جامع الافكار وناقد الانظار المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

المحقق: مجيد هاديزاده

الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت

المطبعة: نور حكمت

الطبعة: 1

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1423 ه-.ق

ISBN (ردمك): 964-5616-70-7

المكتبة الإسلامية

المحرّر الرقمي: محمّد علي ملك محمد

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

مجموعه آشنايي با فلسفه اسلامی

18

جامع الافکار وناقد الانظار

جلد اول

حکیم الهی وفقیه روحانی

حضرت مولی

محمد مهدی بن ابی ذر النراقی

صححه وقدم له

مجید هادی زاده

انتشارات حکمت

ص: 3

سرشناسه : نراقی ، مهدی بن ابی ذر، ق 1209 - 1128

عنوان و نام پدیدآور : جامع الافکار و ناقد الانظار/ محمدمهدی بن ابی ذر النراقی ؛ صححه و قدم له مجید هادی زاده

مشخصات نشر : تهران : حکمت ، 1423ق . = 1381.

مشخصات ظاهری : ج 1

فروست : (مجموعه آشنایی با فلسفه اسلامی 18)

شابک : 964-5616-73-5111000ریال :(دوره ) ؛ 964-5616-70-7(ج .1)

یادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه

موضوع : خدا -- اثبات

موضوع : خداشناسی

شناسه افزوده : هادی زاده ، مجید، 1344 - ، مصحح

رده بندی کنگره : BP217/2/ن4ج2 1381

رده بندی دیویی : 297/42

شماره کتابشناسی ملی : م 80-15697

ص: 4

تصحيح

این اثر را با کمال

فروتنی به مادر فرزانه ام

تقدیم مینمایم. أمدّ الله في ظلالها و

جعلني عن كل مكروه فداها.

مصحح

ص: 5

ص: 6

الفهرس الإجمالي لمحتويات الكتاب

مقدمة الناشر...ه

مقدمة المصحح...يه

مقدمات الكتاب...3

المقدمة الأولى: في ابطال ترجّح المساوي والمرجوح و ترجيحهما...4

المقدّمة الثانية: في أنّ طرفي المعلول مالم يجب لم يقع...5

المقدمة الثالثة: في ابطال وجود الممكن بنفسه و بأولوية ذاتية أو خارجية، و اثبات انه لا يوجد إلا

بعلة خارجية...6

المقدمة الرابعة: في أنّ الممكن كما يحتاج في وجوده إلى العلة يحتاج في بقائه - أيضاً - إليها ...38

المدمة الخامسة: في ابطال الدور و التسلسل...42

المقالة الأولى في اثبات الواجب الوجود لذاته...59

المسلک الاوّل: مسلک الحکماء...61

المنهج الأوّل: منهج الإلهيِّين منهم...61

تتميم...86

ص: 7

فائدة...93

المنهج الثاني: منهج بعض الحكماء، و هو الاستدلال بمجرد الامكان الوقوعي...117

المنهج الثالث من مناهج الحكماء: منهج الطبيعيين منهم، و هو النظر في طبيعة الحركة...١١٩

المنهج الرابع من مناهج الحكماء: ما ذهب اليه بعضهم، و هو ما يبتنى على النظر في النفس الناطقة الانسانية...137

المسلك الثاني: مسلک المتکلّمین...137

المسلك الثالث: مسلك أهل الكشف من الصوفية...138

المقالة الثانية في صفاته الثبوتية والسلبية...143

المقدمة: في الاشارة إلى أصناف صفاته و تعديدها على الإجمال...144

الباب الأول

في صفاته الثبوتية الكمالية

الفصل الأوّل: في قدرته - تعالى -...151

تحقيق حول كيفية حدوث العالم...178

تحقيق في كيفية ربط الحادث بالقديم...232

تتميم: في بيان مذهب محقق الطوسي من أقسام الحدوث...241

عود إلى ما سبق من أبحاث القدرة...244

تنبيه: بيان حقيقة معنى الايجاب و الموجب...278

تتميم: مراد المحقق الطوسي من الايجاب...297

تتميم...336

تتميم...357

تتميم...371

ص: 8

تتميم...394

مسئلة مهمة...395

مسلك الصوفية في اثبات عموم القدرة...452

فائدة...453

تتميم...454

الفهرس التفصيلي لمحتويات الكتاب...479

ص: 9

ص: 10

مقدمة الناشر

حياة المؤلف (١١٢٨-١٢٠٩ه)

هو الشيخ الجليل المولى (محمد مهدي بن أبي ذر النراقي) أحد أعلام المجتهدين في القرنين الثاني عشر و الثالث عشر من الهجرة، و من أصحاب التأليفات القيمة. و يكاد أن يعد في الدرجة الثانية أو الثالثة من مشاهير علماء القرنين. و هو عصامي لا يُعرف عن والده (ابي ذر). و لو لا ابنه هذا لذهب ذكره في طيات التأريخ كملايين البشر من أمثاله، و لشيخنا النراقي ولد نابه ،الذكر هو المولى احمد النراقي المتوفى عام ١٢٤٤ ه ، صاحب (مستند الشيعة) المشهور في الفقه، وصاحب التأليفات الثمينة، أحد أقطاب العلماء في القرن الثالث عشر وكفاه فخراً أنه أحد أساتذة الشيخ العظيم المولى مرتضى الأنصاري المتوفى عام 1281ه

و لعل النراقي الصغير هذا هو من أهم أسباب شهرة والده و ذيوع صيته، لما وطيء عقبه و ناف عليه بدقة النظر وجودة التأليف. كما حذا حذوه في تأليفاته فان الأب المكرم ألف في الفقه (معتمد الشيعة) والابن الجليل ألف مستندها. وذاك ألف في الأخلاق (جامع السعادات) و هذا ألف (معراج السعادة) في الفارسية. و ذاك ألف (مشكلات العلوم) و هذا ألف (الخزائن)... و هكذا نسج على منواله و أحكم النسج.

مولده و وفاته

ولد الشيخ المترجم له - رحمة الله تعالى - في (نراق) كعراق (1)، و هي قرية من قرى کاشان بايران، تبعد عنها عشرة فراسخ. و كذا كانت مسقط رأس ولده المتقدم الذكر ولم يذكر التأريخ سنة ولادته، و على التقريب يمكن استخراجها من بعض المقارنات التأريخية،

ص: 11

فانه تلمذ - في أول نشأته على ما يظهر - على الشيخ المحقق الحكيم المولى اسماعيل الخاجوئي ثلاثين سنة، مع العلم أن استاذه هذا توفى عام 1173 ه، فتكون أول تلمذته عليه عام ١١٤٣ ه على أقل تقدير، إذا فرضنا أنه لازمه الى حين وفاته. ولنفرض على أقرب تقدير أنه قد حضر عليه و هو في سن ١٥ عاماً، وعليه فتكون ولادته عام 1228 ه أو قبل ذلك.

أما وفاته فقد كانت عام 1209 ه في النجف الأشرف، و دفن فيها، فيكون قد بقي بعد وفاة استاذه الوحيد البهباني سنة واحدة، و يكون عمره 81 عاماً على الأقل.

و في (رياض الجنة) المخطوط ، تأليف السيد حسن الزنوزي المعاصر للمترجم له - حسب نقل الاستاذ حسن النراقي- : ان عمره كان ٦٣ سنة، فتكون ولادته سنة ١١٤٦ ه_ و هذا لا يتفق ابداً مع ما هو معروف في تأريخه: انه تلمذ على المولى اسماعيل الخاجوئي ثلاثين سنة، لأنه يكون عمره على حسب هذا التأريخ حين وفاة استاذه ٢٧ سنة فقط.

نشأته العلمية واساتذته

عاش شيخنا كما يعيش عشرات الآلاف من أمثاله من طلاب العلم: خامل الذكر، فقير الحال، منزوياً في مدرسته، لا يعرف من حاله إلا أنه طالب مهاجر، ولا يتصل به إلا أقرانه في دروسه، الذين لا يهمهم من شأنه إلا أنه طالب كسائر الطلاب، يتردد في حياة رتيبة بين غرفته و مجالس دروسه، ثم بعد ذلك لا ينكشف لهم من حاله إلا بزته الرثة التي ألفوا منظرها في آلاف طلاب العلم، فلا تثير اهتمامهم و لا اهتمام الناس.

و بطبيعة الحال لا يسجل له التأريخ شيئاً في هذه النشأة، وكذلك كل طالب علم لا يسجل حتى اسمه مالم يبلغ درجة يرجع اليه الطلاب في تدريس، أو الناس في تقليد، أو تكون له مؤلفات تشتهر و من هنا تبتدي معرفة حياة الرجل العالم، و تظهر آثاره و يلمع اسمه.

ومع ذلك، فانا نعرف عن شيخنا ان أسبق أستاذته وأكثرهم حضوراً عنده هو المولى اسماعيل الخاجوئي المتقدم الذكر. و هذا الاستاذ كان مقره في اصفهان، و فيها توفي و دفن؛ و الظاهر أنه لم ينتقل عنها حتى في الكارثة التأريخية المفجعة التي أصابتها من الأفغانيين الذين انتهكوها بمالم يحدث التأريخ عن مثلها، وذلك سنة ١١٣٤ ه فتكون نشأة شيخنا المترجم له العلمية في مبدأ تحصيله في اصفهان على هذا الشيخ الجليل. و الظاهر أنه قرأ الفلسفة، لأن هذا الشيخ من اساتذة الفلسفة المعروفين الذين تنتهي تلمذتهم في ذلك العصر الى المولى صدر الدين الشيرازي صاحب الاسفار. وكفى ان من تلاميذه المولى محراب، الألهي المعروف، الذي طورد لقوله بوحدة الوجود، و لما جاء الى إحدى العتبات المقدسة متخفياً،

ص: 12

وجد في الحرم شيخاً ناسكا يسبح بلعن ملاصدرا و ملا محراب، و لما سأله عن السبب في لعنهما قال: لأنهما يقولان (بوحدة واجب الوجود)، فقال له ساخراً: إنها حقاً يستحقان منك اللعن!

و درس أيضاً شيخنا المترجم له - و الظاهر أن ذلك في اصفهان ايضاً - على العالمين الكبيرين: الشيخ محمد بن الحكيم العالم الحاج محمد زمان والشيخ محمد مهدي الهرندي. و هما من اساتذة الفلسفة على ما يظهر.

و لا شك أنه انتقل الى كربلاء والنجف، فدرس على الأعلام الثلاثة: الوحيد البهبهاني الآتي ذكره - و هو آخر اساتذته وأعظمهم، وتخريجه كان على يديه - و الفقيه العالم صاحب الحدائق الشيخ يوسف البحراني المتوفى عام ١١٨٦ ه، والمحقق الجليل الشيخ مهدي الفتوني المتوفى عام ١١٨٣ه

فجملة اساتذته سبعة، سماهم ولده في بعض اجازاته على ما نقل ع_نه ب (الكواكب السبعة). و هم خيرة علماء ذلك العصر، وعلى رأسهم الأقا الوحيد استاذ الاساتذة.

و لما فرغ هذا الشيخ من التحصيل في كربلاء، رجع الى بلاده و استقام في كاشان. و هناك أسس له مركزاً علمياً تشدّ اليه الرحال، بعد أن كانت كاشان مقفرة من العلم والعلماء، و استمرت بعده على ذلك مركزاً من مراكز العلم في ايران، و ليس لدينا ما يشير الى تأريخ انتقاله الى كاشان.

و رجع الى العراق، وتوفي في النجف الأشرف ودفن فيها. والظاهر ان مجيئه هذا - وكان معه ولده - بعد استاذه الوحيد، جاء لزيارة المشاهد المقدسة فتوفي. أما ولده فقد بقي بعده ليدرس العلم على أعلامه يومئذ، كبحر العلوم، وكاشف الغطاء.

عصره

يمضي القرن الثاني عشر للهجرة على العتبات المقدسة في العراق، بل على اكثر المدن الشيعية في ايران التي فيها مراكز الدراسة الدينية العالية - كاصفهان و شیراز و خراسان - و تطغى فيه ظاهرتان غريبتان على السلوك الديني: الأولى: النزعة الصوفية التي جرّت الى مغلاة فرقة الكشفية. والثانية: النزعة الأخبارية.

و هذه الأخيرة خاصة ظهرت فى ذلك القرن قوية مسيطرة على التفكير الدراسي، و تدعو الى نفسها بصراحة لا هوادة فيها، حتى أن الطالب الديني في مدينة كربلاء خاصة أصبح يجاهر بتطرفه و يغالي، فلا يحمل مؤلفات العلماء الأصوليين إلا بمنديل، خشية أن تنجس يده من ملامسة حتى جلدها الجاف. وكربلاء يومئذ اكبر مركز علمي للبلاد

ص: 13

الشيعية.

و في الحقيقة أن هذا القرن يمر و الروح العلمية فاترة الى حد بعيد، حتى أنه بعد الشيخ المجلسي صاحب البحار المتوفى في أول هذا القرن عام 1110 ه ، لم تجد واحداً من الفقهاء الأصوليين من يلمع اسمه و يستحق أن يجعل في الطبقة الأولى، أو تكون له الرئاسة العامة، إلا من ظهر في أواخر القرن، كالشيخ الفتوني الجليل في النجف المتوفى عام ١١٨٣ ه ، ثم الشيخ آقا الوحيد البهبهاني في كربلا المتوفى عام 1208 ه، الذي تم على يديه تحول العلم الى ناحية جديدة من التحقيق.

فیبرز شيخنا المترجم له في عنفوان معركة الاخبارية و الأصولية، وساحتها كربلاء، و في عنفوان معركة الدعوة الى التصوف، و ساحتها اصفهان على الاكثر ، فيكون أحد أبطال هاتين المعركتين، بل أحد القواد الذين رفعوا راية الجهاد بمؤلفاته و تدریسه، و ساعده علی ذلك انه - رحمه الله - كان متفنناً في دراسة العلوم، ولم يقتصر على الفقه و الاصول و مقدماتهما، فقد شارك العلوم الرياضية، كالهندسة والحساب والهيئة، و له مؤلفات فيها سيأتي ذكرها.

شخصية المترجم له واخلاقه

إن أعاظم الناس و نوابغهم لا تأتيهم العظمة والنبوغ عفواً و مصادفة، من دون قوة كامنة في شخصيتهم أو ملكة راسخة في نفوسهم، هي سر عظمتهم وتفوقهم على سائر الناس. و ما كلمة الحظ في هذا الباب إلا تعبير مبهم عن تلك القوة التي أودعها الله تعالى في شخص النابغة. وقد تكون تلك القوة مجهولة حتى لشخص صاحبها الذي يتحلى بها، بل على الاكثر هي كذلك، فيندفع العبقري الى تلك القمة التي خلقت له أو خلق لها بدافع تلك القوة الكامنة اندفاعاً لا شعورياً، وان كانت اعماله الجزئية التي يقوم بها هي شعورية بمحض اختیاره.

و تلاحظ قوة شخصية شيخنا المترجم له في صبره وقوة إرادته وتفانيه في طلب العلم، ثم عزة نفسه، و ان كانت هذه الفاظاً عامة قد يعبر بها عن كثير من الناس، و يصح التعبير بها بلا كذب ولا خداع، إلا أن الدرجة الخاصة من الصبر و الارادة و الحب و العزة و نحوها التي بها يمتاز الشخص النابغ تضيق اللغة عن التعبير عنها بخصوصها إلا بهذه الالفاظ العامة الدارجة وتظهر الدرجة الخاصة التي يختص بها صاحبنا من هذه الامور في ثلاث حوادث منقولة عنه:

(الأولى) - فيما ينقل انه كان في ايام التحصيل في غاية الفقر والفاقة - و الفقر دائماً شيمة

ص: 14

العلماء، بل هو من أول شروط النبوغ في العلم، و هو الذي يصقل النفس فيظهر جوهرها الحقيق - فكان صاحبنا قد تشتد به الفاقة فيعجز عن تدبير ثمن السراج الذي لا يتجاوز في عصره عن ان يكون من زيت أو شمع، فيدعوه حرصه على العلم الى الدخول في بيوت مراحيض المدرسة، ليطالع على سراجها، ولكنه تأبى عزته أن يدع غيره يشعر بما هو فيه، فيوهم الداخلين - بالتنحنح - انه جالس للحاجة الخاصة. و تتجلى في هذه الحادثة الصغيرة عزة نفسه وقوة إرادته وصبره على طلب العلم بدرجة غير اعتيادية إلا للنوابغ الافذاذ .

(الحادثة الثانية) - ان أحد الكسبة الذي كان حانوته في طريق المدرسة بكاشان التي كان يسكنها هذا الطالب النراقي، ان هذا الكاسب المؤمن لاحظ على هذا الطالب انه رث الثياب وكان معحباً به، اذ كان يشتري منه بعض الحاجيات كسائر الطلاب، فرأى ان یکسیه تقرباً إلى الله، فهياً له ملبوساً يليق بشأنه، و قدمه له عندما اجتاز عليه، فقبله بالحاح. و لكن هذا الطالب الأبي في اليوم الثاني رجع الى رفيقه الكاسب وارجع له هذا الملبوس قائلاً: اني لما لبسته لا حظت على نفسي ضعة لا اطيقها، لاسيما حينما اجتاز عليك فلم اجد نفسي تتحمل هذا الشعور المؤلم، و ألقاه عليه و مضى معتزاً بكرامته.

(الحادثة الثالثة) - فيما ينقل عنه أيضاً - و هي أهم من الأولى والثانية - انه كان لا يفض الكتب الواردة اليه، بل يطرحها تحت فراشه مختومة، لئلا يقرأ فيها ما يشغل باله عن طلب العلم. والصبر على هذا الامر يتطلب قوة ارادة عظيمة ليست اعتيادية لسائر البشر . و يتفق ان يقتل والده (ابوذر ) المقيم في نراق وطنه الاصلي، و هو يومئذ في اصفهان، يحضر على استاذه الجليل المولى اسماعيل الخاجوئى، فكتبوا اليه من هناك بالنبأ ليحضر الى نراق، لتصفية التركة و قسمة المواريث و شؤون اخرى، و لكنه على عادته لم يفض هذا الكتاب، و لم يعلم بكل ما جرى. و لما طالت المدة على من في نراق، كتبوا له مرة اخرى، و لكن لم يجبهم ايضاً. و لما يئسوا منه كتبوا بالواقعة الى استاذه المذكور ليخبره بالنبأ و يحمله على المجيء. و الاستاذ في دوره - على عادة الناس - خشي أن يفاجئه بالنبأ، و عندما حضر مجلس درسه أظهر له - تمهيداً لاخباره - الحزن والكآبة، ثم ذكر له: ان والده مجروح، و رجح له الذهاب الى بلاده. و لكن هذا الولد الصلب القوى الشكيمة لم تلن قناته، و لم يزد الا أن دعا لوالده بالعافية، طالباً من استاذه أن يعفيه من الذهاب. و عندئذ اضطر الاستاذ الى ان يصرح له بالواقع، ولكن الولد ايضاً لم يعبأ بالامر و اصر على البقاء لتحصيل العلم. إلا ان الاستاذ هذه المرة لم يجد بدأ من أن يفرض عليه السفر، فسافر امتثالا لامره المطاع، و لم يمكث في نراق اكثر من ثلاثة ايام، على بعد الشقة و زيادة المشقة، ثم رجع الى دار هجرته. و هذه الحادثة لها مغزاها العميق في فهم نفسية هذا العالم الألهي، و تدل على استهانته بالمال و جميع

ص: 15

مؤلفاته

لشيخنا المترجم له عدة مؤلفات نافعة، تدل على قابلية في التأليف و صبر على البحث و التتبع، و على علم غزير و نحن نعدّ منها ما وصل بحثنا اليه واكثر اعتمادنا في تعدادها و بعض اوصافها على كتاب (رياض الجنة) المذكور في مصادر هذه الطبعة:

في الفقه:

1- لوامع الأحكام في فقه شريعة الإسلام: و هو كتاب استدلالي مبسوط، و قد خرج منه كتاب الطهارة في مجلدين يقرب من ثلاثين الف بيت.

2- معتمد الشيعة في احكام الشريعة: هو أتم استدلالا و أخصر تعبيراً من كتاب اللوامع السالف الذكر، خرج منه كتاب الطهارة ونبذ من الصلاة والحج والتجارة والقضاء. قال في الروضات عن الكتابين: «ينقل عنهما ولده المحقق في المستندو العوائد كثيراً».

٣- التحفة الرضوية في المسائل الدينية: في الطهارة والصلاة، فارسي، يقرب من عشرة آلاف بیت.

٤- أنيس التجار: في المعاملات، فارسي، يقرب من ثمانية آلاف بيت.

٥- أنيس الحجاج: في مسائل الحج والزيارات، فارسي، يقرب من اربعة آلاف بيت.

6- المناسك المكية: في مسائل الحج أيضاً، يقرب من ألف بيت.

٧- رسالة صلاة الجمعة: ذكرها وما قبلها حفيده (الاستاذ حسن النراقي) في رسالة لنا .

في أصول الفقه

8- تجريد الأصول: مشتمل على جميع مسائل الأصول مع اختصاره، يقرب من ثلاثة آلاف بيت. قال عنه في الروضات: «شرحه ولده في مجلدات غفيرة جمة».

9- أنيس المجتهدين: توجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام العامة بالنجف الاشرف (برقم ٤٠٨- سجل المخطوطات)، تقع في ٤١١ صفحة، بخط محمد حسين بن علي نقي البزاز، فرغ منها بتاريخ ٣ صفر من سنة ١١٨١ه ، و في تقدير رياض الجنة يقرب من عشرة آلاف بيت .

10- جامعة الأصول: يقرب من خمسة آلاف بيت.

11- رسالة في الاجماع: يقرب من ثلاثة آلاف بيت.

في الحكمة و الكلام :

12- جامع الأفكار: في الألهيات (كتاب الحاضر)، يقرب من ثلاثين الف بيت، قد فرغ

ص: 16

من تأليفه سنة 119٣ ه_ ، و عليه فليس هو من اوائل مؤلفاته، كما قال عنه صاحب (رياض الجنة)، وستجد رموزاً للصفحتين الأولى والاخيرة منه بخط المؤلف، منقولتين عن النسخة التي هي بحوزة أحد احفاده (الاستاذ حسن النراقي). و الذي يجلب الانتباه في الصفحة الاخيرة ما ذكره من الحوادث المروعة في الوباء و غيره التي وقعت في تلك الفترة.

١٣- قرة العيون: في احكام الوجود و الماهية ، يقرب من خمسة آلاف بيت.

١٤- اللمعات العرشية: في حكمة الاشراق، يقرب من خمسة و عشرين الف بيت.

١٥- اللمعة : و هو مختصر اللمعات، يقرب من ألفي بيت.

١٦- الكلمات الوجيزة: و هو مختصر اللمعة، يقرب من ثمانية أبيات.

١٧- أنيس الحكماء: في المعقول، و هو من اواخر تأليفاته، لم يتم احتوى على نبذ من الأمور العامة والطبيعيات، يقرب من ٤ آلاف بيت.

١٨- أنيس الموحدين: في أصول الدين، فارسي، يقرب من اربعة آلاف بيت.

19- شرح الشفاء: في الالهيات، النسخة الأصلية بخط المؤلف موجودة عند أحد احفاده (الاستاذ حسن النراقي).

20- الشهاب الثاقب: في الامامة، في رد رسالة الفاضل البخاري، يقرب من خمسة آلاف بیت.

في الرياضيات :

٢١- المستقصى: في علوم الهيئة خرج منه مجلدان الى مبحث اسناد الحركات، يقرب من اربعين ألف بيت، قال عنه في رياض الجنة: «لم يعمل ابسط و ادق منه في علم الهيئة، و لقد طبق فيه اكثر البراهين الهندسية بالدلائل العقلية، لم يتم».

22- المحصل: كتاب مختصر في علم الهيئة، يقرب من خمسة آلاف بيت.

23- توضيح الأشكال: في شرح تحرير اقليدس الصوري في الهندسة، و قد شرحه الى المقالة السابعة، فارسي، يقرب من ستة عشر ألف بيت.

٢٤- شرح تحرير اكرثاذوسنيوس: يقرب من ثلاثة آلاف بيت.

٢٥- رسالة في علم عقود الانامل: فارسية، تقرب من الف بيت.

٢٦- رسالة في الحساب: ذكرها في روضات الجنات.

في الاخلاق و المواعظ :

27- جامع السعادات: المطبوع بثلاثة أجزاء - حسب تقسيمنا له - قال عنه في رياض الجنة: «يقرب من خمسة وعشرين الف بيت». و قد طبع في ايران على الحجر سنة ١٣١٢ه بجزئين، و الطبعة الثالثة له على الحروف بالنجف الاشرف.

ص: 17

28- جامع المواعظ: في الوعظ، يقرب من اربعين الف بيت لم يتم.

في المتفرقات

29- محرق القلوب: في مصائب آل البيت، فارسي، يقرب من ثمانية عشر الف بيت، قال عنه في روضات الجنات: «طريف الاسلوب».

30- مشكلات العلوم: في المسائل المشكلة من علوم شتى، مطبوع على الحجر بايران، يشبه بعض الشيء كشكول البهائي. وقد نسج على منواله ولده المحقق في كتابه (الخزائن) المطبوع على الحجر بايران.

31- رسالة نخبة البيان: ذكرها حفيده (الاستاذ حسن النراقي).

32- معراج السماء: ذكره أيضاً حفيده المذكور(1)

***

لم يقم المولى محمد النراقي مطلقاً خلال عمره المبارك بكتابة دورة مطولة في الحكمة، فكتابته لثلاث رسائل هي «اللمعات العرشية»، «الكلمات الوجيزة» و «اللمعة الاهية» قد انطوت شيئاً ما على موضوعات فى الفلسفة الاسلامية، إلا ان وجازة هذه الرسائل بلغت حداً لا يمكن اعتبارها مظهراً كاملاً لأبحاثه. انيس الحكماء ايضاً بالرغم من موسوعيته، لم يتناول سوى قسم من الامور العامة و الطبيعيات و بوفاته ظل هذا القسم ناقصاً الى الابد. كما ان شرحه لألهيات الشفاء لم يكتمل هو الآخر، علماً انه تصدى في هذا الشرح لحل الغامض من معاني النص اكثر مما تصدى لكتابة الحكمة في «قرة العيون» ايضا تناول موضوعاً معيناً يعد واحداً من اهم الابحاث الفلسفية، في هذا الخضم يعد «جامع الافكار و ناقد الانظار» الأثر الوحيد للنراقي من حيث كماله و لكونه غاية في الاطناب و بعيداً عن الايجاز، فهو و ان كان قد تناول موضوعاً معيناً من وجهة نظر خاصة الا انه من حيث اسلوب الكتابة - كما اتضح سابقاً - يعد فريداً من نوعه من بين آثار النراقي.

لقد ألف النراقي جامع الافكار عام 1193 هجري اي في الفترة التي بلغ فيها مستواه العلمي وقدرته على الكتابة الذورة. من هنا فقد وقع اختياره في هذه الدراسة العملاقة على ارفع اقسام الحكمة أي الالهيات بالمعنى الاخص، آخذاً بنظر الاعتبار آثار السلف (كالفارابي ابن سيناء، و بهمنیار، و شيخ الاشراق، و الخواجه نصير، و الفاضل

ص: 18


1- نقلنا المعلومات اعلاه من مقدمة كتاب جامع السعادات بقلم الاستاذ محمدرضا المظفر.

القوشجي و الخفري، و الدواني، و الدشتكي، و التفتازاني، و النسفي، و ميرداماد، و صدرالمتألهين و...) و هو يقوم باعداد هذا الأثر. لذا يمكن القول ان كتاب جامع الافكار هو افضل ما يعرُّف الوجه الفلسفي للحكيم النراقي. فهو يبدأ بتقديم تمهيد أولي لأثبات اصل وجود الواجب ثم يدخل بعد ذلك في بحث الاسماء والصفات الالهية. من جانب آخر فان اجراء قياس بين بعض ابحاث هذا الكتاب كبحث القدرة و الارادة مع ما جاء في اوسع الدراسات الكلامية و الفلسفية للحضارة الاسلامية (كالشفاء و الاسفار، والمطالب العالية، و شرح المقاصد و شرح المواقف و ...) يسلط الضوء على الموقع المتميز لهذا الكتاب من بين الآثار المذكورة.

و توجد باستثناء مخطوطة المؤلف الاصلية لهذا الكتاب والموجودة فى المكتبة الشخصية لأحد احفاده، ثلاث نسخ اخرى حيث تمت الاستفادة من التخستين أوب لأعداد النص الحالي و النسخ هي:

أ- نسخة المكتبة المركزية و مركز وثائق جامعة طهران، مجموعة مشكاة المهداة، برقم ٢٦٦ اذ قام محمد بن طالب طاهر آبادي و هو من تلامذة المؤلف باستنساخ النسخة الاصلية تحت اشراف المؤلف، وكان قد انتهى من كتابتها في 17 محرم الحرام عام ١١٩٤ هجري، في ٢٤٧ ورقة (٤٩٤ صفحة) في كل صفحة 29 سطراً، واشرنا الى هذه النسخة بالحرف (د) نظراً لمكان ايداعها وحفظها، كما اشرنا اليها في النص بعلامة D.

ب - نسخة مكتبة مجلس الشورى الاسلامي برقم ٤٤٨٩ و ناسخها هو محمد شفيع بن فضل الله، و يعود تاريخ استنساخها الى ٢ / ربيع الثاني / ١٢١١ هجري في ٢٤٤ ورقة (٤٨٨ صفحة) و قد بلغ عدد سطور كل صفحة ٢٥ الى ٢٧ سطراً، وتمت الاشارة الى هذه النسخة بالحرف «م» و في النص بعلامة M .

ج - النسخة المودعة في مكتبة دار الآثار الوطنية بمدينة كاشان. أما فيما يتعلق بالحصول على مصادر النص والاشارة اليها فقد ألمحنا الى ذلك فيما يختص بالمائة صفحة الاولى من الكتاب، الا انه لم نستمر على هذا المنوال في الصفحات الاخرى و ذلك لان النراقي اعتمد على حواشي و تعليقات القوشجي على التجريد و بعض مصادر الدرجة الثانية (كاثار الدواني والدشتكي) و التى تعداهم مصادر النراقي و لم يتم عرضها لحد الان، تجنبنا هذه الطريقة.

في الختام نثمن جهود الفاضل الموقر السيد حامد ناجي الاصفهاني الذي قام بتعريف هذا النص المصحح.

ص: 19

ص: 20

« به جای » مقدمه

اشارة

« به جای مقدمه » ، عنوانی است که راقم این سطور بر پیشانی نوشتۀ کم برگ و کم باری که هم اکنون فراروی خوانندۀ ارجمند باز است ، نهاده است . بدون تردید ، این نوشته ، شایستگی نشستن بر اوراق پیشین کتاب حاضر را ندارد ؛ و از همین رو ، مصحح خود را شرمسار خوانندۀ فاضلی می داند که آنچه شایسته هدیت به پیشگاه اوست را، بر این برگهای پریشان نخواهد یافت . تسلی خاطر خود را ، اما ، به ذکر این نکته می پردازم که من بنده ، در جریان تصحیح این اثر و به سائقه ارادتی سابقه مند که به زادۀ برومند نراق داشت، سخنی چند جسته جسته پیرامن موضوعاتی که می توانست مقدّمۀ این دفتر باشد ، فراهم آورده فراهم آورده بود ؛ امّا تقدیر الهی را چنان یافت که به رأی ناشر حکمت اندیش این اثر ، آنچه را که در مدت یک دوساله ای و در لابلای دیگر کارهایش بعنوان درونمایه این مقدمه فرادست نهاده بود، از دست بگذارد و به سوئی نهد تا - اگر موافق تدبير من فتد تقدیر - زمانی دیگر باز در این مجموعه بنگرد و آن مسودات را باز کاود و بیاری موفق على الاطلاق وكارساز بنده نواز «نراقی نامه؛ نگاهی به زیست نامه ، آثار و آراء حکیم نراق » را پیشکش دانشیان این ملک دانش پرور کند از مسائل مربوط به چاپ و نشر -که هر اندازه صاحب این قلم از آن بی اطلاع است ، ناشر کاردان بدان خستو است که درگذریم ، حجت متولی طبع این کتاب ، کلان بودن حجم آن و قطور شدن

ص: 21

ناصوابانه هر مجلد است. زان پس، همزمانی نشر این اثر با برگزاری کنگره بزرگداشت نراقیان - بعون الله و توفیقه _ نیز ، دیگر سخنی است که می توان با عنایت به آن و با در نظر گرفتن این که آن کنگره در مجلد - یا مجلداتی - به معرفی سلف و خلف نامور و دیگر ناموران آن خاندان مکرّم خواهد پرداخت ، نشر آن دفتر در سرآغاز این اثر را چندان ضرور ندانست. با اینهمه اما بخشهائی از " نراقی نامه " که یکسر به "جامع الأفكار" مربوط است ، اوراقی است که راقم حاضر به عرضۀ آن در همین پیشنوشت اصرار داشت و تنها به صلاحدید ناشر، آن بخش را نیز از این مقدمه حذف کرد تا آنچه بعنوان " مقدّمۀ جامع الأفكار " عرضه می دارد ، تنها بر چهرۀ سپید پنج برگ بنشیند و از این حجم فراتر نرود . و چنین شد که " به جای مقدمه" به جای "مقدمه" نشست و این اعتذار نامه را فراهم ساخت. بهر روی فهرستوارۀ آنچه این بنده دربایست مقدّمۀ این اثر و نه به عنوان تک نگاری مستقلی درباره نراقی - می دانست و در تنظیم آن کوشیده بود ، چنین است :

1 - بخردی بزرگ ، برخاسته از دیهی کوچک

(نگاهی کوتاه به زیست نامه حکیم نراق )

الف : زندگی نامه ؛

ب : تحصیلات واساتید ؛

ج : آثار ؛

د: آراء و اندیشه ها ؛

2 - بستر آفرینش "جامع الافكار"

الف : " تجريد الإعتقاد / العقائد / الكلام" ، دبستان فاخر اندیشگی کلام امامیه ؛

ب : معرّفی گذرای مامنامه تجرید و مجموعه گزارشها و پی نوشتهای آن ؛

ج : مجمع البحار كلام عقلى إلهى : " جامع الأفكار وناقد الأنظار" ؛

ص: 22

3- برکناره آوردگاه اندیشه ها

الف : حوزه زمانی پیدایش "جامع الأفكار" و ویژگیهای آن ؛

ب : انتساب آن به نراقی ؛

ج : درونمایه و سبک نگارش آن ؛

د: آثاری که نراقی در خلق این نقاوة السلف كلام إلهى بدون واسطه به آنها مراجعه کرده است ؛

ش: دستنوشتها و روش تصحیح ؛

اما - آنچنان که گذشت - ، از این مجموعه، خوانندۀ عزیز اکنون تنها دو زیر عنوان «ج» و «ش» از این آخرین بخش - یعنی «درونمایه و سبک نگارش جامع الأفكار» و «دستنوشتها و روش تصحیح » - را آنهم در صورت «کوتاه شده » _ و در نخستین مورد «سخت کوتاه شده» اش را در مقابل خود خواهد داشت ؛ و تلخکامی راقم این سطور را که نتوانست آنچه را وظیفه خود می دانست ، به انجام رساند ، و العذر عند كرام الناس مقبولٌ .

***

درونمایه و سبک نگارش «جامع الأفكار و ناقد الأنظار »

در این جستار کوتاه ، راقم سر آن دارد تا به اختصارِ هرچه تمامتر از درونمایه و سبک نگارش این کتاب سخن باز گوید. می دانیم که حکیم نراق در سراسر عمر پربار خود، هیچگاه به تدوین یکدوره مبسوط حکمت نپرداخت . هر چند سه رسالهٔ « اللمعات العرشية » و « الكلمات الوجيزة» و «اللمعة الإلهيه» ی او تاحدودی تمامی مباحث فلسفه اسلامی را در بردارد، اما اختصار این هر سه کتاب چنان است که نمی توان آن سه را نمایانگر کامل مباحث خود دانست . « أنيس الحكماء » هم ، هرچند در نظر مؤلف از طرحواره ای فراگیر برخوردار بوده است ، اما او تنها به تدوین بخشی از امور عامه و طبیعیات آن پرداخت و با درگذشت آن بزرگمرد ، کتاب برای همیشه ناتمام ماند . «گزارش او بر إلهيات شفا » نيز ، هم ناتمام است و هم بیشتر درخور

ص: 23

گشودن گره های معنائی متن تا تدوین حكمت . « قرّة العيون » نیز ، تک نگاری فشرده ای است از یکی از مهمترین مباحث فلسفه در این میان، تنها اثر نراقی که هم کامل است و هم در نهایت بسط و بدور از ایجاز فراهم آمده ، « جامع الأفكار و ناقد الأنظار » اوست که هر چند تک نگاری است، اما از نظر سبک تدوین - آنچنان که گذشت _ در میانه آثار نراقی فرد است و بی بدیل . نراقی جامع الأفكار را بسال ١١٩٣ ه_ ق یعنی آنگاه که در اوج اقتدار علمی و توان نویسندگی بود آفرید . هم از اینروست که در این تحقیق عظیم عالی ترین بخش حکمت إلهي - يعنى إلهيات بمعنى الأخص را برگزید تا به تفصیل پیرامُن چونیِ آموزه های آن بیندیشد و آنچه پیش از او فراهم آمده را باز کاود و سره از ناسره باز شناسد و مجمع البحار این بخش از حكمت إلهى را سامان دهد . او - آنچنان که خود در پیش نوشت کتاب می آورد - دستمایه های خود در تدوین این اثر را از مجموعۀ پی نوشتها و نگرش ها و بازنگرش هائی که بوسیلهٔ پیشینیان و پسینیان برگزارش کرامند قوشچی بر متن تجرید رفته است ، دست یاب کرد. این دستمایه ها اما ، بسی فراتر از این مجموعه است ؛ از همین مجموعه _ همچون حواشی خفری و نگرشها و بازنگرش های دوانی و دشتکی و ... - که بگذریم گنجینه هائی سترگ از میراث مکتوب حکمت پژوهان پیشین - همچون آثار فارابی و شیخ و بهمنیار و شیخ اشراق و خواجه طوس و میرداماد و صدر المتألهين و... - و آثار گرانسنگ کلام پژوهان - همچون دو گزارش مواقف و مقاصد و گزارش دوانی بر عقائد نسفی - ، سلسله آثاری است که در بازشناسی مصادر حکیم نراق ، نمی توان آنها را نادیده انگاشت. از اینروست که اثر حاضر ، بهترین _ و یا تنها ؟ - معرّف چهره حِکمی حکیم نراق است . و اگر همچون او کسی ، چنین کاوشی در سراسر مباحث این علم می نمود و اینچنین به تفصیل به تدوین آن می پرداخت ، می توانیم گفت که بدون تردید آن اثر در جغرافیای اندیشه و اثرپردازی حکمت و حکمت پژوهی سخت جایگاه مییافت و بر صدر می نشست و قدر می دید ؛ و دریغ که چنین نشد .

ص: 24

باری؛ نراقی در این مسأله، نخست با تمهید مقدماتی به اثبات أصل وجود واجب می پردازد و زان پس آنچه بر او سزاست و آنچه بر او روا نیست را در دو باب به تفصیل به بحث می کشد . تذکار دو مطلب در اینجا خالی از فایدتی نیست :

الف: هرچند نحوه ورود او به پاره ای از این مباحث، یادآور برخی از آثار پیشینیان است - همچون بخش مقدّمات اثبات واجب که یکسر خواننده را به یاد آنچه از قلم فخر رازی بر صفحات « المطالب العالية » نشسته است می اندازد ، اما تفصیل و کنکاش این اثر سخنی است که بهیچ وجه سابقه ای در میانۀ آثار متقدمان ندارد . مقایسه بخشهائی از این کتاب - همچون مبحث قدرت واجب و اراده او - با آنچه در دراز آهنگ ترین مجموعه های فلسفی و کلامی حوزه تمدن اسلامی - همچون «الشفا » و « الحكمة المتعالية » و « المطالب العالية » و « شرح المقاصد » و « شرح المواقف » و ... - آمده است، نشان از بی نظیری این کتاب در میان تمامی آثاری که به ارائه عمومی رسیده است، دارد . من بنده ، گرچه به قلت دانسته های خود در این موضوع سخت اگاه است و معترف ، اما بجرأت این اثر را در حیطه بسط در تحقیق و بازکاوی آنچه پیرامن مباحث نخست این کتاب تدوین شده است ، بی نظیر می شمارد؛ هم از اینروست که زین پیش شناسائی چهره حکمی این حکیم را به جستجو و بازرسی این كتاب موقوف دانست .

ب: هر چند تفصیل و تحقیق پردامنه ، عنوانی است که در کتاب حاضر سیری نزولی دارد و از مباحث نیمه نخست کتاب به سوی دیگر بشدت کاست و فرود دارد ، اما می توان باور داشت که نه آن تفصیل زائیده حوصله قلم اوست و نه آن اختصار _ در انجامین بخش کتاب - فراهم آمده از بی حوصلگی قلم او . چه - آنگونه که او خود جای جای بدان اشارت می کند - پیش زمینه های لازم برای تحقیق در مباحث نیمه دوّم کتاب - و بویژه مباحث انجامین آن در نیمه نخست ، بتفصیل گذشته و با احاطه بر آنچه پیش از هر مبحث ذکر شده است ، می توان به بررسی کامل در آن مبحث دست یازید .

ص: 25

از این گذشته ، آنچه نگارنده در مقام انکار آن نیست ، چشم پوشی مؤلّف در مباحث پایانی کتاب از نقل اندیشه ها و نگرش در آنهاست، و از این سویه آنچه در دو نیمۀ دوّم و اوّل کتاب آمده است، با هم سازگار نمی نماید . این نکته را نیز می توان معلول عواملی چند دانست که در بستر تاریخی آفرینش این اثر ، بر آن تأثیر گذارده اند. نا امنی پدید آمده از فوت سلطان عصر ، بیماری عمومی ، هجرت از وطن مألوف ، دوری از احبّه و اولاد ، و ... - که مصنّف خود در خاتمه به تلخی از آن یاد میکند- ، مجموعه عواملی است که بدون تردید در این سیر به سوی اختصار مؤثر بوده اند و کارگر.

دیدگاههای نراقی نیز - که در لابلای اوراق این کتاب نموده شده است - ، سخت شایسته بررسی و بازکاوی است، و اگر صاحب همتی رسالتی در باب " فضای ذهنی و آموزه های اساسی حکمت در اندیشه حكيم نراق (1)" فراهم آورد حکیم در شناخت او هم مفید است و هم کارگشا .

در یکی دو محور عمده میتوان چنین گفت که چهره نراقی از چهره حکیمی که در سلک حکیمان نحله حکمت متعالیه و صدرائیان منخرط است ، سخت فاصله دارد . او بمبانی حکمت مشاء و حتى حكمت يماني حضرت میر ، دلبستگی بیشتری دارد تا بنای رفیع حکمت متعالیه و دست آورد عظيم المنزلة صدر فلاسفة الهی. ایران پای بندی او به آموزه هائی همچون مبانی حدوث دهری - که در میانه آموزه هائی اثر حاضر ، رساله ای مبسوط در تأیید و تسجیل آن پرداخت _ و نحوه یادکرد او از بزرگانی همچون شیخ الرئیس و میرداماد با عناوینی فاخر از سوئی و صدرالمتألهین گاه با عنوان «بعض الفضلاء » و گاه با عنوان «العارف الشیرازی » و ... از سوئی دیگر، و اینکه در تمامی این کتاب حتی یک بار نامی از آثار این فرزانه عظیم الهی

ص: 26


1- عنوان مقالتی است از " نراقی نامه " که زین پیش بدان اشارتی داشتم. اگر روزی توفیق رفیق شد و ارادۀ حضرت حق - جل و علا - بر طبع آن قرار گرفت، آنچه در این زمینه دست یاب کرده ام را به محضر اعلای حکمت پژوهان این دیار تقدیم خواهم نمود.

نرفته است(1) سخت درخورند توجه است. نقدهای لطیف او بر پاره ای از آراء عارفانهای که به آموزه های حکمت صدرائی راه یافته است - همچون مبانی وحدت وجود - نیز خواندنی است و کاویدنی. این نقدها - و بل کنایه ها _ چنان است که یادآور دیدگاه عالمانی است که فلسفه را یکسر استدلالی و پیراسته از لطائف ذوقی و عرفانی میخواستند ؛ و هم از این روست که نراقی در مقابل این آموزه ها به گونه ای که بوئی از استهزاء علمی هم از آن به مشام می رسد، عقل خود و امثال خود را قاصر از ، درک آن می نمایاند و به سرعت از آن می گذرد، آنچنان که گوئی بررسی این آراء را از حوزه حکمت و حکمت پژوهی خارج می شمارد. برخورد او با تمامی آنچه از دستگاهِ إلهيّات ویژه خانقاهیان نقل می کند ، یکسره اینچنین است.

بررسی دیدگاه های او در این کتاب را ، مجالی واسع درخور است تا به تفصیل چهره حکیم نراق از لابلای آن رخ نماید؛ و این نعمتی است که این بنده در این مقدمۀ خُرد از آن سخت محروم است -لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً _ .

***

دست نوشت ها و روش تصحیح

از این کتاب - که به تعبیر رسای حضرت شیخ آقا بزرگ تهرانی : « لم يوجد له نظير في الباب » (2) _ نمی توان دست نوشتهای متعددی دست یاب کرد . جز از آنکه از عمر این کتاب کمتر از دویست و سی سال می گذرد - و از همین رو نمی توان آن را در شمار آثار کهن برشمرد - ، از سوئی اختفای چهره حکمی حکیم نراق - که حکیمی فقیه بود ، نه چون پور نامدارش که فقیهی حکیم بود - و ناشناس ماندن این چهره از او که تألیف کتاب در یکی از قرای تابع کاشان در عصر نا أمنى و

ص: 27


1- می توان این امر را زائیده آن دانست که هنوز سلسله حکیم بیدآبادی و شاگرد توانمندش مولی علی نوری - که فلسفه صدرائی را بر جایگاه سزایش نشاند - ظهور نکرده بود و در فضای عمومی آن عصر و به نزد همۀ حکیمان آن روزگار، صدرا چنین منزلتی داشته است. اما آیا نراقی خود به مطالعه و کنکاش در آثار صد را نپرداخته بود؟ و آیا خود به منزلت او در حوزه فرهنگ فلسفی و سنت فلسفه الهی آشنا نبود ؟ .
2- بنگرید : الذريعة ٥ ص ٤١.

مصائب هم بر آن افزود - ، و از سوئی دیگر کلان بودن حجم اثر ، باعث آن شد تا دستنوشتهای متعددی از این اثر صورت نبندد.

این بنده ، بجز از دست نوشت اصل مصنف - که در کتابخانه شخصی یکی از اخلاف او نگهداری می شود (1) _ از وجود سه دستنوشت دیگر این کتاب سراغ گرفته است (2) :

الف : نسخه محفوظ در کتابخانه مرکزی دانشگاه تهران .

ب : نسخه محفوظ در کتابخانه مجلس شورای اسلامی .

ج: نسخه محفوظ در کتابخانه انجمن آثار ملی کاشان .

در تصحیح حاضر ، مصحح تصویر دو دستنوشت نخستین را به عنوان نسخه اصلی و نسخه کمکی بدست داشته است و در تنظیم متن ، از آن دو سود جسته است . تفصیل معرفی این دو نسخه بشرح زیر است :

الف : نسخه کتابخانه مرکزی و مرکز اسناد دانشگاه تهران ، مجموعه اهدائی مشكاة ؛ با شماره ( ٢٦٦ ) (3).

این دستنوشت ، نسخه ای است نفیس و ارزشمند که بوسيلۀ « محمد بن طالب طاهر آبادی» که در شمار شاگردان مؤلّف بوده است _ « با نظر مؤلّف و از روی

ص: 28


1- گوئی پس از درگذشت مالک فاضل این کتابخانه ، مجموعه دست نوشتهای حکیم نراق - بهمراه دیگر آثار موجود در این کتابخانه بفروش رسیده است. هرچند راقم این سطور تنها ناقل سخنی است که شنیده است و از خطا و صواب آن بی اطلاع است، اما اگر چنین باشد باید افزود که هم اکنون از سرنوشت دستنوشت مصنف بی خبریم.
2- بنگرید : « فهرست تفصیلی مصنفات محقق نراقی و راهنمای نسخه های خطی آنها » ، در مقدّمة شرح إلهيات شفا از همو ص ٣٤ . بیفزایم که آنگونه که از نمایه های پاره ای از کتابخانه ها و مجموعه ها - همچون نمایه کتابخانه آستان قدس رضوی ، کتابخانه مرحوم آیت الله العظمی مرعشی نجفی ، کتابخانه مرحوم آیت الله العظمی گلپایگانی، کتابخانۀ مجلس شورای اسلامی ، کتابخانه مرکزی دانشگاه تهران، کتابخانه دانشکده ادبیات و علوم انسانی دانشگاه تهران ، کتابخانه های مدارس سلیمان خان و میرزا جعفر و نوّاب مشهد، آخوند غرب همدان، خاتم الأنبياء بابل ، نمازی خوى ، کتابخانه فرهنگ مشهد ، جمعیت نشر فرهنگ رشت و مجموعه نخجوانی تبریز - ظاهر است ، تا کنون دستنوشت دیگری از این کتاب شناسائی نشده است .
3- بنگرید : فهرست کتب اهدائی مشکاة به دانشگاه تهران ج 3 ص 219 .

نسخه اصل مصنف ، استنساخ گردیده » (1) است .

از آنجا که هیچ واسطه ای میان این دستنوشت و نسخه اصل کتاب نبوده است و استنساخ آن تنها یازده ماه پس از اتمام کتاب - و آنگونه که گذشت زیر نظر مؤلف - صورت پذیرفته است، مصحح، این نسخه را بعنوان نسخه اصل بدست داشته است .

مشخصات نسخه :

رونویسگر: محمّد بن طالب طاهرآبادی .

تاریخ اتمام کتابت : 17 محرم الحرام سال ١١٩٤ ه_ . ق .

خط: نستعلیق ساده تحریری .

تعداد صفحات : ٢٤٧ برگ / ٤٩٤ صفحه .

تعداد سطور در هر صفحه: 29 سطر .

بلاغ : ندارد .

این نسخه را ، با عنایت به محل نگاهداری آن « د » خوانده ام و در علائم صفحه گردانِ مندرج در متن با علامت /...D/ نشان داده ام . کلمه اصل در پانویس پاره ای از صفحات - در این باره، پس از این توضیحی خواهم داشت - نیز اشاره به همین دستنوشت است .

ب : نسخۀ کتابخانه مجلس شورای اسلامی ؛ با شماره ٤٤٨٩(2).

رونویسگر: محمد شفيع بن فضل الله .

تاریخ اتمام کتابت : 2 ربیع الثاني 1211 ه_. ق .

خط : مختلف ، در بیشتر مواضع نستعلیق شکسته .

تعداد صفحات : ٢٤٤ برگ / ٤٨٨ صفحه .

تعداد سطور در هر صفحه: مختلف، از 25 تا 27 سطر .

ص: 29


1- بنگرید : فهرست تفصیلی مصنفات نراقی و راهنمای نسخه های خطی آنها ص 37 .
2- بنگرید : فهرست کتابخانه مجلس شورای اسلامی ، ج 12 ص ١٦٦

بلاغ : ندارد

این نسخه را نیز با عنایت به محل نگاهداری آن «م» خوانده ام و در علائم صفحه گردان مندرج در متن با علامت /...M/ نشان داده ام.

راقم این سطور در جریان تصحیح متن ، نخست به ضبط تمامی دیگرسانیهای دو دستنوشت در پاورقی اوراق پرداخت ؛ اما چون دریافت که این دیگرسانیها بحاصل آمده از ضبطهای ناصواب رونویسگر نسخه «م» است _ و از این رو نمودن این اختلافات تنها و تنها صورت نسخه «م» را در پاورقی صفحات به نمایش در می آورد ، که هیچ فایدتی بر آن متصوّر نبود (1) _ ، از ضبط آن بدلها دست کشید و تنها در مواضعی که ضبط نسخۀ «م» را راجح می شمرد و در قرائت مختار خود می نهاد ، ضبط نسخه «د» را در پاورقی با علامت «الأصل: ...» نشان داد . بيفزايم که این بنده ، به دو سبب این روش را در جریان ارائه حاضر ، «روش مناسب تصحيح » تشخیص داد:

الف : نخست ، وجود دستنوشت اصیل «د» که جز در مواردی اندک - که در پای صفحات نموده شده است - نسخه ای است صحیح و ضبطهای آن یکسره پیراسته است و درست ؛ و

ب : دو دیگر، عنایت به دیر پای نبودن متن. از این رو اختلافات نسخ را به اختلاف در حوزه های زبانی / فرهنگی - که در پاره ای از نسخ کهن به چشم می آید - نمی توان حمل نمود.

در جریان باز نمودن مصادر متن نیز، این بنده، نخست به نمودن پاره ای از مآخذی که مواد مندرج در متن را در آن می توان دست یاب کرد ، پرداخت و این روش را در یکصد صفحه نخست کتاب بکار برد ؛ اما از آنجا که عمده ترین مآخذ

ص: 30


1- پرواضح است که در پاره ای از دستنوشت ها - همچون دو دستنوشتی که اعظم عارفان اسلام از اثر سترگ خویش « الفتوحات المكية » - پرداخت نمودن جزئیات اختلافات _ حتی در جزئی ترین صور - نشان دادنی است و یادکردنی ؛ امّا به باور این بنده ، «روش مناسب برای تصحيح » متن حاضر ، چنین ضبطهائی را بر نمی تابد .

نراقی، یعنی زنجیرۀ پی نوشتهای گزارش قوشچی بر تجرید طوسی - که سخت ناظر بر یکدیگرند - و پاره ای از دیگر مآخذ درجه دوّم او __ همچون نگاشته های متناظر دوانی و دشتکی - تاکنون ارائه نشده اند، از این روش دست کشید و به نمودن مآخذ اقوالی که مؤلّف به نام آن مآخذ اشارت کرده است ، بسنده نمود. پرواضح است که سخنانی که به " بعض المشاهير " یا " بعض الفضلاء " يا " بعض ... " منسوب شده _ و در این متن بیش از دویست مرتبه بکار رفته است _ را ، تنها در صورتی میتوان مأخذ یابی کرد که دست کم این سلسله از گزارشها و پی نوشتهای تجرید به طبع رسیده باشد.

****

و در پایان این مقدّمۀ خُرد ، سخنی نمی ماند جز ستایش پروردگار توانا که ره نمود و دست گیری کرد و توفیق آغاز داد و خود به پایان برد ؛ فله الحمد ، ثمّ له الحمد ، ثمّ له الحمد .

سپاسداشت از دوست فاضلم آقای حامد ناجی اصفهانی که این متن را به مصحح معرفی کرد و مسؤولان حکمت اندیش «انتشارات حکمت » که در طبع این اثر کوشیدند نیز ، بر این بنده فرض است ؛ وفقهم الله لما يحب ويرضى.

و سخن آخر هدیّت این تصحیح ناچیز است به پیشگاه مادر وارسته ام ، که در تربیت این فرزند خُرد سخت رنج برده است ، و هنوز هم ؛ أمد الله في ظلالها و جعلني عن كل مكروه فداها .

سلام بر پیامبر ما و خاندان پاکیزه اش .

مجید هادیزاده

1380/7/20 - 1422/8/25

ص: 31

ص: 32

اشارة

 بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

الحمد لله الّذي دلّ على ذاته بذاته وتجلّى لخلقه ببدائع مصنوعاته ، أظهر من عجائب قدرته ما حيّر ثواقب العقول والأفهام وابرز من غرائب عظمته ما بهّر نوافذ المدارك والأوهام ، خرق علمه باطن غيب السترات وأحاط بغموض عقائد السريرات. والصّلاة على مهابط المعارف والأسرار ووسائط الفيوضات والأنوار من الأنبياء المكرّمين الأخيار وخلفائهم الراشدين الأطهار.

وبعد ؛ فيقول أضعف المحتاجين مهديّ بن أبي ذر النراقي - نوّر اللّه قلبه بنور اليقين وجعله من السابقين المقرّبين - هذا - يا اخواني! - ما أردتم من أصول المعارف الحقيقيّة وجوامع العقائد اليقينيّة من العلم باللّه وصفات كماله ومعرفة أسمائه ونعوت جلاله ، وما يتلوهما من المباحث الإلهية العالية والمطالب الحقّة المتعالية ممّا يرتقى به إلى منازل الاخيار ويعرج به إلى عوالم العقول والأنوار ، ويتوجّه به إلى شطر كعبة الملكوت ويسلك به إلى صقع عالم الجبروت. وقد بعث اللّه السفراء لأجله وانعقد اجماع الأمّة على وجوب أخذه ، فيلزم على الكلّ حمله ولا يسع لأحد جهله. وأسأل اللّه أن يجعله خالصا لوجهه ويحرسه عن غير أهله. ولاشتماله على جميع الأفكار الالهية ونقدها - سيّما مع ما تعلّق « بالشرح الجديد للتجريد » من الحواشى - سمّيته ب- : « جامع الأفكار وناقد الأنظار » ؛ ورتّبته على مقدّمة ومقالات.

ص: 1

ص: 2

[ مقدّمات الكتاب ]

اشارة

[ مقدّمات الكتاب (1) ]

ص: 3


1- عقد المصنّف - رحمه اللّه - هذه المقدّمة لكى يبحث عمّا يجب البحث عنه مقدمة لاثبات الواجب - جلّ وعلا - الّذي هو العمدة في كتابنا هذا. والمقدّمة تشتمل على هذه الابحاث : - في ابطال ترجّح المساوى والمرجوح وترجيحهما ؛ 2 - في انّ طرفى المعلول ما لم يجب لم يقع ؛ 3 - في ابطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية أو خارجية واثبات انّه لا يوجد إلاّ بعلة خارجة 4 - في انّ الممكن كما يحتاج في وجوده العلّة يحتاج في بقائه أيضا إليها 5 - في ابطال الدور والتسلسل. واظنّ انّه اقتفى في هذا المنهج اثر الامام الرازي حيث قال : ... انّ هذا الدليل - اى : الدليل الّذي اقامه لاثبات الواجب - مبنى على مقدمات : اوّلها : انّ الممكن لا يترجّح احد طرفيه على الآخر إلاّ لمرجّح. وثانيها : بيان انّ هذه الحاجة في حال الحدوث أو في حال البقاء. وثالثها : انّ ذلك المرجّح يجب ان يكون موجودا. ورابعها : انّه يجب أن يكون موجودا حال حصول الاثر. وخامسها : انّ الدور باطل. وسادسها : انّ التسلسل باطل. راجع : المطالب العالية ج 1 ص 72.

المقدّمة الأولى : في ابطال ترجّح المساوي والمرجوح وترجيحهما

في ابطال ترجّح المساوي والمرجوح وترجيحهما (1)

بيان الأوّل : انّ معنى « المساوات » : كون شيئين في مرتبة واحدة بالنظر إلى ثالث ؛ و « المرجوحيّة » : كون أحدهما أبعد من الآخر ؛ و « الراجحية » : كونه أقرب منه ؛ فلو ترجّح المساوي أو المرجوح لزم التناقض ، وبطلانه بديهيّ (2) ؛ وبه يظهر بطلان الثاني من الفاعل الموجب ، بل ومن المختار أيضا.

والأشاعرة - بل أكثر المتكلّمين - على أنّ الاختيار يكفي للترجيح ، وللمختار أن يعلّل فعله بالمشيّة ولا حاجة له إلى مرجّح آخر ؛

وفيه : انّه وإن كان كافيا في ترجيح نفس الفعل أو الترك إلاّ أنّه لا بدّ في تعلّقه بأحدهما من مرجّح آخر ، ولذا لو قيل له : « لم فعلت »؟ يمكن له أن يقول : « لأنّي شئته »! ، ولو قيل له : « لم شئته »؟ ، لم يجز له التعليل بالمشيئة ؛ بل لا بدّ له من التعليل

ص: 4


1- راجع : الشرح الجديد على التجريد ، ص 39. وانظر أيضا : كشف المراد ، ص 32.
2- « ورايت أبا الحسن محمّد بن على البصرى - وهو كان من اذكياء المعتزلة - احتجّ على هذه المقدّمة في الكتاب الّذي سمّاه بالتصفّح ، فقال : الممكن هو الّذي استوى طرفاه ، فلو حصل الرجحان من غير مرجّح لزم أن يحصل الرجحان حال حصول الاستواء ، وذلك جمع بين النقيضين وهو محال ». راجع : المطالب العالية ، ج 3. ص 87.

بمرجّح.

وما احتجّوا به من رغيفى الجائع وطريقى الهارب - وأمثالهما (1) - لا يفيد مطلوبهم! ، لظهور وجود رجحان وقت الترجيح وإن لم يشعر به أو لم يبق في ذكره ، فانّ العلم بالمرجّحات وبقائه في الذّكر غير لازم.

فان قيل : مع مرجّح للفعل مثلا إن جاز الترك احتيج إلى مرجّح آخر ولزم التسلسل ، وإلاّ وجب الفعل وزال الاختيار! ؛

قلنا : الوجوب بالاختيار لا ينافيه ، بل يؤكّده ؛ فانّ المختار إذا تعقّل رجحان الفعل واختاره حصل العلّة المستقلّة للفعل ووجب ، ولو لا الاختيار لم يتأتّ الوجوب ، فهو من آثاره ولوازمه ومؤكّداته ودلائله.

المقدّمة الثانيّة : في أنّ طرفي المعلول ما لم يجب لم يقع

وبيانه : انّ وقوع أحدهما امّا مع امتناع الآخر ؛ أو امكانه ؛ مساويا ، أو راجحا ، أو مرجوحا ، والأوّل يوجب المطلوب ، والثاني ترجيح لأحد المساويين من دون مرجّح ، والثالث ترجيح للمرجوح ، والرابع يوجب جواز ترجيح المرجوح ، لانّ المفروض امكان وقوع الطرف الآخر (2).

ص: 5


1- راجع : شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 484 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 208 ؛ وحاشية المتألّه السبزواري على نفس الموضع. ولتفصيل الاحتجاج ونقده : المطالب العالية ، ج 1. ص 108 ، 118 ؛ المباحث المشرقية ، ج 1 ، ص 126.
2- قد اوجز المصنّف في هذا الفصل تمام الايجاز ، فلتفصيل هذه المقدّمة انظر : الحكمة المتعالية ، ج 1 ص 221 ؛ المباحث المشرقية ، ج 1 ، ص 131 ؛ شرح عيون الحكمة ، ج 3 ، ص 94 ؛ تلخيص المحصّل ، ص 119.

المقدّمة الثالثة : في ابطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية أو خارجية ، واثبات انّه لا يوجد إلاّ بعلّة خارجة

في ابطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية أو خارجية ، واثبات انّه لا يوجد إلاّ بعلّة خارجة (1)

ولا بدّ لنا أوّلا / 2MA / من بيان قسمة عقلية ؛ هي : أنّ كلّ موجود إذا لوحظ من حيث هو إمّا ينتزع منه الوجود بنفس ذاته مع قطع النظر عن جميع ما عداه ، أو لا ؛ بل يتوقّف الانتزاع على ملاحظة غيره. وبعبارة اخرى : كلّ موجود بنفس ذاته إمّا يجب له الوجود ، أو لا ، بل يتساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ؛ والثانى - على التقديرين - هو « الممكن » ، والأوّل هو « الواجب » - المعبّر عنه « بالوجود الحقيقىّ » عند / 2DA / المشّائين و « بالنور الغيبيّ » عند الاشراقيّين و « بمنشإ انتزاع الموجودية » عند أهل الذوق من المتألّهين و « بالمرتبة الاحدية » عند الصوفيّة و « بالوحدة الحقيقيّة » عند فيثاغورث (2) -.

وهذه القسمة وإن كانت ضروريّة إلاّ أنّه أورد عليها شكوك ثلاثة لا بدّ من دفعها ؛

اوّلها : انّه يمتنع أن يحكم على ماهيّة من الماهيّات بامكان الوجود ، لانّ كلّ ماهيّة إمّا معدومة ، فلا تقبل الوجود ؛ أو موجودة ، فلا تقبل العدم ، وإلاّ اجتمع النقيضان! ؛

وجوابه : إنّ الحكم بالامكان على الماهيّة من حيث هي من دون اعتبار الوجود والعدم ، فلا يلزم اجتمع النقيضين.

وثانيها : انّ العدم ليس له تميّز في الخارج ، فلا يتصوّر له نسبة إلى شيء فضلا عن تساوي النسبة ؛

ص: 6


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 39. وانظر أيضا : كشف المراد ، ص 32 ؛ شوارق الإلهام ، ج 1. ص 89 ؛ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 481 ؛ گوهر مراد - الطبعة الحجرية - ، ص 144 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 199.
2- راجع : المبدأ والمعاد - لصدر المتألّهين - ، ص 11. وفيه : « ... بالنور الغنى عند الرواقيين ». والمذكور في المتن يوجد في ما بأيدينا من مخطوطتين.

وجوابه : بعد مطالبة وجه تخصيص الاعتراض بالعدم! ، لانّ الوجود مثله في عدم التميّز في الخارج وعروضه في الذهن ، لما حقّق في موضعه انّ تساوي نسبة الوجود والعدم إلى ذات الممكن انّما هو في العقل ، بمعنى أنّ العقل إذا لاحظ الممكن والوجود والعدم يحكم بتساوي نسبتهما إليه : وهذا لا يقتضي أزيد من تمايزهما في العقل ، وثبوته فيه لا يقبل المنع. ومعنى تساوي النسبة المذكورة هو عدم اقتضاء ذات الممكن شيئا منهما ، لا اقتضاء تساويهما حتّى يرد امتناع رجحان الوجود أو العدم حينئذ لعلّة خارجة شيئا ، لانّ ما به الذات لا يتخلّف ، والمتنافيين يمتنع اجتماعهما ولو بالف علّة!

وثالثها : أنّه لو اتّصفت ماهيّة بالامكان لوجب اتّصافها به ، وإلاّ لزم زواله عنها ، وهو محال ، لانّه من لوازم ماهيّة الممكن فلا يزول عنها. وإذا وجب الاتّصاف وجب اتصافها بذلك الوجوب أيضا وكذلك بوجوب الوجوب وهكذا ، فيتسلسل الوجوبات إلى غير النهاية. وهذه الشبهة جارية في أكثر المفهومات - كالقدم والحدوث والاتصاف واللزوم والوحدة والحصول إلى غير ذلك من المفهومات الاعتبارية الّتي تتكرّر نوعها -. مثلا يقال : لو لزم شيء لشيء للزم لزومه أيضا ، وكذا لزوم لزومه وهكذا ، فيتسلسل اللزومات إلى غير النهاية وإلاّ لزم الانفكاك بين اللازم والملزوم ؛ وقس عليه غيره! ؛

واجيب عنه : بانّ مثل هذا التسلسل التسلسل في الأمور الاعتبارية ، ولمّا كان تحقّقها بحسب اعتبار العقل فيترتّب السلسلة ريثما اعتبرها العقل يمكنه اعتبارها غير متناهية لعدم قدرته على دوام الاعتبار ، فينقطع بانقطاع اعتباره ؛ على أنّ فرض دوام اعتباره غير مفيد ، لتناهى ما ينتهي إليه في أيّ وقت فرض.

قيل : توضيح ذلك يتوقّف على مقدمة ، هى : انّ نسبة العقل إلى مدركاته كنسبة البصر إلى مبصراته ، فكما انّ الناظر في المرآت قد لا يشاهدها أصالة بل يجعلها آلة ووسيلة لمشاهدة غيرها من الصور المرتسمة فيها فيلاحظ بها تلك الصور أصالة - بحيث يتمكّن من تعرّف احوالها واجراء الاحكام عليها - ويلاحظ المرآة تبعا وليس له بهذه الملاحظة أن يتمكّن من تعرّف أحوالها واجراء الاحكام عليها ، كذلك العقل قد

ص: 7

لا يشاهد بعض مدركاته أصالة وقصدا ؛ بل يجعلها مرآة وآلة لمشاهدة بعض آخر من مدركاته ، وقد يشاهده أصالة وقصدا. مثال الأوّل أن يلاحظ الامكان من حيث انّه حالة بين الماهيّة والوجود ، فهو بهذه الملاحظة آلة للعقل في معرفة حالهما ومرآة لمشاهدة صفتهما ، لانّه بهذه الاعتبار جهة القضيّة - وهى كيفيّة الرابطة بين الموضوع والمحمول ، اعنى : الماهية والوجود - والمعنى الرابطي مأخوذ مع تلك الكيفيّة ليس ملحوظا بالأصالة مدركا بالقصد. ولا يتمكّن العقل بهذا التوجّه أن يحكم عليه بنسبة ولا أن يعتبر نسبته إلى شيء ، بل ملاحظة العقل له حينئذ باعتبار ملاحظة الوجود والماهيّة ، فهو يلاحظهما أصالة ويلاحظه تبعا!. ومثال الثّاني أن يلاحظ الإمكان أصالة وقصدا ويدركه من حيث انّه مفهوم من المفهومات ويقصده لتعرف حاله واجراء / 2MB / الاحكام عليه. وقس على الامكان غيره من المفهومات ، فانّ اللزوم قد يلاحظه العقل من حيث أنّه حالة بين اللازم والملزوم ، فهو حينئذ آلة لمعرفة حالهما وملحوظ بملاحظتهما ، فلا يقدر العقل من الحكم عليه بشيء ولا اعتبار نسبته إلى شيء ، وقد يلاحظه قصدا ومن حيث انّه مفهوم من المفهومات.

وإذ ثبت هذه المقدّمة نقول : إذا اعتبر الامكان على الوجه الأوّل لم يلزم تسلسل ولا ترتّب اصلا - لما مرّ أنّه لا يتمكّن حينئذ من أن يحكم عليه بشيء أو ينسبه الى شيء - فليس له حينئذ أن يحكم بأنّه ممّا يتّصف الغير به أو ممّا يجب اتصافه / 2DB / به أو غير ذلك ، فلا اشكال على هذا الوجه مطلقا ؛ وإذا اعتبره على الوجه الثانى ولاحظ معه ماهيّة الممكن أيضا واعتبر النسبة بينهما حكم بوجوب اتّصافها به واعتبار وجوب الاتّصاف حينئذ لما كان من حيث انّه حالة بين الماهيّة والامكان ، فيكون من الوجه الأوّل ولا يفضى الى اعتبار وجوب آخر بين الماهيّة وهذا الوجوب ؛ فلا يلزم تسلسل ولا ترتّب. نعم! ، إن لاحظه العقل قصدا وأصالة ومن حيث انّه مفهوم من المفهومات ولاحظ معه الماهيّة وتعقّل النسبة بينهما لزمه اعتبار وجوب آخر بين الماهيّة وهذا الوجوب ، فاعتبار الوجوب الآخر - اعنى الوجوب الثانى - يتوقّف على ثلاث ملاحظات ليس شيء منها ضروريا للعقل ، فله أن يلاحظه ؛ وهذا هو المراد « بانقطاع التسلسل

ص: 8

بانقطاع الاعتبار ». ثمّ اعتبار الوجوب الثاني لمّا كان من حيث أنّه حالة بين الماهيّة والوجوب الأوّل يكون من الوجه الاوّل ، فلا يفضى إلى اعتبار وجوب ثالث بين الماهيّة والوجوب الثانى. نعم! ، إن اعتبره العقل أصالة ولاحظه من حيث انّه مفهوم من المفهومات ولاحظ معه الماهيّة والنسبة بينهما لزمه اعتبار وجوب ثالث ، إلاّ انّه يتوقّف على ملاحظات غير لازمة للعقل ، فله أن لا يلاحظهما فينقطع التسلسل ؛ وهكذا الكلام في اعتبار الوجوب الرابع والخامس وما فوقهما. وهكذا حال انقطاع التسلسل في سائر الأمور الاعتبارية من اللزوم والحصول وغيرهما.

هذا ما ذكروه في الجواب عن الشبهة المشهورة بشبهة لزوم التسلسل في اللزوم وامثاله.

وأورد عليه : بأنّ وجوب اتّصاف ماهيّة الممكن أو اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين لو كان بمجرّد اعتبار العقل فما لم يعتبره العقل لم يتحقّق ، واعتبار العقل ليس ضروريّا ، فيجوز أن لا يتحقّق وجوب اتصاف ماهيّة الممكن بالامكان ، ولا اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين ، فيمكن الانفكاك بينهما ؛ فلا يكون اللازم لازما ولا الملزوم ملزوما. وأيضا لا ريب في أنّ وجوب اتصاف الممكن بالامكان ووجوب اتصافه بوجوب الاتصاف واللزوم بين المتلازمين واللزوم بين اللزوم واحدهما أمور متحقّقة في الواقع ونفس الامر - وإن قطع النظر عن اعتبار العقل - ، فليست الوجوبات واللزومات أمورا اعتبارية ، بل حقيقيّة واقعيّة.

واجيب عنه : بانّ عدم كون الوجوبات واللزومات المذكورة من الأمور المتحقّقة في نفس الأمر لا يوجب امكان زوال الامكان عن الممكن وجواز الانفكاك بين اللزوم الأوّل وأحد المتلازمين ، وانّما يلزم ذلك لو لم تكن ماهيّة الممكن واجبة الاتصاف بالامكان ، ولا اللزوم الأوّل لازما لأحد المتلازمين في نفس الامر ، وهو محال ؛ لانّ انتفاء مبدأ المحمول في نفس الامر لا يستلزم انتفاء الحمل فيه ، فغاية الامر انّ انتفاء مبدأ المحمول في الواقع يستلزم انتفاء المحمول - أعنى : مفهوم وجوب الاتصاف ومفهوم اللازم فيه - لانتفاء جزئه ؛ ولا يوجب عدم صدقه في ذلك المحمول العدمي على شيء في نفس

ص: 9

الأمر ، فانّ صدق المفهومات العدميّة في نفس الأمر على الأمور الموجودة فيها لا ينكر ، فانّ مفهوم الأعمى غير موجود في الواقع لانتفاء جزئه فيه ، مع أنّه يصدق على زيد وعمرو مثلا ، والأربعة إذا وجدت في الذهن متّصفة بالزوجيّة في نفس الأمر ، مع أنّ الزوجيّة غير موجودة فيها - وأمثال ذلك أكثر من أن يحصى! -. وغير خفىّ أنّ الضروري والمسلّم ثبوت الحمل في نفس الأمر - أعني : كون ماهيّة الممكن واجبة الاتّصاف بالامكان في الواقع واللزوم الأوّل لازما لأحد المتلازمين في نفس الأمر - إلاّ أنّ وجوب الاتصاف واللزوم الأوّل من الموجودات الواقعيّة ، فانقطاع التسلسل في الوجوبات واللزومات الاعتبارية بانقطاع اعتبار العقل وان بقى ثبوت وجوب اتصاف الممكن بالامكان واللزوم الأوّل في نفس الأمر ؛ إلاّ أنّه لا ينفى تحقّق الحمل المذكور فيها. / 3MA /

وأورد عليه : بأنّ الماهيّة واجبة الاتصاف بكلّ واحد من الوجوبات المتسلسلة إلى غير النهاية ، وكلّ واحد من اللزومات المذكورة لازم لأحد المتلازمين في نفس الامر ، اذ لولاه جاز أن لا تكون الماهية واجبة الاتصاف بالامكان وامكن أن لا يكون اللزوم الأوّل لازما لاحد المتلازمين ، فيجوز انفكاك اللازم عن الملزوم. وأيضا لا ريب في انّ الماهية واجبة الاتصاف بكلّ واحد من الوجوبات المذكورة في نفس الامر ، وانّ كلّ واحد من اللزومات لازم لاحد المتلازمين في الواقع وإن قطع النظر عن اعتبار العقول والاذهان. والحاصل كما انّه يصدق أنّ الماهيّة واجبة الاتصاف بالامكان / 3DA / وانّ اللزوم الأوّل لازم لأحد المتلازمين في نفس الأمر يصدق أنّ الماهية واجبة الاتّصاف بوجوب الاتصاف ووجوب الوجوب ، وهكذا ؛ وأنّ اللزوم الثانى والثالث وما فوقهما لازم لاحد المتلازمين في نفس الامر ، فتحقّق الحمل في الواقع في الكلّ سواء. وإذا كان كلّ واحد من الوجوبات واجبا وكلّ واحد من اللزومات لازما في نفس الامر كان كلّ وجوب وكلّ لزوم متحقّقا فيه ، لأنّ البديهة قاضية بانّ ما لا ثبوت له في نفس الأمر لا يتّصف بثبوت شيء له فيه ؛ فانّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له. فان كان هذا الثبوت بحسب نفس الأمر كان المثبت له ثابتا فيه ، وإن كان بحسب الخارج كان المثبت له موجودا فيه - فانّ الشيء ما لم يوجد في أحدهما لم يتّصف بثبوت شيء

ص: 10

له فيه ولم يثبت له صفة فيه ، سواء كان ذلك الشيء المثبت وجوديّا أو عدميا - ؛ ولذا قالوا : صدق القضية الموجبة المعدولة الخارجية يستدعي وجود موضوعها في الخارج فكلّ واحد من تلك الوجوبات واللزومات كما وقع مبدأ للمحمول في قضية صادقة في نفس الأمر كذلك وقع موضوعا لها ، وصحّة الحمل في نفس الأمر توجب ثبوت الموضوع فيه وإن لم توجب ثبوت مبدأ المحمول فيه ؛ وهذا يقتضي تحقّق جميع تلك الوجوبات واللزومات الغير المتناهية في نفس الأمر ، فيلزم التسلسل في الأمور المتحقّقة في الواقع ونفس الأمر لا في الأمور الاعتبارية المنقطعة بانقطاع الاعتبار.

والجواب : انّ وجود الموضوع - الّذي هو مقتضى صدق القضية الخارجية - أعمّ من أن يكون موجودا بوجود مستقلّ يخصّه أو يكون موجودا بوجود ما ينتزع هو عنه ، فانّ قولنا : « الفوقية ثابتة » قضية خارجية مع أنّ الموضوع فيها ليس موجودا في الخارج بوجود مغاير يخصّه ، بل موجود بوجود ما ينتزع عنه - أعني : السقف مثلا - ، واجزاء الجسم المتصل الواحد موجودة بوجود كلّها ، مع أنّ كلّ واحد منها قد يصير موضوعا للقضية الموجبة الصادقة في الخارج ونفس الأمر كما إذا كان بعضها حارّا وبعضها باردا ، فيقال : « بعض أجزاء هذا الجسم حارّ وبعضها بارد ». فيصدق الايجاب الخارجي مع أنّ الأجزاء المذكورة ليست موجودة في الجسم بصور مغايرة ، بل هى موجودة بوجود ما ينتزع هي عنه - أعني : وجود الكلّ -. ومن البيّن انّها ليست في الخارج ونفس الأمر معدومات صرفة بل لها نحو من الوجود. إلاّ انّها ليست لها وجود منفرد عن الكلّ بل هى موجودة بوجوده ، وكذا الحال في وجود كلّ ما هو موجود بوجود ما ينتزع عنه. وكما أنّ صدق القضية الخارجية يقتضي وجود موضوعها في الخارج بأحد الوجهين فكذا صدق القضيّة الذهنيّة يقتضي وجود موضوعها في الذهن بأحد الوجهين ، فإنّ موضوع القضيّة الذهنية قد يكون موجودا في الذهن بوجود منفرد يخصّه ، وقد يكون موجودا فيه بوجود ما ينتزع عنه من المعقولات المستقلّة سواء كان جزء لها أو لا. وكما أنّ خصوص القضيّة الخارجية قد يقتضي نحوا خاصّا

ص: 11

من الوجود - كالحكم بالتخيير فانّه يقتضي الوجود الخاصّ به المستقل والحكم على الجوهر بخواصّه ؛ فانّه يقتضي نحوا لوجود الّذي يخصّه ، والحكم على العرض بخواصّه ؛ فانّه يقتضي نحوا لوجود الخاصّ به - ، كذلك القضايا الذهنية قد تقتضى خصوصيات الوجود. وهذا كما أنّ المطلقة تقتضي وجود الموضوع بالفعل والدائمة تقتضى وجوده بالدوام والممكنة تقتضي وجوده بالامكان.

وإذا علمت ذلك فنقول : انّ الوجوبات واللزومات المذكورة وإن لم تكن موجودة في نفس الأمر بصور مغايرة ووجودات منفردة إلاّ انّها موجودة فيها بوجود ما ينتزع هي عنه ، وإن كان كلّ واحد منها منتزعا من آخر كان ذلك الآخر أيضا منتزعا عن مثله إلى أن ينتهى إلى الوجود المستقلّ المنفرد - أعني : الماهية وأحد المتلازمين - ، فانّ وجود المنتزع منه للموضوع لا يلزم أن يكون مستقلاّ منفردا ، بل يكفى أن يكون هو أيضا منتزعا عن غيره. ويجوز أن يكون كلّ واحد من هذه المنتزعات - الّتي جعلت موضوعات - بحيث ينتزع عنه شيء آخر يكون محمولا له ، لانّ لزوم شيء لآخر قد يكون بحسب الوجود المستقل بالفعل من كلا طرفي الملزوم واللازم بان يمتنع انفكاك الملزوم في وجوده / 4DB / بالفعل / 3MB / عن وجود اللازم بالفعل ، وقد يكون بحسب الوجود بالفعل من أحد الطرفين وبحسب صحّة الانتزاع من الطرف الآخر ، كلزوم الانقطاع للجسم ؛ فانّ الانقطاع من حيث انّه منتزع لازم للجسم من حيث انّه موجود بالفعل ، وقد يكون بحسب صحّة الانتزاع من كلا الطرفين. ومن هذا القبيل لزوم اللزوم ، فانّ مرجعه إلى أنّ اللزوم لا يمكن صحّة انتزاعه الاّ وهو بحيث يصحّ منه انتزاع اللزوم للزوم ، وهكذا ، فثبت انّه يكفي في صدق الايجاب هذا النحو من الوجود - أعنى : صحّة انتزاعه من موجود وان كان منتزعا من مثله - ، كما أنّ الممكنة يكفي في صدقها وجود الموضوع بالامكان. ولا ريب انّ الانتزاع من فعل العقل وليس هذا ضروريا له ، فإذا لم يعتبره لم يتحقّق وجود منتزع منفرد في نفس الامر ، فينقطع التسلسل في الوجوبات واللزومات بانقطاع اعتبار العقل ولا يلزم تحقّقها في نفس الامر بصورة مغايرة ليلزم التسلسل في الأمور المتحقّقة فيها ، وان كان لها في نفس الأمر نحو تحقّق يصحّ لأجله

ص: 12

صدق تحقّق وجوب اتصاف ماهية الممكن بالامكان وبثبوت اللزوم بين اللزوم وأحد المتلازمين.

واذ صحّت القسمة المذكورة للموجود وثبت أنّ الممكن ما يتساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ويتوقّف انتزاع الوجود منه على ملاحظة غيره ؛ نقول : يلزم منه أن يكون الممكن في وجوده محتاجا إلى علّة خارجة ، لأنّه لو لم يفتقر إليه ووجد بدونها فإمّا أن يصير موجودا بنفسه مع تحقّق تساوي النسبة المذكورة ، أو مع اولوية ذاتية ناشئة عن ذاته غير منتهية إلى حدّ الوجوب ، أو اولوية خارجة ناشئة عن غيره كذلك ؛ والكلّ باطل!.

امّا الأوّل فلانّه ترجّح لأحد المتساويين من غير مرجّح - وقد مرّ بطلانه - ؛ وإن فرض انّ الوجود وجب له بذاته مع عدم كونه واجبا لذاته فهو متناقض لنفسه.

واستدلّ عليه الشيخ في الشفا : بانّ ماهية الممكن إن كانت كافية في كونه موجودا كان واجبا موجودا دائما ، وان لم يكف احتاج إلى غيره ، وهو العلّة ؛

وأورد عليه : بانّه إن اريد بالكفاية لها الكفاية في صحّة الاتصاف بالوجود فنختار الكفاية ولا يوجب كونه واجبا ؛

وإن أريد بها الكفاية في لزوم الوجود فنختار عدم الكفاية ونمنع ايجاب ذلك لعلّة خارجة ، لامكان أن يتّصف بالوجود ويعرضه الوجود فيصير موجودا بدون علّة وإن لم يبلغ حدّ الوجوب ، فانّ المتنازع فيه ليس الاّ هذا ، فلئن جوّز وجود الممكن بلا علّة فله أن يجوّز هذا ، بل هذا عين ذاك.

واجيب عنه ، بأنّ ماهيّة الممكن إن كانت كافية في صحّة الاتصاف بالوجود لكانت كافية في لزوم الوجود ، لأنّ ما ثبت للشيء بالنظر إلى ذاته يجب أن يكون لازما له غير منفكّ عنه بالنظر إلى ذاته - كالزوجيّة للأربعة -.

ثمّ هذا الحكم - أعني : احتياج الممكن في وجوده إلى علّة خارجة - ممّا اتفق عليه جميع العقلاء ولم يخالف فيه احد سوى ذيمقراطيس من الأقدمين ، فانّه ذهب إلى أنّ

ص: 13

وجود الممكنات من السماوات وغيرها بطريق البخت والاتفاق (1) ، وقال : انّ احتياج الممكن إلى المؤثّر يوجب جواز تأثيره فيه ، اذ احتياجه إليه مع امتناع تأثيره غير معقول ، لكن تأثير أمر في أمر آخر محال ، لوجوه ؛

منها : انّ التأثير إن كان بشرط عدم الأثر لزم الجمع بين النقيضين ؛ وإن كان بشرط وجوده لزم تحصيل الحاصل (2) ؛

والجواب : انّ المؤثر يؤثّر في الأثر لا من حيث هو معدوم ولا من حيث هو موجود ، بل يؤثّر فيه من حيث هو غير مقيّد بشيء من الوجود والعدم ، غاية الأمر انّ تحقّق التأثير في زمان وجود الأثر بمعنى أنّ التأثير يقارن وجود الأثر زمانا وان تقدّم عليه ذاتا ، فلا يتحقّق في زمان قبل زمان وجود الأثر ؛ بل تحقّقه إنّما هو في زمان وجوده. وهذا لا يوجب إلاّ لزوم تحصيل الحاصل بهذا التأثير المذكور ، ولا استحالة فيه ، انّما المحال التحصيل - أى : تحصيل الحاصل - قبل هذا التحصيل. وتوضيح ذلك انّ تاثير المؤثّر في ماهيّة ممكن ليس إلاّ ايجادها - أي : جعلها موجودة - وهذا الايجاد فعل يقارن زمان وجود هذه الماهيّة وإن تقدّم عليه ذاتا لترتّب الوجود على الايجاد - ولذا يقال : « اوجد فوجد » - ، فلا يتحقّق قبل وجودها زمانا. بل تحقّقها في زمان وجودها لا يوجب ذلك تحصيل ما كان حاصلا قبل هذا الفعل ، بل يوجب تحصيل الحاصل بهذا الفعل ولا استحالة فيه. انّما المحال تحصيل ما كان حاصلا قبل هذا الفعل ، وانّما / 4DA / يتصوّر ذلك / 4MA / إذا كان وجود الماهيّة شرطا للايجاد بان تكون موجودة قبله ، وليس كذلك.

ومنها : انّه لو اثّر شيء في غيره لاتّصف بالمؤثّرية ، والمؤثّرية وصف محتاج إلى الموصوف ، فيكون ممكنا محتاجا إلى المؤثّر ، فيتحقّق مؤثّريّة أخرى ؛ وننقل الكلام إليها حتّى يلزم التسلسل ؛

ص: 14


1- راجع : شرح المقاصد ، ج 1 ص 485. والقول عند صدر المتألّهين ورئيسهم منسوب إلى انباذقلس الحكيم. وهو عنده من مرموزات المتقدّمين لكتم اسرارهم الربوبية. راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1. ص 210.
2- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1 ص 211 ؛ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 484.

وجوابه : انّ المؤثرية اعتبار عقلى غير موجود في الخارج حتّى تكون ممكنا محتاجا إلى العلّة ولا ينافيه اتصاف الشيء بها في نفس الأمر ، لانّ انتفاء مبدأ المحمول لا يوجب انتفاء الحمل والاتصاف به - وقد مرّ توضيح ذلك وتحقيقه في الجواب عن شبهة لزوم التسلسل في اللزوم وامثاله -.

ومنها : انّ تاثير المؤثّر امّا في الماهيّة أو الوجود ، أو في اتّصافها به ، والكلّ باطل ؛ أمّا بطلان تأثيره في الوجود والاتصاف فلانهما أمران اعتباريان لا يصلحان اثرا للمؤثّر ؛ وأمّا بطلان تأثيره في الماهيّة فلأنّ الماهيّة لو كانت ماهيّة بتأثير المؤثّر لوقع الشكّ في كونها ماهيّة عند الشكّ في وجود المؤثّر ، وهو باطل ، فلو كان الانسان انسانا بجعل الجاعل لوقع الشكّ في كونه انسانا إذا شكّ في وجود الجاعل ، وهو باطل. وأيضا ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فانّ الانسان في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر انسان ولو قطع النظر عن جميع ما عداه. وأيضا كون الانسان انسانا وكذا كون كلّ شيء نفسه لو كان بجعل الجاعل لم يكن الانسان انسانا ولا كلّ شيء نفسه عند عدم الجاعل ، بل كان قبل أن يفعله وبعد إن يعدمه غير نفسه ، فيلزم سلب الشيء عن نفسه ، وهو ظاهر البطلان (1)! ؛

أقول : قبل الخوض في جواب هذا الايراد لا بدّ لنا من تمهيد مقدّمة ، وهي انّ التأثير في الماهية يتصوّر على وجهين :

أحدهما : ان يجعلها الجاعل ايّاها - أي : يجعل الماهيّة ماهية - وهو الجعل المركّب في الماهيّة ؛

وثانيهما : أن يجعلها موجودة - أي : يجعل الماهيّة المعقولة موجودة في الخارج - ، وهو الجعل البسيط فيها.

والتأثير في الوجود والاتصاف أيضا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يجعل الوجود وجودا والاتصاف اتصافا - وهو أيضا جعل مركّب فيهما - ؛

ص: 15


1- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 213.

وثانيهما : أن يجعل كلاّ منهما موجودا. والمورد قصر الجعل في الماهيّة على الوجه الأوّل ، وابطاله بما ذكر.

ولمّا لزم منه بطلان الجعل بالوجه الأوّل في الوجود والاتصاف أيضا تعيّن أن يحمل الجعل فيهما في كلامه على الوجه الثاني - كما يقتضيه دليله الّذي ذكره لإبطاله -.

ولا ريب في أنّ الجعل المركّب في كلّ واحد من الماهيّة والوجود والاتصاف باطل - للأدلّة الثلاثة الّتي ذكرها المورد -.

وهي وإن كانت عند التحقيق تامّة ناهضة لاثبات المطلوب إلاّ انّه أورد على كلّ منها اعتراض لا بدّ لنا أن نشير إلى دفعه.

أمّا الدليل الأوّل فقد اعترض عليه : بأنّه يجوز أن يكون شيء لازما بيّنا بالمعنى الأعمّ لشيء آخر مع ثبوته له بتأثير المؤثّر ، فيمكن أن يكون الانسانية للانسان لازما بيّنا بالمعنى الأعمّ مع ثبوته له بتأثير المؤثر ، فلا يقع الشكّ في ثبوته له مع الشكّ في وجود المؤثر ؛

وجوابه : انّه قد تقرّر عند القوم انّ العلم اليقينى الكلّى بما له سبب لا يحصل إلاّ من العلم بسببه ، فلو كانت ثبوت الانسانية للانسان بتأثير المؤثّر لم يتيقّن كلّيا مع الشك في وجود مؤثّره.

فان قيل : المقرّر عندهم انّ ما له سبب إذا لم يكن بديهيا لا يحصل العلم الكلّي اليقينى إلاّ من جهة سببه ، وثبوت الشيء لنفسه لمّا كان ضروريا لا يتوقّف على العلم بالسبب ، فيجوز أن يكون بتأثير المؤثر ويتيقن به كلّيا مع الشكّ في وجود مؤثّره ،

قلنا : ان اريد انّ وجوب الشيء لنفسه على فرض وجوده في الخارج ضرورى ، فممنوع ، لكن الدعوى أعمّ ؛ وإن اريد انّه ضروري أعمّ من أن يكون الشيء موجودا في الخارج أو معدوما ، فممنوع ، كيف وبعضهم منع بطلان التالي في هذا الدليل! - أعني : وقوع الشكّ في كون الانسان انسانا عند الشكّ في وجود المؤثّر - محتجّا بانّ المعدوم في الخارج مسلوب عن نفسه ما دام معدوما ، فإذا ارتفع المؤثّر في وقت أو دائما ارتفع الانسانية كذلك ، فيصدق قولنا : « ليس الانسان انسانا » ويكون صدق السالبة

ص: 16

الخارجة لعدم الموضوع في الخارج. وهذا وإن لم يكن حقّا عندنا - وسيأتي وجه اندفاعه في الدليل الثالث - إلاّ انّه ممّا قال به بعض المحقّقين ، فلا يكون ثبوت الانسانية لمطلق الانسان / 4DB / بديهيّا.

وامّا الدليل الثاني / 4MB / فقد اعترض عليه : بانّه إن اريد به انّا نجزم بثبوت الشيء لنفسه مع عدم العلم بغيره ، فلا يلزم منه عدم كون ذلك الثبوت بسبب المؤثّر ، بل انّما يلزم منه عدم الواسطة في التصديق ، على انّه عند التحقيق يرجع إلى الدليل الأوّل. وإن اريد انّا نجزم بثبوته لنفسه على فرض انتفاء الأغيار يرجع إلى الدليل الثالث ؛

وجوابه : انّ اختيار كلّ واحد من الشقين ممكن. والرجوع إلى الأوّل والثالث لا ضير فيه ، فانّ اختلاف الأدلّة قد يكون بمجرّد الاختلاف في التقرير. فان اختير الشق الأوّل يجاب عن الاعتراض بما مرّ من انّ العلم بذي السبب لا يحصل إلاّ من العلم بالسبب ؛ وان اختير الشق الثاني ورجع إلى الدليل الثالث فتعلم حاله.

وامّا الدليل الثالث فاعترض عليه : بمنع استحالة سلب الشيء عن نفسه إذا كان معدوما ، فانّ ثبوت الشيء للشيء يستدعي ثبوته لنفسه - فثبوت الانسانية للانسان يستدعي ثبوت الانسان - ، فإذا كان الشيء معدوما يصدق سلب جميع المفهومات عنه. فان كان انتفائه واقعا صدقت السالبة المطلقة ، وإن كان ممكنا غير واقع صدقت الممكنة فقط ، وإن كان مستحيلا لم يصدق اصلا ؛

وجوابه : انّا لا نسلّم صدق سلب جميع المفهومات عن المعدوم في الخارج إذا كان موجودا في الذهن ، فانّ حقيقة الانسانيّة ثابتة للانسان المعدوم في الخارج إذا كان موجودا في مدرك من المدارك ، لانّ العقل إذا تعقّل ماهيّة الانسان يحكم بثبوت الانسانية له ، وإن لم يوجد في الخارج. فالانسان الموجود في الذهن دون الخارج انسان. فلا يشترط تاثير المؤثّر في كون الانسان انسانا ، إذ لو كان بتأثيره لم يثبت للانسان الذهني حقيقة الانسانية. وعدم ثبوت الانسانية الخارجية له غير قادح ، لانّ من يقول : « انّ الماهيّة ماهية بدون تاثير المؤثّر » لا يقول بانّ الانسان المعدوم مثلا ثبتت

ص: 17

له الانسانية الخارجية ، بل يقول : « أصل هذه الحقيقة مع قطع النظر عن وجودها وحصولها ثابتة لنفسها ، وامّا وجودها وحصولها في الأكوان فمن الجاعل ». ولمّا كانت هذه الماهيّة ثابتة لنفسها بدون تصوّر جعلها إذا كانت موجودة في الذهن دون الخارج يعلم منه أنّها إذا وجدت في الخارج يكون ثبوتها لنفسها أيضا بدون الجعل وإن كان وجودها من الجاعل. فالماهيّة الموجودة في الخارج وجودها وبروزها في الاكوان بتأثير المؤثّر ، ولكن كونها انسانا أو شجرا أو مثلّثا أو غير ذلك مع لوازمها الذاتيّة ليس بجعل جاعل وتأثير مؤثّر.

وممّا يدلّ على هذا انّه قد يتحقّق في بعض التقادير الحكم بثبوت الماهيّة الموجودة لنفسها مع عدم العلم بتأثير المؤثّر ؛ بيانه : انّ عدم العلم بتأثير المؤثّر قد يكون ناشئا من عدم التوجّه والالتفات من دون استلزامه لصحّة سلب جميع المفهومات لزوما بينا بالمعنى الأخصّ ، إذ اللزوم انّما هو بعد ترتيب مقدّمات. وحينئذ نقول : إذا أبصرنا زيدا مثلا يمكن أن يحصل لنا الجزم بانّه انسان مع عدم العلم بوجود مؤثّره ، وإذا كان كذلك فثبت كون الانسان انسانا عند عدم المؤثّر ، فتمّ الدليل. وأيضا يجوز أن يكون الشكّ في وجود المؤثر للشكّ في انّ هذا الشيء الموجود هل يحتاج إلى المؤثّر أم لا؟ ؛ وحينئذ تجويز عدم وجوده لا يستلزم صحّة سلبه عن نفسه. مثلا يمكن أن يرى شيء وكان له مؤثّر في الواقع ويجزم لثبوته ووجوده لنفسه ويشكّ في وجود مؤثّره - بناء على الشكّ في انّه هل هو ممكن محتاج إلى المؤثّر أم لا؟ -. ولا ريب انّ مثل هذا الشكّ لا ينافي القطع بثبوته لنفسه ، فثبت كون الانسان مثلا انسانا مع الشكّ في وجود مؤثّره ، ولو كان بتأثير المؤثّر لما حصل الجزم به بدون العلم بمؤثّره.

وقد علم بما ذكر انّ صدق سلب جميع المفهومات عن الماهيّة إذا كان لها نحو وجود خارجا أو ذهنا ممنوع. وكذا إذا كانت للماهيّات ثبوت في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر لم يصدق سلب جميع المفهومات عنها بحسبهما ، إذ نقول حينئذ : الانسان الثابت في الواقع ونفس الأمر لا ينفكّ عنه الانسانيّة الواقعيّة ، فماهيّة المثلّث حينئذ في حاقّ الواقع مثلّث من دون افتقار إلى الجعل والتأثير. نعم ؛ إن لم يكن للماهيّات ثبوت

ص: 18

في الواقع ونفس الأمر وفرض انّ ماهيّة - كالانسان مثلا - غير موجودة في الخارج و/ 5MA / لا في مدرك من المدارك صدق سلب جميع المفهومات في نفس الأمر ، إلاّ أنّه غير قادح في المطلوب اصلا - كما لا يخفى -.

على أنّ الصدق / 5DA / المذكور محلّ تامّل!.

وإذ ثبت صحّة ما أورده منكر التأثير والمتأثّر من بطلان الجعل المركّب في الماهيّة والوجود والاتصاف - أي : جعلها ايّاها - نقول في الجواب عن ايراده : انّ بطلان الجعل المركّب لا يوجب بطلان مطلق الجعل ، بل هنا قسم آخر من الجعل يسمّى ب- : « الجعل البسيط » ، وهو الجعل الحقيقيّ الّذي صارت الماهيّات به عن جعل الجاعل وهو جعلها موجودة في الخارج لا بان يكون اشياء ثابتة في أنفسها ويصبغها الجاعل بالوجود كما يفعل الصبّاغ بالثوب ، فانّه ليس جعلا بسيطا بل هو أيضا جعل مركّب ، بل فعلها وفعلها هو بعينه ايجادها في الخارج ، كما انّ المتحرّك إذا تحرّك لا تجعل الحركة ولا شيئا آخر حركة بل انّما يفعل الحركة وبمجرّد فعله يصير الحركة موجودة ، والخطّاط إذا خطّ لا يجعل الخطّ ولا شيئا آخر خطّا ، بل يفعل الخطّ ومجرد فعله هذا هو عين ايجاده في الخارج. ولمّا كان حقيقة هذا الجعل هو موجودية الماهيّة في الخارج والماهيّة الموجودة في الخارج وإن كان شيئا واحدا ليس مركّبا في الخارج من شيئين متميّزين أحدهما الماهيّة والآخر الوجود ، إلاّ أنّ العقل يحلّلها إليهما ويجعل الماهيّة متّصفة بالوجود ، فثبت هناك اشياء ثلاثة : الماهيّة ، والوجود ، والاتصاف. ولاجل ذلك يصحّ أن يقال : « أثر الجعل هو الماهيّة » ، وأن يقال : « اثره هو الوجود » ، وأن يقال : « اثره هو الاتصاف ». ومن ثمّة نجد بعض اقاويل الحكماء دالاّ على انّ تاثير المؤثّر في الماهيّة ، وبعضها دالاّ على أنّ تاثيره في الوجود. وليس هذا كما زعمه بعض المتأخّرين من انّ هنا مذهبين : أحدهما انّ التأثير في الماهيّة - ونسبه إلى الاشراقيّين - ، والثاني انّ التّأثير في الوجود - ونسبه الى المشّائين (1) - ؛ وعلى هذا فالتأثير في الماهيّة هو موجوديتها وليس جعل ذاتها - أي :

ص: 19


1- راجع : كتاب المشاعر ، ص 37 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 398. وانظر أيضا : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق ، ج 1. ص 301.

فعليّتها - أمرا وراء موجوديتها ولا موجوديتها امرا وراء اتصافها بالوجود حتّى يكون متعلّق الجعل هو الماهيّة نفسها بمعنى تابعيتها للجاعل دون كونها موجودة ، كما ذهب إليه بعض المتأخّرين وقال : « انّ الجعل متعلّق ابتداء بنفس الماهيّة لا بكونها هى ولا بكونها موجودة ، ثمّ العقل ينتزع منه كونها هي وكونها موجودة كما هو مذهب الاشراقيين.

وتحقيق ذلك انّه فرق بين جعل الشيء شيئا وبين جعل الشيء. والماهيّة ليست مجعولة ايّاها بل مجعولة في ذاتها بمعنى انّ نفسها تابع للجاعل وان صحّ أن يقال أيضا وجودها تابع له كما انّ عند من يجعل اثر الفاعل هو الاتّصاف بالوجود يصحّ ان يقال جعلهما الفاعل متّصفة بالاتصاف بالوجود أو متّصفة بالاتصاف بذلك الاتصاف. فكما انّ الاثر الأوّل عنده هو الاتصاف - لا بمعنى جعله شيئا بل جعله في نفسه ، والاتّصافات الأخر مرتّبة عليه - ، كذلك الأثر الأوّل عندهم الماهيّة ، لا بمعنى جعلها ايّاها أو غيرها ، بل جعلها في نفسها. وقولهم : « العقل يحكم بانّه جعله موجودا » لا يدلّ على أن ليس الماهيّة بنفسها اثر الفاعل ؛ وقولهم : « العقل يحكم بانّه لم يجعلها ايّاها » - على ما فيه من الكلام كما سبق - انّما يدلّ على نفى الجعل المركّب في الماهيّة لا على نفى جعلها في نفسها ، والفرق بين الجعلين ممّا لا ينبغى ان يخفى على من له ادنى بصيرة.

وإن شئت زيادة توضيح للمرام فاستمع لما يتلى عليك من الكلام ؛ وهو : انّ التأثير قد يكون اختراعيا - أعني : إفاضة الأثر على قابل ، كالصور والاعراض على المادّة القابلة لها - ومن هذا القبيل جعل الموجود الذهنى موجودا خارجيا وبالعكس ، وهذا التأثير بخصوصه يستدعي مجعولا ومجعولا إليه ؛ وقد يكون ابداعيا - أعني : ايجاد الأيس عن الليس المطلق -. ولا يقتضي مجعولا ولا مجعولا إليه ، بل هو جعل بسيط مقدّس عن شوائب التكثّر مستغن عن قابل متعلّق بذات الشيء فقط. وهذا هو التأثير الحقيقيّ في الشيء. والأوّل هو بالحقيقة هو تاثير في بعض اوصافه - أعني كونه شيئا آخر هو الموجود أو غيره - ، فأثره بالذات هو ذلك الاتّصاف. ولمّا كان المتعارف هو التأثير الأوّل وكان في تصوّر هذا التأثير نوع غموض لم يفهمه الكثيرون ، وقصّروا التأثير على المعنى الأوّل ولم يعلموا أنّ ما يفيده الفاعل شيئا يجب أن تكون له

ص: 20

هويّة حتّى يمكن أن يفيده شيئا ؛ انتهى.

وحاصله الفرق بين تعلّق الجعل بذات الشيء وبين تعلّقه بموجوديّته ، وانّ الأثر الحقيقي / 5MB / للجعل هو الأوّل بمعنى أنّه تابع للجاعل دون الثانى. وأنت تعلم انّ تابعيّة ذات الماهيّة من دون فعليّة لها ولا وجود غير معقول ، مع أنّ الموجوديّة الّتي زعم أنّها تابعة لجعلها إمّا في مرتبة تابعية الذات أو متأخّرة عنها ؛ والتأخّر ظاهر البطلان ، لاستلزام جعل / 5DB / ذات الماهيّة لجعلها موجودة امّا في مرتبة تابعية الذات أو متأخرة عنها ، والمتاخّر ظاهر البطلان لاستلزام جعل ذات الماهية لجعلها موجودة. وان سلّم المعية ففيه : انّ التابعية حقيقة حينئذ ليست إلاّ للموجودية ، واعتبار تابعية اخرى للذات غير معقول. وأمّا تابعية ذات الماهية مع فعلية لها دون الوجود فبطلانه أظهر! ، لانّ هذه الفعلية للماهية إن كانت من قبل نفسها فمع ظهور فساده لا ينفعه - لأنّ مطلوبه اثبات أنّ الماهية بهذه الفعلية متعلّق الجعل - ، وان كانت من الجاعل ففساده أظهر - إذ التزام انّ الجاعل يفيد الماهية فعلية سوى الوجود متقدّمة عليه ممّا لا يقول به عاقل! - ، فبقى أن يكون متعلّق الجعل هو الماهيّة الموجودة ، وهى ليست إلاّ ما اتصف بالوجود.

فالتابعية للاتصاف - اي الموجودية -. وانت تعلم انّ الاتصاف انّما هو لحاظ العقل ، وفي الخارج لا يوجد اتصاف حقيقي يتحقّق بين شيئين. وليس جعل الماهيّة موجودة كجعل المادّة مصوّرة وجعل الموضوع ذا عرض ، لأنّه يتوقّف على وجود شيئين ؛ واتصاف أحدهما بالآخر - بل ايجاد الماهية - جعل واحد بسيط مقدّس عن شوائب التكثّر مستغن عن قابل ومقبول في الخارج متعلّق بالموجودية ، وهو اخراج الأيس عن الليس ؛ هذا.

وامّا ما ذكره من انقسام الجعل إلى قسمين - : الاختراعي والابداعي - وجعل افاضة الصور والاعراض على الموادّ والموضوعات وكذا جعل الموجود الذهني خارجيا وبالعكس من الأوّل وقصر الثاني على ما تعلّق بذات الشيء - أي : إخراج الأيس عن الليس المطلق - ، فيرد عليه :

أوّلا : انّ في افاضة الصور والاعراض على الموادّ والموضوعات جعلين كلّ منهما

ص: 21

بسيط ، أحدهما متعلّق بنفس تلك الصور والاعراض وثانيهما متعلّق باتصاف المادّة والموضوع بهما ، وليس هنا جعل آخر يسمّى « مركّبا ». نعم! الجعل الثاني إذا قيس إلى الطرفين يسمّى مركّبا ، فهما متحدان ذاتا متغايران اعتبارا. فالجعل المركّب يرجع إلى البسيط ويستلزمه. والبسيط - أعني : اخراج الأيس عن الليس - لا يستلزم المركّب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدّ جعل الموجود الذهني خارجيا من الجعل المركّب دون البسيط واخراجه عن ايجاد الأيس عن الليس ظاهر الفساد ، لانّ ايجاد الماهيّة المعقولة في الخارج جعل واحد متعلّق بذات الشيء ، واخراج عن الليس إلى الأيس ، وليس هنا قابل ومقبول حقيقة وليس الوجود صفة زائدة للماهية يتّصف بها ، والاتصاف انّما هو بمجرّد اعتبار العقل ، والأثر هنا ليس إلاّ الوجود الخارجى. وليس الموجود الذهني مادّة للموجود الخارجي وليس الموجود الخارجي واردا عليه حتّى إذا وجد الموجود الذهنى في الخارج كان ذلك من قبيل افاضة الاثر على القابل ؛ كيف وافاضة الاثر على القابل يوجب تغيّره عن حال إلى حال والموجود الذهنى إذا وجد في الخارج لم يتغيّر عمّا كان عليه.

وأيضا : لو كان كما قال لم يكن ايجاد الواجب لشيء من الممكنات ابداعا وجعلا بسيطا واخراجا عن الليس إلى الأيس ، لانّه عالم بجميعها ، فيكون من قبيل جعل الموجود الذهنى موجودا خارجيا. هذا ؛ مع أنّ نفى التأثير الحقيقيّ عن القسم الأوّل غير صحيح ، لانّه يشتمل على ما فى القسم الثانى - لما اشرنا إليه من أنّ ايجاد الصور والأعراض بمنزلة الابداع للأشياء وجعلها صفة للقابل زيادة لا توجد في القسم الثانى - ، فكيف لا يتأتّى هنا تاثير حقيقى وينحصر الأثر بالاتصاف!.

ثم قوله : « ولم يعلموا انّ ما يفيده الفاعل شيئا يجب أن تكون له هوية حتّى يمكن ان يفيده شيئا » حاصله : انّ الجعل الأوّل - أي الاختراعي - يلزم أن يكون فيه مجعولا ومجعولا إليه ، لانّ ما يفيده الفاعل شيئا يجب أن تكون له هوية حتّى يفاض عليه من الفاعل شيء ، فالتأثير في الأشياء إن كان من قبيل الأوّل لزم ان يكون فيه قابل ومقبول. وليس كذلك ، لأنّ أثر الجعل إذا كان هو الموجوديّة لم تتحقّق أوّلا ماهية حتّى

ص: 22

يفاض عليها الوجود ، فيلزم أن يتعلّق الجعل أوّلا بذات الماهية حتّى تحصل لها هويّة ثمّ يفاض عليها الوجود.

وفيه : أمّا أوّلا فانّا لا نسلّم انّ الموجودية من قبيل الجعل الأوّل - كما أشرنا إليه - ، لأنّ الايجاد فعل واحد بسيط لا يقتضي مجعولا ومجعولا إليه - كما هو يقول فيما اخترعه من جعله -.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الجعل البسيط الّذي اعتقده مستلزم لجعل الماهية موجودة - كما صرّح به - ، وجعل الماهية / 6MA / موجودة ليس إلاّ افادة الوجود لها ، فنقول له حينئذ : الهويّة الّتي يجب أن تكون / 6DA / لما يفيده الفاعل شيئا هنا امّا نفس الماهية أو الماهية الموجودة ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون حصول الهوية مقدّما على افادة الوجود لها أو يكون مستلزما لها. فان ادّعى انّ الهوية المرادة هى نفس الماهية مع الاستلزام والمعية فلا اشكال ، إذ لو افاد الفاعل الوجود للماهيّة فيما حسبه شرطا للافادة حاصل ولا فرق في حصول الشرط حينئذ بين تعلّق الجعل بذات الماهية وبين تعلّقه بموجوديتها ، ولا محذور في أن يقال : الجعل هو افادة الوجود للماهية.

فان قيل : على ما اعتقده تحصل بالجعل فعلية للماهية ثمّ يفاد عليها الوجود ، وعلى ما اخترتم لا فعلية للماهية فلا يصلح لان تكون قابلة لشيء؟! ؛

قلنا : قد عرفت حال هذه الفعلية وفسادها ، ونزيد هنا ونقول : يلزم من قوله أن تكون افادة الفاعل هذه الفعلية للماهية مسبوقة بفعلية اخرى وهكذا ، ولا ريب انّ حصول فعليتين في الخارج لماهية واحدة ليس بأقلّ شناعة من حصول وجودين لها.

على انّ الماهية مع كلّ فعلية شيء اخر غيرها مع فعلية أخرى ، ويلزم التسلسل في الأمور المتحققة المختارة ، وهو باطل. وإن ادّعى انّ الهوية المرادة هى نفس الماهية مع تقدّمها على الافادة ؛ قلنا : تقدّمها امّا مع فعلية لها سوى الوجود أو بدونها ، وكلاهما ظاهر الفساد - كما تقدم -. وإن ادّعى انّ الهوية المرادة - اي الماهية الموجودة - مع الاستلزام ، فلا اشكال أيضا ؛ اذ افادة الوجود للماهيّة الموجودة بهذا الوجود ممّا لا محذور فيه ؛ وإن ادّعى انّها هي الماهية الموجودة مع تقدّمها على الافادة فلا ريب في

ص: 23

فساده ، لانّه لا معنى لتقدّم الماهية الموجودة على افادة الوجود لها.

ولقد أطلنا الكلام في هذا المرام لانه من مزالّ الاقدام وقد بقى بعد خبايا في زوايا.

ولمّا ظهر حقيقة الجعل وثبت صحّته ، لزم منه صحّة التأثير والتأثّر وبطل منه مذهب ذيمقراطيس واتباعه. ومنه ثبت توقّف وجود الممكن على علّة خارجة وعدم امكان وجوده بنفسه ؛ هذا.

وامّا بطلان وجود الممكن بأولوية ذاتية فيتوقف على أن نعلم أوّلا أنّ للأولوية تفسيرين ، احدهما : أن يقتضي الممكن رجحان احد الطرفين لذاته اقتضاء لم يبلغ حدّ الوجوب ؛ وثانيهما : كون أحد طرفى الممكن أليق بالنسبة إلى ذاته لياقة غير بالغة حدّ الوجوب. ولا يكون ذلك الأليقية باقتضاء اصلا ، لا من حيثية الذاتية ولا من حيثية أخرى ، وللتفرقة يعبّر عن الأوّل « بالرجحان لذاته » وعن الثّاني « بالرجحان بذاته » ، على أن يكون « الباء » للمصاحبة. وعلى كلا التفسيرين يقع الطرف الراجح بمجرّد هذا الرجحان من غير احتياج إلى علّة خارجة. وبطلان الأولوية على التفسير الثّاني - أعني : كون الوجود راجحا بالنسبة إلى الممكن من دون اقتضاء واستتباع واستناد الرجحان إلى امر - بديهىّ لا يشكّ فيه عاقل ، لانّ ثبوت كلّ معنى لشيء لا بدّ له من علّة - سواء كانت ذات هذا الشيء أو غيرها - ، فثبوت الرجحان اذن لا بدّ له من علّة.

فان قيل : المقصود في هذا المقام اثبات افتقار الممكن في وجوده إلى علّة موجودة ، وحينئذ لقائل أن يقول : يمكن أن يكون ثبوت الوجود للممكن غير معلّل بعلّة لكن يكون ذلك الثبوت بحيث يجوز ارتفاعه جوازا مرجوحا حتّى لا يلزم وجوبه ، والمراد برجحان وجوده في الواقع من دون اقتضاء هو هذا المعنى ، ولا بدّ لنفيه من دليل! ؛

قلنا : الممكن لا يمكن أن يكون حقيقة عين الوجود ، فلا بدّ لثبوت الوجود له من علّة ، وهذا بديهيّ مستغن عن الدلالة.

ولما كان بطلان الأولوية بالتفسير الثاني بديهيا أو قريبا من البداهة أحاله

ص: 24

الأكثرون إلى الظهور (1) ، وانّما تعرّضوا بابطال الاولوية بالتفسير الأوّل ، ولذا ترى اكثر ادلّتهم مخصوصة به

ثمّ المتقدّمون من العقلاء لم يلتفتوا إلى احتمال الأولوية للممكن ولم يتعرّضوا لابطالها وكأنّ بطلانها كان عندهم بديهيّا ؛ وما قيل : « انّ الشيخ تعرّض لها في الشفاء وابطلها » لم نعثر عليه. وعلى أيّ تقدير بطلانها قريب من الضرورة ومسلّم عند جميع العقلاء.

وتدل عليه وجوه من البراهين القاطعة :

منها : أنّه لو كان لأحد طرفى الممكن رجحان غير بالغ حدّ الوجوب يقع به هذا الطرف من غير احتياج إلى غيره ، فلا يخلوا أنّه مع هذا الرجحان امّا أن يجوز وقوع / 7MB / الطرف المرجوح جوازا ذاتيا ، أولا ؛ وعلى الثاني يكون الطرف الراجح واجبا وقد فرض ممكنا ، هذا خلف! ؛ وعلى الأوّل إذا فرض وقوعه فامّا أن يقع مع بقاء مرجوحيته فيلزم ترجيح المرجوح ، أو مع صيرورته راجحا على الطرف الراجح فهو مناف / 6DB / للفرض ولمقتضى ذات الممكن (2).

واورد عليه : بانّه يلزم المنافاة المذكورة لو كان اقتضاء ذات الممكن الاولوية لاحد الطرفين على سبيل الوجوب ، وامّا إذا كان ذلك الاقتضاء أيضا على سبيل الاولوية فلا يلزم ذلك. مثلا نقول : انّ الممكن تقتضى ذاته اولوية الوجود لا على سبيل الوجوب ، بل على سبيل الاولوية وتقتضى الاولوية الثانية أيضا على سبيل الاولوية وهكذا تترتب الاولويات إلى أن ينقطع الترتّب بانقطاع اعتبار العقل. وحينئذ إذا صار الطرف المرجوح راجحا وواقعا لا يلزم منه إلاّ اقتضاء ذات الممكن ما ينافي مقتضى ذاته على سبيل الرجحان والاولوية. وهذا غير ممتنع ، بل هذا عين المتنازع فيه!.

وجوابه : انّ الذات الّتي تقتضي رجحان الوجود مثلا يلزم أن تقتضي مرجوحية العدم أيضا ، لانّ الراجحية والمرجوحية متضايفتان ومرجوحية العدم بالنظر إلى

ص: 25


1- راجع : المطالب العالية ، ج 1 ، ص 74.
2- راجع : الشرح الجديد ، ص 39.

الذات مستلزم لامتناعه ، لانّ وقوع المرجوح محال. وإذا كان هذا الطرف ممتنعا يكون الطرف الراجح واجبا ، فأحد طرفي الممكن لو كان راجحا فامّا أن يكون طرف الوجود فيكون الممكن واجبا ، أو طرف العدم فيكون ممتنعا ، وهذا خلف ، لانّ الأوّل يجب وجوده دائما والآخر يجب عدمه دائما وكلامنا في الممكن الّذي يطرأ عليه الوجود والعدم كلاهما.

ومنها : انّه قد تقرّر انّ الواجب ما كان بذاته منشئا لانتزاع الوجود من غير احتياج إلى علّة وحيثية ، والممتنع ما كان ذاته منشئا لانتزاع العدم من غير احتياج إلى شيء آخر ، والممكن ما ليس ذاته منشئا لانتزاع شيء من الوجود والعدم ، بل طريان كلّ منهما له محتاج إلى ضمّ علة. وإذا علمت ذلك فنقول : الممكن الّذي كان وجوده اولى إن كان ذاته بذاته منشئا لانتزاع الوجود من غير احتياج إلى ضمّ علّة فهو الواجب - لانه لا نعني من الواجب إلاّ هذا ، لانّ الكلام في الحقائق دون الالفاظ - ؛ وإن احتاج إلى ضمّ علّة فلا يكفى الاولوية في صيرورة الممكن موجودا.

ومنها : انّه لو كفى الاولوية الذاتية لوقوع احد طرفي الممكن فلا يخلوا امّا أن يمتنع وقوع الطرف المرجوح ، أو لا ؛ فعلى الأوّل يكون ما فرض اولوية وجوبا وهو خلاف الفرض ، وعلى الثاني يكون وقوع الطرف الراجح موقوفا على عدم حصول سبب المرجوح وهو عدم خارج عن ذات الممكن ، فوقوع الطرف الراجح محتاج إلى سبب خارج عن ذات الممكن ، فلا يكفي مجرّد الاولوية في وقوع احد طرفيه ، وهو المطلوب.

وأورد عليه : بانّ المفروض انّ السبب الخارج عن ذات الممكن هو عدم سبب المرجوح ، فاذا فرضنا انّ الطرف الراجح هو الوجود وليس هنا سبب لعدمه لجاز حينئذ أن يوجد الممكن من غير احتياج إلى ممكن مؤثّر موجود ، فينسدّ باب اثبات الصانع.

وأجيب عنه : بانّ الطرف المرجوح لمّا كان عدما - كما هو المفروض - يكون سببه أيضا عدما ، لانّ سبب العدم ليس إلاّ عدم علّة الوجود ، فيكون عدم سبب العدم وجودا - لأنّ عدم العدم وجود - ، وحينئذ يكون عدم سبب المرجوح امرا موجودا و

ص: 26

يكون وقوع الطرف الراجح - أعني الوجود - موقوفا على هذا الموجود ، فلا يلزم انسداد باب اثبات الصانع.

وفيه : انّ الممكن الّذي كلامنا فيه ليس معلولا لشيء حتّى يكون عدمه مستندا إلى عدم هذا الشيء. ثمّ إذا فرض عدم عدم هذا الشيء لزم وجوده ، فيجوز ان يكون عدم الممكن المفروض مستندا إلى شيء موجود ولا يمتنع أن يكون العدم اثرا لموجود ، بل الممتنع هو العكس ، وحينئذ عدم علّة عدمه ليس إلاّ ارتفاع هذا الشيء الموجود ؛ وعلى هذا صيرورة الممكن الّذي وجوده أولى لا يحتاج إلى شيء موجود خارج عن ذاته ، بل لا يحتاج إلاّ إلى ارتفاع سبب العدم.

والجواب : انّ سبب العدم اذا كان أمرا موجودا خارجيا عن ذات الممكن المفروض فارتفاعه يحتاج إلى علّة فعلية إن كانت شيئا موجودا ، فالممكن المفروض يحتاج في صيرورته موجودا إلى هذا الشيء ولا يكفى مجرد الاولوية. وإن حصل الارتفاع بمجرّد الاولوية - أي : كان هذا الممكن عدمه أولى من وجوده - ففيه : انّ مجرّد هذه الاولوية غير كافية لارتفاعه ، لانّه لمّا كان موجودا على ما هو المفروض فارتفاعه دفعة موقوف على ارتفاع سبب الوجود ، فان كان سبب الوجود هو مجرّد اولويّة الوجود فكيف يمكن مع ذلك أن يصير العدم أولى له في حالة اخرى؟ وإن كان سبب الوجود أمرا موجودا / 8MA / آخر فارتفاعه أيضا يحتاج إلى ارتفاع / 7DA / علّة وجوده ، ويرد الترديد ويلزم التسلسل إلى غير النهاية ، وهو باطل!.

ومنها : انّه لو كان لاحد طرفي الممكن أولوية يقع بها فامّا يجوز وقوع الطرف الآخر ، أو لا ؛ فعلى الثاني لا يكون ممكنا بل واجبا ، هذا خلف! ؛ وعلى الأوّل فاذا وقع الطرف المرجوح فاما أن يكون وقوعه مستندا إلى علّة أو لا ، والثاني باطل - لاستلزامه ترجّح المرجوح بنفسه - ، وعلى الأوّل فامّا أن يصير الطرف المرجوح لاجل العلّة اولى أو لا ، والثاني باطل - لانّ العلّة لا تكون علّة ما لم يصر المعلول بها أولى - ، والأوّل أيضا باطل لاستلزامه مرجوحية الطرف الاولى بذاته ، فيزول ما بالذات لأجل الغير (1).

ص: 27


1- راجع : تلخيص المحصّل ص 119.

ومنها : انّ الممكن إذا كان وجوده مثلا راجحا على عدمه لذاته لكان عدمه ممتنعا لذاته ، لانّ رجحان احد الطرفين يستلزم مرجوحية الطرف الآخر ومرجوحيّته تستلزم امتناعه - لضرورة امتناع ترجّح المرجوح - ، فرجحان الوجود لذاته يستلزم امتناع العدم لذاته وهو يستلزم وجوب الوجود ، فما فرضناه غير منته إلى حدّ الوجوب منته إليه ؛ هذا خلف!.

وأورد عليه ايرادات ضعيفة لا بدّ لنا أن نشير إلى دفعها ؛

اوّلها : انّه منقوض بالممكن ، فانّه ما يتساوى الوجود والعدم بالنظر إلى ذاته والتساوي ينافى الرجحان كما إن الرجحان ينافي المرجوحية ، فلو وجد ما يتساوى الوجود والعدم بالنظر إلى ذاته لزم رجحان المساوى ، كما انه لو وجد المرجوح لزم ترجيح المرجوح ولا يظهر بينهما فرق في الخلف ؛

وجوابه : ما مرّ انّ معنى تساوي النسبة في الممكن هو عدم اقتضائه شيئا من الوجود والعدم ، لا اقتضائه التساوي حتّى يلزم الفساد ، بخلاف الاولوية الذاتية فانّ معناها اقتضاء ذات الممكن رجحان احد الطرفين أو كونه لائقا له ، وان لم يتحقّق التضاد. فاذا اقتضى الذات رجحان احد الطرفين أو تحقّق الرجحان بدون الاقتضاء يجب أن يكون الطرف الآخر مرجوحا ولا يجوز أن يكون الراجح بالذات مرجوحا بالغير والمرجوح بالذات راجحا بالغير ، لأنّ ما بالذات لا يزول والمتنافيين لا يجتمعان ولو بألف علّة.

وثانيها : انّه منقوض بسائر مقتضيات الماهيّة كبرودة الماء ، فانّها من مقتضيات ماهية الماء مع انّها قد تزول بورود ما ينافيها - أعني : الحرارة - ؛

وجوابه : انّ المدّعى انّه مع تحقّق الرجحان الذاتى لاحد الطرفين يجب أن يكون الطرف الآخر مرجوحا - لاستلزام راجحية احدهما مرجوحية الآخر - ؛ ولم ندّع في الدليل انّه يقتضي الرجحان ، فلا يجوز أن يقع خلاف مقتضاه حتّى يعارض بمثل برودة الماء ، فانّ اقتضاء الرجحان الذاتى غير الرجحان الذاتى. على أنّ الاقتضاء على قسمين : اقتضاء تامّ واقتضاء ناقص ، والأوّل كون الشيء مقتضيا لشيء آخر بحيث لا يمكن

ص: 28

انفكاكه عنه ولا يقع خلاف مقتضاه - كاللوازم الذاتية للماهية - ، ولا ريب أنّ الممكن لو اقتضى رجحان احد الطرفين لذاته يكون رجحانه من هذا القبيل ، فلا يمكن أن يصير مرجوحا بالغير - لانّ ما بالذات لا يتخلّف ، كما مرّ -. والثاني كون الشيء مقتضيا لشيء آخر بحيث جاز انفكاكه عنه ووقوع خلاف مقتضاه من الخارج ، كالماء مثلا فانه قد يتصف بالحرارة مع انّ مقتضى طبعه البرودة - بناء على انّ اقتضاء طبعه البرودة ليس اقتضاء تامّا ، بل إذا خلّى وطبعه كان مقتضيا له -. ونظير ذلك كثير ، كالحجر المرمى إلى الفوق قسرا فان طبيعته تقتضى الحركة إلى المركز ؛ والأخلاق التابعة للامزجة ، فانّ الامزجة تقتضيها مع انّ زوالها وحصول منافياتها ممكن بالرياضات.

وثالثها : انّ غاية ما لزم من الدليل أن يكون العدم ممتنعا نظرا إلى ذاته ، والامتناع الذاتى لا يستلزم كونه ممتنعا مطلقا بحيث لا يقع ، ولم لا يجوز أن يقع لمرجّح غالب من خارج امّا بازالة المرجوحية أو بدونه؟! ، فانّ المرجوحية بالنظر إلى الذات لا ينافي الراجحية بالنظر إلى الغير ، فان غلب الغير المرجّح دفع المرجوح كما أنّ التساوي بالنظر إلى الذات لا ينافى الرجحان بالنظر إلى الغير.

وفيه : ما تقدّم من انّ الرّاجح بالذات لا يصير مرجوحا بالغير والمرجوح بالذات لا يصير راجحا بالغير ، لانّ ما يقتضيه الذات بالاقتضاء التامّ لا يتخلّف ، والمتنافيان لا يجتمعان ولو بالف علّة. على أنّ الكلام في انّه مع تحقّق الرجحان الذاتى لاحد الطرفين يكون الطرف الآخر مرجوحا ؛ فما دام الرجحان متحقّقا لأحد الطرفين / 7MB / يكون الطرف الآخر مرجوحا ، لانّ رجحان أحد الطرفين يستلزم مرجوحية الطرف الآخر. فاذا كان الرجحان بالنظر إلى / 7DB / الذات يكون المرجوحية أيضا بالنظر إلى الذات ، فالمرجوح مع كونه مرجوحا يمتنع أن يكون راجحا ، لامتناع ترجّح المرجوح. وإذا امتنع وقوع المرجوح يكون وقوع الطرف الراجح واجبا ، فما فرض غير منته إلى حدّ الوجوب يكون منتهيا إلى حدّ الوجوب ، هذا خلف!. والحاصل انّ الكلام في صورة تحقّق الراجحية والمرجوحية لا مطلقا ، فاذا فرض زوال المرجوحية لمرجّح غالب من خارج يخرج الكلام عن محلّ النزاع ويصير من باب ترجيح الغير

ص: 29

أحد طرفي الممكن ، فان صيّره واجبا وأوجده فلا كلام ، وان جعله أولى وأوجده لمجرّد هذه الأولوية لكان من باب وقوع الممكن بالاولوية الخارجية ، وستعلم بطلانه

ثمّ العلاوة على فرض التنزل ، لما عرفت من أنّ ما بالذات لا يزول بالغير

ومنها : انّه لا ريب في انّ الممكن الّذي وجوده اولى لو وجد بدون علّة خارجة لكان متصفا بالوجود وليس هو عين الوجود ، لانّ الممكن مهيته ماهية ممكنة وحصول الوجود له بدون علّة ضروري البطلان - مع انّا اقمنا عليه قواطع البراهين في ابطال مذهب ذيمقراطيس - ، فلا بدّ لوجوده من علة. فعلّيّته إمّا هذه الأولوية ، أو الماهية الممكنة الّتي وجودها اولى ؛ والأوّل ظاهر البطلان - لانّ الاولوية امر اعتبارى غير صالح لان يكون معطيا للوجود وموجدا للماهيات - ، والثاني أيضا بديهىّ الفساد ، لاستلزامه ايجاد الشيء نفسه وتقدّم الشيء على نفسه - لانّ الشيء المفيض للوجود يجب أن يكون موجودا حتّى يصحّ منه افاضته الوجود ، فيلزم أن تكون الماهية الممكنة قبل وجودها موجودة حتّى يفيض الوجود على نفسها - ، وبطلانه من اجلى البديهيات!. على انّه يلزم صحّة عدمه بنفسه ، لانّه لمّا فرض عدم بلوغ أولوية الوجود حدّ الوجوب يجوز عدمه مع بقاء تلك الأولوية ، اذ لو لم يجز عدمه مع بقائها لكان منتهيا إلى حدّ الوجوب وهو خلاف الفرض ، فحينئذ يجوز عدمه مع بقاء تلك الاولوية.

فيلزم جواز عدمه بلا علّة ، لانّه إذا جاز عدمه مع بقاء اولوية الوجود لجاز عدمه مع بقاء علّة الوجود ، وعلّة العدم ليست إلاّ عدم علّة الوجود وعلّة الوجود قد فرض بقائها ، فيثبت جواز عدمه بلا علّة ؛ وهو أيضا ظاهر البطلان.

فان قيل : قد صرّح الشيخ وغيره من أعاظم الحكماء بانّ الماهية بنفسها لا بوجودها علّة للوازمها ، فعلّة الامكان مثلا نفس ماهية الممكن لا وجوده ، ولذا يجوز تقديم الامكان على الوجود بمراتب ؛ فيقال : امكن فاحتاج فاوجب فوجب فاوجد فوجد. وإذا صحّ ذلك فلم لا يجوز أن يكون الوجود من لوازم الماهية فتكون الماهية بنفسها علّة للوجود؟ ، فلا يلزم أن يكون معطى الموجود موجودا ؛

قلنا : هذا السؤال أورده الشيخ وقال : إذا كان جائزا أن تكون ماهية علة

ص: 30

للوازمها لانّها ماهية لا لانّها موجودة فلم لا يجوز أن يكون واجب الوجود ماهية وتلك الماهية توجب الوجود لنفسها حتّى يكون الوجود معلول الماهية ، فلم يكن الوجود واجبا. ثمّ اجاب : بانّ الماهية إذا كانت لذاتها علّة لشيء كان ذلك الشيء لازما لتلك الماهية كيف كانت - أي : سواء كانت موجودة أو معدومة - ، فماهية المثلّث علّة لتساوي زواياه لقائمتين. فان كانت الماهية موجودة كان التساوي موجودا ، وإن كانت معدومة كان معدوما ، فلازم الماهية كالماهية تابع لها في الوجود والعدم. فلو كانت ماهيّة بنفسها علة لوجودها لزم أن يلزمها الوجود بايّ وجه فرضت ، فاذا كانت الماهية معدومة لزمها الوجود مع العدم كسائر لوازم الماهية ، فيلزم أن تكون تلك الماهية موجودة ومعدومة معا.

وحاصله : انّ الوجود إذا كان لازما للماهيّة كلّ ممكن لزم ان يكون ماهية كلّ ممكن موجودة ازلا وابدا ، لانّ الوجود حينئذ ليس له منتظر سوى الماهية ، فيلزمها الوجود دائما. وإذا صحّ موجودية كلّ ماهية دائما على فرض لزوم الوجود لماهية الممكنات ومع ذلك يرى انّ بعض المهيات معدومة ثمّ تصير موجودة - كالحوادث الزمانية - ، فيلزم أن تكون تلك المهيات موجودة ومعدومة معا.

وقال بعض اهل التحقيق : انّ هذا الجواب - أعني : جواب الشيخ - انّما ينفى كون الوجود لازما للماهيات الّتي كانت معدومة ثمّ تصير موجودة - كالممكنات الحادثة - لا مطلقا ، لانّ غاية ما لزم من كون الوجود لازما للماهية أن تكون الماهية موجودة ازلا وابدا ولم يكن لها عدم اصلا ، فلا يلزم منه نفي كون الوجود لازما للماهيات القديمة - كالعقول والافلاك - على رأي الحكماء. ثمّ قال : والجواب العامّ التامّ هو أن يقال : انّ القائل بانّ لازم الماهية لازم لها ومستند إليها - لانّها ماهيّة لا لأنّها موجودة - لا يقول انّ الماهية إذا كانت منفكّة عن الوجود و/ 8MA / معدومة صرفة تكون علة للازمها ، لانّها حينئذ ليست إلاّ تخمينا محضا فلا يصلح لأن يكون علة لشيء ، بل يقول : انّ الماهية الّتي تكون علة للازمها هي الماهية الّتي كانت مخلوطة بالوجود ، لكن الوجود لا مدخليّة له في ثبوت لازم الماهية بل هو مستند إلى ذات / 8DA / الماهية. والحاصل انّ الأمر الّذي

ص: 31

لا يكون مخلوطا بالوجود امر تخمينى لا يثبت له شيء اصلا ويسلب عنه جميع المفهومات حتى نفسه ، والأمر الّذي يكون علّة لشيء لا يتصوّر عليته إلاّ بعد تحصّله وتميّزه ، والتحصّل والتميّز لا يكونان إلاّ بعد الوجود - ولهذا يكون الوجود شبيها

بالذاتيات باعتبار انّ الشيء كما يمتنع انفكاكه عن الذاتيات كذلك يمتنع انفكاكه عن الوجود - ، فلو كان الوجود لازما لماهية شيء من المهيات لزم ان تكون تلك الماهية مخلوطة بالوجود قبل كونها موجودة. وهذا الجواب ينفى كون الوجود لازما لماهية كلّ الممكنات سواء كانت حادثة أو قديمة ، لانّ كون كلّ لازم لازما إذا كان بعد كون الماهية مخلوطة بالوجود فيكون الوجود لازما أيضا يتوقّف على كون الماهية مخلوطة بالوجود ، سواء كانت تلك الماهية حادثة أو قديمة ؛ وصيرورة الشيء موجودا بعد كونه مخلوطا بالوجود بديهى البطلان.

ومنها : انّ الممكن مع اولويّة الوجود مثلا إن لم يجز عدمه فيكون واجبا ، لا اولى ؛ وإن جاز عدمه فيمكن أن يصير تارة موجودا وتارة معدوما. فاذا صار موجودا لمجرّد الأولوية يلزم الترجيح لاحد المتساويين بلا مرجّح ، وهو باطل (1)

لا يقال : لا يلزم ترجيح أحد المتساويين ، لأنّ الأولوية مرجّحة ؛

لأنّا نقول : قد وقع الترديد في الدليل في جواز وقوع طرف العدم وعدمه بعد فرض الأولوية ، فالترديد إنّما وقع بعد اخذ الأولوية في ذات الممكن ، ومع ذلك لا تصلح الأولوية لان تكون مرجّحة. لانّا قلنا انّ العدم مع فرض اولوية الوجود ان كان غير جائز يكون الوجود واجبا ، وإن كان جائزا امكن وقوع كلّ من الوجود والعدم ، فوقوع أحدهما محتاج إلى مرجّح غير الأولوية ، فالأولوية المأخوذة مع ذات الممكن لا تصلح لان تكون مرجّحة. وإن كان المرجّح اولوية أخرى سوى الاولوية الماخوذة مع ذات الممكن لنقلنا الكلام إليها ، فان كانت هي أيضا مستندة إلى اولوية اخرى نقلنا الكلام إليها وهكذا ؛ فتترتّب الأولويات الغير المتناهية. ومع ذلك نقول : انّ الممكن مع جميع هذه الاولويات إن كان غير جائز العدم لكان واجبا لا ممكنا ، هذا خلف! ، وإن كان جائز العدم فصيرورته موجودا ترجّح لاحد المتساويين من دون مرجّح. و

ص: 32


1- راجع : الشرح الجديد ص 40.

لا يمكن أن يقال : انّ اولوية الوجود مرجّحة ، لانّ جميع الأولويات اخذت مع ذات الممكن ووقع الترديد في وقوع العدم وعدم وقوعه ، فلا تبقى اولوية داخلة أو خارجة تكون مرجّحة.

واعترض عليه : بانّ اللازم من عدم الانتهاء إلى حدّ الوجوب أن يحتاج الطرف الراجح على فرض وقوعه في بعض اوقات الاولوية فقط إلى اولوية اخرى ، وعلى فرض وقوعه في بعض ذلك البعض فقط إلى اولوية ثالثة وهكذا ؛ ومن البيّن انّه لا تجتمع تلك التقادير باسرها في الواقع حتّى تلزم اجتماع الاولويات الغير المتناهية في الواقع.

والجواب : انّ المحوّج إلى المرجّح ليس فرض وقوعه في بعض الأوقات الاولوية دون بعض حتّى لو فرض وقوعه في بعض ولا وقوعه في بعض آخر منها دون بعض احتاج إلى المرجّح ؛ ولو فرض وقوعه في جميعها لم يحتج إلى مرجّح ، بل المحوّج إلى الترجيح الثانى - أعني : الاولويّة الثانية - هو وقوعه مع الاولوية الاولى مع امكان عدم وقوعه معها ؛ وهكذا حكم ساير الاولويات - كما ظهر من الدليل -.

واعترض عليه أيضا : بانّ هذا الدليل لا يجري في الأمور الآنيّة ، بمعنى انّ المعلول الآني لمّا امتنع وجوده في آنين فاذا فرض وجوده في آن وعدمه في آن آخر يقول الخصم : انّ عدمه في ذلك الآن لامتناع وجوده فيه ، فلا يكون وجوده في آن وعدمه في آن آخر ترجيحا بلا مرجّح ، وانّما يلزم ذلك لو جاز وجوده في الآن الآخر.

وأجيب عنه : بانّ امتناع وجوده في الآن الآخر لا يجوز أن يكون لذاته بالضرورة ، بل لامر آخر يوجد في ذلك الآن - ككونه بعد آن الحدوث مثلا -. فحينئذ نقول : لا بدّ من عدم سبب ذلك الامتناع في الآن الأوّل حتّى يوجد فيه ، فلا يكون مجرّد الرجحان كافيا.

وانت تعلم انّ هذا الجواب يجعل الدليل راجعا إلى بعض الادلّة السابقة.

وأورد عليه أيضا : بانّ الممكن ما يجوز وجوده وعدمه جائزا نظرا إلى ذاته لا ما يجوز وجوده تارة وعدمه تارة اخرى ، فانّه قد يمتنع ذلك كما في الزمان على رأي

ص: 33

الحكماء فانّه ممكن ، بمعنى انّ كلاّ من الوجود والعدم جائز له بالنظر إلى ذاته مع انّه يمتنع أن يصير تارة موجودا وتارة معدوما ، لأنّه لا يجوز عدمه بعد وجوده ولا وجوده بعد عدمه. فانّ يوم السبت من شهر كذا من سنة كذا مثلا إذا صار موجودا لا يعدم بعد ذلك ابدا ، بل يكون موجودا خارجيا / 8MB / دائما - كما هو رأي الفلاسفة - ، وإن لم يكن موجودا في اليوم الأحد الّذي بعده ؛ يعنى ليس الأحد ظرفا لوجوده بل يصدق عدمه فيه ولا يجوز وجوده بعد صدق ذلك العدم. والحاصل انّ كلّ جزء من الزمان محدود بين جزءين آخرين يتعيّن وجود بينهما البتّة ، ولا يجوز عدم تحقّقه فيه ولا وجوده قبل وبعد ؛ فلا معنى لفرض وقوعه تارة وعدم وقوعه اخرى.

فالمحال الّذي هو ترجّح احد المتساويين من غير مرجّح انّما لزم / 8DB / من فرض وقوع الممكن تارة وعدم وقوعه اخرى. وهذا الفرض لمّا لم يكن من لوازم الامكان فالمحال المترتّب عليه أيضا ليس بلازم. فحينئذ يجوز ان يكون بعض الممكنات بحيث يكون كلّ واحد من الوجود والعدم جائزا بالنظر إلى ذاته ، ويكون الوجود اولى له بالنظر إلى ذاته وكان وقوع عدمه ممتنعا.

وقد اجاب عنه بعضهم : بأنّا نفرض وجوده مع الأولوية تارة وعدمه معها اخرى في جميع الازمنة ولا نفرض وجوده في زمان واحد وعدمه في زمان واحد آخر حتّى يلزم فرض وقوعه تارة وعدمه اخرى ، ولا استحالة في الفرضين - اي : فرض كلّ من الوجود والعدم في جميع الازمنة - لعدم الانتهاء إلى حدّ الوجوب.

وانت تعلم انّ هذا الجواب في غاية الضعف ؛ لانّ الفرضين ليسا حينئذ متساويين ، لانّ الأولوية مرجّحة للوجود وغير مرجّحة للعدم ، فكيف يسلّم الخصم امكان فرض العدم في جميع الازمنة ومساواته لفرض الوجود فيه؟!.

وقيل في الجواب : انّ هذا الحكم إذا ثبت في بعض الممكنات الّتي يجوز وجودها تارة وعدمها اخرى ثبت في جميعها ، إذ العقل لا يفرق بين ممكن وممكن في هذا الحكم.

وردّ : بانّ هذه الدعوى ممنوعة ، لانّ التساوي ليس بيّنا ولا مبيّنا.

ص: 34

وقال بعض الأفاضل (1) : هذا إيراد ما تصدّى احد من القوم لدفعه وحسبوا ان لا مدفع له ، وأنا ارى انّه مدفوع. وبيان ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة غفل عنها الأكثرون ؛ وهى : انّه قد يوضع موضوع ويفرض له حال ممكن الثبوت له بما هو موضوع - مع قطع النظر عن الخصوصيات الخارجة عن ذات الموضوع بما هو موضوع - ليستدلّ به على مطلوب وإن لم يكن هذه الحال ممكن الثبوت له بحسب بعض الخصوصيات الخارجة عن نفس الموضوع بما هو موضوع ، ولا ريب في انّ عدم امكان ثبوته له باعتبار بعض الخصوصيات الخارجة عن ذات الموضوع المغايرة لها لا يقدح في امكان ثبوته للموضوع بما هو موضوع ؛ وإذا كان هذا الحال ممكن الثبوت بنفس مفهوم الموضوع بل هو موضوع لا بدّ أن لا يكون فرض ثبوت ذلك الحال لنفس الموضوع من حيث هو هو مستلزما لمحال - فانّ الممكن من حيث هو ممكن لا يستلزم المحال - ، فاذا فرض انّه لزم من فرض ذلك المحال ووضع امور اخرى محال يجب أن لا يكون المحال ناشئا من فرض ثوبته ، بل من فرض صفة وحالة أخرى في ذلك الموضوع الّذي فرض له تلك الحال. وإذا عرفت هذه المقدمة أقول : الموضوع في هذا الاستدلال « الممكن من حيث انّه ممكن » ، ولا ريب في انّ وقوع الوجود في وقت والعدم في وقت آخر حال ممكن الثبوت للممكن بما هو ممكن ؛ ألا ترى انّ بعض الممكنات يوجد في وقت ويعدم في وقت آخر. وعدم امكان ثبوته لممكن باعتبار بعض الخصوصيات الخارجة عن ذات الممكن كالخصوصية الزمانية غير قادح - كما عرفت - ، فيتمّ الاستدلال ويندفع المنع والنقض ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ ما ذكره وإن كان حقا في نفسه لكنّه غير نافع في المقام ، لانّ غرض المورد انّ هذا الدليل ليس شاملا لجميع الممكنات لانّه لا يجري في بعض الخصوصيات كالزمان ، لا انّه لا يجري في الزمان إذا أخذ من حيث انه ممكن ، لانه إذا اخذ من حيث انه ممكن لخرج عن الخصوصية الزمانية فيخرج عن محلّ النزاع ، لانّ

ص: 35


1- في هامش « د » : هو الفاضل الحاج محمود النيريزي في شرح رسالة اثبات الواجب للدواني. منه - رفع قدره -.

النزاع انّما هو في الزمان من حيث الخصوصية لا مطلقا ، فلا يندفع النقض. وكذا لا يندفع المنع ، لانّ المراد منه انّ المعتبر في الممكن أن يجوز له الوجود والعدم باعتبار ذاته لا ما يجوز له الوجود تارة والعدم أخرى حتّى يجري ذلك في جميع خصوصيات الممكن.

وقال جماعة من الفضلاء : يمكن أن يوجّه الدليل بحيث لا يرد عليه شيء من الايرادات المذكورة. فقرّروه بوجوه :

اوّلها أن يقال : لو جاز وجود الممكن لمجرّد الاولوية الذاتية فاذا اخذ الممكن مع هذه الاولوية بدون انضمام امر اخر إليه فامّا أن يجوز له العدم مع بقاء تلك الأولوية ، أولا ؛ وعلى الثاني يلزم الوجوب وقد فرض غير واجب! ، وعلي الأوّل يفرض وقوع عدمه مع بقاء الاولوية ، ونقول : عدمه حينئذ امّا تقع مع مرجوحيته على وجوده فيلزم ترجيح المرجوح ، أو مع رجحانه على وجوده فيلزم انتفاء الاولوية ؛ هذا خلف!.

فان قيل : ما ذكرتم انّما يصحّ لو كانت الأولوية الذاتية موجبة للرجحان ، امّا لو كانت مرجّحة له فلا يجوز أن يزول الرجحان الّذي تقتضيه الاولوية بعنوان الرجحان عند فرض عدم الممكن ، فلا يلزم ترجيح المرجوح حال كونه مرجوحا ، انّما الممتنع زوال الرجحان إذا اقتضاه الأولوية بالوجوب ؛

قلنا : عدم الممكن مع بقاء رجحان وجوده بأىّ نحو كان محال - وهو ظاهر! -. وقد مرّ سابقا ما ينفعك في هذا المقام.

وثانيها أن يقال في الشق الأوّل : نفرض عدم وقوعه مع بقاء / 9MA / الأولوية ونقول : أنّ عدم الوقوع / 9DA / حينئذ إن كان بلا سبب لزم ترجّح الوقوع بلا سبب ، وان كان مع سبب فوقوع الطرف الاوّل - أعني : الوقوع - يتوقّف على عدم هذا السبب ، فليس مجرّد الأولوية كافيا.

وثالثها ان يقال : الممكن مع الأولوية الذاتية إن لم يجز عدمه كان واجبا ، هذا خلف! ؛ وإن جاز عدمه نفرض شخصين متساويين في رجحان الوجود ونفرض وجود أحدهما وعدم الآخر ، فيلزم ترجّح احد المتساويين.

وأنت تعلم انّ هذه التقريرات تخرج الدليل عن حقيقته وتجعله دليلا آخر ، فانّ

ص: 36

التوجيهين الاولين راجعان إلى بعض الادلّة السابقة ، والاخير دليل على حدة لم يذكر.

فالصحيح في الجواب عن الايرادين الاخيرين أن يقال : المقصود بالذات من نفى الاولوية الذاتية امكان اثبات الصانع ، فاذا ثبت انّ بعض الممكنات لا يمكن وجودها بدون أمر موجود مغاير للممكنات ثبت المطلوب.

فان قلت : لعلّ الموجود الأوّل هو الأمر الآني أو الزمان. وتنتهي سلسلة الممكنات الموجودة إليه ، وهو يوجد بمجرّد الاولوية للإيرادين المذكورين ؛

قلنا : مجرّد الاولوية لا يكفى لوجود كلّ واحد من الأمر الآني والزماني ، إذ لو كان كافيا له لكان مستلزما له والمفروض انّ ذات الممكن مقتضية للاولوية ، فتكون مستلزمة لها. فالذات مستلزمة للاولوية والاولوية مستلزمة للوجود ، فالذات مستلزمة للوجود ، فيكون موجودا دائما ولا يجوز زوال الوجود عنها ، هذا خلف ؛ هذا!.

وأمّا بطلان الاولوية الخارجية - ويقال لها : « الاولوية الغيرية » أيضا - فاعلم أوّلا انّ المراد بها أن يجعل الفاعل أحد طرفي الممكن اولى ويوجده بمجرّد هذه الاولوية من غير أن يجعله واجبا. واذ عرفت ذلك فاعلم! انّا قد بيّنا فيما سبق انّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وبه ثبت بطلان الاولوية الذاتية بادنى تغيير ، مثلا نقول في الدليل الاوّل : لو وجد الممكن بعلّة مرجّحة غير موجبة فلا يخلوا انّه مع هذا الرجحان امّا يجوز وقوع عدمه جوازا ذاتيا أو لا ، فعلى الثاني يكون الطرف الراجح واجبا وفرض ممكنا ، هذا خلف! ؛ وعلى الأوّل فاذا فرض وقوع عدمه فلا بدّ من رجحانه على طرف الوجود لانّه ما لم يترجّح لم يتصوّر له الوقوع لايجابه ترجيح المرجوح ، فيصير الطرف المرجوح - أعني : العدم - راجحا على الطرف الآخر - اعنى : الوجود - وهذا مناف لما اقتضته العلّة ، لانّ المفروض أنّها اقتضت اولوية الوجود ، فكيف صار العدم اولى!؟.

ونقول في الدليل الآخر : الممكن إن ترجّح وجوده مثلا بالاولوية الخارجية امّا يجوز عدمه ، أو لا ؛ فعلى الثاني لم يكن ما فرضناه اولوية اولوية بل وجوبا ، هذا خلف!. وعلى الأوّل فلنفرض وقوعه معها تارة وعدم وقوعه معها اخرى ، فامّا أن لا يتفاوت رجحانه الحاصل من العلّة في الحالين اصلا لزم ترجّح احد المتساويين على الآخر

ص: 37

بلا مرجّح ، أو يتفاوت فيكون ذلك لأمر مختصّ بحال الوجود منضمّ إلى العلّة ويكون وجود الممكن من مجموعهما لا من العلّة فقط ، وقد فرض وجوده من العلة فقط ؛ هذا خلف!. على انّا نقول : بعد انضمام الأمر المذكور إلى العلّة إن وجب الممكن ثبت ما ادّعيناه من انّه لا يكفى مجرّد الاولوية الخارجية في وقوع الممكن بل ما لم يجب لم يقع ، وإن لم يجب فرضنا وقوعه معهما تارة وعدم وقوعه معهما اخرى ويتحقّق امر آخر ، وننقل الكلام إليه حتّى يلزم التسلسل ، وهو محال. وملزوم المحال محال. فصدور الممكن عن العلّة بدون ان يجب بها محال ، هذا.

وقد استدلّ بعض الاعلام على بطلان الاولوية الخارجية بانّه إذا تحقّقت علة وجود الشيء بتمامها فامّا أن يتساوى وجوده وعدمه ، فيكون حاله مع تمام العلّة كحاله لا معه ، فما فرض علّة ومرجّحا لا يكون علّة ومرجّحا ، هذا خلف! ؛ وامّا أن يترجّح الوجود من غير أن يبلغ حدّ الوجوب وحينئذ لا يخلوا من أن يكون طرف العدم ممكن الوقوع مع فرض تحقّق علّة الوجود بتمامها أو لا يكون ممكن الوقوع ، فان لم يكن ممكن الوقوع يلزم أن يكون ما فرض غير منته إلى حدّ الوجوب منتهيا إليه ، هذا خلف! ، وإن كان ممكن الوقوع مع تحقّق علة الوجود بتمامها ولا يصلح لعلية العدم إلاّ عدم ما هو علّة الوجود - لانّ عدم الشيء الممكن مستند إلى عدم تحقّق علة وجوده - وقد فرض تحقّق علّة الوجود بتمامها ، فيلزم صحّة عدمه بلا سبب.

وأنت تعلم انّ هذا الدليل أيضا يرجع إلى بعض الادلّة السابقة (1).

المقدّمة الرابعة : في أنّ الممكن كما يحتاج في وجوده إلى العلّة يحتاج في بقائه - أيضا - إليها

ص: 38


1- وهناك أدلّة أخرى لاثبات بطلان الاولوية. راجع : المطالب العالية ، ج 1. ص 88.

وقبل الخوض في بيانه لا بدّ من بيان علّة احتياج الأشياء إلى المؤثّر. فنقول : الحقّ انّ علة احتياج / 9DB / الممكن إلى المؤثّر هو الامكان ، وفاقا لجمهور الحكماء ؛

وذهب جماعة من المتكلّمين إلى أنّ العلّة فيه هو الحدوث (1) ؛

وقيل : الامكان مع الحدوث شطرا ؛

وقيل : شرطا (2).

لنا : انّ العقل يحكم بأنّ الممكن ما يتساوى وجوده وعدمه ، وانّ ما يتساوى وجوده وعدمه فهو محتاج إلى مرجّح مغاير للممكن مرجح احد طرفيه المتساويين على الآخر - لبطلان ترجّح احد المتساويين على الآخر - ، / 9MB / فيعلم منه انّ علّة الحاجة في الواقع هي الامكان. لانّ العقل رتّب الاحتياج على تساوي الوجود والعدم والترتّب العقلي الّذي هو مدرك مؤدّى تعطى التفاوت بين التساوي والاحتياج ، وهو المراد بالعلّية في نفس الأمر.

وممّا يدلّ على أنّ الحدوث ليس علّة الافتقار إلى المؤثر انّا نتصوّر حدوث الممكن ولا يحصل لنا العلم باحتياجه إلى المؤثّر ما لم يلاحظ امكانه ، حتّى لو فرض حادث واجب بالذات وإن كان مما لا يحكم باستغنائه عن المؤثّر.

وأيضا لو كان الحدوث علّة الاحتياج لزم تقدّم الشيء على نفسه بمراتب. بيانه : انّ الحدوث كيفية الوجود ووصف له - لانّه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم - ، فتأخّر الوجود المتأخّر عن الايجاد المتاخّر عن الاحتياج ، لانّ الشيء إذا لم يكن محتاجا إلى المؤثّر لم يتصوّر تأثيره فيه - كما في الواجب والممتنع - ، فالايجاد فرع الاحتياج والاحتياج متأخّر عن علّته - لوجوب تقدّم العلّة على المعلول - ، فلو كان الحدوث علّة للاحتياج أو جزء لها أو شرطا لها وجب تقدّمه على الاحتياج المتقدّم على الايجاد المتقدّم على الوجود المتقدّم على الحدوث ، فيلزم تقدّمه على نفسه بأربع

ص: 39


1- هذا القول نسبه بعضهم إلى قدماء المتكلّمين. راجع : شرح المقاصد ج 1 ص 490. تلخيص المحصّل ص 120.
2- راجع : المطالب العالية ، ج 1 ، ص 71 ، تجد ما فيه نافعا في المقام. وانظر أيضا : شوارق الالهام ، ص 138 ؛ شرح المقاصد ، ج 1. ص 489 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 206.

مراتب - على تقدير العلّية والشرطية - ، وبخمس مراتب - على تقدير الجزئية ، لوجوب تقدّم جزء العلّة عليها (1) -. وأمّا الامكان فلا ريب في انّه مقدّم على الاحتياج بالذات لعدم تصوّر الاحتياج بدون تصوّر الامكان.

فان قيل : الامكان صفة للممكن بالقياس إلى الوجود - لانّه عبارة عن مساوات نسبة الوجود والعدم إلى الماهية الممكنة - ، فيكون متأخّرا عن الوجود فلا يكون علة للاحتياج المتقدّم على الوجود بمراتب (2) ؛

قلنا : الامكان وإن كان متأخّرا عن الماهية نفسها وعن مفهوم الوجود أيضا لكنّه ليس متأخّرا عن كون الماهية موجودة بل مقدّم على اتصاف الماهية بالوجود ، ولذا يوصف الماهية ووجودها بالامكان قبل اتصاف الماهية بالوجود. وامّا الحدوث فلا يتصف الماهية ولا وجودها به إلاّ إذا صارت موجودة ؛ على انّ تاخّر الحدوث عن الايجاد ممّا لا ريب فيه ، ولذا صحّ أن يقال : أوجد فحدث ، وبذلك ثبت المطلوب سواء قلنا انّه متأخّر عن الوجود أيضا أم لا.

واذ ثبت انّ علّة الحاجة هي الامكان يلزم منه أن يكون الممكن الباقى حال بقائه أيضا محتاجا إلى المؤثّر لانّ الامكان لازم لماهية الممكن ذاتي لها لا ينفكّ عنها حال البقاء أيضا ، فيوجد معلوله - أعني : الاحتياج - أيضا في تلك الحال (3). كيف ولو صار الممكن بحصول الوجود له واجبا لصار بحصول العدم ممتنعا ، فلا يوجد ممكن أصلا وهذا خلف! ؛ فالافتقار لازم لماهية الممكن لا ينفكّ عنه في حال العدم ولا في حال الوجود ؛ ولنعم ما قيل :

سيه روئى ز ممكن در دو عالم

جدا هرگز نشد واللّه اعلم!(4)

فما دام الامكان ثابتا للممكن يكون الافتقار إلى المؤثّر ثابتا له ، فلو فرض ممكن

ص: 40


1- راجع : شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 490 ؛ تلخيص المحصّل ، ص 120 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 207.
2- راجع : تلخيص المحصّل ص 120.
3- راجع : تلخيص المحصّل ، ص 121 ؛ كشف المراد ، ص 56 ؛ المبدأ والمعاد - للشيخ الرئيس - ، ص 25.
4- البيت استشهد به صدر المتألّهين ورئيسهم أيضا. راجع : الحكمة المتعالية ، ج 1. ص 69.

قديم لكان دائم الافتقار إلى المؤثّر مع دوام وجوده. فالممكن في حدّ ذاته فقر محض وعدم صرف. وانّما يصير موجودا واجبا بالغير ، كما قال كبير الفلاسفة : « الممكن في حدّ ذاته ليس ولعلته أيس ». ولا ريب في انّ الوجوب بالغير لا يخرجه عن الافتقار الذاتى لانّ ما بالذات لا يزول وما يقتضيه الذات مقدّم على ما يقتضيه الغير ، فسلب الاحتياج عن الممكن - حادثا كان أو قديما - محال.

قال الشيخ في المبدأ والمعاد ما حاصله : « انّه لا يجوز ان يكون الحادث ثابت الوجود بذاته من دون افتقار إلى العلّة ، لانّا نعلم بالضرورة انّه لم يجب ثبوته ووجوده لذات الممكن ومهيته ، فيمتنع أن يصير واجبا بالحدوث الّذي ليس واجبا لذاته ولا ثابتا لذاته ، فالحقّ - جلّ وعزّ - قيوم الكلّ كما هو موجد الكلّ ».

ثمّ لا يخفى انّ من قال علّة الاحتياج إلى المؤثّر هو الحدوث وحده أو الامكان مع الحدوث - شطرا أو شرطا - يلزمه أن يكون الممكن حال بقائه مستغنيا عن المؤثّر ، اذ لا حدوث حال البقاء فلا احتياج ، وقد التزمه جماعة منهم ؛ كما قال اليهود : « انّ الممكنات تفتقر إلى المؤثّر في اخراجها من العدم إلى الوجود وبعد اخراجه منه إليه لا تبقى لها حاجة إليه حتى لو جاز العدم على المؤثّر - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! - لما ضرّ العالم ».

وتمسّكوا في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البنّاء (1) ، ولم يعلموا انّ الكلام / 10DA / في العلّة الموجدة ، وليس البنّاء موجدا للبناء وانّما هو علّة لحركات الآلات واللبنات والأخشاب بحركة يده ، وتلك الحركات علل عرضية معدّة لاوضاع مخصوصة بين تلك الآلات والاخشاب وتلك الاوضاع مفاضة من علل فاعلية غير تلك الحركات المستندة إلى حركة البنّاء (2).

فان قيل : تأثير المؤثّر في الباقي محال ، لانّه إن افاد الوجود الّذي كان حاصلا فيلزم تحصيل الحاصل ؛ وإن افاد / 10MA / امرا آخرا متجدّدا لم يكن التأثير في الباقي ،

ص: 41


1- راجع : الشرح الجديد ص 70. التحصيل ص 526.
2- راجع : شوارق الالهام ص 139 ، نقلا عن المحقّق الشريف.

بل في هذا الأمر المتجدّد (1) ؛

قلنا : تاثير المؤثّر في استمرار الوجود وبقائه ، فانّ الحاصل بالحدوث ليس إلاّ الوجود في زمانه وحصول شيء في زمان لا يوجب حصول استمراره وبقائه ، فابقاء الوجود وادامته من المؤثّر ، وهو غير حصول نفس الوجود. والحاصل : انّ اتصاف الماهية الممكنة بالوجود في زمان حدوثه كما لم يكن مستندا إلى ذاته بل إلى المؤثّر الخارج عن ذاته - لاستواء نسبة ذاته إلى الوجود والعدم - كذلك اتصافها به في الزمان الثاني والثالث وما بعدهما من الازمنة ليس مستندا إلى ذاتها ، بل إلى علّة خارجة ، لانّ استواء نسبة ذاتها إلى وجودها وعدمها أمر لازم لذاتها لا ينفكّ عنها في جميع الاوقات والحالات ، واتصافها بالوجود في زمان الحدوث هو اتصافها باصل الوجودات واتصافها به في الازمنة الّتي بعده هو اتصافها بالبقاء ، فهو في وجودها ابتداء وفي استمرارها وبقائها محتاجة إلى العلّة الّتي تعطيها الوجود ويديمه لها ، وحاجتها إليها في الابتداء والبقاء سواء. فلو فرض انقطاع تاثير المؤثّر عن العالم في آن لصار معدوما ، كما انّ المستضيء بمقابلة الشمس إذا حجب عنها زال ضوئه وصار مظلما (2).

المقدّمة الخامسة : في ابطال الدور والتسلسل

أما « الدور » فهو أن يكون أحد الشيئين متوقّفا على الآخر ومعلولا له ، ويكون الآخر أيضا متوقّفا عليه ومعلولا له ، إمّا بلا واسطة ويسمّى « دورا مصرّحا » أو بواسطة ويسمّى « دورا مضمرا ».

والدليل على بطلانه انّ ما هو المتوقّف والمعلول يجب أن يكون متأخّرا عن

ص: 42


1- راجع : الشرح الجديد ص 70. شوارق الالهام ص 138. تلخيص المحصّل ص 121.
2- راجع : المصدرين الاوّلين من المصادر المذكورة في التعليقة السالفة.

المتوقّف عليه والعلّة وما هو المتوقّف عليه ، والعلّة يجب أن يكون مقدّما على المتوقّف والمعلول. فلو كان شيء متوقّفا على ما يتوقّف عليه ومعلولا لما هو معلول له لزم أن يكون متوقّفا على نفسه وعلّة لها ، وهو يوجب تقدّمه على نفسه - أي : كونه موجودا حين كونه معدوما - ؛ وهو باطل (1).

وأيضا معنى المحتاج من حيث هو محتاج غير معنى المحتاج إليه ومقابله ، فلو كان شيء متوقّفا على نفسه وعلّة لها من جهة واحدة لزم أن يكون غير نفسه ومقابلا له ، وبطلانه من أجلى البديهيات.

وأمّا « التسلسل » فهو أن يكون شيء معلولا لشيء آخر وهو معلولا لثالث وهو لرابع ... ، وهلمّ جرّا إلى غير النهاية.

ويدلّ على بطلانه وجوه من البراهين القاطعة.

منها : « برهان التطبيق (2) ». وتقريره : انّه لو تسلسلت العلل إلى غير النهاية لكان كلّ واحد من آحاد السلسلة معلولا لسابقه وعلّة للاحقه ، إلاّ المعلول الأخير ، فانّه ليس علّة ، وهذه السلسلة وان كانت واحدة بالذات إلاّ أنّها تنحلّ في الواقع وعند العقل إلى سلسلتين إحداهما مركّبة من العلل والأخرى من المعلولات ، وعدد آحاد السلسلة الأخيرة أزيد من آحاد السلسلة الاولى بواحد هو المعلول الأخير - لأنّه معلول وليس علة -. ولنا أن نطبق بين السلسلتين بان نطبق الجزء الأوّل من إحداهما من الطرف المتناهي على الجزء الأوّل من الأخرى والجزء الثاني على الجزء الثاني وهكذا ؛ بل لا حاجة إلى فرض التطبيق ، إذ الجزء الأوّل من إحداهما بإزاء الجزء الأوّل من الأخرى والجزء الثاني بإزاء الجزء الثاني وهكذا في الواقع ونفس الأمر. فالانطباق حاصل عند العقل وبحسب الواقع وإن لم نفرض التطبيق ، فان لم تتناه السلسلتان من

ص: 43


1- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 2 ، ص 142 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 111.
2- هذا البرهان هو العمدة في اثبات ابطال التسلسل. قال القوشجى : ... وعليه التعويل في كلّ ما يدّعى تناهيه. راجع : الشرح الجديد ، ص 122 ؛ وبنفس العبارة : شرح المقاصد ، ج 2. ص 112. وقال صدر المتألّهين : ... وعليه التعويل في كل عدد ذي ترتيب موجود سواء كان من قبيل العلل والمعلولات أو من قبيل المقادير ... راجع : الحكمة المتعالية ، ج 2. ص 145.

الطرف الآخر ولم تصر السلسلة الاخيرة - اعنى : الزائدة - متناهية في ذلك الطرف ووقع بإزاء كلّ جزء من الزائدة جزء من الناقصة لزم تساوي الزائد والناقص ، وهو يوجب تساوي الكلّ والجزء وهو محال ؛

وإن لم يقع بإزاء كلّ جزء من الزائدة جزء من الناقصة - ولا يتصوّر ذلك إلاّ بان يوجد جزء من الزائدة لا يكون بإزائه جزء من الناقصة - لزم تناهى الناقصة بالضرورة والزائدة لا تزيد عليها الاّ بمقدار متناه ، فيلزم تناهيها أيضا لأنّ الزائدة على المتناهى بمقدار متناه متناه (1) -. / 10DB /

واعترض عليه : بانّا نختار انّه يقع بإزاء كلّ جزء من الزائدة جزء من الناقصة ويمتنع لزوم تساويهما ، فانّ وقوع التوازي بين كلّ جزءين من جملتين كما يكون للتساوي فقد يكون لعدم التناهى ؛

وجوابه : انّ الضرورة قاضية بانّ كلّ جملتين امّا متساويتان أو متفاوتان بالزيادة والنقصان ، وإذا لم تتساويا وتتفاوتا بالزيادة والنقصان لزم / 10MB / الناقصة الانقطاع (2).

