فقه القرآن (لليزدي) المجلد 1

اشارة

نام كتاب: فقه القرآن

موضوع: آيات الأحكام

نويسنده: يزدي، محمد

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 4

ناشر: مؤسسه اسماعيليان

تاريخ نشر: 1415 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

بين يدي الكتاب

اشارة

بقلم الدكتور عباس الترجمان

بسم الله الرحمن الرحيم

و له الحمد و به نستعين

و صلي الله علي سيّدنا محمّد و آله الطاهرين و الطيّبين من أصحابه أجمعين

لما كان الدين الاسلامي أكمل الأديان و آخرها، و جاء به من جاء رحمة للعالمين، للنّاس كافّة، للأسود و الأبيض و الأصفر و الأحمر، للعربي و العجمي، و لكل زمان و مكان، فوجب أن يقدّم قانونا يضمن تنظيم حياة الانسان الي يوم القيامة، و هذا ما ضمنه و تضمّنه القرآن الكريم معجزة الاسلام الخالدة، و دستور الحياة الاسلامية السعيدة، الذي ينظّم- بمعونة السنة الشريفة- شئون الانسان قبل انعقاد نطفته الي ما بعد موته وفق المصلحة العامة و الخاصة، و علي جميع الابعاد و الجوانب. و هو الاصل الاصيل الاوّل من اصول استنباط الاحكام الفرعية الجزئيّة الشرعيّة، و عليه الاعتماد و المعوّل في معرفة الواجبات و المحرّمات و المستحبات و المكروهات و المباحات، و إليه استند المجتهدون الاوائل من الفريقين، و الأواخر من الشيعة الامامية الاصولية في مباحثهم و استدلالاتهم الفقهيّة، و هو الطريق الواضح لمن سلكه، و الدليل القاطع لمن استدلّ به، و أحد الثقلين العاصمين معا من الضّلال لمن تمسك بهما.

فليس من الغريب اذا اهتمّ العلماء المسلمون من السلف و الخلف هذا الاهتمام البالغ بهذا الكتاب البليغ الذي لٰا يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لٰا مِنْ خَلْفِهِ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 8

تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. فراح الواحد تلو الآخر يستضيئون بنوره، و يغوصون في بحوره، ليستخرجوا من درره المكنونة، و جواهره المخزونة،

و معارفه التي ليس لها نهاية، و علومه من اجل بلوغ الغاية؛ فكان موضع درس و تدريس و تحقيق و تمحيص، في المحكم من التنزيل، و المتشابه في التأويل؛ فصنفت في علومه مئات الكتب و الرسائل. و قد بذل العلماء الاعلام (رضوان الله عليهم) علي مرّ التاريخ غاية الجهد، و تسابقوا في خير هذا المضمار، و خدموا الاسلام و المسلمين، و خلّفوا آثارا خالدة قيّمة هي مناهل للواردين، و منائر للسالكين، و متاع للمتزوّدين، و منهاج عمل للصالحين، فجزاهم الله عن الاسلام و المسلمين خير جزاء و أوفاه.

و قد نال أكثر حظّ من هذه المصنفات موضوع الاحكام التي عليها مدار العمل.

و قد ألّف الكثيرون من الفريقين في أحكام القرآن أو فقه القرآن منذ بدايات التاريخ الاسلامي حيث بادر أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) و شيعتهم من حملة آثارهم- رضوان الله عليهم- الي تفسير الكتاب العزيز، و استجلاء غوامضه، و استخراج احكامه، سبقهم الي ذلك السابق الي الايمان و الي كل مكرمة مولانا أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام)، و حفيده الامام محمّد الباقر (عليه السّلام) و من شيعتهم السابقين الي ذلك أبو حمزة الثمالي، و اسمه ثابت بن دينار، و كنية دينار ابو صفية، و كان ابو حمزة من شيعة علي (عليه السّلام) من النجباء الثقات و صحب أبا جعفر (عليه السّلام) كما ذكر ذلك ابن النديم في الفهرست. و ذكر كتاب تفسير الكلبيّ و هو محمد بن السائب المتوفي سنة 146 ه، و هو «أحكام القرآن» كما ذكره حيث قال: «كتاب احكام القرآن للكلبيّ رواه عن ابن عباس».

ثمّ توالي العلماء من الفريقين في تأليف الكتب في احكام القرآن، و قد ذكر ابن النديم في فهرسته

قائمة بأسمائهم. و نثبت هنا قائمة بأسماء بعض الكتب المؤلّفة في أحكام القرآن من قبل أصحابنا فقط، نختصرها عما جاء في مجلة «تراثنا» في حقل:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 9

«فقه القرآن في التراث الشيعيّ» بقلم الشيخ محمد علي الحائري الخرّم آبادي و أليك هذه القائمة: -

1- احكام القرآن. لمحمد بن السائب الكلبيّ المتوفي سنة 146 ه.

2- احكام القرآن. لأبي الحسن عبّاد بن العبّاس بن عبّاد الديلمي القزويني الطالقاني، «أبي الصاحب بن عباد»، المتوفي سنة 334 او 335.

3- فقه القرآن في شرح آيات الاحكام لقطب الدين ابي الحسن سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي الكاشاني المتوفي سنة 573 ه.

4- النهاية في تفسير خمسمائة آية للشيخ احمد بن عبد الله بن سعيد المتوّج، او سعيد بن المتوّج البحراني، المتوفي حدود 800 ه.

5- منهاج الهداية للشيخ ابي الناصر جمال الدين احمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسن بن المتوّج البحراني. المتوفي سنة 820 ه.

6- آيات الاحكام. للشيخ ناصر بن الشيخ جمال الدين احمد بن الشيخ عبد الله بن المتوّج البحراني.

7- كنز العرفان في فقه القرآن. للشيخ شرف الدين ابي عبد الله مقداد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن محمد الحلّي الاسدي السيوري، المتوفي سنة 826 ه.

8- معدن العرفان في فقه مجمع البيان لعلوم القرآن. للشيخ ابراهيم بن حسن الدرّاق أو الورّاق- من اهل اوائل المائة العاشرة.

9- معارج السّئول و مدارج المأمول في تفسير آيات الاحكام، و يعرف ب «تفسير اللباب» للشيخ كمال الدين حسن بن شمس الدين محمد بن حسن الأسترآبادي المولد، النجفي المسكن، المتوفي في اواخر القرن التاسع.

10- تفسير آيات الاحكام. للشيخ شرف الدين الشهفينگي او الشيفتگي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 10

المتوفّي

سنة 907 ه.

11- التفسير الشاهي. للسيّد الأمير أبي الفتح بن الميرزا مخدوم الحسيني العربشاهي الجرجاني المتوفّي سنة 976 ه.

12- آيات الاحكام. للسيد الأمير أبي الفتح الشرقة. المتوفّي سنة 976 ه.

13- آيات الاحكام. للشيخ محمد بن الحسن الطبسي المتوفّي سنة 993 ه.

14- زبدة البيان في تفسير آيات احكام القرآن، للشيخ المقدّس احمد بن محمّد الاردبيلي، المتوفّي سنة 993 ه.

15- التعليقة علي زبدة البيان في احكام القرآن. للأمير فيض الله بن عبد القاهر الحسيني التفرشي النجفي. المتوفّي سنة 1025 ه.

16- شرح آيات الاحكام في تفسير كلام الله الملك العلّام. للميرزا محمد بن علي بن ابراهيم الأسترآبادي المتوفّي سنة 1028 ه.

17- مشرق الشمسين و اكسير السعادتين. للشيخ البهائي بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد، المتوفّي سنة 1030 ه.

18- تفسير القطب شاهي، او آيات الاحكام، للشيخ محمد اليزدي المعروف بشاه قاضي اليزدي، من علماء الامامية في اوائل القرن الحادي عشر الهجري.

19- التعليقة علي زبدة البيان في آيات الاحكام. للسيد الامير فضل الله الأسترآبادي من اعلام القرن الحادي عشر.

20- إماطة اللثام عن الآيات الواردة في الصيام. مؤلّفه من اعلام القرن الحادي عشر الهجري.

21- آيات الاحكام الفقهية. للمولي ملك علي التوني، من اعلام القرن الحادي عشر الهجري.

22- مسالك الافهام الي آيات الاحكام. للشيخ الجواد الكاظمي، من اعلام

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 11

القرن الحادي عشر الهجري.

23- مفاتيح الاحكام في شرح آيات الاحكام. للسيد محمد سعيد بن سراج الدين قاسم بن الامير محمد الطباطبائي القهبائي المتوفّي سنة 1092 ه.

24- التعليقة عن زبدة البيان في احكام القرآن. للفيض الكاشاني محمد بن مرتضي، من اعلام القرن الحادي عشر الهجري.

25- التعليقة علي زبدة البيان في احكام القرآن. للسيد الجزائري المتوفّي سنة 1112 ه.

26- التعليقة

علي مشرق الشمسين. للشيخ سليمان بن عبد الله بن علي البحراني الماحوزي، المعروف بالمحقّق البحراني، المتوفّي حدود سنة 1121 ه.

27- التعليقة علي زبدة البيان في احكام القرآن. للعلّامة محمد بن عبد الفتّاح التنكابني المشهور ب «سراب»، المتوفّي سنة 1124 ه.

28- التعليقة علي مسالك الافهام الي آيات الاحكام. للعلامة الميرزا عبد الله بن عيسي التبريزي الاصفهاني، المشتهر بالافندي، المتوفّي حدود سنة 1130 ه.

29- ايناس سلطان المؤمنين باقتباس علوم الدين من النبراس المعجز المبين.

للسيد محمد بن علي بن حيدر بن محمد بن نجم الدين الموسوي العاملي الكركي المعروف بمحمد بن حيدر العاملي المكّي المتوفّي سنة 1139 ه.

30- تحصيل الاطمينان في شرح زبدة البيان في أحكام القرآن. للأمير محمد ابراهيم بن الامير معصوم بن الامير فصيح بن الامير اولياء الحسيني التبريزي القزويني، المتوفّي سنة 1149 ه.

31- التعليقة علي زبدة البيان في احكام القرآن. للشيخ اسماعيل الخاجوئي.

32- التعليقة علي زبدة البيان في احكام القرآن. للامير بهاء الدين محمد بن الامير محمد باقر المختاري الحسيني النائيني السبزواري المتوفّي أواسط القرن الثاني

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 12

عشر الهجري.

33- قلائد الدرر في بيان آيات الاحكام بالأثر. للشيخ احمد بن اسماعيل بن عبد النبي الجزائري، المتوفّي سنة 1151 ه.

34- التعليقة علي مشرق الشمسين. للشيخ اسماعيل بن محمد حسين بن محمد رضا بن علاء الدين محمد المازندراني المشهور بالخاجوئي المتوفّي سنة 1173، أو 1177 ه.

35- تقريب الافهام في تفسير آيات الاحكام. للمفتي السيد محمّد قلي بن محمد حسين بن حامد حسين بن زين العابدين النيشابوري الكنتوري المتوفّي سنة 1260 ه.

36- دلائل المرام في تفسير آيات الاحكام. للشيخ محمد جعفر بن سيف الدين الأسترآبادي الطهراني، الشهير ب «شريعتمداري» المتوفّي سنة 1263 ه.

37- الدرر الايتام في

تفصيل تفسير آيات الاحكام للشيخ علي بن محمّد جعفر الأسترآبادي الشهير بشريعتمدار، المتوفّي سنة 1315 ه.

38- درر الايتام في أنموذج تفسير آيات الاحكام للشيخ علي بن محمد جعفر الأسترآبادي الشهير بشريعتمدار، المتوفّي سنة 1315 ه. و هو ملخّص الكتاب السابق.

39- آيات الاحكام. للشيخ محمد باقر بن محمد حسن بن أسد الله بن علي محمد الشريف البيرجندي الكازاري القائيني، المتوفّي سنة 1352 ه.

40- لبّ اللباب في تفسير أحكام الكتاب. للسيّد أبي تراب بن السيّد أبي القاسم بن السيد مهدي الموسوي الخونساري، المتوفّي سنة 1346 ه.

41- آيات الاحكام. للشيخ اسماعيل بن علي نقي الأرومي التبريزي، من اعلام القرن الرابع عشر الهجري.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 13

42- تفسير آيات الأحكام. للسيّد محمد حسين بن محمود الطباطبائي اليزدي، المتوفّي سنة 1386 ه.

43- أحكام قرآن. للدكتور محمد الخزائلي، أستاذ جامعة طهران، طبع في طهران سنة (1353 ه. ش).

44- الجمان الحسان في احكام القرآن. للسيّد محمود الموسوي الدهسرخي الاصفهاني طبع سنة 1403 ه «1».

و أمّا «فقه القرآن» و هو الكتاب الذي نقدّمه للقارئ الكريم، فلا يتمشّي فيه مؤلفه مع ترتيب السور، بل يتحرّي آيات الاحكام في أيّة سورة كانت، فينظّمها في ابوابها، و يضمّ بعضها الي بعض. و قد ساير فيه ترتيب ابواب الفقه المنتظمة في الكتب الفقهية لدي الشيعة الاماميّة الاصوليّة، و هو المنهج الذي سار عليه أغلب الفقهاء، فبدأ بالطهارة، فجمع في هذا الباب الآيات التي لها صلة بها اينما كانت، سواء الطهارة المائية التي تشمل الوضوء و الغسل، أو الطهارة الترابية التي تضمّ التيمم بدل الوضوء و بدل الغسل؛ فتحدّث في هذا الباب عن التيمم و موارده، و ما يجوز فيه، و حول ماهيّة الماء المطلق، و إزالة

الخبث، و في فضل مسجد النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلم)، و إعمار المؤسّسات الداعية الي الحق، و حرمة إدخال النجس في المسجد، و نجاسة المشركين، و نجاسة الدم و الميتة …، ثمّ يستخلص القول؛ كلّ ذلك يقدّمه بشرح مقتضب للآيات الكريمة التي لها صلة بالموضوع.

ثمّ ينتقل الي الصلاة: تعريفها، وجوبها، أجزائها، الخشوع فيها، الإخلاص فيها، وجوب القيام و الركوع و السجود، التسبيح في الركوع و السجود، الجهر و الإخفات، الوقت، الصلاة الوسطي، وقت نافلة الليل، القبلة، تغيير القبلة، مكان المصلّي، لباس المصلي، ثم يتناول الجهر و الاخفاف ثانية، فالقصر و التمام، و صلاة

______________________________

(1)- مجلة تراثنا- العدد الثاني (15) السنة الرابعة- العدد الثاني (19) السنة الخامسة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 14

الخوف، صلاة الجمعة، صلاة الجماعة، صلاة الميّت، وجوب التسبيح، قراءة القرآن، في الاستماع و الإنصات للقرآن، في وجوب السجود مع آيات العزائم.

و نتيجة البحث و خاتمة المطاف.

هذان نموذجان لسرد المواضيع التي يتطرّق إليها، و يتفرّع بها، في كل باب من أبواب الفقه؛ جئت بهما علي سبيل المثال ليتّضح أسلوب المؤلّف الفاضل في تناول المواضيع التي لها صلة بالموضوع من قريب أو بعيد. و علي هذا المنوال جري (حفظه الله) في كلّ أبواب الفقه التي يتناولها الكتاب.

و قد جعل الكتاب في أربعة أجزاء، يضمّ الأوّل بين دفّتيه: الطهارة، الصلاة، الصوم، الزكاة، الخمس، الحج و العمرة، كما تري ذلك في محتويات الجزء الأوّل.

و يضمّ الجزء الثاني: الولاية و الحكومة، الجهاد، الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، القصاص، الحدود، و القضاء و الشهادات. و هكذا يخطو في الجزءين الثالث و الرابع.

و كما قلت انّ المؤلف- حفظه الله- جاء بآيات الاحكام، و قدّم لها شرحا في غاية

الاقتضاب، قد لا يتجاوز- احيانا- التفسير اللفظي، و مصدره الوحيد في ذلك كتاب الله العزيز، كما يقول في تصدير كتابه، و قد قام بهذا العمل، و قدّم هذا الجهد للمجتمع الاسلامي و هو في السجن أو المنفي و تحت المراقبة الشديدة من قبل جلاوزة النظام المباد الذين يحاسبونه علي كلّ كبيرة و صغيرة، و يراقبون حركاته و سكناته. و لا يخفي أنّ الكتاب العزيز لا يتناول الجزئيّات و الخصوصيّات و المواصفات، و إنّما يضمن بيان الكليّات في الاحكام، و أمّا في مقام الامتثال و ذكر الجزئيّات و المواصفات فلا بدّ من السنة الشريفة؛ لتعضد الكتاب الكريم، و تبيّن ما أجمله، و تفسّر معضله، و تفصل بين محكمه و متشابهه، و ناسخه و منسوخه، و تعرض- قولا و عملا- الشروط و المواصفات، و المقدّمات و المعقّبات، و ما شابه هذه الامور.

فالسنّة المباركة و منها العترة الطاهرة الّذين هم عدل الكتاب كما ورد في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 15

حديث الثقلين المتواتر لدي الفريقين لا تنفك عن الكتاب بأيّة حال، إذ هما كلاهما معا عاصمان من الضلال- كما هو لسان الحديث. و الذي يريد تفصيل البحث في تفسير الكتاب العزيز، و بيان ما تضمّنه من أحكام و قوانين و تشريعات، لا بدّ له من الاستعانة بالسنة المباركة التي هي قول «المعصوم» (عليه السّلام) و فعله و تقريره كما هو الحقّ لدي أصحابنا- رضوان الله عليهم- من الشيعة الامامية.

فكتاب كهذا يستند الي القرآن الكريم، و يكتب في مثل الظروف التي عاشها المؤلّف الفاضل آنذاك لجدير بالإكبار و التعظيم، و إن كان مختصرا مقتضبا، فهو اشبه ما يكون بتفسير القرآن بالقرآن، فقد اعتمد في استدلالاته علي آيات القرآن الاخري لتوضيح

آيات الاحكام، و بالإضافة الي ذلك استعان بخلفيّاته من المعلومات و المحفوظات المخزونة في حافظة ذاكرته. و سيواجه القارئ العزيز هذه الظاهرة و تلك في دراسته و مطالعته لهذا السفر الشريف.

فحيّا الله هذه الجهود التي تنبئ عن صلابة ايمان، و جهاد قلم، و وفر معلومات، و اغتنام الفرص لتكريس أيّام من العمر تتخلّد خلود الكتاب. شكر الله سعي المؤلّف الفاضل، و بوّأه مقعد صدق، و أعطاه الأجر الجزيل، و أحسن له العواقب بمحمّد و آله الطاهرين عليهم السّلام.

و المؤلّف:

هو الفاضل المجاهد الفقيه آية الله الشيخ محمد بن علي اليزدي، ولد سنة (1310 ه. ش) في مدينة اصفهان، و نشأ في بيت علم و دين، و ترعرع في دراساته الابتدائية و بعض المقدّمات من العلوم علي يد والده المرحوم فضيلة الشيخ علي اليزدي، الذي كان من رجال الدين الكرام في اصفهان، و أخذ الأدب العربي و بعض السطوح من اساتذة الحوزة العلمية في اصفهان، و أكمل سائر السطوح في حوزة قم العلميّة، و حضر دروس الخارج التي كان يلقيها آية الله البروجردي (قدّس سرّه) و حرّر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 16

تقريرات استاذه البروجرديّ من بحث لباس المصلي الي آخر كتاب القضاء، الذي كان يلقيه علي تلامذته في اواخر ايام حياته المباركة، كذلك حضر الدورة الكاملة لبحث الاصول الذي كان يلقيه الاستاذ اللوذعيّ جامع المعقول و المنقول، مرجع عالم التشيّع، و قائد الثورة العظيم، و مؤسّس الجمهورية الاسلامية في ايران، سماحة آية الله العظمي الامام الخميني (قدس الله روحه الزكيّة) و حرّر تقريراته؛ و حضر و حرّر بحثه الفقهيّ في المكاسب الي ما درّسه في قم. و درس العلوم العقلية و الفلسفية و التفسير علي يد الاستاذ

سماحة العلامة السيّد محمد الحسين الطباطبائي (قدس الله روحه الزكيّة)، و كان خلال طلبه العلم يقوم بمحاضرات التدريس في الفقه و الاصول و الفلسفة.

و كان في حوادث الكفاح و الثورة الاسلاميّة إلي جانب القائد منذ الايام الاوائل، و تقدّم في كفاحه بعضويّته في جامعة المدرّسين مع سائر الأعضاء، و تحمّل في هذه السبيل السجون و سنوات النفي، و قام بواجبه الثوري في كل سجن و منفي، و له آثار في ذلك.

آثاره:

قلنا: انّه حرّر تقريرات اساتذته الكرام، و له مؤلفات غير ذلك باللغة العربية منها: -

1- فقه القرآن. في أربعة اجزاء، قد كتبه في السجن و المنفي، و هو هذا الكتاب.

2- أسس الايمان. دورة من أصول الدين، مقتبسة من القرآن الكريم. مجلّد واحد.

3- نبذ من المعارف الاسلاميّة. مجلد واحد. و رسائل اخري.

و مؤلفاته الفارسيّة المطبوعة:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 17

1- «گمشدۀ شما»: أي: ضالّتكم.

2- «پاسخ مردوخ»: أي: الرّد علي مردوخ.

3- «حسين بن علي را بهتر بشناسيم»: أي: لنعرف الحسين بن علي بصورة أفضل.

4- «روانشناسي اسلامي»: أي: علم النفس الاسلامي.

5- «اسلام همگام با زمان»: أي: الاسلام يواكب الزمن.

6- «سيري در تاريخ حديث»: أي: رحلة في التاريخ الحديث.

7- «علي عليه السّلام بر منبر وعظ»: أي: عليّ علي منبر الوعظ.

8- «سازندگي محيط»: أي: صناعة البيئة.

9- «ولايت فقيه يا حكومت اسلامي در عهد غيبت»: أي: ولاية الفقيه أو الحكومة الاسلامية في عصر الغيبة.

10- «تفسير قانون اساسي»: أي: شرح الدستور.

و عدد من الكتب الصغيرة الاخري، و المقالات المنتشرة في الصحف و المجلات.

و بعد انتصار الثورة الاسلاميّة أنتخب عضوا في مجلس الخبراء عن أهالي كرمانشاهان في دورته الاولي و تولّي رئاسة اللجنة الثوريّة و محكمة مدينة قم. ثمّ انتخب ممثّلا عن

أهالي قم الكرام في مجلس الشوري الاسلامي، و كان يؤدّي مهمّة النائب الاوّل لرئاسة المجلس.

و في دورة مجلس الشوري الاسلامي الثانية انتخب ممثّلا عن أهالي طهران، و كان في هذه الدورة أيضا يؤدّي دوره نائبا أوّل لرئاسة المجلس.

و مزامنا لدورة مجلس الشوري الاسلامي الثالثة عيّنه قائد الثورة الاسلاميّة العظيم سماحة الامام الخميني (قدّس سرّه الشريف) في شهر خرداد 1367 هجرية

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 18

شمسيّة عضوا في مجلس فقهاء صيانة الدستور.

و بعد الرحلة الملكوتية المؤلمة لامام مسلمي العالم و مؤسّس الجمهورية الاسلاميّة في ايران، تعيّن من قبل سيادة القائد سماحة آية الله السيّد علي الخامنئي (حفظه اللّه) رئيسا عامّا للقوّة القضائيّة في ايران. و انتخب من قبل أهالي طهران عضوا في مجلس الخبراء أيضا.

و هو الآن دائب علي تنفيذ العدل في البلاد بين العباد، و قد قام بعدد من الاصلاحات الجذريّة في مجال القضاء، يطول شرحها، و يسافر الي سائر المناطق بنفسه من كبر سنّه للإشراف علي الامور القضائية و القضاة عن كثب، و يتولّي- احيانا- إمامة صلاة الجمعة في طهران، و يشرح للمصلّين في احدي خطبتيه بعض الامور القضائية، و ما استجدّ من اصلاحات. كثّر الله أمثاله، و منحه العمر المديد بالتأييد و التسديد.

طهران- صبيحة يوم الجمعة 23 ذي القعدة 1411 ه. ق.

17 خرداد 1370 ه. ش.

عباس الترجمان

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 19

الجزء الأول

من

فقه القرآن

«العبادات»

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 21

محتويات الجزء الأول

تصدير 25

المقدمة 29

كتاب الطهارة 35

التيمم و موارده و ما يجوز فيه 37

كيفية الوضوء 41

الغسل من الحدث 43

ماهية الماء المطلق 44

ازالة الخبث 45

في فضل مسجد النبي 47

في اعمار المؤسسات الداعية الي الحق 48

حرمة ادخال النجس في المسجد 49

نجاسة المشركين 50

نجاسة الدم و الميتة 51

خلاصة الباب

(أو الفروع المستفادة من الآيات) 53

كتاب الصلاة 55

تعريفها 57

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 22

وجوبها 58

اجزاؤها 64

الخشوع فيها 65

وجوب القيام و الركوع و السجود 67

التسبيح في الركوع و السجود 68

وقتها 71

الصلاة الوسطي 77

وقت نافلة الليل 78

القبلة 83

تغيير القبلة 84

مكان المصلّي 86

قراءة القرآن 90

في الاستماع و الانصات 93

في وجوب السجدة مع آيات العزائم 94

نتيجة البحث 95

في الجهر و الاخفات 97

في القصر و التمام 100

صلاة الخوف 103

صلاة الجمعة 107

صلاة الجماعة 110

صلاة الميت 113

وجوب التسبيح 116

ملخص الكتاب و الفروع المستفادة من الآيات في الباب 130

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 23

خاتمة المطاف 134

كتاب الصوم 135

مباشرة النساء 138

الاعتكاف 140

نتيجة البحث 141

كتاب الزكاة 143

وجوب الزكاة 146

فيما ينطبق علي وجوب الزكاة 150

في المتعلق 154

في مصرف الزكاة 160

كيفية ايتاء الزكاة 162

نتيجة البحث 169

كتاب الخمس و الانفال 171

موارد الخمس 173

الأنفال 177

الفي ء 180

نتيجة البحث 183

كتاب الحج و العمرة 185

الحج و العمرة شعيرتان 187

الحج و العمرة قيام للناس 190

الصدّ عن الحج و العمرة 191

وجوب الحج 193

مناسك الحج 195

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 24

ذكر اللّه تعالي 198

الصفا و المروة 199

الحرمات في الحج 200

امان البيت 201

في الحلق و التقصير 202

نتيجة البحث 203

خاتمة المطاف 205

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 25

تصدير

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا وَ مٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لٰا أَنْ هَدٰانَا اللّٰهُ «1».

و الصلاة و السلام علي رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلم) و خاتم النبيين الذي ارسله بِالْهُديٰ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «2» و علي خليفته و وصيّه الذي هو نفسه في قوله تعالي لدي تحكيم شريعته: … فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ

فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّٰهِ عَلَي الْكٰاذِبِينَ «3» و كذلك الصلاة و السلام علي آله و أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا «4».

اما بعد:

فعند ما نفيت عن عشّ آل محمد (عليهم السّلام) مدينة قم المقدسة الي أحد موانئ الجنوب باسم (كنگان) ضمن تبعيد جمع من الأفاضل و الاساتذة الي أقطار البلاد، ثم نقلت الي سجن ميناء مدينة بوشهر جنوبي البلاد أيضا، و ذلك في شهر رمضان المبارك سنة (1393) من الهجرة علي مهاجرها آلاف التحية و السلام «5» و لم يكن

______________________________

(1)- الاعراف [7] الآية 45.

(2)- الصف [61] الآية 9، و التوبة [9] الآية 33، و الفتح [48] الآية 28.

(3)- آل عمران [3] الآية 61.

(4)- الأحزاب [33] الآية 33.

(5)- و لعلك تستكشف من تاريخ الحروب التي وقعت في الشرق الأوسط بين اخواننا المسلمين و الصهاينة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 26

معي إلّا كتاب الله تعالي الذي لا يغادر صغيرة و لا كبيرة الّا أحصاها، و الذي فصّلت آياته من لدن حكيم خبير، حيث هو أدل الأدلة الأربعة و عمادها …

… ففي هذه الفترة انتهزت الفرصة و آثرت الاستفادة من الآيات التي تخصّ الأحكام الشرعية منه ثم أعدت النظر فيها علي مستوي الاستنباط منها، مراعيا في ذلك: الاختصار، و قد جعلت في نهاية كل باب تذييلا بذكر الأحكام المستفادة.

و أنت بما تري من بيان الكليات و تشريع الاصل غالبا في الذكر الحكيم دون ذكر خصوصيات الحكم و حدوده في اكثر الابواب، و حينما تعلم ان العمل في الخارج- و هو ظرف جزئي- و مقام الامتثال لا يساعد الكلي المطلق، تدرك امتناع انفكاك الكتاب عن السنّة الشريفة، المبيّنة لعدله العترة الطاهرة الي يوم القيامة، و تتيقّن بتوقّف

الهداية عليهما سوية، و انّه لا فلاح إلّا بالتمسك بهما معا، كما صرّح به الرسول الاعظم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في السنّة المتواترة عن الفريقين قائلا: «اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، و عترتي لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا … ».

و قد أوجب الكتاب ذلك أي اتّباع العترة الطاهرة و السنة الشريفة بقوله: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1».

إلّا أننا نتفقّه في المقام علي اساس الكتاب فقط تبيانا للافتقار الي السنّة المباركة بعد عدم وجود الوسيلة إليه كما عرفت «2».

______________________________

و موقف ايران من ذلك دليل الأمر و سرّ العلاقة.

(1)- الحشر [59] الآية 7. و قد سرّني أن أذكر الحديث في المقام حال المرور علي مشروع الكتاب.

(2)- عن أبي بصير أنّه قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن قول اللّه عز و جل: «أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»، فقال: نزلت في علي بن أبي طالب و الحسن و الحسين (عليهم السّلام) فقلت له: إن الناس يقولون:

فما له لم يسمّ عليا و أهل بيته (عليهم السّلام) في كتاب اللّه (عز و جل)، فقال: قولوا لهم: ان رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) نزلت عليه الصلاة و لم يسمّ اللّه لهم ثلاثا، و لا أربعا حتي كان رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) هو الذي فسّر ذلك لهم، و نزلت عليه الزكاة و لم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهما حتي كان رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) هو الذي فسّر ذلك و نزل عليه-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 27

و

أمّا بعد:

فلقد قسّمنا مجهودنا المسمّي بفقه القرآن بعد الفراغ و ملاحظة الأبواب الي أربعة أجزاء حسب الأهمية و الابتلاء- غير متابعين لترتيب الأصحاب و تبويبهم في هذا التقسيم- و هو علي هذا النحو:

الجزء الأوّل في: «العبادات» و هو عبارة عن:

1- كتاب الطهارة.

2- كتاب الصلاة.

3- كتاب الصوم.

4- كتاب الزكاة.

5- كتاب الخمس.

6- كتاب الحج.

الجزء الثاني في: «الحكوميات» و هو عبارة عن:

1- كتاب الولاية و الحكومة.

2- كتاب الجهاد.

3- كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

4- كتاب الحدود.

5- كتاب القصاص.

6- كتاب القضاء و الشهادة.

الجزء الثالث في «العقود و الإيقاعات» و هو عبارة عن:

1- كتاب النكاح.

2- كتاب الطلاق و التسريح.

______________________________

الحج فلم يقل لهم طوفوا سبعا حتي كان رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلم) هو الذي فسّر ذلك لهم و نزلت أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول … الحديث بتفصيله/ الكافي باب الحجة ص 286.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 28

3- كتاب التجارة.

4- كتاب القرض.

5- كتاب العهود و الأيمان.

الجزء الرابع في «الاجتماعيات» و هو عبارة عن:

1- كتاب المحرمات.

2- كتاب الأطعمة و الأشربة.

3- كتاب المجتمع و الآداب.

4- كتاب الوصية.

5- كتاب الارث.

6- ختام في الدعاء و الابتهال من القرآن.

و نرجو من اللّه تعالي القبول و ان يجعله ذخرا ليوم لا خلّة فيه و لا شفاعة إلّا لمن ارتضي، و لا ينفع فيه مال و لا بنون إلّا من أتي اللّه بقلب سليم، و أن ينفع به المشتغلين بعلوم الدين، كثّر اللّه أمثالهم و وفّقهم بتأييداته.

و الحمد للّه أوّلا و آخرا.

محمد اليزدي 3/ ذي القعدة/ 1395 ه ق رودبار

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 29

المقدمة

لا شك في ان كتاب الله تعالي هو الملجأ الوحيد للناس و الرحمة الفريدة عليهم، فإن جعلوه امامهم قادهم

الي الجنة، و الّا ساقهم الي النار، فهل هو كاف بنفسه و لوحده في استنباط الاحكام او الاهتداء به حتي يمكن الاستدلال بظاهره او لا، بل لا بدّ من العترة الطاهرة و السنّة الشريفة معا، حيث انما يعرف القرآن من خوطب به، و هما معا قد شركهما رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلم) لهداية الامة، و ما ان تمسكوا بهما لن يضلوا ابدا.

قد يستدلّ للأول بجواز الاستنباط من ظاهر الآيات في الاحكام بل مطلقا بأمور:

الاول: آيات تدل علي ذلك صراحة او ظهورا، نشير الي بعضها:

1- ذٰلِكَ الْكِتٰابُ لٰا رَيْبَ فِيهِ هُديً لِلْمُتَّقِينَ. (البقرة [1] الآية 2)

2- … قَدْ جٰاءَكُمْ مِنَ اللّٰهِ نُورٌ وَ كِتٰابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّٰهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوٰانَهُ سُبُلَ السَّلٰامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَي النُّورِ … (المائدة [5] الآية 15 و 16)

3- … وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً وَ بُشْريٰ لِلْمُسْلِمِينَ. (النحل [16] الآية 89)

4- وَ قُرْآناً فَرَقْنٰاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَي النّٰاسِ عَليٰ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنٰاهُ تَنْزِيلًا.

(الاسراء [17] الآية 106)

5- وَ كَذٰلِكَ أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنٰا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً. (طه [20] الآية 113)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 30

6- وَ لَقَدْ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكُمْ آيٰاتٍ مُبَيِّنٰاتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. (النور [24] الآية 34)

7- كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ إِلَيْكَ مُبٰارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيٰاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبٰابِ.

(ص [38] الآية 29)

8- أَ فَلٰا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَليٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا. (محمد [47] الآية 24)

و غيرها من الآيات التي تأمر بالتعقّل، كالآية:

… لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. (يوسف [12] الآية 2، و الزخرف [43] الآية 3)

أو تجعل القرآن ذكرا، كالآية:

إِنّٰا نَحْنُ

نَزَّلْنَا الذِّكْرَ … (الحجر [15] الآية 9)

هٰذٰا ذِكْرٌ مُبٰارَكٌ أَنْزَلْنٰاهُ … (الأنبياء [21] الآية 50)

وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. (ص [38] الآية 1)

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. (القمر [54] الآية 17 و 22 و 32 و 40)

و غير ذلك من الآيات المباركة.

الثاني: الاخبار العلاجية الآمرة بعرض الاخبار علي القرآن الكريم و الأخذ بما يوافقه، فان ذلك لا يتم الّا بعد التسليم بحجيّة ظواهره و إمكان الاخذ بها، ففيها- أي الأخبار-: «ما وافق كتاب الله فخذوه و ما خالف كتاب الله فدعوه» (الوسائل/ الرواية 10/ الباب 9/ صفات القاضي/ كتاب القضاء) و «كل شي ء لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (الرواية 14 من الباب، و غيرهما كما تراه في روايات الباب و الجامع منها رواية 21 من الباب).

الّا ان للشيخ الحرّ (رضوان الله عليه) نظرا في ذلك، بحمل المطلق هذا علي المقيّد في بعض روايات الباب من العرض علي الكتاب و السنّة كما في مقبولة عمر بن حنظلة (الرواية 1 من الباب) و غيرها.

فلا يتمّ العرض علي الكتاب وحده؛ لذا لا يمكن التمسّك به حتي يكون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 31

ظاهره حجة.

و فيه أنه لا وجه لذلك الحمل بعد كونهما مثبتين مع التصريح بالعرض عليه وحده.

الثالث: ارجاع الائمة (عليهم السّلام) الي كتاب الله و الاستنباط منه بعد سيرتهم العملية في ذلك مثل قولهم في باب المسح- مثلا- و امسح علي المرارة يعرف هذا و اشباهه من كتاب الله. (راجع الرواية 5 الباب 39 من ابواب الوضوء/ الوسائل) و ذلك دليل علي حجيّة ظاهر الكتاب.

و اما ما يمكن الاستدلال به علي الثاني و انه لا بدّ من مراجعة السنّة مع الكتاب معا في استنباط الاحكام

و عدم حجية ظاهر الكتاب، فأمور؛ منها:

الاول: وجود آيات في كتاب الله لا يعلم ظواهرها بالنسبة للاحكام و المعارف الالهية، كقوله تعالي: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّٰاهِرُ وَ الْبٰاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و أمثالها.

و قوله تعالي: أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ و: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ و:

لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ و امثالها، في حين لا يعلم عدد الركعات في الصلاة بل و كثير من خصوصياتها، كما لا يعلم المفطرات في الصيام، و عدد مرات الطواف و اشواطه و سائر الخصوصيات في الحج، و ليس لنا ان نبدع من عند انفسنا في شي ء، اذن لا بد من السنّة و العترة معا.

الثاني: حديث الثقلين المروي عن الفريقين الدالّ علي امتناع انفكاكهما الي يوم القيامة، و ان المتمسك بهما هو الناجي دون المتمسّك بأحدهما.

الثالث: وجود الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، علي ما جمعه الشيخ الأجل الحرّ العاملي (رضوان الله عليه) في وسائله في كتاب القضاء و الشهادات في الباب 13 من ابواب صفات القاضي، حيث قال:

عن ابي جعفر (عليه السّلام) انه قال لقتادة:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 32

«ويحك يا قتادة ان كنت فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و ان كنت فسّرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت، ويحك يا قتادة، انما يعرف القرآن من خوطب به». (الرواية 25 من الباب)

و عن الامام الصادق (عليه السّلام) انه قال:

«سمعت جدي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلم) يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار». (35 من الباب)

و قوله (عليه السّلام):

«من فسّر القرآن برأيه فقد افتري علي الله الكذب». (37 و 41 من الباب) و غيرها.

و لكن

بعد ذلك كله هناك أمور يرتفع بها الخلاف و يتم الامر من الطرفين لتمامية الاستدلال بظواهر الكتاب و حجيتها و صحة الروايات أيضا:

الاول: قوله تعالي:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتٰابَ مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ ابْتِغٰاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّٰهُ وَ الرّٰاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. (آل عمران [3] الآية 7)

فان صريح الآية تقسم آيات الكتاب الي قسمين:

1- المحكمات التي لا شبهة فيها فهي المرجع و الاساس لسائر الآيات فانها أمّ الكتاب.

2- المتشابهات التي تحتمل وجوها و تحمل معاني و لها ظاهر و باطن، فهي تحتاج الي التأويل و التفسير، و هو استخراج ما في الخفاء و ارجاع الظاهر الي الباطن و كشف القناع و السر، و لا يعلم ذلك الّا من خوطب به، و نفس المخاطب ظاهر.

و حينئذ فالتمسّك بظواهر الآيات المحكمات الظاهرة في بيان المراد غير المحتمل للمعاني لا بأس به، كما ان التفسير و التأويل فيما يحتاج إليهما مما يتحمل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 33

الوجوه لا يجوز بالرأي أو الاجمال، و إنّما يعرف القرآن من خوطب به، و المعرفة غير العلم.

الثاني: الاخبار الخاصة الواردة في المقام، فانها تدلّ علي جواز الاستدلال بظواهر الكتاب- في الجملة- مع لزوم الاتكال علي السنّة في الموارد اللازمة، فعن ابي جعفر (عليه السّلام) ان رجلا قال له: أنت الذي تقول: ليس شي ء من كتاب الله الّا معروف؟ قال: ليس هكذا قلت، انّما قلت: ليس شي ء من كتاب الله الّا عليه دليل ناطق عن الله في كتابه مما لا يعلمه الناس (الي ان قال): ان للقرآن ناسخا و منسوخا و محكما و

متشابها و سننا و أمثالا و فصلا و وصلا و أحرفا و تصريفا فمن زعم أن الكتاب مبهم فقد هلك و أهلك (الحديث 39/ الباب 13 من ابواب صفات القاضي).

و ما عن النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في احتجاجه يوم الغدير علي تفسير كتاب الله … - الي قوله «معاشر الناس تدبّروا و افهموا آياته و انظروا في محكماته، و لا تتبعوا متشابهه … » (الحديث 43 من الباب).

و غيرها مما لا يخفي علي المتتبع فانها تدل علي جواز الاتكال علي ظواهر الكتاب بل لزومه.

الثالث: ان سيرتهم العملية (صلوات الله عليهم أجمعين)- مع أنهم هم الراسخون في العلم و هم الذين يستنبط منهم معالم القرآن الحكيم، و هم الابواب التي أمر الله تعالي إتيانها في قوله تعالي: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا- كان الاستدلال بظواهر الكتاب و الاستنباط من آياته، و الارجاع الي كتاب الله، و أمر الناس بالاستنباط من ظواهره، كما تراه في شراشر الفقه و شتات الاحكام كثيرا، مثل ما جاء في أحكام الوضوء كما ذكرناه من قوله: «يعرف هذا و اشباهه من كتاب الله» (الحديث/ 5/ الباب 39 من ابواب الوضوء)، و الاحاديث/ باب 15 من الابواب و غيرها).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 34

و الحاصل: لزوم التمسّك بالعترة الطاهرة (صلوات الله عليهم) في تفسير القرآن و تأويله و الاستنتاج من مشكلاته و متشابهاته مع بقاء الظواهر علي الحجية و جواز التمسّك بل الوجوب في المحكمات الظاهرات كما تعلم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 35

كتاب الطهارة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 37

الطهارة

و في الباب آيات بينات، الاولي: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ حَتّٰي تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ

وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَفُوًّا غَفُوراً. (النساء [4] الآية 43)

المستفاد من الآية الكريمة أمور:

الأول- النهي عن الصلاة في حال كون المكلّف لا يعلم ما يقول- من أيّة علّة كانت و لو من النوم أو الغضب و غيره- كما هو مقتضي معني السكران، و قد صرّحت بذلك السنّة المباركة (بل باختصاصه بسكر النوم و نفي سكر الخمر) كما في صحيحة الحلبي و زرارة في نور الثقلين في ذيل الآية، و الرواية الخامسة من الباب الاول من افعال الصلاة/ ج 4 الوسائل و غيرها، فراجع روايات الباب.

و الظاهر الحرمة؛ و النهي في العبادات يفيد الفساد، و الالتزام به في مطلق:

«من لا يعلم ما يقول … » لمطلق السكر مشكل، و ان كان يتمّ في الخمر لزوال العقل و عدم التكليف، فلا بد من حضور القلب و الخشوع ما أمكن «1» و ان لم نقل بدلالة

______________________________

(1)- التأمّل في سياق الآية يفيد عدم ارتباطها بالصلاة حال السكر من شرب الخمر، لا كما توهّم البعض و استدلّ به علي التدرج في تحريمه و هو غير تامّ، كما فصّلناه في باب الأطعمة و الأشربة؛ و الآية في مقام بيان لزوم الطهارة و لزوم التوجّه و الخضوع نفسيا، و لا بأس باستعمال اللفظ في المعنيين علي استخدام بعد القرينة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 38

الأمر «1» بالشي ء علي النهي عن ضدّه، فان النهي في المقام بعد الأمر بأصل الصلاة يعطي لزوم ذلك، و علي القول به فالأمر بالخضوع المستفاد من

مجموع الغاية و المغيّي يقتضي النهي عن تركه، الظاهر في الفساد بدونه، نعم لا يجب العلم بمفهوم ما يقال في الصلاة و ما يؤدي من اعمال، كما هو الحال في أكثر المصلّين لا سيما في غير العرب منهم لعدم تمكّنه علي ذلك الّا الأوحدي من الناس، و قد يعدّ ذلك قرينة علي إرادة الكراهة حتي يستحب الحضور كما لا يبعد فقهيا، و لكن الأقوي بقاؤه علي ظاهره فيجب المراعاة لا سيما علي شمول اطلاق سكر الخمر علي نزولها قبل تحريمه صريحا كما لا يخفي «2»، و يقابله قوله تعالي في المنافقين: وَ إِذٰا قٰامُوا إِلَي الصَّلٰاةِ قٰامُوا كُسٰاليٰ يُرٰاؤُنَ النّٰاسَ وَ لٰا يَذْكُرُونَ اللّٰهَ إِلّٰا قَلِيلًا.

