نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب المجلد 4

اشارة

نام کتاب: نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب
نویسنده: مقری، احمد بن محمد
تاریخ وفات مؤلف: 1041 ه. ق
محقق / مصحح: بقاعی، یوسف
موضوع: جغرافیای شهرها
زبان: عربی
تعداد جلد: 10
ناشر: دار الفکر
مکان چاپ: بیروت
سال چاپ: 1419 ه. ق‌

[تتمة القسم الاول]

الباب السابع [فی نبذة مما منّ اللّه به علی أهل الأندلس]

اشارة

فی نبذة ممّا منّ اللّه تعالی به علی أهل الأندلس من توقّد الأذهان، و بذلهم فی اکتساب المعارف و المعالی ما عزّ وهان، و حوزهم فی میدان البراعة، من قصب الیراعة، خصل الرهان، و جملة من أجوبتهم، الدالّة علی لوذعیتهم، و أوصافهم المؤذنة بألمعیتهم، و غیر ذلک من أحوالهم التی لها علی فضلهم أوضح برهان.

[ابن غالب یذکر فضائل الأندلس و الأندلسیین فی کتابه «فرحة الأنفس».]

اعلم أنّ فضل أهل الأندلس ظاهر، کما أنّ حسن بلادهم باهر، و لذلک ذکر ابن غالب فی «فرحة الأنفس» لمّا أثنی علی الأندلس و أهلها أن بطلیموس جعل لهم- من أجل ولایة الزّهرة لبلادهم- حسن الهمّة فی الملبس و المطعم، و النظافة و الطهارة، و الحب للهو و الغناء، و تولید اللحون، و من أجل ولایة عطارد حسن التدبیر، و الحرص علی طلب العلم، و حبّ الحکمة و الفلسفة و العدل و الإنصاف.
و ذکر ابن غالب أیضا ما خصّوا به من تدبیر المشتری و المریخ.
و انتقد علیه بعضهم بأنّ أقالیم الأندلس الرابع و الخامس و السادس فی ساحلها الشمالی، و السابع فی جزائر المجوس، و للإقلیم الرابع الشمس، و للخامس الزّهرة، و للسادس عطارد، و للسابع القمر، و المشتری للإقلیم الثانی، و المریخ للثالث، و لا مدخل لهما فی الأندلس، انتهی.
ثم قال صاحب الفرحة: و أهل الأندلس عرب فی الأنساب، و العزّة، و الأنفة، و علوّ الهمم، و فصاحة الألسن، و طیب النفوس، و إباء الضیم، و قلّة احتمال الذلّ، و السماحة بما فی أیدیهم، و النزاهة عن الخضوع و إتیان الدنیّة، هندیّون فی إفراط عنایتهم بالعلوم و حبّهم فیها و ضبطهم لها و روایتهم، بغدادیون فی نظافتهم و ظرفهم، و رقّة أخلاقهم و نباهتهم، و ذکائهم، و حسن نظرهم، و جودة قرائحهم، و لطافة أذهانهم، و حدّة أفکارهم، و نفوذ خواطرهم، یونانیون فی استنباطهم للمیاه، و معاناتهم لضروب الغراسات، و اختیارهم لأجناس الفواکه،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 4
و تدبیرهم لترکیب الشجر، و تحسینهم للبساتین بأنواع الخضر و صنوف الزهر، فهم أحکم الناس لأسباب الفلاحة، و منهم ابن بصال صاحب «کتاب الفلاحة» الذی شهدت له التجربة بفضله، و هم أصبر الناس علی مطاولة التعب فی تجوید الأعمال و مقاساة النّصب فی تحسین الصنائع، أحذق الناس بالفروسیة، و أبصرهم بالطعن و الضرب.
و عدّ، رحمه اللّه تعالی، من فضائلهم اختراعهم للخطوط المخصوصة بهم، قال: و کان خطّهم أولا مشرقیّا، انتهی.
قال ابن سعید: أمّا أصول الخطّ المشرقی و ما تجد له فی القلب و اللحظ من القبول فمسلّم له، لکن خطّ الأندلس الذی رأیته فی مصاحف ابن غطوس الذی کان بشرق الأندلس و غیره من الخطوط المنسوبة عندهم له حسن فائق، و رونق آخذ بالعقل، و ترتیب یشهد لصاحبه بکثرة الصبر و التجوید، انتهی.
و نحو صدر کلام ابن غالب السابق مذکور فی رسالة لابن حزم، و قال فیها: إنّ أهل الأندلس صینیون فی إتقان الصنائع العملیة، و إحکام المهن الصوریة، ترکیّون فی معاناة الحروب، و معالجات آلاتها، و النظر فی مهماتها، انتهی.
و عدّ ابن غالب من فضائلهم اختراعهم للموشّحات التی قد استحسنها أهل المشرق و صاروا ینزعون منزعها، و أمّا نظمهم و نثرهم فلا یخفی علی من وقف علیهما علوّ طبقاتهم.
ثم قال ابن غالب: و لمّا نفذ قضاء اللّه تعالی علی أهل الأندلس بخروج أکثرهم عنها فی هذه الفتنة الأخیرة المبیرة تفرّقوا ببلاد المغرب الأقصی من برّ العذرة مع بلاد إفریقیة، فأمّا أهل البادیة فمالوا فی البوادی إلی ما اعتادوه، و داخلوا أهلها، و شارکوهم فیها، فاستنبطوا المیاه، و غرسوا الأشجار، و أحدثوا الأرحیّ الطاحنة بالماء و غیر ذلک، و علّموهم أشیاء لم یکونوا یعلمونها و لا رأوها، فشرفت بلادهم، و صلحت أمورهم، و کثرت مستغلّاتهم، و عمّتهم الخیرات، فهم أشبه الناس بالیونانیین فیما ذکرت و لأنّ الیونانیین سکنوا الأندلس فورثوا عنهم ذلک، و أمّا أهل الحواضر فمالوا إلی الحواضر و استوطنوها، فأما أهل الأدب فکان منهم الوزراء و الکتّاب و العمّال و جباة الأموال و المستعملون فی أمور المملکة، و لا یستعمل بلدی ما وجد أندلسی، و أما أهل الصنائع فإنهم فاقوا أهل البلاد، و قطعوا معاشهم، و أخملوا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 5
أعمالهم، و صیّروهم أتباعا لهم، و متصرّفین بین أیدیهم، و متی دخلوا فی شغل عملوه فی أقرب مدة، و أفرغوا فیه من أنواع الحذق و التجوید ما یمیلون به النفوس إلیهم، و یصیر الذکر لهم، قال: و لا یدفع هذا عنهم إلّا جاهل أو مبطل، انتهی.

[ابن سعید یذکر محاسن الأندلس و الأندلسیین]

و قال ابن سعید، لمّا ذکر جملة من محاسن الأندلسیین: یعلم اللّه تعالی أنی ما أقصد إلّا إنصاف المنصفین الذین لا یمیل بهم التعصّب، و لا یجمح بهم الهوی، و لکن الحق أحقّ أن یتّبع، فلعلّ مطّلعا یقف علی ما ذکره ابن غالب: فیقول: هذا الرجل تعصّب لأهل بلده، ثم یغمس التابع له و الراضی بنقل قوله فی هذه الصبغة و یحمله علی ذلک بعده عن الأرضین:
[الطویل]
و لو أبصروا لیلی أقرّوا بحسنها و قالوا بأنی فی الثناء مقصّر
و یکفی فی الإنصاف أن أقول: إنّ حضرة مراکش هی بغداد المغرب، و هی أعظم ما فی برّ العدوة، و أکثر مصانعها و مبانیها الجلیلة و بساتینها إنما ظهرت فی مدة بنی عبد المؤمن، و کانوا یجلبون لها صناع الأندلس من جزیرتهم، و ذلک مشهور معلوم إلی الآن. و مدینة تونس بإفریقیة قد انتقلت إلیها السعادة التی کانت فی مراکش بسلطان إفریقیة الآن أبی زکریا یحیی بن أبی محمد بن أبی حفص، فصار فیها من المبانی و البساتین و الکروم ما شابهت به بلاد الأندلس و عرفاء صناعه من الأندلس و تماثیله التی یبنی علیها، و إن کان أعرف خلق اللّه باختراع محاسن هذا الشأن، فإنما أکثرها من أوضاع الأندلسیین، و له من خاطره تنبیهات و زیادة ظهر حسن موقعها، و وجوه صنائع دولته لا تکاد تجدهم إلّا من الأندلس فصحّ قول ابن غالب، انتهی.

[الحمیدی یذکر محاسن الأندلس و الأندلسیین]

قال الحمیدی: أنشد بحضرة بعض ملوک الأندلس قطعة لبعض أهل المشرق، و هی:
[الطویل]
و ما ذا علیهم لو أجابوا فسلّموا و قد علموا أنی المشوق المتیّم
سروا و نجوم اللیل زهر طوالع علی أنّهم باللیل للناس أنجم
و أخفوا علی تلک المطایا مسیرهم فنمّ علیهم فی الظلام التبسّم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 6
فأفرط بعض الحاضرین فی استحسانها، و قال: هذا ما لا یقدر أندلسی علی مثله، و بالحضرة أبو بکر یحیی بن هذیل، فقال بدیها: [الطویل]
عرفت بعرف الریح أین تیمّموا و أین استقلّ الظاعنون و خیّموا
خلیلیّ، ردّانی إلی جانب الحمی فلست إلی غیر الحمی أتیمّم
أبیت سمیر الفرقدین کأنما وسادی قتاد أو ضجیعی أرقم
و أحور وسنان الجفون کأنّه قضیب من الریحان لدن منعّم
نظرت إلی أجفانه و إلی الهوی فأیقنت أنی لست منهنّ أسلم
کما أنّ إبراهیم أوّل نظرة رأی فی الدرّاری أنه سوف یسقم

[ابن بسام و الحجاری یذکران محاسن الأندلس و الأندلسیین]

و من کلام ابن بسام صاحب «الذخیرة» فی جزیرة الأندلس: أشراف عرب المشرق افتتحوها، و سادات أجناد الشام و العراق نزلوها، فبقی النسل فیها بکلّ إقلیم، علی عرق کریم، فلا یکاد بلد منها یخلو من کاتب ماهر، و شاعر قاهر.
و ذکر أن أبا علی البغدادی، صاحب الأمالی، الوافد علی الأندلس فی زمان بنی مروان قال: لمّا وصلت القیروان و أنا أعتبر من أمرّ به من أهل الأمصار فأجدهم درجات فی العبارات و قلّة الفهم، بحسب تفاوتهم فی مواضعهم منها بالقرب و البعد، کأنّ منازلهم من الطریق هی منازلهم من العلم محاصّة و مقایسة. قال أبو علی: فقلت إن نقص أهل الأندلس عن مقادیر من رأیت فی أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمّن قبلهم فسأحتاج إلی ترجمان، فی هذه الأوطان. قال ابن بسام: فبلغنی أنه کان یصل کلامه هذا بالتعجّب من أهل هذا الأفق الأندلسی فی ذکائهم، و یتغطّی عنهم عند المباحثة و المناقشة، و یقول لهم: إنّ علمی علم روایة، و لیس علم درایة، فخذوا عنّی ما نقلت، فلم آل لکم أن صحّحت. هذا مع إقرار الجمیع له یومئذ بسعة العلم و کثرة الروایات، و الأخذ عن الثقات، انتهی.
و من کلام الحجاریّ فی «المسهب» د:
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 7
الأندلس عراق المغرب عزّة أنساب، و رقّة آداب، و اشتغالا بفنون العلوم، و افتنانا فی المنثور و المنظوم، لم تضق لهم فی ذلک ساحة، و لا قصرت عنه راحة، فما مرّ فیها بمصر إلّا و فیه نجوم و بدور و شموس، و هم أشعر الناس فیما کثره اللّه تعالی فی بلادهم، و جعله نصب أعینهم من الأشجار و الأنهار و الطیور و الکؤوس، لا ینازعهم أحد فی هذا الشأن، و ابن خفاجة سابقهم فی هذا المضمار الحائز فیه قصب الرهان. و أمّا إذا هبّ نسیم، و دار کأس فی کف ظبی رخیم، و رجّع بمّ وزیر، و صفّق للماء خریر، أو رقّت العشیّة، و خلعت السحب أبرادها الفضیة و الذهبیة، أو تبسّم عن شعاع ثغر نهر، أو ترقرق بطلّ جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طیف طارق، أو وعد حبیب فزار من الظلماء تحت جناح، و بات مع من یهواه کالماء و الراح، إلی أن ودّع حین أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر کواکبها، أو قوّضت عند فیض نهر الصباح بیض مضاربها، فأولئک هم السابقون السابقون، الذین لا یجارون و لا یلحقون، و لیسوا بالمقصّرین فی الوصف إذا تقعقعت السلاح، و سالت خلجان الصّوارم بین قضبان الرماح، و بنت الحرب من العجاج سماء، و أطلعت شبه النجوم أسنّة و أجرت شبه الشّفق دماء، و بالجملة فإنهم فی جمیع الأوصاف و التخیّلات أئمة، و من وقف علی أشعارهم فی هذا الشأن فضّلهم فیه علی أصناف الأمّة، و قد أعانتهم علی الشعر أنسابهم العربیة، و بقاعهم النّضرة و هممهم الأبیّة. و لشطار الأندلس من النوادر و التنکیتات، و الترکیبات و أنواع المضحکات، ما تملأ الدواوین کثرته، و تضحک الثکلی و تسلّی المسلوب قصته، ممّا لو سمعه الجاحظ لم یعظم عنده ما حکی و ما رکّب، و لا استغرب أحد ما أورده و لا تعجّب، إلّا أنّ مؤلّفی هذا الأفق طمحت هممهم عن التصنیف فی هذا الشأن فکاد یمرّ ضیاعا، فقمت محتسبا بالظرف فتدارکته جامعا فیه ما أمسی شعاعا، انتهی.

[رسالة ابن حزم فی فضائل الأندلسیین]

و قد رأیت أن أذکر رسالة أبی محمد بن حزم الحافظ التی ذکر فیها بعض فضائل علماء الأندلس؛ لاشتمالها علی ما نحن بصدده. و ذلک أنه کتب أبو علی الحسن بن محمد بن أحمد بن الرّبیب التمیمی القیروانی، إلی أبی المغیرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حزم یذکر تقصیر أهل الأندلس فی تخلید أخبار علمائهم و مآثر فضائلهم و سیر ملوکهم، ما صورته:
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 8
کتبت یا سیدی، و أجلّ عددی، کتب اللّه تعالی لک السعادة، و أدام لک العزّ و السیادة، سائلا مسترشدا، و باحثا مستخبرا، و ذلک أنی فکرت فی بلادکم إذ کانت قرارة کلّ فضل، و منهل کلّ خیر و نبل، و مصدر کلّ طرفة، و مورد کلّ تحفة، و غایة آمال الراغبین، و نهایة أمانی الطالبین، إن بارت تجارة فإلیها تجلب، و إن کسدت بضاعة ففیها تنفق، مع کثرة علمائها، و وفور أدبائها، و جلالة ملوکها، و محبّتهم فی العلم و أهله، یعظّمون من عظّمه علمه، و یرفعون من رفعه أدبه، و کذلک سیرتهم فی رجال الحرب: یقدمون من قدمته شجاعته، و عظمت فی الحروب نکایته، فشجّع الجبان، و أقدم الهیّبان، و نبه الخامل، و علم الجاهل، و نطق العییّ، و شعر البکی، و استنشر البغاث، و تثعبن الحفّاث، فتنافس الناس فی العلوم، و کثر الحذاق بجمیع الفنون، ثم هم مع ذلک فی غایة التقصیر و نهایة التفریط، من أجل أنّ علماء الأمصار دوّنوا فضائل أمصارهم، و خلّدوا فی الکتب مآثر بلدانهم، و أخبار الملوک و الأمراء، و الکتّاب و الوزراء، و القضاة و العلماء، فأبقوا لهم ذکرا فی الغابرین یتجدّد علی مرّ اللیالی و الأیام، و لسان صدق فی الآخرین، یتأکّد مع تصرّف الأعوام، و علماؤکم مع استظهارهم علی العلوم کلّ امرئ منهم قائم فی ظلّه لا یبرح، و راتب علی کعبه لا یتزحزح، یخاف إن صنّف، و إن یعنّف، و إن ألّف أن یخالف، و لا یؤالف، أو تخطفه الطّیر أو تهوی به الریح فی مکان سحیق، لم یتعب أحد منهم نفسا فی جمع فضائل أهل بلده، و لم یستعمل خاطره فی مفاخر ملوکه، و لا بلّ قلما بمناقب کتّابه و وزرائه، و لا سوّد قرطاطا بمحاسن قضاته و علمائه، علی أنه لو أطلق ما عقل الإغفال من لسانه، و بسط ما قبض الإهمال من بیانه، لوجد للقول مساغا، و لم تضق علیه المسالک، و لم تخرج به المذاهب، و لا اشتبهت علیه المصادر و الموارد، و لکنّ همّ أحدهم أن یطلب شأو من تقدّمه من العلماء لیحوز قصبات السبق، و یفوز بقدح ابن مقبل، و یأخذ بکظم دغفل، و یصبر شجا فی حلق أبی العمیثل، فإذا أدرک بغیته، و اخترمته منیّته، دفن معه أدبه و علمه، فمات ذکره، و انقطع خبره، و من قدّمنا ذکره من علماء الأمصار احتالوا لبقاء ذکرهم احتیال الأکیاس، فألّفوا دواوین بقی لهم بها ذکر مجدّد طول الأبد.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 9
فإن قلت: إنه کان مثل ذلک من علمائنا، و ألّفوا کتبا لکنها لم تصل إلینا، فهذه دعوی لم یصحبها تحقیق؛ لأنه لیس بیننا و بینکم غیر روحة راکب، أو رحلة قارب، لو نفث من بلدکم مصدور، لأسمع من ببلدنا فی القبور، فضلا عمّن فی الدّور و القصور، و تلقّوا قوله بالقبول کما تلقّوا دیوان أحمد بن عبد ربه الذی سمّاه بالعقد، علی أنه یلحقه فیه بعض اللوم، لا سیما إذ لم یجعل فضائل بلده واسطة عقده، و مناقب ملوکه یتیمة سلکه، أکثر الحزّ و أخطأ المفصل، و أطال الهزّ لسیف غیر مقصل، و قعد به ما قعد بأصحابه من ترک ما یعنیهم، و إغفال ما یهمهم.
فأرشد أخاک أرشدک اللّه! و اهده هداک اللّه! إن کانت عندک فی ذلک الجلیّة، و بیدک فصل القضیة، و السلام علیک و رحمة اللّه و برکاته.
فکتب الوزیر الحافظ أبو محمد علی بن أحمد بن سعید بن حزم، عند وقوفه علی هذه الرسالة، ما نصّه:
الحمد للّه ربّ العالمین، و صلّی اللّه علی سیّدنا محمد عبده و رسوله، و علی أصحابه الأکرمین، و أزواجه أمّهات المؤمنین، و ذرّیّته الفاضلین الطیّبین.
أمّا بعد یا أخی یا أبا بکر، سلام علیک سلام أخ مشوق طالت بینه و بینک الأمیال و الفراسخ، و کثرت الأیام و اللیالی، ثم لقیک فی حال سفر و نقلة، و وادّک فی خلال جولة و رحلة، فلم یقض من محاورتک أربا، و لا بلغ فی محاورتک مطلبا، و إنّی لمّا احتللت بک، و جالت یدی فی مکنون کتبک، و مضمون دواوینک، لمحت عینی فی تضاعیفها درجا، فتأمّلته، فإذا فیه خطاب لبعض الکتّاب من مصاقبینا فی الدار أهل إفریقیة، ثم ممّن ضمّته حاضرة قیروانهم، إلی رجل أندلسی لم یعیّنه باسمه، و لا ذکره بنسبه، یذکر له فیها أنّ علماء بلدنا بالأندلس- و إن کانوا علی الذّروة العلیا من التمکن بأفانین العلوم، و فی الغایة القصوی من التحکّم علی وجوه المعارف- فإنّ هممهم قد قصرت عن تخلید مآثر بلدهم، و مکارم ملوکهم، و محاسن فقهائهم، و مناقب قضاتهم، و مفاخر کتّابهم، و فضائل علمائهم، ثم تعدّی ذلک إلی أن أخلی أرباب العلوم منّا من أن یکون لهم تألیف یحیی ذکرهم، و یبقی علمهم، بل قطع علی أنّ کلّ واحد منهم قد مات فدفن علمه معه، و حقّق ظنّه فی ذلک، و استدلّ علی صحّته عند
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 10
نفسه بأنّ شیئا من هذه التآلیف لو کان منّا موجودا لکان إلیهم منقولا، و عندهم ظاهرا، لقرب المزار، و کثرة السّفّار، و تردّدهم إلیهم، و تکرّرهم علینا. ثم لمّا ضمّنا المجلس الحافل بأصناف الآداب، و المشهد الآهل بأنواع العلوم، و القصر المعمور بأنواع الفضائل، و المنزل المحفوف بکل لطیفة وسیعة من دقیق المعانی و جلیل المعالی، قرارة المجد و محلّ السؤدد، و محطّ رحال الخائفین، و ملقی عصا التّسیار عند الرئیس الأجلّ الشریف قدیمه و حسبه، الرفیع حدیثه و مکتسبه، الذی أجله عن کل خطّة یشرکه فیها من لا توازی قومته نومته، و لا ینال حضره هویناه، و أربی به عن کلّ مرتبة یلحقه فیها من لا یسمو إلی المکارم سموّه، و لا یدنو من المعالی دنوّه، و لا یعلو فی حمید الخلال علوّه، بل أکتفی من مدحه باسمه المشهور، و أجتزی من الإطالة فی تقریظه بمنتماه المذکور، فحسبی بذینک العلمین دلیلا علی سعیه المشکور، و فضله المشهور، أبی عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن قاسم صاحب البونت أطال اللّه بقاءه! و أدام اعتلاءه! و لا عطّل الحامدین من تحلیهم بحلاه! و لا أخلی الأیام من تزینها بعلاه! فرأیته أعزّه اللّه تعالی حریصا علی أن یجاوب هذا المخاطب، و راغبا فی أن یبین له ما لعلّه قد رآه فنسی أو بعد عنه فخفی، فتناولت الجواب المذکور بعد أن بلغنی أن ذلک المخاطب قد مات، رحمنا اللّه تعالی و إیاه! فلم یکن لقصده بالجواب معنی، و قد صارت المقابر له مغنی، فلسنا بمسمعین من فی القبور، فصرفت عنان الخطاب إلیک، إذ من قبلک صرت إلی الکتاب المجاوب عنه، و من لدنک وصلت إلی الرسالة المعارضة، و فی وصول کتابی علی هذه الهیئة حیثما وصل کفایة لمن غاب عنه من أخبار تآلیف أهل بلدنا مثل ما غاب عن هذا الباحث الأول، و للّه الأمر من قبل و من بعد، و إن کنت فی إخباری إیاک بما أرسمه فی کتابی هذا کمهد إلی البرکان نار الحباحب، و بانی صوّی فی مهیع القصد اللاحب، فإنک و إن کنت المقصود و المواجه، فإنما المراد من أهل تلک الناحیة من نأی عنه علم ما استجلبه السائل الماضی، و ما توفیقی إلّا بالله سبحانه.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 11
فأما مآثر بلدنا فقد ألّف فی ذلک أحمد بن محمد الرازی التاریخی کتبا جمّة: منها کتاب ضخم ذکر فیه مسالک الأندلس و مراسیها، و أمّهات مدنها و أجنادها الستّة، و خواصّ کلّ بلد منها، و ما فیه ممّا لیس فی غیره، و هو کتاب مریح ملیح، و أنا أقول: لو لم یکن لأندلسنا إلّا ما رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم بشّر به و وصف أسلافنا المجاهدین فیه بصفات الملوک علی الأسرّة فی الحدیث الذی رویناه من طریق أبی حمزة أنس بن مالک أنّ خالته أم حرام بنت ملحان زوج أبی الولید عبادة بن الصامت، رضی اللّه تعالی عنه و عنهم أجمعین، حدّثته عن النبی صلی اللّه علیه و سلم، أنه أخبرها بذلک، لکفی شرفا بذلک یسرّ عاجله، و یغبط آجله.
فإن قال قائل: لعلّه صلوات اللّه تعالی علیه إنما عنی بذلک الحدیث أهل صقلیة و إقریطش، و ما الدلیل علی ما ادّعیته من أنه صلی اللّه علیه و سلم عنی الأندلس حتما؟ و مثل هذا من التأویل لا یتساهل فیه ذو ورع دون برهان واضح، و بیان لائح، لا یحتمل التوجیه، و لا یقبل التجریح.
فالجواب- و بالله التوفیق- أنه صلی اللّه علیه و سلم، قد أوتی جوامع الکلم، و فصل الخطاب، و أمر بالبیان لما أوحی إلیه، و قد أخبر فی ذلک الحدیث المتّصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتین من أمّته یرکبون ثبج البحر غزاة واحدة بعد واحدة، فسألته أم حرام أن یدعو ربّه تعالی أن یجعلها منهم، فأخبرها صلی اللّه علیه و سلم و خبره الحقّ بأنها من الأولین، و هذا من أعلام نبوّته صلی اللّه علیه و سلم، و هو إخباره بالشی‌ء قبل کونه، و صحّ البرهان علی رسالته بذلک، و کانت من الغزاة إلی قبرس، و خرّت عن بغلتها هناک، فتوفیت، رحمها اللّه تعالی! و هی أول غزاة رکب فیها المسلمون البحر، فثبت یقینا أنّ الغزاة إلی قبرس هم الأولون الذین بشّر بهم النبی صلی اللّه علیه و سلم، و کانت أم حرام منهم کما أخبر، صلوات اللّه تعالی و سلامه علیه، و لا سبیل أن یظنّ به و قد أوتی ما أوتی من البلاغة و البیان أنه یذکر طائفتین قد سمّی إحداهما أولی إلّا و التالیة لها ثانیة، فهذا من باب الإضافة و ترکیب العدد، و هذا مقتضی طبیعة صناعة المنطق، إذ لا تکون الأولی أولی إلّا لثانیة، و لا الثانیة ثانیة إلّا لأولی، فلا سبیل إلی ذکر ثالث إلّا بعد ثان ضرورة، و هو صلی اللّه علیه و سلم إنما ذکر طائفتین، و بشّر بفئتین، و سمّی إحداهما الأولین، فاقتضی ذلک بالقضاء الصدق آخرین،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 12
و الآخر من الأول هو الثانی الذی أخبر صلی اللّه علیه و سلم أنه خیر القرون بعد قرنه، و أولی القرون بکل فضل بشهادة رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم بأنه خیر من کلّ قرن بعده، ثم رکب البحر بعد ذلک أیام سلیمان بن عبد الملک إلی القسطنطینیة، و کان الأمیر بها فی تلک السفن هبیرة الفزاری، و أمّا صقلیة فإنها فتحت صدر أیام الأغالبة سنة 212، أیام قاد إلیها السفن غازیا أسد بن الفرات القاضی صاحب أبی یوسف رحمه اللّه تعالی، و بها مات، و أما إقریطش فإنها فتحت بعد الثلاث و المائتین افتتحها أبو حفص عمر بن شعیب المعروف بابن الغلیظ، من أهل قریة بطروج من عمل فحص البلّوط المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس، و کان من فلّ الرّبضیین، و تداولها بنوه بعده إلی أن کان آخرهم عبد العزیز بن شعیب الذی غنمها فی أیام أرمانوس بن قسطنطین ملک الروم سنة 350، و کان أکثر المفتتحین لها أهل الأندلس.
و أما فی قسم الأقالیم فإن قرطبة مسقط رؤوسنا، و معقّ تمائمنا، مع سرّ من رأی فی إقلیم واحد، فلنا من الفهم و الذکاء ما اقتضاه إقلیمنا، و إن کانت الأنوار لا تأتینا إلّا مغربة عن مطالعها علی الجزء المعمور، و ذلک عند المحسنین للأحکام التی تدلّ علیها الکواکب ناقص من قوی دلائلها، فلها من ذلک علی کلّ حال حظّ یفوق حظّ أکثر البلاد، بارتفاع أحد النّیّرین بها تسعین درجة، و ذلک من أدلّة التمکّن فی العلوم و النفاذ فیها عند من ذکرنا، و قد صدق ذلک الخبر، و أبانته التجربة، فکان أهلها من التمکّن فی علوم القراءات و الروایات و حفظ کثیر من الفقه و البصر بالنحو و الشعر و اللغة و الخبر و الطب و الحساب و النجوم بمکان رحب الفناء، واسع العطن، متنائی الأقطار، فسیح المجال، و الذی نعاه علینا الکاتب المذکور لو کان کما ذکر لکنّا فیه شرکاء لأکثر أمّهات الحواضر، و جلائل البلاد، و متّسعات الأعمال، فهذه القیروان بلد المخاطب لنا، ما أذکر أنی رأیت فی أخبارها تألیفا غیر «المعرب، عن أخبار المغرب» و حاشا تآلیف محمد بن یوسف الوراق، فإنه ألّف للمستنصر رحمه اللّه تعالی فی «مسالک إفریقیة و ممالکها» دیوانا ضخما، و فی أخبار ملوکها و حروبهم و القائمین علیهم کتبا جمّة، و کذلک ألّف أیضا فی أخبار تیهرت و وهران و تونس
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 13
و سجلماسة و نکور و البصرة و غیرها تآلیف حسانا، و محمد هذا أندلسی الأصل و الفرع، آباؤه من وادی الحجارة، و مدفنه بقرطبة، و هجرته إلیها، و إن کانت نشأته بالقیروان.
و لا بدّ من إقامة الدلیل علی ما أشرت إلیه هنا إذ مرادنا أن نأتی منه بالمطلوب فیما یستأنف إن شاء اللّه تعالی، و ذلک أنّ جمیع المؤرخین من أئمتنا السالفین و الباقین، دون محاشاة أحد، بل قد تیقّنّا إجماعهم علی ذلک، متّفقون علی أن ینسبوا الرجل إلی مکان هجرته التی استقرّ بها و لم یرحل عنها رحیل ترک لسکناها إلی أن مات، فإن ذکروا الکوفیین من الصحابة، رضی اللّه تعالی عنهم، صدّروا بعلی و ابن مسعود و حذیفة، رضی اللّه تعالی عنهم، و إنما سکن علیّ الکوفة خمسة أعوام و أشهرا، و قد بقی 58 عاما و أشهرا بمکة و المدینة شرّفهما اللّه تعالی. و کذلک أیضا أکثر أعمار من ذکرنا، و إن ذکروا البصریین بدءوا بعمران بن حصین و أنس بن مالک و هشام بن عامر و أبی بکرة، و هؤلاء موالیدهم و عامة زمن أکثرهم و أکثر مقامهم بالحجاز و تهامة و الطائف، و جمهرة أعمارهم حلت هنالک، و إن ذکروا الشامیین نوّهوا بعبادة بن الصامت و أبی الدرداء و أبی عبیدة بن الجراح و معاذ و معاویة، و الأمر فی هؤلاء کالأمر فیمن قبلهم، و کذلک فی المصریین عمرو بن العاص و خارجة بن حذافة العدوی، و فی المکیّین عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن الزبیر، و الحکم فی هؤلاء کالحکم فیمن قصصنا، فمن هاجر إلینا من سائر البلاد، فنحن أحقّ به، و هو منّا بحکم جمیع أولی الأمر منّا الذین إجماعهم فرض اتباعه، و خلافه محرم اقترافه، و من هاجر منّا إلی غیرنا فلا حظّ لنا فیه، و المکان الذی اختاره أسعد به، فکما لا ندع إسماعیل بن القاسم فکذلک لا ننازع فی محمد بن هانی‌ء سوانا، و العدل أولی ما حرص علیه، و النصف أفضل ما دعی إلیه، بعد التفصیل الذی لیس هذا موضعه، و علی ما ذکرنا من الأنصاف تراضی الکلّ.
و هذه بغداد حاضرة الدنیا و معدن کل فضیلة، و المحلّة التی سبق أهلها إلی حمل ألویة المعارف، و التدقیق فی تصریف العلوم، و رقّة الأخلاق و النباهة و الذکاء و حدّة الأفکار و نفاذ الخواطر، و هذه البصرة و هی عین المعمور فی کل ما ذکرنا، و ما أعلم فی أخبار بغداد تألیفا غیر کتاب أحمد بن أبی طاهر، و أما سائر التواریخ التی ألّفها أهلها فلم یخصّوا بلدتهم بها دون سائر البلاد، و لا أعلم فی أخبار البصرة غیر کتاب عمر بن شبة، و کتاب لرجل من واد الربیع بن زیاد المنسوب إلی أبی سفیان فی خطط البصرة و قطائعها، و کتابین لرجلین من أهلها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 14
یسمّی أحدهما عبد القاهر کریزی النسب و صفاها و ذکرا أسواقها و محالها و شوارعها، و لا أعلم فی أخبار الکوفة غیر کتاب عمر بن شبة، و أمّا الجبال و خراسان و طبرستان و جرجان و کرمان و سجستان و السّند و أرمینیة و أذربیجان و تلک الممالک الکثیرة الضخمة فلا أعلم فی شی‌ء منها تألیفا قصد به أخبار ملوک تلک النواحی، و علمائها و شعرائها و أطبائها، و لقد تاقت النفوس إلی أن یتّصل بها تألیف فی أخبار فقهاء بغداد، و ما علمناه علم، علی أنهم العلیة الرؤساء، و الأکابر العظماء، و لو کان فی شی‌ء من ذلک تألیف لکان الحکم فی الأغلب أن یبلغنا کما بلغ سائر تآلیفهم، و کما بلغنا کتاب حمزة بن الحسن الأصبهانی فی أخبار أصبهان، و کتاب الموصلی و غیره فی أخبار مصر، و کما بلغنا سائر تآلیفهم فی أنحاء العلوم، و قد بلغنا تألیف القاضی أبی العباس محمد بن عبدون القیروانی فی الشروط، و اعتراضه علی الشافعی رحمه اللّه تعالی، و کذلک بلغنا ردّ القاضی أحمد بن طالب التمیمی علی أبی حنیفة و تشیعه علی الشافعی، و کتب ابن عبدوس و محمد بن سحنون و غیر ذلک من خوامل تآلیفهم دون مشهورها.
و أما جهتنا فالحکم فی ذلک ما جری به المثل السائر «أزهد الناس فی عالم أهله»، و قرأت فی الإنجیل أنّ عیسی، علیه السلام قال: «لا یفقد النبیّ حرمته إلّا فی بلده» و قد تیقنّا ذلک بما لقی النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، من قریش- و هم أوفر الناس أحلاما، و أصحّهم عقولا، و أشدّهم تثبّتا، مع ما خصّوا به من سکناهم أفضل البقاع، و تغذیتهم بأکرم المیاه- حتی خصّ اللّه تعالی الأوس و الخزرج بالفضیلة التی أبانهم بها عن جمیع الناس، و اللّه یؤتی فضله من یشاء؛ و لا سیما أندلسنا فإنها خصّت من حسد أهلها للعالم الظاهر فیهم الماهر منهم، و استقلالهم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 15
کثیر ما یأتی به، و استهجانهم حسناته، و تتبّعهم سقطاته و عثراته، و أکثر ذلک مدّة حیاته، بأضعاف ما فی سائر البلاد، إن أجاد قالوا: سارق مغیر و منتحل مدّع، و إن توسّط قالوا: غثّ بارد و ضعیف ساقط، و إن باکر الحیازة لقصب السّبق قالوا: متی کان هذا؟ و متی تعلّم؟ و فی أی زمان قرأ؟ و لأمّه الهبل! و بعد ذلک إن و لجت به الأقدار أحد طریقین إمّا شفوفا بائنا یعلیه علی نظرائه أو سلوکا فی غیر السبیل التی عهدوها فهنالک حمی الوطیس علی البائس، و صار غرضا للأقوال، و هدفا للمطالب، و نصبا للتسبّب إلیه، و نهبا للألسنة، و عرضة للتطرق إلی عرضه، و ربما نحل ما لم یقل، و طوّق ما لم یتقلّد، و ألحق به ما لم یفه به و لا أعتقده قلبه، و بالحری و هو السابق المبرّز إن لم یتعلّق من السلطان بحظّ أن یسلم من المتالف و ینجو من المخالف، فإن تعرّض لتألیف غمز و لمز، و تعرّض و همز، و اشتطّ علیه، و عظم یسیر خطبه، و استشنع هین سقطه، و ذهبت محاسنه، و سترت فضائله، و هتف و نودی بما أغفل، فتنکسر لذلک همّته، و تکلّ نفسه، و تبرد حمیّته، و هکذا عندنا نصیب من ابتدأ یحوک شعرا، أو یعمل بعمل ریاسة، فإنه لا یفلت من هذه الحبائل، و لا یتخلّص من هذه النّصب إلّا الناهض الفائت و المطفّف المستولی علی الأمد.
و علی ذلک فقد جمع ما ظنّه الظانّ غیر مجموع، و ألّفت عندنا تآلیف فی غایة الحسن، لنا خطر السبق فی بعضها: فمنها کتاب «الهدایة» لعیسی بن دینار، و هی أرفع کتب جمعت فی معناها علی مذهب مالک و ابن القاسم، و أجمعها للمعانی الفقهیّة علی المذهب، فمنها کتاب الصلاة و کتاب البیوع و کتاب الجدار فی الأقضیة و کتاب النکاح و الطلاق، و من الکتب المالکیة التی ألّفت بالأندلس کتاب القطنیّ مالک بن علی، و هو رجل قرشی من بنی فهر، لقی أصحاب مالک و أصحاب أصحابه، و هو کتاب حسن فیه غرائب و مستحسنات من الرسائل المولدات، و منها کتاب أبی إسحاق إبراهیم بن مزین فی تفسیر الموطأ و الکتب المستقصیة لمعانی الموطأ و توصیل مقطوعاته من تآلیف ابن مزین أیضا، و کتابه فی رجال الموطأ و ما لمالک عن کلّ واحد منهم من الآثار فی موطّئه.
و فی تفسیر القرآن کتاب أبی عبد الرحمن بقی بن مخلد فهو الکتاب الذی أقطع قطعا لا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 16
أستثنی فیه أنه لم یؤلّف فی الإسلام تفسیر مثله، و لا تفسیر محمد بن جریر الطبری و لا غیره.
و منها فی الحدیث مصنّفه الکبیر الذی رتّبه علی أسماء الصحابة، رضی اللّه تعالی عنهم! فروی فیه عن ألف و ثلاثمائة صاحب و نیّف، ثم رتّب حدیث کلّ صاحب علی أسماء الفقه و أبواب الأحکام، فهو مصنّف و مسند، و ما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته و ضبطه و إتقانه و احتفاله فی الحدیث و جودة شیوخه، فإنه روی عن مائتی رجل و أربعة و ثمانین رجلا لیس فیهم عشرة ضعفاء، و سائرهم أعلام مشاهیر. و منها مصنّفه فی فضل الصحابة و التابعین و من دونهم، الذی أربی فیه علی مصنّف أبی بکر بن أبی شیبة و مصنّف عبد الرزاق بن همام و مصنّف سعید بن منصور و غیرها، و انتظم علما عظیما لم یقع فی شی‌ء من هذه، فصارت تآلیف هذا الإمام الفاضل قواعد الإسلام، لا نظیر لها، و کان متخیّرا لا یقلّد أحدا، و کان ذا خاصّة من أحمد بن حنبل رضی اللّه تعالی عنه!.
و منها فی أحکام القرآن کتاب ابن أمیة الحجاری، و کان شافعی المذهب بصیرا بالکلام علی اختیاره، و کتاب القاضی أبی الحکم منذر بن سعید، و کان داودی المذهب قویّا علی الانتصار له، و کلاهما فی أحکام القرآن غایة، و لمنذر مصنّفات منها کتاب «الإبانة، عن حقائق أصول الدیانة».
و منها فی الحدیث مصنّف أبی محمد قاسم بن أصبغ بن یوسف بن ناصح، و مصنّف محمد بن عبد الملک بن أیمن، و هما مصنّفان رفیعان احتویا من صحیح الحدیث و غریبه علی ما لیس فی کثیر من المصنّفات. و لقاسم بن أصبغ هذا تآلیف حسان جدا، منها أحکام القرآن علی أبواب کتاب إسماعیل و کلامه، و منها کتاب «المجتبی، علی أبواب کتاب ابن الجارود المنتقی» و هو خیر منه و أنقی حدیثا و أعلی سندا و أکثر فائدة، و منها کتاب فی فضائل قریش و کنانة، و کتابه فی الناسخ و المنسوخ، و کتاب غرائب حدیث مالک بن أنس ممّا لیس فی الموطأ. و منها کتاب «التمهید» لصاحبنا أبی عمر یوسف بن عبد البر، و هو الآن بعد فی الحیاة لم یبلغ سنّ الشیخوخة، و هو کتاب لا أعلم فی الکلام علی فقه الحدیث مثله أصلا فکیف أحسن منه، و منها کتاب «الاستذکار» و هو اختصار التمهید المذکور، و لصاحبنا أبی عمر بن عبد البر المذکور کتب لا مثیل لها: منها کتابه المسمّی بالکافی فی الفقه علی مذهب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 17
مالک و أصحابه خمسة عشر کتابا اقتصر فیه علی ما بالمفتی الحاجة إلیه و بوّبه و قرّبه فصار مغنیا عن التصنیفات الطوال فی معناه، و منها کتابه فی الصحابة لیس لأحد من المتقدّمین مثله علی کثرة ما صنّفوا فی ذلک، و منها کتاب «الاکتفاء، فی قراءة نافع و أبی عمرو بن العلاء، و الحجّة لکلّ واحد منهما» و منها کتاب «بهجة المجالس، و أنس المجالس، ممّا یجری فی المذاکرات، من غرر الأبیات و نوادر الحکایات»، و منها کتاب «جامع بیان العلم و فضله، و ما ینبغی فی روایته».
و منها کتاب شیخنا القاضی أبی الولید عبد اللّه بن یوسف بن الفرضی فی المختلف و المؤتلف فی أسماء الرجال، و لم یبلغ عبد الغنی الحافظ البصری فی ذلک إلّا کتابین، و بلغ أبو الولید رحمه اللّه تعالی نحو الثلاثین، لا أعلم مثله فی فنّه البتّة، و منها تاریخ أحمد بن سعید، ما وضع فی الرجال أحد مثله إلّا ما بلغنا من تاریخ محمد بن موسی العقیلی البغدادی، و لم أره، و أحمد بن سعید هو المتقدّم فی التألیف القائم فی ذلک، و منها کتب محمد بن یحیی بن مفرج القاضی، و هی کثیرة؛ منها أسفار سبعة جمع فیها فقه الحسن البصری، و کتب کثیرة جمع فیها فقه الزهری.
و مما یتعلّق بذلک شرح الحدیث لعامر بن خلف السرقسطی، فما شآه أبو عبید إلّا بتقدّم العصر فقط.
و منها فی الفقه «الواضحة» و المالکیون لا تمانع بینهم فی فضلها و استحسانهم إیّاها، و منها «المستخرجة من الأسمعة» و هی المعروفة بالعتبیة، و لها عند أهل إفریقیة القدر العالی و الطیران الحثیث، و الکتاب الذی جمعه أبو عمر أحمد بن عبد الملک بن هشام الإشبیلی المعروف بابن المکوی، و القرشی أبو مروان المعیطی فی جمع أقاویل مالک کلّها علی نحو الکتاب «الباهر» الذی جمع فیه القاضی أبو بکر محمد بن أحمد بن الحدّاد البصری أقاویل الشافعی کلّها، و منها کتاب «المنتخب» الذی ألّفه القاضی محمد بن یحیی بن عمر بن لبابة، و ما رأیت لمالکی قطّ کتابا أنبل منه فی جمع روایات المذهب و شرح مستغلقها و تفریع
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 18
وجوهها، و تآلیف قاسم بن محمد، المعروف بصاحب الوثائق، و کلّها حسن فی معناه، و کان شافعیّ المذهب نظارا جاریا فی میدان البغدادیین.
و منها فی اللغة الکتاب «البارع» الذی ألّفه إسماعیل بن القاسم، یحتوی علی لغة العرب، و کتابه فی «المقصور و الممدود و المهموز» لم یؤلّف مثله فی بابه، و کتاب «الأفعال» لمحمد بن عمر بن عبد العزیز، المعروف بابن القوطیة، بزیادات ابن طریف مولی العبیدیین فلم یوضع فی فنّه مثله، و کتاب جمعه أبو غالب تمام بن غالب المعروف بابن التیانی فی اللغة لم یؤلّف مثله اختصارا و إکثارا و ثقة نقل، و هو أظنّ فی الحیاة بعد.
و هاهنا قصة لا ینبغی أن تخلو رسالتنا منها، و هی أن أبا الولید عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه المعروف بابن الفرضی، حدّثنی أنّ أبا الجیش مجاهدا صاحب الجزائر و دانیة وجّه إلی أبی غالب أیام غلبته علی مرسیة، و أبو غالب ساکن بها، ألف دینار أندلسیة علی أن یزید فی ترجمة الکتاب المذکور «ممّا ألّفه تمام بن غالب لأبی الجیش مجاهد» فردّ الدنانیر و أبی من ذلک، و لم یفتح فی هذا بابا البتّة، و قال: و اللّه لو بذل لی الدنیا علی ذلک ما فعلت و لا استجزت الکذب؛ لأنی لم أجمعه له خاصّة بل لکلّ طالب، فأعجب لهمة هذا الرئیس و علوّها، و أعجب لنفس هذا العالم و نزاهتها.
و منها کتاب أحمد بن أبان بن سید فی اللغة المعروف بکتاب «العالم» نحو مائة سفر علی الأجناس فی غایة الإیعاب، بدأ بالفلک و ختم بالذرة. و کتاب «النوادر» لأبی علی إسماعیل بن القاسم، و هو مبار لکتاب «الکامل» لأبی العباس المبرد، و لعمری لئن کان کتاب أبی العباس أکثر نحوا و خبرا فإنّ کتاب أبی علی لأکثر لغة و شعرا، و کتاب «الفصوص» لصاعد بن الحسن الربعی، و هو جار فی مضمار الکتابین المذکورین.
و من الأنحاء تفسیر الجرفی لکتاب الکسائی، حسن فی معناه، و کتاب ابن سیده فی ذلک المنبوز ب «العالم و المتعلّم» و شرح له لکتاب الأخفش.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 19
و مما ألّف فی الشعر کتاب عبادة بن ماء السماء فی «أخبار شعراء الأندلس» کتاب حسن، و کتاب «الحدائق» لأبی عمر أحمد بن فرج، عارض به کتاب الزهرة لأبی محمد بن داود رحمه اللّه تعالی، إلّا أنّ أبا بکر إنما أدخل مائة باب فی کل باب مائة بیت، و أبو عمر أورد مائتی باب فی کل باب مائة بیت لیس منها باب تکرّر اسمه لأبی بکر، و لم یورد فیه لغیر أندلسی شیئا، و أحسن الاختیار ما شاء و أجاد، فبلغ الغایة، و أتی الکتاب فردا فی معناه، و منها کتاب «التشبیهات من أشعار أهل الأندلس» جمعه أبو الحسن علی بن محمد بن أبی الحسن الکاتب، و هو حیّ بعد.
و ممّا یتعلّق بذلک شرح أبی القاسم إبراهیم بن محمد بن الإفلیلی لشعر المتنبی، و هو حسن جدا.
و من الأخبار تواریخ أحمد بن محمد بن موسی الرازی فی أخبار ملوک الأندلس و خدمتهم و غزواتهم و نکباتهم، و ذلک کثیر جدا، و کتاب له فی صفة قرطبة و خططها و منازل الأعیان بها، علی نحو ما بدأ به ابن أبی طاهر فی أخبار بغداد و ذکر منازل صحابة أبی جعفر المنصور بها. و تواریخ متفرّقة رأیت منها: أخبار عمر بن حفصون القائم بریّة و وقائعه و سیره و حروبه، و تاریخ آخر فی أخبار عبد الرحمن بن مروان الجلیقی القائم بالحوف، و فی أخبار بنی قیس و التّجیبیین و بنی الطویل و الثغر، فقد رأیت من ذلک کتبا مصنّفة فی غایة الحسن، و کتاب مجزأ فی أجزاء کثیرة فی أخبار ریّة و حصونها و حروبها و فقهائها و شعرائها تألیف إسحاق بن سلمة بن إسحاق اللیثی، و کتاب محمد بن الحارث الخشنی فی «أخبار القضاة بقرطبة و سائر بلاد الأندلس، و کتاب فی أخبار الفقهاء بها، و کتاب لأحمد بن محمد بن موسی فی «أنساب مشاهیر أهل الأندلس» فی خمسة أسفار ضخمة من أحسن کتاب فی الأنساب و أوسعها، و کتاب قاسم بن أصبغ فی «الأنساب» فی غایة الحسن و الإیعاب و الإیجاز، و کتابه فی «فضائل بنی أمیة»، و کان من الثقة و الجلالة بحیث اشتهر أمره، و انتشر ذکره، و منها کتب مؤلفة فی أصحاب المعاقل و الأجناد الستة بالأندلس، و منها کتب کثیرة جمعت فیها أخبار شعراء الأندلس للمستنصر رحمه اللّه تعالی، رأیت منها «أخبار شعراء إلبیرة» فی نحو عشرة أجزاء، و منها کتاب «الطوالع» فی أنساب أهل الأندلس، و منها کتاب «التاریخ الکبیر فی أخبار أهل الأندلس» تألیف أبی مروان بن حیّان نحو عشرة أسفار من أجلّ کتاب ألّف فی هذا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 20
المعنی، و هو فی الحیاة بعد لم یتجاوز الاکتهال، و کتاب «المآثر العامریة» لحسین بن عاصم فی سیر ابن أبی عامر و أخباره، و کتاب الأقشتین محمد بن عاصم النحوی فی «طبقات الکتّاب بالأندلس»، و کتاب سکن بن سعید فی ذلک، و کتاب أحمد بن فرج فی «المنتزین و القائمین بالأندلس و أخبارهم»، و کتاب «أخبار أطباء الأندلس» لسلیمان بن جلجل.
و أما الطب فکتب الوزیر یحیی بن إسحاق و هی کتب حسان رفیعة، و کتب محمد بن الحسن المذحجیّ أستاذنا رحمه اللّه تعالی! و هو المعروف بابن الکتانی و هی کتب رفیعة حسان، و کتب التصریف لأبی القاسم خلف بن عیاش الزهراوی، و قد أدرکناه و شاهدناه، و لئن قلنا إنه لم یؤلّف فی الطب أجمع منه و لا أحسن للقول و العمل فی الطبائع لنصدقنّ، و کتب ابن الهیثم فی الخواصّ و السموم و العقاقیر من أجلّ الکتب و أنفعها.
و أما الفلسفة فإنی رأیت فیها رسائل مجموعة و عیونا مؤلفة لسعید بن فتحون السّرقسطی المعروف بالحمار دالّة علی تمکّنه من هذه الصناعة، و أما رسائل أستاذنا أبی عبد اللّه محمد بن الحسن المذحجیّ فی ذلک فمشهورة متداولة و تامّة الحسن فائقة الجودة عظیمة المنفعة.
و أما العدد و الهندسة فلم یقسم لنا فی هذا العلم نفاذ، و لا تحقّقنا به، فلسنا نثق بأنفسنا فی تمییز المحسن من المقصّر فی المؤلفین فیه من أهل بلدنا إلّا أنی سمعت من أثق بعقله و دینه من أهل العلم ممّن اتّفق علی رسوخه فیه یقول: إنه لم یؤلّف فی الأزیاج مثل زیج مسلمة و زیج ابن السمح، و هما من أهل بلدنا، و کذلک کتاب «المساحة المجهولة» لأحمد بن نصر فما تقدّم إلی مثله فی معناه.
و إنما ذکرنا التآلیف المستحقّة للذکر، و التی تدخل تحت الأقسام السبعة التی لا یؤلّف عاقل عالم إلّا فی أحدها، و هی إمّا شی‌ء یخترعه لم یسبق إلیه، أو شی‌ء ناقص یتمّه، أو شی‌ء مستغلق یشرحه، أو شی‌ء طویل یختصره دون أن یخلّ بشی‌ء من معانیه، أو شی‌ء متفرّق یجمعه، أو شی‌ء مختلط یرتّبه، أو شی‌ء أخطأ فیه صاحبه یصلحه.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 21
و أما التآلیف المقصّرة عن مراتب غیرها فلم نلتفت إلی ذکرها، و هی عندنا من تألیف أهل بلدنا أکثر من أن نحیط بعلمها.
و أما علم الکلام فإن بلادنا و إن کانت لم تتجاذب فیها الخصوم، و لا اختلفت فیها النحل، فقلّ لذلک تصرّفهم فی هذا الباب، فهی علی کل حال غیر عریّة عنه، و قد کان فیهم قوم یذهبون إلی الاعتزال، نظار علی أصوله، و لهم فیه تآلیف: منهم خلیل بن إسحاق، و یحیی بن السمینة، و الحاجب موسی بن حدیر و أخوه الوزیر صاحب المظالم أحمد، و کان داعیة إلی الاعتزال لا یستتر بذلک. و لنا علی مذهبنا الذی تخیّرناه من مذاهب أصحاب الحدیث کتاب فی هذا المعنی، و هو و إن کان صغیر الجرم قلیل عدد الورق یزید علی المائتین زیادة یسیرة فعظیم الفائدة لأنّا أسقطنا فیه المشاغب کلّها، و أضربنا عن التطویل جملة، و اقتصرنا علی البراهین المنتخبة من المقدّمات الصحاح الراجعة إلی شهادة الحسّ و بدیهة العقل لها بالصحة. و لنا فیما تحقّقنا به تآلیف جمّة، منها ما قد تمّ، و منها ما شارف التمام، و منها ما قد مضی منه صدر و یعین اللّه تعالی علی باقیه، لم نقصد به قصد مباهاة فنذکرها، و لا أردنا السمعة فنسمّیها، و المراد بها ربّنا جلّ وجهه، و هو ولی العون فیها، و الملیّ بالمجازاة علیها، و ما کان للّه تعالی فسیبدو، و حسبنا اللّه و نعم الوکیل.
و بلدنا هذا- علی بعده من ینبوع العلم، و نأیه من محلّة العلماء- فقد ذکرنا من تآلیف أهله ما إن طلب مثلها بفارس و الأهواز و دیار مضر و دیار ربیعة و الیمن و الشام أعوز وجود ذلک علی قرب المسافة فی هذه البلاد من العراق التی هی دار هجرة الفهم و ذویه و مراد المعارف و أربابها.
و نحن إذا ذکرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمّة الکلابی فی الشعر لم نباه به إلّا جریرا و الفرزدق، لکونه فی عصرهما، و لو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جار علی مذهب الأوائل، لا علی طریقة المحدثین، و إذا سمّینا بقی بن مخلد لم نسابق به إلّا محمد بن إسماعیل البخاری و مسلم بن الحجاج النیسابوری و سلیمان بن الأشعث السجستانی و أحمد بن شعیب النسائی. و إذا ذکرنا قاسم بن محمد لم نباه به إلّا القفّال و محمد بن عقیل الفریابی، و هو
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 22
شریکهما فی صحبة المزنی أبی إبراهیم و التتلمذ له، و إذا نعتنا عبد اللّه بن قاسم بن هلال و منذر بن سعید لم نجار بهما إلا أبا الحسن بن المفلس و الخلال و الدیباجی و رویم بن أحمد.
و قد شارکهم عبد اللّه فی أبی سلیمان و صحبته، و إذا أشرنا إلی محمد بن عمر بن لبابة و عمّه محمد بن عیسی و فضل بن سلمة لم نناطح بهم إلّا محمد بن عبد اللّه بن عبد الحکم و محمد بن سحنون و محمد بن عبدوس، و إذا صرحنا بذکر محمد بن یحیی الریاحی و أبی عبد اللّه محمد بن عاصم لم یقصّرا عن أکابر أصحاب محمد بن یزید المبرد.
و لو لم یکن لنا من فحول الشعراء إلّا أحمد بن محمد بن دراج القسطلّی لما تأخّر عن شأو بشار بن برد و حبیب و المتنبی، فکیف و لنا معه جعفر بن عثمان الحاجب، و أحمد بن عبد الملک بن مروان، و أغلب بن شعیب، و محمد بن شخیص، و أحمد بن فرج، و عبد الملک بن سعید المرادی، و کلّ هؤلاء فحل یهاب جانبه، و حصان ممسوح الغرّة.
و لنا من البلغاء أحمد بن عبد الملک بن شهید صدیقنا و صاحبنا، و هو حیّ بعد لم یبلغ سنّ الاکتهال، و له من التصرّف فی وجوه البلاغة و شعابها مقدار یکاد ینطق فیه بلسان مرکب من لسانی عمرو و سهل و محمد بن عبد اللّه بن مسرة فی طریقه التی سلک فیها، و إن کنّا لا نرضی مذهبه، فی جماعة یکثر تعدادهم.
و قد انتهی ما اقتضاه خطاب الکاتب رحمه اللّه تعالی من البیان، و لم نتزید فیما رغب فیه إلّا ما دعت الضرورة إلی ذکره لتعلّقه بجوابه، و الحمد للّه الموفق لعلمه، و الهادی إلی الشریعة المزلفة منه و الموصلة، و صلّی اللّه علی محمد عبده و رسوله و علی آله و صحبه و سلّم، و شرّف و کرّم، انتهت الرسالة.
و کتب الحافظ ابن حجر علی هامش قوله فیها «و إنما سکن علی الکوفة خمسة أعوام و أشهرا» ما نصّه: صوابه أربعة أعوام، انتهی.

[تذییل ابن سعید علی رسالة ابن حزم]

و قال ابن سعید، بعد ذکره هذه الرسالة ما صورته: رأیت أن أذیّل ما ذکره الوزیر الحافظ أبو محمد بن حزم من مفاخر أهل الأندلس بما حضرنی و اللّه تعالی ولی الإعانة.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 23
أما القرآن فمن أجلّ ما صنّف فی تفسیره کتاب «الهدایة، إلی بلوغ النهایة» فی نحو عشرة أسفار، صنّفه الإمام العالم الزاهد أبو محمد مکی بن أبی طالب القرطبی، و له کتاب «تفسیر إعراب القرآن»، و عدّ ابن غالب فی کتاب «فرحة الأنفس» تآلیف مکّی المذکور، فبلغ بها 77 تألیفا، و کانت وفاته سنة 437، و لأبی محمد بن عطیة الغرناطی فی تفسیر القرآن الکتاب الکبیر الذی اشتهر و طار فی الغرب و الشرق، و صاحبه من فضلاء المائة السادسة.
و أما القراءات فلمکی المذکور فیها کتاب «التبصرة» و کتاب «التیسیر» لأبی عمرو الدانی مشهور فی أیدی الناس.
و أما الحدیث فکان بعصرنا فی المائة السابعة الإمام أبو الحسن علی بن القطان القرطبی الساکن بحضرة مراکش، و له فی تفسیر غریبه و فی رجاله مصنّفات، و إلیه کانت النهایة و الإشارة فی عصرنا، و سمعت أنه کان اشتغل بجمع أمهات کتب الحدیث المشهورة، و حذف المکرّر، و کتاب رزین بن عمار الأندلسی فی جمع ما یتضمّنه کتاب مسلم و البخاری و الموطأ و السنن و النسائی و الترمذی کتاب جلیل مشهور فی أیدی الناس بالمشرق و المغرب، و کتاب «الأحکام» لأبی محمد عبد الحق الإشبیلی مشهور متداول القراءة، و هی أحکام کبری، و أحکام صغری، قیل: و وسطی، و کتاب «الجمع بین الصحیحین» للحمیدی مشهور.
و أما الفقه فالکتاب المعتمد علیه الآن الذی ینطلق علیه اسم الکتاب عند المالکیة حتی بالإسکندریة فکتاب «التهذیب» للبراذعی السرقسطی، و کتاب «النهایة» لأبی الولید بن رشد، کتاب جلیل معظم معتمد علیه عند المالکیة، و کذلک کتاب «المنتقی» للباجی.
و أما أصول الدین و أصول الفقه فللإمام أبی بکر بن العربی الإشبیلی من ذلک ما منه کتاب «العواصم و القواصم» المشهور بأیدی الناس، و له تصانیف غیر هذا، و لأبی الولید بن رشد فی أصول الفقه ما منه «مختصر المستصفی».
و أما التواریخ فکتاب ابن حیان الکبیر المعروف «بالمتین» فی نحو ستین مجلّدة و إنما ذکر ابن حزم کتاب «المقتبس» و هو فی عشر مجلّدات، و المتین یذکر فیه أخبار عصره، و یمعن فیها ممّا شاهده، و منه ینقل صاحب الذخیرة، و قد ذیل علیه أبو الحجاج البیّاسی أحد معاصرینا،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 24
و هو الآن بإفریقیة فی حضرتها تونس عند سلطانها تحت إحسانه الغمر، و کتاب المظفر بن الأفطس ملک بطلیوس المعروف «بالمظفری» نحو کتاب «المتین» فی الکبر، و فیه تاریخ علی السنین، و فنون آداب کثیرة، و تاریخ ابن صاحب الصلاة فی الدولة اللمتونیة، و ذکر ابن غالب أن ابن الصیرفی الغرناطی له کتاب فی أخبار دولة لمتونة، و أن أبا الحسن السالمی له کتاب «فی أخبار الفتنة الثانیة بالأندلس»، بدأ من سنة 539، و رتّبه علی السنین و بلغ به سنة 547، و أبو القاسم خلف بن بشکوال له کتاب فی «تاریخ أصحاب الأندلس» من فتحها إلی زمانه، و أضاف إلی ذلک من أخبار قرطبة و غیرها ما جاء فی خاطره، و له کتاب «الصلة» فی تاریخ العلماء، و للحمیدی قبله «جذوة المقتبس» و قد ذیّل کتاب الصلة فی عصرنا هذا أبو عبد اللّه بن الأبّار البلنسی صاحب کتاب سلطان إفریقیة. و ذکر ابن غالب أنّ الفقیه أبا جعفر بن عبد الحق الخزرجی القرطبی له کتاب کبیر بدأ فیه من بدء الخلیقة إلی أن انتهی فی أخبار الأندلس إلی دولة عبد المؤمن، قال: و فارقته سنة 565، و أبو محمد بن حزم صاحب الرسالة المتقدّمة الذکر له کتب جمّة فی التواریخ، مثل کتاب «نقط العروس، فی تواریخ الخلفاء» و قد صنّف أبو الولید بن زیدون کتاب «التبیین فی خلفاء بنی أمیة بالأندلس» علی منزع کتاب «التعیین فی خلفاء المشرق» للمسعودی. و للقاضی أبی القاسم صاعد بن أحمد الطلیطلی کتاب «التعریف، بأخبار علماء الأمم من العرب و العجم» و کتاب «جامع أخبار الأمم». و أبو عمر بن عبد البر له کتاب «القصد و الأمم، فی معرفة أخبار العرب و العجم». و عریب بن سعد القرطبی له کتاب «اختصار تاریخ الطبری» قد سعد باغتباط الناس به، و أضاف إلیه تاریخ إفریقیة و الأندلس، و لأحمد بن سعید بن محمد بن عبد اللّه بن الفیاض کتاب «العبر» و کتاب أبی بکر الحسین بن محمد الزبیدی فی أخبار النحویین و اللغویین بالمشرق و الأندلس»، و کتاب القاضی أبی الولید بن الفرضی فی «أخبار العلماء و الشعراء» و ما یتعلّق بذلک، و لیحیی بن حکم الغزال تاریخ ألّفه کلّه منظوما، کما صنع أیضا بعده أبو طالب المتنبی من جزیرة شقر فی التاریخ الذی أورد منه صاحب الذخیرة ما أورد، و کتاب «الذخیرة» لابن بسام فی جزیرة الأندلس لیس هذا مکان الإطناب فی تفصیلها و هی کالذیل علی حدائق ابن فرج، و فی عصرها صنّف الفتح کتاب «القلائد» و هو مملوء بلاغة، و المحاکمة بین الکتابین ذکرت بمکان آخر، و لصاحب القلائد کتاب «المطمح» و هو ثلاث نسخ: کبری، و وسطی، و صغری، یذکر فیها من الذین
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 25
ذکرهم فی القلائد و من غیرهم الذین کانوا قبل عصرهم، و کتاب «سمط الجمان، و سقط المرجان» لأبی عمرو بن الإمام بعد الکتابین المذکورین، ذکر من أخلّا بتوفیته حقّه من الفضلاء، و استدرک من أدرکه بعصره فی بقیة المائة السادسة، و ذیّل علیه- و إن کان ذیلا قصیرا- أبو بحر صفوان بن إدریس المرسی بکتاب «زاد المسافر» ذکر فیه جماعة ممّن أدرک المائة السابعة، و کتاب أبی محمد عبد اللّه بن إبراهیم الحجاری المسمی ب «المسهب، فی فضائل المغرب» صنّفه بعد «الذخیرة» و «القلائد» من أوّل ما عمرت الأندلس إلی عصره، و خرج فیه عن مقصد الکتابین إلی ذکر البلاد و خواصّها ممّا یختصّ بعلم الجغرافیا، و خلطه بالتاریخ و تفنّن الأدب علی ما هو مذکور فی غیر هذا المکان، و لم یصنّف فی الأندلس مثل کتابه، و لذلک فضّله المصنّف له عبد الملک بن سعید، و ذیّل علیه، ثم ذیّل علی ذلک ابناه أحمد و محمد ثم موسی بن محمد ثم علی بن موسی کاتب هذه النسخة و مکمّل کتاب «فلک الأدب، المحیط بحلی لسان العرب» المحتوی علی کتابی «المشرق، فی حلی المشرق» و «المغرب، فی حلی المغرب»؛ فیکفی الأندلس فی هذا الشأن تصنیف هذا الکتاب بین ستة أشخاص فی 115 سنة آخرها سنة 645، و قد احتوی علی جمیع ما یذاکر به و یحاضر بحلاه من فنون الأدب المختارة علی جهد الطاقة فی شرق و غرب علی النوع الذی هو مذکور فی غیر هذا الموضع، و من أغفلت التنبیه علی عصره، و غیر ذلک من المصنّفین المتقدّمی الذکر، فیطلب الملتمس منهم فی مکانه المنسوب إلیه کابن بسام فی شنترین، و الفتح فی إشبیلیة، و ابن الإمام فی إستجة، و الحجاری فی وادی الحجارة.
و أمّا ما جاء منثورا من فنون الأدب فکتاب «سراج الأدب» لأبی عبد اللّه بن أبی الخصال الشقوری رئیس کتّاب الأندلس، صنّفه علی منزع کتاب «النوادر» لأبی علی، و «زهر الآداب» للحصری، و کتاب «واجب الأدب» لوالدی موسی بن محمد بن سعید، و اسمه یغنی عن المراد به، و کتاب «اللآلئ» لأبی عبید البکری علی کتاب «الأمالی» لأبی علی البغدادی مفید فی الأدب، و کذلک کتاب «الاقتضاب، فی شرح أدب الکتّاب» لأبی محمد بن السیّد البطلیوسی، و أما شرح «سقط الزند» له فهو الغایة، و یکفی ذکره عند أرباب هذا الشأن و ثناؤهم علیه، و شروح أبی الحجّاج الأعلم لشعر المتنبی و الحماسة و غیر ذلک مشهورة.
و أما «کتب» النحو فلأهل الأندلس من الشروح علی «الجمل» ما یطول ذکره، فمنها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 26
شرح ابن خروف، و منها شرح الرّندی، و منها شرح شیخنا أبی الحسن بن عصفور الإشبیلی، و إلیه انتهت علوم النحو، و علیه الإحالة الآن من المشرق و المغرب، و قد أتیت له من إفریقیة بکتاب «المقرب» فی النحو فتلقّی بالیمین من کل جهة، و طار بجناح الاغتباط، و لشیخنا أبی علی الشلوبین کتاب «التوطئة» علی الجزولیة و هو مشهور، و لابن السیّد و ابن الطراوة و السّهیلی من التقییدات فی النحو ما هو مشهور عند أصحاب هذا الشأن معتمد علیه، و لأبی الحسن بن خروف شرح مشهور علی کتاب سیبویه.
و أما علم الجغرافیا فیکفی فی ذلک کتاب «المسالک و الممالک» لأبی عبید البکری الأونبی و کتاب «معجم ما استعجم من البقاع و الأماکن»، و فی کتاب «المسهب» للحجاری فی هذا الشأن و تذییلنا علیه فی هذا الکتاب الجامع ما جمع زبد الأولین و الآخرین فی ذلک.
و أما «کتب علم» الموسیقی فکتاب أبی بکر بن باجة الغرناطی فی ذلک فیه کفایة و هو فی المغرب بمنزلة أبی نصر الفارابی بالمشرق، و إلیه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التی علیها الاعتماد، و لیحیی الخدجّ المرسی کتاب «الأغانی الأندلسیة» علی منزع «الأغانی» لأبی الفرج، و هو ممّن أدرک المائة السابعة.
و أما «کتب» الطب فالمشهور بأیدی الناس الآن فی المغرب، و قد سار أیضا فی المشرق لنبله، کتاب «التیسیر» لعبد الملک بن أبی العلاء بن زهر، و له کتاب «الأغذیة» أیضا مشهور مغتبط به فی المغرب و المشرق، و لأبی العباس بن الرومیة الإشبیلی من علماء عصرنا بهذا الشأن کتاب فی الأدویة المفردة، و قد جمع أبو محمد المالقی الساکن الآن بقاهرة مصر کتابا فی هذا الشأن حشر علیه ما سمع به فقدر علیه من تصانیف الأدویة المفردة ککتاب الغافقی و کتاب الزهراوی و کتاب الشریف الإدریسی الصقلی و غیرها و ضبطه علی حروف المعجم، و هو النهایة فی مقصده.
و أما «کتب» الفلسفة فإمامها فی عصرنا أبو الولید بن رشد القرطبی، و له فیها تصانیف جحدها لمّا رأی انحراف منصور بنی عبد المؤمن عن هذا العلم، و سجنه بسببها، و کذلک ابن
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 27
حبیب الذی قتله المأمون بن المنصور المذکور علی هذا العلم بإشبیلیة، و هو علم ممقوت بالأندلس لا یستطیع صاحبه إظهاره، فلذلک تخفی تصانیفه.
و أما «کتب» التنجیم فلابن زید الأسقف القرطبی فیه تصانیف، و کان مختصّا بالمستنصر بن الناصر المروانی، و له ألّف کتاب «تفصیل الأزمان، و مصالح الأبدان» و فیه من ذکر منازل القمر، و ما یتعلّق بذلک ما یستحسن مقصده و تقریبه، و کان مطرف الإشبیلی فی عصرنا قد اشتغل بالتصنیف فی هذا الشأن، إلّا أنّ أهل بلده کانوا ینسبونه إلی الزندقة بسبب اعتکافه علی هذا الشأن فکان لا یظهر شیئا مما یصنّف.

[رسالة الشقندی فی فضل الأندلس و الأندلسیین]

ثم قال ابن سعید: أخبرنی والدی قال: کنت یوما فی مجلس صاحب سبتة أبی یحیی بن أبی زکریا صهر ناصر بنی عبد المؤمن، فجری بین أبی الولید الشّقندی و بین أبی یحیی بن المعلم الطنجی نزاع فی التفضیل بین البرّین، فقال الشقندی: لو لا الأندلس لم یذکر برّ العدوة، و لا سارت عنه فضیلة، و لو لا التوقیر للمجلس لقلت ما تعلم، فقال الأمیر أبو یحیی: أ ترید أن تقول کون أهل برّنا عربا و أهل برّکم بربر؟ فقال: حاش للّه! فقال الأمیر: و اللّه ما أردت غیر هذا، فظهر فی وجهه أنه أراد ذلک، فقال ابن المعلم: أ تقول هذا و ما الملک و الفضل إلّا من برّ العدوة، فقال الأمیر: الرأی عندی أن یعمل کل واحد منکما رسالة فی تفضیل برّه، فالکلام هنا یطول و یمرّ ضیاعا، و أرجو إذا أخلیتما له فکر کما یصدر عنکما ما یحسن تخلیده، ففعلا ذلک.
فکانت رسالة الشقندی، الحمد للّه الذی جعل لمن یفخر بالأندلس أن یتکلّم مل‌ء فیه، و یطنب ما شاء فلا یجد من یعترض علیه و لا من یثنیه، إذ لا یقال للنهار: یا مظلم، و لا لوجه النعیم: یا قبیح: [البسیط]
و قد وجدت مکان القول ذا سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل
أحمده علی أن جعلنی ممّن أنشأته، و حبانی بأن کنت ممّن أظهرته، فامتدّ فی الفخر باعی، و أعاننی علی الفضل کرم طباعی، و أصلّی علی سیّدنا محمد نبیّه الکریم، و علی آله و صحبه الأکرمین، و أسلّم تسلیما.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 28
أمّا بعد؛ فإنه حرّک منّی ساکنا، و ملأ منی فارغا، فخرجت عن سجیتی فی الإغضاء، مکرها إلی الحمیّة و الإباء، منازع فی فضل الأندلس أراد أن یخرق الإجماع، و یأتی بما لم تقبله النواظر و الأسماع، إذ من رأی و من سمع لا یجوز عنده ذلک، و لا یضلّه من تاه فی تلک المسالک، رام أن یفضل برّ العدوة علی برّ الأندلس فرام أن یفضل علی الیمین الیسار، و یقول:
اللیل أضوأ من النهار، فیا عجبا کیف قابل العوالی بالزّجاج، و صادم الصّفاة بالزّجاج، فیا من نفخ فی غیر ضرم، و رام صید البزاة بالرخم، و کیف تتکثر بما جعله اللّه قلیلا، و تتعزّز بما حکم اللّه أن یکون ذلیلا؟ ما هذه المباهتة التی لا تجوز؟ و کیف تبدی أمام الفتاة العجوز؟ سل العیون إلی وجه من تمیل؟ و استخبر الأسماع إلی حدیث من تصغی؟: [الطویل]
لشتّان ما بین الیزیدین فی الندی یزید سلیم و الأغرّ بن حاتم
اقن حیاءک أیها المغرّد بالنحیب، المتزیّن بالخلف المتحبّب إلی الغوانی بالمشیب الخضیب، أین عزب عقلک؟ و کیف نکص علی عقبه فهمک و لبّک؟ أبلغت العصبیة من قلبک، أن تطمس علی نوری بصرک و لبّک؟ أما قولک «الملوک منّا» فقد کان الملوک منّا أیضا، و ما نحن إلّا کما قال الشاعر: [المتقارب]
فیوم علینا و یوم لنا و یوم نساء و یوم نسرّ
إن کان الآن کرسیّ جمیع بلاد المغرب عندکم بخلافة بنی عبد المؤمن- أدامها اللّه تعالی!- فقد کان عندنا بخلافة القرشیین الذین یقول فیهم مشرقیهم: [الطویل]
و إنّی من قوم کرام أعزّة لأقدامهم صیغت رؤوس المنابر
خلائف فی الإسلام فی الشّرک قادة بهم و إلیهم فخر کلّ مفاخر
و یقول مغربیهم:
ألسنا بنی مروان کیف تبدّلت بنا الحال أو دارت علینا الدوائر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 29
إذا ولد المولود منّا تهلّلت له الأرض و اهتزّت إلیه المنابر
و قد نشأ فی مدّتهم من الفضلاء و الشعراء ما اشتهر فی الآفاق، و صار أثبت فی صحائف الأیام، من الأطواق فی أعناق الحمام: [الطویل]
و سار مسیر الشمس فی کلّ بلدة و هبّ هبوب الریح فی البرّ و البحر
و لم تزل ملوکهم فی الاتساق کما قیل: [البسیط]
إنّ الخلافة فیکم لم تزل نسقا کالعقد منظومة فیه فرائده
إلی أن حکم اللّه بنثر سلکهم، و ذهاب ملکهم، فذهبوا و ذهبت أخبارهم، و درسوا و درست آثارهم: [البسیط]
جمال ذی الأرض کانوا فی الحیاة و هم بعد الممات جمال الکتب و السّیر
فکم مکرمة أنالوها، و کم عثرة أقالوها: [الرجز]
و إنّما المرء حدیث بعده فکن حدیثا حسنا لمن وعی
و کان من حسنات ملکهم المنصور بن أبی عامر، و ما أدراک الذی بلغ فی بلاد النصاری غازیا إلی البحر الأخضر، و لم یترک أسیرا فی بلادهم من المسلمین، و لم یبرح فی جیش الهرقل و عزمة الإسکندر، و لمّا قضی نحبه کتب علی قبره: [الکامل]
آثاره تنبیک عن أوصافه حتی کأنّک بالعیان تراه
تاللّه لا یأتی الزمان بمثله أبدا و لا یحمی الثغور سواه
و قد قیل فیه من الأمداح، و ألّف له من الکتب، ما سمعت و علمت، حتی قصد من بغداد، و عمّ خیره و شرّه أقاصی البلاد، و لمّا ثار بعد انتثار هذا النظام ملوک الطوائف و تفرّقوا فی البلاد، و کان فی تفرّقهم اجتماع علی النعم لفضلاء العباد، إذ نفّقوا سوق العلوم، و تباروا فی المثوبة علی المنثور و المنظوم، فما کان أعظم مباهاتهم إلّا قول: العالم الفلانی عند
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 30
الملک الفلانی، و الشاعر الفلانی مختصّ بالملک الفلانی، و لیس منهم إلّا من بذل وسعه فی المکارم، و نبهت الأمداح من مآثره ما لیس طول الدهر بنائم، و قد سمعت ما کان من الفتیان العامریّة مجاهد و منذر و خیران، و سمعت عن الملوک العربیة: بنو عباد و بنو صمادح و بنو الأفطس و بنو ذی النون و بنو هود، کلّ منهم قد خلّد فیه من الأمداح، ما لو مدح به اللیل لصار أضوأ من الصباح، و لم تزل الشعراء تتهادی بینهم تهادی النّواسم بین الرّیاض، و تفتک فی أموالهم فتکة البرّاض، حتی إنّ أحد شعرائهم بلغ به ما رآه من منافستهم فی أمداحه أن حلف أن لا یمدح أحدا منهم بقصیدة إلّا بمائة دینار، و أنّ المعتضد بن عباد علی ما اشتهر من سطوته و إفراط هیبته کلّفه أن یمدحه بقصیدة فأبی حتی یعطیه ما شرطه فی قسمه، و من أعظم ما یحکی من المکارم التی لم نسمع لها أختا أنّ أبا غالب اللغوی ألّف کتابا، فبذل له مجاهد العامری ملک دانیة ألف دینار و مرکوبا و کسا علی أن یجعل الکتاب باسمه، فلم یقبل ذلک أبو غالب، و قال: کتاب ألّفته لینتفع به الناس، و أخلّد فیه همّتی، أجعل فی صدره اسم غیری، و أصرف الفخر له، لا أفعل ذلک، فلمّا بلغ هذا مجاهدا استحسن أنفته و همّته، و أضعف له العطاء، و قال: هو فی حلّ من أن یذکرنی فیه، لا نصدّه عن غرضه. و إن کان کلّ ملوک الأندلس المعروفین بملوک الطوائف قد تنازعوا فی ملاءة الحضر، فإنی أخصّ منهم بنی عباد، کما قال اللّه تعالی: فِیهِما فاکِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ (68) [سورة الرحمن، الآیة: 68] فإنّ الأیام لم تزل بهم کأعیاد، و کان لهم من الحنو علی الأدب، ما لم یقم به بنو حمدان فی حلب، و کانوا هم و بنوهم و وزراؤهم صدورا فی بلاغتی النظم و النثر، مشارکین فی فنون العلم، و آثارهم مذکورة، و أخبارهم مشهورة، و قد خلّدوا من المکارم التامّة، ما هو متردّد فی ألسن الخاصّة و العامّة، و بالله إلّا سمّیت لی بمن تفخرون قبل هذه الدعوة المهدیة، أبسقوت الحاجب؟ أم بصالح البرغواطی؟ أم بیوسف بن تاشفین الذی لولا توسّط ابن عباد لشعراء الأندلس فی مدحه ما أجروا له ذکرا، و لا رفعوا لملکه قدرا؟ و بعد ما ذکروه بوساطة المعتمد بن عباد فإنّ المعتمد قال له، و قد أنشدوه: أ یعلم أمیر المسلمین ما قالوه؟ قال: لا أعلم و لکنهم یطلبون الخبز، و لمّا انصرف عن المعتمد إلی حضرة ملکه کتب له المعتمد رسالة فیها: [البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 31
بنتم و بنّا فما ابتلّت جوانحنا شوقا إلیکم و لا جفّت مآقینا
حالت لفقدکم أیامنا فغدت سودا و کانت بکم بیضا لیالینا
فلمّا قری‌ء علیه هذان البیتان قال للقاری‌ء: یطلب منّا جواری سودا و بیضا، قال: لا یا مولانا، ما أراد إلّا أنّ لیله کان بقرب أمیر المسلمین نهارا؛ لأنّ لیالی السرور بیض، فعاد نهاره ببعده لیلا لأنّ أیام الحزن لیال سود، فقال: و اللّه جید، أکتب له فی جوابه: إنّ دموعنا تجری علیه، و رؤوسنا توجعنا من بعده، فلیت العباس بن الأحنف قد عاش حتی یتعلم من هذا الفاضل رقة الشوق: [الطویل]
و لا تنکرن مهما رأیت مقدّما علی حمر بغلا فثمّ تناسب
فاسکتوا، فلو لا هذه الدولة، لما کان لکم علی الناس صولة: [الوافر]
و إنّ الورد یقطف من قتاد و إنّ النار تقبس من رماد
و إنک إن تعرّضت للمفاضلة بالعلماء فأخبرنی: هل لکم فی الفقه مثل عبد الملک بن حبیب الذی یعمل بأقواله إلی الآن، و مثل أبی الولید الباجی، و مثل أبی بکر بن العربی، و مثل أبی الولید بن رشد الأکبر، و مثل أبی الولید بن رشد الأصغر؟ و هو ابن ابن الأکبر، نجوم الإسلام، و مصابیح شریعة محمد علیه السلام، و هل لکم فی الحفظ مثل أبی محمد بن حزم الذی زهد فی الوزارة و المال و مال إلی رتبة العلم، و رآها فوق کل رتبة، و قال و قد احترقت کتبه: [الطویل]
دعونی من إحراق رقّ و کاغد و قولوا بعلم کی یری الناس من یدری
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذی تضمّنه القرطاس، إذ هو فی صدری
و مثل أبی عمر بن عبد البر صاحب «الاستیعاب» و «التمهید» و مثل أبی بکر بن الجد حافظ الأندلس فی هذه الدولة، و هل لکم فی حفّاظ اللغة کابن سیده صاحب کتاب «المحکم»
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 32
و کتاب «السماء و العالم» الذی إن أعمی اللّه بصره فما أعمی بصیرته، و هل لکم فی النحو مثل أبی محمد بن السّید و تصانیفه؟ و مثل ابن الطراوة، و مثل أبی علی الشلوبین الذی بین أظهرنا الآن، و قد سار فی المغارب و المشارق ذکره، و هل لکم فی علوم اللحون و الفلسفة کابن باجة.
و هل لکم فی علم النجوم و الهندسة و الفلسفة ملک کالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة، فإنه کان فی ذلک آیة؟ و هل لکم فی الطب مثل ابن طفیل صاحب رسالة «حی بن یقظان» المقدم فی علم الفلسفة، و مثل بنی زهر أبی العلاء ثم ابنه عبد الملک ثم ابنه أبی بکر ثلاثة علی نسق؟
و هل لکم فی علم التاریخ کابن حیّان صاحب «المتین» و «المقتبس»؟ و هل عندکم فی رؤساء علم الأدب مثل أبی عمر بن عبد ربه صاحب «العقد»؟ و هل لکم فی الاعتناء بتخلید مآثر فضلاء إقلیمه و الاجتهاد فی حشد محاسنهم مثل ابن بسّام صاحب «الذخیرة»؟ و هب أنه کان یکون لکم مثله فما تصنع الکیّسة فی البیت الفارغ؟ و هل لکم فی بلاغة النثر کالفتح بن عبید اللّه الذی إن مدح رفع، و إن ذمّ وضع، و قد ظهر له من ذلک فی کتاب «القلائد» ما هو أعدل شاهد، و مثل ابن أبی الخصال فی ترسّله، و مثل أبی الحسن سهل بن مالک الذی بین أظهرنا الآن فی خطبه، و هل لکم فی الشعر ملک مثل المعتمد بن عباد فی قوله: [الطویل]
و لیل بسدّ النهر أنسا قطعته بذات سوار مثل منعطف النهر
نضت بردها عن غصن بان منعّم فیا حسن ما انشقّ الکمام عن الزهر
و قوله فی أبیه: [البسیط]
سمیدع یهب الآلاف مبتدئا و بعد ذلک یلفی و هو یعتذر
له ید کلّ جبّار یقبّلها لو لا نداها لقلنا إنها الحجر
و مثل ابنه الراضی فی قوله: [البسیط]
مرّوا بنا أصلا من غیر میعاد فأوقدوا نار قلبی أیّ إیقاد
لا غرو أن زاد فی وجدی مرورهم فرؤیة الماء تذکی غلّة الصادی
و هل لکم ملک ألّف فی فنون الأدب کتابا فی نحو مائة مجلّدة مثل المظفر بن
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 33
الأفطس ملک بطلیوس و لم تشغله الحروب و لا المملکة عن همّة الأدب؟ و هل لکم من الوزراء مثل ابن عمار فی قصیدته التی سارت أشرد من مثل، و أحبّ إلی الأسماع من لقاء حبیب وصل؟ التی منها: [الکامل]
أثمرت رمحک من رؤوس ملوکهم لمّا رأیت الغصن یعشق مثمرا
و صبغت درعک من دماء کماتهم لمّا رأیت الحسن یلبس أحمرا
و مثل ابن زیدون فی قصیدته التی لم یقل مع طولها فی التشبیب أرقّ منها، و هی التی یقول فیها: [البسیط]
کأنّنا لم نبت و الوصل ثالثنا و السعد قد غضّ من أجفان واشینا
سرّان فی خاطر الظّلماء یکتمنا حتی یکاد لسان الصبح یفشینا
و هل لکم من الشعراء مثل ابن وهبون فی بدیهته بین یدی المعتمد بن عباد و إصابته الغرض حین استحسن المعتمد قول المتنبی: [الطویل]
إذا ظفرت منک المطیّ بنظرة أثاب بها معیی المطیّ و رازمه
فارتجل: [الطویل]
لئن جاد شعر ابن الحسین فإنما تجید العطایا، و اللّها تفتح اللّها
تنبّأ عجبا بالقریض و لو دری بأنک تروی شعره لتألّها
و هل لکم مثل شاعر الأندلس ابن درّاج الذی قال فیه الثعالبی «هو بالصقع الأندلسی کالمتنبی بصقع الشام الذی إن مدح الملوک قال مثل قوله: [الطویل]
أ لم تعلمی أنّ الثواء هو التّوی و أنّ بیوت العاجزین قبور
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 34
و أنّ خطیرات المهالک ضمّن لراکبها أنّ الجزاء خطیر
تخوّفنی طول السّفار و إنّه بتقبیل کفّ العامریّ جدیر
مجیر الهدی و الدین من کلّ ملحد و لیس علیه للضلال مجیر
تلاقت علیه من تمیم و یعرب شموس تلاقت فی العلا و بدور
هم یستقلّون الحیاة لراغب و یستصغرون الخطب و هو کبیر
و لمّا توافوا للسّلام و رفّعت عن الشمس فی أفق الشروق ستور
و قد قام من زرق الأسنّة دونها صفوف و من بیض السیوف سطور
رأوا طاعة الرحمن کیف اعتزازها و آیات صنع اللّه کیف تنیر
و کیف استوی بالبر و البحر مجلس و قام بعب‌ء الراسیات سریر
فجاؤوا عجالا و القلوب خوافق و ولّوا بطاء و النواظر صور
یقولون و الإجلال یخرس ألسنا و حازت عیون ملأها و صدور
لقد حاط أعلام الهدی بک حائط و قدّر فیک المکرمات قدیر
و أنا أقسم بما حازته هذه الأبیات، من غرائب الآیات، لو سمع هذا المدح سید بنی حمدان لسلا به عن مدح شاعره الذی ساد کل شاعر، و رأی أن هذه الطریقة أولی بمدح الملوک من کل ما تفنّن فیه کل ناظم و ناثر.
[الکامل]
قالت و قد مزج الفراق مدامعا بمدامع و ترائبا بترائب
أتفرّق حتی بمنزل غربة؟ کم نحن للأیام نهبة ناهب
و لئن جنیت علیک ترحة راحل فأنا الزعیم لها بفرحة آئب
هل أبصرت عیناک بدرا طالعا فی الأفق إلّا من هلال غارب
و إن شبّه قال: [الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 35
کمعاقل من سوسن قد شیّدت أیدی الربیع بناءها فوق القضب
شرفاتها من فضّة و حماتها حول الأمیر لهم سیوف من ذهب
و هل من شعرائکم من تعرّض لذکر العفّة فاستنبط ما یسحر به السحر، و یطیب به الزهر، و هو أبو عمر بن فرج فی قوله: [الوافر]
و طائعة الوصال عففت عنها و ما الشیطان فیها بالمطاع
بدت فی اللیل سافرة فباتت دیاجی اللیل سافرة القناع
و ما من لحظة إلّا و فیها إلی فتن القلوب لها دواعی
فملّکت النّهی جمحات شوقی لأجری فی العفاف علی طباعی
و بتّ بها مبیت السّقب یظما فیمنعه الکعام من الرضاع
کذاک الروض ما فیه لمثلی سوی نظر و شمّ من متاع
و لست من السوائم مهملات فأتّخذ الریاض من المراعی
و هل بلغ أحد من مشبّهی شعرائکم أن یقول مثل قول أبی جعفر اللمائی: [الرمل]
عارض أقبل فی جنح الدّجا یتهادی کتهادی ذی الوجی
بدّدت ریح الصّبا لؤلؤه فانبری یوقد عنها سرجا
و مثل قول أبی حفص بن برد: [المدید]
و کأنّ اللیل حین لوی ذاهبا و الصبح قد لاحا
کلّة سوداء أحرقها عامد أسرج مصباحا
و هل منکم من وصف ما تحدثه الخمرة من الحمرة علی الوجنة بمثل قول الشریف الطلیق: [الرمل]
أصبحت شمسا وفوه مغربا و ید الساقی المحییّ مشرقا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 36
و إذا ما غربت فی فمه ترکت فی الخدّ منه شفقا
بمثل هذا الشعر فلیطلق اللسان، و یفخر کل إنسان.
و هل منکم من عمد إلی قول امرئ القیس: [الطویل]
سموت إلیها بعد ما نام أهلها سموّ حباب الماء حالا علی حال
فاختلسه اختلاس النسیم لنفحة الأزهار، و استلبه بلطف استلاب الشمس لرضاب طلّ الأسحار، فلطفه تلطیفا یمتزج بالأرواح، و یغنی فی الارتیاح عن شرب الراح، و هو ابن شهید فی قوله: [المتقارب]
و لمّا تملّأ من سکره و نام و نامت عیون الحرس
دنوت إلیه علی رقبة دنوّ رفیق دری ما التمس
أدبّ إلیه دبیب الکری و أسمو إلیه سموّ النّفس
أقبّل منه بیاض الطّلی و أرشف منه سواد اللّعس
فبتّ به لیلتی ناعما إلی أن تبسّم ثغر الغلس
و قد تناول هذا المعنی ابن أبی ربیعة علی عظم قدره و تقدّمه فعارض الصّهیل بالنّهاق، و قابل العذب بالزّعاق، فقال ولیته سکت: [الطویل]
و نفّضت عنّی العین أقبلت مشیة ال حباب و رکنی خیفة القوم أزور
و أنا أقسم لو زار جمل محبوبة له لکان ألطف فی الزیارة من هذا الأزور الرکن المنفض للعیون، لکنه إن أساء هنا فقد أحسن فی قوله: [السریع]
قالت لقد أعییتنا حجّة فأت إذا ما هجع الساهر
و اسقط علینا کسقوط الندی لیلة لا ناه و لا زاجر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 37
و للّه درّ محمد بن سفر أحد شعرائنا المتأخّرین عصرا، المتقدّمین قدرا، حیث نقل السعی إلی محبوبته فقال ولیته لم یزل یقول مثل هذا، فبمثله ینبغی أن یتکلّم، و مثله یلیق أن یدوّن:
[الطویل]
و واعدتها و الشمس تجنح للنوی بزورتها شمسا و بدر الدجی یسری
فجاءت کما یمشی سنا الصبح فی الدجی و طورا کما مرّ النسیم علی النهر
عطّرت الآفاق حولی فأشعرت بمقدمها و العرف یشعر بالزهر
فتابعت بالتقبیل آثار سعیها کما یتقصّی قاری‌ء أحرف السطر
فبتّ بها و اللیل قد نام و الهوی تنبّه بین الغصن و الحقف و البدر
أعانقها طورا و ألثم تارة إلی أن دعتنا للنوی رایة الفجر
ففضّت عقودا للتعانق بیننا فیا لیلة القدر اترکی ساعة النفر
و هل منکم من قیّد بالإحسان فأطلق لسانه الشکر، فقال و هو ابن اللّبّانة: [الطویل]
بنفسی و أهلی جیرة ما استعنتهم علی الدهر إلّا و انثنیت معانا
أراشوا جناحی ثم بلّوه بالندی فلم أستطع من أرضهم طیرانا
و من یقول و قد قطع عنه ممدوحه ما کان یعتاده منه من الإحسان، فقابل ذلک بقطع مدحه له، فبلغه أنه عتبه علی ذلک، و هو ابن وضّاح: [الکامل]
هل کنت إلّا طائرا بثنائکم فی دوح مجدکم أقوم و أقعد
إن تسلبونی ریشکم و تقلّصوا عنّی ظلالکم فکیف أغرّد
و هل منکم شاعر رأی الناس قد ضجّوا من سماع تشبیه الثغر بالأقاح، و تشبیه الزهر بالنجوم، و تشبیه الخدود بالشقائق، فتلطّف لذلک فی أن یأتی به فی منزع یصیّر خلقه فی الأسماع جدیدا، و کلیله فی الأفکار حدیدا، فأغرب أحسن إغراب، و أعرب عن فهمه بحسن تخیّله أنبل إعراب، و هو ابن الزقاق: [المنسرح]
و أغید طاف بالکؤوس ضحی و حثّها و الصباح قد وضحا
و الروض أهدی لنا شقائقه و آسه العنبریّ قد نفحا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 38
قلنا: و أین الأقاح؟ قال لنا: أودعته ثغر من سقی القدحا
فظلّ ساقی المدام یجحد ما قال فلمّا تبسّم افتضحا
و قال: [الوافر]
أدیراها علی الروض المندّی و حکم الصبح فی الظّلماء ماضی
و کأس الریح تنظر عن حباب ینوب لنا عن الحدق المراض
و ما غربت نجوم الأفق لکن نقلن من السماء إلی الریاض
و قال: [الخفیف]
و ریاض من الشقائق أضحت یتهادی بها نسیم الریاح
زرتها و الغمام یجلد منها زهرات تروق لون الراح
قل ما ذنبها؟ فقال مجیبا سرقت حمرة الخدود الملاح
فانظر کیف زاحم بهذا الاختیال المخترعین؟ و کیف سابق بهذا المبتدعین؟
و هل منکم من برع فی أوصاف الریاض و المیاه و ما یتعلّق بذلک فانتهی إلی غایة السباق، و فضح کل من طمع بعده فی اللحاق، و هو أبو إسحاق بن خفاجة القائل: [الکامل]
و عشیّ أنس أضجعتنی نشوة فیها یمهّد مضجعی و یدمّث
خلعت علیّ بها الأراکة ظلّها و الغصن یصغی و الحمام یحدّث
و الشمس تجنح للغروب مریضة و الرعد یرقی و الغمامة تنفث
و القائل: [الکامل]
للّه نهر سال فی بطحاء أشهی ورودا من لمی الحسناء
متعطّف مثل السّوار کأنه و الزهر یکنفه مجرّ سماء
قد رقّ حتی ظنّ قرصا مفرغا من فضّة فی بردة خضراء
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 39
و غدت تحفّ به الغصون کأنها هدب تحفّ بمقلة زرقاء
و لطالما عاطیت فیه مدامة صفراء تخضب أیدی النّدماء
و الریح تعبث بالغصون و قد جری ذهب الأصیل علی لجین الماء
و القائل: [الکامل]
حثّ المدامة و النسیم علیل و الظّلّ خفّاق الرّواق ظلیل
و الروض مهتزّ المعاطف نعمة نشوان تعطفه الصّبا فیمیل
ریّان فضّضه الندی ثم انجلی عنه فذهّب صفحتیه أصیل
و القائل: [الکامل]
أذن الغمام بدیمة و عقار فامزج لجینا منهما بنضار
و اربع علی حکم الربیع بأجرع هزج الندامی مفصح الأطیار
متقسّم الألحاظ بین محاسن من ردف رابیة و خصر قرار
نثرت بحجر الروض فیه ید الصّبا درر الندی و دراهم الأنوار
و هفت بتغرید هنالک أیکة خفّاقة بمهبّ ریح عرار
هزّت له أعطافها و لربما خلعت علیه ملاءة النوّار
و القائل: [المنسرح]
سقیا لها من بطاح خزّ و دوح نهر بها مطلّ
إذ لا تری غیر وجه شمس أطلّ فیه عذار ظلّ
و القائل: [الکامل]
نهر کما سال اللّمی سلسال و صبا بلیل ذیلها مکسال
و مهبّ نفحة روضة مطلولة فی جانبیها للنسیم مجال
غازلتها و الأقحوانة مبسم و الآس صدغ و البنفسج خال
و القائل: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 40
و ساق کحیل اللحظ فی شأو حسنه جماح و بالصبر الجمیل حران
تری للصّبا نارا بخدّیه لم یثر لها من سوادی عارضیه دخان
سقاها و قد لاح الهلال عشیة کما اعوجّ فی درع الکمیّ سنان
عقارا نماها الکرم فهی کریمة و لم تزن بابن المزن فهی حصان
و قد جال من جون الغمامة أدهم له البرق سوط و الشّمال عنان
و صمّخ درع الشمس نحر حدیقة علیه من الطلّ السقیط جمان
و نمّت بأسرار الریاض خمیلة لها النّور ثغر و النسیم لسان
و القائل فی وصف فرس و لم یخرج عن طریقته: [السریع]
و أشقر تضرم منه الوغی بشعلة من شعل الباس
من جلّنار ناضر لونه و أذنه من ورق الآس
یطلع للغرّة فی شقرة حبابة تضحک فی کاس
و هل منکم من یقول منادما لندیمه و قد باکر روضا بمحبوب و کأس، فألفاه قد غطّی محاسنه ضباب، فخاف أن یکسل ندیمه عن الوصول إذا رأی ذلک، و هو أبو الحسن بن بسّام:
[الوافر]
ألا بادر فما ثان سوی ما عهدت الکأس و البدر التمام
و لا تکسل برؤیته ضبابا تغصّ به الحدیقة و المدام
فإنّ الروض ملتثم إلی أن توافیه فینحطّ اللثام
و هل منکم من تغزّل فی غلام حائک بمثل قول الرصافی: [البسیط]
قالوا و قد أکثروا فی حبّه عذلی لو لم تهم بمذال القدر مبتذل
فقلت لو کان أمری فی الصّبابة لی لاخترت ذاک و لکن لیس ذلک لی
علّقته حببیّ الثّغر عاطره حلو اللّمی ساحر الأجفان و المقل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 41
غزیّل لم تزل فی الغزل جائلة بناته جولان الفکر فی الغزل
جذلان تلعب بالمحواک أنمله علی السّدی لعب الأیام بالأمل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص41
ضمّا بکفّیه أو فحصا بأخمصه تخبّط الظبی فی أشراک محتبل
و مثل قوله فی تغلّب مسکة الظلام علی خلوق الأصیل: [الرمل]
و عشیّ رائق منظره قد قطعناه علی صرف الشّمول
و کأنّ الشمس فی أثنائه ألصقت بالأرض خدّا للنزول
و الصّبا ترفع أذیال الرّبا و محیّا الجوّ کالنهر الصقیل
حبّذا منزلنا مغتبقا حیث لا یطرقنا غیر الهدیل
طائر شاد و غصن منثن و الدّجی تشرب صهباء الأصیل
و هل منکم من یقول فی موشّح فیما یجرّه هذا المعنی:
رداء الأصیل تطویه کفّ الظلام
و هو أبو قاسم بن الفرس.
و هل منکم من وصف غلاما جمیل الصورة راقصا بمثل قول ابن خروف: [الکامل]
و منزع الحرکات یلعب بالنّهی لبس المحاسن عند خلع لباسه
متأوّدا کالغصن وسط ریاضه متلاعبا کالظبی عند کناسه
بالعقل یلعب مدبرا أو مقبلا کالدهر یلعب کیف شاء بناسه
و یضمّ للقدمین منه رأسه کالسیف ضمّ ذبابه لریاسه
و هل منکم من وصف خالا بأحسن من قول النشار: [الوافر]
ألوّامی علی کلفی بیحیی متی من حبّه ألقی سراحا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 42
و بین الخدّ و الشفتین خال کزنجیّ أتی روضا صباحا
تحیّر فی جناه فلیس یدری أ یجنی الورد أم یجنی الأقاحا
و هل منکم الذی اهتدی إلی معنی فی لثم وردة الخدّ ورشف رضاب الثغر لم یهتد إلیه أحد غیره، و هو أبو الحسن سلام بن سلام المالقی فی قوله: [الکامل]
لمّا ظفرت بلیلة من وصله و الصّبّ غیر الوصل لا یشفیه
أنضجت وردة خدّه بتنفّسی و طفقت أرشف ماءها من فیه
و هل منکم من هجا من غیر النطق بإقذاع فبلغ ما لم یبلغه المقذع، و هو المخزومی فی قوله: [مخلع البسیط]
یودّ عیسی نزول عیسی عساه من دائه یریح
و موضع الداء منه عضو لا یرتضی مسّه المسیح
و لمّا أقذع أتی أیضا بأبدع، فقال: [السریع]
یا فارس الخیل و لا فارس إلّا علی متن جواد الخصی
زدت علی موسی و آیاته تفجّر الماء و تخفی العصا
و هل منکم من مدح بمعنی فبلغ به النهایة من المدح، ثم نقله إلی الهجاء فبلغ به النهایة من الذمّ، و هو البکی فی قوله مادحا: [الکامل]
قوم لهم شرف العلا فی حمیر و إذا انتموا لمتونة فهم هم
لمّا حووا أحراز کلّ فضیلة غلب الحیاء علیهم فتلثّموا
و فی قوله هاجیا: [الکامل]
إنّ المرابط باخل بنواله لکنه بعیاله یتکرّم
الوجه منه مخلّق لقبیح ما یأتیه فهو من أجله یتلثّم
و هل منکم من هجا أشتر العین بمثل قول أبی العباس بن حنون الإشبیلی: [الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 43
یا طلعة أبدت قبائح جمّة فالکلّ منها إن نظرت قبیح
أ بعینک الشّتراء عین ثرّة منها ترقرق دمعها المسفوح
شترت فقلنا: زورق فی لجّة مالت بإحدی دفّتیه الریح
و کأنما إنسانها ملّاحها قد خاف من غرق فظلّ یمیح
و هل منکم من حضر مع عدوّ له جاحد لما فعله معه من الخیر، و أمامهما زجاجة سوداء فیها خمر، فقال له الحسود المذکور: إن کنت شاعرا فقل فی هذه، فقال ارتجالا، و هو ابن مجبر: [الطویل]
سأشکو إلی النّدمان أمر زجاجة تردّت بثوب حالک اللون أسحم
نصبّ بها شمس المدامة بیننا فتغرب فی جنح من اللیل مظلم
و تجحد أنوار الحمیّا بلونها کقلب حسود جاحد ید منعم
و هل منکم من قال لفاضل جمع بینه و بین فاضل، و هو أبو جعفر الذهبی: [الخفیف]
أیها الفاضل الذی قد هدانی نحو من قد حمدته باختبار
شکر اللّه ما أتیت و جازا ک و لا زلت نجم هدی لساری
أیّ برق أفاد أیّ غمام و صباح أدّی لضوء نهار
و إذا ما غدا النسیم دلیلی لم یحلنی إلّا علی الأزهار
و هل منکم أعمی قال فی ذهاب بصره و سواد شعره، و هو التّطیلی: [البسیط]
أما اشتفت منّی الأیام فی وطنی حتی تضایق فیما عنّ من وطری
و لا قضت من سواد العین حاجتها حتی تکرّ علی ما طلّ فی الشّعر
و هل منکم الذی طار فی مشارق الأرض و مغاربها قوله، و هو أبو القاسم محمد بن هانی‌ء الإلبیری: [الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 44
فتقت لکم ریح الجلاد بعنبر و أمدّکم فلق الصباح المسفر
و جنیتم ثمر الوقائع یانعا بالنصر من ورق الحدید الأخضر
و قد سمعت فائیته فی النجوم، و لو لا طولها لأنشدتها هنا، فإنها أحسن ما قیل فی معناها.
و هل منکم من قال فی الزهد مثل قول أبی وهب العباسی القرطبی: [الخفیف]
أنا فی حالتی التی قد ترانی إن تأمّلت أحسن الناس حالا
منزلی حیث شئت من مستقرّ ال أرض أسقی من المیاه زلالا
لیس لی کسوة أخاف علیها من مغیر و لن تری لی مالا
أجعل الساعد الیمین و سادی ثم أثنی إذا انقلبت الشمالا
لیس لی والد و لا مولود لا و لا حزت مذ عقلت عیالا
قد تلذّذت حقبة بأمور فتأمّلتها فکانت خیالا
و مثل قول أبی محمد عبد اللّه بن لعسال الطلیطلی: [مجزوء الرمل]
أنظر الدنیا فإن أب صرتها شیئا یدوم
فاغد منها فی أمان إن یساعدک النعیم
و إذا أبصرتها من ک علی کره تهیم
فاسل عنها و اطّرحها و ارتحل حیث تقیم
و هل نشأ عندکم من النساء مثل ولّادة المروانیة التی تقول مداعبة للوزیر ابن زیدون، و کان له غلام اسمه «علی»: [السریع]
ما لابن زیدون علی فضله یغتابنی ظلما و لا ذنب لی
ینظرنی شزرا إذا جئته کأنما جئت لأخصی علی
و مثل زینب بنت زیاد المؤدّب، الوادی آشیة التی تقول: [الطویل]
و لمّا أبی الواشون إلّا فراقنا و ما لهم عندی و عندک من ثار
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 45
و شنّوا علی أسماعنا کلّ غارة و قلّ حماتی عند ذاک و أنصاری
غزوتهم من مقلتیک و أدمعی و من نفسی بالسیف و الماء و النار
و أنا أختم هذه القطع المتخیّرة بقول أبی بکر بن بقی لیکون الختام مسکا: [الکامل]
عاطیته و اللیل یسحب ذیله صهباء کالمسک الفتیق لناشق
و ضممته ضمّ الکمیّ لسیفه و ذؤابتاه حمائل فی عاتقی
حتی إذا مالت به سنة الکری زحزحته شیئا و کان معانقی
باعدته عن أضلع تشتاقه کیلا ینام علی وساد خافق
و یقول القاضی أبی حفص بن عمر القرطبی: [الوافر]
هم نظروا لواحظها فهاموا و تشرب لبّ شاربها المدام
یخاف الناس مقلتها سواها أ یذعر قلب حامله الحسام
سما طرفی إلیها و هو باک و تحت الشمس ینسکب الغمام
و أذکر قدّها فأنوح وجدا علی الأغصان تنتدب الحمام
و أعقب بینها فی الصدر غمّا إذا غربت ذکاء أتی الظلام
و بقوله أیضا: [الوافر]
لها ردف تعلّق فی لطیف و ذاک الرّدف لی و لها ظلوم
یعذّبنی إذا فکّرت فیه و یتعبها إذا رامت تقوم
و قد أطلت عنان النظم، علی أنی اکتفیت عن الاستدلال علی النهار بالصباح، فباللّه إلّا ما أخبرتنی: من شاعرکم الذی تقابلون به شاعرا ممّن ذکرت؟ لا أعرف لکم أشهر ذکرا، و أضخم شعرا، من أبی العباس الجراوی، و أولی لکم أن تجحدوا فخره، و تنسوا ذکره، فقد کفاکم ما جری من الفضیحة علیکم فی قوله من قصیدة یمدح بها خلیفة: [الطویل]
إذا کان أملاک الزمان أراقما فإنک فیهم دائم الدهر ثعبان
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 46
فما أقبح ما وقع «ثعبان» و ما أضعف ما جاء «دائم الدهر» و لقد أنشدت أحد ظرفاء الأندلس هذا البیت، فقال: لا ینکر هذا علی مثل الجراوی، فسبحان من جعل روحه و نسبه و شعره تتناسب فی الثقالة.
و إن أردت الافتخار بالفرسان، و التفاضل بالشجعان، فمن کان قبلنا منهم فی مدة المنصور بن أبی عامر و مدة ملوک الطوائف أخبارهم مشهورة، و آثارهم مذکورة، و کفاک من أبطال عصرنا ما سمعت عن الأمیر أبی عبد اللّه بن مردنیش و أنه کان یدفع فی مواکب النصاری و یشقّها یمینا و یسارا منشدا: [الوافر]
أکرّ علی الکتیبة لا أبالی أ حتفی کان فیها أم سواها
حتی أنه دفع یوما فی موکب من النصاری فصرع و قتل، و ظهر منه ما أعجبت به نفسه، فقال لشیخ من خواصّه، عالم بأمور الحرب مشهور بها: کیف رأیت؟ فقال له: لو رآک السلطان زاد فیما لک فی بیت المال، و أعلی مرتبتک، أمن یکون رأس جیش یقدم هذا الإقدام، و یتعرّض بهلاک نفسه إلی هلاکهم، فقال له: دعنی فإنی لا أموت مرتین، و إذا متّ أنا فلا عاش من بعدی.
و القائد أبو عبد اللّه بن قادوس الذی اشتهر من شجاعته و مواقعه فی النصاری و حسن بلائه ما صیّر النصاری من رعبه و الإقرار بفضله فی هذا الشأن أن یقول أحدهم لفرسه إذا سقاه فلم یقبل علی الماء: مالک؟ أ رأیت ابن قادوس فی الماء، و هذه مرتبة عظیمة: [الکامل]
و الفضل ما شهدت به الأعداء
و لقد أخبرنی من أثق به أنه خرج من عسکر فی کتیبة مجرّدة برسم الغارة علی بلاد النصاری، فوقع فی جمع کبیر منهم، فجهد جهده فی الخلاص منهم و الرجوع إلی العسکر، فجعل یقاتل مع أصحابه فی حالة الفرار إلی أن کبا بأحد جنده فرسه، و فرّ عنه، فناداه مستغیثا، فقال: اصبر، ثم نظر إلی فارس من النصاری قد طرق فقال: اجر إلی هذا النصرانی، فخذ فرسه، و رکض نحوه، فأسقطه، و قال لصاحبه: ارکب، فرکب و نجا معه سالما.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 47
و أمثال هذا کثیر، و إنما جئت بحصاة من ثبیر.

[شمائل أهل الأندلس]

و أمّا کرم النّفس و شمائل الریاسة فأنا أحکی لک حکایة تتعجّب منها، و هی ممّا جری فی عصرنا، و ذلک أن أبا بکر بن زهر نشأت بینه و بین الحافظ أبی بکر بن الجد عداوة مفرطة للاشتراک فی العلم و الریاسة و کثرة المال و البلدیة، فأجری ابن زهر یوما ذکره فی جماعة من أصحابه، و قال: لقد آذانا هذا الرجل أشدّ أذیّة، و لم یقصر فی القول عند أمیر المؤمنین و عند خواصّ الناس و عوامّهم، فقال له أحد عوامّهم: إنی أذکر لک علیه عقدا فیه مخاصمة فی موضع ممّا یعزّ علیه من مواضعه، و متی خاصمته فی ذلک بلغت منه فی النکایة أشدّ مبلغ، فخرج ابن زهر، و أظهر الغضب الشدید، و الإنکار لذلک، و قال لوکیله: أمثلی یجازی علی العداوة بما یجازی به السفل و الأوباش؟ و إنی أجعل ابن الجد فی حل من موضع الخصام، و أمر بأن یحمل له العقد، ثم قال: و إنی و اللّه ما أروم بذلک أن أصالحه، فإنّ عداوته من حسد، و أنا أسأل اللّه تعالی أن یدیمها؛ لأنها مقترنة بدوام نعم اللّه علیّ.