فان قيل : هذا البرهان منقوض بالأعداد وبالأمور المتعاقبة في الوجود من الحوادث الّتي لا أوّل لها - كالحركات الفلكية وأمثالها - ؛

وبالأمور الّتي توجد معا ولكن لا ترتيب بينها - كالنفوس الناطقة فان جميعها غير متناهية عند الحكماء - مع أنّ هذا البرهان جار فيه (3) ؛

والجواب عن النقض بالاعداد : أنّها من الأمور الاعتبارية وكلّ ما يدخل منها في الوجود متناه ، فانّ عدم التناهى يكون بمعنيين أحدهما أن توجد في الخارج أو الذهن امور مفصّلة غير متناهية ، وثانيهما أن يعتبر العقل مفهوما كلّيا يصلح لان يصدق

ص: 44


1- راجع : الشرح الجديد ص 122. وانظر : ما افاده المحقق الطوسى بشأن هذا البرهان فى فوائده الملحقة بتلخيص المحصّل ص 516. المطالب العالية ج 1 ص 151. الحكمة المتعالية ج 2 ص 145.
2- راجع : الشرح الجديد ص 122. الحكمة المتعالية ج 2 ص 146.
3- راجع : الشرح الجديد ص 122. وانظر : المطالب العالية ج 1 ص 145. الحكمة المتعالية ج 2 ص 145. شرح المقاصد ج 2 ص 122.

على كثيرين ، وكلّما اعتبر العقل له افرادا مفصّلة امكنه اعتبار افراد اخر ولكن الموجود في الخارج أو العقل ليس إلاّ افراد متناهية والعدد من هذا القبيل (1). وقوله : « عدم التناهى » بمعنى لا يقف. وعن النقض بالبواقى انّ المتكلّمين متّفقون على امتناع عدم تناهيها واجراء برهان التطبيق وغيره من براهين ابطال التسلسل فيها ؛ وامّا الحكماء فلما اشترطوا في بطلان عدم التناهى شرطين : أحدهما أن يكون الأمور الغير المتناهية موجودة وحكموا بجواز التسلسل في المتعاقبات ؛ وثانيهما أن يقع بينها ترتيب وجوّزوا اللاتناهى في الأمور المجتمعة في الوجود معا - كالنفوس الناطقة وكالصبرة المشتملة على الاجزاء الغير المتناهية - ، وقالوا : انّ برهان التطبيق وغيره من البراهين لا تجري في المتعاقبات وفي الأمور المجتمعة في الوجود (2). واحتجّوا على عدم جريانه في الأوّل بأنّ الآحاد إذا لم يكن موجودة في الخارج معا لم يتمّ التطبيق لأنّ وقوع آحاد احدى الجملتين بإزاء احاد الأخرى ليس حينئذ في الوجود الخارجيّ ، اذ ليست المتعاقبات مجتمعة في الوجود بحسب الخارج في زمان أصلا وليس في الوجود الذهنى أيضا - لاستحالة وجودها مفصّلة في الذهن دفعة ، لعدم اقتدار الذهن على احاطته بالأمور الغير المتناهية دفعة - ؛ ومن المعلوم انّه لا يتصوّر وقوع آحاد إحدى الجملتين بإزاء آحاد الأخرى إلاّ إذا كانت موجودة معا إمّا في الخارج أو الذهن. والحاصل : انّ الفساد المترتّب على وجود ما لا يتناهى انّما يكون فيما عرض له صفة عدم التناهى وهذا فرع تحقّقه ، وتحقّقه إمّا في الخارج أو الذهن والذهن لا يحيط به ، بل إذا احاطه بجملة متناهية يعجز عن ادراك الباقى ولذا قالوا : انّ التسلسل في الاعتباريات جائز ، لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، فالمتعاقبات الغير المتناهية لا يحيط بها الذهن وليست موجودة في الخارج ، فلا يبطل التسلسل فيها.

وقد اكّد ذلك عندهم بأمرين : أحدهما : انّهم احتاجوا إلى ربط الحوادث بالثابتات وهو لا يتأتّى على أصولهم إلاّ بعدم تناهى الزمان والمتعاقبات ؛ وثانيهما :

ص: 45


1- راجع : الشرح الجديد ص 122.
2- راجع : الحكمة المتعالية ج 2 ص 147. شرح المقاصد ج 2 ص 123.

انّهم ذهبوا إلى تشابه هيولى العناصر فيحتاج إلى مخصّص في قبول الصور ، وهو أيضا على رأيهم موقوف على عدم تناهى الزمان والمتعاقبات. واحتجّوا على عدم جريانه في الثاني بانّ الآحاد إذا كانت موجودة معا ولم تكن مرتّبة لم يتمّ التطبيق أيضا ، إذ لا يلزم من كون الأوّل بإزاء الأوّل كون الثاني بإزاء الثاني والثالث بإزاء الثالث وهكذا ، فيجوز أن تقع آحاد كثيرة من إحدى الجملتين بإزاء واحد من الأخرى ، إلاّ أن يلاحظ العقل كلّ واحد من الأولى واعتبره بإزاء واحد من الأخرى. لكن العقل غير قادر على الاحاطة بما لا يتناهى مفصّلا لا دفعة ولا في زمان متناه ، حتّى يتصور تطبيق ويظهر الخلف ؛ بل ينقطع التطبيق بانقطاع اعتبار العقل والوهم ويتّضح ذلك بتوهم التطبيق بين حبلين ممتدّين على الاستواء وبين اعداد المحصى ، فانّه إذا اطبق طرف أحد الحبلين على طرف الاخرى كان ذلك كافيا في وقوع كلّ من أحدهما بإزاء جزء من الثانى ؛ وليس الحال كذلك في أعداد المحصى ، لانّه لا بدّ في التطبيق من اعتبار تفاصيلها.

فان قلت : هل الحقّ عندكم في هذه المسألة قول المتكلّمين - من بطلان عدم التناهى وجريان التطبيق في الجميع ، أعني : الأمور المجتمعة المرتبة وغير المجتمعة المتعاقبة والمجتمعة الغير المرتبة - ، أو قول الحكماء - من تخصيص البطلان وجريان التطبيق في الاولى دون الآخرين -؟ ؛

قلنا : المختار عندنا قول المتكلمين وبطلان عدم التناهى وجريان / 11DA / التطبيق بل غيره من الادلّة في الأخيرتين أيضا ، أمّا جريانه في غير المجتمعة المتعاقبة فلانّه لا ريب في أنّها صارت موجودة على التدريج بعد جمعها في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، واحاط بها بحيث لم يشذّ منها صغيرة ولا كبيرة وان لم يكن في الوجود عادّ ولا فارض ولا معتبر ، وجميع العلل المعدّة موصوفة بالعدد في نفس الأمر. فانّا نعلم قطعا أنّ سلسلة / 11MA / من المعدّات كزيد مثلا وجدّه وابيه وهلمّ جرّا إلى غير النهاية اذا كانت موجودة على التعاقب تتّصف بالعدد الّذي يتصف به إذا فرض وجودها على الاجتماع من دون تفاوت ، وكذا جميع الازمنة الماضية لها نوع صحّة وتحقّق في

ص: 46

نفس الأمر ويقبل العدّ والانقسام إلى الأعوام والشهور والأيّام والساعات وغير ذلك ، وكلّ ذلك احكام صحيحة لها تحقّق في الواقع ونفس الأمر وبها يحصل الاعداد الواقعية في الخارج ، فلو كانت المتعاقبات من المعدّات والزمان غير متناهية لحصل الأعداد الغير المتناهية في الواقع ونفس الأمر ، فيجري فيه التطبيق وغيره من براهين ابطال التسلسل. ولا مدخلية لحصول الاجتماع في الوجود وجريان التطبيق ، بل المناط فيه حصول الوجود في الخارج بحيث أمكن فرض التطبيق ، ولا ريب في صحّته مع حصول الوجود التدريجى.

فان قيل : إذا اجتمعت الآحاد في الوجود مع ترتّبها وتطبيق أوّل جزء من إحدى الجملتين على أوّل جزء من الجملة الاخرى يحصل الانطباق بين بقية آحاد الجملتين ، اذ المراد بالتطبيق عند التحقيق توافق الأفراد في المراتب وهو يحصل بمجرّد انطباق الجزءين الاوّلين من الجملتين في نفس الأمر عند وجود الآحاد مجتمعة مع الترتّب ، وأمّا إذا لم تكن مجتمعة بل كانت متعاقبة في الوجود فعند تطبيق بعضها على بعض لا يحصل الانطباق بين البواقى ، لانتفائها ، إذ هو انّما يكون في الأمور الموجودة لأنّ تعيّن كلّ واحد بمرتبة خاصّة من مراتب العدد في نفس الأمر انّما هو بعد وجودها في الخارج أو في مدرك من المدارك ، والمتعاقبات في الخارج منتفية ؛ وكذا في العقل ، لانّه لا يقدر على استحضارها مفصّلة.

قلنا : إذا فرضنا جملتين متعاقبتين موجودتين على التدريج كزيد وأبيه وجدّه - وهكذا إلى غير النهاية - ثمّ طبقنا بين زيد وعمرو فلا نشكّ في انّه يحصل التطبيق النفس الأمري بين البواقى وإن لم تكن موجودة في الخارج ، لانّ كلّ جزءين من اجزاء السلسلتين لمّا وجدا توافقا في المراتب فيحصل بينهما التطبيق في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر وإن لم يكونا موجودين في الحال ، وهذا ظاهر لا ريب فيه. وأمّا جريانه في المجتمعة الغير المرتّبة فلأنّ وقوع كلّ واحد من آحاد إحدى الجملتين بإزاء آحاد الجملة الاخرى إذا كانت الجملتان موجودتين معا من الأمور الممكنة وإن لم يكن بين آحادهما ترتّب ، والعقل يفرض ذلك الممكن واقعا حتّى يظهر الخلف ، ولا يحتاج في ذلك

ص: 47

الفرض إلى استحضار آحادهما مفصّلة ، بل يكفى في فرض وقوع هذا الممكن ملاحظتهما اجمالا ، فالتطبيق يجري فيها كما يجري في المجتمعة المرتّبة من دون فرق. على انّا نقول : لو وجد أمور غير متناهية دفعة وان لم تكن مرتّبة توقّف مجموعها على ما يبقى منه بعد اسقاط واحد ، وتوقّف مجموع الباقي على ما يبقى منه بعد اسقاط واحد ، وهكذا ، فيلزم وجود مجموعات غير متناهية يحصل منها التوقّف والترتّب فيجري فيها التطبيق.

فإن قيل : الموجود في الخارج انّما هو الأمور المتفرّقة الكثيرة ولا وجود المجموع من حيث الوحدة إلاّ بعد أن يعتبر العقل وحدته ، والعقل لا يقدر على اعتبار المجموعات الغير المتناهية واستحضارها ، فلا يلزم الترتّب الواقعى الكافي للتطبيق بين جميع المجموعات ، ونظير هذا الترتّب هو الترتّب بين الاعدام الغير المتناهية ؛

قلنا : إذا وجد كثرة كالالف مثلا وجد فيه سبعمائة وخمسمائة ومائتان ومائة ، وهكذا ، ولكلّ منها جهة وحدة وإن لم يعتبرها العقل اصلا ، فيحصل التطبيق الواقعى.

فإن قيل : المسلّم توقّف مجموع الغير المتناهى على الآحاد الّتي تبقى بعد اسقاط واحد منها وتوقّف مجموع الباقى على الآحاد الّتي تبقى بعد اسقاط واحد منها وهكذا ، ولا يلزم من توقّف امر على آحاد توقّفها على مجموعها من حيث هو مجموع ، فانّ كلّ كلّ يتوقّف على كلّ واحد من اجزائه ولا يتوقّف على مجموعها من حيث هو مجموع ، اذ هو عينه فلا يحصل بين المجموعات توقّف وترتّب حتّى يجري فيها التطبيق ؛

قلنا : لا يتوقّف التطبيق على كون آحاد السلسلة بحيث تكون عليّة كلّ واحد منها للآخر من حيث انّه واحد وله جهة وحدة هى تكون / 11DB / علّة واحدة له ، بل لزم أن تكون علة له سواء كان علة واحدة أو عللا كثيرة ، اذ المقصود تحصيل الانتظام وهو يحصل بالشقّين. فاذا سلّم توقّف كلّ واحد من المجموعات على ما يبقى منه بعد اسقاط واحد يحصل المطلوب سواء توقّف على مجموع الثاني من حيث الوحدة أو / 11MB / على الآحاد الّتي يتضمنها مجموع الباقي. على انّ الترتيب حاصل بين المجموعات المفروضة وإن لم يكن بينها توقّف في الوجود ، اذ بينها ترتّب من حيث

ص: 48

المراتب العددية ومجرّد الترتّب يكفى لاجراء التطبيق ، وهو ظاهر ؛ هذا.

واعلم! انّه يمكن تقرير برهان التطبيق بوجه آخر لا يتوقّف على تحليل السلسلة الغير المتناهية إلى سلسلتى العلل والمعلولات والتطبيق بين آحادهما ؛ بل نقول : لو وجدت سلسلة غير متناهية فان كانت غير متناهية من طرف واحد نسقط عدّة متناهية من الطرف المتناهي ، ولو كانت غير متناهية من الجانبين فسقطناها من البين واعتبرنا كلّ قطعة على حدة ، ثمّ نسقط العدّة المتناهية من المبدأ فالباقى في الصورتين أيضا سلسلة غير متناهية ناقصة عن السلسلة الاولى بتلك العدّة ؛ فاذا طبّقنا التامّة على الناقصة بان فرضنا الجزء الأوّل من التامّة بإزاء الجزء الأوّل من الناقصة والثاني بإزاء الثاني وهكذا فامّا تذهب هذه المساوات حتى تستغرق السلسلتين ، فيلزم مساواة الكلّ لجزئه ، بل يزيد الكلّ على جزئه وهو باطل ؛ أو تنتهى الناقصة فتنتهى التامّة أيضا لزيادتها عليها بعدد متناه ، وقد فرضت غير متناهية ؛ هذا خلف!.

ومنها : انّه لو تسلسلت العلل إلى غير النهاية اسقطنا المعلول المحض من السلسلة ولا يضاف كلّ واحد من الآحاد الّتي فوقه بعد وصفي العلية والمعلولية تنحلّ السلسلة إلى جملتين متغايرتين بالاعتبار إحداهما مركّبة من العلل والأخرى من المعلولات ، وإذا طبّقنا بين آحاد الجملتين - اعني كلّ واحد من المعلولات على كلّ واحد من العلل - لزم زيادة وصف العلية على وصف المعلولية ، لانّه لا ينطبق حينئذ كلّ علة على معلولها لخروج المعلول الاخير - بل على معلول علّتها المتقدّمة عليها بمرتبة ، وذلك المعلول هو نفس تلك العلّة الّتي تنطبق عليه ، فالعلة والمعلول - اللّذان يحصل بينهما الانطباق - شيء واحد وإنّما يتغايران باعتبار وصفي العلية والمعلولية ، وبهذا الاعتبار يتصوّر الانطباق بينهما. فكلّ علة ومعلول منطبقين لا بدّ ان تكون قبلهما علّة ، لانّه إذا اجتمعت العلّيّة والمعلولية المنطبقتين في واحد واستندت معلوليته إلى علة مقدّمة عليه وجب أن تتقدّم علّة على كلّ منطبقين من العلة والمعلول ، فإذا انطبقت افراد المعلولات بأسرها - بحيث لم يبق منها واحد غير منطبق - كان هناك علّة متقدّمة على جميع المنطبقات لم ينطبق عليها شيء من افراد المعلولات - وإلاّ لزم أن ينطبق معلول من تلك المعلولات على علّته

ص: 49

لا على علّة المعلول المتأخّر عنه الّتي هي نفس ذلك المعلول - ، وإذا انطبق على علّته فلا تكون علّته متقدّمة عليه ، بل واقعة في مرتبته وهو خلاف المفروض ، فتتحقّق هناك علّة متقدمة على جميع المنطبقات فتزيد سلسلة العلل على سلسلة المعلولات بواحدة ، فيلزم انقطاع سلسلة المعلولات ، ومنه يلزم انقطاع سلسلة العلل ؛ هذا لو فرضت السلسلة متناهية من جانب المعلولات غير متناهية من جانب العلل. ولو فرضت متناهية من جانب العلل غير متناهية من جانب المعلولات تسقط العلّة المحضة ويلزم عند التطبيق بين الجملة التامة والناقصة زيادة وصف المعلولية على وصف العلية ، اذ كلّ معلول حينئذ لا ينطبق على علّته بل على عليّة معلوله المتاخّر عنه ، وتلك العلّة هى نفس ذلك المعلول. فبمثل ما مرّ تبين انّ كلّ معلول وعلّة منطبقين لا بدّ أن يكون بعدهما معلول. وعلى قياس ما تقدّم يلزم زيادة سلسلة المعلولات على سلسلة العلل ، فتنقطع السلسلتان (1).

ومنها « برهان التضايف ». وتقريره : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لكان كلّ واحد من آحادها معلولا لسابقه وعلة للاحقه إلاّ العلّة الاولى إن كان عدم التناهى من جانب المعلولات دون العلل فانها علّة محضة ، إذ المعلول الأخير إن كان بالعكس فانّه معلول محض فيتصف كلّ واحد من آحادها بالمتضايفين - أعني : العلّية والمعلولية - ، إلاّ العلّة المحضة أو المعلول المحض - فان كلاّ منهما يتصف بإحداهما - ، فيزيد عدد أحد المتضايفين على الآخر بواحد ؛ لكنّه محال لانّ المتضايفين متكافئان في الوجود - أي : يجب تساويهما في العدد - ، فيلزم ان يكون بإزاء كلّ علية معلولية حتّى يتساويا / 12DA / في العدد ولا يتصوّر ذلك إلاّ بان تكون السلسلة من الطرف الآخر متناهيا لتحقّق معلول محض أو علّة محضة يكون بإزاء ما فرض في الطرف المتناهى من المعلول المحض أو العلّة المحضة. ولو فرضت السلسلة غير متناهية من / 12MA / الطرفين قطعناها من البين واعتبرنا كلّ قطعة على حدة. وهذا البرهان كما ثبت منه بطلان

ص: 50


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 123. وانظر : الحكمة المتعالية ، ج 2. ص 163 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 125.

التسلسل ثبت منه وجود الواجب بالذات ، لانّه إذا وجد في أحد طرفي السلسلة ما هو المتصف بالعلّية دون المعلولية باعتبار وجوده في نفسه كان واجبا بالذات لا بالغير من الواجب بالذات إلاّ ما هو علّة الاشياء وليس معلولا لغيره (1).

قال بعض الأفاضل : « هذا الدليل ممّا عوّل عليه الفحول وتلقّوه بالقبول ؛ وفيه نظر ، لانّه إن اريد بزيادة عدد أحد المتضايفين على الآخر لزوم الزيادة في الخارج ، فهو انّما يصحّ لو كان لهذين المتضايفين - أي : العلّية والمعلولية - وجود في الخارج ، وهو ممنوع ؛ لانّهما من المعقولات الثانية. وإن أريد به لزوم الزيادة في الذهن فهو انّما يصحّ إذا قدر الذهن على الاحاطة بجميع المراتب الغير المتناهية ، وانّى له ذلك؟!. وان توهّم انّه يلزم زيادة عدد المعلول على عدد العلّة فنقول : لا محذور فيه ، ولا بدّ لنفيه من دليل ». انتهى.

وجوابه : انّا نختار أوّلا انّ لزوم الزيادة انّما هو في الواقع ونفس الأمر ، فانه لو وجدت الآحاد الغير المتناهية في الخارج لاتّصف كلّ منها بالعلّية والمعلولية في الخارج وكانتا ثابتتين له في نفس الأمر والواقع ، وإن لم يكن الخارج ظرفا لوجودهما بل ظرفا لاتصاف تلك الآحاد بهما ؛ فانّ الضرورة قاضية بانّ لها نوع تحقّق ونحو ثبوت لتلك الآحاد في نفس الأمر وإن لم يوجد فارض ومعتبر ، فانّ للمعلولات الثانية أيضا نحو تحقّق في نفس الأمر. على انّا نقول : لا ريب في أنّ اتصاف كلّ واحد من تلك الآحاد بالعلّية والمعلولية متحقّق في الخارج ، وما يدلّ على تساوي عدد المتضايفين يدلّ بعينه على تساوي عدد الاتصاف بهما ؛ مع انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية من أحد الطرفين يلزم أن يكون عدد الاتصافات بأحد المتضايفين زائدا على عدد الاتصافات بالآخر بواحد.

ونختار ثانيا انّ لزوم الزيادة انّما هو في عدد العلل والمعلولات. وما ذكره من انّه لا محذور فيه مدفوع بأنّ ما يقتضي وجوب التكافؤ بين العلّية والمعلولية يقتضي وجوبه

ص: 51


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 125. وانظر أيضا : الحكمة المتعالية ، ج 2. ص 162 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 124.

بين العلّة والمعلول أيضا ؛ كيف وقد ذكروا انّ المتضايفين إمّا حقيقيّان - كالأبوّة والبنوّة - ، أو مشهوريان - كالأب والابن - ، وقد صرّحوا بثبوت التكافؤ في كلّ من القسمين.

ونختار ثالثا : انّ لزوم الزيادة في الذهن وعدم اقتداره على الاحاطة بالآحاد الغير المتناهية غير قادح ، لأنّ الملاحظة الاجمالية كافية في ذلك الحكم والذهن قادر عليها. على انّ الحكماء مصرّحون بانّ المدارك العالية قادرة على ملاحظة الأمور الغير المتناهية مفصّلة ، فيلزم الزيادة في مداركهم وإن لم يلزم في المدارك القاصرة.

فان قيل : التكافؤ اللازم بين العلّة والمعلول أن تكون بإزاء معلولية المعلول علّة قائمة بعلّة ذلك المعلول ، وهذا المعنى ثابت للمعلول الأخير ؛ فانّ العلّية المتضايفة لمعلوليته هي الّتي قائمة بعلّية ، وكذا حال كلّ معلولية في تلك السلسلة. فإن ادّعى في البرهان انّه يلزم زيادة المعلولية المتضايفة على العلّية أو بالعكس لواحدة فهو ممنوع ، لانّ كلّ معلولية يكون بإزائها العلّية القائمة بعلّة ذلك المطلوب المتصف بالمعلولية ، وكلّ علية تكون بإزائها المعلولية القائمة بمعلول تلك العلّة المتصفة بالعلية ؛ وإن ادّعى انّه يلزم زيادة المعلولية على العلّية أو بالعكس بواحدة مطلقا - أي : سواء كانت تلك المعلولية متضايفة أم لا - ، فهو ممنوع ، ولكن لا نسلّم استحالته ، ولا بدّ لانكاره من دليل.

قلنا : العقل كما يحكم بامتناع تحقّق احد المتضايفين بدون الآخر كذلك يحكم بامتناع زيادة عدد أحد المتضايفين على عدد الآخر. وتوضيحه : انّه لا يكون بإزاء مضايف حقيقى واحد إلاّ مضايف حقيقى واحد. فلا يكون بإزاء علّية واحدة إلاّ معلولية واحدة. فلو تكثّرت العلّية تكثّرت المعلولية بحسب تكثّر العلية ، فيتساوى عددهما. وفي صورة التسلسل يلزم زيادة عدد إحداهما على عدد الأخرى.

فان قيل : لا يلزم زيادة عدد المعلولية على عدد العلّية ولا العكس كما ذكرتم ، لأنّ علّة المعلول الآخر ليس الواحد الّذي فوقه ، لانّه علة ناقصة له بل علّته التامة مجموع ما فوقه من السلسلة ، وكذلك ما فوق المعلول الأخير ينحلّ إلى جزءين احدهما معلول

ص: 52

والآخر علّته وهو مجموع ما فوقه - وهكذا إلى غير النهاية - ، فلا يلزم الزيادة المذكورة ؛

قلنا : إذا انحلّت السلسلة إلى المعلول الأخير وإلى / 12DB / مجموع ما فوقه ويكون / 12MB / مجموع ما فوقه علّة له ثمّ فصّلت تفصيلا ثانيا وثالثا وهكذا لزم زيادة العدد المعادّ له على عدد العلّة على هذا التقدير أيضا ، لانّ جميع ما فوق المعلول الأخير يتّصف بالعلّية والمعلولية معا ، والمعلول الأخير يتّصف بالمعلولية فقط ، وهو ظاهر. على انّا نقول : لا كلام في ذلك ، بل المطلوب انّه لمّا كانت سلسلة الآحاد ترتيبية فتكون تلك الآحاد بحيث يكون كلّ سابق منها علّة للاحق ، وان كان السابق علّة ناقصة بالقياس إلى اللاحق إلاّ المعلول الأخير فانّه ليس علّة ناقصة لشيء ، فيلزم الزيادة المذكورة بهذا الاعتبار لا مطلقا. ثمّ لا يخفى انّ هذا البرهان يجري في المتعاقبات وفي المجتمعات الغير المترتبة أيضا ؛ امّا جريانه في الأولى فلأنّ الحصول في الخارج ولو على التدريج يوجب حصول العدد في الواقع ونفس الأمر ، فيقبل التساوي والزيادة ، وامّا جريانه في الثانية فلانّه إذا اسقطنا واحدا من مجموع تلك الآحاد الغير المتناهية بقى أقلّ عدد منها ، وإذا اسقطنا واحدا من الباقى بقى عدد اقلّ من هذا الباقى وازيد ممّا لو اسقط منه واحد أيضا ، وهكذا إلى غير النهاية ؛ فلكلّ مجموع اقلّيّة واكثرية سوي المجموع الاوّل ، فانه لكونه اكثر من الجميع له اكثرية فقط ، فيزيد عدد الاكثرية على عدد الاقلّية مع أنّهما متضايفان. فان قيل : يجب أن يوجد ما هو الأقلّ من الكلّ وهو الواحد ، فله اقلّية فقط ؛ قلنا : محال يوجد بين هذه الاقلية والاكثرية الّتي للكلّ أو بين الأقل والأكثر مراتب غير متناهية محصورة بين حاصرين ، وهو باطل.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية فهي لا محالة اسقطنا منها واحدا ، فيبقي الباقي أقلّ منها ، والاتصاف بالأقلية يستلزم التناهي ، لأنّ معنى أقلية الشيء أن يكون له حدود مرتبة لا يجاوزه ، وإذا كان متناهيا كانت السلسلة أيضا متناهية ، لانّه لا يزيد عليه إلاّ بواحد.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية فهي لا محالة تنحلّ على آحاد وعشرات و

ص: 53

مئات وألوف وهكذا ، فعدّة الآحاد مثلا امّا أن تكون مساوية لعدّة الالوف أو اقلّ منها أو أكثر ، والكلّ باطل. امّا بطلان الأوّلين فلأنّ عدّة الآحاد يجب أن يكون أزيد من عدّة الالوف بتسعمائة وتسع وتسعين ، لأنّا نأخذ في عدّة الآحاد كلّ واحد واحد وفي عدّة الألوف نأخذ كلّ الف واحدا ، فيكون عدّة الآحاد في ألف مائة ألف مائة وعدّة الألوف فيها مائة ، فكيف يمكن مساواة عدّة الآحاد لعدّة الالوف أو نقصانها عنها؟!. وامّا بطلان الثالث فلأنّه لو كان عدّة الألوف اقلّ لكانت متناهية - لما تقدم من أنّ الاقلّية لا ينفكّ عن التناهي ، لانّ معناها أن يكون له حدّ ومرتبة لا تجاوز عنه - ، والضرورة قاضية بانّه لا معنى لكون غير متناه اقلّ أو أكثر من غير متناه آخر وإذا كانت عدّة الألوف متناهية كانت عدّة الآحاد أيضا متناهية ، اذ هى لا يزيد عليها إلاّ بقدر متناه - وهو تسع مائة وتسع وتسعون - ، فيلزم تناهى السلسلة لتناهي اجزائها عدّة وآحادا (1).

فان قيل : نحن نمنع المنفصلة القائلة بانّ عدد الآحاد إمّا مساو لعدد الالوف أو اقلّ أو أكثر لانّ التساوي والتفاوت من خواصّ المتناهى (2) ؛

قلنا : الضرورة قاضية بانّ كلّ جملتين سواء كانتا متناهيتين أو غير متناهيتين إمّا متساويتان أو متفاوتتان في الواقع ، ومنعه مكابرة!.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لاشتملت على آحاد غير متناهية وعشرات غير متناهية ومئات غير متناهية وألوف غير متناهية وهكذا ، فيجب ان يكون العادّ لكلّ واحد من تلك العدد أيضا اعداد غير متناهية ، فتكون العادّ لكلّ منها واحدا وهو تمام الآحاد - لأنّ الاعداد العادية في جميع تلك العدد يستوعب تمام الآحاد وإلاّ لم يكن معنى لعدم تناهى تلك العدد - ؛ فيلزم أن يكون كلّ عددين متناهيين كالواحد والعشر والعشرة والمائة والمائة والألف متساويين لتساوي ما بعدهما.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لاستلزمت لان يكون عدد واحد هو مجموع آحاد السلسلة زوجا وفردا ؛ وهو محال. بيان اللزوم : انّه لو وجدت سلسلة

ص: 54


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 125. وانظر : الحكمة المتعالية ، ج 2. ص 164 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 129.
2- انظر : الحكمة المتعالية ، ج 2 ، ص 165 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 131.

كذلك فان كان أحد طرفيها متناهيا فذاك ، وإلاّ قطعناها من البين ونقول : العدد الّذي وقع مبدأ لتلك السلسلة متّصف بالاوّلية وعلية المتقدّمة عليه بمرتبة متصفة بالثانوية وعلّة تلك العلة متصفة بالثالثية - وهكذا كلّ واحد من آحاد تلك السلسلة على الترتيب - له مرتبة معيّنة كالرابعية والخامسية إلى غير النهاية ؛ ولا ريب في انّ نصف تلك الآحاد تقع في المراتب الفردية كالاوّل والثالث والخامس ، ونصفها الآخر يقع / 13MA / في المراتب / 13DA / الزوجية كالثانى والرابع والسادس وكلّ منهما يذهب إلى غير النهاية فيكون بإزاء كلّ واحد من المراتب الفردية واحد من المراتب الزوجية وبالعكس ؛ ولا يجوز أن يقع فردان أو زوجان ولاء - بل يقع بعد كلّ فرد زوج وبالعكس - ، فيكون عدد الآحاد الفردية مساويا لعدد الآحاد الزوجية ، فتنقسم السلسلة إلى قسمين متساويين أحدهما الأفراد والآخر الازواج ، فيكون مجموع آحاد السلسلة زوجا - لانّا لا نريد من الزوج إلاّ المنقسم بمتساويين -. ثمّ نقول : مجموع آحاد تلك السلسلة بعينها فرد ، لأنّا إذا اسقطنا واحدا منها بقيت سلسلة أخرى غير متناهية وناقصة منها بواحد ، وتبيّن بما تقدم انّ آحاد تلك السلسلة الناقصة أيضا زوج ، فيلزم أن تكون السلسلة التامة فردا ، لانها كانت زائدة على الناقصة بواحد. وإذا زيد واحد على زوج يحصل فرد ، لأنّ الواحد إذا انضمّ إلى احد النصفين يزيد على الآخر ولا يصلح للتنصيف ، فيثبت لزوم ما ادّعيناه من كون آحاد السلسلة زوجا وفردا وهو باطل. وهذا المحال لزم من فرض وجود غير المتناهى ، فيجب أن يكون الطرف الّذي فرض غير متناه متناهيا لئلاّ يلزم هذا التناقض.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة غير متناهية لكان نصفها آحادا زوجية ونصفها آحادا فردية - كما تقدّم آنفا - ، فيوجد النصف لتلك السلسلة ، ولكن آحاد كلّ من النصفين منتشرة في مجموع السلسلة بمعنى أنّ بعد كلّ فرد زوج وبالعكس إلى غير النهاية. ثمّ نقول : لا ريب في انّه يمكن اعتبار التنصيف وتعينه من أحد الطرفين على التوالى والترتيب ، بان نقول : نصف الآحاد الزوجية مع نصف الآحاد الفردية في كلّ من الطرفين نصف أعداد السلسلة على التوالى والترتيب. وإذا وجد للسلسلة نصف

ص: 55

على الترتّب والتوالى نقول : لا يخفى على كلّ عاقل انّ كلّ عدد مؤلّف من آحاد مترتّبة له نصف يجب أن يحصل نصفه أوّلا ثمّ يحصل كلّه ، وما لم يحصل في الخارج نصفه لا يمكن أن يحصل كلّه ، ولا ريب في انّ النصف إذا وجد كان محصورا بين الحاصرين - أعني : مبدأ السلسلة ومبدأ النصف الآخر - ، فيكون متناهيا ؛ وإذا كان النصف متناهيا كان الكلّ متناهيا.

ومنها : انه لو وجدت سلسلة غير متناهية من جانب واحد لاشتملت على آحاد فردية غير متناهية وآحاد زوجية كذلك ، فتوجد فيها أوّلا سلسلتان غير متناهيتين من جانب واحد ويلزم أن لا ينقص مجموع آحادهما عن آحاد الغير المتناهي في الجانبين بمقدار غير متناه ، لانّ الضرورة قاضية بانّ كلّ سلسلتين غير متناهيتين من جانب واحد لا ينقص مجموع آحادهما عن آحاد غير المتناهى من الجانبين بمقدار غير متناه ، بل امّا يتحقّق بينهما التساوي أو الزيادة أو النقصان بقدر متناه. ثمّ نقول : لا ريب في انّ كلّ سلسلة غير متناهية من جانب واحد ينقص آحادها عن آحاد السلسلة الغير المتناهية من الجانبين بمقدار غير متناه ، لأنّا إذا طبّقنا الأولى على أحد قسمي الثانية لكانت مساوية ومطابقة له ، ويبقى منها قسم آخر غير متناه ، فيلزم منه أن تكون السلسلة الّتي فرضت أوّلا غير متناهية من جانب واحد أنقص من الغير المتناهية من الجانبين بمقدار غير متناه وإن اشتملت على آحاد فردية غير متناهية وآحاد زوجية كذلك ، مع انّه يثبت أوّلا أنّها لا تنقص عنها بمقدار غير متناه ، فيجتمع فيها النقيضان ، وهو محال.

فان قيل : المحال انّما لزم من فرض وجود السلسلة الغير المتناهية من الجانبين ، ويجوز أن يكون وجود مثل تلك السلسلة محالا ولم يكن وجود السلسلة الغير المتناهية من جانب واحد محالا! ؛

قلنا : إن جاز وجود الغير المتناهي جاز وجود السلسلتين وإن لم يجز وجودهما ، والفرق تحكّم!.

فان قيل : المسلّم انّ السلسلتين الغير المتناهيتين من جانب واحد إذا تعدّدا

ص: 56

بالاثنينية الخارجية وامتاز إحداهما عن الأخرى وتوالت آحادهما لا ينقص مجموعهما عن الغير المتناهي في الجانبين لا إذا لم يتمايزا بالاثنينية وتشابكت آحادهما - كما في ما نحن فيه - ، فانّهما بالحقيقة سلسلة واحدة صارت اثنتين باعتبار العقل ؛

قلنا : لا شبهة في أنّ عدد السلسلتين لا يتفاوت بتشابك / 13MB / آحادها مع غيرها أو تواليها ، فما يثبت لها من الأحكام من حيث العدد لا يتفاوت بالتشابك والتوالي ، فانّك لو فرضت توالى كلّ واحد من الآحاد الفردية والزوجية بأن يخرج واحد منهما من بين آحاد الاخرى حصلت سلسلتان محقّقان ممتازتان متواليتا الآحاد ، وهما كانتا موجودتين بعينهما في السلسلة الأولى. فبالتشابك والتوالى لا يختلف حكمها ولا يزيد عددها ولا ينقص على احد التقديرين دون الآخر.

ومنها : انّه لو وجدت سلسلة مركبة / 13DB / من آحاد غير متناهية لكان لها في حاقّ الواقع ومتن الخارج مرتبة من العدد البتة ، لانّ كلّ جملة موجودة في الخارج متعينة الآحاد يجب أن يعرضها مرتبة عددية ويوجد مراتب أخر ناقصة عنها بواحد واثنين وثلاثة ، وهكذا يوجد طبقات مترتّبة متنازلة إلى أن ينتهى إلى الواحد ، وكلّما يوجد من المراتب المتوسّطة بين المرتبة الأولى والمرتبة الأخيرة - أعني : الواحد - محصور بينهما ، فلو كانت تلك المراتب غير متناهية لزم كون الغير المتناهي محصورا بين حاصرين وهو باطل (1)

وأنت تعلم انّه لو قطع النظر عن الانصاف واستقامة القريحة يمكن للمناظر المجادل أن يمنع أوّلا وجود مرتبة عددية معينة لآحاد الغير المتناهي ؛ ويمنع ثانيا استحالة انحصار الغير المتناهي بين مثل هذين الحاصرين (2) - أعني - المرتبة الّتي لغير المتناهي والمرتبة الواحدية - ، إلاّ أنّ بعد الرجوع إلى الانصاف والوجدان السليم والحدس الصائب يحكم العقل بأنّ الآحاد الموجودة المتعينة في الخارج لا بدّ أن يعرضها مرتبة معينة من العدد ولا يمكن انحصار غير المتناهي بينها وبين الواحد (3).

ص: 57


1- انظر : الحكمة المتعالية ، ج 2 ، ص 166 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 127.
2- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 2 ، ص 167.
3- وهناك ادلّة اخرى لابطال الدور والتسلسل وابحاث قيّمة مبثوثة في الكتب الحكمية و الكلامية. ولعلّ من أنفسها ما ذكره الإمام الرازى ، راجع : المطالب العالية ، ج 1. ص 136 / 157.

* * *

ص: 58

المقالة الأولى : في اثبات الواجب الوجود لذاته

اشارة

ص: 59

المقالة الاولى

في اثبات الواجب الوجود لذاته

اعلم! أنّ هذا المطلب مع كونه من أعلى المطالب الالهية وأسنى المقاصد الحكمية وأصل كلّ السعادات وأفضلها ومبنى جميع الخيرات وأشرفها والغاية العظمى للناظرين في حقائق الملك والملكوت والوجهة الكبرى للمسافرين إلى صقع عالم الجبروت ، قد امتاز عن جميعها بالوضوح والجلاء ؛ بحيث لا يخفى على الأغبياء فضلا عن العقلاء ، كيف لا؟! وكلّ من يرقى من حضيض الحيوانية وأعطى حظّا من الانسانية يعلم أنّ هذه الموجودات الكثيرة العظيمة لم توجد بنفسها ولا بما هو محتاج مثلها ؛ بل انّما وجدت من صانع غنىّ عن غيره ، ولذا لو تصفّحت فرق الأنام من الخاصّ والعامّ واطّلعت على بواطنهم وعقائدهم وجدتهم متّفقين على الاقرار بإله العالم وصانعه : بل علمت أنّ منكره انّما ينكر باللسان وقلبه مطمئنّ بالايمان - كما قال امير المؤمنين صلوات اللّه عليه وعلى آله الطاهرين : فهو الّذي تشهد له أعلام الوجود على اقرار قلب ذي الجحود - (1) ؛ وهذا يدلّ على أنّ معرفة اللّه فطرية. ويؤكّده اضطرار الناس في المضايق والمصائب إلى التوجّه والفرار إلى إلههم وخالقهم (2).

ص: 60


1- من كلام له - علیه السلام - وفيه جملة من صفات الربوبية والعلم الالهى. راجع : نهج البلاغة ، الخطبة 49 ص 88.
2- راجع : المطالب العالية ، ج 1 ص 240 ، حيث انعقد الرازي الفصل الثاني من القسم الثاني من الجزء الأوّل من هذا الكتاب لبيان الدلائل الاقناعية لاثبات واجب الوجود. وفي مفتتح الباب حكى هذا البرهان عن سيّدنا ومولانا أبي عبد اللّه الصادق - عليه وعلى آبائه وأولاده آلاف التحية والثناء -.

والحقّ أنّ معرفة وجود صانع العالم فطريّة بديهية ، لكن معرفة وجود الواجب بالذات ومعرفة صفاته الكمالية نظرية.

ثمّ إنّ للعقلاء في اثبات واجب الوجود لذاته مسالك (1) ؛

الأوّل : مسلك الحكماء

اشارة

القائلين بانّ علّة الحاجة هي الامكان ، وهو الاستدلال من جهة الامكان والتغيّر.

ولمّا لم يكن مجرّد الامكان الذاتي للممكن من دون أن يصير موجودا كافيا في الاثبات ، فالالهيون منهم استدلّوا عليه بالنظر إلى الموجود من حيث هو ، أو من حيث افراده ، أو فرد منه ؛

وبعضهم استدلّوا بالامكان الوقوعي - كما يأتي -.

والطبيعيون منهم استدلّوا عليه بوجود خاصّ وطبيعته - أعني : الحركة - ؛

وبعض الحكماء استدلّوا عليه بالنظر إلى حال النفس الناطقة.

فللحكماء أربعة مناهج ؛

المنهج الأوّل : منهج الإلهيّين منهم

اشارة

وهو الاستدلال بالنظر إلى الوجود. ويمكن الاستدلال على هذا المنهج بوجوه

ص: 61


1- انظر : الأربعين في أصول الدين - للرازى - ج 1 ص 103. تلخيص المحصّل ص 242.

بعضها يتوقّف على ابطال الدور والتسلسل ، وبعضها لا يتوقّف على ابطالهما ، أو يتوقّف على ابطال الدور فقط.

أمّا الأوّل فتقريره : إنّ الموجودات لو انحصرت في الممكنات ولم يستند إلى واجب بالذات لزم الدور ، أو التسلسل ، أو وجود الممكن بنفسه من غير علّة ، أو الانتهاء إلى الواجب. ووجه اللزوم والحصر ظاهر. وبطلان اللوازم بأسرها سوى الأخير - الّذي هو المطلوب - قد تقدّم.

ومثل هذا الدليل الّذي يوجد فيه طبيعة الموجود أو افراده أو فرد منتشر منه ويستدلّ على الواجب بلزوم الدور أو التسلسل أو وجود الممكن بنفسه يمكن أن يقرّر بوجوه.

اوّلها : ما ذكر.

وثانيها : لا ريب في وجود ممكن ، فنقول : يجب استناده إلى مؤثّر موجود - لبطلان وجود الممكن بدون علّة - ، فإن كان واجبا ثبت المطلوب والاّ ننقل الكلام إليه. فامّا يلزم الدور أو التسلسل / 14MA / أو الانتهاء إلى الواجب بالذات (1).

وثالثها : انّ للموجود افرادا بالضرورة ، فإن كان واحد منها واجب الوجود ثبت المطلوب ، وإن لم يتحقّق فيها واجب الوجود وانحصرت في الممكنات لزم أن يتحقّق فيها واجب الوجود. بيان اللزوم : انّه لو لم يوجد فيها واجب الوجود امّا أن تكون موجودة بعضها ببعض - امّا دائرة أو متسلسلة - ، أو تكون موجودة لا بعلّة ، والكلّ باطل ؛ فيجب أن يوجد فيها واجب الوجود بالذات.

ورابعها : أن يقال في الشق الثانى : إن كان كلّ افراد الموجود / 14DA / ممكنا فلهذا الكلّ - لكونه ممكنا - مؤثّر موجود بالضرورة ، فننقل الكلام إليه ، فيجب الانتهاء إلى الواجب لاستحالة الدور والتسلسل ووجود الممكن بدون علّة.

وخامسها : أن يقال فيه : لو لم يوجد في افراد الموجود واجب الوجود وانحصرت في الممكنات لزم الدور أو التسلسل أو وجود الممكن بدون علّة - لانّه إمّا أن تكون في

ص: 62


1- راجع : تلخيص المحصّل ص 245.

بعضها موجودة ببعض وجد ذلك البعض به فهو الدور ، أو ببعض وجد بآخر وهو بآخر وهلمّ جرّا فهو التسلسل - ؛ أو تكون موجودة بنفسها بأولوية ذاتية أو بدونها ، فهو الموجودية بدون علّة (1).

وسادسها : انّه لا شكّ في تحقّق طبيعة الموجود من حيث هي مع قطع النظر عن خصوصيات الأفراد وان لم ينفك تحقق الطبيعة والعلم بها عن تحقّق الافراد والعلم بها ، فان كانت هذه الطبيعة واجبة ثبت المطلوب ، وإلاّ لزم أحد المفاسد المذكورة في الشقّ الثاني من الأدلّة المتقدّمة.

وسابعها : إنّ الموجود إمّا ثابت وبالفعل في وجوده وصفاته دائما أو لا ، بل متغيّر وبالقوة ولو من بعض الوجوه (2) وفي بعض الأحيان ؛ والأوّل هو الواجب ، والثانى هو الممكن. ثمّ إن وجد الأوّل في افراد الموجود ثبت المطلوب والاّ لزم أحد المفاسد المذكورة في الشقّ الثاني من الادلّة المتقدّمة ، لأنّ كلّ متغير وبالقوّة لا بدّ له من مغيّر ومخرج غير ذاته يخرجه من قوّته إلى الفعل فيجب الانتهاء إلى مغيّر غير متغير ومخرج يكون بالفعل من جميع الوجوه دائما لئلاّ يخرج إلى مخرج آخر ، دفعا للدور والتسلسل ولزوم الخروج من القوّة بلا سبب.

وأمّا الثانى - أعني - البراهين الّتي لا تتوقّف على ابطال الدور والتسلسل أو لا يتوقف على ابطال التسلسل - فكثيرة.

منها : لو انحصرت الموجودات في الممكنات ولم يتحقّق فيها واجب الوجود لذاته لكان مجموعها معلولات مع عللها الّتي هي مثلها في الامكان والمعلولية ، سواء وجد كلّ واحد بآخر على سبيل الدور والتسلسل. ومثل هذا المجموع وان كان عدم كلّ واحد من افراده مع بقاء علّته محالا - لاستلزامه تخلف المعلول عن علّته - ، لكن يجوز عدم المجموع لأنّه لا يمتنع عدم المعلول مع عدم علّته الممكنة الغير المستندة إلى الواجب ، وإن ذهبت سلسلة المعلولات والعلل إلى غير النهاية ؛ ولا ريب (3) في أنّ هذه الجملة

ص: 63


1- راجع : الأربعين في أصول الدين - للرازي - ، ج 1 ، ص 103.
2- الاصل : - وصفاته ... الوجوه.
3- الاصل : - وان ذهبت ... لا ريب.

بأسرها مركّبة عن مثل هذا المعلول ومثل هذه العلّة ولا يوجد فيها غيرهما ، فالعدم لا ينسدّ عن هذه الجملة بنفسها ولا بشيء من آحادها - لكون جميعها ممكنة محتاجة في انسداد اعدامها إلى غيرها - ، فكلّما دار الامر أو تسلسل رجع إلى الاوّل. وإذا جاز عدم هذه الجملة فلا يجوز وجودها ، لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد - كما مر - والممكن لا يجب له الوجود ما لم يمتنع عليه جميع انحاء العدم ، إذ لو وجب وجوده مع امكان نحو ما من العدم ويكون هذا العدم مساويا للوجود أو مرجوحا - لظهور شناعة راجحيته - لزم امكان المرجوح أو المساوى. وقد تقدّم بطلانهما. وإذا لم يجز وجود هذه الجملة بنفسها ولا بشيء من آحادها مع كونها موجودة وجب استنادها إلى موجود خارج عنها ، والموجود الخارج عن جميع الممكنات انّما هو الواجب بالذات ، وهو المطلوب ، وهذا البرهان لا يتوقّف على ابطال الدور والتسلسل ، بل انّما يتوقّف على ابطال وجود الممكن بنفسه بدون أولوية الوجود أو معها ، وبطلانه أوضح من كلّ واضح - كما تقدم -

ويمكن أن يقرّر هذا البرهان بوجه أخصر وأوضح ؛ وهو : انّ الممكن لمّا كان بالنظر إلى ذاته غير موجود فلو انحصرت الموجودات في الممكنات لكان جميعها كذلك - اي : غير موجود بالنظر إلى ذواتها - ، لان جميعها في حكم ممكن واحد في جواز طريان العدم عليها رأسا ، وكلّما دار الامر أو تسلسل رجع إلى الاقلّ ، فلا بدّ لها من موجد خارج يوجدها كما لممكن الواحد.

ومنها : إنّ جميع الممكنات من حيث هو مجموع موجود واحد - كما يأتي بيانه بعد ذلك - ، فلو انحصرت الموجودات في الممكنات لكان مجموعها شخصا واحدا لا بدّ له من علّة بالذات وعلى الاطلاق (1) ويمتاز عمّا سبقه من الوجه الأخصر بأخذ كون جميعها من حيث هو مجموع شخصا واحدا ، ولا يلزم هذا الأخذ والفرض في الوجه الأخصر السابق عليه ، لأنّه لم يؤخذ فيه الهيئة الاجتماعية / 14MB / بل أخذ فيه كون جميع الآحاد في حكم واحد لا كونها واحدا.

ص: 64


1- راجع : الحكمة المتعالية ج 6 ص 30.

ومنها : ما أورده بعض الأذكياء ، وهو يتوقّف على مقدّمتين واضحتين ، إحداهما : إنّ الممكن لا يكون إلاّ معلولا / 14DB / - وقد تبيّن ذلك من بعض المقدّمات السالفة - ،

وثانيتهما : انّ حاجة المعلول إلى العلّة انّما هي لأجل انّه معلول فقط ، ولا مدخلية في باقي صفاته وخصوصيّاته من كونه هذا وهذا في ذلك ، وهي بديهية واضحة في نفسها.

وبعد تمهيدهما نقول : لو انحصرت الموجودات في الممكنات لكانت بأسرها معلولات بحكم المقدّمة الأولى ، وإذ نقصنا وحذفنا عنها جميع الصفات واللوازم والخصوصيات الّتي لا دخل لها في كونها معلولات وموجودات من كونها هذه وهذه وكذا وكذا وبالجملة أسقطنا في الملاحظة العقلية كلّما هو لا دخل له في احتياجها إلى العلة وكونها معلولات وموجودات تبقى منها جميعا طبيعة الموجودة ، والمعلول بما هو موجود معلول فقط ، فيلزم أن يكون المعلول بما هو معلول موجودا من غير علّة ، لأنّ كلّما كان في هذه الجملة كان معلولا ونقصنا عنه جميع الخصوصيات الّتي لم تكن لها مدخلية في كونه معلولا (1) وفي احتياجه إلى علّة وأخذناه حتّى يحصل لنا موجود واحد هو معلول ولم يبق في هذه الجملة موجود آخر لا يكون معلولا فقط حتّى يجوز أن يكون علّة ؛ وليس خارج هذه الجملة أيضا موجود ممكن يجوز أن يكون علّة لها - لأنّ المفروض دخول كلّ الممكنات فيها - ، فيتحقّق لزوم كون المعلول بما هو معلول موجودا من غير علّة ، وهو باطل بحكم المقدّمة الثانية. لانّه إذا احتاج المعلول إلى العلّة في مجرّد كونه معلولا دون ساير الخصوصيات فكيف يتحقّق مجرّد المعلول من حيث هو معلول من دون شيء آخر ، ولا يتحقّق احتياجه إلى العلة ، فيجب أن يوجد خارج هذه الجملة موجود واجب لذاته حتّى تستند المعلولات إليه.

ومنها : انّه لو انحصرت الموجودات في الممكنات لزم الدور ، إذ تحقّق مجموع الموجودات من حيث هو مجموع يتوقّف على هذا التقدير على ايجاد ما ، لأنّ وجود الممكنات انّما يتحقّق بالايجاد لكونها في حكم ممكن واحد في الاحتياج إلى مؤثّر

ص: 65


1- الاصل : - معلولا.

موجود ، وتحقّق ايجاد ما يتوقّف أيضا على تحقّق هذه الموجودات ، لانّ الغرض عدم موجود خارج عنها حتّى يكون موجدا لها.

وقال المحقّق الخفري في بيان لزوم الدور : لانّ تحقّق موجود ما يتوقّف على هذا التقدير على تحقّق ايجاد ما وبالعكس.

ولا يخفى انّه لو اراد من « موجود ما » مجموع الموجودات من حيث هو مجموع ليرجع إلى ما ذكرناه ، ولو أراد ما هو الظاهر منه فقال الفاضل السمّاكي : فاللازم منه لزوم التسلسل لا الدور ، إذ على تقدير عدم تحقّق الواجب يكون تحقّق موجود ما متوقّفا على ايجاد سابق عليه - أي : على وجود علّته - ، ويكون تحقّق ذلك الايجاد متوقّفا على تحقّق موجود آخر لا على ذلك الموجود المتوقّف على ذلك الايجاد ، فيلزم التسلسل ، لا الدور.

وقال سيّد الحكماء في تصحيح لزوم الدور لا التسلسل والجواب عن ايراد السمّاكي (1) : انّ طبيعة الايجاد متأخّرة عن طبيعة الوجود تاخّرا ذاتيا ، لأنّها طبيعة ناعتية يستحيل قيامها بذاتها ، فهي انّما يكون وصفا لشيء والوصف الايجابى سواء كان في الموجبة المحصّلة أو الموجبة المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول متأخّر عن وجود الموضوع ، فيقتضى محلاّ موجودا يقوم به - لأنّ ثبوت صفة لشيء فرع ثبوت الموصوف في نفسه - فطبيعة الوجود متقدّمة على طبيعة الايجاد. وعلى تقدير عدم وجود الواجب اتصاف طبيعة الممكن بطبيعة الوجود لا يكون إلاّ بعد تعلّق الايجاد بها وقيامه بها ، فهي يحتاج إلى طبيعة الايجاد وتتأخّر عنها ، فالدور لازم بين الطبيعتين. بخلاف ما لو كان الواجب موجودا ، فانّ طبيعة الوجود حينئذ لا يتوقّف على طبيعة الايجاد لقيام فرد من الوجود بذاته من دون افتقاره إلى طبيعة الايجاد ، وهو الوجود الواجب.

ثمّ قال : لا يقال : على ما ذكرتم يلزم توقّف طبيعة الوجود أيضا على نفسها ، لأنّ اتصاف شيء بها يتوقّف على وجود ذلك الشيء بعين ما ذكر ؛

لانّا نقول : لا يتمّ ذلك في طبيعة الوجود مطلقا ، لانّها ليست طبيعة ناعتية حتّى

ص: 66


1- الاصل : - والجواب عن ايراد السمّاكي.

يلزم كونها وصفا للماهية ، بل قد تكون طبيعة الوجود قائمة بنفس ذاتها - كما في طبيعة واجب الوجود -. وان أورد في طبيعة المطلق العامّ البديهي فنختار أنّها متأخّرة عن طبيعة الوجود الخاصّ الواجبي القائم بنفس ذاته ؛ انتهى.

وأورد العارف الشيرازي على الجواب المذكور : بأنّ الدور في الطبيعة - أي : توقّف الطبيعة على نفسها - غير محال ، لجواز كون طبيعة ما باعتبار حصولها في ضمن فرد / 15AM / متقدّمة على نفسها باعتبار حصولها في ضمن فرد آخر - كما في طبيعة الافراد المتوالدة -. وذلك لانّ مفسدة الدور هو تقدّم الشيء على نفسه - أي : اجتماع النقيضين - ، / 15DA / والوحدة المعتبرة في التناقض هي الوحدة الشخصية لا النوعية ، فالشخص الواحد لا يجوز أن يكون متقدّما ومتأخّرا معا. وامّا النوع الواحد فلا يستحيل ذلك فيه اصلا - كما لا يخفى -. والحاصل انّ احكام الوحدة العددية قد لا يثبت للوحدة النوعية الابهامية ولذا اتصاف ماهية الانسان مثلا بالعلم والجهل لا يقتضي ثبوت التناقض لعدم كون الموضوع واحدا بالوحدة العددية ، بخلاف اتصاف زيد بهما ، فانّه يقتضي ثبوت التناقض ، لكونه ذاتا شخصيا.

وأجاب عنه الفاضل اللاهيجى : بانّ كون الطبيعة في ضمن فرد متقدّمة على نفسها في ضمن فرد آخر انّما يصحّ في الإعداد لا في الايجاد ، فانّ الطبيعة يجوز أن تكون في ضمن فرد معدّة لحصولها في ضمن فرد آخر ، ولا يجوز كونها في ضمن فرد موجدة نفسها في ضمن فرد آخر ، فانّ ايجاد الطبيعة (1) هو جعلها واقعة في متن الاعيان. فاذا وقعت هي في نفس الأمر و (2) الواقع لا يجوز أن يجعل نفسها واقعة موقعها مرّة أخرى فيها.

وبعبارة أخرى : لا يجوز أن يكون وقوعها في نفس الأعيان متقدّما على وقوعها في نفس الأعيان ، لكن يجوز حينئذ - أي : إذا وقعت في نفس الواقع في ضمن فرد - أن يصير معدّة لحصول نفسها في ضمن فرد آخر ، إذ معنى كونها في ضمن فرد انّها محفوفة

ص: 67


1- في النسختين : الطبقة ، بدلا من : الطبيعة.
2- الاصل : - الأمر و.

بعوارض مشخّصة معيّنة ، ويجوز أن يكون هي في ضمن تلك العوارض المشخّصة معدّة - لكونها محفوفة بعوارض مشخّصة أخرى - ، ولا امتناع في ذلك اصلا.

والحاصل : إنّ الطبيعة النوعية يجوز أن تكون متقدّمة ومتأخّرة بحسب الزمان ، ولا يجوز أن تكون متقدّمة ومتأخّرة بحسب الذات ، فانّ الوحدة النوعية وحدة ابهامية بحسب الحصول في ضمن افرادها الواقعة كلّ منها في جزء من أجزاء الزمان ، وليست ابهامية بحسب وقوعها في نفس الدهر ؛ بل هي وحدة ابهامية زمانية ووحدة شخصية دهرية ، فكيف يجوز كونها بحسب وقوعها في نفس الأمر متقدمة ومتأخّرة؟! ؛ انتهى.

اقول : إن شئت تحقيق الحقّ في هذا المقام فاستمع لما يتلى عليك من الكلام!. ولا بدّ أوّلا من تحرير مذهب الحكماء والمتكلّمين في الوجود ثمّ تلخيص مطلب هؤلاء الفضلاء من الموردين والمجيبين ، ثمّ الاشارة إلى ما هو الحقّ.

فنقول : مذهب الحكماء في الوجود - كما حرّره بعض الاذكياء (1) - : انّ للوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات الخاصّة ، والوجودات الخاصّة حقائق مختلفة متكثّرة بأنفسها لا بمجرّد عارض الاضافة - ليكون متماثلة متّفقة الحقائق ، ولا بالفصول - ليكون الوجود المطلق جنسا لها - ، بل هو عارض لازم لها كنور الشمس ونور السراج ، فانّهما مختلفان بالحقيقة واللوازم مشتركان في عارض النور ؛ وكذا بياض الثلج والعاج ، بل كالكمّ والكيف المشتركين في العرضية ، بل الجوهر والعرض المشتركين في الامكان والوجود. إلاّ انّه لمّا لم يكن لكلّ وجود اسم خاصّ - كما في أقسام الممكن واقسام العرض - توهّم انّ تكثّر الموجودات وكونها حصّة حصّة انّما هو بمجرّد الاضافة إلى الماهيّات المعروضة بها - كبياض هذا الثلج وذاك ونور هذا السراج وذاك - ، وليس كذلك ، بل هي حقائق متخالفة متغايرة مندرجة تحت هذا المفهوم العارض لها الخارج عنها واذا اعتبر تكثّر ذلك المفهوم وصيرورته حصّة حصّة باضافته إلى المهيات فهذه الحصص أيضا خارجة عن تلك الوجودات المتخالفة الحقائق ؛ فهناك أمور ثلاثة :

ص: 68


1- راجع : الدرّة الفاخرة ص 2 ، تجد العبارة حرفيا فيه.

(1) : مفهوم الوجود ، و (2) : حصصه المتعينة باضافته إلى الماهيّات ، و (3) : الوجودات الخاصّة المتخالفة الحقائق. فمفهوم الوجود ذاتيّ داخل في حصصه وهما - أيّ المفهوم وحصّته - خارجان عن الوجودات الخاصّة ؛ والوجود الخاصّ عين الذات في الواجب - تعالى - وزائد خارج فيما سواه.

ومذهب المتكلّمين : انّ للوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الأشياء وذلك المفهوم الواحد يتكثّر ويصير حصّة حصّة باضافته إلى الأشياء - كبياض هذا الثلج وذاك - ، ووجودات الأشياء هي هذه الحصص. وهذه الحصص مع ذلك المفهوم الداخل فيها خارجة عن ذوات الأشياء زائدة عليها ذهنا فقط عند محقّقيهم ، وذهنا وخارجا عند آخرين.

وإذ عرفت ذلك فاعلم : انّ حاصل إيراد السمّاكي انّ توقّف موجود ما على ايجاد ما وبالعكس لا يستلزم الدور ، بل التسلسل ؛ لانّه على تقدير عدم الواجب / 15DB / يتوقّف / 15MB / موجود ما على ايجاد سابق عليه - أي : ايجاد صادر عن علّته - ، وهذا الايجاد يتوقّف على موجود ما هو هذه العلّة لا على الموجود الاوّل. ووجود هذه العلّة يتوقّف على ايجاد صادر من علّة سابقة عليها ، وهكذا ؛ فلا يلزم دور.

وحاصل جواب السيّد : انّ مراد الخفري أنّ طبيعة الايجاد متوقّفة على طبيعة الوجود ، وعلى تقدير عدم الواجب يتحقّق العكس أيضا ، فيلزم الدور بين الطبيعتين وان توقّف كلّ فرد على فرد آخر إلى غير النهاية.

وحاصل ايراد العارف الشيرازي على هذا الجواب : انّ فساد الدور بين الطبيعتين هو لزوم توقّف كلّ واحدة من الطبيعتين على نفسها ، وهذا ليس بمحال - لجواز أن تكون طبيعة ما باعتبار حصولها في ضمن فرد آخر - ، فطبيعة الايجاد المتحقّقة في ضمن افراد الممكنات متقدّمة على طبيعة الوجود المتحقّقة في ضمنها باعتبار ومتأخّرة عنها باعتبار ، ولا مانع منه.

وحاصل جواب الفاضل اللاهيجى عن هذا الايراد : انّ تقدّم الطبيعة باعتبار حصولها في ضمن فرد على نفسها باعتبار حصولها في فرد آخر انّما يصحّ في الإعداد

ص: 69

بان يكون في ضمن فرد معدّة لحصولها في ضمن فرد آخر ، لا في الايجاد بان يكون حصولها في ضمن فرد موجدة لنفسها في ضمن فرد آخر ، وفيما نحن فيه يلزم التوقّف في الايجاد لأنّ توقّف طبيعة الوجود في ضمن فرد على نفسها من حيث أنّها في ضمن فرد آخر انّما يكون من حيث افتقارها في حصولها في ضمن أحد الفردين إلى نفسها من حيث أنّها حاصلة في ضمن الفرد الآخر ، وهذا محال.

وإذ تقرّر ذلك فاعلم : انّ المراد من « طبيعة الايجاد » هنا الإيجاد الاضافي ، وهو أمر اعتباري ؛ وليس المراد به الايجاد الحقيقي - أعني : حقيقة الذات - ، وهو ظاهر. والمراد « بطبيعة الوجود » هو الوجود المطلق العامّ المشترك بين جميع الأشياء ، لأنّ المراد بالطبيعة ما كان مشتركا بين جميع الافراد متحقّقا فيها ؛ وقد عرفت في تحرير مذاهب الحكماء والمتكلّمين (1) أنّ المشترك بين الوجودات الخاصّة أو مهيات الاشياء ليس إلاّ الوجود المطلق ، وليس بين الوجودات الخاصّة عند الحكيم وبين مهيات الأشياء عند المتكلّم وجود مشترك آخر غير الوجود المطلق ، وهو واضح.

وحينئذ نقول : إن كان مراد السيّد - رحمه اللّه - انّ كلا من الطبيعتين موجود في الخارج ويلزم الدور بينهما ، ففيه : انّ الوجود المطلق والايجاد الاضافي ليسا بموجودين في الخارج ، بل هما اعتباريان منتزعان ، فلا يوجد أفرادهما في الخارج فضلا عن طبيعتهما ، ولو سلّم كونهما محصّلين - كالانسانية - فلا نسلّم وجود طبيعتهما في الخارج بوجود على حدة سوى وجود أفرادهما ، إذ محلّ الخلاف في وجود الكلّي الطبيعيّ - كما حرّره المحقّقون - انّ الطبيعة هل هي موجودة في الخارج بوجود افرادها حتّى تكون الطبيعة موجودة والفرد موجودا آخر ووجودهما واحد ، أو هي غير موجودة في الخارج اصلا ، بل الموجود فيه أفرادها فقط وهي موجودة في الذهن لا غير ، فعلى هذا لو كانت الطبيعة موجودة يكون وجودها بوجود افرادها ، فهي حينئذ موجودة بوجود كلّ فرد ، فيكون لها وجودات متعدّدة بحسب تعدّد الأفراد ، وما هذا شأنه لا يمتنع أن يتوقّف باعتبار أحد وجوداته على نفسه باعتبار وجود آخر ، وحينئذ

ص: 70


1- في الاصل : المتألّهين.

يلزم التسلسل ويتوقّف تمامية الاستدلال على ابطاله ، ولا يلزم الدور.

وما ذكره الفاضل اللاهيجي - رحمه اللّه - من عدم جواز توقف الطبيعة باعتبار وجودها في ضمن فرد على نفسها باعتبار وجودها في ضمن فرد آخر في الايجاد ، مدفوع بأنّ عدم جواز كون الطبيعة بأحد الاعتبارين علّة موجدة لنفسها بالاعتبار الآخر مسلّم ، إلاّ انّه لا يلزم ذلك فيما نحن فيه على تقدير عدم الواجب ، لانّ العلّة (1) ليست إلاّ الفرد الّذي هو ماهية مع الوجود الخاصّ والوجود المطلق أمر عرضي تابع منتزع منه ، فانّ الوجود الواجبي الّذي هو علّة الأشياء ليس ما ينتزع منه من الوجود المطلق ، بل وجوده الخاصّ الّذي هو عين حقيقته. وإن كان مراده انّ كلاّ من الطبيعتين غير موجودة في الخارج بل هما اعتباريان ولكن الدور متحقّق بينهما والدور محال - سواء كان بين موجودين في الخارج أو بين اعتباريين منتزعين - ، فلا يحتاج في الاستدلال إلى التمسّك بوجود الطبيعة في الخارج ، بل يتمّ على تقدير أخذ الطبيعة مطلقا ، أو طبيعة الايجاد - أي : المفهوم المشترك سواء كان موجودا في الخارج أو مفهوما انتزاعيا اعتباريا محضا - لها تقدّم على طبيعة الوجود كذلك ، فلطبيعة الايجاد حصول / 16DA / في مرتبة من مراتب نفس الأمر ليس فيها حصول لطبيعة / 16MA / الوجود ، وكذا طبيعة الوجود - أي : المفهوم المشترك سواء كان موجودا في الخارج أو مفهوما انتزاعيا اعتباريا محضا - لها تقدّم على طبيعة الايجاد كذلك ، فيلزم الدور وهو باطل مطلقا.

ففيه : انّ الدور بين الاعتباريين وإن كان باطلا أيضا إلاّ أنّه لا يمكن الاستدلال به هنا ، لأنّه لو اخذت الطبيعة غير موجودة في الخارج فلا ريب في أنّه لا يتصوّر حصولها في مرتبة من مراتب نفس الأمر منفكّة عن ثبوتها لأفرادها ، فيكون لها حصولات متعدّدة في نفس الأمر بحسب تعدّد الافراد ، وما هذا شأنه يمكن توقّفه باعتبار أحد وجوداته على نفسه باعتبار وجود آخر ؛ واندفاع جواب الفاضل اللاهيجي هنا أظهر.

ص: 71


1- في الاصل : ... مدفوع بان عدم الجواز لو سلّم انّما هو إذا كانت الطبيعة بأحد الاعتبارين علّة موجدة لنفسها بالاعتبار الاخر العلّة.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ في صورة الاستدلال على الواجب يتوقّف كل من الايجاد والموجود على الآخر ، وإن لم يوجد فيه مجموع الموجودات لم يتم بدون ابطال التسلسل سواء اخذ توقّف كلّ فرد على آخر إلى غير النهاية أو اخذ طبيعتهما ؛ فايراد السماكي وارد.

ويمكن أن يقال : لو أخذ التوقّف على آخر (1) يمكن اتمام الاستدلال بلزوم الدور من دون توقّف على ابطال التسلسل. بيانه - كما افاده بعض الأفاضل - : انّه إذا لم يكن في الوجود واجب بالذات وذهبت السلسلة إلى غير النهاية فتحصل سلسلتان ، إحداهما : سلسلة الوجودات ، وثانيهما : سلسلة الايجادات ، قلنا ملاحظة الايجادات الغير المتناهية بعنوان الاجمال بحيث لا يشذّ عنها شيء من الإيجادات ؛ ونقول : هذه السلسلة بأسرها لها تأخّر عن سلسلة الموجودات بناء على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فلا ايجاد في تلك السلسلة ما لم يكن لها تأخّر ، فلو كانت لسلسلة الوجودات بحيث لا يشذّ عنها شيء تأخّر أيضا لزم الدور ، فيجب أن يكون في سلسلة الوجودات وجود لا يتأخّر عن الايجاد ، وهو الواجب ، فثبت المطلوب ؛ انتهى.

والحقّ انّ هذا الاستدلال تمام وإن وقع فيه التمسّك بمجموع الوجودات أيضا.

وما أورده عليه بعض الفضلاء بأنّ الواقع توقّف واحد واحد من آحاد احدى السلسلتين الغير المتناهيتين على واحد واحد من آحاد الأخرى وتأخّره عنها على التوزيع ، فلا نسلّم انّه يستلزم ذلك تلك التوقّفات والتأخّرات الموزّعة على أجزاء السلسلة الغير المتناهية توقّف تلك السلسلة على ما يتوقّف عليه وتأخّرها بأسرها عنه حتّى يلزم الدور ؛ مدفوع بأنّ الضرورة العقلية حاكمة بانّه إذا كان لكلّ واحد واحد من الايجادات تأخّر عن كلّ واحد واحد من الوجودات يصدق في الواقع انّ لمجموع هذه الايجادات تأخّر ، فانّ توقّف آحاد على آحاد أخرى لا يختلف بتوزّعها أو تشابكها مع غيرها أو تواليها ، فما يثبت لها من التوقّف والتأخّر لا يتخلّف عنها على أحد التقديرين ؛ ألا ترى انّك لو فرضت توالي كلّ من الايجادات والوجودات بأن يخرج آحاد واحد منها من بين آحاد الأخرى حصلت سلسلتان محقّقان متواليتا الآحاد؟!.

ص: 72


1- الاصل : - إلى غير النهاية ... على آخر.

فلو كان واحد واحد من آحاد إحداهما متوقّفا على واحد واحد من آحاد الاخرى لكان مجموع آحاد كلّ منهما متوقّفا على مجموع آحاد الأخرى.

ومنها : انّ مجموع الممكنات من حيث هو مجموع له مبدأ ، كما مرّ من أنّ مجموع الممكنات الصرفة - سواء كانت متناهية أو غير متناهية - في حكم ممكن واحد في امكان طريان العدم عليها ، ومجموع الموجودات من حيث هو ليس له مبدأ بالذات - أي : مبدأ خارج يكون مبدأ لجميعها - ، اذ لا خارج عن جميع الموجودات.

وأيضا : لو كان للمجموع من حيث هو مجموع مبدأ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لانّه لو كان للمجموع من حيث هو مجموع مبدأ فذلك المبدأ من حيث كونه موجودا يكون داخلا في المجموع ، فلا يمكن تقدّمه عليه ومن حيث انّه مبدأ له يكون متقدّما عليه ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه من هذه الجهة أيضا.

وما قيل : من إنّ علّية بعض الموجودات للمجموع من حيث هو مجموع لا يقتضي علّيته لنفسه اصلا ، ومن أنّ علّة المجموع لا يلزم أن يكون علّة لكلّ جزء منه ، كلام سطحي خال عن التدبّر. وإذا ثبت أنّ مجموع الموجودات من حيث هو مجموع ليس له مبدأ ومجموع الممكنات من حيث هو مجموع له مبدأ ، فيجب أن يكون في جملة الوجودات موجود يكون واجبا لذاته ، ليكون مصحّحا للفرق ، وهو المطلوب.

ثمّ قرّر هذا البرهان بوجه آخر اخذ فيه بدل « مجموع الموجودات » : « طبيعة الموجود » ، وبدل « مجموع الممكنات » : « طبيعة الممكن ». فقيل : طبيعة الممكن بما هي لها مبدأ ، وطبيعة الموجود بما هي موجودة ليس له مبدأ والاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لانّ / 16MB / ذلك المبدأ / 16DB / موجود لا محالة فتكون طبيعة الوجود متحقّقة في ضمنه ، فيلزم كون طبيعة الموجود علّة لطبيعة الموجود متقدّمة عليها بالذات ؛ وهو باطل.

وفيه : ما تقدّم سابقا من أنّ المراد بطبيعة الوجود يجب أن يكون الموجود العامّ وتحقّقه في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر وهلمّ جرّا. فاللازم منه التسلسل لا الدور.

ص: 73

فان قيل : المتحقق في ضمن الفردين شيء واحد ، فيلزم أن يكون باعتبار وجوده في ضمن أحد الفردين متوقّفا على نفسه باعتبار وجوده في ضمن الفرد الآخر ، فيلزم الدور ؛

قلنا : لا ضير فيه - كما تقدّم مفصّلا -.

وبعضهم أخذ فيه بدل « طبيعة الموجود » : « الموجود المطلق » ، وبعضهم أخذ « الموجود بما هو موجود ».

قال بعض الأفاضل : هذا البرهان مستفاد من كلام الشيخ في « إلهيات الشفاء » ، وبيانه بعبارة أخرى : انّ الموجود بما هو موجود مع قطع النظر عن خصوصيته سوى الوجود لا يحتاج في تحقّقه في الخارج إلى موجب أوجب تحقّقه ، وإلاّ لاحتاج جميع الموجودات إليه ضرورة ، فاحتاج هذا الموجب أيضا إلى نفسه لدخوله في جميع الموجودات وذلك تقدّم الشخص على نفسه. فطبيعة الموجود بما هو موجود واجبة التحقّق ممتنعة العدم لا لعلّة ، ولو لم يكن فرد يجب وجوده بالذات كان عدم الجميع ممكنا - لجواز طريان العدم على جميع الممكنات الصرفة - ، فينعدم الطبيعة بانعدام الكلّ ، هذا خلف.

ثم قال : وأنت تعلم انّ المراد بالوجود المشتقّ منه الموجود هاهنا ليس الوجود العامّ البديهي الاعتباري الانتزاعي الّذي ليس له تحقّق في الخارج أصلا ، بل هو من المعقولات الثانية بالمعنى الأعمّ وهو زائد على جميع الموجودات معلّل بها في الذهن ، بل المراد هو الوجود الحقيقيّ الّذي هو منشأ الآثار ومحقّق الحقائق ، وهو الموجود بالحقيقة ومعلوم بوجه ما ؛ انتهى.

وعبارة الشيخ الّذي أشار إليه هو هذا : « ثمّ المبدأ ليس مبدأ للموجود كلّه ، ولو كان مبدأ للموجود كلّه لكان مبدأ لنفسه ، بل الموجود كلّه لا مبدأ له ، انّما المبدأ مبدأ للموجود المعلول ، فالمبدأ هو مبدأ لبعض الموجود (1) » ؛ انتهى.

وأقول : إن كان مراده بالوجود الحقيقيّ الّذي حمل الموجود عليه هو ما يشمل

ص: 74


1- راجع : الشفا / الالهيات ج 1 ص 14.

جميع الوجودات الخاصّة ، ففيه : انّ ما يشمل جميع الوجودات الخاصّة ويشترك بينها ليس إلاّ الوجود العامّ الاعتباري ، وإن كان مراده به مجموع الوجودات الخاصة من حيث المجموع فيرجع إلى ما ذكرناه أوّلا من أخذ مجموع الموجودات ، وهو لا يلائم كلام هذا القائل كما لا يخفى على من راجع إليه. وان كان مراده به الوجود الصرف الّذي هو حقيقة الواجب ، ففيه : انّ التعبير عنه بطبيعة الوجود غير ملائم ، نعم! التعبير عنه بالوجود المطلق أو الموجود بما هو موجود وإن لم يكن به بأس إلاّ أنّ ما ذكره في استدلاله المنقول عنه لا يلائمه ، بل يخالفه! ، وعلى تقدير هذا الحمل لا يكاد يتمّ استدلاله ولا ينطبق عليه ، لأنّ الوجود الحقيقي الّذي هو الواجب أمر واحد شخصي ، وليس طبيعة كلية يكون له افراد متحقّقة في الممكنات ؛ وما ذكره هذا الفاضل في الاستدلال لا ينطبق إلاّ على فرض أن يكون الوجود طبيعة كلية يكون له افراد متحقّقة في الممكنات - كما لا يخفى - (1). نعم! يمكن الاستدلال على اثبات الواجب بأخذ الوجود الحقيقي الصرف بأن يقال (2) : يجب أن يتحقق في جملة الموجودات موجود هو صرف الوجود ومحضه بسيط من جميع الجهات ، وإلاّ لم يتحقّق موجود اصلا ، لأنّ كلّ موجود وجوده زائد على ذاته يفتقر في اتصافه بالوجود إلى علّة تنتهى إلى ما هو صرف الوجود - دفعا للدور والتسلسل - ، وصرف الوجود وحقيقته هو القائم بنفسه الواجب لذاته موجد الكلّ وقيومه ، لانّ افتقاره إلى ما هو وجوده زائد على ذاته بديهى الفساد ، وإلى ما هو مثله في كونه صرف الوجود يخرجهما معا عن الصرفية ويحوجهما إلى علّة أخرى وإلى نفسه يوجب كون الشيء علّة لنفسه.

وأنت تعلم انّ الدليل هنا أيضا طبيعة الموجود أو افراده ، والمدلول هو صرف الوجود ، فيلزم منه سوى ثبوت الواجب لنفسه لذاته اثبات بعض صفاته الكماليّة وتقدّسه عن سمات النقصان - كبساطته وتجرّده وعينية صفاته وعدم كونه جسما وجسمانيا وغير ذلك من الصفات اللازمة لصرف الوجود -. نعم! يمكن الاستدلال بالوجود الحقيقيّ على ما أورده بعض المحقّقين ، واعتقد أنّ الوجود الحقيقيّ معنى واحد ،

ص: 75


1- الاصل : - كما لا يخفى.
2- الاصل : - بأن يقال.

وأنّ تحقّق جميع الموجودات انّما هو باعتباره ، وادّعى بداهته وقال : انّه اظهر من الشمس عندى. فيقال حينئذ : انّ ذلك الموجود لا مبدأ له ، إذ لو كان له مبدأ لكان مبدئه / 17MA / موجودا البتة ، فيكون إمّا عين هذا الوجود - فيلزم تقدّم الشيء على نفسه - ، أو يكون هو موجودا باعتباره - فيلزم الدور ، وبذلك يثبت وجود الواجب / 17DA / لذاته. لأنّ الوجود الحقيقيّ الّذي لا مبدأ له - ويقال له الوجود المطلق أيضا - إن هو إلاّ الواجب بالذات.

وأنت تعلم إنّ هذا الاستدلال لا يلائم طريقة أهل البحث والنظر ؛ فتأمّل!.

ثمّ هذا الطريق الّتي يلاحظ فيها الموجود المطلق أو الموجود من حيث هو موجود أو الوجود الحقيقيّ حقيق بأن يكون طريقة الصدّيقين والشهداء - : الّذين يستشهدون بالحقّ لا عليه -. لانّ المراد بهم هم الالهيون الّذين قصّروا أنظارهم على نفس الوجود وتوجّهوا بشراشرهم إلى ذات الحقّ - تعالى - وأعرضوا عمّا سواه من الموجودات ، ولا يلتفتون في مشاهداتهم إلاّ إلى الوجود المطلق والإنّية الصرفة الحقّة ، ولا يرون في الوجود الحقيقيّ إلاّ الوجود القائم بذاته ، ولا في الأنوار إلاّ النور الغنيّ الثابت بنفسه ، وهو اللّه نور السماوات والأرض. وغيره من الموجودات والأنوار لمعات نازلة من نور ذاته ورشحات صادرة من شئوناته وتجلّياته ، فاللائق بامثالهم أن لا يتعدّوا في استدلالهم إلى غير حقيقة الوجود والموجود ، ولا يلتفتوا فيه إلى الأغيار من المهيات والأفراد ، ولا يستشهدوا على الحقّ - عزّ وجلّ - إلاّ به.

فان قيل : الاستشهاد بالوجود الحقيقيّ - كما نقلته عن بعض المحقّقين - مسلّم ، فانّه استشهاد بالحقّ على الحقّ. وأمّا الاستشهاد بالوجود والموجود سواء أخذا من حيث الإطلاق أو الطبيعة استشهاد بغير الحقّ عليه ، لانّ الموجود أو الوجود من حيث هو ليس عين ذاته الأقدس ؛

قلت : لمّا كان الوجود أو الموجود من حيث هو منتزعا عن حاقّ ذاته ووجها من وجوهه وهو - جلّ وعزّ - فرد منه ، فلا يكون الاستشهاد به عليه استشهادا

ص: 76

عليه (1) بغيره ، فكأنّه يكون به ؛ بخلاف الطرق الأخرى ، فانّه استدلّ فيها بالموجودات الممكنة وأحوالها ، ففيها استشهاد بغيره - تعالى - عليه.

وقيل : لأنّ الوجود والموجود عين بالنسبة إلى الواجب وزائد بالنسبة إلى الممكن ، فلم يستدلّ بغيره - تعالى - عليه.

وهو كما ترى! ؛ فانّ الوجود أو الموجود الّذي يستدلّ به على الواجب ليس عينه - تعالى ، كما لا يخفى! -.

قال بعض أهل التحقيق في سبب كون هذا الاستدلال من طريقة الصديقين : انّه نظر في الوجود المطلق والوجود المطلق المعرّى عن جميع القيود ، وهم جعلوه عين ذاته - تعالى - والموجود المطلق الّذي نظرنا فيه وإن لم يكن معرّى عن القيود بل هو لا بشرط القيود وفرق ما بينهما ، إلاّ انه من ذاته - تعالى - بذاته ، فهو وجه من وجوهه إلى حقيقته ، فكأنّما استشهد بانّه عليه ، إذ وجه الشيء هو الشيء بوجه. وبه يندفع ما قيل ، ويتقوّى ما قلناه.

ومنها : انّ مجموع الممكنات من حيث هو مجموع يجوز أن يصير شيئا محضا - لما مرّ من انّ جميعها في حكم ممكن واحد في جواز طريان العدم عليها رأسا -. ومجموع الموجودات من حيث هو موجود يمتنع أن يصير لا شيئا محضا ، امّا لأنّه لو جاز عدمه راسا للزم في صيرورته موجودا من سبب موجود يوجده فيلزم أن يكون موجودا قبل كونه موجودا ، وهو الدور ، فيجب وجود الواجب لذاته حتّى يمكن وجود غيره منه.

وما أورد عليه : بانّه إن اريد انّ مجموع الموجودات لا يجوز أن يكون معدوما مطلقا - أي : سواء جاز خروجه بعده إلى الوجود أم لا - ، فممنوع.

قوله : « وإلاّ لزم في خروجه إلى الوجود الدور » ؛

قلت : لعلّه جاز عدم جميع الموجودات رأسا ، لكن حينئذ لا يجوز خروجه إلى الوجود حتّى يلزم الدور. وإن اراد بانّه لا يجوز عدمها رأسا مع خروجها إلى الوجود ، فممنوع ؛ لكن نقول : انّ الممكنات أيضا تكون كذلك - أي : يمتنع عدمها راسا مع

ص: 77


1- الاصل : - عليه.

خروجها إلى الوجود - ، وكون جميعها في حكم واحد في طريان العدم لا يثبت إلاّ جواز عدمها راسا في الجملة لا مع خروجها إلى الوجود انتهى ؛ مردود باختيار الشقّ الأخير ومنع عدم امتناع (1) الممكنات رأسا مع خروجها إلى الوجود ، لان امتناع عدم الممكنات رأسا مع خروجها إلى الوجود إمّا أن يكون لذاتها - فيلزم انقلاب الحقيقة من الامكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي - ؛ وامّا أن يكون بسبب الجاعل الخارج - فيثبت الواجب لذاته -. وبالجملة امتناع عدمها مع خروجها / 17MB / إلى الوجود ليس لذاتها ، بل بملاحظة الخارج وهو الواجب لذاته. ولأنّ الشيء باعتبار الوجود لا ينفكّ عن الوجوب السابق والوجوب اللاحق ، فكل موجود يتوقّف على الوجوبين. أمّا توقفه على الوجوب السابق فلأنّه عبارة عن ارتفاع جميع انحاء العدم قبل الوجود ، ومعلوم بالضرورة انّه ما لم ينسدّ جميع انحاء العدم عن الشيء قبل وجوده لم يمكن أن يصير موجودا ، وأمّا توقّفه على الوجوب اللاحق فلأنّه عبارة عن الظهور بشرط المحمول / 17DB / - اي : ارتفاع جميع انحاء العدم عن الشيء وقت الوجود - ، والبديهة قاضية بأنّه ما لم يرتفع جميع انحاء العدم عن الشيء وقت وجوده لم يوجد ، وإذا توقّف الوجود على الوجوبين فالوجوبان ثابتان للموجودات. وإذا ثبت الوجوب امتنع عدمها ، ولا يمكن أن يصير لا شيئا محضا. وامتناع عدمها رأسا يتوقّف على وجود واجب بذاته ، لأنّ الموجودات لو انحصرت في الممكنات واستند بعضها إلى بعض وان وجب كلّ معلول بعلّته إلاّ أنّه لمّا جاز ارتفاع ذلك العلّة فيجوز أن يرتفع المعلول بارتفاعها ، ويجري ذلك في جميع سلسلة الممكنات وإن تسلسلت إلى غير النهاية.

فيبقى نحو واحد من انحاء عدم ذلك المعلول ولم ينسدّ بعد وهو ارتفاع المعلول مع العلّة ، فانّ عدم العلّة من انحاء عدم المعلول بمعنى انّه يجوز انّ يرتفع المعلول مع علّته - لأنّ الفرض انّ علّته ليست بحيث يمتنع عليه العدم - ، فيجب أن توجد علّة واجبة بالذات لينسدّ بها جميع انحاء العدم عن الموجودات.

و (2) على ما قرّرنا البرهان المذكور بالتعليلين يندفع ما أورد عليه : بأنّ

ص: 78


1- الاصل : - امتناع.
2- النسختين : - و.

الاستدلال بهذا النحو مسلك آخر سوى طريق الاستدلال والمباحثة ، إذ على هذه الطريقة نقول : إن اراد بقوله « مجموع الموجودات ... إلى آخره - » : انّ المجموع المذكور بشرط كونه موجودا يمتنع أن يصير لا شيئا محضا فهو ممنوع ، ولكن جميع الممكنات الموجودة بشرط الوجود أيضا كذلك بلا فرق. وإن أراد أنّ جميع الموجودات المقيّدة بالوجود يمتنع أن يصير لا شيئا محضا فممنوع وانّما يصحّ ذلك على تقدير وجود الواجب بالذات لا مطلقا ، ومن لم يسلّم وجود الواجب كيف يسلّم ذلك؟! ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع : أمّا على التعليل الأوّل فظاهر. وأمّا على التعليل الثاني فلأنّ البرهان المذكور دلّ على أنّ الممكنات الموجودة لها اعتباران ، أحدهما : اعتبار أنّها ماهيّات وثانيهما : اعتبار أنّها موجودات ؛ وبالاعتبار الأوّل لا يأبى عن الوجود والعدم ، فلا يمتنع أن يصير لا شيئا محضا ؛ وبالاعتبار الثاني يجب أن يكون لها وجوب ، لأنّ الوجود لا ينفكّ عنه ، والوجوب ينافي صيرورتها لا شيئا محضا وهو لا يحصل إلاّ من الواجب بالذات - لما تقرّر -.

وحمل بعض الأفاضل امتناع انعدام مجموع الموجودات على انعدامه بالمرّة ، وقال : امتناع صيرورة مجموع الموجودات لا شيئا محضا بالمرّة معلوم بالضرورة - كما هو المشهور - ، ومجموع الممكنات لا يمتنع عليه ذلك ، لأنّ مجموعات الممكنات في حكم ممكن واحد في جواز طريان الانعدام عليها.

وأنت تعلم انّ هذا كلام شعري!. فانّ من لا يسلّم وجود الواجب كيف يسلّم امتناع انعدام مجموع الموجودات بالمرّة. ودعوى البداهة غير مسموعة.

فان قلت : قد صرّح المعلّم الأوّل في أثولوجيا بامتناع انعدام الحقائق حيث قال في اثبات بقاء النفس بعد خراب (1) البدن : « انّ النفس حقيقة والحقيقة لا تبيد (2) » ، فيعلم منه أنّ الحقائق الموجودة لا تنعدم بالمرّة ؛

قلت : لو سلّم ذلك لدلّ على عدم انعدام الحقائق بعد صيرورتها موجودة ، سواء

ص: 79


1- الاصل : - خراب.
2- ما وجدت هذه العبارة المنقولة عن هذا الكتاب حرفيا فيه ، بل يوجد : فامّا النفس فانّها قائمة ثابتة على حالة واحدة لا تفسد ولا تبيد. راجع : أثولوجيا ، الميمر التاسع ص 122.

استندت إلى الواجب لذاته أم لا ؛ هذا.

ثمّ انّ بعض الافاضل أخذ في الاستدلال بدل « مجموع الموجودات » : « طبيعة الوجود بما هو موجود » - اي : لا بشرط شيء - ، وقال : طبيعة الموجود بما هو موجود لا بشرط شيء يمتنع أن يصير لا شيئا محضا وإلاّ يلزم صيرورة الوجود عدما ، فيلزم قلب الحقيقة وهو محال. وطبيعة الممكن بما هو ممكن لا بشرط شيء لا يمتنع أن يصير لا شيئا محضا لا محالة ، فلو كانت طبيعة الموجود بما هو موجود قائمة بطبيعة الممكن من حيث هو ممكن لا قائمة بذاتها ولا بفرد قائم بذاته يلزم جواز صيرورتها لا شيئا محضا - كما / 18MA / لا يخفى - ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الكلام لا محصّل له! ، لأنّ انعدام طبيعة الوجود ليس من باب القلب ، لانّ القلب أن يصير عين شيء عين شيء آخر ، ومعلوم أنّ طبيعة الموجود إذا انعدمت بانعدام افرادها لا تصير نفس العدم ، بل يتبدّل ظهورها العينى بالخفاء في الأعيان.

ومنها : انّ موجد جميع الممكنات الصرفة المتصلة إلى غير النهاية يجب أن يكون خارجا عنها ، وإلاّ كان موجدها إمّا عينها أو جزئها ؛ والأوّل باطل ضرورة ، لايجابه علّية الشيء لنفسه ؛ والثاني أيضا باطل ، لاستلزامه كون الشيء علّة لنفسه ولعلله ، وهو باطل ؛ فيبقى أن تكون علّتها شيئا خارجا عنها وهو واجب الوجود لذاته.

وأورد عليه شبهة ما قبل المعلول الأخير. وتقريرها : انّ السلسلة الغير المتناهية نفصّلها إلى جزءين ، أحدهما : المعلول الأخير ، وثانيهما : جميع ما قبل المعلول الأخير ، وجميع ما قبل المعلول الاخير امر موجود / 18DA / غير خارج عن السلسلة وعلة للمعلول الاخير. ثمّ نفصّل (1) جميع ما قبل المعلول الأخير إلى جزءين : أحدهما الجزء الّذي هو فوق المعلول الأخير ، وثانيهما جميع ما قبل هذا الجزء - وجميع ما قبل هذا الجزء أمر موجود غير خارج عن السلسلة وعلّة لهذا الجزء ، وهكذا - ؛ وحينئذ تكون

ص: 80


1- في النسختين : تفصيل.

علّة جميع الممكنات الصرفة جزئها - لأنّ كلّ واحد ممّا هو قبل المعلول الأخير وما هو قبل الجزء الّذي فوقه وهكذا من اجزاء تلك السلسلة - ، ومع ذلك لا يلزم كون الشيء علّة لنفسه ولعلله ، لأنّ جميع ما قبل كلّ جزء ليس عين هذا الجزء ، وليس هذا الجزء جزء له.

ولا يقال : انّ المراد انّه لو كان واحد من الأجزاء علة لجميع الاجزاء يلزم المفسدة المذكورة وعلى الشبهة يلزم أن تكون علّة كلّ واحد من المعلولات جزء على حدة ، فالّذي اختاره مورد الشبهة ليس اختيار الشيء من الشقوق الّتي ذكرها المستدلّ ؛

لأنّا نقول : غرض مورد الشبهة انّ هاهنا احتمالا لا يستلزم المفسدة المذكورة ، فان لم يذكر المستدلّ هذا الاحتمال لم يكن ترديده حاصرا ، وان ذكره فاخباره لا يوجب كون الشيء علّة لنفسه ولعلله.

والحقّ إنّ هذه الشبهة لا تدفع إلاّ بالتمسّك بما تقدّم من أنّ مجموع الممكنات في حكم ممكن واحد في جواز طريان الانعدام عليها وعدم الوجود رأسا ، فلا بدّ لها من علّة بالذات وعلى الاطلاق - أي : علّة تكون جميع اجزائها متأخّرا عنها محتاجا إليها -. فاذا كان جزء من اجزاء سلسلة الممكنات علّة لها بهذا المعنى لزم أن يتقدّم هذا الجزء على نفسه وعلى علله ، وإن كان هذا الجزء جميع ما قبل المعلول الأخير أو جميع ما قبل كلّ جزء غيره.

وأيضا : لا يصحّ أن يكون شيء من الممكنات مقتضيا لوجود شيء منها - لما تقدّم من انّ الشيء ما لم يرتفع عنه جميع انحاء العدم لم يكن واجبا ، وما لم يكن واجبا لم يكن موجودا - ، ولا يجوز أن يكون شيء من الممكنات مقتضيا للوجوب - لما مرّ - ، فيجب أن يكون الموجد للممكن الواحد وللكل شيئا خارجا عن الجميع ؛ وهو الواجب - جلّ جلاله -.

ثمّ انّ هذه الشبهة ربّما جرت في بعض البراهين المتقدّمة والآتية ، والجواب كما ذكر.

ومنها : انّ موجد الشيء يجب أن يكون موجبا لوجوده ومنشئا لامتناع طريان

ص: 81

العدم عليه بالكلّية لما تقدّم من أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وشيء من الممكنات لا يمكن أن يكون موجبا لوجود شيء ولا منشئا لامتناع طريان العدم عليه بالكلّية - لانّ مفيد الوجوب ومنشأ امتناع طريان العدم لا يمكن أن يكون عاريا عن الوجوب السابق واللاحق - ، والممكن عار عنهما. ولو فرض استناد كلّ واحد إلى آخر إلى غير النهاية حتّى يحصل الوجوب بالغير نقول : كما تقدّم انّ المجموع حينئذ يجوز عليه العدم بالنظر إلى ذاته - لما مرّ مرارا من أنّ مجموع الممكنات في حكم ممكن واحد في جواز طريان العدم عليه بالكلّية - ، فلا يتحقّق له الوجوب حينئذ أيضا ، فلو لم يتحقّق موجود خارج عن الكلّ هو الواجب لذاته لم يوجد موجود اصلا ، فثبت المطلوب.

ومنها : انّه لو لم يتحقّق واجب الوجود لذاته لم يتحقّق شيء من الممكنات ، إذ لا يمكن أن يكون شيء من الممكنات مستقلا بنفسه لا في الوجود - وهو ظاهر من ملاحظة مفهوم الممكن - ولا فى الايجاد ، اذ المستقل بالايجاد شيء يمتنع نسبة جميع انحاء عدم ذلك الشيء عليه ، ولا شيء من الممكنات كذلك - لجواز طريان العدم على الكلّ -.

واصل هذا الدليل من بهمنيار ، حيث قال في التحصيل : « لو لم يتحقق واجب الوجود لذاته لم يتحقّق ايجاد مطلقا ». ووجهه : انّ الممكن لا يجوز أن يصير منشئا لوجود نفسه ، فكيف يمكن أن يصير منشئا لوجود غيره. ونعم ما قيل في هذا المعنى :

ذات نايافته از هستى بخش *** كى تواند كه شود هستى بخش

ومنها : البرهان المعروف ببرهان الأسدّ والأخصر. وتقريره : انّه لو لم يوجد واجب الوجود لذاته لم يتحقّق موجود أصلا ، إذ الوجود حينئذ لا يحصل إلاّ بالاستفادة من الغير. وهذا الغير لمّا لم يكن له الوجود لذاته يجب أن يكون وجوده أيضا مستفادا من الغير ، وهكذا. وجميع الأغيار وإن كانت غير متناهية لمّا لم يكن لشيء منها وجود بالذات فهي في حكم ممكن واحد في / 18MB / الافتقار إلى استفادة الوجود من الغير ، فلو لم يوجد واجب الوجود لذاته فمن أين يحصل الوجود؟

وبتقرير آخر : لو تسلسلت الممكنات إلى غير النهاية واستند كلّ واحد إلى

ص: 82

ما فوقه ولم يوجد واجب الوجود لذاته فنقول : لا يصحّ أن يكون شيء من آحاد تلك السلسلة موجودا لم يوجد قبله موجود آخر ، وإذا لم يصح لكلّ واحد أن يدخل في الوجود إلاّ وقبله موجود آخر فكذلك جميع الآحاد حكمها كذلك - أي : لا يصحّ أن يدخل الوجود إلاّ وقبله / 18DB / موجود آخر - ، لأنّه إذا افتقر كلّ واحد واحد إلى أمر خارج لافتقر جميع الآحاد أيضا إلى أمر خارج ، وهو بديهي.

ومنها : برهان الضرورة من اللاضرورة ؛ وتقريره : إنّ الممكن من حيث ذاته لا يكون له إلاّ سلب ضرورة الوجود والعدم - ولذا يفتقر في ثبوت كلّ من الضرورتين إلى علّة خارجة عن ذاته - ، فليس بشيء من الممكنات ضرورة بالنظر إلى ذاته. وقد تقرّر انّ الشيء ما لم يجب ولم يحصل له ضرورة الوجود من علّة لم يوجد ، فلو وجدت الممكنات من غير استناد شيء منها إلى الواجب الوجود لذاته لزم صدور الضرورة من اللاضرورة ، لانّه إذا لم يكن في الوجود ضرورة الوجود بالذات ولم يتحقّق سوى سلب الضرورة لزم لا محالة حصول الضرورة من اللاضرورة ، وهو محال بالبداهة ؛ لاستلزامه صدور الشيء ممّا هو أخصّ من نقيضه. لانّ نقيض ضرورة الوجود إنّما هو سلب ضرورة الوجود ، وسلب ضرورة الوجود أعمّ من سلب ضرورة الوجود وسلب ضرورة العدم معا ، لأنّ سلب الضرورتين (1) معا لا ينفكّ عن سلب ضرورة الوجود ، وهو ظاهر. بخلاف العكس كما في الممتنع ، فانّه قد تحقّق فيه سلب ضرورة الوجود من دون تحقّق سلب الضرورتين معا ، لانّ عدمه ضرورى ، فعلى تقدير عدم الواجب لذاته يلزم صدور ضرورة الوجود من اللاضرورتين معا ، وهو صدور الشيء من الأخصّ ونقيضه.

ومنها : برهان الأولوية ؛ وتقريره : انّه لو انحصرت الموجودات في الممكنات لزم الترجيح بلا مرجّح ، لانّ الممكن ما تساوي نسبته إلى الوجود والعدم ، فكلّ من وجوده وعدمه انّما يقع بعلّة ، فلو تحقّقت سلسلة الممكنات - سواء كانت متناهية أو غير متناهية - من دون استنادها إلى الواجب الوجود لذاته لكان لقائل أن يقول : لم

ص: 83


1- الاصل : الضرورة.

تحقّق وجود هذه السلسلة دون عدمها مع تساوي نسبتها إليهما ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح.

فان قيل : انّما تحقّق وجودها دون عدمها لتحقق علّة الوجود - أعني : ممكنا آخر - ، لأنّ الفرض استناد كلّ واحد من آحاد هذه السلسلة إلى آخر إلى غير النهاية ؛

قلنا : انّا أخذنا جميع ما في السلسلة بحيث لا يشذّ عنها شيء ؛ وقلنا تحقّق وجود جميع هذه السلسلة دون تحقّق عدمها مع تساوي نسبتها إليهما ترجيح بلا مرجّح!.

فلا ينفع استناد كلّ واحد من أجزائها إلى جزء آخر. وما ذكرناه مبني على التمسّك بالوجودات الامكانية الابتدائية.

ويمكن التمسّك بالوجودات الثانوية البقائية بأن يقال : الممكن في البقاء محتاج إلى العلّة ، فنسبته إلى البقاء - أعني : الوجود الثانوي - والعدم الطاري على السواء ، فتحقّق البقاء دون العدم الثانوي ترجيح بلا مرجّح.

فان قيل : بقاء كلّ ممكن مستند إلى آخر إلى غير النهاية ؛

قلنا : كما مرّ انّا أخذنا جميع هذه الوجودات البقائية بحيث لا يشذّ عنها شيء ؛ ونقول : تحقّق هذه الوجودات دون العدمات الطارية ترجيح بلا مرجّح!.

ومنها : انّ لواجب الوجود مفهوما ، فان كان بإزاء هذا المفهوم حقيقة في الخارج ثبت المطلوب ، وإن لم يكن بإزائه شيء في الخارج وكان معدوما فيه لكان عدمه امّا مستندا إلى نفسه فيكون واجب الوجود ممتنع الوجود ، فيلزم الانقلاب ؛ أو مستندا إلى الغير فيكون واجب الوجود ممكن الوجود ، فيلزم الانقلاب أيضا ؛ فعدم واجب الوجود لا يكون واقعا ، لاستلزامه انقلاب الماهية.

ومنها : برهان اخترعه بعض أفاضل المتاخرين وتقريره : انّ الممكن منحصر في الجوهر والعرض - لأنّ كلّ ممكن امّا أن يكون بالنظر إلى ذاته وحقيقته محتاجا إلى الموضوع أم لا ، والأوّل هو العرض والثاني هو الجوهر -. وهذا حصر عقلي لا يقبل الواسطة ، ولذا اتفق جميع العقلاء على الانحصار. واذ ثبت الانحصار نقول : العرض باعتبار طبيعته محتاج في وجوده إلى الجوهر ، ولا عكس - لاستلزامه الدور - وطبيعة

ص: 84

الجوهر معلولة أيضا وإلاّ كانت واجبة ، ولا يجوز أن تكون علّة تلك الطبيعة شيئا من الأفراد المندرجة تحتها ، لأنّ كلّ فرد بالنظر إلى طبيعته عرضي لها ومتأخّر عنها ، فلا يجوز أن يكون فرد من افراد الطبيعة علّة لها ؛ فيجب أن تكون علّة الطبيعة أمرا موجودا خارجا عن سلسلة الممكنات ، وهو الواجب - تعالى شأنه -.

وأورد عليه : بانّه يجوز أن يكون بعض افراد الجوهر مستندا / 19MA / إلى بعض آخر منها وتذهب السلسلة إلى غير النهاية ، واستحالة التسلسل لم يؤخذ (1) في البرهان.

واجيب عنه : تارة بأنّ الكلام في علّة الطبيعة لا في علّة الفرد ، فكما أنّ الفرد موجود فكذلك الطبيعة موجودة أيضا ، كيف والطبيعة متقدّمة على الفرد ، فنسبة الوجود إليها متقدّمة على نسبته إلى الفرد. وأخرى : بأنّ افراد الجوهر إن استند بعضها إلى بعض إلى غير النهاية فنقول : كما أنّ كلّ واحد محتاج إلى العلّة الصدورية فكذلك المجموع من حيث المجموع أيضا محتاج إليها ، لأنّ المجموع من حيث المجموع - أي : / 19DA / معروض الهيئة الاجتماعية - موجود آخر وراء كلّ واحد واحد ، فلا بدّ له من علّة صدورية - فانّ ما لا يستغنى عنه كلّ واحد واحد من العلّة الخارجة لا يستغنى عنه المجموع من حيث المجموع أيضا - ، وعلّة المجموع لا يجوز أن تكون نفسه ولا جزئه - لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه - ؛ فيجب أن تكون علّته أمرا خارجا عن الجميع هو الواجب لذاته.

ولا يخفى عليك انّه يمكن أن يناقش في بعض مقدّمات هذا البرهان ؛ فتأمّل!.

ومنها : برهان أورده الشيخ في إلهيات الشفاء ؛ وتقريره : انّ الممكنات كلّها - متناهية كانت أو غير متناهية - اشتركت في كونها أوساطا إلاّ المعلول الأخير ، لأنّ كلّ واحد من آحاد سلسلة الممكنات لمّا كان معلولا لسابقه وعلّة للاحقه لكان علّة ومعلولا معا ، وكلّ ما هو علّة ومعلول فهو وسط. وإذا كان كلّ واحد من السلسلة وسطا لكان جميع السلسلة أيضا كذلك ، فلا بدّ له من طرف هو الواجب لذاته.

ص: 85


1- الاصل : لم يوجد.

وأصل هذا الدليل من المعلم الثاني ، فانه قال في شرح رسالة الزينون الكبير : لا يجوز أن تكون علل ممكنة لا نهاية ، لها لأنّ لكلّ منها خاصية الوسط فله طرف أيضا والطرف نهاية (1).

ثم أورد على هذا البرهان : بأنّه إن اريد انّ كلّ وسط لا بدّ له من طرفين مطلقا فيلزم أن تكون الجملة أيضا كذلك ففيه انّ الجملة أيضا لها طرفان هما اجزاء السلسلة والمعلول الاخير ؛ وإن اريد انّ كل واحد واحد لما كان له طرفان خارجان فالجملة أيضا كذلك - لأنّ حكم المجموع هنا لا يخالف حكم الآحاد - ؛ ففيه : انّ هذا الشيء لا دليل له أصلا ولا تقتضيه ضرورة أيضا ، فالمسلّم أنّه لا مخالفة بين الآحاد والجملة في المعلولية والاحتياج في الجملة. وأمّا عدم المخالفة بينهما في الاحتياج إلى طرف آخر فغير ممنوع ، بل الجملة إن كانت متناهية كانت محتاجة إلى طرف خارج ، وأمّا الغير المتناهية - كما فيما نحن فيه - فلا يحتاج إليه أصلا.

والجواب : انّ حكم الجملة هنا لا يخالف حكم الآحاد ، لأنّ افتقار كلّ واحد من الأوساط إلى الطرف ليس لأجل كونها متناهية ، بل لاجل كونها أمورا ممكنة غير موجودة بذواتها وغير ممنوعة غير طريان العدم عليها وهذه العلّة جارية في الجملة بأسرها ، فانّ المجموع من حيث المجموع يجوز طريان العدم عليها بحيث لا يبقى شيء من آحاده أصلا ، فلا بدّ له من طرف هو الواجب لذاته.

وأنت تعلم انّ توجيه هذا البرهان بهذا النحو يجعل بعض مقدّماته - من توسّط حديث الوسطية وبيان خاصّته الّتي هي العلّية والمعلولية - مستدركا!. اللّهم إلاّ أن يقال : انّ التمسّك بهذه المقدمات واتمام البرهان بالوجه الّذي وجّهناه نوع مسلك وعدم التمسّك بها واتمام البرهان بمجرّد ما ذكرناه في التوجيه مسلك آخر أخصر ؛ فتأمّل!.

تتميم

اعلم! أنّ أكثر الأدلّة المذكورة يتوقّف تماميتها - كما أشير إليه - على كون جميع

ص: 86


1- لم أعثر على هذا الكتاب.

الممكنات الصرفة في حكم ممكن واحد في جواز طريان الانعدام عليها رأسا ، وبعضها يتوقّف تتميمها على مقدّمة أخرى هي أنّ مجموع الممكنات الموجودة من حيث أنّها مجموع موجود واحد ممكن غير كلّ واحد واحد من الأفراد لأنّ الهيئة المجموعة الحاصلة من اجتماع الآحاد غير كلّ واحد واحد منها ، فلا بدّ له من علّة.

والحقّ صحّة هاتين المقدّمتين وحقّيتهما ؛ وانكارهما مكابرة.

أمّا المقدّمة الاولى فيمكن تقريرها بوجهين ، أحدهما : أن يحمل لفظ « الطريان » على ظاهره حتّى يكون المراد من طريان الانعدام هو عروض العدم الطاري - أي : العدم بعد الوجود - ، ويكون المقصود من تلك المقدّمة انّ جميع الممكنات الصرفة في حكم ممكن واحد في جواز انعدامها بعد الوجود. والدليل على انّ كلّ واحد من هذه الممكنات وإن امتنع عدمه بسبب علّته لكنّه لا ريب في جواز عدمه مع عدم علّته ، والعلّة لكونها ممكنة يجوز انعدامها ، فكلّ ممكن موجود يجوز انعدامه وانعدام جميع علله الموجودة الممكنة - سواء كانت متناهية أو غير متناهية - فنسبة العدم الطاري والوجود البقائى إليها على السواء ؛ فترجّح / 19MB / الوجود البقائى على العدم الطاري لا بدّ له من علّة واجبة لذاتها.

وعلى ما قرّر الدليل يندفع عنه ما أورد عليه : بأنّه إن اريد بامكان طريان الانعدام عليها الامكان الذاتي فممنوع ، ولا يجدي نفعا ، لجواز أن يكون طريان الانعدام على مجموعها ممتنعا في نفس الأمر بسبب انّ كلاّ منها مع العلّة الموجدة ؛

وإن أريد به الامكان الوقوعي فممنوع ، والسند ما مرّ. والفرق بين المتناهي وغير المتناهي ظاهر ، إذ الممكنات المتناهية تنتهى إلى ممكن موجود لا بدّ له من موجد ، وعلى تقدير عدم الواجب لم يتحقّق له موجد. وأمّا الممكنات الغير المتناهية فلا تنتهي إلى ممكن موجود ، وبطلان التسلسل غير مأخوذ في الأدلّة الّتي تؤخذ فيها هذه المقدّمة ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع : انّا نختار الشقّ الثاني ونقول : الامكان الوقوعي لازم للامكان الذاتي فيما نحن فيه - لانتفاء العلّة الخارجة المقتضية لامتناع العدم عليها في / 19DB /

ص: 87

نفس الأمر - ، وكون كلّ منها مع العلّة الموجدة لا يقتضي ذلك - لجواز انعدام العلّة أيضا - ، فلا فرق في ذلك بين المتناهي وغير المتناهي أصلا.

قيل : الحكم بعروض العدم اللاحق بعد الوجود على جميع الممكنات الموجودة - كما أخذ في هذه المقدّمة - منقوض ببعض الموجودات الممكنة كالزمان ، فانّ العدم الطاري بعد الوجود ممتنع عليه. وإذا امتنع عليه العدم الطاري يكون بقاؤه واجبا بالذات ، لأنّ أحد الطرفين إذا كان ممتنعا بالذات يكون الطرف الآخر واجبا بالذات - على ما تقرّر في موضعه - ، فلا يكون الزمان محتاجا إلى العلّة المبقية ، ولا يجوز عليه طروّ العدم بعد الوجود.

وأجاب عنه بعض الافاضل بما هو المشهور في الجواب عن الشبهة المشهورة على امكان الزمان ؛ وحاصل الجواب : انّه لا يلزم من امتناع العدم الطاري على الزمان أن يكون بقاؤه واجبا بالذات حتّى لا يحتاج في الوجوب اللاحق إلى علّة ، لأنّ ما ثبت في موضعه انّ أحد النقيضين إذا كان ممتنعا بالذات يكون النقيض الآخر واجبا بالذات ، وما نحن فيه ليس كذلك ؛ لأنّ نقيض الوجود البقائي هو رفع الوجود البقائي ، ورفع الوجود البقائي يتصور على وجهين : أحدهما : أن لا يوجد الزمان من بدو الأمر ، وثانيهما : أن يرفع وجوده البقائي من بعد الوجود. وهذا وان كان ممتنعا لكن لا يلزم من امتناع الأخصّ امتناع الأعمّ ، لأنّ رفع الوجود البقائي يتصوّر من وجهين - كما ذكرنا - ، فرفع الوجود البقائي ممكن في ضمن أحد فرديه وإن كان ممتنعا في ضمن فرده الّذي هو العدم بعد الوجود.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب يؤكّد النقض ويقوّي الاشكال ، لأنّ مناط الاشكال والمحذور هنا عدم جواز طريان العدم بعد الوجود على الزمان وعدم احتياجه إلى العلّة المبقية ، وما ذكر في النقض - : من لزوم كون بقائه واجبا بالذات - لا دخل له بالمقام ، وانّما هو شبهة على حدة أورد على امكان الزمان ، وغير خفيّ انّ هذا الجواب انّما يرفع هذه الشبهة الّتي لا دخل لها في المقام ، ولا يرفع أصل المحذور هنا - وهو عدم احتياج الزمان إلى العلّة المبقية - ، لانّ جواز العدم على الزمان ابتداء غير نافع في المقام ،

ص: 88

فانّ الكلام في انّه إذا وجد الزمان يمتنع عليه حينئذ العدم لذاته ، فلا حاجة إلى العلّة المبقية. وجواز رفع الوجود البقائي في ضمن عدم التحقّق من بدو الأمر لا يقدح في ذلك اصلا - كما لا يخفى -. على أنّه لو سلّم عدم احتياج الزمان إلى العلّة المبقية لذاته لجاز أن يستند غيره في أصل الوجود وفي البقاء إليه ، فيلزم عدم احتياج شيء من الأشياء في البقاء وغير الزمان في أصل الوجود أيضا إلى الواجب ، فيصير الاشكال أقوى.

والحقّ في الجواب عن النقض المذكور أن يمنع كون امتناع طروّ العدم بعد الوجود على الزمان لذاته ، بل هو جائز عليه بالنظر إلى ذاته الممكنة ، والامتناع انّما نشأ لأجل غيره. وما ذكروه في بيان امتناع العدم الطاري عليه انّما يدلّ على مجرّد الامتناع ، لا على كونه لذاته.

فإن قيل : يحتمل أن يكون الامتناع لذاته ، ومجرّد الاحتمال يكفى في ايراد الإشكال ؛

قلت : البراهين الدالّة على افتقار كلّ ممكن باق في البقاء إلى المؤثّر يدلّ على احتياج الزمان في البقاء أيضا إلى / 20MA / ذلك المؤثّر الّذي اوجده ، هذا.

مع أنّا أوّلا نمنع كون الزمان موجودا خارجيا ، بل هو أمر اعتباري ينتزع من الحركة الدورية ، وغاية الأمر وجود الآن السيال الراسم للزمان في الخيال كالحركة بمعنى التوسط الراسمة للحركة بمعنى القطع في الخيال ، والفرق بين الزمان والحركة بمعنى القطع الموجودية وعدمه غير معقول ، كالفرق بين الآن السيال والحركة بمعنى التوسط.

وثانيا نمنع الفرق بين غير الزمان وبين الزمان في الاحتياج إلى العلّة في البقاء ، ودليل الاحتياج مشترك.

وأمّا ما ذكروه في بيان عدم احتياجه في البقاء إلى العلّة غير تامّ ؛ هذا.

وقد أجاب بعض الأفاضل عن النقض المذكور : بأنّ الممتنع على الزمان انّما هو العدم الطاري الزماني لا العدم الطاري الدهرى ؛

وقال بعض اهل التحقيق : هذا الجواب من الخيالات الّتي لا أجد لها وجه

ص: 89

معقولية! ، وانّما اخترعه السيد المحقّق الداماد - قدس سره - وتبعه من اقتدى به من تلامذته مثل هذا المجيب.

ولعلّك تعرف حقيقة ما اخترعه السيّد - رحمه اللّه - في بعض المباحث الآتية.

وبما ذكرنا من جواز طريان العدم على كلّ ممكن بالنظر إلى ذاته والامتناع على بعض الممكنات لو سلّم فانّما هو لأمر خارج ، يندفع ما أورده بعض الافاضل : بانّ العقل لا يقصر عن تجويز امتناع طريان العدم على بعض الممكنات ، فلا بدّ / 20DA / لجوازه على جميع الممكنات من دليل. ولا يتوهمنّ من ذلك لزوم انقلاب الذات ، إذ هو عبارة عن أن يكون شيء واجبا أو ممكنا أو ممتنعا بالذات ، ثمّ تبدّل في زمان من الأزمنة بغيره. ولا يلزم من امتناع العدم الطاري على ممكن تبدّل في ذاته ، إذ مقتضى مفهوم الممكن جواز مطلق الوجود والعدم عليه ، لا جواز جميع انحاء الوجودات والعدمات عليه. نظيره انّ ذات الواجب يقتضي الاتصاف بالوجود المطلق وذلك لا ينافي امتناع اتصافه بخصوص بعض انحائه - كالوجود المسبوق بالعدم - ، وانّ الممتنع يقتضي الاتصاف بالعدم المطلق مع انّه لا يجوز اتصافه بالعدم المسبوق بالوجود ، وليس في شيء من ذلك انقلاب وتبدّل في ذاتيهما. فعلى ذلك يجوز أن يمتنع على بعض الممكنات خصوص بعض العدمات كالعدم المطلق - على ما صرّح به جمهور الفلاسفة في مثل الهيولى مما اعتقدوا فيه القدم ، وفي مثل النفوس الناطقة من الحوادث ، بل في كلّ ممكن سوى الصور والاعراض من الأمور الحالّة -. وكذا يجوز أن يمتنع خصوص بعض الوجودات على الممكن كالوجود السابق ، كما احتجّ به بعض المتكلمين في منع جواز أزلية الممكن مطلقا عند دفع بعض شبه (1) الفلاسفة في قدم العالم ، وكالوجود المعاد وقد تمسّك به بعضهم في منع جواز اعادة المعدوم ؛ انتهى حاصل كلامه.

وأنت تعلم انّ الفرق قائم بين العدم اللاحق للممكن والوجود المسبوق بالعدم للواجب ، وشتّان ما بينهما!. فانّ الوجود المسبوق بالعدم مناف للحقيقة الواجبة والعدم اللاحق غير مناف للحقيقة الامكانية ، بل هو من مقتضياتها ، فامتناعه عليها لو

ص: 90


1- الاصل : شبهة.

سلّم انّما هو لأمر خارج ولولاه لزم التناقص بين كلام الحكماء ، فانّهم مصرّحون باحتياج كلّ ممكن في البقاء إلى المؤثّر ، ولو امتنع العدم اللاحق على جميع الجواهر الممكنة لذاتها لم يحتج شيء منها إلى المؤثّر في البقاء ، فيلزم التناقض.

وثانيهما - أي : ثاني التقريرين للمقدمة (1) المذكورة - : أن لا يحمل لفظ « طريان العدم » بظاهره ، بل يراد به عدم الوجود من بدو الأمر. وتقريرها حينئذ : انّ جميع الممكنات إذا لم يتحقّق فيها واجب لذاته في حكم ممكن واحد في امكان عدمه بدلا عن وجوده ، وذلك لانّه وإن امتنع عدم كلّ واحد مع وجود علّته لكن عدمه مع عدم جميع علله الممكنة ممكن ، فيجوز عدم الجميع رأسا بان لا يصير شيء من سلسلة الممكنات موجودا ، لانّ جميع السلسلة الّتي لا يوجد فيها ما يجب وجوده ويمتنع عدمه لذاته سواء كانت متناهية أو غير متناهية بينها ترتّب العلية والمعلولية أم لا يجوز عدمها بأسرها ، لعدم استحالة ذلك ؛ لا بالنظر إلى ذات كلّ واحد منها لامكانها ، ولا بالنظر إلى عللها ، لأنّها أيضا ممكنة. وإذا جاز عليها العدم بهذا النحو - أي : العدم بالكلّية - بحيث لا يوجد شيء منها من بدو / 20MB / الأمر فهي في حكم ممكن واحد في جواز طريان هذا النحو من العدم عليها. وجواز هذا النحو من العدم عليها بالنظر إلى ذاتها كاف في امكانها وكونها في حكم ممكن واحد ، ولا يلزم جواز جميع انحاء العدم للممكن ، فانّ بعض الممكنات ما يمتنع عليه بعض انحاء العدم - كما يقولون في العدم الطاري على وجود الزمان -. ومثله ما قالوا انّه يمتنع طريان الوجود بعد العدم اللاحق على الموجود. واذ ثبت كون جميع الممكنات الصرفة في حكم ممكن واحد فترجّح وجوده على عدمه لا بدّ له من علّة خارجة عنه واجبة لذاته ، وهو واجب الوجود لذاته وإله الكلّ وصانعه.

وعلى هذا التقرير لا يتوجّه النقض بالزمان أصلا ، وتصير المقدّمة بديهية غير محتاجة إلى البرهان. وانّما برهنا عليها لاشتباهها على جماعة نظرا إلى تحقّق نوع خفاء في تصوّر اطرافها. وقد نبّه عليها بعض الفضلاء بأنّ كلّ واحد من آحاد سلسلة

ص: 91


1- الاصل : وثانيهما انّ ثانى المقدمتين التقريرين للمقدّمة.

الممكنات لا يوجد إلاّ إذا وجب بالغير ، والوجوب بالغير في قوّة قضية شرطية ، بمعنى أنّه لو وجد ذلك الغير وجد ذلك الواحد ، فوجود ذلك الغير بمنزلة وضع المقدّم. وإذا كان كلّ واحد من تلك الاغيار الّتي هي العلل الموجبة موجودا بالغير غير منته إلى موجود لذاته كان بمنزلة شرطيات غير متناهية غير منتهية إلى وضع مقدّم ، فلا يلزم وجود شيء منها.

وأورد عليه : بأنّ عدم انتهائها إلى وضع مقدّم لا يدلّ على عدم وضع مقدم ، كيف؟! وهاهنا وضع مقدّمات غير متناهية وهي الوجودات الغير المتناهية على التقدير المذكور ؛

وأجيب عنه : بانّ الكلام في انّه إذا كان وجود كلّ منها على هذا الوجه كيف تحقّق ذلك وخرجت السلسلة إلى الوجود ، وما ذكرتم انّما يصحّ بعد فرض الكلّ موجودا ، فلا يجدي!.

وأمّا المقدّمة الثانية - أي : كون مجموع الممكنات موجودا واحدا ممكنا غير كلّ واحد - ، فيدلّ عليه : انّه إذا اجتمعت آحاد في الخارج سواء كانت مرتّبة أو غير مرتّبة وسواء كانت متناهية أو غير متناهية تحصل لها / 20DB / هيئة مجموعيّة وحدانيّة غير كلّ واحد واحد من الآحاد ، فالمجموع شيء واحد له وجود واحد كالممكن الواحد ، فلا بدّ لها من علّة كالممكن الواحد.

وأورد عليه : بانّه ليست لمثل هذا المجموع وحدة إلاّ بمحض الاعتبار ، ولا وجود له سوى وجودات الآحاد.

والجواب : انّه وان لم تكن للمجموع وحدة خارجية ولا وجود واحد خارجيّ إلاّ أنّ العقل يمكنه أن يفرضه شخصا واحدا موجودا ، وبعد هذا الفرض يحكم بافتقاره إلى العلّة الموجبة كالممكن الواحد ، وبه ثبت المطلوب ؛ ولا يتوقّف المطلوب على الوحدة الخارجية ولا الوجود الخارجي.

وقد أورد على تلك المقدّمة أيضا : بانّه لو حصل من وجود كلّ متعدّد وجود مجموع هو موجود واحد غير كلّ واحد من آحاده للزم من وجود الاثنين وجود ثالث

ص: 92

وهو المفروض لوصف الاثنينية والمجموع الحاصل من اعتبار جزئية كلّ من الاثنين ، فيحصل الثلاثة ومن وجود الثلاثة يحصل وجود رابع وهو المجموع الحاصل من اعتبار جزئية كلّ واحد من الاثنين المفروضين أوّلا واعتبار جزئية المجموع المركّب منهما ، فيحصل الأربعة ومن وجود الأربعة يحصل خامس وهكذا إلى غير النهاية ؛ فيلزم من وجود الاثنين وجود الموجودات الغير المتناهية ؛

واجيب عنه : بانّ الرابع الّذي حصل من اجتماع الثلاثة اعتباري محض ولا تحقّق له في الخارج اصلا ، لأنّ الرابع هو المجموع الحاصل من اعتبار جزئية كلّ واحد من الاثنين وجزئية المجموع المركب منهما ، فلو تحقّق في الخارج لزم اعتبار كلّ واحد من الاثنين فيه مرّتين ، والمفهوم الحاصل من اعتبار مفهوم فيه تكرار لا يمكن أن يكون موجودا في الخارج ، بل لو صحّ ذلك فانّما هو في الاعتباريات فقط والتسلسل فيها ينقطع بانقطاع اعتبار العقل.

وأنت تعلم أنّ الثالث أيضا اعتباري ، لانّه ليس في الخارج إلاّ الاثنين وليس فيه ثالث يكون له وجود على حدة ؛ إلاّ انّ الاثنين لمّا كانا موجودين في الخارج فاذا انتزع العقل منهما ثالثا يكون هذا الثالث اعتباريا له منشأ انتزاع في الخارج ، فيمكن (1) للعقل أن يجري عليه احكام الموجودات الخارجية ، وأمّا الرابع فلمّا كان بعض ما ينتزع - وهو الثالث - اعتباريا فلا يكون منشأ انتزاعه موجودا في الخارج ، فلا يمكن للعقل أن يجري عليه احكام الخارجيات - لتوغّله في الاعتبارية - ؛ والخامس في الاعتبارية أشدّ من الرابع والسادس اشدّ من الخامس وهكذا.

فائدة

اعلم! أنّ القوم صرّحوا بانّ ما تقدّم من منهج الالهيين الّذي يستدلّ فيه بالوجود والموجود أوثق واشرف من المناهج الآتية الّتي اعتبر فيه الامكان أو الحركة أو حدوث الخلق أو امكانه بشرط الحدوث ، و/ 21MA / قد حكم الشيخ الرئيس أيضا بانّ

ص: 93


1- الاصل : فيحكم.

منهج الالهيين أوثق وأشرف حيث قال في الاشارات بعد الاستدلال عليه - تعالى - من طريقة الوجود من حيث هو : تأمّل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأوّل ووحدانيته وبراءته عن الصمات إلى تامّل لغير نفس الوجود ، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله؟!. وإن كان ذلك دليلا عليه لكن هذا الباب اوثق واشرف. ثمّ جعل قوله - تعالى - : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ) اشارة إلى طريقة غير الالهيين من اعتبار الخلق والفعل ، وقوله : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) اشارة إلى طريقة الإلهيين ؛ ووصفها بطريقة الصديقين الّذين يستشهدون بالحقّ لا على الحقّ (1).

ثمّ الحقّ في وجه أوثقية هذا المنهج أمّا بالنسبة إلى طريقة الطبيعيين فلابتنائها على مقدّمات يشكل اثباتها - كما يأتي - ؛

وأمّا بالنسبة إلى طريقتى (2) المتكلمين فلابتنائهما على حدوث العالم الّذي يشكل اثباته بالدليل العقلي ، فانّ الحقّ إنّ اثباته يتوقّف على اثبات الواجب ، فقبله لا يمكن اثباته بوجه تطمئنّ به النفوس. وظهور مجرّد حدوث الحوادث بل حدوث العالم الجسماني لا يفيد المطلوب ، لامكان انتهاء السلسلة إلى قديم جسماني أو غير جسماني ممكن هي يكون هو المحدث للحوادث ، فانّه يلزم على ما ذهبوا إليه من أنّ علّة الحاجة هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث شطرا أو شرطا عدم احتياج القديم إلى المؤثر وإن كان ممكنا ، والتمسّك بدلالة خارجية على امتناع القديم الممكن كلام آخر ؛ بل يتوقّف على جعل علّة الحاجة هي الامكان. وأيضا : القول بانّ العلّة المحوجة هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث خلاف التحقيق - كما مرّ -.

وأمّا اوثقيته بالنسبة إلى طريقة الامكان الوقوعي ، فلأنّ الامكان الوقوعي

ص: 94


1- راجع : الاشارات والتنبيهات ، الفصل التاسع والعشرون - وهو آخر فصول النمط الرابع - المطبوع مع الشرح للطوسى والمحاكمات ج ص 3 ص 66 ؛ شرحي الاشارات ج 1 ص 214. وانظر أيضا : الحكمة المتعالية ج 6 ص 14. شرح المقاصد ج 4 ص 22.
2- الاصل : طريقة.

يتوقّف على الوجود ، وبدونه لا يمكن الحكم به - كما يأتي مفصّلا -.

وقيل : وجه الاوثقية كون هذا المنهج أشبه الإنّيات / 21DA / باللمّ الّذي هو أوثق البراهين ، لا كونه لمّيا. لانّ البرهان اللمي هو الاستدلال بالعلّة على المعلول ولا علّة للأوّل - تعالى شأنه - حتّى يستدلّ بها عليه ، كيف وجميع ما يستدلّ به عليه في هذا المنهج من موجود معيّن أو موجود منتشر أو جميع الموجودات أو الموجود أو الوجود من حيث هو معلول له؟!. فانّ الوجود المطلق الّذي نحن نستدلّ به عليه ليس إلاّ ما شاهدناه وانتزعناه من الممكنات الموجودة ، فانحصر طريق الاستدلال عليه - تعالى - بالبرهان الإنّي الّذي هو الاستدلال بالمعلول على العلّة. إلاّ أنّ الاستدلال بمثل هذا المعلول الّذي هو الوجود والموجود اشبه الانيات باللمّ في افادة اليقين ، بل يكاد أن يكون في مرتبته كما صرّح به الشيخ الرئيس ، فانّه صرّح بانّ الاستدلال باللوازم المنتزعة عن حاقّ الملزوم قريب باللمّ في افادة اليقين. وهذا المنهج لكونه نظرا في الموجود والوجود من حيث هو ، كذلك ؛ فانّ مفهوم الوجود انّما ينتزع من ذاته - تعالى - بذاته من غير اعتبار قيد زائد على ذاته. ويؤكّده ما تقرّر في فن البرهان : انّ اوثق البراهين ما يكون حدّ الوسط فيه حال جوهر ذات الموضوع. وما نحن فيه كذلك ، لانّ قولنا بعض الوجود واجب الاستدلال عليه من حال جوهر الموجود والوجود وطبيعته لأنّ الموضوع هو الموجود وحدّ الوسط الّذي يقع الاستدلال به هو وجود الموجود وطبيعته ، وهو ظاهر.

لا يقال : الاستدلال إنّما يقع من الموجود المعلوم المشاهد لا من طبيعة الوجود المنتزعة من ذات الواجب ، والموجود المعلوم المشاهد ليس منتزعا عن ذات الواجب - تعالى - ؛ لأنّا نقول : ما يحصل به الاستدلال من الموجود المشاهد المعلوم ليس هو تعينه الخاصّ ولا ماهية الخاصّة ولا وجوده الخاصّ ولا الحصّة المعينة من الموجود العامّ الّذي في ضمنه ، بل ما ينتزع منه ومن كلّ موجود من الوجود العامّ المطلق الّذي هو مشترك معنوي بين الواجب وبين غيره ، ولا ريب في انّه من اللوازم المنتزعة منه - تعالى -. ومن هذا يظهر وجه ما ذكره الشيخ من وقوع الاستشهاد حينئذ بالحقّ

ص: 95

لا عليه ، لأنّ هذا الوجود المطلق لمّا كان منتزعا منه - تعالى - فهو وجه من وجوهه وليس شيئا خارجا عنه ، فكانّه استشهد به عليه.

هذا ما يقتضيه نظر الحكيم والمتكلّم.

وأمّا الصوفية فانّهم قالوا : للوجود ثلاث مراتب :

الأوّل : الوجود المطلق / 21MB / المعرّى عن جميع القيود - أي بشرط لا شيء - ، وهو الّذي جعلوه عين ذات الواجب الحقّ - تعالى شأنه - ؛

الثانى : الوجود المطلق لا بشرط شيء من القيود ، وهو الوجود المنبسط ؛

والثالث : الوجود بشرط القيود ، وهو وجود الممكنات (1). وقالوا : التغاير في هذه المراتب بمجرّد الاعتبار. فالاستشهاد من الثاني على الأوّل بل ومن الثالث عليه يكون استشهادا بالحقّ عليه ، لا من غيره ، لانّ كلّ واحد من المرتبتين الأخيرتين شأن من شئون الأوّل وتنزّل من تنزلاته ، فلا يقع الاستشهاد بأمر خارج ، فتأمّل!.

ثمّ لا يخفى انّ صحّة الوجه المذكور يتوقّف على أوثقية برهان اللمّ على الإنّ ، وسيأتى ما فيه ؛ هذا.

وقال بعض الفضلاء : حكم الشيخ بأوثقية منهج الالهيين باعتبار انّه لا يحتاج إلى اعتبار حدوث أو حركة ، بل يكفى التمسّك بأصل الوجود ؛ بخلاف المناهج الأخرى ، فانّه لا بدّ فيها من بيان وجود حادث أو متحرّك ، وهذا وإن كان ظاهرا لكن لا شكّ انّ الأوّل أوثق ؛ انتهى.

وفيه : انّ حكم الشيخ بانّه طريقة الصديقين الّذين يستشهدون بالحقّ لا عليه لا يلائم هذا التوجيه ، كما لا يخفى.

وقيل : وجه الأوثقية عدم ورود الايرادات الموردة على طريقة الامكان من جواز الأولوية الذاتية وشبهة ما قبل المعلول الأخير وغيرهما ؛

وفيه : أنّها ترد على منهج الالهيين أيضا والجواب مشترك.

والأكثر مصرّحون بانّ الوجه في أوثقية منهج الالهيين كونه لمّيا دون ساير

ص: 96


1- راجع : نفحات الأنس ص 554.

المناهج ، ولمّا توقّف اثبات مدّعاهم على بيان أمرين - الاوّل : بيان كون البرهان اللمّى أوثق من الإنّي ، والثانى : بيان كون هذا المنهج لمّيا دون ساير المناهج - فقالوا في بيان الاوّل : وثاقة الدليل انّما هو لأجل افادته اليقين ، فكلّ ما كان افادته لليقين كلّيا واتمّ كان أوثق وأحكم ، وما يفيد اليقين الكلّي التامّ انّما هو برهان اللمّ دون الإنّ. امّا عدم افادته لليقين كلّيا لما ثبت واشتهر بين القوم من انّ العلم اليقيني الكلّي بما له سبب لا يحصل إلاّ من سببه ، فالإنّ فيما له سبب لا يفيد اليقين لتوقّف العلم اليقيني به على العلم من جهة سببه ؛ وقد صرّح به الشيخ في الشفا حيث قال ما حاصله : انّ الشيء إذا كان له سبب لم يتيقّن إلاّ بسببه ، فان كان / 21DB / الأكبر للأصغر لا بسبب بل لذاته وكان بيّن الوجود للأصغر ثمّ الأكبر بيّن الوجود للاوسط فينعقد برهان يقيني ، ويكون برهانا إنّيا لا لمّيا. وقال في موضع آخر ما حاصله : انّ برهان الإنّ يعطى اليقين في بعض المواضع ، وأمّا فيما له سبب فلا يعطى اليقين. وقد صرّح بذلك المحقّق الطوسى أيضا في مقام ترجيح طريقة الالهيين ، حيث قال بعد حكم الشيخ في الاشارات بأوثقية منهج الالهيين : وذلك لأنّ اولى البراهين باعطاء اليقين هو الاستدلال بالعلّة على المعلول ، وأمّا عكسه - : الّذي هو الاستدلال بالمعلول على العلّة - فربّما لا يعطى اليقين إذا كان للمطلوب علّة لم يعرف بها (1).

وامّا عدم افادته لليقين التامّ فلما اشتهر بينهم من انّ العلم بالعلّة يوجب العلم التامّ بالمعلول بخلاف العكس ، فانّ العلم بالمعلول لا يوجب إلاّ العلم الناقص بالعلّة.

ويرد على الأوّل : أمّا أوّلا : فبانّ البرهان ما افاد اليقين ، وبرهان الإنّ قسم منه ، والمقسم وما يعتبر فيه معتبر في القسم ، فكيف لا يفيد بعض اقسام الإنّ اليقين؟!. وتوضيح ذلك : انّ المنطقيّين قد ذكروا انّ كلّ قياس حمليّ لا بدّ فيه من مقدّمتين مشتركتين في حد يسمى بالحدّ الوسط ، لانّ نسبة محمول المطلوب إلى موضوعه لمّا فرضت نظرية مجهولة فلا بدّ من أمر ثالث يفيد العلم بتلك النسبة ، وإلاّ كفى تصوّر

ص: 97


1- راجع : شرح الطوسي على الاشارات ، المطبوع مع المحاكمات ج 3 ص 66. شرحي الاشارات ج 1 ص 214.

الطرفين في العلم بتلك النسبة ، فلا تكون نظرية مجهولة بل بديهية معلومة ، وهو خلاف الفرض. وهذا الأمر الثالث هو الأوسط الموجود في كلتا المقدّمتين المسمّيتين بالصغرى والكبرى ، وتتفرّد الصغرى بحدّ هو موضوع المطلوب ويسمّى « أصغر » ، والكبرى بحدّ هو محمول المطلوب ويسمّى « أكبر » ، فكلّ قياس حمليّ يشتمل على ثلاثة حدود : الاصغر ، والاكبر ، والاوسط. ثمّ الأوسط في القياس البرهاني - وهو ما صحّ تركيب مقدّمتيه وكانت المقدّمتان يقينيّتين - لا بدّ أن تفيد الحكم بثبوت الأكبر للأصغر ، فيكون علّة لثبوت الحكم - أي : ثبوت الأكبر للأصغر - في الذهن ، فانّ كان مع ذلك / 22MA / علّة لثبوت الأكبر للأصغر في الخارج يسمّى البرهان « برهان لمّ » ، وإلاّ يسمّى « برهان انّ ». ثمّ قسّموا البرهان الإنّي إلى ما يكون الأوسط فيه معلولا لوجود الأكبر في الأصغر ، وما يكون كلاهما فيه معلولا لشيء ثالث ، وما يكونان متضايفين. والأشهر عندهم هو القسم الاوّل ، والثالث غير معروف لقلّة فائدته ؛ وربما يخصّ الأخيران باسم الدليل.

هذا حاصل كلامهم في تقسيم البرهان.

وهم (1) كما ترى عرّفوا البرهان بما كان مقدّماته بيّنة وكان تركيبها معلوم الصحّة ، وجعلوه مقسما للمّي والإنّي وصرّحوا بلزوم النتيجة المطلقة. فكلامهم صريح في افادة كلّ منهما العلم اليقيني القطعي ، لانّه إذا صحّ الملزوم صحّ اللازم أيضا - لعدم جواز انفكاك الملزوم عن اللازم -. فمن ادّعى عدم افادة الإنّ اليقين لزمه القدح إمّا في تحديد البرهان ، أو في كونه مقسما للّمّ والإنّ ، أو في كون النتيجة لازمة ، والكلّ باطل. فتحقّق بذلك اشتراكهما في افادة العلم اليقينى ولا فرق بينهما إلاّ في المطلوب - : في اللمى انّما يعلم من جهة العلم بما اوجبه وأوجده في الخارج أعني لمّه وعلته ، وفي الإنّي انّما يعلم من جهة أخرى ، فلا يعلم معه لمّه وعلّته ، بل المعلوم وجوده فقط -.

فان قيل : كلام المنطقيين في هذا المقام لا يخلوا عن اختلال ، لانّهم في تقسيم البرهان إلى اللمّي والإنّي جعلوا مناط التقسيم حال الأوسط بالنسبة إلى الأكبر و

ص: 98


1- النسختين : هو.

الأصغر ، وهو يقتضي أن يكون البرهان منحصرا في الاقترانى الحملي لعدم اصطلاحهم هذه الحدود - أعني : الأوسط والأصغر والأكبر - في غير الاقترانى الحملي من الاقيسة ، مع انّهم صرّحوا بأنّ البرهان هو القياس المؤلّف - وهو اعمّ من أن يكون استثنائيا أو اقترانيا حمليا أو شرطيا - ، ففي ظاهر كلامهم تدافع ؛

قلنا : ملاحظتهم لحال الحدود المختصّة بالاقترانى الحملى مسامحة منهم. والباعث على تلك المسامحة كون الاقتراني الحملي أعرف من ساير الأقيسة وظهور امكان ارجاعها إليه ، فكان غيره من الأقيسة حملي اقتراني بالقوّة مشتمل على تلك الحدود.

والحاصل : انّ اللمّ والإنّ من الاقسام الأولية للبرهان ويتأتّى في جميع الأقيسة من الاستثنائى والاقتراني والشرطي ، إلاّ أنّ جعلهم مناط التقسيم ما يختصّ بالاقتراني الحملي لأعرفيته وامكان ارجاع غيره إليه. والجواب بانحصار البرهان في الاقترانى الحملي وجعل تعريفه على الوجه الأعمّ مسامحة. إذ الاعتراف بعموم البرهان والتزام انّ اللمّ والإنّ ليسا من اقسامه الاوّلية بل من اقسام أحد أنواعه - اعني : الاقترانى الحملي - فلا ينحصر البرهان بهما وتقسيمه إليهما أوّلا على / 22DA / سبيل الحصر مسامحة يخالف قواعد القوم واصولهم - كما لا يخفى -.

وامّا ثانيا : فلانّ دعوى أنّ العلم اليقيني بذي السبب لا يحصل إلاّ من العلم بسببه ممنوعة ، فانّه يجوز أن يحصل العلم القطعي بوجوده من الاحساس أو الالهام أو الكشف أو الحدس أو اخبار من علم صدقه بالبرهان. وأيضا نحن نقطع من وجود معلول وجود علّة له - كما هو شأن برهان الإنّ - وإن كانت لتلك العلّة علة أيضا ، فلا ينحصر طريق العلم بذي السبب في جهة العلم بالسبب.

وأمّا ثالثا : فلانّ الواجب - تعالى شأنه - ممّا ليس له علّة وسبب ، فالبرهان الإنّ فيه برهان فيما سبب له ، فيفيد العلم اليقيني وهو ظاهر.

ويرد على الثاني - أعنى : كون العلم بالعلّة موجبا للعلم التامّ بالمعلول بخلاف العكس - : انّ ايجاب العلم بالعلّة للعلم التامّ بالمعلول انّما هو مسلم إذا كانت العلة تامّة وعلمت على الوجه التامّ - أي : بذاتها وحقيقتها المعينة مع جميع لوازمها وملزوماتها

ص: 99

وعوارضها ومعروضاتها وما لها في نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها - ، وقد صرّح بذلك جمع من المحقّقين منهم المحقّق الطوسى - رحمة اللّه عليه - في شرح رسالة العلم (1) ؛ وأنّي يحصل ذلك لأحد؟! لتوقّفه على العلم بعلّة تلك العلّة وعلّة علّتها وهكذا ، فامّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى ما لا علّة له ، أو ما لا يعلم من جهة علّته فلا يعلم على الوجه التامّ. وإذا لم يعلم الموقوف عليه على الوجه التامّ فلا يعلم الموقوف أيضا على الوجه التامّ. على انّ الشيخين - : الفارابي وابن سينا - صرّحا بانّه لا يمكن للبشر أن يعلم شيئا بحقيقته ؛ قال الفارابى في تعليقاته : الوقوف على حقائق / 22MB / الاشياء ليس في قدرة البشر ونحن لا نعرف من الأشياء إلاّ الخواصّ واللوازم والاعراض (2). وبمثله صرّح الشيخ في رسالة الحدود واطال الكلام فيه بما لا مزيد عليه (3).

وبه يظهر فساد قول من زعم من المتكلّمين انّه يمكن تحصيل العلم بالحقائق بل وقوعه حتّى (4) بحقيقة اللّه - تعالى - ، وكيف يمكن ذلك والقول به بعد اقرار سيّد الرسل - صلی اللّه علیه و آله - بالعجز عن حقّ المعرفة (5)؟!. هذا كلّه ؛ مع انّه لو امكن العلم بالعلّة بحقيقتها وجميع لوازمها وكان ذلك موجبا للعلم التامّ بالمعلول بحقيقته ولوازمه وملزوماته كان ذلك موجبا للعلم التامّ بالعلّة والفرق بينهما تحكّم.

قيل : العلم بالعلّة يفيد العلم بخصوصية المعلول وذاته المعينة المخصوصة ، وامّا العلم بالمعلول فلا يفيد العلم بالعلّة المعينة المخصوصة ، بل يفيد العلم بعلّة ما ، لأنّه لامكانه وتساوي الطرفين إلى مهيته محتاج إلى علّة من العلل ، فالعلم به يوجب العلم بعلّة ما. فالبرهان الإنّي من حيث اعتباره استدلالا من المعلول على علّة ما يفيد اليقين ومن حيث اعتباره استدلالا على العلّة المعينة فلا يفيد اليقين ، فهنا علم نظري

ص: 100


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 42.
2- راجع : التعليقات ، ص 40.
3- راجع : رسالة الحدود ، ص 1 ، حيث يقول الشيخ : ... فاستعفيت من ذلك علما بانّه كالأمر المتعذّر على البشر ...
4- الاصل : - حتّى.
5- اشارة إلى قول النبي - 6 - : ما عرفناك حقّ معرفتك. راجع : بحار الأنوار ، ج 5. ص 292 ، ج 71 ، ص 23. وانظر : شرح القيصري على فصوص الحكم - الطبعة الحجرية - ، المقدّمات ، ص 5. القائمة 2.

مخصوص ، أي : العلم المتعلّق بالذات المخصوصة المعينة يتوقّف تحصيله على جهة العلّة ويمتنع حصوله من المعلول. ولا ريب انّ العلم بالحقيقة المعينة المخصوصة أولى وأكمل من العلم بحقيقة ما ، فهذا هو الوجه في مزية البرهان اللمّي على الإنّي.

ولا ريب أيضا في انّ المقصود من البرهان في اثبات الواجب - تعالى شأنه - اثبات خصوصية العلّة للكلّ - اعني : الواجب بالذات - ، وبرهان الإنّ لا يفيد هذا الأمر ، فيجب المصير فيه إلى برهان اللمّ.

والجواب : انّ هذا مجرّد دعوى لا دليل عليه ، والفرق غير ظاهر عند التأمّل. فانّ العلم بالعلّة إن لم يكن تامّا - أي : لم يعلم العلّة بحقيقتها ولوازمها وخواصّها وما لها بالقياس إلى نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها - لم يفد العلم بخصوصية المعلول اصلا ، لأنّه لم يعلم صفاتها وخواصّها ليعلم انّ معلولها يلزم أن يكون على صفة كذا وخصوصيّة كذا. ولو افاد مجرد ذلك العلم بخصوصية المعلول لقلنا : العلم بالمعلول أيضا يوجب العلم بخصوصية العلّة وإن لم يكن تامّا ، لعدم تعقّل الفرق أصلا. ولو كان العلم بها تامّا - أي : علمت العلّة بحقيقتها المخصوصة وصفاتها المعينة وخواصّها اللازمة - فلا ريب في أنّه يفيد العلم بخصوصية المعلول بمعنى انّه بعد ما علم انّ العلّة حقيقتها كذا وصفاتها وخواصّها كذا يحكم العقل بانّ معلول مثل هذه العلة يجب أن يكون على صفة كذا أو خصوصية كذا - للزوم المناسبة بين العلّة والمعلول -. إلاّ أنّ المعلول أيضا إذا علم بهذا الوجه علمت العلّة أيضا بالتعيّن (1) والخصوصية ، فانّه إذا علم أنّ المعلول على حقيقة كذا وخواصّه وآثاره كذا وكذا ، يحكم العقل بانّ علّته يلزم أن يكون على صفات مخصوصة وخصوصيات معينة - لوجوب المناسبة بين العلة والمعلول - فانّا كما إذا تعقّلنا الواجب - تعالى شأنه - بصفاته المعيّنة من بساطته وتجرّده نحكم بأنّه / 22DB / يجب أن يكون معلوله الأوّل جوهرا بسيطا مجرّدا وهو العقل الاوّل ، كذلك إذا تعقّلنا العقل الأوّل ببساطته وتجرّده وامكانه نحكم بانّ علّته يجب أن تكون بسيطا مجرّدا واجبا ، وقس عليه أمثال ذلك. فانّا كما إذا تعقّلنا تعفّن (2) مطلق خلط علمنا حصول

ص: 101


1- الاصل : باليقين.
2- الاصل : تعقل.

مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى ، وإذا علمنا تعفّن خلط صفراويّ علمنا حصول حمى صفراويّ ، فكذلك إذا علمنا حصول مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى علمنا تعفّن مطلق خلط من دون حصول العلم بخصوصية هذا الوسط ، ولو علمنا خصوصية الحمى من كونه حمّى صفراويا أو بلغميا علمنا خصوصية الخلط أيضا من كونه صفراء أو بلغما ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : انّه لا ريب في انّ العلم الحاصل من البرهان سواء كان لمّيا أو إنّيا انّما هو العلم التصديقيّ - أي : المتعلّق بثبوت النسبة الخبريّة - دون العلم التصوريّ الّذي هو تصوّر الأشياء بالحدّ أو الرسم ، فانّ العلّية والمعلولية اللّتين اعتبرنا بين حدود البرهان - أعني : الأوسط والأكبر والأصغر - ليستا معتبرتين بين ذوات تلك الحدود ، بل بين أوصافها العنوانية باعتبار ثبوت تلك الاوصاف لذوات تلك الحدود أو نفيها عنها. فقولهم : الأوسط إذا كان علّة للحكم فالبرهان لمّي وإلاّ فإنّي ؛ فيه مسامحة واعتماد على الظهور ، ومعناه انّ وصف الأوسط باعتبار ثبوته للأصغر أو نفيه عنه إن كان علّة لثبوت وصف الأكبر للأصغر أو نفيه عنه فالبرهان لمّى ، وإلاّ فإنّي. فاذا قيل : العالم متغير وكلّ متغير حادث فالعالم حادث ، برهان لمّي أريد به انّ ثبوت الأوسط / 23MA / - أعني : التغيّر - للعالم علّة لثبوت الحدوث له ، وهو الحكم المطلوب. بمعنى انّه متقدّم عليه بالذات بحسب نفس الأمر ، وما لم يثبت للعالم وصف التغيّر في الواقع لم يثبت له وصف الحدوث. وإذا قيل : زيد محموم وكل محموم متعفّن الاخلاط ، برهان انّي أريد به انّ ثبوت الأوسط - أعني : المحموم - لزيد معلول لثبوت تعفّن الاخلاط له وهو الحكم المطلوب ؛ يعنى انّه متأخّر عنه بحسب نفس الأمر. وما لم يثبت لزيد وصف بعض الاخلاط - أي : الحكم المطلوب - لم يثبت له وصف الحمى - أي : الأوسط -. فظهر انّ العلّية والمعلولية المأخوذتين في مطلق البرهان انّما ترجعان إلى ثبوت النسبة الّذي هو من العلوم التصديقية.

وإذا كان الحاصل من البرهان هو العلم التصديقي دون التصوريّ نقول : لا يجوز التفاوت بالكمال والنقصان في العلم التصديقى سواء حصل من برهان اللمّ أو الإنّ ، إذ

ص: 102

لا فرق في كيفية العلم الحاصل منهما لعدم التشكيك فيه - كما بيّن في موضعه - ، ولا في متعلّق التصديق - إذا لتصديق المنتج من ايّهما متعلّق بحقيقة النسبة الخبرية المطلوبة - ، فالعلم الّذي يمكن أن يتفاوت بالكمال والنقصان انّما هو العلم التصوريّ من حيث المتعلّق ، فانّ العلم التصوريّ الحاصل من الحدّ يكون متعلّقا بحقيقة الشيء ، والحاصل من الرسم يكون متعلّقا بخواصّه ولوازمه. وتفاوت هذا العلم لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فانّ قولنا : العالم حادث متعلّق العلم ثبوت الحدوث للعالم أعمّ من أن يكتسب من جهة علّيته أو من جهة معلوليّته ، ولا يتصوّر التفاوت فيه من هذه الجهة. نعم! يمكن التفاوت في تصوّر الحدوث أو العالم بالكنه أو الوجه ، إلاّ انّه لا مدخلية له في نفس التصديق بثبوت الحدوث للعالم.

فان قيل : يجوز أن يختلف العلم بالنسبة الخبرية باختلاف تصور الاطراف بالكنه أو بالوجه ؛

قلنا : التفاوت فيه على هذا التقدير ليس من حيث انّه (1) مستفاد من البرهان ، بل من حيث تصوّر بعض الاطراف بالكنه وبعضها بالوجه ، فبالحقيقة يكون التفاوت في العلم التصوري ؛ وبواسطته يحصل تفاوت ما في العلم التصديقى أيضا. ولكن ذلك لا يفيد التفاوت في المقصود ، لأنّه ليس من حيث انّه مستنتج من البرهان ، بل من حيث تصوّر الاطراف ؛ إلاّ أن يقال : انّ مقصود القائل انّ البرهان اللمّي لا ينفكّ عن تصوّر الاطراف على وجه اتمّ واكمل ، بخلاف الإنّي ، لا أنّ العلم الحاصل بالمطلوب من اللمّي من حيث انّه حاصل منه يكون اتمّ من العلم الحاصل به من الإنّي من حيث انّه حاصل منه ، وهذا القدر يكفي لمزية اللمّ على الإن.

وغير خفيّ إنّا نلتزم مثل هذه المزية ولا ننكره! ، إلاّ أنّ مبنى هذا الكلام على لزوم تصوّر الاطراف في اللمّي بالحدّ والكنه وفي الإنّي بالرسم وبالوجه ، وعلى جعل حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه من اللمّ وإن لم يكن علّة فاعلية له ، بل يكفى كونه جزء العلّة ومن مقوّماته. والظاهر أنّ مجرّد حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه وأن

ص: 103


1- الاصل : - انه.

يكن علّة فاعلية من اللمّ بشرط كونه تصديقا ، لأنّ المراد بالعلّة هاهنا يجب ان يكون ما يتوقّف عليه الشيء مطلقا لا العلّة التامّة ولا خصوص إحدى العلل الاربع ، فانّ الاستدلال / 23DA / من المعلول على أيّ جزء من العلّة التامة برهان انّي ، والاستدلال من الجزء الأخير للعلّة التامة أو يستلزم الجزء الاخير له على المعلول برهان لمّي.

وأمّا لزوم كون تصور الاطراف ممّا يتوقّف هذه الاطراف عليه - أعني : بالحدّ والكنه في اللمّ - فغير معلوم ، لانّه من العلوم التصورية الّتي لا مدخل لها في البرهان الّذي هو من العلوم التصديقية - ، فلا معنى لاشتراطه في البرهان اللمّي.

وأنت خبير بانّ اتمام أصل الجواب المنقول عن بعض الأفاضل يتوقّف على عدم التشكيك في حقيقة العلم المتعلق بالنسبة الخبريّة ، وهو محلّ كلام ؛ والنزاع في مثله مشهور.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما ذكروه في بيان الأمر الاوّل - أعني : اوثقية اللمّي من الإنّي - غير تمام ، ولا تفاوت بينهما إلاّ في أنّه يعلم المطلوب في اللمّي من جهة ما يوجبه من لمّه وسببه ، بخلاف الإنّي ؛ هذا.

وذكروا في بيان الوجه الثاني - أعني : لميه منهج الإلهيين - وجوها :

منها : انّه استدلال بحال من مفهوم الوجود - أعني : احتياج فرده الممكن إلى العلّة أو كونه ذا تقرّر أو ذا فرد في نفس الأمر - على حال اخرى منه ، / 23MB / وهي اتّصافه بكون بعضه واجبا لا على ذات الواجب في نفسه ، فانّ كون طبيعة الوجود مشتملة على فرد هو الواجب لذاته حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال من تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للحال الاولى.

وفيه : انّ الحالة الّتي يستدلّ بها - أعني : كون الوجود ذا تقرّر أو ذا فرد أو احتياج فرده الممكن إلى علّة - إنّما هي معلومة ومستفادة من الوجودات الامكانية ، وهي معلولة للواجب الحقّ - تعالى شأنه - ، فكيف يكون علّة له في الخارج حتّى يكون الاستدلال بها عليه لمّيا؟!. كيف ولو كان الاستدلال بالوجود المطلق على الواجب بأيّ طريق كان استدلالا بالعلّة على المعلول لكان للواجب علّة؟!

ص: 104

وبما ذكر يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّية هذا الوجه حيث قال : إن قيل : الاستدلال بالوجود على الواجب ليس استدلالا بالعلّة على المعلول ، وإلاّ لزم أن يكون الواجب معلولا ؛ قلنا : الاستدلال بالعلّة على المعلول هو الاستدلال من واجب الوجود على معلولاته. فانّا في الطريقة المختارة نثبت واجب الوجود أوّلا ثمّ نستدلّ به على ساير الموجودات بان نقول : لمّا كان الواجب في غاية البساطة والتجرد يجب أن يصدر عنه أوّلا امر بسيط مجرّد عن الموادّ وبعد فتح ابواب الكثرة يصدر منه - تعالى - بطريق التناوب الاشياء الأخر ، ولمّا كان غنيا عن كلّ شيء يجب أن لا يكون فعله معلّلا بالاغراض ، وإن كانت المنافع لازمة لفعله - تعالى - على وجه لا يكون غرضا له وعائدا إليه. ولمّا كان جوادا مطلقا فيجب أن لا ينقطع منه الفيض ، ولمّا كان مجرّدا يجب أن لا يسنح له شيء بعد ما لم يكن ، وغير ذلك من الخواصّ المثبتة بمجرّد ملاحظة وجوب الوجود. وأمّا القوم فيثبتون ساير الموجودات ويستدلّون بها على وجود واجب الوجود. وبعبارة اخرى : نحن نثبت الحقّ ونستدلّ به على الخلق ، وامّا هم فيثبتون الخلق ويستدلّون به على الحقّ ، فطريقتنا أوثق وأشرف. انتهى ما ذكره مع تفصيل وتوضيح.

ووجه ضعفه : انّ استدلالكم على الواجب انّما هو بافراد الوجودات المعلولة أو بالوجود المطلق من حيث أنّه في ضمن الافراد الممكنة المعلولة ، فهو استدلال من المعلول على العلّة دون العكس ، فلا فرق بين طريقتكم وطريقة غيركم.

وأمّا ثبوت اللوازم والخواصّ المذكورة للواجب بعد اثباته فهو امر آخر يتأتّى على جميع الطرق بعد أن يثبت الواجب بأيّ منها.

ومنها : انّ كون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكون الواجب صانعا للعالم ، أي : هو علّة لهذا الوجود الرابطي الاضافي للواجب - تعالى - لا لوجوده في نفسه ، لانّ وجوده في نفسه ليس معلولا لشيء ، فوجود العالم في نفسه معلول للواجب - تعالى شأنه -. والوجود الرابطي للواجب - تعالى - وهو كونه صانع العالم معلول للعالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته ، فكون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكونه ذا جاعل واجب

ص: 105

بالذات. ولا استبعاد في ذلك كما ذكره الشيخ في المؤلّفية وذوي المؤلّفية ، فانه قال : انّ قولنا كلّ جسم مؤلّف وكلّ مؤلّف فله مؤلّف برهان لمّي ، لانّ المؤلّف - بالفتح - وإن كان معلولا للمؤلّف - بالكسر - بحسب الخارج والواقع ، لكن ذا المؤلّف - أعني : مفهوم 23DB / قولنا : له مؤلّف - هو الحدّ الأكبر ، والوجود الرابطي للمؤلّف - بالكسر - معلول للمؤلّف - بالفتح -. وأيّد ذلك بعضهم بانّه لا يثبت من هذه الدلائل إلاّ وجود علّة ما لجميع الممكنات خارجة عنها - أي : غير ممكنة - ، ولا يثبت بها خصوص وجود الذات المقدّسة الالهية. والشيخ قد صرّح بانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود علّة ما في الحقيقة استدلال من العلّة على المعلول ، لأنّ ثبوت علّة ما لشيء يكون في الحقيقة معلّلا بمعلولها ، فيكون لمّيا.

قيل : وبهذا الوجه - أي : بجعل المعلولية راجعة إلى الوجود الاضافي الرابطي لا إلى الوجود الحقيقي الخارجى - يندفع الايراد المشهور ؛ وهو انّه لا يمكن الاستدلال اللمّى على وجود الواجب لان كلّ شيء سوى الواجب - تعالى - معلول له - تعالى - إمّا بواسطة أو بدونها ، وليس الواجب معلولا لشيء ؛ فلا يمكن الاستدلال على وجوده بطريق / 24MA / اللمّ.

وأيضا : كلّ ما يحصل في اذهاننا ونتعقّله فهو ممكن ، وكلّ ممكن معلول له ، فانحصر طريق اثباته في الإنّي.

ووجه الدفع : انّ ما يثبت بالبرهان اللمّي هو الوجود الاضافي الرابطي للواجب - تعالى - وهو يجوز أن يكون معلولا ، وعدم معلوليته انّما هو باعتبار وجوده في نفسه. ولا امتناع في كون الواجب معلولا باعتبار الوجود الرابطي ، فانّ الشيء قد يكون علّة بحسب الذات ومعلولا بحسب الوجود الاضافى الرابطي ، فانّ ثبوت رازقية زيد للواجب - تعالى - يتوقّف على وجود زيد المرزوق ولا يمكن ثبوتها له بدونه ، بل يحتاج هذا الثبوت إلى وجود زيد مع انّه موجد زيد وغني عن كلّ شيء.

وغير خفيّ انّ هذا الوجه في غاية السقوط ولا يسمن ولا يغني من جوع! ، كيف وهو يجري في جميع ادلّة اثبات الواجب من أيّ منهج كان ولا اختصاص له بمنهج

ص: 106

الإلهيين ، بل يجري في جميع الأدلّة الآتية في أيّ مطلب كان ولا اختصاص له بادلّة اثبات الواجب! ؛ فأيّ مزية تثبت بهذا التكلّف والتعمّل لمنهج الإلهيين؟!.

مع انّه لو سلّم عدم جريانه في غيره نقول : انّ مطلوب القوم من ردّ أدلّة اثبات الواجب إلى اللمّي انّما هو لأن يكون أوثق وأحكم ، ولا ريب في أن مثل هذا التعمّل والتغيّر في بعض العبارات لا يصير سببا لتفاوت الدليل في الواقع ونفس الأمر حتّى يصير لأجله أوثق ، بل انّما هو تكلّف لا يرجع إلى فائدة وتحصيل. فالفرق بين منهجي الالهيين والمتكلّمين بلمّية الأوّل وإنّية الثاني تحكّم بحت!.

ولو قيل بعكس ذلك لكان له وجه في الجملة ، لأنّ المتكلّمين يجعلون الوسط في براهين اثبات الواجب هو الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، وهم يعتقدون انّ علّة الحاجة إلى المؤثّر هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، فالاستدلال على الواجب به استدلال لمّي وإن كان ما اعتقدوه من علّة الحاجة باطلا عندنا. وأمّا الإلهيون فلمّا جعلوا الوسط في البراهين هو الوجود فلا يمكنهم القول باللمّية ، لأنّ الوجود ليس عندهم علّة الحاجة بل علّتها عندهم هي الامكان البحث. نعم ؛ لو جعلوا الوسط في البراهين هو الامكان فقط واستدلّوا على الواجب - تعالى - بمجرّده لكان للقول بلمّية طريقتهم وجه ، إلاّ أنّ الاستدلال بمجرّد الامكان من غير التمسّك بالوجود أو الحدوث غير ممكن.

وبذلك يندفع ضعف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به ، وقال : أمّا اثبات الواجب فظاهر النظر يقتضي أن يكون دليله على الطريقين إنّيا ، والنظر الصائب يفضي إلى أنّ الّذي لهم من الدعوى على الطريقين يثبت ببرهان لمّي ، فانّ دعواهم انّ الممكنات منتهية إلى الواجب أو انّ الممكن له موجود واجب أو انّ العالم له خالق صانع لا مجرّد انّ الواجب موجود ، بل هو لازم ثانيا من دليلهم ، وبين هذا وما قدمنا من الدعوى فرق ؛ انتهى.

ووجه الدفع : انّ الممكن ما لم يؤخذ منه الوجود أو الحدوث أو ما يرجع إليهما لم يدلّ على احتياجه إلى المؤثّر ، ووجهه ظاهر.

ص: 107

وبما ذكر يظهر فساد ما قيل : انّ جميع براهين اثبات الواجب لمّية بحسب الحقيقة - بناء على ما نقل عن الشيخ من حديث المؤلّف وذي المؤلّف - ، إلاّ أنّ صورة ساير الطرق شبيهة بصورة الإنّ لانّها بظاهرها انتقال من المعلول إلى العلّة ، لانّ الممكن والمحدث والحركة - الّتي ينتقل منها إلى الواجب تعالى - معلولة له. بخلاف منهج الالهيين ، فانّه انتقال من الموجود إلى الواجب ، وهو بظاهره لا يشبه إلاّ انّ الموجود ليس معلولا للواجب مطلقا وإن كان بعض افراده معلولة له ، بخلاف الممكن والحادث والحركة.

ووجه الفساد : أمّا أوّلا فبأنّه أيّ فائدة في التفاوت في / 24DA / الصورة مع عدم الفرق الواقعي في الوثوق؟! ؛

وأمّا ثانيا : فبانّه تخصيص لادلّة اثبات الواجب مع جريان ما ذكره الشيخ في جميع ما يتصوّر دليلا.

وأمّا ثالثا : فبانّ الموجود الّذي يقع به الانتقال إلى الواجب انّما هو افراده الّتي هي معلولة ، والفرد الّذي هو غير معلول لم يقع به انتقال. ولا فرق بينه وبين الممكن والحادث.

ثمّ التأييد الّذي نقلناه عن بعضهم للوجه المذكور - : من كون / 24MB / الاستدلال لوجود المعلول على وجود علّة ما استدلالا لمّيا - لا يخفى فساده وضعفه وان نسبه الأكثرون إلى الشيخ ؛ لأنّ القريحة السليمة حاكمة بانّه لا فرق بين علّة ما والعلّة المعينة ، فانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة لمّي سواء كانت العلّة علّة ما أو علّة معينة ، وأيّ باعث للفرق؟!. والظاهر انّ نسبته إلى الشيخ فرية. وصرّح بعضهم بانّه ليس في كلمات الشيخ ما يدلّ عليه.

وأورد على الوجه المذكور : بانّه إذا كان العالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته علّة لكون الواجب صانعا للعالم لزم أن لا يثبت للواجب - تعالى - صانعية العالم لذاته ، بل يتوقّف على ملاحظة حال العالم ، لأنّ صانعيته - تعالى - حينئذ معلولة لمصنوعية العالم كما هو شأن البرهان اللمّي. فلو قطع النظر عن مصنوعية العالم لم يثبت له صانعية (1)

ص: 108


1- الاصل : لم يثبت لصانعه.

في ذاته ، فلا يجوز أن تكون مصنوعية العالم علّة لهذا الوجود الرابطي - وهو كون الواجب صانعا للعالم -.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بانّ صانعية العالم يمكن اعتبارها من وجهين :

أحدهما : بحيث يكون وصفا للعالم ومعناها كون العالم بحيث يكون له صانع واجب الوجود بالذات ؛ وثانيهما : أن يكون وصفا لواجب - تعالى شأنه -. ومعناها حينئذ كون الواجب بحيث يكون صانعا للعالم ؛ وللعالم وصفان : أحدهما : المصنوعية والمجعولية ، والآخر : كونه ذا صانع جاعل ؛ والأوّل علّة للثاني والنتيجة هي كون العالم ذا صانع واجب الوجود بالذات ، لا كون الواجب صانع العالم ، فصورة القياس هكذا : العالم مصنوع ومجعول ، وكلّ مصنوع ومجعول ذو جاعل صانع واجب بذاته ، فالعالم ذو جاعل صانع واجب بالذات. وكون الواجب صانع العالم يظهر وينكشف بعد حقّية تلك النتيجة من غير احتياج إلى كسب ونظر ، وهذا الظهور بطريق الاتّفاق. فثبوت صانعية العالم للواجب انّما هو بالنظر إلى ذاته لا بواسطة أمر ؛ غاية ما فى الباب انّه ينكشف عندنا بعد حقّية ذلك القياس. ونظير هذا انّ التصديق قد يكون خفيا وبعد تصوّر الطرفين يصير بديهيا ، إلاّ أنّ تصوّر الطرفين كاسب له لأنّ التصديق لا يكون مكتسبا من التصوّر ، فحقّية كون الواجب صانع العالم لازمة لحقّية ذلك القياس ، لكن هذا اللزوم ليس لزوما اصطلاحيا بأن يكون حقّية القياس المذكور ملزومة لحقّية كون الواجب صانع العالم وعلّة بالقياس إليه ، لأنّ كلّ ملزوم اصطلاحي علّة للازمه ، وثبوت صانعية العالم له - تعالى - ليس معلّلا بغير ذاته أصلا ، فاللزوم فيها بالمعنى اللغوي - يعني : انّه لا ينفكّ أحد العلمين عن الآخر -. لانّه إذا ثبت القياس المذكور يصير كون الواجب صانع العالم بديهيا لا يحتاج إلى فكر ونظر اصلا ، فكون (1) الواجب صانع العالم ثابت له باعتبار ذاته بلا علّة غير ذاته.

