دليل تحرير الوسيلة - المضاربة

اشارة

نام كتاب: دليل تحرير الوسيلة- المضاربة

موضوع: فقه استدلالي

نويسنده: مازندراني، علي اكبر سيفي

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 1

ناشر: مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني قدس سره

تاريخ نشر: 1427 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: تهران- ايران

شابك: 6- 821- 335- 964

[مقدمات التحقيق]

مقدّمة الناشر

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

إنّ «تحرير الوسيلة» هو خير وسيلة يبتغيها المكلّف في سيره و سلوكه، و هو أوثقها عُرًي، و أصلحها منهاجاً؛ لِما امتاز به من سداد في تحديد الموقف العملي، و إصابة في تشخيص الوظائف المُلقاة علي عاتق المكلّفين، و ذلك علي ضوء الدليلين: الاجتهادي و الفقاهتي، النابعين من الكتاب و السنّة. ناهيك عن جمعه للمسائل العملية، و نأيه عن المسائل ذات الصبغة النظرية التي لا تمسّ إلي واقعنا المُعاش بصلة.

و لئن كتب الشهيد الأوّل قدّس اللّٰه نفسه الزكيّة كتاب «اللّمعة الدمشقيّة» و هو سجين، فإنّ إمامنا العظيم نوّر اللّٰه ضريحه قد ألّف هذا الكتاب حينما كان منفيّاً في مدينة بورسا التركيّة من قبل الطاغوت الغاشم، و لم يكن بحوزته إلّا «وسيلة النجاة» و «العروة الوثقي» و «وسائل الشيعة».

نعم، لم تكن بيده المباركة إلّا هذه الكتب الثلاثة، و لكنّ نفسه العلوية لو لم تكن خزانة للعلوم الحقّة، و فؤاده مهبطاً للإلهام و التحديث، لامتنع وجود هذا السفر الخالد في تلك الظروف العصيبة.

و نظراً إلي أهمّية هذا الكتاب، و ضرورة نشره علي مختلف المستويات

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 6

و الأصعدة؛ لذا فقد أخذت مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني قدس سره علي عاتقها نشر شروح و تعاليق العلماء المحقّقين علي «تحرير الوسيلة» و من نفقتها الخاصّة.

و يعدّ الكتاب الذي بين يديك، واحداً من هذه السلسلة الضخمة التي تروم مؤسّستنا

طبعها، و هو شرح لمباحث المضاربة من «التحرير»، تأليف الشيخ علي أكبر السيفي المازندراني دام بقائه.

نسأل اللّٰه تعالي أن يوفّقه و إيّانا و أن يختم لنا جميعاً بالحسني إنّه سميع الدعاء.

مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني قدس سره

فرع قم المقدّسة

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 7

مقدّمة المؤلّف

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه ربّ العالمين أحمده استتماماً لنعمته، و استسلاماً لعزّته و استعصاماً من معصيته، و أستعينه فاقةً إلي كفايته.

و الصلاة علي محمّد عبده و رسوله المصطفي، أرسله بالهدي و دين الحقّ، و جعله بلاغاً لرسالته، و كرامةً لُامّته، و أنزل عليه القرآن نوراً لا تطفأُ مصابيحه، و بحراً لا يدرك قعره، و منهاجاً لا يضلّ نهجه، و فرقاناً لا يخمد برهانه.

و السلام علي آله المعصومين المكرّمين الذين هم معادن الإيمان و بحبوحاته، و ينابيع العلم، و أساس الدين، و عماد اليقين.

و نسأل اللّٰه سبحانه أن يوفّقنا لمعرفتهم و طاعتهم، و نشر علومهم و معارفهم، و يرزقنا شفاعتهم يوم نأتيه فرداً.

و أمّا بعد: فقد دوّنت هذا الكتاب علي أساس متن «تحرير الوسيلة» للإمام الخميني الراحل قدس سره، بعد التحقيق و الدراسة و إلقاء مباحثه إلي عدّة من الفضلاء و حلّ المعضلات و غوامض الإشكالات التي اوردت في حلقات البحوث.

و الذي ينبغي أن نشير إليه هاهنا، هو أنّ منهجنا في تحقيق مسائل هذا الكتاب يبتني علي أساس المراحل التالية.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 8

1- ابتدأنا في تحقيق الفروعات المهمّة بالتتبّع في آراء الفقهاء و تحرير أقوالهم، و لا سيّما القدماء و فحول المتأخّرين و المعاصرين و تعيين القول المشهور أو الأشهر. و ترتيب أقوالهم علي أساس ما به الاختلاف بينهم.

2- ثمّ تعرّضنا للوجوه المستَدلّ بها لكلِّ

قولٍ من الأقوال المذكورة، و أشرنا إلي موافقة السيد الماتن لواحدٍ منها. و بالطبع يتّضح وجه مخالفته لسائر الأقوال.

3- ثمّ تعرّضنا في كلّ مسألة إلي ما ادّعي أو نقل من الإجماعات المحصّلة و المنقولة، و أشرنا إلي عدم صلاحية غالب هذه الإجماعات للدليلية؛ نظراً إلي وجود ما يصلح للدليلية من آيات الكتاب و نصوص السنّة و القواعد العامّة، و إلي أنّ استناد الأصحاب إليها في مقام الاستدلال، أو كونها في مظانّ استدلالهم بها، ينفي حجّية الإجماع؛ لعدم كشفه تعبّداً عن رأي المعصوم حينئذٍ، و فقدان ملاك حجّيته.

4- حيث إنّا بنينا علي انجبار ضعف سند الخبر بعمل المشهور، كما أثبتنا ذلك في كتابنا «مقياس الرواية». فمن هنا نوافق رأي السيد الماتن في أمثال هذا المورد. و لكنّه فيما إذا لم تتعارض الأخبار، و إلّا فإنّما الشهرة الروائية هي التي ترجّح بها إحدي الطائفتين المتعارضتين بعد استقرار تعارضهما، و لا تصلح الشهرة الفتوائية للدليلية علي ترجيح إحدي الطائفتين حينئذٍ.

و أمّا إعراض المشهور، فليس عندنا موجباً لوهن الخبر الصحيح، و قد أثبتنا ذلك أيضاً في كتابنا المشار إليه. و لكن ذلك فيما إذا كان المخالف للمشهور جماعة معتني بهم مع تعرّضهم للمسألة و مخالفتهم، و إلّا فلو انحصر المخالف في واحد أو اثنين من القدماء أو المتأخّرين، أو لم يتعرّض سائر القدماء لعنوان المسألة أو تعارضت النصوص و كانت الموافقة منها لرأي المشهور مشتهرةً من حيث الرواية، فلا إشكال في رفع اليد عن تلك الرواية المخالفة للمشهور، و إن كانت صحيحة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 9

و ذلك إمّا لتسالم الأصحاب علي خلافها أو لأجل شهرتها الروائية.

5- قد يتّفق في خلال الاستدلال ببعض النصوص تصحيح سنده بقاعدة تبديل

السند، مشيراً إلي مفاد القاعدة، كما في طريق الشيخ إلي علي بن الحسن بن الفضّال. و قد فصّلنا البحث عن هذه القاعدة في كتابنا «مقياس الرواة»، فراجع.

6- و قد أشرنا إلي وجه تصحيح بعض الاصول الروائية، مثل كتاب علي بن جعفر بطريق صاحب الوسائل، لا طريق العلّامة المجلسي في البحار. و أيضاً أشرنا إلي ضعف بعضها الآخر في هذا الكتاب، و لكن بحثنا عن تفصيل ذلك كلّه في كتابنا المشار إليه، فراجع.

7- و قد فحصنا عن حال آحاد الرواة الواقعين في أسناد الروايات التي يدور مدارها رحي الاستدلال و الاستنباط في المسألة. و نشير إلي قواعد رجالية لإثبات أو نفي وثاقة الراوي أو اعتبار روايته. و إنّما ذلك في الرواة الذين وقع الخلاف في اعتبار رواياتهم. و بنينا في أمثال هذه الموارد علي اعتبار روايات من كان صاحب أصل و كثير الرواية و واقعاً في ضمن توثيق عامّ، مع نقل أجلّاء الأصحاب عنه، و عدم ورود قدح في حقّه. و قلنا: إنّ هذه القرائن- إذا توفّرت في حقّ أحد- تورث الوثوق النوعي بحسن حاله، بل تكشف عادةً عن اعتبار روايته، بل عن وثاقته، و إلّا لو كان في مثله قدحٌ لبان. و أيضاً أشرنا إلي قواعد عامّة اصولية خلال المباحث و الاستدلال.

هذه الخصوصيات هي أهمّ ما يبتني عليه منهجنا في تحقيق المسائل المهمّة و بها يمتاز هذا الكتاب.

و لا يخفي أنّ لمسائل المضاربة أهمّية كثيرة؛ نظراً إلي ابتلاء العموم بمسائل مرتبطة بمعاملات البنوك.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 10

و ذلك لأنّ الودائع المصرفية تأخذها البنوك بعنوان عامل المضاربة و يعلن مسئولوها بأنّهم يعملون علي أساس قوانين المضاربة و يربحون علي أساس أحكامها.

و قد أثار هذا

الأمر تشكيك بعض فقهائنا و مقلّديهم و كثير من المؤمنين؛ نظراً إلي أنّهم لا يرون أحكام المضاربة و حدودها حاصلة بتمامها و كمالها في هذه البنوك.

و هذه العويصة من أهمّ الوجوه الباعثة لتأليف هذا الكتاب.

و في الختام أرجو من الفضلاء الكرام و العلماء الأبرار أن يسامحوا موارد زلّاتي و يذكّروني في مواضع الخطأ، فإنّ أحبّ إخواني من أهدي إليَّ عيوبي. غفر اللّٰه لي و لكم و تقبّل منّي آمين.

علي أكبر السيفي

المازندراني

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 11

كتاب المضاربة

اشارة

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 13

و تسمّي قِراضاً، و هي عقد (1) واقع بين شخصين عليٰ أن يكون رأس المال في التجارة من أحدهما و العمل من الآخر، و لو حصل ربح يكون بينهما. تحرير الوسيلة 1: 577

______________________________

تعريف المضاربة

المعني اللغوي

اشارة

(1) 1- اشتهر التعبير عن هذا العقد بالمضاربة، و قد يعبّر عنه بالقراض. و الأوّل لغة أهل العراق، و الثاني لغة أهل الحجاز، كما قال شيخ الطائفة في المبسوط «1» و كذا في الجواهر «2»، و نسب في مفتاح الكرامة «3» إلي الأكثر التصريح بأنّ القراض لغة أهل الحجاز و المضاربة لغة أهل العراق.

و قد وجّه التعبير بالمضاربة في الجواهر «4» بوجهين:

الأوّل: كون الضرب مسبّباً عن المالك و العامل كليهما؛ نظراً إلي ضرب

______________________________

(1)- المبسوط 3: 167.

(2)- جواهر الكلام 26: 336.

(3)- مفتاح الكرامة 7: 423.

(4)- جواهر الكلام 26: 336.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 14

______________________________

العامل في الأرض للتجارة، و إلي طلب المالك منه ذلك.

الثاني: ضرب كلّ منهما فيما هو للآخر من المال و العمل. و جعل هذا الوجه أولي من الوجه الأوّل.

ثمّ قال: «و يقال للعامل مضارب بكسر الراء؛ لأنّه الذي يضرب في الأرض». و يظهر من السيد في العروة اختيار التوجيه الأوّل؛ حيث وجّه ذلك بأنّ المالك سببٌ لضرب العامل في الأرض بتسليم ماله إليه، و أنّ العامل مباشرٌ لذلك.

و بناءً علي ذلك أيضاً فالعامل مضارب- بكسر الراء- لأنّه الضارب في الأرض بعمله مباشراً.

مقتضي التحقيق

و التحقيق: أنّ لفظ المضاربة بمعني التجارة بمال الغير، كما قال الزمخشري في أساس البلاغة: «يقال ضاربته بالمال و في المال، و ضارب فلان لفلان في ماله:

تجر له فيه» «1». و إطلاق صيغة المضاربة بلحاظ استناد الضرب في التجارة إلي كلٍّ من المالك و العامل عرفاً.

و أمّا المالك فلأنّه ضرب في التجارة بماله. و أمّا العامل فلضربه في التجارة بعمله. و معني الضرب في التجارة، الاشتغال بالكسب و الاسترباح، كما في لسان العرب و غيره. فإنّ التجارة كما تتوقّف علي صرف

المال، كذلك تتوقّف علي صرف القدرة و السعي و العمل.

و لا يخفي أنّ التجارة و إن تشمل جميع عناوين المعاملات- حتّي الإجارة و المزارعة و المساقاة و نحو ذلك- في اصطلاح القرآن. و من هنا تري الفقهاءَ

______________________________

(1)- أساس البلاغة 1: 577.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 15

______________________________

يتمسّكون في جميع المعاملات بإطلاق قوله تعالي: «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» عند الشكّ في اعتبار قيد فيها، إلّا أنّها في باب المضاربة بمعني خصوص البيع و الشراء، مقابل النجارة و البنائة و الصباغة و الزراعة و الصناعة و غيرها من المشاغل. و سيأتي بيان وجه ذلك في مسألة اعتبار كون الاسترباح في المضاربة بالتجارة.

و أمّا الضرب في الأرض فمعناه المسافرة و الذهاب في الأرض. و هذا المعني ليس بمقصود في المقام، بل المقصود هو الضرب في التجارة، و إن كان للمعني السابق أصل في هذا المعني.

إشكال السيد الخوئي

و لكن استشكل بعض الأعلام «1» علي ذلك بأنّه لا أساس صحيح لما اشتهر من وضع هيئة المفاعلة للدلالة علي صدور الفعل من اثنين، بل إنّما وضعت لقيام الفاعل و تصدّيه لإيجاد الفعل- و لو وحده- سواءٌ تحقّق الفعل أم لم يتحقّق.

و استدلّ لذلك أوّلًا: ببعض موارد استعمال صيغة المفاعلة، كقول القائل:

طالعت الكتاب، و تابعت زيداً، و باركت له و سافرت، و نحو ذلك ممّا لا مشاركة فيه، و ليس بين اثنين.

و ثانياً: بقوله تعالي: «يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ مٰا يَخْدَعُونَ إِلّٰا أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَشْعُرُونَ» «2»؛ حيث دلّ علي كون المخادعة بمعني التصدّي للخدعة من دون تحقّق مادّة الخدعة، و أنّ معني «خادع» غير «خدع» الموضوع لتحقيق مادّة

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 234- 235؛ المباني في شرح العروة الوثقي 31: 3.

(2)-

البقرة (2): 9.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 16

______________________________

الخدعة. و ذلك لظهور الاستثناء في عدم تجاوز الخدعة و لا تحقّقه في حقّ من خادعوه.

و بناءً علي هذا الأساس لا حاجة إلي التجشُّم لإثبات صدق المفاعلة علي المضاربة بما ذكر من التوجيهات.

نقد كلام السيد الخوئي

و يمكن الجواب عن هذا الإشكال باتّفاق علماءِ الصرف علي وضع صيغة المفاعلة للمشاركة في الفعل و وقوعه بين اثنين، مع إذعانهم بمجيئها لغير هذا المعني أيضاً. و عليه فمجيئها لغير هذا المعني لا يصلح للدليلية علي عدم وضعها له، كما يظهر من بعض الأعلام. و نحن لا ندّعي اختصاص صيغة المفاعلة بذلك، بل نمنع إنكار وضعها لها علي نحو الموجبة الكلّية، كما يظهر من هذا العَلَم «1».

و عليه فما اشتهر من وضع هيئة المفاعلة لصدور المادّة من اثنين هو مقتضي التحقيق و لا غبار عليه. و أمّا حديث تحقّق المادّة واقعاً و عدمه فهو أمرٌ آخر لا ربط له بذلك؛ حيث يكفي في صدق ذلك تصدّي كلٍّ من الطرفين لفعل ما ارتكبه الآخر.

و أمّا الآية فهي تدلّ علي عكس ما ادّعاه. و ذلك لظهورها في تحقّق الخدعة من ناحية اللّٰه و رسوله في الحقيقة؛ حيث إنّ المنافقين قد أوجدوا باختيارهم و بأعمالهم السيّئة و نفاقهم سبب انقطاع فيض اللّٰه و فضله من أنفسهم، فتركهم اللّٰه في طغيانهم يعمهون و ختم علي قلوبهم و علي سمعهم و زادهم مرضاً، و إنّ قطع الفيض عنهم و تركهم في ظلمات الجهل و الطغيان و الختم علي قلوبهم و علي سمعهم الموجب لازدياد مرض قلوبهم، لمّا كان من جانب اللّٰه تعالي عقيب ما صدر

______________________________

(1)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 3.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 17

______________________________

باختيارهم

من الكفر و الفساد و النفاق و المكر و الكيد، يصدق أنّه تعالي خدعهم بعد إصرارهم علي الخدعة و المكر و النفاق. و إنّهم بذلك لم يخدعوا في الحقيقة، إلّا أنفسهم؛ لرجوع آثار خدعتهم عليهم، كما جاءَ في الآية؛ لأنّهم هم الذين أوجدوا سبب ذلك بفعالهم و اختيارهم.

و يشهد لذلك قوله تعالي: «وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّٰهُ، وَ اللّٰهُ خَيْرُ الْمٰاكِرِينَ» «1» و قوله تعالي: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَ أَكِيدُ كَيْداً* فَمَهِّلِ الْكٰافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» «2» و قوله تعالي: «وَ مَكَرُوا مَكْراً، وَ مَكَرْنٰا مَكْراً، وَ هُمْ لٰا يَشْعُرُونَ» «3».

و أمّا مكر اللّٰه فهو إمّا عذاب الاستدراج بإمهالهم و ازدياد مرضهم و تركهم في ظلمات الجهل و المعاصي لتشديد عذابهم في الآخرة. و إمّا بإفشاء أسرارهم بالوحي و إلهام النبي صلي الله عليه و آله و إعلان مكائدهم و كشف الواقع برفع الستار عن إفكهم و كذبهم و فضحهم بذلك في الدنيا.

و أمّا من ناحية المنافقين فلا ريب في صدور الأفعال الخادعة الكائدة منهم.

و لأجل ما كان يصدر منهم من الدسائس و المكائد، عبَّر القرآن عنهم بالمنافقين.

و عليه ففي مورد الآية تحقّق الخدعة من ناحية اللّٰه و المنافقين كليهما كما عرفت.

أمّا التعبير الثاني أي القراض فيحتمل فيه وجهان:

أحدهما: كون القراض من القرض- الذي منه المقراض- أي القطع؛ نظراً إلي قطع المالك حصّةً من ماله و دفعه إلي العامل ليتّجر به. و قطعه منه حصّةً من الربح له، كما قال في المبسوط: «و معناه هاهنا أنّ ربّ المال قطع قطعة من ماله يسلّمها إلي

______________________________

(1)- آل عمران (3): 54.

(2)- الطارق (86): 15- 17.

(3)- النمل (27): 50.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 18

______________________________

العامل و قطع له منه قطعة

من الربح» «1». و بناءً علي ذلك يكون المالك مقارِض- بكسر الراء- و العامل مقارَض- بفتح الراء-.

ثانيهما: من المقارضة بمعني الموازنة و المساواة كما يقال: «تقارض الشاعران»؛ إذ وازن كلٌّ منهما الآخر بشعره، كما قال في المبسوط «2». و إنّ الموازنة في باب المضاربة بين مال المالك و بين عمل العامل- مثل كفّتي الميزان- في المالية و استحقاق الربح، كما أشار إلي ذلك في الجواهر «3».

و الوجه الثاني هو الأصحّ؛ لأنّ القِراض بكسر القاف مصدر ثان للمقارضة، و من باب المفاعلة، كما ذكره أهل اللغة. و القطع من جانب العامل غير متصوّر؛ لأنّ الربح ملك للمالك، و هو الذي خصّ بعض الربح بالعامل بقوله: «و الربح بيننا» كما قطع ماله و أعطاه العامل للاتجار. فالقطع إنّما هو من طرف المالك، لا العامل، كما هو ظاهر المبسوط و الجواهر «4». فلا يناسب التعبير بالقراض معني القطع. بل إنّما يناسب معني الموازنة و المبادلة بين المال و العمل. و علي أيّ حال يقال للمالك المقارض- بالكسر- و للعامل المقارض- بالفتح-.

المعني الاصطلاحي

اشارة

هذا كلّه بحسب اللغة، و أمّا في اصطلاح الفقهاء فالمضاربة و القراض لفظان مترادفان بمعني واحد، و هو عقدٌ بين شخصين علي أن يكون رأس المال في

______________________________

(1)- المبسوط 3: 167.

(2)- نفس المصدر.

(3)- جواهر الكلام 26: 336.

(4)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 19

______________________________

التجارة من أحدهما و العمل من الآخر و كون الربح بينهما، كما قال السيد الماتن قدس سره.

و كما حكاه في مفتاح الكرامة «1» عن المبسوط وفقه القرآن و الغنية و السرائر و شرح الفخر و المهذّب البارع، و غير ذلك من الجوامع الفقهية.

نقد كلام صاحب العروة

ثمّ إنّه قد عرَّف السيد في العروة المضاربة بدفع الإنسان مالًا إلي غيره ليتّجر به علي أن يكون الربح بينهما، لا أن يكون تمام الربح للمالك، و لا تمامه للعامل.

و أشكل عليه السيد الحكيم بأنّ المضاربة كالبيع و الشراء من الإنشائيّات و الدفع فعل خارجي، و ليس هو حقيقة المضاربة.

و هذا الإشكال منه واردٌ جدّاً؛ لأنّ قوام عناوين المعاملات و إن ليس بمجرّد التلفّظ بالصيغة و لقلقة اللسان، كما هو واضح، إلّا أنّ حقيقتها هي الالتزام النفساني بنقل الملك و إنشائه المبرز بلفظ الصيغة، لا مجرّد أخذ و إعطاءٍ خارجي. و أمّا دفع المال المضارب به، فهو من قبيل تسليم المبيع بعد تحقّق حقيقة البيع بالإنشاء.

و يشهد لذلك أنّ حقيقة المضاربة عقدٌ و دفع المال و تسليمه في الخارج ليس بعقد قطعاً. فإنّ العقد التزام نفساني بين المتعاملين بالتمليك و النقل.

و لا يخفي أنّ هذا الإشكال لا يرد علي السيد الماتن قدس سره.

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 422.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 20

و لو جعل تمام الربح للمالك يقال له: البضاعة (1).

______________________________

الفرق بينها و بين البضاعة و القرض

اشارة

(1) 1- وقع الكلام هاهنا في صور دفع المالك ماله إلي الغير للتجارة. و أوّل من تعرّض إلي هذه الصور هو شيخ الطائفة في المبسوط، لا المحقّق في الشرائع كما قال في المستمسك «1».

نقل كلام شيخ الطائفة قدس سره

و ينبغي نقل كلام الشيخ هاهنا بطوله؛ لما له من الجامعية و النكات النافعة. قال قدس سره: «إنّ هاهنا ثلاثة عقود: عقد يقتضي أنّ الربح كلّه لمن أخذ المال، و هو القرض. و عقد يقتضي أنّ الربح كلّه لربِّ المال، و هو البضاعة. يقول له: «خذ المال فاتّجر به، و الربح كلّه لي». فإنّه يصحّ؛ لأنّها استعانة منه علي ذلك. و عقد يقتضي أنّ الربح بينهما، و هو القراض.

فإذا قال: «خذه و اتّجر به» صلح هذا لثلاثة عقود: قرض و قراض و بضاعة.

فإذا قرن به قرينة أخلصته إلي ما تدلّ القرينة عليه.

فإن قال: «خذه فاتّجر به و الربح لك» كان قرضاً؛ لأنّها قرينة تدلّ عليه. و إن قال: «خذه فاتّجر به علي أنّ الربح لي» كان بضاعة و إن قال: «خذه و اتّجر به علي أنّ الربح بيننا» كان قراضاً لأنّ القرينة تدلّ عليه.

و إن كانت اللفظة خالصة للعقد الواحد، فقرن به قرينة، نظرت، فإن

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 237.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 21

______________________________

لم يخالف مقتضاه لم يقدح فيه، و إن خالفت مقتضاه فسد العقد. بيانه: إذا قال خذه قراضاً، هذا خالص للقراض، و مقتضاه أنّ الربح بينهما، فإن قال: «علي أنّ الربح بيننا» صحّ، لأنّها قرينة تدلّ علي مقتضاه. و إن قال: «علي أنّ الربح لك» كان قراضاً فاسداً؛ لأنّها قرينة تخالف مقتضاه.

فإن قال: «علي أنّ الربح كلّه لي» فهو قراض فاسد أيضاً، و لا يكون بضاعة.

و في

الناس من يقول: يكون بضاعة و لا يكون قراضاً فاسداً. و هذا غلط؛ لأنّ لفظ القراض يقتضي الاشتراك في الربح. فإذا شرط لأحدهما كان قراضاً فاسداً كما لو شرط كلّه للعامل» «1».

مقتضي التحقيق

و مقتضي التحقيق في المقام: أنّ دفع المالك ماله إلي الغير للتجارة.

تارة: يكون مبنيّاً علي كون الربح بينهما، نصفاً أو أثلاثاً أو أرباعاً و نحو ذلك من النسبة المشاعة، و هذا هو المضاربة. و علي ذلك يحمل ما لو لم يتعرّض للرِّبح بأن يقول للعامل: «خذ هذا المال و اتّجر به» و إن يحتمل إرادة الإجارة و استحقاق العامل اجرة المثل مع كون تمام الربح للمالك، كما هو مقتضي القاعدة. فالمعيار في ذلك ظهور الكلام، و إلّا يحمل علي مقتضي القاعدة.

و اخري: علي كون تمام الربح للعامل.

ففي هذه الصورة لو قصد المالك عنوان القرض بتمليك المال للغير علي وجه التضمين، يقع قرضاً. و ملكية تمام الربح للعامل المقترض تكون مقتضي القاعدة حينئذٍ؛ نظراً إلي قاعدة تبعية الربح للمال؛ حيث تقتضي كون الربح ملكاً لمن هو مالك

______________________________

(1)- المبسوط 3: 184.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 22

______________________________

المال، و لمّا كان المقترض مالك المال بتمامه فيكون الربح الحاصل منه بتمامه له.

و لا ينافي ذلك حقيقة القرض، التي هي تمليك المال للمقترض علي وجه التضمين.

و أمّا لو لم يقصد المالك عنوان القرض، بأن قصد إبقاء المال علي ملكه- من دون قصد تمليكه للغير علي وجه التضمين- يمكن أن يقال «1»: إنّ المعاملة حينئذٍ مضاربة فاسدة، و تجري أحكامها.

و ذلك لأنّ كون تمام الربح للعامل مع كون المال للمالك خلاف مقتضي قاعدة تبعية الربح للمال، و غير داخل في القرض، و لا في المضاربة، و لا سائر عناوين

المعاملات. فلا دليل علي إمضائه.

إزاحة شبهة

و قد يشكل علي ذلك بأنّ المالك إذا دفع ماله إلي الغير ليتّجر به و يكون الربح بتمامه له و كان كلُّ ذلك من طيبة نفسه، يكون ما أنشأه العامل من المعاملات و التجارات بإذنه. و لا ريب في صحّة المعاملة بمال الغير؛ إذا كان بإذنه بمقتضي إطلاق «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ». فأيّ مانع من كون الربح بتمامه للعامل حينئذٍ؟

يمكن الجواب عنه: بأنّ الربح ما لم يتحقّق في الخارج لا قابلية له للتمليك و التملّك، فلا يمكن تمليكه الفعلي للغير في متن عقد المضاربة. و أمّا اشتراط ملكيّته للغير بعد حصوله بنحو شرط النتيجة، و إن ليس شرطاً مخالفاً للكتاب و السنّة؛ لأنّ ذلك من حقوق المالك، فله أن يعمل بحقّه كيف شاء، إلّا أنّه ليس في ضمن عقد ليجب الوفاء به؛ نظراً إلي عدم كون ذلك مضاربة و لا قرضاً، و لا داخلًا في سائر عناوين المعاملات.

______________________________

(1)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 4.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 23

______________________________

و أمّا احتمال كونه بنفسه عقداً داخلًا في إطلاق التجارة عن تراض، مدفوع بأنّه لا تمليك إلّا في ملك و الربح لم يدخل في ملكه بعد حتّي يملّكه للعامل و تمليكه معلّقاً علي حصوله باطل؛ بناءً علي بطلان التعليق في العقود كما هو المشهور.

و عليه فمرجع ذلك إلي الإذن في التصرّف. و إنّ الشرط الابتدائي لمّا لا يجب الوفاء به، و لا يصلح أن يكون سبباً للملك، فلا يتحقّق بذلك سبب شرعي لملكية الربح للعامل. نعم، لو ملّكه بعد الحصول للعامل مجّاناً أو بعوض، لا بأس به.

هذا إذا أحرزنا قصد المالك بإخبار نفسه أو بقرينة اخري. و إلّا فالظاهر حمله علي

القرض بقرينة قوله: «و الربح لك» كما قال في المبسوط. و ذلك ما دام لم يجعل قرينة تدلّ علي إرادة المضاربة، كقوله: مضاربةً أو قراضاً، و إلّا لا إشكال في حمله علي المضاربة الفاسدة.

تعريف البضاعة

و ثالثةً: علي أن يكون تمام الربح للمالك، فيقال له البضاعة. و البضاعة و الإبضاع أن يدفع الإنسان مالًا إلي غيره ليبتاع به متاعاً و لا حصّة له في ربحه، كما صرّح به في مجمع البحرين. و حينئذٍ تارة: يقول المالك: «خذ هذا المال قراضاً، و الربح لي».

و اخري: يقول: «خذه فاتّجر به و الربح لي»، و لا إشكال في ظهور التعبير الثاني في البضاعة.

و أمّا علي الأوّل فيحتمل وجهان:

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 24

______________________________

أحدهما: الحمل علي ظاهر لفظ القراض و إرادة معناه الحقيقي الذي هو أعمُّ من الصحيح و الفاسد في ألفاظ المعاملات. و حينئذٍ يحكم بفساد المضاربة؛ لأنّ مقتضاها اشتراك المالك و العامل في الربح، و هو ينافي تصريح المالك باختصاص الربح لنفسه، فلا مناص حينئذٍ من حمله علي المضاربة الفاسدة.

ثانيهما: الحمل علي البضاعة. و هي دفع المال إلي الغير ليتّجر به من دون أن تكون له حصّة من الربح، كما صرّح به في مجمع البحرين و زاد في المسالك «1» في تفسير البضاعة بقوله: «بمعني أنّ العامل لا يستحقّ علي عمله اجرةً».

و نظيره في الجواهر؛ حيث قال: «إنّها المال المدفوع ليعمل به، علي أنّ الربح لمالكه بلا اجرة للعامل، فهي حينئذٍ توكيل في التجارة تبرّعاً» «2». وجه هذا الحمل قرينية قول المالك: «الربح لي» بدعوي أنّها تعطي الظهور لكلامه في اقتراح البضاعة.

فاختلف الأصحاب في ذلك، و تردّد في الشرائع بعد ما مال إلي الحمل علي المضاربة الفاسدة.

و الذي استقرّ عليه رأي مشهور الفقهاء هو الحمل علي المضاربة الفاسدة، كما صرّح به في المسالك و الجواهر و غيرهما «3».

و هذا هو الأصحّ لغلبة قوله: «مضاربةً» في إعطاء الظهور لكلام المالك في المضاربة. و يحمل قوله: «و الربح لي» علي جهله بحكم المضاربة و طمعه في الربح.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 364.

(2)- جواهر الكلام 26: 365.

(3)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 25

______________________________

هل يستحقّ العامل الاجرة في المضاربة الفاسدة؟

اشارة

ثمّ إنّه بناءً علي رأي المشهور- و هو الحمل علي المضاربة الفاسدة- يضمن المالك اجرة المثل للعامل. و قد يعلّل ذلك بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» بلحاظ ضمان سهمه من الربح في الصحيح فيضمن ما بإزائه من العوض.

و هذه القاعدة و إن لا اعتبار لها بعنوانها- كما حقّقناه في مسألة ضمان الربا المأخوذ، في فقه الربا من كتابنا دليل تحرير الوسيلة- إلّا أنّ قاعدة الإتلاف كافية لإثبات ضمان اجرة المثل؛ لأنّ العامل إنّما عمل بأمر المالك، فهو الذي صار سبباً لإتلاف عمل العامل، و لمّا كانت لعمل الحُرّ ماليّةٌ عند العقلاء، يثبت ضمان الإتلاف بالتسبيب.

و أمّا بناءً علي الحمل علي البضاعة بلحاظ قرينية قوله: «و الربح لي»، فلا يستحقّ العامل الاجرة بمقتضي ماهية البضاعة، كما عرفت في تعريفها.

ترجيح رأي المشهور و الاستدلال عليه

و الذي يقتضيه التحقيق ما ذهب إليه المشهور، كما قلنا آنفاً. و ذلك أوّلًا:

للأخذ بظاهر لفظ القراض المفروض تصريح المالك به. و ثانياً: لاقتضاء قاعدتي الإتلاف بالتسبيب و احترام مال المؤمن و عمله. و بما ذكرناه ظهر الحال في الصورة الثانية. و هي ما لو قال المالك: «خذه و اتّجر به و الربح لي» من دون قيد «قراضاً».

و ذلك لأنّه الذي دعا العامل إلي العمل و سبّب ذلك، باقتراح التجارة إليه.

و عليه فمقتضي قاعدتي الاحترام و الإتلاف بالتسبيب ضمان قيمة عمل العامل عليه بما له من المالية العرفية، و هي اجرة المثل.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 26

______________________________

هذا مضافاً إلي عدم كون التصريح بلفظ القراض أو المضاربة شرطاً في صحّة عقد المضاربة، كما قال في المسالك «1». فتحصّل ممّا ذكرناه أنّ الحقّ مع المشهور مطلقاً.

و بما ذكرناه اتّضح بطلان توجيه المجّانية، و عدم استحقاق العامل للُاجرة

مستدلًاّ بظهور حال المالك فيه، كما عن بعض الأعلام «2» - علي ما في تقريراته- من أنّ قول المالك: «و الربح لي» تصريحٌ منه بأنّ العامل لا حظَّ له في الربح. و ذلك قرينة عرفية ينعقد بها ظهور حالٍ للمالك في كون عمل العامل تبرُّعيّاً، فإذا قبله العامل و لم يصدر منهما لفظ يدلّ علي الاجرة لا يستحقّ العامل اجرة المثل؛ نظراً إلي كون ظاهر حال المالك في كون عمل المالك مجّانياً.

وجه بطلانه: إنّ اقتراح عمل التجارة يكون من جانب المالك؛ لأنّه الذي دعا العامل إلي ذلك بدفع ماله إليه و أمره بالتجارة. و الذي نفاه المالك و قبله العامل هو استحقاق الربح، و أمّا استحقاق الاجرة فلم ينفها، و لا ظهور لتخصيص الربح بنفسه في نفي أُجرة العامل. و مجرّد اقتراحه و دعوته العامل إلي العمل يكفي لحدوث سبب الضمان بمقتضي قاعدة ضمان الإتلاف بالتسبيب.

و هذا، مضافاً إلي اقتضاء قاعدة الاحترام لاستحقاق اجرة المثل ما لم يصدر من العامل ما يسقط احترام عمله، كما في المقام. و قد بحثنا عن مفاد هذه القاعدة و أدلّتها بالتفصيل في كتابنا «الفقه الفعّال»، و قد أثبتنا هناك أنّ قاعدة الاحترام تقتضي ضمان اجرة عمل الحُرّ، فراجع.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 365.

(2)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 5.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 27

و حيث إنّها عقد، تحتاج إلي الإيجاب من المالك و القبول من العامل (1)، و يكفي في الإيجاب كلّ لفظ يفيد هذا المعنيٰ بالظهور العرفي، كقوله: «ضاربتُك» أو «قارضتُك» أو «عاملتُك» عليٰ كذا، و في القبول: «قبلتُ» و شبهه.

______________________________

[شرائط المضاربة]

شرائط عقد المضاربة

اشارة

(1) 1- لا خلاف و لا إشكال في كون المضاربة من العقود، و أنّها تحتاج إلي

إيجاب و قبول. و ذلك لأنّ حقيقة العقد هي الربط بين التعهدين و الالتزامين، بخلاف الإيقاع الذي هو التزام من طرف واحد.

و لا بدّ لتحقّق هذا المعني من إيجاب و قبول متعلّق بنفس ذلك الإيجاب؛ بمعني أن يلتزم العامل في قبوله نفس ما التزم به المالك في إيجابه، من تمليك ماله للعامل لغرض اتّجار العامل به مبنيّاً علي كون مقدار من الربح الحاصل بعمله له، و هو حقيقة المضاربة، و إلّا فلو التزم المالك بشي ءٍ في إيجابه و العامل بشي ء آخر في إيجاب آخر أو بقبول شي ءٍ آخر غير ما أوجبه المالك، لا تتحقّق به حقيقة العقد.

و أمّا اعتبار التراضي في العقود، فالوجه فيه أنّ لكلّ من المتعاقدين سلطةً و ولايةً علي ماله و عمله، و لا يجوز للآخر التجاوز إلي ما تحت سلطته و ولايته، إلّا بإذنه و رضاه. و عليه فلكلّ واحدٍ منهما أن لا يرتضي و لا يلتزم بالعقد.

و الفرق بين العقد و الإيقاع أنّ العقد بحاجة إلي إعمال الولاية من الطرفين و لما اخذ من الربط بين تعهّدين و التزامين في ماهية العقد. و لكن الإيقاع يتقوّم

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 28

______________________________

بإعمال الولاية من طرف واحد؛ نظراً إلي أنّ حقيقته مجرّد إيجاد أمر اعتباري و إنشائه من طرف واحد. فهو في الحقيقة التزام شخص بشي ء في نفسه بلا حاجة إلي ارتباطه بالتزام شخص آخر و من هنا لا يعتبر التراضي في الإيقاعات.

و حيث إنّ في المضاربة يبذل المالك ماله، كما أنّ العامل يبذل عمله الذي له المالية عند العقلاء. فكما أنّ للمالك الولاية علي ماله، كذلك للعامل الولاية علي عمله، فيعتبر التراضي بينهما.

حكم المضاربة المعاطاتية

هذا لا كلام فيه. و إنّما الكلام

في جواز كلّ من الإيجاب و القبول بالفعل. فقد وقع الخلاف في اعتبار اللفظ في كلٍّ منهما.

و يقع الكلام تارة: في جواز إنشاء عقد المضاربة بالفعل في طرف الإيجاب، و اخري: في جواز قبوله بالفعل.

يظهر من بعض الأصحاب المفروغية عن اعتبار اللفظ في إيجاب المضاربة و عدم جوازه بالفعل، كما يظهر من الرياض، بل صرّح في الجواهر «1» بنفي الخلاف في ذلك.

و خالف ذلك جماعة كما نقل في المفتاح «2» عن مجمع البرهان و الكفاية كفاية كلّ ما دلّ علي الرضا. و لو كان فعلًا. و قد مال إليه السيد الحكيم، و اختاره صاحب العروة، و السيد الخوئي و السيد الماتن؛ حيث صرّح بجريان المعاطاة في المضاربة في المسألة الثانية عشر، كما سيأتي، إن شاء اللّٰه. و يشهد لذلك تعريفهم المضاربة

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 339.

(2)- مفتاح الكرامة 7: 423.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 29

______________________________

بدفع الإنسان مالًا إلي غيره (إلي آخره)، كما استشهد بذلك في المفتاح «1» لجواز إيجابه بالفعل.

مقتضي التحقيق

و مقتضي التحقيق عدم اعتبار اللفظ فيه و جواز إنشائه بالفعل في طرف الإيجاب. و أمّا دعوي عدم الخلاف فهو كما تري، مع ما فيه من المخالف و الوجوه المانعة من كشف قول المعصوم عليه السلام بالتعبّد.

هذا في الإيجاب، أمّا في القبول فلم يدّع أحد الاتّفاق علي اعتبار اللفظ فيه، بل وقع الخلاف بينهم في ذلك. و التحقيق عدم اعتبار اللفظ فيه أيضاً بالأولوية، بعد ما لم يكن معتبراً في الإيجاب.

و أمّا إبراز الرضا منهما فيتحقّق بأيّ مبرز، كما أنّ مقتضي عمومات حلّية البيع و التجارة عن تراضٍ، كفاية أيّ لفظ دالّ علي الرضا في صحّة العقد. و لا دليل علي تخصيصها بلفظ خاصّ، بل

إنّما المعتبر دلالة اللفظ علي مقصود اللّافظ؛ لكي يفهمه صاحبه و يتطابق قصدهما، و إلّا لا يتحقّق مفهوم العقد؛ حيث لا يتحقّق مفهومه، إلّا إذا تعلّق قصد المتعاملين بشي ءٍ واحدٍ. فإنّ مفهوم العقد و ماهيته لا يتحقّق، إلّا بالربط بين الالتزامين. و هذا المعني لا يمكن تحقّقه بشيئين منفكّين لا ربط بينهما.

كما أنّ قصد كلّ منهما خلاف ظاهر اللفظ من هذا القبيل؛ لأنّ متعلق القصدين ليس شيئاً واحداً حينئذٍ ليتحقّق الربط بينهما.

و عليه فالمعتبر في عقد المضاربة إبراز القصد المعاملي الخاصّ و الاعتبار النفساني بأيّ مبرز ظاهر في المعني المقصود، و حاكٍ عنه حسب الفهم العرفي.

______________________________

(1)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 30

______________________________

و قد اتّضح بهذا البيان أنّه لا فرق في ذلك بين كون المبرز من الألفاظ أو من الأفعال. و هذا هو الذي يظهر من كلمات جماعة من الأصحاب، كما أشرنا إليه آنفاً.

نقد كلام صاحب الحدائق

و قد استظهر في الحدائق من كلام العلّامة و غيره اختصاص ذلك بالقبول؛ حيث قال: «قد عرفت في غير موضع ممّا تقدّم سهولة الأمر في العقد، و أنّه ليس إلّا ما دلّ علي التراضي بتلك المعاملة، و ظاهر كلامه هنا و كذا كلام غيره، الاكتفاء بما دلّ علي الرضا و إن كان فعلًا في جانب القبول» «1».

و لكن لا وجه له. و ذلك لما قلناه آنفاً، و لما استُدلّ به في مشروعية المعاطاة التي هي عقدٌ فعليٌّ. و لذلك اعترض السيد الحكيم «2» علي الشهيد، الظاهر كلامه في الروضة في المفروغية عن عدم جواز الإيجاب بالفعل.

و عليه يكفي في صحّة عقد المضاربة؛ إبراز معناها من جانب الموجب بأيّ مبرزٍ ظاهرٍ في قصد إنشائه عرفاً و من القابل في قبوله، و

لو كان ذلك المبرز فعلًا، فضلًا عن اللفظ الظاهر فيه عرفاً؛ بمثل قوله: «خذ هذا المال و اتّجر به و الربح بيننا» أو قوله: «اتّجر بمالي هذا و الربح بيننا»، و نحو ذلك من ألفاظ الإيجاب، من دون تصريح بالقراض أو المضاربة. و بقوله «قبلت» و شبهه في القبول، كما جاء في كلام السيد الماتن قدس سره. ثمّ إنّه لا يخفي عليك أنّ المضاربة من العقود الجائزة من الطرفين.

فيجوز لكلّ واحدٍ منهما الفسخ مطلقاً. قبل العمل و بعده و قبل ظهور الربح و بعده.

و سيأتي البحث عن ذلك في بعض الفروع الآتية، إن شاء اللّٰه.

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 203.

(2)- مستمسك العروة الوثقي 12: 241.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 31

(مسألة 1): يشترط في المتعاقدين البلوغ و العقل و الاختيار

اشارة

(1)، و في ربّ المال عدم الحجر لفلس (2).

______________________________

شرائط المتعاقدين و رأس المال
اشارة

(1) 1- إنّ البلوغ و العقل و الاختيار من الشرائط العامّة المعتبرة في جميع الأحكام التكليفية و الوضعية، من العبادات و المعاملات. فكما لا تكليف علي الصبي و المجنون و العاجز المسلوب عنهم الاختيار، فكذلك لا يترتّب أيُّ أثر شرعي علي أفعالهم في أبواب المعاملات. و ليس هاهنا موضع البحث عن اعتبار هذه الشروط و الاستدلال عليها. و قد تعرّض الفقهاء لذلك في كتاب البيع و الحجر.

و علي أيّ حال لا خلاف في اعتبارها في المضاربة كاعتبارها في سائر المعاملات.

وجه اعتبار عدم الإفلاس في ربّ المال

(2) 2- و ذلك لأنّ الإفلاس لمّا كان موجباً للحجر، يكون المفلس محجوراً عن التصرّف في أمواله، فليس له أن ينشئ عقداً من العقود، و لو أنشأ لا اعتبار بإنشائه شرعاً.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 32

______________________________

هذا في المالك، و أمّا العامل، فلا وجه لاعتبار عدم الفلس فيه، كما يوهمه كلام صاحب العروة؛ حيث شرط ذلك في صحّة أصل عقد المضاربة، و لكن ينبغي أن يكون مقصوده اشتراط ذلك في المالك، لا العامل؛ لعدم اشتراط عدم الفلس في مالكية العامل لعمل نفسه، و من هنا يجبر المفلّس علي العمل و اكتساب المال بعمله حتّي يؤدّي به دينه.

اشتراط عدم السفه

و لا يخفي أنّ سبب الحجر لا يختصّ بالفلس، بل السفه أيضاً من أسبابه، كما لا يختصّ اعتبار عدم السفه بالمالك؛ حيث لا اعتبار بعمل السفيه مطلقاً، سواءٌ كان بتصرّفه في مال نفسه أو بتعهّده مال الغير أو عملًا في ذمّته، كما صرّح بذلك السيد الماتن- في المسألة الثانية من مسائل محجورية السفيه في كتاب الحجر- بقوله:

«كما أنّ السفيه محجور عليه في أمواله كذلك في ذمّته، بأن يتعهّد مالًا أو عملًا، فلا يصحّ اقتراضه و ضمانه، و لا بيعه و شراؤه بالذمّة و لا إجارة نفسه، و لا جعل نفسه عاملًا للمضاربة و نحوها» «1». و لا يفهم اشتراطه من اعتبار العقل و عدم الجنون، كما يوهمه عبارة صاحب العروة.

فكان الأنسب أن يضيف السيد الماتن اعتبار عدم السفه في المالك و العامل كليهما؛ لأنّ السفيه محجور في مطلق التصرّفات، سواءٌ كان في مال نفسه، أو في مال غيره.

نعم، بناءً علي اختصاص محجورية السفيه بالتصرّف في أمواله و عدم كونه محجوراً في التصرّف في مال الغير، يختصّ اعتبار عدم

السفه في المقام بالمالك.

______________________________

(1)- تحرير الوسيلة 2: 13- 14.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 33

و في العامل القدرة علي التجارة برأس المال، فلو كان عاجزاً مطلقاً بطلت (1)،

______________________________

و قد نسب بعض الأعلام «1» اختصاص حجر السفيه بتصرّفه في أمواله إلي المشهور.

و تفصيل البحث عن ذلك موكول إلي محلّه.

اعتبار قدرة العامل علي التجارة برأس المال
اشارة

(1) 1- إنّ اعتبار قدرة العامل علي التجارة برأس المال لم يذكره في الشرائع و القواعد و المسالك، و لا في غيرها من الجوامع الفقهية لقدماء الأصحاب و متأخريهم، بل إنّما الموجود في كلامهم، ضمان العامل لمال القراض إذا كان عاجزاً عن التجارة به، كما في الشرائع و القواعد و غيرهم، بل في المسالك صرّح بصحّة العقد حينئذٍ؛ معلّلًا بعدم المنافاة بين الضمان و بين صحّة العقد؛ حيث قال قدس سره:

«و حيث يثبت الضمان لا يبطل العقد؛ إذ لا منافاة بين الضمان و صحّة العقد» «2».

و في الحدائق بعد ما حكي عن الأصحاب عدم المنافاة بين الضمان و بين صحّة العقد، قال: «قالوا: حيث يثبت الضمان لا يبطل العقد؛ إذ لا منافاة بين الضمان و صحّة العقد. أقول: و يدلّ عليه ما تقدّم في تلك الأخبار، و عليه اتّفاق الأصحاب، من أنّه مع المخالفة لما شرطه المالك فإنّه يضمن و الربح بينهما» «3».

و في الجواهر بعد نقل كلام الشهيد، قال: «لعلّ المتّجه في مفروض المسألة الفساد، من غير فرق بين حالي العلم و الجهل. و ذلك لمعلومية اعتبار قدرة

______________________________

(1)- منهاج الصالحين 2: 179.

(2)- مسالك الأفهام 4: 358.

(3)- الحدائق الناضرة 21: 223.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 34

______________________________

العامل علي العمل في الصحّة، نحو ما ذكروه في الإجارة؛ ضرورة لغوية التعاقد مع العاجز عن العمل و الاسترباح الذي هو

روح هذه المعاملة» «1». و تبعه في ذلك السيد الماتن.

و لتنقيح البحث في المقام ينبغي الكلام في ثلاث جهات، و هي:

1- وجه ضمان العامل العاجز عن التجارة.

2- الكلام حول فساد عقد المضاربة حينئذٍ، و الاستدلال عليه.

3- الفرق بين علم كلّ من المالك و العامل بالفساد و بين جهلهما.

هل يضمن العامل العاجز مال القراض؟

أمّا الجهة الأولي: لا إشكال في ضمان العامل العاجز عن التجارة لما أخذه من مال القراض، إذا كان المالك جاهلًا بعجزه عن ذلك. و الوجه فيه- كما في المسالك «2» و الجواهر «3» أنّ العامل إذا كان عاجزاً ليس بمأذون في وضع يده علي مال الغير و يكون بغير إذنه؛ حيث إنّ تسليم المالك ماله إلي العامل إنّما كان ليعمل فيه.

فيكون تسليمه المال إليه بشرط قدرته علي التجارة، و إلّا لا يرضي بذلك. و إنّ وضع اليد علي مال الغير بدون إذنه و رضاه يوجب ضمان اليد.

نعم، لو كان حين إنشاء العقد و تسلّم المال عاجزاً، و لكن كان راجياً لحصول القدرة له في المستقبل ثمّ حصلت القدرة له بعد مدّة، لا يبعد القول بصحّة المضاربة و عدم الضمان من حين حصول القدرة و اشتغاله بالتجارة؛ نظراً إلي صحّة المضاربة

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 360.

(2)- مسالك الأفهام 4: 358.

(3)- جواهر الكلام 26: 360.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 35

______________________________

حينئذٍ، بل يمكن القول بصحّته من حين إنشاء العقد و تسلّم المال. و ذلك لما بنينا عليه من صحّة العقد حينئذٍ؛ نظراً إلي عدم لغويته؛ لحصول الغرض المعاملي الذي هو روح المعاملة مع رجاء حصول القدرة للعامل.

وجه بطلان المضاربة لعجز العامل

و أمّا الجهة الثانية: فالتحقيق بطلان المعاملة؛ لأنّ قوام المضاربة بعمل العامل، فإذا كان عاجزاً عن التجارة و نحوها من العمليات الرابحة، ينتفي الغرض العقلائي من هذه المعاملة الذي هو الاسترباح و اكتساب المنفعة باستعمال المال.

فلا تتحقّق حينئذٍ حقيقة المضاربة و روحها، كما عبّر في الجواهر «1»، و لنعم ما عبّر به.

و أمّا دعوي اتّفاق الأصحاب علي الصحّة كما عرفت من صاحب الحدائق، فلا ينبغي الاعتناءُ به، بعد عدم اعتناء مثل

صاحب الجواهر، مع عدم اعتبار دعوي مثل هذا الاتّفاق في نفسه، بعد أن لم يكن في البين إجماع تعبدي كاشف عن رأي المعصوم عليه السلام.

نعم، لا يعتبر حصول القدرة حين إنشاء العقد. فلو كان العامل عاجزاً حين إنشاء العقد و تسلُّم المال، و لكن كان راجياً لحصولها في المستقبل، فحصلت له القدرة بعد مدّة، لا يبعد القول بصحّة المضاربة و عدم الضمان من لدن حصول القدرة و اشتغاله بالتجارة، بل يصحّ من حين إنشاء عقدها، كما قلنا. و ذلك لترتب الغرض العقلائي المعاملي حينئذٍ علي العقد، فيرتفع إشكال اللغوية. بل ذلك متعارف بين العقلاء، حتّي في الإجارات.

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 360.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 36

______________________________

هل يضمن العامل العاجز مع علم المالك بحاله؟

و أمّا الجهة الثالثة: إنّ ما سبق من الحكم بالضمان كان فيما إذا كان المالك جاهلًا بحال العامل أو معتقداً بقدرته. و أمّا إذا كان عالماً بحاله و أنّه عاجزٌ عن التجارة من دون رجاء لحصول القدرة له في المستقبل القريب، فيمكن أن يقال بعدم ضمان العامل؛ لأنّ المالك أقدم حينئذٍ علي إسقاط احترام ماله و إهداره، فلا ضمان علي العامل.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ إعطاءَ المالك ماله للعامل علي أيّ حالٍ كان لطمع الاسترباح، لا علي وجه المجانية، فلا يكون مصداقاً للإهدار و إسقاط الاحترام.

و لكن الذي يقتضيه التحقيق أنّ المالك إذا كان عالماً بحال العامل و أنّه عاجزٌ عن العمل من دون رجاء حصول القدرة له في المستقبل القريب، و مع ذلك سلّم إليه ماله، يشكل القول بضمان العامل؛ لأنّه في الحقيقة أقدم علي إسقاط احترام ماله، و ذهب بذلك استحقاقه لتدارك ماله و جبرانه فلا ضمان علي العامل حينئذٍ، إلّا إذا كان راجياً لحصول القدرة

له.

لا فرق بين علم العامل و بين جهله

و أمّا العامل فلا فرق بين علمه و جهله بالصحّة أو بقدرة نفسه؛ لأنّه علي أيّ حال أخذ مال الغير من غير سبب شرعي و من دون رضي المالك، كما هو المفروض في صورة عجزه و فساد المضاربة، و علي اليد ما أخذت حتّي تؤدّيه، فهو ضامن لقاعدة ضمان اليد، و إن لم يُتلفه، بل أحدث فيه عيباً، كأن امتزجه بمال آخر علي وجه غير قابل للتمييز، كما سيأتي في بعض الفروع اللّاحقة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 37

______________________________

هل يستحقّ العامل للُاجرة في المضاربة الفاسدة؟

و أمّا استحقاق العامل للُاجرة عند انكشاف فساد المضاربة بعد العمل أو في أثنائه، فالتحقيق أنّه يستحقّ اجرة المثل مطلقاً، من غير فرق بين علمه بفساد هذه المعاملة و بين جهله بذلك، و كذا لا فرق بين علم المالك بحال العامل و فساد المضاربة و بين جهله بذلك. و ذلك لأنّ المالك هو الذي اقترح إلي العامل التجارة بماله و دعاه إلي ذلك، فهو سبّب عمل العامل علي أيّ حال من غير فرق بين هذه الصور. فيستقرّ عليه ضمان الإتلاف، إلّا إذا كان اقتراح المضاربة من ناحية العامل مع علمه بفساد العقد من حين إنشائه، و هذا فرض نادر.

لا تصلح قاعدة ما يضمن، للدليلية علي الضمان في المقام

و ليس دليل هذا الضمان قاعدة ما يضمن؛ لكي يقال: إنّ الاجرة غير مضمونة في صحيح المضاربة حتّي تضمن في فاسدها، إنّما بل دليله قاعدة ضمان الإتلاف بالتسبيب و قاعدة احترام عمل المؤمن.

نعم، قد يتمسّك بعكس قاعدة ما يضمن- و هو ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده- لنفي الضمان عن العامل بمقدار ما لم يكن ضامناً في المضاربة الصحيحة، فكذلك لا يضمنه في الفاسدة.

و لكنه غير وجيه، لما قلنا من عدم دليل علي أصل هذه القاعدة فضلًا عن عكسها. فلا تصلح لمعارضة قاعدتي اليد و الإتلاف المقتضيتين لضمان جميع مال القراض علي العامل في المضاربة الفاسدة. و إنّما خرجنا عن مقتضاهما في المضاربة الصحيحة بالدليل الخاصّ.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 38

و مع العجز في بعضه لا تبعد الصحّة بالنسبة عليٰ إشكال (1).

______________________________

(1) 1- وجه الصحّة أنّ المضاربة كغيرها من العقود تنحلّ إلي عقود متعدّدة حسب أجزاء رأس المال و إن كانت بحسب الإنشاء صيغة واحدة. فإذا كان العامل قادراً علي الاتّجار ببعض مال القراض،

لا وجه لبطلان أصل عقد المضاربة رأساً، بل إنّما يبطل بالنسبة إلي ما يعجز عن الاتّجار به.

وجه بطلان المضاربة مطلقاً مع العجز عن بعضه

و أمّا وجه الإشكال و بطلان العقد بالنسبة إلي المقدور، فهو:

أوّلًا: عدم معلومية مقدار ما يقدر العامل علي الاتّجار به، و سيأتي بيان اشتراط ذلك في رأس المال.

و ثانياً: الغرر الناشي من الجهل بمقدار ما يقدر علي الاتّجار به، فيما إذا لم يكن مقداره معلوماً معيّناً. فبناءً علي لزوم هذا الغرر تكون المضاربة حينئذٍ غررية فاسدة.

و قد يجاب عن الإشكال الأوّل بأنّ مقدار ما يقدر علي الاتّجار به يصير معلوماً بالمآل بعد التجارة. بل ربما يصير معلوماً قبل الاتّجار. مثل ما لو كان العامل عالماً بالمقدار المقدور و تبيّن ذلك للمالك قبل العمل؛ نظراً إلي علمه بحال نفسه بسبب التجربة في ذلك.

و فيه: أنّ غررية العقد تتحقّق بالجهل حين إنشائه، و لا دخل لارتفاع الجهل بعد العقد في انتفاء غرريته.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 39

______________________________

مقتضي التحقيق في توجيه فساد المضاربة

و الذي يقتضيه التأمل في المقام أنّ فساد العقد في مفروض الكلام يكون لوجهين:

أحدهما: كون المضاربة في هذا الفرض غررية. و ذلك يبتني علي تضرّر المالك بعجز العامل عن الاتّجار ببعض المال. و إنّ تضرّره بذلك إمّا لصدق الضرر علي ركود ما لم يتّجر به العامل من مال القراض بحبسه في يد العامل بلا منفعة و ربح- فيما لو تبيّن مقدار المعجوز عن الاتّجار به بعد العمل أو في الأثناء- كما قيل بضمان المنافع غير المستوفاة في غصب الدابة و العبد الكسوب؛ لصدق إتلاف المال بتفويت منافعه غير المستوفاة، و لا سيّما إذا كثُر مقدار ما يعجز عن الاتّجار به و طال زمان ركوده فيتضرّر المالك حينئذٍ بتفويت منافعه غير المستوفاة. و لكنّه مشكل في النقود، و إنّما أفتي الفقهاءُ بذلك في الدوابّ و العبد و نحو ذلك من

الآلات و المعامل و الجهازات ممّا له اجرة و كراءٌ عادةً، هذا مع احتمال اختصاص النهي بالبيع الغرري؛ نظراً إلي ورود النصّ في خصوصه، و لم يرد في غيره من أنحاءِ المعاطاة. و سيأتي البحث عن هذا النصّ سنداً و دلالةً، فانتظر.

ثانيهما: عدم تعلّق الإذن من المالك بمثل هذه المضاربة؛ حيث إنّه رضي بها لجهله بحال العامل، و إلّا فلو كان قد اطّلع علي عجزه عن التجارة حين الإنشاء، لما كان يرضي بتسليم ماله إليه. و عليه فلا تكون المضاربة حينئذٍ تجارة عن تراضٍ، فيشكل الحكم بصحّتها.

و حاصل الكلام: أنّه يشكل الحكم بصحّة عقد المضاربة لو كان العامل عاجزاً عن التجارة ببعض المال من أوّل الأمر، و لا سيّما إذا كان مقداره كثيراً.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 40

نعم لو طرأ في أثناء التجارة تبطل من حين طروّه بالنسبة إلي الجميع لو عجز مطلقاً، و إلي البعض لو عجز عنه علي الأقويٰ (1).

______________________________

و ذلك لعدم كون مثل هذه المضاربة مأذوناً من جانب المالك؛ حيث إنّ إذن المالك إنّما تعلّق بمجموع مال القراض الذي أعطاه للعامل، من حيث هو المجموع بمقتضي غرضه المعاملي، فلم تكن المضاربة ببعض المال و ركود بعض آخر منه متعلّق غرضه. فينكشف بذلك أنّ ما وقع لم يكن مقصوده، و إنّما العقود تابعة للقصود. و لا سيّما أنّ العقود الإذنية- مثل المضاربة و الوكالة و العارية- بحاجة إلي صدور الإذن من المالك، و المفروض في المقام انتفاؤه، كما عرفت.

فيما طرأ العجز في الأثناء

(1) 1- أمّا بطلان عقد المضاربة من حين طروّ عجز العامل عن التجارة بجميع المال في الأثناء، فالوجه فيه ما سبق بيانه آنفاً، من انتفاء الغرض المعاملي حينئذٍ و خروجها عن التجارة عن

تراضٍ؛ لعدم رضاية المالك باستمرار هذه المعاملة حينئذٍ، بل لانتفاء حقيقة المضاربة و روحها الذي هو عمل العامل.

و أمّا بطلانها بالنسبة إلي البعض إذا عجز عنه خاصّةً فقد سبق آنفاً بيان وجهه، فلا نعيد. و لا فرق في ذلك بين عدم القدرة من أوّل الأمر و بين طروّ العجز في الأثناء.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 41

و في رأس المال أن يكون عيناً (1)، فلا تصحّ بالمنفعة و لا بالدين؛ سواء كان علي العامل أو غيره إلّا بعد قبضه.

______________________________

اشتراط كون رأس المال عيناً
اشارة

(1) 1- استُدلّ لذلك بامور:

الأوّل: تسالم الفقهاء و اتّفاقهم علي اشتراط كون مال المضاربة عيناً.

قال في المسالك: «اشتراط ذلك موضع وفاق، نقله في التذكرة، و هو العمدة» «1». و نظيره ما قال في الروضة «2». و قد نفي الخلاف عن ذلك أيضاً في الحدائق «3».

و في الجواهر: «بلا خلاف أجده في شي ءٍ منه، بل الإجماع بقسميه» «4». و في الرياض بعد نقل الإجماع قال: «و هو الحجّة».

و في المسالك- بعد نقل بعض الوجوه المستدلّ بها في المقام- قال: «و لا يخفي أنّ إثبات الحكم بمثل هذه التعليلات بعيدٌ، و العمدة علي نقل الإجماع» «5».

و لا إشكال في عدم كون الإجماع المدّعي تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم في مثل المقام؛ نظراً إلي ما استدلّ به الأصحاب، من الأصل، و بعض ما ورد من النصوص الخاصّة كمعتبرة السكوني. و لكن لا يمكن غضّ النظر عن تسالم الفقهاء

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 355.

(2)- الروضة البهية 4: 219.

(3)- الحدائق الناضرة 21: 217.

(4)- جواهر الكلام 26: 356.

(5)- مسالك الأفهام 4: 355.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 42

______________________________

بعد عدم وجود مخالف في البين، فإنّ مثل هذا التسالم رصيدٌ وثيق في المسألة و يشكل

مخالفته، إلّا بدليل قطعي، و لا دليل في المقام علي الخلاف، بل ورد علي الوفاق.

مخالفة المضاربة للأصل

الثاني: ما استدلّ به في الرياض «1» و الجواهر «2»، من مخالفة المضاربة لأصالة تبعية الربح للمال و استحقاق العامل للُاجرة، و أنّه لا إطلاق في البين يعارض هذا الأصل سوي عمومات «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «3» و

«المؤمنون عند شروطهم» «4»

و هي لا تصلح لمعارضة الأصل المزبور؛ نظراً إلي انصرافها عن العقود الجائزة، كالمضاربة.

و أمّا الإطلاقات الواردة في خصوص باب المضاربة، فهي ناظرة إلي أحكام خاصّة، لا إلي شرائط صحّة المضاربة و جوازها؛ لكي يتمسّك بإطلاقها من هذه الجهة.

و أمّا الأصل المستدلّ به في المقام، فتقريب الاستدلال به علي المطلوب أنّ في مثل المضاربة و المزارعة و المساقاة- ممّا يكون فيه المقابلة بين العمل و الربح الحاصل في المستقبل- مقتضي القاعدة بطلان العقد؛ إذ حين إنشاء العقد لم يحصل شي ءٌ من العوضين- و هما الربح و العمل- و إنّما يحصل الربح بعد العمل، و هو تابع للمال؛ حيث إنّ الربح لمن له المال، و لا يستحقّ العامل إلّا الأجرة بإزاءِ عمله.

______________________________

(1)- رياض المسائل 9: 84- 85.

(2)- جواهر الكلام 26: 356.

(3)- المائدة (5): 1.

(4)- وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 43

______________________________

و ذلك لأنّ المال باقٍ علي ملك مالكه بعدُ، و لم يخرج عن ملك المالك بالمضاربة، كما هو المفروض. و إنّما يكون توكيله العامل في التجارة بالإذن و إباحة التصرّف مبنيّاً علي خصوصيات المضاربة.

و لا يقاس ذلك بالإجارة؛ لأنّ العين مستبطنةٌ و محتويةٌ للانتفاع بها و واجدةٌ لها، بخلاف الربح في المقام؛ حيث إنّه لم يوجد شي ءٌ منه ليكون قابلًا للانتفاع.

و عليه

فيكون تمليك حصّة من الربح للعامل حين إنشاء العقد خلاف مقتضي القاعدة. و مقتضي الأصل فساد مثل هذه المعاملة، و لا بدّ للخروج عنه من دليل شرعي. فالذي لا بدّ لإثباته من دليل، هو مشروعية المضاربة و صحّتها، لا فسادها؛ لأنّه ثابت بمقتضي الأصل.

انثلام الأصل المزبور بعموم تجارة عن تراضٍ

و قد تأمّل في الجواهر «1» في هذا الوجه- بعد نقله- بدعوي ضرورة كفاية إطلاق مثل قوله تعالي: «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ». في انثلام هذا الأصل.

و هذا الكلام منه متين جداً؛ حيث لا ريب في كون المضاربة في مفروض الكلام من مصاديق التجارة عن تراض، فلا إشكال في أصل مشروعيتها و صحّتها.

و عليه فصحّتها ثابتة بمقتضي الأصل. و لا يخفي أنّ صحّة العقد غير لزومه و لا يستلزم وجوب الوفاء الذي غير ثابت في العقود الجائزة. و عليه، فالذي لا بدّ من إثباته بدليل هو الفساد؛ لأنّ الصحّة و المشروعية ثابتة بمقتضي إطلاق هذه الآية، كما قال في الجواهر «2».

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 356.

(2)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 44

______________________________

النصّ الدالّ علي منع المضاربة بالدين

و لكن لا يخفي عليك تخصيص عموم «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» بما دلّ من النصوص- الواردة في المقام- علي عدم صحّة المضاربة بالدين، كمعتبرة السكوني الآتية. نعم، مع قطع النظر عن النصوص الخاصّة، يكفي عموم «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» في انثلام الأصل المزبور، لفرض رضا المالك بذلك و صدق عنوان التجارة حينئذٍ عرفاً بلا ريب.

الثالث: معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في رجل له علي رجل مال فيتقاضاه و لا يكون عنده، فيقول: هو عندك مضاربة، قال عليه السلام: «لا يصلح حتّي تقبضه منه» «1».

لا إشكال في دلالتها علي عدم جواز كون رأس المال ديناً، بل هي صريحة في المطلوب، كما قال في الحدائق «2». و أمّا المنفعة فهي أولي بالعدم؛ لعدم تحقّقٍ و حصولٍ لها حين إنشاء العقد بأيّ وجه؛ بخلاف الدين.

و أمّا سنداً فقد رواها المشايخ الثلاثة بطرقهم عن السكوني. و لا كلام في أحدٍ من

رجال سندها، إلّا النوفلي. و الأقوي اعتبار رواياته. و ذلك لوقوعه في أسناد روايات كثيرة متجاوزة عن ثمان مائة و ستّة و ستين بعناوين النوفلي و الحسين بن يزيد و الحسين بن يزيد النوفلي، و لما له من الاصول و الكتب الروائية، كما ذكره النجاشي و الشيخ.

و عليه فالرجل لمّا كان له من الاشتهار بهذه الدرجة، و لم يتعرّض أحدٌ

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 23، كتاب المضاربة، الباب 5، الحديث 1.

(2)- الحدائق الناضرة 1: 218.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 45

و أن يكون درهماً و ديناراً (1)، فلا تصحّ بالذهب و الفِضّة غير المسكوكين و السبائك و العروض. نعم جوازها بمثل الأوراق النقدية و نحوها من الأثمان- غير الذهب و الفضّة- لا يخلو من قوّة، و كذا في الفلوس السود.

______________________________

لقدحه، يستكشف منه وثاقته، و لا أقلّ من اعتبار رواياته؛ حيث إنّه بهذه المعروفية و الاشتهار لو كان فيه قدح- من فسق أو ضعف- لظهر و بان، كما تعرّض قوم من القميّين لغلوّه في آخر عمره، و أنكره النجاشي.

هذا مضافاً إلي وقوعه في طريق كامل الزيارات و تفسير القمي، فيدخل بذلك في التوثيق العامّ الصادر من جعفر بن قولويه و علي بن إبراهيم لرجال كتابهما.

و إنّ التوثيق العامّ منهما، و إن لا يصلح لإثبات وثاقة آحاد رجال روايات كتابهما، إلّا أنّه يصلح لتأييد الوجه المزبور، و لمزيد الوثوق النوعي بوثاقة الرجل و اعتبار رواياته.

اعتبار كون رأس المال من النقود الرائجة
اشارة

(1) 1- عمدة الوجه في كون مال القراض درهماً و ديناراً هو الإجماع، كما قال في المسالك «1». و قد ادّعي الإجماع في المقام جماعة من الفقهاء، منهم العلّامة في التذكرة «2»، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد «3»، و الشهيد في الروضة،

و الكاشاني في المفاتيح.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 355.

(2)- تذكرة الفقهاء 2: 230.

(3)- جامع المقاصد 8: 66.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 46

______________________________

و نسب الخلاف إلي الأردبيلي و الكاشاني؛ مؤيّداً بخلوّ المقنعة و المراسم و النهاية و الكافي عن ذكر هذا الشرط، كما قال في مفتاح الكرامة «1». و من هنا يشكل إحراز الإجماع في المقام.

هذا، مع عدم التعبير بلفظ الإجماع في التذكرة، بل الموجود فيه نسبة ذلك إلي علمائنا، مع جريان عادته علي التعبير بلفظ الإجماع و نفي الخلاف و الاتّفاق في غالب الفروع الإجماعية. و إنّما استظهر منه الإجماع في المسالك. و عليه فلم تثبت نسبة دعوي الإجماع إلي التذكرة.

تحقيق في كلام أوّل من نسب إليه الإجماع

هذا، مضافاً إلي أنّ أوّل من نسب إليه دعوي الإجماع في المقام هو القاضي ابن البرّاج في جواهر الفقه «2»، و هو لم يدّع الإجماع علي بطلان المضاربة بغير الدراهم و الدنانير، و إنّما ادّعاه علي صحّتها بهما، و لا ملازمة بين الدعويين كما هو واضح؛ حيث يظهر منه اختصاص عدم الخلاف بصحّة المضاربة بالدرهم و الدينار.

فإنّه قال: «المضاربة لا تكون إلّا بالأثمان التي هي الدنانير و الدراهم» ثمّ قال: «و إنّما قلنا هذا؛ لأنّه لا خلاف في أنّ ما ذكرناه مضاربة صحيحة، و ليس كذلك ما يخالفه» «3».

مقصوده من قوله «ما ذكرناه» هو المضاربة بالدراهم و الدنانير. و ظاهره أنّ الإجماع إنّما قام علي صحّة المضاربة بالدراهم و الدنانير، و لا إجماع في البين علي صحّتها بغيرهما. و لمّا كانت المضاربة علي خلاف الأصل و بحاجة إلي الدليل، و لا

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 439.

(2)- جواهر الفقه: 124.

(3)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 47

______________________________

دليل في المقام غير الإجماع المتحقّق في خصوص المضاربة

بالدرهم و الدينار، و لم يتحقّق في المضاربة بغيرهما، فمن هنا يحكم ببطلان المضاربة بغيرهما.

و يرد عليه أنّه مبنيّ علي عدم وجود إطلاق لفظي في المقام. و هذا المبني غير صحيح؛ نظراً إلي كفاية إطلاقات نصوص المضاربة لإثبات مشروعيتها و صحّتها بمطلق الأثمان، بل هي ظاهرة في ذلك حسب الفهم العرفي، كما يأتي بيانه.

و علي أيّ حال فالذي يفهم من كلام ابن البرّاج عدم حصول الإجماع علي صحّة المضاربة بغير الدرهم و الدينار، لا الإجماع علي بطلانها بغيرهما. و الفرق بين المعقدين واضح.

هذا مضافاً إلي ظهور قوله: «إلّا بالأثمان» في ذكر الدراهم و الدنانير بعنوان أنّهما من مصاديق الأثمان، من دون موضوعية لخصوصهما. و كذا في الروضة و المفاتيح، فإنّهما ادّعيا الإجماع علي صحّة المضاربة بالدراهم و الدنانير، لا علي بطلانها بغيرهما.

و علي أيّ حالٍ فمن تحقّق له الإجماع التعبّدي الكاشف عن رأي المعصوم عليه السلام بمثل هذه التعابير، مع ما في المقام من المخالفة، فعليه الإفتاء باشتراط ذلك. و دون إثبات ذلك خرط القتاد.

كلام صاحب الحدائق حول الإجماع

و من هنا مال صاحب الحدائق إلي عدم اعتبار هذا الشرط، مع ما له من الاحتياط و شدّة العناية بالأخبار و الإجماعات. فإنّه قال: «و أمّا اشتراط كونه دراهم أو دنانير فقد اعترف جملة من الأصحاب بأنّهم لم يقفوا له علي دليل غير الإجماع المدّعي في المقام، و الظاهر أنّه كذلك، حيث إنّا لم نقف بعد

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 48

______________________________

الفحص و التتبّع علي دليل من النصوص علي ذلك» «1».

ثمّ قال: «و لا يخفي أنّ من لا يلتفت إلي دعوي مثل هذه الإجماعات؛ لعدم ثبوت كونها دليلًا شرعياً، فإنّه لا مانع عنده من الحكم بالجواز في غير النقدين؛ نظراً

إلي عموم الأدلّة الدالّة علي جوازه، و تخصيصها يحتاج إلي دليل شرعي، و ليس فليس» «2».

فتحصّل أنّ مقتضي التحقيق عدم اعتبار هذا الشرط. نعم، لا إشكال في اعتبار كون رأس المال من النقود و الأثمان المتمحّضة في المالية. و ذلك لانصراف أخبار المقام «3» إلي المضاربة بالنقود و ظهورها في ذلك؛ حيث ذكر فيها الربح و الخسران، و هذا لا معني له بالنسبة إلي غير النقود، و لا سيّما بلحاظ ما فرض في هذه النصوص من الإنفاق بمال القراض للتجارة و شراء المتاع به؛ لظهور ذلك في كونه من النقود و الأثمان؛ نظراً إلي رواج إنفاقها للتجارات و المكاسب و شراء الأمتعة و السلع به، و عدم رواج التجارة و البيع و الشراء بالأمتعة و العروض من لدن عصر المعصومين عليهم السلام إلي عصرنا هذا، بل لا قابلية لها للتجارة و شراء الأمتعة و السلع بها. و من هنا يكون إعطاء الموضوعية و المدخلية لخصوص الدراهم و الدنانير في مشروعية المضاربة خلاف ما هو المتعارف و ما عليه الارتكاز بين العقلاء في باب المضاربة. و أمّا ذكر الدراهم و الدنانير في بعض هذه النصوص، فإنّما هو لأجل كونها نقداً رائجاً في تلك العصور.

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 218.

(2)- نفس المصدر: 219.

(3)- وسائل الشيعة 19: 16 و 18 و 20 و 22، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 2 و 9 و الباب 2، الحديث 4 و الباب 3، الحديث 6.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 49

______________________________

استظهار ذلك من كلمات الفقهاء

هذا، مضافاً إلي ما يظهر من كلمات الفقهاء- من القدماء و المتأخّرين- من أنّ الذي له الموضوعية في هذا الشرط إنّما هو كون المال المضارب به من النقود و الأثمان. و

لمّا كان مصداقها منحصراً في الدرهم و الدينار في تلك الأزمنة، اكتفوا بذكرهما، من دون أن يكون لهما خصوصية و موضوعية. و من هنا ذكروا الأثمان و النقود أوّلًا من الشروط، ثمّ فسّروها بالدرهم و الدينار. كما عرفته من كلام القاضي في جواهر الفقه. و نظيره ما جاءَ في فقه الراوندي و النافع و التبصرة و اللمعة و الروضة و الكفاية. و قد فهم صاحب مفتاح الكرامة من كلامهم صحّة المضاربة بمطلق الأثمان كما تصحّ بالدرهم و الدينار؛ حيث قال: «و أطلق في فقه الراوندي و النافع و اللمعة و التبصرة و الروضة و الكفاية اشتراط كون رأس المال دراهم أو دنانير أو أثماناً» «1». فإنّ ظاهر العطف بأو في قوله: «أو أثماناً» صحّة المضاربة بمطلق الأثمان أيضاً، كما تصحّ بالدراهم و الدنانير.

و قد قسّم ابن حمزة في الوسيلة، المضاربة إلي صحيح و فاسد، ثمّ قال:

«فالصحيح: ما اجتمع فيه شروط ثلاثة: العقد علي الأثمان من الدنانير و الدراهم» «2»، بل جعل موضوع هذا الاشتراط في القواعد النقود بقوله: «أن يكون- رأس المال- نقداً فلا يصحّ بالعروض».

و من هنا صرّح في جامع المقاصد في شرحه بصحّة المضاربة بالدراهم المغشوشة إذا كانت رائجة، رغماً لما صرّح به العلّامة من عدم صحّة المضاربة بها؛ حيث قال: «فإن عُلم صرفها و جرت في المعاملة، جازت المضاربة عليها؛ سواءٌ

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 440.