(النساء [4] الآية 142)

الثاني- النهي عن التقرّب الي الصلاة في حال كون المكلّف مجنبا، فلا صلاة له قبل الاغتسال لأنه محدث، فيجب عليه اذن رفعه عند إرادة الصلاة و التقرّب إليها، و ذلك صريح في كفاية غسل الجنابة عن الوضوء للصلاة من غير افتقار الي جعل الطهارة عن الجنابة قسيما للوضوء كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله في قوله تعالي:

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا لإمكان الخلل في تفسير التطهير بالغسل و لا يحتمل في المقام بعد التصريح بقوله تعالي: حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا أو في كونه واجبا للصلاة «3».

الثالث- الاستثناء و هو في قوله تعالي: إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حيث لا يناسب نفس الصلاة، كما لا يساعد إرادة السفر منه لغة و استعمالا في القرآن ألا تري في ذيل

______________________________

(1)- الأمر بالخضوع و العلم بما يقول هو المستفاد من مجموع الغاية. و علي القول بالاقتضاء لا بدّ من الفساد بدونه، فإنّ النهي عن العبادة يقتضيه.

(2)- كما يفيد ذلك أيضا قوله تعالي: «قَدْ أَفْلَحَ

الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلٰاتِهِمْ خٰاشِعُونَ» (المؤمنون [23] 1 و 2)، فإنّ فلاح المؤمن مشروط بالخضوع في صلاته، و الصلاة بلا خشوع ليست بصلاة، فلا فلاح فيها اذن، و سيأتي تفصيل الكلام عنه في كتاب الصلاة إن شاء اللّه.

(3)- لإمكان الوجوب النفسي كما عن بعض الاعلام دون المقام فانه لا يحتمل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 39

الآية نفسها و آية الوضوء و الصوم و القصر في الصلاة من تعبير السفر و الضرب في الارض، و قول أهل اللغة في السفر أنه ضدّ الحضر، و في العبور الجواز من عبرة الي عبرة، و المعبر ما عبر به النهر، و المعبر الشط المهيّأ للعبور (القاموس)، و غيره قريب منه.

فعبور السبيل غير السفر أوّلا، مع لزوم التكرار علي ارادته لضرورة التقييد بالتيمم و يكون المعني: لا تقربوا الصلاة جنبا الّا أن تكونوا مسافرين فلا بأس بالتقرّب إليها جنبا مع التيمم، و يشعر بأنه مباح لا رافع للحدث- كما عن الطبرسي (رحمه اللّه) و غيره، فلا بد و ان يرجع الي مصلاه بتعميم المستثني منه؛ و لا ينطبق الّا علي المسجد فانه لا اشكال في جواز الوقوف او العبور- و هو جنب- في غيره (أي في غير المسجد) و منه (أي المسجد) ضرورة فتدلّ علي حرمة وقوف الجنب في المسجد و عبوره منه حتي يتم الاغتسال و التطهّر بالماء او بالصعيد، كما في ذيل الآية «1» و اطلاق الاغتسال يدلّ علي لزوم غسل جميع البدن.

الرابع- ان من لم يجد الماء أو كان مريضا يضرّه الماء (فهو غير واجد باعتبار) او كان مسافرا فلم يجد الماء أوّلا- فإنّها من المصاديق المعتبرة- و كان محدثا بأن جاء من الغائط أو لامس النساء

مثلا «2»، فعليه التيمم علي الصعيد الطيّب و هو وجه الارض ثم مسح الوجه و اليدين.

و حيث ان المرض و السفر مما يورث عدم وجدان الماء اعتبارا او حقيقة دون الحدث، فلا يبعد ان يكون (او) في قوله تعالي: أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ …

______________________________

(1)- و اما استعمال لفظ الصلاة في أكثر من معني فلا بأس به لا سيما علي وجه الاستخدام كما في محله.

(2)- ان من أدب القرآن الكريم ذكر القبائح بلوازمها فذكر التخلّي بالغائط أي بالمكان المنخفض، و المواقعة باللمس و المسّ، و ذلك في آية الطلاق «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ» و بالمباشرة في الصوم و الاعتكاف كما في سورة البقرة [2] 187 و 237، و ليس المدار معني اللمس مطلقا قطعا مع التصريح به (في الرواية/ الحديث 4/ الباب 9/ أبواب نواقض الوضوء) بالرفث و هو كلام متضمن لما يستقبح ذكره من دواعي الجماع كناية عن الجماع في ليلة الصيام/ البقرة [2] 187.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 40

بمعني الواو «1». و مع بقائه علي ظاهره كما هو الاقرب كون المريض و المسافر محدثا مفروغ عنه، و قيل انهما للغلبة.

و مسح اليدين يتحقق عادة بمسح كل يد علي ظهر الاخري، و ان كان يصدق مسح البعض الآخر علي اي جزء و طرف لغة، الّا انه غير طبيعي يحتاج الي معونة زائدة لا سيما بعد الاطلاق، فالانصراف و كفاية الوجه الطبيعي منه يعيّن ذلك في التيمم، و هو قصد الشي ء لغة. و ليس قصد الصعيد- أي وجه الارض- المسح بالوجه و اليدين علي الاطلاق، بل ضربهما عليها و مسحهما علي الوجه ثم مسح كل يد علي ظهر الاخري، يبدأ باليمين طبعا كما هو

الظاهر، و لا يلزم الاستيعاب فيهما لمكان الباء «2»، و الترتيب يستفاد من الترتيب.

و من المعلوم ان عدم الوجدان غير الفقدان، فيجب التفحّص كما جري عليه الفقهاء العظام (رضوان الله عليهم) و قد حددت السنّة حدوده بالغلوتين «3» او غلوة.

و كذلك لا بد من صدق الصعيد بأنه وجه الارض فلا يصح التيمم علي معادن لا يطلق عليها اسم الارض لدي العرف كما لا يخفي، و الارض المطبوخة أو السحيقة أو الخليطة ما لم يمنع صدق الارض عليها. فيجوز التيمم علي الخزف و الجص و الاسمنت «4» الّا مع الشك في الصدق العرفي بعد الطبخ كما في الاخيرين، و المستفاد من رواية السكوني معه جواز التيمم علي الجص و النورة حيث ان الملاك هو الارضية و لو بأصله و لا يضرّ لغيره ما في ظاهره الّا ما كان مخرجا؛ و لذا لا يجوز في

______________________________

(1)- و يبعده عدم بيان حكم السالم الحاضر الفاقد للماء.

(2)- فلا يتمّ ما عن ابن بابويه (رحمه اللّه) من وجوب الاستيعاب، و في روايات الباب صراحة بحمد الله فراجع (الوسائل) الباب 11 من ابواب التيمم، و (الجامع) للاستاذ المغفور/ ص 222 ج 1.

(3)- الباب 1 من ابواب التيمم من كتاب الوسائل. و الاقرب ان الغرض حصول الاطمئنان بعدمه ليصدق عدم الوجدان، و لذلك اختلف حدي التفحّص حسب اختلاف المحل و الحال.

(4)- كما تقتضيه رواية السكوني أيضا و السنّة معتمدة عندنا كما حققناه فراجع الوسائل/ الباب 8 من ابواب التيمم رواية رقم 1 فانه لا تعبّد فيها بل بما ان اصل الجص و النورة هو الارض دون الرماد الذي اصله الشجر فيتمّ الامر في الاسمنت و ما يصنع منه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 41

الرماد

فإنّ اصله- الشجر- و السنّة هي المعتمد كما حققناه. كما انه لا بد من الطهارة لصدق كلمة الطيّب كما هو الظاهر «1».

الثانية- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

(المائدة [5] الآية 6)

يستفاد من الآية أمور:

الاول- وجوب غسل الوجه و اليدين و مسح الرأس و الرجلين عند إرادة الصلاة بالأمر بها، و حيث لا معني لزمن القيام فلا بدّ و أن يكون قبلها و عند ارادتها، و غسل الوجه لا يصدق الّا علي غسل ما اشتملت عليه الابهام و السبّابة و هو ما يغسل لدي عامة الناس من غير التفات الي ذلك الاشتمال، فالواجب غسل المقدار و يزيد عليه شيئا للعلم بحصوله «2»، و تحققه عرفي، فلا فرق بين اجراء الماء علي الوجه أو غمسه فيه فلا يجب التخليل في الشعر الكثيف.

ثم يجب غسل اليدين و هي مجموع الكتف و العضد و المرفق و الساعد و الزند و الكف و الأنامل حسب معناها اللغوي و قد حددت بقوله تعالي: إِلَي الْمَرٰافِقِ

______________________________

(1)- و عن الاستاذ (قدّس سرّه) في الميزان ان الطيّب من الشي ء الباقي علي حاله الطبيعي فيخرج الخارج بالطبخ و غيره كالخزف و المعادن فراجع، و الحق ان الأمر ليس كذلك كما تراه في موارد استعمال القرآن الكريم كثيرا و لم نجد

فيها- مع كثرتها- ما يساعد علي ذلك المعني و انما يساعد ذلك الصحة قبال الفساد دون الطيّب الطاهر الذي يستلذّ به الحس كما لا يخفي.

(2)- و قد حدد به في السنّة كما في صحيحة زرارة الباب 17/ أبواب الوضوء.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 42

لاخراج الكتف و العضد و المرفق و أنّ الواجب غسل باقيها «1» و المرفق يغسل من باب المقدمة العلمية. و الانسان بطبعه يغسل يده الي جهة الأنامل، فلا دلالة في الآية علي جهة الغسل كما توهّمه بعض فقهاء العامة من كلمة: «الي» و لم يذكر مبدأها و قد فصّل ذلك في السنّة المباركة.

و مسح الرأس يجب بمقدار الصدق، و يتحقق في البعض منه بمقدمة الرأس و ان تحقق بغيره مع معونة زائدة لغة، فالواجب الأول و لا دليل علي الزائد، و الأرجل الي الكعبين في ملتقي القدم.

الظاهر أن المراد من الكعب هو العظم الرابط بين قصبة الساق و عظم القدم المنتهي ذيله الي المشط و عظم العقب و له زائدتان في أعلاه داخلتان في حفرتي قصبة الساق و زائدتان في أسفله داخلتان في عظم العقب و ناتئ في مقدمه يرتبط به عظم القدم. و إرادة ذلك هو الطريق الوحيد للجمع بين ظهور الكعبين في التثنية لكل قدم [بلحاظ الزائدتين في اسفله: ملتقي القدم و الساق بعد مقارنته مع المرافق- و لكل يد مرفق- بل و سائر المجموع في الآية و روايات الباب (3 و 9/ الباب 15 من ابواب الوضوء) في إرادة العظمين الناشزين في طرفي القدم المضمومين و التصريح بأنّهما من عظم الساق] و بين اطلاق اهل اللغة و كلمات الفقهاء (رضوان الله عليهم) من انه أصل الساق او المفصل. و

اما إرادة قبة القدم فلا تساعد ظهور التثنية و مساواته الجمع في المرفق بعد أن جمع الوجوه و الايدي و كذا الرءوس و الأرجل بلحاظ المكلّفين.

______________________________

(1)- و من ذلك اختلف فقهاء العامة بمحضر الخليفة في تطبيق آية السرقة: «السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا … » (المائدة [5] 38) و ان القطع من الزند او الساعد او فوقه و استدل الامام (عليه السّلام) بعد طلب الخليفة و اصراره علي انه من الأنامل بقوله تعالي: «وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ» (الجن [72] 19) و الكف منها فلا يجوز قطعه و حل الأمر. و لو لم تكن اليد شاملة للجميع لم يتم البحث و الاستدلال عليه.

فهو بيان لغاية المغسول دون الغسل كما في قوله تعالي: «إِلَي الْكَعْبَيْنِ» لبيان غاية الممسوح قطعا و السياق واحد.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 43

و المسح بمقدار الصدق دون مجموع الرأس و الرّجل لمكان الباء، و يعبّر عن ذلك بقولهم: «غسلتان و مسحتان» بلسان السنّة في الوضوء، و الترتيب مستفاد من الترتيب كالموالاة.

الثاني- وجوب التطهّر من الجنابة عند إرادة الصلاة بمقتضي العطف و الاستئناف بقرينة ذيل الآية فهو غيريّ لا نفسي.

و التطهّر (متعديا و مزيدا) ظاهر في رفع الحدث و القذارة النفسية كما ترشد إليه موارد استعماله في الكتاب الكريم حيث قال تعالي: إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ (آل عمران [3] الآية 42) و: أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ (المائدة [5] الآية 41) و: أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (الاعراف [7] الآية 82) و: خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا (التوبة [9] الآية 103) و: فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (التوبة [5] الآية 108) و: إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ

عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (الاحزاب [33] الآية 33) و غير ذلك في موارد كثيرة موجودة في سورة النمل [27] الآية 56 و سورة الانفال [8] الآية 11 و …

(و اللازم المجرد فيه) ظاهر في رفع الخبث و النجاسة كما هو معناه اللغوي في قولهم طهر ضد نجس، و قال تعالي: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً.

و الأمر في الآية المبحوث عنها تعلّق بالتطهّر متعديا فيعطي زائدا علي الغسل و التنظيف لزوم تطهير النفس، و الظاهر أن خبثها الذي لا بد من ازالته في المقام هو البعد عن الانسانية، و التوغل في الحيوانية المتحقق حال الإجناب و المباشرة، و ذلك معني الجنابة دون البعد عن أحكام الطاهرين كما قيل. و لا يرتفع ذلك الّا بالتقرّب الي الله تعالي حين امتثال امره فيعود الي الانسانية، فيعتدل. و الانسان ينجذب و ينتهي الي قطب بالتكرار و الاصرار، كما يرتفع خبثه الظاهري الحاصل تحت كل شعرة من جسمه بتنظيفه و اغتساله، فان الغسل ظاهر فيه بل صريح قوله تعالي في قصّة أيوب:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 44

ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هٰذٰا مُغْتَسَلٌ بٰارِدٌ وَ شَرٰابٌ (ص [38] الآية 42) و: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ … و حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا (النساء [4] الآية 43)، فتزيد الآية علي سابقتها بذلك.

و عليه يترتب اختلاف الفقهاء في جواز مباشرة النساء بعد انقطاع الدم و قبل الغسل لاحتمال كل من اللازم و المتعدي في القراءة.

الثالث- وجوب التيمم علي من لم يجد الماء بظاهر ما استفيد من الآية السابقة باضافة الضمير الراجع الي الصعيد المؤكد للأمر «1» الدال علي الضرب علي الارض.

الرابع- ان التيمم تطهير بدلي من الماء اراده الله تعالي تتميما للاحسان و ما

يريد ليجعل علي الناس من حرج، و عليه فلا يجوز المبادرة مع احتمال زوال العذر لعدم صدق: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً علي الاطلاق- عرفا- بعد الأمر بأصل العبادة و الالتفات الي سعة الوقت كما فيما اذا علم بزوال العذر آخر الوقت، و ان كان يصدق فيهما في الجملة.

الخامس- ان الماء المطهّر لا بد و ان يصدق عليه اسم الماء علي الاطلاق من غير فرق بين أقسامه: المطر و النهر و البئر فلا يصح الوضوء أو الغسل بالمضاف مما لا يصدق عليه الماء الّا مع الاضافة كماء الورد و ماء الفواكه، و ليس في الآيات الكريمة غير السنّة ما يدل علي عبادية الطهارات حتي تحتاج الي النيّة، و ليس في الآيات لو لا السنّة المباركة ما يدل علي عبادية الطهارات الثلاث، و غاية ما يمكن تقريبه في المقام ان المخترعات الشرعية- حيث انها غير معهودة لدي العقلاء لا سيما اذا كانت مربوطة بالعبادات- لا يأتي بها المكلّف إلّا لأمر الشارع، و الاتيان

______________________________

(1)- و قد يستفاد منه لزوم تعلّق شي ء من التراب باليد، و فيه كلام بعد جواز النفض بل استحبابه كما أثبت في محله و اشارت إليه روايات الباب زائدا علي تضاربه مع الصدر فان الصعيد نص في مطلق وجه الارض لا يقيد بخصوص التراب لظهور منه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 45

بالشي ء للأمر به يرجع الي رجاء الثواب او خوف العقاب او أهلية الآمر لامتثال أمره، و لا معني للقربة الّا هذا، و الطهارات من تلك المخترعات بعد ما عرفت من افادة التطهّر متعديا في الغسل و قوله تعالي: وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ في الثلاثة من ازالة الحدث المتوقف علي التقرب «1».

ثم اعلم ان ذلك كله كان

دليلا علي لزوم الطهارة من الحدث بالماء و اذا لم يجد فبالتراب للصلاة، و اما من الخبث و هو كل ما يستقذره الانسان بطبعه من البول و الغائط و المني و الدم و الميتة و ما ألحق بها الشرع المقدّس لوجود القذارة فيها مثل الكلب و الخمر و الخنزير و الكافر، فيجب التطهّر منها بالأولوية أولا، و بقوله تعالي:

وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ بعد قوله تعالي: وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ثانيا «2»، لو قلنا بأن المقصود من التكبير هو التكبيرة الافتتاحية للصلاة ليقوي ظهور تطهير الثياب فيما هو المبحوث عنه بالطهارة عن الخبث كما ذكره الأكثرون.

و عندنا ليس الأمر كذلك و المسألة تعود الي ترغيب النبي الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) عند شروعه بالتبليغ بتكبير الله تعالي و التوجّه الي عظمته وسعة قدرته و ان الامور بيده تعالي؛ فعليه يبدو القيام له و خلع الدثار للقيام و تكبير الملك العلّام و تنظيف الثياب ذكرا في مقابل الدثار و التدثّر و التدثّر و كل ما لا يساعد علي القيام، أو ترك ما ينافي الدعوة و الانذار مما يعدّ مانعا من الاقبال من الاقبال علي الله، و يؤيد ذلك قوله تعالي بعده:

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ فانه الخبائث و النجاسات الظاهرية، و لو كان الامر كما ذكروه للزم التكرار، فالأمر راجع الي تطهير القلب بوجه تتحصل فيه سكينة ينزلها الله علي قلوب المؤمنين ترغيبا لهم و مقدمة لقيام امره مع حفظ مقامه (عليه و علي آله الصلاة و السلام).

______________________________

(1)- فالحكم ببطلانها لو لا القربة مستفاد من السنّة في أبواب مختلفة لا سيما روايات باب 8 الي 12 من أبواب مقدمة العبادات من الوسائل.

(2)- سورة المدثر [74] 3 و 4.

فقه

القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 46

و يتطهّر من الخبث بالماء أيضا بعد عرفية الامر و عقلائيته لقوله تعالي:

وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ (الانفال [8] الآية 11) و قوله تعالي: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (الفرقان [25] الآية 49) «1».

و المطهّر هنا ما صدق عليه الاسم من غير فرق بين المطر و ماء البحر و النهر و البئر لاطلاق الآية، و الاخيران أيضا منزلان من السماء، و ماء البحر لا يصدق معه:

فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فلا يطهّر غير الماء من المضاف لمقام الامتنان.

و الحاصل انه لا يجب التطهير من الخبث إلّا لما يشترط فيه الطهارة من الحدث- كالصلاة كما عرفت- و الطواف- كما سيأتي الحديث عنه في الحج ان شاء الله-، و مسّ كتابة القرآن لو قلنا بدلالة قوله تعالي: لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «2» عليه كما لا يبعد «3»، اخذا بالإطلاق و ان كان الطاهر غير المطهّر «4».

و اما وجوب التطهّر في المأكول و المشروب و الاناء المتناول فيها فلحرمة أكل الخبائث تكليفا كما سيأتي البحث عنه في باب الاطعمة و الاشربة ان شاء الله، قال تعالي: إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوٰاحِشَ (الاعراف [7] الآية 33) و لتقييد الحلال في كثير من الآيات بالطيّب … : أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ (المائدة [5] الآية 5) و حرمة الأكل غير وجوب التطهير في اعتبار التكليف. و في الحقيقة ان أكل النجس و شربه حرام لا أن تطهيره واجب فانه مقدّم يحكم به العقل كما هو ظاهر.

______________________________

(1)- الظاهر ان الاولي ناظرة الي أمر آخر من منّ اللّه تعالي عليهم بانزال الماء عليهم في ظرف الحاجة بعد الفراغ عن كونه مطهرا عن الحدث و

الخبث كما في توصيف الثانية فلا تأسيس في الاصل، و الخصوصيات راجعة الي السنّة فلا يتم الاستدلال بهما لاثبات المطهرية؛ و الأمر سهل.

(2)- الواقعة [56] الآية 79.

(3)- فان هذا القرآن نزل تبيانا لكل شي ء و هو ظاهر غير مكنون، و الذي لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ هو القرآن الكريم فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ لا يدركه و لا يمسّه إلّا الطاهرون المطهّرون بالمعنوية من الطهارة.

(4)- فان الاول يطلق علي مغسول الظاهر دون الثاني المستعمل في طاهر الباطن كثيرا في الكتاب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 47

و اما قوله تعالي: فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ بعد قوله: لٰا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَي التَّقْويٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ (التوبة [9] الآية 108). فهي- لا سيما مع ملاحظة السياق- تنهي عن القيام في مسجد ضرار المبني من قبل الذين اتخذوه إرصادا لمن حارب الله و رسوله و كفرا و تفريقا بين المؤمنين و يحلفون أنهم محسنون و الله يشهد أنهم لكاذبون.

و مركز ثقل الكلام تقدّم مسجد النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الذي أسس علي التقوي و انه الأحق أن يقوم فيه رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و هو الذي قد هداهم الي الحق و الايمان و أنقذهم من الكفر و الضلال و العصيان.

ثم تذكر الآية تأييدا لأحقية ذلك المسجد غير الذي بناه الكفار ضرارا، حيث انه قد أسس علي التقوي و ان في مسجدك- يا رسول اللّه- رجالا مسلمين واقعا يحبّون أن يتطهّروا و يريدون أن يهتدوا، في حين ان رجال مسجد ضرار مبيّتون للكفر و هدفهم التفريق و هدم الاسلام، و الله يحب المطهّرين.

فلا يرتبط

ذلك بالطهارة عن الأخباث و الأرجاس الظاهرية، فان الآية تريد التقوي التي بني عليها ذلك المسجد و هي الطهارة التي هي غاية البناء و انها لله تعالي و انها طهارة من كل شرك و ظلمة و خبث و شيطنة و ان كانت الطهارة الظاهرية في طريقتها الثابتة بأدلتها العقلائية أو الشرعية كما لا يخفي، و ان كان قد يحتمل شمولها لها بالإطلاق و السياق فانه يوجب الانصراف فراجع السنّة.

و كيف كان فانه يستفاد من المقام لزوم اجتناب زعماء الدين و العلماء العاملين المؤسسات و المنظمات التي تدعو بظاهرها الي الاسلام و نشره، و باطنها وساوس و دسائس شيطانية يراد بها هدم الاسلام و محوه.

فعليهم اذن الاجتناب و التحرز من هذه المؤسسات و المنظمات علي وجه يوجب ضعفها حتي الانحلال و الانعدام لا علي وجه ينتهي الي التفرّق و التشعّب بأن يتصدي كلّ جمع لآخر حول مسائل جزئية، عند ذلك تنهدم كرامتهم و تذهب

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 48

ريحهم.

و عليهم تقوية المدارس و المعاهد و الجوامع و المساجد التي أسست علي الحق و التقوي و التي فيها رجال و نساء طلّاب و طالبات و علماء و قضاة و أمراء و حكام لا يريدون إلّا حكم الله تعالي و شريعته الحقة، يريدون ان يتطهّروا و الله يحب المطهّرين، اللهم طهّرنا من كل رجس و رجز و دنس و اجعلنا من المتطهّرين.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا … (التوبة [9] الآية 28)

تفيد الآية أمورا:

الاول- ان المشركين نجس، و المشرك من أشرك بالله تعالي غيره من مطلق الطبيعة، أو مخلوق سماوي أو أرضي أو غير ذلك «1»، و المنكر

له تعالي اما بالأولوية فهو ملحق به في الحكم، أو لرجوعه إليه حقيقة في الموضوع فانه قد جعل ما انتهي إليه في البدء شريكا له واقعا من غير التفات.

و المنكر لأصل من الأصول كالنبوة أو الامامة أو لفرع من الفروع كالصلاة و الصوم يرجع الي اللّه مشركا و ان كان متوجّها إليه.

و النجس هو المستقذر المجتنب عنه طبعا، كالخبث يجب الاجتناب عنه «2».

الثاني- حرمة قربهم من المسجد الحرام لوجود النهي، فيحرم الدخول قطعا و لعله كناية عنه فلا يحرم نفس التقرّب بما هو، كما لا يخفي.

الثالث- يستفاد من التفريع انه يحرم دخول كل نجس او ادخاله في المسجد

______________________________

(1)- في الالوهية و المبدأ كالثنويين، أو الربوبية النفسية لا به تعالي فإنه باذنه و هو توحيد أيضا.

(2)- فيعمّ الأقذار الروحية كما صرّح به أهل اللغة و لا يختصّ في الآية بها كما توهّمه الراغب، صاحب «المفردات» فراجع. و الظاهر أن حمله لذلك كان لفتوي علماء العامة به كذلك.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 49

مطلقا «1»، و لا خصوصية للكفر في ذلك، و ذلك مع السراية أو هتك الحرمة ظاهر، و اما بدونهما فمشكل و ان كان الاحتياط يقتضي الترك.

و هنا فروع:

الاول- ان أهل الكتاب بعد انكارهم نبوة نبينا محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و ان كانوا يعترفون بوجود الله فهم من المشركين حكما، و الكلام عنهم في زماننا هذا انهم محرّفون لكتبهم و معتقدين بما هو أنكر من الشرك «2» مع ان انكارهم راجع الي انكار نبيهم أيضا بل الي انكار الله تعالي كما تعلم.

و لا يضر الحكم عدم تنبّه أكثرهم بذلك الارتباط، فان معه لا الحاق، بل هم منهم كما هو ظاهر من قولهم:

عزير ابن اللّه و المسيح ابن اللّه.

و اما ضرورة المعاشرة و الارتباط بهم في الحياة الاجتماعية اليوم، لكون العالم كالبيت الواحد، و البشر كالعائلة الواحدة التي يؤثر بعض أفرادها في بعض و يتأثر به، فلا يغيّر الحكم بل يقدّر بقدرها، و ستأتي زيادة في التوضيح بهذا الصدد في طعام أهل الكتاب ان شاء الله، و يؤيد ذلك ذيل الآية بغية حفظ الاستقلال و نفسية الامة الاسلامية.

الثاني- هل ان نجاسة المشركين ذاتية أو عرضية أو سياسية؟ و قد ذهب الي كل واحد من ذلك ذاهب، و الأقوي عندنا الاول كما يؤيد ذلك معني النجاسة لغة، فانه القذارة الأعم من الظاهر و ما يدرك بالبصيرة كما عن القاموس و غيره، و اما ما اختاره صاحب المفردات المتفرّد في لغات القرآن من الاختصاص بالثاني، فلما افتي به فقهاء العامة من ان نجاسة الشرك راجعة الي الباطن، فان الشرك انحراف عن

______________________________

(1)- المسجد الحرام و غيره بإلغاء الخصوصية المتفاهم عرفا من طرفي المشرك و المسجد الحرام، و تنقيح المناط فيهما نفي الأول بما انه نجس فيشمل كل نجس، و في الثاني بما انه مسجد فيحيط كل مسجد و قيد الحرام بما هو أجلي المصاديق أو لإفهام ما ذكر في المتن.

(2)- و قد جمع ذلك في كتب و مؤلفات منهم و من غيرهم، فلا يتمّ ما يقال من انهم الموحدون كما كانوا في زمن نبيّهم، و من ان عدم اعترافهم بنبوة نبينا محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لعدم الثبوت لديهم ظاهرا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 50

الفطرة التوحيدية الانسانية التي فطر الله الناس عليها «1»، و هو ملاك الاستقذار لدي من كان له قلب أو ألقي السمع و هو

شهيد، و لذلك فان مطهّره الاسلام فقط، و اما العرضية الناشئة عن عدم اجتنابهم عن شرب الخمر و أكل لحم الخنزير فلا يختص بهم، بل المسلم غير المبالي مع العلم بعدم اجتنابه أيضا كذلك، و مطهّره الماء. و يلزم ذلك التخصيص في المشرك مع انه غير مخصص به.

و اما النجاسة السياسية فهي أمر آخر أعظم من ذلك و أشدّ نهيا و انكارا في الكتاب و السنّة كما سيأتي البحث عنها ان شاء الله في حرمة اتخاذ الكفار أولياء في باب المحرّمات، و لا علاقة لها بباب الطهارة و النجاسة، كما انها أصعب نكالا في الدنيا و الآخرة و لزوم الاجتناب عنها أوسع نطاقا من الطعام و الشراب، كما سيأتي البحث عن ذلك مفصّلا في كتاب المجتمع ان شاء اللّه.

و لا يخفي أنّ نجاستهم لا تنافي حلّيّة طعامهم، كما سيأتي البحث عنها ان شاء الله في باب الاطعمة و الاشربة.

الثالث- ان النهي عن قربهم المسجد الحرام «2» بما هو مسجد كما هو مقتضي الملاك، او يختص به بعظمة الكعبة، و ظاهر القيد دخالته في موضوع الحكم، فالحكم بعدم قربهم من كل مسجد من دون رطوبة أو هتك مشكل، لا سيما اذا كان في البين مصلحة اقوي كمصلحة التآلف، أو بيان شئون الاسلام و ظرائفه و مزايا معابده لدي المقارنة مع غيره كما هو المتعارف في زماننا هذا، إلّا أن يمنعه مانع آخر مما قد اشرنا إليه من النجاسة السياسية.

و اما في المسجد الحرام حتي مع ذلك فلا، لأن في المنع و حفظ الحرمة

______________________________

(1)- قال تعالي: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ النّٰاسِ

لٰا يَعْلَمُونَ» (الروم [30] 30) فهم بما هم نجس لا شي ء آخر كما هو ظاهر الآية.

(2)- الخطاب متوجّه الي المؤمنين كما هو مصرّح به في صدر الآية و المنهي تقرّب المشركين، فعليهم منعهم ان أرادوا التقرّب و الدخول.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 51

مصلحة لا يقابلها شي ء في علم الله تعالي للنص «1».

و لا تهافت بين ما ذكرنا و حرمة دخول كل نجس أو ادخاله في كل مسجد مع السراية او الهتك كما عرفت «2».

الرابعة- قوله تعالي:

قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَليٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ …

(الانعام [6] الآية 145).

الآية تدل علي نجاسة الميتة و الدم و لحم الخنزير، اما المذبوح بغير اسم الله تعالي فسقا و عمدا لا سهوا و نسيانا بيد مسلم فهو حرام و ملحق بالميتة شرعا فيكون نجسا أيضا، و وجه الدلالة ظاهر فان الرجس في اللغة هو القذر الخبيث، و استعماله في العصيان و الخبث الباطني بالعناية كما لا يخفي.

و الضمير راجع الي المستثني، إلّا أن يقال برجوعه الي أكل لحم الخنزير فقط لتدل الآية علي نجاسته بعد حرمته و حرمتهما، و اما نجاسة الميتة و الدم فلا، و لا تلازم بينهما لكنه خلاف الظاهر فانه تعليل للاستثناء، و تمام الكلام سنتعرّض له في باب الأطعمة و الأشربة ان شاء الله.

و عليه فلا يبعد دلالة قوله تعالي: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ (المائدة [5] الآية 90) علي نجاسة الخمر

______________________________

(1)- ان لم نقل هذا تفقّها لا فقها فعندنا لحرمة مؤتمر الامة و تستر قطب رحي

حياة كل شعب لئلا يتقرب إليه اجنبي؛ فكيف يدخله من اعلي المسالك السياسية في تحفّظ مصالح الامة و تنمية عروقها الحيوية، فروعي ذلك في الاسلام بأعلي وجه و جعل من الواجبات الاجتماعية، و المسجد لا سيما المسجد الحرام منه هو مركز ثقل المجتمع الاسلامي، و مجمع المؤتمرات النافذة المنتجة، فلا بدّ من تحصنه عن الاعداء. فالحرمة تعود الي أمر آكد من الظاهرية المقدمية.

(2)- فلا يتمّ إلغاء الخصوصية في طرفي المشرك و المسجد الحرام ثم الحكم بحرمة دخول كل نجس أو ادخاله في كل مسجد مطلقا فان ملاك الحكم ظاهر في الجملة مع القيد في الظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 52

أيضا بعد حرمته، و سيأتي الكلام عنه في محله ان شاء الله.

ثم ان قيد المسفوح يعطي تقييد الدم بالسائل «1» لا مطلقا بعد افادته لطهارة الباقي في المذبوح أو عدم نجاسته فانه غير مسفوح أيضا، و لا أقل من ان السائل هو المتيقن و الحكم بنجاسة غيره غير معلوم، و السنّة بحمد الله قد أوضحت الأمر «2»، و تفصيل الكلام هو في ملاك الحرمة أو انه نجس أو هناك تلازم، فراجع باب الاطعمة من هذا الكتاب.

______________________________

(1)- فان السفح هو السفك و الصب و الاراقة لغة، و المسفوح المراق السائل.

(2)- كما تري في الأبواب (13 و 23 و 35) من أبواب النجاسات في الوسائل/ ج 2.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 53

خلاصة الباب

الفروع المستفادة من الآيات:

(الاول) يجب في الصلاة حضور القلب و الخشوع ما امكن.

(الثاني) يجب التطهّر من الجنابة و من الحدث عند إرادة الصلاة، و في الجنابة يجب غسل جميع البدن.

(الثالث) يحرم دخول الجنب و وقوفه في المسجد و يجوز عبوره منه.

(الرابع) علي المحدث سواء كان متغوّطا

أو لامس النساء- عند عدم وجدان الماء- التيمم، و كيفيته: ضرب اليدين علي الأرض ثم مسحهما علي الجبهة و الجبينين و ظاهر الأنف ثم مسح اليمين علي ظاهر اليسري و مسح اليسري علي ظاهر اليمني من غير فرق بين الحدثين.

(الخامس) يجب علي المحدث الفحص عن الماء، فإن لم يجد فعليه التيمم.

(السادس) لا يصحّ التيمم علي المعادن و لا علي الارض النجسة.

(السابع) يصحّ التيمم علي الجص و الخزف و أمثالهما.

(الثامن) يجب الوضوء للصلاة و هو: (غسلتان و مسحتان)، فالغسلتان هما:

غسل الوجه بما اشتملت عليه الابهام و السبابة، و غسل اليدين الي المرافق، و المسحتان هما مسح مقدم الرأس و مسح ظاهر القدمين من أطراف الأصابع الي الكعبين.

(التاسع) ان التيمم تطهير بدلي فلا يجوز المبادرة مع احتمال زوال العذر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 54

عقلا، و يجوز مع الاطمئنان ببقائه كذلك.

(العاشر) يجب تطهير البدن و اللباس و المسجد للصلاة من كل خبث، و هو ما يستقذره الانسان من البول و الغائط و المني أو ما ألحق بها الشرع من الدم و الخمر و الميتة و لحم الخنزير و الكلب و غيره كما وضّح في السنّة الشريفة.

(الحادي عشر) المشركون نجس و يلحق بهم أهل الكتاب، لا بد من الاجتناب عنهم فيما يشترط فيه الطهارة، و نجاستهم ذاتية لا عرضية و لا سياسية، و التحرّز عنهم في الامور الاجتماعية أمر آخر.

(الثاني عشر) يحرم دخول المشرك و من ألحق به، المسجد الحرام مطلقا، و يجوز دخولهم غيره عند وجود مصلحة أقوي مع عدم السراية و الهتك.

(الثالث عشر) يحرم ادخال النجس في المسجد مع السراية او الهتك عرفا.

(تنبيه) ما تراه من الاحكام المعدودة الموجودة في القرآن الكريم في باب الطهارة من دون

ذكر الخصوصيات و الحدود في النجاسات و المطهرات حتي ماء الكر و حدّه و الماء القليل و عدّه المبحوث عنها في المفصّلات لهو مما يرشد جليّا الي الافتقار الي عدل الكتاب و هي السنّة المباركة حيث انّهما لن يفترقا الي يوم القيامة و قد أخطأ و ضلّ و أضلّ من قال: حسبنا كتاب الله.

اللهم اجعلنا من المتمسّكين بهما بحقهما يا الله، و اهدنا بهما الي سبيل الحق و الرشاد آمين يا ربّ العالمين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 55

كتاب الصلاة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 57

الصلاة

تعريفها:

الصلاة لغة: هي الدعاء و الثناء كما نراه في موارد عديدة من القرآن الكريم حيث قال أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (البقرة [2] الآية 157). فان البشارة للصابرين الَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ بأن عليهم صلاة من ربهم، لا يناسب إلّا الدعاء و الثناء بغفران ذنوبهم و ترفيع درجاتهم.

و قال تعالي: خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلٰاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (التوبة [9] الآية 103) و إرادة الدعاء ظاهر فان دعاءه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) هو الذي يورث السكون و الرضا عند المنفق.

و كذلك الأمر في قوله تعالي: إِنَّ اللّٰهَ وَ مَلٰائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (الاحزاب [33] الآية 56) ففي مثل تلك الموارد سياق واحد يعطي المراد من المعني.

و أما اصطلاحا: فهي عبادة خاصة تشتمل علي الدعاء كما يفيد ذلك آيات بيّنات في باب الصلاة و فيه فصول:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 58

الفصل الاول: وجوبها

نبحث في هذا الفصل فيما يدل علي وجوب اقامة الصلاة بطبيعتها اجمالا، و عندنا ان اقامتها أوسع نطاقا و مفهوما من قراءتها و الاتيان بها، و أثبت أثرا في الامة الاسلامية، فإقامتها تعني اتيانها، و تهيئة مقدماتها، و اعداد الغير لها فردا و جماعة، و لذلك فإن الأمر بها أتي بلفظ الاقامة، و لم نجد حثّا عليها بغيره، مع وجود الآيات الكثيرة في هذا الباب، و ذلك لتكون الطبيعة قائمة علي صلابتها في حياة المسلم شعبا و فردا و جماعة بنفسها و آثارها.

نعم قد

استعمل غيره في مواضع خاصة مشيرا الي أن ذلك ليس بصلاة كما في قوله تعالي: مٰا كٰانَ صَلٰاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلّٰا مُكٰاءً وَ تَصْدِيَةً.

(الانفال [8] الآية 35)

و قال تعالي: وَ مٰا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقٰاتُهُمْ إِلّٰا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لٰا يَأْتُونَ الصَّلٰاةَ إِلّٰا وَ هُمْ كُسٰاليٰ وَ لٰا يُنْفِقُونَ إِلّٰا وَ هُمْ كٰارِهُونَ. (التوبة [9] الآية 54).

و كذلك قوله تعالي: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلٰاتِهِمْ سٰاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ وَ يَمْنَعُونَ الْمٰاعُونَ (الماعون [107] الآية 4- 7)، فان الاتيان و الصلاة في المقامات لبيان نفي الصلاة، فما يكون في الكتاب الكريم أمر و حثّ إلّا باقامة الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 59

و كيف كان، فهي من ضروريات الاسلام بل من كل شريعة إلهية «1»، و في المقام آيات مباركات.

الاولي- قوله تعالي: وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (البقرة [2] الآية 110)

الثانية- قوله تعالي: قُلْ إِنَّ هُدَي اللّٰهِ هُوَ الْهُديٰ وَ أُمِرْنٰا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعٰالَمِينَ وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. (الانعام [6] الآية 71 و 72)

تصرح الآيتان بوجوب اقامة الصلاة في الجملة، و الظاهر انها مورد الأمر.

الثالثة- قوله تعالي: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذٰا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيٰاتُهُ زٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجٰاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ. (الانفال [8] الآية 2- 4)

و وجه الدلالة ان ارتباط اقامة الصلاة- و المعطوف عليه- بالايمان- مع الحصر- يفيد الوجوب للمؤمن، و لا يتوهم

ان قوله تعالي أُولٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يوجب دخالة الامور في كمال الايمان لا في اصله فتستحب و لا تجب، فان ملاحظتها مع سائر الآيات يعطي الاطمئنان بأن ما له دخل في الكمال هو وجل القلب بذكر الله تعالي و تزايد الايمان حين تلاوة آياته دون اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة اللذين هما من أعظم أركان الايمان، و المؤمن بحق فيه الكمال بعد تحقق الاصول و الاركان أيضا.

الرابعة- قوله تعالي: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ يُطِيعُونَ اللّٰهَ

______________________________

(1)- كما تري في قصة عيسي بن مريم (عليه السّلام) في القرآن الكريم حيث قال «وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلٰاةِ وَ الزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا» (مريم [19] 31). و في قصة أمّه «يٰا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّٰاكِعِينَ» (آل عمران [3] 43).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 60

وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (التوبة [9] الآية 71)

و توصيف المؤمنين بما ذكر في الآية الكريمة يدل علي الوجوب و ان لا ايمان مع عدم تلك الأوصاف، فإن الوصف مشعر بالعلّيّة و لا سيّما بعد ثبوت وجوب سائر الأوصاف المذكورة، كلّ في محلّه من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الي اطاعة الله و رسوله، فالسياق يؤكد الامر.

الخامسة- قوله تعالي: وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ). (الحج

[22] الآية 40- 41)

تصرّح الآية الكريمة بأن الله تعالي يدفع الناس بعضهم المنكرين المفسدين في الارض ببعضهم المؤمنين المصلحين لتعمر مساجد الله و ليذكر فيها اسمه و لتقام الصلاة فيها، و لو لا ذلك لهدّمت المعابد و لنسي ذكر الله تعالي، و لينصرنّ الله من ينصره و هم الذين اذا مكّنوا في الارض و صاروا مقتدرين و أولي الأمر، أقاموا الصلاة في مجتمعهم و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف ليعرف و نهوا عن المنكر لينكر.

و فعل الله تعالي واقع واجب بمعني و لا ينصرنّ الله إلّا ناصريه و هم المقيمون للصلاة، و الوجوب المستفاد من ذلك التعبير عندنا اكثر صراحة من الامر.

السادسة- قوله تعالي: وَ جٰاهِدُوا فِي اللّٰهِ حَقَّ جِهٰادِهِ هُوَ اجْتَبٰاكُمْ وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ هُوَ سَمّٰاكُمُ الْمُسْلِمِينَ … فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللّٰهِ هُوَ مَوْلٰاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْليٰ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ.

(الحج [22] الآية 78)

تدل الآية الكريمة علي أصل مطلوبية الصلاة، و وجوبها ظاهر حيث هي ملّة ابراهيم (عليه السّلام) فانه تعالي بعد أمره بالجهاد قال: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ، و اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة اساس ذلك الدين و مقوماته،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 61

فهي مطلوبة في الاسلام حقا كما كانت في كل شريعة إلهية، و سيأتي الكلام عن سائر فقرات الآية في محالّها ان شاء الله.

السابعة- قوله تعالي: وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. (النور [24] الآية 56)

دلالة الآية علي المطلوب، ظاهر بالامر الصريح في الوجوب.

الثامنة- قوله تعالي: هُديً وَ بُشْريٰ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ

يُوقِنُونَ. (النمل [27] الآية 2 و 3)

دلالة الآية علي المطلوب بتقريب التوصيف و إشعار الوصف بالعلّيّة و أنّه لا ايمان بدون تلك الأوصاف من اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة و اليقين بالآخرة، و لا يتم ذلك في قوله تعالي: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ (البقرة [2] الآية 3) بعد قوله تعالي: ذٰلِكَ الْكِتٰابُ لٰا رَيْبَ فِيهِ هُديً لِلْمُتَّقِينَ فان التقوي كمال الايمان و مرتبته العالية، و الظاهر دخلها فيه لا في اصله الا ان يقال إنّ قياسها مع سائر الآيات يعطي الاطمئنان بإفادة وجوبها و أنّ لها الدخل في حقيقة الايمان، و الكمال متصور بعد الأصل- كما عرفت في الآية الثالثة- و مقارنة الانفاق لو كان المراد منه الزكاة يؤكّد الأمر، و يؤيّد ذلك تقارنهما في الآيات الكثيرة حسب تعبير الاسلام «شهادتان و قرينتان».

