه ميّتا ، فسمّي حمّاد غريق الجحفة (5).

وقال زيد الشحّام (6) : إني لأطوف حول الكعبة وكفّي في كفّ أبي عبد اللّه

ص: 254


1- النخاس : بيّاع الرقيق وبيّاع الدواب ودلاّلها ..
2- بتقديم الجيم المعجمة على الحاء المهملة ، وهي لذوات الحافر كالشّفة للانسان ..
3- بحار الأنوار : 47 / 152 / 200 ..
4- الجهني البصري ، وكان من ثقات أصحاب الصادق والكاظم علیهماالسلام ..
5- الخرائج والجرائح : ص 271 ..
6- سنذكره في المشاهير من ثقات رواته ..

علیه السلام ، فقال - ودموعه تجري على خدّيه - : يا شحّام ما رأيت ما صنع ربي إليّ ، ثمّ بكى ودعا ، ثمّ قال : يا شحّام إني طلبت الى إلهي في سدير وعبد السلام بن عبد الرحمن (1) وكانا في السجن فوهبهما لي وخلّى سبيلهما (2).

وسجن المنصور عبد الحميد (3) فأخبروا الصادق علیه السلام بذلك وهو في الموقف بعد صلاة العصر ، فرفع يديه ساعة ، ثمّ التفت الى محمّد بن عبد اللّه (4) وقال علیه السلام : قد واللّه خلّى سبيل صاحبك ، قال محمّد : فسألت عبد الحميد أيّ ساعة خلاك أبو جعفر المنصور؟ قال : يوم عرفة بعد العصر (5).

وهذه الكرامة الجليلة جمعت بين استجابة دعائه وإعلامه عن الإفراج عن عبد الحميد ، كسابقتها.

هذه بعض دعواته المستجابة التي سجّلتها الكتب ، وحفظتها الرواة ، وما كانت دعواته إلاّ لخير الناس ، نعم قد يدعو على أحد اذا كان في ذلك صلاح وإلاّ فإنّه الحليم الأوّاه الذي لاقى من أعدائه أذى تسيخ عن حمله متون الرواسي ولم يدع على واحد منهم ، اللّهمّ إلاّ على داود بن علي والحكم الكلبي لأمر هو أعرف به ، كما دعا على بعض غلمان زمزم.

كان أبو عبد اللّه علیه السلام ومعه بعض أصحابه يتغذّون فقال لغلامه : انطلق وآتنا بماء زمزم ، فانطلق الغلام فما لبث أن جاء وليس معه ماء ، فقال :

ص: 255


1- سنذكرهما أيضا في المشاهير ..
2- الكشي : ص 138 ..
3- الظاهر أنه ابن أبي العلاء الأزدي السمين الكوفي ، وفي رواية كشف الغمّة التصريح به ، وهو من أصحاب الصادق علیه السلام وثقات رواته ..
4- مشترك بين كثيرين ، ولا يبعد أن يكون هاشميّا وهو أيضا فيهم كثير ..
5- مناقب ابن شهر اشوب : 2 / 360 ..

إن غلاما من غلمان زمزم منعني الماء وقال : أتريد الماء لإله العراق ، فتغيّر لون أبي عبد اللّه علیه السلام ورفع يده عن الطعام وتحرّكت شفتاه ، ثمّ قال للغلام : ارجع فجئنا بالماء ، ثمّ أكل فلم يلبث أن جاء الغلام بالماء وهو متغيّر اللون ، فقال : ما وراك؟ فقال : سقط ذلك الغلام في بئر زمزم فتقطّع وهم يخرجونه ، فحمد اللّه عليه (1).

وأرسل غلامه مرّة الى بئر زمزم ليأتيه بالماء ثمّ سمعوه يقول : اللّهمّ اعم بصره ، اللّهمّ أخرس لسانه ، اللّهم أصم سمعه ، فرجع الغلام يبكي ، فقال :

مالك؟ قال : إنّ فلانا القرشي ضربني ومنعني من السقاء ، قال : ارجع فقد كفيته ، فرجع وقد عمي وصمّ وخرس وقد اجتمع عليه الناس (2).