(2)- الوسيلة: 264.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 50

و أن يكون معيّناً (1)، فلا تصحّ بالمبهم، كأن يقول: قارضتُك بأحد هذين أو بأيّهما شئت.

______________________________

كان الغشّ أقلّ أو أكثر» «1». و كذا غيره من الجوامع و المتون الفقهية، كما هو واضح لمن تتبّع فيها.

و أضف إلي ذلك كلّه أنّه

لو لم تكن المضاربة بغير الدراهم و الدنانير مشروعة، للزم من ذلك اختصاص مشروعية المضاربة بالعصور السابقة، التي هي عهد الدراهم و الدنانير، و عدم مشروعيتها في زماننا هذا و ما بعده؛ نظراً إلي عدم وجود خارجي للدراهم و الدنانير- المعهودة في النصوص و الفتاوي- في هذه الأعصار.

و هذا محذورٌ غير قابل للالتزام، و لا أظنّ أحداً من الفقهاء الفحول أن يلتزم بذلك.

و بهذا البيان اتّضح وجه قوّة صحّة المضاربة بمطلق النقود الرائجة، من الأوراق النقدية و غيرها، حتّي الفلوس السود، كما قال السيد الماتن قدس سره.

اعتبار كون رأس المال معيّناً
اشارة

(1) 1- قد صرّح السيد الحكيم بقيام الإجماع علي ذلك. و لكن لم أر أحداً يدّعي الإجماع علي ذلك غيره، بل لم يتعرّض أكثر القدماء و المتأخّرين لهذا الفرع.

نعم، في الجواهر أنّه لم يُحك خلاف ذلك، لكنه علّل ذلك بالوجه الآتي، و بأنّ المضاربة علي خلاف الأصل. قال بعد التعليل الآتي: «لكونه خلاف الأصل، و من هنا لم يُحك خلاف في البطلان» «2». و ظاهره أنّ عدم حكاية الخلاف في هذا الفرع

______________________________

(1)- جامع المقاصد 8: 66.

(2)- جواهر الكلام 26: 359.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 51

______________________________

ليس من قبيل الإجماعات المدّعاة في سائر الفروع.

نعم، نقل في مفتاح الكرامة «1» الإجماع علي كون رأس المال معيّناً؛ لكن لا بهذا المعني، بل نقل ذلك في ذيل كلام العلّامة في القواعد، قال في القواعد: «الثاني أن يكون معيّناً فلا يصحّ علي دين في الذمّة» «2». و مقصوده من كونه معيّناً عدم كونه ديناً، و هو بمعني اشتراط كونه عيناً، كما سبق آنفاً و جاء في كلمات سائر الأصحاب. فلم يعن به نفي الإبهام و التردّد عن مال القراض و كونه مشاهداً بالإحضار

عند العامل و معلوم المقدار و الوصف، مع ارتفاع معظم الغرر بذلك، كما قال في الحدائق «3».

هذا مع أنّ مثل هذه الإجماعات التي استدلّ الفقهاء في مواردها بالاصول و القواعد و العمومات و الإطلاقات- كما عرفت في كلام صاحب الجواهر و غيره- يشكل الالتزام بكونه كاشفاً تعبّدياً عن رأي المعصوم عليه السلام؛ حيث لا يلائم ذلك مباني حجّية الإجماع و كاشفيته عن رأي المعصوم عليه السلام بعد استدلال أهله بالوجوه المختلفة.

عمدة ما وجّه به اشتراط التعيين و الإشكال عليه

و علي أيّ حالٍ، عمدة ما قيل في توجيه اشتراط ذلك هي: أنّ المبهم المردّد لا وجود له في الخارج حتّي ينعقد عليه العقد، كما في الجواهر «4».

و رُدّ ذلك بأنّ الفرد المردّد بعنوانه، و إن لا وجود له في الخارج؛ ضرورة

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 441.

(2)- نفس المصدر.

(3)- الحدائق الناضرة 21: 220.

(4)- جواهر الكلام 26: 359.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 52

______________________________

عدم وجودٍ للواحد لا بعينه في الخارج، إلّا أنّ للطبيعي الجامع- الذي هو عنوان أحدهما- وجود في الخارج منطبقاً علي كلّ واحدٍ منهما. و من هنا يقال: يعلم بنجاسة أحد الإنائين في الخارج. مع أنّ غير الموجود لا معني للعلم بنجاسته.

و هذا الإشكال متين لا غبار عليه. و من هنا لا مانع من تحقّق مفهوم المضاربة في مفروض الكلام.

و لا فرق في ذلك بينه و بين أن يقول المالك: قارضتك بحصّتي من هذا المال، من ثلث أو ربع أو نصف. فإنّ الثلث المشاع أيضاً مردّدٌ في مجموع المال، فكما أنّه لا يضرّ بصدق مفهوم المضاربة، كذلك المال المردّد.

هذا مضافاً إلي أنّ التردّد بينهما لا يمنع عن صدق المال و لا يضرّ بقابليته للاتّجار؛ لكي يخلّ بصدق مفهوم المضاربة، كما لا يضرّ ذلك بسائر

أركانها من العمل و تقسيم الربح بالنسبة المشاعة؛ نظراً إلي فرض قابليته للاتّجار به؛ لعدم توقّفها علي كون المال معيّناً.

هل يعتبر كون التعيين بيد العامل؟

نعم، قد يتوهّم اعتبار كون التعيين بيد العامل، بأن يكون مخيّراً في أخذ أيّهما؛ لزعم عدم تحقّق رأس المال حينئذٍ؛ حيث لا سلطة للعامل عليه فلم يتحقّق إعطاء المال من المالك؛ حيث إنّ عنوان رأس المال إنّما يصدق علي ما كان للعامل سلطةٌ عليه. و سلطة العامل إنّما تتحقّق بدفع المالك و إعطائه مال القراض إليه.

و لكن لا وجه لهذا التوهّم؛ حيث لا دليل علي اعتبار دفع مال القراض

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 53

______________________________

و إعطائه إلي العامل؛ لعدم دخل له في قوام المضاربة. فإنّ القابلية للاتّجار لا تتوقّف علي كونه بيد العامل، بل ربما يكون في يد المالك أقرب إلي الحفظ، و أبعد عن الضياع و الإهدار و غير ذلك من الجهات النافعة للمال و الاسترباح.

و أمّا صدق رأس المال فإنّما يتوقّف علي وقوع العقد و التزام المالك و العامل بالمضاربة. فإذا التفت أهل العرف إلي التزامهما بها و بجعل مال معيّن معلوم في البين للمضاربة و الاتّجار، يطلقون علي ذلك المال عنوان رأس المال مطلقاً، سواءٌ كان تعيينه بيد المالك أو بيد العامل.

و أمّا روايات المقام فلا يدلّ شي ءٌ منها علي اعتبار الدفع و الإعطاء في مال القراض أو في المضاربة كما قد يُتوهّم؛ لأنّ التعبير بمثل: «يدفع» و «يعطي» إنّما جاءَ في كلام الرواة السائلين، و لم يرد هذا التعبير في شي ءٍ من هذه النصوص في كلام الإمام عليه السلام، إلّا في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال في حديث:

«فإنّ العبّاس كان كثير المال، و كان يعطي الرجال يعملون

به مضاربة» «1»

، إلّا أنّ نظر الإمام عليه السلام في نقل ذلك إلي الاستشهاد به من جهة ضمان ما خالف فيه العامل، شرط صاحب المال، لا من جهة اعتبار الدفع و الإعطاء، كما هو معلوم لمن لاحظ صدر هذه الصحيحة.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 17، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 7.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 54

و أن يكون معلوماً قدراً و وصفاً (1).

______________________________

اعتبار كون رأس المال معلوماً قدراً و وصفاً
اشارة

(1) 1- هذا هو المشهور، كما قال في الحدائق «1»، و الجواهر؛ حيث إنّه رجّح ذلك، بعد فرض تعارض النصوص بفتوي المشهور «2». و خالفهم في المبسوط و جامع الشرائع و المختلف و اللمعة و مجمع البرهان. و أهمل عن ذكر هذا الشرط في المهذّب و الغنية و السرائر و غيرها، كما في المفتاح «3».

إشكال صاحب الجواهر

و علي أيّ حال عمدة ما استدلّ به لذلك هي الجهالة الموجبة للغرر المنهي عنه في المعاملات.

و أشكل عليه في الجواهر أوّلًا: بأنّ النهي عن الغرر إنّما هو ورد في البيع.

و ثانياً: بأنّه علي فرض ورود نهيٍ عنه شامل للمقام، لا يشمل المجهول الذي يؤول إلي العلم، و لو بعد وقوع العقد بالعدّ و نحوه؛ لعدم دليل علي البطلان بمثل هذه الجهالة.

و ثالثاً: بأنّه علي فرض شمول النهي عن الغرر لمطلق المجهول في باب المضاربة، يقع التعارض بينه و بين إطلاقات صحّة المضاربة؛ لكون النسبة بينهما من وجه، و يكون الترجيح حينئذٍ لما دلّ علي البطلان. و المرجّح فتوي المشهور.

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 221.

(2)- جواهر الكلام 26: 359.

(3)- مفتاح الكرامة 7: 445.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 55

______________________________

جواب السيد الحكيم و نقده

و أجاب عنه في المستمسك أوّلًا: بعدم ثبوت نصٍّ معتمد في النهي عن الغرر.

و ثانياً: بأنّه علي فرض وروده لا يمكن الأخذ بإطلاقه لكثرة التخصيص.

و ثالثاً: بأنّه علي فرض ثبوته و شموله للمقام و وقوع المعارضة المزبورة، لا تصلح فتوي المشهور للترجيح بها عند المعارضة. و إنّما المرجّح عند تعارض النصوص هو الشهرة الروائية، لا الفتوائية.

و الحقّ أنّ إشكالي الأوّل و الثالث واردان.

أمّا الإشكال الأوّل فوجه وروده أنّ هذه الرواية إنّما وردت بطريقين.

أحدهما:

ما رواه في دعائم الإسلام مرسلًا بقوله روينا عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السلام: «إنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله نهي عن بيع الغرر» «1».

ثانيهما:

ما رواه الصدوق في العيون بإسناده عن الرضا عن آبائه عن عليّ عليه السلام قال: «نهي رسول اللّٰه عن بيع المضطرّ و عن بيع الغرر» «2».

و سنده ضعيف؛ لوقوع سهل بن زياد و عدّة ممّن لم تثبت

وثاقتهم في طريقه.

و لكن يمكن الالتزام بانجبار ضعف سنده بعمل قدماء المشهور. فإنّ الظاهر منهم الحكم ببطلان أيّة معاملة غررية، بلا فرق بين أنواع المعاملات. و أمّا عدم حكمهم أحياناً بإخلال بعض ما قيل بكونه موجباً للغرر، فإنّما لأجل التشكيك في تحقّق موضوع الغرر.

هذا من جهة السند، و أمّا دلالة، فقد جاءَ لفظ الغرر في اللغة بمعنيين:

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2: 21.

(2)- وسائل الشيعة 17: 447، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 40، الحديث 3.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 56

______________________________

أحدهما: الخدعة، و منه الغرور و قاعدة «المغرور يرجع إلي من غرّه»، ثانيهما:

الخطر و التعريض إلي الهلكة.

و لكن في اصطلاح الفقهاء، علي ما يستفاد من كلماتهم و تعابيرهم الواردة في تفسير هذا الحديث، يراد به الجهالة الموجبة للضرر في المعاملة في حدٍّ تجعل الإقدام بالمعاملة غررياً سفهياً، و هو معرض عنها عند العقلاء، لا مطلق الجهالة، كما هو واضح.

و من هنا لا يشمل المجهول الذي يؤول إلي العلم عن قريب، كما في المضاربة؛ حيث يرتفع الجهل و التردّد للعامل عادةً قبل اشتغاله بالتجارة؛ نظراً إلي أنّ العقلاء لا يعتنون بجهالة الثمن أو المثمن قبل الاشتغال بالمعاملة عملًا، كما هو واضح.

و عليه فعمدة المانع من التمسّك بحديث الغرر في المقام عدم تحقّق مصداق الغرر المنهي عنه في المقام، كما أشار إليه في الجواهر.

هذا مع ما في تحقّق الشهرة القدمائية في خصوص المقام من الإشكال، بعد مخالفة بعضهم و إهمال آخرين منهم عن هذا الشرط، كما أشرنا إليه.

أمّا المعارضة بين الطائفتين، فيشكل تصويرها؛ نظراً إلي أخصّية نصوص المضاربة، و عدم تحقّق الغرر المنهي عنه في مفروض الكلام.

و أمّا الإشكال الثاني فليس بوارد. و ذلك لأنّ لزوم كثرة التخصيص

غير معلوم؛ نظراً إلي قلّة وقوع الجهالة الموجبة للغرر و الضرر و السفاهة في المعاملات؛ لأنّ ذلك خلاف الغرض المعاملي المبني عليه إقدام العقلاء علي المبادلات و المعاملات، بل الأمر بالعكس، كما هو مقتضي الغرض المعاملي. مع أنّ كلّ من التزم ببطلان البيع الغرري من الفقهاء، لم يُعلم عدم التزامه بذلك في سائر

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 57

______________________________

المعاوضات المبنيّة علي أساس الغرض المعاملي، و هو الاسترباح؛ نظراً إلي منافاة الغرر و السفاهة لهذا الغرض.

الاستدلال بقصور الإطلاقات و نقده

و قد استدلّ السيد الحكيم بقصور الإطلاقات عن إثبات صحّة العقد في مطلق الجهالة الموجبة للغرر، و أنّ المرجع هو الأصل المقتضي للبطلان؛ حيث إنّه بعد ردّ استدلال صاحب الجواهر قال: «و لو أنّه استدلّ علي بطلان المضاربة بقصور الإطلاق عن إثبات الصحّة، فالمرجع الأصل المقتضي للبطلان، كان متيناً» «1».

و فيه: أنّ إطلاقات الصحّة لو كان المراد منها إطلاقات حلّية البيع و التجارة عن تراض، لا نسلّم قصورها عن الشمول لفرض المقام؛ لأنّها في مقام تشريع حلّية مطلق البيوع و المعاملات، و لا سيّما «التجارة عن تراض» كيف و هي المرجع في سائر موارد الشكّ في صحّة العقود و المعاملات لاحتمال الإخلال بقيد معتبر فيه شرعاً، و المقام مثل تلك الموارد بلا ريب.

و لو كان المراد إطلاقات نصوص المضاربة، فالأمر كما ذكرنا؛ حيث لا وجه لدعوي انصرافها عن مفروض الكلام بعد ما لم تكن المعاملة سفهيةً، كما هو كذلك.

و ذلك لأنّ المال من أيّ جنس و بأيّ مقدار كان، يوزّع الربح الحاصل من عمل العامل بالمآل علي المالك و العامل بالنسبة.

مقتضي التحقيق في المقام

فالتحقيق عدم اعتبار معلومية قدر المال المضارب به و لا جنسه و وصفه، كما عليه جماعة من الفقهاء الفحول، و ذلك:

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 247.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 58

______________________________

أوّلًا: لعدم دليل علي اعتبار تعيين مال القراض، و لا علي عدم صحّة المضاربة بالمال المردّد؛ نظراً إلي ضعف الاستدلال بعدم وجودٍ للمبهم المردّد، و إلي صدق المال عليه عرفاً. فلا وجه لدعوي انصراف نصوص المقام عن المضاربة بالمال المردّد أو بالحصّة المردّدة منه. و إلي ضعف حديث النهي عن الغرر سنداً و دلالة.

و ثانياً: لإطلاق نصوص المقام، بعد منع انصرافها عن المال

المردّد.

و ثالثاً: لإطلاق «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» و عدم قصوره. و بهذا الإطلاق المقتضي لصحّة المضاربة، منعنا التمسّك بأصل تبعيّة الربح للمال لتأسيس أصل الفساد في المضاربة، كما سبق من صاحب الرياض. و قد سبق من صاحب الجواهر، كفاية هذا الإطلاق لمنع الأصل المزبور و تأسيس أصل المشروعية و الجواز في المضاربة.

و إن كان في ترتّب أحكامها الخاصّة بذلك نظرٌ.

نعم، يعتبر كون المال قابلًا للمضاربة به، بأن كان بحيث يتمكّن العامل من التجارة به، و أن يكون من النقود المتمحّضة في المالية، كما قلنا، و أمّا اعتبار التعيين و معلومية الجنس و الوصف و المقدار، فلا دليل علي شي ءٍ منه ظاهراً. و إن كان هو الأحوط استحباباً؛ رعايةً لما عليه المشهور. و ليست هذه الشهرة في حدٍّ من الكثرة توجب الاحتياط الوجوبي؛ نظراً إلي كثرة المخالف من فحول الفقهاء من بين القدماء و المتأخرين.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 59

و في الربح أن يكون معلوماً (1)، فلو قال: «إنّ لك مثل ما شرط فلان لعامله» و لم يعلماه بطلت.

______________________________

شرائط الربح
منها: كونه معيّناً معلوماً
اشارة

(1) 1- لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط معلومية الربح و تعيينه في صحّة المضاربة في الجملة؛ و لو بما هو مقرّر عند العرف إجمالًا. بل بين المسلمين، كما هو ظاهر التذكرة. و قد أرسله فقهاؤنا إرسال المسلّمات، و لم يخالف فيه أحدٌ. فلا يجوز مخالفة مثل هذا الاتّفاق و الإجماع قطعاً.

و أيضاً وجّه ذلك بأنّ المبهم لا قابلية له للتمليك و التملّك؛ حيث لا وجود له.

و هذا الوجه قد عرفت ما فيه من الإشكال آنفاً.

عمدة وجه تعيين الربح

و علي أيّ حال لا ريب في انصراف نصوص المقام إلي الربح المعيّن المعلوم عند العامل و المالك. و أظنّ كون هذا عمدة وجه اشتراط معلومية مقدار الربح. و ذلك

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 60

______________________________

لأنّ الغرض الأصلي الذي هو روح المضاربة وداعي المالك إلي رفع اليد عن ماله و العامل إلي صرف قدرته و وقته في ضرب المال للتجارة، هو الاسترباح. و العقلاءُ لا يقدمون علي مثل هذه المعاملة، إلّا بعد معلومية ما يعود إليهم من المنفعة و الربح، و إلّا يرون إقدامهم بذلك سفهياً و في معرض الغرر و الضرر و موجباً لإهدار المال و العمل.

و هذا هو الوجه الأساسي في الانصراف، هذا مع أنّ جواز الإقدام بما يوجب هذه المحاذير غير معلومٍ شرعاً، لو لم يكن عدمه معلوماً.

نقد كلام السيد الخوئي قدس سره

فتحصّل أنّ الربح لا بدّ أن يكون معيّناً معلوماً للمالك و العامل بما لكلّ واحد منهما. و لا يكفي معلوميته في نفسه، من غير أن يعلماه، كما يظهر من بعض الأعلام «1»؛ نظراً إلي عدم ارتفاع المحاذير المذكورة بذلك.

اللّهم إلّا أن يكون سهم كلٍّ من العامل و المالك معلوماً بين أهل العرف، فيقول المالك: «و إنّ لك من الربح مثل ما للعامل عند أهل العرف». فيمكن الحكم حينئذٍ بصحّة مثل هذه المضاربة، و لو لم يعلم العامل ذلك المقدار المعيّن عند أهل العرف.

و ذلك لخروج المضاربة بذلك عن كونها سفهيةً. فلو كان مراد هذا العَلَم هذه الصورة لا إشكال عليه، و لكنّه خلاف ظاهر ما جاءَ في كلامه، من كفاية كون الربح معيّناً في الواقع، و لو لم يعلماه المالك و العامل بأيّ وجه. هذا مع الإشكال في تصوير الجمع بين كونه معيّناً واقعاً

و بين كونه مجهولًا عندهما.

______________________________

(1)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 16.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 61

و أن يكون مشاعاً مقدّراً بأحد الكسور (1) كالنصف أو الثلث، فلو قال: عليٰ أنّ لك من الربح مائة و الباقي لي، أو بالعكس، أو لك نصف الربح و عشرة دراهم مثلًا، لم تصحّ.

______________________________

الملاك الأصلي لاعتبار هذا الشرط

و علي أيّ حال ملاك اشتراط العلم بمقدار الربح خروج المضاربة به، عن كونها غررية سفهية، فيكفي العلم به في الجملة علي نحو يتحقّق هذا الملاك، كما في النحو المزبور.

و أمّا مجرّد تعيين مقدار الربح في علم المالك لا يدفع احتمال الغرر و السفه، بل لا بدّ من علم العامل بذلك.

و منها: أن يكون مشاعاً مقدّراً
اشارة

(1) 1- و وجّه ذلك أوّلًا: بعدم الخلاف و الإجماع، كما عن الحدائق و غيره.

و لكنّه ليس إجماعاً تعبّدياً؛ حيث علّله في الشرائع بعدم الوثوق من زيادة الربح عن القدر المعيّن بغير الإشاعة، و في الحدائق «1» بظهور الأخبار، كما سيأتي بيان ذلك في الوجهين اللاحقين، فليس إجماعاً كاشفاً عن رأي المعصوم تعبّداً.

و ثانياً: بظهور ما ورد في نصوص المقام- من كون الربح بينهما- في النصف أو الإشاعة بأحد الكسور، بل استظهر في الحدائق من هذه النصوص، كون ذلك مقتضي عقد المضاربة؛ حيث قال: «يشترط في الربح الشياع، بمعني أن يكون كلّ

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 230.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 62

______________________________

جزءٍ جزءٍ منه مشتركاً؛ لأنّه مقتضي المضاربة، كما تنادي به الأخبار المتقدّمة من حكمها، بأنّ الربح بينهما، يعني كلّ جزءٍ جزءٍ منه، و ما لم يكن مشتركاً فإنّه خارج عن مقتضاها، فهذا الشرط داخل في مفهوم المضاربة» «1».

و اشكل علي ذلك باحتمال إرادة أصل اشتراكهما في الربح، و هو أعمّ من الإشاعة؛ حيث يصدق عرفاً في غير صورة الإشاعة أيضاً أنّ الربح بينهما.

و هذا الاحتمال يكافئُ احتمال إرادة خصوص الإشاعة و يمنع ظهور نصوص المقام فيها. و أمّا كون ذلك مقتضي المضاربة و داخلًا في مفهومها، فرع استظهار هذا المعني من نصوص المقام، و قد عرفت ما فيه من المناقشة، و إلّا فمع

قطع النظر عن هذه النصوص لا وجه لدعوي ذلك.

و ثالثاً: بما عن المحقّق، من تعليل اشتراط شياع الربح في المضاربة بعدم الوثوق بزيادة الربح عن المقدار المعيّن منه لأحدهما. فلو لم يربح أكثر من ذلك، لا يصل إلي الآخر شي ءٌ من الربح، فيختصّ الربح بأحدهما حينئذٍ. قال في الشرائع:

«و لو شرط أحدهما شيئاً معيّناً و الباقي بينهما، فسد؛ لعدم الوثوق بحصول الزيادة، فلا تتحقّق الشركة» «2».

و أشكل عليه في المسالك بقوله: «عدم الوثوق بالزيادة لا يصلح دليلًا علي الفساد بانفراده، كما في عدم الوثوق بأصل الربح، و إنّما وجه الفساد اقتضاء عقد المضاربة الاشتراك في جميع الربح، كما تقدّم، و لقول الصادق عليه السلام في صحيحة أبي بصير:

«الربح بينهما»

، و مثله رواية إسحاق بن عمّار عن الكاظم عليه السلام، و هنا الربح ليس بينهما و إن وثق بالزيادة، بل بعضه علي تقدير الزيادة و جميعه علي تقدير

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 230.

(2)- شرائع الإسلام 2: 113.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 63

______________________________

عدمها لمن شرط له. فعلي هذا يفسد العقد، و إن وثق بالزيادة» «1».

و لا يخفي أنّ إشكاله علي صاحب الشرائع وارد. و ذلك لأنّ مجرد احتمال حدوث ما تنتفي به الشركة من العوائق و الموانع الخارجة عن اختيارهما، لا يوجب الإخلال بركن عقد المضاربة حين إنشائه، بعد بناء الطرفين علي الشركة في الربح المبتنية علي الزيادة عن المقدار المعيّن، و إلّا لم يقدما علي صرف المال و العمل لذلك. كما يأتي عين هذا الكلام في احتمال عدم حصول الربح رأساً.

و السرّ في عدم الإخلال أنّ قوام عقد المضاربة و ملاك صحّته هو التزام المالك و العامل بأصل الشركة في الربح، سواءٌ كان علي نحو الإشاعة

أو غيرها، و لا دخل للعلم بحصول الربح و لا بوقوع الشركة في الخارج في ذلك.

نقد كلام الشهيد

و أمّا التوجيه الذي ذكره صاحب المسالك نفسه، فهو مبنيٌّ علي اعتبار الشركة الإشاعية، بأن يشترك المالك و العامل في جميع أجزاء الربح. و هذا يشكل استفادته من النصوص المقام، كما سيأتي في بيان مقتضي التحقيق.

مقتضي التحقيق

مقتضي التحقيق في المقام جواز الاشتراك في الربح علي وجه غير الإشاعة، كأن يقول المالك: «علي أن يكون خمسمائة من الربح لي و الباقي لك» أو يقول عكس ذلك.

و الوجه في ذلك أوّلًا: عدم ظهور نصوص المقام في خصوص الإشاعة.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 365- 366.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 64

______________________________

و ذلك لأنّ قوله عليه السلام

: «الربح بينهما» «1»

يصدق عرفاً علي اشتراك الربح بينهما مطلقاً، سواءٌ كان بنحو الحصّة المشاعة أو بتعيين المقدار. و دعوي ظهوره في خصوص الإشاعة، لا شاهد لها عرفاً و لا شرعاً. و أنّ استظهار الإشاعة من النصوص متوقّف علي الفهم العرفي. و قد عرفت أنّ التعبير المزبور، لا يفهم منه ذلك عرفاً.

وجه عدم نظر النصوص إلي الإشاعة

و ممّا يشهد لذلك قوله عليه السلام:

«و الوضيعة علي المال»

بعد قوله:

«الربح بينهما»

في موثّق إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن مال المضاربة؟ قال:

«الربح بينهما، و الوضيعة علي المال» «2»

. و قوله عليه السلام

: «ليس عليه من الوضيعة شي ءٌ»

بعد حكمه بأنّ للعامل الربح في نصوص اخري «3». و ذلك لأنّ تضمين المالك الوضيعة و الغُرم، يوهم كون الربح له أيضاً؛ لقاعدة «من عليه الغرم فله الغنم»، هذا مضافاً إلي قاعدة تبعيّة الربح للمال. فقوله عليه السلام

: «و الربح بينهما»

إنّما هو لدفع هذا الوهم و بصدد نفي توهم اختصاص الربح كلّه بالمالك؛ رغماً لما تقتضيه هاتان القاعدتان.

و قد يتوهّم أنّ الاشتراك في الربح علي نحو غير الإشاعة راجع إلي الإجارة أو الجعالة؛ لزعم أنّ تعيين سهم العامل بالعدد مساوق لتعيين الاجرة أو الجُعل.

و فيه أوّلًا: أنّ العامل لا يستحقّ ذلك المقدار المعيّن من الربح لو فسخ المالك قبل ظهور الربح، بل إنّما يستحقّ اجرة المثل حينئذٍ.

و الحال أنّه لو كان راجعاً إلي

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 15، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 1 و 2 و 5 و 10 و 11.

(2)- وسائل الشيعة 19: 22، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 5.

(3)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 3 و 4 و 7.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 65

______________________________

الإجارة يستحقّ ذلك المقدار المعيّن كلّه حينئذٍ؛ لفرض كونه اجرة. و لم يقل به أحدٌ. فيستلزم ذلك ما لم يلتزم به أحدٌ، و هذا كاشف عن عدم كونه إجارة.

و أمّا الجعالة فأجنبيةٌ عن المقام؛ لعدم تعيين الشخص المجعول له فيها بخلاف المضاربة.

و ثانياً: إنّ رجوع الاشتراك بغير الإشاعة إلي الإجارة أو الجعالة خلاف ما هو متفاهم أهل العرف. فإنّ قول المالك «علي أن يكون خمسمائة درهم من الربح لي و الباقي منه لك» منصرف عرفاً عن الإجارة و الجعالة، فإنّ لكلّ واحد منهما صيغة تخصّه، و المتفاهم العرفي من صيغة كلّ واحد منها غير ما هو المتفاهم عرفاً من الآخر.

الاستشهاد بالنصوص

و يشهد لذلك أيضاً

ما ورد في صحيح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السلام: في الرجل يعمل بالمال مضاربةً، قال عليه السلام: «له الربح» «1»

. و قوله عليه السلام

: «المال الذي يعمل به مضاربةً، له من الربح»

في صحيح الحلبي «2». فإنّ قوله عليه السلام

«له من الربح»

يصدق بوضوح علي مطلق الاشتراك في الربح و لو بغير نحو الإشاعة؛ حيث إنّه بإعطاء مقدار معيّن من الربح إلي العامل لا يشكّ أهل العرف في صدق هذا التعبير، فيقولون حينئذٍ: إنّ له من الربح، بلا تأمّل و ريب. و أمّا كون حظّه من الربح معادلًا لعمله و بمقتضي العدل و الإنصاف و عدم كونه سفهياً،

فهو مطلب آخر لا ربط له بالإشاعة و التعيين، كما لا يخفي.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 3.

(2)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 4 و 7.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 66

______________________________

حاصل الكلام

و حاصل الكلام: أنّ الإمام عليه السلام في نصوص المقام بصدد بيان ما له دخلٌ في مشروعية المضاربة، و في هذا المقام اكتفي بتعبير مطلق شامل للشركة الإشاعية و غيرها، و لا سيّما قوله عليه السلام:

«له من الربح»

و

«له الربح»

. فلو كان للإشاعة دخلٌ في صحّة المضاربة لكان عليه البيان، و إلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

و دعوي ظهور قوله عليه السلام:

«الربح بينهما»

في خصوص الإشاعة خلاف ما هو المتفاهم منه عرفاً. و أمّا دعوي عدم كونه عليه السلام في قوله:

«له من الربح»

بصدد تحديد كيفية الشركة، غير وجيهة؛ لما قلنا من أنّه عليه السلام بصدد بيان ما له دخل في صحّة المضاربة من الشرائط و الخصوصيات.

و قد يقال: إنّ الذي يقتضيه العدل و الإنصاف و عليه الارتكاز في المضاربة أن يكون الربح العائد إلي كلّ واحدٍ من المالك و العامل بقدر ما يكون له من المال أو العمل. و عليه فالذي يقتضيه روح المضاربة كون الشركة في الربح علي حسب ما يكون للمالك و العامل من المال و العمل. و هذا يقتضي الإشاعة بالتنصيف.

و فيه: أنّ فعل كلّ من المال و العمل في توليد الربح يتفاوت بحسب اختلاف مقدار الأموال و قوّة الأشخاص في التدبير الاقتصادي و فنون التجارة. و عليه فلا يقتضي الإنصاف، التنصيف في جميع الموارد. هذا مع أنّ قول المالك «علي أن يكون خمسمائة درهم لي و الباقي لك» في قوّة الاشتراط المحكّم

علي الارتكاز و الإنصاف.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 67

______________________________

الاستشهاد بالنصّ الخاصّ

و ممّا يشهد لمشروعية التعيين بالاشتراط، صحيح

الكاهلي عن أبي الحسن موسي عليه السلام: في رجل دفع إلي رجل مالًا مضاربة فجعل له شيئاً من الربح مسمّي فابتاع المضارب متاعاً، فوضع فيه، قال: «علي المضارب من الوضيعة بقدر ما جعل له من الربح» «1»

. فإنّه يدلّ علي المطلوب بالخصوص.

و ذلك لأنّ قوله:

«شيئاً من الربح مسمّي»

أعمُّ من الإشاعة و التعيين، لو لم يكن ظاهراً في التعيين.

فإنّ تعرُّض الإمام عليه السلام في الجواب لبيان مقدار ما علي العامل المضارب من الوضيعة، ظاهرٌ في المفروغية عن صحّة المضاربة من جهة ما جاء في كلام السائل من جعل شي ء مسمّي من الربح للعامل.

و أمّا عدم التزام أحد بمفاد ما جاءَ في ذيل هذه الرواية فلا يضرّ بالاستدلال بصدرها؛ نظراً إلي ما ثبت في محلّه، من عدم مانعية تبعّض فقرات حديث واحد من الحجّية، كما هو الحقّ.

هذا مع إمكان حمله علي كون العامل شريكاً مع المالك في رأس المال أو علي التفريط، كما نقل في الوسائل «2» عن شيخ الطائفة.

و علي أيّ حال لا إشكال في تمامية دلالة صدر هذه الصحيحة علي المطلوب، و لو بالإطلاق.

و عليه فاعتبار خصوص الإشاعة بحاجة إلي دليل و لم يرد؛ لعدم دلالة

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 22، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 6.

(2)- وسائل الشيعة 19: 22، كتاب المضاربة، الباب 3، ذيل الحديث 6.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 68

______________________________

نصوص المقام علي اعتبارها. فالأقوي جواز الشركة علي نحو غير الإشاعة و إن كان الاحتياط في الشركة الإشاعية؛ رعاية لما تسالم عليه الفقهاء.

و لكن لا يخفي: أنّ الجواز ثابت فيما إذا جرت العادة علي حصول الربح زائداً

عن المقدار المعيّن. بأن كان حصوله موثوقاً به نوعاً. و إلّا يشكل القول بالجواز؛ نظراً إلي كون إنشاء عقد المضاربة حينئذٍ مبنيّاً علي خلاف مقتضي المضاربة من الشركة في الربح. و أمّا لو اتّفق عدم حصول الربح زائداً عن المقدار المعيّن، ينكشف بذلك فساد العقد؛ نظراً إلي الاختلال في ركن المضاربة فيستحقّ العامل حينئذٍ اجرة المثل.

نقد كلام صاحب الجواهر

و قد اتّضح بهذا البيان وجه المناقشة فيما قال في الجواهر بقوله: «لا لعدم الوثوق بحصول الزيادة فلا تتحقّق الشركة، بل لعدم ثبوت ما يدلّ علي الصحّة في الفرض؛ ضرورة اقتصار النصّ و الفتوي علي صحّة المشتمل علي اشتراك جميع الربح بينهما علي جهة الإشاعة بنحو النصف و الثلث و الربع و ما يؤدّي مؤدّاها، و منهما ينقدح الشكّ في تناول الإطلاقات له، هذا مع قطع النظر عن ظهور النصوص في البطلان، و لو لظهورها في اعتبار الشركة الإشاعية في جميع الربح، فضلًا عن صريح الفتاوي، فحينئذٍ يبطل القراض و إن وثق بالزيادة؛ لعدم اشتراك جميع الربح بينهما حينئذٍ، بعد اختصاص أحدهما بشي ءٍ معيّن منه، كما هو واضح» «1».

و ذلك أوّلًا: لما سبق منه قدس سره «2» من كفاية إطلاق «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» لانثلام

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 367.

(2)- جواهر الكلام 26: 356.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 69

و أن يكون بين المالك و العامل لا يشاركهما الغير (1)، فلو جعلا جزءاً منه لأجنبيّ بطلت إلّا أن يكون له عمل متعلّق بالتجارة.

______________________________

أصل الفساد في المقام، فلا تأتي قاعدة وجوب الاقتصار فيما خالف القاعدة علي موضع النصّ، كما يظهر من كلامه هذا.

و ثانياً: لمنع ظهور نصوص المضاربة في اعتبار الشركة الإشاعية في جميع الربح، بل هي ظاهرة في أصل الشركة الشامل

للإشاعة و غيرها، كما قلنا.

و منها: اشتراط عدم مشاركة الأجنبي في الربح

(1) 1- و الوجه في ذلك أوّلًا: مقتضي القاعدة. و ذلك لأنّ الربح تابع لرأس المال. فمن كان له المال يثبت له الربح علي القاعدة. و إنّما خرجنا عنها في عقد المضاربة بالنصوص الخاصّة الدالّة علي استحقاق العامل للربح. و أمّا الأجنبي، فحيث لا مال له و لا عمل، لا حظَّ له من الربح بمقتضي القاعدة الأوّلية.

و حاصل هذا الوجه: عدم خروج غير العامل عن مقتضي قاعدة تبعيّة الربح للمال و كون اشتراط مشاركة الغير في الربح خلاف القاعدة و خلاف مقتضي عقد المضاربة.

و ذلك لأنّ مقتضاه كون استحقاق الربح إمّا بملاك قاعدة تبعيّة الربح للمال كما في المالك، أو بملاك العمل كما في العامل بدلالة نصوص المضاربة. و ليس في الأجنبي شي ءٌ من الملاكين.

و عليه فإنشاءُ عقد المضاربة مبنيّاً علي خلاف مقتضاه باطلٌ؛ نظراً إلي عدم دليل علي مشروعيته.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 70

______________________________

إن قلت: إذا رضي المالك و العامل كلاهما بإعطاء حظٍّ من الربح إلي الأجنبي، فأيّ دليل علي عدم مشروعيته، بعد ما كان الإعطاء عن طيب نفسهما؟

مع شمول إطلاق تجارة عن تراض للمقام. غاية الأمر يدخل في عقد الوكالة المشترط فيه تنصيف الربح أو سهم منه للعامل. و ذلك لأنّ حقيقة المضاربة هي الوكالة، كما قالوا: «إنّ المضاربة وكالة حدوثاً و شركةٌ بقاءً».

قلت: لا مانع لهما من إعطاء مقدار من الربح إلي الأجنبي بعد حصوله هبةً أو سائر وجوه المجّانية. و أمّا بعنوان المضاربة فغير مشروع؛ لعدم دليل علي مشروعية المضاربة بهذا المعني، فليس سبباً شرعياً ناقلًا للملك، و لا سيّما قبل تحقّق الربح حين إنشاء العقد.

و أمّا عقد الوكالة المشترط فيها الربح، و إن كان

مشروعاً نافذاً كسائر العقود المشترط فيها ما لا يخالف مقتضي العقد و لا مقتضي الكتاب و السنّة كما نحن فيه، إلّا أنّها غير مقصودة للمالك؛ لفرض كون مقصوده المضاربة، فلا تقع وكالة مشروطة؛ لأنّ ما وقع لم يقصد و ما قصد لم يقع.

و ثانياً: دلالة نصوص المقام علي كون الربح بين المالك و العامل، و لمّا كانت في مقام تحديد من يستحقّ الربح تدلّ علي عدم استحقاق الأجنبي للربح بمفهوم التحديد، كما أنّ ذلك هو المتفاهم العرفي من التعبير المزبور الوارد في هذه النصوص. هذا مضافاً إلي عدم خلاف في ذلك بين الفقهاء.

نعم، لو كان للغير عمل متعلّق بالتجارة، لا إشكال في استحقاقه للربح؛ لأنّه أحد العاملين حينئذٍ. و لا يعتبر في المضاربة وحدة العامل، كما لا يخفي. و ما ورد من التعبير بأنّ الربح بينهما إنّما هو ناظرٌ إلي جنس العامل، من دون نظر له إلي اعتبار وحدة العامل، كما هو واضح حسب المتفاهم العرفي.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 71

(مسألة 2): يشترط أن يكون الاسترباح بالتجارة

اشارة

، فلو دفع إلي الزارع مالًا ليصرفه في الزراعة و يكون الحاصل بينهما، أو إلي الصانع ليصرفه في حرفته و يكون الفائدة بينهما، لم يصحّ و لم يقع مضاربة (1).

______________________________

اشتراط كون الاسترباح بالتجارة

(1) 1- قد وجّه اشتراط كون الاسترباح بالتجارة، بأنّه المتيقّن من مدلول نصوص المقام؛ لما جاءَ في نصوص المضاربة من التعبير بالتجارة و نحوها، كقول أمير المؤمنين عليه السلام

: «من اتّجر مالًا و اشترط نصف الربح، فليس عليه الضمان»

في صحيحة محمّد بن قيس «1».

و في صحيح أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقول للرجل:

أبتاع لك متاعاً و الربح بيني و بينك، قال: «لا بأس» «2»

. و

غير ذلك من نصوص المقام.

و لمّا كان مقتضي القاعدة- كما سبق- عدم استحقاق العامل للربح و فساد عقد المضاربة، و لا بدّ في مخالفة القاعدة من الاقتصار علي المتيقّن من مدلول

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 21، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 2.

(2)- وسائل الشيعة 19: 20، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 1.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 72

______________________________

النصّ- و هو الاسترباح بالتجارة؛ لأنّه المتيقّن من نصوص المضاربة- و يبقي غير المتيقّن تحت مقتضي القاعدة. و يثبت بذلك عدم مشروعية المضاربة بغير التجارة.

و قد عرفت أنّ عمدة ما يبتني عليها هذا الوجه، هي قاعدة تبعيّة الربح للمال المقتضية لأصالة فساد المضاربة، فينبغي هاهنا تحرير هذه القاعدة.

قاعدة تبعيّة الربح للمال
اشارة

مفاد هذه القاعدة أنّه إذا حصل ربح في أيّة معاملة من المعاملات، يكون تابعاً لمال التجارة في الملكية؛ بمعني أنّه كما كان مال التجارة ملكاً لمالكه، فكذلك يكون الربح الحاصل في التجارة بذلك المال ملكاً لمالك المال بمقتضي هذه القاعدة.

و أوّل من استدلّ بهذه القاعدة من فقهائنا الإمامية هو العلّامة الحلّي و قبله الشافعي من العامّة.

قال العلّامة «لو اختلفا في أصل القراض مثل أن يدفع إلي رجل مال يتّجر به فربح فقال المالك: إنّ المال الذي في يدك كان قراضاً و الربح بيننا، و قال: التاجر بل كان قرضاً عليَّ، ربحه كلّه لي، فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأنّه ملكه و الأصل تبعيّة الربح له. فمدّعي خلافه يفتقر إلي البيّنة» «1».

قال المحقّق الكركي في شرح قول العلّامة: «و لو ادّعي المالك القراض و العامل القرض فالقول قول المالك … ». يجب أن تُفرض المسألة فيما إذا عمل من بيده المال و حصل ربح؛ إذ لو كان الاختلاف قبل حصول الربح لكان

القول قول المالك بيمينه قطعاً؛ لأنّ الأصل بقاء الملك له و لا معارض هنا. و أمّا مع الربح،

______________________________

(1)- تذكرة الفقهاء 2: 246/ السطر 13.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 73

______________________________

ففيه قولان: أحدهما: أنّ القول قول المالك- اختاره المصنِّف هنا و في التذكرة- لأنّ المال ملكه و الأصل تبعيّة الربح له، فمدّعي خلافه يحتاج إلي البيّنة.

و الثاني … » «1».

و قد علّل أيضاً بهذه القاعدة الشهيد الثاني قدس سره في المسالك فيما إذا اختلفا في نصيب المالك، فقدّم قول المالك مع يمينه، و علّل ذلك بقوله: «و لأنّ الأصل، تبعيّة الربح للمال» «2».

و أيضاً نسب في الحدائق دعوي هذه القاعدة و الاستدلال بها إلي الشافعي في مخالفته لتساوي المالكين أو تفاضلهما حسب الاشتراط بقوله: «و نقل عن الشافعي المنع من التفاضل مع تساوي المالين و التساوي مع تفاضلهما؛ لأنّ الربح يكون تابعاً للمال» «3».

لا شهرة و لا رواية دالّة علي هذه القاعدة

و لكن لم يستند إليها قدماءُ الأصحاب؛ لكي تتحقّق فيها الشهرة الفتوائية، و لا ممّا تسالم عليه الفقهاء؛ لعدم تعرُّض القدماء لها. و لم تدلّ رواية- و لو ضعيفة- علي هذه القاعدة، مع إمكان دعوي أنّ الذي يساعده الاعتبار خلاف ذلك؛ حيث إنّ لكلٍّ من المال و العمل دخلًا في توليد الربح واقعاً. و من هنا جرت السيرة العقلائية علي استحقاق كلّ من العامل و المالك للربح في المضاربة.

و لا ينافي ذلك ما يكون لكلٍّ من المال و العمل، من القيمة الذاتية. فكما أنّ

______________________________

(1)- جامع المقاصد 8: 171.

(2)- مسالك الأفهام 4: 369.

(3)- الحدائق الناضرة 21: 267.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 74

______________________________

دخل المال في حصول الربح سببٌ لاستحقاق صاحب المال للربح الحاصل منه في نظر أهل العرف، كذلك دخل العمل في توليد

الربح موجب لاستحقاق العامل الربح الحاصل منه، بل يمكن دعوي أنّ العمل أكثر دخلًا في توليد الربح. و عليه فليس استحقاق العامل في الربح أمراً تعبّدياً ثابتاً بدلالة النصوص فقط، بل هو أمرٌ عقلائي رائج بينهم و ملائم لأغراضهم المعاملية.

إن قلت: بناءً علي ذلك لا بدّ عند فساد المعاملة من استحقاق العامل لسهمه من الربح أيضاً؛ لعدم كون فساد العقد مضرّاً بدخل عمله في توليد الربح بشي ءٍ.

و الحال أنّه يستحقّ اجرة المثل.

قلت: عدم استحقاق العامل للربح عند كشف فساد المضاربة قبل حصول الربح، إنّما هو لأجل خروجه بذلك عن الالتزام بأخذ الربح مكان القيمة الذاتية لعمله. و من هنا يرجع حينئذٍ إلي أصله؛ أي القيمة الذاتية. هذا، مع أنّه ينكشف بفساد العقد انتفاء التزامهما بلوازم العقد و آثاره من أوّل الأمر.

اللّهم إلّا أن يقال ببقاءِ التزام المالك و إذنه عند انكشاف فساد المضاربة بصورة الوكالة المشترط فيها الربح. و لكن أجبنا عن ذلك بأنّ المالك لم يقصد التوكيل، بل إنّما قصد عنوان المضاربة، فلو ترتّب أحكام الوكالة للزم وقوع ما لم يقصد، فحيث لم يقصد الوكالة فلم يصدر إذن بالوكالة و إنّما صدر منه الإذن بالمضاربة فقط.

هذا ما خطر ببالي و وصلت إليه في هذه القاعدة. و حاصل الكلام أنّه لا دليل عليها من إجماع أو نصّ.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 75

______________________________

السيرة العقلائية تخالف هذه القاعدة

و أمّا بناءُ العقلاء- و هو العمدة في مثل المقام-، فلا يمكن دعوي استقرارها علي هذه القاعدة، بل استقرّت سيرتهم علي دخل كلّ من المال و العمل في توليد الربح و استحقاق كلّ من المالك و العامل لما حصل من الربح علي وزان واحد، بل ربما يرون للعمل دخلًا أكثر في توليد

الربح و استحقاقه.

و عليه ففي صورة انكشاف فساد العقد بعد حصول الربح ليس عدم استحقاق العامل للربح لأجل هذه القاعدة، بل لأجل خروجه حينئذٍ عن الالتزام المعاملي، و إلّا فما دام لم يخرج عن التزامه المعاملي، لا نسلّم جريان القاعدة المزبورة.

بل الذي استقرّت عليه سيرة العقلاء حينئذٍ تبعية الربح لكلّ من المال و العمل، و كونهما علي حدّ سواء و وزان واحد في سببيّة استحقاق المالك و العامل للربح، لو لم يكن العمل عندهم أكثر دخلًا في استحقاق الربح، كما أشرنا إليه آنفاً.

و حاصل الكلام: أنّ السيرة العقلائية قد جرت علي استحقاق العامل لسهمه من ربح التجارة بإذن المالك و جعله حصّةً منه له بإزاء عمله. و لم يرد من الشارع ردع لهذه السيرة، بل أمضاها بما ورد منه من نصوص المضاربة.

نعم، لا يبعد دعوي استقرار سيرة العقلاء علي لحوق الربح كلّه بأصل المال عند انكشاف فساد العقد؛ نظراً إلي خروج العامل بذلك عن التزامه المعاملي- مع احتمال استحقاقه لربح المثل حينئذٍ في سيرتهم- و حينئذٍ يضمن المالك القيمة الذاتية لعمل العامل- أي أجرة المثل- لقاعدتي الاحترام و ضمان الإتلاف بالتسبيب.

و عليه فالذي ننكره هو عموم هذه القاعدة و كلّيتها ما دام عقد المضاربة باقياً صحيحاً.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 76

______________________________

و تظهر ثمرة ذلك في تأسيس أصالة فساد المضاربة. فبناءً علي ما أسّسناه و بنينا عليه، لا أساس لهذا الأصل؛ نظراً إلي عدم كلّية القاعدة المزبورة ما لم يحرز فساد العقد و لم يثبت خروج العامل عن التزامه المعاملي.

تحقيق في أصالة الفساد في المضاربة

و أمّا جريان أصالة الفساد في المضاربة فيمكن الإشكال عليه بوجهين:

أحدهما: أنّه لا إطلاق لفظي يدلّ علي أصالة فساد المضاربة؛ لكي يجب الاقتصار في مخالفته

علي المتيقّن من مدلول النصّ المقيِّد. و لا سيّما بعد إنكار قاعدة التبعية المعهودة ما لم يثبت فساد عقد المضاربة.

هذا مضافاً إلي أنّ إطلاق «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» محكّم في مثل المقام؛ نظراً إلي انثلام الأصل المزبور بإطلاق هذه الآية- كما قلنا سابقاً- إلّا أن يثبت الفساد بظهور نصوص المقام. و ليس أصل الاسترباح و لو بغير المضاربة ممّا يخالف روح المضاربة، كما هو واضح. نعم، لا بدّ من تعلّق القصد بعنوان المضاربة؛ لكي يترتّب أحكامها الخاصّة، و إلّا لم يقع؛ نظراً إلي إشكال ما وقع لم يقصد و ما قصد لم يقع.

ثانيهما: بأنّ الوارد في طائفة من نصوص المقام هو التعبير بالعمل، كما في صحيح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الرجل يعمل بالمال مضاربة» «1».

و في صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «المال الذي يعمل به مضاربةً، له من الربح، و ليس عليه من الوضيعة شي ءٌ، إلّا أن يخالف أمر صاحب المال» «2».

و إنّ العمل بالمال شامل للتجارة و غيرها من وجوه المكاسب من المزارعة

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 3.

(2)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 4.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 77

______________________________

و المساقاة و غير ذلك. و هذه الطائفة من النصوص تصلح للخروج بها عن مقتضي القاعدة المزبورة في المقام.

نعم، لو أمر صاحب المال بالتجارة أو كان كلامه ظاهراً في الاشتراط بالتجارة، لا تصحّ المضاربة بغير التجارة، كما صرّح به في ذيل الصحيح المزبور، و غيره من نصوص المقام.

و أمّا ما ورد في بعض هذه النصوص من لفظ التجارة، لا يصلح لتقييد هذه المطلقات؛ لعدم مفهوم له بشي ءٍ من أقسام

المفاهيم.

و لا إجماع تعبّدي في البين، لما عرفت في نظائره في الفروعات السابقة آنفاً.

و عليه قد يشكل الالتزام باشتراط كون الاسترباح بالتجارة. بمعناها الأخصّ؛ يعني خصوص البيع و الشراء.

حلُّ العويصة

يمكن دفع الإشكال المزبور بأنّ المستفاد من مجموع نصوص المقام، أنّ أخذ الاسترباح بالتجارة- أي بالبيع و الشراء- في مفهوم المضاربة كان في عهد المعصومين عليهم السلام من المسلّمات و المرتكزات بين أهل العرف، بحيث لم يكن غيرها داخلًا في حقيقة المضاربة و عنوانها.

و ذلك لما نري في نصوص المقام من إطلاق عمل العامل علي البيع و الشراء بعين مال القراض، و من التعبير ب «الوضيعة» الظاهر في الخسران الحاصل من البيع و الشراء. و لم يرد في شي ءٍ من هذه النصوص أيّة إشارة إلي سائر المكاسب من الحرف و المِهَن و الصناعات و الإجارات و نحوها.

و هذا ممّا يوجب الاطمئنان بأنّ خروج الاسترباح بغير البيع و الشراء عن

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 78

______________________________

حقيقة المضاربة كان أمراً مرتكزاً في أذهان أهل عرف ذلك الزمان، بحيث لم يحتج إلي بيان و اشتراط؛ لكونه أمراً مفروغاً عنه. هذا مضافاً إلي اتّفاق الفقهاء علي ذلك.

عمدة الوجه في أخذ التجارة في المضاربة

و عمدة الوجه في اشتراط كون الاسترباح بالتجارة خروج الاسترباح بغير التجارة- أي البيع و الشراء- عن حقيقة المضاربة عرفاً و شرعاً، فلا تشمله نصوص المضاربة، و لا دليل آخر علي مشروعيته، فلا يصحّ بعنوان المضاربة بمعني عدم ترتّب أحكامها. و أمّا صحّة العقد بغير عنوان المضاربة، من سائر وجوه المعاملات، فلا تبعد إذا كان مقصود المالك و العامل؛ لأنّه مقتضي عموم «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» كما أشار إليه في العروة بقوله: «و لو فرض صحّة غيرها للعمومات كما لا يبعد، لا يكون داخلًا في عنوان المضاربة» «1».

و عليه يستحقّ العامل سهمه من الربح بمقتضي صحّة العقد الثابتة بإطلاق «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ»، و بمقتضي عموم الوفاء بالشروط و العهود الواقعة في ضمن العقود

الصحيحة، لكنّه ليس بعنوان المضاربة؛ لفرض خروجه عن حقيقته.

السرّ في عدم جواز المضاربة بغير التجارة

و لعلّ السرّ في اختصاص مشروعية المضاربة بالتجارة عدم اجرة مضبوطة في عمل التجارة، بخلاف سائر المكاسب من الحرف و الصناعات ممّا فيه اجرة معيّنةً عند أهل العرف، كما أشار إليه في التذكرة بقوله: «شرطه- يعني العمل- أن

______________________________

(1)- العروة الوثقي 5: 151.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 79

______________________________

يكون تجارة، فلا يصحّ علي الأعمال، كالطبخ و الخبز و غيرهما من الصنائع؛ لأنّ هذه أعمال مضبوطة يمكن الاستيجار عليها، فاستغني بها عن القراض فيها، و إنّما يسوغ القراض فيما لا يجوز الاستيجار عليه، و هو التجارة التي لا يمكن ضبطها و لا معرفة قدر العمل فيها، و لا قدر العوض، و الحاجة داعية إليها، و لا يمكن الاستيجار عليها. فللضّرورة، مع جهالة العوضين، شُرِّع عقد المضاربة» «1».

و أمّا قوله: «يعمل بالمال مضاربة» و نحوه من التعابير الواردة في النصوص، فالمقصود من العمل بقرينة لفظ المضاربة هو خصوص التجارة.

صدق التجارة إذا لم يباشر العامل غيرها

هذا كلّه لو لم نقل بصدق عنوان التجارة بمعناها الأخص عرفاً علي الاسترباح بغيرها، فيما إذا لم يباشر العامل غير البيع و الشراء، و إلّا يدخل في إطلاقات نصوص المضاربة و تترتّب آثارها، و لو لأصالة عدم النقل لو شككنا في صدق عنوانها في عصر صدور الرواية، بعد صدقه يقيناً في زماننا هذا.

و ذلك لما نري الآن من إطلاق عنوان التاجر بمعناه المقابل لسائر الحِرَف و المهن علي من يكون شغله شراءُ الأراضي و المعامل بمال الغير و الاسترباح بطريق استخدام العمّال و الأسباب و الآلات، من دون مباشرة للصناعة و الزراعة و غيرها من الحرف و المهن.

و عليه فيدخل الاسترباح بهذا الطريق في مفهوم التجارة بمعناها الأخصّ و يكون من مصاديق المضاربة، اللّهم إلّا أن يُدّعي القطع بخروج

ذلك عن مفهوم المضاربة في ذلك الزمان، و لو بقرينة نصوص المقام المقتصرة علي الاسترباح بالبيع

______________________________

(1)- تذكرة الفقهاء 2: 233/ السطر 14.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 80

______________________________

و شراء عين مال القراض، لكنّه مشكل، و لا سيّما بعد احتمال كونه من باب ذكر ما هو الفرد الغالب الشائع- أعني البيع و الشراء- في هذه النصوص.

إثبات المطلوب بأصالة عدم النقل

و لكن بعد فرض صدق عنوان التجارة عرفاً أيضاً علي الاسترباح بطريق شراءِ الأراضي و المعامل و الأسباب و الآلات و استخدام العمّال من غير مباشرة للزراعة و التجارة و البنائة و الصنعة و نحو ذلك في زماننا هذا، فإذا شككنا في دخول ذلك في حقيقة المضاربة في ذلك الزمان نثبته بأصالة عدم النقل كما حرّرنا ذلك في محلّه من علم الاصول. فلا وجه لعدم شمول نصوص المضاربة لمثل ذلك، مع فرض أنّ العامل لا حرفة و لا مهنة له غير البيع و الشراء في نظر أهل العرف.

و حاصل الكلام: أنّ الأقوي صحّة المضاربة في الفرض المزبور؛ لصدق التجارة عن تراض و المضاربة عرفاً و شمول إطلاقات نصوص المقام له فتترتّب آثارها شرعاً.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 81

[أحكام المضاربة]

(مسألة 3): الدراهم المغشوشة إن كانت رائجة مع كونها كذلك تجوز المضاربة بها، و لا يعتبر الخلوص فيها

اشارة

(1). نعم لو كانت قلباً يجب كسرها و لم تجز المعاملة بها، لم تصحّ.

______________________________

أحكام المضاربة

عدم اعتبار خلوص الدراهم الرائجة من الغش

(1) 1- و قد سبق الكلام آنفاً في بيان اعتبار كون رأس المال من الدرهم و الدينار و قلنا هناك: إنّ عمدة الوجه في ذلك هو الإجماع، و لكن نسب الخلاف إلي بعضهم كالأردبيلي و الكاشاني، مع خلوّ عبارات كثير من القدماء و المتأخّرين عن هذا الشرط، مضافاً إلي كون معقد الإجماع في كلام الآخرين مجرّد صحّة المضاربة بالدرهم و الدينار المسكوكين، لا عدم صحّة المضاربة بغيرهما، كما في الروضة و المفاتيح، بل في كلام القاضي في الجواهر، و هو أوّل من ادّعي الإجماع في المقام.

و مع ملاحظة هذه النكات يشكل دعوي أصل الإجماع في المقام، فضلًا عن

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 82

(مسألة 4): لو كان له دين عليٰ شخص يجوز أن يوكّل أحداً في استيفائه

، ثمّ إيقاع المضاربة عليه موجباً و قابلًا من الطرفين. و كذا لو كان المديون هو العامل، يجوز توكيله في تعيين ما في ذمّته في نقد معيّن للدائن، ثمّ إيقاعها عليه موجباً و قابلًا (1).

______________________________

الإجماع التعبّدي الكاشف عن رأي المعصوم عليه السلام. و لا دليل آخر في المقام غير الإجماع المدّعي.

و قلنا هناك عدم اعتبار كون المال المضارب بها من الدرهم و الدينار، بل إنّما المعتبر كونه من النقود و الأثمان الرائجة.

و أمّا بناءً علي اعتبار كونه من الدرهم و الدينار، فالوجه في عدم اعتبار خلوصهما من الغش- و هو الاختلاط بغير الذهب و الفضّة- صدق عنوان الدرهم و الدينار علي المغشوش و رواجه في السوق و تعارف التجارة، لفرض كونه من النقود الرائجة، نعم، لو كان الغش علي نحو القلب؛ بأن لم يكن من النقود الرائجة بل بشكلها و هيئتها، لا إشكال في عدم صحّة المضاربة بمثل ذلك؛ لعدم كونه من النقود الرائجة حينئذٍ.

جواز التوكيل في استيفاء الدين و المضاربة

به بعد الاستيفاء

(1) 1- و الوجه فيه صيرورة الدين بعد الاستيفاء عيناً، و لا إشكال في جواز المضاربة بالعين. و في الحقيقة يكون حينئذٍ توكيلان. أحدهما: التوكيل في استيفاء الدين. و الآخر: التوكيل في المضاربة بالمستوفي منه المتبدّل إلي العين، و إنّما يعقد الوكيل المضاربة علي العين. فلا إشكال فيه بمقتضي القاعدة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 83

(مسألة 5): لو دفع إليه عروضاً و قال: بعها و يكون ثمنها مضاربة، لم تصحّ

اشارة

إلّا إذا أوقع عقدها بعد ذلك عليٰ ثمنها (1).

______________________________

هذا مضافاً إلي ظهور قول الصادق عليه السلام:

«حتّي تقبضه»

في معتبرة السكوني «1»؛ حيث لا خصوصية لكون القبض بيد المالك قطعاً، بل المقصود استحصال الدين و صيرورته عيناً بالقبض، سواءٌ كان بيد المالك أو الوكيل. فإنّه بعد إلقاء الخصوصية عن قبض المالك و جعل الغاية مطلق القبض- المتبدّل به الدين إلي العين- يتّسع نطاق مفهوم الغاية في قوله عليه السلام: «حتّي تقبضه» و يشمل مطلق القبض، سواءٌ كان بيد المالك أو وكيله أو المأذون من قبله. و يعبّر عن هذا النوع من التسرية بإلقاء الخصوصية و تنقيح الملاك.

و بذلك اتّضح أنّه لا فرق في ذلك بين كون المديون هو العامل أو غيره، و إنّما المهمّ تعيين ما في الذمّة و تبديله إلي العين بنقد معيّن رائج.

عدم جواز المضاربة بثمن المتاع قبل بيعه

(1) 1- و الوجه في ذلك عدم دخول الثمن بذلك في ملك المالك ما لم يتحقّق البيع، و إنّما المحقّق حينئذٍ هو الإنشاء المعلّق عليه، كما أشار إليه في الشرائع بقوله:

«لو قال بع هذه السلعة فإذا نضّ ثمنها، فهو قراض لم يصحّ؛ لأنّ المال ليس بمملوك عند العقد» «2».

قوله: «نضّ ثمنها» أي تحوّل عيناً، كما في الصحاح و غيره.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 23، كتاب المضاربة، الباب 5، الحديث 1.

(2)-

شرائع الإسلام 2: 112.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 84

______________________________

و قال في الجواهر في بيان وجه ذلك: «ضرورة عدم دخوله في الملك قبل وقوع البيع، علي أنّه مجهول، بل التعليق محقّق، فلا إشكال في الفساد، خلافاً للمحكي عن بعض العامّة من الجواز، فلا ريب في فساده» «1».

الفرق بين هذا الفرع و الفرع السابق

و الفرق بين هذا الفرع و بين التوكيل في استيفاء الدين و المضاربة بالمستوفي منه، أنّ عقد المضاربة هناك إنّما ينشئه العامل الوكيل علي العين المملوكة لموكّله حين إنشاء العقد، بخلاف المقام. و ذلك لفرض عدم كون الثمن ملكاً للعاقد حين إنشاء عقد المضاربة؛ نظراً إلي عدم وقوع البيع بعد، حتّي يملك صاحب المتاع ثمنه، كما قال في الجواهر.

دفع إشكالين

و أمّا الجهل بمقدار الثمن فلا يضرّ بشي ء بعد العلم بقابليته للتّجارة به. و ذلك لما قلنا سابقاً من عدم اعتبار كون مال القراض معيّناً و لا كونه معلوماً بالقدر أو الوصف.

أمّا إشكال التعليق فمبنيٌ علي كونه مبطلًا للعقد. و تصويره في المقام أنّ إنشاء عقد المضاربة حينئذٍ من جانب مالك العروض معلّقٌ علي حصول مال القراض و دخوله في ملكه بعد البيع.

أمّا وجه اعتبار دخول الثمن في ملك العاقد حين إنشاء عقد المضاربة أنّ المفروض كون الثمن مال القراض. و أنّ مال القراض من أحد الأركان الأساسية التي

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 362.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 85

(مسألة 6): لو دفع إليه شبكة عليٰ أن يكون ما وقع فيها من السمك بينهما بالتنصيف- مثلًا- لم يكن مضاربة

اشارة

، بل هي معاملة فاسدة (1)،

______________________________

بها قوام المضاربة. و مال القراض لا بدّ أن يكون ملكاً للعاقد أو يكون العاقد مأذوناً من قبل مالكه حتّي تكون له سلطة شرعية علي تمليك ربحه للغير؛ لأنّ الربح تابعٌ للمال قبل انعقاد عقد المضاربة، فمن كان مالك المال يجوز له تمليك ربحه للغير.

حكم ما لو دفع آلة الصيد بالحصّة

(1) 1- قال في الشرائع: «و لو دفع إليه آلة الصيد- كالشبكة- بحصةٍ، فاصطاد، كان للصائد و عليه اجرة الآلة» «1».

و علّل ذلك في المسالك بقوله: «و ذلك لفساد المضاربة بمخالفة مقتضاها، فإنّ مقتضاها تصرّف العامل في رقبة المال، و هنا ليس كذلك، و ليس بشركةٍ، لأنّه مركّب من شركة الأبدان و غيرها، و لتميّز مال صاحب الشبكة، و لا بإجارة، و هو ظاهر. و حينئذٍ فالحكم بكون الصيد للصائد مبنيّ علي عدم تصوّر التوكيل في تملّك المباح، و إلّا كان الصيد لهما علي حسب ما نواه الصائد» «2».

توضيح كلامه: أنّ وجه كون الصيد كلِّه للعامل- رغم دفع الآلة إليه بالحصّة-

فساد المضاربة المقصودة من دفع الآلة. و ذلك لكون الدفع مبنيّاً علي ما هو خلاف مقتضي المضاربة؛ لأنّ مقتضي المضاربة تصرّف العامل في رقبة مال القراض بالبيع و الشراء و التجارة. و لم يقع في مفروض المسألة شي ءٌ غير الاصطياد و لا

______________________________

(1)- شرائع الإسلام 2: 112.

(2)- مسالك الأفهام 4: 357- 356.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 86

______________________________

سبب لكون الصيد ملكاً لهما، إلّا عقد الشركة.

و إنّ عقد الشركة منتفٍ في المقام؛ حيث يعتبر في عقد الشركة اشتراك الطرفين في رأس المال علي نحو الإشاعة أو حصول الامتزاج و الاختلاط في مالهما. و في المقام لا شركة بينهما في رأس المال، بل إنّما هو لأحدهما. و إنّما الشركة بحسب العمل من أحدهما و المال من الآخر، و هذا خارج عن حقيقة عقد الشركة. هذا مع تميّز مال صاحب الشبكة و عدم امتزاجه بمال العامل، كما لا يكون من قبيل الإجارة؛ لفرض عدم تعيين اجرة الصائد.

و مقصوده من الشركة في الأبدان هو الشركة في الأعمال، و هي أن يوقعا العقد علي أن تكون اجرة عمل كلٍّ منهما مشتركةً بينهما، أو يكون منفعة عمل كلٍّ منهما مشتركةً بينهما، كما عرّفها بذلك صاحب العروة في المسألة الاولي من كتاب الشركة.

الضابطة في كون الصيد للصائد أو لهما

و أمّا قوله قدس سره: «و حينئذٍ»؛ أي بعد انتفاء المضاربة و الشركة و الإجارة. و عليه فما حكم به في الشرائع من كون الصيد بتمامه للصائد و عليه اجرة الآلة، مبنيٌّ علي عدم مشروعية التوكيل في حيازة المباحات؛ حيث وقع الخلاف في جواز التوكيل في حيازة المباحات، كما أشار إليه في الجواهر «1»، و قد أفتي السيد الماتن بجوازه «2». و ذلك لأنّ الصائد حينئذٍ قصد تملّك الصيد لنفسه

بالحيازة فهو له و عليه اجرة الآلة.

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 318- 322.

(2)- تحرير الوسيلة 2: 40، المسألة 13.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 87

______________________________

و أمّا بناءً علي مشروعية التوكيل في حيازة المباحات و ظهور كلام صاحب الشبكة في التوكيل أو حمله عليه، يكون الصيد لهما حسب ما نواه الصائد. و ذلك لفرض كون اصطياده لهما حسب اقتراح صاحب الشبكة و قبول الصائد، فلا ينو الاصطياد لنفسه، و إلّا لم يرض صاحب الشبكة بوكالته.

و لأجل ذلك استبعد في ذيل كلامه المزبور، البناء علي أنّ العامل لم ينو الحيازة و لا تملّك الصيد إلّا لنفسه؛ معلّلًا بأنّه خلاف ظاهر الحال. قال قدس سره: «و يبعد بناؤه علي أنّ العامل لم ينو بالتمليك إلّا نفسه، لأنّ ظاهر الحال دخوله علي الشركة» «1».

و عليه فعلي فرض عدم جواز التوكيل في حيازة المباحات، يكون الحكم بملكية الصيد كلّه للصائد مبنيّاً علي عدم تأثير النيّة في تملّك المحوز و أنّ الحيازة سبب قهري للملك، و إن كانت بحاجة إلي نيّة أصل الملك؛ بأن لا يكون الحيازة لغرض آخر غير أصل الملك، كما وجّه بذلك في الجواهر «2» كلام صاحب الشرائع؛ حيث جمع بين كون المحوز كلّه للحائز- لو حاز لنفسه و لغيره- و بين التردّد في افتقار المحيز في تملّك المباح إلي نيّة التملّك «3»؛ بأنّ جزمه بكون ما نواه الحائز لغيره ملكاً لنفسه ظاهر في عدم تأثير النيّة في سببية الحيازة للملك، و لكن تردُّده في افتقار الحائز إلي نيّة التملّك في تملّك المباح لنفسه بالحيازة.

ثمّ وجّه ذلك في الجواهر «4» بأنّ مقصود صاحب الشرائع في الفقرة الثانية من

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 357.

(2)- جواهر الكلام 26: 321.

(3)- نفس المصدر: 320-

321.

(4)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 88

______________________________

كلامه نيّة أصل التملّك، و في الفقرة الاولي نيّة التملّك لنفسه أو لغيره، فالتأثير لنيّة أصل التملّك، لا لنفسه أو لغيره. هذا كلّه في توضيح كلام صاحب المسالك.

إشكال صاحب الجواهر علي الشهيد

و قد أشكل عليه في الجواهر بإمكان القول بكون الصيد كلِّه للعامل حتّي علي القول بمشروعية التوكيل في حيازة المباحات؛ لأنّ في المقام قد وقع إذن صاحب الشبكة في العقد الفاسد، فلا أثر له. و لا تجدي نيّة الشركة مع عدم إذن من يحوز له الحائز. فيكون المحوز كلُّه له؛ لكفاية قصد الحيازة في دخول المحوز في ملك الحائز. و المفروض تحقّق هذا القصد في العامل الصائد في المقام.

نقد تعليل صاحب الجواهر

و قد علّل في الجواهر «1» عدم كون ذلك مضاربة بانتفاءِ شرطها.

و يرد عليه أنّ مقصوده من الشرط لو كان ما عبّر عنه في المسالك «2» بمقتضي المضاربة- و هو تصرّف العامل في رقبة المال- كما هو الظاهر، أنّ التصرّف في رقبة الشبكة و عينها يتحقّق بنصبها في الماء و إخراجها منه حينما وقع فيها السمك، و المفروض صدور ذلك من العامل، فكيف لم يتصرّف في رقبتها؟!

بل الشرط المنتفي في مفروض المسألة أمران:

أحدهما: كون المال المضارب به من النقود و الأثمان، كما سبق وجه اشتراطه آنفاً؛ نظراً إلي أنّه ليست الشبكة من ذلك قطعاً.

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 358.

(2)- مسالك الأفهام 4: 356.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 89

______________________________

ثانيهما: كون الاسترباح بطريق التجارة و ليس كذلك في المقام، لوضوح عدم كون الاصطياد تجارة.

و الظاهر أنّ مقصود صاحب المسالك من التصرّف في رقبة المال بيعه و شراؤه؛ لأنّ بهما يتحقّق الاتّجار، لا بغيرهما.

الفرق بين الربح الحاصل من المضاربة و الحيازة

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ الصيد كلّه يكون للمالك بعد فساد عقد المضاربة؛ نظراً إلي تحكيم قاعدة تبعية الربح للمال حينئذٍ.

و فيه: أنّ قاعدة تبعية الربح للمال و إن تقتضي كون الربح كلّه للمالك بعد فساد المضاربة، إلّا أنّها غير جارية في مثل المقام. و ذلك لاختصاصها بما إذا كان الربح حاصلًا بالتصرّف في رقبة المال، بأن يقلّبها و ينقلها و يتّجر بها، لا أن يجعلها وسيلة و آلة للحيازة، و كان الربح حاصلًا بالحيازة التي هي سبب مستقلّ قهري للملك.

الصيد من قبيل الربح الحاصل بالتجارة و بنقل رقبة المال، حتّي يتّبع المال في الملكية. بل هو من المحوز الحاصل من العمل. و ذلك لأنّ فعل الحيازة هو عمل العامل، و المحوز هو مولود

عمله و أثره التابع له في الملكية و من هنا قالوا:

إنّ الحيازة سبب قهري للملك. و عليه فالربح الحاصل من الحيازة تابعٌ لعمل الحائز. و أمّا القاعدة المزبورة فهي تختصّ بالربح الحاصل للمال ببيعه و شرائه و الاتّجار به.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 90

فما وقع فيها من الصيد للصائد بمقدار حِصّته التي قصدها لنفسه، و ما قصده لغيره فمالكيّته له محلّ إشكال (1)،

______________________________

(1) 1- أمّا ما قصده الصائد لنفسه من حصّة الصيد فوجه ملكيته له، أنّ الصائد حازه لنفسه، و لا إشكال في كون الحيازة سبباً لملكية المحوز للحائز إذا حازه لنفسه. و أمّا ما قصده لغيره، فيتوقّف ملكيته للغير علي تأثير النيّة في سببية الحيازة للملك و علي مشروعية التوكيل في حيازة المباحات. و لما كان في ذلك إشكال و خلاف قُرّر في محلّه «1»، كان مالكية غير الصائد- و هو صاحب الشبكة- في المقام محل إشكال.

إشكال علي السيد الماتن قدس سره

و لكن يرد علي السيد الماتن أنّه لمّا أفتي بجواز التوكيل في حيازة المباحات، ينبغي له أن يفتي هاهنا بكون الصيد لهما حسب ما نواه الصائد، كما قال في المسالك. اللّهم إلّا أن يقال: إنّ مفروض الكلام في هذه المسألة ما إذا لم يُحرز قصد التوكيل من صاحب الشبكة و ظهور كلامه المزبور في التوكيل أوّل الكلام.

لكن لا يبعد القول بظهور كلامه في التوكيل، فيكون ملكية الصيد لهما حسب نيّة الصائد مبتنياً علي المبني.

نعم، هاهنا توجيه آخر لكلام السيد الماتن و هو عدم تأثير إذن صاحب الشبكة في جواز الاصطياد له. و ذلك لوقوعه في العقد الفاسد. و لا تجدي نيّة الشركة من جانب الحائز مع عدم إذن من يحوز له. كما سبق آنفاً إشكال صاحب

______________________________

(1)-

جواهر الكلام 26: 38- 322.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 91

______________________________

الجواهر بذلك علي صاحب المسالك. و لكن هذا التوجيه وجيه فيما إذا لم نستظهر التوكيل من كلام صاحب الشبكة.

نعم، لو فرضنا عدم كونه بصدد التوكيل يصحّ هذا التوجيه، كما هو ظاهر كلام الإمام قدس سره، و لذا لا يرد عليه الإشكال في المقام.

هذا كلُّه لو قلنا برجوع ضمير- الهاء- في «فمالكيته» في كلام السيّد الماتن إلي الغير، و هو صاحب الشبكة. و أمّا لو قلنا برجوعه إلي الصائد العامل- كما لا يبعد- فقد يُوجّه الإشكال في مالكية الصائد للحصّة التي قصدها لصاحب الشبكة أنّه لم يقصدها لنفسه، و حينئذٍ لو قلنا بأنّ الحيازة سبب قهري للملك بلا حاجةٍ إلي نيّة التملّك، تدخل تلك الحصّة أيضاً في ملكه، و إلّا فلا. فقد يوجّه إشكال السيد الإمام في المقام بهذا الوجه.

و فيه: أنّ نيّة أصل الملك في مثل المقام موجودة عادة؛ لوضوح عدم غرض غير الملك للصائد الذي بصدد الكسب و تحصيل الربح و المال، و لو لم يقصدها لنفسه، و من هنا لو سألته: لا أثر لنيّتك للغير، فما ذا تصنع بالحصّة الاخري؟ يجيبك من دون تأمل: هي لي؛ لعدم غرض آخر لي غير التملّك و الاكتساب، فإنّي كاسب.

و ذلك لأنّ عدم قصد التملك من الحيازة معناه كون الحيازة لغرض آخر كالتلذّذ من نفس الصيد و السياحة و التفرّج و اللعب و اللهو، كما قال في الجواهر «1» في توجيه كلام صاحب الشرائع. و لا ريب في عدم كون شي ءٍ من ذلك داخلًا في غرض الصائد في المقام. و حينئذٍ لا إشكال في كون الصيد كلّه للصائد بعد أن لم تكن الحصّة الاخري ملكاً لصاحب الشبكة.

______________________________

(1)-

جواهر الكلام 26: 321.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 92

و يحتمل بقاؤه عليٰ إباحته، و عليه اجرة مثل الشبكة (1).

______________________________

نقد توجيه بقاء حصّة صاحب الشبكة علي إباحته الأصلية

(1) 1- وجه احتمال بقاء حصّة صاحب الشبكة علي إباحته الأصلية أنّ الصائد الحائز لم يقصدها لنفسه بلا حيازة حتّي تدخل في ملكه، و دخولها في ملك صاحب الشبكة مبنيٌّ علي تأثير النيّة في سببية الحيازة للملك، و هو محل كلام و إشكال، كما سبق آنفاً. فإذا لم يتحقّق سبب الملك يبقي الصيد علي إباحته الأصلية.

و قد سبق عدم تمامية هذا التوجيه؛ نظراً إلي تحقّق نيّة أصل الملك و إن لم ينو لنفسه؛ لعدم كون حيازته و اصطياده لغرض آخر غير التملّك. فلا إشكال حينئذٍ- أي بعد أن لم تكن الحصّة الاخري لصاحب الشبكة- في كون الصيد كلّه للصائد، كما قال في المسالك و الجواهر و غيرهما.

وجه ضمان اجرة مثل الشبكة علي العامل

أمّا ضمان اجرة مثل الشبكة علي العامل فوجهه قاعدة الإتلاف. و ذلك لما ثبت في محله من دخول اجرة مال الغير في مصبّ هذه القاعدة بلحاظ ما لها من القيمة و المالية. و من هنا قلنا في تحرير هذه القاعدة بضمان المنافع المستوفاة، بل و غير المستوفاة في مجري هذه القاعدة. و قد بحثنا عن ذلك مفصّلًا في كتابنا «مباني الفقه الفعّال، قسم القواعد المعاملية»، فراجع.