التاسعة- قوله تعالي: وَ الَّذِينَ اسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ. (الشوري [42] الآية 38)

و التقريب كالسابق فانها وردت خلال أوصاف الذين آمنوا الواردة في الآيات السابقة فراجع.

العاشرة- قوله تعالي: إِنَّ الْإِنْسٰانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذٰا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلٰاتِهِمْ دٰائِمُونَ* وَ الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. (المعارج [70] الآية 19- 24)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 62

فان توصيف الانسان بنوعه و تذميمه ثم استثناء المصلّين الدائمين عليها منه يدل علي اصل مطلوبيتها بطبيعتها. و مع اضافة هذه الآيات الي سائر الآيات الاخري بهذا الصدد يستنبط منها مرتبة الصلاة و انها علي حد الوجوب.

الحادية عشرة- قوله تعالي: فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً

وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (المزمل [72] الآية 20)

التقريب بدلالة الأمر علي الوجوب مع تأييد سائر الأوامر في الآيات، حتي لا يقال ان السياق يفيد الاستحباب لذكر قراء القرآن و اقراض الله سبحانه المستحبّين المذكورين قبل الصلاة و الزكاة و بعدهما.

الثانية عشرة- قوله تعالي: يَتَسٰاءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ* مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَ كُنّٰا نَخُوضُ مَعَ الْخٰائِضِينَ* وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتّٰي أَتٰانَا الْيَقِينُ. (المدثر [74] الآية 40- 47)

أفادت هذه الآيات ان ترك الصلاة و ترك اطعام المسكين و الخوض مع الخائضين و التكذيب بيوم الدين هي من أسباب السلوك في سقر، فلا بد من فعل الاوليين و ترك الأخيرين للتخلص منه. و ما يوجب تركه النار و فعله النجاة عنها فهو في أعلي مراتب الوجوب؛ و من ذلك يعلم ان المراد من اطعام المسكين هو الزكاة مع تقارنه لها كما في الآيات السالفة.

و لا يقال ان الواجب هو المذكورات بأجمعها، و المهم فيها التكذيب بيوم الدين اعتقادا و الخوض مع الخائضين عملا، و جزء الواجب لا يجب مستقلا إلّا عقلا من باب وجوب المقدمة الداخلية.

و قد يقال: نعم، و ان كان انكار يوم القيامة أشدّ و أكثر للمكذب في تصلية الجحيم، و هو الموجب للخوض مع الخائضين المنتهي الي ترك الصلاة و اطعام الزكاة إلّا ان الاستفادة من حيث المجموع غير ظاهر و لو سلّم فذكر أن ترك الصلاة و ترك

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 63

الاطعام مستقلا مع انهما مقتضي الخوض اللازم من التكذيب يفيد اهميتهما و استقلالهما

في استحقاق النار.

و في المقام آيات اخري أيضا اقتصرنا علي عدد منها و قد أمر الله تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أن يأمر أهله بالصلاة و يصطبر عليها (طه (20)- 132) في قوله تعالي:

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلٰاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْهٰا … الآية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 64

الفصل الثاني: أجزاؤها

أي فيما يدل علي ان تلك الصلاة الواجبة بطبيعتها تشتمل علي أفعال و أقوال من قيام و ركوع و سجود و ذكر الله تعالي و تسبيحه اجمالا، و فيها آيات بيّنات تدل عليها، و قبل ذكرها و البحث عنها لا بدّ من تقديم مقدمة لها.

من المعلوم أنّ كلّ عمل إرادي في الصلاة لا يصدر الّا عن قصد و نيّة، فلا موضع للبحث عن أجزائها أو تقدم جزء علي جزء أو مقارنة جزء لها، فان اللازم اتيان الصلاة عن قصد و إرادة، لا عن هزل أو نسيان، فلا يلزم التلفّظ أو الخطور بالبال، نعم، لا بد من الخلوص فيها و قصد التقرب و الامتثال كما تفيده آيات، منها:

الاولي- قوله تعالي: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلٰاتِهِمْ خٰاشِعُونَ).

(المؤمنون [23] الآية 1 و 2)

الظاهر أن المستفاد من الآية هو أن الخشوع في الصلاة واجب لتعلق الفلاح به، بل توقفه عليه و هو توجيه القلب نحو المعبود تعالي مقرونا بالخضوع، و ترتيب البدن، و تنظيم الجوارح حال الصلاة، و توجيهها نحو القبلة، من غير انحراف يمينا أو شمالا، أو تحرك أو قلق «1» فعن رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) انه قال: «لو خشع قلب هذا

______________________________

(1)- كما يعطي ذلك مقتضي الجمع بين كلمات أهل اللغة و مقالة المفردات فراجع، و عن كنز العرفان: الخشوع

خشية القلب و علامتها التزام كل جارحة بما أمر به في الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 65

لخشعت جوارحه» «1».

من المعلوم ان وجوب توجيه القلب نحو الله تعالي في شراشر الصلاة [قولا و فعلا … شرطا او شطرا بحيث يوجب الخلل فيه خللا في الصلاة] مشكل لصعوبته و عدم امكانه الّا علي الاوحدي من الناس، فيرجع الامر الي المقدار الممكن، لذا يجب الخشوع في الصلاة مهما أمكن، كما استفدناه من قوله تعالي: لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ في موضوع الطهارة، فالآية تفيد لزوم أصل القصد و التوجّه.

الثانية- قوله تعالي: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الي قوله: - يٰا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). (الاعراف [7] الآية 29- 31)

الآيتان تفيدان- كما تري- بعد تحذير الناس و نهيهم عن افتتان الشيطان حتي يكونوا عنه علي حذر، حيث هو الذي يأتيهم عن أيمانهم و عن شمائلهم بحيله و تدليساته، و هو الذي أخرج آدم و زوجه من الجنة، و بعد تبيين المقياس و المعيار للانسان لئلا يقع في فتنة- أن الله تعالي هو الذي يأمر بالقسط و العدل و ينهي عن الفحشاء و المنكر و البغي، و ان الشيطان يأمر بما ينهي الله تعالي، و ينهي عمّا يأمر به «2» و عندئذ فأمر اللّه تعالي بالخلوص حال اقامة الصلاة لئلا يوسوس الشيطان للمصلّي، فيرائي الناس، و يشرك باللّه تعالي، و يصلّي لأغراض و دواع غير إلهية، اعاذنا اللّه من شرور أنفسنا و من شر الشيطان.

و اللّه تعالي هو الذي خلق الانسان و بدأ خلقه، و هو الذي يعيده و ينشره يوم

______________________________

(1)- حديث مروي

عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) قاله في رجل كان يصلّي و يعبث بلحيته.

(2)- قال تعالي «الشَّيْطٰانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشٰاءِ وَ اللّٰهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ» (البقرة [2] الآية 268).

و أما العدل فما ذا؟ و الفحشاء و المنكر ما ذا؟ فقال تعالي «وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا» (الشمس [91] 7 و 8).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 66

القيامة ليجزيه بما قدم من عمل، فاذا كانت الامور كلها بيده تعالي مبدأ و معادا، أولا و آخرا، فلا ينبغي اذن توجيه الوجه الّا نحوه، و الإصغاء إلّا الي ما يدعو إليه، فلا بد في الصلاة الإخلاص لله و الدعاء فيها مع الخشوع و الانابة بتوجيه القلب إليه، رزقنا الله تعالي هذه النعمة، فان المؤمنين هم المفلحون لكونهم في صلاتهم خاشعون، و المنافقون هم الذين يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ، وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ، وَ إِذٰا قٰامُوا إِلَي الصَّلٰاةِ قٰامُوا كُسٰاليٰ، يُرٰاؤُنَ النّٰاسَ وَ لٰا يَذْكُرُونَ اللّٰهَ إِلّٰا قَلِيلًا (النساء [4] الآية 142) يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ (النساء [4] الآية 43)، بل أقيموها خاشعين منيبين آخذين زينتكم عند كل مسجد متطهّرين، فانها لكبيرة الّا علي الخاشعين.

ثم جاء الامر مستقلا بأخذ الزينة عند كل مسجد، فان العبد اذا اتي مسجدا فكأنما أتي الي بيت الله تعالي ليزوره، و يناجيه فيه، و يدعوه، فلا بد من لبس أطهر لباس و أطيبه و أحسنه زينة تتناسب و شأن المزور بلا تلوين، فيجب التزيين في الجملة، و يستحب التعطّر لأنه من مصاديقه، فهو واجب بعنوان الاول، مستحب بعنوان نفسه انتخابا لينطبق عليه.

و بالجملة فان دلالة الآيتين علي وجوب

الخلوص في النية و حرمة الشرك و الرياء فيها، فتبطل الصلاة بهما ظاهرة، كدلالتهما علي وجوب طهارة اللباس، فانه أول مراحل التزيين و العناية، و ان الخشوع في الصلاة فضيلة و زيادة، و قد قلنا بوجوبه كلما أمكن.

نعم؛ هنا كلام في ان الحرمة في الصلاة ظاهرها الوضعية، اي فسادها، و اما التكليفية فيشكل استفادتها من الآيات و ان كان لا يبعد «1»، فتأمل.

______________________________

(1)- فان الرياء و الشرك في العبادات غير الشرك بالله العظيم في الخلق، و انتساب العالم إليه وجودا و بقاء، فانه لا كلام في كون الثاني ذنبا عظيما لا يغفر، فان الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء،-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 67

الثالثة- قوله تعالي: وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). (البيّنة [98] الآية 5)

الآية- كما تري- تنادي- بوضوح- بضرورة الاخلاص في امتثال الأوامر العبادية، و ان يكون المحرّك و الدافع هو أمر الله تعالي و اطاعته، و لو أشرك (الاخلاص) بغيره كالرياء، فسدت العبادة، و لا يكون مسقطا للأمر، فانه لم يأت بمتعلقه بما أمر به، كما هو ظاهر.

و يؤيد المطلوب بل يدل عليه قوله تعالي: … فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). (الكهف [18] الآية 110)

فانها تنهي عن الشرك في العبادة، و ادخال غرض آخر غير الله تعالي و اطاعة امره لمن كان يرجو و يؤمن بلقاء ربه و يوم القيامة، و من أشرك فيها فلا ينال الّا لقاء شريكه الموهوم. فانه تعالي أغني و أعزّ، فلا بد من الخلوص في العبادة و

اتيانها له وحده، و لا ينال ذلك الّا عباد الله المخلصون، اللهم وفقنا للإنابة أليك و اجعلنا من المخلصين.

و كيف كان ففي الفصل آيات بينات:

الاولي- قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ … - الي قوله: - فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللّٰهِ هُوَ مَوْلٰاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْليٰ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ). (الحج [22] الآية 77- 78)

الامر بالركوع يدل علي وجوب القيام ثم الركوع عنه، فانه يتحقق عنه عادة،

______________________________

و تفصيل الكلام فيه تجده في كتاب المحرّمات ان شاء الله.

و أما الرياء في العبادة فهو ينشأ من غلبة الهوي و حب الشهرة و الجاه الموهوم، فهو الذنب المهلك النفسي دون الفقهي، فان أساسه الوهن و الضعف في معرفة الله تعالي، و ان بيده ملكوت كل شي ء، و ان له الخلق و الامر، الّا أن الانسان مع كل ذلك الايمان و الاعتقاد قد يغفل فيهوي، و يرائي الناس، و يتظاهر لهم.

و حينئذ لا اشكال في بطلان عبادته و فسادها شرعا، لانتفاء القربة التي هي الاساس فيها، و اما انه ارتكب ذنبا آخر يعاقب عليه أيضا بعد جبران عبادته بالاعادة و القضاء فمشكل جدا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 68

و ان كان المفهوم يصدق عليه لو انتهي إليه عن قعود، الّا انه لا يستعمل في اللغة. و اما السجود فالأمر به مستقلا، و الظاهر اعتبار تعاقبهما بأن يركع عن قيام ثم يسجد، و ذلك في الصلاة بقرينة قوله تعالي بعده: وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ)، و الصلاة من أعلي مصاديق العبادة و فعل الخير، التي ينادي إليها في أوقاتها ب «حي علي خير العمل» و يعيّن الأمر تفريع

قوله تعالي: فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ عليه آخر البحث، فتدل الآية علي وجوب قيام و ركوع و سجود في الصلاة في الجملة، و يدل علي جزئية القيام أيضا قوله تعالي: قُومُوا لِلّٰهِ قٰانِتِينَ بعد الأمر بالمحافظة علي الصلاة و الصلاة الوسطي «1» (البقرة [2] الآية 238) و قوله: فَلْتَقُمْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ … (النساء [4] الآية 104) كما سيأتي الكلام عنهما فيهما ان شاء الله.

الثانية- قوله تعالي: وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ* وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبٰارَ النُّجُومِ). (الطور [52] الآية 48 و 49)

الآية بظاهرها لا تفيد الّا مطلوبية أصل التسبيح مطلقا حين القيام من كل قعود، و في كل حال، أو حال القيام الي الصلاة، أو كل قيام فيها، أو القيام بالأمر من تبليغ الرسالة و هداية الناس.

و كذلك في الليل حين انتهاء الشمس من الصباح، و حال اقبال الشمس و ادبار النجوم.

الّا انها اذا لوحظت مع قوله تعالي: فَاصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ* وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبٰارَ السُّجُودِ (ق [50] الآية 39 و 40)، و قوله تعالي: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ عَسيٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً (الاسراء [17] الآية 79) تفيد الاطمئنان بأن التسبيح في تلك

______________________________

(1)- و في المفصلات بيان احتمالات المراد منها تبلغ سبعة عشر، و لعل خفاءها كان للاهتمام بجميع الصلوات.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 69

الأوقات من الليل و النهار و ادبار السجود يشمل الذي في الصلاة، فريضة كانت أو نافلة، لو لم يكن هو المراد فقط، و التسبيح بحمده هو الذي فيها حال الركوع و عقيب السجود بعد وضع الجبهة علي الأرض،

و ان كانا بطبيعتهما مطلوبين أيضا، و لا سيما بعد ما علمنا من السنّة المباركة من ان الذكر في الركوع و السجود من قبيل «سبحان ربي العظيم- أو الاعلي- و بحمده» هو التسبيح بحمد الله في الأوقات المذكورة.

فان قلت ان الآية الكريمة: فَاصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ … ). و أخواتها تخاطب رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و مثلها قوله: وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنٰا)، و انّ تهجّد الليل كان واجبا علي نفسه الشريفة (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فكيف تعطي الوجوب في كل صلاة لكل أحد؟.

قلت: نعم، و ان كان الأمر كذلك، الّا ان دلالتها علي جزئية ذكر التسبيح للصلاة و لزوم اشتمالها عليها في الجملة مما لا اشكال فيه.

و اما قوله تعالي: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (الانسان [76] الآية 26) فراجع الي محبوبية طول السجود في الصلاة و التسبيح في الليل، و هو الأكثر الأغلب كما لا يخفي.

هذا، و ان تلك الآيات بأجمعها- حتي مع التعاضد- لو لا السنّة المباركة- لم تكن تدل علي وجوب شي ء من ذلك في الصلاة، فكيف بدلالتها علي الجزئية، و توقّفها عليها؟ و سيأتي تمام الكلام عن ذلك في مسألة التسبيح ان شاء الله.

و لا يتمّ الاستدلال بأن الأمر يفيد الوجوب، و حيث لا وجوب في غير الصلاة، فيكون الأمر فيها، كما ذكروه في المقام، و في القراءة بقوله تعالي: فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ و لوجوب الصلاة علي محمّد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في التشهد بقوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً و كذا السلام عليه و غيرها-

و سيأتي الكلام عنها ان شاء الله.

و وجه الضعف امكان انكار الصغري أو الكبري في كل منها لو لا السنّة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 70

الشريفة.

الثالثة- قوله تعالي: وَ لٰا تَجْهَرْ بِصَلٰاتِكَ وَ لٰا تُخٰافِتْ بِهٰا وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلًا). (الاسراء [17] الآية 110)

هذه الآية، و إن كانت مصوغة لوجوب ابتغاء سواء السبيل و توسطه في الجهر و الاخفات و تركهما- كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله- الّا انها تدل علي اشتمال الصلاة علي أقوال و أذكار ليصحّ ابتغاء الوسط منها حال قراءتها أيضا؛ لامتناع الحكم بلا موضوع- كما هو ظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 71

الفصل الثالث: في الوقت

اشارة

أي فيما يدل علي انها موقوتة اجمالا، و لا بد من ملاحظة اوقاتها و الاتيان بها فيها، لئلا تفوت بانقضائها و فيه آيات بينات:

(الاولي) قوله تعالي: … فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً). (النساء [4] الآية 103)

تدل الآية بل تصرّح بأن طبيعة الصلاة لا تكون محبوبة مطلقا، و في ايّ وقت، بل هي مكتوبة و فريضة في وقت معين، فهي موقوتة اجمالا، و اما تحديد ذلك الوقت و في أية قطعة من الزمان ليلا أو نهارا، اسبوعا او شهرا، فقد أشير إليه في آيات أخري- كما تري.

(الثانية) قوله تعالي: أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِليٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً* وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ عَسيٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً). (الاسراء [17] الآية 78- 79)

تفيد الآية انه لا بد من اقامة الصلاة في وقتين:

الاول- مبدأه زوال الشمس و دلوكها بميلها عن نصف النهار و منتهي ظهورها يقال له الظهر، و منتهاه مبدأ الليل و غسق الشمس باختفائها و

غروبها «1».

______________________________

(1)- قال في المجمع: «غسق الليل ظهور ظلامه» فيساعد علي ما استظهرناه، و في المفردات و المنجد: «شدة ظلمته» فيساعد علي تفسيره بانتصاب الليل كما في رواية عبيد اللّه بن زرارة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 72

و في الكشاف: و الغسق «الظلمة و هو وقت صلاة العشاء» (ص 242/ ج 3).

و حيث لم تكن الصلاة مطلوبة في جميع ذلك الوقت بحيث تستغرفه كما نعلم ففي أوله يصلّي الظهر و في آخره العصر تسمية باسم الوقت و ان كانت الآية بنفسها لا تفيد شيئا من التعدد و عدد ركعات كل منها الّا ان السنّة الشريفة و الضرورة العملية أوضحتا الأمر كما تعلم.

و الثاني- منتهاه قرآن الفجر بانشقاق الظلمة من ناحية الشرق مبدأ ظهور البياض، مقدم طلوع الشمس، و مبدأه منتهي الأول، فالليل اذا غسق يبدأ ثاني الوقتين كما ينتهي اولهما، و الفجر اذا كان مشهودا مقروءا ينتهي قضية امكان عطف (قرآن الفجر) علي (محل الليل)، و ان كان معطوفا علي الصلاة و منصوبا ب «اقم»، فالمراد صلاة الصبح مبدأ وقتها ذلك، و منتهاه ادبار النجوم، و انها مشهودة لملائكة الليل و النهار كما في روايات الباب، و لكن يختلف فيه السياق فلا يبعد أن تكون الروايات تطبيقا لا تفسيرا، فتأمل.

و في المقام أيضا حيث لم تكن الصلاة المستغرقة للوقت مأمورة يصلّي المغرب في اوله، و بعده العشاء الي انتهائه تسميه باسم الوقت أيضا، كما يشير إليه قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ … مِنْ قَبْلِ صَلٰاةِ الْفَجْرِ … وَ مِنْ بَعْدِ صَلٰاةِ الْعِشٰاءِ (النور [24] الآية 58) و سيأتي الكلام عنه في آداب الصلاة ان شاء الله تعالي.

و اما وجود وقت آخر غيرهما و عدمه

فلم يذكر في الآية شي ء و لم ينف حتي ينافي ما تثبته الاخري من ادبار النجوم- كما سيأتي- فإن قرآن الفجر و ظهوره اذا جعل منتهي وقت فهو مبدأ لوقت منتهاه ادبار النجوم بطلوع الشمس كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 73

و أخيرا أفادت الآية ان تهجّد الليل نافلة أي ان التيقظ «1» فيه للصلاة المستحبة مطلوب و مرغوب فيه و قد أمر الله تعالي نبيّه به عسي ان يبعثه مقاما محمودا، فالليل أيضا وقت لنافلته و سيأتي الكلام عنهما ان شاء الله.

في المجمع: غسق الليل ظهور ظلامه، يقال غسقت اذا انفجرت فظهر ما فيها، و في المفردات و غيره غسق الليل: شدّة ظلامه.

و حينئذ فإن قلنا بالأول فالأمر كما ذكرنا يرجع الي بيان وقت صلاة الظهر و العصر و يكون قرآن الفجر منتهي وقت أوّله غسق الليل و ظهور ظلامه، فيرجع الي بيان وقت صلاتي المغرب و العشاء أيضا، و ادبار النجوم المذكور في الآية الاخري منتهي وقت مبدأه- قرآن الفجر وقت صلاة الصبح.

و اما لو قلنا بالثاني فيكون معناه منتصف الليل و أوّله دلوك الشمس فيشمل وقت صلوات اربع، و تحديد وقت الظهرين في المنتهي و العشاءين في البدء بذكر المغرب عند ظهور الظلام في روايات الباب و يكون آخر وقت العشاء منتصف الليل دون قرآن الفجر كما في الاول.

و كيف كان فالآية تشتمل علي أوقات خمس صلوات دون ذكر منتهي وقت صلا الصبح.

هذا اذا كان معني قرآن الفجر ظهوره بحيث يمكن ان يقرأ و يكون ظاهرا مشهودا كما هو ظاهره البدوي، و اما اذا كان بمعني صلاة الصبح لاشتمالها علي القرآن زائد علي سائر الصلوات و كونها

مشهودة لملائكة الليل و النهار كما في روايات الباب فيختلف السياق و تصير الجملة آمرة بصلاة الصبح بين الأوامر قبلها المبينة لأوقات الصلوات الأربع و بعدها المبينة لوقت نافلة الليل و انها فريضة علي رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لا يبعد أن تكون روايات الباب تطبيقا لا تفسيرا فراجع و تأمل/ ج 2/

______________________________

(1)- في المفردات الهجود النوم، الهاجد النائم، و هجّدته فتهجد ازالت هجوده و معناه ايقظته فتيقظ، و الضمير في قوله «فَتَهَجَّدْ بِهِ» راجع الي القرآن لو كان بمعني القراءة أو الي بعض الليل المستفاد من الليل كما قلنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 74

باب/ 2/ ابواب مقدمة العبادات/ رواية/ 2.

فان قلت ان الأمر بإقامة الصلاة لدلوك الشمس الي غسق الليل مع الأمر بالتهجّد فيها علي سياق واحد و لا تختص بالنبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و ان كانت الثانية مستحبة لمقام التصريح بقوله «نافلة» و هي الزيادة، و ان التعليل بقوله: عَسيٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً أيضا لا يوجب الاختصاص.

قلت نعم، سياق الآيات يقتضي اختصاص الأمر بالصلاة (لدلوك الشمس) أيضا بالنبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أيضا، الّا إنّنا نعلم بعدم الاختصاص بآيات اخري تبقي النافلة في الليل و التيقّظ لها مختصة بنفسه الشريفة واجبة عليه حسب ظهور الآية مع ارتباط ما بين قوله تعالي: عَسيٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً مع الآيات السابقة من قوله تعالي: وَ إِنْ كٰادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ … الي قوله تعالي:

وَ لَوْ لٰا أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (الاسراء [17] الآية 73- 74)، و تمام الكلام في رسالتنا (القرآن في محمد (صلّي

اللّه عليه و آله و سلّم) و محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في القرآن) بتوفيق من الله تعالي.

الثالثة- قوله تعالي: وَ أَقِمِ الصَّلٰاةَ طَرَفَيِ النَّهٰارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ ذٰلِكَ ذِكْريٰ لِلذّٰاكِرِينَ. (هود [11] الآية 114)

فهذه الآية توجب اقامة الصلاة في طرفي النهار قبله و بعده لا أوله و آخره فان الطرف هو الزمان الواقع فيه النهار لا نفسه ليكون طرفاه قطعتيه الاولي و الاخيرة قبال الوسط «1».

و النهار هو المقدار من الزمان الذي أوله طلوع الشمس و آخره غروبها لدي العرف و اللغة. و من المعلوم ان قبل النهار قبل طلوع الشمس و هو آخر وقت صلاة

______________________________

(1)- و اتصال آخر الوقت الاول بأول النهار و اوّل الثاني بآخره يحقق معني الطرف و منتهي الشي ء، و لا صلاة في اوّل قطعة من النهار، و مبدؤه طلوع الشمس و ان كان العصر آخره و جعل مبدئه الفجر لا يساعده العرف و اللغة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 75

الفجر التي كان اوّل وقتها قرآن الفجر المشهود، و بعد النهار طرفه الآخر بعد غروب الشمس و بسط الظلمة الذي كان آخر وقت صلاة اوّل وقتها دلوك الشمس فهو اوّل وقت صلاة آخر وقتها قرآن الفجر و هي صلاة العشاءين.

و الحاصل تصريح الآية بأن قبل النهار و بعده أي طرفيه وقتان للصلاة اي قبل طلوع الشمس و حين غسق الليل بعد غروبها «1».

ثم ان الزلف جمع زلفة اي المنزلة و الخطوة و في المقام القطعة، فالآية تفيد ان قطعات الليل في طرف آخر النهار وقت للصلاة و اوّل تلك الزلف و القطعات، فاذا غربت الشمس و تحقق الغسق بانبساط الظلمة المعبّر عنه عندنا

بالمغرب بعد الغروب تحقق اوّل وقت صلاة تسمي باسمه المغرب و بعده زلف الليل و قطعاتها الي قرآن الفجر وقت صلاة تسمي باسمه العتمة او العشاء «2».

و ان ابيت ذلك لظهور العطف في ان تلك الزلف و القطعات من الليل غير ما يكون في طرف آخر النهار وقتا للمغرب و العشاء، فتكون وقتا لنافلة الليل و يعضده قوله تعالي: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ). و الله اعلم.

و الحاصل ان في المقام اقوالا أربعة:

الاول- و هو الحق و المصرّح به في أقوال الائمة (عليهم السّلام) كما ذكرنا.

الثاني- ان يكون المراد من طرفي النهار الغداة، و الظهر و العصر، و من زلف الليل المغرب و العشاء، و لا يساعد ذلك العرف و اللغة في معني النهار من طرف الغداة فان قبل طلوع الشمس ليس بطرف علي هذا المعني من أخذ طرف الشي ء

______________________________

(1)- و لا يتمّ التكليف حتي تشمل الآية جميع اوقات الصلوات الخمس كما عن البعض من اراد طرفي نصف النهار، ففي الاول صلاة الفجر و باقي الصلاة في طرفه الآخر لعدم مساعدة العرف و اللغة و تصريح الامام (عليه السّلام) بخلافه، و من المعلوم ان طرفي الشي ء غير نصفيه.

(2)- و يصرح بذلك صحيحة زرارة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عمّا فرض الله من الصلوات، فقال: خمس صلوات في الليل و النهار الي قوله: و قال تبارك و تعالي: «أَقِمِ الصَّلٰاةَ طَرَفَيِ النَّهٰارِ» و طرفاه المغرب و الغداة و زلفا من الليل و هي صلاة العشاء الآخرة. الحديث/ الوسائل/ ج 2 باب 2 من أبواب اعداد الفرائض.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 76

منه الّا ان يكون المبدأ طلوع الفجر و المنتهي غروب الشمس كما عن البعض.

الثالث- إرادة

طرفي نصف النهار من الليل و النهار، فصلاة الفجر في طرفه الاول و باقي الصلوات في طرفه الثاني، و زلف الليل قرباتها نافلة الليل، و يبعده الظهور فان النهار غير نصفه و طرفيه غير نصفه و ان قلنا بأن طرف الشي ء منه دون الخارج المماس.

الرابع- ما عن ابي حنيفة بعد إرادة طلوع الشمس و غروبها من النهار و حيث لا صلاة فيهما باجماع الامة، فيراد اقرب المجازات صلاة الفجر قريبا من الطلوع و صلاة العصر قريبا من الغروب و في ذلك حكم باستحباب تنوير الفجر و تأخير العصر، و فيه ما لا يخفي فان إرادة اوّل اجزاء النهار بعد طلوع الشمس اقرب المجازات في معني الطرف من آخر اجزاء الليل قبل طلوع الشمس أولا، و لو كان الطرف الخارج المماس فإرادة صلاة المغرب بعد الغروب اولي من إرادة العصر قبله بعد إرادة الفجر في طرفه الاول ثانيا كما لا يخفي، و الحق هو الاول كما عرفت.

ثم ان الصلاة من اعظم الحسنات التي يذهبن بطبعهنّ السيئات، فانها تنهي عن الفحشاء و المنكر و البغي فلا تنحصر بها، كما لا تنحصر بالواجب منها اليومية المستفادة من تلك الأوقات في الليل و النهار، بل الزائدة عليها و نافلتها الثابتة بالسنّة المباركة، كغيرها من النوافل الثابتة بها، أو أشير إليها في الآيات كما عرفت.

الرابعة- قوله تعالي: وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبٰارَ النُّجُومِ). (الطور [52] الآية 48- 49)

قد عرفت ان الآية تدل أولا: علي مطلوبيّة طبيعة تسبيحه تعالي بحمده حين القيام في الليل و غيره، او في الليل حين القيام عن النوم و حال إدبار النجوم من الصباح، و ثانيا: تدل علي ان

التسبيح بحمده تعالي في الليل و حين إدبار النجوم باقبال الشمس و هما وقتان للصلاة في الجملة كما عرفت، فلعلّه مطلوب في الصلاة، و سيأتي تمام الكلام في اصل التسبيح ان شاء الله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 77

و حينئذ اذا جعل ادبار النجوم غير الليل، و قبالها وقت آخر غيرها، فلا بدّ له من مبدأ، اما من قطعات الليل و زلفها، او انتهائها قبل إدبار النجوم. و اذا علمنا ان قرآن الفجر المشهود آخر الليل في التوقيت للصلاة، و ان لم يكن كذلك في العرف و اللغة، فهو مبدأ لوقت ثالث اوله قرآن الفجر، و آخره ادبار النجوم للتسبيح مطلقا، او في الصلاة. و بالمآل يستأنس انه وقت للصلاة المسماة باسم الوقت «صلاة الفجر» كما اشار إليه قوله تعالي: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ … مِنْ قَبْلِ صَلٰاةِ الْفَجْرِ (النور [24] الآية 58) كما سيأتي الكلام عنه في باب الآداب ان شاء الله.

الخامسة- قوله تعالي في توصيف المصلّين: … وَ الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلٰاتِهِمْ يُحٰافِظُونَ* أُولٰئِكَ فِي جَنّٰاتٍ مُكْرَمُونَ (المعارج [70] الآية 34 و 35) او وَ الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلَوٰاتِهِمْ يُحٰافِظُونَ أُولٰئِكَ هُمُ الْوٰارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (المؤمنون [22] الآية 8- 10)، و قوله تعالي: حٰافِظُوا عَلَي الصَّلَوٰاتِ وَ الصَّلٰاةِ الْوُسْطيٰ (البقرة [2] الآية 238).

من المعلوم ان في المحافظة علي الصلاة في كل يوم و ليلة اشعارا بأنّ لها اوقاتا يراعيها المحافظون عليها، و ان كان الاطلاق يشمل محافظتها من جميع الجهات الثابتة لها في الآية الكريمة من الاعداد و الركعات و الاجزاء و غيرها من الشروط المتقدمة او المقارنة أيضا.

و امّا الصلاة الوسطي ففيها احتمالات ذكروها في المفصّلات، و لعل سبب

اخفائها يعود الي ان يكون الاهتمام بتمام الصلوات و عمومها.

السادسة- قوله تعالي: إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلٰاتِهِمْ دٰائِمُونَ (المعارج [70] الآية 22- 23) فان الاستثناء عن الانسان الهلوع الجزوع المنوع في مقام المدح يشعر بالوقت للعلم بانه لا يكون المراد الدوام علي الصلاة في تمام الأوقات بل في اوقاتها كما هو الظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 78

خاتمة الفصل

وقت نافلة الليل حدود نصف الليل زائدا عليه او ناقصا عنه قليلا علي ما استفاده الاصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) من آيات سورة المزّمل، و فيها كلام.

قال تعالي: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلّٰا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، إِنَّ نٰاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا، إِنَّ لَكَ فِي النَّهٰارِ سَبْحاً طَوِيلًا، وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا).

(المزمّل [73] الآية 1- 9)

لو خلّينا و الآيات عن كل ما قيل و استمعنا الي مقالتها بنفسها لرأينا انها تخاطب المتزمّل اي اللاف علي جسمه رداء و ملحفة و هو علي صورة نائم مستلقيا ليستريح، فتأمره الآية الكريمة بالقيام في الليل دواما اي في الليالي كلها الّا قليلا منها مما يتعذّر لمرض او سفر او غيرهما، كما يؤيد ذلك آخر الآيات «1»، و القيام هذا في الليالي الّا قليلا منها لا بد و أن يكون في حدود انتصافها فيزيد علي النصف او ينقص منه قليلا.

ثم ان القيام ذلك لا يكون مطلوبا بنفسه بل لقراءة القرآن مترتلا متأنيا مقرعا للقلب معانيه العالية الداعية الي الحياة المتعالية.

______________________________

(1)- احتمال إرادة القيام في

ليل ما الّا قليل ذلك الليل، بأن ينام أوله ثم يقوم في أكثره من حدود نصفه الي آخره حتي يتحقق الامتثال بقيام ليلة واحدة كذلك فبعيد عن سياق الآيات جدا.

كما ان جعل قوله تعالي «نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا» بيانا للقليل المستثني لا يساعد عليه ما في آخر السورة بل لا يساعد السياق فانه بيان للمستثني منه الليل- و القيام فيها- كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 79

ثم ان تلك القراءة في ذلك الوقت كأنّها لا تكون مطلوبة نفسيا بل تهيؤا و استعدادا لقبول قول ثقيل «1».

الظاهر أن المراد بالقول الثقيل الدعوة الي الله تعالي و قبول اعباء الرسالة و اقامة الحدود و الشرائع فردا و جماعة تحقيقا لقوله خَيْرَ أُمَّةٍ، و ثقله معلوم من مواجهة الكفار و المشركين و لزوم تحمّل المعارك و الحروب.

و اما إرادة القرآن كما ذكره المفسّرون و ان كان يناسب معناه الظاهر من بعد ارادتهم من القيام القيام للعبادة و من ترتيل القرآن الصلاة و يصحّ اطلاق الثقل عليه، كما فعله الاستاذ (قدّس سرّه) في الميزان، فيبعده ظاهر القيام لترتيل القرآن تهيؤا لتلقي الثقل، الّا ان يراد قراءة بعضه تهيؤا لقبول بعضه الآخر. و حمل ترتيل القرآن علي الصلاة أو فيها، لا وجه له، مع ان كلّ ذلك كان لعلمهم بنافلة الليل و وقتها قبلا لا انها هي ظاهر الآية بدوا كما لا يخفي.

فمصداق العنوان و مرجع الضمير هو المخاطب في قوله تعالي: إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا فعليه يبدو التمرّن و التهيؤ بالقيام في الليالي، و ترك المضجع و لذائذه، و لا سيّما قرب انتصاف الليل، ثم التوجه الي الله تعالي بقراءة القرآن ما يتيسّر منه مرتلا متوجها

الي اعماق المفاهيم و عروق المعاني، فان ناشئة الليل الي الله تعالي أثبت قدما و أشدّ وطأ، لمساعدة السكوت و الظلمة، و عدم الصوارف و المشاغل، و يصير بذلك اقوم قولا و أنفذ كلاما في الآخرين، لما فيه من الخلوص، و ان لك في النهار وقتا واسعا و فرصة طويلة سبحا بالذهاب و الاياب لسائر الامور، و التسريع في العبادة، فقد جعل الله الليل لباسا و النهار معاشا، فاغتنم الليل و الزلف منه. و اذكر اسم ربك رب المشرق و المغرب، و انقطع عن الدنيا و ما فيها متوجها إليه

______________________________

(1)- فان تأثير قراءة القرآن بأوامره و نواهيه و بقصصه و حكمه، و ببيانه الخلقة و مقام الخالق، و سنن اللّه التي لا تبديل لها أنفذ و أشدّ في تهيئة الانسان لقبول القول الثقيل و القيام لله تعالي من الاتيان بالصلاة و الاكتفاء بالابتهال كما تعلم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 80

تعالي تبتيلا و تضرعا و اخلاصا، و اهجر الآخرين هجرا جميلا، لا يبعدك عنهم في المجتمع، و لا يبعدهم عنك في هدايتهم، فاتخذ الله تعالي وكيلا تعتمد عليه في المشاكل، و تستمد منه في المهام، و ذر الآخرين المكذّبين المترفين، و اصبر علي ما يقولون طعنا بك و تكذيبا عليك، فان لدينا عليهم انكالا و جحيما. و علي هذا السياق ينتهي الكلام الي قوله تعالي: إِنَّ هٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شٰاءَ اتَّخَذَ إِليٰ رَبِّهِ سَبِيلًا).

(المزمل [73] الآية 19)

و من المعلوم ان المصداق مع تلك الخصوصيات لا يكون الّا شخص الرسول الاكرم و النبي الاعظم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و ان القول الثقيل ليس الّا أمر الرسالة و التصدّي للهداية و هو هذه التذكرة كما

أنّ الأمر كذلك في آيات سورة المدّثر الآمرة بالقيام و الانذار «1».

و لا نعلم الي هنا من تلك الآيات بنفسها بحثا عن صلاة الليل او الاشارة إليها، و قراءة القرآن و التضرع الي الله تعالي يعمّها، و اذا كانت السنّة الشريفة تكفلت الامر ببيانها بحدودها و ركعاتها فلا افتقار الي ما تكلّفه المفسّرون و مؤلف و آيات الاحكام (رضوان الله عليهم) لتطبيق الآيات علي صلاة الليل، و قد أشير إليها اجمالا في الآية السابقة- آية التهجّد- كما عرفت.

ثم ان آخر تلك الآيات يشير الي توسعة ذلك التمرّن و الاستعداد منه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ليشمل الاصحاب «2» و انّ مركز العمل لا بد و أن يتّحد مع طائفة من الذين معه في الصلابة و الاستقامة حتي يتمكنوا بعون من الله تعالي فيما عليهم، فيقول: ان ربك يعلم انك و طائفة من الذين معك تقومون في اواخر الليل قريبا من ثلثه الثالث او

______________________________

(1)- و لا ينافي ما ذكرناه مع اختصاص ذلك بنفسه الشريفة و ان السورة مكية و من عتائق السور، لإمكان قراءة النازل قبله أو ما ذكر من النزول عليه أولا ثم التفصيل حسب المواقع كما يشير إليه قوله تعالي: «وَ لٰا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ».

(2)- لا سيما علي ما ورد من ان المراد هو علي (عليه السّلام) و أبو ذر (رضي اللّه عنه).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 81

نصفه او قبل الانتصاف في اواخر الثلث الاول، و ذلك عبارة اخري عمّا كان في اوّل الآيات من نصف الليل او زائدا عليه او ناقصا عنه قليلا، فان قبل الانتصاب يكون من اواخر الثلث الاول، و بعده زائدا عليه يكون من اواخر الثلث الثاني، او اوائل

الثلث الثالث ادني من ثلثي الليل، و الله تعالي المدبّر للأمر المقدّر للّيل و النهار طولا و قصرا يعلم انك و طائفة من الذين معك تقومون من تلك الأوقات من الليل، و لن تحصوه، حيث يعسر عليكم ذلك، مع وجود المرض و السفر في الجهاد و سائر الاعذار، فتاب عليكم، و عفا عنكم، فاقرءوا ما تيسّر من القرآن.

و الانصاف انه بعد ما عرفنا ان نافلة الليل بخصوصياتها و قراءة القرآن فيها، و الدعاء و الابتهال حالها من السنّة المبيّنة تفصيلا مضافا الي آية التهجد، و عطف طائفة من الذين مع الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في المقام، نطبق الآيات عليها و نستدل بها علي وجوبها علي نفسه الشريفة و الاستحباب لغيره، و الّا فالآيات بنفسها عامة كما عرفت.

و ممّا ذكرنا يعلم انه لا يتم الاستدلال بتلك الآيات علي كفاية ما يتيسر من القرآن في الصلاة بعد الفاتحة و عدم وجوب سورة كاملة كما عن بعض العامة «1»، و السنّة الشريفة بحمد الله اوضحت الأمر من غير اجمال.

و محصل الكلام انك لا تجد في السنّة المباركة ما يتم الاعتماد عليه في الحكم بوجوب سورة كاملة بعد الفاتحة، و لذلك ذهب الي عدم الوجوب جمع من الاصحاب، مثال الاسكافي، و ابن ابي عقيل، و المحقق، و العلّامة و غيرهم، الّا ان الشهرة العظيمة بين المتقدمين الذين كانت الروايات علي منظرهم بالوجوب، يورث

______________________________

(1)- و في الكنز عن ابي حنيفة كفاية ثلاث آيات من آي القرآن و يدفعه قوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) «لا صلاة الّا بفاتحة الكتاب»، السراج المنير/ ج 3 ص 471. و الظاهر ان ما فهمه الفاضل صاحب كنز العرفان

(رحمه اللّه) في غير محله، و ان مراد ابي حنيفة كفاية ثلاث آيات بعد فاتحة الكتاب كما هو مصرّح به في كتبهم، الفقه علي المذاهب/ ج 1 ص 254.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 82

الوهن في جواز الترك، مع سيرة النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي الفعل و قوله «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «1»، و سائر المستحبات في صلاته قد علم بدليل خارج، و لم يعلم ذلك فيها، و تفصيل الكلام في المفصلات و نقل البحث صاحب المستمسك (رحمه اللّه)/ ج 6 ص 148- 154.

و حاصل الآيات بلسان آخر انها تنهض الرجل المسئول، و تثيره، و توجه تفكيراته نحو الاهداف العالية من انقاذ الغرقي في أمواج الشهوات، و ارشاد الضالّين في مسالك الترهات الي الحق و الفضيلة، الي الدين و الشريعة، الي الله و السعادة، و علي الهادي البشير النذير القيام بالهدف و التعاون مع الذين معه، و التنبّه الي ان الامور بيد الله تعالي، و انه يهدي من يشاء، و يضل من يشاء، و ليس علي الرسول الّا البلاغ، و ليس التوفيق الّا من عنده تعالي، و ليس للانسان الّا ما سعي، فمن اصابته حسنة فمن الله، و من اصابته سيئة فمن نفسه، فانه هو الذي ضلّ بنفسه و أضل غيره حسنة فمن الله، و من اصابته سيئة فمن نفسه، فانه هو الذي ضلّ بنفسه و أضل غيره عن الطريق السوي قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ من تسلسل العوامل و تسبب الاسباب و الوسائل، وفقنا الله تعالي و اياكم للقيام في الليالي، و قراءة القرآن، و الابتهال و التضرع الي الله تعالي تهيؤا و استعداد للقيام في سبيل الحق و طريق الخير،

القول الثقيل من اعلاء كلمة التوحيد، و تدمير اساطين الشرك ان شاء الله.

______________________________

(1)- البحار: ج 85 ص 279.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 83

الفصل الرابع: في القبلة

آيات هذا الفصل في القبلة و انه لا بدّ من استقبالها حال الصلاة و التوجه إليها، و في المقام آيات بيّنات:

سَيَقُولُ السُّفَهٰاءُ مِنَ النّٰاسِ مٰا وَلّٰاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كٰانُوا عَلَيْهٰا قُلْ لِلّٰهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِليٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ … وَ مٰا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهٰا إِلّٰا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَليٰ عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كٰانَتْ لَكَبِيرَةً إِلّٰا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللّٰهُ … قَدْ نَريٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمٰاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا يَعْمَلُونَ، وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ بِكُلِّ آيَةٍ مٰا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ مٰا أَنْتَ بِتٰابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ مٰا بَعْضُهُمْ بِتٰابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّٰالِمِينَ).