ويمكن أن يقال : كون الواجب صانع العالم قد ظهر حقّيته بصحابة اللمّ إلاّ أنّ له دليلا لمّيا ؛ انتهى.

ص: 109


1- الاصل : فيكون.

واقول : هذا الجواب بطوله ممّا لا يجدي طائلا ، بل هو فاسد! ، لأنّ القول بانّ ظهور كون الواجب صانع العالم انّما هو بطريق الاتفاق ممّا لا معنى له ، والقرائح السليمة لا تقبله ؛ فانّه لا ريب في أنّ صانعيته - تعالى - للعالم انّما يعلم من مصنوعية للعالم ، ولولاها لم يكن لنا إليها سبيل. بل لو لم يتحقّق المصنوعية في الخارج لم تتحقّق صانعية فيه. نعم! ، يمكن القول بانّ الانتقال من هذا الوجود الرابطي - أعني : كونه صانعا - إلى الوجود الحقيقيّ انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، لانّ تحقّق الوجود الارتباطى لا يمكن إلاّ بعد تحقّق الوجود في نفسه.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة أن يقال : لا مانع من توقّف هذا الوجود الاضافي الارتباطى - أعني : ثبوت صانعية العالم للواجب تعالى شأنه - على غيره - أعني : مصنوعية العالم وعدم ثبوتها له في ذاته - ، فانّ المصنوعية والصانعية متضايفتان وتوقّف ثبوت أحد المتضايفين على الآخر ذهنا وخارجا ممّا لا ينكر. وهل هذا مثل الرّازقية والمرزوقية؟ ، فانّه لا ريب في انّه لا يثبت للواجب - تعالى - رازقية / 24DB / زيد بدون وجود زيد المرزوق ، بل هي موقوفة عليه. والسرّ انّ مثل الصانعيّة والخالقيّة والرازقيّة وأمثالها من صفات الفعل الّتي لا تتحقّق بدون متعلّقاتها. والحاصل : انّ عدم ثبوت الوجود الرابطي للواجب بالنظر إلى ذاته وتوقّفه على غيره لا منع فيه ، إلاّ أنّ ارجاع البراهين إلى اثبات مثل هذا الوجود ليصير لمّية ممّا لا فائدة / 25MA / فيه ولا يجدي طائلا - كما عرفت -.

ثمّ لا يخفى بأنّ مثل هذه الشبهة جارية في الوجه الأوّل أيضا ، بان يقال : إذا كان اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن علّة لاشتماله على الفرد الواجب لزم أن يكون كون الواجب فردا للموجود المطلق معلولا لكون الممكن فردا للموجود المطلق ، فيلزم أن لا يثبت للواجب - جلّ وعزّ - كونه فردا للموجود المطلق باعتبار ذاته ، بل بملاحظة علته ؛ وهي اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن واحتياجه إلى العلّة. فمع قطع النظر عن هذه العلّة في نفس الأمر يلزم عدم معلولها في نفس الأمر فيلزم أن لا يكون الواجب فردا للموجود المطلق في ذاته ؛ وهو باطل. لأنّ كون الواجب فردا للموجود

ص: 110

ثابت له - تعالى - بالنظر إلى ذاته وإن قطع النظر عن جميع ما عداه.

والجواب على النحو الّذي نقلناه عن بعض الأفاضل (1) مع ما يرد عليه يعلم ممّا مرّ ، وعلى ما ذكرناه ظاهر ؛ فلا نطيل الكلام بالاعادة.

ومنها : ما ذكره بعض الأفاضل ، وهو أنّ طبيعة الوجوب لمّا كانت طبيعة ناعتية لطبيعة الوجود عارضة لها فهي متأخّرة بالذات عنها - كما يظهر من تتبع عبارات الشفا وغيره - ، فيكون الموجود بما هو موجود متقدما بالذات على الموجود بما هو واجب والواجب بما هو واجب ، وهذا لا ينافى ما هو المشهور من « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، لأنّ المراد منه انّ الماهية ما لم يتصف في مرتبة العقل وجودها بصفة الوجوب لم يمكن أن يوجد ، لأنّ اتصاف الشيء في الخارج بصفة الوجوب متقدّم على تحقّقه فيه ، اذ اتصافه بها في الذهن متقدّم على ثبوته فيه. إذا تمهّد هذا فلا يخفى عليك : انّ الاستدلال بالموجود بما هو موجود وانّ له فردا في الخارج على الواجب بما هو واجب وانّ له فردا خارجيا برهان لمّي بلا تعمّل وتكلّف لا انّي ، لأنّ ثبوت الفرد الخارجي

للموجود بما هو موجود متقدّم بالذات والطبع على ثبوت الفرد الخارجى للواجب بما هو واجب. ولا يتوهّم انّه يلزم على هذا أن يكون الواجب بما هو واجب معلولا لشيء ، إذ اللازم تقدّم اعتبار الوجود على اعتبار الوجوب ، وهو ليس بمستنكر ، إذ ذاته - تعالى - من جهة انّه مبدأ للآثار فرد للموجود ، والوجود من جهة انّه مبدأ لوثاقة الوجود فرد للواجب والوجوب ، والاعتبار الاوّل متقدّم بالذات على اعتبار الثاني - كما يقال في تقدّم وجوب الوجوب على ساير الصفات ، وفي تقدّم العلم والقدرة على الإرادة -. وطبيعة الوجود والموجود بما هو موجود متقدم على جميع الاشياء ، بل جميع الاعتبارات بالذات ، ولهذا جعل موضوعا للفلسفة الأولى. والمراد بما قال الشيخ وغيره : « انّه لا برهان عليه - تعالى - بل هو البرهان على كلّ شيء » : انّه لا برهان على ذاته من غيره ، لانّ ذاته باعتبار وملاحظة ليس ببرهان على نفسه باعتبار آخر ، أو بعض صفاته ليس برهانا على بعض آخر ؛ بل هو الشهيد عليه كما على غيره. ولهذا

ص: 111


1- الاصل : + ظاهر.

بعينه صار هذا المنهج أشرف وأخصر من غيره المأخوذ فيه وجود الممكن أو الحادث أو المتحرّك شاهدا عليه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه في غاية الفساد ، ولا يقبل الاصلاح بوجه. لانّ الوجود الّذي يمكن أن يتوهّم تقدّمه على الوجوب وعلّيته له انّما هو الوجود الخاصّ الواجبي والاستدلال لم يقع به ، لانّه عين المطلوب ، بل الاستدلال انّما وقع من الموجود المشاهد المعيّن أو من طبيعة الموجود باعتبار تحقّقها في ضمن موجود معيّن مشاهد ، والبديهة قاضية بانّه ليس متقدّما على الموجود بما هو واجب ولا علّة للواجب بما هو واجب ، كيف وجميع الموجودات المعلومة المشاهدة وطبيعة الموجود من حيث تحقّقها في ضمنها معلولة للواجب ومتأخّرة عن تحقّقه؟! ؛ فكيف يجوز أن تكون متقدّمة عليه وعلة له؟!. على أنّ تأخّر الوجوب لذاته عن الوجود الواجبي وتأخّر الوجوب لغيره عن ساير الوجودات غير مسلّم ، لانّ كلّ وجود ما لم ينسدّ عنه جميع انحاء العدم ولم يصل حدّ الوجوب لم يتحقّق في الخارج ، فالوجوب في مرتبة نفس الأمر - أي : العقل الفعّال - أو الحال الّذي للشيء في حدّ ذاته بلا تعمّل - أي : الّذي يكون / 25DA / بحيث إذا لاحظه العقل السليم حكم به بالبديهة أو البرهان - مقدّم على الوجود.

وما ذكره هذا الفاضل في بيان معنى المقدّمة المشهورة كلام خال عن التحصيل ، لانّه لا شكّ أنّ اتصاف الشيء بالوجود ليس له توقّف على أن يلاحظ العقل اتصافه بالوجوب ، وليس دليل يدلّ عليه ، بل / 25MB / الدليل انّما يدلّ على انّه يتوقّف على اتصافه به في نفس الأمر. على انّه إذا لم يكن له اتصاف بالوجوب قبل الوجود في نفس الأمر ولم يتحقّق حينئذ وجوب لكونه نفيا لما لم يتحقّق بعد - أعني : الوجود - لم يمكن للعقل أن يصفه به إلاّ بتعمّل ؛ وكيف يمكن للعقل الصحيح أن يحكم بما ليس له تحقّق في الواقع ونفس الأمر؟! ؛ ولو حكم به تعمّلا لم يكن فيه فائدة ، لأنّ الأمور النفس الأمرية لا تختلف ولا تتفاوت بمجرّد فرض العقل خلافه.

فان قيل : مراد هذا الفاضل بمرتبة العقل هو نفس الأمر ، فيكون مراده انّ الوجوب متقدّم على الوجود في نفس الأمر ؛

ص: 112

قلنا : فيصير حينئذ حكمه بتقدّم الوجود على الوجوب وكونه نعتا للوجود باطلا ، لأنّه إذا كان الوجوب مقدّما على الوجود في نفس الأمر فالوجود في أيّ مرتبة يكون مقدّما على الوجود ، إذ لا يتصوّر حينئذ مرتبة وطرف يثبت فيه تأخّر الوجوب عن الوجود ، لانّ الاتصاف بالوجوب قبل الوجود وبعده ليس إلاّ بمعنى واحد ووجه واحد. فاذا كان هو متقدّما على الوجود في نفس الأمر فان فرض تأخّره أيضا لزم تأخّره في نفس الأمر ، وهو تناقض.

قيل : انّ الوجوب إمّا نعت للوجود أو كيفية للنسبة ، وعلى التقديرين يلزم تأخّره عن الوجود ؛ أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، إذ تأخّر الوصف عن الموصوف لا يقبل المنع ، وأمّا على التقدير الثاني فلأنّ النسبة الّتي بين الطرفين - أعني : الذات والوجود - متأخّرة عن الطرفين ، فيكون متأخّرة عن أحد الطرفين الّذي هو الوجود ، ولا ريب أنّ كيفية النسبة متأخّرة عن نفس النسبة المتأخّرة عن الوجود ، فيكون تلك الكيفية - أعني : الوجوب - متأخرة عن الوجود بمرتبتين. وحينئذ ينبغي إمّا أن يقال : الوجود مقدّم على الوجوب في نفس الأمر وتأوّل المقدّمة المشهورة ، أو يقال : يتقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وتحمل المقدّمة المشهورة عليه ويلتزم تأخّر الوجوب عن الوجود في الخارج لتصحّ الوصفية ، أو كونه كيفية للنسبة.

وأجاب بعضهم : أمّا أوّلا : باختيار الشقّ الثاني وادعاء كون الوجوب وصفا لنفس النسبة ومنع كون نفس النسبة متأخّرة عن الطرفين ، إذ المتأخّر عن الطرفين انّما هو وجود النسبة - لأنّه الفرع لوجود الطرفين دون نفسها - ، فلا يلزم تأخّر الوجوب عن الوجود ؛

وأمّا ثانيا : باختيار الأوّل ومنع لزوم تأخّر مثل هذا النعت عن الموصوف - أعني : الوجود - ، لانّه إن ادّعى انّ الثبوت الرابطي من الوجوب للوجود متأخّر عن ثبوت الوجود في نفسه فغير مسلّم ، بل ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوته في نفسه لا فرع له - على ما هو التحقيق - ، وإن ادّعى انّ الثبوت في نفسه للوجوب متأخّر عن الثبوت في نفسه للوجود فغير مسلّم أيضا ، إذ الثبوت في نفسه للوجوب انّما هو بمعنى

ص: 113

ثبوت ما ينتزع منه إلى موصوفه ، فإذا كان موصوفه الوجود فهو أيضا ثبوته كثبوت الوجود ، فرجع معنى ثبوت الوجوب في نفسه إلى ثبوت الذات المتّصفة بوجوب الوجود في نفسه ، فلا يكون متأخّرا عن ثبوت الوجود ؛ انتهى.

وأنت تعلم إنّ الجواب الّذي ذكره هذا البعض على اختيار الشق الثاني في غاية السقوط! ، لأنّ نفس النسبة أيضا متأخّرة عن الطرفين ، لكونها فرعا لوجود الطرفين - لأنّه ما لم يتحقّق الطرفان لم تتصوّر نسبة بينهما -. ولو سلّم عدم تأخّرها عنهما وعدم كونها فرعا لوجودهما فلا ريب في أنّها لا تكون متقدّمة عليهما ، بل تكون في مرتبتهما ، فالوجوب الّذي وصف لهما يجب أن يكون متأخّرا عنها ، وإذا كان متأخّرا عنها يكون متأخّرا عما هو في مرتبتها (1) - أعني : أحد الطرفين الّذي هو الوجود -.

امّا الجواب الّذي ذكره على اختيار الشقّ الأوّل فما ذكره أوّلا من حديث الاستلزام وانكار القاعدة الفرعية للجواب عن صورة ادّعاء تاخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه محلّ الكلام ، وكونه أصحّ القولين غير معلوم ، وتحقيق القول فيه لا يليق بهذا المقام ؛

وما ذكره ثانيا للجواب عن صورة ادّعاء تأخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه ، فحاصله : انّ الوجوب لمّا كان امرا اعتباريا انتزاعيا فليس له ثبوت على حدة كالصفات الحقيقية ، بل ثبوته انّما هو بمعنى ثبوت ما ينتزع عنه - كما هو الشأن في جميع الصفات الاعتبارية الانتزاعية - ، فمعنى ثبوت الوجوب في نفسه كمعنى ثبوت ساير الصفات الانتزاعية / 25DB / يرجع إلى ثبوت الذات المتّصفة به. ولمّا كان الوجود هنا هو الموصوف فمعنى ثبوته هو ثبوت الوجود في نفسه. وتلخيص الجواب على تقدير الادعاء الأوّل والثاني : انّ الوجود ليس إلاّ ذاتا بسيطة واحدة هي حقيقة الوجود الخاصّ ، والوجوب أمر انتزاعي له ، حمله عليه لا يقتضي / 26MA / التأخّر للاستلزام ، وليس له ثبوت في نفسه حتّى يلزم تأخّره للتعينية.

وأنت تعلم انّه يلزم على هذا أن لا يكون لشيء من الوجود والوجوب - سواء

ص: 114


1- الاصل : - فالوجوب ... مرتبتها.

كان لذاته أو لغيره - تقدّم وتأخّر على الآخر ، مع انّه هنا دلالتان متنافيتان إحداهما - وهي المقدّمة المشهورة - تدلّ على تقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وأخراهما - وهي كون الوجوب نعتا - تدل على العكس. وما ذكره هذا القائل يدلّ على أنّ كون الشيء نعتا - إذا كان انتزاعيا - لا يوجب تأخّره ، وبذلك يثبت التلازم والاتحاد في الوجود بين الوصف والموصوف. ولا ريب أنّه مخالف للدلالة الأولى - أعني : المقدّمة المشهورة - ، لاقتضائها تقدّم الوجوب ، وما ذكره لا يدفعها ولا يتخرّج منه جواب عنه.

فالحقّ في الجواب أن يقال : للموجود وجوبان : وجوب سابق ، ووجوب لاحق ، فالوجوب المقدّم على الوجود هو الوجوب السابق ، وليس هو نعتا للوجود لتقدّمه عليه وعلّيته له - وهو المراد من المقدّمة المشهورة - ، والوجوب الّذي هو نعت للوجود ومتأخّر عنه هو الوجوب اللاّحق. وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ تقدّم الوجوب السابق على الوجود وتأخّر الوجوب اللاّحق عنه إنّما هو في الوجودات الامكانية ، ولا يتصوّر ذلك في واجب الوجود ، فانّ الوجوب فيه عين ذاته لا يتصوّر له تقدّم وتأخّر ، فالاستدلال بطبيعة الوجود على طبيعة الوجوب لو سلّم انّه استدلال من المتقدّم - أعني : الوجود - على المتأخّر - أعني : الوجوب - انّما يصحّ في الوجود والوجوب اللّذين للممكن دون الواجب ، لأنّ الاستدلال من وجود الواجب على وجوبه ليس استدلالا من المتقدّم على المتأخّر ، لأنّ الوجوب عين ذاته. مع أنّه وقع الاستدلال من الوجودات الامكانية - الّتي هي معلولات للواجب - على وجوب الوجود الّذي هو عين الواجب ، فأين ذلك من اللمّ؟!.

وبما ذكرنا ثبت وتحقّق انّ جميع براهين اثبات الواجب إنّية ولا يمكن الاستدلال عليه باللمّ.

ولكن هنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها ، وهو أن الأكثر علّلوا انتفاء طريق اللمّ في اثباته - تعالى - بانّه - تعالى - علّة لكلّ شيء بواسطة أو بدونها ، فبأيّ شيء استدلّ به عليه كان استدلالا من المعلول على العلّة ، فيكون إنّيا ولا يتصوّر طريق اللمّ.

ص: 115

ويرد على هذا التعليل : انّ الثابت بالبرهان ليس إلاّ الوجود الرابطي لا الوجود الأصيل ، لانّ ما ثبت بالبرهان مطلقا يكون لا محالة مفادّا لقضية المستنتجة من مقدّماته - أعني : الحكم المطلوب - ، وحاصله إمّا ثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه - أي : ثبوت الأكبر للأصغر أو نفيه عنه - ؛ ويقال لهذا الثبوت والنفي « الوجود والعدم الرابطيان » ، وأمّا ثبوت الأكبر في نفسه - أي : الوجود الأصيل - فليس مستفادا من القضية المذكورة ولا مستنتجا من البرهان.

وإذا كان الثابت بالبرهان هو وجوده الرابطي دون وجوده الأصيل - تعالى شأنه - فنقول : ما هو علّة لكلّ شيء انّما هو وجوده الأصيل - عزّ شأنه - لا وجوده الرابطي ، فيجوز أن يكون وجوده الرابطي معلولا لبعض الاشياء مع كون وجوده الأصيل علّة للجميع ؛ فتعليل الأكثر في إنّية هذه البراهين دون لمّيتها عليل ، لأنّ جميع هذه البراهين - سواء كان الربط فيها هو الموجود كما هو منهج الإلهيين ، أو المتحرّك كما هو طريقة الطبيعيين ، أو الحادث أو الممكن بشرط الحدوث كما هو مسلك المتكلّمين - لا يثبت منها إلاّ الوجودات الرابطية - أي : وجود موجد واجب بالذات للموجودات ومحرّك غير متحرّك للمتحرّكات ومحدث صانع للعالم - ، ولا دلالة لشيء منها على وجود اصيل بواحد من الموجد والمتحرّك والمحدث ، ولا يثبت برهان وجود أصيل لشيء مطلقا. فالعلّة في انية بعض البراهين ولمّية بعض آخر انّ الاوساط الّتي تؤخذ في البراهين إن كانت باعتبار النسبة الّتي بينها وبين الأصغر علّة للوجودات الرابطية الّتي هي مفاد البرهان في الواقع كما هي علّة لها (1) الذهن كانت البراهين لمّية ، وإلاّ كانت انية. والتحقيق أنّ شيئا من الأوساط المأخوذة في براهين اثبات الواجب باعتبار ثبوتها لموضوعاتها ليست علّة للوجودات الرابطية للواجب - تعالى - في الواقع - أعني : وجود موجد بالذات أو محرّك غير متحرّك أو محدث صانع للعالم - ، اذ لا تقدّم ذاتيا لكون الممكن موجودا أو متحرّكا أو حادثا على كونه ذا موجد أو ذا محرّك أو ذا محدث ، بل علّيتها له منحصرة في الذهن ؛ فلا ينعقد البرهان اللمّي على شيء من تلك المناهج.

ص: 116


1- الاصل : كما هي عليها.

فان قلت : إذا كان الحاصل من البراهين هو العلم بوجوده / 26MB / الرابطي ، فمن أين يحصل العلم بوجود الاصيل - تعالى شأنه -؟ ، مع انّا بعد تمام البرهان نقطع بوجوده الأصيل كما نقطع بوجوده الرابطي ؛

قلت : العلم بالوجود الأصيل بعد حصول العلم بالوجود الرابطي الّذي هو مقتضى البرهان انّما يحصل من انضمام مقدّمة خفية بديهية مركوزة في العقول إلى مقتضى البرهان ، فيترتّب معها ترتيبا سريعا خفيا يكون منتجا لهذا العلم - أي : العلم بوجوده الاصيل -. والظاهر انّ تلك المقدّمة / 26DA / الخفية هي ما ارتكز في العقول من أنّ الأمور العينية الّتي وجودها في أنفسها ممكن بالامكان العام إذا كانت معدومة في انفسها لا يمكن أن تكون موجودة لغيرها ، فاذا ثبت بالبرهان وجودها لغيرها انتقل الذهن بمعاونة هذه المقدّمة إلى وجودها في أنفسها أيضا من غير افتقار إلى تجشّم ترتيب المقدمات والاستنتاج. والظاهر انّ نظر من قال : الانتقال إلى الوجود الحقيقي انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، إلى ما قلناه ؛ وكذا نظر من قال : انّ الترتّب والانتاج لحصول هذا العلم انّما هو من قضايا قياساتها معها إلى ما ذكرناه ؛ لأنّ هذه القضايا هي القضايا المسمّاة « بالفطريات » ، المعرّفة « بقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عن العقل عند تصور الطرفين » ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ، لانقسامها بمتساويين ؛ هذا.

وقيل : حصول هذا العلم بعد حصول النتيجة من البرهان إنّما هو بطريق الاتّفاق كحصول التصديق بعد تصور الطرفين ؛ وهو كما ترى.

المنهج الثاني : منهج بعض الحكماء وهو الاستدلال بمجرّد الامكان الوقوعي

والمراد به أن يكون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ؛ والممكن بالامكان الذاتى اعمّ من أن يلزم من فرض وقوعه محال أم لا. وأنت خبير بأنّ ما مرّ من أدلّة الالهيين كانت مبتنية على اخذ الوجود بالفعل والاستدلال به على الواجب ؛

ص: 117

والغرض من هذا المنهج أنّه يكفي الامكان الوقوعي والاستدلال عليه باجراء البراهين المذكورة من دون التمسّك بالوجود بالفعل (1).

وتقريره : انّه لا شكّ في انّه يمكن أن يقع ممكن ما موجودا في الخارج ، وهذا الفرض لا يصحّ إلاّ مع وجود الواجب - تعالى شأنه - ، اذ لولاه لزم من فرض وجوده محال ، وهو الدور - إذ امكان وقوع موجود ما على هذا التقدير يتوقّف على امكان وقوع ايجاد ما وبالعكس -. أو نقول : وقوع طبيعة الموجود بما هو موجود يجب أن يكون بلا مبدأ وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ووقوع طبيعة الممكن بما هو ممكن لا بدّ له من مبدأ ، فلو انحصر الموجود الممكن الوقوع في الممكن لزم التناقض. أو نقول : مجموع الأفراد الّتي يمكن وقوعها لا بدّ له من علّة ولا يمكن أن تكون العلّة هي المجموع ولا جزئه ، بل يكون أمرا خارجا عنه ، فعلى فرض عدم الواجب يلزم أن لا يكون ذلك المجموع ممكنا بالامكان الوقوعي ، وقس على ما ذكر ساير البراهين.

قال بعض الافاضل : ولا يخفى عليك سخافة هذا المنهج ، اذ لا يمكن دعوى الامكان الوقوعي لممكن إلاّ من جهة العلم بوجوده ، إذ ما لم يعلم ذلك احتمل عند العقل أن يكون وقوعه مستلزما لمحال ، سيّما مع ما يتراءى من لزوم الدور وغيره من المفاسد. وإذا كان العلم من جهة العلم بوجوده فالتمسّك به لا بالوجود من قبيل ما اشتهر من الظرافات : انّ رجلا من المستظرفين هيّأ مجمعا من الرجال وقال : إنّي أعددت لكم دواء نافعا جدّا لاجل البراغيث أمنّ عليكم ببيعه منكم ؛ فبعد ما اشتروه منه بالالتماس والمنّة سألوه عن كيفية حاله وطريقة استعماله؟ ؛

فقال : طريقه أن يؤخذ البرغوث ويذر الدواء في عينه حتّى يصير أعمى! ؛

قالوا : انّا إذا أخذنا البرغوث فلم لم نقتله ونسترح من هذه الزحمة؟ ،

فقال : هذا أيضا يكون ، انتهى.

وما ذكره جيّد.

ص: 118


1- راجع : المباحث المشرقية ج 2 ص 448. حيث اخذ الامام في طريقة الامكان - التى هي عنده معتمد الحكماء - وجود الموجودات بالفعل.

المنهج الثالث : من مناهج الحكماء ، منهج الطبيعيّين منهم وهو النظر في طبيعة الحركة

والمنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان :

الطريقة الأولى : هي أنّ كلّ متحرّك سواء كانت الحركة في ذاته - كالممكنات المنتقلة من الليسية الذاتية إلى الايسية - أو في صفاته - كالمتحرّكات في الوضع والأين وغيرهما من المقولات - يحتاج إلى محرّك ، لأنّ الحركة أمر حادث لا بدّ له من علّة ، واستناد كلّ حركة إلى محرّك من البديهيات العقلية. ولا يجوز أن يكون المحرّك عين المتحرّك ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون محرّكا لنفسه ، فلا بدّ أن يكون المحرّك غير المتحرّك ويمتنع ذهاب سلسلة المحرّكات إلى غير النهاية ، فلا بدّ أن تنتهى سلسلة المحرّكات إلى محرّك أوّل غير متغيّر في صفاته / 27MA / - كالمتحرّك في المقولات المشهورة - ، ولا في ذاته - كالممكن المنتقل من الليس إلى الايس -. والمحرّك الأوّل الثابت الذات والصفات هو الواجب الحقّ - تعالى شأنه (1) -.

وأورد عليه : بانّ الانتقال من الليس إلى الأيس إن اريد به الانتقال من العدم الممتدّ الوجود - أي : الحدوث الزماني - ؛ ففيه : انّ ذلك الانتقال ليس بحركة حقيقية ، إذ لا يوجد فيه التدريج المعتبر في الحركة ولو اصطلحوا على تسمية ذلك الانتقال مع كونه دفعيا حركة فلا مشاحة فيه ، إلاّ انّه بعينه هو / 26DB / الحدوث الّذي اعتبره المتكلّمون في طريقتهم ، فيرجع منهجهم إلى منهجهم. وإن اريد به الانتقال من العدم الصرف إلى الوجود - أي : الحدوث الدهري - أو الانتقال ممّا ثبت للممكن بالذات - أعني : عدم اقتضاء الوجود - إلى ما ثبت له بالغير - أعني : اقتضاء الوجود - ؛ ففيه : مع عدم كونه

ص: 119


1- راجع : المباحث المشرقية ، ج 2 ص 451 ؛ شوارق الالهام ، ج 2 ص 495 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 6 ص 42.

حركة أنّه يرجع إلى الايجاد الّذي اعتبره الالهيون ، فيرجع طريقة النظر في الحركة إلى طريقة النظر في الوجود ، ومجرّد تغيّر الألفاظ لا توجب الاختلاف في المعنى. وحينئذ فتتميم الحركة المأخوذة في الدليل بحيث يتناول الانتقال من الليس إلى الايس غير صحيح ، بل اللازم أن يحذف ذلك ويخصّ الحركة بالحركة في المقولات المشهورة ؛

وحينئذ يرد عليه : انّا لا نسلّم انّ ما ينتهى إليه سلسلة الحركات - أعني : المحرّك الأوّل - يجب أن يكون واجب الوجود بالذات وثابت الذات والصفات ، لجواز أن يكون ذلك المحرّك قديما آخر غير الواجب لم تكن له الحركة في المقولات الّتي سمّوها الحركة في الصفات ، وإن كان من العدم إلى الوجود لجسم أو جسماني ساكن غير متحرّك في مقولة أو نفس أو عقل ، فالحركة الأولى الكلّية أنّى تنتهي إليها سلسلة الحركات - أعني : الحركة الفلكية - يجوز أن يكون محرّكها هو طبيعة الفلك أو النفس الفلكية أو واحد من العقول. والحقّ أنّه لا يجوز أن تكون الحركة الفلكية طبيعية ولا مستندة إلى جسم - لما يأتي في طريقتهم الثانية - ، ولكن استنادها إلى النفوس الفلكية غير بعيد على ما ذهب إليه الحكماء ، إلاّ انّه يمكن أن يثبت المطلوب به ولكنّه يرجع إلى طريقتهم الثانية ، ويعرف حقيقتها.

الطريقة الثانية للطبيعيّين : إنّ حركات الأفلاك ليست مستندة إلى اجسامها - لامتناع كون الشيء محرّكا لنفسه ، نظرا إلى استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا من جهة واحدة ، كما بيّن في موضعه - ، ولا يجوز أن تكون تلك الحركات قسرية - إذ الحركة القسرية إنّما تكون إلى الجهة المخالفة لمقتضى الطبع فحيث لا طبع ، كما يأتي ، فلا قسر -.

وأيضا : الحركة القسرية لا تكون إلاّ إلى الوسط أو من الوسط ويمتنع أن يتحرّك الفلك إلى الوسط أو إلى الفوق لكونه محدّدا لهما بمركزه ومحيطه ، بل حركته إنّما هو على الوسط - كما هو المشاهد المحسوس - ، فلا يكون قسرية. وأيضا : الحركة الأولى يجب أن تكون مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحركات والحوادث بالطبع ، ولأجل ذلك لا يجوز أن تكون قديمة بالزمان ، لأنّ القديم بالزمان وان لم يسبقه العدم

ص: 120

بالزمان إلاّ أنّ الزمان يتقدّمه بالذات ، فله عدم ذاتي في مرتبة وجود الزمان ، لأنّ معنى انتساب القديم الزماني إلى الزمان وكونه فيه إنّما هو تأخّره عنه بالطبع ودخوله في سلسلة علله ، والمعلول من حيث هو معلول لا يخلوا من تأخّر عن علّته وعدم ما بالنسبة إليها وأمّا المبدع لا بحركة ولا فى زمان - وهو الحادث بالذات - وإن تقدّمه العدم بالذات - لتوقّف كون الشيء موجودا بغيره على عدم كونه موجودا بذاته - إلاّ أنّ العدم المتقدّم انّما هو العدم بالنسبة إلى علّته الفاعلية فقط ، لا بالنسبة إلى الزمان أيضا - كما في القديم بالزمان - ؛ وبذلك يظهر الفرق بين الحادث بالذات والقديم بالزمان.

وإذا كانت الحركة الاولى مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحادثات نقول : لا يجوز أن تكون قسرية ، لأنّ القسر خروج عن الحالة الطبيعية ، فالمتحرّك بالحركة الأولى يجب أن يكون حينئذ مبدعا قبل القسر على حالة ولو قبلية بالذات ، ثمّ أخرج عنها بالقسر ؛ فهذا القسر مع الحالة السابقة عليه شيء قد حدث بعد ما لم يكن قبل هذه الحركة ثمّ حدثت هذه الحركة ، مع أنها تجب أن تكون متقدّمة على كلّ حادث ، هذا خلف! على أنّها لو كانت قسرية لكانت لها قاسر ، ولا يجوز أن يكون القاسر جسما أو جسمانيا لو كانت تلك الحركة غير متناهية - كما هو رأي الفلاسفة - ، لعدم جواز صدور الافعال الغير المتناهية عن الجسمانيات - كما يأتي -. ولو كانت متناهية لكان الافلاك المتحرّكة بتلك الحركات حادثة ، فثبت المطلوب. ولا يجوز أيضا أن تكون الحركة الفلكية طبيعية محضة خالية / 27MB / عن الإرادة لوجوب وقوف الطبيعة عند مطلوبها ، فانّ الميل الطبيعي هرب من موضع منافر للطبيعة منافرة جسمانية يطلب موضع ملائم لها ملائمة كذلك ، فاذا وصل إلى ذلك الموضع الملائم استقرّ فيه واستحال أن يفارقه ويعود إلى ما فارقه من الموضع المنافر ، مع أنّه ما من وضع من أوضاع الفلك إلاّ أنّه يعود إليه.

وأيضا لا تكون الطبيعة / 27DA / محرّكة إلاّ بعد أن تكون مقسورة على حال غير طبيعي ثمّ زال عنها القسر وخلّيت ونفسها. ولا ريب انّ زوال هذا القسم شيء قد حدث بعد وجود الحادث عند الحالة الطبيعية قبل هذه الحركة ، وقد عرفت وجود

ص: 121

تقدّمها على جميع الحادثات ؛ هذا خلف. وإذا لم يجز أن تكون الحركات الفلكية صادرة عن قسر ولا عن طبع فبقى أن تكون اراديّة نفسانية صادرة عن أنفس شاعرة. ويجب أن تكون هذه الأنفس مجرّدة كلّية عاقلة ذوات ارادات وادراكات عقلانية ، لاستحالة صدور مثل هذه الحركات المنتظمة المنقسمة المستمرّة في مثل هذه المدّة عن ، الأنفس الجزئية المنطبعة الحيوانية ، لكون هممها قاصرة مقصورة على الأشياء الجزئية المنقطعة ، فانّ القوى الجسمانية (1) متناهية الأفاعيل والانفعالات. ثمّ لا بدّ لهذه الحركة المستمرّة الصادرة عن تلك الأنفس العاقلة من غاية ، ولا يجوز أن تكون غاياتها حيوانية من شهوة أو غضب أو غير ذلك من الاغراض الحيوانية الضعيفة ، لما علم من أنّ تلك الأنفس مجرّدة عاقلة كلّية لا حيوانية جزئية ، فلا يجوز أن تكون غاياتها غايات جزئية حيوانية - لتعاليها عنها -. وأيضا لا نموّ ولا تغذّي للسماء ، فلا كون لها من شيء حتّى تكون لها شهوة إلى ما يحصل به التكوّن ، ولا فساد لها ليكون لها غضب يدفع به ما يزاحمه ويفسده ، ولا يجوز أن تكون غايتها أيضا ما يرجع إلى العوالم السفلية والاجرام العنصرية ولا يصحّ صدور هذه الحركات العظيمة لأجلها ، لحقارة العوالم السفلية وخسّتها بالنسبة إلى النفوس الفلكية واجرامها والعالي لا يلتفت إلى السافل والاشرف لا يعنى بالأخسّ ، لأنّ الغاية لكلّ شيء يجب أن يكون ممّا لم يوجد فيه ويستكمل لأجلها وما يرجع إلى الاخسّ لا يحصل به استكمال للأشرف. نعم! يترشّح من حركاتها الخيرات والبركات الدائمة على السوافل ، فيضاد بالعرض لا قصدا وبالذات. وكذا لا يجوز أن تكون غاية الحركة لكلّ فلك ما يرجع إلى فلك آخر جسمه أو نفسه ؛ أمّا إذا كان الفلك الآخر أسفل فظاهر - لما مرّ - ، وأمّا إذا كان أعلى فلعدم فلك فوق المحدّد ، فلا بدّ أن لا تكون حركتها لأجل جسم فلكىّ أو نفس فلكية ، فيجب أن تكون غايتها أمرا غير جسماني ، بل شيئا نورانيا قدسيا مجرّدا عن المادّة بالكلّية يكون ذا قوة غير متناهية ، لا بأن يطلب ذاته ، بل بأن يطلب التشبه به باكتساب أوصافه الكمالية الغير المتناهية. فانّ المطلوب إن كان نيل امر جزئي معيّن فان كان ممّا ينال لوقفت إذا

ص: 122


1- الاصل : على الاشياء القاصرة المنقطعة فان تقوى الجسمانية.

نالت ، وإن كان ممّا لا ينال لقنطت! ، فيجب أن يكون المطلوب امرا كلّيا متجدّدا دائم الحصول ؛ وليس هو إلاّ التشبّه بذات قدسية كمالاته غير متناهية بالفعل ، فيتصوّر تلك الكمالات الفعلية الغير المتناهية ويشتاق إليها فيحصل منه الفعلية الموجبة للتشبّه. وليس فعليته إلاّ بالحركات المتشابهة الّتي يخرج اوضاعها من القوّة إلى الفعل ، فانّ الفلك إن ثبت على وضع واحد بقيت ساير الاوضاع ابدا بالقوّة وليس له ما بالقوّة إلاّ الاوضاع ، لانّ جميع الأشياء غيرها فيه بالفعل. ولا يمكنه أن يجمعها ويخرجها إلى الفعل دفعة فيخرجها على التعاقب الدائم والتدريج المستمرّ بانفعال جرمه عن تصوّرات شوقية وهيئات نورية ، كما أنّ تفكّر الانسان في شيء من المعقولات تتبعه حركات وهيئات من بدنه ، فانّ الضرورة قاضية بأنّ هيئات كلّ من النفس والبدن يتعدّي إلى صاحبه.

ثمّ هذا الأمر المجرّد القدسى الّذي يطلب التشبه به إن كان واجبا ثبت المطلوب ، وإلاّ فينتهي إليه - دفعا للدور والتسلسل -.

هذه هي الطريقة الثانية للطبيعيين مع إيضاح وتبيين.

والايرادات الّتي يتصوّر أن تورد عليها وجوه :

منها : انّه يجوز أن تكون تلك الحركات طبيعية لا بمعنى الهرب من الموضع المنافر للطبيعة إلى الموضع الملائم والفرار من المركز إلى المحيط أو العكس - كما هو العرف المشهور في الحركات الطبيعية - ، بل بمعنى كونها من مقتضيات الطبيعة الفلكية واغراضها اللازمة. فكما انّ النار يقتضي بطبعها وصورتها النوعية التسخين والإحراق وبعض العناصر يقتضي الميل إلى المركز وبعضها الميل إلى المحيط ، كذلك يجوز أن يقتضي الطبائع الفلكية تلك الحركات الدورية ، فانّ العقل والتجربة شاهدان / 28MA / على أنّ كلّ طبيعة وصورة نوعية يقتضي فعلا خاصّا / 27DB / وأثرا مخصوصا ولا يحتاج معه إلى علّة أخرى ، فيجوز أن تكون الحركات الوضعية على النحو الخاصّ مستندة إلى الطبائع الفلكية على سبيل الايجاب كسائر افعال الطبائع ؛

والجواب : انّه لو اقتضى الأفلاك بطبعها تلك الحركات على سبيل الإيجاب فلا يخلوا أنها إمّا أن تكون متناهية ، أو لا ؛ فعلى الأوّل يلزم حدوث الافلاك و

ص: 123

وجودها بعد العدم ، فلا بدّ لها من موجد ، ولا يمكن أن يكون موجدها جسما أو جسمانيا ، فيجب أن يكون مجرّدا ثابت الذات ، فان كان واجبا فهو المطلوب وإلاّ ينتهي إليه ؛ وإن كانت غير متناهية استحال استنادها إلى الطبائع الفلكية ، لأنّ الفواعل المادية الجسمانية لا يجوز أن يكون شيء منها غير متناهى القوّة والتأثير ، فلا يجوز أن يفعل افعالا ويحرّك تحريكات غير متناهية ، لأنّ القوى الجسمانية تختلف ضرورة بحسب اختلاف فاعلية المادّة ، ومراتب القابليات تنتهي في الضعف إلى العدم ويستمرّ في الشدّة لا إلى نهاية ، فكلّ مرتبة من القابلية محصورة بين طرفين. وأيضا كلّ مرتبة منها أقلّ ممّا فوقها ، ولا يجوز أن توجد مرتبة تكون أعلى المراتب ولا يتصوّر فوقها مرتبة ، لأنّ هذه المرتبة أقلّ بالضرورة من نفسها مع بعض المراتب السابقة ، وكلّ اقلّ متناه ، وإذا كانت القابلية متناهية بمعنى امكان وجود مرتبة فوقها لكانت القوة الّتي بإزائها أيضا متناهية - يعنى : يمكن أن تتحقّق قوّة تكون أقوى وأكثر تاثيرا منها -. وأيضا إنّا إذا فرضنا انقسام جسم الفلك مثلا بقسمين فالقوّة الّتي سارية في أحد القسمين ما يكون تحريكها إلى غير النهاية ، فيكون الجزء مثل الكلّ وهو محال ، وامّا أن يكون تحريكها إلى غاية متناهية فالقوّة الّتي بإزاء القسم الأخير كذلك ، فيكون المجموع المشتمل على المتناهيين متناهيا.

فان قيل : القوّة السارية في كلّ الفلك تقوي على تحريك الكلّ إلى غير النهاية ، والسارية في نصف الفلك تقوي على تحريك النصف إلى غير النهاية ، والسارية في الربع تقوي على تحريك الربع إلى غير النهاية وهكذا إلى غير النهاية ، وهكذا إلى أن تنتهي إلى القوّة السارية في أقلّ جزء منه ، فانّها تقوي على تحريكه إلى غير النهاية ، فالقوّة الّتي يصدر منها الأفعال الغير المتناهية بحسب المدّة وان اختلفت مراتبها بحسب اختلاف مراتب القابليات ولا تنتهى القوّة إلى ما لا يتصوّر قوة أقوى منها وأكثر تأثيرا منها ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من عدم صدور الأفعال الغير المتناهية مطلقا ، بل يكفي لتصحيح الاختلاف أن يكون للأقوى فعل غير متناه يكون أصعب وأشدّ أو فعل آخر أيضا غير متناه ، كما أنّه إذا فرض صدور غير متناهيين بحسب الشدّة أو العدّة من

ص: 124

قوّتين يكفي لتصحيح اختلاف القوّتين قوّة وضعفا اختلاف الغير المتناهيين بحسب المدّة ، فبعض القوابل مستعدّ لافاضة القوى الّتي لا يفعل إلاّ أفعالا متناهية وبعضها مستعدّ لافاضة القوى الّتي تفعل أفعالا غير متناهية بأحد الوجوه ، وهذا الصنف من القوى إن كان ممّا يصدر عنه الغير المتناهي بحسب المدّة وإن امكن اختلافها قوّة وضعفا إلاّ أنّ ذلك الاختلاف لا يصير منشأ التفاوت والاختلاف في زمان الفعل حتّى يقال : انّ الاختلاف بحسب الزمان في غير المتناهيين بحسب المدّة غير جائز ، بل يكفى لتصحيح اختلاف القوّتين كون ما يصدر عن إحداهما أشدّ أو أكثر عددا ممّا يصدر عن الآخر ، وإن كان الصادران عنهما غير متناهيين بحسب المدّة ، والحاصل : انّ القوى الّتي يصدر عنها الأفعال الغير المتناهية بحسب المدّة لا يصير اختلافها بحسب اختلاف القابلات منشئا لاختلاف الأفعال في المدّة حتّى يقال آنفا : غير المتناهيين لا يختلفان بحسب المدّة ، بل يصير منشئا لاختلاف الأفعال بحسب العدّة والشدّة بأن يصدر من إحدى القوّتين غير متناهيين أو غير متناه أشدّ ومن الأخرى غير متناه واحد أو غير متناه أضعف ، فكلّ جزء من الفلك مستعدّ لحصول القوّة الّتي تحرّكه حركة غير متناهية ، والقوّة الّتي في جزءين منه وان كانت أزيد من الّتي في جزء واحد ؛ ويجب أن تصير هذه الزيادة منشئا لزيادة التأثير إلاّ أنّ زيادة التأثير لا يتحقّق بحسب المدّة ، بل بحسب الشدّة / 28MB / بأن يتحرّك لأجل هذه الزيادة جزء آخر إلى غير النهاية.

وليس للخصم أن يقول : يلزم البتة أن يصير الزيادة في القوّة منشئا للزيادة في المدّة ؛

ثمّ / 28DA / إنّه إذا أخذت القابلية الّتي في جزء من الفلك مثلا والّتي في جزء من الأرض مثلا وأخذت قوّتاهما معا أزيد من القوّة المختصّة بالجزء الفلكي فيجب أن تكون الحركة الصادرة عنهما معا أطول مدّة من الحركة الصادرة من القوّة الّتي في الجزء الفلكي فقط ، لأنّ بإزاء كلّ منهما حركة يقتضيها إحداهما تقتضي حركة معينة متناهية ، والأخرى تقتضي حركة غير متناهية بحسب الفرض. فاذا اجتمعت القوّتان تحصل الحركتان فتكون الحركة الصادرة من الجزء الفلكي متناهيا ، لأنّ الأقلّ متناه ، لأنّ

ص: 125

القابليّتين والقوّتين المذكورتين متخالفتان بالحقيقة والنوع. ولا يجوز أن يكون ضمّ إحداهما إلى الاخرى منشئا لزيادة تأثيرها ، بل يصير معاوقة عن تاثيرها الخاصّ بها ، فالقوّة الّتي في حجر مثلا إذا فرض ضمّها إلى القوّة الّتي في جزء من الفلك لا يمكن أن يصير منشئا لزيادة تاثيره ، بل يعاوقها عن تاثيرها ، لأنّ القوّة الحجرية تقتضي الحركة المستقيمة والقوّة الفلكية تقتضي الحركة المستديرة ، فكيف يتحقّق بينهما التعاون؟! ، بل المعين لإحداهما إنّما هو ما يكون من نوعه. وهو لا يصير منشئا للازدياد بحسب المدّة ، بل بحسب الشدّة أو العدّة ، فلو فرض القوّة الّتي في جزءين من الفلك موجودة في جزء واحد لصار منشئا لزيادة حركته بحسب الشدّة بأن تصير حركته سريعة ضعف ما كان لقوّته المختصّة به ؛

قلنا : لا ريب في تحقّق الاختلاف في كلّ واحد من المدّة والعدّة والشدّة زيادة ونقصانا ، والنقصان في كلّ واحد منها ينتهى إلى العدم ، والزيادة تتصوّر إلى غير النهاية. إلاّ أنّ حصول الزيادة في كلّ واحد منها إلى حدّ يصل إلى غير النهاية في الخارج غير ممكن ، لان الاختلاف في كلّ واحد زيادة ونقصانا انّما هو لأجل الاختلاف في القوّة وهو لأجل الاختلاف في القابلية ، ومراتب القابلية تنتهي في الضعف إلى العدم وتستمر في الشدّة إلى غير النهاية فكلّ مرتبة من القابلية الّتي بإزاء القوّة الّتي بإزاء مرتبة من التأثير في أحد الاقسام الثلاثة محصورة بين طرفين. وأيضا كلّ مرتبة من القابلية الّتي تصير منشئا لصدور الفعل بأحد الوجوه أقلّ ممّا فوقها ، ولا يجوز أن توجد مرتبة تكون أعلى المراتب - لأنّ هذه المرتبة اقلّ بالضرورة من نفسها مع بعض المراتب السابقة ، وكلّ اقلّ متناه - والحاصل : انّ الاختلاف بحسب المدّة ثابت وهو إنّما يكون بحسب اختلاف القوّة والاختلاف بحسب القوّة انّما هو بحسب اختلاف القابلية ، فالقابلية الّتي تصير منشئا لاختلاف الفعل بحسب المدّة مراتبها تنتهي في الضعف إلى العدم وتستمرّ في الزيادة إلى غير النهاية ، فكلّ مرتبة منها محصورة بين حاصرين ، وكلّ مرتبة منها اقلّ ممّا فوقها ولا يجوز أن توجد مرتبة تكون أعلى المراتب - لأنّ هذه المرتبة اقلّ من نفسها مع بعض المراتب السابقة -.

ص: 126

والقول بانّ اختلاف القابلية والقوّة حينئذ يصير منشئا للاختلاف في الشدّة والعدد كلام واه جدّا! ، لأنّا أخذنا القابلية والقوّة اللتين تصيران منشئا للاختلاف بحسب المدّة ، وأيّ دخل لهما في الاختلاف من حيث الشدّة والعدد؟! ؛ فالقابلية والقوّة اللتان في جزء من الفلك وصارتا باعثتين للتحريك إلى غير النهاية بالفرض يمكن أن توجد فوقهما قابلية وقوة تكونان أقوى وأكثر تاثيرا من جنسهما - أي : ممّا يقتضي التأثير بحسب المدّة - ، لما تقدّم من البرهان ، وهو غير جائز ، لعدم الاختلاف في البرهان (1) بين غير المتناهيين بحسب المدّة.

وبما ذكر يظهر انّه لا يجوز أن يكون محرّكها جسما أو (2) جسمانيا آخر غير الافلاك وقواها الجسمانية المنطبعة.

ومنها : انّ الغاية للنفوس الفلكية وإن لم يجز أن تكون شهوية ولا غضبية ، إلاّ انّه لم لا يجوز أن تكون الغاية لها صلاح النظام الجملي والعناية الكلّية؟.

فان قيل : ذلك / 29MA / يستلزم فعل العالي للسافل واعتناء الأشرف بالخسّ؟

قلنا : كما في فعل الواجب ، والجواب الجواب من دون تفاوت.

والجواب : انّ تلك الحركات إن كانت متناهية لزم حدوث الافلاك ونفوسها وصيرورتها موجودة بعد العدم ، فثبت به المطلوب ؛ وإن كانت غير متناهية لم يمكن أن يصدر عنها إلاّ إذا كان محرّكها الغائي جوهرا عقليا مفارقا ذا قوة غير متناهية وتحرّكها على سبيل الامداد والتشويق ، لأنّ النفس من حيث انّه نفس كالجسم والجسمانيات في عدم امكان صدور الأفاعيل الغير المتناهية عنه ؛ كيف لا والنفس أيضا قوة جسمانية من حيث الفعل ما دام نفسا وان تجرّدت من حيث الذات؟! ، وأنّى يمكن أن يصدر عنه التاثيرات والافاعيل الغير المتناهية إلاّ أن يمدّها جوهر عقلي / 28DB / يكون ذا قوة غير متناهية؟! ، والتحريكات الغير المتناهية من القوى الجسمانية على سبيل الامداد (3) والتأييد من ذي قوّة غير متناهية جائز لأنّ حصول الغير المتناهي

ص: 127


1- الاصل : الزمان.
2- الاصل : جسما أو.
3- الاصل : الامتداد.

حينئذ انّما هو منه لا منها - ، فالمحال حصول الأفاعيل الغير المتناهية عن القوى الجسمانية على الانفراد والاستقلال.

فان قيل : ما يدلّ على استحالة صدور التاثيرات والأفاعيل الغير المتناهية من الجسم والجسمانيات على الانفراد يدلّ على استحالته على الإمداد أيضا ؛ بل يدلّ على استحالة حصول التاثيرات والانفعالات الغير المتناهية منهما أيضا لأنّ صدور التأثيرات الغير المتناهية على سبيل الامداد والحصول من الغير وقبول التأثيرات والانفعالات (1) الغير المتناهية يختلف باختلاف قابليات المادّة ، ومراتب قابليتها متناهية ، لأنّ كلّ مرتبة منها محصورة بين طرفين ويمكن أن يوجد ما هو فوقها - لما تقدّم بعينه - ؛

قلنا : لو سلّم ما ذكر لكان مؤكّدا لحقّية الشقّ الاوّل - أعني : تناهي تلك الحركات وحدوث الافلاك ونفوسها -. وقد علمت ثبوت المطلوب ، فلا يقدح فيه حينئذ امكان استنادها إلى القوى الجسمانية أو إلى النفوس الفلكية من دون حاجة إلى امداد من الجوهر العقلى.

ومنها : إنّا لا نسلّم استنادها إلى النفوس الفلكية ، ولم لا يجوز أن يكون محرّكها الفاعلي جوهرا عقليا محضا مفارقا دون الجواهر النفسية؟ ؛

قلنا : الجوهر العقلي المحض لثبوته على حالة واحدة لا يمكن أن يصدر عنه إلاّ ما هو ثابت على حالة واحدة ولا يجوز أن يصدر عنه الأمر المتغيّر المتبدّل فيكون الأرض - لثبوته - دائما على حالة واحدة يمكن أن يصدر عن علّة ثابتة. وأمّا الحركة الوضعية الّتي هي خروج الأوضاع وتبدّلها وتغيرها فلا يمكن أن يصدر عن ثابت على حالة واحدة ، بل يجب أن يكون محرّكها في كلّ تحريكه على حالة مغايرة للحالات الّتي ثابتة له في التحريكات الأخر. فالمحرّك الواحد ما لم يسنح له حالات متجدّدة لم يمكن أن تصدر عنه الحركة ، لأنّ الانتقال من حدّ أوّل إلى حدّ ثان غير الانتقال من الحدّ الثاني إلى حدّ الثالث ، والمتغايران لا يجوز أن يصدرا عن واحد من جميع الجهات ،

ص: 128


1- الاصل : الانفصالات.

والتأمّل في أصناف الحركة يفيد القطع بذلك. فانّ المحرّك في الكيف يختلف تحريكه لاختلاف كيفيته ، ففي كلّ تحريكه له كيفية خاصّة يصير لأجلها منشئا لتلك التحريكة ، وهي مغايرة لباقي الكيفيات الّتي ثابتة له في التحريكات الأخر. وكذلك الطبيعة الّتي تصدر عنها الحركة الطبيعية يتجدّد له التحريكات لأجل تجدّد الحالات اللاحقة بها. وأقلّها تجدّد مراتب القرب والبعد إلى الغاية المطلوبة ، فانّ كلّ مرتبة من مراتب القرب إلى الغاية إذا لحقت بالطبيعة أوجب صدور حركة جزئية منها موجبة للوصول إلى مرتبة أخرى أقرب إلى الغاية ، وهي توجب حركة أخرى موجبة لقرب آخر ، وهكذا إلى أن يصل إلى المطلوب. وكذلك المتحرّك في الحركة الارادية - أعني : النفس - لا بدّ من تجدّد ارادتها وتغيرها حتّى يتجدّد تحريكاتها ولا بدّ من كون ارادتها جزئية لتتحقّق الارادات الجزئية ، لأنّ الإرادة الكلّية أمر واحد نسبتها إلى جزئيات الحركة نسبة واحدة ولا توجب حركة جزئية ما لم يتشخّص ولم يصر جزئية ، لانّ الإرادة الكلّية لا وجود لها.

فمن أراد أن يتحرّك إلى موضع معين لا يتحرّك رجله ما لم تتجدّد له إرادة جزئية ، فاذا احدثت له إرادة جزئية تحدث له خطوة وبعد تلك الخطوة يحدث له تصور جزئي وتنبعث عنه إرادة / 30MA / جزئية أخرى توجب خطوة ثانية تحدث بها إرادة جزئية أخرى موجبة لخطوة ثالثة ، وهكذا إلى أن يتمّ المسافة المقصودة. فالحركات الجزئية يقتضيها الارادات الجزئية الّتي تقتضيها التصوّرات الجزئية ، والحركة الكلّية تقتضي دوام الحركة إلى حين الوصول إلى الغاية المطلوبة ، فالحادث حركة وتصوّر وإرادة ، فالحركة تحدث بالإرادة الجزئية والإرادة الجزئية تحدث بالتصور الجزئي مع الإرادة الكلّية والتصوّر الجزئي يحدث بحركة متجدّدة. فالحركة الفلكية إذا كانت ارادية لا بدّ أن يكون مبدأها الفاعلي متغيرا بتغير الارادات والتصوّرات الجزئية ، والمتغير بتغير التصورات والارادات يكون نفسا ، لا عقلا.

ومنها : انّا نسلّم أنّ محرّكها الغائي يجب أن يكون مفارقا عن المادّة بالكلّية ، الاّ أنّا لا نسلّم كونه واجبا ، بل اختلاف حركاتها يدلّ على تعدّد محرّكها الغائي ، لأنّ المشبّه به لو كان واحدا لتشابهت الحركات. وتوضيح ذلك أنّ كثرة الأفلاك المعلومة بالرصد و

ص: 129

العيان دلّت على اختلاف / 29DA / طبائعها بالنوع ، لأنّها لو كانت من نوع واحد لكانت الكلّ متواصلة ، لأنّ موجب التباين إنّما هو الاختلاف في الطبع ولذا ترى كلّ جسمين إذا كانا من نوع واحد وصب أحدهما على الآخر يختلطان (1) بحيث يصيران جسما واحدا (2) - كالماءين والدهنين - ، واذا كانا من نوعين - كالدهن والماء - لا يختلطان مع الانصباب ؛ فالافلاك لو كانت من نوع واحد لكانت الكلّ متواصلة. كيف لا ونسبة اجزاء كلّ فلك حينئذ إلى أجزاء الفلك الآخر كنسبة اجزائه بعضها إلى بعض؟!.

وأيضا لو كانت من نوع واحد لجاز أن يتحرّك الأسفل إلى مكان الأعلى وبالعكس - كما في أجزاء الماء والهواء - ، ولو جاز ذلك لكانت قابلة للحركة المستقيمة ، وهو باطل - على ما بيّن في موضعه -.

وإذ تحقّق اختلافها بالنوع نقول : لا ريب انّ هذه الاجسام السماوية المختلفة في الطبيعة النوعية لا يجوز أن يكون بعضها علّة للبعض ، لاستحالة أن يكون الجسم سببا لايجاد الجسم - لما تبيّن في موضعه من أنّ تأثير الجسم إنّما يكون بمشاركة الوضع من المماسة أو المجاورة أو المحاذاة - ، فتأثيره يتوقّف على وجود أمر ذي وضع حتّى تؤثر فيه.

ولذا ترى أنّ النار تسخّن (3) ما يكون ملاقيا لجسمها أو قريبا منه ، دون ما كان بعيدا منه ؛ والشمس تضيء ما كان مقابلا لجرمها أو ما هو في حكم المقابلة دون ما هو مستور عنها. وما يشاهد من حصول بعض العناصر من بعض - كتكوّن الماء والنار من الهواء مثلا - فليس ذلك من ايجاد جسم لجسم آخر ، بل مادّة الهواء تستعدّ لأجل اسباب ترد عليها لفيضان صورة أخرى من فاعل غير جسماني ، مع أنّ حصول الصورة المائية والنارية إنّما هو من مادّة سابقة ، فيتحقّق الوضع الّذي هو شرط في تأثير الجسم في الجسم. وما ثبت امتناعه إنّما هو تأثير الجسم في غيره من غير مشاركة وضع ووجود مادّة.

فان قيل : كما يجوز صدور القوى الجسمانية من المفارق عن المادّة بالكلّية من دون

ص: 130


1- الاصل : يختلفان.
2- الاصل : وهذا.
3- الاصل : انّ الماء المسخن.

علاقة وضعية ونسبة جسمية فليجز عكسها ، لاشتراك الدليل وبحكم الفرق ؛

قلنا : الفرق قائم والدليل انّما يدلّ على عدم جواز تأثير الجسمانيات بدون الوضع ، لا على عدم جواز تأثير المفارق بدونه أيضا ؛ بل البرهان قائم على عدم توقّف تأثيره على الوضع. وبيان الجميع : انّ الجسمانيات من الصورة كالصور الجسمية والنوعية وغيرها من القوى الجسمانيّة متقوّمة بالفعل بموادّ الاجسام فقوامها انّما هو بتلك الموادّ ، فقوام هذه الصور والقوى يتوقّف على حصول وضع ما لها وتوسّط تلك الموادّ في الوضع ، وإذا احتاجت في قوامها إلى توسّط المادّة في الوضع احتاجت في صدور الفعل عنها أيضا إلى توسّط المادّة في الوضع ، امّا بالنسبة إلى ذوات تلك الصور والقوى بأن لا يتحقّق فعلها بدون أن يكون لمحلّها ومتعلّقها وضع ما قطّ - إذ فعل المتقوّم بالمادّة لا يكون إلاّ بواسطة المادّة ، والمادّة المقارنة لها لا بدّ لها من وضع ما ، إذ كلّ جسم له وضع على الاطلاق البتة - ، وإمّا بالنسبة إلى المنفعل عنه بمعنى توقّف فعل القوى المتعلّقة بالمادة من وضع مخصوص لتلك المادة بالنسبة إلى المنفعل عن هذه القوى ، فلأنّ ما يكون قوامه وتحقّقه موقوفا على توسّط المادّة في الوضع ، فيكون تأثيره في شيء موقوفا على تحقّق وضع له بالنسبة إليه / 30MA / بطريق أولى.

وهو كما ترى ؛ فانه لقائل أن يمنع الأولوية بل المساواة ويقول (1) : لم لا يجوز أن تكون القوى المنطبعة في الموادّ موجدة لبعض المفارقات أو الاجسام من غير افتقار إلى تقدّم مادّة ووضع ، ولا بدّ لنفيه من دليل.

ويمكن أن يستدلّ عليه بالاستقراء في المؤثّرات الجسمانية ، فانّ تاثير كلّ قوّة جسمية - على ما يشاهد - موقوف على تحقّق الوضع بالنسبة إلى المنفعل عنه ، وتأثيره فيه باختلاف القرب والبعد ولا يوجد تأثير لقوّة جسمانية بدون الوضع ؛ وهو أيضا كما ترى.

فالصحيح أن يستدلّ عليه : بانّه لا ريب في أنّ الفاعل أشرف من المفعول من جميع الجهات ، ولا شبهة في أنّ القائم بالذات - سواء كان من المفارقات أو نفس المادّة

ص: 131


1- الاصل : - ويقول.

أو الجسم - أشرف وأقوى من القوى المنطبعة في الاجسام الحالّة فيها - لافتقارها إلى المحلّ - ؛ فلو كانت تلك القوى علة لما لم يتحقّق لها وضع بالنسبة إليه - أي : لما كان قائما بذاته بعد وجوده - لزم أن يكون المحتاج إلى المحلّ أشرف من غير المحتاج إليه ؛ هذا خلف!. ولا يمكن / 29DB / أن يقال : انّه يجوز أن تكون العلّة لجسم مثلا هو الجسم القائم بالذات لا القوى الجسمانية ، لأن علّية الجسم إنّما يكون لصوره وقواه ، لأنّ المادّة لا تكون علّة لشيء.

فان قيل : لم لا يجوز أن يكون بعض القوى الجسمانية - كالصور النوعية للافلاك مثلا - أشرف من بعض الاجسام السابقة بنفسها بعد وجودها - كالاجسام العنصرية - ، وحينئذ لا مانع من علّية بعض الصور الحالّة لبعض الاجسام من غير تقدّم وضع وافتقار توسّط المادّة في الوضع ؛

قلنا : اللازم أشرفية العلّة من المعلول من جميع الجهات ، وإذا كان الصور الفلكية علّة لبعض الاجسام العنصرية لزم أشرفية المعلول على علّته من جهة ، وهو باطل. وبما ذكر من توقّف تأثير القوى الجسمية على وجود الوضع بينها وبين المنفعل عنه يظهر عدم جواز تأثيرها في مطلق المفارقات بوجه وعدم جواز صدور شيء من الموجودات - سواء كان جسما أو مادّة - بطريق الاتحاد بينها (1) ؛ هذا.

وأمّا صدور الجسم والجسمانى من المفارقات وتأثيرها فيهما فجائز لا منع فيه ، لأنّ الروحانى العقلي غير محتاج في فعله إلى المادّة بما فيها من وضعها وتخصّص حالها بالنسبة إليه ، بل يكفيه وجود ذاته في أن يفعل في المستعدّات ، بل نسبة الجميع إليه نسبة واحدة عامّة. فانّ ذوات الأوضاع في أنفسها ليست بذوات اوضاع بالقياس إليه وإن كانت كذلك بقياس بعضها إلى بعض ، فذوات الأوضاع والمفارقات والمعدومات بالنسبة إليه على السّواء. على أنّه هنا فرق آخر بين فعل الجسم وانفعاله ، وهو أنّ الفعل الصادر عن الاجسام لمّا كان صادرا عن القوى المادّية لا عن نفس المادّة فكانت المادّة متوسّطة الوضع بين الفاعل والمنفعل عنه ، وامّا الانفعال الوارد على الجسم فانّما

ص: 132


1- الاصل : الايجاد منهما.

يتعلّق بنفس المادّة ، لانّ المادّة هي المنفعلة بنفسها ، فلا معنى حينئذ لتوسط المادّة أو غيرها بين الفاعل والمنفعل.

ولو (1) قيل : لا ريب في أنّ البدن يؤثّر في النفس مع انّ النفس لا وضع لها ؛ وهذا مخالف لما قلتم من انّ الجسمانى لا يؤثر فيما لا وضع له! ؛

قلنا : المراد أنّ الجسماني لا يؤثّر فيما ليس له وضع ولا علاقة مع ذي وضع ، والنفس وإن لم يكن لها وضع إلاّ أنّ لها علاقة مع ذي وضع ، فيجوز أن يؤثّر الجسماني فيها ؛ ولهذا كلّما كان اقلّ علاقة بالبدن كان تأثير الجسمانيات فيها اقلّ. ويظهر من ذلك انّ فعل النفس أيضا يتوقّف على تحقّق الوضع لها بالنسبة إلى المنفعل عنه ، لأنّها وان لم تفتقر إلى المادّة في قوامها إلاّ أنّها لمّا افتقرت في فعلها إلى المادّة فيتوقّف في فعلها على حصول نسبة وضعية.

فان قيل : بعض تأثيرات القوى الفلكية لا يتوقّف على تحقّق الوضع لها بالنسبة إلى المنفعل عنه من الأجرام والأشخاص السفلية ؛

قلنا : ممنوع ، بل لا يوجد (2) تأثير من القوى السماوية إلاّ ويتحقّق نوع وضع لها بالنسبة إلى السفليات المنفعلة عنها.

وإذ ثبت انّه لا يجوز أن يكون جسم علّة لصدور جسم آخر نقول : لا ريب انّ الافلاك اجسام اوّلية ابداعية ليست كائنة عن مادّة ، فلا يمكن صدورها عن علّتها إلاّ على سبيل الابداع من دون سبق مادّة ، فيمتنع أن يوجدها جسم من نوعه أو من غير نوعه ، فلا يمكن / 30MB / أن يكون بعضها علّة لبعض ، بل يجب أن تكون علّتها شيئا خارجا عنها غير جسماني. ولمّا ثبت كونها مختلفة الطبائع وجب أن يكون لكلّ واحد منها علّة على حدة غير علل البواقى ، لأنّ المختلفات بالطبائع لا يمكن استنادها إلى علّة واحدة - والواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد - ما لم يكن له جهات كثيرة يمكن أن يصدر عنه بكلّ جهة معلول ، والمفارق عن المادّة لا تتحقّق فيه الجهات الكثيرة الّتي يمكن أن يستند كلّ فلك إلى جهة منه ، فلا بدّ أن يكون العلل المفارقة الموجدة

ص: 133


1- الاصل : - ولو.
2- الاصل - لا يوجد.

للافلاك متعدّدة بقدر عددها حتّى يصدر عن كلّ واحد واحد. وهي العقول المجردة الّتي أثبتها الحكماء وقالوا : أنّها فواعل الجواهر السماوية. ويجب أن تختلف هذه العقول بالنوع لأنّ الكثرة بالعدد لا يتصوّر في حقّ نوع واحد إلاّ بكثرة المادّة والاستعدادات ، فغير المادّي لو تكثّر فانّما يتكثّر باختلاف النوع بتعدّد الفصول المتباينة. ولا يجوز أن يتكثّر بالعوارض لأنّ اختلاف العوارض الّتي تعرض لافراد نوع واحد انّما يكون لأجل موادّها الّتي يقبل حدوثها وتجدّدها وزوالها ، فاذا لم توجد مادّة لم يوجد عوارض فضلا عن اختلافها - لتساوي نسبتها إلى مجرّد النوع -.

وإذا ثبت أنّ / 30DA / فواعل الافلاك هي تلك العقول القادسة المختلفة بالنوع نقول : الواجب أن تكون تلك العقول هي الغايات لحركة الافلاك بأن يتحرّك كلّ فلك لأجل التشبه إمّا بالعقل الّذي هو فاعله لأنّ التفات كلّ شيء في استكماله وطلبه الخير انّما هو إلى ما هو فاعله ، فلمّا تعدّد الفواعل بتعدّد الغايات للحركات ولذا اختلفت الحركات وتعدّدت الجهات فتكثّرت الحركات حسب تكثّر العقول ، فثبت أنّ المتشبّه به هو العقول دون الواجب - تعالى شأنه -. فلما ثبت من الدليل المذكور وجود الواجب - تعالى شأنه -.

وأجيب : بأنّ تلك العقول لكونها ممكنة محتاجة إلى علّة واجبة بالذات يثبت منها وجود الواجب ، فكما انّ مبدع الجميع وعلّة الكلّ هو الذات الأحدية الحقّة والعقول والنفوس وسائط فيضه ورحمته - وبلسان التصوّف جهاته العقلية وحجبه النورية الّتي لو كشفت لأحرقت شدّة ضياء سبحات وجهه كلّما انتهى إليه بصره - فكذلك المتشبّه به والمعشوق الحقيقي للكلّ والغاية الذاتية للجميع على الوجه الأعمّ ذات واحدة إلهية وإن كانت تلك العقول وسائط لطلبه ونيله ، ولذا اشتركت الأفلاك في مطلق الحركة الدورية. والتأمّل يعطى بأنّ العشق والطلب - اللّذان يصدران عن النفوس الفلكيّة بل عن كلّ شيء - انّما هو من فعل الباري ، فانّ مقتضى حكمته الكاملة وعلمه بالنظام الاصلح أن يودع في كلّ من الموجودات شوقا غريزيا وعشقا طبيعيا حتّى يصل لأجله إلى ما يستحقّه من الكمال والخير.

ص: 134

وأورد عليه : بأنّ الاستدلال بالعقول على وجود الواجب هو الاستدلال بطريقة الامكان ، لأنّ حاصله أن العقول ممكنة فلا بدّ لها من علّة تنتهى إلى الواجب دفعا للدور والتسلسل ، فبعد التطويلات والتمسّك بالمقدّمات الكثيرة من ابطال كون حركات الأفلاك قسرية وطبيعية واثبات كونها ارادية وشوقية وغير ذلك لا بدّ أن يتمسّك بطريقة الامكان مع الوجود - وهي طريقة مستقلّة لاثبات الواجب - ، فمعها أيّ حاجة إلى هذه التطويلات والتمسّك بمقدّمات تشكل اثبات أكثرها؟ ؛ وعلى هذا لا تكون طريقة الطبيعيين طريقة على حدة.

أقول : مثل هذا الايراد لا مدفع له وإن قطع النظر عن حقية وجود العقول ، لأنّه مع قطع النظر عنه يمكن أن يقال : لم لا يجوز أن تكون الغاية لتلك الحركات موجودا واحدا أو أكثر غير واجب؟ ، فلا بدّ من التمسّك بطريقة الامكان مع الوجود. ويظهر أنّ هذه الطريقة - كطريقتهم الأولى - لا يسمن ولا يغني من جوع ، فانّ حاصل هذه الطريقة - على ما قرّرناه - انّ الحركات السماوية ان كانت متناهية فتكون الأفلاك حادثة ، فلا بدّ لها من محدث ؛ فان كان واجبا ثبت المطلوب وإلاّ انتهى إلى الواجب دفعا للدور والتسلسل ، وإن كانت قديمة فلا يجوز أن تكون طبيعية - لمّا مر - ولا قسرية - لما مرّ - ، ولانّه لو كان لها قاسر غير جسماني لا ينتهى إلى الواجب دفعا للدور والتسلسل ، فثبت أن تكون ارادية. فلا بدّ لها من فاعل وغاية ، وفاعلها النفوس الفلكية وغايتها التشبه بالعقول ، وثبت منها وجود الواجب - تعالى شأنه -.

وأنت تعلم انّه لا بدّ في أكثر شقوق هذا الدليل من التمسّك بوجود المحدث أو الممكن والاستدلال على الواجب - تعالى - ببطلان التسلسل ، إلاّ أن يقال : لمّا ثبت منها وجود العقول فثبت منها وجود الواجب من دون الافتقار إلى ابطال التسلسل ، لانّ موجد العقل الأوّل - وهو المؤثّر في وجود الفلك الأوّل - لا يمكن أن يكون غير الواجب بالذات لبساطته الصرفة وعدم تكثر / 31MA / الجهات فيه ؛ وهو كما ترى.

ثمّ لا يخفى انّ هذه الطريقة وان لم تكن مستقلّة وطريقة على حدة في اثبات الواجب - تعالى شأنه - إلاّ انّه ثبت به وجود ما هو أعلى وأشرف من الفلكيات ممّا

ص: 135

هو فوقها من الجواهر العقلية القادسة المنتهية إليه - تعالى - ، وبه يبطل توهّم بعض الملاحدة من الدهرية حيث قالوا : انّ الفلكيات هي الغاية القصوى في الوجود وليس ورائها وفوقها موجود (1).

قال بعض العرفاء : انّ هذه الطريقة - أي : طريقة الطبيعيين - هي طريقة الخليل على - نبيّنا وآله وعليه السلام - ، فانّه لمّا رأى ظهور الحركات في السموات وانتقالات الكواكب وأفولها فقال لا احبّ الآفلين (2) ، ويحدس انّ مبدعها وموجدها ومحرّكها على سبيل الامداد والتشويق ليس بجسم ولا جسماني.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ الخليل - علیه السلام - لم يستدلّ بالحركة والتغيّر على وجود الواجب ، بل استدلّ بافول الكواكب على عدم كونه واجبا / 30DB / ، وأين هذا من ذاك؟!.

وفيه : انّ الاستدلال بالأفول على عدم كونه واجبا إنّما هو لأجل أنّ الأقلّ لا بدّ له من علّة توجب التغير فيه ، فيجب الانتهاء إلى ما ليس فيه تغيير أصلا ، وهو الواجب بذاته (3).

المنهج الرابع : من مناهج الحكماء ما ذهب إليه بعضهم ، وهو ما يبتنى على النظر في النفس الناطقة الانسانية.

ص: 136


1- انظر : شرح المقاصد ج 4 ص 22 ، حيث تجد تفسير التفتازاني لمرامهم مخالفا لما نسب إليهم المصنّف في كتابنا هذا ؛ ومخالفا لما نسب إليه الامام الرازي في تلخيص المحصّل ص 253.
2- ما وجدته. ولكن يوجد بين أقوال المتكلّمين ، قال الايجى : ... ما ذكره المتكلّمون من حدوث العالم وهو الاستدلال بحدوث الجواهر هي طريقة الخليل - صلوات اللّه عليه - حيث قال : لا احب الآفلين. راجع : شرح المواقف ، ج 8. ص 2. وانظر : تلخيص المحصّل ، ص 242.
3- وللطبيعيّين طرق آخر من غير النظر في الحركة. راجع : شوارق الإلهام ، ج 3. ص 495.

والمنقول عنهم طريقان :

الطريقة الأولى : انّ النفس الناطقة خارجة في كمالاتها من القوّة إلى الفعل ولا بدّ لها من مخرج ، ويجب الانتهاء إلى مخرج كان جميع كمالاته بالفعل ولا يكون مفتقرا إلى مخرج - دفعا للدور والتسلسل - ، والمخرج غير المخرج هو الواجب بالذات ؛ وهو المطلوب.

الطريقة الثانية : انّ النفس حادثة بحدوث البدن - كما يأتي - ، فهي ممكنة محدثة ، فلا بدّ لها - لامكانها أو حدوثها - من موجد. ولا يجوز أن يكون موجدها جسما لكونها مجرّدة ، وعدم جواز صدور المجرّد عن الجسم والجسماني - كما اثبتناه قبل ذلك - يوجب أن يكون موجدها مفارقا عن المادّة ، فان كان واجبا ثبت المطلوب ؛ وإلاّ ينتهى إليه - دفعا للدور والتسلسل (1) -.

وأنت تعلم انّه لا بدّ في هذه الطريقة من التمسّك بالامكان أو الحدوث ، والتفاوت إنّما هو في انّ موجد هذا الموجود المعين يجب أن يكون مفارقا ؛ مع أنّها متوقّفة على مقدّمات كثيره من اثبات تجرّد النفس وابطال التناسخ وغير ذلك.

المسلك الثاني : مسلك المتكلّمين

ولهم طريقتان :

الأولى : طريقة المتكلّمين الّذين جعلوا علّة الحاجة هي الحدوث ، فاعتبروا في اثبات الصانع مجرّد الحدوث. والثانية : طريقة المتكلّمين الّذين جعلوا علّة الحاجة هي الامكان بشرط الحدوث ، فاخذوا في اثبات الصانع الامكان بشرط الحدوث.

وتقرير الطريقة الأولى : انّ العالم بمعنى ما سوى الواجب حادث - للدلائل الدالّة عليه - ، فلا بدّ له من محدث غير حادث - دفعا للدور والتسلسل - ؛ والمحدث الغير الحادث يجب أن يكون واجبا. وإن لزم على هذه الطريقة عدم احتياج القديم وان كان

ص: 137


1- وانظر أيضا : الحكمة المتعالية ، ج 6 ، ص 44.

ممكنا إلى المؤثّر لقيام الدلالة الخارجية على امتناع وجود القديم الممكن.

وأورد عليها : بانّها مبتنية على حدوث العالم الّذي يشكل اثباته بالدليل العقلي بحيث لا يتطرّق المناقشة إليه. بل نقول : ما يصلح دليلا عليه إنّما يتمّ بعد اثبات الواجب ، وأمّا قبله فلا يمكن الاستدلال بوجه صالح للاعتماد على حدوث العالم بمعنى سوى الواجب. نعم! ، يمكن الاستدلال على حدوث العالم الجسمانى.

فالصواب أن يستدلّ به بأن يقال : انّ العالم الجسماني حادث ، فلا بدّ له من محدث ويجب الانتهاء إلى محدث غير حادث - دفعا للدور والتسلسل -.

وغير خفيّ انّ الأولى أن يستدلّ بالحوادث اليومية ويقال : لا ريب في وجود حادث من الحوادث اليومية ، فلا بدّ له من محدث ويجب الانتهاء إلى محدث غير حادث - دفعا للدور والتسلسل - ، وهو الواجب لذاته.

وتقرير الطريقة الثانية : انّ العالم - بمعنى ما سوى الواجب أو العالم الجسماني أو ما يوجد من الحوادث اليومية - ممكن حادث ، فلا بدّ له من علّة محدثة وينتهى إلى الواجب - دفعا للدور والتسلسل -.

وهذه الطريقة قريبة من السابقة تقريرا وايرادا وتوجيها.

المسلك الثالث : مسلك أهل الكشف من الصوفيّة

وتقريره : انّ ما هو غير الوجود الحقيقيّ القائم بذاته المساوق للوجوب الذاتى من المهيات الممكنة ، لا يمكن أن يوجد إلاّ باستفادة الموجودية من الوجود الصرف ، لأنّ كلّ ما هو مهيته / 31MB / غير وجوده يحتاج في اتصافه بالوجود إلى سبب ، لأنّ كلّ عرضي سواء كان لازما أو غير لازم محتاج معلّل إمّا بالماهية المعروضة أو بأمر خارج ؛ وعلّية الماهية لوجودها غير معقولة ، لأنّ العلّة يجب أن تكون متقدّمة على المعلول بالوجود ، وتقدّم الماهية على الوجود بالوجود غير معقول ، بخلاف تقدّمها على صفاتها اللازمة غير الوجود ، فالماهية يحتاج في وجودها إلى علّة خارجة ؛ ويجب أن تنتهى إلى

ص: 138

صرف الوجود - دفعا للدور والتسلسل -. ثمّ موجودية المهيات الممكنة ليست بافاضة الوجود عليها من الوجود الصرف ، وضمّ الوجود إليها وجعلها متّصفة به كما هو رأي المشائين ، لأنّ ثبوت الشيء للشيء فرع ثبوت المثبت له في نفسه ، والماهية ليست ثابتة في نفسها حتّى يمكن أن يثبت لها الوجود. وليست موجوديتها أيضا بافادة الوجود الصرف نفس ذواتها كما نسب إلى الرواقيين ، بمعنى أنّ نفس الذات بعد جعل الجاعل ايّاها كافية في انتزاع الوجود عنها ، وإلاّ كان حمل الوجود عليها كحمل الذاتيات ، وهو باطل. لأنّ الماهية من حيث هي لا يمكن أن تكون علّة للوجود ومقتضية له - لما مرّ - ، فبقي أن تكون موجودية الممكنات بارتباطها بالوجود الحقيقي / 31DA / وانتسابها إليه. فالاتحاد والتأثير والفاعلية ومرادفاتها هي افادة الجاعل الماهية مرتّبة بنفسه لا افادتها اشياء متباينة لذاته متحقّقة بانفسها ، ولذا قيل : الاثر في الحقيقة ليس شيئا مستقلاّ متميّزا عن المؤثّر. وما وجد من الآثار مستقلّة بذواتها ممتازة عن مؤثّراتها ليست آثارا لها بالحقيقة ، بل بحسب الظاهر. وليس المراد انّ وجود الأثر وجود ناعتي للمؤثّر نسبته إليه كنسبة الأعراض إلى موضوعها ، فانّ الارتباط الّذي بين الواجب والممكنات ليس بكونه محلا لها. ولذا قيل : انّ الأمثلة المذكورة في كتب العرفاء وإن كانت مقرّبة من وجه لكنّها مبعّدة من وجه آخر - كالتمثيل بالبحر والأمواج والنور والاضلال وبالشعلة الجائلة والقطرة النازلة والحركة التوسيطية - ؛ فانّ كلّ واحد من البحر والنور والشعلة والقطرة والحركة بمعنى التوسط أمر بسيط شخصي مستمرّ الوجود وراسم للمتجدّدات الّتي ليست خارجة ممتازة عنه. فانّ هذه النسب المتجدّدة المتكثّرة إنّما هي منتزعة من نفس هذا الأمر البسيط الشخصي عارضة لها ، والأشياء الممكنة ليست عارضة لذات الواجب الحقّ - تعالى شأنه - ، ولا وجوده صفة للماهيات الامكانية ، بل هي منتسبة إليه بالارتباط الصدوري ، فهو راسمها وجاعلها غير داخل فيها ولا مباشر لها. ومن حصول هذا الارتباط الصدوري ينتزع عنها الوجود وحقيقة هذا الارتباط راجعة إلى قيوميته - تعالى - للممكنات ، وتلزم هذه القيومية وجود معية بين الممكن والواجب أشدّ من معية العارض بالمعروض. ولكن لا يوجب

ص: 139

اختلاط الواجب بالممكن ولا حصول التغير والتكثّر والتجزي في ذاته ولا اتصافه بصفات المحدثات ولا ملابسته للأشياء الخسيسة ، فحقيقة هذه القيومية والمعية غير معلومة لنا بكنهها. وقد تلخّص أنّ المبدأ الأوّل الّذي هو حقيقة الوجود الصرف هو القيّوم الواجب لذاته الموجود في نفسه بنفسه لنفسه ، والمتقوّم به انّما هي نسب لا حقة واضافات عارضة لازمة له ليست موجودة اصلا لا بنفسها ولا فى نفسها ولا لنفسها ولا ممتازة مستقلّة ، بل لها الوجود الاعتباري النسبي إلى القيّوم بذاته ، فبالحقيقة ليس الموجود إلاّ الوجود الحقيقيّ الّذي هو باعتبار ذاته موجودة ، وهو مبدأ لجميع الآثار ، فمن حيث هو موجود بنفسه وقائم (1) بذاته ومبدأ للوجود الانتزاعي من غير اعتبار ارتباطه بالممكنات هو الوجود المطلق ، ومن حيث ارتباطه ومعيته بالماهيات وصيرورته مبدأ للآثار الخاصّة هو الوجود المقيّد ، فمن حيث ارتباطه بالعقول وكونه مبدأ لآثارها مرات لها ، ومن حيث ارتباطه بالنفوس وكونه مبدأ لآثارها مرات لها ، وهكذا. فهو مرآت جميع المهيات وشمس عوالم الممكنات ونور السموات والأرضين ، وبه ينال كلّ ذي حقّ حقّه وهو في غاية الظهور وبه ظهور كلّ شيء وادراك كلّ ذي ادراك. وهذا معنى قول الصوفية : انّ جميع المهيات الممكنة صور للوجود الحقيقيّ وانّ الوجود الحقيقيّ يتصوّر لجميع الصور الغير المتناهية الّتي هي تعينات الوجود بلا تغيّر ولا تكثّر ولا اختلاط ولا عروض. وما ذكروه من أنّ الوجود الحقيقيّ الّذي هو الواجب لذاته سار في هياكل الممكنات الموجودة من العقول والنفوس والافلاك والعناصر والمواليد والموجودات العقلية والمثالية ، أرادوا بالسريان ما ذكرناه من الارتباط والمعية.

وغير خفيّ انّ الاستدلال على هذا المسلك أيضا إنّما هو بوجود الممكنات ، والفرق انّ وجود الممكنات عند الصوفية ليست وجودات مستقلّة ممتازة - كما ادّعوه ويجعلون الوجود منحصرا بالواحد ، كما ذكر مفصّلا -. ولا طريق لنا إلى اثبات ما ادّعوه ، لانا نعلم (2) بالبداهة العقلية / 32MA / انّ الموجودات متعدّدة متكثّرة في الخارج ولها كثرة حقيقية عينية ، وكونها اعتبارية محضة - كما ادّعوه - مخالف لصريح

ص: 140


1- الاصل : قديم.
2- الاصل : ما ادعوه إلاّ بالعلم.

العقل والمشاهدة. وأكثرهم يقولون : انّه يعلم بطور وراء طور العقل ، مع أنّ عظمائهم - كعين القضاة الهمداني في الزبدة (1) والغزالي في فصل الخطاب (2) وغيرهما - صرّحوا بأنّ العقل حاكم لا يعزل ، وهو ميزان عدل احكامه قطعية يقينية لا كذب فيها ، وهو حاكم لا يجوز في طور الولاية ما يقضي باستحالته ، وعادل لا يتصوّر منه جور في قضاياه واحكامه.

ص: 141


1- لم اعثر على هذا الكتاب.
2- لم اعثر على هذا الكتاب. ولتصحيح العبارة المنقولة في السطرين الآتين راجع إلى ما نقله العارف الجامي في بعض حواشيه على كتابه نقد النصوص ص 24.

ص: 142

المقالة الثانية : في صفاته الثبوتية والسلبية

اشارة

ص: 143

وفيه مقدّمة وبابان.

المقدّمة : في الإشارة إلى أصناف صفاته وتعديدها على الإجمال

اعلم (1)! أنّ صفاته - تعالى - ينقسم أوّلا إلى قسمين : الثبوتية ؛ والسلبية.

والثبوتية : هى الّتي مفهوماتها ثبوتية محضة لا طريق للسلب إليها بوجه - كالعلم والقدرة وامثالهما - ؛

والسلبية : هى التى مفهوماتها / 31DB / محض السلب والنفي - كعدم كونه جسما وصورة وجوهرا وعرضا -.

والقسم الأوّل صنفان :

الأوّل : الصفات الحقيقية ؛ وهى الصفات الّتي لها مفهومات حقيقته مستقلّة ليست مجرّد الاضافة إلى الغير وإن كان بعضها قد يعرضها اضافة ما ، فبعض أفراد هذا الصنف ممّا لا يعرضه الاضافة اصلا - كالحياة - ، وبعضها قد يعرض له اضافة ما - كالعلم والقدرة والبصر ، لأنّ أصل مفهوم البصر هو صحّة الرؤية والتمكّن منها وإن

ص: 144


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 310.

لم يشاهد شيئا بالفعل ، ولذا يطلق البصير على النائم ومغضوض البصر من غير تجوّز ، ولكنّه إذا أبصر شيئا بالفعل لا بدّ من لحوق اضافة بين البصر والمبصر ؛ وليست هي عين كونه بصيرا ، بل هي عارضة له - وقس عليه العلم والقدرة وغيرهما -.

والصنف الثانى : الصفات الاضافية ؛ وهي الّتي مفهوماتها محض الاضافة إلى الغير وليس لها حقيقة مستقلّة كالخالقية والرازقية وأمثالهما (1) - ؛ هذا.

وفي احاديث ائمتنا الراشدين قد قسّمت صفاته الثبوتية إلى صفات الذات ، وإلى صفات الأفعال (2). والمراد بالأولى هي الصفات الثبوتية الّتي يمتنع انفكاكها عن الذات - كالوجود والحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحوها -. وهي صفات كمالية ثابتة له ما دام الذات ازلا وابدا. ومن خواصّها أنّه يمتنع اتصافه - تعالى - باضدادها - كالعدم والموت والجهل والعجز والصمم والعمى ونحوها - ؛

والمراد بالثاني الصفات الثبوتية الّتي لا يمتنع انفكاكها عن الذات - كالايجاد والادراك والإرادة والرؤية والسمع ونحوها -. والمنقسمان متقاربان ، فانّ حاصلهما انّ صفاته لعدم كونها موجودة في نفسها وزائدة على ذاته مفهومات اعتبارية منتزعة إمّا من ذاته - تعالى - مع قطع النظر عن جميع ما سواه - وهي الصفات الكمالية الّتي عبّر عنها أهل البيت علیهم السلام بصفات الذات ، والحكماء والمتكلّمون بالصفات الحقيقية - ، وإمّا من ذاته باعتبار بعض افعاله - تعالى - ، وهي الّتي عبّر عنها الائمّة - علیهم السلام - بصفات الأفعال ، والحكماء بالصفات الاضافية. نعم! بعض أفراد القسم الأوّل على التقسيم الأوّل - وهو الحقيقة ذات الاضافة - يدخل في القسم الثاني من القسم الثاني.

ثمّ الصفات الحقيقية سواء كانت ذات اضافة أم لا إن لم تكن عين ذات الموصوف -

ص: 145


1- وهناك تقسيم آخر في صفاته - تعالى - عند أبي هاشم وعند قاضي عبد الجبّار. راجع : مناهج اليقين ، ص 159. وانظر : نفس المصدر ، ص 227.
2- ما وجدت فيما بأيدينا من الأحاديث نصّا وجد فيه هذا التقسيم. نعم ، في بعضها توجد « صفات الافعال » ، راجع : بحار الأنوار ، ج 4. ص 145. وقال الصدوق - رضى اللّه عنه - معلّقا على ما رواه عن الصادق - عليه وعلى آبائه وأولاده آلاف التحيّة والثناء - : إذا وصفنا اللّه تبارك وتعالى بصفات الذات ... وما يشبه ذلك من صفات الأفعال بمثابة صفات الذات ... ؛ راجع : التوحيد ، ص 148.

كما في غير الواجب - كانت هيئات زائدة على الذات قائمة بها يصير منشئا لآثارها ، وإن كانت عين ذات الموصوف - كما في الواجب - كانت هي نفس الذات ولم تتحقّق بإزائها هيئات قائمة ، فالحقيقة الّتي بإزائها في الخارج هي الذات لا غير ، فالمبدأ لتلك الصفات في الأوّل هو الهيئات والكيفيات وفي الثاني هو نفس الذات.

وأمّا الصفات الاضافية فمفهومات اعتبارية محضة في الواجب وغيره ، ولا يتفاوت فيهما. نعم! يتحقّق التفاوت في مبدئها ، فانّ مبدأها وما ينتزع هذه الصفات عنه في ما صفاته عين الذات هو نفس الذات وفي غيره هو الهيئات والكيفيات القائمة به ، فالواجب - تعالى - مع اتصافه بجميع الصفات الكمالية وتقدّسه عن النقائص الامكانية لا تتحقّق كثرة في ذاته ولا في جهاته ، لا أنّ شيئا أو جهة منه علم وشيئا وجهة منه قدرة أو إرادة أو غير ذلك حتّى يلزم التركيب المقتضي للاحتياج المنافي لوجوب الوجود ، ولا أنّ شيئا فيه علم وشيئا فيه قدرة أو إرادة حتّى تكون محلاّ للاعراض ممكن الاتصاف بها (1) ، بل حيثية ذاته وهويته البسيطة الّتي لا تكثّر ولا امكان فيها بوجه هي بعينها حيثية صفاته الذاتية الحقيقية. نعم! في التعبير عنها تغاير بمجرد اعتبار الذهني وملاحظة العقل لا بحسب الواقع والخارج ، فكما أنّه من حيث هو منشأ للآثار وجود كلّه كذلك من حيث هو منشئا لانكشاف الأشياء علم كلّه ومن حيث هو منشئا لصحة الفعل والترك قدرة كلّه ومن حيث هو مبدأ لرجحان فعل العالم - أعني : النظام الأكمل والأصلح بحال العالم ، بل وجوب صدوره كذلك عنه - إرادة كلّه ، وكذلك في غيرها.

فجميع صفاته الحقيقية راجعة إلى حيثية وجوده الّتي هي عين حيثية ذاته.

وأيضا جميع صفاته الاضافية راجعة إلى اضافة واحدة هي المبدئية وهي المصحّحة لجميع الاضافات - كالرازقية والمصورية وغير ذلك - ، وتغايرها بتغاير الأشياء المضاف إليها.

ص: 146


1- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 6 ، ص 121.

وكذلك جميع صفاته السلبية يرجع إلى سلب واحد هو سلب الامكان (1) الّذي يدخل تحته سلب الجوهرية والعرضية وغيرهما.

ثمّ لا يخفى انّه لا يلزم من صدق المشتقّ حقيقة / 32MB / على شيء قيام مبدأ الاشتقاق به حقيقة ، بل لو كان مبدأ الاشتقاق - كالعلم مثلا - قائما بنفسه بحيث يترتّب عليه / 32DA / آثار المشتقّ كان احقّ باسم المشتقّ ممّا قام به المبدأ ، فاللّه - سبحانه - عالم حقيقة لا بعلم قائم به قادر لا بقدرة تقوم به مريد لا بإرادة معرضة ، بل هو نفس العلم والقدرة والإرادة ؛ وكذلك في سائر الصفات الحقيقية.

قيل : يلزم على ما ذكر أن تكون حقيقته المقدّسة مشاركة للاعراض في ماهياتها الداخلة تحت المقولات ، أو القول بالاشتراك اللفظي ؛

واجاب عنه بعض الفضلاء : بانّه كما أنّ مفهوم الوجود المطلق معنى واحد أحد افراده قائم بذاته هو حقيقة الواجب والباقى عارضة لماهيات الممكنات - وهو أمر اعتباري عارض للجميع - كذلك يمكن أن يكون لكلّ من هذه المفهومات فرد واحد بسيط هو عين حقيقة الواجب - تعالى - غير داخلة تحت مقولة وسائر أفرادها أعراض داخلة تحت المقولات ولها اجناس وفصول ، ويكون المطلق من كلّ منها اعتباريا عارضا للجميع.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب لا يكاد يتمّ.

والمشهور في الجواب : انّ ذاته - تعالى - ثابت بثبات هذه الصفات ؛ ويرد عليه أيضا اشكال.

وسيأتي تحقيق القول في العينية وما يتعلق به ايرادا وجوابا ، وانّما أشرنا إشارة اجمالية إلى عينية الصفات هنا لشدّة احتياج بعض المباحث الآتية إلى تصوّرها.

ثمّ لا يخفى انّ الواجب - تعالى شأنه - متّصف بجميع صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال ومنزّه عن جميع صفات النقائص والاحتياج على ما يومى إليه اسمائه الكثيرة الّتي وردت في الشريعة المقدّسة ، إلاّ أنّ ما تعارف عنها البحث في الكتب

ص: 147


1- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 6 ، ص 118 ؛ علم اليقين ، ج 1 ، ص 90.

الحكمية والكلامية من الصفات الكمالية والتنزيهيّة هى الأقسام المعيّنة المتعارفة المعهودة ، لاندراج البواقي تحتها ؛ فنحن أيضا نذكرها كما ذكروه ونشرحها كما شرحوه.

ص: 148

الباب الأوّل : في صفاته الثبوتية الكماليّة

اشارة

وفيه فصول.

ص: 149

ص: 150

الفصل الأوّل : في قدرته - تعالى -

اشارة

ص: 151

الفصل الأوّل

( في قدرته - تعالى - )

اعلم! أنّ للقدرة عند الحكماء تفسيرين :

أحدهما : صحّة صدور الفعل ولا صدوره (1) ؛

وثانيهما : كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل (2). والتفسيران متلازمان ، فانّ حاصلهما واحد وهو القوّة على الشيء والتمكّن من أن يفعله ومن أن لا يفعله جميعا ؛ فانّه لا ريب في انّ الفاعل إذا كان بحيث إن شاء فعل وان لم يشاء لم يفعل ، كان في ذاته مع قطع النظر عن المشية واللامشية بحيث يصح منه الفعل والترك وإن وجب الفعل بسبب المشية والترك بسبب عدمها. وإذا كان بحيث يصحّ منه الفعل والترك من حيث ذاته كان بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ، فان المراد به أنّه إن شاء فعل إذا فرض عدم مانع خارجىّ ، وكذا إن لم يشاء لم يفعل إذا لم يكن سبب من خارج ؛ ولا ريب في أنّه إذا كان من حيث ذاته يصحّ منه الفعل والترك ولم يوجد مانع ولا سبب من خارج كان بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل.

ومن ظنّ انّ تفسير الأوّل للمتكلّمين والثاني للحكماء واثبت النزاع بينهما في تفسير القدرة فقد أخطأ ، فانّ الفريقين متفقان في تحديد القدرة الكمالية وتفسيرها ، و

ص: 152


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 310.
2- راجع : الشرح الجديد ، ص 311.

لذا قد يفسّرها كلّ واحد منهما بكلّ واحد منهما نعم! المقصود من التفسيرين عند الحكماء هو أن يكون صدور الفعل منه بالعلم والمشية والإرادة ، والايجاب - المقابل للقدرة بهذا المعنى - هو أن يكون اصل الذات منشئا وسببا لصدور الفعل بلا علم وإرادة - كافعال الطبائع - ؛ وهذا قد يكون أصل الذات كافيا في صدور الفعل - كالضوء للشمس مثلا - وقد يتوقّف على بعض الشرائط - كالاحراق للنار مثلا -.

ولا نزاع بين الحكماء والمليين في ثبوت القدرة للواجب بهذا المعنى ، وقد صرّح المحقّق الطوسي - رحمه اللّه - وغيره من أهل التحقيق بأنّ الفلاسفة متّفقون على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى -.

ويمكن أن يكون مقصودهم من التفسيرين - على ما ذكره جماعة - امكان صدور الفعل والترك بالنظر إلى ذات الواجب - تعالى شأنه - ، وإن وجب الفعل بالنظر إلى الداعى واستحال انفكاكه - تعالى - عن ايجاد العالم. فلذلك بعض المحصلين قد ادّعى اتفاق الفلاسفة على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى -.

ولكن الحقّ أنّ هذه الدعوى غير مطابقة للواقع. وسيأتي تفصيل القول وتحقيق الحقّ في ذلك.

وأمّا المتكلّمون فيقولون : انّ المراد من التفسيرين انّه ليس شيء من الفعل والترك لازما بالنظر إلى ذاته ولا بالنظر إلى الداعي ، فلا يستحيل انفكاكه - تعالى - عن شيء منهما ؛

إلاّ أنّ الأشاعرة من المتكلّمين قالوا : انّه لا يستحيل الانفكاك / 32DB / في أيّ وقت فرض ولو وجد الداعي ؛

والمعتزلة منهم قالوا : انّه لا يستحيل الانفكاك في الأزل ، لأنّهم قالوا : يمتنع انفكاك ذاته عن ايجاد العالم في الوقت الّذي أراد وأوجد ، وانّما لا يمتنع انفكاكه في الأزل - ويأتي بيان ذلك مفصّلا -. فعلى المذهبين يصدق أنّ شيئا من الفعل والترك ليس لازما لا بالنظر إلى ذاته - مطلقا - ولا بالنظر إلى الداعي - في الجملة - وإن اختلفا في عدم اللزوم بالنظر إلى الداعي في استغراق الاوقات وعدمه. والايجاب المقابل لهذا

ص: 153

المعنى هو وجوب الفعل واستحالة الترك - أي : امتناع انفكاك ذاته تعالى عن ايجاد العالم في الجملة -

فالمقابل للقدرة عند الأشاعرة هو امتناع الانفكاك ولو في وقت الايجاد ووجود الداعى ، والمقابل للقدرة عند المعتزلة هو امتناع الانفكاك في الأزل لا عند وجود الداعي - أعني : وقت الايجاد -.

ثمّ القدرة بهذا المعنى تفرّد باثباتها المتكلّمون ؛ ونفاها الحكماء ، وقالوا بالايجاب المقابل لها (1). وعلى هذا ثبت النزاع بين الحكماء والمتكلّمين في مقامين : الأوّل ما وقع بين الحكماء والأشاعرة من المتكلّمين ، وهو : انّ الحكماء ذهبوا إلى أنّ معنى صحّة صدور الفعل ولا صدوره هو مجرّد الامكان الذاتي - أي : امكان صدور الفعل ولا صدوره بالنظر إلى ذات الفاعل من حيث هي هي -. وليس معنى الصحّة بمعنى الامكان الوقوعي المستلزم لوقوع الانفكاك بين الواجب وبين الفعل حتّى يمكن وقوع الصدور ، واللاصدور ، لأنّهم يوجبون صدور الفعل مع الإرادة ، والإرادة عندهم عين الذات ، فلا يتخلّف الفعل عنه - تعالى -.

فان قيل : الإرادة وغيرها من الصفات الكمالية إن كانت عندهم عين الذات لكان اعتبار ذاته - تعالى - عندهم اعتبار ارادته وساير صفاته الكمالية وبالعكس ، وكذا عدم اعتبار ذاته هو بعينه عدم اعتبار ارادته وساير صفاته الكمالية وبالعكس ، فلا يمكن تصوّر الانفكاك بينهما وجودا وعدما وإلاّ يلزم (2) الانفكاك بين الشيء ونفسه ، وهو يستلزم عدم امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات أيضا عند الحكماء ؛

قلت : هذه شبهة نتعرّض لها بعد ذلك ونبحث عنها. فهم - أي : الحكماء - يجعلون مقدّم الشرطية الأولى في التفسير الثاني واقعا ، بل واجبا ، ومقدّم الشرطية الثانية فيه غير واقع ، بل ممتنعا ؛ ويقولون : لكنّه شاء وفعل. والأشاعرة يقولون : معنى الصحّة هو الامكان الوقوعى الموجب لانفكاك الفعل عنه - تعالى - في أيّ وقت فرض ولو في

ص: 154


1- راجع : الدرّة الفاخرة ، ص 26.
2- الاصل : لزم.

آن الحدوث ، / 33MA / فيجوز الصدور واللاصدور في الواقع. ولا يمتنع عدم الصدور لا من جهة الذات ولا من جهة الإرادة ، لأنّ الفعل لا يجب عندهم مع الإرادة أيضا باعتبار انّ تعلّق الإرادة غير واجبة. ولا نزاع بين الحكماء وأكثر المعتزلة في وجوب الصدور ، إلاّ أنّهم يقولون بالوجوب في آن الحدوث لا في الأزل ، فانهم قائلون بوجوب صدور الفعل مع الإرادة ومعتقدون بأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وانّ بالإرادة يجب صدور العالم عن اللّه - تعالى - في الوقت الّذي يقتضيه الداعي - كالعلم بالاصلح أو المصلحة أو ذات الوقت - ، ويمتنع في غير ذلك. فهم ليسوا قائلين بامكان صدور الفعل والترك بالامكان الوقوعي مطلقا - أي : ولو في آن الحدوث - ، لانّهم موافقون للفلاسفة في أنّ الايجاد وعدم الايجاد ممكن بالنسبة إلى الذات بدون اعتبار الإرادة وواجب مع اعتبار الإرادة الّتي هي عين الذات ، فهم لا يقولون بالامكان الوقوعى في آن الحدوث.

فان قيل : الامكان الوقوعى يتصوّر هنا على وجهين : أحدهما : الامكان الوقوعى بالنظر إلى ذات الفاعل فقط بدون اعتبار الإرادة وغيرها ؛ وثانيهما : الامكان الوقوعي بالنظر إلى ذات الفاعل مع الإرادة ، والامكان الوقوعي بالوجه الثانى وان لم يقل به الحكماء اصلا والمعتزلة في آن الحدوث ويختصّ الاشاعرة باثباته له - تعالى - ، إلاّ أنّ الحكماء والمعتزلة قالوا بالامكان الوقوعى بالوجه الأوّل ، لأنّهم قالوا بامكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل ؛

قلت : الامكان الوقوعي هو صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الواقع نفسه ، لا بالنظر إلى الذات والصفة واعتبار مرتبة من مراتب تحليل العقل. ولا ريب أنّ امكان الصدور بالنظر إلى الذات مع كون الإرادة مانعة من اللاصدور لا يصحّح الامكان بالنظر إلى الواقع نفسه ، لأنّ الإرادة يوجب الصدور في الواقع ، فلا يتحقّق الامكان فيه ، فالامكان الوقوعى لا يثبت على مذاق الحكمة والاعتزال.

الثاني : ما وقع بين الحكماء والمعتزلة من المتكلّمين ، وهو : انّ الحكماء لمّا اوجبوا الصدور وأحالوا اللاصدور لزمهم القول بقدم العالم ، ولذا قالوا به ؛ والمعتزلة خالفوهم ولم يقولوا بالقدم / 33DA / بل قالوا بحدوث العالم.

ص: 155

فان قلت : الاشعرية أيضا قائلون بحدوث العالم ، فما وجه تخصيص هذا النزاع بالفلاسفة والمعتزلة؟ ؛

قلت : المراد انّ أثر النزاع في القدرة والايجاب بين الحكماء والمعتزلة ليس إلاّ في قدم العالم وحدوثه - لأنّ الايجاب يستلزم القدم والاختيار يستلزم الحدوث - ، بل التحقيق - كما قيل - : انّ امتناع انفكاك العالم عن ذاته - تعالى - وامكان انفكاكه عنه معنى رابطي بين الفاعل - الّذي هو اللّه تعالى - وبين العالم - هو الفعل -. وهذا المعنى إن اعتبر من طرف الفاعل ويجعل صفة له سمّى بالايجاب والاختيار ، وان اعتبر من طرف الفعل سمّى بالقدم والحدوث ، فانّ المعتزلة لمّا وافقوا الحكماء في وجوب الفعل مع الإرادة وامكانه بدونها لا تبقى معهم مخالفة للحكماء في القدرة والايجاب إلاّ فيما يترتّب عليهما من القدم والحدوث ؛ وأمّا الاشاعرة لمّا قالوا بصحّة الفعل والترك بالامكان الوقوعي وعدم وجوب صدور الفعل مع الإرادة أيضا فلم يقولوا بالايجاب مطلقا ، والفاعل في ايجاد العالم عندهم قادر مختار ، ولو فرض قدم العالم. فالمراد انّ أثر النزاع بينهم وبين الحكماء في القدرة والايجاب ليس في القدم والحدوث ، لا أنّهم ليسوا قائلين بالحدوث.

فحاصل كلام الأشعرية انّ تأثير الواجب - تعالى - في ايجاد العالم ليس بايجاب أصلا ، بل بالقدرة والاختيار ؛ بل جوّزوا تأثير الفاعل المختار بلا مرجّح بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس إرادة الفاعل المختار. فالنزاع حقيقة بين الأشعرية والحكماء في مقامين : أحدهما : في أنّ ايجاد الفاعل المختار يجوز بلا مرجّح يوجب الفعل أم لا ؛ وثانيهما : في حدوث العالم وقدمه. فهم - أي : الأشعرية - قالوا : انّ اللّه - تعالى - احدث العالم في الوقت الّذي أراد في الأزل أن يحدثه بدون مرجّح غير تعلّق الإرادة ، وبالإرادة والاختيار يمكن الترجيح بدون المرجّح ، ولا يصير الفعل مع الإرادة واجبا. فحاصل النزاع بين الحكماء والمعتزلة هو أنّ الحكماء لمّا ذهبوا إلى وجوب الفعل عليه - تعالى - دائما وقالوا لا يمكن أن يتصوّر خلوه - تعالى - عن الفعل ولو في وقت موهوم أو في عدم بحت وليس محض لو وجد فيه موجود لكان ممتدّا ، ألجئوا إلى القول بالقدم ، فهم قائلون بالايجاب المطلق. والمعتزلة لمّا ذهبوا إلى أنّه

ص: 156

لا يجب عليه الفعل دائما - بل قالوا بوجوبه في وقت خاصّ - فهم قائلون بالحدوث وبالايجاب الخاصّ ، وهو ايجاب وجود الحادث بالنظر إلى علم الفاعل بنظام الخير ومصالح الغير.

وعلى ما ذكر يتحقّق نزاعان : أحدهما بين الاشعرية وبين ساير المتكلمين والحكماء ، وهو : أنّه هل يحب عنه - تعالى - فعل أم لا ؛ فباقي المتكلّمين والحكماء على الأوّل والأشعرية على الثاني ؛ والثاني بين المعتزلة والحكماء ، وهو : أنّه هل يحب عنه - تعالى - الفعل دائما أو في وقت ما ؛ والأوّل مذهب الحكماء والثاني مذهب المعتزلة.

وعلى هذا فصحّة الفعل والترك عند الحكماء مجرّد الامكان الذاتي لا غير مطلقا ، وعند الأشاعرة الامكان الوقوعي مطلقا ، وعند المعتزلة مجرّد الامكان الذاتي في آن الحدوث وما يعمّ الوقوعي في الأزل.

ولقائل أن يقول : الإرادة عند المعتزلة عين الذات وهي قد تعلّقت في الأزل بايجاد العالم في الوقت / 33MB / الّذي احدثه اللّه - تعالى - فيه ، وهذا كما يستلزم ايجابا خاصّا هو وجوب صدور الفعل في آن الحدوث وعدم انفكاك ذاته - تعالى - عن ايجاد العالم في ذلك الوقت يستلزم ايجابا خاصّا آخر وهو وجوب عدم صدور العالم عنه - تعالى - قبل ذلك ولزوم انفكاك ذاته - تعالى - عن ايجاد العالم فى الأزل ، فيلزم على طريقة المعتزلة أن يكون معنى صحّة الفعل والترك في الأزل أيضا مجرّد الامكان الذاتي دون الوقوعي - لوجوب عدم صدور الفعل ولزوم الانفكاك بينه وبين الفعل في الأزل - ، فهم قائلون بوجوب عدم الفعل في وقت وبوجوب الفعل في آخر ؛ والحكماء قائلون بوجوب الفعل دائما ؛ والاشعرية قائلون بعدم وجوب الفعل والترك في أيّ وقت فرض ، وعلى هذا فلا يمكن أن يتحقّق عندهم الامكان الوقوعي الّذي هو بمعنى وقوع كلّ من الفعل والترك بدلا عن الآخر في وقت. نعم! لمّا وقع كلّ منهما في وقت - لأنّ الترك وقع في الأزل والفعل في آن الحدوث - فيمكن أن يقال بتحقّق الامكان الوقوعي لهما عندهم ، / 33BD / فانّ الامكان الوقوعي للشيء يتصوّر على وجهين :

ص: 157

أحدهما : جواز وقوعه ولا وقوعه في كلّ وقت ؛ وثانيهما : تحقّق وقوعه في وقت ولا وقوعه في وقت آخر ، فيثبت الامكان الوقوعي للفعل وتركه بمعنى كون أحدهما في وقت والآخر في وقت آخر ، لا بمعنى كون كلّ منهما بدلا عن الآخر ؛ فتأمّل!.

ثمّ الظاهر انّ القول بصدور الفعل في الوقت الخاصّ على سبيل الوجوب إنّما هو من بعض المعتزلة ، لأنّ اكثر قدمائهم صرّحوا بأنّ الصدور في الوقت الخاصّ إنّما هو على سبيل الأولوية دون الوجوب. قال المحقّق الطوسي - رحمه اللّه - في شرح الاشارات : والقائلون بحدوث العالم افترقوا إلى ثلاث فرق : فرقة اعترفوا بتخصيص آن أوّل الايجاد بالحدوث لوجود علّة لذلك التخصيص غير الفاعل ، وهم جمهور قدماء المعتزلة من المتكلّمين ومن يجري مجراهم. وهؤلاء يقولون بتخصيصه على سبيل الاولوية دون الوجوب ، ويجعلون علّة التخصيص مصلحة تعود إلى العالم ؛

وفرقة قالوا بتخصيصه بذات الوقت على سبيل الوجوب ، وجعلوا حدوث العالم في غير ذلك الوقت ممتنعا ، لأنّه لا وقت قبل ذلك الوقت. وهو قول أبي القاسم البلخي المعروف بالكعبي ومن تبعه ؛

وفرقة لم يعترفوا بالتخصيص خوفا عن (1) التعليل ، بل ذهبوا إلى أنّ وجود العالم لا يتعلّق بوقت ولا بشيء آخر غير الفاعل وهو ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) (2). أو اعترفوا بالتخصيص وانكروا وجوب استناده إلى علّة غير الفاعل ، بل ذهبوا إلى أنّ للفاعل المختار أن يختار أحد مقدوريه على الآخر من غير تخصيص ، وهم أصحاب أبي الحسن الأشعري ومن يحذوا حذوه ، وغيرهم من المتكلّمين المتأخّرين (3) ؛ انتهى.

ومذهب المحقّق الطوسى - رحمه اللّه - من المذاهب الثلاثة الّتي نقلها - على ما نسب إليه في المشهور - هو المذهب الأوّل ، إلاّ أنّه قال : انّ التخصيص بالوقت الخاصّ إنّما هو على سبيل الوجوب ؛ ويأتي ما فيه.

ص: 158


1- الاصل : + العجز عن.
2- كريمة 23 ، الأنبياء.
3- راجع : شرح الاشارات - المطبوع مع المحاكمات - ، ج 3 ، ص 131 ؛ شرحي الاشارات ، ج 1 ، ص 238.

ثمّ الظاهر من كلام بعض الأفاضل انّ المعتزلة مع اتفاقهم على الحدوث افترقوا أوّلا إلى فرقتين : فرقة قالوا بعدم زيادة الإرادة على الذات بل قالوا بعينيتها ووجوب الأصلح كالمحقّق الطوسي - رحمه اللّه - وواصل بن عطاء والنظام ؛

وفرقة قالوا بزيادة الإرادة وحدوثها كالجبائية وعبد الجبار. وهؤلاء افترقوا فرقتين : وفرقة قالوا بوجوب الصدور في وقت الحدوث ؛

وفرقة قالوا بأولويته فيه. وعلى هذا يكون النزاع بين الأشعرية وبين الفرقة الاولى من المعتزلة في حدوث الإرادة وعينيتها وفي عدم وجوب الفعل ووجوبه ؛ وبينهم وبين الفرقة الثانية في مجرّد عدم وجوب الفعل ووجوبه ؛ وبينهم وبين الفرقة الثالثة في مطلق الجواز والأولوية.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ القدرة والايجاب يطلقان على أربعة معان :

الأوّل : كون القدرة عبارة عن صدور الفعل من الفاعل بالمشيئة والإرادة والعلم ، وإن استحال انفكاكه عنه ولو بالنظر إلى الذات. والايجاب المقابل لها هو كون الذات منشئا وسببا له بلا علم وإرادة - كافعال الطبائع - ، ويقال له : الايجاب الطباعي. واتفق الحكماء والمليون على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى - ونفى الايجاب المقابل لها عنه ؛

الثّاني : كون القدرة عبارة عن امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل من حيث هو فاعل بالامكان الذاتي وإن وجب صدور الفعل بالنظر إلى شيء آخر من الداعي أو غيره ، / 34MA / والايجاب المقابل لها هو امتناع الترك من الفاعل لذاته لا لأجل شيء آخر من الإرادة الداعية أو غيرها. وقد صرّح الأكثرون باتفاق الفلاسفة والمليين على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب ونفي الايجاب المقابل لها عنه - تعالى -.

وفيه : انّ الفلاسفة مصرّحون بامتناع ترك الصدور عن الواجب بالنظر إلى الإرادة الّتي هي عين الذات ، فعدم الصدور عندهم ممتنع بالنظر إلى الذات ، فكيف

ص: 159

يكون الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل ممكنا عندهم بالامكان الذاتي؟!.

فان قيل : المراد من القدرة بهذا المعنى هو الامكان بالنظر إلى ذات الفاعل مع قطع النظر عن الإرادة ، لا معها ؛

قلنا : لمّا كانت الإرادة في الواجب عين الذات فقطع النظر عنها هو بعينه قطع النظر عن الذات. اللّهم إلاّ أن يقال : الإرادة عندهم هو العلم بالأصلح وهذا العلم وإن كان عين الذات من حيث المبدأ إلاّ أنّه لمّا كان من حيث اعتبار الغير من غير ملاحظة نظام الخير فالموجب بالحقيقة هو غير الذات من الدواعي ، - وسيجيء لذلك زيادة بيان -.

الثالث : كون القدرة عبارة / 34DA / عن امكان الفعل والترك امكانا وقوعيا في وقت من الأوقات وإن كان وقتا موهوما - اي : امكانهما بالنظر إلى الداعي ونحوه من شرائط التأثير المجوّزة لكل منهما في وقت ما وإن وجب في وقت آخر - ، فلا ينافيه الوجوب في وقت آخر ، بل المنافي له هو الوجوب في جميع الأوقات. والايجاب المقابل لها هو امتناع الترك بالنظر إلى الداعى ونحوه من الشرائط المقتضية لعدم انفكاك الفاعل عن الفعل ؛ وبالجملة امتناع انفكاك ذاته عن ايجاد العالم في الأزل لأجل الدواعى والشرائط الموجبة. والقدرة بهذا المعنى ممّا نفاه الفلاسفة وقالوا بايجاب المقابل لها. والمعتزلة متّفقون على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى - ونفي الايجاب المقابل لها عنه - سبحانه -.

الرابع : كون القدرة عبارة عن امكان الفعل والترك بالامكان الوقوعي في جميع الأوقات - أي : امكانهما بالنظر إلى الداعى وغيره من شرائط التأثير المجوّزة لكلّ منهما في جميع الأوقات -. والقدرة بهذا المعنى ينافيها الوجوب مطلقا ، والايجاب المقابل لها هو امتناع الترك من جهة لزوم الداعي ونحوه من شرائط التأثير في وقت من الأوقات ، ويعبّر عنه بالايجاب الخاصّ. والاختيار بهذا المعنى اثبته الأشاعرة له - تعالى - ونفاه الفلاسفة. والمعتزلة قالوا بالايجاب المقابل له - أعني : الايجاب الخاصّ - وهو الاختيار الّذي قالوا به. والفلاسفة قالوا بالايجاب المطلق.

ص: 160

وإذ تقرّر ذلك فلا بدّ لنا من بيان أنّ الثابت للجواب - تعالى شأنه - من المعاني الأربعة للقدرة ما ذا؟ ، والحقّ من المذاهب المحرّرة للعقلاء في هذا المقام أيّها؟.

فنقول - وباللّه التوفيق - : انّه لا ريب في ثبوت القدرة بالمعنى الأوّل للواجب - تعالى - ، كما أجمع عليه الكلّ. ويدلّ عليه ما يأتي من اثبات العلم والمشية والإرادة له - تعالى -. والقدرة بهذا المعنى صفة تؤثّر على وفق العلم والإرادة. وهي فينا من الكيفيات النفسانية وفي الواجب هي كون ذاته - تعالى - بحيث يصدر عنه الموجودات لأجل علمه بنظام الخير. فاذا اعتبر ذاته من حيث أنّ الممكنات صادرة عنه كان قدرة ، وإذا اعتبر من حيث أنّها منكشفة له كان علما. والفاعل إذا تعلّق فعله بعلم ومشية كان قادرا من غير أن يعتبر معه شيء آخر من تجدّد اعراض واختلاف دواع أو تفنن ارادات أو سنوح حالات (1) ، فانّ القدرة تتعلّق بالمشية سواء كانت المشيّة يصحّ عليها التغيير أولا. وعلى هذا فالقادر المختار من إن شاء فعل وإن لم يشاء فلم يفعل ، سواء شاء ففعل دائما أو لم يشاء فلم يفعل دائما. والشرطية غير متعلّقة الصحّة بصدق من كلّ من طرفيها ، بل قد يصحّ أن يكون أحد طرفيها أو كلاهما ممّا يكذب ، فانّ مثل الظلم والكذب ممّا لا يتعلّق مشية اللّه بفعله ولا يريده ، مع انّه قادر عليه. ومثل النقيضين ممّا لا يتعلق المشية بفعله - لامتناع اجتماع النقيضين - ، ولا بتركه - لامتناع ارتفاعهما - ، ففي مثله ممّا يمتنع وجوده وعدمه يصدق كذب تعلّقها بكلي طرفي الشرطية مع أنّه - تعالى - قادر على فعله وتركه ؛ وعلى هذا فالفعل الاختياري إذا صدر عنّا توقّف على مباد أربعة : / 34MB / العلم ، والقدرة - بمعنى القوّة والتمكّن - ، والمشية ، والإرادة. وهذه صفات قائمة بذواتنا زائدة عليها.

وقد ينفكّ بعضها عن بعض ويستحيل صدور الأفعال الاختيارية عمّن يفقد كلّها أو بعضها ، فالفعل الاختياري هو ما يصدر عن الفاعل بتلك المبادي ؛ والقادر المختار من يصدر عنه الفعل بتلك المبادي. فلو فرضنا أنّ تلك المبادي حاصلة لواحد منّا بالقياس إلى فعل مخصوص دائما لكان صدوره عنّا دائما ، ولا يقدح ذلك في كون

ص: 161


1- الاصل : خيالات.

الفعل اختياريا ولا في كون ذلك الفاعل قادرا مختارا.

ثمّ الحكماء لمّا ذهبوا إلى أنّ صفاته - تعالى - عين ذاته قالوا : انّ مبادي الافعال الاختيارية - من العلم والمشيّة والإرادة - تكون حاصلة له - تعالى - دائما ، فيدوم عنه صدور الفعل بسبب دوام تلك المبادي. فمقدّم الشرطية الأولى عندهم واقع ، بل ضروري ذاتي ؛ ومقدّم الشرطية الثانية غير واقع ، بل ممتنع امتناعا ذاتيا ، وقالوا : ليس ذلك منافيا لقدرته - تعالى -. فالقول بتأثيره - تعالى - بالاختيار بهذا المعنى ليس مختصّا بالمليين ، بل الحكماء أيضا قائلون بذلك ، فالايجاب المقابل له - أي : صدور الفعل بدون العلم والإرادة والمشية - ممّا لم يقل به أحد.

ولا يخفى عليك انّ القدرة بهذا المعنى - أعني : صدور الفعل بالعلم والإرادة والمشية - ممّا لا ريب في اتصاف الواجب - تعالى - بها وفاقا للكلّ ، ونحن - : معاشر المليين - متفقون للفلاسفة في اثباتها له - تعالى - ، إلاّ أنّ كلامنا معهم في وجوب صدور الفعل عنه دائما ووقوع مقدّم الشرطية الأولى / 34DB / دائما ، فانّه يلزم منه قدم العالم ونحن لا نقول به ؛ وسيجيء تحقيق الكلام فيه.

وأمّا القدرة بالمعنى الثاني - أعنى : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات - ، فلا ريب في اتصافه - تعالى - به أيضا كما اجمع عليه المليون ونسب إلى الحكماء أيضا. ويدلّ عليه : انّ الموجود بمحض ما هو موجود يمكن اتصافه بالقدرة بهذا المعنى ، ولا يمتنع عليه ذلك إلاّ أن يمنعه مانع زائد على نفس معنى الموجود ؛ وقد تقدّم ويأتي انّ واجب الوجود حقيقته صرف الوجود ومحضه لا يطمح فيه شيء غير نفس الوجود والموجود ، فاذن هذه الصفة ، أعني : القدرة بهذا المعنى - ممكنة له. ولا ريب أنّ كلّ ما يمكن له يجب أن يكون ثابتا له بالفعل ، لأنّه لو امكن له شيء ما ولم يكن حاصلا له بل كان بالقوّة لكانت ذاته حينئذ خالية بذاتها عن ذلك الشيء قابلة له ، فيحتاج إلى فاعل يوجد هذا الشيء فيها ؛

فان كان فاعل هذا الشيء وموجده فيها هو واجب الوجود نفسه كان الفاعل والقابل شيئا واحدا ، وهو باطل ؛ لأنّ الفاعل شأنه الافاضة والقابل شأنه

ص: 162

الاستفاضة ، وهما متقابلان - لأنّ الافاضة اعطاء المفيض ما هو واجده والاستفاضة قبول المستفيض ما هو فاقده - ، فلو كانا شيئا واحدا لكان ذلك الواحد مقابلا لنفسه وكان واحدا فاقدا لشيء واحد ؛ وفساده بيّن. نعم! يمكن أن يكون شيء واحد ذا جهتين يفيض بإحداهما ويستفيض بالأخرى ، ومثل هذا يجب أن يكون مركّبا لا يمكن أن يكون واجب الوجود - كما يأتي -.

وان كان الفاعل والموجد لهذا الشيء فيها شيئا آخر فان كان هذا الشيء الآخر واجبا لم يكن ما فرضناه واجبا واجبا - لافتقاره إلى الغير الّذي هو الواجب بالذات - ؛ وان كان ممكنا وكلّ وجود ممكن يرجع إلى الواجب فان رجع إلى واجب آخر غير ما فرضناه واجبا لزم خلاف الفرض أيضا ، وان رجع إلى الواجب الّذي فرضناه واجبا كان الواجب مع لزوم كونه محتاجا إلى الممكن - وهو أشنع كلّ محال! - فاعلا أيضا لما هو قابل له ، وان كان بتوسّط - لعدم الفرق في استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا بين أن يكون ذلك بغير توسّط أو بتوسّط -. فكلّ صفة ممكنة للواجب - تعالى - يجب أن يكون متّصفا بها بالفعل من غير انتظار. والقدرة بهذا المعنى من الصفات الممكنة له ، فيجب اتصافه - تعالى - بها بالفعل.

وأورد عليه ايرادات ثلاثة :

الاول : انّه يلزم منه أن يكون الفاعل بالطبع فاعلا مختارا إذا لم يكن اقتضاه تامّا ، بل كان مشروطا بشرط مفارق عن طبيعته لصدق صحّة الفعل والترك عنه بالنظر إلى ذاته ، بل في نفس الأمر لامكان عدم تحقّق ذلك الشرط فيه ؛

وردّ بأنّ الشعور والإرادة معتبرتان في الفاعل المختار.

الثانى : انّه يلزم منه أن يكون الواجب - تعالى - ممكن الفاعلية / 35MA / واللافاعلية ، فلا يكون تامّ الفاعلية مع أنّ فاعليته ثابتة ، وليس فيه جهة امكانية وقوّة ، ولا قدرته داخلة تحت مقولة من المقولات ، بل هو واجب الوجود من جميع الجهات وصفاته فعلية بكلّ الحيثيات ؛ وبالجملة يلزم من ثبوت القدرة بهذا المعنى له - تعالى - أن يكون له - تعالى - شوب قوّة وجهة امكانية. وقد بيّنتم أنّ كل ما

ص: 163

يمكن له - تعالى - فهو متّصف به بالفعل ، فاذا كان الصدور واللاصدور ممكنين له - تعالى - يلزم أن يكون له - تعالى - في كلّ وقت قوّة أحدهما ويكون أحدهما في كلّ وقت بالنسبة إليه - تعالى - بالقوّة ، وهو باطل ؛

والجواب : انّ المراد بانّ كلّ ما للواجب هو بالفعل : انّ كلّ صفة كمالية له - تعالى - ثابتة له - تعالى - بالفعل وليست له بالقوّة - بمعنى أن لا يوجد له في وقت ويحصلها في وقت آخر - ، ولا ريب أنّ القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته الاقدس صفة كمالية له - تعالى - ، لانّ القادر على الفعل والترك أشرف ممّن لا يقدر على أحدهما ، وهو ظاهر بيّن ؛ فيجب أن تكون تلك الصفة ثابتة له في كلّ وقت بالنظر إلى ذاته. فلو وجب بالنظر إلى ذاته الفعل أو الترك فقط يلزم أن يكون موجدا لكلّ فاقد لتلك الصفة الكمالية ، بل عاجزا ، لأنّ الفرض حينئذ عدم اقتداره على الفعل أو الترك واقتداره على كلّ واحد منهما لا ينثلم به فعلية صفاته وكمالاته ولا ينقدح به فاعليته التامّة ، لأنّ لزوم الفعل دائما بالنظر إلى الذات من غير اقتدار على الترك ليس من الصفات الكمالية ، بل هو نقص ما هو صفة كمالية - اعني : الاقتدار عليهما معا حاصل / 35DA / له بالفعل والفاعلية التامّة أن يوجد مع الإرادة والمشية ، لا بدونهما -.

ثمّ بعض الأعاظم قال في تقرير الايراد المذكور : انّ الامكان المذكور - أي : الامكان بالنظر إلى الذات - إمّا وصف للفاعل بأن يكون الفاعل ممكن الفاعلية واللافاعلية ، أو وصف للمفعول بأن يكون المعلول ممكن الصدور وممكن اللاصدور بالنظر إلى ذاته ؛ وكلاهما باطل عند الحكماء ؛

أمّا الأوّل فلانتفاء الجهة الامكانية عن الواجب - تعالى شأنه - عندهم ، فانّهم قالوا : واجب الوجود بالذات واجب الوجوب من جميع الجهات ؛

وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان كذلك لزم أن يكون كلّ فاعل مختارا وكلّ فعل مقدورا ، لأنّ افعال الفواعل الموجبة أيضا ممكنة الصدور واللاصدور ، لأنّ كلّ معلول ممكن لا ينفكّ عنه الامكان الذاتي.

ص: 164

وأجاب عنه بعض الافاضل (1) : بأنّ الامكان هاهنا إنّما هو الامكان بالقياس إلى الغير ومعناه عدم اقتضاء ذات الفاعل شيئا منهما ، لا الامكان بالمعنى المصطلح - أي : الامكان الخاصّ الذاتى المفسّر بعدم اقتضاء الذات شيئا من الوجود والعدم -. وحينئذ فيمكن اختيار كلّ من الشقين ؛

أمّا الأوّل : فلأنّه لا محذور في جعل عدم الاقتضاء وصفا للفاعل ، إذ لا يلزم منه تطرّق شوب الامكان بالمعنى المصطلح عليه أصلا ؛

وأمّا الثاني : فلانّه إذا كان وصفا للمفعول كان بمعنى كونه بحيث لا يقتضي الفاعل شيئا من طرفيه ، وظاهر انّ افعال غير المختارين ليس كذلك ، إذ الفاعل يقتضي الوجود فيها البتة والامكان الضروري للممكن انّما هو الامكان الذاتي ، وليس الكلام فيه ؛ فتأمّل!.

ثمّ قال : فان قلت : ايجاد العالم صفة له - تعالى - وهو على ما ذكرتم ليس بواجب ، بل ممكن بالنسبة إلى ذاته - تعالى - ، فقد تحقّق له - تعالى - صفة ممكنة وهو ينافي ما قالوا : « انّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات » ؛ وحينئذ نقول في توجيه كلام المورد : انّه إن اريد بالامكان الامكان بالقياس إلى الغير فيستلزم البتّة ثبوت صفة ممكنة للواجب - تعالى - وانّه محال ؛ وإن اريد الامكان الذاتي الّذي هو صفة للمعلول ، فافعال غير المختارين أيضا كذلك ، وايراد الشق الثاني مع ظهور انّه ليس بمقصود على سبيل الاستظهار ؛

قلت : الظاهر انّ المراد بقولهم : واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات : انّه ليس لواجب الوجود جهة فضيلة / 35MB / بالقوّة وكمال منتظر ، بل كلّ كمال وفضيلة وشرافة ثابتة له - تعالى - بذاته بالفعل بلا شائبة أمر بالقوة اصلا ، وعلى هذا فهو ممّا لا دخل له بما ذكرت اصلا ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ جوابه هذا يرجع إلى ما ذكرناه.

ثمّ قال : ولو سلّم انّ مرادهم انّه ليس له صفة ممكنة فنقول : ليس المراد انّ كلّ

ص: 165


1- في هامش « د » : جمال الدين محمّد الخوانساري - ره -. منه مدّ ظلّه.

صفة يجب أن يكون مفيض ذاته بذاته ، بل يجب أن يكون امّا مقتضى ذاته بذاته أو مع اعتبار صفة اخرى ، وحينئذ فلا ايراد ؛ إذ نحن أيضا نقول : انّ ايجاد العالم واجب له - تعالى - مع اعتبار الإرادة ، وانّما نقول انّه ليس بواجب بالنسبة إلى ذاته بذاته ، ولا ضير فيه ؛ انتهى.

وقيل في دفع الايراد المذكور (1) : انّ مرادهم من قولهم : واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات : انّه لا يمكن أن يكون في ذاته جهة وحيثية امكانية بحسب الواقع ونفس الأمر ، لا أنّه بجميع الجهات والاعتبارات الفرضية العقلية الّتي بمحض تحليل العقل واعتبار المعتبر واجب ، فانّهم صرّحوا بأنّ ذاته - تعالى - من حيث هي نائب مناب بعض الصفات ومنشئا لآثاره معلول ومتأخّر عن ذاته من حيث هي نائب مناب صفة أخرى ومنشئا لآثارها.

وقال الشيخ في سابع ثامنة إلهيات الشفا : ولا نبالي بأن تكون ذاته - تعالى - مأخوذة مع اضافة ما ممكنة الوجود ، فانّها من حيث هي علّة لوجود زيد ليست واجبة الوجود ، بل من حيث ذاتها (2) ؛

وعلى هذا فلا مانع من أن يكون الواجب من حيث أنّه موجد للعالم ومؤثّر فيه ممكنا. بمعنى أنّ هذه الصفة - أعني : ايجاد العالم - لمّا كانت صفة اضافية أحدث مع الذات ، فالذات مع اعتبارها ليست واجبة.

وهذا الجواب قريب من الجواب الأخير الّذي نقلناه من بعض الأفاضل من أنّ بعض الصفات انّما يجب من اعتبار صفة أخرى لا من مجرّد الذات ، لأنّ المراد من عدم وجوب الذات المأخوذة مع اضافة ما انّ هذه الإضافة الّتي هي صفة اضافية لا يلزم أن تكون واجبة بالنظر إلى الذات ، بل وجوبها يتوقّف على صفة أخرى.

وحاصل الجواب يرجع إلى أنّ الصفات الّتي يجب للواجب لذاته هي الصفات الذاتية الحقيقية ، دون الصفات الاضافية ؛ هذا.

ص: 166


1- في هامش « م » : ميرزا ابراهيم ابن ملاّ صدرا.
2- راجع : الشفا / الإلهيّات ، ج 2 ، ص 366.

وقيل (1) في الجواب عن الايراد المذكور : انّ الامكان المذكور ليس وصفا للفاعل ولا هو الامكان الذاتي والوقوعي للمفعول - اللّذين هما حالتاه بالقياس إلى وجوده في / 35DB / نفسه - ، بل هو صفة لصدور الفعل عن الفاعل. وليس هو نفس القدرة ، بل القدرة ما هو في الفاعل منشئا لهذا الامكان - كما مرّت الاشارة إليه - ، كما انّ الإرادة هي منشأ الترجيح عند الاشاعرة أو الوجوب عند المعتزلة ، والفواعل الموجبة - سواء كانت تامّة أو ناقصة - ليست أفاعيلها ممكنة الصدور واللاصدور عنها ، بل معلولاتها ممكنة الوجود في نفسها بالنظر إلى ذواتها أو بالنظر إلى الواقع ؛ انتهى.

وأورد عليه : بانّ الفرار عن كونه صفة للمفعول إلى كونه صفة لصدور الفعل عن الفاعل ممّا لا يجدي أصلا! ، إذ لزوم كون كلّ فاعل مختار باق بحاله لأنّ صدور الفعل عن غير المختار أيضا ممكن ، لأنّ الامكان للممكن ضروري وصدور الفعل عن غير المختار أمر ممكن لا واجب.

وأيضا : الامكان المذكور إذا جعل صفة لصدور الفعل كان صدور الفعل ممكنا ، ولا ريب في أنّه صفة للفاعل ، فهو يوجب ثبوت صفة ممكنة للفاعل ، فيبقى الاشكال بحاله.

الثالث من الايرادات : انّه لا ريب في أنّ الصدور واجب مع الإرادة ، والإرادة وغيرها من الصفات الكمالية في الواجب عين الذات ، فحيثية الذات هي بعينها حيثية الإرادة والعلم والقدرة وغيرها من الصفات الكمالية ، كما أنّ حيثية الفاعل والافاضة هي بعينها حيثية جميع صفاته الاضافية - كالرحمانية والرحيمية والرازقية واللطف والكرم وغيرها - ؛ وحينئذ فاذا وجب الصدور بالنسبة إلى الإرادة وجب بالنسبة إلي الذات أيضا ، فلا يتحقّق صحّة الفعل والترك بالنظر إلى الذات.

وللفرار عن هذا الإشكال قال بعض أهل التحقيق : انّ المراد بما نثبته للواجب من صحّة الفعل والترك انّما هي الصحّة بالنظر إلى ذات العالم لا بالنظر إلى ذات الفاعل ؛ و

ص: 167


1- في هامش « د » : ميرزا ابراهيم ابن ملا صدرا.

قال : لا منافاة بين عدم العالم في نفسه وامتناع عدمه بالنظر إلى مشيته - تعالى - ، فعدم صدوره ممكن / 36MA / في نفسه وإن كان ممتنعا بالنظر إلى المشية الّتي هي عين ذات الفاعل.

ولا يخفى انّ هذا الكلام فاسد من أصله! ، لأنّ من فسّر القدرة بصحّة الصدور واللاصدور أراد به ما هو وصف للقادر لا ما هو وصف للمقدور عليه. كيف والامكان الذاتي للمعلول لا يجعل الفاعل مختارا؟! ، وإلاّ لزم أن يكون كلّ فاعل - ولو كان من الفواعل الطبيعية - مختارا وهو باطل لأنّ عدم كلّ ممكن في نفسه ممتنع بالنظر إلى علّته الموجبة له. فالصحيح انّ المراد بصحّة الفعل والترك هو صحّتها بالنظر إلى ذات الفاعل.

والجواب عن هذا الايراد : انّ المراد من عينية الإرادة - كما أشير إليه - هو انّ الواجب - تعالى شأنه - من حيث انّه مبدأ لرجحان وجود النظام الأصلح أو لوجوب صدوره إرادة بمعنى انّ الحقيقة الواجبيّة فرد من الإرادة مخالف لسائر افرادها ، لكونها صفات زائدة قائمة بالمحال إذ نائب مناب الإرادة. والمراد على الوجهين انّ ما يصدر عن هذه الصفة الزائدة العرضية في غيره - تعالى - يصدر في الواجب عن ذاته المقدّسة ، ولا يخفى انّ ما هو المبدأ والمنشأ لايجاد العالم - أعني : الحقيقة الواجبية - ليس بمجرّد علّة لوجوب الصدور وإن كان إرادة بالمعنى المذكور حتى لا يصلح بالنظر إليه الصدور واللاصدور ، بل من حيث تعقّله وملاحظته للنظام الأصلح ، فلأصلحيّة النظام الواقعي مدخلية في وجوب الصدور وان كان مبدأ الانكشاف والتعقّل والصدور هو مجرد الذات الالهية ولا شبهة في ان النظام الاصلح امر خارج عن ذاته المقدسة لان الاصلحية من حيث هي أمر واقعي حاقّ نفس الأمر وليست إلاّ هى فعينيّة الإرادة لا تنفى صحة الصدور واللاصدور بالنظر الى ذات الفاعل.

فان قيل : الحكماء ذهبوا إلى أنّه - تعالى - يفعل ما يفعل لا لغرض يعود إليه ، لأنّه لو كان لفعله أمر زائد على ذاته أعمّ من أن يكون ذلك منفعة يجلبها أو مضرّة يدفعها

ص: 168

لكان مستكملا بفعله ناقصا في ذاته حتّى لا يمكن أن يكون الغرض من فعله نفس (1) معنى إيصال النفع إلى الغير وانّ هذا الفعل خير في نفسه ، لأنّ من يفعل لأنّ الفعل نافع وحسن فان فعل فقد صدق انّه قد أحسن وإن لم يفعل فقد صدق أنّه قد أساء ، فقد كسب لنفسه بهذا الفعل انّه محسن وهرب من أن يكون مسيئا ، فقبل هذا الفعل لم يكن محسنا. وبذلك يظهر أن ملاحظة اصلحية نظام الخير لو كان لها مدخل في الصدور لزم الاستكمال ، لأنّ من فعل الأصلح لأجل انّه اصلح فقد كسب لنفسه بهذا الفعل انّه فاعل الخير وهرب من أن يكون فاعل الشرّ. وقد ثبت انّه - تعالى - لا يتّصف بصفات زائدة ولا يستفيد بعد ذاته فائدة وانّه منزّه عن شوب القوّة والامكان مقدّس عن احتمال التغير والحدثان ، بل إنّما يفعل لأنّه في نفسه جواد وايجاد نظام الخير - من خلق الخلق وانفاق الرزق وبسط النعمة ، كلّ ذلك - جود ، فجوده الذاتي هو الّذي يبعثه على الفعل ، فهو - تعالى - انّما / 36DA / يفعل لأنّه جواد محسن لا لأن يصير جوادا محسنا. كما أنّ الجواد من أفراد بني آدم - كمعن وحاتم - انّما يجود لأنّه جواد لا لأن يصير جوادا أو لا يكون بخيلا أو يكون ممدوحا ولا يكون مذموما. فكذا الواجب - تعالى شأنه - انّما يفعل لجوده الذاتي ولا يفعل لشيء من الاغراض المذكورة حتّى يلزم أن يكون مستكملا بفعله ناقصا في ذاته. وإذا كان جوده - الّذي هو عين ذاته المقدّسة - مقتضيا لايجاد العالم فيجب صدور العالم منه بالنظر إلى ذاته عندهم ، ولا يكون صحّة الفعل والترك جائزا لديهم ، لأنّ الذات لا ينفكّ عن الجود والجود لا ينفكّ عن افاضة الوجود ؛

قلنا : ما ذهب إليه الحكماء من اقتضاء جوده الذاتي لايجاد العالم لا ينافي امكان الفعل والترك بالنظر إلى ذاته ، بل يؤكّده ؛ فانّهم قالوا : انّ كلاّ من الصدور واللاصدور وان امكن بالنظر إلى ذاته / 36MB / المقدّسة إلاّ أنّ الفيض لمّا كان حسنا مناسبا لذاته الفيّاضة وتركه كان قبيحا غير مناسب لها وجب صدوره منه - تعالى - ، كذلك وإن كان تركه جائزا بالنظر إلى ذاته. وقس عليه الافعال القبيحة - كالكذب وأمثاله - ، فانّها وإن كانت ممكنة له - تعالى - بالنظر إلى ذاته إلاّ أنّه - تعالى - لا يفعلها

ص: 169


1- الاصل : فعله نفس بمعنى.

لقبحها وعدم مناسبتها لذاته الحسنة ؛ وهذا كما انّ الجواد من افراد الانسان مع اقتداره على ترك الجود لا يتركه ويفعله البتة والصدوق منهم وان اقتدر على الكذب إلاّ أنّه لا يكذّب البتة.

فان قلت : إن كان صدور الفيض - لكونه حسنا ومناسبا لذاته ولازما لها - واجب الصدور منه - تعالى - ووجوب الصدور انّما حصل لهذا التلازم الواقعى من دون مدخلية شيء آخر ، فالذات مقتضية له البتّة ولا يمكن التخلّف بالنظر إلى ذاته ؛ وإن لم يكن لازما وواجبا للذات من حيث هي بل الوجوب واللزوم إنّما حصل لملاحظة الغير ، فيجري في فعله الأغراض ويلزم الاستكمال ؛

قلت : الإيجاد من حيث هو ايجاد ليس لازما للذات من حيث هى تلك الذات ليرفع الامكان المذكور ، بل لازم لها من حيث كونه حسنا في الواقع ونفس الأمر ، والمحسن يفعل الحسن البتّة لحسنه الواقعي وكونه محسنا ، لا لأنّه لا يقدر على تركه ، بل لأنّه يختاره البتّة باختياره ومرجّح الاختيار هو حسن الفعل في نفسه وكونه محسنا ، وقدرته على فعله لأنّه لو لم يفعله لزم ترجيح المرجوح ، فمجرّد وجوده الّذي هو عين ذاته ليس موجبا للفعل بل مع ملاحظة حسنه الواقعي اللازم لهذا الفعل. فالوجوب انّما حصل بالاختيار ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ووجوب ايجاد العالم لكونه حسنا وكونه نظاما أصلح ليس فيه غرض يلزم به الاستكمال ، لأنّ الاستكمال انّما يلزم لو كان الباعث للفعل هو اكتساب صيرورته محسنا وفاعلا للنظام الأصلح ؛ وليس كذلك ، لأنّ ذاته - تعالى - عين جميع صفاته الكمالية أزلا وأبدا وليس فيها تفاوت ونقصان وتغيّر وحدثان وفي كلّ وقت يصدق عليه جميع صفات الكمال ونعوت الجلال إلاّ أنّ الكمال إيجاد كلّ شيء في الوقت الّذي يمكن أن يوجد فيه واعطاء كلّ شيء ما هو قابل له. وأمّا إذا كان الباعث هو مجرّد كون الفعل حسنا مع كون الفاعل محسنا وثبوت قدرته على طرفي الفعل والترك من دون قصد إلى كسب كونه محسنا أو صفة أخرى ، فليس فيه استكمال ولا يستلزم صيرورته ذا صفة ليست فيه ، بل الصفات الكمالية ثابتة له أزلا وأبدا ، وما يحدث انّما هو التعلّقات الاضافية و

ص: 170

صدور الفعل إنّما يجب بحدوث التعلّق. والتعلّق لا بدّ من حدوثه البتة ، لأجل كونه - تعالى - جوادا وكون الفعل جوادا واقتداره على طرفي الفعل والترك مع اشرفية اختيار الفعل ، فالقدرة على الفعل والترك أشرف من عدم القدرة على الترك. ولكن الفعل اشرف من الترك ، واختيار أشرف الطرفين واجب من دون تصوّر غرض يحصل به الاستكمال.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام توجيها لأنّ القول بالقدرة بالمعنى المذكور - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - لا ينافي قواعد الحكمة ، والحكماء قائلون به. وهو بعد محلّ كلام! ، لأنّ الحقّ انّ اختيار ايجاد العالم لكونه حسنا ونظاما أصلح بعد فرض امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات لا يخلوا عن غرض زائد على الذات وهو منفي عند الفلاسفة ولا يقولون به ، فانّ الظاهر من كلام اساطينهم انّ وجود العالم تابع لعلمه وعلمه سبب لايجاده من دون كون الايجاد معلّلا بحسنه وصلاحه ، فانّ التابع لعلمه - تعالى - وإن كان نظاما أصلح لا يتصوّر أصلح منه ، أنّ ايجاده غير معلّل بالاصلحية بل هذا النظام الأصلح يتبع علمه الّذي هو عين ذاته.

وإن شئت توضيح هذا الكلام فاستمع ما أورده بعض / 36DB / المحقّقين في هذا المقام مع تفصيله وتوضيحه ؛ فانه قال : الفاعل على ستّة أصناف :

الأول : الفاعل بالطبع ، وهو الّذي / 37MA / يصدر عنه الفعل بلا شعور منه وإرادة ، ويكون فعله ملائما لطبعه.

والثاني : الفاعل بالقسر ، وهو الّذي يصدر عنه الفعل بلا شعور منه وإرادة ، ويكون فعله على خلاف مقتضى طبعه.

والثالث : الفاعل بالجبر ، وهو الّذي يصدر عنه الفعل بلا اختياره بعد أن يكون من شأنه اختيار ذلك الفعل وعدمه.

وهذه الثلاثة مشتركة في كونها غير مختارة في فعلها.

والرابع : الفاعل بالقصد ، وهو الّذي يصدر عنه الفعل مسبوقا بإرادته المسبوقة بعلمه المتعلّق بغرضه من ذلك الفعل ، ويكون نسبة أصل قدرته وقوّته من دون انضمام

ص: 171

الداعي أو الصوارف إلى فعله وتركه على السّواء.

والخامس : الفاعل بالعناية ، وهو الّذي يكون فعله تابعا لعلمه بوجه الخير والصلاح فيه بحسب الواقع ونفس الأمر ، ويكون علمه بوجه الخير كافيا لصدوره عنه من غير قصد زائد على العلم.

والسادس : الفاعل بالرضا ، وهو الّذي يكون علمه بذاته - الّذي هو عين ذاته - سببا لوجود الاشياء ، ونفس معلومية الاشياء له نفس وجودها عنه بلا اختلاف ، واضافة عالميته بالاشياء هي بعينها اضافة فاعليته لها بلا تفاوت لا في الذات ولا فى الاعتبار بل في اللفظ والتعبير. فالفرق بين الفاعليّة بالعناية والفاعليّة بالرضا هو ان الافاضة والايجاد غير العلم في الأوّل وإن كان تابعا ولازما له ، فانّ المراد به ان تمثّل جميع الموجودات من الازل إلى الابد في علمه - تعالى - مع الاوقات المترتّبة الغير المتناهية الّتي يجب ويليق أن يقع كلّ موجود منها في كلّ واحد من تلك الاوقات في ذاته - تعالى ، أي : علمه بها لازم لذاته لا يتصوّر تخلّفه عنها -. وهذا التمثيل مقتض لافاضة ذلك النظام على ذلك الترتيب والتفصيل ، بحيث لا يجوز عدم افاضته اصلا ، والافاضة على هذا صفة متعلّقة بالموجودات من حيث كونها في الاعيان ، والتمثيل متعلّق بها من حيث كونها في العلم فهما متغايران ؛ احدهما متبوع وعلّة والآخر تابع ولازم.

ولشمول هذا التميل بالعناية الازلية يسمّيه بالارادة.

وأمّا على الثاني - أي : القول بالفاعلية بالرضا - فالإفاضة هو نفس العلم ولا تغاير بينهما بوجه ، بل انكشاف الاشياء للواجب هو بعينه ظهورها في أذهاننا ؛ فكذا انكشاف الاشياء للواجب هو بعينه وجودها في الخارج.

وهذه الثلاثة الأخيرة مشتركة في كونها فواعل بالاختيار.

وإذا علمت ذلك فاعلم! انّ بعض الدهريين والطبيعيين - خذلهم اللّه - ذهبوا إلى أنّ الواجب فاعل بالطبع ؛

وجمهور المتكلّمين ذهبوا إلى انّه فاعل بالقصد ؛

والشيخ الرئيس ومتابعوه ذهبوا إلى أنّ فاعليته للأشياء الخارجية بالعناية ، و

ص: 172

للصور العلمية الحاصلة لذاته بالرضا ، - قال الشيخ في الشفا : انّه تعالى يعلم من ذاته كيفية كون الخير في الكلّ فيتبع صورته المعقولة صورة الموجودات على النظام المعقول عنده ، لا أنّها تابعة له - اتباع الضوء للمضيء والاسخان للحارّ - ، بل هو عالم بكيفية نظام الخير في الوجود وانّه عنه وانّه عالم بأنّ هذه العالمية يفيض عنها الوجود على اشرف الترتيب الّذي تعقّله خيرا ونظاما - ؛

وصاحب الاشراق ذهب إلى أنّه فاعل بالمعنى الأخير - أي : الفاعل بالرضا - ؛

والحقّ كونه - تعالى - فاعلا بالعناية ، لأنّ الواجب لا يجوز اتصافه بالفاعلية بالوجوه الثلاثة الأول ؛ وانّ ذاته - تعالى - أرفع من أن يكون فاعلا بالمعنى الرابع - لاستلزامه التكثّر ، بل التجسّم -. فهو إمّا فاعل بالعناية ، أو بالرضا ؛ وعلى أيّ التقديرين فهو فاعل بالاختيار لا بالايجاب - كما سبق -. إلاّ أنّ الحقّ هو الأوّل منهما ، فانّ الأوّل - تعالى - كما حقّقناه يعلم الأشياء قبل وجودها بعلم هو عين ذاته ، فيكون علمه بالأشياء - الّذي هو عين ذاته - منشئا لوجودها ، فيكون فاعلا بالعناية (1) ؛ انتهى ما أردنا إيراده.

وإذا عرفت ذلك تعلم أنّ القول بالفاعلية بالعناية لا يلائم القول بثبوت القدرة بالمعنى المذكور - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - ، لأنّ القول بالعناية يوجب علية الذات من حيث تمثّله بنظام الخير لايجاده من غير قصد زائد وغرض داع ، وفرض ثبوت مساواة الفعل والترك بالنظر إلى الذات مع ترجيح الفعل واختياره لا بدّ له من / 37DA / داع زائد على الذات ليكون مرجّحا.

فان قيل : المرجح هو العلم ؛

قلنا : هو عين الذات.

فان قيل : ما هو عين الذات هو مبدأ الانكشاف والمرجّح تعلّقه بنظام الخير ؛

قلنا : فيعود القول بكون الأصلحية مرجّحة ، فيجري الغرض في فعله وهو منفي عند الحكيم - كما عرفت -.

ص: 173


1- راجع : المبدأ والمعاد - لصدر المتألّهين - ص 133.

فان قيل : المرجّح هو مجرّد الاختيار من غير احتياج إلى مرجّح آخر ، فانّ المختار من له القوّة والتمكّن على كلا طرفي الفعل والترك ، فله أن يرجّح الفعل بهذا الاختيار ؛

قلنا : هذا باطل عند الحكيم ، لأنّ / 37MB / الاختيار وإن صلح لأن يكون مرجّحا للفعل إذا تعلّق به إلاّ أنّه لا بدّ لنفس التعلّق بالفعل دون الترك من مرجّح آخر ، وبالجملة يلزم على قواعد الفلاسفة نفي القدرة بهذا المعنى عن فعل الواجب ويقولون : انّ القدرة الّتي هي صفة الكمال أن يصدر الفعل بالعلم والمشية والإرادة الّتي هي العلم بالنظام الأصلح عندهم ، وهو ثابت له - تعالى -. ووجوب الصدور مع ذلك غير قادح ، كما أنّ العلم وغيره من الصفات الكمالية لازم لذاته ، ولا يمكن عدم اتصافه بالنظر إلى ذاته.

والظاهر انّ من قال بثبوت القدرة بهذا المعنى له - تعالى - من المنتسبين بالحكمة أو نسب القول به إلى الحكماء لم يحصّل مقاصدهم ولم يصحّح أصولهم وقواعدهم!.

وبما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض الاعلام في هذا المقام حيث قال : فان قيل : إذا كان الفعل والترك صحيحا بالنظر إلى ذات الفاعل عند الحكماء فلا يجوز لهم جعل مقدّم الشرطية الأولى واجبا ومقدّم الشرطية الثانية ممتنعا ، لأنّه إن كان المراد بالصحّة الامكان الذاتى فلا شكّ في تحقّقه في المقدّمتين - فانّ العالم ممكن فلا ينفكّ عنه صحّة وجوده وعدمه - ؛ وإن أريد به سلب الامتناع الذاتي والغيري معا فلا شكّ في انتفائه - فانّ العالم موجود ، فيكون واجبا بالغير ، فلا يصحّ سلب الامتناع المطلق عن عدمه -. فلا يظهر وجه الخلاف في وجوب مقدّم الشرطية الأولى وامتناع مقدّم الشرطية الثانية ؛

قلنا : انّ عدم العالم ممكن بالنظر إلى ذاته - لامتناع زوال الامكان الذاتي عنه - ، وإلاّ يلزم الانقلاب ، لكن عدم مشيته - تعالى - ممتنع بالذات عند القائلين بالقدم. ولا منافاة بين الامكان والامتناع بالنظر إلى الغير - الّذي هو عدم المشية - ، فعدم المشية غير واقع بل ممتنع عندهم ، فعدم العالم غير واقع كعلّته ، فامتناع عدم العالم إنّما هو بهذا

ص: 174

الاعتبار لا مطلقا ، كما أنّ وجود العالم ممكن بالنظر إلى ذاته واجب بالنظر إلى مشيته. كذلك عدم العالم ممكن بالنظر إلى ذاته ، لكن بالنظر إلى عدم المشية ممتنع لأنّ عدمه مستند إلى وقوع عدم المشيّة ، ووقوعه ممتنع عندهم ، فيصحّ بهذا الاعتبار انّ عدم العالم ممتنع. وأيضا المقدّمتان هما المشية وعدم المشية لا وجود العالم وعدمه ؛ انتهى.

ووجه الفساد : انّ القدرة عبارة عن امكان الطرفين بالنظر إلى ذات العلّة لا بالنظر إلى المعلول ، فاذا وجب الفعل بالنظر إلى المشية - الّتي هي عين الذات - كان الفعل واجبا بالنظر إلى ذات الواجب وكان مقدّم الشرطية الأولى واجبا ، فلا يتأتّى القول بامكان الطرفين بالنظر إلى ذات العلّة ، فترتفع القدرة بالمعنى المذكور ؛ والامكان بالنظر إلى المعلول لا يفيد هذا.

وعندنا انّ الايجاد لأجل كونه حسنا ونفعا للغير لا يوجب غرضا يحصل به الاستكمال ، بل يجب الاعتقاد بكون فعله كذلك - كما ثبت من الشريعة النبويّة - ، فالواجب - تعالى شأنه - فياض مطلق وجواد بالحقّ ، والجود عين ذاته بمعنى أنّ ذاته منشئا له ، إلاّ انّ فعله وتركه كلاهما ممكنان بالنظر إلى ذاته. ولكنه يختار الفعل لكونه حسنا وصلاحا. وباختياره يجب الفعل ويمتنع الترك ، فانّ اختيار وجود النظام الأصلح لكونه أصلح بعد قدرته على الترك وإن اقتضى الداعى ، إلاّ انّه لا يوجب النقص والاستكمال. وكيف ينكر العاقل كون ايجاد العالم لأجل اشتماله على الحكم والمصالح الراجعة إلى النظام الأصلح؟! ، وكيف ينكر أنّ ترجيح الوجود لأجل اشتماله على تلك المصالح بعد العلم بها؟! ، فمن كحّل بصيرته بنور المعرفة ونظر إلى نظام العالم لوجد اشتماله على الحكم (1) الغريبة والمصالح العجيبة ووضع كلّ شيء في موضع يليق به واعطاء كلّ شيء كلّما يصلح لحاله على ما تكلّ ثواقب الأفهام عند ادراك قليله وتضلّ صوائب الأوهام في نيل يسيره!. وهذا ظاهر لمن تأمّل في الأفلاك والنجوم وحركاتها ، وفي الأرض وما اشتملت عليه من الحيوان والنبات والجماد ، وفي خلق الحيوانات سيّما الانسان / 37DB / وما اشتمل عليه من دقائق الصنع وعجائب الحكمة -

ص: 175


1- الاصل : الحكمة.

وغير ذلك مما هو مذكور في مظانّه -. وقد صنّف الحكماء في عجائب الخلق ودقائق الصنع وفي ضبط بعض المصالح / 38MA / والحكم كتبا كثيرة.

ولا ريب انّ العاقل اللبيب إذا تعقّل هذه الحكم والمصالح يعلم قطعا انّ الجاعل الحقّ انّما أوجد هذه الأشياء ورجّح وجودها على عدمها لأجل هذه الحكم والمصالح وليس فيه غرض يرجع إلى نفسه حتّى صار باعثا للاستكمال.

وهذا الدليل كما يثبت قدرته - تعالى - بالمعنى المذكور يثبت علمه وارادته ومشيته وأكثر صفاته الكمالية - كما لا يخفى على أولى العقول العالية -.

فان قيل : قد يشاهد في العالم أشياء لا يدري لها منفعة ، بل وقد يعلم لها مضرّة ومنقصة! ؛

قلنا : مثل هذا كمثل صورة منقوشة في الجدار وكانت فاقدة لبعض أعضائها ، فانّا إذا رأيناها فلا نشكّ في علم مصوّرها وصدورها عن خبرة بها وغرض فيها ، ونقطع بأنّ ذلك لحكمة يراها ومصلحة يعلمها وإن لم نكن عالمين بها.

فان قيل : ذاته - تعالى - علّة لتعقّل النظام الأصلح والتعقّل علّة لايجاده ، ولا ريب انّ ذلك وإن اثبت علمه - تعالى - بالنظام الأصلح وما اشتمل عليه من دقائق الصنع وعجائب القدرة إلاّ انّه لا يستلزم قدرته بمعنى امكان الفعل والترك ، لانّه كما أنّ ذاته علّة للتعقّل علي سبيل الوجوب فتعقّله علّة لايجاد ما تعقّله على سبيل الوجوب أيضا من غير أن يتساوى الفعل والترك بالنسبة إلى ذاته ويستند ترجيح الفعل إلى ملاحظة الحكم والمصالح ، بل ذاته - تعالى - من حيث تعقّله لتلك الحكم والمصالح علّة مستقلّة لايجاد النظام ولا يجوز التخلّف ولا يحتاج إلى المرجّح ، فانّه لا ريب انّ تمثّل النظام الأصلح في ذاته - تعالى - انّما هو لأجل مناسبة ذاته المقدّسة له من حيث الخيرية والصلاح ، لانّ الخير المحض لا يناسب إلاّ الخير المحض ، فهو انّما يتعقّل الخير المحض وتعقّل الخير المحض ، فتعقّل الخير والأصلح وفعلهما لازم ذاته ، فالفعل غير معلّل بكونه حسنا وخيرا ؛

قلنا : لو لم يكن المتعقّل خيرا وحسنا لم تكن ذاته - تعالى - علّة مستقلّة لايجاده

ص: 176

، فكونه حسنا مرجّح لايجاده ، فذاته من حيث هي لا يمتنع عليه الفعل والترك وانّما يمتنع الترك لأجل كون الفعل خيرا وحسنا.

هذا ؛ ولو لم يثبت القدرة بهذا المعنى من الشريعة القويمة والدلالة العقلية - كما ذكرناه من كون فعله تعالى معلّلا بالداعي - لم يترتّب على نفيها قدم العام ، لأنّه يمكن القول بحدوث العالم مع القول بوجوب الايجاد بالنظر إلى الذات ، لأنّ الذات إنّما يقتضي ايجاد كلّ شيء على ما ينبغي وافاضة الوجود على المهيات في الوقت الّذي يمكنها أن يقبل فيه الوجود ، فعلى القول بوجوب ايجاد نظام الخير بالنظر إلى الذات يمكن أن يقال : انّ هذا النظام انّما يقبل الوجود مسبوقا بالعدم الدهري أو الزماني وليس قابلا للوجود بدونه ، كما انّ الحوادث غير قابلة للوجود قبل أوقاتها المعيّنة - ويأتي لذلك زيادة بيان وإيضاح -.

وأمّا القدرة بالمعنى الثالث - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى شرائط التأثير في شيء من الأوقات ، وبالجملة امكان انفكاك ذاته تعالى عن ايجاد العالم في وقت ما امكانا وقوعيا - فقد عرفت انّ الايجاب المقابل له هو امتناع الترك بالنظر إلى الداعى ونحوه من الشرائط المقتضية - أي : استحالة انفكاك ذاته تعالى عن ايجاد العالم -. وعرفت أيضا انّ الفلاسفة لم يثبتوا القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى شأنه - لذهابهم إلى الايجاب المقابل لها - أعني : قدم العالم - ، وانّ المعتزلة قائلون بثبوتها له - تعالى -.

واشرنا إلى انّ الظاهر انّ المعتزلة ومشاركيهم ممّن يثبت القدرة بهذا المعنى لم يريدوا بها امكان الفعل والترك امكانا وقوعيا في وقت ووجوب الفعل في وقت آخر ، بل أرادوا بها وجوب الترك في وقت ووجوب الفعل في وقت آخر. ولا بأس بإطلاق القدرة وامكان الترك والفعل امكانا وقوعيا على هذا المعنى. والباعث على هذا الحمل انّه لا ريب في انّه كما يجب ايجاد العالم في الوقت الّذي اوجده لوجود الشرائط المقتضية فكذا يجب تركه قبل ذلك لعدم تلك الشرائط ، فلا فرق بين وجوب الفعل والترك في الوقتين.

ص: 177

وبالجملة النزاع هنا يرجع إلى النزاع في حدوث العالم وقدمه (1) ، فلا بدّ لنا أوّلا من / 38MB / تحقيق الحقّ في هذه المسألة الّتي هي اعظم المسائل الحكمية ويبتنى عليها كثير من القواعد الاسلامية (2) ؛ ثمّ نشير إلى تحقيق الحقّ في القدرة بهذا المعنى.

فنقول - وباللّه التوفيق -.

( تحقيق ) : ( حول كيفيّة حدوث العالم )

إنّ المعروف من مذهب الحكماء انّ العالم حادث بالحدوث الذاتي ، والمراد به تأخّر وجود العالم عن علّته تأخّرا بالذات - أي : بحسب المرتبة العقلية - لا في الخارج ومتن الاعيان ، فلا يتحقّق بين وجود الواجب ووجود العالم انفصال في الخارج (3).

وذهب السيد المحقّق الداماد / 38DA / وجلّ من تأخّر عنه إلى أنّه حادث بالحدوث الدهري. والمراد به تأخّر وجود العالم عن الواجب تأخّرا انسلاخيا انفكاكيا (4)! - أي : وجوده بعد العدم الصريح المحض البحت الّذي ليس زمانيا ولا سيالا ولا متكمّما ولا متقدّرا -. وعلى هذا فالعالم ينفكّ عن الواجب في الواقع ونفس الأمر ، إلاّ أنّ هذا الانفكاك ليس زمانيا. والحاصل - كما افاده السيّد رحمه اللّه - انّه مسبوقية الوجود بالعدم الصريح المحض ، لا مسبوقية بالذات ، بل مسبوقية انسلاخية انفكاكية غير زمانية ولا سيالة ولا متقدّرة ولا متكمّمة.

وجمهور المتكلّمين ذهبوا إلى أنّه حادث بالحدوث الزماني. والمراد به تأخّر وجود العالم عن العلّة تأخّرا زمانيا ، بمعنى انّ العدم الفاصل بين الواجب وبين العالم عدم زماني ممتدّ ، لأنّه ينتزع من الواجب قبل وجود العالم زمان موهوم هو وعاء هذا العدم ، فينسب هذا العدم إليه.

فتلخيص اقسام الحدوث :

ص: 178


1- راجع : تلخيص المحصّل ، ص 269.
2- قس : رسالة الحدوث ، ص 182.
3- راجع : المباحث المشرقيّة ، ج 1 ص 134 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 3 ، ص 271 / 246.
4- راجع : القبسات ، ص 4.

انّ « الذاتي » عبارة عن وجود الماهية بعد عدمها في لحاظ العقل دون الواقع ؛

و « الدهرى » عبارة عن وجودها بعد نفي صريح واقعى غير كمّى ؛

و « الزماني » عبارة عن وجودها بعد عدم واقعى كمّى.

فالفرق بين الحدوث الذاتي والحدوث الزماني ظاهر لا يحتمل الاشتباه ، والفرق بين الحدوث الدهري والحدوث الذاتي انّ الحدوث الذاتي هو تأخّر الذات بحسب المرتبة العقلية لا تأخّر انفكاكي في الوجود بحسب حاقّ الواقع البات ، والحدوث الدهري هو تأخّر وتخلّف في متن الاعيان الخارجة عن لحاظ الذهن وفي حاقّ الواقع الصريح. والفرق بينه وبين الحدوث الزماني انّ الحدوث الزمانى هو الوجود بعد العدم المتقدّر السيال الواقع في الزمان القبل قبلية زمانية متكمّمة ، وفي حدوث الدهري ليس العدم متقدّرا متكمّما ، بل إن هو إلاّ محض مسبوقية الوجود بالعدم المحض والليس الساذج.

ثمّ الوجه في تسمية هذا القسم من الحدوث « بالدهري » ، بناء على أنّ الاوعية عند الحكماء ثلاثة :

الأوّل : وعاء بحت الوجود الثابت الحقّ المتقدّس عن عروض التغير مطلقا والمتعالي عن سبق العدم على الاطلاق ، ويسمّى « بالسرمد » ؛

الثاني : وعاء الموجود بعد العدم الصريح المرتفع عن أفق التقدير واللاتقدير - كالعقول والافلاك - ، ويسمّى « بالدهر » ؛

والثالث : وعاء الأمور المتغيرة المتقدّرة السيالة المسبوقة بالعدم الزماني - كالحوادث - ، ويسمّى « بالزمان ».

وكما أنّ وعاء وجود الاشياء المتقدّرة السيالة الزمانية هو الزمان ، فكذا وعاء عدمها أيضا هو الزمان ؛ وكما انّ وعاء وجود الموجودات المسبوقة بالعدم الصريح المنزّهة عن التكمّم والتقدّر هو الدهر ، فكذا وعاء عدمها أيضا هو (1) الدهر ؛ فاحقّ الأسماء وأجدرها للحدوث بحسب سبق العدم الصريح هو الحدوث الدهري. وأمّا بحت

ص: 179


1- الاصل : - هو.