و أمّا الإشكال بأنّ المالك أسقط احترام ماله باقتراحه الاصطياد بالشبكة إلي العامل، فلا ضمان علي العامل، مدفوع بأنّ اقتراحه هذا لم يكن مجّانياً، بل

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 93

______________________________

إنّما كان بقصد الاسترباح، فإذا لم يحصل له ربح يثبت ضمان اجرة الشبكة علي العامل.

و لكن في المقام نكتتان لا ينبغي الغفلة عنهما:

إحداهما: أنّه بناءً علي كون الصيد لهما لا وجه لاختصاص ضمان الاجرة بالعامل، بل علي كلّ من المالك و العامل ضمان اجرة ما للآخر من العمل و المال. فكما أنّ العامل

يضمن اجرة الشبكة للمالك، فكذلك المالك يضمن اجرة العامل، كما أشار إلي ذلك في المسالك بقوله: «و حيث يكون الصيد لهما، فعلي كلٍّ منهما اجرة مثل الصائد و الشبكة بحسب ما أصابه» «1».

ثانيتهما: أنّه في الفرض المزبور لا وجه لدعوي انصراف إطلاق دليل قاعدة الإتلاف إلي الاجرة الواقعة بإزاءِ ما استوفاه الصائد من منافع الشبكة لنفسه و عدم ضمانه للواقعة منها بإزاءِ نصيب صاحب الشبكة، كما قد يتوهّم. و ذلك لعدم دفع المالك الشبكة إلي الصائد علي وجه المجّانية، غاية الأمر دفعها إليه مكتفياً علي سهمه من الصيد في عقد المضاربة أو الشركة أو التوكيل. فإذا لم يتحقّق شي ءٌ من هذه العقود تعود الشبكة إلي مالكه و علي الصائد اجرة استعمالها.

و لا ينافي ذلك ملكية صاحب الشبكة لسهمه بناءً علي تأثير نيّة الحائز في ملكية المحوز لغيره. و هذا الكلام يأتي بعينه في ضمان صاحب الشبكة لُاجرة مثل عمل الصائد.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 357.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 94

(مسألة 7): لو دفع إليه مالًا؛ ليشتري نخيلًا أو أغناماً عليٰ أن تكون الثمرة و النتاج بينهما، لم يكن مضاربة، فهي معاملة فاسدة

اشارة

(1) تكون الثمرة و النتاج لربّ المال، و عليه اجرة مثل عمل العامل.

______________________________

فيما دفع مالًا بحصّة نماء ما يشتري به

(1) 1- وجّه الفساد في الشرائع بأنّ مقتضي المضاربة الاشتراك في الربح الحاصل من تصرّف العامل في رأس المال. و في مفروض الكلام لم يحصل الربح من عمل العامل، بل إنّما حصل من نماءِ ما اشتراه العامل بالمال المدفوع. و هكذا وجّه الفساد في المسالك «1» و الجواهر «2».

و حينئذٍ إذا فسد المضاربة لا بدّ من تحكيم قاعدة تبعية الربح للمال، فيدخل النتاج و الثمرة في ملك صاحب المال. و عليه اجرة مثل عمل العامل؛ لأنّه السبب في إتلاف عمله. فيضمن اجرة مثله بمقتضي قاعدة ضمان

الإتلاف بالتسبيب و قاعدة احترام عمل المؤمن.

و لكن تردّد صاحب الشرائع في الفساد. و وجّه ذلك في الجواهر «3» بوجهين:

أحدهما: وجه المنع و الفساد.

ثانيهما: وجه الجواز و الصحّة، ثمّ قوّي في الختام وجه الفساد.

أمّا وجه الفساد، فهو تحكيم أصل الفساد بعد الشكّ في تناول إطلاقات

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 346.

(2)- جواهر الكلام 26: 344.

(3)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 95

______________________________

الصحّة للمقام. و مراده من أصل الفساد أصل تبعية الربح للمال المقتضي لعدم استحقاق العامل شيئاً من الربح. و قد سبق بيان الإشكال في هذه القاعدة، و انثلام هذا الأصل بإطلاق «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ»؛ نظراً إلي تحقّق التجارة هاهنا عرفاً و حصول التراضي بالوجدان.

و أمّا وجه الجواز و الصحّة، فحاصله: إمكان منع اعتبار تصرّف العامل في مال القراض؛ بمعني اشتراط حصول الربح بمحض عمل العامل. و ذلك لأنّ حقيقة القراض هو دفع المالك ماله و عمل العامل فيه، بحيث كان كلٌ منهما سبب حصول الربح، من غير فرق في الربح بين حصوله بالنماء الحاصل ممّا اشتراه العامل- كما في مفروض المسألة- و بين حصوله بمجرّد فعل العامل؛ إذ الربح في مفروض الكلام مسبّب من فعل العامل الذي هو شراء ذي النماء.

و هذا الوجه وجيه، و إن كان بحاجة إلي تقريب يأتي في بيان مقتضي التحقيق.

هذا حاصل ما يستفاد من كلام صاحب الشرائع و الجواهر في توجيه فساد المضاربة و صحّتها.

وجه فساد المضاربة و العقد

و الكلام في المقام يقع تارة: في صحّة المضاربة، و اخري: في صحّة أصل المعاملة في نفسها، لا بعنوان المضاربة.

و الذي اختاره السيد الماتن قدس سره عدم تحقّق المضاربة و فسادها في مفروض المسألة، بل فساد أصل المعاملة.

أمّا وجه فساد المضاربة فقد عرفت آنفاً من

كلام صاحب الجواهر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 96

______________________________

و أمّا فساد أصل العقد، فالوجه فيه عدم كون ما وقع مقصود المالك و عدم وقوع ما قصده؛ حيث إنّه قصد المضاربة؛ لأنّها ظاهر كلامه حسب الفرض في المسألة المبحوث عنها في المقام. و هي لم تقع؛ لفرض فسادها. و أمّا مطلق العقد أو التوكيل في الشراء أو إجارة العامل و نحو ذلك، فلم يكن مقصوده، فما قصده المالك لم يقع و ما وقع لم يقصده، و إنّ العقود تابعة للقصود. و يمكن المناقشة في كليهما.

أمّا فساد المضاربة فقد عرفت في توضيح كلام صاحب الجواهر وجه المناقشة فيه، و سيأتي مزيد توضيح في ذلك.

و أمّا فساد أصل العقد فممنوع بالأولوية بعد تصحيح عقد المضاربة. و من ذلك يعلم أنّ ما قصده المالك وقع في الخارج. و أصالة تبعية الربح للمال فقد سبق بيان انثلامها بإطلاق «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ»، فلا تشمل ما إذا انتقل الربح إلي ملك الغير بسبب شرعي ثابت بالإطلاق المزبور؛ لفرض حصول التجارة عرفاً و التراضي بالوجدان.

مقتضي التحقيق في المقام

و مقتضي التحقيق في المقام: صحّة المضاربة في محلّ الكلام؛ نظراً إلي استناد حصول الربح إلي فعل العامل و حسن تدبيره الاقتصادي التجاري، و إلّا فربّ شراءٍ يوجب الخسران علي مالك المال، فإنّ انتخاب ماله قابلية النماء يحتاج إلي دقَّة نظر و فكرة اقتصادية و تجربة تجارية حاصلة لأهل الخبرة باكتساب الخبروية و الاطلاع، و بالممارسة في هذا الفنّ، و إنّ لذلك دوراً كبيراً في الاسترباح أكثر من دور العمل و الفعل الجوارحي الإنتاجي.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 97

______________________________

فيتمّ بذلك هذان الركنان الأساسيان للمضاربة، و هما الربح و العمل. كما أنّه لا عمل في البين غير التجارة؛

نظراً إلي صدق التجارة علي الشراء، فيصدق عرفاً حينئذٍ أنّ العامل استربح بالتجارة. و لا إجماع تعبّدي في المقام كنظائره.

فالأقوي صحّة المضاربة فيما إذا صدق علي شراء النخيل و الأغنام و ما حصل من الثمرة و النتاج عنوان التجارة و الاسترباح بها في نظر أهل العرف كما لا يبعد. فإذا صدق ذلك عرفاً لا ريب في ترتّب أحكام المضاربة، و أمّا لو لم يصدق عنوان التجارة و الاسترباح بها عرفاً يفسد المعاملة؛ لأنّ العقود تابعة للقصود، و ما قصده المالك لم يقع. كأن يصدق عرفاً عنوان الرعاية و الفلاحة و الصرافة و الزراعة و نحو ذلك من العناوين المغايرة للتجارة بمعناها الخاصّ المقصود في باب المضاربة. فتخرج المعاملة حينئذٍ عن عنوان المضاربة التي قصدها المالك.

و عليه لا معني لضمان اجرة مثل عمل العامل علي المالك، كما لا يخفي علي من لاحظ مقتضي المضاربة. و بعد تمامية أركان المضاربة و صحّتها لا وجه لدعوي فساد أصل المعاملة، كما هو واضح، مضافاً إلي ما عرفت آنفاً من المناقشة في توجيه أصل هذه الدعوي.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 98

(مسألة 8): تصحّ المضاربة بالمشاع كالمفروز

اشارة

(1)، فلو كانت دراهم معلومة مشتركة بين اثنين، فقال أحدهما للعامل: «قارضتُك بحصّتي من هذه الدراهم»، صحّ مع العلم بمقدار حصّته، و كذا لو كان عنده ألف دينار- مثلًا- و قال: «قارضتك بنصف هذه الدنانير».

______________________________

صحّة المضاربة بالمال المشاع

(1) 1- و الوجه في ذلك أوّلًا: صدق المال- المفروض إعطاؤه في نصوص المقام- علي المشاع عرفاً، كصدقه علي المفروز عرفاً بلا فرق بينهما.

و ثانياً: عدم لزوم الغرر من ذلك؛ لارتفاع الجهالة الموجبة للضرر و الخسران بتعيين الحصّة و العلم بمقدارها. هذا مع ارتفاع الجهل الناشي من الإشاعة قبل آن ورود

العامل في التجارة بإفراز سهمه المشاع، فيؤول إلي العلم التفصيلي بالمفروز. فلا يلزم من المضاربة بالمشاع؛ لأنّه نوع من التعيين عرفاً، بعد ما كان مقدار المجموع معلوماً. و من هنا لا يتصوّر الغرر في المقام، كما قال في المسالك «1» و الجواهر «2». هذا مضافاً إلي عدم خلاف في ذلك كما قال في الجواهر «3».

ثمّ إنّ الإشاعة تارةً: يكون بين المالك و بين العامل فلا بحث؛ لفرض رضا العامل بالتصرّف في سهمه، لأنّه المتصرّف بنفسه.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 356.

(2)- جواهر الكلام 26: 358.

(3)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 99

______________________________

عمدة الكلام في المال المشاع

و اخري: تكون الإشاعة في المال المشترك بين المالك و غير العامل، فحينئذٍ إذا كانت التجارة بالتصرّف في رقبة المال و عينه؛ بأن يشتري العامل المتاع بعينه أو بالكلّي و لكن يؤدّي الثمن بعين المال المشترك، فلا إشكال في عدم جواز المضاربة بالمشاع بغير إذن الشريك؛ لفرض استلزام المضاربة حينئذٍ للتصرّف في مال الغير بدون إذنه. فالتجارة به تكون باطلة فلا تصحّ المضاربة أيضاً.

نعم، لو أنشأ المضاربة بالمشاع، و لكن لم يتصرّف في عينه؛ بأن يشتري العامل بالثمن الكلّي و يؤدّي بغير مال القراض بمقدار ما يعادل حصّة ذلك الغير الشريك من المشاع، يمكن تصحيح المعاملة، و لكنّه فرض نادر الوقوع، هذا مع الإشكال في صدق عنوان المضاربة؛ نظراً إلي تقوّمه بالعمل في مال القراض الذي هو ملك للمالك، هذا.

و لكن لمّا كان مال القراض من النقود الرائجة، فالأمر سهل؛ لأنّ بإفراز النقد لا يتوجّه أيّ ضرر و نقص علي سهم الشريك. و حينئذٍ لا يشترط في جواز الإفراز و مشروعيته إذن الشريك، و لا سيّما في النقود الرائجة في هذه الأعصار؛ حيث لا

فرق بين أوراق النقد و مسكوكاته إذا كانت من نوع و صنف واحد و كانت في درجة واحدة من حيث القيمة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 100

(مسألة 9): لا فرق بين أن يقول: «خذ هذا المال قراضاً و لكلّ منّا نصف الربح»

اشارة

، و أن يقول: « … و الربح بيننا»، أو يقول: « … و لك نصف الربح»، أو « … لي نصف الربح» في أنّ الظاهر أنّه جعل لكلّ منهما نصف الربح. و كذلك لا فرق بين أن يقول: «خذه قراضاً و لك نصف ربحه»، أو يقول: « … لك ربح نصفه»، فإنّ مفاد الجميع واحد عرفاً (1).

______________________________

التعابير الظاهرة في التنصيف

(1) 1- و الوجه في ذلك كلّه هو الظهور العرفي. فإنّ قوله: «الربح بيننا» و إن كان قابلًا لتقييد بالتثليث و التربيع و التخميس، إلّا أنّه ما لم يقيّده المالك بقيد، يكون ظاهراً في التنصيف عرفاً، كما في موارد الوصيّة و نحوها. فإنّ تمليك شي ءٍ أو الوصيّة به لشخصين، ظاهرٌ في التنصيف بينهما، كما أنّ قوله: «نصف الربح لك» و «ربح نصفه لك» ظاهر في كون النصف الآخر للمالك، و كذا العكس فيما لو قال:

«نصف الربح أو ربح نصفه لي» و بهذا الظهور العرفي تخرج المضاربة عن الإبهام و الترديد، و تصحّ.

نعم، يخطر بالبال مناقشة فيما لو قال المالك: « … لك ربح نصفه». و ذلك لأنّ العامل لو ضرب نصف مال القراض بتجارة و نصفه الآخر بتجارة اخري. و ربح في أحد النصفين بأضعاف الآخر يجوز له أخذ الربح الأوفر؛ استناداً إلي كلام المالك؛ حيث يصدق عليه أنّه ربح نصف مال القراض، و إن لا يصدق نصف ربح المال.

و الجواب: أنّ قول المالك: «.. لك ربح نصفه» لمّا كان ظاهراً في التنصيف علي الإشاعة، فكلّ جزءٍ من المال يكون ربح نصفه له، لا ربح نصف خاصّ معيّن

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 101

(مسألة 10): يجوز اتّحاد المالك و تعدّد العامل

اشارة

(1) في مال واحد؛ مع اشتراط تساويهما فيما يستحقّان من الربح و فضل أحدهما علي الآخر؛ و إن تساويا في العمل. و لو قال: «قارضتكما و لكما نصف الربح» كانا فيه سواء.

و كذا يجوز تعدّد المالك و اتّحاد العامل؛ بأن كان المال مشتركاً بين اثنين، فقارضا واحداً بالنصف- مثلًا- متساوياً بينهما؛ بأن يكون النصف للعامل و النصف بينهما بالسويّة و بالاختلاف؛ بأن يكون في حصّة أحدهما بالنصف و في حصّة الآخر

بالثلث مثلًا، فإذا كان الربح اثني عشر، استحقّ العامل خمسة و أحد الشريكين ثلاثة و الآخر أربعة.

______________________________

من مجموع المال. فإنّ القرينة الحالية الكاشفة عن ظاهر حال المالك و القرينة المقامية المبيّنة لكون المالك في مقام تنصيف مجموع الربح الحاصل من المضاربة، تعطي ظهوراً لكلام المالك و توجب انصراف إطلاق كلامه- الشامل لربح النصف المعيّن- إلي ربح النصف المشاع.

و أمّا إذا اكتفي المالك بقوله: «ولي نصف الربح» يظهر من صاحب الشرائع بطلان المضاربة. و وُجّه ذلك بكون النصف الباقي له بمقتضي قاعدة تبعية الربح للمال، من دون حاجة إلي التصريح بخلاف سهم العامل. و لكنّه مردودٌ بقرينة الحال و المقام و السياق، كما ردّه في الجواهر «1» بذلك.

جواز تعدّد المالك و العامل و لو مع التفاضل في الربح

(1) 1- قد صرّح بجواز تعدّد كلّ واحد من المالك و العامل و اتحاد الآخر كثيرٌ

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 367.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 102

______________________________

من فقهائنا، كما في التذكرة و التحرير و القواعد و جامع المقاصد «1» و مفتاح الكرامة «2»، و لم يخالف فيه أحدٌ.

و الوجه فيه أوّلًا: انحلال عقد المضاربة بتعدّد المالك إلي عقدين. فكما لو عقد كلّ واحد منهما عقداً مستقلًاّ مع عامل واحد، لا إشكال في صحّة العقد، فكذلك يصحّ فيما إذا عقد كلاهما عقداً واحداً مع عامل واحد بمال مشترك بينهما، كما علّل بذلك في مفتاح الكرامة بقوله: «و الوجه في ذلك ظاهرٌ؛ لأنّه يجوز للمالكين أن يضاربا عاملًا واحداً في عقدين، و بالعكس. فيجوز ذلك كلّه في عقد واحد؛ لأنّ عقد الواحد مع اثنين كعقدين» «3».

و ثانياً: إطلاق نصوص المضاربة؛ حيث يشمل صورة تعدّد كلّ من العامل و المالك، كما وجّه بذلك

في كلمات بعض الفحول. فإنّ هذا الإطلاق لا ريب في ثبوته لنصوص المقام بحسب المتفاهم العرفي لمن له أدني تأمّل في مفادها؛ حيث إنّ المقصود فيها جنس المالك و العامل و لم يقيّد بكونهما واحداً و الانصراف إلي الواحد لا صارف له عرفاً.

و أمّا مقدار ما يستحقّه العاملان من الربح فهو تابع للاشتراط. و لو لم تتعيّن حصّة من الربح بالاشتراط، لا بدّ من تنصيف الربح بينهما و بين المالك أوّلًا، ثمّ التنصيف بينهما. و الوجه في ذلك إطلاق قوله عليه السلام:

«و الربح بينهما»

و ظهوره في التنصيف؛ كما سبق آنفاً.

و يمكن الاستدلال لتنصيف الربح بين العاملين، مع تساوي العمل بقاعدة

______________________________

(1)- جامع المقاصد 8: 57.

(2)- مفتاح الكرامة 7: 430.

(3)- مفتاح الكرامة 7: 430/ السطر 23.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 103

نعم إذا لم يكن اختلاف في استحقاق العامل بالنسبة إليٰ حصّة الشريكين، و كان التفاضل في حصّة الشريكين فقط، كما إذا اشترط أن يكون للعامل النصف و النصف الآخر بينهما بالتفاضل، مع تساويهما في رأس المال؛ بأن يكون للعامل الستّة من اثني عشر، و لأحد الشريكين اثنين و للآخر أربعة، ففي صحّته وجهان بل قولان، أقواهما البطلان (1).

______________________________

العدل و الإنصاف؛ نظراً إلي سعة نطاق هذه القاعدة بحكم العقل. و من هنا قلنا: إنّ ما ورد من النصوص الخاصّة في الدرهم الودعي و نحوه إرشاد إلي حكم العقل أو إمضاءٌ لسيرة العقلاء. و قد بحثنا عن مفادّ هذه القاعدة و مدركها في كتابنا «مباني الفقه الفعّال»، فراجع.

بطلان المضاربة مع تفاضل الشريكين المتساويين في المال

(1) 1- و الوجه في البطلان أمران:

أحدهما: قاعدة تبعية المنفعة للمال، كما يظهر من بعض الأعلام «1». و عليها فمع فرض تساوي مال الشريكين، لا بدّ من تساوي الربح العائد

إليهما، و إلّا تنقض القاعدة المزبورة. و إلي هذا الوجه يرجع تعليل صاحب العروة لذلك بقوله:

«لاستلزامه زيادة لأحدهما علي الآخر مع تساوي المالين أو تساويهما مع التفاوت في المالين، بلا عمل من صاحب الزيادة» «2».

و قد يشكل عليه بأنّ هذه القاعدة لا إشكال في نقضها و انكسارها في

______________________________

(1)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 66.

(2)- العروة الوثقي 5: 184.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 104

______________________________

خصوص المضاربة؛ حيث دلّت نصوصها علي استحقاق العامل للربح، مع عدم كون المال له.

و الجواب: أنّ في مخالفة القاعدة لا بدّ من الاقتصار علي المتيقّن من مدلول النصّ الخاصّ. و لم يُحرز كون صورة تفاوت المالكين في استحقاق الربح مع تساوي المال داخلًا في نطاق نصوص المضاربة، فلا مناص من تحكيم مقتضي القاعدة الأوّلية في مفروض الكلام.

ثانيهما: ظاهر قوله عليه السلام:

«و الربح بينهما»

؛ حيث دلّ بظاهره علي اعتبار تنصيف الربح بين العامل و المالك ما لم يشترط خلافه. و ما يختصّ بالمالك الآخر من الربح الزائد ينافي ذلك؛ لأنّه بمنزلة الأجنبي بالنسبة إليه.

و هذا الوجه جوابه واضح، كما قال السيّد الحكيم «1». و ذلك لأنّ المفروض تنصيف الربح بين العامل و بين المالكين. و أمّا التفاضل في سهم المالكين فلا يضرّ بذلك شيئاً، و ليس أحدٌ منهما أجنبياً، كما هو واضح. فليس خارجاً عن مقتضي عقد المضاربة.

نقد ما نقله السيد الحكيم في المقام

نعم، نقل في المستمسك «2» عن بعض الحواشي توقّف صحّة المضاربة في مفروض الكلام علي كون عقد الشركة بين المالكين الشريكين مبنيّاً علي التفاضل في ما يستحقّان من الربح بزيادة سهم أحدهما علي الآخر. و ذلك لأنّ موضوع الاشتراط المذكور في المقام إنّما هو المالكان الشريكان؛ حيث إنّ أحدهما

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 316.

(2)-

نفس المصدر: 315.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 105

______________________________

مشروطٌ له و الآخر مشروطٌ عليه.

و لا يرتبط ذلك بالعامل حتّي يكون الشرط المزبور واقعاً بين العامل و المالك في عقد المضاربة، فلا مساس له بأحكام المضاربة.

و لكن هذا الكلام إنّما يصحّ إذا كان اقتراح الشرط المذكور من جانب أحد المالكين إلي الآخر، و أمّا إذا كان من جانب العامل، كما لو لم يرض أحد المالكين بالمضاربة، إلّا مع اشتراط زيادة سهمه من الربح، و لمّا رأي العامل توقُّف انعقاد عقد المضاربة و الاسترباح علي رضائه و حضوره، يقترح اشتراط ذلك إلي المالك الآخر في متن عقد المضاربة، و يقبله لاحتياجه إلي ذلك. فلا إشكال في كون الشرط حينئذٍ بين العامل و بين المالكين.

توضيح كلام صاحب العروة و نقده

و قد وجّه الصحّة في العروة بقوله: «الأقوي الصحّة؛ لمنع عدم جواز الزيادة لأحد الشريكين بلا مقابلتها لعمل منه، فإنّ الأقوي جواز ذلك بالشرط، و نمنع كونه خلاف مقتضي الشركة، بل هو خلاف مقتضي إطلاقها» «1».

مقصوده أنّ اشتراط التفاضل في سهم المالكين من الربح لا ينافي مقتضي عقد المضاربة؛ لأنّ مقتضاه أصل اشتراك المالك و العامل في الربح، و أمّا كون الاشتراك بالتنصيف بين المالكين مع تساوي المال، فإنّما هو ثابت بمقتضي إطلاق عقد الشركة فيما إذا كان بينهما قبل المضاربة؛ حيث يقتضي الإشاعة في الشركة و سريانها في جميع أجزاء المال. و تقييد هذا الإطلاق بغير التنصيف لأجل اشتراطه، لا ينافي أصل عقد الشركة، بل إنّما ينافي إطلاقه، كما لا ينافي مقتضي عقد

______________________________

(1)- العروة الوثقي 5: 185- 184.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 106

______________________________

المضاربة، حتّي يقال إنّه شرط مخالف لمقتضي العقد.

و ردّه بعض الأعلام بأنّ الشروط في العقود إنّما هي نافذة إذا

كانت مشروعة في نفسها. و أمّا إذا كانت غير مشروعة في نفسها- كما في المقام- لا نفوذ لها.

و علّل لذلك بأنّ أدلّة نفوذ الشرط في العقود- كقوله:

«المؤمنون عند شروطهم»

- غير مشرّعةٍ. و من هنا قيّد نفوذه بما إذا لم يخالف الكتاب و السنة. و في المقام و إن لم يكن الاشتراط المزبور مخالفاً للكتاب، إلّا أنّه مخالف للسنة الدالّة علي تبعية المنفعة و النماء للمال.

مقتضي التحقيق

و لكن مقتضي التحقيق في المقام الصحّة، كما اختاره صاحب العروة. و ذلك لانصراف قاعدة التبعية إلي ما إذا لم يشترط صاحب المال أو لم يرتض بالاشتراط علي خلاف مقتضاها، كما في المقام.

و ذلك لأنّ المتفاهم العرفي من أدلّة هذه القاعدة هو هذا المعني؛ نظراً إلي أنّ المتفاهم عرفاً من دليل تبعية الربح للمال توسعة نطاق مالكية المالك، و أنّه مالك للربح التابع أيضاً، كما يملك المال المتبوع. و لازم ذلك توسعة سلطة المالك و شمولها للربح، فيدخل الربح في نطاق قاعدة

«الناس مسلّطون علي أموالهم»

؛ لأنّ من له السلطة علي شي ءٍ مسلّط علي توابع ذلك الشي ء، فكما أنّ لصاحب المال حقّ نقله و تمليكه للغير بعقد أو شرط في ضمنه، فكذلك في توابعه من النماءات و الأرباح.

و بناءً علي ذلك فاشتراط أحد المالكين في ضمن عقد المضاربة كون حصّة من ربح ماله لشريكه؛ يكون علي وفق ما هو المتفاهم عرفاً من قاعدتي: «تبعية

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 107

______________________________

الربح للمال» و

«الناس مسلّطون علي أموالهم»

و لا يكون اشتراط ذلك مخالفاً للسنة و لا لمقتضي العقد.

هذا مضافاً إلي عدم دلالة رواية و لو ضعيفة علي قاعدة التبعية المزبورة بإطلاقها نصّاً أو مضموناً و لا صريحاً أو ظاهراً، بل إنّما نسبها في الحدائق

إلي الشافعي. و إن كانت من المسلّمات في الجملة، لكن لا علي إطلاقها بنطاقها الواسع، بل السيرة العقلائية جارية علي خلافها في المضاربة كما سبق.

و غاية ما يقتضيه هي التساوي بين المالك و العامل. و أمّا بين المالكين أو العاملين أنفسهما، فلا اقتضاء لعقد المضاربة له و لا دلالة لقوله عليه السلام:

«الربح بينهما»

علي ذلك، حتّي بالإطلاق.

و عليه فلا مانع من شمول إطلاقات نصوص المضاربة لصورة التفاضل في حصّة المالكين من الربح، مع تساويهما في المال و عدم عمل لمن له الزيادة.

هذا مضافاً إلي عموم قوله تعالي: «إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ»؛ حيث إنّ المفروض حصول التراضي بعقد المضاربة بهذا النحو، مع فرض تنصيف مجموع الربح بين العامل و بين المالكين، و لم يُنقض بذلك ظاهر قوله عليه السلام:

«و الربح بينهما».

فالحقّ في المقام مع صاحب العروة من صحّة المضاربة حينئذٍ؛ وفاقاً لظاهر الأصحاب؛ حيث صرّح به في الحدائق بقوله: «و إذا اتّحد العامل و تعدّد المالك، فلو بيّنا نصيب العامل من الربح؛ بأن جعلا له نصف الربح، و لهما الباقي يكون بينهما علي ما يشترطانه من التفاضل و التساوي، سواء كان علي نسبة المالين أم لا، و به أفتي في التذكرة» «1». و قد نسب خلاف ذلك إلي الشافعي؛ معلّلًا بقاعدة تبعية الربح للمال.

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 267.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 108

(مسألة 11): المضاربة جائزة من الطرفين

اشارة

(1) يجوز لكلّ منهما فسخها؛ قبل الشروع في العمل و بعده، قبل حصول الربح و بعده، صار المال كلّه نقداً أو كان فيه أجناس لم تنضّ بعد،

______________________________

قال قدس سره: «و نقل عن الشافعي المنع من التفاضل مع تساوي المالين، و التساوي مع تفاضلهما؛ لأنّ الربح يكون تابعاً للمال، فإذا شرطا له

النصف كان النصف الآخر بينهما بالسوية، فشرط التفاوت فيه يكون شرطاً لاستحقاق ربح بغير عمل و لا مال» «1».

المضاربة عقد جائز

(1) 1- لا خلاف في كون المضاربة عقداً جائزاً، كما صرّح به كلّ من تعرّض لذلك من الفقهاء الفحول، فلا كلام في ذلك.

و إنّما الكلام في دليل ذلك، فاستُدلّ لذلك تارةً: بالإجماع، و اخري: بأنّه وكالة في الابتداء، ثمّ يصير شركة و هما جائزان، و ثالثةً: بقصور أدلّة اللزوم عن شمول العقود الإذنية.

و لتنقيح الاستدلال نقول:

مقتضي القاعدة في العقود

مقتضي القاعدة في جميع العقود وجوب الوفاء؛ نظراً إلي عموم قوله تعالي:

«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «2»؛ حيث يدلّ علي وجوب الوفاء بكلّ عقد؛ لأنّ لفظ «العقود»

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 267.

(2)- المائدة (5): 1.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 109

______________________________

جمع محلّي بالألف و اللّام، و هو يفيد العموم. و من هنا تكون هذه الآية من أحد أدلّة قاعدة أصالة اللزوم.

و عليه فلا بدّ في الحكم بجواز عقد المضاربة من الخروج عن هذه القاعدة.

و ذلك إمّا تخصيصاً بدليل، من إجماع، كما أشار إليه في الجواهر، أو تخصُّصاً بقرينة صارفة لعموم الآية عن العقود الإذنية، فتُثبت قصورها عن الشمول لها، كما يفيد ذلك الوجهان الآخران، و سيأتي بيانهما.

دعوي الإجماع في المقام

أمّا الإجماع: فاستدلّ به في الجواهر؛ حيث قال- بعد دعواه-: «و هو الحجّة في الخروج عن قاعدة اللزوم» «1». و تبعه في ذلك السيد الحكيم؛ حيث قال- بعد ردّ الاستدلال بالأصل-: «و الدليل منحصرٌ بالإجماع» «2».

و هذا الإجماع و إن لا إشكال في تحصيله؛ لعدم مخالف في البين، إلّا أنّه يشكل الالتزام بكونه إجماعاً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام من حيث الإجماع. و ذلك لأنّ الأصحاب بعد نفي الخلاف استدلّوا لذلك ببعض الوجوه الآتية. فلا يكون هذا الإجماع كاشفاً تعبّدياً عن رأي المعصوم عليه السلام، و دليلًا مستقلًا صالحاً للاستدلال به في المقام. و إن يشكل مخالفة مثل هذا الاتّفاق الذي لم ينقل الخلاف فيه من أحد.

الاستدلال بأنّ المضاربة وكالة قبل ظهور الربح و شركة بعده

أمّا الوجه الثاني: فحاصله: أنّ عقد المضاربة وكالة في الابتداء و شركة

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 340.

(2)- مستمسك العروة الوثقي 12: 261.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 110

______________________________

بعد ظهور الربح. و لمّا كانت الوكالة و الشركة كلتاهما من العقود الجائزة، فلا مناص من الالتزام بكون المضاربة أيضاً عقداً جائزاً.

و هذا الوجه قد استدلّ به العلّامة في التذكرة؛ حيث قال: «قد بيّنّا أنّ القراض من العقود الجائزة من الطرفين كالوكالة و الشركة، بل هو عينهما. فإنّه وكالة في الابتداء، ثمّ يصير شركة في الأثناء. فلكلّ واحد من المالك و العامل فسخه، و الخروج منه متي شاء. و لا يحتاج فيه إلي حضور الآخر و رضاه؛ لأنّ العامل يشتري و يبيع لربِّ المال بإذنه، فكان له فسخه كالوكالة» «1».

و ممّن استدلّ بهذا الوجه هو الشهيد في المسالك؛ حيث قال- بعد نفي الخلاف في ذلك-: «و لأنّه وكالة في الابتداء، ثمّ يصير شركة، و هما جائزان أيضاً» «2».

و قد تمسّك بهذا

الوجه جماعة من فحول الفقهاء- استدلالًا أو تأييداً- كصاحب الحدائق «3» و صاحب الرياض «4» و غيرهما.

و النكتة الأصلية في هذا الوجه أنّ المضاربة من العقود الإذنية؛ لما لها من الأصل في الوكالة و الشركة، و إنّهما من العقود الإذنية. و العقود الإذنية كلّها من العقود الجائزة. و مرجع هذا الوجه في الحقيقة هو الوجه الآتي. و سيأتي بيان السرّ في جواز العقود الإذنية.

المناقشة في الوجه المزبور

و لكن هذا الوجه بهذا التقريب قابلٌ للمناقشة؛ نظراً إلي عدم كون المضاربة توكيلًا و لا شركةً. و أمّا عدم كونها توكيلًا؛ فلأنّ الوكيل لا يستحقّ غير الاجرة،

______________________________

(1)- تذكرة الفقهاء 2: 246/ السطر 23.

(2)- مسالك الأفهام 4: 344.

(3)- الحدائق الناضرة 21: 204.

(4)- رياض المسائل 9: 72.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 111

______________________________

بخلاف العامل؛ لاستحقاقه الربح كالمالك.

و أمّا عدم كونها شركة؛ فلأنّ الشركة إنّما هي في الأموال، لا في الأبدان و لا بينها و بين الأموال، كما قرّر في محلّه، بل المضاربة عقد مستقلّ مغاير لهما، و لها أحكام خاصّة ثابتة بنصوصها الخاصّة. نعم، هي كالوكالة و الشركة من حيث إنّها من العقود الإذنية، فتكون مثلهما، لا أنّها عينهما.

و أمّا كونها من العقود الإذنية، و خروج العقود الإذنية من قاعدة أصالة اللزوم- المستفادة من عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» - كلاهما دعويان لا بدّ من إثباتهما. و سيأتي في تقريب الوجه الثالث.

بيان قصور دليل لزوم الوفاء بتقريبين

أمّا الوجه الثالث: و هو قصور دليل لزوم الوفاء عن شموله للعقود الإذنية التي منها عقد المضاربة، فقد استدلّ به بعض الأعلام «1». و لكن في بيانه خلل تعرفها من خلال البيان الآتي.

و يمكن بيان هذا الوجه بتقريبين:

أحدهما: أنّ من بين العقود عقوداً تسمّي بالعقود الإذنية. و هي العقود التي ليست إلّا مجرّد إذن من أحد المتعاملين و قبول من الآخر كالوكالة و العارية و الشركة و نحو ذلك. و في هذه العقود متي رجع الآذن من إذنه- بمقتضي سلطنته علي ماله و التصرّف فيه كيف شاء- ارتفع موضوع العقد و بتبعه ينتفي حكمه و ما يترتّب عليه من الآثار لا محالة.

و في هذه العقود، و إن لا يمكن إنكار التزام المتعاقدين بشي ءٍ، كما يظهر من

______________________________

(1)-

المباني في شرح العروة الوثقي 31: 25.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 112

______________________________

هذا العلم «1»، إلّا أنّ الملتزم به لمّا كان بذاته أمراً إذنياً جائزاً يفيد التزام المالك و العامل بآثار الجواز. و إنّ الوفاء أعمّ من اللزوم؛ لأنّ وفاءَ كلِّ شي ءٍ بحسبه فإذا كان الملتزم به أمراً إذنياً بذاته، يكون معني الوفاء بالالتزام عدم ثبوت حقّ الاعتراض للمالك علي العامل في تصرّفاته و نفوذ كلّ عمل يصدر من العامل في سبيل الاتّجار و الاسترباح ما لم يرجع أحدهما عن التزامه بالفسخ، كما أنّ معني التزام العامل بقبوله إذن المالك و اقتراحه وجوب القيام بالاتّجار علي النحو المتعارف؛ لأنّه عهد في ضمن العقد لا ابتدائي، و لكنّه ما دام لم يرجع عن التزامه بالفسخ.

ثانيهما: أنّ وجوب الوفاء يتوقّف علي الالتزام بنحوٍ يوجبه. و في المضاربة لم يلتزم أحدٌ من المالك و العامل بما يوجب لزوم العقد و دوام المضيّ عليه و عدم الرجوع عنه، بل مقتضي تقوّم عقد المضاربة بإذن المالك في التصرّف في ماله و بإرادة العامل و عزمه علي العمل، جواز الرجوع لكلّ منهما. و من هنا تكون المضاربة جائزةً من الطرفين.

و بعبارة اخري: إنّ حقيقة الوفاء إنّما هي متصوّرةٌ عرفاً فيما إذا تحقّق التزام يجعل به الملتزم شيئاً في عهدته و يتعهّد به، كالتزام البائع بكون المبيع ملكاً للمشتري، أو التزام الأجير بكون منفعة العين- المملوكة له- ملكاً للمستأجر. و في العقود الإذنية لم يلتزم العاقد الآذن بشي ء يجعله في عهدته و علي عاتقه؛ لكي يوجب الوفاء به. و طبيعة الإذن و ماهيته تأبي عن جعله في العهدة و علي عهدته؛ لأنّ ذلك مزيل لسلطته علي ماله. و الحال أنّ الإذن هو

إعمال السلطة، لا إزالته.

و هذا هو السرّ في انصراف عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» عن العقود الإذنية.

______________________________

(1)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 113

______________________________

و هذا الوجه بهذا البيان وجيه تامٌّ، لا غبار عليه، و إليه يرجع روح الوجه الثاني.

مقتضي جواز المضاربة من الطرفين

و مقتضي جواز عقد المضاربة من الطرفين جواز الفسخ لكلّ واحد منهما مطلقاً، قبل الشروع في العمل و بعده، قبل حصول الربح و بعده، إلّا أنّه فرق بين الفسخ قبل ظهور الربح أو حينه و بين الفسخ بعد ظهوره.

و ذلك لأنّ الفسخ علي الأوّل يوجب اختصاص الربح الحاصل بعده كلّه بالمالك، و عدم استحقاق العامل إلّا الأجرة. و أمّا علي الثاني يكون ما حصل من الربح قبل الفسخ بينهما بمقتضي المضاربة. و ما حصل من الربح بعده يكون كلّه للمالك و لا يستحقّ العامل بعد الفسخ إلّا الأجرة. نعم، في الصورة الثانية إنّما يؤثّر الفسخ بالنسبة إلي العقود اللّاحقة.

و حاصل الكلام: أنّ فسخ عقد المضاربة بعد ظهور الربح ليس في حكم فسخه قبل ظهور الربح أو حينه؛ لكي يختصّ الربح كلّه بالمالك لأجل فسخ العقد و يستحقّ العامل الاجرة، بل إنّما يؤثّر بالنسبة إلي المعاملات المتأخّرة.

و الوجه في ذلك واضح؛ ضرورة أنّ مقتضي صحّة عقد المضاربة و مشروعيته، إمضاؤه من جانب الشارع. و معني إمضاء الشارع لزوم ترتيب الأثر علي مقتضاه. و مقتضي عقد المضاربة اشتراك المالك و العامل في الربح بمجرّد ظهوره. فليس للمالك أن ينزع سهم العامل من يده بالفسخ، و إلّا يكون إمضاء الشارع و حكمه بصحّة عقد المضاربة لغواً بلا أثر.

و أمّا جواز الفسخ فمعناه ترتيب أثره من حين وقوعه. و لمّا وقع في مفروض

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 114

______________________________

الكلام بعد ظهور

الربح، يظهر أثره بالنسبة إلي التجارات المتأخّرة عنه. و من هنا لو كان الفسخ واقعاً قبل ظهور الربح لاختصّ الربح الظاهر بعد الفسخ كلّه للمالك و لم يكن العامل مستحقّاً لشي ءٍ، إلّا أجرة المثل.

و اتّضح بهذا البيان وجه عدم الفرق بين صيرورة مال القراض كلّه نقداً بعد التجارة، و بين أن يبقي عروضاً من غير نضٍّ؛ نظراً إلي صدق الربح علي العروض عرفاً أيضاً كالنقد.

توجيه استحقاق العامل للُاجرة بفسخ المالك و نقده

أمّا استحقاق العامل مثل اجرة العمل إذا فسخ المالك قبل ظهور الربح، فالوجه فيه قاعدة احترام عمل المسلم و قاعدة الإتلاف بالتسبيب. و ذلك لأنّ المالك هو السبب لإتلاف عمل العامل بفسخه.

و يردّه أنّ العامل مع علمه و اختياره أقدم علي معاملة إذنية جائزة. و مقتضاه جواز الفسخ لكلّ من الطرفين مهما شاء. و أيضاً التزم العامل بمعاملة مبنيّة علي استحقاق الربح لو كان ربح و عدم استحقاقه شيئاً في صورة عدمه، فليست المضاربة مبنيّة علي الاجرة كما في الإجارة و نحوها. و لا يستلزم عدم استحقاقه الاجرة أن يكون إقدامه علي المضاربة مجّانياً تبرّعياً؛ لأنّه أقدم علي معاملة تستتبع الربح غالباً، فلا يكون إقدامه تبرّعياً، بل يكون لطمع الربح لو حصل.

و قد يُدّعي جريان سيرة العقلاء حينئذٍ علي تضمين المالك لما أهدره من عمل العامل بالفسخ؛ حيث يرون عمله محترماً و يرون المالك سبباً لإتلاف عمله.

فيجري قاعدتا الاحترام و الإتلاف إذا كان مجراهما متحقّقاً في نظر العرف، و لا

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 115

بل لو اشترطا فيها الأجل جاز لكلّ منهما فسخها قبل انقضائه (1).

______________________________

يرون العامل حينئذٍ مقدماً علي إسقاط احترام عمله حتّي تجري قاعدة الإقدام في حقّه.

و لكنّه مجرّد دعوي، و إثباتها علي مدّعيها. و الذي نجده

في وجداننا العرفي يقضي بخلاف ذلك.

ثمّ إنّه لو توجّه بفسخ كلٍّ من العامل و المالك ضررٌ إلي الآخر، لا إشكال في كون الفاسخ ضامناً لذلك؛ لأنّه المسبّب لإيراد الضرر علي الغير بفسخه، بلا فرق بين العامل و المالك.

و أمّا لو توجّه ضرر إلي الفاسخ نفسه بفسخه، فليس علي الآخر ضمان الضرر المتوجّه إليه؛ لأنّه أقدم علي نفسه بالفسخ، فقاعدة الإقدام تنفي الضمان عن الآخر حينئذٍ، كما هو واضح.

اشتراط الأجل في المضاربة

(1) 1- و الوجه في جواز الفسخ لكلّ منهما قبل انقضاء الأجل نفس الدليل علي جواز عقد المضاربة. فإنّ مقتضي كونه من العقود الجائزة جواز الفسخ لكلّ من المالك و العامل في أيِّ زمان.

صور اشتراط الأجل

و أمّا اشتراط الأجل و التوقيت فتارةً: يكون مع الإطلاق من غير تقييد بمنع التجارة بعد مضيِّ الأجل، و اخري: مع التقييد بذلك. كما قال في المفتاح: «توقيت المضاربة يقع مع الإطلاق و التقييد. فالإطلاق أن يقول: قارضتك علي هذا المال

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 116

______________________________

سنة، و التقييد أن يقول: قارضتك سنة، فإذا انقضت فلا تبع و لا تشتر، أو فبع و لا تشتر أو بالعكس» «1».

و يظهر من جماعة من الفقهاء بطلان اشتراط الأجل، كما صرّح به في «المفتاح»؛ حيث إنّه بعد نقل كلماتهم، قال: «فقد تحصّل من ظاهر كلامهم أنّ بعضاً يقول ببطلان الشرط في صورة التقييد و الإطلاق. و بعضاً يقول به في بعض صور التقييد. و بعضاً يقول به في صورة الإطلاق فقط. و بعضاً يقول ببطلان العقد و الشرط في بعض التقييدات و صحّتهما في بعض التقييدات» «2».

و ظاهر كلماتهم أنّ اشتراط الأجل لمّا كان عرفاً بمعني الالتزام بعدم الفسخ، يكون في قوّة اشتراط لزوم عقد المضاربة.

و من هنا وقع الكلام في أنّه باطل بلحاظ مخالفته لمقتضي عقد المضاربة أم لا؟ كما سيأتي الإشارة إلي ذلك في كلام صاحب الشرائع و الجواهر و السيد الحكيم.

و يشهد لهذا التلقّي و التفسير لاشتراط الأجل ما جاء في المفتاح؛ حيث قال:

«قد فسّروا قولهم: لا يلزم التأجيل فيها؛ لا يصحّ اشتراط التأجيل فيها، و أنّه لو شرط توقيتها لم يلزم الشرط، بأنّه لا يترتّب أثره عليه، و هو لزومها

إلي أجل.

و هذا يقضي بأنّ ذلك يفيد اشتراط لزومها، فيكون كاشتراط لزومها إلي الأجل.

و لو كان مرجعه إلي تقييد التصرّف بوقت خاصّ، ما صحّ لهم أن يقولوا فسد

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 426/ السطر 12.

(2)- نفس المصدر/ السطر 30.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 117

______________________________

الشرط، و لا أن يقولوا لا يصحّ اشتراط الأجل، بل الواجب أن يقولوا- كما في المسالك-: صحّ العقد و الشرط. أمّا الشرط، ففائدته المنع من التصرّف. و أمّا العقد، فلأنّ الشرط المذكور لا ينافيه» «1».

و قد استظهر المحقّق المزبور من كلماتهم أنّهم فهموا و تلقّوا من اشتراط الأجل اشتراط عدم الفسخ و منعه.

نقد كلام السيد الخوئي

و يظهر من بعض الأعلام «2» أنّه ليس بمعني اشتراط عدم الفسخ، حتّي يكون الفسخ قبل انقضاء الأجل مخالفاً للشرط الواقع ضمن العقد فلم يجز، بل إنّما التأجيل بمعني تحديد إذن المالك بالأجل و تقييد جواز التصرّف به.

و مقتضي ذلك إنّما هو ثبوت جواز عمل العامل و تصرّفه في مال القراض إلي انتهاءِ زمان الأجل، و عدم جوازه بعد انتهائه؛ لانتفاء الإذن عندئذٍ.

و عليه فالثابت قبل انقضاء الأجل إنّما هو أصل جواز تصرّف العامل في مال القراض، لا عدم جواز الفسخ؛ إذ لا ملازمة بينهما. و من هنا لا وجه لتوهّم عدم صحّة التأجيل لأجل عدم صحّة اشتراط عدم الفسخ، كما قد يتوهّم. هذا توضيح كلام بعض الأعلام.

و فيه: أنّ اشتراط الأجل لو كان في كلمات الفقهاء بهذا المعني، لم يكن وجهاً لدفع توهّم عدم جواز الفسخ قبل انقضائه. فليس المقصود منه هذا المعني، كما لم يفسّره بذلك أحدٌ.

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 427/ السطر 4.

(2)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 25.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 118

______________________________

ما ذا فهم الفقهاءُ من اشتراط التأجيل؟

بل إنّهم فهموا و تلقّوا من اشتراط الأجل للمضاربة و توقيتها إلي زمان معيّن؛ إمّا اشتراط لزومها و عدم ملكية فسخها قبل انقضاء الأجل، كما سبقت الإشارة إلي ذلك في كلام صاحب المفتاح. و سيأتي في كلام السيّد الحكيم.

و أمّا اشتراط عدم الإتيان بفعل الفسخ. فالمشترط حينئذٍ عدم فعل الفسخ، لا عدم جوازه المترتّب علي لزوم العقد، كما استظهره السيد الحكيم من عبارة الشرائع و القواعد؛ حيث قال: «و من ذلك تعرف أنّ الشرط المنافي لمقتضي العقد عندهم هو شرط لزوم المضاربة و عدم ملك الفسخ، لا مجرد شرط عدم الفسخ، الراجع إلي شرط الأجل في عبارة

الشرائع و التوقيت في عبارة القواعد. فإنّه عندهم لا يلزم و لا يجب الوفاء به، لا أنّه مناف لمقتضي العقد، و لا أنّه مبطلٌ للعقد» «1».

و علي أيّ حال فاشتراط الأجل في المضاربة من جانب المالك أو العامل لا يفيد عرفاً أكثر من تحديد زمان المضاربة و توقيتها إلي انتهاء زمان الأجل. و ليس معناه إلّا تحديد إذن المالك و توقيت جواز تصرّف العامل في ماله إلي زمان الأجل و لا يقتضي ذلك، إلّا انتفاء الإذن و عدم جواز تصرّف العامل في مال القراض بعد انتهاء الأجل.

و الظاهر أنّ مراد بعض الأعلام «2» كون هذا المعني ظاهراً من اشتراط الأجل عرفاً، رغماً لما تلقّاه بعض الأصحاب منه.

كما يشعره كلام صاحب الجواهر؛ حيث إنّه- في ذيل كلام صاحب الشرائع- قال: «لو اشترط فيه الأجل لم يلزم العقد مدّته علي أحد منهما، فيصحّ

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 262.

(2)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 25.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 119

و لو اشترطا فيها عدم الفسخ، فإن كان المقصود لزومها بحيث لا تنفسخ بفسخ أحدهما- بأن جعل ذلك كناية عن لزومها، مع ذكر قرينة دالّة عليه- بطل الشرط دون أصل المضاربة علي الأقويٰ (1)،

______________________________

لكلّ منهما فسخه قبله» «1». فإنّ نفي لزوم العقد باشتراط الأجل و تجويز الفسخ معه- كما لاحظت في الشرائع و الجواهر- إنّما يصحّ إذا كان هناك قائل بتفسير اشتراط الأجل بنحو شرط النتيجة؛ أي عدم جواز الفسخ و كونه لغواً بلا أثر.

و هذا المعني ظاهر من كلام صاحب الشرائع بقرينة المقابلة في قوله: «إن مرّت بك سنة- مثلًا- فلا تشتر بعدها و بع، صحّ عندنا؛ لأنّ ذلك من مقتضي العقد» «2». فيعلم من كلامه

هذا أنّ شرط الأجل ظاهرٌ في اللزوم و مخالفٌ لمقتضي العقد و باطلٌ. و لأجل ذلك حكم ببطلانه و أنّه لا يستتبع اللزوم.

اشتراط عدم الفسخ في المضاربة

(1) 1- إنّ اشتراط عدم الفسخ- كما قلنا آنفاً- تارةً: يكون علي نحو شرط النتيجة. و المقصود منه حينئذٍ لزوم العقد و عدم انفساخه بفسخ أحد المتعاقدين. و إنّ اشتراط عدم الفسخ و إن لا يدلّ بظاهر لفظه علي هذا المعني، إلّا أنّه يجعل كناية علي ذلك بنصب قرينة تدلّ عليه.

و اخري: يكون المقصود منه اشتراط عدم فعل الفسخ، من غير أن يجعل ذلك كنايةً عن لزوم العقد و عدم انفساخه بالفسخ.

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 341.

(2)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 120

______________________________

فلو كان المقصود من اشتراط عدم الفسخ في عقد المضاربة المعني الأوّل، لا إشكال في فساد هذا الشرط. و ذلك لأنّه خلاف مقتضي عقد المضاربة؛ إذ المضاربة- كما قلنا- من العقود الإذنية المقتضية بذاتها جواز الفسخ لكلّ من الطرفين.

و أمّا بطلان العقد به فهو المشهور، كما قال السيد الحكيم «1» و قد تقدّم نصّ كلامه آنفاً.

الملاك في بطلان المضاربة باشتراط عدم الفسخ

و هل الملاك في بطلان عقد المضاربة بهذا الشرط هو البناء علي فساد العقد بالشرط الفاسد، أو الملاك في ذلك وجه آخر مختصّ بباب المضاربة؟

يظهر من السيد الماتن قدس سره الأوّل؛ حيث إنّه لمّا بني علي عدم فساد العقد بالشرط الفاسد في محلّه «2» - كما سيأتي كلامه- اختار هاهنا عدم فساد عقد المضاربة بفساد الشرط المزبور بقوله: «بطل الشرط دون أصل المضاربة علي الأقوي».

و لكن يظهر من السيد الخوئي خلاف ذلك؛ حيث إنّه مع بنائه علي عدم فساد العقد بالشرط الفساد، أفتي هاهنا بفساد المضاربة. فإنّه قد صرّح بذلك في المنهاج بقوله: «الظاهر أنّ فساد الشرط لا يسري إلي العقد المشروط فيه فيصحّ العقد و يلغو الشرط» «3». و مع ذلك اختار هاهنا بطلان عقد

المضاربة بهذا الشرط.

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 262.

(2)- البيع، الإمام الخميني قدس سره 5: 360.

(3)- منهاج الصالحين 2: 43.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 121

______________________________

عدم فساد العقد بفساد الشرط

و يقع الكلام هاهنا في أمرين:

الأمر الأوّل: في سراية الفساد من الشرط الفاسد إلي العقد. و هذه المسألة و إن كان محلّ البحث عنها كتاب البيع في أحكام الشرط، إلّا أنّه ينبغي الإشارة إلي ذلك بالمناسبة.

و حاصل الكلام: أنّه وقع الخلاف بين الأصحاب في فساد العقد بالشرط الفاسد. و قد تعرّض في المفتاح «1» لذكر جماعة من الفقهاء- المؤالف و المخالف- في المسألة.

فمنهم من قال بعدم سراية الفساد إلي العقد و حكم بصحّته و اختصاص الفساد بالشرط، كما عن الشيخ في المبسوط و يحيي بن سعيد في الجامع للشرائع و الآبي في كشف الرموز و أبي عليّ و القاضي و ابن زهرة و ابن المتوّج، بل احتجّ في الغنية لصحّة العقد حينئذٍ بالإجماع.

و منهم من اختار سراية الفساد إلي العقد و حكم ببطلانه كالشرط، كما عن العلّامة و عن المهذّب البارع و جامع المقاصد و المسالك و الروضة و مجمع البرهان و الكفاية، كما نقل عنهم في المفتاح «2» و العجب من بعض الأعلام- علي ما في تقريراته «3» - أنّه جعل العلّامة و الشهيدين في عداد القائلين بصحّة العقد و عدم سراية الفساد إليه.

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 4: 732.

(2)- نفس المصدر.

(3)- مصباح الفقاهة 7: 351.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 122

______________________________

عمدة ما استُدلّ به لسراية الشرط

و علي أيّ حال فعمدة ما استدلّ به لسراية الفساد من الشرط الفاسد إلي العقد ثلاثة وجوه، كما يستفاد من تقريرات بعض الأعلام «1».

1- انّ للشرط قسطاً من الثمن في نظر المتعاقدين؛ لاهتمامهما بذلك، و هو الداعي إلي اشتراطه، و كذا في نظر أهل العرف. فإنّ الغرض المعاملي الباعث لاشتراط الشرط إنّما يتعلّق بما له دخل في ازدياد المالية و الاسترباح. و عليه فإذا

صحّ الشرط لا إشكال في وقوع مجموع الثمن بإزاء مجموع المثمن المقيّد بالشرط.

و أمّا إذا فسد الشرط و لم يمض شرعاً لا ينتقل ما بإزاء الشرط من المالية و القيمة إلي البائع قهراً.

و حيث إنّ ما بإزائه من القيمة مجهول، يلزم من ذلك الجهل بمقدار الثمن الواقع في مقابل المبيع، فيبطل المعاملة لأجل الغرر.

و اجيب عنه أوّلًا: بأنّ الشرط شي ءٌ خارج عن العوضين عرفاً، و لا يقع بإزائه- صحيحاً أو فاسداً- شي ءٌ من الثمن، بل إنّما يقع الثمن بإزاء ذات المبيع.

نعم، لا ريب في كون الشروط موجبة لزيادة القيم و الرغبات في المعاملات، و لكنّه لا يعتبر مالًا عند أهل العرف. و من هنا لا يقع بإزائها المال عرفاً.

و أمّا إشكال الغرر فإنّما يأتي عند الجهل بمقدار العوض، دون ما هو خارج عن العوضين.

و هذا الجواب يمكن المناقشة فيه بأنّه بعد قبول دخل الشرط المالي في الغرض المعاملي و رغبات الناس و ازدياد القيمة، لا إشكال في صدق عنوان الغرر

______________________________

(1)- مصباح الفقاهة 7: 354؛ البيع، الإمام الخميني قدس سره 5: 360.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 123

______________________________

عرفاً في صورة انكشاف فساد الشرط، و لا مناص من شمول أدلّة نفي الغرر لمصداق الغرر العرفي.

و لكن في سند نصوص نفي الغرر و عموميتها لغير البيع، كلامٌ مضي في أوائل هذا الكتاب.

و ثانياً: بأنّه علي فرض اعتباره مالًا عند العرف- و لا أقلّ فيما تعلّق من الشروط بالمال- لا نسلّم كون ما يقع بإزاء الشرط من الثمن مجهولًا، بل له قيمة المثل عند العرف. فإنّ حال الشرط حال الوصف، فكما أنّ للموصوف بالوصف قيمة و لفاقده قيمة اخري نازلة عرفاً، فكذلك الواجد للشرط و فاقده. فلا جهالة و

لا غرر في البين، بناءً علي كون شي ءٍ من الثمن بإزاءِ الشرط، و إن كان المبني باطلًا.

و ثالثاً: إنّ غاية ما يلزم من فساد الشرط- بناءً علي أنّ له قسطاً من الثمن- تبعّض الصفقة. فيصحّ العقد بالنسبة إلي ذات المشروط. كما لو باع خمراً و خلًاّ، أو شاةً و خنزيراً بقيمة- يصحّ العقد في الشاة و الخلّ بما يخصّهما من ثمن المثل و يفسد في الباقي، مع عدم معرفة ما يخصُّهما من الثمن حين إنشاء العقد.

2- أنّ التراضي المعتبر في المعاملات المشترطة معلّق علي تحقّق الشرط؛ حيث إنّ الشارط لا يرضي بالمعاملة المجرّدة عن الشرط. و من الواضح أنّ المقيّد ينتفي بانتفاء قيده. فيكون العقد المجرّد عن الشرط من قبيل التجارة لا عن تراض، و هو باطل؛ بدليل قوله تعالي: «لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» «1».

و اورد علي هذا الوجه: أنّ الرضا المعاملي غير معلّق عند الإنشاء علي وجود

______________________________

(1)- النساء (4): 29.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 124

______________________________

الشرط في الخارج، و إلّا لكانت المعاملة باطلة، حتّي علي القول بصحّة التعليق أيضاً. و ذلك لفرض عدم حصول الشرط المعلّق عليه التراضي حين الإنشاء دائماً، فيلزم انتفاءُ الرضا المعلّق علي الشرط؛ ضرورة انتفاء المعلّق بانتفاء المعلّق عليه.

و لازم ذلك بطلان جميع العقود و الإيقاعات بمطلق الاشتراط، بلا فرق بين الشروط الصحيحة و الفاسدة، و لا بين القول بصحّة التعليق و بين القول ببطلانه. و لمّا نشاهد بالواجدان عدم بطلان العقود و الإيقاعات بالاشتراط، حتّي مع عدم حصول الشرط بعد إنشاء العقد، نستكشف من ذلك عدم تعليق الرضا المعاملي علي وجود الشرط في الخارج، بل إنّما عُلّق علي الالتزام بإيجاد الشرط. و

لمّا كان الالتزام بذلك حاصلًا عند المعاملة و يتمكّن الملتزم من إيجاده حين الإنشاء، لا يكون من التعليق المبطل.

و أمّا عدم إمضاء الشرط من جانب الشارع و فساده، فهو أمر آخر لا ينافي حصول الالتزام المعلّق عليه الرضا، فلا يكون عدم إمضاء الشرط و فساده من أجل التعليق المبطل.

نعم، ربما يكون البائع بحيث لو علم بفساد الشرط لم يقدّم علي المعاملة المشروطة به، و إنّما يقدّم عليها لعلمه بصحّة الشرط أو برجاء إمضاء الشارع. و لكن كشف الخلاف حينئذٍ من قبيل تخلّف الدواعي، و هو لا يستلزم بطلان المعاملة.

مع أنّه لم يلتزم أحدٌ ببطلانها في موارد تخلّف الشرط. و لو كان البائع بحيث لو علم حين إنشاء العقد بأنّ البائع لم يعمل بشرطه، بل و لو احتمل ذلك، لم يقدّم علي المعاملة.

و السرّ في ذلك أنّ تخلّف الدواعي خارجاً، لا ربط له بالرضا المعاملي المعلّق علي الالتزام بالشرط؛ نظراً إلي حصول المعلّق عليه- و هو الالتزام- دائماً،

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 125

______________________________

فكذلك المعلّق، و هو الرضا المعاملي.

3- أخبار بيع العينة «1»؛ حيث دلّت علي بطلان بيع النسيئة مشروطاً ببيع المشتري المتاع- الذي اشتراه- للبائع ثانياً نقداً؛ حيث دلّت علي بطلان البيع الأوّل لأجل اشتراطه بالبيع الثاني. و هذه الأخبار و البحث عن مفادها قد سبق مفصّلًا في ذيل البحث عن حيل الربا في كتابنا «دليل تحرير الوسيلة».

و لا بأس بذكر بعض هذه النصوص هاهنا.

فمنها:

خبر الحسين بن المنذر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: يجيئني الرجل فيطلب العينة فأشتري له المتاع مرابحة ثمّ أبيعه إيّاه ثمّ أشتريه منه مكاني قال عليه السلام:

«إذا كان بالخيار إن شاء باع، و إن شاء لم يبع، و كنت

أنت بالخيار، إن شئت اشتريت و إن شئت لم تشتر فلا بأس».

فقلت: إنّ أهل المسجد يزعمون أنّ هذا فاسدٌ

______________________________

(1)- و قال في مجمع البحرين: «و العينة بالكسر، السلعة. و قد جاءَ ذكرها في الحديث و اختلف في تفسيرها. و قال ابن إدريس في السرائر: العينة معناها في الشريعة هو أن يشتري سلعةً بثمن مؤجّل ثمّ يبيعها بدون ذلك الثمن نقداً ليقضي ديناً عليه، لمن قد حلّ له عليه و يكون الدين الثاني- و هو العينة- من صاحب الدين الأوّل، مأخوذ ذلك من العين و هو النقد الحاضر. و قال في التحرير: العينة جائزة. فقال في الصحاح: هي السلف. و قال بعض الفقهاء: هي أن يشتري السلعة ثمّ إذا جاء الأجل باعها علي بائعها بثمن المثل أو أزيد. و في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السلام: و قد سأله رجل زميل لعمرو بن حنظلة عن الرجل يعيّن عينة إلي أجل فإذا جاء الأجل تقاضاه، فيقول: لا و اللّٰه، ما عندي، و لكن عيِّنّي أيضاً حتّي أقضيك. قال عليه السلام: «لا بأس ببيعه» و منه تفهم المغايرة للمعنيين الأوّلين. مجمع البحرين 6: 288.

قال في المصباح المنير: «عيَّن التاجر تعييناً، و الاسم: العينة- بالكسر- و فسّرها الفقهاءُ بأن يبيع الرجل متاعه إلي أجل ثمّ يشتريه في المجلس بثمن حال ليسلم به من الربا. و قيل لهذا البيع عينة؛ لأنّ مشتري السلعة إلي أجل يأخذ بدلها عيناً أو نقداً حاضراً».

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 126

______________________________

و يقولون إن جاء به بعد أشهر صلح. قال عليه السلام:

«إنّما هذا تقديم و تأخيرٌ فلا بأس» «1».

و منها:

خبر خالد بن الحجّاج قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام الرجل يجي ء فيقول: اشتر

هذا الثوب، و أربحك كذا و كذا، قال عليه السلام: «أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟» قلت: بلي، قال عليه السلام: «لا بأس به إنّما يحلّ الكلام، و يحرّم الكلام» «2».

و منها:

صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن العينة، فقلت: يأتيني الرجل فيقول: اشتر المتاع و أربح فيه كذا و كذا فأُراوضه علي الشي ء من الربح فنتراضي به، ثمّ انطلق فأشتري المتاع من أجله، لو لا مكانه لم أرده، ثمّ آتيه به فأبيعه، فقال: «ما أري بهذا بأساً، لو هلك منه المتاع قبل أن تبيعه إيّاه كان من مالك، و هذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه منك بعد ما تأتيه، و إن شاء ردّه فلست أري به بأساً» «3».

و منها:

صحيح منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يريد أن يتعيّن من الرجل عينة فيقول له الرجل: أنا أبصر بحاجتي منك فأعطني حتّي أشتري، فيأخذ الدراهم فيشتري حاجته، ثمّ يجي ء بها إلي الرجل الذي له المال فيدفعه إليه. فقال عليه السلام: «أ ليس إن شاء أشتري، و إن شاء ترك، و إن شاء البائع باعه، و إن شاء لم يبع؟» قلت: نعم، قال: «لا بأس» «4» /

قوله:

«ثمّ يجي ءُ بها إلي آخره … »

أي يجي ءُ بها الرجل الذي اشتراها لصاحب الدراهم، فيأخذ صاحب الدراهم المال الذي اشتراه، ثمّ يدفعه إليه؛ أي يبيعه من طالب العينة بأزيد من قيمة الشراء.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 18: 41، كتاب التجارة، أبواب العقود، الباب 5، الحديث 4.

(2)- وسائل الشيعة 18: 50، كتاب التجارة، أبواب العقود، الباب 8، الحديث 4.

(3)- وسائل الشيعة 18: 51، كتاب التجارة، أبواب العقود، الباب 8، الحديث

9.

(4)- وسائل الشيعة 18: 52، كتاب التجارة، أبواب العقود، الباب 8، الحديث 11.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 127

______________________________

و منها: صحيحه الآخر

قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل طلب من رجل ثوباً بعينة، قال: ليس عندي هذه دراهم فخذها فاشتر بها، فأخذها فاشتري بها ثوباً كما يريد، ثمّ جاء به، أ يشتريه منه، فقال: «أ ليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟» قلت: بلي، قال: «إن شاء اشتري، و إن شاء لم يشتر؟» قلت: نعم، قال: «لا بأس به» «1».

حاصل مفادّ هذه النصوص أنّ من يحتاج إلي متاع و لم يكن عنده مبلغ يشتري به ذلك المتاع، يرجع إلي شخص و يقول له: اشتر لي ذلك المتاع و أنا اربحك. فيشتري الشخص ذلك المتاع بقيمة ثمّ يبيعه من طالب العينة نسيئةً بأكثر من تلك القيمة التي اشتراه. و بالمآل يأخذ طالب العينة المتاع و يصير مديوناً بأكثر من قيمته، و يستفيد ذلك الشخص الوسيط.

أو يريد الشخص الاقتراض، فيقول له المقرض: أبيعك هذا المتاع بألف درهم، فيبيعه المتاع بهذا المبلغ نسيئةً، ثمّ يشتريه منه بسبعمائة درهم. فيأخذ منه مريد الاقتراض سبعمائة درهم، و يعطيها القرض نقداً و لكن يبقي له في ذمّة المقترض ألف درهم، فيربح بثلاثمائة درهم.

هذه النصوص تدلّ علي صحّة البيع الأوّل ما لم يشترط ببيع المتاع للبائع ثانياً. و قد دلّت بمفهوم الشرط علي بطلان البيع الأوّل إذا كان مشروطاً بالبيع الثاني.

و فيه: أنّ الكلام في الشرط الفاسد. و شرط البيع الثاني- نقداً أو نسيئةً- في متن البيع الأوّل ليس بفاسد قطعاً، كما هو واضح؛ لعدم كونه خلاف مقتضي العقد

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 18: 52، كتاب التجارة، أبواب العقود، الباب

8، الحديث 12.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 128

______________________________

الأوّل و لا مخالفاً للكتاب و السنّة في نفسه. فلا بدّ من الاقتصار علي مورد هذه النصوص في مخالفة القاعدة و عدم التعدّي عن موردها، لكون مفادّها خلاف مقتضي القاعدة فيُتعبّد بها في موردها. و الحكمة في مفادّها أنّ في ذلك روح الربا و حقيقته.

و هاهنا روايات اخر استدلّ بها لسراية فساد الشرط إلي العقد. و اجيب عنها في محلّه، و ليس هاهنا محل البحث عن ذلك. و في هذا المقدار كفاية.

و بهذا البيان اتّضح أنّ القول ببطلان عقد المضاربة باشتراط عدم الفسخ لا وجه له غير سراية الفساد من الشرط إلي العقد. و لمّا بني السيد الإمام علي عدم سراية الفساد إلي العقد «1»، اختار هاهنا عدم بطلان عقد المضاربة باشتراط عدم الفسخ مع قوله بفساد الشرط نفسه.

الأمر الثاني: بطلان عقد المضاربة باشتراط عدم الفسخ في خصوص المقام لوجه مختصّ بالمقام.

و الظاهر أنّ المقام لا يختصّ بوجه خاصّ يصلح للاستدلال به علي بطلان عقد المضاربة، غير ما سبق في الأمر الأوّل.

نقد كلام السيد الخوئي

و أمّا ما يظهر من السيد الخوئي «2» في المقام من بطلان المضاربة لأجل عدم حصول المعلّق عليه؛ و هو عدم الفسخ في الخارج لفرض جواز عقد المضاربة و عدم انقلابه لازماً بالاشتراط المزبور، و أنّ المالك إنّما أذن بالمضاربة علي تقدير

______________________________

(1)- البيع، الإمام الخميني قدس سره 5: 360.

(2)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 17- 18.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 129

______________________________

عدم ثبوت ملك الفسخ؛ و حيث إنّه ثابت بمقتضي ذات العقود الإذنية الجائزة، يستلزم ذلك عدم إذن المالك بالمضاربة.

فهو راجع في الحقيقة إلي الأمر الأوّل من وجهي الاستدلال علي فساد العقد بفساد الشرط.

و لكنّه خلاف ما بني عليه هذا العلم في محلّه «1»، من أنّ المعلّق عليه في جميع موارد الاشتراط إنّما هو الالتزام بإيجاد الشرط، لا حصوله خارجاً. و حيث إنّ المعلّق عليه حاصل دائماً فالمعلّق- و هو الرضا المعاملي- حاصل في مطلق موارد الاشتراط، و أنّ كشف الخلاف في موارد عدم تحقّق الشرط من باب تخلّف الدواعي، و لا ربط لذلك بعدم حصول المعلّق عليه، حتّي يستلزم بطلان العقد؛ لأنّ الذي لم يحصل في الخارج هو سلب الملكية و لزوم العقد. و أمّا الالتزام بكونه ممنوعاً عن الفسخ أمرٌ نفساني حاصل حين الاشتراط.

هذا مع أنّ عدم تحقّق الفسخ في الخارج- الذي هو الغرض الأصلي من اشتراط سلب الملكية و القدرة علي الفسخ- لا ينافي مقتضي ذات العقد الجائز، بعد ما كان اشتراط ذلك راجعاً إلي إعمال اختيار الفسخ؛ لأنّ معني القدرة عليه أنّه إن شاء منع نفسه من الفسخ و يلتزم بسقوط حقّ الفسخ عن نفسه. و عليه فاختيار المالك أو العامل سقوط حقّ الفسخ عن نفسه لا منافاة بينه و بين جواز عقد المضاربة، بل اشتراط سقوط حقّ الفسخ و حصول المعلّق عليه بترك الفسخ مترتّب علي جواز عقد المضاربة؛ لأنّه إعمال لاختياره علي الفسخ، كما قلنا.

______________________________

(1)- مصباح الفقاهة 7: 355- 356.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 130

و إن كان المقصود التزامهما بأن لا يفسخاها فلا بأس به، و لا يبعد لزوم العمل عليهما (1)،

______________________________

لما ذا يجوز شرط الفعل دون شرط النتيجة؟

(1) 1- إنّ اشتراط عدم الفسخ في ضمن عقد المضاربة، كاشتراطه في ضمن أيّ عقد آخر تارةً: يكون علي نحو شرط النتيجة؛ بأن كان الشرط فيه عدم مالكيته للفسخ، فقد تقدّم الكلام فيه آنفاً، و عرفت ما هو مقتضي

التحقيق فيه.

و اخري: يكون علي نحو شرط الفعل بأن كان الشرط ترك الفسخ، فيلتزم المتعاقدان أن لا يفسخا العقد.

و حينئذٍ لا إشكال في جواز هذا الشرط؛ حيث إنّه لا يسلب به مالكية العاقد للفسخ حتّي ينافي مقتضي المضاربة فيفسد لأجل ذلك. بل إنّما هو يوجب الالتزام بترك الفسخ خارجاً. و لا إشكال في جوازه؛ حيث إنّه مقتضي اختياره و قدرته علي فعل الفسخ، فله إعمال قدرته علي ذلك و هو علي نحوين. أحدهما: إعمالها بعد إنشاء عقد المضاربة في أثناء عمل العامل. ثانيهما: إعمالها حين إنشاء العقد علي نحو التزامه بترك الفسخ.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ذلك أيضاً يستلزم سلب قدرته علي الفسخ، فلا فرق بينه و بين النحو الأوّل من الشرط بالمآل.

و الجواب: أنّ هذا العارض، إنّما نشأ من إعمال قدرته و اختياره ترك الفسخ، و لكن ذلك كان موجباً لسلب قدرته و زوال اختياره و مالكيته للفسخ من بدءِ انعقاد العقد. و من هنا ينافي مقتضي المضاربة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 131

و كذلك لو شرطاه في ضمن عقد جائز (1) ما لم يفسخ،

______________________________

لو وقع الشرط في ضمن عقد آخر غير المضاربة

(1) 1- ينبغي أن يكون مقصود السيد الماتن قدس سره من قوله «شرطاه» شرط ترك فعل الفسخ، لا علي نحو شرط النتيجة السالب لملك الفسخ، المفيد للزوم العقد.

فلا إشكال في جواز هذا الشرط في ضمن عقد جائز آخر غير المضاربة؛ لما عرفت آنفاً، و لعدم فرق بين كون الشرط في ضمن عقد المضاربة أو عقد آخر، كما لا فرق بين كون العقد الآخر عقداً جائزاً أو لازماً؛ لأنّ مقتضي التحقيق علي ما ثبت في محلّه وجوب الوفاء بالشرط الواقع في ضمن مطلق العقود، لازمة كانت أو جائزة، ما دام

لم يكن الشرط مخالفاً لمقتضي العقد، كاشتراط عدم الفسخ في العقود اللازمة؛ لأنّ عدم الفسخ موافق لمقتضي اللزوم. نعم، لا يجوز اشتراط اختيار الفسخ في العقد اللازم؛ لأنّه خلاف مقتضي لزوم العقد.

و من هنا يجب عدم الفسخ لأجل شرطه مطلقاً، سواءٌ كان اشتراطه في ضمن عقد المضاربة أو عقد آخر، جائزٍ أو لازمٍ. فالشرط نافذ و الوفاءُ لازم ما دام لم يُفسخ العقد المشروط بترك فسخه؛ لأنّه بفسخه أو انفساخه ينتفي المشروط. و لا معني لبقاء الشرط عند انتفاء مشروطه.

و لكن لا يخفي عليك أنّ التفصيل السابق يأتي هاهنا أيضاً، فلا يصحّ شرط عدم الفسخ علي نحو شرط النتيجة مطلقاً، سواءٌ كان في ضمن عقد المضاربة نفسه أو عقد آخر جائزٍ؛ لعمومية ملاك الفساد.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 132

و أمّا لو جعلا هذا الشرط في ضمن عقد خارج لازم- كالبيع و الصلح و نحوهما- فلا إشكال في لزوم العمل به (1).

(مسألة 12): الظاهر جريان المعاطاة و الفضوليّة في المضاربة

اشارة

(2)، فتصحّ بالمعاطاة، و لو وقعت فضولًا من طرف المالك أو العامل تصحّ بإجازتهما.

______________________________

(1) 1- لزوم العمل بشرط عدم فسخ المضاربة في ضمن عقد آخر لازم ممّا لا إشكال فيه؛ نظراً إلي عدم تطرّق شبهة قصور أدلّة الوفاء بالشرط عن شمولها للشرط الواقع في ضمن العقد الجائز.

و لكنّ التفصيل بين النحويين من الشرط ثابت هاهنا أيضاً؛ لما عرفت آنفاً من عدم الفرق في ذلك بين كون الشرط في ضمن عقد المضاربة نفسه أو في ضمن عقد آخر جائز أو لازم.

فإذا كان الشرط بنحو شرط النتيجة يكون مخالفاً لمقتضي المضاربة مطلقاً.

و هذه المخالفة لا تنتفي بوقوع الشرط في ضمن عقد آخر جائز أو لازم.

(2) 2- يقع الكلام في مقامين.

أحدهما: جريان المعاطاة في عقد المضاربة.

ثانيهما:

جريان الفضولية فيه.

جريان المعاطاة في المضاربة

أمّا جريان المعاطاة فقد تقدّم بعض الكلام فيه في أوّل الكتاب.

و قبل الورود في البحث عن ذلك ينبغي التنبيه علي نكتةٍ. و هي أنّ المعاطاة

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 133

______________________________

في إيجاب المضاربة إنّما يتصوّر في الخارج بعد اقتراح العامل المضاربة إلي المالك و ذكر خصوصياتها و كيفية تقسيم الربح. فإذا تبانيا علي ذلك يعطي المالك المقدار المعيّن من المال إلي العامل، من دون التلفّظ بالصيغة. و كذلك القبول المعاطاتي من جانب العامل. و ما دام لم يتحقّق اقتراح من جانب العامل و لم يكن تبانٍ بينهما علي المضاربة، يشكل تصوير الإيجاب و القبول معاطاةً، كما أنّ الأمر كذلك في سائر العقود، و إن كان ذلك معلوماً بقرينة الحال و المقام في البيع و الشراء المعاطاتيين، من دون حاجة إلي تبان علي حدة.

ثمّ إنّ الكلام يقع تارةً: في جواز الإيجاب بالفعل.

و اخري: في جواز القبول به.

أمّا الإيجاب فيظهر من بعض الأصحاب المفروغية عن اعتبار اللفظ في إيجاب المضاربة و عدم جوازه بالفعل، كما يظهر من صاحب الجواهر و صاحب الحدائق؛ حيث يستفاد منهما اختصاص الخلاف في ذلك بالقبول. بل صرّح في الجواهر بنفي الخلاف في ذلك؛ حيث قال: «و علي كلّ حال فلا خلاف في اعتبار اللفظ في إيجاب عقدها» «1»، و إن استدلّ بوجوه لمشروعية المعاطاة في المضاربة.