إعلامه عن الحوادث :

كم أعلم علیه السلام عن حادثة وقعت بعد حين ، وعن أمر حدث كما أخبر عن ملك بني العبّاس مرارا قبل أن يكون ، جاءه أبو مسلم الخراساني وناجاه سرّا بالدعوة له ، وأعلمه أنّ خلقا كثيرا أجابوه ، فقال له الصادق علیه السلام : إن ما تؤمي إليه غير كائن لنا حتّى يتلاعب بها الصبيان من ولد العبّاس ، فمضى الى عبد اللّه بن الحسن فدعاه ، فجمع عبد اللّه أهل بيته وهمّ بالأمر ، ودعا أبا عبد اللّه علیه السلام للمشاورة ، فلما حضر جلس بين السفّاح والمنصور ، وحين استشير ضرب على منكب السفّاح ، فقال : لا واللّه أو يملكها هذا أوّلا ، ثمّ ضرب بيده الاخرى على منكب المنصور وقال : وتتلاعب بها الصبيان من ولد هذا ، ووثب

ص: 256


1- بحار الأنوار : 47 / 98 / 15 ، الخرائج والجرائح لقطب الدين سعد اللّه بن هبة اللّه الراوندي ، وكان من العلماء المتبحّرين والفقهاء المحدّثين ومن تآليفه شرح النهج وكانت وفاته في شوال عام 573 ..
2- بحار الأنوار : 47 / 108 / 139 ..

وخرج من المجلس (1).

ودعاه عبد اللّه بن الحسن مرّة اخرى للبيعة لابنه محمّد ، فقال له : إنّ هذا الأمر واللّه ليس لك ولا لابنيك ، وإنّما هو لهذا - يعني السفّاح - ثمّ لهذا - يعني المنصور - ثمّ لولده من بعده ، ولمّا خرج تبعه أبو جعفر فقال : أتدري ما قلت يا أبا عبد اللّه؟ قال علیه السلام : اي واللّه أدريه وأنّه لكائن (2) وما اكثر ما أنبأ عن ملك بني العبّاس.

كما أخبر عن مقتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن في مواطن عديدة ، فقد قال يوما : مروان خاتم بني اميّة ، وإن خرج محمّد بن عبد اللّه قتل (3).

وقال لمحمّد يوما وقد فاخره : فكأني أرى رأسك وقد جيء به ووضع على حجر بالزنابير ، يسيل منه الدم الى موضع كذا وكذا ، فصار محمّد إلى أبيه فأخبره بمقالة الصادق علیه السلام فقال أبوه : آجرني اللّه فيك ، إن جعفرا أخبرني أنك صاحب الزنابير (4).

وأخبر بذلك يوما أمّ الحسين بنت عبد اللّه بن محمّد بن علي بن الحسين علیهم السلام وقد سألته عن أمر محمّد فقال علیه السلام : فتنة يقتل فيها محمّد عند بيت رومي ، ويقتل أخوه لامّه وأبيه بالعراق ، وحوافر فرسه في الماء (5).

ص: 257


1- كتاب الوصيّة للمسعودي : ص 141 ..
2- مقاتل الطالبيّين في تسمية المهدي : 255 - 256 ، بحار الأنوار : 47 / 131 ..
3- كتاب الوصيّة ..
4- أعلام الورى للطبرسي طاب ثراه : 269 ، وهو الفضل بن الحسن بن الفضل من أعيان علماء الاماميّة وهو صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن الذي لم يؤلّف مثله ، وله مؤلّفات أخر جليلة ، توفى ليلة النحر في سبزوار عام 548 ..
5- المقاتل في تسمية المهدي ..

وقال لعبد اللّه بن جعفر بن المسور (1) : أرأيت صاحب الرداء الأصفر - يعني أبا جعفر؟ - قلت : نعم ، قال علیه السلام : فإنّا واللّه نجده يقتل محمّدا ، قلت : أو يقتل محمّد؟ - قال : نعم ، قلت في نفسي : حسده وربّ الكعبة ، ثمّ ما خرجت واللّه من الدنيا حتّى رأيته قتل.

وأخبر بذلك أباهما عبد اللّه بن الحسن وقال له : إن هذا - يعني المنصور - يقتل محمّدا على أحجار الزيت ، ثمّ يقتل أخاه بعده بالطفوف (2) وقوائم فرسه في الماء (3).

