الجامع اللطيف في فضل مکه و اهلها و بناء البیت الشریف

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: ابن ظهیره، محمد بن محمد، - 986ق.

عنوان واسم المؤلف: الجامع اللطیف في فضل مکه و اهلها و بناء البیت الشریف [کتاب]/ تاٴلیف مولانا جمال الدین محمد جارالله بن محمد نورالدین ابن ابی بکربن علی بن ظهیره القریشی المخزومی.

تفاصيل المنشور:مكتبة الثقافة الدينية= 1423ق.

مواصفات المظهر: 412، ل ص.

لسان : العربية.

ملحوظة: ببليوغرافيا مع ترجمة.

مشكلة : مكة (المملكة العربية السعودية) - تاريخ

مشكلة : المزارات الإسلامية

ترتيب الكونجرس: DS248 /م8 الف2 1350

تصنيف ديوي: 953/8

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

مقدمة التحقيق

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

ابن ظهيرة(1): محمد بن محمد بن أبى بكر بن ظهيرة القرشى المخزومى.

ولد بمكة، و ذكر معاصرون أنه كان شيخ الفتيا و التدريس و مرجع العلماء و صفوة الفقهاء بمكة المشرفة، كما كان مفرد زمانه فى العلم و الفضل و الدين و التقوى.

من آثاره التاريخية: الجامع اللطيف فى فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف، و هو هذا الذى نقدم له اليوم.

و قد عبّر فى مقدمته عن رغبته فى وضع تأليف متوسط بين الإطالة و الاختصار، و رتبه على مقدمة و عشرة أبواب و خاتمة، و جعل المقدمة فى فضل العلم، أما الأبواب فخصصها بما يتعلق بالكعبة المشرفة و فضلها و عمارتها و وصف ما بداخلها و ما ورد فى فضل المقام و الحجر الأسود و الملتزم و ماء زمزم و فضل المسجد الحرام و عمارته، و فضل مكة و ذكر أمرائها، و الخاتمة فى ذكر الأماكن و المشاهد بمكة المكرمة.

و قد اعتمد ابن ظهيرة على مصادر متنوعة من كتب التاريخ و السيرة و المناسك و التفسير و غيرها(2).

هذا و قد استندت فى تحقيق نص ابن ظهيرة إلى:

النسخة التى طبعت بمطبعة عيسى الحلبى بالقاهرة سنة 1938 م.

كما استعنت بمخطوطة دار الكتب المصرية برقم 2946 تاريخ. و قد رمزت إليها بالحرف (د).

ص: 5


1- 1. ( 1) كذا قيّده صاحب تاج العروس بفتح الظاء و كسر الهاء.
2- 2. ( 2) التاريخ و المؤرخون بمكة لمحمد الحبيب الهيلة ص 236، 237.

و قد أشرت إليهما معا فى تعليقاتى (بالأصلين).

و كان حرصى على سلامة النص أكثر من حرصى على التعريف بالأعلام و البلاد و الإسراف فى الشرح و التعليق، إذ كان ذلك أهم ما يحتاج إليه العلماء و الباحثون عند الرجوع إلى الكتب المحققة.

كما قمت فى آخر الكتاب بعمل الفهارس المتنوعة التى تقرب نفعة، و تدنى جناه.

القاهرة فى ذى الحجة سنة 1422 ه

مارس سنة 2002 م

د/ على عمر

ص: 6

غلاف نسخة دار الكتب المصرية رقم 2946 تاريخ

ص: 7

الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية رقم 2946 تاريخ

ص: 8

الصفحة الأخيرة من نسخة دار الكتب المصرية رقم 2946 تاريخ

ص: 9

[خطبة الكتاب]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذى أسبغ على أهل مكة بمجاورة بيته الأمين مواد الفضل و النعمة.

و جعلهم أهله و خاصته فخرا لهم و تنويها بشأنهم لما اقتضته الحكمة. و خص من شاء منهم بباهر العز و الجلال و دفع عنه كل بؤس و نقمة. و حباه بمزيد العناية و الشرف فصار له جارا و جار اللّه جدير بوافر الإنعام و الحرمة.

أحمده على انتظامى فى هذا السلك، و أشكره على تفضلاته الجمة. و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له الذى أكرمنا بخير نبى كنّا به خير أمة. و أشهد أن سيدنا محمدا عبده و رسوله المبعوث فى هذه البقعة المطهرة لكشف غياهب الشك و الظلمة، صلى اللّه عليه و على آله و أصحابه السادة الأئمة، الذين ناصروه و ظاهروه على عدوه و قاموا فى مصالحه على همة، صلاة و سلاما دائمين مقرونين بعظيم البركة و الرحمة.

أما بعد: فيقول الفقير إلى عفو اللّه و لطفه الخفى، محمد جار اللّه بن ظهيرة القرشى المكى الحنفى: اعلم أنه لا يخفى على كل عاقل من ذوى الألباب السليمة، و الأفكار الرائقة الحسنة المستقيمة، أن الكعبة الشريفة هى أفضل مساجد الأرض و أنها بيت اللّه الحرام، و قبلة لجميع الأنام. و أن مكة المشرفة هى البلد الأمين، و مسقط رأس سيد المرسلين. و أهلها هم خاصة اللّه من البشر. الحائزون نهاية الشرف و الفخر و الظفر.

و المسجد الحرام فضله لا ينكر. و ما طوى من فضائله لم يزل ينشر. و الأدلة على ذلك من الكتاب و السنة أكثر من أن تحصى، و أعظم من أن تستقصى، و قد تصدى لتأليف فضائل مكة و أخبارها جمع كثير من فضلاء المتقدمين أجلهم الإمام المتقن أبو الوليد الأزرقى تغمده اللّه برحمته.

و من المتأخرين السيد العلامة المحرر القاضى تقى الدين الفاسى المكى بوأه اللّه دار كرامته، و هو المعول عليه، فإنه رحمه اللّه قد أغرب و أبدع، و أتى فى مؤلفه «شفاء الغرام» و مختصراته بما يشفى و ينفع، و أظهر فى ذلك جملا من المحاسن و المفاخر، و إن كان

ص: 10

للمتقدم عليه فضل السبق و التأسيس فكم ترك الأول للآخر، غير أن الجميع رحمهم اللّه قد أطالوا الكلام و بالغوا فى الإسهاب، و نشروا العبارة و بسطوها فى جميع الكتاب، بحيث من أراد الإحاطة بذلك يحتاج إلى استيعاب جميع المؤلف مع كبر الحجم ليقف على ما هنالك. و ربما قدم بعضهم ما يحسن تأخيره، و أخر ما يحسن تقديمه و تقريره.

و ممن جنح أيضا إلى هذا الغرض و ذكره ضمنا أرباب كتب المناسك فى أوائل مناسكهم، فمنهم من أوسع العبارة و أطال بما يمكن أن يدرك بأدنى إشارة، و منهم من مال إلى الإيجاز و الاختصار، و مع ذلك فلم تسلم عبارته من التكرار، و بعضهم ضيق العبارة جدا، بحيث إنه ذكر ذلك فى نحو ست ورقات عدا، فأخل حينئذ بما تعين أن يذكر، و أضرب صفحا عن أمور وجب أن تثبت و تشهر.

فلما وجدتها على ما وصفت و لم أقف على مؤلف متوسط فى ذلك يدل على المقصود، و لا ظفرت بتعلق مفرد يكون جامعا لما هو فى أسفار علماء هذا الفن موجود.

أحببت أن أجعل بعد الاستخارة تعليقا لطيفا غير مختصر مخل، و لا مطول ممل.

يكون عدة للقصاد، سالكا إن شاء اللّه تعالى سبيل التوسط و الاقتصاد لقصور الهمم فى هذا الزمان عن مطالعة المطولات، و مراجعة المبسوطات.

أجمع فيه ما تفرق من منثور الكلام، و أضم كل لفظ إلى مناسبه ليحصل كمال الالتئام، و لما أن التأليف فى هذا الوقت ليس هو إلا كما قال بعضهم: جمع ما تشتت، ورم ما تفتت مع زيادة فروع فقهية، و أحاديث نبوية. و آثار ضوية. و فوائد كثيرة. و لطائف غزيرة. مع تحرير عبارة و تقرير و إشارة.

مثبتا ذلك على قدر الفتوح. حسبما هو موجود فى الأسفار مشروح، عازيا كل قول غالبا إلى قائله، و مبينه لطالعه و سائله، ليكون للواقف عليه عمدة، و أخرج بذلك من الدرك و العهدة.

و ما فتح اللّه به فى كلامى على سبيل البحث ميزته بقولى فى أوله بما صورته أقول أو بحث، و فى آخره انتهى، أو و اللّه الموفق بالقلم الأحمر(1)، و شرطت أن لا يخل الناسخ

ص: 11


1- 3. ( 1) فى هامش المطبوع:« اكتفينا بجعله بين قوسين» و قد أبقينا عليه كما ورد فى المطبوع.

بذلك ليتميز عن كلام الغير، هذا مع اعترافى بكساد البضاعة و عدم التقدم فى هذه الصناعة، فشرعت مجتهدا فى ذلك، طالبا من اللّه تيسير تلك المسألة، و سميته:

«الجامع اللطيف فى فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف» و رتبته على مقدمة و عشرة أبواب و خاتمة.

المقدمة فى فضل العلم.

الباب الأول: فى مبدأ أمر الكعبة الشريفة و بيان فضلها و شرفها و ما ورد فى ذلك من الآيات و الأحاديث و الآثار، و ما سبب تسميتها الكعبة و تسميتها بالبيت العتيق.

الباب الثانى: فى زيادة تعظيم هذا البيت الشريف و ما جاء فى فضله من الآيات الشريفة، و العجائب الباهرة المنيفة، و ما ورد فى فضل المقام و ما سبب تسميته بالمقام و فيه فصلان: (الأول) فى ذكر الحجر الأسود و ما ورد فى فضله و شرفه (و الثانى) فى فضل الملتزم و الدعاء فيه و ذكر الفيل و خبر تبع.

الباب الثالث: فيما يتعلق ببناء الكعبة الشريفة و عدد مرات بنائها و فيه أربعة فصول:

(الأول) فى الكلام على البيت المعمور و ذكر شى ء من فضل جدة على سبيل الاستطراد (و الثانى) فى ذكر كنز الكعبة و الكلام فيه (و الثالث) فى الكلام على دخول الكعبة الشريفة و ما ورد فى ذلك (و الرابع) فى ثواب دخوله.

الباب الرابع: فى الكلام على كسوة الكعبة الشريفة و تطييبها و تحليتها و معاليقها، و فيه فصل فى الكلام على سدانة البيت.

الباب الخامس: فى فضل الطواف بالبيت و الطائفين به، و فيه ثلاثة فصول: (الأول) فى النظر إلى البيت (الثانى) فى بيان المواضع التى صلى فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حول الكعبة (الثالث) فى بيان وجهة المصلين إلى القبلة من سائر الآفاق.

الباب السادس: فى فضل مكة شرفها اللّه تعالى و حكم المجاورة بها، و فيه ثلاثة فصول: (الأول) فى أفضليتها على المدينة (الثانى) فى أفضلية قبر النبى صلى اللّه عليه و سلم على سائر البقاع (الثالث) فى ذكر أسماء مكة المشرفة.

ص: 12

الباب السابع: فى فضل الحرم و حرمته و فضل المسجد الحرام و خبر عمارته، و فيه خمسة فصول: (الأول) فى ذكر الآيات المختصة بالحرم (الثانى) فى الكلام على تعريف المسجد الحرام، و فيه ذكر شى ء من خبر الإسراء على سبيل الاستطراد (الثالث) فى ذكر عمارة المسجد الحرام (الرابع) فى خبر عمارة الزيادتين اللتين به و ذرعه و ذكر المنابر (الخامس) فى كيفية المقامات التى بالمسجد الحرام و بيان مواضعها و حكم الصلاة فيها و ما فى المسجد من القباب و الأبنية و عدد أبواب المسجد الحرام.

الباب الثامن: فى فضل أهل مكة و شرفهم و ما ورد فى ذلك، و فيه فصل واحد يتعلق بذكر نسب النبى صلى اللّه عليه و سلم و نسب أصحابه العشرة، و ذكر شى ء من مناقب قريش.

الباب التاسع: فى ذكر مبدأ بئر زمزم و فضل مائها و أفضليته و خواصه، و فيه فصلان (الأول) فى ذكر أسمائها (الثانى) فى آداب الشرب منها.

الباب العاشر: فى عدد أمراء مكة من لدن عهد النبى صلى اللّه عليه و سلم إلى يومنا هذا.

الخاتمة: فى ذكر الأماكن المباركة التى يستحب زيارتها بمكة و حرمها و خارجها من المواليد و الدور و المساجد و الجبال و المقابر، سائلا من كرم اللّه و لطفه أن يهدينى إلى الطريق السواء و يجعلنى ممن أخلص النية فى العمل، و إنما لكل امرئ ما نوى، مستعينا به فيما أردت، مؤملا من فضله إتمامه حسبما قصدت، و هو الموفق للصواب، و إليه المرجع و المآب.

ص: 13

المقدمة فى فضل العلم الشريف و أهله و طالبيه و ما ورد فيه من الآيات العظيمة و الأخبار الكريمة و الآثار الجسيمة

اشارة

اعلم أن العلم شرف الإنسان. و فخر له فى جميع الأزمان. و هو العز الذى لا يبلى جديده. و الكنز الذى لا يغنى مزيده. و قدره عظيم. و فضله جسيم. قال اللّه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (سورة فاطر: 28) برفع العلماء على الفاعلية. أى إنما يخاف اللّه من عرفه حق معرفته و هم العلماء. و قرئ فى الشواذ برفع الاسم الشريف على الفاعلية و نصب العلماء على المفعولية. و هذا مروى عن جماعة من العلماء منهم إمامنا أبو حنيفة رضى اللّه عنه. كان الأستاذ الكمال ابن الهمام فى مجلس تدريسه فأورد عليه سائل قراءة أبى حنيفة المذكورة فأجاب بقول الشاعر:

أهابك إجلالا و ما بك قدرةعلىّ و لكن مل ء عين حبيبها

و حينئذ فالمراد بالخشية الإجلال. فيكون المعنى على هذا إنما يجل اللّه من عباده العلماء، و قال تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ (سورة آل عمران: 18) الآية. فقرنهم بالملائكة ثم عطف شهادتهم على شهادته و ميزهم من بين سائر الخلق و فضلهم على جميع الناس لقوله تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (سورة العنكبوت: 43) و منّ على سيد البشر بقوله تعالى: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (سورة النساء: 113) قال تعالى تنويها بشأن العلماء: وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ (سورة الأنعام: 91) و قال تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (سورة العلق: 5) و قال تعالى فى جواب الكفار حين سألوا و ما الرحمن: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (سورة الرحمن: 1: 4) و قال تعالى فى حق العلماء: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (سورة الزمر: 9) و قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ

ص: 14

آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (سورة المجادلة: 11) قال بعض المفسرين: يرفع اللّه المؤمن العالم على المؤمن غير العالم. قال بعض العلماء: رفعتهم تشمل المعنوية فى الدنيا بحسن الصيت و علوّ المنزلة، و الحسية فى و الآخرة بعلوّ المنزلة فى الجنة، و قال تعالى: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (سورة طه: 114) وجه الدلالة أن اللّه تعالى لم يأمر نبيه بطلب الازدياد من شى ء إلا من العلم. و مثل هذا كثير فى كتاب اللّه، و فى بعض الكتب المنزلة (يقول اللّه: أنا الذى خلقت الخلق و القلم و علمت الناس البيان).

و أما ما جاءت به بالسنة فأكثر من أن يحاط به. فمن ذلك ما روى عن أنس بن مالك رضى اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم، و طالب العلم يستغفر له كل شى ء حتى الحوت فى البحر».

و روى عطية العوفى عن أبى سعيد الخدرى رضى اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «من غدا ليطلب العلم صلت عليه الملائكة و بورك له فى معيشته».

و عن أبى الدرداء رضى اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك اللّه به طريقا من طرق الجنة».

و فى رواية: (سهل اللّه له به طريقا إلى الجنة، و إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضاها بما يصنع). قال بعض العلماء المراد بوضع الأجنحة التواضع على جهة التشريف. و قيل على الحقيقة تضع أجنحتها لهم فيمشون عليها و لا يدركون ذلك للطافة أجسادهم.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «العلماء ورثة الأنبياء، و إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما و لكن ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر».

و عن أبى إسحاق المزنى يرفعه إلى النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «يقال للعابد يوم القيامة ادخل الجنة، و يقال للعالم: قف فاشفع لمن شئت».

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «العالم و المتعلم كهذه من هذه» و جمع بين المسبحة و التى تليها «شريكان فى الأجر، و لا خير فى سائر الناس بعد».

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا لذلك، و لا تكن الخامس فتهلك».

ص: 15

و عن أبى أيوب الانصارى رضى اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «مسألة واحدة يتعلمها المؤمن خير له من عبادة سنة و خير له من عتق رقبة من ولد إسماعيل».

لطيفة [تخصيص اولاد اسماعيل بالذكر]

: تخصيص أولاد إسماعيل بالذكر دون غيرهم قيل: لكونهم أفضل أصناف الأمم، فإن العرب أفضل الأمم، ثم أفضلهم أولاد إسماعيل. و قيل: لأن أولاد إسماعيل لم يجز عليهم رق قبل الإسلام.

و عن أبى أمامة رضى اللّه عنه عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته» رواه مسلم.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم».

و فى الترمذى: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد».

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «يشفع اللّه يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» قال بعض الفضلاء: أكرم بمرتبة هى متوسطة بين النبوة و الشهادة.

أقول: فى العطف ب «ثم» أدل دليل بعلى أفضلية العلماء على الشهداء كما لا يخفى على من عرف الحكم النحوى فى ثم. انتهى.

و فى «الفائق» عنه صلى اللّه عليه و سلم: «تعلموا العلم و علموه الناس» و فيه أيضا: «تعلموا العلم و اعملوا به» و فيه: «تعلموا العلم قبل أن يرفع» و فيه: «تعلموا العلم و كونوا من أهله» و فيه: «إن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء فى الجنة كما يحتاجون إليهم فى الدنيا».

لطيفة [من الاحتياج الى العلماء فى الجنة]

: من الاحتياج إلى العلماء فى الجنة أنه إذا دخل أهل الجنة إليها يعطيهم اللّه جميع ما يتمنونه و لا يزالون يتمنون بإذن ربهم حتى تعجز عقولهم و تدبيراتهم عن الأمانى، لأنهم نالوا كل ما أرادوا من النعيم، فيقول اللّه سبحانه بعد ذلك كله: تمنوا فلا يعرفون ما يتمنون، فيرجعون إلى العلماء فيسألونهم ما يتمنون فيستنبطون لهم أشياء من أسرار اللّه تبارك و تعالى فيتمنونها. كذا فى «حاوى القلوب إلى لقاء المحبوب» لابن الميلق الشافعى رحمه اللّه.

و الأحاديث فى ذلك كثيرة جدا. و هذا بعض من كل، و قال بعض الفضلاء: العلم أمان من كيد الشيطان، و حرز من كيد الحسود و دليل العقل، و لقد أحسن من قال:

ص: 16

ما أحسن العقل و المحمود من عقلاو أقبح الجهل و المذموم من جهلا

فليس يصلح نطق المرء فى جدل و الجهل يفسده يوما إذا سئلا

و العلم أشرف شى ء ناله رجل من لم يكن فيه علم لم يكن رجلا

تعلم العلم و اعمل يا أخى به فالعلم زين لمن بالعلم قد عملا

و عن بعض الحكماء أنه قال: العلم خليل المؤمن، و الحلم وزيره، و العقل دليله، و العمل قائده، و الرفق والده، و البر أخوه، و الصبر أمير جنوده.

و قال بعض الحكماء: لمثقال ذرة من العلم أفضل من جهاد الجاهل ألف عام، و قال الإمام الشافعى رضى اللّه عنه و أعاد علينا من بركاته: الاشتغال بالعلم أفضل من صلاة النافلة، و قال ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.

و قال بعض العلماء: العلم نور يهتدى به الحائر، و فى معناه أنشدوا:

بالعلم تحيا نفوس قط ما عرفت من قبل ما الفرق بين الصدق و المين

العلم للنفس نور تستدل به على الحقائق مثل النور للعين

و قال آخر:

كفى شرفا بالعلم دعواه جاهل و يفرح إن أمسى إلى العلم ينسب

و يكفى خمولا بالجهالة أننى أراع متى أنسب إليها و أغضب

ص: 17

و قال ابن الزبير: إن أبا بكر كتب إلىّ و أنا بالعراق: يا بنى عليك بالعلم فإنك إذا افتقرت إليه كان مالا، و إن استغنيت به كان جمالا، و أنشد فى معناه:

العلم بلغ قوما ذروة الشرف و صاحب العلم محفوظ من التلف

يا صاحب العلم مهلا لا تدنسه بالموبقات فما للعلم من خلف

العلم يرفع بيتا لا عماد له و الجهل يهدم بيت العز و الشرف

و قال بعض الفضلاء: ينبغى لكل عاقل أن يبالغ فى تعظيم العلماء ما أمكن و لا يعد غيرهم من الأحياء، و قد أجاد من قال:

و من الجهالة أن تعظم جهلالصقال ملبسه و رونق نقشه

و اعلم بأن التبر فى بطن الثرى خاف إلى أن يستبين بنبشه

و فضيلة الدينار يظهر سرهامن حكه لا من ملاحة نقشه

و قال أبو طالب المكى فى «قوت القلوب» جاء فى الخبر أن اللّه تعالى لا يعذر على الجهل و لا يحل للجاهل أن يسكت على جهله و لا يحل للعالم أن يسكت عن علمه، و قد قال سبحانه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (سورة الأنبياء: 7).

و قال سيدى الشيخ سهل بن عبد اللّه التسترى رضى اللّه عنه و أعاد علينا من بركاته: ما عصى اللّه بمعصية أعظم من الجهل، و ما أطيع اللّه بمثل العلم.

و قال بعضهم رضى اللّه عنه: قسوة القلب بالجهل أشد من قسوته بالمعاصى. قال الشيخ محمد ابن على المنهاجى رحمه اللّه: قلت: و اللّه أعلم و لهذا نجد الجاهل يبغض كل من كان طالبا للعلم و يعد ذلك عيبا، و قيل فى معنى ذلك:

ص: 18

عاب التعلم قوم لا عقول لهم و ما عليه إذا عابوه من ضرر

ما ضر شمس الضحى و الشمس طالعةأن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر

و قال على بن أبى طالب كرم اللّه وجهه: العلم خير من المال. العلم يحرسك و أنت تحرس المال. و العلم حاكم و المال محكوم عليه. و العلم يزيد بالإنفاق و المال ينقص بالنفقة. و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال: خير سليمان بن داود صلوات اللّه عليهما بين العلم و الملك و المال فاختار العلم فأعطى الملك و المال معه. و قال الإمام مالك بن أنس رضى اللّه عنه:

ليس العلم بكثرة الرواية و إنما العلم نور يجعله اللّه فى قلب من يشاء.

و قال بعض الحكماء: ليت شعرى أى شى ء أدرك من فاته العلم و أى شى ء فات من أدرك العلم. و ما أحسن ما قيل:

مع العلم فاسلك حيثما سلك العلم و عنه فكاشف كل من عنده فهم

ففيه جلاء للقلوب من العمى و عون على الدين الذى أمره حتم

فخالط رواة العلم و اصحب خيارهم فصحبتهم زين و خلطتهم غنم

و لا تعدونّ عيناك عنهم فإنهم نجوم هدى إن غاب نجم بدا نجم

فو اللّه لو لا العلم ما اتضح الهدى و لا لاح من غيب الأمور لنا رسم

و عن ابن المبارك أنه قال: لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.

و عن عثمان بن أبى شيبة قال: سمعت و كيعا يقول: لا يكون الرجل عالما حتى يسمع

ص: 19

ممن هو أسن منه و ممن هو مثله و ممن هو دونه. و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه أنه قال: منهومان لا يشبعان: طالب العلم و طالب الدنيا، و هما لا يستويان، أما طالب العلم فيزداد رضى الرحمن، و أما طالب الدنيا فيزداد فى الطغيان ثم قرأ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى و ما أحسن قول بعضهم:

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء

و قدر كل امرئ ما كان يحسنه و الجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم تعش حيا به أبدافالناس موتى و أهل العلم أحياء

و قيل للحسين بن الفضل رضى اللّه عنه: هل تجد فى القرآن من جهل شيئا عاداه؟ فقال: نعم، فى موضعين: قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ (سورة يونس: 39) و قوله تعالى:

وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (سورة الأحقاف: 11).

و قال يحيى بن معاذ الرازى رضى اللّه عنه: العلماء أرأف بأمة محمد صلى اللّه عليه و سلم و أرحم عليهم من آبائهم و أمهاتهم، و ذلك أن آباءهم و أمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا و آفاتها، و العلماء يحفظونهم من نار الآخرة و شدائدها.

و قال سفيان الثورى رضى اللّه عنه: العجائب عامة و فى آخر الزمان أعم، و النوائب طامة و فى أمر الدين أطم. و المصائب عظيمة، و موت العلماء أعظم، و إن العالم حياته رحمة للأمة، و موته فى الإسلام ثلمة.

و عن معاذ: تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، و طلبه عبادة، و مذاكرته تسبيح، و البحث عنه جهاد، و تعليمه من لا يعلمه صدقة، و بذله لأهله قربة، و ما أحسن قول الزمخشرى:

و كل فضيلة فيها سناءوجدت العلم من هاتيك أسنى

ص: 20

فلا تعتد غير العلم ذخرافإن العلم كنز ليس يفنى

و عن أبى هريرة رضى اللّه عنه أنه قال: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوع.

و عن عمر رضى اللّه عنه: موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت العالم البصير بحلال اللّه و حرامه.

و الكلام فى هذا يطول، و لنختم هذا النوع بحديث نبوى ورد فى الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضى اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: «إن اللّه لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس، و لكن يقبض العلماء، حتى لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير بعلم فضلوا و أضلوا» و هذا التعليق لا يحتمل أكثر من هذا. و فيما ذكرته مقنع.

اللهم إنى أسألك بجاه نبيك محمد صلى اللّه عليه و سلم أن ترزقنى علما نافعا و تختم لى بخير و تحشرنى فى زمرة من ذكرتهم بقولك تبارك اسمك: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (سورة النساء: 69) آمين يا رب العالمين.

ص: 21

الباب الأول فى مبدأ أمر الكعبة الشريفة و بيان فضلها و شرفها و ما يدل على ذلك من الآيات و الأحاديث و الآثار و الحكايات و العجائب [و ما سبب تسميتها كعبة و تسميتها بالبيت العتيق]

اشارة

الباب الأول فى مبدأ أمر الكعبة الشريفة و بيان فضلها و شرفها و ما يدل على ذلك من الآيات و الأحاديث و الآثار و الحكايات و العجائب [و ما سبب تسميتها كعبة و تسميتها بالبيت العتيق](1)

أما الآيات فمن ذلك قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ (سورة آل عمران: 96، 97) الآيتين. قال الكواشى: سبب نزول هاتين الآيتين أن اليهود لما قالوا للمسلمين: قبلتنا قبل قبلتكم أنزل اللّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ.

و اختلف فى معنى كونه أول بيت وضع للناس، فقيل: أول بيت وضعه اللّه للطاعات و جعله متعبدا و قبلة للصلوات و موضعا للطواف، و يدل عليه ما روى عن على رضى اللّه عنه، أنه سئل أهو أول بيت وضع؟ فقال: كان قبله بيوت و لكنه أول متعبد. و قيل: أول بيت بنته الملائكة فلما حجه آدم قالت له الملائكة: بر حجك فإنا قد حججنا قبلك بألفى عام.

و قيل: أول بيت بناه آدم. و قيل: أول بيت بناه إبراهيم، و قيل: أول بيت حج بعد الطوفان.

و قيل: أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السموات و الأرض. فهذه ستة أقوال.

و بيان القول الأخير أن اللّه تعالى كان و لم يكن شى ء قبله، و كان عرشه على الماء و ليس هو ماء البحر بل هو ماء تحت العرش بكيفية شاءها اللّه تعالى. فقيل: إنه خلق السماء دخانا قبل الأرض و فتقها سبعا بعد الأرض. ورده بعضهم بأن خلق الأرض كان أولا مستدلا بقوله تعالى: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ (سورة فصلت: 9) إلى قوله: طائِعِينَ. قال النسفى فى تفسيره المسمى «بالمدارك»: يفهم منه أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض، و به قال ابن عباس رضى اللّه عنه و اختاره الشيخ جلال الديبن السيوطى من المتأخرين، و أجاب بذلك عن سؤال رفع إليه صورته:

يا عالم العصر لا زالت أناملكم تهمى وجودكم نام مدى الزمن

ص: 22


1- 4. ( 1) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

لقد سمعت خصاما بين طائفةمن الأفاضل أهل العلم و اللسن

فى الأرض هل خلقت قبل السماء و هل بالعكس جا أثر يا نزهة الزمن

فمنهم قال إن الأرض منشأةبالخلق قبل السما قد جاء فى السنن

و منهم من أتى بالعكس مستنداإلى كلام إمام ماهر فطن

أوضح لنا ما خفى من مشكل و أبن نجاك ربك من زور و من محن

ثم الصلاة على المختار من مضرماحى الضلالة هادى الخلق للسنن

فأجاب رضى اللّه عنه بما صورته:

الحمد للّه ذى الإفضال و المنن ثم الصلاة على المبعوث بالسنن

الأرض قد خلقت قبل السماء كماقد نصه اللّه فى حاميم فاستبن

و لا ينافيه ما فى النازعات أتى فدحوها غير ذاك الخلق للفطن

فالحبر أعنى ابن عباس أجاب بذالما أتاه به قوم ذوو لسن

و ابن السيوطى قد خط الجواب لكى ينجو من النار و الآثام و الفتن

انتهى بنصه.

ص: 23

فإن قيل: هل قول السماء و الأرض كان بلسان الحال أم المقال: قيل: إن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما. و قيل: إن اللّه خلق فيهما كلاما فنطق من الأرض موضع الكعبة و نطق من السماء ما بحيالها.

مطلب: أصل طينة النبى صلى اللّه عليه و سلم من مكة

قال الثعلبى: خلق اللّه تعالى جوهرة خضراء ثم نظر اليها بالهيبة فصارت ماء فخلق اللّه الأرض من زبده و السماء من بخاره فكان أول ظاهر على وجه الأرض مكة. زاد غيره ثم المدينة ثم بيت المقدس ثم دحا الأرض منها طبقا واحدا ثم فتقها بعد ذلك و كذلك السماء. و روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال أصل طينة النبى صلى اللّه عليه و سلم من سرة الأرض بمكة.

قال بعض العلماء: فى هذا إيذان بأنها التى أجابت من الأرض، و عن كعب الأحبار رضى اللّه عنه قال: كانت الكعبة غثاء على الأرض. قبل خلق السموات و الأرض بأربعين سنة، و منها دحيت الأرض فهو صلى اللّه عليه و سلم الأصل فى التكوين و الكائنات تبع له.

مطلب: مدفن الإنسان بتربته

فإن قيل: مدفن الإنسان يكون بتربته، أى مكان طينته التى خلق منها و هو صلى اللّه عليه و سلم دفن بالمدينة الشريفة، أجاب بعض العلماء أن الماء لما تموج عند وقوع الطوفان ألقى تلك الطينة إلى ذلك الموضع من المدينة الشريفة. و عن ابن عباس رضى اللّه عنه قال: لما كان العرش على الماء قبل أن تخلق السموات و الأرض بعث اللّه ريحا هفافة- بفاءين- فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة فى موضع البيت كأنها قبة، فدحا اللّه الأرضين من تحتها فمادت ثم مادت فأوتدها بالجبال.

مطلب: أول جبل وضع فى الأرض أبو قبيس

و كان أول جبل وضع فيها أبو قبيس، فلذلك سميت مكة أم القرى أى أصلها. و الخشفة بالخاء و الشين المعجمتين و الفاء واحدة الخشف، و هى حجارة تنبت فى الأرض نباتا.

و روى عمر بن شبة فى أخبار مكة: خشعة بالعين المهملة عوضا عن الفاء و هى أكمة لاطية بالأرض. و قيل: هو ما غلب عليه السهولة و ليس بحجر و لا طين. و يقال للجزيرة التى فى البحر لا يعلوها الماء خشفة بالفاء و جمعها خشاف.

ص: 24

و قوله فى الآية السابقة: لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً (سورة ال عمران: 96) أى كثير الخير لما يحصل لمن حجه أو اعتمره أو عكف عنده أو طاف حوله من الثواب.

و انتصاب مباركا على الحال. قال الزجاج و غيره: المعنى استقر بمكة فى حال بركته و هو حال من وضع، و قوله: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ (سورة ال عمران: 97) قال النسفى فى «تفسيره»: أى علامات واضحات لا تلتبس على أحد.

و مقام إبراهيم: عطف بيان لقوله آيات بينات، و صح بيان الجماعة بالواحد، لأنه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه و قوة دلالته على قدرة اللّه تعالى و نبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه فى صخر صلد، أو لاشتماله على آيات، لأن أثر القدم فى الصخرة الصماء آية، و غوصه فيها إلى الكعبين آية، و إلانة بعض الصخرة دون بعض آية، و إبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة.

و قوله: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (سورة ال عمران: 97) عطف بيان لآيات، فكأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم و أمن داخله. و الآيتان فى معنى الجمع، و يجوز أن تذكر هاتان الآيتان و يطوى ذكر غيرهم دلالة على تكاثر الآيات، فكأن المعنى مقام إبراهيم و أمن من دخله و كثير سواهما، و نحوه فى طى الذكر قوله صلى اللّه عليه و سلم: «حبب إلى من دنياكم ثلاث» و قيل إن لفظ ثلاث موضوعة لا أصل لها فى الحديث، كما صرح به بعض أئمة الحديث «الطيب و النساء و قرة عينى فى الصلاة» فقرة عينى ليس من الثلاث، بل هو ابتداء كلام لأنها ليست من الدنيا، و الثالث مطوى. انتهى باختصار.

مطلب: أول مسجد وضع بالأرض المسجد الحرام

و عن أبى ذر رضى اللّه عنه قال: قلت: يا رسول اللّه، أى مسجد وضع فى الأرض أولا؟ قال:

المسجد الحرام، قلت: ثم أى؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال:

أربعون عاما.

و فى ذلك إشكال أشار إليه جدى- أى جد المؤلف قاضى القضاة شيخ الاسلام خطيب المسجد الحرام فخر الدين أبو بكر بن على بن ظهيرة الشافعى تغمده اللّه برحمته و أسكنه بحبوح جنته- فى منسكه المسمى «بشفاء الغليل فى حج بيت اللّه الجليل» و هو أن

ص: 25

مسجد مكة بناه إبراهيم عليه السلام بنص القرآن وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ (سورة البقرة: 127) الآية. و المسجد الأقصى بناه سليمان كما جاء فى حديث ابن عمر، أخرجه النسائى بإسناد صحيح. و بين إبراهيم و سليمان زمان طويل يزيد على ألف سنة كما قاله أهل التواريخ، فكيف قال فى الحديث: بينهم أربعون سنة؟ و الجواب عن ذلك بأنه يحتمل أن ابراهيم و سليمان إنما جددا ما بناه غيرهما كما سيأتى آنفا من أن أول من بنى البيت آدم، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس بعده بأربعين عاما. و يجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن من اللّه تبارك و تعالى، فعلى هذه الأقاويل يكون قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضع على ظاهره، و هو الذى عليه جمهور العلماء و صححه النووى.

انتهى بمعناه.

و من ذلك قوله تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً (سورة البقرة: 125) المراد بالبيت الكعبة، لأنه غالب عليها كالنجم للثريا. و مثابة: قال النسفى: مباءة و مرجعا للحجاج و العمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه.

و أمنا موضع أمن، فإن الجانى يأوى إليه فلا يتعرض له حتى يخرج، و هو دليل لنا فى الملتجئ إلى الحرم. انتهى.

و أصل الثوب لغة: الرجوع، و من ذلك قوله تعالى عقب هذه الآية: وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ (سورة البقرة: 125) الآية، المعنى: طهراه من الأوثان و الأنجاس و الخبائث كلها. و المراد بالطائفين: الدائرون حوله. و بالعاكفين:

قيل: المجاورون الذين عكفوا عنده أى أقاموا لا يبرحون.

و قيل: المعتكفون، و قيل: الطائفون النزاع إليه من البلاد. و العاكفون: المقيمون عنده من أهل مكة.

مطلب: قبلته صلى اللّه عليه و سلم

و من ذلك قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها (سورة البقرة: 143) ثم قوله:

فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها (سورة البقرة: 144) الآيات.

ص: 26

و روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يصلى بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود ثم حول إلى الكعبة.

قال النسفى: أى و ما جعلنا القبلة التى تحب أن تستقبلها الجهة التى كنت عليها أولا بمكة الا امتحانا للناس و ابتلاء لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه فيرتد، فقد ارتد عن الإسلام عند تحويل القبلة جماعة. انتهى.

و المراد بقوله: شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بمعنى المحرم هو الكعبة. قال الكواشى:

و ذكر النسفى أن المراد جهته و سمته أى جعل تولية الوجه تلقاء المسجد و شطره نصب على الظرف أى نحوه، لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائى.

و ذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين.

انتهى، و قوله: وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ (سورة البقرة: 144) قال الزمخشرى أى إن التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان فى بشارة أنبيائهم برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه يصلى إلى القبلتين.

مطلب: تحويل القبلة

فائدة: قال العلامة شهاب الدين أبو الفضل بن العماد الأقفهسى فى الدرة الضوية فى هجرة خير البرية: كان تحويل القبلة فى السنة الثانية من الهجرة. ثم قال: قال النووى ناقلا عن محمد بن حبيب الهاشمى: حولت القبلة فى ظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان، كان النبى صلى اللّه عليه و سلم فى أصحابه فحانت صلاة الظهر فى منازل بنى سلمة- بكسر اللام- فصلى بهم ركعتين من الظهر فى مسجد القبلتين إلى بيت المقدس، ثم أمر و هو فى الصلاة باستقبال الكعبة و هو راكع فى ثالثة فاستدار و استدارت الصفوف خلفه صلى اللّه عليه و سلم، فأتم الصلاة، فسمى مسجد القبلتين.

و كان صلى اللّه عليه و سلم مأمورا بالصلاة إلى بيت المقدس مدة مقامه بمكة و بعد الهجرة بستة عشر شهرا أو سبعة عشر، ثم قال- أعنى ابن العماد: قول النووى أنه صلى اللّه عليه و سلم كان مأمورا باستقبال بيت المقدس مدة إقامته بمكة قد جزم البغوى بخلافه فقال فى تفسير قوله تعالى:

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ (سورة البقرة: 144) الآية، كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه يصلون

ص: 27

بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أمره اللّه تعالى أن يصلى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم بما يجدون من نعته فى التوراة، فصلى إليها ستة عشر شهرا أو سبعة عشر، و كان يحب أن يتوجه إلى الكعبة لأنها كانت قبلة إبراهيم.

و قال مجاهد: كان يحب ذلك من أجل أن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا و يصلى إلى قبلتنا، فقال صلى اللّه عليه و سلم لجبريل: وددت لو حولنى اللّه إلى الكعبة، فقال له سل ربك. فجعل صلى اللّه عليه و سلم يديم النظر إلى السماء فأنزل اللّه تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ (سورة البقرة: 144) الآيات. انتهى بنصه.

و ما جزم به البغوى من أنه صلى اللّه عليه و سلم كان يصلى بمكة إلى الكعبة هو المعتمد و عليه أكثر المفسرين و أصحاب السير.

مطلب: المختار أنه صلى اللّه عليه و سلم لم يكن متعبدا بشرع من قبله بعد البعثة

و اختلف العلماء هل كان ذلك باجتهاد أو بأمر من ربه؟ و هذا تفريع على الأصح من أنه صلى اللّه عليه و سلم لم يتعبد بشرع غيره بعد البعثة. و من ذلك قوله تعالى فى سورة المائدة: وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ (سورة المائدة: 2) أى لا تحلوا من قصده من الحجاج و العمار، و إحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة الشعائر و أن يحال بينها و بين المتنسكين بها، قاله النسفى.

أقول: و توجيهه أن المتنسكين إنما أرادوا تعظيم هذا البيت المشرف و جزيل الثواب، و فى الإحالة إبطال ذلك، و اللّه الموفق.

و فى «تفسير الكواشى»: وَ لَا آمِّينَ أى و لا قتال قاصدين البيت، فإن قيل: هذا عام فى المؤمنين و المشركين أم انتسخ الحكم فى حق المشركين؟ فالجواب أنه منسوخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (سورة التوبة: 5) و بقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (سورة التوبة: 28) و هو المشهور.

ص: 28

مطلب: عن الحسن و غيره ليس فى المائدة منسوخ

و عن الحسن و غيره ليس فى المائدة منسوخ. و من ذلك قوله تعالى فى السورة المذكورة هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ (سورة المائدة: 95) فبالغ الكعبة صفة لهديا و جاز الوصف بذلك لأن إضافته غير حقيقية كما صرح به النحاة. و معنى بلوغ الكعبة أن يذبح بالحرم و هو فناء المسجد الذى هو فناء للبيت، كل ذلك تعظيما لهذا البيت أن لا تقام هذه القربة إلا فى حرمه، و لا يجزئ الذبح فى غيره.

فروع: الأول: الهدى المذكور فى الآية هو جزاء الصيد، و يجب على المحرم عندنا بقتله الصيد سواء كان ناسيا أو عامدا أو مبتدئا و هو الذى قتل الصيد مرة أو عائدا و هو الذى قتل مرة بعد أخرى، بل العائد عندنا أشد جناية خلافا لمن يقول لا جزاء على العائد لأن اللّه تعالى قال: وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ (سورة المائدة: 95) جعل كل جزاء العائد الانتقام فى الآخرة فلا تجب الكفارة.

و الجواب عنه بأن وجوب الكفارة فى العائد مستفاد من الآية بدلالة النص، و المراد من قوله: و من عاد، العود مستحلا.

الثانى: يجب الجزاء على المحرم عندنا بالدلالة أيضا خلافا للشافعى لأنه يقول: الجزاء متعلق بالقتل فى قوله تعالى: وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً (سورة المائدة: 95) ليست بقتل و لنا قوله صلى اللّه عليه و سلم: هل أشرتم هل دللتم ... الحديث. مع أن فى الدلالة عليه تفويتا لأمنه و هو قتل معنى.

الثالث: يجوز التصدق بلحوم الهدايا عندنا على مساكين الحرم و غيرهم سواء كان التصدق بالحرم أو حيث شاء بعد أن حصلت الإراقة فى الحرم، و عند الشافعى رحمه اللّه لا يجوز التصدق إلا بالحرم على مساكينه فقط نص عليه ابن خليل فى «منسكه» و من ذلك قوله عقيب الآية المتقدمه آنفا جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ (سورة المائدة: 97) أى قواما لهم فى أمر دينهم و دنياهم فلا يزال فى الأرض دين ما حجت و عندها المعاش و المكاسب كذا فى «منسك» ابن جماعة. قال الجد تغشاه اللّه برحمته بعد ذكر هذه الآية:

أى ركز فى قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى على أحد و صارت وازعا لهم من الأذى

ص: 29

و هم فى الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة و لا يخافون نارا إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم بعضا، فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك. هذا مع تنافسهم و تحاسدهم و معاداتهم و أخذهم بالثأر، و بالجملة فهو سبب لقيام مصالح الناس فى أمر دينهم و دنياهم و آخرتهم: أما فى أمر الدين فإن به يقوم الحج و تتم المناسك، و أما فى أمر الدنيا فإنه تجبى إليه ثمرات كل شى ء و يأمنون فيه، و أما فى الآخرة فلأن المناسك لا تقام إلا عنده، و هى سبب لعلو الدرجات و تكفير الخطيئات و زيادة الكرامات و المثوبات. انتهى.

بحروفه.

و روى عن الحسن البصرى أنه تلا هذه الآية ثم قال: لا يزال الناس على دين ما حجوا البيت و استقبلوا القبلة.

مطلب: وجه تسمية البيت الحرام كعبة

و فى تسمية البيت كعبة أقوال، فقيل: لتكعبه أى تربعه، يقال برد مكعب إذا طوى مربعا، و قيل لعلوه و نتوئه، و منه سمى الكعب كعبا لنتوئه و خروجه من جانب القدم، يقال تكعبت الجارية إذا خرج نهداها، و قيل لانفرادها عن البيوت و ارتفاعها. و ذكر الأزرقى رحمه اللّه فى «تاريخه» أن الناس كانوا يبنون بيوتهم مدورة تعظيما للكعبة»(1).

مطلب: أول من بنى بيتا مربعا بمكة حميد بن زهير

و أول من بنى بيتا مربعا حميد بن زهير، فقالت قريش: ربع حميد بيتا، إما حياة و إما موتا(2).

و ذكر أيضا أن شيبة بن عثمان كان يشرف فلا يرى بيتا مشرفا على الكعبة إلا أمر بهدمه.

و نقل عن جده عن يوسف بن ماهك قال: كنت جالسا مع عبد اللّه بن عمرو بن العاص فى ناحية المسجد الحرام إذ نظر إلى بيت على أبى قبيس مشرف على الكعبة فقال:

أبيت ذلك؟ قلت: نعم، فقال: إذا رأيت بيوت مكة قد علت أخشبيها كذا و فجرت بطونها أنهارا فقد أزف الأمر. أى: قرب(3).

ص: 30


1- 5. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 280.
2- 6. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 280.
3- 7. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 280.

و ذكر أن العباس بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس لما بنى داره التى بمكة على الصيارفة حيال المسجد الحرام أمر القوام أن لا يرفعوا بناءها فيشرفوا به على الكعبة إعظاما لها، و أن الدور التى كانت تشرف على الكعبة هدمت و خربت إلا دار العباس هذه فإنها على حالها إلى اليوم. انتهى بمعناه(1).

و أخرج ابن شبة البصرى فى مؤلفه «أخبار مكة» أن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه لما قدم مكة رأى حول الكعبة بناء قد أشرف عليها فأمر بهدمه و قال: ليس لكم أن تبنوا حولها ما يشرف عليها. انتهى.

أقول: إذا كانت العلة فى عدم العلو و الإشراف هى الإعظام، فارتفاع البيوت الموجودة الآن المحيطة بالمسجد تؤذن بتركه، فلا حول و لا قوة إلا باللّه.

و بالجملة التطاول فى البنيان من علامات الساعة على حد قوله صلى اللّه عليه و سلم: «و أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان» لأن المراد من الحديث الإخبار بتغير الأحوال و تبدلها كما قال الإشبيلى. و فيه دليل على كراهة ما لا تدعو الحاجة إليه من تطويل البناء و تشييده. و مات صلى اللّه عليه و سلم و لم يشيد بناء و لا طوله. انتهى.

و ما تقدم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص آنفا مشعر بذلك حيث قال: فقد أزف الأمر.

و أما تسميته بالبيت الحرام فلأن اللّه تعالى حرمه و عظمه و حرم أن يصاد صيده و أن يختلى خلاه و أن يعضد شجره و أن يتعرض له بسوء. ثم المراد بتحريم البيت سائر الحرم على حد قوله تعالى هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ (سورة المائدة: 95) فإن المراد بها الحرم كما تقدم آنفا. و من ذلك قوله تعالى: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ (سورة الحج: 26) أى المقيمين بمكة، و ناهيك بهذه الإضافة المنوهة بذكره المعظمة لشأنه الرافعة لقدره. و كفى ذلك شرفا و فخرا، و به علا على سائر البقاع عظمة و قدرا، و ما أحسن ما قيل فى ذلك المعنى:

و كفى شرفا أنى مضاف إليكم و أنى بكم أدعى و أدعى و أعرف

و هى من السر فى إقبال قلوب العالمين عليه و عكوفهم لديه، و أنشد فى المعنى:

ص: 31


1- 8. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 280.

لا يرجع الطرف منه حين يبصره حتى يعود إليه الطرف مشتاقا

و من ذلك قوله تعالى: وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (سورة الحج: 29) و المراد به طواف الزيارة الذى هو ركن فى الحج باتفاق الأئمة الأربعة، و لا يحصل تمام التحلل إلا به، و هو آخر فرائض الحج الثلاثة، ثم قال قال النسفى: و هو: مطاف أهل الغبراء كما أن العرش مطاف أهل السماء.

مطلب: تسمية الكعبة البيت العتيق

و اختلف فى تسميته بالعتيق، فقيل: لأن اللّه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار.

و قيل: لقدمه لأنه أول بيت وضع كما تقدم، و العتيق القديم، قاله الحسن. و قيل: لأنه كريم على اللّه لأنه لم يجر عليه ملك لأحد من خلق اللّه فلا يقال بيت فلان و إنما بيت اللّه. و قيل: لأنه أعتق من الغرق لما أنه رفع زمن الطوفان. و قيل: لشرفه سمى عتيقا.

و فيل: لأن اللّه تعالى يعتق فيه رقاب المؤمنين من العذاب. و قيل: لأنه يعتق زائره من النار و هو قريب مما قبله. و قيل غير ذلك. و القول الأول هو المعتمد و فى هذا من التنويه بشأنه ما لا يخفى.

استطراد: قوله بعد هذه الآية: ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ (سورة الحج: 30) الآية، قال النسفى: الحرمة ما لا يحل هتكه و جميع ما كلفه اللّه عز وجل بهذه الصفة من مناسك الحج و غيرها، فيحتمل أن يكون عاما فى جميع تكاليفه و يحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج.

و قيل: حرمات اللّه خمس: البيت الحرام، و المشعر الحرام، و الشهر الحرام، و البلد الحرام، و المسجد الحرام.

أقول: فعلى هذا القول يكون التعظيم خاصا بهذه الخمس و اللّه الموفق. و ذكر الزمخشرى بدل المشعر المحرم حتى يحل، و من ذلك قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (سورة الحج: 33) أى عنده، و المراد الحرم الذى هو حريم البيت كقوله: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ (سورة المائدة: 95) كما تقدم، و المعنى واحد فلا نطول.

ص: 32

نكتة: ثم: للتراخى فى الوقت فاستعيرت للتراخى فى الأحوال آنفا، و المعنى إن لكم فى الهدايا منافع كثيرة فى دينكم و دنياكم و أعظها و أبعدها شوطا فى النفع محلها إلى البيت العتيق. كذا فى «الكشاف» و هذا بعض ما ورد من الآيات بنصها على فضل هذا البيت و شرفه. و أما ذكره اللّه ضمن الآيات على سبيل الكناية فكثير كما ذكره المفسرون.