و ممّن يظهر منه المفروغية عن عدم جواز الإيجاب بالفعل و اختصاص الجواز بالقبول، هو العلّامة في التذكرة، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد، و الشهيد في الروضة، علي ما نقل عنهم في الجواهر و الحدائق «2».

و خالف في ذلك جماعةٌ فجوّزوا إيجاب المضاربة بالفعل، كما نقل في

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 339.

(2)-

جواهر الكلام 26: 339؛ الحدائق الناضرة 21: 203.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 134

______________________________

المفتاح «1» عن الكفاية و مجمع الفائدة كفاية كلّ ما دلّ علي الرضا، من قول أو فعل.

و قد مال إليه صاحب الجواهر و السيد الحكيم «2» و اختاره صاحب العروة و السيد الخوئي «3»، و السيد الماتن، كما عرفت منه في متن هذه المسألة.

تنقيح كلام صاحب الجواهر

فإنّ صاحب الجواهر بعد ما نقل عن الأصحاب اعتبار اللفظ في المضاربة و عدم مشروعية المعاطاة منها، أشكل عليهم بقوله: «و هو و إن كان موافقاً لأصالة عدم ملك العامل الحصّة من الربح، إلّا أنّه مخالف لما دلّ علي جوازها في البيع ممّا هو مشترك بينه و بين المقام و غيره من السيرة المستمرة، و صدق الاسم عرفاً و تجارة عن تراض، و نحو ذلك ممّا هو كاف في المشروعية، و في تخصيص نحو قوله عليه السلام:

«إنّما يحلّل الكلام، و يحرّم الكلام» «4».

ثمّ استنتج من ذلك مشروعية المضاربة المعاطاتية الفعلية، و إن لا تكون من قبيل عقد المضاربة، إلّا أنّه لا فرق بينهما من جهة ترتّب الثمرة؛ و هي جواز الفسخ في كلّ من المضاربة المعاطاتية و العقدية.

فإنّه قال: «فالمتّجه بناءً علي ذلك مشروعيتها كذلك، و إن لم يكن المركّب من الإيجاب و القبول الفعليين من عقدها، و عدم الثمرة المترتّبة بين معاطاتها و عقدها لجواز الفسخ فيهما، لا ينافي الحكم بمشروعيتها علي الوجه المزبور» «5».

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 423/ السطر 22.

(2)- مستمسك العروة الوثقي 12: 241.

(3)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 6.

(4)- جواهر الكلام 26: 338.

(5)- نفس المصدر: 339.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 135

______________________________

ثمّ جعل معقد الاتّفاق المدّعي، اعتبار اللفظ في إيجاب عقد المضاربة و

صرفه عن المضاربة المعاطاتية. ثمّ جعل مقتضي التحقيق في ختام كلامه تحقّق المضاربة بالإيجاب و القبول الفعليين، أقصاه أنّه لا يكون عقد المضاربة. و ردّ دعوي إجماع الأصحاب علي عدم مشروعية المضاربة المعاطاتية بقوله: «لكن قد عرفت التحقيق إن لم يكن ثمّ إجماع بخلافه، و دونه خرط القتاد» «1».

و حاصل الكلام: إنّ الذي ادَّعي صاحب الجواهر اتّفاق الأصحاب عليه، هو عدم صحّة المضاربة المعاطاتية و أنّ الصحيح عندهم إنّما هو المضاربة العقدية المعتبر فيها اللفظ، فلا تصحّ الفعلية منها عندهم.

و لكنّ الذي اختاره صاحب الجواهر نفسه، هو صحّة المضاربة المعاطاتية الفعلية المتحقّقة بالإيجاب و القبول الفعليين، و إنّما يعتبر اللفظ في خصوص عقد المضاربة- المعبّر عنه بالمضاربة العقدية اللفظية- دون المعاطاتية منها.

مقتضي التحقيق في المقام

و مقتضي التحقيق جريان المعاطاة في المضاربة مطلقاً، إيجاباً أو قبولًا.

و الوجه فيه ما قُرّر في محله من أدلّة جريان المعاطاة في البيع. و هي ثلاثة:

أحدها: السيرة العقلائية المستمرّة.

ثانيها: إطلاق آية «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ»؛ لصدق عنوان التجارة و المعاملة عرفاً علي المضاربة المعاطاتية.

ثالثها: العمومات الدالّة علي مشروعية المضاربة؛ نظراً إلي صدق عنوان المضاربة علي المعاطاتية منها عرفاً، بناءً علي رأي المشهور في تعريف المضاربة،

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 340.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 136

______________________________

من كونها دفع المال إلي الغير ليتّجر به علي أن يكون الربح بينهما.

و الفرق بين هذه الوجوه يظهر في ترتّب آثار المضاربة و أحكامها بناءً علي الوجه الأوّل و الثالث، و عدم ترتّبها بناءً علي الوجه الثاني، بل يصحّ أصل العقد بإطلاق تجارة عن تراض و يترتّب الآثار بالشرط الضمني المبني عليه المعاطاة.

و الإشكال بأنّ عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» إنّما يشمل العقود الدارجة المعهودة في زمن المعصومين عليهم السلام؛ لأنّ اللام

في «العقود» للعهد، فلا بدّ من إثبات كون المضاربة دارجة في تلك الأزمنة، و إلّا فيشكل الحكم بشمول إطلاق الآية لها.

مدفوع: بأن المستمسك في المقام هو إطلاق «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» لا «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، لانصرافها عن العقود الإذنية، كما سبق. أمّا دعوي عهدية اللام فممنوعة؛ لعدم دليل علي ذلك؛ لأنّ العهد الذكري و الحضوري لا معني له في الآية؛ لفرض عدم ذكر عقد قبلها و لا بعدها، كما لا معني للحضور. و أمّا الذهني فمرجعه إلي صلاحية غلبة الوجود لانصراف عموم الخطاب إلي الفرد الغالب، و ذلك ممنوع. و قد حرّرنا ذلك مفصّلًا في الجزء الثاني من كتابنا «بدائع البحوث» فراجع.

أمّا السيرة فلا ريب في جريانها و استقرارها مستمرّةً علي المعاطاة في البيع و الشراء و المضاربة و كثيرٍ من المعاملات، فيقصدون من المعاطاة عنواناً خاصّاً من المعاملات و يرتِّبون آثارها، و لم يرد من الشارع ما يردع هذه السيرة.

و هذه السيرة عقلائيةٌ، من دون خصوصية للمتشرّعة، لكون المعاملة المعاطاتية ممّا جرت عليه سيرة العرف العامّ. و يكفي في حجّيتها عدم ردعها من جانب الشارع، كما هو كذلك؛ حيث لم يرد من الشارع ما يدلّ علي ردعها.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 137

______________________________

صدق المضاربة علي المعاطاتية

و أمّا صدق عنوان المعاملة، بل المضاربة علي المعاطاتية منهما عند أهل العرف ممّا لا ريب فيه، و يشهد له الوجدان؛ حيث نراهم لا يشكّون في صدق عنوان المضاربة و البيع علي المعاطاتية منهما.

و أمّا إطلاق «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ»، فلا إشكال في شموله للمعاطاة بعد صدق عنوان التجارة عرفاً و حصول التراضي بين المتعاقدين بالوجدان؛ ضرورة أنّ المعيار في شمول إطلاقات الخطابات و عموماتها يدور مدار صدق موضوع الحكم و ما أخذ فيه

من المتعلّقات و القيود عرفاً.

و ذلك لأنّ موضوع الحكم و ما اعتبر فيه من المتعلّقات و الخصوصيات لو كان من العناوين العرفية المحضة و الوجدانيات يكون المعيار في صدقه نظر أهل العرف و شهادة الوجدان. و قد بيّنا أقسام الموضوعات و المتعلّقات و ما يترتّب عليها من الأحكام في الجزء الأوّل من كتابنا «بدائع البحوث».

و أمّا صدق التعريف، فلأنّ المشهور عرّفوا المضاربة بدفع المال إلي الغير للتّجارة، علي أن يكون الربح بينهما. و هذا يصدق علي المضاربة المعاطاتية بلا ريب؛ نظراً إلي أخذ الفعل في هذا التعريف، لا اللفظ و الصيغة. و أمّا أصالة الفساد في المضاربة؛ نظراً إلي قاعدة تبعية الربح للمال، فيكفي في معارضتها و انثلامها الوجوه المذكورة. و أمّا عدم الخلاف المدعي في الجواهر- مضافاً إلي ما عرفت من مخالفة جماعة من الفقهاء- فلا يكون حجّة تعبّدية كاشفة عن رأي المعصوم عليه السلام، بعد تمسّك الفقهاء بالوجوه المزبورة و نحوها. و من هنا لم يعتن به فحول المعاصرين.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 138

______________________________

جريان الفضولية في المضاربة

إنّ الفضولية إمّا تكون من جانب العامل أو من جانب المالك.

أمّا الفضولية من جانب العامل، تارة: تقع في أصل عقد المضاربة. و ذلك بأن أنشأ الودعي أو الأمين أو الوكيل- غير المأذون في المضاربة- عقد المضاربة بمال صاحب الوديعة أو الأمانة أو الموكّل فضولًا ثمّ أذنه المالك. و هذه الصورة هي مراد السيد الماتن قدس سره.

و اخري: تقع من جانب العامل في التجارة و البيع و الشراء بمال القراض بعد تحقّق المضاربة و إنشائه من جانب المالك.

و ذلك بأن شرط المالك شيئاً فتخلّف عنه العامل؛ كأن شرط المالك أن لا يُخرج مال القراض عن بلده، فأخرجه العامل و

اتّجر به فضولًا في خارج البلد. أو وقَّت المالك وقتاً و اشترط أجلًا لعقد المضاربة و خالفه العامل فاتَّجر بمال القراض بعد مضيّ الأجل فضولًا، و نحو ذلك من أنحاء صور مخالفة العامل للمالك بالعمل و التجارة بغير إذنه.

و إنّ ما يلي من رأي المشهور و الاستدلال في توجيه صحّة الفضولي لا يختصّ بصورة، بل يأتي في كلتا الصورتين، و إن كان مقصود الفقهاء من جريان الفضولية في المضاربة، الفضولية في أصل المضاربة.

و علي أيّ حال فالمشهور جريان الفضولية في أصل المضاربة، كما هو المشهور في البيع، كما صرّح به في الحدائق «1». و لا إشكال في ذلك؛ لأنّ العقد الصادر فضولةً ينتسب عرفاً إلي المجيز بعد لحوق الإجازة منه. فيكون العقد عقد

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 215.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 139

______________________________

المجيز في نظر أهل العرف بالإجازة. فيترتّب عليه آثار العقد، من غير فرق في ذلك بين الإجازة اللّاحقة و بين الإذن السابق.

فكما يصحّ إنشاءُ العقد بالإذن الصادر من المالك سابقاً و يترتّب عليه الآثار، فكذلك العقد الواقع بإذنه اللّاحق. و السرّ فيه أنّ ملاك صحّة العقد استناده و انتسابه إلي المالك في نظر أهل العرف، بأن يقال: وقع العقد بإذنه و إجازته، أو يستند عنوان البيع إليه و يقال: باع فلانٌ ماله. و هذا الاستناد حاصل في كلتا الصورتين- أي صورتي سبق الإجازة و لحوقها. و ذلك لاستناد العقد إلي المالك فيهما حقيقةً بلا عناية و مجاز.

تصوير الفضولي من جانب المالك

هذا كلّه في الفضولية من جانب العامل، و قد عرفت صورته. و أمّا من جانب المالك، بأن ينشئ المضاربة بماله لعامل ثمّ يقبلها نفسه من جانب العامل من دون اطلاعه و إذنه، ثمّ يُخبره بذلك و

يستأذن منه. فلو رضي العامل بما أنشأه المالك فضولًا و قَبِل الإيجاب الصادر منه، صحّ، و إلّا فلا. و أمّا إذا أنشأ المالك المضاربة لعامل آخر علي عين مال القراض الذي أنشأ المضاربة عليه للعامل الأوّل، فهو في حكم فسخ المضاربة الاولي، و ليس من الفضولي، كما هو واضح.

و الحاصل: أنّ أيّ وجه استدلّ به في مشروعية البيع الفضولي يأتي في المضاربة من غير فرق، و تفصيل هذا البحث موكول إلي محلّه.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 140

(مسألة 13): تبطل المضاربة بموت كلّ من المالك و العامل

اشارة

(1).

______________________________

بطلان المضاربة بموت المالك و العامل

(1) 1- لا خلاف في بطلان المضاربة بموت كلّ من المالك و العامل، كما قال في الرياض «1»، بل ذلك من المسلّمات بين الفقهاء، كما قال في المستمسك «2».

و الوجه في ذلك أنّ المضاربة من العقود الإذنية، و هي في الحقيقة نوعٌ من الوكالة. و مقتضي القاعدة فيها ارتفاع الإذن بموت المالك الموكّل و انتفاء الوكالة، فلا محالة تبطل المضاربة.

و بعبارة اخري: تنتفي أهليته بالموت للإذن. و ذلك لانعدام الحياة و الشعور و لانتفاء مالكيته للمال بمجرّد الموت.

و ينتقل مال القراض إلي ورثته. و مقتضي القاعدة حينئذٍ عدم ترتّب آثار المضاربة من حين الموت ما لم يُمضها الورثة و لم يجدّدوا العقد.

و أمّا العامل فبموته يرتفع موضوع إذن المالك و الوكالة؛ لاختصاص إذن المالك به، و ليست المأذونية في التجارة حقّاً ثابتاً للعامل حتّي ينتقل بعد موته إلي ورثته، كما لا تنتقل الوكالة بموت الوكيل إلي ورثته.

______________________________

(1)- رياض المسائل 9: 83.

(2)- مستمسك العروة الوثقي 12: 318.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 141

و هل يجوز لورثة المالك إجازة العقد فتبقيٰ بحالها بإجازتهم أم لا؟ الأقويٰ عدم الجواز (1).

______________________________

هل يجوز لورثة المالك إجازة عقد المضاربة؟

(1) 1- قال في الشرائع: «و لو مات ربُّ المال و بالمال متاعٌ فأقرّه الوارث، لم يصحّ؛ لأنّ الأوّل بطل، و لا يصحّ ابتداءُ القراض بالعروض» «1».

تحرير ذلك علي ما في الجواهر «2» أنّه لو مات المالك المضارب و اختلط مال القراض بالأمتعة و السلَع فأبقاه الوارث؛ بأن أجاز عقد المضاربة- الذي أنشأه المالك الميّت حال حياته- لم يصحّ هذا الابقاء و لا أثر لإجازة الوارث.

و علّل ذلك بأنّ الإجازة إنّما تصحّ و تنفذ إذا كان متعلّق الإجازة تحت سلطنة المجيز. و في

مفروض الكلام لم يكن مال القراض حال إنشاء عقد المضاربة ملكاً للوارث و لا تحت ولايته. فلا يتطرّق الفضولي بالنسبة إلي الوارث الذي لا علقة له بالمال حال العقد بأيّ وجه من الوجوه، كما أشار إليه في الجواهر بقوله: «و ليس هو فضولياً بالنسبة إلي الوارث الذي لم يكن له علقة بالمال حال العقد بوجه من الوجوه … و حينئذٍ فالمدار في الفضولية كون المعقود عليه حال العقد للغير، و لكنّ الفضولي أجري العقد عليه، بخلاف نحو المقام الذي هو للمالك، و لكن بالموت ينتقل عنه إلي وارثه. فليس هو في

______________________________

(1)- شرائع الإسلام 2: 112.

(2)- جواهر الكلام 26: 362.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 142

______________________________

عقده علي ماله فضولًا عن الغير الذي لا مدخلية له حال العقد» «1».

و أمّا إنشاء عقد القراض من الوارث ابتداءً و استينافاً، فلا يصحّ في مفروض الكلام؛ لفرض امتزاج مال القراض بالعروض و المتاع، بل لا يصحّ حينئذٍ حتّي بالنسبة إلي النقد الممتزج في مال القراض؛ لعدم العلم بمقداره في فرض عدم تمييزه بسبب الخلط بالعروض.

نقد كلام صاحب العروة

لو كان مال القراض ناضّاً؛ بأن كان بتمامه نقداً يصحّ استيناف عقد المضاربة و تجديده من جانب الوارث.

هذا تحرير كلام المحقّق و صاحب الجواهر في المقام.

و قد عرفت أنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو في إجازة الوارث بعد الموت لا في حال حياته. و عليه فلا يصحّ ما قال في العروة في توجيه تأثير إجازة الوارث:

«لكن يمكن أن يقال: يكفي في صحّة الإجازة كون المال في معرض الانتقال إليه و إن لم يكن له علقة به حال العقد، فكونه سيصير له كاف» «2»؛ ضرورة أنّ الكلام في إجازة الوارث بعد موت المالك، لا في

حال حياته. فكون مال القراض في معرض الانتقال إليه و كونه سيصير له، إنّما هو متصوّر حال حياة المورّث و أجنبيٌ عن موضوع الكلام و مفروض المسألة بالمرّة.

و إن يمكن تصحيح المضاربة السابقة حينئذٍ بإذن الوارث و إجازته حال حياة المورّث بعد موته؛ بأن كان متعلّق الإذن إبقاءُ العقد السابق بمجرّد موت المورّث.

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 362 و 363.

(2)- العروة الوثقي 5: 187.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 143

______________________________

و ذلك لأنّ الوارث مالك للمال بجعل الشارع في أوّل آن حدوث الموت. و المفروض صدور الإجازة منه سابقاً، فيمكن تصحيح الإجازة و إنفاذها حينئذٍ؛ لعدم كون العقد خالياً عن إذن مالك المال في آنٍ.

و علي أيّ حال فقد استدلّ في المقام لعدم تأثير إجازة الوارث بوجوه:

بيان الوجوه المستدلّ بها لعدم نفوذ إذن الورثة

أحدها: ما يستفاد من كلام صاحب الشرائع من عدم قابلية العقد للإبقاء بعد بطلانه بمجرّد موت المالك؛ إذ المالك أحد أركان العقد كالعامل، فإذا مات بطل العقد. و لا يمكن إبقاء العقد صحيحاً بعد بطلانه، و لا تأثير لإجازة الوارث في تصحيح العقد الباطل. و هذا الوجه متين لا غبار عليه.

ثانيها: ما يفهم من كلام صاحب الجواهر، من عدم تطرّق الفضولية و لا صحّة الإجازة اللّاحقة في العقود، إلّا إذا تعلّقت بما كان تحت سلطة المجيز و ولايته. و لا ولاية في المقام للوارث في مفروض الكلام علي ما تعلّقت به إجازته- و هو التصرّف في مال المالك حال حياته، حين إنشاء عقد المضاربة- كما هو واضح.

و هذا الوجه أيضاً متين جدّاً لا غبار عليه.

ثالثها: ما يستفاد من كلام السيد الحكيم «1». و حاصله: أنّ الإجازة لا يصحّ إلّا بشرطين، أحدهما: إنشاء العقد من غير الولي. ثانيهما: صدور الإجازة اللّاحقة

ممّن له الولاية علي العقد. فإذا أنشأ العقد من لا ولاية له علي العقد فضولةً، ثمّ أجازه الولي يصحَّح بذلك العقد الفضولي. و ليس مفروض الكلام من هذا القبيل، بل عكس ذلك؛ لأنّ عقد المضاربة إنّما أنشأه المالك الذي له الولاية علي العقد. و المجيز هو

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 319- 320.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 144

______________________________

الوارث الذي لم يكن له ولاية علي العقد حين الإنشاء و لم تحدث له ولاية بعد الموت علي العقد الواقع حال حياة المالك. هذه الوجوه الثلاثة في غاية المتانة لا غبار عليها.

رابعها: ما يستفاد أيضاً من كلام السيّد الحكيم «1». و حاصله: أنّه إن اريد إجازة العقد بلحاظ الحدوث كما في العقد الفضولي، فالعقد لا قصور فيه من هذه الجهة حتّي يحتاج إلي الإجازة اللّاحقة. و إن أريد إجازته بقاءً، فالبقاء ليس مقصوداً للمجيز و لا ممّا يقبل الجعل؛ لعدم ولاية للوارث علي ذلك، كما أشار إليه في الجواهر.

و فيه: أنّ مقصود المجيز لا إشكال في كونه تصحيح المضاربة الصادرة من المالك الميّت بقاءً؛ لعلمه بعدم سلطة و لا ولاية له علي أموال المالك المورّث حال حياته، بل لمّا يري انقطاع العقد بموته، يقوم بصدد إبقائه و استمراره بالإجازة، فكيف لا يكون الإبقاء مقصوداً للمجيز؟! نعم، عدم قبول الإبقاء للجعل لعدم ولاية الوارث علي ذلك وجه آخر اشير إليه في الوجه الأوّل. و لا ينافي ذلك ما تقدّم آنفاً من كون متعلّق الإجازة العقد المنشأ حدوثاً؛ لأنّه مقتضي القاعدة في إجازة الفضولي، إلّا أنّ الوارث إنّما يكون بصدد إبقاء العقد بعد موت المالك، و يريد أن يسدّ بالإجازة عن عروض الانقطاع و بطلان العقد بموت المالك حتّي يستمرّ

أثر عقد المضاربة بعد موته.

مقتضي التحقيق

فتحصّل أنّ مقتضي التحقيق في المقام أنّه لا يجوز لورثة المالك إجازة عقد المضاربة بعد موته. و لو أجازوا لا أثر لإجازتهم في تصحيحه.

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 321.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 145

(مسألة 14): العامل أمين

اشارة

، فلا ضمان عليه لو تلف المال أو تعيّب تحت يده، إلّا مع التعدّي أو التفريط (1).

______________________________

نعم، يجوز لهم إنشاء عقد المضاربة للعامل السابق استينافاً إذا كان مال القراض نقداً بتمامه من غير امتزاج بالعروض. و أمّا في صورة الامتزاج فلو أنشأ الوارث عقد المضاربة، لا تبعد الصحّة بالنسبة إلي النقود؛ نظراً إلي انحلال العقد بالنسبة إلي أجزاء مال القراض كما في بيع الشاة و الخنزير، و أمّا الجهل بمقدار النقد الممتزج، فلا يضرّ بصحّة المضاربة بعد إحراز قابليته للتجارة به، كما قلنا سابقاً.

لا ضمان علي العامل إلّا مع التفريط و التعدّي

(1) 1- يقع الكلام هاهنا تارةً: في كون العامل أميناً.

و اخري: في عدم ضمان الأمين علي نحو الكبري الكلّية.

و ثالثة: فيما دلّ بالخصوص علي عدم ضمان العامل في المضاربة من غير تفريط أو تعدٍّ و خيانة.

و رابعة: في ضمانه بالتعدّي أو التفريط.

و قبل الشروع في البحث ينبغي التنبيه علي نكتة في عنوان هذا البحث.

الفرق بين التعدّي و التفريط و الخيانة

و هي أنّ ظاهر الشرائع أنّ الخيانة هي التعدّي؛ حيث قابل بين التفريط و الخيانة بقوله: «إلّا عن تفريط أو خيانة». بل صرّح في المسالك باتّحاد لفظي الخيانة و التعدّي في المفهوم؛ حيث قال: «المراد بالخيانة ما يعبّر عنه في نظائره بالتعدّي، فإنّ استعمال شي ءٍ من أموال القراض و أكله علي غير وجهه و إنفاقه كذلك

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 146

______________________________

يقال له خيانة للمالك و تعدٍّ للحدّ الذي قرّره الشارع. و الفرق بينهما و بين التفريط أنّ التفريط عدمي، و هو ترك ما يجب فعله، و هما وجوديان، لاشتراكهما في فعل ما يجب تركه» «1».

و لكن قابل في العروة بين الثلاثة «2» بعطفها بأو. و قد استظهر السيد الحكيم

من الاستعمالات العرفية أنّ الخيانة أعمّ من التعدّي و التفريط؛ نظراً إلي صدقها عرفاً علي كلٍّ منهما. و هو الأصحّ؛ لفرض كون كل من التعدّي و التفريط عن عمد و تقصير، بل يصدق الإتلاف عن عمد علي كلّ منهما. و لا ريب في صدق عنوان الخيانة علي إتلاف المؤتمن مال الغير و تضييعه عن عمد و تقصير. و إنّ في صدق عنوان الخيانة علي التفريط و إن كان خفاءً في بعض مصاديق التفريط، إلّا أنّ صدقه علي كثير من مصاديقه واضحٌ عرفاً، لا خفاء فيه. كمن جعل الوديعة في مكان غير مسقّف فجاء المطر و هو لم يخرجها عن تحت المطر فضاعت بالرطوبة و كان المكان حين ما جعل الوديعة فيه جافّاً و كانت السماء صحواً ثمّ جاء المطر بعد ساعات. فحينئذٍ يكون تضييع الوديعة مستنداً إلي عدم إخراجه الوديعة عن تحت المطر مع شهوده المطر، بل يراه أهل العرف مقصّراً و يقولون، إنّه خان بالأمانة؛ حيث رآها تحت المطر و مع ذلك لم يستنقذها بإخراجها عن تحته.

فالحقّ في المقام مع السيّد الحكيم قدس سره. و عليه فما صنعه السيّد الماتن قدس سره، من الاكتفاء بذكر التعدّي و التفريط و المقابلة بينهما هو الأصحّ؛ حيث ليست الخيانة شيئاً غيرهما لكي تحتاج إلي الذكر. و أمّا الفرق بين التعدّي و التفريط فقد عرفت في كلام الشهيد.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 374.

(2)- العروة الوثقي 5: 206.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 147

______________________________

و أمّا جهات البحث

الجهة الاولي: فلا خلاف في كون العامل أميناً و عليه الإجماع، كما في الجواهر «1» و المفتاح «2» و غيره و يدلّ عليه ما ورد في المقام من النصوص الدالّة علي عدم ضمان المال ما لم

يخالف شرط المالك بالمفهوم و بدلالة الاقتضاء. فإنّ دلالتها علي نفي الضمان عنه بالمفهوم و دلالتها علي كونه أميناً بالاقتضاء؛ نظراً إلي توقّف نفي الضمان عنه علي كونه أميناً شرعاً، و هذه النصوص كثيرة «3». فلا إشكال في ذلك.

و أمّا الجهة الثانية: و هي عدم ضمان الأمين فهذا أيضاً ممّا لا خلاف فيه، بل من المسلّمات التي لم يخالف فيه أحدٌ. و قد دلّت علي ذلك نصوص متواترة واردة في كتاب الوديعة و العارية و الإجارة «4».

و هاتان المقدّمتان تنتجان عدم ضمان العامل في المضاربة.

إحداهما- صغري-: أنّ العامل أمينٌ.

ثانيتهما- كبري-: عدم ضمان الأمين.

و النتيجة: نفي الضمان عن العامل.

و أمّا الجهة الثالثة: و هي عدم ضمان العامل في المضاربة- مضافاً إلي إثباتها بالمقدّمتين المزبورتين- فقد دلّت علي عدم ضمانه بالخصوص عدّة نصوص واردة في باب المضاربة، كقول الصادق عليه السلام:

«ليس عليه من الوضيعة شي ءٌ، إلّا أن

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 378.

(2)- مفتاح الكرامة 7: 513/ السطر 19.

(3)- راجع وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1.

(4)- راجع وسائل الشيعة 19: 79، كتاب الوديعة، الباب 4، الحديث 1، 2، 5 و الباب 5، الحديث 1 و 19: 91، كتاب العارية، الباب 1، الحديث 1، 3، 6، 7، 10.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 148

______________________________

يخالف أمر صاحب المال»

، كما في صحيح الحلبي و صحيح الكناني و غيرهما «1».

و قول أمير المؤمنين عليه السلام:

«من اتّجر مالًا و اشترط نصف الربح، فليس عليه ضمان»

في صحيح محمّد بن قيس «2» و نظيره صحيحه الآخر عن أبي جعفر «3». «4»

و في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق، أعلي صاحبه ضمان؟ فقال:

«ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أميناً»

. قوله:

«الرجل يستبضع المال»

؛ أي يجعله بضاعةً عند غيره. و قد سبق معني البضاعة في أوّل الكتاب.

و من هذه النصوص ما دلّ بالمفهوم علي نفي ضمان العامل ما لم يخالف شرط المالك.

مثل صحيح

الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إنّه قال: في الرجل يعطي المال فيقول له: ائت أرض كذا و كذا، و لا تجاوزها و اشتر منها، قال: «فإن جاوزها و هلك المال فهو ضامن، و إن اشتري متاعاً فوضع فيه فهو عليه» «5».

و صحيحه الآخر

عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «المال الذي يعمل به مضاربةً، له من الربح، و ليس عليه من الوضيعة شي ءٌ، إلّا أن يخالف أمر صاحب المال»» «6».

و مثله صحيح أبي الصباح الكناني «7»

و موثّق أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام: في

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 17، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 3 و 4 و 7.

(2)- وسائل الشيعة 19: 20، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 2.

(3)- وسائل الشيعة 19: 21، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 3.

(4)- وسائل الشيعة 19: 21، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 4.

(5)- وسائل الشيعة 19: 15، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 2.

(6)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 4.

(7)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 3.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 149

كما أنّه لا ضمان عليه من جهة الخسارة (1) في التجارة، بل هي واردة عليٰ صاحب المال.

______________________________

الرجل يعطي الرجل مالًا مضاربة و ينهاه أن يخرج إلي أرض اخري، فعصاه، فقال عليه السلام: «هو له ضامن، و الربح بينهما إذا خالف شرطه و عصاه» «1».

و غير ذلك من النصوص المتظافرة

الواردة في المقام. فإنَّها دلّت بمفهوم الشرط علي عدم ضمان العامل ما لم يخالف شرط صاحب المال.

فلا إشكال في عدم الضمان علي العامل في المضاربة، إلّا مع التعدّي أو التفريط.

أمّا الجهة الرابعة: و هي ضمان العامل بالتعدّي أو التفريط، فلا خلاف فيه أيضاً و لا إشكال، كما هو ثابت في كلّ أمين. و قد دلّت علي ذلك نصوص متواترة عموماً و خصوصاً بالصراحة، و سبق ذكرها و ذكر مصادرها آنفاً، و هي وردت في المضاربة و غيرها. و عمدة النصوص الخاصّة وردت في المضاربة، و ذكرها في الوسائل في الباب الأوّل من كتاب المضاربة، فراجع.

هل يضمن العامل للخسارة؟

(1) 1- إنّ الخسارة تارة: تحصل في التجارة بسبب مخالفة العامل لما شرطه صاحب المال عليه و أمر به من خصوصيات التجارة، كأن يشترط أن لا يشتري إلّا من زيد و لا يبيع إلّا من عمرو، أو لا يشتري إلّا المتاع الفلاني، أو لا يسافر إلّا إلي البلد الفلاني، أو لا يسافر أصلًا، فخالفه العامل فخسر في التجارة لأجل ذلك.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 18، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 10.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 150

______________________________

و اخري: تحدث بسبب عوامل اخري، غير مخالفة ما شرط عليه المالك.

و حينئذٍ تارة: تحصل الخسارة و الوضيعة في التجارة بسبب تعدّي العامل و تقصيره بإفراط أو تفريط، و إن لم يتحقّق به مخالفة شرط المالك، كأن لم يشترط شيئاً و مع ذلك كان حدوث الخسارة بسبب إفراط العامل أو تفريطه. و لا إشكال في ضمان العامل للخسارة الواردة حينئذٍ لقاعدة ضمان الإتلاف و خروجه بذلك عن كونه أميناً و صيرورته خائناً و انصراف نصوص المضاربة عنه حينئذٍ.

و اخري: تحصل الوضيعة في التجارة بغير تعدٍّ

و لا إفراط و لا مخالفة شرطٍ.

و ذلك كالخسارة الحاصلة بآفة أو نزول سعر أو غير ذلك من الأسباب الطبيعية و العادية الخارجة عن اختيار العامل.

و كلام السيد الماتن قدس سره في هذه الصورة الأخيرة. و قد عرفت آنفاً ما دلّ عليه من النصوص الواردة في المقام، كقول أمير المؤمنين عليه السلام:

«من اتّجر مالًا و اشترط نصف الربح فليس عليه ضمان»

في صحيحة محمّد بن قيس «1» و قول الصادق عليه السلام:

«و ليس عليه من الوضيعة شي ءٌ إلّا أن يخالف أمر صاحب المال»

في صحيحة الحلبي و صحيحة الكناني «2» و غيرهما من النصوص المستفيضة «3».

فإنّ هذه النصوص الصحاح المستفيضة تدلّ بوضوح علي نفي ضمان درك الخسارة في تجارة المضاربة علي العامل، إلّا في صورة مخالفته لما اشترطه المالك عليه و أمره به في كيفية التجارة و خصوصياتها. و سيتعرّض السيّد الماتن في المسألة السادسة عشر إلي ذلك فانتظر.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 20، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 2.

(2)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 3 و 4 و 7.

(3)- وسائل الشيعة 19: 15، كتاب المضاربة، الباب 1.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 151

و لو اشترط المالك علي العامل أن يكون شريكاً معه في الخسارة- كما هو شريك في الربح- ففي صحّته وجهان، أقواهما العدم (1). نعم لو كان مرجعه إلي اشتراط: أنّه عليٰ تقدير وقوع الخسارة علي المالك خسر العامل نصفه- مثلًا- من كيسه لا بأس به، و لزم العمل به لو وقع في ضمن عقد لازم، بل لا يبعد لزوم الوفاء به و لو كان في ضمن عقد جائز ما دام باقياً. نعم له فسخه و رفع موضوعه، كما أنّه لا بأس

بالشرط- عليٰ وجه غير بعيد- لو كان مرجعه إلي انتقال الخسارة إليٰ عهدته بعد حصولها في ملكه؛ بنحو شرط النتيجة.

______________________________

لو شرط المالك علي العامل تحمُّل الخسارة

(1) 1- ينبغي تحرير كلام السيد الإمام قدس سره في المقام؛ و هو أنّ اشتراط كون الوضيعة علي العامل يتصوّر بصور ثلاث:

إحداها: أن يشترط المالك علي العامل كونه شريكاً في الخسارة الحاصلة في خلال التجارة في المضاربة، كما يكون شريكاً له في الربح. و مقصوده اشتراط ذلك علي نحو شرط النتيجة؛ بمعني أن تشتغل ذمّة العامل بضمان نصف الوضيعة من أوّل آن حدوثها، كما كان يدخل نصف الربح في ملكه من أوّل آن حدوثه.

فحكم قدس سره بفساد هذا الشرط؛ لوضوح كونه مخالفاً للسنّة الثابتة بدلالة ما ورد في المقام من النصوص المستفيضة- كما سيأتي ذكرها و بيان دلالتها- لا لكونه مخالفاً لمقتضي عقد المضاربة. و ذلك لما سيأتي من كون ضمان الخسارة و عدمه من قبيل أحكام عقد المضاربة و عدم دخوله في مقتضي ماهية نفس العقد.

و لكن لا يلزم من فساد الشرط بطلان أصل العقد، بل عقد المضاربة باق علي

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 152

______________________________

صحّته، و إنّما يصبح الشرط فاسداً لغواً فاقداً لأيّ أثرٍ. كما سبق ذلك من السيّد الماتن في اشتراط عدم الفسخ، فليس قوله: «أقواهما العدم» بمعني عدم صحّة العقد، بل بمعني عدم صحّة الشرط و نفي الآثار عنه.

ثانيتها: أن يشترط المالك تدارك العامل و تحمّله الخسارة و جبرانها- بعضاً أو كلًا- بعد ما وردت علي المالك. و هذا النحو من الاشتراط- مضافاً إلي كونه من قبيل شرط العمل، لا النتيجة- مؤكّد لمقتضي المضاربة و مؤيّد لمفاد النصوص النافية لضمان العامل بالحكم الأوّلي، فليس شرطاً مخالفاً لمقتضي العقد و لا لإطلاقه

و لا مخالفاً للسنّة.

ثالثتها: أن يكون مرجع الاشتراط و ظاهره انتقال الخسارة و الوضيعة- بعضاً أو كلًاّ- إلي ذمّة العامل؛ بعد استقراره في ذمّة المالك، كأن يقول المالك للعامل- عقيب إنشاء عقد المضاربة-: «بشرط أن ينتقل نصف الوضيعة إلي ذمّتك»؛ نظراً إلي ظهور تعبير الانتقال إلي ذمّة العامل في استقرار الخسارة في ذمّة المالك في الرتبة السابقة؛ أي تنتقل الخسارة من ذمّتي إلي ذمّتك. و أنت تري أنّ هذا التعبير مؤكّد لمقتضي المضاربة و مدلول نصوص المقام.

و حاصل كلام السيد الماتن صحّة اشتراط كون الوضيعة علي العامل إذا كان بنحو شرط العمل. و أمّا إذا كان علي نحو شرط النتيجة، ففصّل قدس سره بين ما إذا كان مرجعه إلي انتقال الخسارة إلي ذمّة العامل بعد دخولها و استقرارها في ذمّة المالك فيصحّ الشرط حينئذٍ، و بين ما إذا لم يكن مرجعه إلي ذلك، بل كان المتفاهم من كلام المالك اشتراط دخول الوضيعة في أوّل آن حدوثها في ذمّة العامل، من دون أن تكون مسبوقة باشتغال ذمّة المالك بها، و لو آناً مّا.

إذا عرفت ذلك فنقول: لو شرط المالك علي العامل أن يكون الخسارة عليهما

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 153

______________________________

كالربح أو شرط ضمانه لرأس المال ففي صحّته وجوه، بل أقوال.

ثالثها: التفصيل بين اشتراط ذلك علي نحو شرط النتيجة فيبطل و بين كونه علي نحو شرط الفعل فيصحّ.

و رابعها: التفصيل الذي عرفت من السيد الإمام الراحل. و هو الذي يقتضيه التحقيق.

تحرير الأقوال

قد اختار العلّامة في القواعد عدم صحّة اشتراط ما ينافي مقتضي عقد المضاربة و أنّ العقد يبطل بفساد هذا الشرط؛ حيث قال: «و لو شرط ما ينافيه، فالوجه بطلان العقد، مثل أن يشترط ضمان المال

أو سهماً من الخسران … » «1».

و وجّه البطلان في جامع المقاصد بقوله: «وجه البطلان: أنّ هذه شروط باطلة؛ لمنافاتها مقتضي العقد شرعاً، فيبطل العقد بها، و لأنّ التراضي المعتبر فيه حينئذٍ لم يقع إلّا علي وجه فاسد، فيكون باطلًا.

و يحتمل ضعيفاً صحّة العقد و بطلان الشرط، لأنّ بطلان أحد المتقارنين لا يقتضي بطلان الآخر.

و جوابه: أنّ التراضي في العقد شرط، و لم يحصل إلّا علي الوجه الفاسد، فيكون غير معتبر فيفوت شرط الصحّة» «2».

قوله: «أحد المتقارنين … » أي واحد من الالتزام بالشرط و الالتزام بالعقد.

فإنّ العقد المشترط فيه شي ءٌ يكون في الحقيقة التزاماً في التزام. مقصوده أنّ فساد

______________________________

(1)- قواعد الأحكام 2: 331.

(2)- جامع المقاصد 8: 55.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 154

______________________________

أحد هذين المتقارنين لا يستلزم فساد الآخر.

و لكن ناقش في الجواهر كون اشتراط ذلك منافياً لمقتضي العقد؛ حيث قال:

«فإنّ جميع هذه الأمور من الأحكام، أو ممّا هو مقتضي إطلاق العقد، لا أنّها من منافيات مقتضاه التي تعود عليه بالنقض. فتأمّل جيّداً» «1».

و ذهب السيد في العروة إلي صحّة هذا الشرط. و علّل ذلك بقوله: «لأنّه ليس شرطاً منافياً لمقتضي العقد، كما قد يتخيّل، بل إنّما هو منافٍ لإطلاقه» «2».

و لا يخفي أنّ مقصودهم من إطلاق العقد في المقام، هو إطلاق ما دلّ من النصوص علي نفي كون الوضيعة علي العامل؛ حيث إنّها تشمل محلّ الكلام- و هو ما لو شرط المالك علي العامل تحمّل الخسارة- بالإطلاق. و عليه فاشتراط ذلك من المالك مخالف لإطلاق هذه النصوص المتضمّنة لمقتضي عقد المضاربة.

و وافقه السيد الحكيم «3» معلّلًا بأنّ اشتراط ذلك ليس ممّا يخالف مضمون العقد، و لا مخالفاً للوازمه العرفية، و لا مخالفاً لأحكامه

الشرعية الاقتضائية التي هي مقتضي العقد، بل إنّما هو مخالف لأحكامه الشرعية غير الاقتضائية التي هي خارج عن مقتضي العقد. ففي المثال عدم ضمان الأمين مطلقاً و عدم ضمان العامل في المضاربة إنّما هو لعدم المقتضي؛ حيث لم يتحقّق في حقّه أحد أسباب الضمان- كما هو متحقّق في حقّ المالك- لا لأجل وجود المقتضي لعدم الضمان، فهو يكون من قبيل لا بشرط الذي يجتمع مع ألف شرط.

و ليس منافياً لما دلّ من النصوص عموماً علي عدم ضمان الأمين، و لا لما

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 342.

(2)- العروة الوثقي 5: 163.

(3)- مستمسك العروة الوثقي 12: 275.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 155

______________________________

دلّ بالخصوص علي عدم ضمان العامل في المضاربة؛ نظراً إلي ظهوره في نفي الضمان علي العامل من جانب الشارع. و هذا لا ينافي ثبوت الضمان من جانب المتعاقدين أنفسهما، بجعل المالك العاقد و قبول العامل. و حينئذٍ لا مناص من تحكيم إطلاق ما دلّ علي صحّة الشروط، بل لزوم العمل بها.

فإنّه قدس سره بعد نقل كلام صاحب الجواهر قال: «فكأنّه يريد بالأحكام الأحكام غير الاقتضائية، و إلّا فالأحكام الاقتضائية لا يصحّ اشتراط خلافها، لأنّ الشرط المخالف للكتاب باطل. و بالجملة: قد أشرنا في المسألة السابقة إلي أنَّ الشرط المخالف لمقتضي العقد تارة: يكون مخالفاً لمضمونه، و أخري: يكون مخالفاً للوازمه العرفية، و ثالثة: يكون مخالفاً لأحكامه الشرعية الاقتضائية. و كون شرط الضمان أو شرط تحمّل الخسارة من أحد الأقسام المذكورة، غير ظاهر، بل من الواضح أنّهما غير مخالفين لمضمون المضاربة و لا للوازمها العرفية. نعم، قد يتوهّم مخالفتهما لما دلّ علي عدم ضمان الأمين. لكنّه ممنوع لاحتمال أنّ عدم ضمان الأمين لعدم المقتضي، لا لمقتضي العدم،

و مع الاحتمال يبني علي صحّة الشرط المخالف له، لعدم ثبوت كونه مخالفاً للكتاب، و الأصل العدم.

بل الظاهر المفهوم عرفاً أنّ عدم ضمانه لعدم المقتضي، و حينئذٍ لا تضرّ مخالفته للشرط» «1».

ثمّ إنّه- بعد ذكر بعض ما دلّ من نصوص المقام علي نفي ضمان الوضيعة عن العامل- قال: «و ظاهر الروايات المذكورة أنّ عدم ضمان العامل للخسارة من أحكام المضاربة فيكون الشرط مخالفاً للكتاب، و مخالفاً لمقتضي العقد شرعاً.

اللّهم إلّا أن يقال أيضاً: إنّ الحكم المذكور لعدم المقتضي، فلا ينافيه الشرط. اللّهم

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 276.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 156

______________________________

إلّا أن يقال: الاستثناء في روايتي الحلبي و الكناني يقتضي عدم الضمان حتّي بملاحظة العناوين الثانوية، فيدلّ علي عدم تحمّل الخسارة مطلقاً في غير المستثني حتّي مع الشرط، فيدلّ علي عدم صحّة شرط الضمان و تدارك الخسارة تعبّداً، لا من جهة كونه مخالفاً لمقتضي العقد شرعاً، اللّهم إلّا أن يكون منصرف النصوص الجعل الشرعي، لا جعل المالك، كما هو مورد الكلام، و هو غير بعيد جمعاً بين النصوص المذكورة و عموم نفوذ الشروط و حينئذٍ لا مانع من اشتراط تدارك الخسارة كلًا أو بعضاً» «1».

قوله: «اللّهم إلّا أن يقال: الاستثناء … » يريد بذلك أنّ الاستثناء، لمّا كان ظاهراً في المتّصل؛ و هو إخراج ما كان داخلًا في عقد المستثني منه، و كان المستثني هو الضمان الثابت علي العامل بالعنوان الثانوي الطاري بمخالفة أمر صاحب المال، فيكشف ذلك كون عقد المستثني منه شاملًا للضمان الثابت بالعنوان الثانوي. و لازم ذلك دلالته علي نفي الضمان عن العامل حتّي بالعنوان الثانوي الثابت عليه باشتراط المالك.

و لكنّه رجع عن ذلك بقوله: «اللّهم إلّا أن يكون …

» انصراف هذه النصوص إلي نفي الضمان عن العامل بالجعل الشرعي لا باشتراط المالك، و أيّده بأنّه مقتضي الجمع بين هذه النصوص و بين عمومات نفوذ الشروط. هذا كلّه تحرير كلام السيد الحكيم في المقام، مع نقل نصّ كلامه.

و ينبغي قبل التعرّض للمناقشة التنبيه علي أمرين: أحدهما: ما هو المراد من إطلاق العقد في كلمات الفقهاء؟ و ثانيهما: المراد من الحكم الاقتضائي و غير الاقتضائي.

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 277.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 157

______________________________

إطلاق العقد في كلمات الفقهاء

إنّ لفظ الإطلاق جاءَ في كلمات الفقهاء بمعنيين:

أحدهما: دلالة اللفظ علي الشمول بمعونة مقدّمات الحكمة. و هو فيما إذا تعلّق الحكم بطبيعي شي ءٍ مرفوضاً عن أيِّ قيد، فيشمل ذلك الخطاب لجميع أفراد طبيعي متعلّقه و يستوعب الحكم لها باقتضاء مقدّمات الحكمة. و هذا هو الإطلاق الاصولي المصطلح عليه في علم الاصول.

ثانيهما: تجريد إنشاء العقد عن اشتراط شي ءٍ خارج عن مقتضي العقد، فيعبّر عنه في اصطلاح الفقه، بإطلاق العقد. و هو ظاهر في عدم اشتراط ما يضادّ الشي ء الذي انشئ العقد مجرّداً عن اشتراطه؛ نظراً إلي دخوله في مقتضي العقد و خروج ما يضادّه عنه، فيُراد من إطلاق العقد ذلك المعني.

و ذلك كتجريد إنشاء العقد عن قيد التأخير في تسليم العوض، أو عن قيد تسليمه في بلد المعاملة، أو عن قيد العيب و نحو ذلك من الخصوصيات الخارجة أو المخالفة لمقتضي العقد.

المعني المقصود في المقام

و إنّ إطلاق العقد بهذا المعني اصطلاح بين الفقهاء منذ عصر القدماء.

و الحاصل: أنّ مقصود الفقهاء من إطلاق العقد تجريده عن الاشتراط، كما سيأتي في كلام صاحب الجواهر. فإذا قالوا- مثلًا-: إطلاق العقد يقتضي التعجيل في تسليم المبيع و الثمن، مقصودهم أنّ تجريد العقد من اشتراط التأخير في تسليمهما ظاهرٌ في تعجيله، و ليس مقصودهم هو الشمول الإطلاقي الثابت لإطلاق الكلام علي ما هو المحرّر في علم الاصول. و الضابطة في ذلك ظهور الإنشاء

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 158

______________________________

المجرّد عن شرط شي ءٍ خارج عن مقتضي العقد في إرادة ما يضادّه الذي هو داخلٌ في مقتضي العقد.

الاستشهاد بكلمات الفقهاء

و ينبغي لإثبات إرادة هذا المعني من إطلاق العقد في كلمات الفقهاء قدس سرهم الاستشهاد ببعض ما يفيد ذلك من كلماتهم. قال في الشرائع: «إطلاق العقد يقتضي تسليم المبيع و الثمن» «1». مقصوده عدم اشتراط التأخير في أداءِ الثمن أو المثمن يقتضي التعجيل في تسليم الثمن. و كذا في المختصر النافع «2».

و يشهد لإرادة هذا المعني من الإطلاق ما قال صاحب الجواهر في ذيل كلام صاحب الشرائع بقوله: «لا خلاف في أنّ إطلاق العقد و تجريده عن اشتراط التأخير يقتضي وجوب تسليم المبيع و الثمن عرفاً فيتبعه الوجوب شرعاً» «3».

و ممّا يشهد لما قلنا في بيان المقصود من إطلاق العقد كلام العلّامة؛ حيث قال في القواعد: «إطلاق العقد و اشتراط التعجيل يقتضيان تعجيل الثمن» «4».

و قال في القواعد: «إطلاق العقد يقتضي نقد البلد» «5» أي عدم اشتراط نقد غير البلد في العقد؛ بأن انشئَ العقد مطلقاً، من غير اشتراط بنقد غير البلد، يكون ظاهراً في نقد البلد.

______________________________

(1)- شرائع الإسلام 2: 283.

(2)- المختصر النافع: 124.

(3)- جواهر الكلام 23: 144.

(4)-

قواعد الأحكام 2: 43.

(5)- نفس المصدر: 94.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 159

______________________________

و قال في المختلف: «فإنّ إطلاق العقد يقتضي التسليم في البلد» «1». أي إنشاءُ العقد مطلقاً من غير اشتراط تسليم العوض في غير البلد يقتضي التسليم في البلد.

و ممّا يشهد لذلك ما قاله في التذكرة: «إطلاق العقد و اشتراط السلامة يقتضيان السلامة علي ما مرّ من أنّ القضاء العرفي يقتضي أنّ المشتري إنّما بذل ماله بناءً علي أصالة السلامة فكأنّها مشترطة في نفس العقد. فإذا اشتري عبداً مطلقاً اقتضي سلامته من الخصاء و الجبّ» «2».

و حاصل الكلام: أنّ الأحكام الثابتة للعقود عرفاً أو شرعاً التي تعدّ من اللوازم العرفية أو الشرعية للعقد، يقتضيها تجريد إنشاء العقد عن اشتراط عدمها مطلقاً، سواءٌ اشترط المتعاقدان عدمها أم لا. و عليه يكون اشتراط عدمها من جانب العاقد خلاف مقتضي إطلاق العقد.

الأحكام الاقتضائية و غير الاقتضائية

فُسّر الحكم الاقتضائي بما كان ثبوته بسبب وجود المقتضي له؛ بأن يثبت الحكم بسبب مجعول من جانب الشارع أو العقلاء، كالضمان العقدي المقتضي لبراءة ذمّة المضمون له. و ذلك لأنّ الدليل الدالّ علي براءة ذمّة المضمون له بالضمان، ظاهرٌ في كون الضمان مقتضياً لذلك حسب الفهم العرفي و الارتكاز العقلائي. و لمّا كانت براءة ذمّة المضمون له لوجود المقتضي- و هو الضمان- لا لعدم المقتضي للاشتغال، فمن هنا يكون اشتراط اشتغال ذمّته عند إنشاء عقد

______________________________

(1)- مختلف الشيعة 5: 178- 179.

(2)- تذكرة الفقهاء 1: 538/ السطر 32.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 160

______________________________

الضمان شرطاً مخالفاً للحكم الاقتضائي، كما أشار إليه السيد الحكيم «1».

أنحاءُ السبب المقتضي للحكم و موارده

و أنّ السبب المقتضي لثبوت الحكم الشرعي تارةً: يكون أمراً ارتكازياً عقلائياً، كاليد المقتضية لثبوت الملك، و اخري: سبباً شرعياً بما له من القيود المعتبرة شرعاً، كاقتضاء الزواج لجواز الاستمتاع، و عقد البيع للملك، و الضمان العقدي لبراءة ذمّة المضمون له.

و من هذا القبيل اشتراط عدم دخول المبيع في ملك المشتري عند إنشاء عقد البيع، و اشتراط منع الجماع و الاستمتاع حين إنشاء عقد النكاح؛ نظراً إلي كون عقد البيع سبباً للملك و الزواج سبباً مقتضياً لجواز الاستمتاع.

و أمّا الحكم غير الاقتضائي فقد اتّضح تعريفه باتّضاح معني الحكم الاقتضائي، فهو ما كان ثبوته لأجل عدم وجود المقتضي لما يضادّه و يخالفه من الأحكام، كالجواز بالمعني الأعمّ، فإنّه ثابت لعدم وجود مقتضي الوجوب و الحرمة و غيرهما من الأحكام الخمسة. فقد جُعل الجواز بالمعني الأعم علي نحو اللّابشرط بالقياس إلي ما يطرأُ عليه من الأحكام الثانوية بالاشتراط أو غيره.

الملاك الفارق بين عدم ضمان الأمين و بين عدم ضمان غيره

ثمّ إنّه قد مثّل السيد الحكيم في المقام للحكم غير الاقتضائي بعدم ضمان الأمين؛ بدعوي أنّ عدم ضمانه إنّما هو لأجل عدم وجود المقتضي- و هو أحد أسباب الضمان- و جعل من هذا القبيل عدم ضمان العامل.

و فيه: أنّ عدم ضمان الأمين ليس لمجرّد عدم المقتضي كغيره ممّن لم يصدر

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 13: 274.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 161

______________________________

منه أحد أسباب الضمان، بل إنّما ثبت عدم ضمانه بسبب ائتمان من ائتمنه من صاحب الأمانة و الوديعة و مالك مال القراض في المضاربة. فالائتمان علي الأمين و الاعتماد علي العامل هو السبب المقتضي لعدم ضمانه لدرك مال القراض و للوضيعة الحادثة في خلال التجارة. و هذا هو الفارق بينه و بين ما لا ربط له بالمضاربة

من سائر الناس. فإنّ عدم ضمانهم للوضيعة إنّما هو لأجل عدم المقتضي، و هذا بخلاف الأمين و العامل. و من هنا لو تلف مال الغير في يد غير الأمين بغير تفريط أو إفراط و خيانة يكون ضامناً، لتحقّق سبب الضمان، و إذا لم يتحقَّق التلف لا ضمان عليه، لعدم تحقّق سببه. بخلاف الأمين فإنّه لا يضمن حتّي مع فرض التلف بغير عمد و اختيار. و ليس الفارق بينهما حينئذٍ، إلّا تحقّق السبب المقتضي لعدم الضمان في الأمين- و هو ائتمان صاحب المال عليه- دون غيره.

هذا مختصر القول في بيان المراد من الحكم الاقتضائي و غير الاقتضائي و الفرق بينهما.

إذا عرفت ذلك فاتّضح لك من ضوء هذا البيان أنّ ما دلّ عليه نصوص المقام من عدم ضمان العامل ليس من الحكم غير الاقتضائي، حتّي لا يكون اشتراط ضمانه من المالك مخالفاً للسنّة. بل هو من الأحكام الاقتضائية و اشتراط خلافه يكون من قبيل الشرط المخالف للسنّة.

نقد كلام السيد الحكيم

و يظهر من كلام السيد الحكيم في الختام انصراف نصوص المقام إلي عدم ضمان العامل بالحكم الأوّلي المجعول من جانب الشارع، و خروج ضمانه الثابت باشتراط المالك و جعله عن نطاق هذه النصوص؛ حيث قال: «اللّهم إلّا أن يكون

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 162

______________________________

منصرف النصوص الجعل الشرعي، لا جعل المالك، كما هو مورد الكلام» «1».

و مقصوده ظاهراً أنّ عموم العقد المستثني منه في نصوص المقام منصرف إلي نفي الضمان عن العامل بالجعل الشرعي الأوّلي، لا نفي الضمان الثابت باشتراط المالك و جعله، كما هو محلّ الكلام. و عليه فلا يكون اشتراط المالك الضمان علي العامل مخالفاً لنصوص المقام؛ لعدم دخول نفي هذا الضمان في مدلولها.

فإنّ سياق كلام السيد الحكيم

عند التأمّل في كلامه السابق يعطي هذا المعني، و إلّا فمن الواضح أنّ في كلّ شرط مخالف للكتاب و السنّة، يكون التقابل بين الحكم الأوّلي المجعول بجعل الشارع- المستفاد من الكتاب أو السنّة- و بين الحكم الثانوي المجعول باشتراط الشارط. فكلُّ شرط مخالف للكتاب و السنة إنّما يخالف الحكم الأوّلي المجعول من جانب الشارع في الكتاب و السنة. و ذلك لأنّ الضابطة في الشرط المخالف للكتاب و السنّة إنّما هي مخالفة الشرط لما هو ثابت بدلالة الكتاب و السنّة المتواترة أو المستفيضة، من الحكم الأوّلي المجعول من جانب الشارع.

و فيه: أنّ دعوي انصراف نصوص المقام إلي نفي الضمان المجعول بالجعل الأوّلي من الشارع، لا شاهد له، بل عموم النكرة في سياق النفي في عقد المستثني منه و نفس الاستثناء، ظاهرٌ في كون المراد في المستثني منه نفي مطلق الضمان عن العامل، سواءٌ كان بالجعل الشرعي أو باشتراط المالك.

نقد كلام العلّامة و المحقّق الكركي

و أمّا كون اشتراط ذلك مخالفاً لمقتضي العقد، كما يظهر من القواعد و جامع المقاصد- فغير وجيه.

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 277.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 163

______________________________

و الوجه في ذلك أنّ الضمان من الأحكام الوضعية المترتّبة علي العقد، و هي خارجة عن مقتضي العقد؛ لأنّ مقتضي عقد المضاربة ليس إلّا عمل العامل و تجارته بالمال و تصرّفه فيه لأجل هذا الغرض، و هو كون الربح بينهما حسب ما اتّفقا و تبانيا عليه، و تحقّق هذا الغرض يتوقّف علي قابلية المال للتجارة و قدرة العمل عليها، كما قلنا سابقاً.

و أمّا ضمان تلف مال القراض أو إتلافه، أو دَرَك الوضيعة و خسارة التجارة، فهو من الأحكام الخارجة عن مقتضي المضاربة بل أصل العقد، كما أنّ الجواز و اللزوم

خارجان عن مقتضي العقد. بل إنّما هو مخالف لمقتضي إطلاق العقد؛ بمعني أنّ مقتضي تجريد إنشاء عقد المضاربة عن قيد ضمان العامل باشتراط المالك، لمّا كان ظاهراً عرفاً في عدم ضمان العامل مطلقاً، حتّي باشتراط المالك، فمن هنا يكون اشتراط المالك ضمان العامل مخالفاً لمقتضي إطلاق العقد، لا لمقتضي العقد نفسه؛ نظراً إلي أنّ عدم ضمان العامل من أحكام المضاربة، لا من مقوّماتها المأخوذة في حقيقتها و تعريفها.

و عليه فاشتراط كون الوضيعة علي العامل ليس مخالفاً لمقتضي العقد، بل إنّما هو مخالف للسنّة المستفيضة. فهو شرط فاسد، إلّا أنّه لا يفسد العقد بفساده علي الأقوي؛ لما سبق من عدم فساد العقد بالشرط الفاسد.

مقتضي التحقيق

مقتضي التحقيق في المقام هو التفصيل بين اشتراط ذلك علي نحو شرط الفعل و العمل فيصحّ و ينفذ و يجب الوفاءُ به، و بين كونه علي نحو شرط النتيجة فيبطل بالتفصيل الذي ذكره السيد الماتن قدس سره.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 164

______________________________

بيان ذلك: أنّ اشتراط ضمان درك الخسارة علي العامل إذا كان علي نحو شرط النتيجة، بالمعني الأوّل- و هو كون الخسارة و الوضيعة الحادثة في التجارة علي العامل مع عدم مخالفته لأمر المالك- يكون معناه اشتغال ذمّة العامل بها في أوّل آن حدوثها قبل أن تشتغل ذمّة المالك بها؛ بأن لم يحدث ضمان في عهدته أصلًا. و هذا المعني ينافي الحكم الأوّلي المجعول من جانب الشارع، من كون ضمان ذلك علي المالك دون العامل.

الاستشهاد بالنصوص

و قد دلّت علي ذلك نصوص مستفيضة فيكون هذا الشرط مخالفاً للسنّة.

و إليك بعض هذه النصوص:

منها:

موثّقة إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن مال المضاربة؟ قال: «الربح بينهما، و الوضيعة علي المال» «1».

و منها:

صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «المال الذي يعمل به مضاربة له من الربح و ليس عليه من الوضيعة شي ءٌ، إلّا أن يخالف أمر صاحب المال» «2».

و منها: صحيح

الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السلام: في الرجل يعمل بالمال مضاربة، قال عليه السلام: «له الربح و ليس عليه من الوضيعة شي ءٌ، إلّا أن يخالف عن شي ءٍ ممّا أمر صاحب المال» «3».

و منها: صحيح آخر

للحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنّه قال في الرجل يعطي

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 21، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 5.

(2)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 4 و 7.

(3)- وسائل الشيعة

19: 21، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 3.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 165

______________________________

المال فيقول له: ائت أرض كذا و كذا، و لا تجاوزها و اشتر منها، قال عليه السلام: «فإن جاوزها و هلك المال فهو ضامن، و إن اشتري متاعاً فوضع فيه فهو عليه، و إن ربح فهو بينهما» «1»

. و قد دلّت علي ذلك نصوص اخري «2».

و مفاد هذه النصوص عدم ضمان العامل للخسارة الحاصلة في المضاربة مطلقاً، إلّا في صورة واحدة و هي مخالفة أمر صاحب المال. و هذا الاستثناء ظاهر في دخول صورة اشتراط المالك في عقد المستثني منه.

و ذلك أوّلًا: لأنّ الاستثناء إخراج ما كان داخلًا في عقد المستثني منه، فلو لم يكن الضمان الثابت بالاشتراط و مخالفته فيه لم يصحّ استثناء ما ثبت بمخالفة أمر صاحب المال. و هذا معني قول السيّد الحكيم: «اللّهم إلّا أن يقال: الاستثناء في روايتي الحلبي و الكناني يقتضي عدم الضمان حتّي بملاحظة العناوين الثانوية» «3».

و أمّا قوله بعد ذلك: «اللّهم إلّا أن يكون منصرف النصوص الجعل الشرعي، لا جعل المالك» فقد عرفت جوابه آنفاً.

و ثانياً: لأنّ المتفاهم العرفي من الاستثناء الوارد في نصوص المقام بقوله عليه السلام:

«إلّا أن يخالف أمر صاحب المال»

، أنّ العامل بمخالفته لأمر صاحب المال لمّا خرج عن كونه أميناً، يرتفع السبب المقتضي لنفي الضمان و هو الائتمان، و أنّه ما دام أميناً يكون السبب المقتضي لنفي الضمان عنه باقياً علي حاله، و يدخل اشتراط المالك في نطاق عقد المستثني منه.

و بالنتيجة: أنّ هذا الارتكاز و المتفاهم العرفي من الاستثناء المزبور قرينة

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 15، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 2.

(2)- وسائل الشيعة 19: 15، كتاب المضاربة، الباب 1

و 3.

(3)- مستمسك العروة الوثقي 12: 277.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 166

______________________________

علي دخول محلّ الكلام- و هو اشتراط المالك الضمان علي العامل- في عقد المستثني منه. و يتحقّق بذلك مخالفة اشتراطه للحكم الاقتضائي المستفاد من نصوص المقام، فيكون شرطاً مخالفاً للسنّة.

و حاصل الكلام: أنّ عدم ضمان العامل و براءة ذمَّته من درك الخسارة، من الأحكام الاقتضائية الآبية عن اشتراط خلافها؛ لما سبق آنفاً من أنّ السبب المقتضي لعدم ضمانه هو اعتماد المالك و ائتمانه علي العامل، كما قلنا في توجيه عدم ضمان الأمين، فليس عدم ضمانه من قبيل عدم ضمان غيره، ممّن لم يؤتمن عليه.

فيكون اشتراط خلافها من المالك شرطاً مخالفاً للكتاب و السنة، كما أشار إليه السيد الحكيم «1».

فلا يصحّ ما يظهر من هذا العَلَم «2»؛ من أنّ عدم ضمان العامل في المضاربة من الأحكام غير الاقتضائية الملائمة مع اشتراط خلافها من جانب المالك.

و قد تحصّل من جميع ما ذكرناه في مفادّ هذه النصوص أنّها تفيد نفي مطلق الضمان عن العامل، سواءٌ كان باشتراط المالك أم لا. و ببيان آخر يكون ضمان العامل المجعول باشتراط المالك منفيّاً بدلالة هذه النصوص؛ لدخوله في عقد المستثني منه.

و ذلك أوّلًا: لعموم النكرة في سياق النفي في قوله عليه السلام:

«ليس عليه شي ء من الوضيعة».

و ثانياً: لظهور حقيقة الاستثناء و ماهيته في دخول الضمان المجعول باشتراط المالك في نطاق المستثني منه.

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 276.

(2)- نفس المصدر: 278.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 167

______________________________

و ثالثاً: لأنّ المتفاهم العرفي من الاستثناء في قوله عليه السلام

: «إلّا أن يخالف أمر صاحب المال»

في أنّ الملاك في ضمان العامل خيانته الموجبة لخروجه عن عنوان الأمين. و في مورد الكلام لم يخرج

عن كونه أميناً باشتراط المالك ضمانه للوضيعة.

و هذان الوجهان يمنعان الانصراف المدّعي في كلام السيد الحكيم.

نظرة إلي النصوص المعارضة

ثمّ إنّه يظهر من بعض نصوص المقام ما يخالف مفادّ النصوص المذكورة؛ حيث دلّ علي ضمان العامل للوضيعة في صورة اشتراط المالك و تضمينه. و قد استشهد السيد الحكيم بهذه الطائفة لانصراف النافية إلي نفي الضمان الثابت بجعل الشارع، لا بجعل المالك و اشتراطه.

و هي روايتان:

إحداهما:

حسنة الكاهلي عن أبي الحسن موسي عليه السلام: في رجل دفع إلي رجل مالًا مضاربة، فجعل له شيئاً من الربح مسمّي، فابتاع المضارب متاعاً فوضع فيه، قال عليه السلام: «علي المضارب من الوضيعة بقدر ما جعل له من الربح» «1»

؛ حيث دلّ ذيلها علي نفي ضمان الوضيعة عن المالك بقدر حصّة العامل من الربح، و أنّ ضمانه علي العامل. إلّا أنّ ظاهر هذه الحسنة غير معمول و مورد إعراض الأصحاب. و من هنا حملها شيخ الطائفة علي ما إذا كان العامل المضارب شريكاً في رأس المال، فيثبت في حقّه حكم المالك من تحمّل الخسارة بقدر ما يكون له الربح المعادل لسهمه من مال القراض.

و ثانيتهما: صحيحة

محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام- في حديث-:

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 22، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 6.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 168

______________________________

«إنّ عليّاً عليه السلام قال: من ضمَّن تاجراً، فليس له إلّا رأس ماله، و ليس له من الربح شي ءٌ» «1».

وجه مخالفة هذه الصحيحة لمفاد نصوص المقام، أنّها دلّت بالمنطوق علي عدم ترتّب آثار عقد المضاربة في صورة تضمين العامل، و دلّت بمفهوم الشرط علي اختصاص المضاربة بصورة عدم تضمين العامل. و ظاهر هذه الشرطية عدم مشروعية تضمين العامل في المضاربة مطلقاً، حتّي في صورة

اشتراط المالك. بل هي صريحة في انتفاء أحكام المضاربة في صورة تضمينه للوضيعة.

نعم، يمكن أن يقال: إنّه لو كانت هذه الصحيحة ناظرة إلي المضاربة- كما يظهر منها ذلك؛ لعدم استعمال لفظ فيها يدلّ علي الاقتراض، بل ظاهرها تضمين التاجر في ضمن إعطائه مال التجارة مضاربة، كما صرّح بذلك بلفظ «مضاربة» في الطريق الآخر- دلّت بدلالة الاقتضاء علي صحّة تضمين المالك باشتراط ضمان الوضيعة علي العامل، إلّا أنّ المالك لا يستحقّ شيئاً من الربح حينئذٍ؛ حيث رتّب الإمام عليه السلام عدم استحقاقه للربح علي نفس التضمين، فلا بدّ أن يكون صحيحاً حتّي يترتّب عليه هذا الأثر، و من هنا قلنا إنّها تدلّ علي صحّة التضمين بدلالة الاقتضاء. و قد حرّرنا في محلّه من علم الاصول أنّ المدلول بدلالة الاقتضاء ما لا تتمّ الدلالة علي المطلوب بدون افتراضه و تقديره. راجع لتحقيق ذلك إلي الجزء الأوّل من كتابنا «بدائع البحوث في مبادي علم الاصول» في مبحث الدلالات.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 22، كتاب المضاربة، الباب 4، الحديث 1.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 169

______________________________

دفع احتمال إرادة الاقتراض من هذه الصحيحة

ثمّ إنّ هذه الصحيحة قد رواها المشايخ الثلاثة بإسنادهم الصحيحة المنتهية إلي محمّد بن قيس بلفظ «من ضمَّن تاجراً». و بناءً علي هذه النسخة احتمل بعضٌ كون المراد الاقتراض؛ لظهوره في التضمين من أوّل الأمر. فإنّ القرض تمليك العين علي وجه التضمين؛ بأن يكون المقصود قلع ضرس الطمع في ربح مال القرض من المقرض، كما قد يدّعوه ذلك إلي أخذ الربا في القرض.

و لكن هذا الاحتمال يردّه انصراف التعبير بالتضمين عن القرض؛ لعدم كون استعماله معهوداً في القرض، هذا مع أنّ تعليق نفي استحقاق الربح علي التضمين ظاهرٌ في دخله مع عدم استحقاق الربح.

و لمّا ليس استحقاق المقترض لربح مال القرض لأجل تضمين المقرض إيّاه للخسارة في التجارة بمال القرض- بل إنّما لأجل حصول الربح في ملكه و كون الربح الحاصل كلّه للتاجر المقترض؛ لأنّه مالك المال، و من كان له المال فله الربح- كما هو المتّفق عليه في باب القرض- فمن هنا لا وجه لحمل هذه الصحيحة علي صورة القرض.

و لكن رواها الشيخ أيضاً بطريق آخر صحيحٍ عن محمّد بن قيس بلفظ «من ضمّن مضاربة». و بناءً علي ذلك ينتفي احتمال إرادة الاقتراض.

اللّهم إلّا أن يراد أنّه يصير قرضاً لا محالة بنفس تضمين العامل، بعد ما كان بصدد المضاربة، أي يخرج العقد بذلك عن عنوان المضاربة و يصير قرضاً.

و لكنّه غير وجيه لفرض عدم تمليك مال القراض للعامل المضارب، و في القرض لا بدّ من دخول مال القرض في ملك المقترض. هذا مضافاً إلي الإشكال السابق آنفاً.

و علي أيّ حال هاتان الروايتان قد أعرض عنهما فقهاؤنا و إنّما التزم بمدلولها

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 170

______________________________

العامّة كما أشار إليه السيد الحكيم «1». فلا بدّ إمّا من الإعراض عنهما أو نلتزم بضربٍ من التأويل، كما عرفت من شيخ الطائفة و غيره.

صحّة شرط النتيجة بالمعني الثاني

هذا كلّه في شرط النتيجة بالمعني الأوّل من المعنيين اللذين جاءَ في كلام السيد الماتن قدس سره. و أمّا بالمعني الثاني، و هو ما إذا كان مرجعه إلي انتقال الخسارة و الوضيعة إلي ذمّة العامل بعد اشتغال ذمّة المالك بها، فهو مؤكّد لمدلول نصوص المقام؛ إذ هي تفيد اشتغال ذمّة المالك بالوضيعة أوّلًا ثمّ انتقاله إلي ذمّة العامل بعرض الاشتراط، فلا يكون اشتراط كون الخسارة علي العامل بهذا المعني مخالفاً للسنّة، بل هو مؤكّدٌ لها، و إن

كان علي نحو شرط النتيجة.

و ببيان آخر: لا ينافي الاشتراط بهذا المعني الحكم الأوّليّ المجعول من جانب الشارع، و هو كون ضمان تلف مال القراض و ضمان الوضيعة و الخسارة في التجارة علي المالك، لا علي العامل؛ حيث إنّ انتقال الضمان إلي ذمّة العامل لا يُتصوّر، إلّا بعد ثبوته و استقراره في ذمّة المالك، كما هو واضح. فيكون الاشتراط بهذا النحو مؤكّداً للحكم الأوّلي المستفاد من نصوص المقام.

الفرق بين شرط الفعل و شرط النتيجة

و أمّا اشتراط ذلك علي نحو شرط الفعل، فمرجعه إلي كون تدارك الضرر الحاصل من تلف مال القراض و جبران الخسارة الواردة بالتجارة علي عاتق العامل، بمعني تعهّده و التزامه بفعل التدارك و الجبران، لا بمعني كون ضمان ذلك عليه، بأن يكون محكوماً شرعاً بالضمان.

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 278.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 171

______________________________

و الفرق بينهما واضح؛ لأنّ كون جبران خسارة المالك و تدارك ضرره في عهدة العامل فرع ثبوت ضمان الخسارة و الضرر في ذمّة المالك ابتداءً. و لا إشكال في جواز جبران الخسارة الواردة علي الغير، بل يستحبّ تدارك الضرر الوارد علي الغير لو كان بنيَّة قضاءِ حاجة المؤمن.

و من الواضح عدم منافاة ذلك لكون ضمان ذلك علي المالك بحكم الشرع، بل إنّه يؤكده؛ لأنّه متفرّع علي توجّه الضمان و الضرر أوّلًا إلي المالك، و إلّا لا معني لجبرانه و تداركه.

فلا إشكال في اشتراط تدارك الضرر علي العامل عند تلف مال القراض، و جبرانه الخسارة الحادثة في خلال التجارة، بل يلزم العمل به؛ عملًا بعموم ما دلّ علي لزوم الوفاء بالشرط الواقع في ضمن العقد اللازم، بل في العقد الجائز ما دام لم يُفسخ، كما في المقام. نعم، لو فسخه المالك أو العامل

يرتفع موضوع الضمان، كما أشار إليه السيد الماتن قدس سره.

فتحصّل أنّ الأقوي في المقام ما ذهب إليه السيد الماتن قدس سره، من صحّة اشتراط المالك ضمان التلف و الوضيعة علي العامل، إذا كان بنحو شرط الفعل، و التفصيل في شرط النتيجة بين ما إذا كان راجعاً إلي اشتراط انتقال الوضيعة إلي العامل فيصحّ، و بينما إذا لم يكن راجعاً إلي ذلك فيبطل.

و لكنّ الذي يفسد في هذه الصورة الأخيرة هو الشرط نفسه، من دون أن يسري فساده إلي عقد المضاربة. فالعقد يصحّ علي أيّ حالٍ، كما سبق بيان وجه ذلك في اشتراط عدم الفسخ.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 172

(مسألة 15): يجب علي العامل- بعد عقد المضاربة- القيام بوظيفته

اشارة

؛ من تولّي ما يتولّاه التاجر لنفسه علي المعتاد بالنسبة إليٰ مثل تلك التجارة في مثل ذلك المكان و الزمان، و مثل ذلك العامل؛ من عرض القماش و النشر و الطيّ مثلًا، و قبض الثمن و إحرازه في حرزه، و استئجار ما جرت العادة باستئجاره، كالدلّال و الوزّان و الحمّال، و يُعطي اجرتهم من أصل المال (1)،

______________________________

ما يجب علي العامل و ما يستحقّ به الاجرة

(1) 1- لا يخفي أنّ وجوب القيام بالوظيفة علي العامل في المقام ليس حكماً تكليفياً، بأن يحرم عليه مخالفته تكليفاً. بل المراد به الحكم الوضعي؛ بمعني أنّ تصرّفات العامل و تقلّباته في مال القراض إنّما تصحّ و تنفذ و يترتّب عليها حكم المضاربة فيما إذا عمل بما يقتضيه عقد المضاربة من الوظيفة المعتادة المتعارفة، دون ما إذا عمل بما هو خارج عن مقتضي عقد المضاربة. فكلّ عمل و تصرّف في مال القراض صدر عن العامل و كان خارجاً عن مقتضي المضاربة يكون العامل ضامناً و لا يجوز له أخذ مخارجه من

مال القراض، بل يجب عليه أن يدفعها من مال نفسه.

و إلّا فمن الواضح عدم وجوب إبقاء عقد المضاربة و العمل بمقتضاه تكليفاً، بل ذلك منوط بإرادة كلّ من المالك و العامل و اختيارهما. فلكلّ منهما ترك العمل بمقتضي المضاربة بفسخ العقد و رفع موضوع العمل في أيّ آن من آنات أثناء التجارة و العمل بالمضاربة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 173

بل لو باشر مثل هذه الامور هو بنفسه لا بقصد التبرّع، فالظاهر جواز أخذ الاجرة (1).

______________________________

استحقاق الاجرة لو باشر ما تعارف فيه الاستيجار

(1) 1- قد يوجّه عدم استحقاقه الاجرة حينئذٍ؛ بأنّ عمله بالمباشرة لمّا كان علي خلاف المعتاد المبنيّ عليه عقد المضاربة، فكأنّه خالف بذلك الشرط الضمني المعلّق عليه إذن المالك. فلم يكن عمله مأذوناً من جانب المالك. فهو بالمباشرة أسقط احترام عمله و أهدره.

و لكنّ الأقوي ضمان المالك لُاجرة عمله كما يظهر من السيد الماتن قدس سره؛ لقاعدتي الإتلاف بالتسبيب و احترام عمل المسلم.

و ذلك لأنّ عمل العامل لم يصدر منه بإقدام نفسه بغير دعوة المالك و خارجاً عن مقتضي المضاربة، و لا عن تبرّع، كما هو مفروض الكلام. بل إنّما صدر منه العمل بدعوة المالك و باقتضاء المضاربة؛ حيث إنّ المالك هو الذي دعي العامل إلي المضاربة و أذنه بالتجارة. و مقتضي إذنه و إن كان إذن العامل في الاستيجار و دفع الاجرة بإزائه، إلّا أنّ انصراف أمره إلي ذلك و اقتضائه له إنّما هو لأجل جريان العادة علي الاستيجار في ذلك العمل الخاصّ، و إلّا فمقصوده الأصلي- الذي تعلّق به الإذن حقيقةً هو الإتيان بذات العمل و تحقّق التجارة بها. و مقتضي إطلاق هذا الإذن عدم الفرق بين كون الأجير هو العامل أو غيره، مع أنّه لا فرق

بحال المالك علي أيّ حال؛ حيث كان عليه دفع اجرة العمل و لو كان صادراً من الأجير. و بهذا البيان اتّضح فساد القول بعدم جواز أخذ الاجرة للعامل حينئذٍ بدعوي كون عمله خارجاً عن مقتضي عقد المضاربة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 174

نعم لو استأجر لما يتعارف فيه مباشرة العامل بنفسه كانت عليه الاجرة (1).