[فضائل البلاد]

اشارة

و إن تعرضت إلی ذکر البلاد، و تفسیر محاسنها، و ما خصّها اللّه تعالی به ممّا حرمه علی غیرها، فاسمع ما یمیت الحسود کمدا:

[محاسن إشبیلیته]

أما إشبیلیة فمن محاسنها اعتدال الهواء، و حسن المبانی، و تزیین الخارج و الداخل، و تمکن التمصّر، حتی أنّ العامّة تقول: لو طلب لبن الطیر فی إشبیلیة وجد، و نهرها الأعظم الذی یصعد المدّ فیه اثنین و سبعین میلا ثم یحسر، و فیه یقول ابن سفر: [الکامل]
شقّ النسیم علیه جیب قمیصه فانساب من شطّیه یطلب ثاره
فتضاحکت ورق الحمام بدوحها هزأ فضمّ من الحیاء إزاره
و زیادته علی الأنهار کون ضفّتیه مطرّزتین بالمنازه و البساتین و الکروم و الأنسام متّصل ذلک اتّصالا لا یوجد علی غیره.
و أخبرنی شخص من الأکیاس دخل مصر و قد سألته عن نیلها أنه لا تتّصل بشطّیه البساتین
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 48
و المنازه اتّصالها بنهر إشبیلیة، و کذلک أخبرنی شخص آخر دخل بغداد، و قد سعد هذا الوادی بکونه لا یخلو من مسرّة، و أنّ جمیع أدوات الطرب و شرب الخمر فیه غیر منکر لا ناه عن ذلک و لا منتقد، ما لم یؤدّ السکر إلی شرّ و عربدة، و قد رام من ولیها من الولاة المظهرین للدین قطع ذلک، فلم یستطیعوا إزالته، و أهله أخفّ الناس أرواحا، و أطبعهم نوادر، و أحملهم لمزاح بأقبح ما یکون من السّبّ، قد مرنوا علی ذلک، فصار لهم دیدنا حتی صار عندهم من لا یبتذل فیه و لا یتلاعن ممقوتا ثقیلا، و قد سمعت عن شرف إشبیلیة الذی ذکره أحد الوشاحین فی موشحة مدح بها المعتضد بن عباد:
إشبیلیا عروس و بعلها عبّاد و تاجها الشرف و سلکها الواد
أی شرف قد حاز ما شاء من الشرف إذ عمّ أقطار الأرض خیره، و سفر ما یعصر من زیتونه من الزیت حتی بلغ الإسکندریة، و تزید قراه علی غیرها من القری بانتخاب مبانیها، و تهمّم سکانها فیها داخلا و خارجا، إذ هی من تبییضهم لها نجوم فی سماء الزیتون.
و قیل لأحد من رأی مصر و الشام: أیها رأیت أحسن هذان أم إشبیلیة؟ فقال بعد تفضیل إشبیلیة: و شرفها غابة بلا أسد، و نهرها نیل بلا تمساح. و قد سمعت عن جبال الرحمة بخارجها، و کثرة ما فیها من التین القوطی و الشعری، و هذان الصنفان أجمع المتجوّلون فی أقطار الأرض أن لیس فی غیر إشبیلیة مثل لهما، و قد سمعت ما فی هذا البلد من أصناف أدوات الطرب کالخیال و الکریج و العود و الروطة و الرباب و القانون و المؤنس و الکثیرة و الفنار و الزلامی و الشقرة و النورة- و هما مزماران الواحد غلیظ الصوت و الآخر رقیقه- و البوق، و إن کان جمیع هذا موجودا فی غیرها من بلاد الأندلس فإنه فیها أکثر و أوجد، و لیس فی برّ العدوة من هذا شی‌ء إلّا ما جلب إلیه من الأندلس، و حسبهم الدفّ و أقوال و الیرا و أبو قرون و دبدبة السودان و حماقی البرابر، و أمّا جواریها و مراکبها برّا و بحرا و مطابخها و فواکهها الخضراء و الیابسة فأصناف أخذت من التفضیل بأوفر نصیب، و أمّا مبانیها فقد سمعت عن إتقانها و اهتمام أصحابها و کون أکثر دیارها لا تخلو من الماء الجاری و الأشجار المتکاثفة کالنارنج و اللیم و اللیمون و الزنبوع و غیر ذلک، و أمّا علماؤها فی کل صنف رفیع أو وضیع جدا أو هزلا فأکثر من أن یعدّوا، و أشهر من أن یذکروا، و أما ما فیها من الشعراء و الوشّاحین و الزجّالین فما لو قسموا علی برّ العدوة ضاق بهم، و الکل ینالون خیر رؤسائها و رفدهم، و ما من جمیع ما ذکرت فی هذه البلدة الشریفة إلّا و قصدی به العبارة عن فضائل جمیع الأندلس، فما تخلو بلادها من
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 49
ذلک، و لکن جعلت إشبیلیة، بل اللّه جعلها أمّ قراها، و مرکز فخرها و علاها، إذ هی أکبر مدنها، و أعظم أمصارها.

[قرطبة]

و أما قرطبة فکرسی المملکة فی القدیم، و مرکز العلم و منار التقی و محلّ التعظیم و التقدیم، بها استقرّت ملوک الفتح و عظماؤه، ثم الملوک المروانیة، و بها کان یحیی بن یحیی راویة مالک، و عبد الملک بن حبیب، و قد سمعت من تعظیم أهلها للشریعة، و منافستهم فی السؤدد بعلمها، و أنّ ملوکها کانوا یتواضعون لعلمائها، و یرفعون أقدارهم، و یصدرون عن آرائهم، و أنهم کانوا لا یقدّمون وزیرا و لا مشاورا لما لم یکن عالما، حتی أنّ الحکم المستنصر لمّا کره له العلماء شرب الخمر همّ بقطع شجرة العنب من الأندلس، فقیل له: فإنها تعصر من سواها، فأمسک عن ذلک. و أنهم کانوا لا یقدمون أحدا للفتوی و لا لقبول الشهادة حتی یطول اختباره، و تعقد له مجالس المذاکرة، و یکون ذا مال فی غالب الحال خوفا من أن یمیل به الفقر إلی الطمع فیما فی أیدی الناس فیبیع به حقوق الدین، و لقد أخبرت أن الحکم الربضی أراد تقدیم شخص من الفقهاء یختصّ به للشهادة، فأخذ فی ذلک مع یحیی بن یحیی و عبد الملک و غیرهما من أعلام العلماء، فقالوا له: هو أهل، و لکنه شدید الفقر، و من یکون فی هذه الحالة لا تأمنه علی حقوق المسلمین، لا سیما و أنت ترید انتفاعه و ظهوره فی الدخول فی المواریث و الوصایا و أشباه ذلک، فسکت و لم یر منازعتهم، و بقی مهموما من کونهم لم یقبلوا قوله، فنظر إلیه ولده عبد الرحمن الذی ولی الملک بعده، و علی وجهه أثر ذلک، فقال: ما بالک یا مولای؟ فقال: ألا تری لهؤلاء الذین نقدمهم و ننوّه عند الناس بمکانهم، حتی إذا کلفناهم ما لیس علیهم فیه شطط، بل ما لا یعیبهم، و لا ممّا هو یرزؤهم، صدّونا عنه، و غلقوا أبواب الشفاعة، و ذکر له ما کان منهم، فقال: یا مولای، أنت أولی الناس بالإنصاف، إنّ هؤلاء ما قدمتهم أنت و لا نوّهت بهم، و إنما قدّمهم و نوّه بهم علمهم، أو کنت تأخذ قوما جهالا فتضعهم فی مواضعهم؟ قال: لا، قال:
فأنصفهم فیما تعبوا فیه من العلم لینالوا به لذة الدنیا و راحة الآخرة، قال: صدقت، ثم قال: و أمّا کونهم لم یقبلوا هذا الرجل لشدّة فقره فالعلّة فی ذلک تنحسم بما یبقی لک فی الصالحات ذکرا، قال: و ما هو؟ قال: تعطیه من مالک قدر ما یلحق به من الغنی ما یؤهّله لتلک المنزلة، و یزیل عنک خجل ردّهم لک، و تکون هذه مکرمة ما سبقک إلیها أحد، فتهلّل وجه الحکم و قال: إلیّ إلیّ، إنها و اللّه شنشنة عبشمیة و إنّ الذی قال فینا لصادق: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 50
و أبناء أملاک خضارم سادة صغیرهم عند الأنام کبیر
ثم استدعی عبد الملک بن حبیب و سأله عن قدر ما یؤهّله لتلک المرتبة من الغنی، فذکر له عددا، فأمر له به فی الحین، و نبّه قدره بأن أعطاه من إصطبله مرکوبا، و کانت هذه أکرومة لا خفاء بعظمها: [الکامل]
یفنی الزمان و ما بنته مخلّد
ثم إنه إذا کان له من الغنی ما یکفّه عن أموال الناس، و من الدین ما یصدّه عن محارم اللّه تعالی، و من العلم ما لا یجهل به التصرّف فی الشریعة، أباحوا له الفتوی و الشهادة، و جعلوا علامة لذلک بین الناس القلانس و الرداء.
و أهل قرطبة أشدّ الناس محافظة علی العمل بأصحّ الأقوال المالکیة، حتی أنهم کانوا لا یولّون حاکما إلّا بشرط أن لا یعدل فی الحکم عن مذهب ابن القاسم.
و قال ابن سارة لمّا دخل قرطبة [البسیط]:
الحمد للّه قد وافیت قرطبة دار العلوم و کرسیّ السلاطین
و هی کانت مجمع جیوش الإسلام، و منها نصر اللّه علی عبدة الصلیب.
یقال: إن المنصور بن أبی عامر- حین تمّ له ملک البرّین، و توفّرت الجیوش و الأموال- عرض بظاهر قرطبة خیله و رجله، و قد جمع من أقطار البلاد ما ینهض به إلی قتال العدوّ و تدویخ بلاده، فنیّف الفرسان علی مائتی ألف، و الرّجّالة علی ستمائة ألف. و بها حتی الآن من صنادید المسلمین و قوادهم من لا یفتر عن محاربة، و لا یملّ من مضاربة، من أسماؤهم بأقاصی بلاد النصاری مشهورة، و آثارهم فیها مأثورة، و قلوبهم علی البعد بخوفهم معمورة.
و یحکی أن العمارة فی مبانی قرطبة و الزهراء اتّصلت إلی أن کان یمشی فیها بضوء السّرج المتّصلة عشرة أمیال، و أمّا جامعها الأعظم فقد سمعت أنّ ثریّاته من نواقیس النصاری، و أنّ الزیادة التی زاد فی بنائه ابن أبی عامر من تراب نقله النصاری علی رؤوسهم ممّا هدم من
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 51
کنائس بلادهم، و قد سمعت أیضا عن قنطرتها العظمی و کثرة أرحیّ وادیها، یقال: إنها تنیّف علی خمسة آلاف حجر، و قد سمعت عن کنبانیّتها و ما فضّل اللّه تعالی به تربها من برکة و ما ینبت فیها من القمح و طیبه، و فیها جبال الورد الذی بلغ الربع منه مرات إلی ربع درهم، و صار أصحابه یرون الفضل لمن قطف بیده ما یمنحونه منه، و نهرها إن صغر عندها عن عظمه عند إشبیلیة فإنّ لتقارب برّیه هنالک و تقطّع غدره و مروجه معنی آخر و حلاوة أخری، و زیادة أنس، و کثرة أمان من الغرق، و فی جوانبه من البساتین و المروج ما زاده نضارة و بهجة.

[جیان]

و أما جیّان فإنها لبلاد الأندلس قلعة، إذ هی أکثرها زرعا، و أصرمها أبطالا، و أعظمها منعة، و کم رامتها عساکر النصاری عند فترات الفتن فرأوها أبعد من العیّوق، و أعزّ منالا من بیض الأنوق، و لا خلت من علماء و لا من شعراء، و یقال لها «جیان الحریر» لکثرة اعتناء بادیتها و حاضرتها بدود الحریر.
و ممّا یعدّ فی مفاخرها ما ببیّاسة إحدی بلاد أعمالها من الزعفران الذی یسفّر برّا و بحرا، و ما فی أبدة من الکروم التی کاد العنب لا یباع فیها و لا یشتری کثرة، و ما کان بأبدة من أصناف الملاهی و الرواقص المشهورات بحسن الانطباع و الصنعة، فإنهنّ أحذق خلق اللّه تعالی باللعب بالسیوف والدک، و إخراج القروی و المرابط و المتوجه.

[غرناطة]

و أما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس، و مسرح الأبصار، و مطمح الأنفس، لها القصبة المنیعة ذات الأسوار الشامخة، و المبانی الرفیعة، و قد اختصّت بکون النهر یتوزّع علی دیارها و أسواقها و حماماتها و أرحاها الداخلة و الخارجة و بساتینها، و زانها اللّه تعالی بأن جعلها مرتّبة علی بسیطها الممتدّ الذی تفرّعت فیه سبائک الأنهار بین زبرجد الأشجار، و لنسیم نجدها و بهجة منظر حورها فی القلوب و الأبصار، استلطاف یروق الطباع، و یحدث فیها ما شاءه الإحسان من الاختراع و الابتداع، و لم تخل من أشراف أماثل، و علماء أکابر، و شعراء أفاضل، و لو لم یکن لها إلّا ما خصّها اللّه تعالی به من کونها قد نبغ فیها من الشواعر مثل نزهون القلاعیة و زینب بنت زیاد، و قد تقدّم شعرهما، و حفصة بنت الحاج، و ناهیک فی الظرف و الأدب، و هل تری أظرف منها فی جوابها للحسیب الوزیر الناظم الناثر أبی جعفر بن القائد الأجلّ أبی مروان بن سعید، و ذلک أنهما باتا بحور مؤمّل علی ما یبیت به الروض و النسیم،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 52
من طیب النفحة و نضارة النعیم، فلمّا حان الانفصال قال أبو جعفر: [الطویل]
رعی اللّه لیلا لم یرع بمذمّم عشیّة و ارانا بحور مؤمّل
و قد خفقت من نحو نجد أریجة إذا نفحت هبّت بریّا القرنفل
و غرّد قمریّ علی الدّوح و انثنی قضیب من الریحان من فوق جدول
ترید الروض مسرورا بما قد بدا له عناق و ضمّ و ارتشاف مقبّل
و کتبه إلیها بعد الافتراق، لتجاوبه علی عادتها فی ذلک، فکتبت له ما لا یخفی فیه قیمتها: [الطویل]
لعمرک ما سرّ الریاض بوصلنا و لکنّه أبدی لنا الغلّ و الحسد
و لا صفّق النهر ارتیاحا لقربنا و لا صدح القمریّ إلّا بما وجد
فلا تحسن الظّنّ الذی أنت أهله فما هو فی کلّ المواطن بالرّشد
فما خلت هذا الأفق أبدی نجومه لأمر سوی کیما تکون لنا رصد
و أما مالقة فإنها قد جمعت بین منظر البحر و البرّ بالکروم المتّصلة التی لا تکاد تری فیها فرجة لموضع غامر، و البروج التی شابهت نجوم السماء، کثرة عدد و بهجة ضیاء، و تخلّل الوادی الزائر لها فی فصلی الشتاء و الربیع فی سرر بطحائها، و توشیحه لخصور أرجائها، و ممّا اختصّت به من بین سائر البلاد التین الربی المنسوب إلیها؛ لأنّ اسمها فی القدیم ربة، و لقد أخبرت أنه یباع فی بغداد علی جهة الاستطراف، و أما ما یسفّر منه المسلمون و النصاری فی المراکب البحریة فأکثر من أن یعبر عنه بما یحصره، و لقد اجتزت بها مرّة، و أخذت علی طریق الساحل من سهیل إلی أن بلغت إلی بلیش قدر ثلاثة أیام متعجّبا فیما حوته هذه المسافة من شجر التین، و إنّ بعضها لیجتنی جمیعها الطفل الصغیر من لزوقها بالأرض، و قد حوت ما یتعب الجماعة کثرة، و تین بلیش هو الذی قیل فیه لبربری: کیف رأیته؟ قال: لا تسألنی عنه، و صبّ فی حلقی بالقفة، و هو لعمر اللّه معذور؛ لأنه نعمة حرمت بلاده منها، و قد خصّت بطیب الشراب الحلال و الحرام، حتی سار المثل بالشراب المالقی، و قیل لأحد الخلعاء،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 53
و قد أشرف علی الموت: اسأل ربّک المغفرة، فرفع یدیه و قال: یا ربّ، أسألک من جمیع ما فی الجنّة خمر مالقة و زبیبیّ إشبیلیة، و فیها تنسج الحلل الموشیّة التی تجاوز أثمانها الآلاف ذات الصور العجیبة المنتخبة برسم الخلفاء فمن دونهم، و ساحلها محطّ تجارة لمراکب المسلمین و النصاری.

[المریّة]

و أما المریّة فإنها البلد المشهور الذکر، العظیم القدر، الذی خصّ أهله باعتدال المزاج، و رونق الدیباج، و رقّة البشرة، و حسن الوجوه و الأخلاق، و کرم المعاشرة و الصحبة. و ساحلها أنظف السواحل و أشرحها و أملحها منظرا، و فیها الحصا الملوّن العجیب الذی یجعله رؤساء مراکش فی البرارید، و الرخام الصقیل الملوکی، و وادیها المعروف بوادی بجانة من أفرج الأودیة، ضفّتاه بالریاض کالعذارین حول الثغر، فحق أن ینشد فیها: [الکامل]
أرض وطئت الدّرّ رضراضا بها و التّرب مسکا و الریاض جنانا
و فیها کان ابن میمون القائد الذی قهر النصاری فی البحر، و قطع سفرهم فیه، و ضرب علی بلاد الرمانیة، فقتل و سبی، و ملأ صدور أهلها رعبا، حتی کان منه کما قال أشجع:
[الکامل]
فإذا تنبّه رعته و إذا غفا سلّت علیه سیوفک الأحلام
و بها کان محطّ مراکب النصاری، و مجتمع دیوانهم، و منها کانت تسفّر لسائر البلاد بضائعهم، و منها کانوا یوسقون جمیع البضائع التی تصلح لهم، و قصد بضبط ذلک بها حصر ما یجتمع فی أعشارهم، و لم یوجد لهذا الشأن مثلها، لکونها متوسطة و متسعة قائمة بالوارد و الصادر، و هی أیضا مصنع للحلل الموشیة النفیسة.

[مرسیة]

و أما مرسیة فإنها حاضرة شرق الأندلس، و لأهلها من الصّرامة و الإباء ما هو معروف مشهور، و وادیها قسیم وادی إشبیلیة، کلاهما ینبع من شقورة و علیه من البساتین المتهدبة الأغصان، و النواعیر المطربة الألحان، و الأطیار المغرّدة، و الأزهار المتنضدة، ما قد سمعت، و هی من أکثر البلاد فواکه و ریحانا، و أهلها أکثر الناس راحات و فرجا لکون خارجها معینا علی ذلک بحسن منظره، و هی بلدة تجهز منها العروس التی تنتخب شورتها لا تفتقر فی شی‌ء من ذلک إلی سواها. و هی للمریة و مالقة فی صنعة الوشی ثالثة، و قد اختصّت بالبسط التنتلیة التی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 54
تسفّر لبلاد المشرق، و بالحصر التی تغلّف بها الحیطان المبهجة للبصر، إلی غیر ذلک ممّا یطول ذکره، و لم تخل من علماء و شعراء و أبطال.

[بلنسیة]

و أما بلنسیة فإنها لکثرة بساتینها تعرف بمطیب الأندلس، و رصافتها من أحسن متفرّجات الأرض، و فیها البحیرة المشهورة الکثیرة الضوء و الرونق، و یقال إنه لمواجهة الشمس لتلک البحیرة یکثر ضوء بلنسیة إذ هی موصوفة بذلک، و ممّا خصّت به النسیج البلنسی الذی یسفّر لأقطار المغرب، و لم تخل من علماء و لا شعراء، و لا فرسان یکابدون مضایقة الأعداء، و یتجرعون فیها النعماء ممزوجة بالضرّاء، و أهلها أصلح الناس مذهبا، و أمتنهم دینا، و أحسنهم صحبة، و أرفقهم بالغریب.

[جزیرة میورقة]

و أما جزیرة میورقة فمن أخصب بلاد اللّه تعالی أرجاء، و أکثرها زرعا و رزقا و ماشیة، و هی علی انقطاعها من البلاد مستغنیة عنها، یصل فاضل خیرها إلی غیرها، إذ فیها من الحضارة و التمکّن و التمصّر و عظم البادیة ما یغنیها، و فیها من الفوائد ما فیها، و لها فضلاء و أبطال اقتصروا علی حمایتها من الأعداء المحدقة بها: [الکامل]
من کلّ من جعل الحسام خلیله لا یبتغی أبدا سواه معینا
هذا- زان اللّه تعالی فضلک بالإنصاف، و شرّف کرمک بالاعتراف!- ما حضرنی الآن فی فضل جزیرة الأندلس، و لم أذکر من بلادها إلّا ما کلّ بلد منها مملکة مستقلّة یلیها ملوک بنی عبد المؤمن علی انفراد، و غیرها فی حکم التبع.
و أمّا علماؤها و شعراؤها فإنی لم أعرض منهم إلّا لمن هو فی الشهرة کالصباح، و فی مسیر الذکر کمسیر الریاح، و أنا أحکی لک حکایة جرت لی فی مجلس الرئیس الفقیه أبی بکر بن زهر، و ذلک أنی کنت یوما بین یدیه، فدخل علینا رجل عجمیّ من فضلاء خراسان، و کان ابن زهر یکرمه، فقلت له: ما تقول فی علماء الأندلس و کتّابهم و شعرائهم؟ فقال:
کبّرت، فلم أفهم مقصده، و استبردت ما أتی به، و فهم منی أبو بکر بن زهر أنی نظرته نظر المستبرد المنکر، فقال لی: أقرأت شعر المتنبی؟ قلت: نعم، و حفظت جمیعه، قال: فعلی نفسک إذن فلتنکر، و خاطرک بقلّة الفهم فلتتّهم، فذکرنی بقول المتنبی: [الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 55
کبّرت حول دیارهم لمّا بدت منها الشموس و لیس فیها المشرق
فاعتذرت للخراسانی، و قلت له: قد و اللّه کبرت فی عینی بقدر ما صغرت نفسی عندی، حین لم أفهم نبل مقصدک، فالحمد للّه الذی أطلع من المغرب هذه الشموس، و جعلها بین جمیع أهله بمنزلة الرءوس، و صلّی اللّه علی سیدنا محمد نبیّه المختار من صفوة العرب، و علی آله و صحبه، صلاة متّصلة إلی غابر الحقب.
کملت رسالة الشّقندی. و هو أبو الولید إسماعیل بن محمد، و شقندة المنسوب إلیها:
قریة مطلّة علی نهر قرطبة مجاورة لها من جهة الجنوب.
قال ابن سعید: و هو ممّن کان بینه و بین والدی صحبة أکیدة، و مجالسات أنس عدیدة، و مزاورات تتّصل، و محاورات لا تکاد تنفصل، و انتفعت بمجالسته، و له رسالة فی تفضیل الأندلس یعارض بها أبا یحیی فی تفضیل برّ العدوة، أورد فیها من المحاسن ما یشهد له بلطافة المنزع، و عذوبة المشرع، و کان جامعا لفنون من العلوم الحدیثة و القدیمة، و عنی بمجلس المنصور، فکانت له فیه مشاهد غیر ذمیمة. و ولی قضاء بیاسة و قضاء لورقة، و لم یزل محفوظ الجانب، محمود المذاهب، سمعته ینشد والدی قصیدة فی المنصور و قد نهض للقاء العدوّ، منها: [البسیط]
إذا نهضت فإنّ السیف منتهض ترمی السعود سهاما و العدا غرض
لک البسیطة تطویها و تنشرها فلیس فی کلّ ما تنویه معترض
قال: و سمعته یقول له: أنشدت الوزیر أبا سعید بن جامع قصیدة أوّلها: [البسیط]
استوقف الرکب قد لاحت لک الدار و اسأل بربع تناءت عنه أقمار
لا خفّف اللّه عنی بعد بینهم فإننی سرت و الأحباب ما ساروا
و منها:
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 56
ألا رعی اللّه ظبیا فی قبابهم منه لهم فی ظلام اللیل أنوار
و له: [الخفیف]
علّلانی بذکر من همت فیه و عدانی عنه بما أرتجیه
و إذا ما طربتما لارتیاحی فاجعلا خمرتی مدامة فیه
لیت شعری و کم أطیل الأمانی أیّ یوم فی خلوة ألتقیه
و إذا ما ظفرت یوما بشکوی قال لی: أین کلّ ما تدّعیه
لا دموع و لا سقام فماذا شاهد عنک بالذی تدّعیه
قلت دعنی أمت بدائی فإنّی لو برانی الغرام لا أبدیه
و قال فی عوّاده لمّا مرض: [مجزوء الرجز]
إنی مرضت مرضة أسقط منها فی یدی
فکان فی الإخوان من لم أره فی العوّد
فقلت فی کلّهم قول امرئ مقتصد
أیر الذی قد عادنی فی است الذی لم یعد
مات بإشبیلیة سنة 629 انتهی.
و قال ابن سعید: أنشدنی والدی للحافظ أبی الطاهر السّلفی، قال: و کفی به شاهدا، و بقوله مفتخرا: [الطویل]
بلاد أذربیجان فی الشرق عندنا کأندلس بالغرب فی العلم و الأدب
فما إن تکاد الدهر تلقی ممیزا من اهلیهما إلّا و قد جدّ فی الطلب‌

[بعض حکایات و أشعار الأندلسیین]

اشارة

و حکی غیر واحد کابن الأبار أنّ عباس بن ناصح الشاعر لمّا توجّه من قرطبة إلی بغداد، و لقی أبا نواس، قال له: أنشدنی لأبی الأجرب، قال: فأنشدته، ثم قال: أنشدنی لبکر الکنانیّ، فأنشدته، و هذان شاعران من الأندلس.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 57
و اعلم أننا إن تتبّعنا کلام الأندلسیین و حکایاتهم الدالّة علی سبقهم طال بنا الکتاب، و لم نستوف المراد، فرأینا أن نذکر بعضا من ذلک بحسب ما اقتضاه الحال و أبداه، لیکون عنوانا دالا علی ما عداه: [البسیط]
یکفی من الحلی ما قد حفّ بالعنق
و لنبدأ ما نسوقه من أخبار الأندلسیین و أشعارهم و حکایاتهم فی الجدّ و الهزل، و التولیة و العزل، بقول الفقیه الزاهد أبی عمران موسی بن عمران المارتلی، و کان سکن إشبیلیة:
[البسیط]
لا تبک ثوبک إن أبلیت جدّته و ابک الذی أبلت الأیام من بدنک
و لا تکوننّ مختالا بجدّته فربما کان هذا الثوب من کفنک
و لا تعفه إذا أبصرته دنسا فإنما اکتسب الأوساخ من درنک
و قال أبو عمرو الیحصبی اللوشی: [الخفیف]
شرّد النوم عن جفونک و انظر حکمة توقظ النفوس النیاما
فحرام علی امرئ لم یشاهد حکمة اللّه أن یذوق المناما
و قال أیضا: [الرمل]
لیس للمرء اختیار فی الذی یتمنّی من حراک و سکون
إنما الأمر لربّ واحد إن یشأ قال له: کن فیکون
و قال أبو وهب القرطبی: [الوافر]
تنام و قد أعدّ لک السهاد و توقن بالرحیل و لیس زاد
و تصبح مثل ما تمسی مضیعا کأنک لست تدری ما المراد
أ تطمع أن تفوز غدا هنیئا و لم یک منک فی الدنیا اجتهاد
إذا فرّطت فی تقدیم زرع فکیف یکون من عدم حصاد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 58
و قیل: إنّ الأبیات السابقة التی أولها: أنا فی حالتی التی- إلی آخره، وجدت فی ترکته بخطّه فی شقف، و بعضهم ینسبها لغیره، و اسم أبی وهب المذکور عبد الرحمن، و ذکره ابن بشکوال فی الصّلة، و أثنی علیه بالزهد و الانقطاع، و کان فی أول أمره قد حسب عامة الناس أنه مختلّ العقل، فجعلوا یؤذونه و یرمونه بالحجارة، و یصیحون علیه: یا مجنون، یا أحمق، فیقول: [السریع]
یا عاذلی، أنت به جاهل دعنی به لست بمغبون
أما ترانی أبدا والها فیه کمسحور و مفتون
أحسن ما أسمع فی حبّه وصفی بمختلّ و مجنون
و قال الخطیب أبو محمد بن برطلة: [الطویل]
بأربعة أرجو نجاتی و إنها لأکرم مذخور لدیّ و أعظم
شهادة إخلاصی و حبّی محمدا و حسن ظنونی ثم أنی مسلم
و قال ابن حبیش: [البسیط]
قالوا تصبّر عن الدنیا الدنیّة أو کن عبدها و اصطبر للذلّ و احتمل
لا بدّ من أحد الصّبرین، قلت نعم الصبر عنها بعون اللّه أوفق لی
و قال ابن الشیخ: [الکامل]
أطلب لنفسک فوزها و اصبر لها نظر الشفیق و خف علیها و اتّق
من لیس یرحم نفسه و یصدّها عمّا سیهلکها فلیس بمشفق
و قال أبو محمد القرطبی: [الطویل]
لعمرک ما الدنیا و سرعة سیرها بسکانها إلّا طریق مجاز
حقیقتها أنّ المقام بغیرها و لکنهم قد أولعوا بمجاز
و قال الشمیس: [السریع]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 59
للّه فی الدنیا و فی أهلها معمّیات قد فککناها
من بشر، نحن فمن طبعنا نحبّ فیها المال و الجاها
دعنی من الناس و من قولهم فإنما الناس أخلّاها
لم تقبل الدنیا علی ناسک إلّا و بالرحب تلقّاها
و إنما یعرض عن وصلها من صرفت عنه محیّاها
و قال أبو القاسم بن بقی: [الطویل]
ألا إنما الدنیا کراح عتیقة أراد مدیروها بها جلب الأنس
فلمّا أداروها أثارت حقودهم فعاد الذی راموا من الأنس بالعکس
و قال أبو محمد عبد اللّه بن العسال الطلیطلی: [مجزوء الرمل]
انظر الدنیا فإن أب صرتها شیئا یدوم
فاغد منها فی أمان إن یساعدک النعیم
و إذا أبصرتها من ک علی کره تهیم
فاسل عنها و اطّرحها و ارتحل حیث تقیم
و قال ابن هشام القرطبی: [الکامل]
و أبی المدامة لا أرید بشربها صلف الرقیع و لا انهماک اللاهی
لم یبق من عهد الشباب و طیبه شی‌ء کعهدی لم یحل إلّا هی
إن کنت أشربها لغیر وفائها فترکتها للناس لا للّه
و قال أبو محمد بن السّید البطلیوسی مما نسبه إلیه فی «المغرب»: [الطویل]
أخو العلم حیّ خالد بعد موته و أوصاله تحت التراب رمیم
و ذو الجهل میت و هو ماش علی الثری یظنّ من الأحیاء و هو عدیم
و قال أبو الفضل بن شرف: [الوافر]
لعمرک ما حصلت علی خطیر من الدنیا و لا أدرکت شیّا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 60
و‌ها أنا خارج منها سلیبا أقلّب نادما کلتا یدیّا
و أبکی ثم أعلم أنّ مبکا ی لا یجدی فأمسح مقلتیّا
و لم أجزع لهول الموت لکن بکیت لقلّة الباکی علیّا
و أنّ الدهر لم یعلم مکانی و لا عرفت بنوه ما لدیّا
زمان سوف أنشر فیه نشرا إذا أنا بالحمام طویت طیّا
أسرّ بأننی سأعیش میتا به و یسوءنی أن متّ حیّا
و قال الزاهد العارف بالله سیدی أبو العباس بن العریف نفعنا اللّه تعالی به: [البسیط]
سلوا عن الشوق من أهوی فإنّهم أدنی إلی النفس من وهمی و من نفسی
فمن رسولی إلی قلبی لیسألهم عن مشکل من سؤال الصّبّ ملتبس
حلّوا فؤادی فما یندی، و لو وطئوا صخرا لجاد بماء منه منبجس
و فی الحشا نزلوا و الوهم یجرحهم فکیف قرّوا علی أذکی من القبس
لأنهضنّ إلی حشری بحبّهم لا بارک اللّه فیمن خانهم و نسی
قلت: و قد زرت قبره المعظم بمراکش سنة عشر و ألف، و هو ممّن یتبرّک به فی تلک الدیار، و یستسقی به الغیث، و هو من أهل المریة، و أحضره السلطان إلی مراکش فمات بها، و له کرامات شهیرة و مقامات کبیرة، نفعنا اللّه تعالی به!.

[مذهب الأندلسیین]

و اعلم أنّ أهل الأندلس کانوا فی القدیم علی مذهب الأوزاعی، و أهل الشام منذ أول الفتح، ففی دولة الحکم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل- و هو ثالث الولاة بالأندلس من الأمویین- انتقلت الفتوی إلی رأی مالک بن أنس و أهل المدینة، فانتشر علم مالک و رأیه بقرطبة و الأندلس جمیعا، بل و المغرب، و ذلک برأی الحکم و اختیاره، و اختلفوا فی السبب المقتضی لذلک، فذهب الجمهور إلی أن سببه رحلة علماء الأندلس إلی المدینة، فلما رجعوا إلی الأندلس و صفوا فضل مالک وسعة علمه، و جلالة قدره، فأعظموه کما قدّمنا ذلک، و قیل: إن الإمام مالکا سأل بعض الأندلسیین عن سیرة ملک الأندلس، فوصف له سیرته، فأعجبت مالکا لکون سیرة بنی العباس فی ذلک الوقت لم تکن بمرضیة، و کابد لما صنع أبو جعفر المنصور
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 61
بالعلویة بالمدینة من الحبس و الإهانة و غیرهما علی ما هو مشهور فی کتب التاریخ، فقال الإمام مالک، رضی اللّه تعالی عنه، لذلک المخبر: نسأل اللّه تعالی أن یزین حرمنا بملککم، أو کلاما هذا معناه، فنمیت المسألة إلی ملک الأندلس، مع ما علم من جلالة مالک و دینه، فحمل الناس علی مذهبه، و ترک مذهب الأوزاعی، و اللّه تعالی أعلم.

[من شعر ابن یغمور]

و حکی أنّ القاضی الزاهد أبا إسحاق إبراهیم بن عبد اللّه بن أبی یغمور لمّا ندبه أهل الأمر لولایة القضاء بمدینة فاس استعفی، فلم یقبل منه، و خرج إلی تلک الناحیة، و خرج الناس لوداعه، فأنشد: [الطویل]
علیکم سلام اللّه إنی راحل و عینای من خوف التفرّق تدمع
فإن نحن عشنا فهو یجمع بیننا و إن نحن متنا فالقیامة تجمع
و أنشد أصحابه رحمه اللّه تعالی، و لا أدری هل هی له أو لغیره: [البسیط]
کنّا نعظّم بالآمال قدرکم حتی انقضت فتساوی عندنا الناس
لم تفضلونا بشی‌ء غیر واحدة هی الرجاء فسوّی بیننا الیاس
و أنشد أیضا: [الطویل]
بلوتهم مذ کنت طفلا فلم أجد کما أشتهی منهم صدیقا و صاحبا
فصوّبت رأیی فی فراری منهم و شمّرت أذیالی و أمعنت هاربا
و أنشد لغیره فی الکتمان: [الکامل]
أخفی الغرام فلا جوارحه شعرت بذاک و لا مفاصله
کالسیف یصحبه الحمام و لم یعلم بما حملت حمائله
و أنشد: [الکامل]
قد کنت أمرض فی الشبیبة دائما و الموت لیس یمرّ لی فی البال
و الآن شبت و صحّتی موجودة و أری کأنّ الموت فی أذیالی
و لمّا أنشده تاج الدین بن حمویه السّرخسی الوافد علی المغرب من المشرق قول بعضهم: [المتقارب]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 62
فلا تحقرنّ عدوا رماک و إن کان فی ساعدیه قصر
فإنّ السیوف تحزّ الرقاب و تعجز عمّا تنال الإبر
قال: حسن جیّد، و لکن اسمع ما قال شاعرنا القسطلّی، و أنشد: [الطویل]
أثرنی لکشف الخطب و الخطب مشکل و کلنی للیث الغاب و هو هصور
فقد تخفض الأسماء و هی سواکن و یعمل فی الفعل الصریح ضمیر
و تنبو الرّدینیّات، و الطول وافر و یبعد وقع السّهم و هو قصیر

[الوزیر أبو محمد عبد الرحمن بن مالک المعافری]

و کان الوزیر الکریم أبو محمد عبد الرحمن بن مالک المعافری أحد وزراء الأندلس کثیر الصنائع جزل المواهب عظیم المکارم، علی سنن عظماء الملوک و أخلاق السادة، لم یر بعده مثله فی رجال الأندلس، ذاکرا للفقه و الحدیث، بارعا فی الآداب، شاعرا مجیدا، و کاتبا بلیغا، کثیر الخدم و الأهل، و من آثاره الحمّام بجوفیّ الجامع الأعظم من غرناطة، و زاد فی سقف الجامع من صحنه و عوّض أرجل قسیّه أعمدة الرخام، و جلب الرءوس و الموائد من قرطبة، و فرش صحنه بکدان الصخر. و وجّهه أمیره علی بن یوسف بن تاشفین إلی طرطوشة برسم بنائها، فلمّا حلّها سأل قاضیها فکتب له جملة من أهلها ممّن ضعفت حاله و قلّ تصرّفه من ذوی البیوتات، فاستعملهم أمناء، و وسّع أرزاقهم، حتی کمل له ما أراد من عمله، و من عجز أن یستعمله وصله من ماله، فصدر عنها و قد أنعش خلقا، رضی اللّه تعالی عنه و رحمه!.
و من شعره فی مجلس أطربه سماعه، و بسطه احتشاد الأنس فیه و اجتماعه، فقال: [الخفیف]
لا تلمنی إذا طربت لشجو یبعث الأنس فالکریم طروب
لیس شقّ الجیوب حقّا علینا إنّما الحق أن تشقّ القلوب
و قطف غلام من غلمانه نوّارة و مدّ بها یده إلی أبی نصر الفتح بن عبید اللّه، فقال أبو نصر: [الطویل]
و بدر بدا و الطّرف مطلع حسنه و فی کفّه من رائق النّور کوکب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 63
یروح لتعذیب النفوس و یغتدی و یطلع فی أفق الجمال و یغرب
فقال أبو محمد بن مالک: [الطویل]
و یحسد منه الغصن أیّ مهفهف یجی‌ء علی مثل الکثیب و یذهب
و قد سبق هذا.
و کتب إلی الفتح من غیر تروّ: یا سیدی، جرت الأیام بفراقک، و کان اللّه جارک فی انطلاقک، فغیرک من روّع بالظّعن، و أوقد للوداع جاحم الشّجن، فإنک من أبناء هذا الزمن، خلیفة الخضر لا یستقرّ علی وطن، کأنک- و اللّه یختار لک ما تأتیه و ما تدعه- موکل بفضاء الأرض تذرعه، فحسب من نوی بعشرتک الاستمتاع، أن یعدّک من العواری السریعة الارتجاع، فلا یأسف علی قلّة الثوا و ینشد: [الطویل]
و فارقت حتی ما أبالی من النّوی
و مات رحمه اللّه تعالی بغرناطة سنة 518، و حضر جنازته الخاصّة و العامّة، و هو من محاسن الأندلس، رحمه اللّه تعالی!.
و من نوادر الاتفاق أن جاریة مشت بین یدی المعتمد، و علیها قمیص لا تکاد تفرق بینه و بین جسمها، و ذوائبها تخفی آثار مشیها، فسکب علیها ماء ورد کان بین یدیه، و قال: [الکامل]
علّقت جائلة الوشاح غریرة تختال بین أسنّة و بواتر
و قال لبعض الخدم: سر إلی أبی الولید البطلیوسی المشهور بالنحلی، و خذه بإجازة هذا البیت، و لا تفارقه حتی یفرغ منه، فأجاب النحلی لأول وقوع الرقعة بین یدیه: [الکامل]
راقت محاسنها و رقّ أدیمها فتکاد تبصر باطنا من ظاهر
و تمایلت کالغصن فی دعص النّقا تلتفّ فی ورق الشباب الناضر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 64
یندی بماء الورد مسبل شعرها کالطّلّ یسقط من جناح الطائر
تزهی برونقها و عزّ جمالها زهو المؤیّد بالثناء العاطر
ملک تضاءلت الملوک لقدره و عنا له صرف الزمان الجائر
و إذا لمحت جبینه و یمینه أبصرت بدرا فوق بحر زاخر
فلما قرأها المعتمد استحضره، و قال له: أحسنت، أ و معنا کنت؟ فقال له: یا قاتل المحل، أما تلوت فِیهِما فاکِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ (68) [سورة النحل، الآیة: 68].

[بین المعتمد و البطلیوسی النحلی]

و أصبح المعتمد یوما ثملا فدخل الحمّام، و أمر أن یدخل النحلیّ معه، فجاء و قعد فی مسلخ الحمام حتی یستأذن علیه، فجعل المعتمد یحبق فی الحمام و هو خال و قد بقیت فی رأسه بقیّة من السکر، و جعل کلّما سمع دویّ ذلک الصوت یقول: الجوز، اللوز، القسطل، و مرّ علی هذا ساعة، إلی أن تذکّر النحلی، فصادفه، فلمّا دخل قال له: من أیّ وقت أنت هنا؟ قال: من أول ما رتّب مولانا الفواکه فی النصبة، فغشی علیه من الضحک، و أمر له بإحسان. و النصبة: مائدة یصبون فیها هذه الأصناف.
و لمّا استحسن المعتمد قول المتنبی: [الطویل]
إذا ظفرت منک المطیّ بنظرة أثاب بها معیی المطیّ و رازمه
قال ابن وهبون بدیهة: [الطویل]
لئن جاد شعر ابن الحسین فإنما تجید العطایا، و اللّها تفتح اللّها
تنبّأ عجبا بالقریض و لو دری بأنک تروی شعره لتألّها
و قد تقدّم ذکرهما، فأمر له بمائتی دینار.
و لمّا قال ابن وهبون المذکور: [البسیط]
غاض الوفاء فما تلقاه فی رجل و لا یمرّ لمخلوق علی بال
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 65
قد صار عندهم عنقاء مغربة أو مثل ما حدّثوا عن ألف مثقال
فقال له المعتمد: عنقاء مغربة و ألف مثقال یا عبد الجلیل عندک سواء؟ فقال: نعم، قال: قد أمرنا لک بألف دینار و بألف دینار أخری تنفقها.

[ابن عبد البر یفتی بجواز أکل طعام الأمراء]

و ذکر القرطبی صاحب «التذکرة» فی کتابه «قمع الحرص بالزهد و القناعة» ما صورته:
روینا أن الإمام أبا عمر بن عبد البر، رضی اللّه تعالی عنه، بلغه و هو بشاطبة أنّ أقواما عابوه بأکل طعام السلطان و قبول جوائزه، فقال: [مجزوء الرمل]
قل لمن ینکر أکلی لطعام الأمراء
أنت من جهلک هذا فی محلّ السّفهاء
لأنّ الاقتداء بالصالحین، من الصحابة و التابعین، و أئمّة الفتوی من المسلمین، من السلف الماضین، هو ملاک الدین، فقد کان زید بن ثابت- و کان من الراسخین فی العلم- یقبل جوائز معاویة و ابنه یزید، و کان ابن عمر، رضی اللّه تعالی عنهما- مع ورعه و فضله- یقبل هدایا صهره المختار بن أبی عبید، و یأکل طعامه، و یقبل جوائزه، و قال عبد اللّه بن مسعود- و کان قد ملئ علما- لرجل سأله، فقال: إنّ لی جارا یعمل بالربا، و لا یجتنب فی مکسبه الحرام، یدعونی إلی طعامه، أ فأجیبه؟ قال: نعم، لک المهنأ و علیه المأثم، ما لم تعلم الشی‌ء بعینه حراما، و قال عثمان بن عفان رضی اللّه تعالی عنه- حین سئل عن جوائز السلاطین-:
لحم ظبی ذکی، و کان الشعبی- و هو من کبار التابعین و علمائهم- یؤدّب بنی عبد الملک بن مروان، و یقبل جوائزه و یأکل طعامه، و کان إبراهیم النخعی و سائر علماء الکوفة و الحسن البصری- مع زهده و ورعه- و سائر علماء البصرة و أبو سلمة بن عبد الرحمن و أبان بن عثمان و الفقهاء السبعة بالمدینة- حاشا سعید بن المسیّب- یقبلون جوائز السلطان، و کان ابن شهاب یقبلها، و یتقلّب فی جوائزهم، و کانت أکثر کسبه، و کذلک أبو الزناد، و کان مالک و أبو یوسف و الشافعی و غیرهم من فقهاء الحجاز و العراق یقبلون جوائز السلاطین و الأمراء، و کان سفیان الثوری- مع ورعه و فضله- یقول: جوائز السلطان أحبّ إلیّ من صلة الإخوان؛ لأنّ الإخوان یمنّون و السلطان لا یمنّ، و مثل هذا عن العلماء و الفضلاء کثیر، و قد جمع الناس فیه أبوابا، و لأحمد بن خالد فقیه الأندلس و عالمها فی ذلک کتاب حمله علی وضعه و جمعه طعن أهل بلده علیه فی قبوله جوائز عبد الرحمن الناصر، إذ نقله إلی المدینة بقرطبة، و أسکنه دارا من دور الجامع قربه، و أجری علیه الرزق من الطعام و الإدام و الناضّ، و له و لمثله فی بیت المال
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 66
حظّ، و المسؤول عن التخلیط فیه هو السلطان، کما قال عبد اللّه بن مسعود «لک المهنأ و علیه المأثم، ما لم تعلم الشی‌ء بعینه حراما»، و معنی قول ابن مسعود هذا قد أجمع العلماء علیه، فمن علم الشی‌ء بعینه حراما مأخوذا من غیر حلّه کالجریمة و غیرها و شبهها من الطعام أو الدابة و ما کان مثل ذلک کلّه من الأشیاء المتعیّنة غصبا أو سرقة أو مأخوذة بظلم بیّن لا شبهة فیه فهذا الذی لم یختلف أحد فی تحریمه، و سقوط عدالة آکله، و أخذه و تملّکه، و ما أعلم من علماء التابعین أحدا تورّع عن جوائز السلطان، إلّا سعید بن المسیّب بالمدینة، و محمد بن سیرین بالبصرة، و هما قد ذهبا مثلا فی التورّع، و سلک سبیلهما فی ذلک أحمد بن حنبل و أهل الزهد و الورع و التقشّف، رحمة اللّه تعالی علیهم أجمعین! و الزهد فی الدنیا من أفضل الفضائل، و لا یحلّ لمن وفّقه اللّه تعالی و زهد فیها أن یحرّم ما أباح اللّه تعالی منها، و العجب من أهل زماننا یعیبون الشبهات، و هم یستحلّون المحرّمات، و مثالهم عندی کالذین سألوا عبد اللّه بن عمر، رضی اللّه تعالی عنهما، عن المحرم یقتل الفراد و الحلمة، فقال للسائلین له:
من أنتم؟ فقالوا: من أهل الکوفة، فقال: تسألوننی عن هذا و أنتم قتلتم الحسین بن علی، رضی اللّه تعالی عنهما؟ و روی ابن عمر عن النبیّ صلی اللّه علیه و سلم أنه قال: «ما أتاک من غیر مسألة فکله و تموّله»، و روی هذا الحدیث أیضا عن عبد اللّه بن عمر، رضی اللّه تعالی عنهما «ما أتاک من غیر مسألة فکله و تموّله»، و روی أبو سعید الخدری و جابر بن عبد اللّه عن النبیّ صلی اللّه علیه و سلم معناه، و فی حدیث أحدهما «إنما هو رزق رزقکه اللّه تعالی»، و فی لفظ بعض الرواة «و لا تردّ علی اللّه رزقه» و هذا کله مرکب مبنی علی ما أجمعوا علیه، و هو الحقّ، فمن عرف الشی‌ء المحرّم بعینه فإنه لا یحلّ له، المسألة من کلام ابن عبد البرّ، انتهی.
و حضر ابن مجبر مع عدوّ له جاحد لمعروفه، و أمامهما زجاجة سوداء فیها خمر، فقال له الحسود: إن کنت شاعرا فقل فی هذه، فقال ارتجالا:
«سأشکو إلی الندمان» إلی آخر الحکایة.
و قد تقدّمت فی رسالة الشقندی رحمه اللّه تعالی.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 67

[أبو بکر یحیی بن مجیر الفهری]

و ابن مجبر هو أبو بکر یحیی بن عبد الجلیل بن عبد الرحمن بن مجبر الفهری، کان فی وقته شاعر المغرب، و یشهد له بقوّة عارضته و سلامة طبعه قصائده التی صارت مثالا، و بعدت علی قربها منالا، و شعره کثیر یشتمل علی أکثر من تسعة آلاف و أربعمائة بیت، و اتّصل بالأمیر أبی عبد اللّه بن سعد بن مردنیش، و له فیه أمداح، و أنشد یوسف بن عبد المؤمن یهنیه بفتح: [الخفیف]
إنّ خیر الفتوح ما جاء عفوا مثل ما یخطب الخطیب ارتجالا
و کان أبو العباس الجراوی حاضرا، فقطع علیه لحسادة وجدها، و قال: یا سیدنا، اهتدم بیت وضاح: [الرجز]
خیر شراب ما کان عفوا کأنه خطبة ارتجالا
فبدر المنصور، و هو حینئذ وزیر أبیه و سنّه قریب العشرین، و قال: إن کان اهتدمه فقد استحقّه لنقله إیّاه من معنی خسیس إلی معنی شریف، فسرّ أبوه بجوابه، و عجب الحاضرون.
و مرّ المنصور أیام إمرته بأونبة من أرض شلب، فوقف علی قبر الحافظ أبی محمد بن حزم، و قال: عجبا لهذا الموضع، یخرج منه مثل هذا العالم، ثم قال: کلّ العلماء عیال علی ابن حزم، ثم رفع رأسه و قال: کما أنّ الشعراء عیال علیک یا أبا بکر، یخاطب ابن مجبر.
و من شعر ابن مجبر یصف خیل المنصور من قصیدة فی مدحه: [الطویل]
له حلبة الخیل العتاق کأنها نشاوی تهاوت تطلب العزف و القصفا
عرائس أغنتها الحجول عن الحلی فلم تبغ خلخالا و لا التمست وقفا
فمن یقق کالطّرس تحسب أنه و إن جرّدوه فی ملاءته التفّا
و أبلق أعطی اللیل نصف إهابه و غار علیه الصبح فاحتبس النصفا
و ورد تغشّی جلده شفق الدّجی فإذ حازه دلّی له الذیل و العرفا
و أشقر مجّ الراح صرفا أدیمه و أصفر لم یمسح بها جلده صرفا
و أشهب فضّیّ الأدیم مدنّر علیه خطوط غیر مفهمة حرفا
کما خطّر الزاهی بمهرق کاتب فجرّ علیه ذیله و هو ما جفّا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 68
تهبّ علی الأعداء منها عواصف ستنسف أرض المشرکین بها نسفا
تری کلّ طرف کالغزال فتمتری أظبیا تری تحت العجاجة أم طرفا
و قد کان فی البیداء یألف سربه فربّته مهرا و هی تحسبه خشفا
تناوله لفظ الجواد لأنه علی ما أردت الجری أعطاکه ضعفا
و لمّا اتّخذ المنصور مقصورة الجامع بمراکش بدار ملکها، و کانت مدبرة علی انتصابها إذا استقرّ المنصور و وزراؤه بمصلّاه، و اختفائها إذا انفصلوا عنها، أنشد فی ذلک الشعراء فقال ابن مجبر من قصیدة أولها: [الکامل]
أعلمتنی ألقی عصا التسیار فی بلدة لیست بدار قرار
إلی أن قال:
طورا تکون بمن حوته محیطة فکأنها سور من الأسوار
و تکون حینا عنهم محبوّة فکأنها سرّ من الأسرار
و کأنها علمت مقادیر الوری فتصرّفت لهم علی مقدار
فإذا أحسّت بالإمام یزورها فی قومه قامت إلی الزّوّار
یبدو فتبدو ثم تخفی بعده کتکوّن الهالات للأقمار
و ممّن روی عنه أبو علی الشلوبین و طبقته، و توفّی بمراکش سنة 588، و عمره 53 سنة، رحمه اللّه تعالی!
و قد حکی الشریف الغرناطی شارح المقصورة هذه الحکایة بأتمّ ممّا ذکرناه، فقال عن الکاتب ابن عیاش [کاتب المنصور الموحدی] قال: کانت لأبی بکر بن مجیر وفادة علی المنصور فی کل سنة، فصادف فی إحدی وفاداته فراغه من إحداث المقصورة التی کان أحدثها بجامعه المتّصل بقصره فی حضرة مراکش، و کانت قد وضعت علی حرکات هندسیة ترفع بها لخروجه و تخفض لدخوله، و کان جمیع من بباب المنصور یومئذ من الشعراء و الأدباء قد نظموا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 69
أشعارا أنشدوه إیاها فی ذلک، فلم یزیدوا علی شکره، و تجزیته الخیر فیما جدّد من معالم الدین و آثاره، و لم یکن فیهم من تصدّی لوصف الحال، حتی قام أبو بکر بن مجبر فأنشد قصیدته التی أولها: «أعلمتنی ألقی عصا التسیار» و استمرّ فیها حتی ألمّ بذکر المقصورة فقال یصفها «طورا تکون- إلخ» فطرب المنصور لسماعها، و ارتاح لاختراعها، انتهی.
و قد بطلت حرکات هذه المقصورة الآن، و بقیت آثارها حسبما شاهدته سنة عشر و ألف، و اللّه تعالی وارث الأرض و من علیها.

[من شعر الأندلسیین]

و من نظم ابن مجبر أیضا ما کتب به إلی السلطان ملک المغرب- رحمه اللّه تعالی!- و قد ولد له ولد، أعنی لابن مجبر: [الرمل]
ولد العبد الذی إنعامکم طینة أنشئ منها جسده
و هو دون اسم لعلمی أنه لا یسمّی العبد إلّا سیّده
و قوله: [الرمل]
ملک ترویک منه شیمة أنست الظمآن زرق النّطف
جمعت من کلّ مجد فحکت لفظة قد جمّعت من أحرف
یعجب السامع من وصفی لها و وراء العجز ما لم أصف
لو أعار السّهم ما فی رأیه من سداد و هدی لم یصف
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص69
حلمه الراجح میزان الهدی یزن الأشیاء وزن المنصف
و قال ابن خفاجة: [السریع]
صحّ الهوی منک و لکننی أعجب من بین لنا یقدر
کأننا فی فلک دائر فأنت تخفی و أنا أظهر
و هما الغایة فی معناهما، کما قاله ابن ظافر- رحمه اللّه تعالی!-
و قال الأعمی التّطیلی: [البسیط]
أما اشتفت منی الأیام فی وطنی حتی تضایق فیما عزّ من وطری
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 70
فلا قضت من سواد العین حاجتها حتی تکرّ علی ما طلّ فی الشّعر
و قال القاضی أبو حفص بن عمر القرطبی: [الوافر]
هم نظروا لواحظها فهاموا و تشرب لبّ شاربها المدام
یخاف الناس مقلتها سواها أ یذعر قلب حامله الحسام
سما طرفی إلیها و هو باک و تحت الشمس ینسکب الغمام
و أذکر قدّها فأنوح وجدا علی الأغصان تنتدب الحمام
فأعقب بینها فی الصدر غمّا إذا غربت ذکاء أتی الظلام
و قال الحاجب عبد الکریم بن مغیث: [السریع]
طارت بنا الخیل و من فوقها شهب بزاة لحمام الحمام
کأنما الأیدی قسیّ لها و الطیر أهداف و هنّ السّهام
و قال أخوه أحمد: [السریع]
اشرب علی البستان من کفّ من یسقیک من فیه و أحداقه
و انظر إلی الأیکة فی برده و لاحظ البدر بأطواقه
و قد بدا السّرو علی نهره کحائض شمّر عن ساقه
و قال أبو العباس أحمد بن أبی عبد اللّه بن أمیة البلنسیّ: [الطویل]
إذا کان ودّی و هو أنفس قربة یجازی ببغض فالقطیعة أحزم
و من أضیع الأشیاء ودّ صرفته إلی غیر من تحظی لدیه و تکرم‌

[سرعة ارتجال الأندلسیین]

و من حکایات أهل الأندلس فی خلع العذار و الطرب و الظرف و غیر ذلک کسرعة الارتجال ما حکاه صاحب «بدائع البداءة» قال: أخبرنی من أثق به بما هذا معناه، قال: خرج الوزیر أبو بکر بن عمار و الوزیر أبو الولید بن زیدون و معهما الوزیر ابن خلدون من إشبیلیة إلی منظرة لبنی عباد بموضع یقال له لقنت تحفّ بها مروج مشرقة الأنوار، متنسّمة الأنجاد و الأغوار، متبسّمة عن ثغور النّوّار، فی زمان ربیع سقت الأرض السّحب فیه بوسمیّها و ولیّها،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 71
و جلتها فی زاهر ملبسها و باهر حلیّها و أرداف الرّبا قد تأزّرت بالأزر الخضر من نباتها، و أجیاد الجداول قد نظم النّوّار قلائده حول لبّاتها، و مجامر الزهر تعطر أردیة النسائم عند هبّاتها، و هناک من البهار ما یزری علی مداهن النّضار، و من النرجس الریان ما یهزأ بنواعس الأجفان، و قد نووا الانفراد للهو و الطرب، و التنزّه فی روضی النبات و الأدب، و بعثوا صاحبا لهم یسمی خلیفة هو قوام لذّتهم، و نظام مسرّتهم، لیأتیهم بنبیذ یذهبون الهمّ بذهبه فی لجین زجاجه، و یرمونه منه بما یقضی بتحریکه للهرب عن القلوب و إزعاجه، و جلسوا لانتظاره، و ترقّب عوده علی آثاره، فلمّا بصروا به مقبلا من أوّل الفجّ بادروا إلی لقائه، و سارعوا إلی نحوه و تلقائه، و اتّفق أنّ فارسا من الجند رکض فرسه فصدمه و وطئ علیه فهشم أعظمه و أجری دمه، و کسر قمعل النبیذ الذی کان معه، و فرق من شملهم ما کان الدهر قد جمعه، و مضی علی غلوائه راکضا حتی خفی عن العین، خائفا من متعلّق به یحین بتعلّقه الحین، و حین وصل الوزراء إلیه، تأسّفوا علیه، و أفاضوا فی ذکر الزمان و عدوائه، و الخطب و ألوانه، و دخوله بطوامّ المضرّات، علی تمام المسرّات، و تکدیره لأوقات المنعمات، بالآفات المؤلمات، فقال ابن زیدون: [الوافر]
أ تلهو و الحتوف بنا مطیفه و نأمن و المنون لنا مخیفه
فقال ابن خلدون: [الوافر]
و فی یوم و ما أدراک یوم مضی قمعالنا و مضی خلیفه
فقال ابن عمار: [الوافر]
هما فخّارتا راح و روح تکسّرتا فأشقاف و جیفه

[بین ابن شهید و ابن أبی عامر]

و ذکر ابن بسام ما معناه أن أبا عامر بن شهید حضر لیلة عند الحاجب أبی عامر بن المظفر بن المنصور بن أبی عامر بقرطبة، فقامت تسقیهم وصیفة عجیبة صغیرة الخلق، و لم تزل تسهر فی خدمتهم إلی أن همّ جند اللیل بالانهزام، و أخذ فی تقویض خیام الظلام، و کانت تسمی أسیماء، فعجب الحاضرون من مکابدتها السهر طول لیلتها علی صغر سنها، فسأله المظفر وصفها، فصنع ارتجالا: [مخلع البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 72
أفدی أسیماء من ندیم ملازم للکؤوس راتب
قد عجبوا فی السّهاد منها و هی لعمری من العجائب
قالوا تجافی الرّقاد عنها فقلت لا ترقد الکواکب‌

[ابن شهید عند القاضی ابن ذکوان]

و حکی ابن بسام ما معناه أن ابن شهید المذکور کان یوما مع جماعة من الأدباء عند القاضی ابن ذکوان، فجی‌ء بباکورة باقلا، فقال ابن ذکوان: لا ینفرد بها إلّا من وصفها، فقال ابن شهید: أنا لها، و ارتجل: [المنسرح]
إنّ لآلیک أحدثت صلفا فاتّخذت من زمرّد صدفا
تسکن ضرّاتها البحور و ذی تسکن للحسن روضة أنفا
هامت بلحف الجبال فاتّخذت من سندس فی جنانها لحفا
شبّهتها بالثغور من لطف حسبک هذا من رمز من لطفا
جاز ابن ذکوان فی مکارمه حدود کعب و ما به وصفا
قدّم درّ الریاض منتخبا منه لأفراس مدحه علفا
أکل ظریف و طعم ذی أدب و الفول یهواه کلّ من ظرفا
رخّص فیه شیخ له قدر فکان حسبی من المنی و کفی‌

[بین ابن شهید و جماعة من أصحابه]

و قال ابن بسام: إن جماعة من أصحاب ابن شهید المذکور قالوا له: یا أبا عامر، إنک لآت بالعجائب، و جاذب بذوائب الغرائب، و لکنک شدید الإعجاب بما یأتی منک، هازّ لعطفک عند النادر یتاح لک، و نحن نرید منک أن تصف لنا مجلسنا هذا، و کان الذی طلبوه منه زبدة التعنیت؛ لأنّ المعنی إذا کان جلفا ثقیلا علی النفس، قبیح الصورة عند الحس، کلّت الفکرة عنه و إن کانت ماضیة، و أساءت القریحة فی وصفه و إن کانت محسنة، و کان فی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 73
المجلس باب مخلوع معترض علی الأرض، و لبد أحمر مبسوط قد صففت خفافهم عند حاشیته، فقال مسرعا: [مخلع البسیط]
و فتیة کالنجوم حسنا کلّهم شاعر نبیل
متّقد الجانبین ماض کأنه الصارم الصّقیل
راموا انصرافی عن المعالی و الحدّ من دونها فلیل
فالشدّ فی أمرها فسیح کلّ کثیر له قلیل
فی مجلس زانه التصابی و طاردت وصفه العقول
کأنما بابه أسیر قد عرضت دونه نصول
یراد منه المقال قسرا و هو علی ذاک لا یقول
ننظر من لبده لدینا بحر دم تحتنا یسیل
کأنّ أخفافنا علیه مراکب ما لها دلیل
ضلّت فلم تدر أین تجری فهل علی شطّه تقیل
فعجب القوم من أمره، ثم خرج من عندهم، فمرّ علی بعض معارفه من الطرائفیین و بین یدیه زنبیل ملآن خرشفا، فجعل یده فی لجام بغلته، و قال: لا أترکک أو تصف الخرشف فقد وصفه صاعد فلم یقل شیئا، فقال له ابن شهید: و یحک! أعلی مثل هذه الحال؟ قال:
نعم، فارتجل: [الرجز].
هل أبصرت عیناک یا خلیلی قنافذا تباع فی زنبیل
من حرشف معتمد جلیل ذی إبر تنفذ جلد الفیل
کأنها أنیاب بنت الغول لو نخست فی است امرئ ثقیل
لقفّزته نحو أرض النّیل لیس یری طیّ حشا مندیل
نقل السخیف المائن الجهول و أکل قوم نازحی العقول
أقسمت لا أطعمها أکیلی و لا طعمتها علی شمول
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 74

[بین أبی العلاء بن زهر و ابن رزین]

و قال فی «بدائع البداءة»: دخل الوزیر أبو العلاء زهر ابن الوزیر أبی مروان عبد الملک بن زهر علی الأمیر عبد الملک بن رزین فی مجلس أنس، و بین یدیه ساق یسقی خمرین من کأسه و لحظه، و یبدی درّین من حبابه و لفظه، و قد بدا خطّ عذاره فی صحیفة خدّه، و کمل حسنه باجتماع الضدّ منه مع ضدّه، فکأنه بسحر لحظه أبدی لیلا فی شمس، و جعل یومه فی الحسن أحسن من أمس، فسأله ابن رزین أن یصنع فیه، فقال بدیها: [الطویل]
تضاعف وجدی أن تبدّی عذاره و نمّ فخان القلب منّی اصطباره
و قد کان ظنّی أن سیمحق لیله بدائع حسن هام فیها نهاره
فأظهر ضدّ ضدّه فیه إذ وشت بعنبره فی صفحة الخدّ ناره
و استزاده، فقال بدیها: [الخفیف]
محیت آیة النهار فأضحی بدر تمّ و کان شمس نهار
کان یعشی العیون نورا إلی أن شغل اللّه خدّه بالعذار
و صنع أیضا: [المتقارب]
عذار ألمّ فأبدی لنا بدائع کنّا لها فی عمی
و لو لم یجنّ النهار الظلا م لم یستبن کوکب فی السّما
و صنع أیضا: [الکامل]
تمّت محاسن وجهه و تکاملت لمّا استدار به عذار مونق
و کذلک البدر المنیر جماله فی أن یکنّفه سماء أزرق
انتهی.

[عبد اللّه بن عاصم صاحب الشرطة فی قرطبة]

و حکی الحمیدی و غیره أن عبد اللّه بن عاصم صاحب الشرطة بقرطبة کان أدیبا شاعرا سریع البدیهة، کثیر النوادر، و هو من جلساء الأمیر محمد بن عبد الرحمن الأموی ملک الأندلس، و حکوا أنه دخل علیه فی یوم ذی غیم، و بین یدیه غلام حسن المحاسن، جمیل الزی، لیّن الأخلاق، فقال الأمیر: یا ابن عاصم، ما یصلح فی یومنا هذا؟ فقال: عقار ینفد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 75
الدنان، و تؤنس الغزلان، و حدیث کقطع الروض قد سقطت فیه مؤونة التحفّظ، و أرخی له عنان التبسّط، یدیرها هذا الأغید الملیح، فاستضحک الأمیر، ثم أمر بمراتب الغناء، و آلات الصهباء، فلمّا دارت الکأس، و استمطر الأمیر نوادره، أشار إلی الغلام أن یلحّ فی سقیه، و یؤکّد علیه، فلمّا أکثر رفع رأسه إلیه و قال علی البدیهة: [المنسرح]
یا حسن الوجه لا تکن صلفا ما لحسان الوجوه و الصّلف
تحسن أن تحسّن القبیح و لا ترثی لصبّ متیّم دنف
فاستبدع الأمیر بدیهته، و أمر له ببدرة، و یقال: إنه خیّره بینها و بین الوصیف، فاختارها نفیا للظّنّة عنه، انتهی.

[بین ابن ظافر و الملک الأشرف الأیوبی]

قلت: أذکرتنی هذه الحکایة ما حکاه علی بن ظافر عن نفسه إذ قال: کنت عند المولی الملک الأشرف بن العادل بن أیوب سنة 603 بالرّها، و قد وردت إلیه فی رسالة، فجعلنی بین سمعه و بصره، و أنزلنی فی بعض دوره بالقلعة بحیث یقرب علیه حضوری فی وقت طلبتی أو إرادة الحدیث معی، فلم أشعر فی بعض اللیالی و أنا نائم فی فراشی إلّا به، و هو قائم علی رأسی، و السکر قد غلب علیه، و الشمع تزهر حوالیه، و قد حفّ ممالیکه به، و کأنهم الأقمار الزواهر، فی ملابس کالریاض ذات الأزاهر، فقمت مروّعا، فأمسکنی و بادر بالجلوس إلی جانبی بحیث منعنی عن القیام عن الوساد، و أبدی من الجمیل ما أبدلنی بالنّفاق بعد الکساد، ثم قال: غلبنی الشوق إلیک، و لم أرد إزعاجک و التثقیل علیک، ثم استدعی من کان فی مجلسه من خواصّ القوالین، فحضروا و أخذوا من الغناء فیما یملأ المسامع التذاذا، و یجعل القلوب من الوجد جذاذا، و کان له فی ذلک الوقت مملوکان هما نیّرا سماء ملکه، و واسطتا درّ سلکه، و قطبا فلک طربه و وجده، و رکنا بیت سروره و لهوه، و کانا یتناوبان فی خدمته، فحضر أحدهما فی تلک اللیلة و غاب الآخر، و کان کثیرا ما یداعبنی فی أمرهما، و یستجلب منی القول فیهما و الکلام فی التفضیل بینهما، فقلت للوقت: [الکامل]
یا مالکا لم یحک سیرته ماض و لا آت من البشر
اجمع لنا تفدیک أنفسنا فی اللیل بین الشمس و القمر
فطرب، و أمر فی الحال بإحضار الغائب منهما، فحضر و النوم قد زاد أجفانه تفتیرا،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 76
و معاطفه تکسیرا، فقلت بین یدیه بدیهة فی وصف المجلس: [الوافر]
سقی الرحمن عصرا قد مضی لی بأکناف الرّها صوب الغمام
و لیلا باتت الأنوار فیه تعاون فی مدافعة الظلام
فنور من شموع أو ندامی و نور من سقاة أو مدام
یطوف بأنجم الکاسات فیه سقاة مثل أقمار التمام
تریک به الکؤوس جمود ماء فتحسب راحها ذوب الضّرام
یمیل به غصونا من قدود غناء مثل أصوات الحمام
فکم من موصلیّ فیه یشدو فینسی النفس عادیة الحمام
و کم من زلزل للضرب فیه و کم للزّمر فیه من زنام
لدی موسی بن أیوب المرجّی إذا ما ضنّ غیث بانسجام
و من کمظفّر الدین الملیک ال أجلّ الأشرف النّدب الهمام
فما شمس تقاس إلی نجوم تحاکی قدره بین الکرام
فدام مخلّدا فی الملک یبقی إذا ما ضنّ دهر بالدوام
فلما أنشدتها قام فوضع فرجیة من خاصّ ملابسه کانت علیه علی کتفی، و وضع شربوشه بیده علی رأس مملوک صغیر کان لی، انتهی.

[بعض بدائع ابن ظافر]

و لابن ظافر هذا بدائع: منها ما حکاه عن نفسه إذ قال: و من أعجب ما دهیت به و رمیت، إلّا أنّ اللّه بفضله نصر، و أعطی الظّفر، و أعان خاطری الکلیل، حتی مضی مضاء السیف الصقیل، أننی کنت فی خدمة مولانا السلطان الملک العادل بالإسکندریة سنة إحدی و ستمائة مع من ضمّته حاشیة العسکر المنصور من الکتّاب و الحواشی و الخدام، و دخلت سنة اثنتین و ستمائة و نحن بالثغر مقیمون فی الخدمة، مرتضعون لأفاویق النعمة، فحضرت فی جملة
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 77
من حضر الهناء، من الفقهاء بالثغر و العلماء، و المشایخ و الکبراء، و جماعة الدیوان و الأمراء، و اتّفق أن کان الیوم من أیام الجلوس لإمضاء الأحکام و العرض لطوائف الأجناد، فلم یبق أحد من أهل البلد و لا من أهل المعسکر إلّا حضر مهنّیا، و مثل شاکرا و داعیا، فحین غصّ المجلس بأهله، و شرق بجمع السلطان و حفله، و خرج مولانا السلطان إلی مجلسه، و استقرّ فی دسته، أخرج من برکة قبائه کتابا ناوله للصاحب الأجلّ صفی الدین أبی محمد عبد اللّه بن علی وزیر دولته، و کبیر جملته، و هو مفضوض الختام، مفکوک الفدام، ففتحه فإذا فیه قطعة وردت من المولی الملک المعظّم کتبها إلیه یتشوّقه و یستعطفه لزیارته، و یرقّقه و یستحثّه علی عود رکابه إلی بلاد الشام، للمثاغرة بها، و قمع عدوّها، و یعرض بذکر مصر و شدّة حرّها، و وقد جمرها، و ذلک بعد أن کان وصل إلی خدمته بالثغر ثم رجع إلیها، و الأبیات: [الکامل]
أروی رماحک من نحور عداکا و انهب بخیلک من أطاع سواکا
و ارکب خیولا کالثعالی شزّبا و اضرب بسیفک من یشقّ عصاکا
و اجلب من الأبطال کلّ سمیدع یفری بعزمک کلّ من یشناکا
و استرعف السّمر الطوال و روّها و اسق المنیّة سیفک السّفّاکا
و سر الغداة إلی العداة مبادرا بالضرب فی هام العدوّ دراکا
و انکح رماحک للثغور فإنها مشتاقة أن تبتنی بعلاکا
فالعزّ فی نصب الخیام علی العدا تردی الطّغاة و تدفع الملّاکا
و النصر مقرون بهمّتک التی قد أصبحت فوق السّماک سماکا
فإذا عزمت وجدت من هو طائع و إذا نهضت وجدت من یخشاکا
و النصر فی الأعداء یوم کریهة أحلی من الکأس الذی روّاکا
و العجز أن تضحی بمصر راهنا و تحلّ فی تلک العراص عراکا
فأرح حشاشتک الکریمة من لظی مصر لکی نحظی الغداة بذاکا
فلقد غدا قلبی علیک بحرقة شغفا و لا حرّ البلاد هناکا
و انهض إلی راجی لقاک مسارعا فمناه من کلّ الأمور لقاکا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 78
و ابرد فؤاد المستهام بنظرة و أعد علیه العیش من رؤیاکا
و اشف الغداة غلیل صبّ هائم أضحی مناه من الحیاة مناکا
فسعادتی بالعادل الملک الذی ملک الملوک و قارن الأفلاکا
فبقیت لی یا مالکی فی غبطة و جعلت من کلّ الأمور فداکا
فلمّا تلا الصاحب علی الحاضرین محکم آیاتها، و جلا منها العروس التی حازت من المحاسن أبعد غایاتها، أخذ الناس فی الاستحسان لغریب نظامها، و تناسق التئامها، و الثناء علی الخاطر الذی نظم بدیع أبیاتها، و أطلع من مشرق فکره آیاتها، فقال السلطان: نرید من یجیبه عنّا بأبیات علی قافیتها، فالتفت مسرعا إلیّ و أنا عن یمینه، و قال: یا مولانا، مملوکک فلان هو فارس هذا المیدان، و المعتاد للتخلّص من مضایق هذا الشان، ثم قطع وصلا من درج کان بین یدیه، و ألقاه إلیّ، و عمد إلی دواته فأدارها بین یدیّ، فقال له السلطان: أهکذا علی مثل هذا الحال؟ و فی مثل هذا الوقت؟ فقال: نعم، أنا قد جرّبته فوجدته متّقد الخاطر، حاضر الذهن، سریع إجابة الفکر، فقال السلطان: و علی کل حال قم إلی هنا لتنکفّ عنک أبصار الناظرین، و تنقطع عنک ضوضاء الحاضرین، و أشار إلی مکان عن یمین البیت الخشب الذی هو بالجلوس فیه منفرد، فقمت و قد فقدت رجلی انخذالا، و ذهنی اختلالا، لهیبة المجلس فی صدری، و کثرة من حضره من المترقّبین لی، المنتظرین حلول فاقرة الشماتة بی، فما هو إلّا أن جلست حتی ثاب إلیّ خاطری، و انثال الکلام علی سرائری، فکنت أتوهّم أنّ فکری کالبازی الصّیود لا یری کلمة إلّا أنشب فیها منسره، و لا معنی إلّا شکّ فیه ظفره، فقلت فی أسرع وقت: [الکامل]
وصلت من الملک المعظّم تحفة ملأت بفاخر درّها الأسلاکا
أبیات شعر کالنجوم جلالة فلذا حکت أوراقها الأفلاکا
عجبا و قد جاءت کمثل الروض إذ لم تذوها بالحرّ نار ذکاکا
جلت الهموم عن الفؤاد کمثل ما تجلو بغرّة وجهک الأحلاکا
کقمیص یوسف إذ شفت یعقوب ری یاه شفتنی مثله ریّاکا
قد أعجزت شعراء هذا العصر کل لهم فلم لا تعجز الأملاکا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 79
ما کان هذا الفضل یمکن مثله أن یحتویه من الأنام سواکا
لم لا أغیب عن الشآم و هل له من حاجة عندی و أنت هناکا
أم کیف أخشی و البلاد جمیعها محمیّة فی جاه طعن قناکا
یکفی الأعادی حرّ بأسک فیهم أضعاف ما یکفی الولیّ نداکا
ما زرت مصر لغیر ضبط ثغورها فلذا صبرت فدیت عن رؤیاکا
أمّ البلاد علا علیها قدرها لا سیما مذ شرّفت بخطاکا
طابت و حقّ لها و لم لا و هی قد حوت المعلّی فی القداح أخاکا
أنا کالسحاب أزور أرضا ساقیا حینا و أمنح غیرها سقیاکا
مکثی جهاد للعدوّ لأننی أغزوه بالرأی السدید دراکا
لو لا الرباط و غیره لقصدت بال سّیر الحثیث إلیک نیل رضاکا
و لئن أتیت إلی الشآم فإنما یحتثّنی شوق إلی لقیاکا
إنی لأمنحک المحبة جاهدا و هوای فیما تشتهیه هواکا
فافخر فقد أصبحت بی و ببأسک ال حامی و کلّ مملّک یخشاکا
لا زلت تقهر من یعادی ملکنا أبدا، و من عاداک کان فداکا
و أعیش أبصر ابنک الباقی أبا و تعیش تخدم فی السعود أباکا
ثم عدت إلی مکانی و قد بیّضتها، و حلیت بزهرها ساحة القرطاس و روّضتها، فلمّا رآنی السلطان قد عدت قال لی: هل عملت شیئا؟ ظنّا منه أنّ العمل فی تلک اللمحة القریبة معجز متعذّر، و بلوغ الغرض فیها غیر متصوّر، فقلت: قد أجبت، فقال: أنشدنا، فصمت الناس، و حدّقت الأبصار، و أصاخت الأسماع، و ظنّ الناس بی الظنون، و ترقّبوا منی ما یکون، فما هو إلّا أن توالی الإنشاد لأبیاتها حتی صفقت الأیدی إعجابا، و تغامزت الأعین استغرابا، و حین انتهیت إلی ذکر مولانا الملک الکامل، بأنه المعلّی فی البنین إذا ضربت قداحهم، و سردت أمداحهم، اغرورقت عیناه دمعا لذکره، و أبان صمته مخفی المحبّة حتی أعلن بسرّه، و حین انتهیت إلی آخرها فاض دمعه، و لم یمکنه دفعه، فمدّ یده مستدعیا للورقة، فناولتها إلی ید
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 80
الصاحب، فناولها له، و عند حصولها فی یده قام من غیر إشعار لأحد بما دار من إرادة القیام فی خلده، سترا لما ظهر علیه من الرقة علی الموالی الأولاد، و کتما لما علیه من الوجد بهم و المحبّة لهم، و انفضّ المجلس.
و إنما حمل الصاحب علی هذا الفعل الذی غرّر بی فیه و خاطر بی بالتعریض له أشیاء کان یقترحها علیّ فأنفذ فیها من بین یدیه، و یخف الأمر منها علیّ لدالّتی علیه، منها أننی کنت فی خدمته سنة 599 بدمشق، فورد علیه کتاب من الملک المنصور محمد ابن الملک المظفر تقی الدین صاحب حماة، و قد بعث صحبته نسخة من دیوان شعره فتشاغل بتسوید جواب کتابه، فلمّا کتب بعضه التفت إلیّ و قال: اصنع أبیاتا أکتبها إلیه فی صدر الجواب، و اذکر فیها شعره، فقلت له: علی مثل هذه الحال؟ فقال: نعم، فقلت بقدر ما أنجز بقیة النسخة: [الطویل]
أیا ملکا قد أوسع الناس نائلا و أغرقهم بذلا و عمّهم عدلا
فدیناک هب للناس فضلا یزینهم فقد حزت دون الناس کلّهم الفضلا
و دونک فامنحهم من العلم و الحجا کما منحتهم کفّک الجود و البذلا
إذا حزت أوفی الفضل عفوا فما الذی ترکت لمن کان القریض له شغلا
و ما ذا عسی من ظلّ بالشعر قاصدا لبابک أن یأتی به جلّ أو قلّا
فلا زلت فی عزّ یدوم و رفعة تحوز ثناء یملأ الوعر و السّهلا
و وقع لابن ظافر أیضا من هذا النمط أنه دخل فی أصحاب له یعودون صاحبا لهم، و بین یدیه برکة قد راق ماؤها، و صحت سماؤها، و قد رصّ تحت دساتیرها نارنج فتن قلوب الحضّار، و ملأ بالمحاسن عیون النظّار، فکأنما رفعت صوالج فضّة علی کرات من النّضار، فأشار الحاضرون إلی وصفها، فقال بدیها: [الکامل]
أبدعت یا ابن هلال فی فسقیّة جاءت محاسنها بما لم یعهد
عجبا لأمواه الدساتیر التی فاضت علی نارنجها المتوقّد
فکأنهنّ صوالج من فضّة رفعت لضرب کرات خالص عسجد

[من ارتجال ابن قلاقش الاسکندری]

و من بدیع الارتجال ما حکاه المذکور عن ابن قلاقس الإسکندری رحمه اللّه تعالی إذ
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 81
قال: دخل الأعز أبو الفتوح بن قلاقس علی بلال بن مدافع بن بلال الفزاری، فعرض علیه سیفا قد نظم الفرند فی صفحته جوهره، و أذکی الدهر ناره و جمّد نهره، و ألبسه من سلخ الأفاعی رداء و جسّمه ردی، لا یمنع من برقه بدر مجنّ و لا ثریّا مغفر، و لا یسلم من حدّه من ثبت و لا ینجو لطوله من فرّ، فهو یبکی للنفاق و یضحک، و یرعد للغیظ و یفتک، و أمره بصفة شأنه، فقال علی لسانه: [الوافر]
أروق کما أروع فإن تصفنی فإنی رائق الصفحات رائع
تدافع بی خطوب الدهر حتی نقلت إلی بلال عن مدافع
و قال أیضا فیه: [الخفیف]
ربّ یوم له من النّقع سحب مالها غیر سائل الدم ودق
قد جلته یمنی بلال بحدّی فکأنّی فی راحة الشمس برق
و قال أیضا فیه: [الکامل]
أنا فی الکریهة کالشّهاب الساطع من صفحة تبدو و حدّ قاطع
فکأنما استملیت تلک و هذه من وصف کفّ بلال بن مدافع
و قال أیضا فیه: [الکامل]
انظر لمطّرد المیاه بصفحتی و لنار حدّی کم بها من صالی
قد عاد شدّی فی المضایق شیمتی کبلال بن مدافع بن بلال
و سأله صاحب له وصف مشط عاج قد أشبه الثریّا شکلا و لونا، و شقّ لیلا من الشّعر جونا، فقال: [الکامل]
و متیّم بالآبنوس و جسمه عاج و من أدهانه شرفاته
کتمت دیاجی الشّعر منه بدرها فوشت به للعین عیّوقاته
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 82
و قال فیه: [الطویل]
و أبیض لیل الآبنوس إذا سری تمزّق عن صبح من العاج باهر
و إن غاص فی بحر الشعور رأیته تبشّرنا أطرافه بالجواهر
و قال فیه: [السریع]
و مشرق یشبه ضوء الضحی حسنا و یسری فی الدّجی الفاحم
و کلّما قلّب فی لمّة أضحکها عن ثغره الباسم
و جلس بمصر فی دار الأنماط یوما مع جماعة، فمرّت بهم امرأة تعرف بابنة أمین الملک، و هی شمس تحت سحاب النّقاب، و غصن فی أوراق الشباب، فحدّقوا إلیها تحدیق الرقیب إلی الحبیب، و المریض إلی الطبیب، فجعلت تتلفّت تلفّت الظبی المذعور، أفرقه القانص فهرب، و تتثنّی تثنی الغصن الممطور عانقه النسیم فاضطرب، فسألوه العمل فی وصفها، فقال: هذا یصلح أن یعکس فیه قول العطار الأزدی القیروانی: [الکامل]
أعرضن لمّا أن عرضن، فإن یکن حذرا فأین تلفّت الغزلان
ثم صنع: [المتقارب]
لها ناظر فی ذرا ناضر کما رکّب السنّ فوق القناة
لوت حین ولّت لنا جیدها فأیّ حیاة بدت من وفاة
کما ذعر الظبی من قانص فمرّ و کرّر فی الالتفات
ثم صنع أیضا: [الکامل]
و لطیفة الألفاظ لکن قلبها لم أشک منه لوعة إلّا عتا
کملت محاسنها فودّ البدر أن یحظی ببعض صفاتها أو ینعتا
قد قلت لمّا أعرضت و تعرضت یا مؤیسا یا مطمعا قل لی متی
قالت أنا الظبی الغریر و إنما ولّی و أوجس نبوة فتلفّتا
قال علی بن ظافر: و حضر یوما عند بنی خلیف بظاهر الإسکندریة فی قصر رسا بناؤه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 83
و سما، و کاد یمزّق بمزاحمته أثواب السما، قد ارتدی جلابیب السحائب، و لاث عمائم الغمائم، و ابتسمت ثنایا شرفاته، و اتسمت بالحسن حنایا غرفاته، و أشرف علی سائر نواحی الدنیا و أقطارها، و حبته الریاض بما ائتمنتها علیه السّحب من ودائع أمطارها، و الرمل بفنائه قد نثر تبره فی زبرجد کرومه، و الجوّ قد بعث بذخائر الطیب لطیمة نسیمه، و النخل قد أظهرت جواهرها، و نشرت غدائرها، و الطّلّ ینثر لؤلؤه فی مسارب النسیم و مساحبه، و البحر یرعد غیظا من عبث الریاح به، فسأله بعض الحضور أن یصف ذلک الموضع الذی تمّت محاسنه، و غبط به ساکنه، فجاشت لذلک لجج بحره، و ألقت إلیه جواهره لترصیع لبّة ذلک القصر و نحره، فقال: [الوافر]
قصر بمدرجة النسیم تحدّثت فیه الریاض بسرّها المستور
خفض الخورنق و السّدیر سموّه و ثنی قصور الروم ذات قصور
لاث الغمام عمامة مسکیّة و أقام فی أرض من الکافور
غنّی الربیع به محاسن وصفه فافترّ عن نور یروق و نور
فالدّوح یسحب حلّة من سندس تزهی بلؤلؤ طلّها المنثور
و النخل کالغید الحسان تقرّطت بسبائک المنظوم و المنثور
و الرمل فی حبک النسیم کأنما أبدی غصون سوالف المذعور
و البحر یرعد متنه فکأنّه درع تشنّ بمعطفی مقرور
و کأننا و القصر یجمع شملنا فی الأفق بین کواکب و بدور
و کذاک دهر بنی خلیف لم یزل یثنی المعاطف فی حبیر حبور
ثم قال ابن ظافر: و أخبرنی الفقیه أبو الحسن علی بن الطوسی المعروف بابن السیوری الإسکندری النحوی بما هذا معناه، قال: کنت مع الأعز بن قلاقس فی جماعة، فمرّ بنا أبو الفضائل بن فتوح المعروف بالمصری، و هو راجع من المکتب، و معه دواته، و هو فی تلک الأیام قرّة العین ظرفا و جمالا، و راحة القلب قربا و وصالا، کلّ عین إلی وجهه محدّقة، و لمشهد خدّیه بخلوق الخجل مخلّقة، فاقترحنا علیه أن یتغزّل فیه، فصنع بدیها: [مجزوء الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 84
علّقته متعلّقا بالخطّ معتکفا علیه
حمل الدواة و لا دوا ء لعاشق یرجی لدیه
فدماء حبات القلو ب تلوح صبغا فی یدیه
لم أدر ما أشکو إلی ه أهجره أم مقلتیه
و الحبّ یخرسنی علی أنّی ألکّع سیبویه
ما لی إذا أبصرته شغل سوی نظری إلیه

[عود إلی کلام أهل الأندلس]

و قد آن وقت الرجعة إلی کلام الأندلسیین، الذی حلا، و أبعدنا عنه بما مرّ النّجعة فنقول:
ذکر الفتح فی قلائد العقیان، کما قال ابن ظافر، ما معناه: أخبرنی الوزیر أبو عامر بن بشتغیر أنه حضر مجلس القائد أبی عیسی بن لبّون فی یوم سفرت فیه أوجه المسرّات، و نامت عنه أعین المضرّات، و أظهرت سقاته غصونا تحمل بدورا، و تطوف من المدام بنار مازجت من الماء نورا، و شموس الکاسات تطلع فی أکفّها کالورد فی السوسان، و تغرب بین أقاحی نجوم الثغور فتذبل نرجس الأجفان، و عنده الوزیر أبو الحسن بن الحاج اللورقی، و هو یومئذ قد بذل الجهد، فی التحلّی بالزهد، فأمر القائد بعض السقاة أن یعرض علیه ذهب کاسه، و یحییه بزبرجد آسه، و یغازله بطرفه، و یمیل علیه بعطفه، ففعل ذلک عجلا، فأنشد أبو الحسن مرتجلا: [الکامل]
و مهفهف مزج الفتور بشدّة و أقام بین تبذّل و تمنّع
یثنیه من فعل المدامة و الصّبا سکران سکر طبیعة و تطبّع
أوما إلیّ بکأسه فکففتها ورنا فشفّعها بلحظ مطمع
و اللّه لولا أن یقال هوی الهوی منه بفضل عزیمة و تورّع
لأخذت فی تلک السبیل بمأخذی فیما مضی و نزعت فیها منزعی
و حکی الحمیدی أنّ عبد الملک بن إدریس الجزیری کان لیلة بین یدی الحاجب بن أبی عامر و القمر یبدو تارة، و یخفیه السحاب تارة، فقال بدیها: [الوافر]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 85
أری بدر السماء یلوح حینا فیبدو ثم یلتحف السّحابا
و ذاک لأنه لمّا تبدّی و أبصر وجهک استحیا فغابا
مقال لو نمی‌عنّی إلیه لراجعنی بتصدیقی جوابا
و کان صاعد اللغوی صاحب کتاب «القصوص» - و قد تکرّر ذکره فی هذا الکتاب- کثیرا ما یمدح بلاد العراق بمجلس المنصور بن أبی عامر، و یصفها، و یقرظها، فکتب الوزیر أبو مروان عبد الملک بن شهید والد الوزیر أبی عامر أحمد بن شهید صاحب الغرائب، و قد تقدّم بعض کلامه قریبا، إلی المنصور فی یوم برد- و کان أخصّ وزرائه به- بهذه الأبیات:
[المنسرح]
أما تری برد یومنا هذا صیّرنا للکمون أفذاذا
قد فطرت صحّة الکبود به حتی لکادت تعود أفلاذا
فادع بنا للشّمول مصطلیا نغذّ سیرا إلیک إغذاذا
و ادع المسمّی بها و صاحبه تدع نبیلا و تدع أستاذا
و لا تبالی أبا العلاء زها بخمر قطربّل و کلواذا
ما دام من أرملاط مشربنا دع دیر عمّی و طیز ناباذا
و کان المنصور قد عزم ذلک الیوم علی الانفراد بالحرم، فأمر بإحضار من جری رسمه من الوزراء و الندماء، و أحضر ابن شهید فی محفّة لنقرس کان یعتاده، و أخذوا فی شأنهم، فمرّ لهم یوم لم یشهدوا مثله، و وقت لم یعهدوا نظیره، و طما الطرب و سما بهم، حتی تهایج القوم و رقصوا، و جعلوا یرقصون بالنوبة، حتی انتهی الدور إلی ابن شهید، فأقامه الوزیر أبو عبد اللّه بن عباس، فجعل یرقص و هو متوکئ علیه، و یرتجل و یومئ إلی المنصور، و قد غلب علیه السکر: [الرمل]
هاک شیخا قاده عذر لکا قام فی رقصته مستهلکا
لم یطق یرقصها مستثبتا فانثنی یرقصها مستمسکا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 86
عاقه عن هزّها منفردا نقرس أخنی علیه فاتّکا
من وزیر فیهم رقّاصة قام للسّکر یناغی ملکا
أنا لو کنت کما تعرفنی قمت إجلالا علی رأسی لکا
قهقه الإبریق منّی ضاحکا و رأی رعشة رجلی فبکی
قال ابن ظافر: و هذه قطعة مطبوعة، و طرفها الأخیر واسطتها، و کان حاضرهم ذلک الیوم رجل بغدادی یعرف بالفکیک، حسن النادرة سریعها، و کان ابن شهید استحضره إلی المنصور فاستطبعه، فلما رأی ابن شهید یرقص قائما مع ألم المرض الذی کان یمنعه من الحرکة قال: للّه درّک یا وزیر! ترقص بالقائمة، و تصلّی بالقاعدة، فضحک المنصور، و أمر لابن شهید بمال جزیل، و لسائر الجماعة، و للبغدادی.
و قال ابن بسام: حدّث أبو بکر محمد بن أحمد بن جعفر بن عثمان المصحفی قال:
دخلت یوما علی أبی عامر بن شهید، و قد ابتدأت علّته التی مات بها، فأنس بی، و جری الحدیث إلی أن شکوت له تجنّی بعض أصحابی علیّ، و نفاره عنّی، فقال لی: سأسعی فی إصلاح ذات البین، فخرجت عنه، و اتّفق لقائی لذلک المتجنی علیّ مع بعض أصحابی و أعزّهم علیّ، فلمّا رآنی ذلک الصدیق مولّیا عنه أنکر علیه، و سأله عن السبب الموجب، فأخبره، و زادا فی مشیهما حتی لحقا بی، و عزم علیّ فی مکالمة صاحبی، و تعاتبنا عتابا أرقّ من الهواء، و أشهی من الماء علی الظّماء، حتی جئنا دار أبی عامر، فلما رآنا جمیعا ضحک و قال: من کان الذی تولّی إصلاح ما کنّا سررنا بفساده؟ قلنا: قد کان ما کان، فأطرق قلیلا ثم أنشد: [المنسرح]
من لا أسمّی و لا أبوح به أصلح بینی و بین من أهوی
أرسلت من کابد الهوی فدری کیف یداوی مواقع البلوی
و لی حقوق فی الحبّ ثابتة لکنّ إلفی یعدّها دعوی
و قد ذکرنا فی هذا الکتاب من غرائب أبی عامر بن شهید فی مواضع متفرّقة الغرائب، و قدّمنا فی الباب الرابع حکایته مع المرأة الداخلة فی رمضان لجامع قرطبة و حکیناها هناک بلفظ «المطمح» فلتراجع.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 87
و عبّر ابن ظافر عن معناها بقوله: إنّ أبا عامر کان مع جماعة من أصحابه بجامع قرطبة فی لیلة السابع و العشرین من رمضان، فمرّت امرأة به من بنات أجلّاء قرطبة، قد کملت حسنا و ظرفا، و معها طفل یتبعها کالظبیة تستتبع خشفا، و قد حفّت بها الجواری، کالبدر حفّ بالدراری، فحین رأت تلک الجماعة، المعروفة بالخلاعة، و قد رمقوا ذلک الظبی بعیون أسود رأت فریسة، ارتاعت و تخوّفت أن تخطف منها تلک الدّرّة النفیسة، فاستدنت إلیها خشفها، و ألزمته عطفها، فارتجل ابن شهید قائلا:
و ناظرة تحت طیّ القناع إلخ
و مرّت فی الباب الرابع هذه الأبیات.
و قال الرئیس أبو الحسن عبد الرحمن بن راشد الراشدی: لمّا نعیت أبا عامر بن شهید إلی أبی عبد اللّه بن الخیاط الشاعر، و کان قد عرف ما بینهما من المنافسة، فبکی و أنشدنی لنفسه بدیهة: [السریع]
لمّا نعی الناعی أبا عامر أیقنت أنی لست بالصابر
أودی فتی الظّرف و ترب الندی و سیّد الأول و الآخر
و قال ابن بسّام: اصطبح المعتصم بن صمادح یوما مع ندمائه، فأبرز لهم و صیفة مهدویة متصرفة فی أنواع اللعب المطرب من الدک، و حضر أیضا هناک لاعب مصری ساحر فکان لعبه حسنا، فارتجل أبو عبد اللّه بن الحداد: [المتقارب]
کذا فلتلح قمرا زاهرا و تجنی الهوی ناظرا ناظرا
و سیبک سیب ندی مغدق أقام لنا هامیا هامرا
و إنّ لیومک ذا رونقا منیرا کنور الضّحی باهرا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 88
صباح اصطباح بإسفاره لحظنا محیّا العلا سافرا
و أطلعت فیه نجوم الکؤوس فما زال کوکبها زاهرا
و أسمعتنا لاحنا فاتنا و أحضرتنا لاعبا ساحرا
یرفرف فوق رؤوس القیان فننظر ما یذهل الناظرا
و یحفظها ذیل سرباله فننظر طالعها غائرا
فظاهرها ینثنی باطنا و باطنها ینثنی ظاهرا
و ثنّاه ثان لألعابه دقائق تثنی الحجا حائرا
و فی سورة الراح من سحره خواطر دلّهت الخاطرا
إذا ورد اللحظ أثناءها فما الوهم عن وردها صادرا
و من حسن دهرک إبداعه فما انفکّ عارضها ماطرا
و سعدک یجتلب المغربات فیجعل غائبها حاضرا
قال: و حضر الأدیب أحمد بن الشقاق عند القائد بن درّی بجیان، هو و أبو زید بن مقانا الأشبونی، فأحضر لهما عنبا أسود مغطّی بورق أخضر، فارتجل ابن الشقاق: [الکامل]
عنب تطلّع من حشا ورق لنا صبغت غلائل جلده بالإثمد
فکأنه من بینهنّ کواکب کسفت فلاحت فی سماء زبرجد
قال: و حضر ابن مرزقان لیلة عند ذی النون بن خلدون، و بحضرته و صیفة تحمل شمعة، فاستحسنها ابن مرزقان، فقال بدیها: [السریع]
یا شمعة تحملها أخری کأنها شمس علت بدرا
امتحنت إحداکما مهجتی بمثل ما تمتحن الأخری
قال: دخل الأدیب غانم یوما علی بادیس صاحب غرناطة، فوسّع له علی ضیق کان فی المجلس، فقال بدیها: [البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 89
صیّر فؤادک للمحبوب منزلة سمّ الخیاط مجال للمحبّین
و لا تسامح بغیضا فی معاشرة فقلّما تسع الدنیا بغیضین
و أخذه من قول الخلیل «ما تضایق سمّ الخیاط بمتحابّین، و لا اتّسعت الدنیا لمتباغضین».
و کان الخلیل علی نمرقة صغیرة، و المجلس متضایق، فدخل علیه بعض أصحابه، فرحّب به و أجلسه معه علی النمرقة، فقال له الرجل: إنها لا تسعنا، فقال ما ذکر.
و قال ابن بسام أیضا: أمر الحاجب المنذر بن یحیی التّجیبی، صاحب سرقسطة، بعرض بعض الجند فی بعض الأیام، و رئیسهم مملوک له رومی یقال له خیار فی نهایة الجمال، فجعل ینفخ فی القرن لیجتمع أصحابه علی عادة لهم فی ذلک، فقال ابن هند الدانی فیه ارتجالا: [الطویل]
أعن بابل أجفان عینیک تنفث و من قوم موسی أنت للعهد تنکث
أفی الحقّ أن تحکی سرافیل نافخا و أمکث فی رمس الصّدود و ألبث
عساک، نبیّ الحسن، تأتی بآیة فتنفخ فی میت الصّدود فیبعث
قال: و کان بقرطبة غلام وسیم، فمرّ علیه ابن فرج الجیّانی، و معه صاحب له، فقال صاحبه: إنه لصبیح لو لا صفرة فیه، فقال ابن فرج ارتجالا: [البسیط]
قالوا: به صفرة عابت محاسنه فقلت: ما ذاک من عیب به نزلا
عیناه تطلب فی أوتار من قتلت فلست تلقاه إلّا خائفا وجلا
قال: و کان یوما مع لمّة من أهل الأدب فی مجلس أنس، فاحتاج رب المنزل إلی دینار، فوجّه إلی السوق، فدخل به علیهم غلام من الصیارف فی نهایة الجمال، فرمی بالدینار إلیهم من فیه تماجنا، فقال ابن فرج: [الکامل]
أبصرت دینارا بکفّ مهفهف یزهی به من کثرة الإعجاب
أوما به من فیه ثم رمی به فکأنه بدر رمی بشهاب
قال: و خرج الأدیب أبو الحسن بن حصن الإشبیلی إلی وادی قرطبة فی نزهة، فتذکّر إشبیلیة، فقال بدیها: [المتقارب]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 90
ذکرتک یا حمص ذکری هوی أمات الحسود و تعنیته
کأنک و الشمس عند الغروب عروس من الحسن منحوته
غدا النهر عقدک و الطود تاج ک و الشمس أعلاه یاقوته
انتهی:
و عبّر بعضهم، و هو صاحب «بدائع البداءة» عن بعض حکایات صاحب القلائد بما یقاربها فی المعنی، فقال: إن المستعین بن هود ملک سرقسطة و الثغور رکب نهر سرقسطة یوما لتفقّد بعض معاقله، المنتظمة بجید ساحله، و هو نهر رقّ ماؤه وراق، و أزری علی نیل مصر و دجلة العراق، قد اکتنفته البساتین من جانبیه، و ألقت ظلالها علیه، فما تکاد عین الشمس أن تنظر إلیه، هذا علی اتّساع عرضه، و بعد سطح مائه من أرضه، و قد توسّط زورقه زوارق حاشیته توسّط البدر للهالة، و أحاطت به إحاطة الطّفاوة بالغزالة، و قد أعدّوا من مکاید الصید ما استخرج ذخائر الماء، و أخاف حتی حوت السماء، و أهلّة الهالات طالعة من الموج فی سحاب، و قانصة من بنات الماء کلّ طائرة کالشهاب، فلا تری إلّا صیودا کقصد الصوارم، و قدود اللّهازم، و معاصم الأبکار النواعم، فقال الوزیر أبو الفضل بن حسدای و الطرب استهواه، و بدیع ذلک المرأی قد استرقّ هواه: [البسیط]
لله یوم أنیق واضح الغرر مفضّض مذهب الآصال و البکر
کأنّما الدّهر لمّا ساء أعتبنا فیه بعتبی فأبدی صفح معتذر
نسیر فی زورق حفّ السرور به من جانبیه بمنظوم و منتثر
مدّ الشراع به قدّا علی ملک بذ الأوائل فی أیامه الأخر
هو الإمام الهمام المستعین حوی علیاء مؤتمن فی هدی مقتدر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 91
تحوی السفینة منه آیة عجبا بحر تجمّع حتی صار فی نهر
تثار من قعره النّینان مصعدة صیدا کما ظفر الغوّاص بالدّرر
و للندامی به عبّ و مرتشف کالرّیق یعذب فی ورد و فی صدر
و الشّرب فی ودّ مولی خلقه زهر یذکو و بهجته أبهی من القمر
ثم قال ما معناه: و قوله «نینان» غیر معروف، فإنّ نونا لم یجی‌ء جمعها علی نینان، و قد کان سیبویه لحّن بشار بن برد فی قوله فی صفة السفینة: [الطویل]
تلاعب نینان البحور و ربّما رأیت نفوس القوم من جریها تجری
فغیّره بشار ب «تیار البحور» و قد قال أبو الطیب یصف خیلا: [طویل]
فهنّ مع السّیدان فی البرّ عسّل و هنّ مع النّینان فی البحر عوّم
انتهی.
و المستعین بن هود هو أحمد بن المؤتمن علی أمر اللّه یوسف بن المقتدر بالله أحمد بن المستضی‌ء بالله سلیمان بن هود، الجذامی، رحم اللّه تعالی الجمیع!.
و عبر المذکور عن قضیّة ابن وهبون فی هلال شوال بما نصّه: خرج ابن وهبون یوما لنظر هلال شوال، و أبو بکر ابن القبطرنة الوزیر یسایره، و هو یومئذ غلام یخجل البدر، و یذوی الغصن النّضر، و صفحته لم یسطرها العذار بأنقاسه، و وردة خدّه لم یسترها الشّعر بآسه، فارتجل عبد الجلیل: [الخفیف]
یا هلال استتر بوجهک عنّی إنّ مولاک قابض بشمالی
هبک تحکی سناه خدّا بخدّ قم فجئنی لقدّه بمثال
و قد ذکرنا هذه الحکایة فی غیر هذا الموضع بلفظ الفتح فی «القلائد» و لکنّا أعدناها هنا لتعبیر صاحب «البدائع» عنها محاکیا لطریقته.
و ذکر ابن بسّام أن الوزیر أبا عبد اللّه بن أبی الخصال وقف بباب بعض القضاة، و استأذن علیه، فحجب عنه، فکتب إلیه بدیها: [البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 92
جئناک للحاجة الممطول صاحبها و أنت تنعم و الإخوان فی بوس
و قد وقفنا طویلا عند بابکم ثم انصرفنا علی رأی ابن عبدوس
أشار به إلی قول الوزیر أبی عامر بن عبدوس: [مجزوء الوافر]
لنا قاض له خلق أقلّ ذمیمه النّزق
إذا جئناه یحجبنا فنلعنه و نفترق
و هو تملیح ملیح، سامح اللّه تعالی الجمیع!.
و قال أبو جعفر الکاتب القرطبی الربضی: [الکامل]
و أبی المدامة ما أرید بشربها صلف الرقیع و لا انهماک اللاهی
لم یبق من عصر الشباب و طیبه شی‌ء کعهدی لم یحل إلّا هی
إن کنت أشربها لغیر وفائها فترکتها للناس لا للّه
و بعضهم ینسبها لأبی القاسم عامر بن هشام، و الصواب- کما قال ابن الأبار- الأوّل.
و قال أبو جعفر المذکور فی فوارة رخام کلّفه وصفها والی قرطبة: [المنسرح]
ما شغل الطّرف مثل فائرة تمجّ صرف الحیاة من فیها
إشرب بها و الحباب فی جذل یظهره حسنها و یخفیها
کاد من رقّة تضمّنها تخطبها العین إذ توافیها
کأنها درّة منعّمة زهراء قد ذاب نصفها فیها
و من شعره أیضا: [مجزوء الکامل]
ضحک المشیب برأسه فبکی بأعین کاسه
رجل تخوّنه الزّما ن ببؤسه و بباسه
فجری علی غلوائه طلق الجموح بناسه
أخذا بأوفر حظّه لرجائه من یاسه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 93
و قال أحد بنی القبطرنة الوزراء: [المتقارب]
ذکرت سلیمی و نار الوغی بقلبی کساعة فارقتها
و أبصرت قدّ القنا شبهها و قد ملن نحوی فعانقتها
و هذا معنی بدیع ما أراه سبق به.
و قال أبو الحسن بن الغلیظ المالقی: قلت یوما للأدیب أبی عبد اللّه بن السراج المالقی، و نحن علی خریر ماء: أجز: [الطویل]
شربنا علی ماء کأنّ خریره
فقال مبادرا:
بکاء محبّ بان عنه حبیب
فمن کان مشغوفا کئیبا بإلفه فإنی مشغوف به و کئیب
و کتب أبو بکر البلنسی إلی الأدیب أبی بحر صفوان بن إدریس هذین البیتین یستجیزه القسیم الأخیر منهما: [الطویل]
خلیلی أبا بحر و ما قرقف اللّمی بأعذب من قولی خلیلی أبا بحر
أجز غیر مأمور قسیما نظمته تأمّل علی مجری المیاه حلی الزّهر
فأجازه: [الطویل]
تأمّل علی مجری المیاه حلی الزّهر کعهدک بالخضراء و الأنجم الزّهر
و قد ضحکت للیاسمین مباسم سرورا بآداب الوزیر أبی بکر
و أصغت من الآس النضیر مسامع لتسمع ما یتلوه من سور الشعر
و قال ابن خفاجة: [الطویل]
و ما الأنس إلّا فی مجاج زجاجة و لا العیش إلّا فی صریر سریر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 94
و إنی و إن جئت المشیب لمولع بطرّة ظلّ فوق وجه غدیر
و قال ابن خفاجة أیضا: [السریع]
و أسود یسبح فی لجّة لا تکتم الحصباء غدرانها
کأنها فی شکلها مقلة و ذلک الأسود إنسانها
و کتب الوزیر الشهیر أبو الولید بن زیدون إلی الوزیر أبی عبد اللّه بن عبد العزیز أثر صدوره عن بلنسیة: [مجزوء الکامل]
راحت فصحّ بها السقیم ریح معطّرة النسیم
مقبولة هبّت قبو لا فهی تعبق فی الشّمیم
أفضیض مسک أم بلن سیة لریّاها نمیم
إیه أبا عبد الإل ه نداء مغلوب العزیم
إن عیل صبری من فرا قک فالعذاب به ألیم
أو أتبعتک حنینها نفسی فأنت لها قسیم
ذکری لعهدک کالعرا ر سری فبرّح بالسّلیم
مهما ذممت فما زما نی فی ذمامک بالذمیم
زمن کمألوف الرضا ع یشوق ذکراه الفطیم
أیام أعقد ناظری فی ذلک المرأی الوسیم
و أری الفتوّة غضّة فی ثوب أوّاه حلیم
اللّه یعلم أنّ حب بک من فؤادی فی الصمیم
و لئن تحمّل عنک لی جسم فعن قلب مقیم
قل لی بأیّ خلال سر ک فیک أفتن أو أهیم
أ لمجدک العمم الذی نسق الحدیث مع القدیم
أم ظرفک الغضّ الجنی أم عرضک الصافی الأدیم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص94
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 95
أم برّک العذب الجما م و بشرک الغضّ الجمیم
إن أشمست تلک الطلا قة فالندی منها مغیم
أم بالبدائع کاللآ لی من نثیر أو نظیم
لبلاغة إن عدّ أه لوها فأنت بها زعیم
فقر تسوغ بها المدا م إذا یکرّرها الندیم
إنّ الذی قسم الحظو ظ حباک بالخلق العظیم
لا أستزید اللّه نع می‌فیک لا بل أستدیم
فلقد أقرّ العین أن ک غرّة الزمن البهیم
حسبی الثناء بحسن برّ ک ما بدا برق وشیم
ثم الدعاء بأن ته نّأ طول عیشک فی نعیم
ثم السلام تبلّغن ه فغیب مهدیه سلیم
و لما ورد إشبیلیة نزل بدار الوزیر الکاتب ذی الوزارتین أبی عامر بن مسلمة و هو یبنی مجلسا، فصنع أبیاتا کتبت فیه: [السریع]
عمّر، من یعمر ذا المجلسا أطول عمر، یبهج الأنفسا
و بعد ذا عوّض من داره عدنا و من دیباجه السّندسا
و لقّی النور بها و الرضا و وقّی الأسواء و الأبؤسا
و دام عبّاد لعضد الهدی یحرس حتی یفنی الأحرسا
معتضد بالله إحسانه جمّ إذا ما الدهر یوما أسا
الملک الغمر الندی المقتنی من کلّ حمد علقه الأنفسا
إن رام یوما وصف علیائه مفوّه مقتدر أخرسا
لا زال بدرا طالعا نیّرا یکشف عن آمالنا الحندسا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 96
و قال فیه أیضا: [المتقارب]
أدرها فقد حسن المجلس و قد آن أن تترع الأکؤس
و لا تنس أنّ أوان الربیع إذا لم تجد فقده الأنفس
فإنّ خلال أبی عامر بها یحقر الورد و النرجس
و کتب إلی الوزیر أبی المعالی المهلب بن عامر یستدعیه: [السریع]
طابت لنا لیلتنا الخالیه فلنتبعنها هذه الثانیه
أبا المعالی، نحن فی راحة فانقل إلینا القدم العالیه
لأنها عاطلة إن تغب عنّا فزرنا کی تری حالیه
أنت الذی لو تشتری ساعة منه بدهر لم تکن غالیه
کتب إلیه ذو الوزارتین أبو عامر المذکور معاتبا: [الوافر]
تباعدنا علی قرب الجوار کأنّا صدّنا شطّ المزار
تطلّع لی هلال الهجر بدرا و صار هلال وصلک فی سرار
و شاع شنیع قطعک لی بوصلی فهلّا کان ذلک فی استتار
أ یجمل أن تری عنّی صبورا فأصبح مولعا دون اصطبار
و کنت أزید سمعک من عتابی و لکن عاقنی فرط الخمار
فراع مودّتی و احفظ جواری فإنّ اللّه أوصی بالجوار
و زرنی منعما من غیر أمر و آنس موحشا من عقر داری
فکتب إلیه ابن زیدون: [الوافر]
هوای و إن تناءت عنک داری کمثل هوای فی حال الجوار
مقیم لا تغیّره عواد تباعد بین أحیان المزار
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 97
رأیتک قلت إنّ الهجر بدر متی خلت البدور من السرار
و رابک أننی جلد صبور و کم صبر یکون عن اصطبار
و لم أهجر لعتب، غیر أنی أضرّت بی معاقرة العقار
و إنّ الخمر لیس لها خمار یبرّح بی فکیف مع الخمار
و هل أنسی لدیک نعیم عیش کوشی الخدّ طرّز بالعذار
و ساعات یجول اللّهو فیها مجال الظل فی حدق النهار
و إن یک فرّ عنک الیوم جسمی فدیت فما لقلبی من فرار
و کنت علی البعاد أجلّ شی‌ء لدیّ فکیف إذ أصبحت جاری
و کان أبو العطّاف إذ ورد إشبیلیة رسولا قد سأله أن یریه شیئا من شعره، فمطله به، حتی کتب إلیه شعرا یستبطئه، فأجابه ابن زیدون فی العروض و القافیة: [المنسرح]
أفدتنی من نفائس الدّرر ما أبرزته غوائص الفکر
من لفظة قارنت نظائرها قران سقم الجفون للحور
و هی أکثر ممّا ذکر.
و کتب رحمه اللّه تعالی- أعنی ذا الوزارتین ابن زیدون- إلی ولّادة: [البسیط]
أضحی التّنائی بدیلا من تدانینا و ناب عن طیب دنیانا تجافینا
ألّا و قد حان صبح اللیل صبّحنا حین فقام بنا للحین ناعینا
من مبلغ الملبسینا بانتزاحهم حزنا مع الدهر لا یبلی و یبلینا
أنّ الزمان الذی ما زال یضحکنا أنسا بقربهم قد عاد یبکینا
غیظ العدا من تساقینا الهوی فدعوا بأن نغصّ فقال الدهر آمینا
فانحلّ ما کان معقودا بأنفسنا و انبتّ ما کان موصولا بأیدینا
بالأمس کنّا و ما یخشی تفرّقنا و الیوم نحن و ما یرجی تلاقینا
یا لیت شعری و لم نعتب أعادیکم هل نال حظّا من العتبی أعادینا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 98
لم نعتقد بعدکم إلّا الوفاء لکم رأیا و لم نتقلّد غیره دینا
کنّا نری الیأس تسلینا عوارضه و قد یئسنا فما للیأس یغرینا
بنتم و بنّا فما ابتلّت جوانحنا شوقا إلیکم و لا جفّت مآقینا
نکاد حین تناجیکم ضمائرنا یقضی علینا الأسی لولا تأسّینا
حالت لفقدکم أیامنا فغدت سودا و کانت بکم بیضا لیالینا
إذ جانب العیش طلق من تألّفنا و مورد اللهو صاف من تصافینا
و إذ هصرنا فنون الوصل دانیة قطوفها فجنینا منه ماشینا
لیسق عهدکم عهد السرور فما کنتم لأرواحنا إلّا ریاحینا
لا تحسبوا نأیکم عنّا یغیّرنا إن طال ما غیّر النأی المحبّینا
و اللّه ما طلبت أهواؤنا بدلا منکم و لا انصرفت عنکم أمانینا
یا ساری البرق غاد القصر فاسق به من کان صرف الهوی و الودّ یسقینا
و اسأل هنالک هل عنّی تذکّرنا إلفا تذکّره أمسی یعنّینا
و یا نسیم الصّبا بلّغ تحیّتنا من لو علی البعد حیّا کان یحیینا
من لا یری الدهر یقضینا مساعفة فیه و إن لم یکن عنّا یقاضینا
من بیت ملک کأنّ اللّه أنشأه مسکا و قد أنشأ اللّه الوری طینا
أو صاغه ورقا محضا و توّجه من ناصع التّبر إبداعا و تحسینا
إذا تأوّد آدته رفاهیة توم العقود و أدمته البری لینا
کانت له الشمس ظئرا فی تکلّله بل ما تجلّی لها إلّا أحایینا
کأنما أثبتت فی صحن وجنته زهر الکواکب تعویذا و تزیینا
ما ضرّ أن لم نکن أکفاءه شرفا و فی المودّة کاف من تکافینا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 99
یا روضة طالما أجنت لواحظنا وردا جلاه الصّبا غضّا و نسرینا
و یا حیاة تملّینا بزهرتها منی ضروبا و لذّات أفانینا
و یا نعیما خطرنا من غضارته فی وشی نعمی سحبنا ذیله حینا
لسنا نسقیک إجلالا و تکرمة و قدرک المعتلی عن ذاک یغنینا
إذا انفردت و ما شورکت فی صفة فحسبنا الوصف إیضاحا و تبیینا
یا جنّة الخلد أبدلنا بسلسلها و الکوثر العذب زقّوما و غسلینا
کأننا لم نبت و الوصل ثالثنا و السعد قد غضّ من أجفان و اشینا
سرّان فی خاطر الظّلماء تکتمنا حتی یکاد لسان الصبح یفشینا
لا غرو فی أن ذکرنا الحزن حین نهت عنه النّهی و ترکنا الصبر ناسینا
إنّا قرأنا الأسی یوم النوی سورا مکتوبة و أخذنا الصبر تلقینا
أمّا هواک فلم نعدل بمشربه شربا و إن کان یروینا فیظمینا
لم نجف أفق جمال أنت کوکبه سالین عنه و لم نهجره قالینا
و لا اختیارا تجنّبناک عن کثب لکن عدتنا علی کره عوادینا
نأسی علیک إذا حثّت مشعشعة فینا الشّمول و غنّانا مغنینا
لا أکؤس الراح تبدی من شمائلنا سیما ارتیاح و لا الأوتار تلهینا
دومی علی العهد ما دمنا محافظة فالحرّ من دان إنصافا کما دینا
فما استعضنا خلیلا عنک یحبسنا و لا استفدنا حبیبا عنک یغنینا
و لو صبا نحونا من أفق مطلعه بدر الدجی لم یکن حاشاک یصبینا
أبلی وفاء و إن لم تبذلی صلة فالطیف یقنعنا و الذکر یکفینا
و فی الجواب متاع لو شفعت به بیض الأیادی التی ما زلت تولینا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 100
علیک منی سلام اللّه ما بقیت صبابة بک نخفیها و تخفینا
و إنما ذکرت هذه القصیدة- مع طولها- لبراعتها؛ و لأن کثیرا من الناس لا یذکر جملتها، و یظنّ أنّ ما فی القلائد و غیرها منها هو جمیعها، و لیس کذلک، فهی و إن اشتهرت بالمشرق و المغرب لم یذکر جملتها إلّا القلیل، و قد کنت وقفت بالمغرب علی تسدیس لها لبعض علماء المغرب، و لم یحضرنی منه الآن إلّا قوله فی المطلع: [البسیط]
ما للعیون بسهم الغنج تصمینا و عن قطاف جنی الأعطاف تحمینا
تألّف کان یحیینا و یضنینا تفرّق عاث فی شمل المحبّینا
أضحی التنائی بدیلا من تدانینا و ناب عن طیب دنیانا تجافینا
ما أحسن قوله فی هذا التسدیس: [البسیط]
ما للأحبّة دانوا بالنوی و رأوا تعریض عهد اللقا بالبعد حین نأوا
رعاهم اللّه کانوا للعهود رعوا فغیّرتهم و شاة بالفساد سعوا
غیظ العدا من تساقینا الهوی فدعوا بأن نغصّ فقال الدهر آمینا
و قد ذکرنا فی الباب الرابع موشحة ابن الوکیل التی وطّأ فیها لنونیة ابن زیدون هذه فلتراجع.
رجع: و قال ذو الوزارتین ابن زیدون یتغزّل: [مجزوء الرمل]
وضح الصبح المبین وجلا الشکّ الیقین
و رأی الأعداء ما غر رتهم منک الظنون
أمّلوا ما لیس یمنی و رجوا ما لا یکون
و تمنّوا أن یخون ال عبد مولی لا یخون
فإذا الغیب سلیم و إذا العهد مصون
قل لمن دان بهجری و هوانی إذ یدین
أرخص الحبّ فؤادی لک و العلق ثمین
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 101
یا هلالا تتراءا ه نفوس لا عیون
عجبا للقلب یقسو منک و العطف یلین
ما الذی ضرّک لو سرّ بمرآک الحزین
و تلطّفت بصبّ حینه فیک یحین
فوجوه اللطف شتّی و المعاذیر فنون
و قال أیضا: [الوافر]
إلیک من الأنام غدا ارتیاحی و أنت من الزمان مدی اقتراحی
و ما اعترضت هموم النّفس إلّا و من ذکراک ریحانی و راحی
فدیتک، إنّ صبری عنک صبری، لدی عطشی عن الماء القراح
ولی أمل لو الواشون کفّوا لأطلع غرسه ثمر النّجاح
و أعجب کیف یغلبنی عدو رضاک علیه من أمضی سلاح
و لمّا أن جلتک لی اختلاسا أکفّ الدهر للحین المتاح
رأیت الشمس تطلع فی نقاب و غصن البان یرفل فی وشاح
فلو أسطیع طرت إلیک شوقا و کیف یطیر مقصوص الجناح
علی حالی وصال و اجتناب و فی یومی دنوّ و انتزاح
و حسبی أن تطالعک الأمانی بأفقک فی مساء أو صباح
فؤادی من أسی بک غیر خال و قلبی من هوی لک غیر صاح
و أن تهدی السلام إلیّ شوقا و لو فی بعض أنفاس الریاح
و قال: [مجزوء الکامل]
کم ذا أرید و لا أراد؟ للّه ما لقی الفؤاد
أصفی الوداد إلی الذی لم یصف لی منه الوداد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 102
کیف السّلوّ عن الذی مثواه من قلبی السواد
یقضی علیّ دلاله فی کلّ حین أو یکاد
ملک القلوب بحسنه فلها إذا أمر انقیاد
یا هاجری کم أستفی د الصبر عنک فلا أفاد
أفلا رثیت لمن یبی ت و حشو مقلته السّهاد
إن أجن ذنبا فی الهوی خطأ فقد یکبو الجواد
کان الرضا و أعیذه أن یعقب الکون الفساد
و قال: [المجتث]
متی أنبّیک ما بی یا راحتی و عذابی
متی ینوب لسانی فی شرحه عن کتابی
اللّه یعلم أنی أصبحت فیک لما بی
فما یلذّ منامی و لا یسوغ شرابی
یا فتنة المتعزّی و حجّة المتصابی
الشمس أنت توارت عن ناظری بالحجاب
ما النور شفّ سناه علی رقیق السّحاب
إلّا کوجهک لمّا أضاء تحت النّقاب
و قال: [مجزوء الرمل]
هل لداعیک مجیب؟ أم لشاکیک طبیب
یا قریبا حین ینأی حاضرا حین یغیب
کیف یسلوک محبّ زانه منک حبیب
إنّما أنت نسیم تتلقّاه القلوب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 103
قد علمنا علم ظنّ هو لا شکّ مصیب
إنّ سرّ الحسن ممّا أضمرت تلک القلوب
و قال:
أنّی تضیّع عهدک؟ أم کیف تخلف وعدک
و قد رأتک الأمانی رضا فعلم تتعدّک
یا لیت شعری و عندی ما لیس فی الحب عندک
هل طال لیلک بعدی کطول لیلی بعدک
سلنی حیاتی أهبها فلست أملک ردّک
الدهر عبدی لمّا أصبحت فی الحبّ عبدک
و قال رحمه اللّه تعالی، و قد أمره السلطان أن یعارض قطعا کان یغنّی بها و استحسن ألحانها: [المتقارب]
یقصّر قربک لیلی الطویلا و یشفی وصالک قلبی العلیلا
و إن عصفت منک ریح الصّدود فقدت نسیم الحیاة البلیلا
کما أننی إن أطلت العثار و لم یبد عذری وجها جمیلا
وجدت أبا القاسم الظّافر الم ؤیّد بالله مولی مقیلا
لأقلامه فعل أسیافه یظلّ الصّریر یباری الصّلیلا
و قال یهنّیه بالقدوم من السفر: [الرمل]
أیها الظافر أبشر بالظّفر و اجتل التأیید فی أبهی الصّور
و تفیّأ ظلّ سعد یجتنی فیه من غرس المنی أحلی الثمر
ورد النّجح فکم مستوحش شائق منک إلی أنس الصّدر
کان من قربک فی عیش ند عاطر الآصال وضّاح البکر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 104
فثوی دونک مثوی قلق یشتکی من لیله مطل السّحر
قل لساقینا یجد أکؤسه و لشادینا یطل قطع الوتر
و منها:
لی فیه المثل السائر فی جالب التّمر إلی أرض هجر
ثم قد وفّق عبد عظمت نعمة المولی علیه فشکر
لا عدا حظّک إقبال یری قاضیا أبناءه کلّ وطر
و اصطبح کأس الرّضا من ملک سرت فی إرضائه أزکی السّیر
حین صمّمت إلی أعدائه فانتحتهم منک صمّاء الغیر
فاض غمر للندی من فوقهم کان یروی شربهم منه العمر
سبق الناس فصلّی سابق إذ رأی آثاره مثل الزّهر
و هی طویلة.
و قال رحمه اللّه تعالی: [الرمل]
لم یکن هجر حبیبی عن قلا لا و لا ذاک التّجنّی مللا
سرّه دعوی ادعائی ثم لم یدر ما غایة صبری فابتلی
أنا راض بالذی یرضی به لی من لو قال مت ما قلت لا
مثل فی کلّ حسن مثل ما صار حالی فی هواه مثلا
یا فتیت المسک یا شمس الضحی یا قضیب البان یا ظبی الفلا
إن یکن لی أمل غیر الرّضا منک لا بلّغت ذاک الأملا
و قال رحمه اللّه تعالی: [البسیط]
أذکرتنی سالف العیش الذی طابا یا لیت غائب ذاک الوقت قد آبا
إذ نحن فی روضة للوصل أنعمها من السرور غمام فوقها صابا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 105
إنی لأعجب من شوق یطالبنی فکلّما قیل فیه قد قضی ثابا
کم نظرة لک عندی قد علمت بها یوم الزیارة أنّ القلب قد ذابا
قلب یطیل معاصاتی لطاعتکم فإن أکلّفه یوما سلوة یابی
و قال رحمه اللّه تعالی: [البسیط]
عاودت ذکر الهوی من بعد نسیانی و استحدث القلب بعد العشق سلوانی
من حبّ جاریة یبدو بها صنم من اللّجین علیها تاج عقیان
غریرة لم تفارقها تمائمها تسبی القلوب بساجی الطّرف وسنان
لأستجدّنّ فی عشقی لها زمنا یحیی سوالف أیامی و أزمانی
حتّی یکون لمن أحببت خاتمة نسخت فی حبّها کفرا بإیمان
و قال رحمه اللّه تعالی: [الخفیف]
أنت معنی الهوی و سرّ الدموع و سبیل الهوی و قصد الولوع
أنت و الشمس ضرّتان و لکن لک عند الغروب فضل الطّلوع
لیس یا مؤنسی نکلّفک العت ب دلالا من الرّضا الممنوع
إنما أنت و الحسود معنّی کوکب یستقیم بعد الرجوع
و قال رحمه اللّه تعالی: [مجزوء الکامل]
یا لیل، طل لا أشتهی إلا کعهدی قصرک
لو بات عندی قمری ما بتّ أرعی قمرک
یا لیل، خبّر أننی ألتذّ عنه خبرک
بالله قل لی هل وفی؟ فقال: لا بل غدرک
و قال رحمه اللّه تعالی: [المتقارب]
لئن فاتنی منک حظّ النّظر لأکتفین بسماع الخبر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 106
و إن عرضت غفلة للرقیب فحسبی بتسلیمة تختصر
أحاذر أن یتجنّی الوشاة و قد یستدام الهوی بالحذر
فأصبر مستیقنا أنه سیحظی بلیل المنی من صبر
و قال أیضا رحمه اللّه تعالی: [مجزوء الرمل]
أیها البدر الذی یم لأ عینی من تأمّل
حمّل القلب تباری ح التّجنّی فتحمّل
ثم لا تیأس فکم قد نیل أمر لم یؤمّل
و قال أیضا رحمه اللّه تعالی: [الطویل]
أجدّ و من أهواه فی الحبّ عابث و أوفی له بالعهد إذ هو ناکث
حبیب نأی عنّی مع القرب و الأسی مقیم له فی مضمر القلب ماکث
جفانی بألطاف العدا و أزاله عن الوصل رأی فی القطیعة حادث
تغیّرت عن عهدی و ما زلت واثقا بعهدک لکن غیّرتک الحوادث
و ما کنت إذ ملّکتک القلب عالما بأنی عن حتفی بکفّی باحث
ستبلی اللیالی و الوداد بحاله مقیم و غضّ و هو للأرض وارث
فلو أننی أقسمت أنک قاتلی و أنی مقتول لما قیل حانث
و قال رحمه اللّه تعالی: [مجزوء الخفیف]
یا غزالا أصارنی موثقا فی ید المحن
إننی مذ هجرتنی لم أذق لذّة الوسن
لیت حظّی إشارة منک أو لحظة تعنّ
شافعی یا معذّبی فی الهوی وجهک الحسن
کنت خلوا من الهوی و أنا الیوم مرتهن
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 107
کان سرّی مکتّما و هو الآن قد علن
لیس لی عنک مذهب فکما شئت لی فکن
و قال رحمه اللّه تعالی: [الوافر]
أ یوحش لی الزمان و أنت أنسی و یظلم لی النهار و أنت شمسی
و أغرس فی محبّتک الأمانی و أجنی الموت من ثمرات غرسی
لقد جازیت غدرا عن وفائی و بعت مودّتی ظلما ببخس
و لو أنّ الزمان أطاع حکمی فدیتک من مکارهه بنفسی
و محاسن ابن زیدون کثیرة، و قد ذکرنا منها فی غیر هذا المحلّ جملة.
و سألت جاریة من جواری الأندلس ذا الوزارتین أبا الولید بن زیدون أن یزید علی بیت أنشدته إیّاه، و هو: [البسیط]
یا معطشی من وصال کنت وارده هل منک لی غلّة إن صحت: و اعطشی
قال: و کانت الجاریة المذکورة تتعشّق فتّی قرشیّا، و الوزیر یعلم ذلک، و هی لا تعلم أنه یعلم، فقال: [البسیط]
کسوتنی من ثیاب السّقم أسبغها ظلما و صیّرت من لحف الضّنی فرشی
أنّی بصرف الهوی عن مقلة کحلت بالسّحر منک و خدّ بالجمال وشی
لمّا بدا الصّدغ مسودّا بأحمره أری التشاکل بین الروم و الحبش
أوفی إلی الخدّ ثم انصاع منعطفا کالعقربان انثنی من خوف محترش
لو شئت زرت و سلک اللیل منتظم و الأفق یختال فی ثوب من الغبش
جفا إذا التذّت الأجفان طیب کری جفنی المنام و صاح اللیل: یا قرشی
هذا و إن تلفت نفسی فلا عجب قد کان قتلی فی تلک الجفون حشی‌