(البقرة [2] الآية 142- 145)

الآيات بصراحتها تدل علي ان الذين أوتوا الكتاب و أكثرهم اليهود «1» تفوّهوا في أمر القبلة التي كان المسلمون يتّجهون إليها، و هي البيت المقدس، بأقاويل سخيفة اورثت الحزن في قلب رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فأخذ يقلّب وجهه في السماء

______________________________

(1)- فان أكثر أهل الكتاب حال ظهور الاسلام في جزيرة العرب كانوا هم اليهود و هم أشدّ عداوة للاسلام و فتنة للمسلمين، و حتي زماننا هذا خذلهم اللّه بحزبهم الصهيوني.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 84

و يشكو الي الله بثّه و حزنه، فأنزل الله

تعالي قوله قَدْ نَريٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمٰاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا، فأمر الله تعالي بالانصراف عن القبلة الاولي الي الاخري، بقوله تعالي: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ … و لو في داخل بيت المقدس فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «1» و كان ذلك في المدينة في أوائل الهجرة المباركة، و بين الصلاة، فهال ذلك علي البطّالين و السفهاء من اليهود، الذين اوتوا الكتاب مع انهم يعلمون انه الحق من ربهم فقالوا: مٰا وَلّٰاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كٰانُوا عَلَيْهٰا)، و تأوّلوا ان هذا الأمر المهم موكول بشخص، أو انه يتم علي رأيه، و فسّروا تحويله بالأوهام و الأخيلة، فقال تعالي لرسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في حقهم ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فانهم لئن أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك و لئن اتبعتهم ما تبعوا قبلتك، كما انهم لا يتبع بعضهم قبلة بعض، فانهم المعاندون المجادلون الضالّون، و بعد ذلك ليس عليك رعايتهم او مماشاتهم، و ان أمر التشريع بيد الله تعالي و ان له المشرق و المغرب، و انه يهدي من يشاء الي صراط مستقيم.

فالواجب بعد ذلك تولّي الوجه شطر المسجد الحرام و جعله قبلة، و المستفاد من قوله تعالي: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ان كل جزء منه قبلة، و هو خلاف الظاهر، و لا سيما بعد ظهور قوله تعالي وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فيمن كان خارجا عن المسجد، و ان عليه التولّي و التوجّه إليه، و اما من كان فيه فيستشعر حكمه و هو استقبال الكعبة الصادق عليه التولّي نحو المسجد الحرام بنحو مطلق.

فالقبلة لمن كان في المسجد هي الكعبة، و لمن كان خارجا عنه

هي المسجد الحرام سواء كان في مكّة او في بلد آخر، الّا انه باستقباله بلدة مكة يصدق عليه

______________________________

(1)- و قد كان رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و المسلمون يتجهون في صلاتهم الي بيت المقدس و يجعلونه قبلة لهم، و كذا الكعبة المقدّسة قبل التحويل و بعده، فالقبلة الكعبة، و في الافراد و الجمع تصريح بعد اختصاص ذلك بنفسه الشريفة كما هو ظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 85

استقباله المسجد و الكعبة، كما يصدق استقبال الكعبة علي مستقبل المسجد في مكة في الجملة، فان كل جرم تتسع جهته و شطره كلما بعد عنه، فالقبلة هي المسجد بل الكعبة مطلقا، لا أن مكة قبلة كما عن البعض.

ثم ان من تبيّن له ذلك بالعلامات و معرفة الجهات و الاجهزة فهي، و الّا فمن كان في محل غائم و شبهه وَ لِلّٰهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ (البقرة [2] الآية 115)، و يكفيه التوجه الي جهة واحدة بعد التحرّي و عدم الدليل، و لكن مقتضي اشتراط القبلة التوجه الي جهات اربع مع سعة الوقت طلبا للفراغ بعد اشتغال الذمّة، و الحكم بكفاية جهة واحدة مستندا الي الآية المباركة لو كانت راجعة الي القبلة مشكل و لا يساعده السياق.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 86

الفصل الخامس: في مكان المصلّي و لباسه

قال تعالي: إِنَّمٰا يَعْمُرُ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقٰامَ الصَّلٰاةَ وَ آتَي الزَّكٰاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللّٰهَ فَعَسيٰ أُولٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.

(التوبة [9] الآية 18)

قد يستظهر من الآية الكريمة ان تعمير مساجد الله هو العبادة فيها، و أفضل العبادة الصلاة، فتدلّ علي استحبابها فيها، بعد العلم بعدم الوجوب و الاختصاص، لقوله (صلّي اللّه

عليه و آله و سلّم): «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا «1».

و عندنا الأمر غير ذلك، و تهدف الآية لرفع ما ذكر، فانها نازلة بعد قوله تعالي:

مٰا كٰانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسٰاجِدَ اللّٰهِ شٰاهِدِينَ عَليٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ وَ فِي النّٰارِ هُمْ خٰالِدُونَ ([90] 17)، و ناظرة الي ان الشرك لا يساعد علي عمران المسجد بل الايمان، و ان المؤمنين هم الذين آمنوا بالله تعالي و اليوم الآخر أي المبدأ و المعاد، و هما أساسان من أهم اسس التفكير و الاعتقاد عندهم، و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و هما عمادان من اهم اعمدة العمل «2»، و بالجملة هم الذين لا يخشون الّا الله تعالي في شراشر حياتهم، و في مختلف المجالات.

و بتلك الخواص، فهم الذين يعمرون مساجد الله ليذكر فيها اسمه و تعلو كلمته،

______________________________

(1)- البحار: ج 38 رواية 17.

(2)- و الاسلام شهادتان و قرينتان.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 87

و يظهر الحق ليغلب علي الباطل.

ففي السياق ان تعمير المساجد يشمل بناءها و اسراجها و فرشها و غير ذلك مما يؤدي الي الاجتماع فيها، و الي استماع الخطب و الوصايا في التواصي بالحق و التواصي بالصبر في الله و غيره من العبادات من غير اختصاص بالصلاة.

و الحاصل ان الآية تعني المسجد الذي هو مركز للمسلمين و معراج لهم، حيث يعبد الله فيه و يذكر، و هو محل لتنظيم المعسكرات، و محل للقضاء و الحكم و المشاورة و حل الاختلافات الطارئة، بل هو مركز لكل شئون المسلمين الدنيوية و الاخروية.

فعمران المسجد و احياؤه عمران مجتمع المسلمين و احياؤهم، فلا يعمره الّا الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و لم

يخشوا الّا الله، كما هو الظاهر، و أما المشركون الذين يتبعون الشهوات، و يفسدون في الأرض، فكيف يعمرون المساجد، و هم شاهدون علي انفسهم بالكفر، و كذلك الذين يبتغون في دين الله عوجا من المنافقين، الذين يتلبّسون بلباس المسلمين، و يتظاهرون بشعاراتهم، فيبنون المساجد ضرارا و تفريقا، و يعمرونها اغراء و تحميقا، يبتغون في ذلك هدم الاسلام و تحطيم المسلمين، كما تري ذلك في بني اميّة و من حذا حذوهم الي زماننا هذا، خذلهم الله تعالي ان شاء الله.

فهم أظلم بأنفسهم و مجتمعهم من كل ظالم، فعلي المسلمين و المؤمنين الكفاح ضدّهم، و تدمير مراكزهم و تخويفهم بالتهيؤ و الإعداد حتي لا يدخلوا مساجد الله و مجتمع المسلمين الّا خائفين علي أنفسهم، حيث قال الله تعالي: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعيٰ فِي خَرٰابِهٰا أُولٰئِكَ مٰا كٰانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهٰا إِلّٰا خٰائِفِينَ* لَهُمْ فِي الدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ.

(البقرة [2] الآية 114)

فان خزيهم في الدنيا لا بدّ و أن يكون بأيدي المؤمنين كما يشير إليه قوله

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 88

تعالي: مٰا كٰانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهٰا إِلّٰا خٰائِفِينَ فانه لا خوف من دخول المسجد و المسلمون أحرار أحياء الّا لمثل هؤلاء الكفرة الفجرة المتظاهرين الخونة «1».

فالحاصل ان الآيات راجعة الي امر أهم من مكان المصلّي، و لا كلام في جوازها في كل مكان مباح، و فضلها في المسجد، كما فصّلته السنّة المباركة و أرشدت إليه، بل الأهم من بيان حرمة المنع عن ذكر الله و تخريب المسجد كما قيل.

نعم لا يبعد ظهور قوله تعالي: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ

ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ في لزوم اتيان الصلاة في المسجد في الجملة قضية عطف الأمر بدعاء الله تعالي مخلصا له الدين باقامة الوجوه عند كل مسجد، الموجب غلبة ظهوره في الصلاة جماعة، أو أعمّ مع ان المتعلق اقامة الوجه عنده اذا كان، و لعله غير اقامته فيه، حتي يكون عليه ذلك، و كيف كان فهو استظهار لا استدلال، و أصل الأمر ظاهر بالسنّة المباركة.

______________________________

(1)- و الجملة اسمية مفادها الاستمرار، دون الاختصاص بالماضي، حتي يقال انه وعد المسلمين بالنصر و تخليص المساجد منهم، و قد أنجز ما وعد، و انت تري مكانة اكثر مساجد المسلمين و لا سيما في بلدنا.

(من المعلوم ان ذلك كان قبل نجاح الثورة الاسلامية في تلك المدن).

فان قلت ان الآية تشعر بجواز دخول المشركين المساجد الّا انه لا بد و ان يكونوا خائفين من الله تعالي ان يعذبهم بشركهم، او من المسلمين بان يخزيهم بأيديهم الفائقة القاهرة لظلمهم و تجبّرهم في ذات الله و بيوته، و كيف كان لا يساعد ذلك قوله تعالي: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ» علي القول بإلقاء الخصوصية من الشرك و المسجد و الحكم بحرمة دخول او ادخال كل نجس في كل مسجد، و لا اقل من التهافت البدوي الظاهر في خصوص المسجد الحرام.

قلت عنوان المانع عن ذكر الله تعالي في مساجده، و الساعي في خرابها يعمّ المشرك عموما من وجه، لاجتماعهما في المشرك المانع الساعي، و افتراقهما في المشرك غير المانع و غير الساعي، و المسلم المانع الساعي، و المشرك لا يدخل المسجد الحرام، او كل مسجد- علي ما عرفت في كتاب الطهارة- سواء كان ساعيا مانعا، او لم يكن، و المانع

الساعي اذا لم يكن مشركا يجوز له الدخول في كل مسجد فقها مطلقا لضرورة المحاكمة لدي القاضي او غيرها، او لا لضرورة الّا ان المسلمين لا بد و ان يكونوا علي مستوي لم يدخلوا هؤلاء المانعين عن ذكر الله المتظاهرين الّا خائفين عن تجبرهم في حدود الله تعالي و شرائعه، و لا يتم الجمع بالتفريق بين المسجد الحرام و غيره.

و في المجمع المشرك الساعي المانع يقدم اقوي الملاكين شركه كما عرفت و يحكم بحكمه كائنا من كان.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 89

و لعلك تعرف ما ذكرنا في مسألة المكان و ما استدل به الأمر في لباس المصلّي و ما استدل به أيضا نشير إليه اجمالا.

قال تعالي: يٰا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمْ لِبٰاساً يُوٰارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبٰاسُ التَّقْويٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيٰاتِ اللّٰهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. (الاعراف [7] الآية 26)

سياق الآية لا يفهم لزوم التستر علي المصلّي حال الصلاة، أو اشتراطها به، او بطلانها بدونه، فيكف بحدوده بعد أن كان أصل مواراة السوأة في الجملة امرا يدركه الانسان بطبعه من غير تشريع، و ما انزل الله تعالي مما يتمكن منه تواري سوءاته و لو بصنعة فيه، فهو من آيات الله تعالي كغيره من النعم التي لا تحصي، يتذكر فيه الانسان منزله و خالقه و ربه.

اما تشريع الاشتراط بحيث تفسد الصلاة بدونه، فيحتاج الي مئونة اخري، كما ان الحكم باشتراط الطهارة و التذكية في الستر مستندا بإطلاق قوله تعالي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (المائدة [5] الآية 3) بعد انصرافه الي الاكل ممّا لا يخفي و المرجع السنّة المباركة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 90

الفصل السادس: قراءة القرآن

اشارة

ان قراءة القرآن الكريم- في الصلاة- واجبة في الجملة، و هو كتاب

الله الذي فصّلت آياته من لدن حكيم خبير، الكتاب المبين الذي نزل عربيّا من الله العزيز الحكيم، و لا رطب و لا يابس إلّا فيه، و فيه تبيان لكلّ شي ء و هو شفاء و هدي للمؤمنين، و هو كتاب العلم و العمل، كتاب الدعوة و الرسالة، و كتاب الحياة الأبدية، و بالتالي فهو كتاب الخلقة و الوجود بصورته الكتابيّة المظهرة للعين و الواقع المطلق بشراشره. و كيف يمكن لمن هو في الوجود و من الوجود ان يطّلع علي الوجود كما هو حقّه و لو بمرحلته الكتابية من مراتب الوجود.

و كيف كان لا اشكال في فضيلة قراءة ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه هدي للمتقين بل لزوم تلاوته علي كل مسلم- في الجملة- فانه كتاب الدين و الدنيا، كتاب الحياة و النور، كتاب الخير و السعادة؛ و المسلمون سادة أعزّاء لن يضلّوا عن سبيل الحق و طريق الهداية ما داموا متمسكين به، و هو قائدهم «1» و بين يديهم، عاملين بأوامره منتهين عن نواهيه، و يعدله العترة الطاهرة (عليهم الصلاة و السلام) المفسّرون الشارحون له و لكلياته بحق و المفصّلون لمجمله بعلم، فهم الذين في بيتهم نزل الكتاب و أهل البيت أدري بما فيه.

______________________________

(1)- و في الحديث: «من جعله امامه قاده الي الجنة و من جعله خلفه ساقه الي النار».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 91

و ذلك بحكم الكتاب نفسه، و هو قول العزيز العليم: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و قوله: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في موارد كثيرة، و مما أتي به الرسول و أمر به التمسّك بالعترة الطاهرة (عليهم السّلام) في قوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «إنّي

تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا … » كما عرفت من قبل.

و للبحث في قراءة القرآن آيات:

الاولي- قوله تعالي: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنيٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طٰائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللّٰهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضيٰ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ آخَرُونَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنْهُ … (المزمّل [73] الآية 20)

الآية المباركة- كما تري- تأمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) و طائفة من المؤمنين الذين معه بقراءة ما يتيسّر من القرآن حينما يستيقظون في ثلثي الليل و نصفه و ثلثه الاول قبل منتصفه. و حيث أن الله تعالي يعلم أن منهم من يكون مريضا او علي تأهّب سفر يبتغي تجارة او رزقا من فضل الله او جهادا في سبيله فلا يتمكّن من القيام بالليل و القراءة فيه، امر ثانية بقراءة ما يتيسّر من القرآن في أي وقت كان، رديف الامر بالصلاة و الزكاة و إقراض الله قرضا حسنا، التي هي من الواجبات.

فهي بسياقها تفيد لزوم قراءة القرآن ما يتيسّر «1» منه علي كل مسلم و مؤمن في الجملة، في أي وقت كان، و ان كان حوالي منتصف الليل فهو أفضل، و لا يختص بظهورها الابتدائي بالقراءة في الصلاة فريضة، أو في نافلة الليل حتي يستدل بها

______________________________

(1)- هذا راجع الي المرء كما ان الترتيل راجع الي القراءة، و الاستعاذة من الشيطان راجع الي القارئ، و الانصات للسامع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 92

علي كفاية ما يتيسّر من

القرآن في الصلاة مطلقا، حتي بدل فاتحة الكتاب كما عن بعض العامة «1» بعد تصريح السنّة المباركة القاطعة بأنه: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» و قد مضي تمام الكلام في الآية.

الثانية- قوله تعالي: … وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا … (المزمل [73] الآية 4)

المخاطب بالأمر و إن كان الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) كما مرّ تفصيله في بحث الأوقات إلا انه يدل علي وجوب الترتيل حال قراءة القرآن، أي التأمل و التأني و إقراع القلب بمفاهيم الكلمات و الآيات علي موازاة اسماع السمع اصوات الألفاظ و اللغات، فيري نفسه مخاطبا مأمورا مبشّرا و منذرا مرجوما معذّبا او مرحوما مغفورا و هكذا.

و ظاهر الأمر وجوب مراعاته علي كل قارئ مهما امكن، لا سيما لمن يتمكن من درك المفاهيم علي اختلاف المراتب.

الثالثة- قوله تعالي: فَإِذٰا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ مِنَ الشَّيْطٰانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطٰانٌ عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. (النحل [16] الآية 98 و 99)

صراحة الآية توجب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند إرادة قراءة القرآن، فلا بد من تبعيد النفس عنه و التحرّز منه و الاستمداد في ذلك من الله تعالي و اظهار ذلك بالقول، و هو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، و لا يضرّ الفصل القليل بين كل جلسة قرآنية، فان المبعد المرجوم ليس له سلطان عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمٰا سُلْطٰانُهُ عَلَي الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ (بالله) مُشْرِكُونَ، فمن ابعد نفسه عن الشيطان و اتجه الي الرحمن ثم رتّل القرآن سينال ما هو المطلوب من القراءة دون غيره كالذي يعانق الشيطان و يصوّت بالقرآن فانّه خصمه و يحاكمه

______________________________

(1)- عن ابي حنيفة كفاية ثلاث آيات من

آي القرآن، و يدفعه قوله (صلّي اللّه عليه و آله): «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» (السراج المنير/ ج 3 ص 471)، و قوله (صلّي اللّه عليه و آله): «كل صلاة لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خراج» (سنن ابي داود/ ج 1 ص 188). و لا يرتبط ذلك بتعيين المصداق و بيان المراد من الآية المبحوث عنها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 93

لدي الرحمن.

ثم ان الاطلاق يقتضي لزوم ذلك حتي في القراءة الواجبة في الصلاة، و لم يؤيده العمل من الخلف و السلف، و لعلّه اكتفي بمعناه.

الرابعة- قوله تعالي: وَ إِذٰا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصٰالِ وَ لٰا تَكُنْ مِنَ الْغٰافِلِينَ. (الاعراف [7] الآية 204 و 205)

صريح الأمر بالاستماع و الانصات عند قراءة القرآن دال علي وجوبهما حاله، فلا يجوز التكلّم او الاشتغال بأمر لا يساعد الاستماع حينما يقرأ القرآن، سواء كان من قبل الامام في صلاة الجماعة حين قراءته الواجبة او من غيره في غيرها، و لا يختص بالأول حتي لو قلنا باتحاد السياق مع الآية الثانية، فان ذكر الله تعالي في النفس علي حالة التضرّع و الخيفة لا يختصّ بصلاة الجماعة في الفجر و العشاء عند استماع قراءة الامام، و التخصيص يعود الي اطلاق العام الكثير الافراد و إرادة الخاص القليل، كما عن المحقق الأردبيلي (رضوان الله عليه) في زبدته/ ص 130، نعم ان الاستماع و الانصات حال قراءة الامام في الجماعة و كذلك ذكر الله في النفس تضرّعا و خيفة هما من المصاديق الظاهرة.

و يظهر مما ذكر حال الاستدلال بالآية علي لزوم ترك المأموم

فاتحة الكتاب و سقوطها عنه، و ان لم يسمع من الامام، فانها في اطلاقه لا تكون بصدد بيان مثل ذلك، و ان لم يتم ما احتمله المحقق الاردبيلي من الجمع بين القراءة بنفسه و استماع قراءة الامام و الانصات له.

ثم ان وجوب السجدة عند قراءة آيات العزائم او الاستماع إليها «1» فنفس

______________________________

(1)- و لو من الاذاعات و المكبّرات مباشرة دون المسجّلات لعدم صدق القراءة و إن صدق الاستماع. بل و حتي من المسجّلات.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 94

آياتها تدل عليه في مواضعها الأربعة، و هي:

1- عند قوله تعالي: إِنَّمٰا يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنَا الَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِهٰا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ. (السجدة [32] الآية 15)

2- و قوله تعالي: وَ مِنْ آيٰاتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهٰارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لٰا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لٰا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلّٰهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ.

(فصلّت [41] الآية 37)

3- و قوله تعالي: فَاسْجُدُوا لِلّٰهِ وَ اعْبُدُوا. (النجم [52] الآية 62)

4- و قوله تعالي: كَلّٰا لٰا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ. (العلق [96] الآية 19)

فان الأمر بالسجدة صريح، و تبين آيات السجدة انحصار المؤمن فيمن يخرّ له ساجدا عند ذكرها او من يذكّره بها دليل علي الوجوب لتحقق توجيه الخطاب بالقراءة او الاستماع و لا يلزم التصريح به عند قراءة الآية نفسها او الاستماع إليها.

و الظاهر وجوب السجدة عند استماع تلك الآيات من مثل الراديو أيضا اذا أذيعت بصورة مباشرة، او من المسجلات لصدق التذكّر و الاستماع، بخلاف وجوب الانصات و الاستماع لعدم صدق القراءة اذا اذيعت من المسجّل إلّا ان يقال بعدم انفكاك التذكّر عن التذكير «1» و هو مثل القراءة لا يصدق عليه،

و الاحتياط يقتضي عدم الترك.

و اما في غير تلك الآيات الأربع، فسياقها يرشد الي الاستحباب، فانها تخبر عن سجدة الملائكة، و الذين عند ربهم، و من في السماوات و الأرض بل و ما في السماوات و ما في الأرض او الذين أوتوا العلم من قبل ممن أنعم الله عليهم و أنهم

______________________________

(1)- إلا ان ذكر الفعل مجهولا يقتضي العموم، حتي التذكّر من مثل الخسوف و الكسوف و الزلزلة، بل كل شي ء أمعن فيه النظر، فكيف بالمسجلات (آلات تسجيل الصوت) و استماع الآيات اللفظية منها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 95

لا يستكبرون «1»، أو يخبر عن تنفّر الذين اذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن قالوا:

و ما الرحمن، و عن قوم كانوا يسجدون للشمس من دون اللّه «2»، و ذمّ الآخرين بأنه:

فَمٰا لَهُمْ لٰا يُؤْمِنُونَ* وَ إِذٰا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لٰا يَسْجُدُونَ (الانشقاق [84] الآية 20 و 21). و اما آية آخر سورة الحج فقد عرفت أنها راجعة الي الصلاة و لا ترتبط بالمقام كما لا ترتبط آية (سورة ص [38]- 24).

و من المعلوم أنه لا يجوز قراءة سور العزائم (المشتملة علي آيات السجدة الواجبة عند قراءتها و استماعها) في الصلاة لتنافيها صورتها، و قد أوضحت السنّة المباركة الأمر بحمد اللّه تعالي.

الفروع المستفادة من الآيات:

الأول: يجب علي كل مسلم قراءة ما تيسّر له من القرآن، و حيث ان ذلك يمتثل بقراءة الفاتحة و سورة تامة بعدها في ركعات الصلاة فالزائد عنه مسنون مؤكد لا ينبغي التساهل فيه.

الثاني: لا بد من الترتيل و إقراع القلب مضامين الآيات، و التأمّل و التأني حال قراءة القرآن.

______________________________

(1)- قال تعالي:

«إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ» (الاعراف [7] الآية 206).

«وَ لِلّٰهِ

يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلٰالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصٰالِ» (الرعد [13] الآية 15).

«أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّٰهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ … » (الحج [22] الآية 18).

«وَ لِلّٰهِ يَسْجُدُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ مِنْ دٰابَّةٍ وَ الْمَلٰائِكَةُ وَ هُمْ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ» (النحل [16] الآية 49).

«إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذٰا يُتْليٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً» (الاسراء [17] الآية 107).

«أُولٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ … إِذٰا تُتْليٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُ الرَّحْمٰنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا» (مريم [19] الآية 58).

(2)- «وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمٰنِ قٰالُوا: وَ مَا الرَّحْمٰنُ أَ نَسْجُدُ لِمٰا تَأْمُرُنٰا وَ زٰادَهُمْ نُفُوراً» (الفرقان [25] الآية 60).

وَجَدْتُهٰا وَ قَوْمَهٰا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّٰهِ … أَلّٰا يَسْجُدُوا لِلّٰهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ … » (النمل [27] الآية 24 و 25).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 96

الثالث: لا بد من الاستعاذة باللّه من الشيطان الرجيم عند إرادة قراءة القرآن.

الرابع: لا بد من السكوت و الاستماع الي القرآن و التنبه الي مفاهيمه حين قراءة الغير.

الخامس: يجب السجدة عند قراءة الآيات الآمرة به بأيّ لسان، أو عند استماعها و هي في مواضع أربعة: الم سورة السجدة، فصلت، النجم، و العلق، و يستحب في سائر المواضع العشرة التي ذكرناها؛ و لذلك لا يجوز قراءة سور العزائم في الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 97

الفصل السابع: في الجهر و الإخفات

قال تعالي: قُلِ ادْعُوا اللّٰهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمٰنَ أَيًّا مٰا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنيٰ وَ لٰا تَجْهَرْ بِصَلٰاتِكَ وَ لٰا تُخٰافِتْ بِهٰا وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلًا. (الاسراء [17] الآية 110]

سياق الآية يوضح

وجوب رعاية الاعتدال في الصوت حال الصلاة، بان لا يرتفع الصوت كمن ينادي بعيدا جهارا، و لا يخفت كمن يناجي نفسه و يحاكيها «1»، بل عليه ان يبتغي بين ذلك سبيلا واحدا معتدلا.

و هذا يحتمل معنيين:

الاول- انه لا بد للمصلّي في تمام صلواته من اذكار أو قراءة ان لا يجهر فيها و لا يخافت اي يكون صوته متوسطا معتدلا ممنوعا عن الافراط و التفريط.

الثاني- بعد الفراغ من اثبات وجوب الجهر في بعض الصلوات كالصبح و العشاءين مثلا «2»، و الاخفات في البعض الآخر كالظهرين في تمام اذكارها و قراءاتها،

______________________________

(1)- عن المفردات: الخفت و المخافتة اسرار المنطق، و السنّة المباركة فسّرت الجهر باسماع البعيد و الاخفات بأن لا يسمع أدناه أو من معه (كما في روايات الباب/ 33 من أبواب الصلاة/ الوسائل).

(2)- الظاهر انه لا خلاف بين الاصحاب في عدم وجوب شي ء من الجهر أو الاخفات في غير القراءة من الأذكار، كما يدل عليه أيضا صراحة الروايات المنقولة كصحيحة ابن يقطين عن أبي الحسن موسي (عليه السّلام)، انه قال سألته عن التشهد و القول في الركوع و السجود و القنوت للرجل ان يجهر به؟ قال (عليه السّلام) «ان شاء جهر به و ان شاء لم يجهر»، و مثله صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السّلام) الباب/ 20 من أبواب القنوت/ الرواية 1 و 2.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 98

او في بعض منها كالقراءة مثلا في السنّة المباركة، كما ثبت أصل القراءة فيها به، فانها تحكم بابتغاء سبيل الوسط في الجهر فيما يكون حكمه جهرا، و في الاخفات كذلك منعا عن الافراط و التفريط فيهما و لا تدل علي شي ء في وجوبهما «1».

و

أساس الاستدلال في المقام صحاح ثلاث:

الاولي: ما تدل علي عدم الوجوب، و هي صحيحة علي بن جعفر عن اخيه موسي بن جعفر (عليه السّلام)، قال: سألته عن الرجل يصلّي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة، هل عليه ان لا يجهر؟ قال: «ان شاء جهر و ان شاء لم يفعل» (الباب 25/ الحديث 6/ الوسائل/ القراءة في الصلاة). و ظهوره في التخيير و عدم الوجوب مما لا ينكر.

الثانية و الثالثة: صحيحتا زرارة الدالتان علي الوجوب منطوقا و مفهوما، ففي الاولي عن زرارة عن ابي جعفر (عليه السّلام) في من جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه، و أخفي فيما لا ينبغي الاخفاء فيه، فقال: أيّ ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته، و عليه الاعادة، فان فعل ذلك ناسيا أو ساهيا او لا يدري فلا شي ء عليه، و قد تمت صلاته، و في الثانية قريب منه … الي قوله: فقال: أيّ ذلك فعل ناسيا أو ساهيا فلا شي ء عليه.

(الباب 26/ الرواية 1 و 2 من الابواب، الوسائل). و ظهورهما في الوجوب أيضا مما لا كلام فيه.

فعن الشيخ (رحمه اللّه)- و من حذا حذوه- حمل الاولي علي التقية، و عن غيره طرحه بعنوان عدم عمل الأصحاب به، و وجود الاجماع، او ادعائه علي خلافه، و الأخذ بالأخيرتين و الحكم بالوجوب، و عن الآخرين حمل الأخيرتين علي الاستحباب، و رفع اليد عن ظهورهما بصراحته كما عن المجلسي (رحمه اللّه) في البحار، علي ما حكي عنه، بعد عدم الاجماع، و لا طرح، و قد أفتي به الاسكافي و المرتضي

______________________________

(1)- راجع روايات الباب/ 25 القراءة في الصلاة من الرسائل/ ج 4/ الباب 26.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 99

و ابن جنيد، و من

المتأخرين الفاضل الجواد في مسالكه و المحقق الاردبيلي في زبدة البيان.

و من المعلوم ان حمل الاخيرتين علي الاستحباب لا يكون اسهل من حمل الاولي علي التقية، أو قبول طرحها لدي الأصحاب، و علي منظرنا الافتاء و التمسك به عن جمع من الأصحاب حتي من المحقق المقدس، كما نري فتوي المشهور بالوجوب و العمل بالاخيرتين.

و اما مداومة النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي مفاد الاخيرتين مضافا الي قوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم):

«صلّوا كما رأيتموني أصلّي» فلا يصلح بيانا للآية- كما عن الفاضل المقداد (رحمه اللّه)- او ترجيحا للرواية أو للاستدلال- كما عن غيره- لاشتمال صلاته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي المندوب أيضا.

و المسألة مشكلة لا تصل النوبة الي الأصل بعد وجود الدليل في الطرفين بحيث لا يتم طرح احدهما بالكل، و لا سبيل للجمع المقبول العرفي، و لا وجه للحمل علي التقية او الاستحباب، و الاحتياط في العمل طريق النجاة، كما في الافتاء، و لذلك تري من قول المقدس (رحمه اللّه) ما نقلنا.

و كيف كان، لا اشكال في ان موضوع ذلك البحث القراءة لا مطلق الأذكار كما هو صريح الصحيحة الاولي و سائر روايات الباب.

و حيث ان السنّة المباركة خصّصتهما بالقراءة دون سائر الاذكار، فالآية تنطبق عليها مع الاستفادة من المعني الاول أيضا بابتغاء سبيل الوسط في كل صوت صلاتي، و في كل صلاة مع الجهر في الجهرية و الاخفاف في الاخفاتية، و في مثل المقامات يظهر الافتقار الشديد الي السنّة بوضوح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 100

الفصل الثامن: في القصر و التمام

قال تعالي: وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا

إِنَّ الْكٰافِرِينَ كٰانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً.

(النساء [4] الآية 101)

الضرب في الارض السير عليها «1» و قد جعل شرطا لتقصير الصلاة رخصة لظهور «لا جناح» فالمعني جواز تقصير الصلاة في السفر اجمالا، الّا أن استعمال هيئة «لا جناح» و أراد العزيمة بعضا لا سيما في السنّة المباركة، و لا سيما بعد عمل الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من التقصير في السفر دائما فانه يوجب الاطمئنان بإرادة الوجوب و العزيمة، و ان لم يستعمل في كتاب الله تعالي بهذا المعني أصلا، و إرادة الوجوب في آية الحج مثل للقيام بدليل خارج «2».

فانك تري موارد استعمال لٰا جُنٰاحَ او لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ في الكتاب الكريم استعمل بكثرتها المتجاوز عن عشرين في الجواز، و نفي البأس الظاهر في انه

______________________________

(1)- و الظاهر انه لا يصدق علي من يعيش في البلاد الكبيرة اذا خرج من بيته الي نقطة نائية من البلد تستغرق المسافة فانه لا يقال عنه عرفا انه سافر.

(2)- كما يشعر بل يدل عليه تعبير الفقيهين زرارة و محمد بن مسلم في قولهما للامام (عليه السّلام): (انما قال الله «فليس عليكم جناح» و لم يقل: افعلوا. فكيف اوجب ذلك)، الحديث- الي استدلال الامام (عليه السّلام) للمتأملين بصنع رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله)، راجع تمام الحديث في مجمع البيان/ ج 3 ص 101 و شطرا منه في الوسائل/ الرواية 4/ الباب 17/ صلاة المسافر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 101

معناه، نعم في قوله تعالي: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا (البقرة [2] الآية 158) اريد منه الوجوب، اما انه معناه الحقيقي، ففيه كلام، ألا تري لحن الفقيهين العظيمين زرارة و محمد بن

مسلم مع الامام (عليه السّلام) في إرادة الوجوب و العزيمة من المقام و تمسّكه (عليه السّلام) بآية الحج و العمرة، ثم تثبت المراد بعمل النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) دون معني اللفظ و مع ذلك سؤالهما عن التخلف، و انه هل عليه الاعادة؟ و كذلك لحن الجواب الأخير من قراءة الآية عليه و تفسيره له، دون الاكتفاء بها، فان ذلك كله بيان للمراد لا معني اللفظ حتي يراد في كل مقام، فانظر الحديث بلفظه، تعرف ما ذكرنا. (مجمع البيان/ ج 3/ ص 101/ ذيل الآية و شطرا منه في الوسائل/ الرواية/ 2/ الباب/ 22 و الرواية/ 4 الباب/ 17، من أبواب صلاة المسافر).

الّا أن ذيل الآية و لا سيّما مع ملاحظة الآية اللاحقة النازلة في صلاة الخوف حال الحرب يقلب اطلاق ظهورها الي التعليق و التقييد بخوف الفتنة من الكفار و هم عدو مبين.

فاذا كان في السفر الخوف من العدو- علي الأكثر بتنقيح المناط و تناسب الحكم و الموضوع- فالخوف من كل شي ء كالسبع و ترك الرفقة و ما شابهها، مما يتفق في السفر طبيعيا يوجب التقصير، و اما مع الأمن كما في كثير من اسفار اليوم و لا سيما مع السيارات الخصوصية، او ان المسافر تام الاختيار مأمون الطريق فلا.

و لكن الظاهر ان ذلك حكمة في التشريع، لا علّة، و ضيق الحكمة لا ينافي سعة المشروع، كما في وجوب تحفّظ ذات العدة من النساء تحفظا حكمة، فلا يكون خوف الفتنة شرطا و تعليقا و الّا كان الحق تقديمه بأن يقال: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا حال الضرب في الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ، لا بيان الحكم علي

الاطلاق أولا، ثم ذكر ذلك مشيرا الي الوجه في التشريع، و ان كان قد تتأخر اداة الشرط أيضا، الّا ان المقام استظهار لا استدلال مع امكان ورود القيد مورد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 102

الغالب هذا. و لكن مع ذلك كلّه، عندنا وجه آخر، و هو أن السفر بطبعه- الي اي مكان كان و مع أيّة وسيلة- فيه اضطراب و قلق، و بتعبير آخر ان السفر ماهيّة تلازم فقد الاطمئنان و السكينة التي يحسّهما الانسان في وطنه و مسكنه و بين اسرته، كما هو كذلك عند ما يكون في بلد آخر و هو لا يعلم زمان اقامته، أ هي يوم أو أيام، و لذلك قيل في السفر: انه قطعة من سقر.

و يجد الانسان تلك السكينة و الاطمئنان و هو في وطنه و بمرتبة منه و هو في بلد آخر عند ما ينوي الاقامة فيه مدة أقلها عشرة أيام، و بهذا فقد منّ الله تعالي علي عباده في تقصير الصلاة حال السفر، حيث ان المسافر يفقد الاطمئنان المؤثر في صلاته بوجه أقرب، و التمام حينما يجده بشهوده الوطن أو قصده الاقامة مدة في بلد آخر، و لعل ذلك هو ملاك خوف الفتنة فيعمّ.

و اما تأييد البحث أو الاشكال بالآية اللاحقة، فهو ذو كلام طويل في مسألة السياق، و قد أشبعنا البحث فيها لدي الكلام في آية التطهير و الولاية و أمثالهما في بعض مباحثنا التفسيرية، و قلنا بعدم الاتكال علي السياق الّا بمقدار تقتضيه طبيعة البحث و وحدة الكلام من ارتباط بعضه ببعض كما بيّنا.

هذا و اما استفادة باقي الخصوصيات من حدود السفر و شرائطه و موارد التخيير و غيرها من زوايا الآية فهو علي ضوء السنّة

أو بصراحتها، و من هنا يتّضح مدي الافتقار الي السنّة المباركة و عدم صحة القول بكفاية الكتاب بوضوح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 103

الفصل التاسع: صلاة الخوف

اشارة

قال تعالي:

وَ إِذٰا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلٰاةَ فَلْتَقُمْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذٰا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرٰائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طٰائِفَةٌ أُخْريٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وٰاحِدَةً وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كٰانَ بِكُمْ أَذيً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ أَعَدَّ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً* فَإِذٰا قَضَيْتُمُ الصَّلٰاةَ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَليٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً.

(النساء [4] 102 الآية 103)

الآيتان تفيدان أولا: ان الصلاة كانت تقام جماعة كما كانت تقام فرادي، و كان يؤمّهم رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كما كان يؤمّهم غيره في الحضر و السفر في حال الحرب و غيره، فلم تكن تترك بحال.

فاذا كان رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) مع المجاهدين في سبيل الله و أقام لهم الصلاة، و الصلاة معه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أفضل؛ فان اقتدوا بأجمعهم، سوف يتركون حذرهم و أسلحتهم، عند ذلك سيهجم عليهم العدو من الذين كفروا، و يشنّون عليهم الغارة، و ان اقتدي بعض دون بعض فالتبعيض لا يخلو من شي ء، فأنزل الله تعالي خطابه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 104

علي رسوله (صلّي اللّه عليه و آله): اذا كنت فيهم في ساحة الحرب و الجهاد، و حضرتكم الصلاة فقسّمهم الي طائفتين، فالطائفة الاولي يصلّون معك و

الطائفة الثانية تكون محافظة و مراقبة لحركات العدو، و يجب علي الطائفتين حمل السلاح و أخذ الحذر، فلتصلّ الطائفة الاولي معك الركعة الاولي و لينفردوا و يتمّوا صلاتهم فرادي و يحلّوا محل الطائفة الثانية للمحافظة و مراقبة العدو، و لتأت الطائفة الثانية الذين لم يصلّوا فليصلّوا معك الركعة الثانية و يتموا صلاتهم فرادي كما عملت الطائفة الأولي.

هكذا يصلّي المجاهدون حال الحرب جميعا، حتي لا يميل عليهم الذين كفروا ميلة واحدة و لكي يدركوا بأجمعهم في نفس الوقت فضل الصلاة مع النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم).

و في المقام فروع:

الأول: انه لا اشكال في جواز وضع الاسلحة مع أخذ الحذر، إن كان في بدن المسلم المجاهد أذي، أو أن الجوّ لا يساعد علي ذلك كوجود المطر أو الرياح و أمثالها، كما صرّح به قوله تعالي: وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كٰانَ بِكُمْ أَذيً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ.

و من المعلوم أن هذا و أمثاله أمر عقلائيّ، تتغيّر أشكاله بتغيّر شرائط الجوّ و المجال زمانا و مكانا، مع اختلاف أشكال الاسلحة و أنواعها بريا و بحريا أرضيا و جويا، كما ان أساس البحث هو التحفّظ و المراقبة الشديدة في الحرب من أخذ الحذر و الاسلحة، و هو أمر عقلائي ينتج معه عدم ترك الصلاة بحال تشريع صلاة الخوف.

الثاني: إن الخطاب و إن كان متوجها الي رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، الّا أن التكليف لا يختص به، بل كان لإمارته و إمامته، فهو متحقق مع كل أمير و امام يتصدي لشئون الحرب، و يؤمّهم في صلواتهم علي مقتضي بقاء التكليف بالصلاة، و انها لا تترك

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1،

ص: 105

بحال، و وجوب الحرب لدي شرائطه.

الثالث: لا فرق في ذلك بين أن تكون الحرب جهادا مع تحقق شروطه أو دفاعا، فهو الواجب علي المسلمين دون بلادهم و معارفهم و حضارتهم و جميع شئون حياتهم في كل زمان و مكان كما أثبتناه في كتاب الجهاد من مباحثنا الفقهية، و سيأتي في باب الجهاد في هذا الكتاب ان شاء الله.

الرابع: ان صلاة الخوف بكيفيتها لا تكون الّا حال اشتعال نائرة الحرب و تقابل الصفّين لا قبلها و لا بعدها، كما صرّح بذلك قوله تعالي: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ.

الخامس: ان ذلك يجب مع امكان انقسام المجاهدين الي طائفتين حسب تعداد العسكر و المعسكر، و اما مع قلّتهم بحيث لم تكن الطائفة التي من ورائهم كافية، أو لم يساعد المكان للانقسام مع الحفاظ علي مصالح الاسلام و المسلمين في الحرب فلا، و حينئذ ينقلب التكليف الي صلاة المضطر، حسب مراتب العذر بعد عدم التمكّن من الصلاة فرادي كاملة الي تبديل كل ركعة بذكر و تسبيح، بل بالتوجه إليه تعالي دون تكلّم كما في الغرقي.

السادس: انه لا فرق في الحكم بين أشكال الحرب و المواضع المأخوذة، و الاسلحة التي يحارب بها قديما و حديثا مشاة أو جويا أو بحريا، فانه لا تكلّف نفس الّا وسعها، و الضرورات تقدر بقدرها، فكلما أمكن أتي بها، و الّا يتبدل حسب مراتب الامكان كما عرفت.

السابع: ان القصر الجائز في مطلق الخوف و لو للخوف من سبع أو لص يعمّ الكمّ أيضا، و قد تتبدل الصلاة الي ذكر، كما يصرّح بذلك قوله تعالي: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجٰالًا أَوْ رُكْبٰاناً فَإِذٰا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ كَمٰا عَلَّمَكُمْ مٰا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ بعد قوله تعالي: حٰافِظُوا عَلَي الصَّلَوٰاتِ

وَ الصَّلٰاةِ الْوُسْطيٰ وَ قُومُوا لِلّٰهِ قٰانِتِينَ.

(البقرة [2] الآية 238- 239)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 106

تدل الآية الكريمة علي أن الخوف مطلق، و لو من لص أو سبع، فهو من عوامل التقصير حتي في كيفيات الصلاة من ترك القيام مثلا ركبانا، بمعني أن الصلاة لا تترك بحال، و الحالات توجب التخفيف الي أن تتبدل الركعة الي ذكر (ذكر الله) كما فصّل في السنّة المباركة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 107

الفصل العاشر: صلاة الجمعة

قال تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِليٰ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* فَإِذٰا قُضِيَتِ الصَّلٰاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً قُلْ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجٰارَةِ وَ اللّٰهُ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ.

(الجمعة [62] الآية 9- 11)

الآيات تكشف عن وجود شعار أسبوعي اسلامي في كل جمعة، و أن علي المسلمين تعظيمه وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ كما أنها تكشف عن واقع كان في زمن النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و هو ان بعض المؤمنين كانوا لا يراعون حق هذا الشعار، حيث انهم إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا و تركوا النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) قائما في الصلاة ليوم الجمعة رغبة الي المعاملة و التجارة، و اجابة للنداء عليها باللهو، كما كان متعارفا بينهم مع أن ما عند الله خير و هو خير الرازقين.

فخاطبهم الله تعالي بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِليٰ ذِكْرِ اللّٰهِ من الصلاة

و ذروا البيع و الشراء، فان ذلك خير لكم ممّا تعملون من ترك الصلاة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 108

و الانفضاض الي اللهو و التجارة، إن كنتم تعلمون، فاسعوا الي الصلاة، و اصبروا حتي تتم الصلاة و تنقضي، فاذا قضيت فانتشروا في الأرض، و ابتغوا الوسيلة من فضل الله و السعي الجميل في الاكتساب و التجارة بذكر الله، و انه تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ و هو خير الرازقين.