(مسألة 16): مع إطلاق عقد المضاربة يجوز للعامل الاتّجار بالمال عليٰ ما يراه من المصلحة

اشارة

(2)؛

______________________________

عدم استحقاق الاجرة لو استأجر ما تعارف فيه المباشرة

(1) 1- و ذلك لأنّ العمل حينئذٍ كان من وظيفة نفسه بالمباشرة حسب اقتضاء المضاربة و تبانيه مع المالك؛ حيث إنّ مقتضي عقد المضاربة تولّي العامل بنفسه للتجارة و العمل، إلّا ما جرت عادة العرف علي الاستيجار عليه. و الذي التزم به المالك و العامل و تبانيا عليه، هو ما اقتضاه عقد المضاربة. فما كان مغايراً لمقتضاه خارجٌ عمّا التزما به و تبانيا عليه، و تصرُّفٌ في مال المالك بغير إذنه، فيكون العامل ضامناً للُاجرة المدفوعة. و ذلك لأنّه لم يكن الاستيجار حينئذٍ مورد إذن المالك و لا داخلًا في التزامه، فيضمن العامل لما تصرّف في ماله بغير إذنه فيجب عليه دفع ما أعطاه من الاجرة من كيسه. و هذا بخلاف ما لو باشر ما جرت العادة علي الاستيجار فيه؛ حيث لم يتصرّف في مال المالك بغير إذنه حينئذٍ، بل إنّما صدر منه العمل باقتضاء المضاربة التي اقترحها المالك إليه.

جواز الاتّجار للعامل كيف شاء عند إطلاق العقد

(2) 2- و ذلك لما سبق آنفاً من أنّه مقتضي أمر المالك و إطلاق إذنه للعامل بالتجارة. فإنّ إطلاق إذنه للعامل بالتجارة يقتضي جواز التصرّف له في مال القراض بأيّ نحو جرت عليه عادة أهل العرف؛ نظراً إلي انصراف إذنه إلي ما هو المتعارف في التجارة من التصرّفات و التقلّبات بالمباشرة أو غيرها، كما أنّ مقتضي إذنه

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 175

من حيث الجنس المشتري و البائع و المشتري و غير ذلك حتّيٰ في الثمن، فلا يتعيّن عليه أن يبيع بالنقود، بل يجوز أن يبيع الجنس بجنس آخر، إلّا أن يكون هناك تعارف ينصرف إليه الإطلاق (1).

______________________________

إيكال تشخيص مصاديق ذلك إلي نظر العامل. فله العمل حسب ما يراه من المصلحة، من حيث تعيين البائع

و المشتري و نوع الجنس، و غير ذلك من مقدّمات التجارة و متعلّقاتها.

عدم جواز البيع بالسِّلَع لو انصرف إطلاق العقد إلي البيع بالنقد

(1) 1- فلا يجوز فعل ما ينصرف عنه كلام المالك لانصراف إطلاق العقد إلي غيره. و ذلك مثل المسافرة إلي غير البلد؛ لأنّه خلاف ظاهر إذن المالك؛ لانصراف الإطلاق إلي بلد العقد. كما لا يجوز له قبول غير النقود بعنوان الثمن فيما إذا كان الإطلاق منصرفاً إلي النقود لشيوع كونها ثمناً و جريان العادة علي أخذها ثمناً؛ حيث ينعقد بذلك ظهور كلام المالك في كون الثمن من النقود. و كذلك الأمر في غيره من الخصوصيات. و سيأتي تفصيل الكلام في ذلك في خلال شرح بعض المسائل القادمة إن شاء اللّٰه.

غلبة الوجود متي توجب الانصراف؟

و لكن هاهنا إشكال لا ينبغي الغفلة عنه. و هو أنّ غلبة وجود بعض أفراد الطبيعي لا يوجب انصراف الإطلاق إلي الفرد الغالب، فكيف يمكن هاهنا دعوي انصراف إطلاق العقد إلي بعض الأفراد، مع أنّه لا وجه له إلّا غلبة وجوده في الخارج.

و الجواب: أنّ غلبة الوجود لو كانت ممّا جرت عليها عادة أهل العرف، يصير

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 176

و لو شرط عليه المالك أن لا يشتري الجنس الفلاني، أو إلّا الجنس الفلاني، أو لا يبيع من الشخص الفلاني، أو الطائفة الفلانية، و غير ذلك من الشروط، لم يجز له المخالفة، و لو خالف ضمن المال و الخسارة (1)، لكن لو حصل الربح، و كانت التجارة رابحة، شارك المالك في الربح عليٰ ما قرّراه في عقد المضاربة.

______________________________

بذلك ذلك الفرد الغالب في الوجود متعارفاً، و إذا كان متعارفاً يصير متفاهماً عرفياً من إطلاق الكلام. و من هنا يكون ظاهر الكلام حسب المتفاهم العرفي. و قد بحثنا عن ذلك في كتابنا «بدائع البحوث». و بيّنّا هناك وجه التفصيل في صارفيّة غلبة الوجود للإطلاق بين ما

إذا كانت ممّا جرت عليه عادة أهل العرف، كغسل الوجه؛ حيث جرت عادة أهل العرف علي غسله من أعلي الوجه إلي أسفله، و قلنا إنّه موجب لانصراف إطلاق الأمر بغسل الوجه إلي هذا الفرد الغالب؛ لكونه المتعارف و المتفاهم العرفي من الكلام، و قد نقلنا عن بعض الفحول اختيار هذا التفصيل و قوّيناه، فراجع. و هذا معني قول السيد الماتن «إلّا أن يكون هناك تعارف … ».

نظرة ثانية إلي ما دلّ علي ضمان العامل بمخالفة شرط المالك

(1) 1- و قد سبق دليل ذلك في شرح بعض المسائل السالفة. و هو ما دلّ من النصوص الواردة في المقام علي ضمان العامل الوضيعة و الخسارة الحادثة في التجارة فيما إذا خالف شرط المالك و أمره.

و هذه النصوص بالغة حدّ الاستفاضة، بل لا يبعد دعوي تواترها و هي تدلّ علي أمرين:

أحدهما: ضمان العامل عند مخالفة أمر المالك لما تلف من مال القراض، و لما

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 177

______________________________

حدث من الوضيعة و الخسران في التجارة.

ثانيهما: كون الربح الحاصل مشتركاً بينهما.

منها: صحيح

محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام، قال: سألته عن الرجل يعطي المال مضاربة، و ينهي أن يخرج به فخرج؟ قال: «يضمن المال، و الربح بينهما» «1».

هذه الصحيحة دلّت علي كون ضمان أصل مال القراض علي العامل لو خالف نهي صاحب المال.

و منها: صحيح

الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: في الرجل يعطي المال فيقول له: ائت أرض كذا و كذا، و لا تجاوزها و اشتر منها، قال: «فإن جاوزها و هلك المال فهو ضامن، و إن اشتري متاعاً فوضع فيه فهو عليه، و إن ربح فهو بينهما» «2».

هذه الصحيحة قد دلّت علي ثلاثة امور:

أحدها: ضمان مال القراض نفسه لو هلك عند ما خالف

العامل أمر صاحب المال.

ثانيها: كون ضمان الوضيعة و الخسارة الحاصلة في التجارة علي العامل لو خالف أمر صاحب المال.

ثالثها: أنّه لو حصل ربح يكون مشتركاً بين المالك و العامل حسب السهم المقرّر لهما.

و منها: صحيحه الآخر

عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «المال الذي يعمل به مضاربة له من الربح، و ليس عليه من الوضيعة شي ء إلّا أن يخالف أمر صاحب المال» «3»

.______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 15، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 1.

(2)- وسائل الشيعة 19: 15، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 2.

(3)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 4 و 7.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 178

______________________________

و نظيره صحيحة أبي الصباح الكناني «1».

و هاتان الصحيحتان تدلّان علي كون ضمان الخسارة في التجارة علي العامل إذا خالف أمر المالك.

و منها: ما دلّ علي ضمان العامل عند مخالفة أمر المالك مطلقاً، مثل صحيح

الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: في الرجل يعطي الرجل مالًا مضاربة فيخالف ما شرط عليه، قال: «هو ضامن و الربح بينهما» «2»

. و صحيح

الكناني قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المضاربة يعطي الرجل المال يخرج به إلي الأرض، و ينهي أن يخرج به إلي غيرها، فعصي فخرج به إلي أرض اخري فعطب المال؟ فقال: «هو ضامن، فإن سلم فربح فالربح بينهما» «3».

و نظيرهما صحيح رفاعة و جميل و موثّق أبي بصير و خبر زيد الشحّام «4».

و هذه الطائفة دلّت بإطلاقها علي ضمان العامل عند مخالفة أمر المالك لدرك تلف مال القراض و للخسارة الحادثة في التجارة كليهما.

و أنت تري ما ورد في ذيل أكثر هذه النصوص، من التصريح بكون الربح مشتركاً بين المالك و العامل، بعد الحكم

بضمان العامل لما ورد من الخسران بالتلف و الوضيعة. فهي تدلّ بوضوح علي أنّ مخالفة العامل لشرط المالك و عصيانه لأمره لا يوجب حرمانه لشي ء من الربح، بل إنّما يجب ضمانه لما ورد من الخسارة علي المالك بمخالفته لشرطه.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 3.

(2)- وسائل الشيعة 19: 16، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 5.

(3)- وسائل الشيعة 19: 17، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 6.

(4)- وسائل الشيعة 19: 17، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 8- 11.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 179

(مسألة 17): لا يجوز للعامل خلط رأس المال بمال آخر لنفسه أو لغيره،

اشارة

إلّا بإذن المالك عموماً أو خصوصاً، فلو خلط ضمن المال و الخسارة (1)،

______________________________

عدم جواز خلط رأس المال بمال آخر

(1) 1- صرّح في الشرائع بذلك، لكنّه قيّد الخلط بكونه علي وجه لا يتميّز.

و الوجه فيه عدم صدق العيب بمجرد الخلط ما دام كان متميّزاً.

كلام صاحب الشرائع و تعليله في الجواهر

قال قدس سره: «و لو خلط العامل مال القراض بماله بغير إذن المالك خلطاً لا يتميّز ضمن؛ لأنّه تصرّف غير مشروع» «1». و علّله في الجواهر بقوله: «ضرورة كونه أمانة في يده، فلا يجوز خلطها كالوديعة، علي أنّ الشركة عيب» «2».

و يستفاد من كلامه و كلام السيد الماتن و غيرهما من الأصحاب أنّ العامل يأثم بذلك و يضمن.

أمّا إثمه بذلك فلأجل عدم جواز التصرّف في مال الغير بغير إذنه. و المفروض عدم صدور الإذن من المالك للعامل بخلط ماله علي وجه لا يتميّز.

و ذلك لأنّ ظاهر كلام المالك عند التجرّد عن القرينة هو الاتّجار بمال شخصه، لا مختلطاً بغيره علي وجه غير متميّز، فلم يأذن بذلك.

______________________________

(1)- شرائع الإسلام 2: 113.

(2)- جواهر الكلام 26: 364.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 180

______________________________

يستقرّ الضمان بمجرّد المزج المعدم للتميّز

و أمّا ضمانه لمال القراض فلقاعدة ضمان اليد. و لا حاجة في الحكم بالضمان إلي التلف، كما يفهم من كلام صاحب العروة؛ حيث قال: «فلو خلط بدون الإذن ضمن التلف» «1». اللّهم إلّا أن يرجع العيب إلي نحو من التلف بالدقّة.

و ذلك لأنّ قاعدة اليد تجري بمجرد تعيُّب المال المغصوب بالخلط المعدم للتمييز، و لو لم يصدق عنوان التلف عرفاً. و من هنا تري صاحب الجواهر علّل الضمان بأنّ الشركة عيب. و تظهر الثمرة في صورة فسخ المالك قبل الاتّجار بالمال. فيضمن العامل ما حدث من العيب بسبب خلط مال القراض بمال نفسه أو مال غيره علي نحو لا يتميّز. اللّهم إلّا أن يرجع التعيُّب إلي نوع من التلف بالدقّة؛ لأنّ العيب ينشأ من تلف جزءٍ أو زوال وصف دخيل في القيمة.

و لا يخفي أنّ العامل كما يضمن أصل مال القراض، كذلك يضمن الوضيعة و

الخسارة الحادثة في التجارة بسبب الخلط المذكور.

و لا يخفي أنّ خلط رأس المال بماله إذا أوجب تلفه أو الوضيعة، يضمن العامل درك كلٍّ من المال و الوضيعة بلا إشكال، و لو كان الخلط علي نحو المتميّز؛ لوضوح أنّه السبب في الإتلاف و الوضيعة بالخلط، مع عدم إذن المالك به.

و هذا هو ظاهر كلام السيد الماتن قدس سره و لكن يشكل تصوير سببيّة الخلط للتلف.

و أمّا ما سبق آنفاً من أنّ العامل أمين لا ضمان عليه، فإنّه فيما إذا لم يخالف

______________________________

(1)- العروة الوثقي 5: 165.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 181

______________________________

أمر المالك و شرطه، كما عرفت من النصوص الواردة في المقام.

هذا، و لكن في المقام نكتة مهمّة لا ينبغي الغفلة عنها. و هي أنّ هذا الفرع لا مصداق له في عصرنا هذا بالنسبة إلي مال القراض.

لا مصداق لهذا الفرع في نقود اليوم

و ذلك لأنّ مال المضاربة من النقود الرائجة بلا إشكال. و جرت عادة أهل العرف و عامّة التجار من جميع البلاد و الأقوام و الملل علي خلط العُمّال مال القراض بأموالهم و ادّخاره في البنك في ضمن أموالهم و الأخذ من الحساب البنكي تدريجاً للتجارة. فجرت سيرة عامّة أهل العرف و العقلاء في يومنا هذا علي ادّخار مال القراض بعد أخذه من المالك في البنك و خلطه في ضمن سائر نقوده المدّخرة. ثمّ يأخذ العامل مال القراض من حسابه للتجارة و الاسترباح تدريجاً.

و عليه فخلط مال القراض بمال نفسه أو بمال غيره- ممّا يكون عنده و في حسابه البنكي- أمر رائج متعارف. و من هنا يكون هو المتفاهم العرفي من كلام المالك. فلا إشكال فيه و لا يوجب ضماناً لو تلف بغير افراط أو تفريط، أو حدثت وضيعة في التجارة،

فلا يضمن شيئاً من المال و الخسارة.

و إنّما يتصوّر المصداق لهذا الفرع بالنسبة إلي الدراهم و الدنانير الرائجة في الأزمنة السابقة بلحاظ ما في أصنافها و أفرادها من التفاوت بحسب الجودة و الردائة و مقدار ما فيها من الغشّ و الخلوص. و كذا بالنسبة إلي الأمتعة و السلع المشتراة بالتجارة الواقعة في ضمن المضاربة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 182

لكن لو اتّجر بالمجموع و حصل ربح فهو بين المالين علي النسبة (1).

______________________________

(1) 1- هذا بظاهره غير قابل للالتزام. و ذلك لأنّ تقسيم الربح حينئذٍ بنسبة المالين إنّما هو لأجل الشركة الحاصلة بين صاحبي المالين باقتضاء اشتراكهما في المال و بمقتضي قاعدة تبعية الربح للمال، و لا ربط لذلك بالمضاربة.

فمقتضي القاعدة حينئذٍ تقسيم الربح الحاصل من المجموع أوّلًا: بينهما بنسبة المالين بمقتضي الشركة، و ثانياً: تقسيم نصف الربح المتعلّق بمال المالك بين العامل و المالك حسب ما قرّراه في عقد المضاربة فكان الأنسب أن يقول السيد الماتن قدس سره:

فهو بينهما علي نسبة المالين أوّلًا، ثمّ تقسيم النصف المتعلّق بمال المالك بينهما حسب ما قرّراه في عقد المضاربة. فإنّ التقسيم الأوّل إنّما هو بمقتضي الشركة في المالين، و لكن التقسيم الثاني بمقتضي المضاربة.

نعم، قد يتوهّم أنّ هذا التقسيم الثاني إنّما يكون مشروعاً إذا كان الخلط بإذن المالك، و إلّا فلا بدّ من الاكتفاء بالتقسيم الأوّل؛ نظراً إلي انتفاء أحكام المضاربة بمخالفة العامل لأمر المالك.

و لكنّه غير وجيه و ذلك لأنّ بمخالفة أمر المالك لا تنتفي جميع أحكام المضاربة، بل إنّما ينتفي الضمان عن المالك و يتوجّه إلي العامل. و أمّا الربح فهو بينهما حسبما قرّراه.

و أمّا مقتضي المضاربة هو اشتراك العامل و المالك في خصوص الربح الحاصل

من مال القراض. و عليه فبعد ما قُسّم مجموع الربح بين المالين، لا بدّ من تقسيم الربح المتعلّق بسهم المالك بينه و بين العامل بمقتضي عقد المضاربة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 183

(مسألة 18): لا يجوز مع الإطلاق أن يبيع نسيئة

اشارة

(1)، خصوصاً في بعض الأزمان و علي بعض الأشخاص، إلّا أن يكون متعارفاً بين التجّار- و لو في ذلك البلد أو الجنس الفلاني- بحيث ينصرف إليه الإطلاق، فلو خالف في غير مورد الانصراف ضمن، لكن لو استوفاه و حصل ربح كان بينهما.

______________________________

لا يجوز النسيئة للعامل ما لم تتعارف

(1) 1- إنّ المناط في جواز البيع نسيئةً للعامل و عدمها ظهور أمر المالك.

و قد علّله في الجواهر «1» بالتغرير في النسيئة. و لعلّه لاحتمال الكساد و الإفلاس في المشتري عند حلول الأجل أو امتناعه من الأداء، أو التأخير في الأداء. و كذا في العروض إذا وقع ثمناً لاحتمال الكساد فيه بأن تقلَّ رغبة الناس إلي شرائه و عدم الإقبال إليه في السوق لأجل الانكماش الاقتصادي.

دعوي ظهور أمر المالك فيما هو أكثر ربحاً

و يمكن أن يقال بظهور أمره فيما هو أكثر ربحاً، و لو كان نسيئةً. و علّل ذلك بأنّ الغرض المعاملي الداعي إلي إعطاء المال للمضاربة هو الاسترباح. فإذا كان البيع نسيئةً أكثر نفعاً للمالك ينبغي أن يكون داخلًا في غرض المالك من المضاربة.

و عليه فأمر المالك و كلامه ظاهر في أيّة تجارة كانت أنفع للمالك، بأن يعود بها إليه ربح أكثر، بلا فرق في ذلك بين النقد و النسيئة. هذا التعليل من صاحب المسالك كما نقل عنه في الجواهر. و كلامه و إن كان في التعليل لجواز البيع بالعروض، إلّا أن الملاك يأتي في النسيئة قطعاً بالفحوي أو بتنقيح الملاك.

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 350.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 184

______________________________

التعليل لخروج النسيئة عن إطلاق الأمر و نقده

و قد أجاب عنه في الجواهر «1» بأنّ المدار عند إطلاق كلام المالك حصول المنفعة بالمعاملات المتعارفة بين التجّار في تحصيل الأرباح، و لا يدخل فيه الفرد النادر و إن فرضت فيه المصلحة.

و مقصوده قدس سره أنّ النسيئة غير رائجة و لا شائعة بين التجّار؛ لندور إقدامهم عليها. فهي فرد عزيز الوجود و نادر الوقوع. و من هنا ينصرف أمر المالك بالتجارة عنها إلي النقد؛ لكثرة وقوعه و جريان عادة العرف عليه، فهو الفرد الغالب المتعارف من طبيعي التجارة و ينصرف إليه الإطلاق لغلبة وجوده و كونه متعارفاً.

و السرّ في ذلك أنّ بيع النسيئة ليس رابحاً عادة؛ لأنّ في تعجيل أداء الثمن و كونه نقداً، حظّاً من القيمة يتعلّق الغرض المعاملي بالنقود و الحاجة إليها أكثر.

و ظاهر حال كلّ من يعطي ماله للمضاربة احتياجه الفعلي إلي الربح. و من هنا يعطي النقد ليستحصل بالمضاربة نقداً أكثر ممّا أعطاه. هذا مع أنّ في التأخير آفة و

ربما يعرض المانع علي أصل استحصال الأثمان.

و فيه: أنّ هذه المحاذير لا تصلح لإثبات المطلوب؛ إذ ربما لا يعتني العقلاءُ بهذه المحاذير و يُقدمون مع احتمالها علي النسيئة و البيع بالعروض؛ نظراً إلي ما يتوقّعونه من الربح الأوفر، كما يغضّون لأجل ذلك عمّا في النقد من الفوائد و الأغراض الاقتصادية العاجلة، و ما يمكن تحصيله بتبادل النقد المأخوذ من الفوائد و الأرباح في خلال مدّة الأجل.

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 350.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 185

______________________________

إعطاءُ الضابطة في المقام

و إنّما الملاك الصالح للتعليل به في المقام، ظهور كلام المالك في النقد بسبب جريان عادة أهل العرف عليه. و الوجه الأساسي في تكوّن عادتهم علي معاملة النقد و اجتنابهم عن النسيئة، هو احتياج العامل إلي الثمن غالباً، كما أنّ اعتيادهم علي أخذ الثمن نقداً- لا عروضاً- إنّما هو لأجل قابلية النقد للصرف في تهيئة كلّ ما يحتاج إليه الإنسان و لقضاء جميع حوائجه، دون الأمتعة و العروض.

و من هنا جري التعارف و استقرّت العادة علي التجارة نقداً بنقدٍ في المضاربة و قلّما يرضي المالك بالنسيئة. و لأجل ذلك يكون النقد ظاهر كلام المالك حينما يعطي ماله إلي العامل و يأمره بالتجارة، إلّا أن ينصب قرينة تدلّ علي إرادة ما هو أعمّ من النسيئة أو يصرّح بذلك. و ما دام لم يصرّح بذلك أو لم تكن هناك عادة عرفية أو قرينة حالية إلي ما هو الأعم، مقتضي ظاهر كلام المالك إرادة التجارة نقداً.

و عليه فلو خالفه العامل و باع نسيئةً فإن استوفي الثمن قبل اطلاع المالك فهو بينهما و لا يحدث إشكال حينئذٍ. و أمّا لو حدثت وضيعة و خسارة، فهي علي العامل كما سبق آنفاً؛ نظراً إلي مخالفته

لأمر صاحب المال، فعليه الوضيعة.

و أمّا لو اطّلع المالك علي الحال قبل استيفاء الثمن، فإن أمضي النسيئة فهو، و إلّا بطل و له الرجوع علي كلّ من البائع و المشتري. و السرُّ في ذلك أنّ البيع الواقع نسيئة من جانب العامل حينئذٍ يكون فضولياً و يترتّب عليه أحكام الفضولي. و حكم تعاقب الأيدي في صورة عدم الإمضاء. و لا مانع من اعتبار مال واحد في ذمم أشخاص متعدّدين، كما قُرّر في محلّه.

هذا كلّه إذا لم يكن النسيئة متعارفة بين التجّار. و أمّا إذا كانت متعارفة بحيث يمنع عن انصراف كلام المالك إلي النقد و يوجب دخولها في إطلاق كلامه، يجوز

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 186

(مسألة 19): ليس للعامل أن يسافر بالمال- برّاً و بحراً- و الاتّجار به في بلاد اخر غير بلد المال، إلّا مع إذن المالك

(1) و لو بالانصراف لأجل التعارف، فلو سافر به ضمن التلف و الخسارة، لكن لو حصل ربح يكون بينهما. و كذا لو أمره بالسفر إليٰ جهة فسافر إليٰ غيرها.

______________________________

للعامل حينئذٍ البيع نسيئةً، و لا ضمان عليه، بلا حاجة إلي إذن المالك لخصوصها.

فالضابطة التي عليها مدار الجواز و عدمه في المقام هو تعارف النسيئة في بلد المالك أو في الجنس الخاصّ؛ بحيث يوجب ظهور إطلاق كلام المالك في الأعمّ من النسيئة. فلو حصل هذا الملاك، يجوز مع إطلاق كلام المالك أن يبيع العامل نسيئةً، و إلّا فلا.

اعتبار إذن المالك في كون نفقة السفر من رأس المال

(1) 1- و قد علّل عدم جواز السفر إلي خارج بلد المالك للعامل، بما تقدّم آنفاً من ظهور كلام المالك في إذنه للعامل بالتجارة في داخل البلد؛ لأنّ المتعارف هو التجارة في داخل البلد، و صرف كلام المالك إلي خلاف ما هو المتعارف بحاجة إلي قرينة خاصّة.

فما دام لم تكن هناك قرينة صارفة عرفية عامّة

أو خاصّة منصوبة من جانب المالك، يؤخذ بظاهر كلام المالك و يحكم بعدم جواز السفر.

هذا، و لكنّ الإنصاف أنّه يشكل الالتزام بجريان العادة علي عدم السفر إلي خارج البلد للتجارة في المضاربة في هذه الأعصار، مع ما فيها من كثرة الوسائل النقلية السريعة بأنواعها، بل يمكن أن يقال: أنّ الاسترباح يتوقّف كثيراً ما علي

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 187

(مسألة 20): ليس للعامل أن ينفق في الحضر

اشارة

(1) من مال القراض و إن قلّ حتّيٰ فلوس السقاء، و كذا في السفر إذا لم يكن بإذن المالك،

______________________________

ذلك. و هذا ممّا تعارف في التجارات اليومية بين التجّار و العمّال، و من كان في هذه الأعصار أكثر وسيلةً للسير و السفر و أوسع ارتباطاً مع البلاد بل البلدان البعيدة يكون أقدر علي تحصيل النفع.

و عليه فظاهر كلام المالك في هذا الزمان ما هو أعمّ من التجارة في خارج البلد، إلّا أن تكون قرينة حالية أو مقالية و غيرها علي إرادة التجارة في خصوص البلد كما هو المتعارف في البلاد الصغيرة و في الأموال القليلة الجزئية و لا سيّما بحسب حال العامل من قلّة التمكّن و المقدرة التي لا يتوقّع معها من المالك أن يسافر إلي خارج البلد.

و علي أيّ حال يفترق الحال بحسب البلاد و الأشخاص و مقدار الأموال.

و لا بدّ في تعيين ظاهر كلام المالك الرجوع إلي القرينة، و يشكل تأسيس الأصل بالمنع، كما سبق في النسيئة آنفاً.

و علي أيّ حال فلو كان لكلام المالك ظاهر في عدم السفر و خالفه العامل و سافر ضمن تلف مال القراض و ما حدث من الوضيعة في التجارة، لما دلّ علي ذلك من النصوص السابقة ذكرها.

نفقة العامل في الحضر

(1) 1- قوله: فلوس السقاء؛ أي ما يعطي لسقي الماء أو اللبن.

ثمّ إنّه لا خلاف و لا إشكال في عدم جواز الإنفاق للعامل في الحضر من مال القراض، بل ادّعي عليه الإجماع غير واحد من الأصحاب. و الوجه فيه- مضافاً إلي

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 188

و أمّا لو كان بإذنه فله الإنفاق من رأس المال، إلّا إذا اشترط المالك أن تكون النفقة عليٰ نفسه (1)،

______________________________

اتّفاق الأصحاب- دلالة النصّ الصحيح الآتي

و عمومات حرمة التصرّف في مال الغير، من دون إذنه.

و أمّا السفر فإذا لم يكن بإذن المالك؛ بأن اشترط عدم السفر، فلا إشكال في عدم جواز أخذ نفقته من مال القراض، كما هو واضح؛ لما سبق آنفاً من النصوص الدالّة علي ضمان العامل لكلّ تلف و ضرر حدث من تصرّفه إذا لم يكن بإذن صاحب المال. و هذا لا كلام فيه بين الأصحاب.

فمحلّ الكلام هاهنا فيما إذا أذن المالك بالسفر؛ إمّا صريحاً، بأن يقول للعامل مثلًا: لك أن تسافر خارج البلد، أو كان ذلك مقتضي إطلاق كلامه، كما لو كان السفر متعارفاً، كما في هذه الأعصار. و يشهد لذلك كلام صاحب الحدائق؛ حيث قال: «ما ذكرناه من وجوب النفقة مخصوص بالسفر المأذون فيه. فلو سافر إلي غيره؛ إمّا بتجاوز السفر المأذون فيه إلي مكان غير مأذون فيه أو إلي جهة غير جهة السفر المأذون فيه فلا نفقة له، و إن كانت المضاربة صحيحة و الربح بينهما كما عرفت آنفاً» «1».

نفقة العامل في السفر
اشارة

(1) 1- إذا سافر العامل للتجارة بإذن المالك، وقع الكلام في أنّ ضمان النفقة هل هو علي العامل أو علي المالك أو يفصّل في ذلك؟ فاختلفوا علي أقوال. و ينبغي قبل الخوض في البحث تنقيح الآراء و بيان ما استُدلّ به لكلٍّ منها.

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 212.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 189

______________________________

تنقيح الآراء

ذهب المشهور إلي أنّ نفقة السفر- من مأكول و ملبوس و مشروب، بل كلّ ما هو من لوازم السفر و مصارفه الشخصية- علي المالك و أنّها من مال القراض مطلقاً، سواءٌ زادت نفقته علي نفقة الحضر أم لا، كما صرّح به في الحدائق «1» و جامع المقاصد «2». و إليه ذهب الشيخ في النهاية «3» و الخلاف «4» و ابن إدريس «5» و المحقّق «6» و ابن سعيد «7» و العلّامة في المختلف «8» و التذكرة «9» و التحرير «10» و إيضاح النافع و مجمع البرهان.

و عن المسالك و الكفاية و المفاتيح أنّه الأشهر، بل عن الخلاف أنّ عليه الإجماع. كلّ ذلك نقله في جامع المقاصد «11» و المفتاح «12» بالتفصيل.

و في المقام قولان آخران:

أحدهما: كون نفقة السفر كلّها علي العامل كالحضر.

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 210.

(2)- جامع المقاصد 8: 111.

(3)- النهاية: 430.

(4)- الخلاف 2: 114.

(5)- السرائر 2: 408.

(6)- شرائع الإسلام 2: 138.

(7)- الجامع للشرائع: 316.

(8)- مختلف الشيعة 6: 206.

(9)- تذكرة الفقهاء 2: 242.

(10)- تحرير الأحكام 1: 276.

(11)- جامع المقاصد 8: 111.

(12)- مفتاح الكرامة 7: 476.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 190

______________________________

ثانيهما: كون خصوص ما زاد منها عن نفقة الحضر علي العامل. و هذان القولان يستفادان من كلام الشيخ في المبسوط. و أوّلهما مختاره قدس سره ظاهراً. و سيأتي بيان وجههما بعد بيان

وجه قول المشهور.

و ينبغي هاهنا نقل كلمات بعض الفقهاء الفحول ليتّضح تحرير آرائهم و وجوه استدلالهم.

كلام المحقّق الكركي

قال في جامع المقاصد: «المشهور بين الأصحاب أنّ العامل يستحقّ الإنفاق في السفر من أصل مال القراض كمال النفقة. ذهب إلي ذلك الشيخ في النهاية و الخلاف، و أكثر الأصحاب، و اختاره المصنّف في كتبه، و هو الأصحّ؛ لأنّه بسفره انقطع إلي العمل في مال القراض، فناسب أن تكون النفقة علي المال. و لصحيحة

عليّ بن جعفر عن أخيه موسي عليه السلام قال: «في المضارب ما أنفق في سفره فهو من جميع المال، و إذا قدم بلده فما أنفق فمن نصيبه «1»»

. و هو ظاهر في المطلوب؛ لأنّ «ما» للعموم.

و ذهب في المبسوط إلي عدم الاستحقاق، و إنّ نفقته من ماله، كالحضر.

و لأنّه دخل علي أنّ له سهماً معلوماً من الربح فلا يستحقّ سواه، و قد لا يربح المال أكثر من النفقة. و ذهب أيضاً إلي أنّه علي تقدير القول بالإنفاق إنّما يستحقّ ما زاد علي نفقة الحضر من مأكول و ملبوس و آلات؛ لأنّه الذي اقتضاه السفر، و الحجّة الحديث السابق» «2».

______________________________

(1)- الكافي 5: 241/ 5؛ وسائل الشيعة 19: 24، كتاب المضاربة، الباب 6، الحديث 1.

(2)- جامع المقاصد 8: 112.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 191

______________________________

قوله: «لأنّه بسفره انقطع إلي العمل في مال القراض» تعليل بمقتضي القاعدة لإثبات كون النفقة علي المالك. و حاصله: أنّ سفر العامل لمّا كان لأجل العمل في مال القراض و تمحّضه في المضاربة و التجارة به و انقطاعه إلي ذلك، يقتضي ذلك كون نفقة السفر من مال القراض، و بالمآل علي المالك.

و بعبارة اخري: لمّا كان الغرض الغائي من سفره و الدّاعي إليه هو

التجارة بمال القراض و العمل فيه للمضاربة التي اقترحها المالك إليه، يكون مقتضاه كون نفقة السفر علي المالك.

و أمّا توضيح سائر فقرات كلامه فسيتّضح لك في تحرير كلمات سائر الفقهاء.

كلام صاحب الحدائق

و قال في الحدائق: «المشهور بين الأصحاب أنّ جميع ما ينفقه في السفر للتجارة من رأس المال، سواءٌ كانت النفقة زائدةً علي نفقة الحضر أو ناقصة أو مساوية، و كلّ ما يحتاج إليه للأكل و الشرب لنفسه و دوابّه و خدّامه حتّي القِرَب و الجواليق و نحوهما، إلّا أنّها بعد انتهاء السفر و الاستغناء عنها يكون كلّ ذلك من أصل المال، سواءٌ حصل له الربح أم لا.

و قيل: إنّه لا يخرج من أصل المال، إلّا ما زاد علي نفقة الحضر؛ للإجماع علي أنّ نفقة الحضر علي نفسه، فما ساواه في السفر يحتسب أيضاً عليه، و الزائد علي ذلك من مال القراض، و أيّد ذلك بعضهم بأنّه إنّما حصل بالسفر الزيادة لا غير، أمّا غيرها فسواء كان مسافراً أم حاضراً لا بدّ منها، فلا يكون من مال القراض.

و قيل: إنّ نفقة السفر كلّها علي العامل كنفقة الحضر، و علِّل بأنّ الربح مال المالك، و الأصل أن لا يتصرّف فيه، إلّا بما دلّ عليه الإذن، و لم يدلّ إلّا علي الحصّة

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 192

______________________________

التي عيّنها للعامل، و هو لم يدخل في العمل، إلّا علي هذا الوجه، فلا يستحقّ سواه.

و يدلّ علي القول الأوّل

ما رواه الكليني في الصحيح عن عليِّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السلام قال: في المضارب: «ما أنفق في سفره فهو من جميع المال، فإذا قدم بلده فما أنفق فمن نصيبه» «1».

و عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام

قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: في المضاربة …

الحديث.

و رواه في الفقيه «2» مرسلًا قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: مثله

. و به يظهر قوّة القول المشهور، و أنّه المؤيّد المنصور، فلا يلتفت إلي هذه التخريجات الضعيفة، و التعليلات السخيفة، كما عرفت في غير مقام» «3».

و قد عرفت من كلامه أنّه استدلّ لقول المشهور بالنصّ و لم يشر إلي مقتضي القاعدة.

كلام صاحب الجواهر

و في الجواهر: «و لا ينفق العامل في الحضر عندنا شيئاً من مال القراض و إن قلّ، حتّي فلس السقاء، لأصالة حرمة التصرّف في مال الغير.

نعم، له أن ينفق في حال السفر كمال نفقته من مأكل و مشرب و ملبس و مسكن و نحو ذلك ممّا هو داخل في النفقة من أصل المال علي الأظهر الأشهر، بل المشهور، في التذكرة نسبته إلي علمائنا، بل في محكي الخلاف الإجماع عليه، و هو الحجّة بعد صحيح عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السلام … و نحوه خبر السكوني

______________________________

(1)- الكافي 5: 241/ 5.

(2)- الفقيه 3: 144؛ وسائل الشيعة 19: 24، كتاب المضاربة، الباب 6.

(3)- الحدائق الناضرة 21: 210.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 193

______________________________

عن أمير المؤمنين عليه السلام، خلافاً للمحكي عن بعض، من كون جميع نفقته علي نفسه، كالحضر، للأصل المقطوع بما عرفت، فالعمل عليه حينئذٍ، كالاجتهاد في مقابلة النصّ.

نعم، عن آخر أنّ له تفاوت ما بين نفقة السفر و الحضر، و هو مخالف لظاهر النصّ أيضاً، المعتضد بما سمعت» «1».

و لاحظت من كلامه أنّه استدلّ لرأي المشهور أوّلًا بالنصّ، ثمّ بالإجماع.

و فيه: أنّ الإجماع يشكل تحصيله؛ نظراً إلي مخالفة الشيخ نفسه له في المبسوط باختيار القول الآخر بعد دعواه الإجماع في الخلاف. هذا مضافاً

إلي استدلال المشهور لرأيهم بالنصّ و مقتضي القاعدة، فلا يكون الإجماع المحكي في الخلاف كاشفاً تعبّدياً عن رأي المعصوم عليه السلام.

و أحسن ما استُدل به لرأي المشهور في المقام ما علّل به المحقّق الكركي، كما عرفت؛ حيث لم يكتف بالنصّ كصاحب الحدائق، و لم يعتن بالإجماع كصاحب الجواهر، بل استدلّ بمقتضي القاعدة قبل استدلاله بالنصّ. و ستعرف أنّ النصّ موافق لمقتضي القاعدة.

فيما استدلّ به لرأي المشهور

و استُدل لرأي المشهور أوّلًا: بمقتضي القاعدة. و قد بيّن لها تقريبان:

أحدهما: ما نقله في المستمسك «2» عن التذكرة. و حاصله: أنّ سفر العامل إنّما هو لمصلحة المال، و مقتضي ذلك أخذ نفقته منه.

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 345.

(2)- مستمسك العروة الوثقي 12: 296.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 194

______________________________

و لكنّه قدس سره ردّه بأنّ مقتضي هذا التعليل جواز أخذ خصوص نفقة السفر؛ من مقدّماته و لوازمه، لا نفقة شخص العامل في السفر.

و فيه أنّ أصل السفر إذا كان لمصلحة المال و بإذن المالك، يصير جميع لوازم السفر- حتّي مصارفه الشخصية حال السفر- في جهة مصلحة المال و مأذوناً فيه.

و لكن يمكن النقاش في أصل هذا الوجه بأنّ مصلحة المال و منفعته لا تعود إلي المالك خاصّة لكي يلزم عليه تحمّل جميع نفقات سفر العامل، بل إنّما تعود إليه و إلي العامل كليهما، و لازم ذلك كون النفقة عليهما معاً.

و لا يخفي عليك أنّ هذا الوجه و ما يرد عليه من النقاش إنّما هو بمقتضي القاعدة، و مع قطع النظر عن دلالة صحيحة عليّ بن جعفر الواردة في خصوص المقام.

ثانيهما: ما نقله في المستمسك «1» عن التذكرة و جامع المقاصد.

و حاصله: أنّ سفر العامل إنّما هو سبب و مقدّمة للتّجارة بمال القراض؛ لأنّه بسفره

انقطع إلي العمل في مال القراض و تمحّض في المضاربة. و لمّا كان ذلك بأمر المالك و إذنه، يكون ضمان ما تحمّله في السفر، من المخارج و المصارف علي المالك.

و ببيان آخر- كما عن بعض الأعلام «2» -: إنّ إذن المالك للعامل بالسفر ظاهرٌ عرفاً في الإذن بلوازمه بالدلالة الالتزامية.

و هذا التقريب- بعنوان أنّه مقتضي القاعدة و مع قطع النظر عن دلالة الصحيحة الآتية- قد يناقش فيه بأنّه لا يثبت بذلك رأي المشهور؛ نظراً إلي كون

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 296.

(2)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 51.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 195

______________________________

نفع العامل أيضاً في هذا السفر. و من هنا يدخل محلّ الكلام في قاعدة «من له الغنم فعليه الغُرم»، و هي كبري كلّية مرتكزة في أذهان أهل العرف العامّ و منشؤه السيرة المستقرّة بين العقلاء علي ضمان جميع الشركاء ذوي النفع في النفقات المبذولة لجهة الاسترباح في التجارات الرابحة. نعم، إذا لم يحصل ربح لا مناص من أخذ نفقة السفر كلّها من مال المالك؛ لأنّ السفر كان بإذنه و لا ربح لكي يجبر به ما نقص من مال القراض بإنفاقه للسفر.

و ثانياً: بصحيحة عليّ بن جعفر الآتية. و سيأتي البحث عن مفادّها مفصّلًا.

و ثالثاً: بالسيرة المستمرّة القطعية المستقرّة علي تحمّل المالك لجميع ما تحمّله العامل من نفقة السفر في باب المضاربة، كما عن بعض المحقّقين «1».

و فيه: أنّ إحراز السيرة- متشرعةً كانت أو عقلائية- مشكل في المقام علي ضمان المالك، بل لا يبعد دعوي استقرار السيرة العقلائية علي ضمان كلٍّ من المالك و العامل؛ نظراً إلي عود مصلحة المال و منفعته إليها معاً. لكنّه مع قطع النظر عن دلالة الصحيحة الآتية.

و رابعاً:

بالإجماع، و قد استدلّ به في الجواهر؛ حيث قال: «بل في محكي الخلاف الإجماع عليه. و هو الحجّة بعد صحيح عليّ بن جعفر» «2». و أيضاً نقله في المفتاح عن الخلاف، ثمّ زاد بقوله: «و في السرائر أيضاً أنّ الشيخ رجع في النهاية و الخلاف إلي أهل نحلته و إجماع عصابته عن أحد قولي الشافعي» ثمّ أشكل علي السرائر بقوله: «و فيه أنّ النهاية و الخلاف متقدّمتان علي المبسوط» «3».

______________________________

(1)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 51.

(2)- جواهر الكلام 26: 345.

(3)- مفتاح الكرامة 7: 476/ السطر 20.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 196

______________________________

و فيه: أنّ الإجماع لم يدّعيه غير الشيخ في الخلاف، بل هو لم يشر إليه في سائر كتبه، بل خالفه نفسه في المبسوط؛ حيث أفتي فيه بخلاف رأي المشهور، كما سبق نقله، بل الظاهر استقرار رأيه علي ذلك؛ نظراً إلي تأخّر المبسوط عن الخلاف و النهاية، كما قال في المفتاح «1».

أمّا القولان الآخران، فحاصل أحدهما: أنّ نفقة السفر كلّها علي العامل كنفقة الحضر. و الوجه فيه- كما عرفت من فحول الفقهاء- أنّ مال القراض ملك المالك؛ إذ لم يخرج بإعطائه العامل عن ملكه. و عليه فلا يجوز للعامل أن يتصرّف فيه، إلّا بعد إحراز إذنه، و هو غير محرز، بل معلوم العدم؛ إذ دخل العامل في المضاربة علي أن يكون له سهماً معيّناً معلوماً من الربح، لا أكثر من ذلك. فلا يستحقّ شيئاً سواه، مع أنّ الأصل عدم جواز تصرّفه في مال الغير، إلّا فيما إذا احرز إذنه. و في المقام لم يُحرز إذنه، إلّا في الحصّة المعلومة من الربح التي عيّنها للعامل.

هذا القول ذهب إليه الشيخ في المبسوط، كما صرّح به في

جامع المقاصد «2».

و هو خيرة الشيخ بناءً علي تقدّم النهاية و الخلاف علي المبسوط، كما قال في المفتاح «3».

و أمّا ثانيهما، فحاصله: جواز أخذ نفقة السفر من مال القراض بمقدار ما زاد عن قدر نفقة الحضر، لا أكثر من ذلك.

و عُلّل ذلك- كما عرفت من كلمات الفقهاء- بأنّ نفقة الحضر لا خلاف في عدم جواز أخذها من مال القراض. فما كان من نفقة السفر بمقدار نفقة الحضر

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 476/ السطر 20.

(2)- جامع المقاصد 8: 112.

(3)- مفتاح الكرامة 7: 476/ السطر 20.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 197

______________________________

يترتّب عليه حكمها، فلا يجوز أخذه من مال القراض. و أمّا ما زاد علي ذلك فيؤخذ من مال القراض.

و بعبارة اخري: إنّ الذي اختصّ به السفر هو المقدار الزائد عن نفقة الحضر، و إلّا فالباقي مشتركٌ بين الحضر و السفر، و لا مناص من أخذه و إخراجه من مال القراض، سواءٌ كان العامل حاضراً أو مسافراً، فلا يؤخذ المقدار المشترك بينهما من مال القراض. و إنّما يجوز أخذ المقدار الزائد المختصّ بالسفر.

و هذا القول أيضاً قال به الشيخ في المبسوط، علي فرض جواز الإنفاق في السفر من مال القراض. و نقله أيضاً في جامع المقاصد «1».

و أوّل ما يرد علي هذين القولين أنّهما مخالف لظاهر صحيح عليّ بن جعفر، بل القول الأوّل مخالف لصريحه. فهو اجتهاد في مقابل النصّ، كما قال في الجواهر «2». هذا مضافاً إلي مخالفتهما لمقتضي القاعدة، كما عرفت و ستعرف مفصّلًا.

و قد تبيّن ممّا بيّنّاه آنفاً أنّ أحسن ما استُدلّ به لرأي المشهور وجهان:

أحدهما: مقتضي القاعدة.

ثانيهما: دلالة نصوص المقام.

أمّا مقتضي القاعدة: فلأنّ السفر إذا كان بإذن المالك و كان لأجل التجارة و العمل

في مال القراض باقتضاء المضاربة، كما هو مفروض الكلام، فلا وجه لكون النفقة علي العامل نفسه.

فإنّ المالك إذا أذن العامل بالسفر لأجل التجارة و العمل في مال القراض، يدلّ إذنه بالدلالة الالتزامية علي إذنه في لوازم السفر و ما يتوقّف عليه التجارة في

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 476/ السطر 20.

(2)- جواهر الكلام 26: 345.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 198

______________________________

السفر. فكلّ ذلك غير خارج عن مدلول إذن المالك بالسفر لأجل المضاربة.

و عليه يدخل جواز الإنفاق في السفر في ظاهر إذن المالك بالسفر. فيجوز للعامل الإنفاق في السفر؛ استناداً إلي ظاهر كلام المالك.

هذا حاصل ما استُدلّ به لرأي المشهور بمقتضي القاعدة. و قد سبق تفصيله آنفاً بتقريبين. و لكن قد عرفت أنّ القاعدة لا تصلح لإثبات ضمان نفقة السفر كلِّها علي المالك خاصّةً.

و الوجه في ذلك أنّ الذي استقرّت عليه السيرة القطعية من العقلاء أنّه إذا أقدم شخصان أو عدّة أشخاص علي تجارة رابحة- علي سبيل المضاربة أو علي نحو الشركة في المال، أو بين المال و العمل- كون ضمان النفقات المبذولة في مقدّمات التجارة علي جميعهم بإزاءِ النفع العائد إليهم. فارتكز هذا الأصل في أذهانهم علي نحو كبري كلّية، و هي أنّ كلّ من يعود إليه النفع و يدخل في كيسه ربح التجارة، يكون عليه ضمان ما أنفقه في سبيل تلك التجارة و الاسترباح و تحصيل ذلك النفع.

و عليه فمقتضي القاعدة أخذ نفقات التجارة- التي هي مقدّمة الاسترباح- من مجموع مال القراض و الربح الحاصل، لا من خصوص مال القراض كما يوهمه عبارات بعض الأصحاب. و سيأتي أنّ كلمات مشهور القدماء ظاهرة فيما قلنا؛ نظراً إلي قولهم: إنّ الربح وقاية لرأس المال، و لما أفتوا بجبران

نقصان مال القراض بالربح الحاصل في ختام المضاربة. نعم، في صورة عدم حصوله لا خلاف بينهم في كون ضمان النفقة علي المالك.

كما يظهر لمن تأمّل في كلماتهم أنّها ليست ناظرة إلي نفقات التجارة، بل إلي نفقات شخص العامل في السفر و الحضر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 199

______________________________

و أمّا نصوص المقام: فقد استُدلّ لرأي المشهور بصحيح

عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السلام: قال في المضارب: «ما أنفق في سفره فهو من جميع المال، و إذا قدم بلده فما أنفق فهو من نصيبه»

. «1» و مثله قول أمير المؤمنين عليه السلام في معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

و لا إشكال في سندهما. و أمّا من جهة الدلالة فغاية مدلولهما جواز أخذ نفقة السفر من مجموع مال القراض و الربح قبل تفكيك الربح و إفرازه؛ لأنّه ظاهر قوله عليه السلام

: «فهو من جميع المال».

و يشهد لذلك قوله عليه السلام

: «و إذا قدم بلده فما أنفق فمن نصيبه»

؛ لأنّه بقرينة المقابلة يعلم أنّ المقصود من جميع المال مجموع مال القراض و الربح الحاصل.

فالمراد في الحقيقة أخذ نفقة السفر من نصيبهما؛ أي مجموع الربح قبل التقسيم.

و أنت تري أنّ مفروض كلام الإمام عليه السلام في الصحيحة صورة حصول الربح، و لم يتعرّض إلي فرض عدم حصوله، كما هو واضح.

و عليه فلا مناص في صورة عدم حصول الربح من أخذ نفقة السفر كلِّها من مال القراض؛ لما بيّنّاه في تقريب القاعدة في شرح كلام المحقّق الكركي. و لعلّه لوضوحه بمقتضي القاعدة لم يتعرّض إليه الإمام عليه السلام. و بهذا التقريب يتقوّي قول المشهور.

و أمّا القولان الآخران فقد اتّضح لك بما بيّنّاه في مقتضي القاعدة أنّهما خلاف

مقتضاها، بل و خلاف صريح النصّ، فالقول بهما- مضافاً إلي كونه خلاف مقتضي القاعدة- اجتهادٌ في مقابل النصّ، كما قال في الجواهر «2».

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 24، كتاب المضاربة، الباب 6، الحديث 1.

(2)- جواهر الكلام 26: 345.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 200

______________________________

مدلول النصّ من منظر القاعدة

مقتضي القاعدة- كما تبيّن ممّا سلف- كون نفقة السفر علي المالك فيما إذا لم يحصل ربحٌ، و كونها عليهما معاً إذا كانت التجارة رابحةً. علي المالك؛ لأنّه الذي سبّب سفره باقتراح المضاربة إلي العامل و إذنه بالسفر. فعليه أن يتحمّل جميع لوازمه المترتّبة عليه من النفقة. و هذا داخل في قاعدة الضمان بالتسبيب. و أمّا إذا كانت التجارة رابحة فمقتضي القاعدة و السيرة العقلائية كون نفقة السفر عليهما معاً؛ لرجوع نفع السفر و الربح الحاصل منه إليهما. و قد سبق بيان ذلك مفصّلًا.

و هذا بخلاف الحضر؛ لأنّ نفقاته الشخصية التي لا ترتبط بالمضاربة، لا وجه لأخذها من مال القراض. نعم، النفقات المرتبطة بالتجارة و المضاربة من كراء النقل و اجرة الحمّال و شراءِ الآلات و أيّة نفقة أنفقها العامل لأجل العمل في مال القراض و في جهة الاسترباح بالتجارة تؤخذ من مجموع مال القراض و الربح فيما إذا كانت التجارة رابحة. و من أصل مال القراض بمقتضي القاعدة إذا لم تكن التجارة رابحة.

و عليه فالقول بأنّ نفقة الحضر كلَّها من نصيبه- حتّي ما كان منها مقدّمة للتجارة الرابحة- خلاف مقتضي القاعدة، كما هو خارج عن مدلول النصّ و الفتاوي. بل مقصود الكُلِّ خصوص النفقات الشخصية التي لا ربط لها بالعمل في مال القراض و أجنبية عن المضاربة.

و قد اتّضح بما بيّنّاه أنّ قوله عليه السلام

: «فإذا قدم فما أنفق فمن نصيبه»

يحمل علي

نفقاته الشخصية، بل هو ظاهر الرواية في حال السفر و الحضر. و ذلك بقرينة القاعدة العقلائية المرتكزة في أذهان أهل العرف. و هي أنّ من دعا شخصاً إلي عمل عليه ضمان ما تحمّله العامل من النفقة في جهة الإتيان بذلك العمل، بلا فرق بين كون العمل في الحضر و بين كونه في السفر. و هذه القاعدة الارتكازية العقلائية قرينة

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 201

______________________________

صارفة لإطلاق لفظة «ما» في قوله: «ما أنفق فمن نصيبه» عن النفقات المرتبطة بالمضاربة إلي النفقات الشخصية غير المرتبطة بها؛ حيث لا فرق بين السفر و الحضر في كون ضمان النفقة المبذولة لمقدّمات التجارة الرابحة عليهما معاً و في التجارة غير الرابحة علي خصوص المالك كما سبق آنفاً.

هذا، مع أنّه إذا كان المقصود من قوله: «ما أنفق» في ذيل الصحيحة، النفقات الشخصية ينعقد لصدرها أيضاً ظهورٌ في ذلك بمقتضي وحدة السياق، كما لا مانع من التحفّظ علي إطلاق «ما أنفق» في الصدر و رفع اليد عن إطلاقه في الذيل، لأجل القرينة الصارفة المزبورة؛ لعدم ارتباط المصارف الشخصية في الحضر بالمضاربة.

و علي فرض ثبوت الإطلاق له لا مناص من رفع اليد عنه. و ذلك لقاعدة وجوب الاقتصار فيما خالف القاعدة علي المتيقّن من مدلول النصّ.

صُوَر أخذ النفقة و الفرق بينها

إنّ النفقة تارةً: تؤخذ من مال القراض المعبّر عنه برأس المال، و اخري من الربح. و حينئذٍ فإمّا يؤخذ من نصيب المالك أو العامل أو من مجموع الربح، و ثالثةً تؤخذ من مجموع الربح و رأس المال. و الفرق بين هذه الفروض واضح، إلّا أنّه لا فرق بين أخذ النفقة من مجموع الربح و بين أخذه من مجموع مال القراض و الربح، كما لا فرق في ذلك

بين قبل تفكيك الربح و بين بعده، و لا بين أن ينفق العامل من كيسه و بين أن يأخذ النفقة من مال القراض ثمّ يجبره بالربح.

بيان ذلك: أنّه لو ربحت التجارة مائة ألف تومان و كان مال القراض مائة ألف أيضاً، و كان مقدار النفقة عشرين ألف تومان، فبناءً علي أخذ النفقة من مجموع الربح يؤخذ مبلغ عشرين ألف تومان من مائة ألف تومان- و هو مجموع الربح- ثمّ يقسّم

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 202

______________________________

ثمانين ألف تومان الباقية بين المالك و العامل. و يُردّ مال القراض بكماله إلي المالك.

و كذلك لو أخذها من مجموع مال القراض و الربح؛ حيث تؤخذ النفقة ابتداءً من مائتين ألف- و هو مجموع المال و الربح- و يجبر به النقص الوارد علي رأس المال. ثمّ ينصّف باقي الربح- و هو ثمانين ألف تومان- بينهما. فلم تفترق الكيفيّتان من التقسيم. و كذلك الحال لو أنفق العامل من كيسه؛ حيث يأخذ ابتداءً ما أنفقه من كيسه- و هو عشرون ألف- من مجموع الربح. ثمّ يُقسّم ثمانين ألف الباقية بينهما، و رأس المال علي حاله من غير تغيير، كما هو واضح. و علي أيّ حال يتحمّل النفقة المالك و العامل كلاهما؛ حيث إنّها تؤخذ من الربح. و الربح مملوكٌ لهما، لا لأحدهما.

و كذلك الكلام فيما إذا كان الربح الحاصل بمقدار النفقة أو أقلّ منها. نعم، إنّما يظهر الفرق في خصوص الصورة الأخيرة من ناحية جبران مال القراض و عدمه. فحينئذٍ لو اخذت النفقة قبل جبران نقص رأس المال، ورد النقص عليه مطلقاً، سواءٌ أخذها من خصوص الربح أو من مجموعهما.

و أمّا كون نفقة السفر علي خصوص مال القراض- ينافي ما يظهر من

النصّ، من أخذ نفقة السفر من مجموع مال القراض و الربح. كما هو خلاف ما أفتي به الأصحاب من جبران نقصان رأس المال بالربح.

ما هو المراد من قوله عليه السلام: «ما أنفق» في الصحيحة؟

و ثانيتهما: إنّ المقصود من قوله «ما أنفق» في ذيل الصحيحة هو النفقة الشخصية العائدة إلي شخص العامل، لا الأعمّ منه و النفقة المبذولة في مقدّمات التجارة. و ذلك لوضوح كون نفقات التجارة علي مجموع مال القراض و الربح قبل التفكيك، بمقتضي القاعدة التي استخرجناها من السيرة العقلائية و ارتكاز أهل

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 203

______________________________

العرف. و مقتضي وحدة السياق في الصحيحة أيضاً حمل «ما أنفق» في صدرها علي ذلك، فلا نظر لها إلي نفقات التجارة، كما يلوح من كلمات بعض، و إن كان تعابير المشهور موافقة لظاهر النصّ.

استشهاد القدماء بالنصّ الوارد في المقام

كما أنّ التعبير بصيغة الماضي و سياق الكلام يقضيان كون محطّ كلام الإمام عليه السلام ما إذا تحقّق الإنفاق قبل التجارة و في أثنائها.

و الظاهر أنّ الاستدلال بالصحيحة المزبورة لرأي المشهور، لا يختصّ بالمتأخّرين، بل يظهر من بعض القدماء أيضاً، كما عن شيخ الطائفة و ابن إدريس.

قال في الخلاف: «المسألة 6: إذا سافر بإذن ربّ المال كان نفقة السفر من المأكول و المشروب و الملبوس من مال القراض. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم» «1».

و في السرائر- بعد اختيار هذا القول و نقل قول الشيخ في المبسوط بكونها علي العامل حضراً و سفراً و نقل قوله المزبور في الخلاف- قال: «هذا آخر كلامه في مسائل خلافه فهو في مبسوطه محجوج بقوله في مسائل خلافه» «2».

و فيه إشارة إلي أنّ كتاب الخلاف ألّفه الشيخ بعد المبسوط؛ لأنّ الشخص يؤخذ بآخر كلامٍ صدر منه. و لكن قد عرفت من صاحب الحدائق المخالفة؛ حيث ردّ السرائر بأن المبسوط بعد الخلاف و النهاية.

و عليه لا يبعد دعوي استناد مشهور القدماء في رأيهم إلي النصّ المزبور. فلا يلتفت إلي احتمال عدم

استنادهم في رأيهم بالصحيحة أو إعراضهم عنها.

______________________________

(1)- الخلاف 3: 461- 462.

(2)- السرائر 2: 408.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 204

______________________________

هذا مضافاً إلي ما في قوله: «من نصيبه» في النهاية- كما سيأتي- إشعار بما ورد في ذيل الصحيحة، و إلي أنّ الشيخ نفسه روي صحيحة عليّ بن جعفر في المقام، فكيف يمكن احتمال كون مراده من الأخبار الدالّة علي ما ذهب إليه في الخلاف، غير هذه الصحيحة؟! مع عدم ورود رواية اخري- غيرها و موثّقة السكوني- تدلّ علي مذهبه في الخلاف، و هو رأي المشهور.

و ممّا يؤيّد ما استظهرناه من الصحيحة أنّ الذي استظهره الشيخ و الحلّي من نصوص المقام هو النفقة الشخصية؛ حيث لم يتجاوزا عن المأكول و الملبوس و المشروب. فالتفصيل عند القدماء في الحقيقة إنّما هو في النفقات الشخصية بين السفر و الحضر، و هذا هو الذي اخترناه، و استظهرناه من الصحيحة.

و يشهد أيضاً لما قلنا قول الشيخ في النهاية؛ حيث قال: «و كلّ ما يلزم المضارب في سفره من المئونة و النفقة من غير إسراف كان علي صاحب المال.

فإذا ورد إلي البلد الذي فيه صاحب المال كان نفقته من نصيبه» «1».

قوله «نفقته» ظاهرٌ في نفقته الشخصية؛ نظراً إلي إضافة لفظ النفقة إليه و هذه الإضافة تفيد الاختصاص مثل قولهم: جُلّ الفرس. و منصرف عن نفقة التجارة التي هي من مقدّمات العمل في مال القراض. و عليه فكلام الشيخ في النهاية ظاهر في النفقات الشخصية، دون آلات التجارة و نفقات العمل.

و يدلّ علي ذلك أيضاً كلام صاحب الشرائع؛ حيث قال: «يُنفق في السفر كمال نفقته من أصل المال علي الأظهر» وجه الدلالة أنّ ضمير «الهاء» المضاف إليه في «نفقته» راجع إلي العامل، كما

هو الضمير الفاعلي لكلمة «ينفق».

و حاصل الكلام: أنّ مقتضي التحقيق التفصيل بين ما يرتبط من النفقات

______________________________

(1)- النهاية: 403.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 205

______________________________

بالتجارة و يتوقّف عليه العمل في مال القراض كأسباب التجارة و آلاتها، أو ما يكون من لوازم السفر المأذون، من نفقة شخص العامل حال السفر، من المأكل و الملبس و المسكن، و بين غير ذلك؛ ممّا لا يرتبط بالمضاربة، بلا فرق في ذلك بين السفر و الحضر، فقد ينفق في السفر لأجل مصارف غير مرتبطة بالمضاربة، كشراء الهدايا لأهله و عياله و أقاربه، أو لأجل التفرّج و السياحة. كما ربما ينفق في الحضر ما يتوقّف عليه العمل في مال القراض من اجرة الحمّال و الوزّان و شراء آلات التجارة و تهيئة مقدّماتها.

فالملاك في كون ضمان ما أنفقه علي المالك كون إنفاقه لأجل المضاربة و دخله في العمل و التجارة بمال القراض، أو كونه بإذن المالك و أمره، و إلّا فعلي شخص العامل.

نعم، إذا كانت التجارة رابحة، فمقتضي الإنصاف و سيرة العقلاء أخذ نفقة العمل من مجموع مال القراض و الربح قبل تفكيكه و تقسيمه، و هو أيضاً مقتضي قاعدة: «من له الغنم فعليه الغرم» فإنّها صارت كالسيرة الارتكازية بين العقلاء. و لمّا كان للعامل أيضاً- كالمالك- نصف الربح، فعليه نفقة التجارة أيضاً. و من هنا يكون مفادّ النصّ الوارد في المقام بمقتضي القاعدة. و هي قاعدة «من له الغنم فعليه الغرم».

و هذا بخلاف ما لو لم تكن التجارة رابحة، فلا غنم للعامل حينئذٍ حتّي يتحمّل ما أنفقه في سبيل تحصيله.

حصيلة التحقيق من جميع ما تقدّم

و قد تحصّل ممّا حقّقناه في المقام:

أوّلًا: أنّ ما ذهب إليه المشهور أحسن الأقوال من بين الأقوال الثلاثة المزبورة. و أنّ الذي

يظهر من التأمّل في مجموع كلماتهم أنّ نفقة السفر و التجارة

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 206

______________________________

تؤخذ من مجموع ما بيد العامل في ختام المضاربة من مال القراض و الربح فيما إذا كانت التجارة رابحة و إلّا فهي علي المالك خاصّة.

و ذلك لما سبق آنفاً من أنّ مقتضي القاعدة و النصّ أخذها من مجموع مال القراض و الربح الحاصل قبل تقسيمه، لا من خصوص مال القراض، كما هو واضح.

و أخذها من مال القراض في صورة عدم حصول الربح.

و أمّا ما لا يرتبط بالمضاربة ممّا صرفه العامل في الحضر و السفر فهو علي العامل نفسه.

و ثانياً: عدم كون جميع نفقات الحضر علي العامل، بل ينبغي التفصيل بين نفقاته الشخصية التي لا ربط لها بالتجارة و المضاربة فهي علي نفسه، و بين النفقات المبذولة في مقدّمات التجارة، فهي علي مجموع مال القراض و الربح في التجارة الرابحة، و علي مال القراض خاصّة في غير الرابحة.

و ثالثاً: عدم كون نفقة السفر علي العامل، و لا يرتبط بالمضاربة من النفقات علي خصوص مال القراض، بل هي في كلا الموردين علي المجموع من مال القراض و الربح قبل الجبران و التقسيم، فيما لو حصل ربح، لا علي خصوص مال القراض؛ لأنّه علي فرض حصول الربح عاد نفع عمله إليه أيضاً، فلم يكن نفعه مختصّاً بالمالك لكي يتحمّل جميع مخارجه، نعم، لو لم يربح فعلي المالك بمقتضي القاعدة.

و يشهد لذلك ما اشتهر بينهم، من أنّ الربح وقاية لرأس المال، و ما أفتوا به من جبران درك رأس المال و نقصانه بالربح الحاصل، بلا فرق في ذلك بين كون ورود النقص بسبب الإنفاق أو غيره.

و رابعاً: أنّ الرواية ناظرة إلي صورة حصول

الربح و كون ضمان نفقة السفر- من المأكول و الملبوس و المشروب، الذي يكون من لوازم السفر- علي مجموع

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 207

و المراد بالنفقة (1) ما يحتاج إليه؛ من مأكول و مشروب و ملبوس و مركوب و آلات و أدوات- كالقربة و الجوالق- و اجرة المسكن و نحو ذلك، مع مراعاة ما يليق بحاله عادة عليٰ وجه الاقتصاد،

______________________________

المال و الربح، لا خصوص مال القراض، كما يظهر من المشهور. و به فسّر العلّامة مراد الشيخ في الخلاف بقوله: «و ليس مراده أنّ النفقة من خاصّ صاحب المال، بل من مال المضاربة، و به قال ابن الجنيد و ابن البراج و ابن حمزة و ابن إدريس و هو مذهب والدي» «1». قوله من خاصّ صاحب المال، أي سائر أمواله غير مال القراض.

و قد تبيّن أيضاً أنّ الرواية ناظرة إلي النفقات الشخصية للعامل التي ليست من مقدّمة التجارة. و لا نظر لها إلي الأعم منها و من النفقة المبذولة في مقدّمات التجارة.

و خامساً: إنّ مقصود القدماء من أخذ نفقة السفر من مال القراض، جواز تصرّفه في نفقة السفر، لا كون ضمانها علي المالك، كما يعلم ذلك من فتواهم بجبران ما نقص من مال القراض بالإنفاق.

المراد من النفقة

(1) 1- المراد من النفقة ما يحتاج إليه شخص العامل في السفر عادةً، من مأكول و ملبوس و مشروب و مركوب و مسكن. و يراعي في ذلك ما يليق بشأن العامل و يناسب حاله، كما هو المراعي في سائر الموارد، و يراعي الاعتدال و الاقتصاد في ذلك.

و عليه فمرادهم من النفقة كلّ ما ينفقه العامل في السفر، من نفقاته الشخصية

______________________________

(1)- مختلف الشيعة 6: 206.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 208

______________________________

ممّا

يرتبط بعيشه من مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه. و أمّا نفقة التجارة المبذولة في مقدّماتها فهي خارجة عن مقصودهم. و يشهد لذلك:

كلام صاحب الحدائق في بيان المراد من النفقة. و إليك نصُّه:

قال قدس سره: «قد عرفت أنّ المراد بالنفقة ما يحتاج إليه من مأكول و ملبوس و مشروب له، و لمن في صحبته ممّن يتوقّف عليه سفره و آلات السفر و اجرة المسكن و نحو ذلك، و يراعي فيها ما يليق بحاله شرفاً و ضعةً و وسطاً علي وجه الاقتصاد. فلو أسرف حسب عليه. و إن قتّر علي نفسه لم يحتسب له؛ لأنّ الذي له ما أنفق علي الوجه المتقدّم، و بعد العود من السفر. فما بقي من أعيان النفقة، و لو من الزاد يجب ردّه إلي مال التجارة أو تركه وديعة عنده إلي أن يسافر إن كان ممّن يتكرّر سفره، و لم يكن بيعه أعود علي التجارة من تركه» «1».

و قد تقدّم آنفاً أنّ ظاهر كلمات القدماء- كالشيخ في كتبه- الخلاف و المبسوط و النهاية- و ابن إدريس في السرائر و ابن زهرة في الغنية و غيرهم- كون مرادهم من نفقة السفر ما ينفقه العامل في مصارفه الشخصية. و من هنا بيّنوها بالمأكول و المشروب و الملبوس. و لكن يظهر من بعض المتأخّرين تعميمها إلي نفقات التجارة و آلات الحمل و الوزن و التقدير و سائر مقدّمات العمل في مال القراض.

و لكنّ التحقيق المساعد للاعتبار و الموافق للارتكاز الذي جرت عليه سيرة العقلاء أخذ جميع النفقات- من نفقة السفر و التجارة- من مجموع مال القراض و الربح.

و أمّا ما يدلّ عليه النصّ الوارد في المقام، فهو النفقة الشخصية. و قد تقدّم منا

آنفاً وجه ذلك بمقتضي القاعدة و تقريب استظهار من نصوص المقام.

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 211.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 209

فلو أسرف حسب عليه، و لو قتّر عليٰ نفسه، أو لم يحتج إليها من جهة صيرورته ضيفاً- مثلًا- لم يُحسب له (1)،

______________________________

نتيجة التحقيق في حكم النفقة

و لكن قد عرفت منّا آنفاً التفصيل بين النفقات الشخصية التي لا ترتبط بالعمل في مال القراض و بين نفقات المضاربة التي ترتبط بالتجارة و العمل في مال القراض، ففصّلنا في النفقات الشخصية بين السفر و الحضر. ففي الحضر تؤخذ من العامل. و في السفر من مجموع مال القراض و الربح بالتفصيل الذي بيّنّاه. و في غير الشخصية تؤخذ من مجموع مال القراض و الربح بمقتضي القاعدة. و قلنا أنّ قوله عليه السلام: «ما أنفق» في الصحيحة محمول علي النفقة الشخصية بقرينة ذيله، و بمقتضي وحدة السياق، و بقرينة كون نفقات التجارة علي المالك و العامل كليهما إذا كانت رابحة، كما هو المفروض في الصحيحة، و مرتكزٌ في أذهان أهل العرف؛ لما جرت سيرة العقلاء و المتشرّعة، و من هنا لم يكن مورداً للسؤال و الشبهة في أذهان الرواة السائلين عن حكم النفقة.

(1) 1- و الوجه في ذلك؛ أنّه لمّا كان المتعارف من النفقة ما يليق بحال العامل و يقتضيه شأنه، يكون هو الظاهر المتبادر إلي الذهن من نفقة السفر. و عليه بني المالك و العامل في المضاربة؛ لعدم خروج قصدهما و لا البناء العملي منهما عمّا هو المتعارف المرتكز في أذهان العرف العامّ. و من هنا أفتي السيد الماتن قدس سره بوجوب مراعاة ما يليق بحاله. و عليه فلو أسرف العامل حسب عليه من كيسه. و لو قتّر لم يُحتسب له. فلا

يجوز له أخذ ما به التفاوت حينئذٍ من مال القراض؛ حيث إنّه لم ينفق بإزائه شيئاً فلم يخرج من كيسه مال حتّي يأخذه من مال القراض. بل

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 210

و لا تكون من النفقة هنا جوائزه و عطاياه و ضيافاته و غير ذلك، فهي عليٰ نفسه إلّا إذا كانت لمصلحة التجارة (1).

(مسألة 21): المراد بالسفر المجوّز للإنفاق من المال هو العرفي لا الشرعي

اشارة

(2)، فيشمل ما دون المسافة،

______________________________

يجب عليه ردّ ما زاد بعد السفر، من النفقة إلي المالك.

(1) 1- و قد تبيّن الوجه فيه ممّا بيّنّاه لك آنفاً. و الحاصل أنّ كلّما أنفقه في السفر لأجل التجارة و كان إنفاقها لمصلحة التجارة و في سبيل الاسترباح، فيجوز له أخذه من مال القراض، و إلّا فلا.

إنّما الاعتبار بالسفر العرفي، لا الشرعي

(2) 2- لا إشكال في أنّ المراد من السفر في المقام هو السفر العرفي، لا الشرعي. و ذلك لأنّ المتفاهم من كلام المالك في إذنه العامل بالسفر، و مراد الإمام عليه السلام من عنوان السفر في قوله:

«ما أنفق في سفره»

في صحيح البزنطي، هو السفر العرفي.

و أمّا ظهور كلام المالك في ذلك، فلأنّ الذي يتحقّق به غرضه هو السفر العرفي؛ نظراً إلي توقّف المضاربة و التجارة و الاسترباح عليه، لا علي السفر الشرعي؛ ضرورة أنّه ربّما تتحقّق التجارة و الاسترباح فيما دون المسافة الشرعية؛ لكثرة سكنتها و رواج أسواقها، مع عدم تحقّقها فيما زاد عنها.

و أمّا ظهور كلام الإمام عليه السلام في السفر العرفي، فالوجه فيه أنّ العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام في الخطابات الشرعية ثلاثة أقسام:

إحداها: العناوين المخترعة التي صارت حقائق شرعية أو متشرّعة كالصلاة

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 211

______________________________

و الصوم و الحجّ و الخمس و الزكاة.

ثانيتها: العناوين العرفية المحضة التي لم يعتبر

الشارع فيها قيداً شرعياً، كالأكل و الشرب في باب الصوم و ربح الكسب و المعدن و الغوص في باب الخمس.

ثالثتها: العناوين العرفية غير المحضة المعبّر عنها بالعناوين المستنبطة. و هي العناوين العرفية التي اعتبر الشارع فيها القيد الشرعي، كالغناء و السفر الشرعي للصلاة المقصورة.

و الضابطة في وقوع أحد هذين القسمين موضوعاً للحكم في خطاب الشارع أنّه كلّما ثبت بالدليل اعتبار قيد في موضوع عرفي من جانب الشارع، يكون من القسم الثالث و تشخيصها بيد الفقيه و يدور مدار استنباطه ماهية القيد الشرعي و كيفية أخذها في الموضوع من خطاب الشارع، و ما دام لم يثبت اعتبار قيد فيه من جانب الشارع يكون بماهيته العرفية المحضة موضوعاً للحكم.

و علي هذا الأساس يكون عنوان السفر في المقام من قبيل الموضوعات العرفية المحضة، و لكن نفس هذا العنوان في الصلاة المقصورة من قبيل الموضوعات العرفية غير المحضة.

و الحاصل: أنّه لمّا لم يثبت لعنوان السفر قيدٌ شرعي في باب المضاربة، بل و سائر عناوين المعاملات، يكون بماهيته العرفية المحضة مأخوذاً في موضوع جواز الإنفاق من مال القراض. فلا تعتبر فيه المسافة الشرعية. و لا فرق في ذلك بين كون صلاته تامّة أو مقصورة.

و قد جاء بيان المراد من السفر و النفقة هاهنا في كلام جملة من فحول الفقهاء منهم الشهيد في المسالك «1» و المحدث البحراني في الحدائق. فإنّه قال: «المراد

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 348.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 212

كما أنّه يشمل أيّام إقامته عشرة أيّام أو أزيد في بعض البلاد؛ إذا كانت لأجل عوارض السفر، كما إذا كانت للراحة من التعب، أو لانتظار الرفقة، أو خوف الطريق، و غير ذلك، أو لُامور متعلّقة بالتجارة، كدفع العشور، و

أخذ جواز السفر. و أمّا لو بقي للتفرّج أو لتحصيل مال لنفسه و نحو ذلك، فالظاهر كون نفقته عليٰ نفسه إذا كانت الإقامة- لأجل مثل هذه الأغراض- بعد تمام العمل (1).

______________________________

بالسفر هنا هو السفر العرفي لا الشرعي، و هو ما يجب فيه القصر. فلو كان السفر قصيراً أو أقام في الطريق و أتمَّ الصلاة فنفقة تلك المدّة من أصل المال، إلّا أنّه يجب الاقتصار في ذلك علي ما يحتاج إليه التجارة، فلو أقام زيادة علي ما يحتاج إليه كان الزائد عليه» «1».

و عليه فلا عبرة بالحدّ الشرعي لخروجه عن المتفاهم العرفي من كلام المالك الذي أذن بالسفر لغرض التجارة للعمل في مال القراض، فلا دلالة لكلامه علي السفر الشرعي بأيّ وجهٍ، إلّا أن ينصب قرينةً خاصّة علي ذلك. و كذلك في صحيح البزنطي؛ لعدم اعتبار قيد فيه من جانب الشارع في باب المضاربة، كما اعتبره في الصلاة المقصورة.

(1) 1- و الوجه فيه واضح بعد ما بيّنّاه آنفاً. فإنّ السفر المأذون من قبل صاحب المال إنّما هو ما كان منه لغرض الاسترباح و لمصلحة التجارة. فما لا ربط له بالتجارة و المضاربة و لا بالاسترباح، غير داخل في إذن صاحب المال حتّي يكون نفقته عليه. فإنّ سفرَ العامل للتفرّج أو لتحصيل مال لنفسه لا ربط له بالمالك و ليس داخلًا في إذنه حتّي يكون نفقته عليه، بل إنّما يرتبط بشخص العامل و لقضاء

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 211.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 213

و أمّا قبله فإن كان بقاؤه لإتمامه و غرض آخر، فلا يبعد التوزيع بالنسبة إليهما، و الأحوط احتسابها عليٰ نفسه (1)،

______________________________

حوائجه. فلا يجوز له إخراج نفقته في السفر حينئذٍ من مال القراض، بل عليه

أن يأخذها من مال نفسه.

(1) 1- و ذلك لأنّ صحيح عليّ بن جعفر لا يشمل مثل هذا السفر؛ نظراً إلي ظهوره في السفر الذي أقدم عليه العامل لأجل المضاربة، بأن يكون المضاربة تمام غرضه من السفر، من دون دخل غرض آخر فيه غير المضاربة. فهو منصرف عن السفر الذي يكون لغرض آخر لا ربط له بالعمل في مال القراض.