فكان كلّ ما أخبر به من أمر العبّاسيّين ومحمّد وإبراهيم قد وقع لم يفلت منه شيء.

وأخبر شعيبا بن ميثم (4) بدنوّ أجله معرضا به ، قال له أبو عبد اللّه علیه السلام : يا شعيب ما أحسن بالرجل يموت وهو لنا ولي ويعادي عدوّنا ، فقال له شعيب : واللّه إني لأعلم أن من مات على هذا أنه لعلى حال حسنة ، قال علیه السلام : يا شعيب أحسن الى نفسك ، وصل قرابتك ، وتعاهد إخوانك ، ولا تستبدل بالشيء تقول : أدّخر لنفسي وعيالي ، إن الذي خلقهم هو الذي يرزقهم ، قال شعيب : قلت في نفسي نعى إليّ واللّه نفسي ، فما لبث بعد ذلك إلاّ شهرا فمات (5).

ص: 258


1- الظاهر أنه المخرمي نسبة الى جدّه مخرمة أب المسور ، وعدّوه في أصحاب الصادق علیه السلام ، الخرائج والجرائح : ص 244 ..
2- جمع طف : الشاطي ..
3- المقاتل في تسمية المهدي : 255 - 256 ..
4- التمّار : وهو من أصحاب الصادق علیه السلام وقد كتبنا عنه في رسالتنا في ميثم التمّار ص 78 ..
5- بحار الأنوار : 47 / 126 ، المناقب : 3 / 350 ..

وأخبر أيضا إسحاق بن عمّار الصيرفي الثقة الجليل بأنه سيموت في شهر ربيع ، وذلك أن إسحاق قال للصادق علیه السلام يوما : إن لنا أموالا ونحن نعامل الناس ، وأخاف إن حدث أن تفرّق أموالنا ، فقال علیه السلام : اجمع أموالك في شهر ربيع ، فمات إسحاق في شهر ربيع (1).

وأخبر عن قتل مولاه المعلّى بن خنيس ، الذي قتله داود بن علي قبل أن يقتله بسنة وأخبر بجميع ما يجري عليه (2).

وسأل أبا بصير عن أبي حمزة الثمالي فقال : خلفته صالحا ، قال علیه السلام : إذا رجعت إليه فاقرأه السلام واعلمه أنه يموت كذا من شهر كذا ، قال أبو بصير : فرجعت ، فما لبث أبو حمزة أن مات في تلك الساعة من ذلك اليوم (3).

ولمّا بلغه خبر قتل زيد وصلبه وهرب ابنه يحيى الى خراسان واجتماع الناس عليه ، قال علیه السلام : إنه يقتل كما قتل أبوه ويصلب كما صلب أبوه ، فقتل بالجوزجان وصلب (4).

هذا بعض إعلامه عن حوادث لم تقع فوقعت كما أعلم ، وأمّا إعلامه عن حوادث وقعت فما أوفرها ، وهاك شيئا منها : وقع شجار بين مهزم بن أبي بريدة الأسدي الكوفي - وهو من رواة الامام علیه السلام - وبين امّه ، وقد جاء بها حاجّا ، وكان كلامه معها في المدينة وقد أغلظ لها فيه ، فلمّا أصبح ودخل على الصادق علیه السلام ابتدأه قائلا : يا مهزم مالك وللوالدة أغلظت لها البارحة ، أو ما علمت أن بطنها منزل سكنته ، وأن

ص: 259


1- مناقب ابن شهر اشوب : 3 / 368 ، وأعلام الورى : ص 270 ..
2- الكشي ، في أحوال المعلّى : ص 239 ..
3- كشف الغمّة : 3 / 190 ..
4- ينابيع المودّة : ص 381 ..

حجرها مهد قد مهدته ، وأن ثديها وعاء قد شربته ، فلا تغلظ لها (1).

ودخل عليه رجل فقال له الصادق علیه السلام : تب الى اللّه ممّا صنعت البارحة ، وكان الرجل نازلا بالمدينة في دار وفيها وصيفة أعجبته ، فلمّا انصرف ليلا ممسيا واستفتح الباب وفتحت له مدّ يده الى ثديها وقبض عليه (2).