و أما الأحاديث و الآثار فأكثر من أن تحصى، من ذلك قوله صلى اللّه عليه و سلم: «إن هذا البيت دعامة الاسلام و من خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر زائرا كان مضمونا على اللّه إن رده رده بأجر و غنيمة، و إن قبضه أن يدخله الجنة» و قال صلى اللّه عليه و سلم: «من خرج فى هذا الوجه لحج أو عمرة فمات لم يعرض و لم يحاسب و قيل له ادخل الجنة» و عنه صلى اللّه عليه و سلم قال: «لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها» يعنى الكعبة و الحرم «فإذا ضيعوا ذلك هلكوا» أخرجه ابن ماجه و سنده حسن .. إلى غير ذلك من الأحاديث و الآثار كما ستأتى مفرقة فى الأبواب الآتية فى مظانها إن شاء اللّه تعالى مع مزيد بيان و إيضاح. و اللّه أعلم.

ص: 33

الباب الثانى فيما ورد من الآيات الشريفة و العجائب الباهرة المنيفة فى زيادة تعظيم هذا البيت الشريف و ما جاء فى فضله و ما ورد فى فضل المقام و ما السبب فى تسميته بالمقام

اشارة

و فيه فصلان:

الأول: فى ذكر الحجر الأسود و ما ورد فى فضله و شرفه و ما سبب تسميته بالأسود.

و الفصل الثانى فى فضل الملتزم.

اعلم أن لهذا البيت المعظم زاده اللّه تشريفا و تعظيما آيات كثيرة و عجائب غزيرة تدل على شرفه و فضله، منها: مقام ابراهيم صلوات اللّه عليه، و هو لغة موضع قدم القائم، و مقام إبراهيم هو الحجر الذى وقف عليه الخليل، و فى سبب وقوفه عليه أقوال:

الأول: أنه وقف عليه لبناء البيت، قاله سعيد بن جبير.

الثانى: أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل عليهما السلام فلم يجده، فقالت زوجته انزل، فأبى، فقالت: دعنى أغسل رأسك فأتته بحجر فوضع رجله عليه و هو راكب فغسلت شقه ثم رفعته و قد غابت رجله فيه فوضعته تحت الشق الآخر و غسلته فغابت رجله الثانية فيه فجعله اللّه من الشعائر. و هذا القول منسوب إلى ابن عباس و ابن مسعود رضى اللّه عنهما.

الثالث: أنه وقف عليه للأذان للحج. و ذكر الأزرقى فى «تاريخه» أنه لما فرغ من التأذين جعل المقام قبلة فكان يصلى إليه مستقبل الباب. و ذكر أيضا أن ذرع المقام ذراع و أن القدمين داخلان فيه سبعة أصابع.

و ذكر القاضى عز الدين بن جماعة فى «منسكه» أنه حرر مقدار ارتفاعه من الأرض فكان نصف ذراع و ربع و ثمن بذراع القماش المستعمل بمصر فى زمنه.

و ذكر أن أعلى المقام مربع من كل جهة نصف ذراع و ربع و موضع غوص القدمين فى المقام ملبس بفضة و عمقه من فوق الفضة سبع قراريط و نصف قيراط بالذراع المتقدم.

ص: 34

أقول: لا مناقضة بين ما ذكره الأزرقى و القاضى عز الدين فى ذرع المقام، و يمكن الجمع بأن ذرع الأزرقى كان باليد و ذرع القاضى عز الدين بالذراع الحديد حسبما تقدم، و بين ذراع اليد و الحديد فرق نحو ثمن أو قريب منه بحسب الأشخاص فتأمل. انتهى.

و أخرج الأزرقى أيضا أن السيول كانت تدخل المسجد الحرام فربما رفعت المقام عن موضعه حتى جاء سيل أم نهشل الذى ماتت فيه فاحتمل المقام فذهب به فوجد بأسفل مكة فأتى به فربط إلى أستار الكعبة فى وجهها، و كتب بذلك إلى عمر فأقبل فزعا فدخل معتمرا فى رمضان و قد عفا السيل موضع المقام فدعا الناس و سألهم عن موضعه، فقال المطلب ابن أبى وداعة: عندى علم ذلك، كنت أخشى عليه هذا فأخذت قدره من موضعه إلى الركن و إلى باب الحجر و إلى زمزم بميقاط و هو عندى فى البيت، فقال له عمر: اجلس عندى و أرسل إليها فأرسل المطلب فأتى بها فوجدها عمر كما قال، فشاور الناس عمر و استثبت فقالوا: هذا موضعه فأمر بإحكام ربطه تحته ثم حوله فهو فى مكانه إلى هذا اليوم(1) انتهى بمعناه.

و مكانه هذا هو مكانه فى زمن الخليل عليه السلام كما نقله الإمام مالك فى «المدونة» ثم قال: و كانت قريش فى الجاهلية ألصقته بالبيت خوفا عليه من السيول، و استمر كذلك فى عهده صلى اللّه عليه و سلم و عهد أبى بكر رضى اللّه عنه، فلما ولى عمر رضى اللّه عنه رده إلى موضعه الآن كما سمعت. انتهى.

و أخرج الأزرقى عن ابن أبى مليكة أنه قال: موضع المقام هذا الذى هو فيه اليوم هو موضعه فى الجاهلية و فى عهد النبى صلى اللّه عليه و سلم و أبى بكر و عمر رضى اللّه عنهما إلا أن السيل ذهب به فى خلافة عمر ثم رد و جعل فى وجهة الكعبة حتى قدم عمر فرده(2). و فى هذا مناقضة لما قاله مالك رضى اللّه عنه فى «المدونة» و اللّه أعلم بالحقائق.

و صحح ابن جماعة ما قاله مالك. و يروى أن رجلا يهوديّا أو نصرانيّا كان بمكة يقال له جريج فأسلم، ففقد المقام ذات ليلة فوجد عنده، أراد أن يخرجه إلى ملك الروم، فأخذ منه ثم قتل(3).

ص: 35


1- 9. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 33.
2- 10. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 35.
3- 11. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 338.

و نقل العلامة ابن خليل فى «منسكه الكبير» أن الحجرين الكبيرين المفروشين خلف المقام اللذين يقف المصلى عليها قد صلى عليهما بعض الصحابة.

مطلب: تقبيل المقام و استلامه ليس بسنة

و قال أيضا إن مسح المقام و مسه و تقبيله ليس سنة، إنما أمرنا بالصلاة عنده، و روى أن ابن الزبير رأى قوما يمسحون المقام، فقال: لم تؤمروا بالمسح، إنما أمرتم بالصلاة عنده.

انتهى.

مطلب مهم

بحث: كون المسح و التقبيل ليس سنة لا يمنع من الإتيان بهما على وجه التبرك، فمن فعل ذلك تبركا فالظاهر أنه لا بأس به فتأمل. و اللّه الموفق.

و روى أن عمر رضى اللّه عنه قال: يا رسول اللّه، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فقال صلى اللّه عليه و سلم: لم أومر بذلك. فلم تغب الشمس حتى نزل قوله: وَ اتَّخِذُوا (سورة البقرة: 125) الآية. و هذا أحد المواطن التى وافق فيها عمر ربه.

مطلب: فيما يتعلق بالحجر الاسود

(و منها) الحجر الاسود و حفظه و هو يمين اللّه فى الأرض، يشهد لمن استلمه بحق و أنه من الجنة. و سيأتى معنى كونه يمين اللّه.

و روى عن ابن عمر رضى اللّه عنه أنه قال «استقبل النبى صلى اللّه عليه و سلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكى طويلا ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكى فقال: يا عمر ها هنا تسكب العبرات» رواه ابن ماجه و الحاكم(1).

و عنه صلى اللّه عليه و سلم «ما من أحد يدعو عند هذا الركن الأسود إلا استجاب اللّه له» أخرجه القاضى عياض فى «الشفاء»(2).

ص: 36


1- 12. ( 1) أخرجه الحاكم فى المستدرك برقم 1670.
2- 13. ( 2) الشفاء للقاضى عياض ج 2 ص 59.

مطلب الحجر الأسود و المقام ياقوتتان من يواقيت الجنة

اشارة

و عن أبى هريرة رضى اللّه عنه أنه قال: من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمة.

و معنى فاوض: لابس، كذا ذكره العلامة ابن جماعة.

و عن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول و هو مسند ظهره إلى الكعبة «الركن و المقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، و لو لا أن اللّه طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق و المغرب»(1).

و قد فضّل اللّه بعض الأحجار على بعض كما فضل بعض البقاع و الأيام و البلدان على بعض. و فى رواية: «و لو لا ما مسهما من خطايا بنى آدم لأضاءا ما بين المشرق و المغرب».

و فى رواية لابن أبى شيبة: «ما بين السماء و الأرض، و ما مسهما من ذى عاهة و لا سقيم إلا شفى». و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما عنه صلى اللّه عليه و سلم «نزل الحجر الأسود من الجنة و هو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بنى آدم» حديث حسن صحيح، و فى رواية خطايا أهل الشرك» و فى رواية لابن أبى شيبة «من الثلج» و فى رواية «كأنه لؤلؤة بيضاء» و فى رواية: «كأنه ياقوتة بيضاء» و فى رواية للأزرقى: «و إنه لأشد بياضا من الفضة».

و قال القاضى عز الدين بن جماعة: و قد رأيته أول حجاتى سنة ثمان و سبعمائة و به نقطة بيضاء ظاهرة لكل أحد، ثم رأيت البياض بعد ذلك قد نقص نقصا بينا. انتهى.

و قال العلامة ابن خليل فى «منسكه الكبير»: و قد أدركت فى الحجر الاسود ثلاثة مواضع بيضاء نقية، فى الناحية التى إلى باب الكعبة المعظمة: إحداها و هى أكبرهن قدر حبة الذرة الكبيرة، و الأخرى إلى جنبها و هى أصغر منها، و الثالثة إلى جنب الثانية و هى أصغر من الثانية تأتى قدر حبة الدخن. ثم إنى أتلمح تلك النقط فإذا هى كل وقت فى نقص. انتهى بنصه.

لطيفة: أحسن ما ذكر فى تسويده بالخطايا أنه للاعتبار، ليعلم أن الخطايا إذا أثرت فى الحجر فتأثيرها فى القلوب أعظم و أوقع، فوجب لذلك أن تجتنب، و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه

ص: 37


1- 14. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 338.

قال: «الحجر الأسود يمين اللّه فى أرضه. فمن لم يدرك بيعة النبى صلى اللّه عليه و سلم فمسح الحجر فقد بايع اللّه و رسوله»(1) و معنى كونه يمين اللّه فى أرضه أن من صافحه كان له عند للّه عهد، و جرت العادة بأن العهد الذى يعقده الملك لمن يريد موالاته و الاختصاص به إنما هو بالمصافحة فخاطبهم بما يعهدونه. قاله الخطابى.

و نقل عن المحب الطبرى أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبّل يمينه، فنزل الحجر منزلة يمين الملك، و للّه المثل الأعلى(2).

و روى الشيخان عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه أنه قبّل الحجر ثم إنه قال: و اللّه لقد علمت أنك حجر لا تضر و لا تنفع، قال بعض الفضلاء: إلا بإذن، و لو لا أنى رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقبلك ما قبلتك، و قرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (سورة الأحزاب: 21) و روى أنه لما قال ذلك قال له أبى بن كعب: إنه يضر و ينفع، إنه يأتى يوم القيامة و له لسان ذلق يشهد لمن قبله و استلمه فهذه منقبة. و فى رواية أيضا أن على بن أبى طالب كرم اللّه وجهه قال لعمر: بلى يا أمير المؤمنين، إنه يضر و ينفع، و إن اللّه لما أخذ المواثيق على آدم كتب ذلك فى رق و ألقمه الحجر. و قد سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: يؤتى بالحجر الأسود يوم القيامة و له لسان يشهد لمن قبله بالتوحيد، فقال عمر رضى اللّه عنه: لا خير فى عيش قوم لست فيهم يا أبا الحسن. و فى رواية: لا أحيانى اللّه لمعضلة لا يكون فيها ابن أبى طالب حيّا. و فى أخرى للأزرقى: أعوذ باللّه أن أعيش فى قوم لست فيهم يا أبا الحسن.

فوائد:

الأولى: إنما قال عمر رضى اللّه عنه ذلك لأن الناس كانوا حديثى عهد بعبادة الأصنام، فخشى أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعله فى الجاهلية، فأراد عمر رضى اللّه عنه أن يعرف الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا أن الحجر يضر و ينفع بذاته كما اعتقدته الجاهلية فى الأوثان، كذا نقله الجد عن المحب الطبرى.

ص: 38


1- 15. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 278.
2- 16. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 278.

الثانية: أن قول عمر هذا فيه التسليم للشارع فى أمور الدين و حسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها و هى قاعدة عظيمة فى اتباعه صلى اللّه عليه و سلم فيما فعله و لو لم تعلم الحكمة فيه، قال الشيخ زين الدين العراقى فى «شرح الترمذى» و فى قول عمر رضى اللّه عنه دليل على كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله، و أما قول الشافعى و أيما قبل من البيت فحسن فلم يرد به الاستحباب، لأن المباح من جملة الحسن عند الأصوليين. انتهى.

و أجيب عن الشافعى بأن معنى قوله: فحسن، أن ذلك غير مكروه و لا مستحب. كذا قاله الجد رحمه اللّه.

الثالثة: قال السهيلى: الحكمة فى كون خطايا بنى آدم سودته دون غيره من حجارة الكعبة، أن العهد الذى فيه هى الفطرة التى فطر الناس عليها فى توحيد اللّه، فكل مولود يولد على الفطرة، و على ذلك فلو لا أن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يسود قلبه بالشرك لما حال من العهد، فقد صار قلب ابن آدم محلا لذلك العهد و الميثاق، و صار الحجر محلا لما كتب فيه من ذلك العهد و الميثاق فتناسبا، فاسود من الخطايا قلب ابن آدم بعد ما كان أبيض لما ولد عليه من ذلك العهد، و اسود الحجر بعد بياضه. و كانت الخطايا سببا فى ذلك حكمة من اللّه تعالى. انتهى.

الرابعة: قد اعترض بعض الملحدين على الحديث المتقدم آنفا فقال: إذا سودته الخطايا ينبغى أن تبيضه الطاعات، أجاب ابن قتيبة عن ذلك بأنه لو شاء اللّه لكان، ثم قال:

أما علمت أيها المعترض أن السواد يصبغ به و لا ينصبغ، و البياض ينصبغ و لا يصبغ به.

مطلب: الحكمة فى تغيير الحجر الأسود إلى السواد

الخامسة: روى عن ابن عباس أنه قال: إنما غير بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة. قال المحب الطبرى: إن ثبت هذا فهو الجواب، قال ابن حجر: أخرجه الجندى فى «فضائل مكة» بإسناد ضعيف، و قيل: إن شدة سواده أن الحريق أصابه مرتين فى الجاهلية و الإسلام، و سيأتى الكلام فى سبب الحريق فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

ص: 39

مطلب: هل كان الحجر يسمى أسود قبل اسوداده حال كونه أبيض من اللبن أم لا؟

السادسة: قال الجد رحمه اللّه: فإن قلت: هل كان الحجر يسمى بالأسود قبل اسوداده حال كونه أشد بياضا من اللبن أو لا؟ و إنما تجدد له هذا الاسم بعد اسوداده. قلت: لم أر فى ذلك لأحد نقلا، و يحتمل أنه كان يسمى بذلك لما فيه من السودد، فيكون المراد بقولهم أسود أى ذو سودد، و يحتمل أنه لم يسم بذلك، إلا بعد اسوداده، و اللّه أعلم.

انتهى.

مطلب: خواص الحجر

اشارة

السابعة: من خواص الحجر الأسود أنه اذا جعل فى الماء لا يغرق بل يطفو و يرتفع، و إذا جعل فى النار لا يحمى و لا تعمل فيه النار بل يبقى باردا على حاله. كذا نقله الطرسوسى.

و من آيات الحجر: أنه أزيل عن مكانه غير مرة ثم أعاده اللّه إليه. و وقع ذلك من جرهم و إياد و العمالقة و خزاعة و القرامطة.

و آخر من أزاله منهم أبو طاهر سليمان بن الحسن القرمطى و ذلك أنه فى موسم سنة سبع عشرة و ثلاثمائة حصل منه فى يوم التروية أذى عام، و ذلك أنه نهب الحاج و سفك الدماء حتى سال بها الوادى ثم رمى ببعض القتلى فى بئر زمزم حتى امتلأت، و أصعد رجلا على أعلى البيت ليقلع الميزاب فتردى على رأسه و مات، ثم انصرف و معه الحجر الأسود فعلقه على الأسطوانة السابعة من جامع الكوفة لاعتقاده الفاسد و زعم أن الحج ينتقل إليها، فاستمر عنده إلى أن اشتراه منه المطيع للّه أبو القاسم و قيل أبو العباس الفضل بن المقتدر بثلاثين ألف دينار، ثم أعيد إلى مكانه سنة تسع و ثلاثين و ثلاثمائة، و كانت مدة مكثه عندهم اثنتان و عشرون سنة إلا شهرا، و لما ذهب به هلك تحته أربعون جملا و لما أعيد إلى مكة حمل على قعود أعجف فسمن تحته.

ص: 40

و عن مجاهد أنه قال: يأتى الحجر و المقام يوم القيامة مثل أبى قبيس كل واحد منهما له عينان و شفتان يناديان بأعلى أصواتهما يشهدان لمن و افاهما بالوفاء.

و عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «إن اللّه يعيد الحجر إلى ما خلقه أول مرة» أخرجه الأزرقى.

و أخرج ابن شيبة عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال: يرفع الحجر الأسود يوم الاثنين. و عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «مسح الحجر الأسود و الركن اليمانى يحط الخطايا حطّا» و روى أن الحجر الأسود كان يسلم على النبى صلى اللّه عليه و سلم قبل أن يبعث.

فروع:

اشارة

الأول: السّنة فى تقبيل الحجر الأسود أن يكون بلا تصويت و لا تطنين و لا لحس باللسان، ثم إن أمكنه أن يسجد عليه فعل لأنه جائز عندنا و عند الشافعى و أحمد لأن فيه تقبيلا و زيادة سجود للّه تعالى، و قال مالك: إن السجود عليه بدعة، ثم ذلك مشروط بعدم الإيذاء و الزحام و المدافعة، لأن التقبيل سنة و ترك الأذى عن الناس فريضة، فلا يجوز الإتيان بالسنة مع ترك الفريضة، و لأن له خلفا و هو الإشارة.

الثانى: إذا كان الحجر مطيبا فقبله المحرم فلزق الطيب بفمه أو بيده أو بأكثرهما لزمه الدم و إلا فصدقة، و هذا عندنا، و عند الشافعى لا يشرع له التقبيل و لا المس.

الثالث: يستحب لمن أكل بصلا أو ثوما أو ما له رائحة كريهة و أراد تقبيل الحجر أن ينظف فاه بسواك و نحوه مما يذهب الرائحة، فإن كان به بخر لا يمكن زواله فهو معذور.

الرابع: لو أزيل الحجر من موضعه- و العياذ باللّه تعالى- استلم ركنه و قبّله و سجد عليه. كذا نقله القاضى عز الدين بن جماعة الدارمى من الشافعية، و استشكله بعض علمائهم. و وجهه الجد رحمه اللّه و قال: إن الخصوصية التى تثبت للحجر من كونه يمين اللّه فى الأرض و يشهد لمن استلمه بحق و تقبيله صلى اللّه عليه و سلم له غير موجودة فى الركن الذى هو فيه. انتهى.

أقول: لم أقف على نقل لأصحابنا فى ذلك، و ما ذكره الجد من التوجيه فى غاية القبول، و ربما يوافق أصولنا لأنه حيث ثبت هذا الحكم للحجر اقتصر عليه و اختص به

ص: 41

دون الركن فلا ينتقل الحكم إلى الركن و لا يقوم بدلا عن الحجر، لأن من أصلنا أن نصب البدل بالرأى لا يجوز. أما من أراد الطواف و وقف مستقبل الركن و رفع يديه لأجل النية فينبغى الجواز لأنه محل البداءة. فتأمل. انتهى.

فائدتان:

الأولى: قد تقدم فى الفرع الأول أن الزحام المفضى إلى الإيذاء عند استلام الحجر ممنوع، و قد ثبت عن عبد اللّه بن عمر رضى اللّه عنه أنه كان يزاحم على الحجر حتى يدمى أنفه و لا يترك تقبيله، فالجواب أنه كان مجتهدا و أن مذهبه أفضلية المزاحمة على الحجر و إن أفضت إلى الأذى.

مطلب: أول من استلم الركن من الأئمة قبل الصلاة و بعدها ابن الزبير

اشارة

الثانية: أول من استلم الركن الأسود من الأئمة قبل الصلاة و بعدها ابن الزبير فاستحسنت ذلك الولاة بعده فاتبعته، أخرجه الأزرقى.

فصل: فى فضل الركن اليمانى و ذكر شى ء مما ورد فيه:

اشارة

روى عن ابن عباس رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «ما مررت بالركن اليمانى إلا و عنده ملك ينادى آمين آمين فإذا مررتم به فقولوا اللهم ربنا آتنا فى الدنيا حسنة و فى الآخرة حسنة و قنا عذاب النار».

و عن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال: «على الركن اليمانى ملكان يؤمنان على دعاء من مر بهما و إن على الحجر الأسود ما لا يحصى» أخرجه الأزرقى.

و عن أبى هريرة رضى اللّه عنه أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال: «وكل بالركن اليمانى سبعون ملكا من قال اللهم إنى أسألك العفو و العافية فى الدنيا و الآخرة، ربنا آتنا فى الدنيا حسنة و فى الآخرة حسنة و قنا عذاب بالنار، قالوا: آمين» قال العلامة عز الدين بن جماعة رحمه اللّه: و لا تضاد بين الأحاديث على تقدير الصحة إذ يحتمل أن السبعين موكلون به و لم يكلفوا التأمين، و إنما يؤمّنون عند سماع الدعاء، و الملكان كلفا قول آمين. و رواية ملك محمولة على الجنس. انتهى بمعناه.

ص: 42

و روى الأزرقى عن عطاء قال قيل: يا رسول اللّه، إنك تكثر من استلام الركن اليمانى، قال: ما أتيت عنده قط إلا و جبريل عليه السلام قائم عنده يستغفر لمن يستلمه(1).

و عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «عند الركن اليمانى باب من أبواب الجنة، و الركن الاسود من أبواب الجنة».

و أخرج الأزرقى عن مجاهد أنه قال: ما من إنسان يضع يده على الركن اليمانى و يدعو إلا استجيب له، و إن بين اليمانى و الركن الأسود سبعين ألف ملك لا يفارقونه، هم هنالك منذ خلق اللّه البيت(2).

و فى «رسالة الحسن البصرى» عن النبى صلى اللّه عليه و سلم «ما بين الركن اليمانى إلى الركن الأسود قبور سبعين نبيا».

و فى «منسك» ابن جماعة «ما بين الركن و المقام و زمزم قبور نحو من ألف نبى».

و نقل عن الشعبى أنه قال: رأيت عجبا: كنا بفناء الكعبة أنا و عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه ابن الزبير و أخوه مصعب و عبد الملك بن مروان، فقالوا بعد أن فرغوا من حديثهم: ليقم رجل رجل فليأخذ بالركن اليمانى و ليسأل اللّه تعالى حاجته فإنه يعطى من سعة، ثم قالوا لعبد اللّه بن الزبير: قم أولا، فإنك أول مولود فى الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليمانى ثم قال: اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم، أسألك بحرمة وجهك و حرمة عرشك و حرمة نبيك صلى اللّه عليه و سلم أن لا تميتنى من الدنيا حتى تولينى الحجاز و يسلم علىّ بالخلافة، و جاء و جلس.

ثم قام أخوه مصعب فأخذ بالركن اليمانى فقال: اللهم إنك رب كل شى ء و إليك كل شى ء، أسألك بقدرتك على كل شى ء أن لا تميتنى من الدنيا حتى تولينى العراق و تزوجنى سكينة بنت الحسين. و جاء و جلس.

ثم قام عبد الملك بن مروان فأخذ بالركن و قال: اللهم رب السموات السبع و الأرض ذات النبات بعد القفر، أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك، و أسألك بحرمة وجهك،

ص: 43


1- 17. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 338.
2- 18. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 339.

و أسألك بحقك على جميع خلقك و بحق الطائفين حول بيتك أن لا تميتنى حتى تولينى شرق الأرض و غربها، و لا ينازعنى أحد إلا أتيت برأسه، ثم جاء فجلس.

ثم قام عبد اللّه بن عمر حتى أخذ بالركن ثم قال: اللهم يا رحمن يا رحيم، أسألك برحمتك التى سبقت غضبك، و أسألك بقدرتك على جميع خلقك أن لا تميتنى من الدنيا حتى توجب لى الجنة.

قال الشعبى فما ذهبت عيناى من الدنيا حتى رأيت كل واحد و قد أعطى ما سأل، و بشر عبد اللّه بن عمر بالجنة(1).

أقول: لقائل أن يقول: ما الدليل على وجه البشرى؟ و لم أر أحدا من المؤلفين فى هذا المعنى ذكر شيئا مما يستدل به على ذلك و لا تعرض له فيما وقفت عليه. و يحتمل أن يكون أن يكون فى ذلك وجهان:

الأول: أن سيدنا عبد اللّه بن عمر رضى اللّه عنه كان قد كف بصره بعد ذلك و قد وعد النبى صلى اللّه عليه و سلم من ابتلى بذلك بالجنة كما فى «صحيح البخارى».

الثانى: أن الثلاثة لما أعطوا ما سألوه كان ذلك أدل دليل على إجابة دعاء الجميع، إذ هو اللائق بكرم اللّه وسعة عطائه، و كان سيدنا عبد اللّه رضى اللّه عنه من الورع و الزهد و الصلاح بالمكانة التى لا تجهل كما فى مناقبه.

و فى «منهاج التائبين»: من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الركن اليمانى ليستلمه خاض فى الرحمة، فإذا استلمه غمرته الرحمة. و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «ما بين الركن اليمانى و الحجر الاسود روضة من رياض الجنة».

فرع: استلام الركن اليمانى عندنا حسن و تركه لا يضر. لأنه صلى اللّه عليه و سلم كان يستلمه مرة و يتركه أخرى و هو الصحيح. كذا نقله الكرمانى من أصحابنا. و عن محمد أنه يستلمه و يقبل يده. و فى رواية عنه أنه يقبله. و عند الشافعى رحمه اللّه يستلم الركن اليمانى قولا واحدا.

ص: 44


1- 19. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 318.
مطلب: فى كيفية استلام الركن اليمانى هل يقبل يده ثم ينقلها إليه أو يضع يده عليه ثم يقبلها؟

لكن اختلف أصحابه فى كيفية استلامه. قال بعضهم: يقبل يده أولا ثم يضعها على الركن لينقل القبلة إليه. و قال بعضهم: يضع اليد على الركن أولا ثم يقبلها ليكون ناقلا بركته إلى يده و نفسه، و هو الأصح عندهم. و عند مالك رحمه اللّه يستلم الركن اليمانى و لا يقبل يده، و إنما يضعه على فيه. و عند أحمد رحمه اللّه أنه يستلمه بيده و لا يقبله. و فى تقبيل يده خلاف عند أصحابه، كذا نقله الشيخ عز الدين بن جماعة. و نقل الكرمانى من أصحابنا رواية عن أحمد أنه يقبله. و فى الكل ورد النقل عن الصحابة و التابعين رضوان اللّه عليهم.

(و أما الركنان الآخران) اللذان يليان الحجر: فمذهب أهل العلم لا يستلمان، كذا نقل عن كثير من الصحابة منهم عمر و ابنه و معاوية.

فصل: فى فضل الملتزم و الدعاء فيه:

اشارة

إنما سمى بذلك لأن الناس يلتزمونه و يدعون عنده و هو من المواطن التى يستجاب فيها الدعاء. روى القاضى عياض فى «الشفاء» بقراءته على القاضى الحافظ أبى علىّ رحمه اللّه، عن أبى العباس العذرىّ عن (أبى) أسامة محمد الهروىّ، عن الحسن بن رشيق، عن أبى الحسن محمد بن الحسن بن راشد، عن أبى بكر محمد بن إدريس، عن الحميدىّ، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضى اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: «ما دعا أحد بشى ء فى هذا الملتزم الا استجيب له» قال ابن عباس: و أنا فما دعوت اللّه بشى ء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلا استجيب لى.

و قال عمرو بن دينار: و أنا فما دعوت اللّه بشى ء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من ابن عباس إلا استجيب لى. و قال سفيان: و أنا فما دعوت اللّه بشى ء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من عمرو بن دينار إلا استجيب لى. و قال الحميدى: و أنا فما دعوت اللّه بشى ء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من سفيان إلا استجيب لى. و قال محمد بن إدريس: و أنا فما

ص: 45

دعوت اللّه بشى ء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من الحميدى الا استجيب لى. و قال أبو الحسن محمد بن الحسن: و أنا فما دعوت اللّه بشى ء فى هذا الملتزم منتذ سمعت هذا من محمد بن إدريس إلا استجيب لى. قال أبو أسامة: و ما أذكر الحسن بن رشيق قال فيه شيئا. و أنا فما دعوت اللّه بشى ء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من الحسن بن رشيق إلا استجيب لى فى أمر الدنيا، و أنا أرجو أنت يستجاب لى فى أمر الآخرة. قال العذرى: و أنا فما دعوت اللّه بشى ء فى هذا الملتزم منذ سمعت هذا من أبى أسامة إلا استجيب لى. قال أبو على: و أنا فقد دعوت اللّه فيه بأشياء كثيرة فاستجيب لى بعضها و أرجو من سعة فضله أن يستجيب لى بقيتها. انتهى(1).

يقول الحقير مؤلف هذه الفضائل و جامعها: قد دعوت اللّه فيه بأشياء فاستجيب لى بفضل اللّه و أنا مستمر على الدعاء فى أمور أخر، منها حسن الخاتمة، و أرجو اللّه إجابة الدعاء بحصولها.

و ذكر القاضى عز الدين فى «منسكه» عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال: من التزم الكعبة و دعا استجيب له، ثم قال: فيجوز أن يكون على عمومه و يجوز أن يكون محمولا على الملتزم(2). انتهى.

ذكر معرفة الملتزم و المستجار و المتعوذ و المدعى و الحطيم

ذكر معرفة الملتزم و المستجار(3) و المتعوذ و المدعى و الحطيم

أما الملتزم فهو ما بين الحجر الأسود و باب الكعبة(4) كما ثبت عن ابن عباس رضى اللّه عنه.

و أما المستجار فهو ما بين الركن اليمانى و الباب المسدود فى دبر الكعبة(5) و الدعاء عنده مستجاب كما رواه ابن أبى الدنيا.

و أما الحطيم فهو ما بين الحجر الأسود و مقام إبراهيم و زمزم و حجر إسماعيل.

و سمى بذلك لأن الناس كانوا يحطّمون هنالك بالأيمان و يستجاب فيها الدعاء للمظلوم على

ص: 46


1- 20. ( 1) الحديث و الأخبار التالية له لدى القاضى عياض فى الشفاء ج 2 ص 60.
2- 21. ( 2) إخبار الكرام للأسدى ص 80.
3- 22. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى« المستجاب» و صوابه لدى الأسدى ص 80 و هو ينقل عن ابن ظهيرة.
4- 23. ( 4) الأسدى ص 80.
5- 24. ( 5) الأسدى ص 80.

الظالم، فقل من حلف هنالك كاذبا إلا عجّلت له العقوبة و كان ذلك يحجز الناس عن المظالم(1).

و قيل: لأن الشاذروان هو الحطيم، لأن البيت رفع بناؤه و ترك هو بالأرض محطوما(2).

و الحطيم عندنا: هو الحجر- بكسر الحاء و سكون الجيم- و هو الموضع الذى نصب فيه ميزاب البيت، و إنما سمى بالحطيم لأنه حطم من البيت أى كسر، كذا فى كتبنا.

و أما المتعوّذ و المدعى فروى عن ابن عباس أن الملتزم و المتعوذ و المدعى ما بين الحجر الأسود و الباب. و عن عمر بن عبد العزيز رضى اللّه عنه أن ما بين الركن الاسود و الباب، هو الملتزم، و ما بين الركن اليمانى و الباب المسدود هو المتعوذ. كأنه جعل الأول موضع رغبة، و الثانى موضع استعاذة.

و عن عمرو بن العاص أنه طاف بالبيت ثم استلم الحجر و قام بين الركن و الباب، فوضع صدره و وجهه و ذراعيه و كفيه و بسطهما بسطا، ثم قال: كذا رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يفعله(3).

مطلب: دعاء آدم على نبينا و عليه الصلاة و السلام

و أخرج الأزرقى فى «تاريخه» أن آدم عليه السلام طاف بالبيت سبعا حين نزل، ثم صلى تجاه الكعبة ركعتين، ثم أتى الملتزم فقال: اللهم إنك تعلم سريرتى و علانيتى فاقبل معذرتى. و تعلم ما فى نفسى و ما عندى فاغفر لى ذنوبى. و تعلم حاجتى فأعطنى سؤلى.

اللهم إنى أسألك إيمانا يباشر قلبى و يقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبنى إلا ما كتبت لى، و الرضا بما قضيت علىّ، فأوحى اللّه تعالى إليه: يا آدم قد دعوتنى بدعوات و استجبت لك، و لن يدعونى بها أحد من ولدك إلا كشفت همومه و غمومه، و كففت عليه ضيعته، و نزعت الفقر من قلبه، و جعلت الغنى بين عينيه، و تجرت له من وراء تجارة كل تاجر، و أتته الدنيا و هى راغمة و إن كان لا يريدها، ثم قال: فمنذ طاف آدم كانت سنة الطواف انتهى(4).

ص: 47


1- 25. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 318.
2- 26. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 318.
3- 27. ( 3) الأسدى ص 81 و الخبر لديه بالنص كما هنا.
4- 28. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 44، إخبار الكرام ص 81.

قال العلامة عز الدين بن جماعة: و لعله يريد سنة الطواف فى العدد، و إلا فقد ورد أن الملائكة طافت به قبل آدم عليه السلام، فلعله كان بغير عدد أو بغير ذلك العدد أو أراد لبنيه من بعده، و اللّه أعلم. انتهى.

و روى الأزرقى أن ابن الزبير مر بعبد اللّه بن العباس و هو بين الباب و الركن الأسود فقال له ليس هاهنا الملتزم، إنما هو دبر البيت، فقال ابن عباس هنالك ملتزم عجائز قريش.

و ذكر أيضا أن عائشة رضى اللّه عنه أرسلت إلى أصحاب المصابيح فأطفئوها ثم طافت من وراء ستر و حجاب ثلاثة أسابيع، تقف بعد كل أسبوع بين الباب و الحجر تدعو.

مطلب: الأولى عند الحنفية لمن أراد الملتزم أن يقدمه على ركعتى الطواف ثم يأتى بهما

فرع: الأولى عندنا لمن انتهى طوافه و أحب أن يلتزم أن يقدمه على ركعتى الطواف ثم يأتى بهما بعد ذلك، كذا فى منسك الكرمانى من أصحابنا: و ذكر غيره تقديم الصلاة على الالتزام و هذا فيما عدا طواف الوداع. و أما بعده فإنه عقب الصلاة و الشرب من ماء زمزم يأتى الملتزم ثم يدعو فيه بما أراد ثم ينصرف القهقرى فيكون آخر عهده الالتزام. و اللّه أعلم.

عدنا إلى المقصود:

و منها: بقاء بنائه الموجود الآن و ثباته و لا يبقى غيره من الأبنية هذه المدة الطويلة كما ذكره المهندسون، و ذلك لأن الأرياح و الأمطار قلما تواترت على بناء إلا خرب، و هذا البيت الشريف لم تزل الأرياح العاصفة و الأمطار العظيمة تتوالى عليه منذ بنى و إلى تاريخه، و لم يقع بحمد اللّه تغير فى بنائه و لا خلل.

مطلب: ما وقع فى الكعبة من الترميم

قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر رحمه اللّه: و لم أقف فى شى ء من التواريخ على أن أحدا من الخلفاء و لا من دونهم غيّر من الكعبة شيئا مما صنعه الحجّاج إلى الآن إلا فى الميزاب و الباب و عتبته. و كذا وقع الترميم فى جدارها غير مرة و فى سقفها و سلم سطحها.

و وقع أيضا فى جدارها الشامى ترميم فى شهور سنة سبعين و مائتين، ثم فى شهور سنة

ص: 48

اثنتين و أربعين و خمسمائة ثم فى شهور سنة تسع عشرة و ستمائة ثم فى سنة ثمانين و ستمائة ثم فى سنة أربع عشرة و ثمانمائة(1).

ثم قال: و قد ترادفت الأخبار الآن فى وقتنا هذا فى سنة اثنتين و عشرين أن جهة الميزاب فيها ما يحتاج إلى ترميم، فاهتم لذلك سلطان الإسلام الملك المؤيد. ثم حججت سنة أربع و عشرين و تأملت المكان الذى قيل عنه فلم أجده بتلك الشناعة. و قد نقض سقفها فى سنة سبع و عشرين على يدى بعض الجند فجدد لها سقفا و رخم السطح. فلما كان فى سنة ثلاث و أربعين صار المطر إذا نزل ينزل إلى داخل الكعبة أشد مما كان أولا فأداه رأيه الفاسد إلى أن نقض السقف مرة أخرى، و سدّ ما كان فى السطح من الطاقات التى كان يدخل منها الضوء إلى الكعبة(2).

و لزم من ذلك امتهان الكعبة، بل صار العمال يصعدون فيها بغير أدب، فغار بعض المجاورين، فكتب إلى القاهرة يشكو ذلك، فبلغ السلطان الظاهر فأنكر أن يكون أمر بذلك. وجهز بعض الجند لكشف ذلك(3). فتعصب للأول من جاور و اجتمع الباقون رغبة و رهبة فكتبوا محضرا بأنه ما فعل شيئا إلا عن ملأ منهم و أن كل ما فعله مصلحة فسكن غيظ السلطان و غطى عليه الأمر.

و قال أيضا: و مما يتعجب منه أنه لم يبق الاحتياج فى الكعبة إلى الإصلاح إلا فيما صنعه الحجاج، إما من الجدار الذى بناه فى الجهة الشامية و إما فى السلم الذى جدده للسطح و العتبة، و ما عدا ذلك مما وقع فإنما هو لزيادة محضة كالرخام أو التحسين كالباب و الميزاب(4).

قال الجد نوّر اللّه ضريحه: و ما ذكره من نقض سقفها سنة سبع و عشرين على يد بعض الجند و أنه جدد لها سقفا سبق قلم، و صوابه سنة ثمان و ثلاثين و اللّه أعلم.

انتهى(5).

ص: 49


1- 29. ( 1) إخبار الكرام ص 90.
2- 30. ( 2) إخبار الكرام ص 90.
3- 31. ( 3) إخبار الكرام ص 91.
4- 32. ( 4) إخبار الكرام ص 92.
5- 33. ( 5) إخبار الكرام ص 92.

مطلب: عقوبة من أخذ شيئا من مال الكعبة و يسمى بالأبرق

(و منها) أن فتى من الحجبة حضرته الوفاة و اشتد عليه النزع جدا حتى مكث أياما ينزع نزع شديدا فقال له أبوه: لعلك أصبت من الأبرق شيئا، يعنى مال الكعبة، فقال: أربعمائة دينار، فأشهد أبوه أن عليه للكعبة أربعمائة دينار، فسرى عن الفتى ثم لم يلبث أن مات(1).

مطلب: إذا وضع مفتاح البيت فى فم الصغير تكلم سريعا

(و منها) أن مفتاح بابها إذا وضع فى فم الصغير الذى ثقل لسانه عن الكلام تكلم سريعا. ذكره الفاكهى، و قال: إن ذلك مجرب(2).

مطلب: دخان البيت يصعد مستويا

(و منها) ما ذكره ابن الحاج أن دخان البيت لا يذهب يمينا و لا شمالا و لا أمام و لا خلف، بل يصعد مستويا إلى السماء. قال الفاسى: و لعل المراد بالدخان دخان ما تجمر به الكعبة(3) و اللّه أعلم

مطلب: هيبته و تعظيمه فى القلوب

(و منها) هيبته و تعظيمه فى قلوب الناس و كف الجبابرة عنه على مر الدهور و الأعصار و إذعان نفوس العرب لتوفير هذه البقعة بدون ناه و لا زاجر. روى أن الحجاج بن يوسف لما نصب المنجنيق على أبى قبيس بالحجارة و النيران و اشتعلت النار فى أستار الكعبة، جاءت سحابة من نحو جدة يسمع فيها الرعد و يرى البرق فمطرت فلم يجاوز مطرها الكعبة و المطاف، فأطفأت النار و أرسل اللّه عليهم صاعقة فأحرقت منجنيقهم فتداركوه.

قال عكرمة: و أحسب أنها احترقت تحته أربعة رجال فقال الحجاج: لا يهولنكم هذا فإنها أرض صواعق، فأرسل اللّه صاعقة أخرى فأحرقت المنجنيق و أحرقت معه أربعين رجلا، و ذلك فى سنة ثلاث و سبعين فى أيام عبد الملك بن مروان.

ص: 50


1- 34. ( 1) إخبار الكرام ص 93.
2- 35. ( 2) نقله الفاسى فى شفاء الغرام ج 1 ص 301.
3- 36. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 302.

قال الجد: هذا و الحجاج ما قصد التسلط على البيت، و إنما تحصن به ابن الزبير ففعل ذلك لإخراجه كما أشير إليه قريبا إن شاء اللّه تعالى.

أقول: و توجيهه أن فعل الحجاج و إن لم يقصد التسلط على البيت فهو مؤذن بجبروته و عدوانه و انتهاكه لحرمة البيت و المسجد و البلد و استباحته للقتال فى هذه البقعة الشريفة، فهو جدير بإرسال الصواعق على منجنيقه و رجاله، بل و عليه، فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. انتهى.

(و منها) أمن الخائف الثابت ذلك من قديم الدهر و كانت العرب يغير بعضها على بعض و يتخطفون الناس بالقتل و أخذ الأموال و أنواع المظالم إلا فى الحرم، و ينبنى على هذا أمن الحيوان فيه و سلامة الشجر، و ذلك للبركة و الهيبة و العظمة التى جعلها اللّه فى هذا البيت و ما جاوره و بركة دعوة الخليل صلوات اللّه عليه فى قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً (سورة البقرة: 126) الآية، و العرب تقول فى ضرب المثل: آمن من حمام مكة، لأنها لا تهاج و لا تصاد(1).

حكى عن بعض العباد أنه قال: كنت أطوف بالبيت ليلا، فقلت: يا رب، إنك قلت وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (سورة آل عمران: 97) فمن ماذا هو آمن؟ فسمعت من يكلمنى و يقول:

من النار، فنظرت و تأملت فما كان فى المكان أحد(2).

مطلب: لا يرى البيت أحد لم يكن رآه قبل إلا ضحك أو بكى

(و منها) ما روى عن الجاحظ أنه قال: لا يرى البيت الحرام أحد ممن لم يكن رآه قبل ذلك إلا ضحك أو بكى.

مطلب: تعجيل العقوبة لمن قصد البيت بسوء

(و منها) تعجيل العقوبة لمن قصده بسوء كقصة تبع و أصحاب الفيل(3). حين قصدوا تخريبه، و عند ذكرهما رأيت أن أسوق خبرهما باختصار:

(أما قصة تبع(4)) فذكر القطبى(5) فى «الإعلام» أنه كان من الخمسة الذين دانت لهم

ص: 51


1- 37. ( 1) إخبار الكرام ص 94- 95.
2- 38. ( 2) إخبار الكرام ص 95.
3- 39. ( 3) إخبار الكرام ص 95.
4- 40. ( 4) انظر قصة تبع: منائح الكرم ج 1 ص 374.
5- 41. ( 5) تحرف فى المطبوع إلى:« القرطبى» و صوابه لدى السنجارى فى منائح الكرم ج 1 ص 374.

الدنيا بأسرها، و كان كثير الوزراء فاختار منهم واحدا و أخرجه لينظر فى ملكه، و كان إذا أتى بلدة يختار من حكمائها عشرة رجال، و كان معه من العلماء و الحكماء مائة ألف رجل هم الذين اختارهم من البلدان و لم يكونوا محسوبين من الجيش. ثم إنه قصد مكة، فلما انتهى إليها لم يخضع له أهلها كخضوع غيرهم و لم يعظموه، فغضب لذلك و دعا وزيره و شكى إليه فعلهم، فقال: إنهم عرب لا يعرفون شيئا و لهم بيت يقال له الكعبة و هم معجبون به، فنزل الملك بعسكره ببطحاء مكة و عزم على هدم البيت و قتل الرجال و نهب النساء و سبيهم، فأخذه الصداع و تفجر من عينيه و أذنيه و منخريه و فمه ماء منتن فلم يصبر عنده أحد طرفة عين من شدة النتن.

(فقال لوزيره) اجمع العلماء و الحكماء و الأطباء فلم يقدروا على الجلوس عنده، و عجزوا عن مداواته و قالوا: نحن نقدر على مداواة ما يعرض من أمور الأرض، و هذا من السماء لا نستطيع له ردا، ثم اشتد أمره و تفرق الناس عنه، فلما أقبل الليل جاء أحد العلماء لوزيره فقال: إن بينى و بينك سرا، فإن كان الملك يصدقنى فى حديثه عالجته، فاستبشر الوزير بذلك و جمع بينه و بين الملك، فلما خلا به قال له العالم: أيها الملك أنت نويت لهذا البيت سوءا، قال: نعم، فقال له العالم: أيها الملك نيتك أحدثت لك هذا الداء، و رب هذا البيت عالم بالأسرار، بادر و ارجع عما نويت، فقال الملك: قد أخرجت ذلك من قلبى و نويت لهذا البيت و أهله كل خير، فلم يخرج العالم من عنده الا و قد عافاه اللّه تعالى من علته فآمن باللّه من ساعته و خلع على الكعبة سبعة أثواب، و هو أول من كسا الكعبة، كما سأذكره بعد إن شاء اللّه تعالى.

(ثم خرج) إلى يثرب و ليس بها يومئذ بيت و إنما فيها عين ماء فنزل عند العين ثم إن العلماء و الحكماء أخرجوا من بينهم أربعمائة و هم أعلمهم و تبايعوا أن لا يخرجوا من يثرب و إن قتلهم الملك فلما علم الملك بذلك سألهم عن الحكمة التى اقتضت إقامتهم فى هذه البلدة؟

فقالوا: أيها الملك إن ذلك البيت و هذه البقعة يشرفان برجل يبعث فى آخر الزمان اسمه محمد، و وصفوه ثم قالوا: طوبى لمن أدركه و آمن به، و نحب أن ندركه أو يدركه أولادنا، فلما سمع الملك بذلك هم بالمقام معهم فلم يقدر على ذلك فأمر بعمارة أربعمائة دار على عدة العلماء، و أعطى كل واحد منهم جارية و أعتقها و زوجه بها، و أعطاهم مالا جزيلا.

ص: 52

ثم كتب كتابا و ختمه بخاتم من ذهب و دفعه إلى عالمهم الكبير، الذى أبرأه من علته و أمره أن يدفعه إلى محمد صلى اللّه عليه و سلم إن أدركه، و إلا يوصى بذلك أولاده ثم أولادهم.

و كان الكتاب أما بعد: فإنى آمنت بك و بكتابك الذى ينزل عليك، و أنا على دينك و سنتك و آمنت بربك و بكل ما جاء من ربك من شرائع الإيمان و الإسلام، فإن أدركتك فبها و نعمت، و إلا فاشفع لى و لا تنسنى يوم القيامة فإنى من أمتك الأولين، و قد بايعتك قبل مجيئك و أنا على ملتك و ملة إبراهيم أبيك عليه السلام.

ثم نقش عليه للّه الأمر من قبل و من بعد، و كتب عنوانه: إلى محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب نبى اللّه و رسوله و خاتم النبيين و رسول رب العالمين صلى اللّه عليه و سلم من تبع الأول حمير ابن وردع، ثم سار من يثرب إلى بلاد الهند فمات بها، و كان من يوم موته إلى اليوم الذى بعث فيه النبى صلى اللّه عليه و سلم ألف سنة لا تزيد و لا تنقص.

مطلب: آباء الأنصار أولئك الأربعمائة حكيم

و كان الأنصار من أولاد أولئك العلماء و الحكماء (فلما ظهر خبره) صلى اللّه عليه و سلم بمكة أرسلوا إليه كتاب تبع مع رجل منهم يقال له: أبو ليلى إلى مكة فوجد النبى صلى اللّه عليه و سلم فى قبيلة بنى سليم، فعرفه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فقال له: أنت أبو ليلى؟ فقال: نعم، قال: معك كتاب تبع الأول، قال: نعم، و بقى أبو ليلى متفكرا، ثم دفع الكتاب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فدفعه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى على بن أبى طالب فقرأه عليه، فلما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلام تبع قال: مرحبا بالأخ الصالح ثلاث مرات، ثم أمر أبا ليلى بالرجوع إلى المدينة يبشرهم بقدومه صلى اللّه عليه و سلم.

مطلب: أبو أيوب الذى نزل عنده صلى اللّه عليه و سلم من ولد العالم الذى شفى به تبع

(فلما هاجر) النبى صلى اللّه عليه و سلم إلى المدينة سأله أهل القبائل أن ينزل عليهم و صاروا يتعلقون بزمام ناقته و هو يقول: خلوها فإنها مأمورة، حتى جاءت إلى دار أبى أيوب الأنصارى، و كان من أولاد العالم الذى شفى تبع برأيه. انتهى بمعناه.

ص: 53

مطلب: على وجه تسمية قعيقعان و أجياد بذلك

و قيل: بل سبب عزمه على هدم البيت أن جماعة من هذيل ممن يحسد قريشا حسنوا لتبع هدم الكعبة، و أن يبنى بيتا عنده و يصرف حجاب العرب إليه، فلما سار لهذا القصد حصل له ما حصل، فأقلع عن ذلك كما تقدم، و أمر بقتل الهذليين، ثم لما قدم مكة كان سلاحه بالموضع المعروف بقعيقعان فلذلك سمى به، و قيل لغير ذلك، و كانت خيله بالمكان المعروف بأجياد، فقال: سمى بذلك لهذا، و قيل: لغيره، و كانت مطابخه فى الشعب المعروف بعبد اللّه بن عامر بن كريز، فلذلك سمى الشعب بالمطابخ، و أقام بمكة أياما ينحر كل يوم مدة إقامته مائة بدنة لا يرزأ هو و لا أحد ممن فى عسكره منها شيئا، بل يردها الناس ثم الطير ثم السباع.