هذا، و لكن مقتضي القاعدة، جواز الإنفاق من مال القراض في أيّ سفر كان بإذن المالك، و إن كان له غرض آخر أيضاً غير المضاربة من سفره المأذون. و ذلك لأنّ الملاك المجوّز للإنفاق إذن المالك. و لا ريب في شمول إذنه لأيّ سفر تتوقّف عليه التجارة و المضاربة و يحصل به الاسترباح. فلو حصل هذا الغرض في سفر العامل يكون مأذوناً من قبل المالك مطلقاً، سواءٌ كان له غرض آخر أم لا.

مقتضي التحقيق

مقتضي التحقيق التفصيل في المقام؛ حيث إنّ ذلك الغرض الآخر ربّما يضرّ بالمضاربة و يخلّ في التجارة؛ بأن يؤثر في نقصان الربح؛ بحيث يشغل ذلك الغرض مقداراً من وقته و صرف قدرته لأجله فيمنع عن ازدياد السعي للتجارة و الاسترباح و يوجب قلّة الربح بالمآل. فلو أوجب تداخل الغرض هذا المحذور، يتعيّن عليه الإنفاق من مال نفسه و لا يجوز له الإنفاق من مال القراض

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 214

______________________________

حينئذٍ، و إلّا فيجوز له أخذ النفقة بتمامها من مال القراض.

و السرّ في هذا التفصيل عدم دخول الصورة الاولي في إذن المالك حسب المتفاهم العرفي، بخلاف الصورة الثانية؛ حيث إنّه بعد تأمين تمام غرضه في السفر و حصول الربح في تجارته علي الوجه الأوفر، من دون دخل للغرض الآخر في نقصانه و لا الإخلال

بأمر التجارة و الاسترباح، لا وجه لعدم إذن المالك لسفره حينئذٍ. و ذلك مثل صلة بعض الأرحام و الأقارب، فيمكن أن يفعل العامل ذلك في أوقات استراحته، و نحو ذلك ممّا لا يصادم أمر التجارة.

وجه توزيع النفقة و مورده

و أمّا التوزيع فقد يوجّه بقاعدة العدل و الإنصاف و السيرة و ارتكاز أهل العرف. و لكن لا يصلح شي ءٌ من ذلك لإثبات التوزيع. أمّا القاعدة فلا ربط لها بالمقام؛ حيث إنّها ناظرة إلي المال المردّد بين شخصين أو عدّة أشخاص. و قد بحثنا عن مفادّ هذه القاعدة في كتابنا «مباني الفقه الفعّال» فراجع.

و أمّا السيرة فلم يعلم جريانها و استقرارها علي ذلك، بل الظاهر جريانها علي ما قلنا، و كذا الارتكاز.

نعم، لو فرض صرف مقدار من الوقت و القدرة في السفر لغرض آخر تجاري أو نحوه، و كان المفروض عدم إخلاله بالمضاربة و التجارة و لا بالاسترباح شيئاً يمكن القول بالتوزيع حسب قدر ما صرفه من الوقت و القدرة. لأنّه مقتضي الإنصاف و موافقٌ للسيرة و الارتكاز؛ حيث لا وجه لأخذ ما أنفقه في السفر لأجل منافع نفسه و قضاء حوائجه الشخصية، من مال الغير، كما هو واضح.

هذا، و لكن لمنع التوزيع في هذه الصورة أيضاً مجال واسع؛ نظراً إلي إطلاق

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 215

و إن لم يتوقّف الإتمام علي البقاء- و إنّما بقي لغرض آخر- فنفقة البقاء عليٰ نفسه، و نفقة الرجوع عليٰ مال القراض لو سافر للتجارة به (1)؛ و إن عرض في الأثناء غرض آخر، و إن كان الأحوط التوزيع في هذه الصورة، و أحوط منه الاحتساب عليٰ نفسه.

______________________________

إذن المالك و عدم منافاته لغرضه، و دعوي انصراف إذنه إلي تمحّضه في التجارة بماله؛ بحيث

ينفي أيّ اشتغال آخر له، و لو لم يكن مضرّاً بغرضه بأيّ وجه، ممنوعة.

(1) 1- أمّا وجه أخذ نفقة البقاء من مال نفسه حينئذٍ، فواضح لفرض انتهاء عملية التجارة و عدم توقّف إتمامها علي استمرار السفر، و لا شغل له يرتبط بالمضاربة بعد ذلك، بل إنّما كان بقاؤه لغرض آخر راجع إلي نفسه، فلا وجه حينئذٍ لأخذ نفقته من مال القراض.

حكم نفقة الرجوع

و أمّا وجه أخذ نفقة الرجوع من مال القراض، فلأنّ الرجوع من سفر التجارة أمر لا بدّ منه و لا يكون للغرض الآخر أيّ دخل و تأثير فيه، بل إنّما الذي أوجب الرجوع هو المضاربة و التجارة؛ لفرض كون أصل سفره لأجل ذلك.

و مقتضي التحقيق في ذلك: أنّ أصل السفر إذا كان لأجل المضاربة و للتجارة بمال القراض فقط، فلا إشكال في كون نفقة الرجوع علي المالك، و إن عرض له في الأثناء غرضٌ و شغلٌ آخر.

و أمّا إذا كان السفر لها و لغرض آخر أيضاً من البداية، فلو كان ذلك الغرض مضرّاً بالتجارة و الاسترباح، يكون نفقة الرجوع علي العامل و لا يجوز له أخذه من

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 216

______________________________

مال القراض؛ لما قلنا من عدم دخول سفره حينئذٍ داخلًا في إذن المالك.

و أمّا إذا عرض الغرض الآخر في الأثناء أو بقي في السفر مدّةً زائدةً عن حدّ حاجة التجارة؛ بأن تمّت التجارة و لا دخل للبقاء فيها، فنفقة الرجوع علي المالك أيضاً؛ نظراً إلي كون أصل سفره للمضاربة و العمل في مال القراض.

اعطاءُ الضابطة في المقام

و الضابطة في ذلك كون السفر للمضاربة و العمل في مال القراض و عدم قصد العامل للاشتغال بأمر آخر يضرّ بغرض المالك من أمره بالاسترباح و التجارة.

و السيد الماتن إنّما تعرّض لفرض بقائه لغرض آخر أو عروضه في الأثناء، دون ما إذا كان أصل سفره لغرض آخر.

و بما بيّنّاه اتّضح حكم ما لو عرض له غرضٌ آخر في أثناء السفر. و المعيار في جواز أخذ نفقة السفر من مال القراض عدم مزاحمة الغرض الآخر للتجارة و العمل في مال القراض. فكلّما أخلّ ذلك الغرض الآخر بالمضاربة و الاسترباح فلا

يجوز أخذ شي ءٍ من نفقة السفر من مال القراض. و إلّا فلينظر في ذلك الغرض، فلو كان من قبيل ما لا يصرف له وقتاً و لا قدرةً؛ بأن يحصل في أوقات استراحته كصلة الأرحام و الأقارب، فلا وجه أيضاً لأخذ شي ءٍ من نفقة السفر من مال نفسه، بل يأخذ كلّها من مال القراض. و أمّا إذا كان الغرض ممّا احتاج الإتيان به إلي صرف وقت- غير زمان الاستراحة- و إلي عمل و نفقةٍ و مئونة، لا يبعد القول بالتوزيع حينئذٍ، بلا فرق بين عروضه في الأثناء و بين وجوده من أوّل الشروع في السفر؛ نظراً إلي صرف الوقت و العمل لهما معاً، لا للمضاربة خاصّة. و عدم كون استمرار السفر- حينما عرض في الأثناء غرض آخر- داخلًا في متعلّق إذن المالك. و لكن

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 217

(مسألة 22): لو كان عاملًا لاثنين أو أزيد، أو عاملًا لنفسه و غيره، توزّع النفقة

اشارة

(1). و هل هو عليٰ نسبة المالين أو نسبة العملين؟ فيه تأمّل و إشكال، فلا يترك الاحتياط برعاية أقلّ الأمرين إذا كان عاملًا لنفسه و غيره؛ و التخلّص بالتصالح بينهما، و معهما إذا كان عاملًا لاثنين مثلًا.

______________________________

ذلك فيما إذا لم يكن الاشتغال بفعل ذلك الغرض أو استمرار السفر مضرّاً بالمضاربة.

و كذلك لو كان له غرض آخر أيضاً من أوّل الأمر و لم يطّلع المالك. و قد احتاط السيد الماتن في هاتين الصورتين باحتسابها علي نفسه، و هذا الاحتياط منه استحبابي لإفتائه بخلافه.

توزيع النفقة لو عمل العامل لغير المالك

(1) 1- لا إشكال في أصل جواز توزيع النفقة في مفروض هذه المسألة، بل ذلك مورد اتّفاق الأصحاب، و لم يخالف فيه أحد. و هو المساعد للارتكاز و السيرة، بل و صحيحة عليّ بن جعفر السابقة؛ نظراً إلي انحلال

مدلولها حسب تعدّد مالك المال، كما هو واضح.

تحرير محل النزاع

و لا يخفي أنّ لتحرير محلّ النزاع ينبغي توضيح فقرتين من هذه المسألة.

إحداهما: أنّ المراد من النفقة هل هي نفقة شخص العامل أو يعمّ نفقات التجارة؟

و الذي يظهر من مطاوي كلمات الأصحاب إرادة خصوص النفقة الشخصية؛ نظراً إلي عقد هذه المسألة في ضمن مسائل باحثة عن حكم نفقة السفر التي لا إشكال

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 218

______________________________

في إرادة النفقة الشخصية منها، و إلي اتّفاقهم علي أصل توزيع النفقة بين المالكين، مع أنّه لا معني له في نفقة التجارة في إحدي صورتي المسألة، كما سيأتي توضيحه.

ثانيتهما: أنّ كون شخص عاملًا لاثنين أو لنفسه و غيره يمكن تصويره علي نحوين. أحدهما: أن يُنشئَ كلّ واحد من المالكين عقداً مستقلًاّ و يعمل العامل و يتّجر بكلّ واحدٍ من المالين تجارة مستقلةً و يحتسب لكلٍّ منها دخلًا و خرجاً علي حدة.

و ثانيهما: أن ينشئ المالكان للمالين عقداً واحداً و كذا العامل في النفقات و الأرباح.

لا كلام في خروج الصورة الاولي عن محلّ الكلام بالنسبة إلي نفقة التجارة؛ حيث لا يعقل توزيع نفقة التجارة بين المالكين حينئذٍ؛ نظراً إلي وضوح انفكاك كلّ مضاربة عن الآخر في مخارج التجارتين و ربحهما.

نعم، لو كان المراد من النفقة ما يعمّ نفقة التجارة تدخل الصورة الثانية في محلّ الكلام من هذه الجهة؛ نظراً إلي اشتراك المالكين في نفقات التجارة في عقد واحد، كما يشتركان في ربحها؛ لقاعدة «من له الغنم فعليه الغرم».

و لكن ظاهر كلمات الأصحاب خروج نفقة التجارة عن مصبّ الكلام؛ لما قلناه آنفاً، و إن لا مانع من شمول صورة المسألة لها في نفسه إلّا أنّ القرينة علي إرادة النفقة الشخصية تمنع من

ذلك.

هذا كلّه لا كلام فيه و إنّما وقع الكلام و الخلاف في التوزيع المزبور بأنّه هل يكون علي نسبة المالين أو علي نسبة العملين؟

كيفية التوزيع بحسب المال و العمل

و كيفية التوزيع بحسب المال؛ أن كان لأحد المالكين مائة ألف تومان و للآخر مائتا ألف، و كان مجموع النفقة ثلاثة آلاف تومان. فيؤخذ حينئذٍ من المالك الأوّل ألف تومان و من الثاني ألفان.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 219

______________________________

و أمّا لو قلنا: إنّ التوزيع بحسب العمل، فينظر إلي مقدار العمل الذي أتي به العامل في كلّ واحد من المالين. و المعيار في تقديره إمّا هو مقدار الوقت المصروف لذلك العمل كما هو المتعارف في تعيين اجرة الأجير، أو نفس العمل بلحاظ ما تحقّق به و وجد في الخارج من عمليّة التجارة و تعدادها. و لكن لا ضابطة للنحو الثاني، فالمتعيّن هو النحو الأوّل لأنّه المتعارف المضبوط عرفاً.

و عليه فتوزّع النفقة بين المالكين حسب مقدار الوقت المصروف للعمل في مال القراض. و عليه فالمعيار في ذلك مقدار العمل، و إنّما الوقت هو الميزان في تعيين مقداره.

آراءُ الفقهاء و نقد استدلالهم

و الأكثر علي القول الأوّل. و في الحدائق «1» أنّه الأظهر الأشهر. و قد جزم به في المبسوط، و في جامع المقاصد أنّه الأوجه، و في المسالك أنّه الأجود، كما نقل عنهم في المفتاح «2».

و استُدل لذلك بأنّ المدار في استحقاق النفقة علي المال دون العمل، كما في الحدائق و المفتاح.

و الذي يخطر بالبال أنّ هذا الدليل أشبه بالمدّعي. لأنّ الذي تُصرف لأجله النفقة هو العمل؛ ضرورة صرفها في جهة ما يصدر من التقلّبات و التصرّفات من جانب العامل. فكلّ عمل يعمله و كلّ تصرّف يصدر منه بحاجة إلي إنفاق نفقة. و لا فرق في ذلك بين كثرة مال القراض و قلّتها، إلّا من جهة واحدة، و هي استتباع كثرة

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 212.

(2)- مفتاح الكرامة 2: 477.

دليل تحرير

الوسيلة - المضاربة، ص: 220

______________________________

المال كثرة التصرّف و العمل من بداية السفر إلي زمان استحصال الربح، و لا دخل لأصل المال في ذلك، كما هو واضح. و لا دليل خاصّ علي الرأي الأشهر ليتعبّد به.

مقتضي التحقيق

و مقتضي التحقيق أنّ المعيار في توزيع النفقة هو مقدار العمل، و لكن لا بحسب الوقت المصروف مطلقاً و لا بلحاظ ذات العمل مطلقاً. بل إنّما توزّع النفقة بينهما بحسب مقدارها المصروف في جهة العمل في كلّ واحد من المالين. و ذلك يفترق في صرف العمل و الآلات و الأسباب المشتراة. فرُبّ مال كثير لا يستلزم العمل فيه صرف وقت كثير، و لكن تستتبع التجارة به نفقةً كثيرة لشراء ما تحتاج إليه تلك التجارة من الأسباب و الآلات. و رُبّ تجارة يكون الأمر فيها بالعكس، و يفترق ذلك في أنحاء التجارات و أنواعها.

فالمتعيّن في الحقيقة ملاحظة نسبة العمل؛ لأنّه السبب لإنفاق النفقة و بذل المخارج و تحمّل المئونة. فأيّ مال استتبع عملًا أكثر يكون سهمه من الإنفاق أكثر.

هذا كلّه في نفقة التجارة. و أمّا نفقاته الشخصية في السفر فلا إشكال في أنّها تابعة لمدّة الإقامة كثرةً و قلّةً. فكلّما طال زمان إقامته في السفر يكثر مقدار ما يصرفه من النفقة و المئونة. و الأموال تختلف في مقدار ما تحتاج إليه من العمل للتجارة. و لا بدّ في تعيين مقدار النفقة من ملاحظة مقدار العمل المأتي به للتجارة بكلِّ واحدٍ من المالين؛ لأنّ العمل الأكثر يستدعي صرف وقت أكثر و بالمآل نفقةً أكثر للبقاء. فإن أمكن تعيين مقدار العمل بحسب نوعه و خطورته و سائر الجهات المؤثّرة في قيمته فيها و إلّا فلا مناص من تقسيم النفقة بحسب مقدار ما يقتضيه

المال، من العمل- كمّاً و كيفاً- و صرف الوقت للتجارة به. فإنّ لكلّ ذلك دخلًا

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 221

(مسألة 23): لا يعتبر ظهور الربح في استحقاق النفقة

اشارة

(1)، بل ينفق من أصل المال و إن لم يكن ربح. نعم لو أنفق و حصل الربح فيما بعد، يجبر ما أنفقه من رأس المال بالربح كسائر الغرامات و الخسارات، فيعطي المالك تمام رأس ماله فإن بقي شي ء يكون بينهما.

______________________________

و تأثيراً في مقدار النفقة المصروفة.

و أمّا كون رعاية أقلّ الأمرين- فيما إذا كان عاملًا لنفسه و لغيره- أقرب إلي الاحتياط، فلا ريب فيه؛ لأنّه إيثار منه في جهة نفع المالك و تحصيل رضاه و اليقين ببراءة ذمّته من مال الغير. كما أنّ التصالح هو المتعيّن لو أشكل الأمر؛ حيث لا مناص من تحصيل رضاهما كليهما حينئذٍ.

عدم اعتبار ظهور الربح في استحقاق النفقة

(1) 1- ينبغي قبل الورود في البحث الإشارة إلي نكتة، و هي أنّ محلّ الكلام في المقام نفقة السفر، لا الحضر. و ذلك لما سبق من اتّفاق الأصحاب و دلالة النصّ الصريح علي كون نفقة الحضر علي العامل نفسه. و قد تقدّم تفصيل هذا البحث في شرح المسألة العشرين، فراجع.

ثمّ إنّ ظاهر الأصحاب في المقام عدم اعتبار ظهور الربح في استحقاق العامل للنفقة و جواز أخذها من مال القراض قبل ظهور الربح. فإذا ظهر الربح يجبر به ما أنفقه من مال القراض قبل تقسيم الربح.

و قد صرّح بذلك في المسالك بقوله: «و لا يعتبر في النفقة ثبوت ربح، بل ينفق و لو من أصل المال إن لم يكن ربح، و إن قصر المال. نعم، لو

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 222

______________________________

كان ربح فهي منه مقدّمة علي حقّ العامل» «1».

و نظيره في الجواهر؛ حيث

قال: «ظاهر النصّ و الفتوي عدم اعتبار ثبوت ربح في النفقة، بل ينفق و لو من أصل المال إن لم يكن ربح، لكن لو ربح بعد ذلك أخذت من الربح مقدّمة علي حقّ العامل» «2».

و لكن احتمل في الجواهر من كلام صاحب الرياض «3» أنّه استظهر من إطلاق النصّ و الفتوي، جواز الإنفاق من الأصل حتّي مع حصول الربح. و من هنا تعجّب منه صاحب الجواهر؛ حيث قال- بعد نقل كلامه: «و هو من غرائب الكلام» «4». و لكن ذكر جماعة إنفاقها منه دون الأصل. و عليه فليقدّم علي حصّة العامل.

مقتضي التحقيق

و علي أيّ حال مقتضي التحقيق ما قال في المسالك و الجواهر، و هو المعروف بين الأصحاب، بل هو الذي يظهر من نصوص المقام كما عرفت سابقاً و ستعرف. و هذا الفتوي من الأصحاب في المقام قرينة علي كون مرادهم في الحقيقة في المسألة العشرين، أخذ النفقة من مجموع مال القراض و الربح قبل تفكيكه و تقسيمه.

و هو الذي استظهرناه من النصّ و فتاوي القدماء في المسألة العشرين. و عليه فلو لم يبق- بعد جبران النقصان الناشي من الإنفاق- شي ءٌ أكثر من رأس المال، لا يبقي للعامل شي ءٌ من الربح، و لو بقي شي ءٌ بعد ذلك يُقسّم بينهما.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 349.

(2)- جواهر الكلام 26: 346.

(3)- رياض المسائل 9: 78.

(4)- جواهر الكلام 26: 347.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 223

______________________________

و ما قلنا سابقاً في المسألة العشرين من توزيع النفقة علي كلِّ من المالك و العامل و عدم كونها علي المالك وحده، ينطبق علي ما أفتي به الأصحاب في هذه المسألة.

و ذلك لأنّ جبران النفقة من الربح مرجعه إلي ذلك؛ ضرورة كون الربح ملكاً للمالك

و العامل كليهما. كما لا فرق في ذلك بين أخذ النفقة من مجموع ما بيد العامل في ختام التجارة و بين أخذها من الربح خاصّة؛ لأنّ المجموع لا يكون أزيد من رأس المال، إلّا بعد أخذ النفقة منه و جبران رأس المال، فيقسّم الباقي بينهما.

كما لا فرق بين ما لو أنفق العامل من كيسه و بين ما لو أخذ النفقة من رأس المال. و ذلك لأنّ رأس المال و إن يبقي علي حاله من غير نقصان فيما إذا أنفق العامل من كيسه، إلّا أنّه بعد أخذ ما أنفقه من الربح تخرج النفقة في الحقيقة من كيسهما معاً؛ لفرض كون الربح ملكاً لهما.

و قد استُدِلّ لذلك بامور:

الأوّل: عدم صدق الربح في نظر أهل العرف، إلّا بعد استثناء النفقة و غيرها من مئونة التجارة، كما أشار إليه السيد الحكيم «1». و السرّ في ذلك أنّ ما ذهب من كيس المالك- من نفقة التجارة و مئونتها- في الحقيقة من قبيل الخسارة، كما اومئ إلي ذلك في التذكرة بقوله: «و القدر المأخوذ في النفقة يحسب من الربح. و إن لم يكن هناك ربح فهو خسران لحقّ المال» «2».

و ما دام لم تجبر الخسارة الواردة علي رأس المال، لا يصدق عنوان الربح

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 301.

(2)- تذكرة الفقهاء 2: 242/ السطر 25.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 224

______________________________

و لا تكون التجارة رابحة في نظر أهل العرف. و من هنا جرت سيرة التجّار في تجاراتهم و معاملاتهم علي عزل رأس المال و تفكيك ما يعادله ممّا حصل بالتجارة أوّلًا، فلو بقي بعد ذلك شي ءٌ- زائداً علي ذلك- يرون التجارة رابحة. و لأجل ذلك- فيما إذا لم يبق في ختام التجارة

شي ءٌ أزيد ممّا يجبر به نقصان رأس المال- لو سألت التاجر: هل ربحت في هذه التجارة شيئاً؟ يجيب: لا، و إنّما حصل فيها مقدار ينحفظ به أصل مالي. و صحّة سلب عنوان الربح حينئذٍ دليل علي اعتبار جبران الخسارة في صدق عنوانه حقيقةً في نظر أهل العرف. و يفهم هذا التعليل من كلام صاحب الجواهر «1» أيضاً.

الثاني: السيرة القطعية، كما عن بعض الأعلام «2» بدعوي استقرارها علي أداء العامل اجرة ذهابه إلي خارج البلد من مال القراض من حين شروع التجارة، قبل ظهور شي ءٍ من الربح. بل جرت سيرتهم علي أخذ نفقات نفسه من المأكل و المشرب و المسكن في السفر مدّة إقامته في تلك البلدة التي سافر إليها، بل و أخذ سائر نفقات التجارة من رأس المال قبل ظهور الربح، ثمّ جبرانها بالربح الحاصل قبل تقسيمه و لم يرد من الشارع ردع في ذلك. و إنّما ورد الردع منه عن ذلك في الحضر- لو جرت السيرة المزبورة فيه، و هو بعيدٌ- بل ورد منه ما يدلّ علي إمضائه لهذه السيرة في السفر كما يدلّ عليه النصّ الوارد في المقام.

و لكن في جريان هذه السيرة في المصارف الشخصية غير المرتبطة بالتجارة- كأخذ الهدايا و الجوائز- نظرٌ، تقدّم الكلام فيه في المسألة العشرين.

الثالث: بعض ما ورد من النصوص في المقام؛ مثل صحيح

عليّ بن جعفر

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 346.

(2)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 55.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 225

______________________________

عن أخيه أبي الحسن عليه السلام: قال في المضارب: «ما أنفق في سفره فهو من جميع المال. و إذا قدم بلده، فما أنفق، فهو من نصيبه» «1»

. و مثله معتبرة السكوني.

فإنّ قوله عليه السلام:

«فهو من جميع

المال»

ظاهرٌ في عدم جواز أخذ نفقة السفر من خصوص مال القراض، بل معناه أن يأخذها من مجموع أصل المال و الربح. فإذا أخذها من مال القراض يستثني مقداره من المجموع و يردّه إلي صاحبه. ثمّ يقسّم الباقي- و هو الربح الحاصل- بينهما علي حسب ما اتّفقا عليه. و قد تقدّم الكلام في ذلك مفصّلًا في المسألة العشرين.

و قد اتّضح بذلك موافقة ما أفتي به السيد الماتن لفتوي الأصحاب، كما هو مدلول النصّ الوارد في المقام.

و أمّا ما قال به في الرياض- مضافاً إلي مخالفته لفتوي الأصحاب، كما تعجّب منه صاحب الجواهر- مخالفٌ لما استقرّ عليه السيرة القطعية من المتشرّعة و غيرهم في باب المضاربة، كما أنّه خلاف ما دلّ عليه صحيح عليّ بن جعفر و موثّق السكوني.

الرابع: الإجماع كما أشار إليه في الجواهر بقوله: «نعم إن لم يكن ثمَّ إجماع، أمكن القول بأنّ النفقة إنّما تكون للعامل، حيث يكون ربح في المال يحتملها، أو بعضها، فتخرج حينئذٍ منه علي المالك و المضارب، و إلّا فلا نفقة له، كما أنّ نفقته حال الحضر من نصيبه خاصّة، و لعلّه أوفق بالأصل و النصّ، إلّا إنّا لم نجده قولًا لأحد. و إن أراد ذلك في الرياض بما حكاه عن جماعة كان مطالباً لتعيينهم، كما لا يخفي علي من لاحظ و تأمّل» «2».

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 24، كتاب المضاربة، الباب 6، الحديث 1.

(2)- جواهر الكلام 26: 347.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 226

______________________________

تحرير كلام صاحب الجواهر

قوله: «يحتملها، أو بعضها، فتُخرج … »؛ أي يتحمّل المالك النفقة جميعها، أو يتحمّل بعضها، و حينئذٍ- أي حينما تحمّل بعض النفقة- تخرج النفقة من الربح علي المالك و المضارب. و إلّا- أي إن لم يكن

ربحٌ- فلا نفقة للعامل؛ أي يتحمّل العامل كلّها.

قوله: «و لعلّه أوفق بالأصل و النصّ»؛ أمّا الأصل فالمقصود منه أصالة حرمة التصرّف في مال غيره من دون إذنه و ترتّب الضمان عليه؛ حيث إنّ المتيقّن من إذن المالك إذنه للعامل في تملّك حصّته من الربح و أمّا إذنه بالتصرّف في سائر أمواله فهو مشكوك.

و عليه فإذا كان ربح تؤخذ النفقة من الربح؛ إمّا من سهمهما؛ لقاعدة «من له الغنم فعليه الغرم». فلمّا كان الغُنم و هو الربح لهما، يكون الغرم- و هو النفقة- عليهما معاً. و إمّا من سهم المالك خاصّة، كما يظهر من صاحب الرياض؛ نظراً إلي عدم ورود نقصٍ حينئذٍ في أصل ماله. و لما كان بذل النفقة في جهة نفعه، و لأنّه الذي أذن العامل و أمره بالسفر.

و أمّا النصّ فلأنّ صحيح عليّ بن جعفر إنّما تعرّض إلي صورة وجود الربح.

فغاية مدلوله جواز أخذ النفقة من مجموع المال و الربح في صورة حصول الربح، و لا دلالة علي جواز أخذها من أصل المال عند عدم حصول الربح. فلا مناص حينئذٍ من الرجوع إلي الأصل المزبور.

و قد سبق بيان هذا الأصل في كلام بعض الأصحاب، و يفهم من ذلك أنّ عمدة الوجه لرأي المشهور في نظر صاحب الجواهر هو الإجماع.

و فيه: أنّ أخذ النفقة من مجموع مال القراض و الربح قبل تفكيك الربح

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 227

(مسألة 24): الظاهر أنّه يجوز للعامل الشراء بعين مال المضاربة

اشارة

؛ بأن يعيّن دراهم شخصيّة و يشتري بها شيئاً، كما يجوز الشراء بالكلّي في الذمّة و الدفع و الأداء منه (1)؛ بأن يشتري جنساً بألف درهم كلّيّ عليٰ ذمّة المالك، و دفعه بعد ذلك من المال الذي عنده،

______________________________

و تقسيمه- كما بنينا علي ذلك و استظهرناه

من النصّ، بل فتاوي الأصحاب- يرجع في الحقيقة إلي تحمّل العامل نصف النفقة. و من هنا لو لم يكن نصيبه من الربح أكثر من مقدار سهمه من النفقة، لا يبقي له بعد كسر النفقة من المجموع شي ءٌ من الربح، و لو كان أكثر منه يؤخذ من نصيبهما؛ لأنّه مقتضي جبران النفقة من الربح الذي هو ملكٌ لهما علي نحو الإشاعة.

و أمّا إذا لم يحصل ربح فلا ريب في أخذ النفقة كلّها من مال القراض و ضمانها علي المالك. و لكن يظهر من كلام صاحب الجواهر عكس ذلك، و هو عجيب منه قدس سره.

و أمّا الإجماع فهو غير حاصل بما أنّه كاشف تعبّداً عن رأي المعصوم عليه السلام؛ لاستناد الأصحاب إلي القاعدة و النصّ، فالإجماع في المقام مدركي غير صالح للاستناد إليه بما أنّه إجماع.

هل يجوز للعامل الشراء بالذمّة؟

(1) 1- لا كلام في جواز الشراء بعين مال المضاربة علي النحو الذي جاء في المتن.

و ذلك لأنّ عين النقد المدفوع بما أنّه مصداق الثمن الكلّي- المقصود حين الإنشاء بعنوان العوض- داخل في قصد المشتري حين الإنشاء قطعاً، و إن كان

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 228

______________________________

الشراء بعين النقد المدفوع بعنوان الثمن خارج عن قصد أهل العرف في المعاملات المتعارفة؛ نظراً إلي تعلّق قصدهم عادةً بالثمن الكلّي في مقام إنشاء العقد و عدم قصدهم ما يدفعونه من أعيان النقود بما أنّه بعينه الثمن الواقع عوضاً حين الإنشاء، بل بما أنّه مصداقه.

و عليه فلا يصحّ توجيه تعبير السيّد الماتن قدس سره بقوله: «الظاهر» في صدر هذه المسألة بما جرت عليه سيرة العرف في المعاملات، كما قيل.

و إنّما وقع الكلام هاهنا في جهات:

الاولي: حكم الشراء بالكلّي في الذمّة، بأن اشتري

العامل بالكلّي المستقرّ في ذمّة المالك.

الثانية: صور الشراء في الذمّة.

الثالثة: حكم الشراء بالكلّي في المال المعيّن الذي هو للمالك.

تحرير كلمات الأصحاب

أمّا الجهة الاولي: فقد أفتي جماعةٌ من فحول الفقهاء بعدم جواز الشراء في الذمّة عند إطلاق كلام المالك إلّا مع إذنه.

قال في الشرائع: «و كذا يجب أن يشتري بعين المال. و لو اشتري في الذمّة لم يصحّ البيع، إلّا مع الإذن» «1».

و قد نسب ذلك في العروة «2» إلي المشهور بقوله: «المشهور- علي ما قيل- أنّ في صورة الإطلاق يجب أن يشتري بعين المال فلا يجوز الشراءُ في الذمّة».

______________________________

(1)- شرائع الإسلام 2: 111.

(2)- العروة الوثقي 5: 167.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 229

______________________________

و لكن لم ينسب ذلك في المسالك «1» و لا في الحدائق «2» و لا في الجواهر «3» إلي الأصحاب، فضلًا عن المشهور. نعم، يظهر من صاحب الحدائق نسبة ذلك إلي جملة من الأصحاب؛ حيث قال: «قد صرّح جملة من الأصحاب بأنّ مقتضي إطلاق الإذن في المضاربة هو البيع نقداً … و كذا مقتضي الإطلاق هو أن يشتري بعين المال، فلو اشتري في الذمّة لم يصحّ إلّا مع الإجازة» «4».

و عليه فما في العروة «5» من نسبة ذلك إلي المشهور غير ثابت.

و قد احتمل في الجواهر كون مراد الأصحاب من منعهم الشراء في الذمّة ما إذا كان الشراء في الذمّة بقصد الرجوع علي المالك بغير مال المضاربة، لا مطلقاً حتّي يشمل ما لم يكن بقصد ذلك. و يُفهم من كلامه تلويحاً نسبة ما قال في الشرائع إلي الأصحاب، إلّا أنّه أوّلَ كلامَهم إلي الصورة المزبورة.

و عليه فما يظهر من كلام صاحب الشرائع بإطلاقه لا يصحّ نسبته إلي الأصحاب في نظر صاحب الجواهر.

و علي أيّ

حال فمحلّ الكلام ما إذا لم يأذن المالك بالشراء في الذمّة، و إلّا فلا كلام في صحّته، كما لا كلام في بطلانه مع نهي المالك عنه.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 352.

(2)- الحدائق الناضرة 21: 216.

(3)- جواهر الكلام 26: 351.

(4)- الحدائق الناضرة 21: 213.

(5)- العروة الوثقي 5: 167.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 230

______________________________

أدلّة بطلان الشراء في الذمّة

و عمدة ما استُدلّ به لبطلان الشراء في الذمّة عند إطلاق كلام المالك وجهان، كما في المسالك «1» و الحدائق «2»:

أحدهما: أنّ المضاربة إنّما تعلّقت بعين مال القراض و أنّ مقصود المالك و العامل من عقد المضاربة كون ربح ذلك المال المعيّن بينهما. و لا يتحقّق ذلك إلّا بالشراء بعين ذلك المال؛ نظراً إلي عدم كون الربح الحاصل بالشراء في الذمّة ربح ذلك المال بعينه. و عليه يكون الشراء بالكلّي في الذمّة خارجاً عن قصد المالك.

ثانيهما: أنّ الشراء في الذمّة لا يخلو من احتمال الضرر. و ذلك لأنّ مال القراض ربما يتلف فيبقي الثمن في عهدة المالك؛ لفرض كون الشراء بمطلق مال المالك، كما هو المقصود من الشراء بالكلّي في الذمّة. فيرد بذلك الضرر علي المالك. و ذلك لأنّ المالك قد لا يتمكّن من الخروج عن عهدة الثمن، بل ربما لا يكون له غرض في غير مال القراض، فيقع بذلك في ضيق، بل و ضرر أحياناً.

و قد أشار إلي هذين الوجهين في المسالك بقوله: «لما في شرائه في الذمّة من احتمال الضرر؛ إذ ربما يتلف رأس المال فتبقي عهدة الثمن متعلّقةً بالمالك.

و قد لا يقدر عليه، أو لا يكون له غرض في غير ما دفع. و لأنّ المقصود من العقد أن يكون ربح المال بينهما، و لا يكون ذلك إلّا إذا اشتري بالعين،

لأنّ الحاصل

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 352.

(2)- الحدائق الناضرة 21: 216.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 231

______________________________

بالشراء في الذمّة ليس ربح هذا المال» «1».

و زاد السيد اليزدي في العروة بقوله: «و علّل ذلك بأنّه القدر المتيقّن» «2». و هذا يمكن عدّه وجهاً ثالثاً، و تحريره أنّ القدر المتيقّن من إطلاق كلام المالك هو الشراء بعين مال المضاربة، لو لم يكن ظاهراً فيه للوجهين السابقين.

بيان المناقشة في الأدلّة المزبورة

و قد أشار إلي هذه الوجوه الثلاثة في العروة، و ردّها بقوله: «و لا يخفي ما في هذه العلل» «3».

و وجّهه في المستمسك بقوله: «فإنّ العمل بالقدر المتيقّن إنّما يكون مع عدم الإطلاق، أمّا مع الإطلاق فالعمل به متعيّن. و وجوب دفع غيره ليس محذوراً إذا كان مقتضي الإطلاق، و إذا كان الشراء بالمال يشمل الشراء بالذمّة فقد صدق أن الربح للمال لتبعية ذلك لما ذكر» «4».

و قد وجّه ذلك بعض الأعلام «5» بأنّ الوجوه الثلاثة المذكورة مخالفة لإطلاقات أدلّة المضاربة المقتضية للصحّة و لا موجب لرفع اليد عنها.

و فيه: أنّه أشبه بالمدّعي؛ لأنّ دعوي قرينية الوجهين المذكورين لانصراف إطلاقات الأدلّة بمكان من الإمكان. فإنّ ظهورها من هذه الجهة تابع لما هو المتفاهم من كلام المالك و إذنه عرفاً.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 352.

(2)- العروة الوثقي 5: 168.

(3)- نفس المصدر.

(4)- مستمسك العروة الوثقي 12: 290.

(5)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 46.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 232

______________________________

دليل صحّة الشراء في الذمّة و ردّ صلوحه

و لكن يمكن الاستدلال لانصراف إطلاق كلام المالك عن الشراء بعين ما دفعه إلي العامل من مال المضاربة بأنّ الأغراض لا تتعلّق بأعيان النقود في المعاملات، بل إنّما تتعلّق بماليتها. و ذلك لتمحُّض النقود في المالية، فإنّها بماليتها تقع أثماناً في المعاملات و لا حظّ لأعيانها في ذلك.

و عليه فالمالك لم يتعلّق غرضه المعاملي بعين النقد الذي يدفعه إلي العامل للمضاربة؛ حيث إنّ غرضه من دفعه تحقّق التجارة الرابحة به و تحصيل الربح بذلك.

و لا يتوقّف ذلك علي عين مال القراض، بل لا دخل لعينه في تحقّق هذا الغرض، و إنّما الدخيل في ذلك هو ماليته و قيمته. و لا فرق في ذلك بين عين مال القراض و

بين غيره من أموال المالك. و هذه القاعدة لا تختصّ بباب المضاربة، بل تجري في جميع أنواع المعاملات.

هذا، و لكن انصراف كلام المالك عن عين مال القراض، إلي ماليته، لا يثبت جواز الشراء في ذمّة المالك و أداء الثمن بسائر أمواله. و ذلك؛ حيث إنّ في ذلك ثقل و كلفة علي المالك، بل و أحياناً ضرراً علي المالك فيما إذا كان لسائر أمواله مكسباً أنفع و أربح، أو يُدفع بها ضرراً. و من الواضح أنّ نفي خصوصية عين مال القراض لا يستلزم إيراد كلفة و ثقل و ضرر علي المالك و لا تحميل ضيق عليه، بل غاية ما يلزم منه، هي جواز أداء العامل ثمن المبيع بما يعادل مال القراض في المالية من سائر أمواله و تملّك عينه لنفسه.

مقتضي التحقيق

فتحصّل أنّ مقتضي التحقيق ما سبق من الجواهر من التفصيل بينما إذا كان الشراء في ذمّة المالك بقصد أداء الثمن من مال المضاربة فلا إشكال في صحّته،

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 233

______________________________

و بينما إذا كان بقصد الرجوع إلي المالك و أداء الثمن من سائر أموال المالك فلا يصحّ. و لا يبعد كون هذه الصورة مقصود الأصحاب من منع الشراء في الذمّة، كما قال في الجواهر: «نعم، ليس له الشراء في الذمّة علي إرادة الرجوع عليه بغير مال المضاربة فإنّه ليس في الإطلاق ما يشعر الإذن بذلك، و يمكن إرادة الأصحاب المنع عن هذا بالخصوص» «1» كما أنّ مرادهم من وجوب الشراء بعين مال المضاربة عند الإطلاق، هو نفي جواز الشراء في الذمّة بقصد أداء الثمن من سائر أموال المالك، لا الشراء بالثمن الكلّي بقصد أداء الثمن من غير عين مال القراض، من سائر أموال نفسه،

كما أشرنا إليه.

نعم، لو شرط العامل الشراءَ في ذمّة المالك، أن يدفع الثمن من مال القراض- لا من سائر أموال المالك- الشراء في ذمّته بكون دفع الثمن في مقام الأداء من عين مال القراض، لا إشكال في صحّته، كما اعترف به في الجواهر «2».

و اتّضح ممّا بيّنّاه عدم صحّة الشراء بما في ذمّة المالك علي النحو المطلق الشامل لسائر أمواله، من دون الشرط المزبور.

صور الشراء في الذمّة و حكمها

و أمّا الجهة الثانية: فقد ذكر في العروة «3» صوراً للشراء في الذمّة، ينبغي ذكرها و ما يترتّب عليه من الحكم بناءً علي المختار. و هي:

الصورة الاولي: شراءُ العامل للمالك و في ذمّته من حيث المضاربة بقصد أداء الثمن من مال المضاربة.

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 352.

(2)- جواهر الكلام 26: 352.

(3)- العروة الوثقي 5: 168- 170.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 234

______________________________

و لا إشكال في صحّة الشراء و المضاربة في هذه الصورة؛ نظراً إلي كون قصده الأداء بمال القراض. فلا يستتبع التصرّف في سائر أموال المالك حتّي لا يرضي و يبطل الشراء.

الثانية: أن يقصد العامل كون الثمن في ذمّته من حيث إنّه عامل و وكيل عن المالك. و هذه الصورة ترجع في الحقيقة إلي الاولي، و حكمهما واحد. و سبق آنفاً بيانه. و عليه فلو تلف مال القراض قبل أداء الثمن، لا يكون في ذمّة المالك أداؤه من سائر أمواله، كما حكم به في العروة «1». و عليه فتصير صحّة المعاملة مراعاة بلحوق رضا المالك. فلو رضي بأداء الثمن من سائر أمواله استقرّت صحّة العقد. و إلّا انفسخ؛ لانتفاء الثمن. و أمّا الحكم ببطلان هذه المعاملة رأساً من البداية، كما يظهر من بعض الأعلام «2»، فلا وجه له؛ نظراً إلي تعلّق رضا

المالك بهذه المعاملة من حين إنشاء العقد، و إلي فرض عدم كون العوض عين مال القراض.

الثالثة: أن يقصد العامل ذمّة نفسه و يشتري لنفسه، و لم يقصد حين إنشاء عقد الشراء الوفاء من مال المضاربة. و لكن دفع الثمن منه بعداً.

و التحقيق: أنّ الشراءَ حينئذٍ صحيحٌ و إن كان العامل غاصباً في دفع مال المضاربة من غير إذن المالك. وجه صحّة الشراء أنّ الأداء الخارجي غير عقد الشراء و خارج عن ماهيته و غير مقوّم له؛ لفرض كون الثمن كلّياً في الذمّة. نعم، يبطل الأداء، بمعني أنّ ذمّة العامل لا تبرأُ بذلك من الثمن الذي في عهدته بالنسبة إلي البائع، و لا يرتفع ضمانه المعاوضي للثمن، كما أنّه ضامن لعين مال القراض.

فحال دفع الثمن بمال القراض كحال دفع الثمن بمال الغير.

______________________________

(1)- العروة الوثقي 5: 168- 170.

(2)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 48.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 235

______________________________

الرابعة: عين الصورة السابقة مع قصد دفع الثمن من مال المضاربة حيلةً و طمعاً لعود الربح إليه. و هذه الصورة محكومة بحكم سابقتها.

الخامسة: قصده الشراء في الذمّة، من غير التفات إلي نفسه أو غيره. و هل يلحقه حكم الصورتين السابقتين، أو يحكم بكون شرائه حينئذٍ في ذمّة المالك؟

فيه وجهان:

أمّا وجه الحكم بكون شرائه في ذمّة المالك، فهو وجود قرينة المقام؛ حيث إنّه في مقام الاتّجار لأجل المضاربة بمال المالك. فينعقد بذلك ظهور حال له في كون إنشائه الشراء للمالك.

و أمّا وجه لحوقه بالصورتين السابقتين، ظهور حاله في كونه لنفسه؛ لظهور إنشائه الشراءَ في انتسابه إلي نفسه و كونه المسئول عن أداء الثمن.

فيصحّ الشراءُ و يقع لنفسه و يكون المبيع له حينئذٍ. و ذلك لأنّ كون المبيع للغير

تابع لقصد المنشئ. و العامل لم يقصد من إنشائه الشراءَ للغير، بل ظاهره وقوع العقد لنفسه و يكون المبيع مع ربحه له، و الثمن في عهدته، بل لا يبعد الحكم بذلك، و لو لم يكن لإنشائه ظهور في ذلك؛ نظراً إلي كون المعاملات من العناوين القصدية. و عليه فوقوع الشراء للغير بحاجةٍ إلي قصد الشراء له، و هو منتف كما هو المفروض. و عليه فلو دفع الثمن من مال المضاربة يدخل في حكم دفع الثمن بمال الغير، فلا يترتّب علي دفعه أثرٌ شرعاً، بل عليه ضمان مال القراض و أداء الثمن من مال نفسه.

و لا يبعد رجحان هذا القول؛ نظراً إلي أنّ المتفاهم العرفي من إنشائه العقد كون الشراءِ لنفسه عند الإطلاق و عدم القرينة علي كونه للغير.

و يشهد لذلك ما قال في الجواهر: «نعم، لو وقع الشراء منه بلا نيّة أنّه

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 236

______________________________

للمالك، أو لنفسه، تعلّق الثمن بذمته ظاهراً و واقعاً، و كان الربح له، كما لو نوي لنفسه؛ لظهور المعاملة في ذلك، حتّي لو فرض كونه مأذوناً في الشراء في الذمّة للمالك. لكن لا ينصرف الشراء في نفس الأمر عمّن وقعت المعاملة له، إلّا بنيّة أنّه له، كما هو واضح. فما في الرياض، من الوقوع للمالك في هذه الصورة- واضح الضعف» «1». هذا، و لا يبعد قرينية تمحّضه في المضاربة أو غلبة معاملاته في جهة المضاربة لإثبات كون شرائه للمالك. بل الأقوي كفايتها لذلك.

حكم الشراء بالكلّي في المعيّن

أمّا الجهة الثالثة: و هو الشراء بالكلّي في المعيّن؛ فيمكن تصويره بنحوين:

أحدهما: ما أراده صاحب العروة و هو الشراء بثمن كلّي موجود في مال القراض المعيّن الخارجي. فهذا لا إشكال في جوازه؛ نظراً إلي كونه

من قبيل الشراء بعين مال القراض في الحقيقة. كما أشار إليه في العروة «2».

ثانيهما: بمعني كون الثمن مالًا كلّياً من بين المال المعيّن الخارجي المشتمل علي مال القراض و غيره، و كلُّه للمالك؛ و حكمه حكم الشراء في الذمّة، بلا فرق بينهما.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الشراء بالكلّي في المعيّن لا يرد عليه بعض الإشكالات المزبورة. و ذلك لصدق كون الشراء بمال القراض؛ نظراً إلي عدم خروج مصداق الكلّي في الخارج عن مال القراض الموجود في مجموع المال المعيّن

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 352- 353.

(2)- العروة الوثقي 5: 168.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 237

______________________________

للمالك. فلا يسري عنوان الثمن إلي سائر أموال المالك، كما كان يسري عند الشراء في ذمّته.

أمّا ورود الضرر بذلك علي المالك، فيمكن دفعه بأداء الثمن من مال القراض.

مقتضي التحقيق

هذا غاية ما استدلّ أو يمكن الاستدلال به لجواز الشراء بالكلّي في المعيّن، و لكنّ الإنصاف أنّه يشكل الالتزام به؛ نظراً إلي ظهور حال المالك في عدم رضاه و لا إذنه بالتصرّف في سائر أمواله. و ذلك بقرينة الوجهين المستدلّ بهما سابقاً لمنع الشراء في الذمّة. و لظهور تعيين حصّة من أمواله و جعلها مال القراض و رأس المال للاتّجار في ذلك، كما يدلّ علي ذلك الإشارة إليه بقوله- مثلًا: «خذ هذا المال و اتّجر به». و لا أقلّ من عدم إحراز رضائه بالتصرّف في سائر أمواله.

و أمّا كون الثمن كلّياً في المال المعيّن الخارجي، لا ينافي شمول ذلك المال المعيّن جميع أموال المالك، بأن يقصد العامل أداءَ الثمن من بين جميع أموال المالك الموجودة في الخارج، فلا محالة يشمل غير مال القراض و يعود المحذور.

نعم، لو أذن المالك صريحاً أو كان لكلامه ظهورٌ

في إذنه بالشراء في ذمّته مطلقاً، أو في إذنه بدفع الثمن من سائر أمواله غير مال القراض، لجاز الشراءُ في الذمّة مطلقاً، و لو بقصد الرجوع إلي المالك بغير مال المضاربة. و كذا الشراءُ بالكلّي في المعيّن.

فتحصّل أنّ مقتضي التحقيق في المقام عدم جواز الشراء بذمّة المالك و لا بالكلّي في المعيّن علي النحو المطلق بقصد الرجوع إلي المالك بغير مال القراض.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 238

و لو تلف مال المضاربة قبل الأداء، لم يجب علي المالك الأداء من غيره (1)؛ لعدم الإذن عليٰ هذا الوجه، و ما هو لازم عقد المضاربة، هو الإذن بالشراء كلّيّاً متقيّداً بالأداء من مال المضاربة؛ لأنّه من الاتّجار بالمال عرفاً.

______________________________

حكم تلف مال القراض قبل أداءِ الثمن

(1) 1- يقع الكلام تارة: فيما إذا كان تلف مال القراض لأجل تقصير العامل في حفظه أو تعدّيه و تفريطه في التصرّف.

و اخري: فيما إذا لم يكن تلفه ناشئاً من تقصير العامل أو تعدّيه و تفريطه.

أمّا الصورة الاولي: فلا إشكال في ضمان العامل. و قد سبق بيان الوجه في ذلك مفصّلًا.

و حاصله: وقوع تلف مال القراض حينئذٍ عن عمد العامل و تعدّيه؛ حيث إنّه لو كان يدفعه إلي البائع إمّا لم يكن يتلف أو كان يتلف في يد البائع. و لمّا تلف قبل الأداء بفعله و عمده، يضمنه بمقتضي قاعدة الإتلاف، و كذا يضمنه لو تعيّب بمقتضي قاعدة اليد.

و ذلك لأنّ إتلاف مال المضاربة يستند عرفاً إلي العامل حينئذٍ؛ حيث نشأ من حبسه مال القراض و التفريط في تأخير الأداء الموجب لتلفه، مع أنّ المالك دفعه إليه و إذنه بالتصرّف فيه لأجل غرض التجارة و الشراء. و عليه فلم يكن حبس مال القراض بإذن المالك، فيكون ضمانه عليه؛

لقاعدة ضمان الإتلاف.

و لا يخفي أنّ هذه الصورة خارجة عن محلّ الكلام. و إنّما الكلام في الصورة الثانية.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 239

______________________________

و أمّا الصورة الثانية- و هي مقصود السيد الماتن من هذا الفرع ظاهراً-: فهي أن يتلف مال القراض قبل أن يؤدّي العامل ثمن المتاع الذي اشتراه مضاربةً إلي البائع، من غير تقصيرٍ أو تعدٍّ أو تفريط.

و قد وقع الكلام في أنّه هل يجب علي المالك حينئذٍ أداءُ الثمن من سائر أمواله، أم لا؟

يظهر من صاحب الجواهر أنّه لو تلف مال القراض حينئذٍ قبل الأداء، أدّي المالك من غيره. و علّل ذلك بأنّه مقتضي إطلاق كلام المالك، ما لم يكن العامل قاصداً للرجوع إليه بغير مال القراض من حين الشروع في العمل و قبل إنشاء عقد الشراء. قال قدس سره: «نعم، ليس له الشراء في الذمّة علي إرادة الرجوع عليه بغير مال المضاربة، فإنّه ليس في الإطلاق ما يشعر بالإذن بذلك، و يمكن إرادة الأصحاب المنع عن هذا بالخصوص، لا ما يشمل الأوّل الذي قد يتسامح في العرف بجعله من الشراء بالعين. فإذا اتّفق عروض ذلك من العامل، و فرض تلف مال المضاربة، أدّي المالك من غيرها حينئذٍ، لما عرفته من تناول الإطلاق الإذن علي الوجه المزبور، المفروض وقوعه» «1». و تبعه السيد في العروة «2».

و مقتضي التحقيق عدم وجوب أداء الثمن من غير مال القراض علي المالك.

لما سبق آنفاً من أنّ غرضه المعاملي من المضاربة و إن لا يتوقّف حصوله علي عين مال القراض، إلّا أنّه لم يقصد المضاربة و الاتّجار، إلّا بعين مال القراض، بل قصده

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 353.

(2)- العروة الوثقي 5: 168.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 240

نعم للعامل

أن يعيّن دراهم شخصيّة و يشتري بها؛ و إن كان غير متعارف في المعاملات، لكنّه مأذون فيه قطعاً (1) و أحد مصاديق الاتّجار بالمال. هذا مع الإطلاق، و أمّا مع اشتراط نحو خاصّ فيتّبع ما اشترط عليه.

______________________________

الثمن الكلّي، لا ينافي إرادة الكلّي المقيّد بما دفعه من مال القراض. فلا يجوز إجباره علي دفع الثمن من غير مال القراض، كما يجوز له أن يفسخ المضاربة حينئذٍ.

نعم، لو لم يفسخ المضاربة و أجاز الشراء في الذمّة، عليه أداءُ الثمن من غير مال القراض. و لكن العامل لا يضمن ما تلف من مال القراض حينئذٍ، فاتّضح بما ذكرناه عدم وجاهة ما قيل «1» من بطلان المعاملة حينئذٍ، بدعوي تعذّر الثمن و أنّه من مصاديق تلف الثمن.

(1) 1- لأنّه المتيقّن من متعلّق إذن المالك، فلا كلام و لا إشكال في صحّته؛ لأنّه الاتّجار بعين مال القراض.

و لا يخفي أنّ كلّ ما سبق من الكلام كان عند إطلاق كلام المالك، كما قلنا في بداية هذا البحث. و أمّا مع اشتراطه علي نحو خاصّ، فلا إشكال و لا كلام في وجوب اتّباع الشرط و عدم جواز مخالفته للعامل و ضمانه لدرك تلف مال القراض و خسارة الوضيعة الحادثة في التجارة.

______________________________

(1)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 48.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 241

(مسألة 25): لا يجوز للعامل أن يوكّل غيره في الاتّجار

اشارة

(1)- بأن يوكل إليه أصل التجارة- من دون إذن المالك. نعم يجوز له التوكيل و الاستئجار في بعض المقدّمات، بل و في إيقاع بعض المعاملات التي تعارف إيكالها إلي الدلّال، و كذلك لا يجوز له أن يضارب غيره أو يشاركه فيها إلّا بإذن المالك،

______________________________

الإيكال إلي الغير بإذن المالك

(1) 1- و الوجه في عدم جواز توكيل العامل غيره في

الاتّجار، أنّ متعلّق إذن المالك للعامل اتّجاره بمال القراض مباشرةً؛ لأنّه الذي تعلّق به إذن المالك و جرت عليه عادة العرف، فهو متعلّق إذن المالك و منصرف قوله مخاطباً للعامل «خذ هذا المال و اتّجر به». فلو أنّ العامل أوكل أمر الاتّجار إلي الوكيل لم يتّجر بنفسه، كما هو ظاهر كلام المالك. فليس داخلًا في إذنه بالتصرّف في ماله، بل يكون تصرّفاً بغير إذنه، و لا يجوز التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه.

و ممّا يؤيّد ذلك خروج هذا الفرض عن عنوان المضاربة؛ لأنّ المنصرف عرفاً من المضاربة، استعمال العامل في التّجارة مباشرة، و إلّا فلا يكون عاملًا، بل العامل وكيله و لم يصدر إذن من المالك له بالتجارة، إلّا ما قامت قرينة خاصّة علي دخوله في متعلّق إذنه، كتهيئة ما تعارف التوكيل فيه من مقدّمات التجارة.

و من هنا يجوز للعامل تهيئة المقدّمات بتوكيل غيره.

و ذلك لعدم دخول المقدّمات في حقيقة المضاربة عرفاً، حتّي يكون لكلام المالك ظهورٌ في استعمال العامل فيها بالمباشرة. و من هنا لا يمنع التوكيل في تهيئة المقدّمات عن استناد الاتّجار إلي العامل عرفاً، بل و في إنشاء بعض المعاملات، إذا

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 242

و مع الإذن إذا ضارب غيره، يكون مرجعه إليٰ فسخ المضاربة الاوليٰ؛ و إيقاع مضاربة جديدة بين المالك و عامل آخر، أو بينه و بين العامل مع غيره بالاشتراك، و أمّا لو كان المقصود إيقاع مضاربة بين العامل و غيره- بأن يكون العامل الثاني عاملًا للعامل الأوّل- فالأقويٰ عدم الصحّة (1).

______________________________

كان التوكيل في ذلك متعارفاً. و لذلك ينعقد لكلام المالك إطلاق يقتضي إذن العامل بتوكيل الغير في تهيئة مقدّمات التجارة، إلّا إذا كانت قرينة علي الخلاف.

و

قد اتّضح من ضوء هذا البيان أنّه لا يجوز للعامل أن يضارب غيره أو يشاركه فيها؛ لعين الوجه المتقدّم آنفاً، إلّا إذا أذن له المالك بذلك صريحاً، أو فهم الإذن من ظاهر كلامه، أو أحرزه العامل بأيّة قرينة اخري.

حكم ما إذا ضارب العاملُ أو شارك غيره بإذن المالك

(1) 1- إذا ضارب العامل أو شارك غيره بغير إذن المالك، فلا كلام في بطلانه.

و الوجه فيه واضح، كما لا يجوز ذلك مع إطلاق كلام المالك؛ لما تقدّم وجهه آنفاً.

فلا كلام في ذلك و إنّما الكلام فيما إذا كان ذلك بإذنه.

و أمّا إذا كان بإذن المالك، فيقع الكلام تارةً: في حكم العقد الثاني الذي أنشأه العامل. و اخري: في العقد الأوّل الذي أنشأه المالك.

فالكلام يقع في المقامين:

أمّا المقام الأوّل: فالكلام فيه يقع تارة: فيما إذا كان العامل الثاني عاملًا للمالك أيضاً كالأوّل؛ بأن تصدّيا كلاهما للعمل بالمباشرة. و حينئذٍ يقول العامل الأوّل- مثلًا- للثاني: «خذ هذا المال و اتّجر به معي و الربح بيننا و بين المالك». فلا

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 243

______________________________

بأس بذلك؛ نظراً إلي ما تقدّم في المسألة العاشرة من جواز تعدّد العامل، إلّا أنّ المنشئ هناك المالك، و هاهنا العامل. و المفروض أنّه بإذن المالك. فهذه الصورة لا كلام فيها.

و اخري: فيما لو أنشأ العامل الأوّل المضاربة بين العامل الثاني و بين المالك و انفصل عن الاشتغال بالعمل التجاري؛ من إنشاء صيغة البيع و الشراء و القبض و نحو ذلك. و لكن يفوّضه إلي الثاني بحيث يكون هو العامل بالمباشرة دون الأوّل. و ذلك يتصوّر له ثلاث صور:

الاولي: أن يكون عمل الثاني تحت تدبير الأوّل و نظارته؛ لعدم فكرة تجارية اقتصادية للثاني، فاستخدمه الأوّل لإجراء الامور التجارية و إنشاء صيغ البيع و

الشراء و القبض و الإقباض و النقل و الانتقال. و لكن لا علي نحو الإجارة و تعيين الاجرة، بل يجعل له شيئاً من الربح؛ كأن يقول- مثلًا-: «اتّجر بهذا المال بأمري و تحت تدبيري و نظارتي و دلالتي، و لك ثلث الربح». أو يقول: «بشرط أن يكون لك خمس الربح و الباقي بيني و بين المالك» أو يقول: «بشرط أن يكون الربح بيننا و بين المالك أثلاثاً.»

الثانية: أن ينفصل عن العمل رأساً و يفوّضه إلي الثاني تفويضاً مطلقاً بإنشاء مضاربة جديدة. و حينئذٍ إمّا أن يجعل الربح بين العامل الثاني و بين المالك، أو يجعله بينهما و بين نفسه أثلاثاً أو أرباعاً؛ بأن كان النصف للمالك و النصف الباقي لهما.

فالأوّل من هذين الفرضين الصورة الثانية، و الثاني منهما الصورة الثالثة.

أمّا الصورة الاولي: فالظاهر أنّه لا بأس به إذا كان بإذن المالك و في الحقيقة تلحق بالفرض السابق المقابل لهذه الصور الثلاث؛ لأنّ غاية ما يحدث بذلك تعدّد العامل مع تعيين سهم من الربح له بالتراضي.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 244

______________________________

و أمّا الصورة الثانية: ففي الفرض الأوّل منها: تصحّ المضاربة الثانية مع إذن المالك، و تصير فضولية بدونه. و ذلك كأن يقول العامل الأوّل للثاني: «اتّجر بهذا المال و الربح بينك و بين المالك» فلو أذن لها المالك لا إشكال في صحّته، كما قال في الشرائع. و علّله في الجواهر بقوله: «لأنّه يكون حينئذٍ بمنزلة الوكيل عن المالك في ذلك، و سبق عقد القراض معه لا ينافي ذلك، بل لا يقتضي فساده، لعدم ما يدلّ علي اعتبار خلوّ المال عن وقوع عقد قراض عليه في صحّة الثاني» «1». فلو عمل العامل الأوّل أيضاً له اجرة

المثل لا الربح؛ لفرض أنّه خرج باختياره عن المضاربة، فلا يستحقّ شيئاً من الربح بمقتضي المضاربة. نعم، له علي المالك اجرة مثل العمل الصادر منه بعد إنشاء العقد الجديد إذا كان عمله بإذن المالك، و إلّا فلا يستحقّ شيئاً من الربح و الاجرة.

و من ضوء هذا البيان اتّضح الإشكال فيما يظهر من صاحب الجواهر من استحقاقه الربح عند العمل؛ حيث قال: «و إن كان هو لا يستحقّ شيئاً من الربح، بعدم العمل منه، أمّا لو فرض عمل كلّ منهما صحّ و أخذ كل منهما ربح ما عمل به من المال علي حسب ما شرط له» «2».

كيف و هو أقدم علي حرمان نفسه من الربح باشتراطه كون الربح بين المالك و العامل الثاني؟! و من هنا اتّضح خروج صاحب الجواهر في ذيل كلامه عن فرض المقام.

نعم، يحتمل- كما في العروة- أن يكون نفس إنشاء المضاربة الجديدة عملًا تجارياً صادراً من العامل الأوّل. و عليه لا تبطل المضاربة الاولي، بل تنتهي

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 392.

(2)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 245

______________________________

و تنفسخ بنفس إنشاء الجديدة، و بينهما فرقٌ واضح. و تظهر الثمرة في استحقاق العامل للربح حينئذٍ؛ نظراً إلي صحّة الاولي قبل انفساخها. و من هنا يمكن القول باستحقاق العامل الأوّل للربح بنفس عمل إنشاء المضاربة الثانية، فيما إذا كانت رابحة و لعلّ نظر صاحب الجواهر إلي ذلك، كما لا يبعد.

و لكنّ الإنصاف عدم كون إنشاء المضاربة الجديدة من قبيل العمل المقصود الذي يتوقّعه المالك من العامل في المضاربة، بل المقصود المتوقّع صدوره من العامل عرفاً هو عمل البيع و الشراء. اللّهم إلّا أن يقال بصدق التجارة بالمعني الأعمّ علي المضاربة، لكنّه غير مقصود في

باب المضاربة، بل المقصود هو التجارة بمعناه الأخصّ المقابل للتجارة و الصناعة و البنائة و الزراعة و سائر المكاسب.

و أمّا احتمال إرادة الصورة الاولي- قبل الثلاثة الأخيرة- من صيغة الإنشاء في هذه الصورة، بأن كان المقصود بقاءُ العامل الأوّل و عدم انفصاله عن العمل، كما لعلّه يظهر من بعض الكلمات، فهو خلاف ظاهر إنشاء المضاربة بين العامل الثاني و بين المالك، كما هو المفروض في ما نحن فيه.

و أمّا الصورة الثالثة: و هو الفرض الثاني من الفرضين المزبورين؛ بأن يجعل لنفسه سهماً من الربح مع انفصاله عن العمل رأساً و تفويضه إلي العامل الثاني، من دون أيّ مداخلة في الاتّجار حتّي بالتدبير و الإشراف علي المعاملات و التجارات الصادرة من العامل.

فالأقوي حينئذٍ بطلان المضاربة. و ذلك لما سبق في المسألة الاولي من عدم جواز جعل الربح للأجنبي و اعتبار كونه بين المالك و العامل. فإنّ المفروض حينئذٍ عدم كون الأوّل عاملًا؛ لفرض انفصاله عن العمل بالمرّة. و عدم مداخلة له في الاتّجار حتّي بالتدبير و الإشراف و الدلالة. و ليس بمالك، كما هو المفروض. فإذا لم

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 246

______________________________

يكن عاملًا و لا مالكاً يكون أجنبياً. و إشراك الأجنبي في المضاربة مبطل لها.

و ذلك لما سبق في ذيل المسألة الاولي في أوائل هذا الكتاب؛ من تحكيم أصالة الفساد الثابتة بمقتضي قاعدة تبعية الربح للمال، بعد فرض كون مشاركة الأجنبي في الربح خلاف مقتضي ما هو المرتكز من عنوان المضاربة في أذهان أهل العرف، مضافاً إلي دلالة نصوص الباب بمفهوم التحديد علي حصر الربح بين المالك و العامل و نفي استحقاق الأجنبي له.

و لا يخفي أنّ ما حَكَم به صاحب الشرائع و الجواهر و

سائر الفقهاء، و منهم السيد الماتن؛ من عدم صحّة المضاربة، إنّما يتمّ في هذه الصورة، و اتّضح وجه حكمهم بذلك من ضوء ما بيّنّاه.

و هاهنا صورة اخري تعرّض إليها السيد الماتن في ذيل كلامه و يكون مجموع الصور معها خمس صور.

و هي أن يُنشئ العامل الأوّل مضاربة جديدة بين نفسه و بين عامل آخر، من دون إشراك المالك بأن يجعل ذلك الغير عاملًا لنفسه.

و هذه الصورة لا ريب في بطلانه لخروجه عن مقصود المالك و إذنه؛ ضرورة تعلّق قصده المعاملي بإذنه، فلا يأذن العامل الأوّل بالمضاربة، إلّا لغرض الاسترباح. فحينئذٍ لا إشكال في بطلان المضاربة الثانية و بقاء الاولي علي صحّتها؛ حيث إنّ الثانية تصبح لغواً.

و أمّا المقام الثاني: فوقع الكلام في أنّه هل تبقي المضاربة الاولي علي حالها من غير انفساح أو تنفسخ؟ يظهر من صاحب الجواهر «1» التردّد في ذلك؛ نظراً إلي

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 392.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 247

______________________________

كون الثانية إنشاءً جديداً، و هو يفيد فسخ الاولي، و إلي كون تشريك الثاني في سهم الأوّل بإذن المالك، مضاربة علي المضاربة الاولي، بلا فسخ لها و لا مانع من ذلك.

و لكنّه قدس سره ناقش في تعليل صاحب المسالك لصحّة المضاربة الاولي بعدم المانع و هو ترك العامل الأوّل للعمل، بأنّ انتفاء المانع في العامل الأوّل لا يقتضي صحّة العقد السابق في مفروض الكلام.

و ممّن اختار صحّة المضاربة الاولي في المقام، هو السيد الخوئي «1» و علّل ذلك بما حاصله:

أنّ المضاربة من العقود الإذنية و مرجع إذن المالك للعقد الجديد إبقاءُ الأوّل.

و لا مانع من كون الاتّجار بإنشاء مضاربتين، كما لا مانع من تعدّد العامل. فلا مانع من اجتماع المضاربتين علي مال

واحد.

و فيه: أنّه خلط بين الصورة الاولي و بين الصورة الثانية. و كلامه إنّما يأتي و يصحّ في الاولي، دون الثانية. بل مرجع الإذن بالمضاربة الثانية حينئذٍ- أي مع انفصال العامل عن العمل رأساً و جعل الربح بين المالك و بين الثاني- إلي فسخ الأوّل و إنشاء مضاربة جديدة مع عامل آخر.

و الحاصل: أنّ إنشاء المضاربة الجديدة في الصورة الاولي و الثاني من الصور الأربعة المزبورة لا ينافي صحّة المضاربة الاولي، بل في حكم إشراك عامل آخر.

و أمّا الصورة الثالثة التي ينشئ العامل الأوّل مضاربة جديدة بين المالك و بين العامل الثاني، فلا إشكال في كونه بمنزلة فسخ الاولي و لكن لا ينافي ذلك صحّة الاولي و استحقاق الأوّل للربح بناءً علي كون نفس إنشاء الجديدة عملًا تجارياً مقصوداً في باب المضاربة.

______________________________

(1)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 69.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 248

(مسألة 26): الظاهر أنّه يصحّ أن يشترط أحدهما علي الآخر في ضمن عقد المضاربة مالًا أو عملًا

اشارة

(1)، كما إذا شرط المالك علي العامل أن يخيط له ثوباً أو يعطيه درهماً و بالعكس.

______________________________

حكم اشتراط المال أو العمل ضمن عقد المضاربة

(1) 1- يقع الكلام في هذه المسألة تارةً: فيما إذا كان ما اشترطه المالك علي العامل في ضمن عقد المضاربة بضاعة، و اخري: فيما لو كان مالًا أو عملًا غير بضاعة.

تحرير كلام شيخ الطائفة قدس سره

أمّا البضاعة، قال الشيخ الطوسي: «إذا دفع إليه ألفاً قراضاً بالنصف علي أن يأخذ منه ألفاً بضاعة- و البضاعة أن يتَّجر له فيها بغير جُعل و لا قسط من الربح- فلا يصحّ هذا، و الشرط فاسد؛ لأنّ العامل في القراض لا يعمل عملًا لا يستحقّ في مقابلته عوضاً فبطل الشرط، و إذا بطل الشرط بطل القراض؛ لأنّ قسط العامل يكون مجهولًا فيه.

و ذلك أنّ رب المال ما قارض بالنصف حتّي يشترط للعامل عملًا بغير جُعل.

و قد بطل الشرط، و إذا بطل ذهب من نصيب العامل- و هو النصف- قدر ما زيد فيه لأجل البضاعة، و ذلك القدر مجهول. و إذا ذهب من المعلوم مجهول، كان الباقي مجهولًا. و لهذا بطل القراض.

و إن قلنا: القراض صحيح و الشرط جائز لكنّه لا يلزمه الوفاء به؛ لأنّ البضاعة لا يلزم القيام بها، كان قويّاً.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 249

______________________________

إذا أعطاه ألفاً قراضاً بالنصف، و قال له: «احبُّ أن تأخذ ألفاً بضاعةً تعاونني فيه»، صحّ؛ لأنّ البضاعة ما اخذت بالشرط. و إنّما تطوّع بالعمل له فيها من غير شرط، فلهذا لم يفسد القراض» «1».

قوله: «ما قارض بالنصف، حتّي يشترط»، لفظة «ما» نافية، و «حتّي» استثنائية؛ أي: لم يقارض المالك بنصف الربح، إلّا بشرط أن يعمل له العامل عملًا بغير جُعل. و المقصود أنّ المالك أدخل

بالاشتراط في الحقيقة حصّةً من ربح البضاعة في نصيب العامل، و هو النصف.

و عرفت من كلامه أنّه اختار أوّلًا: بطلان الشرط. و ثانياً: حكم ببطلان أصل عقد المضاربة في مفروض الكلام. و ثالثاً: صار في ختام كلامه بصدد توجيه صحّة القراض في المسألة.

أمّا الشرط: فحاصل توجيهه لبطلانه: أنّ شرط البضاعة من المالك علي العامل مخالفٌ لمقتضي عقد المضاربة؛ لأنّ مقتضاها استحقاق العامل بإزاء عمله عوضاً، و هو سهمٌ معيّن معلومٌ من الربح. و شرط البضاعة في مفروض المسألة موجب لحرمان العامل عن سهمه من ربح البضاعة. و يرجع ذلك في الحقيقة إلي القراض بمجموع المال- و هو في المثال ألفان- و اشتراط عدم استحقاق العامل لربح نصف المال و تخصيص الشركة بربح النصف الآخر. و من هنا يكون اشتراط البضاعة في ضمن المضاربة مخالفاً لمقتضاها.

و أمّا بطلان عقد المضاربة فحاصل توجيهه: أنّه يتفرّع علي فساد الشرط؛ بتقريب أنّ شرط البضاعة إذا فسد بالبيان المزبور، يصير حصّة العامل من الربح مجهولة. و ذلك لأنّ اشتراط جعل نصف الربح للعامل بالبضاعة، في قوّة إدخال

______________________________

(1)- المبسوط 3: 197.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 250

______________________________

حصّةٍ من ربح البضاعة في سهم العامل، و هو نصف ربح الألف الأوّل. فهذا النصف متشكّل من حصّة من ربح الألف الأوّل و حصّة من ربح الألف الثاني الحاصل بالبضاعة.

و عليه فإذا فسد الشرط بالبيان السابق آنفاً، ذهبت تلك الحصّة الدخيلة من ربح البضاعة في سهم العامل. و لمّا كانت تلك الحصّة الذاهبة مجهولة، يصير المقدار الباقي من سهمه مجهولًا لا محالة. و إنّ الجهل بسهم العامل مبطل للمضاربة؛ نظراً إلي اشتراط معلومية مقدار نصيب كلٍّ من المالك و العامل في صحّة المضاربة.

و عليه فليس

فساد العقد مبتنياً علي مبني فساد العقد بفساد الشرط، بل إنّما لأجل كون فساد الشرط في المقام موجباً لانتفاء شرط صحّة المضاربة، و هو معلومية مقدار نصيب كلٍّ من العامل و المالك.

نقد كلام شيخ الطائفة قدس سره

هذا، و لكن يمكن المناقشة في هذا التقريب بأنّ فساد الشرط لا يخلو إمّا أن يوجب بنفسه فساد العقد أم لا. فعلي الأوّل تبطل المضاربة رأساً بلا إشكال. و لكنّه ليس مقصود الشيخ قدس سره؛ حيث إنّه استدلّ بلزوم الجهل بنصيب العامل من فساد الشرط، لا بنفس فساد الشرط، فلا نظر له قدس سره إلي الاستدلال بمفسدية الشرط الفاسد للعقد.

و علي الثاني لا وجه لفساد عقد المضاربة، إلّا الجهل بمقدار نصيب العامل عند فساد الشرط. و لكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّه كيف ينصرف الاشتراك في الربح علي نحو الإشاعة إلي النصف عند الإطلاق، فكذلك اشتراك العامل في نصف ربح الألف الأوّل- مع دخول ربح الألف الثاني في المضاربة، و لو بالاشتراط-

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 251

______________________________

بمنزلة جعل ربع ربح المضاربة نصيباً للعامل؛ لأنّه المنصرف من الاشتراك بالإشاعة عند الإطلاق. و أمّا اختلاط المالين فلا يضرّ بذلك بعد معلومية السهم بالكسر المشاع.

و أمّا توجيهه للصحّة، فهو إمّا أنّ البضاعة لمّا كانت من العقود الجائزة و لا يلزم الوفاء بها، يلغو الشرط و تبقي المضاربة علي صحّتها. و إمّا عدم وجوب الوفاء بالشرط الواقع في ضمن العقد الجائز لانصراف قوله:

«المؤمنون عند شروطهم»

و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» عن العقود الجائزة.

و يرد عليه أنّه لو كان مراده الوجه الأوّل، فالبضاعة و إن كانت جائزة في نفسها، إلّا أنّها تصير لازمة بعرض الشرط و لا منافاة. نعم، يجوز للمالك فسخ البضاعة؛ لأنّها تعتبر حينئذٍ حقّاً له عرفاً، لا

للعامل. فإنّ لكلّ ذي حقّ إسقاط حقّه، كما يجوز لكلٍّ منهما إعدام موضوع وجوب الوفاء بفسخ المضاربة، و إلّا فما دامت المضاربة باقية لا يبعد وجوب الوفاء بالشرط.

و إن كان مراده الوجه الثاني، فنمنع الانصراف إلي العقود الجائزة. و ذلك لكفاية عموم أدلّة وجوب الوفاء بالشرط في ضمن العقد لإثبات لزوم الوفاء بشرط البضاعة في المقام؛ نظراً إلي شموله لما وقع من الشروط في ضمن العقود الجائزة.

مقتضي التحقيق في المقام

و لكنّ الأقوي في المقام صحّة المضاربة، بل عدم فساد أصل الشرط، بل لزوم الوفاء به ما دام لم يفسخ المضاربة. و عليه فلا تصل النوبة إلي التوجيه المزبور.

و ذلك لأنّ البضاعة عمل خارجي و لا يُعدّ شرط العمل من أجزاء الثمن في نظر أهل العرف، بل حتّي لو شرط إعطاء مال في ضمن عقد المضاربة لا يبعد القول

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 252

______________________________

بالصحّة؛ لعدم كون إعطاء المال حينئذٍ جزءاً من الربح في نظر أهل العرف، بل يرونه نفعاً حاصلًا بالشرط و منفكّاً عن الربح الحاصل بالتجارة، و مغايراً مع حقيقة المضاربة و خارجاً عن مقتضاها، كما أنّ الأمر كذلك في أيّ شرط مشترط في ضمن أيّ عقد من العقود، فلا يعدّ أهل العرف النفع الحاصل من الشرط جزءاً من الثمن، و إن يرون للعقد دخلًا في حصول هذا النفع، و لكن ليس كلّ نفع حاصل بالاشتراط في ضمن المعاملات جزءاً من الثمن.

أمّا دعوي كون شرط البضاعة مخالفاً لمقتضي عقد المضاربة فغير وجيهة.

و ذلك لعدم تعلّق الشرط بما يضادّ أحد أركان المضاربة أو ما به قوامها من الخصوصيات حتّي ينافي مقتضاها. فلو شرط أحدهما عدم ربح للآخر رأساً، أو عدم تعيين حصّته من الربح حين إنشاء العقد،

أو شرط إشراك الأجنبي في الربح، أو الاسترباح بغير التجارة، كان ذلك مخالفاً لما هو مقتضي المضاربة.

ثمّ إنّ القولين المستفادين من كلام الشيخ قدس سره نقلهما في الشرائع. و لكنّه اختار صحّة العقد و الشرط كليهما بقوله: «و لو قيل بصحّتهما كان حسناً». و صرّح في المسالك «1» بأنّ القولين الأوّلين للشيخ في المبسوط، و قد عرفتهما بوضوح من كلامه، فلا يرد ما أورد علي نسبة القولين إلي الشيخ في المستمسك «2»؛ نظراً إلي ما في ذيل كلام الشيخ من الإشعار بابتناء إشكال الجهل بنصيب العامل علي لزوم عقد البضاعة و أنّها لمّا كانت جائزة غير لازم الوفاء ينتفي الإشكال المزبور من أساسه.

و علي أيّ حال مقتضي التحقيق في المقام صحّة العقد و الشرط كليهما؛ لما بيّنّاه أخيراً.

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 394- 395.

(2)- مستمسك العروة الوثقي 12: 331.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 253

(مسألة 27): الظاهر أنّه يملك العامل حصّته من الربح بمجرّد ظهوره

اشارة

(1)، و لا يتوقّف علي الإنضاض- بمعنيٰ جعل الجنس نقداً- و لا علي القسمة.