و لعلّكم تفلحون بالجمع بين الصلاة و الاكتساب، و الاهتمام بأمور الدنيا و الآخرة، كل في محله مع ذكر الله تعالي كثيرا.

كل ذلك يفيد أن أصل وجود ذلك الشعار الاسبوعي- و هو صلاة الجمعة- بشروطها في زمن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) قد وجبت بدليل لا نعرفه، من غير دلالة علي الوجوب و التشريع، فلا بدّ من التماس دليل آخر للوجوب و وجود الشروط إماما و مأموما، وقتا و عددا من السنّة المباركة العملية و القولية، المستفاد منها أنها من شئون الامام (عليه السّلام) و المنصوب من قبله، و كأنها من شئون الحاكم الاسلامي و مراتب الحكومة الاسلامية، و اطلاق أدلة النيابة أو تقييدها علي ما هو المبسوط في محله دخيل في الحكم، و تمام الكلام في رسالتنا «صلاة الجمعة» من الجواز تخييرا، و الترديد في كفايتها عن الظهر، فالأحوط الإتيان به مع الاتيان بها.

و أما دلالة الآية علي حرمة البيع وضعا بمعني بطلانه، أو تكليفا بمعني اقتراف الذنب مع صحة النقل أو كلاهما وقت النداء اذا نودي للصلاة، ففيه كلام، فان الامر بترك البيع و وضعه تأكيد للأمر بالسعي الي الصلاة من غير اختصاص، و المعني ترك كل اشتغال دنيوي و السعي الي

الصلاة حال النداء، و أما من ترك الصلاة حتي مع وجوبها و وجود شروطها، فانه قد ارتطم في الحرام، و تخلّف عن الأمر، و ترك الواجب، فلا وجه لفساد ما أتي به من بيع و تجارة، بل لا وجه لحرمته، و ان قلنا باقتضاء الامر بالشي ء النهي عن تركه، فان الامر بالترك في المقام هو عين النهي الحاصل من الأمر بالسعي الي الصلاة و التأكيد الشرعي للتأكيد العقلي، و لا ينافي صحة أمر وضعي آخر، بل تكليفي غير أهم، فكيف المباح؟ كما فصّل في مسألة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 109

الترتّب، و تمام الكلام في الأصول.

ثم انك تعلم أن صلاة الجمعة تختلف عن غيرها بأمور كثيرة من ناحية الشروط و الكيفية و وجوب الخطبتين فيها، و لم يذكر في الكتاب عن شي ء منها، و قد فصّلتها السنّة المباركة، من هذا و غيره يتضح تلازمهما، و ان الهداية و النجاة لا يمكن الحصول عليهما الّا بالتمسّك بهما، كما ان التمسّك بقوله تعالي: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰي وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّٰي (الاعلي [87] الآية 14 و 15). و قوله تعالي: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (الكوثر [108] الآية 2)- علي صلاة العيدين- لو لا السنّة المباركة غير تام، و لا بد من التطبيق لا التفسير فحسب، و الدليل روايات الباب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 110

الفصل الحادي عشر: صلاة الجماعة

قد عرفت من صراحة آيات الجمعة أنها كانت تقام جماعة بامامة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في زمن حياته، و كان المصلّون اذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها، و تركوا امامهم قائما في الصلاة أو حال الخطبة، فنهوا عن ذلك و أمروا بالبقاء مع الجماعة، كما كان ذلك صريحا

في آيات صلاة الخوف، و انها أيضا كانت تقام جماعة، و لا بد أن يكون كذلك مع امام هو أمير الجيش.

و من المعلوم أنها لم تكن مختصة بهما، بل الصلاة اليومية أيضا كانت تقام جماعة من أول يوم، يوم لم يكن مع الرسول الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الّا علي (عليه السّلام) و خديجة (عليها السّلام) و المسلمون كانوا يتعلّمون الصلاة بعمل الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) جماعة، كما يشير إليه قوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «1».

و كيف كان، فما يمكن أن يستدلّ به لذلك آيات:

الأولي- قوله تعالي: وَ إِذٰا نٰادَيْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ اتَّخَذُوهٰا هُزُواً وَ لَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لٰا يَعْقِلُونَ. (المائدة [5] الآية 58)

فهذه الآية و ان كانت في سياق النهي عن اتخاذ الكفار و المنافقين أولياء- كما سيأتي الحديث عنه في كتاب المحرّمات، ان شاء الله- الّا أنها تدلّ علي أن من الموارد التي كان يتّخذها الذين أوتوا الكتاب من اليهود و النصاري و كذلك الكفار هزوا، و كانوا يسخرون من المسلمين، عند النداء الي الصلاة. فكانوا يضحكون

______________________________

(1)- البحار: ج 85 ص 279.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 111

و يقولون هزلا حينما يسمعون المنادي ينادي المسلمين ليجتمعوا الي الصلاة.

و ظاهر الاطلاق ان النداء هذا لم يكن في يوم خاص و لصلاة خاصة، كما في يوم الجمعة، بل في كل يوم و لكل صلاة، و حيث ان صلاة الفرادي في المسجد أو غيره لا معني لها في نداء الآخرين إليها، و انما كان ذلك نداء للجماعة، و لمّا لم يكن بعد ذلك النداء أمر بالسعي إليها، كما فيما اذا نودي للصلاة

من يوم الجمعة فتكون بذاتها مستحبة.

و أما لفظ ذلك النداء الي الصلاة في كل يوم، و كذا في يوم الجمعة فهو «حيّ علي الصلاة، و حيّ علي الفلاح، و حيّ علي خير العمل» صراحة و كناية، فانها أبلغ، مسبوقا بالتكبير و الشهادة للتهيؤ و التناسب و ملحوقا بالتهليل كذلك، و الإخبار بأنه قد قامت الصلاة كلها مكررا ليتمّ النداء و يسمع كل أحد، أو بغير ذلك، فلا يعلم من الآية شي ء.

نعم بعد ما علمنا ذلك كله من طريق السنّة المباركة، ينطبق علي الأذان بفصوله المفصولة و تقسيمه الي اعلاميّ: و هو الأذان، و تهيئي: و هو الاقامة فيها: «قد قامت الصلاة»، و كل منهما عباديّ يحتاج الي القربة، و ان كان يتحصل الغرض بدونها، و غير ذلك من الجهات مما هو خارج عن وضع الرسالة يلتمس من السنّة.

الثانية- قوله تعالي: أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّٰاكِعِينَ.

(البقرة [2] الآية 43)

و التقريب ان الركوع مع الراكعين بعد الأمر بالصلاة لا يناسب الّا الجماعة، فان المعيّة في الخضوع مع الخاضعين حفظا لظهور معني الركوع فيه مما لا يخفي «1»، و ذكر الركوع- بعد- أنه أول ركن عمليّ اشارة الي أن ادراك الجماعة و الالتحاق بها لا يكون الّا بعد صدق الركوع مع الراكعين.

______________________________

(1)- فان معناه الانحناء لغة و استعماله في الخضوع يحتاج الي عناية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 112

هذا و لكن الانصاف انه لو كنا و الآية من غير ما نعلم من السنّة و الضرورة في صلاة الجماعة فانه لا يتمّ الاستدلال بها علي المطلوب، و لا سيما بعد ملاحظة السياق و توجيه الخطاب نحو بني اسرائيل الذين لم يكن في صلاتهم ركوع، فيرجع المعني-

و الله أعلم- الي الأمر بمعيتهم المسلمين «1».

الثالثة- قوله تعالي: وَ إِذٰا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. (الأعراف [7] الآية 204)

و التقريب انه لا يجب السكوت و الاستماع عند قراءة القرآن الّا في الجماعة حال استماع المأموم في الجهرية من الصلاة، و بتقريب آخر لا اشكال في ظهور الأمر بالسكوت و الاستماع حال قراءة القرآن في الوجوب و مورده صلاة الجماعة مؤيدا بقيد الغدوّ و الآصال في الآية التالية المساعدة لصلاة الفجر و العشاءين.

و الظاهر أن كلا التقريبين واحد، و لا يثمر و لا يغني من شي ء لو لا السنّة المباركة، فانّ الاول: مصادرة «2» بفرض ثبوت الجماعة في صغري الاستدلال دون اثبات تشريعها، و الأكثر الوجوب بعد الفراغ عن المشروعية من غير وجه لاختصاصه بها.

و الثاني: استدلال بشأن النزول، المورد المنقول عن العامة، لا بالآية، و هو لا يخصّص، و اطلاق الأمر يقتضي الوجوب مطلقا «3».

فلا يساعد القراءة في صلاة الجماعة للمأموم و لا يجوز له مع صدق الموضوع في الجهرية و ان أجاز المحقق (قدّس سرّه) في زبدته لتعدد العنوان و امكان الجمع، و أنت تعلم ما في الثاني.

______________________________

(1)- و ذلك بأن تقول ان المأمور به معيّتهم حتي في الركوع مع الراكعين و الصلاة جماعة فتدلّ علي المطلوب أيضا فتوجّه.

(2)- و ذلك بأن تقول: لم يقع في شي ء من كلمات الأصحاب الاستدلال بالآية علي أصل الجماعة ليكون مصادرة بل علي وجوب الاستماع فيها.

(3)- قال الامام الصادق (عليه السّلام) المراد استحباب الاستماع في الصلاة و غيرها. (تفسير العياشي ج 2 ص 144/ رقم 131).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 113

الفصل الثاني عشر: صلاة الميّت

اشارة

قال تعالي:

وَ لٰا تُصَلِّ عَليٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَ لٰا تَقُمْ

عَليٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ مٰاتُوا وَ هُمْ فٰاسِقُونَ وَ لٰا تُعْجِبْكَ أَمْوٰالُهُمْ وَ أَوْلٰادُهُمْ إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهٰا فِي الدُّنْيٰا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كٰافِرُونَ. (التوبة [9] الآية 84 و 85)

اذا مات الانسان صار مطروحا بين يدي الناس، لا يقدر علي شي ء كأنه يسترحم من كل أحد و من نظام الخلقة، و بالنهاية من الخالق الذي بيده الموت و الحياة و النشور و هو علي كل شي ء قدير، و عندئذ يترحم عليه الآخرون و لا سيما الأقربين من الأصدقاء و المعاشرين، و لا سيما الأرحام و الأولاد، فانهم يشفقون عليه و هم متأثرون يتكلّمون عنه استرحاما عليه، و حيث لا يقدرون علي ارجاعه و إعادته و هم ينظرون إليه و قد قضي نحبه و غادرت نفسه الحلقوم، فيدعون له بالخير بالنسبة الي أجله في القبر و القيامة، اذا كان مؤمنا بالله و اليوم الآخر الذي يجمع فيه الأولون و الآخرون.

و ذلك في الجملة أمر طبيعي لا يحتاج الي مشروع، لكنه جعل في الاسلام واجبا كفائيا محدودا بحدود و كلمات كان يدعو و يصلّي بها رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و من معه علي جنائز المؤمنين.

و حيث ان نفسه الشريفة كانت رحمة للعالمين مشفقة علي الناس أجمعين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 114

و بذلك نالتهم من غير فضاضة و غلظة، عند ذلك نهاه الله تعالي عن الاستغفار و الترحّم للمنافقين، الذين يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم، الذين بخلوا بما آتاهم الله من فضله و تولّوا، و لقد عاهدوا الله من قبل لَئِنْ آتٰانٰا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ

مِنَ الصّٰالِحِينَ، المنافقين الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين فيسخرون منهم، و في النهاية يفرحون بمقعدهم خلاف رسول الله، و كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيله، فانهم بكفرهم و نفاقهم هذا لا يغفر لهم الله و إن استغفر الرسول لهم سبعين مرّة.

ثم شدّد النهي و أكّد الأمر بقوله تعالي: لٰا تُصَلِّ عَليٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً و لا تدعو حتي لميّتهم بالخير أصلا قبل دفنه، و حال مشاهدة جنازته أو بعده عند قبره، فانهم كفروا بالله و رسوله و ما زالوا علي كفرهم، و أصرّوا علي الحنث العظيم حتي ماتوا و هم فاسقون، فليس لك أن تترحّم عليهم و تدعو لهم و تصلّي علي ميّتهم، و لو كانوا من المترفين ذوي الثروة و القبيلة، ممن تعجبك أموالهم و أولادهم، فانه ليس ذلك بخير لهم، و انما يريد الله أن يعذّبهم بها في الدنيا حيث هم يهيمون فيها، و يتلهّون بها حتي تزهق أنفسهم و هم كافرون بالله تعالي و يوم القيامة، و لا بد و أن يكون ترحّمك و رأفتك و دعاؤك علي الميّت للمؤمنين بالله و برسالتك و بيوم القيامة، و كذا ترحمك لمجتمعهم أيضا، و لا بد من التبري و الانفصال عن الكفار و المنافقين و مجتمعهم، و تمام الكلام سيأتي في تولّي الكفار ان شاء الله.

ثم ان النهي عن الصلاة علي ميّتهم نهي عمّا كان (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يصلّي علي ميّت المؤمنين و كان بهم رحيما، و من المعلوم أن الّذي كان يصلّي به علي ميت المؤمنين غير سائر الصلوات ماهيّة، فان أصل ذلك دعاء للميت و استغفار له من الله الغفور الرحيم، و سائر الصلوات، مشروعة

و مقربة، و معارج يعلو بها العباد الي أسمي المقامات.

ثم ان الدعاء و الصلاة للميت يناسب ذكر الشهادة بالله تعالي و بوحدانيته، فانه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 115

الذي يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء، و كذلك ذكر الشهادة بالرسالة، فانه بواسطتها اهتدي مجتمع المسلمين، و منهم المتوفي المدعو له، فيناسب الصلاة علي النبيّ و آله (عليهم الصلاة و السلام) كما يناسب الدعاء للمؤمنين و المؤمنات تحفّظا علي مسألة الاجتماع و التوجّه الي الجمع قبل الفرد، ثم الدعاء له، كل ذلك ليكون أقرب الي الاستجابة، و يمتاز كل فصل عن الآخر بشي ء أنسبه التكبير.

و عليه فيدعي للميت و يصلّي عليه بالشهادتين بعد التكبير، ثم الصلاة علي النبيّ و آله بعد التكبيرة الثانية، ثم الدعاء للمؤمنين و المؤمنات بعد الثالثة، ثم للمسجّي المطروح بين يدي الداعي المحتاج الي رحمة ربّه الغنيّ عن عذابه، فيطلب له الغفران و الرحمة بعد الرابعة ثم يكبّر و ينصرف.

و من المعلوم أن كيفية الصلاة علي الميت مستفادة من السنّة المباركة، كما انه لا دلالة في الآية الكريمة علي وجوب الصلاة و الدعاء و لو كفاية لو لا السنّة، الّا أنها تشعر الي أن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كما كان يدعو للميت و يصلّي عليه، كان يقوم علي القبور أيضا، و يدعو لهم، فتدلّ علي جواز مطلق الدعاء و الاستغفار للميت و جواز زيارة أهل القبور و الدعاء لهم، و المسألة أيضا مما تشير الي حدود الافتقار الي السنّة في بيان الأحكام.

فرع:

اذا فسق مسلم- بما ذكر في الآيات- مما يوجب الكفر أو الفسق فقهيا علي حدّه «1» فلا يجوز الصلاة علي جنازته و القيام علي قبره بالدعاء

له، و اذا لم يجز الدعاء للميت فعدم جواز الدعاء للحيّ- كائنا من كان- ظاهر.

______________________________

(1)- كما في الخوارج و الغلاة و المجسّمة لا كلّ فسق بعد الايمان باللّه و رسوله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 116

الفصل الثالث عشر: وجوب التسبيح

ان التسبيح «1» بحمد الله رب العالمين في آناء الليل و أطراف النهار قبل طلوع الشمس و ادبار النجوم و قبل غروبها حين المساء و حين الصباح مأمور به مرغوب فيه يقرّب الي الله تعالي، و يبعّد عن كل شرّ؛ و في المسألة آيات تتفرّق الي قسمين:

1- ما يأمر به مطلقا من غير تقييد بوقت و زمان.

2- و ما يطلبه في وقت دون وقت آخر.

و لا وجه للحمل و ارجاع الأول الي الثاني في المثبتين كما تعلم.

فللأول آيات تدلّ عليه:

الأولي- قوله تعالي: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَي* الَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰي* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَديٰ* … (الأعلي [87] الآية 1- 3)

الآيات كما تري توجب تسبيح الله الاعلي الذي خلق كل شي ء سويّا علي حدّه و قدره، و هو الذي هدي كل مقدور طريقه و مسلكه، فجعل كل موجود يسلك

______________________________

(1)- التسبيح هو التسريع في العبادة و السباحة فيها بذكر الله تعالي بأيّ وجه أقلّه ذكر: «سبحان الله و الحمد للّه و لا إله الّا الله و الله أكبر» ثم استعمل في عبادة خاصة تشتمل التنزيه، و نفي كل نقص عنه تعالي، أعظمه الشريك و الولد، قال تعالي: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اللّٰهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ» (الأنبياء [21] الآية 22)، وَ قٰالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمٰنُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ (السورة [21] الآية 26)، و لقد جمعنا آيات نفي الشرك و نفي الولد في رسالتنا: «أسس

الايمان في القرآن» و هي كثيرة فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 117

السبيل الي طريق الحق و ينتهي الي كماله، الذي خلق له من دون خيار له في ذلك، حتي لا يهوي و يضل عن السبيل.

فسبّح ذلك الرب … رب العالمين الذي لا يعزب عن ربوبيّته شي ء في الأرض و لا في السماء في الدنيا و لا في الآخرة، و كل شي ء مربوب دال علي الحكيم القدير، هاد الي الخبير البصير، و هو رب العالمين، و لعل ذلك معني قوله تعالي: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰاوٰاتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لٰا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ و لا تدركون لسان حياتهم و وجودهم، فسبّح ذلك الرب الأعلي مطلقا و كلما أمكن لا سيما حال تذكر خلقه و نعمه.

الثانية- قوله تعالي: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ في مقامين من سورة الواقعة [56].

الأول- بعد ذكر نبذ من نعم الله تعالي، و بيان شمول قدرته و نفوذ ارادته فيما يحرث، و الماء الذي يشرب، و النار التي توري، و ان مقاليد ذلك كله بيده تعالي، و قد جعلها تذكرة و متاعا للمقوين، و حال التنبّه لذلك، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، و اذكره فيها و اعبده حتي يأتيك اليقين، فان بيده ملكوت كل شي ء، و له جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ.

الثاني- بعد ذكر الجنة و النار و ما معهما من النعيم و الجحيم، فقد أمر بالتسبيح باسم ربك العظيم، الذي جعل هذا هو الحق اليقين، و الذي أعطي من لطفه المؤمنين الروح و الريحان و جنة النعيم.

و الأمر في المقامين يعطي اللزوم حال التوجه الي الخلقة و عظمة الخالق و التذكر لنعمه و ألطافه تعالي، فسبحان

الله رب العالمين.

الثالثة- قوله تعالي: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. (الحاقّة [69] الآية 52)

الآية الكريمة تأمر أيضا بتسبيح الرب العظيم بعد ذكر الجنة و النار و توصيف

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 118

نبذ من نعيمها لمن أوتي كتابه بيمينه، و بيان نزولها لمن أوتي كتابه بشماله جعلنا الله و إياكم من أصحاب اليمين، بل بلطفه من السابقين ان شاء الله، و الأمر ذلك ظاهر في الوجوب حال تنبّه عظم خلقه و نفوذ قدرته و تذكّر نعمه و ألطافه.

الرابعة- قوله تعالي: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَ الْفَتْحُ وَ رَأَيْتَ النّٰاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّٰهِ أَفْوٰاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كٰانَ تَوّٰاباً. النصر [110]

الأمر بالتسبيح مع حمد الرب تعالي واقع بعد ملاحظة نعم الله تعالي و أعظمها الفتح و النصر للمسلمين، و دخول الناس في الدين، و لا يختص الخطاب بالرسول الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كما لا يختصّ بفتح مكة، فان المورد لا يخصص و الملاك تسبيحه تعالي حال التوجه الي نعمه.

الخامسة- قوله تعالي: إِنَّمٰا يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنَا الَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِهٰا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ. (السجدة [32] الآية 15)

ذكر التسبيح مع حمد الرب بعد السجدة عند تذكّر آيات الله تعالي بتذكير الآخرين، أو تذكّر نفسه من علائم الايمان، و لا سيما بعد أداة الحصر. و التأكيد بعدم الاستكبار يفيد درجة مطلوبيّة ذلك، و لعلة آكد من الأمر، و الحاصل: ان تلك الآيات الخمس تدل علي وجوب التسبيح كلما تذكر الانسان عظمة الخالق تعالي، و سريان ارادته و قدرته، و ان بيده مبدأ كل شي ء و منتهاه، و عنده خزائنه، و لا سيما الاعتراف

عند نعمه و ألطافه و عناياته بأن له الخلق و الأمر، و له جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ، و بيده مقاليدها، فسبحان الله العظيم ربنا و رب السماء و الأرض و ما بينهما رب العالمين. و الوجوب هذا غير مقيّد بزمان أو مكان، و الانسان بل كل موجود لا يغيب عن عناياته تعالي.

و للقسم الثاني المقيّد بوقت و زمان آيات تدل عليه أيضا:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 119

الأولي- قوله تعالي: فَاصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهٰا وَ مِنْ آنٰاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرٰافَ النَّهٰارِ لَعَلَّكَ تَرْضيٰ.

(طه [20] الآية 130)

الآية في سياق مسألة النبوي و خطاب الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): بأنا مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقيٰ و تتعب نفسك حرصا علي هداية الناس، و ليس عليك إلّا البلاغ، و الله يهدي من يشاء، و يضلّ من يشاء، ثم بعد ذكر نبذ مما تحدّث بنو اسرائيل مع نبيّهم و انتهاء الكلام الي أن ذكر الله تعالي مأمن، و الأعراض عنه عمي، و من كان في هذه أعمي فهو في الآخرة أعمي، و يجاب عمّا يعترض بذلك بانك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسي.

فسياق الآية: أنها تأمر رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بالصبر علي مقالات السفهاء و الجهّال في طريق ارشادهم و هدايتهم، ثم التسبيح بحمد الرب في أوقات أربعة:

قبل طلوع الشمس: حين الصبح، و قبل غروبها: حين المساء، و من قطعات الليل و آنائه و أطراف النهار أوله و آخره، و وسطه الصبح و الظهر و العصر بحكم الجمع.

و أنت تعلم ان قبل طلوع الشمس من آناء الليل، و قبل غروبها

من أطراف النهار، فالأمر بمقتضي الجمع في الآناء و الأطراف يرجع الي أوقات ستة في كل من الليل و النهار ثلاثة، فالآية توجب التسبيح بحمد الرب في تلك الأوقات و لو بأقل مصاديقه و هو «سبحان ربي الأعلي أو العظيم و بحمده» كما هو ظاهر.

الثانية- قوله تعالي: فَسُبْحٰانَ اللّٰهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ، وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ.

(الروم [30] الآية 17 و 18)

الآية في سياق ذكر نبذ من تفكير الكفار و المنافقين و قطع من حالات العباد المؤمنين و ما يعملون و جزاء كل منهما في روضة يحبرون أو في عذاب يسجرون،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 120

تأمر بلسان الإخبار بتسبيح الله تعالي، و له الحمد حين تصبحون و حين تمسون و عشيا و حين تظهرون، و هي الأوقات الأربعة، و العشاء من أوائل آناء الليل، و حين تظهرون من أطراف النهار طرفاه حين تمسون و حين تصبحون. فقد ذكر في الآية أطراف النهار جميعا: الصبح و الظهر و المساء و من آناء الليل عشاءها فقط، و لا ينافي لزوم التسبيح في آنائها الأخري قبل طلوع الشمس كما دلّت عليه الآية السابقة، فان النهار ما بين طلوع الشمس و غروبها، كما هو ظاهر، و إطلاقه علي ما بين طلوع الفجر و غروب الشمس في مثل الصوم بدليل آخر من قوله تعالي: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّٰي يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيٰامَ إِلَي اللَّيْلِ.

(البقرة (2)- 187) كما سيأتي بيانه ان شاء الله.

الثالثة- قوله تعالي: اصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّٰابٌ* إِنّٰا سَخَّرْنَا الْجِبٰالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ

وَ الْإِشْرٰاقِ.

(ص [38] الآية 17 و 18)

الآية المباركة في سياق قريب من سابقتها أيضا، و هي تشير الي تفكير الذين كفروا و أنّهم في نخوة و شقاق قبال دعوة النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و انهم يتعجّبون ان جاءهم منذر منهم، ثم بيان هذه المشكلة، أنها كانت لسائر الأنبياء السالفين أيضا بأشكالها المتفاوتة. ففي المقام تأمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بالصبر علي ما يقوله الكفار من الانكار و التهمة بأنه ساحر كذّاب، و تحمّل ذلك و تسهيله علي النفس بتذكّر وضع داود النبيّ ذي القوة و الأيدي المشدد ملكه من قبل الله تعالي، و قد سخّر له الجبال يسبّحن معه في الوقتين: العشي و الإشراق، فكأنها تأمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بذلك فيهما صبرا علي المشاكل، كما كان داود (عليه السّلام) يفعل تحكيما لمسئوليته و تسهيلا لتحمّل المشاق في طريقها، فان الأمور بيد الله تعالي كلها، و سبحان الله العظيم و له الحمد في كل توفيق، و منه المدد علي كل عمل صالح و تخلّص عن المسئولية بتحقيق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 121

الواجب كما هو.

و من المعلوم ان العشيّ قطعة من أوائل آناء الليل، و الاشراق أول قطعة من بكرة النهار، فقد ذكر أن أطراف النهار و آناء الليل أول كل منهما من غير انحصار كما هو ظاهر.

الرابعة- قوله تعالي: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّٰهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكٰارِ. «1» (المؤمن [40] الآية 55)

هذه الآية أيضا في سياق عرض مجادلة الكفّار في آيات الله تعالي و انكارهم الرسالة من قوم نوح و الاحزاب من بعدهم قوم موسي و

عاد و ثمود و محاججاتهم، و أنهم كانوا يريدون أن يدحضوا- بذلك- الحق، و الله تعالي يبطل الباطل و يحقّ الحق بكلماته و أنبيائه و كتبه، ثم توضيح وضع المؤمنين و الكفار في الجنة و النار بالتفصيل، و أن في ذلك اليوم لا ينفع الظالمين معذرتهم و لهم سوء الدار.

ففي المقام تأمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بالصبر و التحمّل قبال أقوالهم و أعمالهم مكافحة له و الغضّ عنه، و بالتسبيح بحمد الله تعالي في الوقتين أيضا في العشيّ من أوائل آناء الليل، و في الإبكار أي بكر النهار و أوله من أطرافه، فان أزمّة الامور بيد الله تعالي، و له جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ، و بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ و مَقٰالِيدُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ. فان تسبيح الله تعالي و تنزيهه عن كل ضعف و نقص، و التوجّه الي أن له الحمد و منه كل خير تذكرة توجب القوام و سهولة تحمّل المشاكل و المشاقّ في طريق دعوة الله و سبيل إنارة السبيل علي الذين عموا و صموا و ضلّوا عن الطريق، و المجادلون في آيات الله إن في صدورهم إلّا كبر ما هم ببالغيه، و لخلق السماوات و الارض أكبر.

______________________________

(1)- و مثل ذلك قوله تعالي خطابا لنبيّه زكريا: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكٰارِ (آل عمران [3] الآية 41).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 122

الخامسة- قوله تعالي: إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا. (الفتح [48] الآية 8 و 9)

وردت الآية بعد ذكر الفتح و التوفيق و نزول السكينة علي قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا و يدخلوا

الجنة و ينالوا الفوز العظيم، و ليعذّب المنافقين و المشركين و يحل عليهم غضب الله، فان لِلّٰهِ جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، بعد ذكر ذلك كلّه تشير الي غرض الرسالة و هدف البعثة، و هو الايمان بالله تعالي و رسوله و نصر دين الله و نواميسه و حدوده و تعزيره «1» و توقيره و تسبيحه و تنزيهه بكرة و أصيلا، أي أول النهار و بكرته و أول آناء الليل عشيّته «2»، و هي الاصيل.

و من المعلوم أن ذكر التسبيح في الوقتين من أهداف الرسالة من دون اختصاص بالرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و خطاب إليه، كما كان في الآيات السابقة يعطي وجوبه فيهما علي كل مسلم في الجملة، و إن كان علي نفسه الشريفة آكد.

السادسة- قوله تعالي: فَاصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ* وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبٰارَ السُّجُودِ. (ق [50] الآية 39 و 40)

و هذه الآية في سياق قريب من الآية الثالثة، حيث أنها تبيّن إنكار الكفار مسألة الرسالة، و تعجّبهم أن جاءهم منذر منهم، و بعد ذكر الجنة و النار و نعيم المتقين و عذاب الكفار تأمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أولا بالصبر علي ما يقوله المنكرون المعاندون، و لتسهيل ذلك ترشد الي التسبيح بحمد الله تعالي، و تأمر به في الاوقات الأربعة أيضا: قبل طلوع الشمس، و قبل الغروب، و من الليل، و دبر كل سجود.

و من المعلوم أن قبل طلوع الشمس حين تصبحون من آناء الليل، و قبل الغروب من أطراف النهار كما ذكرنا، و الليل عند ما ينصرف الي آنائه الأولي

فهو

______________________________

(1)- قال الراغب: التعزير: النصرة مع التعظيم.

(2)- و قال: بالغدوّ و الآصال: أي العشايا، يقال للعشية أصيل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 123

العشيّ، نعم انّ الموقع الرابع لا يختص بزمان بل هو في دبر كل سجود و يمكن أن يقع في ايّ زمان، و الساجد بعد ما يضع جبهته علي الارض و يسجد فانه يسبّح بحمد الله و يقول مثلا: «سبحان ربي الأعلي و بحمده»، الّا ان الآية اذا قيست مع الاولي (طه (20)- 130) نري انه قد ذكر مقام أطراف النهار ادبار السجود «1» فينصرف الي التسبيح ادبار السجود في أطراف النهار، و ان كان اطلاقه يشمل السجود في غيرها أيضا، فلعل الظاهر هو مطلوبية التسبيح دبر السجود في آناء الليل و أطراف النهار.

و حيث ان المسلم يعلم أن السجود في تلك الظروف و الأوقات هو سجدة الصلاة، فهو يعلم أن المطلوب ذلك التسبيح في سجدات الصلاة مع بقاء أصل مطلوبيته في تلك الأوقات، و لو لم يكن ادبار السجود بل في كل وقت، فانه ذكر الله تعالي و تعظيمه المطلوب مطلقا، و أقلّه تلك الأوقات الستة من اطراف النهار و آناء الليل حتي يستغرق ذكر الله تعالي ليل العبد و نهاره؛ فيحيا قلبه به و يعيش معه في كل زمان و حال، فيطمئن و هو أصل العيش و الحياة، ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب.

السابعة- قوله تعالي: وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنٰا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبٰارَ النُّجُومِ. (الطور [52] الآية 48 و 49)

الآية الشريفة كسابقتها علي سياق واحد في تبيين وضع المكذّبين للرسالة، و ما يواجههم من العذاب في يوم القيامة، و ان مواجهة الرسول الداعي

الي الله تعالي و الذين آمنوا معه و مكافحتهم للذين كفروا الذين اطمأنوا بالحياة الدنيا أمر طبيعي، و لا بد من تحمّل المشاق و الصبر علي المشاكل في سبيل الله و إعلاء كلمة الحق.

فتأمر [الآية] الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)- أوّلا- بالصبر لحكم الله تعالي من لزوم الدعوة و الارشاد و الاستقامة كما أمر، ثم تؤيده و تقوّيه قائلة: بأنك بأعيننا و منظرنا و غير

______________________________

(1)- أي أنّه عطف أدبار السجود علي الليل، و معني ذلك جعله مقابلا له، أو علي أقل تقدير هو غير ابعاض الليل التي دلّت عليها (من) التبعيضية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 124

مغيّب عنّا، و نحن معك أينما كنت، فننصرك و نؤيدك في سبيل دعوتنا و رسالتنا، و لأجل ذلك و لتسهيل الأمر و تخفيف ثقل المسئولية بل و الشعور بالاطمئنان و الراحة حين حمل الخلافة و تبليغ الرسالة، سبّح بحمد ربك حين تقوم اي من الجلوس و القعود، أو من النيام و من الركوع في العبادة و الصلاة، و من السكوت، و من عالم الظلمة المحيط بالناس الأموات السكاري حتي تحييهم حياة طيّبة و تحركهم، و تسوقهم نحو العدل و الحق و الدين و إزالة الفتنة عن وجه الأرض.

و أخيرا؛ سبّح بحمد ربك حين تقوم بالأمر و هو أمر ربك الذي أمرت بالاستقامة فيه و الصبر عليه، و هو أمر الرسالة و الامامة، ذلك حكم ربك، و من الليل فسبّحه أيضا، و حين ادبار النجوم باقبال الشمس قبل طلوعها، من آناء الليل آخر آنائها، أو من أطراف النهار أول طرفيه، ان كان المراد الخارج المتصل بأول أجزائه، و هو خلاف الظاهر كما عرفت من قول الراغب في أن

طرف الشي ء جانبه، و يستعمل في الاجسام و الاوقات و غيرهما، مع انه يلزم عليه أن لا يكون له الّا طرفان و الجمع منطقي.

الثامنة- قوله تعالي: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لٰا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً* وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا.

(الدهر [76] الآية 24- 26)

هذه الآية أيضا في سياق قريب من سابقتها، فانها بعد بيان خلق الانسان و نظام حياته و انه باختياره و ارادته علي هدي أو في ضلال مبين، و قد هداه الله السبيل، فبنفسه إما يمشي سويا علي صراط مستقيم شاكرا لأنعمه، أو يهوي عنه و يضل كفورا لها فيتمتع عنها قليلا.

ثم أشير في هذه السورة الي قصة أهل بيت العصمة و الطهارة (عليهم السّلام) و ان وفاءهم بالنذر و الإطعام كان خالصا لوجه الله تعالي لا يريدون به جزاء أو شكورا،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 125

و كان خوفا من يوم القيامة، و هو اليوم العبوس القمطرير، و قد وقاهم الله شرّ ذلك اليوم و جزاهم بما صبروا جنّة و حريرا.

ثم توصيف الجنّة التي وعد المتقون بتفصيل في قصورها و أنهارها و سررها و ولدانها و خدمها و غيرها من النعم و الألطاف «1».

ثم بعد بيان ما ذكر تعود الآيات الي أصل الامر، و تخاطب الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بقوله: إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا و حيث ان في ابلاغ القرآن (المنزّل) مواجهة مع المكذّبين و الكفار و مشاكل و مشاق لا بد من تحمّلها حتي التوفيق و النصر، فتأمر بالصبر لحكم الله تعالي من غير اتباع و ملاحظة لمراضي الطغاة الكفار، و لتسهيل الأمر و

تخفيف الثقل لا بد من ذكر اسم الله تعالي ليلا و نهارا، فهو الذي فطر السماوات و الأرض و هو الذي بيده ملكوت كل شي ء و أصله، و له الخلق و الأمر، فاذكره في آناء الليل و أطراف النهار، و تبتّل إليه أي ولّ وجهك نحوه، و هو القدرة المحيطة الفعّالة لما يشاء، و تذكّره بأن علي كل عبد اطاعته فيما أمره، و علي الرسول الصبر لحكم الله تعالي، و البلاغ و بذلك يسهل المشكل و يخفّف الثقيل، فيحصل النصر و التوفيق باذن الله تعالي.

و لذلك أمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بذكر اسم الله تعالي آناء الليل و أطراف النهار، و لا أقل من بكرة النهار و أوله و أصيل الليل و عشيّها، و لتهنئة ذلك الثقل و لذة الصعوبة أمر بالسجود له تعالي في الليل و تسبيحه طويلا في السجود أو مطلقا، سواء كان الطول و صفا للسجدة كما هو الظاهر، فيرجع الأمر الي السجدة الطويلة و التسبيح فيها و لو في الجملة، أو لنفس التسبيح بأن يكون مطلوبا مستقلا أتي به في السجدة جمعا بين المطلوبين أو مستقلا، فان ذكر الله تعالي و تسبيحه غير السجدة له بوضع

______________________________

(1)- و لم يرد ذكر الحور و قاصرات الطرف احتراما لسيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله (عليها و علي أبيها و بعلها و بنيها الصلاة و السلام) و الملك لا يمكن ان ينال مقام الانسان الذي فاز و نال علّيين، و لا سيما سيدة نساء العالمين الحوراء الانسية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 126

المساجد علي الأرض كما تعلم.

و في المقام توصيف التسبيح بالطول في قوله تعالي: إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا* …

* إِنَّ لَكَ فِي النَّهٰارِ سَبْحاً طَوِيلًا* وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا* رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا* وَ اصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا. (المزمل [73] الآية 5- 10)

و كما مرّ الكلام عنه كان المراد من السبح السرعة في العبادة في النهار لوجود المشاغل و مقابلة الليل، ففيه السباحة في الاعمال منها العبادات، و كيف كان قد ينطبق علي التسبيح القصير تنزيه الله تعالي في الجملة.

ثم ان حاصل مجموع آيات الباب بصنفيها الدالّة علي لزوم التسبيح و وجوبه مطلقا أو الآمرة به في زمان و وقت أو حال و عمل بتعابيرها المختلفة، حيث لا يحمل المطلق علي المقيد في المثبتات كما أثبت في محله، ان تسبيح الله الاعلي مع حمده و تنزيهه مع ذكر اسمه (جلّ و علا) مطلوب مرغوب فيه، واجب في الجملة علي العبد الاتيان به حيث يشاء من أوقاته ليلا و نهارا و في حالاته و أعماله قياما و قعودا و سجودا، و لا سيما عند التوجه الي عظمته تعالي و تذكّر نعمائه التي لا تحصي.

إلّا أن تلك الطبيعة المرغوب فيها اللازمة الاتيان، مأمور بها أيضا بنحو أكثر و ألزم في أوقات ستة: آناء الليل و أطراف النهار، و قد عرّفتها الآيات بتعابير مختلفة فيجب في كل منها ثلاث في مواقع: ففي الأول العشيّ الأصيل أوائل آنائها، و من الليل- كما في سورة الدهر- أواسطها و حال أدبار النجوم قبل طلوع الشمس أواخرها حين تصبحون، و في الثاني بكرته أول قطعة منه طرفه الأول و حين تظهرون وسطه من أطراف النهار الظهر و حين تمسون آخر أطرافه قبل غروب الشمس؛ سواء كان

التسبيح في تلك الأوقات من النهار حين القيام و من الليل حين السجود طويلا، أو

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 127

أدبار السجود ليلا و نهارا، أو حين القيام كذلك، فيكون ألزم و أكثر في تلك الحالات و في تلك الأوقات.

و أما القول بأن المراد من التسبيح في جميع الآيات معناه اللغوي أي السباحة و التسريع في العبادة، فيكون المطلوب هو العبادة السريعة في تلك الأوقات و الحالات، و التي تتمثل بالصلاة اليومية و نوافلها، لتطابق أوقاتها أو بغيرها من العبادات، أقلّها ذكر اللّه تعالي في الجملة لمن لا صلاة له، ففيه ما لا يخفي صغري و كبري.

كما ان استفادة لزوم التسبيح بحمد الله الأعلي أو العظيم في الركوع أو السجود من الصلاة، أو في القنوت بقولنا: «سبحان الله ربّ السماوات السبع و ربّ الأرضين السبع … » أو ذكر: «سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر» في الأخيرتين من الرباعيّات أو الأخيرة من الثلاثية في الصلوات من طريق السنّة المباركة أيضا، و تلك الآيات كذلك بوجود العناية الخاصة بشأن الصلاة في القرآن الكريم، و عدم الاشارة الي ذلك في آيات التسبيح، و بعد ذكر الوقت فيها لا ينطبق علي أوقات الصلاة، و ان كان كثير منها ينطبق عليها «1» و كذلك بعد عدم الاشارة في أدلة أذكار الصلاة الي تلك الآيات مع تطابق الأوقات و الحالات، ففيه أيضا ما لا يخفي. نعم في بعض روايات العامة أشير إليها بقوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) حيث نزلت:

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، قال: «اجعلوها في ركوعكم» و حيث نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَي قال: «اجعلوها في سجودكم» «2»، و الظاهر هو

بيان الفرق بين ذكر الركوع و ذكر السجود دون اختصاص المأمور به بهما.

و من المعلوم انّه يتحصّل امتثال أوامر آيات التسبيح بإتيان ما عرفت في

______________________________

(1)- مثل بكرة النهار أوله علي معناه اللغوي، و حال القيام أيضا، فان تسبيح الركوع في حال قبل القيام، إلا أن يقال: ان المراد من البكرة أوله الشرعي قبل طلوع الشمس، و حال القيام ارادته، فينطبقان علي صلاة الصبح و ذكر الركوع كما مرّ فتأمل مع اطلاقات في الباب.

(2)- التهذيب: ج 2 ص 313 رواية 129.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 128

الصلاة بعنوان المصداق مع بقاء مطلوبيته الطبيعية مطلقا في تلك الأوقات و الحالات، و لو لم يكن في الصلاة و فيها آكد.

و الحاصل أن الأمر دائر بين حمل تلك الأوامر علي الاستحباب، مع أن السياق لا يقبله، أو تأويل التسبيح الي الصلاة، و لو لم يكن فيها ذكر من التسبيح «1»، أو الغضّ عن فتوي المشهور بكفاية مطلق الذكر في الركوع و السجود و كفاية القراءة في الأخيرتين موضع التسبيح.

و الحق عندنا إبقاء الاطلاقات علي حالها، و الفتاوي كذلك، لمن امتثل الآيات في غير الصلاة، و امتثالها لمن اتاها فيها ظاهر بعد حفظ ظهورها في الوجوب كما هو مقتضاه.

فان قلت ان الآيات بسياقها المتقارب و خطابها الموجّه الي النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الأمر فيها بالصبر لحكم الله، و لما يقوله الجهّال، و تحمّل المشكلات الحاصلة من المقابلة مع المعاندين و الكفار، ثم الأمر بذكر اسم الله تعالي و تسبيحه مع حمده استمدادا منه النصر و التوفيق في العمل و تخفيفا لثقل الدعوة و تسهيلا لطريق الارشاد و الهداية، تدل علي لزوم ذلك و وجوبه علي النبيّ

(صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لا يرتبط بسائر العباد، و الأكثر ملاكا وجوبه علي الأئمة (عليهم السّلام) و علي نوّابهم العلماء العظام، و علي كل من له شغل في ذلك السبيل الصعب الثقيل السهل السمح، لمن ذكر اسم ربه و سبّحه و اطمأن به.

قلت: نعم الأمر و إن كان كذلك إلا أن اطلاقات الصنف الأول كما عرفت و قوله تعالي: وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا رديف قوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ أي بجعله غرضا من أغراض الرسالة، و الصنف الثاني ينادي علي

______________________________

(1)- لفظا مما عرفت و معني من نفي الكفو و الولد ممّا في سورة التوحيد بأن يقرأ سورة اخري إلا أن يقال بصدقه علي نفي الشريك في التشهد و كفايته.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 129

الانصاف بأن التسبيح و لا سيما في الأوقات مطلوب واجب علي كل مسلم، إلا أنّه من الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) و نوّابهم العظام، و من تعزز بعزتهم و تشرّف بمقامهم للهداية و الارشاد في الآية درجة و مرتبة أكثر وجوبا و مطلوبية بمناسبة الحكم و الموضوع.

و ختام الكلام في المسألة: ان التسبيح كما عرفت تنزيهه تعالي عن كل عيب و نقص و كل نقد و ضعف، و أما الحمد فهو توصيفه تعالي بالخير، و ان كل موجود و قوة و خير و كمال له و به و منه و عنه، و التسبيح بحمده، أي الجمع بين طرفي النفي و الاثبات بأنه لا ضعف فيه بوجه، و له القوة المطلقة بوجه آخر «1»، لا فقدان له بوجه، و هو الوجود الحقيقي المطلق بوجه آخر أيضا،

و هكذا، و أنت تعلم أن كثيرا من آيات الباب تأمر بالتسبيح بمعية الحمد ليكون ذكر الله أكمل بعد العناية الخاصة بهما، و في المعارف و القرآن الحكيم فسبحان الله و الحمد لله ربّ العالمين.