(و أما قصة أصحاب الفيل) إذ قصدوا تخريب البيت فأهلكهم اللّه تعالى، فروى أن الحبشة لما ملكت اليمن و عليهم أبرهة الأشرم، بنوا كنيسة بصنعاء كالكعبة و صرفوا حجاج الكعبة إليها فسمع بذلك رجال من قريش فتوجهوا إليها و دخلوها و لطخوها بالعذرة و هربوا.

فبلغ ذلك أبرهة و عزم على هدم الكعبة و تجهز فى جيش عظيم، فلما شارف مكة أغار على سرحها فاستاق أموال قريش و أصاب إبلا لعبد المطلب و نزل بعرفة، فخرج إليه عبد المطلب فلما رآه أبرهة نزل عن سرير ملكه إجلالا له و قال لترجمانه: سله عن حاجته، فسأله، فقال: حاجتى أن يرد علىّ مائتى بعير أصابها قومه. فقال أبرهة لترجمانه: قل له:

قد كنت أعجبتنى حين رأيتك، و لقد زهدت الآن فيك حيث جئت إلى بيت هو دينك و دين آبائك لأهدمه فلم تكلمنى فيه و كلمتنى فى إبل أصبتها، فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل، و للبيت رب سيمنعه، و فى رواية يحميه، فعظم كلامه عنده، ورد عليه إبله.

ثم خرج عبد المطلب و أمر قريشا أن يتفرقوا فى الشعاب ورءوس الجبال خوفا عليهم من معرة الجيش إذا دخل ففعلوا، و أتى عبد المطلب إلى الكعبة و أخذ بحلقتها(1). و جعل يقول(2):

ص: 54


1- 42. ( 1) السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 49.
2- 43. ( 2) سيرة ابن هشام ج 1 ص 51.

لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم و محالهم غدوا محالك

جروا جموع بلادهم و الفيل كى يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم جهلا و ما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم و كعبتنا فأمر ما بدا لك

و معنى محالك أى مكرك، و منه: وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ و قال أيضا:

يا رب لا أرجو لهم سواكايا رب فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت قد عاداكافامنعهم أن يخربوا قراكا

ثم إن أبرهة أصبح متهيئا لدخول مكة و وجهوا الفيل إليها فنكص على عقبيه راجعا و برك، فأدخلوا الحديدة فى أنفه حتى خرموه فلم يساعدهم على التوجه إلى مكة فوجهوه إلى اليمن و إلى غيره من الجهات فهرول فوجهوه إلى مكة فأبى.

فبينما هم كذلك إذ أرسل عليهم طيرا من جهة البحر أبابيل، أى: جماعات، تجى ء شيئا بعد شى ء، يحمل كل طير منهم ثلاثة أحجار صغار حجرين فى رجليه و حجرا فى منقاره إذا وقع الحجر على رأس أحدهم خرج من دبره فأهلكهم اللّه جميعا.

و يروى أن كل حجر كان مكتوبا عليه اسم الذى يقع عليه، و بعث اللّه على أبرهة داء فى جسده فتساقطت أنامله و انصدع صدره قطعتين فهلك.

و اختلف فى مقدار الحجارة، فقيل: كانت كأمثال الحمص، و قيل غير ذلك، و رأى

ص: 55

أهل مكة الطير لما أقبلت من ناحية البحر فقال عبد المطلب: إن هذا الطير لغريب، ثم بعث ابنه عبد اللّه أبا النبى صلى اللّه عليه و سلم على فرس ينظر فرجع و هو يركض، و يقول: هلك القوم جميعا ثم خرج عبد المطلب و قريش و غنموا أموالهم.

و روى أنه لم ينج منهم إلا أبو يكسوم فسار راجعا و طائر يطير فوقه و لا يشعر به حتى دخل على النجاشى و أخبره بمصاب القوم فما استتم كلامه حتى رماه الطير فمات. و من يومئذ احترمت الناس قريشا و قالوا هم جيران اللّه يدافع عنهم.

و ذكر العلامة ابن بحرق الحضرمى رحمه اللّه فى سيرته النبوية أنه صلى اللّه عليه و سلم كان يومئذ حملا و ولد بعد الفيل بخمسين ليلة، و اللّه أعلم.

(و منها) تعجيل الانتقام لمن تعاطى عنده ما لا يليق، فمن ذلك ما حكى أن رجلا كان فى الطواف فبرق له ساعد امرأة فوضع ساعده عليه متلذذا به فلصق ساعداهما، فقال له بعض الصالحين: ارجع إلى المكان الذى فعلت فيه فعاهد رب البيت أن لا تعود بإخلاص و صدق نية ففعل، فخلى عنه و انفصل ساعده.

(و منها) قضية إساف لما فجر بنائلة فى البيت مسخا حجرين، و هما الصنمان اللذان كانا على زمزم تنحر لهما قريش فى الجاهلية و تعبد هما و قالوا لو لا أن اللّه رضى بهما أن يعبدا معه ما نكسهما. فأنزل اللّه تعالى وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (سورة آل عمران: 75) و لم يزالا يعبدان حتى كان يوم فتح مكة فخرجت من نائلة عجوز شمطاء حبشية تخمش وجهها و تدعو بالويل و الثبور فيروى أنه صلى اللّه عليه و سلم قال: «تلك أيست أن تعبد ببلادكم» و كان إساف و نائلة من جرهم(1).

(و منها) قصة المرأة التى جاءت إلى البيت تعوذ به من ظالم، فجاء فمد يده إليها فصار أشل(2).

(و منها) قصة الرجل الذى سالت عيناه على خده من نظرة نظرها إلى شخص فى الطواف استحسنه.

ص: 56


1- 44. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 307.
2- 45. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 307.

و منها: أن البيت الشريف يفتح فيدخله الجم الغفير من الناس متزاحمين فيسعهم بقدرة اللّه تعالى، و لم يعلم أن أحدا مات فيه من الزحام إلا ما وقع فى سنة إحدى و ثمانين و خمسمائة كما نقله المؤرخون، فإنه مات فيه أربعة و ثمانون نفرا.

قال العلامة ابن النقاش: و الكعبة تسع ألف إنسان و إذا فتحت أيام الموسم دخلها آلاف كثير. قال الجد بوأه اللّه دار كرامته: فعلى هذا إنها تتسع كما ورد أن منى تتسع كاتساع الرحم.

(و منها) ما أخرجه الفاكهى فى «تاريخ مكة» بسنده إلى عبد اللّه بن بكر السهمى عن أبيه أنه قال: جاورت بمكة فعابت أسطوانة من أساطين البيت، فأخرجت و أتى بأخرى ليدخلوها مكانها فطالت عن الموضع و أدركهم الليل، و الكعبة لا تفتح ليلا، فتركوها ليعودوا من غد فيصلحوها، فجاءوا فى الغد فأصابوها أقوم من قدح(1).

قال العلامة ابن حجر: و هذا إسناد قوى رجاله ثقات، و بكر هو ابن حبيب من كبار التابعين. و كانت هذه القصة فى أوائل دولة بنى العباس، و الأسطوانة من خشب و اللّه أعلم.

و عابت فيما رواه الفاكهى بالعين المهملة و الموحدة- و قدح- بكسر القاف و بالحاء المهملة هو السهم.

(و منها) كما نقل عن الجاحظ أن الفرقة من الطير من حمام و غيره تقبل حتى إذا كادت أن تبلغ الكعبة انفرقت فرقتين فلم يعل ظهره شى ء منها(2).

و نقل عن جمع من العلماء منهم العز بن جماعة و مكى رحمهما اللّه، أن ما عوين من ارتفاع الطبر على البيت فللاستشفاء. و أنشدوا فى معنى ذلك:

و الطير لا يعلو على أركانهاإلا إذا أضحى بها متألما

قال ابن عطية رحمه اللّه: و القول بأن الطير لا يعلو ضعيف، فإنه يعاين يعلوه، و قد علته العقاب التى أخذت الحية المشرفة على جداره، و تلك كانت من آياته. انتهى(3).

ص: 57


1- 46. ( 1) إخبار الكرام ص 97.
2- 47. ( 2) كتاب الحيوان للجاحظ ج 3 ص 193.
3- 48. ( 3) إخبار الكرام ص 98.

قال الزركشى: و ليس فى هذا ما ينافى كلام مكى، انتهى، قال الجد رحمه اللّه:

قلت: و توجيه عدم منافاته أن ما عوين من ذلك قد يكون للاستشفاء، و أما العقاب فلأخذ الحية المذكورة، ثم قال أيضا: و المعروف عند أهل مكة المشرفة قبل وقتنا هذا ما قاله مكى و ابن جماعة و غيرهما. و أما فى وقتنا هذا فما قاله ابن عطية فإن الطيور الآن تعلوه كثيرا و يتكرر منها ذلك فى الساعة الواحدة، و هذا مشاهد لا ينكر، و لعل حدوث ذلك بسبب ما وقع من نقض السقف و التغيرات الواقعة و اللّه أعلم. انتهى بنصه(1).

أقول: و توجيه قول الجد رحمه اللّه ظاهر، إذ يحتمل أنه كان فى السقف المنقوض و فيما غير منه شى ء من الإرصاد يمنع من ذلك، فزال عند النقض و التغيير، و اللّه الموفق.

انتهى(2).

(و منها) ما وقع عن التوربشتى فى «شرح المصابيح» أنه قال: و لقد شاهدت من كرامة البيت أيام مجاورتى بمكة أن الطير كان لا يمر فوقه، و كنت كثيرا أتدبر تحليق الطيور فى ذلك الجو فأجدها مجتنبة عن محاذاة البيت، و ربما انقضت من الجو حتى تدانت فطافت به مرارا ثم ارتفعت.

ثم قال أيضا: و من آيات اللّه البينة فى كرامة البيت أن حمامات الحرم إذا نهضت للطيران طافت حوله مرارا من غير أن تعلوه فإذا وقفت عن الطيران وقعت على شرفات المسجد أو على بعض الأسطحة التى حول الكعبة من المسجد و لا تقع على ظهر البيت مع خلوها عما ينفره، و قد كنا نرى الحمامة إذا مرضت و تساقط ريشها و تناثر ترتفع من الأرض حتى إذا دنت من ظهر البيت ألقت بنفسها على الميزاب أو على طرف ركن من الأركان فتبقى به زمانا طويلا كهيئة المتخشع لا حراك فيها ثم تنصرف بعد حين من غير أن تعلو شيئا من سقف البيت.

(و منها) أن المطر إذا عمه من جميع جوانبه دل ذلك على حصول الخصب فى جميع جهات الأرض، فإن كان المطر من جانب، أخصب من الأرض ما بإزائه من الجهة(3).

ص: 58


1- 49. ( 1) إخبار الكرام ص 99.
2- 50. ( 2) إخبار الكرام ص 99.
3- 51. ( 3) إخبار الكرام ص 100.

(و منها) أن اللّه تعالى يلحظه فى كل عام لحظة فى ليلة النصف من شعبان.

(و منها) أن خمسة من جرهم تواعدوا أن يسرقوا ما فى خزانة الكعبة من الحلى، فقام على كل زاوية من البيت رجل منهم، و اقتحم الخامس، فجعل اللّه تعالى أعلاه أسفله و سقط منكسا فهلك و فر الأربعة(1).

و بعث اللّه تعالى حية سوداء الرأس و الذنب، و باقيها أبيض. فحرست البيت خمسمائة سنة، و هى التى اختطفها العقاب، كما تقدم. و يروى أن هذه الحية هى الدابة التى تخرج عند قيام الساعة تكلم الناس. كذا نقله ابن جماعة(2).

(و منها) ما روى عن ابن عباس أن رجلا قرشيا قتل هاشميا فى الجاهلية و أنكر قتله.

فقال له أبو طالب: اختر إحدى ثلاث: إما أن تؤدى مائة من الابل، و إما أن يحلف خمسون رجلا من عشيرتك أنك لم تقتله، و إلا قتلناك. فاختار عشيرته الحلف. فقبل أبو طالب عن واحد منهم الفداء، و أطلق آخر بشفاعة أمه فيه، و حلف ثمانية و أربعون عند البيت. قال ابن عباس: فوالذى نفسى بيده ما جاء الحول و منهم عين تطرف. و قال إن ذلك أول قسامة فى الجاهلية(3).

(و منها) أيضا أن خمسين رجلا من بنى عامر بن عامر بن لؤى حلفوا فى الجاهلية عند البيت على قسامة باطلا. ثم خرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق نزلوا تحت صخرة، فبينما هم قائلون إذ أقبلت الصخرة عليهم. فخرجوا من تحتها يسعون، فانفلقت خمسين فلقة فأدركت كل فلقة رجلا فقتلته(4).

(و منها) ما روى أن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه سأل رجلا من بنى سليم عن ذهاب بصره فقال: يا أمير المؤمنين، كنا بنى الضبعاء عشرة، و كان لنا ابن عم فظلمناه، فكان يذكّرنا باللّه و الرحم أن نكف عنه، و كنا أهل جاهلية نرتكب كل الأمور، فلما رآنا لا نرد ظلامته أمهل(5) حتى إذا دخلت الأشهر الحرم انتهى إلى الحرم فجعل يرفع يديه و يقول:

ص: 59


1- 52. ( 1) إخبار الكرام ص 100.
2- 53. ( 2) إخبار الكرام ص 101.
3- 54. ( 3) إخبار الكرام ص 101.
4- 55. ( 4) إخبار الكرام ص 102.
5- 56. ( 5) تحرف فى المطبوع إلى:« انسهل» و المثبت رواية الأسدى و هو ينقل عن المصنف.

لا هم أدعوك دعاء جاهدااقتل بنى الضبعاء إلا واحدا

ثم اضرب الرجل فذره قاعداأعمى إذا ما قيد عنّى(1) القائدا

فمات إخوة لى تسعة فى تسعة أشهر فى كل شهر واحد و بقيت أنا فعميت و ليس يلائمنى قائد(2).

(و منها) ما روى عن حويطب بن عبد العزى أنه قال: كان فى الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد، فجاء خائف فأدخل يده فى حلقة منها فاجتبذه(3) رجل فشلت يده، فلقد رأيته فى الإسلام و إنه لأشل(4).

فائدة: روى ابن عباس رضى اللّه عنه أن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ذكر ما كان يعاقب به من حلف على ظلم ثم قال: إن الناس اليوم ليركبون ما هو أعظم من هذا و لا تعجل لهم العقوبة مثل ما كانت تعجل لأولئك فما ترون ذلك؟ فقالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين.

قال إن اللّه عز وجل جعل فى الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها و عظمها و شرفها و عجل العقوبة لمن استحل شيئا منها لينتهوا عن الظلم مخافة تعجيل العقوبة، فلما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و سلم توعّدهم، فلما انتهكوا ما حرم اللّه و عدهم بالساعة، فقال: وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ فأخّر العقاب إلى القيامة.

(و منها) ما يروى أن عبد اللّه بن عمر بن العاص كان جالسا فى جماعة من قريش بالمسجد الحرام بعد ما ارتفع النهار و قلصت الأفياء و إذا هم ببريق آيم داخل من جهة باب بنى شيبة، فاشرأبت أعينهم إليه و ابتدروه بأبصارهم فجاء حتى استلم الركن و طاف بالبيت سبعا و هم يحصونه ثم ذهب إلى دبر المقام فركع ركعتين و هم ينظرون إليه، فقال عبد اللّه ابن عمرو لبعض الجماعة: اذهب إلى هذا فحذره فإنى أخاف عليه أن يقتل أو يعبث به

ص: 60


1- 57. ( 1) فى المطبوع:« يعيى» و المثبت رواية الأزرقى.
2- 58. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 26.
3- 59. ( 3) فى المطبوع:« فاجتذبه» و المثبت رواية الأزرقى.
4- 60. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 24.

فذهب إليه حتى وقف على رأسه و حذره فأصغى إليه برأسه حتى استنفد كلامه ثم ذهب فى السماء حتى غاب فما يرى. و الآيم: هى الحية الذكر، و بريقه: لمعانه(1).

(و منها) ما روى أن طيرين أقبلا فى الجاهلية كأنهما نعامتان يسيران كل يوم ميلا أو بريدا حتى أتيا مكة فوقعا على الكعبة و كانت قريش تطعمهما و تسقيهما فإذا خف الطواف من الناس نزلا فدفا حول الكعبة حتى إذا اجتمع الناس طارا فوقعا على الكعبة فمكشا كذلك شهرا أو نحوه ثم ذهبا. و معنى دفا: سارا. و سيأتى فى فضائل الكعبة يدفون إليك دفيف النسور. قال فى «الصحاح»: الدفيف: الدبيب و هو السير اللين.

و منها: ما أخرجه الأزرقى فى «تاريخه» أن طائرا أقبل من ناحية أجياد الصغير لونه لون الحبرة بريشة حمراء و ريشة سوداء دقيق الساقين طويلهما طويل العنق دقيق المنقار طويله كأنه من طير البحر، و كان ذلك فى يوم السبت السابع و العشرين من ذى القعدة سنة ست و عشرين و مائتين عند طلوع الشمس و الناس إذ ذاك فى الطواف كثير من الحاج و غيرهم فوقع فى المسجد الحرام قريبا من مصباح زمزم مقابل(2) الركن الاسود ساعة طويلة، ثم طار حتى صدم الكعبة فى نحو من وسطها ما بين الركن الأسود و اليمانى و هو إلى الركن الاسود أقرب ثم وقع على منكب رجل محرم من الحجاج من أهل خراسان فى الطواف عند الحجر الأسود، فطاف الرجل أسابيع و عيناه تدمعان على خديه و لحيته و الطائر على منكبه الأيمن و الناس يدنون منه و ينظرون إليه و يتعجبون منه و هو [ساكن] غير مستوحش(3) [منهم] ثم طار حتى وقع يمين المقام ساعة طويلة يمد عنقه و يقبضه إلى جناحه فأقبل فتى من الحجبة فأخذه ليريه رجلا منهم كان يركع خلف المقام فصاح أشد صياح لا يشبه صوته صوت الطير، ففزع منه فأرسله فطار حتى وقع بين يدى دار الندوة، ثم خرج من باب المسجد الذى بين دار الندوة و دار العجلة نحو قعيقعان(4).

(و منها) ما رواه أبو الطفيل قال: كانت امرأة من الجن تسكن ذا طوى فى الجاهلية، و كان لها ابن ليس لها غيره، و كانت تحبه حبّا شديدا و كان شريفا فى قومه فتزوج. فلما كان

ص: 61


1- 61. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 17.
2- 62. ( 2) فى المطبوع:« فقابل» و المثبت رواية الأزرقى الذى ينقل عنه المؤلف.
3- 63. ( 3) فى المطبوع:« متوحش» و المثبت رواية الأزرقى الذى ينقل عنه المصنف.
4- 64. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 17 و ما بين حاصرتين منه.

يوم سابعه. قال لأمه: إنى أحب أن أطوف بالكعبة سبعا نهارا. فقالت: أرانى إنى أخاف سفهاء قريش فقال: أرجو السلامة. فأذنت له فولى فى صورة جان فلما أدبر جعلت تعوذه تقول:

* أعيذك بالكعبة المستوره** و دعوات ابن أبى محذوره*

* و ما تلا محمد من سوره** إنى إلى حياته(1) فقيره*

* و إنى بعيشه مسروره(2)*

ثم مضى فطاف سبعا و صلى خاف المقام ركعتين، ثم أقبل راجعا حتى إذا كان ببعض دور بنى سهم عرض له شاب من بنى سهم أحمر أزرق أحول أعسر فقتله فثارت بمكة غبرة حتى لم تر الجبال. فقال أبو الطفيل: و بلغنا أن الغبرة إنما تثور كذلك عند موت عظيم من الجان. قال: فأصبح كثير من بنى سهم موتى على فرشهم من قبل الجان، فنهضت بنو سهم و حلفاؤها و مواليها و عبيدها فركبوا الجبال و الشعاب بالثنية فما تركوا حية و لا عقربا و لا شيئا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه، و أقاموا على ذلك ثلاثا، فسمعوا فى الليلة الثالثة هاتفا على أبى قبيس يهتف بصوت جهورى يسمعه من بين الجبلين: يا معشر قريش اللّه اللّه، فإن لكم أحلاما و عقولا، اعذرونا من بنى سهم، قد قتلوا منا أضعاف ما قتلنا منهم، ادخلوا بيننا و بينهم بصلح، نعطيهم و يعطونا العهد و الميثاق أن لا يعود بعضنا لبعض بسوء أبدا. ففعلت قريش ذلك و استوثق البعض من البعض، فسميت بنو سهم الغياطلة(3) قتلة الجن لذلك(4).

(و منها) أن اللّه تبارك و تعالى وعد هذا البيت أن يحجه كل سنة ستمائة ألف، فإن

ص: 62


1- 65. ( 1) فى المطبوع:« خبوته» و المثبت رواية الأزرقى و الأسدى.
2- 66. ( 2) من قوله:« أعيذك» إلى« مسروره» ورد نثرا فى المطبوع، و مثله لدى الأزرقى ج 2 ص 16، و ورد شعرا فى المخطوط و كذا لدى الأسدى فى إخبار الكرام ص 107، و قد آثرت رواية المخطوط و الأسدى و الشعر هنا من الرجز.
3- 67. ( 3) فى المطبوع:« العباطلة» و هو تحريف صوابه لدي الأزرقى و سموا بالغياطلة لأن أمهم الغيطلة.
4- 68. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 15 ..

نقصوا أكملهم بالملائكة. و أن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة من حجها تعلق بأستارها حتى تدخلهم الجنة، و أن الملك إذا نزل إلى الأرض فى بعض أمور اللّه تعالى فأول ما يأمره اللّه بزيارة البيت فينقض من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر، ثم يطوف بالبيت سبعا و يركع ركعتين، ثم يمضى لما أمر بعد.

و عن عمر رضى اللّه عنه أنه قال: من أتى هذا البيت لا ينهزه غير صلاة فيه رجع كيوم ولدته أمه. و معنى لا ينهزه لا يحمله على ذلك.

(و منها) أن هذا البيت منذ خلقه اللّه تعالى ما خلا عن طائف يطوف به من أنس أو جن أو غير ذلك(1).

قال بعض السلف: خرجت يوما فى هاجرة ذات سموم، و قلت: إن خلا البيت عن طائف ففى هذا الحين. فرأيت المطاف خاليا، فدنوت فرأيت حية عظيمة رافعة رأسها و هى تطوف حوله(2).

(و منها) ما يروى أن الكعبة شكت إلى اللّه تعالى ما نصب حولها من الأصنام و ما يستقسم به من الأزلام، فأوحى اللّه إليها أنى منزل نورا و خالق بشرا يحنون إليك حنين الحمام إلى بيضه، و يدفون إليك دفيف النسور.

و يحكى عن بعض السلف أنه دخل الحجر فى الليل، و صلى تحت الميزاب، فسمع و هو ساجد كلاما بين أستار الكعبة و الحجارة، و هو: أشكو إلى اللّه ما يفعل هؤلاء الطائفون حولى من إساءتهم، قال: فأولت أن البيت شكا(3).

(و منها) ما ذكر أن يوم قتل عبد اللّه بن الزبير بمكة اشتد الحرب و اشتغل الناس فلم ير طائف يطوف بالكعبة إلا جمل يطوف بها(4).

(و منها) أن من حجه ثلاث مرات حرم اللّه جسده على النار و لم تؤثر فيه(5).

روى القاضى عياض فى «الشفاء» عن بعض شيوخ المغرب أن قوما أتوه فأعلموه أن

ص: 63


1- 69. ( 1) إخبار الكرام ص 109.
2- 70. ( 2) إخبار الكرام ص 110.
3- 71. ( 3) إخبار الكرام ص 112.
4- 72. ( 4) إخبار الكرام ص 110.
5- 73. ( 5) إخبار الكرام ص 110.

كتامة- و هى قبيلة من البربر- قتلوا رجلا و أضرموا عليه النار فلم تعمل فيه و بقى أبيض البدن، فقال لهم: لعله حج ثلاث حجات. فقالوا: نعم. فقال: حدّثت أن من حج حجة أدى فرضه، و من حج ثانية داين ربه، و من حج ثلاث حجج حرم اللّه شعره و بشره على النار(1).

(و منها) ما يروى عن الأوزاعى أنه قال: رأيت رجلا متعلقا بأستار الكعبة و هو يقول:

يا رب إنى فقير كما ترى و صبيتى قد عروا كما ترى

و ناقتى قد عجفت كما ترى و بردتى قد بليت كما ترى

فما ترى فيما ترى يا من يرى و لا يرى

فإذا بصوت من خلفه يا عاصم يا عاصم، الحق عمك قد هلك بالطائف و خلّف ألف نعجة و ثلاثمائة ناقة و أربعمائة دينار و أربعة أعبد و ثلاثة أسياف يمانية، فامض فخذها فليس له وارث غيرك. قال الأوزاعى: فقلت له: يا عاصم إنك دعوت قريبا، فقال: يا هذا أما سمعت قوله: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (سورة البقرة: 186).(2)

الجامع اللطيف ؛ ص65

و منها) ما روى عن على بن الموفق أنه قال: طفت بالبيت ليلة و صليت ركعتين بالحجر، و استندت إلى جداره أبكى و أقول: كم أحضر هذا البيت الشريف، و لا أزداد فى نفسى خيرا!! فبينما أنا بين النائم و اليقظان إذ هتف بى هاتف، و هو يقول: يا على، سمعنا مقالتك أو تدعو أنت إلى بيتك من لا تحبه؟!(3).

(و منها) ما ذكر عن أبى بن خلف و عبيد اللّه بن عثمان أنهما كانا فى الحجر فى شهر رجب فلم يشعرا إلا بحية قد أقبلت حتى مرت بهما، فدخلت تحت أستار الكعبة، و سمعا كلاما من حيث دخلت يقول: يا معشر قريش كفوا عما تأتون من الظلم قبل أن تنزل بكم النقم، كفوا سفهاءكم فإنكم فى بلد عظيم حرمته(4).

ص: 64


1- 74. ( 1) الشفاء للقاضى عياض ج 2 ص 59.
2- 75. ابن ظهيره، محمد بن محمد، الجامع اللطيف في فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف، 1جلد، مكتبة الثقافة الدينية - قاهره، چاپ: اول، 1423 ه.ق.
3- 76. ( 2) إخبار الكرام ص 111.
4- 77. ( 3) إخبار الكرام ص 112.

(و منها) أن امرأة عابدة جاءت حاجة، فلما دخلت مكة جعلت تقول: أين بيت ربى؟

و تكرر ذلك، فقيل لها: هذا بيت ربك، فاشتدت نحوه تسعى حتى ألصقت جبينها بحائط البيت فما رفعت منه إلا ميتة.

(و منها) أن الشبلى رضى اللّه عنه لما وصل إلى مكة و نظر إلى البيت عظم قدر ما ناله و أنشد طربا:

أبطحان مكة هذا الذى أراه عيانا و هذا أنا

ثم لم يزل يكررها حتى غشى عليه(1).

(و منها) أن أبا الفضل الجوهرى لما دخل الحرم و رأى الكعبة علاه حال فقال- و قد دخله الطرب- هذه ديار المحبوب فأين المحبوب؟ و هذه آثار أسرار القلوب فأين المشتاقون، و هذه ساعة الاطلاع على الدموع، فأين البكاءون؟ ثم شهق شهقة و أنشد:

هذه دارهم و أنت محب ما بقاء الدموع فى الآماق

ثم بادر إلى البيت باكيا و هو ينادى: لبيك اللهم لبيك(2).

و هذا بعض ما ذكر من فضائل هذا البيت، و هذه الأوراق لا تسع أكثر من ذلك و فيما ذكر مقنع، و اللّه تعالى أعلم.

ص: 65


1- 78. ( 1) إخبار الكرام ص 113.
2- 79. ( 2) إخبار الكرام ص 113.

الباب الثالث فيما يتعلق ببناء الكعبة الشريفة و كم مرة بنيت و ما ورد فى ذلك من الأقوال و الروايات و الاختلاف و بيان أسباب البناء و هأنا أذكره مبينا مفصلا مع التنبيه على أشهر الأقوال

اشارة

(اعلم) أن الكعبة زادها اللّه تعالى شرفا بنيت مرات. قال فى «منهاج التائبين»: بنيت الكعبة خمس مرات: إحداها: بناء الملائكة، و قيل آدم. الثانية: بناء الخليل عليه السلام، الثالثة: بناء قريش فى الجاهلية. الرابعة: بناء عبد اللّه بن الزبير رضى اللّه عنه، الخامسة: بناء الحجاج، و قد قيل: إنها بنيت مرتين أخريين: الأولى: بناء العمالقة بعد إبراهيم عليه السلام، و الثانية: بناء جرهم بعد العمالقة، ثم بنته قريش، و اللّه أعلم. انتهى.

و فى «شفاء الغرام» للقاضى تقى الدين الفاسى رحمه اللّه أنها بنيت عشر مرات:

(الأولى) الملائكة عليهم السلام. ثم آدم صلوات اللّه عليه. ثم أولاده. ثم الخليل عليه الصلاة و السلام. ثم العمالقة. ثم جرهم. ثم قصى بن كلاب. ثم قريش. ثم عبد اللّه بن الزبير رضى اللّه عنه. ثم الحجاج بن يوسف الثقفى. قال القاضى تقى الدين المشار إليه: و إطلاق العبارة بأنه- أى الحجاج- بنى الكعبة تجوّز، لأنه لم يبن إلا بعضها، كما سيأتى بيانه، و لو لا أن السهيلى و النووى ذكراه لما ذكرته. انتهى(1).

و فى «الروض الأنف» للسهيلى، أن أول من بنى الكعبة شيث بن آدم عليهما السلام.

و ذكر فى موضع آخر أن الملائكة هى التى أسست الكعبة(2).

و ذكر القاضى تقى الدين أيضا: أنه وجد بخط عبد اللّه المرجانى أن عبد المطلب جد النبى صلى اللّه عليه و سلم بنى الكعبة بعد قصىّ و قبل بناء قريش، ثم قال: و لا أعلم له فى ذلك سلفا و لا خلفا، و اللّه أعلم(3).

ص: 66


1- 80. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 147.
2- 81. ( 2) الروض الأنف ج 1 ص 336 و 340.
3- 82. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 147.

و اختلف هل بناء الملائكة قبل آدم أو بناء آدم قبل الملائكة. و ذكر الأزرقى رحمه اللّه ما يشهد للقولين(1).

فى «منسك» الجد نوّر اللّه ضريحه: بنيت الكعبة الشريفة خمس مرات: الأولى: بناء الملائكة، الثانية: بناء آدم عليه السلام، الثالثة: بناء إبراهيم عليه السلام، الرابعة: بناء قريش فى الجاهلية. الخامسة: بناء ابن الزبير ثم هدم الحجاج بعضه و بناه. قال الجد رحمه اللّه:

و هذا هو المشهور المعروف.

و أخرج الفاكهى عن على كرم اللّه وجهه أن أول من بنى البيت الخليل عليه السلام و جزم به ابن كثير فى «تفسيره» و قال لم يجئ خبر عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبله.

و قال فى «تاريخه» عند قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ (سورة آل عمران: 96) الآية. يذكر تعالى عن عبده و خليله أنه بنى البيت العتيق الذى هو أول مسجد وضع لعموم الناس يعبدون اللّه فيه، و بوأه مكانه، أى أرشده إليه و دله عليه. و عن على و غيره أنه أرشده إليه بوحى من اللّه و لم يجئ خبر صحيح عن معصوم. و ذكر ما تقدم، ثم قال: و من تمسك فى هذا بقوله تعالى مَكانَ الْبَيْتِ (سورة الحج: 26) فليس بناهض و لا ظاهر، لأن المراد مكانه الكائن فى علم اللّه المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمن إبراهيم.

و قد ذكر أن آدم نصب عليه قبة، و أن الملائكة قالوا له: قد طفنا قبلك بهذا البيت، و أن السفينة طافت به أربعين يوما أو نحو ذلك. و كل هذه أخبار عن بنى إسرائيل و هى لا تصدق و لا تكذب فلا يحتج بها(2). انتهى.

أقول: فعلى هذا يكون بناء البيت ثلاث مرات، الأولى: الخليل عليه السلام، الثانية:

بناء قريش، الثالثة: بناء ابن الزبير و الحجاج، لأن بناء الخليل ثابت بنص الكتاب، و بناء قريش ثابت فى «صحيح البخارى» و غيره، و بناء ابن الزبير و الحجاج ذكره عامة المفسرين و أهل التواريخ و غيرهم من العلماء.

و يحتمل أن يقال أيضا أن الكعبة بنيت أربع مرات: الأولى: بناء الملائكة و آدم معا فى آن واحد، و يشهد له ما سيأتى قريبا عن ابن عباس عند ذكر السبب فى بناء آدم عليه السلام

ص: 67


1- 83. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 32.
2- 84. ( 2) تاريخ ابن كثير ج 1 ص 181 و 182.

كما ستقف عليه، و هو مجرد تأسيس، الثانية: بناء الخليل. الثالثة: بناء قريش. الرابعة: بناء ابن الزبير و الحجاج، و يكون البناء الأول و الرابع مشتركا. ثم القول بأن ذلك فى آنين فهو تأسيس أيضا كما ذكره الفاسى فى «شفاء الغرام» لا بناء مرتفع كغيره من الأبنية الآتى وصفها، لأنه حينئذ يحتاج إلى معرفة السبب فى نقض بناء الملائكة على تقدير أوليته حتى بناه آدم، و فى نقض بناء آدم أن لو كان أولا حتى بنته الملائكة، كما ستعلمه عند ذكر أسباب الأبنية الآتية إن شاء اللّه تعالى.

و لم أر أحدا ذكر ذلك فيما وقفت عليه و لا تعرض لمقدار ارتفاع بناء الملائكة و آدم فى السماء كم هو؟ فيحتمل أنه كان مرتفعا و حفظ من الهدم و التغير إلى أن بنى عليه آدم أو الملائكة على الخلاف أيهما كان أولا، أو أنه انهدم لتناسخ القرون فبنى ثانيا على ما وجد من الأساس، أو لم يكن هناك ارتفاع أصلا بل مجرد تأسيس فبنى عليه، و يحتمل غير ذلك و اللّه أعلم بحقائق الأمور. انتهى.

و قد آن الشروع فى ذكر الأسباب المشار إليها:

أما سبب بناء الملائكة عليهم الصلاة و السلام: فروى عن على بن الحسين رضى اللّه عنهما أنه قال: لما قال اللّه للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (سورة البقرة: 30) قالت: أى رب، خليفة من غيرنا ممن يفسد فيها و يسفك الدماء، فغضب عليهم، فلاذوا بالعرش و رفعوا رءوسهم و أشاروا بالأصابع يتضرعون و يبكون إشفاقا لغضبه، فطافوا بالعرش ثلاث ساعات، و فى رواية سبعة أطواف يسترضون ربهم، فرضى عنهم و قال لهم: ابنوا لى فى الأرض بيتا، يعوذ به كل من سخطت عليه من خلقى، فيطوف حوله كما فعلتم بعرشى، فأغفر له كما غفرت لكم، فبنوا البيت الحرام(1).

قال العلامة عماد الدين ابن كثير رحمه اللّه: قول الملائكة عليهم السلام: أَ تَجْعَلُ فِيها (سورة البقرة: 30) الآية سؤال على وجه الاستكشاف و الاستعلام على وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض و التنقص لبنى آدم و الحسد لهم. كما توهمه بعض جهلة المفسرين(2).

ص: 68


1- 85. ( 1) إخبار الكرام ص 117.
2- 86. ( 2) البداية و النهاية ج 1 ص 79.

و فى «الروض الأنف» للسهيلى: لما قالت الملائكة أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها (سورة البقرة: 30) خافت أن يكون اللّه عاتبا عليهم لاعتراضهم فى علمه، فطافوا بالعرش سبعا.

و ذكر ما تقدم عن على بن الحسين رضى اللّه عنه(1).

كذا حكاه الجد نور اللّه ضريحه و جعل الرحمة غبوقه و صبوحه فى «منسكه». ثم قال بعد ذلك: ظاهر قول السهيلى: خافت أن يكون اللّه عاتبا عليهم، أنه لم يقع من اللّه غضب عليهم و هو الموافق للحكم بعصمتهم، و قوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (سورة التحريم: 6) و ما تقدم عن على بن الحسين يخالف ذلك. و قوله: لاعتراضهم فى علمه يخالف ما تقدم عن ابن كثير من أن ذلك منهم على وجه الاستكشاف لا الاعتراض، اللهم إلا أن يراد ما صورته صورة الاعتراض فلا مخالفة. انتهى.

و فى بعض الروايات أن اللّه تعالى بعث ملائكة فقال: لهم ابنوا بيتا على مثال البيت المعمور و قدره ففعلوا، و أمر اللّه تعالى أن يطاف به كما يطاف بالبيت المعمور، و أن هذا كان قبل خلق آدم عليه السلام و قبل خلق الأرض بألفى عام، و أن الأرض دحيت من تحته(2).

فصل: فى الكلام على البيت المعمور و شى ء من خبره على سبيل الاستطراد

اشارة

روى عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: «هذا البيت» يعنى الكعبة المشرفة «خامس عشر بيتا، سبعة منها فى السماء إلى العرش، و سبعة منها إلى تخوم الأرض [السفلى] و أعلاها الذى يلى العرش. البيت المعمور، لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت، لو سقط منها بيت لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السفلى، و لكل بيت من أهل السماء و من أهل الأرض من يعمره كما يعمر هذا البيت». أخرجه الأزرقى(3).

ص: 69


1- 87. ( 1) الروض الأنف ج 1 ص 340.
2- 88. ( 2) إخبار الكرام ص 118.
3- 89. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 35 و ما بين حاصرتين منه.

مطلب فى كل من السبع الأرضين بيت يعمره أهلها

بحث: فإن قيل: فى قوله صلى اللّه عليه و سلم: و لكل بيت ... إلخ، إشارة إلى تسمية كل بيت منها بالمعمور بهذا المعنى فحصل الاشتراك، فأيها البيت المعمور المراد؟ فالجواب من وجوه: الأول: أن البيت المعمور قد غلب عليه هذا الاسم و لزمه و صار علما عليه عند الإطلاق، و الثانى: أنه تميز بكونه فى السماء السابعة على الرواية المشهورة كما ستقف عليها قريبا، فيكون هو المراد دون غيره. الثالث: أنه يسمى بالضراح دون بقية البيوت الأخر. و اللّه الموفق.

و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال: البيت المعمور الذى فى السماء يقال له الضراح و هو على البيت الحرام، لو سقط سقط عليه، يعمره كل يوم سبعون ألف ملك لم يروه قط(1).

و الضراح بالضاد المعجمة بعدها راء فألف فحاء مهملة، و قيل بالصاد المهملة.

و المشهور الأول، و عند مجاهد: البيت المعمور هو الضريح يعنى بالضاد المعجمة و الضريح لغة: البعيد.

الخلاف فى البيت المعمور و فى مكة

و اختلف فى البيت المعمور و فى مقره فقيل: إنه البيت الذى بناه آدم أول ما نزل إلى الأرض، كما سأذكره قريبا، ثم رفع إلى السماء أيام الطوفان و تسميه الملائكة بالضراح لأنه ضرح عن الأرض إلى السماء بمعنى أبعد.

و قيل: إن البيت بمكة معمور بمن يطوف به، و هذا منسوب إلى ابن عباس و الحسن.

و عن محمد بن عباد بن جعفر أنه كان يستقبل الكعبة الشريفة و يقول: و احبذا بيت ربى ما أحسنه و أجمله، هذا و اللّه البيت المعمور، و ظاهر هذين القولين ينافى ما تقدم.

و أما مقره فللأزرقى ثلاث روايات: الأولى: أنه فى السماء السابعة، الثانية: أنه فى السادسة، الثالثة: أنه فوق السموات السبع تحت العرش.

ص: 70


1- 90. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 49.

و فى رواية لغير الأزرقى أنه فى السماء الرابعة.

أقول: الرواية الأولى هى المشهورة الصحيحة الموافقة لما رواه مسلم فى «صحيحه» من حديث ثابت البنانى عن أنس رضى اللّه عنه من كونه صلى اللّه عليه و سلم اجتمع بإبراهيم عليه السلام فى السماء السابعة ورآه مسندا ظهره إلى البيت المعمور. و هذا الحديث أولى بالاعتماد عليه دون غيره.

قال القاضى عياض رحمه اللّه فى «الشفاء»: جود ثابت هذا الحديث ما شاء و لم يأت عنه أحد بأصوب من هذا. و قد خلط فيه غيره عن أنس تخليطا كثيرا لا سيما شريك ابن أبى نمر. انتهى(1).

و أما سبب بناء آدم صلوات اللّه عليه: فروى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن اللّه تعالى لما أهبط آدم كان رأسه فى السماء، و رجلاه فى الأرض و هو مثل الفلك من رعدته، فطأطأ اللّه عز و جل منه إلى ستين ذراعا. فقال: يا رب، ما لى لا أسمع صوت الملائكة؟ فقال له:

خطيئتك يا آدم. و لكن اذهب فابن لى بيتا و اذكرنى حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى، فأقبل آدم يتخطى، فطويت له الأرض، و لم يقع قدمه فى شى ء من الأرض إلا صار عمرانا و بركة حتى انتهى إلى مكة. فبنى البيت الحرام بعد أن ضرب جبريل عليه السلام بجناحه الأرض فأبرز عن أس ثابت فى الأرض السفلى. فقذفت فيه الملائكة الصخر ما لا يطيق حمل الصخرة منها ثلاثون رجلا. قال ابن عباس رضى اللّه عنه: فكان أول من أسس البيت و صلى فيه و طاف به آدم عليه السلام، و لم يزل كذلك حتى بعث اللّه الطوفان فدرس موضع البيت(2).

أقول: هذا ما يشهد لبناء الملائكة و آدم فى آن واحد كما سبقت الإشارة إليه. انتهى.

مطلب الأجبل التى بنيت منها الكعبة خمسة

و يروى أن بناءه من خمسة أجبل: لبنان، و طور زيتا، و طور سيناء، و الجودى، و حراء، حتى استوى مع وجه الأرض، أى لم يرتفع عن وجه الأرض، كما قدمته.

و سيأتى بيان موضع هذا الجبال عند ذكر بناء الخليل إن شاء اللّه تعالى.

ص: 71


1- 91. ( 1) الشفاء للقاضى عياض ج 1 ص 116.
2- 92. ( 2) إخبار الكرام ص 119.

و الفلك فيما تقدم- بضم الفاء: هو السفينة. و وجه التشبيه أن آدم عليه السلام حال الهبوط كان فيه اضطراب كاضطراب السفينة فى البحر حال هبوب الرياح.

و فى بعض الروايات أن آدم عليه السلام لما أهبط بأرض الهند اشتد بكاؤه و حزنه فتاب اللّه عليه و أمره بالمسير إلى مكة، فلما انتهى إليها عزاه اللّه بخيمة من خيام الجنة و وضعها له موضع البيت، و كانت تلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة فيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبر الجنة فيها نور يلتهب من نور الجنة(1).

و عن قتادة، أن آدم عليه السلام أهبط و معه بيت فكان يطوف به و المؤمنون من ولده كذلك إلى زمن الغرق، ثم رفعه اللّه عز و جل فصار فى السماء و هو الذى يدعى البيت المعمور. ذكره الحليمى فى «منهاجه» ثم قال: يجوز أن يكون معنى قول قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت أى مقدار البيت المعمور طولا و عرضا و سمكا ثم قيل له: ابن بقدره و حياله فكان حياله موضع بالكعبة فبناها فيه. و أما الخيمة فقد يجوز أن يكون أنزلت و ضربت فى موضع بالكعبة، فلما بنى الكعبة كانت الخيمة حولها طمأنينة لقلب آدم ما عاش ثم رفعت فتتفق هذه الأخبار. كذا فى «منسك» الجد رحمه اللّه تعالى.

و أما سبب بناء الخليل صلوات اللّه عليه: فروى عن مجاهد رضى اللّه عنه أن موضع البيت كان قد خفى و درس من الغرق أيام الطوفان، فصار موضعه أكمة حمراء مدرة لا تعلوها السيول، غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هناك و لا يثبتونه. و كان المظلوم يأتيه من أقطار الأرض و يدعو عنده المكروب، فقلّ من دعا هنالك إلا استجيب له(2).

و عن ابن عمر: كانت الأنبياء يحجونه و لا يعلمون مكانه حتى بوأه اللّه لخليله و أعلمه مكانه(3).

مطلب الخلاف فى هود و صالح هل حجا أم لا

و روى أن هودا و صالحا و من آمن بهما حجوا البيت و هو كذلك. و نقل العلامة السيوطى فى بعض كتبه أن جميع الأنبياء حجوا البيت إلا هودا و صالحا فرنهما كانا تشاغلا بأمر قومهما فماتا و لم يحجا.

ص: 72


1- 93. ( 1) إخبار الكرام ص 120.
2- 94. ( 2) إخبار الكرام ص 121.
3- 95. ( 3) إخبار الكرام ص 122.

مطلب سبب معرفة إبراهيم أساس البيت الحرام

و أن آدم لما حج حلق جبريل رأسه بياقوتة من الجنة فلما بوأ اللّه تعالى لخليله مكان البيت و أمره ببنائه بقوله تعالى: وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ (سورة الحج: 26) و قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ (سورة البقرة: 127) الآيتين، أقبل من الشام و سنه يومئذ مائة سنة، و سن إسماعيل ست و ثلاثون سنة. و أرسل اللّه معه السكينة و الصّرد و الملك دليلا حتى تبوأ البيت الحرام، فقال لابنه إسماعيل عليه بالسلام: إن اللّه قد أمرنى أن أبنى له بيتا، فقال له إسماعيل: و أين هو؟ فأشار إلى أكمة مرتفعة عليها رضراض من حصباء فقاما يحفران عن القواعد و يقولان: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (سورة البقرة: 127) و يحمل إسماعيل الحجارة على رقبته و إبراهيم يبنى، فلما ارتفع البناء و شق على الخليل تناول الأحجار، قرّب له إسماعيل المقام فكان يقوم عليه(1). و قد تقدم الكلام عليه مستوفى.

و الصرد- بضم الصاد و فتح الراء المهملتين- طائر ضخم الرأس فوق العصفور يصيد العصافير. و قيل: إنه أول طائر صام للّه. و السكينة: لها رأس كرأس الهرة و جناحان. و فى رواية كأنها غمامة أو ضبابة تغشى الأرض كالدخان فى وسطها كهيئة الرأس يتكلم، و كانت بمقدار البيت، فلما انتهى الخليل صلوات اللّه عليه إلى مكة وقفت فى موضع البيت و نادت يا إبراهيم، ابن على مقدار ظلى لا تزيد و لا تنقص.

و فى رواية أنها تطوقت بالأساس الأول كأنها حية.

و فى أخرى أنها لم تزل راكدة تظل إبراهيم و تهديه مكان القواعد فلما رفع القواعد قدر قامة انكشف.

قال السهيلى فى «روضه»: و السكينة من شأن الصلاة. قال صلى اللّه عليه و سلم: «و أتوها و عليكم السكينة» انتهى. فجعله علما على قبلتها حكمة من اللّه تعالى(2).

ص: 73


1- 96. ( 1) إخبار الكرام ص 122.
2- 97. ( 2) الروض الأنف ج 1 ص 341.

و روى أن السكينة قالت لإبراهيم: ربض على البيت، فلذلك لا يطوف بالبيت ملك و لا أعرابى نافر و لا جبار إلا رأيت عليه السكينة(1). كذا فى «منسك» الجد رحمه اللّه.

و ذكر أن الخليل لما حفر القواعد أبرز عن رابض كأمثال خلف الإبل لا يحرك الصخرة إلا ثلاثون رجلا. و كان يبنى كل يوم سافا(2) و هو المدماك(3) فى عرفنا الآن(4).

قال ابن عباس رضى اللّه عنه: أما و اللّه، ما بنياه بقصة و لا مدر. و لا كان معهم ما يسقفانه و لكنهما أعلماه و طافا(5) به.

و فى رواية: رضماه رضما فوق القامة و لم يسقفاه. و الرضم: أن ترص الحجارة بعضها فوق بعض بغير ملاط(6).

و القصة بفتح القاف هى النورة أو شبهها.

قال السهيلى: بناه الخليل من خمسة أجبل كانت الملائكة تأتيه بالحجارة منها، و هى:

طور سيناء، و طور زيتا، اللذان بالشام. و الجودى، و هو بالجزيرة، و لبنان و حراء و هما بالحرم، ثم قال: و انتبه لحكمة اللّه كيف جعل بناءه من خمسة أجيل فشاكل ذلك معناها، إذ هى قبلة للصلوات الخمس و عمود الإسلام، و قد بنى على خمس. انتهى(7).

قال الجد رحمه اللّه تعالى: و فى كون لبنان بالحرم نظر، إذ لا يعرف ذلك.

و يروى أن ذا القرنين قدم مكة و الخليل و ابنه يبنيان فقال: ما هذا؟ فقالا: نحن عبدان أمرنا بالبناء، فطلب منهما البرهان على ذلك فشهد بذلك خمسة أكبش، فقال قد رضيت و سلمت ثم مضى.

ص: 74


1- 98. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 60.
2- 99. ( 2) تحرف فى د، و المطبوع إلى:« ساقا».
3- 100. ( 3) المدماك: الصف من اللبن أو الحجارة.
4- 101. ( 4) إخبار الكرام ص 124.
5- 102. ( 5) إخبار الكرام ص 124.
6- 103. ( 6) إخبار الكرام ص 125.
7- 104. ( 7) الروض الأنف ج 1 ص 341.

مطلب: الكلام على ذى القرنين صاحب الخضر و لم لقب بذلك و تعريف نبوته و عدمها

فائدة استطرادية: اعلم أن ذا القرنين اثنان: رومى، و مقدونى. و الذى اجتمع بالخليل هو الرومى الذى ذكره اللّه تعالى فى القرآن و هو صاحب الخضر. و اختلف فى تسميته بذى القرنين و هل كان نبيا أم عبدا صالحا. فقيل: سمى بذى القرنين لأنه بلغ مغرب الشمس و مطلعها، و قيل: لأنه، ملك الروم و فارس أو الروم و الترك، و قيل: لأنه انقرض فى زمنه قرنان من الناس و هو حى.

و قال الواحدى: لأنه أمر قومه بتقوى اللّه فضربوه على قرنه فمات فبعثه اللّه ثم أمرهم بتقوى اللّه فضربوه على قرنه الآخر فمات، فبعثه اللّه فسمى ذا القرنين، و قيل: كان له قرنان. و قيل: كان كريم الطرفين أما و أبا، و هذان القولان فى «المدارك» و قيل: لأنه عاش قرنين. و عن على: سخر له السحاب و مدت له الأسباب و بسط له النور، و كان الليل و النهار عنده سواء.