الوجود الخالص المتعالي عن سبق العدم على الاطلاق فلا يتصوّر له عدم حتّى يكون وعاء ، بل الوعاء له - أي : السرمد - انّما هو وعاء وجوده.

ثمّ انّه لا يتصوّر الاختلاف في الأوعية بحسب الاوقات ، بل وعاء كلّ من الموجودات الثلاث هو وعائه المختصّ به في كلّ وقت. فوعاء الوجود الخالص المتعالي عن العدم هو « السرمد » ولو بعد تحقّق الوعائين الآخرين - أي : الدهر والزمان - ، لانّه محيط بهما ، فلا فرق في عدم انتسابه إليهما وتعاليه عنهما قبل وجودهما وبعده. وكذا وعاء الموجود بعد العدم الصريح هو « الدهر » ، ولو بعد وجود الزمان لتعاليه عن الزمان واحاطته به ، فلا يتصوّر انتسابه إليه وكونه وعاء له. وما يتخيل عندنا من انطباق وجود الواجب والعقول والافلاك على الزمان فانّما يتراءى ذلك في اذهاننا لالفها بالزمان والزمانيات ، ولا نتصوّر شيئا إلاّ بتصوّر كونه زمانيا ، ولكن البرهان دلّ على تعالي بعض الموجودات عن الزمان واحاطته به.

ثمّ الحق الحقيق بالتصديق / 39MA / هو الحدوث الدهري. والحقّ انّ القول به ليس ممّا اخترعه السيد الداماد ، بل هو ممّا ذهب إليه كثير ممّن تقدّمه من الحكماء ومحقّقي (1) المتكلّمين.

ثمّ السيد - رحمه اللّه - صرّح بأنّ النزاع بين الحكماء وغيرهم انّما هو في هذا الحدوث لا في الذاتى ولا في الزماني ، لأنّ الذاتي لم ينكره أحد من الحكماء - وهو ظاهر - ، ولا المتكلّمون ، لانّ القول بالحدوث الدهري أو الزماني مستلزم للذاتي أيضا ، لأنّ تأخّر العالم عن علّته بالعدم الصريح الواقعي أو بالعدم الزماني مستلزم لتأخّره عنها بالذات - كما يأتي توضيحه -. والزماني ممّا لا يصلح أن يكون محلاّ للنزاع بين العقلاء ، فانّ القول به انّما نشاء من بعض الأشاعرة ؛ قال - قدّس سره - في القبسات : لا يجوز أن يكون الحدوث المتنازع فيه هو الحدوث الذاتي لاتفاق الحكماء / 38DB / على الحدوث بذلك المعنى ، ولا الحدوث الزماني ، لأنّ من العالم المبحوث عن حدوثه نفس الزمان ومحلّه وحامل محلّه والجواهر العقلية المفارقة لعوالم الأزمان والأماكن رأسا ، فكيف

ص: 180


1- الاصل : محصّلي.

يظنّ بافلاطن وسقراط ومن في مرتبتهما من أفاخم الفلاسفة وائمّتهم انّهم يثبتون الحدوث الزماني للعالم الأكبر ويقولون : انّ نفس الزمان ومحلّه وحامل محلّه والجواهر العقلية المفارقة مسبوقة الوجود بالزمان وحاصلة الذات في الزمان؟! ، وليس يتفوّه بذلك من في دائرة العقلاء والمحصّلين (1)! ؛ انتهى.

ومراده - رحمه اللّه - انّه لا ريب في وقوع التنازع بين الحكماء في الحدوث ، ولا يجوز أن يكون تنازعهم في الحدوث الذاتي والزماني - لما ذكره - ، فيظهر منه أنّ المتنازع فيه بينهم هو الحدوث الدهري ، فيكون ممّا قال به بعضهم ونفاه الآخرون. وقد صرّح بمثل ذلك بعض المحققين حيث قال بعد نقل اقسام الحدوث وحصرها في الذاتي والدهري والزماني : وليس النزاع في هذه المسألة بين بعض الحكماء والمتكلّمين في الأوّل ، إذ الحكماء أيضا قائلون بالحدوث الذاتي ، ولا في الثالث ، لأنّ هذا النزاع انّما وقع بين العقلاء والعاقل لا يقول انّ العام بتمام اجزائه مسبوق بالعدم الزماني وزمان عدمه جزء من اجزائه ، بل انّما النزاع في الثاني. فذهب المتكلّمون والمحقّقون من الحكماء إلى أنّ وجود العالم مسبوق بعدم صريح واقعي خارجي ، والباقون من الحكماء قالوا : انّ انواع العالم لا يمكن أن تكون مسبوقة بالعدم الخارجي ، وقالوا : هذا القول لا يستلزم ازلية العالم وسرمديته وكونه قديما بالذات ، لأنّه مختصّ به - تعالى - ، اذ الازلية هو عدم المسبوقية بالعدم مطلقا والعالم وإن لم يكن مسبوقا بالعدم الصريح إلاّ أنّه مسبوق بالعدم الذاتي ؛ انتهى.

وقال بعض الأفاضل : انّا لا نسلّم انّ المتنازع فيه بين الحكماء هو الحدوث الدهري ، بل المتنازع فيه انّما هو الحدوث الذاتي ، وكونه متفقا عليه بينهم ممنوع - وإن كان نسبة الخلاف إلى ارسطاطاليس وامثاله من خطاء الناظرين في كلامهم وعدم فهمهم لما هو مرادهم ، على ما حقّقه الفارابي في الجمع بين الرأيين (2) - ، بل الظاهر - كما يشهد به الفحص - انّه كان التكلّم في الحدوث الذاتى والمناظرة فيه شائعا بينهم ، فلعلّه

ص: 181


1- راجع : القبسات ص 25.
2- راجع : الجمع بين رأيي الحكيمين ، المسألة الحادي عشر ص 100.

ذهب بعضهم إلى القدم بذلك المعنى أيضا وإن لم يظنّ ذلك في شأن أرسطاطاليس وأمثاله.

وأمّا المتكلّمون فلا شكّ انّ غرضهم اثبات الحدوث الزماني أيضا ولا استبعاد فيه ، إذ مرادهم بالعالم ما سوى ذلك الامتداد الموهوم ، فانّ المراد به ما سوى الواجب - تعالى (1) - من الموجودات ، والامتداد المذكور لا وجود له ، فلا اشكال من جهة الزمان.

وأمّا محلّه - أي الحركة - وحامل محلّه - أعني : الافلاك - فلا محذور في القول بحدوثها زمانا على رأيهم ، فانّهم لا يقولون بالحالية والمحلّية المذكورة - أي : كون الزمان حالاّ في الحركة والحركة محلاّ له - ، بل انّما هو رأي الحكماء. وأمّا الجواهر العقلية فالعقل لا يقول به المتكلّمون (2) ، والنفس لمّا كان فيها جهة مادّية فيمكن أن يطلق عليها الحدوث الزماني بهذا الاعتبار ، على أنّه يمكن أن يقال : انّ كونها حادثة بمعنى انّه كان زمان لم يصحّ فيه أن يقال : أنّها موجودة على وجه يصحّ الآن / 39MB / ذلك ، بل قد ظهر انّه يمكن القول بكونها زمانية - أي : مقارنة للزمان - ، وحينئذ لا اشكال أصلا ؛ وهذان الوجهان يجريان في العقل أيضا على القول بوجوده - كما لا يخفى - ؛ انتهى.

وما ذكره هذا الفاضل أخيرا من جواز مقارنة المجرّدات من النفوس والعقول للزمان ، فيأتي ما فيه.

وأمّا تحقيق انّ النزاع بين الحكماء في أيّ معنى من معاني الحدوث وأيّ معنى متفق عليه بينهم ؛ فاعلم! انّ المشهور بين القوم انّ افلاطون قائل بالحدوث الزماني للعالم بأسره ، وأرسطو قائل بالقدم الزماني لأصوله وكلّياته (3). وتوهّم جماعة انّ مذهب ارسطاطاليس انّ العالم قديم بالذات - أي : غني بذاته - كما يقوله الملحدون.

وقد دعاهم إلى هذه النسبه كلمتان منه في اثولوجيا : إحداهما ما قال : انّ الزمان نفسه ، والهيولى والعالم الأعلى ليس لها بدء زماني ؛ والثانية ما قال في بيان المطلب الجدلي : انّه يمكن أن يكون مطلب يحتاج على كلى طرفيه بقياسات جدلية مثل العالم هل هو

ص: 182


1- راجع : الاربعين ج 1 ص 19.
2- هذا قول جماعة من المتكلّمين. راجع : كشف المراد ص 131.
3- راجع : القبسات ص 24.

قديم أو حادث (1).

وغير خفيّ أنّه لا دلالة لهما بوجه على القدم الذاتي للعالم ، بل هما يدلاّن على خلافه! ؛ ولذا ردّ المعلم الثاني هذه النسبة في الجمع بين الرأيين (2) وقال : لا تدلّ الكلمتان المذكورتان على ذلك ، أمّا / 39DA / الأولى فلأنّ المراد بنفي البدء الزماني عنها أنّها ليست مكوّنة من مادّة وأجزاء في زمان - كالحوادث اليومية - ، بل هي مبدعة من الواجب - تعالى - لا في زمان - كما نصّ هو نفسه بذلك في مواضع شتّى من أثولوجيا وساير كتبه - ؛ وأمّا الكلمة الثانية فلأنّ التمثيل لا يدلّ على اعتقاد شيء من الطرفين ، فانّ التمثيل بالأحوال المتصوّرة للعالم لايضاح المطالب الجدلية لا يدلّ على إرادة اثبات حالة ، ولو دلّ لم لا يدلّ على الطرف الآخر؟!. فثبت ممّا ذكر انّ نسبة القول بالقدم الذاتي للعالم إلى ارسطاطاليس خطاء وأىّ خطاء!. والحدوث الزماني له لم ينسبه (3) إليه أحد ، لأنّ اثولوجيا مشحون بانّ العالم الأعلى والأجرام العلوية ليست في الزمان ، بل هي علّته. فمذهبه انّ العالم بأسره من الأجرام العلوية والسفلية والزمان ومحلّه مبدع لا في زمان ، أي : حادث بالحدوث الذاتي أو الدهري ، لأنّ المبدع لا في زمان يشملهما بإطلاقه. ولمّا نسب إليه الأكثرون الحدوث الذاتي وكان المشهور بينهم انّ الحادث الذاتي مرادف للقديم الزماني فقد ينسبون إليه القول بالقدم الزماني.

وقال بعض أهل التحقيق : الحقّ انّ المبدع لا في زمان قسيم للقديم الزماني وليس مرادفا له ، لأنّ المبدع صادر لا في زمان ، والقديم الزماني لكونه منسوبا إلى الزمان ما كان في الزمان كلّه فمعناه ما لم يتقدّمه زمان ولكن كان في الزمان ، فالنسبة بينهما هي المخالفة دون المرادفة. ولمّا فرّق بذلك بين المبدع والقديم الزماني وصرّح أرسطاطاليس بكون العالم مبدعا فانّ نسبة القدم الزماني إليه أيضا (4) خطاء ، بل مذهبه الابداع المرادف للحدوث الذاتي.

وأنت تعلم انّ القائل بالقدم الزماني لا يقول بأنّ العالم الأعلى والأجرام العلوية

ص: 183


1- ما وجدت العبارتين في اثولوجيا. وانظر : القبسات ، ص 25 / 27.
2- راجع : الجمع بين رأيي الحكيمين ، ص 100.
3- الاصل : لم ينسب.
4- الاصل : - أيضا.

والزمان واقعة في الزمان ، فمرادهم من القدم الزماني هو الابداع المرادف للحدوث الذاتي. فبعد اصطلاحهم على ذلك لا يضرّهم دلالة لفظ القديم الزماني على لزوم كونه في الزمان ؛ مع أنّ هذه الدلالة ممنوعة.

ثمّ التحقيق انّ افلاطون كأرسطاطاليس في القول بالابداع المحتمل للحدوث الذاتي والدهري.

وإذا كان ما ذهبوا إليه من الابداع محتملا للحدوثين فيمكن أن يكون الحدوث المتنازع فيه بينهم هو الحدوث الدهري بعد اتفاقهم على الحدوث الذاتي - كما حقّقه السيد رحمه اللّه - ، بمعنى انّهم بعد اتفاقهم على افتقار العالم واحتياجه إلى الواجب يتنازعون في انّه هل تقدّم على العالم مجرّد العدم الذاتى أو ما هو فوق ذلك - أعني : العدم الواقعي الصريح - ، ويحتمل - كما نقلناه عن بعض الأفاضل - أن يكون الحدوث المتنازع فيه هو مطلق الحدوث من غير تقييد بشيء من الذات والدهر والزمان ، بل بمعنى الحاجة الصرف والفقر المحض المرادف للحدوث الذاتي في الواقع. لا لأنّ أحدا من افلاطون و/ 40MA / سقراط وأرسطو وامثالهم انكر الحدوث بهذا المعنى ، بل لأنه لمّا قال قوم من الدهرية والطباعية - خذلهم اللّه - بالقدم الذاتي لكثير من الموجودات واستغنائها بانفسها عن العلّة - كالدهر والجواهر الفردة والخلأ والاجسام الصغار الصلبة وغير ذلك - ، فكان بحثهم عن الحدوث واثباتهم له ردّا عليهم.

ومن المنكرين للحدوث الذاتي ولاحتياج الممكن إلى المؤثّر « ذيمقراطيس » واتباعه ، القائلون بأنّ وجود السموات بطريق البخت والاتفاق ؛ ولهم شكوك واهية نقلناها في المقدّمات وأجبنا عنها. وكان ارسطاطاليس كثيرا ما يخاصم اصحاب ذيمقراطيس ويبطل شكوكهم ويردّهم إلى الحقّ. فظهر ممّا ذكرناه أنّ الحدوث المتنازع فيه والمبحوث عنه بين الأقدمين يمكن أن يكون هو الحدوث الدهري - كما ذكره السيد الدّاماد (1) - ، ويمكن أن يكون هو الحدوث الذاتى - أعني : محض الفقر والحاجة ، كما ذكره

ص: 184


1- قال المحقّق الداماد : فاذن قد استبان انّ حريم النزاع هو الحدوث الدهري لا غير. راجع : القبسات ، ص 26.

جماعة من الأفاضل - ، إلاّ انّ الانصاف أنّ الأقرب هو الثاني : كما لا يخفى على المتتبّع الفطن.

هذا ؛ ثمّ تحقيق الحقّ على ما اخترناه يتوقّف على بيان أمرين ؛

الأوّل : انّه لا ريب في تناهى العالم من جانب البداية بمعنى انّ الامتداد المفروض من وجود الأجسام الفلكية والعنصرية - أعني : الزمان والحركات اللازمة لها - من حين وجودها إلى ايّ وقت فرض متناهيان ، ويدلّ عليه ما تقدّم من حقّية جريان التسلسل في الأمور المتعاقبة - سواء كانت مجتمعة في الوجود أم لا - ؛ ونحن نشير إلى كيفية جريان طرق من أدلّة ابطال التسلسل في تناهي الحركة والزمان ، ليقاس عليها البواقى ؛

فمنها : طريق التطبيق ؛ وتقريرها هاهنا : انّه لو كانت الحركة غير متناهية أو الزمان غير متناه لكان لنا أن نفرض من جزء معيّن منهما - كدورة معيّنة مثلا من الحركة ويوم بليلة من الزمان إلى ما لا بداية لهما - جملة واحدة ، ثمّ نفرض من جزء قبلهما بمقدار متناه - كخمس دورات مثلا من الحركة وخمسة أيّام بلياليها من الزمان - جملة اخرى ، ثمّ نطبق بين الجملتين ونسوق الكلام حتّى / 39DB / يتمّ البرهان - على ما تقدّم في المقدّمات -.

ومنها : طريق التضايف ؛ وتقريره ما هاهنا : انّ الحركة والزمان بحسب تآلفهما من اجزاء بعضها سابقة وبعضها مسبوقة ، ولنجعل تلك الاجزاء دورات وأيّاما بلياليها ، فلو كانت الحركة والزمان غير متناهيين كانت تلك الدورات وتلك الأيّام بلياليها غير متناهية. ويمكن لنا أن نأخذ من دورة معيّنة ومن يوم معيّن بليلته إلى ما لا بداية له جملة ، فنأخذ ذلك ونقول : كلّ واحد من تلك (1) الدورة وذلك اليوم بليلته هو الجزء الأخير في هذه الجملة ، فهو موصوف بالمسبوقية وليس موصوفا بالسابقية ، وكلّ واحد من أجزائها الأخر موصوف بالمسبوقية والسابقية معا - إذ لو وجد في الأجزاء الأخر سابق غير مسبوق لانقطعت السلسلة به ولزم التناهي ، وهو خلاف الفرض - ، فيلزم أن يكون كل واحد من الاجزاء المتقدّمة على الجزء الأخير موصوفا بالسابقية و

ص: 185


1- الاصل : - تلك.

المسبوقية ، وقد كان الجزء الأخير موصوفا بالمسبوقية دون السابقية. ففي الجملة المفروضة كلّ سابق مسبوق من غير عكس كلّي لوجود الجزء الاخير ، فيكون عدد المسبوقية أزيد من عدد السابقية بواحد ، وأنّه محال لأنهما متضايفان حقيقيان يجب تكافؤهما في الوجود وتساويهما في العدد ، وأن يكون بإزاء كلّ واحد من آحاد إحداهما واحد من آحاد الأخرى - كما تقدّم مفصّلا - ؛ فيجب أن يكون عدم التناهي باطلا لتنقطع السلسلة ويوجد في أوّلها سابق غير مسبوق لتحصيل التكافؤ.

ومنها : انّه لو كان الحركة والزمان أزليين لكان عدد الدورات الماضية من كلّ فلك غير متناه وعدد كلّ من الساعات والأيّام والشهور والسنين الماضية غير متناه ، فنقول : لا ريب في أنّ عدد دورات الفلك الأطلس اكثر من عدد دورات القمر ، وعدد دورات القمر أكثر من عدد دورات الشمس ، والشمس من المريخ والمريخ من المشتري والمشتري من زحل وزحل من الثوابت ، وكذا عدد الساعات أكثر من عدد الأيّام والأيّام من الشهور والشهور من السنين ؛ ولا ريب في أنّ كلّ ما هو أقلّ من غيره يكون متناهيا ، فكذا ما هو أكثر منه بقدر متناه ، فيجب تناهي الحركات والأزمنة / 40MB /. ومنع تناهى ما هو أقلّ من غيره بقدر متناه مكابرة محضة يأبى العقل السليم من تجويزه.

ومنها : انّه لو كانت الدورات الماضية والأيام الخالية غير متناهية لتوقّف حدوث كلّ حادث من الحوادث اليومية على انقضاء ما لا نهاية له ، وهو محال ؛ فيلزم أن لا يوجد حادث. أمّا توقّف وجود الحادث على انقضاء ما لا نهاية له فظاهر ؛ وأمّا استحالة انقضائه فلأنّ الانقضاء فرع التناهى من الطرفين ، فغير المتناهي ولو من طرف واحد يمتنع انقضائه - لأنّ معنى انقضائه أن ينقطع ويحيط بمجموعه وعاء ويتحقّق له طرفان - ، ومع عدم حصول انقطاع أحد طرفيه لا معنى لانقضائه ، فيحصل من فرض انقضائه تناهيه.

فان قلت : اللازم ممّا ذكر تناهى الحركة والزمان وهو لا يفيد تناهى العالم من جانب البداية ، لجواز أن يكون الاجسام الأوّلية قديمة ساكنة ويكون سكونها أزليا و

ص: 186

لا تكون لها حركة ولا زمان حتّى يجري فيها براهين بطلان التسلسل ، والحركات الّتي نشاهد من بعضها يجوز أن تكون طارية مسبوقة بسكون ازلي ؛ والحاصل انّ براهين ابطال التسلسل لا يفيد أزيد من تناهي الحركة والزمان وهو لا يوجب تناهى العالم ، لجواز أن تكون أصوله الأوّلية قديمة ساكنة لا متحركة ولا منتزعة عنها الزمان ، فلا يثبت منه تناهي العالم من جانب البداية ؛

قلت : أمّا أوّلا : انّه لا ريب انّ اصول العالم الجسمانى منحصرة بالافلاك والعناصر ، والأجسام عند العقلاء منحصرة بهما ، وحركة الافلاك عندهم واجبة ولا يجوز سكونها في وقت ، والدليل عليه ظاهر. ولا ريب أنّ العناصر ليست متقدّمة على الافلاك في الوجود ، فهي إمّا متأخّرة عنها أو مقارنة لها في الوجود ، وعلى التقديرين لا ينفكّ العالم عن الحركة والزمان ، ويلزم منه تناهى السكون للاجسام الساكنة.

امّا ثانيا : فلأنّه لو سلّم جواز السكون للأفلاك أيضا وقلنا انّ الحركة الّتي للافلاك طارية مسبوقة بالسكون أو احتملنا وجود اجسام أخر ساكنة سوى الافلاك والعناصر وقلنا هي الاجسام الأوّلية ، نقول : لا ريب أنّ وجود الاجسام وإن كانت ساكنة لا ينفكّ عن الامتداد الواقعي المعبّر عنه بالزمان ، فيجري فيه ادلّة ابطال التسلسل ويثبت به تناهيه ، ومنه يظهر تناهي العالم من جانب البداية.

وأمّا ثالثا : فانّ المتكلّمين أقاموا حجّة على عدم جواز كون السكون قديما ؛ وتقرير حجّتهم : انّ السكون أمر وجودي لأنّ الكون - أعني : حصول الجسم في الحيّز - أمر محسوس فيكون موجودا. وهو تمام ماهية الحركة والسكون ، وامتيازهما بالعوارض / 40DA / الخارجية ، فيكون السكون موجودا كالحركة. وحينئذ لو كان قديما لامتنع زواله - لأنّ كلّ امر وجودي ثبت قدمه امتنع عدمه (1) - ، مع أنّ السكون يجوز زواله بالاجماع والبرهان ؛ أمّا الاجماع فلأنّ الأجسام عند الحكماء منحصرة في

ص: 187


1- راجع : رسالة الكندي إلى المعتصم باللّه ، ص 19 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 8 ص 388 ؛ شوارق الالهام ، ج 1 ص 144.

الفلكيات وحركتها واجبة عندهم ، وفي العنصريات وحركتها جائزة عندهم ، فلا يوجد في العالم جسم يمتنع عليه الحركة ؛ وأمّا البرهان فلأنّ الأجسام إمّا بسيط ، فيجوز على كلّ جزء منها ما يصحّ على الجزء الآخر ، فيصحّ لكلّ جزء أن يماسّ بيساره ما يماسّ بيمينه وبالعكس ، وما هو إلاّ بالحركة ؛ وإمّا مركبة ، فيصحّ على بساطتها الحركة - كما قلناه - ، ويلزم من صحّة الحركة على البسائط صحّتها على المركّب ولو في الوضع - أي : تبدّل نسب الأجزاء إلى الأجزاء -.

وأنت تعلم أنّ جميع مقدّمات هذه الحجّة ظاهرة إلاّ استحالة عدم القديم ، فلا بدّ من تحقيق الحق فيه ليظهر جلية الحال ، فنقول : المشهور في الاستدلال عليه انّ القديم إن كان واجبا لذاته فامتناع عدمه ظاهر ، وإن كان ممكنا كان مستندا إلى واجب بالذات دفعا للتسلسل. ولا يجوز أن يكون ذلك الواجب مختارا بمعنى كون فعله مسبوقا بالقصد ، لأنّ القصد إلى الايجاد متقدّم على الايجاد ومقارن لعدم ما قصد ايجاده ، لأنّ القصد إلى ايجاد الموجود محال بالبديهة ، فيجب أن يكون ذلك الواجب فاعلا لا بالقصد سواء كان فعله بالعلم والمشية أم لا. وحينئذ نقول : إن لم يتوقّف تأثير هذا الفاعل في ذلك القديم على شرط أصلا - بل كان ذاته كافيا في ايجاده - كان عدم ذلك المعلول القديم محالا لامتناع تخلّف المعلول عن الموجب التامّ واستلزام عدمه لعدم الواجب - لأنّه يلزم ذاته من حيث هي هي ، وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم - ؛ وان توقّف تأثيره فيه على شرط فلا يجوز أن يكون ذلك الشرط حادثا وإلاّ لكان القديم المشروط به أولى بالحدوث ، فيكون / 41MA / ذلك الشرط أيضا قديما ويعود الكلام في ذلك الشرط وفي صدوره عن الواجب هل هو بشرط أو بغير شرط؟ ، ويلزم الانتهاء إلى ما يجب صدوره عن الواجب بلا شرط دفعا للتسلسل في الأمور المترتّبة الموجودة. وهذا الشرط المنتهى إلى الواجب بالذات الصادر عنه بلا شرط يمتنع عدمه - لاستلزام عدمه لعدم الواجب - ، فاذا امتنع عدمه امتنع عدم مشروطه ومشروط مشروطه ... ، وهكذا إلى القديم الّذي كلامنا فيه.

ص: 188

واعترض عليه بوجهين : أحدهما : أنّ فاعل السكون يجوز أن يكون فاعلا بالقصد. وما ذكر في بيان استحالته غير تامّ. لانّ تقدّم القصد على الايجاد كتقدّم الايجاد على الوجود في انّهما بحسب الذات ، فيكون القصد مقارنا للايجاد في الوجود زمانا وإن تقدّم عليه ذاتا ، ولا يوجب ذلك تحصيل الحاصل المحال ، لأنّ المحال هو القصد إلى ايجاد الموجود بوجود حاصل قبل. بل نقول : إذا كان القصد كافيا في وجود المقصود كان مع المقصود زمانا ، وإذا لم يكن كافيا فيه فقد يتقدّم عليه زمانا - كقصدنا إلى افعالنا - ، وإذا جاز استناد وجود القديم إلى الفاعل بالقصد جاز استناد عدمه أيضا إليه بان يقصد اعدامه فيصير معدوما.

وثانيهما : انّا لا نسلّم أنّ الشرط الّذي يتوقّف عليه السكون القديم يجب أن يكون أمرا وجوديا قديما حتّى يعود الكلام فيه وفي صدوره عن الواجب هل هو بشرط أو بغير شرط ويلزم الانتهاء إلى ما يجب صدوره عن الواجب بلا شرط ، ولم لا يجوز أن يكون ذلك الشرط عدما ازليا كعدم حادث مثلا؟!. فاذا وجد ذلك الحادث زال السكون لزوال شرطه الّذي هو عدم ذلك الحادث ، لا لزوال الواجب حتّى يحكم بامتناعه.

فان أجيب عن هذا الاعتراض : بأنّ هذا العدم - أعني : عدم الحادث - لكونه ازليا ممكنا لا بدّ أن يستند إلى عدم يكون واجبا - أعني : عدم الممتنع - إمّا ابتداء أو بواسطة ازلية كما أنّ وجود الممكن الأزلي لا بدّ أن يستند إلى وجود واجب إمّا ابتداء أو بواسطة ازلية - دفعا للتسلسل -. وإذا استند هذا العدم إلى العدم الّذي كان واجبا بواسطة أو بدون واسطة كان زواله ممتنعا - لاستلزامه زوال الواجب ، أعني : العدم الواجب الّذي انتهى إليه استناده - ، فلا يمكن أن يزول ما هو شرط السكون - أعني : عدم الحادث - بأن يصير هذا الحادث موجودا ثمّ يزول السكون - لزوال شرطه - ، فالمحذور لازم.

قلنا : العدمات الأزلية الممكنة جاز أن يستند كلّ واحد منها / 40DB / إلى عدم أزلي آخر ممكن من غير أن ينتهى إلى عدم يكون واجبا ، بل ترتّب العدمات الممكنة

ص: 189

ترتّبا ذاتيا إلى غير النهاية ، وليس ذلك التسلسل لكونها في الاعدام محالا.

اقول : الوجه عند الحكماء في عدم استناد القديم الممكن إلى واجب الوجود المختار بمعنى كون فعله مسبوقا بالقصد أنّ الواجب لذاته لا يجوز أن يكون عندهم فاعلا بالقصد - لما مرّ - ، فالتعليل الّذي ذكر في الدليل المذكور لعدم استناده إليه مع الاعتراض عندهم ساقط. فهذا الاعتراض ساقط على قواعد الحكمة ، بل يتوجّه على من علّل عدم الاستناد بما ذكر من أنّ القصد إلى الايجاد متقدّم على الايجاد المحال.

وأمّا الاعتراض الثاني فالحقّ امكان ورود مثله على قواعد الحكمة أيضا ، ولكن فيه تفصيل وتنقيح لا بدّ أن يشار إليه. فنقول : القديم إمّا قديم بالذات أو قديم بالزمان (1) ، والثاني على قسمين : أحدهما : ما هو متقدّم على الزمان ومتعال عنه ولا يعلّل وجوده بالزمان بوجه ، وهو الّذي اشرنا إليه انّه المبدع لا في زمان المرادف للحادث الذاتي - وذلك مثل العقول والعالم الأعلى والافلاك عند الحكماء - ، وثانيهما : ما هو متأخّر عن الزمان تأخّرا ذاتيا أو مقارن له ومعلّل به من وجه ، وهو الّذي خصّص / 41MB / بعض المتأخّرين اسم القديم الزماني به - كما اشرنا إليه قبل ذلك -. وذلك مثل الاتصال والالتيام للأجسام الفلكية والعنصرية والسكون للعناصر وأمثال ذلك ، فانّها واقعة في طرف الزمان معلّلة به.

ولا ريب في امتناع العدم على القديم بالذات والقديم بالزمان بالمعنى الأوّل ، لأنّ منشأ التغيّر والتبدّل والوجود بعد العدم وبالعكس هو الزمان ، لعدم استقراره وثباته وجمعه المتقابلات واختلافاتها لاتساع ذاته ، فما هو خارج منه متعال عنه غير محمول في طرف متقدّر ، بل قائم بذاته أو بعلّته فقط ، فانما حامل وجوده وعدمه جميعا هو ذاته أو علّته. فان كان موجودا استحال عدمه ، وإن كان معدوما استحال وجوده - لاستحالة التناقض -. فهذا الموجود - أي : الخارج عن ظرف الزمان - اوّل وجوده ووسطه وآخره واحد لا يمتاز له قبل ولا بعد ، فكونه موجودا هو عين كونه باقيا. وأمّا القديم الزماني بالمعنى الثاني فلا يبعد أن يجوز عدمه ، لاحتمال أن يكون رفع مانع مربوط

ص: 190


1- راجع : الحكمة المتعالية ، ج 3 ، ص 255 ؛ درّة التاج ، ج 3 ، ص 29.

الوجود بالزمان وتدريجه من تتمّة العلّة التامّة لوجوده. فحيثما كان المانع في الأزل معدوما كانت العلّة التامّة موجودة ، فكان معلولها موجودا. ولمّا وجد بتدريج الزمان مانع وجوده فنقصت العلّة فصار معلولها معدوما ، وذلك مثل خرق السماء وشقّ القمر وامثالهما ، فانّه يجوز أن يكون عدم داعية الاعجاز من تتمّة العلّة المستقلّة لاتصال السماء والقمر ، فحيثما عدم هذا الداعي ولم يكن لها داع إلى الانخراق والانشقاق كانت الافلاك مصونة ملتئمة ، ولمّا حدث لها بتدريج الزمان داعية الاعجاز نقضت العلّة ، فعدم معلولها. ولا ريب انّ السكون إذا كان قديما يكون من هذا القبيل ، فيجوز أن يكون من تتمّة العلّة التامّة لوجوده عدم حدوث حادث مربوط الوجود بالزمان وتدريجه ، فحيث لم يحدث الحادث في الأزل وجد السكون ، فلا يبعد زواله إذا حدث ذلك بتدريج الزمان.

وبذلك يظهر أنّ العمدة في اثبات تناهى السكون للأجسام الساكنة هما الوجهان الأوّلان لا الدليل الّذي استدلّ به في المشهور. وإذ ثبت تناهي العالم من جانب البداية (1) يبطل به الحدوث الذاتي - أعني : القدم الزماني - ، اذ على القول به يكون الافلاك والعناصر غير منفكّة عن الواجب - تعالى - في الخارج ولا يوجد بينهما فاصلة.

ولا ريب أنّ الواجب - تعالى شأنه - ازلي لا بداية له ، فتكون الافلاك والعناصر أيضا كذلك ، فيلزم عدم تناهي الحركات والزمان ؛ وقد علم تناهيها.

فان قيل : مجرّد تناهي العالم من جانب البداية لا يبطل القدم الزماني ؛ لأنّه إذا كان العالم متناهيا ولكن كان متّصلا بالواجب ولم يتحقّق بينهما انفصال حتّى امكن أن يقال كان الواجب ولم يكن العالم كان العالم حينئذ قديما ، والقول به ليس إلاّ قولا بالقدم. ولو اطلق عليه الحدوث فلا يكون إلاّ بمجرّد الاصطلاح على اطلاق الحادث والقديم على ما كان زمان وجوده متناهيا وغير متناه ، وهو غير مفيد ، ولو جوّز هذا فلم لا يجوز كونه غير متناه أيضا؟!. والمفسدة فيه ليس إلاّ لزوم عدم الانفكاك بين الواجب - تعالى - وبين العالم ، وهو قد لزم في صورة التناهى أيضا!. فما لم يتبيّن

ص: 191


1- النسختان : + و.

الانفكاك / 41DA / والانفصال بين الواجب وبين العالم لا يبطل القدم ، ومجرّد ثبوت تناهى العالم لا يكفي لذلك.

قلنا : القائلون بالقدم متفقون على عدم تناهي العالم من جانب البداية ، والقدم عندهم مفسّر بعدم تناهي العالم ، لا بمعيته للواجب - تعالى - في الوجود وعدم الانفصال بينهما في الخارج ، لأنّ وجود الواجب - تعالى - ليس زمانيا ، فلا معنى لاتصال العالم به وانفكاكه عنه. ولا جائز أن يوصف بمعيته له أو تأخّره عنه - سواء كان العالم / 42MA / متناهيا أو غير متناه -. وإذا كان مرادهم بالقدم هو عدم تناهى العالم فاذا ثبت تناهيه يبطل القدم ؛ ولم يجوّز أحد من الحكماء القائلين بالقدم الزمانى للعالم كونه متّصلا بالواجب - تعالى - في الخارج مع كونه متناهيا من جانب البداية.

فان قيل : ليس المراد بالانفصال والانفكاك أن يتحقّق زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم ، وكذا ليس المراد بالاتصال والمعية أن يتحقق زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب والعالم فيه معين متقارنين ؛ بل المراد بالأوّل وقوع انفكاك يصحّح القول بانّه كان الواجب في الواقع والخارج ولم يكن العالم فيه ، والمراد بالثاني ثبوت تلازم يصحّح القول بانّه كلّما كان الواجب موجودا في الخارج كان العالم موجودا معه ؛ فالمراد بالحدوث هو الأوّل وبالقدم هو الثاني ، سواء كان العالم متناهيا أو غير متناه.

قلنا : مجرّد التلازم بين الواجب والعالم في الوجود الخارجي - وإن كان العالم متناهيا - ليس قولا بالقدم ، ولذا لم يقل به أحد من الحكماء القائلين بالقدم كما لم يقل به أحد من المليين القائلين بالحدوث. والسرّ انّه يستلزم تناهي بقاء الواجب - تعالى شأنه - ، لانّه إذا صدق انّه كلّما كان الواجب موجودا كان العالم موجودا وكان وجود العالم متناهيا فكان وجود الواجب أيضا كذلك.

ولا يقال : انّ وجود الواجب لا يتصف بالتناهي وعدم التناهي ، فلا يلزم الفساد المذكور ؛ لأنّا نقول : لمّا كان وجود الواجب - تعالى شأنه - في الواقع والخارج بحيث

ص: 192

وجد (1) في ذلك الواقع وجود العالم أيضا وكان متناهيا منقطعا يصدق انّ وجود الواجب أيضا منقطع ، وهذا كوجود الافلاك فانّها أيضا خارجة عن الزمان ولا ينطبق وجودها عليه. إلاّ انّه إذا كان وجودها في الواقع بحيث لو فرض فيه زمان كان متناهيا لصدق تناهيها أيضا. وهذا كما يوجب حدوث العالم يوجب حدوث الواجب أيضا - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! -. فهذا الاحتمال - أي : التلازم بين الواجب والعالم - مع فرض تناهي العالم احتمال فاسد عند العقل ليس مبنى شيء من الحدوث والقدم ، بل مبنى الحدوث على تناهى العالم وإن استلزم الانفكاك بين الواجب والعالم في الوجود الخارجى وعدم التلازم بينهما ، ومبنى القدم على عدم تناهيه وإن استلزم التلازم والمعية في الوجود بينهما. والسرّ انّ الحكماء والمليين متفقون على ازلية الواجب - تعالى - وقدمه بمعنى دوام وجوده وبقائه في الخارج بحيث لو فرض فيه الزمان كان غير متناه ، فالحكماء قالوا : وجد فيه الزمان فحكموا بعدم تناهى العالم والزمان ، والمليون قالوا لو لم يوجد فيه ولكن بحيث لو وجد فيه لكان غير متناه. فالحكماء حكموا بأزلية وجود الواجب والعالم والمليون حكموا بأزلية وجود الواجب دون العالم ؛ هذا.

مع أنّ المطلوب هاهنا انّ مجرّد اثبات تناهي العالم من جانب البداية يستلزم ابطال القدم بالمعنى الّذي اثبته الفلاسفة ، ولا ندّعي انّ مجرّد ذلك يثبت تمام المطلوب الّذي نحن بصدده - وهو ثبوت الانفكاك الواقعى بين الواجب والعالم - ، وصحّة قولنا : كان الواجب موجودا في الخارج ولم يكن العالم ، فانّ ذلك يأتي بيانه مفصّلا ؛ هذا.

وممّا يدلّ على تناهي العالم من جانب البداية - بل على حدوثه بعد العدم المحض - اجماع الأنبياء والمليين واتفاق أهل الأديان أجمعين (2) ، فانّه قد ثبت بالتواتر القطعي من الأنبياء وأوصيائهم تناهي العالم من جانب البداية وحدوثه بعد العدم المحض والليس الصرف ، بحيث لا يتطرّق إليه شائبة تجوّز وتأويل. والعقل السليم إذا تشبّث بذيل الانصاف واجتنب عن العناد واللجاج ولاحظ انّ جمّا غفيرا من أولى النفوس القادسة وذوي العقول الثاقبة - الّذين لم ينحرفوا / 42MB / قطّ عن الصراط القويم و

ص: 193


1- الاصل : - وجد.
2- راجع : رسالة الحدوث ، ص 181.

فاقوا على طوائف العباد أجمعين ، وتأيّدوا من عند اللّه تعالى بالمعجزات الباهرة والآيات القاهرة - قد اتوا بتناهي العالم من جانب البداية وحدوثه ودانوا به واصرّوا على ذلك وتشدّدوا في الانكار على منكريه - مع انّه لا يضرّهم القول بقدم العالم بوجه - يجزم بانّهم لم يأتوا به إلاّ عن يقين قطعيّ وصدق واقعى ، إذ القول بعدم ثبوت الحدوث بعد العدم من الأنبياء. ومنع تحقّق الاجماع مكابرة صرفة ومجادلة محضة ، كيف وجمّ / 41DB / غفير من مشاهير علماء الفريقين ادّعوا الاجماع عليه؟! ، والأخبار الدالّة عليه بلغت حدّ التواتر ؛ منها : الحديث المشهور الّذي تلقّته الأمّة بالقبول وهو قوله - صلی اللّه علیه و آله - : كان اللّه ولم يكن معه شيء (1).

فان قيل : المعية المنفية في هذا الخبر ليست هي المعية الزمانية - كما يأتي بيانه - ، ولا المعية الشرفية ، فبقى أن تكون هي الذاتية الّتي هي تأخّر الأشياء جميعا بمحض ذواتها عن ذات العلّة وافتقارها الذاتي إليها ؛

قلنا : لا ريب في أنّ المعية المنفية ليست زمانية ولا شرفية ، بل هي المعية الدهرية ، فالمراد : انّ اللّه - تعالى - كان موجودا في حاقّ الواقع ومتن الدهر ولم يكن معه العالم بمعنى انّ العدم المحض والليس الصرف كان سابقا عليه - كما يأتي بيانه مفصّلا -. فالمراد من الخبر نفي القدم الدهري من العالم وهو أن لا يسبقه عدم في متن الدهر بأن يكون ازلي الحصول في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر. وهذا المعنى هو الظاهر من الخبر والمتبادر عند اهل اللسان والمتعارف المألوف من عرف ارباب الشريعة.

وأمّا حمل المعية المنفية على المعية الذاتية والقول بأنّ المراد بيان مجرّد التقدّم الذاتي - كتقدّم اليد على المفتاح - ، فممّا لا يكاد يفهمه أهل اللسان وليس مألوفا من عرف صاحب الشرع ، ولا ينتقل إليه اذهان السامعين ولا يوافقه ألسنتهم ، مع انّ اللّه

ص: 194


1- هذا الحديث - كما قال المصنّف ; - تلقّته الامّة بالقبول ، فيوجد في كثير من مصادر الفريقين. راجع : بحار الأنوار ، ج 57. ص 234 ؛ صحيح البخاري ، ج 4 ، ص 129 ، ج 9 ، ص 152 ؛ اتحاف السادة المتقين ، ج 2 ، ص 105.

- تعالى - يقول : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (1) ؛ هذا.

وأورد على الاستدلال بالنصّ والاجماع على حدوث العالم : بأنّه دوري ، إذ حجية النصّ والاجماع موقوفة على ثبوت الشرع ، وثبوت الشرع موقوف على العلم بصدق الأنبياء ، والعلم بصدقهم موقوف على العلم بقدرته - تعالى - ، إذ لولاه لجاز أن لا يقدر على منع اظهار المعجزة على يد الكاذب أو لا يكون صدور المعجزة منهم من جانبه - تعالى - ومن قدرته. والعلم بالقدرة - بمعنى جواز انفكاك العالم عن ذاته تعالى بالنظر إلى الداعي - هو عين العلم بحدوث العالم ، فيتوقّف حجية النصّ والاجماع بوسائط على العلم بالحدوث. فلو كان الحدوث موقوفا عليهما لزم الدور ؛

والجواب : انّ العلم بصدق الأنبياء - علیهم السلام - لا يتوقّف على القدرة بهذا المعنى ، بل انّما يتوقّف على القدرة بالمعنى الأوّل المشهور - يعنى كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل - ، أي : يكون صدور الفعل منه بالمشية والإرادة ، فانّه إذا علم أنّ صدور الفعل منه - تعالى - بالمشية والإرادة يحصل العلم بصدق الأنبياء ، لأنّه - تعالى - لا يشاء ولا يريد اظهار المعجزة على يد الكاذب ، وان لم يعلم الانفكاك بين الواجب والعالم. الا ترى انّ الحكماء لم يقولوا بثبوت القدرة بهذا المعنى له - تعالى - مع انّهم لا يجوّزون عليه - تعالى - اظهار المعجزة على يد الكاذب؟.

ونقل عن غياث الحكماء انّه قال في رسالته المسمّاة بدليل الهدى : (2) ويمكن أن يقال بمجرّد مشاهدة المعجزة يحصل العلم بصدق صاحبها بلا احتياج إلى مقدّمة أخرى.

وحينئذ يمكن اثبات الاختيار بأيّ معنى كان ولو بالمعنى الأوّل ، بل اثبات الواجب وصفاته الكمالية أيضا بالشرع.

وقال بعض الفضلاء : الحقّ أن يقال : انّ اثبات النبوّة موقوف على وجود القدرة والاختيار لا على العلم بوجودهما ، لأنّا نعلم بديهة انّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا يجب تنزيهه - تعالى - عنه ، وهذا القدر كاف / 43MA / في اثبات النبوّة. و

ص: 195


1- كريمة 4 ، ابراهيم.
2- لم أعثر على هذه الرسالة ، والظاهر أنّها لم تطبع بعد.

بعد اثبات النبوّة يثبت صدق النبي - صلی اللّه علیه و آله -. وإذا ثبت صدقه يثبت صدقه في كلّ ما اخبر به ، ومنه حدوث العالم ، فيجوز أن يكون اثبات النبوّة موقوفا على أصل القدرة والاختيار ، والعلم بهما يكون موقوفا على اثبات النبوّة ، فقد حصل اختلاف الجهة فلم يلزم الدور ؛ انتهى.

واعترض عليه : بانّ العلم بأنّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح يجب تنزيهه - تعالى - عنه ، انّما هو بعد العلم بقدرته ، وأمّا قبل ذلك فيشكل دعوى ذلك جدا ؛ هذا.

وأيضا : لو امكن دعوى ذلك فهذا يكفى في اثبات القدرة ولا حاجة إلى التمسّك بالشرع في حدوث العالم ؛ انتهى.

وغير خفي انّ الفرق بين هذا الجواب وبين ما نقلناه عن غياث الحكماء : انّ مبنى جوابه على انّ اثبات النبوّة لا يتوقّف على القدرة والاختيار مطلقا ، بل لا يتوقّف على وجود الواجب أيضا ، لأنّ اثبات النبوّة لا يكون إلاّ باظهار المعجزة. ومبنى هذا الجواب على أنّ اثبات النبوّة موقوف على وجود القدرة وليس موقوفا على العلم بها ، فيرد عليه : انّ توقّف اثبات النبوة على القدرة انّما يكون لحصول العلم بأنّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح ، وذلك التوقّف إنّما يكون على العلم بالقدرة لا على مجرّد وجودها ، فجعل مجرّد وجودها ممّا يتوقّف عليه اثبات النبوّة غير مفيد ، فلا بدّ إمّا أن يدّعى عدم توقّف اثبات النبوّة عليها مطلقا - كما قال غياث الحكماء - أو يجعل الموقوف عليه هو العلم بها ، ويجاب عن الدور بما تقدّم أوّلا. هكذا ينبغي تقرير الايراد عليه.

وأمّا ما اورد عليه / 42DA / المعترض بقوله : وأيضا لو امكن المحال ، فلا يخفى ما فيه ؛ هذا.

فظهر ممّا ذكر من تناهى العالم مضافا إلى اجماع الملّة وأخبار الحجج ثبوت حدوث للعالم فوق الحدوث الذاتي وعدم كفاية مجرّد الحدوث الذاتى ، فانحصر الأمر بين الحدوث الدهري والزماني. وسيأتي بيان بطلان الثاني ليلوح الحقّ من بينهما.

فان قلت : اللازم من دليل التناهي هو حدوث العالم الجسماني من الأجسام و

ص: 196

المقادير القائمة بها - بمعنى تناهي المدّة المفروضة من آن حدوثه إلى ما بلغ -. ولا يلزم منه حدوث المجرّدات كذلك - لتعاليها عن الزمان وانتسابها إليه - ، فيجوز أن يكون العقول حادثة بالذات - أي متأخّرة عن الواجب بمجرّد المرتبة العقلية دون المرتبة الخارجية والواقعية -. ثمّ يوجد اللّه تعالى (1) - بوساطتها أو بدون وساطتها العالم الجسمانى في الوقت الّذي كان قابلا للحدوث فيه ؛

قلت : هذا الاحتمال وإن لم يلزم بطلانه من ادلّة تناهي العالم - لاختصاصها بالعالم الجسماني - ولم يثبت أيضا دليل عقلي على امتناعه ، إلاّ أنّ ما ذكرنا ثانيا من اجماع المسلمين وأخبار الحجج ناهضة بابطاله. فالعمدة في اثبات حدوث المجرّدات بمعنى وجودها بعد العدم الصرف والليس المحض هو الاجماع والاخبار ؛ منها : الخبر المشهور المتقدّم ذكره ، فانّ الظاهر منه تأخّر جميع ما يطلق عليه اسم العالم في الخارج ونفس الأمر عن ذاته - تعالى - ، لانّ لفظ « شيء » وقع نكرة في سياق النفي ، فيفيد العموم. فمعنى الخبر : انّه قد تحقّق الواجب في الواقع والخارج ولم يكن شيء من الأشياء موجودا سوى ذاته الأقدس ، وما سواه كان معدوما بعدم صريح خالص وليس صرف ساذج. وحمل الخبر على انّه - تعالى - كان موجودا في الزمان ولم يكن معه شيء فيه باطل ، لأنّ كون الواجب زمانيا من أشنع المحالات - كما يأتي مفصّلا -.

ومن الأخبار الدالّة على حدوث جميع ما سوى اللّه الخبر القدسيّ المشهور بين أهل الاسلام ، وهو قوله - تعالى - : كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لأعرف (2). فان الظاهر منه انّه - تعالى - كان موجودا في الواقع والخارج ولم يكن غيره من الأشياء موجودا فيهما.

ويمكن أن يقال : الوجه في حدوث المجرّدات من العقول مع عدم دلالة ادلّة التناهي عليه هو عدم قبولها / 43MB / الوجود الأزلي - لامكانها وافتقارها -.

ثمّ هنا بعض دلائل أخر ذكرها جماعة لاثبات حدوث العالم وبطلان قدمه ، و

ص: 197


1- الاصل : ثمّ بوحدانيته تعالى.
2- راجع : بحار الأنوار ، ج 87 ، صص 199 ، 344 ؛ الدّرر المنتثرة ، ص 126 ؛ الاسرار المرفوعة ، ص 273 ؛ تذكرة الموضوعات ، ص 11.

هي عند التحقيق ليست بتامّة فلنذكرها ونشير إلى ما يرد عليها.

منها : ما ذكره المحقّق الطوسي في الفصول والفخر الرازي في الأربعين (1) ، وهو أنّه لو وجد ممكن كان قديما ، فتأثير الفاعل فيه إمّا حال بقائه أو حال عدمه أو حال حدوثه ؛ فعلى الأوّل يلزم تحصيل الحاصل ، وعلى الأخيرين يلزم الخلف مع المطلوب.

ومنها : ما ذكره بعض المتأخّرين ، وهو انّه لو وجد ممكن كان قديما لكان بقاؤه أيضا قديما ، وكما انّ الايجاد في زمان البقاء يستلزم تحصيل الحاصل فكذا ايجاد الموجود القديم - الّذي كان بقائه قديما - يوجب تحصيل الحاصل بالضرورة.

ومنها : ما ذكره بعض المتأخّرين أيضا ، وهو انّ تأثير الفاعل على قسمين :

أحدهما : ايجاد المعدوم ، وثانيهما : ضبط الموجود وابقائه ، وفي الممكن القديم لا يتصوّر الأوّل ، وفي الوجود المكتسب عن الغير لا يكفي الثاني.

ويرد على هذه الأدلّة الثلاثة أنّها منقوضة بمثل تأثر حركة اليد في حركة المفتاح ، فانّ الثانية محتاجة إلى الاولى معلولة لها ، مع انّه ليس بينهما انفكاك زماني ولا دهري.

فيرد عليه أيضا انّ تاثير الأولى في الثانية إمّا حال عدمها أو حال بقائها ، فيلزم أحد المفاسد المذكورة ، فما تقولون في الجواب هنا نحن نقول هناك. وبالجملة إذا تحقّق مثل هذا الربط بين بعض الحوادث بأن يكون حادث مستندا إلى حادث آخر من غير وقوع انفكاك في الخارج بينهما فيجوز تحقّقه بين بعض القدماء أيضا بأن يكون ممكن قديم مستندا إلى قديم آخر واجب بالذات من غير وقوع انفكاك في الخارج. فهذه الأدلّة لا تفيد أزيد من الحدوث الذاتي.

الأمر الثاني : ممّا يتوقف عليه تحقيق الحقّ فيما اخترناه من حقّية الحدوث الدهري انّه لا ريب في انّ المراد من الزمان الموهوم الّذي اثبته المتكلّمون هو الشيء المتكمّم المتصرّم له واقعية ونفس أمرية ، وبالجملة هو كمّ واقعي نفس أمري لا تفاوت بينه وبين هذا الزمان إلاّ بالليل والنهار. وليس المراد به هو الزمان التقديري الّذي

ص: 198


1- راجع : الاربعين ج 1 ص 27.

ذكره الطبرسي في مجمع البيان (1). فانّ المراد به هو الامتداد بمجرّد الفرض والتقدير من دون أن يكون له واقعية ونفس أمرية ، فانّ الاذهان البشرية إذا سافرت من بقعة الزمان والزمانيات إلى صقع الدهر والدهريات تخترع لالفها بالزمان أمرا ممتدا تقديريا تخيّليا / 42DB / من غير شائبة تحقّق له في متن الواقع. ومثل هذا الامتداد نحن نقول به ، لأنّ القول به لا يوجب تحقّق امتداد في نفس الأمر قبل وجود العالم ، بل قبله عدم صرف وليس ساذج. وهذا التقدير انّما حصل منّا ، فالوجود يكون مسبوقا بالعدم الصريح مسبوقية غير زمانية.

ويؤيّد ما ذكرناه من انّ الزمان التقديري غير الزمان الموهوم وأنّ المتكلّمين انّما قالوا بالموهوم دون التقديري ما ذكره بعض المحدّثين من أصحابنا من انّ اوّليته - تعالى - وآخريته فسّرتا بوجوه :

الأوّل : أن يكون المراد بالأسبقية بحسب الزمان ، وهذا انّما يتمّ إذا كان الزمان أمرا موهوما - كما ذهب إليه المتكلّمون - ، أو بحسب الزمان التقديري - كما ذكره الطبرسي في مجمع البيان -.

وإذ ثبت انّ المراد بالزمان الموهوم هو الامتداد الواقعي النفس الأمري فنقول : ثبوت مثل هذا الشيء قبل ايجاد العالم باطل بوجوه :

منها : انّه لا يتصوّر في الدهر وفي العدم والليس الصريح المحض امتداد وتصرّم وحدّ وتمايز ولا نهاية ، إذ ذلك من لوازم وجود الحركة.

وأورد عليه : بانّا لا نسلّم انّ الاتصاف بالامتداد / 44MA / والانقضاء وامثاله فرع وجود الحركة ، لم لا يجوز أن ينتزع من استمرار وجود الواجب أمر ممتدّ على سبيل التجدّد والتفصّي؟! ، بل الظاهر انّه كذلك ولا استبعاد فيه. كيف وانّهم يقولون انّ الحركة القطعية ينتزع من الحركة التوسطية والزمان ينتزع من الآن السيال ، فكما جاز هناك انتزاع الأمر الممتدّ المتجدّد المتفصّي من الأمر الشخصي الّذي لا امتداد فيه و

ص: 199


1- الظاهر انّه اشارة إلى ما جاء به الطبرسي تفسيرا على مبتدأ سورة الانسان المباركة ؛ راجع : مجمع البيان ، ج 10 ، ص 406.

لا انقسام ولا تجدّد ولا انقضاء فكذلك يجوز هاهنا أيضا بلا تفرقة اصلا ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الايراد في غاية الوهن والركاكة! ، لأنّه كيف يجوّز عاقل أن ينتزع من الوجود الاحدي الصرف الثابت المتعالي عن الزمان والحركة شيء سيال متجدّد ممتدّ؟! ، بل ما هو نفس الزمان بعينه ، لعدم الفرق بين هذا الزمان والزمان الموهوم بالحقيقة - كما اشير إليه -. ويدلّ عليه أيضا ما قال بعض المثبتين للزمان الموهوم : انّا لا نقول انّ عدم العالم كان في وعاء ممتدّ يتجدّد وينقضي كوجود زيد في الزمان ، بل هو كعدم زيد في زمان قبل زمان وجوده ، ولا تفاوت إلاّ بأنّ هذا الزمان يتبعّض بالليل والنهار ويتّصف بما شأنه ذلك من الصفات ، وليس ذلك فى ذلك الزمان ، وعلى هذا يلزم اعترافهم بكون الواجب محلاّ لمثل هذا الزمان (1). وأيّ عارف بالحقيقة الواجبية وصفاته الكمالية يتفوّه بمثل هذا الكلام ، والمتعالي عن التغير والحدثان والمتقدّس عن التجدّد والسيلان ومن هو (2) صفاته وافعاله خارجة عن بقعة الزمان والمكان كيف ينتزع الأمر الممتدّ المتجدّد المتصرّم الواقعي النفس الأمري عن حاقّ ذاته الاقدس؟! ، أليس المناسبة بين المنتزع - الّذي هو المعلول - والمنتزع عنه - الّذي هو العلّة - لازمة؟! ، وأيّ مناسبة بين الثابت والمتغير والبسيط الحقيقي والمركّب من أجزاء غير متناهية وليس ذلك الزمان عرضا واقعيا نفس أمري؟!. فكيف يقوم بالوحدة الحقّة والبساطة الصرفة. أو لا يوجب ذلك تركّبا وتكثّرا في ذات الواجب - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا؟ -. ثمّ ما ذكره من التمثيل لا دخل له بالممثّل له ، وشتّان ما بينهما!. فانّ حركة الوسطيّة والآن السيّال ليسا أمرين ثابتين ، بل هما متجدّدان متصرّمان سيّالان يحدثان في الذهن أو الخارج على اختلاف الرأيين في الحركة والزمان ، ولو لم يكن لهما تجدد وسيلان لم يحدثا الحركة القطعية والزمان ، فيكون التغير والتجدّد والتصرّم من شرائط ارتسام الأمر الممتدّ السيال ، وهو واضح.

ثمّ الانصاف انّ المتكلّمين يقولون : انّ اتصاف عدم العالم السابق عليه بالتقدّر والامتداد وأمثالهما إنّما هو بالعرض باعتبار وعائه الّذي هو هذا الأمر الممتدّ المنتزع من

ص: 200


1- الاصل : محلا بمثل هذا البرهان.
2- الاصل : هو من.

ذات الواجب ، ولا يقولون انّ الأمر الممتدّ هو عين هذا العدم الصرف - لي لزم كون محض العدم زمانا أو حركة -. والحاصل إنّهم يقولون : انّ عدم العالم كان في وعاء ممتدّ متجدّد منقض كوجود زيد في الزمان ، وكما انّه لا يلزم منه كون وجود زيد زمانا أو حركة كذلك لا يلزم هناك أيضا كون العدم زمانا أو حركة ، بل ليس إلاّ كعدم زيد في زمان قبل زمان وجوده. ولا تفاوت إلاّ بأنّ هذا الزمان يتبعّض بالليل والنهار ويتّصف بما شأنه ذلك من الصفات ، وليس ذلك في ذلك الزمان.

فاللازم على هذا ليس إلاّ وجود الزمان هناك ، والقائلون بالزمان الموهوم يلتزمونه لا كون العدم هو الحركة أو الزمان.

وبذلك يندفع ما أورد عليهم السيد الداماد في جملة ما أورد عليهم : انّه لو تصحّح في العدم ما توهّموه لكان هو الزمان بعينه أو الحركة بعينها اذ كان متكمّما سيالا كلّه أزيد لا محالة عن بعضه وابعاضه متعاقبة غير مجتمعة ، فإمّا انّه بالذات على تلك الشاكلة فيكون هو الزمان ، أو بالعرض فيكون / 43DA / هو الحركة ، فقد اطلقوا على الزمان أو على الحركة اسم العدم ، / 44MB / فليت شعري بأيّ ذنب استحقّ الزمان أو الحركة سلب الاسم والالحاق بالعدم؟!.

ومنها : انّ هذا الامتداد لكونه منتزعا من الواجب - تعالى شأنه - وكون الواجب قديما أزليا يلزم أن يكون غير متناه ، وهو باطل لجريان التطبيق وغيره من ادلّة بطلان عدم التناهي في الكميات ، وادلّة بطلان التسلسل بعد أن يفرض اشتمال هذا الكمّ على أعداد - كالازرع وأمثالها -.

فان قيل : انّه ليس موجودا خارجيا حتّى يتأتّى فيه التطبيق ؛

قلنا : انّهم يقولون انّ له تحقّقا في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، فيثبت في الواقع ونفس الأمر ما هو غير متناه ويصحّ أن نطبق بين شيئين متحقّقين في الواقع - كما مرّ في التسلسل في الأمور المتعاقبة - وإن لم تكن مجتمعة في الوجود. وقال السيد المحقّق الداماد - رحمه اللّه - : على ما ذكره المتكلّمون يكون الباري الحقّ - سبحانه - واقعا في حدّ بعينه من ذلك الامتداد العدمي - تعالى عن ذلك - والعالم في حدّ آخر بخصوصه ،

ص: 201

حتّى يصحّ تخلّل ذلك الامتداد الموهوم بينه - سبحانه - وبين العالم ويتصحّح تأخّر العالم وتخلّفه عنه - سبحانه - في الوجود ، فاذن إذا كان ذلك الامتداد غير متناهي التمادي كان غير المتناهي محصورا بين حاصرين ، هما حاشيتاه وطرفاه (1) ؛ انتهى.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ مرادهم بقولهم « بين الباري الحقّ وأوّل العالم زمان موهوم ازلي » : انّه كان قبل العالم امتداد موهوم لم يكن العالم فيه ، وكان الحقّ - تعالى شأنه - فيه بالمعنى الّذي يقال الآن انّه - تعالى - موجود ، لا انّ ذلك الزمان واسطة بينه - تعالى - وبين العالم بحيث يكون هو - تعالى - في أحد الحدّين والعالم في الحدّ الآخر حتّى يلزم كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين ؛ انتهى.

والظاهر - كما ذكره المورد - انّه لا يلزم كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين - كما ذكره السيّد - ، لأنّ المتكلّمين يقولون : انّ هذا الامتداد منتزع من الواجب قبل ايجاد العالم وبعده ، ويكون عدم العالم في بعضه ووجوده في بعض آخر منه وابتداء وجوده يقارن جزء منه ، فالواجب هو محلّ هذا الامتداد عندهم ، لا أن يكون هو شيئا خارجا عن الواجب متّصلا أحد طرفيه به وإن كان جزء منه متّصلا بأوّل العالم ومقارنا له.

نعم! ، يمكن أن يقال : لمّا كان هذا الزمان غير متناه يمكن أن يستدلّ على ابطاله بوجوه :

منها : لزوم المفسدة المذكورة - أي : كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين - من فرض وجوده ، فلذلك لا يبعد أن يدّعى لزوم كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين ، بناء على تحقّق الزمان الموهوم. مثلا نقول : لو كان الزمان الموهوم متحقّقا مع كونه غير متناه لاشتمل في الواقع ونفس الأمر على عدّة غير متناهية كالازرع ومثلها ، فنقول : يلزم كونه محصورا بين حاصرين بوجهين : أحدهما : انّه لا ريب في انّه تعرض لهذه العدّة مرتبة من العدد معينة البتة - لأنّ كلّ جملة متحقّقة في الواقع معينة الآحاد يعرضها عدد معيّن ضرورة - ، ثمّ نقول : يوجد في هذه الجملة مراتب اعداد

ص: 202


1- راجع : القبسات ، ص 31.

ناقصة عنها بواحد أو اثنين أو بثلاثة أو أربعة وهكذا طبقات مترتبة متنازلة غير متناهية ويوجد فيها واحد البته لا مرتبة تحته ، فيوجد بين مرتبة العدد الّذي لكل السلسلة وبين مرتبة الواحدية مراتب غير متناهية مترتبة مع كونها محصورة بين حاصرين - هما مرتبة العدد الّذي للكلّ ومرتبة الواحدية -.

وثانيهما : انّ كلّ عدد التئم من آحاد مترتبة وكان له نصف فما لم يحصل له نصف أوّلا لا يحصل كلّه ، وهو بديهي ، فلما تحقّق في الزمان الموهوم اعداد غير متناهية في الواقع لها مبدأ فنقول : لا ريب في انّه يوجد في هذه الأعداد آحاد فردية غير متناهية وآحاد زوجية غير متناهية ، ويكون بإزاء كلّ واحد من الأولى واحد من الثانية وبالعكس ، فالآحاد الزوجية مثلا نصف السلسلة ، فلعدد السلسلة نصف البتة.

فاذا اعتبرت الجملة من حيث انّ آحادها المترتبة مأخوذة مع الثواني والترتيب يجب أن يحصل نصفا أوّلا ثمّ يحصل الجملة - لما ذكرناه من أنّ كلّ عدد له نصف - فما لم يحصل نصفه لم يحصل كلّه. ولا ريب انّ النصف الّذي يوجد محصور بين / 45MA / المبدأ ومبدأ النصف الآخر مع انّ الفرض انّه غير متناه ، فكذا كلّه.

ومنها : انّ المتقدّس عن الغواشي والعلائق يكون مع أيّ امتداد فرض ومع كلّ جزء من اجزائه وكلّ واحد من حدوده معينة غير متقدّرة على سبيل واحد ومحيط بجميع اجزائه وحدوده على نسبة واحدة موجودا كان ذلك الامتداد أو موهوما ، فاذن اختصاص العالم بحدّ من حدود ذلك الامتداد الموهوم لا يفيد تأخّره وتخلّفه عن الباري الحقّ اصلا ، فانّه إذا كان امتداد الزمان الموجود بالقياس إليه - تعالى - على هذا السبيل فالزمان الموهوم بالقياس إليه أجدر. بل التحقيق انّ الحادث بالزمان / 43DB / أيضا لا يجوز أن يصل عدمه السابق بينه وبين الواجب - تعالى شأنه - وصل كينونة المعلول. لا أن يتوهّم الواجب - تعالى - عند رأس الزمان ويجعل ذا وضع واشارة ، لأنّ انفصال الزمان الّذي هو من الاعراض الجسمانية بين المجرّد المتعالي عن جميع الجسمانيات من الجواهر والاعراض والامكنة والازمان وبين غيره غير معقول ، فانّ القول به توجب جعله - تعالى - ذا وضع واشارة ، وهو بديهي البطلان.

ص: 203

وبذلك يظهر انّه لا معية بين الواجب وبين العالم بوجه أصلا ؛ أمّا بحسب الذات والوجود والشرف فلأنّه - تعالى - علّة العالم ، فهو أقدم على كلّ ما سواه بمحض ذاته ووجوده والاشرف لغيره إلاّ منه ؛ وأمّا بالمكان والزمان فلأنّه خارج عنهما محيط بهما ، فلا يوصف بهما بمعية وغيرها ، إذ الاتصاف بهما بمعية وغيرها يتوقّف على توهّم كونه فيهما ، وقد علم بطلانه.

وأورد عليه : بأنّ القول بالامتداد المذكور ليس إلاّ ليصحّح تحقّق العدم قبل الوجود ، وقد صحّ ذلك ، ومرادهم من تخلّف العالم عن الحقّ - سبحانه - ليس إلاّ ذلك لا انّه كان الواجب في وقت لم يكن العالم فيه حتّى يقال : انّ الواجب بريء عن الكون في الوقت ، فلا يصحّ ذلك. على انّه يمكن القول بمقارنة وجوده - تعالى - للوقت ، فحينئذ يتصحّح التخلّف بهذا المعنى أيضا. وبالجملة : انّا لا نقول انّه لا يجب أن يكون زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم حتّى يرد ما ذكرت ، بل الغرض انّه يتحقّق انفصال بين الواجب والعالم وتصحّ فيه قولنا : كان الواجب بالمعنى الّذي تصح الآن ولا يكون العالم فيه. على أنّ الظاهر أنّه كما يقال في الأجسام انّه زماني بمعنى أنّ وجوده مقارن لوجود الزمان يصحّ ذلك في شأن الواجب - تعالى - أيضا ، اذ يصدق انّ وجوده مقارن لوجود الزمان نفسه ؛ فلا يصحّ أن يقال : انّه زماني بمعنى أنّ وجوده ينطبق على الزمان مثل الحركة ، ولا يصحّ ذلك في الجسم أيضا ؛ انتهى.

وفيه : انّ تحقّق العدم أيّ حاجة له إلى هذا الامتداد؟ ، بل هو مناف لحقيقته - كما مرّ - ، والعدم بنفسه يصلح للفصل والتخلّف والانفصال (1) - كما يأتي -. فإذا كان نسبة الواجب إلى جميع اجزائه على السواء ولم يفتقر إليه في تصحيح التخلّف والانفصال كان القول بوجوده باطلا.

فان قيل : إذا اتصف العدم في نفس الأمر بانّه سابق على الوجود سبقا غير ذاتي فيكون محتاجا إلى وعاء وطرف يكون فيه ، ويتصف لا محالة بالتقدّر والتكمّم وغيرهما ، وكونه سابقا عليه بدون ذلك لا يقدر على تعقّله ؛

ص: 204


1- الاصل : - الانفصال.

قلنا : هذا مجرّد استبعاد منشأه عدم تعقّل غير الزمانيات والف الذهن بها ، وهل التقدّم يلزم أن يكون منحصرا بالتقدم بالزمان؟!. وأمّا انّ تقدّم العدم الواقعي على الوجود من أيّ قسم من التقدّم فيأتي الكلام فيه.

ثمّ ما ذكره المورد أخيرا من مقارنة وجود الواجب للزمان كمقارنة وجود الاجسام فهو إجراء الصفات المادّي المحدث على المجرّد القديم وجهل باللّه الكريم! ، وكيف يقارن صرف الوجود المجرّد عن المادّيات وغواشيها والمتعالي عن الجسمانيات وما يقربها والمحيط بالأجسام وما يلحقها من اعراضها من الزمان والمكان بالزمان!؟ ، وهل يشكّ عاقل بأنّ الأزمنة بآزالها وآبادها بالنسبة إلى حرم كبريائه كان واحد والأمكنة بعلوها وسفلها بالنظر إلى ساحة قدسه كنقطة واحدة؟!.

على أنّ المتكلّم الّذي يريد حفظ قوانين الشريعة الطاهرة كيف يتكلّم بمثل هذا الكلام؟!. مع أنّ ما ورد في الشرع / 45MB / من الأخبار الدالّة على تقدّس ذاته - تعالى - عن الاتيان إلى الزمان - بأيّ طريق كان - أكثر من أن يحصى ؛

روى شيخنا الاقدم محمد بن يعقوب الكليني - رحمه اللّه - في الكافى عن أبي عبد اللّه - علیه السلام - انّه قال : من زعم انّ اللّه من شيء أو في شيء أو على شيء فقد كفر (1)! ؛

وروى الصدوق في توحيده عن أبي ابراهيم - علیه السلام - انّه قال : انّ اللّه - تعالى - لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان (2) ؛

وعنه - علیه السلام - انّ اللّه - تبارك وتعالى - لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون ، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا (3) ؛

وعنه - علیه السلام - : انّ اللّه - تبارك وتعالى - كان لم يزل بلا زمان وهو الآن كما كان (4).

ص: 205


1- راجع : الكافي / الأصول ، ج 1 ، ص 128.
2- راجع : التوحيد ، ص 184.
3- راجع : نفس المصدر ، ص 184.
4- راجع : نفس المصدر ، ص 179.

وأمثال هذه الأخبار بلغت حدّ التواتر. ومن تأمّل في كلام مولانا أمير المؤمنين - علیه السلام - في نهج البلاغة يعلم انّ من وصف اللّه - تعالى - بالزمان ونسبه إليه لم يكن من العارفين باللّه وصفات كماله ونعوت جلاله (1).

ومنها : انّ الزمان والمكان متشابهان متساويان في الاحكام ، فكما انّ وراء الامتداد المكاني - أعني : فوق الفلك الاقصى المحدّد لجهات العالم - عدم صرف لا خلأ ولا ملأ ولا امتداد لا لا لا امتداد ولا نهاية ولا لا نهاية وإذا بلغ انسان إلى السطح المحدّب منه لم يمكنه أن يمدّ يده ويبسطها - لا لمصادم ومانع مقداري ، بل لعدم الفضاء و/ 44DA / البعد وانتفاء المكان والجهة - فكذلك وراء الامتداد الزماني عدم صريح لا تمادّ ولا لا تمادّ ولا استمرار ولا لا استمرار ولا زيادة ولا نقصان ولا نهاية ولا لا نهاية.

وأورد عليه : بانّه تمثيل لا يناسب المباحث الحكمية ، وهو قول على سبيل التوسّع. والمقصود انّه لا شيء ورائه بدون توهّم فوقية أصلا.

وغير خفي انّه ليس مجرّد التمثيل ، بل العقل السليم يحكم بتساويهما وعدم الفرق بينهما ، فانّهم قالوا : انّ فوق محدّد الجهات لا خلأ ولا ملأ مع انّ الفوقية متحدّدة به.

فكما انّ العقل هناك يعلم من تناهي البعد المكاني انّ ورائه عدم صرف ونفي محض وينتزع من ذلك ويحكم بمعونة الوهم انّ لهذا العدم المحض فوقية ما على المكان والمكانيات كفوقية بعض اجزاء المكان على بعض مع انّه لامكان هنا ، كذلك هاهنا يعلم من تناهي الزمان والزمانيات في جانب البداية انّ ورائها عدم صرف ونفي محض ويحكم بانّ لهذا العدم المحض قبلية ما هو على وجود العالم والزمان شبيهة بقبلية اجزاء الزمان بعضها على بعض ؛ ولذا قيل : الحدوث الزماني المتنازع فيه بين الفلاسفة والمليين هو هذا الحدوث لا تقدّم العدم المحض على وجود العالم والزمان ، فالمليون يثبتونه والفلاسفة ينكرونه. واطلاق الحدوث الزماني عليه لكون سبق العدم على الزمان والعالم - كسبق اجزاء الزمان بعضها على بعض -. ولا يلزم من ذلك وجود

ص: 206


1- اشارة إلى ما وقع في بعض خطبه - عليه وعلى اولاده وآبائه آلاف التحيّة والثناء - ، كقوله : لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات .... راجع : نهج البلاغة ، الخطبة 186. ص 274.

زمان قبل الزمان ، بل مجرّد ذلك الزمان الموجود مع ملاحظة تناهيه كاف لانتزاع الوهم وحكم العقل بهذه القبلية. وليس هذا اثبات الزمان الموهوم كما ليس هناك اثبات المكان الموهوم.

فان قيل : لمّا كان الواجب قبل الزمان موجودا فيجب أن ينتزع منه شيء ممتدّ بامتداد بقائه وليس فوق المكان شيء موجود حتّى ينتزع منه المكان الموهوم ، فثبت الفرق ؛

قلت : الواجب - تعالى شأنه - كما هو متعال عن المكان فهو متعال عن الزمان أيضا. فكما انّ وجوده في الخارج لا يوجب انتزاع مكان موهوم منه ، فكذلك لا يوجب انتزاع زمان موهوم عنه ، والفرق تحكّم. وكيف يمكن أن ينتزع مثل هذا الشيء الغير المتناهي الممتدّ المتفصّي المتصرّم المتجدّد منه - تعالى - ، مع أنّ التناهي واللاتناهي والتفصي والامتداد - وما شأنه ذلك من الصفات - من خواصّ المقادير والكميات ولوازمها ، فيكون هذا الزمان مقدارا ، والمقدار كيف يكون محلّه ذات الواجب - تعالى - مع تجرّدها ووحدتها الحقّة؟! ، فانّ محلّ المقدار لا بدّ أن يكون جسما أو جسمانيا. فاذا استحال أن يكون محلّه ذات الواجب فيلزم أن يقوم بمحلّ آخر ، فان كان هذا المحل عرضا فلا بدّ من الانتهاء إلى محلّ جوهري قائم بذاته دفعا للدور والتسلسل ، فيلزم وجود ممكن قديم.

فان قيل : / 46MA / لا ريب في أنّ ذاته - تعالى - من حيث هو لا يمكن أن يكون منشئا لانتزاع هذا الأمر الممتدّ ، بل انّما يتوهّم هذا الامتداد من توهّم بقائه - تعالى - ، فبقائه - تعالى - مقتض لهذا الامتداد بمعنى أنّ هذا الامتداد منتزع من ذات اللّه - تعالى - باعتبار بقائه وأزليته ؛

قلنا : إن اريد بالبقاء دوام وجوده - تعالى - وسرمديته فهذا لا يوجب الامتداد ، لأنّ الامتداد انّما هو لازم لدوام وجود المتغيرات ودوام الذات الثابتة الّتي لم يسبقها عدم لا يوجب ثبوت الامتداد لها - لأنّ وعائها السرمد لا الزمان - ؛ وإن اريد به ما هو نفس هذا الامتداد فنقول : البقاء في الواجب ليس بهذا المعنى ، بل لا يجوز ان يثبت له

ص: 207

البقاء بهذا المعنى ؛ وإن اريد به شيء ممتدّ آخر غير هذا الزمان الممتدّ وتوهّم هذا الزمان إنّما هو لتوهّمه ففيه : انّ تصوّر شيء ممتدّ آخر هو البقاء يوجب الدور ، لأنّ توهّم هذا الزمان يتوقّف على البقاء ، مع أنّ البقاء بهذا المعنى لا يتصوّر بدون الزمان الممتدّ.

فان قيل : إذا لم يتحقّق الزمان الموهوم ولا يكون هو سابقا على العالم لكان السابق عليه هو مجرد العدم المحض ، وسبق العدم على الزمان - على ما قلتم - لا يرجع إلاّ إلى كون الزمان متناهيا من غير أن يكون سبق عدم حقيقة ، بل بمحض التوهّم ؛ وهذا ليس إلاّ القول بالقدم بالحقيقة. لأنّه إذا لم يكن انفصال بين ذات الواجب - تعالى - وبين العالم ولا يمكن أن يقال اصلا انّه كان الواجب ولم يكن العالم فيكون العالم قديما البتة ، ولو اطلق عليه الحادث فلا يكون إلاّ بمجرّد الاصطلاح على اطلاق القديم والحادث على ما كان زمانه متناهيا وغير متناه ، وهو لا يفيد. وبالجملة انّه لا بدّ على طريقة الملّة من القول بوجود آله العالم بدون العالم بأن يكون بينهما انفصال. وعلى ما ذكرتم لا يكون كذلك ، بل يكون وجود العالم متّصلا بوجوده - تعالى - من غير انفكاك ولا انفصال بينهما. ولو جوّز هذا فلم لا يجوز كونه غير متناه أيضا؟!. إذ لا يلزم فيه من الف وإلا عدم الانفصال ، وهو قد لزم في صورة التناهي أيضا ؛

قلنا : قد / 44DB / تقدّم انّ لزوم القدم في صورة تقدّم العدم المحض على العالم ممنوع ، وانّ تحقّق تناهي العالم من جانب البداية مستلزم لارتفاع القدم ، ويأتي انّ مجرّد تقدّم العدم يحصل به الانفصال والتخلّف.

ومنها : انّ القائلين بالزمان الموهوم معترفون بانّه شيء ممتدّ واقعي نفس أمري وقديم أزلي وعاء لعدم العالم ، وغير خفي انّ هذا مخالف لما ثبت من الشريعة المقدسة ومناف لما انعقد عليه اجماع أهل الملّة ، لانّه اثبات موجود قديم في نفس الأمر سوى الواجب ، واجماع المليين وعموم « كان اللّه ولم يكن معه شيء » ومثله من الأخبار يدفعانه.

فان قيل : مرادهم بالعالم المحكوم عليه بالحدوث ما سوى ذلك الامتداد النفس

ص: 208

الأمري من الموجودات الخارجية ، والامتداد المذكور لا وجود له في الخارج وإن كان له وجود في نفس الأمر ؛

قلنا : لا ريب في أنّ هذا الامتداد النفس الامري غير اللّه - تعالى - ، فهو من أجزاء العالم ، والاجماع منعقد على حدوث العالم بجميع اجزائه ، والتخصيص تحكّم.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض الأفاضل من انّه لا شكّ انّ غرض المتكلّمين اثبات الحدوث الزماني ولا استبعاد فيه ، إذ مرادهم بالعالم ما سوى ذلك الامتداد الموهوم ، فانّ المراد به ما سوى الواجب - تعالى - من الموجودات والامتداد المذكور لا وجود له ؛ انتهى.

وذلك لأنّه إن اراد ان لا وجود له اصلا لا في الخارج ولا في نفس الأمر فهو مناف لما صرّح به المتكلّمون ، بل هذا القائل أيضا حيث صرّح بأنّه موجود واقعي نفس أمري لا تفاوت بينه وبين هذا الزمان إلاّ بالليل والنهار. مع أنّه على هذا مجرّد اسم من دون ثبوت للمسمّى ، فيرجع إلى الزمان التقديري الفرضي الّذي أشرنا إليه. ونحن أيضا نقول به ، ولكن كيف يكون مثله أمرا ممتدّا منقضيا ذو اجزاء كثيرة وعاء لعدم العالم ؛

وإن اراد انّه لا وجود له في الخارج ولكنّه موجود في نفس الأمر ، فيرد عليه ما تقدّم من أنّه ليس واجبا بالذات ، فيكون من اجزاء العالم. ولمّا لم يكن قائما بذاته فلا بدّ له من محلّ ، ولا يجوز أن يكون محلّه هو الواجب - تعالى - ، لما مرّ - ، ولا شيء آخر ثابت ، لأنّ / 46MB / الأمر الثابت لا يكون محلاّ للمتجدّد المتغير ، فلا بدّ أن يكون له محل مثل الحركة ، فيلزم قدم الجسم.

والحاصل : انّ الممتنع هو ما يصدق عليه ذلك الامتداد صدقا نفس أمري لا مفهومه ، فان كان له في نفس الأمر مصداق فهو جزء من العالم ، فينفيه الاجماع والاخبار ، وإلاّ فهو محض اسم ليس إلاّ كشريك الباري وأنياب الاغوال.

وكذا يندفع بما ذكرنا وما ذكره بعض أصحابنا القميّين من أنّ العالم حادث بمعنى انّه حدث بعد تقضي امتداد غير متناه في جانب الأزل منتزع من ذات اللّه - تعالى -

ص: 209

باعتبار بقائه وازليته ، وتقدّم العدم على العالم تقدّم بالزمان ، ولكن مرادنا بالزمان ليس مقدار حركة الأطلس بل مرادنا به امتداد انتزعه العقل من ذات اللّه - تعالى - بملاحظة ازليته وبقائه. والزمان بهذا المعنى ليس من جملة العالم ، لأنّه ليس من الموجودات الخارجية ، بل منشأ انتزاعه موجود في الخارج ، فليس تقدّم العدم زمانا على العالم محالا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع وإن ظهر ممّا مرّ لكنّا نزيده إيضاحا بما ذكره استاذنا المحقّق المازندراني في رسالته الّتي الّفها في هذه المسألة تيمّنا بكلامه. قال (1) - طاب ثراه - بعد نقل الكلام المذكور : كيف لا يكون الزمان الموهوم من جملة العالم مع كونه امرا ممتدّا منقضيا غير متناه ، مع أنّ الاجماع والحديث المشهور من أمير المؤمنين وقول الباقر والرضا - علیه السلام - دلائل لحدوث العالم بمعنى ما سوى الواجب. ولا اختصاص بها بالموجودات الخارجية ، فكم من موجود في الخارج وهو موجود في نفس الأمر ، فهذا الامتداد لمّا كان امرا واقعيا نفس أمريّ كلّه أزيد من جزئه إلى غير ذلك من أمارات الوجود كان منافيا لما مرّ ، وقد مرّ أنّه لا يمكن أن ينتزع من ذات اللّه - تعالى - بملاحظة استمراره وثباته أمر موصوف بالتجدّد والتغير ، فتقدم العدم زمانا على العالم محال بالعقل والنقل. فظهر انّ دليله على عدم كونه من العالم ليس بشيء إذ عدم كونه من الموجودات العينية لا يدلّ على عدم كونه منه ، فانّ المراد به كلّ ما سوى الواجب من الموجودات العينية والنفس الأمرية - أعني : ما لا يكون وجودها وتحقّقها متعلّقا بفرض فارض واعتبار معتبر - ؛ وهي أعمّ من الخارج مطلقا ومن الذهن من وجه لامكان اعتبار الكواذب فيه دون نفس الأمر ، ومثل هذا يسمّى ذهنيا فرضيا. ولا شكّ انّ الزمان الموهوم - على ما قرّروه - ليس من هذا القبيل ، كيف وهم قد حكموا بكونه امرا نفس امري وعاء لعدم العالم ممتدّا متجدّدا متقضيا ذا اجزاء مخصّصة لحدوث الحادث / 45DA / في حدّ منها دون آخر قبله ؛ انتهى كلامه رفع مقامه.

ص: 210


1- هذه الرسالة ألّفها في « ابطال الزمان الموهوم » مع انكاره استدلال السيد الداماد عليه ، راجع : روضات الجنّات ، ج 1 ، ص 118.

فظهر ممّا تلوناه عليك انّ القول بالزمان الموهوم يؤدّي إلى ثبوت قديم سوى اللّه ، وهو خلاف اجماع المليين نعم! الأشاعرة لا يبالون بالتزام مثله ، فانّهم قالوا بقدماء سبعة هي العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر - لأنّ هذه الصفات عندهم قديمة زائدة على الذات - ، فلو كانوا قائلين بالزمان الموهوم - كما نسب إليهم - لكان القدماء عندهم ثمانية.

ثمّ انّ البقاء والوجود والموصوف به أيضا زائدان عندهم ، فتلك عشرة كاملة! ، قال أستاذنا - رحمه اللّه - : العجب انّ الاشاعرة كفّروا الحكماء بقولهم بالايجاب والقدم وهم قائلون بهما جميعا ، لأنّهم قالوا بزيادة الصفات وازليتها وعندهم انّ الازلي لا يكون اثرا للمختار ، فلزمهم القول باستناد تلك الصفات إلى الذات على وجه الايجاب ، فهم كما يقولون بقدم هذه الصفات يقولون بالايجاب. مع أنّ الحكماء لا يقولون بالايجاب ، اذ مجرّد القول بالقديم لا يستلزم استناد ذلك القديم إلى الموجب ، فانّ أثر المختار أيضا يمكن أن يكون قديما بأن تكون له إرادة مستمرة متعلّقة بمقدور أزلي مستمرّ ويكون بعدم القدرة والإرادة عليه تقدّما ذاتيا لا زمانيا ؛ انتهى.

ومنها - على ما قيل - : انّ حدود ذلك الامتداد متشابهة - إذ لا اختلاف في العدم ولا مخصّص من استعداد أو حركة أو غير ذلك - فلم اختصّ العالم بهذا الحدّ ولم يكن حدوثه في حدّ آخر قبله؟.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ هذا مجرّد دعوى بلا دليل ، إذ لعلّه كان اختلاف في اجزائه ، لأنّه ليس عدما محضا لا يجري ذلك فيه ، بل أمر نفس أمري وقع العدم فيه ؛ انتهى.

ولا يخفى ما فيه من التعسّف ، لأنّ الغرض انّه منتزع من ذات الواجب - تعالى - بملاحظة بقائه وازليته ، والشيء المنتزع من الوحدة الصرفة والبساطة المحضة بأي سبب تتأتّى فيه الاختلاف؟!. أليس اختلاف المعلول مستندا إلى اختلاف في العلة؟ ، فبعد قيام الدلالة القطعية على وجوب تشابه الأجزاء فالمنع مكابرة. نعم! يمكن الجواب / 47MA / عن الايراد بأنّ قبول العالم للوجود انّما كان متوقّفا على انقضاء هذا القدر و

ص: 211

انتهائه إلى هذا الحدّ.

ومنها : انّ منشأ ثبوت هذا الامتداد انّما هو تحقّق موجود ما ايّ موجود كان ، لأنّهم قالوا : انّ الباعث لتحقّقه إنّما هو وجود الواجب بملاحظة بقائه ، فما دام الواجب موجودا ينتزع منه هذا الامتداد سواء كان قبل ايجاد العالم أو بعده ، ولا فرق إلاّ بأنّه إذا وجد العالم ينطبق هذا الامتداد على الحركة والزمان ، ولذا قال بعضهم : انّ هذا الامتداد العقلي بمنزلة المذروع وحركة الاطلس بمنزلة خشبة الذراع. فبهذه الحركة يتميّز أبعاض هذا الامتداد فتصير قطعة منها نهارا وأخرى ليلا واخرى أسبوعا وأخرى شهرا وأخرى سنة. وإذا انتزع هذا الامتداد من الواجب بملاحظة بقائه مع وحدته وتجرّده وتعاليه عن الزمان لانتزع بطريق أولى عن كلّ موجود - مجرّدا كان او ماديا ، حيوانا أو نباتا أو جمادا أو غير ذلك - بعدد كلّ فرد من افراد كلّ نوع بحسب بقائه ، إن متناهيا فمتناهيا وإن غير متناه فغير متناه. فيتحقّق في العالم امتدادات واقعية نفس أمرية غير متناهية عددا وإن انطبق بعضها على بعض إلاّ أنّ التغاير بينهما متحقّق ، كما بين الزمان الموهوم والزمان الّذي هو مقدار الحركة الدورية.

فان قيل : بعد تحقّق الحركة الدورية والزمان الّذي هو مقدارها كلّ موجود يوجد فامتداده هو جزء من هذا الزمان ، ولانتزع منه زمان موهوم على حدة ؛

قلنا : الباعث لحصول الامتداد ان كان وجود الشيء بملاحظة بقائه فيلزم أن ينتزع من كلّ موجود له بقاء امتداد خاصّ على حدة وإن انطبق على الزمان الّذي هو مقدار الحركة الدورية - ولو كان وجود الحركة الدورية ومقدارها منافيا لهذا الانتزاع - لوجب أن لا ينتزع الزمان الموهوم من الواجب بعد وجود الحركة الدورية ومقدارها ، وهو خلاف ما صرحوا به.

فان قيل : المسلّم اللازم هو انتزاع امتداد واحد هو أوّل الامتدادات ، وهو الّذي ينتزع من الواجب - أعني : الزمان الموهوم - ، وساير الامتدادات اجزاء له ؛

قلنا : باعث تحقّق الزمان الموهوم - على ما قلتم - هو وجود الواجب بملاحظة بقائه ، والشيء المنتزع من الواجب كيف ينتزع من كلّ واحد من الموجودات المتخالفة

ص: 212

المتباينة؟! ، مع انّ الباعث المستقلّ في كلّ واحد منها متحقّق بطريق أولى. وان ادّعى انّ الامتدادات المنتزعة من سائر الموجودات منطبقة على الامتداد الأوّل فهو ممنوع ، إلاّ انّه لا ينافي التعدّد ، فحصول الامتدادات الواقعية النفس الأمرية الغير المتناهية عددا لازم ، والبديهة قاضية ببطلانه ، فانّا نعلم قطعا انّ الامتداد الحاصل لوجود زيد هو الزمان الّذي هو مقدار الحركة الدورية الّتي وقع وجوده فيه ، وليس هنا امتداد آخر.

فالامتداد الواقعي النفس الأمري يجب أن يحصل من موجود متغيّر متحرّك بالحركة الدورية ، ولولاه لم يتحقّق في الواقع امتداد ولم يوجد / 45DB / زمان. والظاهر أنّ المتكلّمين لمّا التزموا تحقّق الزمان الموهوم المنتزع من الواجب فهم لا يبالون بالتزام انتزاع مثله من كلّ فرد من افراد الموجودات وان بلغ عدده إلى غير النهاية ؛ ولهم أن يقولوا : إذا سلّم وجوده ولم يكن فيه مفسدة فأيّ مانع من تعدّده وتكثّره وإن بلغ عدده أضعاف افراد الموجودات. على أنّها متداخلة بعضها مع بعض ومنطبقة بعضها على بعض ، فهذا الوجه الأخير لا ينهض حجّة مستقلّة للمطلوب ، فالعمدة هي الحجج المتقدّمة.

ثمّ لا يخفى انّه وإن ظهر بما تقدّم من الحجج بطلان الزمان غاية الظهور ، إلاّ أنّا نذكر تأكيدا واستظهارا برهانا مشتملا على الاحتمالات المتصوّرة لذلك الزمان وابطالها كما أورده بعض الافاضل ؛ وهو : انّ هذا الزمان لا يخلوا إمّا أن يكون موجودا ، أو موهوما ؛ فان كان موجودا كان ممكنا من الممكنات ، فيلزم أن يكون داخلا فيما سوى اللّه ، فيكون / 47MB / وجوده أيضا مسبوقا بالعدم بحكم الاجماع والحديث النبوي ، والحال انّه قد ذكرنا انّ الزمان إذا كان ظرفا للعدم الأزلي يجب أن يكون قديما لا حادثا ، فيلزم التناقض!.

وأيضا إذا كان الزمان موجودا قابلا للمساواة واللامساواة فيلزم أن يكون كمّا ، والكم عرض ، فلا بدّ له من محلّ ، ومحله لا يكون إلاّ ماديا ، فيلزم قدم ذلك المادي وهو خلاف الاجماع والحديث النبوى ؛

وإن كان موهوما فلا يخلو : إمّا أن يكون موهوما صرفا اختراعيا - كانياب

ص: 213

الأغوال - وحينئذ لا يكون عدم العالم قبل وجوده في ظرف يكون هو الزمان ، بل يكون عدمه عدما لا بزمان ولا مكان ، ولا نعني بالعدم الصريح الخالص إلاّ هذا ؛ ولو كان موهوما له منشأ الانتزاع فننقل الكلام إليه ، فهو إمّا واجب أو ممكن ؛ لا جائز أن يكون واجب الوجود ، فبقي أن يكون ممكنا ، فذلك المنتزع منه يكون مادّيا البتّة.

فلا يخلوا : إمّا أن يكون قديما ، أو حادثا فان كان قديما لزم خلاف الاجماع والحديث النبوي ، وإن كان حادثا فلا يجوز أن يكون عدمه مسبوقا بهذا الزمان ، لأنّه متأخّر عنه ، فلا بدّ من زمان آخر وهكذا فيلزم التسلسل ، فبقي أن يكون مسبوقا بعدم لا يكون ذلك العدم في زمان ولا مكان.

فان قيل : قوله - تعالى - : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ* ) (1) ، وقوله - تعالى - : ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) (2) يدلّ على تحقّق الزمان الموهوم ، لأنّه لو لا الامتداد المنقضي المتجدّد لم يكن لستة أيّام أو يومين في الآيتين معنى ؛

قلنا : المراد بهذه الأيّام الأوقات الفرضية التقديرية ، ولو لم يكن الحمل عليها صحيحا لم يكن الحمل على الزمان الموهوم أيضا صحيحا ، إذ المتعارف والمتبادر من اليوم - كما صرّح به أهل اللغة والتفسير - هو زمان طلوع الشمس إلى غروبها ، ولم يكن حينئذ طلوع وغروب. ويؤيّده تصريحهم - كما مرّ - بأنّ ابعاض هذا الامتداد انّما يتميّز ويصير قطعة قطعة ليلا ونهارا بحركة الفلك الأطلس ولم يكن حينئذ فلك ولا حركة ، فالمراد مجرّد الفرض والتقدير. على أنّ المحقّقين يفرّقون بين اليوم والنهار ويقولون : انّ اليوم عبارة عن دورة واحدة من حركة الفلك الأقصى وهو ليس بسماء ، بل السماء في الحقيقة منحصرة في افلاك الكواكب السبعة السيّارة ، ووجود الليل والنهار بحركة فلك الشمس ، فيجوز أن يكون أصل جرم الفلك الأطلس خلق أوّلا طبقة واحدة ثمّ أدير ستّة دورات وفي مدّتها خلق ما فيها من السموات والأرض بأن جعل السماء بعد كونها طبقة سبع طبقات أو ازيد والأرض مثلهنّ ، وحينئذ لا حاجة في

ص: 214


1- كريمتان 54 ، الأعراف / 3 ، يونس.
2- كريمة 12 ، فصّلت.

تصوير معنى الآيتين إلى الزمان الموهوم ، فضلا من أن تكونا دليلتين عليه.

وإذ ثبت بطلان الزمان الموهوم - وقد ثبت أيضا فساد القول بمجرّد الحدوث الذاتي - فثبت من ذلك حقّية الحدوث الدهري - أي : مسبوقية وجودية العالم على العدم الصريح الواقعي الّذي لو وجد فيه زمان لكان غير متناه -. وهذا الحدوث مستلزم للحدوث الذاتي أيضا ، لأنّ تأخّر العالم عن اللّه بالعدم الصريح الواقعي مستلزم للتأخّر الذاتي الّذي هو عبارة عن محض الفاقة المرادف للحدوث الذاتى ، فالحدوث الدهري مستلزم للحدوث الذاتي بخلاف العكس ، كما انّ الحدوث الزماني مستلزم للحدوث الدهري بخلاف العكس.

ثمّ اعلم! انّ تقدّم الواجب والعدم على القول بالحدوث الزماني هو تقدّم بالزمان ، بمعنى أنّهما متقدّمان زمانا على العالم ، وعلى القول بالحدوث الذاتي تقدّم بالذات. ويسمّى بالتقدّم العقلي ، لأنّه اعتبار يخترعه العقل من تلقاء نفسه ، وليس تقدّما بحسب الخارج والواقع. وعلى القول بالحدوث الدهري هو تقدّم دهري بمعنى انّ الواجب وعدم العالم متقدّمان عليه بحسب الدهر - الّذي هو الواقع ونفس الأمر - ، لأنّ الفصل بينهما هو الواقع ونفس الأمر لا الزمان ، فيكون تقدّما زمانيا ، ولا مجرّد اعتبار العقل ليكون محض التقدّم العقلي. وتوضيحه : انّه إذا كان وجود العالم متناهيا في جانب البداية كان للعدم تقدّم عليه سوى التقدّم الذاتي الّذي اثبته / 46DA / الحكماء ، لعدم تقدّم الممكن على وجوده المعبّر بالحدوث / 48MA / الذاتي. وهذا التقدّم شبيه بالتقدّم الزماني الّذي للحوادث الزمانية ولأجزاء الزمان بعضها على بعض عندهم في عدم اجتماع السابق والمسبوق. والفرق انّ لتقدم الزمانيات ملاكا في الخارج متجدّدا متصرّما مستمرّا يعرض ذلك التقدّم في الخيال أوّلا وبالذات لأجزائه المتجدّدة المتصرّمة المستمرّة وبتوسّطها يعرض للحوادث الزمانية ، ولهذا يفرض لهذا التقدّم خواصّ التقدّر والتكمّم. بخلاف تقدّم العدم على وجود العالم ، فانّه ليس له ذلك الملاك ، ولا يمكن تعيينه وتقديره ولا يكون فيه قرب وبعد وزيادة ونقصان إلاّ بمحض التوهّم وإن كان عدميا واقعيا نفس أمري كالعدم الّذي فوق محدّد الجهات.

ص: 215

فان قلت : إذا كان شيء متقدّما على آخر فلا محالة يكون بالقياس إلى ثالث - ويقال لهذا الثالث : « ملاك التقدّم » - ، واتّفق العقلاء على أنّ اقسام التقدّم باعتبار الملاك لا يزيد على خمسة أنواع :

الأوّل : التقدّم المكاني ، كالجالس في الصدر على من في صفّ النعال. وملاكه صدر المكان ؛

والثاني : التقدّم الزماني ، وملاكه صدر الزمان. وهو فيما بين اجزاء الزمان بالذات وفيما بين الحوادث الزمانية بالتبع ، فهو تقدّم واحد يتقدّم به اجزاء الزمان بالذات والزمانيات بالعرض. كالتقدّم بحسب الامكنة ، فان التقدّم لأجزاء المكان بالذات وللمتمكّنين بالعرض ، ومثله حركة جالس السفينة. والمتكلّمون جعلوا هذا القسم قسمين وسمّوا التقدّم بين اجزاء الزمان تقدّما بالذات ، والتقدّم بين الموجودات الزمانية تقدّما بالزمان ، وهو تكلّف بلا فائدة! ؛

والثالث : التقدّم بالشرف ، وهو الّذي يكون بين الأشياء باعتبار صفاتها شريفة كانت أو خسيسة ، وسمّوه بالشرف تغليبا. وملاكه تلك الصفة ؛

والرابع : التقدّم بالطبع ، وهو الّذي للعلّة الناقصة على معلولها ، وملاكه الوجود ؛

والخامس : التقدّم بالعلّية وبالذات ، وهو تقدّم العلّة التامّة على معلولها. وملاكه الوجوب ، لأنّ بوجوبها يجب عنها المعلول من غير تخلّف ، بخلاف الناقصة ، فانّ لوجوبها فقط لا يجب عنها المعلول ما لم يجتمع جميع ما يحتاج إليه فتصير تامّة. وقد يقال للأخيرين جميعا : بالذات وبالطبع أيضا بإطلاق أعمّ. فهذه أقسام التقدّم الّتي ذكرها العقلاء ولم يزيدوا عليها شيئا ، والتقدّم الدهري ليس شيئا منها ، فلا يكون صحيحا! ؛

قلت : عدم ذكر الشيء لا يدلّ على البطلان ، وكم ترك الأوّل للآخر!.

فان قلت : التقدّم بالذات ليس تقدّما بمجرّد العقل ، بل هو أمر حقّ ثابت في نفس الأمر وفي محض الوجود والذات ، ولو فرض عدم العقول والأذهان فانّ حركة اليد بنفس ذاتها وصرف وجودها أصل لحركة المفتاح مفيضة لها وهي في حاقّ

ص: 216

حقيقتها ومحض إنّيتها متفرّعة عليها فائضة منها من غير توقّف ذلك على ملاحظة تعقّل ، فهذا التقدّم ثابت في نفس الأمر ، فيلزم أن يكون فاعل العالم بجميع اجزائه هو - سبحانه وتعالى - ، ويلزم منه تقدّمه على كلّ جزء من اجزائه تقدّما ذاتيا. فيمكن أن يقال ردّا على القائلين بالحدوث الدهري بأنّ وجوده - تعالى - عين ذاته وذاته لا يمكن أن يكون موجودا في الذهن ، وانّما هو موجود في العين بالاتفاق - لأنّ القوّة المدركة لا يدرك ذاته - ، فيكون العالم في مرتبة ذاته الّذي هو عين خارجي معدوما صرفا ، فيلزم كون وجوده بتمام اجزائه مسبوقا بالعدم الخارجي. ولا معنى للحادث الدهري إلاّ ما يكون وجوده مسبوقا بهذا العدم ، وتسميته بالعقلي أيضا لأنّ المدرك الشاهد عليه هو العقل دون الحواسّ بخلاف ساير الأقسام. وحينئذ نقول : التقدّم الدهري الّذي أنتم تثبتونه لا يريدون منه غير ذلك ، فهو بعينه التقدّم الذاتي! ؛

قلنا : التقدّم الذاتي وإن كان تقدّما حقّا ثابتا بنفسه - لما ذكر - إلاّ أنّ العدم المتقدّم ليس إلاّ العدم الّذي يلزم لماهية / 48MB / الممكن من دون تحقّقه في الواقع ونفس الأمر ، ولو فرض اطلاق التحقّق الواقعي على مثله فهو غير صالح لأن يكون فصلا بين الواجب والعالم وأن يكون بحيث لو فرض وقوع الزمان فيه كان غير متناه ، لأنّ العدم الذاتي عدم مجامع للعلّة والمعلول وليس عدما غير مجامع لهما ، بخلاف التقدّم الدهري ، فانّ المراد به أن يتقدّم العلّة على المعلول مع فصل العدم الغير المجامع لهما ، فيكون فاصلة واقعية بين الواجب والعالم. فحقيقة الحدوث الذاتي للعالم أن يكون العالم مبدعا من غير زمان ، ولا عدم حينئذ إلاّ العدم الّذي يلزم لماهية العالم وهو عدم مجامع يستحيل أن يفصل بينه وبين الواجب فصل بينونة ؛ وحقيقة الحدوث الدهري له أن يتقدّمه عدم غير مجامع بذاته يتحقّق به الفصل بينهما فصل بينونة ؛ وحقيقة الحدوث الزماني له أن يتقدّمه عدم زماني ويسبق كلّ زمان زمان.

فان قلت : لا معنى لأن يفصل العدم بين الواجب وبين العالم فصل بينونة ، لأنّ الفاصل بين شيئين يجب أن يكون شيئا حتّى يصلح لأن يقع به الفصل ، والتخلف والعدم محض السلب ليس له / 46DB / ماهية وذات وهوية يصلح أن يتقدّم ويتأخّر و

ص: 217

يجيء ويذهب ، فالقول بتقدّمه وتأخّره من باب قياس محض اللاّشيء على الشيء ؛

قلنا : جواز تقدّم العدم على الوجود من البديهيات العقلية لا يمكن انكاره ، كيف وهو مشاهد؟!. على أنّ الحكماء مصرّحون بتقدّم العدم الذاتي للعالم عليه ، فما يقولون في جواز تقدّم هذا العدم نحن نقول في جواز تقدّم العدم الواقعي.

قيل : العدم الذاتي لعدم ايجابه الفصل بين الواجب والعالم لا يلزم أن يكون ممّا ينقضي ويتصرّم ويجيء ويذهب وإن وصف بالتقدّم في لحاظ العقل أو مرتبة من الواقع ، بخلاف العدم الدهري ، فانّه لايجابه الفصل بين الواجب والعالم لا بدّ من التزام تقضّيه وتصرّمه ومجيئه وذهابه. وحينئذ نقول : هذا العدم الواقعي الفاصل بين المبدأ وبين العالم إن لم يعتمد على زمان وظرف يتقضّى بتقضّيه فكيف يمكن أن يتقضّى بمحض نفسه ويصير منشئا للانفكاك وفاصلا بين الواجب والعالم؟! ، وأنّى يتأتّى له ذلك مع انّه من خواصّ الذوات المحصّلة الّتي يمكنها الذهاب والمجيء؟!. وإن اعتمد على ظرف فان كان الظرف ثبوتيا فكيف يكون الفاصل هو محض العدم؟! ، بل يرجع إلى القول بالزمان الموهوم ، وإن كان عدما فيرجع الاشكال الأوّل - أعني : لزوم كون العدم الصرف فاصلا بين الشيئين ومنشئا للانفكاك بينهما - وهو لزوم مضيّ محض العدم بنفسه من غير اعتماد على طرف موجود. وليس لهم أن يقولوا : انّ هذا العدم لا يمضي بنفسه بل بالجزء الأوّل من الزمان ، فانّه إذا وجد العالم وتحقّق الجزء الأوّل من الزمان إن كان بعده بعدا يجامعه بحيث لم يتحقّق به فصل بين الواجب والزمان لكان الزمان قديما ولزم الحدوث الذاتي ، وإن كان بعده بعدا لم يجامعه فقد صدق مضيّ العدم بنفسه لا بالزمان.

وتلخيص هذا الايراد : انّ هذا العدم الواقعي إن اتّصف بالسابقية وحصل به الفصل بين الواجب والعالم لكان له وعاء البتة ، فيكون قولا بالزمان الموهوم ؛ وإن لم يتّصف بالسابقية ولم يحصل به الفصل لزم الحدوث الذاتي.

قال بعض المثبتين للزمان الموهوم الموردين على الحدوث الدهري : إذا اتّصف العدم في نفس الأمر بأنّه سابق على الوجود سبقا غير ذاتي - كما يظهر من بعض كلمات

ص: 218

السيد الدّاماد قدس سره - فيكون البتة محتاجا إلى وعاء وظرف يكون فيه ويتصف هو لا محالة بالتقدّر والتكمّم وغيره ، وكونه سابقا عليه بدون ذلك ممّا لا نقدر على تعقّله ، فلعلّه يحتاج إلى لطف قريحة لم يكن لنا! ، وإن لم يقولوا بسابقية العدم بحسب الحقيقة - كما يشير إليه بعض كلمات السيد رحمه اللّه حيث ذكر انّ في السبق الذاتي والزماني ليس الوجود مسبوقا بالعدم المقابل له ، إذ سلب الوجود في مرتبة نفس الماهية من / 49MA / حيث هي لا يقابل الوجود الحاصل في حاقّ الواقع من تلقاء العلّة الفاعلة بل يجامعه ، وكذا العدم السابق على الوجود سبقا زمانيا لا يقابل ذلك الوجود لاختلاف الزمان ، بل يقابله العدم في ذلك الوقت الّذي كان فيه الوجود ، بخلاف الحدوث الدهري ، اذ ليس في الدهر توهّم الامتداد والانقسام اصلا - فلا يكون حدّ العدم الصريح السابق في الدهر متميّزا في التوهّم عن حدّ الوجود الحادث من بعد ، بل انّه يبطل عقد السلب الدهري ويقع في حيزه عقد الايجاب الثابت الدهري ، فلا يفهم حينئذ معنى للحدوث والمسبوقية بالعدم اصلا ، بل ليس القدم إلاّ هذا. وبالجملة ما افاده السيّد ممّا لا يصل إليه فهمي ولا يحيط به وهمي!.

والجواب : انّ الفصل بين الحوادث الزمانية انّما هو بالزمان ، ولا يتعقّل الانفصال والانفكاك بينهما دونه. وأمّا الفصل بين الثابت والحادث - كالواجب والعالم - انّما هو بالدهر الّذي هو نسبة بينهما ووعاء للزمان ولكلّ ما يوجد مبدعا في غير زمان. قال ارسطاطاليس في أثولوجيا : اصول العالم واركانه - كالافلاك والعناصر - ليست موجودة في الزمان ، بل في الدهر ، وصرّح أساطين الحكمة بأنّ كون الثابت مع مثله سرمد ومع المتغيّر دهر وكون المتغيّر مع مثله زمان ، والدهر وعاء للزمان والزمان كمعلول للدهر ، والدهر كمعلول للسرمد ، إذ لو لا دوام نسبة المعلولات إلى عللها - كنسبة الحوادث الزمانية إلى عللها والاجسام الأولية إلى العقول مثلا والعقول إلى الواجب والزمان إلى مبدئه - لم يوجد معلول عن علّته ، فيجب لذلك أن يتحقّق النسبة دائما بين الموجودات بعضها إلى بعض من المتغيّر بالذات إلى ما فوقه حتّى ينتهى إلى الثابت بالذات ، فيظهر ممّا ذكروه انّ هذا الدهر وعاء للمبدعات من غير زمان ، ولعدمها

ص: 219

السابق عليها. وحقيقة هذا الوعاء عبارة عن حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، وكونه فاصلا بين الواجب وبين العالم كناية عن كون الواجب ثابتا في الخارج والواقع في حدّ ذاته / 47DA / مع كون العالم معدوما بحيث لو كان زمان في هذا الواقع الّذي كان الواجب فيه موجودا والعالم معدوما لكان غير متناه وان لم يكن في هذا الواقع وفي العدم المتحقّق فيه امتداد وتصرّم وتجدّد. وحاصله انه كان الواجب موجودا في متن الدهر وحاقّ الواقع ولم يكن معه عالم في متن الدهر وإن لم يكن زمان وامتداد ، إلاّ أنّه يمكن فرض الزمان وتقديره - كما تقدّم - ، فالزمان التقديري المفروض في الواقع الّذي تحقّق فيه الواجب ولم يتحقّق فيه العالم غير متناه. ولو فرض وقوع الزمان الخارجي في هذا الزمان التقديري وانطباقه عليه لكان غير متناه ، فحقيقة الحادث الدهري أن يسبقه العدم في متن الدهر وحاقّ الواقع ، والقديم الدهري أن لا يسبقه عدم في متن الدهر ، بل يكون ازلي الحصول في حاقّ الواقع وليس في الواقع امتداد زماني وفصل كمّي إلاّ بمجرّد الفرض والتقدير ، إلاّ أنّ الانفكاك الدهري والفصل الواقعي متحقّق.

والمتوغّلون في الزمان لا يعرفون من الانفكاك والفصل إلاّ ما هو زماني ، ولكن المسافرين من صقع عالم الزمان إلى ما فوقه يعرفون بصفاء عقولهم وتجرّد نفوسهم هذا الانفكاك والفصل ، ويعلمون انّه مع عدم توهّم تجدّد وتجزّ هناك يتحقّق به انفكاك الواجب والعالم في الوجود وعدم المعية بينهما في الوجود الواقعي والتحقّق النفس الامري. ولا يلزم من الانفكاك في الوجود والتحقّق ثبوت الامتداد والتجزي ، لأنّ امثالهما من خواصّ الزمانيات وليس وجود الواجب زمانيا ، فلا معنى لاتصال العالم وانفكاكه عنه في الحقيقة ونفس الأمر. ومرادنا من الانفكاك والفصل - كما أشير إليه - ارتفاع المعية بين الواجب والعالم في التحقّق الواقعي والثبات النفس الأمري بحيث يصحّ أن يقال : كان الواجب على المعنى الّذي يصحّ الآن ولا يكون العالم فيه.

وبهذا يندفع عنّا ما أورده بعض الناهجين منهج الحكماء في اثبات الحدوث الذاتي : انّه لا ريب انّ الّذي يفصل بين المبدأ الاوّل - تعالى - وبين العالم - سواء كان فاصلا متقدّرا أو غير متقدر - يجعل المتفاصلين متباينين في الوضع ، فلو كان الزمان أو

ص: 220

الدهر فاصلا بين الواجب والعالم لزم كون الواجب ذا وضع.

ووجه الاندفاع - كما مرّ - أنّه لا نريد من كون الدهر فصلا الاّ / 49MB / تحقّق الواجب بدون العالم في حاقّ الواقع ، ولو كان للواقع امتداد لم يرد تلك الشبهة فضلا عن عدم ثبوت امتداد في الواقع ، وعدم كونه ممتدّا متجزّيا لانّه ليس المراد أنّه فاصل يقع في أحد طرفيه الواجب وفي الآخر العالم ، بل هذه الشبهة عند التحقيق - كما مرّ - لا يرد على القائلين بالزمان الموهوم أيضا ، لأنّهم لا يقولون : انّه يجب أن يكون زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم ، بل يقولون : انّه يجب أن يتحقّق انفصال بين الواجب والعالم ويصحّ فيه قولنا : كان الواجب ولم يكن العالم فيه. نعم! هذه الشبهة ترد على من قال منهم : انّه كما يقال في الجسم انّه زماني بمعنى انّ وجوده مقارن لوجود الزمان ، فصحّ ذلك في شأن الواجب أيضا ، إذ يصدق انّ وجوده مقارن لوجود الزمان.

نعم! لا يصحّ أن يقال : انّه زماني بمعنى انّ وجوده منطبق على الزمان مثل الحركة ولا يصحّ ذلك في الجسم أيضا ، لأنّ مقارنة الزمان لوجوده - تعالى - يجعله ذا وضع وإن انطبق وجوده على الزمان ، وهو بديهي البطلان - كما مرّ -. وأيّ مناسبة للمجرّد الصرف المتعالي عن الزمان مع المقارنة للزمان ووقوعه في طرفه!؟.

فان قلت : حاصل ما ذكرت في الدهر - الّذي هو وعاء عدم العالم - انّه مع عدم وقوع الامتداد والتكمّم فيه يحصل به الانفكاك الواقعي ، وما طريق تعقّل ذلك وبأيّ حيلة نهتدي إلى ادراكه!؟. مع أنّ المعقول عندنا انّ هذا الشيء المسمّى بالدهر عندكم إن حصل به الفصل والانفكاك في الواقع لم يكن إلاّ شيئا ممتدّا هو الزمان ، وإن لم يحصل به الامتداد لزم قدم العالم وكونه موجودا مع الواجب في الواقع والخارج ؛

قلت : طريق ادراك ذلك بعد التذكّر بأنّه لو لم يوجد انفكاك واقعي بين العالم والواجب بحيث لو فرض تحقّق الزمان. فيه لكان غير متناه لزم إمّا كون الواجب محلاّ للزمان الواقعي النفس الأمري أو عدم تناهي الزمان والحركة من جانب البداية أو كون بقاء الواجب بقدر زمان متناه ، والكلّ قطعي البطلان - كما مرّ - انّ وعاء الواقع اعمّ الأوعية واشملها ، لأنّه عبارة عن الخارج والخارج من حيث هو خارج ليس

ص: 221

شيئا موجودا على حدة مغايرا للموجودات الخارجية ، بل هو عبارة عن حدّ ذات الشيء ومرتبته في الوجود ، فالخارج للواجب كونه ثابتا موجودا بذاته قائما بنفسه لا في زمان ولا في مكان ولامع شيء آخر من الموجودات - ويعبّر عنه بالسرمد - ، وللعقول والنفوس ونفس / 47DB / الزمان كونها موجودة بغيرها لا في زمان ولا في مكان ولأعدامها كونها متحقّقا لا في زمان - ويعبّر عنه بالدهر - ، وللحوادث اليومية كونها موجودة في الزمان والمكان. فنحن إذا أردنا أن نعبّر عن كون الواجب موجودا بذاته بدون شيء من الأشياء نقول : موجود في السرمد تجوّزا ، وإذا أردنا أن نعبّر عن تحقّق عدم العالم قبل وجوده لا في زمان نقول : انّه متحقّق في الدهر على سبيل التوسّع مع أنّ الدهر والسرمد ليسا شيئين. موجودين منفردين ، فالسابق على وجود العالم ليس إلاّ عدمه الخالص الصرف ووجود الواجب الحقّ - تعالى شأنه -. ولا يلزم مع ذلك معية الواجب للعالم في الخارج ، لأنّه لا نسبة بين الواجب وبين غيره من الموجودات بوجه من الوجوه ليتصوّر بينهما المعية في الوجود الخارجي ، فانّ المجرّد الصرف القائم بذاته البريّ عن شوائب المادّية والمتعالي عن الانتساب إلى الزمان ايّ معية ومقارنة يتصوّر أن يكون له بالنسبة إلى الزمان وغيره ممّا ينتسب إليه؟ ، فانّ المعية والمقارنة بين الشيئين في الزمان فرع كونهما زمانيين. وإذا انتفت المعية عنه - تعالى - يتحقّق انفكاكه عن العالم وان لم يكن انفكاكا زمانيا ، فانّه لو فرض قدم الزمان لكان منفكّا عنه بهذا المعنى أيضا. إلاّ أنّ الفرق انّه في صورة تناهية وحدوثه انّه يتحقّق حينئذ قبل العالم والزمان عدم الخالص المحض ويكون الواجب فيه موجودا ، فيصدق انّه كان الواجب في الخارج ولم يكن فيه زمان ، ويصدق انّه لو وجد فيه زمان لكان غير متناه. وللعقل أن يفرض فيه زمانا تقديريا ، فانّ جميع الأزمنة بآزالها وآبادها ، بل أضعافها بألف ألف مرّة لو القيت في هذا العدم أوسعها ، بل كانت بالنسبة إليه واحد بالنسبة إلى الزمان الغير المتناهي ، والأمكنة بعلوها وسفلها بل أضعاف أضعافها لو القيت فيه لوسعها ، بل كانت بالنسبة إليه كحلقة في فلاة وقطرة في بحر زخّار ، بل كنقطة بالنسبة إلى الكرات الغير المتناهية. وممّا يوضح ذلك انّ الواجب - تعالى شأنه - مع عدم

ص: 222

/ 50MA / كونه في مكان له تحقّق في الواقع ويصدق عدم المعية بين الواجب وبين غيره من الممكنات في المكان ، بل لو قيل بتحقّق الانفكاك بين كلّ مكان وبين الواقع الدهر - الّذي هو ظرف تمكّنه تعالى ووعاء استقراره - لكان صحيحا ، ومعنى استقراره وتمكّنه في وعاء الواقع والخارج هو قيامه بذاته الواجبة بنفسها. ولو ادّعى انّه لو فرض بينهما بعد لكان غير متناه لم يكن بعيدا. والسرّ عدم امكان تحقّق النسبة بينهما وعدم جواز وقوع الواقع في أحد طرفي البعد ، كما يجوز وقوع مكان ما في أحدهما ، فهو - تعالى شأنه - مع انّه أبعد الأشياء إلى كلّ مكان يتصوّر فهو أقربها إليه!.

وقس على ذلك نسبته - تعالى - مع كلّ زمان وزماني ، فانّه مع عدم كونه في زمان له تحقّق في الواقع ويصدق عدم المعية بينه وبين غيره من الزمانيات في الزمان ، ويصحّ القول بتحقّق الانفكاك بين كلّ زمان وبين الواقع الّذي هو ظرف وجوده - تعالى -.

ومعنى كون الواقع ظرف وجوده هو كونه ثابتا بنفسه مصونا عن التغيّر والتجدّد وقيامه في حدّ ذاته. ولا يبعد ادّعاء انّه لو فرض بين الواقع الّذي هو ظرف وجوده وبين كلّ زمان زمان لكان غير متناه ، والسرّ عدم امكان تحقّق النسبة بينهما وعدم تعقّل وقوعهما في طرفى الزمان ، فهو - تعالى - مع أنّه أبعد الأشياء إلى كلّ زمان فهو أقربها إليه. وكما يصدق أنّه - تعالى - مباين (1) عن كلّ مكان وكان موجودا فيما لم يوجد متمكّن فيه كذلك يصدق انّه - تعالى - مباين (2) عن كلّ زمان ، وكان موجودا ولم يوجد العالم أصلا.

وممّا يوضح قبول العدم المذكور لوقوع الازمنة فيه واحاطته بها واتصافها بالامتداد والزيادة والنقصان بعد وقوعها فيه : انّه لا يمتنع أن يفرض الواجب - تعالى - منفردا بدون تحقّق شيء من الزمان والزمانيات والمكان والمكانيات إلى هذا الآن ، فنفرضه كذلك ونقول : على هذا الفرض يلزم أن لا يتحقّق قبل هذا الآن غير الواجب شيء لا موجود خارجي ولا واقعي نفس امري ، فلا يتحقّق امتداد أصلا ، بل المتحقّق

ص: 223


1- الاصل : متباين.
2- كما في التعليقة السالفة.

سوى الواجب هو العدم الصرف الخالص مع انّه بعد فرض وجود العالم فيه كما هو المطابق للواقع يحصل فيه الامتداد القابل للزيادة والنقصان ، فانّ الامتداد الحاصل في الزمان من وقت حدوث العالم إلى هذا الآن أكثر من الامتداد الحاصل من زمان نوح إلى هذا الآن مع انّه لم يقع إلاّ في العدم الصرف ، ولو فرض عدم وجوده لم يكن إلاّ العدم الخالص الغير القابل للامتداد والانقضاء.

ثمّ الامتداد والتفاوت وإن لم يكن معلوما لنا لو لم يوجد الزمان إلاّ أنّه بعد وجود الزمان يظهر لنا ثبوت الامتداد والتفاوت فيه ؛ فكذا الحال في العدم الخالص الّذي لم يوجد فيه الزمان ، فانّ العقل يحكم / 48DA / بأنّه لو وجدت فيه الزيادة يحصل فيه الامتداد الغير المتناهي. فيظهر انّه يمكن تحقّق وعاء واقعي غير ممتدّ لو وجد فيه الزمان لكان غير متناه.

والمنازع إن قال : لا يمكن أن يفرض وجود الواجب منفكّا عن العالم بدون امتداد واقعي نفس أمري ؛ فهو مكابر ، لأنّه مع ما علمت انّ تحقّق الامتداد للواجب بديهي البطلان ؛ نقول : جواز فرض ذلك ممّا لا ينبغي الريب فيه ، فانّ ما هو محال في الواقع لا يستحيل فرضه.

وإن قال : وجود العالم والزمان لا يقع في العدم المفروض ؛ فهو اشدّ مكابرة.

وممّا يوضح قبول العدم المذكور لوقوع الأمكنة فيه واحاطته بها وقبولها للزيادة والنقصان بعد وقوعها فيه انّه لا ريب في أنّ قبل وجود العالم لم يكن البعد الّذي حصل فيه المحدّد بما فيه بعد وجوده شيئا خارجيا موجودا ، بل كان عدما لا خلأ ولا ملأ كما هو فوق المحدّد والآن ، ومع ذلك بعد وجود العالم حصل فيه الأمكنة والأبعاد القابلة للزيادة والنقصان.

ولو فرضنا وجود الابعاد والاماكن في العدم الخالص السابق على العالم لحصل فيه الامتدادات المكانية وكان قابلا لها ، بل لحصول الابعاد الغير المتناهية.

وبما ذكرناه يظهر اندفاع ما قيل : انّ العدم والوجود اللّذين في هذا الوعاء ان كانا متعاقبين - كما يظهر من بعض كلمات السيد الداماد قدس سره حيث قال فيما مضى

ص: 224

من كلامه : « يبطل عقد السلب الدهري ويقع في حيزه عقد الايجاب الدهري » - كانا زمانيين ، وإن كانا مجتمعين في حالة واحدة - كما يظهر من بعض / 50MB / اخر من كلماته المتقدّمة حيث قال : « وليس حدّ العدم السابق فيه متميزا عن حد الوجود اللاحق » - لزم الحدوث الذاتي ؛ انتهى.

ووجه اندفاعه : انّهما ليسا مجتمعين ، بل متعاقبين لا بالتعاقب الزماني ، بل بالتعاقب الدهري الواقعي - كما مرّ مفصّلا -. فلا يلزم كونهما زمانيين ، فانه قال قبل هذا : الواقع المسمّى بالدهر - الّذي هو وعاء عدم العالم - إن كان معدوما صرفا فكيف يتحقّق به الانفكاك الواقعي ويكون وعاء للموجود كالواجب أو غيره من المجرّدات ، وإن كان موجودا فامّا أن يكون قديما فيلزم وجود قديم سوى اللّه ، فمن يرضى بقدم الواقع الّذي هو غير اللّه - تعالى - فما باله لا يرضى بذلك لغيره من الزمان والعالم! ؛ وإن كان حادثا فامّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى القديم ؛ وكلاهما باطلان. وأيضا الدهر إمّا ثابت بنفسه من غير علّة ، فيكون واجبا لذاته ، وهو باطل ؛ أو بالواجب لذاته ومعلول له ، فان كان منتزعا منه فيلزم قيامه بذاته - تعالى - وهو محال. ولو قطع النظر عنه نقول : ما قام به - تعالى - كيف يصير ظرفا لعدم العالم ولغيره - تعالى - من المبدعات؟! وإن لم يكن منتزعا منه - بل كان موجودا منفصلا عنه تعالى قديما أو حادثا - فمع لزوم كون الواجب موجودا لا في الدهر والواقع يعود بعض الاشكالات المتقدّمة أيضا ، فمن تأمّل يظهر له انّ اكثر الاشكالات الواردة على الزمان الموهوم يرد على الدهر أيضا ، مع اختصاصه بورود اشكالات أخر.

قلنا : أوّلا انّ الواقع أو الخارج ونفس الأمر المرادف للدهر ممّا لم يختصّ باثباته القائلون بالحدوث الدهري ، بل هو ممّا قال به جميع الفلاسفة والمتكلّمين ، فالترديد فيه بانّه موجود أو معدوم ، قديم أو حادث ، ثابت بنفسه أو معلول - مع ما ذكر من فساد كلّ شقّ - يرد عليهم أيضا ؛ فما يقولون في الجواب فهو جوابنا بعينه. ولا فرق بيننا وبينهم إلاّ انّ الحكماء يقولون : انّ الواقع لا ينفكّ عن وجود العالم والمتكلّمون يقولون لا ينفكّ عن الزمان الموهوم ، ونحن نقول ينفكّ عنهما ويحصل به الانفكاك بين الواجب

ص: 225

والزمان والعالم ، فالايراد المختصّ بنا هو انّه كيف يمكن أن يحصل به الانفكاك؟ ، وقد تقدّم جواب ذلك.

وأمّا ما أورده هنا من الترديدات فيه وايراد فساد كلّ شقّ فوروده مشترك بيننا وبين الحكماء والمتكلّمين.

وأمّا ثانيا : انّ الواقع والخارج أو نفس الأمر - على ما تقدّم مفصّلا - ليس إلاّ حدّ ذات كلّ شيء ومرتبته ، فوجود كلّ شيء في الواقع هو كونه في حدّ ذاته ومرتبته. فهو من لوازم وجود كلّ موجود ، فليس موجودا منفصلا ولا معدوما صرفا ، بل هو شيء واقعي نفس أمري له منشأ انتزاع هو موجود ما ، وهو في القديم قديم وفي الحادث حادث وفي كلّ موجود بحسبه وعلى ما يليق به ، وما يتحقّق لكلّ واحد من الموجودات غير ما يتحقّق للآخر. فالواقع الثابت للواجب - تعالى شأنه - هو ما يليق ويناسب ذاته - تعالى - ، وليس هو ثابتا لغيره ، وكذا ما يثبت للعقول غير ما يثبت للافلاك وهكذا ؛ وليس شيئا ممتدّا - كالزمان - حتّى يقال : لا يناسب أن ينتزع من ذاته - تعالى - ؛

قلنا : انّا نختار من الترديدات كونه قديما منتزعا عن ذاته - تعالى - ولا يلزم فساد ، لأنّ حدّ ذات الواجب ومرتبته ليس شيئا سوى اللّه حتّى يلزم وجود قديم سوى اللّه ، وهذه المرتبة ليست مرتبة لغيره - تعالى - حتّى يلزم أن يكون ما ينتزع من الواجب وعاء لغيره - تعالى -.

ثمّ ما ذكرنا هاهنا يؤكّد ويقوّي ما ذكرنا / 48DB / قبل ذلك من أنّ الواقع صالح لأن يحصل به الانفكاك بين الواجب والعالم ، لانّ منشأ الانفكاك حقيقة بين الأشياء انّما هو حدود ذوات الاشياء ومراتبها ، فالانفكاك الواقعي بين الواجب والعالم ونفي المعية عنهما لا يتوقّف على تخلّل شيء موجود على حدة ، بل هما يحصلان بمجرّد اعتبار وجودهما في حدّ ذاتهما وتحقّقهما في مرتبة حقيقتهما مع تخلّل العدم الصرف الخالص.

فوجود الواجب - تعالى شأنه - في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته يكفي لانفكاكه عن العالم وعدم وجوده معه ، وهذا الحدّ أو المرتبة هو المعبّر عنه عندنا بالدهر أو السرمد. فالدهر

ص: 226

أو السرمد ليس عندنا شيء على حدة أزليا كان مساوقا للواجب في الوجود ؛ ولقد أجاد فيما أفاد / 51MA / بارع المحقّقين حيث قال في شرح رسالة العلم : أزليته - تعالى - واثبات سابقيّته له على غيره ونفي المسبوقية عنه ، ومن تعرّض للدهر أو الزمان أو السرمد في بيان الأزلية فقد ساوق معه غيره في الوجود (1).

ثمّ انّ الحكماء الذاهبين إلى قدم العالم احتجّوا على اثبات ما ذهبوا إليه بوجوه (2) عمدتها ثلاثة :

أحدها : انّه لو كان العالم مطلقا حادثا لزم التخلّف في الازل عن العلّة التامة ، إذ ذاته بذاته في الأزل كافية في فيضان الوجود عنه وعلّة تامّة مستقلّة لايجاد العالم ، فانّه منبع الجود وفيّاض على الاطلاق وتامّ في ذاته وصفاته الّتي هي عين ذاته ، فبم يتصحّح تخلّف العالم وانقطاع الفيض عنه مع أنّه نقص على وجوده وفيضه وفتور على احسانه وفضله؟! ، بل هو وهن على حريم سلطنته التامّة الكبرى وغير لائق بساحة جبروته القاهرة العظمى ؛

والجواب عنه : انّ التخلّف لقصور العالم وعدم قبوله الوجود الازلي ، فتخلّفه عنه من مقتضى ذاته وتلقاء نفسه لا من جهة تاخّره في الافاضة وعدم كونه علّة تامّة. وذلك كما أنّ تخلّف المعلول عن مرتبة ذات العلّة من نقصان جوهره عن قبول الوجود في تلك المرتبة ؛ وإلى ذلك يشير قولهم : انّ العالم لم يكن ممكنا قبل ذلك الوقت ثمّ صار ممكنا فيه ، والامكان شرط في التأثير والمقدورية ، والوجوب والامتناع يحيلانها. وثبوت الامكان للعالم أزلا لا ينافي ذلك ، إذ لا يلزم من امكان العالم امكان أزليته ، إذ امكان ازلية الشيء انّما يتحقّق إذا كان امكانه الوقوعي ازليا. ألا ترى انّ الحادث بشرط كونه حادثا امكانه أزلي وليس ازليته ممكنة لاستحالة ازلية الحادث من حيث انّه حادث؟! ، فالامكان الذاتي يتحقّق في الأزل ، فلا انقلاب ؛ والوقوعي غير متحقّق فيه ، فلا قدم. فلمّا زال المانع من جهته وصار ممكنا بالامكان الوقوعي وجد ، فلا تأخّر في الافاضة ولا تغيّر في الذات ولا تخلّف للمعلول عن علّته التامّة ، و

ص: 227


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 46.
2- وانظر : تلخيص المحصّل ، ص 205.

لا تسلسل أيضا. وكون الشيء بالامكان الذاتي - أي : كونه بحيث لا يقتضي لذاته الوجود والعدم - لا يوجب كونه ممكنا بالامكان الوقوعي.

ثمّ هذا الجواب يتأتّى عند من جعل الداعي آن أوّل الايجاد ، فانّ المذاهب في اثبات الداعى لفعله - تعالى - خمسة :

الاوّل : مذهب الحكماء ؛ وهو : انّ الداعي نفس ذات الواجب - تعالى - ، ولذا قالوا بقدم العالم. فلا يرد عليهم لزوم تخلّف المعلول عن العلّة التامة ؛

الثانى : مذهب الاشاعرة ؛ وهو : انّ الداعى نفس الإرادة ، فانّ المرجّح عندهم هو مجرّد الإرادة بناء على ما ذهبوا إليه من جواز الترجيح بلا مرجّح ؛

والجواب عن الايراد المذكور - اعني : لزوم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة - على هذا المذهب : انّ تمامية العلّة انّما هو بعد الإرادة وهي لم توجد في الأزل ، بل انّما وجدت في الوقت الّذي أوجد العالم ، فقبل ايجاد العالم لم يوجد جزء العلّة - اعني : الإرادة - ، وبعد وجود الإرادة لم يتخلّف العالم عن الواجب ، فلا تخلّف.

الثالث : مذهب أهل التحقيق من المتكلّمين ؛ وهو : انّ الداعي آن أوّل الايجاد.

بمعنى انّ العالم قبل ذلك لم يكن ليقبل الوجود ، إمّا لقصوره وعدم قبوله الوجود السابق على هذا الآن أو لعدم وجود وقت قبل ذلك الآن - كما يشر إليه قولهم : واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله (1) -.

والجواب عن الايراد المذكور على هذا المذهب كما ذكرناه مفصّلا.

ثمّ أهل التحقيق من هذا المذهب جعلوا الداعي هو آن الحدوث على سبيل الوجوب دون الأولوية ، وبعض من لم يثبت جعل الداعي آن الحدوث على سبيل الأولوية ، دون الوجوب ؛ وبطلانه ظاهر!.

الرابع : مذهب بعض المعتزلة ؛ وهو : انّ الداعى مصلحة تعود إلى العالم.

والجواب عن الايراد المذكور على هذا المذهب انّ تلك المصلحة من أجزاء العالم ولا تتمّ العلّة بدونها ، وتلك المصلحة انّما توجد إذا وجد العالم في الوقت الّذي أوجد

ص: 228


1- راجع : كشف المراد ، ص 129.

لا قبل ذلك ، لأنّ أجزاء العالم ومصلحته انّما كان بأن يوجد في هذا الوقت دون غيره ، فقبل ذلك لم توجد المصلحة وبعد وجودها لم يتخلّف العالم.

الخامس : مذهب جمع آخر من المتكلّمين - ومنهم المحقّق الطوسي كما نسب إليه الاكثرون - ؛ وهو : انّ الداعي العلم بالمصلحة (1).

والجواب عن الايراد المذكور عن هذا المذهب يظهر ممّا ذكر.

وقد ظهر انّه على المذهب الأوّل لم يتخلّف / 49DA / العالم عن الواجب اصلا ؛ وعلى الثاني التخلّف / 51MB / لعدم الإرادة ؛ وعلى الثالث التخلّف لعدم تحقّق الوقت الّذي يمكن للعالم أن يقبل فيه الوجود ؛ وعلى الرابع التخلّف لعدم وجود المصلحة في ايجاد العالم قبل الوقت الّذي وجد فيه ؛ وعلى الخامس لعدم العلم بالمصلحة ، بل للعلم بعدمها في ايجاده قبل ذلك.

ثمّ الحق انّ القول بأنّ المرجّح هو المصلحة الراجعة إلى العالم والقول بأنّ المرجّح هو العلم بالأصلح ليسا قولين متغايرين ، بل مآلهما واحد ، فيرجعان إلى قول واحد.

فانّ من ذهب إلى انّ الداعى هو المصلحة اراد أنّ الواجب - سبحانه - لعلمه باقتضاء المصلحة اختصاص حدوث العالم بوقته المعيّن أوجده فيه بالقدرة والاختيار ، فيمكن أن يسند التخصيص إلى المصلحة وإلى العلم بها ، والمآل واحد. ولذلك تارة يقولون : المرجّح هو المصلحة ، وتارة يقولون : هو العلم بالمصلحة ، تعويلا على الظهور. فليس مذهب القائل بعلّية المصلحة غير مذهب القائل بعلّية العلم بها - كما نصّ عليه جماعة من الأفاضل - ؛ هذا.

وقد أجاب بعض الاعلام المتأخّرين عن الايراد المذكور : بأنّ التخلّف عن العلّة التامة انّما يلزم ويستحيل إذا كانت العلّة التامّة موجودة في زمان موجود أو موهوم لم يوجد المعلول فيه بعد ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون تلك العلّة أو بعض اجزائها وشرائطها زمانية ، واللّه - تبارك وتعالى - من حيث ذاته وصفاته الحقيقية منزّه عن أن

ص: 229


1- راجع : الشرح الجديد ، ص 186 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 6 ، ص 325 ، 331 ؛ علم اليقين ، ج 1 ، ص 102 ؛ شرح المقاصد ، ج 4 ، ص 97 ؛ تلخيص المحصّل ، ص 207 ؛ الأربعين ، ج 1 ، ص 179 ؛ المطالب العالية ، ج 4 ، صص 48 ، 65.

يكون زمانيا ، بل هو خارج عن سلسلة الزمان والزمانيات ، سواء كان متناهية - كما عليه المليون - أو غير متناهية - كما ظنّه الحكماء - ، ونسبته إلى جميعها نسبة واحدة.

فلا يلزم من تناهي زمان وجود الممكنات كون الواجب - تعالى - موجودا في زمان موجود أو موهوم لا يوجد فيه ممكن ، كما لا يلزم من تناهي مكان الممكنات كونه - تعالى - موجودا في مكان كذلك فكيف يتصوّر وأنّى يلزم التخلّف المستحيل؟!. نعم! عند المليين له - تعالى - قبلية على جميع الممكنات سوى القبلية بالعلّية ، لكن ليست قبلية متقدّرة متكمّمة حتّى يحتاج إلى زمان يكون ملاكا لها. بل منشأ انتزاعها هو اختصاص جميع الموجودات الممكنة بالزمان عندهم ، إمّا من حيث الذات والحقيقة وإمّا من حيث العلاقة الذاتية ، وتناهي الزمان واحاطته - تعالى - عليه وتعاليه عنه من حيث الذات والصفات الحقيقية. ولا يلزم من ذلك محال - كما لا يخفى على المتأمّل المنصف -.

وليس المراد من لفظة « كان » في الحديث المشهور (1) الزمان الماضي موجودا - لكونه من العالم أيضا - ، ولا موهوما - لبطلانه عند المحقّقين ، كالمحقق الطوسي وغيره -.

وليس المراد من توصيفه - تعالى - بالدوام والازلية والقدم واشباهها كونه موجودا في زمان غير متناه - تعالى عن ذلك -. كيف وقد ورد عن ائمّتنا المعصومين - علیهم السلام - أيضا : انّ متى مختصّ بالحوادث وأن ليس له - تعالى - متى ، والردّ على من سأل عن ذلك ، وانّه كان إذ لا كان ولا مكان ، فخلق الكان والمكان ، وانّه قبل القبل بلا قبل وانّه لا يوصف بزمان ولا مكان ، بل هو خالق الزمان والمكان ، وانّه لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وانّه الآن كما كان - على ما هو منقول بعبارات متغايرة وروايات متظافرة (2) - ، انتهى.

وأنت تعلم انّ حاصل هذا الجواب انّ التخلّف انّما يتصوّر إذا وجدت العلّة في زمان ولم يوجد المعلول فيه ، ووجود العلّة لا في زمان بل في حاقّ الواقع بدون

ص: 230


1- اشارة إلى ما مضى من النبوي الشريف : « كان اللّه ولم يكن معه شيء ». راجع : ص 191.
2- راجع : التوحيد ، ص 173 ، باب نفي المكان والزمان ... عن اللّه - عزّ وجلّ -.

الامتداد بدون المعلول لا يطلق عليه اسم التخلّف ، لعدم تحقّق الأوّلية والآخرية والجزئية وأمثالها بدون تحقّق الزمان وعدم تحقّق طرف يصدق تحقّق التخلّف فيه. وغير خفيّ انّ بناء هذا الجواب على عدم وقوع التفاوت والاختلاف في ظرف الواقع ونفس الأمر بدون وجود الزمان ، وقد تقدّم ذلك مفصّلا ؛ فتأمّل!.

وثانيها : انّه لو كان العالم حادثا لكان مسبوقا بمادّة ، إذ كلّ حادث مسبوق بمادّة ، إذ امكان وجوده متقدّم على وجوده. وليس ذلك الامكان قائما بذاته - إذ ليس جوهرا - ولا بالفاعل - إذ ليس هو قدرة الفاعل عليه ، ولا يتعقّل أن يقوم بالفاعل سوى القدرة على ايجاد الحادث - ولا بالماهية - إذ ليس هو الامكان الذاتي المجامع / 52MA / مع الوجود - ، فيكون قائما بمادّة الحادث أو موضوعه أو متعلّقة ، فلو كان العالم حادثا لزم أن تكون له مادّة سابقة على جميع اجزائه ؛ هذا خلف!.

وجوابه : انّ الامكان السابق على وجود العالم ليس إلاّ الامكان الذاتي مع اعتبار قيد العدم معه ، وتقدّمه على الوجود وعدم اجتماعه معه انّما هو لأجل ملاحظة قيد العدم المتقدّم عليه ، وذلك أمر اعتباري لا وجود له في الخارج حتّى يحتاج إلى محلّ غير الماهية ، بل هو بعينه الامكان الذاتي ، والفرق ليس إلاّ بانضمام قيد العدم وعدمه.

نعم! لو كان العالم موصوفا بصفات الموجودات كالقرب والبعد وامثالهما / 49DB / الّتي للامكان الاستعدادي المعبّر عنه بالقوّة الّتي لا بدّ من تحقّقها فى غير ما هو قوّة له - أعني : فيما هو مادّة بالنسبة إليه ، كالقوّة الحاصلة في النطفة للجنين وفي الغذاء للنطفة - لكان محتاجا إلى مادّة أو موضوع ؛ والقائل بحدوث العالم لا يسلّم ثبوت الامكان الاستعدادي له قبل وجوده. كيف وهو يدّعى كونه مبدعا لا في زمان ولا يتعقّل للمبدع أن يسبقه المادّة؟! ، فانّ سبق المادّة انّما يكون لما يتصف بالقرب والبعد وامثالهما ممّا لا يتحقّق إلاّ في الزمان ، فغير المحتاج إلى الزمان لا يحتاج إليه. ولو كان مع كونه مبدعا لا في زمان محتاجا إلى مادّة لكان لقائل أن يقول : لو كان حادثا ذاتيا لاحتاج إلى المادّة أيضا ، اذ (1) امكان وجوده متقدّم بالذات على وجوده وليس قائما بذاته ولا بالفاعل و

ص: 231


1- الاصل : و.

لا بالماهية إلى آخر ما تقدّم.

وثالثها : إنّه لو كان العالم حادثا لكان الزمان متناهيا ، وإذا كان الزمان متناهيا كان عدمه سابقا على وجوده - سبقا لا يجامع السابق المسبوق - ، وذلك لا يكون إلاّ بزمان ، فيكون قبل الزمان زمان ، وهكذا إلى ما لا بداية له ؛

وجوابه : انّ تقدم عدم الزمان المتناهي على وجوده لا يحتاج إلى زمان آخر يكون ملاكا له - لأنّه ليس متقدّرا ولا متكمّما - ، بل - إذا ثبت عند العقل تناهي الزمان ينتزع منه بمعونة الوهم تقدّما لعدمه على وجوه تقدّما لا يجامع المتقدّم به المتأخّر شبيها بتقدّم اجزاء الزمان والزمانيات بعضها على بعض ؛ ولا فرق إلاّ بالتقدّر وعدمه ، كما ينتزع من تناهي المكان فوقية لعدمه عليه - وقد مرّ توضيح ذلك على ما ينبغى -.

وبما ذكرناه يظهر فساد ما توهّمه بعض المتأخّرين من قوّة أدلّة القدم ، فانّها لا تنتهض حجّة على القائلين بالحدوث الدهري مطلقا.

قال بعض الأعلام : ولعلّ مقدّم الفلاسفة ورئيسهم تفطنان بأنّ دلائل القدم كلّها مردودة حيث عدّا مسئلة أزلية العالم في طونيقا من المسائل الجدلية الطرفين الّتي لا برهان عليها - بل هي بعد مشكوك فيها! -. نعم! يمكن تتميم تلك الأدلّة على من قال بزمان موهوم مستمرّ متقدّم على وجود العالم هو ظرف عدم العالم أو مقدار بقاء الواجب ؛ فليتدبّر.

( تحقيق ) : ( في كيفيّة ربط الحادث بالقديم )

ثمّ انّه يجب علينا هنا من بيان كيفية ربط الحادث بالقديم على ما اخترناه من القول بالحدوث الدهري. فقد زعم بعضهم انّه لا يمكن الربط على هذا القول بل يتوقّف على القول بزمان موجود وحركة قديمة - كما ذهب إليه الحكماء - ، أو بزمان موهوم -

ص: 232

كما قال به بعض المتكلّمين - ليكون واسطة يحصل به الربط بينهما.

ثمّ بيان هذا الربط يتوجّه على كلّ واحد من الحكماء والمتكلّمين وغيرهم من طوائف العقلاء ، والاشكال فيه لازم على قواعد الكلّ ، لأنّ كلاّ منهم لا يخلوا من الاعتقاد بوجود حادث ، لأنّ الفلاسفة لا ينكرون الحوادث الزمانية وإن قالوا بقدم العالم ؛ والمتكلّمون قائلون بحدوث العالم ولا ينكرون وجود الحادث وإن قالوا بقدم الزمان الموهوم ؛ والقائلون بالحدوث الدهري يثبتون حدوث ما سوى اللّه. فكلّ من الفرق الثلاث لا يخلوا عن الاذعان بوجود الحادث ، فالاشكال الوارد في كيفية ربط الحادث بالقديم على الجميع لازم.

ووجه الاشكال فيه انّ الحادث متغيّر قد يكون وقد لا يكون ، والقديم ثابت دائما ، فلو كان علّة له لزم تخلّف المعلول عن علّته حال عدمه ، فلا بدّ من واسطة يحصل بها الربط بينهما.

ولكلّ من الحكماء والقائلين بالحدوث الزماني والمثبتين للحدوث الدهري طريق في كيفية الربط / 52MB / بينهما ، ونحن نذكر الطرق الثلاث ونشير إلى ما ينبغى أن نشار إليه ليظهر جلية الحال.

أمّا طريقة الحكماء : فهي انّ الحوادث الّتي توجد في العالم لم تصدر من القديم - أعني : الواجب تعالى شأنه - بدون واسطة ليلزم التخلّف ، بل هي انّما تصدر عنه - تعالى - بتوسّط الحركة والزمان ؛ ولكونهما أزليين متغيّرين بذاتهما يحصل بهما الربط.

بيان ذلك : انّ كلاّ من الحركة والزمان إذا كانا أزليان فالربط بين الواجب وأوّل جزء منه ثابت ، لأنّه صدر حينئذ قديم عن قديم لا حادث عن قديم ، فلا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة. ثمّ انّ كلاّ منهما لكونه متغيرا بذاته لا بغيره يحصل به الربط بين الواجب وبين سائر الاجزاء والحوادث اليومية الزمانية. بيان ذلك : انّ كلّ جزء يفرض فيه أوّلا يشترط به وجود الجزء الثاني ويمتنع اجتماعه معه ، فكلّ جزء متأخّر مع ما يوجد من الحوادث مقارنا له يتوقّف وجوده على الجزء المتقدّم وغيره من الأجزاء السابقة عليه ويمتنع وجوده بدونه ، فالعلّة المستقلّة له هو الواجب - تعالى

ص: 233

شأنه - مع تلك الاجزاء المتقدّمة عليه ، لأنّها شرائط وجوده ، فالتخلّف عن الواجب لعدم وجود الشرائط فلم يلزم التخلف عن العلّة التامّة. وأمّا الجزء الأوّل الّذي لا أوّل له فلا يشترط بشيء قبله سوى عدم ما سواه ، فلتمام علّته حينئذ يوجد أوّلا وبوجوده يتم / 50DA / علّة الجزء الثاني. وما يلزم أن يوجد مقارنا له من الحوادث الزمانية فيوجد. وبوجوب الجزء الثاني ينتقض علّة الجزء الأوّل ؛ فيقدّم وهكذا إلى أن يبلغ إلى المنتهى كما هو محسوس من الحركة في الأين ، فانّ المتحرّك ما دام في المبدأ يستحيل أن يكون في الجزء الثاني من المسافة ، وهو لم يصحب جزئها الأوّل ويمتنع أن يكون فيهما معا.

وأنت خبير بانّه يلزم على هذه الطريقة أزلية الزمان والحركة وقدم الجسم المتحرّك بتلك الحركة والتسلسل في الأمور المتعاقبة ، لأنّ كلّ جزء من أجزاء الحركة والزمان يتوقّف وجوده على آن جزء آخر إلى غير النهاية ؛ مع انّه قد بيّنا انّ الاجماع منعقد على حدوث جميع ما سوى اللّه ، وانّ براهين ابطال (1) التسلسل - كالتضايف وغيره - يبطل التسلسل في الأمور المتعاقبة وإن لم تكن مجتمعة في الوجود ، لأنّها متعاقبة بعضها سابق وبعضها مسبوق. فالحادث الأخير في تلك السلسلة الغير المتناهية موصوف بالمسبوقية فقط ، وكلّ واحد ممّا قبله موصوف بالمسبوقية والسابقية معا ، فكلّ سابق مسبوق من غير عكس كلّي كالحادث الأخير ، فيكون عدد المسبوقية أزيد من عدد السابقية بواحد ، وهو محال.

فجعل بعض ما سوى اللّه قديما وواسطة لربط الحادث بالقديم باطل بالنقل ، وهو ظاهر ؛ وبالعقل أيضا ، لأنّه ثبت بالدلالة العقلية حدوث العالم الجسماني - كما قرّرناه - ، فلا يمكن أن يكون جسماني قديما حتّى يكون واسطة لربط الحادث بالقديم. وما لا يمكن اثبات حدوثه بالعقل - كالعقل - لا يصحّ أن يكون واسطة في الربط ، لأنّه ليس شيئا متغيّرا بذاته - كالحركة والزمان - حتّى يكون من الشرائط ويحصل به الربط - كما ذكروه -. فلو كان الصادر الأوّل عن اللّه - تعالى - موجودا مجرّدا قديما هو العقل - نظرا

ص: 234


1- الاصل : - ابطال.

إلى ما تقرّر عند الحكماء من أنّ الواحد لا يصدر عنه الاّ الواحد - لم يمكن أن يكون واسطة وشرطا في الربط والايجاد ، بل يلزم حينئذ أن يكون موجدا بالاستقلال ، وقد تقرّر عند الحكماء أنّ الممكن لا يمكن أن يوجد ممكنا مثله وإن جاز أن يكون واسطة في الايجاد ، وإلاّ لزم أن يكون ما فيه معنى ما بالقوّة مفيدا للوجود. لأنّ كلّ ممكن بما هو ممكن ومن حيث ذاته لا يكون إلاّ بالقوّة ، فيكون لما هو بالقوّة شركة في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ، وللعدم مدخل في افادة الوجود ، وبديهة العقل يمنعه!. ولذا وجب أن يكون موجد الجواهر والاعراض المفارقة لذات الموجد خارجا عنها ، فموجد الكلّ ليس إلاّ / 53MA / الواجب - تعالى شأنه -.

قال بهمنيار في التحصيل : وإن سألت الحقّ فلا يصحّ أن تكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوّة. وهذا صفة الأوّل - تعالى شأنه - لا غير ، اذ لو كان مفيد الوجود ما فيه معنى ما بالقوة - سواء كان عقلا أو جسما - كان للعدم شركة في افادة الوجود وكان لما بالقوّة شركة في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ؛ (1) انتهى.

على انّ استناد وجود الحادث - أعني : العالم الجسماني - إلى المجرّد القديم مع استقلاله في العلّية يوجب تخلّف المعلول عن العلّة ، فلا بدّ من واسطة أخرى ليحصل بها الربط بينهما.

وبذلك يظهر أنّ البرهان العقلي قائم على بطلان قدم المجرّدات أيضا ، لأنّها إذا وجدت قديمة فلا يخلوا إمّا أن تكون عللا مستقلّة لايجاد العالم الجسماني أو شرائط ووسائط له أو معطّلة خالية عن المدخلية في التأثير والافاضة ، والأوّل يوجب تخلّف المعلول عن العلّة وتأثير الممكن في الممكن ، وهما باطلان. فان ادّعى حينئذ لدفع المحذور الأوّل قدم العالم الجسماني ، ففيه : انّه مدفوع بالدلالة القطعية على حدوثه ، مع انّه يبقى المحذور الثاني على حاله. وإن ادّعى عدم المصلحة أو العلم بالمصلحة في وجوده قبل وقت الحدوث أو عدم قبوله للوجود الأزلي ففيه انّ هذه الوجوه جارية بعينها إذا

ص: 235


1- راجع : التحصيل ، الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الكتاب الثاني ، ص 521.

كان العالم مستندا إلى الواجب من دون واسطة ، ويمكن أن يدفع بها فساد لزوم تخلّف العالم عن الواجب. على انّ المحذور الثاني أيضا لازم. والثاني مردود بأنّ الشرطية والوساطة انّما يتأتّى إذا حصل بها الربط بين الواجب والعالم الجسماني ، وهو يتوقّف على أن تكون متغيّرة بذاتها ، والعقول ليست كذلك. والثالث يقتضي وجود ما هو معطّل بالكلّية في التأثير والمدخلية في الوجود ، مع انّهم يدّعون أن لا معطّل في وجود العالم ولا مهمل في نظام الخير.

فان قيل : دليل ثبوت العقل ليس هو الافتقار إليه لأن يكون علّة أو شرطا لوجود العالم الجسماني حتّى إذا بطل ذلك حكم بعدم وجوده ، بل الدليل عليه هو وجوب المناسبة بين العلّة والمعلول وعدم جواز صدور غير الواحد عن الواحد. ولما دلّ البرهان على وجوده (1) وكان مقتضى البرهان أن لا يكون معطّلا في الوجود - وإلاّ لم يتصحّح به وجوب المناسبة وصدور الواحد عن الواحد - حكم بكونه واسطة بين الواجب والعالم الجسماني بالعلّية والشرطية ، وصحّح ذلك بأحد الوجوه المذكورة لئلاّ يرد لزوم التخلّف ؛ / 50DB /

قلت : لو سلّم تمامية الدليل المذكور على وجوب صدور الواحد البسيط منه - تعالى - وعدم امكان صدور غير الواحد عنه يجوز أن يكون ذلك الواحد هو الصورة دون العقل ، ودليلهم على امتناع كونه هو الصورة ليس بتمام - كما لا يخفى على من تأمّل كلام الشيخ في إلهيات الشفاء -. ولو سلّم امتناعه ووجوب كونه هو العقل نقول : لم لا يجوز أن يكون حادثا ويتوسّط بين الواجب والعالم الجسماني؟ ، ولا دليل تطمئنّ إليه النفس على قدمه ، بل الدليل قائم على خلافه - كما تقدّم - ؛ مع اعتضاده بكلمات اصحاب الوحى ، فلا مانع من كون العقول حادثة وكونها وسائط بين الواجب والعالم الجسماني.

قيل : ولا يبعد أن يكون مراد المحقّق الطوسيّ - رحمه اللّه - من قوله : « وأمّا العقل فلا يثبت دليل على امتناعه (2) » ، عدم ثبوت دليل على امتناعه مطلقا - أى : قديما كان أم حادثا - لا قديما ، لأنّ اجماع الأنبياء والمليّين والأخبار المفيدة للعلم ثابتة

ص: 236


1- الاصل : - على وجوده.
2- راجع : كشف المراد ، ص 130.

على امتناع وجود العقل القديم ، فكيف يقول لم يثبت دليل على امتناعه؟! ، وتخصيص الدليل بالعقلي يأبى ظاهر عبارته المنقولة ، إذ النكرة في سياق النفي يفيد العموم ؛ إذ الدليل النقلي يطلق عليه الدليل في الكتب الكلاميّة ، والمحقّق كثيرا ما يتمسّك به في التجريد ؛ فالمراد بقوله : « وأدلّة وجوده مدخولة (1) » أي : ادلّة وجوده على النحو الّذي اثبته الحكماء ، يعني بوصف قدمه.

وبذلك يندفع المخالفة بين كلامه هذا وبين ما قال في الالهيات : « والواسطة غير معقولة (2) » ؛ فانّ المراد به انّ الواسطة القديمة الّتي اثبتها الحكماء غير معقولة ، للزوم ما تقدّم من المحذورين ؛ مع مخالفتها لما ثبت / 53MB / من الشريعة. فلو لم يحمل العقل في قوله : « أمّا العقل » على الأعمّ من القديم والحادث و « الواسطة » في قوله : « والواسطة غير معقولة (3) » على القديم فقط ، بل حمل كلاهما على الأعمّ أو القديم لزم المخالفة بين كلامه ، ولا دافع لها إلاّ بان يقال : انه - رحمه اللّه - بعد ردّه في امتناع وجود العقول القديمة في مباحث الجواهر جزم بامتناعه في الإلهيات ؛ ولا يخفى ما فيه. وقد وضح وظهر على أيّ تقدير إن شيئا من المجرّدات والجسمانيات لا يمكن أن يكون واسطة لربط الحادث بالقديم.

ثمّ غير خفيّ انّ أحدا من الحكماء لم يذهب إلى أنّ الواسطة لربط الحادث بالقديم هو العقل ، بل كلّهم متّفقون على انّ الواسطة هو الجسم القديم المتحرّك بالحركة السرمدية. ولذلك جوّزوا التسلسل في الأمور المتعاقبة ، لأنّ الحركة والزمان إذا كانا أزليين يتوقّف وجود كلّ جزء منهما على الجزء السابق ، وهكذا إلى غير النهاية.

قال بعض المتاخرين لانتصار طريقة الحكماء : والحقّ انّه لا محيص في ايجاد الحادث عن القديم عن التزام التسلسل على سبيل التعاقب ، وانّ براهين ابطال التسلسل لا يبطله - كما ادّعاه الحكماء - ، وما دعا المتكلّمين إلى الحكم بامتناعه هو لزوم الحركة السرمدية المستلزمة لقدم الجسم والزمان على ما ادّعاه الفلاسفة ، ففيه :

ص: 237


1- راجع : كشف المراد ، ص 131.
2- راجع : كشف المراد ، ص 218.
3- راجع : كشف المراد ، ص 218.

انّه ليس بلازم لجواز أن يكون هاهنا أمور متعاقبة غير متناهية. ولا يلزم حينئذ قديم غيره - تعالى - ، اذ كلّ موجود يكون حينئذ حادثا.

فان قلت : يلزم قدم النوع المحفوظ بتعاقب الاشخاص المتسلسلة ؛

قلت : لو سلّم انّ الاجماع منعقد على امتناعه أيضا لم يكن المجمع عليه مجرّد نفى شخص كان موجودا قديما غيره - تعالى - نقول : لعلّ الكلّي الطبيعي غير موجود في الخارج - على ما ذهب إليه صاحب المحاكمات وتبعه السيد المحقّق -. ولو سلّم فقيّد الشيخ وغيره من المحقّقين القائلين بوجود الطبائع في الأعيان انّ الذاتيات موجودة بوجود الاشخاص بالذات ، والعرضيات موجودة بوجودها بالعرض - على ما صرّح به بعض المحقّقين -. وحينئذ نقول : لعل تلك الحوادث المتعاقبة غير داخلة تحت ذاتي حتّى يكون الكلّى المشترك بينها ذاتيا لها ويكون موجودا بوجودها بالذات ، فلا يلزم وجود الكلّي المشترك بينها إلاّ بالعرض والوجود بالعرض مجازي. ولو سلّم فلعلّ تلك الحوادث تعلّقات الإرادة ، فلا يلزم إلاّ قدم قدر المشترك بين التعلّقات وتعلّق الإرادة راجع إلى صفته - تعالى - ، فلا يلزم ذات قديمة غيره - تعالى -. ويمكن أيضا أن يقال : اتصاف النوع بالقدم والحدوث انّما هو باعتبار الوجود ، والنوع لا يوجد في الخارج إلاّ بوجود الاشخاص ، والمفروض انّ جميع الاشخاص الموجودة حادثة ، فلا يلزم موجود قديم غيره - تعالى -. وما يقال من انّ النوع قديم فكلام مجازي معناه : انّ قبل كلّ شخص شخص لا إلى نهاية ؛ انتهى.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاختلال ، أمّا أوّلا : فلأنّ التسلسل في الأمور المتعاقبة باطل ، وادلّة ابطال التسلسل تجري فيه - كما مرّ مرارا - ، فهو باطل ، وان قطع النظر عن لزوم الحركة السرمدية المستلزمة لقدم الجسم ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ منع وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ينافي مذهب المحقّقين من المتكلّمين - كالمحقّق الطوسى وغيره - الذاهبين إلى وجوده فيه ، فتوجيه كلامهم / 51DA / بذلك توجيه بما لا يرضى!. على أنّ منع وجوده في الاعيان مكابرة والدلالة القطعية على تحقّقه فيه قائمة. فاذا تعاقبت أفراد الحركة إلى غير النهاية لزم منه قدم نوع الحركة

ص: 238

ووجوده في الخارج ، والاجماع يدفعه ، لأنّه منعقد على حدوث جميع ما سوى اللّه - كما يدلّ عليه سنده المشهور ، أعني : كان اللّه ولم يكن معه شيء - ، فقدم الكلّى الطبيعي مع وجوده في الخارج ينافيه ؛

وأمّا ثالثا : فلانّ تلك الحوادث الغير المتناهية المتعاقبة لكونها داخلة تحت مقولة العرض محتاجة إلى جوهر يكون موضوعا له ، والجوهر عندهم منحصر بالخمسة المشهورة. ولكون تلك الحوادث المتعاقبة هي أفراد الحركة فيلزم أن يكون الموضوع هو الجسم الطبيعى دون الأربعة الاخر ، فيلزم وجود جسم قديم يتعاقب عليه تلك الحوادث. على أنّهم صرّحوا بأنّ هذا الجسم هو الفلك ، فيلزم قدمه.

وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « ولو سلّم فلعل تلك الحوادث تعلقات الإرادة - ... إلى آخره - » مع انّه لا يدفع لزوم النسبة في الحوادث الخارجية يرد عليه : انّه يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، لأنّ تلك التعلّقات أمور ترجّحت على ما يساويها من غير مرجّح.

وأمّا خامسا : فلأنّ كون كلّ شخص من اشخاص النوع مسبوقا بآخر لا إلى نهاية له ليكون جميع الأشخاص الموجودة حادثة باطل بادلّة ابطال التسلسل ، / 54MA / وان لم يلزم قدم النوع ولم يكن موجودا في الخارج.

وأمّا طريقة القائلين بالزمان الموهوم في ربط الحادث بالقديم ، فهي : انّ الواسطة في ذلك هو الزمان الموهوم ، ولكونه متغيّرا بذاته متصرّما وغير متناه يحصل به الربط بين الواجب وبين الحادث الّذي هو العالم - على النحو الّذي قرّره الحكماء في توسّط الحركة الغير المتناهية بين الواجب وبين غيره من الحوادث -.

فحدوث العالم في آن الحدوث يتوقّف على مضيّ الجزء الأخير من الزمان الموهوم وهو على الجزء السابق عليه ، وهكذا إلى غير النهاية. والظاهر انّ التمسك بالزمان الموهوم لهذا الربط انّما هو من بعضهم ، لأنّ أكثرهم لم يتعرّضوا له في مقام بيان هذا الربط ، بل بعضهم تمسّك لأجله بالإرادة وبعضهم بالمصلحة وبعضهم بالعلم بالأصلح ، وقالوا : انّ احداث الحادث وقت الحدوث وترجيح آن الحدوث بايجاد الحادث فيه انّما هو بواسطة

ص: 239

الإرادة - كما هو رأي الاشاعرة - ، أو المصلحة - كما هو رأي بعض المعتزلة - أو العلم بالأصلح - كما هو رأي بعض آخر منهم -. فتخلّف العالم عن الواجب قبل آن الحدوث لعدم الإرادة أو المصلحة أو العلم بالاصلح ، فلا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة التامة.

فلأجل عدم الأمور المذكورة قبل آن الحدوث ووجودها حين تحقّقه يحصل الربط والتأثير والتأثر بين القديم والحادث ؛ ولما أورد على المتكلّمين بالمصلحة أو العلم بالاصلح بأنّ ترجيح وقت خاصّ باعتبار الإرادة أو المصلحة أو العلم بالأصلح ممّا لا يعقل إلاّ إذا كان لذلك الوقت مدخلية في المصلحة والأصلحية باعتبار كونه مصلحة أو أصلح فيتوقّف حدوث الحادث على حضوره ، وننقل الكلام إليه وفي توقّفه على حضور وقت سابق عليه وهكذا ، فيلزم التسلسل!.

قال بعض القائلين بالزمان الموهوم : هذا الايراد شبهة قوية لقدم العالم لا ينحلّ إلاّ بالقول بالزمان الموهوم والتزام التسلسل على التعاقب إمّا مطلقا أو فيه ، لعدم وجوده.

ولا يخفى انّ هذه الطريقة لابتنائها على ما هو باطل - أعني : الزمان الموهوم - باطلة. وقد تقدّم انّ الزمان الموهوم أمر نفس أمري وله اختلاف اجزاء متباينة متعاقبة ، فيكون التسلسل في أمور نفس أمرية لا في أمور اعتبارية ، واستحالته - وإن كان على التعاقب - امر مشهور محقّق - كما بيّناه -. فهذه الطريقة أيضا كسابقتها فاسدة.

وأمّا طريقة القائلين بالحدوث الدهري ، فهو انّ العالم لعدم قبوله الوجود الازلي لم يمكن أن يوجد قبل آن الحدوث ، بل لم يوجد وقت قبله - كما قال الحكيم الطوسي : « واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله » -. وحينئذ لا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة لقصور المعلول عن استفادة الوجود وعدم تحقّق وقت له قبل ذلك ، فلتعيّن وجود العالم في وقت الحدوث وعدم امكان قبوله الوجود قبله يحصل الربط بين الواجب والحادث الّذي هو العالم ، وهذه الطريقة هي الّتي اخترناها ولا يرد عليه شيء.

ص: 240

تتميم : ( في بيان مذهب محقّق الطوسي من أقسام الحدوث )

اعلم! أنّ الظاهر - بل الجزم! - انّ مختار المحقق الطوسي من أقسام الحدوث هو الحدوث الدهرى ، وهو الظاهر من قوله في التجريد : « حدوث العالم بعد عدمه ينفي الايجاب (1) » ؛ فانّ المراد بالبعدية هو البعدية الدهرية بمعنى كون وجوده بعد العدم الصريح والليس الساذج ، فيكون المعنى : انّ وجود العالم بعد العدم الصرف والليس المحض ينفي الايجاب بمعنى عدم انفكاك العالم عن ذات الواجب ، كما قال به الفلاسفة. وليس المراد بالبعدية هي البعدية الزمانية ، لأنّ مثل هذا المحقق أجلّ شأنا وجلالة من أن يقول بتحقّق الزمان الموهوم ، كيف وقد قال في مبحث / 51DB / حدوث الاجسام : « واختصّ الحدوث بوقته إذ لا وقت قبله » (2) ، وهو صريح في نفي الحدوث الزماني. إذ القائل به لا يمكنه نفي الوقت والاستمرار قبله ، لأنّه عبارة عن شقّ استمرار العدم في الوقت الغير المتناهي ؛ ولا البعدية الذاتية ، لانّه أكثر ايمانا وديانة من أن يقول بالقدم وقد قال في / 54MB / شرح رسالة العلم : « ازليته - تعالى - اثبات سابقية له على غيره ونفي المسبوقية عنه ، ومن يفرض الزمان أو الدهر أو السرمد فقد ساوق معه غيره في الوجود » (3).

ولا يقال : انّ قوله هذا كما يدلّ على نفي الحدوث الزماني يدلّ على نفي الحدوث الدهري أيضا ؛

لأنّا نقول : مراده بالدهر المنفيّ هو اثبات شيء موجود خارجي يكون مسمّى بالدهر - كما يشير إليه قوله : فقد ساوق معه المحال -. ونحن أيضا لا نقول بذلك ، فانّ الدهر - على ما فسّرناه - ليس شيئا مباينا عن ذات الواجب يكون موجودا ، بل هو حدّ الشيء ومرتبته. فالمراد بالحدوث الدهري هو وجود الواجب في حاقّ مرتبته بدون العالم وغيره من الموجودات بأيّ اسم يسمّى ؛ وهذا هو مراد المحقّق. وعلى هذا

ص: 241


1- راجع : كشف المراد ، ص 217.
2- راجع : كشف المراد ، ص 129.
3- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 46.