[البطلیوسی و أولاد ابن الحاج]

و کان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس صورة: رحمون، و عزّون، و حسون، فأولع بهم الحافظ الشهیر أبو محمد بن السید البطلیوسی صاحب «شرح أدب الکاتب» و غیره و قال فیهم: [البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 108
أخفیت سقمی حتی کاد یحفینی و همت فی حبّ عزّون فعزّونی
ثم ارحمونی برحمون و إن ظمئت نفسی إلی ریق حسّون فحسّونی
قال: ثم خاف علی نفسه، فخرج عن قرطبة، و هو القائل: [الکامل]
نفسی الفداء لجؤذر حلو اللّمی مستحسن بصدوده أفنانی
فی فیه سمطا جوهر یروی الظما لو علّنی ببروده أحیانی
و هذان البیتان تخرج منهما عدة مقطعات کما لا یخفی.
و قال أبو بکر محمد بن أحمد الأنصاری الإشبیلی المعروف بالأبیض، فی تهنئة بمولود، قال ابن دحیة: و هذا أبدع ما قیل فی هذا المعنی: [البسیط]
أصاخت الخیل آذانا لصرخته و اهتزّ کلّ هزبر عندما عطسا
تعشّق الدّرع مذ شدّت لفائفه و أبغض المهد لمّا أبصر الفرسا
تعلّم الرکض أیام المخاض به فما امتطی الخیل إلّا و هو قد فرسا
و قال الوزیر الکاتب أبو عامر السالمی فی غلام یرشّ الماء علی خدّیه فتزداد حمرتهما:
[البسیط]
لقد نعمت بحمّام تطلّع فی أرجائه قمر و الحسن یکمله
أبصرته کلّما راقت محاسنه و نعمة الجسم و الأرداف تخجله
یرشّ بالماء خدّیه فقلت له صف لی لما أحمر الیاقوت تصقله
فقال طرفی سفّاک بصارمه دماء قوم علی خدّی فأغسله
و قال أیضا: [مجزوء الرمل]
أوقد النار بقلبی ثم هبّت ریح صدّه
فشرار النار طارت فانطفت فی ماء خدّه
و هو تخییل عجیب.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 109
و قال ابن الحنّاط المکفوف الأندلسی فی المعنی المشهور: [الکامل]
لم یخل من نوب الزمان أدیب کلّا فشأن النائبات عجیب
و غضارة الأیام تأبی أن یری فیها لأبناء الذکاء نصیب
و کذاک من صحب اللیالی طالبا جدّا و فهما فاته المطلوب‌

[من ملح ابن الزقاق]

و کان ابن الزّقاق الأندلسی الشاعر المشهور- و قد تکرّر ذکره فی هذا الکتاب مرات کثیرة- یسهر فی اللیل، و یشتغل بالأدب، و کان أبوه فقیرا جدا، فلامه، و قال له: نحن فقراء، و لا طاقة لنا بالزیت الذی تسهر علیه، فاتّفق أن برع فی الأدب و العلم و نظم الشعر، فقال فی أبی بکر بن عبد العزیز صاحب بلنسیة قصیدة أوّلها: [السریع]
یا شمس خدر ما لها مغرب أرامة خدرک أم یثرب
ذهبت فاستعبر طرفی دما مفضّض الدّمع به مذهب
و منها:
ناشدتک اللّه نسیم الصّبا أنّی استقرّت بعدنا زینب
لم نسر إلّا بشذا عرفها أو لا فماذا النّفس الطّیّب
إیه و إن عذّبنی حبّها فمن عذاب النّفس ما یعذب
فأطلق له ثلاثمائة دینار، فجاء بها إلی أبیه و هو جالس فی حانوته مکبّ علی صنعته، فوضعها فی حجره، و قال: خذها فاشتر بها زیتا.
و قال رحمه اللّه تعالی فی غلام یرمی حجرا فشدخ وجهه: [المتقارب]
و أحوی رمی عن قسیّ الحور سهاما یفوّقهنّ النظر
یقولون وجنته قسّمت و رسم محاسنه قد دثر
و ما شقّ وجنته عابثا و لکنّها آیة للبشر
جلاها لنا اللّه کیما نری بها کیف کان انشقاق القمر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 110
و قال أیضا: [الکامل]
بأبی و غیر أبی أغنّ مهفهف مهضوم ما خلف الوشاح خمیصه
لبس السواد و مزّقته جفونه فأتی کیوسف حین قدّ قمیصه
و قال أیضا: [الطویل]
سقتنی بیمناها و فیها فلم أزل یجاذبنی من ذا و من هذه سکر
ترشّفت فاها إذ ترشّفت کأسها فلا و الهوی لم أدر أیّهما الخمر
و قال: [البسیط]
رقّ النسیم وراق الروض بالزّهر فنبّه الکأس و الإبریق بالوتر
ما العیش إلّا اصطباح الراح أو شنب یغنی عن الراح من سلسال ذی أشر
قل للکواعب غضّی للکری مقلا فأعین الزّهر أولی منک بالسّهر
و للصباح ألا فانشر رداء سنا هذا الدّجی قد طوته راحة السّحر
و قام بالقهوة الصهباء ذو هیف یکاد معطفه ینقدّ بالنّظر
یطفو علیها إذا ما شجّها درر تخالها اختلست من ثغره الخصر
و الکأس من کفّه بالراح محدقة کهالة أحدقت فی الأفق بالقمر
و قال: [الطویل]
تضوّعن أنفاسا و أشرقن أوجها فهنّ منیرات الصباح بواسم
لئن کنّ زهرا فالجوانح أبرج و إن کنّ زهرا فالقلوب کمائم
و هو من بدیع التقسیم.

[من ملح السمیسر و لابن رزین و لسلطان بلنسیة]

و قال السمیسر: [الوافر]
تحفّظ من ثیابک ثم صنها و إلّا سوف تلبسها حدادا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 111
و میّز فی زمانک کلّ حبر و ناظر أهله تسد العبادا
و ظنّ بسائر الأجناس خیرا و أمّا جنس آدم فالبعادا
أرادونی بجمعهم فردّوا علی الأعقاب قد نکصوا فرادی
و عادوا بعد ذا إخوان صدق کبعض عقارب رجعت جرادا
و قال ابن رزین، و هو من رجال الذخیرة: [مجزوء الکامل]
لأسرّحنّ نواظری فی ذلک الروض النضیر
و لآکلنّک بالمنی و لأشربنّک بالضمیر
و قال سلطان بلنسیة عبد الملک بن مروان بن عبد اللّه بن عبد العزیز: [الطویل]
و لا غرو بعدی أن یسوّد معشر فیضحی لهم یوم و لیس لهم أمس
کذاک نجوم الجوّ تبدو زواهرا إذا ما توارت فی مغاربها الشمس‌

[من ملح البطلیوسی المتلمس و لابن غالب و لابن فرج السمیسر]

و تحاکم إلی أبی أیوب سلیمان بن محمد بن بطال البطلیوسی المعروف بالمتلمس غلامان جمیلان لأحدهما وفرة شقراء، و للآخر سوداء: أیهما أحسن؟ و المتلمس المذکور هو صاحب کتاب «الأحکام، فیما لا یستغنی عنه الحکام» فقال: [البسیط]
و شادنین ألمّا بی علی مقة تنازعا الحسن فی غایات مستبق
کأنّ لمّة ذا من نرجس خلقت علی بهار و ذا مسک علی ورق
و حکّما الصّبّ فی التفضیل بینهما و لم یخافا علیه رشوة الحدق
فقام یدلی إلیه الرّیم حجّته مبیّنا بلسان منه منطلق
فقال: وجهی بدر یستضاء به و لون شعری مصبوغ من الغسق
و کحل عینی سحر للنّهی و کذا و السحر أحسن ما یعزی إلی الحدق
فقال صاحبه: أحسنت وصفک ل کن فاستمع لمقال فیّ متّفق
أنا علی أفقی شمس النهار، و لم تغرب و شقرة شعری حمرة الشفق
و فضل ما عیب فی عینیّ من زرق أنّ الأسنّة قد تعزی إلی الزّرق
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 112
قضیت للّمّة الشقراء حیث حکت نورا کذا حبّها یقضی علی رمقی
فقام ذو اللّمّة السوداء یرشقنی سهام أجفانه من شدّة الحنق
و قال جرت فقلت الجور منک علی قلبی و لی شاهد من دمعی الغدق
فقلت عفوک إذ أصبحت متّهما فقال دونک هذا الحبل فاختنق
و قال أبو محمد عبد اللّه بن غالب: [الکامل]
و مهفهف خنث الجفون کأنما من أرجل النمل استفاد عذارا
فتخاله لیلا إذا استقبلته و تخال ما یجری علیه نهارا
و قال أبو القاسم خلف بن فرج السمیسر المتقدّم: [المجتث]
الناس مثل حباب و الدّهر لجّة ماء
فعالم فی طفوّ و عالم فی انطفاء

[من ملح ابن برد و لابن عبدون و لأبی الفضل بن حسدای]

و قال أحمد بن برد الأندلسی فی النرجس، و هو البهار عند الأندلسیین، و یسمّی العبهر:
[الطویل]
تنبّه فقد شقّ البهار مغلّسا کمائمه عن نوره الخضل النّدی
مداهن تبر فی أنامل فضّة علی أذرع مخروطة من زبرجد
و قال الوزیر عبد المجید بن عبدون فی دار أنزله بها المتوکل بن الأفطس و سقفها قدیم، فهطل علیه المطر منه: [الطویل]
أیا سامیا من جانبیه إلی العلا (سموّ حباب الماء حالا إلی حال)
لعبدک دار حلّ فیها کأنها (دیار لسلمی عافیات بذی الخال)
یقول لها لمّا رأی من دثورها (ألا عم صباحا أیها الطلل البالی)
فقالت و لم تعبأ بردّ جوابه (و هل یعمن من کان فی العصر الخالی)
فمر صاحب الإنزال فیها بفاصل (فإنّ الفتی یهذی و لیس بفعّال)
قیل: و هو أبو عذرة تضمین لامیة امرئ القیس، و قد أولع الناس بعده بتضمینها.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 113
و قال أبو الفضل بن حسدای، و کان یهودیّا فأسلم، و یقال: إنه من ولد موسی علی نبیّنا و علیه و علی سائر الأنبیاء الصلاة و السلام: [البسیط]
تورید خدّک للأحداق لذّات علیه من عنبر الأصداغ لامات
نیران هجرک للعشّاق نار لظی لکن وصالک إن واصلت جنّات
کأنما الراح و الراحات تحملها بدور تمّ و أیدی الشّرب هالات
حشاشة ما ترکنا الماء یقتلها إلّا لتحیا بها منّا حشاشات
قد کان من قبلها فی کأسها ثقل فخفّ إذ ملئت منها الزجاجات
و قد تباری المشارقة و المغاربة من المتقدّمین و المتأخّرین فی هذا الوزن و القافیة، و لو لا خوف السآمة لذکرت من ذلک الجملة الشافیة الکافیة.

[بین ابن عبد ربه و یحیی القلفاط]

و من سرعة جواب أهل الأندلس أنّ ابن عبد ربه کان صدیقا لأبی محمد یحیی القلفاط الشاعر، ففسد ما بینهما بسبب أنّ ابن عبد ربه صاحب العقد مرّ به یوما و کان فی مشیه اضطراب، فقال: أبا عمر ما علمت أنک آدر إلّا الیوم لمّا رأیت مشیک، فقال له ابن عبد ربه: کذبتک عرسک أبا محمد، فعزّ علی القلفاط کلامه، و قال له: أ تتعرّض للحرم؟ و اللّه لأرینّک کیف الهجاء، ثم صنع فیه قصیدة أوّلها: [البسیط]
یا عرس أحمد، أنی مزمع سفرا فودّعینی سرّا من أبی عمرا
ثم تهاجیا بعد ذلک. و کان القلفاط یلقبه بطلاس لأنه کان أطلس اللحیة، و یسمّی کتاب «العقد» حبل الثوم، فاتّفق اجتماعهما یوما عند بعض الوزراء، فقال الوزیر للقلفاط: کیف حالک الیوم مع أبی عمر؟ فقال مرتجلا: [السریع]
حال طلاس لی عن رائه و کنت فی قعدد أبنائه
فبدر ابن عبد ربه و قال: [السریع]
إن کنت فی قعدد أبنائه فقد سقی أمّک من مائه
فانقطع القلفاط خجلا. و عاش ابن عبد ربه 82 سنة، رحمه اللّه تعالی!

[من مروءة ابن جبیر الرحالة]

و من الحکایات فی مروءة أهل الأندلس ما ذکره صاحب «الملتمس» فی ترجمة الکاتب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 114
الأدیب الشهیر أبی الحسین بن جبیر صاحب الرحلة، و قد قدّمنا ترجمته فی الباب الخامس من هذا الکتاب، و ذکرنا هنالک أنه کان من أهل المروءات عاشقا فی قضاء الحوائج و السعی فی حقوق الإخوان، و أنشدنا هنالک قوله:
یحسب الناس بأنی متعب
إلی آخره.
و قد ذکر ذلک کلّه صاحب «الملتمس» ثم قال- أعنی صاحب الملتمس-:
و من أغرب ما یحکی أنی کنت أحرص الناس علی أن أصاهر قاضی غرناطة أبا محمد عبد المنعم بن الفرس، فجعلته- یعنی ابن جبیر- الواسطة حتی تیسّر ذلک، فلم یوفّق اللّه ما بینی و بین الزوجة، فجئته و شکوت له ذلک، فقال: أنا ما کان القصد لی فی اجتماعکما، و لکن سعیت جهدی فی غرضک، و‌ها أنا أسعی أیضا فی افتراقکا، إذ هو من غرضک، و خرج فی الحین ففصل القضیة، و لم أر فی وجهه أولا و لا آخرا عنوانا لامتنان و لا تصعیب، ثم إنه طرق بابی، ففتحت له، و دخل و فی یده محفظة فیها مائة دینار مؤمنیة، ثم قال: یا ابن أخی، اعلم أنی کنت السبب فی هذه القضیة، و لم أشکّ أنک خسرت فیها ما یقارب هذا القدر الذی وجدته الآن عند عمّک، فباللّه إلّا ما سررتنی بقبوله، فقلت له: أنا ما أستحیی منک فی هذا الأمر، و اللّه إن أخذت هذا المال لأتلفنّه فیما أتلفت فیه مال والدی من أمور الشباب، و لا یحلّ لک أن تمکننی منه بعد أن شرحت لک أمری، فتبسّم و قال: لقد احتلت فی الخروج عن المنّة بحیلة، و انصرف بماله، انتهی.

[من شعر أبی عمران المارتلی الزاهد]

ثم قال صاحب «الملتمس»: و تذاکرنا یوما معه حالة الزاهد أبی عمران المارتلی، فقال:
صحبته مدّة فما رأیت مثله، و أنشدنی شعرین ما نسیتهما، و لا أنساهما ما استطعت، فالأول قوله: [المتقارب]
إلی کم أقول فلا أفعل و کم ذا أحوم و لا أنزل
و أزجر عینی فلا ترعوی و أنصح نفسی فلا تقبل
و کم ذا تعلّل لی ویحها بعلّ و سوف و کم تمطل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 115
و کم ذا أؤمّل طول البقا و أغفل و الموت لا یغفل
و فی کلّ یوم ینادی بنا منادی الرحیل ألا فارحلوا
أمن بعد سبعین أرجو البقا و سبع أتت بعدها تعجل
کأن بی وشیکا إلی مصرعی یساق بنعشی و لا أمهل
فیا لیت شعری بعد السؤال و طول المقام لما أنقل
و الثانی قوله: [مجزوء الکامل]
اسمع أخیّ نصیحتی و النّصح من محض الدیانه
لا تقربنّ إلی الشها دة و الوساطة و الأمانه
تسلم من ان تعزی لزو ر أو فضول أو خیانه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص115
ل: فقلت له: أراک لم تعمل بوصیّته فی الوساطة، فقال: ما ساعدتنی رقة وجهی علی ذلک، انتهی.

[من شعر أبی الصلب أمیة بن عبد العزیز]

رجع إلی نظم الأندلسیین:
و قال أبو الصلت أمیة بن عبد العزیز: [المنسرح]
أفضل ما استصحب النبیل فلا تعدل به فی المقام و السّفر
جرم إذا ما التمست قیمته جلّ عن التّبر و هو من صفر
مختصر و هو إذ تفتّشه عن ملح العلم غیر مختصر
ذو مقلة تستبین ما رمقت عن صائب اللحظ صادق الخبر
تحمله و هو حامل فلکا لو لم یدر بالبنان لم یدر
مسکنه الأرض و هو ینبئنا عن کلّ ما فی السماء من خبر
أبدعه ربّ فکرة بعدت فی اللطف عن أن تقاس بالفکر
فاستوجب الشکر و الثناء به من کلّ ذی فطنة من البشر
فهو لذی اللّبّ شاهد عجب علی اختلاف العقول و الصّور
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 116
قلت: و هی من أحسن ما سمعت فی الاصطرلاب.
و أمر رحمه اللّه تعالی أن یکتب علی قبره: [الطویل]
سکنتک یا دار الفناء مصدّقا بأنی إلی دار البقاء أصیر
و أعظم ما فی الأمر أنی صائر إلی عادل فی الحکم لیس یجور
فیا لیت شعری کیف ألقاه عندها و زادی قلیل و الذنوب کثیر
فإن أک مجزیّا بذنبی فإننی بشرّ عقاب المذنبین جدیر
و إن یک عفو من غنیّ و مفضل فثمّ نعیم دائم و سرور

[من شعر ابن خفاجة]

و قال ابن خفاجة، و هو مما أورده له صاحب الذخیرة: [الطویل]
لقد زار من أهوی علی غیر موعد فعاینت بدر التّمّ ذاک التلاقیا
و عاتبته و العتب یحلو حدیثه و قد بلغت روحی لدیه التراقیا
فلمّا اجتمعنا قلت من فرحی به من الشّعر بیتا و الدموع سواقیا
(و قد یجمع اللّه الشتیتین بعدما یظنّان کلّ الظنّ أن لا تلاقیا)

[من مجون أهل الأندلس]

و من مجون الأندلسیین هذه القصیدة المنسوبة لسیدی أبی عبد اللّه بن الأزرق، و هی:
[الرجز]
عم باتّصال الزمن و لا تبالی بمن
و هو یواسی بالرضا من سمج أو حسن
أو من عجوز تحتظی و الظهر منها منحنی
أو من ملیح مسعد موافق فی الزمن
مهما تبدّی خدّه یبدو لک الورد الجنی
و الغصن فی أثوابه إذا تمشّی ینثنی
لا أمّ لی لا أمّ لی إن لم أبرّد شجنی
و أخلعنّ فی المجو ن و التصابی رسنی
و أجعل الصبر علی هجر الملاح دیدنی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 117
یا عاذلی فی مذهبی أرداک شرب اللّبن
أعطیت فی البطن سنا نا إن تخالف سننی
أیّ فتی خالفنی یوما و لمّا یلقنی
فإننی لناصح و إننی و إننی
فلا تکن لی لاحیا و فی الأمور استفتنی
فلم أزل أعرب عن نصحی لمن لم یلحنی
و إن تسفّه نظری و مذهبی و تنهنی
فالصفع تستوجبه نعم و نتف الذّقن
و الزبل فی وجهک یع لو باتّصال الزمن
و بعد هذا أشتفی منک و یبرا شجنی
و أضرب الکفّ أما م ذلک الوجه الدنی
طقطق طق طقطق طق أصخ بسمع الأذن
قحقح قح قحقح قح الضحک یغلبنّنی
قد کان أولی بک عن هذی المخازی تنثنی
النّفی تستوجبه لواسط أو عدن
عرضت بالنفس کذا إلی ارتکاب المحن
أفدی صدیقا کان لی بنفسه یسعدنی
فتارة أنصحه و تارة ینصحنی
و تارة ألعنه و تارة یلعننی
و ربّما أصفعه و ربما یصفعنی
أستغفر اللّه فه ذا القول لا یعجبنی
یا لیت هذا کلّه فیما مضی لم یکن
أضحکت و اللّه بذا ال حدیث من یسمعنی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 118
دهر تولّی و انقضی عنّی کطیف الوسن
یا لیتنی لم أره و لیته لم یرنی
دنّست فیه جانبی و ملبسی بالدّرن
و بعت فیه عیشتی لکن ببخس الثمن
کأننی و لست أد ری الآن ما کأننی
و اللّه ما التشبیه عن د شاعر بهیّن
لکنه أنطقنی بالقول ضیق العطن
وا حسرتی وا أسفی زلت و ضاعت فطنی
لو أنصف الدهر لما أخرجنی من وطنی
و لیس لی من جنّة و لیس لی من مسکن
أسرّح الطّرف و ما لی دمنة فی الدمن
و لیس لی من فرس و لیس لی من سکن
یا لیت شعری و عسی یا لیت أن تنفعنی
هل أمتطی یوما إلی ال شرق ظهور السّفن
و أجتلی ما شئته فی المنزل المؤتمن
حینئذ أخلع فی هذی القوافی رسنی
و تحسن الفکرة بال عدوس و السمنسنی
و اللحم مع شحم و مع طوابق الکبش الثنی
و البیض فی المقلاة بالز یت اللذیذ الدهن
و جلدة الفروج مش ویّا کثیر السمن
من منقذی أفدیه من ذا الجوع و التمسکن
و علة قد استوی فیها الفقیر و الغنی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 119
هل للثرید عودة إلیّ قد شوقنی
تغوص فیه أنملی غوص الأکول المحسن
و لی إلی الأسفنج شو ق دائم یطربنی
و للأرزّ الفضل إذ تطبخه باللبن
و للشواء و الرقا ق من هیام أنثنی
و اسکت عن الجبن فإنّ بنته یذهلنی
ظاهرها کالورد أو باطنها کالسوسن
أیّ امرئ أبصرها یوما و لم یفتتن
تهیم فیها فکر الأس تاذ و المؤذن
لو کان عندی معدن لبعت فیها معدنی
لکننی عزمت أن أبیع کمّ البدن
و الکمّ قد أکسبه بعد و لا یکسبنی
لا تنسبوا لی سفها فالجوع قد أرشدنی
و هات ذکر الکسکسو فهو شریف وسنی
لا سیما إن کان مص نوعا بفتل حسن
أرفع منه کورا بهنّ تدوی أذنی
و إن ذکرت غیر ذا أطعمة فی الوطن
فابدأ من المثوّما ت بالجبنّ الممکن
من فوقها الفرّوج قد أنهی فی التسمّن
و ثنّ بالعصیدة ال تی بها تطربنی
لا سیما إن صنعت علی یدی ممرکن
کذلک البلیاط بالز یت الذی یقنعنی
تطبخه حتی یری یحمرّ فی التّلوّن
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 120
و الزبزبنّ فی الصحا ف حسب أهل البطن
فاسمع قضایا ناصح یأتی بنصح بیّن
من اقتنی النقی منی فهو نعم المقتنی
و إنّ فی شاشیة ال فقیر أنسا للغنی
تبعدنی عن وصلها عن وصلها تبعدنی
تؤنسنی عن اللقا عن اللقا تؤنسنی
فأضلعی إن ذکرت تهفو کمثل الغصن
کم رمت تقریبا لها لکنه لم یهن
و صدّنی عن ذاک ق لة الوفا بالثمن
إیه خلیلی هذه مطاعم لکننی
أعجب من ریقک إذ یسیل فوق الذقن
هل نلت منها شبعا؟ فذکرها أشبعنی
و إن تکن جوعان یا صاح فکل بالأذن
فلیس عند شاعر غیر کلام الألسن
یصوّر الأشیاء و ه ی أبدا لم تکن
فقوله یریک ما لیس یری بالممکن
فاسمح و سامح و اقتنع و اطوحشاک و اسکن
و لننصرف فقصدنا إطراف هذا الموطن
و قال ابن خفاجة رحمه اللّه تعالی: [الکامل]
درسوا العلوم لیملکوا بجدالهم فیها صدور مراتب و مجالس
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 121
و تزهّدوا حتی أصابوا فرصة فی أخذ مال مساجد و کنائس
و هذا المعنی استعمله الشعراء کثیرا.

[من شعر ابن الأبار و ترجمة ابن الأبار]

و قال- فیما أظن- الفقیه الکاتب المحدّث الأدیب الشهیر أبو عبد اللّه محمد بن الأبار القضاعی، و قد تکرّر ذکره فی هذا الکتاب فی مواضع: [الطویل]
لقد غضبت حتی علی السّمط نخوة فلم تتقلّد غیر مبسمها سمطا
و أنکرت الشّیب الملمّ بلمّتی و من عرف الأیام لم ینکر الوخطا
و قال ابن سعید فی القدح المعلی فی حقّه: کاتب مشهور، و شاعر مذکور، کتب عن ولاة بلنسیة، و ورد رسولا حین أخذ النصاری بمخنّق تلک الجهات، و أنشد قصیدته السینیة:
[البسیط]
أدرک بخیلک خیل اللّه أندلسا إنّ السبیل إلی منجاتها درسا
و عارضه جمع من الشعراء ما بین مخطئ و محروم، و أغری الناس بحفظها إغراء بنی تغلب بقصیدة عمرو بن کلثوم، إلّا أنّ أخلاقه لم تعنه علی الوفاء بأسباب الخدمة، فقلصت عنه تلک النعمة، و أخر عن تلک العنایة، و ارتحل إلی بجایة، و هو الآن بها عاطل من الرّتب، خال من حلی الأدب، مشتغل بالتصنیف فی فنونه، متنفّل منه بواجبه و مسنونه، و لی معه مجالسات آنق من الشباب، و أبهج من الروض عند نزول السحاب، و مما أنشدنیه من شعره:
[الکامل]
یا حبّذا بحدیقة دولاب سکنت إلی حرکاته الألباب
غنّی و لم یطرب و سقّی و هو لم یشرب و منه العود و الأکواب
لو یدّعی لطف الهواء أو الهوی ما کنت فی تصدیقه أرتاب
و کأنه ممّا شدا مستهزئ و کأنه ممّا بکی ندّاب
و کأنه بنثاره و مداره فلک کواکبه لها أذناب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 122

[لجماعة من شعراء الأندلس]

و قال أبو المعالی القیجاطی: [السریع]
فقلت یا ربعهم أین من أحببته فیک و أین الندیم
فقال عهد قد غدا شمله کمثل ما ینثر درّ نظیم
و قال أبو عمرو بن الحکم القبطلی، و قبطلة: من أعمال وادی إشبیلیة: [مخلع البسیط]
کم أقطع الدهر بالمطال؟ ساءت و حقّ الإله حالی
رحلت أبغی بکم نجاحا فلم تفیدوا سوی ارتحالی
وعدتم ألف ألف وعد لکننی عدت بالمحال
و قال أبو عمران القلعی: [الوافر]
طلعت علیّ و الأحوال سود کما طلع الصباح علی الظلام
فقل لی کیف لا أولیک شعری و إخلاص التحیّة و السلام
و قال أبو إسحاق إبراهیم بن أیوب المرسی: [مجزوء الرمل]
أنا سکران و لکن من هوی ذاک الفلانی
کلّما رمت سلوّا لم یزل بین عیانی
و قال: [الوافر]
حبیبی ما لصبّک من مراد سوی أن لا تدوم علی البعاد
و إن کان ابتعادک بعد هذا مقیما فالسلام علی فؤادی
قال ابن سعید: و کان المذکور إذا غنی هذه الأشعار اللطیفة علی الأوتار، لم یبق لسامعه عند الهموم من ثار، مع أخلاق کریمة، و آداب کانسکاب الدّیمة، انتهی.
و قال ابن سعید: فی أبی بکر محمد بن عمار البرجی، کاتب ابن هود، القائل:
لمن یشهد حربا تحت رایات ابن هود.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 123
إلخ: [مجزوء الرمل]
یا ابن عمار لقد أح ییت لی ذاک السّمیّا
فی حلی نظم و نثر علّقا فی مسمعیّا
و لقد حزت مکانا من ذری الملک علیّا
مثل ما قد حاز لکن عش بنعماک هنیّا
و قال أبو بکر عبد اللّه بن عبد العزیز الإشبیلی المعروف بابن صاحب الرد: [السریع]
یا أبدع الخلق بلا مریة وجهک فیه فتنة الناظرین
لا سیما إذ نلتقی خطرة فیغلب الورد علی الیاسمین
طوبی لمن قد زرته خالیا فمتّع النفس و لو بعد حین
من ذلک الثغر الذی ورده ما زال فیه لذة الشاربین
و ما حوی ذاک الإزار الذی لم یعد عنه أمل الزائرین
و هذه الأبیات یقولها فی غلام کان أدباء إشبیلیة قد فتنوا به، و کان مروره علی داره.
و حکی عنه أنه أعطاه فی زیارة خمسین دینارا، و مرّت أیام ثم صادفه عند داره، فقال له: أ ترید أن أزورک ثانیة؟ فقال له: لا یلدغ المؤمن من جحر مرتین، و هذا الجواب- علی ما فیه من قلة الأدب، و هتک حجاب الشریعة- من أشدّ الأجوبة إصابة للغرض، و اللّه تعالی یسمح له، فقد قال ابن سعید فی حقّه: إن بیته بإشبیلیة من أجلّ البیوت، و لم یزل له مع تقلّب الزمان ظهور و خفوت، و کان أدیبا شاعرا ذوّاقا لأطراف العلوم، انتهی.

[أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزیر]

و من المشهورین بالمجون و الخلاعة بالأندلس- مع البلاغة و البراعة- أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزیر الکاتب، و هو من بیت مشهور من جزیرة شقر، من عمل بلنسیة، و کتب عن ولاة من بنی عبد المؤمن، ثم استکتبه السلطان ابن هود حین تغلّب علی الأندلس، و ربما استوزره فی بعض الأحیان. و قال ابن سعید: و هو ممّن کان والدی یکثر مجالسته، و لم أستفد منه إلّا ما کنت أحفظه فی مجالسته، و کان شدید التهوّر، کثیر الطیش، ذاهبا بنفسه کلّ مذهب، سمعته مرّة و هو فی محفل یقول: تقیمون القیامة لحبیب و البحتری و المتنبی،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 124
و فی عصرکم من یهتدی إلی ما لم یهتدوا إلیه؟ فأهوی له شخص له قحة و إقدام، فقال: یا أبا جعفر، فأرنا برهان ذلک، ما أظنک تعنی إلّا نفسک، فقال: نعم، و لم لا؟ و أنا الذی أقول ما لم یتنبّه إلیه متقدّم، و لا یهتدی لمثله متأخّر: [السریع]
یا هل تری أظرف من یومنا قلّد جید الأفق طوق العقیق
و أنطق الورق بعیدانها مرقصة کلّ قضیب وریق
و الشمس لا تشرب خمر الندی فی الأرض إلّا بکؤوس الشقیق
فلم ینصفوه فی الاستحسان، و ردّوه فی الغیظ إلی أضیق مکان، فقلت له: یا سیدی، هذا هو السحر الحلال، فباللّه إلّا ما زدتنی من هذا النمط، فقال: [الوافر]
أدرها فالسماء بدت عروسا مضمّخة الملابس بالغوالی
و خدّ الروض حمّره أصیل و جفن النهر کحّل بالظّلال
و جید الغصن یشرق فی لآل تضی‌ء بهنّ أکناف اللیالی
فقلت: زد وعد، فعاد و الارتیاح قد ملک عطفه، و التّیه قد رفع أنفه، فقال: [السریع]
للّه نهر عندما زرته عاین طرفی منه سحرا حلال
إذ أصبح الطّلّ به لیلة و جال فیه الغصن شبه الخیال
فقلت: زد، فأنشد: [الوافر]
و لمّا ماج بحر اللیل بینی و بینکم و قد جدّدت ذکرا
أراد لقاءکم إنسان عینی فمدّ له المنام علیه جسرا
فقلت: إیه، فقال: [الوافر]
و لمّا أن رأی إنسان عینی بصحن الخدّ منه غریق ماء
أقام له العذار علیه جسرا کما مدّ الظلام علی الضیاء
فقلت: أعد، فأعاد، و قال: حسبک لئلّا تکثر علیک المعانی، فلا تقوم بحقّ قیمتها، و أنشد: [الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 125
هات المدام إذا رأیت شبیهها فی الأفق یا فردا بغیر شبیه
فالصبح قد ذبح الظلام بنصله فغدت تخاصمه الحمائم فیه
ثم قال: و کان قد تهتّک فی غلام لابن هود، و لکثرة انهزام ابن هود ربما انهزم مع العلج، و فیه یقول: [الوافر]
ألفت الحرب حتی علّمتنی مقارعة الحوادث و الخطوب
و لم أک عالما و أبیک حربا بغیر لواحظ الرشأ الرّبیب
فها أنا بین تلک و بین هذی مصاب من عدوّ أو حبیب
و لمّا هرب العلج إلی سبتة أحسن إلیه القائم بها أبو العباس الینشتی فلم یقنع بذلک الإحسان، و کان یأتی بما یوغر صدره، فقال یوما فی مجلسه: رمیت مرة بقوس، فبلغ السهم إلی کذا، فقال ابن طلحة لشخص بجانبه: لو کان قوس قزح ما بلغ إلی کذا، فشعر بقوله، فأسرّها فی نفسه، ثم بلغه أنه هجاه بقوله: [الوافر]
سمعنا بالموفّق فارتحلنا و شافعنا له حسب و علم
و رمت یدا أقبّلها و أخری أعیش بفضلها أبدا و أسمو
فأنشدنا لسان الحال فیه ید شلا و أمر لا یتمّ
فزاد فی حنقه، و بقی مترصدا له الغوائل، فحفظت عنه أبیات قالها و هو فی حالة استهتار فی شهر رمضان، و هی: [الوافر]
یقول أخو الفضول و قد رآنا علی الإیمان یغلبنا المجون
أ تنتهکون شهر الصوم هلّا حماه منکم عقل و دین
فقلت اصحب سوانا، نحن قوم زنادقة مذاهبنا فنون
تدین بکل دین غیر دین الرّع اع فما به أبدا ندین
بحیّ علی الصّبوح الدّهر ندعو و إبلیس یقول لنا أمین
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 126
فیا شهر الصیام إلیک عنّا إلیک ففیک أکفر ما نکون
فأرسل إلیه من هجم علیه و هو علی هذه الحال، و أظهر أنه یرضی العامة بقتله، فقتله، و ذلک سنة 631، انتهی. و حاکی الکفر لیس بکافر، و اللّه سبحانه و تعالی للزلات غیر الکفر غافر.

[عود إلی ملح أهل الأندلس]

و قال محمد بن أحمد الإشبیلی بن البناء: [الطویل]
کأنک من جنس الکواکب کنت لم یفتک طلوعا حالها و تواریا
تجلّیت من شرق تروق تلألؤا فلما انتحیت الغرب أصبحت هاویا
و لمّا أمر المستنصر الموحّدی بضرب ابن غالب الدانی ألف سوط و صلبه، و ضرب بإشبیلیة خمسمائة، فمات، و ضرب بقیة الألف حتی تناثر لحمه، ثم صلب، قال ابنه أبو الربیع یرثیه: [البسیط]
جهلا لمثلک أن یبکی لما قدرا و أن یقول أسی: یا لیته قبرا
فاضت دموعک أن قاموا بأعظمه و قد تطایر عنه اللحم و انتثرا
و منها:
ضاقت به الأرض ممّا کان حمّلها من الأیادی فملّت شلوه شلوه ضجرا
و عزّ جسمک أن یحظی به کفن فما تسربل إلّا الشمس و القمرا
و قال أبو العلاء عبد الحق المرسی رحمه اللّه تعالی: [الرمل]
یا أبا عمران دعنی و الذی لم یمل بی خاطری إلّا إلیه
ما ندیمی غیر من یخدمنی لا الذی یجلسنی بین یدیه
یرفع الکلفة عنّی و یری أنها واجبة منّی علیه
و قال ابن غالب الکاتب بمالقة: [الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 127
لا تخش قولا قد عقدت الألسنا و ابعث خیالک قد سحرت الأعینا
و اعطف علیّ فإنّ روحی زاهق و انظر إلیّ بنظرة إن أمکنا
لا یخدعنّک أن ترانی لابسا ثوبی فقد أصبحت فیه مکفّنا
ما زال سحرک یستمیل خواطری بأرقّ من ماء الصفاء و ألینا
حتی غدوت ببحر حبّ زاخر فرمت بی الأمواج فی شطّ الضّنا
و قال: [الکامل]
ما للنسیم لدی الأصیل علیلا أ تراه یشکو زفرة و غلیلا
جرّ الذّیول علی دیار أحبّتی فأتی یجرّ من السّقام ذیولا
و قال أبو عبد اللّه بن عسکر الغسانی قاضی مالقة: [السریع]
أهواک یا بدر و أهوی الذی یعذلنی فیک و أهوی الرقیب
و الجار و الدار و من حلّها و کلّ من مرّ بها من قریب
ما إن تنصّرت و لکنّنی أقول بالتثلیث قولا غریب
یطابق الألحان و الکاس إذ تبسم عجبا و الغزال الربیب

[أبو أمیة بن عفیرة قاضی إشبیلیة]

و کان أبو أمیة بن عفیر قاضی إشبیلیة- مع براعته، و تقدّمه فی العلوم الشرعیة- أقوی الناس بالعلوم الأدبیة المرعیة، و قد اشتهر بسرعة الخاطر فی الارتجال، و عدم المناظر له فی ذلک المجال، قال ابن سعید: رأیته کثیرا ما یصنع القصائد و المقطّعات، و هو یتحدّث أو یفصل بین الغرماء فی أکثر الأوقات، و من شعره: [مخلع البسیط]
دیارهم صاح نصب عینی و لیس لی وصلة إلیها
إلّا سلامی لدی ابتعاد من بعد سکّانها علیها
و قوله رحمه اللّه تعالی: [الوافر]
و وجه تغرق الأبصار فیه و لکن یترک الأرواح هیما
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 128
أتانی ثم حیّانی حبیب به و أباحنی الخدّ الرّقیما
فمرّ لنا مجون فی فنون سلکت به الصراط المستقیما
قلت: أما مجرّد الارتجال فأمر عن الکثیر صادر، و أما کونه مع التحدّث أو فصل الخصومات فهو نادر، و قد حکینا منها فی هذا الکتاب من القسم الأول موارد و مصادر.

[علی بن ظافر و یعقوب]

و یعجبنی من الواقع لأهل المشرق من ذلک قضیة علی بن ظافر، إذ قال: بتّ لیلة و الشهاب یعقوب ابن أخت نجم الدین فی منزل اعترفت له مشیّدات القصور، بالانخفاض و القصور، و شهدت له سامیات البروج، بالاعتلاء، و العروج، قد ابیضّت حیطانه، و طاب استیطانه، و ابتهج به سکانه و قطّانه، و البدر قد محا خضاب الظّلماء، محیاه فی زرقة قناع السماء، و کسا الجدران ثیابا من فضّة، و نثر کافوره علی مسک الثری بعد أن سحقه و رضّه، و الروض قد ابتسم محیّاه، و وشت بأسرار محاسنه ریّاه، و النسیم قد عانق قامات الأغصان فمیّلها، و غصبها مباسم نورها فقبّلها، و عندنا مغنّ قد وقع علی تفضیله الإجماع، و تغایرت علی محاسنه الأبصار و الأسماع، إن بدا فالشمس طالعة، و إن شدا فالورق ساجعة، تغازله مقلة سراج قد قصر علی وجهه تحدیقه، و قابله فقلنا البدر قابل عیّوقه، و هو یغار علیه من النسیم کلّما خفق و هبّ، و یستجیش علیه بتلویح بارقه الموشّی بالذهب، و یدیم حرقته و سهده، و یبذل فی إلطافه طاقته و جهده، فتارة یضمّخه بخلوقه، و تارة یحلّیه بعقیقه، و آونة یکسوه أثواب شقیقه، فلم نزل کذلک حتی نعس طرف المصباح، و استیقظ نائم الصباح، فصنعت بدیها فی المجلس، و کتبت بها إلی الأعز بن المؤید رحمه اللّه تعالی أصف تلک اللیلة التی ارتفعت علی أیام الأعیاد، کارتفاع الرءوس علی الأجیاد، بل فضلت لیلات الدهر، کفضل البدر علی النجوم الزّهر: [الخفیف]
غبت عنی یا ابن المؤید فی وق ت شهیّ یلهی المحبّ المشوقا
لیلة ظلّ بدرها یلبس الجد ران ثوبا مفضّضا مرموقا
و غدا الطّلّ فیه ینثر کافو را فیعلو مسک التراب السّحیقا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 129
و تبدّی النسیم یعتنق الأغ صان لمّا سری عناقا رفیقا
بتّ فیها منادما لصدیق ظلّ بین الأنام خلّا صدوقا
هو مثل الهلال وجها صبیحا و مثال النسیم ذهنا رقیقا
و غزال کالبدر وجها و غصن ال بان قدّا و الخمرة الصّرف ریقا
مظهر للعیون ردفا مهیلا وحشا ناحلا و قدّا رشیقا
إن تغنّی سمعت، داود أو لا ح تأمّلت یوسف الصدّیقا
و إذا قابل السراج رأینا منه بدرا یقابل العیّوقا
و أظنّ الصباح هام بمرآ ه فأبدی قلبا حریقا خفوقا
هو نجم ما لاح فی الجدر کافو ر بیاض إلّا کساه خلوقا
ما بدا نرجس الکواکب إلّا قام من نومه یرینا الشقیقا
و إذا ما بدت جواهرها فی ال جوّ أبدی فی الأرض منهم عقیقا
فغدونا تحت الدجی نتعاطی من رقیق الآداب خمرا رحیقا
و جعلنا ریحاننا طیب ذکرا ک فخلناه عنبرا مفتوقا
ذاک وقت لولا مغیبک عنه کان بالمدح و الثناء خلیقا
قال: فأجاب عنها من الوزن دون الروی: [الخفیف]
قد أتتنی من الجمال قصید یا لها من قصیدة غرّاء
جمعت رقّة الهواء و طیب ال مسک فی سبکها و صفو الماء
فأرتنا طباعه و شذاه و الذی حاز ذهنه من ذکاء
سیدی هل جمعت فیها اللآلی یا أخا المجد أم نجوم السماء
أفحمتنی حسنا و حقّ أیادی ک التی لا تعدّ بالإحصاء
فترکت الجواب و اللّه عجزا فابسط العذر فیه یا مولائی
هل یسامی الثری الثریّا و أنّی یدّعی النجم فرط نور ذکاء
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 130
رجع إلی أهل الأندلس:
و قال ابن السماک: [البسیط]
إیاک أن تکثر الإخوان مغتنما فی کلّ یوم إلی أن یکثر العدد
فی واحد منهم تصفی الوداد له من التکالیف ما یفنی به الجلد
و له: [الطویل]
تحنّ رکابی نحو أرض و ما لها و ما لی من ذاک الحنین سوی الهمّ
و کم راغب فی موضع لا یناله و أمسیت منه مثل یونس فی الیمّ
بهذا قضی الرحمن فی کلّ ساخط یموت علی کره و یحیا علی رغم
و لمّا قام الباجی بإشبیلیة و خلع طاعة ابن هود، و أبدل شعاره الأسود العباسیّ فی البنود، قال أبو محمد عبد الحق الزهری القرطبی فی ذلک: [البسیط]
کأنما الرایة السوداء قد نعبت لهم غرابا ببین الأهل و الولد
مات الهوی تحتها من فرط روعته فأظهر الدهر منها لبسة الکمد
و أنشدهما القائم الباجی فی جملة قصیدة.
و قال الوزیر أبو الولید إسماعیل بن حجاج الأعلم الإشبیلی: [الکامل]
أمسی الفراش یطوف حول کؤوسنا إذ خالها تحت الدّجی قندیلا
ما زال یخفق حولها بجناحه حتی رمته علی الفراش قتیلا
و له: [الکامل]
لاموا علی حبّ الصّبا و الکاس لمّا بدا وضح المشیب براسی
و الغصن أحوج ما یکون لسقیه أیام یبدو بالأزاهر کاسی
و له، و قد رأی علی نهر قرطبة ثلاثین نفسا مصلوبین من قطّاع الطریق: [المتقارب]
ثلاثون قد صفّفوا کلّهم و قد فتحوا أذرعا للوداع
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 131
و ما ودّعوا غیر أرواحهم فکان وداعا لغیر اجتماع
و له فی فتی و سیم عضّ کلب وجنته: [الطویل]
و أغید وضّاح المحاسن باسم إذا قامر الأرواح ناظره قمر
تعمّد کلب عضّ وجنته التی هی الورد إیناعا و أبقی بها أثر
فقلت لشهب الأفق کیف صماتکم و قد أثّر العوّاء فی صفحة القمر
و قال الفقیه أبو الحجاج یوسف بن محمد البیاسی المؤرخ الأدیب، المصنّف الشهیر، و کان حافظا لنکت الأندلسین حدیثا و قدیما، ذاکرا لفکاهاتهم التی صیرته للملوک خلیلا و ندیما، فی صبیّ من أعیان الجزیرة الخضراء، تهافت فی حبّه جماعة من الأدباء و الشعراء.
و کان من القوم الذین هاموا بالمذکور، و قاموا فیه المقام المشهور، أدیب یقال له الفار، فتسلّط علی البیاسی حتی سافر من الجزیرة و کان یلقّب بالقط: [الطویل]
عذرت أبا الحجّاج من ربّ شیبة غدا لابسا فی الحب ثوبا من القار
و ألجأه الفأر المشارک للنوی و لم أر قطّا قبله فرّ من فار
و له: [الخفیف]
قد سلونا عن الذی تدریه و جفوناه إذ جفا بالتّیه
و ترکناه صاغرا لأناس خدعوه بالزّور و التّمویه
لمضلّ یسوقه لمضلّ و سفیه یقوده لسفیه
و له، و قد کتب إلی بعض أصحابه یذکّره بالأیام السوالف: [الوافر]
أبا حسن لعمرک إنّ ذکری لأیام النعیم من الصواب
أمثلی لیس یذکر عهد حمص و قد جمحت بنا خیل التصابی
و نحن نجرّ أثواب الأمانی مطرّزة هنالک بالشباب
و عهد بالجزیرة لیس ینسی و إن أغفلته عند الخطاب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 132
هو الأحلی لدیّ و إن حمانی عن العسل اجتماع للذّباب
و سار إلی المحبوب، و کان کثیر الاجتماع به فی جنّة لوالده علی وادی العسل، فقال: [مجزوء الرجز]
جنّة وادی العسل کم لی بها من أمل
لو لم یکن ذبابها یمنع ذوق العسل‌

[من محاسن أبی الحجاج البیاسی]

قال ابن سعید: و لمّا التقینا بتونس بعد إیابی من المشرق، و قد ولج ظلام الشّعر علی وجهه المشرق، قلت لأبی الحجاج مشیرا إلی محبوبه، و قد غطی هواه عنده علی عیوبه:
[السریع]
خلّ أبا الحجّاج هذا الذی قد کنت فیه دائم الوجد
و انظر إلی لحیته و اعتبر ممّا جنی الشّعر علی الخدّ
و اللّه سبحانه یسمح للجمیع، فی هذا الهزل الشنیع، و یصفح عنّا فی ذکره، إنه مجیب سمیع.

[ابن صارة و إخوان له]

و قال صاحب «البدائع» رکب الأستاذ أبو محمد بن صارة مع أصحاب له فی نهر إشبیلیة فی عشیة سال أصیلها علی لجین الماء عقیانا، و طارت زواریقها فی سماء النهر عقبانا، و أبدی نسیمها من الأمواج و الدارات سررا و أعکانا، فی زورق یجول جولان الطّرف، و یسودّ اسوداد الطّرف، فقال بدیها: [الوافر]
تأمّل حالنا و الجوّ طلق محیّاه و قد طفل المساء
و قد جالت بنا عذراء حبلی تجاذب مرطها ریح رخاء
بنهر کالسّجنجل کوثریّ تعبّس وجهها فیه السماء
و اتفق أن وقف أبو إسحاق بن خفاجة علی القطعة و استظرفها و استلطفها، فقال یعارضها علی وزنها و رویها و طریقتها: [الوافر]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 133
ألا یا حبّذا ضحک الحمیّا بحانتها و قد عبس المساء
و أدهم من جیاد الماء مهر تنازح جلّه ریح رخاء
إذا بدت الکواکب فیه غرقی رأیت الأرض تحسدها السماء

[بین ابن خفاجة و ابن وهبون و ابن خفاجة و أصحاب له]

و قال الأدیب ابن خفاجة فی دیوانه: صاحبت فی صدری من المغرب سنة ثلاث و ثمانین و أربعمائة أبا محمد عبد الجلیل بن وهبون شاعر المعتمد، و کان أبو جعفر بن رشیق یومئذ قد تمنّع ببعض حصون مرسیة، و شرع فی النفاق، فقطع السبیل، و أخاف الطریق، و لمّا حاذینا قلعته و قد احتدمت جمرة الهجیر، و ملّ الرکب رسیمه و ذمیله، و أخذ کلّ منّا یرتاد مقیله، اتفقنا علی أن لا نطعم طعاما، و لا نذوق مناما، حتی نقول فی صورة تلک الحال، و ذلک الترحال، ما حضر، و شاء اللّه أن أجبل ابن وهبون و اعتذر، و أخذت عفو خاطری، فقلت أتربّص به، و أعرّض بعظم لحیته: [الوافر]
ألا قل للمریض القلب مهلا فإنّ السیف قد ضمن الشقاء
و لم أر کالنّفاق شکاه حرّ و لا کدم الورید له دواء
و قد دحی النجیع هناک أرضا و قد سمک العجاج به سماء
و دیس به انحطاطا بطن واد مذ اعشب شعر لحیته ضراء
و قال ابن خفاجة أیضا: حضرت یوما مع أصحاب لی، و معهم صبی متهم فی نفسه، و اتّفق أنهم تحاوروا فی تفضیل الرمان علی العنب، فانبری ذلک الصبی فأفرط فی تفضیل العنب، فقلت بدیها أعبث به: [السریع]
صلنی لک الخیر برمّانة لم تنتقل عن کرم العهد
لا عنبا أمتصّ عنقوده ثدیا کأنی بعد فی المهد
و هل یری بینهما نسبة من عدل الخصیة بالنّهد
فخجل خجلا شدیدا و انصرف.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 134
قال: و خرجت یوما بشاطبة إلی باب السّمّارین، ابتغاء الفرجة علی خریر ذلک الماء بتلک الساقیة، و ذلک سنة 480، و إذ بالفقیه أبی عمران بن أبی تلید رحمه اللّه تعالی قد سبقنی إلی ذلک، فألفیته جالسا علی دکان کانت هناک مبنیة لهذا الشأن، فسلّمت علیه، و جلست إلیه، مستأنسا به، فجری أثناء ما تناشدناه ذکر قول ابن رشیق: [مجزوء الکامل]
یا من یمرّ و لا تمرّ به القلوب من الفرق
بعمامة من خدّه أو خدّه منها استرق
فکأنّه و کأنّها قمر تعمّم بالشّفق
فإذا بدا و إذا انثنی و إذا شدا و إذا نطق
شغل الخواطر و الجوا نح و المسامع و الحدق
فقلت، و قد أعجب بها جدّا، و أثنی علیها کثیرا: أحسن ما فی القطعة سیاقة الأعداد، و إلّا فأنت تراه قد استرسل فلم یقابل بین ألفاظ البیت الأخیر و البیت الذی قبله فینزل بإزاء کل واحدة منها ما یلائمها، و هل ینزل بإزاء قوله «و إذا نطق» قوله «شغل الحدق» و کأنه نازعنی القول فی هذا غایة الجهد، فقلت بدیها: [مجزوء الکامل]
و مهفهف طاوی الحشا خنث المعاطف و النظر
ملأ العیون بصورة تلیت محاسنها سور
فإذا رنا و إذا مشی و إذا شدا و إذا سفر
فضح الغزالة و الغما مة و الحمامة و القمر
فجنّ بها استحسانا، انتهی.
قال ابن ظافر: و القطعة القافیّة لیست لابن رشیق، بل هی لأبی الحسین علی بن بشر الکاتب أحد شعراء الیتیمة.

[بین السمیسر و بعض رؤساء المریة]

و کان بین السمیسر الشاعر و بین بعض رؤساء المریّة واقع لمدح مدحه فلم یجزه علیه، فصنع ذلک الرجل دعوة للمعتصم بن صمادح صاحب المریة، و احتفل فیها بما یحتفل مثله فی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 135
دعوة سلطان مثل المعتصم، فصبر السمیسر إلی أن رکب السلطان متوجّها إلی الدعوة، فوقف له فی الطریق، فلمّا حاذاه رفع صوته بقوله: [البسیط]
یا أیها الملک المیمون طائره و من لذی مأتم فی وجهه عرس
لا تفرسنّ طعاما عند غیرکم إنّ الأسود علی المأکول تفترس
فقال المعتصم: صدق و اللّه، و رجع من الطریق، و فسد علی الرجل ما کان عمله.

[عباد بن الحریش و رجال من سراة أصبهان]

و نظیر هذه الحکایة أن عبّاد بن الحریش کان قد مدح رجلا من کبار أصبهان أرباب الضیع و الأملاک و التبع الکثیر، فمطله بالجائزة، ثم أجازه بما لم یرضه، فردّه علیه، و بعد ذلک بحین عمل الرجل دعوة غرم علیها ألوف دنانیر کثیرة لأبی دلف القاسم بن عیسی العجلی علی أن یجی‌ء إلیه من الکرج، و وصل أبو دلف، فلمّا وقعت عین عبّاد علیه و هو یسایر بعض خواصّه أومأ إلی ذلک السائر و أنشد بأعلی صوته: [مجزوء الخفیف]
قل له یا فدیته قول عبّاد: ذا سمج
جئت فی ألف فارس لغداء من الکرج
ما علی النّفس بعد ذا فی الدناءات من حرج
فقال أبو دلف، و کان أخوف الناس من شاعر: صدق و اللّه، أجی‌ء من الکرج إلی أصبهان حتی أتغدّی بها؟ و اللّه ما بعد هذا فی دناءة النفس من شی‌ء. ثم رجع من طریقه، و فسد علی الرجل کل ما غرمه، و عرف من أین أتی. و تخوف أن یعود عبّاد علیه بشرّ منها، فسیّر إلیه جائزة سنیّة مع جماعة من أصحابه، فاجتمعوا به، و سألوه فیه، و فی قبول الجائزة، فلم یقبل الجائزة، ثم أنشد بدیها: [السریع]
وهبت یا قوم لکم عرضه
فقالوا: جزاک اللّه تعالی خیرا! فقال:
کرامة للشّعر لا للفتی
لأنه أبخل من ذرّة علی الذی تجمعه فی الشّتا
انتهی.
و ذکر أبو الصّلت أمیة بن عبد العزیز الأندلسی ما معناه: أنه عزم بمصر هو و رفقة له
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 136
علی الاصطباح، فقصدوا برکة الحبش، فی وقت ولایة الغبش، و حلّوا منها روضا بسم زهره، و نسم عطره، فأداروا کؤوسا، تطلع من المدام شموسا، و عاینوها نجوما، تکون لشیاطین الهموم رجوما، فطرب حتی أظهر الطرب نشاطه، و أبرز ابتهاجه و انبساطه، فقال: [المنسرح]
للّه یومی ببرکة الحبش و الجوّ بین الضیاء و الغبش
النّیل تحت الریاح مضطرب کصارم فی یمین مرتعش
و نحن فی روضة مفوّفة دبّج بالنّور عطفها و وشی
قد نسجتها ید الغمام لنا فنحن من نورها علی فرش
فعاطنی الراح إنّ تارکها من سورة الهمّ غیر منتعش
و أسقنی بالکبار مترعة فهنّ أروی لشدّة العطش
فأثقل الناس کلّهم رجل دعاه داعی الصّبا فلم یطش‌

[أبو الصلت و إخوان له]

و هذا أبو الصّلت أمیة من کبراء أدباء الأندلس العلماء الحکماء، و قد ترجمناه فی الباب الخامس فی المرتحلین من الأندلس إلی المشرق.
و قال رحمه اللّه تعالی: کنت مع الحسن بن علی بن تمیم بن المعز بن بادیس بالمهدیة فی المیدان، و قد وقف یرمی بالنشاب، فصنعت فیه بدیها: [السریع]
یا ملکا مذ خلقت کفّه لم تدر إلّا الجود و الباسا
إنّ النجوم الزّهر مع بعدها قد حسدت فی قربک الناسا
و ودّت الأملاک لو أنها تحوّلت تحتک أفراسا
کما تمنّی البدر لو أنه عاد لنشّابک برجاسا

[للوزیر الوقشی فی غلام أسود]

و صنع الوزیر أبو جعفر أحمد الوقشی وزیر الرئیس أبی إسحاق بن همشک صهر الأمیر أبی عبد اللّه محمد بن مردنیش فی غلام أسود فی یده قضیب نور بدیها: [الوافر]
و زنجیّ أتی بقضیب نور و قد زقّت لنا بنت الکروم
فقال فتی من الفتیان صفها فقلت اللیل أقبل بالنجوم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 137

[أبو یحیی الیکی]

و لمّا أفرط أبو بکر یحیی الیکی فی هجاء أهل فاس تعسّفوا علیه، و ساعدهم و الیهم مظفر الخصی من قبل أمیر المسلمین علی بن یوسف، و القائد عبد اللّه بن خیار الجیانی، و کان یتولّی أمورا سلطانیة بها، فقدّموا رجلا ادّعی علیه بدین، و شهد علیه به رجل فقیه یعرف بالزناتی، و رجل آخر یکنی بأبی الحسین من مشایخ البلد، فأثبت الحقّ علیه، و أمر به إلی السجن، فرفع إلیه، و سیق سوقا عنیفا، فلمّا وصل إلی بابه طلب ورقة من کاتبه، و کتب فیها، و أنفذها إلی مظفر مع العون الذی أوصله إلی السجن، فکان ما کتب: [الکامل]
ارشوا الزناتیّ الفقیه ببیضة یشهد بأنّ مظفرا ذو بیضتین
و اهدوا إلیه دجاجة یحلف لکم ما ناک عبد اللّه عرس أبی الحسین‌

[من شعر ابن مفید و جماعة من أهل الأندلس]

و قال أبو الحسن علی بن عتیق بن مؤمن القرطبی الأنصاری: عمل والدی محملا للکتب من قضبان تشبه سلّما، فدخل علیه أبو محمد عبد اللّه بن مفید، فرآه، فقال ارتجالا:
[الخفیف]
أیها السّیّد الذکیّ الجنان لا تقسنی بسلّم البنیان
فضل شکلی علی السلالم أنی محمل للعلوم و القرآن
حزت من حلیة المحبین ضعفی و اصفراری و رقّة الأبدان
فادع للصانع المجید بفوز ثم وال الدعاء للإخوان
ثم عمل أیضا: [الخفیف]
أیها السّیّد الکریم المساعی التفت صنعتی و حسن ابتداعی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص137
أنا للنّسخ محمل خفّ حملی أنا فی الشکل سلّم الاطلاع
و قال أحمد بن رضی المالقی: [البسیط]
لیس المدامة ممّا أستریح له و لا مجاوبة الأوتار و النّغم
و إنّما لذّتی کتب أطالعها و خادمی أبدا فی نصرتی قلمی
و قال أبو القاسم البلوی الإشبیلی: [الوافر]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 138
لمن أشکو مصابی فی البرایا و لا ألقی سوی رجل مصاب
أمور لو تدبّرها حکیم لعاش مدی الزمان أخا اکتئاب
أما فی الدهر من أفشی إلیه بأسراری فیؤنس بالجواب
یئست من الأنام فما جلیس یعزّ علی نهای سوی کتابی
و قال أبو زکریا یحیی بن صفوان بن إدریس، صاحب کتاب «العجالة» و «زاد المسافر» و غیرهما: [مجزوء الرمل]
لیت شعری کیف أنتم و أنا الصّبّ المعنّی
کلّ شی‌ء لم تکونوا فیه لفظ دون معنی
و له فی نصرانی وسیم لقیه یوم عید: [المتقارب]
توحّد فی الحسن من لم یزل یثلّث و القلب فی صدّه
یشفّ لک الماء من کفّه و یقتدح النار من خدّه
و هذان البیتان نسبهما له بعض معاشریه، و أبوه صفوان سابق المیدان.

[ابن عمار و غلامان من بنی جهور]

و قال ابن بسام: سایر ابن عمار فی بعض أسفاره غلامان من بنی جهور أحدهما أشقر العذار و الآخر أخضره، فجعل یمیل بحدیثه لمخضرّ العذار، ثم قال ارتجالا: [المتقارب]
تعلّقته جهوریّ النّجار حلیّ اللّمی جوهریّ الثنایا
من النّفر البیض أسد الزمان رقاق الحواشی کرام السجایا
و لا غرو أن تغرب الشارقات و تبقی محاسنها بالعشایا
و لا وصل إلّا جمان الحدیث نساقطه من ظهور المطایا
شنئت المثلّث للزعفران و ملت إلی خضرة فی التفایا
و معناه أنّ ابن عمار أبغض المثلث لدخول الزعفران فیه لشبهه بعذار الأشقر منهما، و أحبّ خضرة التفایا، و هو لون طعام یعمل بالکزبرة، لشبهها بعذار الأخضر منهما.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 139

[ابن عمار و ابن معیشة الکنانی و ایضا ابن عمار و غلام لابن هود]

و قال أبو العرب بن معیشة الکنانی السبتی: أخبرنی شیخ من أهل إشبیلیة کان قد أدرک دولة آل عباد، و کان علیه من أثر کبر السنّ و دلائل التعمیر ما یشهد له بالصدق، و ینطق بأنّ قوله الحقّ، قال: کنت فی صبای حسن الصورة، بدیع الخلقة، لا تلمحنی عین أحد إلّا ملکت قلبه، و خلبت خلبه، و سلبت لبّه، و أطلت کربه، فبینا أنا واقف علی باب دارنا إذا بالوزیر أبی بکر بن عمار قد أقبل فی موکب زجل، علی فرس کالصخرة الصّمّاء قدّت من قنّة الجبل، فحین حاذانی و رآنی اشرأبّ إلیّ ینظرنی و بهت یتأمّلنی، ثم دفع بمخصرة کانت بیده فی صدری، و أنشد: [مجزوء الکامل]
کفّ هذا النّهد عنّی فبقلبی منه جرح
هو فی صدرک نهد و هو فی صدری رمح
و عبر فی «البدائع» علی طریقة القلائد بما صورته: ذکر الفتح بن خاقان ما هذا معناه:
أخبرنی ذو الوزارتین أبو المطرف بن عبد العزیز أنه حضر عند المؤتمن بن هود فی یوم أجری الجوّ فیه أشقر برقه، و رمی بنبل ودقه، و حملت الریاح فیه أوقار السحاب علی أعناقها، و تمایلت قامات الأغصان فی الحلل الخضر من أوراقها، و الأزهار قد تفتّحت عیونها، و الکمائم قد ظهر مکنونها، و الأشجار قد انصقلت بالقطر، و نشرت ما یفوق ألوان البز و بثّت ما یعلو العطر، و الراح قد أشرقت نجومها فی بروج الراح، و حاکت شمسها شمس الأفق فتلفّعت بغیوم الأقداح، و مدیرها قد ذاب ظرفا فکاد یسیل من إهابه، و أخجل خدّها حسنا فتکلّل بعرق حبابه، إذا بفتی رومی من أصبح فتیان المؤتمن قد أقبل متدرّعا کالبدر اجتاب سحابا، و الخمر اکتست حبابا، و الطاووس انقلب حبابا، فهو ملک حسنا إلّا أنه جسد، و غزال لینا إلّا أنه فی هیئة الأسد، و قد جاء یرید استشارة المؤتمن فی الخروج إلی موضع کان عوّل فیه علیه، و أمره أن یتوجّه إلیه، فحین وصل إلی حضرته لمحه ابن عمار و السکر قد استحوذ علی لبّه، و انبثّت سرایاه فی ضواحی قلبه، فأشار إلیه و قرّبه، و استبدع ذلک اللباس و استغربه، و جدّ فی أن یستخرج تلک الدّرّة من ماء ذلک الدّلاص، و أن یجلی عنه کما یجلی الخبث عن
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 140
الخلاص، و أن یوفّر علی ذلک الوفر نعمة جسمه، و یکون هو الساقی علی عادته القدیمة و رسمه، فأمره المؤتمن بقبول أمره و امتثاله، و احتذاء أمثاله، فحین ظهرت تلک الشمس من حجبها، و رمت شیاطین النفوس من کمت المدام بشهبها، ارتجل ابن عمار: [الکامل]
و هویته یسقی المدام کأنه قمر یدور بکوکب فی مجلس
متناوح الحرکات یندی عطفه کالغصن هزّته الصّبا بتنفّس
یسقی بکأس فی أنامل سوسن و یدیر أخری من محاجر نرجس
یا حامل السّیف الطویل نجاده و مصرّف الفرس القصیر المحبس
إیاک بادرة الوغی من فارس خشن القناع علی عذار أملس
جهم و إن حسر القناع فإنما کشف الظلام عن النهار المشمس
یطغی و یلعب فی دلال عذاره کالمهر یلعب فی اللجام المجرس
سلّم فقد قصف القنا غصن النّقا وسطا بلیث الغاب ظبی المکنس
عنّا بکأسک قد کفتنا مقلة حوراء قائمة بسکر المجلس
و صنع فیه أیضا: [الوافر]
و أحور من ظباء الروم عاط بسالفتیه من دمعی فرید
قسا قلبا و شنّ علیه درعا فباطنه و ظاهره حدید
بکیت و قد دنا و نأی رضاه و قد یبکی من الطرب الجلید
و إنّ فتی تملّکه برقّ و أحرز حسنه لفتی سعید

[المعتصم بن صمادح]

و قال فی «البدائع» مؤلّفه ما نصّه: خرج المعتصم بن صمادح صاحب المریة یوما إلی بعض متنزهاته، فحلّ بروضة قد سفرت عن وجهها البهیج، و تنفّست عن مسکها الأریج، و ماست معاطف أغصانها، و تکلّلت بلؤلؤ الطلّ أجیاد قضبانها، فتشوّف إلی الوزیر أبی طالب بن غانم أحد کبراء دولته، و سیوف صولته، فکتب إلیه بدیها بورقة کرنب بعود من شجرة: [مخلع البسیط]
أقبل أبا طالب إلینا و اسقط سقوط النّدی علینا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 141
و جلس المعتصم بن صمادح المذکور یوما و بین یدیه ساقیة قد أخمدت ببردهما حرّ الأوار، و التوی ماؤها فیها التواء فضّة السوار، فقال ارتجالا: [البسیط]
انظر إلی الماء کیف انحطّ من صببه کأنه أرقم قد جدّ فی هربه

[بعض ما قیل فی البعوض]

و قال السمیسر: [المتقارب]
بعوض شربن دمی قهوة و غنّیننی بضروب الأغانی
کأنّ عروقی أوتارهنّ و جسمی الرباب و هنّ القنانی
[و قیل: [الطویل]
بعوض و برغوث و بقّ لزمننی حسبن دمی خمرا فلذّ لها الخمر
فیرقص برغوث لزمر بعوضة و بقّهم سکت لیستمع الزمر
و منه: [مجزوء الکامل]
بقّ و برغوث أتوا نحوی و قد شدّوا عذابی
و أتی البعوض بزمره یا قوم أخرج من ثیابی]
و أحسن منه قول ابن شرف القیروانی: [الکامل]
لک مجلس کملت بشارة لهونا فیه، و لکن تحت ذاک حدیث
غنّی الذباب فظلّ یزمر حوله فیه البعوض و یرقص البرغوث
و السابق إلی هذا المعنی أبو الحسن أحمد بن أیوب من شعراء الیتیمة إذ قال:
[المنسرح]
لا أعذل اللیل فی تطاوله لو کان یدری ما نحن فیه نقص
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 142
لی و البراغیث و البعوض إذا أجنّنا حندس الظلام قصص
إذا تغنّی بعوضه طربا أطرب برغوثه الغنا فرقص
و نحو هذا قول الحصری فیما نسبه إلیه ابن دحیة: [المجتث]
ضاقت بلنسیة بی و ذاد عنّی غموضی
رقص البراغیث فیها علی غناء البعوض‌

[عود إلی أهل الأندلس]

رجع إلی أهل الأندلس، فنقول:
کان ابن سعد الخیر البلنسی الشاعر کثیر الذهول، مفرط النسیان، ظاهر التغفّل، علی جودة نظمه، و رطوبة طبعه، و کان کثیرا ما یسلک سکة الإسکافیین الذین یعملون الخفاف علی بغلة له، فاتّخذت البغلة النفور من أطراف الأدم و فضلات الجلود الملقاة فی السکة عادة لها، و اتّفق أن عبر فی السکة راجلا، و معه جماعة من أصحابه، فلمّا رأی الجلود الملقاة قفز و وثب راجعا علی عقبیه، فقال له أصحابه: ما هذا أیها الأستاذ؟ فقال: البغلة نفرت، فعجبوا من تغفّله کیف ظنّ مع ما یقاسیه من ألم المشی و نصب التعب أنه راکب؟ و أنّ حرکته الاختیاریة منه حرکة الدابة الضروریة له، فکان تغفّله ربما أوقعه فی تهمة عند من لم یعرفه، فاقترح علیه بعض الأمراء أن یصنع بیتین أول أحدهما کتاب و آخره ذئب، و أول الآخر جوارح و آخره أنابیب، فصنع بدیها: [الطویل]
کتاب نجیع لاح فی حومة الوغی و قارنه نسر هنالک أو ذیب
جوارح أهلیه حروف و ربّما تولّته من نقط الطعان أنابیب
و قال الحمیدی: ذکر لی أبو بکر المروانی أنه شاهد محبوبا الشاعر النحوی قال بدیهة فی صفة ناعورة: [الطویل]
و ذات حنین ما تغیض جفونها من اللّجج الخضر الصوافی علی شطّ
و تبکی فتحیی من دموع جفونها ریاضا تبدّت بالأزاهر فی بسط
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 143
فمن أحمر قان و أصفر فاقع و أزهر مبیضّ و أدکن مشمطّ
کأنّ ظروف الماء من فوق متنها لآلی جمان قد نظمن علی قرط
و قال أبو الخطاب بن دحیة: دخلت علی الوزیر الفقیه الأجلّ أبی بکر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور السلمی، فوقع الکلام فی علوم لم تکن من جنس فنونه، فقال بدیها: [الخفیف]
أیها العالم ادّرکنی سماحا فلمثلی یحقّ منک السماح
إن تخلنی إذا نطقت عییّا فبنانی إذا کتبت وقاح
أحرز الشأو فی نظام و نثر ثم أثنی و فی العنان جماح
فبهزل کما تأوّد غصن و بجدّ کما تهزّ الصفاح
و قال: دخلت علیه منزله بشاطبة فی الیوم الذی توفی فیه و هو یجود بنفسه، فأنشد بدیها: [الخفیف]
أیها الواقف اعتبارا بقبری استمع فیه قول عظمی الرّمیم
أودعونی بطن الضریح و خافوا من ذنوب کلومها بأدیمی
و دعونی بما اکتسبت رهینا غلق الرهن عند مولّی کریم
و قال ابن طوفان: دعا أبی أبا الولید النّحلی، فلمّا قضوا و طرهم من الطعام سقیتهم، و جعلت أترع الکاسات، فلمّا مشت فی النّحلی سورة الحمیّا ارتجل: [مجزوء الرمل]
لابن طوفان أیاد قلّ فیها مشبهوه
ملأ الکاسات حتی قیل فی البیت أبوه
و نظیره قول المتفتل من شعراء الذخیرة فی الشاعر ابن الفراء: [مجزوء الرمل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 144
فإذا ما قال شعرا نفقت سوق أبیه‌

[فی وصف الأهرام و فی وصف فرس]

و ذکر فی «بدائع البداءة» أن جماعة من الشعراء فی أیام الأفضل خرجوا متنزهین إلی الأهرام لیروا عجائب مبانیها، و یتأمّلوا ما سطّره الدهر من العبر فیها، فاقترح بعض من کان معهم العمل فیها، فصنع أبو الصلت أمیة بن عبد العزیز الأندلسی: [الطویل]
بعیشک هل أبصرت أعجب منظرا علی ما رأت عیناک من هرمی مصر
أنافا بأعنان السماء فأشرفا علی الجوّ إشراف السّماک أو النّسر
و قد وافیا نشزا من الأرض عالیا کأنهما نهدان قاما علی صدر
و صنع أبو منصور ظافر الحداد: [الوافر]
تأمّل هیئة الهرمین و انظر و بینهما أبو الهول العجیب
کعمار یتّین علی رحیل بمحبوبین بینهما رقیب
و فیض البحر عندهما دموع و صوت الریح بینهما نحیب
و ظاهر سجن یوسف مثل صبّ تخلّف فهو محزون کئیب
و قال ابن بسام: کان للمتوکل بن الأفطس فرس أدهم أغرّ محجّل علی کفله ست نقط بیض، فندب المتوکل الشعراء لصفته، فصنع النّحلی أبو الولید فیه بدیها: [الرمل]
رکب البدر جوادا سابحا تقف الریح لأدنی مهله
لبس اللیل قمیصا سابغا و الثریّا نقط فی کفله
و غدیر الصبح قد خیض به فبدا تحجیله من بلله
کلّ مطلوب و إن طالت به رجله من أجله فی أجله
ثم انتدب الشعراء بعد ذلک للعمل فیه، فصنع ابن اللّبّانة: [الکامل]
للّه طرف جال یا ابن محمد فحبت به حوباؤه التأمیلا
لمّا رأی أنّ الظلام أدیمه أهدی لأربعه الهدی تحجیلا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 145
و کأنما فی الردف منه مباسم تبغی هناک لرجله تقبیلا
و یعنی بعمر المتوکل المذکور لأنّ اسمه عمر.
و قال أحمد بن عبد الرحمن بن الصقر الخزرجی قاضی إشبیلیة: [الکامل]
للّه إخوان تناءت دارهم حفظوا الوداد علی النوی أو خانوا
یهدی لنا طیب الثناء و دادهم کالندّ یهدی الطیب و هو دخان
و حکی أن أیوب بن سلیمان السهیلی المروانی حضر یوما عند ابن باجة، و الشاعر و أبو الحسن بن جودی هناک، فتکلّم المروانی بکلام ظهر فیه نبل و أدب، فتشوّف أبو الحسن بن جودی لمعرفته، و کان إذ ذاک فتیّ السّنّ، فقال له: من أنت أکرمک اللّه تعالی؟
فقال: هلا سألت غیری عنی فیکون ذلک أحسن لک أدبا و لی توقیرا، فقال ابن جودی: قد سألت من المعرف عنک فلم یعرفک، فقال: یا هذا، طالما مرّ علینا زمان یعرفنا من یجهل، و لا یحتاج من یرانا فیه إلی أن یسأل، و أطرق ساعة، ثم رفع رأسه و أنشد: [الطویل]
أنا ابن الألی قد عوّض الدهر عزّهم بذلّ و قلوا و استحبّوا التنکّرا
ملوک علی مرّ الزمان بمشرق و غرب دهاهم دهرهم و تغیّرا
فلا تذکرنهم بالسؤال مصابهم فإنّ حیاة الرّزء أن یتذکّرا
ففطن ابن جودی أنه من بنی مروان، فقام و قبّل رأسه، و اعتذر إلیه، ثم انصرف المروانی، فقال ابن باجة لابن جودی: أساء أدبک بعدما عهدت منک؟ کیف تعمد إلی رجل فی مجلسی تجدنی قد قربته و أکرمته و خصصته بالإصغاء إلی کلامه فتقدّم علیه بالسؤال عن نفسه؟ فاحذر أن تکون لک عادة، فإنها من أسوأ الأدب، فقال ابن جودی: لم نزل من الشیخ علی ما قاله أبو تمام: [المنسرح]
نأخذ من ماله و من أدبه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 146

[بکار المروانی]

و حکی أن بکار المروانی لمّا ترک وطنه و خرج فی الجهاد و قتل، قال صاحب السقط:
إنه اجتمع به فی أشبونة فقال: قصدت منزله بها، و نقرت الباب، فنادی: من هذا؟ فقلت:
رجل ممّن یتوسّل لرؤیاک بقرابة، فقال: لا قرابة إلّا بالتقی، فإن کنت من أهله فادخل، و إلّا فتنحّ عنّی، فقلت: أرجو فی الاجتماع بک و الاقتباس منک أن أکون من أهل التقی، فقال:
ادخل، فدخلت علیه فإذا به فی مصلّاه و سبحة أمامه، و هو یعدّ حبوبها و یسبح فیها، فقال لی:
ارفق علیّ حتی أتمّم وظیفتی من هذا التسبیح، و أقضی حقّک، فقعدت إلی أن فرغ، فلمّا قضی شغله عطف علیّ و قال: ما القرابة التی بینی و بینک؟ فانتسبت له، فعرف أبی، و ترحّم علیه، و قال لی: لقد کان نعم الرجل، و کان لدیه أدب و معرفة، فهل لدیک أنت ممّا کان لدیه شی‌ء؟
فقلت له: إنه کان یأخذنی بالقراءة و تعلّم الأدب، و قد تعلّقت من ذلک بما أتمیّز به، فقال لی:
هل تنظم شیئا؟ قلت: نعم، و قد ألجأنی الدهر إلی أن أرتزق به، فقال: یا ولدی إنه بئسما یرتزق به، و نعم ما یتحلّی به إذا کان علی غیر هذا الوجه، و قد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم: «إنّ من الشّعر لحکمة» و لکن تحلّ المیتة عند الضرورة، فأنشدنی أصلحک اللّه تعالی ممّا علی ذکرک من شعرک، قال: فطلبت بخاطری شیئا أقابله به ممّا یوافق حاله فما وقع لی إلّا فیما لا یوافقه من مجون و وصف خمر و ما أشبه ذلک، فأطرقت قلیلا، فقال: لعلّک تنظم، فقلت: لا و لکن أفکر فیما أقابلک به، فقولی أکثره فیما حملنی علیه الصّبا و السخف، و هو غیر لائق بمجلسک، فقال: یا بنی، و لا هذا کلّه، إنّا لا نبلغ من تقوی اللّه إلی حدّ نخرج به عن السلف الصالح، و إذا صحّ عندنا أنّ عبد اللّه بن عباس ابن عم رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، و مفسّر کتاب اللّه تعالی ینشد مثل قول القائل: [الرجز]
إن یصدق الطیر ننک لمیسا
فمن نحن حتی نأبی أن نسمع مثل هذا؟ و اللّه لا نشذّ عن السلف الصالح، أنشدنی ما وقع لک غیر متکلّف، فلم یمدّنی خاطری إلی غیر قولی من شعر أمجن فیه: [المجتث]
أبطأت عنّی، و إنی لفی اشتیاق شدید
و فی یدی لک شی‌ء قد قام مثل العمود
لو ذقته مرّة لم تعد لهذا الصدود
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 147
فتبسّم الشیخ و قال: أما کان فی نظمک أطهر من هذا؟ فقلت له: ما وفّقت لغیره، فقال:
لا بأس علیک، فأنشدنی غیره، ففکّرت إلی أن أنشدته قولی: [المتقارب]
و لمّا وقفت علی ربعهم تجرّعت وجدی بالأجزع
و أرسل دمعی شرار الدموع لنار تأجّج فی الأضلع
فقال عذولی، لمّا رأی بکائی: رفقا علی الأدمع
فقلت له: هذه سنّة لمن حفظ العهد فی الأربع
قال: فرأیت الشیخ قد اختلط، و جعل یجی‌ء و یذهب، ثم أفاق و قال: أعد بحقّ آبائک الکرام، فأعدت، فأعاد ما کان فیه و جعل یردّده، فقلت له: لو علمت أنّ هذا یحرّکک ما أنشدتک إیّاه، فقال: و هل حرّک منّی إلّا خیرا و عظة؟ یا بنیّ، إنّ هذه القلوب المخلاة للّه کالورق التی جفت، و هی مستعدّة لهبوب الریاح، فإن هبّ علیها أقلّ ریح لعب بها کیف شاء، و صادف منها طوعه، فأعجبنی منزعه، و تأنّست به، و لم أر عنده ما یعتاد من هؤلاء المتدینین من الانجماع و الانکماش، بل ما زال یبسطنی و یحدّثنی بأخبار فیها هزل، و یذکر لی من تاریخ بنی أمیة و ملوکها ما أرتاح له، و لا أعلم أکثره، فلمّا کثر تأنسی به أهویت إلی یده کی أقبّلها، فضمّها بسرعة، و قال: ما شأنک؟ فقلت: راغبا لک فی أن تنشدنی شیئا من نظمک، فقال: أما نظمی فی زمان الصبا فکان له وقت ذهب، و یجب للنظم أن یذهب معه، و أمّا نظمی فی هذا الوقت فهو فیما أنا بسبیله، و هو یثقل علیک، فقلت له: إن أنصف سیدی الشیخ نفعنا اللّه تعالی به أنشدنی من نظم صباه، و من نظم شیخوخته، فیأخذ کلانا بحظّه، فضحک و قال: ما أعصیک و أنت ضیف و قریب و لک حرمة أدب و وسیلة قصد، ثم أنشدنی و قد بدا علیه الخشوع و خنقته العبرة: [مجزوء الکامل]
ثق بالذی سوّاک من عدم فإنک من عدم
و انظر لنفسک قبل قر ع السّنّ من فرط الندم
و احذر وقیت من الوری و اصحبهم أعمی أصمّ
قد کنت فی تیه إلی أن لاح لی أهدی علم
فاقتدت نحو ضیائه حتی خرجت من الظّلم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 148
لکن قنادیل الهوی فی نور رشدی کالحمم
قال: فو اللّه لقد أدرکنی فوق ما أدرکه، و غلب علی خاطری بما سمعت من هذه الأبیات، و فعلت بی من الموعظة غایة لم أجد منها التخلّص إلّا بعد حین، فقال لی الشیخ: إنّ هذه یقظة یرجی معها خیرک، و اللّه مرشدک و منقذک، ثم قال لی: یا بنی، هذا ما نحن بسبیله الآن، فاسمع فیما مضی و اللّه ولیّ المغفرة، و إنّا لنرجو منه غفران الفعل، فکیف القول، و أنشد: [المتقارب]
أطلّ عذار علی خدّه فظنّوا سلوّی عن مذهبی
و قالوا غراب لوشک النّوی فقلت اکتسی البدر بالغیهب
و نادیت قلبی أین المسیر و بدر الدّجی حلّ بالعقرب
فقال و لو رمت عن حبّه رحیلا عصیت و لم أذهب
قال: فسمعت منه ما یقصر عنه صدور الشعراء، و شهدت له بالتقدّم، و قلت له: لم أر أحسن من نظمک فی جدّ و لا هزل، ثم قلت له: أ أرویه عنک؟ فقال: نعم، ما أری به بأسا بعد اطلاع من یعلم السرائر، علی ما فی الضمائر، فما قدر هذه الفکاهة فی إغضاء من یغفر الکبائر؟ و یغضی عن العظائم؟ قال: فقلت له: فإن أسبغت علیّ النعمة بزیادة شی‌ء من هذا الفن فعلت ما تملک به قلبی آخر الدهر، فقال: یا بنی، لا ملک قلبک غیر حبّ اللّه تعالی! ثم قال: و لا أجمع علیک ردّ قول و منعا، و أنشد: [مجزوء الخفیف]
أیها الشادن الذی حسنه فی الوری غریب
لحظ ذاک الجمال یط فی‌ء ما بی من اللهیب
و علیه أحوم ده ری و لکنّنی أخیب
کلّما رمت زورة قیّض اللّه لی رقیب
قال: فمازج قلبی من الرقّة و اللطافة لهذا الشعر ما أعجز عن التعبیر عنه، فقلت له:
زدنی زادک اللّه تعالی خیرا، فأنشدنی: [البسیط]
ما کان قلبی یدری قدر حبّکم حتی بعدتم فلم یقدر علی الجلد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 149
و کنت أحسب أنی لا أضیق به ذرعا فما حان حتی فتّ فی عضدی
ثم استمرّت علی کره مریرته فکاد یفرق بین الروح و الجسد
عساکم أن تلاقوا باللقا رمقی فلیس لی مهجة تقوی علی الکمد
ثم قال: حسبک، و إن کلفتنی زیادة فاللّه حسبک، فقلت له: قد وکلتنی إلی کریم غفور رحیم، فباللّه إلّا ما زدتنی، و أکببت لأقبّل رجلیه، فضمّهما و أنشد: [المجتث]
للّه من قال لمّا شکوت فیه نحولی
أمّا السبیل لوصل فما له من وصول
فقلت حسبی التماح بحسن وجه جمیل
وجه تلوح علیه علامة للقبول
فقال دعنی فهذا تعرّض للفضول
فقلت عاتب و خاطب بالأمن أهل العقول
فملأ سمعی عجائب، و بسط أنسی، و کتبت کلّ ما أنشدنی، ثم قلت له: لولا خوفی من التثقیل علیک لم أزل أستدعی منک الإنشاد حتی لا تجد ما تنشد، فقال: إن عدت إن شاء اللّه تعالی إلی هنا تذکرت، و أنشدتک، فما عندی ممّا أضیفک غیر ما سمعته، و ما تراه، ثم قام و جاء من بیت آخر فی داره بصحفة فیها حسا من دقیق و کسور باردة، فجعل یفتّ فیها، ثم أشار إلیّ أن أشرب، فشربت، ثم شرب إلی أن أتینا علی آخرها، ثم قال لی: هذا غذاء عمّک نهاره، و إنه لنعمة من اللّه تعالی أستدیم بشکرها اتّصالها، قال: فقلت له: یا عمّ، و من أین عیشک؟ فقال: یا بنی، عیشتی بتلک الشبکة أصطاد بها فی سواحل البحر ما أقتات به، و لی زوجة و بنت یعود من غزلهما مع ذلک ما نجد به معونة، و هذا مع العافیة و الاستغناء عن الناس خیر کثیر، جعلنا اللّه تعالی ممّن یلقاه علی حالة یرضاها، و ختم لنا بخاتمة لا یخاف معها فضیحة! قال: فترکته و قمت و فی نیّتی أن أعود إلی زیارته، و نویت أن یکون ذلک بعد أیام خوف التثقیل، فعدت إلیه بعد ثلاثة أیام، فنقرت الباب، فکلمتنی المرأة بلسان علیه أثر الحزن، و قالت: إنّ الشیخ خرج إلی الغزو، و ذلک بعد انفصالک عنه بیوم، ناله کالجنون، فقلت له: ما شأنک؟ فقال: إنی أرید أن أموت شهیدا فی الغزو، و هؤلاء جیران لی قد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 150
عزموا علی الغزو، و أنا إن شاء اللّه تعالی ماض معهم، ثم احتال فی سیف و رمح و توجّه معهم، و قال: نفسی هی التی قتلتنی بهواها، أفلا أقتصّ منها فأقتلها؟ قال: فقلت لها: من خلّف للنظر فی شأنکم؟ فقالت: لیس ذلک لک، فالذی خلفنا له لا نحتاج معه إلی غیره، فأدرکنی من جوابها روعة، و علمت أنها مثله زهدا و صلاحا، فقلت: إنی قریبه، و یجب علیّ أن أنظر فی حالکم بعده، فقالت: یا هذا، إنک لست بذی محرم، و لنا من العجائز من ینظر منّا و یبیع غزلنا و یتفقّد أحوالنا، فجزاک اللّه تعالی عنّا خیرا، انصرف عنّا مشکورا، فقلت لها: هذه دراهم خذوها لتستعینوا بها، فقالت: ما اعتدنا أن نأخذ شیئا من غیر اللّه تعالی، و ما کان لنا أن نخلّ بالعادة، فانصرفت نادما علی ما فاتنی من الاستکثار من شعر الشیخ و التبرّک بزیادة دعائه، ثم عدت بعد ذلک لداره سائلا عنه، فقالت لی المرأة: إنه قد قبّله اللّه تعالی، فعلمت أنه قد قتل، فقلت لها: أقتل؟ فقرأت وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ [سورة آل عمران، الآیة:
169]- الآیة فانصرفت معتبرا من حاله، رحمه اللّه تعالی و رضی عنه و نفعنا به!.
و کانت للمروانیین بالأندلس ید علیا، فی الدین و الدنیا. انتهی.

[محمد بن أیوب المروانی]

و قال محمد بن أیوب المروانی، لمّا کلّف قوما حاجة له سلطانیة فما نهضوا بها فکلّفها رأس بنی مروان القائد سعید بن المنذر، فنهض بها: [الوافر]
نهضت بما سألتک غیر وان و قد صعبت لسالکها الطریق
و لیس یبین فضل المرء إلّا إذا کلّفته ما لا یطیق
و عتبه یوما سعید بن المنذر فی کونه یتعرّض لمدح خدام بنی مروان، فقال له: أعزّ اللّه تعالی القائد الوزیر! إنکم جعلتمونی ذنبا و جعلونی رأسا، و النفس تتوق إلی من یکرمها و إن کان دونها أکثر منها إلی من یهینها و إن کان فوقها، و إنی من هذا و هذا فی أمر لا یعلمه إلّا اللّه الذی بلانی به، و یا ویح الشجیّ من الخلیّ، و أنا الذی أقول فیما یتخلّل هذا المنزع:
[الطویل]
نسبت لقوم لیتنی نجل غیرهم فلی نسب یعلو و حظّی یسفل
أقطّع عمری بالتعلّل و المنی و کم یخدع المرء اللبیب التّعلّل
فما لی مکان أرتضیه لهمّة و لا مال منه أستعفّ و أفضل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 151
و لکننی أقضی الحیاة تجمّلا و هل یهلک الإنسان إلّا التّجمّل
فقال له سعید: قصدنا لومک فعطفت اللائمة علینا، و نحن أحقّ بها، و سننظر، إن شاء اللّه تعالی، فیما یرفع اللوم عن الجانبین، ثم تکلّم مع الناصر فی شأنه، فأجری له رزقا أغناه عن التکفّف، فکانت هذه من حسنات سعید و أیادیه.

[للمطرف بن عمر المروانی]

و قال المطرف بن عمر المروانی یمدح المظفر بن المنصور بن أبی عامر: [الکامل]
إنّ المظفّر لا یزال مظفرا حکما من الرحمن غیر مبدّل
و هو الأحقّ بکلّ ما قد حازه من رفعة و ریاسة و تفضّل
تلقاه صدرا کلّما قلّبته مثل السنان بمحفل و بجحفل
و حضر یوما مع شاعر الأندلس فی زمانه ابن دراج القسطلّی، فقال له القسطلی: أنشدنی أبیاتک التی تقول فیها: [الطویل]
علی قدر ما یصفو الخلیل یکدّر
فأنشده: [الطویل]
تخیّرت من بین الأنام مهذّبا و لم أدر أنی خائب حین أخبر
فمازجنی کالراح للماء، و اغتدی علی کلّ ما جشّمته یتصبر
إلی أن دهانی إذ أمنت غروره سفاها، و أدّانی لما لیس یذکر
و کدّر عیشی بعد صفو، و إنما علی قدر ما یصفو الخلیل یکدّر
فاهتزّ القسطلّی و قال: و اللّه إنک فی هذه الأبیات لشاعر، و أنا أنشدک فیما یقابلها لبلال بن جریر: [الکامل]
لو کنت أعلم أنّ آخر عهدهم یوم الفراق فعلت ما لم أفعل
و لکن جعل نفسه فاعلا و عرّضت نفسک لأن یقال: إنک مفعول، فقال: و من أین یلوح ذلک؟
فقال القسطلی: من قولک «و أدّانی لما لیس یذکر» فما یظنّ فی ذلک إلّا أنه أداک إلی موضع فعل بک فیه، فاغتاظ الأموی و قال: یا أبا عمر، و من أین جرت العادة بأن تمزح معی فی هذا الشأن؟
فقال له: حلم بنی مروان یحملنا علی أن نخرق العادة فی الحمل علی مکارمهم، فسکن غیظه.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 152
و کتب المروانی المذکور إلی صاحب له یستعیر منه دابّة یخرج علیها للفرجة و الخلاعة:
أنهض اللّه تعالی سیدی بأعباء المکارم، إنّ هذا الیوم قد تبسّم أفقه، بعد ما بکی ودقه، و صقلت أصداء أوراقه، و فتّحت حدائق أحداقه، و قام نوره خطیبا علی ساقه، و فضّضت غدرانه، و توّجت أغصانه، و برزت شمسه من حجابها، بعد ما تلفّعت بسحابها، و تنبّه فی أرجاء الروض أرج النسیم، و عرف فی وجهه نضرة النعیم، و قد دعا کلّ هذا ناظر أخیک إن أن یجیله فی هذه المحاسن، و یجدّد نظره فی المنظر الذی هو غیر مبتذل و الماء الذی هو غیر آسن، و الفحص الیوم أحسن ما ملح، و أبدع ما حرن فیه و جمح، فجد لی بإعارة ما أنهض علیه لمشاهدته و یرفع عنی خجل الابتذال، بمناکب الأنذال، لا زلت نهّاضا بالآمال، مسعفا بمراد کلّ خلیل غیر مقصّر و لا آل.

[بین الأمیر هشام بن عبد الرحمن و أخیه]

و کتب الأمیر هشام بن عبد الرحمن إلی أخیه عبد اللّه المعروف بالبلنسی حین فرّ کتابا یقول فی بعض فصوله: و العجب من فرارک دون أن تری شیئا.
فخاطبه بجواب یقول فیه: و لا تتعجّب من فراری دون أن أری شیئا؛ لأننی خفت أن أری ما لا أقدر علی الفرار بعده، و لکن تعجب منی أن حصلت فی یدک بعد ما أفلتّ منک.
و قال له وزیره أحمد بن شعیب البلنسی: ألیس من العار أن یبلغ بک الخور من هذا الصبی أن تجعل بینک و بینه البحر، و تترک بلاد ملکک و ملک أبیک؟ فقال: ما أعرف ما تقول، و کل ما وقی به إتلاف النفس لیس بعار، بل هو محض العقل، و أوّل ما ینظر الأدیب فی حفظ رأسه، فإذا نظر فی ذلک نظر فیما بعده.
و قال عبد اللّه بن عبد العزیز الأموی و یعرف بالحجر: [البسیط]
اجعل لنا منک حظّا أیها القمر فإنما حظّنا من وجهک النظر
رآک ناس فقالوا إنّ ذا قمر فقلت کفّوا فعندی منهما الخبر
البدر لیس بغیر النّصف بهجته حتی الصباح و هذا کلّه قمر
و قال أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن الناصر یرثی أبا مروان بن سراج: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 153
و کم من حدیث للنبیّ أبانه و ألبسه من حسن منطقه وشیا
و کم مصعب للنحو قد راض صعبه فعاد ذلولا بعد ما کان قد أعیا

[بین سعید بن اضحی و بعض الشعراء]

و حکی أنه دخل بعض شعراء الأندلس علی الفقیه سعید بن أضحی، و کان من أعیان غرناطة، فمدحه بقصیدة، ثم بموشّحة، ثم بزجل، فلم یعطه شیئا، بل شکا إلیه فقرا، حتی إنه بکی، فأخذ الدواة و القرطاس و کتب و وضع بین یدیه: [البسیط]
شکا مثال الذی أشکوه من عدم و ساءه مثل ما قد ساءنی فبکی
إنّ المقلّ الذی أعطاک دمعته نعم الجواد فتی أعطاک ما ملکا
و قال ابن خفاجة: [الکامل]
نهر کما سال اللّمی سلسال و صبا بلیل ذیلها مکسال
و مهبّ نفحة روضة مطلولة فیها لأفراس النسیم مجال
غازلته و الأقحوانة مبسم و الآس صدغ و البنفسج خال
و قال: [الطویل]
و ساق کحیل الطّرف فی شأو حسنه جماح، و بالصبر الجمیل حران
تری للصّبا نارا بخدّیه لم یثر لها من سوادی عارضیه دخان
سقاها و قد لاح الهلال عشیّة کما اعوجّ فی درع الکمیّ سنان
عقارا نماها الکرم فهی کریمة و لم تزن بابن المزن فهی حصان
و قد حان من جون الغمامة أدهم له البرق سوط و العنان عنان
و ضمّخ درع الشمس نحر حدیقة علیک و فی الطّلّ السقیط جمان
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 154
و نمّت بأسرار الریاض خمیلة لها النّور ثغر و النسیم لسان
و قال فی وصف فرس أصفر، و لم یخرج عن طریقته: [السریع]
و أشقر تضرم منه الوغی بشعلة من شعل الباس
من جلّنار ناضر لونه و أذنه من ورق الآس
یطلع للغرّة فی شقرة حبابة تضحک فی الکاس
و قال أبو بکر یحیی بن سهل الیکی یهجو: [الکامل]
أعد الوضوء إذا نطقت به مستعجلا من قبل أن تنسی
و احفظ ثیابک إن مررت به فالظّلّ منه ینجّس الشّمسا
و قال ابن اللّبّانة: [السریع]
أبصرته قصّر فی المشیه لمّا بدت فی خدّه لحیه
قد کتب الشّعر علی خدّه أَوْ کَالَّذِی مَرَّ عَلی قَرْیَةٍ
و قال الوزیر الکاتب أبو محمد عبد الغفور الإشبیلی فی الأمیر الکبیر أبی بکر سیر من أمراء المرابطین، و کتب بها إلیه فی غزاة غزاها: [الکامل]
سر حیث سرت یحلّه النوّار و أراک فیه مرادک المقدار
و إذا ارتحلت فشیّعتک سلامة و غمامة لا دیمة مدرار
تنفی الهجیر بظلّها و تنیم بال رشّ القتام و کیف شئت تدار
و قضی الإله بأن تعود مظفّرا و قضت بسیفک نحبها الکفّار
هذا غیر ما تمنّاه الجعفی حیث قال: حیث ارتحلت و دیمة، و ما تکاد تنفد معها عزیمة، و إذا سفحت علی ذی سفر، فما أحراها بأن تعوق عن الظفر، و نعتها بمدرار، فکان ذلک أبلغ فی الإضرار، و ما أحسن قول القائل: [الوافر]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 155
فسر ذا رایة خفقت بنصر و عد فی جحفل بهج الجمال
إلی حمص فأنت بها حلیّ تغایر فیه ربّات الحجال

[بین الحجاری و القاضی اللوشی]

و قال الحجاری فی «المسهب»: کتبت إلی القاضی أبی عبد اللّه محمد اللوشی أستدعی منه شعره لأکتبه فی کتابی، فتوقّف عن ذلک و انقبض عنی، فکتبت إلیه: [البسیط]
یا مانعا شعره عن سمع ذی أدب نائی المحلّ بعید الشخص مغترب
یسیر عنک به فی کلّ متّجه کما یمرّ نسیم الریح بالعذب
إنّی و حقّک أهل أن أفوز به و اسأل فدیتک عن ذاتی و عن أدبی
فکان جوابه: [البسیط]
یا طالبا شعر من لم یسم فی الأدب ما ذا ترید بنظم غیر منتخب
إنی و حقّک لم أبخل به صلفا و من یضنّ علی جید بمخشلب
لکننی صنت قدری عن روایته فمثله قلّ عن سام إلی الرّتب
خذه إلیک کما أکرهت مضطربا محلّلا ذمّ مولاه مدی الحقب
قال: ثم کتب لی ممّا أتحفنی به من نظمه محاسن أبهی من الأقمار، و أرقّ من نسیم الأسحار.
و قال صالح بن شریف فی البحر و هو من أحسن ما قیل فیه: [البسیط]
البحر أعظم ممّا أنت تحسبه من لم یر البحر یوما ما رأی العجبا
طام له حبب طاف علی زرق مثل السماء إذا ما ملّئت شهبا
و قال أیضا: [السریع]
ما أحسن العقل و آثاره لو لازم الإنسان إیثاره
یصون بالعقل الفتی نفسه کما یصون الحرّ أسراره
لا سیّما إن کان فی غربة یحتاج أن یعرف مقداره
و قال ابن برطلة: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 156
خطوب زمانی ناسبتنی غرابة لذلک یرمینی بهنّ مصیب
غریب أصابته خطوب غریبة (و کلّ غریب للغریب نسیب)
و هذا من أحسن التضمین، الذی یزری بالدّرّ الثمین.