وقدم رجل من أهل الكوفة على أهل خراسان يدعوهم الى ولاية الصادق علیه السلام ، فاختلفوا في الأمر ، فبين مطيع مجيب ، وبين جاحد منكر ، وبين متورّع واقف ، فأرسلوا من كلّ فرقة رجلا الى الصادق علیه السلام لاستيضاح الحال ، ولمّا كانوا في بعض الطريق خلا واحد منهم بجارية كانت مع بعض القوم ، وعند ما وصلوا الى الصادق علیه السلام عرفوه بالذي أقدمهم ، فقال للمتكلّم وكان الذي وقع على الجارية : من أيّ الفرق الثلاث أنت؟ قال : من الفرقة التي ورعت ، قال علیه السلام : فأين كان ورعك يوم كذا وكذا مع الجارية؟ فسكت الرجل (3).

وهذه لعمر الحقّ اكبر دلالة على الامامة لو كان القوم طالبين للحقّ وللدلالة على الامامة.

وكان عبد اللّه النجاشي (4) زيديّا منقطعا الى عبد اللّه بن الحسن فدخل يوما

ص: 260


1- بصائر الدرجات : 5 / 263 ..
2- بصائر الدرجات : 5 / 262 ..
3- المناقب ، وبصائر الدرجات : 5 / 265 : وهو لمحمّد بن الحسن الصفّار القمّي أبي جعفر الأعرج ، وكان وجها في القمّيين ثقة عظيم القدر ، قليل السقط في الرواية ، وله كتب كثيرة جليلة ، توفى عام 290 وعدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الحسن العسكري علیه السلام ، وكتابه بصائر الدرجات جليل كبير النفع ..
4- أبو بجير الأسدي وكان واليا على الأهواز وبعد أن رجع الى القول بإمامة الصادق صار يراسله ويسأله عن أشياء من وظيفته وللامام كتاب كبير أرسله إليه جواب سؤال منه ذكر فيه ما يجب عليه من السيرة والعمل الصالح ، وسنذكره في وصاياه .

على الصادق علیه السلام فقال له : ما دعاك الى ما صنعت ، تذكّر يوم مررت على باب قوم فسال عليك الميزاب من الدار فسألتهم فقالوا : إنه قذر ، فطرحت نفسك في النهر بثيابك فكانت منشغة (1) عليك فاجتمع عليك الصبيان يضحكون منك ويصيحون عليك ، فلمّا خرج من عند الصادق علیه السلام قال : هذا صاحبي دون غيره (2).

وجاء من عدّه طرق دخول أبي بصير على الصادق علیه السلام وهو جنب ، وردع الصادق إيّاه ، ومن ذلك ما قاله أبو بصير ، قال : دخلت على أبي عبد اللّه علیه السلام وأنا اريد أن يعطيني من دلالة الامامة مثلما أعطاني أبو جعفر علیه السلام ، فلمّا دخلت وكنت جنبا قال : يا أبا محمّد تدخل عليّ وأنت جنب ، فقلت : ما عملته إلاّ عمدا ، قال : أو لم تؤمن؟ قلت : بلى ولكن ليطمئن قلبي ، فقلت عند ذلك : إنه إمام (3).

إعلامه عمّا في النفس :

إن نفس المؤمن اذا زكت من درن الرذائل عادت كالمرآة الصافية ، ينطبع فيها كلّ ما يكون أمامها ، ولذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه ، هذا شأن المؤمن فكيف بإمام المؤمنين؟

وهذا الخضر علیه السلام أعاب السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام ، وما

ص: 261


1- تسيل .
2- المناقب ، وبصائر الدرجات : 5 / 265 وغيرها .
3- وسائل الشيعة : 1 / 490 / 3 وذكر بعض أحاديث أبي بصير الشيخ المفيد في الارشاد ، وابن بابويه في دلائل الامامة ، والطبرسي في أعلام الورى وغيرهم .

كان ذلك منه إلاّ علما منحه به العليم سبحانه.

فلا عجب إذن لو أعلم الامام الصادق علیه السلام عن أشياء تتلجلج في النفوس عند إظهار الكرامة.