يكون تقدّم عدم العالم على وجوده هو التقدّم الدهري الّذي ذكرنا انّه أيضا من أحد اقسام التقدّم ؛ وقد بينّاه وأوضحناه على ما ينبغي.

فان قيل : على ما ذكر ليس الدهر وعاء حقيقيا وموجودا خارجيا يتصوّر فيه التفاوت والتقدّم والتأخّر ، بل قلتم : انّ الدهر والواقع هو حدّ الشيء ومرتبته ؛ وعلى هذا فلا يكون لعدم وعاء حتّى يتّصف هو بالتقدّم حقيقة والعدم به مجازا فيلزم أن يكون الموصوف بالتقدّم هو نفس العدم ، وهو باطل ؛

قلت : لو سلّم عدم التفاوت في الواقع وعدم اتصافه بالتقدّم والتأخّر نقول : انّ تقدّم العدم على الوجود يكون شبيها بالتقدّم بالذات ، بمعنى انّ العدم يكون متحقّقا مع التقدّم بالذات فالعدم يكون مع المتقدّم بالذات ، وبهذا الاعتبار اطلق عليه المتقدّم.

وما أورد عليه : بأنّ كون العدم مع التقدّم بالذات ممّا لا يتصوّر إلاّ إذا كان في وعاء ؛ ممنوع ، ولعلّ السند معلوم لك بعد أن خاطبتك بما سبق.

وما قيل : انّ ذلك العدم إمّا يكون مع العالم أيضا أو قبله ، لا مجال للأوّل ، فيكون قبله ، فلا ينفع الفرار منه.

والقول بأنّ اطلاق المتقدّم عليه على سبيل المجاز ، ففيه : انّ قبلية العدم مسلّمة ونحن نثبتها له ، ولكن نقول : هذا بواسطة المتقدّم بالذات لئلاّ يرد أنّ القدم من حيث هو لا يتصف بالتقدّم والتأخّر. فلا بأس!.

وبما ذكر يظهر فساد ما ذكره بعض المحشين من أنّ المراد بالبعدية في كلام المحقّق هي البعدية الزمانية ، إذ لا شكّ انّ تقدّم العدم على الوجود ليس ذاتيا ولا طبعيا ، إذ ليس لوجود العالم توقّف على عدمه حتّى يكون للعدم تقدّما ذاتيا أو طبيعيا على الوجود ؛ وظاهر أنّه لا يتصوّر من أقسام التقدّم هاهنا سوى الزماني ، فيكون العالم حادثا زمانيا. وإذا كان كذلك لا يكون الواجب موجبا وإلاّ لزم قدم أثره - أي : العالم - لكون الموجد قديما واجبا بالذات ؛ انتهى.

ووجه الفساد : ما تقدّم من بطلان الزمان الموهوم وتصوّر تقدّم أمر سوى الذاتى والطبيعى - أعني : التقدّم الدهري -. قال بعض أهل التحقيق : انّ تقدّم عدم العالم على

ص: 242

وجوده لو كان زمانيا لزم أن يكون قبل كلّ زمان لا إلى نهاية ويلزم القدم. والزمان الموهوم - الّذي اثبته الأشاعرة - قبل وجود العالم غير صحيح عند المحصّلين من المتكلّمين - ومنهم المحقّق الطوسي - كما يظهر من تصفّح كلامهم.

وقد أورد على ما نقلناه من بعض المحشين أيضا بأنّ ما ذكره من أنّ تقدّم العدم على الوجود ليس ذاتيا ولا طبيعيا ممنوع عند الحكماء - كما صرّحوا به في اثبات الحدوث الذاتي - ؛

وقد أجاب عنه بعض الأفاضل : بأنّ مراده ليس تقدّم عدم العالم على وجوده تقدّما ذاتيا لا انّه لا يمكن تقدّم العدم على الوجود تقدّما ذاتيا أصلا ، فاندفع المنع الّذي ذكره. على أنّ فيما ذكره الحكماء في اثبات الحدوث الذاتي من تقدّم عدم الممكن على وجوده تقدّما ذاتيا البتة تأمّل ؛ انتهى.

أقول : غرض المجيب انّ المراد انّ تقدّم عدم العالم على وجوده ليس مجرّد التقدّم الذاتي ، بل لا بدّ على طريقة الملّة من اثبات تقدّم يحصل به الانفكاك ، فمجرّد امكان كون تقدّم العدم على الوجود تقدّما ذاتيا لا ينفع في المقام. وعلى ما ذكرناه من كون العدم السابق بحيث لو فرض فيه الزمان لكان غير متناه ومن تحقّق الانفكاك الواقعي بين مرتبة الواجب ومرتبة العالم يندفع الشبهات ويحصل المراد.

وبما ذكر يظهر أيضا فساد ما ذكره بعض الأفاضل بأنّ الظاهر - كما يستفاد / 55MA / من كلام الشيخ رحمه اللّه في بحث الأمور العامة - انّ مراد المحقّق الطوسي من البعدية هاهنا هو البعدية بالذات الّتي اثبتها المتكلّمون وجعلوها / 52DA / قسما سادسا ، وزعموا أنّ تقدّم اجزاء الزمان بعضها على بعض من هذا القبيل. لكن التحقيق انّه لا محصّل له. إذ لا نجد له معنى معقولا سوى الخمسة. بل الظاهر انّه تقدّم بالزمان ، فانّ ذلك التقدّم إذا عرض لغير الزمان كان بواسطة زمان مغاير للسابق والمسبوق ، وإن عرض لأجزاء الزمان لم يحتج إلى زمان مغاير لها ، وان عرض للزمان وغيره لا بدّ أن يكون لذلك الغير زمان ؛ وأمّا الزمان فلا يحتاج إلى زمان آخر. وحينئذ فعدم العالم يجب أن يكون في زمان ، لكن يكفي فيه الزمان الموهوم ؛ انتهى.

ص: 243

* * *

( عود إلى ما سبق من ابحاث القدرة )

واذ فرغنا من تحقيق القول في حدوث العالم وبيّنا حقّية الحدوث الدهري وبطلان الزماني والقدم فلنرجع إلى ما كنّا بصدده - أعني : اثبات القدرة بالمعنى الثالث ، أي : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي وشرائط التأثير في بعض الأوقات وإن وجب في بعض آخر منها -.

فنقول : لمّا ثبت أنّ العالم مسبوق بالعدم الصريح والليس الساذج وبه حصل الانفكاك الواقعي بين الواجب والعالم - كما بينّاه - ، يترتب عليه الامكان المذكور في وقت ما. لا الوقت بمعنى الزمان ، بل بمعنى الواقع ونفس الأمر - فانّ الوقت هنا أعم من ذلك - لأنّ حقيقة القدرة بهذا المعنى هو جواز الترك بالنظر إلى الإرادة والمصلحة أو عدم القبول للوجود ولو في الوقت الموهوم أو التقديري - أعني : الليس الصرف والعدم البحث - ، والحدوث الدهري - على ما فسّر - ملزوم له أو احد أفراده. والقول بأنّ الترك حينئذ واجب بالنظر إلى الداعي فلا تثبت منه القدرة المفسّرة بالامكان ، قد تقدّم القول فيه.

واذ ثبتت القدرة بهذا المعنى يبطل الايجاب المقابل لها - أعني : وجوب الفعل في جميع الاوقات بالنظر إلى الداعي - ، كما ذهب إليه الفلاسفة ، وعلى القول بالحدوث الزماني يكون ثبوت القدرة بهذا المعنى وبطلان الايجاب المقابل لها أظهر ؛ كما لا يخفى.

وأمّا القدرة بالمعنى الرابع - أعني : امكان الفعل والترك في جميع الاوقات ولو في آن الحدوث بالنظر إلى الداعي - ، فالقول بثبوته للواجب - تعالى - ونفى الايجاب المقابل لها ووجوب الفعل في وقت خاصّ مختص بالاشاعرة نظرا إلى انّهم نفوا الايجاب مطلقا وجوّزوا الترجيح بلا مرجّح ، فقالوا : أوجد اللّه - تعالى - العالم في الوقت الّذي اراد في الأزل أن يوجده بدون مرجّح غير تعلّق الإرادة ، وبالإرادة لا يجب الفعل ،

ص: 244

بل كان له أن لا يفعل ما فعل لانّه ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) (1).

ولا ريب في بطلان ما ذهبوا إليه ، لأنّ الفعل ما لم يجب لم يوجد - كما مرّ - ، واختيار احد الطرفين بمجرّد الإرادة من دون مرجّح له ظاهر البطلان - كما تقدّم -. فالحقّ نفي القدرة بهذا المعنى عنه - تعالى - وثبوت الايجاب المقابل لها له - جلّ شأنه - ، فإيجاد العالم في الوقت الّذي أوجده انّما كان على سبيل الوجوب لتعلّق الإرادة بايجاده ، لمرجّح كونه - تعالى - علّة مستقلّة لايجاده وعدم وقت قبله - كما اخترناه - ، أو لمرجّح المصلحة أو العلم بالأصلح - كما اختاره الآخرون -. وقد ظهر انّ القدرة بالمعاني الثلاثة الأول أعني : صدور الفعل بالمشية والإرادة والعلم وامكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات وامكانهما بالنظر الداعي في بعض الاوقات - ثابتة له - تعالى - ، والايجاب المقابل لها - أعني : الايجاب الطباعي ، أي : صدور الفعل بدون العلم والمشية ووجوب الفعل بالنظر إلى الذات ووجوبه بالنظر إلى الداعي في جميع الاوقات - منفىّ عنه - تعالى - ؛ وحدوث العالم - دهريا كان أو زمانيا - مستلزم لثبوت القدرة بالمعاني الثلاثة له - تعالى - ونفي مقابلاتها عنه - تعالى -.

أمّا استلزامه لثبوت القدرة بالمعنى الثالث ونفى الايجاب المقابل لها فظاهر ، لأنّ معنى القدرة بهذا المعنى راجع بعينه إلى جواز الانفكاك وامتناعه ، فتأثيره - تعالى - في العالم إن كان بالايجاب بهذا المعنى لزم قدم العالم بالضرورة ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه ، ويكفى للتنبيه أنّ الحدوث بالمعنيين يستلزم سبق العدم على الحادث فينا في الايجاب بمعنى عدم الانفكاك بديهة. ويرد التنبيه عليه على تقدير الحدوث الزمانى / 55MB / بأنّ العالم إذا كان حادثا بالحدوث الزماني لكان حدوثه لا محالة في حدّ مخصوص من لا يزال ، ولا يمكن استناد ذلك التخصيص إلى الممكن - لاستواء نسبته إلى جميع الحدود - ولا إلى الفاعل - لاقتضائه امتناع الانفكاك - ، فلا يجوز بالضرورة أن تقتضى نحوا من الانفكاك ، فبقى أن يكون هذا التخصيص بلا مخصّص ، وهو محال ؛ فالحدوث الزماني لا يجتمع مع الايجاب بهذا المعنى.

ص: 245


1- مقتبس من كريمة 23 ، الأنبياء.

وما قيل : انّ الحدوث الدهري لا ينفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ؛ كلام خال عن التحصيل! ، لأنّ الانفكاك واقع على تقدير الحدوث الدهري ، فكيف لا يدلّ على نفيه؟!

والاحتجاج عليه بأنّ معنى ذلك الايجاب امتناع الانفكاك من جهة اقتضاء الفاعل المستجمع لشرائط التأثير لا من جهة عدم امكان الأثر - فانّه لا يضرّ بالايجاب الّذي هو من صفات الفاعل ، ولا ريب في انّ الانفكاك الواقع بين الواجب والعالم على القول بالحدوث الدهري / 52DB / انّما هو من جهة عدم جواز الأزلية للعالم وعدم قبوله للوجود الازلى لا من جهة الواجب - مغالطة وتدليس ، لأنّ المراد بالايجاب بهذا المعنى ليس الاّ امتناع الانفكاك سواء كان من جهة الفاعل أو من جهة المفعول. فاذا تحقّق الانفكاك بطل ذلك الايجاب من أيّ جهة كان. وهذا ظاهر لمن تدبّر في مواضع النزاع.

وأمّا استلزامه لثبوت القدرة بالمعنى الأوّل ونفي الايجاب المقابل لها ، فلأنّ تأثيره - تعالى - في وجود العالم إن كان بالايجاب الطباعى لزم قدمه ، إذ لو كان حادثا لزم إمّا تخلّف المعلول عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة مجتمعة أو متعاقبة إذ الموجب بذلك المعنى إن كان أصل ذاته منشئا للفعل من غير افتقار إلى أمر آخر لزم التخلّف على فرض الحدوث ؛ وإن توقّف فعله على بعض الشرائط لزم توقّف حدوث العالم على شرط حادث ، وذلك الشرط الحادث يتوقّف على شرط حادث آخر ... وهلمّ جرّا ، فيلزم التسلسل في الشروط المتعاقبة أو المجتمعة ، وكلاهما باطل - على ما مرّ -.

ولا خفاء في انّ الحدوث بالمعنيين يثبت المطلوب كما هو الظاهر من الدليل.

وربما قيل : انّ منافاة الحدوث الزماني للايجاب الطباعي أظهر ، امّا على جواز فرض الأزلية للعالم فلبداهة لزوم التخلف عن الموجب التامّ أو لزوم التسلسل في الشروط الحادثة ، وأمّا على تقدير عدم جواز الأزلية له فلضرورة لزوم ترجيح بعض حدود الزمان للحدوث على غيره من الموجب بالمعنى المذكور ، وهو محال ، وهذا الأخير لا يتأتّى في الحدوث الدهري. ولا ريب في أنّ اظهرية منافاة الحدوث الزمانى

ص: 246

للايجاب المذكور لو كانت مسلّمة لا يقدح بالمطلوب بعد تسليم ثبوت منافاتهما له.

فان قيل : للقائلين بالقدم أن يتمسّكوا بمثل هذا الدليل على نفى الحدوث بأن يقولوا : العالم قديم ، إذ لو كان حادثا - سواء كان الموجد موجبا أو مختارا - لتوقّف على شرط حادث ، وإلاّ لزم ترجيح الفاعل بدون المرجّح أو التخلّف عن الموجب التامّ في صورة الايجاب ، وتخلّف العلّة التامّة عن المعلول في صورة الاختيار ، فيلزم التسلسل في الشروط ، ولا يرد عليهم النقض بالحوادث اليومية لتجويزهم التسلسل في المتعاقبات بخلاف المتكلّمين ؛

قلنا : حدوث الحادث لا يتوقّف على شرط حادث عند المتكلّمين ليلزم التسلسل في الشروط ، لأنّ علّة تخصيص الحادث بالوجود في آن الحدوث عند بعضهم عدم قبوله الوجود قبله - كما اخترناه - ، وعند آخرين المصلحة أو العلم بالأصلح ، وعند الأشاعرة الإرادة ولا يحتاج إلى مرجّح آخر - لتجويزهم الترجيح بلا مرجّح - ؛ فعلى هذه المذاهب كلّها لا يتوقّف حدوث الحادث على شرط حادث.

وممن لا يعبأ به من المتكلّمين ذهب إلى انّه لا بدّ في ربط الحادث بالقديم من التزام التسلسل في الشروط المتعاقبة ، ثمّ جوّز ذلك وقال : لا منع فيه ، إذ لا يلزم منه وجود قديم بالشخص بل اللازم منه وجود نوع قديم ولا استحالة فيه ، فيجوز للقائل بالايجاب الطباعي أن يحتجّ عليه بانّك قلت : انّ التسلسل اللازم في الحوادث اليومية على سبيل التعاقب هو جائز ؛ فيمكن أن يكون / 56MA / التسلسل اللازم لحدوث العالم في صورة الايجاب كذلك ، فلا استحالة فيه.

ثمّ إنّا قد بيّنا سابقا فساد ما جوّزه هذا البعض ، وذكرنا انّه يستلزم قدم فعل ما البتّة ، ومن لا يجوّز قدم العالم كيف يجوز ذلك؟!.

فان قيل : إذا كان العالم حادثا يلزم القدم أو التسلسل في الشروط المتعاقبة في صورة الاختيار أيضا ، لأنّ الذات مع الإرادة إن كانت كافية في صدور العالم لزم القدم وإلاّ توقّف الصدور على شرط حادث ويلزم التسلسل ؛

والجواب : انّه على فرض الاختيار عدم تحقّق وقت قبل آن الحدوث أو المصلحة

ص: 247

أو العلم بالأصلح الّذي هو عين الذات أو مجرّد إرادة المختار عند الاشعري - لتجويزه الترجيح بلا مرجّح له - كاف لترجيح آن الحدوث ولا يحتاج إلى شرط آخر ، فلا يلزم التسلسل. وأمّا في صورة الايجاب بالمعنى المذكور فلمّا لم يكن علم ولا اختيار فلا يتصوّر فيه ملاحظة المصلحة والأصلح ، فامّا أن يكون الذات كافية فيلزم العدم أو يتوقّف على شرط ، فيلزم التسلسل.

فان قيل : إذا كان المرجّح ذات الوقت وعدم وقت قبله - كما اخترتم - ، لم يكن فرق بين صورة الاختيار وصورة الايجاب ، لانّه إذا كان ذات الوقت مرجّحا لايجاده فيه ولم يكن الايجاد قبله ولم يقبل العالم الوجود قبله لم يتوقّف وجوده فيه على شرط حادث - سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا - ، فكما انّه لم يمكن صدوره من المختار حينئذ قبل ذلك لم يمكن صدوره من الموجب قبله.

وتوضيح هذا الايراد : انّه على القول بالحدوث الدهري وتأخّر العالم عن العدم الصريح وعدم امكان وجوده قبل ذلك تكون ازلية العالم / 53DA / ممتنعة ولا تكون ذاته من حيث هي قابلة لها ، فحينئذ يكون القدم الدهري ممتنعا على العالم من حيث هو ، كما انّ العدم الدهري يكون واجبا له بالنظر إلى ذاته ، فيكون طريق تأثيره - تعالى - فيه منحصرا في ايجاده بعد العدم الصريح. ولو كان موجبا - بأيّ معنى كان - ، فالحدوث الدهري لا يدلّ على نفي الايجاب اصلا ، وانّما كان يدلّ على نفي شيء منه لو أمكن التأثير على خلاف ذلك ، فيعلم منه اختيار ما لاستحالة الترجيح من الموجب المطلق. فللحكيم أن يقول : انّ العالم إذا لم يكن وجوده في الازل ممكنا فإيجاده منحصر في آن يكون فيما لا يزال ، فيجتمع مع كلّ ايجاب حتّى الايجاب الطباعي لاشتراط القابلية في معلول الموجب بهذا المعنى أيضا. فكما انّ في عدم احراق النار الحجر لعدم القابلية لا يكون النار موجبا في الاحراق فالتخلّف هاهنا أيضا لعدم القابلية في المعلول لا ينافي الايجاب في العلّة. قال الفخر الرازي في الأربعين من جانب الفلاسفة : وامّا إن كان قدم العالم محالا فنقول : انّ العلّة الموجبة قد يتخلّف عنها اثرها عند تخلّف الشرائط أو حضور الموانع ، ومن أقوى الشرائط كون المعلول في نفسه ممكن الوقوع ، ومن أقوى

ص: 248

الموانع كونه ممتنع الوقوع ، فلم لا يجوز أن يقال : انّه - تعالى - موجب بالذات لوجود العالم إلاّ انّه لم يوجد العالم لانّ تحقّق الأزل كالمانع من وجود العالم ، فلمّا زال المانع حصل المعلول (1)؟!.

قلت : المرجّح عندنا ليس مجرّد ذات الوقت وعدم وقت قبله وامتناع ازلية العالم ، بل المرجّح عندنا ذلك مع العلم بالأصلح ، كيف وثبوت القدرة بالمعنى الثاني - أعني : امكان الفعل والترك بالنظر إلى ذات الفاعل مع ترجيح أحد الطرفين - لا يتصوّر بدون مرجّح من الفاعل؟!. ولا يعقل مرجّح ناش منه إلاّ علمه بالأصلح ؛ وثبوت علمه - تعالى - لا يتوقّف على مجرّد الحدوث بل هو ثابت بأدلّة اخر - كما تقدّم بعضها ويأتي بعض أخر أيضا -. وبالجملة ثبوت القدرة بمعنى الايجاد بالعلم والإرادة لا يتوقّف على حدوث العالم ، ولذا استدلّ بعضهم على الحدوث بالقدرة من حيث احالتهم كون أثر الفاعل المختار قديما. قال بعض المشاهير : احتجّ المليون على حدوث الزمان بأنّ الزمان ممكن - لتركيبه من الحوادث - فيكون مستندا إلى اللّه - تعالى - واللّه - تعالى - فاعل بالاختيار - كما تبيّن - ، وفعل الفاعل المختار حادث ، فيكون الزمان حادثا.

فان قلت : ما الباعث لك لجعل ذات الوقت وعدم وقت قبله جزء المرجّح وعدم الاكتفاء بالعلم / 56MB / بالاصلح فقط؟! ؛

قلت : الباعث عدم صحّة جعل المرجّح هو العلم بالأصلح فقط لأنّ الذات مع العلم والإرادة إمّا أن تكون كافية في صدور الفعل فيلزم القدم البتّة ، أو لا ، فيتوقّف على شرط. والقول بأنّه باعتبار العلم بالأصلح يترجّح وقتا خاصا ، ممّا لا يعقل إذا كان لذلك الوقت مدخلية باعتبار كونه أصلح مثلا أو غير ذلك ، فيتوقّف حينئذ على حضور ذلك الوقت. وحضوره يتوقّف على وقت قبله ، وهكذا ، فيلزم التسلسل ، فلا بدّ من القول بعدم وقت قبل وقت الحدوث وعدم قبول العالم للوجود قبل ذلك لئلاّ يلزم التسلسل في المتعاقبات ، وبدونه لا مدفع من لزوم التسلسل ، ومجرّد العلم بالأصلح غير واقع له على أنّ بعد حقّية الحدوث الدهري وبطلان الزمان الموهوم - كما

ص: 249


1- راجع : الأربعين ، ج 1 ، ص 183.

اخترناه - لا معنى لوجود وقت قبل آن الحدوث وامكان وجود العالم قبل ذلك ، بل ذلك انّما هو ممكن على القول بالحدوث الزماني.

ثمّ الحقّ انّ مختار المحقّق الطوسي في مرجّح آن الحدوث هو ما اخترناه ، وليس المرجّح عنده مجرّد العلم بالأصلح - على ما نسب إليه في المشهور -. كيف وهو لم يتعرّض في التجريد للعلم بالاصلح مطلقا؟! ، وقال في مبحث الجواهر منه : واختصّ الحدوث بوقته إذ لا وقت قبله (1) ؛ هذا.

وأمّا استلزام الحدوث - دهريا كان أو زمانيا - لثبوت القدرة بالمعنى الثاني - أعني : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته تعالى مع وجوب احد الطرفين باعتبار المرجّح من الإرادة القديمة أو ذات الوقت أو العلم بالأصلح أو ما اخترناه - ونفي الايجاب المقابل لها - أعني : وجوب أحد الطرفين بالنظر إلى الذات - ، فلأنّه لو كان أحد الطرفين واجبا مع قطع النظر عن المرجّح فلا يخلوا إمّا أن يكون ذاته - تعالى - من حيث هو علّة مستقلّة وكافيا لحصول الفعل فيلزم قدم العالم ، أو لا بدّ من شيء آخر لوجوبه وحصوله ؛ فان كان هذا الشيء قديما لزم القدم أيضا ، وان كان حادثا لزم التسلسل والتخلّف ، مع انّ توقّف الوجوب على شيء آخر يستلزم الامكان ونفي الوجوب بالنظر إلى الذات ، فالحدوث لا يجتمع مع الايجاب بهذا المعنى.

فان قيل : اثبات القدرة بهذا المعنى بالحدوث دوري! ، لأنّ ثبوت النبوّة يتوقّف على اثبات القدرة بهذا المعنى ، فاثبات تلك القدرة بالحدوث الثابت بالاجماع المتوقّف حجّيته على ثبوت النبوّة دور ؛

قلنا : لا نسلّم توقّف ثبوت النبوّة / 53DB / على القدرة بهذا المعنى ، ولو سلّم فلا نسلّم انحصار دليل الحدوث بالاجماع - كما مرّ -.

ثمّ لا يخفى عليك إنّا قد أشرنا إلى انّ حدوث العالم دهريا كان أو زمانيا يستلزم ثبوت القدرة بالمعنى الثالث ونفي الايجاب المقابل لها - أعني : جواز الانفكاك وامتناعه - ضرورة ، ولا نحتاج إلى الاستدلال عليه.

ص: 250


1- راجع : كشف المراد ، ص 129 ؛ الشرح الجديد ، ص 186.

والاستدلال عليه بما تقدّم لا يخلوا من الاختلال بوجوه :

منها : انّه يلزم النقض بصورة الاختيار ، فلقائل أن يقول : تأثيره - تعالى - ان لم يكن بالايجاب بالمعنى المذكور بل بالاختيار المقابل له - أعني : جواز الانفكاك - لزم ترجيح الفاعل بدون المرجّح أو احتياج التأثير إلى شرط حادث بناء على ما ذكر من انّه لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ويلزم التسلسل في الشروط الحادثة متعاقبة أو مجتمعة ، بل له أن يقول : انّ العالم قديم ، إذ لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التامّ - كما ذكر في الاستدلال - أو تخلّف العلّة التامّة عن المعلول ، وذلك الشرط الحادث يتوقّف أيضا على شرط حادث آخر ويلزم التسلسل ، وهو باطل.

ولو أجيب بأنّ في صورة الاختيار يكفي أحد المرجّحات المذكورة من ذات الوقت أو المصلحة أو العلم بالأصلح لترجيح وقت خاصّ ، يرد عليه : انّ في صورة الايجاب بهذا المعنى أيضا يكفي ذلك ، إذ الموجب بهذا المعنى يجوز أن يكون عالما بالاصلح ويكون علمه منشئا لفعله ، ولا ينافي ذلك الايجاب بهذا المعنى - أي : امتناع الانفكاك -. والحاصل : انّ القول بأنّ الشيء لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث باطل عند المعتزلة القائلين بالداعي - سواء كان الفاعل / 57MA / موجبا بهذا المعنى أو مختارا كذلك - ، فانّهم قالوا : انّ الداعي بأيّ معنى أخذ كاف في تخصيص ايجاد الحدوث بذلك الوقت ولا حاجة إلى شرط حادث.

وتفصيل مذاهب المعتزلة في الداعي وكيفية الحدوث : انّ المحقّق الطوسي قائل بأنّ العالم حادث ولا يتوقّف إلاّ على ذاته - تعالى - وعلمه بالأصلح وارادته اللذين هما عين ذاته - تعالى ، كما نسب إليه في المشهور وأشرنا إلى ما فيه - ، والعلم بالأصلح كاف في ترجيح آن الحدوث. وليس توقّف الحادث على شرط حادث مسلّما عنده ولا لازما ، لفرض الايجاب المتنازع فيه بينه وبين الحكماء الّذي هو في قوّة فرض القدم. وكيف يجوز استعمال مقدّمة في الاستدلال غير مسلّمة عند المستدلّ ولا لازمة لفرض نقيض مدّعاه؟!.

ص: 251

وامّا الكعبي واتباعه فحكمهم في ذلك الاستدلال حكم المحقّق ، إذ مذهبهم انّ التناهي والحدوث من لوازم ماهية الزمان والوقت والعالم بجميع اجزائه زماني ، فوجوده في الأزل ممتنع وصدوره في وقت عن اللّه - تعالى - واجب وغير موقوف على شروط ؛

وأمّا قدماء المعتزلة فذهبوا إلى أنّ تخصيص آن أوّل الايجاد بحدوث العالم على سبيل الاولوية بسبب مصلحة تعود إلى العالم. وبملاحظة تلك المصلحة تصير إرادة الايجاد أولى من عدمها ، وبالإرادة يصير الايجاد واجبا وعدمه ممتنعا ، فلا يحتاج إلى شرط حادث.

نعم! ذهب بعض المعتزلة إلى القول بتسلسل الارادات ووجوب حدوث الفعل عند الإرادة المتعلّقة به ، فتوقّف الحادث على الشرط الحادث عندهم ممنوع ، إلاّ أنّهم لتجويزهم مثل هذا التسلسل لا يصحّ جريان هذا الاستدلال من قبلهم. وعلى أيّ حال قد ظهر أنّ المعتزلة بأجمعهم لا يمكنهم الاستدلال بانّه على تقدير الايجاب لو كان العالم حادثا لتوقّف على شرط حادث ، لكفاية الداعي في تخصيص الايجاد على ما ذهبوا إليه ، فلا يتوقّف على شرط حادث. ولو احتجّوا بهذا الاستدلال لأمكن المعارضة بانّه لو لم يكن الفاعل موجبا أيضا وكان العالم حادثا لتوقّف. ولا يمكنهم الفرق بين الايجاب والاختيار في ذلك ، لأنّ الداعي إن كان كافيا في تخصيص ايجاد الحادث أمكن منع توقّف الحادث على شرط حادث حتّى لا يمكن الاستدلال ولا يجوز المعارضة. والظاهر انّه لمّا كان ذلك الايجاب وحدوث الأثر متنافيين لا يمكن تعقّل اجتماعهما ، فتوهّم عدم جريان القول بالداعي في صورة الايجاب مع الحدوث.

وفيه : انّ بناء المستدلّ على أنّ لزوم التوقّف على شرط انّما هو على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور مع قطع النظر عن استحالة ذلك ، بل فرض وقوعها وقال : انّه يتوقّف حينئذ على شرط حادث. ولا شكّ انّه على فرض تحقّق الحدوث يمكن منع هذه المقدمة مستندا بالداعي ، ولا ارتباط لهذه المقدّمة حينئذ بالايجاب والاختيار ، فعدم الاحتياج في صورتي الايجاب والاختيار كليهما إلى شرط

ص: 252

حادث لازم ، فالاستدلال باطل. وإن لم يكن الداعي كافيا في تخصيص ايجاد الحادث فيحتاج في الصورتين إلى شرط حادث لبطلان الترجيح بلا مرجّح بزعم المعتزلة مطلقا - أي : في المختار والموجب - ، لأنّه يوجب عدم الايجاب مطلقا وهم قائلون بالايجاب الخاصّ ، فيلزم التسلسل. فأحد المحذورين من لزوم التسلسل أو الترجيح بلا مرجّح لازم ، فتكون المعارضة واردة.

وأنت تعلم انّ الداعي بمعنى علمه - تعالى - بوجود الخير وعدم قبول العالم للوجود قبل آن الحدوث يكفي للتخصيص ، فالترديد للاستظهار.

ويؤيّد ما ذكرناه ما قال بعض الاعاظم : لزوم التخلّف أو التوقّف على شرط حادث على تقدير حدوث العالم ممنوع ، سواء / 54DA / كان ذلك التقدير مع تقدير الايجاب بالمعنى المذكور أو بدونه ، إذ يصحّ أن يكون الموجب بسبب علمه بوجود الخير مقتضيا لوجود العالم في الوقت الّذي وجد فيه ، فاذا حصل وجوده في ذلك الوقت لا يكون متخلّفا عن اقتضاء الموجب.

لا يقال : وجوده في ذلك الوقت وإن لم يتخلّف عن اقتضاء الموجب لكنّه تخلّف عن الموجب المقتضي وانّما الكلام فيه لا غير ، كيف ولو لم يكن متخلّفا لزم أن يكون وجوده مع كونه في ذلك الوقت ازليا ، فيلزم قدمه مع محذور آخر هو التناهي ، لأنّ الفرض حدوثه ؛ لأنّا نقول : الحدوث من لوازم ماهية ذلك الوقت ، فلو كان في الأزل يلزم الانقلاب في الماهية. وأيضا ما ذكرتم انّما يلزم على من أثبت قبل وجود العالم زمانا أزليا ووقتا غير متناه حتّى نتصوّر خلق العالم قبل الوقت الّذي خلق فيه بمقدار سنة أو سنتين أو غير ذلك ، فاذا كان / 57MB / موجودا في وقت الحدوث ولم يكن موجودا في شيء من ذلك الاوقات يلزم التخلّف أو الترجيح بلا مرجّح أو عجز الفاعل - كما الزمهم الشيخ الرئيس بذلك في الشفاء والنجاة والتعليقات -. وأمّا من نفى ذلك وحكم بأنّ حصول الامتداد انّما هو بمجرّد فرض أو وهم وتقدير - كفرض حصول الامتداد المكاني فوق الفلك المحدّد - فلا يلزم عليه شيء من تلك المفاسد.

فان قلت : لا ريب في معية الواجب - تعالى شأنه - لوجود العالم ، وهو يوجب إمّا

ص: 253

قدم العالم أو حدوث الباري - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! - ؛

قلنا : لا يلزم شيء منهما ، وانّما يلزم لو كانت هذه المعية زمانية وليس كذلك. وليس من شرط كلّ معية أن تكون زمانية إلاّ إذا كان المعان كلاهما زمانيين ، والواجب - تعالى - غير زماني ، لأنّه موجد الزمان وما فيه.

فان قلت : إذا لم تكن معيته لشيء زمانية فعلى أي : نحو تكون معيته للعالم؟ ؛

قلنا : نحن نجزم بتحقّق معيّة غير زمانية للواجب - تعالى - بالنسبة إلى العالم بالبرهان الدالّ عليه ، وإن اشكل علينا تصوّر كنه تلك المعية وملاحظة أحوال المكان ، يعنى على تصوّر ما ذكرناه من أحكام الزمان ؛ انتهى. هذا ؛ واعترض بعض الفضلاء على ما ذكرناه من عدم الفرق بين صورة الاكتساب والاختيار في ورود المقدّمة المذكورة بأنّ قول المعتزلة بكفاية الداعي في تخصيص ايجاد الحادث بوقته انّما هو على تقدير الاختيار لا مطلقا ، إذ لو قالوا بالايجاب المذكور واقتضاء الداعي القديم امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم لكان فرض حدوثه حينئذ محالا ومخالفا لما هو مقتضى الداعي المذكور ، فلا يمكنهم أن يسندوا التخصيص بوقت حدوثه إلى مثل ذلك الداعي البتة ، واسنادهم التخصيص إلى الداعي في صورة الاختيار انّما هو لاعتقادهم انّ الداعي لا يدعوا إلاّ إلى معدوم ، فيقتضى نحوا من الانفكاك. والحاصل انّ الداعي المعتبر في الموجب مباين للداعي المعتبر في المختار في الاقتضاء ، فلا يمكن أن يسند إلى أحدهما اقتضاء الآخر ، فعدم جريان القول بمقتضى الداعي المعتبر في المختار في صورة فرض الايجاب مع الحدوث ليس توهّما ، انّما التوهّم عدم الفرق بين مقتضى الداعيين وتسوية صورة الايجاب والاختيار في جواز استناد التخصيص المذكور إلى الداعي ، فلا يتيسّر للقائل بالايجاب المذكور منع المقدمة المذكورة مستندا إلى الداعي لعدم كفايته للتخصيص المذكور إلاّ على تقدير الاختيار. ولذلك ترى القائلين بهذا الايجاب من الفلاسفة لم يسندوا إلى الداعي الّذي اعتبروا في الموجب بهذا الايجاب تخصيصا هربا عن لزوم الاختيار ، حتّى أنّهم في تصحيح الحوادث اليومية بأوقاتها وارتباطها بفاعلها القديم اضطرّوا إلى اختيار القول بالحركة السرمدية وشغلوا ذممهم

ص: 254

لدفع المناقشات الّتي يتوجّه على القول بها. فلو كان القول بالداعي مصحّحا للربط المذكور على تقدير الايجاب أيضا لمّا احتاجوا إلى أمثال ذلك كما لا يحتاج إليها القائل بالاختيار ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الاعتراض بطوله ساقط!. فانّ بناء الاستدلال على انّه إذا فرض اجتماع الايجاب المذكور مع الحدوث وقطع النظر عن استحالة ذلك لتوقّف الحدوث على التسلسل في الشروط ، وبناء المعارضة على انّه إذا سلّم الحدوث - كما هو المفروض في الاستدلال - لا بدّ من القول بالترجيح بلا مرجّح أو التزام التسلسل في الشروط ، سواء كان الفاعل موجبا أو مختارا.

والجواب بامكان القول بالتخصيص بالداعي للمختار مشترك. وعدم قول القائلين بالايجاب به واضطرارهم في تصحيح حدوث الحوادث في أوقاتها المعينة إلى القول بالحركة السرمدية لقولهم بالقدم ، ولو قالوا بالحدوث لم يحتاجوا إلى القول بسرمدية الحركة وكفاهم القول بالداعي من العلم بالأصلح أو غيره.

فان قيل : في صورة الايجاب لا يكفي الداعي للتخصيص ، بل لا بدّ من التزام القول بالتسلسل في الشروط لأنّه لو لم يتوقّف حينئذ على شرط حادث بل كان جميع ما يتوقّف عليه حاصلا في الأزل لكان يجب أن يكون قديما مع انه فرض حادثا ، هذا خلف! ؛

قلنا : مع القول بالداعي لا يكون جميع ما يتوقّف عليه حاصلا في الأزل ، لأنّ من جملة ما يتوقّف عليه هو الداعي وهو كان مقتضيا للحصول فيما لا يزال. فلو فرض انّ الداعي هو العلم بالأصلح فنقول : انّه تعلّق في الأزل بايجاد العالم فيما / 54DB / لا يزال ، فلا يكون جميع مقتضيات حصول العالم موجودا في الأزل. على انّ ما ذكر معارض بأنّه لو توقّف على شرط حادث لوجب أن لا يكون قديما ، وهو ينافي فرض الايجاب المذكور.

فان اجيب : بانّ هذه المعارضة غير قادحة ، لأنّ الحدوث على فرض الايجاب المذكور محال ، فيجوز أن يستلزم النقيضين فلا يضرّ / 58MA / ما تقدّم من استلزامه

ص: 255

التوقّف على شرط حادث ؛ قلنا : قد مرّ مرارا أنّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع المتنافيين والتكلّم على تقديره ، وحينئذ فلزوم محال من فرض محال آخر مسلّم ، إلاّ أنّه لا يضرّنا أيضا - كما لا يخفى -.

وقد وضح وضوحا تامّا بما ذكر أنّ الاستدلال المذكور على نفي الايجاب بالمعنى الّذي نحن بصدده لا يتمّ ولا يصحّ على قاعدة الاعتزال ، وعلى ما صحّ وتحقّق عندنا.

نعم! انّه يصحّ عند تابعي الاشعري ويتمشّى اجرائه على مذهبهم. ولا يرد عليهم النقض بصورة الاختيار ، لأنّهم جوّزوا تأثير الفاعل المختار بدون مرجّح ، فقالوا : إن كان تأثيره - تعالى في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محالان. وحاصل كلامهم : انّ تأثيره - تعالى - ليس بالايجاب بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم ، بأن يكون المرجّح نفس إرادة الفاعل المختار وإلاّ لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محالان. فاعتقاد الاشعري انّ العلّة إن كانت موجبة - أي : علة على سبيل الوجوب واللزوم - نمنع تخلّف المعلول عنها ، فيتم الدليل من قبله ، لأنّه إن كانت العلّة الموجبة بجميع شرائطها حاصلة في الأزل فيلزم القدم البتة ، وإلاّ فيتوقّف على شرط ويلزم التسلسل. وأمّا إذا لم يكن ايجاب اصلا فلا يلزم من قدم العلّة قدم المعلول ، لأنّه يترجّح أحد مقدوريه على الأخر في أيّ وقت شاء بلا مرجّح.

وتوضيح ذلك : انّ الأشعرية لمّا قالوا انّ الفاعل المختار بإرادته يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجّح حادث في أيّ وقت شاء - بخلاف الموجب ، فانّه لو كان أثره حادثا لتوقّف على شرط حادث على مذهبهم لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التّام - فلم يجوّزوا في الفاعل الموجب الترجيح بلا مرجّح حتّى لا يتوقّف على شرط حادث على مذهبهم ، فأمكن الاستدلال من قبلهم على فرض الايجاب بانّه لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ويلزم التسلسل. ولا يعقل المعارضة معهم بانّه على تقدير عدم الايجاب أيضا لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، لأنّهم في صورة الاختيار جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ، فهم يمنعون هذه المقدّمة على هذا التقدير.

ص: 256

ثم اعلم! أنّ النافين للايجاب مطلقا - أي : الّذين لا يشترطون في صدور الفعل عن الفاعل الوجوب واللزوم - فرقتان : فرقة قالوا انّ صدور الفعل عن القادر لا يتوقّف على انضمام الداعي والمرجّح إليه اصلا ، بل القادر هو الّذي يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بدون مرجّح ؛ فهم لا يشترطون في الصدور الأولوية أيضا. وهؤلاء هم الاشاعرة المجوّزون للترجيح بلا مرجّح اصلا - أي : بلا مرجّح يصير به الفعل واجبا ولا مرجّح يصير به أولى - ؛

وفرقة أخرى اشترطوا في الصدور الأولوية وقالوا : انّ صدور الفعل عن القادر موقوف على داع يصير الفعل بسببه أولى بالوقوع ، إلاّ إنّه لا ينتهي إلى حدّ الوجوب ، حتّى يبقى الفرق بين الموجب والقادر.

وإذ علمت ذلك فنقول : الحقّ انّ الاستدلال المذكور يتمشّى من جانب الفريقين ؛ والمناط في تماميته انّما هو القول بنفي الوجوب واللزوم. ولا يشترط فيه نفي الاولوية أيضا والقول بصحّة الترجيح بلا مرجّح اصلا ، لأنّ للفرقة الثانية أيضا أن يقولوا : لو كان صدور الفعل عن القادر يحتاج إلى داع يوجبه لزم قدم العالم أو التسلسل. وأمّا إذا لم يكن الداعي موجبا بل منشئا لمجرّد الأولوية فلا يلزم شيء من ذلك ، إذ يمكن أن يكون ذلك الداعي في الأزل ولم يوجد الفعل فيه بل يوجد فيما لا يزال ، لأنّه لا يمتنع تخلّف الفعل عن السبب الغير الموجب.

فما قيل : انّ مجرّد القول بنفي الايجاب مطلقا - أي : من دون القول بصحّة الترجيح بلا مرجّح مطلقا ، كما ذهب إليه الفرقة الثانية القائلون بالاولوية - لا يكفى في صحّة الاستدلال المذكور ؛ ضعيف. وما ذكر الامام في الأربعين في الزام تلك الفرقة بأنّه على تقدير تلك الأولوية ان أمكن الفعل والترك معا فلا يكفي في صدور الفعل بل لا بدّ من سبب آخر ، وإن لم يمكن طرف الترك يكون طرف الأولى واجب (1) ؛ لا دخل له فيما نحن فيه! ، لأنّ الفرض تمامية الاستدلال على فرض تسليم مذهبهم ، وما ذكره الامام انّما هو لابطال أصل مذهبهم ؛ وهو كلام آخر. كما انّ بطلان أصل مذهب الفرقة الأولى أيضا -

ص: 257


1- راجع : الأربعين ، ج 1 ، ص 174.

أعني : الترجيح بلا مرجّح - لا دخل له بما نحن فيه.

وبما ذكر يندفع ما ذكره بعض الأعلام : انّ دليل الأشعري على عدم احتياج الحادث إلى غير الإرادة - أعني : قوله : إن كان تاثيره تعالى في العالم محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث ، وكلاهما محال - لا ينفي الايجاب اصلا لا برهانيا ولا الزاميا ؛ أمّا الأوّل : فلأنّ الترجيح بلا مرجّح لمّا كان جائزا عند الأشعري ، فلو كان الفاعل موجبا والفعل حادثا لا يلزم التوقّف على شرط حادث عنده ؛ وأمّا الثاني : فلأنّ التسلسل في الحوادث غير ممتنع عند الحكيم ؛ انتهى.

ووجه / 58MB / الاندفاع : انّ جواز الترجيح بلا مرجّح عند الأشعري انّما هو للفاعل المختار دون الموجب ، ففي صورة الايجاب إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل / 55DA / في الحوادث البتة ، والحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشروط المتسلسلة ؛ فتكون هذه المقدمة - أعني : لزوم التسلسل - الزامية ، لأنّ الأشعري ليس قائلا به ، لأنّ الحكيم قائل بجواز التسلسل في الحوادث أيضا والاشعري قائل ببطلانه ، فتكون إحدى مقدمتى هذا الدليل (1) جدلية وأخراهما برهانية ، وسيأتي انّ الدليل إذا كان بعض مقدّماته جدليا وبعضها برهانيا يمكن أن يكون جدليا وبرهانيا ؛ هذا.

وأورد على هذا التفصيل الّذي ذكرناه - أعني : ورود المعارضة على المعتزلة وعدم ورودها على الاشاعرة - ايرادان :

الأوّل : انّ المعارضة لا ترد على المعتزلة ، إذ لهم أن يقولوا على تقدير عدم كون تأثيره - تعالى - في العالم بالايجاب بل بالاختيار : لزوم الترجيح بلا مرجّح ممنوع ، لجواز وجود المرجّح وهو علم الفاعل بالمصلحة في ترجيح ايجاد العالم في وقت حدوثه ، فتوقّف الايجاد على هذا التقدير على شرط ممنوع. ومثل هذا المنع لا يتوجّه على أصل الدليل ، إذ محصّله انّ تأثير الواجب - تعالى - في ايجاد العالم إن كان بالايجاب الّذي زعمه الحكماء وكان العالم حادثا لتوقّف التأثير على شرط بلا شبهة. والحاصل انّ منع التوقّف على الشرط على تقدير كون الفاعل مختارا له وجه صحيح ، وأمّا على تقدير

ص: 258


1- الاصل : - هذا الدليل.

كون الفاعل موجبا والأثر حادثا فلا وجه له عند المعتزلة والحكماء. وفساده ظاهر ، لما مرّ من أنّ كون الحادث متوقّفا على شرط ليس لازما لفرض الايجاب المذكور ، بل هو لازم لكون الشيء حادثا سواء كان فاعله موجبا أو مختارا لو لم يوجد مخصّص الداعي.

فان أجيب في صورة الاختيار بوجود المخصّص - وهو علم الفاعل المختار بالمصلحة - فلا يجري هذا في الصورة الايجاب بالمعنى المذكور أيضا ، لأنّ الموجب بمعنى الفاعل الغير المنفكّ عن الايجاد يجوز أن يكون عالما بالأصلح - كما تقدّم مفصّلا -.

فان قيل : القائلون بالايجاب بهذا المعنى - أعني : الفلاسفة القائلين بالقدم - لا بدّ لهم من التزام التسلسل في الشروط ، لأنّ تخصيص كلّ حادث من الحوادث اليومية بوقت دون آخر لا يتصحّح عندهم إلاّ بذلك واثباتهم للحركة السرمدية مستلزم لذلك ، لأنّ كلّ جزء منها يتوقّف على الجزء السابق عليه والتصفّح يعطي اتفاقهم على الاذعان بتحقّق النسبة في المتعاقبات ، فهم لمّا جعلوا المرجّح لوجود كلّ حادث من الحوادث اليومية في وقته الخاصّ هو توقّفه على شرط متحقّق قبله دون العلم بالأصلح فلو كان أصول العالم من الافلاك وغيرها حادثة لزمهم أيضا جعل المخصّص توقّفه على حدوث شرط سابق عليه وهو على آخر ... وهكذا إلى غير النهاية. وأمّا المعتزلة فهم ليسوا قائلين بتوقّف الحوادث على الشروط الغير المتناهية ، بل يجعلون المخصّص في الكلّ هو العلم بالأصلح ، فلا يرد عليهم المعارضة بوجه لا برهانيا ولا الزاميا ؛

قلنا : الفلاسفة لمّا قالوا بالقدم اضطرّوا إلى القول بوجود التسلسل في الشروط المتعاقبة ، لأنّ القول بوجود الحركة السرمدية لا ينفكّ عنه والتزام وجود الحوادث والأشخاص الغير المتناهية مستلزم لذلك لزوما بيّنا ، فالتسلسل في الشروط الحادثة من لوازم القول بقدم أصول العالم لا من لوازم مجرّد حدوث الحوادث ، فلو فرض قولهم بحدوث أصول العالم يلزم عليهم جعل المخصّص لوقت الحدوث هو التوقّف على شرط سابق عليه والاذعان بتحقّق الشروط الغير المتناهية ، بل لهم أن يجعلوا المرجّح هو العلم بالأصلح أو عدم وقت قبل وقت الحدوث. ويؤيّد ذلك انّ العالم عندهم حادث بالذات والمرجّح لايجاده كذلك عندهم انّما هو ذات العلّة التامّة من دون توقّف على شيء

ص: 259

آخر.

فان قيل : الفلاسفة لمّا قالوا بالقدم ولم يكن العالم حادثا عندهم فالتسلسل في المتعاقبات لازم عليهم البتة ، فجواز جعلهم المخصّص ذات الوقت أو العلم بالأصلح لا معنى له! ؛

قلنا : قد تقدّم انّ حدوث العالم مع الايجاب بالمعنى المذكور أمر لا يعقل إلاّ أنّ التوقّف على شرط حادث انّما أخذه المستدلّ على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن امتناع ذلك ، بل فرض الوقوع وتكلّم بانّه حينئذ يلزم التوقّف على شرط حادث ، فالمطلوب انّه إذا امكن على سبيل الفرض والتقدير اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور - أي : ما هو ملزوم القدم لزوما بينا كما أخذه المستدلّ - فللحكيم أن يجعل المرجّح لآن الحدوث هو العلم بالأصلح ، كما انّ للمستدلّ أن يجعله ذلك بعد المعارضة. وبالجملة انّ الحكيم لمّا لم يقل بالحدوث لم يكن يجعل المخصّص العلم بالأصلح مذهبا له ، إلاّ أنّ سند المنع لا يلزم أن يكون مذهبا للمانع.

وأيضا لو وجب الزام الحكيم بما هو مذهبه ولا يجوز له التعدّي إلى ما لا يقول به لكان اجراء هذا الدليل من قبل المعتزلة الزاميّا على الحكماء ، وهو ليس بصحيح ، لابتنائه على امتناع التسلسل التعاقبي ، وهو ليس بمسلّم عندهم.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ المعارضة واردة على المعتزلة ، فالاستدلال المذكور من قبلهم لا يكون برهانيا - لعدم تسليمهم المقدّمة المذكورة ، أعني : توقّف الحادث على الشروط الحادثة - ولا الزاما على الحكماء لما ذكر ، لا لأنّ تلك المقدمة ليست مسلّمة عند الحكماء - كما قال بعض الأفاضل : الظاهر انّ تلك المقدّمة غير مسلّمة عند الحكماء أيضا ، لأنّهم يتشبّثون في استناد الحادث بالقديم بموجود قديم مستمرّ متجدّد متّصل واحد ذي اعتبارين كالحركة يكون باحدهما شرطا لحدوث الحادث وبالآخر مستندا بالقديم السرمدي ، كما ينوّه في محله ؛ - انتهى.

وقال بعض آخر : انّ التوقّف على الشرط الحادث والتزام التسلسل في الشروط

ص: 260

لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛ (1) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة (2) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله

ص: 261


1- ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.
2- الاصل : المسألة.

بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا - لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية - : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين - أعني : القدم والحدوث - محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه - أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط - ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى / 59MB / أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين - أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث - ، والمحال قد يستلزم المحال.

ص: 262

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا / 56DA / - لتجويزه الترجيح بلا مرجّح - ولا جدليا - لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة - ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا - لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت - ؛ ولا الزاميا - لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء - أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل - وهو لزوم التسلسل في الشروط - جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون

ص: 263

الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته - تعالى - مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم - كالمحقق الطوسي واتباعه - ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه ، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل - لوجوبه حينئذ عندهم - ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط

ص: 264

التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة / 60MA / الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له - كالأصلحية مثلا - ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة اللّه - تعالى - بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا (1) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بايجاب السؤال : بأنّ قدرته - تعالى - متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات / 56DB / ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا

ص: 265


1- ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا - أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط -. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد - بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح -. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للايجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول - على فرض الايجاب المذكور - : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره - تعالى - في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

ص: 266

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور - أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة - انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب - أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم - والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة - أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي - ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للايجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالايجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا - أعني : امتناع / 60MB / الانفكاك المساوق للقدم - أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة - وهو الوجوب بالداعى في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للايجاب المقصود هاهنا - مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلى أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للايجاب المطلق فيمكن للأشعري - الّذي لا يقول بالايجاب اصلا - ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق

ص: 267

الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن / 57DA / أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للايجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للايجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها ، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للايجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للايجاب المقصود هنا - أعني : ايجاب

ص: 268

الحكماء - معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة - أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم - وهو المراد بالايجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل - أعني : ايجاب الحكيم - فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للايجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للايجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للايجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا - أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة - كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره - تعالى - في العالم ليس بالايجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس

ص: 269

إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في / 61MA / الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا - أعني : امتناع الانفكاك - كان حاصل كلامهم انّ تاثيره - تعالى - في العالم ليس بالايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل - أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح - ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل - أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح - اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ - أعني : الداعي القديم - كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين / 57DB / لا تكفي للترجيح - كما مرّ - ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني - أعني : نفي الايجاب الخاصّ - فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من

ص: 270

وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعى أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه - أي : فرض الايجاب بالاختيار - في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالايجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين

ص: 271

الرازي في الاربعين بانّه قال : الترجيح يفيد الاولوية دون الوجوب (1) ، وأمّا عكسه فثابت لأنّ كلّ من قال بتحقيق الايجاب الخاصّ قال باستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فالقول بنفي الايجاب الخاصّ يدور مع القول بجواز الترجيح بلا مرجّح وجودا لا عدما ، والقول بثبوته يدور مع القول بامتناعه عدما لا وجودا ، وامّا قولهم بنفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك فهو يدور مع القول بالقدم وجودا وعدما وبالعكس ؛ ولذا جميع القائلين بالحدوث نفوه وبالعكس وجميع القائلين بالقدم اثبتوه وبالعكس. فقولهم بنفي هذا الايجاب صحيح على أصولهم وقواعدهم وصحيح في الواقع ونفس الأمر أيضا ، ودليلهم عليه تمام على الفلاسفة. ولا يمكن للفلاسفة أن يعارضوهم بصورة الاختيار بأنّه يلزم حينئذ أيضا امّا القدم أو التوقّف على الشروط الغير المتناهية ، لأنّهم لمّا جوّزوا الترجيح بلا مرجّح فيجوز لهم أن يقولوا لا يفتقر حدوث الحادث إلى مرجّح سوى الإرادة ليلزم أحد الأمرين ، ولا يمكن للفلاسفة أن يلتزموا مثل ذلك لتتمّ المعارضة ، فدليلهم تامّ على أصلهم هذا لا فى الواقع ونفس الأمر. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يجوّزوا الترجيح بلا مرجّح فالدليل المذكور من قبلهم غير تامّ على أصولهم ، لأنّه إذا عارضهم الفلاسفة بصورة الاختيار فان أجابوا بعدم لزوم أحد الأمرين لكفاية الداعي فللفلاسفة أيضا أن يلتزموا مثل ذلك - كما تقدّم - ، فتتمّ المعارضة عليهم.

ومنها - أي : ومن وجوه الاختلال في الاستدلال المذكور / 61MB / إذا جعل دليلا لنفي الايجاب المذكور ، أي : استحالة الانفكاك - : انّ المراد من استلزامه القدم انّه مستلزم للقدم بالنوع يعني قدم الفعل المطلق - أي : طبيعة الفعل أو الفرد المنتشر - ، لا قدم فرد شخصيّ أو جميع الاشخاص. وحينئذ فيرد انّ استلزام الايجاب بالمعنى المذكور لقدم الفعل المطلق بديهى ، لأنّ عدم انفكاك الواجب عن العالم اي فعل ما هو بعينه قدم فعل ، فانّ الاستدلال عليه باستلزام نقيضه التوقّف على الشرط الحادث لغو مستدرك. والمراد بنقيضه هو الحدوث بالنوع - أي : حدوث الفعل المطلق - ، إلاّ انّا لا نريد هنا بالحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق وأمثالهما حدوث فعل ما أو

ص: 272


1- راجع : الاربعين ، ج 1 ، ص 320 ، 321.

حدوث طبيعة الفعل المتحقّق في ضمن فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل / 58DA / المتحقّق في ضمن فعل - أعني : طبيعة ما - ، بل المراد حدوث مطلق النوع والطبيعة - أي : عموم هذا المفهوم المتحقّق في ضمن جميع الافراد بأن لا تكون طبيعة ما من طبيعة الفعل قديما أيضا -. فالمراد من الحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراد الفعل والسرّ في ذلك انّ المراد بقدم الفعل المطلق ما يطلق عليه الفعل - أعني : فردا ما - ، والمراد بحدوث الفعل المطلق نفي ذلك القدم - أعني : قدم فردا ما - ؛ والنفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فيكون المراد حدوث جميع الافراد.

ومنها : انّ التخلّف عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة وإن كان محالا لكن جاز أن يكون لازما ، لاجتماع المتنافيين وهما الموجب بالمعنى المذكور وحدوث أثره المطلق ، أي : عدم كون فعله المطلق قديما بان يكون مجموع افعاله وآثاره حادثا.

وأورد على هذا الوجه : بانّه خارج عن آداب المناظرة ، لانّه إذا سلّم محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يثبت مطلوب المستدلّ ، إذ ليس غرضه إلاّ انّه على هذا التقدير يلزم القدم ، والمورد قد سلّمه ، فلا ايراد.

فان قيل : المقصود ليس إلاّ ابطال الاستدلال لا ابطال المدّعى - أعني : محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور - ، فلا يثبت انّ المدّعى - أعني : محالية حدوث الفعل المطلق على تقدير الايجاب بالمعنى المذكور - بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال ، فالغرض هنا

ليس إلاّ التنبيه على فساد الاستدلال ، وهو يحصل بما ذكر - أعني : امكان استلزام المحال المحال - ؛

قلنا : للمستدلّ أن يقول : بناء الاستدلال على فرض جواز اجتماع الايجاب المذكور والحدوث ، فانّا فرضنا جواز الحدوث على هذا التقدير وأقمنا الاستدلال ، وليس بناء الاستدلال على فرض الايجاب المذكور ومحالية الحدوث ، فلا يرد علينا شيء إلاّ ما ارتكبنا من التطويل. وأمّا الايراد بانّ الحدوث على هذا التقدير محال فلا يتمّ استدلالكم ، فلا يضرّنا ، بل هو مدّعانا!. نعم! لو أجرينا الدليل على تقدير محالية هذا

ص: 273

الحدوث لورد علينا مع ارتكاب هذا التطويل هذا الايراد ، لكن ليس كذلك ، بل أجرينا الدليل على فرض جواز الحدوث على ذلك التقدير ، فلا ايراد علينا.

ومنها : انّ توقّف حدوث الفعل المطلق على شرط حادث مستلزم للخلف. بيانه : انّه لو كان الفعل المطلق حادثا والفاعل موجبا فلا ريب في انّ أوّل ما يحدث عن ذلك الفاعل يجب أن يتوقّف على الشرط لئلاّ يلزم التخلّف المحال ، فيلزم أن يكون أوّل ما صدر عنه ذلك الشرط لا المشروط المفروض أوّلا ، هذا خلف!.

وانت تعلم انّ هذا أيضا نافع للمستدل وليس مضرّا له - كما لا يخفى -.

ومنها : انّ توقّف الحادث على تقدير الايجاب المذكور على شرط حادث مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه. بيانه : انّا قلنا انّ المراد بلزوم قدم العالم على فرض الايجاب المذكور هو قدم الفعل المطلق - أي : ما يطلق عليه الفعل ، أعني : فردا ما - ، فاذا ورد عليه النفي كان المنفي مجموع الافراد ، لأنّ النفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فاذا لم يكن الفعل المطلق قديما يكون جميع الأفعال حادثة موقوفة على شرط حادث خارج عنها ، وذلك الشرط أيضا من جملة الافعال الّتي يتوقّف على الشرط المذكور ، فيكون ذلك الشرط موقوفا على نفسه ، فتصير صورة الاستدلال هكذا : لو كان الفاعل موجبا لزم أن يكون فعل ما قديما وإلاّ - أي : وإن لم يكن فعل ما قديما - يكون كلّ فعل حادثا ، وإذا كان كلّ فعل حادثا يلزم توقّف هذا الحدوث - أعني : حدوث المجموع - على شرط حادث هو أيضا فعله - تعالى - ، فذلك الشرط لكونه من الفعل المطلق يجب أن يكون داخلا فيه ، ولكونه شرطا له - أي : للفعل المطلق - يجب أن يكون مقدّما عليه ، فيلزم تقدّمه على نفسه. وعلى ما ذكر فلزوم توقّف الشيء على نفسه - أعني : الدور - ظاهر لا يقبل المنع ، لأنّه إذا كان المراد بحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراده ، والشرط المتوقّف عليه كان من جملة الافراد.

ثمّ ( ان ) (1) توقّف مجموع الافراد على الشرط المذكور لكان الشرط المذكور أيضا يتوقّف على نفسه ، فيلزم توقّف شيء شخصى بعينه على نفسه ، وهو الدور.

ص: 274


1- لفظة « ان » غير موجودة في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

وبذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأفاضل : انّه على تقدير حدوث الفعل المطلق لا ريب في لزوم توقّفه على الشرط ، إلاّ انّ اللازم تقدّم فرد من العالم على فرد آخر لا تقدّم الشيء على نفسه.

والظاهر انّ هذا المورد حمل المطلق على الفعل العامّ المشترك بين جميع الافراد ، وفهم حينئذ وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه - كما فهمه بعض آخر - : انّ الشرط الحادث الّذي يتوقّف عليه الفعل المطلق العامّ فرد من أفراد هذا العامّ ، فيكون الفعل العامّ متحقّقا فيه ، فاذا توقّف هذا العامّ المتحقّق في ضمن بعض الافراد على هذا العامّ المتحقّق في ضمن الشرط / 62MA / المذكور يلزم تحقّق الطبيعة قبل تحقّق الطبيعة ، وهو تقدم الشيء على نفسه ؛ فأورد : بانّ اللازم حينئذ تقدم فرد على فرد وهو كذلك ، فانّ غاية الأمر انّ تحقق هذا المطلق في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر ، ولا مانع فيه ، لأنّ الطبيعة ليس لها تحقّق على حدة وتحقّقها انّما هو بتحقّق فرد منها ، فتقدّمها على نفسها بتقدّم فرد منها على فرد آخر إنّما هو في الحقيقة تقدّم فرد منها على فرد آخر - كما مرّ / 58DB / في مباحث اثبات الواجب -. فلا يلزم هنا على هذا من توقّف الفعل المطلق على ما حملوه عليه على الشرط إلاّ تقدّم الشرط من أفراد الفعل المطلق على المشروط به منها ، فالصحيح في وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ما ذكرناه. وحينئذ لا مجال للايراد اصلا.

ثمّ أنت تعلم انّ لزوم تقدّم الشيء على نفسه من فرض الحدوث لا يضرّ المستدلّ ، بل هو مؤكّد لمطلوبه. لأنّ غرضه انّ الحدوث مع فرض الايجاب المذكور يتضمّن مفسدة لزوم التسلسل ، فاذا أورد عليه بانّه يتضمّن تقدّم الشيء على نفسه أيضا ، فله أن يقول : ذلك يؤكّد مطلوبي ، فالواجب عدم حدوث العالم في صورة الايجاب المذكور بل اللازم حينئذ قدمه. وبالجملة هذا الايراد كسابقه خارج عن آداب المناظرة ، لانّ غرض المستدلّ ابطال التوقّف ، فبطلانه من جهة استلزام توقّف الشيء على نفسه أقوى دليل على مطلوبه.

ثمّ مع لزوم تقدّم الشيء على نفسه إن كان التسلسل أيضا لازما فيلزم فيه

ص: 275

محذوران ، وأن منع لزوم التسلسل.

وقيل : انّ ذلك الشرط الحادث يتوقّف على نفسه لا على شرط حادث آخر ، فلا يلزم إلاّ تقدّم الشيء على نفسه دون التسلسل ، وحينئذ يلزم محذور واحد نعم! لو قيل في صورة التسلسل : لا يلزم تقدّم الشيء على نفسه - لأنّ التسلسل وتقدّم الشيء على نفسه لا يجتمعان - ، لكان له وجه ولم يكن لهذا الايراد مجال.

ومن الأفاضل من حكم بصحّة اجراء الدليل المذكور إن جعل المفسدة فيه لزوم تقدّم الشيء على نفسه لا لزوم التسلسل ، حيث قال بعد أن جزم بأنّ الاستدلال المذكور لا يصحّ اجرائه من قبل المعتزلة ولا من قبل الاشاعرة برهانيا ولا الزاميا لبعض الوجوه السابقة : نعم! يمكن اجرائه الزاميا على تقرير آخر على تقدير حدوث الفعل المطلق بأن يقال : لو كان الفاعل موجبا لزم قدم الفعل المطلق وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه لو كان الفعل المطلق حادثا لتوقّف حدوثه على شرط هو أيضا فعله - تعالى - ، فهو من حيث انّه داخل في الفعل المطلق متأخّر ومن حيث انّه شرط لحدوث الفعل المطلق متقدّم ، فيلزم تقدّمه على نفسه ؛ انتهى.

وما ذكره من عدم صحّة اجرائه من قبل الأشاعرة قد علمت خلافه ممّا تقدّم ؛ هذا.

وقد بيّن بعض الأفاضل لزوم تقدّم الشيء على نفسه في الاستدلال المذكور بوجه آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : انّ الحادث المذكور - أي : الّذي كلامنا فيه - بانه يتوقّف على شرط حادث هو أوّل الحوادث ، فالشرط الحادث إمّا أن يكون عينه أو متأخّرا عنه. وهذا على تقدير الحدوث بالنوع - بأن يكون الفعل المطلق حادثا لحدوث مجموع الأشخاص - ظاهر جدّا ، إذ لا يبقى شيء يكون خارجا عنها حتّى يكون شرطا لها متقدّما عليها ، وحينئذ يلزم إمّا تقدّم الشيء على نفسه أو على ما يتقدّم عليه.

وأورد عليه : بانّ الحادث المذكور لعلّه لا يكون أوّل حادث بل يوجد في مرتبة واحدة أمور غير متناهية على سبيل الاجتماع ، ويكون كلّ واحد منها موقوفا على واحد آخر ، وحينئذ فكلّ واحد حادث يتوقّف على شرط حادث آخر ... وهكذا ، و

ص: 276

لا ينتهي إلى أمر يكون أوّل الحوادث - أعني : يكون متأخّرا عن نفسه أو عمّا يتأخّر عنه - ، فلا يلزم إلاّ التسلسل على سبيل الاجتماع ، لا توقّف الشيء على نفسه.

ومنها : انّه اذا كان أثر الموجب بالمعنى المذكور حادثا بشخصه أو بنوعه يلزم التخلّف البتة - سواء توقّف على الشرط أم لا - ، فلا حاجة إلى اعتبار توقّفه على شرط حادث والتزام التسلسل. وتوضيح ذلك : انّ الموجب إمّا تامّ أو ناقص ؛ والتامّ مشترك بين الموجبين : أحدهما ما هو معتبر عند الحكماء - وهو ما يمتنع انفكاك الفعل عنه - ، وثانيهما ما هو معتبر عند المعتزلة - وهو ما يوجب الفعل في وقته الّذي تعلّق ارادته به للعلم بالأصلح -. والناقص ما يتوقّف صدور الفعل منه على شرط. والموجب بالمعنى المشهور - أي : ما يجب صدور الفعل عنه - مشترك بين التامّ والناقص. ولا ريب أنّ الموجب المراد هنا هو الموجب التامّ المعتبر عند الحكيم ، والتخلّف عنه غير جائز مطلقا ، واذا توقّف فعله على شرط يتحقّق التخلف ويكون ناقصا لا تامّا.

واعترض بعض الأفاضل على ذلك بانّ الايجاب المقصود هنا لا ينافي عدم وقوع ما يقتضيه الفاعل الموجب بهذا الايجاب لمانع عائد إلى غيره ، إذ حاصل معنى هذا الايجاب هو اقتضاء الذات من جهة لزوم الداعي ، ونحوه امتناع الانفكاك عن الفعل وذلك لا ينافي جواز الانفكاك ، فلا مانع عائد إلى غير ذات الفاعل كعدم امكان الأثر وعدم وقت له قبل وقت حدوثه ، فيجوز أن يكون الموجب بهذا الايجاب غير مستجمع للشرائط المعتبرة في التأثير بحسب نفس الأمر ، فلا يكون تامّا. فلا يستحيل التخلّف عنه ، إذ المحال انّما هو التخلّف عن الموجب التامّ والموجب بهذا المعنى لوجود المانع عن التأثير ليس تامّا ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ الموجب / 62MB / بالمعنى المقصود هنا - أعني : ما يمتنع انفكاك الفعل عنه - هو الذي قال به الحكماء ، وصرّحوا بأنّه يلزمه قدم فعله وجزموا بانّ الايجاب بهذا المعنى مساوق للقدم ، فهو ما يستحيل انفكاك الفعل عنه بالنظر إلى الداعي مطلقا سواء كان عائدا إلى الذات أو إلى الغير. ومقابله ما لا يمتنع عنه الانفكاك ولو بالنظر إلى الداعي الخارجي كعدم امكان الأثر وعدم / 59DA / تحقّق وقت قبل وقت

ص: 277

الحدوث ؛ كيف ولو كان الايجاب المقصود هنا غير مناف لعدم وقوع ما يقتضيه الفاعل لمانع عائد إلى الغير - كعدم الوقت وغيره - لكان هو بعينه الايجاب الّذي قال به المعتزلة! ، - كما اخترناه أيضا -.

* * *

( بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب )

ولما بلغ الكلام إلى هنا فلا بأس بأن نشير إلى حقيقة معنى الايجاب والموجب.

فنقول : الموجب - بصيغة المفعول - يطلق على فاعل يجب عنه الفعل لا بقدرة واختيار - كلفظ المضطرّ - ، فلا يطلق إلاّ على الطبائع كالماء والنار بالنسبة إلى مقتضى طبائعها. والموجب - بصيغة الفاعل - يطلق على فاعل يجب عنه الفعل بقدرة واختيار.

وكلّ منهما قد يكون تامّا ويكون ناقصا. امّا الموجب - بالفتح - كالطبائع الّتي لا يتوقّف تاثيرها على حصول بعض الشرائط أو رفع بعض الموانع. وان توقّف وحصل الشرائط وارتفع الموانع تكون العلّة التامّة حينئذ هو الفاعل مع تلك الشروط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل فقط ناقص وناقصة - كالطبائع الّتي يتوقّف تأثيرها على أحدهما -. وأمّا الموجب - بالكسر - فتامّة كلّ فاعل يفعل بقدرة واختيار من دون توقّف فعله على شرط أو رفع مانع ؛ وناقصة ما توقّف فعله على أحدهما بعد حصول الشرط أو رفع المانع لا يخرج الفاعل عن النقصان ، لأنّ التمامية حينئذ للفاعل مع تلك الشرائط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل بمجرّده ناقص.

ثمّ الحكماء لمّا قالوا بوجوب الفعل عنه - تعالى - بقدرة وإرادة غير منفكّة عنه - تعالى - وغير زائدة على ذاته لزمهم القول بعدم انفكاكه - تعالى - عن الفعل ، فيكون الواجب عندهم فاعلا موجبا - بالكسر - تامّا.

وأمّا المتكلّمون ؛ فالأشاعرة منهم قالوا : انّ القدرة والاختيار والإرادة زائدة على الذات ومنفكّة عنها في الأزل. لا أنّ تلك الصفات منفكّة عنها. بل بمعنى أنّ متعلّقها منفكّ عنها وقتا ما ؛ والمعتزلة منهم قالوا : انّ تلك الصفات ليست زائدة على الذات بل

ص: 278

هي عينها ، إلاّ أنّ متعلّقها منفك عنها في الأزل لتعلّقها في الأزل بحصول المتعلّق فيما لا يزال نظرا إلى العلم بالمصلحة ؛ فعلى هذين المذهبين - أي : مذهب الأشاعرة والمعتزلة - لا يكون الواجب موجبا تامّا ، لتحقق الانفكاك المستلزم لتوقّف فعله - تعالى - على أمر آخر سوى ذاته. إلاّ أنّ ذلك لا يصير منشئا لنقصانه وعدم تماميته ، لأنّ الاصطلاح على أنّ التمامية هنا بمعنى عدم انفكاك الأثر. والانفكاك هنا إمّا لمراعات الأصلح أو لعدم الكماليّة في الأثر ، فلا يتطرّق شوب نقص على حريم كبريائه - تعالى -.

ويمكن أن يقال : انّ التامّ ما كان صدور الفعل عنه غير متوقّف على شرط خارج عنه ولا يخرج عن التمامية بالتوقّف على أمر داخل ولو حصل به الانفكاك بينه وبين الأثر ؛ والناقص ما توقّف صدور الفعل عنه على شرط خارج. وعلى هذا يكون الواجب عند المعتزلة موجبا تامّا لا ناقصا ، لعدم توقّف فعله على شيء سوى العلم بالأصلح وهو ليس خارجا عن ذاته ، بل عين ذاته عندهم. وعلى مذهب الأشاعرة لا يكون موجبا تامّا ، لكون الصفات عندهم زائدة على الذات.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل (1) حيث قال : الموجب - بصيغة المفعول - يكون معناه ما أثبت له الايجاب ، وهذا لا يكون إلاّ تامّا ؛ والموجب - بصيغة الفاعل - هو ما يفيض الوجوب إلى الغير - أي : إلى اثره - ، والموجب بهذا المعنى قد يكون تامّا وقد يكون ناقصا ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما علمت من انّ كلاّ منهما يكون تامّا وناقصا.

ومن الفضلاء (2) من أورد على ما نقلناه من بعض الأفاضل ، حيث قال : الظاهر من إطلاقاتهم أنّ لفظ الموجب انّما يطلق على كلّ فاعل مؤثّر في غيره - أي : باعتبار تأثيره في الغير لا باعتبار تأثيره عن الغير -. وعلى هذا لا يناسب اطلاق صيغة المفعول الّتي حاصل معناها ما اثبت له الايجاب على فاعل مؤثّر ، سواء كان من الطبائع أولا ؛

ص: 279


1- هامش دال : هو ملاّ شمسا الجيلاني - ره -. منه.
2- هامش دال : آقا رضي القزويني - ره -. منه.

اللّهم إلاّ على المجاز.

وهو كما ترى.

ثمّ إنّ منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء في الايجاب إمّا لزوم القدم لايجابهم ، وإمّا لزعمهم انّ الواجب - تعالى - عند الحكماء موجب بالفتح - وفاعليته - تعالى - عندهم كفاعلية النار في الاحراق والشمس في الإضاءة - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا -. وهذا الزعم غلط. فانّ الحكماء لا يطلقون عليه - تعالى - لفظ الموجب - بالفتح - ، ولو اطلقوه عليه احيانا فالظاهر انّهم يريدون منه كون الفاعل محكوما عليه بوجوب الفعل عنه ، لا كونه مضطرّا ؛ بل هو عندهم موجب - بالكسر - بمعنى انّه يجب الفعل بالقدرة والاختيار ، فهو موجب - أي : مفيض لوجوب المانع قاهر لجميع انحاء عدمه حتّى يصير موجودا - ؛ هذا.

واعترض بعض الأعاظم على هذا الايراد أيضا : بانّه لم يثبت فيما سبق حدوث جميع ما سوى اللّه - تعالى - مطلقا وإن كان بالنوع ، بل ذلك ممّا لا سبيل إليه عقلا. ولو سلّم ذلك لا يلزم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة وان كان يلزم التخلّف ، وذلك غير المدّعى في الايراد. وأيضا بناء الاستدلال ليس على فرض الايجاب في الأزل ، بل على الايجاب مطلقا والتخلّف مطلقا إنّما يلزم على فرض الايجاب في الأزل - أي : الايجاب بمعنى / 59DB / امتناع الانفكاك مطلقا - ، دون الايجاب المطلوب الّذي يشمل الايجاب بالاختيار الّذي قال به المعتزلة ؛

وفيه : انّ حدوث الأجسام والأعراض ثابت بالفعل شخصا ونوعا - كما تقدّم -.

وأمّا المجرّدات وإن لم يثبت حدوثها بالفعل شخصا ونوعا ولكن العمدة في اثبات حدوثها هو الاجماع والنقل ، وهما كما يدلاّن على حدوثها شخصا فكذلك يدلاّن على حدوثها نوعا أيضا ؛ وقد تقدّم ذلك مفصّلا.

وما ذكره من عدم لزوم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة - نظرا إلى عدم صدق / 63MA / الانفكاك حينئذ لعدم تحقّق القدم بالنوع في الشروط المتعاقبة - ؛

ص: 280

ففيه : انّ القدم بالنوع على هذا التقدير - أي : على تقدير التوقّف - وإن كان لازما إلاّ انّ لزوم التوقّف لما كان على فرض الحدوث شخصا ونوعا. وعلى هذا الفرض يلزم التخلّف البتة ، سواء توقّف على الشروط أم لا ، لان المفروض انّ الفاعل موجب تامّ يمتنع انفكاك فعله عنه ، فاذا انفكّ عنه الحادث المذكور ولو بالتوقّف على الشروط يصدق التخلّف.

وأمّا ما ذكره بقوله : « أيضا ... - إلى آخره - » ، ففساده ظاهر ؛ لأنّ بناء الاستدلال على فرض الايجاب في الأزل - أعني : الايجاب بمعنى استحالة الانفكاك - ، وهو ظاهر.

وقد علم ممّا ذكر انّ ما يرد عند التحقيق على الاستدلال المذكور من وجوه الاختلال انّما هو لزوم المعارضة وعدم الاحتياج إليه في ترتّب القدم على الايجاب المذكور ، لأنّ لزومه ضروريّ ولزوم التخلّف وان توقّف الحادث على الشرط الحادث. وباقي الوجوه - أعني : لزوم تقدّم الشيء على نفسه وامكان استلزام المحال المحال - ليست قدحا فيه ، بل هي تقوية له!.

وقيل : يتقوّى الاستدلال المذكور بأمرين آخرين أيضا ؛

أحدهما : انّه في صورة توقّف الحادث على الشروط المتعاقبة يلزم قدم الفعل المطلوب من حدوثه ، فلنشير أوّلا إلى معنى تعاقب الشروط والاجتماع وإلى معنى الشرط ثمّ نرجع إلى المطلوب.

فنقول : المراد من الشروط المتعاقبة هو أن يحدث شرط عقيب شرط آخر إلى غير النهاية ولم تكن مجتمعة في آن اصلا ، فتكون متعاقبة في الحدوث والوجود معا ، بمعنى انّ كلّ سابق يحدث قبل اللاحق وينعدم بعد وجوده ولا يجتمع معه في الوجود.

فعلى هذا فالمراد بالشروط المجتمعة أن تكون مجتمعة في الحدوث والوجود معا بأن يوجد جميعا من دون تقدّم وتأخّر وكان الجميع باقيا ، أو تكون مجتمعة في الوجود فقط وان كانت متعاقبة في الحدوث ، بأن يحدث شرط عقيب حدوث شرط ، لكن يبقى السابق مع اللاحق وهكذا حتّى يجتمع وجود تلك الآحاد.

ومن الأفاضل من أدخل الشقّ الثاني من المجتمعة في المتعاقبة باعتبار تعاقبه

ص: 281

في الحدوث.

والظاهر انّه غفلة ، لأنّ القوم انّما قسّموا التسلسل إلى هذين القسمين - أعني : التسلسل في الامور المتعاقبة والتسلسل في الأمور المجتمعة - ، ليعيّنوا التسلسل الّذي جوّزه الفلاسفة دون المتكلّمين ، وقد سمّوا ذلك التسلسل بالتسلسل في الأمور المتعاقبة. ومعلوم بالضرورة انّ محل النزاع بين الطائفتين هو التسلسل في الأمور المتعاقبة في الحدوث والوجود معا - كالعلل المعدّة -. وليس محلّ النزاع التسلسل في الأمور المجتمعة في الوجود إذا كانت متعاقبة في الحدوث فقط أيضا ، لأنّ الفريقين متفقان على بطلانه ، كيف ولو جوّزه الفلاسفة لم يكن عندهم عذر في جريان التطبيق فيها! ، لانّ عذرهم في تجويز التسلسل في المتعاقبات انّ الآحاد إذا لم تكن موجودة في الخارج معا لم يتأتّ وقوع آحاد إحدى الجملتين بإزاء آحاد الجملة الأخرى. فاذا كانت متعاقبة في الحدوث مجتمعة في الوجود يجري فيها التطبيق لكونها مجتمعة في الوجود مترتبة. نعم! لو كانت مجتمعة في الوجود غير مترتبة بأن لا يكون لها تقدّم وتأخّر - بل كان من الشقّ الأوّل من المجتمعة - أمكن القول بعدم جريان التطبيق فيها نظرا إلى عدم الترتيب - كما ذهب إليه بعضهم -. والظاهر انّ نظر من أدخل الشق الثاني من الشروط المجتمعة في المتعاقبة إلى انّ الشرط يطلق حقيقة على ما يكون باقيا مع المشروط ، وانّما يطلق على المعدّ مجازا ، فاذا اطلق الشروط وان وصفت بالتعاقب لا يجوز اخراج المعنى الحقيقي منه وإرادة المعنى المجازي فقط ، وهو غفلة من معنى التعاقب ومن انّ المراد بالشرط معناه الأعمّ ؛ فانّ للشرط اطلاقين : أحدهما : الشرط بالمعنى الأخصّ ، وهو ما يكون وجوده مرجّحا لوجود الشرط - أي : ما يكون له مدخلية في وجود الشيء من حيث عدمه - ، وثانيهما : الشرط بالمعنى الأعمّ ، وهو مطلق المحتاج إليه سواء كان شرطا بالمعنى الأخصّ أو علّة ناقصة أو معدّا أو رفعا للمانع.

والعلّة الناقصة كالشرط بالمعنى الأخص في أنّ له مدخلية في وجود المعلول من حيث وجوده فقط ، وكذا الفاعل والمعدّ للشيء هو أن يكون تقدّمه مرجّحا لوجود هذا الشيء ويكون معدوما عند وجوده ، فهو ما يكون له مدخلية في وجود الشيء

ص: 282

من حيث وجوده وعدمه معا.

والمانع ما له مدخلية في وجود الشيء من حيث عدمه. فالمراد بمطلق الشروط المذكور في الاستدلال هو الشروط بالمعنى الاعمّ ؛ والمراد بالشروط المتعاقبة / 60DA / هي المعدّات ؛ والمراد بالشروط المجتمعة بالمعنى الأوّل هي الشروط بالمعنى الأخصّ.

وأمّا الشروط المجتمعة بالمعنى الثاني فلا يجوز أن تكون معدّات ولا أن تكون شروطا بالمعنى الأخصّ ، لأنّ الحادث انّما يحتاج إلى معدّ حادث قبله وإلى شرط حادث معه ، والمحتاج إليه السابق - أي : المعدّ - لا يجوز أن يكون باقيا معه ، بل يجب أن ينعدم بعد وجوده مرجّحا ؛ والمحتاج إليه الباقي - أعني : الشرط بالمعنى الأخصّ - لا يجوز أن يكون سابقا عليه بالزمان. والسرّ في ذلك انّ المحتاج إليه السابق - أعني : المعدّ - ما يكون مقدّما مرجّحا ، والمحتاج إليه الباقي ما يكون وجوده مرجّحا ، والمحتاج إليه السابق بالزمان يجب أن يتقدّم عليه عند حدوث المعلول ليكون بانعدامه مرجّحا ، ولو كان باقيا معه لكان بوجوده مرجّحا. فمع كونه سابقا عليه بالزمان - كما هو الفرض - يلزم التخلّف ، لأنّ المفروض كون الوجود مرجّحا وهو كان متحقّقا قبل تقدّم حدوث الحادث مع ذلك تخلّف عن العلّة التامة. وقد ظهر بذلك انّه لا يتصوّر توقّف الحادث على الشروط المجتمعة بالمعنى الثاني / 63MB / - أعني : ما كان سابقا عليه بالزمان وباقيا معه بعد الحدوث -.

وإذا علمت ذلك فاعلم : انّه يلزم على تقدير كون الشروط متعاقبة أو مجتمعة بالمعنى الثاني قدم الفعل المطلق من حدوثه ، لأنّ تعاقب الشروط وتسلسلها في الحدوث - سواء كانت غير مجتمعة في الوجود أو مجتمعة فيه - مستلزم لتحقّق القدم بالنوع فيها ، وهو ناش من فرض الحدوث ، فكما يلزم من فرض الحدوث بالنوع على تقدير الايجاب المذكور التسلسل في الشروط يلزم خلف الفرض - أعني : القدم بالنوع - أيضا ؛ بل إذا كانت الشروط مجتمعة بالمعنى الثانى - أعني : كانت متعاقبة في الحدوث مجتمعة في البقاء - لزم القدم ببعض الاشخاص أيضا ، ووجهه ظاهر. بل يلزم حينئذ التخلّف أيضا ، إلاّ أن يكون هناك موجود متجدد متصرّم كالحركة تكون تلك الشروط الغير المتناهية اجزاء فرضية له أو مستندة إليها ، فيلزم القدم بالشخص أيضا.

ص: 283

قال بعض الأفاضل (1) في بيان لزوم قدم الفعل المطلق من فرض حدوثه : انّ الشروط إذ كانت متعاقبة غير متناهية يكون طبيعة الفعل المطلق محفوظة بتعاقب تلك الشروط الغير المتناهية ، لأنّ تلك الشروط من افراد طبيعة الفعل المطلق ، فتكون طبيعة الفعل المطلق قديمة وافرادها حادثة.

ثمّ أورد عليه : بانّ هذا ليس موافقا للتحقيق ، لأنّ الحدوث والقدم المستعملين هاهنا هما الحدوث والقدم الواقعيان - أعني : الدهريين - ، والطبيعة إذا كانت قديمة لا بالقدم الزماني بل بالقدم الدهري فلا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون جزئي من جزئياته الحقيقية قديما ، فتلك الشروط الغير المتناهية لمّا فرضت حادثة بهذا الحدوث - أي : بالحدوث الدهري - يلزم أن تكون الطبيعة المتحقّقة في ضمن تلك الشروط حادثة كذلك ، وإلاّ يلزم تحقّق الطبيعة مجرّدة عن الفرد.

وقال في توضيح المقام : اعلم! أنّ القدم والازلية قسمان : أحدهما القدم الزماني والأزلية الزمانية ؛ وثانيهما : القدم الغير الزماني والأزلية الغير الزمانية. فالشيء الّذي يكون ازليا زمانيا انّما يكون باعتبار أن ليس جزء من أجزاء الزمان في زمان الماضي ولا يكون ذلك الشيء موجودا فيه ، بل كلّ جزء يفرض من الزمان يكون موجودا فيه وإن تقدّم الزمان عليه بالذات ؛ والحادث الزماني ما يقابله. والشيء الّذي يكون قديما غير زماني - أي : يكون قديما دهريا - هو أن لا يكون وجوده مسبوقا بالعدم في الخارج اصلا ؛ والحادث الدهري ما يقابله - أي : ما يكون وجوده مسبوقا بالعدم الواقعي الخارجي -.

وإذا علمت ذلك فنقول : يجوز أن تكون الطبيعة قديمة بالزمان وأفرادها حادثة ، ولا يجوز أن تكون الطبيعة قديمة بالدهر مع كون جميع أفرادها حادثة بالدهر. أمّا الأوّل فلأنّ الزمان لمّا كان قابلا للقسمة إلى غير النهاية فيمكن أن يكون في جزء من أجزاء ذلك الزمان فرد من طبيعة ويكون في جزء آخر فرد آخر من تلك الطبيعة وهكذا ، ولا يكون فرد منها في جزءين من الزمان ، بل كان كلّ فرد منها في جزء منه فقط.

ص: 284


1- هامش « د » : هو ملاّ شمسا الجيلاني.

فيصدق كون الطبيعة موجودة في جميع أجزاء الزمان ولا يصدق كون فرد منها موجودا في جميعها ؛ فيكون افرادها حادثة بالزمان وهي قديمة بالزمان. وهذا مثل ما يقال : انّ الورد يكون في شهر أو شهرين ، والحال انّ فردا منه لا يكون في شهر أو شهرين. فالمراد انّ طبيعة الورد يكون في شهر أو شهرين. ولو فرضنا بدل الشهر والشهرين الفا والفين بل كلّ الزمان لم يتفاوت الحكم ، لأنّ اطولية الزمان لا يصير منشئا لاختلاف هذا الحكم. وأمّا الثاني - أعني : عدم جواز كون الطبيعة قديمة بالدهر مع كون افرادها حادثة كذلك - ، فلأنّ القديم الدهري ما لا يكون وجوده مسبوقا بالعدم في الخارج اصلا ؛ والحادث الدهري ما يكون وجوده مسبوقا بالعدم في الخارج. / 60DB / وإذا كان جميع أفراد طبيعة واحدة مسبوقة بالعدم في الخارج يلزم أن تكون تلك الطبيعة أيضا مسبوقة بالعدم ، وإلاّ يلزم تحقّق الطبيعة مجرّدة عن الفرد ، وهو باطل لأنّ الطبيعة المجرّدة عن الفرد في الخارج والواقع لا وجود لها. ولمّا فرض أنّ تلك الشروط الغير المتناهية حادثة بالحدوث الدهري الواقعي يلزم أن تكون الطبيعة المتحقّقة في ضمن تلك الشروط حادثة حدوثا واقعيا ، وإلاّ يلزم تحقّق الطبيعة مجرّدة عن الافراد ، ولا تفاوت في ذلك الحكم بين كون تلك الشروط متعاقبة أو مجتمعة. وبالجملة إذا كانت طبيعة ما من الطبائع قديمة بالعدم الواقعي الدهري بل بالقدم الغير الزماني مطلقا فلا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون جزئي من جزئياته الحقيقية قديما ؛ انتهى حاصل ما ذكره الفاضل المذكور.

وهذا الفاضل قد أخذ هذا التفصيل أوّلا من بعض كتب السيد المحقّق الداماد ، ثمّ رجع وحكم بانّ القديم الزماني أيضا حكمه حكم القديم الدهري في عدم جواز قدمه زمانا مع كون افراده حادثة بالزمان ، فقال : المفروض انّ كلّ فرد فرد من أفراد الحوادث الزمانيّة مسبوق بالعدم الزماني والطبيعة قديمة زمانية بمعنى أنّها ليست مسبوقة بعدم زماني أصلا.

فلقائل أن يقول : على ذلك التقدير يكون كلّ فرد من تلك الطبيعة مسبوقا بعدم زماني ولا يوجد فرد يكون قديما زمانيا أصلا - كما هو المفروض -. وهذا الحكم ثابت لكلّ فرد فرد سواء وجد معه فرد آخر أو لا ، فيكون هذا الحكم - أعني : سبق العدم الزماني - ثابتا / 64MA / لكلّ فرد على جميع تقادير وجوده - أي : سواء وجد معه فرد

ص: 285

آخر أو لا -. وقد تقرّر بين القوم انّ كلّ حكم ثبت لكلّ واحد من أشياء على جميع تقادير وجوده لا يختلف هذا الحكم في تلك الصورة بين الكلّ الافرادي والكلّ المجموعي. كما في احتياج الممكن ، فانّه لمّا كان كلّ واحد من افراد الممكن محتاجا إلى العلّة على جميع تقادير وجوده - أي : سواء كان معه ممكن آخر أو لا - حكموا بعدم التفاوت بين الكلّ الافرادي والمجموعي في الاحتياج إلى العلّة. فعلى المشاكلة يكون الحكم المذكور - أعني : سبق العدم الزماني - ثابتا لمجموع الأفراد بحيث لا يشذّ عنه فرد.

ولكون العدم السابق على مجموع الأفراد عدما زمانيا يكون ذلك الزمان الّذي عدم فيه مجموع الأفراد مشغولا بعدم جميع الأفراد بحيث لا يشذّ فرد ، فلا يوجد فرد من افراد تلك الطبيعة في ذلك الزمان البتة. فحينئذ إمّا أن تكون تلك الطبيعة موجودة في ذلك الزمان أو معدومة فيه ، فعلى الأوّل يلزم وجود الطبيعة مجرّدة عن الفرد وهو باطل ، وعلى الثاني يلزم أن يكون حادثا بالحدوث الزماني كأفرادها ، فظهر انّ حدوث جميع افراد الطبيعة بالحدوث الزماني يستلزم حدوث الطبيعة أيضا كذلك ؛ انتهى.

اقول : الحقّ في هذا المقام انّ قدم الطبيعة مع حدوث جميع أفرادها غير معقول ، بل إن كانت جميع افراد طبيعة حادثة لكانت تلك الطبيعة أيضا حادثة ، ولا يعقل قدمها إلاّ إذا كان بعض افرادها قديما. والتحقيق - كما أفاده الفاضل المذكور - عدم الفرق في ذلك بين القدم والحدوث الدهريين وبين القدم والحدوث الزمانيين. والدليل على الكلّ : انّه لا شكّ انّ الطبيعة ليست موجودة بوجود على حدة منفكّة عن افرادها. ومحلّ الخلاف المشهور في وجود الكلّي الطبيعي - كما حرّره العلاّمة الرازي في رسالة الكلّيات (1) وغيره من أهل التحقيق - هو : انّ الطبيعة هل هي موجودة في الخارج بوجود افرادها حتّى تكون الطبيعة موجودة ويكون الفرد موجودا آخر ووجودهما واحد ، أو هي غير موجودة في الخارج اصلا ، بل الموجود فيه افرادها فقط وهي موجودة في الذهن ، لا غير فعلى هذا لو كانت موجودة - كما هو التحقيق - فلا محالة يكون وجودها بوجود افرادها ؛ فهي موجودة بوجود كلّ فرد. فلها وجودات متعدّدة بحسب

ص: 286


1- لم أعثر على هذه الرسالة ، والظاهر أنّها لم تطبع بعد.

تعدّد الافراد. وإذا كان وجودها بوجود الأفراد فيكون الحيثية المعتبرة لوجود افرادها معتبرة لوجودها أيضا ، فاذا كان جميع أفرادها حادثة بالحدوث الدهري أو الزماني كانت الطبيعة أيضا كذلك. والفرق بين الحدوثين غير معقول ، لأنّه كما إذا كانت جميع الأفراد مسبوقة بالعدم الواقعي فلا يعقل كون الطبيعة غير مسبوقة به ، والاّ لزم وجودها متقدّمة على جميع الافراد في ظرف الواقع ونفس الأمر منفكّة عنها فيه ، كذلك إذا كانت جميع الأفراد مسبوقة بالعدم الزماني. فلا يتصوّر كون الطبيعة غير مسبوقة به وإلاّ لزم وجودها سابقة على جميع الأفراد في ظرف الزمان منفكّة عنها فيه ، وإذا كان بعض أفرادها قديما بالقدم الدهري أو الزماني كانت الطبيعة المتحقّقة في ضمنه أيضا كذلك ؛ والفرق بين القدمين باطل - كما مرّ -.

فان قيل : كيف يتصوّر كون الطبيعة حادثة مع كون افرادها غير متناهية؟! ، لأنّ المفروض توقّف كلّ شرط حادث على شرط حادث آخر إلى / 61DA / غير النهاية ، فعلى تقدير عدم تناهي الأفراد لو كانت الطبيعة حادثة لما تصوّر أن يكون فرد منها متحقّقا فيها ، فيلزم أن يكون الافراد متناهية ؛ وهو خلاف الفرض ، فيجب أن يكون قديمة ؛

قلنا : كما يتصوّر كون جميع افرادها بحيث لا يشذّ عنها شيء حادثة مع عدم تناهي تلك الأفراد فانّ اجتماع حدوث الطبيعة مع عدم تناهي افرادها على سبيل التعاقب (1) ليس باعجب من اجتماع حدوث الأفراد باسرها وعدم تناهيها ، والمفروض جواز اجتماع حدوث الأفراد مع عدم تناهيها ، فلا بأس بجواز اجتماع حدوث الطبيعة مع عدم تناهي افرادها أيضا.

ثمّ الحقّ انّه لا يجوز شيء منها - أي : لا يجوز اجتماع حدوث الطبيعة مع عدم تناهي افرادها على سبيل التعاقب ولا اجتماع حدوث جميع افرادها مع عدم تناهيها كذلك ، أي : على سبيل التعاقب - وان امكن اجتماع حدوثها مع كونها غير متناهية على سبيل الاجتماع بدون الترتيب ؛ أمّا الأوّل فظاهر وأمّا الأخير فلأنّ معنى حدوث جميع

ص: 287


1- الاصل : - على سبيل التعاقب.

افرادها أن يكون العدم الدهري أو الزماني سابقا على جميعها بحيث لا يشذّ عنه شيء ، ومعنى عدم تناهيها أن لا يوجد واقع أو زمان لم يوجد فيه فرد من تلك الافراد ؛ فلا يمكن أن يسبق عدم دهري واقعي أو زمان عدم على جميع تلك الأفراد على هذا التقدير - أي : على تقدير عدم تناهيها -. فهذان الفرضان امر الحدوث (1) جميعها ووقوع التسلسل التعاقبي فيها متنافيان.

وأيضا لا ريب في انّ تلك الشروط إذا كانت غير متناهية كان واحد منها في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر مستندا إلى موجود قديم واجب أو غير واجب ، فان كان هذا الواحد قديما بطل ما فرض من كون جميعها حادثة ، وان كان حادثا انقطع عند التسلسل. وحينئذ فالصحيح أن يقال في تقوية الاستدلال المذكور : انّه في صورة توقّف الحادث على شرط حادث يلزم عدم تناهي الشروط على سبيل التعاقب مع حدوثها ، أو يلزم اجتماع حدوث الطبيعة نظرا إلى حدوث افرادها مع عدم تناهي افرادها ؛ والكلّ باطل لوقوع التناهي المستحيل. وهذا المحال انّما نشأ من فرض الحدوث في صورة الايجاب المذكور.

ثمّ بعض الأفاضل بعد أن جزم بلزوم قدم الطبيعة من حدوث افرادها على الفرض المذكور / 64MB / قال : فان قيل : كيف يتصوّر قدم الطبيعة بحدوث جميع الأفراد مع أنّ وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ليس إلاّ في ضمن الفرد متحدا بوجوده وبانتفاء الفرد ينتفي الطبيعة المتحدة معه في الوجود ، فاذا كان جميع الأفراد حادثة لم يكن لها وجود ازلي غير مسبوق بالعدم حتّى تكون قديمة؟! ؛

قلنا : الطبيعة الابهامية الموجودة في الخارج لها وحدة ابهامية لا تنافي تعدّد الوجود بحسب تكثّر الأفراد وبانعدام فرد واحد وبانتفاء وجود واحد لا تنعدم هي من حيث هي - أي : مطلقا - وان انعدمت من حيث هي في ضمن تلك الفرد. ومتى لم تنعدم جميع افرادها لم تنعدم هي مطلقا ؛ ولهذا اشتهر : انّ وجود الطبيعة بوجود فرد ما وانتفائها بانتفاء جميع الأفراد. ولا يستلزم مسبوقية وجود كلّ فرد منها بعدمه الخاصّ به

ص: 288


1- كذا في النسختين.

مسبوقية زمانية مسبوقية وجودها من حيث هي هي بعدمها ، والمطلوب كذلك ؛ بل لو كانت لها افراد متعاقبة غير متناهية كلّ منها مختصّ بزمان يكون لا محالة زمان وجود الطبيعة غير متناه ؛ لكن لا وجودا واحدا بالعدد مستمرّا من الأزل إلى الأبد ، بل وجودا مبهما ، وذلك كاف في قدمها بل نقول. على ذلك التقدير لا يكون شيء من وجوداتها الخاصّة مسبوقا بعدمها المطلق بالزمان ، إذ ليس لذلك العدم زمان يتحقّق فيه لا بحسب الخارج ولا بحسب التوهّم ، فلا يكون حادثة البتة.

فان قيل : قد تقرّر انّه إذا كان حكم ثابتا لأفراد شيء على جميع تقادير وجود الفرد - أي : سواء كان معه وجود سائر الأفراد أم لا ، كاحتياج الممكن إلى الموجب - فلا يختلف الكلّ الافرادي والمجموعي في ذلك الحكم ، والمسبوقية الزمانية بالعدم هناك كذلك - أي : ثبت لأفراد الفعل المطلق على جميع تقادير وجود الفرد - ، فيكون مجموع الأفراد أيضا مسبوقا بالعدم ، فالطبيعة تكون إمّا حادثة أيضا وإمّا موجودة بدون فرد ، هذا خلف! ؛

قلنا : ليس كذلك ، إذ لو قدر وجود فرد من تلك الأفراد مقرونا بوجود سائر الافراد الغير المتناهية المختصّة كلّ منها بقطعة من الزمان لم يكن مسبوقا بالعدم البتة ، كما لو فرض جوع شخص واحد مقرونا بجوع ساير الاشخاص لا يمكن شبعه برغيف واحد ، بخلاف الممكن الواحد ، إذ لو فرض كونه مقرونا بسائر أفراد الممكن لا يرتفع عنه الاحتياج إلى الموجب ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا الكلام بطوله لا يفيد شيئا! ، ودفعه ظاهر ممّا ذكرناه. ويكفى في دفعه انّ تلك الافراد الغير المتناهية إن كان مجموعها بحيث لا يشذّ عنها شيء مسبوق بالعدم لكانت الطبيعة أيضا كذلك ، فثبت حدوثها ، وإن لم يكن مجموعها مسبوقا بالعدم لم تكن حادثة ، هذا خلف!.

وما ذكره من انّ المجموع هنا ليس مسبوقا بالعدم ولا يلزم منه نفي حدوث كلّ واحد - لأنّ حكم / 61DB / المجموع هنا يخالف حكم الآحاد قياسا على كلّ واحد والمجموع في الشبع وعدمه رغيف واحد - فمردود بانّ حكم المجموع والآحاد هنا حكم

ص: 289

المجموع والآحاد الممكنات في الاحتياج ، فانّه كما لو فرض كلّ ممكن مقرونا بسائر افراد الممكن لا يرتفع عنه الاحتياج كذلك لو فرض كلّ واحد من افراد السلسلة الغير المتناهية مقرونا بوجود سائر الافراد لم يرتفع عنه المسبوقية بالعدم. وقياس ذلك على المجموع والآحاد في الاشباع برغيف وعدمه قياس مع الفارق ، لأنّ السرّ في شبع كلّ واحد برغيف واحد وعدم شبع المجموع به انّه إذا أكل كل واحد من حيث هو واحد رغيفا واحدا لم يأكل غيره شيئا من هذا الرغيف ، بل مجموعه صار مأكولا له ، فيشبعه ؛ وإذا أكل مجموع الناس رغيفا واحدا لا يصير مجموع هذا الرغيف مأكولا لكلّ واحد ، بل كلّ واحد لم يأكل إلاّ جزء منه ، فالرغيف صار موزعا على الكلّ فلا يحصل الشبع. فالمعيار في معرفة عدم مخالفة حكم المجموع لحكم الآحاد ومخالفته انّ ما ثبت لكلّ واحد في صورة الانفراد ان ثبت له أيضا في صورة الاجتماع لم تحصل حينئذ مخالفة بين حكم الآحاد وحكم المجموع. كمثال الممكن ، فانّ ما ثبت لكلّ واحد من الممكنات بشرط الانفراد كذلك يثبت له مع الاجتماع أيضا. وإن لم يثبت له في صورة الاجتماع حصل المخالفة بين حكم الآحاد وحكم المجموع. كمثال الرغيف ، فانّ كلّ واحد في صورة الانفراد ثبت له أكل مجموع الرغيف وفى صورة الاجتماع ثبت له أكل جزء منه.

ولا ريب انّ ما نحن فيه من قبيل الأوّل ، لأنّ كلّ ما ثبت لكلّ واحد في صورة الانفراد ثبت له في صورة الاجتماع أيضا من دون تفاوت.

وثانيهما - أي : ثاني الأمرين اللذين قيل يتقوّى بهما الاستدلال المذكور -. في صورة توقّف الحادث علي الشروط المجتمعة بالمعنى الأوّل - أي : كونها مجتمعة في الحدوث والوجود معا - يلزم تخلّف المعلول عن الموجب التامّ أيضا ، لأنّ تلك الشروط إن كانت متحقّقة في الأزل يلزم تخلّف العالم عنها ، وإن كانت حادثة فيما لا يزال يلزم تخلّف تلك الشروط عن علّتها ، لأنّ علّتها ليست إلاّ الواجب وهو متحقّق في الأزل بدونها ، وهو التخلّف.

وغير خفيّ انّ المراد بالاجتماع هو الشقّ الثاني ، إذ على الأوّل تكون الشروط المطلقة قديمة والكلام في الشروط الحادثة ، فذكر الشقّ الأوّل انّما هو للاستظهار. فعلى

ص: 290

الشقّ الأوّل يلزم القدم لا التخلّف المطلق هنا - أي : التخلّف مع كون الشروط حادثة - ، فانّ تخلّف الفعل - أعني : العالم - عن الشروط وان كان لازما إلاّ انّ الشروط المجتمعة في الأزل لمّا كانت / 65MA / قديمة فلا تكون ممّا نحن فيه ، لأنّ ما نحن فيه انّما هو على فرض حدوث الشروط وهو انّما يتحقّق على الشقّ الثاني - أي : إذا كان مجتمعة في الحدوث والوجود فيما لا يزال -. وحينئذ وإن لم يلزم تخلّف الفعل عن الشروط إلاّ انّه يلزم تخلّف تلك الشروط عن علّتها التامّة. فيجب أن يكون المراد انّه على تقدير الاجتماع يلزم التخلّف عن الموجب التامّ سواء كان المتخلّف هو الفعل المفروض أو الشروط المذكورة ، إذ لو فرض الاجتماع في الأزل - مع انّه خلاف ما فرض من حدوث الشروط - يلزم تخلّف الفعل المفروض ؛ وإذا فرض الاجتماع فيما لا يزال - على ما هو مقتضى الفرض - يلزم تخلّف الشروط البتّة ، فيكون تخلف المعلول الشامل لهما عن الموجب التامّ لازما البتّة.

فان قلت : على فرض اجتماع الشروط فيما لا يزال يلزم تخلّف الفعل أيضا لكونه حادثا والموجب - أعني : الواجب - قديما! ؛

قلت : نعم ، ولكن التخلّف الّذي هو المطلوب - وهو التخلّف عن الموجب التامّ - غير لازم ، لأنّ الموجب حينئذ انّما يتمّ بالشروط الّتي فرضت محقّقة فيما لا يزال ، لا في الأزل. فلا يكون تامّا إلاّ عند حدوث تلك الشروط ، وحينئذ يحدث الفعل أيضا ، فلم يحصل التخلّف عن الموجب التامّ.

فان قيل : فيمكن أن لا يكون الموجب المذكور بالنسبة إلى الشروط الحادثة المجتمعة فيما لا يزال أيضا موجبا تامّا ، فتخلّف تلك الشروط الحادثة المجتمعة في آن حدوث الفعل لا يكون تخلّفا عن الموجب التامّ ، لأنّه كما أنّ هذا الموجب لم يكن بالنسبة إلى الفعل المفروض تامّا بل انّما يتمّ بالشروط الحادثة فيما لا يزال ، فيجوز أن لا تكون بالنسبة إلى تلك الشروط الحادثة فيما لا يزال أيضا تامّا ؛ بل يكون تماميته موقوفة على أمر خارج عن ذاته وعن تلك الشروط ؛

قلنا : لو سلّم جواز التوقّف على أمور خارجة عن تلك الشروط وعن ذات الموجب لم يحصل به نقص في الاستدلال ، لأنّا نأخذ حينئذ مجموع ما يتوقّف عليه الفعل

ص: 291

من السلسلة المفروضة - أعني : الشروط الحادثة المجتمعة فيما لا يزال والأمور الخارجة عنها الّتي فرض توقّف الشروط عليها - ، فتحصل سلسلة كبرى تكون سلسلة الشروط الحادثة الّتي كان الفعل موقوفا عليها جزء منها - أي : من تلك السلسلة الكبرى -.

ثمّ نقول : هذه / 62DA / السلسلة الكبرى إن كانت غير متناهية - على ما هو المفروض - إمّا أن تكون آحادها متعاقبة أو مجتمعة ، فيلزم قدم الفعل على تقدير التعاقب وأحد شقّي الاجتماع والتخلّف على الشقّ الآخر للاجتماع - كما مرّ بعينه من دون تفاوت -.

فان قلت : يمكن أن تكون السلسلة ملتئمة من الشروط المتعاقبة والمجتمعة بأن تكون طائفة منها متعاقبة وطائفة اخرى مجتمعة ، فكيف يكون حكمها حينئذ؟ ؛

قلت : حكمها حينئذ حكم إحداهما - أي : المتعاقبة أو المجتمعة - ، لأنّ تلك السلسلة الملتئمة إن اثبت افرادها الطوليّة على اجزاء الزمان وإن لم يخلوا جزء من الزمان عن آحادها فهي في حكم المتعاقبة في لزوم القدم ، ولا فرق بينها وبين المتعاقبة إلاّ بأنّ تلك السلسلة الملتئمة بعض اجزائها الطولية مشتمل على الآحاد الغير المتناهية عرضا ، وإلاّ - أي : وإن كان بعض اجزاء الزمان خاليا عن افرادها - فهي في حكم المجتمعة في لزوم التخلّف.

ثمّ انّ بعض الأفاضل قال : انّ الحكم بلزوم القدم في صورة التعاقب وبلزوم التخلّف في صورة الاجتماع مدافع بما تقدّم من أنّ أثر الموجب بالمعنى المذكور إن كان حادثا يلزم التخلّف البتّه مطلقا من غير تفضيل.

وجوابه : انّ المحال الّذي هو الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يجوز أن يستلزم المتعاقبين ، فلا بأس بلزومهما جميعا ؛ هذا.

وقد بقي هنا شيء لا بدّ أن يشار إليه ؛ وهو : انّكم حملتم القدم اللازم على فرض الايجاب المذكور على القدم بالنوع ، ولذلك اوردتم على الاستدلال المذكور ما اوردتم من ضرورة لزوم القدم بهذا المعنى للايجاب المذكور وصيرورة لزوم التخلّف للحدوث

ص: 292

المقابل له - أعني : الحدوث بالنوع - ، وكون فرض هذا الحدوث على تقدير الايجاب المذكور من قبيل فرض المتنافيين ، فيمكن حينئذ منع لزوم التوقّف وابطاله مستندا بمحالية ذلك الحدوث ومنع استحالة التخلّف مستندا بلزومه لاجتماع المتنافيين.

وللحمل المذكور أيضا ارتكبتم ما ارتكبتم من تقوية الاستدلال المذكور بلزوم تقدّم الشيء على نفسه من توقّف ذلك الحدوث على شرط وبلزوم قدم ما فرض حدوثه. ولم لا يجوز أن يكون المراد من استلزام الايجاب المذكور للقدم استلزامه لقدم شخص العالم أو قدم جزئه أو قدم جميع اجزائه من الجواهر والاعراض - وبالجملة قدم كلّ ممكن - حتّى لا يكون لزوم القدم ضروريا بالايجاب المذكور؟! ، لأنّ قدم العالم ليس لازما ضروريا للايجاب بالمعنى المذكور بالشخص - أي : كون شخصه قديما - وان كان بعض اجزائه - فرضية كانت أو غير فرضية - حادثة أو بجزئه أو بجميع الاجزاء لامكان أن يكون المراد بامتناع الانفكاك عن العالم امتناع الانفكاك عن فعل ما ، ولا يلزم منه إلاّ القدم بالنوع لا القدم بالشخص أو بالجزء أو بجميع الاجزاء. فلا بدّ في اثبات لزوم القدم بأحد الوجوه المذكورة من الاستدلال المذكور بأن يقال : لو كان الواجب موجبا بالمعنى المذكور لزم قدم العالم بالشخص أو بالجزء أو بجميع الاشخاص ، إذ لو لم يكن قديما بالشخص أو بالجزء أو بجميع الاشخاص وكان حادثا بالشخص أو بجميع الاشخاص أو ببعض الأشخاص لتوقّف على شرط حادث لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التامّ ، وهذا الشرط الحادث يتوقّف على شرط حادث آخر وهكذا ... ؛ فيلزم التسلسل في الشروط. والحاصل : انّ لزوم القدم أو بالجزء أو بجميع الأجزاء على تقدير الايجاب المذكور ليس ضروريا ، بل لا بدّ من التمسّك بلزوم التسلسل في الشروط. وكذا إذا حمل القدم على القدم بالشخص أو بجميع الأجزاء ولم يرد سائر وجوه الاختلال أيضا وإن لم يتمشّ التقوية بلزوم تقدّم الشيء على نفسه وقدم ما فرض حدوثه أيضا. نعم! ، يتمشّى التقوية / 65MB / الأخرى - أعني : لزوم التخلف عن الموجب التامّ - على فرض توقّف الحادث على الشروط المجتمعة ؛ كما لا يخفى.

قلنا : حمل القدم في الاستدلال المذكور على القدم بالشخص أو بالجزء أو بجميع

ص: 293

الاجزاء وإن لم يرد عليه حديث لزوم ضرورة القدم ولا سائر وجوه الاختلال المتقدّمة ، إلاّ أنّه يرد عليه وجوه آخر من الايراد :

الأوّل : انّ الايجاب بهذا المعنى لا يستلزم قدم الفعل إلاّ إذا كان موجبا تامّا ، والقائلون بالايجاب لا يقولون بكون الفاعل موجبا بذاته بالنسبة إلى كلّ جزء من أجزاء العالم ، فانّه ليس موجبا بذاته بالنسبة إلى الحوادث الزمانية عندهم ، بل جميع الموجودات الزمانية الحادثة عندهم مستندة إليه - تعالى - بشروط ومعدّات مخصّصة لوجود كلّ منها بزمانه المختصّ به ، فالمراد من الايجاب المقصود هنا امتناع انفكاك ذاته - تعالى - من ايجاد شيء من العالم لا جميع اجزائه ، إذ لا نزاع فيه لكونه منقضيا بالضرورة والاتفاق ، فمن فرض الايجاب بهذا المعنى لا يلزم إلاّ قدم الفعل المطلوب. وقدم كلّ فرد فرد من الجواهر والأعراض انّما يلزم لو لزم من كون الفاعل موجبا كونه موجبا بالنسبة إلى كلّ فرد من الأفراد ، / 62DB / ومن أين يلزم ذلك؟!.

قيل : لو حمل الايجاب على الايجاب الطباعي - أعني : اقتضاء الفعل من دون علم وإرادة - لزم منه قدم جميع اجزائه لعدم الفرق بين تلك الاجزاء في جريان الدليل. وتقريره : انّ أثر الموجب بالايجاب الطباعي إن توقّف على شرط لزم التسلسل ، وإن لم يتوقّف لزم القدم لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التامّ أو الترجيح بلا مرجّح ، فيلزم قدم جميع آثاره أو حدوث الموجب المذكور والموجب القديم بلا شبهة ، فيلزم قدم جميع آثاره.

وأنت تعلم انّ قدم جميع الآثار على فرض الايجاب الطباعي إنّما يلزم إذا كان الفاعل الّذي هو الموجب الطباعي موجبا تامّا بالنسبة إلى جميع أجزاء العالم ، وهو باطل بالضرورة! ؛ إذ الحوادث الزمانية منفكّة عنه ، فيكون استنادها إليه على هذا التقدير أيضا بشروط ومعدّات ، فعلى تقدير هذا الايجاب أيضا لا يلزم جميع اجزاء العالم. على انّ بعض الايرادات الآتية ينفي هذا اللزوم أيضا.

ثمّ أنت تعلم أنّ هذا الايراد انّما ينفي الحمل على قدم جميع الاشخاص لا قدم بعضها.

ص: 294

الثاني : انّه لم لا يجوز أن يكون الصادر منه - تعالى - قديما مختارا ويستند إليه سائر الحوادث؟! ، وحينئذ لا يلزم إلاّ قدمه لا قدم جميع الاشخاص. وهذا كسابقه لا ينفي إلاّ حمل العدم على قدم جميع الأشخاص لا قدم بعضها ، بل هو مثبت له.

الثالث : انّه يلزم على هذا الحمل تسليم القدم بالنوع - ، وقد ثبت استحالة قدم العالم مطلقا - أي : سواء كان بالشخص أو بالجزء أو بالنوع - ، فلو سلّم انّ الايجاب يستلزم قدما ولو كان قدما بالنوع - وثبت فيما سبق استحالة القدم بأيّ وجه كان - ثبت استحالة الايجاب ، فلا حاجة لنا في بيان استحالة الايجاب إلى اثبات استلزامه لقدم العالم بالشخص أو بالجزء.

الرابع : انّه يرد عليه ما تقدّم من أنّ الحادث لا يتوقّف عند المعتزلة على شرط حادث ، بل يكفي عندهم الداعي للترجيح.

الخامس : انّ لزوم قدم جميع الاشخاص على تقدير الايجاب المذكور ممنوع ، لامكان استناد بعضها إلى شرط هو قطعة فرضية من موجود مستمرّ غير متناه ويكون هذا الشرط ذا جهتين - كالحركة - فيحصل باعتباره الحوادث من الموجب القديم. وبهذا الطريق حاول الحكماء التفصّي عن هذا المضيق وبه صحّحوا ربط الحادث بالقديم.

وملخّص مقالتهم - كما أشير إليه سابقا أيضا - انّ الحركة لها جهتان :

إحداهما : حيثية ذاتها وهي كون الجسم بحالة يصحّ أن يعرض له في كلّ آن فرد من الأوضاع غير الفرد المفروض له في الآن السابق واللاحق ، ويعبّر من هذا المعنى بالتوسّط بين الأوضاع. وهي بهذا الاعتبار قديمة مستمرّة من الأزل إلى الأبد ؛

والثانية : حيثية النسب الّتي يلزمها ، ولا ريب في انّ النسب الّتي يلزمها في كلّ آن غير النسب الّتي يلزمها في آن آخر ، فهي بهذا الاعتبار حادثة ، لأنّه إذا كانت النسبة المفروضة (1) للجسم المتحرّك بحسب القرب والبعد من النهاية المفروضة في كلّ آن غير المفروضة له في آن آخر لكانت تلك النسب بأسرها حادثة ، فالحركة تكون من هذه الحيثية حادثة. وعلى هذا فالحركة قديمة من حيث الذات حادثة من حيث

ص: 295


1- الاصل : المنفرضة.

العوارض اللازمة لها. فهي من حيث / 66MA / الذات مستندة إلى القديم ومن حيث اللوازم والعوارض يستند إليها الحوادث باستناد كلّ منها إلى عارض مسبوق بغيره معدّله يمتنع اجتماعه معه ، وهكذا لا إلى ما لا نهاية له. وقالوا : غاية ما يلزم منه تحقّق التسلسل في الأمور المجتمعة ، وهو جائز لعدم اجتماع آحادها ، فلا يجري التطبيق فيها.

وانت خبير بأنّ منع لزوم قدم جميع الاشخاص - لاحتمال الاستناد المذكور - لا يتصوّر إلاّ على فرض جواز التسلسل على سبيل التعاقب ، وبناء هذا الاستدلال على بطلانه ؛ فلا مجال لهذا الاحتمال. على أنّه قد تقدّم بطلان التسلسل في الأمور المتعاقبة وإن لم تكن مجتمعة. ويكفي في بطلانه امكان اجراء التطبيق العقلي الراجع إلى فرض الانطباق.

وأيضا قد ابطل المتكلّمون الطريق المذكور للفلاسفة في كيفية ربط الحادث بالقديم بوجوه أخر :

منها : انّ تلك العوارض الّتي هي النسب اللاحقة للجسم المتحرّك بسبب الحركة إمّا مستندة إلى الذات والمفروض أنّها قديمة ، فكيف يحصل الربط بين تلك النسب الحادثة والذات القديمة؟! ؛ أو مستندة إلى مباديها وهي أيضا قديمة ؛ أو إلى غيرها وهو أيضا منتف.

وإذا علمت جميع ما ذكر فقد ظهر ووضح عندك انّ الاستدلال بالحدوث على النحو المذكور على اثبات القدرة بالمعنى الأوّل والثاني - أعني : صدور الفعل بالعلم والمشية والإرادة وامكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - ونفي الايجاب المقابل لهما - أعني : صدور الفعل بدون العلم والمشيّة والإرادة كما في الطبائع ووجوب الفعل و/ 63DA / الترك بالنظر إلى الذات - صحيح لا اختلال فيه بوجه. وعلى اثبات القدرة بالمعنى الثالث - أعني : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الداعي في بعض الأوقات - وعلى نفي الايجاب المقابل لها - أعني : وجوب الفعل بالنظر إليه في جميع الاوقات - غير صحيح وغير محتاج إليه ، لاستلزام الحدوث لنفي هذا الايجاب ضرورة من غير حاجة إلى الاستدلال.

ص: 296

وقد ثبت وتحقّق ممّا ذكرنا من البراهين ثبوت القدرة بالمعنى الثلاثة للواجب - تعالى شأنه - ونفي الايجاب المقابل لها عنه - سبحانه -. وقد ظهر أيضا بطلان القدرة بالمعنى الرابع وعدم ثبوته له - تعالى وهو امكان الفعل والترك بالنظر إلى الداعي في جميع الاوقات ولو في آن الحدوث -. وهو الّذي تفرّد باثباته الأشعري ؛ بل ظهر ثبوت الايجاب المقابل لها للواجب - تعالى ، أعني : وجوب الفعل في بعض الاوقات ، أي : في وقت الحدوث -. وهو الإيجاب بالاختيار الّذي اختاره المحقّقون من المعتزلة - وربّما يأتي لذلك زيادة بيان -.

تتميم : « مراد المحقّق الطوسي من الايجاب »

الحقّ انّ المراد بالايجاب في قول المحقّق الطوسى - رحمه اللّه - في التجريد : « حدوث العالم بعد عدمه ينفي الايجاب (1) » ، هو الايجاب بالمعنى الأوّل لا الثاني ؛ وحينئذ فالاستدلال بالحدوث عليه على المعنى المذكور - كما فعله الشارح الجديد - (2) صحيح لا يرد عليه شيء.

ويمكن أن يحمل الايجاب فيه على الايجاب بالمعنى الثالث ، ويكون مراد المحقّق : انّ الحدوث ينفي هذا الايجاب ضرورة ، لأنّه - رحمه اللّه - لم يتعرّض لكيفية الاستدلال عليه ، فالحمل على انّه ينفيه ضرورة لا يأباه كلامه.

ثمّ العجب انّ العلامة الخفري حمل الايجاب على المعنى الثالث واورد على الشارح أوّلا : بأنّ الحدوث مستلزم لنفي هذا الايجاب ضرورة ، فلا حاجة إلى الاستدلال. ثمّ أورد بعض ما تقدّم من وجوه الاختلال على الاستدلال المذكور ؛ وهو خبط وغفلة - كما لا يخفى على من له ادنى فطنة -.

ص: 297


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الأولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث. وفيها : وجود العالم ... ؛ كشف المراد ، ص 217.
2- راجع : الشرح الجديد ، ص 310.

ثمّ على الاستدلال المذكور لاثبات القدرة بأيّ معنى كان ايراد مشهور ؛ وتقريره : انّ ما ذكرتم في الدليل لا يعطى إلاّ أن يكون المؤثّر في العالم هو القادر ولا يقتضي أن يكون واجب الوجود هو القادر ، لأنّ العالم لحدوثه لو لم يكن مؤثره هو القادر بل كان موجبا لزم التخلّف أو التسلسل ، ولا يجب أن يكون مؤثره هو واجب الوجود. ولم لا يجوز أن يكون الواجب لذاته اقتضى على سبيل الايجاب موجودا قديما قادرا وذلك القادر هو الّذي أوجد العالم بالقدرة والاختيار. ولا يمكن أن يقال : ذلك القادر من العالم الثابت حدوثه فلا يجوز أن يكون قادرا ، لأنّ ما ثبت حدوثه انّما هو الاجسام وعوارضها دون المجرّدات ؛ فيجوز أن يوجد الواجب - تعالى - بطريق الايجاب جوهرا مجرّدا ليس بجسم وجسمانى - كالعقل مثلا - يكون قديما قادرا يكون هو الّذي أوجد العالم الجسماني بالقدرة والاختيار!.

واجيب عنه بوجوه :

الاوّل : انّ ( على ) (1) القدرة في اثبات حدوث العالم بمعنى ما سوى اللّه - تعالى - اجماع المليين والأخبار الكثيرة الّتي منها الحديث المشهور المتلقّى بالقبول عند أهل / 66MB / الملّة. وقد عرفت فيما تقدّم انّ اثبات الحدوث المثبت به القدرة بها لا يؤدّي إلى الدور وليس لهما معارض عقلي يوجب ردّهما ؛ لمّا عرفت من ان ادلّة القدم كلّها مدخولة.

الثاني : إذا كان المعلول قادرا مختارا أوجب أن يكون العلّة أيضا كذلك - لما قالوا بعينه في استلزام عالمية المعلول لعالميّة العلّة -. وأيضا لا ريب في أنّ القادر المختار أشرف من الموجب وقد ادّعوا فيه الضرورة ، ولا يجوز أن يكون المعلول أشرف من العلّة بل العلّة اشرف منه من جميع الوجوه ؛ والظاهر انّ ذلك ممّا لا يقبل المنع ونسبته إلى الحكماء مكابرة وقد بنى عليه الحكماء كثيرا من أصولهم ومطالبهم. قال الشيخ الإلهي في المطارحات : وممّا ينبغي أن يعلم انّ جملة القدماء على اعتقاد الأشرف والأكرم في

ص: 298


1- لفظة على لم توجد في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

الأمور السماوية وغيرها ، بشهادة الفطرة ووقوع الأشرف فالأشرف فالأشرف (1) ، ثم قال : وإذا كان الجوهر العقلي أشرف من النفس يجب أن يكون قبلها ، ولما كانت الأثيريات أشرف من العنصريات يجب أن تكون حاصلة قبلها بضرب من القبلية (2) ؛ انتهى.

وأيضا : القدرة بالمعنى الأوّل انّما هو بمعنى صدور الفعل بالعلم والمشية ، فاذا استلزم عالمية المعلول لعالمية العلّة ثبت القدرة بهذا المعنى. ومع قطع النظر عن ذلك نقول : انّ هذا المعلول الّذي صدر عنه العالم لصدور الأفعال المحكمة المتقنة المشتملة على الحكم والمصالح عنه بحيث لا يتصوّر خلل ونقص في فعل من أفعاله ولا يتعقّل اتقان وانتظام فوق ما صدر وقد ثكل نوافذ الأفهام وثواقب الأوهام عن دقائق صنعه وعجائب / 63DB / فعله يكون ذاته - أي : ذات هذا المعلول - أتقن وأحكم ، وتكون دقائق الحكم وغرائب الصنع الّتي تشتمل ذاته عليها أكثر - لانطواء ذاته بالحقيقة على جميع الحكم والغرائب الّتي ينطوي عليها العالم -. فاذا دلّ اتقان العالم واشتماله على الحكم والمصالح على علم هذا المعلول الّذي هو موجده بالفرض فيكون اتقان هذا المعلول واشتمال نفسه على الحكم والمصالح ادلّ على علم موجده ، لأنّه إذا كانت الحكم والدقائق الآفاقية والأنفسية مع انتشارها وتفرّقها واختصاص كلّ جزء من العالم وفعل من الأفعال بحكم محصورة دالّة على علم هذا المعلول الّذي هو موجدها بالفرض كان ايجاد معلول واحد يكون في ذاته الاقتدار على مثل هذا الايجاد والقوّة والتمكّن على صدور مثل هذا النظام ووضع كلّ شيء في موضعه واعطاء كلّ موجود ما يليق بحاله ادلّ على علم موجده! فكما أنّ وجود الحكمة والمصلحة في كلّ فعل من أفعال العالم يدلّ على انّ ايجاد الموجد هذا الفعل لاشتماله على تلك الحكمة والمصلحة فيكون عالما به وبتلك الحكمة. فكذلك تحقّق الاقتدار المذكور في هذا المعلول وتمكّنه من ايجاد مثل هذا النظام الأصلح يدلّ على أنّ ايجاد الواجب ايّاه إنّما هو لاشتماله على

ص: 299


1- راجع : كتاب المشارع والمطارحات - المطبوع في مجموعه مصنفات شيخ اشراق - ، ص 434. وتوجد بين المنقول في كتابنا هذا والمطبوع منه في هذه المجموعة اختلافات يسيرة.
2- راجع : نفس المصدر ، ص 435.

مثل هذا الاقتدار والتمكّن ، فيكون عالما به وبالحكم والمصالح المندرجة فيه.

الثالث : انّ ثبوت الاختيار للواسطة يدلّ على امكان اتصاف الموجود به ، إذ البديهة حاكمة بانّه ليس من الحالات الامكانية المختصّة بالممكن الممتنع حصوله للواجب ، فالقول بجواز اتصاف الواسطة به دون الواجب غير معقول. وإذا جاز اتصاف الواجب به يجب حصوله له بالفعل ، لأنّ جميع الصفات الممكنة للواجب - تعالى شأنه - حاصلة له بالفعل ؛ وقد تقدّم هذا الدليل في أوائل هذا الفصل بوجه السبط. والحقّ انّه تام لا يرد عليه شيء ؛ ونسبته إلى الحطام لامكان اختصاص هذه الصفة - أعني : الاختيار - بالممكن مكابرة وهفوة صادرة عن غير تثبّت!.

الرابع : انّ القادر المختار يكون مبدأ لاختلاف الآثار والأفعال ، وما هذا شأنه لا يجوز أن يصدر عن الموجب. فلو كان الواجب بذاته موجبا بالذات لما صدر عنه مختار ، لأنّ المختار من شأنه وفي طبعه التغير والاختلاف إمّا بتغير الإرادة والقصد أو التأثير بنفسها أو بتعلّقها ، وإمّا بقوّة تأثيره في كلّ من النقيضين والضدين ، إذ التأثير في أحدهما غير التأثير في الآخر. وطبيعة الموجب منافية لأمثال هذه ، بل مقتضية للثبات والتأثير على نهج واحد. ولذا ذهب الحكماء إلى أنّ الموجب لا يصدر عنه ماله الاختيار إلاّ إذا كان اختياره على وتيرة واحدة غير منقطعة كما اثبتوا النفوس المتحرّكة للأفلاك. على أنّ بعضهم انكر هذا أيضا. وعلى هذا يكون وجود متغيّر ما في العالم كافيا لاثبات قدرة الواجب - تعالى - ، ولا يحتاج نفي ايجابه إلى تجشّم اثبات حدوث العالم.

وهذا الدليل وإن لم يكن برهانيا إلاّ انّه لا يخلوا عن افادة ظنّ قويّ بالمطلوب. ويؤيّده / 67MA / انّ المناسبة بين العلّة والمعلول لازمة وانّ المعلول يجب ان يكون من سنخ العلّة ، فان كانت العلّة موجبة يجب أن يكون المعلول كذلك ؛ وإن كانت مختارة وجب أن تكون كذلك.

الخامس : انّ العقل مثلا لو كان واسطة بين الواجب والجسمانيات (1) مؤثرا فيها

ص: 300


1- الاصل : الجسماني.

يلزم أن يكون قبلها معطّلا ويلزم أن يكون فصلا أيضا ، لعدم وجود شاهد على وجوده من الجسمانيات ، لأنّ ادلّة وجوده مدخولة. وقد تقرّر عند الحكماء أنّ لا تعطّل ولا فصل في الوجود. والمراد بالفصل عندهم ما هو كذلك - أي : لا دليل على وجوده -.

ولا يخفى ما في هذا الدليل من الأنظار الظاهرة ، مع أنّه جدلي!.

السادس - وهو المعوّل عليه عند الأكثر - ، وهو : انّ البرهان العقلي قائم بأنّ الممكن الّذي لا وجود له باعتبار ذاته لا يوجد الجواهر والاعراض ، والبرهان القائم هو ما ذكره بهمنيار في التحصيل حيث قال : وإن سألت الحقّ فلا يصحّ أن يكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوة ، وهذا هو صفة الاوّل - تعالى - لا غير. إذ لو كان مفيد الوجود ما فيه معنى بالقوّة - سواء كان عقلا أو جسما - كان للعدم شركة في افادة الوجود ، وكان لما بالقوّة شركة في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ؛ (1) انتهى.

وتوضيح هذا البرهان : انّ كلّ ممكن بما هو ممكن وباعتبار ذاته سواء كان مادّيا أو مجرّدا لا يكون إلاّ قوّة صرفة ، بل هو في مرتبة ذاته وحدّ نفسه ليس محض وعدم صرف ، وليس له بهذا الاعتبار استشمام رائحة من الفعل اصلا ، وانّما فيه قوّة الوجود والفعلية. وأمّا نفس موجوديته وفعليته فهو بأمر مغاير عن ذاته كما بينوه في مقامه وفرعوا عليه تأخّر وجوده عن عدمه المعبّر بالحدوث الذّاتي. وهذا الأمر المتغاير هو مخرج الممكن من القوّة إلى الفعل ، فلكلّ ممكن مخرج من / 64DA / قوّته إلى الفعلية. ولا بدّ أن يكون ذلك المخرج مما هو مخرج بالفعل من جميع الجهات ، وإلاّ يلزم أن يكون للقوّة دخل في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ، وهو بديهي البطلان. فالممكن لعدم خلوّه عن القوّة بل كونه محض العدم والقوّة لو فرض كونه موجدا لموجود ومخرجا له من القوّة إلى الفعل لزم أن يكون لذلك العدم والقوّة أيضا دخل في ذلك الايجاد والاخراج. لأنّ كلّ ما في مرتبة ذات الفاعل من حيث هو فله تقدّم على الفعل كتقدّم الفاعل عليه ، فلا يجوز أن يكون ممكن موجدا لشيء ومخرجا له من القوّة إلى الفعل ؛ و

ص: 301


1- راجع : التحصيل ، الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الكتاب الثاني ، ص 521.

المخرج المذكور يجب أن يكون ما هو بالفعل من كلّ الوجوه وهو صفة الواجب - تعالى شأنه -. فمقيض الوجود والفعليّة لكلّ موجود ليس إلاّ هو. وهذا هو المطابق لكلام الحكماء ؛ فانّهم متّفقون على أنّ جميع الموجودات صادرة منه - تعالى - ، وانّ الوجود معلول له - تعالى - على الاطلاق. قال افلاطن الإلهي على ما نقل عنه المعلّم الأوّل في أثولوجيا : انّ علّة الانيات الخفية الّتي لا اجرام لها والأشياء الحسية ذوات الأجرام واحدة وهي الانية الأولى الحقّ - يعنى الباري الخالق سبحانه -. ثم قال : انّ الباري الأوّل الّذي هو علّة الانيات العقلية الدائمة فالانّيات الخسيسة الداثرة هو الخير المحض والخير لا يليق بشيء من الأشياء إلاّ به ، وكلّ ما كان في العالم الأعلى والعالم الأسفل من خير فليس ذلك من طبائعها ولا من طباع الإنّيات العقلية ولا من طباع الإنّيات الخسيسة الداثرة ، لكنّها من تلك الطبيعة العالية وكلّ طبيعة عقلية وحسية منها بادية ، فانّ الخير انّما ينبعث من الباري في العالمين ، لأنّه مبدي الأشياء ومنه تنبعث الحياة والأنفس إلى هذا العالم. وانّما يتمسّك هذا العالم بتلك الحياة والأنفس الّتي صارت من العلو في هذا العالم وهي الّتي تزين هذا العالم لكيلا يتفرّق فتفسد. ثمّ قال : انّ الانية الأولى الحقّ هي الّتي تفيض على العقل الحياة أوّلا ثمّ على النفس ثمّ على الأشياء الطبيعية ، وهو الباري الّذي هو خير محض وقال المعلم الأوّل بعد نقل هذه الكلمات من استاذه الإلهي : وما أحسن وما أصوب ما وصف به (1) هذا الفيلسوف الباري - تعالى - إذ قال : انّه خالق العقل والنفس والطبيعة والأشياء كلّها وليس كشيء من الأشياء ، بل هو يبدو الشيء وليس هو الأشياء ، بل الأشياء كلّها فيه وليس هو في شيء من الأشياء. وذلك انّ الأشياء. كلها انّما انبثت منه وبه ثباتها وقوامها وإليه مرجعها (2). وقال الشيخ الرئيس في الإشارات : انّ الأوّل يبدع جوهرا عقليا هو بالحقيقة مبدع وبتوسّطه جوهرا عقليا وجرما سماويا وكذلك ( عن ذلك ) (3) الجوهر العقلي حتّى يتمّ الأجرام السماوية وينتهي إلى جوهر عقلي لا يلزم منها جرم / 67MB /

ص: 302


1- الاصل : - به.
2- لم أعثر على هذه العبارات في اثولوجيا.
3- ( ... ) : لم يوجد في النسختين.

سماوي (1). وقد صرح في الشفا أيضا بانّه لا تأثير إلاّ من اللّه (2) ، كما قال المحقّق الدواني في شرح العقائد. (3).

وقال صاحب الاشراق في الهياكل : ليس انّ حركات الافلاك توجد الاشياء ، ولكنّها تحصّل الاستعدادات ويعطي الحقّ الأوّل لكلّ شيء ما يليق به (4). وقال أيضا : والجواهر العقلية وإن كانت فعّالة على انّها وسائط الجود الأوّل وهو الفاعل ، وكما انّ النور القوي يمكّن النور الضعيف من الاستقلال بالانارة فالقوّة القاهرة الواجبية لا تمكّن الوسائط لوفور فيضه وكمال قوّته (5)

وقال الحكيم الطوسي - نوّر اللّه مرقده - في كتاب مصارع المصارع : واجب الوجود أقرب من كلّ قرب والفيض كلّه من عنده ، وهذه الوسائط كالاعتبارات والشروط الّتي لا بدّ منها في أن يصدر الكثرة عنه (6).

وقال أيضا في شرح الاشارات : وقد شنع عليهم - يعنى على الحكماء - أبو البركات البغدادي بأنّهم نسبوا المعلولات الّتي في المراتب الأخيرة إلى المتوسّطة والمتوسّطة إلى العالية ، والواجب أن ينسب الكلّ إلى المبدأ الأوّل ويجعل المراتب شروطا معدّة لافاضته - تعالى -. وهذه مؤاخذة تشبه المؤاخذة اللفظية! ، فانّ الكلّ متّفقون على صدور الكلّ منه - جلّ جلاله -. وانّ الوجود معلول له على الاطلاق ، فان

ص: 303


1- راجع : الاشارات والتنبيهات ، الفصل الحادي والاربعون من النمط السادس. المطبوع مع شرح نصير الدين والمحاكمات ، ج 3. ص 254 ؛ شرحي الاشارات ، ج 2 ، ص 50.
2- اشارة إلى قوله : ... فكلّ ما سوى الواجب الوجود الواحد باطل في نفسه. راجع : الشفاء الإلهيات ، ج 1. ص 48.
3- لم أعثر على هذا الكتاب.
4- راجع : هياكل النور - المطبوع في ثلاث رسائل للدواني - ، الهيكل الخامس ص 89.
5- راجع : نفس المصدر ، الفصل الثالث من الهيكل الرابع ، ص 86.
6- ما وجدت ما نقله المصنّف عن مصارع المصارع في هذا الكتاب. وقريب منه : ... والحكيم لم يجعل توسّط العقل في افاضة الكثرة إلاّ لبيان كيفية الافاضة من المبدأ الاول ، لا لانه يريد أن ينسب ( فى المطبوع : سبب ) الكثرة إلى العقل ، دون مبدعه الاول. راجع : مصارع المصارض. ص 110. وفي كلام المصارع : فينبغي أن يكون المبدأ الأوّل مبدأ الكل في نمط واحد والمتوسطات في البين لتفاضل الدرجات. راجع : نفس المصدر ، ص 109.

تساهلوا في تعابيرهم لم يكن منافيا لمّا أسّسوه وبنوا عليه مسائلهم (1) ؛ انتهى.

وقال الفخر الرازي في المباحث المشرقية : الحقّ عندي انّه لا مانع من استناد كلّ الممكنات إلى اللّه - تعالى - ، لكنّها على قسمين ، منها : ما امكانه اللازم لماهيته كاف في صدوره عن الباري - تعالى - ، فلا جرم يكون فائضا عنه - تعالى - من غير شرط ؛ ومنها : ما لا يكفي امكانه بل لا بدّ من حدوث أمر قبله ليكون الأمور السابقة مقرّبة للعلّة الفائضة إلى الأمور اللاحقة ؛ وذلك انّما ينتظم بحركة دورية. ثمّ انّ تلك الممكنات متى استعدّت استعدادا تامّا صدرت عن الباري - تعالى - وحدثت عنه ولا تأثير للوسائط اصلا في الايجاد ، بل في الاعداد ؛ (2) انتهى.

والحاصل انّ عبارات الفلاسفة متطابقة على انّ افاضة الوجود / 64DB / على كلّ موجود انّما هو من الواجب الحقّ وان كان بعض الموجودات متوقّفا في افاضة الوجود عليه من الواحد الحقّ على شروط ومعدات ، وتلك الشروط والمعدّات هي الوسائط في الافاضة بمعنى انّ الافاضة من الواجب على بعض الموجودات يتوقّف على تخلّل تلك الوسائط ، لكون ذوات هذه الموجودات وماهياتها ناقصة قاصرة غير قابلة لافاضة الحقّ الأوّل بلا وسائط ، لا أنّ تلك الوسائط هي المقتضية للوجود. فمرادهم بما يقولون احيانا : انّ العقل الأوّل مثلا علّة للعقل الثاني والثّاني للثالث وهكذا : ما ذكرنا.

قال بعض أهل التحقيق : لمّا ثبت انّ مفيض الوجود لا يكون إلاّ الواجب - جلّ شأنه - وانّ الامكان علة للاحتياج إلى الواجب بالذات لا علّة مطلقة - كما قال بعض أهل التحقيق : انّ الامكان وإن كان علّة للحاجة إلى علّة ما في بادي النظر إلاّ انّ بعد الفحص وتعمّق النظر ينكشف انّ الامكان علّة للاحتياج إلى واجب الوجود بالذات - فاعلم! انّ سلسلة الممكنات المترتّبة إذا لوحظت باعتبار أنّ كلّ واحد واحد منها بحسب جوهر ذاته الممكنة مجعول الواجب بالذات يكون بهذا الاعتبار سلسلة عرضية ، وجميع آحاد تلك السلسلة متساوية في الفاقة والاستناد إليه - جلّ شأنه - ابتداء

ص: 304


1- راجع : شرح الاشارات المطبوع مع المحاكمات ج 3 ص 249 ؛ شرحي الاشارات ج 2 ، ص 47.
2- راجع : المباحث المشرقيّة ج 2 ص 507.

بلا واسطة. وإذا لوحظت تلك السلسلة باعتبار أنّ بعضها مربوط ببعض آخر ومتوقّف عليه من حيث الشرطية والمشروطيّة والسببية والمسببية بناء على أنّ بعضا منها لمّا كان ناقصا في حدّ ذاته بحيث يمتنع استناده إليه - تعالى - بدون الشروط والاسباب فيحتاج إليها فيمكن له الاستناد إليه - تعالى - يكون سلسلة طولية منتهية إليه - تعالى - بالضرورة البرهانية ؛ فالممكنات باعتبار السلسلة الطولية يختلف مراتب احتياجها إلى الواجب - تعالى -. فكلّما كان أبعد عنه يكون احتياجها إليه أكثر لاحتياجه إليه في افاضة وجود نفسه وافاضة وجود شرائطها واسبابها لنقصانه عن أن يستند إليه - تعالى - بدونهما ، وكلّما كان أقرب يكون احتياجه أقلّ. ولهذا قال بعض الاكابر من الحكماء : كلّما كان المعلول أبعد كان الفيض والخير أكثر ، وكلّما كان المعلول أقرب يكون الفيض والخير أقلّ. فالعقل الأوّل والنظام الجملي يستند إليه - تعالى - بلا واسطة ، فلا يتصوّر سلسلة طولية بالنسبة إليهما ، بل المتصوّر بالقياس إليهما هو السلسلة العرضية ، وبالقياس إلى ما عداهما يتصوّر السلسلة الطولية / 68MA / والعرضية جميعا.

ومن قال بهذه التحقيقات كالمحقّقين من الحكماء والمتكلّمين لو قال انّ بعض ممكن علّة لبعض آخر فليس مراده إلاّ الشرطية والسببية ، لا أنّه يصحّ أن يكون ممكن علّة فاعلية بالقياس إلى ممكن آخر ، فلا يعترض عليه بما اعترض ابو البركات البغدادي ؛ انتهى.

ثمّ قال : ومن قال : انّ بعض الممكنات تفيض وجود بعض آخر - على ما يقال : انّ الواجب أوجد العقل الأوّل ثمّ العقل الأوّل أوجد العقل الثاني وهكذا إلى العقل الفعّال ، ثمّ العقل الفعّال يستند إليه جميع ما بعده - قال بالسلسلة الطولية والعرضية أيضا ، إلاّ أنّ هؤلاء لم يقولوا بأنّ الامكان علّة الاحتياج إلى الواجب بالذات ابتداء ، بل هم يقولون : انّ الامكان علّة الانتهاء إلى الواجب بالذات. فمقتضى طبيعة كلّ ممكن عندهم هو الانتهاء إلى الواجب بالذات ، فاذا لوحظت الممكنات من حيث أنّ كلّ واحد منها ممكن مقتضى طباعه الانتهاء إلى الواجب بالذات يكون سلسلة عرضية ، و

ص: 305

إذا لوحظت من حيث انّ بعضهم مستند إلى بعض آخر بمعنى احتياجه إليه في استفادة الوجود منه لا من الواجب حتّى يكون الواجب علّة بعيدة موصلة للأثر إليه لا مفيضة له الوجود ، لأنّ مقتضى طبيعة الممكن عند هؤلاء الانتهاء إلى الواجب لا استفادة الوجود منه - لكون السلسلة بهذا الاعتبار سلسلة طولية منتهية إليه تعالى -.

واعلم! أنّ كلّ معلول في السلسلة الطولية بهذا الاعتبار له احتياجان فقط : أحدهما احتياجه إلى العلّة القريبة ؛ وثانيهما : الاحتياج إلى الواجب من حيث انتهائه إليه. وأمّا احتياجه إلى غير الواجب من العلل البعيدة فلا يكون إلاّ بالعرض ، لأنّ العلل البعيدة غير الواجب - تعالى - في تلك السلسلة غير موصلة للأثر ؛ لأنّ العلّة البعيدة قسمان : إحداهما علّة بعيدة لا يوصل الأثر إلى المعلول كما في لوازم الماهية ، فانّ لازم الماهيّة انّما يحتاج إلى جاعل الماهية بالعرض لا بالذات ، لأنّه ليس احتياجه إليه باعتبار نفسه إذ لو فرض انّ ملزومه يصحّ وجوده بدون الجاعل لكان لازم الماهية لازما لها أيضا - :

وثانيهما : علّة بعيدة توصل الأثر إلى المعلول كالواجب - تعالى - ، لأنّه ثبت بالبرهان انّ كلّ ممكن من حيث ذاته ينتهي إلى الواجب ، فليس شيء من الممكنات غنيا عن الواجب ولا يكتفي بعلّة الغريبة - تعالى -. وهذا - أعني : احتياج المعلول إلى العلّة الغريبة - / 65DA / وعلّة بعيدة واحدة - أعني : الواجب - أنما هو إذا وقع في السلسلة الطولية بهذا الاعتبار - أي : بالاعتبار الّذي ذكره هؤلاء الأقوام من احتياج الممكن إليه تعالى في الانتهاء لا في أصل الافاضة - وأمّا إذا وقع في السلسلة الطولية بالاعتبار الأوّل الّذي ذكرناه من أنّ كلّ ممكن محتاج إليه - تعالى - في أصل افاضة وجوده فيكون محتاجا إلى كلّ واحد من الشروط والوسائط ، فتأمّل! ؛ انتهى.

وغرضه ممّا اشار إليه أخيرا بقوله : ومن قال انّ بعض الممكنات - إلى آخره - : انّ الظاهر من كلام بعض الفلاسفة عدم تسليمهم للمقدمة القائلة بأن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه ، بل هؤلاء يثبتون الافاضة للوسائط وان قالوا بوجوب انتهاء الكلّ إلى مبدأ المبادي.

ص: 306

و (1) الحقّ انّ أساطين الحكمة لا يثبتون التأثير الحقيقي للوسائط ، بل هي عندهم شروط ومعدّات - كما علمت من عباراتهم - ، وأصولهم المقرّرة أيضا يقرّر ذلك ، فانّ ما أسّسوه وقرّروه من اشتراط اللزوم والوجوب في صدور المعلول عن العلّة التامّة وامتناع تخلّفها عنه يدلّ على أنّ سلسلة الممكنات الموجودة بعضها مرتبط ببعض ارتباطا وجوبيا لا يمكن أن يتخلّف اللاحق منها عن السابق إلى أن ينتهى إلى مبدأ المبادى ، فلا يتعرّض موجود في هذه السلسلة عن الوجوب السابق. فكما أنّ العقل السليم يحكم بأنّ موجب فتح الفعل المرتّب على حركة المفتاح المرتّبة على حركة اليد ترتّبا وجوبيا لزوميا هو موجب حركة اليد وليس لحركة المفتاح وحركة اليد في هذه السلسلة افاضة وتأثير حقيقي وانّما هي شروط ومعدّات ، يحكم أيضا بأنّ الوسائط المتخلّلة في سلسلة الممكنات كذلك. فيكون وجوب كلّ من آحاد تلك السلسلة فائضا من الحقّ الأوّل المنقطع به السلسلة المذكورة ؛ وما سواه لا دخل له سوى كونه من الشرائط والاسباب. وبذلك وبما نقلناه من عبارات الحكماء يظهر ضعف ما ذكره بعض المتأخّرين من : انّ قول الفلاسفة في المقدّمة القائلة بأن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه غير معلوم ولا يفهم ذلك من شيء من كلامهم المتداول عند المحصّلين ، / 68MB / بل ظاهر مقالاتهم ينبئ عن خلاف ذلك - كما لا يخفى على من تتبع مسلكهم في بيان ترتيب الموجودات -.

ثمّ قيل : سلّمنا انّ الحكماء قائلون بأن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه ، ولكن ذلك لا يوجب الاذعان ما لم يقم عليه قاطع البرهان. والبرهان المنقول عن بهمنيار ليس بتامّ. لأنّ الممكن في حدّ ذاته وان كان عدما صرفا وليسا محضا فلا يمكن أن يوجد شيئا بهذا الاعتبار ، لكنّه بعد تأثير الفاعل فيه يصير موجودا وحينئذ يمكن أن يوجد شيئا ولا يلزم شركة العدم في افادة الوجود اصلا. والحاصل انّه بعد اكتساب الوجود من الواجب - تعالى - وبعد خروجه من القوّة إلى الفعل يفيض الوجود بهذه الفعلية على ممكن آخر.

ص: 307


1- الاصل : - و.

قال بعض الافاضل : لم يثبت دليل على أنّ الممكن لا يوجد جوهرا ، بل الثابت ان الجسم لا يوجد جسما ولا مجرّدا. نعم! ؛ ما لا وجود له باعتبار ذاته لا يمكن انّ يوجد شيئا باعتبار ذاته ، لا أنّه لا يمكن أن يوجد شيئا باعتبار الوجود الفائض من علّته أيضا وما ذكره بهمنيار لا يدلّ على ذلك ، كيف والحكماء كلّهم قائلون بالوسائط مع أنّهم مصرّحون بأن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه - تعالى -. فمعنى كلامهم : انّ الايجاد بالحقيقة ليس إلاّ من اللّه - تعالى - ، وما يصدر عن غيره انّما يصدر عن ذلك الغير من الجهة المستندة إليه تعالى - لا من جهة ذلك الغير والحاصل انّ كلّ ممكن زوج تركيبي مشتمل على ما بالقوّة - وهو الّذي له من جهة ذاته - ، وعلى ما بالفعل - وهو الّذي له من جهة مبدئه الحقيقي - ، فما يصدر عنه انّما يصدر من الجهة الّتي هى له من المبدأ لا من الجهة الّتي هي له من ذاته ؛ لأنّ ما له من ذاته ليس إلاّ العدم والقوّة ، فلو صدر عنه من هذه الجهة شيء يلزم أن يكون العدم والقوّة مؤثّرا في الوجود والفعلية. وأين هذا ممّا هو المقصود وهو عدم جواز تأثير الممكن في غيره مطلقا - أي : لا من جهة ذاته ولا من الجهة المستندة إلى الواجب ؛ - انتهى؟! ؛

وأجاب عنه السيّد الداماد : بأنّ العقل يحلّل الموجود إلى ما بالقوّة وإلى ما بالفعل ، ويحكم باعتبار كونه بالقوّة أن لا دخل له في الايجاد ، فيكون ذلك باعتبار وجوده بالفعل. ووجوده بالفعل انّما هو من الواجب ، فيكون هو موجدا.

وردّ بأنّه إذا كان ذات الممكن موجد الشيء باعتبار كونه موجودا لا يلزم أن يكون فاعله علّة بعيدة لذلك الشيء ، لا أن لا يكون الموجد إلاّ هو.

وقال بعض الفضلاء : العقل يحلّل للممكن الموجود إلى ما بالقوّة وإلى ما بالفعل. ثمّ نقول : انّ ما بالقوّة لا دخل له / 65DB / في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ، فيطرحه خلف قاف متحيّرا ، ثمّ ينظر إلى ما بالفعل فلو كان مشوبا بالقوّة فيحلّله أيضا وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما بالفعل المحض ؛ وليس هذا إلاّ الواجب بالذات. وهو قريب ممّا ذكره السيّد ، فلا يخفى ما فيه.

وقال بعض الأفاضل : يمكن تقرير الدليل المذكور من بهمنيار بحيث لا يرد عليه

ص: 308

الاعتراض المذكور ، فمهّد أوّلا مقدّمة ، وهي انّ المراد « بمعنى ما بالقوّة » : ما يفهم من لفظ « ما بالقوة ». ويوضح المفهوم منها انّ « ما » موصولة و « الباء » للسببية المجازية ، والمراد من « القوّة » هو الامكان على ما ذكره الشيخ في إلهيات الشفاء : انّ الفلاسفة نقلوا اسم القوّة عمّا هو المشهور فيه من المعنى المقابل للضعف أو العجز أو سهولة الانفعال إلى كلّ حال يكون في شيء هو مبدأ تغيّر يكون منه في آخر من حيث انّه آخر ، وإن لم تكن هناك إرادة حتّى سمّوا الحرارة قوّة لأنّها مبدأ التغيّر من الحارّ في آخر. ثمّ لمّا وجدوا الشيء الّذي له قوّة بالمعنى المشهور - قدرة كانت أو شدّة قوّة - وليس امكان أن يفعل نقلوا اسم القوّة إلى الامكان فسمّوا الشيء الّذي في حدّ الامكان موجودا بالقوّة ، وسمّوا امكان قبول الشيء وانفعاله قوّة انفعاله ؛ انتهى خلاصة كلام الشيخ (1).

فالمفهوم من « ما بالقوة » : الحالة الحاصلة للذات باعتبار الامكان الّذي هو سلب الضرورة ، ولا شكّ انّ تلك الحالة أمر عدمي. وعلى طبق ذلك يكون الفعل المقابل للقوّة المذكورة هو الوجوب ، والمفهوم من « ما بالفعل » الحالة الحاصلة للذات باعتبار الوجوب. وهذه الحالة تكون وجوديّة تقابل الحالة الاولى. والفرق بين الحالتين من جهة أخرى انّ الثانية غير مخصوصة بالواجب للذات لجواز عروضها بسبب خارجي للممكن بالذات بخلاف الأولى. لأنّها مخصوصة بالممكن بالذات لاستحالة عروض الامكان مطلقا للواجب بالذات ، لأنّ الواجب بالذات بريء من كلّ الوجوه عن معنى ما بالقوّة ؛ وما سواه من الممكنات الموجودة فيه معنى ما بالقوّة من / 69MA / تلقاء نفسه ومعنى ما بالفعل بافاضة غيره. وبعد تمهيد هذه المقدّمة قال : فالوجه في تقرير الدليل انّ الممكن لو كان مفيدا للوجود - أي : مخرجا للشيء من القوّة إلى الفعل ؛ يعنى من صرافة الامكان إلى الوجوب - لكان هذا الوجود الصادر منه مرتّبا عليه. ويجب أن لا يكون هذا الوجود المرتب عليه مرتّبا على ماله من غيره فقط. للزوم أن يكون المفيد بالحقيقة حينئذ هو الغير ليس إلاّ ؛ هذا خلف. فيلزم أن يكون لماله من تلقاء نفسه دخل فيه ، فيكون العدم شريكا في افاضة الوجود ويكون لمّا بالقوّة شركة في اخراج

ص: 309


1- راجع : الشفاء / الالهيات ، الفصل الثاني من المقالة الرابعة ، ج 1 ، ص 171 ، 170.

الشيء من القوّة إلى الفعل ، وهو باطل. ضرورة انّ أحد المتقابلين لا يمكن أن يكون دخيلا في تحقيق الآخر ؛ انتهى.

وأنت تعلم انّ هذا التقرير لا يدفع الاعتراض المذكور.

ويرد عليه : انّه لم لا يجوز أن يكون الوجود الصادر من الممكن مترتّبا على ماله من الغير فقط؟!.

وما ذكره من انّه يلزم أن يكون المفيد بالحقيقة حينئذ هو الغير لا الممكن ؛ ففيه : ما تقدّم من انّه لا يلزم على هذا التقدير إلاّ كون هذا الغير الّذي هو فاعل الممكن علّة بعيدة وهو لا يستلزم أن يكون الموجد إلاّ هو.

واعترض أيضا : بأنّ مدلول كلام التحصيل : انّ ما فيه معنى ما بالقوّة لا يمكن أن يكون مفيدا للوجود لا أنّه لا يمكن أن يكون واسطة في الايجاد ، فهو إنّما ينفي كون الممكن مستقلاّ في التأثير ولا ينافي كونه واسطة.

وفيه : انّ كون الممكنات وسائط سريان الفيض والجود ممنوع ؛ لا أنّ اثبات الوسائط في الوجود وترتبها لا ينافى عدم تأثير غيره - تعالى - في ايجاد شيء ، لأنّها روابط ومصحّحات لسراية فيض وجوده في الاخر ، وليس لها رتبة الابداع والايجاد ، بل شأنها التحريك والاعداد ؛ وهذا غير قادح فيما نحن بصدد اثباته - وهو عدم جواز ايجاد ممكن لممكن آخر -. فانّه إذا ثبت انّه لا يجوز أن يوجد ممكن بالاستقلال ممكنا آخر ثبت أنّ ما ثبت حدوثه - أعني : العالم الجسماني - لا يجوز أن يصدر من ممكن مختار مجرّد صدر من الواجب على طريق الايجاب ، بل يكون موجده ومؤثّره هو الواجب. وإذا كان موجده ومؤثّره هو الواجب - تعالى - ثبت قدرته واختياره نظرا إلى حدوثه - أي : حدوث / 66DA / هذا المعلول الّذي هو العالم الجسماني - وكون غيره - أعني : الفعل مثلا - واسطة في الايجاد ورابطة لا يصال الأثر غير قادح في ذلك ، لأنّه إذا كان أصل الافاضة وايصال الأثر منه - تعالى - يحصل الانفكاك بين الواجب وبين ما هو مفاضه ومعلوله ، فيحصل به المطلوب وان كان بينهما وسائط في الاعداد وشرائط لقبول المعلول أصل الوجود منه - تعالى - نظرا إلى عدم استعداده

ص: 310

لقبول الافاضة منه - تعالى - بدون ذلك. فان ثبت أن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه وانّ أصل الايجاد والافاضة منه - تعالى - ثبت المطلوب وإن كان ذلك بوسائط وشرائط ، وإلاّ فلا.

إلاّ أنّ اثبات تلك المقدمة لا يخلوا عن اشكال. والدليل المنقول من بهمنيار غير ناهض باثباتها ، لعدم تماميته وورود ما أوردنا من الاعتراض عليه. فالصواب أن نقول في اثبات المطلوب - أي : عدم جواز صدور ممكن مجرّد مختار من الواجب على طريق الايجاب وصدور العالم من هذا الممكن - إلى الوجوه المتقدّمة.

فان قلت : وان ثبت هذا المطلوب بتلك الوجوه السابقة ويبطل بها ثبوت الواسطة الصادرة من الواجب على طريق الايجاب مع كونها مختارا مؤثّرا في العالم بالاختيار ، إلاّ أنّه يبقي لتسليم ورود الاعتراض على الدليل المذكور اشكال آخر ، وهو جواز تأثير ممكن في ممكن آخر بالاستقلال وصحّة ايجاد بعض الممكنات لبعض آخر من دون افتقار إلى الواجب بالذات ، وهو مخالف للقواعد الاسلامية ومناف للظواهر القرآنيّة ، كقوله - تعالى - ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) و ( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (2) و ( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) (3) إلى غير ذلك من الآيات المتعاضدة بالأخبار المتواترة.

قلت : عدم تمامية دليل على مطلوب لا يوجب عدم حقّية هذا المطلوب ، فانّ المقصود : انّ الدليل المنقول من بهمنيار لورود الاعتراض المذكور عليه لا ينهض حجّة قاطعة لاثبات المقدّمة القائلة بأن لا مؤثّر في الوجود / 69MB / إلاّ اللّه ، لا أنّ تلك المقدّمة ليست في نفسها ثابتة. فانّ بعد انعقاد الاجماع ودلالة الكتاب والسنة على صحّتها واتفاق الحكماء على ثبوتها يجب الاذعان بها وان لم يتمّ هذا الدليل و (4) غيره من الأدلّة أيضا ، خصوصا إذا لم يكن مانع من ثبوتها ولم يوجد له معارض عقلي.

فان قيل : المعارض موجود وهو وجوب المناسبة بين العلّة والمعلول وعدم

ص: 311


1- جزء من كريمة 62 ، الزمر.
2- جزء من كريمة 102 ، الانعام.
3- جزء من كريمة 3 ، الفاطر.
4- الاصل : - و.

جواز صدور المتعدّد عن الواحد ، فالواحد من جميع الجهات لا يجوز أن يصدر عنه الأشياء المختلفة - كما ذكره الحكماء في ترتيب الصدور -. فالواجب - تعالى - إذا صدر عنه العقل الأوّل لوجود مناسبة بينهما لم يجز أن يناسب الفلك أو الانسان أيضا وإلاّ لزم التركيب في ذاته ؛

قلنا : الصادر من الواجب انّما هو وجود كلّ موجود وفعلية كلّ ممكن وهو فعل واحد بسيط لا اختلاف فيه حتّى يوجب ايجاد المهيات المختلفة صدور الكثرة عن الواحد ولو قلنا : انّ المجعول هو نفس الماهية والوجود تابع ، لأنّ جعل الماهية وفعلها هو فعل واحد بسيط وان تعلّق بالماهيات المختلفة الغير المتناهية. على أنّه لو سلّم اختلاف الفعل لم يوجب رفع المناسبة ووجوب التكافؤ بين العلّة والمعلول إذا كان صدور كلّ ماهية بوساطة ممكن موجود وشرطيته - كما ذكره الحكماء -. على أنّ بناء الاعتراض على تجويز تأثير ممكن في آخر بالجهة المستندة إلى اللّه - تعالى - فقط من دون مدخلية للجهة المستندة إلى ذاته اصلا ؛ فمجرّد ما أفاض اللّه - تعالى - على المعلول الأوّل من الفعليّة والوجود يكون مفيضا للفعلية في المعلول الثاني ، ومجرّد تلك الفعلية يكون مفيضا للفعلية في المعلول الثالث وهكذا. وحينئذ فالمؤثّر في الوجود والموجد للعقليات ليس إلاّ الواجب أو ما صدر عن ذاته ، واستناد ما صدر عمّا صدر عن ذاته إلى ذاته صحيح ، فالمقدّمة القائلة بأن لا مؤثّر في الوجود الاّ اللّه صادقة.

ولا يخفى انّ ما ذكره في العلاوة وإن كان صحيحا إلاّ أنّ الظاهر من قواعد الملّة استناد وجود كلّ ممكن إليه - تعالى - وكونه مؤثّرا في الكلّ بذاته لا بما صدر عنه ، إلاّ في أفعال العباد - كما يأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى -.

إلاّ أن يقال : الايجاد على النحو المذكور يوجب استناد كلّ ممكن إليه وكونه مؤثّرا في الكلّ. بيانه : انّ التأثير الحقيقي / 66DB / - المعبّر عنه بالايجاد والافاضة - لا يستلزم مزاولة عمل ولا مداومة فعل ، بل هو عبارة عن صدور الأثر عن الفاعل بأيّ نحو كان وبأيّ طريق يناسب شأن الفاعل ، فاذا كان الفاعل بحيث كان في شأنه ورتبته أن يوجد أوّلا معلولا كان في شأنه صدور بعض المعلولات عنه وكان في شأن

ص: 312

هذا البعض صدور بعض آخر عنه وهكذا ، وكان نفس هذا المعلول وما في شأنه ولازم وجوده - أعني : اصداره على اصدار غيره - منه - تعالى - ، وكان الواجب - تعالى - هو الّذي أودع فيه هذه الخاصية كان الجميع منه - تعالى - وصدق التأثير الحقيقىّ في الجميع من الواجب الحقّ ، بل هذا أحسن انحاء التأثير الحقيقى وغاية ما يتصوّر من القدرة الكاملة في الجعل والايجاد ، لأنّ ايجاد معلول واحد ينطوي على جميع المعلولات على سبيل الاجمال أوّلا واخراج كلّ واحد على التفصيل على ما هو الأصلح والأليق ثانيا غاية ما يتعقّل من كمال الايجاد وحسنه! ؛ هذا.

واعترض أيضا على الدليل المنقول عن التحصيل : (1) بانّه إنّ المراد بالمعنى في قوله « معنى ما بالقوة » الصفة المختصّة في الواقع ؛ سلّمنا الملازمة لكن لا نسلّم انّ العقل كذلك ما تقرّر عندهم من انّه ليس له حالة منتظرة ،

وإن أراد به أعمّ من ذلك حتّى يشمل الامكان الذاتي الّذي يلتزمه العقل من مجرّد ملاحظة ذات الممكن منعنا الملازمة مستندا بانّه ليس للعدم - الّذي ينسب العقل ذات الممكن إليه وإلى الوجود - في الملاحظة تحقّق في نفس الأمر حتّى يكون له شركة في الوجود وكان لما بالقوّة شركة في اخراج الشيء من القوّة إلى الفعل ؛ انتهى.

وأجاب عنه بعض الأعاظم (2) : بالفرق بين قولنا : معنى ما بالقوة بالتكثير ، وقولنا : معنى ما بالقوة بالإضافة. فانّ المراد من الأوّل هو أن يكون الذات بالفعل ويكون معنى ما وصفة من الصفات لم يحصل لها بالفعل بعد ما له بالقوّة ، وهذا لا يكون إلاّ في المادّيات ، لأنّ المجرّدات جميع صفاتها حاصلة لها بالفعل ؛

والمراد من الثاني ؛ أن يكون الذات والصفة كلاهما داخلتين تحت مفهوم ما بالقوّة ، وهذا المعنى شامل للماديّات والمجرّدات / 70MA / إذ كلّ ممكن بما هو ممكن من حيث ذاته لا يكون إلاّ بالقوّة ومراد المستدل هو الثاني ؛ انتهى.

ص: 313


1- هامش « د » : المعترض هو الفاضل السماكى - ره -. منه.
2- هامش « د » : هو السيّد الداماد - تغمّده اللّه بغفرانه واسكنه بحبوحة جنانه -. منه.

وردّ هذا الجواب بانّه يرجع إلى اختيار الشقّ الثاني الّذي ذكره المعترض ؛ وما أورده المعترض فيه لا يندفع بما ذكره ، إذ مراده انّ الممكن إذا وجد فهو موجود بالفعل وليس بالقوّة اصلا ، فيجوز أن يكون بذلك الاعتبار موجدا لشيء ، وإنّما هو بالقوّة بحسب أصل ذاته وعند ملاحظة العقل ذاته ، وهو بهذا الاعتبار ليس موجدا.

ولا يخفى انّ حاصل هذا الاعتراض يرجع إلى الاعتراض الأوّل الّذي ذكرناه ، ولا فرق إلاّ باشتماله على الترديد ، وهو لا يندفع إلاّ بالجواب المذكور مطلقا.