و أما أنه نبى أو ملك فعن عبد اللّه بن عمر و مجاهد أنه كان نبيا، و عن على كرم اللّه وجهه أنه كان عبدا صالحا أحب اللّه و ناصحه فأحبه اللّه و ناصحه، و عن وهب أنه كان ملكا عادلا، قال المفسرون: ملك الدنيا أربعة: مؤمنان و كافران: أما المؤمنان: فذو القرنين و سليمان بن داود عليهما السلام، و أما الكافران: فنمرود و بختنصر. قال القرطبى:

و سيملك الدنيا من هذه الأمة خامس و هو المهدى لقوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (سورة الفتح: 28) انتهى.

أقول: و سيملكها سادس أيضا، و هو عيسى صلوات اللّه عليه. كما جاءت به السنة فى غير موضع من الصحيحين و غيرهما. انتهى.

مطلب سن ذى القرنين

و كان عمر ذى القرنين ألفا و ستمائة سنة، و اختلف فى زمنه و اسمه فقيل: كان فى زمن نمرود، و يؤيده اجتماعه بالخليل حال بنائه البيت، كما تقدم، لأن الخليل و النمرود

ص: 75

فى زمن واحد، و عن وهب أنه كان فى الفترة بين عيسى و محمد عليهما السلام، و قيل:

كان بعد ثمود. و أما اسمه، فقيل: عبد اللّه، و قيل: إسكندر، و قيل: مرزبان بن مرزبة.

مطلب: الحجر الأسود و هل كان قبل إبراهيم أم لا

عدنا إلى المقصود، فلما انتهى الخليل عليه السلام فى البناء إلى موضع الحجر- بالفتح- طلب من إسماعيل حجرا يضعه ليكون علما على بداءة الطواف فجاءه جبريل بالحجر الأسود، قيل نزل به من الجنة. و قيل: جاء به من أبى قبيس، لأن اللّه استودع الحجر أبا قبيس لما غرقت الأرض. و فى رواية أن الحجر نفسه نادى الخليل من أبى قبيس هأنذا، فرقى إليه فأخذه فوضعه فى موضعه هذا(1).

و جعل الخليل صلوات اللّه عليه طول البيت فى السماء تسعة أذرع، و عرضه فى الأرض اثنين و ثلاثين ذراعا من الركن الأسود إلى الركن الشامى الذى عنده الحجر- بكسر الحاء- من وجهه، و جعل عرض ما بين الركن الشامى الغربى الذى فيه الحجر- بالكسر اثنين و عشرين ذراعا. و جعل طول ظهره من الركن الغربى إلى الركن اليمانى واحدا و ثلاثين ذراعا، و جعل عرض سقفها اليمانى من الركن الأسود إلى الركن اليمانى عشرين ذراعا، فلذلك سميت كعبة لأنها على خلقة الكعب، و كذلك بنيان أساس آدم عليه السلام، و جعل بابها بالأرض غير مبوب، حتى كان تبّع أسعد الحميرى هو الذى جعل لها بابا و غلقا فارسيّا، و كساها كسوة تامة، و نحر عندها كما علمته(2) فيما تقدم. و سيأتى الكلام على ذلك فى محله مستوفى إن شاء اللّه تعالى.

و جعل الخليل الحجر- بكسر الحاء- إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز، فكان زربا لغنم إسماعيل، و حفر فى بطن الكعبة جبا على يمين الداخل يكون خزانة للبيت يلقى فيه ما يهدى للكعبة، و هو الذى نصب عليه عمرو بن لحى هبل، صنم قريش الذى كانت تعبده و تستقسم عنده بالأزلام(3).

أقول: و لعله- و اللّه أعلم- هو المراد بقول أبى سفيان بن حرب فى يوم أحد: اعل هبل. انتهى.

ص: 76


1- 105. ( 1) إخبار الكرام ص 125.
2- 106. ( 2) إخبار الكرام ص 126.
3- 107. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 64.

ثم عدا على ذلك الجب قوم من جرهم فسرقوا ما فيه من أموال الكعبة و حليتها مرة بعد أخرى، فبعث اللّه الحية لحراسته و هى التى اختطفها العقاب كما تقدم، و اللّه أعلم.

و أما سبب بناء قريش للبيت: فروى أن امرأة ذهبت تجمر الكعبة فطارت شرارات من مجمرتها فاحترقت كسوته و كانت ركاما بعضها فوق بعض، فحصل فى الأحجار تصدع و وهن، ثم تواترت السيول بعد ذلك أيضا جاء سيل عظيم فدخل البيت فازداد تصدع الجدران ففزعت لذلك قريش فزعا شديدا، و هابوا هدمها، و خافوا إن مسوها ينزل عليهم العذاب(1).

فبينما هم على تلك الحال يتشاورون إذ أقبلت سفينة من الروم، حتى إذا كانت بمحل يقال له الشّعيّبة- بضم الشين المعجمة- و هو يومئذ ساحل مكة قبل جدة انكسرت(2).

استطراد: فى الكلام على فضل جدة التى هى الآن ساحل مكة و شى ء من خبرها:

روى الفاكهى عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضى اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «مكة رباط وجدة جهاد»(3).

و عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: إنما جدة خزانة مكة و إن ما يؤتى به إلى مكة لا يخرج به منها(4).

ثم قال- أعنى ابن جريج: إنى لأرجو أن يكون فضل مرابطى جدة على سائر المرابطين كفضل مكة على سائر البلدان(5).

و عن عباد بن كثير، أنه قال: الصلاة بجدة سبعة عشر ألف ألف صلاة، و الدرهم فيها مائة ألف، و أعمالها بقدر ذلك، يغفر للناظر فيها مدّ بصره مما يلى البحر(6).

و عن فرقد السّبخىّ أنه قال: إنى رجل أقرأ هذه الكتب، و إنى لأجد فيما أنزل اللّه من كتبه جدّة- أو جديدة- يكون بها قتلى و شهداء، لا شهداء يومئذ على ظهر الأرض أفضل منهم(7).

ص: 77


1- 108. ( 1) أخبار مكة الأزرقى ج 1 ص 160.
2- 109. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 160.
3- 110. ( 3) أخبار مكة للفاكهى ج 3 ص 52 و ذكر محققه أن إسناده ضعيف.
4- 111. ( 4) أخبار مكة للفاكهى ج 1 ص 53.
5- 112. ( 5) أخبار مكة للفاكهى ج 3 ص 53.
6- 113. ( 6) أخبار مكة للفاكهى ج 3 ص 53.
7- 114. ( 7) أخبار مكة للفاكهى ج 3 ص 55.

و عن بعض المكيين أن الحبشة جاءت إلى جدة فى سنة ثلاث و ثمانين فى صدرها، فوقعوا بأهل جدّة، فخرج الناس من مكة إلى جدّة غزاة فى البحر، و عليهم أميرهم عبد اللّه محمد بن إبراهيم المخزومى. انتهى(1).

قال الفاسى رحمه اللّه: عبد اللّه بن محمد هذا ولى مكة للرشيد العباسى، فيكون المراد سنة ثلاث و ثمانين و مائة(2).

و أول من جعل جدة ساحلا لمكة عثمان بن عفان رضى اللّه عنه فى سنة ست و عشرين من الهجرة، و كانت الشّعيبة ساحل مكة قبل ذلك(3).

و ذكر ابن جبير أنه رأى بجدة أثر سور محدق و أن بها مسجدين ينسبان لعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه، أحدهما: يقال له مسجد الآبنوس، و هو معروف إلى الآن، و الآخر غير معروف، و لعله و اللّه أعلم المسجد الذى تقام فيه الجمعة و هو من عمارة المظفر صاحب اليمن. انتهى(4).

و يروى أن قبر حواء بجدة، و اللّه أعلم(5).

و لنرجع إلى المقصود: فلما انكسرت السفينة بالشعيبة و بلغ قريشا قصدوها و اشتروا خشبها، و أذنوا لأهلها أن يدخلوا مكة فيبيعوا ما معهم من المتاع و أن لا يعشروهم(6) و كانوا قبل ذلك يعشرون من دخلها من تجار الروم. و كانت الروم أيضا تعشر قريشا إذا دخلوا بلادهم. و كان فى السفينة نجار بناء اسمه باقوم. و هو الذى بنى الكعبة لقريش كما روى عن سفيان بن عيينة(7).

و يروى أن قريشا لما هابوا هدمها قال الوليد: إن اللّه لا يهلك من يريد الصلاح فارتقى على ظهر البيت، و معه الفأس ثم هدم، فلما رأوه سالما تابعوه(8).

ص: 78


1- 115. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 141.
2- 116. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 141.
3- 117. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 141.
4- 118. ( 4) رحلة ابن جبير ص 50، السلاح و العدة فى تاريخ بندر جدة ص 47.
5- 119. ( 5) السلاح و العدة ص 27.
6- 120. ( 6) عشر القوم: أخذ عشر أموالهم
7- 121. ( 7) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 157.
8- 122. ( 8) إخبار الكرام ص 129.

و فى بعض الروايات أن قريشا كانوا كلما أرادوا هدم البيت بدت لهم حية فاتحة فاها فبعث اللّه طيرا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها فألقاها نحو أجياد، فهدمته قريش و بنوها بحجارة الوادى، و رفعوها ثمانية عشر ذراعا فى السماء، و قيل عشرين(1).

و حضر النبى صلى اللّه عليه و سلم هذا البناء مع قريش، و كان يحمل الحجارة، و سنه إذ ذاك خمس و ثلاثون سنة، و هو الأشهر، و قيل: خمس و عشرون، و هو مشهور(2)، و عن الفاكهى كان قد ناهز الحلم، و فى «تاريخ الأزرقى» ما يؤيده، و هو ضعيف جدا فلا يعتبر بمخالفته القولين الأولين.

فبينما هو يحملها و عليه نمرة قد ضاقت فذهب بعضها على عاتقه فبدت عورته فنودى:

يا محمد، خمر(3) عورتك فلم ير بعدها عريانا، و كان بين ذلك و بين المبعث خمس سنين(4).

و اختلفت قريش فيمن يضع الحجر الأسود حتى رضوا بأول داخل، فكان هو أول داخل صلى اللّه عليه و سلم فوضعه بيده الشريفة(5).

و أخرج الأزرقى فى رواية أن طول الكعبة كان سبعة و عشرين ذراعا، فاقتصرت قريش على ثمانية عشر ذراعا، و نقصوا من عرضها أذرعا أدخلوها فى الحجر.

أقول: بناء قريش ثابت على القول المشهور بعد بناء الخليل، و قد علمت فيما سبق أن الخليل صلوات اللّه عليه جعل طولها فى السماء تسعة أذرع كما تضافرت به الأقوال، و ستقف على ذلك من كلام الأزرقى أيضا عند ذكر بناء ابن الزبير آنفا، فما نقله من أن طول الكعبة كان سبعة و عشرين ذراعا ... إلخ، فيه مناقضة لما سيأتى عنه، و لم يثبت من طريق صحيح أن أحدا بناها بعد الخليل، و جعل طولها سبعة و عشرين ذراعا، و ما تقدم من بناء العمالقة و جرهم و قصى بعد الخليل إنما هو مجرد خبر و هو يحتمل و لم يتأيد بدليل، و على تقدير الصحة فلم يذكر أحد مقدار ارتفاع بنائهم مطلقا. على أن الأزرقى نفسه ذكر

ص: 79


1- 123. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 160.
2- 124. ( 2) إخبار الكرام ص 130.
3- 125. ( 3) خمر وجهه: غطاه و ستره.
4- 126. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 158، إخبار الكرام ص 131.
5- 127. ( 5) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 159، إخبار الكرام ص 131.

بناء العمالقة، و جرهم و لم يبين مقدار ارتفاعهما، نعم نقل الفاسى رحمه اللّه عن الزبير بن بكار: أن قصيا بنى الكعبة بناء محكما على خمس و عشرين ذراعا و سقفها بخشب الدوم و جريد النخل، ثم قال: و فيه نظر، لأنه إن أريد به أن قصيا جعل ارتفاع الكعبة خمسا و عشرين كان مخالفا لما اشتهر من أن الخليل جعل طولها تسعة أذرع و أن قريشا زادت تسعة أذرع، و إن أريد أن قصيا جعل عرضها خمسة و عشرين ذراعا فالمعروف أن عرضها من الجهة الشرقية و الغربية لا ينقص عن ثلاثين فى بناء الخليل، و من الجهة الشامية و اليمانية لا يبلغ خمسة و عشرين و كل من بنى الكعبة بعد إبراهيم لم يبنها إلا على قواعده غير أن قريشا استقصرت عن عرضها فى الجهة الشرقية و الغربية أذرعا لأمر اقتضاه الحال هذا معنى كلام الفاسى. ثم على تقدير حمل الخمسة و العشرين ذراعا فى بناء قصى على أنه ارتفاع البيت فى السماء و إن كان يخالف المشهور، فليس فيه دلالة لما رواه الأزرقى لنقصه ذراعين، فيكون ما نقله الأزرقى مجرد رواية لم يعضدها شى ء فلا يعول عليه، و اللّه الموفق.

و روى أن أبا وهب المخزومى قال لقريش عند بناء البيت: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا طيبا، و لا تدخلوا فيه مهر بغى(1)، و لا بيع ربا، و لا مظلمة أحد من الناس، فلهذا قصرت بهم النفقة فنقصوا بناء الكعبة عن قواعد إبراهيم(2). و اللّه أعلم.

و أما سبب بناء ابن الزبير رضى اللّه عنهما: فهو أن الحصين بن نمير لما قدم مكة، و معه الجيش من قبل يزيد بن معاوية لقتال ابن الزبير، أصحابه فتحصن بهم فى المسجد الحرام حول الكعبة، و نصب خياما يستظلون فيها من الشمس، و كان الحصين قد نصب المنجنيق على أخشبى مكة، و هما، أبو قبيس و الأحمر الذى يقابله، و صار يرمى به على ابن الزبير و أصحابه فتصيب الأحجار الكعبة فوهنت لذلك و تخرقت كسوتها عليها و صارت كأنها جيوب النساء(3).

ثم إن رجلا من أصحاب ابن الزبير أوقد نارا فى بعض تلك الخيام مما يلى الصفا بين الركن الأسود و اليمانى، و المسجد يومئذ صغير، و كانت فى ذلك اليوم رياح شديدة،

ص: 80


1- 128. ( 1) البغى: المرأة الزانية الفاجرة.
2- 129. ( 2) إخبار الكرام ص 131.
3- 130. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 202 و ما بعدها.

و الكعبة إذ ذاك مبنية بناء قريش: مدماك من ساج و مدماك من حجارة، فطارت الريح بشرارة من تلك النار فتعلقت بكسوة الكعبة فاحترقت و احترق الساج الذى بين البناء، فازداد تصدع البيت و ضعفت جدرانه، و تصدع الحجر الأسود أيضا حتى ربطه ابن الزبير بعد ذلك بالفضة، ففزع لذلك أهل مكة، و أهل الشام، أعنى الحصين و جماعته(1).

و عن الفاكهى: أن سبب حريق البيت إنما كان من بعض أهل الشام أحرق على باب بنى جمح، و فى المسجد يومئذ خيام فمشى الحريق حتى أخذ فى البيت، فظن الفريقان أنهم هالكون(2).

قال الجد رحمه اللّه: قلت: و هذا يخالف ما ذكر من أن السبب فى ذلك إنما هو من بعض أصحاب ابن الزبير، و لعل ما ذكره الفاكهى أصوب، على أنه يمكن الجمع بوقوع كل من ذلك(3): فيكون السبب مركبا. و اللّه أعلم. انتهى معناه.

فائدة: أخرج الأزرقى عن محمد ابن الحنفية أنه قال: أول ما تكلم فى القدر حين احترقت الكعبة فقال رجل احترقت ثياب الكعبة و هذا من قدر اللّه. و قال آخر: ما قدر اللّه هذا(4).

ثم جاء نعى(5) يزيد بعد ذلك بتسعة و عشرين يوما و الحصين مستمر على حصار ابن الزبير، فأرسل ابن الزبير إلى الحصين جماعة من قريش فكلموه و عظموا عليه ما أصاب الكعبة و قالوا له: إن هذا من رميكم لها، فأنكر ذلك ثم ولى راجعا إلى الشام فدعا ابن الزبير حينئذ وجوه الناس و استشارهم فى هدم الكعبة فأشار عليه القليل من الناس بذلك و أبى الكثير.

و كان أشدهم إباء عبد اللّه بن عباس، و قال دعها على ما أقرها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فإنى أخشى أن يأتى بعدك من يهدمها فلا تزال تهدم و تبنى فيتهاون الناس بحرمتها و لكن ارقعها، فقال ابن الزبير: و اللّه ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه و أمه، فكيف أرفع بيت اللّه، و استقر رأيه على هدمها رجاء أن يكون هو الذى يردها على قواعد الخليل صلوات اللّه

ص: 81


1- 131. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 203.
2- 132. ( 2) إخبار الكرام ص 133.
3- 133. ( 3) إخبار الكرام ص 133.
4- 134. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 197.
5- 135. ( 5) انظر فى ذلك: أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 203.

عليه، لقوله صلى اللّه عليه و سلم لعائشة رضى اللّه عنها: «لو لا قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين» و فى رواية: «حديث عهدهم بكفر»(1).

نكتة: اعلم أن للمبتدأ الواقع بعد لو لا ثلاثة أحوال: مخبر عنه بكون غير مقيد، و مخبر عنه بكون مقيد لا يدرك معناه عند حذفه، و مخبر عنه بكون يدرك معناه عند حذفه.

فمن الثانى قوله صلى اللّه عليه و سلم: «لو لا قومك حديثو عهد ...» الحديث. و لو لا زيد غائب لم أزرك، فالخبر فى هذا النوع واجب الثبوت بعد لولا لأنه لو اقتصر فى هذا الحديث على المبتدأ لصار المراد لو لا قومك على كل حال من أحوالهم لنقضت الكعبة، و هو خلاف المقصود، إذ من أحوالهم بعد عهدهم بالكفر فيما يستقبل، و فى هذا الحال لا مانع من نقض الكعبة و بنائها على الوجه المذكور، و قد ذكره ابن مالك فى شواهده على «صحيح البخارى» بأبسط من هذا فراجعه إن أردته.

ثم إن ابن الزبير رضى اللّه عنه أمر بهدم الكعبة و كان ذلك سنة أربع و ستين من الهجرة فى يوم السبت النصف من جمادى الآخرة. أخرجه الأزرقى. و قيل: سنة خمس و ستين(2).

فلم يجترئ على ذلك أحد، و خرج أهل مكة إلى منى و أقاموا بها ثلاثا خوفا أن ينزل عليهم عذاب بسبب ذلك. و خرج عبد اللّه بن عباس إلى الطائف، فلما رأى ذلك ابن الزبير علاها بنفسه و أخذ المعول و جعل يهدمها، فلما رأوا أنه لم يصبه شى ء صعدوا معه و هدموا و أرقى ابن الزبير [فوقها] عبيدا من الحبشة يهدمونها، رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشى الذى قال فيه صلى اللّه عليه و سلم: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة»(3).

لطيفة: قال بعض العلماء: إنما صغر ذو السويقتين، لأن فى سيقان الحبشة دقة و حموشة- أى بالحاء المهملة و الشين المعجمة- قال فى «الصحاح»: رجل أحمش الساقين دقيقهما.

أقول: فعلى هذا يكون العطف تفسيريا. انتهى.

ص: 82


1- 136. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 204.
2- 137. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 206.
3- 138. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 205 و ما بين حاصرتين منه.

قال الجد رحمه اللّه: فإن قلت: هذا الحديث ظاهره معارض لقوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً (سورة العنكبوت: 67) و لأن اللّه تعالى حبس عن مكة الفيل و لم يمكن أصحابه من تخريب الكعبة، و لم تكن إذ ذاك قبلة فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة لمسلمين.

قلت: (الجواب) أن ذلك محمول على وقوعه فى آخر الزمان قريب من قيام الساعة حيث لا يبقى فى الأرض قرآن و لا إيمان. انتهى بمعناه.

أقول: و يؤيده ما روى عن على بن أبى طالب كرم اللّه وجهه أنه قال: قال اللّه تعالى:

إذا أردت أن أخرب الدنيا بدأت ببيتى فخربته، ثم أخرب الدنيا على أثره. انتهى.

قال شيخ الإسلام فى «فتح البارى»: و ما وقع قبل ذلك فيه من القتال و غزو أهل الشام له فى زمن يزيد بن معاوية ثم من بعده و فى وقائع كثيرة من أعظمها وقعة القرامطة، كل ذلك لا يعارض الآية أعنى قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا لأن ذلك إنما وقع بأيدى المسلمين، فهو مطابق لقوله صلى اللّه عليه و سلم: «و لن يستحل هذا البيت إلا أهله». و ليس فى الآية ما يدل على استمرار الأمن المذكور فيها. انتهى.

و قال الزركشى: و الحق فى الجواب أنه لا يلزم من قوله: حَرَماً آمِناً وجود ذلك فى كل الأوقات فلا يعارضه ارتفاع هذا المعنى فى وقت آخر. فإن قيل: قد قال صلى اللّه عليه و سلم:

«إنى أحلت لى مكة ساعة من نهار ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة». قلنا: أما الحكم بالحرمة و الأمن فلم يرتفع إلى يوم القيامة، و أما وقوع الخوف فيها و ترك حرمتها فقد وجد ذلك فى أيام يزيد و غيرها. انتهى.

و عن الحليمى من الشافعية أن تخريب الحبشة للبيت يكون فى زمن عيسى عليه السلام، و الصحيح بأن ذلك بعد موته.

و لما انتهى ابن الزبير رضى اللّه عنه من هدم البيت حفر عن الأساس من نحو الحجر- بكسر الحاء- ليقف على قواعد إبراهيم فلم يصب شيئا فشق عليه ذلك فبالغ فى الحفر و نزل بنفسه فكشفوا له عن قواعد إبراهيم فإذا هى صخر أمثال الخلف من الإبل- بالخاء المعجمة و اللام.

ص: 83

و عن عطاء أنه قال: كنت فى الأمناء الذين جمعوا على حفره فحفروا قامة و نصفا فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عروق المروة فحركوها بالعتل، فتحركت قواعد البيت و ارتجت مكة بأسرها. و رأوه بنيانا مربوطا بعضه ببعض فحمد اللّه ابن الزبير و كبر(1).

ثم أحضر الناس و أمرهم بالإشراف فنزلوا و شاهدوا ذلك. فشرع حينئذ فى أمر البناء و أراد أن يبنيها بالورس، فقيل له: إن الورس يذهب. و لكن ابنها بالقصّة(2)، و أخبر أن قصة صنعاء(3) أجود فأرسل بأربعمائة دينار يشترى بها ذلك(4).

و فى «الزهر الباسم» أنه بناها بالرصاص المذاب بالورس.

ثم إنه سأل رجالا من أهل العلم بمكة من أين أخذت قريش حجارتها؟ فأخبروه بمقلعها، فنقل ما احتاج إليه و عزل من حجارة البيت ما يصلح أن يعاد فيه، ثم بنى على تلك القواعد بعد بأن جعل أعمدة من الخشب و ستر عليها الستور ليطوف الناس من ورائها و يصلون إليها حتى ارتفع البناء(5).

و أخرج الأزرقى أن البناء لما صار ثمانية عشر ذراعا فى السماء و كان هذا طولها يوم هدمها، قصرت حينئذ لأجل الزيادة التى زادها من الحجر، فلم يعجب ابن الزبير ذلك إذ صارت عريضة لا طول لها، فقال: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع، و زادت قريش تسعة أذرع، و أنا أزيد تسعة أخرى. فبناها سبعة و عشرين ذراعا و عرض الجدار ذراعان. و جعل فيها ثلاث دعائم فى صف واحد. و كانت قريش جعلت فيها ست دعائم فى صفين، و أرسل إلى صنعاء فأتى برخام منها يقال له البلق، فجعله فى الروازن الذى فى سقفها للضوء(6). انتهى.

أقول: هذا يخالف ما تقدم عن الأزرقى من أن طول البيت كان سبعة و عشرين ذراعا فاقتصرت قريش إلخ كما سبق الكلام فيه. انتهى.

ص: 84


1- 139. ( 1) إخبار الكرام ص 136.
2- 140. ( 2) القصّة- بالفتح- الجصّ، لغة حجازية.
3- 141. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى« صفا» و صوابه لدى الأزرقى.
4- 142. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 205، إخبار الكرام ص 136.
5- 143. ( 5) بإخبار الكرام ص 137.
6- 144. ( 6) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 209.

و جعل ابن الزبير للبيت بابين متقابلين أحدهما يدخل منه و الآخر يخرج منه، و فى «شفاء الغرام» أنهما لاصقان بالأرض.

قال الحافظ ابن حجر: جميع الروايات التى جمعتها فى هذه القصة متفقة على أن ابن الزبير جعل الباب بالأرض. و مقتضاه أن يكون الباب الذى زاده على سمته.

و قد ذكر الأزرقى أن جملة ما غيره الحجاج: الجدار الذى من جهة الحجر، و الباب المسدود الذى فى الجانب الغربى عن يمين الركن اليمانى و ما تحت عتبة الباب الأصلى و هو أربعة أذرع و شبر(1).

و هذا موافق لما فى الرواية المذكورة لكن المشاهد الآن فى ظهر الكعبة باب مسدود يقابل الباب الأصلى، و هو فى الارتفاع مثله. و مقتضاه أن يكون الباب الذى فى عهد ابن الزبير لم يكن لاصقا بالأرض فيحتمل أن يكون لاصقا كما صرحت به الروايات، لكن الحجاج لما غيره رفعه و رفع الباب الذى يقابله أيضا ثم بدا له فسد الباب المجدد. لكن لم أر النقل بذلك صريحا، ثم قال: و ذكر الفاكهى أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة فى سنة ثلاثة و ستين و مائتين فإذا هو مقابل باب الكعبة، و هو بقدره فى الطول و العرض، و فى أعلاه كلاليب ثلاثة كما فى الباب الموجود سواء، و اللّه أعلم. انتهى.

قال الجد رحمه اللّه: قوله و يحتمل أن يكون لاصقا كما صرحت به الرواة فيه بعد إذ مشاهدة البناء من أسفل الباب و ارتباط بعضه ببعض يقضى بخلاف ذلك، و اللّه أعلم.

انتهى.

أقول: و كان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعا واحدا فجعله مصراعين، و لما انتهى إلى موضع الحجر الأسود تحرى غفلة الناس نصف النهار فى يوم صائف، و جاء بالحجر هو و ولده و جبير بن شيبة و وضعوه بأيديهم. كذا فى «الزهر الباسم» و قيل: بل الحجبة تواعدوا لوضع الركن، فلما دخل ابن الزبير فى صلاة الظهر خرجوا به فوضعوه فأدركهم حمزة بن عبد اللّه بن الزبير فأخذ بطرف الثوب فرفعه معهم. و قيل: بل وضعه ابن الزبير بنفسه و شده بالفضة. و قيل: وضعه عباد بن عبد اللّه بن الزبير و جبير بن شيبة،

ص: 85


1- 145. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 210.

أمرهما عبد اللّه بن الزبير أن يجعلا الركن فى ثوب و يخرجا به، و هو يصلى بالناس الظهر على غفلة من الناس لئلا يعلموا بذلك فيتنافسوا فى وضعه. أخرجه الأزرقى(1).

و قيل: وضعه حمزة ابنه وحده بأمر أبيه. نقله السهيلى بالصواب.

و كان الحجر قد تصدع من الحريق و انفرق ثلاث فرق، و انشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد الحريق بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة إلا تلك الشظية، و موضعها بين فى أعلى الركن. ثم تزلزلت تلك الفضة بعد ذلك و تقلقلت حتى خيف على الحجر. فلما اعتمر هارون الرشيد فى سنة تسع و ثمانين و مائة أمر بنقب الأحجار التى فوق الحجر و التى تحته فنقبت بالماس من فوقها و من تحتها ثم أفرغ فيها الفضة.

و لما فرغ ابن الزبير رضى اللّه عنه من بناء الكعبة و ذلك فى سابع و عشرين من رجب من سنة خمس و ستين خلق جوفها بالعنبر و المسك و لطخ جدرانها من خارج بذلك من أعلاها إلى أسفلها و سترها بالديباج، و قيل: بالقباطى، و ما فضل من الحجارة فرشها حول البيت، و قال: من كانت لى عليه طاعة فليعتمر من التنعيم شكرا للّه عز و جل، و من قدر أن ينحر بدنة فليفعل، و من لم يقدر على بدنة فليذبح شاة، و من لم يقدر فليتصدق بقدر طوله. ثم خرج ماشيا حافيا و خرج معه رجال من قريش مشاة حفاة: عبد اللّه بن صفوان و عبيد بن عمير فأحرم من أكمة أمام مسجد عائشة رضى اللّه عنها بمقدار غلوة تقارب المسجد المنسوب لعلى، و جعل طريقه على ثنية الحجون، و دخل من أعلى مكة و طاف بالبيت، و استلم الأركان الاربعة، و قال: إنما كان ترك استلام الركنين يعنى الشامى و الغربى لأن البيت لم يكن تامّا يعنى على قواعد إبراهيم. و صارت هذه العمرة سنة عند أهل مكة فى هذا اليوم يعتمرونها فى كل سنة إلى يومنا هذا.

و أهدى ابن الزبير فى تلك العمرة مائة بدنة نحرها من جهة التنعيم، و بعض طرق الحل و لم يبق من أشراف مكة و ذوى الاستطاعة بها إلا من أهدى، و أقاموا أياما يتطاعمون و يتهادون شكرا للّه تعالى على الإعانة و التيسير على بناء بيته الحرام بالصفة التى كان عليها مدة الخليل عليه السلام، و اللّه أعلم.

(و أما سبب بناء الحجاج و تغييره) بعض ما صنعه ابن الزبير فهو أن ابن الزبير رضى اللّه عنه لما

ص: 86


1- 146. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 218، 219.

قتل، كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير قد زاد فى الكعبة ما ليس منه و أحدث فيها بابا آخر، و استأذنه فى رد ذلك على ما كان عليه من بناء قريش. فكتب إليه عبد الملك: لسنا من تلطيخ ابن الزبير فى شى ء، أما ما زاد فى طوله فأخره. و أما ما زاد فيه من الحجر- بكسر الحاء- فرده إلى بنائه و سد بابه الذى فتحه- يعنى الغربى-.

فبادر الحجاج عند ذلك و نقض الشق الذى يلى الحجر- بالكسر أيضا- و بناه و رفع بابها و سد الباب الغربى(1).

و قد رورى غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج فى ذلك، و لعن الحجاج لما أخبره الحارث أن عبد اللّه بن أبى ربيعة سمع الحديث من عائشة رضى اللّه عنها الذى اعتمده ابن الزبير فيما فعله فى الكعبة. و هو قوله صلى اللّه عليه و سلم: لولا قومك(2) ... إلخ.

و كل شى ء فيها الآن بناء ابن الزبير ما عدا الجدار الذى فى الحجر و سد الباب الغربى و تغيير ما تحت عتبة الباب الشرقى و الدرجة التى فى باطنها.

و روى أن هارون الرشيد أو أباه المهدى أو جده المنصور سأل مالك بن أنس رضى اللّه عنه فى هدمها وردها إلى بناء ابن الزبير للحديث المذكور، فقال مالك: نشدتك اللّه يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد إلا نقضه و بناه، فتذهب هيبته من صدور الناس(3).

قال الفاسى: و كأن مالكا لحظ فى ذلك كون درء المفاسد أولى من جلب المصالح.

و هى قاعدة مشهورة معتمدة انتهى. و اللّه أعلم(4).

فصل فى ذكر كنز الكعبة و الحكم فيه

روى البخارى عن أبى وائل، قال: جلست مع شيبة- يعنى ابن عثمان- على الكرسى فى الكعبة، فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر. ثم قال: لقد هممت أن لا أدع فيها

ص: 87


1- 147. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 210، إخبار الكرام ص 145.
2- 148. ( 2) إخبار الكرام ص 146.
3- 149. ( 3) إخبار الكرام ص 147.
4- 150. ( 4) إخبار الكرام ص 147.

صفراء و لا بيضاء إلا قسمته. قلت: إن صاحبيك لم يفعلا (ه، رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و أبو بكر رضى اللّه عنه) قال:- يعنى عمر- هما المرآن أقتدى بهما(1).

أقول: جلوس شيبة على الكرسى فى الكعبة، قال المحب الطبرى: لما أخبر شيبة أن النبى صلى اللّه عليه و سلم و أبا بكر لم يتعرضا للمال رأى عمر أن ذلك هو الصواب.

و كأنه رأى حينئذ أن ما جعل فى الكعبة يجرى مجرى الوقف عليها فلا يجوز تغييره، أو رأى ترك ذلك تورعا حين أخبر أنه تركه صاحباه مع رؤيته جواز إنفاقه فى سبيل اللّه، لأن صاحبيه إنما تركاه للعذر الذى تضمنه حديث عائشة رضى اللّه عنها(2). انتهى.

و قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر رحمه اللّه: يحتمل أن يكون تركه صلى اللّه عليه و سلم لذلك رعاية لقلوب قريش كما ترك بناء الكعبة على قواهد بناء إبراهيم، و يؤيده ما وقع عند مسلم فى بعض طرق الحديث: و لأنفقت كنز الكعبة فى سبيل اللّه و لجعلت بابها بالأرض و هذا التعليل هو المعتمد عليه، فإنفاقه جائز كما جاز لابن الزبير بناؤها على قواعد إبراهيم لزوال سبب الامتناع. انتهى.

فائدة: أخرج الأزرقى فى «تاريخه» أن النبى صلى اللّه عليه و سلم وجد فى الجب الذى فى الكعبة سبعين ألف أوقية من ذهب مما كان يهدى للبيت، و أن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه قال: يا رسول اللّه، لو استعنت بهذا المال على حربك. فلم يحركه. ثم ذكر لأبى بكر فلم يحركه(3).

و أخرج أيضا أن الحسين بن الحسين العلوى عمد إلى خزانة الكعبة فى سنة مائتين من الفتنة حين أخذ مكة فأخذ مما فيها مالا عظيما، و قال: ما تصنع الكعبة بهذا المال؟ نحن أحق به نستعين به على حربنا(4).

و يروى أن مال الكعبة كان يدعى الأبرق. و لم يخالط مالا قط إلا محق(5). و أدنى ما يصيب آخذه أن يشدد عليه عند الموت.

ص: 88


1- 151. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 245 و ما بين حاصرتين منه، القرى ص 521، منائح الكرم ج 1 ص 380.
2- 152. ( 2) القرى لقاصد أم القرى ص 521.
3- 153. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 246.
4- 154. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 247.
5- 155. ( 5) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 247.

فروع: الأول: تختص الكعبة الشريفة بما يهدى إليها و ما ينذر لها من الأموال و امتناع صرف شى ء منها إلى الفقراء و المصالح، إلا أن يعرض لها نفسها عمارة فيصرف فيه. و إلا فلا يغير شى ء عن وجهه. نبه عليه الزركشى فى الشافعية.

الثانى: إذا نذر شمعا يشعله فيها أو زيتا و نحوه وضعه فى مصابيحها. و إن كان لا يستعمل فيها بيع و صرف الثمن فى مصالحها. صرح به الماوردى.

الثالث: نقل الجد فى «منسكه» مسألة تعم بها البلوى، فقال: شخص نذر أن يوقد شمعا على باب الكعبة فأرسل به مع غيره ليوقده فجاء المرسل به و أوقده على الباب قليلا، فجاء الحجبة فأخذوه و منعوا استمرار وقوده، و قالوا: هذه عادتنا مع كل أحد. و ربما سرقه نوابهم على غفلة بعد إيقاده قليلا فهل تبرأ ذمة الناذر و المرسل معه ذمة الناذر دون المرسل معه أم كيف الحال؟.

الجواب: الناذر خلص عن عهده المنذور لبلوغه محله، و كون الحجبة يأخذونه أمر آخر لا يتعلق ببقاء النذر فى ذمة الناذر و لا المرسل معه، و إن كان على الحجبة إبقاؤه موقودا إلى نفاده. و لا خفاء أن الناذر نفسه لو حضر بالشمع فكان ما تقدم كان الحكم كذلك. و محل صحة هذا النذر من أصله أن ينتفع بهذا الموقود و لو على ندور مصل هناك أو غيره، و إلا فإن كان المقصد بالنذر و هو الغالب تعظيم البقعة ففيه وقفة، و مقتضى كلام النووى عدم الصحة. و صرح به الأذرعى و تبعه الزركشى انتهى.

أقول: مقتضى مذهبنا أن المرسل بالشمع لا يخلص عن العهدة بمجرد إيصال الشمع إلى المحل بل و لا بوقوده قليلا ما لم يوقد ثلثاه فأكثر. و أما الحجبة فلهم أخذه بغير إذن المرسل، إذ جرى العرف بذلك بعد أن وقد معظمه. نص عليه فى «القنية» من كتب المذهب انتهى.

الرابع: تصح صلاة الفرض و النفل عندنا فى الكعبة من غير كراهة بجماعة و غيرها، و تجوز فوق سطحها من غير ساتر مع الكراهة. و مذهب الإمام الشافعى رحمه اللّه كمذهبنا فى جواز الفرض و النفل فى باطن الكعبة بل هو الأفضل عنده، لكن يشترط فى الفريضة أن لا يرجو المصلى جماعة خارج الكعب.

ص: 89

قال الشافعى رحمه اللّه: ما تفوتنى فريضة فى جماعة فأصليها فى موضع أحب إلى من بطن البيت، لأن البقاع إذا فضلت بقربها منه فبطنها أفضل منها. و أما صحة الصلاة على سطحها فيشترط أن يكون أمام المصلى شاخص قدر ثلثى ذراع تقريبا من جدار الكعبة و هو الصحيح من مذهبه، و مذهب الإمام مالك رضى اللّه عنه عدم جواز الفريضة فى جوف البيت و كذلك السنن المؤكدة كالعيدين و الوتر و ركعتى الفجر و ما أشبهها على مشهور مذهبه. و أما النفل فيجوز. و أما الصلاة على سطحها فالمشهور عنده المنع و مذهب الإمام أحمد رضى اللّه عنه أن صلاة الفريضة فى الكعبة لا تصح، و فى النافلة خلاف بين أصحابه. و الأصح الصحة، و كذا الحكم فى السطح عندهم فى الفريضة و النافلة.

فصل فى الكلام على دخوله صلى اللّه عليه و سلم الكعبة الشريفة بعد الهجرة و صلاته فيها و بيان مصلاه منها و عدد دخوله

فصل فى الكلام على دخوله صلى اللّه عليه و سلم الكعبة الشريفة بعد الهجرة و صلاته فيها و بيان مصلاه منها و عدد(1) دخوله

روى ابن عمر رضى اللّه عنهما أن النبى صلى اللّه عليه و سلم لما قدم مكة يوم الفتح نزل بفناء الكعبة و بعث إلى عثمان بن طلحة فجاء بالمفتاح و فتح له الباب و دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و معه أسامة بن زيد و بلال و عثمان بن طلحة فأغلقها عليهم و مكث فيها ما شاء ثم خرج. قال ابن عمر رضى اللّه عنهما:

فسألت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم؟ فقال: جعل عمودين عن يمينه و عمودا عن يساره و ثلاثة أعمدة وراءه. و كان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى ركعتين(2).

و فى البخارى عن ابن عمر أيضا، أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل و يجعل الباب قبل ظهره [فمشى] حتى يكون بينه و بين الجدار الذى قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع، فيصلّى [و هو] يتوخّى المكان الذى أخبره بلال أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلى فيه(3).

و قد أوضح ابن عمر رضى اللّه عنه موضع مصلاه صلى اللّه عليه و سلم فى الحديث إيضاحا شافيا.

ص: 90


1- 156. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« عدم».
2- 157. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 266.
3- 158. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 268، و ما بين حاصرتين منه.

و أخرج الأزرقى أن معاوية لما دخل الكعبة استدعى ابن عمر و هو فيها فقال له: يا أبا عبد الرحمن، أين صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منها؟ قال: بين العمودين المقدّمين، اجعل بينك و بين الجدار ذراعين أو ثلاثة(1).

فوائد: الأولى: قال الحافظ أبو الفضل العراقى: و ينبغى للمصلى أن لا يجعل بينه و بين الجدار أقل من ثلاثة أذرع، فإن كان الواقع أنه ثلاثة فقد صادف مصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و إن كان ذراعين فقد وقع وجه المصلى و ذراعاه فى مكان قدمى النبى صلى اللّه عليه و سلم، فهذا أولى من التقدم عنه(2). و اللّه أعلم انتهى.

الثانية: إدخال النبى صلى اللّه عليه و سلم هؤلاء الثلاثة معه لمعان تخص كل واحد منهم.

(أما دخول عثمان بن طلحة) فلئلا يتوهم الناس أنه عزله أو لأنه كان يقوم بفتح الباب و إغلاقه.

(و أما بلال) فلكونه مؤذنه و خادم أمر صلاته.

(و أما أسامة) فلأنه كان يتولى خدمة ما يحتاج إليه.

الثالثة: أن الحكمة فى غلق عثمان الباب عليهم لأمرين: لئلا يزدحم الناس عليه صلى اللّه عليه و سلم، و لئلا يظنوا أن الصلاة فيه سنة. قاله الكرمانى.

و هذا الدخول الذى وقع فى يوم الفتح هو أول دخوله صلى اللّه عليه و سلم بعد الهجرة. و لا خلاف فيه بين العلماء كما ثبت ذلك عن ابن عمر فى الصحيحين و غيرهما.

و قيل: إنه دخل البيت بعد ذلك ثلاث مرات أخر: الأولى: فى ثانى الفتح لحديث أخرجه الإمام أحمد بن حنبل رضى اللّه عنه فى مسنده عن أسامة رضى اللّه عنه و فيه أنه صلى اللّه عليه و سلم صلى ركعتين و لم يصل يوم الفتح.

الثانية: فى عمرة القضية لما رواه المحب الطبرى فى «القرى»(3) عن عروة بن الزبير.

الثالثة: فى حجة الوداع لما أخرجه أبو داود فى سننه عن ابن أبى مليكة عن عائشة رضى اللّه عنها و قد ضعفها العلماء. و بين الفاسى رحمه اللّه ما فيها من الوهن و الضعف.

ص: 91


1- 159. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 271.
2- 160. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 227.
3- 161. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى:« الغرر».

و نقل الأزرقى أيضا أنه صلى اللّه عليه و سلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ثم حج و لم يدخلها(1). انتهى و اللّه أعلم.

و هذا يدل على عدم دخوله فى المرات الثلاث.

(استطراد مفيد): أجمع العلماء و أصحاب السير و المحدثون أن حجة الوداع كانت وقفتها الجمعة بلا ريب و نقل النووى فى «الروضة» أن وفاة النبى صلى اللّه عليه و سلم كانت ضحوة يوم الاثنين لاثنتى عشرة خلت من ربيع الأول. كذا نقله ابن سيد الناس(2) و غيره من أصحاب السير، و هو مذهب الجمهور الراجح. و اعترضه بعض العلماء بأنه لا يستقيم أن تكون وفاته صلى اللّه عليه و سلم يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الأول حيث كانت الوقفة فى عام حجة الوداع سواء تمت الشهور الثلاثة التى بقيت من عمره صلى اللّه عليه و سلم أم نقصت أم تم بعضها، لأنها إن تمت كان الثانى عشر من ربيع، الأحد. لأنه يكون أول ذى الحجة الخميس و آخره الجمعة و أول المحرم السبت و آخره الأحد و أول صفر الاثنين و آخره الثلاثاء و أول ربيع الأربعاء و حينئذ يكون ثانى عشره الأحد، و إن نقص شهر واحد كان أول ربيع الثلاثاء فيكون ثانى عشره السبت و إن نقص شهران كان أول ربيع الاثنين و ثانى عشره الجمعة و إن نقصت الثلاثة كان أول ربيع الأحد و ثانى عشره الجمعة.

قال العلامة ابن العماد: و هذا الاعتراض ساقط من أصله، و الصواب ما قاله الجمهور و صاحب «الروضة» و ذلك أن التاريخ إنما يقع برؤية الهلال، و الأهلة تختلف بحسب اختلاف المطالع، و كل قطر يؤرخون و يصومون برؤيتهم و لا يعتبرون رؤية من بعد عنهم كما قاله الأصحاب و اتفقوا عليه فى كتاب الصيام.

فحينئذ فأهل مكة رأوا هلال الحجة ليلة الخميس و وقفوا الجمعة. و أهل المدينة يجوز أنهم رأوه ليلة الجمعة لأن مطلعهم مختلف مع أهل مكة، فإذا تمت الشهور كان أول ذى الحجة الجمعة و آخره السبت، و كان أول ربيع الأول الخميس فيكون ثانى عشره الاثنين و هذا الجواب صحيح، و يتصور أيضا بغير هذا.

و العجب ممن يقدم على تغليط جمهور العلماء و يغفل عن قاعدة التاريخ و أقوال العلماء

ص: 92


1- 162. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 269، و القرى ص 495.
2- 163. ( 2) سيرة ابن سيد الناس ج 2 ص 338.

فى اختلاف المطالع و رؤية الأهلة. انتهى ما قاله ابن العماد ملخصا من «سيرته» و هو قول عظيم و بحث مستقيم فلهذا أثبته و اللّه أعلم.

(و قد استحب الأئمة الأربعة رضى اللّه عنهم) دخول الكعبة و استحسن مالك كثرة دخولها. و نقل عن بعض العلماء عدم استحباب ذلك مستدلا بما روى عن عائشة رضى اللّه عنها قالت: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من عندى و هو قرير العين طيب النفس ثم رجع إلىّ و هو حزين، فسألته فقال:

إنى دخلت الكعبة و وددت أنى لم أكن فعلت، إنى أخاف أن أكون أتعبت أمتى من بعدى.

أخرجه أحمد و الترمذى(1).

و لا دلالة فيه على ذلك، بل دخوله صلى اللّه عليه و سلم دليل الاستحباب و تمنيه عدم الدخول قد علله صلى اللّه عليه و سلم بالشفقة على أمته، و لا يرفع ذلك حكم الاستحباب. قاله المحب الطبرى(2).

(اعلم) أن لدخول الكعبة آدابا كثيرة، منها: الاغتسال كما روى عن بعض العلماء.

و منها: نزع الخف و النعل لما فى «سنن» سعيد بن منصور عن عطاء و مجاهد، و كرهه مالك رضى اللّه عنه و هو مذهب أحمد رضى اللّه عنه.

أقول: مقتضى مذهبنا عدم كراهة ذلك قياسا على الصلاة فى الخف و النعل، قال فى النصاب من كتب المذهب المختار أن الصلاة فى الخفاف و النعل أقرب إلى حسن الأدب انتهى. و اللّه الموفق.

فائدة: أخرج الأزرقى أن قريشا لما فرغت من بناء الكعبة كان أول من خلع الخف و النعل و لم يدخل بهما الكعبة إعظاما لها الوليد بن المغيرة، فجرى ذلك سنة(3). و الوليد هذا هو جدنا لأن نسب بنى ظهيرة متصل به و كان إسلامه ....(4).

و منها: أن لا يرفع بصره إلى السقف لحديث عائشة رضى اللّه عنها قالت: دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الكعبة ما خلّف بصره موضع سجوده حتى خرج منها. أخرجه البيهقى فى «سننه» و الحاكم فى «المستدرك» قال المحب الطبرى: و إنما كره ذلك لأنه يولد الغفلة و اللهو عن القصد(5).

ص: 93


1- 164. ( 1) أورده صاحب القرى ص 494.
2- 165. ( 2) القرى ص 494.
3- 166. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 174.
4- 167. ( 4) بياض بالأصلين.
5- 168. ( 5) القرى ص 502.

و منها: أن لا يزاحم زحمة شديدة يتأذى بها أو يؤذى. نص عليه النووى و غيره.

و منها: أن لا يكلم أحدا إلا لضرورة أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر(1).

و منها: أن يلزم قلبه(2) الخشوع و عينيه الدموع إن استطاع ذلك(3).

و منها: أن لا يسأل مخلوفا لما روى عن سفيان بن عيينة أنه قال: لما دخل هشام بن عبد الملك الكعبة وجد سالم بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه، فقال: سلنى حاجتك. فقال: إنى أستحى من اللّه أن أسأل فى بيته غيره(4).

و ذكر الفاكهى أن التارك لسؤال هشام إنما هو منصور الحجبى. و اللّه أعلم.

فصل فى ثواب دخول الكعبة الشريفة و فيما يطلب من الأمور التى فعلها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

أما ثواب دخولها فروى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «من دخل البيت فصلى فيه دخل فى حسنة و خرج من سيئة مغفورا له» و مثله عن ابن عمر رضى اللّه عنهما.

و فى «رسالة الحسن البصرى» عنه صلى اللّه عليه و سلم «من دخل الكعبة دخل فى رحمة اللّه عز و جل و فى حمى اللّه عز و جل و فى أمن اللّه عز و جل، و من خرج خرج مغفورا(5) له».

و فى رواية عن مجاهد أنه زاد: يخرج معصوما فيما بقى، نقله ابن جماعة. ثم قال:

يحتمل أنه يريد بذلك العصمة من الكفر فتكون فيه البشارة لمن دخله بالموت على الإسلام.

و عن عطاء رضى اللّه عنه قال: لأن أصلى ركعتين فى الكعبة أحب إلى من أن أصلى أربعا فى المسجد الحرام. و عن الحسن أنه قال: الصلاة فى الكعبة تعدل مائة ألف صلاة، أخرجهما الفاكهى(6).

ص: 94


1- 169. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 266.
2- 170. ( 2) تحرف فى المطبوع إلى:« قبله» و صوابه لدى المحب الطبرى فى القرى ص 402، و شفاء الغرام ج 1 ص 266.
3- 171. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 266.
4- 172. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 266.
5- 173. ( 5) ذكره السيوطى فى الجامع الكبير ج 1 ص 776 عن ابن عباس، و عزاه للطبرانى و البيهقى فى السنن.
6- 174. ( 6) نقله الفاسى فى شفاء الغرام ج 1 ص 256.

و أخرج الأزرقى عن موسى بن عقبة قال: طفت مع سالم بن عبد اللّه بن عمر خمسة أسابيع كما طفنا سبعا دخل الكعبة فصلى فيها ركعتين.

و ما أحسن ما أنشده الحافظ أبو طاهر السلفى لنفسه بعد أن دخل الكعبة:

أبعد دخول البيت و اللّه ضامن يبقى قبيح و الخطايا الكوامن

فحاشا و كلا بل تسامح كلهاو يرجع كل و هو جذلان آمن(1)

و أما ما يطلب فى الكعبة من الأمور التى فعلها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فالتكبير و التسبيح و التهليل و التحميد و الثناء على اللّه تعالى و الدعاء و الاستغفار للأحاديث الدالة على ذلك فى «الصحيحين» و غيرهما. و فيهما أيضا عن أسامة أنه صلى اللّه عليه و سلم حين خرج من البيت ركع قبل البيت ركعتين، و قال: هذه بالقبلة. و قبل: بضم القاف و الباء الموحدة، و يجوز إسكان الموحدة و هو ما استقبلك(2) منها.