______________________________

فالحقّ مع السيد الماتن؛ وفاقاً للمشهور و خلافاً للشيخ الطوسي و جماعة.

و عليه فيجب الوفاء بشرط البضاعة علي العامل بمقتضي أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ضمن أيّ عقدٍ. و ذلك لا يغيّر ماهية البضاعة، بل هي بما لها من الماهية- التي هي من العقود الجائزة- متعلّقة للشرط. نعم، لا يجوز للعامل فسخها وفاءً بالشرط. و إن جاز ذلك للمالك؛ لأنّ شرطها لا يفيد، إلّا ثبوت حقّ له، و لكلّ ذي حقّ إسقاط حقّه.

و إنّ لصاحب الجواهر في ذلك بياناً نافعاً، فليراجع «1».

أمّا شرط غير البضاعة من مال أو عمل، فقد اتّضح ممّا بيّنّاه عدم كونه فاسداً و لا مفسداً؛ نظراً إلي عدم كونه مخالفاً لمقتضي عقد المضاربة و موجباً

لجهالة في حصّة العامل من الربح، كما عرفت.

يملك العامل الربح بمجرّد ظهوره

(1) 1- المشهور المعروف بين الأصحاب أنّ العامل يملك حصّته من الربح بمجرّد ظهوره، من غير توقّف علي الإنضاض و لا القسمة، كما قال في المسالك:

«هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل لا يكاد يتحقّق فيه مخالف، و لا نُقل في كتب الخلاف عن أحد من أصحابنا ما يخالفه» «2».

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 402.

(2)- مسالك الأفهام 4: 371.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 254

______________________________

و في الجواهر: «علي المشهور بين الأصحاب، بل لا يكاد يتحقّق مخالف فيه منّا، كما في المسالك، بل لعلّه ظاهر التذكرة أيضاً» «1». و أمّا الإجماع، و إن لم يصرّح بدعواه واحدٌ من الأصحاب، إلّا أنّه يستفاد من كلام صاحب الجواهر تلويحاً؛ حيث قال في ختام البحث عن ذلك: «إلّا أنّ الإنصاف عدم خلوّ المسألة من إشكال، إن لم يكن إجماعاً» «2». فإنّ في كلامه هذا بضميمة كلامه السابق إشعاراً بتحقّق الإجماع في المقام. بل ادّعاه في العروة «3» صريحاً.

و لكن نقل الفخر في الإيضاح عن والده «4» أنّ في المسألة أربعة أقوال، و لم يذكر القائل بالثلاثة الاخري غير ما هو المشهور، بل إنّما اكتفي بذكر أصل هذه الأقوال.

أحدها: ما ذهب إليه المشهور و ذكره السيد الماتن قدس سره، من أنّ العامل يملك الربح بمجرد ظهوره، من غير توقّف علي الإنضاض و لا علي القسمة.

ثانيها: إنّه يملكه بإنضاض الربح؛ لعدم وجوده قبله، بل هو مقدّر موهوم، و يعتبر في المملوك كونه محقّق الوجود. فالظهور إنّما يوجب الاستحقاق بعد التحقّق.

ثالثها: الملك بالقسمة. و عُلّل ذلك أوّلًا: بأنّه لو ملك العامل سهمه قبل القسمة، لزم كون النقصان الوارد بعد ذلك شائعاً في مجموع

الباقي المشتمل علي

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 373.

(2)- نفس المصدر.

(3)- العروة الوثقي 5: 34.

(4)- إيضاح الفوائد 2: 322.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 255

______________________________

مال القراض، فلا يكون الربح حينئذٍ وقايةً لرأس المال. و ثانياً: بأنّ القراض من العقود الجائزة الإذنية و العمل فيها غير مضبوط، فلا يستقرّ فيها الملك إلّا بعد تمام العمل، كما في الجعالة؛ حيث لا يتمّ ملكية الجُعل إلّا بعد تمام العمل. و إنّه لا يتمّ إلّا بعد القسمة.

رابعها: أنّ القسمة كاشفة عن الملك قبلها؛ لأنّها ليست من أسباب الملك.

و المقتضي للملك هو العمل، و القسمة إنّما تكشف عن تمامية العمل و تحقّق السبب المملّك.

و قال في المسالك: «و في التذكرة لم يذكر في المسألة عن سائر الفقهاء من العامّة و الخاصّة سوي القولين الأوّلين، و جعل الثاني للشافعي في أحد قوليه، و لأحمد في إحدي الروايتين، و وافقا في الباقي علي الأوّل، فلا ندري لمن ينسب هذه الأقوال؟» «1».

و قد ردّ الفقهاءُ الفحول هذه الأقوال الثلاثة، كما أجاب عنها في جامع المقاصد و المسالك و الحدائق و الجواهر و غيرها.

أمّا القول الثاني: فقد ردّه المحقّق الكركي في جامع المقاصد «2» أوّلًا: بعدم توقّف وجود الربح و تحقّقه علي الإنضاض؛ لعدم انحصار المال في النقد. فإذا ارتفعت قيمة العروض و الأمتعة المشتراة بتجارة العامل و زادت عن مقدار رأس المال، يكون رأس المال عند أهل العرف ما يقابل قيمته و الزائد ربح عرفاً، و لا ريب في كونه محقّق الوجود عند أهل العرف.

و ثانياً: بأنّه لا يعتبر في المملوك كونه متحقّق الوجود، كما أنّ الدين المستقرّ في ذمّة المديون ملك، و يقال: إنّ للدائن في ذمّة المديون ألف دينار، فيُعتبر ملكاً،

______________________________

(1)- مسالك الأفهام

4: 372.

(2)- جامع المقاصد 8: 124.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 256

______________________________

مع عدم كونه متحقّق الوجود، بل إنّما في الذمّة أمرٌ كلّي. و قد تبع المحقّق الكركي في المناقشة لهذين الوجهين من تأخّر عنه من فحول الفقهاء، كالشهيد في المسالك «1» و المحدّث البحراني في الحدائق «2» و صاحب الجواهر «3» و غيره.

أمّا الثالث: فناقش فيه المحقّق الكركي أيضاً بمنع الملازمة المستدلّ بها؛ نظراً إلي عدم المنافاة بين حصول أصل الملك قبل القسمة و بين كون الربح وقاية لرأس المال.

و ذلك أوّلًا: لإمكان ثبوت أصل الملك متزلزلًا. و كون استقراره مشروطاً بالسلامة و عدم عروض النقصان.

و ثانياً: علي فرض استقرار الملك يمكن تخصيص النقصان بمجموع الربح بالتوزيع بين السهمين، بدليل دفع محذور استحقاق العامل أكثر من نصيبه المقرّر له.

و أمّا جواز عقد المضاربة و عدم ضبط العمل و استقرار الملك بعد تمامه؛ قياساً لذلك بباب الجعالة، فقد نوقش فيه بأنّ القسمة ليست عملًا حتّي يتوقّف عليه استقرار الملك، فلا يقاس بباب الجعالة؛ فإنّ الجعل هناك إنّما يملك بعمل إنشاد الضالّة.

و أمّا القول الرابع فقد اتّضح ما فيه من الإشكال من ضوء البيان المزبور.

مقتضي التحقيق في المقام

مقتضي التحقيق ما ذهب إليه المشهور، و ذلك:

أوّلًا: لصدق عنوان الربح بمجرّد ظهوره في نظر أهل العرف. فإنّ من اشتري

______________________________

(1)- مسالك الأفهام 4: 372.

(2)- الحدائق الناضرة 21: 239.

(3)- جواهر الكلام 26: 374.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 257

______________________________

أمتعةً للتجارة و الاسترباح؛ ثمّ ترقّب قيمتها، يقول أهل العرف حينئذٍ بمجرّد ارتفاع قيمتها: إنّه استفاد في شراء تلك الأمتعة، و لا يري صدق عنوان الفائدة و الاستفادة متوقّفاً علي بيع الأمتعة المشتراة و إنضاضها، و قد سبق هذا الكلام منّا في خمس ارتفاع القيمة

من كتابنا «دليل تحرير الوسيلة» نعم، فيما إذا لم يكن المشتري بصدد التجارة تأمّل هناك بعض الأعلام في صدق عنوان الفائدة و الربح بمجرّد ارتفاع القيمة، لكنّه خارج عن محل الكلام.

و عليه فإطلاق كلام المالك حين إنشاء العقد- بقوله: و الربح بيننا- يقتضي حصول الملك بمجرّد صدق عنوان الربح عرفاً. و لذلك ينعقد لإطلاقات نصوص المقام ظهور في ذلك، مثل قوله عليه السلام:

«و الربح بينهما»

و

«له من الربح»

و

«له الربح»

«1». و ثانياً: لدلالة نصوص المقام علي ذلك بالخصوص. مثل صحيح

محمّد بن ميسّر- و في بعض الطرق عن محمّد بن قيس- عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل دفع إلي رجل ألف درهم مضاربة فاشتري أباه و هو لا يعلم، فقال: «يقوم فإذا (فإن. يه) زاد درهماً واحداً اعتق و استسعي في مال الرجل» «2»

. بتقريب أنّ انعتاق الأب علي ولده المشتري بمجرّد زيادة درهم عن رأس المال، ظاهرٌ في دخول الدرهم الزائد في ملكه بقدر سهمه مشاعاً، و إلّا لم ينعتق عليه أبوه و لو بقدر نصف الدرهم؛ حيث لا عتق إلّا في الملك. فكان عليه- لو لم يملك- الاستسعاء في جميع مال المالك، و هو العبد المشتري كلّه، و لم يصحّ ترتّب العتق علي زيادة درهم واحد حينئذٍ.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 15، كتاب المضاربة، الباب 1.

(2)- وسائل الشيعة 19: 25، كتاب المضاربة، الباب 8، الحديث 1.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 258

كما أنّ الظاهر صيرورته شريكاً مع المالك في نفس العين الموجودة بالنسبة (1)، فيصحّ له مطالبة القسمة، و له التصرّف في حصّته من البيع و الصلح، و يترتّب عليه جميع آثار الملكيّة؛ من الإرث و تعلّق الخمس و

الزكاة و حصول الاستطاعة و تعلّق حقّ الغرماء و غير ذلك.

(مسألة 28): لا إشكال في أنّ الخسارة- الواردة عليٰ مال المضاربة- تُجبر بالربح

اشارة

(2) ما دامت المضاربة باقية؛ سواء كانت سابقة عليه أو لاحقة،

______________________________

تحصّل الشركة للمالك و العامل في أعيان الربح

(1) 1- و الوجه في ذلك كلّه قد اتّضح من خلال ما بيّنّاه آنفاً؛ حيث إنّ حصول الشركة في العين الموجودة بالنسبة، و جواز مطالبة القسمة و جواز التصرّف في حصّته من البيع و الصلح و تعلّق الخمس و الزكاة و حقّ الغرماء و الإرث و حصول الاستطاعة، كلّها من آثار الملكية من غير فرق بين الإشاعة و غيرها. فإذا ملك العامل الربح بمجرّد ظهوره يترتّب جميع هذه الآثار. هذا، و لكن لا يجوز له شي ءٌ من ذلك في عين المال الخارجي بالإفراز، بل إنّما يجوز في سهمه المشترك بالإشاعة في الذمّة.

جبران الخسارة بالربح

(2) 2- و قد عرفت في بعض المسائل السابقة أنّ الربح لا يصدق عرفاً في التجارات، مع قطع النظر عن جبران الخسارات الواردة ممّا حصل بالتجارة. فإنّ أهل العرف لا يرون التجارة رابحة إلّا بملاحظة جبران الخسارة و استدراك ما ذهب من رأس المال في جهة التجارة و الاسترباح. و لذلك تري أهل العرف لا يعدّون

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 259

فملكيّة العامل له بالظهور متزلزلة؛ تزول كلّها أو بعضها بعروض الخسران (1) إليٰ أن تستقرّ، و الاستقرار يحصل بعد الإنضاض و فسخ المضاربة و القسمة قطعاً، فلا جبران بعد ذلك. و في حصوله بدون اجتماع الثلاثة وجوه و أقوال، أقواها تحقّقه بالفسخ مع القسمة و إن لم يحصل الإنضاض، بل لا يبعد تحقّقه بالفسخ و الإنضاض و إن لم يحصل القسمة، بل تحقّقه بالفسخ فقط، أو بتمام أمدها لو كان لها أمد، لا يخلو من وجه.

______________________________

التجارة رابحة ما دام لم يحرزوا زيادة الربح عن قدر

ما يُجبر به الخسارة الواردة.

و من هنا صار جبران الخسارة مقتضي القاعدة في مطلق التجارة، مضاربة كانت أو غيرها. و صار ذلك في باب المضاربة كقاعدة مستقلّة، و هي: أنّ الربح وقاية لرأس المال.

و لأجل ذلك يكون ملكية الربح للعامل بمقدار سهمه متزلزلة حتّي تجبر به جميع الخسارات الواردة في سبيل التجارة و الاسترباح. فإذا جبرت و بقي بعد ذلك شي ءٌ من الربح، يقسّم بين المالك و العامل حسب ما قرّراه.

بما ذا تستقرّ ملكية الربح للعامل؟

(1) 1- لا إشكال في كون ملكية الربح للعامل بعد الظهور متزلزلة ما دام لم تردّ خسارة. و أنّها تزول بمقدار ما حدث من الخسارة ما دام لم تجبر الخسارات الواردة.

و لا خلاف في ذلك، مع كونه مقتضي القاعدة كما بيّنّاه آنفاً. و سيأتي مزيد توضيح لذلك من صاحب الجواهر أيضاً، و هذا معني قولهم: إنّ الربح وقاية لرأس المال.

كما لا إشكال في استقرار ملكية الربح بعد تحقّق ثلاثة أسباب، و هي:

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 260

______________________________

1- علي الإنضاض؛ يعني تبديل العروض بالنقد الرائج.

2- علي الفسخ؛ لأنّ العقد ما لم ينفسخ و كانت التجارة باقية يحتمل عروض أيّ تلف و خسران، فلا تزال الملكية متزلزلة حتّي ينتفي احتمال ذلك بفسخ العقد.

3- علي القسمة؛ لأنّ ملكية الربح قبلها مشاعة بين العامل و المالك، و لا تستقرّ ملكية الشي ء المشاع إلّا بعد خروجها عن الإشاعة بالإفراز.

و من هنا لا يجوز لأحد الشريكين التصرّف في المال المشترك إلّا بإذن صاحبه أو إحراز رضاه.

و لكن لا يحصل الاستقرار بمجرّد القسمة أيضاً قبل الفسخ؛ لما قلنا آنفاً من توقّفه علي جبران جميع الخسارات، و ذلك غير ممكن ما دام العقد باقياً و الخسران محتملًا.

هل تستقرّ ملكية الربح بمجرّد الفسخ؟

و هل تستقرّ الملكية بمجرّد الفسخ، و لو قبل الإنضاض و القسمة؟ نظراً إلي انتفاءِ ملاك التزلزل- و هو احتمال الخسران- بانتفاء المضاربة بالفسخ؛ لأنّ الخسران موضوع وجوب الجبران، الذي هو من أحكام المضاربة.

و الأقوي استقرار ملكية الربح بينهما علي نحو الإشاعة بمجرّد الفسخ، و لكنّ القسمة بحاجة إلي الإفراز.

و أمّا الإنضاض فمقتضي القاعدة عدم دخله في الاستقرار؛ لوضوح صدق الربح بدونه. فلو حصل الجبران و تحقّق الفسخ، لا يمنع عدم الإنضاض و القسمة من

استقرار الملكية المشاعة قبل ذلك. و قد سبق وجه ذلك في شرح المسألة السابقة.

هذا، و لكن لا يبعد القول باعتبار الإنضاض؛ نظراً إلي توقّف الجبران عليه؛

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 261

(مسألة 29): كما يجبر الخسران في التجارة بالربح، كذلك يجبر به التلف

اشارة

؛ سواء كان بعد الدوران في التجارة أو قبله أو قبل الشروع فيها، و سواء تلف بعضه أو كلّه، فلو اشتريٰ في الذمّة بألف، و كان رأس المال ألفاً فتلف، فباع المبيع بألفين فأدّي الألف، بقي الألف الآخر جبراً لرأس المال. نعم لو تلف الكلّ قبل الشروع في التجارة بطلت المضاربة، إلّا مع التلف بالضمان مع إمكان الوصول (1).

______________________________

حيث إنّه لا تستقرّ ملكية الربح بدونه، بلا فرق في ذلك بين قبل الفسخ و بعده.

و ذلك لأنّ رأس المال في المضاربة من النقود و ما لم ينقد العروض لا يمكن تعيين مقدار رأس المال و تفكيكه حتّي يتحقّق الجبران.

نعم، لو حصل الإنضاض بمقدار رأس المال و حصل الجبران، لا ضير في عدم إنضاض الباقي في استقرار ملكية الربح بالفسخ، لكنّها مشاعة قبل القسمة و مفروزة بعدها.

فحاصل الكلام: أنّ الإنضاض بعد الفسخ معتبر في ملكية الربح بقدر ما يعادل رأس المال؛ نظراً إلي توقّف الجبران علي ذلك.

جبران التلف بالربح

(1) 1- لا فرق في الجبران بين عروض الخسارة قبل التجارة و عروضها في أثنائها، و لا بين كون الخسارة لأجل الوضيعة في التجارة و بين كونها من أجل الإنفاق للسفر التجاري، و لا بين كونها ناشئة من تلف مال القراض من غير تعدٍّ و تفريط، و بين إتلافه بتعدٍّ و تفريط و خيانة، إلّا أنّ جبرانه حينئذٍ علي المتلف.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 262

______________________________

و إن تردّد في الأخير صاحب الشرائع بقوله: «و في هذا تردّد»،

لكن مقتضي القاعدة التي أشرنا إليها عدم الفرق، كما في الجواهر.

كلام صاحب الجواهر

فإنّه قدس سره قال: «و لكن في هذا تردّد عند المصنّف ممّا عرفت، و من أنّ التلف قبل الشروع في التجارة يخرج التالف عن كونه مال قراض، إلّا أنّ الأقوي عدم الفرق؛ لأنّ المقتضي لكونه مال قراض هو العقد، لا دورانه في التجارة، فمتي تصوّر بقاء العقد و ثبوت الربح جبر ما تلف مطلقاً. بل لا يخفي علي من أعطي التأمّل حقّه، عدم صدق الربح الذي وقع الشرط بين المالك و العامل عليه، إلّا علي ما يبقي بعد جبر جميع ما يحدث علي المال، من أوّل تسلّمه إلي انتهاء المضاربة، من غير فرق في النقصان بين انخفاض السوق و الغرق و الحرق و أخذ الظالم و السارق و غير ذلك ممّا هو بآفة سماوية و غيرها. فما عساه يقال أو قيل: «من اختصاص الحكم بما لا يتعلّق فيه الضمان بذمّة المتلف، لأنّه حينئذٍ بمنزلة الموجود، فلا حاجة إلي جبره، و لأنّه نقصان لا يتعلّق بتصرّف العامل و تجارته، بخلاف النقصان الحاصل بانخفاض السوق و نحوه» لا ينبغي أن يصغي إليه لما عرفت، نعم، لو فرض حصول العوض من التلف كان العوض من جملة المال» «1».

و الوجه في ذلك ما قلناه، من عدم صدق الربح قبل جبران الخسارة. و كلُّ ما ذهب من رأس المال بأيّ دليل كان؛ فما دام لم يجبر نقصانه و لم يرجع ما نقص منه إلي محلّه، لا يتحقّق الربح عرفاً. فإنّ عرف التجّار إنّما يطلقون عنوان الربح و يرون التجارة رابحة بملاحظة جبران النقص الوارد من أيّ سبب

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 396.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 263

______________________________

و حفظ رأس

المال و زيادة شي ءٍ عنه بعد الجبر.

و عليه فما دام لم ينحفظ رأس المال و لم يُفكّك بتمامه و كماله لا ربح متحقّق واقعاً في البين. و أمّا إطلاق الربح بقولهم: «يجبر الخسران بالربح»، فهو بضرب من العناية؛ حيث إنّ هذا الربح صوري ظاهري بدويٌ لا يراه العرف ربحاً حقيقةً واقعاً، إلّا بعد الكسر و الانكسار بالجبران و تدارك ما نقص من رأس المال.

تبطل المضاربة بتلف رأس المال، إلّا في صورتين

نعم، لو تلف رأس المال كلُّه قبل الشروع في المضاربة، أو بقي بمقدار لا يمكن الاتّجار به أو لا يرجي منه الاسترباح بربح، يبطل عقد المضاربة؛ لأنّ من أركان المضاربة وجود مال القراض ليتّجر به العامل، إلّا في صورتين:

إحداهما: ما إذا أذن المالك- بعد تلف مال القراض أو قبله علي فرض التلف- بالشراء في الذمّة. فاشتري العامل في ذمّة المالك ثمّ تلف مال المالك بعد الشراء في ذمّته، و لكن ربح الشراء فحينئذٍ يمكن الحكم بصحّة المضاربة و جبران التالف كلّه أو بعضه. و ربما يزيد الربح الحاصل حينئذٍ عن رأس المال بأضعاف فيبقي بعد ذلك ربحٌ فيقسّم بينهما. كما يظهر ذلك من صاحب الجواهر حيث قال- في شرح كلام صاحب الشرائع: و كذا لو تلف قبل ذلك-: «كما لو أذن له في الشراء في الذمّة فاشتري ثمّ تلف المال، فإنّ القراض يستمرّ و يمكن جبره حينئذٍ بالربح المتجدّد» «1» فإنّ صاحب الشرائع تردّد في الجبران و صحّة المضاربة حينئذٍ و لكن صاحب الجواهر ردّه بقوله: «إلّا أنّ الأقوي عدم الفرق» «2».

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 396.

(2)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 264

______________________________

ثانيتهما: ما إذا أتلفه العامل عن عمد و تمكّن من الأداء صحّت المضاربة حينئذٍ؛ لحصول الجبران بحكم الشارع

بأدائه من كيسه و يكون ما أدّاه مال القراض، فلا مانع من استمرار المضاربة حينئذٍ.

القوة و الضعف في كلام السيد الماتن قدس سره

و قد اتّضح لك ممّا بيّنّاه أنّ الحقّ مع السيد الماتن قدس سره في ذيل كلامه، حيث إنّه استثني الصورة الثانية فقط من بطلان المضاربة عند تلف مال القراض كلّه قبل الشروع في المضاربة. و إنّ في الصورة الاولي و إن فرض تلف المال كلّه إلّا أنّه بعد الشروع في التجارة بالشراء في ذمّة المالك بعد إذنه.

و لا يخفي عليك أنّ الشراء في ذمّة المالك بإذنه شروع في التجارة فلو تلف مال القراض بعده إنّما تلف بعد الشروع فيها- كما يظهر من كلام السيد الماتن قدس سره- لا قبله. نعم، يكون تلفه حينئذٍ قبل دورانه في التجارة و من هنا يدخل في تردّد صاحب الشرائع، إلّا أنّ السيد الإمام الراحل جعل المعيار في عدم بطلان المضاربة بتلف مال القراض، الشروع في التجارة كما يظهر من المتن، لا دوران مال القراض في التجارة كما يظهر من صاحب الشرائع.

و اتّضح من خلال ما بيّنّاه أنّ قول السيد الماتن في صدر المسألة «أو قبل الشروع فيها» يناقض ما جاء ذيلها: «نعم، لو تلف الكلّ قبل الشروع في التجارة، بطلت المضاربة». و الأنسب حذف الفقرة الاولي من صدر المسألة أو تبديلها بقوله:

«و بعد الشروع فيها».

و ذلك لأنّ الشراء في الذمّة أيضاً شروع في التجارة. و قد حكم الماتن قدس سره بجبران التلف حينئذٍ، نعم، يصحّ أن يقال، إنّ ذلك قبل دوران مال القراض في التجارة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 265

(مسألة 30): لو حصل فسخ أو انفساخ في المضاربة، فإن كان قبل الشروع في العمل و مقدّماته فلا إشكال

اشارة

، و لا شي ء للعامل و لا عليه. و كذا إن كان بعد تمام العمل و الإنضاض؛ إذ مع حصول الربح يقتسمانه، و مع عدمه يأخذ المالك رأس ماله، و لا شي ء للعامل و لا عليه. و إن

كان في الأثناء بعد التشاغل بالعمل، فإن كان قبل حصول الربح ليس للعامل شي ء؛ و لا اجرة له لما مضيٰ من عمله؛ سواء كان الفسخ منه أو من المالك أو حصل الانفساخ قهراً (1).

______________________________

ما يترتّب علي الفسخ المضاربة
اشارة

(1) 1- فسخ عقد المضاربة أو انفساخه تارةً: يتحقّق قبل الشروع في العمل، و اخري: بعد تمام العمل، و ثالثة: في أثنائه.

لا إشكال في أنّه لا يستحقّ العامل شيئاً من الربح و الاجرة فيما إذا كان الفسخ أو الانفساخ قبل الشروع في التجارة؛ لفرض انتفاء الربح و خروج استحقاق العامل للُاجرة عن مقتضي حقيقة المضاربة.

كما لا إشكال في ذلك بعد تمام العمل و الإنضاض، غاية الأمر مع حصول الربح يقتسمانه بينهما، و مع عدمه يأخذ المالك رأس ماله و لا يكون للعامل شي ء.

و هذا لا كلام فيه.

و أمّا إذا حصل الفسخ أو الانفساخ بعد اشتغال العامل بالعمل و في أثناء التجارة و قبل حصول الربح فلا إشكال حينئذٍ في عدم استحقاق العامل شيئاً من الربح؛ لعدم وجوده. و أمّا استحقاقه للُاجرة، فيقع الكلام تارة: في الانفساخ و اخري: في الفسخ من جانب العامل، و ثالثة: في الفسخ من جانب المالك. فلا كلام

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 266

______________________________

في الصورتين الاوليين؛ لعدم استناد شي ءٍ من الفسخ و الانفساخ إلي المالك حتّي يضمن و لا سيّما أنّ الفسخ بإقدام العامل علي نفسه. فما يُحكي عن إطلاق التذكرة حينئذٍ- من استحقاق العامل للُاجرة- في غير محلّه. و لكن في استحقاقه للُاجرة لو كان الفسخ من المالك نظر؛ من جهة كون المالك سبباً لحرمان العامل عن الربح المتوقّع و ذهاب عمله هدراً، و من جهة كون حقّ الفسخ لكلّ منهما مقتضي المضاربة، و العامل مع

علمه بذلك أقدم علي المضاربة. و قد يقال باستحقاقه لها؛ نظراً إلي استقرار سيرة التجّار علي ذلك، و لكن فيه نظرٌ. و قد سبق تفصيل البحث عن ذلك في بعض الفروع السابقة.

كما أنّه ليس علي العامل حينئذٍ شي ءٌ من نفقات السفر أو التجارة، بل تؤخذ من مال القراض و تذهب من كيس المالك من دون جبران؛ لفرض عدم حصول ربح حتّي يجبر به نقصان رأس المال، و لكون السفر بإذن المالك. و قد تقدّم البحث عن ذلك في بعض المسائل السابقة.

المناقشة في كلام العلّامة في التذكرة

و استظهر في العروة «1» من إطلاق كلمات بعضهم اجرة المثل للعامل مع عدم الربح. و به صرّح في التذكرة؛ حيث قال: «فإن فسخا العقد أو أحدُهما، فإن كان قبل العمل عاد المالك في رأس المال، و لم يكن للعامل أن يشتري بعده. و إن كان قد عمل، فإن كان المال ناضّاً و لا ربح فيه أخذه المالك أيضاً، و كان للعامل اجرة عمله إلي ذلك الوقت أيضاً» «2».

______________________________

(1)- العروة الوثقي 5: 223.

(2)- تذكرة الفقهاء 2: 246/ السطر 26.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 267

______________________________

و يمكن الإشكال علي ذلك بأنّه خلاف مقتضي القاعدة؛ نظراً إلي ابتناء المضاربة علي عدم استحقاق العامل للُاجرة؛ لإقدامه علي المضاربة بانياً علي عدم استحقاق للُاجرة. و التزم بذلك، فلا تشمله قاعدة احترام عمل المسلم؛ لأنّه الذي فوّت علي نفسه اجرة عمله حينئذٍ؛ حيث أقدم علي العمل مجّاناً عند عدم الربح.

توجيه المحقّق الكركي لتنظّر العلّامة و المناقشة فيه

و قد تنظّر العلّامة في قواعده في استحقاق العامل للُاجرة حينئذٍ بقوله: «و إذا فسخ المالك القراض ففي استحقاق العامل اجرة المثل إلي ذلك الوقت نظرٌ» «1».

و قد وجّه في جامع المقاصد «2» استحقاق العامل للُاجرة حينئذٍ بما تحريره أنّ المالك هو الذي فوّت علي العامل الربح المترقّب بالفسخ؛ حيث إنّه بالفسخ سدّ طريق وصول العامل إلي الربح، مع أنّه الذي أمر العامل بالعمل، و إنّ عمله محترم صدر بإذن المالك لا علي وجه التبرّع، فيكون ضامناً.

و إنّ إذنه للعامل بالتجارة لغرض الاسترباح يقتضي عدم سدّ طريق الاسترباح بالعزل، فالمالك في الحقيقة أهدر عمل العامل بالفسخ.

و لكنّه خلاف مقتضي التحقيق. و ذلك لأنّ المضاربة من العقود الإذنية الجائزة المقتضية بطبعها سلطة المالك علي الفسخ شرعاً. و العامل مع علمه بذلك

دخل في المضاربة و التزم بأحكامها. و معني ذلك التزامه بعدم استحقاقه شيئاً سوي حصّته من الربح، مع التزامه بجميع أحكام المضاربة. فهو بنفس هذا الالتزام- أي الالتزام بأحكام المضاربة- أقدم في الحقيقة علي العمل مجّاناً عند

______________________________

(1)- قواعد الأحكام 2: 345.

(2)- جامع المقاصد 8: 153.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 268

______________________________

عدم الربح حتّي فيما لو كان الفسخ من جانب المالك.

و أمّا حرمان العامل عن الربح المتوقّع بفسخ المالك في الأثناء، فلا يصلح لإثبات استحقاق العامل للُاجرة؛ لما قلناه.

و عليه فما حكم في الشرائع بثبوت اجرة المثل للعامل حينئذٍ بقوله: «إذا فسخ المالك صحّ و كان للعامل اجرة المثل إلي ذلك الوقت» قد بان لك وجه ضعفه لو كان مراده الفسخ قبل حصول الربح. و أضعف منه ظاهر إطلاق التذكرة من استحقاق العامل للُاجرة حتّي فيما إذا كان الفسخ من جانبه كما لاحظت نصّ كلامه.

إشكال صاحب الجواهر علي المحقّق و العلّامة

و قد أجاد صاحب الجواهر في الإشكال علي المحقّق و العلّامة بقوله:

«و يشكل بأنّه لم يقدم إلّا علي الحصّة علي تقدير وجودها، و لم توجد و لا شي ء له، و المالك مسلّط علي الفسخ حيث شاء، و احتمال دفعه- بأنّه إنّما جعل له الحصّة خاصّة علي تقدير استمراره إلي أن يحصل، و هو يقتضي عدم عزله قبل حصولها، فإذا خالف فقد فوّتها عليه، فتجب عليه اجرته، كما إذا فسخ الجاعل بعد الشروع في العمل- كما تري لا ينبغي صدوره من فقيه، ضرورة اقتضائه ضمان المالك الاجرة لو فسخ، و إن قلّبه العامل مراراً متعدّدة و لم يحصل ربح، بل و إن خسر، و هو مناف للمعلوم من شرع المضاربة المبنيّة علي استحقاق العامل حصّة من الربح إن حصل، و إلّا فلا

شي ء له و أغرب منه ما يحكي عن إطلاق التذكرة من أنّ له الاجرة في الفرض حتّي لو كان الفسخ من العامل» «1».

______________________________

(1)- جواهر الكلام 26: 388- 389.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 269

كما أنّه ليس عليه شي ء حتّيٰ فيما إذا حصل الفسخ منه في السفر المأذون فيه من المالك، فلا يضمن ما صرفه في نفقته من رأس المال (1)، و لو كان في المال عروض لا يجوز للعامل التصرّف فيه بدون إذن المالك، كما أنّه ليس للمالك إلزامه بالبيع و الإنضاض (2).

______________________________

فتحصّل أنّ الأقوي ما ذهب إليه السيد الماتن من عدم الفرق في المقام بين كون الفسخ من جانب المالك أو العامل.

(1) 1- و ذلك لأنّ اختيار العامل للفسخ و جوازه ثابت له بمقتضي المضاربة، و المالك إنّما أذن له بالسفر مع علمه بذلك و التفاته إلي مقتضي المضاربة.

و عليه فلم يصدر من العامل ما يوجب إهدار ما تحمّله من مخارج السفر و لا من المالك ما يوجب سقوط الضمان عنه. بل هو محكوم بضمان ما صرفه العامل في السفر بمقتضي القاعدة ضمان الإتلاف بالتسبيب؛ حيث كان السفر و تحمّل مخارجه بأمر المالك. و لا يوجب فسخ العامل بمقتضي المضاربة، سقوط هذا الضمان عن المالك.

(2) 2- وجه عدم جواز التصرّف للعامل في العروض بغير إذن المالك حينئذٍ- أي إذا تحقّق الفسخ قبل حصول الربح- أنّه بعد الفسخ يصير أجنبياً عن المال و لا يجوز له التصرّف في مال الغير بغير إذنه. و من هنا لا يجوز للمالك إلزامه بالبيع و الإنضاض؛ نظراً إلي خروج العامل عن التزامه المعاملي بالفسخ.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 270

و إن كان بعد حصول الربح فإن كان بعد الإنضاض

فقد تمّ العمل، فيقتسمان و يأخذ كلّ منهما حقّه، و إن كان قبل الإنضاض فعليٰ ما مرّ؛ من تملّك العامل حصّته من الربح بمجرّد ظهوره، شارك المالك في العين (1)، فإن رضيا بالقسمة عليٰ هذا الحال، أو انتظرا إليٰ أن تباع العروض و يحصل الإنضاض، كان لهما و لا إشكال. و إن طلب العامل بيعها لم يجب علي المالك إجابته، و كذا إن طلبه المالك لم يجب علي العامل إجابته؛ و إن قلنا بعدم استقرار ملكيّته للربح إلّا بعد الإنضاض، غاية الأمر- حينئذٍ- لو حصلت خسارة بعد ذلك قبل القسمة يجب جبرها بالربح، لكن قد مرّ المناط في استقرار ملك العامل.

______________________________

حكم ما لو كان الفسخ بعد حصول الربح

(1) 1- إذا كان الفسخ أو الانفساخ بعد حصول الربح و الإنضاض، فلا إشكال و لا كلام في استحقاق العامل لحصّته من الربح؛ نظراً إلي تمامية العمل و انتهاء المضاربة. و لا يتوقّف استقرار ملكه علي القسمة، بل تكون الملكية مشاعة و إنّما يفرز المملوك بالقسمة و الإفراز. هذا إذا كان الفسخ بعد الإنضاض.

و أمّا إذا كان قبل الإنضاض فلا إشكال في تملّك العامل حصّته من الربح بمجرّد ظهوره، نعم، لمّا يتوقّف جبران نقصان رأس المال و تفكيكه و عزله علي الإنضاض، لا يستقرّ ملكية العامل إلّا بعد الإنضاض و تفكيك رأس المال و يصدق الربح علي ما بقي ممّا زاد عن رأس المال.

و أمّا عدم وجوب إجابة المالك للعامل إذا طلب منه بيع العروض و الإنضاض، فالوجه فيه أنّ العروض ماله و هو مسلّط عليه. و مقتضي سلطته علي ماله أن يكون التصرّف فيه باختياره. غاية الأمر يثبت للعامل مطالبته بحصّته

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 271

(مسألة 31): لو كان في المال ديون علي الناس، فهل يجب علي العامل أخذها و جمعها بعد الفسخ أو الانفساخ أم لا؟

اشارة

الأشبه عدمه، خصوصاً إذا استند الفسخ إليٰ غير العامل، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط، خصوصاً مع فسخه و طلب المالك منه (1).

______________________________

من الربح فيعطيه المالك من أمواله، أو يعطيه حصّته من نفس تلك العروض لو طلب العامل منه القسمة.

و أمّا عدم وجوب إجابة العامل للمالك إذا طلب منه المالك بيع العروض و الإنضاض، فالوجه فيه واضح لفرض انتفاء عقد المضاربة و إلغاء أحكامها بالفسخ، و لا دليل علي وجوب إجابته غير التزامه بالمضاربة المفروض نقضه بالفسخ.

هل يجب علي العامل استيفاء الديون بعد الفسخ؟

(1) 1- وقع الخلاف في وجوب استيفاء الديون علي العامل و جبايتها بعد فسخ المضاربة من جانب المالك أو العامل.

و قد أطلق المحقّق في الشرائع

وجوب أخذها و جبايتها علي العامل. و صرّح بذلك قبله الشيخ الطوسي في المبسوط؛ حيث قال: «و إن كان المال ديناً، مثل أن باع العامل نسيئاً بإذن ربّ المال، فعلي العامل أن يجبيه ممّن هو عليه، سواءٌ كان في المال ربح أو لا ربح فيه، فإن كان الفاسخ العامل فالحكم فيه علي ما فصّلناه إذا كان الفاسخ ربّ المال حرفاً بحرف» «1».

و كذا العلّامة في القواعد؛ حيث قال: «و إذا انفسخ و المال دين، وجب علي

______________________________

(1)- المبسوط 3: 179.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 272

______________________________

العامل تقاضيه، و إن لم يظهر ربحٌ» «1» و قال في التذكرة: «و إن لم يكن المال ناضّاً، فإن كان ديناً؛ بأن باع نسيئةً بإذن المالك، فإن كان في المال ربحٌ كان علي العامل جبايته، و به قال الشافعي و أبو حنيفة، و إن لم يكن هناك ربحٌ، قال الشيخ قدس سره: يجب علي العامل جبايته، و به قال الشافعي» «2». و لكن استظهر في الحدائق «3» من كلمات الأصحاب اتّفاقهم في الجملة علي وجوب الجباية و الإنضاض؛ حيث قال:

«و بالجملة فظاهرهم الاتّفاق علي وجوب الإنضاض في الجملة، و إنّما الخلاف في تخصيص ذلك بصورة وجود الربح، كما هو ظاهر التذكرة أو مطلقاً، كما هو ظاهر الأكثر» «4». و لا يخفي أن مقصوده من الإنضاض بقرينة المقام ما هو أعمّ من الجباية و الاستيفاء، و إن كان في التعبير مسامحة.

و ظاهر كلامه هذا أنّ وجوب استيفاء الديون علي العامل بعد فسخ المضاربة مطلقاً قول الأكثر. و نسبه السيد الحكيم «5» إلي الأشهر، و السيد الخوئي «6» إلي المشهور.

و قد وجّه الوجوب في التذكرة «7» بأنّ المضاربة تقتضي ردّ رأس المال علي

صفته، و الدين لا يجري مجري المال، فوجب عليه أن ينضّه إذا أمكنه، كما لو كانت عروضاً. فإنّه يجب عليه بيعها. و الأصل فيه أنّ الدين ملك ناقص، و الذي أخذه كان ملكاً تامّاً، فليردّه كما أخذ.

______________________________

(1)- جامع المقاصد 8: 154.

(2)- تذكرة الفقهاء 2: 246/ السطر 27.

(3)- الحدائق الناضرة 21: 254.

(4)- نفس المصدر: 255.

(5)- مستمسك العروة الوثقي 12: 381.

(6)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 113.

(7)- تذكرة الفقهاء 2: 246/ السطر 29.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 273

______________________________

و تبعه في هذا الاستدلال المتأخّرون. و زاد الشهيد الأوّل في الاستدلال- علي ما نقل عنه في جامع المقاصد- «1» ما تحريره: «أنّ الدين مال الغير الذي هو المالك. و إنّ العامل هو الذي أخذه، فعليه أن يؤدّيه»، و استدلّ لذلك بالنبوي المشهور:

«علي اليد ما أخذت حتّي تؤدّيه».

و تبعه في هذا الاستدلال الشهيد الثاني في المسالك «2» و كلّ من اختار وجوب الاستيفاء، و منهم السيد الخوئي و لم يزد في الاستدلال إلّا تفنُّناً في التعبير. فعلّل ذلك بابتناء عقد المضاربة من الأوّل علي تسليم العامل لما أخذه من المالك إليه و أنّه أمر مفروغ عنه في المضاربة، فيكون من قبيل الشرط في ضمن العقد، مع أنّه أخذ من الغير مالًا، فيجب عليه ردّه و أداؤه.

مقتضي التحقيق في المقام

و مقتضي التحقيق عدم وجوب استيفاء الدين و جبايته علي العامل بعد فسخ المضاربة مطلقاً، سواءٌ كان الفسخ من جانب المالك أو كان من العامل أو انفسخ العقد بسبب قهري، و سواء كان في الدين ربح أم لا.

و الوجه في ذلك انتفاء ملاك الوجوب بفسخ العقد أو انفساخه. فإنّ المضاربة إنّما تقتضي ردّ رأس المال علي صفته ما دامت باقية مستمرّة، دون

ما إذا انتفت و انتقضت بالفسخ. و من هنا لا وجه لوجوب استيفاء الدين و رفع نقصانه المالي بالإنضاض و النقد.

و أمّا حديث «علي اليد» و إن تمّ سنده بانجبار ضعفه بالشهرة الفتوائية العملية من القدماء، كما فصّلنا البحث عن ذلك و أثبتناه في كتابنا «مباني الفقه الفعّال»، إلّا

______________________________

(1)- جامع المقاصد 8: 154- 155.

(2)- مسالك الأفهام 4: 385.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 274

______________________________

أنّ دلالته إنّما تتمّ في اليد العادية، لا المأذونة كما في المقام؛ لفرض إذن المالك.

نعم، إنّما يرتفع الإذن بالفسخ، و لكنّ المال المأخوذ ليس حينئذٍ في يده، بل في يد المديون و في ذمّته بصورة الدين. فعلي المديون أن يؤدّيه إلي المالك؛ لأنّه ضامن في الحقيقة بالضمان المعاوضي و لمّا كان المبيع ملك المالك و انتقل إليه بالبيع فيجب عليه ردّ ثمنه إلي المالك. و لو كان أنقص من مال القراض بالوضيعة و خسران المعاملة فلا ضمان حينئذٍ علي العامل كما هو واضح، إلّا إذا كان هناك ربح فيجبر بالربح.

و أمّا قضية الشرط في ضمن العقد فإنّما هي ثابتة بمقتضي المضاربة ما دامت باقية، دون ما إذا انتفت و انتقضت بالفسخ. و لمّا كان ملاك ارتفاع الضمان و وجوب الاستيفاء و أداءُ الدين و استحصاله عن العامل، انتفاء المضاربة و انقضاؤه بالفسخ لا يفترق في ذلك بين كون الفاسخ مالكاً أو عاملًا، و لا بين وجود ربح في الدين و بين عدمه.

فالأقوي في المقام ما ذهب إليه السيد الماتن قدس سره وفاقاً لجماعة من فحول الفقهاء، منهم المحقّق الكركي؛ حيث ردّ العلّامة بعد نقل قوله عن التذكرة.

تأييد السيد الماتن بكلمات الفقهاء الفحول

و ممّن اختار عدم الوجوب هو المحدّث البحراني. و لقد أجاد في ردّ استدلال القائلين

بالوجوب. و ينبغي نقل نصّ كلامه بطوله لما فيه من المنفعة.

قال قدس سره: «و قولهم: إنّ المضاربة تقتضي ردَّ رأس المال علي صفته مسلّم مع الاستمرار علي العقد، و أمّا مع فسخه سيّما إن كان الفاسخ هو المالك، فهو ممنوع و الأصل عدم الوجوب، و براءة الذمّة منه، و هو أقوي دليل حتّي يقوم الدليل الواضح علي خلافه.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 275

______________________________

و أمّا قوله في المسالك في ردّ ذلك: أنّه يضعَّف بأنّ إذن المالك فيه إنّما كان علي طريق الاستيفاء لا مطلقاً، بدلالة القرائن، و لاقتضاء الخبر ذلك.

ففيه: أنّ ذلك إنّما يتمّ مع الاستمرار علي العقد المذكور، لا مع فسخه، سيّما إذا كان الفاسخ له هو المالك.

و بالجملة فإنّ مقتضي عقد القراض و الإذن فيه هو جميع ما ذكره. و أمّا بعد فسخه، فدعوي كون ذلك الإذن يقتضي ما ذكروه. مع الحكم ببطلان العقد بالفسخ محل المنع؛ لاختلاف الحالين، و تغاير الحكمين من جميع الجهات، و من جملتها هذا الموضع، و المانع مستظهر. و أمّا دعواه اقتضاءُ الخبر ذلك فهو أضعف؛ لما عرفت، و لو تمّ الاستدلال بهذا الخبر علي ما ذكروه، للزم منه أيضاً جريان ذلك في الوكيل، إذا اشتري بإذن موكّله عروضاً ثمّ عزله الموكّل عن الوكالة، فإنّه يجب عليه بيع تلك العروض، و تنقيد الثمن، و الردّ علي المالك، كما قبضه منه، و لا قائل بذلك فيما أعلم، و هم قد صرّحوا- كما تقدم- بأنّ عقد القراض يتضمّن الوكالة، بل هو وكالة في الأوّل كما تقدّم في كلام العلّامة و غيره، مع أنّه لم يصرّح أحد منهم في الوكالة بذلك، بل الظاهر أنّه متي عزله الموكّل امتنع تصرّفه، سواء كان

المال نقداً أو عروضاً» «1».

و ممّن قال بعدم الوجوب صاحب الجواهر فإنّه بعد ردّ استدلال القائل بالوجوب قال: «فالمتّجه حينئذٍ أيضاً عدم الوجوب» «2» و منهم السيد اليزدي في العروة و تبعه في ذلك السيد الحكيم «3».

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 21: 255- 256.

(2)- جواهر الكلام 26: 391.

(3)- مستمسك العروة الوثقي 12: 381.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 276

(مسألة 32): لا يجب علي العامل- بعد حصول الفسخ أو الانفساخ- أزيد من التخلية بين المالك و ماله

اشارة

(1)، فلا يجب عليه الإيصال إليه؛ حتّيٰ لو أرسل المال إليٰ بلد آخر غير بلد المالك و كان ذلك بإذنه، و لو كان بدون إذنه يجب عليه الردّ إليه؛ حتّيٰ أنّه لو احتاج إليٰ اجرة كانت عليه.

______________________________

لا يجب علي العامل بعد الفسخ غير التخلية

(1) 1- و لا يخفي أنّ مقصوده هاهنا من المال ما كان بيد العامل من أموال المالك نقداً كان أو عروضاً، دون الدين السابق حكمه آنفاً.

و الوجه في ذلك أنّ تخلية سبيل المالك إلي ماله و رفع المانع عنه تسليط له علي ماله و لا يجب علي من بيده مال الغير أكثر من رفع اليد عنه و جعله في يد المالك، و لمّا كان التعبير باليد كناية عن السلطة. فكما أنّ أخذ مال الغير بمعني السلطة عليه، فكذلك رفع اليد عنه بمعني جعله في سلطة المالك، و ذلك بالتخلية بينه و بين ماله. كما هو المقصود من التأدية في قوله عليه السلام

: «علي اليد ما أخذت حتّي تؤدّيه».

و لكن يرد عليه أنّ تخلية اليد قد يكون مصداقاً للردّ و الأداء عرفاً، كما إذا كان المال بمحضر المالك و أرضه أو بستانه أو بيته و نحو ذلك ممّا يصدق الأداء و الردّ بمجرّد تخلية السبيل.

و اخري: لا تكون مصداقه، كما لو جعل العامل المال إلي مكان

مملوك لنفسه و لا يعلمه المالك فحينئذٍ لا يصدق عنوان الردّ و الأداء و التسليط بمجرد رفع اليد و إعطاء مفتاح البيت أو البستان إلي المالك ما لم يُعلمه موضع ذلك البيت أو البستان، و إن لا يبعد صدق عنوان التخلية عرفاً، و حينئذٍ لو أعلم المالك عن مكان وجود

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 277

______________________________

المال و سلّم إليه مفتاح البيت أو البستان أو الصندوق الذي يكون ماله فيه، يصدق عنوان الأداء و الردّ عرفاً و إلّا فلا، بل و لا يصدق تسليط المالك علي ماله أيضاً. أو كان المشتري شخصاً ظالماً قويّاً لا يبالي، فلا يصدق التخلية بمجرّد التخلية بين المالك و بين ذلك الشخص بذكر اسمه و خصوصياته.

و ثالثة: يحمل العامل المال و ينقله إلي بلد آخر غير بلد المالك. فحينئذٍ يشكل صدق الأداء و الردّ علي مجرّد تخلية السبيل و خلع اليد عن المال. بل لا يري العرف الأداء صادقاً حينئذٍ، إلّا بعد نقل المال عن ذلك البلد إلي بلد المالك و حمله إليه و جعله في سلطته و اختياره، و لو بالحوالة البنكية في النقود.

و أمّا حديث

«علي اليد»

لا يرتبط بالمقام لعدم كون اليد عادية بعد فرض كون سلطة العامل علي مال القراض بإذن المالك و رضاه. نعم، بعد الفسخ يصير المال في حكم أمانة طلب صاحبها من الأمين؛ لما قلنا أنّ العامل أمين و المال بيده أمانة للمضاربة.

بل المناسب بالمقام قوله تعالي: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِليٰ أَهْلِهٰا» «1».

مقتضي التحقيق

و عليه فالأقوي وجوب إيصال مال القراض و ردّه إلي المالك بعد الفسخ فيما إذا نقله العامل إلي بلد آخر، كما اختاره السيد الخوئي بقوله: «و هذا القول هو الصحيح

و الإشكال عليه في غير محلّه» «2». فإنّ سفر العامل و نقل مال القراض إلي

______________________________

(1)- النساء (4): 58.

(2)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 115.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 278

(مسألة 33): لو كانت المضاربة فاسدة كان الربح بتمامه للمالك

اشارة

(1)؛ إن لم يكن إذنه في التجارة متقيّداً بالمضاربة، و إلّا تتوقّف عليٰ إجازته، و بعد الإجازة يكون الربح له؛ سواء كانا جاهلين بالفساد أو عالمين أو مختلفين.

______________________________

بلد آخر و الاتّجار به فيه و إن كان بإذن المالك، إلّا أنّه من المعلوم المسلّم عدم غرض له من ذلك، إلّا الاسترباح، و معناه ردّ رأس المال و نصيب المالك- من الربح- إليه بعد تمام الاتّجار و إنضاض المال و الربح أو فسخ المضاربة مطلقاً.

نعم، إذا كان الردّ يحتاج إلي اجرة، تكون علي المالك فيما إذا كان بإذنه، دون ما إذا لم يكن بإذنه، فتكون اجرة الحمل علي العامل نفسه حينئذٍ، لعدم كون سفره بإذن المالك و أمره.

حكم المضاربة الفاسدة
اشارة

(1) 1- و الوجه في كون الربح بتمامه للمالك حينئذٍ دخول سائر التجارات- غير المضاربة- في إطلاق إذن المالك مع عدم تقيّده بالمضاربة. و مع إطلاق إذن المالك تدخل سائر التجارات في إذن المالك فيكون بمنزلة الوكيل له. فتصّح تلك المعاملة الاخري؛ نظراً إلي شمول إذنه لها، و هو يكفي في صحّتها؛ حيث إنّها لا تتوقّف علي صحّة عقد المضاربة.

و أمّا إذا كان إذنه متقيّداً بالمضاربة، لا مصحّح لتلك المعاملة الاخري بعد فساد المضاربة، غير الإجازة اللّاحقة. فإن أجازها تصحّ تلك المعاملة بمقتضي القاعدة في العقد الفضولي. فعلي أيّ حال صحّت تلك المعاملة الاخري، سواءٌ كانت داخلة في إذن المالك من أوّل الأمر أو صارت مأذونة بالإجازة اللّاحقة.

و يكون الربح الحاصل للمالك؛ لقاعدة تبعية الربح للمال.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 279

و للعامل اجرة مثل عمله (1) لو كان جاهلًا بالفساد؛ سواء كان المالك عالماً به أو جاهلًا، بل لو كان عالماً بالفساد فاستحقاقه لُاجرة المثل- أيضاً- لا يخلو

من وجه؛ إذا حصل ربح بمقدار كان سهمه- عليٰ فرض الصحّة- مساوياً لُاجرة المثل أو أزيد. و أمّا مع عدم الربح أو نقصان سهمه عنها، فمع علمه بالفساد لا يبعد عدم استحقاقه علي الأوّل، و عدم استحقاق الزيادة عن مقدار سهمه علي الثاني، و مع جهله به فالأحوط التصالح، بل لا يترك الاحتياط به مطلقاً.

______________________________

وجه استحقاق العامل لُاجرة المثل عند فساد المضاربة

(1) 1- و إنّما يستحقّ العامل اجرة مثل عمله؛ لما سبق بيانه في أوّل هذا الكتاب، من اقتضاء قاعدتي احترام عمل المؤمن و ضمان الإتلاف بالتسبيب لذلك؛ نظراً إلي كون المالك سبباً لصدور العمل من العامل بدعوته و اقتراحه.

و إنّما المانع من استحقاقه الاجرة، التزامه المعاملي بالمضاربة المقتضية لعدم استحقاقه سوي الربح علي فرض وجوده. و المفروض انتفاءُ هذا المانع بعد انكشاف فساد المضاربة.

و لا فرق في ذلك بين علم المالك بالفساد و جهله كما هو واضح. و أمّا العامل ففرقٌ بين علمه و بين جهله؛ لأنّه في صورة علمه بفساد المضاربة قد أسقط احترام عمله و أهدر قيمته، و لا تكون إجازة المالك حينئذٍ سبباً لإتلاف عمله عرفاً. بل يمكن أن يقال: إنّ قاعدة الإقدام حاكمة علي قاعدة ضمان الإتلاف لدلالتها علي توسعة موضوع ضمان الإتلاف- و هو سببه- إلي المالك المقدّم، كما أنّ قاعدة الإقدام واردة علي قاعدة الاحترام؛ نظراً إلي انتفاء الاحترام بالإقدام الذي هو

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 280

______________________________

إسقاط الاحترام. و قد ثبت في محلّه أنّ كلّ قاعدة اعدم بجريانها موضوع قاعدة اخري، فهي واردة عليها، كالأمارة المُعدم بقيامها موضوع الأصل، و هو الشكّ.

مقتضي التحقيق التفصيل في جريان قاعدة الإقدام

هذا، و لكن التأمّل يقتضي التفصيل في جريان قاعدة الإقدام بين صورة إطلاق إذن المالك الشامل لغير المضاربة من سائر عناوين المعاملات، و بين تقيُّده بالمضاربة، فتجري في الصورة الاولي دون الثانية.

و ذلك لأنّ إقدامه علي العمل لا يكون إهداراً له بسبب علمه بفساد المضاربة حين إنشائها، مع التفاته إلي إطلاق إذن المالك و شموله لغير المضاربة و كون المعاملات الصادرة منه بإذن المالك عند انكشاف فساد المضاربة؛ نظراً إلي ترتّب الغرض المعاملي علي عمله باستحقاق

اجرة المثل حينئذٍ. و ذلك لأنّ كلّ من أمر غيره بالعمل ضامنٌ لقيمة عمله التي هي اجرة مثله.

لا يقال: إنّ الإذن بالمعاملة ليس إذناً بالعمل.

فإنّه يقال: إنّ جلب المشتري المناسب و شراء الجنس النافع و إنشاء التجارة الرابحة عمل ثمين، له مالية عند العقلاء أكثر قيمةً من عمل الوزّان و الحمّال و نحوه. نعم، الإجازة اللّاحقة ليست إذناً للعمل، و إنّما هو إذن لغرض تصحيح العقد. فلا يستحقّ بها العامل اجرةً.

و الحاصل: أنّ قاعدة الإقدام إنّما تجري في حقّ العامل في صورة واحدة؛ و هي ما لو كان إذن المالك متقيّداً بالمضاربة و كان العامل عالماً بفسادها حين إنشائها. و من هنا لا تجري قاعدة ضمان الإتلاف بالتسبيب و لا قاعدة احترام عمل المؤمن. فلا وجه لضمان المالك اجرة مثل عمل العامل حينئذٍ.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 281

______________________________

و هذا بخلاف صورة جهله بالفساد، فلا إشكال في استحقاقه اجرة مثل عمله؛ لما سبق في أوائل الكتاب و أشرنا إليه آنفاً.

توجيه تفصيل السيد الماتن و المناقشة فيه

و أمّا تفصيل السيد الماتن قدس سره في استحقاق العامل لُاجرة المثل بينما لو كان الربح الحاصل مساوياً لمقدار الاجرة أو أزيد منها و بينما لو لم يحصل أو كان أنقص منها، فوجهه ظاهراً حصول نفع عائد إلي المالك في الصورة الاولي، فعليه أن يدفع ما بإزائه من الاجرة إلي العامل، بخلاف الصورة الثانية؛ حيث لم يحدث نفع للمالك بسبب عمل العامل حتّي يدفع بإزائه الاجرة.

و فيه: أنّه لا وجه لهذا القول بعد فرض فساد المضاربة. و ذلك لأنّ استحقاق اجرة المثل حينئذٍ إنّما هو تابعٌ للعمل الصادر من العامل بأمر المالك خارجاً عن التزامه بالمضاربة، كما هو المفروض عند كشف فسادها. و أمّا قضية

الاسترباح و الاستفادة بحصول الربح، فهي من أحكام المضاربة المفروض انتفاؤها بانكشاف الفساد. فإنّ للعمل قيمة ذاتية عند العقلاء منحفظة عند فقدان القيمة العارضة بالربح أو تعيين الاجرة. فإذا لم يكن التزام العامل بالاكتفاء بالربح ممضي عند الشارع؛ لفرض انكشاف فساد المضاربة و لم تُعيّن اجرة المسمّي كما هو المبني في المضاربة، تصل النوبة إلي قيمته الذاتية، و هي اجرة المثل. و ذلك لأنّ المالك هو الذي أمر العامل بالعمل. و أيّ شخص أمر آخر بعمل ذي مالية و قيمة- عند العقلاء- يضمن اجرته؛ لقاعدتي ضمان الإتلاف بالتسبيب و احترام عمل المؤمن. هذا في الإذن السابق، و أمّا الإجازة اللّاحقة فإنّما تصحّح نفس العقد الفضولي، و لا يجعل العمل الفضولي بأمره. و أمّا الربح الحاصل في تلك المعاملة، فلا يستحقّ العامل

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 282

و علي كلّ حال لا يضمن العامل التلف و النقص الواردين علي المال (1).

______________________________

شيئاً منه؛ لأنّ استحقاقه الربح من أحكام المضاربة، و هي قد انتفت بانكشاف فسادها. و أنّ الربح تابعٌ للمال بمقتضي قاعدة التبعية.

فتحصّل أنّ الأقوي عدم استحقاق العامل لشي ء من الربح و اجرة مثل العمل إذا لم يكن لكلام المالك إطلاق يشمل غير المعاملة الفاسدة من سائر المعاملات، من دون فرق بين كون التجارة رابحة و عدمه.

وجه عدم ضمان العامل لتلف مال القراض و نقصانه

(1) 1- و الوجه في ذلك قد سبق بيانه في بعض المسائل الماضية. و حاصله: أنّ العامل أمين لا يضمن إلّا بالتفريط و الخيانة و التعدّي، لكنّه إنّما يصحّ فيما إذا وقع التلف و النقص قبل انكشاف فساد المضاربة. و أمّا لو وقع بعد انكشافه لهما أو للعامل و كان الإذن متقيّداً بالمضاربة و تأخّر العامل في أداء المال خارجاً

عن حدّ المتعارف بحيث يصدق التفريط، ضمن العامل ما تلف في يده قطعاً؛ لأنّ يده عادية حينئذٍ؛ نظراً إلي عدم رضي المالك بكون المال في يده. هذا إذا انكشف فساده للعامل و عَلِمَ به. و أمّا اذا لم ينكشف له الفساد و كان جاهلًا فلا تجري قاعدة ضمان علي اليد حينئذٍ؛ لاختصاصها باليد العادية، و عدم تصوّر عدوان و لا غصب في حقّ الجاهل.

و حاصل الكلام: أنّ المعيار في ثبوت الضمان في المقام إحراز عدم رضي المالك بكون المال في يد العامل، عند اطّلاعه علي فساد المضاربة.

هذا كلّه في ما إذا لم يُتلفه العامل عن عمدٍ، و إلّا تجري قاعدة الإتلاف في جميع صور المسألة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 283

نعم يضمن علي الأقويٰ ما أنفقه في السفر عليٰ نفسه و إن كان جاهلًا بالفساد (1).

______________________________

ضمان العامل لما أنفق علي نفسه في السفر حينما فسد المضاربة

(1) 1- وجّه ذلك في العروة «1» بتبيُّن عدم استحقاقه النفقة بعد انكشاف فساد المضاربة.

و لكن يرد عليه أنّ الملاك في ضمان المالك لنفقة سفر العامل أمره إيّاه و إذنه بالسفر، من دون دخل لصحّة المضاربة و عدمها و لا حصول الربح و عدمه في ذلك.

فإنّ من أمر شخصاً بفعل- من سفر أو غيره- و تحمّل المأمور في إتيان ذلك الفعل المأمور به أيّة نفقة، فعلي الآمر ضمان ما ذهب من كيس الشخص المأمور لأجل الإتيان بذلك الفعل المأمور به. و إنّ إذن المالك للعامل بالسفر و بصرف ماله لذلك، لمّا كان مطلقاً و لم يكن مقيّداً بصحّة عقد المضاربة، يقتضي القاعدة عدم ضمان العامل لشي ءٍ من النفقات التي صرفها لنفسه في السفر بقدر المعتاد و المتعارف اللّائق بشأنه، بل إنّما يضمنه المالك، بمقتضي قاعدة ضمان الإتلاف بالتسبيب، إلّا

إذا كان ما أنفقه غير ما يحتاج إليه في السفر، من الهدايا و الجوائز و سائر المصاريف الخارجة عن حدّ احتياجه، فيضمنه؛ لعدم دخوله في إذن المالك.

مقتضي التحقيق في المقام

و عليه مقتضي التحقيق عدم ضمان العامل لما أنفقه في سفره علي نفسه عند كشف فساد المضاربة، إذا كان جاهلًا بفسادها حين إنشاء المضاربة.

______________________________

(1)- العروة الوثقي 5: 233.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 284

(مسألة 34): لو ضارب بمال الغير من دون وكالة و لا ولاية وقع فضوليّاً، فإن أجازه المالك وقع له،

اشارة

و كان الخسران عليه، و الربح بينه و بين العامل عليٰ ما شرطاه (1). و إن ردّه فإن كان قبل أن يعامل بماله طالبه، و يجب علي العامل ردّه إليه، و إن تلف أو تعيّب كان له الرجوع عليٰ كلّ من المضارب و العامل، فإن رجع علي الأوّل لم يرجع هو علي الثاني، و إن رجع علي الثاني رجع هو علي الأوّل.

______________________________

و لا يخفي أنّ هذا في صورة جهل العامل بفساد المضاربة، بل و مع علمه بفساد المضاربة لو كان إذن المالك مطلقاً شاملًا لسائر المعاملات.

نعم، لو كان إذنه متقيّداً بالمضاربة و لم يكن له غرض آخر من أمر العامل بالسفر غير المضاربة، فحينئذٍ لو علم العامل قبل السفر فسادها يضمن جميع النفقات، لإقدامه علي سفر غير مأذون من جانب المالك، فعليه تحمّل ما أنفقه.

و لكن لا مطلقاً، بل في صورة جهل المالك بفسادها؛ إذ لا يرضي بالسفر و الإنفاق لو اطّلع علي فساد المضاربة. و أمّا إذا علم المالك أيضاً بفسادها لا ضمان علي العامل لما أنفقه من مال المالك؛ إذ المالك رضي بالسفر و أذن العامل به مع علمه بفساد المضاربة. فيكون سفره حينئذٍ بإذنه و أمره، بل ذلك كاشف عن إطلاق إذنه و شموله لغير المضاربة.

حكم المضاربة الفضولية
اشارة

(1) 1- لا إشكال في أنّ المضاربة كأيّة معاملة اخري تجري فيها الفضولية، و يترتّب أحكامها.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 285

______________________________

و عليه فلو ضارب بمال الغير من دون وكالة و لا ولاية و لا إذن منه و لا إحراز رضاه، وقعت المضاربة فضوليةً.

فإن أجازها المالك صحّت و وقعت له، دون المضارب الفضولي. و يكون الربح حينئذٍ بينه و بين العامل حسب ما شرطه المالك و

قرّره بتعيين مقدار نصيب العامل من الربح في إجازته، من دون حظٍّ للمضارب الفضولي؛ لأنّ الملاك في استحقاق الربح إمّا هو المال أو العمل، و المفروض عدم شي ء منهما له.

نعم، لا يجوز له إجازة المضاربة من دون تعيين ربح للعامل؛ لأنّه مخالف لحقيقة المضاربة و مقتضاها. و أمّا لو أجاز المضاربة علي نحو الإطلاق؛ بأن أطلق بكون الربح بينهما، من دون تعرّض لتعيين سهم العامل، يكون الربح بينهما مناصفةً بمقتضي إطلاق كلامه و ما هو الأصل في المضاربة؛ لأنّه المتيقّن ممّا جاء في النصوص من أنّ الربح بينهما، و لقاعدة العدل و الإنصاف بمعناها الواسع الذي بيّنّاه في كتابنا «مباني الفقه الفعّال». و علي أيّ حال لا حظّ للمضارب من الربح؛ لعدم كونه عاملًا، و إنّما الربح للعامل علي فرض إجازة المالك.

و أمّا لو لم يُجزه بطلت المضاربة. و حينئذٍ تارة: يكون الردّ قبل أن يُعامل بماله، و اخري: يصدر منه الردّ بعد ذلك.

و هذه الفقرة من كلام السيد الماتن قدس سره متكفّل لبيان حكم الصورة الاولي، فحينئذٍ أفتي الماتن قدس سره بوجوب ردّ مال القراض إلي مالكه علي كلّ من المضارب و العامل و جواز رجوعه إلي أيّهما. و الوجه في ذلك أنّ المال حينئذٍ غصب، و الغصب كلُّه مردود، كما جاء في النصّ. و اتّفقت عليه الفتاوي و ضرورة الشرع. و من هنا لو تلف أو تعيَّب المال، فللمالك أن يرجع إلي كلّ واحد من المضارب الغاصب و العامل. و لكن لو رجع إلي المضارب لم يرجع هو إلي العامل مع جهله بالحال لأنّه

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 286

هذا إذا لم يعلم العامل بالحال، و إلّا يكون قرار الضمان عليٰ من تلف

أو تعيّب عنده (1)،

______________________________

دخل في المضاربة باعتقاد صحّتها فيكون أميناً، بل إنّما يرجع إلي المضارب الذي هو السبب في الإتلاف.

و أمّا لو رجع المالك إلي العامل يرجع هو علي المضارب؛ لأنّه الغاصب و هو السبب في تلف المال و تعيُّبه؛ حيث إنّه لو لم يغصبه و لم يعطه العامل لم يكن يتلف أو يتعيّب، و لأنّ العامل لم يُتلفه عمداً؛ لفرض جهله.

و لا يخفي أنّه لا يتصوّر خسران للمضاربة و التجارة حينئذٍ، كما يظهر من إطلاق كلام صاحب العروة؛ حيث إنّ الخسران كالربح فرع صحّة المعاملة و لا تصحّ مع عدم إجازة المالك. و من هنا أشكل عليه السيد الحكيم و المحقّق الخوئي «1»، اللّهم إلّا بلحاظ قبل صدور الردّ.

لو تلف المال قبل الشراء به

(1) 1- و ذلك لأنّ العامل إذا كان عالماً بردّ المالك المضاربة، يحرم عليه التصرّف في ماله و يكون غاصباً، فهو ضامن للمال إذا تلف أو تعيّب عنده؛ لاستناد التلف إليه عرفاً و يكون هو الغاصب و يده عادية و علي اليد ما أخذت حتّي تؤدّيه، كما أشرنا إليه آنفاً. و حينئذٍ ينعكس الأمر. فلو رجع المالك إليه، لا يرجع هو علي المضارب؛ لأنّ المال تلف في يده، و يده عادية، فهو ضامن بخلاف العكس.

______________________________

(1)- مستمسك العروة الوثقي 12: 438؛ المباني في شرح العروة الوثقي 31: 158.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 287

فينعكس الأمر في المفروض. و إن كان بعد أن عومل به كانت المعاملة فضوليّة (1)، فإن أمضاها وقعت له، و كان تمام الربح له و تمام الخسران عليه، و إن ردّها رجع بماله إليٰ كلّ من شاء من المضارب و العامل كما في صورة التلف، و يجوز له أن يجيزها عليٰ تقدير حصول

الربح، و يردّها عليٰ تقدير الخسران (2)؛

______________________________

لو ردّ المضاربة بعد الاتّجار بالمال

(1) 1- كلُّ ما سبق من الكلام كان فيما إذا صدر الردّ من المالك قبل انتقال المال بتجارة. و أمّا لو صدر منه الردّ بعده، كما لو اطّلع علي الحال بعد وقوع الاتّجار و الشراء، تكون تلك المعاملة فضولية و بحاجة إلي إمضاء المالك في صحّتها. فلو أمضاها صحّت و إلّا بطلت، و علي فرض الإمضاء و صحّة المعاملة يكون الربح كلّه له و الخسران عليه، و لا حظّ للعامل؛ لفرض بطلان المضاربة و انتفاء آثارها و أحكامها. و في صورة الردّ يرجع المالك لإنقاذ ماله علي كلّ من المضارب و العامل، علي النحو المذكور آنفاً، بل للمالك أن يرجع إلي البائع أيضاً. و له الرجوع إلي العامل لاستنقاذ مبيعه؛ لأنّه الذي أخذ المبيع.

(2) 2- و ذلك لأنّ الناس مسلّطون علي أموالهم. و هذا مقتضي سلطة المالك علي ماله، فله أن يعمل به كيف شاء.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 288

بأن يلاحظ مصلحته، فإن رآها رابحة أجازها و إلّا ردّها. هذا حال المالك مع كلّ من المضارب و العامل. و أمّا معاملة العامل مع المضارب، فإن لم يعمل عملًا لم يستحقّ شيئاً (1)، و كذا إذا عمل و كان عالماً بكون المال لغير المضارب. و أمّا لو عمل و لم يعلم بكونه لغيره استحقّ اجرة مثل عمله، و رجع بها علي المضارب.

______________________________

(1) 1- أمّا إذا لم يعمل شيئاً فوجه عدم استحقاقه للُاجرة علي فرض الردّ، و للربح علي فرض الإجازة، واضح. و أمّا إذا عمل فلو كان جاهلًا بالحال فيستحقّ الاجرة علي فرض الردّ؛ لقاعدة الاحترام. و ضمانه علي المضارب؛ لأنّه الذي أمره بالعمل، فتشمله قاعدة ضمان الإتلاف

بالتسبيب.

و إذا كان عالماً بالحال، فلا يستحقّ شيئاً من الاجرة؛ حيث إنّ عمله في مال الغير و تصرّفه فيه بغير إذن مالكه حرامٌ، فلا احترام لعمله شرعاً حتّي يستحقّ الاجرة. و لو فُرض عدم حرمة العمل شرعاً لعدم كونه تصرّفاً- كمجرد إنشاء صيغة البيع من دون تسليم مال الغير و لا التصرّف فيه بنقل أو تقلّب خارجي- لا ريب في كونه إسقاطاً لاحترام عمله و إهدار قيمته؛ حيث أقدم علي عمل متعلّق بمال الغير بلا إذن منه. فلم يأذن المالك له في عمله حتّي يضمن اجرته.

و أمّا الإجازة اللّاحقة فإنّما هو لغرض استرباحه المتوقّف علي تصحيح المعاملة، من دون نظر إلي صيرورة العمل الصادر منه مأذوناً؛ لكي يضمن اجرته.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 289

(مسألة 35): لو أخذ العامل رأس المال، ليس له ترك الاتّجار به

اشارة

(1) و تعطيله عنده بمقدار لم تجرِ العادة عليه و عدّ متوانياً متسامحاً. فإن عطّله كذلك ضمنه لو تلف، لكن لم يستحقّ المالك غير أصل المال، و ليس له مطالبة الربح الذي كان يحصل عليٰ تقدير الاتّجار به.

______________________________

ليس للعامل ترك الاتّجار بعد أخذ المال

(1) 1- قد سبق في المسألة الخامسة عشر أنّ وجوب القيام بالاتّجار علي العامل ليس حكماً تكليفياً بعد فرض كون عقد المضاربة من العقود الجائزة الإذنية المنوط إبقاؤُها بإرادة كلّ من المالك و العامل و اختيارهما.

و عليه فللعامل ترك العمل بفسخ المضاربة و رفع موضوع العمل في أيّ آن من الآنات.

بل بمعني إناطة صحّة تصرّفات العامل و تقلّباته في مال القراض بالقيام بوظيفته المتعارفة، بأن يعمل بما يقتضيه عقد المضاربة من الوظيفة المعتادة المتعارفة، دون ما هو خارج عن مقتضي المضاربة، ممّا لم تجر العادة عليه بحيث عدّ متوانياً متسامحاً في القيام بالوظيفة المعاملية المقرّرة بينه و بين المالك. و عليه فلو عطّله أو أخّر التجارة زائداً عن الحدّ المتعارف بحيث عُدّ متوانياً يكون ضامناً لما تلف أو تعيّب، كما ليس علي المالك حينئذٍ شيئاً من النفقات التي بذلها لذلك.

و لا يستحقّ المالك غير أصل المال حينئذٍ، فليس له مطالبة الربح الذي كان يحصل عادةً عند قيام العامل بوظيفته.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 290

(مسألة 36): لو اشتريٰ نسيئة بإذن المالك كان الدين في ذمّة المالك

(1)، فللدائن الرجوع عليه، و له أن يرجع علي العامل، خصوصاً مع جهله بالحال، و إذا رجع عليه رجع هو علي المالك. و لو لم يتبيّن للدائن أنّ الشراء للغير يتعيّن له في الظاهر الرجوع علي العامل؛ و إن كان له في الواقع الرجوع علي المالك.

______________________________

ضمان الدين علي المالك لو اشتري العامل نسيئةً بإذنه

(1) 1- قد سبق في المسألة الثامنة عشر عدم جواز الشراء و البيع نسيئة للعامل مع إطلاق كلام المالك، إلّا بقرينة صارفة إلي النسيئة أو الأعمّ منها و النقد. و أنّه لو خالف في غير مورد الانصراف و اشتري أو باع نسيئةً تكون المعاملة حينئذٍ فضولية و

يترتّب حكمها.

و لكن كان ذلك فيما إذا لم يأذن المالك بالنسيئة، أو لم ينصرف إليها أو إلي الأعم منها إطلاق إذنه، و إلّا صحّت المعاملة. و حينئذٍ يكون الدين- الناشئ من النسيئة- في ذمّة المالك؛ لأنّه الذي اتّجر له العامل و أقدم علي البيع و الشراء نسيئةً بإذنه و أمره. فيستقرّ ضمان العوض في ذمّته، دون العامل. فللدائن أن يرجع علي المالك بمقتضي القاعدة. نعم، للدائن أن يرجع علي العامل أيضاً؛ لأنّه المباشر في التجارة و قبض المعوّض، فله أن يرجع إليه في أخذ العوض و استيفاء الدين، و لكنّ العامل يرجع علي المالك لاستنقاذ دين الدائن منه. و إذا جهل الدائن بكون الشراء للغير يتعيّن له في الظاهر الرجوع علي العامل؛ حيث لا يري سبيلًا لاستنقاذ ماله إلّا ذلك، و إن كان له في الواقع حقّ الرجوع علي المالك، كما قال السيد الماتن قدس سره.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 291

(مسألة 37): لو ضاربه بخمسمائة- مثلًا- فدفعها إليه و عامل بها، و في أثناء التجارة دفع إليه خمسمائة اخريٰ للمضاربة

اشارة

، فالظاهر أنّهما مضاربتان (1)، فلا تجبر خسارة إحداهما بربح الاخريٰ.

______________________________

حكم ما لو دفع في أثناء التجارة مالًا آخر
اشارة

(1) 1- و الوجه في ذلك أنّ المبلغ المذكور من مال القراض في عقد المضاربة إذا دفعه المالك بتمامه إلي العامل، يتمّ العقد بتسليم مال القراض بتمامه إلي العامل.

فهي مضاربة مستقلّة قد تمَّت أركانها.

و بعبارة اخري: إنّ مال القراض من أحد أركان المضاربة كما سبق في أوائل الكتاب. فإذا سلّمه المالك بتمامه إلي العامل يتمّ بذلك جميع أركان المضاربة، مع فرض تمامية سائر أركان المضاربة، فتترتّب عليه أحكامها.

فلو أعطي المالك مبلغاً آخر في الأثناء لأجل المضاربة تتحقّق بإعطائه مضاربة اخري، لها أحكامها الخاصّة. و مجرّد مزجهما و خلطهما من جانب العامل و التجارة بالمجموع، لا يجعلهما مضاربة واحدة بعد إنشاء المالك بكلّ واحد من المبلغين مضاربة مستقلّة، و لا سيّما مع اختلاف سهم العامل من الربح فيهما.

فما يظهر من صاحب العروة «1» من صيرورتهما مضاربة واحدة بالمزج و التجارة بالمجموع حينئذٍ غير وجيه.

______________________________

(1)- العروة الوثقي 5: 273.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 292

و لو ضاربه عليٰ ألف- مثلًا- فدفع خمسمائة فعامل بها، ثمّ دفع إليه خمسمائة اخريٰ، فهي مضاربة واحدة (1) تجبر خسارة كلّ بربح الاخريٰ.

______________________________

لا يتعدّد المضاربة بدفع مال القراض عدّة دفعات

(1) 1- و ذلك لأنّ المبلغ المبني عليه عقد المضاربة لم يدفعه المالك بتمامه في مجلس العقد، بل إنّما دفع بعضه حين إنشاء العقد و أعطي الباقي في الأثناء. فلم يُنشئ المالك، إلّا مضاربة واحدة. و إنّما دفع مال القراض في المرّتين. فدفع بعضه قبل الشروع في العمل، و دفع بعضه الآخر في الأثناء.