[بین ابن بقی و التطیلی الأعمی]

و دخل ابن بقی الحمّام و فیه الأعمی التّطیلی فقال له: أجز: [البسیط]
حمّامنا کزمان القیظ محتدم و فیه للبرد صرّ غیر ذی ضرر
فقال الأعمی: [البسیط]
ضدّان ینعم جسم المرء بینهما کالغصن ینعم بین الشّمس و المطر
و لا یخفی حسن ما قال الأعمی.
و قد ذکر فی «بدائع البداءة» البیتین معا منسوبین إلی ابن بقی، و لنذکر کلامه برمّته لما اشتمل علیه من الفوائد، و نصّه: ذکر ابن بسام قال: دخل الأدیبان أبو جعفر بن هریرة التّطیلی المعروف بالأعمی و أبو بکر بن بقی الحمّام، فتعاطیا العمل فیه، فقال الأعمی: [المنسرح]
یا حسن حمّامنا و بهجته مرأی من السّحر کلّه حسن
ماء و نار حواهما کنف کالقلب فیه السرور و الحزن
ثم أعجبه المعنی فقال: [مخلع البسیط]
لیس علی لهونا مزید و لا لحمّامنا ضریب
ماء و فیه لهیب نار کالشمس فی دیمة تصوب
و ابیضّ من تحته رخام کالثّلج حین ابتدا یذوب
و قال ابن بقی:
حمّامنا فیه فصل القیظ
البیتین.
فقال الأعمی، و قد نظر فیه إلی فتی صبیح: [البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 157
هل استمالک جسم ابن الأمیر و قد سالت علیه من الحمّام أنداء
کالغصن باشر حرّ النار من کثب فظلّ یقطر من أعطافه الماء

[بدر الدین الحسن بن زفیر یصف حماما ببغداد]

قلت: تذکّرت هنا عند ذکر الحمّام ما حکاه بدر الدین الحسن بن زفیر الإربلی المتطبب إذ قال: رأیت ببغداد فی دار الملک شرف الدین هارون ابن الوزیر الصاحب شمس الدین محمد الجوینی حمّاما متقن الصنعة، حسن البناء، کثیر الأضواء، قد احتفّت به الأزهار و الأشجار، فأدخلنی إلیه سائسه، و ذلک بشفاعة الصاحب بهاء الدین بن الفخر عیسی المنشئ الإربلی و کان سائس هذا الحمّام خادما حبشیّا کبیر السّنّ و القدر، فطاف بی علیه، و أبصرت میاهه و شبابیکه و أنابیبه المتّخذ بعضها من فضّة مطلیّة بالذهب و غیر مطلیّة و بعضها علی هیئة طائر إذا خرج منها الماء صوّت بأصوات طیبة، و منها أحواض رخام بدیعة الصنعة و المیاه تخرج من سائر الأنابیب إلی الأحواض و من الأحواض إلی برکة حسنة الإتقان، ثم منها إلی البستان، ثم أرانی نحو عشر خلوات، کلّ خلوة منها صنعتها أحسن من صنعة أختها، ثم انتهی بی إلی خلوة علیها باب مقفل بقفل حدید، ففتحه، و دخل بی إلی دهلیز طویل کلّه مرخم بالرخام الأبیض الساذج، و فی صدر الدهلیز خلوة مربعة تسع بالتقریب نحو أربعة أنفس إذا کانوا قعودا و تسع اثنین إذا کانوا نیاما، و رأیت من العجائب فی هذه الخلوة أنّ حیطانها الأربعة مصقولة صقالا لا فرق بینه و بین صقال المرآة، یری الإنسان سائر بشرته فی أی حائط شاء منها، و رأیت أرضها مصوّرة بفصوص حمر و صفر و خضر و مذهّبة و کلّها متّخذة من بلّور مصبوغ بعضه أصفر و بعضه أحمر، فأما الأخضر فیقال إنه حجارة تأتی من الروم، و أما المذهّب فزجاج ملبّس بالذهب، و تلک الصورة فی غایة الحسن و الجمال، علی هیئات مختلفة فی اللون و غیره، و هی ما بین فاعل و مفعول به، إذا نظر المرء إلیها تحرّکت شهوته، و قال لی الخادم السائس: هذا صنع علی هذه الصفة لمخدومی، حتی أنه إذا نظر ما یفعل هؤلاء بعضهم مع بعض من المجامعة و التقبیل و وضع أیدی بعضهم علی أعجاز بعض تتحرّک شهوته سریعا، فیبادر إلی مجامعة من یحبّه.
قال الحاکی: و هذه الخلوة دون سائر الخلوات التی دخلت إلیها هی مخصوصة بهذا الفعل، إذا أراد الملک شرف الدین هارون الاجتماع فی الحمّام بمن یهواه من الجواری الحسان و الصور الجمیلة و النساء الفائقات الحسن لم یجتمع به إلّا فی هذه الخلوة، من أجل أنه یری
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 158
کل محاسن الصور الجمیلة مصوّرة فی الحائط و مجسّمة بین یدیه، و یری کلّ منهما صاحبه علی هذه الصفة، و رأیت فی صدر الخلو حوض رخام مضلّع و علیه أنبوب مرکب فی صدره، و أنبوب آخر برسم الماء البارد، و الأنبوب الأول برسم الماء الفاتر، و عن یمنة الحوض و یساره عمدان صغار منحوتة من البلور یوضع علیها مباخر الندّ و العود، و أبصرت منها خلوة شدیدة الضیاء مفرحة بدیعة قد أنفق علیها أموال کثیرة، و سألت الخادم عن تلک الحیطان المشرقة المضیئة: من أی شی‌ء صنعت؟ فقال لی: ما أعلم.
قال الحاکی: فما رأیت فی عمری و لا سمعت بمثل تلک الخلوة، و لا بأحسن من ذلک الحمّام، مع أنی ما أحسن أن أصفهما کما رأیتهما، فإنه لم تتکرّر رؤیتی لهما، و لا اتّفق لی الظفر بصناعتهما و مباشرتهما، و فی الذی ذکرت کفایة، انتهی.

[وصف دار جمال الملک البغدادی]

و لمّا اتّصل أبو القاسم علی بن أفلح البغدادی الکاتب بأمیر المؤمنین المسترشد بالله العباسی، و لقبه جمال الملک، و أعطاه أربع دیار فی درب الشاکریة اشتری دورا أخری إلی جانبها، و هدم الکلّ، و أنشأ داره الکبیرة، و أعانه الخلیفة فی بنائها، و أطلق له أموالا و آلات البناء، و کان فی جملة ما أطلق له مائتا ألف آجرّة و أجریت الدار بالذهب، و صنع فیها الحمّام العجیب الذی فیه بیت مستراح فیه أنبوب إن فرکه الإنسان یمینا خرج ماء حار و إن فرکه شمالا خرج ماء بارد، و کان علی إیوان الدار مکتوبا: [السریع]
إن عجب الراءون من ظاهری فباطنی لو علموا أعجب
شیّدنی من کفّه مزنة یهمل منها العارض الصّیّب
و دبّجت روضة أخلاقه فیّ ریاضا نورها مذهب
صدر کسا صدری من نوره شمسا علی الأیام لا تغرب
و کتب علی الطرز: [مجزوء الکامل]
و من المروءة للفتی ما عاش دار فاخره
فاقنع من الدنیا بها و اعمل لدار الآخره
هاتیک وافیة بما وعدت، و هذی ساخره
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 159
و کتب علی النادی: [المتقارب]
و ناد کأنّ جنان الخلود أعارته من حسنها رونقا
و أعطته من حادثات الزما ن أن لا تلمّ به موثقا
فأضحی یتیه علی کلّ ما بنی مغربا کان أو مشرقا
تظلّ الوفود به عکّفا و تمسی الضّیوف به طرّقا
بقیت له یا جمال الملو ک و الفضل مهما أردت البقا
و سالمه فیک ریب الزمان و وقّیت فیه الذی یتّقی‌

[بعض ما قیل فی الحمام]

و علی ذکر الحمّام فما أحکم قول ابن الوردی فیما أظنّ: [الطویل]
و ما أشبه الحمّام بالموت لامری‌ء تذکر! لکن أین من یتذکّر
یجرّد عن أهل و مال و ملبس و یصحبه من کلّ ذلک مئزر
و قال الشهاب بن فضل اللّه: [المتقارب]
و حمّامکم کعبة للوفود تحجّ إلیه حفاة عراه
یکرّر صوت أنابیبه کتاب الطهارة باب المیاه
و قد تمثّل بهذین البیتین البرهان القیراطی فی جواب کتاب استدعاه فیه بعض أهل عصره إلی الحمّام، و افتتح الجواب بقوله: [الخفیف]
قد أجبنا و أنت أیضا فصبّح ت بصبحی سوالف و سلاف
و بساق یسبی العقول بساق و قوام وفق العناق خلافی
و وصله بنثر تمثّل فیه بالبیتین کما مرّ.
و لبعضهم: [الخفیف]
إنّ حمّامنا الذی نحن فیه أیّ ماء به و أیّة نار
قد نزلنا به علی ابن معین و روینا عنه صحیح البخاری
و ألغز بعضهم فی الحمّام بقوله: [الطویل]
و منزل أقوام إذا ما تقابلوا تشابه فیه وغده و رئیسه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 160
ینفّس کربی إذ ینفّس کربه و یعظم أنسی إذ یقلّ أنیسه
إذا ما أعرت الجوّ طرفا تکاثرت علی من به أقماره و شموسه‌

[عود إلی ملح أهل الأندلس]

رجع إلی ما کنّا فیه من کلام أهل الأندلس، فنقول:
و کان محمد بن خلف بن موسی البیری متکلّما متحقّقا برأی الأشعریة، و ذاکرا لکتب الأصول فی الاعتقاد، مشارکا فی الأدب، مقدّما فی الطب، و من نظمه یمدح إمام الحرمین رحمه اللّه تعالی: [الخفیف]
حبّ حبر یکنی أبا للمعالی هو دینی ففیه لا تعذلونی
أنا و اللّه مغرم بهواه علّلونی بذکره علّلونی
و کتب أبو الولید بن الجنان الشاطبی یستدعی بعض إخوانه إلی مجلس أنس بما صورته:
نحن فی مجلس أغصانه النّدامی، و غمامه الصهباء، فباللّه إلّا ما کنت لروض مجلسنا نسیما، و لزهر حدیثنا شمیما، و للجسم روحا، و للطیب ریحا، و بیننا عذراء زجاجتها خدرها، و حبابها ثغرها، بل شقیقة حوتها کمامة، أو شمس حجبتها غمامة، إذا طاف بها معصم الساقی فوردة علی غصنها، أو شربها مقهقهة فحمامة علی فننها، طافت علینا طوفان القمر علی منازل الحول، فأنت و حیاتک إکلیلنا و قد آن حلولها فی الإکلیل، انتهی.
و قال أبو الولید المذکور: [مجزوء الکامل]
فوق خدّ الورد دمع من عیون السّحب یذرف
برداء الشمس أضحی بعدما سال یجفّف
و تذکّرت هنا بذکر الورد ما حکاه الشیخ أبو البرکات هبة اللّه بن محمد النصیبی المعروف بالوکیل، و کان شیخا ظریفا فیه آداب کثیرة، إذ قال: کنت فی زمن الربیع و الورد فی داری بنصیبین، و قد أحضر من بستانی من الورد و الیاسمین شی‌ء کثیر، و عملت علی سبیل الولع دائرة من الورد تقابلها دائرة من الیاسمین، فاتّفق أن دخل علیّ شاعران کانا بنصیبین أحدهما یعرف بالمهذب و الآخر یعرف بالحسن بن البرقعیدی، فقلت لهما: اعملا فی هاتین الدائرتین، ففکّرا ساعة ثم قال المهذب: [مجزوء الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 161
یا حسنها دائرة من یاسمین مشرق
و الورد قد قابلها فی حلّة من شفق
کعاشق و حبّه تغامزا بالحدق
فاحمرّ ذا من خجل و اصفرّ ذا من فرق
قال: فقلت للحسن: هات، فقال: سبقنی المهذب إلی ما لمحته فی هذا المعنی، و هو قولی: [مجزوء الرمل]
یا حسنها دائرة من یاسمین کالحلی
و الورد قد قابلها فی حلّة من خجل
کعاشق و حبّه تغامزا بالمقل
فاحمرّ ذا من خجل و اصفرّ ذا من وجل
قال: فعجبت من اتفاقهما فی سرعة الاتحاد، و المبادرة إلی حکایة الحال، انتهی.
و ما ألطف قول بعضهم: [الطویل]
أری الورد عند الصبح قد مدّ لی فما یشیر إلی التقبیل فی حالة اللّمس
و بعد زوال الشمس ألقاه وجنة و قد أثّرت فی وسطها قبلة الشمس
و قال ابن ظافر فی «بدائع البداءة»: اجتمع الوزیر أبو بکر بن القبطرنة و الأدیب أبو العباس ابن صارة الأندلسیان فی یوم جلا ذهب برقه، و أذاب ورق ودقه، و الأرض قد ضحکت لتعبیس السماء، و اهتزّت و ربت عند نزول الماء، فقال ابن القبطرنة: [الکامل]
هذی البسیطة کاعب أبرادها حلل الربیع و حلیها النّوّار
فقال ابن صارة: [الکامل]
و کأنّ هذا الجوّ فیها عاشق قد شفّه التعذیب و الإضرار
ثم قال ابن صارة أیضا: [الکامل]
و إذا شکا فالبرق قلب خافق و إذا بکی فدموعه الأمطار
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 162
فقال ابن القبطرنة: [الکامل]
من أجل ذلّة ذا و عزّة هذه یبکی الغمام و تضحک الأزهار
و تذکّرت هنا ما حکاه ابن ظافر فی الکتاب المذکور أنه اجتمع مع القاضی الأعز یوما فقال له ابن ظافر: أجز: [الرجز]
طار نسیم الروض من وکر الزّهر
فقال الأعز:
و جاء مبلول الجناح بالمطر
و یعجبنی قول ابن قرناص: [الطویل]
أظنّ نسیم الروض و الزهر قد روی حدیثا ففاحت من شذاه المسالک
و قال دنا فصل الربیع فکلّه ثغور لما قال النسیم ضواحک
رجع إلی الأندلسیین- و ما أرقّ قول ابن الزقاق: [الخفیف]
و ریاض من الشقائق أضحت یتهادی بها نسیم الریاح
زرتها و الغمام یجلد منها زهرات تفوق لون الراح
قلت ما ذنبها؟ فقال مجیبا سرقت حمرة الخدود الملاح
و قال أبو إسحاق بن خفاجة: [الطویل]
تعلّقته نشوان من خمر ریقه له رشفها دونی و لی دونه السّکر
ترقرق ماء مقلتای و وجهه و یذکی علی قلبی و وجنته الجمر
أرقّ نسیبی فیه رقّة حسنه فلم أدر أیّ قبلها منهما السّحر
و طبنا معا شعرا و ثغرا کأنما له منطقی ثغر و لی ثغره شعر
و قال أبو الصّلت أمیة بن عبد العزیز: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص162
و قائلة: ما بال مثلک خاملا أ أنت ضعیف الرأی أم أنت عاجز
فقلت لها: ذنبی إلی القوم أننی لما لم یحوزوه من المجد حائز
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 163
و ما فاتنی شی‌ء سوی الحظّ وحده و أمّا المعالی فهی عندی غرائز
و قال: [مجزوء الرمل]
جدّ بقلبی و عبث ثم مضی و ما اکترث
و احربا من شادن فی عقد الصّبر نفث
یقتل من شاء بعی نیه و من شاء بعث
و قال الفاضل البلیغ یحیی بن هذیل أحد أعیان شعراء الأندلس: [الرمل]
نام طفل النبت فی حجر النّعامی لاهتزاز الطّلّ فی مهد الخزامی
و سقی الوسمیّ أغصان النّقا فهوت تلثم أفواه الندامی
کحّل الفجر لهم جفن الدّجی و غدا فی وجنة الصبح لثاما
تحسب البدر محیّا ثمل قد سقته راحة الصبح مداما
حوله الزهر کؤوس قد غدت مسکة اللیل علیهنّ ختاما
و تذکرت هنا قول الآخر، و أظنّه مشرقیّا: [الرمل]
بکر العارض تحدوه النّعامی فسقاک الریّ یا دار أماما
و تمشّت فیک أرواح الصّبا یتأرّجن بأنفاس الخزامی
قد قضی حفظ الهوی أن تصبحی للمحبّین مناخا و مقاما
و بجرعاء الحمی قلبی، فعج بالحمی و اقرأ علی قلبی السلاما
و ترحّل فتحدّث عجبا أنّ قلبا سار عن جسم أقاما
قل لجیران الغضی آها علی طیب عیش بالغضی لو کان داما
حمّلوا ریح الصّبا من نشرکم قبل أن تحمل شیحا و ثماما
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 164
و ابعثوا أشباحکم لی فی الکری إن أذنتم لجفونی أن تناما
و خرج بعض علماء الأندلس من قرطبة إلی طلیطلة، فاجتار بحریز بن عکاشة، الشجاع المشهور الذی ذکرنا فی هذا الباب ما یدلّ علی شجاعته و قوّته و أیده، بقلعة رباح، فنزل بخارجها فی بعض جنباتها، و کتب إلیه: [مجزوء الرمل]
یا فریدا دون ثان و هلالا فی العیان
عدم الراح فصارت مثل دهن البیلسان
فبعث إلیه بها، و کتب معها: [مجزوء الرمل]
جاء من شعرک روض جاده صوب اللسان
فبعثناها سلافا کسجایاک الحسان‌

[من شعر ابن شهید]

و قال الوزیر أبو عامر بن شهید یتغزّل: [الرمل]
أصباح شیم أم برق بدا أم سنا المحبوب أوری أزندا
هبّ من مرقده منکسرا مسبلا للکمّ مرخ للرّدا
یمسح النّعسة من عینی رشا صائد فی کلّ یوم أسدا
أوردته لطفا آیاته صفوة العیش و أرعته ددا
فهو من دلّ عراه زبدة من مریج لم تخالط زبدا
قلت هب لی یا حبیبی قبلة تشف من عمّک تبریح الصّدی
فانثنی یهتزّ من منکبه مائلا لطفا و أعطانی الیدا
کلّما کلّمنی قبّلته فهو إمّا قال قولا ردّدا
کاد أن یرجع من لثمی له و ارتشاف الثغر منه أدردا
و إذا استنجزت یوما وعده أمطل الوعد و قال اصبر غدا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 165
شربت أعطافه ماء الصّبا و سقاه الحسن حتی عربدا
فإذا بتّ به فی روضة أغید یغذو نباتا أغیدا
قام فی اللیل بجید أتلع ینفض اللّمّة من دمع الندی
و مکان عازب عن جیرة أصدقاء و هم عین العدا
ذی نبات طیّب أعراقه کعذار الشّعر فی خدّ بدا
تحسب الهضبة منه جبلا و حدور الماء منه أبردا
و قال یرثی القاضی ابن ذکوان، نجیب ذلک الأوان، و قد افتنّ فی الآداب، و سنّ فیها سنّة ابن داب، و ما فارق ربع الشباب شرخه، و لا استمجد فی الکهولة عفاره و لا مرخه، و کان لأبی عامر هذا قسیم نفسه، و نسیم أنسه: [الطویل]
ظننّا الذی نادی محقّا بموته لعظم الذی أنحی من الرّزء کاذبا
و خلنا الصباح الطّلق لیلا و أننا هبطنا خداریّا من الحزن کاربا
ثکلنا الدّنا لمّا استقلّ و إنما فقدناک یا خیر البریّة ناعبا
و ما ذهبت، إذ حلّ فی القبر، نفسه و لکنما الإسلام أدبر ذاهبا
و لمّا أبی إلّا التحمّل رائحا منحناه أعناق الکرام رکائبا
یسیر به النّعش الأعزّ و حوله أباعد کانوا للمصاب أقاربا
علیه حفیف للملائک أقبلت تصافح شیخا ذاکر اللّه تائبا
تخال لفیف الناس حول ضریحه خلیطا تخطّی فی الشریعة هاربا
إذا ما امتروا سحب الدموع تفرّعت فروع البکا عن بارق الحزن لاهبا
فمن ذا لفصل القول یسطع نوره إذا نحن ناوینا الألدّ المناوبا
و من ذا ربیع المسلمین یقوتهم إذا الناس شاموها بروقا کواذبا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 166
فیا لهف قلبی آه ذابت حشاشتی مضی شیخنا الدّفّاع عنّا النوائبا
و مات الذی غاب السرور لموته فلیس و إن طال السّری منه آئبا
و کان عظیما یطرق الجمع عنده و یعنو له ربّ الکتیبة هائبا
و ذا مقول عضب الغرارین صارم یروح به عن حومة الدین ضاربا
أبا حاتم صبر الأدیب فإننی رأیت جمیل الصّبر أحلی عواقبا
و ما زلت فینا ترهب الدهر سطوة و صعبا به نعیی الخطوب المصاعبا
سأستعتب الأیام فیک لعلّها لصحّة ذاک الجسم تطلب طالبا
لئن أفلت شمس المکارم عنکم لقد أسأرت بدرا لها و کواکبا
قال فی «المطمح»: و دبّت إلی أبی عامر بن شهید أیام العلویین عقارب، برئت بها منه أباعد و أقارب، واجهه بها صرف قطوب، و انبرت إلیه منها خطوب، نبا لها جنبه عن المضجع، و بقی بها لیالی یأرق و لا یهجع، إلی أن أعلقت فی الاعتقال آماله، و عقلته فی عقال أذهب ماله، فأقام مرتهنا، و لقی وهنا، و قال: [الطویل]
قریب بمحتلّ الهوان مجید یجود و یشکو حزنه فیجید
نعی صبره عند الإمام فیا له عدوّ لأبناء الکرام حسود
و ما ضرّه إلّا مزاح و رقّة ثنته سفیه الذّکر و هو رشید
جنی ما جنی فی قبّة الملک غیره و طوّق منه بالعظیمة جید
و ما فیّ إلّا الشّعر أثبته الهوی فسار به فی العالمین فرید
أفوه بما لم آته متعرّضا لحسن المعانی تارة فأزید
فإن طال ذکری بالمجون فإنها عظائم لم یصبر لهنّ جلید
و هل کنت فی العشّاق أول عاقل هوت بحجاه أعین و خدود
فراق و شجو و اشتیاق و ذلّة و جبّار حفّاظ علیّ عتید
فمن یبلغ الفتیان أنّی بعدهم مقیم بدار الظالمین وحید
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 167
مقیم بدار ساکنوها من الأذی قیام علی جمر الحمام قعود
و یسمع للحیان فی جنباتها بسیط کترجیع الصّدی و نشید
و لست بذی قید یرنّ، و إنما علی اللّحظ من سخط الإمام قیود
و قلت لصدّاح الحمام و قد بکی علی القصر إلفا و الدموع تجود
ألا أیها الباکی علی من تحبّه کلانا معنّی بالخلاء فرید
و هل أنت دان من محبّ نأی به عن الإلف سلطان علیه شدید
فصفّق من ریش الجناحین واقعا علی القرب حتی ما علیه مزید
و ما زال یبکینی و أبکیه جاهدا و للشوق من دون الضّلوع وقود
إلی أن بکی الجدران من طول شجونا و أجهش باب جانباه حدید
أطاعت أمیر المؤمنین کتائب تصرّف فی الأموال کیف ترید
فللشمس عنها بالنهار تأخّر و للبدر شحنا بالظلام صدود
ألا إنها الأیام تلعب بالفتی نحوس تهادی تارة و سعود
و ما کنت ذا أید فأذعن ذا قوی من الدهر مبد صرفه و معید
و راضت صعابی سطوة علویّة لها بارق نحو الندی و رعود
تقول التی من بیتها کفّ مرکبی أقربک دان أم مداک بعید
فقلت لها أمری إلی من سمت به إلی المجد آباء له وجدود
ثم قال: و لزمته آخر عمره علّة دامت به سنین، و لم تفارقه حتی ترکته ید جنین، و أحسب أن اللّه أراد بها تمحیصه، و إطلاقه من ذنب کان قنیصه، فطهره تطهیرا، و جعل ذلک علی العفو له ظهیرا، فإنها أقعدته حتی حمل فی المحفّة، و عاودته حتی غدت لرونقه مشتفّة، و علی ذلک فلم یعطل لسانه، و لم یبطل إحسانه، و لم یزل یستریح إلی القول، و یزیح
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 168
ما کان یجده من الغول، و آخر شعر قاله قوله: [الطویل]
و لمّا رأیت العیش لوّی برأسه و أیقنت أنّ الموت لا شکّ لاحقی
تمنّیت أنی ساکن فی عباءة بأعلی مهبّ الرّیح فی رأس شاهق
أردّ سقیط الطّلّ فی فضل عیشتی وحیدا و أحسو الماء ثنی المعالق
خلیلیّ، من ذاق المنیّة مرّة فقد ذقتها خمسین، قولة صادق
کأنی، و قد حان ارتحالی، لم أفز قدیما من الدنیا بلمحة بارق
فمن مبلغ عنّی ابن حزم و کان لی یدا فی ملمّاتی و عند مضایقی:
علیک سلام اللّه إنّی مفارق و حسبک زادا من حبیب مفارق
فلا تنس تأبینی إذا ما ذکرتنی و تذکار أیّامی و فضل خلائقی
و حرّک له بالله من أهل فنّنا إذا غیّبونی کلّ شهم غرانق
عسی هامتی فی القبر تسمع بعضه بترجیع شاد أو بتطریب طارق
فلی فی ادّکاری بعد موتی راحة فلا تمنعوها لی علالة زاهق
و إنی لأرجو اللّه فیما تقدّمت ذنوبی به ممّا دری من حقائق

[بین ابن غصن و ابن ذی النون و ابن هود]

و کان أبو مروان عبد الملک بن غصن مستولیا علی وزارة ابن عبیدة و لسانه ینشد:
[الطویل]
و شیّدت مجدی بین أهلی و لم أقل ألا لیت قومی یعلمون صنیعی
و هجا ابن ذی النون بقوله: [الطویل]
تلقّبت بالمأمون ظلما، و إننی لآمن کلبا حیث لست مؤمّنه
حرام علیه أن یجود ببشره و أمّا النّدی فاندب هنالک مدفنه
سطور المخازی دون أبواب قصره بحجّابه للقاصدین معنونه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 169
فلمّا تمکّن منه المأمون سجنه، فکتب إلی ابن هود من أبیات: [الطویل]
أیا راکب الوجناء بلّغ تحیّة أمیر جذام من أسیر مقیّد
و لمّا دهتنی الحادثات و لم أجد لها وزرا أقبلت نحوک أعتدی
و مثلک من یعدی علی کلّ حادث رمی بسهام للردی لم ترصد
فعلّک أن تخلو بفکرک ساعة لتنقذنی من طول همّ مجدّد
و‌ها أنا فی بطن الثری و هو حامل فیسّر علی رقبی الشفاعة مولدی
حنانیک ألفا بعد ألف فإننی جعلتک بعد اللّه أعظم مقصدی
و أنت الذی یدری إذا رام حاجة تضلّ بها الآراء من حیث یهتدی
فرقّ له ابن هود، و تحیّل حتی خلّصه بشفاعته، فلمّا قدم علیه أنشده: [المتقارب]
حیاتی موهوبة من علاکا و کیف أری عادلا عن ذراکا
و لو لم یکن لک من نعمة علیّ و أصبحت أبغی سواکا
لنادیت فی الأرض هل مسعف مجیب فلم یصغ إلّا نداکا
فطرب ابن هود، و خلع علیه ثوب وزارته، و جعله من أعلام سلطنته و إمارته.

[بین أبی عامر و الرمادی]

و قال المنصور بن أبی عامر للشاعر المشهور أبی عمر یوسف الرمادی: کیف تری حالک معی؟ فقال: فوق قدری و دون قدرک! فأطرق المنصور کالغضبان، فانسلّ الرمادی و خرج و قد ندم علی ما بدر منه، و جعل یقول: أخطأت، لا و اللّه ما یفلح مع الملوک من یعاملهم بالحقّ، ما کان ضرّنی لو قلت له: إنی بلغت السماء، و تمنطقت بالجوزاء، و أنشد: [الطویل]
متی یأت هذا الموت لا یلف حاجة لنفسی إلّا قد قضیت قضاءها
لا حول و لا قوة إلّا بالله. و لمّا خرج کان فی المجلس من یحسده علی مکانه من المنصور، فوجد فرصة فقال: وصل اللّه لمولانا الظفر و السعد! إنّ هذا الصنف صنف زور و هذیان لا یشکرون نعمة، و لا یرعون إلّا و لا ذمّة، کلاب من غلب، و أصحاب من أخصب، و أعداء من أجدب، و حسبک منهم أنّ اللّه جلّ جلاله یقول فیهم وَ الشُّعَراءُ یَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224)
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 170
[سورة الشعراء، الآیة: 224]- إلی ما لا یَفْعَلُونَ [سورة الشعراء، الآیة: 226] و الابتعاد منهم أولی من الاقتراب، و قد قیل فیهم: ما ظنّک بقوم الصدق یستحسن إلّا منهم؟ فرفع المنصور رأسه، و کان محبّا فی أهل الأدب و الشعر، و قد اسودّ وجهه، و ظهر فیه الغضب المفرط، ثم قال: ما بال أقوام یشیرون فی شی‌ء لم یستشاروا فیه، و یسیئون الأدب بالحکم فیما لا یدرون، أ یرضی أم یسخط؟
و أنت أیّها المنبعث للشّرّ دون أن یبعث، قد علمنا غرضک فی أهل الأدب و الشعر عامة، و حسدک لهم؛ لأنّ الناس کما قال القائل: [مجزوء الرمل]
من رأی الناس له فض لا علیهم حسدوه
و عرفنا غرضک فی هذا الرجل خاصّة، و لسنا إن شاء اللّه تعالی نبلّغ أحدا غرضه فی أحد، و لو بلّغناکم بلغنا فی جانبکم، و إنک ضربت فی حدید بارد، و أخطأت وجه الصواب، فزدت بذلک احتقارا و صغارا، و أنی ما أطرقت من کلام الرمادی إنکارا علیه، بل رأیت کلاما یجلّ عن الأقدار الجلیلة، و تعجّبت من تهدّیه له بسرعة، و استنباطه له علی قلة من الإحسان الغامر ما لا یستنبطه غیره بالکثیر، و اللّه لو حکّمته فی بیوت الأموال لرأیت أنها لا ترجح ما تکلّم به قلبه ذرة، و إیاکم أن یعود أحد منکم إلی الکلام فی شخص قبل أن یؤخذ معه فیه، و لا تحکموا علینا فی أولیائنا و لو أبصرتم منا التغیّر علیهم، فإنّنا لا نتغیّر علیهم بغضا لهم و انحرافا عنهم، بل تأدیبا و إنکارا، فإنّا من نرید إبعاده لم نظهر له التغیّر، بل ننبذه مرّة واحدة، فإن التغیّر إنما یکون لمن یراد استبقاؤه، و لو کنت مائل السمع لکلّ أحد منکم فی صاحبه لتفرّقتم أیدی سبا، و جونبت أنا مجانبة الأجرب، و إنی قد أطلعتکم علی ما فی ضمیری فلا تعدلوا عن مرضاتی، فتجنّبوا سخطی بما جنیتموه علی أنفسکم، ثم أمر أن یردّ الرمادی و قال له: أعد علیّ کلامک، فارتاع، فقال: الأمر علی خلاف ما قدرت، الثواب أولی بکلامک من العقاب، فسکن لتأنیسه، و أعاد ما تکلّم به، فقال المنصور: بلغنا أنّ النعمان بن المنذر حشا فم النابغة بالدّرّ لکلام استملحه منه، و قد أمرنا لک بما لا یقصر عن ذلک ما هو أنوه و أحسن عائدة، و کتب له بمال و خلع و موضع یتعیّش منه، ثم ردّ رأسه إلی المتکلّم فی شأن الرمادی، و قد کاد یغوص فی الأرض لو وجد لشدّة ما حلّ به ممّا رأی و سمع و قال: و العجب من قوم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 171
یقولون الابتعاد من الشعراء أولی من الاقتراب، نعم ذلک لمن لیس له مفاخر یرید تخلیدها، و لا أیاد یرغب فی نشرها، فأین الذین قیل فیهم: [الطویل]
علی مکثریهم رزق من یعتریهم و عند المقلّین السماحة و البذل
و أین الذی قیل فیه: [المدید]
إنما الدنیا أبو دلف بین مبداه و محتضره
فإذا ولّی أبو دلف ولّت الدنیا علی أثره
أما کان فی الجاهلیة و الإسلام أکرم ممّن قیل فیه هذا القول؟ بلی، و لکن صحبة الشعراء و الإحسان إلیهم أحیت غابر ذکرهم، و خصّتهم بمفاخر عصرهم، و غیرهم لم تخلّد الأمداح مآثرهم فدثر ذکرهم، و درس فخرهم، انتهی.

[من عدل المعتصم بن صمادح]

و من حکایاتهم فی العدل أنه لمّا بنی المعتصم بن صمادح ملک ألمریة قصوره المعروفة بالصمادحیة غصبوا أحد الصالحین فی جنّة و ألحقوها بالصمادحیة، و زعم ذلک الصالح أنها لأیتام من أقاربه، فبینا المعتصم یوما یشرب علی الساقیة الداخلة إلی الصمادحیة إذ وقعت عینه علی أنبوب قصبة مشمع، فأمر من یأتیه به، فلمّا أزال عنه الشمع وجد فیه ورقة فیها «إذا وقفت أیها الغاصب علی هذه الورقة فاذکر قول اللّه تعالی إِنَّ هذا أَخِی لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِیَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَکْفِلْنِیها وَ عَزَّنِی فِی الْخِطابِ (23) [سورة ص، الآیة: 23] لا إله إلّا اللّه، أنت ملک قد وسّع اللّه تعالی علیک، و مکّن لک فی الأرض، و یحملک الحرص علی ما یفنی أن تضمّ إلی جنّتک الواسعة العظیمة قطعة أرض لأیتام حرّمت بها حلالها، و خبثت طیبها، و لئن تحجّبت عنی بسلطانک، و اقتدرت علیّ بعظم شأنک، فنجتمع غدا بین یدی من لا یحجب عن حقّ، و لا تضیع عنده شکوی. فلمّا استوعب قراءتها دمعت عیناه، و أخذته خشیة خیف علیه منها، و کانت عادته رحمه اللّه تعالی، و قال: علیّ بالمشتغلین ببناء الصمادحیة، فأحضروا، فاستفسرهم عمّا زعم الرجل، فلم یسعهم إلّا صدقه، و اعتذروا بأنّ نقصها من الصمادحیة یعیبها فی عین الناظر، فاستشاط غضبا و قال: و اللّه إنّ عیبها فی عین الخالق أقبح من عیبها فی عین المخلوق، ثم أمر بأن تصرف إلیه، و احتمل تعویرها لصمادحیته. و لقد مرّ بعض أعیان ألمریة و أخیارها مع جماعة علی هذا المکان الذی أخرجت منه جنّة الأیتام فقال أحدهم: و اللّه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 172
لقد عورت هذه القطعة هذا المنظر العجیب، فقال له: اسکت، فو اللّه إنّ هذه القطعة طراز هذا المنظر و فخره، و کان المعتصم إذا نظر إلیها قال: أشعرتم أن هذا المکان المعوجّ فی عینی أحسن من سائر ما استقام من الصمادحیة؟ ثم إنّ وزیره ابن أرقم لم یزل یلاطف الشیخ و الأیتام حتی باعوها عن رضا بما اشتهوا من الثمن، و ذلک بعد مدة طویلة، فاستقام بها بناء الصمادحیة، و حصل للمعتصم حسن السمعة فی الناس، و الجزاء عند اللّه تعالی:

[عز الدولة بن المعتصم بن صمادح]

و لمّا مات المعتصم بن صمادح رکب البحر ابنه ولیّ عهده الواثق عزّ الدولة أبو محمد عبد اللّه، و فارق الملک کما أوصاه المعتصم والده و فی ذلک یقول: [الطویل]
لک الحمد بعد الملک أصبحت خاملا بأرض اغتراب لا أمرّ و لا أحلی
و قد أصدأت فیها الجذاذة أنملی کما نسیت رکض الجیاد بها رجلی
فلا مسمعی یصغی لنغمة شاعر و کفّی لا تمتدّ یوما إلی بذل
قال ابن اللبانة الشاعر: ما علمت حقیقة جور الدهر حتی اجتمعت ببجایة مع عزّ الدولة بن المعتصم بن صمادح فإنی رأیت منه خیر من یجتمع به، کأنه لم یخلقه اللّه تعالی إلّا للملک و الریاسة و إحیاء الفضائل، و نظرت إلی همّته تنمّ من تحت خموله کما ینمّ فرند السیف و کرمه من تحت الصدأ، مع حفظه لفنون الأدب و التواریخ و حسن استماعه و إسماعه، و رقّة طباعه و لطافة ذهنه، و لقد ذکرته لأحد من صحبته من الأدباء فی ذلک المکان و وصفته بهذه الصفات، فتشوّق إلی الاجتماع به، و رغب إلیّ فی أن أستأذنه فی ذلک، فلما أعلمت عزّ الدولة قال: یا أبا بکر، لتعلم أنّا الیوم فی خمول و ضیق لا یتّسع لنا معهما، و لا یحمل بنا الاجتماع مع أحد، لا سیما مع ذی أدب و نباهة یلقانا بعین الرحمة، و یزورنا بمنّة التفضّل فی زیارتنا، و نکابد من ألفاظ توجّعه و ألحاظ تفجّعه ما یجدّد لنا همّا قد بلی، و یحیی کمدا قد فنی، و ما لنا قدرة علی أن نجود علیه بما یرضی به عن همّتنا، فدعنا کأننا فی قبر، نتدرع لسهام الدهر بدرع الصبر، و أما أنت فقد اختلطت بنا اختلاط اللحم بالدم، و امتزجت امتزاج الماء بالخمر، فکأنّا لم نکشف حالنا لسوانا، و لا أظهرنا ما بنا لغیرنا، فلا تحمل غیرک محملک، قال ابن اللبانة: فملأ و اللّه سمعی بلاغة لا تصدر إلّا عن سداد و نفس أبیّة متمکّنة من
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 173
أعنّة البیان، و انصرفت متمثّلا: [الطویل]
لسان الفتی نصف و نصف فؤاده و لم یبق إلّا صورة اللحم و الدم
و کائن تری من صامت لک معجب زیادته أو نقصه فی التکلّم‌

[بین ابن اللبانة و عز الدولة بن المعتصم]

و کتب إلیه ابن اللبانة: [البسیط]
یا ذا الذی هزّ أمداحی بحلیته و عزّه أن یهزّ المجد و الکرما
و ادیک لا زرع فیه الیوم تبذله فخذ علیه لأیام المنی سلما
فتحیّل فی قلیل برّ و وجّهه إلیه و کتب معه: [البسیط]
المجد یخجل من یفدیک من زمن ثناک عن واجب البرّ الذی علما
فدونک النّزر من مصف مودّته حتّی یوفّیک أیام المنی السّلما

[من شعر عز الدولة بن المعتصم و رفیع الدولة بن المعتصم بن صمادح]

و من شعر عز الدولة المذکور: [الطویل]
أفدّی أبا عمرو و إن کان عاتبا فلا خیر فی ودّ یکون بلا عتب
و ما کان ذاک الودّ إلّا کبارق أضاء لعینی ثم أظلم فی قلبی
و قال الشقندی فی الطرف: إنّ عزّ الدولة أشعر من أبیه. و أمّا أخوه رفیع الدولة الحاجب أبو زکریا یحیی بن المعتصم فله أیضا نظم رائق، و منه ما کتب به إلی یحیی بن مطروح یستدعیه لأنس: [الرمل]
یا أخی بل سیّدی بل سندی فی مهمّات الزمان الأنکد
لح بأفق غاب عنه بدره فی اختفاء من عیون الحسّد
و تعجّل فحبیبی حاضر و فمی یشتاق کأسی فی یدی
فأجابه ابن مطروح، و هو من أهل باغة، بقوله: [الرمل]
أنا عبد من أقلّ الأعبد قبلتی وجه بأفق الأسعد
کلما أظمأنی ورد فما منهلی إلّا بذاک المورد
ها أنا بالباب أبغی إذنکم و الظّما قد مدّ للکأس یدی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 174
و کان قد سلّط علیه إنسان مختلّ إذا رآه یقول: هذا ألف لا شی‌ء علیه، یعنی أنّ ملکه ذهب عنه و بقی فارغا منه، فشکا رفیع الدولة ذلک إلی بعض أصحابه، فقال: أنا أکفیک مؤونته، و اجتمع مع الأحمق، و اشتری له حلواء، و قال له: إذا رأیت رفیع الدولة بن المعتصم فسلّم علیه و قبّل یده و لا تقل هذا ألف لا شی‌ء علیه، فقال: نعم، و اشترط الوفاء بذلک، إلی أن لقیه فجری نحوه و قبّل یده و قال: هذا هو باء بنقطة من أسفل، فقامت قیامة رفیع الدولة، و کان ذلک أشدّ علیه، و کان به علّة الحصا فظنّ أنّ الأحمق علم ذلک و قصده، و صار کلّما أحسّ به فی موضع تجنّبه.
و استأذن یوما علی أحد وجوه دولة المرابطین فقال أحد جلسائه أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [سورة البقرة، الآیة: 134] استحقارا له و استثقالا للإذن له، فبلغ ذلک رفیع الدولة فکتب إلیه: [الطویل]
خلت أمّتی لکنّ ذاتی لم تخل و فی الفرع ما یغنی إذا ذهب الأصل
و ما ضرّکم لو قلتم قول ماجد یکون له فیما یجی‌ء به الفضل
و کلّ إناء بالذی فیه راشح و هل یمنح الزنبور ما مجّه النّحل
سأصرف وجهی عن جناب تحلّه و لو لم تکن إلّا إلی وجهک السّبل
فما موضع تحتلّه بمرفّع و لا یرتضی فیه مقال و لا فعل
و قد کنت ذا عذل لعلّک ترعوی و لکن بأرباب العلا یجمل العذل‌

[من شعر أبی جعفر بن المعتصم و لابن زهر و لابن شرف و لابن خفاجة]

و أما أخوهما أبو جعفر بن المعتصم فله ترجمة فی المسهب و المطرب و المغرب، و من شعره: [الطویل]
کتبت و قلبی ذو اشتیاق و وحشة و لو أنه یسطیع مرّ یسلّم
جعلت سواد العین فیه سواده و أبیضه طرسا و أقبلت ألثم
فخیّل لی أنی أقبّل موضعا یصافحه ذاک البنان المسلّم
و أما أختهم أم الکرم فذکرناها مع النساء فلتراجع.
و قال أبو العلاء بن زهر: [الکامل]
تمّت محاسن وجهه و تکاملت لمّا بدا و علیه صدغ مونق
و کذلک البدر المنیر جماله فی أن تکنّفه سماء أزرق
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 175
و قال أبو الفضل بن شرف: [السریع]
یا من حکی البیدق فی شکله أصبح یحکیک و تحکیه
أسفله أوسع أجزائه و رأسه أصغر ما فیه
و قال ابن خفاجة: [السریع]
یا أیها الصّبّ المعنّی به‌ها هو لا خلّ و لا خمر
سوّد ما ورّد من خدّه فصار فحما ذلک الجمر

[من شعر البیاسی و لابن حریق و لأبی الحسن بن الفضل]

و قال أبو عبد اللّه البیاسی: [الرمل]
صغر الرأس و طول العنق شاهدا عدل بفرط الحمق
و لمّا سمعه أبو الحسن بن حریق قال: [الرمل]
صغر الرأس و طول العنق خلقة منکرة فی الخلق
فإذا أبصرتها من رجل فاقض فی الحین له بالحمق
و قال أبو الحسن بن الفضل یذکر مقاما قامه سهل بن مالک و ابن عیّاش: [الطویل]
لعمری لقد سرّ الخلافة قائما بخطبته الغرّاء سهل بن مالک
و أما ابن عیاش و قد کان مثله فضلّوا جمیعا بین تلک المسالک
و مات و ماتوا حسرة و حسادة و غیظا فقلنا هالک فی الهوالک
و سهل بن مالک له ترجمة مطوّلة، رحمه اللّه تعالی!

[قصة فی الوفاء و القیام بحق الإخاء]

و من حکایاتهم فی الوفاء و حسن الاعتذار و القیام بحقّ الإخاء أنّ الوزیر الولید بن عبد الرحمن بن غانم کان صدیقا للوزیر هاشم بن عبد العزیز، ثابتا علی مودّته، و لمّا قضی اللّه تعالی علی هاشم بالأسر أجری السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموی ذکره فی جماعة من خدّامه، و الولید حاضر، فاستقصره، و نسبه للطیش و العجلة و الاستبداد برأیه، فلم یکن فیهم من اعتذر عنه غیر الولید، فقال: أصلح اللّه تعالی الأمیر! إنه لم یکن علی هاشم التخیر فی الأمور، و لا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، و استفرغ نصحه، و قضی حقّ
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 176
الإقدام، و لم یکن ملاک النصر بیده، فخذله من وثق به، و نکل عنه من کان معه، فلم یزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتی ملک مقبلا غیر مدبر، مبلیا غیر فشل، فجوزی خیرا عن نفسه و سلطانه، فإنه لا طریق للملام علیه، و لیس علیه ما جنته الحرب الغشوم، و أیضا فإنه ما قصد أن یجود بنفسه إلّا رضا للأمیر، و اجتنابا لسخطه، فإذا کان ما اعتمد فیه الرضا جالب التقصیر فذلک معدود فی سوء الحظ، فأعجب الأمیر کلامه، و شکر له وفاءه، و أقصر فیما بعد عن تفنید هاشم، و سعی فی تخلیصه، و اتّصل الخبر بهاشم، فکتب إلیه: الصدیق من صدقک فی الشدّة لا فی الرخاء، و الأخ من ذبّ عنک فی الغیب لا فی المشهد، و الوفیّ من وفی لک إذا خانک زمان، و قد أتانی من کلامک بین یدی سیدنا- جعل اللّه تعالی نعمته سرمدا!- ما زادنی بمودّتک اغتباطا، و بصداقتک ارتباطا، و لذلک ما کنت أشدّ یدی علی وصلک، و أخصّک بإخائی، و أنا الآن بموضع لا أقدر فیه علی جزاء غیر الثناء، و أنت أقدر منی علی أن تزید ما بدأت به بأن تتمّ ما شرعت فیه، حتی تتکمّل لک المنّة، و یستوثق عقد الصداقة، إن شاء اللّه تعالی، و کتب إلیه بشعر منه: [الطویل]
أیا ذاکری بالغیب فی محفل به تصامت جمع عن جواب به نصری
أتتنی و البیداء بینی و بینها رقی کلمات خلّصتنی من الأسر
لئن قرّب اللّه اللقاء فإننی سأجزیک ما لا ینقضی غابر الدّهر
فأجابه الولید: خلصک اللّه أیها البدر من سرارک! و عجّل بطلوعک فی أکمل تمامک و إبدارک! وصلنی شکرک علی أن قلت ما علمت، و لم أخرج عن النصح للسلطان بما زکنته من ذلک، و اللّه تعالی شاهد، علی أنّ ذلک فی مجالس غیر المجلس المنقول لسیدی إن خفیت عن المخلوق فما تخفی عن الخالق، ما أردت بها إلّا أداء بعض ما أعتقده لک، و کم سهرت و أنا نائم، و قمت فی حقی و أنا قاعد، و اللّه لا یضیع أجر من أحسن عملا، ثم ذکر أبیاتا لم تحضرنی الآن.

[قصة فی علو الهمة]

و من حکایاتهم فی علوّ الهمّة فی العلم و الدنیا أنه دخل أبو بکر بن الصائغ المعروف بابن باجة جامع غرناطة، و به نحویّ حوله شباب یقرءون، فنظروا إلیه، و قالوا له مستهزئین به: ما
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 177
یحمل الفقیه؟ و ما یحسن من العلوم؟ و ما یقول؟ فقال لهم: أحمل اثنی عشر ألف دینار، و‌ها هی تحت إبطی، و أخرج لهم اثنتی عشرة یاقوتة، کلّ واحدة منها بألف دینار، و أمّا الذی أحسنه فاثنا عشر علما أدونها علم العربیة الذی تبحثون فیه، و أما الذی أحسنه فاثنا عشر علما أدونها علم العربیة الذی تبحثون فیه، و أما الذی أقول فأنتم کذا، و جعل یسبهم، هکذا نقلت هذه الحکایة من خطّ الشیخ أبی حیان النحوی، رحمه اللّه تعالی!

[عباس بن فرناس حکیم الأندلس]

و من حکایاتهم فی الذکاء و استخراج العلوم و استنباطها أنّ أبا القاسم عباس بن فرناس، حکیم الأندلس، أوّل من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة و أوّل من فکّ بها کتاب العروض للخلیل، و أوّل من فکّ الموسیقی، و صنع الآلة المعروفة بالمنقالة، لیعرف الأوقات علی غیر رسم و مثال، و احتال فی تطییر جثمانه، و کسا نفسه الریش، و مدّ له جناحین، و طار فی الجوّ مسافة بعیدة، و لکنه لم یحسن الاحتیال فی وقوعه، فتأذّی فی مؤخره، و لم یدر أنّ الطائر إنما یقع علی زمکّه، و لم یعمل له ذنبا، و فیه قال مؤمن بن سعید الشاعر من أبیات: [الطویل]
یطمّ علی العنقاء فی طیرانها إذا ما کسا جثمانه ریش قشعم
و صنع فی بیته هیئة السماء، و خیّل للناظر فیها النجوم و الغیوم و البروق و الرعود، و فیه یقول مؤمن بن سعید أیضا: [المنسرح]
سماء عباس الأدیب أبی ال قاسم ناهیک حسن رائقها
أمّا ضراط استه فراعدها فلیت شعری ما لمع بارقها
لقد تمنّیت حین دوّنها فکری فی البصق فی است خالقها
و أنشد ابن فرناس الأمیر محمدا من أبیات: [الطویل]
رأیت أمیر المؤمنین محمدا و فی وجهه بذر المحبّة یثمر
فقال له مؤمن بن سعید: قبحا لما ارتکبته! جعلت وجه الخلیفة محرثا یثمر فیه البذر، فخجل و سبّه.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 178

[أول من اشتهر فی الأندلس بالحساب و النجوم]

و أول من اشتهر فی الأندلس بعلم الأوائل و الحساب و النجوم أبو عبیدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة؛ لأنه کان یشرّق فی صلاته، و کان عالما بحرکات الکواکب و أحکامها، و کان صاحب فقه و حدیث، دخل المشرق، و سمع بمکّة من علی بن عبد العزیز، و بمصر من المزنی و غیره.
و منهم یحیی بن یحیی المعروف بابن السمینة، من أهل قرطبة، و کان بصیرا بالحساب و النجوم و النحو و اللغة و العروض و معانی الشعر و الفقه و الحدیث و الأخبار و الجدل، و دخل إلی المشرق، و قیل: إنه کان معتزلی المذهب.
و أبو القاسم أصبغ بن السمح، و کان بارعا فی علم النجوم و الهندسة، و له تآلیف منها کتاب «المدخل إلی الهندسة فی تفسیر أقلیدس»، و کتاب کبیر فی الهندسة، و کتابان فی الأسطرلاب، و زیج علی مذاهب الهند المعروف بالسند هند.
و أبو القاسم بن الصفار، و کان عالما بالهندسة و العدد و النجوم، و له زیج مختصر علی مذاهب السند هند، و له کتاب فی عمل الأسطرلاب.
و منهم أبو الحسن الزهراوی، و کان عالما بالعدد و بالطب و الهندسة، و له کتاب شریف فی المعاملات علی طریق البرهان.
و منهم أبو الحکم عمر الکرمانی، من أهل قرطبة، من الراسخین فی علم العدد و الهندسة، و دخل المشرق، و اشتغل بحرّان، و هو أوّل من دخل برسائل إخوان الصفا إلی الأندلس.
و منهم أبو مسلم بن خلدون من أشراف إشبیلیة، و کان متصرّفا فی علوم الفلسفة و الهندسة و النجوم و الطب، و تلمیذه ابن برغوث، و کان عالما بالعلوم الریاضیة، و تلمیذه أبو الحسن مختار الرعینی، و کان بصیرا بالهندسة و النجوم، و عبد اللّه بن أحمد السرقسطی، کان ناقدا فی علم الهندسة و العدد و النجوم، و محمد بن اللیث، کان بارعا فی العدد و الهندسة و حرکات الکواکب، و ابن حیّ، قرطبی بصیر بالهندسة و النجوم، و خرج عن الأندلس سنة اثنتین و أربعین و أربعمائة، و لحق بمصر، و دخل الیمن، و اتّصل بأمیرها الصّلیحی القائم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 179
بدعوة المستنصر العبیدی، فحظی عنده، و بعثه رسولا إلی بغداد إلی القائم بأمر اللّه، و توفی بالیمن بعد انصرافه من بغداد، و ابن الوقشی الطلیطلی، عارف بالهندسة و المنطق و الزیوج، و غیرهم ممّن یطول تعدادهم.
و کان الحافظ أبو الولید هشام الوقشی من أعلم الناس بالهندسة و آراء الحکماء و النحو و اللغة و معانی الأشعار و العروض و صناعة الکتابة و الفقه و الشروط و الفرائض و غیرها، و هو کما قال الشاعر: [الوافر]
و کان من العلوم بحیث یقضی له فی کلّ فنّ بالجمیع
و من شعره قوله: [الکامل]
قد بیّنت فیه الطبیعة أنها بدقیق أعمال المهندس ماهره
عنیت بمبسمه فخطّت فوقه بالمسک خطّا من محیط الدائره
و عزم علی رکوب البحر إلی الحجاز فهاله ذلک، فقال: [السریع]
لا أرکب البحر و لو أننی ضربت فیه بالعصا فانفلق
ما إن رأت عینی أمواجه فی فرق إلّا تناهی الفرق
و کان الوزیر أبو المطرف عبد الرحمن بن مهند مصنّف الأدویة المفردة آیة اللّه تعالی فی الطب و غیره، حتی أنه عانی جمیع ما فی کتابه من الأدویة المفردة، و عرف ترتیب قواها و درجاتها، و کان لا یری التداوی بالأدویة ما أمکن بالأغذیة أو ما یقرب منها، و إذا اضطرّ إلی الأدویة فلا یری التداوی بالمرکّبة ما وجد سبیلا إلی المفردة، و إذا اضطرّ إلی المرکّب لم یکثر الترکیب، بل یقتصر علی أقل ما یمکنه، و له غرائب مشهورة فی الإبراء من الأمراض الصعبة و العلل المخوفة بأیسر علاج و أقربه.
و منهم ابن البیطار، و هو عبد اللّه بن أحمد المالقی الملقّب بضیاء الدین، و له عدّة
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 180
مصنّفات فی الحشائش لم یسبق إلیها، و توفی بدمشق سنة ست و أربعین و ستمائة، أکل عقارا قاتلا فمات من ساعته، رحمه اللّه تعالی!.

[مثل من حفظ أهل الأندلس]

و من حکایاتهم فی الحفظ أن الأدیب الأوحد حافظ إشبیلیة، بل الأندلس فی عصره، أبا المتوکل الهیثم بن أحمد بن أبی غالب، کان أعجوبة دهره فی الروایة للأشعار و الأخبار، قال ابن سعید: أخبرنی من أثق به أنه حضر معه لیلة عند أحد رؤساء إشبیلیة فجری ذکر حفظه، و کان ذلک فی أول اللیل، فقال لهم: إن شئتم تختبرونی أجبتکم، فقالوا له: بسم اللّه، إنّا نرید أن نحدّث عن تحقیق، فقال: اختاروا أیّ قافیة شئتم لا أخرج عنها، حتی تعجبوا، فاختاروا القاف، فابتدأ من أوّل اللیل إلی أن طلع الفجر، و هو ینشد وزن: [الکامل]
أرق علی أرق و مثلی یأرق
و سمّاره قد نام بعض و ضجّ بعض، و هو ما فارق قافیة القاف.
و قال أبو عمران بن سعید: دخلت علیه یوما بدار الأشراف بإشبیلیة، و حوله أدباء ینظرون فی کتب منها دیوان ذی الرّمّة، فمدّ الهیثم یده إلی الدیوان المذکور، فمنعه منه أحد الأدباء، فقال: یا أبا عمران، أواجب أن یمنعه منی و ما یحفظ منه بیتا، و أنا أحفظه؟ فأکذبته الجماعة، فقال: اسمعونی و أمسکوه، فابتدأ من أوّله حتی قارب نصفه، فأقسمنا علیه أن یکفّ، و شهدنا له بالحفظ.
و کان آیة فی سرعة البدیهة، مشهورا بذلک، قال أبو الحسن بن سعید: عهدی به فی إشبیلیة یملی علی أحد الطلبة شعرا، و علی ثان موشحة، و علی ثالث زجلا، کلّ ذلک ارتجالا.
و لمّا أخذ الحصار بمخنّق إشبیلیة فی مدة الباجی خرج خروج القارظین، و لا یدری حیث و لا أین.
و من شعره و قد نزل بداره عبید السلطان، و کتب به إلی صاحب الأنزال: [الکامل]
کم من ید لک لا أقوم بشکرها و بها أشیر إلیک إن خرست فمی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 181
و قد استشرتک فی الحدیث فهل تری أن یدخل الغربان وکر الهیثم
و له: [البسیط]
یجفی الفقیر و یغشی الناس قاطبة باب الغنیّ، کذا حکم المقادیر
و إنما الناس أمثال الفراش فهم بحیث تبدو مصابیح الدنانیر
و له: [البسیط]
عندی لفقدک أوجال أبیت بها کأننی واضع کفّی علی قبس
و لا ملامة إن لم أهد نیّره حتی تمدّ إلیها کفّ مقتبس
قد کنت أودع سرّ الشوق فی طرس لکننی خفت أن یعدو علی الطّرس
و أنشد له أبو سهل شیخ دار الحدیث بالقاهرة فی إملائه: [الکامل]
قف بالکثیب لغیرک التأنیب إنّ الکثیب هوی لنا محبوب
یا راحلین لنا علیکم وقفة و لکم علینا دمعنا المسکوب
تخلی الدیار من المحبّة و الهوی أبدا و تعمر أضلع و قلوب
و قال ارتجالا فی وصف فرس أصفر: [الوافر]
أطرف فات طرفی أم شهاب هفا کالبرق ضرّمه التهاب
أعار الصبح صفحته نقابا ففرّ به و صحّ له النقاب
فمهما حثّ خال الصبح وافی لیطلب ما استعار فما یصاب
إذا ما انقضّ کلّ النجم عنه و ضلّت عن مسالکه السحاب
فیا عجبا له فضل الدراری فکیف أذال أربعه التراب
سل الأرواح عن أقصی مداه فعند الریح قد یلفی الجواب

[ابن سیده و شی‌ء من شعره]

و قال أبو عمر الطلمنکی: دخلت مرسیة، فتشبّث بی أهلها یسمعون علیّ الغریب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 182
المصنّف، فقلت: انظروا من یقرأ لکم، و أمسکت أنا کتابی، فأتونی برجل أعمی یعرف بابن سیده، فقرأه علیّ من أوّله إلی آخره، فعجبت من حفظه، و کان أعمی ابن أعمی.
و ابن سیده المذکور هو أبو الحسن علی بن أحمد بن سیده، و هو صاحب کتاب «المحکم».
و من نظمه ممّا کتب به إلی ابن الموفّق: [الطویل]
ألا هل إلی تقبیل راحتک الیمنی سبیل فإنّ الأمن فی ذاک و الیمنا
و منها:
ضحیت فهل فی برد ظلّک نومة لذی کبد حرّی و ذی مقلة وسنی
و توفی ابن سیده المذکور سنة ثمان و خمسین و أربعمائة، و عمره نحو الستین، رحمه اللّه تعالی!

[المظفر بن الأفطس و حبه للعلم]

و من حکایاتهم فی حبّ العلم أنّ المظفر بن الأفطس صاحب بطلیوس کان کما قال ابن الأبّار کثیر الأدب، جمّ المعرفة، محبّا لأهل العلم، جمّاعة للکتب، ذا خزانة عظیمة، لم یکن فی ملوک الأندلس من یفوقه فی أدب و معرفة، قاله ابن حیان.
و قال ابن بسام: کان المظفر أدیب ملوک عصره غیر مدافع و لا منازع، و له التصنیف الرائق، و التألیف الفائق، المترجم ب «التذکرة» و المشتهر أیضا اسمه بالکتاب المظفّری، فی خمسین مجلّدا، یشتمل علی فنون و علوم من مغاز و سیر و مثل و خبر و جمیع ما یختصّ به علم الأدب، أبقاه للناس خالدا، و توفی المظفر سنة ستین و أربعمائة.
و کان یحضر العلماء للمذاکرة، فیفید و یستفید، رحمه اللّه تعالی!

[من کبار مؤلفات أهل الأندلس و من دعابات أهل الأندلس]

و من التآلیف الکبار لأهل الأندلس کتاب «السماء و العالم» الذی ألّفه أحمد بن أبان صاحب شرطة قرطبة، و هو مائة مجلّد، رأیت بعضه بفاس، و توفی ابن أبان سنة اثنتین و ثمانین و ثلاثمائة، رحمه اللّه تعالی!.
و لأهل الأندلس دعابة و حلاوة فی محاوراتهم، و أجوبة بدیهیة مسکتة، و الظّرف فیهم و الأدب کالغریزة، حتی فی صبیانهم و یهودهم، فضلا عن علمائهم و أکابرهم.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 183
و لنذکر جملة من ذکر الجلّة فنقول:
حکی عن عالم ألمریّة القاضی أبی الحسن مختار الرعینی، و کان فیه حلاوة و لوذعیة و وقار و سکون، أنه استدعاه یوما زهیر ملک المریّة من مجلس حکمه، فجاءه یمشی مشیة قاض قلیلا قلیلا، فاستعجله رسول زهیر، فلم یعجل، فلمّا دخل علیه قال له: یا فقیه، ما هذا البطء؟ فتأخّر إلی باب المجلس، و طلب عصا، و شمّر ثیابه، فقال له زهیر: ما هذا؟ قال: هذا یلیق باستعجال الحاجب لی، فوقع فی خاطری أنه عزلنی عن القضاء و ولّانی الشرطة، فضحک زهیر و استحلاه و لم یعد إلی استعجاله.
و هذا القاضی هو القائل- و قد دخل حمّاما فجلس بإزائه عامیّ أساء الأدب علیه-:
[الطویل]
ألا لعن الحمّام دارا فإنه سواء به ذو العلم و الجهل فی القدر
تضیع به الآداب حتی کأنها مصابیح لم تنفق علی طلعة الفجر
و روی أنّ المقرئ أبا عبد اللّه محمد بن الفراء إمام النحو و اللغة فی زمانه- و کانت فیه فطنة و لوذعیّة- أبطأ خروجه یوما إلی تلامذته، فطال بهم الکلام فی المذاکرة فقال أحدهم نصف بیت، و کان فیهم وسیم من أبناء الأعیان، و کان ابن الفراء کثیر المیل إلیه، فلمّا خرج قال له: یا أستاذ، عملت نصف بیت، و أرید أن تتمّه، فقال: ما هو؟ فقال: [المتقارب]
ألا بأبی شادن أوطف
فقال الأستاذ ابن الفراء بدیها: [المتقارب]
إذا کان وردک لا یقطف و ثغر ثنایاک لا یرشف
فأیّ اضطرار بنا أن نقول: ألا بأبی شادن أوطف
و هذا ابن الفراء هو القائل: [مجزوء الخفیف]
قیل لی: قد تبدّلا فاسل عنه کما سلا
لک سمع و ناظر و فؤاد فقلت: لا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 184
قیل: غال وصاله قلت: لمّا غلا حلا
أیّها العاذل الذی بعذابی توکّلا
عد صحیحا مسلّما لا تعیّر فتبتلی
و تذکّرت بهذا ما أنشده لسان الدین فی کتابه، «روضة التعریف، بالحب الشریف»:
[مجزوء الخفیف]
قلت للساخر الذی رفع الأنف فاعتلی
أنت لم تأمن الهوی لا تعیّر فتبتلی
و من بدیع نظم ابن الفراء المذکور قوله: [المتقارب]
شکوت إلیه بفرط الدّنف فأنکر من قصّتی ما عرف
و قال الشهود علی المدّعی و أمّا أنا فعلیّ الحلف
فجئنا إلی الحاکم الألمعیّ قاضی المجون و شیخ الطّرف
و کان بصیرا بشرع الهوی و یعلم من أین أکل الکتف
فقلت: له إقض ما بیننا فقال الشهود علی ما تصف
فقلت له شهدت أدمعی فقال إذا شهدت تنتصف
ففاضت دموعی من حینها کفیض السحاب إذا ما یکف
فحرّک رأسا إلینا و قال دعوا یا مهاتیک هذا الصلف
کذا تقتلون مشاهیرنا إذا مات هذا فأین الخلف
و أوما إلی الورد أن یجتنی و أوما إلی الرّیق أن یرتشف
فلمّا رآه حبیبی معی و لم یختلف بیننا مختلف
أزال العناد فعانقته کأنی لام و حبّی ألف
فظلت أعاتبه فی الجفا فقال عفا اللّه عمّا سلف‌

[من ملح الزهری خطیب إشبیلیة]

و حکی عن الزهری خطیب إشبیلیة- و کان أعرج- أنه خرج مع ولده إلی وادی إشبیلیة، فصادف جماعة فی مرکب، و کان ذلک بقرب الأضحی، فقال بعضهم له: بکم هذا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 185
الخروف؟ و أشار إلی ولده، فقال له الزهری: ما هو للبیع، فقال: بکم هذا التیس؟ و أشار إلی الشیخ الزهری، فرفع رجله العرجاء و قال: هو معیب لا یجزئ فی الضحیّة، فضحک کل من حضر، و عجبوا من لطف خلقه.
و رکب مرّة هذا النهر مع الباجی یوم خمیس، فلمّا أصبحا و صعد الزهری یخطب یوم الجمعة، و الباجی حاضر قدّامه، فنظر إلیه الباجی و أومأ إلی محلّ الحدث، و أخرج لسانه، فجعل الزهری یلمس عصا الخطبة، یشیر بالعصا إلی جوابه علی ما قصد، رحمه اللّه تعالی!

[ابن ورد و أحد الأعیان]

و مرّ العالم أبو القاسم بن ورد صاحب التآلیف فی علم القرآن و الحدیث بجنّة لأحد الأعیان فیها ورد، فوقف بالباب و کتب إلیه: [الخفیف]
شاعر قد أتاک یبغی أباه عند ما اشتاق حسنه و شذاه
و هو بالباب مصغیا لجواب یرتضیه النّدی فماذا تراه
فعندما وقف علی البیتین علم أنه ابن ورد، فبادر من جنّته إلیه، و أقسم فی النزول علیه، و نثر من الورد ما استطاع بین یدیه.

[من ملح ابن الطراوة نحوی المریة]

و حکی أن أبا الحسین سلیمان بن الطراوة نحویّ المریة حضر مع ندماء، و إلی جانبه من أخذ بمجامع قلبه، فلمّا بلغت النوبة إلیه استعفی من الشرب، و أبدی القطوب، فأخذ ابن الطراوة الجام من یده و شربها عنه، و یا بردها علی کل کبده، ثم قال بدیها: [السریع]
یشربها الشیخ و أمثاله و کلّ من تحمد أفعاله
و البکر إن لم یستطع صولة تلقی علی البازل أثقاله
و دخل علیه و هو مع ندمائه غلام و الکأس فی یده فقال: [الوافر]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 186
ألا بأبی و غیر أبی غزال أتی و براحه للشرب راح
فقال منادمی فی الحسن صفه فقلت الشمس جاء بها الصباح
و قال فیمن جاء بالراح: [الطویل]
و لمّا رأیت الصبح لاح بخدّه دعوتهم رفقا تلح لکم الشمس
و أطلعها مثل الغزالة و هو کال غزال فتمّ الطیب و اکتمل الأنس
و قال، و قد شرب لیلة فی القمر: [الطویل]
شربنا بمصباح السماء مدامة بشاطی غدیر و الأزاهر تنفح
و ظلّ جهول یرقب الصبح ضلّة و من أکؤس لم یبرح اللیل یصبح

[مدغلیس صاحب الموشحات و الأزجال]

و کان عبد الله بن الحاج المعروف بمدغلّیس صاحب الموشّحات یشرب مع ندماء ظراف فی جنّة بهجة، فجاءتهم ورقة من ثقیل یرغب فی الإذن، و کان له ابن ملیح فکتب إلیه مدغلیس: [مجزوء الرمل]
سیّدی هذا مکان لا یری فیه بلحیه
غیر تیس مصفعانیّ له بالصّفع کدیه
أوله ابن شافع فی ه فیلقی بالتّحیّه
أیها القابل أقبل سائقا تلک المطیّه
و کان مدغلّیس هذا مشهورا بالانطباع و الصنعة فی الأزجال، خلیفة ابن قزمان فی زمانه، و کان أهل الأندلس یقولون: ابن قزمان فی الزجالین بمنزلة المتنبی فی الشعراء، و مدغلّیس بمنزلة أبی تمام، بالنظر إلی الانطباع و الصناعة، فابن قزمان ملتفت إلی المعنی، و مدغلّیس ملتفت للفظ، و کان أدیبا معربا لکلامه مثل ابن قزمان، و لکنه لمّا رأی نفسه فی الزجل أنجب اقتصر علیه.
و من شعره قوله: [المجتث]
ما ضرّکم لو کتبتم حرفا و لو بالیسار
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 187
إذ أنتم نور عینی و مطلبی و اختیاری‌

[لابن الفراء و ترجمته و جده]

و قال الخطیب الأدیب النحوی أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الفراء- المذکور قبل هذا بقریب- الضریر، فی صبیّ کان یقرأ علیه النحو، اسمه حسن، و هو غایة الجمال- بعد أن سأله: کیف تقول إذا تعجّبت من حسنک؟ فقال أقول: ما أحسنی- [السریع]
یا حسنا ما لک لم تحسن إلی نفوس بالهوی متعبه
رقمت بالورد و بالسوسن صفحة خدّ بالسنا مذهبه
و قد أبی صدغک أن أجتنی منه و قد ألدغنی عقربه
یا حسنه إذ قال ما أحسنی و یا لذاک اللفظ ما أعذبه
ففوّق السهم و لم یخطنی و إذ رآنی میّتا أعجبه
و قال کم عاش و کم حبّنی و حبّه إیای قد عذّبه
یرحمه اللّه علی أننی قتلی له لم أدر ما أوجبه
و قد کان ابن الفراء من فضلاء المائة السادسة، ذکره ابن غالب فی «فرحة الأنفس، فی فضلاء العصر من الأندلس» و کان شاعرا مجیدا، یعلّم بألمریة القرآن و النحو و اللغة، و کانت فیه فطنة و لوذعیة، و ذکاء و ألمعیّة، خرق بها العوائد.
و حکی أنّ قاضی المریة قبل شهادته فی سطل میزه فی حمام باللمس، و اختبره فی ذلک بحکایة طویلة.
و ذکره صفوان فی «زاد المسافر» و وصفه بالخطیب.
و جدّه القاضی أبو عبد الله ابن الفراء مشهور بالصلاح و الفضل و الزهد، و من العجائب أنه لیس له ترجمة فی «المغرب»، و لمّا کتب أمیر المسلمین یوسف بن تاشفین إلی أهل ألمریة یطلب منهم المعونة جاوبه بکتابه المشهور الذی یقول فیه [ما صورته:] فما ذکره أمیر المسلمین من افتضاء المعونة و تأخّری عن ذلک، و أنّ الباجی، و جمیع القضاة و الفقهاء بالعدوة و الأندلس أفتوا بأنّ عمر بن الخطاب، رضی اللّه تعالی عنه، اقتضاها، و کان صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، و ضجیعه فی قبره، و لا یشکّ فی عدله، فلیس أمیر المسلمین بصاحب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 188
رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، و لا بضجیعه فی قبره، و لا من لا یشکّ فی عدله، فإن کان الفقهاء و القضاة أنزلوک بمنزلته فی العدل، فاللّه تعالی سائلهم عن تقلّدهم فیک، و ما اقتضاها عمر، رضی اللّه تعالی عنه، حتی دخل مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و حلف أن لیس عنده درهم واحد فی بیت مال المسلمین ینفقه علیهم، فلتدخل المسجد الجامع هنالک بحضرة من أهل العلم و تحلف أن لیس عندک درهم واحد و لا فی بیت مال المسلمین، و حینئذ تستوجب ذلک، و السلام، انتهی.

[ابن الفراء الأخفش بن میمون]

و أمّا ابن الفراء الأخفش بن میمون الذی ذکره الحجاری فی «المسهب» فلیس هو من هؤلاء، بل هو من حصن القبداق من أعمال قلعة بنی سعید، و تأدّب فی قرطبة، ثم عاد إلی حضرة غرناطة، و اعتکف بها علی مدح وزیرها الیهودی، و هو القائل: [البسیط]
صابح محیّاه تلق النّجح فی الأمل و انظر بنادیه حسن الشمس فی الحمل
ما إن یلاقی خلیل فیه من خلل و کلّما حال صرف الدهر لم یحل
و کان یهاجی المنفتل شاعر إلبیرة، و من هجاء المنفتل له قوله: [مجزوء الرمل]
لابن میمون قریض زمهریر البرد فیه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص188
فإذا ما قال شعرا نفقت سوق أبیه
و لمّا وفد علی المریة مدح رفیع الدولة بن المعتصم بن صمادح بشعر، فقال له بعض من أراد ضرّه: یا سیدی، لا تقرب هذا اللعین، فإنه قال فی الیهودی: [الطویل]
و لکنّ عندی للوفاء شریعة ترکت بها الإسلام یبکی علی الکفر
فقال رفیع الدولة: هذا و اللّه هو الحرّ الذی ینبغی أن یصطنع، فلو لا و فاؤه ما بکی کافرا بعد موته، و قد وجدنا فی أصحابنا من لا یرعی مسلما فی حیاته. فقال فیه المنفتل:
[المجتث]
إن کنت أخفش عین فإنّ قلبک أعمی
فکیف تنثر نثرا و کیف تنظم نظما
و من شعر الأخفش المذکور قوله: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 189
إذا زرتکم غبّا فلم ألق بالبرّ و إن غبت لم أطلب و لم أجر فی الذّکر
فإنی إذن أولی الوری بفراقکم و لا سیّما بعد التجلّد و الصّبر

[ابن مسعود و الطلیق القرشی]

و لمّا وفد علی المنصور بن أبی عامر الشاعر المشهور أبو عبد اللّه محمد بن مسعود الغسّانی البجالی اتّهم برهق فی دینه، فسجنه فی المطبق مع الطلیق القرشی، و الطلیق غلام و سیم، و کان ابن مسعود کلفا به یومئذ و فیه یقول: [البسیط]
غدوت فی السجن خدنا لابن یعقوب و کنت أحسب هذا فی التکاذیب
رامت عداتی تعذیبی و ما شعرت أنّ الذی فعلوه ضدّ تعذیبی
راموا بعادی عن الدنیا و زخرفها فکان ذلک إدنائی و تقریبی
لم یعلموا أنّ سجنی لا أبا لهم قد کان غایة مأمولی و مرغوبی
و سجن ابن مسعود و الطلیق قبله، و وقع بینه و بین الطلیق، و عاد المدح هجاء، فقال فیه: [السریع]
ولی جلیس قربه منّی بعد الأمانی کذبا عنّی
قد قذیت من لحظه مقلتی و قرّحت من لفظه أذنی
هوّن لی فی السجن من قربه أشدّ فی السجن من السجن
لو أنّ خلقا کان ضدّا له زاد علی یوسف فی الحسن
إذا ارتمی فکری فی وجهه سلّط إبطیه علی ذهنی
کأنما یجلس من ذا و ذا بین کنیفین من النّتن
و قال یخاطب المنصور من السجن: [السریع]
دعوت لمّا عیل صبری فهل یسمع دعوای الملیک الحلیم
مولای مولای، ألا عطفة تذهب عنی بالعذاب الألیم
إن کنت أضمرت الذی زخرفوا عنّی فدعنی للقدیر الرحیم
فعنده نزّاعة للشّوی و عنده الفردوس ذات النعیم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 190

[بین جاریة و شاعر من المریة و بین البیاسی و شیخ ثقیل]

و رکب بعض أهل المریّة فی وادی إشبیلیة، فمرّ علی طاقة من طاقات شنتبوس، و هو یغنّی:
خلین من واد و من قوارب و من نزاها فی شنتبوس
غرس الحبق الذی فی داری أحبّ عندی من العروس
فأخرجت رأسها جاریة و قالت له: من أی بلد أنت یا من غنّی؟ فقال: من ألمریة، فقالت: و ما أعجبک فی بلدک حتی تفضّله علی وادی إشبیلیة و هو بوجه مالح وقفا أحرش؟
و هذا من أحسن تعییب، و ذلک أنها أتته بالنقیض من إشبیلیة، فإنّ وجهها النهر العذب، و قفاها بجبال الرحمة أشجار التین و العنب، لا تقع العین إلّا علی خضرة فی أیام الفرج، و أین إشبیلیة من المریة. و فی ألمریة یقول السمیسر شاعرها: [الخفیف]
بئس دار المریة الیوم دارا لیس فیها لساکن ما یحبّ
بلدة لا تمار إلّا بریح ربّما قد تهبّ أو لا تهبّ
یشیر إلی أنّ مرافقها مجلوبة، و أن المیرة تأتیها فی البحر من برّ العدوة، و فیها یقول أیضا: [المجتث]
قالوا المریة فیها نظافة قلت إیه
کأنها طست تبر و یبصق الدم فیه
و حکی مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البیاسی، أنه دخل علیه فی مجلس أنس شیخ ضخم الجثّة مستثقل، فقال البیاسی: [مجزوء الخفیف]
اسقنی الکأس صاحیه ودع الشیخ- ناحیه
فقال الکاتب أبو جعفر أحمد بن رضی: [مجزوء الخفیف]
إن تکن ساقیا له لیس ترویه ساقیه‌

[أبو علی بن حسون قاضی مالقة]

و حکی أنّ العالی إدریس الحمودی لمّا عاد إلی ملکه بمالقة و بّخ قاضیها الفقیه أبا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 191
علی بن حسّون، و قال له: کیف بایعت عدویّ من بعدی و صحبته؟ فقال: و کیف ترکت أنت ملکک لعدوّک؟ فقال: ضرورة القدرة حملتنی علی ذلک، فقال: و أنا أیضا حصلت فی ید من لا یسعنی إلّا طاعته.
و من نظم القاضی المذکور: [السریع]
رفعت من دهری إلی جائر و یبتغی العدل بأحکامی
أضحت به أملاکه مثل أش کال خیال طوع أیامی
هذا لما أبرم ذا ناقض کأنّهم فی حکم أحلام
و کان الفقیه العالم أبو محمد عبد اللّه الوحیدی قاضی مالقة جری- کما قال الحجاری- فی صباه طلق الجموح و لم یزل یعاقب بین غبوق و صبوح، إلی أن دعاه النذیر، فاهتدی منه بسراج منیر، و أحلّته تلک الرجعة، فیما شاء من الرفعة.
و قال بعض معاشریه: کنت أماشیه زمن الشباب، فکلّما مررنا علی امرأة یدعو حسنها و شکلها إلی أن تحیر فیه الألباب، أمال إلیها طرفه، و لم ینح عنها صرفه، ثم سایرته بعد لمّا رجع عن ذلک و اقتصر، فرأیته یغضّ البصر، و یخلی الطریق معرضا إلی ناحیة، متی زاحمته امرأة و لو حکت الشمس ضاحیة، فقلت له فی ذلک، فقال: [الخفیف]
ذاک وقت قضیت فیه غرامی من شبابی فی سترة الإظلام
ثم لمّا بدا الصباح لعینی من مشیبی ودّعته بسلام
و من شعره فی صباه: [البسیط]
لا ترتجوا رجعتی باللوم عن غرض و لتترکونی و صیدی فرصة الخلس
طلبتم ردّ قلبی عن صبابته و من یردّ عنان الجامح الشرس
و لمّا أقصر باطله، و عرّیت أفراس الصبا و رواحله، قال: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 192
و لمّا بدا شیبی عففت عن الهوی کما یهتدی حلف السّری بنجوم
و فارقت أشیاع الصبابة و الطّلا و ملت إلی أهلی علا و علوم

[موقف لابن الفخار]

و لمّا تألّب بنو حسّون علی القاضی الوحیدی المذکور صادر عنه العالم الأصولی أبو عبد اللّه بن الفخار، و طلع فی حقّه إلی حضرة الإمامة مراکش، و قام فی مجلس أمیر المسلمین ابن تاشفین، و هو قد غصّ بأربابه، و قال: إنه لمقام کریم، نبدأ فیه بحمد اللّه علی الدنوّ منه، و نصلّی علی خیرة أنبیائه محمد الهادی إلی الصراط المستقیم، و علی آله و صحابته نجوم اللیل البهیم، أمّا بعد، فإنا نحمد اللّه الذی اصطفاک للمؤمنین أمیرا، و جعلک للدین الحنیفی نصیرا و ظهیرا، و نفزع إلیک ممّا دهمنا فی حماک، و نبثّ إلیک ما لحقنا من الضیم و نحن تحت ظلّ علاک، و یأبی اللّه أن یدهم من احتمی بأمیر المسلمین، و یصاب بضیم من ادّرع بحصنه الحصین، شکوی قمت بها بین یدیک فی حقّ أمرک الذی عضده مؤیّده، لتسمع منها ما تختبره برأیک و تنقده، و إنّ قاضیک ابن الوحیدی الذی قدّمته فی مالقة للأحکام، و رضیت بعدله فیمن بها من الخاصة و العوام، لم یزل یدلّ علی حسن اختیارک بحسن سیرته، و یرضی اللّه تعالی و یرضی الناس بظاهره و سریرته، ما علمنا علیه من سوء، و لا درینا له موقف خزی، و لم یزل جاریا علی ما یرضی اللّه تعالی و یرضیک و یرضینا إلی أن تعرّضت بنو حسّون إلی الطعم فی أحکامه، و الهدّ من أعلامه، و لم یعلموا أنّ اهتضام المقدّم، راجع علی المقدّم، بل جمحوا فی لجاجهم فعموا و صمّوا، و فعلوا و أمضوا ما به همّوا: [الخفیف]
و إلی السّحب یرفع الکفّ من قد جفّ عنه مسیل عین و نهر
فملأ سمعه بلاغة أعقبت نصره و نصر صاحبه.
و من شعر ابن الفخار المذکور، و یعرف بابن نصف الربض، قوله: [الطویل]
أ مستنکر شیب المفارق فی الصّبا و هل ینکر النّور المفتّح فی الغصن
أظنّ طلاب المجد شیّب مفرقی و إن کنت فی إحدی و عشرین من سنّی
و قوله: [المتقارب]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 193
أقلّ عتابک إنّ الکریم یجازی علی حبّه بالقلی
و خلّ اجتنابک إنّ الزمان یمرّ بتکدیره ما حلا
و واصل أخاک بعلّاته فقد یلبس الثوب بعد البلی
و قلّ کالذی قاله شاعر نبیل و حقّک أن تنبلا
إذا ما خلیل أسا مرّة و قد کان فیما مضی مجملا
ذکرت المقدّم من فعله فلم یفسد الآخر الأوّلا

[لابن شرف]

و لمّا وفد أبو الفضل بن شرف من برجة فی زی تظهر علیه البداوة بالنسبة إلی أهل حضرة المملکة العظمی أنشده قصیدته القافیة: [الرمل]
مطل اللیل بوعد الفلق و تشکّی النجم طول الأرق
ضربت ریح الصّبا مسک الدّجی فاستفاد الروض طیب العبق
و ألاح الفجر خدّا خجلا جال من رشح النّدی فی عرق
جاوز اللیل إلی أنجمه فتساقطن سقوط الورق
و استفاض الصبح فیه فیضة أیقن النجم لها بالغرق
فانجلی ذاک السنا عن حلک و انمحی ذاک الدجی عن شفق
بأبی بعد الکری طیف سری طارقا عن سکن لم یطرق
زارنی و اللیل ناع سدفه و هو مطلوب بباقی الرّمق
و دموع الطّلّ تمریها الصّبا و جفون الروض غرقی الحدق
فتأتّی فی إزار ثابت و تثنّی فی وشاح قلق
و تجلّی وجهه عن شعره فتجلّی فلق عن غسق
نهب الصبح دجی لیلته فحبا الخدّ ببعض الشفق
سلبت عیناه حدّی سیفه و تحلّی خدّه بالرونق
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 194
و امتطی من طرفه ذا خبب یلثم الغبراء إن لم یعنق
أشوس الطرف علته نخوة یتهادی کالغزال الخرق
لو تمطّی بین أسراب المها نازعته فی الحشا و العنق
حسرت دهمته عن غرّة کشفت ظلماؤها عن یقق
لبست أعطافه ثوب الدجی و تحلّی خدّه بالیقق
و انبری تحسبه أجفل عن لسعة أو جنّة أو أولق
مدرکا بالمهل ما لا ینتهی لاحقا بالرفق ما لم یلحق
ذو رضا مستتر فی غضب ذو وقار منطو فی خرق
و علی خدّ کعضب أبیض أذن مثل سنان أزرق
کلّما نصّبها مستمعا بدت الشّهب إلی مسترق
حاذرت منه شبا خطّیّة لا یجید الخطّ ما لم یمشق
کلّما شامت عذاری خدّه خفقت خفق فؤاد فرق
فی ذرا ظمآن فیه هیف لم یدعه للقضیب المورق
یتلقّانی بکفّ مصقع یقتفی شأو عذار مفلق
إن یدر دورة طرف یلتمح أو یجل جول لسان ینطق
عصفت ریح علی أنبوبه و جرت أکعبه فی زئبق
کلّما قلّبه باعد عن متن ملساء کمثل البرق
جمع السّرد قوی أزرارها فتآخذن بعهد موثق
أوجبت فی الحرب من وخز القنا فتوارت حلقا فی حلق
کلّما دارت بها أبصارها صوّرت منها مثال الحدق
زلّ عنه متن مصقول القوی یرتمی فی مائها بالحرق
لو نضا و هو علیه ثوبه لتعرّی عن شواظ محرق
أکهب من هبوات أخضر من فرند أحمر من علق
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 195
و ارتوت صفحاه حتی خلته بحیا منّ لکفّیک سقی
یا بنی معن لقد ظلّت بکم شجر لولاکم لم تورق
لو سقی حسّان إحسانکم ما بکی ندمانه فی جلّق
أو دنا الطائیّ من حیّکم ما حدا البرق لربع الأبرق
أبدعوا فی الفضل حتی کلّفوا کاهل الأیام ما لم یطق
فلما سمعها المعتصم لعبت بارتیاحه، و حسده بعض من حضر، و کان من جملة من حسده ابن أخت غانم، فقال له: من أی أنت؟ قال: أنا من الشرف فی الدرجة العالیة، و إن کانت البادیة علیّ بادیة، و لا أنکر حالی، و لا أعرف بخالی، فمات ابن أخت غانم خجلا، و شمت به کلّ من حضر.

[من شعر الحکیم الفیلسوف أبی الفضل الجذامی]

و ابن شرف المذکور هو الحکیم الفیلسوف أبو الفضل جعفر ابن أدیب إفریقیة أبی عبد اللّه محمد بن شرف الجذامی؛ ولد ببرجة، و قیل: إنه دخل الأندلس مع أبیه و هو ابن سبع سنین، و من نظمه قوله: [الطویل]
رأی الحسن ما فی خدّه من بدائع فأعجبه ما ضمّ منه و حرّفا
و قال لقد ألفیت فیه نوادرا فقلت له لا بل غریبا مصنّفا
و قوله: [مخلع البسیط]
قد وقف الشکر بی لدیکم فلست أقوی علی الوفاده
و نلت أقصی المراد منکم فصرت أخشی من الزیاده
و قوله: [المتقارب]
إذا ما عدوّک یوما سما إلی رتبة لم تطق نقضها
فقبّل و لا تأنفن کفّه إذا أنت لم تستطع عضّها
و قوله، و قد تقدّم به علی کل شاعر: [البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 196
لم یبق للجور فی أیامهم أثر غیر الذی فی عیون الغید من حور
و أوّل هذه القصیدة قوله:
قامت تجرّ ذیول العصب و الحبر ضعیفة الخصر و المیثاق و النظر
و کان قد قصر أمداحه علی المعتصم، و کان یفد علیه فی الأعیاد و أوقات الفرج و الفتوحات، فوفد علیه مرّة یشکو عاملا ناقشه فی قریة یحرث فیها، و أنشده الرائیة التی مرّ مطلعها إلی أن بلغ قوله:
لم یبق للجور
البیت.
فقال له: کم فی القریة التی تحرث فیها؟ فقال: فیها نحو خمسین بیتا، فقال له: أنا أسوّغک جمیعها لهذا البیت الواحد، ثم وقّع له بها، و عزل عنها نظر کلّ وال.
و له ابن فیلسوف شاعر مثله، و هو أبو عبد اللّه محمد بن أبی الفضل المذکور، و هو القائل: [الخفیف]
و کریم أجارنی من زمان لم یکن من خطوبه لی بدّ
منشد کلّما أقول تناهی ما لمن یبتغی المکارم حدّ

[أبو عبد اللّه محمد بن معمر ابن أخت غانم]

و ابن أخت غانم هو العالم اللغوی أبو عبد اللّه محمد بن معمر؛ من أعیان مالقة، متفنّن فی علوم شتّی، إلّا أنّ الغالب علیه علم اللغة، و کان قد رحل من مالقة إلی المریة، فحلّ عند ملکها المعتصم بن صمادح بالمکانة العلیة، و هو القائل فی ابن شرف الطمذکور:
[الکامل]
قولوا لشاعر برجة هل جاء من أرض العراق فحاز طبع البحتری
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 197
وافی بأشعار تضجّ بکفّه و تقول: هل أعزی لمن لم یشعر
یا جعفرا، ردّ القریض لأهله و اترک مباراة لتلک الأبحر
لا تزعمن ما لم تکن أهلا له هذا الرّضاب لغیر فیک الأبخر
و ذکره ابن الیسع فی معربه و قال: إنه حدثه بداره فی مالقة و هو ابن مائة سنة، و أخذ عنه عام أربعة و عشرین و خمسمائة، و له تآلیف منها «شرح کتاب النبات» لأبی حنیفة الدّینوری، فی ستین مجلّدا، و غیر ذلک.
و غانم خاله الذی یعرف به هو الإمام العالم غانم المخزومی، نسب إلیه لشهرة ذکره، و علوّ قدره.

[بین أبن عبدون و ابن ضابط]

و لمّا قرأ العالم الشهیر أبو محمد بن عبدون فی أول شبابه علی أبی الولید بن ضابط النحوی المالقی، جری بین یدیه ذکر الشعر، و کان قد ضجر منه، فقال: [المجتث]
الشعر خطّة خسف
فقال ابن عبدون معرّضا به حین کان مستجدیا بالشعر، و کان إذ ذاک شیخا: [المجثت]
لکلّ طالب عرف
للشیخ عیبة عیب و للفتی ظرف ظرف
و ابن ضابط هو القائل فی المظفر بن الأفطس: [الطویل]
نظمنا لک الشعر البدیع لأننا علمنا بأنّ الشعر عندک ینفق
فإن کنت منّی بامتداح مظفّرا فإنی فی قصدی إلیک موفّق
و دخل غانم المخزومی السابق ذکره، و هو من رجال الذخیرة، علی الملک بن حبّوس صاحب غرناطة، فوسّع له علی ضیق کان فی المجلس، فقال: [البسیط]
صیّر فؤادک للمحبوب منزلة سمّ الخیاط مجال للمحبّین
و لا تسامح بغیضا فی معاشرة فقلّما تسع الدنیا بغیضین
و هو القائل: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 198
و قد کنت أغدو نحو قطرک فارحا فها أنا أغدو نحو قبرک ثاکلا
و قد کنت فی مدحیک سحبان وائل فها أنا من فرط التأسّف باقلا
و له أیضا: [السریع]
الصبر أولی بوقار الفتی من ملک یهتک ستر الوقار
من لزم الصبر علی حالة کان علی أیّامه بالخیار

[بین ابن الغلیظ و ابن السراج]

و کتب أبو علی الحسن بن الغلیظ إلی صاحبه أبی عبد اللّه بن السراج، و قد قدم من سفر: [البسیط]
یا من أقلّب طرفی فی محاسنه فلا أری مثله فی الناس إنسانا
لو کنت تعلم ما لقیت بعدک ما شربت کأسا و لا استحسنت ریحانا
فورد علیه من حینه و قال: أردت مجاوبتک، فخفت أن أبطئ، و صنعت الجواب فی الطریق: [البسیط]
یا من إذا ما سقتنی الراح راحته أهدت إلیّ بها روحا و ریحانا
من لم یکن فی صباح السبت یأخذها فلیس عندی بحکم الظرف إنسانا
فکن علی حسن هذا الیوم مصطبحا مذاکرا حسنا فیه و إحسانا
و فی البساتین إن ضاق المحلّ بنا مندوحة لا عدمنا الدهر بستانا
و وفد أبو علی الحسن بن کسرین المالقی الشاعر المشهور علی ملک إشبیلیة السید أبی إسحاق إبراهیم ابن أمیر المؤمنین یوسف ابن أمیر المؤمنین عبد المؤمن بن علی، فأنشده قصیدة طار مطلعها فی الأقطار، کلّ مطار، و هو: [الکامل]
قسما بحمص إنه لعظیم فهی المقام و أنت إبراهیم‌

[العطاء المالقی فی وصف غادة]

و وصف الشاعر عطاء المالقی غادة جعلت علی رأسها تاجا فقال: [السریع]
و ذات تاج رصّعوا دوره فزاد فی لألائها باللآل
کأنها شمس و قد توّجت بأنجم الجوزاء فوق الهلال
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 199
قد اشتکی الخلخال منها إلی سوارها فاشتبها فی المقال
و أجریا ذکر الوشاح الذی لمّا یزل من خصرها فی مجال
فقال: لم أرض بما نلته و لیتنی مثلکما لا أزال
أغصّ بالخصر و أعیا به کغصّ ظمآن بماء زلال
و إنما الدهر بغیر الرّضا یقضی فکلّ غیر راض بحال
و هو القائل: [مجزوء الخفیف]
سل بحمّامنا الذی کلّ عن شکره فمی
کم أرانی بقربه جنّة فی جهنّم‌

[أبو القاسم السهیلی]

و کان یحضر حلقة الإمام السّهیلی وضی‌ء الوجه من تلامذته، فانقطع لعارض، فخرج السهیلی مارّا فی الطریق الذی جرت عادته بالمشی فیه، فوجد قناة تصلح، فمنعته من المرور، فرجع و سلک طریقا آخر، فمرّ علی دار تلمیذه الوضی‌ء، فقال له بعض أصحابه ممازحا بعبوره علی منزله، فقال: نعم، و أنشد ارتجالا: [المتقارب]
جعلت طریقی علی بابه و مالی علی بابه من طریق
و عادیت من أجله جیرتی و آخیت من لم یکن لی صدیق
فإن کان قتلی حلالا لکم فسیروا بروحی سیرا رفیق
و أبو القاسم السّهیلی مشهور، عرّف به ابن خلکان و غیره، و یکنی أیضا بأبی زید، و هو صاحب کتاب «الروض الأنف» و غیره.
و اجتاز علی سهیل و قد خربه العدوّ لمّا أغار علیه و قتلوا أهله و أقاربه، و کان غائبا عنهم، فاستأجر من أرکبه دابّة، و أتی به إلیه، فوقف بإزائه، و أنشد: [الکامل]
یا دار، أین البیض و الآرام؟ أم أین جیران علیّ کرام
راب المحبّ من المنازل أنه حیّا فلم یرجع إلیه سلام
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 200
لمّا أجابنی الصّدی عنهم و لم یلج المسامع للحبیب کلام
طارحت ورق حمامها مترنّما بمقال صبّ و الدموع سجام
(یا دار ما فعلت بک الأیام ضامتک و الأیام لیس تضام)

[بین السهیلی و الرصافی]

و جری بین السهیلی و الرصافی الشاعر المشهور ما اقتضی قول الرصافی: [المتقارب]
عفا اللّه عنّی فإنّی امرؤ أتیت السلامة من بابها
علی أنّ عندی لمن هاجنی کنائن غصّت بنشّابها
و لو کنت أرمی بها مسلما لکان السهیلیّ أولی بها
و توفی السهیلی بمراکش سنة ثلاث و ثمانین و خمسمائة، و زرت قبره بها مرارا سنة عشر و ألف، و سکن رحمه اللّه تعالی إشبیلیة مدّة، و لازم القاضی أبا بکر بن العربی و ابن الطراوة، و عنه أخذ لسان العرب، و کان ضریرا.
و من شعره أیضا لما قال: «کیف أمسیت» مکان «کیف أصبحت»: [الطویل]
لئن قلت صبحا کیف أمسیت مخطئا فما أنا فی ذاک الخطا بملوم
طلعت و أفقی مظلم لفراقکم فخلتک بدرا و المساء همومی‌

[أبو الفضل بن حسدای الوزیر الکاتب]

و حکی أنّ الوزیر الکاتب أبا الفضل بن حسدای الإسلامی السرقسطی، و هو من رجال الذخیرة، عشق جاریة ذهبت بلبّه، و غلبت علی قلبه، فجنّ بها جنونه، و خلع علیها دینه، و علم بذلک صاحبها فزفّها إلیه، و جعل زمامها فی یدیه، فتحامی عن موضعه من وصلها أنفة من أن یظنّ الناس أنّ إسلامه کان من أجلها، فحسن ذکره، و خفی علی کثیر من الناس أمره، و من شعره قوله: [الطویل]
و أطربنا غیم یمازج شمسه فیستر طورا بالسحاب و یکشف
تری قزحا فی الجوّ یفتح قوسه مکبّا علی قطن من الثّلج یندف
و کان فی مجلس المقتدر بن هود ینظر فی مجلّد، فدخل الوزیر الکاتب أبو الفضل بن الدباغ
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 201
و أراد أن یندّر به، فقال له، و کان ذلک بعد إسلامه: یا أبا الفضل، ما الذی تنظر فیه من الکتب، لعلّه التوراة؟ فقال: نعم، و جلدها من جلد دبغه من تعلم، فمات خجلا، و ضحک المقتدر.

[أبو الربیع السرقسطی و بین علی بن خیر و ابن عبد الصمد السرقسطی]

و أراد الشاعر أبو الربیع سلیمان السرقسطی حضور ندیم له، فکتب إلیه: [السریع]
بالراح و الریحان و الیاسمین و بکرة الندمان قبل الأذین
و بهجة الروض بأندائه مقلّدا منه بعقد ثمین
ألا أجب سبقا ندائی إلی ال کأس تبدّت لذّة الشاربین
هامت بها الأعین من قبل أن یخبرها الذوق بحقّ الیقین
لاحت لدینا شفقا معلنا فکن لها بالله صبحا مبین
و کتب علی بن خیر التطیلی إلی ابن عبد الصمد السرقسطی یستدعیه إلی مجلس أنس: أنا- أطال اللّه تعالی بقاء الکاتب سراج العلم و شهاب الفهم!- فی مجلس قد عبقت تفاحه، و ضحکت راحه، و خفقت حولنا للطرب ألویة، و سالت بیننا للهو أودیة، و حضرتنا مقلة تسأل منک إنسانها، و صحیفة فکن عنوانها، فإن رأیت أن تجعل إلینا القصد، لنحصل بک فی جنّة الخلد، صقلت نفوسا أصدأها بعدک، و أبرزت شمسا أدجاها فقدک.
فأجابه ابن عبد الصمد: فضضت- أیها الکاتب العلیم، و المصقع الحبر الصمیم- طابع کتابک، فمنحنی منه جوهر منتخب، لا یشوبه مخشلب، هو السحر إلّا أنه حلال، دلّ علی ودّ حنیت ضلوعک علیه، و وثیق عهد انتدب کریم سجیّتک إلیه، فسألت فالق الحبّ، و عامر القلب بالحبّ، أن یصون لی حظی منک، و یدرأ لی النوائب عنک، و لم یمنعنی أن أصرف وجه الإجابة إلی مرغوبک، و أمتطی جواد الانحدار إلی محبوبک، إلّا عارض ألم ألمّ بی فقیّد بقیده نشاطی، و روّی براحته بساطی، و ترکنی أتململ علی فراشی کالسلیم، و أستمطر الإصباح من اللیل البهیم، و أنا منتظر لإدباره.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 202

[قصة من رقة طباع الأندلسیین]

و من لطف أهل الأندلس و رقّة طباعهم ما حکاه أبو عمرو بن سالم المالقی قال: کنت جالسا بمنزلی بمالقة، فهاجت نفسی أن أخرج إلی الجبّانة، و کان یوما شدید الحرّ، فراودتها علی القعود، فلم تمکنی من القعود، فمشیت حتی انتهیب إلی مسجد یعرف برابطة الغبار، و عنده الخطیب أبو محمد عبد الوهاب بن علی المالقی، فقال لی: إنی کنت أدعو اللّه تعالی أن یأتینی بک، و قد فعل، فالحمد للّه، فأخبرته بما کان منی، ثم جلست عنده، فقال:
أنشدنی، فأنشدته لبعض الأندلسیین: [الکامل]
غصبوا الصباح فقسّموه خدودا و استوعبوا قضب الأراک قدودا
و رأوا حصا الیاقوت دون نحورهم فتقلّدوا شهب النجوم عقودا
لم یکفهم حدّ الأسنّة و الظّبا حتی استعاروا أعینا و خدودا
فصاح الشیخ، و أغمی علیه، و تصبّب عرقا، ثم أفاق بعد ساعة، و قال: یا بنی، اعذرنی فشیئان یقهرانی، و لا أملک نفسی عندهما: النظر إلی الوجه الحسن، و سماع الشعر المطبوع، و انتهی.
و ستأتی هذه الأبیات فی هذا الباب بأتمّ من هذا.
و علی کل حال فهی لأهل الأندلس، لا لابن درید کما ذکره بعضهم، و سیأتی تسمیة صاحبها الأندلسی، کما فی کتاب «المغرب» لابن سعید العنسی المشهور، رحمه اللّه تعالی:
و قال بعض الأدباء لیحیی الجزار، و هو یبیع لحم ضأن: [المنسرح]
لحم إناث الکباش مهزول
فقال یحیی:
یقول للمشترین مه زولوا
و قال التطیلی الأعمی فی وصف أسد رخام یرمی بالماء علی بحیرة: [مجزوء الکامل]
أسد و لو أنّی أنا قشه الحساب لقلت صخره
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 203
و کأنّه أسد السما ء یمجّ من فیه المجرّه
و حضر جماعة من أعیان الأدباء مثل الأبیض و ابن بقی و غیرهما من الوشّاحین، و اتّفقوا علی أن یصنع کلّ واحد منهم موشّحة، فلمّا أنشد الأعمی موشّحته التی مطلعها:
ضاحک عن جمان سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان و حواه صدری
خرّق کلّ منهم موشّحته.
و تحاکمت امرأة إلی القاضی أبی محمد عبد اللّه اللّاردیّ الأصبحی، و کانت ذات جمال و نادرة، فحکم لزوجها علیها، فقالت له: من یضیع قلبه کلّ طرف فاتر جدیر أن یحکم بهذا، تشیر إلی قوله: [الخفیف]
أین قلبی؟ أضاعه کلّ طرف فاتر یصرع الحلیم لدیه
کلّما ازداد ضعفه ازداد فتکا أیّ صبر تری یکون علیه‌

[بین ابن خفاجة و ابن عنق الفضة]

و حضر أبو إسحاق بن خفاجة مجلسا بمرسیة مع أبی محمد جعفر بن عنق الفضّة الفقیه السالمی، و تذاکرا، فاستطال ابن عنق الفضّة، و لعب بأطراف الکلام، و لم یکن ابن خفاجة یعرفه، فقال له: یا هذا، لم تترک لأحد حظّا فی هذا المجلس! فلیت شعری من تکون؟ فقال:
أنا القائل: [الرمل]
الهوی علّمنی سهد اللیال و نظام الشعر فی هذی اللآل
کلّما هبّت شمال منهم لعبت بی عن یمین و شمال
و أرقّت فکرتی أرواحها فأتت منهنّ بالسحر الحلال
کان کالملح أجاجا خاطری و سحاب الحبّ أبدته زلال
فاهتزّ ابن خفاجة، و قال: من یکون هذا قوله لا ینبغی أن یجهل، و لک المعذرة فی جهلک، فإنک لم تعرّفنا بنفسک، فباللّه من تکون؟ فقال: أنا فلان، فعرفه و قضی حقّه.
و حکی ابن غالب فی «فرحة الأنفس» أنّ الوزیر أبا عثمان بن شنتفیر و أبو عامر بن عبد شلب و فدا رسولین علی المعتمد بن عباد، عن إقبال الدولة بن مجاهد و المعتصم بن صمادح و المقتدر بن هود، لإصلاح ما کان بین المعتمد و بین ابن ذی النون، فسرّ المعتمد بهم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 204
و أکرمهم، و دعاهم إلی طعام صنعه لهم، و کان لا یظهر شرب الراح منذ ولی الملک، فلمّا رأوا انقباضه عن ذلک تحاموا الشراب، فلمّا أمر بکتب أجوبتهم کتب له أبو عامر: [الخفیف]
بقیت حاجة لعبد رغیب لم یدع غیرها له من نصیب
هی خیریة المساء حدیثا و أنا فی الصباح أخشی رقیبی
فإذا أمس کان عندی نهارا لم تحفنی علیه بعد الغروب
و إذا اللیل جنّ حدّثت جلّا سی بما کان من حدیث غریب
قیل إنّ الدّجی لدیک نهار و کذاک الدّجی نهار الأریب
فتمنّیت لیلة لیس فیها لذکا ذلک السّنا من مغیب
حیث أعطیک فی الخلاء و تعطی نی مداما کمثل ریق الحبیب
تم أغدو کأننی کنت فی النو م، و أخفی المنام خوف هزیب
و الهزیب: الرقیب العتید فی کلام أهل الأندلس، فسرّ المعتمد و انبسط بانبساطه، و ضحک من مجونه، و کتب إلیه: [الخفیف]
یا مجابا دعا إلی مستجیب فسمعنا دعاءه من قریب
إن فعلت الذی دعوت إلیه کنت فیما رغبت عین رغیب
و استحضره فنادمه خالیا، و کساه و وصله، و انقلب مسرورا، و ظنّ المعتمد أنّ ذلک یخفی من فعله عن ابن شنتفیر، فأعلم بالأمر القائد ابن مرتین، فکاد یتفطّر حسدا و کتب إلی المعتمد: [الخفیف]
أنا عبد أولیته کلّ برّ لم تدع من فنون برّک فنّا
غیر رفع الحجاب فی شربک الرا ح فماذا جناه أن یتجنّی
و تمنّی شراب سؤرک فی الکأ س فباللّه أعطه ما تمنّی
فسرته أبیاته، و أجابه: [الخفیف]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 205
یا کریم المحلّ فی کلّ معنی و الکریم المحلّ لیس یعنّی
هذه الخمر تبتغیک فخذها أو فدعها أو کیفیما شئت کنّا
و کان یقرأ فی مجلس ملک السهلة أبی مروان بن رزین ذی الریاستین دیوان شعر محمد بن هانی‌ء، و کان القارئ فیه بله، فلمّا وصل إلی قوله: [المتقارب]
حرام حرام زمان الفقیر
اتّفق أن عرض للملک ما اشتغل به، فقال للقاری‌ء: أین وقفت؟ فقال: فی حرام، فقام الملک و قال: هذا موضع لا أقف معک فیه، ادخل أنت وحدک، ثم دخل إلی قصره، و انقلب المجلس ضحکا.