دخل عمر بن يزيد (1) على الصادق وهو وجع وقد ولاّه ظهره ووجهه للحائط ، وقد قال عمر في نفسه : ما أدري ما يصيبه في مرضه لو سألته عن الامام بعده ، فبينا يفكّر في ذلك إذ حوّل الصادق إليه وجهه ، فقال : الأمر ليس كما تظنّ ليس عليّ من وجعي هذا بأس (2).

ودخل عليه الحسن بن موسى الحنّاط (3) وجميل بن درّاج (4) وعائذ الأحمسي (5) وكان عائذ يقول : إن لي حاجة اريد أن أسأله عنها ، فلمّا سلّموا وجلسوا أقبل بوجهه على عائذ فقال علیه السلام : من أتى اللّه بما افترض عليه لم يسأله عمّا سوى ذلك ، فغمزهم فقاموا ، فلمّا خرجوا قالوا له : ما كانت حاجتك؟ قال : الذي سمعتم ، لأني رجل لا اطيق القيام بالليل فخفت أن اكون مأخوذا به فأهلك (6).

ودخل عليه شهاب بن عبد ربّه (7) وهو يريد أن يسأله عن الجنب يغرف

ص: 262


1- هل هما اثنان بيّاع السابري والصيقل أو واحد؟ وعلى كلّ حال فهما من أصحاب الصادق وثقات رواته ..
2- بصائر الدرجات : 5 / 259 ..
3- بالحاء المهملة والنون المضاعفة ، وقيل بالخاء المعجمة والياء التحتانيّة المضاعفة ، هو من أصحاب الصادق ، روى عنه بعض الثقات وأصحاب الاصول ومن لا يروي إلاّ عن ثقة كابن أبي عمير ..
4- النخعي وسنذكره في مشاهير الثقات من رواته ..
5- بالذال المعجمة في آخره ، روى عنه الثقات مثل جميل بن درّاج ، وأن للصدوق طرقا إليه ..
6- الشيخ في التهذيب والأمالي ، والكليني في الكافي ، والصدوق في الفقيه ، ذكروه في كتاب الصلاة في القيام بالليل ، المناقب : 3 / 226 ..
7- الكوفي من أصحاب الصادق ورواته الثقات ..

الماء من الحبّ فلمّا صار عنده انسي المسألة ، فنظر إليه أبو عبد اللّه علیه السلام فقال : يا شهاب لا بأس أن يغرف الجنب من الحبّ (1).

وكان جعفر بن هارون الزيّات (2) يطوف بالكعبة وأبو عبد اللّه علیه السلام في الطواف ، فنظر إليه الزيّات وحدّثته نفسه فقال : هذا حجّة اللّه ، وهذا الذي لا يقبل اللّه شيئا إلاّ بمعرفته ، فبينا هو في هذا التفكير إذ جاءه الصادق من خلفه فضرب بيده على منكبه ثمّ قال : « أبشرا واحدا منّا نتبعه إنّا إذن لفي ضلال وسعر » (3) ثمّ جازه (4).

ودخل عليه خالد بن نجيح الجواز (5) وعنده ناس فقنّع رأسه وجلس ناحية وقال في نفسه : ويحكم ما أغفلكم عند من تتكلّمون ، عند ربّ العالمين ، فناداه الصادق علیه السلام : ويحك يا خالد إني واللّه عبد مخلوق ولي ربّ أعبده ، إن لم أعبده واللّه عذبني بالنار ، فقال خالد : لا واللّه لا أقول فيك أبدا إلاّ قولك في نفسك (6).

هذا قليل من كثير ممّا روته الكتب الجليلة من الكرامات والمناقب لأبي عبد اللّه الصادق علیه السلام ، ولا غرابة لو ذكرت له الكتب أضعاف ما

ص: 263


1- بصائر الدرجات : 5 / 63 ، بحار الأنوار : 47 / 68 / 13 ..
2- لم ينصّوا على توثيقه ولكنهم استظهروا أنه من الحسان ..
3- القمر : 24 ..
4- بصائر الدرجات : 5 / 65 ، بحار الأنوار : 47 / 70 / 25 ..
5- نجيح بالجيم المعجمة والحاء المهملة ، وأمّا الجواز فقيل بالمعجمتين الجيم والزاء مع تضعيف الواو ، وقيل بإهمالها ، وقيل بإعجام الاولى وإهمال الثانية ، وقيل : الجوان بالجيم والنون ، وعلى كلّ حال فقد حسنت عقيدته بعد هذا الردع ، وعدّوه في أصحاب الكاظم علیه السلام وهو المشير الى الرضا علیه السلام من بعده ..
6- بصائر الدرجات : 5 / 261 ..