و فى معنى قوله صلى اللّه عليه و سلم هذه القبلة ثلاثة احتمالات. الأول: أن أمر القبلة قد استقر على استقبال هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم و صلوا إليه أبدا الثانى: أن معنى ذلك أنه صلى اللّه عليه و سلم علمهم سنة موقف الإمام و أنه يقف فى وجه الكعبة دون أركانها و جوانبها و إن كانت الصلاة فى جميع جهاتها مجزئة. قالهما أبو سليمان الخطابى رحمه اللّه الثالث: قاله النووى رحمه اللّه فى «شرح مسلم» بعد ذكره للاحتمالين الأولين، و هو أن معناه هذه بالكعبة هى المسجد الحرام الذى أمرتم باستقباله لا كلّ الحرم و لا مكة و لا كل المسجد الذى حول الكعبة بل هى الكعبة نفسها فقط(3). و اللّه أعلم.

أقول: قد ظهر لى احتمال آخر لم أر أحدا ذكره و هو أنه يحتمل أن يكون المراد بقوله هذه القبلة التعظيم و التشريف و التأكيد لأمرها و الإشادة بذكرها على حد قوله صلى اللّه عليه و سلم لعمر رضى اللّه عنه عند الحجر الأسود: هاهنا تسكب العبرات. و اللّه الموفق.

ص: 95


1- 175. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 256.
2- 176. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 258.
3- 177. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 258.

ص: 96

و روى أنه صلى اللّه عليه و سلم لما دخل البيت وقف عند كل ركن و استقبله بالتكبير و الثناء و الاستغفار.

و أخرج الفاكهى أن النبى صلى اللّه عليه و سلم لما دخل البيت دعا بماء فصبه على جسده.

قال الفاسى رحمه اللّه: و هذا غريب جدا و اللّه أعلم بصحته. و لا أعلم أحدا من أهل العلم قال باستحبابه(1). انتهى.

و من الأمور التى صنعها النبى صلى اللّه عليه و سلم فى الكعبة على ما قيل أنه ألصق بطنه و ظهره بها.

و استحب ذلك الحافظ العراقى و نقل الطبرى الكراهة فى ذلك(2). و اللّه تعالى أعلم.

فائدة: ذكر ابن الصلاح رحمه اللّه فى منسكه أن مما أحدثه بعض الفجرة فى جوف الكعبة بعد الستمائة بدعتين: إحداهما: العروة الوثقى، و ذلك أنهم عمدوا إلى موضع عال داخل الكعبة مقابل الداخل من بابها فسموه بالعروة الوثقى و أوقعوا فى العقول الضعيفة أن من ناله بيده فقد استمسك بالعروة الوثقى فألجأهم ذلك إلى أن يقاسوا فى الوصول إلى ذلك المحل عناء و شدة بحيث يركب بعضهم بعضا، و ربما صعدت الأنثى فوق الذكر و لامست الرجال و لامسوها فيلحقهم بذلك أنواع الضرر دنيا و دينا.

الثانية: أن فى وسط البيت مسمارا سموه سرة الدنيا و حملوا العامة على أن يكشف أحدهم سرته و ينبطح على ذلك المسمار فلا قوة إلا باللّه. انتهى.

قال السيد الفاسى رحمه اللّه: و هذان الأمران لا أثر لهما الآن فى الكعبة. و كان زوال البدعة المسماة بالعروة الوثقى فى سنة إحدى و سبعمائة بأمر بعض العلماء الواردين فى السنة المذكورة انتهى. و لم يذكروا زوال البدعة الأخرى متى كان.

أقول: قول ابن الصلاح رحمه اللّه فيما تقدم: و ربما صعدت الأنثى فوق الذكر فيه دلالة على دخول النساء و الرجال إذ ذاك جميعا، و إنما اختص النساء بانفرادهن فى الدخول بعد ذلك. انتهى.

ص: 97


1- 178. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 260.
2- 179. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 260.

الباب الرابع فى الكلام على كسوة الكعبة الشريفة زادها الله شرفا و تطيبها و تحليتها و معاليقها

اشارة

ص: 98

روى الأزرقى رحمه اللّه عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه نهى عن سب أسعد الحميرى و هو تبع، لأنه أول من كسا الكعبة فى الجاهلية كما تقدم، فكساها المسوح ثم الأنطاع ثم الحصر ثم الوصائل و جعل لها بابا يغلق و فى ذلك يقول:

و كسونا البيت الذى حرم الله ملاء مقصبا و برودا

و أقمنا به من الشهر عشراو جعلنا لبابه إقليدا

و خرجنا منه نؤم سهيلاقد رفعنا لواءنا معقودا(1)

و يروى أنه لما كساها المسوح و الأنطاع انتفضت، فأزال ذلك عنها و كساها الخصف فانتفضت أيضا، فلما كساها الملاء و الوصائل قبلتها.

أقول: مقتضى ما رواه الأزرقى من النهى عن سب تبع كونه كسا البيت. و قد علمت فيما سبق من خبره أنه آمن بالنبى صلى اللّه عليه و سلم قبل أن يبعث و أنه كتب بذلك كتابا و أودعه للعالم الذى أبرأه من علته و أوصاه أن يوصله إلى النبى صلى اللّه عليه و سلم إن أدركه هو أو واحد من ولده و كان الأمر كذلك. و إن الكتاب وصل إلى النبى صلى اللّه عليه و سلم و قرئ عليه فقال: مرحبا بالأخ الصالح فينبغى أن لا يسب تبع مطلقا لأنه من جملة المؤمنين و المؤمن لا يباح سبه.

و أيضا قد تقدم أن تبعا لما كسا البيت و خرج من مكة قصد المدينة المشرفة. و قوله هنا فى ثالث الأبيات المنسوبة إليه: و خرجنا منه نؤم سهيلا، يدل على خلاف ذلك و اللّه أعلم بالحقائق. انتهى.

ص: 99


1- 180. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 249.

و قيل إن إسماعيل عليه السلام أول من كسا الكعبة، و كانت فى الجاهلية تكسى أكسية شتى ما بين وصائل و أنطاع و كرار و خز و نمارق عراقية، و إذا خلق منها شى ء أخلف مكانه ثوب آخر و لا ينزع مما عليها شى ء من ذلك.

و كساها فى الإسلام(1) سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الثياب اليمنية ثم كساها أبو بكر و عمر و عثمان، ثم معاوية، و ابن الزبير و من بعدهما.

و يقال: إن أول من كسا البيت الديباج، الحجاج. و قيل: يزيد بن معاوية، و قيل: ابن الزبير، و قيل: عبد الملك بن مروان.

و كانت الكعبة فيما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء إذا ذهب آخر الحجاج، حتى كانت دولة بنى هاشم فكانوا يعلقون عليها القميص من الديباج يوم التروية لكى يرى الناس ذلك عليها بهاء و جمالا، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا الإزار(2).

و كان عمر رضى اللّه عنه يكسوها من بيت المال، و كساها عبد اللّه بن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنهما ما كان يجلل به بدنه من القباطى و الحبرات و الأنماط.

و كان المأمون يكسوها ثلاث مرات فيكسوها الديباج الأحمر يوم التروية و القباطى يوم هلال رجب، و الديباج الأبيض يوم سبع و عشرين من رمضان لأجل العيد(3).

و القباطى- بفتح القاف جمع قبطية بضم القاف- و هو ثوب رقيق أبيض من ثياب مصر كأنه منسوب إلى القبط و الضم فيه من تغيير النسب و الضم خص بالثياب، و أما فى الناس فقبطى- بكسر القاف- لا غير. و الوصائل: ثياب حمر مخططة يمانية. و الحبرات جمع حبرة و هو ما كان من البرود مخططا أيضا و هو من ثياب اليمن. و يقال له برد حبرة و برد حبرة على الوصف و على الإضافة. و العصب برود يمانية يعصب غزلها و يشد ثم يصبغ و هو على الوصف و الإضافة أيضا. و الأنماط ضرب من البسط واحدها نمط.

و ممن كسا البيت الصليحى صاحب اليمن و مكة، و ذلك فى زمن الحاكم العبيدى، و المستنصر العبيدى. و كانت من الديباج الأبيض(4).

ص: 100


1- 181. ( 1) انظر فى ذلك: شفاء الغرام ج 1 ص 195.
2- 182. ( 2) إخبار الكرام ص 160.
3- 183. ( 3) إخبار الكرام 160.
4- 184. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 198.

و كساه أيضا من ملوك العجم السلطان شاه رخ صاحب شيزار بعد مراسلته و استئذانه لملوك مصر و إرسال الكسوة إلى مصر، ثم وصلت إلى مكة صحبة الحاج و ذلك سنة خمس و خمسين و ثمانمائة(1).

و كساه أيضا السلطان محمود بن سبكتكين الديباج الأصفر، و ذلك فى سنة ست و ستين(2) و أربعمائة.

فوائد:

الأولى: كان عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ينزع ثياب الكعبة فى كل سنة فيقسمها على الحاج.

الثانية: ذكر بعض العلماء حكمة حسنة فى سواد كسوة الكعبة، فقال: كأن البيت يشير إلى أنه فقد أناسا كانوا حوله فلبس السواد حزنا عيهم.

الثالثة: ممن كسا الكعبة من غير الملوك أم العباس بن عبد المطلب كستها الحرير، و سبب ذلك أنها أضلت العباس و هو صغير فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة فوفت بذلك، و هى أول عربية كستها الحرير(3).

و منهم الشيخ أبو القاسم رامشت صاحب الرباط بمكة كساها الحبرات و غيرها، و كانت كسوته بثمانية عشر ألف دينار و قيل بأربعة آلاف دينار و ذلك فى سنة اثنتين و ثلاثين و خمسمائة(4). و رباطه المذكور يعرف الآن برباط ناظر الخاص على يمين الخارج من باب الحزورة أحد أبواب المسجد الحرام، و يقال: إن عدنان كساها أيضا كذلك و خالد بن جعفر ابن كلاب.

ص: 101


1- 185. ( 1) إخبار الكرام ص 161.
2- 186. ( 2) كذا فى الأصلين، و مثله لدى الأسدى، و هو ينقل عن المؤلف. و فيه نظر، لأن محمود بن سبكتكين مات سنة 421 ه. أبو المحاسن موضحا:« و فى سنة 466 ه، ورد إلى مكة إنسان عجمى يعرف بسلار من جهة جلال الدولة ملكشاه، و معه للبيت كسوة ديباج أصفر، و عليها اسم محمود بن سبكتكين و هى من استعماله، و كانت مودعة بنيسابور من عهد محمود بن سبكتكين عند إنسان يعرف بأبى القاسم الدهقان، فأخذها الوزير نظام الملك و أنفذها مع المذكور»( النجوم الزاهرة ج 5 ص 95).
3- 187. ( 3) إخبار الكرام ص 159.
4- 188. ( 4) إخبار الكرام ص 162.

الرابعة: نقل القاضى تقى الدين رحمه اللّه أن كسوة البيت فيما مضى كان يطلع بها أمير الحاج معه إلى الموقف بعرفة، فإذا كان يوم النحر يأتى بها من منى إلى مكة لأجل اللبس، ثم صار أمراء الحاج بعد ذلك يضعونها فى الكعبة قبل الصعود إلى الحج. و موجبه أن بعضها كان سرق فى بعض السنين من محلة أمير الحاج بمنى ثم عاد إليه بمال بذله(1).

انتهى بمعناه.

الخامسة: أول من كسا الكعبة الديباج الأسود الناصر العباسى. فاستمر ذلك إلى يومنا هذا. و لم تزل الملوك يتداولون كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل بن الناصر بن قلاوون قرية من قرى نواحى القاهرة يقال لها بيسوس(2)، و ذلك فى سنة ثلاث و أربعين و سبعمائة، و كان الناصر العباسى كسا البيت ديباجا أخضر قبل الأسود(3).

السادسة: نقل الفاسى رحمه اللّه، أن أمراء مكة كانوا يأخذون من السّدنة ستارة باب الكعبة فى كل سنة، مع جانب كبير من كسوتها، أو ستة آلاف درهم كاملية عوضا عن ذلك إلى أن رفع ذلك عنهم السيد عنان بن مغامس(4) لما ولى أمر مكة فى آخر سنة ثمان و ثمانين و سبعمائة، و تبعه أمراء مكة فى الغالب. ثم إن السيد حسن بن عجلان بعد سنين من ولايته صار يأخذ منهم الستارة و كسوة المقام و يهديهما لمن يريد من الملوك و غيرهم.

انتهى(5).

و قد استمر الأمر كذلك من أمراء مكة بعد السيد حسن مع الحجبة إلى يومنا هذا.

و أخرج الأزرقى رحمه اللّه عن شيبة بن عثمان أنه دخل على عائشة رضى اللّه عنها، فقال: يا أم المؤمنين، إن الكعبة تجتمع عليها الثياب فتكثر، فنعمد إلى بئر فنحفرها و ندفن فيها ثياب الكعبة لئلا يلبسها الجنب و الحائض، فقالت عائشة رضى اللّه عنها: ما أصبت، و بئس ما صنعت، إن ثياب الكعبة إذا نزعت عنها لا يضرها من لبسها من حائض أو جنب، و لكن بعها و تصدق بثمنها(6). و نقل جواز البيع عن ابن عباس أيضا.

ص: 102


1- 189. ( 1) شفاء الغرام ج- ص 204.
2- 190. ( 2) تحرف فى المطبوع إلى:« يبسوس» و صوابه من د، و إخبار الكرام.
3- 191. ( 3) إخبار الكرام ص 163.
4- 192. ( 4) تحرف فى المطبوع إلى:« مغاس» و صوابه من د، و شفاء الغرام.
5- 193. ( 5) شفاء الغرام ج 1 ص 205.
6- 194. ( 6) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 261.

فروع: الأول: يحوز بيع ثياب الكعبة عندنا إذا استغنت عنه و قال به جماعة من فقهاء الشافعية و غيرهم، و يجوز الشراء من بنى شيبة لأن الأمر مفوض إليهم من قبل الإمام.

نص عليه الطرسوسى من أصحابنا فى «شرح منظومته» و وافقه السبكى من الشافعية، ثم قال: و عليه عمل الناس. و المنقول عن ابن الصلاح أن الأمر فيها إلى الإمام يصرفها فى بعض مصارف بيت المال بيعا و إعطاء، و استدل بما تقدم عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه. و فى «قواعد» صلاح الدين خليل بن كيكلدى(1) أنه لا يتردد فى جواز ذلك الآن لأجل وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها فى كسوة الكعبة و الوقف بعد استقرار هذه العادة و العلم بها فينزل لفظ الواقف عليها، و استحسن النووى الجواز أيضا(2).

قال الجد رحمه اللّه: هذا فى الستور الظاهرة، و أما الستور الداخلة فلا تزال بل تبقى على ما هى عليه لأن الكلام إنما هو فى الستور التى جرت العادة أن تغير فى كل عام، فلو قدر جريان العادة بمثل ذلك فى الستور الباطنة سلك بها مسلك الظاهرة. انتهى.

الثانى: لو نذر شخص أن يكسو البيت صح نذره و ستره بالحرير أو بغيره لأن ذلك من القربات. ذكره النووى رحمه اللّه.

الثالث: لو سرق إنسان شيئا من ستر الكعبة أو من فضة بابها لا يقطع عندنا لعدم الجواز. و اللّه أعلم.

ذكر تطييب الكعبة المشرفة

روى عن عائشة رضى اللّه عنها أنها قالت: طيّبوا البيت فإنّ ذلك من تطهيره، و لأن أطيب الكعبة أحب إلى من أن أهدى لها ذهبا و فضة أخرجه الأزرقى.

و قد تقدم أن ابن الزبير لما فرغ من بناء الكعبة خلق باطنها و ظاهرها بالعنبر و المسك من أعلاها إلى أسفلها ثم كساها و كان يجمرها فى كل يوم برطل من الطيب، و فى يوم الجمعة برطلين. و أجرى لها معاوية الطيب لكل صلاة فكان يبعث به فى الموسم و فى رجب. و أخدمها عبيدا بعث بهم إليها، ثم تبعه الولاة بعد ذلك(3). و هو أول من أجرى الزيت لقناديل المسجد من بيت المال(4).

ص: 103


1- 195. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« كليكلندى» و صوابه من د، و شفاء الغرام.
2- 196. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 204.
3- 197. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 253، 254.
4- 198. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 254.

و لما حج المهدى أمير المؤمنين سنة ستين و مائة رفع إليه أنه قد اجتمع على الكعبة ثياب كثيرة حتى أنها قد أثقلتها، و يخشى على الجدران من ذلك، فأمر بتجريدها ثم ضمخها من خارجها و داخلها بالغالية و المسك و العنبر، ثم كساها ثلاثة ثياب قباطى و خز و ديباج و هو جالس فى المسجد مما يلى دار الندوة ينظر إليها و هى تطلى. و قيل: إن ما فى أحجارها من السمرة إنما حصل من آثار تلك الغالية(1).

فرع: قال النووى رحمه اللّه: لا يجوز أخذ شى ء من طيب الكعبة لا للتبرك و لا لغيره، و من أخذ شيئا من ذلك لزمه رده، فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده فمسحها به ثم أخذه(2).

ذكر تحلية الكعبة شرفها اللّه تعالى

أخرج الأزرقى رحمه اللّه أن أول من حلى الكعبة فى الجاهلية عبد المطلب جد النبى صلى اللّه عليه و سلم بالغزالين الذهب اللذين وجدهما فى زمزم حين حفرها و سيأتى الكلام على سبب حفر زمزم فى محله إن شاء اللّه تعالى(3).

و أما فى الإسلام فالوليد بن عبد الملك بعث إلى و اليه على مكة خالد بن عبد اللّه القسرى بسنة و ثلاثين ألف دينار فضرب منها على باب الكعبة صفائح الذهب، و على ميزاب الكعبة و على الأساطين التى فى داخلها و الأركان(4).

ثم لما ولى الأمين بن الرشيد أرسل أيضا إلى عامله بمكة سالم بن الجراح بثمانية عشر ألف دينار ليحلى بها باب الكعبة فقلع ما كان على الباب من الصفائح(5). و زاد عليها ما بعثه الأمين و ضربه صفائح و مسامير و حلى به الباب، و جعل له حلقتين ذهبا(6).

و قيل أول من حلى البيت عبد الملك أبو الوليد(7). و قيل ابن الزبير ثم حلاه الملوك و غيرهم بعد ذلك.

فرع: قال النووى و الرافعى: تحرم تحلية الكعبة بالذهب و الفضة و كذا سائر المساجد.

ص: 104


1- 199. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 263.
2- 200. ( 2) إخبار الكرام ص 165.
3- 201. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 185.
4- 202. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 211.
5- 203. ( 5) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 212.
6- 204. ( 6) شفاء الغرام ج 1 ص 186.
7- 205. ( 7) إخبار الكرام ص 166.

و خالفهما السبكى و أفتى بالحل، و قال: إن المنع لا سيما فى الكعبة بعيد و غريب فى المذاهب كلها، قل من ذكره. فلا وجه له و لا دليل يعضده. و هذا فى التحلية بصفائح النقدين، و أما التمويه فلا أمنع من جريان خلاف فيه لأن فى ذلك إفساد مالية. انتهى.

و نقل الإمام أبو الليث السمرقندى من أئمتنا إباحة ذلك عن أبى حنيفة رضى اللّه عنه، ثم قال:

و عندى أنه لا بأس به إذا لم يكن من غلة المسجد.

ذكر معاليق البيت الشريف و ما أهدى إليه فى معنى الحلية

ذكر معاليق البيت الشريف و ما أهدى إليه فى معنى الحلية(1)

أخرج الأزرقى رحمه اللّه فى «أخبار مكة» أن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه لما فتح مدائن كسرى، كان مما بعث إليه هلالان من الذهب، فبعثهما عمر إلى الكعبة و علقهما فى جوفها(2).

و بعث عبد الملك بن مروان بشمستين و قدحين من قوارير. و بعث ابنه الوليد بقدحين أيضا. و بعث الوليد بن يزيد بن عبد الملك بهلالين أيضا و بالسرير الزينبى(3). و بعث السفاح بصحفة خضراء، و بعث المنصور بالقارورة الفرعونية. و بعث المأمون بياقوتة فاخرة. و بعث الخليفة المتوكل العباسى بشمسة من ذهب مكللة بالدر الفاخر و الياقوت و الزبرجد، و سلسلة من ذهب(4).

و بعث بعض الملوك لما أسلم بصنم من ذهب كان يعبده على صورة إنسان، و بالتاج الذى كان على رأس الصنم، و بالسرير الذى كان يوضع عليه. هذا ملخص ما ذكره الأزرقى(5).

ص: 105


1- 206. ( 1) فى المطبوع:« و ما أهدى بعد مضى الجاهلية» و المثبت رواية: د، و شفاء الغرام.
2- 207. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 224.
3- 208. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى:« الرسى» و المثبت رواية د، و الأزرقى.
4- 209. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 224 و 225.
5- 210. ( 5) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 225.

و أهدى إلى الكعبة بعد ذلك أشياء أخر ذكرها الفاسى تقى الدين و غيره. و من ذلك:

قفل فيه ألف دينار بعثه إليها المعتصم العباسى فى سنة تسع عشرة و مائتين(1). و من ذلك طوق من ذهب مكلل بأنواع الجواهر الفاخرة مع ياقوتة خضراء كبيرة وزنها كما قيل أربعة و عشرون مثقالا، بعث بذلك بعض ملوك السند لما أسلم(2). و من ذلك عدة قناديل كلها فضة ما عدا واحدا منها كان ذهبا زنته ستمائة مثقال بعث بها المطيع العباسى فى سنة تسع و خمسين و ثلاثمائة(3).

و من ذلك قناديل محكمة الصناعة و محاريب مبنية زنة كل محراب أزيد من قنطار، بعثها عثمان صاحب عمان بعد العشرين و الأربعمائة. و من ذلك قناديل ذهب و فضة بعثها الملك المنصور عمر بن على بن رسول صاحب اليمن فى سنة اثنتين و ثلاثين و ستمائة(4).

و من ذلك قفل و مفتاح بعث بهما الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر و ركب القفل على باب الكعبة(5).

و من ذلك حلقتان من ذهب مرصعتان باللؤلؤ و البلخش كل حلقة وزنها ألف مثقال، و فى كل حلقة ست لؤلؤات فاخرات، و بينها ست قطع بلخش فاخرات أيضا، بعث بذلك الوزير على شاه وزير السلطان أبى سعيد بن خدابنده(6) ملك التتار فى سنة ثمان عشرة و سبعمائة، فأراد الرسول تعليقهما على باب الكعبة كما أمر فمنعه أمير الركب المصرى فى السنة المذكورة، و قال: لا يمكن ذلك إلا بإذن السلطان، يريد صاحب مصر، و هو إذ ذاك الناصر محمد بن قلاوون. فلوطف الأمير و عرفه الرسول بأن الوزير نذر أن يعلقهما على باب الكعبة فأذن له فى ذلك، فعلقتا زمنا قليلا ثم أخذهما أمير مكة إذ ذاك و هو رميثة بن أبى نمىّ. و من ذلك أربعة قناديل كبار كل قنديل منها على ما قيل قدر الدورق من دوارق مكة. اثنان ذهبا، و اثنان فضة. بعث بذلك السلطان شيخ أويس صاحب بغداد فى اثنى عشر لسبعين و سبعمائة، فعلق ذلك فى الكعبة يسيرا ثم أخذه أمير مكة عجلان بن رميثة.

هذا ملخص ما ذكره الفاسى(7).

ص: 106


1- 211. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 190.
2- 212. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 191.
3- 213. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 192.
4- 214. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 192.
5- 215. ( 5) شفاء الغرام ج 1 ص 192.
6- 216. ( 6) تحرف فى المطبوع إلى:« صعيد بن خرنبدا» و صوابه من د، و الفاسى.
7- 217. ( 7) شفاء الغرام ج 1 ص 192 و 193.

ثم قال: و ليس فى الكعبة الآن- يعنى فى زمنه- شى ء من المعاليق التى ذكرها الأزرقى. و مما لم يذكره مما ذكرنا سوى ستة عشر قنديلا، منها: ثلاثة فضة، و واحد ذهب، و واحد بلور، و اثنان نحاس، و التسعة الباقية زجاج، و سبب ذلك توالى الأيدى عليه من الولاة و غيرهم(1).

فمن ذلك ما وقع لأبى الفتوح الحسن بن جعفر العلوى حين خرج عن طاعة الحاكم و دعا لنفسه بالإمامة(2) أنه أخذ من حلية الكعبة و ضربها دنانير و دراهم، و سميت بالفتحية، و أخذ المحاريب التى أهداها صاحب عمان، و من ذلك ما وقع لمحمد بن جعفر المعروف بابن أبى هاشم الحسينى، أنه فى سنة اثنتين و ستين و أربعمائة أخذ قناديل الكعبة و ستورها و صفائح الباب لكون صاحب مصر المستنصر العبيدى لم يرسل له شيئا لاشتغاله بالقحط الذى كادت مصر أن تخرب بسببه(3).

و مما أهدى للكعبة بعد الفاسى [نحو عشرين قنديلا ذهبا، و نحو عشرة فضة و غير ذلك](4).

فصل فى الكلام على سدانة البيت و هى خدمته و توالى أمره و فتح بابه و إغلاقه

اشارة

و كانت السدانة قبل قريش لطسم قبيلة من عاد فاستخفوا بحقه أيضا فأهلكهم اللّه. ثم وليته خزاعة بعد جرهم دهرا طويلا حتى صار الأمر إلى أبى غبشان، فباع مفتاح البيت من قصى بن كلاب بزق من خمر، فقيل فى ذلك أخسر من صفقة أبى غبشان، فذهبت مثلا(5). و صارت حجابة الكعبة من بعد خزاعة لقصى، و انتهى إليه أمر مكة بعد ذلك فأعطى ولده عبد الدار السدانة، و هى الحجابة و أعطى عبد مناف السقاية و الرفادة، ثم جعل عبد الدار الحجابة إلى ولده عثمان، و لم تزل تنتقل فى أولاده إلى أن انتهت إلى عثمان بن طلحة، ثم إلى ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبى طلحة و هى فى ولده إلى الآن.

ص: 107


1- 218. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 193.
2- 219. ( 2) تحرف فى المطبوع إلى:« الأمانة» و صوابه من د، و الفاسى.
3- 220. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 193.
4- 221. ( 4) بياض بالأصل، و ما بين حاصرتين عن إخبار الكرام ص 172.
5- 222. ( 5) شفاء الغرام ج 2 ص 114.

و يروى عن عثمان بن طلحة قال: فتحنا البيت يوما فى الجاهلية فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليدخل مع الناس فتكلمت بشى ء فحلم عنى. ثم قال يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت، فقلت لقد هلكت قريش يومئذ و ذلت فقال بل عزت، و دخل الكعبة. و وقعت كلمته منى موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال فأردت السلام فخشيت من قومى فقدمت المدينة فبايعته و أقمت معه حتى خرج فى غزوة الفتح فلما دخل مكة قال يا عثمان: ائت بالمفتاح فأتيت به فأخذه منى ثم دفعه إلى و قال:

خذوها يا بنى أبى طلحة خالدة تالدة إلى يوم القيامة لا ينزعها منكم إلا ظالم، و فى ذلك(1) نزل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها (سورة النساء: 58).

و فى «سنن سعيد بن منصور» أنه صلى اللّه عليه و سلم لما أخذ المفتاح من بنى شيبة أشفقوا أن ينزعه منهم، ثم قال: يا بنى شيبة، هاكم المفتاح و كلوا بالمعروف. قال العلماء: إن هذه ولاية من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلا يجوز لأحد أن ينزعها منهم، و أعظم من ذلك أن يشرك معهم غيرهم.

قال الشيخ محب الدين الطبرى فى «القرى»: لا يبعد أن يقال هذا إذا حافظوا على حرمته و لازموا الأدب فى خدمته، أما إذا لم يحفظوا حرمته، فلا يبعد أن يجعل عليهم مشرف يمنعهم من هتك حرمته. ثم قال أيضا: و ربما تعلق الجاهل المعكوس الفهم بقوله صلى اللّه عليه و سلم: و كلوا بالمعروف. فاستباح أخذ الأجرة على دخول البيت، و لا خلاف بين الأمة فى تحريم ذلك و أنه فى أشنع البدع و أقبح الفواحش، و هذه اللفظة إن صحت فيستدل بها على إقامة الحرمة، لأن أخذ الأجرة ليس من المعروف، و إنما الإشارة و اللّه أعلم إلى ما يتصدق به من البر و الصلة على وجه التبرّر، فلهم أخذه و ذلك أكل بالمعروف لا محالة، أو إلى ما يأخذونه من بيت المال على ما يتولونه من خدمته، و القيام بمصالحه، فلا يحل لهم الا قدر ما يستحقونه و اللّه تعالى أعلم. انتهى كلام المحب(2).

(و أما الرفادة) فأصلها خرج من قريش كانت تخرجه من أموالها إلى قصىّ يصنع به

ص: 108


1- 223. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 265، شفاء الغرام ج 2 ص 139، 140.
2- 224. ( 2) القرى ص 506.

طعاما للحاج، يأكله من ليس له سعة، و كان قصى ينحر على كل طريق من طرق مكة جزرا كثيرة، و يطعم الناس و كان يحمل راجل الحاج و يكسو عاريهم. ثم صارت بعد عبد مناف ابن قصى إلى ابنه هاشم فكان يطعم الناس فى كل موسم إلى أن توفى. فقام بذلك بعده عبد المطلب. ثم بعده أبو طالب و استمر إلى أن جاء الإسلام. فقام به النبى صلى اللّه عليه و سلم و أرسل بمال يعمل به الطعام مع أبى بكر رضى اللّه عنه حين حج بالناس سنة تسع ثم عمل سنة عشر فى حجة الوداع. ثم أقامه أبو بكر فى خلافته، ثم عمر، ثم الخلفاء بعده(1).

ثم لما ولى معاوية رضى اللّه عنه اشترى دارا بمكة و سماها دار المراحل و جعل فيها قدورا فكانت الجزر و الغنم تطبخ فيها أيام الحج فى الموسم، ثم يفعل ذلك فى شهر رمضان.

و يروى أن أول من أطعم الحاج الفالوذج بمكة عبد اللّه بن جدعان وفد على كسرى فأكل عنده الفالوذج فسأل عنه فقالوا: لباب البر مع العسل، فقال: ابغونى غلاما يصنعه فأتوه بغلام فاشتراه و قدم به مكة فصنع الفالوذج للحاج، و وضع الموائد من الأبطح إلى باب المسجد ثم نادى مناديه، ألا من أراد الفالوذج فليحضر، فحضر الناس و ما زال ذلك إطعامه للحاج فى الجاهلية.

(و أما السقاية): فكان أصلها حياضا من أدم، توضع على عهد قصى بفناء الكعبة، و تملأ ماء للحاج، و كان قصى يسقى اللبن المخيض و يسقى الماء المنبوذ بالزبيب أيضا، و ما زال ذلك فعله حتى هلك. فقام به هاشم بعده. ثم أخوه المطلب بعده. ثم عبد المطلب، و كان يسقى لبنا و عسلا فى حوض من أدم عند زمزم، ثم قام به العباس رضى اللّه عنه بتولية النبى صلى اللّه عليه و سلم، و لم تزل فى ولده من بعده.

أقول: إلى يومنا هذا.

(تتميم بذكر شى ء من خبر قصى): روى الأزرقى رحمه اللّه أن قصيا لما انتهت إليه رياسة مكة و قرب أجله قسم رياسته و مكارمه بين ولده، فأعطى عبد مناف السقاية و الرفادة و القيادة، و أعطى عبد الدار السدانة و هى حجابة البيت و دار الندوة و اللواء(2). و قد تقدم ذكر السدانة و السقاية و الرفادة و تفسيرها مستوفى.

ص: 109


1- 225. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 139 فما بعدها.
2- 226. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 110.

(و أما الندوة): فهى دار بناها قصى حين صار أمر مكة إليه ليحكم فيها بين قريش، و كانت أول دار بنيت بمكة و لم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصى إلا ابن أربعين سنة للمشورة، و أما ولد قصى فيدخلونها كلهم و حلفاؤهم، و لم تزل دار الندوة بيد عبد الدار ثم جعلها بعده لولده عبد مناف بن عبد الدار، ثم صارت لبنيه من بعده دون ولد عبد الدار، و إنما سميت دار الندوة لاجتماع الندى فيها لأنهم كانوا يندونها فيجلسون فيها لتشاورهم و إبرام أمرهم و عقد الألوية لحروبهم(1). و هذه الدار فى الرواق الشامى من المسجد الحرام بالزيادة، و هى معروفة مشهورة.

(و أما اللواء): فكان فى أيدى بنى عبد الدار يليه منهم ذو السن فى الجاهلية حتى كان يوم أحد فقتل عليه من قتل منهم(2).

(و أما القيادة): فوليها من بنى عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف، ثم وليها بعده ابنه أمية، ثم من بعده ابنه حرب، فقاد الناس يوم عكاظ و غيره من حروب قريش، ثم قاد الناس بعده أبو سفيان ابنه إلا يوم بدر، قاد الناس عتبة بن ربيعة، فلما كان يوم أحد و الأحزاب قادهم أبو سفيان، و كانت الأحزاب آخر وقعة لقريش ثم أيد اللّه الإسلام و منّ بفتح مكة على نبيه صلى اللّه عليه و سلم هذا ملخص ما رواه الأزرقى من خبر قصى(3). و ذكر غيره فى قسمة قصى غير هذا و اللّه أعلم.

فائدتان:

الأولى: روى الفاكهى رحمه اللّه أن الكعبة شرفها اللّه تعالى كانت تفتح فى الجاهلية يوم الاثنين و يوم الجمعة. و فى «تاريخ الأزرقى» أنها كانت يوم الاثنين و يوم الخميس يعنى فى الجاهلية(4). قال الفاسى رحمه اللّه: و فتحها يوم الجمعة مستمر إلى الآن يعنى فى زمنه، و فتحها يوم الاثنين متروك(5).

(أقول): قد أعيد فتحها يوم الاثنين بعد ذلك و صارت تفتح يوم الاثنين و يوم الجمعة إلى يومنا هذا. و فى هذا دلالة لصحة ما رواه الفاكهى. و مما يؤيده أيضا ما ذكره ابن جبير

ص: 110


1- 227. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 109، 110.
2- 228. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 111.
3- 229. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 115.
4- 230. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 174.
5- 231. ( 5) شفاء الغرام ج 1 ص 209.

فى خبر «رحلته» و كانت فى سنة تسع و سبعين و خمسمائة، من أن الكعبة تفتح يوم الاثنين و يوم الجمعة إلا فى رجب تفتح كل يوم(1). و ما يروى عن عثمان بن طلحة أنه قال: كنا نفتح الكعبة فى الجاهلية يوم الاثنين و يوم الجمعة، فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوما يريد أن يدخل مع الناس فتكلمت بشى ء إلى آخر ما قدمته آنفا، فيه تأييد لما ذكره الأزرقى أيضا، على أن الجمع بين روايتى الأزرقى و الفاكهى ممكن، بأنه يحتمل أن كلا الأمرين وقع و أنها كانت تفتح يوم الخميس أولا و مكث ذلك مدة، ثم تغير و صارت تفتح يوم الجمعة أو العكس. انتهى.

الثانية: روى عن ابن عمر رضى اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما دخل مكة يوم الفتح، أمر بلالا فرقى على ظهر الكعبة فأذن بالصلاة و قام المسلمون و تجردوا فى الأزر و أخذوا الدلاء و ارتجزوا على زمزم فغسلوا الكعبة ظهرها و بطنها فلم يدعوا أثرا من آثار المشركين إلا محوه و غسلوه. و هذا الخبر فى الجملة يصلح أن يكون شاهدا لما يفعله الحجبة من غسل باطن الكعبة فى كل عام و اللّه أعلم.

ص: 111


1- 232. ( 1) رحلة ابن جبير ص 68.

ص: 112

الباب الخامس فى فضل الطواف بالبيت المشرف و الطائفين به و فضل النظر إليه و بيان المواضع التى فيها صلى النبى صلى اللّه عليه و سلم حول البيت و بيان جهة المصلين إليه من سائر الآفاق و ذكر و ليطوفوا بالبيت العتيق

اشارة

قال جل اسمه لخليله عليه السلام: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ (سورة الحج: 26) و قال تعالى و تقدس: وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ (سورة البقرة: 125) الآيات، و اختلف فى معنى التطهير، فقيل طهره من الآفات و الريب. و قيل من الأوثان فلا ينصب حوله وثن. و قال السدى. معنى طهرا بيتى: أمنا بيتى و قيل غير ذلك. و قد سبق بعض الكلام على ذلك فى أول الكتاب.

(و أما الأحاديث) فأكثر من أن تحصى (فمن ذلك): ما روى عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال:

من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه- و فى رواية يحصيه- كان كعتق رقبة. و معنى أحصاه أو يحصيه: قال بعض العلماء: يتحفظ فيه أن لا يغلط.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال من طاف بالبيت سبعا و صلى خلف المقام ركعتين و شرب من ماء زمزم غفرت له ذنوبه بالغة ما بلغت. أخرجه الواحدى فى «تفسيره».

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: إذا خرج المرء يريد الطواف بالبيت أقبل يخوض فى الرحمة، فإذا دخل غمرته، ثم لا يرفع قدما و لا يضعها إلا كتب اللّه له بكل قدم خمسمائة حسنة و حط عنه خمسمائة سيئة و رفعت له خمسمائة درجة، فإذا فرغ من الطواف فصلى ركعتين دبر المقام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، و كتب له أجر عشر رقاب من ولد إسماعيل، و استقبله ملك على الركن، و قال له: استأنف العمل فيما تستقبل فقد كفيت ما مضى و شفع فى سبعين من أهل بيته. أخرجه الأزرقى(1) و غيره.

ص: 113


1- 233. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 4.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: الكعبة محفوفة بسبعين ألفا من الملائكة يستغفرون اللّه تعالى لمن طاف بها.

أقول: و عن أنس رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جعل فى الركعتين قبل الطواف ثواب عتق رقبة.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: من صلى خلف المقام ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر و حشر يوم القيامة من الآمنين. ذكره القاضى عياض فى «الشفاء»(1).

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: الطواف بالبيت خوض فى رحمة اللّه تعالى ذكره الحسن فى «رسالته»(2).

و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. رواه الترمذى و قال: حديث غريب.

قال القاضى عز الدين بن جماعة رحمه اللّه: و المراد بخمسين مرة و اللّه أعلم:

خمسون أسبوعا، لأن الشوط الواحد لا يتعبد به. و يدل لذلك أن جماعة رووه فقالوا: من طاف خمسين أسبوعا كان كما ولدته أمه. فهذه الرواية مفسرة للأولى. و ليس المراد بأن يأتى بالخمسين فى آن واحد، بل أن توجد فى صحيفة حسناته. انتهى ملخصا.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: إن اللّه تعالى يباهى بالطائفين ملائكته.

و قال صلى اللّه عليه و سلم: استكثروا من الطواف بالبيت فإنه أقل شى ء تجدونه فى صحفكم و أغبط عمل تجدونه.

و عن ابن عمر عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: طوافان لا يوافقهما عبد مسلم إلا خرج من ذنوبه كما ولدته أمه و غفرت له ذنوبه بالغة ما بلغت، طواف بعد الصبح يكون فراغه عند طلوع الشمس، و طواف بعد العصر يكون فراغه عند غروب الشمس(3). فقال رجل: يا رسول اللّه لم يستحب هاتان الساعتان؟ قال: إنهما ساعتان لا تعدوهما الملائكة.(4)

الجامع اللطيف ؛ ص114

ل المحب: يحتمل أن يريد بالبعدية ما قبل الطلوع و الغروب و لو بلحظة تسع

ص: 114


1- 234. ( 1) الشفاء ج 2 ص 60.
2- 235. ( 2) فضائل مكة للحسن البصرى ورقة 6.
3- 236. ( 3) اخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 22.
4- 237. ابن ظهيره، محمد بن محمد، الجامع اللطيف في فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف، 1جلد، مكتبة الثقافة الدينية - قاهره، چاپ: اول، 1423 ه.ق.

أسبوعا. و يحتمل أن يريد استيعاب الزمنين بالعبادة، و لعله الأظهر. و إلا لقال طواف قبل الطلوع و قبل الغروب، و على هذا فيكون حجة على من كرهه فى الوقتين(1). انتهى.

و عن أبى هريرة رضى اللّه عنه أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال: أكرم سكان أهل السماء على اللّه الذين يطوفون حول عرشه، و أكرم سكان أهل الأرض على اللّه الذين يطوفون حول بيته.

و عن أبى هريرة أيضا أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال: من طاف بالبيت سبعا و لا يتكلم إلا سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر و لا حول و لا قوة إلا باللّه، محيت عنه عشر سيئات و كتبت له عشر حسنات و رفع له عشر درجات. و من طاف فتكلم فى الحل خاض فى الرحمة برجليه كخائض الماء برجليه.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم قال: لو أن الملائكة صافحت أحدا لصافحت الغازى فى سبيل اللّه و البار بوالديه و الطائف ببيت اللّه الحرام.

و الأحاديث الواردة فى هذا المعنى كثيرة جدا، و فيما ذكرته كفاية. و إذا كان الطائف بهذه المزية و ثبت له هذا الفضل العظيم فينبغى له الإخلاص و ليحذر من أن يكون كما قال بعض العلماء العارفين:

يا من يطوف ببيت اللّه بالجسدو الجسم فى بلد و الروح فى بلد

ماذا فعلت و ماذا أنت فاعله مبهرجا فى التقى للواحد الصمد

إن الطواف بلا قلب و لا بصرعلى الحقيقة لا يشفى من الكمد

(و أما الآثار) فروى عن ابن عمر أنه قال: كان أحب الأعمال إلى النبى صلى اللّه عليه و سلم إذا قدم مكة الطواف.

و عن سعيد بن جبير رضى اللّه عنه أنه قال: من حج البيت فطاف خمسين أسبوعا قبل أن يرجع كان كما ولدته أمه.

ص: 115


1- 238. ( 1) القرى ص 330.

و عن ابن عمر أيضا أنه قال: من طاف و صلى ركعتين فهاتان يكفران ما أمامهما.

و عن أبى سعيد الخدرى رضى اللّه عنه أنه طاف بالبيت و هو متكئ على غلام له يسمى طهمان، و هو يقول: و اللّه لأن أطوف بهذا البيت أسبوعا لا أقول فيه هجرا و أصلى ركعتين أحب إلى من أن أعتق طهمان(1). و الهجر- بضم الهاء- هو الإفحاش فى المنطق، قاله فى «الصحاح».

و فى «الإحياء للغزالى» لا تغرب الشمس من يوم إلا و يطوف بهذا البيت رجل من الأبدال، و لا يطلع الفجر من ليلة إلا و طاف واحد من الأوتاد، و إذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض.

و روى الأزرقى رحمه اللّه أن ابن عمر، كان يطوف سبعة أسابيع بالليل و خمسة بالنهار و أن آدم عليه السلام كان يطوف كذلك.

و ذكر غير الأزرقى أن آدم كان يقول فى طوافه: اللهم اجعل لهذا البيت عمارا يعمرونه من ذريتى.

و عن محمد بن فضيل أنه قال: رأيت ابن طارق فى الطواف، و قد انفرج الطائفون له و فى رجليه نعلان، فحزروا طوافه فى ذلك الزمان فإذا هو يطوف فى اليوم و الليلة عشرة فراسخ(2). و الحزر- هو التقدير و الخرص- يقال حزرت الشى ء أحزره و أحزره بالضم و الكسر كذا فى «الصحاح».

و ذكر ابن الجوزى فى «الصفوة» أن محمد بن طارق كان يطوف كل يوم و ليلة سبعين سبعا(3).

فائدة: أعداد الطواف لها سبع مراتب(4) ذكرها الإمام أبو عبد اللّه بن أبى الصيف اليمنى رحمه اللّه.

ص: 116


1- 239. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 3.
2- 240. ( 2) صفة الصفوة ج 2 ص 217.
3- 241. ( 3) صفة الصفوة ج 2 ص 217، و عبارته:« كان يطوف فى اليوم و الليلة سبعين أسبوعا» و بهامشه: « يقال: طاف بالبيت أسبوعا: أى سبع مرات، و الأسبوع من الطواف: سبعة أطواف.
4- 242. ( 4) انظر فى ذلك: شفاء الغرام ج 1 ص 284.

الأولى: أن من طاف خمسين أسبوعا فى اليوم و الليلة يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه للحديث الذى قدمته آنفا.

الثانية: واحد و عشرين أسبوعا كل يوم فيكون بحجة و قد قيل سبعة أسابيع بعمرة.

و قيل فى الحديث ثلاث عمر بحجة.

الثالثة: أربعة عشر أسبوعا فيكون بحجة أيضا لأنه ورد فى حديث آخر عمرتان بحجة، و هذا فى غير عمرة رمضان لأن العمرة فيه كحجة مطلقة كما جاء فى الحديث، و فى حديث آخر كحجة معه صلى اللّه عليه و سلم.

الرابعة: اثنا عشر أسبوعا خمسة بالنهار و سبعة بالليل لما سبق قريبا من فعل آدم و ابن عمر و يستحب أن يكون ثلاثة أسابيع من الخمسة التى فى النهار قبيل طلوع الشمس بحيث تطلع و هو فى الطواف للحديث الذى رواه ابن عمر قاله الجد.

الخامسة: سبعة أسابيع فيكون بعمرة لما تقدم فى المرتبة الثانية.

السادسة: ثلاثة أسابيع، قال الجد. يأتى فى الأول بأذكار الطواف و دعواته الخاصة، و فى الثانى بالباقيات الصالحات، ففى ذلك حديث، و فى الثالث بما روى عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه، و هو لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد بيده الخير، و هو على كل شى ء قدير. ربنا آتنا فى الدنيا حسنة و فى الآخرة حسنة و قنا عذاب النار.

السابعة: أسبوع واحد كل يوم، فقد جاء فى الحديث أن الأسبوع بعتق رقبة، و يدخل بهذا الأسبوع فى جملة الطائفين الذين لهم ستون رحمة من المائة و العشرين كما سيأتى قريبا إن شاء اللّه تعالى، و الباقيات الصالحات هى: قولك سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر.

فائدة: المراد بحسنة الدنيا فيما تقدم العلم و العبادة قاله الحسن. و قيل: العافية، و قيل: المال، و قيل: المرأة الحسنة، و قيل: العفة، و قيل: الرزق الواسع. و بحسنة الآخرة الجنة بالإجماع كذا قاله الدميرى، و قيل: الحور العين أو الجنة أو العفو و المعافاة.

(و اعلم) أنه ينبغى المثابرة على الطواف فى أوقات. (منها) ما تقدم من الطواف بعد الصبح و العصر للحديث السابق.

ص: 117

و منها: فى وقت المطر لما روى عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: من طاف بالكعبة فى يوم مطر كتب اللّه له بكل قطرة تصيبه حسنة و محا عنه الأخرى سيئة.

و عن أبى عقال قال: طفت مع أنس بن مالك رضى اللّه عنه فى مطر. فلما قضينا الطواف أتينا المقام فصلينا ركعتين فقال لنا أنس: استأنفوا(1) العمل فقد غفر لكم. هكذا قال لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و طفنا معه فى مطر(2).

و عن مجاهد قال: كان كل شى ء لا يطيقه الناس من العبادة يتكلفه ابن الزبير، فجاء سيل فطبق البيت فامتنع الناس من الطواف، فجعل ابن الزبير يطوف سباحة، و ذكر القاضى عز الدين بن جماعة عن جده أنه طاف بالبيت سباحة، و كان كلما حاذى الحجر غطس لتقبيله. و ذكر أن بعض المكيين أخبره أنه اتفق له مثل ذلك.

و منها: فى شدة الحر، فقد روى أنه صلى اللّه عليه و سلم قال من طاف حول البيت أسبوعا فى يوم صائف شديد الحر و استلم الحجر فى كل طواف من غير أن يؤذى أحدا و أقل كلامه إلا بذكر اللّه تعالى كان له بكل قدم يرفعها و يضعها سبعون ألف حسنة، و يمحى عنه سبعون ألف سيئة، و يرفع له سبعون ألف درجة(3).

و فى رواية عن ابن عباس بعد قوله: شديد الحر، و حسر عن رأسه، و قارب خطاه، و أقل التفاته، و غض بصره ثم ذكر بقية الحديث. و زاد يعتق عنه سبعين رقبة، ثمن كل رقبة عشرة آلاف درهم و يعطيه اللّه سبعين شفاعة إن شاء فى أهل بيته من المسلمين، و إن شاء فى العامة، و إن شاء عجلت له فى الدنيا، و إن شاء أخرت له فى الآخرة 4.

أقول: فإن قيل: هل يستوى الطائف فى شدة الحر بغير خف أو نحوه بمن طاف لابسا لذلك أم غير اللابس أفضل و أكثر ثوابا لأنه حينئذ أكثر مشقة؟ (الجواب): أن إطلاق الحديث يقتضى التسوية بين اللابس و غيره، و لكن سياق الحديث يفهم منه أن غير اللابس أكثر ثوابا حيث علل بشدة الحر لأن المراد تجشم المشقة، و لا شك أن غير اللابس أكثر

ص: 118


1- 243. ( 1) فى المطبوع:« ائتنفوا» و المثبت رواية الأزرقى.
2- 244. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 21.
3- 245. ( 3) أورده الفاسى فى شفاء الغرام ج 1 ص 285 و قال: هذا حديث ضعيف الإسناد جدا.

مشقة، و يؤيده قوله فى رواية ابن عباس حاسرا عن رأسه، إذ المراد المصابرة على ذلك، و ينبغى فى رواية حسر الرأس أن يحمل على الاستطاعة و عدم الضرر، و أما من تضرر بكشف الرأس أو خشى الضرر فالأفضل له تغطية رأسه، فإن الحرج مدفوع شرعا، و اللّه الموفق.

و منها: عند خلو المطاف لأنه حينئذ يكون قائما بهذه العبادة العظيمة من غير مشارك له فى سائر أقطار الأرض، و كذلك قال العلماء لو حلف ليعبدن اللّه بعبادة لا يشركه أحد فيها، فالخلاص أن يخلى له المطاف فيطوف به وحده.