هذا، و قد يُفصّل في المقام بين القول بمشروعية المضاربة المعاطاتية و بين عدمها. فعلي الأوّل- كما هو التحقيق و لعلّه المشهور؛ حيث عرّفوا المضاربة بدفع المال للاتّجار به علي أن يكون الربح بين المالك و

العامل- يصحّ كلّ ما قلناه.

و أمّا علي الثاني- كما يظهر من التذكرة؛ حيث اعتبر اللفظ في إيجاب المضاربة، بل نسب ذلك إلي الأصحاب- فلا يتحقّق بمجرّد دفع المال إلي العامل مضاربة ما لم يتلفّظ بإيجاب عقدها.

و فيه: أنّه لا يختصّ هذا التفصيل بالمقام، بل يأتي في أصل مشروعية المضاربة، و قد سبق تفصيل البحث عن ذلك في المسألة الثانية عشر.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 293

(مسألة 38): لو كان رأس المال مشتركاً بين اثنين فضاربا شخصاً، ثمّ فسخ أحد الشريكين تنفسخ بالنسبة إليٰ حصّته

اشارة

، و أمّا بالنسبة إليٰ حصّة الآخر فمحلّ إشكال (1).

______________________________

حكم فسخ المضاربة من أحد الشريكين
اشارة

(1) 1- بل لا إشكال في صحّة المضاربة بالنسبة إلي حصّة الآخر. و ذلك لانحلال عقد المضاربة إلي اثنين في مفروض الكلام؛ حيث إنّ مقتضي اشتراك مال القراض بين اثنين كون العامل لكلّ منهما، و لازمه الانحلال و لو كان بإنشاء واحد.

كما سبق نظير ذلك فيما إذا تعدّد المالك و اتّحد العامل.

و عليه لا يضرّ فسخ أحد الشريكين بصحّة المضاربة في حصّة الآخر. هذا مع أنّ الفقهاء جوّزوا للمالك فسخ المضاربة في حصّةٍ من أمواله، و حكموا بعدم انثلام في بقاء المضاربة بذلك و استمرارها صحيحةً في الحصّة الاخري. و من هنا حكم في العروة «1» بجواز استرداد المالك بعض رأس المال في الأثناء و صحّة المضاربة في الباقي و لم يخالفه السيد الماتن قدس سره هناك. و من هنا يرد النقض علي صاحب العروة؛ حيث حكم هناك ببقاء المضاربة علي صحّتها في الحصّة الاخري إذا فسخها المالك في حصّة من مال القراض. و لكن في المقام أشكل في صحّتها بالنسبة إلي الحصّة الاخري. و لأجل ما قلناه أشكل عليه السيد الحكيم «2»، و المحقّق الخوئي «3».

______________________________

(1)- العروة الوثقي 5: 229.

(2)- مستمسك العروة الوثقي 12: 454.

(3)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 169.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 295

______________________________

تنازع العامل و المالك

قبل الورود في البحث عن المسائل الآتية ينبغي إعطاء الضابطة في المقام لتنفع في استنباط الحكم و تنقيح البحث في هذه المسائل. فنقول:

قد وقع الكلام في المسائل الآتية في موارد تنازع العامل و المالك فيما يرتبط ببعض أركان المضاربة و خصوصياتها، كاختلافهما في مقدار رأس المال و إعطائه بعنوان المضاربة أو غيرها من سائر العناوين المعاملية، و في حصول الربح و مقداره، و تحقّق الخسارة و

مقدارها، و في أصل اشتراط شي ءٍ من جانب المالك، و في مخالفة العامل للشرط أو خيانته و تعدّيه و تفريطه، و نحو ذلك ممّا يرتبط إمّا برأس المال أو عنوان العقد أو الربح أو عمل العامل.

و قد استدلّ الفقهاءُ في بعض هذه الفروع- من موارد تنازع المالك و العامل- بقاعدة المدّعي و المنكر المحكَّمة في باب القضاء. و احتجّوا في بعضها الآخر بقاعدة عدم ضمان الأمين.

فينبغي في المقام تنقيح ضابطة الرجوع إلي كلِّ واحد من هاتين القاعدتين، حتّي لا يقع الخلط في الاستدلال، و يُستدلَّ في كلّ فرع بما يرتبط به من إحدي القاعدتين.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 296

(مسألة 39): لو تنازع المالك مع العامل في مقدار رأس المال و لم تكن بيّنة، قدّم قول العامل

اشارة

(1)؛

______________________________

فنقول: ضابطة الرجوع إلي قاعدة عدم ضمان الأمين أن يكون النزاع فيما يرتبط بعمل العامل و يُستند إلي فعله و تصرّفاته. و ذلك لأنّ المالك إذا فوّض عمل التجارة إلي العامل و ائتمنه و اعتمد عليه، فعليه أن يقبل قوله فيما يرجع إلي ما فوّضه إليه من العمل التجاري و ما يرتبط به، من أصل حصول الربح و مقداره و أصل حصول الخسارة و الوضيعة و تلف مال القراض حين العمل و أثناء التجارة و مقدار المال التالف و الخسارة الواردة و نحو ذلك. و لكنّه ما دام لم يكن دعوي العامل متضمّناً لنفعه الموجب لنقصان رأس المال، و ذلك لأنّ قاعدة عدم ضمان الأمين إنّما تدفع ضرر الضمان و التدارك عن العامل و لا تثبت له نفعاً.

و أمّا في غير ذلك من موارد نزاعهما ممّا لا يرتبط بمصبّ القاعدة المزبورة، يُرجع فيه إلي قانون القضاء؛ و هو في المقام قاعدة المدّعي و المنكر و النكول و التحالف، و العمل بما يترتّب عليها من الأحكام.

حكم

تنازع المالك و العامل في مقدار رأس المال

(1) 1- و ذلك لأنّ قول العامل مطابق لأصالة عدم إعطاء المالك له أزيد ممّا يقوله العامل، أو أصالة عدم اشتغال ذمّة العامل بما يدّعيه المالك، أو أصالة براءة ذمّته منه.

و إن شئت فعبّر عدم وجوب شي ءٍ من ردّ المال أو ضمانه علي العامل. و إذا كان قول العامل مطابقاً للأصل فهو المنكر؛ لأنّ المنكر من كان قوله مطابقاً للأصل، و يكون المالك هو المدّعي. فعليه البيّنة و علي المنكر- و هو العامل- اليمين. و إن نكل عن

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 297

سواء كان المال موجوداً أو تالفاً و مضموناً عليه (1). هذا إذا لم يرجع نزاعهما إليٰ مقدار نصيب العامل من الربح، و إلّا ففيه تفصيل (2).

______________________________

اليمين، يردّها علي المالك. و إن لم يردّها عليه مع النكول الزم بدفع المال. و اتّضح بذلك أنّه ليس وجه تقديم قول العامل حينئذٍ أنّه أمين؛ لعدم كون تنازع المالك و العامل مرتبطاً بعمل العامل، كي تجري قاعدة عدم ضمان الأمين، كما حرّرنا ذلك في طليعة البحث عن هذه المسألة و المسائل الآتية.

(1) 1- و قد يشكل تقديم قول العامل في هذه الصورة؛ و هي ما إذا كان مال القراض مضموناً علي العامل؛ نظراً إلي أصالة عدم اشتغال ذمّة المالك بالقدر الزائد.

و لكن يمكن الجواب عنه بأنّ مرجع النزاع في المقام في الحقيقة إلي اختلافهما في تعيين مقدار الثمن المدفوع إلي المشتري من مال القراض. و إنّ تعيين مقدار الثمن فعل العامل فيُصدَّق قوله فيه؛ لأنّه أمين في قوله و فعله. و كذلك فيما يرجع إلي دعوي تفريطه و تعدّيه، أو تهاونه و توانيه في حفظ رأس المال. إلّا أن

يكون متّهماً فيطالب بالبيّنة علي دعواه.

التفصيل بحسب رجوع النزاع إلي مقدار نصيب العامل و عدمه

(2) 2- مقصوده التفصيل بين ما إذا رجع نزاعهما إلي الاختلاف في مقدار نصيب العامل من الربح، و بين ما إذا لم يرجع النزاع إلي ذلك، فعلي الثاني قدّم قول العامل؛ لما سبق آنفاً في الفرض المزبور، كما لو كان نزاعهما قبل حصول الربح.

و أمّا علي الأوّل، كما إذا كان نزاعهما بعد حصول الربح فحينئذٍ يرجع النزاع في الحقيقة إلي النزاع في مقدار نصيب العامل من الربح؛ إذ علي تقدير قلّة رأس

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 298

______________________________

المال يصير الربح- و بالمآل نصيب العامل منه- أكثر، و بالعكس. فيدور مقدار نصيب العامل بالمآل- قلةً و كثرةً- مدار مقدار رأس المال، فكلّما زاد مقدار أحدهما نقص عن مقدار الآخر مثل كفّتي الميزان.

و حينئذٍ يقدّم قول المالك. و ذلك لأنّ كلّ ما بيد العامل ليس ملك العامل قطعاً؛ لفرض اعترافه بأنّ مال القراض كان للمالك. و إنّما الربح حصل منه. ففي الحقيقة يدّعي العامل حينئذٍ لنفسه سهماً من الربح، مع اعترافه بكون مال القراض للمالك. فمقتضي الأصل كون جميع المال للمالك؛ إلّا بمقدار يعترف المالك بكونه ربحاً أو أقام العامل الحجّة علي كونه ربحاً خارجاً عن رأس المال. و أمّا يد العامل علي مجموع المال لا أثر لها في فرض إقراره بكون أصل المال للمالك و كون الربح ناشئاً منه. فهو بحاجة إلي الحجّة لإثبات استحقاقه جزءاً من المال الموجود في يده؛ نظراً إلي سقوط يده عن الحجّية بهذا الإقرار، كما هو مقتضي السيرة العقلائية في حجّية اليد. و قد أثبتنا في كتابنا «مباني الفقه الفعّال» أنّ دليل حجّية اليد إنّما هو من باب الإمضاء لما عند العقلاء، لا من باب

التأسيس.

حصيلة البحث

و قد اتّضح من ضوء هذا البيان:

أوّلًا: أنّه لا فرق في تقديم قول العامل في المقام بين كون رأس المال باقياً أو مصروفاً في جهة الاسترباح و الإنفاق في سبيل الاتّجار أو تالفاً بتفريط أو غيره، أو كونه مضموناً علي العامل؛ حيث يأتي الكلام المزبور في جميع هذه الفروض، و هي كلّها محكومة بالضابطة المذكورة.

و ثانياً: أنّه يظهر من الأصحاب كون النزاع في مقدار ما يستحقّه العامل. و لا ريب في تقديم قول المالك؛ لأصالة عدم الربح الزائد و عدم الزيادة عن أصل

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 299

(مسألة 40): لو ادّعي العامل التلف أو الخسارة أو عدم حصول المطالبات

اشارة

؛ مع عدم كون ذلك مضموناً عليه، و ادّعي المالك خلافه، و لم تكن بيّنة، قدّم قول العامل (1).

______________________________

المال. فالأصل يقتضي كون جميع المال للمالك، إلّا ما أقرّبه للعامل، كما جزم في جامع المقاصد «1» و استحسنه في الرياض «2» و قوّاه في الجواهر «3».

و قد بان لك ممّا بيّنّاه أنّ كلماتهم إنّما يتمّ فيما إذا كان نزاع المالك و العامل بعد حصول الربح، لا قبلها، بل تكون كلماتهم ناظرة إلي هذه الصورة، فلا يصحّ الاستشهاد بكلماتهم لتقديم قول المالك مطلقاً في المقام، كما صنع في الجواهر «4».

لو ادّعي العامل التلف أو الخسارة

(1) 1- قوله «مع عدم كون ذلك مضموناً عليه» أي مضموناً علي العامل. و هذه الفقرة قيدٌ لقوله: «عدم حصول المطالبات». و المقصود أنّ عدم حصول المطالبات إنّما ينفع دعواه من جانب العامل إذا لم يكن الدين مضموناً علي نفسه، و إلّا لخرج عن مصبّ النزاع؛ لرجوعه إلي دعوي العامل براءة ذمّته من الدين المستقرّ في ذمّته.

______________________________

(1)- جامع المقاصد 8: 165.

(2)- رياض المسائل 9: 86.

(3)- جواهر الكلام 26: 364.

(4)- نفس المصدر.

دليل تحرير الوسيلة -

المضاربة، ص: 300

______________________________

المناقشة في تقديم قول العامل مطلقاً

و قد يشكل القول بتقديم قول العامل في مفروض هذه المسألة مطلقاً، بأنّه إنّما يقدّم قوله إذا كان مأموناً غير متّهم، و إلّا فهو مطالب بالبيّنة و عليه إثبات دعواه مطلقاً، سواءٌ ادّعي المالك في قبال دعواه إتلافه عمداً و تفريطه، أم لا.

و الوجه في ذلك: أنّ مقتضي كون العامل أميناً، و إن كان الاعتماد علي قوله و عدم مطالبة بيّنة و لا يمين منه، إلّا أنّ صور هذه المسألة مختلفة، و بعض صورها خرج بالنصوص الخاصّة؛ رغماً لما سبق من كون العامل أميناً، بل خلافاً لمقتضي ميزان القضاء.

و ذلك لأنّ العامل تارة: يكون متّهماً غير مأمون، و اخري: مأموناً غير متّهم.

و في كلّ صورة تارة: يدّعي المالك عليه الخيانة و الإتلاف عمداً، و اخري: لا يدّعي في قبال دعواه شيئاً. فالصور أربعة، كما حرّره بعض الأعلام «1».

الصورة الاولي: ما إذا كان العامل متّهماً غير مأمون و ادّعي المالك عليه الخيانة و التفريط و الإتلاف عمداً.

الثانية: نفس الفرض المزبور مع عدم دعوي المالك الإتلاف العمدي و الخيانة علي العامل.

الثالثة: ما إذا لم يكن العامل متّهماً و ادّعي المالك عليه الخيانة و الإتلاف عن عمدٍ.

الرابعة: نفس الفرض مع عدم دعوي المالك عليه الخيانة و التفريط.

______________________________

(1)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 129- 134.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 301

______________________________

تحرير آراء الفقهاء

و علي أيّ حال قبل الخوض في البحث ينبغي تحرير آراء الفقهاء في المقام. فنقول:

قد صرّح في الرياض بأنّ قول العامل مقبول في دعوي التلف مطلقاً و نفي الخلاف فيه؛ حيث قال: «و قوله مقبول في دعوي التلف مطلقاً، بأمر ظاهر كان كالحرق، أو خفيٍّ كالسرق، أمكنه إقامة البيّنة عليه، أم لا؛ لأنّه أمين بلا خلاف فيه»

«1».

و ظاهر كلامه يشمل جميع صور المسألة.

و كذا يظهر من صاحب الجواهر. فإنّه بعد ما أطلق في حكمه بقبول قول العامل في دعوي التلف أو الخسارة، قال: «نعم، قيّده في التذكرة بما إذا كان دعوي الخسران في موضع يحتمل؛ بأن عُرض في السوق كساد، و إلّا لم يقبل و لا بأس به» «2». و لكنّه خالف التذكرة في المسألة الاولي من اللواحق بقوله: «لا خلاف في أنّ قوله- أي العامل- مقبول في التلف؛ لأنّه أمين و ذو يد علي المال بإذن المالك، من غير فرق عندنا بين دعواه التلف بأمر ظاهر يمكن إقامة البيّنة عليه أو خفيٍّ» «3».

و مقصوده من الخفيّ ما تعذّر فيه إقامة البيّنة لخفائه و كان كلٌّ من التلف و عدمه فيه محتملًا في الواقع.

و في المفتاح بعد نقل قول التذكرة، قال: «و قد استحسنه في جامع المقاصد و اعتمده في المسالك. قلت: هو حقّ إذا تحقّق عدم احتمال الخسران بالكلّية. و لو

______________________________

(1)- رياض المسائل 9: 89.

(2)- جواهر الكلام 26: 373.

(3)- نفس المصدر: 379.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 302

______________________________

احتمل و لو بعيداً جداً، فالقول قوله؛ لأنّه حينئذٍ كدعوي التلف بالأمر الخفيّ» «1».

و كذا في المسالك «2».

و الحاصل: ظاهر كلمات أكثر الأصحاب عدم مطالبة العامل بالبيّنة في دعواه التلف و الخسران إذا كانا محتملين، بل يمكن دعوي شمول نفي الخلاف في كلماتهم لذلك.

تحقيق في مدلول النصوص

و لكن مقتضي النصوص الواردة في باب الإجارة التفصيل الذي أشرنا إليه في صدر البحث؛ فإنّها علي ثلاث طوائف:

الاولي: ما دلّ علي ضمان العامل الأجير مطلقاً، إلّا أن يقيم البيّنة علي دعواه، من تلف أو سرق و نحوه.

مثل صحيحة

الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال في الغسّال و

الصبّاغ: «ما سُرق منهم (منهما) من شي ءٍ، فلم يخرج منه علي أمر بيّن أنّه قد سُرق و كلّ قليل له أو كثير فإن فعل فليس عليه شي ءٌ، و إن لم يُقم البيّنة و زعم أنّه قد ذهب الذي ادُّعي عليه، فقد ضمنه إن لم يكن له بيّنة علي قوله» «3».

و صحيح

ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن قصّار دفعتُ إليه ثوباً، فزعم أنّه سُرق من بين متاعه، قال عليه السلام: «فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه، و ليس عليه شي ءٌ، فإن سُرق متاعه كلُّه، فليس عليه شي ءٌ» «4».

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 515/ السطر 32.

(2)- مسالك الأفهام 4: 371.

(3)- وسائل الشيعة 19: 141، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 2.

(4)- وسائل الشيعة 19: 142، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 5.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 303

______________________________

قوله عليه السلام:

«فإن سرق متاعه كلّه … »

في الذيل تفريعٌ علي قيام البيّنة.

و المقصود أنّه إن أقام البيّنة علي أنّه سُرق متاعه كلّه ليس عليه شي ءٌ. و يُحتمل كونه إشارة إلي كون سرقة جميع ما لدي القصّار من المتاع قرينة تخرجه عن موضع الاتّهام. و عليه فلا حاجة لنفي الضمان عنه إلي إقامة البيّنة حينئذٍ، و من هنا يمكن جعل هذه الصحيحة في عداد النصوص المفصّلة. و لكنّ الأظهر هو المعني الأوّل؛ لأنّه أنسب بالسياق.

و صحيح

الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سئل عن رجل جمّال استكري منه إبلًا و بعث معه بزيت إلي أرض، فزعم أنّ بعض زقاق الزيت انخرق فاهراق ما فيه، فقال عليه السلام: «إن شاء أخذ الزيت، و قال: إنّه انخرق و لكنّه لا يُصدَّق، إلّا ببيّنة

عادلة» «1».

قوله: فَأهْراقَ: فعل ماضٍ و مضارعه يُهريق. و بمعناه لُغتان اخريان، إحداهما: أراق يريق، ثانيتهما: أهرق يُهرق إهراقاً. فهي ثلاث لغات مترادفة المعني.

و قوله: زقاق الزيت: الزِّقاق بكسر الزاء، جمع الزِّق، و هو الجلد المصنوع ظرفاً للزيت. معني الحديث أنّه عليه السلام سُئل عن رجل جمّال استكري منه الرجل السائل إبلًا، و بعث السائل مع الجمّال بزيت إلي أرض، فزعم الجمّال …

و معتبرة

السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمّن الصبّاغ و القصّار و الصائغ احتياطاً علي أمتعة الناس» «2».

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 148، كتاب الإجارة، الباب 30، الحديث 1.

(2)- وسائل الشيعة 19: 143، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 6.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 304

______________________________

الثانية: ما دلّ علي عدم ضمان العامل مطلقاً لو ادّعي التلف، مثل معتبرة

يونس، قال: سألت الرضا عليه السلام عن القصّار و الصّائغ أ يضمنون؟ قال: «لا يصلح، إلّا أن يضمّنوا» «1».

فدلّ علي عدم ضمان العامل الأجير عند إطلاق العقد، إلّا أن يشترط عليه الضمان.

و إنّما عبّرنا عن هذه الرواية بالمعتبرة لمكان إسماعيل بن مرّار، فإنّه و إن لم يُوثّقه أحدٌ من أصحاب الجرح و التعديل، إلّا أنّه لم يرد في حقّه جرحٌ من أحد.

و هو من المعاريف؛ لكثرة رواياته، بل تبلغ رواياته عن يونس بن عبد الرحمن فقط إلي مأتين و زيادة. و ظاهر كلام ابن الوليد أنّ هذه الروايات صحيحة. و إنّ تصحيح القدماء لرواية و إن لا يدلّ علي وثاقة راويها، إلّا أنّه موجب للوثوق برواياته مع انضمام عدم ورود قدح فيه و ما له من الروايات الكثيرة، مع وقوعه في أسناد تفسير عليّ بن إبراهيم. فلو كان في مثل هذا

الرجل قدحٌ لَبٰانَ و نُقل إلينا. و هذا المبني يمكن الاعتماد عليه في الحكم باعتبار روايات الرجل بل بوثاقته. و قد بيّنا وجه ذلك مفصّلًا في كتابنا «مقياس الرواة» و «مقياس الرواية».

و مثلها في الدلالة صحيح

معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الصبّاغ و القصّار، فقال: «ليس يضمنان» «2».

و من هذا القبيل صحيح

الكاهلي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: سألته عن القصّار يسلّم إليه الثوب و اشترط عليه يعطيني في وقت، قال عليه السلام: «إذا خالف وضاع الثوب

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 144، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 9.

(2)- وسائل الشيعة 19: 145، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 14.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 305

______________________________

بعد الوقت، فهو ضامن» «1»

؛ حيث دلّ بمفهومه علي عدم ضمان القصّار عند عدم الاشتراط.

الثالثة: ما دلّ علي التفصيل بين العامل المتّهم و بين غيره. فحكم في هذه الطائفة من النصوص بضمان العامل المتّهم غير المأمون دون غير المتّهم.

مثل صحيح

الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يُضمّن القصّار و الصائغ احتياطاً للناس، و كان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأموناً» «2»

. قوله:

«يتطوّل عليه»

، أي يجعله في الطول و السعة و الفُصحة، فلا يضمّنه.

و صحيح

أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان عليّ عليه السلام يضمّن القصّار و الصائغ يحتاط به علي أموال الناس، و كان أبو جعفر عليه السلام يتفضّل عليه إذا كان مأموناً» «3».

و صحيح

جعفر بن عثمان الرواسي، قال: حمل أبي متاعاً إلي الشام مع جمّال، فذكر أنّ حملًا منه ضاع، فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السلام، فقال: «أ تتّهمه؟» قلت: لا، قال: «فلا تضمِّنْه» «4».

و

صحيح

أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام: في الجمّال يُكسر الذي يحمل أو يهريقه، قال عليه السلام: «إن كان مأموناً فليس عليه شي ء، و إن كان غير مأمون فهو ضامن» «5».

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 143، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 7.

(2)- وسائل الشيعة 19: 142، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 4.

(3)- وسائل الشيعة 19: 145، كتاب الإجارة، الباب 29، الحديث 12.

(4)- وسائل الشيعة 19: 150، كتاب الإجارة، الباب 30، الحديث 6.

(5)- وسائل الشيعة 19: 150، كتاب الإجارة، الباب 30، الحديث 7.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 306

______________________________

و رواية

خالد بن الحجّاج (الحجّال)، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الملّاح احمّله الطعام، ثمّ أقبضه منه فينقص، قال: «إن كان مأمونا فلا تضمِّنْه» «1».

الملّاح- بفتح الميم و تشديد اللّام- صاحب السفينة.

و مقتضي الصناعة الجمع بين الطائفتين الاوليين بالثالثة، كما قال بعض الأعلام. و قد استشهد هذا العَلَم «2» بهذه النصوص للتفصيل المزبور في المقام، إلّا أنّها كلّها وردت في باب الإجارة و لم يعمل بها المشهور في باب المضاربة. و لمّا كان احتمال الخصوصية الفارقة للمضاربة غير قابل الدفع، يشكل العمل بها في المقام.

وجه الفرق ائتمان المالك بالعامل بإعطاء ماله إليه و جعله في اختياره و ما دلّ من النصوص علي نفي الضمان عن العامل.

بل المتّبع في المقام نصوص باب المضاربة الدالّة علي عدم ضمان العامل شيئاً من التلف و الخسران و إطلاق هذه النصوص يقتضي قبول قوله و عدم تكليفه بالبيّنة بمعني عدم ضمانه مطلقاً سواء أقام البيّنة علي مدّعاه أم لا، إلّا أن يثبت مخالفته لشرط المالك أو خيانته أو تفريطه، فعلي المالك إثبات ذلك، و إلّا فلا ضمان عليه.

و أمّا النصوص الواردة

في المقام الدالّة علي ذلك، فمنها: صحيح

محمّد بن قبس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «من اتّجر مالًا و اشترط نصف الربح، فليس عليه ضمان» «3».

و منها: صحيح

ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يستبضع

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 149، كتاب الإجارة، الباب 30، الحديث 3.

(2)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 129- 134.

(3)- وسائل الشيعة 19: 21، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 2.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 307

______________________________

المال فيهلك أو يسرق، أعلي صاحبه ضمان؟ فقال: «ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أميناً» «1».

قوله:

«بعد أن يكون الرجل أميناً»

أي بعد ما استؤمن من جانب المالك. و هو بمنزلة التعليل لنفي الضمان عن العامل.

و منها: صحيح آخر

لمحمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قضي علي عليه السلام في تاجر اتّجر بمال و اشترط نصف الربح، فليس علي المضاربة ضمان» «2».

هذه النصوص دلّت بإطلاقها علي نفي الضمان عن العامل المضارب مطلقاً.

و قد وردت نصوص اخري دلّت بالمفهوم علي عدم ضمانه ما لم يخالف شرط المالك.

مثل صحيح

محمّد بن مسلم عن أحدهما قال: سألته عن الرجل يعطي المال مضاربة، و ينهي أن يخرج به فخرج، قال: «يضمن المال و الربح بينهما» «3».

و صحيح

الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: في الرجل يعطي المال فيقول له: ايت أرض كذا و كذا، و لا تجاوزها و اشتر منها، قال: «فإن جاوزها و هلك المال فهو ضامن» «4»

. و غيرهما من النصوص الواردة في الباب الأوّل من المضاربة في الوسائل.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 21، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث 3.

(2)- وسائل الشيعة 19: 21، كتاب المضاربة، الباب 3، الحديث

4.

(3)- وسائل الشيعة 19: 15، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 1.

(4)- وسائل الشيعة 19: 15، كتاب المضاربة، الباب 1، الحديث 1.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 308

______________________________

و هذه النصوص دلّت بإطلاقها منطوقاً و مفهوماً علي عدم ضمان العامل مطلقاً في باب المضاربة، ما دام لم يثبت تعدّيه و عمده و خيانته أو مخالفته للشرط بالدليل.

و أمّا قوله عليه السلام

: «بعد أن يكون الرجل أميناً»

فهو بمنزلة التعليل، لا التفصيل المذكور في الطائفة الثالثة من نصوص الإجارة السابقة ذكرها آنفاً، كما هو واضح.

حاصل الكلام و مقتضي التحقيق

و الحاصل: أنّ مقتضي التحقيق في المقام؛ تقديم قول العامل و عدم ضمانه مطلقاً، كما هو المشهور. و السرّ فيه أوّلًا: أنّ العامل مؤتمن في باب المضاربة كالودعي في الوديعة و الأمانة و الوكيل في الوكالة. و لا يجوز اتّهام الأمين ما لم تثبت خيانته بالدليل الشرعي، فيجري في حقّه عدم ضمان الأمين. كما اشير إلي ذلك في قوله عليه السلام

: «بعد أن يكون الرجل أميناً»

. و هذا بخلاف الأجير، كالغسّال و القصّار و الصبّاغ و الحمّال و الجمّال و الخيّاط و نظيرهم، كما أنّ الطوائف الثلاث من النصوص الواردة في باب الإجارة ناظرة إلي ذلك. و ثانياً: أنّ الموجر يعطي ماله إلي الأجير ليصلحه بالخياطة أو الغسل أو الحياكة و نحو ذلك، كما اشير إلي ذلك في النصوص المزبورة، و هذا بخلاف باب المضاربة. و ثالثاً: أنّ مال القراض في معرض النقصان في باب المضاربة؛ لأنّ الخسارة و الوضيعة من شأن التجارة. و من هنا احتملنا الخصوصية في هذه النصوص.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 309

(مسألة 41): لو اختلفا في الربح و لم تكن بيّنة قدّم قول العامل

(1)؛ سواء اختلفا في أصل حصوله أو في مقداره. بل و كذا الحال لو قال العامل: ربحت كذا، لكن خسرت بعد ذلك بمقداره فذهب الربح.

______________________________

حكم اختلاف المالك و العامل في الربح

(1) 1- هذا إذا علم مقدار رأس المال و لم يكن لاختلافهما في أصل الربح أو مقداره تأثيرٌ في نقصان رأس المال، و إلّا لا إشكال في تقديم قول المالك حفظاً لأصل مال القراض و جبران ما نقص منه بالإنفاق أو الخسران أو التلف كما سبق بيان ذلك في ذيل المسألة التاسعة و الثلاثين.

ففي المقام إذا اختلفا في أصل حصول الربح أو في مقداره؛ بأن ادّعي المالك حصوله

فأنكره العامل، أو ادّعي المالك زيادة مقدار الربح، فأنكر العامل المقدار الزائد فحينئذٍ قدّم قول العامل بيمينه، ما دام لم يقم المالك البيّنة علي دعواه.

و ذلك لما سبق من النصوص الواردة في المقام من كون العامل أميناً لا ضمان عليه و أنّ قوله مقبول في كلّ ما يرتبط بفعله و عمله في مال القراض لأجل الاتّجار و المضاربة، و يقدَّم دعواه علي ما ادَّعي عليه المالك، ما لم يخالف شرط المالك و لم يثبت منه خيانة أو تفريط. و لا تجري في مثل ذلك قاعدة المدّعي و المنكر.

و من ضوء هذا البيان اتّضح وجه قبول قول العامل لو قال: «ربحت كذا لكن خسرت بعد ذلك بمقداره فذهب الربح».

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 310

(مسألة 42): لو اختلفا في نصيب العامل من الربح؛ و أنّه النصف- مثلًا

- أو الثلث، و لم تكن بيّنة، قدّم قول المالك (1).

______________________________

حكم الاختلاف في نصيب العامل

(1) 1- و الوجه فيه أنّ مال القراض و الربح الحاصل منه بأجمعه للمالك بمقتضي القاعدة، إلّا في مقدار من الربح يعترف به المالك؛ لأنّه الذي عيّن حصّة العامل من الربح. و هو مالك المال، و مقتضي تبعية الربح للمال كون الربح بأجمعه للمالك، إلّا في مقدار يعترف المالك أنّه للعامل أو أثبت العامل أنّه له. فعلي العامل إثبات ما يدّعيه من القدر الزائد من الربح.

و قد يقال بأنّ المقام من قبيل التداعي «1»؛ لأنّ في المقدار الزائد عمّا اتفق عليه المالك و العامل- من المقدار المتيقّن من سهمهما الذي اعترف كلّ واحد منهما لصاحبه- يدّعي كلّ واحد منهما لنفسه فيكون تداعياً.

قال في جامع المقاصد في ذيل فتوي العلّامة بتقديم قول المالك في المقام:

«و هذا واضح إن كان الاختلاف قبل حصول الربح؛ لأنّ المالك متمكّن من منع

الربح كلّه بفسخ العقد. و أمّا بعد حصوله فإنّ كلًاّ منهما مدّع و مدّعي عليه، فإنّ المالك يدّعي استحقاق العمل الصادر بالحصّة الدنيا و العامل ينكر ذلك، فيجي ء القول بالتحالف، إن كانت اجرة المثل أزيد ممّا يدّعيه المالك. و لا أعلم الآن لأصحابنا قولًا بالتحالف، و إنّما القول بالتحالف مع الاختلاف في الربح مطلقاً قول الشافعي» «2».

______________________________

(1)- راجع مستمسك العروة الوثقي 12: 400.

(2)- جامع المقاصد 8: 167.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 311

(مسألة 43): لو تلف المال أو وقع خسران، فادّعي المالك علي العامل الخيانة أو التفريط في الحفظ، و لم تكن له بيّنة، قدّم قول العامل

اشارة

(1). و كذا لو ادّعيٰ عليه الاشتراط أو مخالفته لما شرط عليه، كما لو ادّعيٰ: أنّه قد اشترط عليه أن لا يشتري الجنس الفلاني و قد اشتراه فخسر، و أنكر العامل أصل هذا الاشتراط، أو أنكر مخالفته لما اشترط عليه.

______________________________

و لكنّه غير وجيه؛ لأنّ المعيار في صدق المدّعي و المنكر هو الصدق العرفي، و أهل العرف يرون من كان قوله موافقاً للأصل منكراً و من كان قوله مخالفاً للأصل مدّعياً مطالباً بالبيّنة؛ حيث لم يرد في باب القضاء نصٌّ يعطي الضابطة في ذلك.

و من الواضح أنّ قول العامل في دعوي المقدار الزائد من الربح مخالف للأصل، فهو المدّعي المطالب بالبيّنة. فلو أثبت ما ادّعاه فهو، و إلّا يقبل قول المالك بيمينه، هذا بحسب ميزان القضاء.

و أمّا بمقتضي قاعدة تبعية الربح للمال، لا حاجة إلي تحليف المالك و يمينه، بل ما لم يقم العامل البيّنة علي ما ادّعاه من نصيبه فهو للمالك طبعاً.

حكم ما لو ادّعي المالك علي العامل الخيانة

(1) 1- و ذلك لما سبق آنفاً من أنّ العامل أمين و قوله مقبول، إلّا إذا ثبت خلافه بالبيّنة. و كذا لو ادّعي المالك اشتراط شي ءٍ و أنّ العامل خالفه؛ لأنّه بالمآل يرجع إلي

دعوي الخيانة و التفريط عليه، مع أنّ الأصل عدم الاشتراط.

و يظهر من بعض المحقّقين «1» أنّ الاشتراط و الإطلاق و إن كان من قبيل

______________________________

(1)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 126- 127.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 312

نعم لو كان النزاع في صدور الإذن من المالك فيما لا يجوز للعامل إلّا بإذنه، كما لو سافر بالمال أو باع نسيئة فتلف أو خسر، فادّعي العامل كونه بإذنه و أنكره، قدّم قول المالك (1).

______________________________

الإطلاق و التقييد و النسبة بينهما هي العدم و الملكة، إلّا أنّ الأثر- و هو براءة العامل عن الضمان- مترتّب علي الإذن المطلق، و هو ضدّ الإذن المقيّد المشروط بالشرط، فعلي العامل إثبات الإذن المطلق.

و فيه: أنّه خلاف ما هو المتفاهم عرفاً من الاشتراط و عدمه. فإنّ حال المالك لا يخلو عادة إمّا أن ينشئ عقد المضاربة مطلقاً من غير شرط أو يُنشئه مشروطاً.

فإذا لم يُقم حجّة علي إثبات ما ادّعاه من الاشتراط لا محالة يكون إنشاؤه مطلقاً غير مقيّد بشرط. هذا مع أنّ الملكة إذا لم تثبت، يثبت عدمها لا محالة، و إذا لم يثبت القيد ثبت الإطلاق، كما حرّر في علم الاصول.

وجه تقديم قول المالك فيما لا يجوز للعامل

(1) 1- و الوجه فيه: أنّ ما يتوقّف جواز فعله علي صدور الإذن الخاصّ من المالك- مضافاً إلي إذنه المستفاد من إنشائه العقد- بحاجة إلي الإثبات؛ لأنّ الأصل عدم صدور إذن منه زائداً عن الإذن المتقوّم عليه إنشاءُ المضاربة. فحينئذٍ يكون المالك منكراً لصدور هذا الإذن منه و العامل مدّعياً له. و علي القاعدة في ميزان القضاء تكون البيّنة علي المدّعي و اليمين علي من أنكر.

و أمّا كون العامل أميناً و قوله مقبولًا، فإنّما هو فيما كان داخلًا في مقتضي

المضاربة و من لوازمها عادةً، دون ما هو خارج عن مقتضاها ممّا يحتاج إلي إذن

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 313

(مسألة 44): لو ادّعيٰ ردّ المال إلي المالك و أنكره قدّم قول المنكر

(1).

(مسألة 45): لو اشتري العامل سلعة فظهر فيها ربح، فقال: اشتريتها لنفسي، و قال المالك: اشتريته للقراض

اشارة

، أو ظهر خسران فادّعي العامل أنّه اشتراها للقراض، و قال صاحب المال: اشتريتها لنفسك، قدّم قول العامل بيمينه (2).

______________________________

خاصّ من المالك زائداً عن إذنه الثابت بمقتضي عقد المضاربة. و هذا بخلاف الإذن الثابت بمقتضي عقد المضاربة فالعامل أمين و قوله مقبول في كلّ ما صدر منه فعلًا و قولًا في دائرة هذا الإذن.

(1) 1- لأنّ المالك منكر و قوله مقدّم مع اليمين ما دام لم يقم العامل البيّنة علي دعواه.

لو تنازعا في من له الشراء

(2) 2- يمكن توجيه ذلك في كلا الموردين بوجوهٍ:

أحدها: أنّ المالك مدعٍ و العامل منكر؛ لأنّ المالك هو الذي يدّعي أوّلًا علي العامل شيئاً ثمّ ينكره العامل، فعلي المالك أن يثبت ما يدّعيه بالبيّنة، و إلّا قدِّم قول العامل مع اليمين.

و يرد علي هذا الوجه أوّلًا: أنّه يندرج مفروض الكلام في مصبّ قاعدة نفي ضمان الأمين لما يأتي بيانه.

و ثانياً: أنّه إنّما يتمّ هذا الوجه في نفسه لو لم يرجع النزاع إلي التداعي، كما لا يبعد حينئذٍ غالباً.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 314

______________________________

ثانيها: ما سبق كراراً، من أنّ العامل أمين و قوله مقبول و لا ضمان عليه؛ لقاعدة عدم ضمان الأمين. و ذلك أنّ أمر الشراء و الاتّجار بيد العامل؛ لأنّه الذي فوّض المالك إليه الاتّجار و أعطاه السلطة و الاختيار في ذلك. فلا بدّ من سماع قوله و ترتيب الأثر علي قوله في ذلك. فالمالك حيث ائتمنه يجب عليه معاملة الأمين معه. و من هنا يتمّ الاستدلال في هذا الفرع بقاعدة نفي الضمان عن الأمين. و من هنا لا يحتاج إلي ضمّ اليمين كما أفاده السيد الماتن. نعم، لو أقام المالك البيّنة تثبت دعواه بالحجّة الشرعية، و إلّا فقول العامل مسموع مقبول

بلا حاجة إلي اليمين.

و ذلك لأنّ نيّة الشراء لنفسه أو للقراض أمر قصدي باطني لا يعلم إلّا من قبل العامل؛ لأنّه أعرف بنيّته.

و يؤيّد ذلك سيرة المتشرّعة؛ نظراً إلي استقرارها في المضاربة علي قبول قول العامل و معاملة الأمين معه. و هذه السيرة وليدة ما ورد من النصوص الدالّة علي عدم ضمان العامل.

ثالثها: قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به. بتقريب: أنّ الملكية المقصودة في نصّ هذه القاعدة بمعني السلطة و الاختيار علي أمر من الامور المعاملية.

و العامل لمّا أعطاه العامل اختيار العمل في ماله و السلطة علي الاتّجار و البيع و الشراء، يصير العامل بذلك ذا سلطة شرعية في إقراره و ما يقول في أمر الاتّجار بمال القراض. فيكون دعواه و إقراره و قوله فيما يرتبط بعمله هذا مسموع، و يجب علي العامل قبول قوله.

حاصل الكلام في المقام أنّ قول العامل إنّما يقدّم في مفروض هذه المسألة بدليل قاعدة نفي ضمان الأمين و قاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» و بناء العقلاء، لا بدليل قاعدة المدّعي و المنكر و لا لأنّ المورد ممّا لا يُعلم إلّا من قِبَل

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 315

(مسألة 46): لو حصل تلف أو خسارة فادّعي المالك أنّه أقرضه، و ادّعي العامل أنّه قارضه، يحتمل التحالف

اشارة

(1) بلحاظ محطّ الدعويٰ، و يحتمل تقديم قول العامل بلحاظ مرجعها. و لو حصل ربح فادّعي المالك قراضاً و العامل إقراضاً، يحتمل التحالف- أيضاً- بلحاظ محطّها، و تقديم قول المالك بلحاظ مرجعها، و لعلّ الثاني في الصورتين أقرب.

______________________________

العامل. نعم، لو كان المورد من هذا القبيل يصلح هذا الوجه الأخير لإثبات قول العامل و قبوله و تقديمه علي قول المالك بلا حاجة إلي ضمّ اليمين. و يتقوّي بذلك ما اخترناه في المقام.

إذا ادّعي المالك القرض و العامل القراض

(1) 1- لا

إشكال في عدم جريان قاعدة نفي ضمان الأمين في مفروض هذه المسألة؛ لعدم ارتباطه بعمل العامل. و أمّا وجه التحالف في كلتا الصورتين، أنّ كلّ واحد منهما يدّعي علي الآخر شيئاً و الآخر ينكره.

و هذا مبنيٌّ علي صدق المدّعي و المنكر بلحاظ نفس مصبّ الدعوي؛ نظراً إلي صدق عنوان المدّعي علي كلّ واحد من المالك و العامل في الصورتين بهذا الاعتبار. و المقصود من مصبّ الدعوي و محطّها متنها المتلفّظ المصرّح به حين الدعوي.

و أمّا بلحاظ الغرض المقصود من الدعوي و مرجعه بالمآل، فيفترق الأمر، و قد وقع الخلاف في ذلك. و لا إشكال في أنّ غرض كلّ واحدٍ منهما من طرح الدعوي نفي ضمان التلف و الخسارة عن نفسه في الصورة الاولي

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 316

______________________________

و استجلاب الربح لنفسه في الصورة الثانية.

و لكن هذا التشقيق خلاف المتفاهم العرفي من الدعوي؛ لأنّ أهل العرف لا يفهم من دعوي المدّعي إلّا مقصوداً واحداً، و هو ما يستظهرونه من كلامه و لفظ دعواه و متنها. و إنّما يكون استظهار مقصود المدّعي بحسب غرضه الأصلي الذي هو السبب في طرح دعواه. و هو في المقام دفع ضمان التلف و الخسارة عن نفسه في إحدي الصورتين و استجلاب الربح لنفسه في الصورة الاخري.

مرجع دعوي كلّ من المالك و العامل

إشكال في أنّ مرجع دعوي كل من المالك و العامل هو الغرض المقصود من طرح الدعوي. و من الواضح أنّ غرض كلٍّ منهما في صورة التلف و الخسارة دفع ضرر التلف و الخسارة عن نفسه؛ لأنّ إعطاء المال من جانب المالك إلي العامل لو كان بعنوان القرض يكون حصول التلف و الخسارة في ملك العامل و لا يتوجّه ضررٌ إلي المالك. و أمّا إذا

كان بعنوان القراض يتوجّه ضرر التلف و الخسارة إلي المالك؛ لأنّه مقتضي المضاربة. و من هنا يدّعي المالك حينئذٍ القرض و العامل القراض.

و حينئذٍ احتمل السيد الماتن تقديم قول العامل. و وجهُه ظاهراً أنّ القرض لمّا كان تمليك العين للغير علي وجه التضمين، يستلزم دعوي القرض أوّلًا: انتقال المال إلي ملك العامل المقترض، و ثانياً: ضمان العامل لمال القرض. و لازم ذلك توجّه ضرر التلف و الخسران إلي العامل نفسه و وجوب ردّ مال القرض كلّه إلي المالك.

و لكن دعوي القرض مخالف لأصالة بقاء المال في ملك مالكه و عدم انتقاله إلي ملك العامل بالقرض. فدعوي القرض من المالك مخالف للأصل. و أمّا دعوي العامل موافق للأصل المزبور؛ حيث إنّ المالك حينئذٍ مدعٍ لانتقال ماله إلي العامل

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 317

______________________________

بالقرض و العامل منكر لذلك. فعلي المدّعي- و هو المالك- إقامة البيّنة، و إلّا يقدّم قول المنكر- و هو العامل- بيمينه. و مقتضي ذلك ثبوت القراض و نفي الضمان عن العامل.

و أمّا احتمال تقديم قول المالك حينئذٍ بلحاظ قاعدة «علي اليد ما أخذت حتّي تؤدّيه» و كون يد العامل أمانيةً غير ضامنة بحاجة إلي الإثبات بالدليل. فما دام لم يقم البيّنة علي ذلك تُحكّم قاعدة ضمان اليد.

فيمكن المناقشة فيه: بأنّ موضوع قاعدة ضمان اليد هو اليد العادّية و ليس منها شي ءٌ من القرض و القراض.

نعم، القرض هو التمليك علي وجه التضمين فإذا ثبت يثبت الضمان لأجل ذلك، و لكنّك عرفت أنّ دعوي القرض خلاف أصالة بقاء المال علي ملك المالك.

و لكن يمكن دفع هذه المناقشة: بأنّ مقتضي دعوي القرض من المالك و المتفاهم منه عدم إذنه للعامل بالتصرّف في ماله بعنوان القراض.

و بعبارة

اخري مرجع دعواه القرض إلي عدم صدور غير القرض منه.

و ظاهره إنكار الإذن للمضاربة. و أمّا عدم ثبوت القرض لعدم البيّنة من المالك، فلا يستلزم صدور الإذن منه بالمضاربة، بل ظاهر دعواه إنكار صدور الإذن منه بالقراض لو لا القرض. و الملاك في اليد العادّية- التي هي موضوع الضمان- كون الاستيلاء علي مال الغير و التصرّف فيه بغير إذن المالك.

و حينئذٍ نقول: إنّ أصالة عدم صدور الإذن في التصرّف من المالك موافق لدعوي المالك، فهو المنكر. و يقدَّم قوله بيمينه و علي العامل المدّعي لصدور الإذن من المالك إثبات دعواه بالبيّنة.

و الظاهر أنّ هذا البيان مراد من تمسّك في المقام بقاعدة ضمان اليد، كما يظهر

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 318

______________________________

ذلك من الفقهاء الفحول كما في التذكرة و التحرير و جامع المقاصد و المفتاح «1».

و قد أجاد في جامع المقاصد لتقريب الاستدلال في المقام؛ حيث قال:

«و ذلك لأنّ الأصل في وضع اليد علي مال الغير ترتّب وجوب الردّ عليه؛ لعموم قوله عليه السلام:

«علي اليد ما أخذت حتّي تؤدّي»

و لأنّ العامل يدّعي علي المالك كون ماله في يده علي وجه لو تلف لم يجب بدله، و المالك ينكره» «2».

مرجع الدعوي و مقتضي القاعدة في صورة حصول الربح

و أمّا لو كانت التجارة رابحة فمرجع دعوي المالك إلي استحقاقه نصف الربح، و هو موافق لأصل تبعية الربح للمال، و من هنا قيل: إنّ المضاربة علي خلاف مقتضي الأصل. كما أنّ دعواه القراض موافقة لأصالة عدم انتقال ماله إلي الغير.

و لمّا كان موضوع الدعوي جلب الربح، لا دفع الضمان، تجري قاعدة التبعية المزبورة و لا مورد لأصالة عدم صدور الإذن؛ لأنّ المالك نفسه يعترف بالإذن. و أمّا دعوي العامل القرض مخالف لأصالة بقاء المال علي ملك

مالكه و عدم انتقاله إلي ملك الغير. فعليه أن يُثبت دعواه بالبيّنة، و إلّا احلف المالك.

و مرجع دعوي العامل إلي نفي استحقاق المالك لنصف الربح، و هو خلاف مقتضي قاعدة التبعية و أصالة لحوق الربح إلي رأس المال.

هذا في النصف الذي يدّعيه المالك. و أمّا النصف الآخر، فيعطي إلي المالك بمقتضي قاعدة تبعية الربح للمال؛ حيث إنّ العامل يعترف بعدم المضاربة، و لم يُقم بيّنة علي إثبات القرض و الأصل عدمه؛ لأنّه متضمّن لنقل المال إلي ملك العامل

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة 7: 520/ السطر 31.

(2)- جامع المقاصد 8: 174.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 319

______________________________

و الأصل عدمه، إلّا أنّه لمّا يعترف المالك بوقوع المضاربة و استحقاق العامل سهمه من الربح، فعليه أن يسلّم سهم العامل إليه حسب اعتقاده، و إن كان العامل يري كلّه لنفسه بدعواه القرض، إلّا أنّ ملكية بعض الربح داخلة في دعواه بالفحوي في الجملة. فهما متّفقان علي استحقاق العامل بعض الربح إمّا بعنوان القراض أو القرض.

حصيلة البحث

فتحصّل أنّ في الصورة الاولي- و هي صورة حصول التلف أو الخسارة- يقدّم قول العامل؛ نظراً إلي رجوع دعوي القراض منه إلي عدم انتقال المال من ملك المالك و بقائه علي ملكه. فقوله موافق للأصل، فهو المنكر. و علي المالك حينئذٍ إقامة البيّنة؛ لأنّ دعوي القرض مستلزمة للانتقال المخالف للأصل.

و أمّا في الصورة الثانية- و هي صورة حصول الربح- يقدَّم قول المالك لعين الملاك المزبور و لقاعدة تبعية الربح للمال. هذا، و لكنّ المالك لا يستحقّ بذلك أزيد من سهمه، و يُعطي الباقي للعامل.

و بناءً علي تقديم قول المالك و إثبات الضمان بقاعدة ضمان اليد تقدّم قول المالك في الصورتين، إلّا أنّك عرفت ما فيه من

الإشكال.

و أمّا ما أشار إليه السيد الماتن في الذيل بقوله: «و لعلّ الثاني في الصورتين»، يُحتمل كون مقصوده من الصورتين صورتي محطّ الدعوي و مرجعها فيما لو حصل ربح فرجّح تقديم قول المالك فيهما.

و يحتمل إرادة تقديم قول المالك- الذي هو ثاني القولين- في صورتي حصول التلف و الخسارة و حصول الربح، كما يحتمل إرادة الحكم بلحاظ مرجع

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 320

______________________________

الدعوي؛ نظراً إلي إنّه الاحتمال الثاني من الصورتين المزبورتين. و أقرب الاحتمالات أوسطها؛ لأنّ تقديم قول المالك هو الاحتمال الثاني من شقي ذيل كلامه و لأنّ التعبير بالأقرب يلائم ترجيح الحكم لا مجرّد مصبّ الدعوي و لأنّه لو كان مراده الاحتمال الأخير لكان الأنسب أن يقول و لعلّ الاحتمال الثاني من الصورتين.

و بما فسّرناه يصير قول السيد الماتن قدس سره و مختاره في الختام موافقاً لرأي المشهور، من تقديم قول المالك بيمينه في صورتي التلف و الخسران و حصول الربح.

و أمّا الاجرة فلا يستحقّها العامل علي أيّ حال؛ لعدم ابتناء واحد من القرض و القراض علي استحقاق المقترض و العامل للُاجرة.

و يشهد لرأي المشهور، من تقديم قول المالك مطلقاً في المقام موثّقة

اسحاق بن عمّار قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل استودع رجلًا ألف درهم فضاعت، فقال الرجل: كانت عندي وديعة، و قال الآخر: إنّما كانت لي عليك قرضاً. فقال عليه السلام:

«المال لازم له، إلّا أن يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة» «1».

حيث حكم الإمام عليه السلام بضمان من عنده المال ما لم يقم البيّنة أنّها كانت وديعة. و احتمال الفرق بين الوديعة و المضاربة لا يعبأ به؛ نظراً إلي كون اليد في كليهما أمانية و كون من عنده المال أميناً. و

لا مجري لقاعدة نفي ضمان الأمين حينئذٍ. و ذلك لأنّ جريانها فرع ثبوت موضوعها و هو عقد المضاربة أو الوديعة و نحوهما من العقود الإذنية. و إلّا فالمحكّم عند الاختلاف أصالة عدم صدور الإذن من المالك.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 85، كتاب الوديعة، الباب 7، الحديث 1.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 321

(مسألة 47): لو ادّعي المالك أنّه أعطاه المال بعنوان البضاعة؛ فلا يستحقّ العامل شيئاً من الربح

اشارة

، و ادّعي العامل المضاربة؛ فله حصّة منه، فالظاهر أنّه يقدّم قول المالك (1) بيمينه، فيحلف عليٰ نفي المضاربة، فله تمام الربح لو كان. و احتمال التحالف هنا ضعيف.

______________________________

لو ادّعي المالك البضاعة و العامل المضاربة

(1) 1- لأنّ مرجع قول المالك و دعواه إلي لحوق الربح بتمامه إلي المال، و هذا موافق لأصل تبعية الربح للمال. و أمّا دعوي العامل المضاربة خلاف مقتضي هذا الأصل فيكون منكراً، فالمرجع حينئذٍ قاعدة المدّعي و المنكر، لا قاعدة عدم ضمان الأمين؛ لعدم ارتباط النزاع في مفروض الكلام بعمل العامل.

و عليه يقدّم قول المالك بيمينه و لا يستحقّ العامل شيئاً من الربح، ما دام لم يُثبت دعواه بالبيّنة.

و أمّا استحقاقه الاجرة فمبنيّ علي القول به في البضاعة. و التحقيق أنّ مادّة البضاعة بأنحاء هيئاتها لو كان لها ظهورٌ عرفاً في عدم استحقاق العامل شيئاً من الربح و الاجرة، بحيث يتبادر ذلك إلي الذهن من استعمالها، فلا إشكال في عدم استحقاق العامل الاجرة حينئذٍ؛ لفرض أنّ المضاربة لم تثبت و البضاعة لا توجب استحقاق الاجرة. و أمّا لو لم نقل بأخذ ذلك في مفهوم البضاعة و الإبضاع. فلا إشكال في استحقاق العامل الاجرة بمقتضي ضمان الإتلاف بالتسبيب؛ حيث إنّ المالك هو السبب في صرف العامل عمله في التجارة و الاسترباح، و عمله محترم. فبناءً علي ذلك يضمن المالك اجرة

دليل

تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 322

______________________________

عمل العامل؛ بدليل قاعدة ضمان الإتلاف بالتسبيب و قاعدة احترام عمل المسلم.

هذا، و يحتمل التحالف بلحاظ كون كلٍّ من البضاعة و المضاربة خلاف الأصل، فكل منها مدّعٍ و منكرٌ. و هو الأحوط. هذا مضافاً إلي أنّ دعوي المالك مخالفة لأصالة عدم صدور ما يقتضي مجّانية عمل العامل. و بهذا الاعتبار يكون دعوي العامل موافقة لهذا الأصل، فهو منكر. و من جانب آخر دعوي المالك أيضاً موافقة لعدم تحقّق المضاربة. و من هذه الجهة يكون هذا النزاع من باب التداعي.

و لكن المتفاهم العرفي من النزاع المبنيّ عليه غرض الدعوي في المقام يلائم ما قلناه من التحقيق.

تبصرة نافعة

إنّ ما سبق من المسائل و الفروع المتفرّعة حول نزاع المالك و العامل، يُحكّم فيها الضابطة التي بيّناها في طليعة هذه المسائل. فكلّما إذا كان النزاع راجعاً إلي عمل العامل و دعوي التهمة عليه تجري قاعدة عدم ضمان الأمين و إلّا فالمحكّم هو قاعدة المدّعي و المنكر.

و لكنّ هاهنا نكتة ينبغي الإشارة إليها في الختام. و هي أنّ قاعدة تبعية الربح للمال إنّما هي جارية و محكّمة فيما إذا لم يحكم بانعقاد المضاربة صحيحاً. فلو حكم به لتقديم قول مدّعي المضاربة بأيّ دليل لا تجري هذه القاعدة. و لمّا لم يمكن الحكم بثبوتها صحيحة في موارد النزاع المزبورة، قلنا بكون دعوي المالك موافقة لهذه القاعدة و جعلناه منكراً.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 323

(مسألة 48): يجوز إيقاع الجعالة علي الاتّجار بمال؛ و جعل الجعل حِصّة من الربح؛

اشارة

بأن يقول: إن اتّجرت بهذا المال و حصل ربح فلك نصفه أو ثلثه، فتكون جعالة تفيد فائدة المضاربة، لكن لا يشترط فيها ما يشترط في المضاربة (1)، فلا يعتبر كون رأس المال من النقود، بل يجوز أن يكون عروضاً أو ديناً أو منفعة.

______________________________

الجعالة المفيدة لفائدة القراض

(1) 1- تفترق الجعالة عن العقود الإذنية و غير الإذنية بأنّها إيقاع قائمةٌ بالجاعل وحده، و لا توجب حكماً و التزاماً لغيره.

و بعبارة اخري: إنّ الجعالة التزام من طرف واحد، لا من الطرفين، كما هو شأن كلّ إيقاع. و لكنّ العقد سواءٌ كان جائزاً أو لازماً التزام بين الطرفين، فكأنّهما يعقدان التزامهما، كيفما كان الالتزام.

فتارة: يكون التزام الطرفين بأمرٍ إذني في ذاته، كالوكالة و الشركة و المضاربة فيفيد فائدة العقد الجائز و آثاره، و اخري: يكون التزامهما بقرار و تعهّد و جعل المتعهّد به في العهدة، فيجعل كلٌّ منهما الشي ءَ المقرّر له علي عاتقه، فيكون عقداً

لازماً و تترتَّب آثاره، كعدم جواز الفسخ و الرجوع.

و عليه فالجعالة تفترق ماهيةً عن المضاربة؛ لأنّها إيقاع و التزام من جانب الجاعل وحده، بخلاف المضاربة التي هي التزام المالك و العامل كليهما. و هي من العقود و تترتّب آثارها و أحكامها الخاصّة، كاعتبار كون مال الاتّجار من النقود و غيره.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 324

______________________________

و إنّ للجاعل أن يجعل أيَّ شي ءٍ بإزاء التجارة الرابحة. و في مفروض هذه المسألة يكون الجُعل حصّة من الربح الحاصل بالاتّجار. فلا مضاربة في البين حتّي تترتّب أحكامها الخاصّة، نعم، تفيد الجعالة فائدة المضاربة من حيث استحقاق العامل الفائدة المقرّرة له.

إشكال السيد الحكيم و نقده

و قد أشكل عليه السيد الحكيم بأنّ كون الربح للعامل خلاف قاعدة تبعية الربح للمال و إنّما خرجنا عنها في المضاربة بالنصّ، و لا نصّ خاصّ علي هذا النحو من الجعالة، فلا سبب شرعي لنقل حصّة من الربح إلي ملك العامل المتّجر.

نعم، لو قال: «من اتّجر بمالي هذا أعطيته نصف الربح أو ثلثه» - مثلًا- صحّ؛ لأنّ الفعل اختياري له و إعمالٌ لسلطته علي ماله، بخلاف نقل الملك المحتاج إلي سبب شرعي.

و لكن سبق منّا المناقشة في كون المضاربة علي خلاف القاعدة. و بيّنّا أنّها علي وفق السيرة العقلائية، بلحاظ ما للعمل من الدخل في استحقاق الربح كالمال، بل ربما يكون أكثر دخلًا في استحقاقه في ارتكازهم و سيرتهم.

فقد سبق منّا في أوائل هذا الكتاب أنّ سيرة العقلاء جرت علي استحقاق العامل لربح التجارة بإذن المالك و جعله حصّة من الربح له بإزاء عمله. و لم يرد من الشارع ردع لهذه السيرة، بل أمضاها بنصوص المضاربة.

و لا نسلّم منع صحّة الجعالة علي هذا النحو؛ نظراً إلي شمول إطلاقات

أدلّة الجعالة لمفروض الكلام.

و الحاصل: إنه لا فرق في الصحّة بين أن يقول الجاعل «لك نصف الربح» كما عليه السيد الماتن، و بين أن يقول «أعطيتك نصف الربح» كما اختاره السيد الحكيم.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 325

(مسألة 49): يجوز للأب و الجدّ المضاربة بمال الصغير مع عدم المفسدة

اشارة

(1)، لكن لا ينبغي لهما ترك الاحتياط بمراعاة المصلحة. و كذا يجوز للقيّم الشرعي كالوصيّ و الحاكم الشرعي مع الأمن من الهلاك و ملاحظة الغبطة و المصلحة، بل يجوز للوصيّ عليٰ ثلث الميّت أن يدفعه مضاربة، و صرف حصّته من الربح في المصارف المعيّنة للثلث إذا أوصيٰ به الميّت، بل و إن لم يوص به، لكن فوّض أمر الثلث إليٰ نظر الوصيّ، فرأي الصلاح في ذلك.

______________________________

حكم مضاربة الأب و الجدّ و القيّم و الحاكم بمال الصغير

(1) 1- أمّا جواز اتّجار الأب و الجدّ و مضاربتهما بمال الصغير لا إشكال فيه؛ لما ثبت لهما بالأدلّة القطعية من الولاية علي مال الصغير المولّي عليه. و هذه الولاية ثابتة لهما بالأصالة، بخلاف القيّم و الوصي؛ حيث إنّ ولايتهما عليه بالنصب. و ولاية الحاكم أيضاً بالأصالة؛ حيث إنّها ثبتت له بالأدلّة الشرعية الأوّلية، إلّا أنّه في طول ولاية الأب و الجدّ؛ لأنّه وليّ من لا وليّ له.

ابتناء ولاية الكلّ علي مصلحة المولّي عليه

و مقتضي ولاية الأب و الجدّ علي الصبي جواز التصرّف لهما في ماله- و منه الاتّجار و المضاربة بماله- إلّا أنّ الولاية ثابتة لهما علي أساس مصلحة الصغير المولّي عليه، فلا ولاية لهما علي ماله فيما لم يُحرز كون إعمالها بمصلحة المولّي عليه، فضلًا عما إذا احرز وجود المفسدة في إعمالها.

و أمّا ما دلّ علي جواز تصرّف الأب في مال ولده- صغيراً أو كبيراً- بغير إذنه معلّلًا بأنّ الولد و ماله لأبيه، فتحمل إطلاقاتها علي صورة احتياج الأب، بقرينة سائر

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 326

______________________________

نصوص الباب، كما قلنا في البحث عن أولياء الصغار «1».

و عليه فلا بدّ للأب و الجدّ رعاية المصلحة في إعمال ولايتهما علي مال الصغير، لكنّه مع عدم

حاجتهما إلي ماله. فما يظهر من السيد الماتن من الاحتياط الاستحبابي في رعاية المصلحة لم يظهر لنا وجهه، و لا سيّما في القيّم و الوصي و الحاكم بعد عموم النهي في قوله تعالي: «وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ، إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «2».*

و لا فرق من هذه الجهة بين الأب و الجدّ و بين من نصباه من القيّم و الوصي، بل و كذا الحاكم الشرعي. فإنّ ولاية الكلّ مبنيّة علي أساس مصلحة المولّي عليه و لا ولاية لواحد منهم عند عدم مراعاة المصلحة، فضلًا عن عدم الأمن من الضرر أو المفسدة، و إن كان في ابتناء ولاية الأب و الجدّ علي مال الصغير علي مراعاة مصلحة ماله محلّ تأمّل.

و أمّا جواز إيصاء الأب و الجدّ بمضاربة مال الصغير و الاتّجار به، فلا تكفي لإثباته أدلّة ولايتهما لظهورها في ثبوت الولاية حال الحياة. و يشكل شمولها لما بعد حياتهما، إلّا بضميمة إطلاقات أدلّة الوصية، فإنّها تقتضي بإطلاقها نفوذ وصيتهما في مال المولّي عليه بعد إثبات ولايتهما علي مال الصبي بأدلّتها.

و أمّا جواز دفع الثلث للمضاربة للوصيّ عليه مشكل، فيما إذا لم يصرّح به الموصي؛ نظراً إلي انصراف أخذ الوصيّ علي الثلث عن إذنه بالمضاربة و نحوها، بل إنّما المتفاهم منه ولايته علي صرفه فيما ينفع للميّت بعد موته، بلا تأخير لأنّه أحوج إلي التسريع في تأدية حقوقه و واجباته من إعطائه للمضاربة، نعم،

______________________________

(1)- دليل تحرير الوسيلة في ولاية الفقيه و ما يتعلّق بها: 216.

(2)- الأنعام (6): 152.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 327

(مسألة 50): لو مات العامل و كان عنده مال المضاربة، فإن علم بوجوده فيما تركه بعينه فلا إشكال

اشارة

(1)، و إن علم به فيه من غير تعيين؛ بأن كان ما تركه مشتملًا عليه و علي مال نفسه، أو كان عنده- أيضاً-

ودائع أو بضائع للآخرين و اشتبه بعضها مع بعض، يعامل معه ما هو العلاج في نظائره من اشتباه أموال متعدّدين. و هل هو بإعمال القرعة، أو إيقاع التصالح، أو التقسيم بينهم عليٰ نسبة أموالهم؟ وجوه، أقواها القرعة، و أحوطها التصالح.

______________________________

لو صرّح بذلك لغرض صرف مال اكثر من الثلث في اموره، و لو مع التأخير فلا إشكال في جواز المضاربة به للوصيّ، و إلّا فلا.

حكم ما لو مات العامل و عنده مال القراض

(1) 1- هذه الصورة لا كلام فيها؛ حيث إنّه لا إشكال في وجوب ردّ مال المضاربة إلي مالكه بمجرّد موت العامل؛ نظراً إلي انتهاءِ أمد إذن المالك بموت العامل المأذون، و بطلان عقد المضاربة بالاختلال في ركنها، فيجب ردّ مال الغير إلي مالكه. و لا خلاف في ذلك.

و قد سبق نظير هذا الفرع في ما لو علم قدر المال و تردّد صاحبه في مبحث المال المختلط بالحرام. و قد أشبعنا الكلام في ذلك في مبحث الخمس من كتابنا دليل تحرير الوسيلة «1». و لكنّ الكلام كان هناك فيما إذا لم يعلم المُلّاك بأشخاصهم.

______________________________

(1)- دليل تحرير الوسيلة، كتاب الخمس: 287.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 328

______________________________

تحرير محل النزاع بتصوير صوره

و أمّا في المقام فالمُلّاك معلومون بأشخاصهم.

و إنّما الاشتباه واقع في الأموال بسبب الخلط و الامتزاج أو عدم الاطّلاع عن خصوصيات ما عند الميّت من الأموال. و من هنا لا يتطرّق احتمال إجراء حكم مجهول المالك في المقام؛ لفرض كون المالك معلوماً.

ثمّ إنّه تارةً: يكون مال القراض من النقود الرائجة التي لا ميز بين آحادها لتمحُّضها في المالية، كالنقود الرائجة في زماننا هذا، أو من الأمتعة التي لا ميز بينها إلّا بالمقدار و الوزن، كالسكّر و نحوه. فحينئذٍ يمتزج

مال المالك بغيره من الأموال و يحصل الشركة بذلك، فيجب حينئذٍ ردّ حصّة المالك بمقدارها المعيّن، و لا اعتبار بعين ماله؛ لعدم دخلٍ لعينه في المالية.

و اخري: يكون مال المالك ممّا كان آحاده متمايزة بالأوصاف و الخصوصيات الدخيلة في القيمة و المالية، و إن كانت من جنس واحد. فيقع الخلط و الاشتباه بينه و بين سائر ما كان عند العامل الميّت من الأموال.

فحينئذٍ يُحتمل في صورة عدم إمكان التصالح ثلاثة وجوه:

1- الاحتياط بإرضاء الجميع، و لو بدفع المال من كيس من عنده المال.

2- التوزيع بينهم بالسويّة استناداً إلي قاعدة العدل و الإنصاف.

3- الرجوع إلي القرعة؛ نظراً إلي إطلاق أدلّتها.

مقتضي التحقيق في المقام

و مقتضي التحقيق- كما قلنا في محلّه- تعيُّن التصالح عند التراضي به من الطرفين، و إلّا يتعيّن القرعة؛ لأنّها جعلت لكلّ أمر مشكل و لإخراج سهم المحقّ

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 329

______________________________

بها،

كما ورد في النصّ عن أبي جعفر عليه السلام: «ليس من قوم تقارعوا، ثمّ فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه، إلّا خرج سهم المحقّ» «1»

. في صحيح أبي بصير. و إنّ موضوع القرعة- المصرّح به في أدلّتها- كلُّ أمر مشكل. و هو يشمل المقام، بعد فرض عدم تمامية سائر الوجوه المحتملة؛ لما فيها من المحاذير التي ذكرناها في محلّه.

اللّهم إلّا أن يقال بجريان قاعدة العدل و الإنصاف. فلو جرت هذه القاعدة في مواردها بعد توفّر شرائط جريانها، لا تبقي مشكلة، حتّي يرجع إلي القرعة. و عليه فالقرعة إنّما تجري في غير موارد جريان قاعدة العدل و الإنصاف، و هي قاعدة تامّة أثبتنا اعتبارها في كتابنا «مباني الفقه الفعّال».

و علي أيّ حال لا ريب في تعيّن الاحتياط بالتصالح عند التراضي، و إلّا فالقرعة. و مع إمكان التراضي

و التصالح ترتفع المشكلة. فلا موضوع للقرعة حينئذٍ حتّي تجوز، بل يتعيّن التصالح، فلا معني لحسنه و استحبابه، كما يظهر من السيد الماتن قدس سره. و إن كان مراده الاحتياط الوجوبي في التصالح؛ ينافي الفتوي بجواز القرعة.

و الظاهر أنّ مراده الفتوي بجواز القرعة مع إمكان التراضي و التصالح، و إن كان الأحوط استحباباً حينئذٍ التراضي.

و هاهنا قول آخر بالتخيير بين القرعة و التصالح مع إمكان التراضي. و هذا القول أيضاً يرد عليه الإشكال المزبور.

و حاصل الكلام: أنّ المتعيّن هو التصالح لو أمكن، و إلّا فيتعيّن القرعة في موارد لم تجر قاعدة العدل و الإنصاف. فهاتان القاعدتان إنّما تجريان في طول التصالح، لا في عرضها؛ حيث إنّه مع التصالح لا تبقي مشكلة، حتّي يرجع إلي القرعة أو قاعدة العدل و الإنصاف.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 27: 258، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 13، الحديث 5.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 330

نعم لو كان للميّت ديّان و عنده مال مضاربة، و لم يعلم أنّه بعينه لفلان، فهو اسوة الغرماء (1).

______________________________

لو تردّد مال القراض بين المالك و بين سائر ديّان المالك

(1) 1- مقصوده ظاهراً تردّد مال القراض- بعد كونه معلوماً بعينه- بين المالك و بين سائر الديّان، فلم يعلم أنّه لمالكه المعلوم أو لغيره من الديّان. و أمّا تردّده بين الأموال الموجودة عنده من سائر الديّان و من المالك؛ بمعني أنّه لمّا تردّد بين الأموال لم يعلم أنّه للمالك أو لسائر الديّان، فالظاهر أنّه أجنبي عن مراده. و ذلك لأنّ هذه الصورة هي مفروض الفقرة السابقة و قد قوّي الماتن فيها القرعة.

و عليه فحاصل مراد السيد الماتن قدس سره أنّ مال القراض إذا تردّد بين كونه للمالك أو لسائر ديّان الميّت، لا لأجل اشتباهه بين أموالهم، يحكم بشركة

ذلك المال بين جميع الغرماء و الديّان؛ و هم المالك و سائر ديّان الميّت. و عليه فلو ضارب به الوصيّ أو القيّم يكون من قبيل تعدّد المالك و اتّحاد العامل.

و علي أيّ حال فقد دلّ علي ذلك معتبرة

النوفلي، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ عليه السلام إنّه كان يقول: «من يموت و عنده مال مضاربة قال: إن سمّاه بعينه قبل موته فقال: هذا لفلان فهو له، و إن مات و لم يذكر فهو اسوة الغرماء» «1».

قال في مجمع البحرين: «و المال اسوة بين الغرماء: أي شركة و مساهمة بين غرماء المفلّس، لا ينفرد به أحدهم دون الآخر».

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 29، كتاب المضاربة، الباب 13، الحديث 1.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 331

______________________________

و دلالته علي المطلوب واضحة، و قد عقد في الوسائل عنوان الباب بقوله:

«باب من كان بيده مضاربة فمات؛ فإنّ عيّنها لواحد بعينه فهي له، و إلّا قسّمت علي الغرماء بالحصص» «1».

و أمّا سنداً فالأقوي اعتبار روايات النوفلي، لو لم يعارض بأصحّ منها. و ذلك لكثرة رواياته، و لوقوعه في طريق كامل الزيارات و لأنّ له أصلًا روائيّاً، و لعدم ذم أحد من المشايخ له مع ماله من الاشتهار بسبب ما أشرنا إليه. نعم، نقل النجاشي عن قوم من القمّيّين أنّه غلا في آخر عمره، و لكنّه لم يقبله؛ حيث قال بعد نقله ذلك:

«و اللّٰه أعلم و ما روينا له رواية تدلّ علي هذا. له كتاب التقيّة … و له كتاب السنة» «2».

و قد اشكل السيد الخوئي «3» بما حاصله: أنّ الغرماء لا يشتركون مع الوارث جزماً، بل لا حقّ لهم في التركة أيضاً؛ إذ غاية ما دلّ عليه الدليل

كون انتقال التركة إلي الورثة بعد أداء الديون بمعني عدم جواز التصرّف لهم فيها إلّا بعد أداء الديون، و من هنا يجوز لهم أداؤها من خارج التركة، فلو كانت شركة لم يجز لهم ذلك.

و فيه: أنّه ينتقض بالخمس، فكيف يجوز أداؤه من غير عين متعلّقه بما يعادله في القيمة مع أنّ لأربابه حقاً، فكذلك في المقام. بل الخمس و الزكاة اعتُبرا ملكاً لهم بدلالة «لام الملكية» في قوله «فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبيٰ» «4» و قوله: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ» «5» فالمقصود من اسوة الغرماء: أنّ لهم فيه حقّاً.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 19: 29، كتاب المضاربة، الباب 13.

(2)- معجم رجال الحديث 7: 122.

(3)- المباني في شرح العروة الوثقي 31: 143- 145.

(4)- الأنفال (8): 41.

(5)- التوبة (9): 60.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 332

و كذا الحال لو علم المال جنساً و قدراً، و اشتبه بين أموال من جنسه له أو لغيره من غير امتزاج، فالأقويٰ فيه القرعة (1) أيضاً، خصوصاً إذا كانت الأجناس مختلفة في الجودة و الرداءة (2)، و مع الامتزاج كان المجموع مشتركاً بين أربابه بالنسبة (3). و لو علم بعدم وجوده فيها، و احتمل أنّه قد ردّه إليٰ مالكه، أو تلف بتفريط منه أو بغيره، فالظاهر أنّه لم يحكم علي الميّت بالضمان (4)،

______________________________

(1) 1- لعين الملاك الذي ذكرناه آنفاً.

(2) 2- وجه الخصوصية حينئذٍ تفاوت الأجزاء و تشخُّصها لعدم تساويها في الجودة و الردائة.

(3) 3- و قد تقدّم وجهه آنفاً في صورة الامتزاج و حصول الشركة عند عدم الميز بين الأفراد و أجزاء المالين.

متي ينفي الضمان عن الميّت؟

(4) 4- و ذلك لأصالة عدم الضمان بعد عدم تحقّق أحد أسبابه. و لكن يمكن الإشكال بأنّ أصل جعل يده علي

المال قطعي، فتجري قاعدة «علي اليد ما أخذت حتّي تؤدّيه».

و يمكن الجواب عنه: بأنّ هذه القاعدة إنّما تجري علي فرض إحراز اليد العادّية علي المال. و المفروض عدم كون يد العامل حال حياته عادية. و أمّا بعد موتها يكون المفروض عدم وجود المال تحت أيدي الورثة، فلا تجري القاعدة المزبورة.

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 333

و كان الجميع لورثته. و كذا لو احتمل بقاؤه فيها (1). و لو علم بأنّ مقداراً من مال المضاربة، قد كان قبل موته داخلًا في هذه الأجناس الباقية التي قد تركها، و لم يعلم أنّه هل بقي فيها أو ردّه إلي المالك أو تلف، ففيه إشكال (2)، و إن كانت مورّثيّة الأموال لا تخلو من قوّة، و الأحوط الإخراج منها مع عدم قاصر في الورثة.

______________________________

(1) 1- و ذلك إذا لم يعلم بوجوده بين أموال الميّت حال حياته، بل كان وجوده فيها محتملًا، و لأجله يُحتمل بقاؤه أيضاً، و إلّا فمع فرض العلم بوجوده، لا إشكال في ضمانه علي الميّت لقاعدة الاشتغال؛ حيث لم يحرز فراغ ذمّته عن مال الغير بعد ما اشتغلت ذمّته به، هذا مضافاً إلي جريان الأصل السببي حينئذٍ، و هو استصحاب بقاءُ مال القراض المعلوم وجوده حال حياته. و يأتي الآن بيان ذلك في الفرع الآتي.

حكم ما لو لم يعلم بقاءُ مال القراض في تركة العامل

(2) 2- إذا عُلم بدخول مقدار من مال المضاربة في أموال العامل و غيره من الديّان حال حياته و شُكّ في بقائه لاحتمال أحد الوجوه المذكورة في المتن، فمقتضي الاستصحاب بقاؤه. و هو الأصل السببي في المقام و محكّم علي براءة ذمّة الميّت من ضمان مال الغير.

و أمّا قاعدة علي اليد ففي جريانه إشكال؛ نظراً إلي عدم إحراز اليد العادّية و

لو استمراراً فيختلّ جريان القاعدة بذلك، للاختلال في موضوعها. و الحاصل يقوّي الضمان حينئذٍ بملاك استصحاب وجود مال الغير في أموال الميّت؛ لفرض اليقين السابق بوجوده فيها و كون الشكّ في بقائه. فالأصل السببي محقّق لموضوع

دليل تحرير الوسيلة - المضاربة، ص: 334

______________________________

الضمان تعبّداً. هذا مع أن قاعدة علي اليد علي فرض شمولها مؤكّدٌ للاستصحاب في المقام.

و الحمد للّٰه أوّلًا و آخراً، و صلواته علي محمّد و آل بيته المعصومين سرمداً.

فرغت من تسويد هذا الجزء من دليل تحرير الوسيلة بعون اللّٰه تعالي و لطفه في عصر اليوم العشرين من شهر صفر المظفّر بسنة 1425 ه. ق.

العبد الخجلان من ساحة ربّه الغفّار:

علي أكبر السيفي المازندراني.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.