[من شعر أبی بکر بن سدرای الوزیر]

و کان للملک المذکور وزیر من أعاجیب الدهر، و هو الکاتب أبو بکر بن سدرای، و ذکره الحجاری فی «المسهب» و قال: إنّ له شعرا أرقّ من نسیم السّحر، و أندی من الطّلّ علی الزهر، و منه قوله: [المجتث]
ما ضرّکم لو بعثتم و لو بأدنی تحیّه
تهزّنی من شذاها إلیکم الأریحیّه
خذوا سلامی إلیکم مع الریاح النّدیّه
فی کلّ سحرة یوم تتری و کلّ عشیّه
یا ربّ طال اصطباری ما الوجد إلّا بلیّه
غیلان بالشرق أضحی و حلّت الغرب میّه
و قوله: [الوافر]
سأبغی المجد فی شرق و غرب فما ساد الفتی دون اغتراب
فإن بلّغت مأمولا فإنی جهدت و لم أقصّر فی الطلاب
و إن أنا لم أفز بمراد سعیی فکم من حسرة تحت التراب‌

[من شعر مروان بن عبد العزیز ملک بلنسیة]

و قال ملک بلنسیة مروان بن عبد العزیز لمّا ولی مکانه من لا یساویه: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 206
و لا غرو بعدی أن یسوّد معشر فیضحی لهم یوم و لیس لهم أمس
کذاک نجوم الجوّ تبدو زواهرا إذا ما توارت فی مغاربها الشمس
و قال ابن دحیة: دخلت علیه و هو یتوضّأ، فنظر إلی لحیته و قد اشتعلت بالشیب اشتعالا، فأنشد لنفسه ارتجالا: [الطویل]
و لمّا رأیت الشّیب أیقنت أنه نذیر لجسمی بانهدام بنائه
إذا ابیضّ مخضرّ النبات فإنه دلیل علی استحصاده و فنائه

[من شعر أبی عامر بن الفرج الوزیر]

و اعتلّ ابن ذی الوزارتین أبی عامر بن الفرج، وزیر المأمون بن ذی النون، و هو من رجال الذخیرة و القلائد، فوصف له أن یتداوی بالخمر العتیق، و بلغه أنّ عند بعض الغلمان منها شیئا، فکتب إلیه یستهدیه: [المجتث]
ابعث بها مثل ودّک أرقّ من ماء خدّک
شقیقة النّفس، فانضح بها جوی ابنی و عبدک
و هو القائل معتذرا عن تخلّفه عمّن جاءه منذرا: [الخفیف]
ما تخلّفت عنک إلّا لعذر و دلیلی فی ذاک خوفی علیکا
هبک أنّ الفرار من غیر عذر أ تراه یکون إلّا إلیکا
و له من رسالة هناء: [المتقارب]
أهنی‌ء بالعید من وجهه هو العید لو لاح لی طالعا
و أدعو لی اللّه سبحانه بشمل یکون لنا جامعا
و کتب إلی الوزیر المصری یستدعیه أن یکون من ندمائه، فکتب إلیه الوزیر المصری یستعمله الیوم، فلمّا أراده کتب إلیه: [الکامل]
ها قد أهبت بکم و کلّکم هوی و أحقّکم بالشکر منّی السابق
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 207
کالشمس أنت و قد أظلّ طلوعها فاطلع و بین یدیک فجر صادق
و له فی رئیس مرسیة أبی عبد الرحمن بن طاهر، و کان ممتع المجالسة کثیر النادرة:
[الخفیف]
قد رأینا منک الذی قد سمعنا فغدا الخبر عاضد الأخبار
قد وردنا لدیک بحرا نمیرا و ارتقینا حیث النجوم الدراری
و لکم مجلس لدیک انصرفنا عنه مثل الصّبا عن الأزهار

[من شعر أبی الحسن علی بن حریق]

و شرب الأدیب الفاضل أبو الحسن علی بن حریق عشیة مع من یهواه، و رام الانفصال عنه لداره، فمنعه سیل حال بینه و بین داره، فبات عنده علی غیر اختیاره، فقال ابن حریق:
[مخلع البسیط]
یا لیلة جادت اللیالی بها علی رغم أنف دهری
للسّیل فیها علیّ نعمی یقصر عنها لسان شکری
أبات فی منزلی حبیبی و قام فی أهله بعذر
فبتّ لا حالة کحالی ضجیع بدر صریع سکر
یا لیلة القدر فی اللیالی لأنت خیر من ألف شهر
و من حسنات ابن حریق المذکور قوله: [الکامل]
یا ویح من بالمغرب الأقصی ثوی حلف النّوی و حبیبه بالمشرق
لو لا الحذار علی الوری لملأت ما بینی و بینک من زفیر محرق
و سکبت دمعی ثم قلت لسکبه من لم یذب من زفرة فلیغرق
لکن خشیت عقاب ربّی إن أنا أحرقت أو أغرقت من لم أخلق
و له: [السریع]
لم یبق عندی للصّبا لذّة إلّا الأحادیث علی الخمر
و له: [المتقارب]
ققبّلت إثرک فوق الثّری و عانقت ذکرک فی مضجعی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 208
و له: [الرمل]
إنّ ماء کان فی وجنتها وردته السّنّ حتی نشفا
و ذوی العنّاب من أنملها فأعادته اللیالی حشفا
و أورد له أبو بحر فی «زاد المسافر» قوله: [الکامل]
کلّمته فاحمرّ من خجل حتی اکتسی بالعسجد الورق
و سألته تقبیل راحته فأبی و قال أخاف أحترق
حتی زفیری عاق عن أملی إنّ الشّقیّ بریقه شرق
و قوله فی السواقی: [الکامل]
و کأنما سکن الأراقم جوفها من عهد نوح مدّة الطوفان
فإذا رأینا الماء یطفح نضنضت من کلّ خرق حیّة بلسان

[لأبی جعفر بن الذهبی]

و قال الفیلسوف أبو جعفر ابن الذهبی فیمن جمع بینه و بین أحد الفضلاء: [الخفیف]
أیها الفاضل الذی قد هدانی نحو من قد حمدته باختبار
شکر اللّه ما أتیت و جازا ک و لا زلت نجم هدی لساری
أیّ برق أفاد أیّ غمام و صباح أدّی لضوء نهار
و إذا ما النسیم کان دلیلی لم یحلنی إلّا علی الأزهار

[بین المعتصم بن صمادح و خلف السمیسر]

و أنشد أبو عبد اللّه محمد بن عبادة الوشاح المعتصم بن صمادح شعرا یقول فیه: [الطویل]
و لو لم أکن عبدا لآل صمادح و فی أرضهم أصلی و عیشی و مولدی
لما کان لی إلّا إلیهم ترحّل و فی ظلّهم أمسی و أضحی و أغتدی
فارتاح، و قال: یا ابن عبادة، ما أنصفناک بل أنت الحرّ لا العبد، فاشرح لنا فی أملک، فقال: أنا عبدکم کما قال ابن نباتة: [البسیط]
لم یبق جودک لی شیئا أؤمّله ترکتنی أصحب الدنیا بلا أمل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 209
فالتفت إلی ابنه الواثق یحیی ولیّ عهده و قال: إذا اصطنعت الرجال فمثل هذا فاصطنع، ضمّه إلیک و افعل معه ما تقتضیه وصیّتی به، و نبّهنی إلیه کل وقت، فأقام ندیما لولیّ العهد المذکور.
و له فیهما الموشحات المشهورة، کقوله:
کم فی قدود البان تحت اللمم
من أقمر عواطی
بأنمل و بنان مثل العنم
لم تنبری للعاطی
و لمّا بلغ المعتصم أنّ خلف بن فرج السمیسر هجاه احتال فی طلبه حتی حصل فی قبضته، ثم قال له: أنشدنی ما قلت فیّ، فقال له: و حقّ من حصّلنی فی یدک ما قلت شرّا فیک، و إنما قلت: [البسیط]
رأیت آدم فی نومی فقلت له: أبا البریّة، إنّ الناس قد حکموا
أنّ البرابر نسل منک، قال: إذن حوّاء طالقة إن کان ما زعموا
فأباح ابن بلقین صاحب غرناطة دمی، فخرجت إلی بلادک هاربا فوضع علیّ من أشاع ما بلغک عنی لتقتلنی أنت فیدرک ثأره بک، و یکون الإثم علیک، فقال: و ما قلت فیه خاصّة مضافا إلی ما قلته فی عامة قومه؟ فقال: لمّا رأیته مشغوفا بتشیید قلعته التی یتحصّن فیها بغرناطة قلت: [مخلع البسیط]
یبنی علی نفسه سفاها کأنه دودة الحریر
فقال له المعتصم: لقد أحسنت فی الإساءة إلیه، فاختر: هل أحسن إلیک و أخلی سبیلک أم أجیرک منه؟ فارتجل: [مجزوء الرجز]
خیّرنی المعتصم و هو بقصدی أعلم
و هو إذا یجمع لی أمنا و منّا أکرم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 210
فقال: خاطرک خاطر شیطان، و لک المنّ و الأمان، فأقام فی إحسانه بأوطانه، حتی خلع عن ملکه و سلطانه:
و لمّا أنشده عمر بن الشهید قصیدته التی یقول فیها: [الکامل]
سبط البنان کأنّ کلّ غمامة قد رکّبت فی راحتیه أناملا
لا عیش إلّا حیث کنت، و إنما تمضی لیالی العمر بعدک باطلا
التفت إلی من حضر من الشعراء و قال: هل فیکم من یحسن أن یجلب القلوب بمثل هذا؟ فقال أبو جعفر بن الخراز البطرانی: نعم، و لکن للسعادة هبّات، و قد أنشدت مولانا قبل هذا أبیاتا أقول فیها: [الطویل]
و ما زلت أجنی منک و الدهر ممحل و لا ثمر یجنی و لا الزرع یحصد
ثمار أیاد دانیات قطوفها لأغصانها ظلّ علیّ ممدّد
یری جاریا ماء المکارم تحتها و أطیار شکری فوقهنّ تغرّد
فارتاح المعتصم، و قال: أ أنت أنشدتنی هذا؟ قال: نعم، قال: و اللّه کأنها ما مرّت بسمعی إلی الآن، صدقت للسعد هبّات، و نحن نجیزک علیها بجائزتین: الأولی لها، و الثانیة لمطل راجیها و غمط إحسانها، انتهی.
و قال بعض ذرّیّة ملوک إشبیلیة: [الخفیف]
نثر الورد بالخلیج و قد درج أمواهه هبوب الریاح
مثل درع الکمیّ مزّقها الطع ن فسالت بها دماء الجراح‌

[من شعر صارة و من شعر ابن الزقاق]

و قال ابن صارة فی النارنج: [الطویل]
کرات عقیق فی غصون زبرجد بکفّ نسیم الریح منها صوالج
نقبّلها طورا و طورا نشمّها فهنّ خدود بیننا و نوافج
و قال أبو الحسن بن الزقاق ابن أخت ابن خفاجة: [المتقارب]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 211
و ما شقّ وجنته عابثا و لکنّها آیة للبشر
جلاها لنا اللّه کیما نری بها کیف کان انشقاق القمر
و قال: [الکامل]
ضربوا ببطن الوادیین قبابهم بین الصوارم و القنا المیّاد
و الورق تهتف حولهم طربا بهم فبکلّ محنیة ترنّم شادی
یا بانة الوادی کفی حزنا بنا أن لا نطارح غیر بانة وادی
و قال: [الخفیف]
نحن فی مجلس به کمل الأن س و لو زرتنا لزاد کمالا
طلعت فیه من کؤوس الحمیّا و من الزهر أنجم تتلالا
غیرنّ النجوم دون هلال فلتکن منعما لهنّ الهلالا
و قال: [الکامل]
و هویتها سمراء غنّت و انثنت فنظرت من ورقاء فی أملودها
تشدو و وسواس الحلیّ یجیبها مهما انثنت فی وشیها و عقودها
أو لیس من بدع الزمان حمامة غنّت فغنّی طوقها فی جیدها
و قال: [البسیط]
لئن بکیت دما و العزم من شیمی علی الخلیط فقد یبکی الحسام دما

[من شعر أبی تمام غالب بن رباح الحجام]

و قال أبو تمام غالب بن رباح الحجام فی دولاب طار منه لوح فوقف: [المنسرح]
و ذات شدو و ما لها حلم کلّ فتی بالضمیر حیّاها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص211
و طار لوح بها فأوقفها کلمحة العین حین جراها
و کان المذکور ربّی فی قلعة رباح غربی طلیطلة، و لا یعلم له أب، و تعلّم الحجامة
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 212
فأتقنها، ثم تعلّق بالأدب حتی صار آیة، و هو القائل فی ثریّا الجامع: [البسیط]
تحکی الثریّا الثریّا فی تألّقها و قد عراها نسیم فهی تتّقد
کأنها لذوی الإیمان أفئدة من التخشّع جوف اللیل ترتعد
و قال: [البسیط]
زرت الحبیب و لا شی‌ء أحاذره فی لیلة قد لوت بالغمض أشفارا
فی لیلة خلت من حسن کواکبها دراهما و حسبت البدر دینارا
و قال فی الثریا أیضا: [البسیط]
انظر إلی سرج فی اللیل مشرقة من الزجاج تراها و هی تلتهب
کأنها ألسن الحیّات قد برزت عند الهجیر فما تنفکّ تضطرب
و قال: [الطویل]
تری النّسر و القتلی علی عدد الحصا و قد مزّقت أحشاءها و الترائبا
مضرّجة ممّا أکلن کأنها عجائز بالحنّا خضبن ذوائبا
و قال، و قد أبدع غایة الإبداع، و أتی بما یحیّر الألباب، و إن کان أبو نواس فاتح هذا الباب: [الطویل]
و کأس تری کسری بها فی قرارة غریقا و لکن فی خلیج من الخمر
و ما صوّرته فارس عبثا به و لکنّهم جاؤوا بأخفی من السّحر
أشاروا بما کانوا له فی حیاته فنومی إلیه بالسجود و ما ندری
و ما أحلی قوله: [الکامل]
الأقحوان رمی علیک ظلامة لمّا عنفت علیه بالمسواک
لا یحمل النّور الأنیق تمسّه کفّ بعود بشامة و أراک
و جلاؤه المخلوق فیه قد کفی من أن یراع عراره بسواک
و قوله: [الوافر]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 213
صغار الناس أکثرهم فسادا و لیس لهم لصالحة نهوض
أ لم تر فی سباع الطیر سرّا تسالمنا، و یأکلنا البعوض
و قد بلغ غایة الإحسان فی قوله: [الوافر]
فما للملک لیس یری مکانی و قد کحلت لواحظه بنوری
کذا المسواک مطّرحا مهانا و قد أبقی جلاء فی الثغور
و من حسناته قوله: [السریع]
لی صاحب لا کان من صاحب فإنه فی کبدی جرحه
یحکی إذا أبصر لی زلّة ذبابة تضرب فی قرحه
و لقیه أبو حاتم الحجاری علی فرس فی غایة الضعف و الرذالة قد أهلکها الوجی، و کانا فی جماعتین، فقال له: یا أبا تمام، أنشدنی قولک: [الطویل]
و تحتی ریح تسبق الریح إن جرت و ما خلت أنّ الریح ذات قوائم
لها فی المدی سبق إلی کلّ غایة کأنّ لها سبقا یفوق عزائمی
و همّة نفسی نزّهتها عن الوجی فیا عجبا حتی العلا فی البهائم
فلمّا أنشده إیّاها ردّ رأسه أبو حاتم إلی الجماعتین و قال: ناشدتکم اللّه أ یجوز لحجّام علی فرس مثل هذه الرمکة الهزیلة العرجاء، أن یقول مثل هذا؟ فضحک جمیع من حضر، و أقبل أبو تمام من غیظه یسبّه.
و من شعر الحجام المذکور قوله: [البسیط]
لا یفخر السیف و الأقلام فی یده قد صار قطع سیوف الهند للقصب
فإن یکن أصلها لم یقو قوّتها (فإنّ فی الخمر معنی لیس فی العنب)
و قال: [الکامل]
ثقلت علی الأعداء إلّا أنها خفّت علی السّبّاب و الإبهام
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 214
أخذت من اللیل البهیم سواده و بدت تنمّق أوجه الأیام
و قال: [الکامل]
نظر الحسود فازدری لی هیئة و الفضل منّی لا یزال مبینا
قبحت صفاتی من تغیّر ودّه صدأ المراة یقبّح التحسینا
و قال: [الطویل]
تصبّر و إن أبدی العدوّ مذمّة فمهما رمی ترجع إلیه سهامه
کما یفعل النحل الملمّ بلسعه یرید به ضرّا و فیه حمامه
و قال: [البسیط]
و بارد الشّعر لم یؤلم به و لقد أضرّ منه جمیع الناس و اعتزلا
کأنه الصّلّ لا تؤذیه ریقته حتی إذا مجّها فی غیره قتلا

[من شعر ابن زقاق و ابن مسعدة]

و قال ابن الزقاق: [الطویل]
دعاک خلیل و الأصیل کأنه علیل یقضّی مدة الرّمق الباقی
إلی شطّ منساب کأنک ماؤه صفاء ضمیر أو عذوبة أخلاق
و مهوی جناح للصّبا یمسح الرّبا خفیّ الخوافی و القوادم خفّاق
علی حین راح البرق فی الجوّ مغمدا ظباه و دمع المزن من جفنه راق
و قد حان منّی للریاض التفاتة حبست بها کأسی قلیلا عن الساقی
علی سطح خیریّ ذکرتک فانثنی یمیل بأعناق و یرنو بأحداق
فصل زهرات منه هذا کأنها و قد خضلت قطرا محاجر عشّاق
و لمّا مدح الحسیب أبو القاسم بن مسعدة الأوسی أمیر المؤمنین عبد المؤمن بقوله:
[الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 215
حنانیک مدعوّا و لبّیک داعیا فکلّ بما ترضاه أصبح راضیا
طلعت علی أرجائنا بعد فترة و قد بلغت منّا النفوس التّراقیا
و قد کثرت منّا سیوف لدی العلا و من سیفک المنصور نبغی التقاضیا
و غیرک نادینا زمانا فلم یجب و عزمک لم یحتج علاه منادیا
کتب اسمه وزیر عبد المؤمن فی جملة الشعراء، فلمّا وقف علی ذلک عبد المؤمن ضرب علی اسمه و قال: إنما یکتب اسم هذا فی جملة الحساب، لا تدنّسوه بهذه النسبة، فلسنا ممّن یتغاضی علی غمط حسبه، ثم أجزل صلته، و أمر له بضیعة یحرث له بها، یعنی بذلک أنه من ذریّة ملوک؛ لأنّ جدّه کان ملک وادی الحجارة.

[من شعر أبی بکر محمد بن أرزق و أبی جعفر بن أزرق و أبی القاسم بن أزرق و راشد بن عریف]

و قال أبو بکر محمد بن أرزق: [السریع]
هل علم الطائر فی أیکه بأنّ قلبی للحمی طائر
ذکّرنی عهد الصّبا شجوه و کلّ صبّ للصّبا ذاکر
سقی الحیا عهدا لهم بالحمی دمع له ذکرهم ناثر
و قال أبو جعفر بن أرزق: [الطویل]
أراک ملکت الخافقین مهابة بها ما تلحّ الشّهب بالخفقان
و تغضی العیون عن سناک کأنها تقابل منک الشمس فی اللّمعان
و تصفرّ ألوان العداة کأنما رموا منک طول الدهر بالیرقان
و قال أبو القاسم بن أزرق: [مخلع البسیط]
ذاک الزمان الذی تقضّی یا لیته عاد منه حین
بکلّ عمری الذی تبقّی و ما أنا فی الشّرا غبین
و قال راشد بن عریف الکاتب: [مخلع البسیط]
جمّع فی مجلس ندامی تحسدنی فیهم النجوم
فقال لی منهم ندیم مالک إذ قمت لا تقوم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 216
فقلت إن قمت کلّ حین فإنّ حظّی بکم عظیم
و لیس عندی إذن ندامی بل عندی المقعد المقیم‌

[من شعر ابن عائش]

و قال الحسیب أبو جعفر بن عائش: [السریع]
و لی أخ أورده سلسلا لکنه یوردنی مالحا
ألقاه کی أبسطه ضاحکا و یلتقینی أبدا کالحا
و لیس ینفکّ عنائی به ما رمت من فاسده صالحا
قال الحجاری: و کتب إلی جدی إبراهیم فی یوم صحو بعد مطر: [السریع]
إذا رأیت الجوّ یصحو فلا تصح، سقاک اللّه من سکر
تعال فانظر لدموع الندی ما فعلت فی مبسم الزهر
و لا تقل إنک فی شاغل فلیس هذا آخر الدهر
تخلف ما فات سوی ساعة تقتضی فیها لذة الخمر
فأجابه: [السریع]
لبّیک لبّیک و لو أننی أسعی علی الرأس إلی مصر
فکیف و الدار جواری و ما عندی من شغل و لا عذر
و لو غدا لی ألف شغل بلا عذر ترکت الکلّ للحشر
و کلّما أبصرنی ناظر ببابکم عظّم من قدری
أنا الذی یشربها دائما ما حضرت فی الصّحو و القطر
و لیس نقلی أبدا بعدها إلّا الذی تعهد من شکری
[قال الحجاری: و لم یقصّر جدی فی جوابه، و لکن ابن عائش أشعر منه فی ابتدائه، و لو لم یکن له إلّا قوله «تعال فانظر- إلخ» لکفاه]، قال: و فیه یقول جدی [إبراهیم] یمدحه:
[الطویل]
و لو کان ثان فی الندی لابن عائش لما کان فی شرق و غرب أخو فقر
یهشّ إلی الأمداح کالغصن للصّبا و بشر محیّاه ینوب عن الزهر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 217
فیا ربّ زد فی عمره إنّ عمره حیاة أناس قد کفوا کلفة الدهر
و قتله ابن مسعدة ملک وادی الحجارة الثائر بها، و لمّا قدّمه لیقتله قال: ارفق علیّ حتی أخاصم عن نفسی، فقال: علی لسانک قتلناک، فقال له: لا رفق اللّه علیک یوم تحتاج إلی رفقه! فقال بجبروتیته: ما رهبنا السیوف الحداد، و نرهب دعاء الحسّاد.

[من شعر أبی الحسن بن شعیب و أبی حامد بن شعیب و أبی الحسن بن رجاء و أبی محمد بن الفتح]

و قال أبو الحسن علی بن شعیب: [الخفیف]
انزعی الوشی فهو یستر حسنا لم تحزه برقمهنّ الثیاب
ودّعینی عسی أقبّل ثغرا لذّ فیه اللّمی و طاب الرّضاب
و عجیب أن تهجرینی ظلما و شفیعی إلی صباک الشباب
و قال أخوه أبو حامد الحسین حین کبا به فرسه فحصل فی أسر العدوّ: [الوافر]
و کنت أعدّ طرفی للرزایا یخلّصنی إذا جعلت تحوم
فأصبح للعدا عونا لأنی أطلت عناءه فأنا الظّلوم
و کم دامت مسرّاتی علیه و هل شی‌ء علی الدنیا یدوم
و قال أبو الحسن علی بن رجاء، صاحب دار السکة و الأحباس بقرطبة: [السریع]
یا سائلی عن حالتی إنّنی لا أشتکی حالی لمن یضعف
مع أننی أحذر من نقده لا سیما إن کان لا ینصف
و أنشد له الحمیدی فی «الجذوة»: [الخفیف]
قل لمن نال عرض من لم ینله حسبنا ذو الجلال و الإکرام
لم یزدنی شیئا سوی حسنات لا و لا نفسه سوی آثام
کان ذا منعة فثقّل میزا نی بهذا فصار من خدّامی
و قال أبو محمد القاسم بن الفتح: [مجزوء الکامل]
أیام عمرک تذهب و جمیع سعیک یکتب
ثم الشهید علیک من ک فأین أین المهرب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 218

[من شعر أبی مروان عبد الملک بن غصن]

و قال أبو مروان عبد الملک بن غصن: [الوافر]
فدیتک لا تخف منی سلوّا إذا ما غیّر الشّعر الصّغارا
أهیم بدنّ خمر صار خلّا و أهوی لحیة کانت عذارا
و قال: [مخلع البسیط]
قد ألحف الغیم بانسکابه و التحف الجوّ فی سحابه
قام داعی السرور یدعو حیّ علی الدّنّ و انتهابه
و تاه فیه الندیم ممّا یزدحم الناس عند بابه
و کان أحد الأعلام فی الآداب و التاریخ و التألیف.
و نقم علیه المأمون بن ذی النون بسبب صحبته لرئیس بلده ابن عبیدة، و بلغه أنه یقع فیه، فنکبه أشرّ نکبة، و حبسه، فکتب إلیه من السجن: [الطویل]
فدیتک هل لی منک رحمی لعلّنی أفارق قبرا فی الحیاة فأنشر
و لیس عقاب المذنبین بمنکر و لکن دوام السخط و العتب منکر
و من عجب قول العداة مثقّل و مثلی فی إلحاحه الدّهر یعذر
و ألّف للمأمون رسالة «السجن و المسجون، و الحزن و المحزون» و رسالة أخری سمّاها «بالعشر کلمات»، و قال: [مخلع البسیط]
یا فتیة خیرة فدتهم من حادثات الزمان نفسی
شربهم الخمر فی بکور و نطقهم عندها بهمس
أما ترون الشتاء یلقی فی الأرض بسطا من الدّمقس
مقطّب عابس ینادی یوم سرور و یوم أنس
و أخبر عنه الحمیدی فی الجذوة أنه شاعر أدیب، دخل المشرق، و تأدّب، و حجّ، و رجع، و شعره کثیر. و له أبیات کتبها فی طریق الحجّ إلی أحد القضاة: [الکامل]
یا قاضیا عدلا کأنّ أمامه ملک یریه واضح المنهاج
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 219
طافت بعبدک فی بلادک علّة قعدت به عن مقصد الحجاج
و اعتلّ فی البحر الأجاج فکن له بحرا من المعروف غیر أجاج
و قال الزاهد الورع المحدّث أبو محمد إسماعیل ابن الدیوانی: [المتقارب]
ألا أیها العائب المعتدی و من لم یزل مؤذیا ازدد
مساعیک یکتبها الکاتبون فبیّض کتابک أو سوّد
و قال ابنه أبو بکر: [مجزوء الکامل]
خاصم عدوّک باللسا ن و إن قدرت فبالسّنان
إنّ العداوة لیس یص لحها الخضوع مدی الزمان‌

[من شعر إبراهیم الحجاری]

و قال إبراهیم الحجاری جدّ صاحب «المسهب»: [الطویل]
لئن کرهوا یوم الوداع فإننی أهیم به وجدا من اجل عناقه
أصافح من أهواه غیر مساتر و سرّ التلاقی مودع فی فراقه
و قال: [الخفیف]
کن کما شئت إننی لا أحول غیر مصغ لما یقول العذول
لک و اللّه فی الفؤاد محلّ ما إلیه مدی الزمان وصول
و مرادی بأن تزور خفیّا لیت شعری متی یکون السبیل
و قال: [الخفیف]
قد توالت فی حالتینا الظنون فلنصدّق ما کذّبته العیون
و مرادی بأن تلوح بأفقی بدر تمّ و ذاک ما لا یکون
أنا قد قلت ما دعانی إلیه کثرة الیأس، و الحدیث شجون
و إذا شئت أن تسفّه رأیی فمحلّی من الرقیب مصون
و به ما تشاء من کلّ معنی کلّ من لم یجب له مجنون
و إلی کم تضلّ لیل الأمانی و من الیأس لاح صبح مبین
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 220
و قال: [المجتث]
سألته عن أبیه فقال خالی فلان
فانظر عجائب ما قد أتت به الأزمان
دهر عجیب لدیه عن المعالی حران
فما له غیر ذمّ کما تدین تدان‌

[من شعر ابن خیرة الاشبیلی و أبی جعفر الإشبیلی و الوزیر أبی الولید إسماعیل]

و قال الکاتب العالم أبو محمد بن خیرة الإشبیلی صاحب کتاب «الریحان و الریعان» یمدح السید أبا حفص ملک إشبیلیة ابن أمیر المؤمنین عبد المؤمن من قصیدة: [البسیط]
کأنما الأفق صرح و النجوم به کواعب و ظلام اللیل حاجبه
و للهلال اعتراض فی مطالعه کأنه أسود قد شاب حاجبه
و أقبل الصبح فاستحیت مشارقه و أدبر اللیل فاستخفت کواکبه
کالسید الماجد الأعلی الهمام أبی حفص لرحلته ضمّت مضاربه
و أنشد له ابن الإمام فی «سمط الجمان»: [الکامل]
رعیا لمنزله الخصیب و ظلّه و سقی الثری النجدیّ سحّ ربابه
واها علی ساداته لا أدّعی کلفا بزینبه و لا بربابه
و یعرف رحمه اللّه تعالی بابن المواعینی.
و قال ابنه أبو جعفر أحمد: [الخفیف]
یا أخی، هاتها و حجّب سناها عن مثیر بها جنونا و سخفا
هذه الشمس إن بدت لضعیف ال عین زادت فی ذلک الضعف ضعفا
إنّما یشرب المدامة من إن خشنت کفّه جفاها و کفّا
و کتب الوزیر أبو الولید إسماعیل بن حبیب الملقب بحبیب إلی أبیه: لمّا خلق الربیع من أخلاقک الغرّ، و سرق زهره من شیمک الزّهر، حسن فی کلّ عین منظره، و طاب فی کل سمع خبره، و تاقت النفوس إلی الراحة فیه، و مالت إلی الإشراف علی بعض ما یحتویه، من النور الذی بسط علی الأرض حللا، لا تری فی أثنائها خللا، سلوک نثرت علی الثری، و قد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 221
ملئت مسکا و عنبرا، إن تنسّمتها فأرجة، أو توسّمتها فبهجة: [البسیط]
فالأرض فی بزّة من یانع الزّهر تزری إذا قستها بالوشی و الحبر
قد أحکمتها أکفّ المزن و اکفة و طرّزتها بما تهمی من الدّرر
تبرّجت فسبت منّا العیون هوی و فتنة بعد طول السّتر و الخفر
فأوجد لی سبیلا إلی إعمال بصری فیها، لأجلو بصیرتی بمحاسن نواحیها، و الفصل علی أن یکمل أوانه، و یتصرّم وقته و زمانه فلا تخلنی من بعض التشفی منه، لأصدر نفسی متیقّظة عنه، فالنفوس تصدأ کما یصدأ الحدید، و من سعی فی جلائها فهو الرشید السدید.
و من شعره یصف وردا بعث به إلی أبیه: [الکامل]
یا من تأزّر بالمکارم و ارتدی بالمجد و الفضل الرفیع الفائق
انظر إلی خدّ الربیع مرکّبا فی وجه هذا المهرجان الرائق
ورد تقدّم إذ تأخّر و اغتدی فی الحسن و الإحسان أول سابق
و افاک مشتملا بثوب حیائه خجلا لأن حیّاک آخر لاحق
و له: [الطویل]
أتی الباقلاء الباقل اللون لابسا برود سماء من سحائبها غذی
تری نوره یلتاح فی ورقاته کبلق جیاد فی جلال زمرّذ
و قال: [المتقارب]
إذا ما أدرت کؤوس الهوی ففی شربها لست بالمرقل
مدام تعتّق بالناظرین و تلک تعتّق بالأرجل
و کان و هو ابن سبع عشرة سنة ینظم النظم الفائق، و ینثر النثر الرائق، و أبو جعفر بن الأبّار هو الذی صقل مرآته، و أقام قناته، و أطلعه شهابا ثاقبا، و سلک به إلی فنون الآداب طریقا لاحبا، و له کتاب سماه ب «البدیع، فی فصل الربیع» جمع فیه أشعار أهل الأندلس خاصّة،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 222
أعرب فیه عن أدب غزیر، و حظّ من الحفظ موفور، و توفی و هو ابن اثنتین و عشرین سنة، و استوزره داهیة الفتنة، و رحی المحنة، قاضی إشبیلیة عبّاد جدّ المعتمد، و لم یزل یصغی إلی مقاله، و یرضی بفعاله، و هو ما جاوز العشرین إذ ذاک، و أکثر نظمه و نثره فی الأزاهر، و ذلک یدلّ علی رقّة نفسه، رحمه اللّه تعالی!

[للوزیر أبی الحسن بن حصن]

و قال الوزیر الکاتب أبو الحسن علی بن حصن، وزیر المعتضد بن عباد: [المجتث]
علیّ أن أتذلّل له و أن یتدلّل
خدّ کأنّ الثّریّا علیه قرط مسلسل
و قال: [مخلع البسیط]
طلّ علی خدّه العذار فافتضح الآس و البهار
و ابیضّ ذا و اسودّ هذا فاجتمع اللیل و النهار

[للوزیر ابن طریف]

و قال الوزیر أبو الولید بن طریف فی المعتمد بعد خلعه: [السریع]
یا آل عباد ألا عطفة فالدهر من بعدکم مظلم
من الذی یرجی لنیل العلا و من إلیه یفد المعدم
ما أنکر الدهر سوی أنه بجودکم فی فعله یزعم
و له: [السریع]
من حلقت لحیة جار له فلیسکب الماء علی لحیته
و قد أجرینا فی هذا الکتاب ذکر جملة من أخبار المعتمد بن عباد و نظمه فی أماکن متعدّدة فلتراجع.
و من نظمه: [البسیط]
ثلاثة منعتها عن زیارتها خوف الرقیب و خوف الحاسد الحنق
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 223
ضوء الجبین، و وسواس الحلیّ، و ما تحوی معاطفها من عنبر عبق
هب الجبین بفضل الکمّ تستره و الحلی تنزعه، ما حیلة العرق
و قال: [المنسرح]
یوم یقول الرسول قد أذنت فأت علی غیر رقبة و لج
أقبلت أهوی إلی رحالهم أهدی إلیها بریحها الأرج
و قال: و یستدلّ علی الملوکیة بالطیب فی المواطن التی یکون الناس فیها غیر معروفین کالحمام و معارک الحرب و مواسم الحجّ.
رجع إلی ما کنّا فیه:

[من شعر أبی العباس الخزرجی و أبی سلیمان بن أبی أمیة و أبی علی عمر بن أبی خالد]

و قال أبو العباس أحمد الخزرجی القرطبی: [الوافر]
و فی الوجنات ما فی الروض لکن لرونق زهرها معنی عجیب
و أعجب ما التعجّب منه أنّی أری البستان یحمله قضیب
و قال الوزیر أبو سلیمان بن أبی أمیة یخاطب رئیسا قد بلغه عن بعض أصحابه کلام فیه غضّ منه: [مجزوء الکامل]
هوّن علیک کلامه و اسمح له فیمن سمح
ما ذا یسوؤک إن هجا ما ذا یسرّک إن مدح
أو ما علمت بلی جهل ت بأنه غلّ طفح
و خفیّ حقد کامن دأبوا له حتی اتّضح
هذا بمستنّ الوقا ر فکیف لو دار القدح
فاشکر عوارف ذی الجلا ل بما وقی و بما منح
و قال أبو علی عمر بن أبی خالد یخاطب أبا الحسن علی بن الفضل: [الوافر]
أبا حسن و ما قدمت عهود لنا بین المنارة و الجزیره
أتذکر أنسنا و اللیل داج بخمر فی زجاجتها منیره
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 224
إذا الملّاح ضلّ رنا إلیها فأبصر فی مناحیه مسیره‌

[من شعر عبد اللّه المهیریس]

و قال الکاتب عبد اللّه المهیریس، و کان حلو النادرة، لما شرب عند الوزیر أبی العلاء ابن جامع و قد نظر إلی فاختة فأعجبه حسنها و لحنها: [الوافر]
ألا خذها إلیک أبا العلاء حلی الأمداح ترفل فی الثناء
و هبها قینة تجلی عروسا خضیب الکفّ قانیة الرّداء
لأجعلها محلّ جلیس أنسی و أغنی بالهدیل عن الغناء
و حکی أنه ناوله لیمونة و أمره بالقول فیها فقال: [الکامل]
أهدی إلیّ بروضة لیمونة و أشار بالتشبیه فعل السید
فصمتّ حینا ثم قلت: کجلجل من فضّة تعلوه صفرة عسجد

[من شعر أبی بکر بن البناء]

و قال الکاتب أبو بکر بن البناء یرثی أحد بنی عبد المؤمن، و قد عزل من بلنسیة و ولی إشبیلیة فمات بها: [الطویل]
کأنک من جنس الکواکب کنت لم تفارق طلوعا حالها و تواریا
تجلّیت من شرق تروق تلألؤا فلما انتحیت الغرب أصبحت هاویا

[حدیث عن بنی زهر]

و کان محمد بن مروان بن زهر- کما فی المغرب و المسهب و المطرب، و قد قدّمنا بعض أخباره- منشأ الدولة العبّادیة و أوّل من تثنی علیه الخناصر، و تستحسنه البواصر، فضاقت الدولة العبادیة عن مکانه، و أخرج عن بلده، فاستصفیت أمواله، فلحق بشرق الأندلس، و أقام فیه بقیّة عمره، و نشأ ابنه الوزیر أبو مروان عبد الملک بن محمد، فما بلغ أشدّه، حتی سدّ مسدّه، و مال إلی التفنّن فی أنواع التعلیم من الطبّ و غیره، و رحل إلی المشرق لأداء الفرض، فملأ البلاد جلالة، و نشأ ابنه أبو العلاء زهر بن عبد الملک، فاخترع فضلا لم یکن فی الحساب، و شرع نبلا قصرت عنه نتائج أولی الألباب، و نشأ بشرق الأندلس و الآفاق تتهادی عجائبه، و الشام و العراق تتدارس بدائعه و غرائبه، و مال إلی علم الأبدان فلو لا جلالة قدره، لقلنا جاذب هاروت طرفا من سحره، و لو لا أنّ الغلوّ آفة المدیح، لما اکتفی فیه بالکنایة عن التصریح، و لم یزل مقیما بشرق الأندلس إلی أن کان من غزاة أمیر المسلمین یوسف بن تاشفین و من
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 225
انضمّ إلیه من ملوک الطوائف ما علم، و شخص أبو العلاء معهم، فلقیه المعتمد بن عباد، و استماله و استهواه، و کاد یغلب علی هواه، و صرف علیه أملاکه فحنّ إلی وطنه، حنین النّیب إلی عطنه، و الکریم إلی سکنه، و نزع إلی مقرّ سلفه، نزوع الکوکب إلی بیت شرفه، إلّا أنه لم یستقرّ بإشبیلیة إلّا بعد خلع المعتمد، و حلّ عند یوسف بن تاشفین محلّا لم یحلّه الماء من العطشان، و لا الروح من جسد الجبان، و لما کتب إلیه حسام الدولة بن رزین مالک السهلة بقوله: [الکامل]
عاد اللئیم فأنت من أعدائه و دع الحسود بغلّه و بذائه
لا کان إلّا من غدت أعداؤه مشغولة أفواههم بجفائه
أ أبا العلاء لئن حسدت لطالما حسد الکریم بجوده و وفائه
فخر العلاء فکنت من آبائه و زها السناء فکنت من أبنائه
کن کیف شئت مشاهدا أو غائبا لا کان قلب لست فی سودائه
أجابه بقوله: [الکامل]
یا صارما حسم العدا بمضائه و تعبّد الأحرار حسن وفائه
ما أثّر العضب الحسام بذاته إلّا بأن سمّیت من أسمائه
و کلّفه الحسام المذکور القول فی غلام قائم علی رأسه، و قد عذّر، فقال: [الخفیف]
محیت آیة النهار فأضحی بدر تمّ و کان شمس نهار
کان یعشی العیون نارا إلی أن أشغل اللّه خدّه بالعذار
و قال: [المتقارب]
عذار ألمّ فأبدی لنا بدائع کنّا لها فی عمی
و لو لم یجنّ النهار الظلا م لم یستبن کوکب فی السّما
و قال: [البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 226
یا راشقی بسهام ما لها غرض إلّا الفؤاد و ما منه له عوض
و ممرضی بجفون لحظها غنج صحّت و فی طبعها التمریض و المرض
امنن و لو بخیال منک یؤنسنی فقد یسدّ مسدّ الجوهر العرض
و هذا معنی فی غایة الحسن.
و کان بینه و بین الإمام أبی بکر بن باجة- بسبب المشارکة- ما یکون بین النار و الماء، و الأرض و السماء، و لما قال فیه ابن باجة: [مخلع البسیط]
یا ملک الموت و ابن زهر جاوزتما الحدّ و النهایه
ترفّقا بالوری قلیلا فی واحد منکما الکفایه
قال أبو العلاء: [السریع]
لا بد للزندیق أن یصلبا شاء الذی یعضده أو أبی
قد مهّد الجذع له نفسه و سدّد الرمح إلیه الشّبا
و الذی یعضده مالک بن وهیب جلیس أمیر المسلمین و عالمه.
و أمّا حفیده أبو بکر محمد بن عبد الملک بن زهر فهو وزیر إشبیلیة و عظیمها و طبیبها و کریمها، و من شعره: [الطویل]
رمت کبدی أخت السماء فأقصدت ألا بأبی رام یصیب و لا یخطی
قریبة ما بین الخلاخیل إن مشت بعیدة ما بین القلادة و القرط
نعمت بها حتی أتیحت لنا النوی کذا شیم الأیام تأخذ ما تعطی
و توفی سنة خمس و تسعین و خمسمائة، و أمر أن یکتب علی قبره: [المتقارب]
تأمّل بفضلک یا واقفا و لا حظ مکانا دفعنا إلیه
تراب الضریح علی صفحتی کأنی لم أمش یوما علیه
أداوی الأنام حذار المنون فها أنا قد صرت رهنا لدیه
رحمه اللّه تعالی، و عفا عنه!
و فی هذه الأبیات إشارة إلی طبّه و معالجته للناس، رحمه اللّه تعالی! و قد ذکرت بعض أخباره فی غیر هذا الموضع.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 227

[من شعر أبی الولید بن حزم]

و قال أبو الولید بن حزم: [البسیط]
مرآک مرآک لا شمس و لا قمر و ورد خدّیک لا ورد و لا زهر
فی ذمة اللّه قلب أنت ساکنه إن بنت بان فلا عین و لا أثر
و قال: [الکامل]
للّه أیام علی وادی القری سلفت لنا و الدهر ذو ألوان
إذ نجتنی فی ظلّه ثمر المنی و الطیر ساجعة علی الأغصان
و الشمس تنظر من محاجر أرمد و الطّلّ یرکض فی النسیم الوانی
فلثمت فاه و التزمت عناقه و ید الوصال علی قفا الهجران‌

[من شعر ابن عبد ربه و أبی عبد اللّه الرندی]

و قال ابن عبد ربه: [البسیط]
یا قابض الکفّ لا زالت مقبّضة فما أناملها للناس أرزاق
و غب إذا شئت حتی لا تری أبدا فما لفقدک فی الأحشاء إقلاق
و قال فی المدح: [الطویل]
و ما خلقت کفّاک إلّا لأربع عقائل لم تخلق لهنّ یدان
لتقبیل أفواه، و إعطاء نائل و تقلیب هندیّ، و حبس عنان
و قال الکاتب أبو عبد اللّه بن مصادق الرّندی الأصل: [الرمل]
صارمته إذ رأت عارضه عاد من بعد الشباب أشیبا
قلت ما ضرّک شیب فلقد بقیت فیه فکاهات الصّبا
هو کالعنبر غال نفحه و شذاه أخضرا أو أشهبا
و قال: [البسیط]
و وردة وردت فی غیر موقتها و السّحب قد هملت أجفانها هطلا
و إنما الروض لمّا لم یفد ثمرا یقریکه انفتحت فی خدّه خجلا
و له: [البسیط]
لم أحتفل لقدوم العید من زمن قد کان یبهجنی إذ کنت فی وطنی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 228
لم ألق أهلی و لا إلفی و لا ولدی فلیت شعری سروری واقع بمن
و قال: [السریع]
یقول لی العاذل تب عن هوی من لیس یدنیک إلی مطلب
و کیف لی والدین دین الهوی فلا أری أرجح من مذهبی
ألیس باب التّوب قد سدّه طلوعه شمسا من المغرب
و له: [الکامل]
امنع کرائمک الخروج و لا تظهر لذلک وجه منبسط
لا تعتبر منهنّ مسخطة نیل الرضا فی ذلک السخط
أو لسن مثل الدّرّ فی شبه و الدّرّ من صدف إلی سفط

[من شعر المعتمد بن عباد و ابن الفرج الجیانی]

و قال المعتمد بن عباد: [مخلع البسیط]
تمّ له الحسن بالعذار و اختلط اللیل بالنهار
أخضر فی أبیض تبدّی فذاک آسی و ذا بهاری
فقد حوی مجلسی تماما إن یک من ریقه عقاری
و قال ابن فرج الجیّانی رحمه اللّه تعالی: [الوافر]
و طائعة الوصال صدرت عنها و ما الشیطان فیها بالمطاع
بدت فی اللیل سافرة فباتت دیاجی اللیل سافرة القناع
و ما من لحظة إلّا و فیها إلی فتن القلوب لها دواعی
فملّکت الهوی جمحات قلبی لأجری فی العفاف علی طباعی
کذاک الروض ما فیه لمثلی سوی نظر و شمّ من متاع
و لست من السوائم مهملات فأتّخذ الریاض من المراعی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 229
و قال: [الوافر]
بأیّهما أنا فی الشّکر بادی بشکر الطّیف أم شکر الرقاد
سری فازداد لی أملی و لکن عففت فلم أنل منه مرادی
و ما فی النوم من حرج و لکن جریت مع العفاف علی اعتیادی‌

[من شعر الرصافی و ابن عبد ربه و ابن صارة و الغزال و أبی حیان]

و قال الرصافی: [الکامل]
و عشیّ أنس للسرور و قد بدا من دون قرص الشمس ما یتوقّع
سقطت فلم یملک ندیمک ردّها فوددت یا موسی لو أنّک یوشع
و قال ابن عبد ربه: [البسیط]
یراعة غرّنی منها و میض سنا حتّی مددت إلیها الکفّ مقتبسا
فصادفت حجرا لو کنت تضربه من لؤمه بعصا موسی لما انبجسا
کأنما صیغ من لؤم و من کذب فکان ذاک له روحا و ذا نفسا
و قال ابن صارة فی فروة: [الکامل]
أودت بذات یدی فریّة أرنب کفؤاد عروة فی الضّنی و الرّقّة
یتجشّم الفرّاء من ترقیعها بعد المشقّة فی قریب الشّقّة
لو أنّ ما أنفقت فی ترقیعها یحصی لزاد علی رمال الرّقّة
إن قلت بسم اللّه عند لباسها قرأت علیّ (إذا السماء انشقّت)
و قال الغزال: [الکامل]
و المرء یعجب من صغیرة غیره أیّ امرئ إلّا و فیه مقال
لسنا نری من لیس فیه غمیزة أیّ الرجال القائل الفعّال
و قال أبو حیّان: [البسیط]
لا ترجونّ دوام الخیر من أحد فالشرّ طبع و فیه الخیر بالعرض
و لا تظنّ امرأ أسدی إلیک ندی من أجل ذاتک بل أسداه للغرض
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 230

[من شعر ابن شهید]

و قال ابن شهید: [الطویل]
و لمّا فشا بالدمع ما بین وجدنا إلی کاشحینا ما القلوب کواتم
أمرنا بإمساک الدموع جفوننا لیشجی بما نطوی عذول و لائم
أبی دمعنا یجری مخافة شامت فنظّمه بین المحاجر ناظم
وراق الهوی منّا عیون کریمة تبسّمن حتی ما تروق المباسم
و قال فی الانتحال: [الطویل]
و بلّغت أقواما تجیش صدورهم علیّ و إنی فیهم فارغ الصدر
أصاخوا إلی قولی فأسمعت معجزا و غاصوا علی سرّی فأعجزهم أمری
فقال فریق لیس ذا الشّعر شعره و قال فریق أیمن اللّه ما ندری
فمن شاء فلیخبر فإنی حاضر و لا شی‌ء أجلی للشکوک من الخبر

[من شعر أبی بکر بن بقی]

و ینظر إلی مثل هذا قصة أبی بکر بن بقی حین استهدی من بعض إخوانه أقلاما فبعث إلیه بثلاث من القصب، و کتب معها: [البسیط]
خذها إلیک أبا بکر العلا قصبا کأنما صاغها الصّوّاغ من ورقه
یزهی بها الطّرس حسنا ما نثرت بها مسک المداد علی الکافور من ورقه
فأجابه أبو بکر: [البسیط]
أرسلت نحوی ثلاثا من قنا سلب میّادة تطعن القرطاس فی درقه
فالخطّ ینکرها و الحظّ یعرفها و الرّقّ یخدمها بالرّق فی عنقه
فحسده علیه بعض من سمعه، و نسبه إلی الانتحال، فقال أبو بکر یخاطب صاحبه الأول: [البسیط]
و جاهل نسب الدعوی إلی کلمی لمّا رماه بمثل النّبل فی حدقه
فقلت من حنق لما تعرّض لی من ذا الذی أخرج الیربوع من نفقه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 231
ما ذمّ شعری و أیم اللّه لی قسم إلّا امرؤ لیست الأشعار من طرقه
و الشعر یشهد أنی من کواکبه بل الصباح الذی یستنّ من أفقه
و قال ابن شهید أیضا فی ضیف: [الطویل]
و ما انفکّ معشوق الثناء یمدّه ببشر و ترحیب و بسط بنان
إلی أن تشهّی البین من ذات نفسه و حنّ إلی الأهلین حنّة حانی
فأتبعته ما سدّ خلّة حاله و أتبعنی ذکرا بکلّ مکان
و قال: [الطویل]
و بتنا نراعی اللیل لم یطو برده و لم یجل شیب الصّبح فی فوده و خطا
تراه کملک الزنج من فرط کبره إذا رام مشیا فی تبختره أبطا
مطلّا علی الآفاق و البدر تاجه و قد جعل الجوزاء فی أذنه قرطا

[فی لبس الأندلسیین البیاض فی الحزن]

و قال بعضهم فی لباس أهل الأندلس البیاض فی الحزن، مع أنّ أهل المشرق یلبسون فیه السواد: [الوافر]
ألا یا أهل أندلس فطنتم بلطفکم إلی أمر عجیب
لبستم فی مآتمکم بیاضا فجئتم منه فی زیّ غریب
صدقتم فالبیاض لباس حزن و لا حزن أشدّ من المشیب‌

[من شعر أبی جعفر بن خاتمة]

و قال أبو جعفر بن خاتمة: [الخفیف]
هل جسوم یوم النوی ودّعوها باقیات لسوء ما أودعوها
یا حداة القلوب ما العدل هذا أتبعوها أجسامها أو دعوها

[من شعر القسطلّی یصف هول البحر]

نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص231
قال القسطلّی یصف هول البحر: [الطویل]
إلیک رکبنا الفلک تهوی کأنها و قد ذعرت عن مغرب الشمس غربان
علی لجج خضر إذا هبّت الصّبا ترامی بها فینا ثبیر و ثهلان
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 232
مواثل ترعی فی ذراها مواثلا کما عبدت فی الجاهلیة أوثان
مقاتل موج البحر و الهمّ و الدّجا یموج بها فیها عیون و آذان
ألا هل إلی الدنیا معاد و هل لنا سوی البحر قبر أو سوی الماء أکفان‌

[من شعر الرمادی و ابن صارة یصف النار]

و قال الرمادی یهنئ ابن العطار الفقیه بمولود: [البسیط]
یهنیک ما زادت الأیام فی عددک من فلذة برزت للسعد من کبدک
کأنما الدهر دهر کان مکتئبا من انفرادک حتی زاد فی عددک
لا خلّفتک اللیالی تحت ظلّ ردی حتی تری ولدا قد شبّ من ولدک
و قال ابن صارة فی النار: [الکامل]
هات التی للأیک أصل ولادها و لها جبین الشمس فی الأشماس
یتقشّع الیاقوت فی لبّاتها بوساوس تشفی من الوسواس
أنس الوحید و صبح عین المجتلی و لباس من أمسی بغیر لباس
حمراء ترفل فی السواد کأنما ضربت بعرق فی بنی العباس
و قال فیها أیضا: [الخفیف]
لابنة الزّند فی الکوانین جمر کالدراری فی اللیلة الظلماء
خبرونی عنها و لا تکذبونی أ لدیها صناعة الکیمیاء
سبکت فحمها سبائک تبر رصّعته بالفضّة البیضاء
کلّما ولول النسیم علیها رقصت فی غلالة حمراء
سفرت عن جبینها فأرتنا حاجب اللیل طالعا بالعشاء
لو ترانا من حولها قلت قوم یتعاطون أکؤس الصّهباء

[من شعر ابن لبال و ابن شهید و محمد بن هانی]

و قال فیها الفقیه الأدیب ابن لبال: [مخلع البسیط]
فحم ذکا فی حشاه جمر فقلت مسک و جلّنار
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 233
أو خدّ من قد هویت لمّا أطلّ من فوقه العذار
و کان أبو المطرف الزهری جالسا فی باب داره مع زائر له، فخرجت علیهما من زقاق ثان جاریة سافرة الوجه کالشمس الطالعة فحین نظرتهما علی حین غفلة منها نفرت خجلة، فرأی الزائر ما أبهته فکلّفه وصفها، فقال مرتجلا: [البسیط]
یا ظبیة نفرت و القلب مسکنها خوفا لختلی بل عمدا لتعذیبی
لا تختشی فابن عبد الحقّ أنحلنا عدلا یؤلف بین الظبی و الذیب
و قال ابن شهید: [الرمل]
أصباح لاح أم بدر بدا أم سنا المحبوب أوری زندا
هبّ من نعسته منکسرا مسبل للکمّ مرخ للرّدا
یمسح النعسة من عینی رشا صائد فی کلّ یوم أسدا
قلت هب لی یا حبیبی قبلة تشف من حبّک تبریح الصّدی
فانثنی یهتزّ من منکبه قائلا لا ثم أعطائی الیدا
کلّما کلّمنی قبّلته فهو ما قال کلاما ردّدا
قال لی یلعب صد لی طائرا فترانی الدهر أجری بالکدی
و إذا استنجزت یوما وعده قال لی یمطل ذکّرنی غدا
شربت أعضاؤه خمر الصّبا و سقاه الحسن حتی عربدا
رشأ بل غادة ممکورة عمّمت صبحا بلیل أسودا
أخجلت من عضّه فی نهدها ثم عضت حرّ وجهی عمدا
فأنا المجروح من عضّتها لا شفانی اللّه منها أبدا
و قال محمد بن هانی‌ء فی الشیب: [الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 234
بنتم فلو لا أن أغبّر لمّتی عبثا و ألقاکم علیّ غضابا
لخضبت شیبا فی مفارق لمّتی و محوت محو النّقس عنه شبابا
و خضبت مبیضّ الحداد علیکم لو أننی أجد البیاض خضابا
و إذا أردت علی المشیب وفادة فاجعل مطیّک دونه الأحقابا
فلتأخذنّ من الزمان حمامة و لتدفعنّ إلی الزمان غرابا

[من ابن عمار إلی ابن رزین]

و کتب ابن عمار إلی ابن رزین و قد عتب علیه أن اجتاز ببلده و لم یلقه: [البسیط]
لم تثن عنک عنانی سلوة خطرت و لا فؤادی و لا سمعی و لا بصری
لکن عدتنی عنکم خجلة خطرت کفانی العذر منها بیت معتذر
(لو اختصرتم من الإحسان زرتکم و العذب یهجر للأفراط فی الخصر)

[من شعر ابن الجد و ابن عبد ربه و النحلی و ابن شهید]

و قال ابن الجدّ: [الطویل]
و إنی لصبّ للتلاقی و إنما یصدّ رکابی عن معاهدک العسر
أذوب حیاء من زیارة صاحب إذا لم یساعدنی علی برّه الوفر
و قال ابن عبد ربه: [البسیط]
یا من علیه حجاب من جلالته و إن بدا لک یوما غیر محجوب
ما أنت وحدک مکسوّا ثیاب ضنی بل کلّنا بک من مضنی و مشحوب
ألقی علیک یدا للضّرّ کاشفة کشّاف ضرّ نبیّ اللّه أیوب
و قال النّحلی فی مغنّیة: [الوافر]
و لاعبة الوشاح کغصن بان لها أثر بتقطیع القلوب
إذا سوّت طریق العود نقرا و غنّت فی محبّ أو حبیب
فیمناها تقدّ بها فؤادی و یسراها تعدّ بها ذنوبی
و قال ابن شهید: [البسیط]
کلفت بالحبّ حتی لو دنا أجلی لما وجدت لطعم الموت من ألم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 235
و عاقنی کرمی عمّن ولهت به ویلی من الحبّ أو ویلی من الکرم‌

[أبی عمر بن أبی محمد الوزیر]

و کان صوفیّ بشریش حافظ للشعر، فلا یعرض فی مجلسه معنی إلّا و هو ینشد علیه، فاتّفق أن عطس رجل بمجلسه، فشمّته الحاضرون، فدعا لهم، فرأی الصوفی أنه إن شمّته قطع إنشاده بما لا یشاکله من النظم، و إن لم یشمته کان تقصیرا فی البرّ، فرغب حین أصبح من الطلبة نظم هذا المعنی، فقال الوزیر الحسیب أبو عمرو بن أبی محمد: [السریع]
یا عاطسا یرحمک اللّه إذ أعلنت بالحمد علی عطستک
ادع لنا ربّک یغفر لنا و أخلص النّیّة فی دعوتک
و قل له یا سیّدی رغبتی حضور هذا الجمع فی حضرتک
و أنت یا ربّ الندی و النوی بارک ربّ الناس فی لیلتک
فإن یکن منکم لنا عودة فأنت محمود علی عودتک
و هذا الوزیر المذکور کان یصرّف شعره فی أوصاف الغزلان، و مخاطبات الإخوان، و کتب إلی الشریشی شارح المقامات یستدعی منه کتاب العقد: [الطویل]
أیا من غدا سلکا لجید معارفه و من لفظه زهر أنیق لقاطفه
محبّک أضحی عاطل الجید فلتجد بعقد علی لبّاته و سوالفه
و وعک فی بعض الأعیاد، فعاده من أعیان الطلبة جملة، فلمّا همّوا بالانصراف أنشدهم ارتجالا: [الکامل]
للّه درّ أفاضل أمجاد شرف النّدیّ بقصدهم و النادی
لمّا أشاروا بالسلام و أزمعوا أنشدتهم و صدقت فی الإنشاد
فی العید عدتم و هو یوم عروبة یا فرحتی بثلاثة الأعیاد
قال الشریشی فی شرح المقامات: و لقد زرته فی مرضه الذی توفی فیه رحمه اللّه تعالی أنا و ثلاثة فتیان من الطلبة، فسألنی عنهم و عن آبائهم، فلمّا أرادوا الانصراف ناول أحدهم محبرة، و قال له: اکتب، و أملی علیه ارتجالا: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 236
ثلاثة فتیان یؤلّف بینهم ندیّ کریم لا أری اللّه بینهم
تشابه خلق منهم و خلیقة فإن قلت أین الحسن فانظره أین هم
و زیّنهم أستاذهم إذ غدا لهم معلّم آیات فتمم زینهم
فإن خفت من عین ففی الکلّ فلتقل وقی اللّه ربّ الناس للکلّ عینهم‌

[بین ابن عیاش و ابن زرقون]

و قال الشریشی: حدّثنا شیخنا أبو الحسین بن زرقون، عن أبیه أبی عبد اللّه، أنه قعد مع صهره أبی الحسن عبد الملک بن عیّاش الکاتب علی بحر المجاز، و هو مضطرب الأمواج، فقال له أبو الحسن: أجز: [الوافر]
و ملتطم الغوارب موّجته بوارح فی مناکبها غیوم
فقال أبو عبد اللّه: [الوافر]
تمنّع لا یعوم به سفین و لو جذبت به الزّهر النجوم‌

[بین ابن عبد ربه و فتی یهواه]

و کان لابن عبد ربه فتی یهواه، فأعلمه أنه یسافر غدا، فلمّا أصبح عاقه المطر عن السفر، فانجلی عن ابن عبد ربه همّه، و کتب إلیه: [البسیط]
هلّا ابتکرت لبین أنت مبتکر هیهات یأبی علیک اللّه و القدر
ما زلت أبکی حذار البین ملتهبا حتی رثی لی فیک الریح و المطر
یا برده من حیا مزن علی کبد نیرانها بغلیل الشوق تستعر
آلیت أن لا أری شمسا و لا قمرا حتی أراک فأنت الشمس و القمر
و قال ابن عبد ربه: [البسیط]
صل من هویت و إن أبدی معاتبة فأطیب العیش وصل بین إلفین
و اقطع حبائل خدن لا تلائمه فقلّما تسع الدنیا بغیضین

[من شعر غانم المالقی و ابن بقی و الأبیض و ابن صارة و ابن عبدون البلنسی]

و قال أبو محمد غانم بن الولید المالقی: [البسیط]
صیّر فؤادک للمحبوب منزلة سمّ الخیاط مجال للمحبّین
و لا تسامح بغیضا فی معاشرة فقلّما تسع الدنیا بغیضین
و کان المتوکل صاحب بطلیوس ینتظر وفود أخیه علیه من شنترین یوم الجمعة، فأتاه یوم السبت، فلمّا لقیه عانقه و أنشده: [الوافر]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 237
تخیّرت الیهود السبت عیدا و قلنا فی العروبة یوم عید
فلمّا أن طلعت السبت فینا أطلت لسان محتجّ الیهود
و قال أبو بکر بن بقی: [البسیط]
أقمت فیکم علی الإقتار و العدم لو کنت حرّا أبیّ النّفس لم أقم
فلا حدیقتکم یجنی لها ثمر و لا سماؤکم تنهل بالدّیم
أنا امرؤ إن نبت بی أرض أندلس جئت العراق فقامت بی علی قدم
ما العیش بالعلم إلّا حیلة ضعفت و حرفة وکلت بالقعدد البرم
و قال الأبیض فی الفقهاء المرائین: [الکامل]
أهل الرّیاء لبستم ناموسکم کالذئب یدلج فی الظلام العاتم
فملکتم الدنیا بمذهب مالک و قسمتم الأموال بابن القاسم
و رکبتم شهب البغال بأشهب و بأصبغ صبغت لکم فی العالم
و قال: [الکامل]
قل للإمام سنا الأئمة مالک نور العیون و نزهة الأسماع
للّه درّک من همام ماجد قد کنت راعینا فنعم الراعی
فمضیت محمود النقیبة طاهرا و ترکتنا قنصا لشرّ سباع
أکلوا بک الدنیا و أنت بمعزل طاوی الحشا متکفّت الأضلاع
تشکوک دنیا لم تزل بک برّة ما ذا رفعت بها من الأوضاع
و قال ابن صارة: [البسیط]
یا من یعذّبنی لمّا تملّکنی ما ذا ترید بتعذیبی و إضراری
تروق حسنا و فیک الموت أجمعه کالصقل فی السیف أو کالنور فی النار
و قال عبدون البلنسی: [البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 238
یا من محیّاه جنّات مفتّحة و هجره لی ذنب غیر مغفور
لقد تناقضت فی خلق و فی خلق تناقض النار بالتدخین و النّور

[من شعر الوزیر ابن الحکیم و أبی جعفر بن برطال و ابن خفاجة و أبی الولید بن الحضرمی]

و قال الوزیر ابن الحکیم: [الکامل]
رسخت أصول علاکم تحت الثری و لکم علی خطّ المجرّة دار
إنّ المکارم صورة معلومة أنتم لها الأسماع و الأبصار
تبدو شموس الدّجن من أطواقکم و تفیض من بین البنان بحار
ذلّت لکم نسم الخلائق مثل ما ذلّت لشعری فیکم الأشعار
فمتی مدحت و لا مدحت سواکم فمدیحکم فی مدحه إضمار
و قال القاضی أبو جعفر بن برطال: [الکامل]
أستودع الرحمن من لوداعهم قلبی و روحی آذنا بوداع
بانوا و طرفی و الفؤاد و مقولی باک و مسلوب العزاء وداع
فتولّ یا مولای حفظهم و لا تجعل تفرّقنا فراق وداع
و قال ابن خفاجة: [الطویل]
و ما هاجنی إلّا تألّق بارق لبست به برد الدّجنّة معلما
و هی طویلة:
و قال من أخری: [الکامل]
جمعت ذوائبه و نور جبینه بین الدّجنّة و الصباح المشرق
و قال ذو الوزارتین أبو الولید ابن الحضرمی البطلیوسی فی غلام للمتوکل ابن الأفطس یرثیه: [المجتث]
غالته أیدی المنایا و کنّ فی مقلتیه
و کان یسقی الندامی بطرفه و یدیه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 239
غصن ذوی و هلال جار الکسوف علیه‌

[من شعر أبی أیوب سلیمان بن محمد بن بطال البطلیوسی]

و قال الفقیه العالم أبو أیوب سلیمان بن محمد بن بطال البطلیوسی عالمها فی المذهب المالکی، و قد تحاکم إلیه و سیمان أشقر و أکحل فیمن یفضل بینهما: [البسیط]
و شادنین ألمّا بی علی مقة تنازعا الحسن فی غایات مستبق
کأنّ لمّة ذا من نرجس خلقت علی بهار و ذا مسک علی ورق
و حکّما الصّبّ فی التفضیل بینهما و لم یخافا علیه رشوة الحدق
فقام یبدی هلال الدّجن حجّته مبیّنا بلسان منه منطلق
فقال وجهی بدر یستضاء به و لون شعری مقطوع من الغسق
و کحل عینیّ سحر للنّهی و کذا ک الحسن أحسن ما یعزی إلی الحدق
و قال صاحبه أحسنت وصفک ل کن فاستمع لمقال فیّ متّفق
أنا علی أفقی شمس النهار و لم تغرب و شقرة شعری شقرة الشّفق
و فضل ما عیب فی العینین من زرق أنّ الأسنّة قد تعزی إلی الزّرق
قضیت للّمّة الشقراء حیث حکت نورا کذا حبّها یقضی علی رمقی
فقام ذو اللّمّة السوداء یرشقنی سهام أجفانه من شدّة الحنق
و قال جرت فقلت الجور منک علی قلبی ولی شاهد من دمعی الغدق
و قلت عفوک إذ أصبحت بینهما فقال دونک هذا الحبل فاختنق
و کان فیه ظرف و أدب، و عنوان طبقته هذه الأبیات.
و قال: [الطویل]
و غاب من الأکواس فیها ضراغم من الراح ألباب الرجال فریسها
قرعت بها سنّ الحلوم فأقطعت و قد کاد یسطو بالفؤاد رسیسها
و له رحمه اللّه تعالی «شرح البخاری» و أکثر ابن حجر من النقل عنه فی «فتح الباری» و له کتاب «الأحکام» و غیر ذلک، و ترجمته شهیرة.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 240

[من شعر إبراهیم البطلیوسی و شعر القلندر البطلیوسی]

و قال الأدیب النحوی المؤرخ أبو إسحاق إبراهیم بن الأعلم البطلیوسی صاحب التآلیف التی بلغت نحو خمسین: [المجتث]
یا حمص، لا زلت دارا لکلّ بؤس و ساحه
ما فیک موضع راحه إلّا و ما فیه راحه
و هو شیخ أبی الحسن بن سعید صاحب «المغرب» و أنشده هذین البیتین لما ضجر من الإقامة بإشبیلیة أیام فتنة الباجی.
و قال الأدیب الطبیب أبو الأصبغ عبد العزیز البطلیوسی الملقب بالقلندر: [المتقارب]
جرت منّی الخمر مجری دمی فجلّ حیاتی من سکرها
و مهما دجت ظلم للهموم فتمزیقها بسنا بدرها
و خرج یوما و هو سکران، فلقی قاضیا فی نهایة من قبح الصورة، فقال: سکران خذوه، فلما أخذه الشرطة قال للقاضی: بحقّ من ولّاک علی المسلمین بهذا الوجه القبیح علیک إلّا ما أفضلت علیّ و ترکتنی، فقال القاضی: و اللّه لقد ذکرتنی بفضل عظیم، و درأ عنه الحدّ.

[من شعر ابن جاخ الصباغ و الکمیت البطلیوسی]

و قال ابن جاخ الصباغ البطلیوسی، و هو من أعاجیب الدنیا، لا یقرأ و لا یکتب:
[المتقارب]
و لمّا وقفنا غداة النّوی و قد أسقط البین ما فی یدی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 241
رأیت الهوادج فیها البدور علیها البراقع من عسجد
و تحت البراقع مقلوبها تدبّ علی ورد خدّ ندی
تسالم من وطئت خدّه و تلدغ قلب الشّجی المکمد
و قال فی المتوکل، و قد سقط عن فرس: [البسیط]
لا عتب للطّرف إن زلت قوائمه و لا یدنّسه من عائب دنس
حمّلت جودا و بأسا فوقه و نهی و کیف یحمل هذا کلّه الفرس
و قال الشاعر المشهور بالکمیت البطلیوسی: [الرمل]
لا تلومونی فإنی عالم بالذی تأتیه نفسی و تدع
بالحمیّا و المحیّا صبوتی و سوی حبّهما عندی بدع
فضّل الجمعة یوما و أنا کلّ أیامی بأفراحی جمع‌

[من شعر محمد بن البین البطلیوسی]

و قال أبو عبد اللّه محمد بن البین البطلیوسی، و هو ممن یمیل إلی طریقة ابن هانی‌ء:
[الکامل]
غصبوا الصباح فقسّموه خدودا و استنهبوا قضب الأراک قدودا
و رأوا حصا الیاقوت دون محلّهم فاستبدلوا منه النجوم عقودا
و استودعوا حدق المها أجفانهم فسبوا بهنّ ضراغما و أسودا
لم یکفهم حمل الأسنّة و الظّبا حتی استعاروا أعینا و قدودا
و تضافروا بضفائر أبدوا لنا ضوء النهار بلیلها معقودا
صاغوا الثغور من الأقاحی بینها ماء الحیاة لو اغتدی مورودا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 242

[بین المتوکل و مضحک یدعی «الخطارة»]

و کان عند المتوکل مضحک یقال له الخطّارة، فشرب لیلة مع المتوکل، و کان فی السقاة و سیم، فوضع عینه علیه، فلمّا کان وقت السحر دبّ إلیه، و کان بالقرب من المتوکل، فأحسّ به، فقال له: ما هذا یا خطارة؟ فقال له: یا مولای، هذا وقت تفریغ الخطارة الماء فی الریاض، فقال له: لا تعد لئلّا یکون ماء أحمر، فرجع إلی نومه، و لم یعد فی ذلک کلمة بقیّة عمره معه، و لا أنکر منه شیئا، و لم یحدّث بها الخطارة حتی قتل المتوکل، رحمه اللّه تعالی!
و الخطارة: صنف من الدوالیب الخفاف یستقی به أهل الأندلس من الأودیة، و هو کثیر علی وادی إشبیلیة، و أکثر ما یباکرون العمل فی السحر.

[من شعر أبی زید بن مولود الوزیر و عبد المجید بن عبدون الفهری الیابری]

و قال الوزیر أبو زید عبد الرحمن بن مولود: [مجزوء الرمل]
أرنی یوما من الده ر علی وفق الأمانی
ثم دعنی بعد هذا کیفما شئت ترانی
و قال أدیب الأندلس و حافظها أبو محمد عبد المجید بن عبدون الفهری الیابری، و هو من رجال الذخیرة و القلائد، و شهرته مغنیة عن الزیادة، یخاطب المتوکل و قد أنزله فی دار و کفت علیه: [الطویل]
أیا سامیا من جانبیه کلیهما (سموّ حباب الماء حالا علی حال)
لعبدک دار حلّ فیها کأنها (دیار لسلمی عافیات بذی خال)
یقول لها لمّا رأی من دثورها (ألا عم صباحا أیها الطّلل البالی)
فقالت و ما عیّت جوابا بردّها (و هل یعمن من کان فی العصر الخالی)
فمر صاحب الإنزال فیها بعاجل (فإنّ الفتی یهذی و لیس بفعّال)
و قال فی جمع حروف الزیادة حسبما ذکره عنه فی «المغرب»: [الطویل]
سألت الحروف الزائدات عن اسمها فقالت و لم تکذب: أمان و تسهیل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 243

[ضوابط لحروف الزیادة]

قلت: و علی ذکر حروف الزیادة فقد أکثر الناس فی انتقاء الکلمات الضابطة لها، و قد کنت جمعت فیها نحو مائة ضابط، و لنذکر الآن بعضها، فنقول: منها «أهوی تلمسانا» و نظمتها فقلت: [البسیط]
قالت حروف زیادات لسائلها هل هویت بلدة: أهوی تلمسانا
و جمعها ابن مالک فی بیت واحد بأربعة أمثلة من غیر حشو، و هو: [الطویل]
هناء و تسلیم، تلا یوم أنسه، نهایة مسئول، أمان و تسهیل
و منها «هویت السمان» و حکی أن أبا عثمان المازنی سئل عنه فأنشد: [المتقارب]
هویت السّمان فشیّبننی و قد کنت قدما هویت السّمانا
فقیل له: أجبنا، فقال: أجبتکم مرتین، و یروی أنه قال: سألتمونیها، فأعطیتکم ثلاثة أجوبة، هکذا حکاه بعض المحققین، و هو أرقّ ممّا حکاه غیر واحد علی غیر هذا الوجه، و منها: «سألتمونیها»، و منها: الیوم تنساه، الموت ینساه، أسلمنی وتاه، هم یتساءلون، التناهی سموّ، تنمی و سائله، أسلمی تهاون، تهاونی أسلم، التمس هوانی، ما سألت یهون، مؤنس التیاه، لم یأتنا سهو، یا أویس هل نمت، نویت سؤالهم، نویت مسائله، سألتم هوانی، تأمّلها یونس، أتانی و سهیل، هونی مسألتها، سألت ما یهون، و سلیمان أتاه، تسأل من یهوی، استملانی هو، أسلمت و هنای، هو استمالنی، سایل و أنت هم، یا هول استنم، أتاه و سلیمان.
قلت: و لیس هذا تکرارا مع السابق الذی هو «و سلیمان أتاه»؛ لأنّ التقدیم و التأخیر یصیرهما شیئین.
و منها: الوسمی هتّان، أولیتم سناه، و الیتم أنسه، أمسیت و ناله، أنله توسیما، أملتنی سهوا، أتوسّل یمنها، سألتهنّ یوما، سألت یومنها، سألت ما یوهن، نهوی ما سألت، یهون ما سألت، و قد سبق «سألت ما یهون» و عدّهما شیئین من أجل التقدیم و التأخیر کما مرّ نظیره، ألا تنس یومه، لیتأس ماؤه، سله موتی أنا، أنسته الیوم، سألتم هوینا، آوی من تسأله، و هین ما سألت، و هنی ما سألت، مسألتی نواه.
و منها: مسألتی هاون، سهوان یتألّم، أیلتم سهوان، أو یلتم ناسه، مسألتی أهون، أو میت تنساه، سموتن إلیها، أملیت سهوان، و سألتم هینا، یهون ما تسأل، أ تلومن سهیا، أسلم و انتهی، یتأمّل سهوان، یتأمّل ناسوه، یتأملن سواه، أ یتأمل نسوه، الهوی أتنسّم، و لیت ماه آسن، تولین أسهما، أتلوا سهمین، أول ساهمتنی، أسماؤه تنیل، یتأمّلنه سوا، أو لم یتسنّاه،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 244
آمن و یتساهل، أمسیتن لهوا، توسمیه لناء، هو ما تسألین، لأیها نتوسم، أیهما نتوسّل، أتانی لسموه، سمیتهن أولا، أولاهن سمیت، سلمتنی أهوا، أسلمتنی هوا، أو نستمیلها، أ یستمهلونا، هنأت الموسی، سلیم انتهوا، و أنت سائلهم، ساءلته ینمو، تهنأ لا یسمو، اسألی مؤنته، سألتنی موهنا، التمسی هونا، استملی أهون، التناه موسی، الهواء یتسنّم، نهوی ما تسأل، ماؤه لیتأسن، تنسمی الهواء، تلومی إن سها، ألمتنی سهوا، ستولینا أمه، یتمهّلون أسا، أمهلتنی سوا، التناسی و هم، أهویت سلمان، هویت المأنس، المأنس تهوی، هویت أم ناسل، أو لیس تم هنا، استوهن أملی، استهون ألمی، استملن و هیّأ، أ تسلمونیها، أ یتسلمونها، ألا یتسمونه، ألیس توهمنا، ألا یتسنموه.
فهذه مائة و أربعة و ثلاثون ترکیبا، منها ما هو متین، و منها ما هو غیر متین، و قد جمع ابن خروف فیها اثنین و عشرین ترکیبا محکیا و غیر محکیّ، و أحسنها بیت ابن عبدون السابق، و یلیه بیت ابن مالک، و قال الطغمی جامعا لها أربع مرات: [الکامل]:
آلمتنی سهوا، تلومی إن سها أو لیس تمّ هنا، الهوا یتسنّم
هکذا بخطّه یتسنّم، و لو قال یتنسّم لکان أنسب، و قال أیضا: [الکامل]
و لیت ما سناه و التمسی هنا ما تسألین هو الهنا یتوسّم
قلت: و قد جمعت فی المغرب زیادة علی ما تقدّم، و کنت قدرت رسالة فیها أسمیها «إتحاف أهل السیادة، بضوابط حروف الزیادة».

[من شعر عبد اللّه بن اللیث و أبی القاسم بن الأبرشی]

و قال أبو محمد عبد اللّه بن اللیث یستدعی الوزیر أبا الحسن الیابری فی یوم غیم:
[الکامل]
رقم الربیع بروضنا أزهاره فجری علی صفحاته أنهاره
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 245
فعسی تشرفنا ببهجة سیّد ألقی علی لیل الخطوب نهاره
تتمتّع الآداب من نفحاته فیشمّ منها ورده و بهاره
یا سیّدا بهر البریة سؤددا أبدی إلینا سرّه و جهاره
یوم أظلّ الغیم وجه ضیائه فعلیک یا شمس العلا إظهاره
و قال أبو القاسم بن الأبرش: [الوافر]
أدر کاس المدام فقد تغنّی بفرع الأیک طائره الصّدوح
و هبّ علی الریاض نسیم صبح یمرّ کما دنا سار طلیح
و مال النهر یشکو من حصاه جراحات کما أنّ الجریح
و قال: [المتقارب]
حلفت و یشهد دمعی بما أقاسیه من هجرک الزّائد
فإن کنت تجحد ما أدّعی و حاشاک تعرف بالجاحد
فإنّ النبیّ علیه السّلام قضی بالیمین مع الشاهد

[من شعر أبی الحسین علی بن بسام الشنترینی و أبی عمر بن کوثر]

و قال أبو الحسن علی بن بسّام الشنترینی صاحب الذخیرة، و شهرته تغنی عن ذکره، و نظمه دون نثره، یخاطب أبا بکر بن عبد العزیز: [المتقارب]
أبا بکر المجتبی للأدب رفیع العماد قریع الحسب
أ یلحن فیک الزمان الخؤون و یعرب عنک لسان العرب
و إن لم یکن أفقنا واحدا فینظمنا شمل هذا الأدب
و قد ذکرنا له فی غیر هذا المحلّ قوله: [الوافر]
ألا بادر فلا ثان سوی ما عهدت الکأس و البدر التمام
الأبیات.
و تأخّرت وفاته إلی سنة اثنتین و أربعین و خمسمائة، و هو منسوب إلی «شنترین» من الکور الغربیة البحریة من أعمال بطلیوس.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 246

[من شعر أبی محمد بن سارة و منذر الأشبونی و خلف القطینی و أبی محمد بن السید النحوی]

و قال أبو عمر یوسف بن کوثر: [الطویل]
مررت به یوما یغازل مثله و هذا علی ذا بالملاحة یمتنّ
فقلت اجمعا فی الوصل رأیکما فما لمثلکما کان التغزّل و المجن
عسی الصّبّ یقضی اللّه بینکما له بخیر فقالا لی اشتهی العسل السّمن
و قال أبو محمد بن سارة: [الطویل]
أعندک أنّ البدر بات ضجیعی فقضّیت أوطاری بغیر شفیع
جعلت ابنة العنقود بینی و بینه فکانت لنا أمّا و کان رضیعی
و قال: [الوافر]
أیا من حارت الأفکار فیه فلم تعلم له الأقدار کنها
بجید النیل منّا عقد أنس أقام بغیر واسطة فکنها
و قال أبو الحسن بن منذر الأشبونی: [الطویل]
فدیتک إنی عن جنابک راحل فهل لی یوما من لقائک زاد
و حسبک و الأیام خون غوادر فراق کما شاء العدا و بعاد
و قال خلف بن هارون القطینی: [البسیط]
من أنبت الورد فی خدّیک یا قمر و من حمی قطفه إذ لیس مصطبر
الزهر فی الروض مقرون بأزمنة و روض خدّک موصول به الزّهر
و کان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس؛ حسّون و عزّون و رحمون، فأولع بهنّ الإمام أبو محمد بن السّید النحوی، و قال فیهم: [البسیط]
أخفیت سقمی حتّی کاد یخفینی و همت فی حبّ عزّون فعزّونی
ثم ارحمونی برحمون فإن ظمئت نفسی إلی ریق حسّون فحسّونی
ثم خاف علی نفسه فخرج من قرطبة، هکذا رأیته بخطّ بعض المؤرخین انتهی، و اللّه أعلم.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 247

[من شعر ابن خفاجة و الرصافی و أبی بکر بن حبیش]

و قال ابن خفاجة یداعب من بقل عذاره: [مجزوء الرمل]
أیها التائه مهلا ساءنی أن تهت جهلا
هل تری فیما تری إلّا شبابا قد تولّی
و غراما قد تسرّی و فؤادا قد تسلّی
أین دمع فیک یجری أین جنب یتقلّی
أین نفس بک تهذی و ضلوع فیک تصلی
أیّ باک کان لو لا عارض وافی فولّی
و تخلّی عنک إلّا أسفا لا یتخلّی
و انطوی الحسن فهلّا أجمل الحسن و هلّا
أمّا بعد، أیها النبیل النبیه، فإنه لا یجتمع العذار و التیه، قد کان ذلک و غصن تلک الشبیبة رطب، و منهل ذلک المقبّل عذب، و أما و العذار قد بقل، و الزمان قد انتقل، و الصّبّ قد صحا فعقل، فقد رکدت ریاح الأشواق، و رقدت عیون العشّاق، فدع عنک من نظرة التجنّی، و مشیة التثنّی، و غضّ من عنانک، و خذ فی تراضی إخوانک، و هشّ عند اللقاء هشّة أریحیّة، و اقنع بالإیماء رجع تحیّة، فکأنی بفنائک مهجورا، و بزائرک مأجورا، و السلام.
و قال الرصافی لمّا بعث إلیه من یهواه سکینا: [الطویل]
تفاءلت بالسکین لمّا بعثته لقد صدقت منی العیافة و الزّجر
فکان من السکین سکناک فی الحشا و کان من القطع القطیعة و الهجر
و حضر الفقیه أبو بکر بن حبیش لیلة مع بعض الجلّة و طفی‌ء السراج، فقال ارتجالا:
[البسیط]
أذک السراج یرینا غرّة سفرت فباتت الشمس تستحیی و تستتر
أو خلّه فکفانا وجه سیدنا لا یطلب النجم من فی بیته قمر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 248

[من شعر أبی الحسن بن جابر و أبی بکر أحمد بن محمد الأبیض الإشبیلی]

و قصد أحد الأدباء بمرسیة أحد السادة من بنی عبد المؤمن، فأمر له بصلة خرجت علی ید ابن له صغیر، فقال المذکور ارتجالا: [الطویل]
تبرّک بنجل جاء بالیمن و السّعد یبشّر بالتأیید طائفة المهدی
تکلّم روح اللّه فی المهد قبله و هذا براء بدّل اللام فی المهد
و خرج الأستاذ أبو الحسن بن جابر الدباج یوما مع طلبته للنزهة بخارج إشبیلیة، و أحضرت مجبّنات ما خبا نارها، و لا هدأ أوارها، فما حاد عنها و لا کفّ، و لا صرف حرّها عن اقتضابها البنان و لا الکفّ، فقال: [الکامل]
أحلی مواقعها إذا قرّبتها و بخارها فوق الموائد سام
إن أحرقت لمسا فإنّ أوارها فی داخل الأحشاء برد سلام
و قال أبو بکر أحمد بن محمد الأبیض الإشبیلی یتهکّم برجل زعم أنه ینال الخلافة:
[الوافر]
أمیر المؤمنین، نداء شیخ أفادک من نصائحه اللطیفه
تحفّظ أن یکون الجذع یوما سریرا من أسرّتک المنیفه
أفکّر فیک مصلوبا فأبکی و تضحکنی أمانیک السّخیفه‌

[من شعر صفوان و من شعر أبی بکر بن یوسف و أبی القاسم القبتوری]

و قال صفوان: [الکامل]
و نهار أنس لو سألنا دهرنا فی أن یعود بمثله لم یقدر
خرق الزمان لنا به عاداته فلو اقترحنا النجم لم یتعذر
فی فتیة علمت ذکاء بحسنهم فتلفّعت من غیمها فی مئزر
و السرحة الغنّاء قد قبضت بها کفّ النسیم علی لواء أخضر
و کأنّ شکل الغیم منخل فضّة یلقی علی الآفاق رطب الجوهر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 249
و اجتاز بعض الغلمان علی أبی بکر بن یوسف، فسلّم علیه بأصبعه، فقال أبو بکر فی ذلک و أشار فی البیت الثالث إلی أنّ والد الغلام کان خطیب البلد: [الکامل]
مرّ الغزال بنا مروعا نافرا کشبیهه فی القفر ریع بصائده
لثم السّلامی فی السلام تسترا ثم انثنی حذر الرقیب لراصده
هلّا تکلّف وقفة لمحبّه و لو انها قصرا کجلسة والده
و قال أبو القاسم القبتوری: [البسیط]
وا حسرتا لأمور لیس یبلغها مالی و هنّ منی نفسی و آمالی
أصبحت کالآل لا جدوی لدیّ و ما آلیت جدّا و لکن جدّی الآلی‌

[من شعر أبی الحسن بن الحاج و أحمد بن أمیة البلنسی و ابن برطلة و ابن خروف]

و قال أبو الحسن بن الحاج: [الطویل]
کفی حزنا أنّ المشارع جمّة و عندی إلیها غلّة و أوام
و من نکد الأیام أن یعدم الغنی کریم و أنّ المکثرین لئام
و قال أحمد بن أمیة البلنسی: [السریع]
قال رئیسی حین فاوضته و ما دری أنّ مقامی عسیر
أقم فقلت الحال لا تقتضی فقال سر قلت جناحی کسیر
و قال ابن برطلة: [السریع]
للّه ما ألقاه من همّة لا ترتضی إلّا السّها منزلا
و من خمول کلّما رمت أن أسمو به بین الوری قال لا
و کتب ابن خروف لبعض الرؤساء: [المجتث]
یا من حوی کلّ مجد بجدّه و بجدّه
أتاک نجل خروف فامنن علیه بجدّه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 250
و کتب أیضا لبعضهم یستدعی فروة: [مجزوء الوافر]
بهاء الدین و الدنیا و نور المجد و الحسب
طلبت مخافة الأنوا ء من جدواک جلد أبی
و فضلک عالم أنی خروف بارع الأدب
حلبت الدهر أشطره و فی حلب صفا حلبی
و بعد کتبی لما ذکر خشیت أن یکون لابن خروف المشرقی لا الأندلسی، و اللّه تعالی أعلم.

[من شعر أبی بکر بن مالک و أبی الحسن بن حریق و أبی الحسن بن زقاق]

و رکب محبوب أبی بکر ابن مالک کاتب ابن سعد بغلة ردیف رجل یعرف بالدب، فقال أبو بکر فی ذلک: [مخلع البسیط]
و بغلة ما لها مثال یرکبها الدّبّ و الغزال
کأنّ هذا و ذا علیها سحابة خلفها هلال
و خرج محبوب لأبی الحسن بن حریق یوما لنزهة و عرض سیل عاقه عن دخول البلد، فبات لیلة عند أبی الحسن، فقال فی ذلک: [مخلع البسیط]
یا لیلة جادت الأمانی بها علی رغم أنف دهری
تسیل فیها علیّ نعمی یقصر عنها لسان شکری
أبات فی منزلی حبیبی و قام فی أهله بعذر
و بتّ لا حالة کحالی صریع سکر ضجیع بدر
یا لیلة القدر فی اللیالی لأنت خیر من الف شهر
و قال أبو الحسن بن الزقاق: [الوافر]
عذیری من هضیم الکشح أحوی رخیم الدّلّ قد لبس الشّبابا
أعدّ الهجر هاجرة لقلبی و صیّر وعده فیها سرابا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 251

[من شعر أبی بکر بن الجزار السرقسطی و أبی عبد الله الجذامی]

و قال أبو بکر بن الجزار السرقسطی: [الطویل]
ثناء الفتی یبقی و یفنی ثراؤه فلا تکتسب بالمال شیئا سوی الذکر
فقد أبلت الأیام کعبا و حاتما و ذکرهما غضّ جدید إلی الحشر
و قال الأدیب أبو عبد اللّه الجذامی: کان لشخص من أصحابنا قینة، فبینما هو ذات یوم قد رام تقبیلها علی أثر سواک أبصره بمبسمها إذ مرّ فوّال ینادی علی فول یبیعه، قال: فکلّفنی أن أقول فی ذلک شیئا، فقلت: [الطویل]
و لم أنس یوم الأنس حین سمحت لی و أهدیت لی من فیک فول سواک
و مرّ بنا الفوّال للفول مادحا و ما قصده فی المدح فول سواک
و شرب یوما أبو عبد اللّه المذکور عند بعض الأجلّة و ذرعه القی‌ء، فارتجل فی العذر:
[الطویل]
لا تؤاخذ من أخلّ به قهوة فی الکاس کالقبس
کیف یلحی فی المدام فتی أخذته أخذ مفترس
دخلت فی الحلق مکرهة ضاق عنها موضع النّفس
خرجت من موضع دخلت أنفت من مخرج النجس‌

[من شعر سلمة بن أحمد و أبی الحسن بن حزمون]

و جلس سلمة بن أحمد إلی جنب و سیم یکتب من محبرة فانصبّ الحبر منها علی ثوب سلمة، فخجل الغلام، فقال سلمة: [الکامل]
صبّ المداد و ما تعمّد صبّه فتورّد الخدّ الملیح الأزهر
یا من یؤثّر حبره فی ثوبنا تأثیر لحظک فی فؤادی أکبر
و کان لأبی الحسن بن حزمون بمرسیة محبوب یدعی أبا عامر، و سافر أبو الحسن، فبینما هو بخارج ألمریة إذ لقی فتی یشبه محبوبه، و سأله عن اسمه، فأخبره بأنه یدعی أبا عامر، فقال أبو الحسن فی ذلک: [المتقارب]
إلی کم أفرّ أمام الهوی و لیس لذا الحبّ من آخر
و کیف أفرّ أمام الهوی و فی کلّ واد أبو عامر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 252

[من شعر أبی بکر بن مالک و أبی بکر بن مالک و القاضی ابن السلیم]

و حضر أبو بکر ابن مالک کاتب ابن سعد مع محبوبه لارتقاب هلال شوّال، فأغمی علی الناس و رآه محبوبه، فقال أبو بکر فی ذلک: [الطویل]
تواری هلال الأفق عن أعین الوری و لاح لمن أهواه منه و حیّاه
فقلت لهم لم تفهموا کنه سرّه و لکن خذوا عنی حقیقة معناه
بدا الأفق کالمرآة راق صفاؤه فأبصر دون الناس فیه محیّاه
و کتب أبو بکر بن حبیش لمن یهواه بقوله: [الطویل]
متی ما ترم شرحا لحالی و تبیینا فصحّف علی قلبی «علومک تحیینا»
أرادنی «إنّی بحبّک مولع».
و کتب القاضی ابن السلیم إلی الحکم المستنصر بالله: [البسیط]
لو أنّ أعضاء جسمی ألسن نطقت بشکر نعماک عندی قلّ شکری لک
أو کان ملّکنی الرحمن من أجلی شیئا وصلت به یا سیدی أجلک
و من تکن فی الوری آماله کثرت فإنما أملی فی أن تری أملک‌

[من شعر الوزیر ابن أبی الخصال و الرصافی]

و قال الوزیر ابن أبی الخصال: [الطویل]
و کیف أؤدّی شکر من إن شکرته علی برّ یوم زادنی مثله غدا
فإن رمت أقضی الیوم بعض الذی مضی رأیت له فضلا علیّ مجدّدا
و قال الرصافی: [الکامل]
قلّدت جید الفکر من تلک الحلی ما شاءه المنثور و المنظوم
و أشرت قدّامی کأنّی لاثم و کأنّ کفّی ذلک الملثوم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 253
و قال: [الوافر]
و یا لک نعمة رمنا مداها فما وصل اللسان و لا الضمیر
عجزنا أن نقوم لها بشکر علی أنّ الشّکور لها کثیر

[من شعر ابن باجة و ابن الابار و أبی العباس أحمد الإشبیلی]

و قال ابن باجة: [الکامل]
قوم إذا انتقبوا رأیت أهلّة و إذا هم سفروا رأیت بدورا
لا یسألون عن النّوال عفاتهم شکرا و لا یحمون منه نقیرا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص253
لو أنهم مسحوا علی جدب الرّبا بأکفّهم نبت الأقاح نضیرا
و قال ابن الأبار یمدح أبا زکریا سلطان إفریقیة: [الطویل]
تحلّت بعلیاک اللیالی العواطل و دانت لسقیاک السحاب الهواطل
و ما زینة الأیام إلّا مناقب یفرّعها أصلان: بأس و نائل
إذ الطّول و الصّول استقلّا براحة ترقّت لها نحو النجوم أنامل
و قال أیضا فی سعید بن حکم رئیس منرقة: [الخفیف]
سیّد أیّد رئیس بئیس فی أساریره صفات الصباح
قمر فی أفق المعالی تجلّی و تحلّی بالسؤدد الوضّاح
سلم البحر فی السماحة منه لجواد سمّوه بحر السماح
و قال أبو العباس أحمد الإشبیلی: [البسیط]
یا أفضل الناس إجماعا و معرفتی تغنی و ما الحسن فی ریب و لا ریب
ورثت عن سلف ما شئت من شرف فقد بهرت بموروث و مکتسب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 254

[من شعر ابن زهر الحفید و أبی بکر بن زهر الأصغر]

و قال ابن زهر الحفید: [الکامل]
یا من یذکّرنی بعهد أحبّتی طاب الحدیث بذکرهم و یطیب
أعد الحدیث علیّ من جنباته إنّ الحدیث عن الحبیب حبیب
ملأ الضلوع و فاض عن أحنائها قلب إذا ذکر الحبیب یذوب
ما زال یخفق ضاربا بجناحه یا لیت شعری هل تطیر قلوب
و قال فی زهر الکتاب: [الکامل]
أهلا بزهر اللّازورد و مرحبا فی روضة الکتّان تعطفه الصّبا
لو کنت ذا جهل لخلتک لجّة و کشفت عن ساق کما فعلت سبا
و لما قال الموشحة المشهورة التی أولها:
صادنی و لم یدر ما صادا قال أبو بکر بن الجدّ: لو سئل عمّا صاد لقال: تیس بلحیة حمراء!.
و لمّا قال الموشحة التی أوّلها:
هات بنت العنب و اشرب إلی قوله:
و فدّه بأبی ثم بی سمعها أبوه فقال: یفدیه بالعجوز السّواء، و أما أنا فلا.
و هنالک أبو بکر بن زهر الأصغر، و هو ابن عمّ هذا الأکبر.
و من نظم الأصغر: [الکامل]
و اللّه ما أدری بما أتوسّل إذ لیس لی ذات بها أتوصّل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 255
لکن جعلت مودّتی مع خدمتی لعلاک أحظی شافع یتقبّل
إن کنت من أدوات زهر عاطلا فالزّهر منهنّ السّماک الأعزل
و هذه الأبیات خاطب بها المأمون بن المنصور صاحب المغرب.

[من شعر أبی جعفر عمر ابن صاحب الصلاة و أبی بکر محمد ابن صاحب الصلاة فی عمرو بن مذحج]

و قال الأدیب أبو جعفر عمر ابن صاحب الصلاة: [الطویل]
و ما زالت الدنیا طریقا لهالک تباین فی أحوالها و تخالف
ففی جانب منها تقوم مآتم و فی جانب منها تقوم معازف
فمن کان فیها قاطنا فهو ظاعن و من کان فیها آمنا فهو خائف
و قال أبو بکر محمد ابن صاحب الصلاة یخاطب أخیل لمّا انتقل إلی العدوة: [المجتث]
لا تنکرنّ زمانا رماک منه بسهم
و أنت غایة مجد فی کلّ علم و فهم
هذی دموعی حتی یراک طرفی تهمی
یا لیت ما کنت أخشی علیک عدوان همّ
و إنما الدهر یبدی ما لا یجوز بوهم
ما زال شیهم مسّ لکلّ یقظان شهم
و لمّا وفد أهل الأندلس علی عبد المؤمن قام خطیبا ناثرا و ناظما، فأتی بالعجب، و باهی به أهل الأندلس فی ذلک الوقت.
و له فی عبد المؤمن: [البسیط]
هم الألی و هبوا للحرب أنفسهم و أنهبوا ما حوت أیدیهم الصّفدا
ما إن یغبّون کحل الشمس من رهج کأنما عینها تشکو لهم رمدا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 256

[من شعر ابن السید البطلیوسی فی عمرو بن مذحج و ابن عبدون و جواب عمرو بن مذحج]

و قال ابن السیّد البطلیوسی فی أبی الحکم عمرو بن مذحج بن حزم، و قد غلب علی لبّه، و أخذ بمجامع قلبه: [الطویل]
رأی صاحبی عمرا فکلّف وصفه و حمّلنی من ذاک ما لیس فی الطّوق
فقلت له: عمرو کعمرو فقال لی: صدقت، و لکن ذاک شبّ عن الطّوق
و فیه یقول ابن عبدون: [الکامل]
یا عمرو، ردّ علی الصّدور قلوبها من غیر تقطیع و لا تحریق
و أدر علینا من خلالک أکؤسا لم تأل تسکرنا بغیر رحیق
و فیه یقول أحدهم: [مجزوء الخفیف]
قل لعمرو بن مذحج جاء ما کنت أرتجی
شارب من زبرجد و لمی من بنفسج
و کتب إلیه ابن عبدون: [الطویل]
سلام کما هبّت من المزن نفحة تنفّس عند الفجر من وجهها الزّهر
و منها:
أبا حسن أبلغ سلام فمی یدی أبی حسن و ارفق فکلتاهما بحر
و لا تنس یمناک التی هی و الندی رضیعا لبان لا اللّجین و لا التّبر
فأجابه من أبیات: [الطویل]
تحیّر ذهنی فی مجاری صفاته فلم أدر شعر ما به فهت أم سحر
أری الدهر أعطاک التقدّم فی العلی و إن کان قد وافی أخیرا بک الدّهر
لئن حازت الدنیا لک الفضل آخرا ففی أخریات اللیل ینبلج الفجر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 257

[لعمرو بن مذحج فی أبی العلاء بن زهر و محمد بن مذحج]

و لعمرو فی أبی العلاء بن زهر: [الطویل]
قدمت علینا و الزمان جدید و ما زلت تبدی فی الندی و تعید
و حقّ العلا لو لا مراتبک العلا لما اخضرّ فی أفق المکارم عود
فلوحوا بنی زهر فإنّ وجوهکم نجوم بأفلاک العلاء سعود
و قوله لأبی الولید ابن عمّه: [البسیط]
إنّی لأعجب أن یدنو بنا وطن و لا یقضّی من اللّقیا لنا وطر
لا غرو إن بعدت دار مصاقبة بنا و جدّ بنا للحضرة السّفر
فمحجر العین لا یلقاه ناظرها و قد توسّع فی الدنیا به النظر
و قال ابن عمّه أبو بکر محمد بن مذحج یخاطب ابن عمّه أبا الولید: [الطویل]
و لمّا رأی حمص استخفّت بقدره علی أنها کانت به لیلة القدر
تحمّل عنها و البلاد عریضة کما سلّ من غمد الدّجی صارم الفجر

[من شعر أبی الولید بن مذحج]

و قال أبو الولید المذکور: [الطویل]
أتجزع من دمعی و أنت أسلته و من نار أحشائی و أنت لهیبها
و تزعم أنّ النّفس غیرک علّقت و أنت و لا منّ علیک حبیبها
إذا طلعت شمس علیّ بسلوة أثار الهوی بین الضلوع غروبها
و له أیضا: [الکامل]
لمّا استمالک معشر لم أرضهم و القول فیک، کما علمت، کثیر
داریت دونک مهجتی فتماسکت من بعد ما کادت إلیک تطیر
فاذهب فغیر جوانحی لک منزل و اسمع فغیر وفائک المشکور
و قال: [المتقارب]
یقول و قد لمته فی هوی فلان و عرّضت شیئا قلیلا
أ تحسدنی؟ قلت: لا و الذی أحلّک فی الحبّ مرعی و بیلا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 258
و کیف و قد حلّ ذاک الجناب و قد سلک الناس ذاک السبیلا
و له مما یکتب علی قوس: [الکامل]
إنّا إذا رفعت سماء عجاجة و الحرب تقعد بالرّدی و تقوم
و تمرّد الأبطال فی جنباتها و الموت من فوق النفوس یحوم
مرقت لهم منّا الحتوف کأنما نحن الأهلّة و السّهام نجوم

[من شعر أبی الحسین بن فندلة و أبی العباس بن سید فی ابن فندلة و أبی القاسم بن حسان]

و قال أبو الحسین بن فندلة فی کلب صید: [الطویل]
فجعت بمن لو رمت تعبیر وصفه لقلّ و لو أنی غرفت من البحر
بأخطل وثّاب طموح مؤدّب ثبوت یصید النّسر لو حلّ فی النسر
کلون الشباب الغضّ فی وجهه سنی کأنّ ظلاما لیس فیه سوی البدر
إذا سار و البازی أقول تعجّبا ألا لیت شعری یسبق الطیر من یجری
و لا یلتفت إلی قول أبی العباس بن سید فیه: [السریع]
الموت لا یبقی علی مهجة لا أسدا یبقی و لا نعثله
و لا شریفا لبنی هاشم و لا وضیعا لبنی فندله
و کان ابن سید مسلّطا علی هذا البیت، قال ابن سعید: و إنما ینبح الکلب القمر.
قال أبو العباس النجار: کان أبو الحسین یلقّب بالوزغة، فوصلت إلی بابه یوما، فتحجّب عنی، فکتبت علی الباب: [مخلع البسیط]
تحجّب الفندلیّ عنی فساء من فعله ضمیری
ینفر من رؤیتی کأنی مضمّخ الجیب بالعبیر
قال: و من عادة الوزغة أن تکره رائحة الزعفران و تهرب منه.
و قال أبو القاسم بن حسان: [الطویل]
ألا لیتنی ما کنت یوما معظّما و لا عرفوا شخصی و لا علموا قصری
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 259
أکلّف فی حال المشیب بمثل ما تحمّلته و الغصن فی ورق نضر
فما عاش فی الأیام فی حرّ عیشة سوی رجل ناء عن النّهی و الأمر

[من شعر أبی بکر بن مرتین و القاضی ابن زرقون]

و قال أبو بکر بن مرتین: [البسیط]
صحبت منک العلا و الفضل و الکرما و شیمة فی الندی لا ترتضی السأما
مودّة فی ثری الإنصاف راسخة و سمکها فوق أعناق السماء سما
و قال: [الکامل]
أنصفتنی فمحضتک الودّ الذی یجزی بصفوته الخلیل المنصف
لا تشکرنّ سوی خلالک إنها جلبت إلیک من الثنا ما یعرف
و قال: [مجزوء الرمل]
یا هلالا یتجلّی و قضیبا یتثنّی
کلّ أنس لم تکنه فهو لفظ دون معنی
و قال القاضی أبو عبد اللّه محمد بن زرقون: [الخفیف]
ذکر العهد و الدیار غریب فجری دمعه و لجّ النّحیب
ذکر العهد و النوی من حبیب حبّذا العهد و النوی و الحبیب
إذ صفاء الوداد غیر مشوب بتجنّ و ودّنا مشبوب
و إذا الدهر دهرنا و إذا الدا ر قریب و إذ یقول الرقیب
و منها:
أسأل اللّه عفوه فلئن سا ء مقالی لقد تعفّ القلوب
قد ینال الفتی الصغائر ظرفا لا سواها و للذّنوب ذنوب
و أخو الشّعر لا جناح علیه و سواء صدوقه و الکذوب
و قال: [السریع]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 260
یا معدن الفضل و طوی الحجا لا زلت من بحر العلا تغترف
عبدک بالباب فقل منعما یدخل أو یصبر أو ینصرف
و قال الخطیب أبو عبد اللّه محمد بن عمر الإشبیلی: [المتقارب]
و کلّ إلی طبعه عائد و إن صدّه المنع عن قصده
کذا الماء من بعد إسخانه یعود سریعا إلی برده‌

[من شعر أبی عبد اللّه محمد بن عمر الإشبیلی و أبی بکر الزبیدی و أبی بکر بن طلحة الإشبیلی]

و قال إمام اللغة أبو بکر محمد بن الحسن الزبیدی الإشبیلی: [الخفیف]
ما طلبت العلوم إلّا لأنی لم أزل من فنونها فی ریاض
ما سواها له بقلبی حظّ غیر ما کان للعیون المراض
و قال: [مجزوء الرمل]
أشعرن قلبک یاسا لیس هذا الناس ناسا
ذهب الإبریز منهم فبقوا بعد نحاسا
سامرییّن یقولو ن جمیعا لا مساسا
و کان کتاب «العین» للخلیل مختلّ القواعد، فامتعض له هذا الإمام، و صقل صدأه کما یصقل الحسام، و أبرزه فی أجمل منزع، حتی قیل: هذا ممّا أبدع و اخترع، و له کتاب فی النحو یسمّی «الواضح» و صیّره الحکم المستنصر مؤدّبا لولده هشام المؤید، و بالجملة فهو فی المغرب بمنزلة ابن درید فی المشرق.
و قال النحوی أبو بکر محمد بن طلحة الإشبیلی، و شعره رقیق خارج عن شعر النحاة، و منه: [الطویل]
إلی أیّ یوم بعده یرفع الخمر و للورق تغرید و قد خفق النّهر
و قد صقلت کفّ الغزالة أفقها و فوق متون الروض أردیة خضر
و کم قد بکت عین السماء بدمعها علیها و لو لا ذاک ما بسم الزهر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 261
و قال: [المجتث]
بدا الهلال فلمّا بدا نقصت و تمّا
کأنّ جسمی فعل و سحر عینیه «لمّا»
و کان لا یملک نفسه فی النظر إلی الصّور الحسان، و أتاه یوما أحد أصحابه بولد له فتّان الصورة، فعندما دخل مجلسه قصر علیه طرفه، و لم یلتفت إلی والده، و جعل والده یوصیه علیه و هو لا یعلم ما یقوله [و لم یلتفت إلی والده] و قد افتضح فی طاعة هواه، فقال له الرجل: یا أبا بکر، حقّق النظر فیه لعلّه مملوک ضاع لک، و قد جبره اللّه تعالی علیک، و لکن علی من یترکه عندک لعنة اللّه، هذا ما عملت بمحضری، و اللّه إن غاب معک عن بصری لمحة لتفعلنّ به ما اشتهر عنک، و أخذ ولده و انصرف به، فانقلب المجلس ضحکا.

[من شعر أبی جعفر بن الأبار الإشبیلی و أبی القاسم العطار الإشبیلی]

و قال أبو جعفر أحمد بن الأبّار الإشبیلی، و هو من رجال «الذخیرة»: [الخفیف]
زارنی خیفة الرقیب مریبا یتشکّی منه القضیب الکثیبا
رشأ راش لی سهام المنایا من جفون یسبی بهنّ القلوبا
قال لی ما تری الرقیب مطلّا قلت دعه أتی الجناب الرحیبا
عاطه أکؤس المدام دراکا و أدرها علیه کوبا فکوبا
و اسقنیها من خمر عینیک صرفا و اجعل الکأس منک ثغرا شنیبا
ثم لمّا أن نام من نتّقیه و تلقّی الکری سمیعا مجیبا
قال لا بدّ أن تدبّ علیه قلت أبغی رشا و آخذ ذیبا
قال فابدأ بنا و ثنّ علیه قلت عمری لقد أتیت قریبا
فوثبنا علی الغزال رکوبا و سعینا علی الرقیب دبیبا
فهل ابصرت أو سمعت بصبّ ناک محبوبه و ناک الرّقیبا
و أنشد له ابن حزم: [الکامل]
أو ما رأیت الدهر أقبل معتبا متنصّلا بالعذر ممّا أذنبا
بالأمس أذبل فی ریاضک أیکة و الیوم أطلع فی سمائک کوکبا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 262
و قیل: إنه خاطب بهما ابن عبّاد ملک إشبیلیة و قد ماتت له بنت و ولد له ابن، و بعضهم ینسبهما لغیره.
و دخل الأدیب أبو القاسم بن العطار الإشبیلی حمّاما بإشبیلیة، فجلس إلی جانبه و سیم خمریّ العینین، فافتتن بالنظر إلیه و المحادثة إلی أن قام و قعد فی مکانه أسود، فقال: [الطویل]
مضت جنّة المأوی و جاءت جهنّم فها أنا أشقی بعد ما کنت أنعم
و ما کان إلّا الشمس حان غروبها فأعقبها جنح من اللیل مظلم‌

[من شعر أبی عمرو الإشبیلی و أبو الحسن علی بن جابر الدباج الإشبیلی]

و قال الأدیب المصنّف أبو عمرو عثمان بن علی بن عثمان بن الإمام الإشبیلی، صاحب «سمط الجمان»: [الطویل]
عذیری من الأیام لا درّ درّها لقد حمّلتنی فوق ما کنت أرهب
و قد کنت جلدا ما ینهنهنی النوی و لا یستبینی الحادث المتغلّب
یقاسی صروف الدهر منی مع الصّبا جذیل حکاک أو عذیق مرجّب
و کنت إذا ما الخطب مدّ جناحه علیّ ترانی تحته أتقلّب
فقد صرت خفّاق الجناح یروعنی غراب إذا أبصرته و هو ینعب
و أحسب من ألقی حبیبا مودعا و أنّ بلاد اللّه طرّا محصّب
و قد امتعض للآداب فی صدر دولة بنی عبد المؤمن، فجمع شمل الفضلاء الذین اشتملت علیهم المائة السابعة إلی مبلغ سنّه منها فی ذلک الأوان، و استولی بذلک علی خصل الرهان، و انفرد بهذه الفضیلة التی لم ینفرد بها إلّا فلان و فلان.
و کان الأدیب العالم الصالح أبو الحسن علی بن جابر الدباج الإشبیلی إماما فی فنون العربیة، و لکن شهر بإقراء کتب الآداب کالکامل للمبرد و نوادر القالی و ما أشبه ذلک، و کان- مع زهده- فیه لوذعیّة، و من ظرفه أن أحد تلامذته قال لغلام جمیل الصورة: بالله أعطنی قبلة تمسک رمقی، فشکاه إلی الشیخ و قال له: یا سیدی، قال لی هذا کذا، فقال له الشیخ:
و أعطیته ما طلب؟ فقال: لا، فقال له: ما هذه الثقالة؟ ما کفاک أن حرمته حتی تشتکی به أیضا؟ و حسبک من جلالة قدره أنّ أهل إشبیلیة رضوا به إماما فی جامع العدیس.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 263
و له: [البسیط]
لمّا تبدّت و شمس الأفق بادیة أبصرت شمسین من قرب و من بعد
من عادة الشمس تعشی عین ناظرها و هذه نورها یشفی من الرّمد

[من شعر مالک بن وهیب الإشبیلی]

و قال مالک بن وهیب: [الطویل]
أرامیتی بالسحر من لحظاتها نعیذک کیف الرمی من دون أسهم
ألا فاعلمی أن قد أصبت، فواصلی سهامک أو کفّی فلست بمسلم
فإنسان عین الدهر أصمیت فاحذری مطالبة بالقلب و الید و الفم
أما هو فی غیل غدا غابه القنا تحفّ به آساد کلّ ملثّم
و لو أنّ لی رکنا شدیدا بنجدة أویت له من بأس لحظک فارحمی
و هو إشبیلی، کان من أهل الفلسفة کما فی «المسهب»؛ قال: و هو فیلسوف المغرب، ظاهر الزهد و الورع، استدعاه من إشبیلیة أمیر المسلمین علی بن یوسف بن تاشفین إلی حضرة مرّاکش، و صیّره جلیسه و أنیسه، و فیه یقول بعض أعدائه: [الخفیف]
دولة لابن تاشفین علیّ طهّرت بالکمال من کلّ عیب
غیر أنّ الشیطان دسّ إلیها من خبایاه مالک بن وهیب
و أمره علی بمناظرة محمد بن تومرت الملقب بالمهدی الذی أنشأ دولة بنی عبد المؤمن.

[من شعر أبی الصلت أمیة بن عبد العزیز]

و قال أبو الصلت أمیة بن عبد العزیز المذکور فی غیر هذا الموضع من هذا الکتاب یستدعی بعض إخوانه: [مجزوء الرمل]
بمعالیک و جدّک جد بلقیاک لعبدک
حضر الکلّ و لکن لم یطب شی‌ء لفقدک
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 264
و قال: [المنسرح]
و راغب فی العلوم مجتهد لکنّه فی القبول جلمود
فهو کذی عنّة به شبق و مشتهی الأکل و هو ممعود
و قال: [الوافر]
لئن عرضت نوی وعدت عواد أدالت من دنوّک بالبعاد
فما بعدت عن اللّقیا جسوم تدانت بالمحبّة و الوداد
و لکن قرب دارک کان أندی علی کبدی و أحلی فی فؤادی
و له فی مجمرة: [الطویل]
و محرورة الأحشاء لم تدر ما الهوی و لم تدر ما یلقی المحبّ من الوجد
إذا ما بدا برق المدام رأیتها تثیر غماما فی النّدیّ من النّدّ
و لم أر نارا کلّما شبّ جمرها رأیت الندامی منه فی جنّة الخلد
و قوله من قصیدة: [البسیط]
و إن هم نکصوا یوما فلا عجب قد یکهم السیف و هو الصارم الذکر
العود أحمد و الأیام ضامنة عقبی النجاح و وعد اللّه منتظر
و قال: [السریع]
تقریب ذی الأمر لأهل النّهی أفضل ما ساس به أمره
هذا به أولی و ما ضرّه تقریب أهل اللهو فی النّدره
عطارد فی جلّ أوقاته أدنی إلی الشمس من الزّهره
و قوله: [الطویل]
تفکّر فی نقصان مالک دائما و تغفل عن نقصان جسمک و العمر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 265
و یثنیک خوف الفقر عن کلّ بغیة و خیفة حال الفقر شرّ من الفقر
و قوله: [المنسرح]
یا لیلة لم تبن من القصر کأنها قبلة علی حذر
لم تک إلّا «کلا» و لا و مضت تدفع فی صدرها ید السّحر
و قال فیمن نظر إلیه فأعرض عنه: [البسیط]
قالوا ثنی عنک بعد البشر صفحته فهل أصاخ إلی الواشی فغیّره
فقلت لا بل دری و جدی بعارضه فردّ صفحته عمدا لأبصره
و قال: [مجزوء الکامل]
حکت الزمان تلوّنا لمحبّها العانی الأسیر
فوصالها برد الأص یل و هجرها حرّ الهجیر
و قال یستدعی: [الخفیف]
هو یوم کما تراه مطیر کلب القرّ فیه و الزّمهریر
و أرانا الغمام و البرد ثوبی ن علینا کلاهما مجرور
و لدینا شمسان شمس من الرا ح و شمس تسعی بها و تدور
فمن الرأی أن تشبّ الکوانی ن بأجذالها و ترخی الستور
فاترک الاعتذار فیه فترک ال شّرب فی مثل یومنا تغریر
و قال: [الطویل]
هو البحر غص فیه إذا کان ساکنا علی الدّرّ و احذره إذا کان مزبدا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 266
و قال: [الخفیف]
غبت عنّا فغاب کلّ جمال و نأی إذ نأیت کلّ سرور
ثم لمّا قدمت عاودنا الأن س و قرّت قلوبنا فی الصدور
فلو أنّا نجزی البشیر بنعمی لوهبنا حیاتنا للبشیر
و قال: [السریع]
کم ضیّعت منک المنی حاصلا کان من الأحزم أن یحفظا
فالفظ بها عنک فمن حقّ ما یخفی صواب الرأی أن یلفظا
فإن تعلّلت بأطماعها فإنما تحلم مستیقظا
و قال: [الطویل]
یقولون لی صبرا و إنی لصابر علی نائبات الدهر و هی فواجع
سأصبر حتی یقضی اللّه ما قضی و إن أنا لم أصبر فما أنا صانع
و قال: [مجزوء الرمل]
بأبی خود شموع أقبلت تحمل شمعه
فالتقی نوراهما و اخ تلفا قدرا و رفعه
و مسیر الشمس تسته دی بضوء النجم بدعه
و قال فی فرس أشهب: [مخلع البسیط]
و أشهب کالشّهاب أضحی یلوح فی مذهب الجلال
قال حسودی و قد رآه یخبّ تحتی إلی القتال
من ألجم الصبح بالثریّا و أسرج البرق بالهلال
و قال: [الطویل]
رمتنی صروف الدهر بین معاشر أصحّهم ودّا عدوّ مقاتل
و ما غربة الإنسان فی غیر داره و لکنها فی قرب من لا یشاکل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 267
و قال: [السریع]
أصبحت صبّا دنفا مغرما أشکو جوی الحبّ و أبکی دما
هذا و قد سلّم إذ مرّ بی فکیف لو مرّ و ما سلّما
و قال: [الوافر]
وقفنا للنّوی فهفت قلوب أضرّ بها الجوی و همت شؤون
یناجی بعضنا باللّحظ بعضا فتعرب عن ضمائرنا العیون
فلا و اللّه ما حفظت عهود کما ضمنوا و لا قضیت دیون
و لو حکم الهوی یوما بعدل لأنصف من یفی ممّن یخون
أمرّ بدارکم و أغضّ طرفی مخافة أن تظنّ بی الظنون‌

[من شعر عبد الرحمن بن سبلاق و أبی بکر محمد بن نصر الإشبیلی و أحمد بن محمد الإشبیلی]

و لمّا رأی عبد الرحمن بن سبلاق الحضرمی الإشبیلی فی النوم أنه مرّ علی قبر و قوم یشربون حوله وسط أزاهر فأمروه أن یرثی صاحب القبر، و هو أبو نواس الحسن بن هانی‌ء، قال: [السریع]
جادک یا قبر انسکاب الغمام و عاد بالروح علیک السلام
ففیک أضحی الظّرف مستودعا و استترت عنّا عیون الظلام
و قال أبو بکر محمد بن نصر الإشبیلی: [الکامل]
و کأنما تلک الریاض عرائس ملبوسهنّ معصفر و مزعفر
أو کالقیان لبسن موشیّ الحلی فلهنّ فی و شی اللباس تبختر
و قال أحمد بن محمد الإشبیلی: [البسیط]
أما تری النرجس الغضّ الذکیّ بدا کأنه عاشق شابت ذوائبه
أو المحبّ شکا لمّا أضرّ به فرط السّقام فعادته حبائبه
و قال: [الخفیف]
ربّ نیلوفر غدا مخجل الرا ئی إلیه نفاسة و غرابه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 268
کملیک للزنج فی قبّة بی ضاء یدنو الدّجا فیغلق بابه‌

[من شعر ابن الأصبغ بن سید و إبراهیم بن خیرة الصباغ و أبی بکر بن حجاج]

و قال أبو الأصبغ بن سید: [السریع]
کأنما النرجس فی منظر ال حسن الذی أمثاله تبتغی
أنامل من فضّة فوقه کأس من التبر به أفرغا
و قال أبو إسحاق إبراهیم بن خیرة الصباغ ممّا أنشده له أبو عامر بن سلمة فی کتاب «حدیقة الارتیاح»: [مجزوء الکامل]
یوم کأنّ سحابه لبست عمامیّ المصامت
حجبت به شمس الضّحی بمثال أجنحة الفواخت
فالغیث یبکی فقدها و البرق یضحک مثل شامت
و الرعد یخطب مفصحا و الجوّ کالمحزون ساکت
و الروض یسقیه الحیا و النّور ینظر مثل باهت
فاشرب و لذّ بجنّة و اطرب فإنّ العمر فائت
و له: [الرمل]
ربّ لیل طال لا صبح له ذی نجوم أقسمت أن لا تغور
قد هتکنا جنحه من فلق من خمور و وجوه کالبدور
إن بدت تشبهها فی کأسها نار إبراهیم فی برد و نور
صرعتنا أن علونا ظهرها فی میادین التصابی و السرور
و کأنّا، حین قمنا، معشر نشروا بعد ممات من قبور
و قال أبو بکر بن حجاج: [السریع]
لمّا کتمت الحبّ لا عن قلی و لم أجد إلّا البکا و العویل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 269
نادیت و القلب به مغرم یا حسبی اللّه و نعم الوکیل
و قال: [الطویل]
یقولون إنّ السّحر فی أرض بابل و ما السّحر إلّا ما أرتک محاجره
و ما الغصن إلّا ما انثنی تحت برده و ما الدّعص إلّا ما طوته مآزره
و ما الدّرّ إلّا ثغره و کلامه و ما اللیل إلّا صدغه و غدائره
و هذه الأبیات من قصیدة فی محمد بن القاسم بن حمّود، ملک الجزیرة الخضراء، أعادها اللّه تعالی!