______________________________

(1)- من المعلوم أن المراد منها الطول و الشدة و الفعلية المطلقة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 130

ملخّص الفروع المستفادة من آيات الكتاب العزيز في كتاب الصلاة هي:

1- يجب علي كل مكلّف الإتيان بالصلاة علي طبيعتها.

2- يجب إقامة الصلاة زائدا علي الاتيان بها، بأن يأمر الغير بها، و ينهي التارك لها، و يراقب تجلّيها و مظاهرها في مختلف شئون حياة الأمة الاسلامية لتكون قائمة علي أصولها جماعة و فرادي جمعة و غيرها، و ذلك غير وجوب مطلق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ان كان هذا من مصاديقه أيضا.

3- يجب تعلّم الصلاة بخصوصياتها، كما يجب تهيئة مقدماتها لاطلاق أدلة الوجوب و حكم العقل به، كما أثبتناه في وجوب المقدمة.

4- تجب النيّة في الصلاة شروعا و استدامة في الافعال و الاقوال، فانها من العناوين القصدية التي لا تقع جزء للماهيّة المخترعة شرعا إلا بالارادة و القصد، كما فصلّ في محلّه.

5- لا بد في الصلاة من قصد الاطاعة و التقرّب و الخلوص، فتبطل بالشرك و الرياء و لو في بعض أجزائها.

6- يجب في الصلاة القيام، ثم الركوع، و بعده السجود من الافعال، و التسبيح بحمد الله تعالي فيها من الأقوال.

7- الصلاة موقوتة لا بد من الإتيان بها في أوقاتها، بحيث لا يكفي التقدّم أو التأخّر إلا بدليل آخر كما في القضاء.

8- أوقات الصلاة ثلاثة:

الأول: من دلوك الشمس الي غسق الليل، و المؤتي بها بعد الدلوك تسمي صلاة الظهر، و في أواخر الوقت تسمي صلاة العصر.

الثاني: من غسق الليل الي قرآن الفجر و

طلوعه، و المؤتي بها في أوله تسمي صلاة المغرب، و بعده تسمي صلاة العتمة لوقوعها في الظلمة الشديدة و تسمي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 131

صلاة العشاء.

الثالث: من قرآن الفجر الي أدبار النجوم بطلوع الشمس، و المؤتي بها فيه تسمي صلاة الصبح.

و اتخاذ أسمائها من الاوقات و تسميتها باليومية الشامل الليلية تغليبا في نهاية الوضوح، و تفصيل الخصوصيات في السنّة.

9- يجوز اتيان صلاة العتمة و العشاء الي قرآن الفجر أداء، لاشتراك نافلة الليل في وقتها، و اشتمال غسقها الي قرآنه، و ان كان الأحوط عدم نيّة الاداء و القضاء بعد انتصاف الليل، و لا سيما في النسيان، فان وقت النفل الليل بمقتضي اطلاق الكلمة، و تناسب العتمة مع شدة الظلمة، و هي في منتصفها علما لتقابل مكان المصلّي في الوقت (منتصف الليل) مع نصف النهار في الطرف الآخر من الأرض لهذه الكرة الترابية «1»، فكأن التهجّد في الليل نفلا اختص بما بعد المنتصف، فيختص العشاء بما قبله تقريبا، و لا تهافت في الاشتراك كما في الظهرين و العشاءين.

10- وجوب المحافظة علي الصلاة مطلقا، يقتضي وجوب معرفة خصوصياتها بأجزائها و أحكامها و أوقاتها و العلوم التي تتوقف عليها معرفة القبلة و الوقت و الأدوات التي تعرف بواسطتها.

11- ان الكعبة قبلة لمن كان في المسجد الحرام، فيجب تولّي الوجه نحوها حال الصلاة، و هي لمن كان في مكة المكرّمة، و هي لمن كان خارجا عنها، و الحق ان الكعبة هي القبلة فقط إلا أن كل جسم كلما بعد عنه تتسع جهته فيصدق استقباله.

12- لا اشكال في جواز الصلاة في كل مكان و في المسجد أفضل.

13- يجب الاعتدال في مطلق أذكار الصلاة و قراءاتها بأن لا يجهر و لا

يخافت،

______________________________

(1)- اذا فرض موازاة الشمس خط نصف النهار المنصف الأرض الي الشرقية و الغربية فبدورته حولها يكون مقابل النقطة نصف الليل دقيقا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 132

و أما أصل الجهر في خصوص قراءة الحمد و السورة في الصبح و العشاءين، و الاخفات في الظهرين مثل أصل قراءتهما فمستفاد من السنّة المباركة.

14- يجب تقصير الصلاة في السفر، أما انه لا علي وجه الرخصة، و ان حدود السفر و شروطه و مواضع الاختيار و غيره فمستفاد من السنّة المباركة أيضا.

15- تجب صلاة الخوف في ساحة الحرب و المعركة بانقسام المجاهدين المؤمنين الي طائفتين تقتدي احداهما بالامام حتي النصف و تتم فرادي، و تراقب الاخري التي لم تصلّ الأعداء، مع أخذ الحذر و الأسلحة ثم تقتدي الثانية بالامام عند انتهاء الاولي بالنصف الآخر و تراقب الأولي حتي التمام.

و من المعلوم ان ذلك الوجوب مشروط بمساعدة ظروف العسكر و المعسكر و المراصد و الأسلحة، و مع العدم تتبدل الي صلاة الاضطرار، و جواز ترك الاسلحة مع أخذ الحذر عند الأذي كوجود المطر أو المرض عقلائي يرتبط بشروط الحرب و المحارب.

16- لا فرق في الامام و الأمير المقتدي به بين المعصوم (عليه السّلام) و غيره، كما لا فرق في الحكم بين الحرب جهادا أو دفاعا و بين أشكال الحرب و أنواع الأسلحة و بين فصول السنة صيفا أو شتاء، و بين الساحة برّا و بحرا أرضا و سماء.

17- تجب صلاة الجمعة بعد حصول شروطها زمن الغيبة تخييرا و الأحوط الاتيان بالظهر أيضا، و اما حرمة البيع أو عمل آخر وقت النداء يوم الجمعة وضعا أو تكليفا زائدا علي حرمة ترك الصلاة فمشكل.

18- الصلاة مع الجماعة راجحة إجمالا.

19- لا تجوز الصلاة

علي أموات الكفّار و المنافقين و لا القيام علي قبورهم و الدعاء لهم، كما لا يجوز علي احيائهم.

20- تجب الصلاة و الدعاء علي موتي المسلمين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 133

21- يجوز زيارة قبور المؤمنين و الدعاء لهم، فكيف بزيارة المراقد المقدّسة و المشاهد المشرّفة. و سيأتي الكلام عنها في مسألة الشفاعة ان شاء الله.

22- يجب علي كل مسلم تسبيح الله تعالي مع حمده آناء الليل و أطراف النهار في الجملة، و في الأوقات الستّ أكثر: في بكرة النهار أوله، و حين تظهرون وسطه، و حين تمسون آخره، و عشيّ الليل أوائل آنائه، و من الليل أواسطه، و حين ادبار النجوم قبل طلوع الشمس حين تصبحون آخر آنائه، سواء كان ذلك حال القيام و دبر السجود أو لم يكن، و يمتثل ذلك بتسبيحات الصلاة قهرا، و هو علي المسئولين العاملين لدعوة الحق تعالي و سبيل الرشاد و الموظّفين المتعهّدين لحفظ حقوق الله و حدوده بين الناس ألزم و آكد.

23- يجب علي كل مسلم قراءة ما يتيسّر له من القرآن، و يمتثل بما يقرأه في الصلاة و الزائد منه مسنون لا ينبغي التكاهل فيه، و لا بد من الترتيل في القراءة أي اسماع القلب مفاهيم الكلمات و التأمل فيها حالها.

24- لا بد من الاستعاذة بالله تعالي من الشيطان الرجيم عند إرادة قراءة القرآن، و علي المستمع السكوت و الإنصات و الاستماع متأمّلا حتي تقع القراءة مؤثرة.

25- تجب السجدة عند ذكر آيات السجدة الواجبة أو قراءتها الآمرة بها أو الاستماع إليها، و لو من المسجلات الصوتية و هي في مواضع أربعة من سور القرآن:

(فصلت، السجدة، النجم، العلق).

و تستحب السجدة في سائر المواضع؛ و لذلك لا يجوز قراءة سور

العزائم الأربع في الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 134

خاتمة المطاف

ختاما لكتاب الصلاة و تأييدا لمقدمته نقول:

الصلاة أفضل الموضوعات الشرعية و أعلي مجعولاتها فانها الطريق الوحيد الي حفظ ارتباط العبد بمولاه، و تقريبه منه تدريجيا حتي يصل الي لقائه و هو أعلي مراتب العبودية، فهي خير موضوع من شاء استقلّ و من شاء استكثر، و مع ذلك كلّه لم يذكر منها في القرآن الكريم إلا كليّات كاشتمالها علي قيام و ركوع و سجود و ذكر اللّه تعالي و تسبيحه و حمده اجمالا بعد أصل وجوبها، بحيث لا يتمكن من لم يكن مأنوسا بها عن طريق السنّة العملية أن يتصور صورتها، و لم يذكر فيه من تعداد الركعات بل صورة الركعة المشتملة علي الركوع، و لم يعلم منها ان صلاة الصبح مثلا ركعة أو ركعتان، و المغرب ركعتان أو ركعات، فكيف باشتمال الركعة علي قراءة فاتحة الكتاب و لزوم السورة و ما هو الذكر و التسبيح اللازم؟ كما أشار الي ذلك الحديث السابق.

و ذلك لتقارن الآيات التعليم العملي و التفسير القولي من رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و قد أتي بها جماعة حيث لم يكن معه مسلم إلا عليّ و خديجة (عليهما الصلاة و السلام).

و في مثل المقام يظهر جليا لكل أحد خطأ من قال: حسبنا كتاب الله، و من قلّده علي عماء، فاذا كان الأمر في مثل العبادة اليومية المبتلي بها العموم- كما عرفت- فكيف في غيرها، و قد صرّح الرسول الاكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بما تواتر عن الفريقين:

«إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، و عترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» «1».

اللّهم اجعلنا من المتمسّكين بهما و

اجنبنا أن نقول فيهما بالأهواء حتي نهتدي بهما إلي سبيل الحق و الرشاد … آمين يا ربّ العالمين.

______________________________

(1)- البحار: ج 23 ص 140 رواية 91.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 135

كتاب الصوم

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 137

الصوم

الصوم في الأصل: الامساك مطلقا، و في الشرع: إمساك مخصوص عن اعمال ممنوعة في زمان محدود لأشخاص معيّنين بشروط معيّنة، و في الكتاب آيات:

الأولي و الثانية و الثالثة- قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيّٰاماً مَعْدُودٰاتٍ فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَليٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ وَ عَلَي الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعٰامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُديً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ الْهُديٰ وَ الْفُرْقٰانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَليٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللّٰهَ عَليٰ مٰا هَدٰاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (البقرة [2] الآية 183- 185)

الآيات تدل علي أمور:

الأول- ان الصيام و الإمساك في الجملة واجب مكتوب علي المؤمنين كما كان مكتوبا علي السابقين في الشرائع الالهية للأمم السالفة.

الثاني- ان الإمساك الواجب لا يكون إلا في أيام معدودة معيّنة فهو لا في الليل و لا في أي يوم يراد بل هو في أيام مضبوطة عددا أو معيّنة في السنة شهرا واحدا، و الظاهر أن كل يوم منه واجب الإمساك ينقطع عن الآخر بفصل الليل، و جواز ارتكاب الإفطار الجائز فيه، لا أن مجموع تلك الأيام هو واجب واحد، كما ان الظاهر

فقه

القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 138

من اطلاق الإمساك الأكل و الشرب بل و مواقعة النساء، فيجب الامساك عنها، و لا يدخل فيها مثل التكلّم و الحركة، و كذا يجب الاجتناب عن البقاء علي الجنابة الي طلوع الفجر، و سيأتي إمكان استفادته من الآية المباركة الآتية، و أما مثل الكذب علي الله و رسوله فلا طريق الي وجوب الامساك عنه إلا بالسنّة المباركة- كما تعلم.

الثالث- ان الصوم الواجب في تلك الأيام ساقط عمّن كان فيها مريضا أو كان علي سفر «1»، و عليه عندئذ قضاؤه في أيام أخر إن أمكنه، و إلا يفتدي عن كل يوم بإطعام مسكين إن أمكنه، و ظاهر الإطعام إشباع انسان متوسط الخلقة بغذاء متعارف، و قد حدد الإطعام في السنّة المباركة بمدّ و التطوّع بالزائد خير.

الرابع- ان التطوّع بالصوم خير كما انه بكل خير خير، فيستحب في كل يوم إلا ما خرج بدليل مثل يوم أول شوال أي يوم عيد الفطر كما ثبت في محله.

الخامس- ان تلك الأيام المعيّنة المعدودة الواجب فيها الصيام هي شهر رمضان ثلاثين يوما كان أو تسعة و عشرين، فيجب برؤية هلاله، و يتم برؤية هلال شوال كما في الحديث الشريف: «صم للرؤية و افطر للرؤية» «2». و انتخابه من بين شهور السنة كان بفضل نزول القرآن فيه «3»، و هو الهادي للناس و الفارق بين الحق و الباطل، فمن شهد الشهر فليصمه، و من لم يشهده بأن كان علي سفر كمن كان مريضا «4» فعليه قضاء ما فاته بعدّته في أيام أخر، فمن لم يشهده بعضه أو لم يطقه كالشيخ و الشيخة و الحامل المقرب و غيرهم ممن يشابههم، فعليه إكمال العدّة و تتميم الشهر، و من

لم

______________________________

(1)- و قد يستفاد من كلمة: «علي سفر» أنه لا بدّ و أن يكون أكثر اليوم في سفر فلا يجوز الافطار اذا كان السفر بعد منتصف النهار و يجوز قبله و لا يبعد.

(2)- التهذيب: ج 4 ص 164 الرواية 36.

(3)- من المعلوم ان مسألة نزول القرآن الكريم في شهر رمضان كنزوله في ليلة القدر مع العلم بنزوله نجوما مدي ثلاث و عشرين سنة مدة رسالة النبي الأعظم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بحث طويل ينتهي الي نزوله مرتين من مرتبة الي اخري ثم الي هذه المرتبة، و تفصيله خارج عن وضع الرسالة، و لكن لا اشكال في دلالة الآيتين علي أن ليلة القدر واقعة في شهر رمضان.

(4)- الذي يضرّه الصيام لتناسب الحكم و الموضوع دون مطلق المرض بل يدل عليه قوله تعالي: «يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» فلا بدّ و أن يكون المراد مرضا كان معه الصوم عسرا و رفعه يسرا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 139

يعلم عدّته فعليه التكميل بثلاثين يوما تحصيلا لليقين مع إمكان التشكيك في أصل الاشتغال و الله تعالي يريد بكم (المسلمين) اليسر و لا يريد بكم العسر، و لتكبّروا الله علي ما هداكم، و لعلكم تشكرون نعمه، و من يطيقها و هي لا تحصي.

و لا سيما نعمة الهداية بتشريع الأحكام و ايجاب الفرائض التي تتضمن خير الدنيا و الآخرة و النجاة من شرّ الدنيا و عذاب الآخرة و الحمد لله الذي هدانا لهذا.

الرابعة- قوله تعالي: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيٰامِ الرَّفَثُ إِليٰ نِسٰائِكُمْ هُنَّ لِبٰاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّٰهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتٰانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفٰا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا مٰا

كَتَبَ اللّٰهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّٰي يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيٰامَ إِلَي اللَّيْلِ وَ لٰا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عٰاكِفُونَ فِي الْمَسٰاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ فَلٰا تَقْرَبُوهٰا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰهُ آيٰاتِهِ لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. (البقرة [2] الآية 187)

ظاهر الآية حلّية الرفث الي النساء ليلة الصيام بعد ما كان حراما فيها، فان الله تعالي علم أنّ الناس يختانون أنفسهم و يباشرونهنّ، فتاب عليهم و عفا عنهم ما مضي و حلّل لهم فيما بعد، فيجوز لهم مثل سائر المفطرات الأكل و الشرب، فليس لأحد تحريمه علي نفسه، و لا بد من ابتغاء ما كتب الله علي المؤمنين فهو الذي بيده الأمر يحلّل ما يشاء و يحرّم ما يشاء رحمة لعباده.

ثم تدل علي أن منتهي الليل الجائز فيه الرفث، و كلّ مفطر، هو تشخيص الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر و هو مبدأ النهار الذي يجب الامساك فيه، و منتهاه مبدأ الليل، و لا يصدق إلا بعد تحقق أول جزء منه و هو زوال الحمرة المشرقية الي جهة المغرب حتي تنبسط الظلمة في طرف المشرق، فليست الأيام المعدودات بمعناها العرفي لتبدأ بطلوع الشمس و تنتهي باستتار القرص، أو تبدأ بانبساط النور في طرف الشرق الي أن يتميّز الأسود من الأبيض خيطا كان أو غيره، فان قيد الفجر يعيّن انه الخيط الأبيض الحاصل الي جانب الخيط الاسود المتحصّل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 140

من انفجار الأفق و ظهور نور في الشرق.

و قد يقال بإمكان استفادة حرمة البقاء علي الجنابة الي الفجر، و أنه مفطر من الآية بتقريب ان جواز الرفث فيها محدود بطلوع الفجر لانتفاء الموضوع بعده، فلا بد من الامساك

بجميع آثاره في مبدأ النهار و منها الجنابة مع وجوب ازالتها بالغسل للصلاة أيضا.

و أنت تعلم ما فيه من التكلّف فان أصل النكاح و الرفث و الوقاع الجائز في الليل يحل الي آخر قطعة منه، و أما الجنابة الحاصلة، فلو لا السنّة فلا دليل علي وجوب ازالتها قبل الطلوع و حرمة البقاء عليها، و أما الواجب للصلاة مع سعة وقتها فلا يرتبط بالصوم.

و أخيرا تفيد الآية حرمة مباشرة النساء حال الاعتكاف في المساجد صيانة لحرمتها التي كانت في شهر رمضان، ثم أحلّت في ليلة الصيام، و ذلك لتحقق الجنابة بشروع المباشرة فيبطل صوم المعتكف ان كان نهارا، أو يحرم الوقوف في المسجد- و المعتكف واقف نهارا- كانت أو ليلا- فيتحد مع ما أنارته الآية الكريمة في كتاب الطهارة: إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ أو لبطلان الصوم و حرمة الوقوف معا، فانها تحرم علي المعتكف غير الصائم، و لا تجوز حتي و لو كان عابرا في المسجد أيضا.

و من المعلوم ان تعليق الحكم علي الوصف مشعر بالعلّية، فهي حرام علي المعتكف بما هو كذلك، و ان كانت حراما عليه بما هو صائم أو واقف في المسجد، و قد تجتمع العناوين في شي ء واحد.

و لنتكلّم عن الاعتكاف بشي ء يسير:

العكوف كما في المفردات هو الاقبال علي الشي ء و ملازمته علي سبيل التعظيم. و الاعتكاف في الشرع هو الاحتباس في المسجد علي سبيل القربة؛ و في الباب آية:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 141

قال تعالي:

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثٰابَةً لِلنّٰاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقٰامِ إِبْرٰاهِيمَ مُصَلًّي وَ عَهِدْنٰا إِليٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. (البقرة [2] الآية 125)

آخر الآية المباركة يخبر عن عهد الله تعالي و أمره

الي شيخ الأنبياء ابراهيم (عليه السّلام) و ابنه اسماعيل أن يطهّرا بيته (الكعبة) للطائفين حوله و العاكفين عنده، و الراكعين الساجدين للّه تعالي، و يفيد ذلك مطلوبية العكوف علي بيت الله مثل عدليه الطواف و الصلاة من غير اختصاص بالكعبة و المسجد الحرام، فان كل مسجد بيت الله تعالي بمرتبته مع صراحة قوله تعالي: وَ أَنْتُمْ عٰاكِفُونَ فِي الْمَسٰاجِدِ فان الجمع المحلّي باللام يعطي العموم.

و أما كيفية الاعتكاف بحسب الزمان و المقدار و الشروط فمستفاد من السنّة المباركة، و قد عرفت حرمة المباشرة في الاعتكاف، و المقام يعطي لزوم قصد القربة فيه فانه عبادة و يتوقف عليها و لا بد فيها من الاخلاص.

و في مثل هذه المقامات يظهر شدة الافتقار في تفسير الكتاب الي السنّة المباركة كما تعلم.

تذييل في فروع الكتاب:

1- يجب علي كل مكلّف حاضر سالم الصوم في شهر رمضان، أي الامساك عن الاكل و الشرب و الجماع من طلوع الفجر الي الليل، فيجوز بعد المغرب الي طلوع الفجر كل ما كان جائزا في غيره ليلا و نهارا.

و أما مفطريّة البقاء علي الجنابة الي طلوع الفجر و الكذب علي الله و رسوله و الارتماس في الماء بعد عدم صدق الشرب كلّها مستفادة من السنّة المباركة، و الإجناب بغير الجماع متّحد الملاك معه.

2- يجب علي المسافر اذا حضر و المريض اذا شفي قضاء الصوم الفائت منه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 142

في أيام أخر فان علم ما فاته من شهر أو بعض شهر فهو، و إلا فيقضي ما علم، و الأحوط في الشهر إكماله ثلاثين يوما تحصيلا لليقين و إن كان أصل الاشتغال مشكوكا بعد وجوب كل يوم مستقلا.

3- يجب علي غير القادر علي الصوم أداء و قضاء

الفدية عن كل يوم بإطعام مدّ من الحنطة أو الشعير أو غيرهما مما يصدق عليه الإطعام فلا يكفي أداء ثمنه إلا مع العلم بتصرف الفقير فيه.

4- يجوز علي السالم الحاضر في شهر رمضان السفر و لو فرارا من الصوم، فان متعلق الأحكام العناوين، و ان حفظ الانطباق أو تغييره لينطبق عليه عنوان آخر لفي اختيار المكلّف.

5- الاعتكاف في بيت الله (المسجد الحرام، أو غيره) بحبس النفس فيه مدة قربة الي الله تعالي مرغوب فيه راجح في الجملة، و بنفسه هو عبادة غير ما يعبد به الله تعالي في المدة من صوم و صلاة و دعاء …

6- يحرم علي المعتكف مباشرة النساء بما هو، و تلك حدود الله فلا تقربوها و لا تعتدوها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 143

كتاب الزكاة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 145

الزكاة

الزكاة و التزكية: الطهارة و التطهير في الأموال و النفوس؛ و تطهير المال باخراج سهم الغير و حقه منه، كما ان تطهير النفس باخراج الرذائل و إزالتها عنها؛ فلا حقيقة شرعية في أصلها. و كيفما كان، فانّ آيات الباب علي أنواع تذكر في فصول:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 146

الفصل الأول: وجوب الزكاة

فيما يدل علي أصل وجوب الزكاة اجمالا من غير نظر الي المتعلّق و المقدار و المصرف و سائر الخصوصيات؛ و فيه آيات:

الأولي و الثانية- قوله تعالي:

خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلٰاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقٰاتِ وَ أَنَّ اللّٰهَ هُوَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ. (التوبة [9] الآية 103 و 104)

ان صراحة الآيتين المباركتين تأمران رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأخذ الصدقة من المؤمنين و ذلك تطهيرا و تزكية لهم و لأموالهم، فيجب عليهم الأداء، و الله تعالي هو الذي يأخذ الصدقات و يقبل عن عباده التوبات، لا سيما من الذين لم يعطوا من قبل تلك النفقات.

و حيث ان إعطاء المال في الله ثقيل علي أكثر الناس فانهم يحبّون المال حبّا جمّا، أمر الله تعالي رسوله أيضا بالصلاة و الدعاء لهم و الرحمة عليهم بعد الأخذ، فان الدعاء و الصلاة سكن لهم و تلطيف لقلوبهم و ترغيب لهم الي اطاعة الله و أداء الحقوق، فيجب ذلك أيضا في الجملة.

و من المعلوم أن وجوب الأول لا يكون لإجابة أمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بالأداء و أخذه ولاية الواجب كما في مطلق أوامره و طلباته الولائية، بل

الواجب صدقة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 147

معيّنة قبل طلب الرسول أو عامله و هو (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يأخذ ذلك الواجب.

ثم تدل علي وجوب مطالبة الزكاة علي وليّ المسلمين معصوما كان أو نائبه من غير خصوصية لشخص الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فان ذلك كان بولايته و إمامته العامة لا برسالته الخاصة، و كيفما كان فلا إشكال في دلالة الآية علي وجوب أداء صدقة علي الناس من أموالهم زكاة بالاجمال، و ان كان الاطلاق يشمل الاستحباب من الصدقات أيضا، إلا أن السياق لا سيما مسألة قبول التوبة يوجب الظهور في الواجب منها، مع ان الأخذ غير القبول اذا أعطي برغبته، و لم يقيّد بما اذا احتيج إليها لتأمين حاجات الأمة حتي يكون من الأول.

الثالثة- قوله تعالي:

… فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللّٰهِ هُوَ مَوْلٰاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْليٰ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ. (الحج [22] الآية 78)

دلالة الآية الكريمة علي وجوب الزكاة و تطهير المال باعطاء الصدقة إجمالا مما لا إشكال فيه، فان تفريع الأمر بها علي اجتباء الله تعالي الامة المرحومة و نفي الحرج عنهم في الدين- و لا سيما أنهم مسلمون بعد الامر بالجهاد و كونه رديف الصلاة- يؤكد الوجوب.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (البقرة [2] الآية 110)

افادة الآية وجوب اداء الزكاة في الجملة ظاهر بالأمر مع تأكيده بأن ما تنفقون في سبيل الله من الأموال إطاعة لأمره تعالي تجدونه باقيا عند الله تعالي يوم القيامة يردّه إليكم متكاملا أضعافا و ليس الأمر كما تظنون من ان ذلك خسارة و إضاعة للمال.

الخامسة-

قوله تعالي:

وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 148

الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ. (الحج [22] الآية 41)

تقريب الدلالة علي المطلوب- كما عرفت في كتاب الصلاة- بأن الله تعالي يدفع الناس بعضهم ببعض لتبقي مساجد الله، و ليذكر فيها اسمه، و لينصرنّ ناصريه و هم الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة إذا تمكّنوا في الأرض و اقتدروا علي الأمر و النهي و إعلاء كلمة الله و إبطال الباطل، فيستخدمون ما آتاهم الله من المكنة في سبيل الله و طريق الحق، و إفادة المطلوب بذلك التعبير أصرح و آكد، و يفعل الله ما يريد و لله عاقبة الأمور.

السادسة- قوله تعالي:

وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.

(النور [24] الآية 56)

السابعة- قوله تعالي:

وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ … (المزمل [73] الآية 20)

و التقريب فيهما واحد، فان ظهور الأمر في الوجوب لا سيما في سياق واجبات أخري و تأكيد الأمر باطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في أوامره الولائية التي منها أخذ الماليات المقررة شرعا، و ان ما تعطونه و تقدّمونه لأنفسكم لا يبطل و لا يضيع فتجدونه عند الله تعالي باقيا مردودا إليكم ظاهر لا يخفي.

الثامنة- قوله تعالي:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلٰاتِهِمْ خٰاشِعُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكٰاةِ فٰاعِلُونَ … (المؤمنون [23] الآية 1- 4)

التاسعة- قوله تعالي:

هُديً وَ بُشْريٰ لِلْمُؤْمِنِينَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ

فقه

القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 149

بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. (النمل [27] الآية 2 و 3)

و التقريب في الآيتين الكريمتين واحد بأن التوصيف لا سيما مع ملاحظة السياق يشعر بالعلّية و ينفي الفلاح و الهداية بنفي الصلاة و الزكاة؛ و ما هو كذلك يجب الاتيان به علي المؤمن.

العاشرة- قوله تعالي:

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ يُطِيعُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (التوبة [9] الآية 71)

و التقريب- كما عرفت آنفا- من إشعار الوصف بالعلّية لا سيما بعد وجوب سائر الاوصاف المذكورة و تأكيد وجوبها بأن إطاعة الله و الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) توجب شمول رحمة الله تعالي، و إطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لا تكون إلا في أوامره الولائية، كما سيأتي إن شاء الله في كتاب الولاية، و يناسب ذلك أخذ الماليات (الضرائب) و الصدقات، كما أشير إليه في الآية المباركة الأولي، أضف الي ذلك ما ذكرنا من سائر الآيات التي قرن فيها بين الصلاة و الزكاة، مما عرفتها في كتاب الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 150

الفصل الثاني فيما ينطبق علي وجوب الزكاة

و يؤيد المطلوب و يؤكد علي نفس الكلية و الاطلاق و فيه آيات أيضا:

الأولي- قوله تعالي:

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلٰائِكَةِ وَ الْكِتٰابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَي الْمٰالَ عَليٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ وَ الْمَسٰاكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّٰائِلِينَ وَ فِي الرِّقٰابِ وَ أَقٰامَ الصَّلٰاةَ وَ آتَي الزَّكٰاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذٰا عٰاهَدُوا وَ الصّٰابِرِينَ فِي الْبَأْسٰاءِ وَ الضَّرّٰاءِ

وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. (البقرة [2] الآية 177)

الآية الكريمة- كما تري في سياقها- ردّ علي الذين كانوا يكتمون ما أنزل الله سبحانه من الكتاب في شأن الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من اليهود و النصاري الذين كانوا يشترون بكتمانهم ذلك الحق ثمنا قليلا يأخذونه من أمرائهم، و هم الذين اشتروا الضلالة بالهدي و العذاب بالمغفرة فما يأكلون مما يأخذونه إلا النار و ما أصبرهم علي ذلك؟ و لا يكلّمهم الله يوم القيامة و لا يزكّيهم و لهم عذاب أليم.

و الله سبحانه نزّل الكتاب بالحق لإثبات الحق و إعلان الحقيقة بوضوح، و الذين اختلفوا فيه لفي شقاق بعيد، فانهم يكتمون الحق و يلبسونه بالباطل و يحرّفون كلام الله، ثم هم في مرأي العامة و منظرهم يولّون وجوههم قبل المشرق و المغرب ليعدّهم العامة من الأبرار و الأخيار فيطمئنوا بما يقولون كتمانا للحق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 151

و تلبيسا للأمر.

ففي مثل هذا السياق تردّ عليهم الآية المباركة بشدة، بعد الوعيد بالعذاب بأن البرّ لا ينحصر بتولية الوجه قبل المشرق و المغرب تظاهرا بالعبادة رياء للناس، فاعلموا أيّها العامة التابعون لهم أن ليس البرّ ذلك فقط، بل انه مع التظاهر و الرياء شرّ و كذب و شرك، و لكن البرّ حقه و صدقه أن يكون في أساس كل عمل، و هو الايمان بالله تعالي و اليوم الآخر، أي المبدأ و المعاد، حتي لا يلتبس الحق بالباطل و لا يكتم، ثم الاعتقاد بالنبوّة و الرسالة و الإقرار بالشهادة في شأن الرسول الاكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و العمل بذلك الاعتقاد، فيترك ما يعطونه من المال لتلبيس الحق

بالباطل.

هذه أصول الاعتقادات اللازمة في صدق البرّ أولا.

و ثانيا: لا بدّ و أن يعطي من المال ما يتمكّن علي حبّ الله تعالي و رضاه دون حب الشهرة و الجاه و من غير المنّ و الأذي إلي القرابة و الايتام و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في سبيل وضع الأغلال عن العبيد و تحرير الفرد و المجتمع، و بالجملة بذل المال في طريق الحق و الخير و الفضيلة و تحرير الناس.

و ثالثا: أن يكون عمليا لا قوليا، مجدّا ساعيا لا متهاونا في إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الوفاء بالعهد و تحمّل المتاعب و المشاقّ في الجهاد في سبيل الله و الصبر علي نوائبه و مثاقله.

و عند اجتماع ذلك كلّه في مرحلتي التفكير و العمل يتحقق البرّ و يصدق الحق في إطاعة الله تعالي و تقواه فيصحّ الإتباع له فيما يقول: أُولٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

و حينئذ فإن إيتاء المال الذي يكون من عوامل صدق البرّ بحق علي تلك الموارد (المتطابقة أكثرها مع ما سيأتي تفصيله ان شاء الله من مصارف الزكاة) ينطبق عليها، و لا ينافي التصريح بها بعده، و الاطلاق يشمل كل صدقة و هبة و كل بذل مالي في تلك السبيل و منه الزكاة، فيكون ذكرها بعده من باب ذكر الخاص بعد العام.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 152

كما ان القرابة إن كانت لصاحب المال تنطبق علي صلة الرحم، و إن كانت قرابة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فلا ترتبط بالزكاة لحرمتها عليهم، و لا يشترط فيها الفقر، و ذلك كلّه يؤيد الاطلاق.

و الحاصل ان الآية الكريمة بعد تصريحها بدخالة إيتاء الزكاة في صدق البرّ حقا، تصرّح

بلزوم إيتاء المال بتلك الموارد التي تكون أكثرها من مصارف الزكاة، فتدلّ علي وجوب المذكورات فيها بأعم من العقلي- كما في الاعتقادات- و الشرعي- كما في باقيها- و لا سيّما مع ملاحظة السياق من التوعد بالنار علي تركها و لا سيما بعد ثبوت وجوب أكثرها بل جميعها، كل في محله «1».

عن المحقق المقدّس (قدّس سرّه) أنها لا تفيد إلا الترغيب إليها دون الوجوب.

الثانية- قوله تعالي:

ذٰلِكَ الْكِتٰابُ لٰا رَيْبَ فِيهِ هُديً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ. (البقرة [2] الآية 2 و 3)

الثالثة- قوله تعالي في توصيف المؤمنين حقا حيث يقول:

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجٰاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ. (الانفال [8] 3 و 4)

الرابعة- قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ اسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ. (الشوري [42] 38)

و التقريب في الآيات واحد، فان الرزق و إن كان لا ينحصر بالمال و يشمل كل نعمة و كذلك الانفاق منه، إلا أن مقارنته للصلاة بعد ما نري من تقارنها مع الزكاة في

______________________________

(1)- فالآية مما يمكن الاستدلال بها علي وجوب انفاق مالي غير الزكاة و سائر الواجبات المالية لا سيما بعد ذكر ما لا يكون مصروفا للزكاة علي احتمال من إرادة قول الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من ذوي القربي و فيه ما لا يخفي من تعبير.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 153

كثير من الآيات تعطي الاطمئنان بإرادتها و لا أقل من شموله لها، و تدل علي استحباب مطلق الإنفاق من المال و غيره أيضا، و سياق الثاني من كونه في مقام بيان كمال الايمان و

درجاته لا ينافي ما ذكرنا بعد ترادفها الصلاة الدخيلة في أصله، المعراج الي كمالاته.

و بعين التقريب مضافا الي أداة الحصر يدلّ علي المطلوب قوله تعالي:

وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ بعد قوله تعالي: إِنَّمٰا يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنَا الَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِهٰا خَرُّوا سُجَّداً (السجدة [32] الآية 15 و 16)، و قريب منه قوله تعالي: وَ أَنْفِقُوا مِمّٰا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ الشامل للأموال، و الأمر ظاهر في الوجوب (الحديد [57] 7)، و غيرها من الآيات «1».

______________________________

(1)- مثل قوله تعالي: «وَ لٰا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ … » (آل عمران [3] الآية 180)، فان ترك غير الواجب لا يوجب التطوّق و العذاب قطعا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 154

الفصل الثالث: في المتعلق

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبٰارِ وَ الرُّهْبٰانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْميٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْويٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.

(التوبة [9] الآية 34 و 35)

الآية الكريمة تخاطب المؤمنين و تنادي بصراحتها علي أن كَثِيراً مِنَ الْأَحْبٰارِ وَ الرُّهْبٰانِ من زعماء أهل الكتاب و علمائهم يأكلون أموال الناس بالباطل و يأخذون منهم ما شاءوا ظلما و زورا فلا يتركونهم و ما جعل الله عليهم في أموالهم من حق معلوم، و يفرضون عليهم رغباتهم و يأخذون أكثر من الواجب؛ و بذلك يصدّون عن سبيل الله فان الناس يمتنعون عن أداء الواجب عليهم أيضا و يضلّون عن سبيل

الله بانكار أصل الشرع و الدين لما يرون منهم.

و من المعلوم أن الجملة الاسمية في سياقها تفيد ثبات المفاد و دوامه حتي بعد الاسلام لا أنهم كانوا كذلك قبله فقط.

هذا في طرف الآخذين، و أما في طرف ذوي الثروة المعطين المنفقين،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 155

فاللّحن أشدّ و أغلظ: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ، في يوم يحمي علي ما كنزوا من الدراهم و الدنانير فتكوي بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم فتشوي لحومهم و كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا أخري.

و الوعيد الشديد بالعذاب الأليم لا يعقل أن يكون لترك إنفاق جميع أمواله بحيث لا يبقي له شي ء أو لتركه رأسا بحيث يتخلص بانفاق شي ء ما في الجملة فان شيئا منهما لا يوجب العذاب، كما ان حفظ المال و كنز الذهب و الفضّة عن يد السارق و انصراف الغاصب حق طبيعي أيضا لا يورث عقابا لو لم يورث تركه و للمالك التصرّف في ملكه كيف يشاء.

و لا تقوم حياة المجتمع بضرورياته التي لا يتمكّن من تحمّلها الفرد، إلا أن يكون علي كل متمكّن ذي ثروة اعطاء شي ء من ماله علي ضابطة عادلة في مقدار الانفاق و طاقة المنفق، بل علي حد من المال المأخوذ منه حتي يصرف في تلك الضرورات و كل خير و صلاح للامة الاسلامية المعبّر عنه بسبيل الله، و منها تأمين معايش الفقراء و المساكين علي أحسن وجه و أصلح ترتيب.

و أهمية ذلك الانفاق و ضرورته لدرجة يختلّ بتركه كثير من شئون الامة، فتختل حياة المجتمع و الفرد. و تارك الانفاق الموجب لهذا الاختلال مذنب بشّر بعذاب أليم و ذنبه كبير، كما ان

الآخذ منهم أكثر مما عليهم هو آكل للمال بالباطل، و ثالث المذنبين هو الصارف في غير مصرفه، بعد أخذه بحق. و علي المقدار يستنبط ذنبه من اطلاق الباطل، حفظنا الله و إياكم من شرور أنفسنا ان شاء الله.

و الحاصل ان الآية بوجه آكد تدل علي وجوب انفاق مقدار معيّن من الذهب و الفضّة بما هما، و المطلق منهما منصرف الي الرائج المسكوك المعدود من الأموال المتداولة المتبادل بهما كل مال دون غيره و دون ما جعل زينة من السكوك أيضا،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 156

و قيد التكنيز يشير الي اشتراط الحول فلا يشمل المتداول المتعامل به غير المكنوز.

الثانية- قوله تعالي:

إِنَّ الْإِنْسٰانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذٰا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلٰاتِهِمْ دٰائِمُونَ* وَ الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسّٰائِلِ وَ الْمَحْرُومِ. (المعارج [70] الآية 19- 25)

استثناء هؤلاء الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّٰائِلِ وَ الْمَحْرُومِ عن الانسان الذي خُلِقَ هَلُوعاً و إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذٰا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً مدح لهم و تعريف بعد أن كانوا من الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلٰاتِهِمْ دٰائِمُونَ.

و الظاهر أن ذلك الحق المعلوم هو الزكاة لمقارنته مع الصلاة كما في كثير من الآيات حتي قيل: «الاسلام شهادتان و قرينتان» مع ان الانفاق المستحب ليس بمعلوم مضبوط «1» و الأكثر ارادته مطلقا حتي يشمل ما يفرضه الرجل علي نفسه و يكون معلوما من قبله مقدارا و زمانا، فالآية بلسانها بعد الفراغ عن أصل وجوب الزكاة ناظرة الي أن ذلك الواجب تصدّقه محدود معلوم المقدار و المتعلّق، لا شي ء مجهول، بل فيه نصاب واحد معلوم للأجناس المعلومة التي لا بدّ من إنفاق شي ء معلوم

منها، كل ذلك الاطلاق المعلوم، قد فصّلته السنّة المباركة في محله.

و يمكن استيناس المتعلّق من اطلاق الأموال في المقام و في قوله تعالي: خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً … و العمدة منها التي تبتني عليها حياة مجتمع الانسان في مختلف المناطق و شتي الظروف و الأزمنة هي الغلات الأربع و الأنعام الثلاثة و النقدان اللذان بهما يتبادل كل مال، كما لا يخفي.

______________________________

(1)- و لا ينافي ذلك ما في السنّة المباركة من بيان ان ذلك ما يفرضه الانسان علي نفسه من الانفاق علي قدر طاقته وسعة ماله أداء لشكر ما أنعم الله تعالي عليه، و ذلك لعدم الاختصاص فان لسانها جميعا ان ذلك هو الحق المعلوم زائدا علي الزكاة و الخمس، و ان من يفعل كذا فهو مستثني من الذي اذا مسّه الخير منوعا و من الذين يمنعون الماعون … فراجع باب/ 7 أبواب ما تجب فيه الزكاة/ الروايات/ 2 و 3 و 5 و 6.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 157

لا يقال كيف يمكن أن ينحصر وجوب أداء الزكاة بتلك الأموال التي كانت مهمة في الأرمنة السالفة، في حين ان اساس الثروات في زماننا الحاضر هي المعامل الصناعية العظيمة و انتاجاتها المتنوعة المستخدمة في شتي شئون الحياة من المأكولات و المشروبات و المنسوجات، و كذا وجود الآلات و الأدوات و السيارات و الطيارات و غيرها، و الأهم من ذلك وجود المخازن التي تدور عليها تلك المعامل و الانتاجات فتدور عليها رحي حياتهم الاقتصادية و هي أساس حياتهم المادية؟

فانه يقال: نعم، الأمر و إن كان كذلك، إلا أن الشارع المقدّس ما جعله في الأموال بعنوان الزكاة جعله فيما لا تخلو عنه حياة مجتمع انساني، أي لا يمكن أن

يعيش بدونها في اي زمان او مكان و علي اي شرط، و اما سائر الأموال فيؤخذ منها بفروض اخري غيرها ستعرفها فيما بعد، لا أنها تترك متضاعفة متراكمة تنتهي الي نكبات لا تصيبنّ الذين ظلموا خاصة كما سيأتي البحث عنها في الجملة ان شاء الله تعالي.

ثم ان الآية تدل علي ان الوجوب في المقام لا يكون بصورة الحكم حتي يكون تركه عصيانا تكليفيا فقط، بل هو حق معلوم يشترك بنسبته المصرف في أموال المالك فيحرم عليه التصرف فيها بدون اذن الشريك تكليفا و وضعا، فيبطل ما يشترط إباحته كالوضوء بماء اشتراه من هذه الاموال او الصلاة في لباس كذلك، و لا بدّ من الاداء عن أصل تركته كسائر ديونه.

و لعله من ذلك ما ذهب إليه الاستاذ الكبير جامع المعقول و المنقول المجاهد في سبيل الله و الحامي عن شريعته آية الله العظمي الامام الحاج السيد روح الله الموسوي الخميني (مدّ ظلّه الشريف علي رءوس المسلمين) في أن مثل ذلك تقرّبي لا بدّ من قصد اطاعة الامر به مع التوجّه الي الفعل خارجا، لا توصّليّ لم يكن لقصد الأمر دخل فيه أصلا، و لا تعبديّ صرفا يعاقب علي تركه، أو يتوقع غفران الله

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 158

تعالي فيه بل دين عليه.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّٰاتٍ مَعْرُوشٰاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشٰاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّٰانَ مُتَشٰابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشٰابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. (الانعام [6] الآية 141)

الآية المباركة بعد بيان حقيقة تكوينية- و هي أحق الحقائق و أظهرها لمن كان له قلب أو ألقي السمع هو

شهيد- تبيّن انه (تعالي) هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّٰاتٍ مَعْرُوشٰاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشٰاتٍ و أنه أوجدها من أسبابها و طرقها الطبيعية و سبلها العامة، و لِلّٰهِ جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ، فأرسل الرياح لواقح بشري بين يدي رحمته، فأنشأ السحاب الثقال، فأنزل منها ماءها، فأحيا به الأرض بعد موتها و الشجر و الدوابّ و أخرج منها مرعاها و أنبت فيها نباتا و أنشأ جنات ألفافا من النخل و الزيتون و الرمان متشابها و غير متشابه، فأعطي كلا منها حياته و أنه أوجدها بألوانها و أنواعها بغصونها و أوراقها و ثمارها مختلفا أكلها، و الأمر كله بيده، و هو علي كل شي ء قدير.