وأورد أيضا : بأنّ كلام التحصيل لا يدلّ إلاّ على أنّ الممكن لا يمكن أن يكون مؤثّرا في الوجود لا أنّه لا يمكن أن يكون شرطا وواسطة في الايجاد ، فلم لا يجوز ان يكون لبعض المجرّدات الصادرة عنه - تعالى - بالايجاب قدرة واختيار على ايجاد الاجسام - كقدرتنا واختيارنا على حركاتنا على مذهب الاشاعرة؟! - ويكون ايجاد العالم الجسماني الحادث عن المبدأ الأوّل القديم على سبيل الايجاب مشروطا بها ، فيكون واسطة بهذا المعنى. أي : بأنّه إذا تعلّقت قدرة هذه المجرّدات بايجاد العالم الجسمانى أوجده اللّه - على سبيل الايجاب ، كما يقول الأشعري في قدرة العبد بأنّه إذا تعلّقت قدرته بافعاله يوجد اللّه - تعالى - تلك الافعال ، وبدون تعلق القدرة لا يحصل ايجاد من اللّه - تعالى -.

وأجاب عنه بعض الأعلام : بأنّه يمكن نقل الكلام على هذا التقدير إلى تلك القدرة وعلّة حدوثها. فيلزم إمّا قدمها وقدم الاجسام الموقوفة عليها أو التسلسل.

ثمّ قال : فان قلت : لم لا يجوز أن يكون علم ذلك المجرّد القديم في الأزل بالأصلح بحال العالم الجسماني وارادته القديمة شرطا ومرجّحا لحدوثه عن الموجب القديم في الوقت الّذي هو الأصلح بحاله ، كما يقال في علّة تخصيص الفاعل حدوث فعله بالوقت المعين؟! ؛

قلت : فرق بين أن يكون صدور الفعل من الفاعل الموجب مشروطا بعلم شيء أخر وارادته وبين أن يكون علم الفاعل المختار نفسه مرجّحا لتعلّق ارادته في الأزل / 67DA / بحدوث الفعل في وقت معيّن لمصلحة ، وعلى الثاني يمكن انفكاك الفاعل مع

ص: 314

العلم والإرادة في الأزل عن ايجاد الفعل عنه. بل قد يجب بخلاف الأوّل ، إذ لا يمكن على ذلك التقدير انفكاك الفعل عن وجود الفاعل مع وجود الشرائط ، فلو حصل الانفكاك لتعلّق علم غيره بالحدوث في وقت معين لا قبله ، فيلزم التخلّف ؛ انتهى.

وردّ عليه بعض الأفاضل : بأنّ التفرقة تحكّم! ، لأنّه لا شكّ في أنّه إذا تعلّق علمنا بأصلحية شيء في وقت وقدرنا على فعله واستجمع ساير الشرائط فالتخلّف إنّما يحصل إذا لم يفعل ذلك الشيء في ذلك الوقت. وأمّا قبله فلو لم يحصل فيه فلا يلزم تخلّف ، لأنّ العلم تعلّق بأنّ فعله أصلح بعد ذلك ، ومعلوم بالضرورة أنّه سواء في هذا أن يكون الموجد لذلك الشيء ومن تعلّق علمه بالاصلح واحدا أو متعدّدا. فاذا كان الموجد لجميع الأشياء هو الواجب - تعالى - فلا محذور في تأخّره ايجاد شيء إلى الوقت الّذي تعلّق تأثيره بفعله فيه ، سواء أخّر ايجاد العالم الجسماني إلى وقت معين لتعلّق إرادة بعض المجرّدات بفعله فيه ، أو أخّر أفعالنا إلى وقت معيّن لتعلّق إرادتنا بفعلها فيه ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ بناء هذا الايراد على أنّ اصل الافاضة والتأثير في كلّ ممكن من اللّه ، إلاّ انّه على سبيل الايجاب ، وحدوث العالم الجسماني لا ينفيه للاحتمال المذكور - أي : توقّف الحدوث على سبيل الايجاب على علم غيره وارادته - ، لا على علمه - تعالى - وارادته ليثبت الاختيار ويرتفع الايجاب. وأمّا بناء الاعتراض السابق على أنّ أصل الافاضة والتأثير في العالم الجسماني ليس منه - تعالى - ، بل من ممكن مختار قديم صدر منه - تعالى - على سبيل الايجاب. فحدوثه لا يثبت اختياره - تعالى - ، بل انّما يثبت اختيار هذا الممكن الّذي حدث منه العالم.

وأنت تعلم انّ الاحتمال المذكور - أعني : توقّف حدوث العالم الجسماني من الواجب على سبيل الايجاب على علم غيره وارادته - ممّا يأباه العقول السلمية ولا يجوّزه القرائح المستقيمة ، لأنّ الفاعل الموجب عنه الفعل من غير شعور كيف يصير مجرّد شعور غيره باعثا لعدم فعله في وقت وفعله في وقت آخر؟! ؛ وأيّ مناسبة بينهما؟!.

فقد ظهر ممّا ذكر أنّ القول باستناد العالم الجسماني إلى ممكن مختار مع كون الواجب

ص: 315

موجبا بايّ نحو كان باطلا.

فان قلت : / 70MB / على ما ذكرتم من أنّ موجد جميع الأشياء هو الواجب وأصل الايجاد والافاضة والتأثير الحقيقي منه سواء خصّ التأثير الحقيقي بايجاده - تعالى - كلّ شيء بنفسه ابتداء أو عمّم بحيث يشمل ما ذكرت من الصدور عمّا صدر عنه - تعالى - من غير مدخلية شيء آخر من جهة المستندة إلى الممكن فيه يلزم أن لا يكون حركات العباد صادرة عنهم ، بل يكون موجدها هو اللّه - تعالى - ، فينهدم بنيان التكاليف الشرعية ويبطل الثواب والعقاب - للزوم كون العباد حينئذ مجبورين في صدور ما يصدر عنهم من الافعال والحركات - ؛

قلنا : لا ريب في أنّ افاضة وجود الجواهر بأسرها سواء كانت ذوات إرادة وقدرة بها أفاعيل اختيارية أو لا ووجود الأعراض الصادرة عن غير المختارين من الفواعل الطباعية سواء كانت مفارقة عن ذواتها أو مقارنة لها صادرة عن الواجب - تعالى - ، وهو المؤثّر الحقيقي في وجودها من دون مدخلية شيء آخر ، لأنّ بعد ما ثبت من أنّه لا مدخلية للعدم والقوّة في الافاضة يثبت استناد جميع ما ذكر من الجواهر والاعراض الصادرة عن غير الإرادة إليه - تعالى - وعدم مدخلية المهيات الامكانية في الافاضة ، لأنّ الجهة المستندة إليها انّما هو العدم والقوّة ، والوجود والفعلية إنّما هو من الواجب الحقّ ؛ إمّا بلا واسطة أو بواسطة ، وفي ذلك لا يلزم اشكال أصلا.

وأمّا الأعراض الصادرة عن المختارين - كالانسان - فان كانت ممّا لا مدخلية لارادتهم فيها - كالقوّة الجسمانية وبعض الصفات النفسانية والهيئات اللازمة لاجسامهم وغير ذلك - فحكمها حكم ما مرّ ، وإن كانت ممّا لارادتهم مدخلية في صدورها وعدم صدورها فالنزاع في استنادها إلى الواجب أو إلى العباد أو إليهما بين الأمّة مشهور. وتحقيق القول فيه وإن كان موكولا إلى موضع آخر إلاّ أنّا نشير إلى حقيقة هذه المسألة هنا لتوقّف المطلوب عليه.

فنقول : الجهمية قالوا باستنادها جميعا من الخير والشرّ إلى اللّه / 67DB / من غير مدخلية لقدرة العباد وارادتهم فيها اصلا حتّى بطريق الكسب ؛

ص: 316

والأشاعرة اثبتوا الكسب للعباد ، فقالوا : ان تعلّق قدرتهم وارادتهم بسبب عادي لخلق اللّه - تعالى - الفعل فيهم من غير أن يكون منهم تأثير أو مدخل في وجوده غير كونهم محالاّ ومظاهر له ، فجميع الأفعال عندهم مستندة إلى اللّه - تعالى -. إلاّ أنّها تصدر عنه عقيب إرادة لعبد من غير مدخلية للعبد وارادته فيها ، بل عادة اللّه جارية باصدارها مقارنة لارادة العبد. وأرادوا « بكسب العبد » تلك المقارنة - أي : مقارنة صدور الافعال من اللّه لقدرة العبد وارادته من غير أن يكون هناك تاثيرا ومدخلا في وجوده سوى كونه محلاّ له -. ولا ريب انّ ذلك مع كونه خلاف الضرورة والبداهة - لأنّ الضرورة حاكمة باستناد افعالنا إلينا - مستلزم للجبر وبطلان الثواب والعقاب.

والمعتزلة قالوا باستنادها إلى العبد من غير مدخلية للواجب وهو القول بالتفويض ، وهو يوجب كونها مستندة إلى الجهة المستندة إلى الممكن - أي : العدم والقوّة -. وقد ثبت انّهما لا يصيران منشئا للفعلية والوجود.

لا يقال : انّ غرضهم من استنادها إلى العبد أنّها مستندة إليه من جهة المستندة إلى اللّه - أعني : قدرة العبد وارادته وغير ذلك ممّا هو مترتب على فعليته ووجوده الّذي هو فائض من اللّه - تعالى - ؛ لأنّا نقول : هذا التوجيه لا يلائم التفويض والمعتزلة القائلون به لا يقولون به ، كيف وعلى ذلك يكون هذه الأفعال مستندة إلى اللّه وهم يتحاشون عن استنادها إليه - تعالى - ولو بوجه؟! ، بل هو من أحد التوجيهات الّتي ذكرها اصحابنا الامامية القائلون بالأمر بين الأمرين - الّذي ورد عن ائمّتنا الراشدين سلام اللّه عليهم اجمعين -. قال بعض اصحابنا : فان قيل : إذا كان التأثير في الكلّ من اللّه فالعباد مجبورون ، فيكون التكليف لغوا! ؛

قلنا : لا منافاة بين ما حكم عليه البرهان واقتضاه وبين كون العبد فاعلا بالاختيار الّذي هو مناط صحّة التكليف والثواب والعقاب ، لأنّ ما دلّ عليه البرهان هو أنّ مفيض الفعلية والوجود لا يكون إلاّ الواجب ، لا أنّه لا يكون ممكن موقوفا عليه بالنسبة إلى ممكن آخر ولا يكون ممكن جزء علّة لممكن آخر ، إذ لا يلزم من عدم

ص: 317

تأثير العباد في أفعالهم - بمعنى الافاضة واخراج الشيء من العدم إلى الفعل ، لأنّ هذا شأن من لا شائبة للعدم والقوّة فيه - عدم كونهم موقوفا عليهم لأفعالهم ، فوجودهم مع القدرة والاختيار من اجزاء العلّة التامة بمعنى أنّها لو لم تكن وسائط / 71MA / لم يظهر تلك الأفعال من العدم إلى فضاء الوجود. فلتلك الأفعال اعتباران : أحدهما : من حيث كونها في السلسلة العرضية للممكنات ، وهي بهذا الاعتبار كسائر الممكنات مفاضة من مفيض الوجود ؛ وثانيهما : من حيث دخولها في السلسلة الطولية ، وهى سلسلة توقّف بعضها على بعض في نزول الوجود ووصوله إليه لعدم صلاحيّته لتغيّر هذا الوجه كما انّ صدور العرض مثلا منه - تعالى - لا يمكن إلاّ بعد صدور الموضوع له منه - تعالى -. وهذا القدر من التوقّف - أي : المعتبر في السلسلة الطولية - كاف في صحّة التكليف وعدم كونهم غير مجبورين. ويشير بذلك ما روي عن بعض ائمّتنا - علیهم السلام - انّه لا جبر ولا تفويض في افعالنا الاختيارية بل أمر بين أمرين (1). وهذا لا يرجع إلى رأي الأشعرى ، فانّه يقول : ليس ربط عقليّ بين ممكنين اصلا ، بل عادة اللّه جارية بأن يتحقّق افعال العباد مثلا عقيب إرادتهم ؛ وليست ارادتهم موقوفا عليها. حتّى قالوا : انّ النتيجة فائضة من المبدأ الفيّاض من غير ربط عقلي بين المقدّمات والنتيجة ، بل جرت عادة اللّه - تعالى - بفيضان النتيجة عقيب ترتيب المقدمات. وبالجملة فعل العباد عندهم انّما هو بمنزلة أن يحمل انسان شيئا وينقله بانفراده ويضع شخص آخر يده تحت هذا المحمول ، فانّه لا أثر لوضع يده في نقله ؛ فكذا الأمر في كلّ ممكن بالنسبة إلى اللّه - تعالى -. وهذا خلاف ما ذكرناه على ما استقرّ عليه رأي الحكيم مع اشتراكهما في الحكم بأنّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه ، لأنّه يقول باللزوم والارتباط العقلى بين ممكنين ولذا قال بالوجوب العقلى وبأنّ إرادة العبد ممّا يتوقّف عليه الفعل وجزء أخير للعلّة التامّة له ، وليس بمجرّد جرى العادة. فلا يتوجّه على ذلك ما يتوجّه على الأشعري / 68DA / من المفاسد ؛ انتهى.

ص: 318


1- راجع : بحار الانوار ، ج 4 ، ص 197 ، ج 5 ، صص 12 ، 22 ، 82 ، ج 71 ، ص 127 ، ج 78 ، ص 354.

وأورد عليه : بأنّه إذا كان افاضة الوجود من جانب اللّه - تعالى - والإرادة الّتي من العبد موجدها أيضا هو اللّه - تعالى - ، وبعد تحقّق الإرادة يفيض الوجود إليه ، فما تقصير العبد حينئذ؟! ، وكيف يجوز عقابه على ما لا دخل له فيه اصلا؟! ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ ما ذكره انّما يلزم إذا كان إرادة أحد الطرفين واختياره فائضة من اللّه على العبد من دون قدرة للعبد فيه ، لا أن يكون أصل الإرادة بمعنى كون العبد قادرا مختارا مريدا بمعنى كونه مخلوقا كذلك من اللّه - وبالجملة كان ثبوت تلك الصفات من جانب اللّه - ، إلاّ أنّ اختيار أحد الطرفين كان بيده لم يلزم جبر ، لأنّ العبد وان كان وجوده وقدرته على الفعل والترك من جانب اللّه إلاّ أنّ القدرة لمّا كان من شأنها يمكن من اتصف بها على اختيار كلّ من طرفي الفعل والترك. فله أن يختار ما شاء منها ، فهذا الاختيار بيده وهو كاف للتكليف وترتّب الثواب والعقاب.

إلاّ انّه يرد حينئذ أنّ اختيار أحد الطرفين دون الآخر لا بدّ له من مرجّح ولا يجوز أن يكون ذلك المرجّح ما يختلج بباله ويقع في روعه من الصور الّتي يظنّها مرجّحة ، لانّا نرى أنّ شيئا واحدا كالايمان بنبوّة نبيّ من الأنبياء قد يختلج ببال بعض الناس مرجّح فعله ويختلج ببال غيرهم مرجّح تركه ، وحينئذ فلا بدّ من وجه التخصيص والترجيح لاختيار البعض الفعل ووقوع مرجّحه في روعه واختيار بعض آخر الترك والقاء مرجّحه في باله. فان كان لذلك مرجّح آخر فننقل الكلام إليه وهكذا ، فيلزم التسلسل أو الانتهاء إلى مرجّح يكون من جانب اللّه - تعالى - ، وهو مستلزم للجبر ؛ أو إلى مرجّح يكون مستندا إلى ماهية العبد بأن تكون ماهية بعض الناس مقتضية لفعل بعض الأمور وترك بعضها وماهية بعض آخر بالعكس ، مثل أن تكون ماهية سلمان مثلا مقتضية للايمان بنبوّة محمّد - صلی اللّه علیه و آله - ووقوع مرجّحه في قلبه وماهية أبى جهل مقتضية للكفر وعدم الايمان ووقوع مرجّحه في نفسه.

وهو مردود بوجهين : أحدهما : انّه يلزم كون القوّة والعدم منشئا للوجود والفعلية ، لأنّ ماهيّات الممكنات مع قطع النظر عمّا أفيض إليها من الواجب من الوجود والفعلية ليست إلاّ العدم والقوّة.

ص: 319

فان قيل : نحن لا نستند اختلاف الأفعال إلى المهيات ليلزم ما ذكره ، بل نستندها إلى الاختلاف في الوجودات ، فانّ الوجودات الخاصّة إمّا مختلفة بالحقيقة وبأنفسها - كما هو مذهب الحكماء - أو بالتشكيك - كما هو مذهب جماعة - ، فاختلاف الوجودات هو الباعث لاختلاف الافعال واختلاف ما يقع في النفوس من المرجّحات ؛

قلت : اختلاف الوجودات مستندة إلى اللّه - تعالى - ، لأنّ كلّ وجود بنحوه وبشخصه مستند إلى الواجب الحقّ وليست في أفراد الوجودات جهة تكون مستندة إلى ذات الممكن وهو ظاهر ، فيلزم الجبر.

وثانيهما : انّه يوجب / 71MB / الجبر أيضا ، لأنّ الماهية إذا كانت مقتضية لأمر من دون اقتدار العبد على خلافه فما تقصير العبد؟! ، وأيّ اختيار يبقى له حينئذ؟! ، وأيّ فائدة في التكليف حينئذ؟!.

فان قيل : ذلك لا ينفى اختياره ، لأنّه بالنظر إلى ذاته يتمكّن من الفعل والترك إلاّ أنّه يختار أحد الطرفين البتة وهو الّذي تناسبه مهيته ولا يختار الطرف الآخر ، كما أنّ الواجب - تعالى مثلا - قادر على الكذب إلاّ أنّه لا يكذّب البتة لعدم مناسبة ذاته له ، فهو بالنسبة إلى الفعل والترك مختار. إلاّ أنّ اختيار أحد الطرفين واجب والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ؛

قلنا : بالنظر إلى مهيته إن جاز الفعل والترك فوجوب أحد الطرفين لا معنى له ، لأنّ المفروض قطع النظر عن المرجّحات الخارجية وثبوت الوجوب بمجرّد النظر إلى الماهية ؛ وان لم يجز فلا معنى للامكان بالنظر إلى الذات والماهية. على أنّه مع فرض الوجوب لا تبقى للتكليف فائدة ، لأنّ كلّ ماهية تفعل مقتضاها ، فالقول بأنّ فائدته ابراز لوازم المهيات - لأنّها بدونه لا يظهر مقتضاها ، فانّ ايمان سلمان وكفر أبي جهل انّما يظهر بعد دعوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله - لا يخفى ما فيه.

وبما ذكر تعلم أنّ استناد الأفعال إلى المهيات مستلزم لفساد التفويض والجبر كليهما.

وممّا يدلّ على بطلان استناد الأفعال إلى ماهية العبد وذاته واستقلاله في

ص: 320

صدورها / 68DB / من دون افتقار إلى أمر خارج أيضا أنّه يلزم حينئذ دوام صدور كلّ فعل صدر عنه مرّة بحيث لا يكون في لحظة واحدة فارغا عنه ، لأنّ ما يكون من مقتضيات الماهية ولوازمها لا يمكن أن يتخلّف عنها ، لكونها علّة مستقلّة.

فان قيل : الإرادة جزء للعلّة ومجرّد الماهية من دون انضمام الإرادة ليست علّة مستقلّة لصدور الفعل ، وبعد انضمامها يصدر الفعل البتة ، فلو دام إرادة فعل لدام صدوره ؛

قلنا : ننقل الكلام في الإرادة وعلّة حدوثه من شخص دون شخص في وقت دون وقت ، فامّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى الواجب أو إلى ماهية العبد وذاته. والأوّل بديهيّ البطلان ؛ والثاني مستلزم للجبر ؛ والثالث يوجب دوام الإرادة ، فيلزم دوام الفعل أيضا.

وأيضا : لا ريب في صدور الأفعال المتناقضة المتعارضة من العبد - كالقيام والقعود والنوم واليقظة وغير ذلك - ، فلو كان ذاته علّة لصدورها باعتبار واحد أو باعتبارات متعدّدة لزم اجتماعها في الصدور واتصاف العبد بجميعها في آن واحد ، وبطلانه ظاهر. والقول بأنّ الذات علّة بشرط الإرادة فلا يلزم ما ذكر ، قد عرفت حاله.

وقد ثبت ممّا ذكرناه أنّ تصحيح الأمر بين الأمرين بكون الفعل صادرا من العبد وهو الفاعل بالحقيقة ولكن اسبابه - كالقوّة والقدرة والهداية وإرادة الخير والشر وغير ذلك ممّا له مدخلية في صدوره من ارسال الرسل وإنزال الكتب - من اللّه ، فلكلّ فعل جهتان : جهة إلى العبد - وهو كونه صادرا عنه وكونه فاعلا بالحقيقة - ، وجهة إلى اللّه - سبحانه ، وهو خلق ما يتوقّف عليه الفعل من الأمور الداخلية والخارجية - لا يخفى ضعفه وعدم تماميته. لأنّه لو توقّف فعل العبد على أمر منته إلى اللّه لم يكن في قوّة العبد ولم يمكن صدور هذا الفعل من العبد بدونه ، وبعد حصوله لم يمكن له التخلّف ، لزم فساد الجبر وإن كان الفاعل حقيقة هو العبد ، لأنّه إذا كان تمامية العلّة بما هو من جانب اللّه ، وبعد حصوله حصلت العلّة المستقلة فحينئذ يجب صدر والفعل ولا يمكن للعبد تركه ، لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة ، فيلزم الجبر.

ص: 321

فان قيل : انّما يلزم الجبر إذا كان وجوب صدور خصوص فعل الطاعة أو المعصية من جانب اللّه ومستندا إلى الاسباب الصادرة عن اللّه ، وليس كذلك ؛ لأنّ نسبة الأسباب المذكورة إلى السعيد والشقيّ والمطيع والعاصي على السواء وما أعطى منها لأحدهما أعطى بعينه للآخر فهما في اعطاء الأسباب وافاضة (1) الشروط والآلات سواء ، فهو - أي : وجوب صدور خصوص فعل الطاعة أو المعصية - مستند إلى ذات العبد ومهيته ، وجودة طينته وخباثته. فالمحسن لجود ذاته اختار الطاعة واستحقّ الثواب والعاصي لخبث مهيته اختار المعصية واستحقّ العذاب. فما افيض من اللّه من الوجود والقدرة والإرادة وارائة الطريق وغير ذلك يعمّهما على السواء ، وتفاوتهما في اختيار الطاعة والمعصية مستند إلى ذاتهما ؛

قلنا : حينئذ يعود الاشكالات المتقدّمة الواردة على القول باستناد الأفعال إلى ماهية العبد وذاته من كون ذاته محض القوّة والعدم ، فكيف يصير منشئا لصدور / 72MA / خصوص الافعال واختلافها؟!. ولا يمكن أن يقال : اختلافها مستند إلى اختلاف القابليات في المهيات ، لأنّ محض القوّة والعدم ليس له في نفسه قابليّة فضلا عن اختلافها ؛ ومن لزوم دوام صدور فعل صدر عنه مرّة ؛ ومن وجوب صدور الأفعال المتناقضة المتقابلة عنه في آن واحد ، ومن لزوم الجبر وبطلان الثواب والعقاب ، لأنّ مقتضى الذات لا يمكن انفكاكه والعبد غير متمكّن من تركه.

فان قيل : لا ريب في أنّ المهيات الامكانية في حدّ ذواتها مع قطع النظر عن موجدها وتأثيره فيها محض القوّة وصرف العدم ليس لها اقتضاء ولا قابلية ، إلاّ أنّه إذا أوجدها الواجب - تعالى شأنه - كان لكلّ منها في حدّ ذاته خصوصية ولوازم لا يوجد في غيره ، فان الانسان ماهية وحقيقة إذا وجد في الخارج كان بمحض حقيقته ومعناه ناطقا سميعا بصيرا - إلى غير ذلك من خواصّ الانسانية ولوازمها - ، والجسم حقيقة إذا وجد في الخارج كان لصرف ماهيّته ومعناه قائما بذاته ، والعرض ماهيّة إذا

ص: 322


1- الاصل : + و.

وجد في الخارج كان في حد ذاته قائما بغيره ، والنار حقيقة إذا وجدت في الخارج كانت في حدّ نفسها حارّة ، والماء بمحض ذاته بارد ، والأربعة عدد إذا وجدت في الخارج كانت بمحض ذاتها زوجا ، وهكذا الحال في غير ذلك من المهيات. فالصانع / 69DA / الحكيم - جلّ شأنه - أوجد كلّ شيء بخواصّه ولوازمه وبالخصوصيّات الّتي تقبلها ، فلا يمكن أن يوجد انسان كان ناهقا وحمار كان عاقلا ونار كانت باردة وأربعة كانت فردا ولا عشرة كانت أزيد من عشرين ، بل ما أوجد ناهقا يكون حمارا وما اوجد عاقلا يكون انسانا إلى غير ذلك. إذ الانسان بنفس حقيقته ومعناه لا يمكن أن يكون ناهقا والنار بنفس ماهيتها لا يمكن أن تكون باردة والأربعة بصرف حقيقتها لا يجوز أن تكون فردا والعشرة بنفس معناها لا يمكن أن يكون أزيد من العشرين ، وقس عليها غيرها. فوجودات الأشياء وقابلياتها وخواصّها ولوازمها فائضة من عند اللّه - تعالى - ، إلاّ انّ اختلافها في القابليات واللوازم وخصوصياتها مستندة إلى ذواتها ومن عند انفسها من حيث أنّها موجودة لا من حيث أنّها معدومة ، إذ من حيث هي لذواتها من حيث ذواتها مع قطع النظر عن وجوداتها معدومة صرفة والعدم لا يمكن أن يصير منشئا للأثر. والحاصل انّ وجوب صدور خصوص كلّ فعل من شيء - كوجوب صدور خصوص الطاعة من زيد والمعصية من عمرو - ليس مستندا إلى مهيته المعدومة أو مهيته من حيث هي لرد انّ القوّة والعدم لا يصير منشئا لشيء ، بل هو مستند إلى ماهيّته الموجودة بشرط الوجود ، وهي ليست محض القوّة والعدم.

ولو شئت بيانا أوضح واتمّ نقول : لا ريب في أنّ جميع الموجودات والماهيّات مستندة إليه - تعالى - ، ولو لا افاضته وايجاده - تعالى - ما شمّ شيء رائحة الوجود.

والمهيات مع قطع النظر عن تأثيره وايجاده - تعالى - لا شيء محض ، لأنّها في حد ذاتها ليست إلاّ صرف العدم وعدم الصرف ، لكنّها إذا وجدت في الخارج كان لكلّ منها خواصّ ولوازم على حدة ، لا بأن تكون تلك الخواصّ واللوازم مستندة إلى المهيات ، فانّ هذا بديهي البطلان. لأنّ العدم الصرف في حدّ ذاته كيف تقتضي خاصية ولازما ، بل تلك الخواصّ واللوازم أيضا مستندة إلى جاعل الماهية ، فانّ الماهية بلوازمها

ص: 323

وخواصّها وأفعالها وتشخّصها مستندة إلى جاعلها الحقّ بمعنى أنّ الجميع فائضة منه - تعالى - ومستندة إليه - سبحانه - ، فهو كما خلق ماهية الانسان خلق نطقه وشعوره وجميع ما يلزمها من الآثار والصفات. إلاّ أنّ ماهية الانسان لا تتحقّق بدون تلك الصفات واللوازم بمعنى أنّه لو لا تلك الآثار والصفات لم يكن انسانا ، فانّ حقيقة الانسان هو أن تكون بتلك اللوازم والآثار. فالانسان الغير الناطق والحيوان ليس انسانا ، والحمار الغير الناهق ليس حمارا. فكلّ ماهية في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر حقيقتها أن تكون على النحو الخاصّ ومع الصفات واللوازم المعيّنة ، لا بأن يكون لها تحقّق وثبوت بل بمعنى أنّه لو وجد داهن وفارض يحكم بأنّ حقيقة الانسان كذا وحقيقة الفرس كذا وبعد ما يوجد في الخارج يكون على ما هو مقتضى طبيعته وحقيقته - أي : يكون معه ما يلزمه من الآثار والصفات -. وكذا حقيقة كلّ شخص من الأشخاص أن يكون بالآثار والمشخّصات المعيّنة بعد وجوده ، فجميع الموجودات بلوازمها وصفاتها وشخصياتها مستندة إليه - تعالى -. إلاّ / 72MB / أنّ كلّ ماهية موجودة بعد وجودها يكون على النحو الخاصّ المشاهد ، لأنّ حقيقتها كذا ولا يمكن أن يوجد بغير هذا النحو ، ومع ذلك يكون تلك الحقيقة. فالمراد ممّا يقال : انّ المهيات ليست مجعولة بالجعل المركب هو هذا المعنى - أي : لا يجوز أن يجعل الفاعل الانسان انسانا ، بل هو خلق الانسان بلوازمه وخواصّه وأوجده ، وبعد وجوده يكون حقيقته كذا -.

وإذا ثبت ذلك فنقول : انّ كلّ فعل يصدر عن عبد فمن حيث انّ وجود العبد ووجود افعاله منه - تعالى - يمكن استناد الفعل من هذه الجهة إليه - تعالى - ، ومن حيث أنّ حقيقة هذا العبد بشخصه المعيّن بعد وجوده يكون بهذا النحو الخاصّ يمكن استناده إلى العبد من هذه الجهة ، لا بأن تكون ماهية هذا العبد مؤثّرة في الفعل ، لأنّ التأثير ليس إلاّ من عند اللّه ، بل من حيث أنّ حقيقته إذا وجدت لزم أن تكون بهذا النحو. وعلى هذا فيكون للفعل نسبة إلى لواجب وهو تأثّره منه - تعالى - وتأثيره - تعالى - فيه ، ونسبته إلى ماهية العبد وهو اقتضاء حقيقته على فرض وجوده لايجاد هذا الفعل فيه.

فإيجاد الذات والصفات والأفعال كلّها مستند إليه - تعالى - ولا يستند وجود

ص: 324

الشيء إلى العبد مطلقا. ولكن كون مهيته وحقيقته بحيث لا بدّ من اقترانها بعد وجودها ببعض الصفات / 69DB / - وهي الصفات والأفعال الّتي تحقّق تلك الحقيقة موقوف عليها - أوجب صحّة استناد تلك الأفعال إليها أيضا. وبذلك يتصحّح معنى الأمر بين الأمرين.

ثمّ إنّه لمّا أمكن الاختلاف في اقتضاء المهيات بعد وجودها من أجل انضمام الأشياء الخارجية وعدمه ، فجاز أن تكون حقيقة زيد الموجودة بانضمام شيء كارشاد أو موعظة أو غير ذلك من التأييدات والتوفيقات من عند اللّه مقتضية للايمان والسعادة ، وبدونه غير مقتضية لهما ، وجاز أيضا أن يكون بعض المهيات مع انضمام الأشياء المذكورة كلاّ أو بعضا غير مقتضية لهما أوجب العناية الإلهية ارسال الرسل وانزال الكتب وافاضة التأييدات والتوفيقات ليصل إلى الكمال والسعادة من في شأنه الوصول ويتمّ الحجّة على من ليس من أهل الزلفى والصعود ، لئلاّ يتحقّق بخل من المبدأ الفيّاض بالنسبة إلى الأوّلين وينقطع العذر من الآخرين ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (1).

قلنا : لا ريب انّ الماهية الموجودة بشرط الوجود من عند اللّه ، فما يستند إليها يكون مستندا إلى اللّه أيضا ، فحينئذ تكون

الخصوصيات أيضا مستندة إلى اللّه ، فيلزم الجبر في التكاليف الشرعية. والحاصل انّ ما يمكن أن يستند إليه الأثر الموجود سواء كان ذاتا أو صفة حقيقية أو اعتبارية نفس أمرية أو خصوصية راجع إلى الوجود وهو من عند اللّه - سبحانه - ، وما ليس من عنده راجع إلى العدم المحض والليس الصرف ، فلا يمكن أن يستند إليه الأثر بوجه. مع أنّه لو امكن أن يستند إليه شيء وكان صدور خصوص المعصية من جهة اقتضاء خصوصية الذات وقابلية الماهية ولأجل ما يرجع إلى الماهية - أعني : لابدية اقترانها ببعض الصفات والافعال - لتحقّق حقيقتها. فأيّ تقصير للعبد؟! ، لأنّ تغيير الذات وتبديل مقتضاها محال!.

وما قيل : انّ تبديل الذات وإن كان محالا ولكن الذاتيات على قسمين : أحدهما

ص: 325


1- كريمة 42 ، الأنفال.

ما لا يمكن تغييره للذات (1) كالزوجية للاربعة ؛ وثانيهما : ما يمكن تغييره وتبديله وإن كان ذاتيا ومناسبا للذات ومقتضى للماهية وقابليتها كالبرودة للماء. وما تعلّق به التكليف من الأفعال والصفات جميعا من القسم الثاني ولم يتعلّق التكليف بشيء يكون من القسم الأوّل ؛

يرد عليه : انّا سلّمنا انّ الأمور الّتي تعلّق بها التكليف يمكن تبديلها ، ولكن نقول : لا بدّ لكم من بيان وجه التخصيص والترجيح في صدور تلك الأمور وعدم صدورها من شخص دون آخر في وقت دون آخر ، وفي صدور بعض تلك الأمور دون بعض آخر منها. فإمّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى الواجب أو إلى الماهية ، فيصير الأمر كما كان.

وبذلك يظهر ضعف القول بأنّ الأمر بين الأمرين كون الأمور التكليفية مفوّضة إلى العبد ، وكون غيرها من عند اللّه.

وقيل : هو - أي : الأمر بين الأمرين - هو كون الفعل واقعا بقدرة العبد واختياره ، وكون قدرته واختياره مستندين إلى اللّه - تعالى -.

وقيل : هو كون الأسباب القريبة للفعل والترك بقدرة العبد والبعيدة - كالجوارح والقوى والاختيار - بقدرة اللّه - تعالى - ، فالفعل يقع بالقدرتين معا. والعبد / 73MA / ليس بمجبور في فعله ولا مستقلّ فيه بأن يكون الأسباب كلّها مستندة إليه.

وقيل : هو عدم كون العبد مختارا أو مجبورا في جميع الأفعال المتعلّقة به ، بل يكون في بعضها - كالمعاصى والطاعات - مختارا وفي بعض آخر - كالموت والحياة - مجبورا.

وممّا ذكرنا يعلم ضعف الكلّ وعدم تماميته.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الجواب الّذي قاله المحقّق الطوسى وغيره من الشبهة المشهورة للجبرية غير صحيح. إذ حاصل شبهتهم : انّ العبد لو كان قادرا مختارا - والقادر من يصحّ منه الفعل والترك - لتوقّف ترجيح فعله على تركه على مرجّح

ص: 326


1- في النسختين : كالذات.

لا يكون صادرا عنه باختياره ، وإلاّ لزم التسلسل بنقل الكلام إلى صدوره عنه ويكون الفعل مع ذلك المرجّح واجب الصدور عنه ؛ إذ لو لم يجب لجاز أن يوجد معه تارة ويعدم أخرى. فتخصيص أحد الوقتين بالوجود يحتاج إلى مرجّح آخر. ولا يتسلسل ، بل ينتهى إلى مرجّح يجب معه صدور الفعل عنه ، فيكون اضطراريا لا اختياريا.

وحاصل جواب المحقّق وغيره عنها : انّ القادر من يصحّ عنه الفعل والترك قبل تحقّق الداعي إلى أحدهما - وهو الإرادة - ، وأمّا بعده فيجب الطرف الّذي تعلّق به الإرادة ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يحقّقه.

والوجه في عدم صحّة هذا الجواب أنّ / 70DA / الإرادة أيضا من المرجّحات الّتي يتوقّف تعلّقها بأحد الطرفين دون الطرف الآخر إلى مرجّح آخر ، وإذا نقلنا الكلام إلى ذلك المرجّح أيضا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى مرجّح ويكون صادرا منه باختياره.

والقول بانّ ترجيح المختار أحد المتساويين جائز - كما في طريق الهارب وقدحي العطشان - قد عرفت فساده.

والعجب انّ الأشاعرة مع قولهم بذلك - أي : ترجيح أحد المتساويين بل المرجوح أيضا ، ولذا قالوا بكفاية الإرادة في فعل الواجب تعالى من دون احتياج إلى مرجّح آخر - لم يقولوا به في قتل العبد. ولذا يرد عليهم النقض بفعل الواجب - تعالى - بأن يقال : لو تمّ دليلكم هذا لدلّ على انّ الواجب - تعالى - أيضا لا يكون موجدا لفعله بالقدرة والاختيار ، لأنّ ما ذكرتموه جار بعينه في حقّه - تعالى - أيضا. وما أجيب عنه بأنّ إرادة العبد محدثة فافتقرت إلى مرجّح آخر حتّى ينتهى إلى مرجّح يكون من عند الواجب بلا إرادة واختيار من العبد فيه دفعا للتسلسل في الارادات والمرجحات الّتي فرض صدورها منه ، وإرادة اللّه قديمة لا يفتقر إلى إرادة أخرى مدفوع بأنّه لا يدفع لزوم التسلسل المذكور. إذ نقول : لو لم يمكن الترك مع الإرادة القديمة كان الواجب موجبا لا قادرا مختارا ، وإن امكن فان لم يتوقّف فعله على مرجّح استغنى ما جاز فعله وتركه في اختيار أحد طرفيه عن المرجّح وإن توقّف عليه ننقل الكلام إليه.

ص: 327

فلا بدّ من الانتهاء إلى مرجّح يكون الفعل معه واجبا - دفعا للتسلسل - ، فيكون الفعل اضطراريا.

والظاهر انّ عدول الأشعري عن أصله من جواز الترجيح بلا مرجّح في فعل العبد وعدم اكتفائه بمجرّد الإرادة فيه مع قوله بذلك في فعل الواجب لجموده على الظواهر الواردة من الشريعة الدالّة على أنّ كلّ شيء مخلوق من اللّه - تعالى - ؛ وهي معارضة بمثلها - كما لا يخفى -.

وللأشاعرة شبهة أخرى اندفاعها ظاهر ، وهي انّ العلم علّة للحادث ومفيد لوجوبه ، فافعال العباد معلولة لعلم الواجب وواجبة باقتضائه.

ووجه الاندفاع : انّ اللّه - تعالى - كان عالما في الأزل بما يفعله العبد فيما لا يزال ، ولكن علمه به لا يخرجه عن كونه اختياريا للعبد ، كما انّ من أعطى عبده سيفا وهو يعلم ما يصنع به العبد والعبد صرفه في قتل نفس مثلا لا يخرج فعل العبد هذا بعلم سيّده به من كونه اختياريا للعبد ، لأنّ معنى الاختيار أن تكون للعبد قوّة فاعلية صالحة للفعل والترك يقال لها : القدرة ، وقوّة أخرى علمية مدركة للنفع والضرّ والنفع والشرّ في جانبي ما يقدر عليه ، وقوّة أخرى ارادية باعثة يطيعها في فعل العبد القوّة المسمّاة بالقدرة بحيث متى انبعثت الإرادة لفعل أو ترك بحسب ما ادركته النفس بقدرتها الادراكية اطاعتها تلك القوة ففعلت أو تركت. ومعلوم انّ ذلك أمر لا ينافيه علم اللّه - تعالى - بما يقع أو لا يقع من الطرفين ؛ فان حصل وجوب بعد تصوّر نفع محروم أو مظنون وانبعاث إرادة عازمة فذلك وجوب عارض لاحق لا ينافيه امكان سابق.

وهذا الجواب صحيح عند المعتزلة ، لأنّ العلم عندهم تابع للمعلوم.

وأمّا عند الحكماء فالظاهر عدم صحّته ، / 73MB / لأنّهم قالوا : انّ تعقّل الواجب لنظام الخير وبمثله وعلمه علّة لايجاده ، فوجود كلّ شيء عندهم معلول للعلم الواقعي الّذي عين ذاته ؛ فتأمّل!.

وممّا ذكرناه يعلم انّ حال تلك المسألة عجيبة - كما قاله فخر الدين الرازي - و

ص: 328

التفصي عمّا يرد على كلّ من المذاهب الّتي قيلت فيها مشكل ، إلاّ أنّا نعلم انّ ما هو الحقّ ويجب الاذعان به انّ المؤثّر بالذات ليس إلاّ الواجب بالذات ، لأنّ كلّ قدرة وقوّة حيثما كانت فائضة منه - تعالى - ، وهو ( الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) (1) والآثار كلّها تابعة للوجود وهو تابع للماهية وهي تابعة لجاعلها خارجة به من الليس إلى الأيس. فالوجود والشروط والأسباب والآلات و - بالجملة كلّما يتوقّف عليه وجود المعلولات عن الأفاعيل والحركات والسكنات وأصل القدرة والقوّة على كلّ فعل حتّى قوّة التخيل والتفكّر ونفس الإرادة كلّها - فائضة من مبدأ الموجودات. إلاّ أنّ القدرة لمّا كان شأنها ترجيح أحد الطرفين بمجرّد الإرادة بدون مرجّح آخر لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح بل مع مرجّح آخر وهو تصوّر / 70DB / نفع محروم أو مظنون ناش عن القوّة العلمية المدركة للنفع والضرّ. ومثل هذا المرجّح لا يفتقر حدوثه إلى مرجّح آخر ، لكونه حسنا في نفسه أو باعتقاد العبد وأصلح له في الواقع أو باعتقاده يكون هذا الاختيار - أي : اختيار أحد الطرفين - مع مرجّحه الّذي هو التصوّر المذكور من العبد. فلو قيل له : لم اخترت الايمان دون الكفر؟ ، فله أن يقول : لكون الايمان حسنا وأصلح ؛ ولو قيل له : لم اخترت الحسن والأصلح؟ ، فله أن يقول : لأنّ ذات الحسن والأصلح يقتضي ذلك ، إذ العاقل لا يختار القبيح وغير الأصلح. ولو قيل للكافر : لم اخترت الكفر؟ ، فله أن يقول : لأنّ نفسي لا يرضى بالتابعية والانقياد لغيري!. فلأن قيل : لم لا ترضى بذلك؟ ، فله أن يقول : لأنّ عدم التابعية مطلوب عندي ؛ وهنا ينقطع الكلام. ولو قيل للزاني : لم اخترت الزنا؟ ، فله أن يقول : لالتذاذ نفسي ، ولو قيل : لم اخترت الالتذاذ؟ ، فله أن يقول : لانّه مطلوب في نفسه. ولو قيل لتاركه : لم اخترت الترك؟ ، فله أن يقول : لأنّي خفت من العذاب. فالوجوب واللزوم انّما يحصل بحسن الفعل وصلاحه في ذاته أو باعتقاد العبد. فينقطع التسلسل ولا ينتهي إلى ما هو من عند اللّه ليلزم الجبر ، ولا إلى ما تقتضيه الماهية ليلزم الاشكالات الضعيفة المذكورة المشهورة. فثبت انّ جميع الأسباب والشرائط وبالجملة غير اختيار أحد الطرفين من

ص: 329


1- كريمة 50 ، طه.

عند اللّه - تعالى - ومجرّد الاختيار المذكور مع تخيّل ما تخيله من النفع أو الضرّ باختياره بعد حصول التمكّن والتملّك له بتمكين اللّه - تعالى - وتمليكه ايّاه. فلا جبر لتمكّنه وتملّكه ولا تفويض لتمكّنه وتمليكه.

وإلى ما ذكر نظر من قال : انّ الاسباب البعيدة كلّها من اللّه والقريبة من العبد ، كما اختاره المحقق الطوسى في شرح رسالة العلم حيث قال : الّذي ينظر إلى الاسباب الأوّل ويعلم أنّها ليست بقدرة الفاعل ولا بإرادته يحكم بالجبر ، وهو غير صحيح مطلقا ؛ لأنّ السبب القريب للفعل هو قدرته وارادته. والّذي ينظر إلى السبب القريب يحكم بالاختيار والتفويض ، وهو أيضا غير صحيح ؛ لأنّ الفعل لم يحصل باسباب كلّها مقدورة ومرادة له. فالحقّ ما قال بعضهم : لا جبر ولا تفويض ولكنّه أمر بين أمرين (1).

وإلى هذا يشير أكثر الظواهر الواردة من الشريعة ؛ ففي نهج البلاغة قال - علیه السلام - بعد ما سئل عن معنى « لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه » : انّا لا نملك مع اللّه شيئا ولا نملك إلاّ ما ملّكنا ، فمتى ما ملكنا هو ما املك به منّا نهضنا ومتى أخذه منّا وضع تكليفه عنّا راجع : نهج البلاغة ، الحكمة 404 ، ص 547 ، مع اختلافات يسيرة.. فمراده - علیه السلام - : انّ حصر الحول والقوّة فيه - تعالى - باعتبار أصل التمكين والتمليك ، وإلاّ فللعبد حول وقوّة بحوله وقوّته واقداره وتمكّنه ؛ فلا جبر لتملّكه ولا تفويض لتمليكه وقدرته على ما اخذ ما ملكه لكونه أملك به منه.

وفي بعض الأدعية المعصومية : اللّهم أنت كلّفتني من نفسي ما أنت املك به منّي وقدرتك عليه وعلى الاغلب من قدرتي (2).

وفي الصحيفة السجادية : اللّهم ومن الضعف خلقتنا وعلى الوهن نشأتنا ومن ماء مهين ابتدأتنا ، فلا حول لنا إلاّ بقوّتك ولا قوّة لنا إلاّ بقوّتك (3) ؛

ويظهر منه معنى قوله - تعالى - : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ

ص: 330


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 45.
2- راجع : بحار الانوار ، ج 98 ، ص 50.
3- راجع : الصحيفة السجادية ، الدعاء التاسع ، الفقرة 5 ، ص 87 ، مع اختلافات يسيرة.

اللّهُ ) (1).

بقي الكلام في أنّه لم يختار / 74MA / بعض الناس مرجّح الفعل ويتصوّره نفعا وبعض آخر مرجّح الترك ويتصوّره نفعا. ولم يختار بعضهم ما هو الخير والصلاح لهم في الواقع ويختار الآخرون ما هو الشرّ والفساد لهم في نفس الأمر؟ ، ولم يتصوّر هذا ما يدعوا إلى اختيار هذا ويتخيّل ذاك ما يدعوا إلى اختيار ذاك؟! ، وما الباعث في أنّ المؤمن يتصوّر حسن الايمان وصلاح التابعية والكافر يتصوّر قبح التابعية وحسن الطغيان؟ ، والزاني يختار لذّة العاجل وتارك الزنا يختار سعادة الآجل؟. ولا يخفى أنّ هذا شيء لا يمكن لنا علمه وليس لنا سبيل إلى دركه ، ولكن بحسب الاعتقاد انّه مستند إلى اسباب وأمور لا يوجب الجبر في التكليف وان لم نتمكّن من اثبات ذلك بالعقل.

وقد ظهر من ذلك أنّ المناط والحجّة في استناد حركات العباد إليهم بوجه آخر هو الضرورة والنقل ، دون البرهان والعقل.

وبذلك يظهر ضعف ما قيل : انّ البرهان العقلي قائم بأنّ الجواهر والاعراض المفارقة لذات الموجد ممّا هو مختصّ بالمبدإ الأوّل - تعالى - وهذا لا ينافي كون حركات العباد صادرة عنهم ، لأنّ مراده عن البرهان العقلي هو البرهان المنقول من بهمنيار ، وهو لو تمّ كان دالاّ على أنّ ايجاد كلّ موجود افاضة - أي : وجود كائن جوهرا أو عرضا مفارقا أو ماديا - مختصّ بالواجب بالذات وليس في منّته بما هو ممكن ما من الممكنات افاضة / 71DA / الوجود على ممكن آخر. وقد تقدّم أيضا في ادلّة اثبات الواجب انّ ممكنا من الممكنات لا يمكن أن يكون منشئا لوجوب الممكنات.

ثمّ إنّ بعض الأعلام قد علّل تقييد الاعتراض بالمفارقة وجواز ايجاد غير الواجب للاعراض الغير المفارقة لذاته ليترتّب عليه صحّة صدور أفعال العباد عنهم ، بأنّ المطلوب استثناء الحركة وجواز كون موجدها غير الواجب ممّا له معنى بالقوّة ، لأنّ مبدأ الحركة ليس مفيدا لوجود أمر بالفعل حتّى يجب أن يكون بريئا عن معنى ما بالقوّة ، فانّ الحركة - بمعنى كون الشيء بين المبدأ والمنتهى - على ما استقرّ عليه رأي

ص: 331


1- كريمة 188 ، الاعراف.

المحصلين : كمال أوّل لما بالقوّة من جهة ما هو بالقوة ، إذ المتحرّك ما دام في أوّل المسافة ساكن فهو متحرّك بالقوّة وواصل إلى القوّة بالغاية ، فاذا تحرّك حصل له كمال وفعل أوّل وبه يتوصّل إلى كمال وفعل ثان هو الوصول إلى الغاية ، لكن ما دام له ذلك الكمال فهو بعد بالقوّة. فهي حالة ما بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل. ولذلك لا يكون فاعلها القريب إلاّ شيء فيه قوّة من جهة وفعلية من جهة ، كما أنّ موضوعها أيضا يجب أن يكون كذلك. وامّا الأمر المتّصل المعقول المتحرّك بين المبدأ والمنتهى المسمّى بالحركة بمعنى القطع فذلك لا وجود له البتة بالفعل إلاّ في الذهن. هذا محصّل ما قال بهمنيار في التحصيل في فصل تحديد الحركة (1).

وبه يظهر معنى ما قيل : انّ البرهان الدالّ على أن لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه لا ينافي كون حركات العباد صادرة عنهم ، ويندفع ما قيل : انّه لو تمّ لدلّ على أنّ فاعل حركات العباد أيضا هو اللّه. لأنّه قد ثبت انّ مبدأ الحركة لا يلزم أن يكون بريئا من معنى ما بالقوة ، لأنّ اللازم أن لا يكون ما فيه معنى ما بالقوّة علة لوجود أمر له فعلية الوجود ، والحركة ليست ما له فعلية الوجود لكونها حالة بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل فعليّتها لا يلزم أن يكون بريئة من معنى ما بالقوّة من جميع الجهات - كما هو معلوم من حال المتحرّك من ثبوت قوّة له ما لم يبلغ إلى المنتهى -. وكلّ فعل يصدر عن العباد نوع حركة ، فيجوز أن تكون أفعال العباد صادرة عنهم ، فما دلّ عليه البرهان من أنّه لا يجوز أن يكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوة مخصوص بعلّة وجودها ، وما سوى الحركة من الجواهر والاعراض المفارقة الّتي لها فعلية الوجود ؛ انتهى.

وهذا القائل ادّعى انّ ما ذكره مستفاد من كلام الشيخ الرئيس في أوّل سادسة إلهيات الشفاء حيث قال : انّا نعني بالفاعل العلّة الّتي تفيد وجودا مباينا لذاتها ، أي : لا تكون ذاتها بالقصد الأوّل محلاّ لمّا يستفيد منها وجود شيء يتصوّر حتّى يكون في ذاته قوّة وجوده. وذلك لأنّ الإلهيين ليسوا يعنون بالفاعل مبدأ التحريك فقط - كما

ص: 332


1- راجع : التحصيل ، الفصل الثاني عشر من المقالة الثانية من الكتاب الثاني ، ص 418.

يعنيه الطبيعيون - ، بل مبدأ الوجود ومفيده مثل الباري للعالم. وأمّا العلّة الفاعلية الطبيعية فلا تفيد وجودا غير التحريك بأحد انحاء التحريكات ، فيكون مفيد الوجود / 74MB / في الطبيعيات مبدأ حركة (1) ؛ انتهى.

ووجه استفادة ما ذكر من الكلام المنقول من الشيخ انّه قال : انّا نريد من الفاعل العلّة الّتي تفيد وجودا مباينا لذاتها ، فلا يجوز أن تكون العلّة محلاّ لشيء يستفيد ذلك الشيء من تلك العلّة وجوده ويتصوّر تلك العلّة بذلك الشيء - أي : يكون ذلك الشيء صورة لها -. فيكون لفظ « شيء » بدلا عن الضمير الراجع إلى كلمة « ما ».

وقوله : « يتصوّر به » صفة لقوله : « محلاّ » وزيادة توضيح له. ويكون الحاصل : انّ العلّة لا يجوز أن تكون محلاّ لفعلها ومعلولها إذا كان هذا المعلول مستفيدا وجوده منها ، والمحلّ يتصوّر بهذا المعلول. وعلّل عدم الجواز بأنّ كون العلّة محلاّ لفعلها الّذي يصير صورة لها يوجب أن يكون في ذات العلّة والمعلول قوّة وجود نفسه ، لأنّ هذا المعلول من حيث هو صورة للعلّة يكون جزء لها ، فيكون للعلّة قوّة وجود جزئها وللمعلول الّذي هو هذا الجزء قوّة وجود نفسه من حيث انّه جزء العلّة. وعلى هذا يكون غرض الشيخ أنّ الفاعل لا يجوز أن يكون محلاّ لفعله بشرط أن يكون هذا الفعل صورة له لا عرضا ، فلا مانع من كون الفاعل محلاّ لما هو عرض له. ويمكن ان يكون يتصوّر به ويتحقّق به ويكون الفاعل هو الشيء الّذي هو عبارة عن الفعل ؛ والضمير المجرور راجعا إلى العلّة.

وفي بعض النسخ : « يتصور / 71DB / بها » - بتأنيث الضمير - ، فيكون هذا التوجيه أظهر.

وعلى هذا يكون مراد الشيخ : انّ الفاعل لا يجوز أن يكون محلاّ لفعله مطلقا سواء كان هذا الفعل صورة له أو عرضا يتحقّق هذا الفعل به ، فلو كان محلاّ له يلزم أن يكون في ذاته قوّة وجوده ، فيجب أن يكون الفاعل مفيدا لوجود مباين عن ذاته. ثمّ صرّح بأنّ الفاعل في عرف الإلهيين كذلك - أي : مبدأ للوجود المباين ومفيده -. وأمّا الطبيعيون فالفاعل عندهم هو مبدأ الحركة والحركة - لكونها قائمة بمبدئها - ليست أمرا مبائنا عنه ، ففي عرف الطبيعيين تكون الحركة معلولة للمتحرّك ؛ فيظهر منه جواز استناد الحركات

ص: 333


1- راجع : الشفاء / الالهيات ، ج 2 ، ص 257.

بانحائها إلى غير الواجب من المتحرّكات. وعلى التوجيه الأوّل يظهر من عبارته الأولى أيضا جواز كون المحلّ فاعلا لما هو عرض له ، لا صورة له. وعلى أيّ حال يثبت من كلام الشيخ استناد الحركات والأعراض ممّا يثبت من البرهان من أنّه لا يجوز أن تكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوّة.

هذا هو توضيح كلام الشيخ ووجه استفادة ما ذكره القائل من كلامه.

وقد أورد على ما ذكره هذا القائل أبحاث :

الأوّل : انّ الاستشهاد بكلام الشيخ هنا ممّا لا وجه له ، لأنّ مراده ليس استثناء الحركة ؛ بل غرضه : انّ المراد بالفاعل ليس مبدأ التحريك فقط - كما هو اصطلاح الطبيعيين - ، بل مبدأ الوجود مطلقا. وتقييد « الشيء » في تعريف الفاعل بكونه مبائنا لذاتها بالمعنى الّذي ذكره انّما هو لاخراج الموضوع عن تعريف الفاعل من حيث هو موضوع ، وإلاّ فالفاعل للحركة من حيث هو فاعل لها داخل في الفاعل عنده. كلّ ذلك يظهر بالتأمّل في كلامه ممّا نقل وممّا لم ينقل.

والحاصل انّ مراد الشيخ : انّ الفاعل عند الإلهيين اعمّ من الفاعل عند الطبيعيين ، لأنّ الإلهيين يعنون بالفاعل مفيد الوجود سواء كان وجود الحركة أو وجود غيرها ، وتقييد الوجود المفاد بالمبائن ليخرج الهيولى والموضوع من حيث أنّهما هيولى وموضوع. وأمّا عند الطبيعيين مخصوص بمبدإ التحريك. ولا يدلّ كلامه على أنّ مبدأ الحركة يجوز أن يكون فيه معنى ما بالقوّة ، بل هو مثل سائر الفاعلين من عدم جواز كونه ممّا له معنى ما بالقوّة ، فهو إمّا الواجب - تعالى - أو الجهة المستندة إليه ، الّتي ليس فيها شائبة العدم والقوّة.

والثانى : انّ ما ذكره من أنّ الحركة ليست أمرا بالفعل الوجود (1) حتّى يجب أن يكون فاعلها بريئا من معنى ما بالقوّة غير صحيح ، بل الحركة التوسطية أمر يتحقّق في كلّ آن فرض في اثناء الحركة بالفعل. نعم! يتوصّل به إلى كمال آخر هو الوصول إلى الغاية ، وهو بالقوّة. وإذا كان امرا بالفعل فلا يجوز أن يكون فاعله أمرا بالقوّة.

ص: 334


1- كذا في النسختين.

والثالث : انّه إذا جاز أن يكون فاعل ما فيه جهة فعلية وجهة قوّة أمرا مثله ، فيجوز أن يكون الممكن أيضا فاعلا لممكن آخر من الجواهر والأعراض / 75MA / المفارقة أيضا ، إذ في كلّ منها جهة قوّة وجهة فعلية.

والرابع : انّ ما ذكره من أنّ الحركة القطعية لا وجود لها إلاّ في الذهن ممّا لا دليل عليه ، بل الحقّ جواز كونها موجودة في الخارج ، لكنّها على سبيل التدريج ، ولا وجه لانكار وجودها في الخارج ، والقول بوجودها في الذهن ؛ إذ في شيء من الذهن والخارج لا يمكن أن يوجد دفعة ، فلو جاز الوجود على سبيل التدريج لجاز في الخارج أيضا ، وإلاّ فلا يعقل في الذهن أيضا. نعم! ما ذكره في الحركة التوسطية من كونه أمرا بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل لو قيل في الحركة القطعية لكان له وجه.

والحقّ إنّ هذا الايراد خلاف التحقيق ، لأنّ وجود الحركة القطعية غير محقّق ؛ والحقّ عدم وجودها - كما ذهب إليه اساطين الحكمة -. وتحقيق ذلك موكول إلى موضع آخر.

والخامس : انّه إذا جاز أن يكون موجد الحركة هو الممكن فلا يندفع حديث الواسطة ، إذ يجوز حينئذ أن يوجد الواجب على سبيل الايجاب مجرّدا قديما اختار هذا المجرّد بقدرته وارادته وعلمه الحركة في وقت معيّن واختار هذا الوقت وقتا للحركة لتكون تلك الحركة شرطا لايجاد الواجب العالم على سبيل الايجاب ، فلا يثبت اختيار الواجب.

وأنت تعلم إنّ هذا الاحتمال ضعيف ، لأنّ الحركة لا يمكن وجودها بنفسها ، بل لا بدّ لها من محلّ جوهريّ يقوم به ، فاختيار مجرّد تلك الحركة في وقت خاصّ إن كان لمجرد تعلّق علمه وارادته بأن يوجدها الواجب في ذلك الوقت بمحلّها فيكون مجرّد علم / 72DA / الغير شرطا لتأثير الواجب ، وقد تقدّم هذا الاحتمال مع ما فيه. مع أنّه لا يتوقّف على جواز صدور الحركة من الممكن وقد علّق عليه هنا.

وإن كان المراد باختياره الحركة هو ايجادها بمحلّها ، ففيه : انّ الفرض عدم جواز صدور غير الحركة من الممكن. وإن كان الواجب يوجد المحلّ وهذا المجرّد يوجد فيه

ص: 335

الحركة ، ففيه : انّ الفرض كون تلك الحركة شرطا لايجاد الواجب ؛ وعلى هذا التقدير يكون المحلّ متقوّما. وبذلك يظهر انّ تسليم جواز استناد الحركات والأفعال إلى الممكن لا يصير منشئا لثبوت الواسطة المذكورة ، إذ من يدّعي ثبوتها يدّعي استناد العالم الجسمانى إليها وهو مركّب من الجواهر والأعراض المادية المباينة بالنسبة إلى تلك الواسطة المجرّدة. فاذا كان مجرّد عدم جواز صدور الجواهر والاعراض المباينة عن الممكن مسلّما بطل حديث الواسطة وإن جاز صدور الاعراض الغير المباينة عنه. وبالجملة بطلان الواسطة المفروضة ممّا لا ريب فيه ؛

ولو سلّم عدم تمامية الوجه الأخير الّذي عوّل عليه الأكثر لما أورد عليه من جواز استناد المعلول إلى الجهة المستندة إليه - تعالى - ، لتمامية باقي وجوه السابقة. وبه يظهر صحّة الاستدلال بحدوث العالم الجسماني على قدرة الواجب - تعالى - بأيّ معنى كان من المعانى الثلاثة.

تتميم

قول الحكيم الطوسي في التجريد : والواسطة غير معقولة (1) ، اشارة إلى نفي تلك الواسطة كما صرّح به في نقد المحصّل ، فانه قال فيه بعد نقل الاعتراض الّذي ذكرناه على الاستدلال بالحدوث على القدرة من امكان الواسطة المعروضة : والمعتمد في ابطالها أنّ الواسطة يمتنع أن يكون واجبة الوجود لامتناع أن يكون الواجب أكثر من واجب ، فاذن هي ممكن وهي من جملة العالم - لأنّ المراد من العالم ما سوى المبدأ الأوّل - ، فاذن وقوع الواسطة بين الواجب الوجود لذاته وبين العالم محال (2) ؛ انتهى.

وتوجيه الشارح الجديد لتلك العبارة (3) موافق لمّا في نقد المحصّل. وقد ذكروا لها توجيهات أخر مذكورة في بعض الحواشي بعيدة عن الحقّ غير مستحقّة للذكر. وما لا بأس منها نذكره :

ص: 336


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 217.
2- راجع : نقد المحصّل ص 275.
3- راجع : الشرح الجديد ، ص 310.

ما ذكره بعض المتأخّرين من أنّ المراد بالواسطة هي الحركة السرمدية الّتي جعلها الفلاسفة واسطة في صدور الحوادث. فالمحقّق لمّا استدل بحدوث العالم على نفي الايجاب أشار إلى ابطال ما استند به الخصم في تصحيح الايجاب والقدم - أعني : الحركة القديمة وكونها واسطة بين الواجب والحوادث -.

وإذ ظهر ثبوت القدرة بالمعانى الثلاثة للواجب - تعالى شأنه - فاعلم! : انّ للمنكرين لها شبها على نفيها ، فلنذكرها ولنشير إلى كلّ شبهة تنفي القدرة بأيّ معنى ، ثمّ تأتي بالجواب على وجه لا تبقى شبهة ولا ارتياب!.

الشبهة الاولى : انّ القدرة على الشيء بمعنى صحّة الفعل والترك محال ، لأنّها يقتضي امكان صدور الأثر عن المؤثّر ، لكن صدور الأثر عن المؤثّر إمّا واجب أو ممتنع لا يخلوا عن أحدهما قطّ ، لأنّ المؤثّر إن استجمع جميع شرائط التأثير وجب صدور الأثر - لامتناع تخلّف / 75MB / الأثر عن المؤثر التامّ - ، وإن لم يستجمع جميع شرائط التأثير امتنع وجود الأثر. وأنت تعلم انّ هذه الشبهة انّما تناسب نفى الاختيار بالمعني الثاني - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - ، ونفي الاختيار بالمعنى الرابع الّذي تفرّد باثباته الأشعري - أعني : امكان الفعل والترك ولو في آن الحدوث وعند تحقّق الداعي - ، ولا يبقي الاختيار بالمعنى الأوّل - أي : صدور الفعل بالمشية والعلم - وهو ظاهر. ولا الاختيار بالمعنى الثالث ، إذ وجوب التأثير عند استجماع الشرائط وامتناعه عند عدمه لا ينافي حدوث العالم الّذي يرجع إليه معنى الاختيار بالمعنى الثالث ، إذ لعلّ وقت الحدوث استجمع الشرائط ووجب الحدوث وقبله ليس يستجمع وامتنع.

فان قيل : القدرة الملزومة للحدوث - أعني : القدرة بالمعنى الثالث المختصّة بالمتكلّم - اخصّ من القدرة بالمعنى الثاني الّذي هو متّفق عليه بين المتكلّم والحكيم ، فاثبات القدرة بالمعنى الثالث ملزوم اثبات المعنى المتّفق عليها ، ونفيها لازم نفيه. فان كانت تلك الشبهة نافية للقدرة بالمعنى المتّفق عليه - أي : الامكان بالنظر إلى الذات - كانت نافية للقدرة بالمعنى الثالث ، إذ نفى الأعمّ يستلزم نفي الأخصّ ؛

ص: 337

قلنا : انّ القدرة بالمعنى الثالث ليس أخصّ مطلقا من المعنى الثانى ، بل من وجه - كما لا يخفى - ؛ فلا يلزم من / 72DB / نفي المعنى الثاني نفي المعنى الثالث أيضا ؛ وهو ظاهر.

ثمّ هذه الشبهة غير مختصّة بنفي قدرة الباري - تعالى شأنه - ، بل هي جارية في أفعال الانسان أيضا - كما لا يخفى - ؛ وغير مختصّة بالقول بعينيّة الصفات ، بل هي ترد على القائلين بزيادة الصفات أيضا. لانّه اذا كان الواجب قديما وكانت الإرادة أيضا قديمة لزم قدم المراد ، فيلزم نفي القدرة بالمعنى الثالث. والجواب الجواب. نعم! ، على القول بزيادة الصفات لا تناسب تلك الشبهة لنفي القدرة بالمعنى الثاني - كما لا يخفى -.

والجواب عن تلك الشبهة : بأنّ الإرادة وإن كانت قديمة إلاّ أنّ التعلّق حادث ، ضعيف لأنّه مستلزم للتسلسل في التعليقات أو الترجيح بلا مرجّح. نعم! ، يمكن أن يقال في الجواب : انّه على تقدير زيادة الإرادة إن قيل بحدوثها - كما هو مذهب بعض المعتزلة والكرامية - فلا اشكال ؛ وإن قيل بقدمها - كما هو مذهب الأشاعرة - فلا يرد عليهم ايراد ، لأنّهم لا يقولون بالوجوب حتّى يرد عليهم لزوم القدم ، فالايراد مختصّ بالقائلين بالعينية.

وجوابها : انّ امكان صدور الأثر باعتبار القدرة وحدها مع قطع النظر عن اعتبار الإرادة ، ووجوبه باعتبار الإرادة ، وهذا ما يقال : انّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحقّقه ، لان الوجوب بالاختيار فرع الاختيار. ولأنّ القادر هو الّذي إذا أراد الفعل مثلا وجب صدوره عنه ، إذ لو امكن عدمه بعد ارادته لم يكن قادرا عليه ، فالوجوب بسبب الإرادة لا ينافى الاختيار ، بل لا بدّ في الاختيار منه. وبالجملة فالقادر هو الّذي يصحّ منه أن يفعل بأن يريد الفعل فيجب الفعل ، وأن يترك بأن يريد الترك أو لا يريد الفعل فيجب الترك.

فقول مورد الشبهة : « إن استجمع شرائط التأثير وجب صدور الاثر » إن اراد به وجوب صدور الاثر بالنظر إلى ذات القادر مع قطع النظر عن ارادته ، وإن أراد به وجوب صدور الأثر بالنظر إلى مجموع الشرائط - أعني : الذات مع كونه قادرا مريدا - ؛

ص: 338

قلنا : ممنوع ، لكن لا يضرّنا فانّا ندّعي امكان صدور الأثر بالنظر إلى ذات القادر مع قطع النظر عن ارادته.

وإن أراد به وجوب صدور الأثر بالنظر إلى ما سوى الإرادة من الذات وباقي الشرائط ؛

قلنا : ممنوع ، والسند ظاهر. وإلى هذا الجواب أشار المحقّق الطوسي بقوله : ويمكن عروض الوجوب والامكان للاثر باعتبارين (1) ؛ أي : تعرض الوجوب للأثر باعتبار الإرادة وتعرض الامكان له باعتبار عدم اعتبار الإرادة. وقد اشار إلى هذا الجواب أيضا وإلى تفسير القدرة والايجاد في شرح رسالة العلم حيث قال : وفرق بين القدرة والايجاد والتأثير ، فانّ القدرة لا يقال إلاّ عند كون المؤثّر بحيث يصحّ عنه التأثير والايجاد والتأثير. نعم! ذلك يشمل كون الموجد أو المؤثّر بحيث يجب عنه الايجاد والتأثير. وإذا لوحظ الايجاد من غير اعتبار العلم والإرادة فالاولى أن يوصف بالقدرة ، فانّ الايجاد عنده يصحّ ، وعند اعتبار العلم والإرادة يجب (2).

ويمكن أن تقرّر الشبهة المذكورة مع جوابها بتقرير أوضح ، وهو : انّ القدرة على الأثر فرع امكان ذلك الأثر ، وامكانه محال ، لأنّ ذلك / 76MA / الأثر إمّا يجب وجوده أو يمتنع ، لأنّ الفاعل إن كان مستجمعا لجميع شرائط التأثير فالاثر واجب وإن لم يكن مستجمعا فالأثر ممتنع الوجود ، فلا يتحقّق امكان الأثر حتّى يصحّ القدرة عليه ؛

والجواب : انّ الأثر ممكن بالنظر إلى ذات القادر وواجب بالنظر إلى استجماع الشرائط وممتنع بالنظر إلى عدم استجماعها ، والامكان الذاتي لا ينافي الوجوب والامتناع القريبين ، والتنافي إنّما هو بين الامكان الذاتي والوجوب والامتناع الذاتيين.

فان قيل : إذا كان الأثر واجبا بالارادة والإرادة عندكم عين الداعي وعين العلم بالأصلح والذات فلا يمكن انفكاك الذات عن المراد ويكون الأثر واجبا بالنسبة إلى الذات ، فتنتفى القدرة بالمعنى الثاني والثالث ، ويتحقّق الايجاب المقابل لهما. فانّ

ص: 339


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الأولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 218.
2- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 41.

الإرادة وغيرها من الصفات الكمالية إذا كانت عين ذات الواجب عند الحكماء والمعتزلة كانت الذات والقدرة والإرادة والعلم بالأصلح - وبالجملة جميع ما يتوقّف عليه وجود العالم - قديما ، لأنّ جميع تلك الصفات عين الذات والذات موجودة في الأزل ، فيلزم منه قدم العالم ، / 73DA / لأنّ الذات مع الإرادة الّتي هي عينها علّة تامّة للعالم وانفكاك العلّة عن المعلول محال ، فالحكم بانفكاك إرادة الواجب - تعالى - مع كونها أزلية غير زائدة على الذات عن وقوع متعلّقها ووجود مرادها وبعدم صدور الفعل عنه - تعالى - في الأزل - اللازم لمعنى القدرة المتنازع فيها ، كما هو مذهب المتكلّمين - باطل ، ويلزم منه ثبوت الايجاب الملزوم له ونفي القدرة بالمعني الثالث - أي : الملزومة للحدوث -.

ولمّا وجب الفعل بالإرادة والإرادة عين الذات فيجب الفعل بالنظر إلى الذات فتنتفي القدرة بالمعنى الثاني أيضا. والحاصل : انّ الوجوب بالاختيار والإرادة الّتي غير زائدة على الذات ينافي القدرة والاختيار الّذي هو مراد المتكلّمين - أعني : القدرة بالمعنى الثاني والثالث -. نعم! الوجوب والاختيار والإرادة الّتي هي غير زائدة لا ينافي القدرة والاختيار والإرادة على تفسير الحكماء - أعني : القدرة بالمعنى الأوّل - بمعنى انّه ان شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ، لكنّه شاء في الأزل ففعل فيه بالعلم والمشية القديمة الّتي هي غير زائدة على الذات. ولا على العلم بالنظام الأعلى ، فانّ مقتضى الإرادة الموجبة ليس وجود العالم مطلقا حتّى يمتنع بها الانفكاك مطلقا ، بل هو وجوده على النحو الخاصّ - : وهو النحو الأصلح بحاله - ، فيمتنع انفكاك المراد على ذلك النحو عن الذات بان يوجد عنه على غير ذلك النحو أو لا يوجد على ذلك ، فانفكاك الذات عن المراد بان يوجد الذات في الأزل ولا يكون الوجود الأزلي للفعل هو مقتضى الإرادة والأصلح بحاله. فلا يمتنع بالذات ولا علّة لامتناعه. والغرض انّ متعلّق ارادته - تعالى - ومراده - سبحانه - هو ايجاد الحادث على النحو الّذي هو الاصلح ، لأنّ مرجّح أصل ايجاد الحادث وحدوثه في الوقت الّذي حدث إنّما هو العلم بالأصلح ، فالمعلول المراد الّذي تعلّق به العلم بالأصلح هو الحادث في وقت معيّن لا القديم الأزلي ،

ص: 340

لأنّه لم يتعلّق به العلم بالأصلح حتّى يلزم وجوده في الازل. والحاصل : انّ الاصلح بحال المعلول انّما هو الوجود الحدوثي فقط - نظرا إلى تعلّق العلم بالاصلح به - دون الوجود الازلي لعدم تعلّق العلم بالاصلح به ، فلمّا تعلّق العلم بالاصلح بنفس ايجاده فوجوب وجوده حينئذ لهذا السبب - أي : لكون أصلحية ايجاده - ، لا لوجوبه بالنظر إلى ذات الفاعل. فالوجوب إنّما نشأ من جانب المعلول ، فلا ينافي ثبوت القدرة بالمعنى الثانى ، ولا يلزم منه الايجاب المقابل لها. ولمّا تعلق - أي : العلم بالأصلح - بايجاده في وقت خاصّ - أي : كان الايجاد في الوقت الّذي وجد أصلح بحاله كما تعلّق العلم - حصل الانفكاك وانتفى الايجاب بالمعنى الثالث ، وإن تحقّق الايجاب بمعنى استحالة انفكاك الحادث على النحو الواقع عن الإرادة الّتي هي غير زائدة على الذات والعلم بالاصلح. وهذا الايجاب قد قال به أهل التحقيق من المعتزلة وغيرهم - كما مرّ -. وإلى ما ذكرناه من الجواب أشار بعض الأفاضل حيث قال : التحقيق انّ التخلّف المحال هو التخلّف عن مقتضى العلّة ، واللازم ممّا ذهب إليه أهل الاختيار من تحقّق العلّة التامّة في الأزل بدون معلوله هو التخلّف عن ذات العلّة ، واستحالته ممنوعة ، والدليل انّما يفيد الأوّل دون الثاني - كما لا يخفى -.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب وإن ارتفع به الايجاب بالمعنيين المذكورين إلاّ أنّه لمّا ظهر منه انّ الوجوب انّما نشأ من الأصلحية بحال المعلول فينافي الداعي وملاحظة الأصلح والأحسن في فعل الباري ، وهو مستلزم لثبوت الغرض / 76MB / في فعله. -

فثبوت القدرة بالمعنى الثاني مع وجوب الفعل لا ينفكّ عن جريان الغرض في فعله - تعالى ، كما مرّ ذلك مفصّلا -. وقد أشرنا إلى أنّ دعوى الأكثر اجماع الحكماء على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى - مع اتفاقهم على نفي الغرض عن فعله - تعالى - لا يخلوا عن مسامحة. وقد تقدّم أيضا انّ القول بامكان الصدور واللاصدور ينافي ما استقرّ عليه آراء الفلاسفة بانّه ليس في الواجب جهة امكانية. قال بعض الأعلام ممّن صحّ عنده أكثر قواعد الحكمة : انّ للقدرة تعريفين مشهورين أحدهما صحّة الفعل ومقابله - أعني : الترك - ، وثانيهما : كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل. و

ص: 341

التفسير الأوّل للمتكلّمين والثاني للفلاسفة. ومن أفاضل المتأخّرين من ذهب إلى المعنيين متلازمين بحسب المفهوم. والتحقيق انّ من أثبت المعنى الثاني يلزمه اثبات المعنى الأوّل ، وذلك لأنّ الفاعل إذا كان بحسب نفس ذاته بحيث إن شاء فعل وان يشاء لم يفعل كان لا محالة من حيث ذاته مع عزل النظر عن المشية واللامشية يصحّ منه الفعل والترك وان كان يجب منه الفعل وجب المشية والترك إذا وجب اللامشية ، ودوام الفعل ووجوبه من تلقاء دوام المشيّة ووجوبها لا ينافى صحّة الترك على تقدير اللامشية ، وكذلك قياس مقابله في الاعتبارين.

اقول : فيما ذكره خلط وخبط ، فانّ الصحّة والجواز في الفعل ومقابله مرجعها الامكان الذاتي وقد استحال عند الحكماء أن يتحقّق في واجب الوجود ؛ ولا منه جهة امكانية ، لأنّ هناك وجودا بلا عدم ووجوبا بلا امكان وفعلية بلا قوّة ، انّما يجوز هذه التناقض عند من يجعل صفاته زائدة على ذاته - كالأشاعرة - ، أو يجعل الداعي على صنعه وايجاده أمرا مبائنا ، فيكون ذاته بذاته مع قطع النظر عن الزوائد - صنعة كانت أو داعيا - كان جائز المشية واللامشية صحيح الفاعلية واللافاعلية. وأمّا عند من وحّده وقدّسه عن شوائب الكثرة والامكان فالمشية المتعلّقة بالجود والافاضة عين ذاته بذاته بلا تغاير بين الذات والمشية لا في الواقع ولا في الذهن ، فالذات هي المشية والمشية هي الذات بلا اختلاف حيثية تقييدية أو تعليلية. فصدق القضية الشرطية القائلة : إن شاء فعل ، لا ينافي وجوب المقدّم وضرورة العقد الحملى له ضرورة ارادته دائمة (1). وكذا الشرطية القائلة : إن لم يشاء لم يفعل ، لا ينافي استحالة القدم استحالة ذاتية وضرورة تقتضيه ضرورة ازلية نعلم انّ التفسير الثاني صادق عند الحكماء دون التفسير الأوّل ولا يمكن التلازم بين التفسيرين إلاّ في القادر الّذي تكون ارادته زائدة على ذاته. وأمّا الواجب - جلّ اسمه - فلكونه في ذاته تامّا فوق التمام قيّد أنّه البسيط الحقّة يفعل بالفعل لا بمشية زائدة ولا بهمّة عارضة لازمة أو مفارقة ، فهو بمشيته وعلمه وحكمته الّتي هي عين ذاته يفيض الخير ويجود النظام ويصنع الحكمة ؛ وهذا أتمّ انحاء

ص: 342


1- كذا في النسختين.

القدرة وأفضل ضروب الصنع والافاضة!. وليس يلزم من ذلك جبر في فعل النار في احراقها وحال الماء في تبريده وفعل الشمس في إضاءتها حيث لا يكون لمصدر هذه الأفاعيل شعور ولا مشية ولا استقلال من فواعلها ، لأنّها مسخّرات بأمره - تعالى - وكذلك قال المختار غير اللّه في افعالهم فان كلا منهم في ارادته مقهور مجبور ، وأنّ أوّل الداعي والمرجّحات يضطرّ في الارادات الجسمية عن الاعراض مشكل لها ؛ انتهى (1)

وما ذكره هذا الفاضل موافق لقواعد الفلاسفة ، إلاّ أنّ الحقّ انّ ملاحظة الأصلح والأحسن وتعلّق العلم بهما والايجاد على ما يقتضيه ممّا لا ريب فيه. ولكن مذهب محقّقي المعتزلة - كالمحقّق الطوسي وغيره - انّ ملحوظ الفاعل المختار في الايجاد وحال المعلولات ؛ ولذا قالوا انّها حادثة ، لأنّ الأصلح بحال المخلوقات الحدوث. ومذهب الحكماء انّ ملحوظ الفاعل المختار في الايجاد حال الايجاد ، وقالوا : اتمّ انحاء التأثير والايجاد واكملها هو الدوام ، فالفريقان متفقان على كون الوجه الأكمل الأحسن ملحوظا للفاعل. وبالجملة ما يقتضيه الحقّ انّ الواجب - تعالى - مع كونه قادرا مختارا بمعنى امكان صدور الفعل / 73DB / والترك عنه بالنظر إلى ذاته تعقّل النظام الأكمل بذاته / 77MA / لكون ذاته علّة بذاته لهذا التعقّل. والأكملية صارت منشئا لوجوب الصدور ، لأنّ المستعدّ للصدور هو الأكمل دون غيره وإن لم يكن في الذات اقتضاء خصوصية ذلك الفعل.

قال بعض المشاهير : إن قلت : إذا كان فاعلية الفاعل لفعله وعلمه بذلك نفس ذات الفاعل لا يمكن صدور مقابل ذلك الفعل عنه ، فلم يكن قادرا على هذا الفعل ، إذ قد اعتبر في القدرة أن يكون تعلّقها بالطرفين سواء ؛

قلت : الملازمة ممنوعة ، فانّ صدور ذلك الفعل عنه بواسطة انّه يستعدّ لصدوره عنه ، دون مقابله ، لأنّه اكمل من مقابله ؛ لا بواسطة انّ ذات الفاعل يستدعي خصوصية ذلك الفعل حتّى لو كان مقابله أكمل منه لصدر عنه ويكون فاعليته وعلمه بذلك نفس ذاته.

ص: 343


1- كذا هذه السطور في النسختين.

ثمّ لا يخفى انّ الموجب لوجود العالم في الوقت الّذي وجد ليس مجرّد العلم بأصلحية هذا الوقت وكون النظام حينئذ أكمل واعلى ممّا إذا وجد في غيره ، لمّا تقدّم من أنّه يلزم حينئذ أن يكون للوقت مدخلية في الأصلحية والأكملية ، فيتوقّف الايجاد حينئذ على حضور ذلك الوقت وننقل الكلام إليه ونطالب عليه تخصيص حضوره ، وحينئذ فيتوقّف على التزام وقت آخر وهكذا ، فيلزم التسلسل. فمن قال بالزمان الموهوم والتزم التسلسل على التعاقب مطلقا أو فيه لعدم وجوده يمكن له أن يجعل الموجب لحدوث العالم في الوقت الّذي وجد هذا الوقت وتعلّل حضوره وحدوثه في الوقت الّذي حدث بما تقدّم عليه من الجزء الوهمي للزمان ، لتوقّف حدوثه على مقتضى هذا الجزء ، وتعلّله بما تقدّمه من جزء آخر وهكذا إلى غير النهاية. وأمّا من لم يقل بالزمان الموهوم فليس له أن يقول بكون آن الايجاد موجبا ومنشئا للأصلحية ، بل الموجب عندهم هو عدم وقت قبل وقت الحدوث مع علمه - تعالى - بأصلحية الحدوث في الوقت الّذي لا وقت قبله - كما مرّ -.

فان قيل : ما الباعث لعدم الوقت قبل وقت الحدوث مع انّه يمكن أن يكون الوقت قبل ذلك ، وكونه ازليا ؛

قلت : الباعث لذلك اقتضاء الوقت في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته ذلك. ويمكن أن يعلّل تخصيص الايجاد بالوقت التقديري الّذي وجد العالم فيه بذات العالم وحقيقته ومرتبة وجوده من غير تمسّك بالوقت مطلقا ، لأنّ الوقت متأخّر ذاتا عن وجود العالم ، لأنّ تحقّق الوقت انّما هو بحدوث العالم الجسماني وحصول الحركة الدورية ، فقبل ذلك لا يكون وقت. فاختصاص حضور الوقت والزمان في آن حضورهما لتوقفهما على حدوث العالم الجسماني ، فالتخصيص فيهما معلّل به ، فانّ وجه تخصيص حدوث العالم الجسماني بالوقت التقديري الّذي حدث فيه - أعني : الدهر والواقع - عدم قبوله الوجود الأزلي واقتضاء عدم ذاته ومرتبته للحدوث في الوقت الّذي حدث. والحاصل على ما اخترناه من الحدوث الدهري وتفسير الدهر بمرتبة الشيء وحدّه في ذاته وكون الشيء موجودا في الدهر بكونه موجودا في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته أن يقال : لكلّ

ص: 344

شيء من الأشياء حدّ ومرتبة ليس في حد (1) ذاته وحقيقته أن يتجاوزه ، فالموجودات الغير الزمانية من العقول والزمان حدّ مراتبها أن يكون موجودة لا في زمان ومبدعة في غير امتداد على ما وجد - أي : كونها موجودة في الخارج - من دون أن يكون في طرف ممتدّ ، كما أنّ الواجب يقتضي في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته أن يكون ازليا. والوقت مرتبته وحدّ ذاته أن يوجد كما وجد ولم يكن في منّته التجاوز عنه ، ولا يعلّل حضوره فيما حضر بشيء سوى حدّ ذاته ومرتبته في الواقع. والموجودات الزمانيّة مراتبها وحدود ذواتها وحواقّ حقائقها أن يوجد كلّ منها في الوقت الّذي وجد. وكما أنّ للزمان والوقت مدخلية ومناسبة لبعض الموجودات فكذا للدهر والسرمد - أي : مجرّد الواقع ومحض نفس الأمر - من دون امتداد وتصرّم فيه مدخلية ومناسبة لبعض آخر منها ، فان كلاّ منها حدود ومراتب للموجودات الواقعة فيه ؛ ولا فرق إلاّ في أنّ الزمان وعاء ممتدّ متصرّم وطرف للمتغيرات ، ولذا تعقّلها سهل لمن ألف بالزمان. والسرمد والدهر وعاءان للثابتات ، ولا تغيّر ولا تصرّم فيها ، ولذا تعقّلها متعسّر على المتغيرات ومن الف بالزمان. فظهر انّه / 74DA / لا مانع من الزام انّ للوقت مدخلية في الأصلحية. وإلاّ يلزم التسلسل ، لأنّ حدوث الوقت وحضوره في الوقت حضروا علة اختصاصة به انّما هو لمدخلية الواقع / 77MB / الّذي حدث فيه لحدوثه فيه ، واقتضاء ذات الوقت أيضا أن يقع فيه وكون ذلك أصلح وأحسن. وبالجملة علّة اختصاص وجود كلّ شيء في ظرفه ووعائه انّما هو لأجل هذا الظرف ومناسبة كلّ من الظرف والمظروف للآخر ومدخلية كلّ منهما لاصلحية وقوع هذا المظروف في هذا الظرف ، فكلّ وقت وزمان مناسب لأن يقع فيه ما يقع فيه من الموجودات الزمانية ، والدهر مناسب لوقوع ما يقع فيه من العقول والعالم الجسمانى والزمان. فكما أنّ الزمان والوقت من مراتب وجود الزمانيات وحدود ذواتها ووقوعها فيه من مقتضى ذاتهما فكذلك الدهر من مراتب وجود المبدعات من العقول ونفس الزمان وحدودها ، فوقوعها فيه من مقتضى ذات كلّ من الحدّ والمحدود ولازم حقيقة

ص: 345


1- الاصل : - حدّ.

كلّ من المرتبة وذي المرتبة.

وعلى هذا فتحرير الجواب عن الشبهة المذكورة أن يقال : انّ الوجود الأزلي للعالم ممتنع ، فكون الواجب وجميع صفاته الكمالية قديما لا يكفي في ايجاده ، لأنّ الممتنع لا يصير متعلّق الايجاد.

وأورد عليه : بأنّ الوجود الأزلي للممكن إذا كان ممتنعا لذاته فذاته لا بدّ أن يقتضي العدم ، فان اقتضى العدم المطلق فيجب أن يكون معدوما دائما - وإلاّ يلزم الانقلاب - ، وان افيض العدم في وقت فآل الأمر إلى مدخلية الوقت ، فلا بدّ من القول بعدم الزمان. وحينئذ فلا حاجة إلى التمسّك بكون الوجود الأزلي للممكن ممتنعا لذاته.

فان قلت : لعلّه اقتضى العدم قبل الوجود لا العدم في وقت خاصّ حتّى يلزم ما ذكرت ؛

قلت : فلا بدّ أن يثبت له دائما العدم قبل الوجود وانّه محال. وبالجملة الممكن إن اقتضى العدم بذاته من غير مدخلية شيء اصلا يجب أن يكون معدوما دائما بالعدم الّذي هو مقتضاه ، وإن كان عدما مطلقا فعدما مطلقا وإن كان عدما في وقت خاصّ فعدما في وقت خاصّ - أي : يجب أن يكون معدوما دائما في ذلك الوقت - وانّه محال. وكذا إن كان المقتضي العدم قبل الوجود أو تقييد آخر مثله وان اقتضى العدم بمدخلية شيء أو من وقت أو غيره. فاذا لم يكن ذلك الوقت مثلا لم يقتض العدم واستعدّ لايجاد الفاعل ايّاه ، فننقل الكلام إلى ذلك الأمر الآخر ويبقي الاشكال بحاله ، فان تمسّك بتقدّم الزمان الموهوم فهو - على تقدير صحّته! - يكفي في دفع الاشكال ، ولا حاجة إلى ما ذكر ؛ انتهى.

والجواب : اختيار انّه يقتضي العدم قبل وقت الحدوث ولا يقتضيه بعده ، وما ذكره من أنّه يلزم حينئذ مدخلية الوقت فنقول : ممنوع ، ولا يلزم قدم الزمان. لأنّ ذلك إذا توقّف حضور هذا الوقت على وقت آخر ، وهو ممنوع ؛ لأنّ اختصاص الوقت بحين حضوره وعدم امكان وجوده قبل ذلك انّما هو لذات الوقت واقتضاء ذاته لوقوعه

ص: 346

في الواقع الّذي هو مرتبة وجوده وحدّ إنّيّته إذ ممتنع مدخلية الوقت وتعلّل اقتضاء العدم قبل الحدوث بذات العالم الجسماني ؛ ونقول : وجود الوقت فيما وجد معلّل بوجود العالم الجسمانى ووجود العالم الجسماني في الوقت التقديري - أي : الواقع الّذي وقع فيه - معلّل بذاته وبمناسبة ذاته للواقع الّذي هو حدّ وجوده ومرتبته - أي : الواقع الّذي وقع فيه -. وعلى ما ذكر يمكن أن يعلّل اختصاص الحدوث بوقته بمجرّد العلم بالأصلح - كما ذكرناه أوّلا -.

ويجاب عن ايراد لزوم التسلسل بأحد الوجهين المذكورين. فاذا علّل اختصاص حدوث العالم بوقته بالعلم بالأصلح فاذا قيل : ترجيح الوقت الخاصّ باعتبار العلم بالاصلح لا يعقل إلاّ إذا كان لذلك الوقت مدخلية في الأصلحية ، فيتوقّف على حضور ذلك الوقت وننقل الكلام إليه ، فيلزم التسلسل.

وإمّا أن يجاب عنه : بتسليم مدخلية الوقت في الأصلحية وبأن رجّح حضوره في الوقت التقديري الّذي حضر هو ذات الوقت وحقيقته وحدّ وجوده ومرتبته - كما مرّ -.

أو يجاب عنه : بأنّا لا نعلّل تخصيص الايجاب بوقت حتّى يلزم التسلسل ، بل نعلّله بذات العالم وحقيقته وحدّ ذاته ومرتبة وجوده ، فانّ ذات العالم يقتضي وقوعه في مرتبته الّتي هي الواقع الّذي وقع فيه ، ثمّ بعد وقوعه يحصل الوقت والزمان.

ثمّ على الوجه الأوّل يكون المراد بوجوب صدور العالم في وقت / 74DB / الحدوث وجوبا بالغير ، وبامتناع صدوره في غير ذلك الوقت امتناعا بالغير. لأنّ الوجوب والامتناع انّما هو لأجل العلم بكون بعض الاوقات أصلح ، ولذات الوقت لا لأجل / 78MA / العالم ذاته ؛ إلاّ أن يقال : الوقت أيضا من جملة العالم. وعلى الوجه الثاني إن علّل عدم الوقت قبل وقت الحدوث بتوقّفه على وجود العالم وعلّل وجود العالم بالوقت الّذي وجد بحقيقة العالم وذاته فيكون وجوب الصدور في وقته حينئذ وجوبا بالذات وامتناعه في غير ذلك الوقت امتناعا بالذات.

وقال بعض الأفاضل ما حاصله : انّ علّة انفكاك الإرادة عن المراد وتخصيصه

ص: 347

بقدر من الزمان عند بعضهم كون بعض الأوقات أصلح للصدور ، وعند بعض آخر امتناع الصدور في غير ذلك الوقت ، ولا خفاء في أنّ كون بعض الأوقات أصلح للصدور غير راجع إلى امتناعه في غير ذلك الوقت إن لم يحكم بوجوب الأصلح. وعلى هذا فمؤدّى العبارتين مختلف ، إذ هؤلاء يقولون بصدوره في ذلك الوقت على سبيل الأولوية وهؤلاء على سبيل الوجوب. وأمّا إن حكم بوجوبه - بناء على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، كما هو مختار جماعة - فمؤدّى هاتين العبارتين واحد بناء على أنّ المراد بالامتناع الامتناع بالغير ، إذ وجود العالم في الأزل غير ممتنع بالذات. وكذا ايجاد الفاعل فيه من حيث هو فاعل ، وإلاّ لم يكن الحدوث دليل القدرة ولمّا احتاج إلى الإرادة المخصصة. وإذا كان المراد بامتناع الصدور في غير ذلك الوقت امتناعا بالغير ، لزم منه وجوب الصدور في ذلك الوقت وجوبا بالغير ، لأنّ من قال بامتناع الصدور في غير ذلك الوقت قال بوجوب الصدور في ذلك الوقت ولم يقل بالأولوية ، إن امتناعا غيريا فوجوبا غيريا وإن ذاتيا فذاتيا ، وإذا لزم منه الوجوب بالغير في ذلك الوقت. ولا ريب أنّ القول بكون بعض الاوقات أصلح للصدور أيضا مستلزم للوجوب بالغير ، فانّ الوجوب بسبب العلم بالأصلح وجوب بالغير قطعا ، فيكون مؤدّى العبارتين واحدا ؛ انتهى.

وهذا القائل - كما ترى كلامه - قد حكم بأنّ الامتناع في غير وقت الحدوث امتناع بالغير مطلقا.

وممّا قدّمناه يظهر ما فيه من الاجمال.

وبعضهم حكم بأنّه امتناع بالذات ، حيث قال : الظاهر انّ مراد من حكم بامتناع الصدور قبل وقت الحدوث ليس امتناعا بالغير ، بل مراده الامتناع بالذات - أي : لذات الوقت - كما أشار إليه المحقّق الطوسي وقال : فرقة اعترفوا بتخصيص آن أوّل الايجاد بالحدوث لوجود علّة لذلك التخصيص غير الفاعل ، ويجعلون علّة التخصيص مصلحة تعود إلى العالم ؛ وفرقة قالوا بتخصيصه لذات الوقت على سبيل الوجوب و

ص: 348

جعلوا حدوث العالم في غير ذلك الوقت ممتنعا (1). وحاصل كلامه - رحمه اللّه - : انّ بعضهم تمسّكوا بكون بعض الأوقات أصلح للصدور ، وحينئذ فمن يكتفي في وجود الشيء بالأولوية يقول بصدوره بها ، ومن يوجب الوجوب يقول به. وبعضهم يقولون انّ صدور الفعل في غير ذلك الوقت ممتنع لذات الوقت ، إذ لا وقت قبل ذلك الوقت.

وحينئذ لا مجال لتوهّم رجوع العبارتين إلى شيء واحد ، لأنّه بناء على كون بعض الأوقات أصلح إذا اكتفى بالأولوية فالفرق بين العبارتين ظاهر. وإن لم يكتف بها واشترط الوجوب فيكون الامتناع في أحد العبارتين امتناعا بالغير وفي الأخرى امتناعا بالذات - أي : لذات الوقت - ؛ انتهى حاصل كلامه. وبما ذكرنا يظهر ما في هذا الكلام أيضا من الاجمال.

فان قلت : إذا كان الوجود الأزلى للعالم ممتنعا فلا تكون العلّة التامة لوجود العالم متحقّقة في الأزل ، فلا يكون الواجب لذاته في الأزل علّة تامّة للعالم! ؛

قلنا : الامكان من مراتب المعلول ومأخوذ من جانبه لا من جانب العلّة - كما هو المقرّر المعلوم - ، فاذا لم يكن امكان الوجود الأزلي للعالم متحقّقا في الأزل كان النقص في جانب المعلول وإن كان الواجب علّة تامّة له.

فان قلت : فيصدق حينئذ لزوم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة مع أنّ مقتضى البراهين وجوب معية المعلول مع العلّة التامّة وعدم جواز التخلّف عنها ؛

قلنا : مقتضى البراهين وجوب تحقّق المعيّة الّتي لا يأبى عنها ذات المعلول بينهما ، وأمّا المعية الّتي تأبى عنها ذات المعلول فنمنع تحقّقها. كما انّ المعلول يمتنع أن يكون في مرتبة ذات العلّة التامّة في الخارج - وهو ظاهر - ، وفي الذهن - كما انّا نعقل العلّة التامّة وليس في تلك المرتبة ذات / 75DA / المعلول - ، فيلزم التخلّف. ولا فرق في التخلّف بين الوجود الخارجي والوجود الذهني أصلا. والقول / 78MB / بأنّه كلّما تعقّل العلّة التامّة يكون المعلول أيضا موجودا في تلك المرتبة خلاف الوجدان ، فانّ ماهية الأربعة علّة تامّة للزوجية مع أنّه

ص: 349


1- راجع : شرح الاشارات والتنبيهات ، المطبوع مع المحاكمات ، ج 3 ، ص 131 ؛ شرحي الاشارات ، ج 1 ص 238. وانظر أيضا : تلخيص المحصّل ، ص 206.

يمكن لنا أن نتصوّر ماهية الأربعة دون الزوجية ، لأنّ الزوجية ليست في تلك المرتبة ، لأنّ الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي ، والزوجية تكون في مرتبة أخرى ؛ هذا.

وعلى القول بأنّ علّة التخصيص هو العلم بالأصلح نقول في الجواب عن لزوم التخلّف عن العلة التامّة : بأنّا لا نسلّم انّ انفكاك العلّة التامّة عن المعلول محال مطلقا ، بل إذا استلزم الترجيح من غير مرجّح ؛ ولمّا كان اختصاص وجود العالم بآن حدوثه مستندا إلى الإرادة الّتي هي عين الذات وعين العلم بالأصلح ، فالذات بملاحظة ما به يرجع الفعل اقتضت هذا الاختصاص ، فوجوب وجود العالم في الوقت المخصوص لا يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، فلا يرد التخلّف المحال.

ثمّ الحقّ انّ محالية تخلّف العلّة عن المعلول قد يكون من حيث انّه مستلزم للترجّح بلا مرجّح ، وقد يكون من حيث انّه مستلزم للترجيح بلا مرجّح وإن استلزم الثاني الأوّل أيضا. فما قيل : انّ محالية تخلّف العلّة التامّة عن المعلول ليست من حيث انّه مستلزم للترجّح بلا مرجّح بل للترجيح بلا مرجّح - ولذلك ترى الأشاعرة لا يجوّزون ذلك مع تجويزهم الترجيح بلا مرجّح - لا يخفى ما فيه ؛ هذا.

وقيل : انّ المحالية الّتي ليست بالذات بل من حيث استلزامه للترجيح بلا مرجّح انّما هو محالية تخلّف العلّة التامّة عن المعلول ، لا محالية تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، إذ الظاهر انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة محال لذاته مناقض لتمامية العلّية وعليته ؛ انتهى.

وفيه : انّه لا فرق بين تخلّف المعلول عن العلّة التامّة وتخلّف العلّة التّامة عن المعلول ، فانّه ليس شيء منهما محالا ذاتيا ، بل المحالية للاستلزام المذكور. نعم! قد يطلق العلّة التامّة على ما يترتّب عليه المعلول بالفعل ، وحينئذ فتخلّف المعلول عنه محال لذاته ، لكن لا فرق حينئذ أيضا بين تخلّف المعلول عن العلّة التامّة وتخلّف العلّة التامّة عن المعلول إلاّ بالعبارة ؛ هذا.

وأورد على الجواب الّذي ذكرناه أخيرا عن لزوم تخلّف العلّة عن المعلول : بأنّ تخلّف العلّة التامّة عن المعلول مستلزم للترجيح بلا مرجّح البتّة ، وحديث العلم

ص: 350

بالأصلحية لا يدلّ على جوازه ، بل إنّما يقتضي أنّ العلّة ليست بتامّة بدون الوقت وبعد تحقّق الوقت لا يتخلّف ، فلم يلزم تخلّف العلّة التامّة عن المعلول لا أنّه لزم التخلّف المذكور على وجه غير مستحيل ؛ وقد تقدّم ما يكون جوابا عن ذلك. على أنّه لو سلّم ذلك لم يضرّنا ، لثبوت المطلوب به.

والحقّ الحقيق بالتصديق انّ مجرّد الانفكاك بين العلّة والمعلول ليس مستحيلا ، كيف ولو كان كذلك لزم هذا الايراد أيضا - أعني : لزوم تخلّف العلة عن المعلول - على الحكماء أيضا! ، لأنّه لا ريب في أنّ الوجود حوادث زمانية وعلل الوجود قديمة ازلية ،

فعلى الحكم بوجوب تحقّق المعلول مع وجود علّته كيف يكون الحادث معلولا للقديم؟!. والشروط المتعاقبة المعدّة لا ينفع في رفع التخلّف ، إذ المعدّات كالوجودات كلّها ممكنات محتاجة إلى علل تامّة متحقّقة معها ، كما انّ المجتمعة مع محاليتها اتفاقا لا يرفعه ، بل في صورة التعاقب يلزم تخلّفات زمانية غير متناهية بالعدد وفي صورة الاجتماع يلزم تخلّف غير متناه بالزمان. وجواب الحكماء عن ذلك إنّما هو بالتمسّك بقطعة فرضية عديمة البداية من متّصل تدريجي الوجود غير قارّ الذات اتمام تحقّقها بانقضائها هي شرط وجود الحادث ومتمّم استعداده ، فتكون لا محالة متقدّمة على وجود المشروط بحيث يكون آن انقضائها وعدمها آن أوّل وجوده. ولا ريب انّه على هذا الجواب أيضا يلزم أن لا تكون العلّة التامّة مع المعلول بالزمان ، بل تكون متقدّمة عليه ، لكن الحكماء يلتزمونه ويقولون : ذلك غير مستحيل ، بل من لوازم ماهية الشرط والمشروط. وغير خفىّ انّ الحكيم إذا قال هذا التخلّف ليس مستحيلا - لما ذكر - فللمتكلّم أن يقول : التخلّف لأجل العلم بالأصلح أو لذات الوقت أيضا ليس مستحيلا.

على أنّك قد عرفت فيما سبق ما يرد على المتشبّث بالقطعة العرضية وتصحيح ربط الحادث بالقديم ؛ هذا.

مع أنّ ذلك التخلّف إنّما يرد على المتكلّم القائل بأنّ البارى - تعالى - موجود قبل وجود العالم في زمان موهوم عديم البداية لا يكون فيه شيء من الممكنات أو معه. وأمّا من قال بتعاليه عن الزمان واختصاصه بالجسمانيات وعدم معقوليته قبلها - كما

ص: 351

عليه المحقّقون منهم - فكلام / 75DB / مبهم.

ولقائل أن يستفسر ويقول : لم خصّص اللّه - تعالى - وجود العالم بوقت كذا ولم يوجده في زمان أكثر من هذا ، مع أن نسبة ذاته وصفاته الحقيقية إلى جميع الأقدار للزمان / 79MA / على السواء؟! ؛

فيجاب عنه : بأنّ علمه بمصالح الموجودات أو ذات الوقت مرجّح بل موجب لايجاده. هكذا كما يستفسر الحكيم ويقال : لم صارت. الافلاك وحركاتها مخصّصة بتلك الأقدار والمناطق والجهات؟! ؛

فنقول : تلك من مقتضيات نظام الخير أو مقتضيات الصور النوعية للأفلاك.

قال بعض المشاهير : إن قيل : انفكاك العلّة التامّة عن المعلول - أي : تقدّمها عليه بالزمان - ممكن ، ولزم للحكماء القول بامكانه ، فانّ الحادث في آن الحدوث له علّة تامّة بلا شبهة ، ولا نزاع لأحد في وجوب أن يتقدّم تلك العلّة عليه بالزمان ، إذ لو كانت معه بالزمان لكانت تلك العلّة أيضا حادثة ، لأنّ العلّة التامّة الّتي تكون مع الحادث بالزمان يجب أن تكون حادثة ولو بجزء واحد. فاذا كانت تلك العلّة حادثة لكانت لها علّة أيضا ، فننقل الكلام إلى علّة تلك العلّة ، فلا يخلوا إمّا أن تكون مع معلولها بالزمان أو تكون متقدّمة عليه ، فعلى الثاني يلزم التخلّف ، وعلى الأوّل تكون تلك العلّة حادثة أيضا فتكون لها علة أيضا. وننقل الكلام إلى تلك العلّة ... وهكذا ؛ فيلزم الانتهاء إلى علّة تامّة متقدّمة على المعلول بالزمان ؛ وإلاّ لزم ترتّب العلل الغير المتناهية. فان كانت جميع تلك العلل وجودات لزم ترتّب العلل الغير المتناهية مجتمعة - وهو باطل باتفاق العقلاء - ، وإن كانت جميعها عدمات بأن يترتّب الأمور الغير المتناهية المتعاقبة وتكون عدم كلّ أمر من تلك الأمور علّة فاعلية لحصول أمر آخر فعلى فرض تسليم جواز كون العدم علّة فاعلية للوجود مع بداهة بطلانه نقول : لمّا كان جميع تلك العدمات ممكنات حادثة متحقّقة مع الحادث في آن الحدوث يلزم أن يكون لها علل ، فان تحقّقت تلك العلل معها لزم الترتّب في تلك العلل الغير المتناهية مجتمعة في الوجود ، وبطلانه ظاهر. وإن لم يتحقّق تلك العلل معها في آن الحدوث لزم تخلّفات زمانية غير متناهية بالعدد. وإن

ص: 352

كان بعضها وجودات وبعضها عدمات فلا يخلوا من كون الوجودات متناهية والعدمات غير متناهية ، أو العكس ، أو كون كلّ واحد منهما متناهيا أو غير متناه ، ووجه الفساد في كلّ من الشقوق ظاهر.

ثمّ الترديد في العلل المذكورة بكونها وجودات أو عدمات متحقّقة مع الحادث مبني على أنّ الكلام في الفاعل المستجمع لجميع شرائط التأثير الّذي يجب أن يجتمع وجود المعلول مع وجوده في آن الحدوث والايجاد ، لا في العلّة المعدّة الّتي يجب عدم اجتماعها مع المعلول. فلا يرد أن يقال : لم لا يجوز أن تكون تلك العلل أمورا وجودية معدّة لا يجتمع وجودها مع المعلول ، فلا يتعيّن أن تكون وجودات أو عدمات متحقّقة مع الحادث المذكور. وإذا كانت عللا معدّة فلا يمتنع عدم التناهى عندهم ، لأنّ الحوادث مستندة بالقديم عندهم لعلل حادثة غير متناهية غير مجتمعة ، ويقولون : التسلسل في الأمور الغير المتناهية المتعاقبة لا يكون باطلا. على أنّك قد عرفت بطلان هذا التسلسل أيضا. وبالجملة فالتخلّف في الحوادث الزمانية لازم على الحكماء أيضا ؛ وبذلك يندفع كلامهم على المتكلّمين في جواز تخلّف العلّة التامّة عن المعلول.

ثمّ أجاب : بأنّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة بحيث لا يخلّل زمان بين تحقّقهما أصلا - لا بحسب الخارج ولا بحسب التوهّم - جائز عند الحكماء ، بل لزمهم أن يلتزموه ، كتقدّم اجزاء الزمان بعضها على بعض وتقدّم دورة من الحركة على دورة أخرى منها متّصلة بها ، فانّ الحكماء يجعلون الحركة والزمان اجزاء من العلّة التامّة وقالوا انّهما معدّات. وأمّا تخلّف العلّة التامّة عن المعلول بحيث يتخلّل بينهما زمان وهي كما يلزم من الحكم بأنّ القديم مع الإرادة القديمة علّة تامّة لتعلّق الإرادة باحداث الحادث الزمانى فهو ممّا يستحيل بحسب الجليل من النظر ، بناء على أنّه لا يجوز الترجيح بلا مرجّح ، فلا بدّ من بيان امكانه وكونه بمنزلة التقدّم الّذي يلزمهم التزامه.

والحاصل : انّ التخلّف قسمان : أحدهما جائز وهو التخلّف الغير المتكمّم الصريح ؛ ثانيهما : محال ، وهو التخلّف المتكمّم الغير الصريح. وما يلزم على الحكماء هو الأوّل ، وهو جائز ؛ وما يلزم على المتكلّمين هو الثاني ، وهو محال.

ص: 353

ثمّ قال لبيان امكان الثاني وكونه بمنزلة الأوّل : انّ العلم بالأصلح هو المرجّح ، فالذات يقتضي احداث الحادث في آن الحدوث بواسطة الإرادة الّتي هي العلم بالأصلح ؛ انتهى ما ذكره بتوضيحه.

وقد ظهر من قوله : « انّ تخلّف العلّة عن المعلول بحيث لا يتخلّل زمان بين تحقّقهما جائز عند الحكماء » أيضا. ولا ريب انّه على القول بالحدوث الدهري / 76DA / - على ما اخترناه - لا يلزم التخلّف بحسب الزمان. على أنّه لم يظهر من كلامه ما يندفع به لزوم التخلّف بحسب الزمان على الحكماء ، مع أنّ ما اورده عليهم من لزوم التخلّف في الحوادث هو تخلّف زماني. ووجه الدفع عنهم هو التمسّك بالحركة السرمدية - على / 79MB / ما ذكره المحصّلون منهم - ، وقد عرفت أنّ التخلّف معه لازم وكثير (1) منهم يلتزمونه.

فان قيل : ما جوّزه الحكماء من التخلّف الّذي لا يتخلّل بين تحقّقهما زمان إنّما هو إذا كان زمان العلّة متّصلا بزمان المعلول ولا يتخلّل بينهما شيء أصلا - كما مرّ من تقدّم اجزاء الزمان والدورات بعضها على بعض -. لأنّهم قالوا : انّ القديم لا يمكن أن يصير علّة للحادث الزماني بذاته فقط ولا بانضمام ما هو شرط لوجود ذلك الحادث فقط ، بل لا بدّ هناك من علّة معدّة أيضا لتتميم علّة ذلك الحادث بما هو علّة له والمعدّة فيه ، فيبنى كونه متقدّما بحسب الزمان. فالعلّة التامّة للحادث انّما يجب وجودها بما هي علّة تامة له قبل زمان ذلك الحادث ، ولكن بحيث يتصل زمانها بزمانه. وبالجملة فالمجوّز من التخلّف عند الحكماء هو التخلّف مع اتصال الزمان وعدم الانفكاك اصلا ، وعلى القول بالحدوث الدهري لا بدّ من الانفكاك الواقعي - كما مرّ -.

قلنا : الظاهر انّ منشأ استحالة التخلّف هو تحقّق وقت مع وجود العلّة بدون المعلول ، وإذا لم يوجد وقت فلا يتأتّى التخلّف المستحيل ؛ كيف ولو كان تخلّف المعلول مع العلّة لازما مطلقا فكما يمتنع حينئذ الانفكاك - سواء كان مع تخلّل زمان أم لا - كذلك يمتنع تحقّق العلّة في آن وتحقّق المعلول في آن بعده؟! ، بل يجب حينئذ كون

ص: 354


1- الاصل : ولكنهم.

المعلول في ذلك الآن. فمنع الأوّل وتجويز الثاني لا وجه له.

وأيضا علّة الحادث على هذا - أي : مع اتصال الزمان - تكون موجودة في آن وجد المعلول بعده ، إذ لو وجدت قبله أيضا لزم التخلّف مع التعلّل البتة ، وحينئذ فعلّة تلك العلّة أيضا يجب أن تكون موجودة في ذلك الآن ، إذ لو وجدت قبله بالزمان يلزم التخلّف ولو وجدت قبله بالآن يلزم تأتّي الآنات ، فيلزم إذن وجود العلل الغير المتناهية في الآن المفروض وعاد المفروض.

ثمّ إنّ الحكماء قد تشبّثوا في الجواب عن هذين الاشكالين أيضا بما يصحّحون به الربط بين الحادث والقديم - أي : بأمر تدريجي الوجود غير قارّ الذات - كالحركة تكون اتمام تحقّقها بانقضائها ، ويكون هو شرطا لوجود الحادث ومعدّا له بحيث يكون آن انقضائه هو آن أوّل وجود الحادث ، وكلّ قطعة فرض من ذلك الأمر يتوقّف على قطعة أخرى سابقة عليها يكون معدّا لها على ذلك الوجه. وكلّ جزء فرض من القطعة الثانية يكون وجود هذا الجزء السابق عليه شرطا لوجوده ومعدّا له ، فما لم يوجد لم يوجد ، فلا يلزم وجوب وجود القطعة الثانية بتمامها عند وجود القطعة الأولى وانقضائها.

ويرد عليه - كما تقدّم - : انّه مع التشبّث المذكور يلزم أيضا أن لا تكون العلّة التامّة مع المعلول ، بل تكون متقدّمة عليه ، وهم يلتزمونه ، فنحن أيضا نلتزم ما يرد علينا من التخلّف لأجل العلم بالأصلح أو لذات الوقت - كما مرّ مرارا -.

فان قيل : الممكن كما يحتاج إلى العلّة في الحدوث يحتاج إليها في البقاء ، والعلّة المبقية يجب كونها مع المعلول بحسب (1) الزمان ؛ فكيف يتقدّم عليها؟!.

قلنا : انّما يحتاج في البقاء إلى العلّة المفيدة لأصل الوجود والبقاء لا إلى جميع ما يتوقّف عليه ابتداء وجوده. فانّ المعدّات انّما هي معدّات لابتداء الافادة لا لأجل الافادة. فالعلّة التامّة من حيث هي علّة تامّة لابتداء افادة الوجود يجب تقدّمها على المعلول ، ومن حيث هي علّة تامّة لافادة أصل الوجود والبقاء تبقي مع المعلول ، فهي

ص: 355


1- الاصل : يجب.

متقدّمة على أوّل زمان وجود المعلول من حيث هي محدثة وتبقي معه في الزمان من حيث هى مبقية.

فان قيل : العلّة المعدّة ما لعدمه مدخل في وجود المعلول ، وعدمها مقارن لوجوده لا سابق عليه! ؛

قلنا : المعدّ ما لوجوده وعدمه - كليهما - مدخلية في وجود المعلول ، فالعلّة مع وجود المعدّ سابق على المعلول ومع عدمه مقارن له.

فان قيل : على ما ذكرت من أن الواجب - تعالى - ليس زمانيا والتخلّف انّما يلزم ويستحيل إذا كانت العلّة التامّة موجودة في زمان موجود أو موهوم لم يوجد المعلول فيه يلزم بعد تسليم صحّة كونه - تعالى - غير زماني جواز عدم الحادث مثلا في اليوم وان تحقّق جميع ما يتوقّف عليه وجوده ؛ لكونه - تعالى - غير زمانى ، فلا يكون في اليوم ، فمعلوله الّذي يجب أن يكون معه لا يكون أيضا في اليوم! ؛

قلت : المعلول يجب أن يكون / 76DB / مع العلّة في الواقع ونفس الأمر ، وإذا لم تكن العلّة والمعلول كلاهما زمانيين تكون بينهما معية واقعية من دون أن يكون وجود واحد منهما مقارنا للزمان. وإن لم تكن العلّة زمانية وكان المعلول زمانيا تتحقّق بينهما أيضا معية واقعية. وإن كان المعلول في الزمان فعدم كون العلّة زمانية لا يوجب عدم تحقّق المعلول في الزمان ؛ هذا.

واعلم! أنّ بعض الأفاضل فرّع على ما ذكر في جواب الشبهة المذكورة من أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافى الاختيار أنّه حينئذ لا يشنع على الحكماء في القول بأنّ الايجاب لا ينافى القدرة سواء كان الايجاب دائما أم لا ، و/ 80MA / أورد عليه : بانّه لم يشنع أحد على الحكماء من هذه الجهة ، وانّما شنع عليهم من شنع عليهم لزعمه أنّهم قائلون بالايجاب بالمعنى الأوّل - أعني : كون فعله من قبيل أفعال الطبائع - ، أو بالمعنى الثّاني - أعني : وجوب صدور الفعل دائما وقدم العالم - ؛ وان كان الزعم بأنّهم قائلون بالايجاب بالمعنى الأوّل باطلا ونسبته إليهم فرية!. ثمّ قال الفاضل المذكور : والقدرة بالمعنى الّذي ينبغي أن يكون مراد المتكلّمين - وهو صحّة الفعل والترك بالامكان

ص: 356

الوقوعي - لا يجامع القول بايجاب ما مطلقا ، سواء كان دائما أم لا. فانّ الظاهر انّ مرادهم بالقدرة صحّة الفعل في وقت وتركه في ذلك الوقت ، إذ المراد بالترك في قولهم صحّة الفعل والترك ما هو مقابل الفعل ، ووحدة الزمان معتبرة في التقابل ، فالترك الّذي بفرض في زمان الفعل هو المقابل للفعل ، لا الّذي يفرض قبله ، لعدم ايجاد الزمان. فالفعل إذا وجب في وقت ما لم يمكن أن يكون فاعله بالاختيار فيه - لعدم امكان وقوع الترك فيه -. فالقول بالاختيار بهذا المعنى ليس إلاّ للأشعري فقط ، إذ عنده يجوز أن يقع بدل الفعل تركه لعدم قوله بالوجوب اصلا ، فعنده الفاعل مختار وإن كان العالم قديما. فعلى هذا لا يرجع النزاع في الايجاب والاختيار إلى طائل سوى حدوث الأثر ؛ وقد مرّ. فالحقّ انّ هذا النزاع لا ينبغي أن يكون إلاّ بين الاشعري والحكيم ، فاحفظ هذا ؛ انتهى ؛ هذا.

وفيه ما أورد عليه بعض الأعلام : بأنّ مراد المتكلّمين بالصحّة هو الصحة بالقياس إلى الذات بدون اعتبار الإرادة لا الامكان الوقوعي على ما زعمه. ثمّ بعد حمله على الامكان الوقوعي يجب حمله على الفعل والترك في وقتين وإن كان تكلّفا حتّى لا يلزم ما ذكره. وكيف تحمل العبارة الواقعة في كلام المتكلّمين قاطبة وبعض الفلاسفة أيضا على ما لا يستقيم إلاّ على مذهب الأشعري؟!. فانّ حمل « الصفة » في تعريف القدرة على الامكان الوقوعي بمعنى جواز وقوع كلّ من الفعل والترك بدل الآخر ممّا تفرّد الأشاعرة بالقول به ، ولم يذهب إليه أحد غيرهم.

تتميم

المناسب هنا أن نشير إلى أقوال المتكلّمين واختلافاتهم في علّة تخصيص حدوث العالم بوقته وجواب ايراد الفلاسفة عليهم.

فنقول : لمّا كان الفاعل المختار عندهم هو الّذي يتساوى مقدوراته بالقياس إليه من حيث هو قادر احتاجوا إلى اثبات شيء بسببه يتخصّص الطرف الّذي يختاره. فاثبتوا له إرادة تتعلّق بذلك الطرف ويتخصّص ذلك الطرف لأجلها ؛

فالأشاعرة على أنّها زائدة على الذات والقدرة والعلم وسائر الصفات وقديمة ،

ص: 357

ولكن تعلّقها متجدّد حادث بها يرجّح وجود الفعل في وقت من الأوقات من دون مرجّح ومخصّص آخر ؛ إذ شأنها عندهم ذلك ؛

وبعض شيوخ المعتزلة - كأبي الهذيل العلاّف وأبى على الجبائى وابنه أبي هاشم المثبت للأحوال - على أنها متجدّدة حادثة. وهم مع قولهم بتجدّدها قالوا : انّ إرادة الشيء عين خلقه وعين الحكم والأمر والإخبار.

وقال معمّر بن عباد - وهو أيضا من مشايخ المعتزلة - : أنها متجدّدة وغير الخلق والأمر والحكم والاخبار. وقد كان هذا الشيخ يبالغ في حدوث الإرادة ونفي القول بالصفات الأزلية الزائدة ، ويكفّر به. وهو الّذي قال بأنّ كلّ عرض قام بمحلّ قائما يقوم به لمعنى اوجب القيام ، بل قال : كلّ معنى اتصف به شيء - حتّى مخالفة الضدّ للضدّ ومغايرة المثل للمثل - فانّما يتّصف به لمعنى اوجب الاتصاف ؛ فقال بعدم تناهى أفراد انواع الأعراض والمعانى ، والتجأ إلى القول بالتسلسل في كلّها. ولذلك سمّى هو وأصحابه « باصحاب المعانى ».

والكعبي وكثير من المعتزلة على أنّها قديمة غير زائدة على الذات والعلم وسائر الصفات. وهؤلاء من المعتزلة / 77DA / - الّذين لا يقولون بالارادة المتجدّدة - لا يقولون بتجدّد التعلّق أيضا ، بل لا يعترفون بتجدّد شيء غير الفعل اصلا. وهؤلاء في علّة انفكاك الإرادة عن المراد وتخصيصه بقدر من الزمان افترقوا إلى فرق : ففرقة قالوا : انّ العلّة هي كون بعض الأوقات أصلح وأولى ؛

فطائفة منهم يقول بوجوب الأصلح بمعنى كونه ممتنع العدم - بناء على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد - ،.

وطائفة أخرى - كالبشرية وغيرهم من القدماء - قالوا بأولوية الأصلح دون / 80MB / وجوبه.

وفرقة قالوا : العلة هي امتناع الصدور قبل ذلك الوقت ، وإليه ذهب الكعبي.

ثمّ المشهور بين المحصّلين انّ مختار المحقّق الطوسي انّ الإرادة غير زائدة على الذات والعلم ، بل هي عين العلم بالأصلح وانّ العلّة في التخصيص هي كون بعض الاوقات

ص: 358

أصلح للصدور ، وانّ العلم بالأصلح هو موجب. ولا ريب في كون الإرادة عنده عين الذات والعلم بالأصلح - كما هو الحقّ المنصور - ؛ ولكن في كون علّة التخصيص عنده هو العلم بالأصلح وكونه موجبا للصدور ، ففيه تأمّل ؛ لأنّ قوله في بحث الجواهر حيث قال : واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله (1) يدلّ على انّ علّة التخصيص هي امتناع الوقت قبل ذلك الوقت.

قيل : الظاهر انّ ما دعا الأكثر إلى الاعتقاد بانّ المرجّح على سبيل الوجوب عنده هو العلم بالأصلح قوله في آخر مقصد اثبات الصانع وصفاته : والأصلح قد يجب على اللّه تعالى - لوجود الداعي وانتفاء الصارف (2) ؛

وفيه : انّ المراد بالوجوب هناك هو ما يذمّ تاركه عقلا ، والمراد به هنا هو ما يمتنع عدمه لتعلّق العلّة المستقلّة للوجود ، فهو خلط بين وجوب الأصلح بالمعنى المراد هناك وبين وجوب الأصلح بالمعنى المراد هنا.

والظاهر انّ ما دعا الأكثر إلى نسبة ما نسبوه إليه هو ما صرّح به في مبحث الإرادة من التجريد : بأنّ الإرادة عين الداعي (3) والداعي عنده هو العلم بالأصلح. وفي شرح الرسالة : انّ حيثية قدرته - تعالى - وحيثية علمه بمقدوره لا يتغايران إلاّ بمحض الملاحظة العقلية ، وتوهّم تكثّرهما قياسا على الممكن خطاء ؛ والتنزيه أن يقال : ( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (4). ثمّ قال : والإرادة اخصّ من العلم والمتكلّمون ذهبوا إلى اثباتها ؛ فمنهم من قال : انّها صفة زائدة على العلم قديمة أو محدثة بها يتخصّص المراد من المعلوم ؛ ومنهم من قال : أنّها علم خاصّ بما في وجود المخلوقات من المصالح الراجعة إليهم ، وهو الداعي للايجاد. والحكماء زعموا أنّها العلم بنظام الكلّ على الوجه الأتمّ. وإذا كانت القدرة والعلم سببا واحدا مقتضيا لوجود

ص: 359


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة السادسة من الفصل الثالث من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ص ، 129.
2- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثامنة عشر من الفصل الثالث من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 270.
3- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الرابعة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 223.
4- كريمة 180 ، الصافّات.

الممكنات على النظام الاكمل كانت القدرة والعلم والإرادة شيئا واحدا في ذاته مختلفا بالاعتبارات العقلية (1) ؛ انتهى.

ولا ريب في أنّ ما نسب إليه المشهور يظهر من كلامه هذا.

ثمّ الفرق بين مختاره ومذهب الحكماء : انّ ملحوظ الفاعل المختار في الايجاد عنده حال المعلولات وعندهم حال الايجاد ، فانّهم يقولون : اتمّ انحاء التأثير هو الدوام ، وهو يقول : الأصلح بحدوث المخلوقات.

فان قيل : كون الإرادة قديمة وعين الذات والعلم بالأصلح ينافي ما ورد عن ائمّتنا الراشدين - علیهم السلام - من كونها حادثة ومن أنّها من صفات الفعل ومن الصفات الاضافية الّتي لا توجد ولا تعقل إلاّ مقرونة بفعل ومعية إليه - كالرازقية والرضاء والسخط - بخلاف العلم والقدرة ، فانّها من صفات الذات. وكذا ينافي ما ورد عنهم من أنّ المشية محدثة وانّ علم اللّه - تعالى - غير المشية سابق عليها ، ومن ان اللّه - تعالى - لم يزل عالما قديرا ثمّ أراد. وقد نقل جميع ذلك ثقة الاسلام - رحمه اللّه - في الكافي ، وأفاد بعد النقل ضابطة حاصلها : انّ كلّ صفة ثبوتية يوصف بها وبضدّها جميعا الباري - تعالى - كالارادة والكراهة فهي من صفات الفعل الزائدة على الذات حادثة ، وكلّ صفة تنفي عنه ضدّها كالعلم والقدرة فهي صفة الذات أزلية ، وإلاّ لا تصف بضدّها قبلها غير زائدة حينئذ لئلاّ يتعدّد القدماء (2) ؛

قلت : المراد بالارادة والمشية فيما ورد عنهم - علیهم السلام - تعلّقهما. ويقرب منه أن يكون المراد بالارادة في حقّه - تعالى - هو احداث الفعل على ما ورد عن العالم أنّ الإرادة من اللّه - تعالى - هو احداثه لا غير ذلك ؛ وحينئذ فلا منافاة.

وقال بعض الأعلام : لعلّ الإرادة الّتي غير زائدة على الذات هي المتعلّقة بمطلق الفعل وبوجود العالم جملة في الوقت الأصلح على أتمّ النظام ، وهي الّتي فيها الكلام ؛ / 77DB / ولا يمكن سبق شيء عليها ولا اتصافه - تعالى - بضدّها ، كما انّ علمه بذلك

ص: 360


1- راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص 42.
2- راجع : الاصول من الكافي ، ج 1 ، ص 111.

كذلك. بل الظاهر من كلام المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم : انّ علمه - تعالى - بالأصلح الّذي هو عين ذاته مرجّح لايجاد العالم في وقته ولا يحتاج إلى معنى آخر به يرجّح ذلك يسمّى « بالارادة ». وأمّا الإرادة المتعلّقة بخصوصيات الجزئيات المتغيّرة المتبدّلة من أفاعيله وأفاعيل عبيده فينبغي أن تكون زائدة متجدّدة. كيف لا؟! والعلم كذلك ، وذلك لا يوجب إلاّ التغير في الاضافات وفي الأمور المتباينة عن الذات. ولا يوهم التسلسل إذ يؤول الكلّ إلى الإرادة الأزلية / 81MA / والعلم الاجمالي كرجوع سلسلة الاسباب إلى ربّ الأرباب : قال اللّه - تعالى - : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (1) ، وبذلك يرتفع المخالفة ؛ انتهى.

وحاصل كلامه تقسيم الإرادة إلى الاجمالية والتفصيلية - كالعلم - ، وكون القديمة هى الأولى - وهي الإرادة المتعلّقة بمطلق الفعل وبوجود العالم جملة - ، والحادثة هي الثانية - وهي المتعلّقة بخصوصيات الجزئيات المتغيّرة المتبدّلة من أفاعيله تعالى وأفاعيل عبيده -.

وأنت تعلم انّ صحّة ما ذكره موقوف على صحّة القول بالاجمال والتفصيل في علمه - تعالى - ، وسيجيء - إن شاء اللّه - الكلام فيه.

الشبهة الثانية : انّ القدرة على الأمر بمعنى التمكّن على فعله وتركه إمّا حال وجود الأثر - وحينئذ يجب وجوده ، فلا يتمكّن من الترك - ، وإمّا حال عدمه ، فلا يتمكّن من الفعل.

ولا يخفى انّ هذه الشبهة جارية في نفي القدرة بالمعنى الثاني - أعني : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - لا بالمعنى الثالث الملزوم للحدوث. وأيضا لا اختصاص لهذه الشبهة لنفي قدرة الواجب - تعالى - ، بل يجري في نفي قدرة العبد أيضا.

ثمّ الظاهر انّ تلك الشبهة انّما تنتهض حجّة على من قال انّ نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء - كالمحقّق الطوسى وأكثر المعتزلة - ؛ وأمّا الأشاعرة القائلون بأنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بالطرفين بل تتعلّق بالطرف الواقع وانّ القدرة على الترك

ص: 361


1- كريمة 39 ، الرعد.

لا يكون حال الفعل وبالعكس ، فالظاهر عدم ورودها عليهم.

وجوابها : أمّا أوّلا : فباختيار الشقّ الأوّل ، يعني نختار انّ القدرة - أعني : التمكّن من الفعل والترك - حال وجود الأثر. قوله : « وحينئذ وجب وجود الأثر » يجاب عنه : بأنّ وجوب وجود الأثر بالارادة لا ينافي امكان الترك بالنظر إلى ذات القادر ، فانّ التمكّن من الفعل والترك انّما يكون بالنظر إلى ذات القادر من حيث هو قادر.

وأمّا ثانيا : فباختيار الشّق الثاني. والجواب عن قوله : « فلا يتمكّن من الفعل » : انّ وجوب الترك وعدم التمكّن من الفعل باعتبار الإرادة الموجبة لا ينافي امكان الفعل بالنظر إلى ذات القادر. وحاصل اختيار الشقّين انّ وجوب وجود المعلول حال وجوده وعدمه حال عدمه إنّما يكون بسبب الإرادة الموجبة لكلّ واحد منهما في حاله ، وذلك لا ينافي امكان الفعل والترك ولا يستلزم وجوبهما في حاليهما بالنظر إلى ذات القادر من حيث هو قادر من دون ملاحظة الإرادة وعدمها.

قال بعض الأعلام : هذا الجواب مبني على بناء الشبهة على الوجوب السابق الّذي قد يحصل بالارادة. وأمّا لو كان بنائها على الوجوب اللاحق - المعبّر بالضرورة بشرط المحمول - فالانسب في تقرير الجواب أن يقال : وجوب وجود المعلول حال الوجود بالنظر إلى الوجود لا ينافي امكانه بالنظر إلى الفاعل القادر وكذلك في حال العدم.

قيل : لمّا كانت علّة الترك هي ذات الفاعل وعلّة وجوب الاثر هي الإرادة وهما بالنسبة إلى ذاته - تعالى - متحدان بالذات ومتغايران بالاعتبار وقد ثبت انّ اتحاد العلّة يوجب اتحاد المعلول فينبغي أن يكون المعلولان هاهنا - أعني : ترك العالم ، أي : عدمه ووجوب وجوده - متحدين بالذات ومتغايرين بالاعتبار. مثل ما قال المحقّق الطوسى - رحمه اللّه - في شرح الاشارات في اثبات انّ علمه - تعالى - بالاشياء نفس ذاتها ما حاصله : انّ ذاته - تعالى - علمه للأشياء وعالم بذاته والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول ، وكما انّ العلّتين - أعني : ذاته تعالى وعلمه بذاته - متّحدان بالذات ومتغايران بالاعتبار فكذلك المعلولان - أعني : وجود الاشياء ومعلوليّتها - متّحدان بالذات ومتغايران بالاعتبار ، فعلمه بالاشياء / 78DA / نفس الأشياء. وإذا كان ترك

ص: 362

تأثير العالم مع وجوب وجوده متغايرين لمجرد الاعتبار فيلزم الايجاب الرافع للترك بحسب الواقع ، بل الترك حينئذ يكون لمجرد تحليل العقل بالنسبة إلى ماهية العالم الممكنة الوقوع في أيّ وقت كان ، فكيف يكون الاختيار الّذي يقول به المتكلّم - أي : الاختيار الّذي يوجب الترك بحسب الواقع (1) -.

وأنت تعلم / 81MB / انّ هذا الاشكال نظير ما تقدّم من أنّ الإرادة في الواجب - تعالى - إذا كانت عين ذاته فكيف يتحقّق امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات ، بل حينئذ يلزم وجوب الفعل بالنظر إلى الذات لوجوبه بالارادة الّتي هي عين الذات.

والجواب عن هذا الاشكال على نظير ما تقدّم من (2) أن علّة صحّة ترك العالم هي ذات القادر من حيث هي وعلّة وجوب وجوده في وقت الحدوث ليس مجرّد الإرادة الّتي هي عين الذات ، بل أصلحية موجودية العالم بهذا النحو أو ذات الوقت - كما تقدّم - ، فالعلّتان متغايرتان ، فلا يلزم اتحاد المعلولين.

وقيل في الجواب (3) : انّ امكان الترك الّذي هو من مقتضى القدرة بالنسبة إلى ماهية العالم بحسب الواقع لا يقتضي تخالف المعلولين في الواقع ، لأنّ الواقع وجب وجوده بعد العدم الواقعي اللائق له موصوف بصفة المتروكية له في الأزل ، وهو أيضا موصوف بصفة وجوب الوجود بالغير في مرتبة وجوده بالنظر إلى علم اللّه - تعالى - بوقوعه على أتمّ الوجه. فالترك والوجوب - اللذان وقعا صفتين للعالم - متحدان بالذات متغايران بالاعتبار ، لأنّ كون العالم متروكا في الأزل موجودا فيما لا يزال ليس أمرين متغايرين بالذات بالقياس إلى العالم ، بل تغايرهما بمجرّد الاعتبار ، لأنّ اعتبار تركه في الأزل بملاحظة مهيته الممكنة بالنسبة إلى قدرته - تعالى - واعتبار وجوب وجوده فيما لا يزال بملاحظة أصلحية هذا النحو من الوجود له بالنسبة إلى علمه - تعالى - بالأصلح الموجب لوجوده في هذا الوقت ؛ انتهى.

ص: 363


1- راجع : شرح الاشارات ، المطبوع مع المحاكمات ، ج 3 ، ص 300 ؛ شرحي الاشارات ، ج 2 ، ص 70.
2- الاصل : - من.
3- هامش « د » : القائل آقا حسين التنكابني.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب لا يخلوا عن اختلال ما - كما لا يخفى -. مع أنّه مبني على كون الشبهة جارية في القدرة الملزومة للحدوث ، وقد عرفت أنّها ليست جارية فيها بل جارية في القدرة بالمعنى المشهور ؛ هذا.

وقيل في الجواب عن الشبهة : انّا نختار انّ القدرة حال عدم الاثر لكنها عبارة عن التمكن من الفعل في ثاني الحال ؛ فلا ينافيه العدم في الحال ، بل يجتمع معه.

وغير خفيّ انّه يمكن أن يحمل هذا الجواب على محملين :

أحدهما : هو انّا نختار انّ القدرة في حال العدم ، لكن معناها التمكّن على الفعل والترك بالنسبة إلى زمان واحد. وهو ثاني الحال. وعلى هذا الحمل يكون المراد من القدرة معناها الحقيقي المعتبر عند أهل التحقيق - أعني : التمكّن من الفعل والترك بالنسبة إلى زمان واحد وهو ثاني الحال - ، بمعنى انّه يصدق على القادر في حال العدم انّه قادر على كلا طرفي الفعل في الاستقبال ، لا على الوجود فقط. وكذا في حال الوجود يكون قادرا على كلا طرفي الفعل في الاستقبال ، لا على العدم فقط.

ويرد على هذا الحمل : انّ ثاني الحال لا يخلوا عن وجود الفعل وعدمه ، فيعود السؤال على التقديرين - أي : على تقدير وجود الفعل وعدمه - ، لأنّ ثاني الحال إن كان حال وجود الفعل فلا يتمكّن من الترك ، وإن كان حال عدم الفعل فلا يتمكّن من الفعل ، فلا يتحقّق القدرة على المستقبل. فلا بدّ لاتمام هذا الجواب حينئذ من التمسّك بالجواب الّذي ذكرناه أوّلا من أنّ وجوب أحد الطرفين وعدم التمكّن على الطرف الآخر بالارادة لا ينافي الامكان بالنظر إلى ذات القادر ، فيطول المسافة في الجواب. على أنّه لا تخصيص لاختيار الشقّ الثاني حينئذ ، إذ كما يمكن اختيار الشق الثاني باعتبار التمكّن من الفعل والترك بمعنى ابقاء الترك على ما كان في ثاني الحال كذلك يمكن اختيار الشقّ الأوّل باعتبار التمكّن على الترك والفعل بمعنى ابقاء الفعل على ما كان في ثانى الحال ، أو باعتبار التمكّن على الفعل والترك بمعنى ابقاء الترك على حاله قبل زمان الفعل.

وثانيهما : انا لا نعني بالقادر من يتمكّن من الفعل والترك كليهما في زمان واحد ،

ص: 364

بل من له التمكّن من الترك في زمان ومن الفعل في زمان آخر وإن لم يتمكّن في كلّ من الزمانين على الطرف الآخر.

وهذا الحمل وإن لم يرد عليه ما يرد على الحمل الأوّل من عود السؤال إلاّ أنّه ظاهر الفساد ، إذ لا شكّ أنّ / 82MA / القدرة إنّما تعتبر بالنسبة إلى الزمان / 78DB / الواحد ومراد المحقّقين من القدرة ما يكون تعلّقها بالطرفين سواء - أي : التمكّن من كلّ منهما في زمان واحد - لا ما يتعلّق بأحد الطرفين ، - أي : يكون التمكّن من الوجود في زمان ومن العدم في زمان آخر -. قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الذات والصفات : قال المتكلّمون : انّ القدرة من الكيفيات النفسانية وهي مغايرة للطبيعة لمقارنة الشعور - أي : لمقارنة القدرة للشعور -. بخلاف الطبيعة ، فانّه لا يلزم مقارنتها له ومغايرة المزاج للمغايرة في التابع - أي : الأثر - ، فانّ أثر المزاج من جنس الكيفيات الّتي حصل من تفاعلها هذا المزاج ؛ بخلاف أثر القدرة ، فانّ شأنها التأثير على وفق الإرادة وهي - أي : القدرة - مصحّحة للفعل بالنسبة إلى الفاعل وتعلّقها بالطرفين سواء (1).

وقال بعض الأعلام : انّ المعتزلة ذهبوا إلى أنّ تعلّق القدرة بالطرفين على السواء ، واختاره المحقّق الطوسي كما قال في مبحث الاعراض من التجريد : وتعلّقها بالطرفين على السواء ، وتتقدّم الفعل (2). ولا ريب في أنّه إذا كان تعلّق القدرة بالطرفين فلا يمكن أن يقال انّ التمكّن من أحد الطرفين في الحال ومن الآخر في ثاني الحال ، لأنّ الحال إذا كانت حال العدم فلا يتمكّن من الفعل فيها وإذا كانت حال الفعل فلا يتمكّن من الترك فيها ، فلا يكون نسبة تعلّق القدرة فيها بالطرفين على السواء. وبالجملة نسبة القدرة إلى الطرفين نسبة جوازية فلا يجتمع مع النسبة الوجوبية ، فلا بدّ من الجواب الّذي ذكرناه أوّلا ؛ هذا.

ويرد على هذا الحمل أيضا : انّه إذا كانت القدرة معتبرة بالنسبة إلى أحد الطرفين فلا وجه حينئذ لاختيار شقّ العدم ، بل كلا الشقّين حينئذ على السواء ، لأنّ التمكّن من الفعل والترك إذا لم يكن في حال واحد فكما يمكن اختيار الشّق الثاني باعتبار انّ التمكّن

ص: 365


1- لم أعثر على تلك الرسالة ، والظاهر انّها لم تطبع بعد.
2- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من مباحث الاعراض ؛ كشف المراد ، ص 191.

من الفعل في ثاني الحال والترك واجب حال العدم كذلك يمكن اختيار الشقّ الأوّل باعتبار أنّ الفعل واجب حال الوجوب ، والتمكّن من الترك يكون مقدّما على حال الوجود أو بعد ذلك بأن يترك الفعل ، فلا ينافي الوجود في الحال.

وتحقيق المقام انّ القدرة الّتي هي المتنازع فيها - وقال بها المحقّقون من المعتزلة وغيرهم - هي التمكّن من الفعل وتركه المقابل له ، والعدم في الحال ليس مقابلا للوجود في المستقبل فلا تتحقّق القدرة بالمعنى المقصود. ولم يذهب أحد إلى أنّ القدرة لا يكون تعلّقها بالطرفين على السواء ، إلاّ الأشاعرة القائلون بأنّ تعلّق القدرة انّما هو بطرف واحد ، وهو الطرف الواقع. وما يدلّ على بطلان ما ذهبوا إليه وعلى أنّ القدرة المتنازع فيها هي المتعلّقة بالطرفين سواء إنّ القادر عند القوم هو الّذي يصحّ منه الفعل والترك ، فيتساوى نسبته إليهما ، وإنّ المتكلّمين انّما نفوا الايجاب لزعمهم أنّ صدور الفعل عن الفاعل بحيث لا يتمكّن من امساك نفسه عنه نقص في حقّه - تعالى - ، فيجب تنزيهه - تعالى - عنه. فالقدرة الّتي تلائم غرضهم هي الحالة الّتي بها يتمكّن الفاعل من الترك حين الفعل ومن الفعل حين الترك بالنظر إلى الذات ، وإن وجب احد الطرفين بالنظر إلى الإرادة. وأمّا القدرة بمعنى وجوب العدم في وقت ووجوب الفعل في وقت آخر فلا تلائم مطلوبهم ؛ والفاعل بهذه القدرة لا يتمكّن من امساك نفسه عن الترك في حال العدم ومن الفعل في حال الوجود ، فيكون مضطرّا في كلّ واحد من الحالين. وهذه المفسدة أشدّ من مفسدة الايجاب المنفي ، إذ هي عدم تمكّن الفاعل عن امساك نفسه عن أحد طرفي المقدور ، وهذه عن كلا طرفيه!.

ثمّ ذهاب الأشاعرة إلى أنّ القدرة متعلّقة بطرف واحد مبنيّ على ما استقرّ رأيهم عليه من أنّ القدرة مع الفعل لا قبله - كما ذهب إليه المعتزلة على ما سيأتي - ، فلا يتعلّق بالضدين وإلاّ لزم اجتماعهما ، لوجوب مقارنتهما لتلك القدرة المتعلّقة. وسيأتي تحقيق القول في كون القدرة مع الفعل أو قبله ، ونشير إلى أنّ الحقّ كون ذلك النزاع - أي : كون القدرة قبل الفعل أو معه - بين / 82MB / المعتزلة والأشاعرة راجعا إلى النزاع في أفعال العباد. فالحقّ انّ هذا النزاع بينهما - أي : كون القدرة متعلّقة بالطرفين على السواء

ص: 366

أو متعلّقة بطرف واحد - أيضا راجع إليه ، ونشير إلى أنّ هذا الخلاف ان كان متحقّقا فلا بدّ أن يكون بين المعتزلة الّذين يثبتون لقدرة العباد تأثيرا ثمّ نشير إلى تحقيق الحقّ فيه.

وبيانه هنا : انّ القدرة قد يراد بها القوّة الّتي هي مبدأ التأثير ومصدر الأفعال المختلفة سواء كان مع جميع / 79DA / شرائط التأثير في الفعل أو الترك أولا ، وقد يراد بها القوّة المستجمعة لجميع شرائط التأثير. ولا ريب في أنّ القدرة بالمعنى الأوّل تعلّقها بالطرفين سواء ، وبالمعنى الثاني تعلّقها انّما هو بالطرف الواحد - وهو الطرف الواقع - ؛ فالظاهر انّ مراد المعتزلة من القدرة المتعلّقة بالطرفين سواء هو المعنى الأوّل ومراد الأشاعرة من القدرة المتعلّقة بطرف واحد هو الثاني. وممّن تفطّن بذلك الامام الرازي حيث قال : القدرة تطلق على القوّة الّتي هي مبدأ الأفعال المختلفة بحيث متى انضمّت إليها إرادة أحد الضدين حصل ذلك الضدّ ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر حصل ذلك الآخر ، ولا شكّ انّ نسبة هذه القوّة إلى الضدين على السواء. ويطلق أيضا على القوّة المستجمعة لشرائط التأثير برمّتها. ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدين وإلاّ اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ، سواء كانا متضادّين أو غير متضادين. وذلك - أي : تغاير القدرة بتغاير المقدورات - لاختلاف الشرائط المعتبرة في وجوب المقدورات المختلفة ، فانّ خصوصية كلّ مقدور لها شرط مخصوص به يتعيّن وجوده من بين المقدورات المشتركة. ألا ترى انّ القصد المتعلّق بها شرط لوجودها دون غيرها؟!.

ولعلّ الشيخ الأشعري أراد بالقدرة : القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، فلذلك حكم بأنّها لا تتعلّق بالضدين. ولعلّ المعتزلة أرادوا بالقدرة : القوّة ( الّتي ) (1) هي مبدأ الأفعال المختلفة ، فلذلك قالوا بتعلّقها بالضدّين ؛ هذا.

واعلم! أنّ قول المحقّق الطوسي في التجريد : « ويمكن اجتماع القدرة على المستقبل

ص: 367


1- لفظة ( الّتي ) لم توجد في النسختين.

مع العدم في الحال (1) » ، اشارة إلى الجواب الأخير مع احتماله للحملين المذكورين ، ومع اختيار الشقّ الثاني ؛ وقد عرفت ما في الحملين وعدم تعين الشقّ الثاني في الاختيار.

قال بعض الأفاضل : لا يخفى انّ جواب المحقّق الطوسي جواب على كلّ من شقّي الترديد ، إلاّ أنّه ذكر الجواب على أحد الشقين وترك الآخر قياسا عليه ، فانّ حاصله : انّ القدرة إمّا قدرة على الوجود ، وإمّا قدرة على العدم ؛ فان كانت قدرة يختار أنّها متحقّقة حال الوجود ، لكنّها عبارة عن التمكّن من العدم ثاني الحال. وأمّا القدرة بالنسبة إلى الطرفين معا فلا يمكن تحقّقها إلاّ في مرتبة الذات إلاّ في حال من الأحوال ، إذ لا يمكن تحقّق حال تكون خالية عن كلا طرفي وجود الممكن وعدمه ليتصوّر تحقّق القدرة بالنسبة إليها معا هناك : انتهى.

ولا ريب في أنّ ما ذكره انّما هو مبني على الحمل الثاني.

ويرد عليه : انّ مراد المحقّق من القدرة هي القدرة المتعلّقة بالطرفين ، لأنّ القدرة عنده هي المتعلّقة بالطرفين لا المتعلّقة بأحد الطرفين ، إذ هو لا يقول بها. وقد عرفت أيضا انّ المعتبر في القدرة حصول التمكّن من كلّ منهما في زمان واحد ، لا أن يكون التمكّن من الوجود في زمان ومن العدم في زمان آخر. وقد شنع هذا الفاضل نفسه في مقام آخر على بعض من اعتبر في القدرة التمكّن على أحد الطرفين ، فالواجب أن يحمل كلامه على أنّه يمكن اجتماع القدرة على المستقبل - أي : على الفعل فيه أو الترك كليهما - مع عدم الفعل أو الترك في الحال. على أن يكون أحد الشقّين محالا على المقايسة مع اعتبار وحدة زمان الطرفين بأن يصدق في حال العدم انّه قادر على كلا طرفي الفعل في الاستقبال ، لا على الوجود فقط. وكذا في حال الوجود يكون قادرا على كلا الطرفين في الاستقبال لا على العدم فقط.

والأظهر أن يحمل عبارته على أنّه يمكن اجتماع القدرة على المستقبل - أي : على الفعل والترك - فيه في حال عدم القدرة ، / 83MA / وحينئذ لا يكون أحد الشقّين محالا

ص: 368


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 218.

على المقايسة ، فلا يحتاج إلى عناية. نعم! يرد عليه على أيّ تقدير أنّ الاستقبال لا يخلوا عن الفعل أو الترك ، فلا يمكن تحقّق القدرة عليها فيه. فلا بدّ بأن يجاب بأنّ المراد أنّ قبل الاستقبال يتحقّق القدرة عليهما فيه بالنظر إلى ذات القادر ، فان القادر المختار من حيث هو قادر من شأنه ترجيح كل من الطرفين بالارادة المخصّصة بالداعي في ثاني الحال لا بالنظر إلى الإرادة الفعلية وشرائط التأثير ، فانّه لا يمكن تحقّق القدرة على الفعل والترك معا بالنظر إلى الإرادة وغيرها من شرائط التأثير ، لأنّه لا ريب في تعيّن أحد الطرفين بالنظر إلى شرائط التأثير.

وإذا أجيب بما ذكر وإن طال المسافة في الجواب نظرا إلى أنّه إذا اخذ التمكّن على الفعل والترك بالنظر إلى ذات القادر يمكن أن يقال : انّ كلاّ منهما مقدور / 79DB / بالنظر إلى ذات القادر في كلّ وقت سواء كان ماضيا أو حالا أو استقبالا. ولا يفتقر إلى أن يقال بحصول القدرة في الحال بالايقاع في ثاني الحال ، إلاّ أنّ ارتكاب هذا التطويل اقلّ شناعة من الحمل على أنّ المراد تحقّق التمكّن على كلّ من الطرفين في زمان على حدة.

وقال بعض المشاهير في توجيه العبارة المذكورة : انّ تلك العبارة جواب عن قول من قال : انّ القدرة لا يتحقّق في حال العدم قبل الفعل ، لأنّ القدرة لا يمكن أن يجتمع مع العدم ؛ فأجاب المحقّق بأنّ القدرة على الفعل في المستقبل متحقّقة في الحال مع عدم الفعل في الحال ، فهو ردّ على الأشعرية في قولهم : انّ الفاعل لا يقدر على الفعل قبل وجوده ؛ انتهى.

قال بعض الأفاضل : هذا التوجيه يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون المراد أنّ العبارة المذكورة جواب لقول الأشعري : انّ القدرة الحادثة - أى : قدرة العبد - لا تتحقّق قبل الفعل مع العدم ، لأنّ في وقت العدم تحقّق شرائط التأثير في العدم ، فلا قدرة على الوجود حينئذ. فالقدرة على الوجود لا يكون إلاّ حين الوجود. وكذا الحال في القدرة على العدم. فاجاب المحقّق بأنّ القدرة على الفعل في المستقبل متحقّقة الحال. وهذا لا ينافي تحقّق شرائط التأثير في العدم في الحال.

نعم! ؛ لو تحقّق شرائط التأثير في العدم في الاستقبال لما تحقّق القدرة عليه. فهذا ردّ على

ص: 369

الأشعري انّ القدرة لا تتحقّق قبل الفعل ، لا على من أنكر القدرة مطلقا.

ويرد على هذا التوجيه انّه لا يلائم لا يراد هذا في بحث قدرة اللّه - تعالى - ، وكذا لا يلائم لفظ الامكان.

وثانيها (1) : انّه جواب لمن انكر وجود القدرة قبل الفعل مطلقا للوجه الّذي ذكر بعينه. وحينئذ وإن لم يرد ما ذكر من الوجهين إلاّ أنّه يرد عليه : انّ هذا البحث قد تقدّم من المحقّق في مبحث الأعراض ، فلا وجه لا عادته هنا.

وثالثها : انّه جواب لمن انكر القدرة الأزلية بناء على ما تقرّر عند الأشعري : انّ القدرة لا تكون قبل الفعل ، فأجاب المحقّق بردّ مذهب الأشعري - كما سبق منه في مبحث الأعراض - حتّى يبطل مستمسك هذا المنكر.

ورابعها : انّه جواب أيضا لمن انكر القدرة الأزلية ؛ لكن لا يكون مأخذ انكاره ما تقدّم من أنّ القدرة لا تكون قبل الفعل ، بل يكون نظره إلى الاستدلال عليه بما ذكرنا من أنّ في وقت العدم تحقّق شرائط التأثير ، فأجاب المحقّق بردّ هذا الاستدلال على ما ذكر ؛ انتهى حاصل ما ذكره بعض الأفاضل.

وأنت تعلم انّ التوجيه المذكور باحتمالاته عبارة المحقّق ، فانّ تخلّل تلك العبارة في أجوبة شبه المنكرين لأصل القدرة ووجودها مطلقا شاهد صدق على أنّها أيضا جواب عن الشبهة المذكورة لنفي القدرة مطلقا - على ما قرّرناه -. وحملها على أنّه جواب عن انكار تحقّق القدرة في بعض الأوقات أو انكار تحقّق بعض أفراد القدرة غير ملائم لسوق الكلام - كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام -.

وقد عرفت أيضا ما يرد على بعض احتمالاته.

وقيل : انّ تلك العبارة ردّ على الأشعري الّذي يقول بأنّ القدرة الحادثة لا تجتمع مع عدم الفعل - أي : في زمان عدمه - ، بل يوجد مع / 83MB / الفعل. ومنشأ صدور هذا القول من الأشعري انّ العدم لا يجوز أن يكون متعلّقا للقدرة ، لأنّه ازلي والأزلى لا يكون مقدورا. وأيضا العدم نفي محض والمنفي المحض لا يقبل التأثير. فاجاب المحقّق

ص: 370


1- الاصل : ثانيهما.

بأنّه يمكن اجتماع القدرة مع العدم بأن تتعلّق في زمان عدم الفعل بايجاده في الزمان المستقبل ، فلا محذور. ولا يلزم من هذا كون العدم أثرا للقدرة ؛ انتهى.

وفيه : انّ أحدا من الأشاعرة لم يتمسّك في اثبات ما ذهبوا إليه من عدم تحقّق القدرة قبل الفعل بما جعله منشئا لقولهم ، بل لهم أدلّة اخر - كما يأتى -. وأيضا غرض الأشاعرة انّ القدرة على الفعل مع الفعل وعلى الترك مع الترك ، ولا تكون متقدّمة على شيء منهما ، لا أنّ القدرة على الفعل فقط مع الفعل. والوجه الّذي جعله منشئا لقول الاشعري انّما يجري في كون القدرة على الفعل فقط مع الفعل. ولا يجري في كون القدرة على الترك معه ، بل يدلّ على عدم كونها معه. نعم! كون العدم مقدورا أم لا نزاع آخر بين الأشاعرة والمعتزلة ، ولا دخل له بهذا النزاع.

ثمّ انّه يرد على هذا التوجيه ما ذكرناه سابقا ، وما نقلنا عن الايرادين عن بعض الأفاضل.

تتميم

اختلف المتكلّمون في أنّ القدرة هل هي مع الفعل أو قبله؟. فذهب المعتزلة إلى الثانى ؛ والاشاعرة إلى الأوّل.

ثمّ قيل : إنّ الخلاف انّما هو في القدرة الحادثة - أي : قدرة العبد المسمّاة بالاستطاعة -. وأمّا القدرة القديمة - أي : قدرة / 80DA / اللّه تعالى - فلا خلاف في أنّها قبل الفعل وتعلّقاتها حادثة. وقيل : الظاهر من كلام المحقّق الطوسي في مبحث الكيفيات النفسانية من التجريد (1) انّ النزاع في مطلق القدرة حيث استدلّ على كون القدرة متقدّمة بادلّة ثلاثة :

منها : انّه لو لا تقدّمها على الفعل لزم أحد المحالين - يعني : قدم العالم أو حدوث قدرة اللّه تعالى -. لكن الشارح أجاب عنه بتخصيص النزاع بالقدرة الحادثة (2). و

ص: 371


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من مباحث الاعراض ؛ كشف المراد ، ص 192.
2- راجع : الشرح الجديد ، ص 274.

كأنّه تأويل لكلامهم وتعصّب من جانبهم! إذ أكثر ادلّتهم تجري في قدرة اللّه أيضا.

وقيل : النزاع - على ما يظهر من عبارة شارح المقاصد - في القدرة المتعلّقة - أي القدرة بوصف تعلّقها بالمقدور - ولا ريب أنّ تعلّق القدرة الأزلية حادث عند الأشعرية ، فيمكنهم تسليم حدوث قدرة اللّه - أي : حدوث تعلّقها ومنع محاليته - فعلى هذا يجري النزاع في قدرة اللّه - تعالى - أيضا ، ويكون حاصل النزاع : انّ القدرة بعد تعلّقها بالفعل - سواء كانت قدرة اللّه أو قدرة العبد - هل هي قبله أو معه؟.

وأنت خبير بأنّ المراد بالقدرة المتعلّقة إن كان ما هو ظاهر معناها - كما ذكرناه - فلا يعقل نسبة القول بكونها متقدّمة على الفعل إلى المعتزلة ؛ ولو كان المراد بها معنى آخر فانّها يظهر حقيقة الأمر بعد بيانه. ويأتي - إنشاء اللّه - في تحقيق المقام انّ النزاع ينبغي أن يكون في ما ذا؟.

ثمّ انّ للمعتزلة ادلّة ثلاثة :

اوّلها : انّ القدرة تنافي حقيقتها لكونها مع الفعل ، لأنّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها الفعل ، وكونها مع الفعل يلزمه أن يستغني عنها ، لأنّ الفعل عند الحصول لا يحتاج إلى القدرة.

وأجيب عنه : بأنّ حصول الفعل لا ينافي احتياجه إلى القدرة الّتي هى علّة ، فانّ حصول المعلول لا ينافي احتياجه إلى علّته.

وما يتوهّم من أنّه يلزم حينئذ تحصيل الحاصل واحداث الحادث وايجاد الموجود ؛ فجوابه : انّ المحال تحصيل الحاصل بتحصيل آخر لا بذلك التحصيل ، واحداث الحادث باحداث آخر لا بذلك الاحداث ، وايجاد الموجود بايجاد آخر لا بذلك الايجاد - وسيأتي توضيح ذلك -.

وقيل في الجواب : انّ عدم احتياج الفعل بعد حصوله إلى القدرة ينافي ما ثبت من حاجة المعلول حال البقاء أيضا إلى علّة الوجود. وكونها مثل استعداد القائل أوّل المسألة!. وجعل الدليل مبنيا على قول من قال بعدم الحاجة بعد الحدوث مع بعده لا يفيد ، إذ النزاع في حال الوجود مطلقا ؛ انتهى.

ص: 372

وأورد عليه : بانّه لا ربط لحديث البقاء هاهنا ، إذ النزاع في حال الوجود - أي : الحدوث -. ولئن سلّم انّه في حال / 84MA / الوجود مطلقا فلا وجه أيضا لهذا الايراد ، بل لا يرد على هذا الدليل شيء غير ما أجيب به عنه أوّلا.

وقد وجّه بعض الفضلاء الدليل المذكور بأنّ وجوب كون القدرة مع الفعل ينافي مفهومها ومعناها الّذي هو التمكّن من الفعل والترك المقتضي لصحة تعلّق القدرة المتعلّقة بالفعل من حيث هي قدرة عليه بالترك أيضا ، الموجب لامكان كونها في الحالين واحدة.

وثانيها : انّه لو لم تكن القدرة قبل الفعل - بل كانت مقارنة له غير مفارقة عنه - لزم أحد المحالين : إمّا قدم العالم ؛ أو حدوث قدرة اللّه - تعالى - ضرورة عدم انفكاك كلّ من القدرة والفعل حينئذ عن الآخر ، والتالي بقسميه باطل.

وأجيب عنه : بأنّ كلامنا في قدرة العبد ، ولم ندّع انّ القدرة على الاطلاق مقارنة للفعل ليرد علينا قدم العالم أو حدوث قدرة اللّه ، بل قدرة اللّه - تعالى - قديمة ولها تعلّقات حادثة مقارنة للأفعال الصادرة عنّا. وسيأتي ما يرشدك إلى أنّ المتنازع فيه ما ذا؟.

وثالثها : انّه لو لم تتحقّق القدرة قبل الفعل لم يكن الايمان حال الكفر مقدورا للكافر ، فيكون تكليف الكافر بالايمان تكليف غير القادر ، ولم تكن الطاعة حال العصيان مقدورة. فيكون عذر العاصى ترك المأمور به مقبولا ، بل يلزم عدم تحقّق عصيان أصلا!.

وأجيب عنه : بأنّ تكليف الكافر في الحال بايقاع الايمان في ثاني الحال والقدرة انّما يحتاج إليها حين الفعل ، لا حين التكليف.

وفيه : انّ هذا الالتزام آن تخيير المكلف ليس ثابتا قبل الفعل - أي : حال الكفر -.

ولا شكّ في بطلانه ، إذ ظاهر انّ الكافر في كلّ آن مكلّف منجّزا بالاسلام بدلا عن كفره في هذا الآن ، ويأثم بتأخيره إلى الآن الآخر. وهذا ظاهر والمانع مكابر مقتص عقله.

وأيضا حاصل الجواب المذكور : انّ الكافر في آن كفره مكلّف بأن يقع عنه الإيمان

ص: 373

في الآن اللاحق بذلك الآن ، فلا ينافي عدم مقدورية / 80DB / الايمان له حال التكليف فيثبت التكليف في بعض الأزمنة بدون القدرة. ولا ريب في أنّه مستلزم لتقدّم المشروط على الشرط بالزمان ، وهو غريب.

وأيضا : يلزم على الجواب المذكور أن لا يكون الكافر مكلّفا بالاسلام في أوّل زمان بلوغه ؛ والتزامه مشكل إذ كلّ تكليف على هذا يكون بايقاع الفعل في ثاني الحال. ففي أوّل زمان البلوغ لا يكون مكلّفا بالاسلام فيه ، بل في ثاني الحال. ولا تكليف قبل البلوغ حتّى يكون تكليفا بالاسلام في أوّل زمان البلوغ. والقول بأنّ قبل البلوغ يجوز مثل هذا التكليف وإن لم يجز التكليف التنجّزي فيه لا يخلوا عن اشكال!

وقيل : يمكن أن يقال : انّ بعد آن انتهاء زمان عدم البلوغ لا يمكن فرض آن آخر متّصل به حتّى يمكن أن يقال ليس مكلّفا بالاسلام فيه وكلّف فيه بالاسلام بعده ، أو كلّف قبل البلوغ بالاسلام فيه بل كلّ آن يفرض بعده فبينه وبين الآن المفروض زمان. وحينئذ فنقول : كلّ آن فرض في زمان البلوغ وقع التكليف فيه بايقاع الاسلام فيه ، فلم يتحقّق إن لم يكن مكلّفا بالاسلام فيه. نعم! لو كان لزمان البلوغ آن أوّل لزم أن لا يكون مكلّفا بالاسلام فيه ، وليس فليس ؛ فالمراد بأوّل زمان البلوغ ان كان هو الآن الحدّ المشترك بين زمان البلوغ وعدمه ففيه : انّه لا اسلام فيه اصلا ؛ وإن كان هو أوّل آن يكون الاسلام فيه فليس آن كذلك ؛ وإن كان هو قطعة من الزمان الّتي في ابتداء البلوغ أو الآنات المفروضة فيها فنقول : أنّه قد تحقّق التكليف بالاسلام فيها ، لأنّ التكليف بالاسلام في كلّ جزء وقع سابقا عليه ؛ انتهى.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاختلال!. لأنّه لا ريب في امكان فرض آن متّصل بآن انتهاء زمان عدم البلوغ وهو آن أوّل البلوغ. وليت شعري ما العلّة لعدم امكان فرض هذا الآن!. فان كانت العلّة هي أنّ تحقّق الآن موقوف على حدوث أمر دفعى يمتاز به جزء غير منقسم من الزمان وبعد انتهاء زمان عدم البلوغ لا يتصوّر مثل ذلك فلا يتحقّق آن متّصل به ، / 84MB / ففيه : انّ حصول البلوغ أمر دفعي مصحّح لغرض

ص: 374

الآن ؛ وإن كانت العلّة غير ذلك فلا بدّ من بيانها حتّى ننظر في صحّتها وفسادها!.

وبذلك يظهر فساد ما في كلامه الّذي فرع على ما توهّمه من عدم امكان فرض آن متّصل بآن انتهاء زمان عدم البلوغ.

ثمّ أورد على الجواب المذكور أيضا : بأنّه إن استمرّ الكفر في ثاني الحال فلا قدرة فيه على الايمان ، لأنّ المفروض انّ القدرة لا يكون إلاّ مع الفعل ، وإن تبدّل بالايمان لم يكن مكلّفا بالايمان فيه - لاستحالة التكليف بتحصيل الحاصل - فيتحقّق التنافي بين التكليف والقدرة الّتي هي شرطه ، إذ ما لم يحصل الايمان لم يكن مقدورا ؛ وإذا حصل لم يكن مكلّفا به ، فيستحيل اجتماعهما. بل يجتمع دائما عدم القدرة مع التكليف ، لأنّ قبل الفعل لا قدرة والتكليف ثابت ، ومع الفعل لا تكليف والقدرة ثابتة.

وغير خفيّ انّه لو اكتفى بالشقّ الأوّل من الترديد لكفى في ردّ الجواب المذكور ، لأنّه إذا لم تكن قبل الايمان قدرة عليه فما دام يستمرّ كفر كافر لا يكون مكلّفا بالايمان أصلا ، فيبقى العقاب رأسا على مطلق الكفر ، ولا يتوجّه ذم ولوم على أحد من الكفار!.

قيل في دفع هذا الايراد : انّ التكليف لا يتعلّق إلاّ بما هو مقدور على تقدير وجوده ، واللازم منه أن يكون المكلّف به مقدورا في أيّ زمان فرض ، ولا يشترط كون القدرة مجامعة للتكليف. وتوضيحه : انّ شرط القدرة اجتماعها مع الفعل لا اجتماعها مع التكليف ، لأنّه يجوز عند الأشاعرة أن يكون التكليف مقدّما على القدرة ويكفي في كون المكلّف به مقدورا عندهم صلاحية تعلّق القدرة به - أي : كونه بحيث إذا فعل وقع مقارنا للقدرة -. ولا شكّ في تحقّق هذا المعنى حال عدم الفعل ، إذ يصدق أنّ التكليف قد تعلّق بما هو مقدور على تقدير وجوده. ولم يعتبر المقدورية بالفعل حتّى يرد الاشكال على أنّ التكليف بتحصيل الحاصل إنّما يستحيل إذا كان حاصلا بتحصيل آخر ، لا بذلك التحصيل ؛ وحينئذ جاز أن يستمرّ التكليف حال القدرة. فاندفع تشنيع المعتزلة على الأشاعرة بلزوم عدم العصيان ، إذ لا تكليف قبل الفعل لعدم القدرة ، فلا عصيان. ومع الفعل لا عصيان أيضا ، لأنّهم لا يسلّمون عدم التكليف قبل القدرة.