[ن شعر أبی عبد اللّه الرصافی و أبی جعفر بن الجزار و أبی جعفر بن البنی]

و قال الرصافی أبو عبد اللّه الشاعر المشهور، و هو ابن رومیّ الأندلس، فی حریری:
[الخفیف]
و بنفسی من لا أسمّیه إلّا بعض إلمامة و بعض إشاره
هو و الظبی فی المجال سواء ما استعار الغزال منه استعاره
أغید یمسک الحریر بفیه مثل ما یمسک الغزال العراره
و هو القائل یمدح أمیر المؤمنین عبد المؤمن بن علی: [البسیط]
لو جئت نار الهدی من جانب الطّور قبست ما شئت من علم و من نور
و لأبی جعفر أحمد بن الجزار: [الطویل]
و ما زلت أجنی منک و الدهر ممحل و لا ثمر یجنی و لا زرع یحصد
ثمار أیاد دانیات قطوفها لأوراقها ظلّ علیّ ممدّد
یری جاریا ماء المکارم تحتها و أطیار شکری فوقهنّ تغرّد
و لمّا نفی أبو جعفر ابن البنی من میورقة، و أقلع فی البحر ثلاثة أمیال، و نشأت ریح ردّته، لم یتجاسر أحد من إخوانه علی إتیانه، فکتب إلیهم: [الوافر]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 270
أحبّتنا الألی عنتوا علینا و أقصونا و قد أزف الوداع
لقد کنتم لنا جذلا و أنسا فما بالعیش بعدکم انتفاع
أقول و قد صدرنا بعد یوم أشوق بالسفینة أم نزاع
إذا طارت بنا حامت علیکم کأنّ قلوبنا فیها شراع
و له: [الطویل]
غصبت الثّریّا فی البعاد مکانها و أودعت فی عینیّ صادق نوئها
و فی کلّ حال لم تزالی بخیلة فکیف أعرت الشمس حلّة ضوئها
و له فی غلام یرمی الطیور: [البسیط]
قالوا تصیب طیور الجوّ أسهمه إذا رماها فقلنا عندها الخبر
تعلّمت قوسها من قوس حاجبه و أیّد السهم من أجفانه الحور
یلوح فی بردة کالنّقس حالکة کما أضاء بجنح اللیلة القمر
و ربما راق فی خضراء مونقة کما تفتّح فی أوراقه الزّهر

[من شعر أبی المطرف أحمد بن عمیرة و أبی جعفر أحمد بن طلحة]

و قال الأدیب الکاتب القاضی أبو المطرف ابن عمیرة المخزومی، لمّا قصّ شعر ملک شرق الأندلس زیان بن مردنیش مزین، فی یوم رفع فیه أبو المطرف شعرا، فخرجت صلة المزین، و لم تخرج صلة أبی المطرف: [الوافر]
أری من جاء بالموسی مواسی و راحة من أذاع المدح صفرا
فأنجح سعی ذا إذ قصّ شعرا و أخفق سعی ذا إذ قصّ شعرا
و اسم أبی المطرف أحمد، و هو من جزیرة شقر، من کورة بلنسیة.
و کان الکاتب الحسیب أبو جعفر أحمد بن طلحة یعشق علجا من علوج ابن هود و یماشیه فی غزواته، و فیه یقول: [مخلع البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 271
ما أحضر الغزو من صلاح کلّا و لا رغبة الجهاد
لکن لکیما یکون داع لقربنا خیرة الجیاد
و قد تقدمت حکایته فلتراجع.

[من شعر أبی إسحاق بن خفاجة و أبی بکر محمد بن أحمد الأنصاری المعروف بالأبیض]

و کان صنوبری الأندلس أبو إسحاق بن خفاجة، و هو من رجال الذخیرة و القلائد و المسهب و المطرب و المغرب، و شهرته تغنی عن الإطناب فیه، مغری بوصف الأنهار و الأزهار و ما یتعلّق بها، و أهل الأندلس یسمّونه الجنّان، و من أکثر من شی‌ء عرف به، و توفی سنة ثلاث أو خمس و ثلاثین و خمسمائة، و ولد سنة خمسین و أربعمائة، و من نظمه قوله:
[الخفیف]
ربما استضحک الحباب حبیب نفضت لونها علیه المدام
کلّما مرّ قاصرا من خطاه یتهادی کما تهادی الغمام
سلّم الغصن و الکثیب علینا فعلی الغصن و الکثیب السلام
و بات مع بعض الرؤساء فکاد ینطفئ السراج ثم تراجع نوره، فقال: [الکامل]
و أغرّ ضاحک وجهه مصباحه فأنار ذا قمرا و ذلک فرقدا
ما إن خبا تلقاء نور جبینه حتی ذکا بذکائه فتوقّدا
و له: [الطویل]
کتبت و قلبی فی یدیک أسیر یقیم کما شاء الهوی و یسیر
و فی کلّ حین من هواک و أدمعی بکلّ مکان روضة و غدیر
و له: [البسیط]
کتابنا و لدینا البدر ندمان و عندنا أکؤس للراح شهبان
و القضب مائسة و الطیر ساجعة و الأرض کاسیة و الجوّ عریان
و لمّا سئل أبو بکر محمد بن أحمد الأنصاری المعروف بالأبیض عن لغة فعجز عنها بمحضر من خجل منه أقسم أن یقیّد رجلیه بقید حدید، و لا ینزعه حتی یحفظ «الغریب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 272
المصنّف»، فاتّفق أن دخلت علیه أمّه فی تلک الحال، فارتاعت، فقال: [الکامل]
ریعت عجوزی أن رأتنی لابسا حلق الحدید و مثل ذاک یروع
قالت جننت؟ فقلت: بل هی همّة هی عنصر العلیاء و الینبوع
سنّ الفرزدق سنّة فتبعتها إنی لما سنّ الکرام تبوع
و کان شاعرا و شّاحا و طاح دمه علی ید الزبیر أمیر قرطبة لمّا هجاه بمثل قوله: [الکامل]
عکف الزبیر علی الضلالة جاهدا و وزیره المشهور کلب النار
ما زال یأخذ سجدة فی سجدة بین الکؤوس و نغمة الأوتار
فإذا اعتراه السّهو سبّح خلفه صوت القیان و رنّة المزمار
و لمّا بلغ الزبیر عنه ذلک و غیره أمر بإحضاره، فقرعه، و قال: ما دعاک إلی هذا؟ فقال:
إنی لم أر أحقّ بالهجو منک، و لو علمت ما أنت علیه من المخازی لهجوت نفسک إنصافا، و لم تکلها إلی أحد، فلما سمع الزبیر ذلک قامت قیامته، و أمر بقتله.
و أنشد له ابن غالب فی «فرحة الأنفس» قوله فی حلقة حائط: [البسیط]
و حلقة کشعاع الشمس صافیة لو قابلت کوکبا فی الجوّ لالتهبا
تأنّق القین فی إحکام صنعتها حتی أفاض علی أطرافها الذهبا
کأنها بیضة قد قدّ قونسها و کلّ جنب لها بالطعن قد ثقبا
و قال فیمن یحدّث نفسه بالخلافة: [الوافر]
أمیر المؤمنین، نداء شیخ أفادک من أمالیه اللطیفه
تحفّظ أن یکون الجذع یوما سریرا من أسرّتک المنیفه
و أذکر منک مصلوبا فأبکی و تضحکنی أمانیک السخیفه
و هاجی ابن سارة، فقال فیه ابن سارة: [الکامل]
و من العجائب أن یکون الأبیض بحماره بین السوابق یرکض
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 273

[من شعر أبی علی عمر الشلوبین النحوی و أبی إسحاق إبراهیم الإلبیری و أبی بکر بن عبادة القزاز]

و قال إمام النحاة بالأندلس أبو علی عمر الشلوبین فیمن اسمه قاسم: [الطویل]
و ممّا شجا قلبی و فیّض مدمعی هوی قدّ قلبی إذ کلفت بقاسم
و کنت أظنّ المیم أصلا فلم تکن و کانت کمیم ألحقت بالزراقم
و الزراقم: الحیّات، مشتقّة من الزرقة، و المیم زائدة، یرید أن میم قاسم کمیمها، فهو قاس، و هو منسوب إلی حصن سلوبینیة علی ساحل غرناطة، و له من الشهرة و التآلیف ما یغنی عن الإطناب فی وصفه، و له «التوطئة» و «شرح الجزولیة» و غیرهما، و کان مغفلا، و مع ذلک فهو آیة اللّه تعالی فی العربیة، و کان فی لسانه لکنة، و لمّا أراد مأمون بنی عبد المؤمن التوجّه إلی مرسیة، و قد ثار بها ابن هود، و أنشده الشعراء، و تکلّم فی مجلسه الخطباء، قام الشلوبین و قال دعاء منه: ثلّمک اللّه و نثرک، یرید سلّمک اللّه و نصرک؛ لأنه بلکنته یبدل السین و الصاد ثاء، فکان کما قال: عاد المأمون و قد ثلم عسکره و نثر.
و لمّا مرض الفقیه الزاهد أبو إسحاق إبراهیم الإلبیری دخل علیه الوزیر أبو خالد هاشم بن رجاء، فرأی ضیق مسکنه، فقال: لو اتخذت غیر هذا المسکن لکان أولی بک، فقال و هو آخر شعر قاله: [مخلع البسیط]
قالوا ألا تستجید بیتا تعجب من حسنه البیوت
فقلت ما ذلکم صوابا عشّ کثیر لمن یموت
لو لا شتاء و لفح قیظ و خوف لصّ و حفظ قوت
و نسوة یبتغین سترا بنیت بنیان عنکبوت
و قال أبو بکر بن عبادة القزاز الموشّح فی ابن بسّام صاحب «الذخیرة»: [الخفیف]
یا منیفا علی السّماکین سام حزت خصل السباق عن بسّام
إن تحک مدحة فأنت زهیر أو تشبّب فعروة بن حزام
أو تباکر صید المها فابن حجر أو تبکی الدیار فابن جذام
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص273
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 274
أو تذمّ الزمان و هو حقیق فأبو الطیب البعید المرامی‌

[من شعر أبی الحسن بن نزار و خبره]

و لمّا انتثر سلک نظام ملک لمتونة تفرّق ملک الأندلس رؤساء البلاد، و کان من جملتهم الأمیر أبو الحسن بن نزار لما له من الأصالة فی وادی آش، فحسده أهل بلده، و قصدوا تأخیره عن تلک المرتبة، فخطبوا فی بلدهم لملک شرق الأندلس محمد بن مردنیش، و وجّه لهم عمّاله و أوصالهم أن یخرج هذا الأسد من غیله، و یفرّق بینه و بین تأمیله، و رفعوا له أشعارا کان یستریح بها علی کاسه، و یبثّها بمحضر من یرکن إلیه من جلّاسه، و منها قوله، و قد استشعر من نفسه أنها أهل للتقدیم، مستحقّة لطلب سلفه القدیم: [البسیط]
الآن أعرف قدر النّفع و الضّرر فکیف أصدر ما للملک من صدر
و کیف أطلع فی أفق العلا قمرا و یستهلّ بکفّی و اکف الدرر
و کیف أملأ صدر الدهر من رعب و أستقلّ بحمل الحادث النّکر
و أستعدّ لما ترمی الخطوب به و أستطیل علی الأیام بالفکر
لکننی ربما بادرت منتهزا لفرصة مرقت کاللمح بالبصر
فی أمّ رأسی ما یعیا الزمان به شرحا فسل بعدها الأیام عن خبری
فعندما وقف ابن مردنیش علی هذا القول وجّه إلی وادی آش من حمله إلیه، و قیّده، و قدم به إلی مرسیة أسیرا، بعدما کان مرتقبا أن یقدم أمیرا، فلمّا وقعت عین ابن مردنیش علیه قال له: أمکن اللّه منک یا فاجر، فقال: أنت- أعزّک اللّه!- أولی بقول الخیر من قول الشّرّ، و من أمکنه اللّه من القدرة علی الفعل فما یلیق به أن یستقدر بالقول، فاستحیا منه، و أمر به للسجن، فمکث فیه مدّة، و صدرت عنه أشعار فی تشوّقه إلی بلاده، منها قوله: [المتقارب]
لقد بلغ الشوق فوق الذی حسبت فهل للتلاقی سبیل
فلو أننی متّ من شوقکم غراما لما کان إلّا قلیل
تعلّلنی بالتدانی المنی و ینشدنی الدهر: صبر جمیل
فقل لبثینة إن أصبحت بعیدا فلم یسل عنها جمیل
أغضّ جفونی عن غیرها و سمعی عن اللوم فیها یمیل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 275
و لم یزل علی حاله من السجن إلی أن تحیّل فی جاریة محسنة للغناء حسنة الصوت و صنع موشحته التی أولها:
نازعک البدر اللیاح بنت الدنان
فلم یدع لک اقتراح علی الزمان
و فیها یقول:
یا هل أقول للحسود و العیس تحدی
یا لائمی علی السراح کانت أمانی
أخرجها ذاک السماح إلی العیان
و جعل یلقیها علی الجاریة حتی حفظتها، و أحکمت الغناء بها، و أهداها إلی ابن مردنیش بعد ما أوصاها أنها متی استدعاها إلی الغناء و ظفرت به فی أطرب ساعة و أسرّها غنّته بهذه الموشحة، و تلطّفت فی شأن رغبتها فی سراح قائلها، فلعلّ اللّه تعالی یجعل فی ذلک سببا، و اتّفق أن ظفرت بما أوصاها به، و أحسنت غناء الموشحة، فطرب ابن مردنیش لسماع مدحه، و أعجبه مقاصد قائلها، فسألها: لمن هی؟ فقالت: لمولای عبدک ابن نزار، فقال:
أعیدی علیّ قوله «یا لائمی علی السراح» فأعادته، فداخلته علیه الرأفة و الأریحیة بما أصابه، فأمر فی الحین بحلّ قیده، و استدعی به إلی موضعه فی ذلک الوقت، فلمّا دخل خلع علیه و أدناه و قال له: یا أبا الحسن، قد أمرنا لک بالسّراح علی رغم الحسود، فارجع إلی بلدک مباحا لک أن تطلب الملک بها و بغیرها إن قدرت، فأنت أهل لأن تملک جمیع الأندلس، لا وادی آش، فقال له: و اللّه یا سیدی بل ألتزم طاعتک و الإقرار بأنک بعثتنی من قبر رمانی فیه الحسّاد و الوشاة، ثم شربا حتی تمکّنت بینهما المطایبة، فقال له: یا ابن نزار، الآن أرید أن أسألک عن شی‌ء، قال: و ما هو یا سیدی؟ قال: عمّا فی أمّ رأسک حین قلت: [البسیط]
فی أمّ رأسی ما یعیا الزمان به شرحا فسل بعدها الأیام عن خبری
فقال له: یا سیدی، لا تسمع إلی غرور نفس ألقته علی لسان نشوان لعبت بأفکاره
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 276
الأمانی و غطّت علی عقله الآمال، و اللّه لقد بقیت فی داری أروم الاجتماع بجاریة مهینة قدر سنة فما قدرت علی ذلک، و منعتنی منها زوجتی، فکیف أطلب ما دونه قطع الرءوس و نهب النفوس؟ فضحک ابن مردنیش، و جدّد له الإحسان، و جهّزه إلی بلده، و أمر عمّاله أن یشارکوه فی التدبیر، و یستأذنوه فی الصغیر و الکبیر، فتأثّل به مجده، و عظم سعده.
و من شعره قوله: [السریع]
انظر إلی الروض سحیرا و قد بثّ به الطّلّ علینا العیون
یرقب منّا یقظة للمنی فقل لها أهلا بداعی المجون
و حثّها شمسا إلی أن تری شمس الضحی تطرق تلک الجفون
و قوله: [الطویل]
تنبّه لمعشوق و کأس و قینة و روض و نهر لیس یبرح خفّاقا
فقد نبّهت هذی الحدائق ورقها و فتّح فیها الصبح بالطّلّ أحداقا
و مهما تکن فی ضیقة فأدر لها کؤوس الطّلا فالسّکر یوسع ما ضاقا
و قوله: [الکامل]
عطف القضیب مع النسیم تمیّلا و النهر موشیّ الخمائل و الحلی
ترکته أعطاف الغصون مظلّلا و لنا عن النهج القویم مضلّلا
أمسی یغازلنا بمقلة أشهل و الطرف أسحر ما تراه أشهلا

[بین ابن نزار و أبی جعفر بن سعید]

و قال بعضهم: استدعانی أبو الحسن بن نزار لمجلس أنس بوادی آش، فلمّا احتفل مجلسنا، و طابت لذّتنا قال: و اللّه ما تمام هذه المسرّة إلّا حضور أبی جعفر بن سعید و هو الآن بوادی آش، فوافقناه علی ذلک لما نعلم من طیب حالتنا معهما، و أنهما لا یأتیان إلّا بما یأتی به اجتماع النسیم و الروض، فخلا فی موضع و کتب له: [الکامل]
یا خیر من یدعی لکاس دائر و وجوه أقمار و روض ناضر
إنّا حضرنا فی الندیّ عصابة معشوقة من ناظم أو ناثر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 277
کلّ مخلّی للذی یختاره فی الأمن من ناه له أو زاجر
ما إن لهم شغل بفنّ واحد بل کلّ ما یجری بوفق الخاطر
شدو و رقص و اقتطاف فکاهة و تعانق و تغامز بنواظر
و هم کما تدری بأفقی أنجم لکن لنا شوق لبدر زاهر
سیدی، لا زلت متقدّما لکل مکرمة! هل یجمل التخلّف عن ناد قام فیه السرور علی ساق، و ضحک فیه الأنس بمل‌ء فیه، و انسدل به ستر الصون، و فاء علیه ظلّ النعیم، و سفرت فیه وجوه الطرب، و رکضت خیل اللهو، و ثار قتام الند، و هطلت سحاب ماء الورد، و جلیت الکؤوس، کالعرائس علی کراسی العروس، المثقلة بالعاج و الآبنوس، و کأنّ قطع النهار ممتزجة بقطع الظلام، أو بنی حام قد خالطت بنی سام و علی رؤوس الأقداح، تیجان نظمها امتزاج الماء بالراح، فطورا تستحیی فیبدو خجلها، و طورا تمتزج فیظهر وجلها، و العود ترجمان المسرّة قد جعلته أمّه فی حجرها، کولد ترضعه بدرّها، و ساقی الشّرب کالغصن الرطیب، أوراقه أردیة الشرب، و أزهاره الکؤوس، التی لا تزال تطلع و تغرب کالشموس، ساق یفهم بالإشارة، حلو الشمائل عذب العبارة، ذو طرف سقیم، و خدّ کأنه من خفره لطیم، و لدینا من أصناف الفواکه و الأزاهر، ما یحار فیه الناظر، و هل تکمل لذة دون إحضار خدود الورد، و عیون النرجس، و أصداغ الآس، و نهود السفرجل، و قدود قصب السکر، و مباسم قلوب الجوز، و سرر التفاح، و رضاب ابنة العنب؟ فقد اکتمل بهذه الأوصاف المختلسة من أوصاف الحبائب الطرب: [الطویل]
فطر بجناح الشوق عند وصولها إلیک و لا تجعل سواک جوابها
فلا عین إلّا و هی ترنو بطرفها إلیک فیسّر فی المطال حسابها
فقد أصبحت تعلو علیها غشاوة لبعدک فاکشف عن سناها ضبابها
قال أبو جعفر: فجعلت وصولی جواب ما نظم و نثر، و ألفیت الحالة یقصر عن خبرها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 278
الخبر، فانغمسنا فی النعیم، انغماس عرف الزهر فی النسیم، و مرّ لنا یوم غضّ الدهر عنه جفنه، حتی حسبناه عنوانا لما وعد اللّه تعالی به فی الجنّة.

[بین ابن نزار و ابن سعید و الکتندی]

و شرب یوما مع أبی جعفر بن سعید و الکتندی الشاعر فی جنة بزاویة غرناطة، و فیها صهریج ماء قد أحدق به شجر نارنج و لیمون و غیر ذلک من الأشجار، و علیه أنبوب ماء تتحرّک به صورة جاریة راقصة بسیوف و طیفور رخام یصنع فی أنبوبة الماء صورة خباء، فقالوا:
نقتسم هذه الأوصاف الثلاثة، فقال أبو جعفر یصف الراقصة: [الطویل]
و راقصة لیست تحرّک دون أن یحرّکها سیف من الماء مصلت
یدور بها کرها فتنضی صوارما علیه فلا تعیا و لا هو یبهت
إذا هی دارت سرعة خلت أنها إلی کلّ وجه فی الریاض تلفّت
و قال ابن نزار فی خباء الماء: [الطویل]
رأیت خباء الماء ترسل ماءها فنازعها هبّ الریاح رداءها
تطاوعه طورا و تعصیه تارة کراقصة حلّت و ضمّت قباءها
و قد قابلت خیر الأنام فلم تزل لدیه من العلیاء تبدی حیاءها
إذا أرسلت جودا أمام یمینه أبی العدل إلّا أن یردّ إباءها
و قد قیل: إنّ هذه الأبیات صنعها بمحضر الأمیر أبی عبد اللّه بن مردنیش ملک شرق الأندلس، و إنه لمّا ألجأته الضرورة أن یرتجل فی مثل ذلک شیئا، و کانت هذه عنده معدّة، فزعم أنه ارتجلها، قال أبو عمر بن سعید: و هذا هو الصحیح، فإنه ما کانت عادته أن یخاطب عمی أبا جعفر بخیر الأنام؛ فإنّ کلّ واحد منهما کفؤ الآخر.
و قال الکتندی: [الوافر]
و صهریج تخال به لجینا یذاب و قد یذهّبه الأصیل
کأنّ الروض یعشقه فمنه علی أرجائه ظلّ ظلیل
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 279
و تمنحه أکفّ الشمس عشقا دنانیرا فمنه لها قبول
إذا رفع النسیم القضب عنها فحینئذ یکون لها سبیل
و للنارنج تحت الماء لمّا تبدّی عکسها جمر بلیل
و للّیمون فیه دون سبک جلاجل زخرف بصبا تجول
فیا روضا به صقلت جفونی و أرهف متنه الزهر الکلیل
تناثر فیک أسلاک الغوادی و قبّل صفح جدولک القبول
و لا برحت تجمّع فیک شملا من الأکیاس و الکاس الشّمول
بدور تستنیر بها نجوم مع الإصباح لیس لها أفول
یهیم بهم نسیم الروض إلفا فمن وجد له جسم علیل‌

[من شعر أبی الأصبغ عبد العزیز بن الأرقم و أبی عامر بن أبی الأصبغ]

و روی أنّ الوزیر أبا الأصبغ عبد العزیز بن الأرقم وزیر المعتصم بن صمادح رأی رایة خضراء فیها صنیفة بیضاء فی ید علج من علوج المعتصم نشرها علی رأسه، فقال: [الکامل]
نشرت علیک من النعیم جناحا خضراء صیّرت الصباح و شاحا
تحکی بخفق قلب من عادیته مهما یصافح صفحها الأرواحا
ضمنت لک النعمی برأی ظافر فترقّب الفأل المشیر نجاحا
و کان هذا الوزیر آیة اللّه تعالی فی الوفاء، و أرسله المعتصم إلی المعتمد بن عبّاد، فأعجبت المعتمد محاولته، و وقع فی قلبه، فأراد إفساده علی صاحبه، و أخذ معه فی أن یقیم عنده، فقال له: ما رأیت من صاحبی ما أکره فأوثر عند غیره ما أحب، و لو رأیت ما أکره لما کان من الوفاء ترکی له فی حین فوّض إلیّ أمره، و وثق بی، و حمّلنی أعباء دولته، فاستحسن ذلک ابن عباد، و قال له: فاکتم علیّ، فلما عاد إلی صاحبه سأله عن جمیع ما جری له، فقال له فی أثناء ذلک: و جری لی معه ما إن أعلمتک به خفت أن تحسب فیه کالامتنان و الاستظهار، و تظنّ أنّ خاطری فسد به، و إن کتمتک لم أوف النصیحة حقّها، و خفت أن تطّلع علیه من غیری، فیحطّنی ذلک من عینک، و تحسب فیه کیدا، فحمل علیه فی أن یعلمه، فأعلمه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 280
بعد أن تلطّف هذا التلطّف، و هو من رجال الذخیرة و المسهب، و ابنه الوزیر أبو عامر من رجال القلائد.
و من نظم أبی عامر: [المتقارب]
فتی الخیل یقتادها ذبّلا خفافا تباری القنا الذّابلا
تری کلّ أجرد سامی التّلیل و تحسبه غصنا مائلا

[من شعر أبی محمد عبد البر بن فرسان و حاتم بن حاتم العنسی]

و للوزیر الکاتب أبی محمد بن فرسان و اسمه عبد البرّ، و هو حسنة وادی آش، یخاطب یحیی المیورقی: [الکامل]
أنعم بتسریح علیّ فعلّه سبب الزیارة للحطیم و یثرب
و لئن تقوّل کاشح أنّ الهوی درست معالمه و أنکر مذهبی
فمقالتی ما إن مللت و إنما عمری أبی حمل النّجاد بمنکبی
و عجزت عن أن أستثیر کمینها و أشقّ بالصّمصام صدر الموکب
و هذه الأبیات کتب بها إلیه و قد أسنّ و ملّ من الجهد معه، یرغب فی سراحه إلی الحجاز، رحمه اللّه تعالی، و تقبّل نیّته بمنّه و یمنه!
و قال حاتم بن حاتم بن سعید العنسی و کان صاحب سیف و قلم، و علم و علم:
[الکامل]
یا دانیا منی و ما أنا زائر لا أنت معذور و لا أنا عاذر
ما ذا یضرّک إذ ظللت بظلمة أن لا یطالع منک بدر زاهر
و توفی المذکور بغرناطة سنة ثلاث و تسعین و خمسمائة.

[من شعر التطیلی الأعمی]

و قال التطیلی الأعمی فی أسد نحاس یقذف الماء: [مجزوء الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 281
أسد و لو أنی أنا قشه الحساب لقلت صخره
فکأنه أسد السما ء یمجّ من فیه المجرّه

[ابن ظافر و القاضی المؤید]

قال ابن ظافر: صرنا فی بعض العشایا علی البساتین المجاورة للنیل، فرأینا فیه بئرا علیها دولابان متحاذیان، قد دارت أفلاکهما بنجوم القوادیس، و لعبت بقلوب ناظریهما لعب الأمانی بالمفالیس، و هما یئنّان أنین الأشواق، و یفیضان ماء أغزر من دموع العشّاق، و الروض قد جلا للأعین زبرجده، و الأصیل قد راقه حسنه فنثر علیه عسجده، و الزهر قد نظم جواهره فی أجیاد الغصون، و السواقی قد أذابت من سلاسل فضّتها کلّ مصون، و النبت قد اخضرّ شاربه و عارضه، و طرف النسیم قد رکضه فی میادین الزهر راکضه، و رضاب الغیث قد استقرّ من الطین فی لمی، و حیّات المجاری حائرة تخاف من زمرّد النبات أن یدرکها العمی، و البحر قد صقل النسیم درعه، و زعفران العشی قد ألقی فی ذیل الجوّ ردعه، فأوسعنا ذلک المکان حسنا و قلوبنا استحواذا، و ملأ أبصارنا و أسماعنا مسرّة و التذاذا، و ملنا إلی الدولابین شاکّین أزمرا حین سجعت قیان الطیر بألحانها، و شدت علی عیدانها، أم ذکرا أیام نعما و طابا، و کانا أغصانا رطابا، فنفیا عنهما لذید الهجوع، و رجّعا النوح و أفاضا الدموع طلبا للرجوع، و جلسنا نتذاکر ما فی ترکیب الدوالیب، من الأعاجیب، و نتناشد ما وصفت به من الأشعار، الغالیة الأسعار، فأفضی بنا الحدیث الذی هو شجون، إلی ذکر قول الأعمی التّطیلی فی أسد نحاس یقذف الماء:
أسد و لو أنی- إلخ
فقال لی القاضی أبو الحسن علی بن المؤید رحمه اللّه تعالی: یتولّد من هذا فی الدولاب معنی یأخذ بمجامع المسامع، و یطرب الرائی و السامع، فتأمّلت ما قاله بعین بصیرتی البصیرة، و استمددت مادة غریزتی الغزیرة، فظهر لی معنّی ملأنی أطرابا، و أوسعنی إعجابا،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 282
و أطرق کلّ منّا ما جاش به مدّ بحره، و أنبأه به شیطان فکره، فلم یکن إلّا کنقرة العصفور، الخائف من الناطور، حتی کمل ما أردنا من غیر أن یقف واحد منّا علی ما صنعه الآخر، فکان الذی قال: [الخفیف]
حبّذا ساعة العشیّة و الدو لاب یهدی إلی النفوس المسرّه
أدهم لا یزال یعدو و لکن لیس یعدو مکانه قدر ذرّه
ذو عیون من القوادیس تبکی کل عین من فائض الدمع ثرّه
فلک دائر یرینا نجوما کل نجم یبدی لدینا المجرّه
و کان الذی قلت: [الوافر]
و دولاب یئنّ أنین ثکلی و لا فقدا شکاه و لا مضرّه
تری الأزهار فی ضحک إذا ما بکی بدموع عین منه ثرّه
حکی فلکا تدور به نجوم تؤثّر فی سرائرنا المسرّه
یظلّ النجم یشرق بعد نجم و یغرب بعدما تجری المجرّه
فعجبنا من اتفاقنا، و قضی العجب منه سائر رفاقنا، انتهی.

[من شعر ابن شعبة الوادی آشی و ابن الحداد الوادی آشی]

رجع: و کان لأبی محمد عبد اللّه بن شعبة الوادی آشی ابن شاعر، فعرض علیه شعرا، نظمه، فأعجبه، فقال: [السریع]
شعرک کالبستان فی شکله یجمع بین الآس و الورد
فاصنع به إن کنت لی طائعا ما یصنع الفارس بالبند
و لشاعر الأندلس أبی عبد اللّه بن الحداد الوادی آشی، و هو من رجال الذخیرة:
[الوافر]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 283
لزمت قناعتی و قعدت عنهم فلست أری الوزیر و لا الأمیرا
و کنت سمیر أشعاری سفاها فعدت بها لفلسفتی سمیرا
و له فی العروض تألیف مزج فیه بین الأنحاء الموسیقیة، و الآراء الخلیلیة، و ردّ فیه علی السرقسطی المنبوز بالحمار.
و له فی المعتصم بن صمادح: [الطویل]
لعلّک بالوادی المقدّس شاطی‌ء فکالعنبر الهندیّ ما أنا واطئ
و إنّی فی ریّاک واجد ریحهم فجمر الأسی بین الجوانح ناشئ
و لی فی السّری من نارهم و منارهم هداة حداة و النجوم طوافی‌ء
لذلک ما حنّت رکابی و حمحمت عرابی و أوحی سیرها المتباطی‌ء
فهل هاجها ما هاجنی؟ و لعلّها إلی الوخد من نیران قلبی لواجی‌ء
رویدا فذا وادی لبینی و إنه لورد لباناتی و إنی لظامی‌ء
موارد تهیامی و مسرح ناظری فللشّوق غایات بها و مبادئ
و اعترض علیه بعضهم بأنه همز فی هذه القصیدة ما لا یهمز، فقال: [الطویل]
عجبت لغمّازین علمی بجهلهم و إنّ قناتی لا تلین علی الغمز
تجلّت لهم آیات فهمی و منطقی مبیّنة الإعجاز ملزمة العجز
و لاحت لهم همزیّة أو حدیّة و ویل بها ویل لذی الهمز و اللّمز
رموها بنقص بیّنت فیه نقصهم و من لمس الأفعی شکا ألم النّکز
فإن أنکرت أفهامهم بعض همزها فقد عرفت أکبادهم صحّة الهمز
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 284
و له و هو مما یتغنّی به بالأندلس: [الکامل]
فذر العقیق مجانبا لعقوقه ودع العذیب عذیب ذات الخال
أفق محلّی بالقواضب و القنا للأغید المعطار لا المعطال
حجبوک إلّا من توهّم خاطری و حموک إلّا من تصوّر بالی
و القارظان جمیل صبری و الکری فمتی أرجّی منک طیف خیال
و من بدائعه قوله: [الکامل]
سامح أخاک إذا أتاک بزلّة فخلوص شی‌ء قلّما یتمکّن
فی کلّ شی‌ء آفة موجودة إنّ السّراج علی سناه یدخّن
و أنشد أحد الأدباء هذین البیتین متمثّلا، فأعجبا المعتصم، و سأل عن قائلهما، فأخبر، فتبسّم و قال: أتعرف إلی من أشار بهذا المعنی؟ قال: ما أعرف إلّا أنه ملیح، فقال المعتصم:
کنت فی الصّبا و هو معی، ألقّب بسراج الدولة، فقاتله اللّه ما أشعره، فسلوه، فلمّا باحثوه فی ذلک أقرّ بحسن حدس المعتصم. و اکتنفته سعایات، و کان ممّن یغلب لسانه علی عقله، ففرّ من المریّة، و حبس أخوه بها، فقال: [الکامل]
الدهر لا ینفکّ من حدثانه و المرء منقاد لحکم زمانه
و علمت أنّ السّعد لیس بمنجح ما لا یکون السّعد من أعوانه
و الجدّ دون الجدّ لیس بنافع و الرّمح لا یمضی بغیر سنانه
و بلغت الأبیات المعتصم فقال: شعره أعقل منه، صدق فإنه لا یتهیّأ له صلاح عیش إلّا بأخیه، و هو منه بمنزلة السّنان من الرمح، ثم أمر بإطلاقه و لحاقه به.
و لمّا قال فی المعتصم: [الکامل]
یا طالب المعروف دونک فاترکن دار المریّة و ارفض ابن صمادح
رجل إذا أعطاک حبّة خردل ألقاک فی قید الأسیر الطائح
لو قد مضی لک عمر نوح عنده لا فرق بینک و البعید النازح
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 285
اغتاظ علیه، و أبعده، ففرّ من بلده.
و من المنسوب إلیه فی النساء: [البسیط]
خن عهدها مثل ما خانتک منتصفا و امنح هواها بنسیان و سلوان
فالغید کالروض فی خلق و فی خلق إن مرّ جان أتی من بعده جان
و له: [الخفیف]
حیثما کنت ظاعنا أو مقیما دم رفیعا و عش منیعا سلیما

[الوزیر الفقیه أبو بلال و من شعر ابن البراق]

و قال ابن دحیة فی «المطرب»: إنّ من المجیدین فی الجدّ و الهزل، و رقیق النظم و الجزل، صاحبنا الوزیر أبا بلال، و قال لی: إنه کان و برد شبابه قشیب، و غصن اعتداله رطیب، بقمیص النّسک متقمّص، و بعلم الحدیث متخصّص، فاجتاز یوما و بیده مجلّد من صحیح مسلم بقصر بعض الملوک الأکابر، و من بعض مناظره ناظر، و مجلسه بخواصّ ندمائه حال، و صوت المثانی و المثالث عال، فقال: أطلعوا لنا هذا الفقیه، فلعلّنا نضحک منه. فلما مثل بین یدیه و حیّا، أمر الساقی بمناولته کأس الحمیّا، فتقبّض متأففا، و أبدی تمعرا و تقشفا، و السلطان یستغرب ضحکا بما هجم علیه، و ید الساقی ممدودة إلیه، و اتّفق أن انشقّت من ذاتها الزجاجة، فظهر من السلطان التطیّر من ذلک، فأنشد الفقیه مرتجلا: [المنسرح]
و مجلس بالسرور مشتمل لم یخل فیه الزجاج من أدب
سری بأعطافه یرنّحه فشقّ أثوابه من الطرب
فسرّ السلطان و سرّی عنه، و استحسن من الفقیه ما بدا منه، و أمر له بجائزة سنیّة، و خلعة رائقة بهیّة.
و ما أحسن قول ابن البراق: [مخلع البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 286
یا سرحة الحیّ یا مطول شرح الذی بیننا یطول
و لی دیون علیک حلّت لو أنه ینفع الحلول
و قوله: [الکامل]
انظر إلی الوادی إذا ما غرّدت أطیاره شقّ النسیم ثیابه
أ تراه أطربه الهدیل و زاده طربا و حقّک أن حللت جنابه
و له فی غلام علی فمه أثر المداد: [مخلع البسیط]
یا عجبا للمداد أضحی علی فم ضمّن الزّلالا
کالقار أضحی علی المحیّا و اللیل قد لامس الهلالا

[من شعر أبی محمد عبد اللّه و علی بن مهلهل الجلیانی و یحیی بن مطروح]

و کتب أبو محمد عبد اللّه فی معذرة إلی بعض أصحابه من الأسر فی طلیطلة: [مجزوء الکامل]
لو کنت حیث تجیبنی لأذاب قلبک ما أقول
یکفیک منّی أننی لا أستقلّ من الکبول
و إذا أردت رسالة لکم فما ألفی رسول
هذا و کم بتنا و فی أیماننا کأس الشّمول
و العود یخفق و الدخا ن العنبریّ به یجول
حال الزمان و لم یزل مذ کنت أعهده یحول
و لأبی الحسن علی بن مهلهل الجلیانی فی أبی بکر بن سعید صاحب أعمال غرناطة فی دولة الملثّمین: [الکامل]
لو لا النّهود لما عراک تنهّد و علی الخدود القلب منک یخدّد
یا نافذا قلبی بسهم جفونه مالی علی سهم رمیت به ید
و قال أبو زکریا یحیی بن مطروح فی غلام کاتب أطلّ عذاره: [البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 287
یا حسنه کاتبا قد خطّ عارضه فی خدّه حاکیا ما خطّ بالقلم
لام العذول علیه حین أبصره فقلت دعنی فزین البرد بالعلم
و انظر إلی عجب ممّا تلوم به بدر له هالة قدّت من الظّلم
قولوا عن البحر ما شئتم و لا عجب من عنبر الشّحر أو من درّ مبتسم
و له، و قد عزل عن مالقة وال غیر مرضیّ، و نزل المطر علی إثره، و کان الناس فی جدب: [السریع]
و ربّ وال سرّنا عزله فبعضنا هنّأه البعض
قد واصلتنا السّحب من بعده و لذّ فی أجفاننا الغمض
لو لم یکن من نجس شخصه ما طهّرت من بعده الأرض‌

[من شعر أبی بکر محمد بن نصر الأوسی و أبی عبد اللّه محمد بن علی اللوشی]

و کان الکاتب أبو بکر محمد بن نصر الأوسی مختصّا بوزیر عبد المؤمن أبی جعفر بن عطیة، فقال فیه: [الطویل]
أبا جعفر نلت الذی نال جعفر و لا زلت بالعلیا تسرّ و تحبر
علیک لنا فضل و برّ و أنعم و نحن علینا کلّ مدح یحبّر
و حدّث من حضر مجلس الوزیر ابن عطیة و قد أحسّ من عبد المؤمن التغیر الذی أفضی إلی قتله، و قد افتتح ابن نصر مطلع هذه القصیدة، فتغیّر وجه أبی جعفر؛ لأنّ جعفر بن یحیی کان آخر أمره الصلب، فکأنّ هذا عمّم الدعاء، و العجب أنه قتل مثل جعفر بعد ذلک.
و هذا الشاعر هو القائل: [الطویل]
و ما أنا عن ذاک الهوی متبدّل و ذا الغدر بالإخوان غیر کریم
بغیرک أجری ذکر فضلک فی الندی کما قد جری بالروض هبّ نسیم
و إن کان عندی للجدید لذاذة فلست بناس حرمة لقدیم
و لأبی عبد اللّه محمد بن علی اللوشی یخاطب صاحب «المسهب»: [الخفیف]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 288
بی إلیکم شوق شدید و لکن لیس یبقی مع الجفاء اشتیاق
إن یغیّرکم الفراق فودّی لو خبرتم یزید فیه الفراق
و له: [مجزوء الکامل]
لو أنّ لی قلبا کقل بک کنت أهجر هجرکا
یکفیک أنک قد نسی ت و لست أنسی ذکرکا
و من العجائب أننی أفنی و أکتم سرّکا
کن کیفما تختاره فالحبّ یبسط عذرکا
و له: [الکامل]
هل عندکم علم بما فعلت بنا تلک الجفون الفاتکات بضعفها
نصحا لکم أن تأمنوها أنها سحر النّهی ما تبصرون بطرفها

[من شعر أبی محمد عبد المولی اللوشی و أخباره]

و لابنه أبی محمد عبد المولی، و کان ماجنا، لمّا نعی إلیه و هو علی الشراب أحد أصحابه مرتجلا: [مجزوء الرمل]
إنّما دنیاک أکل و شراب و قحاب
ثم من بعد صراخ و وداع و تراب
و له: [مجزوء الرمل]
یا ندیم اشرب علی أف ق صقیل و حدیقه
و اسقنی ثم اسقنی ثمّ اسقنی خمرا و ریقه
من غزال تطلع الشم س بخدّیه أنیقه
لا تفوّت ساعة من کأس خمر و عشیقه
و اجتنب ما سخرت جه لا له هذی الخلیقه
رغبوا فی باطل زو ر بزهد فی الحقیقه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 289
لیس إلّا ما تراه أنا أدری بالطریقه
قال أبو عمران موسی بن سعید: قلنا له: ما هذا الاعتقاد الفاسد الذی لا ینبغی لأحد أن یصحبک به؟ فقال: هذا قول لا فعل، و قد قال اللّه تعالی: أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِی کُلِّ وادٍ یَهِیمُونَ (225) وَ أَنَّهُمْ یَقُولُونَ ما لا یَفْعَلُونَ (226) [سورة الشعراء، الآیة: 225- 226].
ثم قال ابن سعید: و لو لا أنّ حاکی الکفر لیس بکافر ما ذکرتها، و هذا منزع من قال من المجوس: [مجزوء الرمل]
خذ من الدنیا بحظّ قبل أن ترحل عنها
فهی دار لا تری من بعدها أحسن منها
و هذا کفر صراح، و قائله قد تقمّص کفرا، اللهم غفرا!
و طلب منه بعض الأرذال، أن یکتب له شفاعة عند أحد العمّال، فکتب له رسالة فیها هذه الأبیات: [السریع]
کتبته مولای فی طالع ما طار فیه طائر الیمن
و فکرة حائلة و الحشا ینهب بالهمّ و بالحزن
کلّفنیه ساقط أخرق مشتهر بالطحن و القرن
أکذب خلق اللّه أرداهم أخوفهم فی الخوف و الأمن
یکفر ما یسدی إلیه و لا یعذر خلقا سی‌ء الظنّ
فإن صنعت الخیر ألفیته شرا و أضحی المجد ذا غبن
و انتقد الناس علیک الذی تسدی له فی أیّ ما فنّ
فافعل به ما هو أهل له و اسمعه تفسیرا و لا أکنی
أهنه و اصفعه و لا تترک ال بوّاب یکرمه لدی الإذن
و اقطع بفیه القول و احرمه من ردّ جواب أنسه یدنی
و کلّما استنبط رأیا فس فّهه و دعه مسخن الجفن
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 290
فهو إذا أکرمته فاسد و صالح بالهون و اللّعن
شفاعتی فی مثله هذه فلا سقاه هاطل المزن
و دفع إلیه الکتاب مختوما، فسرّ به، و حمله إلی العامل، و سافر إلیه أیاما، فلمّا دفعه إلیه قرأه و ضحک، و دفعه إلی من یشارکه فی ذلک من أصحابه، فوعده بخیر و أخرجه إلی شغل لم یرضه، فلمّا عاد منه قال له: أخرجتنی لأرذل شغل و أخسّه فما فائدة الشفاعة إذن؟ فقال له:
أو ترید أن أفعل معک ما تقتضیه شفاعة صاحبک؟ قال: لا أقلّ من ذلک، فأمر من یأتیه بالأبیات، فقرئت علیه، فانصرف فی أسوإ حال، فلما دخل علیه غرناطة- و کان عبد المولی تزوّج فیها امرأة اغتبط بها- فتزیّا هذا الرجل بزی أهل البادیة، و زوّر کتابا علی لسان زوجة لعبد المولی فی بلدة أخری، و قال فی الکتاب: و قد بلغنی أنک تزوّجت غیری، و أردت أن أکتب إلیک فی أن تطلقنی، فوصلنی کتابک تعرفنی فیه أن الزوجة الجدیدة لم توافق اختیارک، و أنک ناظر فی طلاقها، فردّنی ذلک عمّا عزمت علیه، فانظر فی تعجیل ما وعدت به من طلاقها، فإنک إن لم تفعل لم أبق معک أبدا، فلمّا مرّ بدار عبد المولی رأی جاریة زوجته فقال لها: أنا رجل بدوی أتیت من عند فلانة زوجة أبی محمد عبد المولی، فعندما سمعت ذلک أعلمت ستها، و أخذت الکتاب، فوقفت علی ما فیه غیر شاکّه فی صحّته، فلمّا دخل عبد المولی وجدها علی خلاف ما فارقها علیه، فسألها عن حالها، فقالت: أرید الطلاق، فقال: ما سبب هذا و أنا أرغب الناس فیک؟ فألقت إلیه الکتاب، فلمّا وقف علیه حلف لها أن هذا لیس بصحیح، و أنّ عدوّا له اختلقه علیه، فلم یفد ذلک عندها شیئا، و لم یطب له بعد ذلک معها عیش، فطلّقها، و علم أن ذلک الرجل هو الذی فعل ذلک، فقال له: لا جزاک اللّه خیرا، و لا أصلح لک حالا! فقال: و أنت کذلک، فهذه بتلک، و البادی أظلم، فما کان ذنبی عندک حین کتبت فی حقّی ما کتبت؟ فقال له: مثلک لا یقول «ما ذنبی» أنت کلّک ذنوب: [الوافر]
أ لست بألأم الثّقلین طرا و أثقلهم و أفحشهم لسانا؟
فمهما تبغ برا عند شخص تزد منه بما تبغی هوانا
فانصرف عنه عالی اللسان بلعنته.
و کان أحد بنی عبد المؤمن قد ألزمه أن ینسخ له کتابا بموضع منفرد، فخطر له یوما جلد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 291
عمیرة، و اتّفق أن مرّ السید یوما بذلک الموضع، فنظر إلیه فی تلک الحال، فقال له السید: ما تصنع؟ فقال: الدواة جفّت، و لم أجد ما أسقیها به إلّا ماء ظهری، فضحک السید، و أمر له بجاریة، فقال: [المجتث]
قل للعمیرة طلّق ت بعد طول زواج
قد کان مائی ضیاعا یمرّ فی غیر حاج
حتی حبانی بحسنا ء قابل للنتاج
فکان ناقل خمر من حنتم لزجاج
کانت تمرّ ضیاعا فأصبحت کالسراج‌

[من شعر حاتم بن سعید و مالک بن محمد بن سعید]

و قال حاتم بن سعید: [الخفیف]
جنّبونی عن المدامة إلّا عند وقت الصباح أو فی الأصیل
و اشفعوها بکلّ وجه ملیح و دعونی من کلّ قال و قیل
و إذا ما أردتم طیب عیشی فاحجبونی عن کلّ وجه ثقیل
و قال مالک بن محمد بن سعید: [الوافر]
أتانی زائرا فبسطت خدّی له و یقلّ بسط الخدّ عندی
فقلت له أیا مولای ألفا فقال و أنت ألفا عبد عبدی
و عانقنی و قبّلنی و نادی بلطف منه کیف رأیت و عدی
و قال فی استهداء مقص: [الطویل]
ألا قل نعم فی مطلب قد حکاه لا یفصّل إذ نبغی الوصال موصّلا
نشقّ به صدر النهار و قد بدا ظلاما بأمثال النجوم مکلّلا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 292
و قال: [البسیط]
سارت کبدر و لیل الخدر یسترها و لو بدا وجهها جاءتک بالفلق
و دونها من صلیل اللامعات حمّی فالبرق و الرعد دون الشمس فی الأفق

[بین محمد بن غالب و الکتندی و أبی جعفر بن سعید]

و اجتمع بغرناطة محمد بن غالب الرصافی الشاعر المشهور و محمد بن عبد الرحمن الکتندی الشاعر و غیرهما من الفضلاء و الرؤساء، فأخذوا یوما فی أن یخرجوا لنجد أو لحوز مؤمل، و هما منتزهان من أشرف و أظرف منتزهات غرناطة، لیتفرجوا و یصقلوا الخواطر بالتطلّع فی ظاهر البلد، و کان الرصافی قد أظهر الزهد و ترک الخلاعة، فقالوا: ما لنا غنی عن أبی جعفر ابن سعید، اکتبوا له، فصنعوا هذا الشعر و کتبوه له، و جعلوا تحته أسماءهم: [الطویل]
بعثنا إلی ربّ السماحة و المجد و من ما له فی ملّة الظرف من ندّ
لیسعدنا عند الصبیحة فی غد لنسعی إلی الحور المؤمّل أو نجد
نسرّح منّا أنفسا من شجونها ثوت فی شجون هنّ شرّ من اللحد
و نظفر من بخل الزمان بساعة ألذّ من العلیا و أشهی من الحمد
علی جدول ما بین ألفاف دوحة تهزّ الصّبا فیها لواء من الرّند
و من کان ذا شرب یخلّی بشأنه و من کان ذا زهد ترکناه للزهد
و ما ظرفه یأبی الحدیث علی الطّلی و لا أن یدیل الهزل حینا من الجدّ
تهزّ معانی الشعر أغضان ظرفه و یمرح فی ثوب الصبابة و الوجد
و ما نغّص العیش المهنّأ غیر أن یمازجه تکلیف ما لیس بالود
نظمنا من الخلّان عقد فرائد و لمّا نجد إلّاک واسطة العقد
فماذا تراه لا عدمناک ساعة فنحن بما تبدیه فی جنّة الخلد
و رشدک مطلوب و أمرک نحوه ار تقاب و کلّ منک یهدی إلی الرشد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 293
فکان جوابه لهم: [الطویل]
هو القول منظوما أو الدرّ فی العقد هو الزّهر نفّاح الصبا أم شذا الودّ
أتانی و فکری فی عقال من الأسی فحلّ بنفث السّحر ما حلّ من عقد
و من قبل علمی أین مبعث وجهه علمت جناب الورد من نفس الورد
و أیقنت أنّ الدهر لیس براجع لتقدیم عصر أو وقوف علی حدّ
فکلّ أوان فیه أعلام فضله ترادف موج البحر ردا إلی ردّ
فکم طیّها من فائت متردّم یهزّ بما قد ضمرت معطف الصّلد
فیا من بهم تزهی المعالی و من لهم قیاد المعالی ما سوی قصدکم قصدی
فسمعا و طوعا للذی قد أشرتم به لا أری عنه مدی الدهر من بدّ
فقوموا علی اسم اللّه نحو حدیقة مقلّدة الأجیاد موشیّة البرد
بها قبّة تدعی الکمامة فاطلعوا بها زهرا أذکی نسیما من النّدّ
و عندی ما یحتاج کلّ مؤمّل من الراح و المعشوق و الکتب و النرد
فکلّ إلی ما شاءه لست ثانیا عنانا له إنّ المساعد ذو الودّ
و لست خلیّا من تأنّس قینة إذا ما شدت ضلّ الخلیّ عن الرشد
لها ولد فی حجرها لا تزیله أوان غناء ثم ترمیه بالبعد
فیا لیتنی قد کنت منها مکانه تقلّبنی ما بین خضر إلی نهد
ضمنت لمن قد قال إنی زاهد إذا حلّ عندی أن یحول عن الزهد
فإن کان یرجو جنّة الخلد آجلا فعندی له فی عاجل جنّة الخلد
فرکبوا إلی جنّته، فمرّ لهم أحسن یوم علی ما اشتهوا، و ما زالوا بالرصافی إلی أن شرب لمّا غلب علیه الطرب، فقال الکتندی: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 294
غلبناک عمّا رمته یا ابن غالب براح و ریحان و شدو و کاعب‌

[من شعر أبی جعفر بن سعید]

فقال أبو جعفر: [الطویل]
بدا زهده مثل الخضاب فلم یزل به ناصلا حتی بدا زور کاذب
فلمّا غربت الشمس قالوا: ما رأینا أقصر من هذا الیوم، و ما ینبغی أن یترک بغیر وصف، فقال أبو جعفر: أنا له، ثم قال بعد فکرة، و هو من عجائبه التی تقدم بها المتقدّمین و أعجز المتأخّرین: [مجزوء الکامل]
اللّه یوم مسرّة أضوا و أقصر من ذباله
لمّا نصبنا للمنی فیه بأوتار حباله
طار النهار به کمر تاع فأجفلت الغزاله
فکأننا من بعده بعنا الهدایة بالضلاله
و النهار: ذکر الحباری، و إلیه أشار بقوله «طار النهار» و الغزالة: الشمس، و لا یخفی حسن التوریتین، فسلّم له الجمیع، تسلیم السامع المطیع.
و علی ذکر الغزالة فی هذا الموضع فلأبی جعفر أیضا فیها، و هو من بدائعه، قوله:
[الطویل]
بدا ذنب السّرحان ینبئ أنه تقدّم سبت و الغزالة خلفه
و لم تر عینی مثله من متابع لمن لا یزال الدهر یطلب حتفه
و قوله: [الخفیف]
اسقنی مثل ما أنار لعینی شفق ألبس الصباح جماله
قبل أن تبصر الغزالة تستد رج منه علی السماء غلاله
و تأمّل لعسجد سال نهرا کرعت فیه، أو تقضّی، غزاله
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 295
و من نظم أبی جعفر قوله: [الکامل]
لو لم یکن شدو الحمائم فاضلا شدو القیان لما استخفّ الأغصنا
طرب ثنی حتی الجماد ترنّحا و أفاض من دمع السحائب أعینا
و قوله: [الکامل]
فی الروض منک مشابه من أجلها یهفو له طرفی و قلبی المغرم
الغصن قدّ، و الأزاهر حلیة، و الورد خدّ، و الأقاحی مبسم
و قوله: [الطویل]
ألا حبّذا نهر إذا ما لخظته أبی أن یردّ اللحظ عن حسنه الأنس
تری القمرین الدهر قد عنیا به یفضّضه بدر و تذهبه شمس
و قوله، و قد مرّ بقصر من قصور أمیر المؤمنین عبد المؤمن و قد رحل عنه: [البسیط]
قصر الخلیفة لا أخلیت من کرم و إن خلوت من الأعداد و العدد
جزنا علیک فلم تنقص مهابته و الغیل یخلو و تبقی هیبة الأسد
و قوله من أبیات: [الکامل]
سرّح لحاظک حیث شئت فإنه فی کلّ موقع لحظة متأمّل
و قوله أیضا: [الخفیف]
و لقد قلت للذی قال حلّوا ههنا: سر فإننا ما سئمنا
لا تعیّن لنا مکانا و لکن حیثما مالت اللواحظ ملنا
و قال: [الطویل]
ألا هاتها إنّ المسرّة قربها و ما الحزن إلّا فی توالی جفائها
مدام بکی الإبریق عند فراقها فأضحک ثغر الکاس عند لقائها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 296
و قال: [السریع]
عرّج علی الحور و خیّم به حیث الأمانی ضافیات الجناح
و اسبق له قبل ارتحال الندی و لا تزره دون شاد وراح
و کن مقیما منه حیث الصّبا تمتار مسکا من أریج البطاح
و القضب مال البعض منها علی بعض کما یثنی القدود ارتیاح
و شقّ جیب الصبر قصف إذا شقّت جیوب الطّلّ منها الریاح
لم أحص کم غادیته ثابتا و استرقصتنی الراح عند الرواح
و قوله: [الطویل]
ألا حبّذا روض بکرنا له ضحی و فی جنبات الروض للطلّ أدمع
و قد جعلت بین الغصون نسیمة تمزّق ثوب الطّلّ منها و ترقع
و نحن إذا ما ظلّت القضب رکّعا نظلّ لها من هزّة السکر نرکع‌

[بین ابن الصابونی و أحد الأدباء و من شعر ابن الصابونی و بعض أخباره]

و کان ابن الصابونی فی مجلس أحد الفضلاء بإشبیلیة، فقدّم فیما قدّم خیار، فجعل أحد الأدباء یقشرها بسکین، فخطف ابن الصابونی السکین من یده، فألحّ علیه فی استرجاعها، فقال له ابن الصابونی: کفّ عنّی و إلّا جرحتک بها، فقال له صاحب المنزل: اکفف عنه لئلّا یجرحک و یکون جرحک جبارا، تعریضا بقول النبیّ صلی اللّه علیه و سلم «جرح العجماء جبار» فاغتاظ ابن الصابونی، و خرج من الاعتدال، و أخطأ بلسانه، و ما کفّ إلّا بعد الرغبة و التضرّع.
و من نظم ابن الصابونی: [الطویل]
بعثت بمرآة إلیک بدیعة فأطلع بسامی أفقها قمر السّعد
لننظر فیها حسن وجهک منصفا و تعذرنی فیما أکنّ من الوجد
فأرسل بذاک الخدّ لحظک برهة لتجنی منه ما جناه من الورد
مثالک فیها منک أقرب ملمسا و أکثر إحسانا و أبقی علی العهد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص296
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 297
و قوله فی لابس أحمر: [المنسرح]
أقبل فی حلّة مورّدة کالبدر فی حلّة من الشّفق
تحسبه کلّما أراق دمی یمسح فی ثوبه ظبا الحدق
و رحل إلی القاهرة و الإسکندریة فلم یلتفت إلیه، و لا عوّل علیه، و کان شدید الانحراف، فانقلب علی عقبه یعضّ یدیه، علی ما جری علیه، فمات عند إیابه إلی الإسکندریة کمدا، و لم یعرف له بالدیار المصریة مقدار.
و حضر یوما بین یدی المعتضد الباجی ملک إشبیلیة و قد نثرت أمامه جملة من دنانیر سکّت باسمه، فأنشد: [السریع]
قد فخر الدینار و الدّرهم لمّا علا ذین لکم میسم
کلاهما یفصح عن مجدکم و کل جزء منه فرد فم
و مرّ فیها إلی أن قال فی وصف الدنانیر: [السریع]
کأنها الأنجم و البعد قد حقق عندی أنها الأرجم
فأشار السلطان إلی وزیره، فأعطاه منها جملة، و قال له: بدّل هذا البیت لئلا یبقی ذما.
و کان یلقّب بالحمار، و لذا قال فیه ابن عتبة الطبیب: [السریع]
یا عیر حمص عیّرتک الحمیر بأکلک البرّ مکان الشعیر
و هو أبو بکر محمد بن الفقیه أبی العباس أحمد بن الصابونی شاعر إشبیلیة الشهیر الذکر، و الذی أظهره مأمون بنی عبد المؤمن، و له فیه قصائد عدّة، منها قوله فی مطلع:
[الکامل]
استول سبّاقا علی غایاتها نجح الأمور یبین فی بدآتها
و له الموشحات المشهورة، رحمه اللّه تعالی!
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 298

[بین ابن الخصال و القاضی ابن مالک]

و من حکایات الصبیان أن ابن أبی الخصال، و هو من شقورة، اجتاز بأبدة و هو صبیّ صغیر یطلب الأدب، فأضافه بها القاضی ابن مالک، ثم خرج معه إلی حدیقة معروشة، فقطف لهما منها عنقودا أسود، فقال القاضی: [مجزوء الرجز]
انظر إلیه فی العصا فقال ابن أبی الخصال:
کرأس زنجیّ عصی فعلم أنه سیکون له شأن فی البیان.

[بین أبی بکر بن المنخل و ابنه]

و حدّث أبو عبد اللّه بن زرقون أن أبا بکر ابن المنخل و أبا بکر الملاح الشّلبیین کانا متواخیین متصافیین، و کان لهما ابنان صغیران قد برعا فی الطلب، و حازا قصب السبق فی حلبة الأدب، فتهاجی الابنان بأقذع الهجاء، فرکب ابن المنخل فی سحر من الأسحار مع ابنه عبد اللّه، فجعل یعتبه علی هجاء بنی الملاح و یقول له: قد قطعت ما بینی و بین صدیقی و صفیی أبی بکر فی إقذاعک فی ابنه، فقال له ابنه: إنه بدأنی و البادی أظلم، و إنما یجب أن یلحی من بالشرّ تقدم، فعذره أبوه، فبینما هما علی ذلک إذ أقبلا علی واد تنقّ فیه الضفادع، فقال أبو جعفر لابنه: أجز: [الهزج]
تنقّ ضفادع الوادی
فقال ابنه:
بصوت غیر معتاد
فقال الشیخ:
کأنّ نقیق مقولها
فقال ابنه:
بنو الملاح فی النادی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 299
فلما أحسّت الضفادع بهما صمتت، فقال أبو بکر:
و تصمت مثل صمتهم
فقال ابنه:
إذا اجتمعوا علی زاد
فقال الشیخ:
فلا غوث لملهوف
فقال الابن:
و لا غیث لمرتاد
و لا خفاء أنّ هذه الإجازة لو کانت من الکبار لحصلت منها الغرابة، فکیف ممّن هو فی سنّ الصّبا؟

[من شعر ابن المرغوی]

و من حکایات النصاری و الیهود من أهل الأندلس- أعادها اللّه تعالی إلی الإسلام عن قریب، إنه سمیع مجیب- ما حکی أنّ ابن المرعزی النصرانی الإشبیلی أهدی کلبة صید للمعتمد بن عبّاد و فیها یقول: [مخلع البسیط]
لم أر ملهی لذی اقتناص و مکسبا مقنع الحریص
کمثل خطلاء ذات جید أتلع فی صفرة القمیص
کالقوس فی شکلها و لکن تنفذ کالسّهم للقنیص
إن تخذت أنفها دلیلا دلّ علی الکامن العویص
لو أنها تستثیر برقا لم یجد البرق من محیص
و منها فی المدیح:
یشفع تنویله بودّ شفع القیاسات بالنصوص
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 300
و قال: [الکامل]
اللّه أکبر أنت بدر طالع و النّقع دجن و الکماة نجوم
و الجود أفلاک و أنت مدیرها و عدوّک الغاوی و هنّ رجوم
و قال: [البسیط]
نزلت فی آل مکحول و ضیفهم کنازل بین سمع الأرض و البصر
لا تستضی‌ء بضوء فی بیوتهم ما لم یکن لک تطفیل علی القمر
و سببهما أنه نزل عندهم فلم یوقدوا له سراجا.

[من شعر نسیم الإسرائیلی و إبراهیم بن سهل الإسرائیلی و ترجمته]

و قال نسیم الإسرائیلی: [المجتث]
یا لیتنی کنت طیرا أطیر حتی أراکا
بمن تبدّلت غیرا و لم نحل عن هواکا
و هو شاعر وشّاح من أهل إشبیلیة، و ذکره الحجاری فی المسهب.
و قال إبراهیم بن سهل الإسرائیلی فی أصفر ارتجالا: [السریع]
کان محیّاک له بهجة حتی إذا جاءک ماحی الجمال
أصبحت کالشمعة لمّا خبا منها الضیاء اسودّ فیها الذّبال
و هو شاعر إشبیلیة و وشّاحها، و قرأ علی أبی علی الشلوبین و ابن الدباج و غیرهما.
و قال العز فی حقّه، و کان أظهر الإسلام ما صورته: کان یتظاهر بالإسلام، و لا یخلو مع ذلک من قدح و اتّهام، انتهی.
و سئل بعض المغاربة عن السبب فی رقة نظم ابن سهل، فقال: لأنه اجتمع فیه ذلّان:
ذلّ العشق، و ذل الیهودیة.
و لما غرق قال فیه بعض الأکابر: عاد الدّرّ إلی وطنه.
و من نظم ابن سهل المذکور قوله: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 301
و ألمی بقلبی منه جمر مؤجّج تراه علی خدّیه یندی و یبرد
یسائلنی: من أی دین؟ مداعبا و شمل اعتقادی فی هواه مبدّد
فؤادی حنیفیّ، و لکنّ مقلتی مجوسیّة من خدّه النار تعبد
و منه قوله: [الکامل]
هذا أبو بکر یقود بوجهه جیش الفتور مطرّز الرایات
أهدی ربیع عذاره لقلوبنا حرّ المصیف فشبّها لفحات
خدّ جری ماء النعیم بجمره فاسودّ مجری الماء فی الجمرات
و ذکر الحافظ أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن رشید الفهری فی رحلته الکبیرة القدر و الجرم المسماة ب «مل‌ء العیبة، فیما جمع بطول الغیبة، فی الوجهة الوجیهة إلی الحرمین مکة و طیبة» خلافا فی إسلام ابن سهل باطنا، و کتب علی هامش هذا الکلام الخطیب العلامة سیدی أبو عبد اللّه بن مرزوق ما نصّه: صحّح لنا من أدرکناه من أشیاخنا أنه مات علی دین الإسلام، انتهی.
و رأیت فی بعض کتب الأدب بالمغرب أنه اجتمع جماعة مع ابن سهل فی مجلس أنس، فسألوه لمّا أخذت منه الراح عن إسلامه: هل هو فی الظاهر و الباطن أم لا؟ فأجابهم بقوله:
للناس ما ظهر، و للّه ما استتر، انتهی.
و استدلّ بعضهم علی صحّة إسلامه بقوله: [الطویل]
تسلّیت عن موسی بحبّ محمد هدیت و لو لا اللّه ما کنت أهتدی
و ما عن قلی قد کان ذاک، و إنما شریعة موسی عطّلت بمحمد
و له دیوان کبیر مشهور بالمغرب، حاز به قصب السّبق فی النظم و التوشیح.
و ما أحسن قوله من قصیدة: [الطویل]
تأمّل لظی شوقی و موسی یشبّها (تجد خیر نار عندها خیر موقد)
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 302
و أنشد بعضهم له قوله: [الطویل]
لقد کنت أرجو أن تکون مواصلی فأسقیتنی بالبعد فاتحة الرعد
فباللّه برّد ما بقلبی من الجوی بفاتحة الأعراف من ریقک الشهد
و قال الراعی رحمه اللّه تعالی: سمعت شیخنا أبا الحسن علی بن سمعة الأندلسی، رحمه اللّه تعالی، یقول: شیئان لا یصحّان: إسلام إبراهیم بن سهل، و توبة الزمخشری من الاعتزال، ثم قال الراعی: قلت: و هما من مرویاتی، أما إسلام إبراهیم بن سهل فیغلب علی ظنّی صحّته لعلمی بروایته، و أما الثانی- و هو توبة الزمخشری- فقد ذکر بعضهم أنه رأی رسما بالبلاد المشرقیة محکوما فیه یتضمّن توبة الزمخشری من الاعتزال فقوی جانب الروایة، انتهی باختصار.
و قال الراعی أیضا ما نصّه: و قد نکت الأدیب البارع إبراهیم بن سهل الإسرائیلی الأندلسی علی الشیخ أبی القاسم فی تغزّله حیث قال: [الطویل]
موسی، أیا بعضی و کلّی حقیقة و لیس مجازا قولی الکلّ و البعضا
خفضت مکانی إذ جزمت وسائلی فکیف جمعت الجزم عندی و الخفضا
و فی هذا دلیل علی أن یهود الأندلس کانوا یشتغلون بعلم العربیة، فإنّ إبراهیم قال هذین البیتین قبل إسلامه، و اللّه تعالی أعلم.
و قد روینا أنه مات مسلما غریقا فی البحر، فإن کان حقا فاللّه تعالی رزقه الإسلام فی آخر عمره و الشهادة، انتهی.

[من توجیهات ابن سهل باصطلاحات النحاة]

و من نظم ابن سهل فی التوجیه باصطلاح النحاة قوله:
رقّت عوامله و أحسب رتبتی بنیت علی خفض فلن تتغیّرا
و منه:
تنأی و تدنو و التفاتک واحد کالفعل یعمل ظاهرا و مقدّرا
و قوله: [الطویل]
إذا کان نصر اللّه وقفا علیکم فإنّ العدا التنوین یحذفه الوقف
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 303
و قوله: [الخفیف]
و قرأنا باب المضاف عناقا و حذفنا الرقیب کالتنوین
و قوله: [الطویل]
بنیت بناء الحرف خامر طبعه فصرت لتأثیر العوامل جازما
و قوله: [البسیط]
لک الثناء فإن یذکر سواک به یوما فکالرابع المعهود فی البدل
یعنی الغلط، و قوله: [الطویل]
إذ الیأس ناجی النفس منک بلن و لا أجابت ظنونی ربما و عسانی
و قوله: [الطویل]
و قلت عساه إن أقمت یرقّ لی و قد نسخت «لا» عنده ما اقتضت «عسی»
و قوله: [السریع]
ینفی لی الحال و لکنه یدخل لا فی کلّ مستقبل
و قوله: [الطویل]
خفضت مقامی إذ جزمت وسائلی فکیف جمعت الجزم عندی و الخفضا
و قوله فی غلام شاعر: [السریع]
کیف خلاص القلب من شاعر رقّت معانیه عن النّقد
یصغر نثر الدّرّ عن نثره و نظمه جلّ عن العقد
و شعره الطائل فی حسنه طال علی النابغة الجعدی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 304
و حدّث أبو حیّان عن قاضی القضاة أبی بکر محمد بن أبی النصر الفتح بن علی الأنصاری الإشبیلی بغرناطة أنّ إبراهیم بن سهل الشاعر الإشبیلی کان یهودیّا ثم أسلم، و مدح رسول اللّه، صلی اللّه علیه و سلم، بقصیدة طویلة بارعة؛ قال أبو حیان: وقفت علیها، و هی من أبدع ما نظم فی معناها، و کان سنّ ابن سهل حین غرق نحو الأربعین سنة، و ذلک سنة تسع و أربعین و ستمائة، و قیل: إنه جاوز الأربعین، و کان یقرأ مع المسلمین و یخالطهم، و ما أحسن قوله: [الطویل]
مضی الوصل إلّا منیة تبعث الأسی أداری بها همّی إذا اللیل عسعسا
أتانی حدیث الوصل زورا علی النوی أعد ذلک الزور اللذیذ المؤنسا
و یا أیها الشوق الذی جاء زائرا أصبت الأمانی خذ قلوبا و أنفسا
کسانی موسی من سقام جفونه رداء و سقّانی من الحبّ أکؤسا
و من أشهر موشّحاته قوله:
لیل الهوی یقظان و الحبّ ترب السّهر
و الصبر لی خوّان و النوم عن عینی بری
و قد عارضه غیر واحد فما شقّوا له غبارا.

[إبراهیم بن الفخار الیهودی]

و أما إبراهیم بن الفخار الیهودی فکان قد تمکّن عند الأذفونش ملک طلیطلة النصرانی، و صیّره سفیرا بینه و بین ملوک المغرب، و کان عارفا بالمنطق و الشعر؛ قال ابن سعید: أنشدنی لنفسه أدیبا مسلما کان یعرفه قبل أن تعلو رتبته و یسفر بین الملوک، و لم یزده علی ما کان یعامله به من الإذلال، فضاق ذرع ابن الفخار و کتب إلیه: [الطویل]
أیا جاعلا أمرین شبهین ما له من العقل إحساس به یتفقّد
جعلت الغنی و الفقر و الذلّ و العلا سواء فما تنفکّ تشقی و تجهد
و هل یستوی فی الأرض نجد و تلعة فتطلب تسهیلا و سیرک مصعد
و ما کنت ذا میز لمن کنت طالبا بما کنت فی حال الفراغ تعوّد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 305
و قد حال ما بینی و بینک شاغل فلا تطلبنّی بالذی کنت تعهد
فإن کنت تأبی غیر إقدام جاهل فإنک لا تنفکّ تلحی و تطرد
ألا فأت فی أبوابه کلّ مسلک و لا تک محلا حیثما قمت تقعد
قال ابن سعید: و أنشدنی لنفسه: [الطویل]
و لمّا دجا لیل العذار بخدّه تیقّنت أنّ اللیل أخفی و أستر
و أصبح عذّالی یقولون صاحب فأخلو به جهرا و لا أتستّر
و قال یمدح الأذفونش لعنهما اللّه تعالی: [المدید]
حضرة الأذفنش لا برحت غادة أیامها عرس
فاخلع النّعلین تکرمة فی ثراها إنها قدس
قال: و أدخلونی إلی بستان الخلیفة المستنصر، فوجدته فی غایة الحسن کأنه الجنّة، و رأیت علی بابه بوّابا فی غایة القبح، فلمّا سألنی الوزیر عن حال فرجتی قلت: رأیت الجنّة إلّا أنی سمعت أنّ الجنّة یکون علی بابها رضوان، و هذه علی بابها مالک، فضحک و أخبر الخلیفة بما جری، فقال له: قل له إنّا قصدنا ذلک، فلو کان رضوان علیها بوّابا لخشینا أن یردّه عنها، و یقول له: لیس هذا موضعک، و لمّا کان هناک مالک أدخله فیها، و هو لا یدری ما وراءه، و یخیّل أنها جهنّم، قال: فلمّا أعلمنی الوزیر بذلک قلت له: اللَّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام، الآیة: 124].

[بین الیاس بن المدور الیهودی و طبیب آخر]

و کان فی زمان إلیاس بن المدور الیهودی الطبیب الرّندی طبیب آخر کان یجری بینهما من المحاسدة ما یجری بین مشترکین فی صنعة، فأصلح الناس بینهما مرارا، و ظهر لإلیاس من ذلک الرجل الطبیب ما ینفّر الناس منه فکتب إلیه: [الکامل]
لا تخدعنّ فما تکون مودّة ما بین مشترکین أمرا واحدا
انظر إلی القمرین حین تشارکا بسناهما کان التلاقی واحدا
یعنی أنهما معا لما اشترکا فی الضیاء وجب التحاسد بینهما و التفرقة: هذا یطلع لیلا و هذه تطلع نهارا، و اعتراضهما یوجب الکسوف.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 306
و کتب أیوب بن سلیمان المروانی إلی بسام بن شمعون الیهودی الوشقی فی یوم مطیر: لمّا کنت- وصل اللّه تعالی إخاءک و حفظک!- مطمح نفسی، و منتزع اختیاری من أبناء جنسی، علی جوانبک أمیل، و أرتع فی ریاض خلقک الجمیل، هزّتنی خواطر الطرب و الارتیاح، فی هذا الیوم المطیر، الداعی بکاؤه إلی ابتسام الأقداح، و استنطاق البمّ و الزیر، فلم أر معینا علی ذلک، و مبلغا إلی ما هنالک، إلّا حسن نظرک، و تجشّمک من المکارم ما جرت به عادتک، و هذا یوم حرم الطرف فیه الحرکة، و جعل فی ترکها الخیر و البرکة، فهل توصل مکرمتک أخاک إلی التخلّی معک فی زاویة؟. متّکئا علی دنّ مستندا إلی خابیة، و نحن خلال ذلک نتجاذب أهداب الحدیث التی لم یبق من اللذات إلّا هی، و نجیل الألحاظ فیما تعوّدت عندک من المحاسن و الأسماع فی أصناف الملاهی، و أنت علی ذلک قدیر، و کرمک بتکلّفه جدیر: [السریع]
و لا یعین المرء یوما علی راحته إلّا کریم الطباع
و‌ها أنا و السمع منی إلی ال باب و ذو الشوق حلیف استماع
فإن أتی داع بنیل المنی ودّع أشجانی و نعم الوداع
و هذا المروانی من ذرّیّة عبد العزیز أخی عبد الملک بن مروان، و هو من أهل المائة السادسة.

[قسمونة بنت إسماعیل الشاعرة]

و کانت الأندلس شاعرة من الیهود یقال لها قسمونة بنت إسماعیل الیهودی، و کان أبوها شاعرا، و اعتنی بتأدیبها، و ربما صنع من الموشحة قسما فأتمتها هی بقسم آخر، و قال لها أبوها یوما: أجیزی: [الکامل]
لی صاحب ذو بهجة قد قابلت نعمی بظلم و استحلّت جرمها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 307
ففکرت غیر کثیر و قالت: [الکامل]
کالشمس منها البدر یقبس نوره أبدا و یکسف بعد ذلک جرمها
فقام کالمختبل، و ضمّها إلیه، و جعل یقبّل رأسها، و یقول: أنت و العشر کلمات أشعر منی.
و نظرت فی المرآة فرأت جمالها و قد بلغت أوان التزوّج و لم تتزوّج فقالت: [الطویل]
أری روضة قد حان منها قطافها و لست أری جان یمدّ لها یدا
فوا أسفا یمضی الشباب مضیّعا و یبقی الذی ما إن أسمّیه مفردا
فسمعها أبوها، فنظر فی تزویجها.
و قالت فی ظبیة عندها: [الکامل]
یا ظبیة ترعی بروض دائما إنی حکیتک فی التوحّش و الحور
أمسی کلانا مفردا عن صاحب فلنصطبر أبدا علی حکم القدر

[من شعر أبی عبد اللّه بن رشیق القلعی و حدیث عن ابن رشیق القلعی]

و استدعی أبو عبد اللّه محمد بن رشیق القلعی ثم الغرناطی بعض أصحابه إلی أنس، بقوله: [مجزوء الرمل]
سیدی عندی أترج ج و نارنج وراح
و جنی آس و زهر و حمانا لا یباح
لیس إلّا مطرب یس لی النّدامی، و الملاح
و مکان لانهتاک قد نأی عنه الفلاح
لا یری یطلع فیه دون أکواس صباح
فیه فتیان لهم فی لذّة العیش جماح
طرحوا الدنیا یسارا فاستراحت و استراحوا
لا کقوم أوجعتهم لهم فیها نباح
و له: [المجتث]
قال العذول: إلی کم تدعو لمن لا یجیب
فقلت: لیس عجیبا أن لا یجیب حبیب
هوّن علیک فإنی من حبّه لا أتوب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 308
قال أبو عمران بن سعید: دخلت علیه و هو مسجون بدار الأشراف بإشبیلیة، و قد بقی علیه من مال السلطان اثنا عشر ألف دینار قد أفسدها فی لذّات نفسه، فلمّا لمحنی أقبل یضحک و یشتغل بالنادر و الحکایات الظریفة، فقلت له: قالوا: إنک أفسدت للسلطان اثنی عشر ألف دینار، و ما أحسبک إلّا زدت علی هذا العدد لما أراک فیه من المسرّة و الاستبشار، فزاد ضحکا، و قال: یا أبا عمران، أ ترانی إذا لزمت الهمّ و الفکر یرجع علیّ ذلک العدد الذی أفسدت؟ ثم فکر ساعة و أنشدنی: [الخفیف]
لیس عندی من الهموم حدیث کلما ساءنی الزمان سررت
أ ترانی أکون للدهر عونا فإذا مسّنی بضرّ ضجرت
غمرة ثم تنجلی فکأنی عند إقلاع همّها ما ضررت‌

[من شعر أبی عیسی لبّ بن عبد الوارث القلعی]

و قال النحوی اللغوی أبو عیسی لب بن عبد الوارث القلعی: [الطویل]
بدا ألف التعریف فی طرس خدّه فیا هل تراه بعد ذاک ینکّر
و قد کان کافورا فهل أنا تارک له عند ما حیّاه مسک و عنبر
و ما خیر روض لا یرفّ نباته و هل أفتن الأثواب إلّا المشهّر
و قال: [الوافر]
أبی لی أن أقول الشعر أنی أحاول أن یفوق السحر شعری
و أن یصغی إلیه کلّ سمع و یعلق ذکره فی کلّ صدر
قال الحجاری: أخبرنی أنه أحبّ أحد أولاد الأعیان ممّن کان یقرأ علیه، فلمّا خلا به شکا إلیه ما یجده، فقال له: الصبیان یفطنون بنا، فإذا أردت أن تقول شیئا فاکتبه لی فی ورقة، قال: فلمّا سمعت ذلک منه تمکّن الطمع منّی فیه، و کتبت له: [الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 309
یا من له حسن یفوق به الوری صل هائما قد ظلّ فیک محیّرا
و امنن علیّ بقبلة أو غیرها إن کنت تطمع فی الهوی أن تؤجرا
و کتبت بعدها من الکلام ما رأیته، فلمّا حصلت الورقة عنده کتب إلیّ فی غیرها: أنا من بیت عادة أهله أن یکونوا اسم فاعل لا اسم مفعول، و إنما أردت أن یحصل عندی خطک شاهدا علی ما قابلتنی به لئلّا أشکوک إلی أبی فیقول لی: حاش للّه أن یقع الفقیه فی هذا، و إنما أنت خبیث، رأیته یطالبک بالتزام الحفظ فاختلقت علیک لأخرجک من عنده، فأبقی معذّبا معک و معه، و إن أنا أوقفته علی خطّک صدّقنی و استرحت، و لکن لا أفعل هذا إن کففت عنی، و إن انتهیت فلا أخبر به أحدا، قال ابن عبد الوارث: فلمّا وقفت علی خطّه علمت قدر ما وقعت فیه، و جعلت أرغب إلیه فی أن یردّ الرقعة إلیّ، فأبی و قال: هی عندی رهن علی وفائک بأن لا ترجع تتکلّم فی ذلک الشأن، قال: فکان و اللّه یبطل القراءة فلا أجسر أکلّمه: لأنی رأیت صیانتی و ناموسی قد حصل فی یده، و تبت من ذلک الحین عن هذا و أمثاله.

[من شعر جابر بن خلف الفحصی]

و قال جابر بن خلف الفحصی- و کان فی خدمة عبد الملک بن سعید، و قرأ مع أبی جعفر بن سعید و تهذّب معه- یخاطبه حین عاثت الذئاب فی غنمه: [المتقارب]
أیا قائدا قد سما فی العلا و ساد علینا بذات وجد
غدا الذئب فی غنمی عائثا و قد جئت مستعدیا بالأسد
و کثر علیه الدین، فکتب إلیه أیضا: [مجزوء الوافر]
أفی أیامک الغرّ أموت کذا من الضّرّ
و أخبط فی دجی همّی و وجهک طلعة الفجر
فضحک و أدّی دینه.

[من شعر أبی یحیی بن الرمیمی]

و لمّا خلع أهل المریة طاعة عبد المؤمن، و قتلوا نائبه ابن مخلوف، قدّموا علیهم أبا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 310
یحیی بن الرمیمی، ثم کان علیه من النصاری ما علم، ففرّ إلی مدینة فاس، و بقی بها ضائعا خاملا، یسکن فی غرفة، و یعیش من النسخ، فقال: [السریع]
أمسیت بعد الملک فی غرفة ضیّقة الساحة و المدخل
تستوحش الأرزاق من وجهها فما تزال الدّهر فی معزل
النسخ بالقوت لدیها و لا تقرعها کفّ أخ مفضل
و أنشدها لبعض الأدباء، فبینما هو لیلة ینسخ بضوء السراج و إذا بالباب یقرع، ففتحه، فإذا شخص متنکّر لا یعرفه، و قد مدّ یده إلیه بصرّة فیها جملة دنانیر، و قال: خذها من کف أخ لا یعرفک و لا تعرفه، و أنت المفضل بقبولها، فأخذها، و حسن بها حاله.
و قال له بعض: هذا شعرک أیام خلعک، فهل قلت أیام أمرک؟ قال: نعم، لمّا قتل أهل المریة ابن مخلوف عامل عبد المؤمن و أکرهونی أن أتولّی أمرهم قلت: [الوافر]
أری فتنا تکشّف عن لظاها رماد بالنّفاق له انصداع
و آل بها النظام إلی انتثار و ساد بها الأسافل و الرعاع
سأحمل کل ما جشّمت منها بصدر فیه للهول اتّساع
و أصل بنی الرمیمی من بنی أمیة ملوک الأندلس، و نسبوا إلی رمیمة قریة من أعمال قرطبة.

[من شعر أبی بحر یوسف بن عبد الصمد و أبی جعفر أحمد بن عباس الوزیر]

و قال أبو بحر یوسف بن عبد الصمد: [الکامل]
فوصلت أقطارا لغیر أحبّة و مدحت أقواما بغیر صلات
أموال أشعاری نمت فتکاثرت فجعلت مدحی للبخیل زکاتی
و هذا من غریب المعانی.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 311
و فی بنی عبد الصمد یقول بعض أهل عصرهم، لمّا رأی من کثرة عددهم، و التئامهم بالسلطان: [الرمل]
ملأت قلبی هموما مثل ما ملأ الدنیا بنو عبد الصّمد
کاثر الشیخ أبوهم آدما فغدا أکثر نسلا و ولد
کلّهم ذئب إذا آمنته و الرعایا بینهم مثل النّقد
و کان الوزیر الکاتب أبو جعفر أحمد بن عباس وزیر زهیر الصقلی ملک ألمریة بذّ الناس فی وقته بأربعة أشیاء: المال، و البخل، و العجب، و الکتابة؛ قال أبو حیان: و کان قبل محنته صیّر هجّیراه أوقات لعب الشطرنج أو ما یسنح له هذا البیت: [المتقارب]
عیون الحوادث عنّی نیام و هضمی علی الدهر شی‌ء حرام
و ذاع هذا البیت فی الناس حتی قلب له مصراعه الأخیر بعض الأدباء فقال:
سیوقظها قدر لا ینام
و کان حسن الکتابة، جمیل الخطّ، ملیح الخطاب، غزیر الأدب، قوی المعرفة، مشارکا فی الفقه، حاضر الجواب، جمّاعا للدفاتر، حتی بلغت أربعمائة ألف مجلّد، و أمّا الدفاتر المخرومة فلم یوقف علی عددها لکثرتها، و بلغ ماله خمسمائة ألف مثقال جعفریة سوی غیر ذلک، و کان مقتله بید بادیس بن حبّوس ملک غرناطة، و کفی دلیلا علی إعجابه قوله:
[الخفیف]
لی نفس لا ترتضی الدّهر عمرا و جمیع الأنام طرا عبیدا
لو ترقّت فوق السّماک محلّا لم تزل تبتغی هناک صعودا
أنا من تعلمون شیّدت مجدی فی مکانی ما بین قومی ولیدا
و کان یتهّم بداء أبی جهل فیما ینقل، حتی کتب بعض الأدباء علی برجه بالمریة:
[السریع]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 312
خلوت بالبرج فما الذی تصنع فیه یا سخیف الزمان
فلما نظر إلیه أمر أن یکتب:
أصنع فیه کلّ ما أشتهی و حاسدی خارجه فی هوان‌

[من شعر أبی بکر التطیلی الأعمی و أبی جعفر أحمد بن الخیال الإستبی]

و کان الأعمی التطیلی شاعرا مشهورا، و کان الصبیان یقولون له «تحتاج کحلا یا أستاذ» فکان ذلک سبب انتقاله من مرسیة، و قیل له: یا أبا بکر، کم تقع فی الناس؟ فقال: أنا أعمی، و هم لا یبرحون حفرا فما عذری فی وقوعی فیهم؟ فقال له السائل: و اللّه لا کنت قطّ حفرة لک، و جعل یوالیه برّه و رفده.
و من شعره: [المتقارب]
وجوه تعزّ علی معشر و لکن تهون علی الشاعر
قرونهم مثل لیل المحبّ و لیل المحبّ بلا آخر
و له: [مخلع البسیط]
زنجیّکم بالفسوق داری یدلی من الحرص کالحمار
یخلو بنجل الوزیر سرا فیولج اللیل فی النهار
و من شعر أبی جعفر أحمد بن الخیال الإستبی کاتب ابن الأحمر فیمن اسمه «فضل اللّه»: [الطویل]
من الناس من یؤتی بنقد، و منهم بکره، و منهم من یناک إذا انتشی
و منهم فتی یؤتی علی کل حالة و ذلک فضل اللّه یؤتیه من یشا

[من شعر عبد الملک بن سعید الخازن و محمد بن الأستجی (زحکون)]

و لعبد الملک بن سعید الخازن: [الخفیف]
ما حمدناک إذ وقفنا ببابک للذی کان من طویل حجابک
قد ذممنا الزمان فیک فقلنا أبعد اللّه کلّ دهر أتی بک
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 313
و قال فی «المسهب»: کنت بمجلس القاضی ابن حمدین، و قد أنشده شعراء قرطبة و غیرها، و فی الجملة هلال شاعر غرناطة، و محمد بن الإستجی شاعر إستجة الملقب بزحکون، فقام الإستجی و أنشده قصیدة، منها: [الطویل]
إلیک ابن حمدین انتخلت قصائدا بها رقصت فی القضب ورق الحمائم
أنا العبد لکن بالمودّة أشتری إذا کان غیری یشتری بالدراهم
فشکره ابن حمدین، و نبّه علی مکان الإحسان، فحسده هلال البیانی علی ذلک، فلمّا فرغ من القصیدة قال له هلال: أعد علیّ البیت الذی فیه «رقص الحمام» فأعاده، فقال له: لو أزلت النقطة عن الخاء کنت تصدق، فقال له فی الحین: و لو أزلت النقطة عن العین کنت تحسن.
و کانت علی عین هلال نقطة فکان ذلک من الاتفاق العجیب و الجواب الغریب، و عمل فیه.

[من شعر المقدم بن المعافی و عبد الملک بن نظیف]

و لما قال المقدم بن المعافی فی رثاء سعید بن جودی: [السریع]
من ذا الذی یطعم أو یکسو و قد حوی حلف الندی رمس
لا اخضرّت الأرض و لا أورق ال عود و لا أشرقت الشمس
بعد ابن جودیّ الذی لن تری أکرم منه الجنّ و الإنس
فقیل له: أ ترثیه و قد ضربک؟ فقال: إنه نفعنی حتی بذنوبه، و لقد نهانی ذلک الأدب عن مضار جمّة کنت أقع فیها علی رأسی، أفلا أرعی له ذلک؟ و اللّه ما ضربنی إلّا و أنا ظالم له، أفأبقی علی ظلمی له بعد موته؟
و قیل له: لم لا تهجو مؤمن بن سعید؟ فقال: لا أهجو من لو هجا النجوم ما اهتدی أحد بها.
و قال أبو مروان عبد الملک بن نظیف: [المجتث]
لا أشرب الراح إلّا مع کلّ خرق کریم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 314
و لست أعشق إلّا ساجی الجفون رخیم‌

[من شعر هلال البیانی بن حمدین]

و مدح هلال البیانی ابن حمدین بقصیدة أولها: [الکامل]
عرّج علی ذاک الجناب العالی و احکم علی الأموال بالآمال
فیه ابن حمدین الذی لنواله من کلّ أرض شدّ کلّ رحال
فقال له القاضی: ما هذا الوثوب علی المدح من أوّل وهلة، ألا تدری أنهم عابوا ذلک، کما عابوا الطول أیضا؟ و أن الأولی التوسّط؟ فقال له: یا سیدی، اعذرنی بما لک فی قلبی من الإجلال و المحبّة، فإنی کلّما ابتدأت فی مدحک لم یترکنی غرامی فی اسمک إلی أن أترکه عند أول بیت، فاستحسن ذلک منه، و أحسن إلیه.
و من هذه القصیدة:
قاض موال برّه و نواله فله جمیع العالمین موالی
و کان یهوی و سیما من متأدّبی قرطبة، فصنع فیه شعرا أنشده منه: [البسیط]
و کّلت عینی برعی النجم فی الظّلم و عبرتی قد غدت ممزوجة بدم
فقال له الغلام: أنت لا تبرح بکوکب من عینک لیلا و لا نهارا، و عاشقا و غیر عاشق، فخجل هلال، و کان علی عینه نقطة.
و حکی ابن حیان أنّ الأمیر عبد الرحمن عثرت به دابته و هو سائر فی بعض أسفاره، و تطأطأت، فکاد یکبو لفیه، و لحقه جزع، و تمثّل أثره بقول الشاعر: [الطویل]
و ما لا تری ممّا یقی اللّه أکثر
و طلب صدر البیت فعزب عنه، و أمر بالسؤال عنه فلم یوجد من یحفظه إلّا الکاتب محمد بن سعید الزجالی، و کان یلقّب بالأصمعی لذکائه و حفظه، فأنشد الأمیر:
تری الشی‌ء ممّا یتّقی فتهابه
فأعجب الأمیر، و استحسن شکله، فقال له: الزم السرداق. و أعقب ابنا یسمی حامدا.
و حضر مع الوزیر عبد الواحد بن یزید الإسکندرانی فی مجلس فیه رؤساء، فعرض علیهم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 315
فرس مطهّم، فتمثّل فیه عبد الواحد بقول امرئ القیس: [الطویل]
برید السّری باللیل من خیل بربرا

[بین الزجالی و الاسکندرانی الوزیر و بین الزجالی و ابنه حامد]

ففهم الزجالی بأنه عرض بأنه من البربر، فلم یحتمل ذلک و أراد الجواب، فقال مدبّجا لما أراده و معرّضا: أحسن عندی من لیل یسری بی فیه علی مثل هذا یوم علی الحال التی قال فیها القائل: [الطویل]
و یوم کظلّ الرمح قصّر طوله دم الزّقّ عنّا و اصطفاق المزاهر
و إنّما عرّض للإسکندرانی بأنه کان یشهد مجالس الراحات فی أول أمره و معرفة الغناء، فقلق الوزیر، و شکاه إلی الحاجب عیسی بن شهید، فاجتمع مع الزجالی و أخذ معه فی ذلک، فحکی له الزجالی ما جری من الأول إلی الآخر، و أنشد: [الطویل]
و ما الحرّ إلّا من یدین بمثل ما یدان و من یخفی القبیح و ینصف
هم شرعوا التعریض قذفا فعندما تبعناهم لاموا علیه و عنّفوا
و من نوادر ابنه حامد أنه غلط أمامه فی قوله تعالی الزَّانِیَةُ وَ الزَّانِی [سورة النور، الآیة: 2] بأن قال «فانکحوهما» فأنشده حامد: [مجزوء الرمل]
أبدع القارئ معنی لم یکن فی الثّقلین
أمر الناس جمیعا بنکاح الزانیین
و قال لبعض أصحابه حینئذ: أما سمعت ما أتی به إمامنا من تبدیل الحدود؟ و تضاحکا.
و کتب الوزیر أبو عبد اللّه بن عبد العزیز إلی المنصور صاحب بلنسیة، و یعرف بالمنصور الصغیر، قطعة أولها: [البسیط]
یا أحسن الناس آدابا و أخلاقا و أکرم الناس أغصانا و أوراقا
و یا حیا الأرض لم نکّبت عن سننی و سقت نحوی إرعادا و إبراقا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 316
و یا سنی الشمس لم أظلمت فی بصری و قد وسعت بلاد اللّه إشراقا
من أیّ باب سعت غیر الزمان إلی رحیب صدرک حتی قیل قد ضاقا
قد کنت أحسبنی من حسن رأیک لی أنی أخذت علی الأیام میثاقا
فالآن لم یبق لی بعد انحرافک ما آسی علیه و أبدی منه إشفاقا
فأجابه بهذه القطعة: [البسیط]
ما زلت أولیک إخلاصا و إشفاقا و أنثنی عنک مهما غبت مشتاقا
و کان من أملی أن أقتنیک أخا فأخفق الأمل المأمول إخفاقا
فقلت غرس من الإخوان أکلؤه حتی أری منه أثمارا و أوراقا
فکان لمّا زها أزهاره و دنا إثمارها حنظلا مرا لمن ذاقا
فلست أوّل إخوان سقیتهم صفوی و أعلقتهم بالقلب إعلاقا
فما جزونی بإحسانی و لا عرفوا قدری و لا حفظوا عهدا و میثاقا

[من شعر الوزیر أبی عبد اللّه بن عبد العزیز و ترجمته]

و الوزیر المذکور قال فی حقه فی المطمح: إنه وزیر المنصور بن عبد العزیز، و ربّ السبق فی ودّه و التبریز، و منقض الأمور و مبرمها، و محمد الفتن و مضرمها، اعتقل بالدّهی، و استقلّ بالأمر و النهی، علی انتهاض بین الأکفاء، و اعتراض المحو لرسومه و الإعفاء، فاستمرّ غیر مراقب، و أمر ما شاء غیر ممتثل للعواقب، ینتضی عزائم تنتضی، فإن ألمت من الأیام مظلمة أضا، إلی أن أودی، و غار منه الکوکب الأهدی، فانتقل الأمر إلی ابنه أبی بکر، فناهیک من أی عرف و نکر، فقد أربی علی الدّهاة، و ما صبا إلی الظبیة و المهاة، و استقلّ بالهول یقتحمه، و الأمر یسدیه و یلحمه، فأیّ ندی أفاض، و أیّ أجنحة بمدی هاض، فانقلاب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 317
إلیه الآمال بغیر خطام، و وردت من نداه ببحر طام، و لم یزل بالدولة قائما، و موقظا من بهجتها ما کان نائما، إلی أن صار الأمر إلی المأمون بن ذی النون أسد الحروب، و مسدّ الثغور و الدروب، فاعتمد علیه و اتّکل، و وکل الأمر إلی غیر وکل، فما تعدّی الوزارة إلی الریاسة، و لا تردّی بغیر التدبیر و السیاسة، فترکه مستبدا، و لم یجد من ذلک بدا.
و کان أبو بکر هذا ذا رفعة غیر متضائلة، و آراء لم تکن آفلة، أدرک بها ما أحبّ، و قطع غارب کل منافس و جبّ، إلی أن طلّحه العمر و أنضاه، و أغمده الذی انتضاه، فخلّی الأمر إلی ابنیه، فتلبّدا فی التدبیر، و لم یفرقا بین القبیل و الدّبیر، فغلب علیهما القادر بن ذی النون، و جلب إلیهما کل خطب ما خلا المنون، فانجلوا، بعد ما ألقوا ما عندهم و تخلّوا، و کان لأبی عبد اللّه نظم مستبدع، یوضع بین الجوانح و یودع، انتهی المقصود من الترجمة.

[من شعر الوزیر أبی الفرج و ترجمته]

و کان للوزیر أبی الفرج ابن مکبود قد أعیاه علاجه، و تهیّأ للفساد مزاجه، فدلّ علی خمر قدیمة، فلم یعلم بها إلّا عند حکم، و کان و سیما، و للحسن قسیما، فکتب إلیه: [المجتث]
أرسل بها مثل ودّک أرقّ من ماء خدّک
شقیقة النّفس فانضح بها جوی ابنی و عبدک
و کتب رحمه اللّه تعالی معتذرا، عما جناه منذرا: [الخفیف]
ما تغیّبت عنک إلّا لعذر و دلیلی فی ذاک حرصی علیکا
هبک أنّ الفرار من عظم ذنب أ تراه یکون إلّا إلیکا
و قال فی المطمح فی حقّ أبی الفرج: من ثنیّة ریاسة، و عترة نفاسة، ما منهم إلّا من تحلّی بالإمارة، و تردّی بالوزارة، و أضاء فی آفاق الدول، و نهض بین الخیل و الخول، و هو
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 318
أحد أمجادهم، و متقلّد نجادهم، فاقهم أدبا و نبلا، و باراهم کرما تخاله و بلا، إلّا أنه بقی و ذهبوا، و لقی من الأیام ما رهبوا، فعاین تنکرها، و شرب عکرها، و جال فی الآفاق، و استدرّ أخلاف الأرزاق، و أجال للرّجاء قداحا متوالیات الإخفاق، فأخمل قدره، و توالی علیه جور الزمان و غدره، فاندفنت آثاره، و عفت أخباره، و قد أثبتّ له بعض ما قاله و حاله قد أدبرت، و الخطوب إلیه قد انبرت، أخبرنی الوزیر الحکیم أبو محمد المصری و هو الذی آواه، و عنده استقرّت نواه، و علیه کان قادما، و له کان منادما، أنه رغب إلیه فی أحد الأیام أن یکون من جملة ندمائه، و أن لا یحجب عنه و تکون منّة من أعظم نعمائه، فأجابه بالإسعاف، و استساغ منه ما کان یعاف، لعلمه بعلته، و إفراط خلّته، فلما کان ظهر ذلک الیوم کتب إلیه: [الکامل]
أنا قد أهبت بکم و کلّکم هوی و أحقّکم بالشکر منّی السابق
فالشمس أنت و قد أظلّ طلوعها فاطلع و بین یدیک فجر صادق‌

[من شعر الوزیر أبی عامر بن مسلمة و ترجمتة]

و قال الوزیر أبو عامر بن مسلمة: [الکامل]
حجّ الحجیج منی ففازوا بالمنی و تفرّقت عن خیفه الأشهاد
و لنا بوجهک حجّة مبرورة فی کلّ یوم تنقضی و تعاد
و قال الفتح فی حقّه ما صورته: نبتة شرف باذخ، و مفخر علی ذوائب الجوزاء شامخ، وزروا للخلفاء، فانتجعتهم الأدباء و اتّبعتهم العظماء، و انتسبت لهم النعماء، و تنفست عن نور بهجتهم الظّلماء، و أبو عامر هذا هو جوهرهم المنتخل، و جوادهم الذی لا یبخل، و زعیمهم المعظّم، و سلک مفخرهم المنظّم، و کان فتی المدام، و مستفتی النّدام، و أکثر من النعت للراح و الوصف، و آثر الأفراح و القصف، و أری قینات السرور مجلوّة، و آیات الحسن متلوّة، و له کتاب سماه «حدیقة الارتیاح، فی وصف حقیقة الراح»، و اختصّ بالمعتضد اختصاصا جرّعه رداه، و صرعه فی مداه، فقد کان فی المعتضد من عدم تحفّظه للأرواح، و تهاونه باللّوّام فی ذلک و اللّواح، فاطمأن إلیه أبو عامر و اغترّ، و أنس إلی ما بسم له من مؤانسته و افترّ، حتی أمکنته فی اغتیاله فرصة، لم یعلق بها حصّة، و لم یضیق علیه إلّا أنه زلّت به قدمه فسقط
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 319
فی البحیرة و انکفا، و لم یعلم به إلّا بعدما طفا، فأخرج و قد قضی، و أدرج منه فی الکفن حسام المجد منتضی، فمن محاسنه قوله یصف السوسن، و هو ممّا أبدع فیه و أحسن: [البسیط]
و سوسن راق مرآه و مخبره و جلّ فی أعین النظار منظره
کأنه أکؤس البلّور قد صنعت مسندسات تعالی اللّه مظهره
و بینها ألسن قد طوّقت ذهبا من بینها قائم بالملک یؤثره
إلی أن قال: و اجتمع بجنّة خارج إشبیلیة مع أخدان له علیة، فبینما هم یدیرون الراح، و یشربون من کأسها الأفراح، و الجوّ صاح، إذ بالأفق قد غیّم، و أرسل الدّیم، بعدما کسا الجوّ بمطارف الرذاذ، و أشعر الغصون زهر قباذ، و الشمس منتقبة بالسحاب، و الرعد یبکیها بالانتحاب، فقال: [مجزوء الکامل]
یوم کأنّ سحابه لبست عمامات الصوامت
حجبت به شمس الضّحی بمثال أجنحة الفواخت
و الغیث یبکی فقدها و البرق یضحک مثل شامت
و الرعد یخطب مفصحا و الجوّ کالمحزون ساکت
و خرج إلی تلک الخمیلة و الربیع قد نشر رداءه، و نثر علی معاطف الغصون أنداءه، فأقام بها و قال: [الکامل]
و خمیلة رقم الزمان أدیمها بمفضّض و مقسّم و مشوب
رشفت قبیل الصبح ریق غمامة رشف المحبّ مراشف المحبوب
و طردت فی أکنافها ملک الصّبا و قعدت و استوزرت کلّ أدیب
و أدرت فیها اللّهو حقّ مداره مع کلّ وضّاح الجبین حسیب

[من شعر الوزیر أبی حفص أحمد بن برد و ترجمته]

و قال الوزیر الکاتب أبو حفص أحمد بن برد: [الکامل]
قلبی و قلبک لا محالة واحد شهدت بذلک بیننا الألحاظ
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 320
فتعال فلنغظ الحسود بوصلنا إنّ الحسود بمثل ذاک یغاظ
و قال: [الکامل]
یا من حرمت لذاذتی بمسیره هذی النوی قد صعّرت لی خدّها
زوّد جفونی من جمالک نظرة و اللّه یعلم إن رأیتک بعدها
و قال فی المطمح فی ابن برد المذکور: إنه غذی بالأدب، و علا إلی أسمی الرتب، و ما من أهل بیته إلّا شاعر کاتب، ملازم لباب السلطان مراقب، و لم یزل فی الدولة العامریة بسبق یذکر، و حقّ لا ینکر، و هو بدیع الإحسان، بلیغ القلم و اللسان، ملیح الکتابة، فصیح الخطابة، و له «رسالة السیف و القلم»، و هو أوّل من قال بالفرق بینهما، و شعره مثقف المبانی، مرهف کالحسام الیمانی، و قد أثبتّ منه ما یلهیک سماعا، و یریک الإحسان لماعا، فمن ذلک قوله یصف البهار: [الطویل]
تأمّل فقد شقّ البهار کمائما و أبرز عن نوّاره الخضل الندی
مداهن تبر فی أنامل فضّة علی أذرع مخروطة من زبرجد
و له یصف معشوقا، أهیف القدّ ممشوقا، أبدی صفحة ورد، و بدا فی ثوب لازورد:
[مجزوء الکامل]
لمّا بدا فی لازور دیّ الحریر و قد بهر
کبّرت من فرط الجما ل و قلت: ما هذا بشر
فأجابنی: لا تنکرن ثوب السماء علی القمر

[من شعر الوزیر أبی جعفر اللمائی و ترجمة الوزیر حسان بن مالک و بعض شعره]

نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص320
قال الوزیر الکاتب أبو جعفر بن اللمائی: [المتقارب]
ألمّا فدیتکما نستلم منازل سلمی علی ذی سلم
منازل کنت بها نازلا زمان الصّبا بین جید و فم
أما تجدنّ الثری عاطرا إذا ما الریاح تنفسن ثم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 321
و قال فی المطمح فیه: إمام من أئمه الکتابة و مفجّر ینبوعها، و الظاهر علی مصنوعها بمطبوعها، إذا کتب نثر الدّرّ فی المهارق، و نمّت فیه أنفاسه کالمسک فی المفارق، و انطوی ذکره علی انتشار إحسانه، مع امتداد لسانه، فلم تطل لدوحته فروع، و لا اتّصل لها من نهر الإحسان کروع، فاندفنت محاسنه من الإهمال فی قبر، و انکسرت الآمال بعدم بدائعه کسرا بعد جبر، و کان کاتب علی بن حمود العلوی و ذکر أنه کان یرتجل بین یدیه و لا یروّی، فیأتی علی البدیه، بما یتقبّله المروّی و یبدیه، فمن ذلک ما کتب به متفننا من ضمن رسالة: روض القلم فی فنائک مونق، و غصن الأدب بمائک مورق، و قد قذف بحر الهند درره، و بعث روض نجد زهره، فأهدی ذلک علی یدی فلان الجاری فی جهده، علی مبانی قصده.
و قال الوزیر حسان بن مالک بن أبی عبدة فی المهرجان: [المتقارب]
أری المهرجان قد استبشرا غداة بکی المزن و استعبرا
و سربلت الأرض أمواجها و جللت السندس الأخضرا
و هزّ الریاح صنابیرها فضوّعت المسک و العنبرا
تهادی به الناس ألطافه و سامی المقلّ به المکثرا
و قال فی حقّه فی المطمح: من بیت جلالة، و عترة أصالة، کانوا مع عبد الرحمن الداخل، و توغّلوا معه فی متشعبات تلک المداخل، و سعوا فی الخلافة حتی حضر مبایعها و کثر مشایعها، و جدّوا فی الهدنة و انعقادها، و أخمدوا نار الفتنة عند اتّقادها، فانبرمت عراها، و ارتبطت أولاها و أخراها، فظهرت البیعة و اتّضحت، و أعلنت الطاعة و أفصحت، و صاروا تاج مفرقها، و منهاج طرقها، و هو ممّن بلغ الوزارة [من] بعد ذلک و أدرکها، و حلّ مطلعها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 322
و فلکها، مع اشتهار فی اللغة و الآداب، و انخراط فی سلک الشعراء و الکتّاب، و إبداع لما ألّف، و انتهاض بما تکلّف، و دخل علی المنصور و بین یدیه کتاب ابن السری و هو به کلف، و علیه معتکف، فخرج و عمل علی مثاله کتابا سماه ربیعة و عقیل» جرّد له من ذهنه أیّ سیف صقیل، و أتی به منتسخا مصوّرا فی ذلک الیوم من الجمعة الأخری، و أبرزه و الحسن یتبسّم عنه و یتفرّی، فسرّ به المنصور و أعجب، و لم یغب عن بصره ساعة و لا حجب، و کان له بعد هذه المدة حین أدجت الفتنة لیلها و أزجت إبلها و خیلها، اغتراب کاغتراب الحارث بن مضاض، و اضطراب بین القوانی و المواضی، کالحیّة النضناض، ثم اشتهر بعد، و افترّ له السعد، و فی تلک المدة یقول یتشوّق إلی أهله: [الطویل]
سقی بلدا أهلی به و أقاربی غواد بأثقال الحیا و روائح
و هبّت علیهم بالعشی و بالضحی نواسم برد و الظّلال فوائح
تذکرتهم و النأی قد حال دونهم و لم أنس لکن أوقد القلب لافح
و ممّا شجانی هاتف فوق أیکة ینوح و لم یعلم بما هو نائح
فقلت اتّئد یکفیک أنی نازح و أنّ الذی أهواه عنی نازح
و لی صبیة مثل الفراخ بقفرة مضی حاضناها فاطّحتها الطوائح
إذا عصفت ریح أقامت رؤوسها فلم یلقها إلّا طیور بوارح
فمن لصغار بعد فقد أبیهم سوی سانح فی الدهر لو عنّ سانح
و استوزره المستظهر عبد الرحمن بن هشام أیام الفتنة فلم یرض بالحال، و لم یمض فی ذلک الانتحال، و تثاقل عن الحضور فی کل وقت، و تغافل فی ترک الغرور بذلک المقت، و کان المستظهر یستبدّ بأکثر تلک الأمور دونه، و ینفرد مغیّبا عنه شؤونه، فکتب إلیه: [الطویل]
إذا غبت لم أحضر و إن جئت لم أسل فسیّان منّی مشهد و مغیب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 323
فأصبحت تیمیا و ما کنت قبلها لتیم و لکنّ الشبیه نسیب
و له: [الطویل]
رأت طالعا للشیب بین ذوائبی فباحت بأسرار الدموع السواکب
و قالت أشیب؟ قلت: صبح تجاربی أنار علی أعقاب لیل نوائبی
و لمّا مات رثاه الوزیر أبو عامر ابن شهید بقوله: [الطویل]
أفی کلّ عام مصرع لعظیم؟ أصاب المنایا حادثی و قدیمی
و کیف اهتدائی فی الخطوب إذا دجت و قد فقدت عینای ضوء نجوم
مضی السّلف الوضّاح إلّا بقیّة کغرّة مسودّ القمیص بهیم
فإن رکبت منّی اللیالی هضیمة فقبلی ما کان اهتضام تمیم
أبا عبدة إنّا غدرناک عندما رجعنا و غادرناک غیر ذمیم
أنخذل من کنّا نرود بأرضه و نکرع منه فی إناء علوم
و یجلو العمی عنّا بأنوار رأیه إذا أظلمت ظلماء ذات غیوم
کأنک لم تلقح بریح من الحجا عقائم أفکار بغیر عقیم
و لم نعتمر مغناک غدوا و لم نزر رواحا لفصل الحکم دار حکیم

[ترجمة الوزیر أبی أیوب بن أبی أمیة]

و قال الوزیر الفقیه أبو أیوب ابن أبی أمیة: [البسیط]
أمسک دارین حیّاک النسیم به أم عنبر الشّحر أم هذی البساتین
بشاطئ النهر حیث النّور مؤتلق و الراح تعبق أم تلک الریاحین
و حلاه فی المطمح بقوله: واحد الأندلس الذی طوّقها فخارا، و طبّقها بأوانه افتخارا، ما شئت من وقار لا تحیل الحرکة سکونه، و مقدار یتمنّی مخبر أن یکونه، إذا لاح رأیت المجد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 324
مجتمعا، و إذا فاه أضحی کلّ شی‌ء مستمعا، تکتحل منه مقل المجد، و تنتحل المعالی أفعاله انتحال ذی کلف بها و وجد، لو تفرّقت فی الخلق سجایاه لحمدت الشّیم، و لو استسقیت بمحیّاه لما استمسکت الدیم، و دعی للقضاء فما رضی، و أعفی عنه فکأنه ما استقضی، لدیه تثبت الحقائق، و تنبت العلائق، و بین یدیه یسلک عین الجدد، و یدع اللّدد اللّدد، و له أدب إذا حاضر به فلا البحر إذا عصف، و لا أبو عثمان إذا وصف، مع حلاوة مؤانسة تستهوی الجلیس، و تهوی حیث شاءت بالنفوس، و أمّا تحبیره و إنشاؤه، ففیهما للسامع تحییره و انتشاؤه، و قد أثبتّ له بدعا، یثنی إلیها الإحسان جیدا و أخدعا، فمن ذلک قوله فی منزل حلّه متنزها: [البسیط]
یا منزل الحسن أهواه و آلفه حقا لقد جمعت فی صحنک البدع
للّه ما اصطنعت نعماک عندی فی یوم نعمت به و الشمل مجتمع
و حلّ منیة صهره الوزیر أبی مروان بن الدب بعدوة إشبیلیة المطلّة علی النهر، المشتملة علی بدائع الزهر، و هو معرّس ببنته، فأقام بها أیاما متأنّسا، و لجذوة السرور مقتبسا، فوالی علیه من التّحف، و أهدی إلیه من الطّرف، ما غمر کثرة، و بهر نفاسة و أثرة، فلمّا ارتحل و قد اکتحل من حسن ذلک الموضع بما اکتحل، کتب إلیه: [البسیط]
قل للوزیر و أین الشکر من منن جاءت علی سنن تتری و تتّصل
غشیت مغناک و الروض الأنیق به یندی و صوب الحیا یهمی و ینهمل
و جال طرفی فی أرجائه مرحا وفق اجتیازی یستعلی و یستفل
ندعو بلفتته حیث ارتمی زهر علیه من منثنی أفنانه کلل
محلّ أنس نعمنا فیه آونة من الزمان و واتانا به الأمل
و حلّ بعد ذلک متنزها بها علی عادته، فاحتفل فی موالاة ذلک البرّ و إعادته، فلمّا رحل کتب إلیه: [مجزوء الکامل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 325
یا دار، أمّنک الزما ن صروفه و نوائبه
و جرت سعودک بالذی یهوی نزیلک آیبه
فلنعم مأوی الضیف أن ت إذا تحاموا جانبه
خطر شأوت به الدیا ر و أذعنت لک قاطبه

[ترجمة الوزیر أبی القاسم بن عبد الغفور]

و صنع له ابن عبد الغفور رسالة سماها ب «الساجعة» حذا بها حذو أبی العلاء المعری فی «الصاهل و الساجح» و بعث بها إلیه، فعرضها علیه، فأقامت عنده أیاما ثم استدعاها منه فصرفها إلیه، و کتب معها: بکر زففتها أعزّک اللّه تعالی نحوک، و هززت بمقدمها سناک و سروک، فلم ألفظها عن شبع، و لا جهلت ارتفاعها عمّا یجتلی من نوعها و یستمع، و لکن لما أنسته من أنسک بانتجاعها، و حرصک علی ارتجاعها، دفعت فی صدر الولوع، و ترکت بینها و بین مجاثمها بتلک الربوع، حیث الأدب غضّ، و ماء البلاغة مرفضّ، فأسعد أعزّک اللّه بکرتها، و سلّها عن أفانین معرّتها، بما تقطفه من ثمارک، و تغرفه من بحارک، و ترتاح له و لإخوانه من نتائج أفکارک، و إنها لشنشنة أعرفها فیکم من أخزم، و موهبة حزتموها و أحرزتم السبق فیها منذ کم. انتهی.
و ابن عبد الغفور هو الوزیر أبو القاسم الذی قال فیه الفتح: فتی زکا فرعا و أصلا، و أحکم البلاغة معنی و فصلا، و جرّد من ذهنه علی الأعراض نصلا، قدّها به و فراها، و قدح زند المعالی حتی أوراها، مع صون یرتدیه، و لا یکاد یبدیه، و شبیبة ألحقته بالکهول، فأقفرت منه ربعها المأهول، و شرف ارتداه، و سلف اقتفی أثره الکریم و اقتداه، و له شعر بدیع السّرد، مفوّف البرد، و قد أثبتّ له منه ما ألفیت، و بالدلالة علیه اکتفیت، فمن ذلک قوله: [الطویل]
ترکت التصابی للصواب و أهله و بیض الطّلی للبیض و السّمر للسّمر
مدامی مدادی و الکؤوس محابری و ندمای أقلامی و منقلتی سفری
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 326
و له: [البسیط]
لا تنکروا أنّنا فی رحلة أبدا نحثّ فی نفنف طورا و فی هدف
فدهرنا سدفة و نحن أنجمها و لیس ینکر مجری النّجم فی السّدف
لو أسفر الدهر لی أقصرت عن سفری و ملت عن کلفی بهذه الکلف
و له من قصیدة: [الطویل]
رویدک یا بدر التمّام فإننی أری العیس حسری و الکواکب ظلّعا
کأنّ أدیم الصبح قد قدّ أنجما و غودر درع اللیل فیها مرقّعا
فإنی و إن کان الشباب محبّبا إلیّ و فی قلبی أجلّ و أوقعا
لآنف من حسن بشعری مفتری و آنف من حسن بشعری قنّعا

[من شعر الوزیر أبی الولید بن حزم]

و قال الوزیر أبو الولید بن حزم: [الطویل]
إلیک أبا حفص و ما عن ملالة ثنیت عنانی و الحبیب حبیب
مقالا یطیر الجمر عن جنباته و من تحته قلب علیک یذوب
مضت لک فی أفیاء ظلّی صولة لها بین أحناء الضّلوع دبیب
و لکن أبی إلّا إلیک التفاته فزاد علیه من هواک رقیب
و کم بیننا لو کنت تحمد ما مضی إذ العیش غضّ و الزمان قشیب
و تحت جناح الغیم أحشاء روضة بها لخفوق العاصفات وجیب
و للزهر فی ظلّ الریاض تبسّم و للطیر منها فی الغصون نحیب
و قال فی الزهد: [المتقارب]
ثلاث و ستون قد جزتها فماذا تؤمّل أو تنتظر
و حلّ علیک نذیر المشیب فما ترعوی أو فما تزدجر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 327
تمرّ لیالیک مرا حثیثا و أنت علی ما أری مستمر
فلو کنت تعقل ما ینقضی من العمر لاعتضت خیرا بشر
فما لک لا تستعدّ إذن لدار المقام و دار المقر
أ ترغب عن فجأة للمنون و تعلم أن لیس منها مفرّ
فإمّا إلی جنّة أزلفت و إمّا إلی سقر تستعر

[من شعر ابن أبی زمنین و ترجمته]

و قال ابن أبی زمنین: [البسیط]
الموت فی کلّ حین ینشر الکفنا و نحن فی غفلة عمّا یراد بنا
لا تطمئنّ إلی الدنیا و بهجتها و إن توشّحت من أثوابها الحسنا
أین الأحبة و الجیران؟ ما فعلوا؟ أین الذین هم کانوا لنا سکنا
سقاهم الموت کأسا غیر صافیة فصیّرتهم لأطباق الثری رهنا
تبکی المنازل منهم کلّ منسجم بالمکرمات و ترثی البرّ و المننا
حسب الحمام لو ابقاهم و أمهلهم أن لا یظنّ علی معلوّة حسنا
و قال فی المطمح: الفقیه أبو عبد اللّه محمد بن أبی زمنین فقیه متبتّل، و زاهد لا منحرف إلی الدنیا و لا منفتل، هجرها هجر المنحرف، و حلّ أوطانه فیها محلّ المعترف، لعلمه بارتحاله عنها و تفویضه، و إبداله منها و تعویضه، فنظر بقلبه لا بعینه، و انتظر یوم فراقه و بینه، و لم یکن له بعد ذلک بها اشتغال، و لا فی شعاب تلک المسالک إیغال، و له تآلیف فی الوعظ و الزهد و أخبار الصالحین تدلّ علی تخلیته عن الدنیا و اتّراکه، و التفلّت من حبائل الاغترار و أشراکه، و التنقّل من حال إلی حال، و التأهّب للارتحال، و یستدلّ به علی ذلک الانتحال، فمنها قوله: [البسیط]
الموت فی کلّ حین ینشر الکفنا
فذکر الأبیات، انتهی.