ثم بعد بيان ذلك و ليتّجه النظر إليه أمر بالانتفاع من نعمه تعالي فقال: كلوا من تلك الثمار و كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ، و الطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ، ف هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ف كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.

ثم بعد التوجّه و العناية الي ذلك كله تعرف ان هناك أمرا آخر خطيرا علي ضوء حياة المجتمع و هو حق الله تعالي الخالق البارئ المصوّر لكم الفالق الحبّ و النوي من كل الثمرات في تلك الزروع و النخيل و الرمان، و سهمه فيها عليكم اعطاء حقّه و ردّه إليه تعالي يوم حصاده، و أمواله تعالي لا تردّ إليه إلا بصرفها في مرضاته و سبله باشراف وليّه و بيد خليفته و وصيه، و هو أجمع مصارف الزكاة و أشملها، كما سيأتي بحثه ان شاء الله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 159

فالآية الكريمة تدل علي وجوب أداء شي ء من مطلق الزرع و النخل و الثمار علي وجه الحق للّه تعالي و في

سبيله، إلا أن تقييد الإيتاء بيوم الحصاد، مع أن ظرف تحقق التكليف و الوجوب في الزكاة زمن صدق وجود المتعلق يؤتي أمرا آخر من أن ذلك الحق هو الذي لا بدّ و أن يؤتي بمن حضر الحصاد و المزرعة من شي ء غير مضبوط عرفا، ليس علي المالك شي ء لو لم يحضره فقير، و الزكاة مضبوطة بالعشر و نصف العشر علي المالك إيصاله بعد الحصاد و النصاب.

و الحاصل: ان التقييد بالزمان يحافظ علي الاطلاق في المتعلّق، و يرشد الي أن ما يجب إيتاؤه يوم الحصاد لا يختص بالغلات بل في كل محصول زراعي و هو غير الزكاة، و لذلك يحمل علي الاستحباب كما صرّحت به روايات الباب في تفسير الآية الشريفة. (الوسائل/ كتاب الزكاة) فراجع.

أضف الي ذلك قوله تعالي: وَ لٰا تُسْرِفُوا … «1».

______________________________

(1)- روي المرتضي (رحمه اللّه) في الانتصار عن أبي جعفر (عليه السّلام) في قوله تعالي: «وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ» قال:

ليس ذلك الزكاة، ألا تري أنه قال: «وَ لٰا تُسْرِفُوا»، قال المرتضي: و هذه نكتة مليحة لأن النهي عن السرف لا يكون إلا فيما لم يكن بمقدر و الزكاة مقدر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 160

الفصل الرابع: في مصرف الزكاة

و فيه آية: إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقٰابِ وَ الْغٰارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. (التوبة [9] الآية 60)

الآية المباركة تدل علي أن الصدقات لا بدّ و أن تصرف في تلك العناوين الثمانية المذكورة فقط، و انها لهم، و هم لها مالكون، فمنها ركوبهم و منها يأكلون، لا أنها مصرف حتي يجوز صرفها في غيرها، كما يجوز فيها، و يجوز

صرف جميعها في بعضها، و ذلك فريضة من الله العليم الحكيم، و ذلك قضية كلمة «إنما» و حرف اللام الزائد علي السياق بعد قوله تعالي: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقٰاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهٰا رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهٰا إِذٰا هُمْ يَسْخَطُونَ مع ان رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كان يعطيها لمستحقيها الواقعيّين قطعا، و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله لكان خيرا لهم، ففي المقام قال تعالي: إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ أي لم يكن ذلك بميل من نفسه، و ارادته وراء إرادة الله تعالي و حكمه، و ذلك كلّه يؤيد أن المراد من الصدقات الواجبة منها، و ان كان الاطلاق يشمل المستحبات، إلا أنها لا تنحصر بتلك العناوين، و يجوز صرفها في غيرها، كما يجوز فيها، فهي لها مصرف من غير لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معني، فان المصرف أو الملكية يعينهما تناسب الحكم و الموضوع بعد الظهور في اختصاص «ما» مع كلمة «في» بالنسبة الي «الرقاب و الغارمين و سبيل اللّه».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 161

فان قلت: الذي يسهل الخطب ان عنوان سبيل الله من أوسع العناوين و يستوعب كل خير بل كل ضرورة في حياة المجتمع الاسلامي بما هو كذلك من غير فرق بين أن تكون العناوين مصارف أو ملّاك و لا أثر عملي لهذا البحث.

قلت: إن مقتضي الملكية لزوم تقسيم الزكاة علي العناوين، و صرف كل سهم في مصاديقه، إلا أن لا يكون له مصداق في الخارج، فيصرف في غيره، و مقتضي كونها مصرفا جواز صرفها في غيرها، و صرف جميعها في بعضها كجواز صرف جميع سهم كلّ عنوان في بعض مصاديقه

علي الاول، و عدم وجوب بسطه علي جميع الافراد أو أقل الجمع، و سبيل الله الواقع رديف الفقراء و المساكين و ابن السبيل غيرها من الخيرات، و إلا لم يكن لذكر غيره معني، و إن كان الاطلاق يشملها فالأقرب كما عرفت ان العناوين مصارف بحكم الاطلاق، لا ملّاك لظهور اللام.

و احتمال الملكية في الأربعة الأولي لمكان «اللام» و المصرف في الاربعة الثانية لمكان «في» لو لا أنه خلاف ما عليه الاصحاب لكان له وجه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 162

الفصل الخامس: كيفية إيتاء الزكاة

يبحث هذا الفصل في الكيفية التي ينبغي أن يكون الانفاق بالمعني الأعم و إيتاء الزكاة عليها بالأخص من ناحية المنفق و المنفق عليه، و ما ينفق، و لكل منها آيات:

أما القسم الأول فآياته:

الأولي- قوله تعالي:

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ ثُمَّ لٰا يُتْبِعُونَ مٰا أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لٰا أَذيً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لٰا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لٰا هُمْ يَحْزَنُونَ. (البقرة [2] الآية 262)

بعد بيان الانفاق بطبيعته، واجبا كان أو مستحبا، و انّه لا يكون تضييعا للمال أو تركا له، و انما هو عملية بذر لينتج منها بدل كل حبة سبعمائة حبة حيث يقول تعالي:

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنٰابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 261)

بعد ذلك تصرّح الآية الكريمة بأن الانفاق المرغوب فيه، المأجور عليه بأضعاف مضاعفة، هو الذي لا يتبع فيه المنفق المنّ و الأذي، و إلا لم يكن له وجه، فلا يتوهّم من أن إثبات الشي ء لا ينفي غيره.

فعلي المنفق الانفاق بوجه لا يتأذي المنفق عليه أو يشعر بالحقارة أو الافتقار

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1،

ص: 163

الي الناس لاستعلاء المعطي و إظهاره الاستغناء، فيؤدي إليه و يعطيه بما أنه أمر الله تعالي، أو أنه ندب إليه، و يعتذر منه لقلّته، و يشكره علي قبوله لتفريغ ذمّته لاستحقاقه الثواب بواسطته، و كذلك القابل يأخذه علي اعتقاد أخذه من يد الله تعالي الآمر به، فانه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر، و المعطون هم أيدي الله تعالي و جنوده، و كما في السنّة المباركة: لا بدّ و أن يجعل المعطي يده تحت يد القابل ليقبض منها معتقدا أن الله تعالي هو الذي يأخذ الصدقات و يقبل التوبات، فلا يشعر كل منهما علوّا علي الآخر، ليتأذي غير العالي منهما، و الله تعالي جلّ و علا بينهما و لا علوّ إلا للّه.

الثانية- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُبْطِلُوا صَدَقٰاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذيٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مٰالَهُ رِئٰاءَ النّٰاسِ وَ لٰا يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوٰانٍ عَلَيْهِ تُرٰابٌ فَأَصٰابَهُ وٰابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لٰا يَقْدِرُونَ عَليٰ شَيْ ءٍ مِمّٰا كَسَبُوا وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكٰافِرِينَ.

(البقرة [2] الآية 264)

تخاطب الآية المباركة المؤمنين و تنهاهم عن إبطال الصدقات بالمنّ و الأذي و انهما يفسدانها و يجعلانها كأن لم تكن شيئا، و بالتمثيل يجعل الأمر في غاية الوضوح من أنه لا فرق بين المنفق المؤمن بالله تعالي و اليوم الآخر اذا اتبع إنفاقه منّا أو أذي، و بين الذي لا يؤمن بالله و اليوم الآخر و ينفق ماله رئاء الناس و تظاهرا لديهم بالخير لأغراض دنيوية، فان سعي كليهما هباء، و كل منهما كمن ينثر بذره علي صلد علي تراب بل غبار فأصابه المطر الشديد الوابل و أزال التراب و البذور و جعله خاليا

فتركه صلدا، فلا يحصدان ممّا حرثا شيئا و لا يقدران علي شي ء ممّا عملا.

و أما الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله فقط من دون منّ و أذي و من غير توقع شكر و أجر، فالله تعالي هو الذي يقبل منهم الصدقات، و يوفيهم أجورهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 164

مضاعفة، حيث قال: وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمُ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصٰابَهٰا وٰابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهٰا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهٰا وٰابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (البقرة [2] الآية 265)

الثالثة- قوله تعالي:

… وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ مٰا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغٰاءَ وَجْهِ اللّٰهِ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لٰا تُظْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 272)

بعد افادة الآية الكريمة انّ الانفاق من الخير لا يعود إلا علي المنفق نفسه جزاء لعمله، و إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، توضح ان المعطي لا بدّ و أن يكون مبتغيا بذلك وجه الله، و لا يريد به الشهرة او رضا الناس، فانه اذا كان خيرا و لوجه الله سيوفيّ إليه اجره تاما من غير تخسير و غير ظلم، وَ اللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ، و اما اذا لم يكن كذلك، فهو هباء ضائع باطل، و الشيطان يعدكم الفقر و الله تعالي يعدكم مغفرة منه و رحمة.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوٰالِ النّٰاسِ فَلٰا يَرْبُوا عِنْدَ اللّٰهِ وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ زَكٰاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ. (الروم [30] الآية 39)

صراحة الآية المباركة: ان الزكاة اذا أوتيت لله تعالي و ابتغاء وجهه و رضاه، فيرتجي منه تعالي المضاعفة في الأجر و الإكثار في الثمر، كما صرّح به التمثيل

السابق مؤكّدا ذلك بأن ما ترونه تزايدا و تضاعفا عند الناس فهو عند الله تناقص، فانه تعالي يمحق الربا و يربي الصدقات اذا كانت له سبحانه دون غيره او دون رئاء الناس.

فالمنفق لا بدّ و أن يبتغي بصدقاته الواجبة او المستحبة وجه الله تعالي و رضاه من غير تظاهر و رئاء للناس، سواء كان ذلك جهارا و علي رءوس الأشهاد ترغيبا للغير و تشويقا للآخرين، أو علي خفاء و تستّر تحفّظا علي قصد القربة تأكيدا للإخلاص،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 165

و بالليل كان او بالنهار، فقد قال تعالي: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقٰاتِ فَنِعِمّٰا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوهٰا وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَرٰاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* … الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ سِرًّا وَ عَلٰانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لٰا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لٰا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة [2] الآية 271 و 274). و لا يبعد دلالة ذيل الاولي علي رجحان التستّر و الإخفاء بعد حفظ قصد القربة فيهما كما لا يخفي «1».

كل ذلك يدل علي أن الصدقات و منها الزكاة تقرّبيّات يتوقّف الامتثال عليها و الثواب علي قصد القربة و الاخلاص، لا توصّليّات حتي يحصل الغرض بمجرّد إعطاء المال و لو رئاء للناس، و لا تعبّديات حتي يتوقع في تركها الغفران، و لكن مع ذلك كله لو لم يقصد الخلاف من الرئاء و طلب الشهرة و لم يتبعه المنّ و الأذي المبطل فالظاهر انه تعالي يوفّي إليه أجره من غير تخسير «2».

نعم اذا أشرك غيره، فالله خير شريك حيث يترك سهمه لشريكه، فكيف اذا أراد غيره. و أما في القسم الثاني اي كيفية المنفق عليه ففيه آية:

و

هي قوله تعالي:

لِلْفُقَرٰاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ لٰا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمٰاهُمْ لٰا يَسْئَلُونَ النّٰاسَ إِلْحٰافاً وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 273)

قد عرفت من قبل ان موارد الزكاة و مستحقيها ثمانية أوسعها وجها سبيل الله

______________________________

(1)- ظاهر اطلاق الخير في الإبداء و تقييده ب «لكم» و ما بعده في الاخفاء يؤيد ما ذكرنا من نشر الحق في الاول، فانه خير مطلق، و حفظ قصد القربة في الثاني فانه خير للمنفق، و ذلك إن كان يجري في كل من الواجب و المندوب إلا انه لسهولة تحقق الرياء في الثاني لا يبعد الجمع بأن الاول خير في الواجب و الثاني في المندوب.

(2)- فان مفاد الآية في أنّ إرادة وجه الله و قصد القربة يوجب التضاعف المشار إليه في آية أخري: «مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا» و أما بدونها فلم يحكم بالبطلان و الآية السابقة في مقام الترغيب علي أصل الانفاق، و ان اللّه تعالي يوفيه إليكم، و لا مفهوم للقيد حتي يكون بدون القربة كالعدم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 166

تعالي، و لا بدّ من تقديم الأهم فالمهم من مصالح الامة الاسلامية حسب رأي حاكمهم الشرعي، و في الباب رعاية ذلك في مصاديق سائر العناوين و منها الفقراء، فان الذين أحصروا منهم في سبيل الله، بأن كانوا متمكّنين من الضرب في الأرض و ابتغاء فضل الله بالتكسّب المشروع ثم صاروا في طريقهم ذلك بعد مراعاة الحدود و الأحكام محصورين محدودين لا يستطيعون التكسب فهم مفلسون، و مع ذلك لا يسألون الناس إلحافا و إلحاحا تستّرا علي فقرهم و تعززا لشرفهم و كرامتهم، بحيث

يحسبهم الجاهل أغنياء لتعففهم و لحفظهم علي الفضيلة الانسانية، إلا أنّ من كان له معرفة دقيقة يعرفهم بسيماهم و المؤمن بشره في وجهه و حزنه في قلبه، و لكن أخاه المؤمن كيّس فطن يدرك البشر أنه عن حزن، فالمؤمنون مقدمون علي سائر الفقراء، و لا سيما السائلين المصرّين الذين يعرفون من ظاهر حالهم، فيعطون الكفاف، فكيف الذين صار ذلك مكسبا لهم مع تمكّنهم من الضرب في الأرض و إن كانوا صادقين.

و حاصل مفاد الآية المباركة- و الله سبحانه أعلم- انه لا بدّ من تقديم الأهم الألزم في كل من موارد الصدقات و مصارفها من الفقراء و المساكين و ابن السبيل الي سبيل الله الواسع.

و حيث لم يكن ذلك مشخّصا و لا يعرفه كل أحد، لا سيما علي مستوي مصالح الامة و المجتمع الاسلامي، و ان الحاكم الاسلامي و وليّ أمر المسلمين- الذي بيده مجاري الأمور- أعرف بذلك، لاطلاعه عليها و تمكّنه منها و من مقارنة بعضها مع بعض في الزمان و المكان و المناخ الحاكم، و ان كان غيره- أحيانا- يري موردا أهم مما في نظره، و لعله مهم بالنسبة الي ما رآه الحاكم أهم، فانه العارف بزمانه، فلا بدّ و ان ينتظم المصرف و يتعيّن المنفق عليه أو المنفق فيه بنظر الحاكم كلما أمكن، فانه المسئول- أولا- عن حفظ مصالح الاسلام و المسلمين، لا سيما التي وضعت لها تلك الصدقات و الأموال، و بعد عدم الإمكان فلا بد من نظارة العدول العارفين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 167

و هكذا، فانها مما لا يرضي الشارع بتركها من غير دخل لخصوص المباشر.

و أما القسم الثالث فهو مال الإنفاق الذي ينفقه في سبيل الله بوجه قد عرفته و

لا بدّ و أن يكون من أطيبه و أحسنه و ما يحبّه المنفق، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ وَ مِمّٰا أَخْرَجْنٰا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لٰا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّٰا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. (البقرة [2] الآية 267)

مركز ثقل الآية المباركة و اعتمادها- كما تري- بيان خصوصية مال الإنفاق بعد الفراغ عن أصل مطلوبيته وجوبا أو استحبابا، فانه تعالي أمر المؤمنين بالإنفاق من طيبات أموالهم سواء كان من مكتسباتهم المصنوعة من الذهب و الفضّة أو محصولاتهم المحصودة التي أخرجها الله تعالي لهم من الأرض كالغلات الأربع التي هي العمدة، و علي الاطلاق مطلقا «1» كما هو ظاهر الآية ثم ينهاهم عن إنفاق الخبائث و الأدني من الأموال التي لم يكونوا يأخذونها إن أعطوها إلا بعد الإغماض و التغافل عن رداءته «2»، أو انهم لم يكونوا ليأخذوا أجر الانفاق و جزاءه إلا بعد التساهل و التغافل عن الخبائث و أدني الأموال، و التوجّه الي الطيبات منها، فتكون تأكيدا للجملة الأولي، و الظاهر الأول.

و الحاصل: انه لا فرق بينكم و بين الذين تنفقون عليهم، فاجعلوا أنفسكم ميزانا في الانتخاب لو كنتم أنتم آخذين، و اعلموا أن الله تعالي هو الذي يقبل الصدقات و يأخذها، فاستأثروا الطيّب منها و الحسن فهو الغنيّ عما تنفقون و هو حميد، إليه ترجع الامور و حمدها، و ما أنفقتم فلأنفسكم و الله يعلم ما تختارونه من

______________________________

(1)- فان اطلاق الانفاق يشمل الواجب و النفل و يساعده اطلاق ما أخرجنا لكم من الأرض.

(2)- قال في المفردات: الغمض: النوم العارض، و غمض عينه و أغمضها وضع إحدي جفنيه

علي الاخري ثم يستعار للتغافل و التساهل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 168

أموالكم و تنفقونه من صدقة أو نذر:

وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ (البقرة [2] الآية 270)، فمن أنفق من غير الطيّب من ماله إيفاء لواجبه أو مستحبه من حكم إلهي أو نذر أوجبه علي نفسه فقد ظلم نفسه و ما له من ناصر يعينه ليجبر خسرانه.

الثانية- قوله تعالي:

لَنْ تَنٰالُوا الْبِرَّ حَتّٰي تُنْفِقُوا مِمّٰا تُحِبُّونَ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ. (آل عمران [3] الآية 92)

صراحة الآية الكريمة: نفي نيل البرّ من ناحية الانفاق حتي يكون ما ينفق مما يحبّه المنفق من أمواله، فلا برّ في انفاق غير المحبوب من المال الذي لم تكونوا بآخذيه إن أوتيتموه، و الله تعالي يعلم ما تنفقون من شي ء و انه محبوب لديكم أو لا، فأنتم و أنفسكم، فهل ستنفقون ممّا تحبون أو لا؟ ذلك بينكم و بين الله، سواء كان في منظر الناس و مرأي منهم أو لم يكن، فان كثيرا ما يكون الشي ء محبوبا عندكم من ناحية الظروف و المناخ الذي تعيشونه، و لا يكون عند الناس كذلك لجهلهم بما أنتم فيه.

فالآية الكريمة تدل علي أن الانفاق لا بدّ و أن يكون من المال المحبوب الطيّب.

الثالثة- ثالثة القسم الأول:

فانها تدل علي لزوم قصد القربة و تدل أيضا علي أن الانفاق اذا كان من خير و من المحبوب و الطيّب فسوف يوفي الي منفقه الأجر و الخير.

و الّذي ينبغي أن نذكره في ختام هذا البحث ان لزوم قصد القربة و ترك المنّ و الإيذاء، و النفاق من طيّب المال و محبوبه، ظاهر في قربيّة

الأمر و عباديّته، بحيث لا ينال المنفق الأجر العبادي القربي لدي ترك كل منهما، و أما توقف براءة ذمته في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 169

الواجب منه عليها وضعا بحيث لو لم يقصد القربة أو اتبع انفاقه المنّ و الأذي «1» أو أنفق من غير طيّب المال بعد أصل الصدق، كان عليه الأداء ثانيا، فمشكل، سواء قصد الرئاء أو لا، و الغرض الأصلي هو الايصال و تأمين احتياجات الأمة بواسطة الحاكم الشرعي و علي يده في الماليات، و ان كان حلاله أمرا آخر روحيا كما في كل الأحكام المالية.

نتيجة البحث

1- يجب علي المسلمين التصدّق بشي ء من أموالهم في الجملة و يسمي بالزكاة، و يجب علي وليّهم- معصوما كان أو نائبه- المطالبة بها و أخذها من الواجدين لشروطها، و علي الآخذ الصلاة و الدعاء للمعطي في الجملة، فإن الدعاء سكن له.

2- يستحب الانفاق و التصدّق من كل متمكن علي كل مستحق مطلقا.

3- الزكاة الواجبة تشمل ما يصدق عليه أموال الناس في مختلف المناطق و شتي الشروط من الغلات الاربع كالحنطة و الشعير و التمر «2» و الزبيب، و كذا الأنعام الثلاثة: الغنم و البقر و الابل، و النقدين اللذين يتبادل بهما كل مال «3» و أما في غيرها من الأموال المختلفة فيؤخذ منها بعنوان آخر ينطبق علي اختلافها وجودا و عدما و اعتبارا من ربح الكسب كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله.

4- ما يجب انفاقه زكاة حق معلوم بحسب ما فيه من النصاب، و ما ينفق من المقدار فيحرم تركه تكليفا، و لا يجوز التصرف فيه قبل الاداء وضعا، فتبطل الصلاة فيه أو الوضوء به، كما يحرم علي العامل طلب الزائد من المقدار أو من غير

الجنس،

______________________________

(1)- و ابطالهما الصدقات راجع الي حيثيته التكليفية دون الوضعية.

(2)- ان قلت: كما ان التمر في حد الحنطة لدي سكنة المناطق الحارة كذلك الأرز لدي المناطق الرطبة، قلت:

نعم بعد خصوصية في التمر أثبتها علماء معرفة الغذاء من جامعيته و حيث لم يصرّح به في السنة المباركة فيؤخذ منه بنحو آخر من أرباح المكاسب بعد الاستحباب في كل حب.

(3)- أي المسكوك المتداول دون غيره و دون المتخذ منه زينة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 170

نعم يجوز الأخذ لو أدي المالك بنفسه استحبابا.

5- الزكاة لِلْفُقَرٰاءِ، وَ الْمَسٰاكِينِ، وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا، وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَ فِي الرِّقٰابِ، وَ الْغٰارِمِينَ، وَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ، وَ ابْنِ السَّبِيلِ، و هم لها مالكون و سبيل الله يشمل كل خير يلزم للأمة الاسلامية بما هي أمة مسلمة، لا كلّ ما يطلبه المجتمع و يراه خيرا بما هو، فيحرم صرفها في غير المصرف، و يجب تقسيمها علي مالكيها، إلا أن لا يوجد لعنوان مصداق، و أما سهم كل عنوان فلا يجب تقسيمه علي جميع المصاديق، بل يجوز الانفاق علي فرد واحد، حتي يخرج عن العنوان.

6- الانفاق- واجبا كان أو مستحبا- لا بدّ و أن يكون لابتغاء وجه الله تعالي خالصا له، و لذلك يستحب أن يكون مستورا و لا سيما في المستحب منه تأكيدا للقربة، أو جهارا أحيانا ترويجا للخير، و أن يكون من طيّب المال و محبوبه، و أن لا يتبع انفاقه المنّ أو الأذي، و ان كان الظاهر براء ذمّته بدون ذلك من دون أجر و ثواب.

7- علي وليّ المسلمين و متصدي الامور مراعاة الأهم فالأهم في مصرف الزكاة، مع القول بمالكية المذكورات، و أعظم مراتب سبيل الله الجهاد في طريق اعلاء

كلمة الحق و الدفاع عن الاسلام و مختلف شئون المسلمين بأي طريق اقتضاه الظرف الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي علي رأي الحاكم.

ثم انك بالتأمل في فروع الكتاب علي اجمالها من دون بيان حدود المتعلق من النصاب و الحول و السوم و بيان المقدار من العشر و نصفه او العدد في كل نصاب و غيرها مما تراه علي التفصيل في المفصلات تعرف أيضا درجة التلازم بين الكتاب العزيز و السنّة المباركة و انهما لن يفترقا الي يوم القيامة، اللّهم اجعلنا من المتمسّكين بهما اطاعة لأمر الله تعالي في كتابه و لأمر رسوله في سنّته، آمين رب العالمين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 171

كتاب الخمس و الأنفال

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 173

الفصل الأول: موارد الخمس

و فيه آيات: الأولي- قوله تعالي:

وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَليٰ عَبْدِنٰا يَوْمَ الْفُرْقٰانِ يَوْمَ الْتَقَي الْجَمْعٰانِ وَ اللّٰهُ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ. (الانفال [8] الآية 41)

الآية المباركة بصراحتها تحكم بالقطع بأن كل ما اغتنمه المسلمون من أي شي ء لا يملكونه بأجمعه، بل لهم أربعة أخماسه و خمسه الآخر هو للّه و للرسول و لذي القربي، و اليتامي و المساكين و ابن السبيل.

و الغنيمة كل ما استفاده الانسان من اي طريق مشروع كما في اللغة «1»، و جاء في السنّة المباركة: « … هي و اللّه الافادة يوما بيوم» «2» و ما يغتنم في الحرب هو أجلي المصاديق لها، و الانصراف بعد الاطلاق حتي ينحصر به كما توهمه البعض فيه ما لا يخفي.

و السياق من قوله تعالي: قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰي لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ ينبئ عن أنها آيات نازلة في الجهاد بعد كلام فيه مورد للحكم لا موضوع، و هو غير مخصّص للوارد، فكل ما يبقي من الفوائد الخاصّة للمسلم عن اكتساباته و استنتاجاته مطلقا كاستخراج المعدن أو ما يستخرج بالغوص أو مطلق التجارة الشاملة للزراعة

______________________________

(1)- للصديق الحاج الشيخ رضا استاذي رسالة وجيزة عدّ فيها مائة مورد من أهل اللغة و الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) يدل علي المطلوب عملها، شكر اللّه سعيه.

(2)- التهذيب: ج 4 ص 121 رواية 1.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 174

و الصناعة و الطبابة و … الخ، أو الكنز- بعد إخراج المؤن- غنيمة أيضا يجب اداء خمسها.

فمتعلق الخمس الاشياء الأربعة

مع غنائم الحرب «1»، و التقييد بإخراج المؤن لعدم الصدق قبله كتقييد غنائم الحرب باخراج صفوة الملوك بالملاك.

و من ذلك يتضح أن لا خمس في الهدايا و المهور و الارث المحتسب لعدم الصدق دون غير المحتسب منه، فانه فيه الخمس للصدق عرفا، و لذلك يعتبر في المعادن و ما يستخرج بالغوص، و كذا الكنز وجود نصاب و حدّ لا يعدّ دونه غنيمة عرفا و ان صح لغة.

ثم ان ظاهر التقسيم أن يقسم الخمس الي نصفين: نصف للّه و لرسوله و لذي القربي، و نصفه الآخر لليتامي و المساكين و ابن السبيل، و التنصيف دون التسديس و اختصاص كل عنوان بسدس لاختلاف التعبير في الثلاثة الأخير بترك اللام، و من ذلك يستظهر التعلّق بذي القربي فيفيد الاختصاص بهم اذا كانوا منهم، و أما اذا كانوا من غيرهم فسهمهم من الزكاة كما عرفت من الاطلاق قبال محروميّتهم من الزكاة بالسنّة المباركة «2» كمحروميّتهم من الخمس.

و عليه فسهم الله تعالي سدس الخمس، يصرف في مراضيه تعالي بيد وليّ امره و مبلّغ رسالاته، و هو رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو وصيه، أو من ينوب عنه، و اما سهم الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فهو له في حياته، يصرفه فيما يشاء في شئون حياته و ما يتعلق بشئون ولايته علي المسلمين، و من بعده (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يرثه وصيّه و خليفته، دون من يرثه بما هو مورث أولاده و أزواجه أمواله الشخصية، اي فيما تصرف فيه

______________________________

(1)- و أما المال المختلط، و الأرض اذا اشتراها ذمّي عن مسلم فحكمها مستفاد من الروايات.

(2)- و ان كان اطلاق ولاية الحاكم يقتضي

لزوم تأمين افتقارات كل من سهم الآخر اذا لم يف سهمه مما في بيت المال، و لا ينافي ذلك أصل التسهيم و التفكيك كما تراه في الحكومات الاخري، و تفصيل الكلام في محله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 175

زمن حياته و صار ملكا له بذلك العنوان.

و اما سهم ذي القربي فهو لقرابات رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يصرفه فيهم هو بنفسه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو وصيه أو من ينوب عنه، و كان (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يصرفه فيها زمن حياته باتفاق الفريقين، و بعده فالامام (عليه السّلام) أجلي مصاديقه زائدا علي ولايته عليهم فيرجع إليه ذلك السهم بما أنه من ذي القربي و ولايته عليهم كولايته علي غيرهم، و له صرفه فيما شاء من شئونه الحياتية و المعاشية و اعطائه قرابات الرسول لولايته عليهم؛ و لعل هذا معني ما تكرر علي لسان أئمتنا (عليهم السّلام) من قولهم: «نحن و الله ذو القربي» «1».

اذا اتّضح ذلك من ظاهر الآية يتم القول بأن نصف الخمس و هو ثلاثة أسداس يكون للامام (عليه السّلام) و هو ملكه، لكونه وليّ الله و وصيّ رسوله، و هو أجلي مصاديق ذي القربي، و يقال له: سهم الامام، و نصفه الآخر ثلاثة أسداس أيضا يكون للسادة- أعزهم الله- لما عرفت من الاختصاص، و يقال له: سهم السادة.

ثم ان تقسيم الخمس الي نصفين و اعطاء سهم الامام (عليه السّلام) و الرجوع إليه، و اعطاء سهم السادات إليهم بولايته واجب ظاهر، و اما تقسيم سهم السادات بين يتاماهم و مساكينهم و ابن السبيل منهم فلا يجب، كما لا يجب تقسيم سهم منهم بين جميع

مصاديقه و لا حتي يقاس بالمالكين للزكاة كما عرفت، و في الثلاثة الأولي يرجع سهم ذي القربي الي الامام (عليه السّلام) كما عرفت «2».

و من المعلوم ان اطلاق المتوهّم من قوله تعالي: فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلٰالًا طَيِّباً … (الأنفال [8] الآية 69). مخصّص بآية الغنيمة، مع ان التفريع في المقام

______________________________

(1)- و أما ذو القربي في قوله تعالي: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبيٰ حَقَّهُ» (الاسراء [17] 26) و كذا قوله تعالي: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي الْقُرْبيٰ … » (النحل [16] 90) فهم أقرباء الانسان و مطلق الرحم كما هو ظاهر سياق الآيات و لا ينافي التطبيق مع أقرباء الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بعنوان المصداق كما في السنّة المباركة.

(2)- و قد أشبعنا الكلام في شتات شئون بحث الخمس و فروعه في رسالتنا فيه خلال أبحاث فقهية تشتمل علي رسائل أعددناها علي مسلك الأصحاب (رضوان اللّه عليهم).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 176

يخصص الحكم بما غنمه المسلمون وقتئذ و تصرّفوا فيه، يريدون بذلك عرض الدنيا، و الله يريد الآخرة، و لَوْ لٰا كِتٰابٌ مِنَ اللّٰهِ سَبَقَ لمسّهم فيما أخذوا عذاب أليم، كما صرّحت به الآيات المباركات.

الثانية- قوله تعالي:

فَآتِ ذَا الْقُرْبيٰ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ذٰلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (الروم [30] الآية 38)

لا يبعد دلالة الآية علي لزوم قصد القربة عند أداء حق ذي القربي بعد وجوبه، و المعطوف عليه بحكم التقييد بأن ذلك خير للذين يريدون وجه الله تعالي و قربته دون غيرهم، فكذلك الأمر في المعطوف به في آية الخمس بحيث يتوقف الفلاح عليه «1»، فالخمس عمل قربي أيضا لا بدّ فيه

من قصد القربة، و ان كان الظاهر براءة ذمّة المؤدّي بدونها، و لا ثواب له، و لا يعاقب علي تركها كما ذكرنا في الزكاة، ما لم يقصد خلاف القربة من رئاء الناس.

______________________________

(1)- و ذلك باستظهار وحدة الملاك دون القياس.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 177

الفصل الثاني: الأنفال

قال تعالي:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

(الانفال [8] الآية 1 و 2) «1»

الأنفال: هو كل مال لم يملكه مالك شخصي معيّن باحدي الأسباب المملّكة الأولية كالحيازة و التحجير و الاصطياد علي شروطها المعيّنة، أو الثانويّة كالإرث و البيع و الاجارة، أو من ناحية المعاملات بالمعني الأعم علي أحكامها المقدرة، فهو لمالك الملوك اعتبارا أيضا و يتصرف فيه وليّه بصرفه في مراضيه تعالي، فان النفل الزيادة.

و بعبارة أخري: الأنفال كل ما خلقه الله تعالي لانتفاع الناس و تمتّعهم به علي المجاري الطبيعية و الأحكام الشرعية المعبّر عنه بأموال الشعب و الأمة و لم يملكه مالك محدد فلا ينحصر بالبحار و الجبال و الأودية و الآجام بما فيها من لحوم و زينة و اجراء الفلك أو معادن و مراتع و منافع اخري، كما لا ينحصر بأصول البلاد و المدن

______________________________

(1)- الجواب المذكور في الآية الكريمة يدل علي ان المسئول عنه هو الحكم دون الموضوع، فلا بد من مراجعة روايات الباب في معني الانفال و مقتضي المذكورات فيها بملاكاتها علي ما ذكرنا، فراجع الوسائل/ ج 2/ باب الأنفال.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 178

من طرقها و ميادينها و أبنيتها العامة، بل يشمل الهواء و الفضاء المستفاد منها بواسطة أدوات مجهّزة متنوعة أو بأجهزة منصوبة أو دائرة

أو سائرة، المتداولة في زماننا هذا من طائرات و أقمار صناعية و اذاعات و اتصالات و سفن فضائية و كل ما ينتفع بها في مصالح الشعب العامة «1»، هذا بحسب الموضوع و لا يشمل صفوة الملوك «2».

و الآية الكريمة تحكم بأن ذلك كلّه أنفال، و انه للّه تعالي، لا بد ان يصرف في مرضاته بيد أمينه و وليه من إعلاء كلمته، و إنفاذ نوره في قلوب عباده، و ترفيه معاش الناس بمختلف شئونه لتأمين معادهم كبناء المساجد و المعاهد و المدارس و المستشفيات و المصانع و المعامل العامة و غيرها و ادارة ذلك كلّه من شئونه.

و الرسول الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بما أنّه رسول الله و أمينه، فانه يأخذ الكل و يتصرف فيه بعد تأمين معاشه الشخصي في مصالح الامة الاسلامية، و هو (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) زعيم الأمة و قائد المسلمين في شئونهم الاقتصادية و المالية و في جميع شئونهم العامة، و له التصرّف فيها، و علي الامة اطاعة الله تعالي في تشريعاته و اطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في أوامره و نواهيه، و العمل بأمر الله و الرسول، و ترك التشاجر و التناحر، و الأخذ باصلاح ذات البين إن كانوا مؤمنين.

و من المعلوم ان تلك التصرّفات بيد الله تعالي و رسوله تكون بواسطة الوكلاء و النوّاب و العمّال الذين انتخبوا علي نظام مشروع في المباحث الحكومية و الولاية الاسلامية، كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله، و قد فصلنا البحث فيه في ولاية الفقيه خلال (أبحاث فقهية) أيضا.

______________________________

(1)- و ذلك مستفاد من مناط المذكورات في روايات الباب و ملاكها فانه لا فرق

بين رءوس الجبال و بطون الأودية مع ما ذكرنا.

(2)- و لعلّها من مختصات نفسه، بما هو يصرفه فيما يشاء كصفوة الغنائم و ليس كرءوس الجبال و بطون الأودية و الأرض الموات و الأرض الخربة و ما لم يوجف عليه بخيل و ركاب و المسلم عليها أهلها، المذكورات في روايات الباب الظاهرة في أنها للامام يصرفها في مصالح الأنام، و هذا هو الملاك و المناط المستفاد من متون الأنفال كما ذكرنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 179

و من ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف في تلك الأموال إلا بإذن من الله و رسوله بوجه، فان فيها حقوق جميع أفراد الأمة، كما انه ليس للمتصرف أن يتصرّف فيها علي خلاف مصالح الامة في منافع شخصه، إلا في سهم نفسه، فليصرفه في معيشته كيفما شاء، ما لم يعارض صلاح الامة كما هو ظاهر، فاتقوا الله تعالي فيها، و اصلحوا ما اختلفتم فيه علي أساس اطاعة الله و رسوله في الحكم بأنها للّه و للرسول، لا بدّ و أن تصرف في مرضاة الله و مصالح الرسالة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 180

الفصل الثالث: الفي ء

قال تعالي:

مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَليٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُريٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لٰا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ.

(الحشر [59] الآية 7)

الفي ء: الرجوع لغة «1»، أطلق علي ما أفاءه الله تعالي علي رسوله، و أعاده إليه و سلّطه عليه، بعد ما خرج، فان الارض و ما فيها و من عليها بل و السماء و ما بينها للّه و لرسوله علي ما حقّق

في محله لدي البحث عن غرض الخلقة و هدف الحياة، و انّ كلّ ما خلقه الله و فطره لم يكن إلّا لظهور الحق و توحيد المطلق، و لئلا يضل عن السبيل إلا الانسان الظلوم الجهول بكفره.

فكل دار أو قرية لم يكن أهلها مسلمين، أو لم يكونوا علي حق، فقد ضلّوا عن السبيل و خرجوا عمّا خلق لهم، فاذا أفاءها الله تعالي علي رسوله من دون خيل و ركاب و بلا مقاتلة و حرب، فقد عادت تلك الدور أو القري الي طريق الحق، و فاءت الي سبيل الخير، فهي في ء لا يصدق عليها عنوان الغنيمة، حيث انها اعيدت بالخيل

______________________________

(1)- عن شاعرة البادية جوابا من سألها أين أبوك؟ قالت:

فاء الي الفيفاء ليفي ء الفيئا فاذا فاء الفيفاء فاء أبي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 181

و القتال و أخذت غنما و ما عادت، قال تعالي: وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَليٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لٰا رِكٰابٍ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَليٰ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (الحشر [59] الآية 6)، و في الغنيمة قال: وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ …، و اغتنام المسلمين غير افاءة الله تعالي، و الأول بعد اخراج خمسه فهو لمخرج الخمس، و الثاني: للّه تعالي و للرسول، و ما أفاء الله تعالي ليس لكم لأنكم ما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب بل سلّط الله رسوله عليه و اللّه يسلّط رسله علي من يشاء. هذا بحسب الموضوع، و الحكم انه للّه و لرسوله و لذي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل، و قد عرفت في آية الغنيمة معني ذي القربي و

لو بعنوان أجلي المصاديق غير الخارج قطعا، و ولايته (عليه السّلام) علي الأصناف الثلاثة الأخيرة، فيعود الأمر الي انه للّه و لرسوله و لذي القربي، و يتصرف فيه وليّهم الأكرم رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في حياته و خليفته بالحق الامام المعصوم (عليه السّلام)، و نائبه و وكيله بعد وفاته في مرضاة الله و مصالح الرسالة بعد تأمين مصارف الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و سائر المذكورات.

فيوافق الفي ء الخمس في الحكم جوازا و حرمة، لا يجوز لأحد أن يتصرّف فيه بلا إذن من الله و وليّه، كما لا يجوز للمأذون التصرّف فيه علي خلاف مصالح المسلمين، و قد عدّه البعض من الأنفال موضوعا و حكما، و الأقوي ما عرفت حسب ظهور الآية، فلا يجوز بيع أراضيه و أشجاره بل اجارتها لمسلم، كمدينة مكة في الحجاز و بعض بلاد ايران مثل الاهواز. و التصرف فيها راجع الي حقوق اخري كالتقدم او العمل كالبناء بل نفس الأبنية، كل ذلك لئلا يكون دولة بين الأغنياء منكم يتصرفون فيه كما شاءوا.

و حيث ان الحكم كان خلاف توقّع المسلمين الحاضرين في فتح القري المنتظرين لتقسيم الفي ء بينهم، و ذلك مثل توقّع المحاربين لتقسيم جميع الغنيمة بين الفاتحين دون اخراج الخمس، لذا قال تعالي: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 182

وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ كقوله تعالي آخر آية الغنيمة: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ … كما عرفت «1».

______________________________

(1)- و لا بأس أن نشير هنا الي أمر؛ و هو أنك قد عرفت ان المعادن مما فيها الخمس سواء كانت في أراضي الانفال أو الفي ء او المملوكة

الشخصية لصدق الغنيمة و اما في غير الشخصية فيصرف جميعها في المصارف علي نظارة وليّ المسلمين كأصل استخراجها إذ لا بدّ و أن يكون بولايته و اجازته فيها و في خمسها، و لا فرق بين سهامها الستّة ثلاثتها الأولي المعبّر عنها بسهم الامام (عليه السّلام) و الاخيرة بسهم السادات.

و مما يرشد الي ضرورة ذلك- بعد أدلتها- النظر الي حجم معدن واحد اذا كان بيد المسلمين، و هو أساس اقتصادهم، و قطب رحي صنايعهم، بل انه أنفذ عامل في ادارة دوائر المعامل العظيمة و الصنائع العصرية العالمية، فهو اقوي سلاح بيد المسلمين كما أثبته دور النفط و مشتقاته. و أنت تعلم ان ثلثي مجموع المعادن الكثيرة المختلفة اليوم هي تحت تصرف المسلمين و في أقطارهم، صانهم الله تعالي و عواصمهم عن الحدثان و قوّاهم حتي يرهبوا عدوهم و عدو الله و أعلي الله كلمته الحقة.

و أليك فهرسا اجماليا ننقله عن جريدة كيهان/ 19 دي/ 52 رقم 9155 عن البترول:

البلد/ تعداد النفوس/ كمية الانتاج في السنة

الكويت/ 000/ 760/ 152 مليون طن

العراق/ 000/ 9750/ 70 مليون طن

سوريا/ 000/ 795/ 6/ 5 ملايين طن

البحرين/ 000/ 225/ 5/ 3 مليون طن

دبي/ 000/ 70/ 5/ 7 مليون طن

أبو ظبي/ 235/ 64/ 50 مليون طن

قطر/ 000/ 130/ 24 مليون طن

الحجاز/ 000/ 750/ 2/ 70 مليون طن

مصر/ 000/ 130/ 17/ 61 مليون طن

ليبيا/ 000/ 010/ 2/ 52 مليون طن

الجزائر/ 000/ 270/ 14/ 52 مليون طن

انتهي ما عن الجريدة.

أضف إليها ايران، باكستان، تركيا و … و غيرها من البلاد الاسلامية الآسيوية و الإفريقية و أضف البترول الي غيره من المعادن الاخري لا سيما أغلاها و أندرها هو (الأورانيوم).

أ فيمكن إباحة تلك الاموال او خمسها

و سائر الأنفال للناس، فيتصرف فيها من شاء و بأي وجه حتي ينتهي الي التغالب و التكالب و يكون دولة بين الأغنياء، او عدم الاهتمام بتلك المسائل زمن الغيبة ليساوي سقوط الاسلام عملا، أعاذنا الله منه، و حاشاك أن تحتمل ذلك فكيف الحكم فيها إلا أن تجب فيها نظارة وليّ المسلمين قطعا.