ثمّ / 81DA / قيل : هذا الدفع دفع للايراد بتغيير الجواب!. إذ لا اختصاص لهذا

ص: 375

الكلام بالزمان الثاني ولا احتياج حينئذ إلى التزام أنّ التكليف وقع في الحال بايقاع الفعل في ثانى الحال ، اذ يصحّ التكليف بايقاع الفعل في الحال أيضا ، إذ في زمان العدم يكون الفعل مقدورا بالمعنى المذكور ، إذ لو كان فعله في هذا الزمان لوقع الفعل مقارنا للقدرة. والحاصل : انّ في زمان العدم كان الفعل ممكنا وليس المقدورية المذكورة إلاّ هذا الامكان. نعم! بشرط العدم ليس بممكن ، ولا كلام فيه. وأمّا العلاوة المشار إليها بقوله : على أنّ التكليف بتحصيل الحاصل - ... إلى آخره - ، فليس جوابا ثانيا باختيار الشقّ الثاني مختصّا بتقدير تبديل الكفر بالايمان مبنيا على منع لزوم تحصيل الحاصل ، نظرا إلى أنّ التكليف حال الفعل ليس فيه تحصيل الحاصل المحال ، إذ مع فرض صحّة هذا الجواب عن الشقّ الثاني لا يندفع الايراد ، لأنّ الشقّ الأوّل كاف لتحقّق المفسدة - كما اشرنا إليه -. فان قول المورد : انّ استمرّ فكذا وإن تبدّل فكذا ، ترديد وتقسيم للحكم بحسب الواقع ، لا استفسار وسؤال حتّى يوجّه الجواب باختيار أحد الشقين ، إذ مع تحقّق المفسدة للشقّين في الواقع إذا وقع مفسدة أحد الشقّين يبقي مفسدة الشقّ الآخر بحاله. فهي - أي : العلاوة المذكورة - تتمّة لما تقدّمها من الدفع على أن يكون ما تقدّم جوابا تامّا للايراد يندفع به الشقّان وتكون تلك العلاوة زيادة مختصّة بالشقّ الثاني يكون مفادها منع أن لا تكليف مع الفعل لأنّ ذلك ليس تحصيل الحاصل المحال. ويكون حاصل الدفع بعلاوته إنّا لا نسلّم أنّ شرط تعلّق التكليف بالفعل المقدورية بالفعل حتّى يتأتّى المنافاة ويستغرب التأخّر ، بل / 85MA / هو المقدورية على تقدير الاطاعة وفي وقتها. فلو مات على الكفر كان الايمان مقدورا له كذلك ، وهو مكلّف به إلى آن موته ، ولو آمن كان التكليف بالايمان إلى أوّل حدوثه وفعليته مقدوريته. على أنّه يمكن استمراره في حال الايمان أيضا ، ولا منافاة بناء على جواز تحصيل الحاصل بنفس ذلك التحصيل وجواز التكليف به ؛ انتهى ما قيل في دفع الايراد المذكور على الجواب الّذي ذكره الأشاعرة من دليل المعتزلة مع تنقيحه وتوضيحه.

وأنت تعلم انّ مناط هذا الدفع منع كون المقدورية بالفعل شرطا لتعلّق التكليف بالفعل. وهو مكابرة صرفة ، كيف! ولو لم تعتبر المقدورية الفعلية فعدم العصيان لازم

ص: 376

أمّا قبل الفعل فلعدم القدرة بالفعل ، وأمّا حال الفعل فللامتثال ، وإذا لم يتحقق القدرة بالفعل فأيّ فائدة لإمكانها؟ ، وما يفيد التمسّك بتحقّق هذا الامكان؟. فانّ الكافر في الآن الّذي بقي على كفره ولم يؤمن إن كان الايمان ممكنا له فيه وكان من شأنه وفي تمكينه وقوّته أن يؤمن فيه فكان له قدرة بالفعل فيه ، وإن لم يكن ذلك ممكنا له ولم يكن ذلك في قوّته وتمكّنه فيلزم التكليف بما لا يطاق لو كان مكلفا بالايمان فيه ، فلا يفيد القول بتحقّق امكان المقدورية. بل التحقيق انّه لا معنى للقول بتحقّق امكان المقدورية دون تحقّق المقدورية بالفعل ، فانّ معنى امكان المقدورية - على ما هو الظاهر - أن لا تكون القدرة حاصلة بالفعل للفاعل ولكن يمكن له احداث القدرة في ذاته. فالكافر في زمان كفره وإن لم تكن له قدرة بالفعل على الايمان فيه إلاّ أنّه كان من شأنه وفى قوّته أن يحدث القدرة في نفسه ثمّ يؤمن فيه بتلك القدرة المحدثة. ومعلوم على كلّ عاقل انّ التمكّن والقوّة على احداث القدرة في الزمان المذكور ليس إلاّ القدرة الفعليّة ، لان القدرة على احداث القدرة لو كان لها معنى محصّل هو عين القدرة ؛ وإن لم يكن من شأنه احداث القدرة فيه بل كان احداث القدرة على الفعل وايجادها من جانب اللّه - تعالى - فأيّ معني لامكان القدرة له. وحمل الامكان على امكان أن يفاض عليه القدرة من جانب اللّه - تعالى - ما يفيد في دفع التكليف بما لا يطاق - على تقدير عدم الإفاضة - ؛ فلزوم التكليف بما لا يطاق حينئذ لازم.

وبذلك يظهر أن صيرورة القدرة فعلية في آن الفعل يتوقّف على سبق قدرة أخرى تكون منشئا لفعليتها ، لأنّ تلك القدرة المقارنة للفعل صفة حادثة محتاجة إلى فاعل ؛ فنقول : فاعلها إن كان هو العبد فلا بدّ له في احداثها من قدرة أخرى ، فتكون له قدرة متقدّمة على الفعل البتة ، وبه يثبت المطلوب ، وإن كان هو اللّه - تعالى - فلا يكون لامكان مقدورية الفعل للعبد معنى ، و/ 81DB / حمل الامكان على ما ذكر غير مفيد - كما عرفت - ، فالتكليف بما لا يطاق لازم على كلّ حال.

وبما ذكرناه يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعلام : بانّه يمكن أن يقال من قبل الأشعري : انّ التكليف بغير المقدور بالفعل مع امكان كونه مقدورا لا فساد فيه ، و

ص: 377

لا شكّ في حال العدم يمكن كونه مقدورا بأن يجعله موجودا بدل كونه معدوما ، وهذا الامكان كاف في عدم كونه تكليفا بما لا يطاق. والحاصل : انّ للأشعري أن يقول : انّا لا نسلّم أنّ التكليف نقيض فعليّة القدرة ، بل يكفى امكانه ، وهي ممكنة في حال العدم وان لم يتمكّن بشرط العدم ، انتهى.

ووجه ضعفه واندفاعه قد ظهر ممّا ذكرناه في غاية الظهور ؛ فلا نطيل الكلام باعادته.

وعلى ما حقّقناه وقرّرناه لا ريب في ورود ما أورده بعض الفضلاء على الدفع المذكور من انّه لو لم يتعلّق التكليف الاّ بما هو مقدور على تقدير وجوده ، يلزم على تقدير استمرار الكافر وموته على الكفر وقوع تكليف غير القادر ؛ وهو باطل بالإجماع.

بيان اللزوم : انّه لو كان حصول القدرة من الكافر على فعل الايمان حين اتصافه بالايمان - الّذي لم يحصل له قطّ - يلزم أن يكون مكلّفا بما لا يكون موصوفا بالمقدورية ، وما هو إلاّ / 85MB / التكليف بما لا يطاق. وهو واقع ، لكون الكافر مكلّفا. وليس للأشاعرة أن يقولوا : يكفي في عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الصورة المذكورة إن فعل الايمان ممّا لو صدر عن الكافر لكان مقرونا بالقدرة ، لأنّه بناء على هذه الشرطية ينبغي أن لا يكون الكافر مكلّفا إلاّ حين حصول الفعل المقدور ، لا وقت عدمه ؛ إذ لو كان في جميع مدّة عدم فعل المكلّف به - أي : الايمان - مكلّفا بالاتيان به لكان مكلّفا بما لا يقدر عليه. ومثله مثل أن يقال لزيد : انت مكلّف بالطيران إلى السماء ، ولو طرت لكان لك جناح! ؛ ومع هذا لم يسقط عنه التكليف ولم يحصل له الجناح اصلا. ولا ريب في أنّه تكليف بما لا يطاق!.

ثمّ انّه أورد على ما ذكر في العلاوة أيضا : بأنّ تكليف الفاعل حال الفعل بتحصيل ذلك الفعل الحاصل بذلك التحصيل وإن لم يكن محالا لكن لا طائل تحته.

وأجيب عنه : بأنّه يكفى في فائدته كونه سببا لذلك التحصيل ، فانّه اثره ، ففائدة استمرار التكليف حينئذ أنّه سبب للايمان والسبب تحت وجوده حال وجود المسبب

ص: 378

مع انّه يحفظ الايمان عن ورود الضدّ. وأمّا الفائدة المشهورة للتكليف - أعني : الابتلاء - فهي منتفية على هذا التقدير - أي : على تقدير تحقّق الفعل - ، فانّها تتصوّر عند التردّد في الفعل وتركه ، أمّا عند تحقّق الفعل فلا. إلاّ أنّه لا مانع منه ، لأنّ الابتلاء انّما يكون فائدة حدوث التكليف لا فائدة استمراره ، فيكون للتكليف فائدتان : إحداهما بالنظر إلى استمراره - وهي كونه سببا للتحصيل ومانعا عن ورود الضدّ - ؛ وأخراهما بالنظر إلى حدوثه - وهي الابتلاء والامتحان -. يعني لمّا حدث التكليف قبل القدرة على الفعل واستمرّ إلى حين القدرة وبقي معها فيكون له اعتباران : أحدهما الحدوث ؛ وثانيهما : الاستمرار ؛ فبالنظر إلى كلّ اعتبار تكون له فائدة. وغير خفيّ انّ تحصيل الحاصل بنفس ذلك التحصيل وإن كان جائزا وبه ثبت جواز استمرار التكليف بالايمان حال وجود الايمان ، إلاّ أنّ ذلك التحصيل يتوقّف على سبق قدرة ، لأنّ التحصيل فرع القدرة. فهذا التحصيل إن كان من العبد فلا بدّ له من تقدّم قدرة له عليه - وإلاّ لزم تحقّق المشروط بدون الشرط - ، وإن كان من اللّه لزم التكليف بما لا يطاق.

فان قيل : القدرة مقارنة لذلك التحصيل ؛

قلنا : تقدّم الشرط على المشروط لازم.

ثمّ ما قيل في الجواب عن لزوم عدم الفائدة في تحقّق التكليف بعد حصول المكلّف به : بأنّ الفائدة بعد التحصيل كون التكليف سببا لذلك التحصيل ، يرد عليه : انّ مجرّد التكليف إن كان سببا تامّا للتحصيل لزم أن يكون التكليف في زمان عدم الفعل أيضا سببا تامّا فكان اللازم عدم انفكاك الفعل عن التكليف ؛ وإن لم يكن سببا تامّا بل كان جزء من اجزاء العلّة التامّة لحدوث الفعل بأن يكون مع القدرة الموجودة في الفاعل والإرادة الحادثة فيه لغرض من الأغراض سببا تامّا ، فثبت المطلوب - أعني : تقدّم القدرة على الفعل -.

وما قيل : انّ الابتلاء إنّما يكون فائدة حدوث التكليف لا استمراره ؛

ففيه : انّه إذا لم تكن القدرة متقدّمة على الفعل لم تتحقق هذه الفائدة للحدوث أيضا ، لأنّ زمان التكليف إذا كان خاليا عن القدرة فكيف يتحقّق الابتلاء المستلزم

ص: 379

للتردّد / 82DA / بين طرفى المقدور؟!.

فظهر ممّا ذكرناه انّ الايراد المذكور لا يندفع بما ذكروه لدفعه ، وبه يظهر فساد الجواب الّذي ذكروه من جانب الأشعري للدليل المذكور للمعتزلة. مع أنّك قد عرفت اندفاع ذلك الجواب بوجوه آخر لا مدفع لها.

ثمّ جميع ما أوردناه من الفحص والتطويل إنّما كان للجرح والتعديل في ما أورده جماعة في هذا المقام من القال والقيل ؛ ولو شئت تحقيق الحقّ في هذا الخلاف - بحيث يطرح به ما أورده خلف قاف - فاستمع لمّا يتلى عليك بسمع الانصاف.

اعلم! أنّ الاشعرية لمّا قالوا انّ افعال العباد مستندة إلى اللّه - تعالى - لا إليهم ، وليس لهم قدرة على الفعل ولكن عادة اللّه جارية بايجاد قدرة لهم مقارنة لفعل العبد / 86MA / - سموّ ذلك بالكسب - ، لزمهم القول بعدم تقدّم القدرة على الفعل ومقارنتها لفعله ، ولكن ليس لتلك القدرة المقارنة تأثير لفعله ، بل هو مخلوق من اللّه - تعالى - ، فالظاهر انّ مرادهم من عدم كون القدرة متقدّمة على الفعل هو ما استقرّ رأيهم عليه من عدم قدرة العبد قبل الفعل اصلا ، ومرادهم من معية القدرة للفعل هو مقارنة تلك القدرة الغير المؤثّرة له ، فهذا الخلاف منهم مبنى على الخلاف المشهور منهم في افعال العباد ، فما يدلّ على بطلان ذلك الخلاف - : من لزوم الجبر ، والتكليف بما لا يطاق لعدم قدرة للعباد قبل الفعل اصلا وعدم تأثير لقدرتهم الّتي تكون مع الفعل - يدلّ بعينه على بطلان هذا الخلاف أيضا.

فالعجب من جماعة تثبّتت اقدامهم في معركة الفكر والنظر مع انكارهم الأصول الأشعرية ولما اختاروه في أفعال العباد من عدم قدرة لهم سوى القدرة الكاسبة - الّتي لا فرق بين وجودها وعدمها في عدم التأثير - ، توجّهوا هنا لتصحيح كلام الأشعرية بتحقّق امكان القدرة للعباد قبل الفعل وثبوت القدرة المؤثّرة معه ؛ وهل هذا إلاّ توجيه كلام الخصم بما لا يرضى به ويقول بخلافه؟!. فانّ من الأصول المشهورة للأشعرية قولهم بعدم قدرة مؤثّرة للعبد مطلقا واستناد جميع افعاله إلى اللّه - تعالى - وكونه مجبورا في افعاله ، ومع ذلك كيف يوجّه كلامهم هذا بما لا يلزم منه الجبر والتكليف

ص: 380

بما لا يطاق؟!.

وقد تفطّن بما ذكرناه بعض أهل التحقيق حيث قال : يمكن أن يقال بناء على مذهب الاشعرية على أنّ افعال غير اللّه - تعالى - واقعة باختياره - تعالى - ولا تأثير لغيره فيها ، والفرق بين فعل المختار وفعل المضطرّ كالنار : انّ اللّه يخلق مع الأوّل قدرة غير مؤثّرة فيه ، وبذلك يتصحّح كونه اختياريا ، وفي الثاني لا يخلق قدرة مقارنة أصلا ؛ وبناء مذهب المعتزلة على أنّ افعال غيره - تعالى - من المختارين واقعة باختيارهم بأن جعلهم اللّه - تعالى - مختارين ، أو خلق فيهم قدرة مؤثرة في أفعالهم عند تعلق ارادتهم بها ، فقول الأشعرية : انّ القدرة مع الفعل ، أي : معيّة بالذات كمعلولي علة واحدة ؛ وقول المعتزلة : انّها قبله ، أي : قبلية بالذات كتقدّم العلّة على المعلول ؛ انتهى.

ومثله ما ذكره بعض الأعلام : بأنّ الحقّ انّ النزاع في تقدّم القدرة على الفعل ومقارنتها له متفرّع على النزاع في أنّه هل للعباد قدرة مستقلّة أو غير مستقلّة ، أم لا ؛ فمن قال بعدم الفرق بين حركتي المختار والمرتعش - كجهم بن صفوان وأضرابه - يقول : ليس للعبد استطاعة اصلا ؛ ومن قال بالقدرة الكاسبة الغير المؤثّرة في الايجاد - كالاشعرية والبحارية (1) - يقول بها غير متقدّمة ؛ ومن قال باستقلال العباد في أفاعيلهم الاختيارية باقدار اللّه وتفويضه - كأكثر المعتزلة - يقول بتقدّمها ؛ وأمّا من قال بعدم التفويض والاستقلال - كما هو طريقة المقتبسين من مشكاة أهل البيت علیهم السلام - فيظنّ أنّه لا يمكنه القول بالتقدّم الزماني ، وإلاّ يلزم التفويض والاستقلال في تلك الحال. لكن لمّا كان الظاهر أنّ مرادهم بعدم استقلال قدرة العبد انّ مع تلك القدرة الّتي اعطاها اللّه ايّاه ومكّنه أن يفعل بها باختياره يمكن أن يصرّفه اللّه - تعالى - عن اختيار الفعل ويقلّب قلبه ولا يأذن له - كما قد يفعل باحبّائه عند همّهم المعصية ، أو باعدائه عند ضدّ ذلك - وأنّه لا يصدر عنه فعل إلاّ بتوفيق اللّه - تعالى - أو خذلانه ؛ ولا ينافي ذلك كونه بحيث لو خلّى بحاله واختياره امكن صدور الفعل عنه في حال بعد ذلك الحال فيمكن التقدّم ولا يلزم التفويض والاستقلال ؛ انتهى.

ص: 381


1- كذا في النسختين ، ولم أجد ذكرا لهذه الفرقة في المآخذ.

وقريب مما نقلنا ما ذكره بعض آخر من الأفاضل حيث قال : انّه / 82DB / مذهب الاشاعرة القائلة بأنّ تعلّق إرادة اللّه - تعالى - بفعل العبد علّة لصدوره عنه بمعنى انّه مكسوب للعبد لا يكون قادرا قبل الفعل ، وعند المعتزلة القائلة بأنّ العبد فاعل لأفعاله قبل انضمام الإرادة وسائر الشرائط يكون قادرا بمعنى انّه لو أراد أحد طرفي المقدور مع ساير الشرائط صدر عنه الفعل ، فهو قبل الفعل / 86MB / قادر - سواء صدر عنه الفعل أو لم يصدر - ، انتهى.

فظهر ممّا ذكرناه ومن كلام هؤلاء الأعلام : انّ الخلاف الواقع بين الاشعري والمعتزلة في كون القدرة مع الفعل أو قبله راجع إلى الخلاف المشهور بينهم في أفعال العباد ، وانّ مراد الأشعرية من القدرة المقارنة للفعل هي القدرة الغير المؤثّرة ، فبطلان قولهم ظاهر.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الخلاف السابق بين المعتزلة والأشاعرة - أعني : كون القدرة متعلّقة بالطرفين أو بطرف واحد ، أعني : الطرف الواقع - أيضا راجع إلى هذا الخلاف المشهور في أفعال العباد ؛ لأنّ الاشاعرة لمّا لم يثبتوا للعباد قدرة سوى القدرة الغير المؤثّرة المقارنة للفعل فلا بدّ أن يقولوا بتعلّقها بالطرف الواقع ، بخلاف المعتزلة.

وقيل : انّ الخلاف في كون القدرة قبل الفعل أو معه يساوق الخلاف في أنّ القدرة الواقعة هل يتعلّق بالطرفين أم لا ، فمن قال بتقدّمها يقول بتعلّقها بالطرفين ، وبالعكس.

وأورد عليه : بأنّ من قال بوجودها مع الفعل يمكنه أن يقول بتعلّقها بالطرفين بمعنى تساوي الطرفين بالنظر إلى ذات القادر من حيث هو قادر وإن وجب أحدهما بسبب اختياره ، نعم! ، لا يمكن القول بتعلّقها بالطرفين بمعنى حصول الطرفين بها بالفعل ، وهذا ممّا لا يمكن القول بها مع تقدّم القدرة أيضا ، وهو ظاهر ؛ انتهى.

ويمكن أن يقال : انّ مراد القائل انّ منشأ النزاعين ومبناهما واحد. وقد ظهر ممّا ذكر أنّ الخلاف في كون القدرة المؤثّرة مع الفعل أو قبله أو متعلّقة بالطرفين أو طرف واحد لا يمكن أن يتحقّق مع الأشعرية لعدم اثباتهم تأثير القدرة للعباد ؛ فان كان هذا

ص: 382

الخلاف متحقّقا بين العقلاء فلا بدّ أن يكون بين المعتزلة -. القائلين بكون قدرة العباد مؤثرة -.

وما قيل : من أنّه يجوز أن تكون القدرة الكاسبة متحقّقة قبل الفعل وأيّ دليل على وجوب مقارنتها له؟! ، كلام حال عن التحصيل ، لأنّ من أثبت القدرة الكاسبة لا يقول بثبوتها قبل الفعل ، بل يقول بان عادة اللّه جارية بايجادها مقارنة للفعل.

ثمّ تحقيق الحقّ في النزاعين على أصول أهل الحقّ - : الّذين يثبتون لقدرة العباد تأثيرا - : انّه إن اريد بالقوّة القوّة الّتي هي مبدأ التأثير - سواء كان مع جميع شرائط التأثير في الفعل أولا - كان متحقّقا قبل الفعل ومعه ، وكان تعلّقها أيضا بالطرفين على السواء ؛ وإن اريد بها القوّة الّتي تكون مع شرائط التأثير لم يتحقّق إلاّ مع الفعل ولم يكن متعلّقا إلاّ بالطرف الواقع وإلاّ لزم التخلّف. ومراد الاشعرية من القدرة في قولهم : « القدرة متعلّقة بالطرف الآخر وإلاّ لزم وقوع الطرفين » هو القدرة بهذا المعنى.

وإن أريد بها القوّة الناقصة الّتي تشترط معها عدم تحقّق جميع شرائط التأثير لم تتحقّق إلاّ قبل الفعل ولم تتعلّق بشيء من الطرفين. قال بعض الأعلام : وإلى الثالث أيضا ذهب بعضهم كما يعلم من عبارة بعض - أي : ذهب بعضهم إلى القدرة الناقصة ، يعني : اعتبر في القدرة عدم تحقّق جميع شرائط التأثير -. وأيضا الدليل الأوّل من الأدلّة الّتي نقلناها من المعتزلة لا ثبات تقدّم القدرة كان دالاّ على أنّ بعضهم اعتبر في القدرة عدم تحقّق جميع شرائط التأثير ، لأنّ حاصل الدليل المذكور انّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها الفعل والفعل عند الحصول لا يحتاج إلى القدرة. ولا ريب في أنّ القدرة إذا لم تتحقّق مع الفعل والموجود من القدرة لا يكون الحاصل إلاّ قبل الفعل ، فيكون قدرة ناقصة لم يتحقّق معها جميع شرائط التأثير.

وأنت تعلم انّ هذا الدليل لا يفيد هذا المطلوب ، لأنّه يمكن أن يكون مراد المستدلّ : أنّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها في الجملة ، وعند حصول الفعل لا حاجة إليها ، فلو لم يتقدّم على الفعل لم يكن حاجة إليها اصلا. وحينئذ فيجوز تحقّقها وقت الفعل أيضا ، لكن لا تكون حاجة إليها ، لا أنّه يلزمها كونها محتاجا إليها في جميع أوقات

ص: 383

حصولها حتّى يلزم من عدم الاحتياج إليها وقت الفعل عدم حصولها فيه. والظاهر انّ أحدا لم يذهب إلى أنّه يعتبر في القدرة ويشترط في حقيقتها وصدق اسمها عدم تحقّق جميع شرائط التأثير حتّى تختصّ عنده / 83DA / القدرة بالناقصة. نعم! اطلاق / 87MA / لفظ القدرة على الناقصة أيضا في عباراتهم واقع شايع لتحقّقها قبل الفعل ومعه.

فان قيل : لعلّ المحقّق الطوسي أيضا ذهب إلى اختيار اعتبار عدم تحقّق جميع شرائط التأثير في القدرة ، ولهذا قال : ويمكن اجتماع القدرة على المستقبل مع العدم في الحال (1) ، في جواب من قال : شرط القدرة انتفاء شرائط التأثير ، وفي حال العدم تحقّق شرائط التأثير في العدم وفي حال الوجود تحقّق شرائط التأثير في الوجود ، فلا تتحقّق القدرة في حال العدم ولا في حال الوجود!. فانّ حاصل جوابه : انّ القدرة إنّما هو على الشيء المستقبل - فعلا كان أو تركا - مع عدمه في الحال لا مع وجوده ليتحقّق جميع شرائط التأثير ، ولا يحصل ما هو شرط القدرة - أعني : انتفاء شرائط التأثير -. ولا ريب في أنّ اختيار المحقّق في جواب الايراد بالتقرير المذكور : « أنّ القدرة على الاستقبال مع العدم في الحال » ، يشعر باعتقاده انّه في حال حصول الشيء لا قدرة عليه ، وإلاّ لكان ينبغي أن يذكر أيضا في الجواب انّه لا امتناع في اجتماع القدرة على شيء معه ؛ وهذا أيضا أحد التوجيهات لتلك العبارة ؛

قلنا : الظاهر من كلامه في موضع آخر انّه لم يذهب إلى هذا الاعتبار.

وقيل : هذا التوجيه لا يساعده العبارة المذكورة ، لأنّها مشعرة بأنّ الخصم قائل بالقدرة بوجه من الوجوه ، ولكن نقول بأنّها مجتمعة مع العدم ، والحال انّ القائل المذكور ينفي القدرة راسا ؛ انتهى.

وهو كما ترى!.

وقيل : هذا التوجيه يساعده قوله : ويمكن ، لأنّ حمله بالامكان مشعر بامكان تحقّق القدرة على نحو آخر أيضا ، وما ذلك إلاّ باجتماعه مع الوجود ، وإلاّ لكان

ص: 384


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 218.

المناسب أن يقول : والقدرة على المستقبل يكون مع العدم في الحال من دون افحام لفظ الامكان ؛ انتهى.

وهو أيضا كما ترى! ، لأنّ لفظ الامكان هنا مقابل لما ذكره المستدلّ من أنّه لا يمكن اجتماع القدرة إلاّ مع الوجود ولا مع العدم ، فردّه بانّه يمكن اجتماع القدرة مع العدم بهذا النحو ، ولا اشعار فيه اصلا بامكان تحقّق القدرة على نحو آخر.

فان قلت : ما اخترت من تقدّم قدرة العبد - المسمّاة بالاستطاعة - على الفعل والترك ينافي ما رواه ثقة الإسلام في روايتي البصري والنبلي (1) : انّه لا يكون الاستطاعة إلاّ وقت الفعل ، وانّ العباد مستطيعون للفعل ووقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل ، وانّه ليس للعبد من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ، ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا ؛

قلت : هاتان الروايتان معارضتان بأخبار كثيرة ؛ منها : ما رواه الصدوق في التوحيد بسند صحيح عن الصادق - علیه السلام - انّه قال : لا يكون من العبد قبض ولا بسط إلاّ باستطاعة / 82DA / متقدّمة للقبض والبسط (2).

ومنها : ما رواه أيضا عنه - علیه السلام - بسند صحيح انّه قال : لا يكون العبد فاعلا ولا متحرّكا إلاّ والاستطاعة معه من اللّه - عزّ وجلّ - وانّما وقع التكليف من اللّه - تبارك وتعالى - بعد الاستطاعة ، ولا يكون مكلّفا للفعل إلاّ مستطيعا (3). والاخبار الواردة بهذا المضمون كثيرة متظافرة.

والوجه في الجمع بينهما وبين روايتي البصري والنبلي : أن تحمل الاستطاعة المتقدّمة الواردة في هذه الأخبار الكثيرة على القوّة الّتي هي مبدأ التأثير وبها يتمكّن الفاعل من الفعل والترك سواء كانت مع جميع شرائط التأثير في الفعل أو لا ، والاستطاعة الواردة في روايتي البصري والنبلي على القوّة المستجمعة لجميع شرائط التأثير. وبذلك يظهر أنّ ما ذكرنا في تحقيق الحقّ وجه حسن للجمع بين الأخبار

ص: 385


1- راجع : الاصول من الكافي ، ج 1 ، ص 162.
2- راجع : التوحيد ، ص 352.
3- راجع : نفس المصدر ، ص 345.

المتعارضة الواردة في هذا الباب.

قال بعض الأعلام - بعد اختياره تقدّم الاستطاعة على الفعل وايراده شطرا من الاخبار الدالّة عليه - : وأمّا ما نقل عنه - علیه السلام - في روايتي البصري والنبلي - : انّه لا يكون الاستطاعة الاّ وقت الفعل - ، فمع ضعف الراوي واحتمال التقية يمكن حمل الاستطاعة على الاستطاعة المستقلّة الخارجة عن سلطان اللّه - عزّ وجلّ - بحيث لو اراد صرف العبد معها عن الفعل لم يمكنه ، كما زعمه اكثر المعتزلة حيث قالوا : انّ اللّه أراد من الكفّار والفجّار / 87MB / الطاعة والايمان طوعا ولا يمكنه صرفها عن الكفر والعصيان إلاّ جبرا ، وإلاّ لفعله إذ يجب على قاعدتهم اقصى ما يمكن من اللطف وازالة العلل. وأمّا عند المتشبّثين بذيل أهل البيت - علیهم السلام - فلا تخرج قدرة العبد عن سلطانه ولا يفعل فعلا إلاّ بتوفيقه أو خذلانه ، ولا يجب عليه كلّ مقرّب للطاعة ومبعّد للمعصية بالنسبة إلى كلّ أحد في كلّ حال ، بل ( فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) (1) ولا يكون للنّاس حجّة على اللّه بعد الرّسل (2) والدلالات. وهو - سبحانه - مع ذلك / 83DB / منزّه عن إرادة الشرور والقبائح بذاتها كما هو منزّه عن ايجادها كذلك. نعم! قد يخذل شخصا حسب استعداده على وفق مشيته ، ويلاحظ في ذلك خيرا كثيرا ولا يريد إلاّ ما هو الأصلح بالكلّ ولا يقع في الوجود إلاّ ما يشاء. فاذا فعل عبد خيرا علم انّه مستطيع عليه موفّق به ، وإذا فعل شرّا ظهر أنّه مستطيع عليه مخذول به. وأمّا قبل ذلك فلعلّ اللّه يصرفه عن ارادته ولا يأذن له ؛ فسبحان من تنزّه عن الفحشاء الّذي لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء ، ولا يخرج عن حوله وقوّته شيء في الأرض ولا في السماء ، بل بحول اللّه وقوّته يقوم العبد ويقعد. وروى ثقة الاسلام عن الصادق - علیه السلام - انّه قال : اللّه اكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد (3) ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما تقدّم تعلم ما في بعض كلمات هذا القائل

ص: 386


1- جزء من كريمة 125 ، الانعام.
2- مقتبس من كريمة 165 ، النساء.
3- راجع : الاصول من الكافى ، ج 1 ، ص 160.

وممّا يرد عليه : انّه حمل الاستطاعة في الروايتين المذكورتين على الاستطاعة الخارجة عن سلطان اللّه - سبحانه - وقد صرّح بأنّ تلك الاستطاعة الّتي حمل عليها الاستطاعة في الروايتين انّما هي طريقة المعتزلة ولا يوافق اصول الامامية. ولم يتفطن انّه حينئذ فكيف يستقيم حمل الروايتين عليها - بعد التنزّل عن الحمل على التقية -؟!.

الشبهة الثالثة : انّ الفاعل لو كان قادرا على وجود الشيء لكان قادرا على عدمه ، لأنّ نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء عند المعتزلة إن اريد بالقدرة هنا القدرة الواحدة بالشخص ، وعند الكلّ إن اريد بها القدرة المطلقة. إذ لا نزاع في تعلّقها بالطرفين ، بل النزاع انّما هو في أنّ القدرة الواحدة بالشخص هل يتعلّق بالطرفين أم القدرة على الفعل غير القدرة على الترك بالشخص ؛ لكن اللازم باطل ، لأنّ العدم الاصلي أزليّ ولا شيء من الأزلى بأثر للقادر. وأيضا العدم نفي محض لا يصلح أن يكون متعلّقا للقدرة والإرادة ، لأنّ معنى تعلّق القدرة بالشيء التأثير فيه ، وحيث لا أثر فلا تأثير.

وأجيب عنه : بأنّ القادر هو الّذي يصحّ منه أن يفعل وان لا يفعل وعدم الفعل ليس فعلا للعدم ، فالعدم لمّا لم يكن شيئا فلا يصحّ أن يكون متعلّق الجعل والتأثير - لأنّ الجعل والتأثير لا يتعلّقان إلاّ بشيء - ، لكن معنى كون العدم متعلّق الإرادة هو أنّ للقادر أن لا يفعل - فيستمرّ العدم - وأن يفعل - فلا يستمرّ العدم -. فباعتبار الاستمرار وعدم الاستمرار يصحّ أن يكون العدم متعلّق القدرة.

وأنت تعلم انّ هذا الجواب يندفع به كلا الدليلين اللذين ذكرا في الشبهة لعدم تقدّم القدرة بالعدم - وهما : كون العدم الاصلي ازليا والأزلي لا يكون اثرا للقادر ، وكون العدم نفيا محضا والنفي المحض لا يكون متعلّقا بالقدرة -. إذ حاصل الجواب : انّ الطرف المقابل لوجود الشيء هو عدم فعل ذلك الشيء ، لا فعل عدمه. وعدم الفعل ليس فعل العدم ، إذ الثاني هو ايجاد العدم والأوّل ابقائه بأن لا يفعل القادر فيستمرّ العدم. ولا ريب انّ ازلية العدم وتحقّقه قبل القدرة انّما ينافي فعل العدم وايجاده - لاستلزامه تحصيل الحاصل لا عدم الفعل بأن لا يفعل الفاعل فيبقي العدم على ما كان - ،

ص: 387

لأنّ ابقاء الشيء وجودا كان أو عدما على ما كان لا يوجب تحصيل الحاصل. وكذا كون العدم نفيا محضا إنّما ينافي فعل العدم لا ابقائه كما كان ، لأنّ بقاء النفي المحض كما كان لا ضير فيه ، وانّما المحال ايجاد النفي المحض.

فان قيل : عدم الفعل أيضا لا يسبقه شيء ولا وجود له في الخارج ، فلا يكون مقدورا ؛

ثم أجاب - بعد أن قال : انّ التقابل بين الطرفين المتعلّقين للقدرة / 88MA / هو تقابل العدم والملكة لا تقابل التضاد ولا السلب والايجاب - : بأنّ عدم الفعل عمّا من شأنه أن يكون فاعلا لا بدّ له من سبب ، ويمكن أن يكون سببه إرادة ذلك الفاعل له أو عدم ارادته للفعل ، فيكون مقدورا ولا فساد فيه ؛ انتهى.

والظاهر انّ توجّه هذا السؤال بعد الجواب المذكور والتصريح فيه بأنّ مقدورية عدم الفعل باعتبار ابقاء ذلك العدم بحاله ليكون مستمرّا بناء على أنّ ابقاء العدم بحاله وتركه مستمرّا على ما كان لا يفيد مقدوريته ، لأنّ ما يتعلّق به القدرة لا بدّ أن يصل من الفاعل أثر إليه وعدم الفعل لا يسبقه شيء ولا وجود له في الخارج ، فلا يصل من القادر إليه أثر حتّى يكون مقدورا.

فاجاب : بأنّ عدم الفعل لمّا كان عدم ملكة فلا بدّ له من سبب والسبب إمّا إرادة الفاعل لذلك العدم أو عدم ارادته للفعل ، فبقاء ذلك العدم على ما كان يتوقّف على إرادة الفاعل لذلك العدم أو عدم ارادته للفعل ، فيصل الأثر منه - على التقديرين - إلى ذلك العدم. وإلى هذا الجواب أشار بعض المشاهير حيث / 84DA / قال : ويكفي في كون طرف النفي أثرا بمعنى الاستتباع أنّ القادر لم يشاء فلم يفعل ، فانّ عدم الفعل ليس فعل العدم. وتوضيحه : انّ عدم المعلول تابع لعدم العلّة بالاتفاق ، فعدم الفعل تابع لعدم المشية والإرادة وهذا كاف في القدرة كما قالوا في تفسيرها - ؛ وإن لم يشاء لم يفعل. ولا يحتاج إلى أن يكون العدم مفعولا للقدرة ومعلولا للارادة حتّى يتوجّه أن النفي لا يصلح لأن يكون متعلّقا للقدرة ، إذ متعلّق القدرة ليس فعل العدم ، بل عدم الفعل ، وعدم الفعل ليس فعل العدم. فظهر انّ السؤال المذكور في بادي الرّأي يتوجّه ، ولكن

ص: 388

بالجواب المذكور يندفع.

وبذلك يظهر ما في كلام بعض الأفاضل من الاختلال حيث قال - بعد نقله السؤال والجواب المذكورين - : وفي الجواب بحث ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ مراد المعترض انّه إذا كان عدم الفعل أيضا متحقّقا دائما - كالعدم - فلا يمكن تعلّق القدرة به لكونه حاصلا قبله ؛ وظاهر انّ ما ذكره في الجواب ليس في مقابله ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ مثل ما ذكره يجري في العدم أيضا ، إذ نقول : عدم الشيء الّذي من شأنه الوجود لا بدّ له من سبب إلى آخره ، فالعدول عن العدم إلى عدم الفعل لا وجه له.

ثمّ قال : فالحقّ في الجواب أن يقال : انّه ليس الغرض العدول عن العدم إلى عدم الفعل ، بل المراد انّه لا يتعلّق القدرة بفعل العدم حتّى يقال انّ تحقّقه قبلها ينافي ذلك ، بل انّه يتعلّق بعدم الفعل وابقاء العدم بحاله ، فالعدم مقدور باعتبار البقاء والاستمرار. وبالجملة المراد بعدم الفعل هو ابقاء العدم ليكون مستمرّا ، وهو مقدور - على ما هو المشهور في الجواب عن هذا الدليل : انّ العدم مقدور باعتبار استمراره لا أنّه فرق بين عدم الفعل وفعل العدم في امكان تعلّق القدرة باحدهما دون الآخر - ؛ انتهى.

ووجه الاختلال : انّ مراد المعترض ليس قياس عدم الفعل على العدم في عدم تعلّق القدرة الّتي به يجامع التحقّق دائما ، فانّ المجيب لم يفرق بين عدم الفعل والعدم - أي : عدم الشيء - حتّى يتوجّه الاعتراض بالتساوي ، بل مراده ما قرّرناه. وحينئذ فيصير ما ذكره بقوله : « وأمّا ثانيا إلى آخره » لغوا.

وما ذكره من الجواب الحقّ عنده غير دافع للاعتراض! ، لأنّ ما ذكره في الجواب الحقّ عنده من كون العدم مقدورا باعتبار البقاء والاستمرار كان مأخوذا في أصل الجواب عن الشبهة ، ومع ذلك أورد الاعتراض المذكور ؛ فالمراد منه هو ما ذكرناه وحرّرناه.

ثمّ على ما ذكرناه من كون عدم الفعل عدم ملكة عدما مطلقا - أي : العدم بما هو عدم - فيصحّ اتصافه بالاستمرار وعدم الاستمرار ممّا هو من صفات الموجودات ، لأنّ

ص: 389

العدم إذا اضيف إلى شيء فله وجود في الذهن ؛ فيكون شيئا ويصحّ تعلّق القدرة به - أي : باستمراه -. وبذلك يندفع ما ربّما يتوهّم أن يورد في هذا المقام : انّ العدم بما هو عدم إذا لم يكن شيئا ولم يصحّ أن يكون متعلّق القدرة فلا تكون له صفة وجودية / 88MB / - وهي الاستمرار واللااستمرار - ، لأنّ اللاشيء المحض لا تكون له صفة وجودية وإلاّ يلزم خلاف الفرض. وعلى ما ذكر من التفرقة بين العدم المطلق والعدم المضاف وكون عدم الفعل عدما مضافا يمكن أن يقال في جواب الشبهة : أوّلا : انّه إن اريد بالعدم العدم بما هو عدم فهو لا شيء محض لا يصحّ أن يكون متعلّق القدرة وليس فيه فعل وصفة وجودية ليصحّ تعلّق القدرة به ، لأنّه ليس إلاّ الانتفاء المحض ، إلاّ انّ عدم الفعل وعدم الشيء ليس من هذا القبيل ؛ وإن اريد به العدم المضاف فهو شيء من الأشياء ويصحّ أن يكون متعلّق القدرة.

واعلم! انّ الشبهة المذكورة لا خصوصية لها بالقدرة بالمعنى الثالث - أي : القدرة الملزومة لحدوث العالم الّتي تفرّد باثباتها المليون ؛ بل لا خصوصية لها بقدرة اللّه تعالى - ، وانّما هي شبهة لنفى القدرة مطلقا ، بحيث لو تمّت لدلّت على نفى قدرة العباد ونفي قدرة اللّه مطلقا - أي : سواء كانت بالمعنى الثاني الّذي قال به الحكماء ، أي : صحة الفعل والترك بالنظر إلى الذات ؛ أو بالمعنى الثالث الّذي تفرّد باثباته المليون ، أي : القدرة المستلزمة لحدوث العالم -. لأنّه إذا صحّ ما قيل في الشبهة - : انّ العدم نفي محض فلا يصحّ كونه متعلّقا للقدرة - يظهر منه انّ القول بامكان الترك بالنظر إلى الذات غير صحيح ، لأنّ الترك بمعنى العدم ، فلا يكون متعلّقا للقدرة. ويظهر منه أيضا انّ عدم العالم في بعض الأوقات بالقدرة والاختيار غير صحيح ، لأنّ العدم لا يكون متعلّقا للقدرة فيكون العالم معدوما في وقت عدم لا يكون بقدرة اللّه - تعالى -. وأيضا : الجواهر الحادثة بقدرة اللّه - تعالى - عدمها ازليّ بزعم الحكماء أيضا ، فيلزم / 84DB / أن لا تكون مقدورة لله - تعالى - بالنظر إلى ذاته بمعنى كونها ممكنة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته - تعالى - ، لأنّ عدم صدورها لا يكون متعلّقا للقدرة.

والحاصل انّ الشبهة المذكورة لا يجري في نفي مطلق القدرة سوى القدرة بالمعنى

ص: 390

الأوّل - أعني : صدور الفعل بالعلم والمشية -. فلو تمّت تلك الشبهة لدلّت على نفى القدرة بمعنى صحّة الفعل والترك بالنظر إلى الذات وبالمعنى الثالث الملزوم لحدوث العالم ؛ ودلّت على نفي قدرة العباد أيضا.

وإذ علمت ذلك فنقول : ما ذكر في الشبهة من أنّ العدم ازلي والأزلى لا يكون اثرا للقادر ، يرد عليه : إن (1) كان المراد انّ الأزلي لا يكون اثرا للقادر بالقدرة المتنازع فيها الملزومة لحدوث الفعل - أي : ما به يصحّ انفكاك الفاعل من كلّ من الفعل والترك ، ويكون مناطه ما هو المشهور بين المتكلّمين من أنّ أثر القدرة يجب أن يكون حادثا - ، ففيه : أمّا أوّلا : انّه على فرض تماميته لا ينفي القدرة بالمعنى الثاني - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - ، فيكون الزاميا على المتكلّم ولا تكون واردا على الحكيم ، مع أنّ المراد من الشبهة أعمّ ؛

وأمّا ثانيا : انّ ذلك - أي : الانفكاك - انّما يتمّ في جانب الوجود ، إذ الوجود الازلي يمتنع رفعه ، فلو كان موجودا أزليا امتنع انفكاك الفاعل عنه ، وهو ينافي القدرة بهذا المعنى. وأمّا العدم الأزلي فيمكن رفعه قطعا ، فلو كان العدم ازليا لم يمتنع انفكاك الفاعل عنه ، فلا ينافي القدرة بهذا المعنى. وما قيل : ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، انّما هو في الموجودات دون الأعدام ، وهو ظاهر.

وإن كان المراد انّ الأزلى لا يكون اثرا للقادر بالقدرة بكلا المعنيين ، ففيه منع ظاهر ، لامكان أن يكون أثر القادر بالقدرة بالمعنى الثاني - أي : صحّة الفعل والترك بالنظر إلى الذات - أزليا ، فانّ الضرورة قاضية بجواز ثبوت امكان الترك في الأزل بالنظر إلى الذات مع وجوب الفعل فيه بالنظر إلى الداعي أو بالعكس. ولذا ذهب الفلاسفة إلى ازلية العالم مع قولهم بالقدرة بهذا المعنى - على ما نسب إليهم في المشهور - ، ولم يقم دليل اصلا على امتناع كون أثر القدرة بهذا المعنى قديما.

فان قيل : أثر القادر المختار مسبوق بالقصد والإرادة ، فلا يكون أزليا ؛ فالعدم الأزلي لمّا لم يكن مسبوقا / 89MA / بالارادة والمشية فلا يكون اثرا للقادر ؛

ص: 391


1- الاصل : انه.

قلنا : المسبوقية الزمانية ممنوعة والذاتية لا تنافي الازلية ، فيجوز أن يكون أثر القادر قديما زمانيا مسبوقا بالقصد والإرادة بالذات لا بالزمان.

فان قيل : المراد بالأزلي الّذي لا يكون أثرا للقادر المختار ما لا يتقدّم عليه شيء أصلا - : لا بالزمان ولا بالعلية - ؛ والعدم الأصلي بمعنى سلب الوجود سلبا تحصليا لا سلبا عدوليا كذلك - أي : لا يتقدّم عليه شيء أصلا - ، إذ كلّ ممكن في مرتبة ذاته من دون ملاحظة وجود علّته وعدمها مسلوب الوجود - كما بيّن في مقامه ، وصرّح به الفارابى في الفصوص والشيخ في الشفاء -. وهذا العدم هو الّذي لا يصلح لأن يكون أثرا للمؤثّر لا غيره من الأعدام المسبوقة بالقصد والإرادة بالذات أو بالزمان ، إذ لا شكّ أنّ كثيرا من المقدّمات آثار للمؤثّرات ، وعلى هذا يتمّ عدم كون الأزلي أثرا للقادر عند المتكلّم والحكيم أيضا ، ولا يختصّ بالمتكلّم ؛

قلنا : إن اريد بالعدم الأزلي ذلك - أي : ما لا يتقدّمه عليه اصلا ، لا ذاتا ولا زمانا - ، فلا ريب في عدم كونه مقدورا ، فانّ كون شيء مقدورا - وجودا كان أو عدما - لا يتصوّر بدون أن تتعلّق به قدرة فاعلة ، فيلزم تقدّمه عليه البتّة. وعلى هذا فيكون عدم الشيء مقدورا لا يتعقّل بدون أن يكون هذا الشيء موجودا ثمّ تقدّمته علّة ما ، أو يكون عدم شيء مسبوقا لموجود كان من شأنه ايجاد هذا الشيء المعدوم وابقائه على عدمه كما كان ، وحينئذ يكون هذا العدم مقدورا من حيث بقائه واستمراره إذا لوحظ مع تلك العلّة الّتي من شأنها رفعه وابقائه على حاله ، فانّه من حيث يمكن لهذه العلّة أن يرفع هذا العدم ومع ذلك لا يرفعه ولا يبقيه على حاله فيجوز أن يكون متعلّق القدرة من تلك الحيثية واستناده إلى عدم إرادة الفاعل لايجاده أو إرادته لكونه معدوما وهو يكفي لكونه مقدورا - كما ذكرنا أولا في الجواب عن الشبهة -. وليس مقدورا من حيث ذاته وحقيقته ، إذ لو فرض عدم وجود تلك العلّة لكان هذا العدم أيضا ثابتا ، بل باقيا مستمرّا ؛ فالمراد : انّه مع فرض وجود الفاعل القادر على عدم الشيء يمكن أن يكون استمرار عدم هذا الشيء مقدورا بالحيثية المذكورة.

وبما قرّرناه من جواز عدم مقدورية العدم إذا كان ازليا ذاتيا فاذا أريد من ازلية

ص: 392

العدم ازلية ذاته في الشبهة يرد عليه : / 85DA / انّ مقدورية الوجود لا يستلزم مقدورية العدم بذلك المعنى ، فما ادّعى في الشبهة من الملازمة ممنوع.

وممّا ذكر يظهر ضعف ما قيل : يمكن أن يعلّل عدم صلاحية الأزلي لتعلّق القدرة بوجه آخر ، وهو : انّه لو كان أثرا لها لزم تحصيل الحاصل ، لأنّ الأزلي حاصل قبل تأثير القدرة ومع ذلك لو كان مقدورا لزم تحصيل الحاصل. ووجه الضعف : انّ المراد بالأزلي لو كان ازليا ذاتيا لا تسبقه قدرة وإرادة فلا ضير في عدم تعلّق القدرة به ، وليس ذلك محلاّ للنزاع ؛ وإن كان ازليا زمانيا فلا ريب في تقدّم القدرة وتأثيرها عليه ، فلا يلزم تحصيل الحاصل.

وقيل في الجواب : انّ هذا الوجه لا يجري إلاّ في القدرة الحادثة دون القدرة القديمة الّتي هي المقصودة هاهنا ، إذ العدم ليس بمتحقّق قبلها.

ولقائل أن يقول : انّ العدم الأصلي للممكنات وإن لم يكن متحقّقا قبل القدرة القديمة - لكونها قديمة ذاتية - إلاّ أنّه لا يمكن أن يقال : انّ القدرة القديمة متحقّقة قبله أيضا - لكونه أيضا ازليا ذاتيا - ، فلا يكون تأثير القدرة قبله. فلو كان مقدورا لزم تحصيل الحاصل ، على أنّ القدرة القديمة تعلّقها حادث والعدم الأزلى لا يستند إلى نفس القدرة القديمة ، بل إلى تعلّقها ، وتعلّقها لكونه حادثا يكون العدم الأزلي متحقّقا قبله البتة ، فتحصيل الحاصل لازم ؛ فالصحيح في الجواب ما ذكرناه.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه انّ ما ذكر في الشبهة من عدم جواز كون الأزلي أثرا للقادر - ولذلك لا يجوز أن يكون العدم الاصلي الّذي هو أزلي متعلّقا للقدرة - ، ان أريد به الأزلي الذاتي على الّذي لا يسبقه شيء أصلا فلا ضير في عدم كون العدم الّذي كان بهذه المثابة مقدورا ، ولا يتحقّق وجود ممكن يكون بهذه المثابة حتّى يلزم الفساد ، لأنّ كلّ ممكن لا بد أن تسبقه / 89MB / العلّة البتة زمانا أو ذاتا ، فمقدورية الموجودات بأسرها لا يستلزم مقدورية العدم بذلك المعنى ، فالملازمة بذلك المعنى (1) المذكورة في الشبهة ممنوعة ؛ وإن أريد بالأزلي ما لا تسبقه العلّة زمانا وإن سبقته ذاتا فعدم كون مثله أثرا

ص: 393


1- الاصل : - بذلك المعنى.

للقادر بالقدرة بالمعنى الثاني - أي : صحة الفعل والترك بالنظر إلى الذات - ممنوع - لما مرّ - ؛ وان ادّعى أنّ الازلى لا يكون أثرا للقادر بالقدرة الملزومة للحدوث فقد عرفت ما يرد عليه. وبذلك يتّضح أنّ تلك المقدّمة المذكورة في الشبهة - أعني : كون العدم أزليا والأزلي لا يكون أثرا للقادر - لا يصحّ في نفسها ويمكن دفعها وإن قطع النظر عن الجواب المذكور أوّلا - أعني : القول بكون العدم مقدورا من حيث البقاء والاستمرار -.

تتميم

قول المحقّق الطوسي في التجريد : وانتفاء الفعل ليس فعل الضدّ (1) ، اشارة إلى الجواب عن الشبهة المذكورة. يعنى انّ الطرف المقابل لفعل شيء - الّذي هو أحد طرفي القدرة - هو انتفاء فعل ذلك الشيء - أي : عدم فعله ، لا فعل عدمه - ؛ وعدم الفعل ليس فعل الضدّ الّذي هو العدم. وتحقّق العدم قبل القدرة أو كون العدم نفيا محضا إنّما ينافي فعل العدم لا عدم الفعل ، إذ هو مقدور من حيث البقاء وعدمه ، لأنّ للقادر أن لا يفعل فيستمرّ العدم وأن يفعل فلا يستمرّ. وعلى هذا فيمكن أن يكون المراد من الانتفاء الترك ويكون المعنى : انّ الطرفين اللذين هما متعلقا القدرة هما الفعل والترك لا الوجود والعدم حتّى يرد أنّ العدم لا شيء محض لا يصحّ أن يكون متعلّق القدرة ، فيكون قوله : وانتفاء الفعل ليس فعل الضدّ - الّذي هو العدم - اشارة إلى أنّ متعلّق القدرة هو الفعل والانتفاء - أي : الترك - ، لا العدم حتّى يلزم فعل العدم الّذي هو فعل الضدّ ، لأنّ ترك الفعل ليس فعل العدم. ففي هذه العبارة اشارة إلى الجواب عن كلا الدليلين اللّذين أوردا في الشبهة لعدم جواز كون العدم مقدورا.

وقال بعض الأعاظم في شرح تلك العبارة : أنها اشارة إلى أن ليس شرط كون انتفاء الفعل متعلّق القدرة كونه فعل الضدّ ، فانّ انتفاء الفعل يصحّ أن يكون متعلّقا للقدرة وتحقّق العدم قبل القدرة لا ينافيه ، إذ يمكن للقادر أن لا يفعل فيستمرّ العدم و

ص: 394


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الأولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 219.

أن يفعل فلا يستمرّ ، فكون العدم الأصلي ازليا لا ينافي تعلّق القدرة بابقائه. وأيضا يكفي في كون طرف النفى أثرا بمعنى الاستتباع انّ القادر لم يشاء فلم يفعل ، فانّ انتفاء الفعل ليس فعل الضدّ الّذي هو العدم ؛ انتهى.

والظاهر انّ ما ذكره هذا القائل جواب واحد لأنّه بعد ما قال : / 85DB / انّ متعلّق القدرة هو عدم الفعل لا فعل العدم ، أشار إلى وجه اندفاع الدليلين المذكورين في الشبهة لعدم كون العدم مقدورا ، فأشار بقوله : وتحقّق العدم ... إلى قوله : أيضا ، إلى اندفاع الدليل الأوّل ؛ وبقوله : أيضا ، إلى اندفاع الدليل الثاني. وقد مرّ توضيحه فيما تقدّم.

وحمل بعض الأفاضل كلامه هذا على جوابين ، وجعل ما ذكره إلى قوله : ... أيضا ، جوابا مستقلاّ ، وقوله : أيضا ... إلى آخره ، جوابا آخر ؛ وقال : الفرق بين الجوابين أنّ الجواب الأوّل حاصله انّ ما ترتّب على قدرة القادر هو استمرار العدم وعدم استمراره لا نفس العدم ؛ وحاصل الجواب الثاني - أعني : ما ذكره بقوله : أيضا ... إلى آخره - : هو أنّ ما يترتّب على قدرة القادر هو نفس العدم ، لأنّ الأثر قسمان : أحدهما : ما يتعلّق به الجعل والتحصيل - والعدم لا يكون من هذا القبيل - ؛ وثانيهما : ما يستتبع شيئا سواء كان بحيث يصحّ تعلّق الجعل والتأثير به أولا يصحّ ، كالعدم فانّ عدم الفعل المقدور يستتبع عدم مشية القادر ، لأنّه يصحّ أن يقال : انّ القادر لم يشاء فلم يفعل ؛ فعدم الفعل يترتّب على عدم المشية لأنّ العدم تعلّق به الجعل والتأثير لأنّ الجعل والتأثير لا يتعلّق إلاّ بالشيء ، والعدم بما هو عدم لا شيء ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ حمل كلامه على ما ذكرناه - : من كونه جوابا واحدا - اصوب!.

ثمّ على ما ذكرناه - : من صحّة تسليم انّ العدم الأزلي بما هو عدم ليس مقدورا ولا ضير في منع تعلّق القدرة به - يمكن أن يحمل عبارة المحقّق أيضا على ذلك ، بأن يقال : انّ معناه : انّ انتفاء الفعل ليس فعل الانتفاء ليصحّ تعلّق القدرة ، لأنّ القدرة لا تتعلّق إلاّ / 90MA / بالفعل ، وانتفاء الفعل ليس بفعل حتّى يصحّ تعلّق القدرة به.

ص: 395

مسئلة مهمّة

ذهب المليون إلى عموم قدرة اللّه - تعالى - ؛ أي : كون قدرته عامّة شاملة لجميع الممكنات ... وهذا العنوان وإن كان مجمعا عليه إلاّ أنّه يحتمل احتمالات لا بدّ من ذكرها والاشارة إلى أنّ أيّ الاحتمالات هو المقصود.

الأوّل : أن يكون المراد منه انّ قدرته - تعالى - شاملة لجميع الممكنات الموجودة - أي : جميع الموجودات مستند إلى قدرته وارادته بلا واسطة غيره تعالى -.

الثانى : أن يكون المراد انّ جميع الموجودات مستند إلى قدرة اللّه - تعالى - ، سواء كان بلا واسطة أو بواسطة.

الثالث : أن يكون المراد انّ جميع ما هو ممكن بالامكان الذاتي مقدور له - تعالى ، أي : انّه تعالى يقدر على ايجاده بلا واسطة أو بواسطة - ، فجميع الممكنات الموجودة مستند إليه بلا واسطة أو بواسطة ، وجميع الممكنات المعدومة - أي : ما هو ممكن في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، سواء وجد في وقت أو لا يوجد لأجل مصلحة - مقدور له بواسطة أو بدونها ، ويمكن له - تعالى - ايجاده بالنظر إلى ذاته.

الرابع : أن يكون المراد انّه - تعالى - يقدر على ايجاد كلّ ممكن ذاتى بلا واسطة غيره ، مثلا يقدر على ايجاد حركة زيد بلا توسّط زيد ، فالموجودات بأسرها واقعة بقدرته - تعالى - بلا واسطة والممكنات المعدومة مقدورة له بلا واسطة أيضا.

وإذ عرفت ذلك فاعلم! انّه لا ريب في أنّ الاحتمالين الأوّلين غير مقصودين لاحد من العنوان المذكور ، لأنّه بعد اثبات التوحيد وحدوث العالم بأيّ معنى كان يثبت استناد جميع الموجودات إليه - تعالى - بلا واسطة شيء أو بتوسط بعض الأسباب والشرائط المنتهية إليه - تعالى - بالنسبة إلى بعض الوجودات ، بل يثبت احد هذين الاحتمالين من ادلّة اثبات الصانع البتة ، ولا حاجة إلى تجشّم استدلال آخر. مع أنّهم ذكروا لاثبات هذا العنوان ادلّة على حدة ، فتعيّن أن يكون المراد أحد الاحتمالين الآخرين.

فنقول : الاحتمال الأخير هو مراد الأشاعرة من العنوان المذكور ، فانّهم يفسّرونه

ص: 396

بأنّ ما سوى الذات والصفات من الموجودات واقعة بقدرته وارادته ابتداء بلا توسّط موجد غيره ، وكلّ ممكن الوجود بذاته فانّما يمكن صدوره عنه بحيث لا يجب عليه شيء ولا يمتنع عليه شيء. نعم! عادة اللّه جارية بايجاد بعض دون آخر. والاحتمال الثالث هو مراد المحقّقين من المتكلّمين والحكماء من العنوان المذكور ، فانّهم قالوا : انّه - تعالى - من حيث ذاته وقدرته الكاملة قادر على ايجاد كلّ ممكن ذاتي ، لكن ارادته وعنايته متعلّقة بنظام الكائنات على الوجه الأكمل الأصلح بحال مجموع الممكنات ، والقوابل مستعدّة حسب مشيته لقبول بعض انحاء الموجودات دون بعض. فكلّما يدخل من الممكنات في الوجود فانّما هو على وفق مشيته وعنايته وملاحظته / 86DA / لنظام الخير ، إمّا بالذات - كالخيرات - أو بالعرض - كالشرور والآفات - ، وجميعها مستندة إليه - تعالى -. ولا يدخل في الوجود شيء إلاّ وهو معلول قدرته وإن كان بوساطة اسباب راجعة إليه. وليس شيء من تلك الوسائط مضادّا له في حكمه ومنازعا له في سلطانه. وكلّما لا يدخل في الوجود من الممكنات فانّما هو أيضا لأجل عنايته وعلى وفق مشيته وملاحظته للنظام الأصلح ، ولكنّها مقدورة له - تعالى - بالنظر إلى ذاته الكاملة وقدرته الشاملة ، إمّا بلا واسطة أو بتوسّط اسباب راجعة إليه - تعالى -. فهو قادر على ايجاد ما لم يوجد ولن يوجد من الممكنات من حيث ذاته ، إلاّ أنّ عدم ايجاده لأجل العناية وملاحظة نظام الخبر - كما يقولون في سائر الممتنعات الواقعة في نظام الكلّ -.

ثمّ لمّا كان حديث العادة الّذي يثبته الأشعري باطلا عندنا - بل كلّ من ايجاد بعض الممكنات وعدم ايجاد بعض آخر هو لأجل المصلحة وملاحظة نظام الخير - ، فالمتعيّن من العنوان المذكور هو إرادة أنّ ذاته - تعالى - من حيث هو قادر على ايجاد جميع الممكنات الذاتية سواء كان بلا واسطة مطلقا أو بتوسّط بعض الاسباب لبعض الممكنات من حيث جهاتها المستندة إليه - تعالى - ، إلاّ انّ المصلحة الراجعة إلى نظام الخير اقتضت ايجاد بعض الممكنات - وهو ما وجد ويوجد وعدم ايجاد بعض آخر وهو ما لم يوجد ولن يوجد اصلا -. فكما انّ ايجاد كلّ من الممكنات الموجودة / 90MB / في وقت دون وقت آخر معلّل بالعلم بالمصلحة وملاحظة نظام الكلّ ، فكذلك ايجاد بعض الممكنات

ص: 397

الذاتية دون بعض آخر معلّل بذلك وإن كان ايجاد ما لم يوجد ولن يوجد أيضا مقدورا بالنظر إلى الذات.

وأنت تعلم انّ هذا على فرض تحقّق الامكان الذاتي لبعض المهيات الّتي لا توجد قطّ ، سواء كان مشابها لبعض ما وجد من الممكنات - كامكان كرات أخرى غير الكرات الموجودة - أو لا - كامكان حقيقة أخرى سوى الحقائق المحصّلة -.

ولو منع تحقق الامكان الذاتي لغير ما وجد وما يوجد وعقل عدم وجود ما لم يوجد ولن يوجد بعدم امكانه وعدم قبوله للوجود تعيّن أحد الاحتمالين الأوّلين من العنوان المذكور ، لأنّه تكون الممكنات حينئذ منحصرة بالموجودات. والحاصل انّ المراد من العنوان المذكور : انّ ما هو ممكن ذاتى في حاقّ الواقع مقدور له - تعالى - ، فان وجد فانّما هو بتأثيره وايجاده - تعالى - ، وإن لم يوجد قطّ فلمصلحة وحكمة راجعة إلى نظام الخير ؛ ولا ريب في صحّة هذا العنوان وحقّيته.

ثمّ على ما فسّر - بكون المراد من القدرة المعنى الثاني الّذي قال به الحكماء أيضا على ما نسب إليهم ، أعني : قوّة يتمكّن بها المؤثّر من الفعل والترك مع العلم والشعور - فان ضمّت إليها الإرادة وجب الفعل ، وإلاّ فلا. ويمكن أن يراد منها : المعنى الاخصّ أي : القدرة الملزومة للحدوث الّتي تفرّد المليون باثباتها حتّى يكون المراد من العنوان المذكور تعميمها بالنسبة إلى كلّ الممكنات الذاتية. ويكون معناه : انّ ذاته - تعالى - من شأنه الانفكاك عن جميع الممكنات الذاتية ، فكما هو منفكّ عن الممكنات الموجودة - أعني : العالم بجملته - كذلك يكون منفكّا عمّا سواه ممّا هو ممكن بالامكان الذاتي إذا فرض وجوده وإن لم يوجد قطّ. وهذا إذا اريد بالقدرة بالمعنى الأخصّ ما هو الملزوم للحدوث - أي : صحّة انفكاك الواجب عن أحد الطرفين بالنظر إلى الداعي ، وهو طرف الوجود - ؛ إذ لو أريد به صحّة الانفكاك عن كلّ من طرفي الوجود والعدم بالنظر إلى الداعي لم يصحّ أن يراد بعموم القدرة عمومها بالنسبة إلى جميع الممكنات أو جميع ما له امكان الصدور عن الغير ، إذ لا ريب في أنّ الممكنات الّتي لم توجد اصلا يكون عدمها ممتنع الانفكاك عنه - تعالى - بالنظر إلى الداعي والعلم بالأصلح وان كان ممكنا بالنظر

ص: 398

إلى ذاته - تعالى - لتحقّق القدرة بالمعنى المشهور. نعم! لو أريد بعموم القدرة عمومها بالنسبة إلى جميع الموجودات دون جميع الممكنات يجوز أن يراد من القدرة صحّة الانفكاك من كلّ من الطرفين بالنظر إلى الداعي أيضا بشرط أن لا يشترط ايجاد الوقت - كما مرّ - ؛ هذا.

والظاهر انّ ما يستدلّ به على عموم القدرة بأحد المعنيين يمكن أن يستدلّ به على المعنى الآخر أيضا.

ثم انّ بعضهم استدلّ عليه بأنّ علّة المقدورية عامّة في جميع الممكنات ، فالقدرة عامّة في جميعها ؛ أمّا إنّ علّة المقدورية عامّة في جميعها فلأنّ علّتها الامكان ، وهو وصف مشترك بين جميع الممكنات ، فيكون جميع الممكنات مقدورا له - تعالى -.

وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم انّ الامكان علّة المقدورية ، بل انّما هو علّة الحاجة إلى المؤثر / 86DB / ، والمؤثّر إمّا موجب أو قادر ؛ فاللازم احتياج جميع الممكنات إلى المؤثّر - سواء كان قادرا أو موجبا -. فلا يلزم مقدورية الجميع ، لأنّ ما يحتاج إلى المؤثّر الموجب لا يكون مقدورا.

وأجيب عنه : بأنّه لمّا كان الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر ، والتأثير لا امكان له في صورة الايجاب بالمعنى المذكور سابقا باتفاق المليين ، فثبت بذلك كون الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر القادر. والتوضيح : انّ الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر الواجب - لما سبق من أنّه لا بدّ من الانتهاء إليه ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة - ، فكلّ مؤثّر - سواء كان موجبا أو قادرا - ينتهي إلى المؤثّر الواجب ، وتأثير المؤثّر الواجب - سواء كان بلا واسطة بينه وبين الأثر أو بواسطة - لا يمكن أن يكون على سبيل الايجاب بالمعنى المذكور سابقا - أي : بمعنى / 91MA / استحالة الانفكاك - للاجماع على حدوث العالم ؛ فلا بدّ أن يكون على سبيل الاختيار بمعنى جواز الانفكاك. والحاصل : انّ حدوث العالم ولزوم الانفكاك بينه وبين الواجب في الممكنات وقدرته بالمعنى المذكور متساوقين ، فما يكون علّة للحاجة إلى أحدهما يكون علّة للحاجة إلى الآخر. ولما كان المفروض كون الامكان علّة للحاجة إلى تأثيره - لانتهاء الجميع إليه - فيكون علّة للحاجة إلى قدرته ،

ص: 399

فثبت بذلك كون الامكان علّة للاحتياج إلى المؤثّر الواجب القادر بالقدرة الملزومة للحدوث. وغير خفي انّه إذا وجبت سلسلة الاحتياج إلى المؤثّر الواجب فنقول : تأثيره بالواسطة أو بدونها لا يمكن أن يكون على سبيل الايجاب بمعنى وجوب أحد الطرفين بالنظر إلى ذاته ؛ لما مرّ من اثبات صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته ؛ فثبت كون الامكان علّة للحاجة إلى المؤثّر القادر بالقدرة بالمعنى المشهور أيضا.

واعترض على الجواب المذكور : بأنّه انّما يتمّ في الموجودات دون غيرها ، إذ الامكان لا يستدعي إلاّ الحاجة إلى المؤثّر ولا يستدعي وجود المؤثّر ، فيجوز في غير ما وجد من الممكنات أن لا يصلح شيء للتأثير فيه ؛ أو يصلح معدوم حاله مثله ؛ أو يصلح الواجب على فرض الايجاب.

هذا لو أريد بالمؤثّر المؤثّر في الوجود. أمّا لو أريد بالمؤثّر. لأعمّ من أن يكون مؤثّرا في الوجود أو العدم ، فالممكن لا بدّ له من مؤثّر بالفعل البتة ، لكن نقول : انّه حينئذ يجوز أن تكون المعدومات الممكنة عدمها مستندا إلى الواجب على سبيل الايجاب ؛ والاجماع المنقول لا ينفيه ؛ أو إلى عدم آخر ، بناء على ما قالوا : انّ عدم العلّة علّة العدم ؛ انتهى.

وفيه : انّه إذا كان الامكان علّة الحاجة إلى المؤثّر فكلّ ممكن في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته محتاج إلى المؤثّر ، فالممكنات المعدومة أيضا تكون محتاجة إلى المؤثّر وكلّ ما هو محتاج إلى المؤثّر يكون من شأنه في حدّ ذاته قبول التأثير من مؤثّر.

ثمّ نقول : قاطع البرهان - : هو المشاهدة والعيان - دلّ على أنّ ذات الواجب مؤثّر في الممكن باجناسه المختلفة وانواعه المتباينة ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة بعض الاسباب والشروط. ففي ذاته - تعالى - قوّة التأثير في الممكن من حيث هو ، فلو فرض في غير ما وجد من الممكنات ممكن وادّعى أنّ الواجب لا يصلح للتأثير فيه لا بواسطة ولا بدونها نقول : انّ عدم الصلاحية إمّا راجع إلى ذات الواجب - فهو باطل ، لأنّ ذاته تعالى من حيث هي صالحة للتأثير في الممكن ، وإلاّ لم يؤثّر في ممكن أصلا - ؛ أو إلى ذات الممكن - فهو أيضا باطل ، لأنّ ذات الممكن من حيث هي من شأنها قبول الأثر من

ص: 400

الواجب ، وإلاّ لم يقبل ممكن منه التأثير مطلقا -. فأيّ ممكن فرض يكون قبوله التأثير من الواجب ثابتا له بالنظر إلى ذاته وإلى ذات الواجب - تعالى شأنه -. فلو فرض ممكن لم يقبل الأثر منه فليس ذلك بالنظر إلى ذات الواجب أو ذات الممكن ، بل إنّما هو بالنظر إلى أمر خارج من ذاتهما ، وما هو إلاّ ملاحظة أصلحية النظام الأكمل وعدم كون ايجاد ذاته أو ايجاد بعض ما يتوقّف عليه من الشروط والاسباب صلاحا بالنظر إلى النظام الأصلح.

ثم تحلّل الواسطة في بعض الممكنات إنّما هو إذا أخذت القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي في بعض الأوقات - أي : صحّتها بالامكان الوقوعي وعلى فرض الصدور أو اللاصدور فعلا -. وانّما لا بدّ في ايجاد بعض الممكنات من تحلّل الواسطة إمّا لنقصان جوهره وذاته من قبول الوجود بلا واسطة ، أو بملاحظة النظام الأصلح. وكذا ربّما كان عدم بعض الممكنات المعدومة بواسطة عدم بعض الممكنات الأخر ، ولو كان هذا البعض موجودا لكان البعض الأوّل أيضا موجودا ، فعدمه مستند إلى عدمه ، لكونه شرطا وواسطة / 87DA / له. وأمّا إذا أريد بالقدرة المعنى المشهور - أعني : صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل - فلا حاجة إلى الواسطة ، بل القدرة بهذا المعنى ثابت له - تعالى - بالنسبة إلى جميع الممكنات بلا واسطة ؛ لأنّ كلّما يفرض من الممكنات إمّا مقدور له ، أو مقدور لمقدوره ، ومقدور المقدور مقدور بالنظر إلى الذات وإن توقّف تعلّق القدرة به بالفعل على واسطة.

فان قيل : كما انّه يجوز اختلاف الممكنات في العلل - واختلاف عللها باختلافها ، ولذا بعضها يصدر عن الواجب بلا واسطة / 91MB / وبعضها يصدر عنه بواسطة عقل وبعضها بواسطة نفس وبعضها بواسطة حركة أو جسم ... إلى غير ذلك - فيجوز أن يكون بعضها ممّا لا يصلح شيء للتأثير فيه ، أو يكون علّته المستقلّة أو شرطه ممكنا معدوما حاله مثل ذلك البعض. والحاصل : انّه يجوز أن يكون ما به الاختلاف في بعض الممكنات على حقيقتها الخاصّة مقتضية لعدم صلاحية شيء للتأثير فيه أو مقتضية لقبول التأثير من معدوم حاله مثله سواء كان هذا المعدوم مؤثّرا مستقلاّ فيه أو واسطة

ص: 401

لايصال الأثر من الواجب إليه ، وإن كان قبول التأثير من الواجب بالنسبة إلى ما به الاشتراك - أعني : الامكان - ثابتا له ، فيكون ما به الاشتراك بين المهيات الامكانية - أعني : الامكان - مقتضيا للاحتياج إلى مطلق المؤثّر وما به الاختلاف بينها - أعني : خصوص الماهية - مقتضيا لعدم صلاحية شيء للتأثير فيه ، أو للاحتياج إلى ممكن معدوم هو أيضا محتاج إلى معدوم آخر ، وهكذا ؛

قلنا : لمّا سلّمتم اقتضاء ما به الاشتراك - أعني : امكان (1) الاحتياج إلى مطلق المؤثّر واقتضاء خصوصية (2) الماهية الاحتياج إلى مؤثّر خاصّ فنقول : يلزم منه احتياج كلّ ممكن إلى مؤثّر خاصّ ، فيكون بعض الممكنات المعدومة الّذي نقل الكلام إليه.

وقيل : يجوز أن لا يصلح شيء للتأثير فيه أو كان محتاجا إلى مؤثّر معدوم محتاجا إلى مؤثّر خاصّ. فهذا المؤثّر الخاصّ إمّا أن يكون ممتنعا أو واجبا بلا واسطة أو بواسطة ممكن موجود أو بواسطة ممكن معدوم ، أو يكون ممكنا موجودا أو معدوما. والأوّل بديهي البطلان ، لأنّ احتياج الممكن إلى الممتنع غير معقول ؛ وعلى الثاني والثالث - أعني : كون المؤثّر واجب الوجود بلا واسطة أو بواسطة ممكن موجود - ثبت المطلوب ؛ والأخيران - أعني : كون الممكن مؤثّرا مستقلاّ ، سواء كان موجودا أو معدوما - أيضا باطلان ، لأنّ الممكن من حيث هو لا وجود له ، فكيف يجوز أن يستقلّ بافاضة الوجود؟! بل إذا ثبت افتقار شيء إليه فلا بدّ أن ينتهي إلى الواجب البتة ؛ وعلى الرابع - أعني : كون المؤثّر واجبا بواسطة معدوم - هو أيضا يتوقّف على واسطة معدوم آخر ، وهكذا إن انتهت سلسلة الوسائط إلى واسطة موجودة ثبت به المطلوب وإلاّ لزم التسلسل في تلك الوسائط المعدومة ، والعقل يحكم ببطلان مثل هذا التسلسل.

على أنّه لو قطع النظر عنه نقول : انّ تلك السلسلة المعدومة بحيث لا يشذّ عنها شيء إن كان وجودها ممتنعا فيكون ما فرضناه ممكنا ممتنعا ، هذا خلف. وإن كان وجودها ممكنا فيكون مجموع هذه السلسلة محتاجة إلى مؤثّر ، ولا يتصوّر حينئذ مؤثّر

ص: 402


1- الاصل : الامكان.
2- الاصل : خصوص.

سوى الواجب ، فيكون مؤثّرها واجب الوجود لذاته. وعدم تأثيره فيها حينئذ وبقائها على العدم انّما هو لملاحظة النظام الأصلح لعدم تصوّر شيء سواه ، وبذلك يثبت المطلوب.

وليس لأحد أن يقول : انّ كلّ واحد من تلك السلسلة المعدومة وإن كان ممكنا لكن مجموعها ممتنع ؛ لأنّ حكم المجموع حكم الآحاد بالضرورة ، والمنكر مكابر!.

ثمّ إذا انتهى الاحتياج إلى الواجب يكون تأثيره على سبيل القدرة والاختيار - لمّا ثبت من كونه تعالى قادرا مختارا - ، فما ذكره المعترض من جواز أن يكون بعض الممكنات المعدومة بحيث يصلح الواجب للتأثير فيه على سبيل الايجاب ساقط.

وعلى ما ذكرناه يظهر اندفاع ما قيل : انّ كون الامكان علّة للحاجة إلى المؤثّر وانتهاء جميع المؤثّرات إلى الواجب - تعالى - وكون تأثيره مساوقا للقدرة بمعنى انفكاك ذاته عن العالم لا يثبت مقدورية كلّ ممكن بمعنى امكان تعلّق القدرة به بلا واسطة ، مع

أنّ المقدورية بهذا المعنى هي الّتي وقع التنازع فيها بعد الاتفاق في مقدورية الفعل المطلق له - تعالى -.

وانّما قلنا : لا يثبت المقدورية بالمعنى المذكور ، إذ للخصم أن / 87DB / يقول : صدور بعض الممكنات إنّما يكون عن بعض مقدوراته - تعالى - طبعا أو اختيارا أو عنه بدون إرادة مشروطا بوقوع بعض مقدوراته - كما قد يكون صدور بعض الأفعال الطبيعية للحيوان مشروطا ببعض أفعاله الارادية - ، وانفكاك الفاعل عن فعل انّما يستلزم (1) مقدوريته له إذا كان هذا الانفكاك بسبب علمه وارادته لا مطلقا - أي : ولو كان لأجل توقّفه على / 92MA / بعض الشرائط فعلا كان أو غيره - ، إذ القدرة بأيّ معنى فسّرت يعتبر فيها سببية المشية للصدور وعدمه. نعم! عدم صدور الفعل عنه أزلا اصلا وصدور العالم وقت حدوثه حيث لا يتصوّر إلاّ بمشية العلم والإرادة لا لأجل التوقّف على فعل آخر استلزم مطلقا القادرية ومقدورية المطلق له ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما تقدّم من أنّ كون الامكان علّة للحاجة إلى المؤثّر وانتهاء

ص: 403


1- الاصل : + يستلزم.

جميع المؤثّرات إليه - سبحانه - يوجب كون جميع المقدورات بلا واسطة إذا أخذ القدرة بالمعنى المشهور ، لأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى الذات ؛ أو بواسطة أو بدونها إذا أريد من القدرة القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير. فما قال المعترض : من أنّه لا يثبت مقدورية كلّ ممكن - بمعنى امكان تعلّق القدرة بلا واسطة - إن اراد انّه لا يثبت مقدورية الكلّ بالقدرة بالمعنى المشهور فهو بيّن الفساد ؛ وإن أراد أنّه لا يثبت مقدورية الكلّ بالقدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، ففيه : انّه غير ضارّ ، لأنّ المطلوب أعمّ. على أنّه لو سلّم ما نقلناه من بهمنيار - من أنّ الممكن لا شيء محض ، فلا يمكن أن يكون موجدا لشيء - يثبت مقدورية الكلّ له - تعالى - بالقدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير أيضا بلا واسطة - كما ذهب إليه الأشاعرة -. وعلى أيّ تقدير إذا انتهى الكلّ إليه - تعالى - ولو بتخلّل الوسائط في بعض الممكنات يكون صدوره منه - تعالى - بالقدرة والإرادة لقيام الأدلّة على ذلك.

فما ذكره من أنّ صدور بعض الممكنات عن بعض مقدوراته - تعالى - طبعا أو اختيارا ، ففيه : انّه إنّما ينافي مقدورية الكلّ له - تعالى - بلا واسطة القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، لا بالقدرة بالمعنى المشهور ؛ فلا ضير فيه.

وما ذكره من جواز صدور بعض الممكنات عنه - تعالى - بدون إرادة - ... إلى آخره - ، ففيه : انّه مدفوع بما دلّ على أنّ كلّ فعل منه - تعالى - بالعلم والإرادة. وعلى ما ذكرناه من أنّ المدّعى انّ كلّ الممكنات مقدورة له - تعالى - سواء كان بلا واسطة أو بواسطة وانّ قدرة جميع القادرين ينتهى إليه - تعالى - يندفع أيضا ما أورد على الدليل المذكور : بأنّا لا نسلّم أنّ كلّ ما هو مقدور هو مقدور له - تعالى - ، لم لا يجوز أن تكون لبعض المقدورات خصوصية بالنسبة إلى بعض القادرين؟! ، فانّ المعتزلة - : القائلين بأنّ افعال العباد مقدورة لهم - يخصّصون خلق الاجسام بقدرة الباري - تعالى -.

ووجه الاندفاع : انّه مع تسليم تحقّق الخصوصية لبعض المقدورات بالنسبة إلى بعض القادرين نقول : لا ريب في انتهاء قدرة بعض القادرين إليه - تعالى - ، لأنّه لمّا كان مقدور المقدور للشيء مقدورا له ، وجب انتهاء جميع المقدورات إلى الواجب بالذات ؛

ص: 404

وبه يثبت المطلوب من شمول تعلّق قدرته بجميع المقدورات.

ثمّ لا يخفى انّه إذا كان مقدور المقدور للشيء مقدورا له - كما هو الحقّ الصريح - فيثبت للواجب عموم القدرة بالنسبة إلى كلّ الممكنات بلا واسطة نظرا إلى ذاته - كما اشير إليه -. وتخلل الوسائط إنّما هو لأجل قصور ونقصان في المعلول أو لمصلحة راجعة إلى النظام الأصلح لا لعدم القدرة بالنظر إلى الذات بدونها ، فعموم القدرة بمعنى امكان الصدور بالنظر إلى الذات ثابت له - تعالى - بلا واسطة. فما ذكرناه من أنّ المدّعى اثبات عموم القدرة - سواء كان بلا واسطة أو بالواسطة - انّما هو إذا أريد بالقدرة امكان الفعل والترك امكانا وقوعيا - أي : الامكان بالنظر إلى داعي الصدور واللاصدور - ؛ هذا.

على أنّ ما نسب إلى المعتزلة ، ففيه : انّ المعتزلة لم ينفوا امكان تعلّق قدرة الواجب بأفعال العباد بالنظر إلى مجرّد ذاته ، بل إنّما ينفون تعلّق الإرادة بايجاد الأفعال - كما يعلم من التأمّل في أدلّتهم -.

والحاصل : انّه لا ريب في تحقّق الفرق بين التعلّق بالفعل وبين امكان التعلّق ، والمعتزلة إنّما نفوا التعلّق بالفعل لا امكان التعلّق ، والمطلوب اثبات / 88DA / امكان التعلّق لا التعلق بالفعل.

فان قيل : انّ العلاوة انّما يرد إذا كان مراد المورد انّ المعتزلة خصّوا خلق الأجسام بقدرة الباري - تعالى - ، بمعنى انّ قدرته مقصورة عليه ولا يتناول أفعال العباد ، وليس كذلك ؛ بل مراده انّ المعتزلة نفوا / 92MB / قدرة العباد على خلق الأجسام وقالوا : انّه مختصّ بالواجب - تعالى - وليس العباد قادرين عليه ، وإذا جاز ذلك - أي : جاز أن تكون لبعض المقدورات ، أعني : الاجسام ، خصوصية مع قدرة الباري تعالى دون قدرة العباد - فلم لا يجوز العكس بأن تكون لبعض المقدورات خصوصية مع قدرة العباد دون قدرته - تعالى -؟! ، فيكون مقدورا للعباد لا له - تعالى - ، والظاهر انّه لا يتوجّه عليه حينئذ ما ذكر في العلاوة ؛

قلنا : هذا خلاف ظاهر كلام المورد ، إذ على هذا يكون قولنا : « وإذا جاز ذلك

ص: 405

فلم لا يجوز العكس - ... إلى آخره - » مطلوبا في كلام المورد ؛ بل هو خلاف ما يقتضيه المقام ، لأنّ مقصود المورد أن يمنع ما اتّفق عليه المليون من شمول قدرة الواجب - تعالى - لجميع الممكنات بلا واسطة أو بواسطة في بعضها ، وظاهر انّ منع ذلك والقول بجواز خصوصية بعض المقدورات لقدرة العباد - نظرا إلى أنّ بعض المقدورات له خصوصية بقدرة الباري تعالى دون العباد - ممّا لا وقع له اصلا ، لان المدّعي لعموم القدرة يقول : لجميع المقدورات خصوصية بالنسبة إلى قدرة الباري وليست لغيره قدرة في نفسه ، فكيف يصير ذلك سند المنع؟!.

والحاصل : انّ قولهم : خلق الجسم مختصّ بقدرة اللّه دون العبد لا يضرّ قولنا : كلّما هو مقدور فهو مقدور له - تعالى - ؛ وانّما يضرّ لو قلنا : كلّ مقدور فهو مقدور كلّ قادر ، ولم نفعل.

على أنّ المتعارف الشائع في الاستعمال - على ما ذكره المحقّق التفتازاني - قصر مدخول « الباء » على ما قبله ؛ يقال : خصّصت الفلان بالذكر ، أي : ذكرته دون غيره.

فقول المورد : يخصّصون خلق الاجسام بقدرة الباري ، معناه : انّ قدرته - تعالى - مخصوصة بخلق الاجسام ولا يتعلّق بخلق افعال العباد.

وبما ذكرناه يظهر أنّه لا يمكن أن يستدلّ صريحا أيضا بخصوصية بعض المقدورات بالنسبة إلى قدرة الباري - تعالى - على جواز خصوصية بعض المقدورات بالنسبة إلى قدرة غيره ، لأنّه لو سلّمت تلك الخصوصية فانّما هي الخصوصية الشرطية والوسطية دون الخصوصية الاستقلالية ، لانتهاء كلّ قدرة إلى قدرته - تعالى -. وإذا انتهى الكلّ إليه - تعالى - فلا يخلوا ممكن من كونه مقدورا له أو مقدورا لمقدوره ، ومقدور المقدور مقدور له - تعالى - بالنظر إلى ذاته وإن اقتضى نقصان جوهره أو صلاح نظام الخير لتخلّل الواسطة ، فيثبت عموم القدرة بالمعنى المشهور بلا واسطة ؛ هذا.

واعترض بعض الأفاضل على الدليل المذكور أيضا : بأنّه لا خصوصية له لعموم قدرة الواجب - تعالى - ، بل لو تمّ لدلّ على عموم قدرة كلّ واحد ، إذ الامكان الذاتي يكون نسبته إلى كلّ الفاعلين على السواء ، فلو كان كافيا كان كافيا بالنسبة إلى كلّ

ص: 406

واحد وليس في الدليل ما يفيد خصوصية العموم بالواجب.

والتحقيق انّ المقدورية الّتي معنى مضائف للقادرية أمر بين الفاعل والمفعول ، وكما أنّه لا بدّ لحصولها من عدم اباء المعلول عن الوجود ورفع المانع من قبله عن تعلّق القدرة كذلك لا بدّ له من طرف الفاعل من شيئين : أحدهما : قوّة يتمكّن الفاعل بها من التأثير ، وإلاّ لكان كلّ ممكن يمكن صدوره عن كلّ أحد ، وهذا مشترك بين الموجب والمختار ؛ والثاني : عدم كون هذا الصدور لازما ، بل كون لزومه سبب الإرادة. والامكان وإن كان مصحّحا للمعنى الأوّل - أعني : عدم اباء المعلول عن الموجود - لكنّه نسبته متساوية إلى كلّ الفاعلين ؛ فلا يكفي مجرّد هذا المصحّح لصدور كلّ ممكن عن كلّ فاعل. ولكون هذا الصدور على سبيل القدرة بل لو حصل الأمران المذكوران أيضا - أعني : القوة المذكورة وعدم كون الصدور لازما لفاعل - حصلت القادرية والمقدورية ؛ فان حصلا له بالنسبة إلى جميع الممكنات حصل له عموم القدرة ، وإن حصلا له بالنسبة إلى بعضها حصلت القدرة بالنسبة إليه ، فانّه قد يحصل الأمران المذكوران بالنسبة إلى بعض الممكنات دون البعض - كما نرى من أنفسنا بالنسبة إلى بعض الأفعال دون بعضها مع تساوي الكلّ في المصحّح الّذي هو الامكان - ، فلا يستلزم الامكان في المعلول حصول الأمرين المذكورين في كلّ فاعل أو في / 93MA / الواجب لتحصيل القادرية والمقدورية. بل لو لم يحصل الأمر الثاني - أعني : عدم كون الصدور لازما بالنظر إلى ذات الفاعل - لم تحصل القادرية والمقدورية وإن حصل للفاعل الأمر الأوّل - أعني : القوّة الّتي يتمكّن بها من التأثير - لما ذكرنا من أنّها مشتركة بين الموجب والمختار. فربّما كانت قوّة التأثير / 88DB / ثابتة للواجب بالنسبة إلى كلّ الممكنات ولكن كان التأثير لازما لذاته - تعالى - بالنظر إلى بعضها ، فلا تثبت قدرته - تعالى - بالنسبة إليه ؛ انتهى ما ذكره بتوضيحه.

ولا يخفى ضعفه وسقوطه! ، لانّه إذا قلنا بأنّ الممكن لا يجوز أن يوجد ممكنا آخر لا من جهته المستندة إليه ولا من جهته المستندة إلى الواجب - على ما تقرّر عليه آراء الفلاسفة كما نقلناه عن بهمنيار - فلا يكون لغيره - تعالى - فعلية وتأثير حتّى يكون

ص: 407

الامكان نسبته إليه وإلى الواجب على السواء.

ويعترض على الدليل حينئذ بأنّه لو تمّ لدلّ على عموم قدرة كلّ أحد ، لأنّه لا يكون أحد غيره - تعالى - حينئذ فاعلا ، بل الفاعلية منحصرة به - تعالى -. وإذا كان الفاعلية والتأثير بالنسبة إلى الكلّ منحصرة به - تعالى - يثبت شمول قدرته - تعالى - على الكلّ ، لما تقرّر وثبت من أنّ فعله وتأثيره انّما هو على سبيل القدرة والاختيار دون الايجاب.

وإن قلنا : يجوز أن يكون الممكن واسطة في الايجاد بجهته المستندة إلى الواجب - تعالى - ، فيكون المطلوب حينئذ اثبات عموم قدرته - تعالى - ولو كان بالواسطة بالنسبة إلى بعض الممكنات ؛

فنقول : لا ريب في انتهاء قدرة جميع الفاعلين إليه - تعالى - وليست لغيره قوّة استقلالية على ايجاد شيء حتى يثبت له عموم القدرة بالنسبة إليه ، بل كلّ فاعل سواه يكون واسطة في الافاضة وتنتهي قدرته إليه - تعالى - ، فكلّ ما له قدرة وقوّة التأثير عموما أو خصوصا تنتهي قدرته إليه ، وإذا انتهت إليه يثبت له عموم القدرة بلا واسطة في القدرة بالمعنى المشهور ، وبلا واسطة أو بواسطة في القدرة المستجمعة. لما تبيّن من أنّ تأثيره إنّما هو على سبيل القدرة والاختيار ؛ هذا.

وقيل : المشهور في الاستدلال على عموم القدرة انّ المقتضى للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته ، والمصحّح للمقدورية هو الامكان - فانّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدورية - ، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فاذا ثبت قدرته على السواء على بعضها ثبت على كلّها.

وأنت تعلم انّه لا فرق بين هذا الاستدلال المشهور وبين الاستدلال المذكور فى ورود ما تقدّم ؛ والجواب مشترك.

ولقائل أن يمنع وجوب استناد جميع صفاته إلى ذاته - تعالى - إن اريد بالاستناد عدم التوسّط مطلقا - لانتقاضه بمثل الإرادة الّتي تتعلّق ببعض الممكنات دون بعض - ، فلا بدّ حينئذ من توسّط صفة أخرى شأنها التخصيص والترجيح ، كما تعلم بالأصلح.

ص: 408

هذا على قواعد المعتزلة ؛ وأمّا على قواعد الأشاعرة فينتقض بمثل أقدار العبد قدرة مؤثّرة أو كاسبة ، فانّه لاختصاصه ببعض دون بعض لا بدّ من توسّط الإرادة.

وإن اريد بالاستناد الانتهاء إلى الذات بدون توسيط مباين فلا يكون الدليل حينئذ مفيدا - لاحتمال وساطة صفة شأنها الترجيح والتخصيص ، كما يعلم بالأصلح والإرادة - ؛ وحينئذ كما يتعلّق العلم بالأصلح والإرادة ببعض دون بعض تتعلّق القدرة أيضا ببعض دون بعض ، فلا يثبت عموم القدرة.

نعم! يمكن أن يخصّص الصفات بالقدرة ويدّعى عدم تقديم مخصّص عليها.

ولقائل أيضا أن يمنع استلزام احالة الوجوب وامتناع المقدورية لكون الامكان مصحّحا لها ، لجواز أن يكون المصحّح أمرا آخر ؛ أو المراد بالصحّة هنا الامكان الوقوعي ورفع الامتناع بكلّه ، فهذا مثل أن يقال : المصحّح للتلوّن هو الامكان ، إذ الوجوب والامتناع يحيلانه مع أنّ الشفيف مثلا لا يقبله.

ثم أنت خبير بأنّه إن كان المراد من أمثال هذا الاستدلال اثبات عموم القدرة بمعنى الامكان الوقوعي والصدور واللاصدور الفعليين - أي : صحّتها بالنظر إلى الداعي في بعض الاوقات بالنسبة إلى جميع / 93MB / الممكنات بلا واسطة - فاتمامها مشكل ، إذ لا يلزم من كون الامكان علّة للمقدورية أو الاحتياج إلى المؤثّر كون جميع الممكنات الذاتية مقدورا للواجب بلا واسطة ، إذ اللازم من العلّة كون الجميع مقدورا أو محتاجا إلى المؤثّر ، فعلى الأوّل لا يلزم إلاّ اشتراك الجميع في الاستناد إلى فاعل قادر ؛ وليس بلازم أن يكون ذلك الفاعل هو الواجب. فيجوز أن يكون الفاعل لبعض الممكنات الذاتية - على فرض وجودها - بعضا آخر من الممكنات على سبيل القدرة ؛ وعلى الثاني يجوز أن يكون الفاعل لبعضها بعضا آخر على سبيل القدرة والايجاب.

وأمّا إذا كان المراد اثبات عموم قدرته بالمعنى المذكور بالنسبة إلى جميع الممكنات سواء كانت بلا واسطة أو بواسطة بعض الأسباب والشروط فلا يرد شيء / 89DA / من الايرادات المذكورة ، لأنّه لا ريب في أنّ الامكان إمّا علّة المقدورية أو علّة الحاجة إلى المؤثّر ، فكلّ ممكن ذاتي له حاجة إلى مؤثّر يمكن أن يصدر بتلك الحاجة منه - إمّا على

ص: 409

سبيل القدرة أو على سبيل الايجاب -. فمؤثّره إن كان واجبا مختارا ثبت المطلوب ، وإن كان ممكنا آخر لا بدّ له من الانتهاء إلى الواجب. وإذا انتهى سلسلة الاحتياج إليه يثبت كون المؤثّر في جميع ما هو ممكن ذاتي واجب الوجود لذاته على سبيل القدرة - بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي في بعض الاوقات ، أي : القدرة الملزومة للحدوث -. لأنّ الممكنات الذاتية إمّا موجودة أو معدومة ، واستناد وجود الأولى إلى الواجب بعد تعميم المدّعى ظاهر.

ولمّا ثبت حدوث العالم يثبت الانفكاك بينها وبين الواجب أيضا. واستناد اعدام الثابتة إليه - تعالى - أيضا ظاهر ، لأنّ عدم ما هو ممكن في نفسه إمّا مستند إلى عدم إرادة الواجب لمصلحة راجعة إلى نظام الكلّ أو إلى عدم الواسطة والشروط المنتهى بالأخرة إلى عدم إرادة الواجب - كما مرّ مفصّلا -. وعلى التقديرين يثبت استناد اعدام الممكنات المعدومة إليه - تعالى - ، فبالتعميم المذكور يثبت استناد وجودات الموجودات إليه مع تحقّق الانفكاك بينها وبين الواجب واستناد أعدام الممكنات المعدومة إليه - تعالى - أيضا. وبه تثبت القدرة الملزومة للحدوث.

ثمّ التعميم المذكور لا ضير فيه ، لأنّه لا مانع في استناد بعض الممكنات إليه - تعالى - بواسطة بعض الاسباب والشروط من حيث جهاتها المستندة إليه - تعالى - ، امّا بأن يكون واسطة في الافاضة من اللّه - تعالى - ، حتّى يكون أصل الافاضة في الكلّ منه - تعالى - والوسائط إنّما هي شروط ومعدّات لتحقّق الافاضة منه - تعالى - ، أو يكون بعضها مفيضا أيضا بما اودع اللّه فيه من التمكّن والاقتدار بقدرته ؛ وهذا أيضا منه - تعالى - بالحقيقة.

قال بعض الأعلام : الظاهر انّ مدّعى القوم شمول قدرته لجميع المقدورات مطلقا - : سواء كانت بواسطة أو بلا واسطة - ، فانّ من قال بالوسائط لم يقل بأنّها مستقلّة فى الايجاد ، بل الوسائط انّما هي ادوات وآلات واسباب ووسائل إلى بعض الأفعال. بل أفعال اللّه - تعالى - كلّها كذلك ، فانّ بعضها سبب لبعض ، فمن أراد أن يفعل فعلا له اسباب وأدوات فلا بدّ أن يحصل تلك الاسباب أوّلا حتّى يفعل ذلك الفعل بتلك

ص: 410

الاسباب ، فليس لأحد حينئذ أن يقول : انّ ذلك الفعل ليس مقدورا لذلك الفاعل لتوقّفه على تلك الاسباب. نعم! لو لم تكن تلك الاسباب مقدورة له يصحّ ذلك ؛ لكن اللّه - تعالى - ليس كذلك ، بل الكلّ بفعله - تعالى -. فاذا فعل اللّه - تعالى - فعلا باسباب مخلوقة له - تعالى - لم يقدح ذلك في كون ذلك الفعل مقدورا له - تعالى -. اذ الظاهر انّ معنى كون حركات العباد مقدورة له - تعالى - ليس انّه يمكن صدور تلك الحركات من اللّه - تعالى - بلا واسطة ، كيف والحركة لا بدّ لها من محرّك قريب مباشر للتحريك ومسافة تصحّ فيها تلك الحركة واعضاء وجوارح ، فكيف يمكن صدور تلك الحركة عمّن هو منزّه عن امثال ذلك؟!. فالحقّ انّ صدور تلك الحركة مقدورة له - تعالى - بأن يخلق اسبابا وادواتا تحصل بسببها تلك الحركة. فالقول ببعض الوسائط من ضروريات تنزيه اللّه - تعالى - وتقديسه.

والحكماء القائلون بالوسائط في الايجاد - كالجواهر المجرّدة والعقول الفعّالة والنفوس المدبّرة - قد جعلوا تلك الوسائط بالنسبة إلى كلّيات العالم كالاسباب الجزئية بالنسبة إلى تلك الأمور الجزئية مثلا ، فليس في العالم موجود ولا في رتبة / 94MA / الامكان ممكن إلاّ وهو مقدور لله - تعالى - عندهم ؛ فالظاهر انّه لم يذهب إلى عدم الاحتياج إلى الوسائط واثبات القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالنسبة إلى جميع الموجودات سوى الاشاعرة الّذين لا يقولون بالربط العقلي والنسبة الايجابي اصلا ، لا له - تعالى - ولا لغيره.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض الأفاضل حيث قال : من جوّز أن تكون لبعض المقدورات خصوصية بالنسبة إلى بعض القادرين له أن يمنع المقدّمة القائلة بأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بلا واسطة. وإن أريد من هذه المقدّمة انّ مقدور المقدور للشيء مقدور له - أعمّ من أن يكون بواسطة أو بدونها - ، فممنوع ؛ لكن لا يثبت حينئذ شمول قدرته لجميع المقدورات بواسطة أو لا ، لكن الظاهر انّ المراد اثبات شمولها لجميعها بلا واسطة ؛ انتهى.

ثمّ على ما ذكر انّما يكفي الشمول - سواء كان بواسطة أو بدونها - في القدرة

ص: 411

المستجمعة لجميع شرائط التأثير.

وأمّا القدرة بالمعنى / 89DB / - المشهور - أعني : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات - ، فالحقّ ثبوت عمومها له - تعالى - بلا واسطة - كما أشرنا إليه مرارا - لما ثبت بالبراهين من أنّ كلّما يصدر عن الواجب فانّما يصدر عنه بالقدرة بهذا المعنى دون الايجاب المقابل له ، وإذا انتهى سلسلة الموجودات إليه - تعالى - فلا يخلوا موجود من كونه صادرا عنه أو صادرا عمّا صدر عنه ، والصادر عن الصادر عن الشيء ممكن الصدور عنه ، فكلّ موجود إمّا مقدوره أو مقدور مقدوره ، ومقدور المقدور للشيء مقدور لهذا الشيء بالنظر إلى ذاته. وتخلّل الوسائط إنّما هو للمصالح الراجعة إلى نظام الخير أو لقصور بعض الممكنات عن استفاضة الوجود بدون الواسطة.

ثمّ ما يدلّ على ثبوت عموم قدرته بهذا المعنى بالنسبة إلى الممكنات الموجودة - أي : كون الجميع ممكن الصدور والعدم بالنظر إلى ذاته في جميع الاوقات ، ووجوب وجوده في وقت حدوثه انّما هو للعلم بالأصلح - يدلّ بعينه على ثبوت عموم قدرته بالنسبة إلى الممكنات المعدومة - أي : كون جميعها ممكن الصدور واللاصدور بالنسبة إلى ذاته تعالى - ، ووجوب عدم صدورها انّما هو للعلم بالأصلح. وان استند عدم بعض إلى عدم بعض آخر فانّما هو لقصوره أو للمصلحة الراجعة إلى نظام الكلّ.

ويمكن أن يكون عدمه مستندا إليه - تعالى - نظرا إلى ذاته ، لأنّ جميع اعدام الموجودات لا يخلوا من أن يكون مستندا إليه - تعالى - أو مستندا إلى عدم ينتهي بالأخرة إليه - تعالى - ، والمستند إلى المستند إلى الشيء مستند إلى هذا الشيء ، فيمكن أن يكون عدم كلّ معدوم مستندا إليه - تعالى - بالنظر إلى ذاته. وإذا استند إليه - تعالى - يكون الاستناد على سبيل القدرة والاختيار بالمعنى المشهور ، لما تقرّر من البراهين من أنّ تأثيره انّما هو بالقدرة بهذا المعنى.

وقد تلخّص ممّا تقرّر انّ الحقّ في هذه المسألة انّ القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي في بعض الاوقات - أي : القدرة الملزومة للحدوث - ، فعمومها ثابت بشرط أن يكون المراد اثبات عمومها بالنسبة إلى جميع الممكنات سواء

ص: 412

كان بواسطة أو بدونها. فأصل القدرة بهذا المعنى انّما يثبت بأمرين ثابتين : أحدهما : استناد بعض الممكنات إليه - تعالى - ، وثانيهما : حدوث العالم. وعمومها يثبت بمقدّمة بديهية عقلية هي انّ سلسلة الافتقار ووجود كلّ موجود ينتهي إليه - تعالى -.

وأمّا القدرة بالمعنى المشهور - أي : صحّة الفعل والترك بالنظر إلى الذات - فعمومها ثابت بلا واسطة ، فأصل القدرة بهذا المعنى انّما يثبت بما تقدّم من الأدلّة الدالّة على ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب - تعالى -. وعمومها يثبت بمقدّمة ظاهرة هي انّ مقدور المقدور للشيء مقدور لهذا الشيء.

فان قلت : على ما ذكرت من تجويز تخلّل الوسائط يلزم صدور بعض الممكنات من بعض آخر البتّة إمّا على سبيل الاختيار أو على سبيل الايجاب ، ويلزم منه عدم امكان صدور بعض الممكنات عنه - تعالى - فضلا عن صدوره عنه بالقدرة والاختيار ؛

قلت : قد أومأنا إلى انّ تخلّل الواسطة بأيّ معنى كان لا يدفع كون استناد جميع الممكنات إليه - تعالى - ، فانّ لزوم تخلّل الوسائط / 94MB / في بعض الممكنات لأجل عدم قبوله لافاضة الوجود بلا واسطة لقصوره ونقصه ، فلا بدّ في افاضة الوجود عليه من الوسائط. فان كان أصل الافاضة على الجميع منه - تعالى ، كما هو المقرّر عند الحكماء - فلا يكون وجود ممكن مستندا إلى ممكن آخر ؛ وإن كانت الافاضة على بعض من بعض آخر بجهته المستندة إليه - تعالى - وبما أودع اللّه فيه من اقداره وتمكينه لهذه الافاضة فيكون أيضا بفعله - تعالى - ، ويكون تأثيره وافاضته في هذا البعض بهذا الطريق ؛ فلا يكون وجود هذا البعض أيضا مستندا إلى ممكن ، بل يكون مستندا إليه - تعالى - بالحقيقة.

ثمّ لمّا قام البرهان على لزوم كون تأثيره وفعله بطريق القدرة والاختيار دون الايجاب ، فجميع ما صدر عنه - بواسطة أو بدونها - يكون بطريق الاختيار ؛ وكان عدم صدوره ممكنا له بالنظر إلى ذاته وإن وجب صدوره بالنظر إلى ارادته وعلمه بالأصلح.

ص: 413

فان قيل : لعلّ من الممكنات ما لا يمكن صدوره بطريق الاختيار والقدرة ، بل لزم صدوره بطريق الايجاب ؛

قلنا : لمّا ثبت انتهاء سلسلة الاحتياج ووجود كلّ موجود إليه - تعالى - وثبت أيضا انّ كلّما يصدر عنه - تعالى - فانّما يصدر عنه بطريق القدرة فثبت انّ كلّما صدر عنه بواسطة أو بدونها فانّما يصدر عنه بالقدرة والاختيار ، وكان عدم صدوره ممكنا عنه بالنظر إلى ذاته ؛ وجميع ما لم يصدر عنه فلم يصدر عنه أيضا بالقدرة والاختيار وإن كان صدوره ممكنا / 90DA / بالنظر إلى ذاته. ووجوب الصدور في الأوّل ووجوب عدمه في الثاني انّما هو لأجل المصالح الراجعة إلى نظام الخير.

فان قيل : الافعال الصادرة عن الطبائع بالايجاب - كالاحراق للنار - كيف يمكن أن يصدر عنه - تعالى - بالقدرة والاختيار؟! ؛

قلت : لمّا كان أصل الطبائع صادرا عنه - تعالى - فما صدر عنه ممكن الصدور عنه - تعالى - ، لأنّ الصادر عن الصادر عن الشيء ممكن الصدور عن ذلك الشيء. وإذا كان ممكن الصدور عنه فيكون مقدورا له - تعالى - بالنظر إلى ذاته وان وجب صدوره الفعلي الوقوعي بطريق الايجاب عن الطبائع بالنظر إلى الأمور الخارجة من المصالح الراجعة إلى أحسن النظام.

فان قيل : يجوز أن تكون مهيات بعض الممكنات مانعة من تعلّق القدرة بها وان لم يمتنع ذلك بالنظر إلى ذات الواجب ، فانّ اثبات عموم قدرته بالنسبة إلى جميع الممكنات الموجودة والمعدومة يتوقّف على استواء نسبة ذاته - تعالى - إلى الجميع. وهذا على ما ذهب إليه الأشاعرة - : من أنّ المعدوم ليس بشيء وانّما هو نفى محض لا امتياز فيه اصلا ولا تخصّص فيه قطعا ، ومن أنّ المعدوم لا مادّة له ولا صورة - صحيح ، لانّه لا يتصوّر اختلاف في نسبة الذات إلى المعدومات الّتي لا تمايز فيه اصلا بوجه من الوجوه. وأمّا على ما ذهب إليه المعتزلة من أنّ المعدومات متميّزة أو على ما ذهب إليه الحكماء من أنّ للمعدوم مادّة فلا يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته - تعالى - دون بعض. فعلى قاعدة الاعتزال جاز أن تكون خصوصية بعض المعدومات

ص: 414

الثابتة المتميّزة مانعة من تعلّق القدرة به ، وعلى قانون الحكمة جاز أن يستعدّ المادّة لحدوث ممكن دون آخر ؛ وعلى التقديرين لا تكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء.

ثمّ لا ريب في أنّ مذهب الأشاعرة ظاهر الفساد ، لانّه لو صحّ لزم أن لا يتصوّر اختلاف بنسبة الإرادة وتعلّقها - أيضا - إلى الممكنات ، فلا يتصوّر اختلاف نسبة الايجاد بأن يوجد بعض الممكنات دون بعض ، بل لا بدّ أن يوجد الجميع أو لا يوجد شيء أصلا. بل لا يتصوّر اختلاف النسبة إلى الاوقات أيضا ، فلا بدّ أن يوجد ما يوجد في وقت واحد ؛ بل إذا كان المعدوم نفيا محضا لم يثبت له الامكان حتّى يثبت له المقدورية. وإن يثبت له الامكان يثبت له سائر لوازم الماهية ، فيثبت التمييز ويتحقّق اختلاف النسبة. وإذا كان هذا المذهب ظاهر الفساد فلا يمتنع اختصاص البعض بمقدوريته - تعالى - دون بعض! ؛

قلنا : جواب هذا الايراد وإن ظهر من الكلمات السابقة ولكن نعيده توضيحا ونقول : لا ريب في تمايز المعدومات نظرا إلى ثبوت الوجود الذهني ، فهي متمايزة في التعقّل. لكن التمايز لا يصير منشئا لعدم تعلّق قدرة الواجب ببعضها ، لأنّه لا ريب في أنّ الامكان علّة للاحتياج إلى المؤثّر ، فجميع الممكنات محتاجة إلى المؤثّر. فما يفرض من أنّه يمكن أن لا يتعلّق قدرة الواجب به / 95MA / نقول : لا ريب في احتياجه إلى مؤثّر ، فمؤثّره إن لم يكن واجب الوجود وافترض مميزه (1) أن يكون مؤثّره غيره - تعالى - فان كان هذا المؤثّر موجودا ينتهى وجوده إليه - تعالى - البتة ؛ لدلالة ادلّة اثبات الصانع على انتهاء جميع الموجودات وقوّة جميع الفواعل وتأثير جميع المؤثّرات إليه - تعالى - ، فيكون هذا البعض معلولا له بالواسطة. وإذا كان معلولا له يكون معلولا له بالقدرة والاختيار ولو كان عدم ايجاده أيضا ممكنا له ، وانّما وجب وجوده بالداعي - لما مرّ مرارا من أنّ تأثيره تعالى في جميع معلولاته إنّما هو بطريق الاختيار -.

ثمّ لمّا كان هذا البعض موجودا منه - تعالى - بالواسطة فينتهي سلسلة الوسائط إلى ما هو موجود منه - تعالى - بلا واسطة. وما يوجد ممّا وجد عن الشيء يمكن أن يوجد

ص: 415


1- كذا في النسختين.

عن هذا الشيء بالنظر إلى ذاته وان لزم تخلّل الوسائط بالنظر إلى الأمور الخارجة ، فالبعض المذكور ممكن الصدور عنه - تعالى - بلا واسطة. فتتعلّق القدرة بالمعنى المشهور به بلا واسطة. وإن كان هذا المؤثّر - أي : مؤثّر ما فرض عدم تعلّق القدرة به - معدوما نظرا إلى فرض عدم هذا البعض الّذي فرض أن القدرة لا يتعلّق به وادّعى انّ مؤثّر هذا المؤثّر أيضا معدوم - ... وهكذا إلى غير النهاية - فقد عرفت انّه لا بدّ لجميع هذه المعدومات الممكنة من مؤثّر وينتهى إلى الواجب - كما مرّ توضيحه -. وإذا انتهى إلى الواجب ثبت تعلّق القدرة به ، فان لم يوجد فظاهر - فانّما ذلك لأجل المصالح الراجعة إلى أحسن النظام - ، وتعلّق القدرة به نظرا إلى ذاته - تعالى - ثابت ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير في دفع المنع المذكور : على قاعدة الاعتزال - أعني : جواز كون الخصوصية مانعة من تعلّق القدرة - انّ كلّ ما يمكن صدوره من الغير يمكن صدوره عن / 90DB / الواجب باعتبار كونه فاعلا - أي : بدون اعتبار كونه مريدا وعالما بنظام الخير - وإن لم يجز صدور بعض ما يصدر عن الغير عنه - تعالى - مع هذا الاعتبار - إذ لا يلزم من كون الشيء ممكن الصدور عن الغير كونه متعلّقا لقدرة الواجب المستجمعة لجميع شرائط التأثير - ، فعلى قاعدة الاعتزال لا يلزم إلاّ جواز أن تكون خصوصية بعض المعدومات الممكنة مانعة من تعلّق القدرة الشاملة لجميع شرائط التأثير الّتي من جملتها الإرادة ، لا جواز أن تكون الخصوصية مانعة من تعلّق مطلق القدرة ، بمعنى انّه لو اراد ما له تلك الخصوصية لم يقع بقدرته. فالمدّعى : انّ نسبة الذات مع اعتبار كونه عين العلم والإرادة بالنسبة إلى جميع الممكنات الّتي لها امكان الصدور عن الواجب على سواء وانّ نسبة الذات من حيث هي بدون اعتبار كونه عين العلم والإرادة بالنسبة إلى جميع الممكنات الّتي لها امكان الصدور عن الغير على سواء ، ولا خفاء في صدق هذين الحكمين ؛ انتهى ما ذكره بأدنى تغيير.

وحاصله : انّ خصوصية بعض الممكنات ليست مانعة من كونه متعلّقة للقدرة بالمعنى المشهور - أعني : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات - ، فهو ممكن الصدور عن الواجب بالنظر إلى ذاته وإن امتنع صدوره عنه بالنظر إلى داعي الإرادة و

ص: 416

العلم بنظام الخير - أي : ليس مقدورا له بالقدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، أعني : القدرة بمعنى صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعى في بعض الاوقات - ، وهي القدرة الملزومة للحدوث ؛ فانّ متعلّق تلك القدرة انّما هو ما يمكن صدوره عن الواجب.

وأنت تعلم انّ أحد الجزءين من كلامه - أعني : عدم كون الخصوصية مانعة من تعلّق مطلق القدرة - مطابق لما ذكرناه في بيان أنّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق القدرة بالمعنى المشهور ، فمراده من مطلق القدرة هي القدرة بالمعنى المشهور.

فان أورد عليه : بأنّه لم لا يجوز أن تكون تلك الخصوصية مانعة من تعلّق مطلق قدرة الواجب - تعالى -؟ ، فلا بدّ لابطال هذا الاحتمال من دليل! ؛

فجوابه : انّ مقدور المقدور مقدور ومعلول المعلول معلول ، فكلّ ما هو قادر على الفاعل قادر على فعله أيضا بحسب ذاته مع قطع النظر عن العلم بالمصلحة ، وكلّ ما هو مقدور لغيره - تعالى - يكون مقدورا له - تعالى - بحسب ذاته.

وأمّا الجزء الآخر من كلامه - أعني : كون الخصوصية مانعة من تعلّق القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير - إن كان هو القدرة بمعنى صحّة الفعل والترك في بعض الأوقات بالنظر إلى الداعي وغيره / 95MB / من شرائط التأثير - أي : امكان الفعل والترك بالامكان الوقوعي - ولو في زمانين بأن يختلف زمان الفعل والترك - أي : يقع الترك في زمان والفعل في زمان آخر ، لأنّ امكانهما معا بالنظر إلى الداعي غير جائز على التحقيق كما مرّ - ، فالقدرة بهذا المعنى هو ما يوجب الترك في زمان والفعل في زمان آخر. ومقابله ما يوجب احدهما دائما وهي القدرة المستلزمة لصحّة الانفكاك بين الواجب وبين كلّ من طرفي الفعل والترك ؛ وهي القدرة المستلزمة للحدوث. وقد بيّنا انّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق تلك القدرة بالواسطة ، وانّما هي مانعة من تعلّق القدرة بهذا المعنى بلا واسطة.

فكان على هذا القائل أن يشير إلى هذا التفصيل.

وإن كان المراد عنها - أي : من القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير - هي القوّة

ص: 417

الموجبة للفعل أو الترك - أي : التمكّن الّذي صار منشئا للوجود أو العدم بالفعل ، سواء كان مستلزما للانفكاك أم لا ، بل وجب معها أحدهما دائما ولم يرد منها القدرة الملزومة للحدوث - ، نقول : لو صحّ ذلك فلا ريب في لزوم كون التمكّن المذكور بالعلم والمشيّة ، فرجع إلى القدرة بالمعنى الأوّل من معاني القدرة المتقدّمة - أي : كون الصدور واللاصدور بالعلم والمشيّة وإن وجب أحدهما -. ولا ريب في كون جميع الممكنات متعلّقا للقدرة بهذا المعنى ولو جعل التعلّق أعمّ من التعلّق بلا واسطة أو بواسطة. وبالجملة لا شبهة في أنّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالواسطة ، سواء أريد منها أحد المعانى المذكورة أو معنى آخر غيرها. والاطلاق بكون الخصوصية مانعة منها غير مناسب.

على أنّ هذا القائل صرّح بأنّ القدرة المتنازع فيها بين الفلاسفة والمليين هي القدرة الملزومة للحدوث ، وهي الّتي كان هذا القائل بصدد اثباتها واثبات عمومها دون القدرة بالمعنى المشهور ، لتصريحه بأنّه متّفق عليه بين الكلّ. فما ذكره من أنّ الخصوصية ليست مانعة من تعلّق القدرة بالمعنى / 91DA / المشهور لا يفيده ، بل لا بدّ له من بيان عدم كونها مانعة من تعلّق القدرة الملزومة للحدوث ؛ هذا.

وما ذكر في الايراد المذكور من انّه على قانون الحكمة جاز أن تستعدّ المادّة لحدوث ممكن دون آخر ، فلا يكون نسبة الذات إلى الجميع على السواء ؛

ففيه : أمّا أوّلا : انّه على قانون الحكمة لا يمكن أن يؤثّر ويوجد إلاّ واجب الوجود بالذات ، فكلّ شيء له امكان قبول الوجود فانّما يوجد من الواجب الوجود بالذات الّذي هو باعتبار ذاته موجود ، فانّ الممكن الّذي ليس له في حدّ ذاته وجود محال عندهم اتصافه بالايجاد.

والحاصل : انّ الحكماء لمّا لم يجوّزوا التأثير في الموجود لغيره - تعالى - فكلّ ما هو مقدور للغير لا بدّ أن يكون مقدورا له - تعالى - ، بل اطلاق كلامهم وادلّتهم يدلّ على انّ افعال العباد أيضا ليست صادرة عنهم ، بل بقدرته - تعالى - وإن كان الحقّ خلافه.

ص: 418

نعم! قبول الوجود وقبول الحركات والأفعال يتحقّقان في الممكنات. و (1) يدلّ على ذلك ما نقلناه سابقا عن التحصيل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ذلك - نعني جواز استعداد المادّة لحدوث ممكن دون آخر - لا يوجب تجويز صدور ممكن عن غير الواجب ، بل يوجب عدم امكان صدوره عن الواجب لا تجويز صدوره عن غير الواجب ، فهو لا ينافي قولنا : كلّ ما هو مقدور الغير مقدور له - تعالى -. ولا يقدح ذلك في عموم قدرته ، لأنّ المدّعى منه شمول قدرته لجميع ما له امكان الصدور عن مؤثّر ، فلو فرض ما لم يمكن تعلّق قدرة فاعل به - لعدم استعداد المادّة لحدوثه - وصحّ اطلاق اسم الممكن على مثله فلا ضير في عدم تعلّق قدرته - تعالى - به ؛ ولو لم يصدق عليه اسم الممكن وكان معدودا في الممتنع فالأمر فيه ظاهر.

وبما ذكرنا يندفع ما قيل : انّ مقصود المورد انّه إذا كانت المادّة مستعدّة لحدوث ممكن دون آخر لم تكن نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، لا أنّه يجوز صدور ممكن عن غير الواجب ؛ ولم يلزم من الجواب المذكور ثبوت تساوي النسبة ، بل اللازم منه عدم ايجاب كون المادّة مستعدّة لحدوث ممكن / 96MA / دون آخر - لجواز صدور ممكن عن غير الواجب - ، وهو غير المقصود.

ووجه الاندفاع : انّ ما يقدح في عموم القدرة انّما هو جواز صدور ممكن عن غير الواجب ، لا عدم جواز صدور ممكن عن فاعل اصلا ؛ فالمورد إن ادّعى انّه يلزم على قاعدة الحكمة صدور ممكن عن غير الواجب يكون مقدورا له - تعالى - ، فلا يثبت عموم القدرة ؛

فيندفع دعواه بالجواب المذكور ؛

وإن لم يدع واكتفى بمجرّد لزوم عدم جواز صدور ممكن عن فاعل ؛

فيجاب عنه : بأنّه غير قادح في عموم القدرة.

والحقّ انّ هذا الجواب غير صحيح على القواعد الّتي قرّرناها ، لأنّ كلّما صدق

ص: 419


1- الاصل : - و.

عليه اسم الممكن وهو ممكن في حدّ ذاته وحاقّ مرتبته يكون متعلّقا للقدرة المطلقة وإن لم تتعلّق به القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير - نظرا إلى أمر خارج عن ذاته من عدم استعداد المادّة لحدوثه أو غير ذلك من المصالح الراجعة إلى نظام الكلّ - كيف لا؟! وكلّ ممكن محتاج إلى مؤثّر ، فلا بدّ لكلّ ماهية ممكنة من مؤثّر ؛ وفرض ممكن لا يحتاج إلى المؤثّر فرض انقلاب الحقيقة. وإذا كان لكلّ ممكن مؤثّر - سواء كان موجودا أو معدوما - يكون لهذا الممكن الّذي لم تستعدّ المادّة لحدوثه أيضا مؤثّر إمّا موجود أو معدوم. وإذا احتاج إلى مؤثّر بأيّ نحو كان ينتهي اختصاصه بالاخرة إلى الواجب - كما مرّ مفصّلا - ، فيكون متعلّقا للقدرة المستجمعة لشرائط التأثير بالواسطة وللقدرة بالمعنى المشهور بلا واسطة ، نظرا إلى أنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى ذاته. فالقول بأنّ مثل هذا الممكن لا تتعلّق به قدرة الواجب اصلا غير صحيح.

فالحقّ في الجواب أن يقال : إنّ استعداد المادّة لحدوث ممكن دون آخر لا يوجب عدم تجويز صدور ممكن عن الواجب ؛ يعنى : كون استعداد المادّة شرطا لحدوث الممكن لا يوجب تجويز عدم امكان صدور ممكن عن الواجب بالنسبة إلى نفس القدرة الّتي هي معتبرة عندهم ، بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ، لا أنّ المشية عندهم لا تتعلّق بما لم يستعدّ المادّة لحدوثه - لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح - ، فكلّ ممكن لو تعلّقت كان صادرا عنه - تعالى -.

والحاصل انّ هذا الممكن مقدور له - تعالى - بالقدرة بالمعنى المشهور - أعنى : صحّة الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذاته تعالى - وإن لم يكن مقدورا بالقدرة بمعنى صحّة الفعل بالنظر إلى الداعى وغيره من شرائط التأثير.

فان قيل : إذا لم تستعدّ المادّة لحدوث ممكن فلعلّه لا يقدر الواجب - تعالى - على ايجاد ذلك الممكن بالنسبة إلى اصل القدرة أيضا من غير اعتبار استجماع الشرائط ، / 91DB / ولا بدّ لنفيه من دليل ؛

قلنا : بعد تسليم انّ مثل هذا الممكن محتاج إلى مؤثّر وتسليم انتهاء سلسلة المؤثّرات - موجودة كانت أو معدومة - إلى الواجب يثبت قدرة اللّه - تعالى - على

ص: 420

ايجاد هذا الممكن نظرا إلى مطلق القدرة ، وانكار ذلك مكابرة. وقد ظهر ووضح انّ المنع المذكور - أعني : جواز كون الخصوصية في الممكنات مانعة من تعلّق القدرة - مدفوع على قاعدة الاعتزال والحكمة وأمّا على اصول الأشاعرة فلا يرد أصلا حتّى يحتاج إلى الدفع ، لعدم التمايز والتخصيص عندهم في المعدومات وإن كان اصلهم فاسدا!.

وقال بعض المشاهير : لا فرق بين مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة والحكماء في ورود المنع ؛ إنّما الفرق في دفعه ، فانّ الأشعرية لمّا اعتقدوا أن ليس التأثير ثابتا لغير واجب الوجود دفعوا منع كون ممكن غير مقدور للواجب بأنّه يلزم من كونه غير مقدور له عدم امكان صدوره عن الغير ، فانّ كلّ ما يمكن صدوره عن الغير فانّما يصدر عن الواجب بالذات. وأمّا على مذهب المعتزلة فدفع المنع المذكور أن يقال : مرادهم من تساوي نسبة ذات الواجب إلى جميع الممكنات هو تساوي النسبة باعتبار كونه فاعلا مع قطع النظر عن الإرادة والعلم بالأصلح ؛

وأورد عليه : بأنّه لمّا جعل بناء الاستدلال المشهور وصحّته على عدم ثبوت التمايز بين المعدومات وكون المعدوم لا شيئا محضا ونفيا صرفا لا امتياز فيه أصلا ، فلا مجال لورود المنع المذكور اصلا. وانّما يرد على من لم يقل بذلك واثبت الامتياز والخصوصية للمعدومات / 96MB / - كالمعتزلة والحكماء - ، فورود المنع على المذاهب الثلاثة لا وجه له. إلاّ أن يكون نظر هذا القائل إلى أنّ القول بعدم التمايز اصلا ممّا لا يعقل ، إذ حينئذ لا يعقل وجود البعض دون البعض ، بل لا معنى حينئذ للبعض والبعض! ؛ فلا بدّ للأشعري أيضا أن يقول بتمايز بين المعدومات في الجملة وإن لم يكن على نحو ما يقوله المعتزلة ، وحينئذ لا فرق بين المذاهب الثلاثة في ورود المنع. ولا يخفى ما فيه من التكلّف ؛ انتهى.

وقال بعض الفضلاء : ولو كان بناء الاستدلال المشهور على عدم تمايز المعدومات بناء على أنّ المعدوم نفي محض يكون بين مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة فرق قطعا في ورود المنع ، إذ لا مجال على هذا القول للقول بكون البعض مقدورا دون

ص: 421

بعض ، بل لا يتصوّر حديث البعض والكلّ ، إذ لا تمايز أصلا. ثمّ قال : والظاهر انّ القائل بعدم الفرق بين المذهبين في ورود المنع أعرض عن هذا البناء لظهور ضعف هذا المبنى - بناء على ثبوت الوجود الذهني - ، وجعل المبنى ما ذهب إليه الأشاعرة من عدم تفاوت الممكنات في نظره باعتبار العلم بالنفع وغيره ، بخلاف مذهب المعتزلة ؛ وحينئذ لا فرق بين المذهبين في ورود المنع. لجواز اختلاف نسبة ذات الواجب إلى الممكنات على مذهب الأشاعرة من جهة أخرى ، فانّ سند تجويز الاختلاف لا ينحصر في ثبوت المعدومات الّذي قال به المعتزلة ، فانّ العلم المقدّم على الايجاد ممّا يصلح سندا للاختلاف قطعا ولو لم تتفاوت الممكنات في نظره - تعالى - باعتبار العلم عند الأشاعرة ، فيمكن أن يجعل سند المنع جريان العادة بانحاء البعض دون البعض ، أو اختلاف المهيات في انفسها باللوازم والذاتيات ؛

فدفع عنهم : بأنّه لو لم يكن بعض الممكنات مقدورا له - تعالى - لم يكن ممكن الصدور عن الغير ، فانّما يصدر عن الواجب بالذات ؛

وعن المعتزلة : بان مرادهم تساوي النسبة باعتبار كونه فاعلا مع قطع النظر عن الإرادة والعلم بالأصلح ، وحينئذ يصحّ عموم القدرة على المذهبين ولا ينافيه مذهب المعتزلة ؛ انتهى.

وغير خفيّ انّ امثال هذه التوجيهات تكلّفات باردة!.

والحقّ انّ المنع المذكور على مذهب الأشاعرة غير وارد - نظرا إلى ما ذهبوا إليه من عدم التمايز في المعدومات -. نعم! أصل مذهبهم فاسد - كما أشير إليه -. فما ذكره القائل المذكور من عدم الفرق بين المذهبين في ورود المنع غير صحيح.

ثمّ ما ذكره في وجه دفع المنع المذكور من قبل الأشاعرة وإن كان ثابتا من مذهبهم - لأنّه لا شكّ انّ الأشاعرة نفوا التأثير عن غيره تعالى - ، فعلى ما ذهبوا إليه ظاهر انّ كلّما هو مقدور للغير لا بدّ أن يكون مقدورا له - تعالى - ، إلاّ أنّ الكلام في صحّة الاستدلال المشهور وفي اثبات ما ذهبوا إليه. ولو بنى الأمر على مجرّد هذا المذهب لم يفتقر اثبات عمومية القدرة إلى استدلال أصلا.

ص: 422

ثمّ بعد اثبات ما ذهبوا / 92DA / إليه من نفي التأثير عن غيره - تعالى - إنّما يثبت مجرّد انّ كلّما هو مقدور للغير مقدور له - تعالى - ولا يثبت مقدورية كلّ ممكن له - تعالى - ، وقد عرفت انّ عموم القدرة يتوقّف على ذلك ؛ هذا.

وقد استدلّ بعض المشاهير على عموم القدرة : بأنّ امكان الصدور عن الغير بالارادة علّة للمقدورية ، إذ الشيء الّذي لم يتّصف بامكان الصدور عن الغير بالارادة لم يتّصف بالمقدورية ، وما اتصف به اتّصف بها وثبت بينهما التلازم المفيد للعلّية المثبتة للمطلوب. بل هو يكفي لاثبات المطلوب وإن لم يفد العلّية بالمعنى المعروف ، فانّ مرادنا بالعلّية ما يتناول مثل التلازم ، فلا يرد انّه لا يلزم ممّا ذكر إلاّ التلازم بين امكان الصدور عن الغير بالارادة والمقدورية ، وهو لا يفيد علّية لها لجواز أن يكونا معلولي علّة ثالثة. والظاهر انّ امكان الصدور عن الغير بالارادة هو المقدورية ، والفرق بينهما بالاجمال والتفصيل كالفرق بين الانسان والحيوان الناطق. فالمراد بالعلّية هاهنا ينبغي أن يكون علّية الحكم - كما يقال : علّة انسانية زيد إنّما هي كونه حيوانا ناطقا -.

واذ صحّ استلزام امكان الصدور عن الغير بالارادة للمقدورية نقول : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان / 97MA / الصدور عن الواجب - تعالى - سواء كان بالواسطة أو بلا واسطة نظرا إلى ادلّة اثبات الصانع واثبات التوحيد ، فقدرة الواجب متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير. فمن لم يجوّز كون الممكن فاعلا مستندا إلى أنّ الممكن باعتبار انّه ممكن لا شيء محض وما كان كذلك لا يصحّ أن يصير موجدا يكون عنده وقوع جميع الممكنات بايجاد الواجب وقدرته. ومن جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام جوّز أن يوجد الواجب - تعالى - حركات الأجسام ، ضرورة أنّ القادر على ايجاد المحرّك قادر على ايجاد الحركات.

والحاصل : انّ قدرة الواجب المقرونة بجميع شرائط التأثير لا تتعلّق إلاّ بالممكنات الّتي لها امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ، إمّا بلا واسطة - كما ذهب إليه البعض - أو مطلقا ، مع الاتفاق في أنّ صدور غير الحركات من الجواهر انّما هو من الواجب. وأمّا قدرته على الاطلاق فهي متعلّقة بجميع ما هو ممكن الصدور عن الغير ؛

ص: 423

انتهى ما ذكره بزيادة بعض مقدّماته المطوية.

قال بعض الأفاضل : تقرير هذا الدليل على محاذات ما ذكره أن يقال : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا بالارادة ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الغير مطلقا ؛ ينتج : انّ كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا. ثمّ نقول : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير مطلقا له امكان الصدور عن الواجب بالارادة - سواء كان بواسطة أو بغيرها - ، لوجوب انتهاء جميع الاغيار إلى الواجب ؛ ينتج : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الواجب بالارادة.

ويمكن اختصاره بأن يقال : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا بالضرورة ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالضرورة له امكان الصدور عن الواجب بالارادة - لما ذكرنا - ، فتحصل النتيجة.

وإنّما حملنا كلامه على قياسين لمكان قوله : « بالارادة » ، اذ لو لم نعتبره في الاوسط يلزم إمّا الغائه أو عدم تكرّر الأوسط. وإن اعتبرناه لم يلزم من الدليل كون ما له امكان الصدور عن الغير بالايجاب - كالاحراق الصادر عن النار مثلا - متعلّقا لقدرته - تعالى - ؛ انتهى.

وتوضيح ما ذكره أخيرا بقوله : « وانّما حملنا كلامه » : انّ المستدلّ المذكور جعل صغرى القياس قولنا : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير بالارادة ، وكبراه قولنا : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الواجب ، وجعل النتيجة قولنا : وكلّ مقدور له امكان الصدور عن الواجب بالارادة. فاعتبر قوله : « في الإرادة » مع الأوسط في الصغرى ولم يعتبره معه في الكبرى. فان اعتبرناه معه في الكبرى وقلنا تركه فيها حوالة على الظهور ، يكون المراد من « المقدور » في النتيجة ما هو ممكن الصدور عن الغير بالارادة ، فيلزم منه أن يكون كلّ ما هو ممكن الصدور عن الغير بالارادة ممكن الصدور عن الواجب ولا يكون ما هو ممكن الصدور عن الغير بالايجاب - كالاحراق الصادر عن النار - ممكن الصدور عن الواجب. وإن لم نعتبره

ص: 424

معه في الكبرى / 92DB / وقلنا : لا حاجة إليه فيها ، فيلزم الغائه في الصغرى ، فلا بدّ أن يحمل قوله على قياسين ، بأن نقول : ذكر صغرى القياس الأوّل وكبرى القياس الثاني مع نتيجته ، وأحال ساير اجزائهما على الظهور.

ثمّ حمل قول المستدلّ المذكور على قياسين - وكان اثبات المطلوب بقياس واحد ممكنا في الواقع - وقال : « ويمكن اختصار الاستدلال » ، فجعل الصغرى قولنا : « كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا » - أي : سواء كان بالارادة أو بغيرها - ، وادّعى الضرورة في ذلك ؛ وجعل الكبرى قولنا : « وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير مطلقا بالضرورة له امكان الصدور عن الواجب بالارادة » ، وجعل دليل ذلك ما اشرنا إليه آنفا من أنّ جميع الأغيار ينتهي إلى الواجب ؛ فكلّ ما يمكن صدوره عن الغير يمكن صدوره عن الواجب بالارادة ، سواء كان بواسطة أو بغيرها ؛ فتحصل النتيجة - أعني قولنا : « كلّ مقدور له امكان الصدور عن الواجب بالارادة » -.

هذا ما ذكره بعض الأفاضل في شرح كلام القائل المذكور مع توضيحه.

ويرد عليه - على تقدير جعل الاستدلال المذكور قياسين - : أنّ المراد من « المقدور » : الّذي جعل موضوعا لصغرى القياس / 97MB / وحمل عليه قولنا : « له امكان الصدور عن الغير بالارادة » ، لا ما يصلح لتعلّق القدرة به - كما هو ظاهره - ، أو الممكن مطلقا. فعلى الأوّل لا يلزم من القياسين - اللذين ذكرهما - إلاّ انّ كلّ ما يصدر عن الشيء بالقدرة له امكان الصدور عن الواجب ، وهذا لا يشمل ما يصدر عن شيء بالايجاب - كالاحراق للنار - ؛ مع أنّ غرضه ادخال ذلك - كما صرّح به الفاضل المذكور الّذي حمل الاستدلال المذكور على قياسين -.

مع أنّه حينئذ لا حاجة إلى الحمل على قياسين ، لأنّه صرح بأنّه لو جعلنا الاستدلال واعتبرنا قولنا : « في الإرادة » في الكبرى وقلنا : تركه فيها للظهور ، لم يلزم من الاستدلال كون ما له امكان الصدور عن الغير بالايجاب - كالاحراق للنار - متعلّقا لقدرته - تعالى - ، فالحمل على قياسين لا دخال ذلك. فاذا لم يدخل معه فأيّ حاجة إليه؟!. بل يكفى قياس واحد. وعلى الثاني - أي : كون المراد من المقدور هو الممكن

ص: 425

مطلقا - نمنع صغرى القياس الأوّل ، إذ لعلّ من الممكنات ما لا يمكن صدوره عن الغير بالارادة - كالافعال الصادرة عن الطبائع -. مع أنّه لا حاجة حينئذ أيضا إلى التطويل المذكور وجعل الاستدلال المذكور قياسين ، إذ يكفي حينئذ أن يقال : كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير بالارادة ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالارادة له امكان الصدور عن الواجب بالارادة - لانتهاء جميع الأغيار إليه تعالى - ؛ فينتج : انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الواجب بالارادة. فقد ظهر انّ جعل الاستدلال المذكور قياسين مع وجود قيد « الإرادة » لا ينفع في الغرض المذكور - أي : ادخال ما له امكان الصدور بالايجاب - ؛ وانّما ينفع فيه حذف هذا القيد وهو موجود في كلام المستدلّ. وبالجملة لا ريب في انّه مع أخذ الإرادة في الاستدلال المذكور والقول بأنّ حذف المستدلّ له اخيرا بناء على الظهور أو لعدم الاحتياج إليه يكون الاستدلال ناقصا غير ناهض لاثبات المطلوب - سواء أريد من المقدور ما يصلح لتعلّق القدرة به أو الممكن ، وسواء جعل قياسين أو قياسا واحدا ، كما تقدّم - ؛ لورود ما اشرنا إليه من عدم دخول ما يصدر عن الشيء بالايجاب ؛ ومن منع الصغرى ، إذ لا نسلّم انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير بالارادة ، بل لا نسلّم ذلك في كلّ موجود أيضا فضلا عن الممكنات الغير الموجودة. فهو لا ينتهض على اثبات شيء من الاحتمالات المذكورة للعنوان المذكور فضلا عن الاحتمال الّذي ذكرنا هو انّه هو المقصود - أعني : شمول القدرة لجميع الممكنات الموجودة والمعدومة - ؛ هذا.

ويمكن أن يجعل الصغرى والكبرى في الاستدلال المذكور عكس ما تقدّم ، بأن يجعل المحمول موضوعا وبالعكس حتّى تصير صورة القياس هكذا : كلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالارادة فهو مقدور ، وكلّ مقدور فله امكان الصدور عن الواجب بالارادة ، لينتج : كلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالارادة فله امكان الصدور عن الواجب بالارادة.

وهو كسابقه - أي : عكسه - في امكان جعله قياسين ؛ وفي ورود ما يرد عليه.

فانّ المراد من المقدور حينئذ - أعني : الاوسط - ما يصلح لتعلّق القدرة به ، فلا يكون

ص: 426

ما يصدر عن الشيء بالايجاب داخلا فيما يمكن صدوره عن الواجب بالارادة. بل حينئذ لو حذف لفظ « الإرادة » لم يصحّ الاستدلال أيضا ، لورود المنع على الصغرى. فلو شئنا أن نتمّ هذا الاستدلال بحيث يرجع إلى ما حقّقناه وجب أن يحذف قولنا : « بالارادة » عن الصغرى / 93DA / ويجعل الموضوع في الصغرى هو « الممكن مطلقا » ، والمحمول قولنا : « له امكان الصدور عن الغير مطلقا » حتّى تصير صورة القياس هكذا : كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير فله امكان الصدور عن الواجب بالارادة - سواء كان بلا واسطة أو بواسطة - ، فينتج : انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الواجب بالارادة. وهذا معنى عموم قدرته - تعالى -.

وأمّا الكبرى فظاهرة ، لانتهاء جميع الأغيار إليه - تعالى - ، بناء على ثبوت التوحيد وحدوث العالم وقيام الدلالة على صدور ما يصدر عنه بالارادة والقدرة ، وكفاية صدور علّة الشيء عنه - تعالى - بالقدرة والإرادة في كون هذا الشيء صادرا بها. وأمّا الصغرى فلانّ كلّ ممكن فهو محتاج إلى المؤثّر ، فمؤثّره إمّا واجب أو ممكن موجود أو معدوم ؛ وعلى التقادير يثبت المطلوب / 98MA / - كما مرّ غير مرّة -.

وبذلك يندفع ما أورد على الصغرى : بأنّا لا نسلّم انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير ، إذ لعلّ من الممكنات ما لا يقدر شيء على ايجاده وإن لم تأب ذاته عن الوجود. ولو سلّم فلا نسلّم امكان صدوره عن شيء من الوجودات ، بل ربّما لا يجوز صدوره إلاّ عن ممكن معدوم ، وكذا الحال في ذلك الممكن أيضا ، وهكذا. فلا يلزم امكان صدوره عن الواجب - تعالى - ، لأنّ امكان الصدور عن الواجب بلا واسطة أو بواسطة إنّما هو فيما يمكن صدوره عن موجود منته إليه - تعالى - ، لا عن معدوم يتوقّف وجوده على معدوم آخر ، وهكذا. وعلى هذا فلا ينتهض الاستدلال المذكور على اثبات عموم القدرة بالمعنى المطلوب - أعني : شمولها لجميع الممكنات الموجودة والمعدومة - ، بل لو نزّلنا عن الايراد الأوّل فانّما يثبت عموم القدرة بمعنى شمولها لجميع الموجودات بلا واسطة أو بواسطة.

وحينئذ إذا نزّلنا عن الايراد الأوّل فلو اجرى الاستدلال المذكور في اثبات عموم

ص: 427

القدرة بهذا المعنى - بأن يبدّل « الممكن » في موضوع الصغرى « بالموجود » - لتمّ ولا يرد عليه شيء ممّا أوردناه ، بل هو في الحقيقة ما ذكرناه من انّ بعد اثبات التوحيد وحدوث العالم لا خفاء في كون جميع الموجودات مستندة إليه - تعالى - بلا واسطة أو بواسطة. وعلى ما ذكر يمكن أن يجعل مدّعى المستدلّ المذكور انّ كلّ ما يصلح لتعلّق ايجاد الغير به فهو مقدور له - تعالى - بواسطة أو بلا واسطة ؛ وحمل كلامه على ذلك ممكن ، بل وهو ظاهر الانطباق عليه. فان خصّ الغير حينئذ بالغير الموجود اندفع عنه الايرادان معا ، وإن لم يخصّ به فلا شبهة في اندفاع الايراد الأوّل عنه وإن أورد عليه الايراد الثاني ؛ انتهى ما أورد بتغيير اقتضاه الايضاح.

ووجه الاندفاع : انّ بعد ما ثبت انّ كلّ ممكن محتاج إلى مؤثّر فكلّ ممكن يتعيّن ويتميّز في لحاظ العقل أو في حاقّ الواقع ونفس الأمر يتميّز ويتشخّص له أيضا في أحد الطرفين ما يصلح للتأثير فيه وكونه موجدا له ، فاندفع الايراد الأوّل.

ثمّ إذا كان الصالح لتأثيره فيه وايجاده له معدوما والصالح لايجاد هذا المؤثّر أيضا معدوما ... وهكذا ، فامّا تنتهى سلسلة هذه المعدومات إلى الواجب أو لا - بل تذهب إلى غير النهاية - ، فعلى الأوّل يثبت المطلوب أيضا ؛ وعلى الثاني نقول : انّ مجموع تلك السلسلة المعدومة الغير المتناهية بحيث لا يشذّ عنه شيء - لامكانه - ، فيحتاج إلى مؤثّر - أي : إلى ما يصلح للتأثير فيه -. فهذا المؤثّر إن كان واجب الوجود بالذات يثبت المطلوب أيضا ؛

وإن كان غيره فإمّا أن يكون موجودا فيثبت المطلوب أيضا - لانتهاء جميع الممكنات الموجودة إليه تعالى - ،

وإن كان معدوما لزم الخلف ، لأنّا اخذنا جميع سلسلة الممكنات المعدومة بحيث لا يشذّ عنها شيء.

ثمّ ما ذكره أخيرا من امكان اجراء الاستدلال المذكور في اثبات عموم القدرة بمعنى شمولها لجميع الموجودات وتخصيص مدّعى القائل به ، ففيه : انّ ثبوت عموم القدرة بهذا المعنى أمر بديهي لا ريب فيه ، وانّما المهمّ بين العقلاء اثبات شمولها لجميع

ص: 428

الممكنات الموجودة والمعدومة - كما هو الظاهر من ادلّتهم - ، والتخصيص بغير ما هو المطلوب المهمّ خلاف الظاهر والمتبادر.

فان قلت : هل يمكن أن يحمل قياس المستدلّ المذكور على القياس الّذي ذكرته وتمّمته؟!.

قلت : لا ، لأنّ موضوع الصغرى في قياسنا هو قولنا : « كلّ ممكن » ، وفي قياسه هو قولنا : « كلّ ما له امكان الصدور عن الغير » ، والمحمول فيها في قياسنا هو قولنا : « له امكان الصدور عن الغير » ، وفي قياسه هو قولنا : « فهو مقدور » ؛ ومع ذلك جعل فيه الإرادة جزء لموضوع الصغرى ، فكيف يرجع أحدهما إلى الاخر؟.

وبذلك يظهر انّ استدلاله لا يخلوا عن اختلال.

نعم! يمكن / 93DB / أن يقال - على تكلّف! - : انّ الصغرى في استدلاله محذوفة - وهي الّتي ذكرناها - ، وقد حذفها اعتمادا على الظهور ، وكذا حذف قولنا : « بالارادة » عن محمول الكبرى أيضا اعتمادا على الظهور ؛ وقوله : « انّ امكان الصدور عن الغير بالارادة علّة للمقدورية » مقدّمة خارجة عن القياس ، والغرض من ايرادها بيان انّه إذا ثبت بالقياس المذكور انّ كلّ ممكن له / 98MB / امكان الصدور عن الواجب بالارادة يثبت عموم قدرته ، إذ علة المقدورية ليست إلاّ امكان الصدور بالارادة. فاذا ثبت أنّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الواجب بالارادة وثبت بحكم تلك المقدمة انّ كلّ ما له امكان الصدور عن شيء بالارادة فهو مقدور له يثبت انّ كلّ ممكن مقدور له - تعالى - ، وهو معنى عموم القدرة.

وعلى هذا حمل كلام بعض الأعلام حيث قال بعد ايراد ما نقلناه من المستدلّ المذكور : توجيهه أن يقال : علّة مقدورية شيء لفاعل هو امكان صدوره عنه بإرادته - كما يظهر من تفسير القدرة - ، وهذا بالنسبة إليه - تعالى - يعمّ جميع الممكنات ، إذ كلّ ما يمكن صدوره عن فاعل فهو ممكن الصدور عن الواجب بالذات بإرادته بلا واسطة أو بواسطة ينتهي إليه ضرورة انتهاء جميع سلسلة وجود جميع الممكنات إلى ارادته الموجودة لوجود العالم جملة ، فقدرته متعلّقة مطلقا بجميع الممكنات ، وهذا ممّا ليس

ص: 429

النزاع فيه ؛ انتهى.

ثمّ لا يخفى انّ ترتيب القياس على ما قرّرناه يجعل الاستدلال على نحو ما استدللنا به على المطلوب سابقا ، فهو يثبت عموم

القدرة السابقة المطلقة - أي : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات بالنسبة إلى جميع الممكنات الموجودة والمعدومة بلا واسطة ، نظرا إلى أنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى ذاته - ؛ ويثبت عموم القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالنسبة إلى الممكنات الّتي لها امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ، وهي الممكنات الموجودة. وإلى هذا اشار المستدلّ المذكور في آخر كلامه بقوله : « والحاصل انّ قدرة الواجب المقرونة بجميع شرائط التأثير ... - إلى آخره ». فانّه بيان المراد من قوله : « فقدرة الواجب متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير » حتّى يظهر به مطلوب القوم من العمومية. فغرضه منه انّ المراد من القدرة الّتي قلنا أنّها متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير هو القدرة المطلقة الّتي لا يقارن ولا يلاحظ معها أمر آخر ، لا القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، إذ ربّما يمتنع صدور شيء عنه - تعالى - بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ومنافاة وجود ذلك الشيء له.

نعم! القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير انّما تتعلّق إمّا بدون واسطة - كما ذهب إليه الأشاعرة - أو مطلقا - كما ذهب إليه المعتزلة - بجميع ما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأصلح دون ما يمتنع بالنظر إليه ، أمّا عند المعتزلة فلامتناع صدور الشرور والآفات العامّة المضادّة للنظام الأعلى - كاختلال الخلائق أجمعين وتكذيب الأنبياء والمرسلين - ؛ وأمّا عند الأشاعرة وإن لم يمتنع صدور شيء عنه عقلا - لتجويزهم صدور كلّ شيء حتى القبائح والشرور عنه تعالى عقلا - ، لكنّهم يقولون : عادته - تعالى - جارية بايجاد الخيرات دون الشرور ، فكلّ ما يضادّ النظام الأعلى وان امكن تعلّق القدرة به بالذات لكن امتنع بالنظر إلى علمه بنظام الخير عند المعتزلة عقلا وعند الأشاعرة عادة.

وانّما حملنا القدرة المطلقة في كلام هذا القائل على القدرة بالمعنى المشهور - أعني :

ص: 430

امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - دون القدرة المستلزمة (1) للحدوث - أعني : صحّة انفكاك كلّ من الطرفين بالنظر إلى الداعي -. وإن حمل هذا القائل القدرة الّتي وقع النزاع فيها بين الفلاسفة والمليين على القدرة بهذا المعنى - أي : ما يستلزم الانفكاك بين الواجب وبين كلّ من طرفى الفعل والترك - لأنّه إذا كان المدّعى اثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الممكنات أو جميع ما له امكان الصدور عن الغير تعيّن حمل القدرة على المشهور ، إذ لا شكّ أنّ الممكنات الّتي لم توجد تكون عدمها ممتنع الانفكاك عنه - تعالى - بالنظر إلى الداعي ؛ وانّما يصحّ ذلك بالنظر إلى ذاته - تعالى -. نعم! لو كان المدّعى اثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الموجودات امكن حمل القدرة على صحّة انفكاك كلّ من الطرفين بالنظر إلى الداعي بشرط أن لا يجعل انفكاك كلّ منهما في وقت دون وقت انفكاك الآخر (2) ، إذ انفكاك كلّ منهما في وقت واحد ممتنع على التحقيق ، لما مرّ من أنّ عدم العالم في زمان عدمه انّما كان بالنظر إلى الداعي وعلمه بالنظام الأعلى ، فوجوده فيه / 99MA / كان محالا بالنظر إلى الداعي وإن كان جائزا بالنظر إلى ذاته - تعالى -. وكذا وجوده في وقت وجوده إنّما كان / 94DA / بمقتضى الداعي من العلم بالأصلح أو ذات الوقت ، فعدمه فيه كان محالا بالنظر إليه وإن كان جائزا بالنظر إلى ذاته - تعالى -.

فاثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الممكنات أو جميع الموجودات في كلّ وقت إنّما يتأتّى إذا حمل القدرة على المعنى المشهور - أي : امكان كلّ من الطرفين وانفكاكهما بالنظر إلى الذات - لا على المعنى المستلزم للحدوث - أي : امكان كلّ من الطرفين وانفكاكهما بالنظر إلى الداعى -. وإنّما يتأتّى اثبات عموم القدرة بمعنى صحّة الانفكاك بالنظر إلى الداعي فيما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالأصلح بشرط أن لا يتّحد زمان انفكاك الطرفين ، بل يكون انفكاك الترك في وقت وانفكاك الفعل في وقت آخر ، والقدرة بهذا المعنى ليست إلاّ بمعنى ترك ايجاد العالم في الأزل وايجاده فيما لا يزال. وهذا المعنى هو معنى القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير الّتي صرّح هذا القائل بأنّها لا تتعلّق إلاّ بما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ، فكيف يمكن أن

ص: 431


1- الاصل : الملزومة.
2- الاصل : ولا جواز.

يحمل القدرة المطلقة - الّتي صرّح هذا القائل بتعلّقها بجميع الممكنات - على هذا المعنى؟.

ثمّ لا يخفى انّه بعد اتفاقهم على تعلّق القدرة المستجمعة بجميع ما له امكان الوقوع بالنظر إلى العلم بالاصلح - أعني : نظام الممكنات الموجودة - اختلفوا - كما أشير إليه مرارا - بأنّ تعلّقها بجميع الممكنات هل هو بلا واسطة - حتّى يكون مفيض الوجود على الجميع هو الواجب سبحانه من دون تأثير من الوسائط - ، أو أعمّ من كونه بالواسطة بالنسبة إلى بعض الموجودات؟ وقد ذكرنا انّ الظاهر من كلام الحكماء هو الأوّل ، وهو المقطوع به عند الأشاعرة ، وقد صرّح به أيضا جماعة من المتأخّرين. قال بعض الأذكياء : لمّا ثبت انّ الامكان علّة الاحتياج إلى المؤثّر مطلقا في بادي الرأي وبعد حكم البرهان يظهر انّ الامكان علّة الاحتياج إلى الواجب المؤثّر الواجب بالذات - لأنّ مقتضى الوجود ليس إلاّ الواجب تعالى ، والامكان الّذي علّة الاحتياج إلى الواجب بالذات مشترك بين جميع الممكنات وعامّ بالنسبة إليها - فيكون جميع الممكنات صادرة عنه - تعالى - بالعلم والإرادة ، وما يصدر عن الشيء بالارادة يكون مقدورا له ، لأنّ القدرة هي الصفة الّتي تؤثّر على وفق الإرادة ، فيكون جميع الموجودات صادرة عنه - تعالى - بالارادة والاختيار ؛ فيلزم أن يكون جميع الممكنات مقدورة له - تعالى - بلا واسطة. فعمومية العلّة - الّتي هي الامكان - تستلزم عمومية صفة المقدورية ، وهذا هو مراد المحقّق الطوسي في التجريد من قوله : « وعمومية العلّة تستلزم عمومية الصفة (1) » ؛ انتهى.

والظاهر من كلام جماعة هو الثاني ، فانّه يظهر من كلامهم تجويز أن يؤثّر بعض الممكنات في بعض آخر بالجهة المستندة إليه - تعالى -. وقد ذكرنا انّ نظر الفرقة الأولى إلى أنّ مفيض الوجود ليس إلاّ الواجب - تعالى - ، لأنّ الممكن لا شيء محض وما كان كذلك لا يصحّ أن يصير موجدا ، وعلى هذا فشمول قدرته لجميع الموجودات بلا واسطة

ص: 432


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 219.

ظاهر لا سترة فيه.

ونظر الفرقة الثانية إلى أنّ الممكن لو كان موجدا قائما يؤثّر بالجهة المستندة إليه - تعالى - ، وهذه الجهة ليست عدما محضا - وقد تقدّم الكلام في ذلك مفصّلا -.

وعلى هذا لا يكون هذا الخلاف مختصّا بالحركات والأعراض ، لأنّ المستفاد من الدليل المذكور جواز ايجاد بعض الممكنات بعض الجواهر بالجهة المستندة إلى الواجب ، فما ادّعاه المستدلّ المذكور من اتفاقهم على أنّ صدور غير الحركات من الجواهر انّما هو من الواجب محلّ تأمّل!. إلاّ أن يقال : غرضه من الاتفاق اتفاق المتكلّمين ، فانّه لا نزاع بينهم في عدم صدور الجواهر من الممكن ، انّما النزاع بينهم ليس إلاّ في الأفعال المستندة إلى المخلوقين - الّتي هي حركات أو ما يتعلّق بها -. وأمّا غير تلك فالكلّ متّفقون على أنّ صدورها إنّما هو بقدرته وارادته.

نعم! ذهب معمّر بن عباد من المعتزلة إلى أنّ اللّه - تعالى - لم يخلق شيئا إلاّ الاجسام ، فأمّا الأعراض فانّها من مخترعات الأجسام إمّا طبعا - كالنار الّتي تحدث الاحراق والشمس الّتي تحدث الحرارة والقمر الّذي يحدث التلوين - ، وإمّا اختيارا - كالحيوان يحدث الحركة والسكون والاجتماع والافتراق -. ولذهاب ابن عبّاد إلى ذلك خصّ المستدلّ المذكور ما يختصّ صدوره بالواجب - أعني : غير الحركات - بالجواهر دون غير أفعال العباد والحركات من الجواهر وسائر اقسام الأعراض ، فانّه لو لم يخصّصه بالجواهر لم يتناول كلامه مذهبه.

وعلى ايّ / 99MB / تقدير لا ريب في أنّ أحدا / 94DB / من المتكلّمين لم يجوّز صدور الجوهر من الممكن.

ثمّ الظاهر من قواعد الملّة استناد وجود جميع الموجودات من الجواهر والأعراض إليه - تعالى - بدون مشاركة من الوسائط سوى أفعال العباد - على ما تقدّم -. والقول بأنّ الدليل الدالّ على استناد جميع الموجودات إليه - تعالى - لا يجري في الحركة - بناء على أنّ حقيقتها لمّا لم يكن أمرا بالفعل ولا قابلة للفعلية بل هي دائما بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل فلا ينافي تحقّق جهة القوّة والعدم في فاعلها ، بل يجب أن تكون في فاعلها

ص: 433

القريب المباشر لها جهة القوّة أيضا فيجوز أن يكون الممكن فاعلا لها - فقد عرفت ما فيه.

ثمّ لا ريب في أنّ من جوّز استناد الحركات إلى غير الواجب قد ذهب إلى أنّها مقدورة للواجب - تعالى - بالقدرة المطلقة ، لأنّ القادر على ايجاد المحرّك والمتحرّك قادر على ايجادهما موصوفين بالتحريك والتحرّك ضرورة. وذلك هو ايجاد الحركة منه - تعالى - ، لأنّ ايجادها قائمة بالذات ممتنع بالذات.

فان قيل : بعض التحريكات الممكنة قبيح وممتنع بالنسبة إليه - تعالى -! ؛

قلنا : امتناعه بالنظر إلى علمه وارادته المقدّسة عن الشرور والقبائح وكلّ ما يضادّ النظام لا بالنظر إلى قدرته ، فما لا يكون عامّا هو ارادته لا قدرته ، بل هي محيطة بالكلّ وشاملة للجميع.

ثم ما ذكره المستدلّ المذكور من أنّ من جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام جوّز أن يوجد الواجب - تعالى - حركات الأجسام ، ضرورة انّ القادر على ايجاد المتحرّك قادر على ايجاد الحركات ، غرضه : انّ من قال بتعلّق القدرة المستجمعة للواجب لجميع الموجودات أعمّ من أن يكون بواسطة أو بدونها واسند حركات الاجسام إليها لا إلى الواجب ليكون تعلّق قدرته المستجمعة لجميع شرائط التأثير بها بالواسطة جوّز تعلّق قدرته المطلقة - أي : صحّة ايجادها - بالنظر إلى ذاته - تعالى - بها بلا واسطة ، لأنّ القادر على ايجاد المحرّك قادر على ايجاد الحركات بالنظر إلى ذاته وإن اقتضى العلم بالأصلح تخلّل الواسطة في الايجاد بالفعل. فانّ المستدلّ المذكور قد صرّح في قوله : « والحاصل انّ قدرة الواجب امّا بأنّ القدرة المطلقة تتعلّق بجميع ما له امكان الصدور عن الغير. وامّا القدرة المستجمعة لجميع الشرائط فانّما تتعلّق بما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالاصلح إمّا بلا واسطة - كما هو رأي جماعة - أو أعمّ من كونه بلا واسطة أو بواسطة - كما هو رأي آخرين » -. فغرضه من الكلام المذكور انّ من جوّز تخلّل الواسطة في القدرة المستجمعة وقال باستناد الحركات إلى غيره - تعالى - لم ينكر تعلّق قدرته المطلقة بها ، نظرا إلى أنّ مقدور المقدور مقدور. إلاّ أنّ ظاهر هذا الكلام منه يدلّ على اعتقاده انّ كل ممكن ولو كان مستندا إلى غيره - تعالى - مقدور له - تعالى - بالقدرة المطلقة

ص: 434

بلا واسطة ؛ لأنّه لو كان مراده أنّه مقدور له بهذه القدرة ولو بالواسطة لم يكن فرق بينها وبين القدرة المستجمعة لجميع الشرائط ، لتصريحه بأنّ تعلّق القدرة المستجمعة لجميع الموجودات ولو بالواسطة متفق عليه ، وبأنّ صدور جميع الموجودات عنه - تعالى - ولو بتخلّل الوسائط في بعضها ممّا لا ريب فيه.

نعم! ما ذكره المستدلّ قبل كلامه المذكور بقوله : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الواجب سواء كان بالواسطة أو بلا واسطة ، فقدرة الواجب متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير اعمّ من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة بمعنى أنّ امكان صدور بعض الممكنات بالنظر إلى الذات انّما هو مع فرض تخلّل الوسائط لا بدونه وإن امكن صدور بعض اخر بدونه. وقد عرفت انّ ذلك خلاف التحقيق ، وانّ الامكان بالنظر إلى الذات ثابت بالنسبة إلى جميع الممكنات بلا واسطة.

هذا ؛ وقال بعض الافاضل : كان المناسب بعد قول المستدلّ المذكور : « ومن جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام » أن يقال : يكون عنده أيضا جميع الممكنات مستندا إليه - تعالى - ، لكن أعمّ من واسطة أو بلا واسطة ؛ لأنّ هذا هو الملائم لما سبق. وأمّا ما ذكره بقوله : « جوّز أن يوجد - ... إلى آخره - » ، فلا يلائمه ، بل ظاهره انّه رجوع عن الكلام السابق ويكون غرضه اثبات كون الجميع مقدورا له - تعالى - بلا واسطة. وذلك بدعوى إلى / 100MA / الضرورة في أنّ من هو قادر على ايجاد فعله أيضا (1) فهو - تعالى - قادر على ايجاد الجميع بلا واسطة على مذهب المعتزلة أيضا.

ولا يخفى انّ دعوى الضرورة المذكورة قريبة جدّا ، لكن لا يثبت بها إلاّ قدرته - تعالى - على جميع الموجودات ، وكذا المقدورات لها ، لا على جميع الممكنات : إذ لعلّ من الممكنات ما لا يقدر شيء على ايجاده / 95DA / إذ لم يكن صدوره عن شيء من الموجودات ؛ انتهى.

ولا يخفى انّه لمّا كان اثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الممكنات غير تامّ عند هذا القائل - للمناقشتين اللّتين اشار إليهما أخيرا - جزم بأنّ ما يمكن اثباته انّما هو عموم

ص: 435


1- العبارة هكذا في النسختين.

القدرة بالنسبة إلى جميع الموجودات ؛ وقد عرفت تحقيق الحقّ وجواب المناقشتين.

ثمّ في كلام هذا القائل خبط!. وذلك لأنّ ما ذكره من أنّ غرض المستدلّ المذكور اثبات كون الجميع مقدورا له - تعالى - بلا واسطة إن اراد من كلامه هذا : انّ غرض المستدلّ اثبات كون الجميع مقدورا له - تعالى - بلا واسطة بالقدرة المستجمعة لجميع الشرائط فهو ممنوع ، لأنّ ما ذكره لا يدلّ - بل لا يمكن حمله! - على ذلك ؛ وإن اراد منه : أنّ غرض المستدلّ اثبات كون الجميع مقدورا له بلا واسطة بالقدرة المطلقة وكونه رجوعا من كلامه السابق - بناء على ما ذكر من دلالة قوله سابقا : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الواجب بلا واسطة أو بواسطة ، على أنّ تعلّق القدرة المطلقة بجميع الممكنات أعمّ من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة - ؛ ففيه : انّ ما قال المستدلّ المذكور لم لا يدلّ إلاّ على أنّ بعض الموجودات المستندة إلى بعض آخر - أعني : الحركات - يجوز استنادها إلى الواجب أيضا عند من يجوّز استناد بعض الممكنات إلى بعض آخر؟ ، لانّه قال : ومن جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام جوّز أن يوجد الواجب حركات الاجسام ؛ فهو يدلّ على تعلّق قدرته المطلقة بلا واسطة بجميع الموجودات ، وليس فيه ما يدلّ على تعلّقها بالممكنات المعدومة. فالمفهوم من هذا الكلام ليس إلاّ ما سلّمه هذا القائل واعترف بأنّ الضرورة المذكورة يثبته - أعني : تعلّق قدرته تعالى بجميع الموجودات وكذا المقدورات لها - ، فأيّ مدخلية للمناقشتين؟ ؛ لأنّه لا ريب في أنّ الحركات من الممكنات الّتي يقدر شيء على ايجادها ، فاندفعت المناقشة الأولى ؛ ويمكن صدورها عن بعض الموجودات ، فاندفعت الثانية.

على أنّك قد عرفت حال المناقشتين ؛ هذا.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ حاصل ما اخترناه وملخّصه : انّ القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير عامّة شاملة لكلّ الموجودات ومتعلّقة بجميعها - إمّا بلا واسطة في الجميع أو بتخلّل الوسائط في بعضها - ، وما انكرنا كلّ الانكار تخلّل الوسائط في البعض. وانّ القدرة بالمعنى المشهور - أي : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات - عامّة شاملة لجميع الممكنات سواء كانت موجودة أو معدومة ، يوجد بعد أو لا يوجد قطّ

ص: 436

بلا واسطة ، لأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى الذات. وقد اشرنا إلى جميع ما يتوقّف عليه اثبات ما اخترناه من الدلالة ودفع الايرادات.

إلاّ انّه قد بقي لنا أن نشير إلى الجواب عن شبهة أوردت على المقدّمة القائلة بأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له والشبهة هي : انّه لو كانت تلك المقدّمة صحيحة لكان كلّ فعل يصدر عن كلّ شيء ممكن الصدور بعينه عن الواجب - تعالى - ، فيلزم أن يكون هذا الشخص المعيّن من الفعل بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي الصادر عن زيد مثلا ممكن الصدور بعينه من قدرة اللّه - تعالى -. وهو يوجب جواز تعدّد العلل المستقلّة للأمر الواحد الشخصي وكون الواحد بالمعنى العامّ مع ضعف وحدته ووجوده علّة وسببا للواحد بالعدد ، إذ السبب والمحتاج إليه على ذلك التقدير - أي : تقدير توارد العلل المستقلّة على المعلول الشخصي - ليس إلاّ القدر المشترك ، وهو هنا ما اشترك بين الواجب وزيد من القدرة. ولا ريب في بطلان ذلك من جانب الوجود في ما سوى الشرائط والمعدّات والآلات بأن يكون معنى عامّ علّة موجدة للواحد الشخصيّ سواء كان الشخص عين نشأة الوجود - كما ذهب إليه المعلم الثاني - أو لازما له / 100MB / - كما ذهب إليه آخرون -. وأمّا في جانب الوجود في مثل الشرائط والآلات والمعدّات بأن يكون معنى عامّ مشترك بين كثيرين شرطا أو معدّا أو آلة لوجود واحد شخصي مع وحدة فاعله الموجدة بالعدد ، فالظاهر انّ بطلانه غير ثابت.

بل المفهوم من كلام الشيخ في إلهيات الشفاء في مقام بيان انّ المفارق مع صورة فاعله فاعلة للهيولى جواز ذلك ، حيث قال : لقائل أن يقول : انّ مجموع ذلك العلّة والصورة ليس واحدا بالعدد ، بل واحد بمعنى عامّ ، والواحد بالمعنى العامّ لا يكون علّة للواحد بالعدد.

فنقول : انّا لا نمنع من أن يكون الواحد بالمعنى العامّ المستحفظ وحدة عمومه بواحد بالعدد علّة الواحد بالعدد (1) ؛ انتهى.

وقد تمسّك بعض الأعلام بهذا الكلام على جواز استناد حركة / 95DB / الشمس

ص: 437


1- راجع : الشفاء / الإلهيات ، ج 1 ، ص 87.

إلى كلّ واحد من أصلي الخارج والتدوير. وامّا في جانب العدم بأن يكون معنى عامّ كعدم عامّ مشترك بين أعدام كثيرة سببا وعلّة لعدم معلول شخصيّ ، فلا ريب في صحّته كسببية عدم كلّ جزء من أجزاء العلّة اتفق سبقه أو مجموع جزءين عدما معا لعدم معلول شخصي. ولا ريب في أنّ ما نحن فيه من قبيل الأوّل ، لأنّ المطلوب جواز كون الواجب علّة موجدة لما أوجده غيره ، فيلزم أن تكون القدرة المشتركة بينهما علّة موجدة لواحد بالشخص.

وأجيب عن هذه الشبهة : انّه ليس المراد من المقدّمة المذكورة انّ هذا الشخص المعيّن من الفعل بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي الصادر عن زيد مثلا ممكن الصدور بعينه عن قدرة اللّه - تعالى - حتّى يلزم ما ذكر من توارد العلل المستقلّة على المعلول الشخصي ، وكون المعنى العامّ علّة موجدة للواحد بالشخص ؛ بل المراد - خصوصا على رأي من قال باستقلال العباد في افعالهم - : انّ ذلك الفعل الصادر عن قدرة العبد يمكن أن يوجد ما هو معروض وجوده الشخصي ووحدته الشخصية بوجود آخر فائض عن محض قدرة اللّه بدل ذلك الوجود ؛ كما اشار إليه الحكيم الطوسي - رحمه اللّه في مبحث القدرة من الأعراض بقوله : « ولا يتّحد وقوع المقدور مع تعدد القادر (1) ». فانّ معناه : انّه لا يجوز أن يقع مقدور واحد من قادرين بوقوع واحد ؛ فيفهم منه انّه يجوز أن يقع منهما بوقوعين ، وذلك لا يتصوّر إلاّ بأن تقع ماهية المقدور تارة من قادر معروضة لوجود وأخرى من قادر آخر معروضة لوجود آخر بدل ذلك الوجود.