استطردناه بعد أن أوضحنا في صدر البحث أمر الكرامة.

أجل بعد أن فاتتنا المشاهدة فلا طريق لنا لإثبات الكرامة غير النقل وإن المشاهدة لا تكون إلاّ لأفراد من معاصري النبي أو الامام ، فكيف حال الناس مع الكرامة من أهل الأجيال المتأخّرة ، هذا سوى الناس من أهل زمانه ممّن لم يحضر الكرامة ، فهل طريق إذن لإثباتها غير النقل ، فالنقل إن صحّ لاعتبار المؤلّف والراوي فذلك المطلوب ، وإلاّ فاعتباره اذا بلغ التواتر لقضيّة خاصّة أو لقضايا يحصل من جميعها الاعتقاد بصدور الكرامة من النبي أو الوصي وإن لم يحصل الاعتقاد بواحدة منها خاصّة.

* * *

ص: 264

فهرس الجزء الأول

مقدمة موسسة النشرالاسلامي... 3

الإهداء... 5

الطليعة... 6

أهل البيت... 7

من هم أهل البيت؟... 7

بنو أميّة... 11

من هم بنو أميّة؟... 11

بنو العبّاس... 23

ما جناية أهل البيت؟... 29

المذاهب والنحل... 38

اصول الفرق الإسلاميّة :... 38

1 - المرجئة :... 39

2 - المعتزلة :... 41

3 - الشيعة :... 43

الكيسانيّة :... 45

الزيديّة :... 47

البتريّة :... 50

السليمانيّة :... 51

ص: 265

الجاروديّة :... 51

الصالحيّة :... 52

الإسماعيليّة :... 52

الإماميّة :... 54

4 - الخوارج :... 58

الغلاة ومن خرج عن الاسلام ببعض العقائد :... 62

شبه الإلحاد :... 63

الإمامة... 64

من هو الصادق؟... 71

التقيّة... 81

تمهيد :... 81

دليل التقيّة :... 82

ابتداء التقيّة ومبرّراتها :... 84

أثر التقيّة في خدمة الدين :... 89

الصادق والمحن... 92

مواقفه مع المنصور وولاته... 114

الصادق في العراق... 123

حياته العلميّة... 131

علمه إلهامي :... 131

مدرسته العلميّة :... 135

تعاليمه لتلاميذه :... 136

الحديث :... 140

الفقه :... 142

الأخلاق :... 144

ص: 266

التفسير :... 145

علم الكلام :... 147

الوجود والتوحيد :... 149

توحيد المفضّل :... 149

الإهليلجة :... 164

موجز براهينه على الوجود والوحدانيّة :... 168

نفي التجسيم :... 170

صفات الحدوث :... 173

لا تدركه الأبصار :... 176

الطبّ :... 178

الجفر :... 179

الكيمياء وجابر بن حيّان :... 180

سائر العلوم :... 182

كيف صار مذهبا؟... 184

مناظراته... 189

مناظراته في التوحيد :... 189

مناظرته مع طبيب :... 202

تفضيل النبي صلی اللّه علیه و آله :... 206

العدل بين النساء :... 207

رؤساء المعتزلة في البيعة لمحمّد :... 207

مناظرته في الزهد :... 211

مناظرته في صدقة :... 218

سيرته وأخلاقه... 220

تمهيد :... 220

ص: 267

آدابه في العشرة :... 221

سخاؤه :... 225

هباته السرّية :... 227

حلمه :... 229

عطفه :... 233

جلده :... 235

هيبته :... 236

عبادته :... 239

شجاعته :... 240

زهده :... 241

كراماته... 244

ما الآية؟... 244

دعاؤه المجاب :... 249

إعلامه عن الحوادث :... 256

إعلامه عمّا في النفس :... 261

الفهرس... 265

ص: 268

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.