و مقتضي الجمع بين روايات التحليل نفيا و اثباتا مطلقا او في الجملة تحليل السبايا طيبا لمولدهم لا مطلقا في زمن الحضور لا مطلقا، كما فصّلنا البحث في رسالتنا في باب الخمس.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 183

نتيجة البحث

1- يجب الخمس في خمسة أشياء:

1- غنائم دار الحرب.

2- ما يستخرج بالغوص.

3- المعادن.

4- الكنز.

5- ربح التجارة و ما يلحق به من الإرث غير المحتسب و غيره «1».

2- الخمس في المذكورات بعد اخراج المئونة لعدم صدق الغنيمة قبله، كما في اليسير من المعدن و الغوص و فيهما نصاب كما في السنّة الشريفة و العناوين العرفية كلما صدق يجب فيه الخمس.

3- لا خمس في المهور و الهدايا و الارث المحتسب، لعدم صدق الغنيمة دون غيره المحتسب للصدق.

4- نصف الخمس سهم الامام (عليه السّلام) يرجع الي رسول الله فانه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) امام أيضا بمعني «2»، و بعده الي وصيه الامام المعصوم (عليه السّلام) أو الي وكيله أو نائبه، و في زمن الغيبة الي من ينوب عنه من العلماء الربانيين الجامعين للشرائط المبحوث عنها في محله أو وكلائهم، و نصفه الآخر سهم السادات يرجع إليهم بيد وليهم و باشرافه، و هو الامام ذو القربي بعد اختياره في سهم نفسه سدس الخمس بمقتضي العطف كما أفتي به استاذنا الأعظم آية الله العظمي الامام الخميني (دام ظلّه).

______________________________

(1)- و

أما وجوبه في الحلال المختلط بالحرام غير المعلوم مقداره و مالكه، و كذا في الأرض اذا اشتراها ذميّ من مسلم فمستفاد من روايات الباب.

(2)- قال تعالي: «وَ إِذِ ابْتَليٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً..» (البقرة [2] 124).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 184

5- الأنفال مما عرفت هي الأموال العامة التي لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها بغير اذن من الله و رسوله بوجه، فانها لهما، لا بدّ و أن تصرف بيد وليه في مرضاتهما، من اعلاء كلمة الله و تثبيت الدين و انه كلّه للّه.

6- الفي ء و هو كلّ ما سلّط الله رسوله عليه لمصارف الخمس يصرف فيها باذن الولي و نظارته، فلا يجوز نقل عين الأنفال و الفي ء بالبيع و غيره الي مسلم، فانها للعموم، و التصرّفات راجعة الي حقوق اخري.

الختام في البحث: انك بالتأمل في الفروع و حدودها تعرف سعة الافتقار الي السنّة المباركة لتفصيل الخصوصيات من اختصاص الوجوب بما عرفت، و بيان الاستحباب في بعض الأموال، و حد النصاب في الواجب و غيرها، تتذكر أيضا مقالة الرسول الأعظم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من ملازمة الثقلين، و ان الفلاح في ظلّهما كما ذكر مرارا:

«ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا … ». اللّهم اجعلنا من المتمسّكين بهما بحقهما لديك و شأنهما عندك …

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 185

كتاب الحج و العمرة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 187

الفصل الأول: الحج و العمرة شعيرتان

اشارة

الآيات النازلة في هذا الباب علي أنواع، يشتمل كلّ منها علي كلّيات يستفاد من اجتماعها صورتا الحج و العمرة، و تشير الي أن خصوصياتهما و أحكام اجزائهما كانت معلومة من السنّة العملية و القولية، فنذكر تلك الأنواع علي المراحل الطبيعية ان شاء الله.

النوع الأول؛ ما يدل علي أن الحج كان من شعائر الله تعالي من قبل، اي منذ زمن ابراهيم (عليه السّلام) حيث كان ملّة حنيفا حين وضع البيت، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُديً لِلْعٰالَمِينَ* فِيهِ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ مَقٰامُ إِبْرٰاهِيمَ. (آل عمران [3] الآية 96 و 97)

تفيد الآية الكريمة: ان البيوت التي وضعت للناس كثيرة و هي بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه إلا أن أوّلها «1» هو الذي وضع ببكة اي ببطن مكة بركة للناس و هداية للعالمين، فيه آيات بينات تلفت نظر الزائر، و تذكّر الطائف به بالله تعالي و آياته و حكمه، و من تلك الآيات مقام ابراهيم (عليه السّلام)، و ابراهيم هو المجدّد لبناء البيت، بل هو الباني باعتبار، فان الزائر اذا قام في ذلك المقام يتذكّر ابراهيم و ملّته و زمن بناء البيت و اسكانه ذريته بواد غير ذي زرع و دعاءه (عليه السّلام) من الله تعالي أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، و يتوجه الزائر أيضا الي كيفية بيت الله تعالي

______________________________

(1)- أول البيوت زمانا أو شرفا كما تشير إليه كل الروايات، و لكن الظاهر مع قيده و هو كونه للناس …

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 188

و المسجد الحرام و سائر الشعائر من الصفا و المروة و أخيرا الي عظمة حكم

الله تعالي و حكمه في الحج و مناسكه و مأمونية من دخله تشريعا- كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله «1»، كل ذلك اجابة لدعاء ابراهيم (عليه السّلام).

الثانية- قوله تعالي:

وَ إِذْ بَوَّأْنٰا لِإِبْرٰاهِيمَ مَكٰانَ الْبَيْتِ أَنْ لٰا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْقٰائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. (الحج [22] الآية 26)

إن الله تعالي بوّأ و هيّأ لخليله ابراهيم (علي نبينا و آله و عليه السلام) مكان بيته، و أنزله فيه، فأمره بالتطهير بازالة الشرك و الكفر و كل رجس بآثاره و عوامله عن البيت، ليطوف حوله العباد و يصلّون للّه تعالي لديه بالقيام و الركوع و السجود، فان أصل الطواف- في الجملة- و الصلاة- بأيّ شكل و هيئة كانا من شعائر الله في كل شريعة، و اشتهرا بملّة ابراهيم الحنيفيّة، فحج البيت و قصد زيارته بالطواف و الصلاة لديه كان منذ زمن ابراهيم (عليه السّلام) الي ظهور الاسلام، و هو الدين الأبدي الخالد القيّم.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثٰابَةً لِلنّٰاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقٰامِ إِبْرٰاهِيمَ مُصَلًّي وَ عَهِدْنٰا إِليٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. (البقرة [2] الآية 125)

تذكّر الآية الكريمة وقت جعل الله تعالي الكعبة البيت الحرام و انها مثابة و مرجعا للناس يلجئون إليها للعبادة و القربة، كما جعلها مأمنا يتحصّن فيه كل ذي نفس، و ذلك كلّه جعلا تشريعيا «2»، فلكل متشرّع حج الكعبة و قصدها للعبادة، و يحرم عليه إيذاء الغير فيها، و قطرها الحرم، و كل ما ينافي شأنها التشريعي حرام، كما فصّل في المفصّلات.

______________________________

(1)- في النوع الرابع من آيات الباب.

(2)- و إن كان الجعل الثاني أي جعل البيت

مثابة و مختلفا للناس لا يخلو عن تكوين أيضا في نظام الكل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 189

كما تذكّر الآية اتخاذ مقام ابراهيم مصلّي من الذين كانوا يردون الي البيت بعد جعل ذلك تشريعا من الله تعالي، أو باتخاذهم ذلك عملا لرجحان فيه؛ قرئ بصيغة الماضي مؤيدا بسابقة و لا حقة في عهدنا أو بصيغة الأمر.

كما تذكر وقت ما عهد الله تعالي الي خليله ابراهيم (عليه السّلام) و أمره أن يطهّر بيته للطائفين العابدين الركّع السجود المصلّين المتقرّبين إليه بالعكوف عليها و فيها.

و الانصاف أنّ ملاحظة الآية مع لاحقتها ترشد الي أن ذلك كلّه اجابة لدعوة خليل الرحمن ابراهيم (عليه السّلام) حيث يقول: رَبِّ اجْعَلْ هٰذٰا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرٰاتِ …، و إن خصص الخليل دعاءه الثاني- مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و قد أجابه الله تعالي مطلقا فقال: قٰالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِليٰ عَذٰابِ النّٰارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (البقرة [2] الآية 126) و كذلك اجابة لدعائه (عليه السّلام) عند إسكانه ذريّته بواد غير ذي زرع عند بيت الله الحرام ليقيموا الصلاة بطلبه فقال:

فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرٰاتِ.

(ابراهيم [14] الآية 37)

فقد جعل الله تعالي البيت الحرام ملجأ و مثابة للناس يهوون إليه، و جعل مكة بلدا آمنا يأمن فيه كل ذي نفس و رزق أهله من الثمرات.

إلا انه تعالي أمر خليله (عليه السّلام) بتطهير البيت من كل لوث ينافي عباد الله تعالي فيه و من الأوثان و الأرجاس للطائفين و العاكفين و الركّع السجود تقدمة للاجابة، لئلا يضلّ الناس عند هويهم إليها و عكوفهم لديها بمشاهدة الأصنام و مزاولة الأرجاس.

و الحاصل ان

الآية تشير الي أن البيت كان معبدا و مثابة يحج الناس إليه للعبادة بالطواف و الصلاة و العكوف بعد دعائه (عليه السّلام) و كان عليه تطهيرها لهم، فهي الآن كذلك، لا بد و أن يكون مثابه، و علي عباد الرحمن تطهيرها من كل لوث و تهيئتها للعباد.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 190

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنٰامَ …

رَبَّنٰا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوٰادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنٰا لِيُقِيمُوا الصَّلٰاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. (ابراهيم [14] الآية 36 و 38)

صراحة الآية المباركة: أن خليل الرحمن (عليه السّلام) دعا ربه- ضمن أدعيته- أن يجعل الله تعالي البلد آمنا، و أن يجعل أفئدة من الناس تهوي الي ذريته التي أسكنهم بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرّم لإقامة الصلاة، و دعا أن يرزقهم من الثمرات.

و البلد هو الذي فيه بيت الله مكة، و قد أتي ابراهيم (عليه السّلام) بذريته لديه، و دعا ربّه فاستجاب الله تعالي دعاءه في تهوية قلوب الناس إليهم و رزقهم من الثمرات، فإقامة الصلاة و حج البيت و زيارته كان من ملّة ابراهيم من قبل و من قبل دعائه (عليه السّلام).

الحج و العمرة قيام للناس

الخامسة- قوله تعالي:

جَعَلَ اللّٰهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرٰامَ قِيٰاماً لِلنّٰاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرٰامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلٰائِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. (المائدة [5] الآية 97)

الآية تنادي بأن الله تعالي جعل الكعبة البيت الحرام، فيجب احترامه و حفظ حرمته، كذكر الله تعالي فيه و دعائه و الصلاة

له، و هو أول بيت وضع للناس، و جعله أيضا قياما لهم «1» ببطن مكة، فلا بدّ لهم من القيام بشأنه و اقامته، و ذلك بزيارته

______________________________

(1)- كان البيت الحرام بيانا و القيام مفعول ثان أو القيام بيانا و البيت مفعول ثان من غير فرق. بل القيام مفعول ثان و البيت بدل أو بيان.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 191

بأطرافه أي طوافه و استقباله في الصلاة و الذبح بدليله حتي يكون قياما لهم، أي مما يقوم به أمرهم.

و عندنا أن معني كون البيت قياما للناس هو أنه نقطة عطف لمجتمعهم، و مركز توجيه جامعتهم، و إنّ الهدف الواحد بروحه و معناه، الذي يهدف له كل مسلم في شتات أعماله الفردية و الجماعية، أي في عباداته و مناسكه هو الله تعالي و هذا هو بيته المبارك، و المجتمع حيّ و سعيد ما دام افراده متحدين و قواهم متحدة، و كالميت المتعفن تنهشه الكلاب بتفرقهم و تشتتهم اعاذنا الله من ذلك.

فهذا هو البيت بما عرفت له من المزايا؛ منها انه يجتذب الناس و يجمعهم بمعناه و روحه، و صاحبه هو الله تعالي، فهو قيام لهم يمسكهم و يحفظهم كما هو ظاهر.

و كيف كان، فانه ينبغي الاهتمام بالبيت و حفظه ليحفظ ما يجب فيه، و يجب ذلك علي الناس كفاية، و في كل ملّة، و في كل زمن الي أن يسلم الناس، لئلا ينهدم مظهر الوحدة و الصفاء، و مسلخ التنكر و مسلب التكثّر و الخلاف «1»، فيجب علي كل من استطاع ذلك حتي انه لو لم يكن ثمة مستطيع قادر، وجب علي الحاكم الالهي القيام به و لو بارسال جمع لذلك من بيت المال.

كما جعل الله حرمة للشهر الحرام

و جعل الهدي من إبل أو غنم، و القلائد أيضا بتقليد الهدي ليعلم انه للقربي، و الله يعلم ما في تلك المناسك من مصالح و حكم، فانه يعلم ما في السماوات و الأرض و هو بكل شي ء عليم.

الصدّ عن الحجّ و العمرة

السادسة- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ الَّذِي جَعَلْنٰاهُ

______________________________

(1)- «وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 192

لِلنّٰاسِ سَوٰاءً الْعٰاكِفُ فِيهِ وَ الْبٰادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ.

(الحج [22] الآية 25)

الآية، و إن كانت بصدد بيان حكم الذين يصدّون عن سبيل الله و عن المسجد الحرام و العبادة فيه و لا سيما الذين يريدون الصدّ عن سبيله في نفس المسجد بشرك و إلحاد، اي بعبادة الأصنام، و النهي عن الصلاة فيها فلهم عذاب أليم، إلا أنها تفيد ان المسجد الحرام جعل للناس، و هم فيه سواء، و ان القيام به- اي حفظ شئونه علي الاطلاق- من اعظم السبل الي الله من غير فرق بين العاكف فيه من أهل البلد الطيّب أو البادي عنه من اهالي سائر البلاد، فيجب علي عباد الله القيام به و حفظ حرمته بما يناسبه من ذكر الله تعالي و الطواف فيه، و اقامة الصلاة فيه من غير اختصاص بشريعة دون أخري أو قوم دون قوم أو جمع أو فرد دون غيرهم.

و اما استفادة ملكية الناس علي السواء من بلدة مكة، و عدم جواز بيع اراضيه و دوره من اطلاق مسجد الحرام عليه، و الحكم بأن ذلك مستفاد من الآية الكريمة، فبعيد جدا، و ان كان الأمر كذلك في كل مفتوح

عنوة بدليله في محله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 193

الفصل الثاني: وجوب الحج

النوع الثاني؛ ما يدل علي أصل وجوب الحج و محبوبيّته بطبعه في الاسلام، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهٰا وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقيٰ وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (البقرة [2] الآية 189)

الآية المباركة تدلّ علي أن في الاسلام حجّا له وقت معين في شهر معلوم، أو انه شهر معيّن بين أشهر السنة، فانّها مواقيت للناس في معاشراتهم و معاملاتهم، بل في مجاهداتهم، كما يشير إليه قوله تعالي: الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ و في عباداتهم كما يصرّح به قوله تعالي: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الي قوله تعالي: شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ … فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، و وقت الحج في شهر هو آخر الشهور، و هو شهر ذي الحجة، و شهر محرّم شهر تبدأ به السنة الهجرية، فالآية الكريمة تشير الي إنّ الأهلّة تعيّن ميقات الحج و ميقات الصيام و غير ذلك من الأزمنة للعبادات، و تلك حدود اللّه للناس.

الثانية- قوله تعالي:

… وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ. (آل عمران [3] الآية 97)

توجب الآية بصراحة قصد بيت الله تعالي و زيارته علي المسلمين لا بصورة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 194

مطلقه، بل من استطاع منهم إليه سبيلا سواء العاكف فيه و الباد، فاذا صدق علي مسلم عرفا انه مستطيع و قادر علي أن يقصد البيت و يذهب إليه زائرا من ناحية المال و البدن و الطريق، وجب

عليه ذلك. و من المعلوم دخل التحفّظ علي ما يمون به نفسه و عائلته في صدق الاستطاعة، حتي لا يكون بعد الحج محتاجا الي الناس.

ثم إنّ حجّ البيت و زيارته لا يصدق إلا بعد طوافه و زيارته بأطرافه، و إلّا فقد قصد طرفا منه دون البيت علي الاطلاق، و ذلك فرض علي المؤمنين، و من كفر فلن يضرّ الله في شي ء و ان الله غنيّ عن العالمين.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ أَذِّنْ فِي النّٰاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجٰالًا وَ عَليٰ كُلِّ ضٰامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. (الحج [22] الآية 27)

إن الله تعالي قد أمر رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أن ينادي في الناس بالحج، و أن يأمرهم حتي يأتونه رجالا و ركبانا و لو علي ضامر الناقة المهزولة من قريب أو بعيد و من كل ناحية غريبة و فجّ عميق.

و قد امتثل رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أمر ربه في حجة الوداع فأتمّ مناسك الحج بإعلان خصوصياته قولا و عملا، و ختم ذلك بما يتعلق بمسألة الولاية، و قد بلّغها المسلمين بعد ما أنزلت عليه آيتها، و من قبل كان يستأثر أنسب المجالات و أحسن الحالات حفاظا علي دين الله، فعصمه الله تعالي من الناس- علي ما فصّل في محله في تفسير آية الإكمال (أي إكمال الدين و إتمام النعمة) المبحوث عنها في آخر الآية «1».

و عندنا أن اطلاق الأمر في الآية يعطي وجوب الايذان و اعلان الحج في كل سنة لتهيّؤ الناس و تقديمهم مقدمات الأمر، كل من استطاع، و ذلك علي ولاة الأمر و موظفي الشرع.

______________________________

(1)- و قد أشبعنا الكلام حولها في رسالتنا: «بحث جمعي حول مسألة الولاية».

فقه

القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 195

الفصل الثالث: مناسك الحج

النوع الثالث؛ ما يدل علي مناسك الحج و ما يجب عند حج البيت و زيارته، و كيف يؤدّي ذلك الشعار العظيم في الاسلام، و علي اي وجه و بأيّة كيفية تكون، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

… لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّٰهِ فِي أَيّٰامٍ مَعْلُومٰاتٍ عَليٰ مٰا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعٰامِ فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْبٰائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. (الحج [22] الآية 28 و 29)

سياق الآية المباركة و الآية التي قبلها- الآمرة باعلان الحج حتي يأتوا من كل فج عميق- هو أن الحاجّ و القاصد لبيت الله عليه الهدي و البدن و أن يذكر الله تعالي في ايام معدودات معلومات علي ما رزقه الله من بهيمة الأنعام، فلا يذبح النعم إلا في تلك الأيام اي في يوم النحر، و هو عيد الأضحي، العاشر من ذي الحجة و ثلاثة أيام بعده مع ذكر اسم الله عليه، كما فسرتها السنّة المباركة، و له أن يأكل منه و يطعم البائس الفقير، و بعد ذلك عليه التفث «1» اي حلق الرأس أو تقليم الأظافر ليخرج عن احرامه، و عليه الوفاء بنذره الذي عقده خلال الأيام التي قضاها و الأعمال التي أداها، كما عليه طواف البيت العتيق و هو الكعبة. فالذبح مع ذكر اسم الله تعالي عليه، و الأكل و الإطعام منه، ثم قضاء التفث، و طواف الكعبة واجب علي الترتيب في

______________________________

(1)- أصل التفث: وسخ الظفر و غير ذلك مما يزال عن البدن- مفردات الراغب-.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 196

الجملة. و من المعلوم أن الطواف هذا للزيارة لأنه واقع بعد التحليل.

و ليشهد المسلمون منافع لهم كثيرة

ظاهرة و باطنة، و لعل منها الوصول الي الوحدة الاسلامية و روح الأخوة و ترابط الأمم و المجتمعات الاسلامية، و ذلك لتقوية الأسس و إعلاء القوي و جعلها صفا واحدا لتدمير الشرك و الكفر بعد معرفة روح الأمر و عظمة الاسلام و نفوذه المعنوي و الاتكاء علي مركز الخلقة و مبدأ الحياة، و هو الخالق تعالي، و ذلك هو الحجر الاساس لكل توفيق فردي و جمعي، و الانتفاع من كل منفعة دنيوية أو أخروية، و لعلّ ذلك هو معني كون البيت الحرام قياما للناس و حقيقة كونه مثابة، و قد جعله الله تعالي كذلك.

الثانية- قوله تعالي:

وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّٰهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لٰا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّٰي يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذيً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيٰامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذٰا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَي الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ ثَلٰاثَةِ أَيّٰامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذٰا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كٰامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حٰاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ* الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومٰاتٌ … (البقرة [2] الآية 196)

الآية الكريمة تدل علي وجوب قصد القربة في شراشر مناسك الحج و العمرة، و انه لا بد منها، و يؤتي بهما مع الاتمام للّه تعالي «1»، كما تشير الآية المباركة الي وجوب العمرة مفردة في العمر مرة واحدة لمن يستطيعها دون الحج قضية عطفها

______________________________

(1)- و عندنا أن مستند البحث و ثقل الكلام في الآية هو لزوم الاخلاص و القربة، دون اتمام الواجب و اتيان باقي أجزائه، فانه مستفاد من نفس دليل ايجاب المركب الاعتباري

من أفعال و أقوال، و اما وجوب التجديد بعد الفساد فمستفاد من الأمر الأول، كما ان لزوم الاتيان بباقي الأجزاء حتي بعد فساد بعضها المأتي بها يحتاج الي دليل بعد تركها، فانه لا رغبة في اتيان جزء لم يتصل بالسابق و لم يؤمر به مستقلا.

و في مثل الحج- و كل مركب علمنا بوجوب الاتيان بالباقي بعد الفساد- نستكشف عدم التركيب الارتباطي و عدم الارتباط في المركب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 197

عليه بعد الأمر، ثم بيان حكم المتمتع بها لا سيما بعد ملاحظة آيات أصل الوجوب.

ثم تدل الآية المباركة علي أن الذي أحصر، و لم يتمكن من الحضور بالمكان لمرض في بدنه أو مانع آخر، عليه ارسال الهدي من إبل أو غنم مع المحافظة علي احرامه و عدم الخروج عنه بقضاء التفث و حلق الرأس قبل أن يبلغ الهدي محله، كما ان من كان مريضا أو كان برأسه أذي يمنعه من الحلق فعليه بعد برئه و رفع الأذي عنه الفدية بصيام أو صدقة أو ذبح ما شاء من النعم تخييرا.

ثم علي المعتمر المتمتع بها مع حجه ما تمكن من الهدي و ذبح ما تيسر له من الأنعام بعد ما أمن و استيسر له ذلك، و ان لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة اذا رجع الي بلده؛ و تلك عشرة كاملة، فان حج التمتع علي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام البادي عنه دون العاكف فيه، و في النهاية تؤكد الآية الكريمة أوامرها بوجوب تقوي الله تعالي و رعاية حدوده و مناسكه و العلم بأن متجاوزها معاقب و أن الله شديد العقاب.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ الْبُدْنَ جَعَلْنٰاهٰا لَكُمْ مِنْ شَعٰائِرِ اللّٰهِ لَكُمْ فِيهٰا

خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّٰهِ عَلَيْهٰا صَوٰافَّ فَإِذٰا وَجَبَتْ جُنُوبُهٰا فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْقٰانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنٰاهٰا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَنْ يَنٰالَ اللّٰهَ لُحُومُهٰا وَ لٰا دِمٰاؤُهٰا وَ لٰكِنْ يَنٰالُهُ التَّقْويٰ مِنْكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهٰا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللّٰهَ عَليٰ مٰا هَدٰاكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.

(الحج [22] الآية 36 و 37)

تصرح الآية المباركة بأن الله تعالي جعل البدن أي نحر البادن الجسيم من الأنعام- كالابل- من الشعائر الاسلامية و المعالم التي فيها الخير للناس، ثم تأمر بالأكل منها و باطعام القانع و المعتر البائس الفقير السائل و غيره بعد ما وجبت و سقطت جنوبها فذبحت، و كذلك سخّر الله تعالي لكم الأنعام البادنة لتركبوها و تحملوا عليها أثقالكم و تتمتعوا بها في نحرها و ذبحها لغذائكم و أضاحيكم و هديكم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 198

عند امتثال أوامر الله تعالي في مناسككم لعلكم تشكرون.

فالآية الكريمة تفيد أن البدن من شعائر الله، و هو نحر الابل مع ذكر الله حال نحره، و لا بد من الأكل منه و اطعام القانع و المعتر، و المعلوم أن الله تعالي لن ينال لحوم الهدي و البدن و لا دماءها و انما ينال التقوي في ذلك، أي ان التقوي هو الأساس في ذلك، فهو الذي يوجب التقرب الي الله سبحانه، و ليس كل قربان و ذبح أو نحر مقرّبا و لا يتقرّب بلا قربان مقرّب «1» و سخّر هذه الانعام للانسان ليكبّر الله تعالي علي هدايته.

الرابعة- قوله تعالي:

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذٰا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفٰاتٍ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرٰامِ وَ اذْكُرُوهُ كَمٰا هَدٰاكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّٰالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفٰاضَ النّٰاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا

اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* فَإِذٰا قَضَيْتُمْ مَنٰاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ كَذِكْرِكُمْ آبٰاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً …

(البقرة [2] الآية 198 و 199 و 200)

مفاد الآية المباركة أن الحاج المبتغي فضل الله، عليه الوقوف بعرفات، ثم الإفاضة منها الي المشعر الحرام ذاكرا للّه تعالي، ثم الإفاضة من المشعر من حيث أفاض الناس الي مني مستغفرا للّه تعالي ذاكرا له أشد من ذكر الآباء أو كذكرهم، بعد قضاء المناسك في مني من البدن و الهدي، و الرمي المستفاد من السنّة المباركة العملية و القولية.

الخامسة- قوله تعالي:

وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ فِي أَيّٰامٍ مَعْدُودٰاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ

______________________________

(1)- و لنا رسالة بعنوان: «الذبح و القربان في الاسلام» و هي تلخيص لخطابات ألقيناها في حفلات البحث عن القربان و نقد لما أجاب عنها بعض أساتذة معاهد الحجاز عن اشكالات يوردونها علي الذبح و القربان بمني في يوم العيد من اسراف حرام و تدفين اللحوم و الجلود في عصر صناعي يمكن أن ينتفع من أيّة مادة غذائية، و كثير من سكّان الأرض جياع، فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 199

تَأَخَّرَ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقيٰ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. (البقرة [2] 203)

الآية الكريمة بعد ما فصّلت مسألة الإفاضة من عرفات مع ذكر الله تعالي عند المشعر و الإفاضة منه الي مني ذاكرا للّه تعالي، و بعد الاشارة الي نوع الذكر حتي لا ينحصر في طلب الدنيا و نعيمها، و لا يغفل عنها أيضا، بل يدعو لخير الدنيا و الآخرة و حسنتيهما، بعد ذلك كلّه تأمر بذكر الله تعالي في أيام معدودات مستقلا، و المصداق بمقتضي الجمع لا يقل عن ثلاثة أيام بعد الورود بمني حسب

ترتيب المناسك المذكورة في الآيات، فالأيام في أيام التشريق من شهر ذي الحجة الحرام، و هي اليوم الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر منه، و لا إثم في العجلة بالتقديم في يومين كما لا إثم في التأخير لمن اتقي.

و ينطبق ذلك علي جواز العود من مني الي مكة في اليومين الأولين من الايام الثلاثة و تتميم المناسك بالطواف و الصلاة و السعي ثم الإحلال حتي تحل عليه النساء و سائر المحرمات التي حرّمت بالإحرام، و لذلك سمي الطواف هذا بطواف النساء في لغة الفقهاء (رضوان الله عليهم)، و اما الرجوع في اليوم الثالث من غير عود الي مني فلا كلام في جوازه، فيرجع ذلك كلّه الي لزوم المبيت بمني و ذكر الله تعالي في تلك الايام. و مقتضي العجلة و جواز التقديم و التأخير … ذلك ما تشرحه السنّة المباركة كما تعلم.

السادسة- قوله تعالي:

إِنَّ الصَّفٰا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعٰائِرِ اللّٰهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّٰهَ شٰاكِرٌ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 158)

الآية المباركة تدل علي جزئية الطواف بجبلين هما الصفا و المروة، و انه من شعائر الله، فعلي الحاج و المعتمر أن يأتي بهما، و من المعلوم أن من أراد طوافهما مبتدئا بالصفا يسعي منه الي المروة و منه الي الصفا فالسعي بينهما طائفا لهما أيضا من المناسك التي يجب الاتيان بها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 200

الفصل الرابع: الحرمات

النوع الرابع؛ ما يدلّ علي حرمة أمور و جواز أخري علي الحاج و المعتمر، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرٰامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا

الْقَلٰائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرٰامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْوٰاناً وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا. (المائدة [5] الآية 2)

الآية- بشكل عام- تفيد لزوم رعاية الشعائر و تعظيمها وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ (الحج [24] الآية 34)، و تنهي عن إحلال الشعائر و انفصال أجزاء بعضها عن بعض- و قد عقدها من قبل- بترك ما يجب اتيانه أو ارتكاب ما يجب تركه مطلقا، ثم ذكرت الآية الفرد و المصداق من الشهر الحرام، فيجب رعاية شأنه و حفظ حرمته و يحرم هتكه، و الهدي و القلائد فيجب ارسالها و تقليدها، و ذكر اسم الله تعالي حال ذبحها، و يحرم تركها، أو ترك ذكر اسم الله تعالي عليها، و كذا لا بدّ من حفظ حرمة آمين البيت و يحرم التعدي علي من ائتمن به ابتغاء فضل الله تعالي و رضوانه، سواء كان الحاج و المعتمر أو غيرهما، و البيت آمن بدعاء ابراهيم (عليه السّلام) بقوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً …، ثم تأمر الآية الكريمة بالاصطياد بعد الخروج عن الاحرام، و هذا يعطي حرمته حاله، و جوازه بعده، دون الوجوب، فانه بعد المنع و الحذر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 201

الثانية- قوله تعالي:

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومٰاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ. (البقرة [2] الآية 197)

الآية بصراحتها تحكم بحرمة أمور علي الحاج؛ غير أن الحج في أشهر معلومات، و تلك الأمور هي: الرفث الي النساء، و الفسوق بالكذب و التهمة و الايذاء و كل فسق، و الجدال بقول: «لا و الله» و: «بلي و الله» و أمثالهما و ذلك بعد الاحرام.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا

تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزٰاءٌ مِثْلُ مٰا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بٰالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّٰارَةٌ طَعٰامُ مَسٰاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذٰلِكَ صِيٰاماً لِيَذُوقَ وَبٰالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّٰهُ عَمّٰا سَلَفَ وَ مَنْ عٰادَ فَيَنْتَقِمُ اللّٰهُ مِنْهُ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقٰامٍ* أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعٰامُهُ مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّٰارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مٰا دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.

(المائدة [5] الآية 95 و 96)

تنهي الآية عن الصيد و قتله حال الاحرام من غير فرق بين احرام الحج و العمرة علي الاطلاق ثم تقييد بالبرّ، و ان الحرام هو صيد البر، و أما صيد البحر و طعامه فقد أحلّ متاعا للمحرم و للسيارة.

و المتخلّف عمدا بعد أن ارتكب حراما بصيده تكليفيا عليه الكفارة بأن يرسل مثل ما قتل حسب العدد من النعم بحكم شخصين عادلين هديا بالغ الكعبة، أو اطعام مساكين، أو صيام عدل ذلك ليذوق وبال أمره، و الله تعالي يعفو عمّا سلف مرّة، و لكن من عاد فينتقم الله منه، و الله عزيز ذو انتقام، و اتقوا الله- أيّها المؤمنون- الذي إليه تحشرون، في رعاية حدود الله تعالي في حلاله و حرامه، و هو الذي يبتليكم بشي ء من الصيد تناله أيديكم و رماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب، فمن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 202

اعتدي بعد ذلك فله عذاب أليم.

و يدلّ علي حرمة الصيد حال الاحرام أيضا استثناء محلّي الصيد في قوله تعالي: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ إِلّٰا مٰا يُتْليٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ. (المائدة [5] الآية 2)

الرابعة- قوله تعالي:

… وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً … (آل

عمران [3] الآية 97)

الآية المباركة تدل علي أن بيت الله الحرام حصن و أمن لكل عبد من عباد الله، بل لكل مخلوق، فيحرم إيذاء الغير كائنا من كان، بل كل ذي نفس فانه حرم، لذا يجب احترامه الي أقصي حدّ، و يحرم كل ما ينافي حرمته زائدا علي ما يحرم لكل مسجد، و لعل المكاء و التصدية ممّا ينافي حرمته، فيحرمان، كما يشير إليه قوله تعالي: وَ مٰا كٰانَ صَلٰاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلّٰا مُكٰاءً وَ تَصْدِيَةً (الأنفال [8] الآية 35) و حاصل الآيتين حرمة الاصطياد حال الاحرام في الحرم، و البيت مركزه و شعاعه علي اختلاف السنّة.

ثم ان حرمة إحلال تلك الشعائر، و وجوب حفظها ما دام محرما صريح في وجود إحرام يبدأ به التحريم، و احلال ينتهي به من قضاء التفث و حلق الرأس، فالاحرام أيضا من الشعائر كالإحلال المصرّح به في الآيات.

الخامسة- قوله تعالي:

لَقَدْ صَدَقَ اللّٰهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيٰا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ إِنْ شٰاءَ اللّٰهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لٰا تَخٰافُونَ فَعَلِمَ مٰا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذٰلِكَ فَتْحاً قَرِيباً. (الفتح [48] الآية 27)

الآية المباركة في سياق وعد المؤمنين بالنصر و الفتح، و هي تخبر أن لِلّٰهِ جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و انه الذي أنزل سكينته علي قلوب المؤمنين و أيّدهم بنصره تصديقا لرؤيا النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في دخوله و المؤمنين المسجد الحرام فاتحين آمنين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 203

و هم يأتون بمناسكهم بحرية و صفاء من غير خوف و قلق محلّقين رءوسهم و مقصّرين، و بعد ذلك محلّين.

و سيوفّق الله تعالي رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لذلك، و الله يعلم موقعه، و

لقد وفّي له بذلك و وفقه بعد صلح الحديبية بالفتح القريب، و ذلك من أنباء الغيب الذي أوحاه الله الي نبيّه.

الآية الكريمة، و إن كانت في ذلك السياق، إلا أنها تفيد أن الحلق و التقصير آخر الأعمال التي يأتي بها الناسك، الأول و هو مختص بالرجال و الثاني مختص بالنساء و ان كان للرجال أيضا التحليل بالتقصير اختيارا، و لا ينافي ذلك معني واو الجمع، فانه بعنوان المحلل آخر الأعمال كما هو ظاهر.

نتيجة البحث

اشارة

هذا كلّه تمام الآيات في المقام بأنواعها.

و الصورة المستفادة من جميعها أن كلا من الحج و العمرة يبدأ بالاحرام فيحرم علي الحاج و المعتمر أمور:

1- الرفث الي النساء، و يحرم علي النساء أيضا.

2- الفسوق أي الكذب و الفحش و غيرهما.

3- الجدال.

4- صيد البرّ.

5- إيذاء الغير.

و للعمرة أعمال:

1- الاحرام.

2- الطواف بالبيت العتيق و هو الكعبة في المسجد الحرام بزيارة أطرافه.

3- الصلاة و ذكر الله تعالي لديه في مقام ابراهيم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 204

4- الطواف بالصفا و المروة المستلزم للسعي بينهما من الصفا الي المروة و منه إليه.

5- الاحلال بقضاء التفث من حلق الرأس أو تقليم الأظافر فيحل عليه ما حرم.

و للعمرة المفردة منها طواف النساء و ركعتان بالسنة.

و في الحج علي الحاج أمور:

1- الاحرام.

2- الوقوف بعرفات مع ذكر الله تعالي.

3- الافاضة من عرفات الي المشعر الحرام حامدا له تعالي.

4- الافاضة من حيث أفاض الناس الي مني ذاكرا للّه تعالي أشدّ ذكرا.

5- الهدي و البدن.

6- الطواف بالبيت.

7- صلاة الطواف.

8- طواف الصفا و المروة- السعي بينهما.

9- الاحلال بشي ء مما ذكر ليخرج عن الاحرام و يحل له ما حرم.

فالحج مقبول ان شاء الله و السعي مشكور علي الصفاء و النور.

هذا، و اما سائر الخصوصيات من تعيين ميقات للاحرام، و عدد الأشواط للطواف و السعي و ما هي شروطها، و كذا الهدي و البدن، و الرمي بمني في الأيام الثلاثة، و المبيت بها المسماة (ليالي التشريق)، و طواف النساء و ركعتيه، بل و ترتيب كل من تلك المناسك تقدّما و تأخرا، كل ذلك مستفاد من السنّة المباركة العملية و القولية.

و الانصاف أن ملاحظة آيات الحج بأنواعها من غير سبق ذهني به و بأقسامه مفردا أو مقارنا بالهدي أو متمتعا بالعمرة أو بالعمرة المفردة عن طريق السنّة المباركة الشارحة أو العمل المعلّم، فانه يجلب النظر الي شدة الافتقار الي السنّة المباركة،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 205

و ان الكتاب و العترة عدلان لا يفترقان الي يوم القيامة، و ان الهداية للمتمسّك بهما قطعا.

فان جميع آيات الحج لا تفيد إلا أصل الوجوب

و لزوم الاتيان بأعمال و ترك ما ينافي الاحرام أو الخروج عنه بقضاء التفث علي الاجمال من غير تعيين زمان أو تحديد مكان من مطاف و مسعي و تعداد الأشواط و الشروط التي يجب أن تتبع و الترتيب بينها و غير ذلك مما لا يوضح، و الحج من الضروريات و الأركان الاسلامية، فكيف يتفوّه بالاستغناء عن السنّة المباركة و الاكتفاء بالكتاب الكريم، و أول من تفوّه بذلك غرضه معلوم.

خاتمة المطاف تذييل في الفروع المستنبطة من آيات الباب:

الحج من شعائر الله تعالي في كل شريعة و ملّة، و كذا في الاسلام فيجب تعظيمه، و فيه فروع:

1) يجب علي عباد الله الحج الي بيت الله- و هو الكعبة- و حفظه و رعاية شئونه و احترامه؛ و منه زيارته بأطرافه و طوافه حتي يكون قياما لهم اي ما يقوم به أمرهم و تنمو شوكتهم.

2) إنّ البيت الحرام مثابة و مرجع للناس يختلفون إليه للعبادة و غيرها، كما انه قيام لهم، ينتظم به تمركز أمورهم و توجيههم نحو شتات شئونهم المختلفة كل بحسبها فيجتمع به شملهم و يتّحد به جمعهم حتي يعيشوا بالعزّة و الهناء في الدنيا و الآخرة.

3) يجب تطهير بيت الله تعالي عن كل لوث ينافي شأنه لما جعل للعبادة و العكوف فيه و غيرها و ليكون مثابة و ملجأ حقا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 206

4) للحج وقت معيّن و شهر محدّد و هو شهر ذي الحجة.

5) يجب علي كل من استطاع الحج قصد بيت الله الكعبة ببطن مكة و زيارته و لو مرّة في طول حياته.

6) يجب علي ولاة الأمر و موظفي الشرع الاعلان و الايذان للحج في كل سنة.

7) تحديد الاستطاعة عرفيّ، لا بدّ و أن يصدق علي الاطلاق من أيّة جهة

جسما و مالا و طريقا ليجد إليه سبيلا.

8) يجب قصد القربة في جميع أعمال الحج و العمرة فانهما عبادة لا تتحقق إلا بالقربة.

9) يجب علي الذي أحصر و لم يتمكّن من الحضور أن يرسل الهدي الي المذبح بمني و لا يخرج عن الاحرام حتي يبلغ الهدي محلّه.

10) من كان برأسه أذي يمنعه عن الحلق للاحلال فعليه الفدية بعد السلامة بصيام أو صدقة أو ذبح نعيمة تخييرا.

11) علي المعتمر المتمتع بها مع حجه الهدي و البدن علي حدّ تمكّنه و استطاعته، و من لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة بعده … تلك عشرة كاملة.

12) لا بدّ من ذكر اسم الله تعالي علي ما يذبح أو ينحر، و لصاحبه أن يأكل منه، و عليه إطعام القانع و المعتر البائس الفقير.

13) علي الحاجّ المبتغي لفضل الله تعالي- بعد الاحرام- الوقوف بعرفات ثمّ الافاضة الي المشعر الحرام ثم الافاضة منه الي مني مستغفرا اللّه تعالي و ذاكرا له في أيام معدودات، و هي أيام التشريق، و له أن يعجّل في يومين فيأتي مكة و يقضي مناسكه بعد قربان الهدي و البدن من طواف البيت و الصلاة و السعي ثم الاحلال.

14) علي الحاجّ و المعتمر أن يطوف جبلي الصفا و المروة فيسعي بينهما.

15) يجب علي الحاجّ و المعتمر الاحرام فيحرم عليهما الرفث الي النساء و الفسوق و الجدال و صيد البرّ دون البحر و إيذاء الغير بل كل ذي نفس.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 207

16) من قتل صيدا عمدا و هو محرم فكفارته مثل ما قتل من النعم يحكم بمثليّته جنسا أو قيمة ذوا عدل، أو إطعام مساكين أو صيام، أقلّه ثلاثة أيام بمقتضي الجمع تخييرا، كل

ذلك اذا كان عن عمد مرّة دون الخطأ أو التكرار عمدا و من عاد فينتقم الله منه.

17) يجب علي المعتمر بعد الاحرام طواف البيت بأن يزور أطرافه و يمشي حوله ذاكرا للّه تعالي ثم الصلاة فيه في مقام ابراهيم ثم السعي بين الصفا و المروة طائفا لهما ذاكرا للّه تعالي حامدا له ثم الاحلال بقضاء التفث.

18) للحج أشهر معلومات و هي شوال و ذو القعدة و العشرة الأولي من ذي الحجة، لا بد و أن تقع المناسك من الحج في أوقاتها دون العمرة المفردة فلا وقت معيّن لها.

19) الطواف في الحج و العمرة لا بدّ و أن يكون علي وجه يصدق عليه ذلك عرفا فلا فرق بين أن يكون راجلا أو راكبا.

20) يعتبر في صدق الطواف أن لا ينفصل في مطافه عن جدار البيت كثيرا إلا في ازدحام بأن يكون الطائفون شاغلين مطافا، و لا يكون الفصل بين الواقع في طرف الجمع و حاشيته و بين الجدار بمقدار لو كان منفردا طائفا علي المدار لم يصدق عنوان الطائف عليه، و المطاف علي مداره، و الطواف علي فعله.

فالطائف حتي مدار جدار المسجد الحرام يمكن أن يصدق عليه الطائف اذا امتلأ المسجد من الطائفين، و علي قرب من جدار البيت يمكن أن لا يصدق كما اذا طاف في مدار بعد مقام ابراهيم، و بينه و بين جدار الكعبة خال من الطائفين.

و لعلّ التحديد في المطاف كما في السنّة المباركة و الفتوي كان من ذلك ليجوز التعدّي عنه مع الصدق كما في مقام ابراهيم (عليه السّلام) المتغيّر مقامه.

21) الصلاة الواجبة لدي البيت أقلها ركعتان في مقام ابراهيم (عليه السّلام)- و هو من آيات الله تعالي- في المسجد الحرام،

و الزائد عليهما مستحب حتي في حجر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 208

اسماعيل أو موضع آخر من المسجد.

22) الاحلال أيضا يصدق بتحقيق طبع قضاء التفث في الجملة من تقليم ظفر أو حلق شعر.

23) الواجب في كل من الوقوف بعرفات و المشعر و ذكر الله تعالي ما يكون طبيعيا فيصدق بفرد ما.

24) الحلق و التقصير آخر الأعمال التي يأتي بها الحاجّ، و المعتمر المحرم الأول، فهو مخصوص بالرجال و الثاني بالنساء و للرجال التقصير أيضا تخييرا.

انتهي الجزء الأول من هذا الكتاب (فقه القرآن) بانتهاء كتاب الحج و العمرة، و يليه الجزء الثاني مبتدئا بكتاب الولاية و الحكومة و منتهيا بكتاب القضاء و الشهادات.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.