[من شعر خلف بن هارون یمدح بن حزم]

و قال خلف بن هارون یمدح الحافظ أبا محمد بن حزم: [المتقارب]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 328
یخوض إلی المجد و المکرمات بحار الخطوب و أهوالها
و إن ذکرت للعلا غایة ترقّی إلیها و أهوی لها

[ترجمة الحافظ ابن حزم]

و قال فی المطمح فیه: فقیه مستنبط، و نبیه بقیاسه مرتبط، ما تکلّم تقلیدا، و لا عدا اختراعا و تولیدا، ما تمنّت به الأندلس أن تکون کالعراق، و لا حنّت الأنفس معه إلی تلک الآفاق، أقام بوطنه، و ما برح عن عطفه، فلم یشرب ماء الفرات، و لم یقف عیشة الثمرات، و لکنه أربی علی من من ذلک غذی، و أزری علی من هنالک نعل و حذی، تفرّد بالقیاس، و اقتبس نار المعارف أیّ اقتباس، فناظر بها أهل فاس، و صنّف و حبّر حتی أفنی الأنقاس، و نابذ الدنیا، و قد تصدّت له بأفتن محیّا، و أهدت إلیه أعبق عرف و ریّا، و خلع الوزارة و قد کسته ملاها، و ألبسته حلاها، و تجرّد للعلم و طلبه، و جدّ فی اقتناء نخبه، و له تآلیف کثیرة، و تصانیف أثیرة، منها «الإیصال، إلی فهم کتاب الخصال» و کتاب «الإحکام، لأصول الأحکام» و کتاب «الفصل فی الأهواء و الملل و النّحل» و کتاب «مراتب العلوم» و غیر ذلک ممّا لم یظهر مثله من هنالک، مع سرعة الحفظ، و عفاف اللسان و اللحظ، و فیه یقول خلف بن هارون: [المتقارب]
یخوض إلی المجد و المکرمات
و لابن حزم فی الأدب سبق لا ینکر، و بدیهة لا یعلم أنه روّی فیها و لا فکّر، و قد أثبتّ من شعره ما یعلم أنه أوحد، و ما مثله فیه أحد، ثم ذکر جملة من نظمه ذکرناها فی غیر هذا الموضع.
و کتب أبو عبد اللّه بن مسرة إلی أبی بکر اللؤلؤی یستدعیه فی یوم طین و مطر، لقضاء أرب من الأنس و وطر: [الرجز]
أقبل فإنّ الیوم یوم دجن إلی مکان کالضمیر مکنی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 329
لعلّنا نحکم أشهی فنّ فأنت فی ذا الیوم أمشی منّی‌

[ترجمة أبی عبد اللّه بن مسرة]

و قال فی المطمح: إنّ ابن مسرّة کان علی طریق من الزهد و العبادة سبق فیها، و انتسق فی سلک مقتفیها، و کانت له إشارات غامضة، و عبارة عن منازل الملحدین غیر داحضة، و وجدت له مقالات ردیة، و استنباطات مردیة، نسب بها إلیه رهق، و ظهر له فیها مزحل عن الرشد و مزهق، فتتبّعت مصنّفاته بالحرق، و اتّسع فی استباحتها الخرق، و غدت مهجورة، علی التالین محجورة، و کان له تنمیق فی البلاغة و تدقیق لمعانیها، و تزویق لأغراضها و تشیید لمبانیها، انتهی. و هو من نمط الصوفیة الذین تکلّم فیهم، و التسلیم أسلم، و اللّه تعالی بأمرهم أعلم.

[فرار أبی عبد اللّه الخشنی من المناصب]

و من حکایات أهل الأندلس فی الانقباض عن السلطان، و الفرار من المناصب، مع العذر اللطیف: ما حکاه فی المطمح فی ترجمة الفقیه أبی عبد اللّه الخشنی إذ قال: کان فصیح اللسان، جزیل البیان، و کان أنوفا منقبضا عن السلطان، لم یتشبّث بدنیا، و لم ینکث له مبرم علیا، دعاه الأمیر محمد إلی القضاء فلم یجب، و لم یظهر رجاءه المحتجب، و قال: أبیت عن إمامة هذه الدیانة، کما أبت السماوات و الأرض عن حمل الأمانة، إبایة إشفاق، لا إبایة عصیان و نفاق، و کان الأمیر قد أمر الوزراء بإجباره، أو حمل السیف إن تمادی علی تأبّیه و إصراره، فلمّا بلغه قوله هذا أعفاه، قال: و کان الغالب علیه علم النسب، و اللغة و الأدب، و روایة الحدیث، و کان مأمونا ثقة، و کانت القلوب علی حبّه متّفقة، و له رحلة دخل فیها العراق، ثم عاد إلی هذه الآفاق، و عندما اطمأنّت داره، و بلغ أقصی مناه مداره، قال: [الطویل]
کأن لم یکن بین و لم تک فرقة
الأبیات، انتهی.
و هذه الأبیات قدّمناها فی الباب الخامس فی ترجمة القاضی ابن أبی عیسی.
فأنت تری کلام الفتح قد اضطرب فی نسبتها، فمرة نسبها إلی هذا، و مرة نسبها إلی ذاک، و هی قطعة عرفها ذاک.

[من دعابات أهل الأندلس]

و من دعابات أهل الأندلس و ملحهم: ما یحکی عن ابن أبی حلّی، و هو علی ابن أبی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 330
حلّی المکناسی أبو الحسن، قال لسان الدین: کان شیخا ملیح الحدیث، حافظا للمسائل الفقهیة، قائما علی المدوّنة، مضطلعا بمشکلاتها، کثیر الحکایات، یحکی أنه شاهد غرائب و ملحا فینمقها علیه بعض الطلبة، و یتعدون ذلک إلی الافتعال و المداعبة، حتی جمعوا من ذلک جزءا سمّوه «السالک و المحلّی، فی أخبار ابن أبی حلّی» فمن ذلک أنه کانت له هرة فدخل البیت یوما فوجدها قد بلت إحدی یدیها و جعلتها فی الدقیق حتی علق بها و نصبتها بإزاء کوّة فأر و رفعت الید الأخری لصیده، فناداها باسمها، فزوت رأسها، و جعلت إصبعها علی فمها، علی هیئة المشیر بالصمت، و أشباه ذلک، و توفی المذکور سنة 406، قاله فی الإحاطة.

[من أجوبة ملوک الأندلس و من شجاعة الأندلسیین]

و من أجوبة ملوک الأندلس: أنّ نزارا العبیدی صاحب مصر، کتب إلی المروانی صاحب الأندلس کتابا یسبّه فیه و یهجوه، فکتب إلیه المروانی: أمّا بعد، فإنک عرفتنا فهجوتنا، و لو عرفناک لأجبناک، و السلام، فاشتدّ ذلک علی نزار و أفحمه عن الجواب، و حکی أنه کتب إلی العبیدی ملک مصر مفتخرا: [الطویل]
ألسنا بنی مروان کیف تبدّلت بنا الحال أو دارت علینا الدوائر
إذا ولد المولود منّا تهلّلت له الأرض و اهتزّت إلیه المنابر
و من غریب ما یحکی من قوة أهل الأندلس و شجاعتهم: أنّ الأمیر حریز بن عکاشة من ذرّیّة عکاشة بن محصن صاحب رسول اللّه، صلی اللّه علیه و سلم، لمّا نزل بساحة أذفونش ملک [ملوک] الروم، فبدأهم بخراب ضیاعها و قطع الشجر، فکتب إلیه حریز: لیس من أخلاق القدیر، الفساد و التدمیر، فإن قدرت علی البلاد أفسدت ملکک، و لو کان الملک فی عشرة أمثال عددی لم ینزل لی بساحة، و لا تمکن منها براحة، فلمّا وصلته الرسالة عفّ، و أمر بالکفّ، و بعث الملک یرغبه فی الاجتماع به، فاسترهنه فی نفسه عدة من ملوک الروم، فأجاب إلی ما ارتهن، و لمّا ساروا إلی المدینة البیضاء- و هی قلعة رباح غربی طلیطلة- خرج حریز لابسا لأمة حربه، یرمق الروم منه شخصا أوتی بسطة فی الجسم و البسالة یتحدثون بآلات حربه، و یتعجّبون من شجاعة قلبه. و لمّا وصل فسطاط الملک تلقته الملوک بالرحب و السعة، و لمّا أراد النزول عن فرسه رکز رمحه، فأبصر الملک منه هیئة تشهد له بما عنه حدّث، و هیبة یجزع
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 331
للقائها الشجاع و یکترث، فدعاه إلی البراز عظیم أبطالهم، فقال له الملک: یا حریز، أرید أن أنظر إلی مبارزتک هذا البطل، فقال له حریز: المبارز لا یبارز إلّا أکفاءه، و إنّ لی بیّنة علی صدق قولی أن لیس لی فیهم کف‌ء، هذا رمحی قد رکزته، فمن رکب و اقتلعه بارزته، کان واحدا أو عشرة، فرکب عظیمهم فلم یهزّ الرمح من مکانه حین رامه، ثم فعل ذلک مرارا، فقال له الملک: أرنی یا حریز کیف تقلعه، فرکب و أشار بیده و اقتلعه، فعجب القوم، و وصله الملک و أکرمه، انتهی.

[ترجمة حریز بن عکاشة]

و کان حریز هذا شاعرا، و لمّا اجتاز به کاتب ابن ذی النون الوزیر أبو المطرف ابن المثنی کتب إلیه: [مجزوء الرمل]
یا فریدا دون ثان و هلالا فی العیان
عدم الراح فصارت مثل دهن البلّسان
فجاوبه حریز، و هو یومئذ أمیر قلعته: [مجزوء الرمل]
یا فریدا لا یجاری بین أبناء الزمان
جاء من شعرک روض جاده صوب البیان
فبعثناها سلافا کسجایاک الحسان
و کان لحریز کاتب یقال له عبد الحمید بن لاطون فیه تغفل شدید، فأمره أن یکتب إلی المأمون بن ذی النون فی شأن حصن دخله النصاری، فکتب: و قد بلغنی أنّ الحصن الفلانی دخله النصاری إن شاء اللّه تعالی، فهذه الواقعة التی ذکرها اللّه تعالی فی القرآن، بل هی الحادثة الشاهدة بأشراط الزمان، فإنّا للّه علی هذه المصیبة التی هدّت قواعد المسلمین، و أبقت فی قلوبهم حسرة إلی یوم الدین. فلمّا وصل الکتاب للمأمون ضحک حتی وقع للأرض، و کتب لابن عکاشة جوابه، و فیه: و قد عهدناک منتقیا لأمورک، نقّادا لصغیرک و کبیرک، فکیف جاز علیک أمر هذا الکاتب الأبله الجلف، و أسندت إلیه الکتب عنک دون أن تطّلع علیه، و قد علمت أن عنوان الرجل کتابه، و رائد عقله خطابه، و ما أدری من أیّ شی‌ء یتعجّب منه، هل من تعلیقه إن شاء اللّه تعالی بالماضی؟ أم من حسن تفسیره للقرآن و وضعه مواضعه؟ أم من تورّعه عن تأویله إلّا بتوقیف من سماع عن إمام؟ أم من تهویله لما طرأ علی من یخاطبه؟ أم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 332
من علمه بشأن هذا الحصن الذی لو أنه القسطنطینیة العظمی ما زاد عن عظمه و هوله شیئا؟
و لو أنّ حقیرا یخفی عن علم اللّه تعالی لخفی عنه هذا الحصن! ناهیک عن صخرة حیث لا ماء و لا مرعی، منقطع عن بلاد الإسلام، خارج عن سلک النظام، لا یعبره إلّا لصّ فاجر، أو قاطع طریق غیر متظاهر، حرّاسه لا یتجاوزون الخمسین، و لا یرون خبز البر عندهم إلّا فی بعض السنین، باعه أحدهم بعشرین دینارا، و لعمری إنه لم یغبن فی بیعه و لا ربح أرباب ابتیاعه، و أراح من الشین بنسبته و النظر فی خداعه، فلیت شعری ما الذی عظمه فی عین هذا الجاهل، حتی خطب فی أمره بما لم یخطب به فی حرب وائل؟
فلمّا وقف حریز علی الکتاب کتب لابن ذی النون جوابا منه: و إنّ المذکور ممّن له حرمة قدیمة، تغنیه عن أن یمتّ بسواها، و خدمة محمود أولاها و أخراها، و لسنا ممّن اتّسعت مملکته، و عظمت حضرته، فنحتاج إلی انتقاء الکتّاب، و التحفّظ فی الخطاب، و إنما نحن أحلاس ثغور، و کتّاب کتائب لا سطور، و إن کان الکاتب المذکور لا یحسن فیما یلقیه علی القلم، فإنه یحسن کیف یصنع فی مواطن الکرم، و له الوفاء الذی تحدّث به فلان و فلان، بل سارت بشأنه فی أقصی البلاد الرّکبان، و لیس ذلک یقدح عندنا فیه، بل زاده لکونه دالّا علی صحّة الباطن و السذاجة فی الإکرام و التنویه، انتهی.
و لهذا الکاتب شعر یسقط فیه سقوط الأغبیاء، و قد یتنبّه فیه تنبّه الأذکیاء، فمنه قوله من قصیدة یمدح حریزا المذکور مطلعها: [المتقارب]
یذکّرنی بهم العنبر و ظلم ثنایاهم سکّر
إلی أن قال:
و لو لا معالیک یا ذا النّدی لما کان فی الأرض من یشعر
فلا تنکرنّ زحاما علی ذراک و فی کفّک الکوثر
و مشی فی موکبه و هم فی سفر، و کان فی فصل المطر و الطین، فجعل فرسه فی ذنب فرس ابن عکّاشة، فلمّا أثارت یدا فرسه طینا جاء فی عنق أمیره، ففطن لذلک الأمیر، فقال له:
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 333
یا أبا محمد، تقدّم، فقال: معاذ اللّه أن أسی‌ء الأدب بالتقدّم علی أمیری، فقال: فإن کان کذلک فتأخّر مع الخیل، فقال: مثلی لا یزال علی رکابک فی مثل هذه المواضع، فقال له:
فقد و اللّه أهلکتنی بما ترمی یدا فرسک علیّ من الطین، فقال: أعزّ اللّه الأمیر! فو اللّه ما علمت أنّ ید فرسی تصل إلی عنقک، فضحک ابن عکاشة حتی کاد یسقط عن مرکوبه.

[بین المقتدر و غلام نشأ عنده]

و کان بسرقسطة غلام اسمه یحیی بن یطفت من بنی یفرن، قد نشأ عند ملکها المقتدر بن هود، و تخلّق بالرکوب و الأدب، و کان فی غایة الجمال و الحلاوة و الظّرف فعلق بقلب ابن هود، و کتم حبّه زمانا فلم ینکتم، فکتب له: [المجتث]
یا ظبی، بالله قل لی متی تری فی حبالی
یمرّ عمری و حالی من خیبتی منک خالی
فکتب له الغلام فی ظهر الرقعة: [المجتث]
إن کنت ظبیا فأنت ال هزبر تبغی اغتیالی
و لیس یخطر یوما حلول غیل ببالی
ثم کتب بعدهما: هذا ما اقتضاه حکم الجواب فی النظم، و أنا بعد قد جعلت رسنی بید سیدی، فعسی أن یقودنی إلی ما أحبّ، لا ما أکره، و الذی أحبّه أن یکون بیننا من المحبة ما یقضی بدوام الإخلاص، و نأمن فی مغبّته من العار و القصاص، فترکه مدة، ثم کتب له یوما علی الصورة التی ذکرها: [الکامل]
ما ذا تری فی یوم أمن طرّزت حلل السّحاب به البروق المذهبه
و أنا و کاسی لا جلیس غیره ملآن لا یخلو إلی أن تشربه
و الأنس إن یسّرته متیسّر و متی تصعّبه فیا ما أصعبه
فأجابه: [الکامل]
یا مالکا بذّ الملوک بعلمه و خلاله و علوّه فی المرتبه
وافی نداک فحرت عند جوابه إذ ما تضمّن ریبة مستغربه
إنّا إذا نخلو، تقوّل حاسد و غدا بهذا الأمر ینصر مذهبه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 334
هبنی إلی یوم تطیش به النّهی و البیض تنضی و القنا متأشبه
و هناک فانظرنی بعین بصیرة فالشّبل یعرف أصله من جرّبه
ثم أعلاه إلی درجة الوزارة و القیادة، إلی أن قتل فی جیش کان قدّمه علیه، فقال فیه من قصیدة: [المجتث]
یا صارما أغمدته عن ناظریّ الصوارم
و زهرة غیّبتها من الطیور کمائم
یا کوکبا خرّ من أن جمی و أنفی راغم
بکت علیّ و شقّت جیوبهنّ الغمائم
قل للحمائم إنّی أصبحت أحکی الحمائم
و أنثر الدمع مهما رأیت للزهر باسم
تاللّه لا لذّ عیش لمترف لک عادم
و لمّا رحل الوزیر عبد البر بن فرسان من وادی آش إلی علی المیورقی صاحب فتنة إفریقیة أقبل علیه، ثم ولی أخوه یحیی الإمارة بعده، فأسند جمیع أموره إلیه، فقال یخاطبه:
[الطویل]
أجبنا و رمحی ناصری و حسامی و عجزا و عزمی قائدی و إمامی
ولی منک بطّاش الیدین غضنفر یحارب عن أشباله و یحامی
ألا غنّیانی بالصّهیل فإنه سماعی و رقراق الدماء مدامی
و حطّا علی الرمضاء رحلی فإنها مهادی و خفّاق البنود خیامی

[الأمیر أبو عبد اللّه بن مردنیش]

و کان الأمیر أبو عبد اللّه ابن مردنیش ملک شرق الأندلس من أبطال عصره، و کان یدفع فی المواکب، و یشقّها یمینا و شمالا منشدا: [الوافر]
أکرّ علی الکتیبة لا أبالی أ حتفی کان فیها أم سواها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 335
حتی إنه دفع مرة فی موکب النصاری، فصرع منهم و قتل، و ظهر منه ما أعجبت به نفسه، فقال لشخص من خواصّه عالم بأمور الحرب: کیف رأیت؟ فقال: لو رآک السلطان لزاد فیما لک فی بیت المال، و أعلی مرتبتک، أمن یکون رأس جیش یقدم هذا الإقدام، و یتعرّض بهلاک نفسه إلی هلاک من معه، فقال له: دعنی فإنی لا أموت مرتین، و إذا متّ أنا فلا عاش من بعدی.

[من ظرف أهل الأندلس]

و من حکایاتهم فی الظرف: أنّ القاضی أبا عبد اللّه محمد بن عیسی من بنی یحیی بن یحیی خرج إلی حضور جنازة، و کان لرجل من إخوانه منزل بقرب مقبرة قریش، فعزم علیه فی المیل إلیه، فنزل و أحضر له طعاما، و غنّت جاریة: [الکامل]
طابت بطیب لثاتک الأقداح و زها بحمرة وجهک التفاح
و إذا الربیع تنسّمت أرواحه نمّت بعرف نسیمک الأرواح
و إذا الحنادس ألبست ظلماءها فضیاء وجهک فی الدّجی مصباح
فکتبها القاضی طربا علی ظهر یده.
قال الراوی: فلقد رأیته یکبّر علی الجنازة و الأبیات علی ظهر یده.
و من حکایاتهم فی البلاغة: ما ذکره فی «المطمح» أن أبا الولید بن عیال لمّا انصرف من الحجّ اجتمع مع أبی الطیب فی مسجد عمرو بن العاص بمصر، ففاوضه قلیلا، ثم قال له:
أنشدنی لملیح الأندلس، یعنی ابن عبد ربه، فأنشده: [الکامل]
یا لؤلؤا یسبی العقول أنیقا ورشا بتعذیب القلوب رفیقا
ما إن رأیت و لا سمعت بمثله درّا یعود من الحیاء عقیقا
و إذا نظرت إلی محاسن وجهه أبصرت وجهک فی سناه غریقا
یا من تقطّع خصره من رقّة ما بال قلبک لا یکون رقیقا
فلما کمل إنشادها استعادها، ثم صفّق بیدیه و قال: یا ابن عبد ربه، لقد تأتیک العراق حبوا، انتهی.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 336

[من شعر ابن عبد ربه و من سعة اطلاع ابن زیدون]

و قال مؤلف کتاب «واجب الأدب»: مما یجب حفظه من مخترعات الأندلسیین قول ابن عبد ربه: [الکامل]
یا ذا الذی خطّ العذار بخدّه خطّین هاجا لوعة و بلابلا
ما کنت أقطع أنّ لحظک صارم حتی حملت من العذار حمائلا
و حکی أنّ الوزیر أبا الولید بن زیدون توفیت ابنته، و بعد الفراغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة لیتشکّر لهم، فقیل: إنه ما أعاد فی ذلک الوقت عبارة قالها لأحد، قال الصّفدی: و هذا من التوسّع فی العبارة، و القدرة علی التفنّن فی أسالیب الکلام، و هو أمر صعب إلی الغایة، و أری أنه أشقّ ممّا یحکی عن واصل بن عطاء أنه ما سمعت منه کلمة فیها راء؛ لأنه کان یلثغ بحرف الراء لثغة قبیحة، و السبب فی تهوین هذا الأمر و عدم تهویله أنّ واصل بن عطاء کان یعدل إلی ما یرادف تلک الکلمة ممّا لیس فیه راء، و هذا کثیر فی کلام العرب، فإذا أراد العدول عن لفظ فرس قال جواد أو ساع أو صافن، أو العدول عن رمح قال قناة أو صعدة أو یزنی أو غیر ذلک، أو العدول عن لفظ صارم قال حسام أو لهذم أو غیر ذلک، و أمّا ابن زیدون فأقول فی حقّه إنه أقلّ مما کان فی تلک الجنازة، و هو وزیر، ألف رئیس ممّن یتعیّن علیه أن یتشکّر له، و یضطر إلی ذلک، فیحتاج فی هذا المقام إلی ألف عبارة مضمونها الشکر، و هذا کثیر إلی الغایة، لا سیما من محزون، فقد قطعة من کبده: [الطویل]
و لکنه صوب العقول إذا انبرت سحائب منه أعقبت بسحائب
و قد استعمل الحریری هذا فی مقاماته عندما یذکر طلوع الفجر، و هو من القدرة علی الکلام، و أری الخطیب بن نباتة ممن لا یلحق فی هذا الباب، فإنه أملی مجلدة معناها من أوّلها إلی آخرها «یا أیها الناس اتّقوا اللّه و احذروه فإنکم إلیه راجعون»، و هذا أمر بارع معجز، و الناس یذهلون عن هذه النکتة فیه، انتهی کلام الصّفدی ملخّصا.
و قال فی الوافی، بعد ذکره جملة من أحوال ابن زیدون ما نصّه: و قال بعض الأدباء: من
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 337

[من شعر أبی الربیع سلیمان بن علی الشلبی و ابن مهران و ابن السید البطلیوسی و ابن صارة]

لبس البیاض، و تختّم بالعقیق، و قرأ لأبی عمرو، و تفقّه للشافعی، و روی شعر ابن زیدون، فقد استکمل الظّرف. و کان یسمّی بحتریّ المغرب لحسن دیباجة نظمه، و سهولة معانیه، انتهی.
رجع إلی کلام أهل الأندلس:
و کان الأدیب المحدّث أبو الربیع سلیمان بن علی الشلبی الشهیر بکثیر یهوی من یتجنّی علیه و یقول: إنه أبرد من الثلج، فخاطبه کثیر بقوله: [الخفیف]
یا حبیبا له کلام خلوب قلّبت فی لظی هواه القلوب
کیف تعزو إلی محبّک بردا و من الحبّ فی حشاه لهیب
أنت شمس و قلت إنی ثلج فلهذا إذا طلعت أذوب
و قال ابن مهران ممّا یشتمل علی أربعة أمثال: [الکامل]
المال زین، و الحیاة شهیّة، و الجود یفقر، و الشجاعة تقتل
و البخل عیب، و الجبان مذمّم، و القصد أحکم، و التوسّط أجمل
و قال ابن السّید البطلیوسی متغزّلا: [الکامل]
نفسی الفداء لجؤذر حلو اللّمی مستحسن بصدوده أضنانی
فی فیه سمطا جوهر یروی الظما لو علّنی ببروده أحیانی
و یخرج من هذه القطعة عدة قطع.
و قال ابن صارة مضمّنا: [الوافر]
إلی کم ینفد الدینار منی و یطلب کفّ من عنه یحید
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 338
أ لم أنشده فی وادی هیامی به لو کان یعطفه النشید
حبیبی أنت تعلم ما أرید و لکن لا ترقّ و لا تجود
و کم غنّیت حین تنکّبتنی منی شیطانها أبدا مرید
(یرید المرء أن یؤتی مناه و یأبی اللّه إلّا ما یرید)

[من شعر عبد الملک بن رزین و ابن عبد ربه]

و قال ذو الریاستین أبو مروان عبد الملک بن رزین: [مجزوء الکامل]
بالله إن لم تزدجر یا مشبه البدر المنیر
لأسرّحنّ نواظری فی ذلک الورد النضیر
و لآکلنّک بالمنی و لأشربنّک بالضمیر
و قال ابن عبد ربه: [مخلع البسیط]
اشرب علی المنظر الأنیق و امزج بریق الحبیب ریقی
و احلل و شاح الکعاب رفقا خوفا علی خصرها الرقیق
و قل لمن لام فی التصابی خلّ قلیلا عن الطریق
و سیأتی إن شاء اللّه تعالی قریبا من بلاغة أهل الأندلس فی الجدّ و الهزل ما فیه مقنع لمن اقتصر علیه.

[من أنفة الأندلسیین]

و من حکایاتهم فی عدم احتمال الضیم و الذلّ و الوصف بالأنفة: أنه لمّا ثار أیوب بن مطروح فی المائة الخامسة فی الفتنة علی ملک غرناطة عبد اللّه بن بلقین بن حبّوس و خاض بحار الفتنة حتی رماه موجها فیمن رمی علی الساحل، و حصل فیما بثّ علیهم یوسف بن تاشفین من الحبائل، و کانت له همّة و أنفة عظیمة، و خلع عن إمارته، و حصل فی حبالته، أدخل رأسه تحته، فانتظر من حضر معه أن یتکلّم أو یخرج رأسه، فلم یکن إلّا قلیل حتی وقع میتا، رحمه اللّه تعالی!.
و لمّا ثار المیورقی بإفریقیة علی بنی عبد المؤمن الثورة المشهورة، و خدمه جملة من أعیان أهل الأندلس، و کان من جملتهم مالک بن محمد بن سعید العنسی، کتب عنه من رسالة: و بعد، فإنّا لا نحتاج لک إلی برهان علی أمیر لسانه الحسام، و أیّده التأیید الربانی الذی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 339
لا یرام، قد نصب خیامه بالبراح، و لم یتّخذ سورا غیر سمر القنا و بیض الصّفاح، له من العزم ردء و من الحزم کمین: [الوافر]
إذا صدق الحسام و منتضیه فکلّ قرارة حصن حصین
و هو من القوم الذین لا یجورون علی جار، و لا یرحلون بخزیة و لا یترکون من عار، دینهم دین التقوی، و إن کنت من ذلک فی شکّ فأقدم علینا حتی یصحّ لک اختبار الذهب بالسّبک، و أنت بالخیار فی الظعن و الإقامة، فإن حللت نزلت خیر منزل، و إن رحلت ودّعت أفضل وداع، و سرت فی کنف السلامة، إذ قد شهرنا بأنّا لا نقیّد إلّا بالإحسان، و أن ندع لاختیاره کل إنسان.

[من کرم الأندلسیین و من شعر أبی العرب الصقلی]

و من حکایات أهل الأندلس فی الجود و الفضل و مکارم الأخلاق: أنّ أبا العرب الصقلی حضر مجلس المعتمد بن عباد، فأدخلت علیه جملة من دنانیر السّکّة، فیمر له بخریطتین منها، و بین یدیه تصاویر عنبر من جملتها صورة جمل مرصّع بنفیس الدّرّ، فقال أبو العرب: ما یحمل هذه الدنانیر إلّا جمل، فتبسّم المعتمد و أمر له به، فقال: [البسیط]
أعطیتنی جملا جونا شفعت به حملا من الفضّة البیضاء لو حملا
نتاج جودک فی أعطان مکرمة لا قدّ تعرف من منع و لا عقلا
فاعجب لشأنی فشأنی کلّه عجب رفّهتنی فحملت الحمل و الجملا
و من نظم أبی العرب المذکور: [الطویل]
إلام اتّباعی للأمانی الکواذب و هذا طریق المجد بادی المذاهب
أهمّ و لی عزمان: عزم مشرّق و آخر یثنی همّتی للمغارب
و لا بدّ لی أن أسأل العیس حاجة تشقّ علی أخفافها و الغوارب
إذا کان أصلی من تراب فکلّها بلادی و کلّ العالمین أقاربی
و ذکر الحافظ الحجاری فی «المسهب» أنه سأل عمّه أبا محمد عبد اللّه بن إبراهیم عن
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 340
أفضل من لقی من أجواد تلک الحلبة، فقال: یا ابن أخی، لم یقدر أن یقضی لی الاصطحاب بهم، فی شباب أمرهم، و عنفوان رغبتهم فی المکارم، و لکن اجتمعت بهم و أمرهم قد هرم، و ساءت بتغیر الأحوال ظنونهم، و ملّوا الشکر، و ضجروا من المروءة، و شغلتهم المحن و الفتن، فلم یبق فیهم فضل للإفضال و کانوا کما قال أبو الطیب: [البسیط]
أتی الزمان بنوه فی شبیبته فسرّهم و أتیناه علی الهرم‌

[من کرم الوزیر أبی بکر بن عبد العزیز و کرم المعتمد بن عباد]

فإن یکن أتاه علی الهرم فإنّا أتیناه و هو فی سیاق الموت، ثم قال: و مع هذا فإن الوزیر أبا بکر بن عبد العزیز- رحمه اللّه تعالی-! کان یحمّل نفسه ما لا یحمله الزمان، و یبسم فی موضع القطوب، و یظهر الرضا فی حال الغضب، و یجهد ألّا ینصرف عنه أحد غیر راض، فإن لم یستطع الفعل عوّض عنه القول.
قلت له: فالمعتمد بن عباد کیف رأیته؟ فقال: قصدته و هو مع أمیر المؤمنین یوسف بن تاشفین فی غزوته للنصاری المشهورة، فرفعت له قصیدة منها: [البسیط]
لا روّع اللّه سربا فی رحابهم و إن رمونی بترویع و إبعاد
و لا سقاهم علی ما کان من عطش إلّا ببعض ندی کفّ ابن عباد
ذی المکرمات التی ما زلت تسمعها أنس المقیم و فی الأسفار کالزاد
یا لیت شعری ما ذا یرتضیه لمن ناداه یا موئلی فی جحفل النادی
فلما انتهیت إلی هذا البیت قال: أما أرتضیه لک فلست أقدر فی هذا الوقت علیه، و لکن خذ ما ارتضی لک الزمان، و أمر خادما له فأعطانی ما أعیش فی فائدته إلی الآن، فإنی انصرفت به إلی المریة، و کان یعجبنی سکناها و التجارة بها، لکونها مینا لمراکب التجار من مسلم و کافر، فتجرت فیها فکان إبقاء ماء وجهی علی یدیه، رحمة اللّه تعالی علیه! ثم أخذ البطاقة و جعل یجیل النظر و الفکر فی القصیدة، و أنا مترقّب لنقده، لکونه فی هذا الشأن من أئمته، و کثیرا ما کان الشعراء یتحامونه لذلک إلّا من عرف من نفسه التبریز، و وثق بها، إلی أن انتهی إلی قولی: [البسیط]
و لا سقاهم علی ما کان من عطش إلّا ببعض ندی کفّ ابن عبّاد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 341
فقال: لأی شی‌ء بخلت علیهم أن یسقوا بکفّه؟ فقلت: إذن کان یلحقنی من النقد ما لحق ذا الرمة فی قوله: [الطویل]
و لا زال منهلّا بجرعائک القطر
و کان طوفان نوح أهون علیهم من ذلک، فتألّقت غرّته، و بدت مسرّته، و قال: إنّا للّه علی أن لم یعنّا الزمان علی مکافأة مثلک.
قال: و کنت ممّن زاره بسجنه بأغمات، و حملتنی شدّة الحمیّة له و الامتعاض لما حلّ به أن کتبت علی حائط سجنه متمثّلا: [الطویل]
فإن تسجنوا القسریّ لا تسجنوا اسمه و لا تسجنوا معروفه فی القبائل
ثم تفقدت الکتابة بعد أیام، فوجدت تحت البیت: لذلک سجنّاه: [الطویل]
و من یجعل الضّرغام فی الصّید بازه تصیّده الضّرغام فیما تصیّدا
فما أدری من جاوب بذلک، ثم عدت له و وجدته قد محی، و أعلمت بذلک ابن عبّاد، فقال: صدق المجاوب، و أنا الجانی علی نفسه، و الحافر بیده لرمسه، و لمّا أردت وداعه أمر لی بإحسان علی قدر ما استطاع، فارتجلت: [السریع]
آلیت لا أقبل إحسانکم و الدّهر فیما قد عراکم مسی
ففی الذی أسلفتم غنیة و إن یکن عندکم قد نسی
قال: و فیه أقول من قصیدة: [السریع]
یا طالب الإنصاف من دهره طلبت أمرا غیر معتاد
فلو یکون العدل فی طبعه لما عدا ملک ابن عبّاد

[من شعر الحجاری]

و للحجاری المذکور کتاب فی البدیع سماه «الحدیقة» و أنشد لنفسه فیه: [السریع]
و شادن ینصف من نفسه أمّننی من سطوة الدهر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 342
ینام للشّرب علی جنبه و یصرف الذّنب إلی الخمر
و له فی فرس: [الوافر]
و مستبق یحار الطّرف فیه و یسلم فی الکفاح من الجماح
کأنّ أدیمه لیل بهیم تحجّل بالیسیر من الصباح
إذا احتدم التسابق صار جرما تقلّب بین أجنحة الریاح‌

[من شعر أبی العلاء إدریس بن أزرق و محمد بن هشام المروانی]

و کتب أبو العلاء إدریس بن أزرق إلی ابن رشیق ملک مرسیة، و قد طالت إقامته عند ابن عبد العزیز: [الطویل]
ألا لیت شعری هل أعود إلی الذی عهدت من النّعمی لدیکم بلا جهد
فو اللّه مذ فارقتکم ما تخلّصت من الدهر عندی ساعة دون ما کدّ
فمنّوا بإذن کی أطیر إلیکم فلا عار فی شوق إلی المال و المجد
و وقف بعض أعدائه علی هذه الأبیات، فوشی بها إلی ابن عبد العزیز قاصدا ضرره، و کان ذلک فی محفل لیکون أبلغ، فقال: و اللّه لقد ذکرتنی أمره، و لقد أحسن الدلالة علی حاله، فإنّ الرجل کریم، و علینا موضع اللوم، لا علیه، و و اللّه لأوسعنّه مالا و وجدا بقدر و سعی، ثم أخذ فی الإحسان إلیه حتی برّ یمینه رحمه اللّه تعالی: [الخفیف]
هکذا هکذا تکون المعالی طرق الجدّ غیر طرق المزاح
و لنذکر جملة من بنی مروان بالأندلس، فنقول:
قال محمد بن هشام المروانی صاحب کتاب «أخبار الشعراء»: [البسیط]
و روضة من ریاض الحزن حالفها طلّ أطلّت به فی أفقها الحلل
کأنما الورد فیما بینها ملک موف و نوّارها من حوله خول
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 343
و کان فی مدة الناصر، و أدخل علیه یوما لیذاکره، فاستحسنه، و أمره بالتزام بنیه لیؤدّبهم بحسن أدبه، و یتخلّقوا بخلقه، فاستعفی من ذلک، و قال: إنّ الفتیان لا یتعلّمون إلّا بشدّة الضبط و القید و الإغلاظ، و أنا أکره أن أعامل بذلک أولاد الخلیفة فیکرهونی، و قد یحقد لی بعضهم ذلک إلی أن یقدر علی النفع و الضرر.
قالوا: و کان یتعشّق المستنصر بالله ولی عهد الناصر و هو غلام، و له فیه: [المجتث]
متّع بوجهک جفنی یا کوکبا فوق غصن
یا من تحجّب حتی عن کلّ فکر و أذن
و خامر الخوف فیه فما یمر بذهن
فلیس للطّرف و القل ب غیر دمع و حزن
فإننی ذو ذنوب و أنت جنّة عدن‌

[من شعر أحمد بن هشام المروانی و علو همته]

و قال أخوه أحمد بن هشام: [الطویل]
قطعت اللیالی بارتجاء وصالکم و ما نلت منکم غیر متّصل الهجر
و ما کنت أدری ما التصبّر قبلکم فعلّمتمونی کیف أقوی علی الصبر
و ما کنت ممّن یعلق الصبر فکره و لکن خشیت الصبر یذهب بالعمر
و من حکایاتهم فی علوّ الهمة: أنه کان سبب قراءته و اجتهاده أنه حضر مجلسا فیه القائد أحمد بن أبی عبدة، و هو غلام، فاستخبره القائد، فرآه بعیدا من الأدب و الظّرف، و رأی له ذهنا قابلا للصلاح، فقال: أیّ سیف لو کانت علیه حلیة؟ فقامت من هذه الکلمة قیامته، و ثابت له همّة ملوکیّة عطف بها علی الأدب و التعلّم، إلی أن صار ابن أبی عبدة عنده کما کان هو عند ابن أبی عبدة أولا، فحضر بعد ذلک معه، و جالا فی مضمار الأدب، فرأی ابن أبی عبدة جوادا لا یشقّ غباره، فقال: ما هذا؟ أین هذا مما کان؟ فقال: إن کلمتک عملت فی فکری ما أوجب هذا، فقال: و اللّه إنّ هذه حلیة تلیق بهذا السیف، فجزاک اللّه عن همّتک خیرا!.
ثم قال له: سر، إنّ لی علیک حقا إذ بعثتک علی التأدّب و التمیز، فإذا حضرنا فی جماعة فلا تتطاول علی تقصیری، و حافظ علی أن لا أسقط من العیون بإرباء غیری علیّ، فقال:
لک ذلک و زیادة.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 344

[المنذر بن عبد الرحمن الأوسط]

و کان المنذر ابن الأمیر عبد الرحمن الأوسط سیی‌ء الخلق فی أول أمره، کثیر الإصغاء إلی أقوال الوشاة، مفرط القلق ممّا یقال فی جانبه، معاقبا علی ذلک من یقدر علی معاقبته، مکثر التشکّی ممّن لا یقدر علیه لوالده الأمیر عبد الرحمن، فطال ذلک علی الأمیر، فقال لوکیل خاصّ به عارف بالقیام بما یکلّفه به: الموضع الفلانی الذی بالجبل الفلانی المنقطع عن العمران تبنی فیه الآن بناء أسکن فیه ابنی المنذر، و أوصاه بالاجتهاد فیه، ففرغ منه، و عاد إلیه، فقال له: تعلم المنذر أنی أمرته بالانفراد فیه، و لا تترک أحدا من أصحابه و لا أصحاب غیره یزوره، و لا یتکلّم معه البتّة، فإذا ضجر من ذلک و سألک عنه فقل له: هکذا أمر أبوک، فتولّی الثقة ذلک علی ما أمر به، و لمّا حصل المنذر فی ذلک المکان و بقی وحده، و فقد خوله و من کان یستریح إلیه، و نظر إلی ما سلبه من الملک ضجر، فقال للثقة: عسی أن یصلنی غلمانی و أصحابی أتأنّس بهم، فقال له الثقة: إنّ الأمیر أمر أن لا یصلک أحد و أن تبقی وحدک لتستریح ممّا یرفع لک أصحابک من الوشایة، فعلم أن الأمیر قصد محنته بذلک و تأدیبه، فاستدعی دواة و کتب إلی أبیه: أنی قد توحّشت فی هذا الموضع توحّشا ما علیه من مزید، و عدمت فیه من کنت آنس إلیه، و أصبحت مسلوب العزّ فقید الأمر و النهی، فإن کان ذلک عقابا لذنب کبیر ارتکبته و علمه مولای و لم أعلمه فإنی صابر علی تأدیبه، ضارع إلیه فی عفوه و صفحه: [الطویل]
و إنّ أمیر المؤمنین و فعله لکالدهر، لا عار بما فعل الدهر
فلمّا وقف الأمیر علی رقعته، و علم أنّ الأدب بلغ به حقّه، استدعاه فقال له: وصلت رقعتک تشکو ما أصابک من توحّش الانفراد فی ذلک الموضع، و ترغب أن تأنس بخولک و عبیدک و أصحابک، و إن کان لک ذنب یترتّب علیه أن تطول سکناک فی ذلک المکان، و ما فعلت ذلک عقابا لک، و إنما رأیناک تکثر الضجر و التشکی من القال و القیل، فأردنا راحتک بأن نحجب عنک سماع کلام من یرفع لک و ینمّ، حتی تستریح منهم، فقال له: سماع ما کنت أضجر منه أخفّ علیّ من التوحّد و التوحّش و التخلّی ممّا أنا فیه من الرفاهیة و الأمر و النهی، فقال له: فإذ قد عرفت و تأدبت فارجع إلی ما اعتدته، و عوّل علی أن تسمع کأنک لم تسمع،
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 345
و تری کأنک لم تر، و قد قال النبیّ صلی اللّه علیه و سلم «لو تکاشفتم ما تدافنتم»، و اعلم أنک أقرب الناس إلیّ و أحبّهم فیّ، و بعد هذا فما یخلو صدرک فی وقت من الأوقات عن إنکار علیّ، و سخط لما أفعله فی جانبک أو جانب غیرک، مما لو أطلعنی اللّه تعالی علیه لساءنی، لکن الحمد للّه الذی حفظ ما بین القلوب بستر بعضها عن بعض فیما یجول فیها، و إنک لذو همّة و مطمح، و من یکن هکذا یصبر و یغض و یحمل، و یبدل العقاب بالثواب، و یصیر الأعداء من قبیل الأصحاب، و یصبر من الشخص علی ما یسوء، فقد یری منه بعد ذلک ما یسر، و لقد یخف علیّ الیوم من قاسیت من فعله و قوله، ما لو قطعتهم عضوا عضوا لما ارتکبوه منی ما شفیت منهم غیظی، و لکن رأیت الإغضاء و الاحتمال، لا سیما عند الاقتدار، أولی، و نظرت إلی جمیع من حولی ممّن یحسن و یسی‌ء فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض، و نظرت إلی المسی‌ء یعود محسنا، و المحسن یعود مسیئا، و صرت أندم علی من سبق له منه عقاب، و لا أندم علی من سبق له منی ثواب، فالزم یا بنیّ معالی الأمور، و إن جماعها فی التغاضی، و من لا یتغاضی لا یسلم له صاحب، و لا یقرب منه جانب، و لا ینال ما تترقی إلیه همّته، و لا یظفر بأمله، و لا یجد معینا حین یحتاج إلیه، فقبّل المنذر یده، و انصرف، و لم یزل یأخذ نفسه بما أوصاه والده حتی تخلق بالخلق الجمیل، و بلغ ما أوصاه به أبوه، و رفع قدره.

[من شعر المنذر بن عبد الرحمن و من کرم نفس المنذر بن عبد الرحمن]

و من شعره فی ابن عمّ له: [الطویل]
و مولی أبی إلّا أذای و إننی لأحلم عنه و هو بالجهل یقصد
توددته فازداد بعدا و بغضة و هل نافع عند الحسود التودّد
و قوله: [المجتث]
خالف عدوّک فیما أتاک فیه لینصح
فإنما یبتغی أن تنام عنه فیربح
و من کرم نفسه أنّ أحد التجار أهدی له جاریة بارعة الحسن، و اسمها طرب، و لها صنعة فی الغناء حسنة، فعندما وقع بصره علی حسنها ثم أذنه علی غنائها أخذت بمجامع قلبه، فقال
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 346
لأحد خدّامه: ما تری أن ندفع لهذا التاجر عوضا عن هذه الجاریة التی وقعت منّا أحسن موقع؟
فقال: تقدّر ما تساوی من الثمن و تدفع له بقدرها، فقوّمت بخمسمائة دینار، فقال المنذر للخدیم: ما عندک فیما ندفع له؟ فقال: الخمسمائة، فقال: إن هذا للؤم، رجل أهدی لنا جاریة، فوقعت منّا موقع استحسان، نقابله بثمنها، و لو أنه باعها من یهودی لوجد عنده هذا، فقال له: إن هؤلاء التجار لؤماء بخلاء، و أقلّ القلیل یقنعهم، فقال: و إنّا کرماء سمحاء، فلا یقنعنا القلیل لمن نجود علیه، فادفع له ألف دینار، و اشکره علی کونه خصّنا بها، و أعلمه بأنها وقعت منّا موقع رضا.
و فیها یقول: [المنسرح]
لیس یفید السرور و الطرب إن لم تقابل لواحظی طرب
أبهت فی الکأس لست أشربها و الفکر بین الضلوع یلتهب
یعجب منی معاشر جهلوا و لو رأوا حسنها لما عجبوا
و قال له أبوه یوما: إنّ فیک لتیها مفرطا، فقال له: حقّ لفرع أنت أصله أن یعلو، فقال له: یا بنیّ، إن العیون تمجّ التّیّاه، و القلوب تنفر عنه، فقال: یا أبی، لی من العزّ و النسب و علوّ المکان و السلطان ما یجمّل عن ذلک، و إنی لم أر العیون إلّا مقبلة علیّ، و لا الأسماع إلّا مصغیة إلیّ، و إنّ لهذا السلطان رونقا یرنّقه التبذل، و علوا یخفضه الانبساط، و لا یصونه و یشرفه إلّا التیه و الانقباض، و إنّ هؤلاء الأنذال لهم میزان یسبرون به الرجل منّا، فإن رأوه راجحا عرفوا له قدر رجاحته، و إن رأوه ناقصا عاملوه بنقصه، و صیّروا تواضعه صغرا، و تخضّعه خسّة، فقال له أبوه: للّه أنت! فابق و ما رأیت.

[المطرف بن عبد الرحمن الأوسط]

و کان له أخ أدیب أیضا اسمه المطرف بن عبد الرحمن الأوسط، و من شعره: [المجتث]
أفنیت عمری فی الشّر ب و الوجوه الملاح
و لم أضیّع أصیلا و لا اطلاع صباح
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 347
أحیی اللیالی سهدا فی نشوة و مراح
و لست أسمع ما ذا یقول داعی الفلاح
و العیاذ بالله من هذا الکلام، و حاکی الکفر لیس بکافر.
و عتبه أحد إخوانه علی هذا القول فقال: إنی قلته و أنا لا أعقل، و لا أعلم أنه یحفظ عنی، و أنا أستغفر اللّه تعالی منه، و الذی یغفر الفعل أکرم من أن یعاقب علی القول.
و من جید شعره له: [الخفیف]
یا أخی، فرّقت صروف اللیالی بیننا غیر زورة الأحلام
فغدونا بعد ائتلاف و قرب نتناجی بألسن الأقلام‌

[من شعر هشام بن عبد الرحمن الأوسط و یعقوب بن عبد الرحمن الأوسط]

و قال أخوهما الثالث هشام بن عبد الرحمن فیمن اسمه ریحان: [الطویل]
أحبّک یا ریحان ما عشت دائما و لو لامنی فی حبّک الإنس و الجان
و لولاک لم أهو الظلام و سهده و لا حبّبت لی فی ذرا الدار غربان
و ما أعشق الریحان إلّا لأنه شریکک فی اسم فیه قلبی هیمان
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص347
علی أنه لم یکمل الظرف مجلس إذا لم یکن فیه مع الراح ریحان
و له فیه: [الطویل]
إذا أنا مازحت الحبیب فإنما قصدت شفاء الهمّ فی ذلک المزح
فما العیش إلّا أن أراه مضاحکا کما ضحک اللیل البهیم عن الصبح
و قال أخوهم الرابع یعقوب بن عبد الرحمن: [الوافر]
إذا أنا لم أجد یوما و قومی لهم فی الجود آثار عظام
فمن یرجی لتشیید المعالی إذا قعدت عن الخیر الکرام
و مدحه بعض الشعراء، فأمر له بمال جزیل، فلما کان مثل ذلک الوقت جاءه بمدح آخر، فقال أحد خدام یعقوب: هذا اللئیم له دین عندنا جاء یقتضیه؟ فقال الأمیر: یا هذا، إن کان اللّه تعالی خلقک مجبولا علی کره ربّ الصنائع فاجر علی ما جبلت علیه فی نفسک، و لا تکن
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 348
کالأجرب یعدی غیره، و إنّ هذا الرجل قصدنا قبل، فکان منّا له ما أنس به و حمله علی العودة، و قد ظنّ فینا خیرا، فلا نخیب ظنّه، و الحدیث أبدا یحفظ القدیم، و قد جاءنا علی جهة التهنئة بالعمر، و نحن نسأل اللّه تعالی أن یطیل عمرنا حتی یکثر ترداده، و یدیم نعمنا حتی نجد ما ننعم به علیه، و یحفظ علینا مروءتنا حتی یعیننا علی التجمل معه، و لا یبلینا بجلیس مثلک یقبض أیدینا عن إسداء الأیادی، و أمر الشاعر بما کان أمر له به قبل، و أوصاه بالعود عند حلول ذلک الأوان ما دام العمر.

[بین الأمیرین محمد و أبان ابنی عبد الرحمن الأسط أبنائه و شی‌ء من شعرهم]

و قال أخوهم الخامس الأمیر محمد بن الأمیر عبد الرحمن لأخیهم السادس أبان و قد خلا معه علی راحة: هل لک أمل نبلغک إیاه؟ فقال: لم یبق لی أمل إلّا أن یدیم اللّه تعالی عمرک و یخلد ملکک، فأعجب ذلک الأمیر، و قال: ما مالت إلیک نفسی من باطل، و کان کل واحد منهما یهیم بالآخر، و فی ذلک یقول أبان: [البسیط]
یا من یلوم و لا یدری بمن أنا مف تون لو ابصرته ما کنت تلحانی
من مازجت روحه روحی و شاطرنی یا حسنه حین أهواه و یهوانی
و کان للأمیر محمد بن الأمیر عبد الرحمن ثلاثة أولاد نجباء: القاسم، و المطرف، و مسلمة، و لهم أخ رابع اسمه عثمان.
فمن نظم القاسم فی عثمان أخیه، و قد زاره فاستسقاه ماء، فأبطأ علیه غلامه لعلّة لم یقبلها القاسم: [البسیط]
الماء فی دار عثمان له ثمن و الخبز شی‌ء له شأن من الشّان
فاسلح علی کل عثمان مررت به غیر الخلیفة عثمان بن عفان
و له: [مخلع البسیط]
شغلت بالکیمیاء دهری فلم أفد غیر کلّ خسر
إتعاب فکر، خداع عقل فساد مال، ضیاع عمر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 349
و قال شقیقه المطرف، و یعرف بابن غزلان، و هی أمه، و کانت مغنیة بدیعة محسنة عوّادة أدیبة: [المنسرح]
هل أتّکی مشرفا علی نهر أرمی بطرفی إلیه من قصری
عند أخ لو دهته حادثة أعطیته ما أحبّ من عمری
و قال أخوهما مسلمة: [الخفیف]
إنّ شیبا و صبوة لمحال أو لم یأن أن یکون زوال
فدع النفس عن مزاح و لهو تلک حال مضت و جاءتک حال
و کان یقول: إنی لا أفارق إلّا من اختار مفارقتی، و من خادعنی انخدعت له، و أریته أنی غیر فطن بخداعه، لیعجبه أمره، و أدخل علیه مسرّة بنفسه و رأیه.

[من شعر محمد بن المنذر بن محمد و عبد اللّه بن الناصر]

و قال محمد بن الأمیر المنذر بن الأمیر محمد فی جاریته الأراکة: [المجتث]
قل للأراکة قد زا د بالدنوّ اشتیاقی
و هاج ما بی إلیها تمثّلی للعناق
و إننی و بقلبی جمر جری فی المآقی
طویت ما بی لیوم یکون فیه التلاقی
فإن أعد لاجتماع حرّمت یوم افتراق
لا یعرف الشوق إلّا من ذاق طعم الفراق
و قال عبد اللّه بن الناصر، و قد أهدی له سعید بن فرج یاسمینا أبیض و أصفر، و کتب معه: [الکامل]
مولای قد أرسلت نحوک تحفة بمراد ما أبغیه منک تذکّر
من یاسمین کاللّجین تبرّجت بیضا و صفرا و السّماح یعبّر
فأجابه بما نصّه: [السریع]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 350
أتاک تفسیری و لمّا یحل منّی علی أضغاث أحلام
اجعله رسما دائما زائرا منی و منک غرّة العام
و بعث إلیه بهذین البیتین مع مل‌ء الطبق دنانیر و دراهم، فقال ابن فرج: [الخفیف]
قد سمعنا بجود کعب و حاتم ما سمعنا جودا مدی العمر لازم
فدعائی بأن تدوم دعاء لی ما زال طول ما عشت دائم
ما سمعنا کمثل هذا اختراعا هکذا هکذا تکون المکارم‌

[من جود بعض ملوک إفریقیة و بین عبد اللّه المروانی و صدیق و مقتل عبد اللّه بن الناصر و]

تشبه هذه الحکایة حکایة اتّفقت لبعض ملوک إفریقیة، و ذلک أنّ رجلا أهدی لی فی قادوس وردا أحمر و أبیض، فأمر أن یملأ له دراهم، فقالت له جاریة من جواریه: إن رأی الأمیر أن یلوّن ما أعطاه، حتی یوافق ما أهداه، فاستحسن ذلک الأمیر، و أمر أن یملأ دنانیر و دراهم.
و کان المروانی المذکور یسایر أحد الفقهاء الظرفاء، فمرّا بجمیل، فمال عبد اللّه بطرفه إلی وجهه، و ظهر ذلک لمسایره، فتبسّم، ففهم عبد اللّه تبسمه، فقال: إنّ هذه الوجوه الحسان خلّابة، و لکنّا لا نتغلغل فی نظرها، و لا ندّعی العفّة عنها بالجملة، و فیها اعتبار و تذکار بالحور العین التی وعد اللّه تعالی، فقال له الفقیه: احتجّ لروحک بما شئت، فقال: أو ما هی حجّة تقبل؟ فقال الفقیه: یقبلها من رقّ طبعه، و کاد یضیق عن الصبر وسعه، فقال: و أراک شریکا لی، فقال: و لو لا ذلک للمتک، فأطرق عبد اللّه ساعة ثم أنشد: [المنسرح]
أفدی الذی مرّ بی فمال له لحظی و لکن ثنیته غصبا
ما ذاک إلّا مخاف منتقد فاللّه یعفو و یغفر الذّنبا
فقال له الفقیه: إن کنت ثنیت لحظک خوف انتقادی فإنی أدعوه إلیک حتی تملأ منه، و لا تنسب إلیّ ما نسبت، فتبسّم عبد اللّه و قال: و لا هذا کلّه، و قال له: إنّ مثلک فی الفقهاء لمعدوم، فقال له: ما کنت إلّا أدیبا، و لکنّی لمّا رأیت سوق الفقه بقرطبة نافقة اشتغلت به، فقال له: و من عقل المرء أن لا یفنی عمره فیما لا ینفقه عصره.
و کان عبد اللّه المذکور یسمّی الزاهد، فبایع قوما علی قتل والده الناصر و أخیه الحکم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 351
المستنصر ولی العهد، فأخذ یوم عید الأضحی سنة تسع و ثلاثین و ثلاثمائة، فذبح بین یدیه رحمة اللّه تعالی!.

[من شعر عبد العزیز بن الناصر و محمد بن الناصر]

و قال أخوه أبو الأصبغ عبد العزیز بن الناصر، و قد دخل ابن له الکتّاب، فکتب أول لوح، فبعثه إلی أخیه الحکم المستنصر ملک الأندلس، و معه: [مجزوء الرمل]
هاک یا مولای خطّا مطّه فی اللوح مطّا
ابن سبع فی سنیه لم یطق للوح ضبطا
دمت یا مولای حتی یلد ابن ابنک سبطا
و له: [الرمل]
زارنی من همت فیه سحرا یتهادی کنسیم السّحر
أقبس الصبح ضیاء ساطعا فأضا و الفجر لم ینفجر
و استعار الروض منه نفحة بثّها بین الصّبا و الزّهر
أیها الطالع بدرا نیرا لا حللت الدهر إلّا بصری
و کان مغری مغرما بالخمر و الغناء، فقطع الخمر، فبلغه أنّ المستنصر لمّا بلغه ترکه للخمر قال: الحمد للّه الذی أغنانا عن مفاتحته، و دلّه علی ما نرید منه، ثم قال: لو ترک الغناء لکمل خیره، فقال: و اللّه لا ترکته حتی تترک الطیور تغریدها، ثم قال: [الخفیف]
أنا فی صحّة و جاه و نعمی هی تدعو لهذه الألحان
و کذا الطیر فی الحدائق تشدو للذی سرّ نفسه بالقیان
و قال أخوه محمد بن الناصر لمّا قدم أخوهما المستنصر من غزوة: [الطویل]
قدمت بحمد اللّه أسعد مقدم و ضدّک أضحی للیدین و للفم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 352
لقد حزت فیها السّبق إذ کنت أهله کما حاز «بسم اللّه» فضل التقدّم

[من شعر محمد بن عبد الملک بن الناصر]

و أما أخوهما محمد بن عبد الملک بن الناصر فقال الحجاری فیه: إنه لم یکن فی ولد الناصر ممّن لم یل الملک أشعر منه و من ابن أخیه، و کتب إلی العزیز صاحب مصر:
[الطویل]
ألسنا بنی مروان کیف تبدّلت بنا الحال أو دارت علینا الدوائر
إذا ولد المولود منّا تهلّلت له الأرض و اهتزّت إلیه المنابر
و کان جواب العزیز له: أمّا بعد، فإنک عرفتنا فهجوتنا، و لو عرفناک لهجوناک.
و له فی الصّنوبر: [المجتث]
إنّ الصنوبر حصن لدیه حرز و باس
خفّت من اجل إرها ب من عداه تراس
کأنما هو ضدّ لما حواه الریاس
و بعض سیوف الأندلس محفور صدر الریاس علی صورة قشور الصنوبر إلّا أنّ تلک ناتئة و هذه محفورة، و قال: [الطویل]
أتانی و قد خطّ العذار بخدّه کما خطّ فی ظهر الصحیفة عنوان
تزاحمت الألحاظ فی وجناته فشقّت علیه للشقائق أردان
و زدت غراما حین لاح کأنما تفتّح بین الورد و الآس سوسان
و قال: [الطویل]
لئن کنت خلّاع العذار بشادن و کأس فإنی غیر نزر المواهب
و إنّی لطعّان إذا اشتجر القنا و مقحم طرفی فی صدور الکتائب
و إنی إذا لم ترض نفسی بمنزل و جاش بصدری الفکر جمّ المذاهب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 353
جلید یؤود الصّخر لو أنّ صبره کصبری، علی ما نابنی، للنوائب
و أسری إلی أن یحسب اللیل أننی لطول مسیری فیه بعض الکواکب‌

[من شعر مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملک]

و أمّا ابن أخیه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملک بن الناصر فکان فی بنی أمیة شبه عبد اللّه بن المعتز فی بنی العباس، بملاحة شعره و حسن تشبیهه.
و من شعره القصیدة المشهورة: [الرمل]
غصن یهتزّ فی دعص نقا یجتنی منه فؤادی حرقا
سال لام الصّدغ فی صفحته سیلان التّبر وافی الورقا
فتناهی الحسن فیه إنما یحسن الغصن إذا ما أورقا
و منها:
أصبحت شمسا وفوه مغربا و ید الساقی المحیّی مشرقا
فإذا ما غربت فی فمه ترکت فی الخدّ منه شفقا
و منها:
و کأنّ الورد یعلوه النّدی و جنة المحبوب تندی عرقا
قالوا: و هذا النمط قد فاق به أهل عصره، و یظنّ أنه لا یوجد لأحد منهم أحلی و أکثر أخذا بمجامع القلوب من قوله: [الکامل]
ودّعت من أهوی أصیلا، لیتنی ذقت الحمام و لا أذوق نواه
فوجدت حتی الشمس تشکو وجده و الورق تندب شجوها بهواه
و علی الأصائل رقّة من بعده فکأنها تلقی الذی ألقاه
و غدا النسیم مبلّغا ما بیننا فلذاک رقّ هوی و طاب شذاه
ما الروض قد مزجت به أنداؤه سحرا بأطیب من شذا ذکراه
و الزهر مبسمه و نکهته الصّبا و الورد أخضله الندی خدّاه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 354
فلذاک أولع بالریاض لأنها أبدا تذکّرنی بمن أهواه
و للّه قوله: [الخفیف]
و عشیّ کأنه صبح عید جامع بین بهجة و شحوب
هبّ فیه النسیم مثل محبّ مستعیرا شمائل المحبوب
ظلت فیه ما بین شمسین هذی فی طلوع و هذه فی غروب
و تدلّت شمس الأصیل و لکن شمسنا لم تزل بأعلی الجنوب
ربّ هذا خلقته من بدیع من رأی الشمس أطلعت فی قضیب
أی وقت قد أسعف الدهر فیه و أجابت به المنی عن قریب
قد قطعناه نشوة و وصالا و ملأناه من کبار الذنوب
حین وجه السعود بالبشر طلق لیس فیه أمارة للقطوب
ضیّع اللّه من یضیّع وقتا قد خلا من مکدّر و رقیب
و بات عند أحد رؤساء بنی مروان، فقدّم إلیه ذلک الرئیس قدحا من فضّة فیه راح أصفر، و قال: اشرب وصف فداک ابن عمک، فقام إجلالا و شرب صائحا بسروره، ثم قال:
الدواة و القرطاس، فأحضرا، و کتب: [السریع]
اشرب هنیئا لا عداک الطرب شرب کریم فی العلا منتخب
و افاک بالراح و قد ألبست برد أصیل معلما بالحبب
فی قدح لم یک یسقی به غیر أولی المجد و أهل الحسب
ما جار إذ سقّاک من کفّه فی جامد الفضّة ذوب الذهب
فقم علی رأسک برا به و اشرب علی ذکراه طول الحقب
و یحکی أنه لمّا قتل أباه و قد وجده مع جاریة له کان یهواها سجنه المنصور بن أبی عامر مدة، إلی أن رأی فی منامه النبیّ، صلی اللّه علیه و سلم، یأمره بإطلاقه، فأطلقه، فمن أجل ذلک عرف بالطلیق.

[من شعر أحمد بن سلیمان بن أحمد]

و قال أحمد بن سلمان بن أحمد بن عبید اللّه بن عبد الرحمن الناصر فی ابن حزم لمّا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 355
عاداه علماء عصره: [المجتث]
لمّا تحلّی بخلق کالمسک أو نشر عود
نجل الکرام ابن حزم و قام فی العلم عودی
فتواه جدّد دینی جدواه أورق عودی
و له فی أبی عامر بن المظفر بن أبی عامر من قصیدة یمدحه بها: [الخفیف]
بأبی عامر وصلت حبالی فزمانی به زمان سعید
فمتی زدت فیه ودا و شکرا فنداه و قد تناهی یزید
کیف لی وصفه و فی کلّ یوم منه فی المکرمات معنی جدید

[من شعر أبی عبد اللّه محمد بن محمد بن الناصر و عبد اللّه بن محمد المهدی (الأقرع)]

و قال أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن الناصر یرثی أبا مروان بن سراج: [الطویل]
و کم من حدیث للنبیّ أبانه و ألبسه من حسن منطقه وشیا
و کم مصعب للنحو قد راض صعبه فعاد ذلولا بعد ما کان قد أعیا
و قال عبید اللّه بن محمد المهدی، و هو من حسنات بنی مروان، و یعرف بالأقرع:
[الطویل]
أقول لآمالی ستبلغ إن بدا محیّا ابن عطّاف و نعم المؤمّل
فقالت دعانی کلّ یوم تعلّل فقلت لها إن لاح یفنی التعلّل
لئن کان منی کلّ حین ترحّل فإنی إن أحلل به لست أرحل
فتی ترد الآمال فی بحر جوده و لیس علی نعمی سواه المعوّل
و قال هذه فی الوزیر ابن عطّاف، فضنّ علیه حتی برجع الجواب، فکتب إلیه بقصیدة منها: [الرمل]
أیها الممکن من قدرته لا یراک اللّه إلّا محسنا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 356
إنما المرء بما قدّمه فتخیّر بین ذمّ وثنا
لا تکن بالدهر، غرا و إذا کنت فانظر فعله فی ملکنا
کلّ ما خوّلت منه ذاهب إنما تصحب منه الکفنا
مدّ کفا نحو کفّ طالما أمطرت منه السحاب الهتنا
أو أرحنی بجواب مؤیس فمطال البرّ من شرّ العنا
فلم یعطه شیئا، و کان له کاتب فتحیّل فی خمسین درهما فأعطاها له، فلما سمع الوزیر بذلک طرده، و قال له: من أنت حتی تحمّل نفسک هذا و تعطیه؟ قال: فو اللّه ما لبث إلّا قلیلا حتی مات الوزیر، و تزوّج الکاتب بزوجته، و سکن فی داره، و تخوّل فی نعمته، فحملنی ذلک علی أن کتبت بالفحم فی حائط داره: [الطویل]
أیا دار، قولی أین ساکنک الذی أبی لؤمه أن یترک الشّکر خالدا
تسمّی وزیرا و الوزارة سبّة لمن قد أبی أن یستفید المحامدا
و ولّی و لکن لیس یبرح ذمّه فها هو قد أرضی عدوّا و ناقدا
و أضحی وکیل کان یأنف فعله نزیلک فی الحوض الممنّع واردا
جزاء بإحسان لذا و إساءة لذاک، و ساع ورّث الحمد قاعدا
و المثل السائر فی هذا «ربّ ساع لقاعد».

[من شعر سلیمان بن المرتضی بن محمد (الغزال)]

و قال سلیمان بن المرتضی بن محمد بن عبد الملک بن الناصر، و کان فی غایة الجمال، و یلقّب بالغزال: [الکامل]
قدم الربیع علیک بعد مغیب فتلقّه بسلافة و حبیب
فصل جدید فلتجدّد حالة یأتی الزمان بها علی المرغوب
الجوّ طلق فالقه بطلاقة و إذا تقطّب فالقه بقطوب
للّه أیام ظفرت بها و من أهواه منقاد بغیر رقیب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 357
و له: [الکامل]
لی فی کفالات الرماح لو أنها وفّت ضمان یبلغ الآمالا
و کّلت دهری فی اقتضاء ضمانها ضنّا به أن لا یحول فحالا
و کان مولعا بالفکاهة و النادر، محبّا للظرفاء، و کان یلتزم خدمته المضحک المشهور بالزرافة، و یحضر معه، و لعبوا فی مجلس سلیمان لعبة أفضوا فیها إلی أن تقسّموا اثنین اثنین، کل شخص و رفیقه، فقال سلیمان: و من یکون رفیقی؟ فقال له المضحک: یا مولای، و هل یکون رفیق الغزال إلّا الزرافة؟ فضحک منه علی عادته.
و دخل علیه و هو قاعد فی رحبة قصره، و قد أطلّ عذاره، فقال له: ما تطلب الزرافة؟
فقال: ترعی الحشیش، و أشار إلی عذاره، فقال له: اعزب لعنک اللّه!
و مرّ سلیمان به یوما و هو سکران، و قد أوقف ذکره و جعل یقول له: ما ذا رأیت فی القیام فی هذا الزمان؟ أما رأیت کل ملک قام کیف خلع و قتل؟ و اللّه إنک سیی‌ء الرأی! فقال له سلیمان: و بم لقبت هذا الثائر؟ فقال: یا مولای، بصفته القائم، فقال: و یحتاج إلی خاتم؟
فقال: نعم، و یکون خاتم سلیمان، فقال له: أخزاک اللّه! إنّ الکلام معک لفضیحة.

[من شعر سعید بن محمد المروانی]

و قال سعید بن محمد المروانی، و قد هجره المنصور بن أبی عامر مدّة لکلام بلغه عنه، فدخل و المجلس غاصّ، و أنشد: [السریع]
مولای مولای، أما آن أن تریحنی بالله من هجرکا
و کیف بالهجر و أنّی به و لم أزل أسبح فی بحرکا
فضحک ابن أبی عامر علی ما کان یظهره من الوقار، و قام و عانقه، و عفا عنه، و خلع علیه.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 358
و له: [الکامل]
و البدر فی جوّ السماء قد انطوی طرفاه حتی عاد مثل الزّورق
فتراه من تحت المحاق کأنما غرق الکثیر و بعضه لم یغرق
و هو مأخوذ من قول ابن المعتز: [الکامل]
و انظر إلیه کزورق من فضّة قد أثقلته حمولة من عنبر

[من شعر القاسم بن محمد المروانی و الأصم المروانی و أحمد المروانی]

و قال قاسم بن محمد المروانی یستعطف المنصور بن أبی عامر، و قد سجنه لقول صدر عنه: [الکامل]
ناشدتک اللّه العظیم و حقّه فی عبدک المتوسّل المتحرّم
بوسائل المدح المعاد نشیدها فی کلّ مجمع موکب أو موسم
لا تستبح منی حمی أرعاکه یا من یری فی اللّه أحمی محتمی
و قال الأصم المروانی یمدح أمیر المؤمنین عبد المؤمن بن علی بجبل الفتح معارضا بائیة أبی تمام: [البسیط]
السیف أصدق أنباء من الکتب
بقصیدة طویلة منها: [البسیط]
ما للعدا جنّة أوقی من الهرب أین المفرّ و خیل اللّه فی الطلب
و أین یذهب من فی رأس شاهقة إذا رمته سماء اللّه بالشّهب
و منها:
و طود طارق قد حلّ الإمام به کالطّور کان لموسی أیمن الرّتب
لو یعرف الطّود ما غشّاه من کرم لم یبسط النور فیه الکفّ للسّحب
و لو تیقّن بأسا حلّ ذروته لصار کالعین من خوف و من رهب
منه یعاود هذا الفتح ثانیة أضعاف ما حدّثوا فی سالف الحقب
و یلبس الدین غضا ثوب عزّته کأنّ أیام بدر عنه لم تغب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 359
و قال فی نارنجة: [البسیط]
و بنت أیک دنا من لثمها قزح فصار منه علی أرجائها أثر
یبدو لعینیک منها منظر عجب زبرجد و نضار صاغه المطر
کأنّ موسی نبیّ اللّه أقبسه نارا و جرّ علیها کفّه الخضر
و قال: [السریع]
و شادن قلت له صف لنا بستاننا هذا و نارنجنا
فقال لی بستانکم جنّة و من جنی النارنج نارا جنی
و قال فی زلبانی: [الکامل]
للّه سفّاح بدا لی مسحرا فأفاد علم الکیمیا بیمینه
ذهّبت فضّة خدّه بلواحظی و کذاک تفعل ناره بعجینه
و قال، و قد نزل فی فندق لا یلیق بمثله: [مخلع البسیط]
یا هذه لا تفنّدینی أن صرت فی منزل هجین
فلیس قبح المحلّ ممّا یقدح فی منصبی و دینی
فالشمس علویّة و لکن تغرب فی حمأة و طین
و قال أحمد المروانی: [الوافر]
حلفت بمن رمی فأصاب قلبی و قلّبه علی جمر الصدود
لقد أودی تذکّره بقلبی و لست أشکّ أنّ النفس تودی
فقید و هو موجود بقلبی فواعجبا لموجود فقید
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 360

[من شعر الأصبغ القرشی و سلیمان بن عبد الملک الأموی و أبی یزید بن العاصی]

و قال الأصبغ القرشی یرثی ابن شهید و هو من أصحابه: [الطویل]
نأی من به کان السرور مواصلا و أسلم قلبی للصّبابة و الفکر
و منها:
لعمرک ما یجدی النعیم إذا نأت وجوههم عنی و لا فسحة العمر
و قال سلیمان بن عبد الملک الأموی: [الوافر]
و ذی جدل أطال القول منه بلا معنی و قد خفی الصواب
فقلت أجیبه فازداد ردا فقلت له قد ازدحم الجواب
و لم أر غیر صمتی من مریح إذا ما لم یفد فیه الخطاب
و قال أبو یزید بن العاصی: [الخفیف]
عابه الحاسد الذی لام فیه أن رأی فوق خدّه جدریّا
إنما وجهه هلال تمام جعلوا برقعا علیه الثّریّا
و له: [الطویل]
إذا شئت أن یصفو صدیقک فاطّرح نزاع الذی یبدیه فی الهزل و الجدّ
و إن کنت من أخلاقه فی جهنّم فأنزله من مثواک فی جنّة الخلد
إلی أن یتیح اللّه من لطف صنعه فراقا جمیلا فاجعل العذر فی البعد
و لیکن هذا آخر ما نورده من کلام بنی مروان رحمهم اللّه تعالی!.

[من شعر أبی الحجاج المنصفی]

و لنرجع إلی أهل الأندلس جملة، فنقول:
أمر أبو الحجاج المنصفی أن یکتب علی قبره: [السریع]
قالت لی النّفس أتاک الرّدی و أنت فی بحر الخطایا مقیم
هلا ادّخرت الزاد قلت اقصری لا یحمل الزاد لدار الکریم
و قد ذکرنا هذین البیتین فی غیر هذا الموضع.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 361

[بین ابن مرج الکحل و طبیب]

و قال ابن مرج الکحل: اجتمعنا فی حانوت بعض الأطباء بإشبیلیة فأضجرناه بکثرة جلوسنا عنده، و تعذّرت المنفعة علیه من أجلنا، فأنشدنا: [مجزوء الرمل]
خفّفوا عنّا قلیلا ربّ ضیق فی براح
هل شکوتم من سقام أو جلسنا للصحاح؟
فأضفت إلیهما ثالثا، و أنشدته إیاه علی سبیل المداعبة: [مجزوء الرمل]
إن أتیتم ففرادی ذاک حکم المستراح‌

[من شعر أبی محمد غانم بن ولید و أبی جعفر اللمائی و أبی عامر بن نیق]

و دخل أبو محمد غانم بن ولید مجلس بادیس بن حبوس، فوسّع له علی ضیق کان فیه، فقال: [البسیط]
صیّر فؤادک للمحبوب منزلة سمّ الخیاط مجال للمحبّین
و لا تسامح بغیضا فی معاشرة فقلّما تسع الدنیا بغیضین
و دخل علی أبی جعفر اللمائی بعض أصحابه عائدا فی علّته التی مات فیها، و جعل یروّح علیه بمروحة، فقال أبو جعفر علی البدیهة: [المنسرح]
روّحنی عائدی فقلت له لا لا تزدنی علی الذی أجد
أما تری النار و هی خامدة عند هبوب الریاح تتّقد
و قال الأعلم: لیکن محفوظک من النظم مثل قول ابن القبطرنة: [المتقارب]
دعاک خلیلک و الیوم طل و عارض وجه الثّری قد بقل
لقدرین فاحا و شمّامة و إبریق راح و نعم المحل
و لو شاء زاد و لکنه یلام الصدیق إذا ما احتفل
و قال أبو عامر بن ینّق الشاطبی: [البسیط]
ما أحسن العیش لو أنّ الفتی أبدا کالبدر یرجو تماما بعد نقصان
إذ لا سبیل إلی تخلید مأثرة إذ لا سبیل إلی تخلید جثمان
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 362

[من شعر أبی الحسن اللورقی و أبی عیسی بن لبون و أبی عامر بن الحمارة و أبی العباس بن السعود]

و قال أبو الحسن اللورقی: [مجزوء الکامل]
عجبا لمن طلب المحا مد و هو یمنع ما لدیه
و لباسط آماله للغیر لم یبسط یدیه
لم لا أحبّ الضّیف أو أرتاح من طرب إلیه
و الضّیف یأکل رزقه عندی و یحمدنی علیه
و قال أبو عیسی بن لبّون، و هو من قواد المأمون بن ذی النون: [البسیط]
نفضت کفّی من الدنیا و قلت لها إلیک عنی فما فی الحقّ أغتبن
من کسر بیتی لی روض و من کتبی جلیس صدق علی الأسرار مؤتمن
أدری به ما جری فی الدهر من خبر فعنده الحقّ مسطور و مختزن
و ما مصابی سوی موتی و یدفننی قوم و مالهم علم بمن دفنوا
و قال أبو عامر بن الحمارة: [الطویل]
و لی صاحب أحنو علیه و إنه لیوجعنی حینا فلا أتوجّع
أقیم مکانی ما جفانی و ربما یسائلنی الرّجعی فلا أتمنّع
کأنی فی کفّیه غصن أراکة تمیل علی حکم النسیم و ترجع
و قال أبو العباس بن السعود [البسیط]
تبّا لقلب عن الأحباب منصرف یهوی أحبّته ما خالس النظرا
مثل السّجنجل فیه الشخص تبصره حتی إذا غاب لم یترک به أثرا

[من شعر الحکم بن علندة و القاضی أبی موسی بن عمران و أبی بکر بن الجزار السرقسطی]

و مرض أبو الحکم بن غلندة، فعاده جماعة من أصحابه فیهم فتی صغیر السنّ، فوفّاه من برّه ما أوجب تغیّرهم، ففطن لذلک و أنشد ارتجالا: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 363
تکثّر من الإخوان للدهر عدّة فکثرة درّ العقد من شرف العقد
و عظّم صغیر القوم و ابدأ بحقّه فمن خنصری کفّیک تبدأ بالعقد
ثم نظر إلیهم و أنشدهم ارتجالا قوله: [البسیط]
مغیث أیوب و الکافی لذی النون یحلّنی فرجا بالکاف و النون
کم کربة من کروب الدّهر فرّجها عنی و لم ینکشف وجهی لمن دونی
و قال القاضی أبو موسی بن عمران: [مجزوء الکامل]
ما للتجارب من مدی و المرء منها فی ازدیاد
قد کنت أحسب ذا العلا من حاز علما و استفاد
فإذا الفقیه بغیر ما ل کالخیام بلا عماد
شرف الفتی بنضاره إنّ الفقیر أخو الجماد
ما العلم إلّا جوهر قد بیع فی سوق الکساد
و قال أبو بکر بن الجزار السّرقسطی: [الکامل]
إیّاک من زلل اللسان فإنما عقل الفتی فی لفظه المسموع
و المرء یختبر الإناء بنقره لیری الصحیح به من المصدوع
و قال أبو عامر أحمد بن عبد الملک بن شهید: تناول بعض أصحابنا نرجسة، فرکّبها فی وردة، ثم دفعها إلیّ و إلی صاعد، و قال: قولا، فأبهمت دوننا أبواب القول، فدخل الدمیری، و کان أمّیا لا یذکر من الکلام إلّا ما علق بنفسه فی المجالس، و ینفذ مع هذا فی المطوّلات من الأشعار، فأشعر بأمرنا، فجعل یقول دون رویة: [السریع]
ما للأدیبین قد اعیتهما ملیحة من ملح الجنّة
نرجسة فی وردة رکّبت کمقلة تطرف فی وجنه‌

[من شعر أبی محمد بن حزم و ابن صارة و أبی القاسم بن العطار]

و قال أبو محمد بن حزم فی «طوق الحمامة»: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 364
خلوت بها و الراح ثالثة لنا و جنح ظلام اللیل قد مدّ و اعتلج
فتاة عدمت العیش إلّا بقربها فهل فی ابتغاء العیش ویحک من حرج
کأنی و هی و الکأس و الخمر و الدّجا حیا و ثری و الدّرّ و التبر و السبج
قال: و هذه خمس تشبیهات لا یقدر أحد علی أکثر منها إذ تضیق الأعاریض عنه.
قال أبو عامر بن مسلمة: و لا أذکر مثلها إلّا قول بعض: [البسیط]
فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت وردا و عضّت علی العنّاب بالبرد
إلّا أنه لم یعطف خمسة علی خمسة کما صنع ابن حزم، بل اکتفی بالعلم فی التشبیهات.
قال: و من أغرب ما وقع لی من التشبیهات فی بیت قول ابن برون الأکشونی الأندلسی یصف فرسا وردا أغرّ محجّلا: [الکامل]
فکأن غرّته و تحجیلاته خمس من السّوسان وسط شقائق
قال: و هذا علی التحقیق ستة علی ستة، و لم أسمع بمثله لأحد.
قال ابن الجلاب: و کلام أبی عامر هذا لا یخلو من النقد.
و قال ابن صارة: [السریع]
انظر إلی البدر و إشراقه علی غدیر موجه یزهر
کمشحذ من حجر أخضر خطّ علیه ذهب أحمر
و قال أبو القاسم بن العطار الإشبیلی: [الطویل]
رکبنا سماء النّهر و الجوّ مشرق و لیس لنا إلّا الحباب نجوم
و قد ألبسته الأیک برد ظلالها و للشمس فی تلک البرود رقوم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 365

[من شعر سهل بن مالک و ابن صارة و صفوان بن إدریس و أبی جعفر بن وضاح]

و قال ابن صارة: [الکامل]
و النّهر قد رقّت غلالة صبغه و علیه من ذهب الأصیل طراز
تترقرق الأمواج فیه کأنها عکن الخصور تضمّها الأعجاز
و قال سهل بن مالک: [البسیط]
و ربّ یوم وردنا فیه کلّ منی و قلّ فی مثل ذاک الیوم أن نردا
فی روضتین بشطّی سلسل شبم کما اجتلیت من المحبوب مفتقدا
یبدّد القطر فی أثنائه حلقا فتنظم منها فوقه زردا
و قال ابن صارة: [الخفیف]
انظر النهر فی رداء عروس صبغته بزعفران العشیّ
ثم لمّا هبّ النسیم علیه هزّ عطفیه فی دلاص الکمیّ
و لبعضهم فی شکل یرمی الماء مجوفا مثل الخباء و تمزّقه الریح أحیانا: [الکامل]
و مطنّب للماء ما أوتاده إلّا نتائج فکر طبّ حاذق
لعبت به أیدی الصبا فکأنها أیدی الصبابة بالفؤاد العاشق
و قال صفوان بن إدریس یصف تفاحة فی ماء:
و لم أر فیما تشتهی العین منظرا کتفاحة فی برکة بقرار
یفیض علیها ماؤها فکأنها بقیّة خدّ فی اخضرار عذار
و قال أبو جعفر بن وضاح فی دولاب: [الطویل]
و باکیة و الروض یضحک کلّما ألحّت علیه بالدموع السواجم
یروقک منها إن تأمّلت نحوها زئیر أسود و التفاف أراقم
تخلّص من ماء الغدیر سبائکا فتنبتها فی الروض مثل الدراهم
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 366

[من شعر الوزیر ابن عمار و أبی الحسن بن سعد الخیر و ابن أبی الخصال]

و قال الوزیر بن عمار: [الکامل]
یوم تکاثف غیمه فکأنّه دون السماء دخان عود أخضر
و الطّلّ مثل برادة من فضّة منثورة فی تربة من عنبر
و الشمس أحیانا تلوح کأنها أمة تعرّض نفسها للمشتری
و قال أبو الحسن بن سعد الخیر: [الکامل]
للّه دولاب یفیض بسلسل فی روضة قد أینعت أفنانا
قد طارحته بها الحمائم شجوها فیجیبها و یرجّع الألحانا
فکأنه دنف یدور بمعهد یبکی و یسأل فیه عمّن بانا
ضاقت مجاری طرفه عن دمعه فتفتّحت أضلاعه أجفانا
و قال ابن أبی الخصال: [الطویل]
و ورد جنیّ طالعتنا خدوده ببشر و نشر یبعثان علی السکر
و حفّ ترنجان به فکأنه خدود العذاری فی مقانعها الخضر

[من شعر ابن صارة و الخفاجی و ابن وضاح]

و قال ابن صارة: [البسیط]
یا ربّ نارنجة یلهو الندیم بها کأنها کرة من أحمر الذهب
أو جذوة حملتها کفّ قابسها لکنها جذوة معدومة اللهب
و قال الخفاجی: [الطویل]
و میّاسة تزهو و قد خلع الحیا علیها حلی حمرا و أردیة خضرا
یذوب بها ریق الغمامة فضّة و یجمد فی أعطافها ذهبا نضرا
و قال ابن صارة أیضا: [المتقارب]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 367
و نارنجة لم یدع حسنها لعینی فی غیرها مذهبا
فطورا أری لهبا مضرما و طورا أری شفقا مذهبا
و قال ابن وضاح فی السرو: [الطویل]
أیا سرو، لا یعطش منابتک الحیا و لا یدعن أعطافک الخضل النضر
فقد کسیت منک الجذوع بمثل ما تلفّ علی الخطّیّ رایاته الخضر

[من شعر ابی اسحاق خولانی و ابن الابار و حازم]

و قال أبو إسحاق الخولانی: [مخلع البسیط]
نیلوفر شکله کشکلی یعوم فی أبحر الدموع
قد ألبست عطفه دروعا خوذ لریح الصّبا شموع
یلوح إذ لونه کلونی من فوق فضفاضة هموع
مثل مسامیر مذهبات فی حلقات من الدروع
و قال ابن الأبّار: [البسیط]
و سوسنات أرت من حسنها بدعا و لم یزل عصر مولانا یری بدعه
شبیهة بالثّریّا فی تألّفها و فی تألّقها تلتاح ملتمعه
هامت بیمناه تبغی أن تقبّلها و استشرفت تجتلی مرآه مطّلعه
ثم انثنی بعضها من بعضها غلبا علی البدار فوافت و هی مجتمعه
و رفع هذه الأبیات إلی الأمیر أبی یحیی زکریا.
و قال حازم: [البسیط]
لا نور یعدل نور اللوز فی أنق و بهجة عند ذی عدل و إنصاف
نظام زهر یظلّ الدّرّ منتثرا علیه من کلّ هامی القطر وکّاف
بینا تری و هی أصداف لدّرّ حیا بیض غدت دررا فی خضر أصداف
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 368

[من شعر ابن سعد الخیر و ابن نزار الوادی آشی و بعضهم فی القراسیا و بعضهم یصف معاهد أنسه]

و قال ابن سعد الخیر فی رمّانة: [المتقارب]
و ساکنة فی ظلال الغصون بروض یروقک أفنانه
تضاحک أترابها فیه إذ غدا الجوّ تدمع أجفانه
کما فتح اللیث فاه و قد تضرّج بالدم أسنانه
و قال ابن نزار الوادی آشی: [الطویل]
و رمانة قد فضّ عنها ختامها حبیب أعار البدر بعض صفاته
فکسّر منها نهد عذراء کاعب و ناولنی منها شبیه لداته
و قال بعضهم فی القراسیا، و یقال له بالمغرب «حبّ الملوک»: [المتقارب]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص368
و دوح تهدّل أشطانه رعی الدهر من حسنه ما اشتهی
فما احمرّ منه فصوص العقیق و ما اسودّ منه عیون المها
و قال بعضهم: [الوافر]
و أین معاهد للحسن فیها و للأنس التقاء البهجتین
و للأوتار و الأطیار فیها لدی الأسحار أطرب ساجعین
فکم بدر تجلّی من رباها و من بطحائها فی مطلعین
و أغید یرتعی من تلعتیها و من ثمر القلوب بمرتعین
إذا أهوی لسوسنة یمینا عجبت من التقاء السوسنین
و کم یوم توشّح من سناه و من زهراتها فی حلتین
و راح أصیله ما بین نهر و دولاب یدور بمسمعین
بنهر کالسماء یجول فیه سحائب من ظلال الدوحتین
تدرّع للنّواسم حین هزّت علیه کلّ غصن کالرّدینی
ملاعب فی غرامی عند ذکری صباه و غصنه المتلاعبین
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 369

[من شعر الوزیر محمد بن عبد الرحمن بن هانی‌ء]

و قال الوزیر محمد بن عبد الرحمن بن هانی‌ء: [السریع]
یا حرقة البین کویت الحشا حتی أذبت القلب فی أضلعه
أذکیت فیه النار حتی غدا ینساب ذاک الذّوب من مدمعه
یا سؤل هذا القلب حتی متی یؤسی برشف الریق من منبعه
فإنّ فی الشهد شفاء الوری لا سیما إن مصّ من مکرعه
و اللّه یدنی منکم عاجلا و یبلغ القلب إلی مطمعه‌

[کتاب شذور الذهب لعلی بن موسی]

و لو لم یکن للأندلسیین غیر کتاب «شذور الذهب» لکفاهم دلیلا علی البلاغة، و مؤلّفه هو علی بن موسی بن علی بن محمد بن خلف أبو الحسن الأنصاری، الجیّانی، نزیل فاس، و ولی خطابتها، و لم ینظم أحد فی الکیمیاء مثل نظمه بلاغة معان و فصاحة ألفاظ، و عذوبة تراکیب، حتی قیل فیه: إن لم یعلّمک صناعة الذهب علّمک الأدب. و فی عبارة بعضهم: إن فاتک ذهبه، لم یفتک أدبه. و قیل فیه: إنه شاعر الحکماء، و حکیم الشعراء. و توفی رحمه اللّه تعالی سنة ثلاث و تسعین و خمسمائة.

[مثل من سرعة بدیهة الأندلسیین]

و لنذکر هنا نبذة من سرعة بدیهة أهل الأندلس، و إن مرّت من ذلک جملة، و ستأتی أیضا زیادة علی الجمیع، فنقول:
قال فی «بدائع البداءة» ما صورته: روی عبد الجبار بن حمدیس الصقلی قال: صنع عبد الجلیل بن وهبون المرسی الشاعر لنا نزهة بوادی إشبیلیة، فأقمنا فیه یومنا، فلما دنت الشمس للغروب هبّ نسیم ضعیف غضّن وجه الماء، فقلت للجماعة: أجیزوا: [الرمل]
حاکت الریح من الماء زرد
فأجازه کلّ منهم بما تیسّر له، فقال له أبو تمام غالب بن رباح الحجاج کیف قلت یا أبا محمد؟ فأعدت القسیم له، فقال:
أیّ درع لقتال لو جمد
و قد ذکرنا فی هذا الکتاب ما یخالف هذا فلیراجع فی محلّه.
ثم قال صاحب «بدائع البداءة» بعد ما سبق ما صورته: و قد نقله ابن حمدیس إلی غیر هذا الوصف، فقال: [الرمل]
نثر الجوّ علی الترب برد أیّ درّ لنحور لو جمد
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 370
فتناقض المعنی بذکر البرد، و قوله «لو جمد» إذ لیس البرد إلّا ما جمده البرد، اللهمّ إلّا أن یرید بقوله «لو جمد» دام جموده، فیصحّ، و ینعقد عن التحقیق.
و مثل هذا قول المعتمد بن عباد یصف فوّارة: [الکامل]
و لربّما سلّت لنا من مائها سیفا و کان عن النواظر مغمدا
طبعته لجیّا فزانت صفحة منه و لو جمدت لکان مهنّدا
و قد أخذت أنا هذا المعنی فقلت أصف روضا: [الطویل]
فلو دام ذاک النبت کان زبرجدا و لو جمدت أنهاره کنّ بلّورا
و هذا المعنی مأخوذ من قول علی التونسی الإیادی من قصیدته الطائیة المشهورة: [البسیط]
أ لؤلؤ قطر هذا الجوّ أم نقط؟ ما کان أحسنه لو کان یلتقط
و هذا المعنی کثیر للقدماء، قال ابن الرومی من قطعة فی العنب الرازقی: [الرجز]
لو أنه یبقی علی الدهور قرّط آذان الحسان الحور

[بین المعتمد بن عباد و ابن جاخ الصباغ و بین الوزیر ابن عمار و ابن جاخ الصباغ]

قال علی بن ظافر: و أخبرنی من أثق به قال: رکب المعتمد علی اللّه أبو القاسم ابن عبّاد للنزهة بظاهر إشبیلیة فی جماعة من ندمائه، و خواصّ شعرائه، فلمّا أبعد أخذ فی المسابقة بالخیول، فجاء فرسه بین البساتین سابقا، فرأی شجرة تین قد أینعت و زهت و برزت منها ثمرة قد بلغت و انتهت، فسدّد إلیها عصا کانت فی یده فأصابها، و ثبتت علی أعلاها، فأطربه ما رأی من حسنها و ثباتها، و التفت لیخبر به من لحقه من أصحابه، فرأی ابن جاخ الصباغ أول من لحق به فقال: أجز: [مجزوء الرجز]
کأنها فوق العصا
فقال:
هامة زنجیّ عصی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 371
فزاد طربه و سروره بحسن ارتجاله، و أمر له بجائزة سنیّة.
قال علی بن ظافر: و أخبرنی أیضا أنّ سبب اشتهار ابن جاخ هذا أنّ الوزیر أبا بکر بن عمار کان کثیر الوفادة علی ملوک الأندلس، لا یستقرّ ببلدة، و لا یستفزّه عن وطره وطن، و کان کثیر التطلّب لما یصدر عن أرباب المهن، من الأدب الحسن، فبلغه خبر ابن جاخ هذا قبل اشتهاره، فمرّ علی حانوته و هو آخذ فی صناعة صباغته، و النیل قد جرّ علی یدیه ذیلا، و أعاد نهارهما لیلا، فأراد أن یعلم سرعة خاطره، فأخرج زنده و یده بیضاء من غیر سوء، و أشار إلی یده، و قال: [المجتث]
کم بین زند و زند؟
فقال:
ما بین وصل و صدّ
فعجب من حسن ارتجاله، و مبادرة العمل و استعجاله، و جذب بضبعه، و بلغ من الإحسان إلیه غایة وسعه.

[بین الوزیر ابن عمار و یحیی القصاب]

و بلغنی أیضا أنه دخل سرقسطة فبلغه خبر یحیی القصّاب السرقسطی، فمرّ علیه، و لحم خرفانه بین یدیه، فأشار ابن عمار إلی اللحم، و قال: [المنسرح]
لحم سباط الخرفان مهزول
فقال:
یقول للمفلسین مه زولوا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 372

[بین المتوکل و ابن عبدون و بین ابن الغلیظ و ابن السراج]

و لمّا صنع المتوکل علی اللّه بن الأفطس صاحب بطلیوس هذا القسیم: [المجتث]
الشّعر خطّة خسف
أرتج علیه، فاستدعی أبا محمد عبد المجید بن عبدون صاحب الرائیة التی أوّلها:
[البسیط]
الدهر یفجع بعد العین بالأثر
و قد تکرّر ذکره فی هذا الکتاب، و هو أحد وزراء دولته، و خواصّ حضرته، فاستجازه إیّاه، فقال: [المجتث]
لکلّ طالب عرف
للشیخ عیبة عیب و للفتی ظرف ظرف
و ذکر ابن بسّام فی الذخیرة أنّ قائل القسیم الأوّل الأستاذ أبو الولید بن ضابط، و أنّ عبد المجید أجازه ارتجالا، و هو ابن ثلاث عشرة سنة، و قد ذکرنا ما یقرب من ذلک فی هذا الکتاب.
و قال ابن الغلیظ المالقی: قلت یوما للأدیب أبی عبد اللّه بن السراج المالقی، و نحن علی جریة ماء: أجز: [الطویل]
شربنا علی ماء کأنّ خریره
فقال بدیها:
بکاء محبّ بان عنه حبیب
فمن کان مشغوفا کئیبا بإلفه فإنی مشغوف به و کئیب‌

[بین ابن عبادة و ابن القابلة]

و ذکر ابن بسّام فی الذخیرة أنه اجتمع ابن عبادة و ابن القابلة السبتی بألمریة، فنظر إلی و سیم یسبح فی البحر، و قد تعلّق بسکّان بعض المراکب، فقال ابن عبادة: أجز: [السریع]
انظر إلی البدر الذی لاح لک
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 373
فقال ابن القابلة: [السریع]
فی وسط اللجّة تحت الحلک
قد جعل الماء سماء له و اتّخذ الفلک مکان الفلک‌

[بین ابن شهید و أبی جعفر وزیر الصقلبی]

و قال أبو عامر بن شهید: لمّا قدم زهیر الصقلبی إلی حضرة قرطبة من المریة وجّه وزیره أبو جعفر ابن عباس إلی لمّة من أصحابنا منهم ابن برد و أبو بکر المروانی و ابن الحناط و الطبنی، فحضروا إلیه، فسألهم عنّی، و قال: وجّهوا إلیه، فوافانی رسوله مع دابة بسرج محلّی ثقیل، فسرت إلیه، و دخلت المجلس، و أبو جعفر غائب، فتحرّک المجلس لدخولی، و قاموا جمیعا لی، حتی طلع أبو جعفر علینا ساحبا ذیلا لم أر أحدا سحبه قبله، و هو یترنّم، فسلمت علیه سلام من یعرف قدر الرجال، فردّ ردا لطیفا، فعلمت أنّ فی أنفه نعرة لا تخرج إلّا بسعوط الکلام، و لا تراض إلّا بمستحصد النظام، و رأیت أصحابی یصیخون إلی ترنّمه.
فقال لی ابن الحناط، و کان کثیر الإنحاء علیّ، جالبا فی المحافل ما یسوء إلیّ: إنّ الوزیر حضره قسیم، و هو یسألنا إجازته، فعلمت أنی المراد، فاستنشدته، فأنشد: [الکامل]
مرض الجفون و لثغة فی المنطق
فقلت لمن حضر: لا تجهدوا أنفسکم، فما المراد غیری، ثم أخذت الدواة فکتبت:
[الکامل]
سببان جرّا عشق من لم یعشق
من لی بألثغ لا یزال حدیثه یذکی علی الأحشاء جمرة محرق
ینبی فینبو فی الکلام لسانه فکأنه من خمر عینیه سقی
لا ینعش الألفاظ من عثراتها و لو انها کتبت له فی مهرق
ثم قمت عنهم، فلم ألبث أن وردوا علیّ، و أخبرونی أنّ أبا جعفر لم ترض بما جئت
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 374
به من البدیهة، و سألونی أن أحمل مکاوی الهجاء علی حتاره، فقلت: [المتقارب]
أبو جعفر کاتب محسن ملیح سنا الخطّ حلو الخطابه
تملّأ شحما و لحما و ما یلیق تملّؤه بالکتابه
له عرق لیس ماء الحیاء و لکنه رشح ماء الجنابه
جری الماء فی سفله جری لین فأحدث فی العلو منه صلابه‌

[بین ابن عباد و ابنه الرشید و بین الفقیه علی بن القاسم و جماعة من أصحابه]

و ذکر الوزیر أبو بکر بن اللبّانة الدانی فی کتابه «سقیط الدرر، و لقیط الزهر» أنّ المعتمد بن عباد صنع قسیما فی القبّة المعروفة بسعد السعود فوق المجلس المعروف بالزاهی، و هو: [الکامل]
سعد السعود یتیه فوق الزاهی
ثم استجاز الحاضرین فعجزوا، فصنع ولده عبد اللّه الرشید: [الکامل]
و کلاهما فی حسنه متناهی
و من اغتدی سکنا لمثل محمد قد جلّ فی العلیا عن الأشباه
لا زال یبلغ فیهما ما شاءه و دهت عداه من الخطوب دواهی
و خرج القاضی الفقیه أبو الحسن علی بن القاسم بن محمد بن عشرة أحد رؤساء المغرب الأوسط فی جماعة من أصحابه منهم محمد بن عیسی بن سوار الأشبونی و رجل یسمی بأبی موسی خفیف الروح، ثقیل الجسم، فجعل یعبث بالحاضرین بأبیات من الشعر یصنعها فیهم، فصنع القاضی أبو الحسن معاتبا له: [السریع]
و شاعر أثقل من جسمه
ثم استجاز ابن سوار، فقال:
تأتی معانیه علی حکمه
یهجو فلا یهجی فهل عندکم ظلامة تعدی علی ظلمه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 375
لسانه فی هجوه حیّة منیّة الحیّة فی سمّه
یصیب سرّ المرء فی رمیه کأنما العالم فی علمه
أمّا أبو موسی ففی کفّه عصا ابنه و السحر فی نظمه‌

[بین الأمیر عبد الرحمن و عبد اللّه بن الشمر و بین الأمیر عبد الرحمن و محمد بن سعید الزجالی]

و فی «المقتبس، فی تاریخ الأندلس» أن الأمیر عبد الرحمن خرج فی بعض أسفاره فطرقه خیار جاریته طروب أمّ ولده عبد اللّه، و کانت أعظم حظایاه عنده، و أرفعهنّ لدیه، لا یزال کلفا بها، هائما بحبّها، فانتبه و هو یقول: [السریع]
شاقک من قرطبة الساری فی اللیل لم یدر به الداری
ثم أنبه عبد اللّه بن الشمر ندیمه فاستجازه کمال البیت، فقال: [السریع]
زار فحیّا فی ظلام الدّجی أحبب به من زائر ساری
و صنع الأمیر عبد الرحمن المذکور فی بعض غزواته قسیما، و هو: [الطویل]
نری الشی‌ء ممّا یتّقی فنهابه
ثم أرتج علیه، و کان عبد اللّه بن الشمر ندیمه و شاعره غائبا عن حضرته، فأراد من یجیزه، فأحضر بعض قوّاده محمد بن سعید الزجالی، و کان یکتب له، فأنشده القسیم، فقال:
[الطویل]
و ما لا نری ممّا یقی اللّه أکثر
فاستحسنه و أجازه، و حمله استحسانه علی أن استوزره.
و ذکر ابن بسّام أن المعتمد بن عباد أمر بصیاغة غزال و هلال من ذهب، فصیغا، فجاء و زنهما سبعمائة مثقال، فأهدی الغزال إلی السیدة ابنة مجاهد، و الهلال إلی ابنه الرشید، فوقع له إلی أن قال: [الوافر]
بعثنا بالغزال إلی الغزال و للشمس المنیرة بالهلال
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 376

[بین ابن عباد و ابن المرزبان]

ثم أصبح مصطبحا، و جاء الرشید فدخل علیه، و جاء الندماء و الجلساء، و فیهم أبو القاسم بن المرزقان فحکی لهم المعتمد البیت، و أمرهم بإجازته، فبدر ابن المرزبان فقال: [الوافر]
فذا سکنی أبوّئه فؤادی و ذا نجلی أقلّده المعالی
شغلت بذا الطلا خلدی و نفسی و لکنی بذاک رخیّ بال
دفعت إلی یدیه زمام ملکی محلّی بالصوارم و العوالی
فقام یقرّ عینی فی مضاء و یسلک مسلکی فی کلّ حال
فدمنا للعلاء و دام فینا فإنا للسماح و للنزال‌

[ابن الصیرفی یزید علی بیت لابن السمط]

و لما أنشد أبو القاسم ابن الصیر فی قول عبد اللّه بن السمط: [مجزوء الخفیف]
حار طرف تأمّلک ملک أنت أم ملک
قال بدیها: [مجزوء الخفیف]
بل تعالیت رتبة فلک الأرض و الفلک‌

[فی حضرة العالی بالله الإدریسی]

و ذکر ابن بسام فی الذخیرة أنه غنّی یوما بین یدی العالی بالله الإدریسی بمالقة بیت لعبد اللّه بن المعتز: [المدید]
هل ترین البین یحتال أن غدت للحی أجمال
فأمر الفقیه أبا محمد غانم بن الولید المالقی بإجازته، فقال بدیها: [المدید]
إنما العالی إمام هدی حلیت فی عصره الحال
ملک أقیال دولته لذوی الأفهام إقبال
قل لمن أکدت مطالبه راحتاه الجاه و المال
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 377

[فی حضرة عبد الرحمن بن الحکم و فی حضرة المعتمد بن عباد]

و غنّی أبو الحسن زریاب یوما بین یدی الأمیر عبد الرّحمن بن الحکم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بهذین البیتین، و هما لأبی العتاهیة: [الکامل]
قالت ظلوم سمیّة الظّلم مالی رأیتک ناحل الجسم
یا من رمی قلبی فأقصده أنت الخبیر بموقع السّهم
فقال عبد الرحمن: هذان البیان منقطعان، فلو کان بینهما ما یوصلهما لکان أبدع، فصنع عبید اللّه بن فرناس بدیها: [الکامل]
فأجبتها و الدمع منحدر مثل الجمان وهی من النّظم
فاستحسنه، و أمر له بجائزة.
و ذکر ابن بسام أیضا أن المعتمد بن عباد غنّی بین یدیه بقول ابن المعتز: [المتقارب]
و خمّارة من بنات المجوس تری الزقّ فی بیتها شائلا
و زنّا لها ذهبا جامدا فکالت لنا ذهبا سائلا
فقال بدیها یجیزه: [المتقارب]
و قلت خذی جوهرا ثابتا فقالت خذوا عرضا زائلا

[بین المعتمد و الوزیر ابن عمار و بین المعتمد بن عباد و ابن حمدیس الصقلی]

و رکب المعتمد فی بعض الأیام قاصدا الجامع، و الوزیر أبو بکر بن عمار یسایره، فسمع أذان مؤذن، فقال المعتمد: [الکامل]
هذا المؤذن قد بدا بأذانه
فقال ابن عمار:
یرجو بذاک العفو من رحمانه
فقال المعتمد:
طوبی له من شاهد بحقیقة
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 378
فقال ابن عمار:
إن کان عقد ضمیره کلسانه
و قال عبد الجبار بن حمدیس الصقلی: أقمت بإشبیلیة لمّا قدمتها علی المعتمد بن عباد مدّة لا یلتفت إلیّ و لا یعبأ بی، حتی قنطت لخیبتی مع فرط تعبی، و هممت بالنکوص علی عقبی، فإنی لکذلک لیلة من اللیالی فی منزلی إذا بغلام معه شمعة و مرکوب، فقال لی:
أجب السلطان، فرکبت من فوری، و دخلت علیه، فأجلسنی علی مرتبة فنک، و قال لی: افتح الطاق التی تلیک، ففتحتها فإذا بکور زجاج علی بعد، و النار تلوح من بابیه، و واقدة تفتحهما تارة و تسدّهما أخری، ثم دام سدّ أحدهما و فتح الآخر، فحین تأمّلتهما قال لی: أجز: [المنسرح]
انظرهما فی الظلام قد نجما
فقلت:
کما رنا فی الدّجنّة الأسد
فقال:
یفتح عینیه ثمّ یطبقها
فقلت:
فعل امرئ فی جفونه رمد
فقال:
فابتزّه الدهر نور واحدة
فقلت:
و هل نجا من صروفه أحد؟
فاستحسن ذلک، و أمر لی بجائزة سنیّة، و ألزمنی خدمته.