ثمّ ذلك - أي : اشتراك الماهية مع تعدّد الوجود الشخصي - لا يستلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بين الواجب والعبد ، نظرا إلى أنّ الوجود الصادر من الواجب مغاير بالشخص للوجود الصادر من العبد ، بل هو - أي : المقدور بالذات - واحد مشترك بينهما ، إذ المجعول - وهو المقدور بالذات - هو الماهية المعروضة للوجود والشخص إمّا

ص: 438


1- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 192.

بالجعل البسيط - كما ذهب إليه جماعة - أو بجعله موصوفا بالوجود - كما ذهب إليه آخرون - ؛ لا الوجود العارض وحده ، ولا مجموع العارض والمعروض. نعم! الأثر المترتّب على الجعل بالمعنى الثاني أوّلا هو الاتصاف - أي : مفاد الهيئة التركيبية الحملية - ، فيستدعى مجعولا ومجعولا إليه ؛ بخلاف الجعل بالمعنى الأوّل فانّ أثر الجعل المترتّب عليه أوّلا هو نفس المجعول وهو المعروض ، ولا يستدعي مجعولا إليه. ثمّ تترتّب عليه موجوديته ووحدته العددية وسائر لوازمه المتأخّرة عنها. وبالجملة المقدور بالذات على الجعلين هو الماهية المعروضة للوجود من حيث هي - أي : لا بشرط الوجود والوحدة -. والماهية من حيث هي أمر واحد على فرض صدورها من قادرين - وإن تعدّد وجودها بالشخص - ، فلا يلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بينهما.

ثمّ الواحد المشترك بينهما لمّا كان هو الماهية دون الوجود الشخصي فلا يلزم مفاسد كون المتعدّد علّة لواحد من توارد العلل المستقلّة على معلول واحد وكون المعنى العامّ مع ضعف وجوده علّة للواحد بالعدد ، لأنّ المشترك حينئذ هو معروض الموجودية والوحدة العددية ، لا بشرطهما. والمفاسد المذكورة انّما يلزم إذا كان المشترك هو الموجود الواحد بما هو موجود واحد.

وأمّا على / 101MA / ما ذهب إليه بعض العرفاء من مجعولية الوجود أوّلا بالجعل البسيط وكون الماهية أمرا ينتزعه العقل من هذا الوجود ويحمل عليه الموجودية المصدرية المأخوذة من نفس الوجود ويصفه بها ثمّ بسائر اللوازم ، واثبت ذلك بما هو الحقّ عنده من تحقّق وجود الممكنات في نفس الأمر بل تقدمه على ماهيتها فيه - كما هو ظاهر كلام المحقّق الطوسى في كتاب مصارع المصارع حيث قال : واعلم انّ وجود المعلولات في نفس الأمر بل متقدّم على ماهياتها وعند العقل متأخّر عنها (1) - ، فالظاهر أيضا انّ المقدور بالذات - بمعنى ما يصحّ أن يتّصف بالموجودية وأن لا يتّصف بها بسبب إرادة الجاعل - ليس إلاّ الماهية الّتي هي المجعول بالعرض عنده ؛ وهي متعلّق الإرادة أوّلا أيضا لتقدّمها على الوجود عند العقل - كما ظهر من كلام المحقّق -. نعم! الأثر المترتّب على

ص: 439


1- راجع : مصارع المصارع ، ص 189.

الجعل أوّلا والتابع للجاعل من حيث هو جاعل - كتابعية الضوء للشمس - على هذا التقدير هو الوجود ، لكنّه مقدور بالعرض ومتعلّق للارادة ثانيا.

والحاصل : انّ الأثر المترتّب على الجعل أوّلا على هذا المذهب والمعروض والمقدّم بالذات في / 96DA / الخارج وإن كان هو الوجود وانتزاع الماهية وغيرها من اللوازم يترتّب عليه ثانيا إلاّ أنّ الماهية لمّا كانت مقدّمة على الوجود بحسب الوجود العقلي فهي المقدورة بالذات ، والقدرة تعلّقت أوّلا بها وثانيا بالوجود. ولا ريب انّ الماهية على فرض صدورها من قادرين وان تعدّد وجودها بسبب تعدّد جاعلها إلاّ أنّ تعدّد وجودها إنّما يرفع وحدتها العددية دون وحدتها المعنوية ، فلا يلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بينهما.

ثمّ جميع ما ذكر إنّما هو في جعل الليس أيسا وتصيير المعدوم موجودا ، سواء كان هذا المعدوم - الّذي صار موجودا - جوهرا قائما بنفسه أو حالاّ لوحظ وجوده في نفسه وقطع النظر عن قيامه بغيره ووجوده له ، سواء كان هذا الحالّ صورة أو عرضا خارجيا أو ادراكيا. وأمّا في جعل الشيء الموجود شيئا آخر - كجعل الجسم متحرّكا والهيولى مصوّرة وزيد أعمى - ، فالظاهر انّ الجعل فيه هو بعينه الجعل المتعلّق بايجاد الحال في نفسه على أيّ نهج كان ، لكن لوحظ تعلّقه بوجوده في محلّه. فيكون أثر الجعل في هذه الملاحظة اتصاف المحلّ به ، ويكون له مجعول ومجعول إليه ، ويكون مركّبا البتة.

وإن زعم بعض اصحاب المذهب الأوّل - أعني : الجعل البسيط - انّ الأثر هاهنا أيضا أمر بسيط كنفس الاتصاف أو الصيرورة أو شبه ذلك ، لكنّه إذا قيس إلى الطرفين يسمّى مركّبا.

ثمّ ترتّب هذه الملاحظة - أي : ملاحظة وجود الحالّ لمحلّه على وجوده في نفسه - بحسب إرادة الجاعل ، فان لاحظ في ايجاده الحالّ اتصاف المحلّ به وتعلّق ارادته بذلك كان من باب جعل الموجود شيئا آخر وكان الأثر في هذه الملاحظة اتّصاف المحلّ به ، وإن لم يلاحظ ذلك ولم يتعلّق ارادته به - بل كان مقصوده ومراده هو ايجاد الحالّ في نفسه - كان من باب جعل الليس ايسا ، وكان الأثر المترتّب عليه أوّلا هو الماهية أو

ص: 440

اتصافها بالوجود أو نفس الوجود - نظرا إلى المذاهب الثلاثة المتقدّمة - ، وإن ترتّب عليه بالعرض اتصاف المحلّ به.

وبالجملة لو لوحظ مجرّد وجود الحالّ في نفسه وقطع النظر عن اتصاف المحلّ به لم يكن الأثر المترتّب عليه هو الاتصاف ؛ ولو لوحظ وجوده بمحلّه كان الأثر المترتّب على الجعل أوّلا في هذه الملاحظة هو الاتصاف ، ويكون المقدور بالذات أيضا هو اتصاف المحلّ الموجود بالحالّ ، ويكون هذا الاتصاف معروض الموجودية والوحدة العددية ، ووحدته انّما هو بوحدة وجود الوصف الحالّ أو منشأ انتزاعه. فاذا تعدّد الجاعل لاتصاف جسم مثلا بالحركة فلا ريب في أنّ الحركة الّتي يوجدها فيه أحد الجاعلين غير الحركة الّتي يوجدها الآخر فيه بالشخص ، فيتعدّد الاتصاف ويكون الاتصاف الصادر من أحدهما غير الاتصاف الصادر من الآخر بالشخص. ثمّ الاتصاف المقدور بالذات ليس هو الاتصاف بشرط الوحدة والوجود ليلزم عدم اشتراك المقدور / 101MB / بالذات بين القادرين ، بل المقدور بالذات هو الاتصاف من حيث هو - أي : لا بشرط الوجود والوحدة - ، كما انّ المقدور بالذات في الماهية هي الماهية من حيث هي - أي : لا بشرطها -. ولا ريب انّ الاتصاف من حيث هو أمر واحد مشترك بينهما.

ثمّ لا يخفى انّ جعل الشيء الموجود شيئا آخر على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون الجعل المتعلّق بوجود الحالّ لمحلّه والجعل المتعلّق لوجوده في نفسه متّحدا - أي : لا يكون أحد الجعلين مغايرا للآخر -. وهذا إنّما يكون إذا كان وجود الحالّ في نفسه هو بعينه وجوده لمحلّه ، فيكون الجعل المتعلّق بوجود الحال هو بعينه الجعل المتعلّق بوجوده لمحلّه ، ويكون غرض الجاعل ابتداء ايجاد الحالّ واتصاف المحلّ به. كما في افاضة الاعراض على الموضوعات واتصافها بها ، إذ وجود الأعراض في أنفسها وجوداتها لموضوعاتها - كما صرّح به الشيخ الرئيس - ، فيكون الأثر لهذا الجعل شيئا واحدا - أعني : وجود الحالّ الّذي هو بعينه اتصاف المحلّ به -.

الثاني : أن يكون الجعل المتعلّق بوجود الحالّ لمحلّه جعلا مغايرا للجعل المتعلّق

ص: 441

بوجود الحالّ في نفسه ، لكن كان لازما له ومتأخّرا عنه بالذات. كما في اتصاف الهيولى بالصورة ، إذ وجود الصورة متقدّم على اتصاف الهيولى بها ؛ بل على وجود الهيولى أيضا ، لكن من حيث هو وجود الصورة المطلقة الكلّية لا من حيث هو وجود هذه الصورة الشخصية. وعلى هذا يتحقّق جعلان : أحدهما : الجعل المتعلّق بوجود الصورة في نفسها ، وأثره هو ماهية الصورة أو اتصافها بوجودها أو وجودها / 96DB / - على اختلاف الأقوال في جعل الليس أيسا - ؛

وثانيهما : الجعل المتعلّق بوجود الصورة للهيولى واتصافها بها ، وأثره هو اتصاف الهيولى بها.

الثالث : أن لا يتحقّق جعل لوجود الحالّ في نفسه أصلا ، بل يتحقّق أوّلا جعل مركّب متعلّق بالاتصاف لا يكون جعلا للحالّ بوجه ولا يكون للحالّ جعل آخر يكون هذا الجعل تابعا له ، فيكون أثره هو الاتصاف فقط دون الوصف - كما في جعل الشيء متّصفا بالصفات السلبية والاعتبارية -.

والمقدور بالذات في هذه الاقسام الثلاثة كلّها هو الاتصاف ، ووحدته العددية بوحدة وجود الصفة أو منشأ انتزاعها. وانما هو مقدور بالذات إذا أخذ لا بشرط الوحدة والوجود وإن كان في الواقع معروضا لهما ، كما إذا أخذ بشرطهما. فالمشترك بين القادرين على جميع أقسام الجعل هو مفروض الموجودية والوحدة العددية لا بشرطهما ، وما لا يجوز اشتراكه هو الموجود الواحد بما هو موجود واحد ، فلا اشكال ؛ انتهى ما قيل في الجواب عن الشبهة المذكورة مع توضيحه وتنقيحه.

وأنت تعلم انّ حاصله يرجع إلى أنّ المقدور بالذات في جميع أقسام الجعل وعلى جميع المذاهب هو معروض الموجودية والوحدة العددية - أعني : الماهية والاتصاف - ، لا بشرطهما ، لأنّ المقدور بالحقيقة هو ما يخرج من الليس إلى الأيس لا نفس هذا الاخراج الّذي هو فعل الايجاد ، ولا مجرّد الأيس الّذي هو الوجود ، والمخرج من الليس إلى الأيس ليس إلاّ الماهية لا بشرط الوجود. والوحدة العددية أو الاتصاف الّذي هو أيضا نوع ماهية والماهية لا بشرطهما واحد بالمعنى لا بالعدد ، فكونها مقدورة

ص: 442

للواجب ولغيره لا يوجب توارد العلل المستقلّة على معلول واحد شخصي ، ولا كون المعنى العامّ مع ضعف وجوده علّة للواحد بالشخص ، لأنّ الماهية بدون ضمّ الوحدة العددية والخصوصية الشخصية ليست واحدة بالعدد ، بل تكون واحدة بالعدد إذا اعتبرت مع وجودها ووحدتها العددية ، فهي بهذا الاعتبار ليست مقدورة بالذات لقادرين حتّى يلزم المفسدتان ، بل مقدورة لأحدهما فقط. ولا يمكن أن يصدر بعينها بهذه الوحدة والوجود الخاصّ عن الآخر ، بل تلك الماهية إذا صدرت عن الآخر تكون مغايرة بالعدد للماهية الصادرة عن الأوّل لاقترانهما بوجود آخر ووحدة عددية أخرى وإن اتّحدتا من حيث الحقيقة والمعنى ، فالمعنى العامّ الّذي هو القدرة المشتركة بين القادرين لا يكون علّة لواحد بالعدد ، بل يكون علّة أيضا لأمر عامّ والعلّة الواحد بالعدد انّما هو واحد بالعدد أيضا من أفراد العامّ ، فالعامّ علّة للعامّ والخاصّ علّة / 102MA / للخاصّ.

وأنت تعلم انّ الواحد بالمعنى انّما يتصوّر في الحقائق الكلّية - كالانسان وغيره - دون الأفراد والأشخاص ، فحقيقة كلام هذا المجيب يرجع إلى : انّ كلّ ما يصدر عن غيره - تعالى - من فرد مندرج تحت نوع - كزيد المندرج تحت الانسان مثلا - يمكن للواجب أن يوجد فرد آخر لهذا النوع - كعمرو مثلا - ، فيشتركان الفردان في الماهية ، وهي لكونها في نفسهما واحدة بالمعنى وإن اختلفت بالعدد ؛ والمقدور بالذات هي تلك الماهية من حيث واحدة بالمعنى لا من حيث اقترانها بالخصوصيات من الوجود والوحدة العددية. فمن حيث وحدتها المعنويّة لا يلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بينهما ، إذ الماهية المتحقّقة في ضمن زيد هي بعينها متحقّقة في ضمن عمرو ، والتفاوت بينهما إنّما هو بانضمام الخصوصيات الخارجة من الوجود والشخص ، فالماهية مع وحدتها المعنوية وكلّيتها متحقّقة في ضمن جميع الأفراد. وهذا هو معنى وجود الكلّى الطبيعي في الخارج ، فالماهية المتحقّقة في ضمن زيد الموجودة من أحد القادرين إذا أوجدها الآخر في ضمن عمرو يصدق انّه أوجد تلك الماهية ، فالمقدورات بالذات أمر متحقّق موجود في الخارج مشترك بينهما ، إلاّ أنّه من حيث انتفاء الوحدة العددية لا يلزم المفسدتان المذكورتان. و

ص: 443

أمّا الوجود فلمّا كان افرادها متخالفة بالحقيقة عند الحكماء والمشترك بينهما لم يكن أمرا موجودا متحقّقا في الخارج بل أمرا اعتباريا عرضيا ، فلا يتحقّق بين وجود زيد ووجود عمرو مثلا أمر متحقّق في الخارج يكون مشتركا. فاذا افاض غيره - تعالى - وجود زيد فان امكن للواجب أيضا أن يفيض وجود زيد بعينه لزم المفسدتان ؛ وان افاض وجود عمرو لزم عدم اشتراك المقدور بالذات واشتراكهما في الوجود / 97DA / المطلق الّذي هو مفهوم عرضي غير مفيد ، لأنّه ليس امرا متحصّلا في الخارج ولا يتعلّق به الجعل أصالة.

وغير خفي انّه على ما ذكره المجيب يلزم أن لا يكون الأشخاص والأفراد الصادرة عن غيره - تعالى - من حيث هي اشخاص وأفراد ممكنة له - تعالى - ، بل المقدور له انّما هو اشخاص وافراد اخر ، فزيد الموجود من غيره - تعالى - لا يكون ممكن الصدور عنه - تعالى - بالنظر إلى ذاته - تعالى -. لأنّ الوجود ونشأته وساير ما يلزمها داخلة في حقيقة الشخص ، فالشخص من حيث هو شخص لا يكون له مقدورا له - تعالى - ومقدورية الماهية الانسانية لا مدخلية لها لمقدورية الشخص من حيث انّه شخص. والظاهر انّ المجيب يلزمه ويقول : انّ ذلك لاستحالة خارج عن عموم قدرته - تعالى - ، فعموم قدرته - تعالى - مخصّص بغير الجزئيات والأشخاص الصادرة عن غيره - تعالى -.

ولا يخفى انّه يمكن أن يقال : هذا وهن في عموم قدرته - تعالى - وعظم سلطانه! ، فانّه تعالى - حينئذ لا يكون قادرا على ايجاد كلّ شخص صدر من غيره. وقدرته على ايجاد غير ذلك الشخص ممّا هو داخل معه تحت أمر كلّي لا يدفع صدق عموم شمول قدرته لهذه الاشخاص بعينها.

وأيضا : ما ذكره المجيب انما يتأتّى في أفراد الجوهر ممّا يدخل تحت أمر كلّي واحد بالوحدة المعنوية موجود في الخارج ، ولا يتأتى في أفراد الأعراض - كالافعال الصادرة عن العباد مثل الاحسان والضرب وامثالهما - ؛ وفي اتصاف الجسم بالحركة ممّا جعل المجيب المقدور بالذات فيه نفس الاتصاف ، لأنّها ليست من الحقائق المحصّلة في الخارج ، فلا يكون ما به الاشتراك في أفرادها أمرا موجودا في الخارج ، بل ما به الاشتراك بينهما

ص: 444

أمر عرضي اعتباري - كمفهوم الضرب والحركة - أو مفهوم الاتصاف. فلو جعل زيد مثلا عمروا متّصفا بالحركة فلو امكن للواجب أن يجعل عمروا متّصفا بتلك الحركة بعينها وبذلك الاتصاف ، لزم المفسدتان ؛ ولو لم يمكنه ذلك بل أمكن له اتّصافه بحركة أخرى بدل تلك الحركة حتّى تختلف الحركتان بالعدد وبتعدّد الاتصاف أيضا بالعدد وكان المقدور بالذات هو نفس الاتصاف المشترك بين الواجب وبين زيد وعدم لزوم عدم الاشتراك في المقدور بالذات حينئذ - لاشتراكهما في مفهوم الاتصاف - ؛ فيرد : انّ مفهوم الاتصاف أمر غير متحصّل في الخارج وليس مثل الطبائع الكلّية الموجودة في الخارج حتّى يكون وجودها الخارجي ووحدتها المعنوية مصحّحا لاشتراك المقدور / 103MB / بالذات. ولو صحّ مثل ذلك الاشتراك المقدور بالذات لصحّ أن يقال : المقدور بالذات هي نفس الايجاد والافاضة أو الوجود المطلق المشترك بين الموجودات ، ولا حاجة إلى جعل المقدور بالذات هو الماهية من حيث هي دون الوجود - كما ارتكبه هذا المجيب -. وعلى هذا فكلّ ما يصدر عن غيره - تعالى - أمكن أن يقال : انّه مقدور له - تعالى - إذا امكن له أن يوجد موجودا ما ولو كان مغايرا له في النوعية والجنسية لاشتراكهما في الايجاد والوجود المطلق. ولا ريب انّه لا مدخلية لمثل ذلك لعموم القدرة المطلوبة للقوم ، لأنّ ذلك ثابت لكلّ من يقدر على تأثير ما. فظهر ان الجواب الّذي ذكره هذا المجيب للشبهة المذكورة غير تامّ.

نعم! يمكن أن يقرّر هذا الجواب على وجه يصير تامّا ؛ وهو : انّ المقدور بالذات في مطلق الجعل - سواء كان المجعول جوهرا أو عرضا ، قارّا أو غير قارّ ، وبالجملة أيّ نوع منه كان حتّى مثل الاتصاف في مثل جعل الشيء شيئا آخر - هو الماهية. ومعنى كونها مقدورة لشيء أن يمكنه فعل الماهية - أي : جعلها موجودة بلوازمها - ، ولو كانت تلك الماهية مثل الاتصاف. ومآل الأقوال الثلاثة في الجعل - أعني : كون المجعول نفس الماهية أو الوجود أو اتصافها به - إلى أنّ الجاعل انّما يوجد الماهية ويخرجها من العدم إلى الوجود ، وإنّما الفرق في تعلّق الجعل أوّلا بنفس الماهية أو وجودها أو اتصافها به ؛ ولا مخالفة بينها في أنّ فعل الجاعل هو ايجاد الماهية وابرازها من كتم العدم إلى الوجود.

ص: 445

فالأثر المترتّب على الجعل أوّلا هو الماهية الخارجية - أي : الموجودة - ، ثمّ يترتب عليه جميع لوازمها الخارجية ووحدتها العددية. فالمقدور بالذات لمّا كان هو الماهية وكان معنى مقدوريتها امكان افاضة الوجود من حيث هو وجود لا من حيث هو وجود خاصّ معيّن ، فيكون معنى مقدورية فعل واحد شخصي امكان افاضة الوجود - من حيث هو وجود - على ماهية هذا الفعل. فمعنى كون الحركة مقدورة للواجب ولزيد أن يمكن لهما افاضة الوجود على ماهية الحركة - أي : اخراج ماهيتها من العدم إلى الوجود -. ولا ريب في أنّه ممكن لهما ، لأنّ كلاّ منهما قادر على ايجاد الحركة في محلّ خاصّ واحد وبه يتصحّح / 97DB / اشتراك المقدور بالذات - أي : الماهية - ، لان افاضة الوجود عليها واخراجها من العدم إلى الوجود مشترك بينهما. ولا يلزم حينئذ وجود علّتين لمعلول واحد شخصي لأنّ الشخص انّما هو نحو الوجود وما يلزمه ، ونحو الوجود وما يلزمه متغايران بالعدد في صورة تعدّد الفاعل. ولا يمكن أن يكون نفس الشخص - أي : نحو الوجود وخصوصية الوجود الخاصّ وتعيّنه - من حيث هو صادر عن أحد الفاعلين صادرا عن الآخر ، لأنّ ذلك يرفع المناسبة بين العلّة والمعلول ، وهو محال. فخصوصية الحركة الصادرة عن زيد ونحو وجودها وتعيّنها لا يمكن أن يصدر عن الواجب ، لأنّ صدوره لانحطاط مرتبته في الوجود لا يناسب ذاته المقدّسة ولا يليق بعلوّ شأنه. وحينئذ يمكن أن يقال : انّه لا يمكن أن يصدر عنه هذا التعين بالنظر إلى ذاته ، إلاّ انّه لا يمكن أن يصدر عنه بالنظر إلى ذات هذا التعين ولا يلزم منه وجود علّتين لمعلول واحد شخصي ، لأنّ شرط تحقّق العلّية وجود امكان الصدور عن الطرفين ، فاذا فقد الامكان من طرف المعلول ارتفعت العلّية والمعلولية ولو كان الامكان من طرف العلّة متحقّقا ، فانّ صدور الكذب من الواجب ممكن بالنظر إلى ذاته ، إلاّ أنّه لقبحه وعدم مناسبته لذاته الجسيمة لا يصير ذاته سببا وعلّة لصدوره وعلّيته البتة. وعلى التقديرين لا يكون عدم كونه - تعالى - علّة للتشخّص والتعيّن الصادر عن زيد مثلا وهنا في عموم قدرته ونقصا في عظم سلطانه ، فتأمّل ؛ هذا.

ويمكن أن يقال في الجواب : انّ جميع الأشخاص والأفراد بعينها ممكنة الصدور

ص: 446

عن الواجب - تعالى - بالنظر إلى ذاته ، وانّ هذا الشخص من الفعل بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي الصادر عن زيد على / 103MA / الظاهر يمكن أن يصدر عنه - تعالى - بالنظر إلى ذاته. وبالجملة صدور جميع الممكنات بأجناسها وأنواعها وأشخاصها ولوازمها وتعيناتها ووحداتها الشخصية عن الواجب - تعالى - ممكن بالنظر إلى ذاته ، ومع ذلك لا يلزم توارد العلل المستقلّة على أمر واحد شخصي ولا علّية المعنى العامّ للواحد الشخصي ؛ أمّا على طريقة الحكماء فظاهر ، لأنّهم لا يثبتون التأثير والايجاد لشيء من الممكنات ويقولون : الممكن لكونه محض القوّة والعدم لا يمكن أن يصير منشئا للايجاد والافاضة ، فإيجاد الجميع والافاضة على الكلّ انّما هو منه - تعالى - بلا واسطة وان كان بعض الممكنات شرائط ووسائط لحصول الايجاد والافاضة من الواجب - تعالى -. فعلّة كلّ موجود شخصي بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي وكلّ فعل شخصي كذلك منحصر بالواجب - تعالى - عندهم ، ولا شريك له في الافاضة اصلا حتّى يلزم تصوّر علّتين لمعلول واحد فضلا عن تواردهما عليه. وما ذهبوا إليه من وجوب ترتيب الصدور في الموجودات من العقول والنفوس والطبائع والعناصر والمركّبات لا ينافي القول بعدم الواسطة والافاضة ، لأنّ المراد بعدم الواسطة في التأثير انّ المخرج لكلّ شيء من القوّة والعدم لا يكون إلاّ من هو بريء من كلّ وجه عن العدم وهو ليس إلاّ الواجب سبحانه - ، والمراد بوجوب ترتيب صدور الأشياء عنه - تعالى - انّه يجب حفظ مرتبة وجودها بطريق التناوب بأن يصدر الأشرف فالاشرف ثمّ الاحسن فالأحسن - لعدم لياقتها بغير هذا الوجه من الصدور - ، فلو كان بنحو آخر لم يصدر شيء لاستلزامه اجتماع المتنافيين من كون الشيء مثلا عقلا وغير عقل ، لأنّه لو صدر العقل في مقام النفس ومرتبتها لم يصدر العقل ، ولو صدر العرض في مقام الجوهر ومرتبته لم يصدر العرض - وهكذا غير ذلك من مراتب الموجودات -. فعند الحكماء قدرته - تعالى - مع ارادته اللتين هما عين ذاته - تعالى - متعلّقة بكلّ شيء على الترتيب السببي والمسببي اللائق بنظام العالم على وجه أكمل وأتمّ.

فان قيل : الحركات والتحريكات الحاصلة في الأجسام لاشتمالها على جهة القوّة

ص: 447

يجب أن تكون في فاعلها أيضا جهة القوّة ، فالاوّل - سبحانه - لتجرّده وتعاليه عن جهة القوّة لا يمكن أن يكون فاعلا قريبا مباشرا لها عند الحكماء؟ ؛

قلنا : قد تقدّم انّ تحقّق جهة القوّة في فاعل ما فيه جهة القوّة غير لازم ؛ ولو سلّم نقول : انّ توسيط المثل وغيره ممّا يكون به جهة القوّة لا ينافي قرب الفاعل الموجد المؤثّر ، وذلك كما انّ الواحد من جميع الجهات عند الفلاسفة لا يمكن أن يصدر عنه إلاّ واحد مع انّ صدور جميع الموجودات القارّة انّما هو عنه - تعالى - عند جميعهم ، وذلك بتوسيط العقول وغيرها. والتأثير والايجاد انّما هو عنه - تعالى - وتلك الوسائط كالآلات والشرائط في صدور / 98DA / الكثرة عنه - كما نقل عنه في شرح الاشارات (1) وغيره - ، لا أنّها المؤثّرات القريبة وهو العلّة البعيدة - كما هو معروف عند غير المحقّقين من المتفلسفة -. نظير ذلك صدور الحركات الارادية عن نفوسنا ، اذ تحريك النفس الناطقة المجرّدة لليد مثلا لا يمكن إلاّ بانبعاث الميل الجزئي وتوسيط القوى الآلية وتحريك الأعصاب والعضلات ، وذلك لا يستلزم كون التأثير من تلك الوسائط.

وكذلك ادراكها للمتوهّمات والمتخيّلات والمحسوسات لا يمكن إلاّ بالآلات وهو المدرك للجميع بالحقيقة.

وأمّا على طريقة المعتزلة فلأنّ كلّ شخص من حيث هو أنّه شخص إذا صدر عن غيره - سبحانه - فيمكن صدوره عنه - تعالى - أيضا بالنظر إلى ذاته ، إلاّ أنّه لمّا صدر عن الغير لبعض المصالح الراجعة إلى نظام الخير صار هذا الصدور منشئا لاستحالة صدوره عن اللّه - سبحانه - ، لأنّ الشخص من حيث انّه واحد بعينه لا يمكن أن يقع في الخارج مرّتين ، فالامكان بالنظر إلى ذاته - تعالى - حاصل ، فلا يلزم نفي شمول قدرته بالمعنى المقصود للشخص بعينه. والامتناع قد حصل بالغير ، فلا يلزم صحّة توارد العلّتين على الشخص في الواقع. وإلى هذا اشار المحقّق الطوسى في مبحث القدرة من الأعراض بقوله : ولا يتّحد وقوع المقدور مع تعدّد القادر » (2) ؛ فانّ افحام لفظ

ص: 448


1- راجع : شرح الاشارات والتنبيهات ، المطبوع مع المحاكمات ، ج 3 ، ص 249 ؛ شرحي الاشارات ، ج 2 ، ص 47.
2- راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 192.

« الوقوع » اشارة إلى انّه يجوز أن يكون لمعلول واحد شخصى علّتان مستقلّتان ، لكن إذا وقع المعلول بأحدهما امتنع أن / 103MB / يقع بالآخر ؛ فلا يمكن وقوع المقدور الواحد الشخصي إلاّ من قادر واحد وإن امكن كونهما معلولا لهما بالنظر إلى ذاتهما.

ثمّ تعيّن صدور بعض المعلولات عن غيره - تعالى - وعدم صدوره عنه - سبحانه - مع صحّة صدوره عنه - تعالى - أيضا لأجل ملاحظة بعض المصالح الراجعة إلى النظام الأعلى مثلا لا يصحّ أن يصدر أفعال العباد منه - تعالى - بالنظر إلى الإرادة والعلم بالأصلح ، لأنّ صدورها منه - تعالى - يوجب الالجاء المنافي للتكليف ، فلم تبق القدرة مع الإرادة بها. وهذا لا يوجب امتناع تعلّق نفس القدرة من حيث هي قدرة بها ، إذ الايجاد غير معتبر في القدرة وإلاّ لزم عدم اقتداره - تعالى - على خلق العالم حين كان العالم معدوما ؛ وهو باطل بالاتفاق. فمجرّد عدم ايجاد الواجب افعال العباد لا يقتضي عدم شمول قدرته بالمعنى المشهور لها ، بل يصحّ أن يتعلّق بها من غير اعتبار العلم بالأصلح ؛ هذا.

وقد علمت انّه لو عمّم القدرة وأريد بها شمولها لجميع الاشياء - سواء كان بلا واسطة أو بواسطة - لكانت القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير والقدرة بالمعنى المشهور - أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات - عامّة شاملة بالنظر إلى جميع الموجودات ، وكان الجميع صادرا عنه - تعالى - ؛ فيكون الواجب حينئذ بالنظر إلى اعمال العباد فاعلا بعيدا لا قريبا. ونفي الفاعلية القريبة لا يوجب نفي الفاعلية البعيدة بمعنى انّه لو لم يوجد البعيد على وجه يكون قادرا لم يصدر تلك الأفعال عنه ، لأنّ الصدور فرع وجود المصدر ؛ وهذا لا يوجب الالجاء ، لأنّ جعل الشيء قادرا يؤكّد اقتداره على افعاله ويمكّنه على الفعل والترك ؛ هذا.

وبقي الكلام في أنّه بناء على قواعد الاعتزال إذا كان الواحد الشخصي الصادر عن زيد مثلا ممكن الصدور عن الواجب بالنظر إلى ذاته لزم جواز كون علّتين مستقلّتين لشيء واحد بعينه وإن لم يصدر إلاّ عن أحدهما ، مع انّه باطل ؛ لأنّ المناسبة

ص: 449

بين العلّة والمعلول لازمة والواحد من حيث هو واحد لا يناسب المختلفين.

والجواب : انّ وجوب المناسبة بين العلّة والمعلول أوجب عدم جواز كون الواحد من حيث هو واحد علّة لكثير ومعلولا لكثير من حيث هو كثير في مرتبة واحدة ، لأنّ الواحد إذا كان علّة لكثير أو معلولا له يجب أن يكون مناسبا لهؤلاء الكثير والوحدة من حيث هي وحدة مغايرة ومخالفة للكثرة من حيث هي كثرة ، فلو كان الواحد من حيث هو واحد مناسبا للكثرة من حيث هي كثرة لكان مغايرا ومخالفا لنفسه ، فعدم جواز التسلسل بين الواحد والكثير إنّما إذا كان أحدهما علّة للآخر من حيث الكثرة أو الوحدة والآخر معلولا له من حيث المقابل ، فلو كان الواحد علّة لكثير أو معلولا له من حيث اشتماله على جهات تعدّد الكثير أو من حيث اشتراك الكثير في جهة واحدة أو كونه في مراتب كثيرة لكان جائزا. ولذا صرّح الحكماء بأنّه إن كان كثير معلولا أو علّة لواحد يجب أن يكون لها مراتب كثيرة / 98DB / أو يكون للواحد جهات تعدّد الكثير أو للكثير اشتراك في جهة واحدة يكون الفعل بينهما بهذا الاعتبار. وإذا عرفت ذلك تعلم انّ امكان صدور واحد بعينه من قدرة الواجب بذاته ومن قدرة زيد هي صادرة عن قدرة اللّه لا يوجب علّية الكثير من حيث هو كثير للواحد من حيث هو واحد ؛ ولا يدفع المناسبة بين العلّة والمعلول ، لأنّ قدرة زيد لمّا كانت صادرة عن قدرة اللّه فبين القدرتين مناسبة البتة ، والفعل الواحد بالشخص لمّا كان صادرا عن قدرة زيد فيكون مناسبا لها ، وإذا كان مناسبا لها يكون مناسبا لقدرة الواجب أيضا ، لأنّ المناسب للمناسب مناسب. فعلّية الواجب وزيد لهذا الفعل الواحد انّما هو من جهتين مناسبتين هما : القدرة الواجبة الثابتة له - تعالى - بذاته ، و: قدرة زيد الفائضة منه - سبحانه -. فتتحقّق في الكثير - أعني : الواجب وزيد - جهة مشتركة - أي : مفهوم القدرة - بها يتصحّح كون الواجب وزيد علّتين لواحد شخصي.

وأنت تعلم انّ هذا القول - أي : جعل العلّة للواحد الشخصي هو القدرة المشتركة بين الواجب وبين زيد - يستلزم فسادين :

أحدهما : انّه يلزم أن يكون المعنى العامّ مع ضعف وحدته ووجوده علّة موجدة

ص: 450

لواحد شخصى ، وقد مرّ بطلانه ؛

وثانيهما : انّ هذا الأمر العامّ المشترك بين الواجب وبين زيد إن كان ذاتيا لزم تركّبه - تعالى عنه علوّا كبيرا! - ، وان كان عرضيا كان تابعا لما به الاشتراك الذاتي ، وإلاّ / 104MA / بطل التناسب ، لأنّ الأشياء المختلفة بتمام الحقيقة لو كانت مشتركة في معنى واحد عرضي من دون استناده إلى معنى مشترك ذاتي لزم علّية الكثرة من حيث هي كثرة للواحد الشخصي من حيث أنّه واحد ، وقد ظهر بطلانه. وإذا كان تابعا لما به الاشتراك الذاتي عاد محذور التركيب.

ومن هذا يظهر أنّ الأصوب ما ذهب إليه محقّقوا الحكماء من أنّ الافاضة على الكلّ وايجاد كلّ ممكن من الممكنات انّما هو من الواجب - عزّ اسمه - ، وغيره من الوسائط انّما هو شروط وآلات ومعدّات ، وليس أصل الافاضة والتأثير منه مطلقا - : لا من الجهة المستندة إلى ذاته ولا من الجهة المستندة إليه تعالى -. وحينئذ فعلّة كلّ موجود كائنا ما كان وكلّ ممكن من الممكنات ليست إلاّ هو ، فلا يلزم تحقّق علّتين لواحد بالشخص.

والحاصل : انّه لو كان واحد من الموجودات معلولا لغيره - تعالى - بمعنى أن يكون موجدا منه أو امكن له ايجاده بالنظر إلى ذاته وإن لم يصدر منه بالفعل فامّا أن يكون هذا الواحد مقدورا له - تعالى - بالنظر إلى ذاته بلا واسطة بجهة مشتركة بينه وبين الغير فيستلزم المفسدتان المذكورتان ، أو بجهة خاصّة به - تعالى - حتّى يكون كلّ من الواجب وغيره قادرا على ايجاد الواحد بالشخص بجهة مختصّة به - أي : من حيث انّهما مختلفتان بتمام الحقيقة - لزم وجود علّتين مختلفتين بجميع الوجوه للواحد الشخصي ؛ وامّا أن لا يكون هذا الواحد مقدورا له بالنظر إلى ذاته بلا واسطة ، وحينئذ إن لم يكن مقدورا له بالواسطة أيضا لزم نفي القدرة عنه - تعالى - راسا ، وهو خلاف ما اجمع عليه العقلاء ؛ وإن كان مقدورا له بالواسطة لزم عدم شمول قدرته بالمعنى المشهور للكلّ بلا واسطة وكونه عاجزا بالنظر إلى ذاته عن ايجاد ما يوجده غيره ممّا هو معلول له - تعالى - ، وهو أيضا بديهى البطلان. فبقي أن يكون التأثير في الكلّ منحصرا به

ص: 451

- تعالى - ولا يكون معه شريك في الايجاد حتّى لا يلزم شيء من المفاسد المذكورة.

فان قيل : يلزم على هذا أن يكون أفعال العباد مستندة إليه - تعالى - ولا يكون مستندة إليهم ، إذ لو كانت مستندة إليهم لنقلنا الكلام إلى كلّ فعل واحد شخصي من تلك الأفعال ، فيلزم أحد المفاسد المذكورة ؛ وإذا لم تكن مستندة إليهم يلزم الجبر في التكليف! ؛

قلنا : يمكن أن يقال : انّ كونهم شروطا ووسائط للافاضة والايجاد يكفي لاستناد افعالهم إليه. وقد اشير إلى انّ ذلك أحد التوجيهات لتصحيح الأمر بين الأمرين.

فان قيل : على ما تقدّم في كلام المجيب الأوّل من جواز صدور الواحد بالمعنى المشترك بين شخصين من علّتين فليجز صدور معلول واحد من الواحد بالمعنى المشترك بين العلّتين ، فيجوز أن تكون القدرة المشتركة بين الواجب وزيد علّة لمعلول واحد بالشخص ؛

قلنا : معلولية المعنى العامّ أمر معقول ليس فيها مفسدة. وأمّا علّيته فغير معقولة ، لضعف وجوده ولاستلزامه التركيب في الواجب ، فلا يجوز علّيته لواحد ولا كثير ؛ هذا.

( مسلك الصوفيّة في اثبات عموم القدرة )

واعلم! انّ للصوفية / 99DA / مسلكا آخر في اثبات عموم القدرة وهو - على ما ذكره بعضهم - : انّ التأثير بالغير لا يستقرّ ما لم ينضمّ إليه التأثير بالذات - أعني التأثير التامّ المبرّى عن شوائب القوّة والامكان - ، وهو ينحصر في حقّه - تعالى - ، فيرجع جميع التأثيرات الامكانية إلى هذا التأثير الّذي هو بالذات. وارجاعها إليه يقتضي ارجاع مباديها - أي : القدرة الّتي بالغير - إلى منشأها - أعني : القدرة الّتي هي بالذات - ، فظهر شمول قدرة اللّه - تعالى - لكلّ شيء بهذا المعنى - أي : بمعنى انبساط تلك القدرة المطلقة الكاملة في هياكل الموجودات وظهورها في تلك المجالى على وجه

ص: 452

النزول من غير أن ينقص عن رتبتها الكاملة ومرتبتها المطلقة -. وهذا هو توحيد الأفعال وتوحيد الصفات. ومنه يعلم أيضا كيفية ارجاع الذوات الممكنة إلى ذاته المقدّسة على وجه يعرفه العارفون ، وهو توحيد الذات ، وهذه نهاية مرتبة التوحيد ومن لم يبلغ إلى هذه المرتبة في التوحيد فهو قاصر في معرفة اللّه - تعالى - ؛ انتهى.

وحاصل كلامهم : انّ الوجود المطلق التامّ الكامل الّذي هو الحقيقة الواجبيّة إذا نزل وانبسط على المهيات الامكانية حصلت الكثرات والوجودات الامكانية من غير أن ينقص / 104MB / عن رتبتها الكاملة ومرتبتها المطلقة ، فذوات الممكنات مجال ومرايا له وهويات الاشياء شئونات له - وهذا هو توحيد الذات عندهم -. والقدرة المطلقة التامّة الكاملة بالذات - الّتي هي القدرة الواجبة - إذا تنزّلت وانبسطت بانبساط الوجود في هياكل الموجودات حصلت القدرة الّتي للأشياء من غير نقصان في مرتبتها المطلقة ورتبتها الذاتية الكاملة ، فتلك القدر هي المظاهر والمجالى والشئونات الذاتية لها ، وقس عليها العلم والإرادة وغيرهما من الصفات الكمالية الإلهيّة - وهذا هو توحيد الصفات عندهم -. والتأثير المطلق التامّ الكامل بالذات - أي : التأثير الواجبي - إذا تنزّل وانبسط بانبساط الوجود والقدرة في هويات الممكنات حصلت التأثيرات الغيرية الامكانية من غير انحطاط في مرتبته العليا ونقصان في رتبته الأسنى ؛ فتلك التأثيرات الغيرية الامكانية مجال ومظاهر لهذا التأثير التامّ بالذات - وهذا هو توحيد الافعال عندهم -.

وأنت تعلم انّ هذا المسلك مبنى على طريقة وحدة الوجود ؛ وعقول أمثالنا قاصرة عن دركه والاذعان به والقبول لحقّيّته!.

فائدة

قول المحقق الطوسي في التجريد : « وعمومية العلّة تستلزم عمومية الصفة » - على ما اشير إليه - اشارة إلى الدليل الّذي ذكر أوّلا ، فالمراد من « العلّة » : الامكان ، ومن « الصفة » : المقدورية. يعنى : انّ علّة المقدورية عامّة في جميع الممكنات ، فانّ علّتها

ص: 453

الامكان وهو وصف مشترك بين جميع الممكنات ، فيكون معلوله - أعني : المقدورية - عامّا في جميعها ، فيكون جميع الممكنات مقدورا له - تعالى -.

ويمكن أن يراد من « الصفة » : الاحتياج إلى المؤثّر.

ثمّ المراد منه إمّا اثبات عمومية القدرة بالمعنى لجميع الممكنات بلا واسطة أو اعمّ من أن يكون بواسطة أو بدونها ، وإمّا اثبات عمومية القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالنسبة إلى جميع الموجودات إمّا بلا واسطة أو اعمّ من أن يكون بواسطة. وقد عرفت انّ مطلوب القوم وما هو محلّ النزاع من هذه الاحتمالات ما ذا ، وانّ أيّا من هذه الاحتمالات يمكن أن يثبت بهذا الدليل وايّا منها لا يمكن أن يثبت به.

وقيل : يمكن أن يراد « بالعلّة » في تلك العبارة : دليل اختيار الواجب - وهو الحدوث - ، ويكون المراد : انّ الحدوث لمّا كان عامّا بالنسبة إلى كلّ افعاله يكون اختياره عامّا بالنسبة إلى كلّ افعاله. وعلى هذا لا يكون المراد تعميم القدرة بالمعنى المشهور بالنسبة إلى كلّ الممكنات ، بل يكون المراد : انّ صدور كلّ افعاله إنّما هو بالقدرة والاختيار.

وأنت تعلم انّ المراد من القدرة حينئذ : القدرة الملزومة للحدوث ؛ وغير خفيّ انّ اثبات هذا الأمر قليل الفائدة جدّا بالنسبة إلى ما هو مطلوب القوم.

تتميم

اعلم! أنّ هذا الاصل - أعني : عموم قدرة اللّه وشمولها لجميع المهيات الامكانية - أعظم الأصول الملية ، وقد ابتنى عليه كثير من المطالب الاسلامية.

والمخالف فيه فرق أعظمها : الثنوية ، القائلون بفاعلين اثنين ،

منهم : المانوية : أصحاب ماني الحكيم البابلي الّذي ظهر في زمان / 99DB / سابور بن أردشير بن بابك ، وذلك بعد عصر عيسى - علیه السلام - ، فأخذ دينا بين المجوسية والنصرانية فقال بنبوّة المسيح ، وزعم انّ العالم مصنوع من أصلين قديمين أحدهما : نور ، والآخر : ظلمة. وأنّهما أزليان لم يزالا ولا يزالان ، وهما حسّاسان سميعان ودرّاكان

ص: 454

بصيران. وهو قد أنكر وجود شيء وحدوثه لا من أصل قديم. وقال : انّ فاعل الخير بأسره هو النور وفاعل الشرّ بأسره هو الظلمة.

ومنهم : الديصانية : اصحاب الديصان ، اثبتوا أصلين قديمين : النور والظلمة ، وقالوا : النور يفعل الخير قصدا واختيارا والظلمة يفعل الشرّ طبعا واضطرارا.

ومنهم : المجوس : الذاهبون إلى أنّ فاعل الخير هو يزدان وفاعل الشرّ هو أهرمن - ويعنون به الشيطان -. وقالوا : انّ يزدان قديم أزلي وأهرمن حادث منه. وذكروا في سبب حدوثه وفي سبب قدرته على فعل الشرّ ما يشمئزّ طباع العقلاء عن استماعه!.

ثمّ الظاهر من كلام الشهرستاني في الملل والنحل انّ المجوس لا تعدّون من الثنوية حيث قال : الثنوية أصحاب الاثنين الأزليين ، وهم يزعمون انّ النور والظلمة أزليان قديمان متساويان في القدم والازلية مع اختلافهما في الجوهر والطبع / 105MA / والفعل. بخلاف المجوس ، فانّهم قالوا بحدوث الظلام وذكروا سبب حدوثه (1). ويؤيّد عدم كون المجوس من الثنوية - : المنكرين لهذا الأصل بالكلّية القائلين بتعدّد المبدأ - انّهم قالوا : انّ ايجاد أهرمن ليس شرّا ، بل انّما الشرّ منه ، فيزدان اوجد اهرمن وجميع الشرور يصدر من اهرمن. ولا ريب انّه على هذا لا يكون المجوس قائلين بإلهين اثنين ، بل يسندون الجميع إليه - تعالى -. لكنّهم لم يجعلوا الشرور مستندة إليه - تعالى - بلا واسطة - لكونه خيرا محضا - ، بل اسندوها إلى اهرمن وقالوا : انّ ايجاد اهرمن ليس شرّا ، بل خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا وانّما صدر الشرّ عن اهرمن لا عنه - تعالى -.

ثمّ شبهة هؤلاء الطوائف الثلاث : هي انّا نجد فى العالم خيرا كثيرا وشرّا كثيرا وإنّ الواحد لا يكون خيرا وشرّيرا ، فلكلّ منهما فاعل على حدة. وبتقرير آخر اوضح : انّ اللّه خير محض فلا يمكن أن يوجد الشرّ. بيان ذلك : انّ ذاته المقدّسة عالم بجميع الخيرات والشرور غير محتاج إلى شيء منها ، ومن كان كذلك لا يصدر عنه الشر بالضرورة ، فيكون خيرا محضا لا يمكن أن يوجد الشرّ. أو لأنّه - تعالى - عين الوجود و

ص: 455


1- راجع : الملل والنحل ، ج 1 ، ص 224 ، باختلاف يسير في اللفظ.

الوجود خير محض - على ما هو المشهور - ، فهو - تعالى - خير محض إذ الشرّ ليس إلاّ العدم ، ولا يمكن صدور العدم عن الوجود - على ما هو طريقة الحكماء -. أو انّه - تعالى - واحد محض منزّه عن شوائب الكثرة والتركيب وكلّ فاعل فعل يجب أن يكون

بينهما مناسبة لا محالة ، والواجب - سبحانه - قد فعل خيرات كثيرة ظاهرة ، فلو صدر منه - سبحانه - مع ذلك شرّ أو ظلم لزم اشتمال محض الأحدية الخالصة على كثرة متقابلة.

وأجيب عن تلك الشبهة بوجوه ثلاثة :

أحدها : انّ الشرور الواقعة في العالم انّما هي شرور اضافية - أي : وجودات توصف بالشرّ بالإضافة ، كوجود النار في الثوب مثلا ومصادفة القاطع للعضو المقطوع - ، وهذه الشرور وإن استدعت علّة موجودة لكن هذا الاستدعاء من حيث أنّها خيرات لا من حيث أنّها شرور ، فهي من حيث كونها شرورا مجعولة وصادرة من المبدأ الّذي هو صرف الوجود بالعرض لا بالذات. ولا استحالة فيه ، انّما المحال صدور الشرّ عن الخير المحض بالذات ، ولم يلزم ذلك.

والتوضيح : انّ هذه الأمور الّتي تظنّ أنها شرور - مثل الأمراض والاسقام والمصائب والاعدام - فانّها وان كانت من وجه شرورا ولكنّها لازم خيرات كثيرة لو تركت لتركت هذه ، وهو - سبحانه - لا يفعلها من حيث أنّها شرور بل انّما يفعلها من حيث انّها خيرات. فهي من الحيثية الّتي بها صدرت عنه - سبحانه - انّما هي خيرات كثيرة وإن كانت باعتبار آخر شرورا قليلة. مثال ذلك انّ سآمة لو لصغت اصبعا واحدة من انسان لو تركت تلك الاصبع ليسري السمّ إلى بدنه كلّه وادّى إلى قتله ، فالطبيب الحبيب يقطع الاصبع البتة لينجيه من الموت. فالقطع وان كان من حيث فقد الاصبع ووجدان الألم شرّا لكن الطبيب لم يفعله من هذه الجهة ، بل انّما فعله من حيث هو سبب الحياة ، فهو انّما يفعل خيرا كثيرا لو لم يفعله لكان قد فعل اذن شرّا كثيرا. وعلى هذا فجميع الشرور الوجودية الواقعة / 100DA / في العالم شرور اضافية واقعة في القضاء الإلهي بالعرض ولا يوجد شرّ يكون متعلّقا لارادته - تعالى - بالذات - لا كثير و

ص: 456

لا قليل -.

وهذا الحكم يشتمل على دعويين : إحداهما : انّ كلّ ما يوجد في العالم من الشرور شرّ اضافي ولا يوجد في العالم شرّ حقيقي. وسرّ ذلك انّ الشرّ الحقيقي هو العدم والخير الفيضى هو الوجود ، فانّ الوجود بما هو وجود والموجود بما هو موجود خير محض لا شرية فيه اصلا ، إذ لو كان في نفس معنى الوجود والموجود شرّية لكان كلّ وجود شرّا ، والعدم والمعدوم بخلاف ذلك ؛ ولذا إن يحتسب الأمور الّتي تظنّ أنّها شرور وجدت شرّياتها راجعة امّا إلى أعدام لذوات - كالموت والفناء - أو فقدان لكمالات - كالظلم والزنا - ، فانّهما من حيث كونهما أثرين لقوّتى الغضب والشهوة خير لهما وكمال ، وليست شرّا إلاّ من حيث فقدان المال وهتك الستر (1). فلا يوجد موجود يكون شرّا حقيقيا. فان كان موجود شرّا فانّما يكون شرا بالإضافة إلى شيء آخر - كالنار بالنسبة إلى الثوب والقاطع بالنسبة إلى العضو المقطوع ، فانّ النار من حيث هو موجود خير في ذاتها ليس فيها بهذا الاعتبار شرّية أصلا ، وانّما شرّيتها بالنسبة إلى ما يتّفق احراقها له -. وكذا لا يوجد عدم يكون خيرا حقيقيّا. نعم! قد يتّصف العدم بالخير الاضافى كعدم ما وجوده شرّ / 105MB / اضافي لشيء بالنسبة إلى هذا الشيء ، فانّ عدم النار خير بالنسبة إلى الثوب المحروق. ولا ريب في أنّ وقوع هذا الشرّ الاضافي لم يكن مرادا بالذات ومقصودا بالاصالة ، بل انّما دخل في عالم الايجاد بالعرض ، فانّ المقصود بالذات من ايجاد النار بلوازمها انّما هو كونها خيرا يترتّب عليها المنافع العظيمة في عالم الايجاد. ثمّ ربما تقع شرّية منها بفعل أحد على ثوب شخص محرقة أو على خشب من بيت فيسري إلى أن يحرق البيت كلّه أو البلد كلّه. وكذا الحال في الطوفانات والطواعين وغيرها من البليات العامّة والخاصّة للحيوانات ، فانّ القصد الأوّل والإرادة الذاتية من ايجاد تلك العلل والاسباب انّما هو خيرات عامّة بالنسبة إلى النظام الأصلح ، وقد يلزمها شرور بالنسبة إلى بعض الافراد والأشخاص.

ووقوعها في القضاء الإلهي والإرادة الأزلية انّما هو بالعرض. والوقوع بالعرض

ص: 457


1- الاصل : السرّ.

لا استحالة فيه ، إذ هو من لوازم الطبائع وخواصّ الاشياء ولا مدخلية للارادة الالهيّة.

ولا يمكن دفع تلك الشرور الاضافية ، لأنّ دفعها إنّما هو منع للأشياء والمهيات عن تأثيراتها الذاتية اللازمة لا نفسها الضرورية في نظام الخير ، وهو غير ممكن. فاذا ألقى انسان نارا على ثوب فاحترقه لم يكن لقائل أن يقول : لم لم يمنع اللّه - تعالى - هذه النار عن احراق الثوب؟ ؛ لأنّ كون النار محرقة وثبوت الاحراق لها عن اللوازم الذاتية لها ، فلا معنى لمنعها عنه. وكذا ليس له ان يقول : لم لم يمنع اللّه الانسان عن الالقاء؟ ؛ لأنّ هذا أيضا من لوازم اختياره وقدرته اللازمة في نظام الخير. فإيجاد لوازم النار وتأثيراته واختيار العبد وقدرته وان كان من اللّه - سبحانه - إلاّ أنّ المقصود بالذات من ايجادها إنّما كان ما يلزمها من الخيرات الجمّة والمنافع العظيمة ، ولم يكن المقصود من ايجادها احراق نفس محترمة أو مال محترم ، وانّما وقع ذلك إمّا بالعرض (1).

وعلى هذا فجواب الشبهة الثنوية : انّ الشرور لوقوعها بالعرض وعدم كونها مقصودة بالذات للواجب وعدم صدورها منه - تعالى - بلا واسطة لا يلزم كونها فاعلا للشرّ ، فلا يلزم كون الواحد خيرا شرّيرا ولا كون الخير المحض والفاعل للخير فاعلا للشرّ أيضا ولاستنادها إلى بعض الموجودات المخلوقة له - تعالى - وامكان صدورها عنه - تعالى بالنظر إلى الذات بلا واسطة - وإن لم يصدر عنه بالنظر إلى العلم والإرادة - لا يلزم وجود فاعل واحد مستقلّ للشرّ غير مخلوق له - تعالى كما قالت المانوية والديصانية - ، أو مخلوق له - تعالى ، كما قال المجوس - ، فلا يلزم نفى عموم القدرة. ويأتى لذلك زيادة بيان.

وثانيها : انّ الشرور الواقعة في العالم شرور قليلة لو تركت تركت الخيرات الكثيرة ، كما انّه لو لصغت اصبع واحدة ولم تقطع يسري السمّ إلى جميع البدن ، فقطع الاصبع وإن كان شرّا إلاّ أنّه شرّ قليل لو لم يفعل لادّى إلى ترك الخير الكثير. وعلى هذا فجميع الشرور الواقعة في العالم مستندة إليه - تعالى -. إلاّ أنّه لكونها شرورا قليلة لو تركت تركت الخيرات الكثيرة لم يكن في فعلها بأس ، بل يجب فعلها / 100DB /

ص: 458


1- كذا في النسختين.

بالنسبة إلى الخير المحض. فما يوجد في العالم إمّا خير محض ليس فيه شرّية أصلا أو ما هو خيره غالب على شرّه. ولا يوجد في العالم شرّ محض لا يكون فيه خير أصلا ولا ما هو شرّه غالب على خيره ولا ما هو خيره وشرّه متساويان ؛ فانّ الأشياء عند العقل على خمسة احتمالات :

أحدها : الشيء الّذي لا خير فيه أصلا ؛

وثانيها : الشيء الّذي لا شرّ فيه أصلا ؛

وثالثها : الشيء الّذي يتساوى الخير والشرّ فيه ؛

ورابعها : ما يكون خيريته غالبا ؛

وخامسها : ما تكون فيه غلبة الشرّ.

وذات الواجب بالذات لمّا وجب أن يكون مبدأ لجميع الخيرات ولم يمكن أن يصير مبدأ للشرّ وجب أن يصدر عنه قسمان من الأقسام المذكورة - أي : القسم الثاني الّذي ليس فيه شرّية اصلا والرابع الّذي خيريته غالب ، لان ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير - ، وأن لا يصدر عنه الاقسام الثلاثة الأخر لاستلزام صدورها مبدئيّته - تعالى - للشرّ.

والأمر في الواقع والخارج كذلك ، لأنّ جميع الأشياء الموجودة في العالم لا يخلوا من كونه خيرا محضا أو ما هو خيريته غالب ، ولا يوجد فيه شيء يكون واحدا من الأقسام الثلاثة الأخر.

ثمّ الخير المحض هو الواجب - تعالى شأنه - ، اذ هو محض الوجود وعينه والوجود المحض خير محض ، إذ لا عدم فيه بوجه ؛ ومناط الشرّ هو العدم والشرّ المحض لا وجود له ، إذ كلّ موجود لا يخلوا عن الوجود وهو خير ، فلا ينفكّ موجود عن الخير.

/ 106MA / ووجود ما شرّه غالب على الخير أو ما يتساوى الخير والشرّ فيه خلاف مقتضى الحكمة ، بل مجرّد ثبوت أنّ الوجود خير محض يوجب عدم تحقّق موجود يكون شرّه أغلب أو مساويا للخير ، فالموجودات الممكنة كلّها ممّا يغلب خيره على شرّه. إلاّ أنّ ما فيه شوب العدم اقلّ يكون إلى الخير المحض اقرب. ولغلبة خيرها على شرّها

ص: 459

وجب صدورها عن الواجب ، لأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ؛ فلا ينبغي وقوعه من الحكيم.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل : انّ في هذا الوجه التزم وقوع الشرّ في القضاء الإلهي بالذات ، إلاّ أنّه قيل : انّ ما نفع (1) شرّ قليل تركه يوجب ترك الخير الكثير ، فلا مانع من استناده إليه - تعالى - ؛ وفي الوجه الأوّل لم يلتزم وقوع الشرّ اصلا في القضاء الإلهي بالذات ، ومنع استناد الشرّ بالذات - كثيرا كان أو قليلا - إليه - سبحانه -.

بل قيل : انّ ما يقع من الشرور في القضاء الإلهي فوقوعه بالعرض ، والتزم عدم المنع في الوقوع بالعرض. فعلى هذا الوجه - أي : الوجه الثاني - فدفع شبهة الثنوية : انّ الواجب - تعالى - مبدأ لأشياء خيريتها غالب ، ولا بأس بصدور ما فيه غلبة الخير عنه - تعالى - وإن وجد فيها شرّ قليل. فمن حيث انّ تلك الشرور شرور قليلة خيريتها غالبة لا يلزم فساد في استنادها إليه - تعالى - ، ومن حيث استنادها إليه - تعالى - دون غيره لا يرد وهن على عموم قدرته - سبحانه -.

وغير خفيّ انّ شبهة الثنوية بالتقرير الأوضح المذكور اشتملت على تعليلات ثلاثة لعدم جواز مبدئية الواجب للشرّ ، فعلى هذا الوجه وان اندفعت الشبهة بالتعليل الأوّل إلاّ أنّها لا تندفع بالتعليلين الأخيرين ، إذ حاصل الشبهة على التعليل الثاني انّ الواجب - تعالى شأنه - صرف الوجود ومحض الموجود الخير ، فيمتنع أن يصير مبدأ للشرّ - سواء كان قليلا أو كثيرا - ، اذ الشرّ إمّا عدم أو تابع له وراجع إليه ، فكيف يمكن أن يحصل العدم عمّا هو موجود محض لا عدم فيه بوجه من الوجوه؟!. وحاصلها على التعليل الآخر انّ الواجب - سبحانه - واحد بسيط من جميع الجهات مناسب للخير وإن كان بهذه المثابة يمتنع صدور الشرّ عنه لعدم المناسبة - سواء كان كثيرا أو قليلا -.

والقول بأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ، مغالطة في هذا

ص: 460


1- كذا في النسختين ؛ والظاهر : + وفيه.

المقام! ، لأنّ الخير الكثير المشتمل على الشرّ وإن كان قليلا يمتنع صدوره عمّن هو محض الخير وصرف الوجود وواحد من جميع الجهات مناسب للخير ، بل عين الخير وصرفه ، فترك ذلك الخير ليس شرّا بل هو خير ، وكيف لا؟! وعلى قواعد الحكمة من لزوم المناسبة بين العلّة والمعلول لا يمكن أن يصدر المتقابلان عن واحد بسيط من جميع الجهات ؛ وإذا ناسب أحدهما وصدر عنه - كالخير فيما نحن فيه - لم يناسب الشرّ ولم يمكن صدوره عنه.

ويمكن أن يقال : من قال / 101DA / بهذا الوجه واسند الشرّ القليل إليه - تعالى - لم يقل باستناده إليه بلا واسطة ليلزم ما ذكر من مبدئيته - تعالى - لأمرين متقابلين ، بل قال باستناده إليه - سبحانه - بالواسطة بمعنى انّ جميع الشرور الواقعة في العالم مع كونها شرورا قليلة مستندة إلى بعض الممكنات المستندة إليه - تعالى - ، فمن حيث استنادها إلى غيره - تعالى - لا تلزم المفاسد الّتي تترتّب على استناد الشرّ إليه - تعالى - من لزوم كون الخير المحض شرّيرا والواحد من جميع الجهات مبدأ لصدور المتقابلات ، ومن حيث كون هذا الغير الّذي يصدر منه تلك الشرور مخلوقا له - تعالى - وامكان صدورها منه - تعالى - بلا واسطة بالنظر إلى ( الذات ) (1) وإن لم يكن بالنظر إلى العلم والإرادة لا يلزم وهن على عموم قدرته وعظم سلطانه.

فان قيل : إذا كان الشرّ مستندا إلى غيره - تعالى - فلا يرد عليه - تعالى - نقص سواء كان قليلا أو كثيرا - ؛ فأيّ فائدة حينئذ في القول بأنّ الشرور الواقعة في العالم شرور قليلة؟! ، بل إذا كانت كثيرة ولم تقلب الخيرية لم يكن به حينئذ بأس! ؛

قلنا : لا ريب في أنّ هذا النظام بأسره صادر منه - تعالى - إمّا بلا واسطة أو أعمّ من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة ، والنظام الصادر منه - سبحانه - بأيّ طريق كان يجب أن يكون على أحسن الانحاء وأصلح الوجوه. ولا ريب في أنّه إذا وجد فيه شيء يكون شرّا محضا أو تكون شرّيته غالبة على خيريته أو تتساوي الشرية / 106DB / والخيرية لم يكن نظاما أصلح ، فيجب أن يكون ما يوجد فيه الشرّ بحيث يشتمل على

ص: 461


1- لفظة الذات لم توجد في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

خير غلب على شرّه ، فمن حيث تخلّل الواسطة لا يلزم عدم المناسبة بين العلّة والمعلول ، ومن حيث غلبة خيره على شرّه لا يلزم وقوع غير الأصلح في النظام الأصلح ، لأنّه لا ريب في اصلحية ما يغلب خيره على شرّه.

ثمّ أصلحيه وجود هذا الشيء الّذي يغلب خيره على شرّه يتصوّر بوجهين :

أحدهما : أن يكون أصلحيته لأجل غلبة المنافع المترتّبة على وجوده بالنسبة إلى المضارّ المترتبة عليه مع كون تلك المضارّ مضارّا وشرّا بالنسبة إلى الأشخاص الّذي أصابهم هذا الشرّ وبالنسبة إلى النظام الكلّ أيضا ، إلاّ أنّا إذا قايسنا بين منافعه وبين مضارّه كان منافعه أكثر ، فمع اكثرية المنافع يتحقّق الأصلحية وإن اشتمل على المضارّ القليلة بالنسبة إلى النظام وبعض الافراد ؛

وثانيهما : أن يكون أصلحيته لأجل تلك المنافع العالية مع كون مضارّه الجزئية وشرّه القليل خيرا وصلاحا بالنسبة إلى نظام الكلّ وان كان شرّا ومفسدة بالنسبة إلى بعض الاشخاص ، مثلا علّة حدوث الطاعون في بعض البلاد حدوث رطوبة كثيرة وحرارة قليلة في الهواء يصير منشئا لعفونته وسمّيته ، وعلّة هذا الحدوث اسباب سماوية وأرضية ؛ ولا ريب انّ تلك الأسباب - بل نفس هذا الحدوث - يشتمل على خيرات كثيرة ضرورية في نظام الكلّ وتلك الخيرات غالبة على الشرّ المترتّب على هذا الحدوث من موت جمع من الحيوانات ، فهذا الموت يمكن أن يكون شرّا بالنسبة إلى الاشخاص الفانية وبالنسبة إلى نظام الكلّ أيضا ، إلاّ انّ هذا الحدوث لاشتماله على الخيرات الكثيرة الغالبة على فناء هذه الأشخاص يكون أصلح من عدمه في نظام الكلّ. ويمكن أن يكون هذا الموت والفناء خيرا وصلاحا بالنظر إلى النظام الأعلى وإن كان شرّا ومفسدة بالنسبة إلى هذه الأشخاص ؛ ولذا قال الحكماء : انّ الطاعون تنقية للعالم وحدوثه سبب لصلاح العالم. وقد ظهر ممّا ذكر انّه ما لم يتمسّك في هذا الوجه باستناد الشرّ القليل إلى الواسطة لم يتمّ ، بل مع ذلك ينبغي أن يقيّد أيضا بما ذكر في الوجه الأوّل من أنّ وقوعه في القضاء الإلهي بالعرض لا بالذات ، إذ لو كان هذا الشرّ القليل الواقع في النظام الأصلح ولو بالصدور عن الواسطة مقصودا له - تعالى - بالذات

ص: 462

- كما انّ الخيرات الصادرة عنه تعالى بالواسطة وبدونها مقصودة له بالذات - لزم أن لا يكون خيرا محضا ، فيجب أن تكون مقصودة بالعرض - أي : من حيث أنّه تابع لخيرات كثيرة ، لا من حيث هو -. كما انّه ينبغي أن يقيّد الوجه الأوّل بكون الشرّ الواقع بالعرض شرّا قليلا ومستندا إلى واسطة لا إليه - تعالى - ؛ إذ لو وجد في نظام الكلّ موجود شرّه مساو لخيره أو غالب على خيره لم يكن النظام نظاما أصلح / 101DB / ولو لم يكن هذا الشرّ مستندا إلى غيره - تعالى - ، بل كان مستندا إليه - تعالى - ولو بالعرض لزم مناسبة الخير المحض للشرّ. فاحراق شخص أو بلدة أو افناء خلق كثير بالطاعون أو غيره مع عدم كونه مقصودا بالذات في النظام يجب أن يكون فاعله القريب غيره - تعالى - ، ولا يجوز أن يكون الواجب - تعالى - فاعله القريب. وكونه تابعا ومقصودا بالعرض مع كون فاعله القريب هو اللّه - سبحانه - انّما يتصوّر بأن يصدر هذا الاحراق أو الافناء منه - تعالى - بلا واسطة وكان مشتملة على صلاح راجع إلى نظام الكلّ ويكون المقصود بالذات منه هذا الصلاح دون الشرّ الراجع إلى الاشخاص الفانية. وأمّا إذا جعل (1) الاحراق مستندا إلى النار والاماتة إلى الهواء وكيفياته وكان وجود النار والهواء مستندا إلى اللّه - سبحانه - وكان المقصود بالذات له - تعالى - من ايجادهما ما يلزمها من المنافع العظيمة والخيرات الجسيمة دون هذا الاحراق الموذي لبعض الاشخاص وهذه الاماتة الّتي هو شرّ لطائفة ، فحينئذ يكون وقوعها بالعرض ولا يكون فاعلهما القريب هو اللّه - تعالى - ، فلا يلزم كونه - تعالى - مناسبا للشرّ. فظهر انّ مجرّد القول بأنّ الشرور الواقعة في نظام الكلّ شرور اضافية واقعة في القضاء الإلهي بالعرض - كما هو ظاهر الوجه الاوّل - أو مجرّد القول بأنّها شرور قليلة خيراتها أو خيرات الأشياء المتبوعة لها كثيرة غالبة - كما هو ظاهر الوجه الثاني - ليس قامعا لشبهة الثنوية ؛ بل لا بدّ من القول بهما جميعا مع ضمّ انّ تلك الشرور / 107MA / القليلة الإضافية الواقعة بالعرض صادرة عن غيره - تعالى - من الوسائط الممكنة مع كون صدورها منه - تعالى - ممكنا بالنظر إلى ذاته تعالى - حتّى يندفع الشبهة ويثبت عموم القدرة. و

ص: 463


1- في النسختين : أجل.

سنشير إلى ذلك ببيان أوضح.

فقائل كلّ من الوجهين إن كان غرضه انّ مجرد ما ذكره دافع للشبهة ، فليس الأمر كما زعمه - على ما عرفت - ؛ وإن كان غرضه انّ ما ذكره بعلاوة ما أضيف إليه ممّا ذكره القائل الأخير وما ذكرناه دافع للشبهة إلاّ أنّه اكتفى بما ذكره وترك البواقي حوالة على الظهور ، فهو حقّ ، إلاّ انّ فيه مسامحة لا يجوز مثلها في المقام.

وثالثها : انّ جميع الشرور الواقعة في هذا العالم أعدام وليس امورا موجودة ، فانّ تصفّح الأمور وتتبّعها يعطى الجزم بأنّ جميع الشرور راجعة إلى الاعدام والموجود من حيث هو موجود ليس إلاّ خيرا ؛ وقد اشرنا قبل ذلك إلى كيفية رجوعها إلى الاعدام اجمالا.

والتفصيل : انّه لا ريب في أنّ جميع الشرور الواقعة في هذا العالم لا ينفكّ عن اعدام وسلب لأحد الخمسة الضرورية أو ما يتعلق بها ويحملها - أعني : الأديان والنفوس والعقول والفروج والاموال -. فانّ الكفر والشرك شرّ لرجوعها إلى سلب الايمان ونفي العقائد الحقّة المطابقة للواقع ؛ والقتل والاماتة والافناء شرور لايجابها سلب النفوس ؛ والقطع والجرح وامثالهما شرور لاستلزامها رفع الاتصال وتفرّقه ؛ والامراض والآلام شرور لاقتضائها رفع الصحّة وازالة صدور الأفعال على ما ينبغى ؛ والزنا شرّ لعدم انفكاكه عن هتك الستر وسلب البضع عن أهلها ؛ والسرقة والغصب والخيانة وأمثالها شرور لاستلزامها سلب الأموال عن أهلها ، وقس على ما ذكر ما لم يذكر من الضرب والشتم والحرق والغرق وغير ذلك.

وإذا تصفّحنا الشرور الواقعة في العالم وتجسّسناها لم يخرج شيء منها عمّا ذكرناه.

وإذا كان الأمر كذلك نقول : ليس شأنه - تعالى - إلاّ اعطاء الوجود ، فلا يصدر عنه - سبحانه - إلاّ الخير وانّما يصدر الشرّ - الّذي هو العدم - عن الممكنات المعلولة له - تعالى - ، فالعدم مستند إليه - تعالى - بالواسطة ؛ ولا محذور فيه.

هذا لو جوّز صدور العدم عن الممكنات بناء على أنّها ليست عين الوجود ، بل ماهيّات غير الوجود مخلوط بالوجود والعدم ، لامكانها. ولا استحالة في صدور العدم

ص: 464

حينئذ ، انّما المحال صدوره عن الوجود المحض.

وأمّا لو لم يجز صدوره عن الوجود أصلا فالجواب بعد تسليم ذلك هو : انّ الشرّ إمّا شرّ حقيقي - وهو العدم الصرف والليس المحض ، كعدم ما لم يوجد ولا يوجد قطّ - ؛ أو شرّ اضافي - وهو الوجود المخلوط بالعدم -. والأوّل لا يحتاج إلى علّة موجودة ، إذ العدم المحض لا يصدر / 102DA / عن موجود أصلا بل علّته عدم مثله - أعني : عدم علّة الوجود -. والثاني وان احتاج إلى علّة موجودة إلاّ أنّ الاحتياج إليها من حيث جهة الوجود لا من حيث جهة العدم الّتي هي الشرّ ، فانّ القتل من حيث انّه قتل وجودى - أي : لا بدّ فيه من ايصال آلة قطّاعة محتاج إلى فاعل -. إلاّ أنّه من هذه الجهة ليس شرّا ، لأنّه لو كان مجرّد اتصال الآلة القطّاعة شرّا لكان ايصال السيف إلى الارض ضربة على الحجر والشجر شرّا ، وليس كذلك. ومن حيث انّه أمر عدمي - أي : يلزمه فقد الشخص وازهاق الروح - وإن كان شرّا إلاّ انّه من هذه الجهة لا يحتاج إلى علّة موجودة. وعلى هذا فدفع شبهة الثنوية انّ الشرّ الّذي هو العدم ليس صادرا عنه - تعالى - حتّى يلزم كون الواحد المحض خيّرا أو شرّيرا وكون الخير الصرف شرّيرا ؛ ولا يلزم وهن في عموم القدرة ، لأنّ المراد به انّ كلّ موجود يستند إليه. ولا يعتبر فيه استناد الاعدام أيضا إليه - سبحانه - ، كيف؟! والوجود المحض لا يناسب العدم مع انّ العدم يكفي في تحقّقه عدم علّة الوجود.

وأقول : لا ريب في أنّ أكثر ما يطلق عليه اسم الشرّ في العالم لا ينفكّ عن عدم ما بمعنى استلزامها لفقد وجود أو كمال ، وليست اعداما صرفة ونفيا محضا. لانّه لا يشكّ عاقل في انّ مثل القتل والضرب والغصب وحدوث الأمراض وغير ذلك أمور وجودية. نعم! عدم انفكاكها عن عدم لوجود أو فقد لكمال مسلّم واطلاق الشرّ عليها بهذه الجهة أيضا مسلّم ، إلاّ انّ عدم افتقار مثل هذا العدم من الأمر الوجودي وكفاية عدم علّة الوجود لتحقّقه ممنوع ، فانّه لا ريب في انّ ازهاق النفس وهتك الستر انّما ترتّب على اتصال الآلة القطّاعة واتصال عضو خاصّ بعضو خاصّ وهما وجوديان ، فاستند فقد الروح واعدام الستر إلى امرين وجوديين هما أيضا مستندان إلى علّة

ص: 465

موجودة ، فالعدم المتحقّق في ضمن الشرور الاضافية لا بدّ له من علّة موجودة / 107MB / ولا يمكن أن تكون علّته عدما محضا ، فلا بدّ امّا أن يقال : انّ علّته الواجب - تعالى - ولكنّه وقع بالعرض لا بالذات - ليلزم مناسبة الخير المحض للشرّ - ، فيرجع حينئذ إلى الوجه الأوّل ؛ أو يقال : انّ علّته بعض الممكنات وليس علّته واجب الوجود بالذات بلا واسطة - ليلزم مناسبة الخير المحض للشرّ - ، بل جميع الموجودات مستندة إليه - تعالى -. إلاّ أنّ الشرور ليست مستندة إليه - تعالى - بلا واسطة لكونه خيرا محضا ، بل هي مستندة إلى بعض الممكنات الموجودة منه - تعالى -. وليس ايجاد هذا البعض من الممكنات شرّا ، بل هو خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا والشرّ انّما صدر عن هذا البعض لا منه - تعالى -.

ولا يخفى انّ هذا الوجه - أي : استناد الشرور إلى بعض الممكنات - لا يثبت به تمام المطلوب ما لم يقيّد بكون تلك الشرور شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة ، وبوقوعها في النظام بالعرض لا بالذات ، وبأنّ صدورها عنه - تعالى - ممكنة بالنظر إلى ذاته - تعالى - وإن لم يكن بالنظر إلى علمه بالأصلح. إذ لو لم يقيّد بالأوّل وجوّز كونها شرورا وكانت شرّيتها غالبة على خيريتها أو مساوية لخيريتها لم يكن النظام نظاما أصلح ، ولو لم يقيّد بالثاني وجوّز وقوعها بالذات - أي : كونها مقصودة له تعالى بالذات - لزم مناسبته للشرّ وان صدر عنه بالواسطة ، بل لزم وقوع الظلم والجور في العناية الإلهية. ولو لم يقيّد بالثالث وجوّز عدم افتقاره - تعالى - على ايجاد الشرّ بالنظر إلى ذاته لزم نفي عموم قدرته بالمعنى المشهور على جميع الممكنات. فالحقّ - كما اشير إليه - أن لا يكتفى في الجواب عن شبهة الثنوية والاشكال الوارد في وقوع الشرور في القضاء الإلهي بمجرّد القول بكونها واقعة بالعرض - كما في الوجه الاول - ، أو كونها شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة - كما في الوجه الثاني - ، أو مستندة إلى بعض الممكنات المستندة إليه - تعالى ، كما في الوجه الثالث -. بل اللازم في الجواب أن يجمع بين الوجوه الثلاثة.

وحينئذ فالجواب الصحيح الّذي يندفع به الشبهة ويثبت به عموم القدرة والتحقيق التامّ الصريح الّذي يرتفع به الاشكال الوارد في وقوع الشرور في القضاء

ص: 466

الإلهي هو أن يقال : الشرّ إمّا حقيقي وهو / 102DB / العدم المحض ؛ ولا ريب في عدم استناده إلى موجود أصلا - لا (1) الواجب ولا غيره - ، بل هو مستند إلى عدم مثله - أعني : عدم علّة الوجود - ؛

وإمّا شرّ اضافي ، وهو العدم المخلوط بالوجود - أي : الاعدام الاربعة التابعة لبعض الموجودات ، كفقد النفس التابع للقتل ، وتفرق الاتصال التابع للقطع وغير ذلك -. وجميع الشرور الواقعة في نظام الخير من هذا القبيل - كما اشرنا إليه -. وجميع تلك الشرور مستندة إلى غيره - تعالى - من الممكنات المعلولة له - سبحانه - ، فهي مستندة إليه - تعالى - بالواسطة ومع ذلك شرور قليلة تابعة لخيرات كثيرة وواقعة بالعرض بمعنى أنّها ليست مقصودة للواجب بالذات - أي : المقصود منها بالذات ما هو متبوع لها من الخيرات الكثيرة - ، وهي مقصودة له - تعالى - بالعرض. ومع ذلك كلّه هي مقدورة له - تعالى - بالقدرة بالمعنى المشهور - أي : ممكنة الصدور عنه تعالى بالنظر إلى ذاته تعالى - وإن لم تمكن بالنظر إلى العلم والإرادة من حيث كونها مستندة إلى غيره - سبحانه -. وعدم كونها مقصودة له - تعالى - بالذات لا يلزم مناسبة الخير المحض والوجود الصرف للشرّ والعدم. ومن حيث استنادها إلى الممكنات المعلولة له - سبحانه - لا يلزم اثنينية المبدأ ، فيثبت به عموم القدرة المستجمعة بالنسبة إلى جميع الممكنات بالواسطة. ومن حيث كونها شرورا قليلة تابعة لخيرات كثيرة لا يلزم منافاتها لأصلحية النظام ، ومن حيث اقتداره - تعالى - على ايجادها بالنظر إلى الذات لا ينافي عموم القدرة على الكلّ بالمعنى المشهور بلا واسطة.

ثمّ توهم الايراد على هذا التفصيل انّما يتصوّر من وجوه :

منها : انّ الممكن لا يجوز أن يكون فاعلا للشرّ ، لأنّه من حيث الجهة المستندة إلى ذاته عدم صرف ولا شيء محض ، فلا يمكن أن يكون بهذه الجهة علّة لشيء اصلا سواء كان هذا الشيء وجودا أو عدما اضافيا. ومن حيث جهته المستندة إلى الواجب - تعالى - وجود محض ، فكيف تصير هذه الجهة علّة للشرّ الّذي هو العدم مع انّه

ص: 467


1- الاصل : الا.

لا مناسبة بين الوجود والعدم؟!.

والجواب : انّ الممكن من حيث جهته المستندة إلى الواجب - أي : الممكن الموجود - ليس وجودا محضا وخيرا صرفا ، فانّ محض الوجود ليس إلاّ الواجب - تعالى شأنه - ، بل هو وجود مشوب بالعدم وأيس مخلوط بالليس ، فانّ وجوده وان صدر عن الواجب ملزوم / 108MA / للافتقار الذاتي والاحتياج الواقعي ، فلا يمكن أن ينفكّ عن العدم والشرور الواقعة في هذا العالم أيضا شرور إضافية - أي : اعدام مخلوطة بالوجود -. وليست اعداما صرفة ولا وجودات صرفة فيصير وجود مخلوطة بالعدم علّة وفاعلا لما هو مثله - أي : ما هو وجود مخلوط بالعدم -. إلاّ انّ جهة العدم في المعلول الّذي هو الشرّ أكثر. وهذا أمر كلّي بالنسبة إلى كلّ معلول ، فانّ جهة العدم والشرّية في كلّ معلول أكثر منها في العلّة ، وجهة الوجود والخيرية بالعكس من ذلك.

وتوضيح ذلك : انّ واجب الوجود بالذات وجود محض وخير صرف لا يتصوّر فيه شائبة من العدم والشرّ ، كما انّ العدم الصرف عدم محض وشرّ صرف لا يتصوّر فيه شائبة من الوجود والخيرية. ثمّ ما يصدر عنه - سبحانه - بلا واسطة كاد أن يكون وجودا محضا وخيرا صرفا ، إلاّ انّه ليس بهما لافتقاره الذاتي وتنزّله وبعده عن الوجود المحض والخير الصرف بمرتبة ، فله شوب من العدم.

ثمّ ما يصدر عن هذا الصادر يكون شوب العدم فيه أكثر - لبعده عن الوجود الصرف بمرتبتين وقربه بمرتبتين إلى العدم والشرّ - ، وهكذا كلّما تكثّر الوسائط ويصير المعلول أبعد عن الوجود المحض والخير الصرف يكون شوب العدم وجهة الشرّ فيه أكثر من سابقه إلى أن يصل إلى ما يحصل فيه نحو من العدم والشرّ بالفعل ويتميّز فيه جهتاهما وان كان مع ذلك جهة وجوده وخيريته غالبة ؛ فظهر انّ علّية الممكنات الموجودة للشرور الاضافية جائزة ، والمناسبة بينهما ثابتة.

ومنها : انّ النظام الأصلح بأي سبب تقع فيه تلك الشرور الاضافية؟! ، وبأيّ جهة لا بدّ من وقوعها فيه؟! ، ولم لا يمكن للواجب - تعالى - ايجاد هذا النظام كما هو بحيث لا يقع فيه تلك الشرور؟! ؛ فانّه لا شبهة في أنّ النظام إذا كان بحيث لم يقع فيه

ص: 468

تلك الشرور يكون أصلح ؛

والجواب عنه : انّ وقوعها من لوازم وقوع الممكنات وايجادها ، فانّ الممكن لا يمكن أن ينفكّ حقيقته ومهيته - وإن صار موجودا - عن عدم ما ، فيحتوي على شر ما البتة ، إلاّ / 103DA / انّه لا يظهر الشرّية فيه لنا إلى أن ينحطّ عن الوجود المحض والخير الصرف بمراتب كثيرة ، فكلّما تنزّل سلسلة العلل والمعلولات عن الواجب الحقّ يكون ظهور العدم والشرّية أكثر إلى أن يصل إلى النهاية.

وايجاد تلك الممكنات بحيث لا تشتمل حينئذ على تلك الأعدام اللازمة لذواتها أمر ممتنع ، لأنّه قلب للحقيقة. وعدم إيجادها رأسا منع لافاضة الوجود الغالب على العدم ، فهو شرّ كثير.

ومنها : انّ اقتداره على ايجاد الشرّ بالنظر إلى ذاته يوجب مناسبة الوجود المحض للعدم والخير الصرف للشرّ ، وهو باطل ؛ إذ لو لا تلك المناسبة لم يتصوّر امكان ايجاده بالنظر إلى ذاته ، فانّ مجرّد الامكان المذكور - أي : امكان الوقوع بالنظر إلى الذات - وإن لم يقع عنه بالنظر إلى العلم والإرادة يوجب تحقّق المناسبة المذكورة ؛

والجواب عنه : انّ امكان الصدور انّما هو بالنظر إلى ذات العلّة فقط - أي : الواجب تعالى - ، لا بالنظر إلى ذات المعلول - أعني : الشرّ أيضا - حتّى يلزم المناسبة.

فانّ المطلوب انّ صدور كلّ ممكن حتّى الشرّ بالنظر إلى ذات الواجب ممكن ، لأنّ ذاته - تعالى - من حيث هي لا يأبى ولا يعجز عن ايجاد كلّ شيء. إلاّ انّ بعض الأشياء لخسّتها وانحطاطها في درجات الوجود لا يناسب ذاته المقدّسة ، فلا يمكن صدورها بالنظر إلى ذواتها عن الواجب - تعالى - وإن امكن صدورها عنه بالنظر إلى ذاته - تعالى -.

ومنها : انّ تلك الشرور كثيرا ما يصيب بعض المظلومين من دون جرم وتقصير ، وهو ينافي الحكمة ولا يناسب العدل والرحمة ؛ ولهم أن يقولوا : بأيّ سبب اصابنا هذا الشرّ والظلم مع انّا عباد مطيعون لم يصدر منّا جرم وتقصير؟!.

وإن قيل لهم : هذا صلاح لنظام الكلّ! ؛

ص: 469

فلهم أن يقولوا : ليس من الحكمة والعدالة أن يظلم ويزجر مسكين فقير ويبتلى بأنواع العذاب والبليّات لأجل انّه صلاح لغيره. مع أنّ هذا لا يناسب القدرة التامّة الكاملة ، لأنّ الفاعل حينئذ عاجز عن ايجاد نظام الكلّ بحيث لا تقع فيه تلك الشرور ، ولا يمكنه ايجاد ما يوجده إلاّ باصابة الظلم والشرور ببعض الضعفاء والمساكين. وأيّ عجز أشدّ من عدم اقتداره على ايجاد هذا النظام بدون تلك الشرور؟! ؛

على أنّ بعض الموجودات الممكنة كالشيطان وغيره منبع الشرور أبد الآباد ، فليس في وجوده خيرية اصلا!.

والجواب : انّ اصابة بعض الشرور ببعض المظلومين مع قطع النظر عن كونه صلاحا / 108MB / بالنسبة إلى نظام الكلّ إنّما هو خير وصلاح بالنسبة إلى هؤلاء الاشخاص المظلومين ، لأنّه إمّا متضمّن لخير غالب لهم عاجلا أو آجلا بالذات أو بعوض اللّه - تعالى - عنهم بما يجبر هذا الشرّ والظلم - كما هو مذهب العدلية -. ولو كان صدور الشرّ الّذي يصيب المظلومين عمّن يصدر عنه بالقدرة والاختيار لا من قبيل فعل الطبائع فالأمر أظهر.

وأمّا ما ذكر من انّه لو لم يخلق النظام بحيث لا يقع فيه تلك الشرور ؛ فجوابه ما مرّ من أنّ تلك الشرور من الأعدام اللازمة لطبائع الممكنات ولا يمكن انفكاكها عنها ، ولو فرض انفكاكها عنها لزم انقلاب حقائقها ، ولو كانت وجودات محضة وخيرات صرفة خرجت عن الامكان. فعدم وقوع تلك الشرور يتوقّف على عدم صدور الممكنات رأسا ، وهو يؤدّي إلى قطع الفيض والجود رأسا ؛ ولا ريب في انّه شرّ كثير.

وما ذكر من انّ بعض الموجودات منبع الشرور أبد الآباد - كالشيطان - وأيّ شرّ أشدّ مفسدة من ايجاد مثل هذا الموجود ؛

ففيه : انّه على قاعدة انّ الوجود خير مطلقا يمكن القول بأنّه لا محذور في ذلك ، إذ الصادر منه ليس إلاّ الوجود وهو خير. غاية الأمر وجوب العوض عليه - تعالى - لو أصاب شرّه مظلوما - كما اشير إليه -.

ص: 470

مع انّه في ايجاده (1) فوائد عظيمة وخيرات جسيمة عائدة إلى النظام الأعلى ولا يعلمها أحد إلاّ خالقه.

وبما ذكر اندفعت شبهة الثنوية في اثنينية المبدأ مع ما يستنبط منها من لزوم نفي عدم قدرته - تعالى - من غير أن يلزم كونه - تعالى - فاعلا للشرّ ، لأنّه لمّا ثبت انّ الشرور مستندة إلى بعض الممكنات المخلوقة له - تعالى - مع كونها مقدورة له - تعالى - بالنظر إلى ذاته بلا واسطة أيضا - وبه يثبت كونها مقدورة له بالقدرة المستجمعة للشرائط بالواسطة وبالقدرة بالمعنى المشهور بلا واسطة - ، فيبطل اثنينية المبدأ ويثبت عموم القدرة بالمعنيين وإن كان العموم في احدهما بالواسطة ؛ ولا بأس فيه - كما تقدّم -.

ولمّا تقرر انّ تلك الشرور مع استنادها إلى غيره - تعالى - قليلة تابعة لخيرات كثيرة واقعة بالعرض فلا يكون الواجب - سبحانه - فاعلا بالذات / 103DB / لشرّ اصلا.

والعجب انّ الثنوية لمّا ارادوا تنزيهه - سبحانه - عن صدور الشرّ منه ارتكبوا ما هو أشدّ عنه وافضح! - أعني : اثبات اثنينية المبدأ ونفي عموم القدرة - ؛ هذا.

وقد اجاب بعض الأفاضل عن شبهة الثنوية بوجه آخر ؛ وهو : انّ الأمر الّذي يستندون إليه الشرّ لا يخلوا من أن يكون واجبا أو ممكنا ، فان كان واجبا بالذات فهو باطل ، لأنّ البرهان قائم على أنّ تعدّد الواجب بالذات ممتنع بالذات ؛ وإن كان ممكنا بالذات فلا يجوز أن يكون مفيضا لوجود ممكن آخر ، لانّه قد ثبت بالبرهان انّ مفيض الوجود لا يكون إلاّ الواجب بالذات.

فإن قيل : بناء على ما ذكرتم يلزم أن يكون وجود الشرّ من اللّه - تعالى - ، فيلزم أن يكون تعذيب العباد قبيحا! ؛

قلت : تعذيب العباد باعتبار انّ ارادتهم تكون جزء أخير من العلّة التامّة ، فمفيض الوجود هو اللّه - تعالى - وإرادة العبد شرط لافاضة وجود الشرّ.

هذا على تقدير كون الشرّ أمرا وجوديا.

أمّا على تقدير كون الشرّ عدما - كما نقل من الحكماء من أنّ الشرّ انّما هو العدم و

ص: 471


1- الاصل : ايجاد.

الوجود من حيث هو وجود خير - ، فلا احتياج في استناد الشرّ إلى مبدأ موجود ، لأنّ العدم يجوز أن يستند إلى عدم آخر ؛ كما انّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة. فحينئذ ينهدم بنيان ما ذهب إليه الثنوية من انّ الشرّ لا بدّ له من مبدأ موجود ، لأنّ الشرّ إذا كان هو نفس العدم فلا يلزم أن يكون له مبدأ موجود ، لأنّ العدم يجوز أن يستند إلى عدم آخر كما انّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما ذكرناه خبير بجلية الحال في هذا الكلام صحّة وسقما!.

ثمّ الظاهر انّ مراد كلّ من الطوائف الثلاث - أعني : المجوس والمانوية والديصانية - ليس ما هو ظاهر كلامهم من القول بتعدّد المبدأ والذهاب إلى إلهين اثنين ؛

وأمّا المجوس : فلما أشير إليه من انّهم يقولون : انّ اهرمن مخلوق ليزدان وايجاده ليس شرّا ، بل انّما الشرّ منه. فيزدان أوجد اهرمن والشرور بأسرها انّما يصدر من اهرمن. وهذا كما ترى لا يدلّ على كون اهرمن مبدأ قديما يكون وجوده منه.

وأمّا المانوية والديصانية : فانّهم صرّحوا بأنّ النور - الّذي هو فاعل الخير - حيّ قادر عالم سميع ؛ ( و) (1) كيف يتّصف النور في المعنى المشهور بتلك الصفات؟! ؛ وكيف / 109MA / يقول عاقل بأنّ النور والظلمة مبدءان قديمان مستقلاّن بالوجود مع أنّهما عرضان محتاجان إلى الجسم؟! ، فيلزم قدم الجسم وكون الإله محتاجا إليه. فالظاهر انّ غرضهم معنى آخر سوى المتعارف.

أمّا المجوس فظاهر كلامهم أيضا - على ما نقلناه - لا يستلزم المخالفة لأصل التوحيد واصل عموم القدرة ، لأنّهم يستندون الجميع إليه - تعالى - ، لكنّهم لم يجعلوا الشرور مستندة إليه - تعالى - بلا واسطة لكونه خيرا محضا ، بل اسندوها إلى اهرمن ، وقالوا : انّ ايجاد اهرمن ليس شرّا بل خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا وانّما صدر الشر عن اهرمن لا منه - تعالى -.

وما قيل : انّ أيّ شرّ أشدّ مفسدة من ايجاد موجود يكون منبعا للشرور أبد الآباد ؛ مدفوع : بأنّه على قاعدة انّ الوجود خير مطلقا يمكن القول بانّه لا محذور في

ص: 472


1- لفظة ( و) لم توجد في النسختين.

ذلك ، إذ الصادر منه - تعالى - ليس إلاّ اعطاء الوجود وهو خير. غاية الأمر وجوب العوض عليه - تعالى - لو أصاب شرّه مظلوما - كما هو مذهب العدلية -.

ثمّ لو كان صدور الشرّ عن ذلك الشرير بالقدرة والاختيار لا من قبيل فعل الطبائع فما ذكرناه يكون ظاهرا جدّا. نعم! لو لم يجعلوا اهرمن معلولا ليزدان بل واجبا لذاته لكان كفرا ، إلاّ انّه خلاف ما صرّحوا به. وأيضا لو قالوا : انّه - تعالى - لا يقدر ذاته بذاته على ايجاد تلك الشرور بلا واسطة لكانوا أيضا من المخالفين في عموم القدرة ، لكن ذلك أيضا لا يظهر من كلامهم. نعم! لو كان مرادهم بأهرمن هو الشيطان - كما هو المشهور منهم - لم يصحّ نسبة جميع الشرور إليه ؛ إذ لا شكّ في وجود شرور لا يمكن استنادها إليه. فالحقّ انّ الشرور مستندة إلى الممكنات الّتي هي مبادي لها - سواء كان شيطانا أو نارا أو غيرهما -. فقولهما بالتخصيص تحكّم باطل ؛ هذا.

وقيل : يمكن أن يكون مراد المجوس من « اليزدان » : الوجود الواجبي ، ومن « الاهرمن » : الامكان ؛ ويرجع قولهم إلى انّ فاعل الخير هو الوجوب وفاعل الشرّ هو الامكان. فانّك قد عرفت انّ الخيرات كلّها راجعة إلى الوجود ومنبع الوجود هو الواجب - تعالى - ، والشرور كلّها راجعة إلى العدم ومنبع العدم هو الامكان ، وحينئذ لا يلزم شرك اصلا. لأنّ الشرك انّما يلزم لو كان كلّ من المبدءين موجودا ومؤثّرا في الوجود ، / 104DA / ولكنّه ليس كذلك ؛ بل احدهما موجود مؤثّر في الوجودات - وهو الواجب تعالى - والآخر عدمي منشئا للأعدام - وهو الامكان -.

غاية ما في الباب أن يكون اطلاق المؤثّر والفاعل على العدم الّذي هو الامكان على التجوّز - كما يقال : علّة العدم عدم علّة الوجود - ؛ انتهى.

وأمّا المانوية والديصانية وإن كان ظاهر كلامهم دالا على تحقّق مبدءين - كما عرفت - إلاّ أنّه لمّا كان ظاهر كلامهم ممّا لا يقول به عاقل - وقد صرّحوا أيضا بأنّ النور الّذي هو فاعل الخير حيّ عالم سميع درّاك - أوّل جماعة كلامهم بأنّ مرادهم من النور هو الوجود ، ومن الظلمة هو الامكان حتّى يؤول مذهبهم إلى أنّ فاعل الخير هو الوجود الواجبى وفاعل الشرّ هو الامكان ، لما مرّ من أنّ الخيرات كلّها راجعة إلى

ص: 473

الوجود والاعدام راجعة إلى العدم ، ومنبع الوجود هو الواجب - تعالى - ومنشأ الشرّ هو العدم ؛ ولا يلزم حينئذ شرك - كما مرّ في تأويل مذهب المجوس -. وعلى هذا يكون مرادهم من الخير والشرّ في شبهتهم : الوجود والعدم ومن الخيّر والشرّير : فاعل الوجود والعدم. فتقرير شبهتهم حينئذ : انّا نرى في العالم تحقّق الموجودات والاعدام والواحد لا يكون خيّرا شرّيرا - أي : فاعلا لهما - ، فيجب أن يتحقّق مبدءان. ثمّ لمّا وجب أن يكون فاعل الوجود وجودا وفاعل العدم عدما البتة فلو كان الفاعل لهما شيئا واحدا يلزم أن يكون خيرا محضا وشرّا محضا ، لأنّ الوجود خير محض والعدم شرّ محض. وبذلك يندفع ما لعلّه يقال : « انّه لمجرد تحقّق الوجودات والأعدام في العالم لا يلزم أن يكون شيء واحد - لو كان هو المبدأ - خيرا محضا وشرّا محضا ».

ثمّ كون الشيء الواحد خيرا محضا وشرّا محضا - أي : وجودا وعدما - بديهى البطلان ؛ ولذا قالوا : الواحد لا يكون خيّرا وشرّيرا - أي : خيّرا محضا أو شرّيرا محضا -. ولا يحمل الخيّر في شبهتهم على من يغلب خيره على شرّه ، والشرّير على من يغلب شرّه على خيره - كما ينبئ عنه ظاهر العبارة -. ولم يرد على هذا الحمل : انّ ذلك غير لازم ممّا ذكر - أي : لزوم كون الواحد بحيث يغلب خيره على شرّه وشرّه على خيره غير لازم من دليلهم - ، لأنّهم قالوا : نجد في العالم خيرا / 109MB / كثيرا وشرّا كثيرا ، وهذا لا يستلزم أن يكون كلّ واحد من الخير والشرّ غالبا ومغلوبا حتّى لو كان الفاعل لهما واحدا كان كلّ واحد من خيره وشرّه غالبا. لانّه يجوز أن يكونا متساويين في الكثرة أو أحدهما فقط غالبا. فلم يلزم من دليلهم ثبوت العلّية بهما معا حتّى يراد من الخير من يغلب خيره ومن الشرّ من يغلب شرّه على خيره. فتعيّن - كما اوردنا - أن يراد من الخير والشرّ : الخير المحض والشرّ المحض - بالتوجيه الّذي ذكرناه -. ولو لم يحمل الخيّر والشرّير على ذلك لتوجّه المنع على قولهم : الواحد لا يكون خيّرا وشرّيرا اذ لقائل أن يقول : يجوز أن يكون شيء واحد مبدأ للخير والشرّ ، إمّا بالتساوي أو مع غلبة أحدهما. وعلى ما ذكر من التأويل لكلامهم يكون كلامهم مرموزا ، فما يرد عليهم وإن كان متوجّها على ظاهر أقاويلهم الاّ أنّه لا يرد على

ص: 474

مقاصدهم ؛ لانّه لا ايراد على الرمز (1). والحمل على الوجوب والامكان مبنى قاعدة الاشراق في النور والظلمة الّتي كانت طريقة حكماء الفرس مثل جاماسب وبوزرجمهر وغيرهما ممّن كان قبلهما ، قال العلاّمة الشيرازي في شرح حكمة الاشراق : وعلى الرمز يبتنى قاعدة أهل الاشراق ، وهم حكماء الفرس القائلون بأصلين أحدهما نور والآخر ظلمة ، لانّه رمز على الوجوب والامكان. فالنور قائم مقام الوجود الواجبي والظلمة قائمة مقام الوجود الممكن ، لا أنّ المبدأ اثنان : أحدهما نور والآخر ظلمة ، لانّ هذا ممّا لا يقول به عاقل فضلا عن فضلاء فارس الخائضين غمرات العلوم الحقيقية ؛ ولذا قال النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - في مدحهم : لو كان الدين بالثريا لتناوله رجال من فارس (2). ثمّ قال : وهي - أي : قاعدة الاشراق في النور والظلمة - ليست قاعدة كفر المجوس القائلين بظهور النور والظلمة وأنّهما مبدءان ، لأنّهم مشركون لا موحّدون ، وكذا كلّ من يثبت مبدءين مؤثّرين في الخير والشرّ كالقدرية - وكانّه بهذا المعنى أشار بقوله صلی اللّه علیه و آله : القدرية مجوس هذه الأمّة - (3). وليست أيضا قاعدة الحاد ماني البابلي الّذي كان نصرانى الدين مجوسي الطين ، وإليه ينسب الثنوية القائلون بإلهين أحدهما إله الخير وخالقه - وهو النور - والآخر إله الشرّ وخالقه - وهو الظلمة -. وليست / 104DB / أيضا قاعدة ما يفضي إلى الشرك باللّه - تعالى - كقواعد بعض المشركين من المليين وغيرهم (4) ؛ انتهى.

وعلى ما ذكره العلاّمة ليس مذهب الثنوية والمجوس قابلا للتأويل عنده بحيث يخرج عن الشرك والالحاد. وقد عرفت انّه يمكن أن يكون رمزا ومؤوّلا بما أوّل به قاعدة الاشراق ؛ بل قال بعضهم : انّ تاويل كلام الثنوية بما ذكر لو لم يكن أقرب من تأويل حكماء الفرس فليس بأبعد منه ؛ هذا.

وقد عدّ بعضهم الفلاسفة والمنجّمين والجبائية والنظام والبلخي أيضا من المخالفين في أصل عموم القدرة ؛ قال بعض المشاهير : (5) هذا - أي : عموم قدرة اللّه

ص: 475


1- الاصل : + على الرمز.
2- راجع : شرح حكمة الإشراق ، ص 18.
3- راجع : بحار الأنوار ، ج 5 ص 6 ؛ سنن أبي داود ، ج 4 ، ص 222 ، الرقم 4691.
4- راجع : شرح حكمة الاشراق ، ص 19.
5- هامش « د » : هو الفاضل السماكي.

- تعالى - أصل عظيم خالف فيه كثيرون ؛

الأوّل : الفلاسفة القائلون بأنّه واحد حقيقي لا يصدر عنه شيء بلا واسطة واحد ، هكذا في المواقف. وقد عرفت انّ الفلاسفة يقولون بايجاب الواجب لا بكونه قادرا ، فهم ينفون اصل القدرة لا عمومها.

الثّاني : المنجّمون ، ومنهم الصائبة القائلون بأنّ الكواكب بحركاتها مؤثّرات في الحوادث السفلية والتغيرات الواقعة في جوف الفلك من اختلاف الفصول الأربعة وتأثيرات الطبائع في المواليد. وأنت خبير بأنّ هذا من متفرّعات ايجاب الواجب وانّه لا يصدر عنه بلا واسطة إلاّ واحد.

الثالث : الثنوية ، ومنهم المجوس القائلون بأنّه - تعالى - لا يقدر على الشرّ.

الرابع : النظام ومتابعوه ، حيث ذهبوا - كما في المواقف - إلى انّه - تعالى - لا يقدر على القبيح. وما نقل عنه في بعض الكتب انّه قال : انّ اللّه - تعالى - لا يقدر على القبيح وما نقل عنه في بعض الكتب انّه قال : انّ اللّه - تعالى - لا يفعل القبيح ، فبينهما فرق بيّن. ولك أن تقول : إذا لم يفعل القبيح لم يقدر عليه ، إذ القدرة على الشيء بالمعنى المذكور يقتضي صحّة صدور ذلك الشيء في وقت وصحّة عدم صدوره في وقت آخر.

الخامس : أبو القاسم البلخي ومتابعوه ، حيث قالوا : انّه لا يقدر على مثل فعل العبد.

السادس : الجبائية ، حيث قالوا : انّه لا يقدر على عين فعل العبد.

وتفصيل دلائلهم وما يتوجّه عليها مذكور في شرح المواقف وغيره. واثبات عموم قدرته - تعالى - يبطل المذاهب المذكورة ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ ما نسب هذا القائل إلى الحكماء - : من انّهم / 110MA / ينفون اصل القدرة لا عمومها - ليس على ما ينبغي ، لما عرفت من أنّ الايجاب الّذي يقول به الحكيم لا ينفي القدرة بالمعنى الأوّل والقدرة بالمعنى المشهور ، لأنّ الايجاب عندهم انّما هو بعد العلم بالأصلح والإرادة لا مع قطع النظر عنهما ، والايجاب بالارادة لو كان منافيا للقدرة للزم مثل ذلك على المعتزلة وأكثر المحقّقين - كالمحقق الطوسي - ، والفرق بقدم الأثر و

ص: 476

حدوثه لا دخل له في ذلك.

وأمّا ما نسب إلى ساير الطوائف فالحقّ - كما افاده بعض أهل التحقيق - انّ أحدا من العقلاء لم ينف قدرة اللّه - تعالى - على جميع الممكنات مطلقا على التحقيق ، بل أرادوا بأجمعهم تنزيه اللّه - تعالى - وتقديسه ، فمنعوا صدور ما يحيله العقل على زعمهم عنه - تعالى - ، كصدور الكثرة عن الواحد الحقيقي بلا ترتيب - عند الحكماء - ، وصدور الشرّ - عند الثنوية - ، وصدور القبائح مطلقا - عند النظام - ، وصدور مثل فعل العبد وعينه - عند البلخي والجبائية -. وعلى هذا فالمعنى : انّ صدور تلك الأشياء وإن كان ممكنا عنه - تعالى - بالنظر إلى قدرته العامّة لكن بالنظر إلى وحدته الحقيقية أو حكمته أو ارادته ومشيّته يمتنع أن يصدر عنه - تعالى - شيء منها.

وعلى هذا لا يكون أحد من الطوائف المذكورة من المنكرين لهذا الأصل.

ص: 477

ص: 478

الفهرس التفصيلي

لمحتويات الكتاب

المجلد الأوّل

مفتتح الكتاب... 3

وجه تسمية الكتاب وبيان ترتيبه... 3

المقدّمة الأولى

في ابطال ترجّح المساوي والمرجوح وترجيحهما

رأي الأشاعرة بل أكثر المتكلّمين في قبال هذه المقدّمة... 4

نقد المصنّف عليه... 4

احتجاج الأشاعرة على هذا المعنى ونقد المصنّف عليه... 5

إشكال والجواب عنه... 5

المقدّمة الثانية

في انّ طرفي المعلول ما لم يجب لم يقع

بيان هذه المقدّمة... 5

المقدّمة الثالثة

في إبطال وجود الممكن بنفسه وبأولوية ذاتية أو خارجية

بيان قسمة عقلية لتبيين هذه المقدّمة... 6

ثلاثة ايرادات على هذه القسمة... 6

الايراد الأوّل والجواب عنه... 6

ص: 479

الايراد الثاني... 6

الجواب عنه... 7

الايراد الثالث... 7

جواب أجيب به عن هذا الايراد وتوضيح حول هذا الجواب... 7

إيراد أورد على هذا الجواب والجواب عنه... 9

إيراد على هذا الجواب... 10

الجواب عن هذا الايراد... 11

استدلال الشيخ في الشفا لصحّة هذه المقدّمة... 13

إيراد على هذا الاستدلال والجواب عنه... 13

اتّفاق جميع العقلاء على احتياج الممكن في وجوده إلى علّة خارجة إلاّ ذيمقراطيس... 13

أدلّة ذيمقراطيس على قوله والجواب عنها... 14

منها ( : دليله الأوّل )... 14

الجواب عن هذا الدليل... 14

منها ( : دليله الثاني )... 14

الجواب عن هذا الدليل... 15

منها ( : دليله الثالث )... 15

مقدّمة مهّدها المصنّف للجواب عن هذا الدليل... 15

اعتراضات على هذه المقدّمة... 16

تحقيق حول هذا الاعتراض... 18

ايرادات للمصنّف على هذا التحقيق... 21

تلخيص القول في بطلان مذهب ذيمقراطيس... 24

بطلان وجود الممكن بأولوية ذاتية... 24

تفسيران للأولوية... 24

إشكال والجواب عنه... 24

وجوه تدلّ على بطلان الأولوية... 25

منها ( : الوجه الأوّل )... 25

إيراد على هذا الوجه والجواب عنه... 25

ص: 480

منها ( : الوجه الثاني )... 26

منها ( : الوجه الثالث )... 26

إيراد على هذا الوجه والجواب عنه... 26

إيراد على هذا الجواب والجواب عن هذا الايراد... 27

منها ( : الوجه الرابع )... 27

منها ( : الوجه الخامس )... 28

إيرادات على هذا الوجه... 28

الايراد الأوّل والجواب عنه... 28

الايراد الثاني والجواب عنه... 28

الايراد الثالث والجواب عنه... 29

إيراد آخر في هذا الايراد... 29

الايراد الرابع... 30

إشكال والجواب عنه والاستشهاد بكلام الشيخ... 30

توضيح بعض أهل التحقيق حول كلام الشيخ... 31

الايراد الخامس... 32

إشكال والجواب عنه... 32

اعتراض على هذا الجواب والجواب عن هذا الاعتراض... 33

اعتراض آخر على نفس الجواب وجواب أجيب به عنه... 33

نقد المصنّف على هذا الجواب... 33

نقد آخر أورد على هذا الجواب... 33

جواب بعضهم عن هذا النقد... 34

جواب المصنّف عن هذا الجواب... 34

جواب قيل في الجواب عن هذا الجواب... 34

ردّ على هذا الجواب... 34

قول بعض الأفاضل ردّا على هذا الايراد... 35

نقد المصنّف هذا القول... 35

توجيه الفضلاء الدليل بحيث لا يرد عليه شيء من الايرادات المذكورة... 36

التوجيه الأوّل... 36

ص: 481

إشكال والجواب عنه... 36

التوجيه الثاني... 36

التوجيه الثالث... 36

نقد المصنّف هذه التوجيهات الثلاثة... 36

جواب المصنّف عن الايرادين الأخيرين... 37

إشكال والجواب عنه... 37

أمّا بطلان الأولوية الخارجية... 37

بيان المراد من هذه الأولوية... 37

بيان بطلان هذا القسم من الأولوية... 37

دليل استدلّ به بعض الأعلام على بطلان هذه الأولوية... 38

ارجاع المصنّف هذا الدليل إلى بعض الأدلّة السابقة... 38

المقدّمة الثالثة في احتياج الممكن إلى العلّة حدوثا وبقاء... 38

الآراء في علّة احتياج الأشياء إلى المؤثّر... 39

استدلال المصنّف على صحّة مذهبه... 39

دليل على بطلان كون الحدوث علّة للافتقار... 39

دليل آخر عليه... 39

إشكال والجواب عنه... 40

إشكال للمصنّف على القائلين بكون الحدوث علّة للافتقار... 41

إشكال على مذهب المصنّف... 41

الجواب عن هذا الاشكال... 42

المقدّمة الخامسة في ابطال الدور والتسلسل... 42

تعريف الدور وبيان أقسامه... 42

اقامة الدليل على بطلانه... 42

دليل آخر على بطلانه... 43

تعريف التسلسل... 43

أدلّة على ابطال التسلسل... 43

منها ( : الدليل الأوّل )... 43

تقرير هذا البرهان ، وهو المسمّى ببرهان التطبيق... 43

ص: 482

اعتراض على هذا البرهان والجواب عنه... 44

إشكال على هذا البرهان والجواب عن جزء منه... 44

الجواب عن جزء آخر من هذا الاشكال... 45

بيان مختار المصنّف من بين مذهبي الحكماء والمتكلّمين... 46

إشكال والجواب عنه... 47

إشكال آخر والجواب عنه... 48

إشكال ثالث والجواب عنه... 48

تقرير برهان التطبيق بنحو آخر... 49

منها ( : الدليل الثاني )... 49

منها ( : الدليل الثالث )... 50

تقرير هذا البرهان ، وهو المسمّى ببرهان التضايف... 50

إشكال لبعض الأفاضل في هذا البرهان... 51

الجواب عن هذا الاشكال... 51

إشكال والجواب عنه... 52

إشكال آخر... 52

الجواب عن هذا الاشكال... 53

منها ( : الدليل الرابع )... 53

إشكال والجواب عنه... 54

منها ( : الدليل الخامس )... 54

منها ( : الدليل السادس )... 54

منها ( : الدليل السابع )... 55

منها ( : الدليل الثامن )... 56

إشكال والجواب عنه... 56

إشكال آخر... 56

الجواب عن هذا الاشكال... 57

منها ( : الدليل التاسع )... 57

المقالة الأولى

ص: 483

في اثبات واجب الوجود لذاته

كون معرفة صانع العالم فطرية ومعرفة وجود الواجب بالذات وصفاته نظرية... 61

مسالك العقلاء في اثبات الواجب... 61

الأوّل

مسلك الحكماء

ذكر مناهج الحكماء في هذا المطلب... 61

وجوه تتوقّف على ابطال الدور والتسلسل... 61

المنهج الأوّل

وتقريره من وجوه... 61

منها ( : الوجه الأوّل )... 62

منها ( : الوجه الثاني )... 62

منها ( : الوجه الثالث )... 62

منها ( : الوجه الرابع )... 62

منها ( : الوجه الخامس )... 62

منها ( : الوجه السادس )... 63

منها ( : الوجه السابع )... 63

وجوه لا تتوقّف على ابطال الدور والتسلسل أو لا تتوقّف على ابطال التسلسل... 63

منها ( : الوجه الأوّل ) : تقرير هذا الوجه بوجه أخصر وأوضح... 63

منها ( : الوجه الثاني ) : بيان الفرق بين هذا الوجه والوجه الأخصر السابق عليه... 64

منها ( : الوجه الثالث )... 65

بيان مقدّمتين يتوقّف هذا البرهان عليهما... 65

منها ( : الوجه الرابع )... 65

قول محقّق الخفري في بيان لزوم الدور في هذا الوجه... 66

إشكال للمصنّف على جزء من هذا القول... 66

إشكال للسمّاكي على جزء آخر من هذا القول... 66

جواب سيّد الحكماء عن إشكال السمّاكي... 66

إيراد العارف الشيرازي على هذا الجواب... 67

جواب الفاضل اللاهيجي عن هذا الايراد... 67

ص: 484

تحرير مذاهب الحكماء والمتكلّمين في الوجود لتحقيق الحقّ في هذا المقام... 68

أمّا مذهب الحكماء في الوجود... 68

أمّا مذهب المتكلّمين في الوجود... 69

بيان حاصل إيراد السمّاكي وجواب السيّد وإيراد العارف الشيرازي وجواب الفاضل اللاهيجي عنه 69

تلخيص هذا التحقيق... 70

إشكال للمصنّف على كلام سيّد الحكماء... 71

إشكال للمصنّف على كلام اللاهيجي... 71

دفع ما أورده بعض الأفاضل على هذا الاستدلال... 72

منها ( : الوجه الخامس )... 73

نقد ما قيل دفعا لهذا البرهان... 73

تقرير هذا البرهان بوجه آخر... 73

إشكال للمصنّف على هذا التقرير... 73

إشكال والجواب عنه... 74

تقرير بعض الأفاضل هذا البرهان من إلهيات الشفا... 74

نقل كلام الشفا... 74

إيراد للمصنّف على هذا الاستدلال... 75

تلخيص القول في ضعف هذا الاستدلال... 76

هذا الطريق هو طريق الصدّيقين... 76

إشكال والجواب عنه... 76

جواب آخر عن هذا الاشكال والجواب عن هذا الجواب... 77

منها ( : الوجه السادس )... 77

إشكال والجواب عنه... 77

دفع ما أورد على هذا البرهان... 78

قول بعض الأفاضل ودفع المصنّف هذا القول... 79

إشكال والجواب عنه... 79

قول آخر لبعض الأفاضل ودفع المصنّف أيضا - هذا القول... 80

منها ( : الوجه السابع )... 80

ص: 485

تقرير شبهة أوردت على هذا الوجه... 80

إشكال على هذه الشبهة ودفعه... 81

دفع المصنّف أصل هذه الشبهة... 81

جريان هذه الشبهة في بعض البراهين المتقدّمة والآتية ، والجواب عنها... 81

منها ( : الوجه الثامن )... 81

منها ( : الوجه التاسع )... 82

منها ( : الوجه العاشر )... 82

هذا البرهان هو المعروف ببرهان الأسدّ والأخصر ، وتقريره... 82

تقرير آخر لهذا البرهان... 82

منها ( : الوجه الواحد بعد العشر )... 83

وهو برهان الضرورة من اللاضرورة ، وتقريره... 83

منها ( : الوجه الثاني عشر )... 83

وهو برهان الأولوية ، وتقريره... 83

إشكال والجواب عنه... 84

إشكال آخر والجواب عنه... 84

منها ( : الوجه الثالث عشر )... 84

منها ( : الوجه الرابع عشر )... 84

إشكال على هذا البرهان... 85

جوابان عن هذا الاشكال... 85

عدم تمامية هذا البرهان في رأي المصنّف... 85

منها ( : الوجه الخامس عشر )... 85

هذا البرهان أورده الشيخ في إلهيات الشفا ، وتقريره... 85

إشكال والجواب عنه... 86

نقد المصنّف هذا الجواب... 86

تتميم

توقّف أكثر هذه الأدلّة على مقدّمتين ، وبيان تمامية هاتين المقدّمتين... 86

بيان تمامية المقدّمة الأولى ، وبيانها بوجهين... 86

الوجه الأوّل... 87

ص: 486

دفع المصنّف ما أورد على هذه المقدّمة... 87

إشكال ، وجواب بعض الأفاضل عنه... 88

ردّ المصنّف هذا الجواب... 88

الجواب الصحيح عن هذا الاشكال... 89

إشكال آخر والجواب عنه... 89

جواب بعض الأفاضل عن هذا النقض... 89

جواب بعض أهل التحقيق عن هذا الجواب... 89

دفع ما أورده بعض الأفاضل على هذا الكلام... 90

تقرير ثان للمقدمة المذكورة... 91

إيراد على هذا التقرير والجواب عنه... 92

بيان تمامية المقدّمة الثانية... 92

إشكال على هذه المقدّمة والجواب عنه... 92

إشكال آخر على تلك المقدّمة... 92

الجواب عن هذا الاشكال... 93

إشكال للمصنّف على هذا الجواب... 93

فائدة

تصريح القوم بأفضلية هذا المنهج من المناهج الآتية... 93

وجه أوثقية هذا المنهج بالنسبة إلى طريقة الطبيعيّين... 94

وجه أوثقية هذا المنهج بالنسبة إلى طريقتى المتكلّمين... 94

وجه أوثقية هذا المنهج بالنسبة إلى طريقة الامكان الوقوعي... 94

قول قيل في وجه الأوثقية... 95

إشكال والجواب عنه... 95

هذا رأي المتكلّم والحكيم ، وأمّا رأي الصوفية... 96

توقّف هذا القول على مقدّمة يأتي بيانها... 96

قول بعض العقلاء في بيان ما حكم به الشيخ ، ونقد المصنّف عليه... 96

قول آخر في هذا المضمار ، ونقد المصنّف أيضا عليه... 96

بيان كلام المنطقيّين ردّا على هذا القائل... 97

إشكال على كلام المنطقيّين... 98

ص: 487

الجواب عن هذا الاشكال... 99

نقد القول بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم التامّ بالمعلول ، بخلاف العكس... 99

الاستشهاد بكلام النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - وشيخي الحكماء... 100

قول بعض مؤيّدا هذا المبنى ، والجواب عنه... 100

إشكال والجواب عنه... 103

تلخيص القول في عدم تمامية أوثقية اللمّي من الإنّي... 104

وجوها ذكروها لبيان لمّية منهج الإلهيين... 104

منها ( : الوجه الأوّل )... 104

نقد المصنّف هذا الوجه... 104

ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّيّة هذا المنهج... 105

بيان وجه ضعفه... 105

منها ( : الوجه الثاني )... 105

قول بعضهم دفعا للايراد المشهور المورد على هذا الوجه... 106

نقد المصنّف هذا القول... 106

دفع المصنّف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به... 106

قول بعضهم بكون جميع براهين اثبات الواجب لمّية وردود للمصنّف عليه... 108

إيراد على هذا الوجه... 108

جواب بعض الأفاضل عن هذا الايراد... 109

ردّ المصنّف هذا الجواب... 110

منها ( : الوجه الثالث )... 111

نقد المصنّف هذا الوجه... 112

إشكال ليوجّه به هذا الوجه... 112

قول بعضهم في هذا المضمار وجواب بعض آخر عنه... 113

نقد المصنّف هذا الجواب... 114

الصحيح من الجواب على رأي المصنّف... 115

تلخيص القول في كون جميع براهين اثبات الواجب إنّية لا لمّية... 115

هاهنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها... 115

إشكال والجواب عنه... 117

ص: 488

المنهج الثاني

وهو الاستدلال بمجرد الامكان الوقوعي

تقرير هذا المنهج... 117

نقد بعض الأفاضل هذا المنهج... 118

تأييد المصنّف هذا النقد... 118

المنهج الثالث

وهو بالنظر في طبيعة الحركة

المنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان... 119

الطريقة الأولى... 119

إيراد على هذه الطريقة... 119

الطريقة الثانية... 120

تقرير هذه الطريقة... 120

تقرير آخر لهذه الطريقة... 120

تقرير ثالث لهذه الطريقة... 121

ايرادات على هذه الطريقة... 123

منها ( : الايراد الأوّل )... 123

الجواب عن هذا الايراد... 123

إشكال على هذا الجواب... 124

منها ( : الايراد الثاني )... 127

إشكال والجواب عنه... 127

الجواب عن هذا الايراد... 127

إشكال والجواب عنه... 128

منها ( : الايراد الثالث )... 128

منها ( : الايراد الرابع )... 128

إشكال والجواب عنه... 131

نقد المصنّف هذا الجواب... 131

جواب آخر ونقد المصنّف هذا الجواب أيضا... 131

الجواب الصحيح على رأي المصنّف... 131

ص: 489

إشكال على هذا الجواب والجواب عنه... 132

إشكال آخر والجواب عنه... 133

إشكال ثالث والجواب عنه... 133

إشكال على هذا الجواب والجواب عن هذا الاشكال... 135

تلخيص القول في أنّ هذه الطريقة أيضا - كطريقتهم الأولى - لا يسمن ولا يغني عن جوع 135

اثبات هذه الطريقة وجود ما هو أعلى وأشرف من الفلكيات... 135

قول بعض بكون هذه الطريقة هي طريقة الخليل - ع -... 135

ردّ بعض الأفاضل قول هذا القائل... 135

نقد المصنّف على هذا الردّ... 135

المنهج الرابع

وهو النظر في النفس الناطقة الانسانية

المنقول في هذا المنهج طريقان... 137

الطريقة الأولى... 137

الطريقة الثانية... 137

نقد المصنّف هذا المنهج... 137

المسلك الثاني

مسلك المتكلّمين

للمتكلّمين طريقتان... 137

الطريقة الأولى ، وهي طريقة الّذين جعلوا علّة الحاجة هي الحدوث... 137

إيراد على هذه الطريقة... 138

الاستدلال الصحيح على هذه الطريقة... 138

الطريقة الثانية... 138

هذه الطريقة كسابقتها تقريرا وايرادا وتوجيها... 138

المسلك الثالث

مسلك أهل الكشف من الصوفية

تقرير هذا المسلك... 138

تشابه هذا المسلك مع ما مضى سابقا... 140

ص: 490

نقد لطيف للمصنّف على هذا المسلك... 140

المقالة الثانية

في صفاته الثبوتية والسلبية

وفيه مقدّمة وبابان... 144

المقدّمة

في الاشارة إلى أصناف صفاته

تقسيم صفاته - تعالى - إلى الثبوتية والسلبية... 144

تحديد كلّ واحد منهما... 144

تقسيم الصفات الثبوتية إلى قسمين... 144

تحديد الصفات الثبوتية الحقيقية... 144

تحديد الصفات الثبوتية الاضافية... 145

تقسيم الصفات الثبوتية حسب ما ورد في الأحاديث... 145

بيان هذين القسمين وتحديدهما... 145

مرجع جميع صفات اللّه - تعالى -... 146

إشكال وما أجاب به بعض الفضلاء عنه... 147

نقد المصنّف هذا الجواب... 147

المشهور في الجواب عن هذا الاشكال ، ونقد المصنّف عليه... 147

احالة تحقيق القول في عينية الصفات إلى ما يأتي... 147

الباب الأوّل

في صفاته الثبوتية الكمالية

في هذا الباب فصول... 150

الفصل الأوّل

في قدرته - تعالى -

للقدرة عند الحكماء تفسيران... 152

بيان كلّ واحد منهما ، وانّهما متلازمان... 152

كون تفسير الأوّل للمتكلّمين والثاني للحكماء ، ورأي المصنّف فيه... 152

لا نزاع في ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب عند الحكماء... 153

ص: 491

تفسير آخر لهذين المعنيين... 153

قول الأشاعرة والمعتزلة من المتكلّمين في ذلك... 153

تفرّد المتكلّمين باثبات القدرة بهذا المعنى... 154

ثبوت النزاع بين الحكماء والمتكلّمين في مقامين... 154

إشكال والجواب عنه... 154

إشكال آخر والجواب عنه... 155

إشكال ثالث والجواب عنه... 156

القول بصدور الفعل في الوقت الخاص على سبيل الوجوب مخصوص ببعض المعتزلة ، والاستشهاد بكلام المحقّق في شرح الاشارات 158

آراء المعتزلة وفرقهم مع اتّفاقهم على الحدوث... 159

قد ظهر ممّا ذكر انّ للقدرة والإيجاب معان أربعة... 159

تحقيق انّ الثابت للواجب من المعانى الأربعة ما ذا... 161

أمّا المعنى الأوّل فلا ريب في ثبوت القدرة بهذا المعنى للواجب... 161

المبادي الأربعة لصدور الفعل الاختياري منّا... 161

اتفاق الكلّ من المليّين والحكماء على اثبات القدرة بهذا المعنى له - تعالى -... 162

أمّا القدرة بالمعنى الثاني... 162

اتفاق الكلّ على اثبات القدرة بهذا المعنى له - تعالى - أيضا... 162

الدليل على اتصافه - تعالى - بالقدرة بهذا المعنى... 162

ايرادات ثلاثة على هذا الدليل... 163

الايراد الأوّل والجواب عنه... 163

الايراد الثاني... 163

الجواب عن هذا الايراد... 164

تقرير بعض الأعاظم هذا الايراد... 164

جواب بعض الأفاضل عن هذا الايراد... 165

نقد المصنّف هذا الجواب... 165

قول قيل في دفع الايراد المذكور... 166

قول آخر قيل في دفع الايراد المذكور... 166

إيراد أورد على هذا القول... 167

ص: 492

إيراد آخر أورد على هذا القول... 167

الايراد الثالث... 167

قول بعض أهل التحقيق فرارا عن هذا الايراد... 168

نقد المصنّف هذا القول... 168

الجواب عن هذا الايراد على رأي المصنّف... 168

إشكال على هذا الجواب... 168

الجواب عن هذا الاشكال... 169

إشكال آخر والجواب عنه... 170

هذا الجواب وما يؤدّي إليه محلّ كلام... 171

توضيح هذا الكلام ببيان أقسام الفواعل الستّ من بيان بعض الأعلام... 171

الآراء في كيفية كونه - تعالى - فاعلا... 172

رأي الدهرية والطبيعيّين في ذلك... 172

رأي جمهور المتكلّمين في ذلك... 172

رأي الرئيس ومتابعوه في ذلك... 172

رأي صاحب الاشراق في ذلك... 173

رأي هذا القائل في ذلك... 173

القول بالفاعلية بالعناية لا يلائم القول بثبوت القدرة بهذا المعنى... 173

إشكالان والجواب عنهما... 173

إشكال آخر والجواب عنه... 174

ما ذكره بعض الأعلام ، وبيان فساده... 174

بيان وجه الفساد... 175

إشكال والجواب عنه... 176

إشكال آخر والجواب عنه... 176

امّا القدرة بالمعنى الثالث... 177

النزاع في هذا المعنى يرجع إلى النزاع في حدوث العالم وقدمه... 178

تحقيق

حول كيفية حدوث العالم

مذهب الحكماء انّ العالم حادث بالحدوث الذاتي... 178

ص: 493

مذهب السيد الداماد وجلّ من تأخّر عنه في هذا المضمار... 178

مذهب جمهور المتكلّمين في ذلك... 178

تلخيص القول في أقسام الحدوث... 178

الفرق بين حدوثى الذاتي والزماني ، والدهري والذاتي... 179

الوجه في تسمية هذا القسم بالدهري... 179

الحقّ الحقيق بالتصديق عند المصنّف هو الحدوث الدهري... 180

تصريح السيّد بكون المتنازع فيه هو الحدوث الدهري... 180

تبيين مراده والاستشهاد بكلام بعض المحقّقين... 181

قول بعض الأفاضل ردّا على قول هذا المحقّقين وقول السيّد... 181

نقد المصنّف جزء من هذا الكلام... 182

تحقيق انّ النزاع بين الحكماء في أيّ معنى من معانى الحدوث... 182

قول بعض أهل التحقيق وردّ المصنّف عليه... 183

بيان مذهب أفلاطون من بين هذه المذاهب... 184

تلخيص القول في المتنازع فيه من معانى الحدوث بين الحكماء... 184

المتنازع فيه في رأي المصنّف هو الحدوث الذاتى... 184

تحقيق الحق على ما اختاره المصنّف يتوقّف على بيان أمرين... 185

الأمر الأوّل : بيان تناهي العالم من جانب البداية... 185

دلائل على ذلك... 185

منها ( : الدليل الأوّل )... 185

منها ( : الدليل الثاني )... 186

منها ( : الدليل الثالث )... 186

منها ( : الدليل الرابع )... 186

إشكال على هذا الدليل... 186

أجوبة المصنّف عن هذا الاشكال... 187

جميع مقدّمات هذا الدليل ظاهرة ، إلاّ استحالة عدم القديم... 188

تحقيق المصنّف في استحالة عدم القديم ، ليتمّ به هذا الدليل... 188

الاعتراض على هذا التحقيق بوجهين... 189

الجواب عن ثانى الاعتراضين والجواب عن هذا الجواب... 189

ص: 494

رأي المصنّف قبال هذا الاعتراض... 190

إشكال على هذا الرأي... 191

الجواب عن هذا الاشكال... 192

إشكال والجواب عنه... 192

إشكال آخر والجواب عنه... 192

( منها ) ( الدليل الأوّل )... 193

اجماع الأنبياء - ع - والاستشهاد بنبوي شريف... 194

إشكال على دلالة هذا النبوي... 194

الجواب عن هذا الاشكال... 194

الايراد على أصل هذا الدليل والجواب عنه... 195

الاستشهاد بكلام غياث الحكماء... 195

قول بعض الفضلاء مؤيّدا هذا الجواب... 195

اعتراضان على هذا القول... 196

الفرق بين هذا الجواب وجواب غياث الحكماء... 196

تلخيص القول في انحصار الأمر بين حدوثي الزماني والدهري... 196

إشكال على ما استفادوه من دليل تناهي العالم... 197

الجواب عن هذا الاشكال... 197

الاستشهاد بقدسيّ شريف... 197

أدلّة أخرى لاثبات حدوث العالم ، وهي غير تامّة... 197

منها ( : الدليل الأوّل )... 198

منها ( : الدليل الثاني )... 198

منها ( : الدليل الثالث )... 198

ردّان للمصنّف على هذه الأدلّة الثلاثة... 198

الأمر الثاني : بيان بطلان الزمان الموهوم... 198

تبيين مراد المتكلّمين من الزمان الموهوم... 198

تأييد ما ذكرناه بكلام بعض أصحابنا المحدّثين... 199

وجوه تدلّ على بطلان ثبوت زمان الموهوم قبل ايجاد العالم... 199

منها ( : الوجه الأوّل )... 199

ص: 495

إيراد على هذا الوجه... 199

نقد المصنّف هذا الايراد... 200

منها ( : الوجه الثاني )... 201

إشكال والجواب عنه ، والاستشهاد بكلام المحقّق الداماد... 201

إيراد بعض الأفاضل على كلام هذا المحقّق... 202

أدلّة أخرى على بطلان هذا الزمان... 202

منها ( : الوجه الثالث )... 202

منها ( : الوجه الرابع )... 203

منها ( : الوجه الخامس )... 203

إيراد على هذا الوجه... 204

إيراد للمصنّف على هذا الايراد... 204

إشكال آخر على هذا الوجه... 204

الجواب عن هذا الاشكال... 205

إيراد للمصنّف على كلام هذا المورد... 205

الاستشهاد بأحاديث دلّت على تقدّس ذاته عن الاتيان إلى الزمان... 205

منها ( : الوجه السادس )... 206

إيراد على هذا الوجه... 206

إيراد للمصنّف على هذا الايراد... 206

إشكال والجواب عنه... 207

إشكال آخر والجواب عنه... 207

إشكال ثالث والجواب عنه... 208

منها ( : الوجه السابع )... 208

إشكال على هذا الوجه... 208

الجواب عن هذا الاشكال... 209

بهذا الجواب يندفع ما ذكره بعض الأفاضل ، وبيان وجه الاندفاع... 209

كذلك يندفع ما ذكره بعض أصحابنا القميّين... 209

بيان وجه الاندفاع والاستشهاد بكلام الاستاذ المازندراني... 210

منها ( : الوجه الثامن )... 211

ص: 496

إيراد بعض الأفاضل على هذا الوجه ونقد المصنّف على هذا الايراد... 211

منها ( : الوجه التاسع )... 212

إشكال والجواب عنه... 212

إشكال آخر والجواب عنه... 212

قصور هذا الوجه للدلالة على المقصود... 213

تأييد بطلان هذا الزمان ببرهان آخر أورده بعض الأفاضل... 213

إشكال على هذا البرهان وتقويته بكريمتين قرآنيّتين... 214

الجواب عن هذا الاشكال... 214

تلخيص القول في بطلان الزمان الموهوم وحقّية الحدوث الدهري... 214

ملاك التقدّم في كلّ من حدوثي الزماني والدهري... 215

بيان اقسام التقدّم وذكر الملاك في كلّ منهما... 216

الاشكال بأن التقدّم الدهري ليس من هذه الأقسام فلا يكون صحيحا... 216

الجواب عن هذا الاشكال والقول بثبوت هذا التقدّم... 216

إشكال آخر وهو القول بأن التقدّم الدهري هو نفس التقدّم الذاتي... 216

الجواب عن هذا الاشكال ببيان الفرق بينهما... 217

إشكال ثالث... 217

الجواب عن هذا الاشكال... 218

إشكال رابع أورده بعض مثبتي هذا الزمان... 218

الجواب عن هذا الاشكال... 219

بهذا التحقيق يندفع عنّا ما أورده بعض مثبتي الحدوث الذاتي... 220

بيان وجه الاندفاع... 221

إشكال والجواب عنه... 224

إشكال آخر والجواب عنه... 224

أدلّة احتجّ بها الحكماء القائلين بقدم العالم... 227

احدها ( الدليل الأوّل )... 227

الجواب عن هذا الدليل... 227

هذا الجواب يتأتّى عند من جعل الداعى آن أوّل الايجاد... 228

المذاهب في اثبات الداعي لفعله - تعالى - خمسة ، وبيان كلّ واحد منها... 228

ص: 497

ارجاع اثنين من تلك المذاهب إلى مذهب واحد... 229

جواب بعض الأعلام المتأخّرين عن الايراد المذكور... 229

بيان حاصل هذا الجواب ببيان المصنّف... 230

نقد المصنّف هذا الجواب... 231

ثانيها ( الدليل الثاني )... 231

الجواب عن هذا الدليل... 231

ثالثها ( الدليل الثالث )... 232

الجواب عن هذا الدليل... 232

تلخيص القول في انّ هذه الأدلّة لا تنتهض حجّة على القائلين بالحدوث الدهري مطلقا 232

تحقيق

في كيفية ربط الحادث بالقديم

بيان كيفية ربط الحادث بالقديم على القول بالحدوث الدهري... 232

بيان طريقة الحكماء في كيفية الربط بينهما... 233

إشكال والجواب عنه... 236

قول قيل تبيينا لمرام المحقّق الطوسي... 236

اتّفاق الحكماء على أنّ الواسطة لربط الحادث بالقديم هو العقل... 237

قول بعض انتصارا لطريقة الحكماء... 237

إشكال مقدّر وجواب هذا القائل عنه... 238

خمسة اشكالات للمصنّف على هذا الكلام... 238

أمّا طريقة القائلين بالزمان الموهوم في ربط الحادث بالقديم... 239

قول بعض القائلين بالزمان الموهوم تقوية لهذا المعنى... 240

نقد المصنّف هذا القول... 240

أمّا طريقة القائلين بالحدوث الدهري... 240

هذه الطريقة هي مختارنا ، ولا يرد عليها شيء... 240

تتميم

في بيان مذهب محقّق الطوسي من أقسام الحدوث

الجزم انّ مختار المحقّق من أقسام الحدوث هو الحدوث الدهري... 241

ص: 498

إشكال على هذا الجزم والجواب عنه... 241

إشكال آخر والجواب عنه... 242

إيراد والجواب عنه... 242

إشكال رابع والجواب عنه... 242

بيان فساد ما ذكره بعض المحشّين ، ووجه فساده... 242

إيراد آخر أورد على ما ذكره هذا المحشى... 243

جواب بعض الأفاضل عن هذا الايراد... 243

ما ذكره بعض الأفاضل ، وبيان فساده... 243

عود إلى ما سبق من أبحاث القدرة

الرجوع إلى اثبات القدرة بالمعنى الثالث... 244

بثبوت القدرة بهذا المعنى يبطل الايجاب المقابل لها... 244

أمّا القدرة بالمعنى الرابع... 244

القول بها مختصّ بالأشاعرة... 244

نقد المصنّف هذا القول... 245

تلخيص القول في ثبوت القدرة بالمعانى الثلاثة الأوّل له - تعالى -... 245

إشكال والجواب عنه... 246

إشكال آخر والجواب عنه... 247

قول من لا يعبأ به من المتكلّمين في ربط الحادث بالقديم... 247

نقد المصنّف هذا القول... 247

إشكال والجواب عنه... 247

إشكال وتوضيح المصنّف حول هذا الاشكال... 248

قول فخر الرازي وجواب المصنّف عنه... 248

الحقّ في مختار المحقّق الطوسي في مرجّح آن الحدوث... 250

استلزام الحدوث لثبوت القدرة بالمعنى الثاني... 250

إشكال والجواب عنه... 250

لا نحتاج إلى الاستدلال على نفي الايجاب المقابل بالمعنى الثالث... 250

وجوه الاختلال في الاستدلال عليه بما تقدّم... 251

منها ( : الوجه الأوّل )... 251

ص: 499

الجواب عن هذا الوجه والردّ على هذا الجواب... 251

تفصيل مذاهب المعتزلة في الداعي وكيفية الحدوث... 251

مذهب المحقّق الطوسي... 251

مذهب الكعبي واتباعه... 252

مذهب قدماء المعتزلة... 252

مذهب بعض المعتزلة وتفسيره... 252

إشكال على هذا التفسير... 252

تاييد ما ذكرناه بما قاله بعض الأعاظم... 253

إشكال والجواب عنه... 253

إشكال آخر... 253

الجواب عن هذا الاشكال... 254

إشكال ثالث والجواب عنه... 254

اعتراض بعض الفضلاء على ما ذكرناه... 254

نقد المصنّف هذا الاعتراض... 255

إشكال والجواب عنه... 255

إشكال على هذا الجواب... 255

عدم تمامية الاستدلال المذكور على قاعدتنا وقاعدة الاعتزال... 256

النافون للايجاب فرقتان ، وتفصيل ذلك... 257

تمشّي الاستدلال المذكور من جانب الفريقين... 257

دفع ما ذكره الامام في هذا المضمار... 257

دفع ما ذكره بعض الأعلام ، ووجه الاندفاع... 258

ايرادان أوردا على هذا التفصيل... 258

إشكال والجواب عنه... 259

إشكال آخر والجواب عنه... 260

قول بعضهم بأنّ التوقّف على الشرط الحادث لا يقول به إلاّ شر ذمة من القائلين بالقدم 261

الاستشهاد بكلام صدر المحقّقين وولده... 261

قول بعض اهل التحقيق منكرا كلام هذين العلمين... 261

ص: 500

قول قيل في بيان ورود المعارضة على المعتزلة ، وإشكال للمصنّف فيه... 261

إشكال آخر بورود المعارضة على الأشعري أيضا... 263

الجواب عن هذا الاشكال... 263

رأي المصنّف حول هذا الاشكال والجواب عنه... 263

تلخيص القول في أنّ هذا الدليل لا يجري لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره... 263

وجه اندفاع هذا البرهان... 263

قول بعض الفضلاء بكون الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ... 264

قول بعض اهل التحقيق وبعض آخر ردّا عليه... 265

بقي في المقام اشتباه تجب الاشارة إليها... 266

وجه دفع هذا الاشتباه... 267

استعجاب المصنّف ممّا قاله بعض الأعاظم في هذا المقام سؤالا وجوابا... 268

بيان وجه التعجّب... 268

رأي المصنّف في هذا الجواب الّذي ذكره هذا القائل... 268

قول ربما يتراءى في هذا المقام أن يقال ، وردّه... 269

تنبيه

رفع ما ربما يتوهّم من قبل الأشاعرة... 269

توضيح هذا الوهم... 269

بيان بطلان الترجيح بلا مرجّح... 270

بيان بطلان نفي الايجاب الخاصّ... 270

منها ( : الوجه الأوّل )... 271

منها ( : الوجه الثاني )... 272

منها ( : الوجه الثالث )... 273

إيراد على هذا الوجه... 273

إشكال والجواب عنه... 273

منها ( : الوجه الرابع )... 274

نقد المصنّف هذا الوجه... 274

منها ( : الوجه الخامس )... 274

اظهار ضعف ما أورده بعض الأفاضل... 275

ص: 501

تلخيص القول في ضعف هذا الايراد... 275

كلام بعض الأفاضل ونقد المصنّف جزء منه... 276

قول آخر لبعض الأفاضل وإيراد أورد عليه... 276

منها ( : الوجه السادس )... 277

اعتراض بعض الأفاضل على هذا الوجه... 277

نقد المصنّف هذا الاعتراض... 277

بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب... 278

توضيح لفظي الموجب والموجب... 278

الواجب عند الحكماء يكون موجبا تامّا... 279

تفسير آخر للفظي التامّ والناقص... 279

اظهار ضعف ما ذكره بعض الأفاضل ، وبيان وجه ضعفه... 279

إيراد بعض الفضلاء على ما نقلناه عن بعض الأفاضل... 279

نقد المصنّف هذا الايراد... 280

بيان منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء... 280

منشأ هذا التكفير زعم فاسد... 280

اعتراض بعض الأعاظم ونقد المصنّف عليه... 280

إيراد آخر على كلامه... 281

إيراد ثالث عليه... 281

قيل : يتقوّى هذا الاستدلال بأمرين آخرين ، وبيانهما... 281

بيان معنى تعاقب الشروط واجتماع الشروط... 281

كلام بعض الأفاضل في هذا المضمار ، ونقد المصنّف عليه... 282

اطلاقان للشرط... 282

قول بعض الأفاضل في بيان لزوم قدم الفعل المطلق من فرض حدوثه... 284

إيراد هذا الفاضل على ما حكيناه عنه ، وتوضيحه حول إيراده... 284

إشكال على هذا الايراد... 285

قول المصنّف مبيّنا للحقّ في هذا المقام... 286

إشكال والجواب عنه... 287

قول بعض الأفاضل بعد أن جزم بلزوم قدم الطبيعة من حدوث أفرادها... 288

ص: 502

نقد المصنّف هذا الكلام... 289

إيراد آخر له على جزء آخر من كلامه... 289

ثاني أمرين اللّذين قيل يتقوّى بهما الاستدلال المذكور... 290

إشكال والجواب عنه... 291

إشكال آخر والجواب عنه... 291

إشكال ثالث والجواب عنه... 292

قول بعض الأفاضل وجواب المصنّف عنه... 292

بقي هنا شيء لا بدّ أن يشار إليه... 292

وجوه من الايراد يرد على حمل القدم على القدم بالشخص أو بالجزء أو بجميع الأجزاء 294

الوجه الأوّل... 294

قول بعض وجوابان للمصنّف عنه... 294

الوجه الثاني... 295

الوجه الثالث... 295

الوجه الرابع... 295

الوجه الخامس... 295

بوجوه أخر أيضا بطل المتكلّمون الطريق المذكور للفلاسفة... 296

من هذه الوجوه... 296

تلخيص القول في صحّة الاستدلال بالحدوث على اثبات القدرة بمعنيي الأوّل والثاني ، وامّا بالمعنى الثالث فغير صحيح 296

تلخيص القول أيضا في ثبوت القدرة بالمعانى الثلاثة للواجب - تعالى -... 297

تتميم

مراد المحقّق الطوسي من الايجاب

الايجاب في كلام المحقّق الطوسي هو الايجاب بالمعنى الأوّل لا الثاني... 297

يمكن أن يحمل هذا الايجاب على الايجاب بالمعنى الثالث أيضا... 297

استعجاب المصنّف من كلام الخفري... 297

إيراد مشهور على هذا الاستدلال لاثبات القدرة... 298

أجيب عن هذا الايراد بوجوه... 298

ص: 503

الوجه الأوّل... 298

الوجه الثاني... 298

الوجه الثالث... 300

الوجه الرابع... 300

الوجه الخامس... 300

نقد المصنّف هذا الوجه... 301

الوجه السادس... 301

نقل هذا الوجه من كلام بهمنيار ، وتوضيحه... 301

ليس للممكن افاضه الوجود أصلا ، وتطابق كلمات الحكماء عليه... 301

قول بعض المحقّقين مؤيّدا هذا المعنى... 304

تبيين غرضه ممّا أشار إليه أخيرا... 306

بذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعلام... 307

قول بعض الأفاضل وجواب السيّد الداماد عنه... 308

ردّ هذا الجواب ، وقول بعض الفضلاء... 308

نقد المصنّف هذا القول... 308

تقرير دليل المذكور من بهمنيار من كلام بعض الأفاضل... 308

نقد المصنّف هذا التقرير... 310

اعتراض آخر على هذا التقرير ، ودفع هذا الاعتراض... 310

الصواب أنّ هذا الدليل لا يثبت المطلوب... 311

إشكال والجواب عنه... 311

إشكال آخر... 311

الجواب عن هذا الاشكال... 312

اعتراض على الدليل المنقول عن التحصيل وجواب بعضهم عنه... 313

إيراد أورد على هذا الجواب... 314

ارجاع المصنّف هذا الاعتراض إلى الاعتراض الّذي ذكرناه أوّلا... 314

إيراد آخر على هذا الاعتراض... 314

جواب بعض الأعلام عنه... 314

الفرق بين هذا الايراد والّذي مضى قبله... 315

ص: 504

تلخيص القول في بطلان استناد العالم الجسماني إلى ممكن مختار... 315

إشكال والجواب عنه... 316

الأعراض الصادرة عن المختارين هل هي مستندة إلى الواجب أو إلى العباد أو إليهما معا؟ 316

قول الجهمية في ذلك... 316

قول الأشاعرة في ذلك... 317

قول المعتزلة في ذلك... 317

إشكال دفاعا عن المعتزلة والجواب عنه... 317

قول بعض الأفاضل دفاعا عنهم... 317

إيراد على هذا القول... 317

ردّ المصنّف هذا الايراد... 319

إيراد على هذا الردّ وردّ هذا الايراد بردّين آخرين... 319

إشكال والجواب عنه... 320

إشكال آخر والجواب عنه... 320

تلخيص القول في انّ استناد الأفعال إلى المهيات مستلزم للتفويض أو الجبر... 320

دليل آخر يدل على بطلان استناد الأفعال إلى ماهية العباد... 320

إشكال والجواب عنه... 321

نقد المصنّف المبنى المشهور في تفسير الأمر بين الأمرين... 322

إشكال على هذا النقد والجواب عنه... 322

إشكال آخر... 322

الجواب عن هذا الاشكال... 325

إيراد على هذا الجواب... 325

إيراد على هذا الايراد... 326

اظهار ضعف تفسير آخر للأمر بين الأمرين... 316

ثلاث تفسيرات للامر بين الامرين وبيان ضعف الكلّ... 316

نقد الجواب الّذي ذكره الطوسي من شبهة الجبرية... 316

بيان هذه الشبهة وجواب المحقّق عنها... 316

استعجاب المصنّف من كلام الأشاعرة... 327

ص: 505

علّة قولهم هذا جمودهم على ظواهر الشريعة... 328

شبهة أخرى للأشاعرة ودفعها... 328

صحّة هذا الدفع عند المعتزلة وعدم صحّته عند الحكماء... 328

تلخيص القول في انّ حال تلك المسألة عجيبة... 328

بقى الكلام في انّه لم يختار بعض الناس مرجّح الفعل وبعضهم مرجّح الترك... 331

قول بعض الأعلام بتقييد الاعتراض بالمفارقة... 331

ادعاء هذا القائل انّ ما ذكره مستفاد من كلام الشيخ... 332

ايرادات على ما ذكره هذا القائل... 334

الايراد الأوّل... 334

الايراد الثّاني... 334

الايراد الثالث... 335

الايراد الرابع... 335

نقد المصنّف هذا الايراد... 335

الايراد الخامس... 335

نقد المصنّف هذا الايراد أيضا... 335

تلخيص القول في بطلان الواسطة المفروضة... 336

تتميم

بيان الحقّ في مراد المحقّق الطوسي من قوله والواسطة غير معقولة... 336

توجيه آخر لهذه العبارة... 336

شبها لمنكري القدرة وتفصيل كلّ منها... 337

الشبهة الأولى... 337

هذه الشبهة تناسب نفى الاختيار بمعنيي الثاني والرابع فقط... 337

إشكال على ما ذكرنا من مناسبة الشبهة مع هذين المعنيين... 337

الجواب عن هذا الاشكال... 338

جريان هذه الشبهة في أفعال الانسان أيضا... 338

الجواب عن هذه الشبهة ونقد المصنّف هذا الجواب... 338

تقرير هذه الشبهة وجوابها ببيان أوضح... 339

إشكال على هذا الجواب... 340

ص: 506

اشارة بعض الأفاضل إلى ما ذكرناه... 341

نقد المصنّف هذا القول... 341

قول بعض الأعلام ممّن صحّ عنده أكثر قواعد الحكمة في هذا المضمار... 341

ردّ المصنّف هذا القول... 342

ليس مجرّد العلم بالأصلحية موجبا لوجود العالم في الوقت الّذي وجد فيه... 344

إشكال والجواب عنه... 344

الجواب عن الشبهة المذكورة... 346

إيراد على هذا الجواب

إشكال آخر والجواب عنه... 346

جواب المصنّف عن هذا الاشكال والجواب... 346

جوابان آخران عن هذا الاشكال... 346

حاصل ما قاله بعض الأفاضل جوابا عن هذا الاشكال... 347

نقد المصنّف جواب هذا الفاضل... 348

قول بعض آخر والاستشهاد بكلام المحقّق الطوسي... 348

نقد المصنّف هذا الكلام أيضا... 349

إشكال والجواب عنه... 349

إشكال آخر والجواب عنه... 349

علل محالية تخلّف العلّة عن المعلول... 350

قول بعض وإشكال المصنّف فيه... 350

إيراد على الجواب الّذي ذكرناه... 350

رأي المصنّف بأن مجرّد الانفكاك بين العلّة والمعلول ليس مستحيلا... 351

إشكال والجواب عنه... 354

ما تشبّث به الحكماء في الجواب عن هذين الاشكالين... 355

ردّ على هذا الّذي تشبّثوا به... 355

إشكال والجواب عنه... 355

إشكال آخر والجواب عنه... 356

إشكال ثالث والجواب عنه... 356

قول بعض الأفاضل ايرادا على ما ذكره في جواب الشبهة ، وايراده على هذا الايراد... 356

ص: 507

إيراد بعض الأعلام على هذا الايراد... 357

تتميم أقوال المتكلّمين في علّة تخصيص حدوث العالم بوقته الإرادة واحتياج المتكلّمين إلى اثباته 357

الأشاعرة قالوا بزيادتها وقدمها... 357

بعض شيوخ المعتزلة قالوا بانّها متجدّدة حادثة... 358

قول معمّر بن عباد بانّها متجدّدة... 358

قول الكعبي بانّها قديمة غير زائدة على الذات... 358

القائلون بكون الإرادة غير متجدّدة من المعتزلة افترقوا إلى فرق... 358

اعتقاد الأكثر في مختار المحقّق الطوسي... 358

قول قيل في بيان ما دعا الأكثر إلى هذا الاعتقاد... 359

نقد المصنّف هذا القول... 359

الفرق بين مختار المحقّق ومذهب الحكماء... 360

إشكال بأنّ كون الإرادة قديمة ينافي ما ورد عن ائمّتنا من كونها حادثة... 360

الجواب عن هذا الاشكال... 360

الشبهة الثانية... 362

جريان هذه الشبهة في نفي القدرة بالمعنى الثاني ، لا بالمعنى الثالث... 361

جريان هذه الشبهة في نفي قدرة العبد أيضا... 361

جوابان عن هذه الشبهة... 362

قول بعضهم واستشهاده بكلام الشيخ... 363

نقد المصنّف هذا القول... 363

الجواب عن هذا القول... 363

جواب بعضهم عن هذا القول... 363

نقد المصنّف هذا الجواب... 364

جواب قيل في دفع أصل الشبهة... 364

محملين حمل المصنّف هذا الجواب عليهما... 364

نقد المصنّف الحمل على المحمل الأوّل... 364

المحمل الثّاني والحمل عليه... 364

ص: 508

نقد المصنّف الحمل على هذا المحمل... 365

الاستشهاد بكلام الدشتكي وقول بعض الأعلام في هذا المضمار... 365

إيراد آخر على الحمل على هذا المحمل... 365

النزاع بين المعتزلة في كون القدرة متعلّقة بالطرفين على السواء أو متعلّقة بطرف واحد 367

قول الطوسي في التجريد إشارة إلى الجواب الأخير... 368

قول بعض الأفاضل توضيحا على قول الطوسي... 368

نقد المصنّف هذا القول... 368

قول بعض المشاهير في توجيه عبارة المحقّق... 369

قول بعض الأفاضل بأنّ هذا التوجيه يحتمل وجوها... 369

التوجيه الأوّل... 369

إيراد على هذا التوجيه... 370

التوجيه الثاني ونقده... 370

التوجيه الثالث... 370

التوجيه الرابع... 370

نقد المصنّف هذه التوجيهات... 370

قول آخر قيل في توجيه كلام المحقّق... 370

نقد المصنّف هذا القول... 371

تتميم

اختلاف المتكلّمين في أنّ القدرة هل هي مع الفعل أو قبله

ذهب المعتزلة إلى الثّاني ، والأشاعرة إلى الأوّل... 371

محلّ الخلاف هل هي قدرة العبد أو قدرة اللّه أو كليهما... 371

أدلّة ثلاثة للمعتزلة... 372

اولها ( الدليل الأوّل )... 372

جواب أجيب به عن هذا الدليل... 372

توهّم والجواب عنه... 372

جواب آخر أجيب به عن هذا الدليل... 372

توجيه بعض الفضلاء هذا الدليل بوجه آخر... 373

ص: 509

ثانيها ( الدليل الثاني )... 373

الجواب عن هذا الدليل... 373

ثالثها ( الدليل الثالث )... 373

الجواب عن هذا الدليل... 373

إيراد على هذا الجواب... 373

إيراد آخر على هذا الجواب... 373

إيراد ثالث على هذا الجواب... 374

قول بعضهم توجيها لهذا الدليل... 374

نقد المصنّف هذا القول... 374

إيراد أورد على الجواب المذكور... 375

قول قيل في دفع هذا الايراد... 375

نقد بعضهم هذا القول... 375

نقد المصنّف هذا القول... 376

بما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الاعلام... 377

تأييد المصنّف ما اورده بعض الفضلاء على الدفع المذكور... 378

إيراد أورد على العلاوة وجواب أجيب به عنه... 378

إشكال والجواب عنه... 379

إيراد على ما قيل في الجواب عن هذا الاشكال... 379

قول آخر وإشكال المصنّف فيه... 379

تحقيق الحقّ في هذا الخلاف... 380

تأييد ما ذكرناه بكلامى بعض أهل التحقيق وبعض الأعلام... 381

تلخيص القول في أنّ الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة هنا راجع إلى الخلاف بينهم في أفعال العباد 382

الخلاف بينهم في كون القدرة متعلّقة بالطرفين أو بطرف واحد راجع إلى هذا الخلاف أيضا 382

قول بعضهم وإيراد أورد عليه... 382

قول آخر وردّ المصنّف عليه... 383

تحقيق الحقّ في النزاعين على أصول أهل الحقّ... 383

ص: 510

قول بعض الأعلام وردّ المصنّف عليه... 383

إشكال تبيينا لكلام المحقّق ، وجواب المصنّف عنه... 384

قول آخر ونقد المصنّف أيضا عليه... 384

قول ثالث ونقد المصنّف أيضا عليه... 385

إشكال بأنّ ما اختاره المصنّف ينافي ما ورد في أحاديثنا... 385

الجواب عن هذا الاشكال... 385

وجه الجمع بين رواياتنا المختلفة الظواهر... 385

قول بعض الأعلام وإشكال للمصنّف فيه... 386

الشبهة الثالثة... 386

الجواب عن هذه الشبهة... 387

توضيح المصنّف حول هذا الجواب... 387

إشكال والجواب عنه... 388

اظهار ما في كلام بعض الأفاضل من الاختلال... 389

الحق في الجواب عند هذا الفاضل... 389

نقد المصنّف هذا الجواب... 389

على ما بيّنا يصحّ اتصاف العدم بالاستمرار وعدم الاستمرار... 389

هذه الشبهة لا خصوصية لها بالقدرة بالمعنى الثالث... 390

إشكال... 391

الجواب عن هذا الاشكال... 392

إشكال آخر والجواب عنه... 392

بما ذكرنا يظهر أنّ الملازمة المدّعاة في الشبهة ممنوعة... 393

اظهار ضعف ما قاله بعضهم... 393

جواب آخر عن أصل الشبهة... 393

الجواب عن هذا الجواب... 393

تلخيص القول في بطلان هذه الشبهة... 393

تتميم

جواب المحقّق الطوسي عن هذه الشبهة

توضيح المصنّف لما أورده المحقّق في التجريد... 394

ص: 511

قول بعض الأعاظم في شرح تلك العبارة... 394

قول بعض الأفاضل ونقد المصنّف عليه... 395

مسئلة مهمّة

في عموم قدرة اللّه - تعالى -

ذهاب المليّين إلى عموم قدرته - تعالى -... 396

هذا العنوان وإن كان مجمعا عليه إلاّ أنّه مجمل يحتمل وجوها... 396

الوجوه المحتملة في هذا العنوان... 396

الوجه الأوّل... 396

الوجه الثاني... 396

الوجه الثالث... 396

الوجه الرابع... 396

عدم كون الاحتمالين الأوّلين مقصودين من هذا العنوان... 396

الاحتمال الرابع هو مراد الأشاعرة من العنوان المذكور... 396

تعيّن الاحتمال الثالث عندنا... 397

ما يستدلّ به على عموم القدرة بأحد المعنيين يمكن أن يستدلّ به على المعنى الآخر أيضا 399

استدلال بعضهم على عموم القدرة... 399

إيراد أورد على هذا الاستدلال... 399

الجواب عن هذا الايراد... 399

الاعتراض على هذا الجواب... 400

الاعتراض على هذا الاعتراض... 400

إشكال والجواب عنه... 401

جواب آخر عن هذا الاشكال... 402

بما ذكرنا يظهر اندفاع ما يقوله بعضهم... 403

تلخيص القول في ثبوت القدرة له بالنسبة إلى جميع الممكنات على رأي المعتزلة... 405

إشكال والجواب عنه... 405

اعتراض بعض الأفاضل على الدليل المذكور... 406

ص: 512

نقد المصنّف هذا الاعتراض... 407

اعتراض على هذا الدليل... 408

إشكال والجواب عنه... 408

استدلال بعضهم على عموم قدرته ، ونقده للمصنّف... 408

لمّا ثبت حدوث العالم ثبت استناد أعدام الثابتة إليه - تعالى -... 410

قول بعض الأعلام تبيينا لحيطة شمول قدرته - تعالى -... 410

بما ذكرنا يندفع ما أورده بعض الأفاضل... 411

الحقّ ثبوت القدرة بالمعنى المشهور له - تعالى - بلا واسطة... 412

ثبوت عموم قدرته بالنسبة إلى الممكنات المعدومة... 412

تلخيص القول في ثبوت عموم القدرة بالمعنى الغير المشهور... 412

امّا القدرة بالمعنى المشهور فعمومها ثابت بلا واسطة... 413

إشكال والجواب عنه... 413

إشكال آخر والجواب عنه... 414

إشكال رابع والجواب عنه... 414

إشكال خامس والجواب عنه... 414

قول بعض المشاهير دفعا للمنع المذكور... 416

حاصل ما قاله هذا القائل... 416

تأييد المصنّف جزء من هذا الكلام ودفعه ما ربما يورد عليه... 417

إشكال على هذا الايراد... 418

إشكال آخر والجواب عنه... 420

تلخيص القول في دفع هذا المنع على قواعد الاعتزال ، وعدم وروده على قواعد الأشاعرة 421

قول بعض المشاهير خلافا لما ذهب إليه في العنوان السابق... 421

إيراد على هذا القول... 421

قول بعض الفضلاء في هذا المضمار... 421

نقد المصنّف هذا القول... 422

استدلال بعض المشاهير على عموم القدرة... 423

تقرير بعض الأفاضل هذا الاستدلال... 424

ص: 513

توضيح المصنّف جزء من هذا الكلام... 424

إيراد على ما ذكره هذا الفاضل... 425

يمكن في هذا الاستدلال جعل الصغرى والكبرى عكس ما تقدّم... 426

دفع ما أورد على صغرى هذا القياس... 427

بيان وجه الاندفاع... 428

إشكال والجواب عنه... 429

حمل كلام بعض الأعلام على ما قلنا... 429

ذهاب معمر بن عباد إلى أنّ اللّه لم يخلق إلاّ الأجسام... 433

استناد وجود جميع الموجودات إليه - تعالى - بدون مشاركة من الوسائط سوى أفعال العباد 433

تبيين رأي من جوّز استناد الحركات إلى غير الواجب... 434

إشكال والجواب عنه... 434

بيان غرض المستدلّ المذكور من قوله هذا... 434

إيراد بعض الأفاضل على قول المستدلّ المذكور... 435

إيراد للمصنّف على هذا الايراد... 435

إيراد آخر له في هذا الايراد... 436

تلخيص القول في ما ذهبنا إليه واخترناه... 436

شبهة أوردت على المقدّمة القائلة بأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له... 437

بيان هذه الشبهة والاستشهاد بكلام الشيخ... 437

جواب أجيب به عن هذه الشبهة والاستشهاد بكلام المحقّق... 438

بيان اقسام الجعل ضمن هذا الجواب... 441

بيان حاصل هذا الجواب ببيان المصنف... 442

إيراد للمصنّف على هذا الجواب... 444

إيراد آخر له على هذا الجواب... 444

إيراد ثالث له على هذا الجواب... 444

تلخيص القول في أنّ هذا الجواب غير تامّ... 445

تقرير هذا الجواب على وجه يصير تامّا... 445

جواب آخر عن هذه الشبهة... 446

ص: 514

إشكال على هذا الجواب... 447

الجواب عن هذا الاشكال... 448

بقي الكلام في أنّه على قواعد الاعتزال يلزم جواز كون علّتين مستقلّتين لشيء واحد... 449

الجواب عن هذا الكلام... 450

فسادان في هذا الجواب... 450

أحدهما... 450

ثانيهما... 451

ظهور أنّ الصواب ما ذهب إليه الحكماء... 451

تلخيص الكلام في أنّ التأثير في الكلّ منحصر به - تعالى -... 451

إشكال والجواب عنه... 452

إشكال آخر والجواب عنه... 452

مسلك الصوفية

في اثبات عموم القدرة

تقرير هذا المسلك... 452

بيان حاصل كلامهم... 453

نقد لطيف للمصنّف على هذا المسلك... 453

فائدة

تبيين قول الطوسي في التجريد

توضيح المصنّف حول ما قاله المحقّق في التجريد... 453

ضرب آخر في بيان هذا القول... 454

إشكال والجواب عنه... 454

تتميم

المخالفون في عموم قدرته - تعالى -

وهم فرق ، أعظمها الثنوية... 454

ومنهم : المانوية ، وتقرير مذهبهم... 454

ومنهم : الديصانية ، وتقرير مذهبهم... 455

ومنهم : المجوس... 455

ص: 515

قول الشهرستاني في أنّ المجوس لا تعدّون من الثنوية... 455

تأييد المصنّف قول الشهرستانى... 455

شبهة هؤلاء الطوائف الثلاث... 455

وجوه ثلاثة في الجواب عن هذه الشبهة... 456

أحدها ( الوجه الأوّل )... 456

توضيح هذا الوجه بنحو آخر... 456

اشتمال هذا الحكم على دعويين... 457

ثانيها ( الوجه الثاني )... 458

الأشياء عند العقل على خمسة أقسام... 459

وجوب صدور قسمين من هذه الأقسام الخمسة منه - تعالى -... 459

الفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل... 460

بيان دفع شبهة الثنوية على هذا الوجه... 460

مغالطة في هذا المقام... 460

إشكال والجواب عنه... 461

أصلحية وجود الشيء الّذي يغلب خيره على شرّه يتصوّر بوجهين... 462

نقد المصنّف كلّ من هذين الوجهين... 464

ثالثها ( الوجه الثالث )... 464

تفصيل كيفية رجوع الشرور إلى الأعدام... 464

هذا الجواب يصحّ لو جوّز صدور العدم عن الممكنات... 464

امّا الجواب على القول بعدم جواز صدور العدم عن الممكنات... 465

نقد المصنّف هذا الوجه... 466

الجواب الصحيح عن هذه الشبهة على رأي المصنّف... 466

يمكن توهّم الايراد على هذا الجواب بوجوه... 467

منها ( : الوجه الأوّل )... 467

الجواب عن هذا الوجه... 468

منها ( : الوجه الثاني )... 468

الجواب عن هذا الوجه... 468

منها ( : الوجه الثالث )... 469

ص: 516

الجواب عن هذا الوجه... 469

منها ( : الوجه الرابع )... 469

الجواب عن هذا الوجه... 470

بما ذكر تندفع شبهة الثنوية في اثنينيّة المبدأ... 471

استعجاب المصنّف ممّا فعله الثنوية تنزيها له - سبحانه -... 471

جواب بعض الأفاضل عن شبهة الثنوية بوجه آخر... 471

نقد المصنّف هذا الجواب... 472

الظاهر انّ مراد هذه الطوائف الثلاث ليس ما هو الظاهر كلامهم... 472

أمّا المجوس... 472

أمّا المانوية والديصانية... 472

ظاهر كلام المجوس لا يستلزم المخالفة لأصل التوحيد أيضا... 472

إشكال والجواب عنه... 472

قول قيل في بيان مراد المجوس... 473

بطلان كون الشيء الواحد خيرا محضا وشرا محضا... 474

الحمل على الوجوب والامكان مبنى قاعدة الاشراق... 475

قول العلاّمة الشيرازي مؤيّدا هذا القول... 475

على هذا القول لا يمكن تأويل كلامهم بحيث يخرج عن الشرك والالحاد... 475

عد بعضهم الفلاسفة والمنجّمين والجبائية والنظام والبلخي من المخالفين في عموم أصل القدرة 475

نقد المصنّف عموم هذا القول بالنسبة إلى الفلاسفة... 476

نقد المصنّف عموم هذا القول بالنسبة إلى سائر الطوائف المذكورة... 477

تلخيص القول في أنّه ليس أحد من الطوائف المذكورة منكرا لهذا الأصل... 477

* * *

ص: 517

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.