فوائد:

الأولى: إن قيل ما العلة فى جعل الكعبة على يسار المطاف دون يمينه، و ما الحكمة فى ذلك؟ (اعلم) أن العلة فى ذلك اجتماع القلبين فى جهة واحدة لأن القلب بيت الرب و القلب فى الجانب الأيسر. قال الجد رحمه اللّه: قلت: و قد يقال أيضا فى وجه المناسبة إن المستحب فى ابتداء الطواف استقبال الحجر الأسود الذى هو يمين اللّه فى الأرض، و حينئذ فشقه الأيمن إلى جهة باب البيت، و شقه الأيسر إلى جهة الركن اليمانى، و الانفتال إلى جهة اليمين أولى من الانفتال إلى جهة اليسار. و يستأنس لذلك بأن داخل المسجد يستحب له أن يبدأ برجله اليمنى و البداءة بجهة الشق الأيمن يبتدأ فيها بالرجل اليمنى حيث مشى على الأسلوب المعتاد، و أيضا لإخفاء أن جهة الباب أفضل الجهات فجهة الركن اليمانى بالنسبة إليها مفضولة و المسارعة إلى الأفضل أفضل من المسارعة إلى المفضول.

انتهى.

الثانية: قال بعض العلماء: إنما يجعل الطائف البيت على يساره، و يبتدئ بالحجر الأسود لأن الحجر إذا استقبلت البيت من ثنية كداء من باب بنى شيبة يبقى فى ركن البيت على يسارك و هو يمين البيت، لأنك إذا قابلت شخصا فيمينه يسارك و يسارك يمينه و الذى يلاقيك من البيت هو وجهه لأن فيه بابه، و باب البيت وجهه أى بيت كان، و الأدب أن لا يؤتى الأفاضل إلا من قبل وجوهم و لأجل ذلك كان الابتداء بثنية(1) كداء، و الأصل فى كل قربة يصح فعلها باليمين و اليسار أن لا تفعل إلا باليمين كالوضوء و غيره.

ص: 119


1- 246. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« كان الابتدائية كدا».

فإذا ابتدأ بالحجر و جعل البيت على يساره كان قد ابتدأ باليمين و الوجه معا فيجمع بين الفاضلين، و لو عكس ذلك فاته الجمع المذكور، و يمين البيت جميع الحائط الذى بين الركنين الأسود و اليمانى و يسار البيت الحائط الذى عند الحجر- بكسر الحاء- و دبر البيت الحائط الذى فيه الباب المسدود. و إنما سمى الشام لأنه على شمال البيت، و اليمن لأنه على يمين البيت. و سميت ريح الدبور لأنها تأتى من دبر البيت. و ريح الشمال لأنها تأتى من شمال البيت.

الثالثة: كان النساء و الرجال يطوفون معا مختلطين حتى ولى مكة خالد بن عبد اللّه القسرى لعبد الملك بن مروان ففرق بين الرجال و النساء و أجلس عند كل ركن حرسا معهم السياط، و سببه أنه بلغه قول بعض الشعراء:

يا حبذا الموسم من موفدو حبذا الكعبة من مشهد

و حبذا اللاتى يزاحمنناعند استلام الحجر الأسود

فقال. أما إنهن لا يزاحمنك بعد، فأمر بالتفريق(1).

الرابعة: أول من استصبح لأهل الطواف فى المسجد عقبة بن الأزرق بن عمرو، و كانت داره لاصقة بالمسجد من ناحية وجه الكعبة، فكان يضع فى جدار داره مصباحا كبيرا يضى ء على وجه الكعبة أخرجهما الأزرقى(2).

فروع: الأول: قال الجد: الآتى بأسبوع بسكينة و وقار و تؤدة بحيث يطوف غيره أسابيع فى زمن طوافه الأسبوع مع تساوى أوصافهما فى الحضور و الخشوع هل يستويان؟ قال المحب الطبرى: هذا يبنى على أن طول القيام فى الصلاة أفضل أم تكثير الركعات و هو يقتضى أفضلية الأسبوع. قال النسائى: و نص عليه الشافعى.

أقول: و هو مقتضى مذهب محمد بن الحسن من أصحابنا حيث قال: طول القنوت أحب إلى من كثرة الركوع و السجود، و هو محمول على المنفرد لقوله صلى اللّه عليه و سلم: من أم قوما

ص: 120


1- 247. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 20.
2- 248. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 247.

فليخفف فإن وراءه الكبير و الضعيف و ذا الحاجة، و إذا صلى منفردا فليطول ما شاء.

انتهى.

و اعتبر بعض المتأخرين الخطى فوجد كل طوفة مائة و عشر خطوات إذا كان بينه و بين البيت ذراع أو فوقه قليلا، فتكون للطوافات السبع سبعمائة و سبعون خطوة. انتهى.

و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال: أسعد الناس بهذا الطواف قريش و أهل مكة، و ذلك أنهم ألين الناس فيه مناكب و أنهم يمشون فيه التؤدة. أخرجه الأزرقى.

الثانى: الترتيب فى الطواف ليس بشرط عندنا حتى لو طاف منكوسا صح مع الكراهة، و كذا لو طاف عاريا أو بغير طهر، فإن أمكن إعادته فى طوافى الحج و العمرة أعاد و إلا جبر بالدم خلافا للثلاثة.

الثالث: اختلف العلماء هل الطواف بمكة أفضل أم الصلاة، و هل الاعتمار أفضل أم الطواف. فمذهب الجمهور أن الصلاة أفضل فرضها و نفلها لأنها أفضل عبادات البدن، و ذكر جماعة من علمائنا أن الطواف أفضل فى حق الآفاقى، و الصلاة فى حق المكى أفضل. و هو مذهب المالكية و متأخرى الشافعية. و ذهب الماوردى إلى أن الطواف أفضل.

و رجحه ابن عبد السلام و احتج بما سيأتى قريبا عن ابن عباس فيما ينزل من الرحمات حيث جعل للطائفين أكثر.

(و أما المفاضلة) بين الطواف و العمرة عن أنس بن مالك أنه سأل عن الطواف للغرباء أفضل أم العمرة؟ فقال: بل الطواف. أخرجه الأزرقى.

قال المحب الطبرى: مراد أنس و اللّه أعلم أن تكرار الطواف أفضل من العمرة و لا يريد طواف أسبوع واحد، فإنه موجود فى العمرة(1). انتهى.

و له فى هذا المعنى تأليف لطيف سماه «عواطف النصرة فى تفضيل الطواف على العمرة» ذهب فيه إلى أن الاشتغال بتكرار الطواف فى مثل مدة العمرة أفضل من الاشتغال بالعمرة، و استدل رحمه اللّه على ذلك بجملة أدلة. و ذهب جماعة من الشافعية منهم السبكى و البلقينى إلى تفضيل الاعتمار مطلقا على الطواف(2).

ص: 121


1- 249. ( 1) القرى ص 332.
2- 250. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 289.

الرابع: لا بأس عندنا للطائف أن يقرأ القرآن فى نفسه لأنه ذكر مشرف فى مكان مشرف. و يكره أن يرفع صوته بالقراءة فيه كى لا يقع فى الرياء و السمعة. و لفظة لا بأس، تدل على أن الأولى الاشتغال بالدعاء دون القراءة، فإنه صلى اللّه عليه و سلم اشتغل بالدعاء دون القراءة لكون اليطواف محلا لإجابة الدعاء و عند مالك لا يقرأ إلا قوله: رَبَّنا آتِنا إلى قوله:

وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (سورة البقرة: 201) كذا نقله الكرمانى من أصحابنا. و الصحيح من مذهب الشافعى أن الدعاء المأثور فى الطواف أفضل من القراءة للاتباع. و استدل أصحابه بأنه قد نهى عن القراءة فى الركوع و السجود لتعلق الدعاء الخاص بهما. قال الزركشى: و قد ينازع فى عبارتهم فى هذه المسألة، إذ لا شى ء من الذكر أفضل من القرآن، فكيف يكون الاشتغال بالمأثور أفضل من الاشتغال بالقرآن؟ و أجيب بأن القراءة فعل القادر و هى حادثة و القرآن قديم. و التفضيل بين القراءة و الذكر، و الصواب أن القرآن من حيث حقيقته أفضل. و قد ألف أبو بكر الآجرى تأليفا يتضمن الإنكار على الجاهر فى الطواف بذكر أو تلاوة، و غلظ فى ذلك و شدد و ينبغى أيضا لمن كان فى المسجد قريبا من الطواف أن لا يرفع صوته بتلاوة أو ذكر لئلا يشوش على الطائفين أو المصلين.

الخامس: من سنن الطواف للرجل القرب من البيت لينال الشرف و البركة ليكون أيسر فى الاستلام و التقبيل. و هذا إذا لم يؤذ أو يتأذ بزحمة أو غيرها و اذا لم يفته الرمل أيضا بسبب الزحمة، فإن خشى فوات الرمل فالبعد أولى للإتيان به لأن الرمل عندنا لا بدل له، و لهذا إذا اشتدت الزحمة يقف و أيضا فى قرب الرجل من البيت بعده عن النساء فإن طوافهن غالبا من جهة حاشية المطاف لا سيما عند من يقول بنقضهن. و المستحب للمرأة البعد عن البيت لئلا تخالط الرجال إلا فى وقت خلو المطاف فالقرب أولى و الخنثى كالمرأة.

السادس: التطوع بشوط واحد فى الطواف هل يسوغ و يؤجر عليه أم لا؟ فمذهب الشافعى أن من تطوع ابتداء بطوفة واحدة لا يجوز و لا يثاب على ذلك لما فيه من التلاعب بالعبادة. أما لو نوى أن يطوف أسبوعا ثم بدا له بعد أن طاف طوفة واحدة مثلا أنه لم يوف فله أجر الطوفة و لا يحبط ذلك ترك ما بقى من السبع.

أقول: مقتضى مذهبنا أيضا عدم جواز التطوع بالشوط الواحد قياسا على الركعة

ص: 122

الواحدة فى حق عدم المشروعية عندنا لا فى حق الحنث، فإن حلف لا يصلى يحنث بأداء ركعة واحدة. انتهى.

السابع: يجوز الطواف عندنا على الشاذروان لأنه ليس من البيت نص على ذلك الأصحاب. و مذهب الشافعية و الحنابلة و بعض متأخرى المالكية أنه يجب أن يكون الطائف بجميع بدنه خارجا عن البيت و الحجر و الشاذروان. و ينبغى الاحتراز عند الشافعى لمن قبل و استلم من أن يمر و شى ء من بدنه فى الشاذروان، بل يقر قدميه إلى أن يعتدل بعد التقبيل أو الاستلام، فإن لم يقرهما فليرجع إلى مكانه قبل الاستلام لئلا يقع بعض طوافه فى البيت لا بالبيت، لأن الشاذروان عندهم جرء نقصته قريش من عرض جدار أساس الكعبة حين ظهر على الأرض.

قال الجد رحمه اللّه: لم ينقل وقوع هذا التحرز عن أحد من السلف الصالح، و لو وقع لنقل، و لكن القواعد المقررة اقتضت ذلك مع أنه لا يلزم من عدم الاطلاع على النقل أن لا يكون منقولا إذ لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود.

و عند الحنابلة أن الطائف لو كان يمس الجدار بيده فى موازاة الشاذروان صح طوافه، لأن معظمه خارج البيت.

و أفاد الشيخ القدوة أبو عبد اللّه خليل إمام مقام المالكية بالمسجد الحرام بأنه لم يشترط أحد من متقدمى المالكية فيما علمه الطواف خارج الشاذروان، و أن الشيخ أبا الطيب القابسى المالكى كان ينكر ذلك و لا يثبته فى مذهب مالك. قال الفاسى رحمه اللّه:

ينبغى الاحتراز منه لأنه إن كان من البيت كما قيل فالاحتراز منه واجب و إلا فلا محذور فى ذلك. كيف و الخروج من الخلاف مطلوب و هو هنا قوى و اللّه أعلم.

نكتة: اعلم أن منشأ الخلاف بين الأئمة فى ذلك حديث عائشة المتقدم المصرح بأن قريشا اقتصروا على قواعد إبراهيم، و قد صح أن ابن الزبير رضى اللّه عنه لما بلغه هذا الحديث قال: أنا اليوم أجد ما أنفق و لست أخاف الناس فهدم الكعبة كما قدمته و بناها على قواعد إبراهيم، و أدخل فيها الحجر و جعل لها بابين على ما كان فى زمن قريش إلى آخر ما تقدم.

فإذا علمت هذا ظهر أن ما ذكره الشافعية من أنه ينبغى الاحتراز عن الشاذروان عند

ص: 123

التقبيل ليس بناهض. فينبغى حينئذ صحة الطواف على الشاذروان كما قال ابن الميلق من الشافعية و فيه تأييد لمذهبنا و لو وقع ما قاله الشافعية لنبه النبى صلى اللّه عليه و سلم الصحابة على ذلك لكونه مما تمس الحاجة إليه بقول أو فعل و لنقل ذلك، هذا مع توفر الدواعى على النقل.

و نازع الفاسى فى ذلك فقال: و بعض الناس يعارض القول بأن الشاذروان من البيت بكون ابن الزبير بنى البيت على أساس إبراهيم عليه السلام كما فى خبر بنائه. و هذا المعارض لا يخلو من حالين: أحدهما أن يدعى أن ابن الزبير استوفى البناء على جميع أساس جدران البيت بعد ارتفاعها عن الأرض. و الآخر أن يدعى أن البناء إذا نقص من عرض أساسه. بعد ارتفاعه عن الأرض لا يكون مبنيّا على أساسه.

و الأول لا يقوم عليه دليل لأن ما ذكر من صفة بناء ابن الزبير للبيت لا يقتضى أن يكون بناؤه مستوفى على جميع أساس جدرانه بعد ارتفاعها من الأرض و لا ناقصا عن أساسها، و وقوع هذا فى بنائه أقرب من الأول لأن العادة جرت بتقصير عرض أساس الجدار بعد ارتفاعه لمصلحة البناء. و إذا كان هذا مصلحة فلا مانع من فعله فى البيت لما بنى فى زمن ابن الزبير. نعم فى بناء ابن الزبير على أساس إبراهيم دليل واضح على أنه أدخل فى البيت ما أخرجته منه قريش من الحجر فإنه بنى ذلك على أساس إبراهيم لا أساس قريش.

و الثانى غير مسلم لأن الجدار إذا اقتصر عن عرضه بعد ارتفاعه من الأرض لا يخرجه ذلك عن كونه مبنيّا على أساسه و هذا مما لا ريب فيه و إنكاره مكابرة و اللّه أعلم. انتهى.

الثامن: يجب على الطائف عندنا أن يكون طوافه من وراء الحجر، فلو طاف الطواف الواجب فى جوف الحجر بأن يدخل من إحدى الفتحتين و يخرج من الأخرى عليه الإعادة و تجزئ على الحجر خاصة، و الأفضل الإعادة على البيت كله.

و ذكر قاضى خان فى شرح «الجامع الصغير» فى صفة الإعادة على الحجر صورتين:

الأولى: أن يأخذ عن يمينه خارج الحجر حتى ينتهى إلى آخره ثم يدخل الحجر من الفرجة و يخرج من الجانب الآخر يفعل ذلك سبعا.

الثانية: أن يأخذ عن يمينه خارج الحجر حتى ينتهى إلى آخره ثم يرجع و لا يدخل

ص: 124

الحجر، و يبتدئ من أول الحجر من المكان الذى ابتدأ منه أولا و لا يعد رجوعه إلى ذلك شوطا يفعل ذلك سبعا، فإن رجع إلى أهله و لم يعد لزمه دم كما قاله صاحب «الهداية».

و حكى ابن عبد البر إجماع العلماء على أن من طاف بالبيت يلزمه أن يطوف من وراء الحجر، و لو لم يطف من ورائه لم يجزه.

التاسع: لو طافت المرأة متنقبة فى غير حالة الإحرام فمقتضى مذهب الشافعى الكراهة كما تكره صلاتها متنقبة، قاله النووى و هو مذهب مالك.

قال الجد رحمه اللّه: محل هذا حيث أمنت من رؤية الرجال لوجهها، أما حيث لم تأمن كما هو الغالب من حال الطواف فلا كراهة، بل تنقبها حينئذ متعين، و عندنا لا يكره لها ذلك فى الطواف. نص عليه السروجى فى غايته.

العاشر: قال ابن جماعة فى «منسكه» و من البدع ما يفعله كثير من الجهلة من ملازمة البيت و تقبيله عند إرادة الطواف قبل استلام الحجر الأسود و تقبيله، و الذى سنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إنما هو الابتداء بالحجر لأنه يمين اللّه فلا يناسب البداءة بغيره و اللّه أعلم.

فصل فى ثواب النظر إلى البيت زاده اللّه شرفا و بيان مصلى النبى صلى اللّه عليه و سلم حول البيت و ذكر ذرع أرض المطاف

روى الحسن البصرى رحمه اللّه فى «رسالته» أنه صلى اللّه عليه و سلم قال: من جلس مستقبل القبلة ساعة واحدة محتسبا للّه عز و جل و لرسوله تعظيما للبيت، كان له كأجر الحاج و المعتمر و المرابط القائم، و أول ما ينظر اللّه إلى أهل الحرم، فمن رآه مصليا غفر له، و من رآه قائما غفر له، و من رآه جالسا مستقبل القبلة غفر له.

و روى ابن عباس رضى اللّه عنهما عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: إن اللّه ينزل فى كل يوم و ليلة مائة و عشرين رحمة على هذا البيت، ستون للطائفين، و أربعون للمصلين و عشرون للناظرين(1).

ص: 125


1- 251. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 8، القرى ص 325.

أقول: هذا الحديث و إن كان ضعيفا فقد نص النووى و غيره من الحفاظ على جواز رواية الضعيف فى الفضائل انتهى.

و فى رواية أخرى ينزل اللّه على أهل المسجد مسجد مكة كل يوم عشرين و مائة رحمة الحديث.

قال المحب الطبرى: و لا تضاد بين الروايتين، بل يجوز أن يريد بمسجد مكة البيت، و يطلق عليه مسجد بدليل قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (سورة البقرة:

144) و يجوز أن يريد مسجد الجماعة و هو الأظهر، و يكون هو المراد بالتنزيل على أهل المسجد، و لهذا انسحبت على أنواع العبادات الكائنة فى المسجد(1). انتهى.

ثم قال أيضا عند كلامه على هذا الحديث: يحتمل فى تأويل القسم بين كل فريق وجهان: الأول قسمة الرّحمات بينهم على المسمّى بالسّويّة، لا على العمل بالنظر إلى قلته و كثرته و صفته، و ما زاد على المسمى فإنه ثواب من غير هذا الوجه، و نظير هذا: أعط الداخلين بيتى مائة دينار، فدخل واحد مرة، و آخر مرارا فلا خلاف فى تساويهما فى القسم(2).

الوجه الثانى: و هو الأظهر قسمتها بينهم على قدر العمل، لأن الحديث ورد فى سياق الحثّ و التحضيض و ما هذا سبيله لا يستوى فيه الآتى بالأقل و الأكثر(3).

ثم قال بعد أن استوفى الكلام فى كيفية قسمة الرحمات: إذا تقرر ذلك فالتفضيل فى الرحمات بين المتعبدين بأنواع العبادات الثلاث، أدل دليل على أفضلية الطواف على الصلاة، و الصلاة على النظر، و إذا تساووا فى الوصف، هذا هو المتبادر إلى الفهم عند سماع ذلك فيخص به و بما ورد من الأحاديث المتقدمة فى فضل الطواف [من] عموم قوله صلى اللّه عليه و سلم: و اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة. أو تقول: الطواف نوع من الصلاة فيكون داخلا فى عموم حديث تفضيل الصلاة على سائر أعمال البدن، و لا ينكر أن بعض الصلاة أفضل من بعض(4).

ص: 126


1- 252. ( 1) القرى ص 325.
2- 253. ( 2) القرى ص 325.
3- 254. ( 3) القرى ص 326.
4- 255. ( 4) القرى ص 326 و ما بين حاصرتين منه.

ثم قال بعد كلام آخر: و وجه تفضيل هذا النوع من الصلاة و هو الطواف على غيره من الأنواع [ثبوت] الأخصية له بمتعلق الثلاثة، و هو البيت الحرام، و لا خفاء بذلك، و لذلك بدأ به فى الذكر هنا و فى قوله تعالى: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الآيتين (سورة الحج: 26، 27) و لما كانت الصلاة على تنوعها لم تشرع إلا عبادة، و النظر قد يكون عبادة إذا قصد التعبد به و قد لا يكون، و ذلك إذا لم يقصد به التعبد تأخر فى الرتبة(1).

و قولنا: إذا تساووا فى الوصف نحترز مما إذا اختلف وصف المتعبّدين، فكان الطائف ساهيا غافلا و المصلى و الناظر خاشعا يعبد اللّه كأنه يراه، كان المتصف بذلك أفضل، إذ ذلك الوصف لا يعد له عمل جارحة خاليا عنه، و هو المشار إليه و اللّه أعلم فى قوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (سورة الكهف: 30) انتهى باختصار(2).

و هو كلام عظيم كاف شاف حرى(3) أن يكتب بماء الذهب فى بياض الحدق، و قد ذكره فى كتابه «القرى» بأبسط من هذا، و استدل بأمور معنوية قوية ظاهرة لا يحتمله هذا التعليق فليراجعه مريده فى محله، فرحمه اللّه و للّه دره من عالم محقق.

و فى «رسالة الحسن» أيضا أنه صلى اللّه عليه و سلم قال: من نظر إلى البيت إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر و حشر يوم القيامة فى الآمنين. و فيها عنه صلى اللّه عليه و سلم: من نظر إلى البيت نظرة من غير طواف و لا صلاة كان عند اللّه عز و جل أفضل من عبادة سنة يعنى صائما و قائما و راكعا و ساجدا.

و عن ابن عباس أنه قال: النظر إلى الكعبة محض الإيمان أخرجه الجندى. و عن سعيد ابن المسيب: من نظر إلى الكعبة إيمانا و تصديقا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. و عن عطاء: النظر إلى البيت الحرام عبادة، و الناظر له بمنزلة الصائم القائم الدائم المخبت المجاهد فى سبيل اللّه عز و جل. و عن أبى السائب المدينى: من نظر إلى الكعبة إيمانا و تصديقا تحاتت عنه الذنوب كما يتحات الورق من الشجر. و عن زهير بن محمد قال:

الجالس فى المسجد ينظر إلى البيت لا يطوف به و لا يصلى أفضل من المصلى فى بيته لا ينظر إلى البيت. أخرجها الأزرقى(4).

ص: 127


1- 256. ( 1) القرى ص 327 و ما بين حاصرتين منه.
2- 257. ( 2) القرى ص 327.
3- 258. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى:« حر».
4- 259. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 9.

فصل فى ذكر المواضع التى صلى فيها صلى اللّه عليه و سلم حول الكعبة و بيانها ملخصة كما نقله الفاسى عن القرى للمحب الطبرى مع زيادة أدلة

اشارة

فصل فى ذكر المواضع التى صلى فيها صلى اللّه عليه و سلم حول الكعبة و بيانها ملخصة كما نقله الفاسى(1) عن القرى للمحب الطبرى(2) مع زيادة أدلة

الأول: خلف مقام الخليل عليه السلام لما رواه جابر فى صفة حجه صلى اللّه عليه و سلم من قوله:

ثم نفر إلى مقام إبراهيم فقرأ وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (سورة البقرة: 125) و جعل المقام بينه و بين البيت ثم صلى الركعتين.

الثانى: تلقاء الحجر الأسود عند حاشية المطاف كما فى النسائى من حديث المطلب بن أبى وداعة.

الثالث: قريبا من الركن الشامى مما يلى الحجر- بسكون الجيم- كما فى «سنن أبى داود» من حديث عبد اللّه بن السائب.

الرابع: عند باب الكعبة كما فى «تاريخ الأزرقى» من حديث ابن عباس قال صلى اللّه عليه و سلم:

أمنى جبريل عند باب الكعبة مرتين. قال الفاسى: و يحتمل ثلاثة وجوه. الأول: أن يكون صلى و جاه الباب. الثانى أن يكون فى الحفرة المرخمة التى عند باب الكعبة على يمينه.

الثالث أن يكون فى الملتزم و هو بعيد. و الوجه الأول أقرب لأنه عند الباب حقيقة، و إنما نبهنا على ذلك لأن الشيخ عز الدين بن عبد السلام و الشيخ أحمد بن موسى بن العجيل ذكرا أن مصلى جبريل بالنبى صلى اللّه عليه و سلم فى الحفرة المرخمة. و لم أقف على كلام ابن عجيل، و لكن بلغنى أن الطبرى إمام المقام سأله عن ذلك فحققه له بطريق الكشف. و أما كلام ابن عبد السلام فنقله ابن جماعة انتهى. قال ابن جماعة بعد ذلك عن ابن عبد السلام: و لم أر ذلك لغيره، و فيه بعد لأنه لو كان صحيحا لنبهوا عليه بالكتابة فى الحفرة، و لما اقتصروا على من أمر بعمل المطاف و اللّه أعلم. انتهى.

الخامس: تلقاء الركن الذى يلى الحجر من جهة المغرب جانحا إلى جهة الغرب قليلا بحيث يكون باب المسجد المعروف اليوم باب العمرة خلف ظهره. كما فى «مسند أحمد»

ص: 128


1- 260. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 351.
2- 261. ( 2) القرى لقاصد أم القرى ص 348.

و «سنن أبى داود» و غيرهما من حديث المطلب بن أبى وداعة أنه رأى النبى صلى اللّه عليه و سلم يصلى مما يلى باب بنى سهم، و الناس يمرون بين يديه. و باب بنى سهم هو باب العمرة المذكور.

و السادس: فى وجه الكعبة كما فى الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضى اللّه عنهما أن النبى صلى اللّه عليه و سلم لما خرج من البيت صلى قبل البيت ركعتين، و قال: هذه القبلة، كما تقدم. قال المحب الطبرى: وجه الكعبة يطلق على بابها و لهذا قيل للمحاذى له خلفها دبر الكعبة، و يطلق على جميع الجانب الذى فيه الباب و هو المتعارف. و الظاهر أن هذا الموضع تلقاء المقام فى فناء الكعبة بحيث يكون المقام خلف ظهر المصلى فيه. ثم قال: و يحتمل على بعد أن يكون الموضع الرابع- يعنى المتقدم عند باب الكعبة- قال ابن جماعة: و قد ورد تفضيل وجه الكعبة على غيره من الجهات. فعن ابن عمر البيت كله قبلة و قبلته وجهه، فإن فاتك ذلك فعليك بقبلة النبى صلى اللّه عليه و سلم تحت الميزاب. و مثله عن عمرو بن العاص. و المراد بقبلة النبى صلى اللّه عليه و سلم قبلته بالمدينة الشريفة. انتهى.

(السابع) بين الركنين اليمانيين ذكره ابن إسحاق فى «سيرته» فى قصة طويلة. قال الفاسى: و لم يبينه المحب. و يحتمل أن يكون عليه السلام صلى إلى وسط الجدار كما نقله ابن سراقة و يكون عند الرخامة التى فى الشاذروان المكتوب فيها اسم الملك لاجين أنه عمل المطاف. و يحتمل أن يكون مائلا عن الوسط إلى جهة الحجر الأسود أو إلى جهة الركن اليمانى.

الثامن: فى الحجر للحديث الصحيح: بينما النبى صلى اللّه عليه و سلم يصلى فى حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه فى عنقه صلى اللّه عليه و سلم فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر و أخذ بمنكبه و دفعه عنه عليه السلام. و قال: أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ (سورة غافر: 28).

الآية قال المحب الطبرى: و لا يبعد أن تكون صلاته صلى اللّه عليه و سلم تحت الميزاب. فقد روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال: صلوا فى مصلى الأخيار و اشربوا من شراب الأبرار. فقيل له: ما مصلى الأخيار و ما شراب الأبرار؟ فقال: تحت الميزاب و ماء زمزم، و هو صلى اللّه عليه و سلم سيد الأخيار، و لا يبعد أن تكون الإشارة إليه صلى اللّه عليه و سلم.

ص: 129

ذكر شى ء من فضائل الحجر

روى عن عائشة رضى اللّه عنها قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلى فيه، فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيدى فأدخلنى الحجر و قال: صلى فيه إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت(1). و فى هذا دلالة على أن جميع الحجر من البيت. و كذلك ما ورد أن عائشة رضى اللّه عنها سألت النبى صلى اللّه عليه و سلم عن الحجر: هل هو من البيت؟ فقال: نعم. و الصحيح أن القدر الذى فيه من البيت ستة أذرع أو ما يقارب السبعة(2) كما جاء مصرحا به فى الحديث الآخر عن عائشة رضى اللّه عنها و هو: لو لا قومك إلى أن قالت و لزدت فيه ستة أذرع من الحجر تركتها قريش لقصر النفقة. و فى رواية فهلمى لأريك ما تركوه قومك فأراها قريبا من سبعة أذرع، فحينئذ يحمل المطلق فيما تقدم على المقيد و إطلاق اسم الكل على البعض جائز على سبيل المجاز المستحسن أشار إليه المحب الطبرى.

و عن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لأبى هريرة رضى اللّه عنه: إن على باب الحجر ملكا يقول لمن دخله و صلى فيه ركعتين مغفورا لك ما مضى فاستأنف العمل، و على بابه الآخر ملك منذ خلق اللّه الدنيا إلى يوم يرفع البيت يقول لمن صلى و خرج:

مرحوما إن كنت من أمة محمد تقيّا(3).

و فى «رسالة الحسن» أن إسماعيل عليه السلام شكا إلى ربه حرّ مكة فأوحى إليه أنى أفتح لك بابا من الجنة فى الحجر يخرج عليك الرّوح منه إلى يوم القيامة. و الروح بفتح الراء نسيم الريح(4).

و فيها عن عثمان بن عفان رضى اللّه عنه أنه أقبل ذات يوم فقال لأصحابه: ألا تسألونى من أين جئت؟ فسألوه، فقال: كنت قائما على باب الجنة، و كان قائما تحت الميزاب يدعو اللّه عنده(5).

ص: 130


1- 262. ( 1) أخبار للأزرقى ج ص 312، إخبار الكرام ص 86.
2- 263. ( 2) إخبار الكرام ص 86.
3- 264. ( 3) إخبار الكرام ص 86.
4- 265. ( 4) إخبار الكرام ص 86.
5- 266. ( 5) إخبار الكرام ص 87.

و يروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: ما من أحد يدعو تحت الميزاب إلا استجيب له(1).

و نقل ابن جماعة عن بعض السلف أن من صلى تحت الميزاب ركعتين ثم دعا بشى ء مائة مرة و هو ساجد استجيب له.

و عن عطاء بن أبى رباح أنه قال: من قام تحت مثعب الكعبة و دعا استجيب له و خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. أخرجه الأزرقى(2). و المثعب: مجرى الماء و مسيله. و منه:

يجى ء الشهيد يوم القيامة و جرحه يثعب دما. كذا فى «النهاية»(3).

و يروى عن أبى هريرة و سعيد بن جبير وزين العابدين أنهم كانوا يلتزمون ما تحت الميزاب من الكعبة.

(و من فضائل الحجر) أن فيه قبر إسماعيل و أمه هاجر، و كان عمره مائة و ثلاثين سنة يوم مات و قيل مائة و سبع و ثلاثين. و نقل القاضى أبو البقاء بن الضياء فى «منسكه البحر العميق» عن الفقيه إسماعيل الحضرمى(4) نفع اللّه به أنه لما حج سأل المحب الطبرى عن ثلاث مسائل: عن الحفرة الملاصقة للكعبة. و عن البلاطة الخضراء التى فى الحجر، و عن القبرين اللذين يرجمان بأسفل مكة عند جبل البكاء. فأجاب بأن الحفرة مصلى جبريل عليه السلام بالنبى صلى اللّه عليه و سلم. و البلاطة الخضراء قبر إسماعيل و يشبر من رأسها إلى ناحية الركن الغربى مما يلى باب بنى سهم ستة أشبار، فعند انتهائها يكون رأس إسماعيل عليه السلام.

و القبران المرجومان فهو أن البيت الشريف أصبح يوما فى دولة بنى العباس و قد لطخه رجلان بالعذرة فقبض عليهما أمير مكة و استأذن الخليفة فى أمرهما فأمر بصلبهما فرسم فى هذا الموضع و صارا يرجمان إلى الآن. انتهى.

و ينبغى توقى النوم فيه و الاحتراز مما أحدثه العوام من وقوفهم فى فتحتى الحجر بقصد السلام كما يزعمون على النبى صلى اللّه عليه و سلم، و من استدبارهما الكعبة فيهما للدعاء أيضا.

و المعروف فى آداب الدعاء استقبال البيت قاله ابن جماعة.

ص: 131


1- 267. ( 1) أخبار الكرام ص 87.
2- 268. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 318.
3- 269. ( 3) النهاية لابن الأثير( ثعب).
4- 270. ( 4) إخبار الكرام ص 88.

ذكر ذرع الحجر من داخله و صفته و خبر شى ء من عمارته

أما ذرعه فمن جدر الكعبة الذى فيه الميزاب إلى جدر الحجر المقابل له خمسة عشر ذراعا. وسعة ما بين الفتحتين سبعة عشر ذراعا و قيراطان و عرض جداره ...(1).

و أما صفته فهو عرصة مرخمة عليها جدار مقوس صورته نصف دائرة و أول من رخمه المنصور العباسى فى سنة أربعين و مائة لما حج. و ذلك أنه رأى حجارته بادية فدعا بعامله على مكة زياد بنت عبد اللّه و أمره بأنه لا يأتى الصباح إلا و قد ستر بالرخام، فدعا زياد الصناع فعملوه على السّرج قبل أن يصبح(2). ثم جدد بعد ذلك مرارا كثيرة. و آخر من عمره على ما هو عليه الآن فى زمن هذا التأليف من ملوك الشراكسة قانصوه الغورى على يد مباشر عمائره الأمير خاير بك العلائى المعروف عند أهل مكة بالمعمار، و ذلك فى سنة سبع عشرة و تسعمائة. و كانت عمارته فى هذه السنة مرتين، الأولى: بحجارة منحوتة من جبل الشبيكة، و الثانية: بهذا الرخام الموجود كما ترى.

فرع: حكم الصلاة فى مقدار ما فى الحجر من البيت حكم الصلاة فى الكعبة يجرى فيه الخلاف المتقدم بين الأئمة الأربعة، و قد علمته فلا نطول بإعادته لما فيه من تحصيل الحاصل، و اللّه أعلم.

(تتميم) أخرج الفاسى رحمه اللّه عن بعض مشايخ مكة المتقدمين أن للنبى صلى اللّه عليه و سلم مصلى بين الحفرة المرخمة و بين الحجر- بسكون الجيم- عند الحجر المشوبر الذى يقال له المقام المحمدى، و أن من دعا عنده بهذا الدعاء. يا واحد يا واحد، يا ماجد يا ماجد، يا برّ يا رحيم، يا غنى يا كريم أتمم على نعمتك و ألبسنى عافيتك استجيب له(3).

ثم قال: و الحجر المشوبر الذى هو علامة لهذا المصلى لا يعرف الآن(4). و الحفرة قد سبق ذكرها. و هذا المصلى هو الموضع الثالث الذى ذكره المحب، لأنه ليس بين الحفرة المشار إليها و الركن الشامى مصلى للنبى صلى اللّه عليه و سلم غيره، و اللّه أعلم. انتهى بمعناه.

ص: 132


1- 271. ( 1) بياض بالأصلين.
2- 272. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 345.
3- 273. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 358.
4- 274. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 358.

(استطراد) فى بيان مصلى آدم عليه السلام عند البيت حين نزل قد تقدم فى الباب الأول فى فضل الملتزم عن الأزرقى رحمه اللّه أن آدم طاف بالبيت سبعا، ثم صلى تجاه الكعبة ركعتين ثم أتى الملتزم إلى آخر ما قدمته عنه.

و أخرج الأزرقى أيضا فى رواية أخرى، أن آدم عليه السلام حين نزل طاف بالبيت سبعا ثم صلى تجاه باب الكعبة ركعتين(1).

و نقل الفاسى رحمه اللّه فى «شفائه» من كلام ابن سراقة، ما يقتضى زيادة بيان فى مصلى آدم عليه السلام، فقال: و من باب الكعبة إلى مصلى آدم حين فرغ من طوافه، و أنزلت عليه التوبة و هو موضع الخلوق من إزار الكعبة أرجع من تسعة أذرع، و هناك كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام و صلى النبى صلى اللّه عليه و سلم عنده ركعتى طوافه. و بين مصلى آدم و الركن الشامى ثمانية أذرع. انتهى. قال الفاسى: و قد تحرر لى مما ذكره ابن سراقة فى ذرع ما بين الركن الشامى و مصلى آدم أن يكون مصلى آدم ظنا بقرب الحفرة المرخمة التى فى وجه الكعبة بحيث يكون منه إلى الحفرة ثلاثة أذرع إلا ثلث بالحديد(2) انتهى.

و فى رواية لابن أبى الدنيا أن صلاة آدم إلى جانب الركن اليمانى.

و فى أخرى عن الفاكهى أن الموضع الذى تيب(3) فيه على آدم دبر الكعبة عند الباب الذى فتحه ابن الزبير جانب الركن اليمانى، و اللّه أعلم.

فصل فى بيان جهات المصلين إلى القبلة من سائر الآفاق ملخصا مما ذكره الشيخ عز الدين بن جماعة فى دائرته بحذف الكواكب إذ ليس كل أحد يعرف الاستدلال بها

(فجهة) مصر و صعيدها الأعلى و سواحلها السفلى أسوان و إسنا و قوص و الفسطاط و الإسكندرية و الاكيدم و المحلة و دمياط و بلبيس و برقة و طرابلس و صفد، و ساحل المغرب، و الأندلس، و ما كان على سمته ما بين الغربى و الميزاب.

ص: 133


1- 275. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 44.
2- 276. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 335.
3- 277. ( 3) فى المطبوع:« يثبت».

(وجهة) جانب الشام الغربى و وسط غزة و الرملة و بيت المقدس و المدينة الشريفة، و دمشق، و فلسطين و عكا و صيدا، و ما والى ذلك من السواحل على سمته و هى من قبيل ميزاب الكعبة إلى دون الركن الغربى.

(وجهة) الشام كلها غير ما ذكر و هى حمص و حماة و سلمية و حلب و منبج و حران و ميافارقين و ما والاها من البلاد و سواحل الروم ما بين الميزاب و الركن الشامى، موقفهم موقف أهل المدينة و دمشق، لكنهم يتياسرون شيئا يسيرا و الجهة شاملة للجميع إن شاء اللّه تعالى.

(وجهة) الرها و الموصل و ملطية و سميساط و سنجار و الجزيرة و ديار بكر و ما كان على سمت ذلك إلى القبلة من الركن الشامى إلى مصلى آدم عليه السلام.

(وجهة) الكوفة و بغداد و حلوان و القادسية و همذان و الرى و نيسابور و خراسان و مرو و خوارزم و بخارى و نسا و فرغانة و الشاش و ما كان على سمت ذلك، ما بين مصلى آدم عليه السلام إلى قرب باب الكعبة.

(وجهة) البصرة و الأهواز و فارس و كرمان و أصبهان و سجستان و شمال بلاد الصين و ما على سمت ذلك من باب الكعبة إلى الحجر الأسود.

(وجهة) وسط بلاد الصين و الهند و المهرجان و كابل و المهديان و التتار و المغل و القندهار(1) و ما والاها و ما كان على سمتها، من الركن الأسود إلى دون مصلى النبى صلى اللّه عليه و سلم.

(وجهة) بلاد الهند و جنوب بلاد الصين و أهل التهايم و السد و البحرين و ما والاها و كان على سمتها، من دون مصلى النبى صلى اللّه عليه و سلم إلى ثلثى هذا الجدار.

(وجهة) اليمن بأسره ظفار و حضر موت و صنعاء و عمان و صعدة و الشجر و سبأ و ما والاها و كان على سمتها، من دون الركن اليمانى بسبعة أذرع إلى الركن اليمانى.

(وجهة) الحبشة و الزنج و زيلع و أكثر بلاد السودان و جزائر فرسان و ما والاها من البلاد و كان على سمتها، من الركن اليمانى إلى ثلثى الجدار و هو آخر الباب المسدود.

ص: 134


1- 278. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« و الخدهار».

(وجهة) جنوب بلاد البجاة و دهلك و سواكن و بلاد البلين و النوبة إلى بلاد التكرورو ما وراء ذلك و ما على سمته، من بلاد السودان و غيرهم إلى البحر المحيط من دون الباب المسدود إلى ثلثى الجدار.

(وجهة) شمال بلاد البجاة و النوبة و أوسط المغرب من جنوب الواحات إلى بلاد إفريقية و أوسط بلاد بربر و بلاد الجريد إلى البحر المحيط و هى جهة جدة و عيذاب و جنوب أسوان من دون الركن الغربى بثلث الجدار إلى الركن الغربى. انتهى ما لخص من الدائرة و هذه الجهات المذكورة هى من حيث الجملة، و من أراد التحرير فى الاستقبال كما ينبغى فليراجع كتب الميقات و ما وضع لذلك من الآلات يقف على المراد و اللّه أعلم.

ص: 135

الباب السادس فى فضل مكة زادها اللّه شرفا و تعظيما و حكم المجاورة بها و ذكر شى ء مما ورد فى ذلك

اشارة

ص: 136

قال اللّه تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً (سورة البقرة: 126) يعنى مكة. قال النسفى:

أى اجعل هذا البلد أو المكان بلدا آمنا أى ذا أمن، أو آمنا من فيه فهذا مفعول أول و بلدا مفعول ثان و آمنا صفة له.

و قال تعالى فى سورة إبراهيم أيضا: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً (سورة إبراهيم: 35) بصيغة التعريف و المراد مكة و الفرق بين هذه و بين ما فى البقرة أنه سأل فى الآية الأولى أن يجعله من جملة البلاد التى يأمن أهلها و فى هذه الآية أن يخرجه من صفة الخوف إلى الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمنا. كذا فى «المدارك».

و فى «تفسير الكواشى» إنما عرف هنا و نكر فى البقرة لأن النكرة إذا عينت تعرفت.

و قيل دعا مرتين فحكيتا. و قوله بواد غير ذى زرع هو مكة لأنه لم يكن بها يومئذ ماء و لا حرث فكانت هاجر ترضع إسماعيل و تأكل من التمر و تشرب من الماء اللذين جاءت بهما معها إلى أن نفدا و سيأتى الكلام على ذلك فى محله فى فضائل زمزم مستوفى إن شاء اللّه تعالى. و قال جل و علا وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً (سورة النحل: 112) الآية، يعنى مكة شرفها اللّه تعالى. قال القرطبى: ضربها اللّه مثلا لغيرها من البلاد أى أنها مع جوار بيت اللّه و عمارة مسجده لما كفر أهلها أصابهم القحط، فكيف بغيرها من البلاد.

انتهى.

و كانت العرب قد قطعت على قريش و كفار مكة الميرة بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و ابتلاهم اللّه بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الميتة و كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فأمر الناس بحمل الطعام إليهم و هم بعد مشركون كذا فى «المعالم».

و قيل فى تفسير قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (سورة الدخان: 10)

ص: 137

أنه دخان قريش هذا. و الصحيح أنه دخان يأتى من السماء قبل يوم القيامة يدخل فى أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ. و يعترى المؤمن منه كهيئة الزكام و تكون كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص، كذا فى «المدارك» و الحنيذ المشوى على حد قوله تعالى: جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (سورة هود: 69) و الخصاص: الخلل. يقال للفرج التى بين الأثافى خصاص. كذا فى «الصحاح».

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أن أول آيات الساعة الدخان و أنه يملأ ما بين المشرق و المغرب يمكث أربعين ليلة، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام، و أما الكافر فيخرج من منخريه و أذنيه و دبره.

و قوله: كانَتْ آمِنَةً أى من القتل و السبى، و قوله: مُطْمَئِنَّةً لا يزعجها خوف، لأن الطمأنينة مع الأمن و الانزعاج و القلق مع الخوف، و قوله: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً أى واسعا، و قوله مِنْ كُلِّ مَكانٍ أى من كل بلد على حد قوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ (سورة القصص: 57) و معنى الكلية: الكثرة. كقوله: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ (سورة النمل: 23) و قال تعالى مخاطبا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها (سورة النمل: 91) قال المفسرون: معناه قل يا محمد إنما أمرت أن أخص اللّه تعالى بعبادتى و توحيدى الذى هو رب هذه البلدة يعنى مكة المشرفة. و خصها بالذكر دون غيرها لأنها مضافة إليه و أحب البلاد و أكرمها عليه، و أشار إليها إشارة تعظيم لأنها موطن بيته و مهبط وحيه. و معنى حرمها، يعنى جعلها حراما آمنا لا يسفك فيه دم و لا يظلم فيه أحد، و قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (سورة البلد: 1، 2) و قال تعالى: وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (سورة التين: 3) المراد مكة لأمن الناس فيها جاهلية و إسلاما.

و معنى القسم به فى الموضعين التنويه بشأنه و الإبانة عن شرفه لما أنه مكان البيت الذى هو هدى للعالمين و مولد سيد المرسلين و مبعث خاتم النبيين.

و قال تعالى: وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا (سورة القصص: 57) قال المفسرون: المراد مكة، و سبب نزولها أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف قال للنبى صلى اللّه عليه و سلم: إنا لنعلم أن ما تقوله حق و لكن نخشى إن اتبعناك على دينك أن تخرجنا العرب من أرضنا يعنى مكة.

ص: 138

و فى الصحيح أنه ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة و المدينة و ليس نقب من نقابها إلا و عليه الملائكة صافين يحرسونها. و النقب- بفتح النون و ضمها و سكون القاف- هو الباب و قيل الطريق و جمعه نقاب.

و فى رسالة «الحسن البصرى» رضى اللّه عنه التى كتبها لبعض إخوانه بمكة المشرفة يرغبه فى الإقامة بها حين بلغه أنه نوى التحول عنها، قال صلى اللّه عليه و سلم: خير بلدة على وجه الأرض و أحبها إلى اللّه عز و جل مكة.

و قال صلى اللّه عليه و سلم: من مات بمكة فكأنما مات فى السماء الدنيا. و قال صلى اللّه عليه و سلم: من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائة عام.

و قال صلى اللّه عليه و سلم: من مرض يوما واحدا بمكة كتب له من العمل الصالح الذى كان يعمله فى غيرها عبادة ستين سنة.

و قال صلى اللّه عليه و سلم: ما أحد يخرج منها إلا ندم و ما من أحد يخرج منها ثم يعود إلا و للّه عز و جل فيه حاجة.

و قال صلى اللّه عليه و سلم: المقام بمكة سعادة و الخروج منها شقاوة، ثم ما أعلم اليوم على وجه الأرض بلدة يرفع منها الحسنات و أنواع البر كل واحد منها بمائة ألف ما يرفع من مكة(1)، و ما أعلم بلدة على وجه الأرض فيها شراب الأبرار و مصلى الأخيار غيرها.

(أقول): قد علمتهما فيما سبق فلا يحتاج إلى تكرارهما. انتهى.

ثم ما أعلم بلدة على وجه الأرض يصلى فيها حيث أمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه و سلم إلا بمكة قال اللّه تعالى: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (سورة البقرة: 125).

ثم ما أعلم بلدة يصل فيها للانسان عن طاعات اللّه تعالى ما يصل إليه بمكة.

ثم ما أعلم بلدة على وجه الأرض إذا دعا أحد بدعاء أمنت الملائكة على دعائه إلا بمكة حول البيت الحرام. ثم ما أعلم بلدة يحشر منها من الأنبياء و الصديقين و الأبرار و الفقهاء و الزهاد و العباد و الصالحين من الرجال و النساء ما يحشر من مكة، إنهم يحشرون آمنين يوم القيامة من عذاب اللّه(2).

ص: 139


1- 279. ( 1) رسالة الحسن البصرى ورقة 4.
2- 280. ( 2) رسالة الحسن البصرى ورقة 4.

ثم ما أعلم بلدة ينزل فيها كل يوم من رائحة الجنة و روحها ما ينزل بمكة.

و إياك يا أخى، ثم إياك أن تخرج من مكة، فلو أنه لم يدخل عليك كل يوم غير فلسين حلالا لكان خيرا لك من ألفين فى غيرها. و السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته. انتهى ما نقل من «الرسالة».

و عن عائشة رضى اللّه عنها قالت: لو لا الهجرة لسكنت مكة، إنى لم أر السماء بمكان أقرب إلى الأرض منها بمكة، و لم يطمئن قلبى ببلد قط ما اطمأن بمكة، و لم أر القمر بمكان قط أحسن منه بمكة أخرجه الأزرقى.

و يروى أن قريشا وجدوا فى الركن أو الكعبة كتابا بالسريانية فلم يدروا ما فيه حتى قرأه لهم رجل من اليهود فاذا فيه: أنا اللّه ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات و الأرض و صورت الشمس و القمر و حففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها مبارك لأهلها فى الماء و اللبن، و فى رواية أخرى فى الماء و اللحم. و الأخشبان هما جبلان: أبو قبيس و المقابل له و مكة بينهما.

فصل فيما يدل على أفضلية مكة على غيرها من البلاد

(اعلم) أن العلماء أجمعوا على أن مكة و المدينة زادهما اللّه شرفا و تعظيما أفضل بقاع الأرض، و يليهما بيت المقدس، ثم مكة أفضل من المدينة عندنا، و عند الشافعية و الحنابلة و وهب و ابن حبيب من المالكية و هو قول الجمهور، و روى عن جماعة من الصحابة رضى اللّه عنهم و يستدل على ذلك بأمور (منها) ما تقدم من الآيات.

(و منها) أن اللّه تعالى اختار من ولد آدم الأنبياء بجملتهم ثم اختار منهم الرسل، ثم اختار منهم أولى العزم و فيهم أقوال و هم خمسة على الأكثر ذكرهم اللّه فى سورتى الأحزاب و الشورى، و المراد بالعزم الحزم و الصبر كذا قاله المفسرون.

ثم اختار منهم خليله و حبيبه إبراهيم و محمدا صلى اللّه عليهما و سلم و اختار لهما من الأماكن خيرها و أشرفها و هى مكة جعلها اللّه مناسك لعباده مشاعر لوفده و قصاده، و أوجب الإتيان إليها من القرب و البعد و دخولهم إليها متواضعين متخشعين متذللين كاشفين رءوسهم مجردين عن لباس أهل الدنيا فهى خير البلاد و أشرفها.

ص: 140

لطيفة: إن قيل ما الحكمة فى تجريد الناس فى الإحرام؟ قيل: ليعلم أن باب اللّه جل و علا على خلاف أبواب الملوك، لأن العادة جرت أن يتزين الناس باللباس الفاخر إذا قصدوا باب المخلوق ففرق بين بابه و باب غيره.

(و أيضا) من أهدى إلى الملوك ما ليس فى خزائنهم يكون أرفع قدرا، و ليس شى ء إلا و هو فى خزائن اللّه سوى الافتقار اللهم أغننا بالافتقار إليك، و لا تفقرنا بالاستغناء عنك يا رب العالمين.