[بین عبد الرحمن الناصر و جماعة من خواصه]

و قد ذکرنا هذه الحکایة فی هذا الکتاب، و لکن ما هنا أتمّ مساقا فلذلک نبّهت علیه.
و ذکر صاحب «فرحة الأنفس، فی أخبار أهل الأندلس» أنّ أمیر المؤمنین عبد الرحمن
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 379
الناصر جلس فی جماعة من خواصه و معهم أبو القاسم لب، و کان یعدّه للمجون و التطایب، فقال له: اهج عبد الملک بن جهور، یعنی أحد وزرائه، فقال: أخافه، فقال لعبد الملک:
فاهجه أنت، فقال: أخاف علی عرضی منه، فقال: أهجوه أنا و أنت، ثم صنع: [السریع]
لبّ أبو القاسم ذو لحیة طویلة أزری بها الطول
فقال عبد الملک: [السریع]
و عرضها میلان إن کسّرت و العقل مأفون و مخبول
فقال الناصر للبّ: اهجه فقد هجاک، فقال بدیها: [السریع]
قال أمین اللّه فی عصرنا لی لحیة أزری بها الطول
و ابن جهیر قال قول الذی مأکله القرضیل و الفول
لو لا حیائی من إمام الهدی نخست بالمنخس شو …
ثم سکت، فقال له الناصر: هات تمام البیت، فامتنع، فقال له «قولو» تمام البیت، کلمة قالها الناصر مسترسلا غیر متحفّظ من زیادة الواو و إبدال الهاء واوا، إذ صوابها «قله» علی حکم المشی مع الطبع و الراحة من التکلّف، فقال لب: یا مولانا، أنت هجوته، ففطن الناصر و الحاضرون، و ضحکوا، و أمر له بجائزة.
و القرضیل: شوک له ورق عریض تأکله البقر، و قوله «شو» اسم لذکر الرجل بالرومیة، و «قولو» اسم للاست بها، فکأنه قال: لو لا حیائی من إمام الهدی نخست بالمنخس- الذی هو الذّکر- استه.

[بین ابن صارة و ابن القبطرنة]

و قال ابن ظافر: أخبرنی من أثق به قال: اجتمع الوزیر أبو بکر بن القبطرنة و الأستاذ أبو العباس ابن صارة فی یوم جلا ذهب برقه، و أذاب ورق ودقه، و الأرض قد ضحکت لتعبیس السماء، و اهتزّت و ربت عند نزول الماء، فترافدا فی صفتها، فقال ابن صارة: [الکامل]
هذی البسیطة کاعب أبرادها حلل الربیع و حلیها النوّار
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 380
فقال ابن القبطرنة: [الکامل]
و کأنّ هذا الجوّ فیها عاشق قد شفّه التعذیب و الإضرار
فقال ابن صارة: [الکامل]
فإذا شکا فالبرق قلب خافق و إذا بکی فدموعه الأمطار
فقال ابن القبطرنة: [الکامل]
فمن اجل عزّة ذا و ذلّة هذه تبکی الغمام و تضحک الأزهار

[بین أبی بکر بن الزبیدی و أبی الحسن المصحفی و من شعر أبی بکر بن الزبیدی]

و قال أبو بکر محمد بن الحسن الزبیدی النحوی صاحب الشّرطة یخاطب الوزیر أبا الحسن جعفر بن عثمان المصحفی لمّا کتب کتابا له فیه «فاضت نفسه» بالضاد- مبینا له الخطأ دون تصریح: [المنسرح]
قل للوزیر السنیّ محتده لی ذمّة منک أنت حافظها
عنایة بالعلوم معجزة قد بهظ الأوّلین باهظها
یقرّ لی عمرها و معمرها فیها و نظّامها و جاحظها
قد کان حقا قبول حرمتها لکنّ صرف الزمان لافظها
و فی خطوب الزمان لی عظة لو کان یثنی النفوس واعظها
إن لم تحافظ عصابة نسبت إلیک قدما فمن یحافظها
لا تدعن حاجتی بمطرحة فإنّ نفسی قد فاظ فائظها
فأجابه المصحفیّ: [المنسرح]
خفّض فواقا فأنت أوحدها علما و نقّابها و حافظها
کیف تضیع العلوم فی بلد أبناؤها کلّهم یحافظها
ألفاظهم کلّها معطّلة ما لم یعوّل علیک لافظها
من ذا یساویک إن نطقت و قد أقرّ بالعجز عنک جاحظها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 381
علم ثنی العالمین عنک کما ثنی عن الشمس من یلاحظها
و قد أتتنی فدیت شاغلة للنفس أن قلت فاظ فائظها
فأوضحنها تفز بنادرة قد بهظ الأوّلین باهظها
فأجابه الزبیدی، و ضمّن شعره الشاهد علی ذلک: [الطویل]
أتانی کتاب من کریم مکرّم فنفّس عن نفس تکاد تفیظ
فسرّ جمیع الأولیاء وروده وسی‌ء رجال آخرون و غیظوا
لقد حفظ العهد الذی قد أضاعه لدیّ سواه و الکریم حفیظ
و باحثت عن فاظت و قبلی قالها رجال لدیهم فی العلوم حظوظ
روی ذاک عن کیسان سهل و أنشدوا مقال أبی الغیاظ و هو مغیظ
و سمیت غیاظا و لست بغائظ عدوّا و لکن للصدیق تغیظ
فلا رحم الرحمن روحک حیّة و لا هی فی الأرواح حین تفیظ
قلت: و فی خطاب الوزیر بهذا البیت و إن حکی عن قائله ما لا یخفی أن اجتنابه المطلوب، علی أنه قد یقال «فاضت نفسه» بالضاد، کما ذکره ابن السکیت فی خلل «الألفاظ» له، و اللّه أعلم.
و کتب الزبیدی المذکور إلی أبی مسلم بن فهد: [الطویل]
أبا مسلم، إنّ الفتی بجنابه و مقوله، لا بالمراکب و اللبس
و لیست ثیاب المرء تغنی قلامة إذا کان مقصورا علی قصر النفس
و لیس یفید العلم و الحلم و الحجا أبا مسلم طول القعود علی الکرسی
و قال، و قد استأذن الحکم المستنصر فی الرجوع إلی أهله بإشبیلیة و لم یأذن له، فکتب إلی جاریته سلمی: [مخلع البسیط]
و یحک یا سلم، لا تراعی لا بدّ للبین من زماع
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 382
لا تحسبینی صبرت إلّا کصبر میت علی النّزاع
ما خلق اللّه من عذاب أشدّ من وقفة الوداع
ما بینها و الحمام فرق لو لا المناحات و النواعی
إن یفترق شملنا و شیکا من بعد ما کان ذا اجتماع
فکلّ شمل إلی افتراق و کلّ شعب إلی انصداع
و کلّ قرب إلی بعاد و کلّ وصل إلی انقطاع‌

[بین سهل بن مالک و جماعة من الأدباء]

و اجتمع جماعة من الأدباء فیهم أبو الحسن سهل بن مالک و المهر بن الفرس و غیرهما بمدینة سبتة سنة 581، فتذاکروا محبوبا لهم یسکن الجزیرة الخضراء أمامهم، فقالوا: لیقل کلّ واحد منکم شیئا فیه، فقال سهل بن مالک: [الکامل]
لمّا حططت بسبتة قتب النّوی و القلب یرجو أن یحوّل حاله
و الجوّ مصقول الأدیم کأنما یبدی الخفیّ من الأمور صقاله
عاینت من بلد الجزیرة مکنسا و البحر یمنع أن یصاد غزاله
کالشکل فی المرآة تبصره و قد قربت مسافته و عزّ مناله
فقال الجماعة: و اللّه لا یقول أحد منا بعد هذا شیئا.

[بین ابن مطروح البلنسی و أبی الربیع الکلاعی]

و لمّا قرأ أبو محمد عبد اللّه بن مطروح البلنسی صداق إملاک، و غیّر فیه حال القراءة لفظة «غیر» برفع ما کان منصوبا أو بالعکس، أنشد بدیها بعد الفراغ معتذرا عن لحنه: [مخلع البسیط]
غیرت غیرا فصرت عیرا و هکذا من یجدّ سیرا
فأجابه الحافظ أبو الربیع بن سالم الکلاعی، و کان إلی جانبه، بدیهة: [مخلع البسیط]
ما أنت مما یظنّ فیه بذاک جهل فظنّ خیرا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 383

[بین ابن حمدون و الشلوبین]

و وقف أبو أمیة بن حمدون بباب الأستاذ الشلوبین، فکتب فی ورقة «أبو أمیة بالباب» و دفع الورقة لخادم الأستاذ، فلمّا نظر إلیها الأستاذ نوّن تاء أمیة، و لمن یزد علی ذلک، و أمر الخادم بدفع الورقة إلیه، فلمّا نظر فیها أبو أمیة انصرف، علما منه أن الأستاذ صرفه، فانظر إلی فطنة الشیخ و التلمیذ، مع أنّ الشیخ منسوب إلی التغفّل فی غیر العلم.

[من عفو المعتصم بن صمادح و من شعر أبی عبد اللّه الرصافی]

و من حکایات أهل الأندلس فی العفو أنّ المعتصم بن صمادح کان قد أحسن للنّحلی البطلیوسی، ثم إنّ النّحلی سار إلی إشبیلیة، فمدح المعتضد بن عباد بشعر قال فیه: [المتقارب]
أباد ابن عبّاد البربرا و أفنی ابن معن دجاج القری
و نسی ما قاله، حتی حلّ بالمریّة، فأحضره ابن صمادح لمنادمته، و أحضر للعشاء موائد لیس فیها غیر دجاج، فقال النّحلی: یا مولای، ما عندکم فی المریة لحم غیر الدجاج؟ فقال:
إنما أردنا أن نکذبک فی قولک:
و أفنی ابن معن دجاج القری
فطار سکر النحلی، و جعل یعتذر، فقال له: خفّض علیک، إنما ینفق مثلک بمثل هذا، و إنما العتب علی من سمعه فاحتمل منک فی حقّ من هو فی نصابه، ثم أحسن إلیه، و خاف النّحلی، ففرّ من المریة، ثم ندم فکتب إلی المعتصم: [المتقارب]
رضا ابن صمادح فارقته فلم یرضنی بعده العالم
و کانت مریّته جنّة فجئت بما جاءه آدم
فما زال یتفقّده بالإحسان علی بعد دیاره، و خروجه عن اختیاره، انتهی.
و قال فی بلنسیة أبو عبد اللّه الرصافی، و قد خرج منها صغیرا: [الطویل]
بلادی التی ریشت قویدمتی بها فریخا و آوتنی قرارتها و کرا
مهادی و لین العیش فی ریّق الصّبا أبی اللّه أن أنسی اعتیادی بها خیرا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 384

[من شعر أبی بکر محمد بن یحیی الشلطیشی و أبی بکر بن العطار الیابسی و محمد بن الحسن الجیلی]

و قال أبو بکر محمد بن یحیی الشلطیشی: [الوافر]
وفاة المرء سرّ لم یکاشف و لم تثبت حقیقته درایه
سیفنی کلّ ذی شبح و نفس و تلتحق النهایة بالبدایه
و ینصدع الجمیع إلی صدوع تعود به البریّة کالبرایه
کأنّ مصائب الدنیا سهام لها الأیام أغراض الرمایه
فنل ما شئت إنّ الفقر بدء و عش ما شئت إنّ الموت غایه
و قال أبو بکر محمد بن العطار الیابسی، و هو من رجال الذخیرة: [البسیط]
أمطیت عزمک منه متن سابحة خلت الحباب علی لبّاتها لببا
تبدو علی الموج أحیانا و یضمرها کالعیس تعتسف الأهضاب و الکثبا
و قال محمد بن الحسن الجبلی النحوی: [الطویل]
و ما الأنس بالناس الذین عهدتهم بأنس و لکن فقد رؤیتهم أنس
إذا سلمت نفسی و دینی منهم فحسبی أنّ العرض منی لهم ترس‌

[من شعر محمد بن حرب و محمد بن الیسع]

و قال محمد بن حرب: [مجزوء الکامل]
طوبی لروضة جنّة لک قد نویت ورودها
نظمت علی لبّاتها أیدی الغمام عقودها
وسقت بماء الورد و ال مسک الفتیت صعیدها
و الطیر تشدو فی الغصو ن المائدات قصیدها
و تعیر سمع المستعی ر نظیمها و نشیدها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 385
و کان فی دار محمد بن الیسع شاعر الدولة العامریة وردة، و کان یهدی وردها کلّ عام إلی عارض الجیش أحمد بن سعید، فغاب العارض سنة، فقال: [مجزوء الرمل]
قال لی الورد و قد لا حظته فی روضتیه
و هو قد أینع طیبا جمع الحسن لدیه
أین مولای الذی قد کنت تهدینی إلیه
قلت غاب العام فایأس أن تری بین یدیه
فبدا یذبل حتی ظهر الحزن علیه‌

[من شعر أحمد بن أفلح و أحمد بن تلید و إسحاق بن المنادی]

و قال أحمد بن أفلح: [البسیط]
ما أستریح إلی حال فأحمدها بالبین قلبی و قبل البین قد ذهبا
إن کان لی أرب فی العیش بعدکم فلا قضیت إذن من حبّکم أربا
و قال أحمد بن تلید الکاتب: [السریع]
لم أرض بالذّلّ و إن قلّا و الحرّ لا یحتمل الذّلّا
یا ربّ خلّ کان لی خامل صار إلی العزّة ماخلا
حرّمت إلمامی علی بابه و وصله لم أره حلّا
تأبی علیّ النفس من أن أری یوما علی مستثقل کلّا
و قال إسحاق بن المنادی، و قد أهدی له من یهواه تفاحة: [الوافر]
مجال العین فی ورد الخدود یذکّر طیب جنّات الخلود
و آرجة من التفاح تزهو بطیب النشر و الحسن الفرید
أقول لها فضحت المسک طیبا فقالت لی بطیب أبی الولید
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 386

[من شعر غالب بن عبد اللّه الثغری و الوزیر أبی الحسن الغرناطی]

و قال غالب بن عبد اللّه الثّغری: [البسیط]
یا راحلا عن سواد المقلتین إلی سواد قلب عن الأضلاع قد رحلا
غدا کجسم و أنت الروح فیه فما ینفکّ مرتحلا ما دمت مرتحلا
و للفراق جوی لو مرّ أبرده من بعد فرقتکم بالماء لاشتعلا
و قال الوزیر أبو الحسن ابن الإمام الغرناطی یهجو مراکش المحروسة: [البسیط]
یا حضرة الملک ما أشهاک لی وطنا لو لا ضروب بلاء فیک مصبوب
ماء زعاق و جوّ کلّه کدر و أکلة من بذنجان ابن معیوب
و ابن معیوب هذا کان من خدام أبی العلاء بن زهر، یزعم الناس أنه سمّ ابن باجة لعداوته لابن زهر فی باذنجان.

[من شعر الوزیر أبی عامر بن الحمارة و ابن بقی]

و لمّا بنی الفقیه أبو العباس ابن القاسم قصره بسلا و شیّده وصفته الشعراء، و هنّته به، و دعت له، و کان بالحضرة حینئذ الوزیر أبو عامر بن الحمارة، و لم یکن أعدّ شیئا، فأفکر قلیلا ثم قال: [البسیط]
یا أوحد الناس قد شیّدت واحدة فحلّ فیها حلول الشمس فی الحمل
فما کدارک فی الدنیا لذی أمل و لا کدارک فی الأخری لذی عمل
و فیهم یقول ابن بقی فی موشحته الشهیرة التی آخرها:
إن جئت أرض سلا تلقاک بالمکارم فیدان
هم سطور العلا و یوسف بن القاسم عنوان‌

[بین ابن عبادة و ابن القابلة]

و کان محمد بن عبادة بالمریة، و معه ابن القابلة السبتی، فنظر إلی غلام و سیم یسبح، و قد تعلّق بسفینة، فقال ابن عبادة: [السریع]
انظر إلی البدر الذی لاح لک
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 387
فقال ابن القابلة: [السریع]
فی وسط اللّجّة تحت الحلک
قد جعل الماء مکان السما و اتّخذ الفلک مکان الفلک‌

[من شعر ابن خروف]

و قال ابن خروف، و یروی لغیره: [السریع]
أیتها النفس إلیه اذهبی فحبّه المشهور من مذهبی
مفضّض الثغر له شامة مسکیّة فی خدّه المذهب
أیأسنی التوبة من حبّه طلوعه شمسا من المغرب‌

[بین ابن خفاجة و ابن عائشة و ابن الزقاق]

و اجتمع فی بستان واحد ثلاثة من شعراء الأندلس، و هم: ابن خفاجة، و ابن عائشة و ابن الزقاق، فقال ابن خفاجة یصف الحال هنالک: [مخلع البسیط]
للّه نوریّة المحیّا تحمل ناریّة الحمیّا
درنا بها تحت ظلّ دوح قد راق مرأی و طاب ریّا
تجسّم النّور فیه نورا فکلّ غصن به ثریّا
و قال ابن عائشة: [مخلع البسیط]
و دوحة قد علت سماء تطلع أزهارها نجوما
هفا نسیم الصّبا علینا فخلتها أرسلت رجوما
کأنما الأفق غار لمّا بدت فأغری بها النسیما
و قال ابن الزقاق: [الخفیف]
و ریاض من الشقائق أضحت یتهادی بها نسیم الریاح
زرتها و الغمام یجلد منها زهرات تفوق لون الراح
قلت ما ذنبها؟ فقال مجیبا سرقت حمرة الخدود الملاح‌

[من شعر الحسین بن الضحاک:]

و قال الأدیب أبو الحسن بن زنون: وقع بیدی- و أنا أسیر بقیجاطة، أعادها اللّه تعالی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 388
دار إسلام!- کتاب ترجمته «کتاب التحف و الطرف» لابن عفیون فوجدت فیه: قال الحسین بن الضحاک: [البسیط]
ما کان أحوجنی یوما إلی رجل فی وسطه ألف دینار علی فرس
فی کفّه حربة یفری الدروع بها و صارم مرهف الحدّین کالقبس
فلو رجعت و لم أظفر بمهجته و قد خضبت ذباب الصارم الشکس
فلا اغتبطت بعیش و ابتلیت بما یحول بینی و بین الشادن الأنس
و وقف علی هذه القطعة أبو نواس فقال: [البسیط]
ما کان أحوجنی یوما إلی خنث حلو الشمائل فی باق من الغلس
فی کفّه قهوة یسبی النفوس بها محکّم الطّرف للألباب مختلس
فلو رجعت و لم أظفر بتکّته و قد رویت من الصهباء کالقبس
فلا هنیت بعیش و ابتلیت بما یکون منه صدود الشادن الأنس
هذا ألذّ و أشهی من منی رجل فی وسطه ألف دینار علی فرس
و وقف علی ذلک الوزیر أبو عامر بن ینّق فقال: [البسیط]
ما کان أحوجنی یوما إلی رجل یردّد الذکر فی باق من الغلس
فی حلقه غنّة یشفی النفوس بها و فی الحشا زفرة مشبوبة القبس
فلو رجعت و لم أوثر تلاوته علی سماع غناء الشادن الأنس
فلا حمدت إذن نفسی و لا اعتمدت بی النجائب قصد البیت ذی القدس
و لا أسلت لقبر المصطفی مقلا تبکی علیه بهامی الدمع منبجس
قال ابن زنون: فوقفت علی ذلک، فقلت: و کلّ ینفق ممّا عنده، و من عجائب صنعه تعالی أنه عند فراغی من کتب هذه القطعة وصل الفکاک إلیّ، و حلّ قیودی، و أخرجنی إلی بلاد المسلمین، و هی: [البسیط]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 389
ما کان أحوجنی یوما إلی رجل یأتی فینبهنی فی فحمة الغلس
یفکّ قیدی و غلّی غیر مرتقب و لا مبال من الحجّاب و الحرس
و قوله لی تأنیسا و تسلیة هذا سلاحی فالبسه و ذا فرسی
فلو جبنت و لم أقبل مقالته و أمتطی الطّرف و ثبا فعل مفترس
إذن خلعت لباس المجد من عنقی و صار حظّی منه حظّ مختلس
و أخلفتنی أمانیّ التی طمحت نفسی إلیها و إحسانی لکلّ مسی‌

[من شعر أبی بکر بن حبیش و أبی بکر اللخمی]

و قال أبو بکر بن حبیش، و قد زاره بعض أودّائه فی یوم عید فطر: [السریع]
أکلّ ذا الإجمال فی ذا الجمال اللّه أستحفظ ذاک الکمال
یا مالکا بالبرّ رقّی أما یکفیک أن تملکنی بالوصال
سرت إلی ربعی زورا کما سری إلی المهجور طیف الخیال
العید لی وحدی بین الوری حقا لأنی قد رأیت الهلال
صومی مقبول و برهانه أنی أدخلت جنان الوصال‌

[بین أبی زید بن أبی العافیة و ابن العطار]

و قال أبو بکر بن یوسف اللخمی، و قد عاده فی شکایة فتی وسیم من الأعیان کان والده خطیب البلد: [مخلع البسیط]
یا عائدی و هو أصل ما بی أفدیک من ممرض طبیب
أصمیت لمّا رمیت قلبی بسهم ألحاظک المصیب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص389
و جئتنی منکرا لسقمی و تلک من عادة الحبیب
یا ساعة قد غفرت فیها ما کان للدهر من ذنوب
ما کان فی فضلها مثال لو لم تکن جلسة الخطیب
و خاطب أبو زید بن أبی العافیة أبا عبد اللّه بن العطار القرطبی بقصیدة منها هذا البیت:
[الوافر]
و کیف یفیق ذو صبر قصیر حلیف وساوس حول طوال
یعرّض له بطوله و حوله، و لصاحبه أبی محمد بن بلال بقصره، فراجعه أبو عبد اللّه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 390
المذکور بهذه الأبیات یعرض له فیها بجربه، و کان أبو زید أصابه جرب کثیر: [الوافر]
أجل یا نافث السّحر الحلال أتانی منک نظم کاللآلی
یروقک أوّلا لفظا و معنی و یلدغ آخرا لدغ الصّلال
تعرّض فیه أنک ذو مطال حلیف وساوس حول طوال
کأنک لم تجرّب قطّ خلقا و لم تعرف بتجربة اللیالی
أ أنسیت التجارب إذ تجاری بهنّ الجربیاء مع الشمال
فلا تغفل عن التجریب یوما و لو أعطیت فیه جراب مال
و جرّب جار بیتک و اختبره و جرّ برجله إن کان قالی
و جار بنیک لا تستحی منه و من نجّار بابک لاتبال
و أجر ببالک الجرباء تبصر نجوم الأفق تجری بانتقال
و جرّب أهل جربة تلف قوما أبوا لبس الجوارب و النعال
تجارا باعة تجروا بزیت تسمّوا بالتّجار بغیر مال
إذا سمعوا بتمر فی جریب جروا ببطالة التمر البوالی
إذا جرّبت هذا الخلق أبدی لک التجریب أجربة خوالی
تری بالنّجح دهرا جرّ بؤسا علیک و جار بالنّوب الثقال‌

[بین ثلاثة أدباء]

و خرج ثلاثة أدباء لنزهة خارج مرسیة، و صلّوا خلف إمام بمسجد قریة، فأخطأ فی قراءته، و سها فی صلاته، فلمّا خرج أحدهم کتب علی حائط المسجد: [المجتث]
یا خجلتی لصلاة صلّیتها خلف خلف
فلما خرج الثانی کتب تحته:
أغضّ عنها حیاء من المهیمن طرفی
فلما خرج الثالث کتب تحته:
فلیس تقبل منّا لو أنها ألف ألف
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 391

[من شعر أبی إسحاق بن خفیف و أبی الصلت و بعض المغاربة 391]

و قال أبو إسحاق بن خفیف الأندلسی فی أحدب أخذ مع صبی فی خلوة فضربا، و طیف بهما، و الأحدب علی عنق الصبی: [مجزوء الوافر]
رأیت الیوم محمولا و أعجب منه من حمله
جمال الناس تحملهم و هذا حامل جمله
و قال أبو الصلت الأندلسی: [الطویل]
و قائلة: ما بال مثلک خاملا أ أنت ضعیف الرأی أم أنت عاجز
فقلت لها: ذنبی إلی القوم أننی لما لم یحوزوه من المجد حائز
و کتب بعض المغاربة لأبی العباس بن مضاء یذکره بحاله: [مخلع البسیط]
یا غارسا لی ثمار مجد سقیتها العذب من زلالک
أخاف من زهرها سقوطا إن لم یکن سقیها ببالک‌

[من شعر عبد اللّه القرطبی و ابن هذیل الفزاری و ابن الزقاق]

و کتب الکاتب أبو عبد اللّه القرطبی مستنجزا وعدا: [الوافر]
أبا عبد الإله وعدت وعدا فأنجز تربح الشکر الجزیلا
و لا تمطل فإنّ المطل یمحو من الإحسان رونقه الصقیلا
إذا کان الجمیل یحبّ طبعا فإنی أکره الصبر الجمیلا
و کتب ابن هذیل الفزاری للغنی بالله سلطان لسان الدین بن الخطیب: [الرمل]
لیس یا مولای لی من جابر إذ غدا قلبی من البلوی جذاذا
غیر صکّ أحمر تکتب لی فیه یمناک اعتناء صحّ هذا
و قال أبو الحسن بن الزقاق فی غلام یهودی کان یجلس معه و ینادمه یوم سبت:
[الطویل]
و حبّب یوم السبت عندی أننی ینادمنی فیه الذی أنا أحببت
و من أعجب الأشیاء أنی مسلم حنیف و لکن خیر أیامی السبت
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 392

[من شعر أبی حیان و أبی العباس بن سعید و السمیسر]

و قال أبو حیان: [المتقارب]
و یعجبنی رشف تلک الشفاه و عضّ الخدود و هصر القوام
محاسن فاقت قضیب الأراک و ورد الریاض و کأس المدام
و کتب أحد الأدباء بمرسیة إلی فتی وسیم من أعیانها کان یلازم حانوت بعض القضاة بها للتفقّه علیه، بأبیات فی غرض، فراجعه عنه أبو العباس بن سعد بقوله: [الکامل]
ما للمحبّ لدیّ غیر صبابة تقضی علیه و لوعة و غرام
فدع الطماعة و استرح بالیأس من وصل علیک إلی الممات حرام
و قال السمیسر: [مخلع البسیط]
قرابة السوء شرّ داء فاحمل أذاهم تعش حمیدا
و من تکن قرحة بفیه یصبر علی مصّه الصدیدا

[من شعر ابن خفاجة و بعض الأندلسیین و یحیی بن هشام القرطبی]

و قال ابن خفاجة: [الرمل]
إنّ للجنّة بالأندلس مجتلی عین و ریّا نفس
فسنا صبحتها من شنب و دجا لیلتها من لعس
فإذا ما هبّت الریح صبا صحت: و اشوقی إلی الأندلس
و قال بعض الأندلسیین ممّن لم یحضرنی اسمه الآن: [الطویل]
إذا صال ذو ودّ بودّ صدیقه فیا أیها الخلّ المصاحب لی صل بی
فإنی مثل الماء لینا لصاحبی و ناهیک للأعداء من رجل صلب
و قال أبو یحیی بن هشام القرطبی: [مخلع البسیط]
و خائط رائع جمالا وصاله غایة اقتراحی
تنعم منه الخیوط فتلا بین أقاح و بین راح
تراه فی السلم ذا طعان بنافذات بلا جراح
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 393
حلّته أشبهت فؤادی لکثرة الوخز فی النواحی
تقطّع الثوب راحتاه کصنع ألحاظه الملاح
فقبله ما رأیت بدرا ممزّقا بردة الصباح‌

[من شعر أبی جعفر البلنسی و أبی العباس القیجاطی و أبی العباس المالقی]

و قال أبو جعفر أحمد بن عبد الولی البلنسی: [الطویل]
غصبت الثریّا فی البعاد مکانها و أودعت فی عینیّ صادق نوئها
و فی کلّ حال لم تزالی بخیلة فکیف أعرت الشمس حلّة ضوئها
قال ابن الأبار: أنشد مؤلف «قلائد العقیان» هذین البیتین لأبی جعفر البنی الیعمری، و أحدهما غالط من قبل اشتباه نسبهما، و التفرقة بینهما مستوفاة فی تألیفی المسمی ب «هدایة المعتسف، فی المؤتلف و المختلف» انتهی.
و أبو جعفر بن عبد الولی المذکور أحرقه القنبیطور- لعنه اللّه تعالی!- حین تغلّبه بالروم علی بلنسیة. قال ابن الأبار: و ذلک فی سنة ثمان و ثمانین و أربعمائة، و قیل: إنّ إحراقه کان سنة تسعین و أربعمائة، انتهی.
و قال أبو العباس القیجاطی فیما أنشده له ابن الطیلسان: [المجتث]
لیس الخمول بعار علی امرئ ذی جلال
فلیلة القدر تخفی و تلک خیر اللیالی
و قال أبو محمد بن جحاف المعافری البلنسی: [المتقارب]
أقول و قد خوّفونی القران و ما هو من شرّه کائن
ذنوبی أخاف و أمّا القران فإنی من شرّه آمن
و أبوه أبو أحمد هو المحرّق ببلنسیة کما ذکرناه فی غیر هذا الموضع.
و قال أبو العباس المالقی. [الطویل]
و بین ضلوعی للصبابة لوعة بحکم الهوی تقضی علیّ و لا أقضی
جنی ناظری منها علی القلب ما جنی فیا من رأی بعضا یعین علی بعض
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 394

[جازة بین أبی القاسم بن عبد المنعم و أبی عبد اللّه الشاطبی و أبی بکر بن طاهر]

و دخل أبو القاسم بن عبد المنعم، و کان أزرق وسیما، و معه أبو عبد اللّه الشاطبی و أبو عثمان سعید بن قوشترة، علی صاحب کتاب «مشاحذ الأفکار، فی مآخذ النّظّار» فقال ابن قوشترة: [الکامل]
عابوه بالزّرق الذی بجفونه و الماء أزرق و السّنان کذلکا
فقال الشاطبی: [الکامل]
و الماء یهدی للنفوس حیاتها و الرمح یشرع للمنون مسالکا
فقال أبو بکر بن طاهر صاحب کتاب «المشاحذ»: [الکامل]
و کذاک فی أجفانه سبب الردی لکن أری طیب الحیاة هنالکا
و هذا من بارع الإجازة، و کم لأهل الأندلس من مثل هذا الدیباج الخسروانی، رحمهم اللّه تعالی و سامحهم!
و کتب الشیخ الإمام العالم العلامة أبو عبد اللّه محمد بن الصائغ الأندلسی النحوی عند قول الحریری «آمنا أن یعززا بثالث» ما نصّه: قد جی‌ء لهما بثالث و رابع فی قافیتهما، و هو قول بعض الفضلاء: [السریع]
ما الأمة اللّکعاء بین الوری کمسلم حرّ أتی ملأمه
فمه إذا استجدیت من قول لا فالحرّ لا یملأ منها فمه
ثم قال: و بخامس و سادس:
انقدّ مهوی أزره فانثنی مه یا عذولی فی الذی انقدّ مه
مندمة قتل المعنّی فلا ترسل سهام اللحظ تأمن دمه
قلت: رأیت فی المغرب فی هذا المعنی ما ینیّف علی سبعین بیتا کلّها مساجلة لبیتی الحریری، رحمه للّه تعالی!
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 395

[من شعر أبی بکر بن عبادة و أبی بکر بن قزمان و ترجمته]

و قال أبو بکر بن عبادة الشاعر فی أبی بکر والد الوزیر أبی الولید بن زیدون: [الخفیف]
أیّ رکن من الریاسة هیضا و جموم من المکارم غیضا
حملوه من بلدة نحو أخری کی یوافوا به ثراه الأریضا
مثل حمل السحاب ماء طبیبا لتداوی به مکانا مریضا
و کان المذکور توفی فی ضیعة له، و نقل تابوته إلی قرطبة فدفن فی الرّبض سنة 405، و ولد سنة 304.
و قال أبو بکر بن قزمان صاحب الموشحات: [الوافر]
و عهدی بالشباب و حسن قدّی حکی ألف ابن مقلة فی الکتاب
فصرت الیوم منحنیا کأنی أفتّش فی التراب علی شبابی
و قال: [السریع]
یا ربّ یوم زارنی فیه من أطلع من غرّته کوکبا
ذو شفة لمیاء معسولة ینشع من خدّیه ماء الصبا
قلت له هب لی بها قبلة فقال لی مبتسما مرحبا
فذقت شیئا لم أذق مثله للّه ما أحلی و ما أعذبا
أسعدنی اللّه بإسعاده یا شقوتی یا شقوتی لو أبی
قال لسان الدین: کان ابن قزمان نسیج وحده أدبا و ظرفا و لوذعیة و شهرة؛ قال ابن عبد الملک: کان أدیبا بارعا، حلو الکلام، ملیح النثر، مبرزا فی نظم الزجل، قال لسان الدین: و هذه الطریقة الزجلیة بدیعة تتحکّم فیها ألقاب البدیع، و تنفسح لکثیر ممّا یضیق علی الشاعر سلوکه، و بلغ فیها أبو بکر، رحمه اللّه تعالی، مبلغا حجره اللّه عمّن سواه، فهو آیتها المعجزة، و حجّتها البالغة، و فارسها المعلم، و المبتدی‌ء فیها و المتمّم.
و قال الفتح فی حقّه: مبرز فی البیان، و محرز للسّبق عند تسابق الأعیان، اشتمل علیه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 396
المتوکل علی اللّه فرقّاه إلی مجالس، و کساه ملابس، فامتطی أسمی الرتب و تبوّأها، و نال أسنی الخطط و ما تملأها، و قد أثبتّ له ما یعلم به رفیع قدره، و یعرف کیف أساء له الزمان بغدره، کقوله: [الکامل]
رکبوا السیول من الخیول و رکّبوا فوق العوالی السّمر زرق نطاف
و تجلّلوا الغدران من ماذیّهم مرتجّة إلّا علی الأکناف
و الماذی: العسل، و النّطاف: جمع النّطفة و هی الماء الصافی قل أو کثر.

[من شعر أبی بکر بن القوطیة و من شرع القاضی یونس بن عبد اللّه بن مغیث ترجمته]

و قال الفقیه أبو بکر بن القوطیة صاحب «الأفعال» فی اللغة و الغریب، فی زمن الربیع:
[الکامل]
ضحک الثری و بدا لک استبشاره فاخضرّ شاربه و طرّ عذاره
ورنت حدائقه و زرّر نبته و تعطّرت أنواره و ثماره
و اهتز ذابل کل ماء قرارة لما أتی متطلعا آذاره
و تعمّمت صلع الرّبا بنباته و ترنّمت من عجبها أطیاره
و قال فی المطمح فی حقّ ابن القوطیة المذکور: إنه ممّن له سلف. و ثنیّة کلّها شرف، و هو أحد المجتهدین فی الطلب، و المشتهرین بالعلم و الأدب، و المنتدبین للعلم و التصنیف، و المرتّبین له بحسن الترتیب و التألیف، و کان له شعر نبیه، و أکثره أوصاف و تشبیه، انتهی.
و قال القاضی الأجلّ یونس بن عبد اللّه بن مغیث: [الطویل]
أتوا حسبة إذ قیل جدّ نحوله فلم یبق من لحم علیه و لا عظم
فعادوا قمیصا فی فراش فلم یروا و لا لمسوا شیئا یدلّ علی جسم
طواه الهوی فی ثوب سقم من الضنی و لیس بمحسوس بعین و لاوهم
و قال فی المطمح فیه: إنه قاضی الجماعة بقرطبة، فاضل، ورع، مبرز فی النسّاک و الزهّاد، دائم الأرق فی التخشّع و السّهاد، مع التحقّق بالعلم و التمیز بحمله، و التحیز إلی فئة
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 397
الورع و أهله، و له تآلیف فی التصوّف و الزهد، منها «کتاب المنقطعین إلی اللّه» و «کتاب المجتهدین» و أشعار فی هذا المعنی، منها قوله: [الوافر]
فررت إلیک من ظلمی لنفسی و أوحشنی العباد و أنت أنسی
قصدت إلیک منقطعا غریبا لتؤنس وحدتی فی قعر رمسی
و للعظمی من الحاجات عندی قصدت و أنت تعلم سرّ نفسی
و لمّا أراد المستنصر بالله غزو الروم تقدّم إلی أبی محمد والده بالکون فی صحبته، و مسایرته فی غزوته، فاعتذر بعذر یجده، و ألم لا ینجده، فقال له الحکم: إن ضمن له أن یؤلف فی أشعار خلفائنا بالمشرق و الأندلس مثل کتاب الصولی فی أشعار خلفاء بنی العباس أعفیته من الغزاة، و جازیته أفضل المجازاة، فأجابه إلیه علی أن یؤلفه بالقصر، فزعم أنه رجل مزور، و أن ذلک الموضع ممتنع علی من یلمّ به و یزور، فألفّه بدار الملک المطلّة علی النهر، و أکمله فیما دون شهر، و توفی و المستنصر بعد فی غزاته.

[من شعر ابن سیده و ترجمته:]

و قال ابن سیده صاحب «المحکم» یخاطب إقبال الدولة: [الطویل]
ألا هل إلی تقبیل راحتک الیمنی سبیل؟ فإنّ الأمن فی ذاک و الیمنا
قال فی المطمح: الفقیه أبو الحسن علی بن أحمد المعروف بابن سیده إمام فی اللغة و العربیة، و همام فی الفئة الأدبیة، و له فی ذلک أوضاع، لأفهام أخلافها استدرار و استرضاع، حرّرها تحریرا، و أعاد طرف الذکاء بها قریرا، و کان منقطعا إلی الموفّق صاحب دانیة، و بها أدرک أمانیه، و وجد تجرّده للعلم و فراغه، و تفرّد بتلک الإراغة، و لا سیما کتابه المسمی بالمحکم، فإنه أبدع کتاب و أحکم، و لمّا مات الموفّق رائش جناحه، و مثبت غرره و أوضاحه، خاف من ابنه إقبال الدولة، و أطاف به مکروها بعض من کان حوله، إذ أهل الطلب کحیات مساورة، ففرّ إلی بعض الأعمال المجاورة، و کتب إلیه منها مستعطفا: [الطویل]
ألا هل إلی تقبیل راحتک الیمنی سبیل؟ فإنّ الأمن فی ذاک و الیمنا
فتنضی هموم طلّحته خطوبها و لا غاربا یبقین منه و لا متنا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 398
غریب نأی أهلوه عنه و شفّه هواهم فأمسی لا یقرّ و لا یهنا
فیا ملک الأملاک، إنی محلأ عن الورد لا عنه أذاد و لا أدنی
تحققت مکروها فأقبلت شاکیا لعمری أ مأذون لعبدک أن یعنی
و إن تتأکّد فی دمی لک نیّة فإنی بسیف لا أحبّ له جفنا
إذا ما غدا من حرّ سیفک باردا فقدما غدا من برد نعماکم سخنا
و هل هی إلّا ساعة ثم بعدها ستقرع ما عمّرت من ندم سنّا
و مالی من دهری حیاة ألذّها فتجعلها نعمی علیّ و تمتنّا
إذا میتة أرضتک عنا فهاتها حبیب إلینا ما رضیت به عنّا

[من شعر أبی محمد غانم بن الولید المالقی]

و قال الفقیه أبو محمد غانم بن الولید الأندلسی المخزومی المالقی: [البسیط]
صیّر فؤادک للمحبوب منزلة سمّ الخیاط مجال للمحبّین
و لا تسامح بغیضا فی معاشرة فقلّما تسع الدنیا بغیضین
و له: [السریع]
الصبر أولی بوقار الفتی من قلق یهتک ستر الوقار
من لزم الصبر علی حالة کان علی أیامه بالخیار
و قال فی المطمح فیه: إنه عالم متفرّس، و فقیه مدرّس، و أستاذ متجرد، و إمام لأهل الأندلس مجوّد، و أما الأدب فکان جلّ شرعته، و هو رأس بغیته، مع فضل و حسن طریقة، و جدّ فی جمیع الأمور و حقیقة، انتهی.

[ابن عبد البر- ترجمته و شعره]

و قال المحدّث الحافظ أبو عمر بن عبد البر یوصی ابنه بمقصورة: [الطویل]
تجاف عن الدنیا و هوّن لقدرها و وفّ سبیل الدین بالعروة الوثقی
و سارع بتقوی اللّه سرّا و جهرة فلا ذمّة أقوی هدیت من التقوی
و لا تنس شکر اللّه فی کلّ نعمة یمنّ بها فالشکر مستجاب النّعمی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 399
فدع عنک ما لا حظّ فیه لعاقل فإنّ طریق الحق أبلج لا یخفی
و شحّ بأیام بقین قلائل و عمر قصیر لا یدوم و لا یبقی
أ لم تر أنّ العمر یمضی مولّیا فجدّته تبلی و مدته تفنی
نخوض و نلهو غفلة و جهالة و ننشر أعمالا و أعمارنا تطوی
تواصلنا فیه الحوادث بالردی و تنتابنا فیه النوائب بالبلوی
عجبت لنفس تبصر الحقّ بیّنا لدیها و تأبی أن تفارق ما تهوی
و تسعی لما فیه علیها مضرّة و قد علمت أن سوف تجزی بما تسعی
ذنوبی أخشاها و لست بآیس و ربّی أهل أن یخاف و أن یرجی
و إن کان ربی غافرا ذنب من یشا فإنی لا أدری أ أکرم أم أخزی
و قال فی المطمح: الفقیه الإمام العالم الحافظ أبو عمر یوسف بن عبد اللّه بن عبد البر، إمام الأندلس و عالمها، الذی التاحت به معالمها، صحّح المتن و السند، و میّز المرسل من المسند، و فرّق بین الموصل و القاطع، و کسا الملّة منه نور ساطع، حصر الرواة، و أحصی الضعفاء منهم و الثقات، و جدّ فی تصحیح السقیم، و جدد منه ما کان کالکهف و الرّقیم، مع معاناة العلل، و إرهاف ذلک العلل، و التنبیه و التوقیف، و الإتقان و التثقیف، و شرح المقفل، و استدراک المغفل، و له فنون هی للشریعة رتاج، و فی مفرق الملّة تاج، أشهرت للحدیث ظبا، و فرعت لمعرفته ربا، و هبّت لتفهّمه شمال و صبا، و شفت منه و صبا، و کان ثقة، و الأنفس علی تفضیله متّفقة، و أما أدبه فلا تعبر لجّته، و لا تدحض حجّته، و له شعر لم نجد منه إلّا ما نفث به أنفة، و أقصی فیه عن معرفة، فمن ذلک قوله- و قد دخل إشبیلیة فلم یلق فیها مبرّة، و لم یلق من أهلها تهلل أسرّة، فأقام بها حتی أخلقه مقامه، و أطبقه اغتمامه، فارتحل و قال: [الطویل]
تنکّر من کنّا نسرّ بقربه و عاد زغاقا بعدما کان سلسلا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 400
و حقّ لجار لم یوافقه جاره و لا لاءمته الدار أن یتحوّلا
بلیت بحمص و المقام ببلدة طویلا لعمری مخلق یورث البلی
إذا هان حرّ عند قوم أتاهم و لم ینأ عنهم کان أعمی و أجهلا
و لم تضرب الأمثال إلّا لعالم و ما عوتب الإنسان إلّا لیعقلا

[من شعر أبی بکر بن أبی الدوس و أخباره و أبی الفضل بن الأعلم و أخباره]

و قال الفقیه أبو بکر بن أبی الدوس: [الطویل]
إلیک أبا یحیی مددت ید المنی و قدما غدت عن جود غیرک تقبض
و کانت کنور العین یلمع بالدجا فلمّا دعاه الصبح لبّاه ینهض
و قال فی المطمح: إنه من أبدع الناس خطّا، و أصحهم نقلا و ضبطا، اشتهر بالإقراء، و اقتصر بذلک علی الأمراء، و لم ینحطّ لسواهم، و مطل الناس بذلک و لواهم، و کان کثیر التحوّل، عظیم التجوّل، لا یستقرّ فی بلد، و لا یستظهر علی حرمانه بجلد، فقذفته النوی، و طردته عن کل ثوی، ثم استقرّ آخر عمره بأغماث، و بها مات، و کان له شعر بدیع یصونه أبدا، و لا یمدّ به یدا.
أخبرنی من دخل علیه بالمریّة فرآه فی غایة الإملاق، و هو فی ثیاب أخلاق، و قد تواری فی منزله تواری المذنب، و قعد عن الناس قعود مجتنب، فلمّا علم ما هو فیه، و ترفّعه عمّن یجتدیه، عاتبه فی ذلک الاعتزال، و آخذه حتی استنزله بغیض الإنزال، و قال له: هلا کتبت إلی المعتصم، فما فی ذلک ما یصم، فکتب إلیه: إلیک أبا یحیی مددت ید المنی- البیتین، انتهی.
و قال الفقیه القاضی الفاضل أبو الفضل بن الأعلم، حین أقلع و أناب، و ودع ذلک الجناب، و تزهد و تنسّک، و تمسّک من طاعة اللّه بما تمسّک، و تذکّر یوما یتجرّد من أمله، و ینفرد فیه بعمله: [مجزوء الکامل]
الموت یشغل ذکره عن کلّ معلوم سواه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 401
فاعمر له ربع ادّکا رک فی العشیّة و الغداه
و اکحل به طرف اعتبا رک طول أیام الحیاه
قبل ارتکاض النفس ما بین الترائب و اللّهاه
فیقال هذا جعفر رهن بما کسبت یداه
عصفت به ریح المنو ن فصیّرته کما تراه
فضعوه فی أکفانه و دعوه یجنی ما جناه
و تمتّعوا بمتاعه الم حزون و احووا ما حواه
یا منظرا مستبشعا بلغ الکتاب به مداه
لقّیت فیه بشارة تشفی فؤادی من جواه
و لقیت بعدک خیر من نبّاه ربی و اجتباه
فی دار خفض ما اشتهت نفس المقیم بها أتاه
و قال فی المطمح: إنه کهل الطریقة، و فتی الحقیقة، تدرّع الصیانة، و برع فی الورع و الدیانة، و تماسک عن الدنیا عفافا، و ما تماسک التماسا بأهلها و التفافا، فاعتقل النّهی، و تنقّل فی مراتبها حتی استقرّ فیها فی السّها، و عطّل أیام الشباب، و مطل فیها سعاد و زینب و الرّباب، إلّا ساعات وقفها علی المدام، و عطفها إلی النّدام، حتی تخلّی عن ذلک و اتّرک، و أدرک من المعلومات ما أدرک، و تعرّی من الشبهات، و سری إلی الرشد مستیقظا من تلک السّنات، و له تصرّف فی شتی الفنون، و تقدّم فی معرفة المفروض و المسنون، و أمّا الأدب فلم یجاره فی میدانه أحد، و لا استولی علی إحسانه فیه حصر و لا حدّ، و جدّه أبو الحجاج الأعلم هو خلّد منه ما خلّد، و منه تقلّد ما تقلّد، و قد أثبتّ لأبی الفضل هذا ما یسقیک ماء الفضل زلالا، و یریک سحر البیان حلالا، فمن ذلک ما کتب به إلیّ، و قد مرت علی شنت مریة بعد ما رحل عنها و انتقل، و اعتقل من نوانا و بیننا ما اعتقل، و شنت مریة هذه داره، و بها
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 402
کمل خلاله و إبداره، و فیها استقضی، و شیم مضاؤه و انتضی، فالتقینا بها علی ظهر، و تعاطینا ذکر ذلک الدهر، فجددت من شوقه، ما کان قد شبّ علی طوقه، فرامنی علی الإقامة، و سامنی علی ذلک بکلّ کرامة، فأبیت إلّا النوی، و انثنیت عن الثّوی، فودعنی، و دفع إلیّ تلک القطعة حین شیّعنی: [الکامل]
بشرای أطلعت السعود علی آفاق أنسی بدرها کملا
و کسا أدیم الأرض منه سنا فکست بسائطها به حللا
إیه أبا نصر، و کم زمن قصر ادکارک عندی الأملا
هل تذکرن و العهد یخجلنی هل تذکرن أیامنا الأولا
أیام نعثر فی أعنّتنا و نجرّ من أبرادنا خیلا
و نحلّ روض الأنس مؤتنقا و تحلّ شمس مرادنا الحملا
و نری لیالینا مساعفة تدعو رفاقتنا لنا الجفلی
زمن نقول علی تذکره ما تمّ حتی قیل قد رحلا
عرضت لزورتکم و ما عرضت إلّا لتمحق کلّ ما فعلا
و وافیته عشیة من العشایا أیام ائتلافنا، و عودنا إلی مجلس الطلب و اختلافنا، فرأیته مستشرفا متطلّعا، یرتاد موضعا یقیم به لثغور الأنس مرتشفا و لثدیه مرتضعا، فحین مقلنی، تقلّدنی إلیه و اعتقلنی، و ملنا إلی روضة قد سندس الربیع فی بساطها، و دبّج الزهر درانک أوساطها، و أشعرت النفوس فیها بسرورها و انبساطها، فأقمنا بها نتعاطی کؤوس أخبار، و نتهادی أحادیث جهابذة و أحبار، إلی أن نثر زعفران العشی، و أذهب الأنس خوف العالم الوحشی، فقمت و قام، و عوّج الرعب من ألسنتنا ما کان استقام، و قال: [الکامل]
و عشیّة کالسیف إلّا حدّه بسط الربیع بها لنعلی خدّه
عاطیت کأس الأنس فیها واحدا ما ضرّه إن کان جمعا وحده
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 403
و تنزّه یوما بحدیقة من حدائق الحضرة قد اطّرد نهرها، و توقّد زهرها، و الریح یسقطه فینظم بلبّة الماء، و یتبسّم به فتخاله کصفحة خضرة السماء، فقال: [الکامل]
انظر إلی الأزهار کیف تطلّعت بسماوة الروض المجود نجوما
و تساقطت فکأنّ مسترقا دنا للسّمع فانقضّت علیه رجوما
و إلی مسیل الماء قد رقمت به صنع الریاح من الحباب رقوما
ترمی الریاح لها نثیر أزاهر فتمدّه فی شاطئیه رقیما
و له یصف قلم یراعة، و برع فی صفته أعظم براعة: [الکامل]
و مهفهف ذلق صلیب المکسر سبب لنیل المطلب المتعذّر
متألّق تنبیک صفرة لونه بقدیم صحبته لآل الأصفر
ما ضرّه أن کان کعب یراعة و بحکمه اطّردت کعوب السّمهری
و له عندما شارف الکهولة، و استأنف قطع صبوة کانت موصولة: [الکامل]
أمّا أنا فقد ارعویت عن الصّبا و عضضت من ندم علیه بنانی
فأطعت نصّاحی و ربّ نصیحة جاؤوا بها فلججت فی العصیان
أیام أسحب من ذیول شبیبتی مرحا و أعثر فی فضول عنانی
و أجلّ کأسی أن تری موضوعة فعلی یدی أو فی یدی ندمانی
أیام أحیا بالغوانی و الغنا و أموت بین الراح و الریحان
فی فتیة فرضوا اتّصال هواهم فمناهم دنّ من الأدنان
هزّت علاهم أریحیّات الصّبا فهی النسیم و هم غصون البان
من کلّ مخلوع الأعنّة لم یبل فی غیّه بمصارف الأزمان
إلی أن قال: و من نثره یصف فرسا: انظر إلیه سلیم الأدیم، کریم القدیم، کأنما نشأ بین الغبراء و الیحموم، نجم إذا بدا، و وهم إذا عدا، یستقبل بغزال، و یستدبر برال، و یتحلّی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 404
بشیات تقسیمات الجمال.
و له یصف سرجا: بزة جیاد، و مرکب أجواد، جمیل الظاهر، رحیب ما بین القادمة و الآخر، کأنما قدّ من الخدود أدیمه، و اختصّ بإتقان الحبک تقویمه.
و له فی وصف لجام: متناسب الأشلاء، صریح الانتماء، إلی ثریّا السماء، فکلّه نکال، و سائره جمال.
و له فی وصف رمح: مطّرد الکعوب، صحیح اتّصال الغالب و المغلوب، أخ ینوب کلّما استنیب و یصیب.
و له فی وصف قمیص: کافوریّ الأدیم، بابلیّ الرسوم، تباشر منه الجسوم، ما یباشر الروض من النسیم.
و له فی وصف بغل: مترف النسب، مستخبر الشرف، آمن الکبب، إن رکب امتنع اعتماله، أو وکب استقلّ به أخواله.
و له فی وصف حمار: وثیق المفاصل، عتیق النهضة إذا ونت المراسل، انتهی ببعض اختصار.

[الرمادی: ترجمته و بعض شعره]

و قال الأدیب الشاعر أبو عمر یوسف بن هارون الکندی، المعروف بالرمادی: [الکامل]
أومی لتقبیل البساط خنوعا فوضعت خدّی فی التراب خضوعا
ما کان مذهبه الخنوع لعبده إلّا زیادة قلبه تقطیعا
قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلّما یمنن علیّ بردّه مصدوعا
العبد قد یعصی، و أحلف أننی ما کنت إلّا سامعا و مطیعا
مولای یحیی فی حیاة کاسمه و أنا أموت صبابة و ولوعا
لا تنکروا غیث الدموع فکلّ ما ینحلّ من جسمی یکون دموعا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 405
و الرمادی المذکور عرّف به غیر واحد، منهم الحافظ أبو عبد اللّه الحمیدی فی کتابه «جذوة المقتبس» و قال: أظن أن أحد آبائه کان من أهل الرمادة و هی موضع بالمغرب، و هو قرطبی، کثیر الشعر، سریع القول، مشهور عند الخاصّة و العامة هنالک، لسلوکه فی فنون من المنظوم و المنثور مسالک، حتی کان کثیر من شیوخ الأدب فی وقته یقولون: فتح الشعر بکندة، و ختم بکندة، یعنون امرأ القیس و المتنبی و یوسف بن هارون، علی أنّ فی کون المتنبی من کندة القبیلة کلاما مشهورا.
و أخذ أبو عمر بن عبد البر عن الرمادی هذا قطعة من شعره، و ضمّنها بعض تألیفه.
قال ابن حیان: توفی الرمادی سنة 403، و ذکر ابن سعید فی «المغرب» أن الرمادی اکتسب صناعة الأدب من شیخه أبی بکر یحیی بن هذیل الکفیف عالم أدباء الأندلس، و هو القائل رحمه اللّه تعالی: [الخفیف]
لا تلمنی علی الوقوف بدار أهلها صیّروا السقام ضجیعی
جعلوا لی إلی هواهم سبیلا ثم سدّوا علیّ باب الرجوع
و روی الرمادی عن أبی علیّ کتاب «النوادر» و مدح أبا علی بقصیدة کما أشرنا إلیه فی غیر هذا الموضع.
و قال فی المطمح: إنه شاعر مفلق، انفرج له من الصناعة المغلق، و ومض له برقها المؤتلق. و سال بها طبعه کالماء المندفق، فأجمع علی تفضیله المختلف و المتّفق، فتارة یحزن و أخری یسهل، و فی کلتاهما بالبدیع یعلّ و ینهل، فاشتهر عند الخاصّة و العامّة بانطباعه فی الفریقین، و إبداعه فی الطریقین، و کان هو و أبو الطیب متعاصرین، و علی الصناعة متغایرین، و کلاهما من کندة، و ما منها إلّا من اقتدح فی الإحسان زنده، و تمادی بأبی عمر، طلق العمر، حتی أفرده صاحبه و ندیمه، و هریق شبابه و استشن أدیمه، ففارق تلک الأیام و بهجتها، و أدرک الفتنة فخاض لجّتها، و أقام فرقا من هیجانها شرقا بأشجانها، و لحقته فیها فاقة
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 406
نهکته، و بعدت عنه الإفاقة حتی أهلکته، و قد أثبتّ من محاسنه ما یعجبک سرده، و لا یمکنک نقده، فمن ذلک قوله: [البسیط]
شطّت نواهم بشمس فی هوادجهم لو لا تلألؤها فی لیلهنّ عشوا
شکت محاسنها عینی و قد غدرت لأنها بضمیر القلب تنخمش
شعر و وجه تباری فی اختلافهما بحسن هذا و ذاک الروم و الحبش
شککت فی سقمی منها أفی فرشی منها تنکست و إلّا الطیف و الفرش
إلی أن قال: و کان کلفا بفتی نصرانی استسهل لباس زنّاره، و الخلود معه فی ناره و خلع بروده لمسوحه، و تسوغ الأخذ عن مسیحه، و راح فی بیعته، و غدا من شیعته، و لم یشرب نصیبه، حتی حطّ علیه صلیبه، فقال: [الوافر]
أدرها مثل ریقک ثم صلّب کعادتهم علی و همی و کاسی
فیقضی ما أمرت به اجتلابا لمسروری و زاد خضوع راسی
و له فی مثله: [مجزوء الکامل]
و رأیت فوق النّحر در عا فاقعا من زعفران
فزجرته لونا سقا می‌بالنوی و الزّجر شانی
یا من نأی عنّی کما تنأی العیون الفرقدان
فأری بعینی الفرقدی ن و لا أراه و لا یرانی
لا قدّرت لک أوبة حتی یؤوب القارظان
هل ثم إلّا الموت فر دا لا تکون منیّتان
و له أیضا: [الخفیف]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 407
اشرب الکاس یا نصیر و هات إنّ هذا النهار من حسناتی
بأبی غرّة تری الشخص فیها فی صفاء أصفی من المرآة
تنزح الناس نحوها بازدحام کازدحام الحجیج فی عرفات
هاتها یا نصیر إنّا اجتمعنا بقلوب فی الدین مختلفات
إنما نحن فی مجالس لهو نشرب الراح ثم أنت مواتی
فإذا ما انقضت دیانة ذا الله و اعتمدنا مواضع الصلوات
لو مضی الدهر دون راح و قصف لعددنا هذا من السیئات
و شاعت عنه أشعار فی دولة الخلافة و أهلها، سدّد إلیهم صائبات نبلها، و سقاهم کؤوس نهلها، أوغرت علیه الصّدور، و نعرت علیه المنایا و لکن لم یساعدها المقدور، فسجنه الخلیفة دهرا، و أسکنه من النکبة و عرا، فاستعطفه أثناء ذلک و استلطفه، و أجناه کل زهر من الإحسان و أقطفه، فما أصغی إلیه، و لا ألغی موجدته علیه، و له فی السجن أشعار صرّح فیها ببثّه، و أفصح فیها عن جلّ الخطب لفقد صبره و نکثه، فمن ذلک قوله: [الطویل]
لک الأمن من شجو یزید تشوقی
و منها:
فوافوا بنا الزهراء فی حال خالع ال أئمّة لاستیفائهم فی التوثّق
و حولی من أهل التأدّب مأتم و لا جؤذر إلّا بثوب مشقّق
فلو أنّ فی عینی الحمام کروضها و إن کان فی ألوانه غیر مشفق
و نادی حمامی مهجتی لتقلقلت فهلّا أجابت و هو عندی بمحنق
أعینیّ إن کانت لدمعک فضلة تثبّت صبری ساعة فتدفّقی
فلو ساعدت قالت أمن قلّة الأسی تنقت دموعی أم من البحر تستقی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 408
و منها:
و قالت تظنّ الدهر یجمع بیننا فقلت لها من لی بظنّ محقّق
و لکننی فیما زجرت بمقلتی زجرت اجتماع الشمل بعد التفرّق
فقد کانت الأشفار فی مثل بعدنا فلمّا التقت بالطیف قالت سنلتقی
أ باکیة یوما و لم یأت وقته سینفد قبل الیوم دمعک فارفقی
إلی أن قال: و له أیضا: [الطویل]
علی کمدی تهمی السحاب و تذرف و من جزعی تبکی الحمام و تهتف
کأنّ السحاب الواکفات غواسلی و تلک علی فقدی نوائح هتّف
ألا ظعنت لیلی و بان قطینها و لکننی باق فلوموا و عنّفوا
و آنست فی وجه الصباح لبینها نحولا کأنّ الصبح مثلی مدنف
و أقرب عهد رشفة بلّت الحشا فعاد شتاء باردا و هو صیّف
و کانت علی خوف فولّت کأنها من الرّدف فی قید الخلاخل ترسف
و له: [السریع]
قبّلته قدّام قسّیسه شربت کاسات بتقدیسه
یقرع قلبی عند ذکری له من فرط شوقی قرع ناقوسه
و سجن معه غلام من أولاد العبیدیّ فیه مجال، و فی نفس متأمّله من لوعته أوجال، فکتب یخاطب الموکل بالسجن بقطعة منها: [الطویل]
حبیسک ممّن أتلف الحبّ عقله و یلذع قلبی حرقة دونها الجمر
هلال و فی غیر السماء طلوعه وریم و لکن لیس مسکنه القفر
تأمّلت عینیه فخامرنی السکر و لا شکّ فی أنّ العیون هی الخمر
أناطقه کیما یقول، و إنما أناطقه عمدا لینتثر الدّرّ
أنا عبده و هو الملیک کما اسمه فلی منه شطر کامل و له شطر
انتهی باختصار.
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 409

[ابن هانی‌ء: ترجمته و بعض شعره]

و قال محمد بن هانی‌ء: [الخفیف]
قد مررنا علی مغانیک تلک فرأینا بها مشابه منک
عارضتنا المها الخرائد سربا عند أجراعها فلم نسل عنک
لا یرع للمها بذکرک سرب أشبهتک فی الوصف إن لم تکنک
کن عذیری لقد رأیت معاجی یوم تبکی بالجزع ولهی و أبکی
بحنین مرجّع و تشکّ و أنین موجع کتشکّی
و قال صاحب المطمح فی حقّه: الأدیب أبو القاسم محمد بن هانی‌ء، ذخر خطیر، و روض أدب مطیر، غاص فی طلب الغریب حتی أخرج درّه المکنون، و بهرج بافتنانه فیه کلّ الفنون، و له نظم تتمنّی الثریا أن تتوّج به و تتقلّد، و یودّ البدر أن یکتب ما اخترع فیه و ولّد، زهت به الأندلس و تاهت، و حاسنت ببدائعه الأشمس و باهت، فحسد المغرب فیه المشرق، و غصّ به من بالعراق و شرق، غیر أنه نبت به أکنافها، و شمخت علیه آنافها، و برئت منه، و زویت الخیرات فیها عنه، لأنه سلک مسلک المعرّی، و تجرّد من التدین و عری، و أبدی الغلوّ، و تعدّی الحقّ المجلوّ، فمجّته الأنفس، و أزعجته الأندلس، فخرج علی غیر اختیار، و ما عرّج علی هذه الدیار، إلی أن وصل الزاب و اتّصل بجعفر بن الأندلسیة، مأوی تلک الجنسیة، فناهیک من سعد ورد علیه فکرع، و من باب ولج فیه و ما قرع، فاسترجع عنده شبابه، و انتجع وبله و ربابه، و تلقّاه بتأهیل و رحب، و سقاه صوب تلک السّحب، فأفرط فی مدحه فیه فی الغلوّ و زاد، و فرّغ عنده تلک المزاد، و لم یتورّع، و لا ثناه ذو ورع، و له بدائع یتحیّر فیها و یحار، و یخال لرقّتها أنها أسحار، فإنه اعتمد التهذیب و التحریر، و اتّبع فی أغراضه الفرزدق مع جریر، و أما تشبیهاته فخرق فیها المعتاد، و ما شاء منها اقتاد، و قد أثبتّ له ما تحنّ له الأسماع، و لا تتمکّن منه الأطماع، فمن ذلک قوله: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 410
ألیلتنا إذ أرسلت واردا وحفا و بتنا نری الجوزاء فی أذنها شنفا
و بات لنا ساق یقوم علی الدّجی بشمعة صبح لا تقطّ و لا تطفا
أغنّ غضیض خفّف اللّین قدّه و ثقّلت الصهباء أجفانه الوطفا
و لم یبق إرعاش المدام له یدا و لم یبق إعنات التثنّی له عطفا
نزیف نضاه السکر إلّا ارتجاجة إذا کلّ عنها الخصر حمّلها الرّدفا
یقولون حقف فوقه خیزرانة أما یعرفون الخیزرانة و الحقفا
جعلنا حشایانا ثیاب مدامنا و قدّت لنا الأزهار من جلدها لحفا
فمن کبد توحی إلی کبد هوی و من شفة تؤوی إلی شفة رشفا
و منها:
کأنّ السّماکین اللّذین تراهما علی لبدتیه ضامنان له حتفا
فذا رامح یهوی إلیه سنانه و ذا أعزل قد عضّ أنمله لهفا
کأنّ سهیلا فی مطالع أفقه مفارق إلف لم یجد بعده إلفا
کأنّ بنی نعش و نعشا مطافل بوجرة قد أضللن فی مهمه خشفا
کأنّ سهاها عاشق بین عوّد فآونة یبدو و آونة یخفی
کأنّ قدامی النّسر و النّسر واقع قصصن فلم تسم الخوافی له ضعفا
کأنّ أخاه حین حوّم طائر أتی دون نصف البدر فاختطف النصفا
کأنّ ظلام اللیل إذ مال میلة صریع مدام بات یشربها صرفا
کأنّ عمود الصبح خاقان معشر من الترک نادی بالنجاشیّ فاستخفی
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 411
کأن لواء الشمس غرة جعفر رأی القرن فازدادت طلاقته ضعفا
و له أیضا: [الکامل]
فتقت لکم ریح الجلاد بعنبر و أمدّکم فلق الصباح المسفر
و جنیتم ثمر الوقائع یانعا بالنصر من ورق الحدید الأخضر
أبنی العوالی السمهریّة و السیو ف المشرفیّة و العدید الأکثر
من منکم الملک المطاع کأنه تحت السوابغ تبّع فی حمیر
جیش تعدّ له اللیوث و فوقها کالغیل من قصب الوشیج الأخضر
و کأنما سلب القشاعم ریشها ممّا یشقّ من العجاج الأکدر
لحق القبول مع الدّبور و سار فی جمع الهرقل و عزمة الإسکندر
فی فتیة صدأ الحدید لباسهم فی عبقریّ البیض جنّة عبقر
و کفاه من حبّ السماحة أنه منها بموضع مقلة من محجر
و منها:
نعماؤه من رحمة، و لباسه من جنّة، و عطاؤه من کوثر
و له أیضا من قصیدة فی جعفر بن علی: [الطویل]
ألا أیها الوادی المقدّس بالندی و أهل الندی قلبی إلیک مشوق
و یا أیها القصر المنیف قبابه علی الزاب لا یسدد إلیک طریق
و یا ملک الزاب الرفیع عماده بقیت لجمع المجد و هو فریق
فما أنس لا أنس الأمیر إذا غدا یروع بحور ملکه و یروق
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 412
فللجود مجری من صفیحة وجهه إذا کان من ذاک الجبین شروق
و هزّته للمجد حتی کأنما جرت فی سجایاه العذاب رحیق
أما و أبی تلک الشمائل إنها دلیل علی أنّ النّجار عتیق
فکیف بصبر النفس عنه و دونه من الأرض مغبّرّ الفجاج عمیق
فکن کیف شاء الناس أو شئت دائما فلیس لهذا الملک غیرک فوق
و لا تشکر الدنیا علی نیل رتبة فما نلتها إلّا و أنت حقیق
و له من أخری: [الطویل]
خلیلیّ، أین الزاب منی و جعفر و جنّات عدن بنت عنها و کوثر
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص412
فقبلی نأی عن جنّة الخلد آدم فلما راقه من جانب الأرض منظر
لقد سرّنی أنی أمرّ بباله فیخبرنی عنه بذلک مخبر
و قد ساءنی أنی أراه ببلدة بها منسک منه عظیم و مشعر
و قد کان لی منه شفیع مشفّع به یمحص اللّه الذنوب و یغفر
أتی الناس أفواجا إلیک کأنما من الزاب بیت أو من الزاب محشر
فأنت لمن قد مزّق اللّه شمله و معشره و الأهل أهل و معشر
و له أیضا: [الطویل]
ألا طرقتنا و النجوم رکود و فی الحیّ أیقاظ و نحن هجود
و قد أعجل الفجر الملمّع خطوها و فی أخریات اللیل منه عمود
سرت عاطلا غضبی علی الدّرّ وحده و لم یدر نحر ما دهاه وجید
فما برحت إلّا و من سلک أدمعی قلائد فی لبّاتها و عقود
و یا حسنها فی یوم نضّت سوالفا تروغ إلی أترابها و تحید
أ لم یأتها أنّا کبرنا عن الصّبا و أنا بلینا و الزمان جدید
و لا کاللیالی ما لهنّ مواثق و لا کالغوانی ما لهنّ عهود
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 413
و لا کالمعزّ ابن النبیّ خلیفة له اللّه بالفخر المبین شهید
و له من قصیدة یمدح بها یحیی بن علی بن رمان: [الطویل]
قفا بی فلا مسری سرینا و لا نسری و إلّا نری مشی القطا الوارد الکدر
قفا نتبیّن أین ذا البرق منهم و من أین تأتی الریح طیبة النّشر
لعلّ ثری الوادی الذی کنت مرّة أزورهم فیه تضوّع للسّفر
و إلّا فما واد یسیل بعنبر و إلّا فما تدری الرکاب و لا ندری
أکلّ کناس بالصریم تظنّه کناس الظباء الدّعج و الشّدن العفر
و هل عجبوا أنی أسائل عنهم و هم بین أحناء الجوانح و الصّدر
و هل علموا أنی أیمّم أرضهم و مالی بها غیر التعسّف من خبر
و لی سکن تأتی الحوادث دونه فیبعد عن عینی و یقرب من فکری
إذا ذکرته النفس جاشت بذکره کما عثر الساقی بجام من الخمر
فلا تسألانی عن زمانی الذی خلا فوالعصر إنی قبل یحیی لفی خسر
و آلیت لا أعطی الزمان مقادتی علی مثل یحیی ثم أغضی علی الوتر
حنینی إلیه ظاعنا و مخیّما و لیس حنین الطیر إلّا إلی الوکر
و له من قصیدة: [الکامل]
فتکات طرفک أم سیوف أبیک و کؤوس خمرک أم مراشف فیک
أجلاد مرهفة و فتک محاجر لا أنت راحمة و لا أهلوک
یا بنت ذی السیف الطویل نجاده أکذا یجوز الحکم فی نادیک
عیناک أم مغناک موعدنا، و فی وادی الکری ألقاک أم وادیک
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 414
و له أیضا: [الکامل]
أحبب بهاتیک القباب قبابا لا بالحداة و لا الرکاب رکابا
فیها قلوب العاشقین تخالها عنما بأیدی البیض أو عنّابا
و اللّه لو لا أن یعنّفنی الهوی و یقول بعض العاذلین تصابی
لکسرت دملجها بضیق عناقها و رشفت من فیها البرود رضابا
بنتم فلو لا أن أغیّر لمّتی عبثا و ألقاکم علیّ غضابا
لخضبت شیبا فی مفارق لمتی و محوت محو النّقس عنه شبابا
و خضبت مبیضّ الحداد علیکم لو أننی أجد البیاض خضابا
و إذا أردت علی المشیب وفادة فاحثث مطیّک دونه الأحقابا
فلتأخذنّ من الزمان حمامة و لتدفعنّ إلی الزمان غرابا
و منها:
قد طیّب الأقطار طیب ثنائه من أجل ذا نجد الثغور عذابا
لم تدننی أرض إلیک و إنما جئت السماء ففتحت أبوابا
و رأیت حولی وفد کلّ قبیلة حتّی توهّمت العراق الزبا
أرض وطئت الدّرّ من رضراضها و المسک تربا و الریاض جنابا
و رأیت أجبل أرضها منقادة فحسبتها مدّت إلیک رقابا
سدّ الإمام بک الثغور و قبله هزم النبیّ بقومک الأحزابا
و قال ابن هانی‌ء یصف الأسطول: [الطویل]
معطّفة الأعناق نحو متونها کما نبّهت أیدی الحواة الأفاعیا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 415
إذا ما وردن الماء شوقا لبرده صدرن و لم یشربن غرفا صوادیا
إذا أعملوا فیها المجاذیف سرعة تری عقربا منها علی الماء ماشیا

[أبو أحمد بن فرج الجیانی: ترجمته و بعض شعره]

و قال الأدیب أبو عمر أحمد بن فرج الجیّانی رحمه اللّه تعالی: [الوافر]
و طائعة الوصال عدوت عنها و ما الشیطان فیها بالمطاع
بدت فی اللیل ساترة ظلام ال دّیاجی منه سافرة القناع
و ما من لحظة إلّا و فیها إلی فتن القلوب لها دواعی
فملّکت النّهی جمحات شوقی لأجری بالعفاف علی طباعی
و بتّ بها مبیت الطفل یظما فیمنعه الفطام عن الرّضاع
کذاک الروض لیس به لمثلی سوی نظر و شمّ من متاع
و لست من السوائم مهملات فأتّخذ الریاض من المراعی
و قال: [مخلع البسیط]
للروض حسن فقف علیه و اصرف عنان الهوی إلیه
أما تری نرجسا نضیرا یرنو إلیه بمقلتیه
نشر حبیبی علی رباه و صفرتی فوق و جنتیه
و قال: [الطویل]
بمهلکة یستهلک الحمد عفوها و یترک شمل العزم و هو مبدّد
تری عاصف الأرواح فیها کأنها من الأین تمشی ظالع أو مقیّد
و قال فی المطمح: محرز الخصل، مبرّز فی کل معنی و فصل، متمیز بالإحسان، منتم إلی فئة البیان، ذکی الخلد مع قوة العارضة، و المنّة الناهضة، حضر مجلس بعض القضاة و کان مشتهر الضّبط، منتصرا لمن انبسط فیه بعض البسط، حتی إنّ أهله لا یتکلّمون فیه إلّا
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 416
رمزا، و لا یخاطبون إلّا إیماء فلا تسمع لهم رکزا، فکلّم فیه خصما له کلاما استطال به علیه لفضل بیانه، و طلاقة لسانه، ففارق عادة المجلس فی رفض الأنفه، و خفض الحجّة المؤتنفة، و هزّ عطفه و حسر عن ساعده، و أشار بیده، مادا بها لوجه خصمه، خارجا عن حدّ المجلس و رسمه، فهمّ الأعوان بتقویمه و تثقیفه، و وزعهم رهبة منه و خشیة، حتی تناوله القاضی بنفسه، و قال له: مهلا، عافاک اللّه، اخفض صوتک، و اقبض یدک، و لا تفارق مرکزک، و لا تعد حقّک، و أقصر عن إدلالک، فقال له: مهلا یا قاضی، أمن المخدّرات أنا فأخفض صوتی و أستر یدی، و أغطی معاصمی لدیک؟ أم من الأنبیاء أنت فلا یجهر بالقول عندک؟ و ذلک لم یجعله اللّه تعالی إلّا لرسوله علیه الصلاة و السلام، لقول اللّه تعالی یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَکُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِیِ [سورة الحجرات، الآیة: 2]- إلی قوله: تَشْعُرُونَ [سورة الحجرات، الآیة: 2] و لست به و لا کرامة، و قد ذکر اللّه تعالی أنّ النفوس تجادل فی القیامة فی موقف الهول الذی لا یعدله مقام، و لا یشبه انتقامه انتقام، فقال تعالی یَوْمَ تَأْتِی کُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [سورة النحل، الآیة: 111]- إلی قوله تعالی: وَ هُمْ لا یُظْلَمُونَ [سورة النحل، الآیة:
111] لقد تعدیت طورک، و علوت فی منزلک، و إنما البیان، بعبارة اللسان، و بالنطق یستبین الحقّ من الباطل، و لا بدّ فی الخصام، من إفصاح الکلام. و قام و انصرف. فبهت القاضی، و لم یحر جوابا، و کان فی الدولة صدرا من أعیانها، و ناسق درر تبیانها، نفق فی سوقها و صنّف، و قرّط محاسنها و شنّف، و له الکتاب الرائق، المسمّی بالحدائق، و أدرکه فی الدولة سعی، و رفض له فیها الرّعی، و اعتقله الخلیفة و أوثقه فی مکان أخیه فلم یومض له عفو، و لم یشبّ کدر حاله صفو، حتی قضی معتقلا، و نعی للنائبات نعیا مثکلا، و له فی السجن أشعار کثیرة، و أقوال مبدعات منیرة، فمن ذلک ما أنشده ابن حزم یصف خیالا طرقه، بعد ما أسهره الوجد و أرّقه: [الوافر]
بأیّهما أنا فی الشّکر بادی بشکر الطّیف أم شکر الرقاد
سری و ازداد فی أملی و لکن عففت فلم أجد منه مرادی
و ما فی النوم من حرج و لکن جریت من العفاف علی اعتیادی‌

[أبو عبد اللّه محمد بن الحداد: ترجمته و بعض شعره]

و قال الشاعر المشهور أبو عبد اللّه محمد بن الحدّاد: [البسیط]
یا غائبا، خطرات القلب محضره الصّبر بعدک شی‌ء لست أقدره
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 417
ترکت قلبی و أشواقی تفطّره و دمع عینی و أحداقی تحدّره
لو کنت تبصر فی تدمیر حالتنا إذن لأشفقت مما کنت تبصره
فالعین دونک لا تحلی بلذّتها و الدّهر بعدک لا یصفو تکدّره
أخفی اشتیاقی و ما أطویه من أسف عن البریة و الأنفاس تظهره
قال فی المطمح: هو شاعر مادح، و علی أیک الندی صادح، لم ینطقه إلّا معن أو صمادح، فلم یرم مثواهما، و لم ینتجع سواهما، و اقتصر علی المریة، و اختصر قطع المهامه و خوض البرّیّة، فعکف فیها ینثر درره فی ذلک المنتدی، و یرشف أبدا ثغور ذلک النّدی، مع تمیّزه بالعلم، و تحیّزه إلی فئة الوقار و الحلم، و انتمائه إلی آیة سلف، و مذهبه مذاهب أهل الشّرف، و کان له لسن و رواء یشهدان له بالنباهة، و یقلّدان کاهله ما شاء من الوجاهة، و قد أثبتّ له بعض ما قذفه من درره، وفاه به من محاسن غرره؛ فمن ذلک قوله: [الطویل]
إلی الموت رجعی بعد حین فإن أمت فقد خلّدت خلد الزمان مناقبی
و ذکرای فی الآفاق طیبا کأنها بکلّ لسان طیب عذراء کاعب
ففی أیّ علم لم تبرّز سوابقی و فی أیّ فنّ لم تبرّز کتائبی
و حضر مجلس المعتصم بحضور ابن اللبّانة فأنشد فیه قصیدا أبرز به من عرا الإحسان ما لم ینفصم و استمرّ فیها یکمل بدائعها و قوافیها، فإذا هو قد أغار علی قصید ابن الحداد الذی أوّله: [الکامل]
عج بالحمی حیث الظّباء العین
فقال ابن الحداد مرتجلا: [الکامل]
حاشا لعدلک یا ابن معن أن یری فی سلک غیری درّی المکنون
و إلیکها تشکو استلاب مطیّها: عج بالحمی حیث الظّباء العین
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 418
فاحکم لها و اقطع لسانا لا یدا فلسان من سرق القریض یمین
و له: [مجزوء الکامل]
إنّ المدامع و الزّفیر قد أعلنا ما فی الضّمیر
فعلام أخفی ظاهرا سقمی علیّ به ظهیر
هب لی الرّضا من ساخط قلبی بساحته الأسیر
و له أیضا: [مجزوء الرمل]
أیّها الواصل هجری أنا فی هجران صبری
لیت شعری أیّ نفع لک فی إدمان ضرّی
و له أیضا: [البسیط]
یا مشبه الملک الجعدیّ تسمیة و مخجل القمر البدریّ أنوارا
و له: [الطویل]
تطالبنی نفسی بما فیه صونها فأعصی، و یسطو شوقها فأطیعها
و و اللّه ما یخفی علیّ ضلالها و لکنها تهوی فلا أستطیعها
و قال: [الطویل]
بخافقة القرطین قلبک خافق و عن خرس القلبین دمعک ناطق
و فی مشرق الصّدغین للبدر مغرب و للفکر إظلام و للعین شارق
و بین حصا الیاقوت ماء وسامة محلّأة عنه الظّباء السوابق
و حشو قباب الرّقم أحوی مقرطق کما آس روض عطفه و القراطق
انتهی باختصار.

[الأسعد بن بلیطة: ترجمته و بعض شعره]

و قال الأسعد بن بلیطة: [الطویل]
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 419
برامة ریم زارنی بعدما شطّا تقنّصته بالحلم فی الشّطّ فاشتطّا
رعی من أفانین الهوی ثمر الحشا جنیا و لم یرع العهود و لا الشرطا
خیال لمرقوم غریر برامة تأوبنی بالرقمتین لدی الأرطی
فألثمنی من خدّها روضة الجنی و ألذعنی من صدغها حیة رقطا
و باتت ذراعاها نجادا لعاتقی إذا التقتا بالحلی غنی لها لغطا
و سلّ اهتصاری غصنها من مخصّر طواه الضنی طیّ الطوامیر فامتطّا
و قد غاب کحل اللیل فی دمع فجره إلی أن تبدّی الصبح فی اللّمّة الشمطا
و منها فی وصف الدیک:
و قام لها ینعی الدجی ذو شقیقة یدیر لنا من عین أجفانه سقطا
إذا صاح أصخی سمعه لأذانه و بادر ضربا من قوادمه الإبطا
کأنّ أنوشروان أعلاه تاجه و ناطت علیه کفّ ماریة القرطا
سبی حلّة الطاووس حسن لباسها و لم یکفه حتی سبی المشیة البطّا
و من غزلها:
غلامیّة جاءت و قد جعل الدجی لخاتم فیها فصّ غالیة خطّا
فقلت أحاجیها بما فی جفونها و ما فی الشفاه اللّعس من حسنها المعطی
مخمرة العینین من غیر سکرة متی شربت ألحاظ عینیک إسفنطا
أری نکهة المسواک فی حمرة اللّمی و شاربک المخضرّ بالمسک قد خطّا
عسی قزح قبّلته فإخاله علی الشفة اللمیاء قد جاء مختطّا
و قال فی المطمح فی تحلیة الأسعد: إنه سرد البدائع أحسن السّرد، و افترس المعانی کالأسد الورد و أبرز درر المحاسن من صدفها، و حاز من فخر الإجادة و شرفها، و مدح ملوکا طوّقهم من مدائحه قلائد، و زفّ إلیهم منها خرائد، و جلاها علیهم کواعب، بالألباب
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 420
لواعب، فأسالت العوارف، و ما تقلّص له من الحظوة ظلّ وارف، و قد أثبتّ له ما یعترف بحقّه، و یعرف به مقدار سبقه، فمن ذلک قوله: [الکامل]
لو کنت شاهدنا عشیة أمسنا و المزن یبکینا بعینی مذنب
و الشمس قد مدّت أدیم شعاعها فی الأرض تجنح غیر أن لم تغرب
و قوله: [الکامل]
و تلذّ تعذیبی کأنّک خلتنی عودا فلیس یطیب ما لم یحرق
و هو مأخوذ من قول ابن زیدون: [الطویل]
تظنونی کالعود حقّا و إنما تطیب لکم أنفاسه حین یحرق
انتهی ببعض اختصار.
و قال الأدیب أبو بکر عبادة بن ماء السماء، و هو کما فی المطمح: من فحول الشعراء، و أئمتهم الکبراء، و کان منتجعا بشعره، مسترجعا من صرف دهره، و کانت له همّة أطالت همّه، و أکثرت کمده و غمّه: [الطویل]
یؤرّقنی اللیل الذی أنا نائمه فتجهل ما ألقی و طرفک عالمه
و فی الهودج المرقوم وجه طوی الغشا عن الحسن فیه الحسن قد حار راقمه
إذا شاء وقفا أرسل الحسن فرعه یضلّهم عن منهج القصد فاحمه
أظلما رأوا تقلیده الدّرّ أم زروا بتلک اللآلی أنهنّ تمائمه
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 421

فهرس الرسائل و الخطب و المراجعات للجزء الرابع من کتاب نفح الطیب‌

رسالة ابن حزم فی فضائل الأندلسیین 4/ 7
رسالة الشقندی فی فضل الأندلس و الأندلسیین 4/ 27
ابن الجفان، أبو الولید رسالة یستدعی فیها بعض إخوانه 4/ 16
ابن الربیب: رسالته إلی أبی المغیرة ابن حزم حول إهمال الأندلسیین لتراثهم 4/ 7
ابن سعید، أبو الحسن: تذییله علی رسالة ابن حزم فی فضل الأندلس 4/ 22
ابن الفخار، أبو عبد اللّه خطبته فی الدفاع عن القاضی التوحیدی 4/ 192
ابن الفراء، أبو عبد اللّه: رسالته إلی یوسف بن تاشفین 4/ 187
ابن غانم: جوابه علی رسالة وصلته من هاشم بن عبد العزیز 4/ 176
أبو محمد عبد الرحمن المعافری الوزیر: رسالة منه إلی الفتح بن خاقان 4/ 63
أبو الولید حبیب: رسالته إلی أبیه 4/ 220
ابن خفاجة، أبو إسحاق رسالة إلی من بقل عذاره 4/ 247
ابن اللمائی: قطعة من رسالة له 4/ 320
أبو أمیة: رسالة إلی ابن عبد الغفور 4/ 325
أبو الفضل ابن الأعلم: نماذج من نثره 4/ 403
أیوب المروانی: رسالته إلی بسام بن شمعون الوشقی 4/ 306
حریز بن عکاشة: رسالة منه إلی الأذفونش 4/ 331
مراجعة لابن ذی النون حول رسالة منه 4/ 332
عبد الحمید بن لاطون: رسالة له علی لسان حریز بن عکاشة 4/ 331
المأمون بن ذی النون: ردّه علی رسالة کتبها عبد الحمید بن لاطون علی لسان حریز 4/ 331
المنذر المروانی: رسالته إلی أبیه 4/ 346
یحیی بن یطفت: رسالته إلی ابن هود 4/ 333
علی بن خیر التطیلی: رسالته إلی أبی عبد الصمد السرقسطی 4/ 201
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 422

فهرس موضوعات الجزء الرابع‌

من کتاب نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب للمقرّی الباب السابع فی نبذة مما منّ اللّه به علی أهل الأندلس 3
ابن غالب یذکر فضائل الأندلس و الأندلسیین فی کتابه «فرحة الأنفس». ابن غالب یذکر فضائل الأندلس و الأندلسیین فی کتابه «فرحة الأنفس». 4
ابن سعید یذکر محاسن الأندلس و الأندلسیین 5
الحمیدی یذکر محاسن الأندلس و الأندلسیین 5
ابن بسام و الحجاری یذکران محاسن الأندلس و الأندلسیین 6
رسالة ابن حزم فی فضائل الأندلسیین 7
تذییل ابن سعید علی رسالة ابن حزم 22
رسالة الشقندی فی فضل الأندلس و الأندلسیین 27
شمائل أهل الأندلس 47
فضائل البلاد 47
إشبیلیته 47
قرطبة 49
جیان 51
غرناطة 51
مالقة 52
المریة 53
مرسیة 53
بلنسیة 54
جزیرة میورقة 54
بعض حکایات الأندلسیین 56
مذهب الأندلسیین 60
من شعر ابن یغمور 61
الوزیر أبو محمد عبد الرحمن بن مالک المعافری 62
بین المعتمد و البطلیوسی النحلی 64
ابن عبد البر یفتی بجواز أکل طعام الأمراء 65
أبو بکر یحیی بن مجیر الفهری 67
من شعر الأندلسیین 69
سرعة ارتجال الأندلسیین 70
بین ابن شهید و ابن أبی عامر 71
ابن شهید عند القاضی ابن ذکوان 72
بین ابن شهید و جماعة من أصحابه 72
بین أبی العلاء بن زهر و ابن رزین 74
عبد اللّه بن عاصم صاحب الشرطة فی قرطبة 74
بین ابن ظافر و الملک الأشرف الأیوبی 75
بعض بدائع ابن ظافر 76
من ارتجال ابن قلاقش الاسکندری 80
عود إلی کلام أهل الأندلس 84
البطلیوسی و أولاد ابن الحاج 107
من ملح أشعار الأندلسیین 108
من ملح ابن الزقاق 109
من ملح السمیسر 110
لابن رزین 111
لسلطان بلنسیة 111
للبطلیوسی المتلمس 111
لابن غالب 112
لابن خرج السمیسر 112
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 423
لابن برد 112
لابن عبدون 112
لأبی الفضل بن حسدای 113
بین ابن عبد ربه و یحیی القلفاط 113
من مروءة ابن جبیر الرحالة 114
من شعر أبی عمران المارتلی الزاهد 114
من شعر أبی الصلب أمیة بن عبد العزیز 115
من شعر ابن خفاجة 116
من مجون أهل الأندلس 116
من شعر ابن خفاجة 120
لابن الأبار 121
ترجمة ابن الأبار 121
لجماعة من شعراء الأندلس 122
أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزیر 123
عود إلی ملح أهل الأندلس 126
أبو أمیة بن عفیرة قاضی إشبیلیة 127
علی بن ظافر و یعقوب 128
من محاسن أبی الحجاج البیاسی 132
ابن صارة و إخوان له 132
بین ابن خفاجة و ابن وهبون 133
ابن خفاجة و أصحاب له 133
بین السمیسر و بعض رؤساء المریة 135
عباد بن الحریش و رجال من سراة أصبهان 135
أبو الصلت و إخوان له 136
للوزیر الوقشی فی غلام أسود 136
أبو یحیی الیکی 137
من شعر ابن مفید 137
لجماعة من أهل الأندلس 137
ابن عمار و غلامان من بنی جهور 138
ابن عمار و ابن معیشة الکنانی 139
ابن عمار و غلام لابن هود 139
المعتصم بن صمادح 140
بعض ما قیل فی البعوض 141
عود إلی أهل الأندلس 142
فی وصف الأهرام 144
فی وصف فرس 144
بکار المروانی 146
محمد بن أیوب المروانی 150
للمطرف بن عمر المروانی 151
بین الأمیر هشام بن عبد الرحمن و أخیه 152
بین سعید بن اضحی و بعض الشعراء 153
لابن خفاجة 153
لأبی بکر محمد بن سهل 154
لابن اللبانة 154
بین الحجاری و القاضی اللوشی 155
بین ابن بقی و التطیلی الأعمی 156
وصف حمام 157
وصف دار جمال الملک البغدادی 158
بعض ما قیل فی الحمام 159
عود إلی ملح أهل الأندلس 160
لابن الزقاق 162
لابن خفاجة 162
لأبی الصلت 162
لیحیی بن هذیل 163
لمهیار الدیلمی 163
لأبی عامر بن شعید 164
لابن شهید یرثی القاضی ابن ذکوان 165
لابن شهید یشکو دهره 166
مرض ابن شهید و آخر شعر قاله 168
بین ابن غصن و ابن ذی النون و ابن هود 168
بین أبی عامر و الرمادی 169
من عدل المعتصم بن صمادح 171
عز الدولة بن المعتصم بن صمادح 172
بین ابن اللبانة و عز الدولة بن المعتصم 173
من شعر عز الدولة بن المعتصم 173
من شعر رفیع الدولة بن المعتصم بن صمادح 173
من شعر أبی جعفر بن المعتصم 174
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 424
لابن زهر 174
لابن شرف 174
لابن خفاجة 174
للبیاسی 174
لابن حریق 175
لأبی الحسن بن الفضل 175
قصة فی الوفاء و القیام بحق الإخاء 175
قصة فی علو الهمة 176
عباس بن فرناس حکیم الأندلس 177
أول من اشتهر فی الأندلس بالحساب و النجوم 178
المشهورون فی الأندلس بالطب و المعالجات 178
مثل من حفظ أهل الأندلس 180
ابن سیده و شی‌ء من شعره 182
المظفر بن الأفطس و حبه للعلم 182
من کبار مؤلفات أهل الأندلس 182
من دعابات أهل الأندلس 182
من شعر ابن الفداء 183
من ملح الزهری خطیب إشبیلیة 184
ابن ورد و أحد الأعیان 185
من ملح ابن الطراوة نحوی المریة 185
مدغلیس صاحب الموشحات و الأزجال 186
لابن الفراء و ترجمته 187
جد ابن الفراء 187
ابن الفراء الأخفش بن میمون 188
ابن مسعود و الطلیق القرشی 189
بین جاریة و شاعر من المریة 190
البیاسی و شیخ ثقیل 190
أبو علی بن حسون قاضی مالقة 191
موقف لابن الفخار 192
لابن شرف 193
ابن شرف الجذامی 195
من شعر الحکیم الفیلسوف أبی الفضل الجذامی 195
أبو عبد اللّه محمد بن معمر ابن أخت غانم 196
بین أبن عبدون و ابن ضابط 197
من شعر غانم المخزومی 197
بین ابن الغلیظ و ابن السراج 198
العطاء المالقی فی وصف غادة 198
أبو القاسم السهیلی 199
بین السهیلی و الرصافی 200
أبو الفضل بن حسدای الوزیر الکاتب 200
أبو الربیع السرقسطی 201
بین علی بن خیر و ابن عبد الصمد السرقسطی 201
قصة من رقة طباع الأندلسیین 202
بین ابن خفاجة و ابن عنق الفضة 203
من شعر أبی بکر بن سدرای الوزیر 205
من شعر مروان بن عبد العزیز ملک بلنسیة 205
من شعر أبی عامر بن الفرج الوزیر 206
من شعر أبی الحسن علی بن حریق 207
لأبی جعفر بن الذهبی 208
بین المعتصم بن صمادح و خلف السمیسر 208
لابن صارة 210
لابن الزقاق 210
من شعر أبی تمام غالب بن رباح الحجام 211
لابن زقاق و ابن مسعدة 214
ابن أزرق 215
لأبی جعفر بن أزرق و أبی القاسم بن أزرق 215
لراشد بن عریف 215
لابن عائش 216
لأبی الحسن بن شعیب 217
لأبی حامد بن شعیب 217
لأبی الحسن بن رجاء 217
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 425
لأبی محمد بن الفتح 217
لأبی مروان بن غصن 218
لإبراهیم الحجاری 219
لابن خیرة 220
لأبی جعفر الإشبیلی 220
للوزیر أبی الولید بن حبیب 220
للوزیر أبی الحسن بن حصن 222
للوزیر ابن طریف 222
لأبی العباس الخزرجی 223
للوزیر أبی سلیمان بن أبی أسیة 223
لأبی علی عمر بن أبی خالد 223
للکاتب عبد اللّه المهیریس 224
للکاتب أبی بکر بن البناء 224
حدیث عن بنی زهر 224
أبو بکر محمد بن عبد الملک بن زهر 226
لأبی الولید بن حزم 226
لابن عبد ربه 227
لأبی عبد اللّه الرندی 227
للمعتمد بن عباد 228
لأبی الفرج الجیانی 228
للرصافی و ابن عبد ربه و ابن صارة و غیرهم 229
لابن شهید 230
فی لبس الأندلسیین البیاض فی الحزن 231
لأبی جعفر بن خاتمة 231
للقسطلی یصف البحر 231
للرمادی یهنئ بمولود 232
لابن صارة یصف النار 232
لابن لبال و ابن شهید 233
لابن هانی‌ء 233
من ابن عمار إلی ابن رزین 234
لابن الجد و ابن عبد ربه و النحلی 234
لابن شهید 234
أبی عمر بن أبی محمد الوزیر 235
بین ابن عیاش و ابن زرقون 236
بین ابن عبد ربه و فتی یهواه 236
لغانم المالقی 236
ابن بقی و الأبیض 236
لابن صارة و عبدون البلنسی 237
الوزیر ابن الحکیم 238
لابن جعفر بن برطال 238
لابن خفاجة 238
لأبی الولید بن الحضرمی 238
لأبی أیوب البطلیوسی 239
أیوب سلیمان بن محمد بن بطال البطلیوسی 240
من شعر إبراهیم البطلیوسی 240
من شعر القلندر البطلیوسی 240
من شعر ابن جاخ الصباغ 240
من شعر الکمیت البطلیوسی 240
من شعر محمد بن البین البطلیوسی 241
بین المتوکل و مضحک یدعی «الخطارة» 242
من شعر أبی زید بن مولود الوزیر 242
من شعر عبد المجید بن عبدون الفهری الیابری 242
ضوابط لحروف الزیادة 243
من شعر عبد اللّه بن اللیث 244
من شعر أبی القاسم بن الأبرشی 245
من شعر أبی الحسین علی بن بسام الشنترینی 245
من شعر عمر بن کوثر 246
من شعر أبی محمد بن سارة 246
من شعر منذر الأشبونی 246
من شعر خلف القطینی 246
من شعر أبی محمد بن السید النحوی 246
من شعر ابن خفاجة 247
من شعر الرصافی 247
من شعر أبی بکر بن حبیش 247
من شعر أبی الحسن بن جابر 248
من شعر أبی بکر أحمد بن محمد الأبیض الإشبیلی 248
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 426
من شعر صفوان 248
من شعر أبی بکر بن یوسف 249
من شعر أبی القاسم القبتوری 249
من شعر أبی الحسن بن الحاج 249
من شعر أحمد بن أمیة البلنسی 249
من شعر ابن برطلة 249
من شعر ابن خروف 249
من شعر أبی بکر بن مالک 250
من شعر أبی الحسن بن حریق 250
من شعر أبی الحسن بن زقاق 250
من شعر أبی بکر بن الجزار السرقسطی 251
من شعر أبی عبد الله الجذامی 251
من شعر سلمة بن أحمد 251
من شعر أبی الحسن بن حزمون 251
من شعر أبی بکر بن مالک 252
من شعر أبی بکر بن مالک 252
من شعر القاضی ابن السلیم 252
من شعر الوزیر ابن أبی الخصال 252
من شعر الرصافی 252
من شعر ابن باجة 253
من شعر أبی العباس أحمد الإشبیلی 253
من شعر ابن زهر الحفید 254
من شعر أبی بکر بن زهر الأصغر 254
من شعر أبی جعفر عمر ابن صاحب الصلاة 255
من شعر أبی بکر محمد ابن صاحب الصلاة فی عمرو بن مذحج 255
من شعر ابن السید البطلیوسی فی عمرو بن مذحج 256
من شعر ابن عبدون 256
جواب عمرو بن مذحج 256
لعمرو بن مذحج فی أبی العلاء بن زهر 257
من شعر محمد بن مذحج 257
من شعر أبی الولید بن مذحج 257
من شعر أبی الحسین بن فندلة 258
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب؛ ج‌4؛ ص426
شعر أبی العباس بن سید فی ابن فندلة 258
من شعر أبی القاسم بن حسان 258
من شعر أبی بکر بن مرتین 259
من شعر القاضی ابن زرقون 259
من شعر أبی عبد اللّه محمد بن عمر الإشبیلی 260
من شعر أبی بکر الزبیدی 260
من شعر أبی بکر بن طلحة الإشبیلی 260
من شعر أبی جعفر بن الأبار الإشبیلی 261
من شعر أبی القاسم العطار الإشبیلی 262
من شعر أبی عمرو الإشبیلی 262
أبو الحسن علی بن جابر الدباج الإشبیلی 262
من شعر مالک بن وهیب الإشبیلی 263
من شعر أبی الصلت أمیة بن عبد العزیز 263
من شعر عبد الرحمن بن سبلاق 267
من شعر أبی بکر محمد بن نصر الإشبیلی 267
من شعر أحمد بن محمد الإشبیلی 267
من شعر ابن الأصبغ بن سید 268
من شعر إبراهیم بن خیرة الصباغ 268
من شعر أبی بکر بن حجاج 268
من شعر أبی عبد اللّه الرصافی 269
من شعر أبی جعفر بن الجزار 269
من شعر أبی جعفر بن البنی 269
من شعر أبی المطرف أحمد بن عمیرة 270
من شعر أبی جعفر أحمد بن طلحة 270
من شعر أبی إسحاق بن خفاجة 271
من شعر أبی بکر محمد بن أحمد الأنصاری المعروف بالأبیض 271
من شعر أبی علی عمر الشلوبین النحوی 273
من شعر أبی إسحاق إبراهیم الإلبیری 273
من شعر أبی بکر بن عبادة القزاز 273
من شعر أبی الحسن بن نزار و خبره 274
بین ابن نزار و أبی جعفر بن سعید 277
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 427
بین ابن نزار و ابن سعید و الکتندی 278
من شعر أبی الأصبغ عبد العزیز بن الأرقم 279
من شعر أبی عامر بن أبی الأصبغ 279
من شعر أبی محمد عبد البر بن فرسان 280
من شعر حاتم بن حاتم العنسی 280
من شعر التطیلی الأعمی 280
ابن ظافر و القاضی المؤید 281
من شعر ابن شعبة الوادی آشی 282
من شعر ابن الحداد الوادی آشی 282
الوزیر الفقیه أبو بلال 285
من شعر ابن البراق 285
من شعر أبی محمد عبد اللّه 286
من شعر علی بن مهلهل الجلیانی 286
من شعر یحیی بن مطروح 286
من شعر أبی بکر محمد بن نصر الأوسی 287
من شعر أبی عبد اللّه محمد بن علی اللوشی 287
من شعر أبی محمد عبد المولی اللوشی و أخباره 288
من شعر حاتم بن سعید 291
من شعر مالک بن محمد بن سعید 291
بین محمد بن غالب و الکتندی و أبی جعفر بن سعید 292
من شعر أبی جعفر بن سعید 294
بین ابن الصابونی و أحد الأدباء 296
من شعر ابن الصابونی و بعض أخباره 297
بین ابن الخصال و القاضی ابن مالک 298
بین أبی بکر بن المنخل و ابنه 298
من شعر ابن المرغوی 299
من شعر نسیم الإسرائیلی 300
من شعر إبراهیم بن سهل الإسرائیلی 300
ترجمة إبراهیم بن سهل الإسرائیلی 300
من توجیهات ابن سهل باصطلاحات النحاة 302
إبراهیم بن الفخار الیهودی 304
بین الیاس بن المدور الیهودی و طبیب آخر 305
قسمونة بنت إسماعیل الشاعرة 306
من شعر أبی عبد اللّه بن رشیق القلعی 307
حدیث عن ابن رشیق القلعی 308
من شعر أبی عیسی لبّ بن عبد الوارث القلعی 308
من شعر جابر بن خلف الفحصی 309
من شعر أبی یحیی بن الرمیمی 310
من شعر أبی بحر یوسف بن عبد الصمد 310
من شعر أبی جعفر أحمد بن عباس الوزیر 311
من شعر أبی بکر التطیلی الأعمی 312
من شعر أبی جعفر أحمد بن الخیال الإستبی 312
من شعر عبد الملک بن سعید الخازن 312
من شعر محمد بن الأستجی (زحکون) 313
من شعر المقدم بن المعافی 313
من شعر عبد الملک بن نظیف 313
من شعر هلال البیانی بن حمدین 314
بین الزجالی و الاسکندرانی الوزیر 315
بین الزجالی و ابنه حامد 315
من شعر الوزیر أبی عبد اللّه بن عبد العزیز و ترجمته 316
من شعر الوزیر أبی الفرج 317
ترجمة الوزیر أبی الفرج 317
من شعر الوزیر أبی عامر بن مسلمة 318
ترجمة الوزیر أبی عامر بن مسلمة 318
من شعر الوزیر أبی حفص أحمد بن برد و ترجمته 319
من شعر الوزیر أبی جعفر اللمائی 320
ترجمة الوزیر حسان بن مالک و بعض شعره 321
ترجمة الوزیر أبی أیوب بن أبی أمیة 323
ترجمة الوزیر أبی القاسم بن عبد الغفور 325
من شعر الوزیر أبی الولید بن حزم 326
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 428
من شعر ابن أبی زمنین و ترجمته 327
من شعر خلف بن هارون یمدح بن حزم 327
ترجمة الحافظ ابن حزم 328
ترجمة أبی عبد اللّه بن مسرة 329
فرار أبی عبد اللّه الخشنی من المناصب 329
من دعابات أهل الأندلس 329
من أجوبة ملوک الأندلس 330
من شجاعة الأندلسیین 330
ترجمة حریز بن عکاشة 331
بین المقتدر و غلام نشأ عنده 333
الأمیر أبو عبد اللّه بن مردنیش 334
من ظرف أهل الأندلس 335
من شعر ابن عبد ربه 336
من سعة اطلاع ابن زیدون 336
من شعر أبی الربیع سلیمان بن علی الشلبی 337
من شعر ابن مهران 337
من شعر ابن السید البطلیوسی 337
من شعر ابن صارة 337
من شعر عبد الملک بن رزین 338
من شعر ابن عبد ربه 338
من أنفة الأندلسیین 338
من کرم الأندلسیین 339
من شعر أبی العرب الصقلی 339
من کرم الوزیر أبی بکر بن عبد العزیز 340
من کرم المعتمد بن عباد 340
من شعر الحجاری 341
من شعر أبی العلاء إدریس بن أزرق 342
من شعر محمد بن هشام المروانی 342
من شعر أحمد بن هشام المروانی 343
علو همة أحمد بن هشام 343
المنذر بن عبد الرحمن الأوسط 344
من شعر المنذر بن عبد الرحمن 345
من کرم نفس المنذر بن عبد الرحمن 345
المطرف بن عبد الرحمن الأوسط 346
من شعر هشام بن عبد الرحمن الأوسط 347
من شعر یعقوب بن عبد الرحمن الأوسط 347
بین الأمیرین محمد و أبان ابنی عبد الرحمن الأسط 348
أبناء محمد بن عبد الرحمن و شی‌ء من شعرهم 348
من شعر محمد بن المنذر بن محمد 349
من شعر عبد اللّه بن الناصر 349
من جود بعض ملوک إفریقیة 350
بین عبد اللّه المروانی و صدیق 350
مقتل عبد اللّه بن الناصر 350
من شعر عبد العزیز بن الناصر 351
من شعر محمد بن الناصر 351
من شعر محمد بن عبد الملک بن الناصر 352
من شعر مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملک 353
من شعر أحمد بن سلیمان بن أحمد 354
من شعر أبی عبد اللّه محمد بن محمد بن الناصر 355
من شعر عبد اللّه بن محمد المهدی (الأقرع) 355
من شعر سلیمان بن المرتضی بن محمد (الغزال) 356
من شعر سعید بن محمد المروانی 357
من شعر القاسم بن محمد المروانی 358
من شعر الأصم المروانی 358
من شعر أحمد المروانی 359
من شعر الأصبغ القرشی 360
من شعر سلیمان بن عبد الملک الأموی 360
من شعر أبی یزید بن العاصی 360
من شعر أبی الحجاج المنصفی 360
بین ابن مرج الکحل و طبیب 361
من شعر أبی محمد غانم بن ولید 361
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 429
من شعر أبی جعفر اللمائی 361
من شعر أبی عامر بن نیق 361
من شعر أبی الحسن اللورقی 362
من شعر أبی عیسی بن لبون 362
من شعر أبی عامر بن الحمارة 362
من شعر أبی العباس بن السعود 362
من شعر الحکم بن علندة 362
من شعر القاضی أبی موسی بن عمران 363
من شعر أبی بکر بن الجزار السرقسطی 363
من شعر أبی محمد بن حزم 363
من شعر ابن صارة 364
من شعر أبی القاسم بن العطار 364
من شعر سهل بن مالک 365
من شعر ابن صارة 365
من شعر صفوان بن إدریس 365
من شعر أبی جعفر بن وضاح 365
من شعر الوزیر ابن عمار 366
من شعر أبی الحسن بن سعد الخیر 366
من شعر ابن أبی الخصال 366
من شعر ابن صارة 366
من شعر الخفاجی 366
من شعر ابن وضاح 367
من شعر ابی اسحاق خولانی 367
من شعر ابن الابار 367
من شعر حازم 367
من شعر ابن سعد الخیر 368
من شعر ابن نزار الوادی آشی 368
من شعر بعضهم فی القراسیا 368
من شعر بعضهم یصف معاهد أنسه 368
من شعر الوزیر محمد بن عبد الرحمن بن هانی‌ء 369
کتاب شذور الذهب لعلی بن موسی 369
مثل من سرعة بدیهة الأندلسیین 369
بین المعتمد بن عباد و ابن جاخ الصباغ 370
بین الوزیر ابن عمار و ابن جاخ الصباغ 370
بین الوزیر ابن عمار و یحیی القصاب 371
بین المتوکل و ابن عبدون 372
بین ابن الغلیظ و ابن السراج 372
بین ابن عبادة و ابن القابلة 372
بین ابن شهید و أبی جعفر وزیر الصقلبی 373
بین ابن عباد و ابنه الرشید 374
بین الفقیه علی بن القاسم و جماعة من أصحابه 374
بین الأمیر عبد الرحمن و عبد اللّه بن الشمر 375
بین الأمیر عبد الرحمن و محمد بن سعید الزجالی 375
بین ابن عباد و ابن المرزبان 376
ابن الصیرفی یزید علی بیت لابن السمط 376
فی حضرة العالی بالله الإدریسی 376
فی حضرة عبد الرحمن بن الحکم 377
فی حضرة المعتمد بن عباد 377
بین المعتمد و الوزیر ابن عمار 378
بین المعتمد بن عباد و ابن حمدیس الصقلی 378
بین عبد الرحمن الناصر و جماعة من خواصه 378
بین ابن صارة و ابن القبطرنة 380
بین أبی بکر بن الزبیدی و أبی الحسن المصحفی 380
من شعر أبی بکر بن الزبیدی 380
بین سهل بن مالک و جماعة من الأدباء 382
بین ابن مطروح البلنسی و أبی الربیع الکلاعی 382
بین ابن حمدون و الشلوبین 383
من عفو المعتصم بن صمادح 383
من شعر أبی عبد اللّه الرصافی 383
من شعر أبی بکر محمد بن یحیی الشلطیشی 384
نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب، ج‌4، ص: 430
من شعر أبی بکر بن العطار الیابسی 384
من شعر محمد بن الحسن الجیلی 384
من شعر محمد بن حرب 384
من شعر محمد بن الیسع 385
من شعر أحمد بن أفلح 385
من شعر أحمد بن تلید 385
من شعر إسحاق بن المنادی 385
من شعر غالب بن عبد اللّه الثغری 386
من شعر الوزیر أبی الحسن الغرناطی 386
من شعر الوزیر أبی عامر بن الحمارة 386
من شعر ابن بقی 386
بین ابن عبادة و ابن القابلة 386
من شعر ابن خروف 387
بین ابن خفاجة و ابن عائشة و ابن الزقاق 387
من شعر أبی بکر بن حبیش 389
من شعر أبی بکر اللخمی 389
بین أبی زید بن أبی العافیة و ابن العطار 389
بین ثلاثة أدباء 390
من شعر أبی إسحاق بن خفیف 391
من شعر أبی الصلت 391
من شعر بعض المغاربة 391
من شعر عبد اللّه القرطبی 391
من شعر ابن هذیل الفزاری 391
من شعر ابن الزقاق 391
من شعر أبی حیان 392
من شعر أبی العباس بن سعید 392
من شعر السمیسر 392
من شعر ابن خفاجة 392
من شعر بعض الأندلسیین 392
من شعر یحیی بن هشام القرطبی 392
من شعر أبی جعفر البلنسی 393
من شعر أبی العباس القیجاطی 393
من شعر أبی العباس المالقی 393
إجازة بین أبی القاسم بن عبد المنعم و أبی عبد اللّه الشاطبی و أبی بکر بن طاهر 394
من شعر أبی بکر بن عبادة 395
من شعر أبی بکر بن قزمان و ترجمته 395
من شعر أبی بکر بن القوطیة 396
من شرع القاضی یونس بن عبد اللّه بن مغیث 396
ترجمة القاضی ابن مغیث 396
من شعر أبی محمد غانم بن الولید المالقی 398
ابن عبد البر- ترجمته و شعره 398
من شعر أبی بکر بن أبی الدوس و أخباره 400
من شعر أبی الفضل بن الأعلم و أخباره 400
الرمادی: ترجمته و بعض شعره 404
ابن هانی‌ء: ترجمته و بعض شعره 409
أبو أحمد بن فرج الجیانی: ترجمته و بعض شعره 415
أبو عبد اللّه محمد بن الحداد: ترجمته و بعض شعره 416
الأسعد بن بلیطة: ترجمته و بعض شعره 418

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.