(و منها) حديث أبى سلمة عن عبد اللّه بن عدى بن الحمراء قال رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على راحلته واقفا بالحزورة يقول: و اللّه إنك لخير أرض اللّه و أحب أرض اللّه إلى اللّه، و لو لا أنى أخرجت منك ما خرجت(1). و هو حديث حسن أخرجه أصحاب السنن و صححه جماعة منهم الترمذى، و زاد الإمام أحمد واقف بالحزورة فى سوق مكة، و قد دخل سوق مكة المذكور فى المسجد بعد ذلك.

و فى رواية أبى هريرة رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقف بالحزورة و قال: إنك لخير أرض اللّه، و أحب أرض اللّه عز و جل، و لو تركت فيك ما خرجت منك. و فى أخرى عنه:

و اللّه لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى اللّه و أكرمها على اللّه، و لو لا أن قومى أخرجونى الحديث.

و فى رواية ابن عباس ما سكنت غيرك. قال بعض العلماء: الظاهر أن هذه المقالة كانت منه صلى اللّه عليه و سلم فى عمرة القضية حين سألت قرش النبى صلى اللّه عليه و سلم أن يخرج من مكة بعد الثلاثة الأيام التى أقامها كما وقع الشرط. و لا يظن أحد أنه صلى اللّه عليه و سلم قال ذلك حال خروجه للهجرة إلى المدينة، لأنه لم يكن بهذه الصفة حين هاجر، و إنما كان خروجه إليها مستخفيا كما هو معلوم لا راكبا على راحلته، إذا لو كان كذلك لأشعر بسفره.

و فى «تاريخ الأزرقى» أنه صلى اللّه عليه و سلم قال ذلك عام الفتح، فيحمل على أنه قاله مرتين إذ لا تنافى، و يكون فيه من تعظيم مكة ما لا يخفى.

و الحزورة- بحاء مهملة مفتوحة وزاء معجمة- و عوام مكة يصحفونها و يقولون عزورة بعين مهملة- و الحزورة: هى الرابية الصغيرة جمعها حزاور، و كان عندها سوق الحناطين

ص: 141


1- 281. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 89.

بمكة قديما، و هى مخففة على وزن قسورة، و المحدثون يشددون الحزورة و الحديبية، و الصواب التخفيف كذا قال الشافعى و الدارقطنى.

و منها: حديث ابن الزبير رضى اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام، و صلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فى مسجدى» رواه أحمد.

قال ابن عبد البر فى «التمهيد» إنه ثابت لا يطعن فيه أن مضاعفة الصلاة بالمسجد الحرام على مسجد النبى صلى اللّه عليه و سلم بمائة مذهب عامة أهل الأثر. انتهى.

و ذهب الإمام مالك و جمهور أصحابه إلى تفضيل المدينة، و هو مذهب عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه و كثير من الصحابة و أكثر أهل المدينة، و استدلوا بقوله صلى اللّه عليه و سلم: ما بين قبرى و منبرى روضة من رياض الجنة، مع قوله صلى اللّه عليه و سلم: موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا و ما فيها.

قال ابن عبد البر: هذا استدلال بالخبر فى غير ما ورد فيه و لا يقاوم النص الوارد فى فضل مكة. ثم ساق حديث أبى سلمة عن ابن الحمراء المتقدم، و قال هذا نص فى محل الخلاف فلا ينبغى العدول عنه.

و أما الحديث المروى: اللهم إنك تعلم أنهم أخرجونى من أحب البلاد إلى فأسكنى أحب البلاد إليك. لا يختلف أهل العلم فى نكارته و وضعه، و سئل عنه الإمام مالك رضى اللّه عنه فقال لا يحل لأحد أن ينسب الكذب الباطل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. انتهى.

قال الطبرى: و على تقدير صحته فلا دلالة فيه لأن قوله فأسكنى فى أحب البلاد يدل سياقه فى العرف على أن المراد به بعد مكة، فان الإنسان لا يسأل ما أخرج منه فإنه قال:

أخرجونى فأسكنى فدل على إرادة غير المخرج منه فتكون مكة مسكوتا عنها انتهى.

و أما الحديث الذى فيه المدينة خير من مكة لا يرد، لأنه ضعيف بل قيل موضوع.

قال الجد رحمه اللّه: فإن قلت ورد فى الصحيحين عن أنس رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اللهم اجعل بالمدينة ضعفى ما بمكة من البركة، و دعوته صلى اللّه عليه و سلم مستجابة بلا شك، و فيهما أيضا أن الملائكة يحرسونها لا يدخلها الطاعون و لا الدجال.

ص: 142

قلت: هذه الأحاديث و نحوها تدل على فضيلة المدينة لا أفضليتها على مكة كما لا يخفى، و قوله صلى اللّه عليه و سلم اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، و فى رواية و أشد لا دلالة فيه أما على رواية أو أشد فظاهر لوجود الشك، و أما على رواية و أشد بدون ألف أو بها و تكون بمعنى الواو فلأن سؤاله صلى اللّه عليه و سلم حصول أشدية الحب للمدينة بعد وجود المانع من سكناه مكة تسلية عنها لا يلزم منه تفضيل المدينة على مكة بعد استحضار ما تقدم من قوله صلى اللّه عليه و سلم لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى اللّه و أكرمها على اللّه بشهادة التأمل. انتهى.

فصل

(و اعلم) أن جميع ما سبق من الفضل فيما قدمته محله فى غير الموضع الذى ضم أعضاء النبى صلى اللّه عليه و سلم أما محل قبره فقد نقل القاضى عياض رحمه اللّه فى «شرح مسلم» الإجماع على أنه أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة و أن الخلاف فيما سواه، و لقد أحسن و أبدع من قال فى المعنى:

جزم الجميع بأن خير الأرض ماقد حاط ذات المصطفى و حواها

و نعم لقد صدقوا بساكنها علت كالنفس حين زكت زكا مأواها

قال بعض المحققين و قياسه أن يقال: إن الكعبة الشريفة أفضل من سائر بقاع المدينة قطعا ما عدا موضع القبر الشريف.

تنبيه: روى ابن عبد البر فى «التمهيد» أن المرء يدفن فى البقعة التى أخذ منها ترابه عندما خلق. قال شيخ الإسلام ابن حجر: و على هذا فقد روى الزبير بن بكار أن جبريل أخذ التراب الذى خلق منه النبى صلى اللّه عليه و سلم من تراب الكعبة فعلى هذا فالبقعة التى ضمت أعضاءه صلى اللّه عليه و سلم من تراب الكعبة فرجع الفضل المذكور إلى مكة إن صح ذلك و اللّه أعلم.

انتهى.

قال بعض العلماء: يؤخذ من قولهم المرء يدفن فى البقعة التى أخذ منها ترابه أفضلية سيدنا أبى بكر و سيدنا عمر على بقية الصحابة لدفنهما بالقرب من النبى صلى اللّه عليه و سلم المقتضى لكون طينتهما التى خلقا منها من البقعة التى خلق منها النبى صلى اللّه عليه و سلم.

ص: 143

فائدة: قال ابن حزم التفضيل المذكور لمكة ثابت لعرفة أيضا و ان كانت من الحل.

فصل

اشارة

و اعلم أن لمكة أسماء كثيرة(1) قد ذكرها اللّه تعالى فى ثمانية مواضع من القرآن العزيز و كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. قال النووى رحمه اللّه: لا يعلم بلد أكثر اسما من مكة و المدينة لكونهما أفضل بقاع الأرض و ذلك لكثرة الصفات المقتضية للتسمية.

فالأول: مما فى التنزيل مكة، و ذلك فى سورة الفتح فى قوله بِبَطْنِ مَكَّةَ.

الثانى: بكة و ذلك فى سورة آل عمران قوله تعالى لَلَّذِي بِبَكَّةَ و اختلف فى هذين الاسمين هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين، فعن الضحاك و مجاهد أنهما بمعنى واحد.

و صححه ابن قتيبة محتجا بأن الباء تبدل من الميم كقولهم ضرب لازم و لازب و سبد رأسه و سمده إذا استأصله، و اختلف القائلون بالثانى فقيل بكة بالباء موضع البيت. قاله ابن عباس و إبراهيم النخعى، و قيل ما بين الجبلين قال عكرمة و قيل الكعبة و المسجد قاله الجوهرى و زيد بن أسلم و أما بالميم فقيل القرية، و قيل الحرم كله، و قيل ذى طوى، و قيل ما حوالى البيت و اختلف فى اشتقاقها، فقيل سميت مكة لأنها تمك الجبابرة أى تهلكهم و تذهب نخوتهم و أنشدوا فى معناه:

يا مكة الفاجر مكى مكاو لا تمكى مذحجا و عكا

و قيل إنها تمك الفاجر عنها أى تخرجه، و قيل إنها تجهد أهلها مأخوذ من قولهم تمككت العظم إذا أخرجت مخه، و التمكك الاستقصاء. و قيل لأنها تجذب الناس إليها من قول العرب امتك الفصيل ضرع أمه: إذا امتصه، و لم يبق فيه شيئا، و قيل لقلة مائها، و قيل لأنها تمك الذنوب أى تذهب بها و مكة لا تنصرف للعلمية و التأنيث. و أما بكة فقيل سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة أى تدقها ما قصدها جبار بسوء إلا قصمه اللّه و قيل لازدحام الناس فيها يبك بعضهم بعضا، أى يزحمه فى الطواف قاله ابن عباس، و قيل لأنها تضع من نخوة المتكبرين.

ص: 144


1- 282. ( 1) انظر فى ذلك: شفاء الغرام ج 1 ص 75 و ما بعدها، منائح الكرم ج 1 ص 213.

الثالث: البلدة و ذلك فى سورة النمل.

الرابع: البلد، و ذلك فى سورة لا أقسم و التين.

الخامس: القرية، و ذلك فى سورة النحل، و قد تقدم الكلام على هذه الآيات آنفا مستوفى.

السادس: أم القرى فى قوله تعالى فى سورة الشورى لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى الآية، و فى تسميتها بذلك أربعة أقوال: أحدها أن الأرض دحيت من تحتها قاله الحبر ابن عباس، و قال ابن قتيبة لأنها أقدم الأرض، ثانيها: لأنها قبلة يؤمها الناس، ثالثها: لأنها أعظم القرى شأنا. رابعها: لأن فيها بيت اللّه تعالى، و لما جرت العادة بأن الملك و بلده مقدمان على جميع الأماكن سميت أما لأن الأم متقدمة كذا فى القرى.

السابع: معاد بفتح الميم فى قوله تعالى فى سورة القصص إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أى مكة كما فى «صحيح البخارى» عن ابن عباس.

(الثامن) الوادى فى قوله تعالى فى سورة إبراهيم بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ المراد به مكة كما تقدم آنفا فى تفسير الكواشى و أما ما ذكر من أسماء مكة (فى غير القرآن) فكثير (من ذلك) تسميتها بالنّاسة بالنون و السين المهملة المشددة و معنى ذلك أنها تنس من ألحد فيها أى تطرده و تنفيه. ذكره النووى و غيره (و من ذلك) النسّاسة بالنون و تشديد السين الأولى- و المعنى فى ذلك كالمعنى فى الناسة، (و من ذلك) الحاطمة لحطمها الملحدين ذكره الأزرقى، (و من ذلك) صلاح- بصاد مهملة مفتوحة و حاء مهملة- و سميت بذلك منها، و قد جاء فى قول أبى سفيان بن حرب لابن الحضرمى(1):

أبا مطر هلمّ إلى صلاح فيكفيك الندامى من قريش

و تنزل بلدة عزت قديماو تأمن أن يزورك رب جيش

ص: 145


1- 283. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 80.

و هو مبنى على الكسر كحذام و قطام و ما وازنهما، و قد تصرف كما فى شعر أبى سفيان.

(و من) أسمائها (العرش) بعين مهملة مفتوحة وراء مهملة ساكنة ذكره ابن جماعة (و من) أسمائها (العريش) بزيادة ياء مثناة من تحت ذكره ابن جماعة أيضا و عزاه إلى قول ابن سيده(1).

(و من) أسمائها (القادس) نقله الفاسى عن صاحب المطالع، و هو مأخوذ من التقديس أى التطهير يعنى أنها تطهر من الذنوب(2).

و من أسمائها (المقدسة) ذكره النووى و غيره و المعنى فيه كما فى الذى قبله.

و من أسمائها (القادسة) ذكره العز بن جماعة و لم يعزه (أقول): و يكون المعنى و اللّه أعلم الطاهرة، على حد الاسمين المتقدمين لمادة الاشتقاق اللغوى. انتهى.

و من أسمائها (كوثى) ذكره الأزرقى(3) عن مجاهد. و نقله السهيلى أيضا فى روضه و كذا صاحب المطالع إلا أنه قال: باسم بقعة منها منزل بنى عبد الدار. و أفاد الفاسى عن الفاكهى أن كوثى فى ناحية قعيقعان. و قيل: إن كوثى جبل بمنى. و هى: بكاف مضمومة و ثاء مثلثة(4).

و من أسمائها (الحرم) بحاء وراء مهملتين.

و من أسمائها (برة).

و من أسمائها (المسجد الحرام).

و من أسمائها (المعطشة) ذكر هذه الأربعة العلامة ابن خليل فى «منسكه» فأما برة و المعطشة فلم يعزهما و لم يذكر لهما معنى. و فى القرآن العظيم ما يشهد لتسميتها بالمسجد الحرام كما نقله المرجانى عن ابن مسدى (أقول): و لعله أراد قوله تعالى فى سورة الفتح لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ الآية (سورة الفتح: 27) فإن المراد مكة كما ذكره المفسرون و اللّه الموفق.

ص: 146


1- 284. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 80.
2- 285. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 80.
3- 286. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 281.
4- 287. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 80.

و من أسمائها (الرتاج)- براء مهملة و تاء مثناة من فوق و ألف ثم جيم- نقله المحب الطبرى فى «شرح التنبيه» حسبما ذكره ابن جماعة.

و من أسمائها (أم رحم)- براء مهملة مضمومة- كذا حكى عن مجاهد لأن الناس يتراحمون فيها و يتوادعون.

و من أسمائها (أم زحم) بزاى معجمة من الازدحام. نقله الفاسى عن الرشاطى رحمهما اللّه(1).

و من أسمائها (أم صبح(2)) و من أسمائها (أم روح) ذكرهما ابن الأثير فى كتابه «المرصع».

و من أسمائها (بساق) ذكره ابن رشيق فى «العمدة» مستدلا بشعر لأميّة بن حرثان(3).

و قيل إن بساق بلدة بالحجاز و هو بباء موحدة و سين مهملة و ألف و قاف.

و من أسمائها (البيت العتيق) ذكره الأزرقى(4) و غيره.

قال الفاسى: و لعل ذلك من تسمية الكل باسم البعض، و هو مجاز شائع، لكن يرد على ذلك تسمية مكة بأسماء الكعبة كلها إذا لحظ هذا المعنى(5). انتهى.

(أقول): على هذا يكون لمكة فى القرآن عشرة أسماء بل و أكثر عند التتبع و التدبير فتأمل و اللّه الموفق.

و من أسمائها (الرأس) ذكره النووى و السهيلى و غيرهما. و المعنى أنها أشرف الأرض كرأس الإنسان فإنه أشرف أعضائه.

ص: 147


1- 288. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 81.
2- 289. ( 2) تحرف فى المطبوع إلى:« أم صح» و صوابه لدى الفاسى.
3- 290. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى:« حرتاه» و صوابه لدى الفاسى، و الشعر هو: سأستعدى على الفاروق ربّاله عمد الحجيج إلى بساق
4- 291. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 280.
5- 292. ( 5) شفاء الغرام ج 1 ص 82.

و من أسمائها (المكتان) ذكره الفاسى عن شيخه بالإجازة برهان الدين القيراطى ثم قال: و لعله أخذ ذلك من قول ورقة بن نوقل الأسدى:

ببطن المكتين على رجائى حديثك أن رأى منه خروجا(1)

قال السهيلى بعد أن ذكر هذا البيت: ثنى مكة و هى واحدة لأن لها بطاحا و ظواهر، و إنما مقصد العرب فى هذه الإشارة إلى جانبى كل بلدة، أو الإشارة إلى أعلى البلد و أسفلها فيجعلونها اثنتين على هذا المعنى، انتهى(2).

و من شعر عبد اللّه بن سعد بن أبى سرح القرشى فى حصار عثمان بن عفان رضى اللّه عنه:

أرى الأمر لا يزداد إلا تفاقماو أنصارنا بالمكتين قليل

و أسلمنا أهل المدينة و الهوى إلى أهل مصر و الذليل ذليل(3)

و من أسمائها (النابية) بالنون و الموحدة ذكره الشيخ عماد الدين ابن كثير فى «تفسيره»(4).

و من أسمائها (أم الرحمن(5)) و من أسمائها (أم كوثى) ذكرهما المرجانى و عزا بالأول إلى ابن العربى و لم يعز الثانى و لم يذكر له معنى(6).

و من أسمائها (الباسة)- بالباء الموحدة و السين المهملة- لأنها تبس الملحد فيها أى تهلكه من قوله تعالى وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا و من أسمائها (النساسة) لأنها تنس الملحد أى تطرده، و قيل لقلة مائها و النس اليبس ذكرهما ابن جماعة.

و من أسمائها (الناشة)(7) بالنون و الشين المعجمة.

(و البساسة)- بموحدة و سينين مهملتين بينهما ألف- و المعنى فيه ظاهر.

ص: 148


1- 293. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 82.
2- 294. ( 2) نقله الفاسى فى الشفاء ج 1 ص 83.
3- 295. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 83.
4- 296. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 83.
5- 297. ( 5) فى المطبوع:« أم الرحمة» و المثبت رواية د، و الفاسى و السنجارى.
6- 298. ( 6) شفاء الغرام ج 1 ص 83.
7- 299. ( 7) تحرف فى المطبوع إلى:« الناشتة».

(و طيبة) لطيبها.

(و سبوحة و السلام و العذارء و نادرة و العرش) بضم العين و الراء المهملتين بعدهما شين معجمة (و العروش) بزيادة واو (و الحرمة) بضم الحاء المهملة (و الحرمة) بكسرها (و العروض و السيل و مخرج صدق و قرية الحمس و أم راحم) و المعنى ما تقدم فى أم رحم (و قرية النمل و نقرة الغراب) و الحمس: قريش فهذه ثمانية عشر اسما ذكرها العلامة مجد الدين الشيرازى مع ذكر غيرها أيضا مما تقدم و مما سأتى مما ذكره غيره(1).

و من أراد الوقوف على اشتقاق كل اسم مع ذكر شواهده و فوائده فليراجع «شرح صحيح البخارى» للقاضى مجد الدين المذكور إن وجده.

قال الفاسى رحمه اللّه قلت: قرية النمل و نقرة الغراب علامتان لموضع زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها، و عدّهما بعضهم اسمين مجازا. فإن كان شيخنا مجد الدين لحظ كونهما اسمين لزمزم و سمى بهما مكة من باب تسمية الكل باسم البعض و هو مجاز شائع فيصح على هذا أن يذكر فى أسماء مكة الصفا و المروة و الحزورة و غير ذلك من المواضع المشهورة بمكة، و قوله و قرية الحمس إن كان لحظ فى تسميته مكة بذلك أن الحمس كانوا سكان مكة فيصح على هذا أن يذكر فى أسماء مكة قرية العمالقة و قرية جرهم لكونهم كانوا سكان مكة قبل الحمس، اللهم إلا أن تكون تسمية مكة بقرية النمل و نقرة الغراب و قرية الحمس منقولة عن أهل اللغة، فلا يقاس عليه غيره، و اللّه أعلم. انتهى ما قاله الفاسى(2).

أقول: و هو كلام عظيم و بحث عظيم مستقيم لكن فى تسمية مكة بقرية الحمس الذين هم قريش دون من ذكر من العمالقة و جرهم و غيرهم من سكانها قبلهم أوفى دليل على فضل قريش و مزيد شرفهم و ذلك لتميزهم بكونهم أهل اللّه. و تسميتهم بذلك و هم فى حال الشرك لما ورد فى حقهم من الآيات و الأحاديث و الأخبار التى ستقف عليها فيما سيأتى مفصلا فى محله. إن شاء اللّه تعالى، و كيف و منهم سيد البشر محمد صلى اللّه عليه و سلم انتهى.

و من أسماء مكة أيضا: (البنيّة و فاران) ذكرهما ياقوت الحموى.

ص: 149


1- 300. ( 1) انظر فى ذلك: شفاء الغرام ج 1 ص 75 و ما بعدها.
2- 301. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 76.

و قد نظم القاضى أبو البقاء ابن الضياء الحنفى رحمه اللّه سبعة أبيات جمع فيها من أسماء مكة نحو ثلاثين اسما و هى:

لمكة أسماء ثلاثون عدّدت و من بعد ذاك اثنان منها اسم مكة

صلاح و كوثى و الحرام و قادس و حاطمة البلد العريش بقرية

و معطشة أم القرى رحم ناسّةو نساسة رأس بفتح لهمزة

مقدسة و القادسة ناشةو رأس و تاج أم كوثى كبرة

سبّوحة عرش أم رحمن عرشناكذا حرم البلد الأمين كبلدة

كذاك اسمها البلد الحرام لأمنهاو بالمسجد الأسنى الحرام تسمّت

و ما كثرة الأسماء إلا لفضلهاحباها بها الرحمن من أجل كعبة(1)

و ما أحسن ما أنشده بعض العلماء على لسان حال النبى صلى اللّه عليه و سلم فى مكة شرفها اللّه تعالى.

أحب بلاد اللّه ما بين منهج إلى و سلمى أن تصوب سحابها

بلاد بها نيطت علىّ تمائمى و أول أرض مسّ جلدى ترابها

و لبعضهم من قصيدة طويلة فى المفاخرة بين مكة و المدينة:

لمكة مجد باذخ الركن و القنن و فضل منيف باسق الدوح و الفنن

و مكة فيها كعبة الحسن كله و زينها فى خدها خالها الحسن

و مكة للمختار مسقط رأسه و كان له فيها احتضان لمن حضن

و فى مكة منشا أبيه و جده و أعمامه و الأصل و الفرع و الشجن

و فى مكة و افاه جبريل أولاو كلمه بالوحى فى السر و العلن

ص: 150


1- 302. ( 1) منائح الكرم ج 1 ص 214 و 215.

و فى مكة كانت مبادى كلامه و إنزاله القرآن و الخير فى قرن

و فى مكة أبدى الهدى نور وجهه و كانت بها من قبل بشرى ابن ذى يزن

و فى مكة أسرى به اللّه ربه و طاف به السبع السموات فى سنن

و فى مكة فتح مبين تنزلت به سورة بانت بفضل لها أبن

و فى مكة كانت ولادة نسله و ما أنجبت منه خديجة فى الحجن

و فى مكة موطى الخليل و داره و زمزمه و الحجر و المنزل الأغن

و هى طويلة و هذا بعض منها يستدل به على المراد.

فائدة: إذا كتب بدم المرعوف على جبينه: مكة وسط الدنيا و اللّه رءوف بالعباد انقطع الدم.

(و من خصائص مكة شرفها اللّه تعالى) أن من واظب فيها على أكل اللحم و شرب الماء فقط لم يضر ذلك باطنه، و فى غيرها يحصل منه الضرر. أخرجه الأزرقى.

(فرع) اختلف العلماء فى المجاورة بمكة المشرفة: فذهب إمامنا أبو حنيفة رضى اللّه عنه و طائفة من العلماء منهم ابن رشد من المالكية و القاضى أبو الطيب من الشافعية إلى كراهة المقام بها لأسباب ثلاثة:

أحدها: خوف التقصير فى حرمتها و التبرم إذ ملازمة المكان تفضى إلى قلة المهابة و التعظيم و لذلك كان عمر رضى اللّه عنه يأمر الحاج بالرجوع إلى أوطانهم.

الثانى: تهيج الشوق بالمفارقة لتنبعث داعية العود كما قال بعض العلماء لأن تكون فى بلد و قلبك مشتاق إلى مكة خير لك من أن تكون فيها و أنت متبرم بالمقام و قبلك فى بلد آخر.

الثالث: الخوف من ارتكاب الخطايا بها فإن ذلك محظور كبير. و مع ذلك فلا يظن أحد أن كراهة المقام بمكة يناقض فضل الكعبة لأن هذه كراهة سببها ضعف الخلق عن القيام بحقوق اللّه تعالى كذا قاله الغزالى.

ص: 151

و عن عمر رضى اللّه عنه أنه قال: لخطيئة أصيبها بمكة أعز على من سبعين خطيئة بغيرها.

و ذهب الشافعى و أحمد و غيرهما من العلماء منهم أبو يوسف و محمد من أصحابنا و ابن القاسم من المالكية إلى استحباب المجاورة بها لما يحصل فيها من الطاعات التى لا تحصل فى غيرها و تضعيف الصلوات و الحسنات و غير ذلك و الفتوى عندنا على قول الصاحبين كما صرح به الفارسى فى منسكه عن المبسوط و الدليل على الاستحباب ما تقدم من حديث أبى الحمراء و قول عائشة فلا نعيده.

فائدة: قال ابن الجوزى فى «مثير العزم» بلغ عدة من استوطن مكة من الصحابة أربعة و خمسين رجلا و من التابعين جماعة كثيرة. و قد جاور بها عبد اللّه بن عمر و جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه.

تنبيهان:

الأول: ما تقدم من الكلام محله فى المجاورة فقط من غير سكنى، و أما السكنى و الانقطاع فهو بالمدينة أفضل، و يشهد له ما ثبت من حديث ابن عمر أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال:

لا يصبر على لأوائها و شدتها أحد إلا كنت له شفيعا و شهيدا يوم القيامة. و فى الصحيحين:

اللهم حبب إلينا المدنية كحبنا مكة و أشد، و صححها و بارك لنا فى صاعها و مدها و انقل حماها إلى الجحفة. و هى رابغ، و لم يرد فى سكنى مكة شى ء من ذلك بل كرهه جماعة من العلماء كما سبق.

الثانى: روى عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: من مات بالمدينة كنت له شفيعا يوم القيامة. و فى الترمذى من حديث عمر مرفوعا: من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإنى أشفع لمن يموت بها. فالموت حينئذ بالمدينة الشريفة أفضل من الموت بمكة لهذه الأحاديث، و لأنه من لازم أفضلية السكنى بها على السكنى بمكة المشرفة، و إن كان قد ورد ما يقتضى أن الموت بمكة فيه فضل عظيم كذا فى «منسك» الجد نور اللّه ضريحه، و اللّه تعالى أعلم.

ص: 152

الباب السابع فى فضل الحرم و حرمته و المسجد الحرام و زيادة الثواب للعامل فيه على غيره و تضعيفه و ذكر شى ء من خبر عمارته و توسعته

اشارة

قال اللّه تعالى: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً الآية، و قد تقدم الكلام على أول هذه الآية فى الباب الخامس.

لطيفة: قال النسفى: و إسناد الأمن المذكور إلى أهل الحرم حقيقة و إلى الحرم و مجاز، و قال اللّه تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا يعنى أهل مكة أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً الآية.

(و اعلم) أن حرم مكة المذكور هو ما أحاط بها من جوانبه، و قد جعل اللّه حكمه حكم مكة تشريفا لها، (و فى سبب) كون هذا القدر المخصوص حرما. أقوال: فقيل: إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض خاف على نفسه من سكان الأرض، و هم يومئذ الجن و الشياطين، فبعث اللّه ملائكة يحرسونه فوقفوا فى موضع أنصاب الحرم من كل جانب، فصار ما بينه و بين موقف الملائكة حرما، و قيل: إن الحجر الأسود لما وضعه الخليل عليه السلام فى الكعبة حين بناها أضاء يمينا و شمالا و شرقا و غربا فحرم اللّه عز و جل من حيث انتهى النور. و قيل: أهبط اللّه البيت إلى آدم، و هو من ياقوتة حمراء تلتهب التهابا، و له بابان شرقى و غربى، فأضاء نوره ما بين المشرق و المغرب ففزع لذلك سكان الأرض ورقوا فى الجو ينظرون من أين ذلك النور، فلما رأوه من مكة أقبلوا إليه فأرسل اللّه حينئذ الملائكة فقاموا فى مكان الأنصاب فمنعتهم، فمن ثم ابتدأ اسم الحرم، و قيل غير ذلك.

(و أول) من نصب أنصاب الحرم إبراهيم الخليل بتوقيف جبريل عليه السلام، ثم جددها قصىّ بن كلاب بعد ذلك. و قيل بل جددها إسماعيل عليه السلام بعد أبيه ثم قصى بعده. و قيل: إن أول من نصبها عدنان بن أد حين خاف أن يدرس الحرم ثم نزعتها قريش بعد ذلك و النبى صلى اللّه عليه و سلم إذ ذاك بمكة قبل هجرته فاشتد ذلك عليه، فجاءه جبريل عليه السلام و أخبره أنهم سيعيدونها فرأى عدة من قريش فى المنام كأن قائلا يقول: حرم أعزكم

ص: 153

اللّه به و منعكم، نزعتم أنصابه! الآن تتخطفكم العرب فأعادوها، فأخبر جبريل عليه السلام النبى صلى اللّه عليه و سلم بذلك، فقال له صلى اللّه عليه و سلم هل أصابوا فى ذلك، فقال جبريل عليه السلام: ما وضعوا نصبا إلا بيد ملك، ثم جددت عام الفتح بأمره صلى اللّه عليه و سلم، و جددت أيضا فى زمن عمر و عثمان و معاوية و عبد الملك بن مروان و المهدى العباسى(1).

و اختلف العلماء فى مكة و حرمها هل صار آمنا بسؤال الخليل عليه السلام؟ أم كان ذلك منذ خلق اللّه السموات و الأرض. الصحيح الثانى، و يشهد له ما رواه ابن عباس رضى اللّه عنهما أن النبى صلى اللّه عليه و سلم خطب يوم فتح مكة فقال: إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات و الأرض و إنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلى، و لم يحل لى إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة اللّه تعالى إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، و لا ينفر صيده و لا يلتقط لقطته إلا من عرّفها، و لا يختلى خلاه إلى آخر ما قاله صلى اللّه عليه و سلم فقال العباس: يا رسول اللّه، إلا الإذخر(2)، فإنه لقينهم و لبيوتهم(3)، فقال: إلا الإذخر(4). متفق عليه، و ورد فى لفظ فى الصحيحين و لا يعضد شجرها، يعنى مكة و المراد الحرم.

سؤال: إن قيل قد ثبت عنه صلى اللّه عليه و سلم إن إبراهيم حرم مكة و إنى حرمت المدينة فهذا تصريح بتحريم الخليل عليه السلام. أجيب عنه بأن إبراهيم عليه السلام إنما أظهر حكم التحريم بعد أن كان مهجورا و سببه أن الطوفان لما وقع اندرس البيت الشريف و نسى ذلك الحكم و هجر، و الذى تجدد بسؤال إبراهيم هو أن يجعله آمنا من الجدب و القحط و أن يرزق أهله من الثمرات. و العضد فيما تقدم القطع، و المراد من تنفير صيده أن لا يصاح عليه فينفر.

ص: 154


1- 303. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 86.
2- 304. ( 2) الإذخر: نبات عشبى، من فصيلة النجيليات، و له رائحة ليمونية عطرة، و أزهاره تستعمل منقوعا كالشاى، و يقال له أيضا: طيب العرب، و الإذخر المكى من الفصيلة نفسها، جذوره من الأفاويه، ينبت فى السهول و فى المواضع الجافة الحارة، و يقال له أيضا: حلفاء مكة.
3- 305. ( 3) لقينهم و لبيوتهم: القين: هو الحداد و الصائغ، و معناه يحتاج إليه القين فى وقود النار، و يحتاج إليه فى القبور لتسدّ به فرج اللحد المتخللة بين اللبنات، و يحتاج إليه فى سقوف البيت، يجعل فوق الخشب.
4- 306. ( 4) أخرجه مسلم: كتاب الحج: باب تحريم مكة و صيدها و خلاها ... ج 2 ص 423 و انظر لذلك أيضا: شفاء الغرام ج 1 ص 108.

أقول: إذا كان المراد من التنفير ما ذكر فمن باب أولى أن لا يضرب بعصا و حجر و نحوهما كما يفعله كثير من الناس لتأذيه بذلك أكثر و يستفاد من ذكر الصيد العموم، سواء كان من الحمام القاطن بمكة أو من غيره مما يدخل من الحل إليها، لأنه بالدخول استفاد الأمن كما صرح به علماؤنا فى فروعهم. انتهى.

و عن عكرمة، تنفير الصيد: أن تنحيه من الظل و تنزل مكانه. و الخلا- بفتح الخاء و القصر: الحشيش إذا كان رطبا فإذا يبس فهو حشيش و هشيم، و الاختلاء القطع أيضا، و الإذخر نبت طيب الريح معروف عند أهل مكة. و فى حكم الإذخر: السنا و نحوه مما يحتاج إليه.

أقول: لقائل أن يقول: هذا إذا كان ما يحتاج إليه من الإذخر و نحوه لا ينبت إلا فى الحرم فقط، و أما إذا نبت فيه و فى الحل فينبغى أن يترك ما فى الحرم و يؤخذ مما فى الحل امتثالا للحديث و عملا بمقتضاه، و إن كان فى ذلك مشقة، لأنه حينئذ يكون أخذا بالعزيمة و الاسثناء فى الحديث للرخصة. انتهى.

و القين: الحداد لأنه يحتاج إليه فى عمل النار و احتياج البيوت لأجل السقوف و استثناؤه صلى اللّه عليه و سلم على الفور. تمسك به من الأصوليين من يقول بجواز الاجتهاد منه صلى اللّه عليه و سلم أو تفويض الحكم إليه. ثم قيل إن السبب فى سؤال العباس رضى اللّه عنه كونه من أهل مكة، و قد علم أنه لا بد لهم منه.

أقول: غير العباس من قريش من أهل مكة أيضا و لم يسأل، فإما لكونه لم يعلم أنهم لم يستغنوا عنه أو يكون ترك ذلك تأدبا مع العباس لمكانته و فضله و قربه منه صلى اللّه عليه و سلم فتأمل انتهى.

قال شيخ الاسلام ابن حجر رحمه اللّه فى «فتح البارى» ناقلا عن ابن التين: و الحق أن سؤال العباس كان على وجه الضراعة، و ترخيص النبى صلى اللّه عليه و سلم كان تبليغا عن اللّه إما بطريق الوحى أو الإلهام، و من ادعى أن نزول الوحى يحتاج إلى أمد متسع فقد وهم.

انتهى.

ص: 155

فصل

و اعلم أن لهذا الحرم الشريف فضائل كثيرة و خصائص حميدة شهيرة تدل على شرفه و فضله و خيره و يمتاز بها على كثير من البلاد غيره.

فمن فضائله: ما روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال: كانت الأنبياء عليهم السلام يدخلون الحرم مشاة حفاة و عنه أيضا أنه قال: حج الحواريون فلما بلغوا الحرم، مشوا تعظيما له.

و عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: لما عقر ثمود الناقة و أخذتهم الصيحة لم يبق منهم أحد إلا رجلا واحدا كان فى حرم اللّه عز و جل فمنعه الحرم، فقالوا:

من هو يا رسول اللّه؟ فقال: أبو رغال أبو ثقيف. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه(1). رواه مسلم.

و رغال- بالغين المعجمة- و قوله: أبو ثقيف يعنى جدهم، و نقل الزمخشرى أن النبى صالحا عليه السلام وجه أبا رغال على صدقات فأساء السيرة فقتله ثقيف، و هو الذى يرجم قبره بمكة. و قيل: إنه دليل أبرهة إلى البيت. انتهى.

و يقال: إن قبره بالمغمس باق إلى الآن و اللّه أعلم. و روى أنه صلى اللّه عليه و سلم لما كان بمكة إذا أراد قضاء حاجته يخرج إلى المغمس.

و نقل عن الشيخ أبى عمرو الزّجاجىّ أحد مشايخ الصوفية المشهورين، أنه أقام أربعين سنة بمكة لم يبل و لم يتغوط فى الحرم(2). و أما خصائص الحرم المطهر فتجل عن الحصر.

و منها: أنه لا يدخله أحد إلا بإحرام. و هل ذلك واجب أو مستحب؟ فيه خلاف بين الأئمة رضى اللّه عنهم. و الوجوب مذهبنا.

و منها: تحريم صيده على جميع الناس، سواء فى ذلك أهل الحرم و غيرهم و سواء

ص: 156


1- 307. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 116.
2- 308. ( 2) طبقات الصوفية للسلمى ص 431.

المحرم منهم و الحلال. بل يجب عندنا إرسال صيد الحل إذا دخل الحرم لاستفادته الأمن بدخوله، و إن ذبح حرم أكله.

و منها: تحريم قطع شجره و حشيشه كما تقدم فى خطبة الفتح.

و منها: أن من دان بغير دين الإسلام منع من دخوله مقيما كان أو مارا كما هو مذهب الشافعى رحمه اللّه تعالى و جمهور الفقهاء، ما عدا إمامنا أبا حنيفة رضى اللّه عنه و رحمه فإنه جوز ذلك لمن لم يستوطن.

و منها: أن لقطته لا تحل لتملك، و إنما تحل لمنشد و هذا مذهب الشافعى رضى اللّه عنه و أرضاه و عند الأئمة الثلاثة أن حكم لقطة الحرم كغيره من البلاد. و المذهب عندنا أنها تحل للمعرف بعد سنة. و المراد بالمنشد عندنا: المعرف. و عند الشافعى المالك.

و منها: تحريم دفن المشرك فيه و لو دفن ينبش ما لم يعلم تفسخه.

و منها: تغليظ الدية بالقتل فيه بزيادة ثلثها سواء كان القتل عمدا أو خطأ عند الشافعية و الحنابلة كما نقله ابن جماعة فى «منسكه». قال الفاسى: و فيما نقله عن الشافعية نظر، لأن الصحيح عندهم أن التغليظ باعتبار التثليث بأن يكون ثلاثين حقة و ثلاثين جذعة و أربعين خلفة، و هذا لا يفهم مما نقله ابن جماعة(1). و اللّه أعلم.

و منها: تحريم إخراج أحجاره و ترابه إلى الحل سواء قل أو كثر كما هو مذهب الشافعى و عندنا إنما يحرم إخراج الكثير من ذلك المؤدى إلى التخريب، و أما إخراج القدر اليسير للتبرك فلا بأس به. و يكره إدخال ذلك من الحل إليه لئلا يحدث لها حرمة لم تكن له.

و منها: أن ذبح دماء الهدايا و الجبرانات مختص به و لا يجوز فى غيره.

و منها: أن المتمتع و القارن إذا كانا من أهله لا دم عليهما عند مالك و الشافعى و أكثر العلماء، لكونهما من حاضرى المسجد الحرام، و هذا بناء على جواز ذلك من أهل الحرم خلافا لمذهبنا.

و منها: أن الصلاة النافلة التى لا سبب لها لا تكره فى وقت من الأوقات سواء فى ذلك مكة و سائر الحرم، بخلاف خارج الحرم فإنها هناك مكروهة و هو مذهب الشافعى، و خالف

ص: 157


1- 309. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 112.

أصحابنا فى ذلك و أطلقوا الكراهة. و استدل الشافعى رحمه اللّه بما رواه جبير بن مطعم عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: يا بنى عبد مناف لا تمنعوا أحد يصلى عند هذا البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار(1). أخرجه الدارقطنى.

و جوز البيهقى فى المراد بالصلاة احتمالين: أحدهما أن يكون المراد بالصلاة صلاة الطواف خاصة قال: و هو الأشبه بالآثار. و الاحتمال الآخر أن يكون المراد جميع الصلوات. قال ابن جماعة: و لفظ حديث الدارقطنى يرد الاحتمال الأول الذى ذكره البيهقى و فيه بعد. و منع بعضهم الاستدلال بهذا الحديث لعموم النهى كما هو مذهبنا.

و مذهب المالكية و اللّه أعلم أنه أشبه بالآثار و تأول بعضهم الصلاة على الدعاء.

و منها: أن الإنسان إذا نذر قصده لزمه الذهاب إليه بحج أو عمرة كما هو مذهب الشافعى و الإمامين أبى يوسف و محمد من أصحابنا، بخلاف غيره من المساجد فإنه لا يجب الذهاب إليه إذا نذره إلا مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و المسجد الأقصى على الأصح عند النووى، و فيه خلاف بين العلماء.

و منها: تضعيف الأجر فى الصلاة بمكة و كذا سائر الحرم كما رجحه جماعة من أهل العلم، و حكم سائر أنواع الطاعات فى التضعيف حكم الصلاة و ستقف عليه قريبا إن شاء اللّه تعالى.

و منها: إذا نذر أن ينحر بمكة لزمه النحر بها و التصدق باللحم على مساكين الحرم فقط عند الشافعى. و عندنا يجوز على غيرهم أيضا، و قد تقدم. و لو نذر ذلك فى بلد آخر لم يصح نذره على الراجح.

و منها: تضاعف السيئة به كما نقله المحب الطبرى فى «القرى» عن مجاهد و أحمد بن حنبل، و كذلك نقل عن غيرهما من العلماء. و الصحيح من مذاهب العلماء أن السيئة بالحرم كغيره.

و منها: أن المقيم بالحرم لا يجوز له إحرام الحج إلا منه.

و منها: أن المستحب لأهل مكة أن يصلوا العيد فى المسجد الحرام لا فى الصحراء

ص: 158


1- 310. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 110.

بخلاف غيرهم، و ذلك لفضيلة البقعة و مشاهدة الكعبة. و ذهب جماعة من العلماء منهم الغزالى إلى أن حكم المسجد الأقصى فى ذلك كمسجد مكة. و مال النووى إلى خلاف ذلك. قال لم يتعرض الجمهور له و ظاهر إطلاقهم أنه كغيره.

و منها: أن الإنسان يؤاخذ بهمه بالسيئة بالحرم و إن كان بعيدا عنه كما يروى من حديث عبد اللّه بن مسعود فى قوله عز و جل وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ الآية، أنه قال: لو أن رجلا هم فيه بإلحاد و هو بعدن أبين لأذاقه اللّه عز و جل عذابا أليما، و وجه اختصاص الحرم بهذا الحكم أن غيره من البلاد إذا هم الإنسان فيه بسيئة لا يؤاخذ بها إلا إذا عملها كما هو موجب حديث ابن عباس رضى اللّه عنه صلى اللّه عليه و سلم فيما يرويه عن ربه عز و جل فى كتابة الحسنات و السيئات، و إن هم بسيئة فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسنة كاملة و إن هم بها فعملها كتبها اللّه سيئة واحدة، و هذا الحديث فى الصحيحين و ظاهره يقتضى عموم البلاد فى حق هذا الحكم فيدخل الحرم فى ذلك لكن حديث ابن مسعود المتقدم آنفا يخص الحرم و اللّه أعلم.

و منها: وجوب قصده فى كل سنة على طائفة من الناس لإقامة فريضة الحج.

و منها: اختصاص حمام مكة فى الجزاء بشاة من غير حكم إذا أصيب فى الحرم كما هو مذهب مالك و الشافعى رحمهما اللّه تعالى.

و منها: أن الجارح يتبع الصيد فإذا دخل الحرم تركه. كذا نقله ابن الحاج عن بعض المفسرين.

و منها: أن أهل الحرم لا يقاتلون إذا بغوا فيه عند بعض العلماء لكن يضيق عليهم حتى يكفوا عن ذلك و قال القفال من الشافعية أنه يمتنع أيضا قتال الكفار بالحرم إذا تحصنوا فيه و هو مقتضى مذهب مالك رحمه اللّه نص عليه ابن الحاجب فى مختصره و ذهب أكثر العلماء إلى جواز قتال الكفار و البغاة بمكة تقديما لحق اللّه تعالى كما صححه النووى، و أجابوا عن الأحاديث الصحيحة الواردة فى تحريم القتال بمكة بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم بما يعم كالمنجنيق و شبهه إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا

ص: 159

تحصن كفار فى بلد آخر، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه بكل شى ء. و ذكر أن الشافعى رحمه اللّه نص على هذا التأويل.

و منها: عند إمامنا أبى حنيفة أن القاتل عمدا و الزانى المحصن و الحربى الذى بغير أمان إذا لجأوا إلى الحرم لا يقتل الأول، و الثالث و لا يقام الحد على الثانى ما داموا فى الحرم، بل يضيق عليهن حتى يخرجوا منه و يستوفى من كل ما وجب عليه. و هذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد و مذهب مالك و الشافعى أن الحرم لا يمنع من استيفاء القصاص و الحد.

و منها: على ما قال ابن الصلاح من الشافعية لا يجوز أخذ شى ء من مساويك الحرم.

و ذكر ابن الحاج من المالكية أنه يجوز.

و منها: أن المستنجى بحجارة الحرم مسى ء و يجزئه ذلك قاله الماوردى.

و منها: أنه لا يحل حمل السلاح بالحرم لغير ضرورة عند مالك و الشافعى لما رواه جابر فى الصحيحين.

و منها: أن اللّه تبارك و تعالى أوجب على أهلها التوسعة على الحجيج إذا قدموا مكة و أن لا يأخذوا منهم أجرا على نزولهم فى مساكنها كما هو مفهوم كلام ابن عساكر فى فضل منى. و فى كلام السهيلى ما يقويه أيضا.

و منها: أنه يمتنع على المهاجر منها الإقامة بها إلا ثلاثة أيام بعد الصدر كما هو معنى ما رواه ابن الحضرمى عن النبى صلى اللّه عليه و سلم.

و منها: أن الطاعون و الدجال لا يدخلان الحرم و لا المدينة الشريفة كما ذكره الحافظ عمر بن شبة فى «أخبار مكة» و استدل بحديث ورد فى ذلك نقله العلامة ابن حجر فى فتح البارى. و ذكر أن رجاله رجال الصحيح ثم قال: و على هذا فالذى نقل أنه وجد فى سنة تسع و أربعين و سبعمائة ليس كما ظن من نقل ذلك أو يجاب إن تحقق ذلك بجواب القرطبى و هو أن لا يدخلها من الطاعون مثل الذى فى غيرها كطاعون عمواس و الجارف، و هو جواب صالح على تقدير التنزل أن لو وقع شى ء من ذلك بها. انتهى.

و منها: أن سيل الحل لا يدخل الحرم و إنما يخرج من الحرم إلى الحل، و إذا انتهى سيل الحل إلى الحرم وقف.

ص: 160

و منها: أيضا خصال خمس تتعلق بمنى:

الأولى: أن حصى الجمار على كثرته و تزايده فى كل عام يمتحق و يرى على قدر واحد و قد ورد أن ما تقبل رفع و لو لا ذلك لصار ركاما.

الثانية: أن اللحوم فى أيام متى تشرق و توضع على الجدران و على صخرات الجبال و أسطحة البيوت و هى محروسة بحراسة اللّه تعالى من خطف الطيور، و قد شوهد أن الحدأة إذا رأت شيئا أحمر بيد إنسان أو على رأسه انقضت عليه لكى تخطفه و هى تحوم على تلك اللحوم لا تستطيع أن ترزأ منها شيئا. و قيل: إنما سميت أيام التشريق لهذا المعنى.

الثالثة: أن الذباب فى أيام منى لا يقع على الطعام بل يؤكل العسل و نحوه فلا يقع فيه، بل قل أن يحوم عليه هذا مع كثرة العفونات الجالبة لكثرة الذباب فإذا انقضت تلك الأيام تهافت الذباب على ذلك حتى لا يطيب للطاعم طعام و فى ذلك عبرة.

الرابعة: اتساعها للحجيج. روى أبو الدرداء رضى اللّه عنه قال: قلنا يا رسول اللّه إن أمر منى لعجيب هى ضيقة فإذا نزلها الناس اتسعت، فقال النبى صلى اللّه عليه و سلم: إنما مثل منى كالرحم إذا حملت وسعها اللّه تعالى.

الخامس: أن البعوض تكون كثيرة بمنى فى طول السنة إلا فى أيام الموسم فإنها تقل فيها جدا. ذكره أبو سعيد فى «الوفا».

أقول: بل لعل البعوض لا يوجد فى أيام الموسم بمنى، و إن وجد القليل منه فلا يؤذى و قد جربت ذلك و اللّه الموفق.

فصل

اشارة

و أما المسجد الحرام فاعلم أن له أربعة استعمالات:

أحدها: نفس الكعبة لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.

الثانى: الكعبة و ما حولها من المسجد. قال النووى: و هو الغالب، و استدل له بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إذ المراد به نفس المسجد فى قول أنس بن مالك رضى اللّه عنه و رجحه الطبرى. و فى الصحيح ما يقويه و عليه فهل كان الإسراء

ص: 161

من الحجر أو من الحطيم قولان، و قيل أسرى به من بيت أم هانئ. و قيل من شعب أبى طالب فيكون المراد على هذا فى هذه الآية مكة كما فى القول الآتى.

قال ابن المنير: و هذه الآية لا تنافى شيئا من هذه الروايات الأربع، لأن المسجد الحرام مكة بل الحرم بجملته و هذه البقاع كها داخلة فى اللفظ. انتهى.

الثالث: جميع مكة لقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ (سورة الفتح: 27) قال ابن عطية: و أعظم القصد هنا مكة.

الرابع: جميع الحرم الذى يحرم صيده و منه قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (سورة التوبة: 7) و عهدهم إنما كان بالحديبية، و هى من الحرم و كذا قوله:

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ (سورة التوبة: 28) و قوله كذلك: لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (سورة البقرة: 196) قال ابن عباس: إنه جميع الحرم. قال الماوردى: حيث ذكر اللّه المسجد الحرام فى كتابه فالمراد به الحرم إلا فى قوله تعالى:

فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (سورة البقرة: 144) فإن المراد به الكعبة شرفها اللّه تعالى.

استطراد مفيد

فى الكلام على تعيين ليلة الإسراء(1) و يومها الذى أسفرت عنه و مكانه من العشر و مكان العشر من الشهر و مكان الشهر من السنة و مكانها من السنين لأن الشى ء بالشى ء يذكر و حيث ذكرت آية الإسراء رأيت أن أذكر ما يتعلق بتاريخ الإسراء لما فيه من زيادة الفائدة مع بيان ما هو المعتمد و المرجح فأقول اعلم أن للعلماء فى تعيين ليلة الإسراء أقوالا كثيرة، فقيل: إنه كان ليلة سبع و عشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة قاله إبراهيم الحربى و رجحه ابن المنير كما ستقف عليه قريبا.

ص: 162


1- 311. ( 1) تناولت كتب السيرة و التاريخ و التفسير موضوع الإسراء بشى ء من التفصيل.

و قيل بعد المبعث بخمس سنين و قيل بعده بخمسة عشر شهرا. و قال ابن إسحاق:

أسرى به صلى اللّه عليه و سلم و قد فشا الإسلام بمكة و القبائل. و قيل ليلة سبع و عشرين فى رجب قاله الغزالى فى الإحياء. و قال الحافظ مغلطاى بعد ذكر مقالة الحربى. و قيل فى رجب إجمالا من غير تعيين و قيل غير ذلك. و فى مسلم فى طريق شريك أنه قبل أن يوحى إليه.

قال العلامة المحقق المجتهد ناصر الدين أحمد بن المنير المالكى رحمه اللّه: و لا يصح هذا بوجه إلا على القول بأنه منام كما وقع لعائشة رضى اللّه عنها أنها قالت: إنه كان بالمدينة بعد الهجرة و أنه منام. و أصحها عندى ما قاله إبراهيم الحربى و قال و رجح القاضى عياض قول من قال إنه قبل الهجرة بخمس سنين. و قول ابن إسحاق على القول بأنه قبل الهجرة بسنة، و ضعف هذا القول بأن خديجة صلت معه قبل أن تموت بلا خلاف بين أهل السير مضافا إلى أن خديجة رضى اللّه عنها ماتت قبل الهجرة بمدة أقل ما قيل فيها ثلاث سنين، و مضافا إلى أن الصلاة لم تفرض إلا فى الإسراء.

و هذا عندى لا يلزم منه تخطئة القول بأنه قبل الهجرة بسنة لأن الصلاة التى صلتها خديجة معه صلى اللّه عليه و سلم هى التى كان يصليها صلى اللّه عليه و سلم قبل الإسراء غير محدودة و لا معدودة بعدد المكتوبات المستقرة، ألا ترى أن مسلما ذكر فى حديث ابن حماد أنه صلى اللّه عليه و سلم صلى ببيت المقدس ركعتين قبل أن يعرج إلى السماء، فدل أن الصلاة كانت مشروعة فى الجملة و قد كان قيام الليل واجبا عليه صلى اللّه عليه و سلم باتفاق بل كانت الصلاة مشروعة فى الملل السالفة لكن على غير هذا التحديد.

فظهر أن لا حجة فى ذلك على القائل بما اخترناه، ثم الحجة لنا فى ترجيحه أن كل قول سواه خرج مخرج التقدير لا التحديد، لأنه لم يعين فيه الشهر فضلا عن اليوم. و أما قول الحربى فإنه عين فيه الليلة بعينها من الشهر بعينه من السنة بعينها كما تقدم. و إذا تعارض خبران أحدهما أحاط روايه بتفصيل فى القضية زائد على الإجمال الذى فى غيره فالمحيط علما بالتفضيل أحضر ذهنا و أوعى قلبا من الآخر.

فإن قلت: هل يمكن تعيين اليوم الذى أسفرت عنه تلك الليلة بعينه من أيام الجمعة؟

قلت: يمكن ذلك بعون اللّه و يكون يوم الاثنين إن شاء اللّه تعالى، و ذلك أننى استقرأته من

ص: 163

تاريخ الهجرة، و أصح قول فيها أنها كانت يوم الاثنين و ثانى عشر شهر ربيع الأول أعنى وصوله صلى اللّه عليه و سلم إلى المدينة قيل ضحى، و قيل عند استواء الشمس و إذا كان الثانى عشر من الشهر الاثنين كان أوله الخميس قطعا و إذا كان أوله الخميس كان أول شهر ربيع الأول من السنة التى فيها الإسراء: إما السبت أو الأحد أو الاثنين لأن بين كل يومين متقابلين من سنتين متواليتين إما ثلاثة أو أربعة أو خمسة، و لهذا تكون الوقفة من كل سنة خامس يوم من الوقفة التى قبلها أو رابعه أو سادسه.

و أعدل الاحتمالات الخامس، فالجمعة تعقبها الثلاثاء و الاثنين تعقبها الجمعة، و قد يكون الرابع و قد يكون السادس و ذلك بحسب توالى التمامات فى الشهور أو النقصانات فبنى من هذه الاحتمالات الثلاثة على الأقل، فيكون أول ربيع الأول من سنة الإسراء الاثنين، و يكورن أول ربيع الآخر و هو شهر الإسراء الأربعاء لأنا فرضنا ربيعا الأول تاما و إذا كان أول شهر الإسراء كان السابع و العشرين منه يوم الاثنين و هو يوم الاثنين إن شاء اللّه تعالى الذى أسفرت عنه ليلة الإسراء.

و إنما رجحنا تمام الشهر ليوافق كون المولد يوم الاثنين، و كون المبعث يوم الاثنين، و كون الهجرة يوم الاثنين، و كون الوفاة كذلك. فإن هذه أطوار الانتقالات النبوية وجودا و نبوة و هجرة و معراجا و وفاة، فهذه خمسة أطوار اتفقوا على أربعة منها أنها يوم الاثنين فيقرب جدا أن يكون الخامس أسوتها، و يكون هذه اليوم فى حقه صلى اللّه عليه و سلم كيوم الجمعة فى حق آدم عليه السلام فيه خلق و فيه نزل إلى الأرض و فيه تيب عليه و فيه مات، و هذا نظر صحيح لا يحتاج إلا توفيقا من القائل و إنصافا من السامع. و قد ثلج به الصدر إن شاء اللّه تعالى.

و يجوز أن تبنى أيضا أن بين اليومين أربعة فيكون أول شهر ربيع الأول من سنة الإسراء الأحد، و أول شهر ربيع الآخر الثلاثاء فيكون السابع و العشرون منه الأحد، فوقع الإسراء فى الليلة التى بين الأحد و الاثنين على القول بأن الليلة تتبع اليوم الذى قبلها، فيصح أنها الليلة التى كان يسفر صباحها عن يوم الاثنين فاستقر على الاحتمالين تعلق الإسراء بيوم الاثنين.

ص: 164

و يدل على أن الليلة تتبع اليوم الذى قبلها أن ليلة عرفة هى التى بعد يوم عرفة و لهذا يجزئ الوقوف فيها إلى طلوع الفجر و لا يجزئ فى الليلة التى قبلها بالإجماع، و قد ورد أن الإسراء كان ليلة الجمعة و هذا نقل محض يطلب فيه الصحة و لم يعضد بأصول تقربه من الحق بخلاف ما قدمناه، فقد بينا الأصول التى تقتضيه نقلا و استنباطا.

و أمكن عندى على القول الذى اخترناه أن يكون ليلة الجمعة، و ذلك بأن نفرض بين اليومين المتقابلين خمسة أيام فيكون الثانى سادس الأول. و قد اتفق هذا العام أن كانت الوقفة الأربعاء و الوقفة التى قبلها الجمعة، فجاءت هذه سادس تلك، و إنما قلنا إنها ليلة الجمعة على هذا التقدير لأنه قد استقر أن ربيعا الأول سنة الهجرة كان أوله الخميس و نفرضه ناقصا ليكون ربيع الآخر من سنة الهجرة الجمعة، فيكون أول ربيع الآخر من السنة التى قبلها و هى سنة الإسراء الأحد، فيكون السابع و العشرون منه الجمعة، و هى ليلة الإسراء و هو لائق بالإسراء لأجل فضيلة ليلة الجمعة.

(تنكيت لطيف) يرجع ما قاله الحربى و ذلك أن ليلة سبع و عشرين تضاهى فى العدد أقعد الليالى بليلة القدر، و هى ليلة سبع و عشرين من رمضان.

(تنكيت ألطف من الأول) اعتبرت هذه الليالى الثلاث الفاضلات: ليلة نصف شعبان، و ليلة سبع و عشرين من رمضان و هى ليلة القدر و ليلة عرفة. فوجدتها لا تزال متواخية إن كانت واحدة منها الجمعة كان الكل الجمعة و كذلك غير الجمعة من الأيام، و إن لم توافق ليلة عرفة الليلتين المذكورتين فلا بد أن يوافقهما يوم التروية. انتهى ما قاله ابن المنير باختصار، فرحمه اللّه من إمام محقق حرى أن يكتب كلامه بماء الذهب و اللّه أعلم.

ص: 165

استطراد ثان (فى الكلام على متن حديث الاسراء)

استحسنت الإتيان به عقيب آية الإسراء للمناسبة و لما سأذكره بعد من فوائد جليلة يعز وجودها ترجع إلى الحديث المذكور، و أولى ما يعتمد عليه حديث ثابت البنانى عن أنس لأنه سالم مما وقع فى ظاهر حديث غيره من التعارض فرأيت أن أذكره أولا باختصار ليكون أصلا، ثم أذكر ما سواه مما ورد من الطرق تبعا له باختصار أيضا فأقول

روى مسلم فى «صحيحه»(1) عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت البنانىّ، عن أنس رضى اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: أتتت بالبراق و هو دابة أبيض طويل فوق الحمار و دون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه. قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التى تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءنى جبريل عليه السلام بإناء من خمر و إناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة(2).

ثم عرج(3) بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه.

ففتح لنا فإذا أنا بآدم عليه السلام فرحب بى و دعا لى بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية قاستفتح جبريل كما تقدم و قيل له كما تقدم، ففتح لهما فوجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابنى الخالة عيسى بن مريم و يحيى بن زكريا، فرحبا به صلى اللّه عليه و سلم و دعوا له بخير.

ثم عرج كذلك إلى السماء الثالثة و قيل كما تقدم، فوجد صلى اللّه عليه و سلم فيها يوسف عليه

ص: 166


1- 312. ( 1) صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب الإسراء برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى السموات و فرض الصلوات ج 1 ص 153.
2- 313. ( 2) الفطرة: الإسلام و الاستقامة.
3- 314. ( 3) عرج: أى صعد.

السلام و قد أعطى شطر الحسن، فرحب به صلى اللّه عليه و سلم و دعا له بخير. ثم عرج كذلك إلى السماء الرابعة و قيل كما تقدم، فوجد صلى اللّه عليه و سلم فيها إدريس عليه السلام فرحب به و دعا له بخير. ثم عرج كذلك إلى السماء الخامسة فوجد فيها هارون فرحب به و دعا له بخير. ثم عرج كذلك إلى السماء السادسة فوجد فيها موسى عليه السلام فرحب به و دعا له بخير. ثم عرج به كذلك إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل كما سبق و قيل له كما سبق و فتح لهما كما تقدم.

فرأى صلى اللّه عليه و سلم إبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور. ثم ذهب به إلى سدرة المنتهى(1) فأوحى اللّه تعالى إليه ما أوحى، ففرض عليه خمسين صلاة، ثم أرصده موسى عليه السلام إلى الرجوع إلى ربه و لم يزل صلى اللّه عليه و سلم يرجع بين موسى و ربه إلى أن استقر الأمر على خمس صلوات كل يوم و ليلة.

و أخرج مسلم(2) أيضا عن ثابت عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أتاه جبريل عليه السلام و هو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرجه ثم استخرج منه علقة و قال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه(3) ثم أعاده إلى مكانه.

(و فى طريق) بينا أنا فى المسجد الحرام. (و فى طريق) و أنا نائم. (و فى طريق) أنه كان بالحطيم بين النائم و اليقظان. (و فى طريق) أنه أسرى به من بيت أم هانئ كما علمته آنفا. (و فى طريق) فرج سقف بيتى فنزل جبريل ففرج صدرى. (و فى بعض طرق الاسراء) و ذلك قبل أن يوحى إليه. و فيما تقدم عن ثابت كما رأيت أنه أتى باللبن و الخمر قبل العروج. (و فى بعض الطرق) أنه أتى بهما فى الملأ الأعلى. (و فى طريق) أنه انتهى إلى سدرة المنتهى ثم إلى المستوى ثم فارقه جبريل. (و فى طريق) فزج بى فى النور و قال هأنت و ربك. و فى حديث ثابت، كما تقدم، أنه صلى اللّه عليه و سلم صلى فى بيت المقدس قبل العروج. (و فى بعض الطرق) أنه صلى بالأنبياء فى السموات. (و فى طريق) فلم نزل على ظهره- يعنى البراق- أنا و جبريل. (و فى طريق) أنه استصعب البراق فقال له جبريل عليه

ص: 167


1- 315. ( 1) سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهى إليها، و لم يجاوزها أحد إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.
2- 316. ( 2) كتاب الإيمان ج 1 ص 155.
3- 317. ( 3) لأمه: جمعه و ضم بعضه إلى بعض.

السلام: أبمحمد تستصعب؟ فما ركبك أحد أكرم على اللّه منه فارفض عرقا. (و فى بعض الطرق) أنه رأى المعراج بصورة السلم كأحسن ما رأى. (و فى طريق) فانتهيت إلى سدرة المنتهى فغشيها ملائكة كأنهم جراد من ذهب فرأيت جبريل يتضاءل كالصعوة فتخلف و قال:

و ما منا إلا له مقام معلوم، فجاوزت سبعين حجابا، ثم احتملنى الرفرف إلى العرش فنوديت حى ربك، فقلت: سبحانك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك إلى آخر ما هو مستوفى فى محله، كإنكار قريش الإسراء، و استيصافهم بيت المقدس من النبى صلى اللّه عليه و سلم فرفعه اللّه له فوصفه و ذكر لهم قضية لقيه العبر قاصدين مكة و شربه ما كان فى القدح من الماء إلى غير ذلك فكان كل ذلك حقا و صدقا كما قال تعالى وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى صلى اللّه عليه و سلم و شرف و كرم و اللّه أعلم.

فوائد: تتعلق بحديث الاسراء و فواضله و أسراره و فضائله:

الأولى: يؤخذ من قوله تعالى أَسْرى بِعَبْدِهِ ما لا يؤخذ أن لو قيل بعث إلى عبده، لأن الباء تفيد المصاحبة أى صحبه فى سراه بالألطاف و العناية و يشهد لذلك قوله صلى اللّه عليه و سلم:

أنت الصاحب فى السفر، و يبنى على هذا من الفروع الفقهية أن من قال: للّه على أن أحج بفلان يلزمه أن يحج معه، بخلاف ما لو قال: للّه على أن أحج فلانا فإنما يلزمه أن يجهزه للحج من ماله، و لا يلزم الناذر أن يحج بنفسه، و الفرق ما تعطيه الباء من المصاحبة.

الثانية: تخصيص الإسراء بالليل فيه من التعظيم ما لا يخفى لأنه وقت خلوة و اختصاص عرفا. و بين جليس الملك ليلا و جليسه نهارا فرق ظاهر و الخصوصية بالليل.

الثالثة: لعل تخصيص ذلك بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانا بالغيب و ليفتتن بالذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالا من النهار و لعله لو عرج به نهار لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب و لم يحصل ما قدر من الفتنة على من شقى و جحد.

الرابعة: إن قيل ما وجه استصعاب البراق عليه صلى اللّه عليه و سلم بعد التسخير؟ أجيب بأن ذلك تنبيه على أنه لم يدلل قبل ذلك و لم يركبه أحد. و فى هذه النكتة خلاف، فمنهم من قال:

ركبه الأنبياء قبل ذلك و منهم من قال: لم يركبه أحد قبله. و حجة القائلين بركوبه قبل ذلك قول جبريل: فما ركبك أحد أكرم على اللّه منه، و يمكن الاحتجاج أيضا بقوله فربطته

ص: 168

بالحلقة التى يربط بها الأنبياء. و أجيب عن الأول بأن معنى قول جبريل فما ركبك أحد البتة فكيف يركبك أكرم من محمد. و يمكن أن يجاب عن الثانى بأنه ليس فى الحديث فربطته بالحلقة التى تربطه بها الأنبياء، و إنما قال يربط بها الأنبياء و سكت عن ذكر المربوط ما هو فيحتمل أن يكون غير البراق. و يحتمل أن يراد ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة أى تمسكهم بها و يكون من جنس العروة الوثقى.

الخامسة: يحتمل أن يكون استصعابه تيها و زهوا بركوب النبى صلى اللّه عليه و سلم، و أراد جبريل بقوله أبمحمد تستصعب، استنطاقه بلسان الحال أنه لم يقصد الصعوبة و إنما تاه و لهذا قال:

فارفض عرقا، فكأنه أجاب بلسان الحال فتبرأ من الاستصعاب و عرق من خجل العتاب.

السادسة: إن قيل كان فى قدرة اللّه تعالى أن يرفع نبيه بدون البراق خرقا للعادة، أجيب بأن فى صورة الركوب على المركوب المعتاد تأنيسا فى هذا المقام العظيم بطرف من العادة.

السابعة: لعل فى الإسراء بالبراق إظهارا للكرامة العرفية فإن الملك العظيم إذا استدعى خصيصا به بعث إليه بمركوب سنى ليصل عليه.

الثامنة: كون البراق بشكل البغل و لم يكن بشكل الفرس فيه تنبيه على أن المراد فى سلم و أمن لا حرب و خوف، أو لإظهار الآية فى الإسراع العجيب من دابة ما توصف بالإسراع كما فى الحديث يضع حافره عند منتهى طرفه، أى يقطع ما انتهى إليه بصره فى خطوة واحدة فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء فى خطوة واحدة لأن بصر من يكون فى الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السموات فى سبع خطوات.

التاسعة: لقائل أن يقول قد ركب النبى صلى اللّه عليه و سلم بغلته فى الحرب يوم حنين، أجيب بأن ذلك كان لتحقق نبوته صلى اللّه عليه و سلم فى مواطن الحرب و لما خصه اللّه به من مزيد الشجاعة، و إلا فمعلوم أن البغال عادة من مراكب الطمأنينة. و ليعلم أن الحرب عنده كالسلم قوة قلب و شجاعة نفس.

العاشرة: اختلف العلماء هل ركب جبريل عليه السلام مع النبى صلى اللّه عليه و سلم على البراق أم لا؟ فقال بعضهم: ركب معه بظاهر قوله صلى اللّه عليه و سلم: فما زلت على ظهره أنا و جبريل. قال ابن المنير رحمه اللّه: و الأظهر عندى أنه صلى اللّه عليه و سلم اختص بالركوب لأنه المخصوص بشرف

ص: 169

الإسراء. و فى قول جبريل أيضا أبمحمد تستصعب فما ركبك أكرم على اللّه منه، دليل على اختصاصه صلى اللّه عليه و سلم بركوبه، و إنما كان جبريل هاهنا معه رسول بلاغ و دليل طريق و مستدعى حبيب. و قوله صلى اللّه عليه و سلم: ما زلت على ظهره أنا و جبريل، يحمل قوله: و جبريل على أنه استئناف كلام كأنه قال و جبريل سائر معى و نحوه و لا يريد راكبا معى على البراق، لأنه ليس فى الكلام ما يعين ذلك.

الفائدة الحادية عشرة: دل قوله صلى اللّه عليه و سلم: فصليت ببيت المقدس ركعتين، على أن الصلاة لم تزل معهودة قبل أن تفرض و معدودة مثنى مثنى، و فرضت كذلك على ما عهدت كما قالت عائشة رضى اللّه عنها: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد صلاة الحضر.

الثانية عشرة: إن قيل ما الحكمة فى نزول جبريل عليه السلام من سقف البيت و لم يدخل عليه من الباب مع قوله وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها؟ الجواب: أن الحكمة فى ذلك المبالغة فى المفاجأة و التنبيه على الكرامة و الاستدعاء كان بديها على غير ميعاد.

الثالثة عشرة: يحتمل أن يكون فرج السقف توطئة و تمهيدا للفرج عن الصدر، فأراه جبريل بإخراجه عن السقف ثم التئامه على الفور كيفية ما يصنع به، و قرب له الأمر فى نفسه بالمثال المشاهد فى بيته لطفا فى حقه و تثبيتا لقلبه.

الرابعة عشرة: السر فى العناية بتطهير القلب و إفراغ الإيمان و الحكمة فيه تحقق مذهب أهل السنة فى أن محل العقل و نحوه من أسباب الإدراكات كالنظر و الفكر، إنما هو القلب لا الدماغ خلافا للمعتزلة و الفلاسفة.

الخامسة عشرة: إنما خص الطست بالغسل فيه دون بقية الأوانى لأنه آلة للغسل عرفا، و إنما كان من ذهب لأنه أعلى أوانى الجنة و لأنه رأس الأثمان فهو إذا أصل الدنيا و الإيمان أصل الدين، فوقع التنبيه على أن أصل الدنيا آلة لأصل الدين و خادم له و وسيلة إليه.

السادسة عشرة: استدل بعض أصحاب مالك على جواز تحلية ما يعظم شرعا بالذهب كالمصحف أو ما هو آلة لطاعة كالسيف الذى هو آلة للجهاد بحديث الإسراء و استعماله طست الذهب.

ص: 170

السابعة عشرة: يرد على ذلك بأن الذى اختص بالنبى صلى اللّه عليه و سلم من طست الذهب إنما هو تفريغ ما فيه من الإيمان و الحكمة فى قلبه صلى اللّه عليه و سلم، و التفريغ ترك لا فعل، و لا خلاف أن آنية الذهب إذا حصل فيها طعام له حرمة شرعية، كان تفريغ ذلك منها مشروعا بخلاف وضعه فيها، و لا يعد التفريغ استعمالا. و يتقرر هذا الفقه بحكاية لطيفة و هى أن الحسن البصرى و فرقدا السبخى اجتمعا فى وليمة دعيا إليها، و كان الحسن عالما و فرقد عابدا، و كان فى الوليمة صحاف من الذهب و الفضة قد جعل فيها الخبيص، فأما الحسن فإنه جلس على الطعام و صار يأخذ الخبيص و يفرغه من الصحفة و يضعه على الخبز و يأكل.

و أما فرقد فاعتزل و لم يأكل فالتفت إليه الحسن و قال: يا فريقد، هلّا صنعت هكذا؟ فرأى الحسن أن التفريغ ليس استعمالا بل تركا و إزالة للمنكر، فاجتمع له بفقهه إقامة سنة الوليمة بالأكل و جبر قلب الداعى و إزالة المنكر و تعليم الأحكام الخفية، و لهذا قال يا فريقد، فصغر اسمه فى النداء تعريضا له بالإنكار إذ تصرف فى الترك بغير اقتداء و كان عليه أن يسأل كيف يصنع ليسلم مما وقع فيه من فوات المقاصد التى اجتمعت للحسن رضى اللّه عنه. و ينبنى على هذا من الفروع الفقهية أن من كان فى رمضان أو أراد الصيام فى غيره و طلع عليه الفجر و هو آكل فعلم بذلك و ألقى الطعام من فيه لا شى ء عليه، فهذا من جنس كون التفريغ ليس استعمالا و لا إشكال فى ذلك.

الثامنة عشرة: لقائل أن يقول لا يتم الاستدلال على جواز استعمال الذهب بحديث الإسراء، لأن العادة انخرقت فيه من حيث ما وعى فيه من الإيمان و من أنه من الكون أو من الجنة، و إذا انخرقت العادة تغيرت الأحكام المنوطة بها.

التاسعة عشرة: يحتاج المستدل على استعمال الذهب لحديث الإسراء أن يثبت أنه كان بعد تحريم استعمال الذهب، و لا يقدر على ذلك، فإن النبى صلى اللّه عليه و سلم تختم بالذهب ثم ألقى الخاتم فألقى الناس خواتمهم، و ما كان النسخ و التحريم إلا بالمدينة. و قد تقدم أن الإسراء متقدم على الهجرة على المختار.

الفائدة العشرون: تقدم فى حديث ثابت أنه صلى اللّه عليه و سلم قدم له الآنية، قبل العروج، و فى طريق آخر أنه بعد العروج فيجمع بينهما و يكون التقديم مرتين و يكون تكرار جبريل عليه السلام للتصويب، حيث اختار اللبن تأكيدا للتحذير مما سواه.(1)

الجامع اللطيف ؛ ص172

ص: 171


1- 318. ابن ظهيره، محمد بن محمد، الجامع اللطيف في فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف، 1جلد، مكتبة الثقافة الدينية - قاهره، چاپ: اول، 1423 ه.ق.

الحادية و العشرون: إن قيل ما المراد بالفطرة فى قول جبريل اخترت الفطرة؟ فاعلم أن الفطرة تطلق تارة، و يراد بها الإسلام، و تطلق تارة على أصل الخلقة، فمن المعنى الأول:

قوله صلى اللّه عليه و سلم كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه.

و من المعنى الثانى قوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها و قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أى مبتدئ خلقهما، فقول جبريل: اخترت الفطرة أى اخترت اللبن الذى عليه تثبت الخلقة، و هى نبت اللحم و نشر العظم.

أقول: فيكون من باب ذكر المسبب و إرادة السبب فتأمل انتهى. أو اخترته لأنه الحلال المستمر فى دين الإسلام، و أما الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر.

الثانية و العشرون: يحتمل أن يكون فى تقديم إناء اللبن إشارة إلى أنه شعار العلم فى التعبير، كما ورد أنه صلى اللّه عليه و سلم قال: أريت كأنى أتيت بقدح من لبن فشربت حتى أرى الرى يخرج من أظفارى، ثم ناولت فضلى عمر. فقالوا: يا رسول اللّه، ما أولته؟ قال: العلم.

و الإسراء و إن كان يقظة إلا أنه ربما وقعت فى اليقظة إشارات على حكم الفأل تعبر كما يعبر المنام.

الثالثة و العشرون: فى استفتاح جبريل عليه السلام لأبواب السماء دليل على أنه صادف أبوابها مغلقة، مع أنه صلى اللّه عليه و سلم كان قد استدعى، فلعل و اللّه أعلم الحكمة فى ذلك التنويه بقدره، و أن السموات لم تفتح أبوابها إلا من أجله و لو صادفها مفتوحة لم يتحرر أنها فتحت من أجله و لا بد.

الرابعة و العشرون: ينبغى للمستأذن إذا قيل له من هذا، أن لا يقول أنا، فإن جبريل لم يقل أنا عند الاستفتاح ثم و إنما سمى نفسه، و قد أنكر النبى صلى اللّه عليه و سلم على الذى استأذن عليه، فقال صلى اللّه عليه و سلم من هذا، فقال أنا، فجعل النبى صلى اللّه عليه و سلم يكرر لفظة أنا إنكارا.

الخامسة و العشرون: إنما كرهت هذه الكلمة لوجهين:

أحدهما: أن فيها إشعارا بالعظمة، و فى الكلام السائر أن أول من قال أنا إبليس.

فشقى حيث قال أنا خير منه، ثم فرعون فتعس حيث قال أنا ربكم الأعلى.

الثانى: أنها مبهمة لافتقار الضمير إلى العود فهى غير كافية فى البيان.

ص: 172

فإن قيل: قد اتفق النحاة على أن المضمرات أعرف المعارف و أعرفها أنا. فهذه الكلمة فى الغاية القصوى فى التعريف، فكيف كان العلم أعرف منها، و إنما اختلف النحاة فى اسم الإشارة و العلم لا فى المضمر. فالجواب أن المضمر إذا عاد و تعين مظهره فهو أعرف المعارف حينئذ، و المستأذن محجوب عن المستأذن عليه غير متعين عنده فكأنه أحاله على جهالة.

(حكاية لطيفة استطرادية): تنبه على رعاية الأدب مع اللّه تعالى جل و علا: حكى أن سيبويه رحمه اللّه رئى فى المنام بعد وفاته، فقيل له ماذا لقيت؟ فقال خيرا كثيرا، فقال له بماذا؟ فقال: سئلت فى الدنيا عن أعرف المعارف، فقلت اسم اللّه عز و جل فشكر اللّه لى ذلك.

السادسة و العشرون: قول الخازن لجبريل، و من معك؟ قال: محمد، فيه دليل على أن الإذن لواحد لا يتناول غيره، و إن كان فى صحبته و لهذا استفهم الخازن حتى يكون لمن معه إذن مستقل، و هو عرف الناس إذا أذن لأحد و كان فى صحبته غيره أن يقول و من معى، فيستأنف الاستئذان لمن معه، و قوله و قد بعث إليه؟ أراد به الاستفهام فحذفت الهمزة للعلم بها، و أصل الكلام أوقد بعث إليه. و النحاة يمنعون حذف الهمزة فيحمل كلامهم على المنع حيث لا دليل على المحذوف، و إلا فالحديث حجة عليهم.

السابعة و العشرون: لم يرد الخازن بقوله و قد بعث إليه أصل الرسالة، فإن الظاهر أنه كان معلوما عندهم، و أنما أراد البعث للمعراج.

الثامنة و العشرون: موقع قول الخازن أوقد بعث إليه، استنطاق جبريل بالسبب الموجب للإذن و الفتح، لأنه مجرد قول جبريل عليه السلام معى محمد لا يوجب الإذن إلا بواسطة البعث من صاحب الإذن جل و علا.

التاسعة و العشرون: إن قيل: لم لم يخاطبه الخازن بصيغة الخطاب فيقول مرحبا بك، و إنما أورد التحية بصيغة الغيبة؟ أجيب بأنه حياه قبل أن يفتح الباب و قبل أن يصدر من النبى صلى اللّه عليه و سلم خطاب، و لهذا قال الخازن لجبريل: و من معك بصيغة الخطاب، لأن جبريل خاطب الملك فارتفع حكم الغيبة بالتخاطب من الجانبين.

ص: 173

الفائدة الثلاثون: يجوز أن يكون حياه بغير صيغة الخطاب تعظيما له، لأن هاء الغيبة ربما كانت أفخم من كاف الخطاب. و اللّه أعلم.

انتهت الفوائد ملخصة بعضها باللفظ و بعضها بالمعنى من إملاء العلامة ابن المنير رحمه اللّه، و اللّه أعلم.

عدنا إلى المقصود: اعلم أن اللّه تبارك و تعالى قد ذكر المسجد الحرام فى كتابه العزيز فى نحو خمسة عشر موضعا فإذا تقرر هذا فقد اختلف فى المراد بالمسجد الحرام الذى تتعلق به المضاعفة فى قوله صلى اللّه عليه و سلم فى حديث ابن الزبير السابق، و صلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فى مسجدى. فقيل: جميع بقاع الحرم و قيل: المراد الكعبة و ما فى الحجر من البيت و يؤيده ما أخرجه النسائى عن أبى هريرة رضى اللّه عنه: صلاة فى مسجدى أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا الكعبة. و قيل المراد الكعبة و ما حولها من المسجد و جزم به النووى، و قال إنه الظاهر. و قيل: المكان الذى يحرم على الجنب المكث فيه.

و نقل عن الإمام تقى الدين ابن أبى الصيف اليمنى أن المضاعفة تختص بالمسجد المعد للطواف لأنه المنصرف عند الإطلاق فى العرف، قال: و لا يضر رواية الكعبة. و لهذا قال الغزالى: لو نذر صلاة فى الكعبة فصلى فى أرجاء المسجد جاز. انتهى.

و رجح الطبرى رحمه اللّه أن المضاعفة مختصة بمسجد الجماعة و قال: إنه يتأيد بقوله صلى اللّه عليه و سلم: مسجدى هذا، لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة، فينبغى أن يكون المستثنى كذلك، فإنه قيل قد ورد عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن حسنات الحرم كلها الحسنة بمائة ألف، فعلى هذا يكون المراد بالمسجد الحرام فى حديث الاستثناء الحرم كله.

قلنا نقول بموجب حديث ابن عباس أن حسنة الحرم مطلقا بمائة ألف، لكن الصلاة فى مسجد الجماعة تزيد على ذلك، و لهذا قال: بمائة صلاة فى مسجدى و لم يقل حسنة، و صلاة فى مسجده بألف صلاة كل صلاة بعشر حسنات، فتكون الصلاة فى مسجده صلى اللّه عليه و سلم بعشرة آلاف حسنة، و تكون فى المسجد الحرام بألف ألف حسنة، و على هذا يكون حسنة الحرم بمائة ألف و حسنة المسجد الحرام بألف ألف و يلحق بعض الحسنات ببعض أو يكون ذلك مختصا بالصلاة الخاصة فيها. و اللّه أعلم. انتهى بنصه.

ص: 174

قال الجد رحمه اللّه: و حاصل هذه العبارات مع اختلافها يرجع إلى ترجيح هذا القول. ثم قال: و هذا التضعيف يحصل بصلاة المنفرد و تزيد الحسنات بصلاة المكتوبة فى جماعة على ما جاء أنها تعدل سبعا و عشرين درجة، و هذا فيما يرجع إلى الثواب و لا يتعدى ذلك إلى الإجزاء عن الفوائت حتى لو كان عليه صلاتان فصلى فى المسجد الحرام صلاة لم تجزئه عنهما و هذا لا خلاف فيه. انتهى.

و قد اختلف العلماء فى هذا الفضل، هل يعم الفرض و النفل أو يختص بالفرض؟

فمذهبنا و مشهور مذهب مالك أنه يختص بالفرض، و التعميم مذهب الشافعى رضى اللّه عنه كما صرح به النووى رحمه اللّه تعالى.

فإن قيل لا عموم فى لفظ الحديث لما أنه نكرة فى سياق الإثبات و يؤيده أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال: أفضل صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة، أجيب بأنه و إن كان نكرة فى سياق الإثبات فهو عام لأنه فى معرض الامتنان.

قال الجد رحمه اللّه: فإن قيل كيف يقال إن المضاعفة تعم الفرض و النفل و قد تطابقت نصوص الأصحاب و نص الحديث على أن فعل النافلة فى بيت الإنسان أفضل إلا ما استثنى كالعيد و ركعتى الطواف؟ فالجواب ما قيل لا يلزم من المضاعفة فى المسجد أن يكون أفضل من البيت إذ فضيلة المسجد المذكور من حيث التضعيف، و فضيلتها فى البيت من حيثية أخرى تربو على التضعيف. انتهى.

أقول: هذا التفضيل بالنسبة إلى الرجال، و أما الإناث فالصلاة فى البيت مطلقا لهن أفضل لا سيما فى هذا الزمان لكثرة الفساد سواء كانت المرأة عجوزا أم شابة.

و نقل الشيخ ولى الدين العراقى فى «شرح تقريب الأسانيد» أن التضعيف فى المسجد الحرام لا يختص بالمسجد الذى كان فى زمن النبى صلى اللّه عليه و سلم، بل يشمل جميع ما زيد فيه لأن المسجد الحرام يعم الكل. بل المشهور عند أصحابنا أن التضعيف يعم جميع مكة بل جميع الحرم الذى يحرم صيده كما صححه النووى.

و أما المدينة فيختص التضعيف بالمسجد الذى كان فى زمنه صلى اللّه عليه و سلم، ثم قال: لكن يشكل على هذا ما فى تاريخ المدينة أن عمر رضى اللّه عنه لما فرغ من الزيادة فى مسجد النبى

ص: 175

صلى اللّه عليه و سلم قال: لو انتهى إلى الجبانة لكان الكل مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و فى رواية أخرى:

لو مد إلى ذى الحليفة لكان منه.

و عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: لو زيد فى هذا المسجد ما زيد لكان الكل مسجدى. و فى رواية أخرى أو بنى إلى صنعاء، و فى أخرى ما زيد فى مسجدى فهو منه و لو بلغ ما بلغ. فإن صح ذلك فهو بشرى حسنة انتهى باختصار.

فائدتان:

الأولى: قد حسب النقاش المفسر فضل الصلاة فى المسجد الحرام على مقتضى حديث تفضيل الصلاة فيه على غيره بمائة ألف، فبلغت صلاة واحدة فى المسجد الحرام عمر خمس و خمسين سنة و ستة أشهر و عشرين ليلة. و صلاة يوم و ليلة، و هى خمس صلوات فى المسجد الحرام عمر مائتى سنة و سبع و سبعين سنة و تسعة أشهر و عشر ليال(1).

انتهى كلامه.

الثانية: قال الشيخ بدر الدين ابن الصاحب الإشارى: إن كل صلاة فى المسجد الحرام فرادى بمائة ألف صلاة كما ورد فى الحديث، و كل صلاة فيه جماعة بألفى ألف صلاة و سبعمائة ألف صلاة، و الصلوات الخمس فيه بثلاثة عشر ألف ألف صلاة و خمسمائة صلاة، و صلاة الرجل منفردا فى وطنه غير المسجدين المعظمين، كل مائة سنة بمائة ألف و ثمانين ألف صلاة، و كل ألف سنة بألف ألف صلاة و ثمانى مائة ألف(2).

فتلخص من هذا أن صلاة واحدة فى المسجد الحرام جماعة يفضل ثوابها على ثواب من صلى فى بلدة فرادى، حتى بلغ عمر نوح النبى عليه السلام بنحو الضّعف، و سلام على نوح فى العالمين. و هذه فائدة تساوى رحلة(3) ثم قال: هذا إذا لم يضف إلى ذلك شيئا آخر من أنواع العبادات، فإن صام يوما و صلى الصلوات الخمس جماعة، و فعل فيه أنواعا من البر و قلنا بالمضاعفة، فهذا مما يعجز الحساب عن حصر ثوابه(4) انتهى.

تكملة: قال بعض العلماء: إن السيئات بالحرم تتضاعف كتضاعف الحسنات، و هو

ص: 176


1- 319. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 131.
2- 320. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 131.
3- 321. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى:« دجلة».
4- 322. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 131.

مذهب ابن مسعود و ابن عباس رضى اللّه عنهما، و قال به مجاهد أيضا و الإمام أحمد بن حنبل و لهذا كان مقام ابن عباس بغير مكة، و الصحيح عند جماهير أهل العلم عدم المضاعفة لكن السيئة فيه أعظم منها فى غيره بلا ريب. ثم على قول أن السيئة تتضاعف فقيل تضعيفها كتضعيف الحسنات بالحرم، و قيل بل كخارجه و حرر بعض العلماء النزاع فى هذه المسألة فقال القائل بالمضاعفة أراد مضاعفة مقدارها أى غلظها لا كميتها فى العدد، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن السيئة تتفاوت فالسيئة فى حرم اللّه و بلده على بساطه أكبر و أعظم منها فى غيره، و ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه فى موضع بعيد عنه، فإنه قيل يرجع النزاع أيضا إذ لا فرق بين أن تكون السيئة مغلظة و هى واحدة و بين أن تكون مائة ألف سيئة عددا. فالجواب أنه قد جاء من زادت حسناته على سيئاته فى العدد دخل الجنة و من زادت سيئاته على حسناته فى العدد دخل النار و من استوت حسناته و سيئاته عددا كان من أهل الأعراف.

فصل فى ذكر مبدأ عمارة المسجد الحرام و توسعته و ذرعه و ذكر شى ء من أخباره

ذكر الأزرقى و الإمام أبو الحسن الماوردى و غيرهما من الأئمة المعتمدين: أن المسجد الحرام كان فى عهد النبى صلى اللّه عليه و سلم و أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه و ليس عليه جدار يحيط به، و كانت الدور محدقة به من كل جانب و بين الدور أبواب يدخل منها الناس، فلما أن استخلف عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه اشترى دورا و هدمها و وسع بها المسجد، و أبى بعضهم أن يأخذ الثمن و تمنع(1) من البيع فوضعت أثمانها فى خزانة الكعبة فأخذوها بعد ذلك. و قال لهم عمر: أنتم نزلتم على الكعبة و لم تنزل عليكم الكعبة، إنما هو فناؤها. ثم جعل سيدنا عمر على المسجد جدارا قصيرا محيطا به دون القامة، و كانت المصابيح توضع عليه فكان عمر رضى اللّه عنه أول من اتخذ للمسجد جدارا(2).

فلما كان زمن سيدنا عثمان رضى اللّه عنه و كثر الناس اشترى دورا و وسع بها المسجد الحرام،

ص: 177


1- 323. ( 1) فى د، و المطبوع:« و امتنع» و المثبت رواية الأزرقى.
2- 324. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 68.

و أبى قوم أن يبيعوا فهدم عليهم فصاحوا به، فقال لهم: إنما جرأكم على حلمى عنكم فقد فعل بكم عمر هذا فلم يصح به أحد، ثم أمر بهم إلى الحبس حتى شفع فيهم عبد اللّه بن خالد بن أسيد فأخرجهم و جعل عثمان للمسجد أروقة فكان أول من اتخذ الأروقة له(1).

و لم يذكر الأزرقى السنة التى وسع فيها عمر رضى اللّه عنه المسجد الحرام و هى سنة سبع عشرة من الهجرة، و لا السنة التى وسع فيها عثمان رضى اللّه عنه و هى سنة ست و عشرين من الهجرة.

ثم قال الأزرقى: فلما كان زمن عبد اللّه بن الزبير زاد فى المسجد زيادة كبيرة و اشترى دورا من جملتها بعض دار الأزرقى جد الأزرقى صاحب «تاريخ مكة» و اشترى ذلك البعض ببضعة عشر ألف دينار، ثم عمره عبد الملك بن مروان و لم يزد فيه لكنه رفع جداره و سقفه بالساج و عمره عمارة حسنة و جعل فى رأس كل أسطوانة خمسين مثقالا(2) ذهبا.

ثم إن الوليد بن عبد الملك المتقدم وسع المسجد و نقض عمل أبيه و عمله عملا محكما، و سقفه بالساج المزخرف و أزر المسجد من داخله بالرخام، و جعل له شرفا، و جعل فى وجوه الطيقان من أعلاها الفسيفساء و هو أول من جعلها بالمسجد الحرام و أول من نقل إليه أساطين الرخام(3).

تنبيه: قول الأزرقى: الوليد أول من نقل إليه أساطين الرخام. قال الفاسى رحمه اللّه: قد نقل الأزرقى ما يفهم خلاف ذلك لأنه ذكر فى عمل عبد الملك أنه جعل فى رأس كل أسطوانه خمسين مثقالا من الذهب و هذا يقتضى وجود الأساطين قبل الوليد فتكون من عمل ابن الزبير أو عبد الملك. و على كلا الأمرين فهو مخالف لما ذكره الأزرقى من أن الوليد بن عبد الملك أول من حمل إليه ذلك(4). و اللّه أعلم بالصواب. انتهى بمعناه.

أقول: يمكن الجمع بين كلامى الأزرقى و ترتفع المخالفة التى ذكرها الفاسى، و ذلك أن الأزرقى رحمه اللّه لم يذكر أن الأساطين التى فى رءوسها المثاقيل الذهب فى أيام عبد الملك كانت من رخام ليتجه ما قاله الفاسى، و لا خصوصية أيضا لتسمية الأساطين بما كان من الرخام فيحتمل أنها كانت من آجر أو من حجارة أو من خشب و يؤيد ذلك ما تقدم فى

ص: 178


1- 325. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 69.
2- 326. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 69 و ما بعدها.
3- 327. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 71.
4- 328. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 362.

الباب الأول من هذا الكتاب عند ذكر فضائل البيت الشريف، فيما أخرجه الفاكهى عن السهمى عند قوله فعابت أسطوانة. قال شيخ الإسلام ابن حجر: و الأسطوانة من خشب و ما سيأتى قريبا من كلام الفاسى نفسه عند ذكره لما عمره القاضى محمد بن موسى من بناء الزيادة التى بدار الندوة فى قوله و جعل ذلك بأساطين حجارة مدوّرة عليها ملا بن ساج(1).

و فى قوله عند بناء ما كان احترق من الجانب الغربى و بعض الشامى من المسجد الحرام فى عام اثنين و ثمانمائة ما صورته: إن الأساطين التى بالجانب الغربى حجارة منحوتة هذا كلامه. و أما الأساطين من الآجر فعمل منها كثير فى المساجد و غيرهما فإذا علم ذلك فقول الأزرقى رحمه اللّه إن الوليد أول من نقل إلى المسجد الحرام أساطين الرخام ليس فيه مخالفة مع الاحتمال المذكور فتأمل و اللّه الموفق.

ثم لما أفضت الخلافة إلى أبى جعفر العباسى ثانى خلفاء بنى العباس وسع المسجد الحرام من جانبه الشامى و من جانبه الغربى و لم يجعل فيما وسعه من الجانبين إلا رواقا واحدا. و كان ابتداؤه فى المحرم سنة سبع و ثلاثين و مائة و الفراغ منه فى ذى الحجة سنة أربعين و مائة(2).

و كان الذى زاده المنصور النصف مما كان عليه قبل ذلك.

ثم إن المهدى بن أبى جعفر وسع المسجد الحرام بعد موت أبيه من أعلاه و من الجانب اليمانى و من الموضع الذى انتهى إليه أبوه فى الجانب الغربى حتى صار على ما هو عليه اليوم، ما عدا الزيادتين فإنهما أحدثتا بعده(3) كما سيأتى قريبا إن شاء اللّه تعالى.

و كانت عمارة المهدى فى نوبتين: الأولى فى سنة إحدى و ستين و مائة، و زاد فيما زاده أبوه رواقين. و الثانية سنة سبع و ستين و كان أمر بها لما حج حجته الثانية فى سنة أربع و ستين، و رأى الكعبة فى شق من المسجد فكره ذلك و أحب أن تكون متوسطة فى المسجد، فدعا المهندسين و شاورهم فى ذلك فقدروا ذلك، فإذا هو لا يستوى لهم من أجل الوادى و السيل، و قالوا: إن وادى مكة له سيول قوية العزم و نخشى إن حولنا الوادى عن مكانه أن لا يتم لنا على ما نريد. فقال المهدى لا بد لى من سعة المسجد بحيث تكون

ص: 179


1- 329. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 364.
2- 330. ( 2) إخبار الكرام ص 181.
3- 331. ( 3) إخبار الكرام ص 181.

الكعبة فى وسط المسجد على كل حال و لو أنفقت فيه جميع ما فى بيوت المال، و عظمت نيته فى ذلك و قوى عزمه على ذلك فقدر المهندسون ذلك و هو حاضر و نصبوا الرماح على الدور من أول موضع الوادى إلى آخره ثم ذرعوه من فوق الرماح حتى عرفوا ما يدخل فى المسجد من ذلك و ما يبقى فى الوادى(1).

ثم خرج المهدى إلى العراق و خلف الأموال فاشتروا من الناس دورهم و وسعوا المسجد، و لم يكمل ذلك إلا فى خلافة ابنه موسى الهادى لمعاجلة المنية للمهدى(2).

و كان مما عمل بعد موته بعض الجانب اليمانى و بعض الغربى و أنفق المهدى رحمه اللّه فى ذلك أموالا عظيمة بحيث صار ثمن كل ذراع فى ذراع مكسر مما دخل فى المسجد الحرام خمسة و عشرين دينارا، و ثمن كل ذراع مكسر مما دخل فى الوادى خمسة عشر دينارا و نقل إلى المسجد الحرام أساطين الرخام من مصر و غيرها فى السفن حتى أنزلت بجدّة، و حملت منها على العجل إلى مكة(3).

قال الأزرقى: و وسع المهندسون باب بنى هاشم الذى يستقبل الوادى، و جعلوا الباب الذى بإزائه من أسفل المسجد يعنى من الجانب الغربى يستقبل خط الحزامية، يقال له باب البقالين و هو معروف. و قالوا: إذا جاء سيل عظيم و دخل المسجد خرج من ذلك الباب(4) انتهى بمعناه.

هذا عمل المهدى فى النوبة الثانية و استمر كذلك إلى يومنا هذا و اللّه أعلم.

أقول: باب بنى هاشم الذى ذكره الأزرقى باب علىّ الآن نبه على ذلك الفاسى.

و باب البقالين لعله المعروف الآن بباب الحزورة، فإن الفاسى رحمه اللّه عرف باب الحزورة بأن الغالب عليه باب الحزامية، و قال: لأنه يلى خط الحزامية لا باب إبراهيم. لأن الأزرقى لم يذكره و إنما حدث بعده. و أيضا قول الأزرقى: و جعل الذى بإزائه، يؤيد أنه باب الحزورة لأنه بإزاء باب على بمعنى مقابله.

ص: 180


1- 332. ( 1) إخبار الكرام ص 182.
2- 333. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 80، إخبار الكرام ص 183.
3- 334. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 80.
4- 335. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 80.

و أما باب إبراهيم فقد أدركته و هو واطئ جدا و إنما رفع و عمل له هذه الدرجة فى حدود سنة خمسة عشر أو ستة عشر و تسعمائة فى دولة الأشرف الغورى على يد الأمير خاير بك المعروف بالمعمار. و قد شاهدت عمارته و أنا إذ ذاك فى المكتب و كانت السيول إذا دخلت المسجد إنما تخرج منه، و الآن كذلك إنما يخرج السيل من القبو الذى تحته لأنه لما رفع جعل تحته العقود بالحجارة المنحوتة لمصرف السيل. انتهى.

فصل فى ذكر الزيادتين و خبر عمارتهما و ذرعهما و ذرع المسجد الحرام و عدد منائره و أبوابه

اعلم أنه لم يزد فى المسجد الحرام بعد عمارة المهدى رحمه اللّه سوى هاتين الزيادين دار الندوة التى فى الجانب الشامى من المسجد، و زيادة باب إبراهيم فى الجانب الغربى منه.

أما زيادة دار الندوة فسببها كما نقله الفاسى عن إسحاق الخزاعى أن بعض أهل الخير كتب إلى وزير الخليفة المعتضد العباسى يحثه(1) على جعل ما بقى من دار الندوة مسجدا و يقول: إن هذه مكرمة لم تتهيأ لأحد من الخلفاء بعد المهدى. فلما بلغ ذلك المعتضد عظمت رغبته و أخرج لذلك مالا عظيما فأخرجت القمائم من دار الندوة و جعلت مسجدا و وصلت بالمسجد الكبير، و عمره بأساطين و طاقات و أروقة مسقفة بالساج المزخرف ثم فتح لها فى جدار المسجد الكبير اثنى عشر بابا بعقود ستة كبار و بينهم ستة صغار، و جعل فى هذه الزيادة ثلاثة أبواب بابان طاقان طاقان: و باب طاق واحد شارعة إلى الطريق التى حولها، و جعل سقفها مسامتا لسقف المسجد الكبير، و بنى فيها منارة و شرفا و فرغ من ذلك فى ثلاث سنين(2).

قال الفاسى رحمه اللّه: و لم يبيّن إسحاق الخزاعى السنة التى فرغ فها من عمارة هذه الزيادة، و لعل ذلك كان فى سنة أربع و ثمانين و مائتين على مقتضى ما ذكره إسحاق، من أن الكتابة إلى المعتضد بسبب إنشائها كانت فى سنة إحدى و ثمانين(3) و مائتين.

ثم ذكر أن القاضى محمد بن موسى لما كان إليه أمر البلد غيّر الطاقات التى كانت فى

ص: 181


1- 336. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« تحية».
2- 337. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 363.
3- 338. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 363.

جدار المسجد الكبير و جعل ذلك بأساطين حجارة مدورة عليها ملابن ساج بعقود من الآجر و الجص الأبيض، و وصله بالمسجد الكبير وصولا أحسن من الأول، حتى صار من فى دار الندوة من مصلّ و مستقبل يرى القبلة كلها، و كان ذلك فى سنة ست و ثلاثمائة(1).

و أما الزيادة التى بالجانب الغربى المعروفة بزيادة باب إبراهيم، فنقل الفاسى رحمه اللّه أنه لما كانت أيام جعفر المقتدر باللّه أمير المؤمنين أمر أن يجعل هذا المحل مسجدا و يوصل بالمسجد بالكبير، فعمل على ما هو عليه اليوم فاتسع(2) الناس به و صلّوا فيه، و ذلك فى سنة ست أو سبع و ثلاثمائة. انتهى.

و السبيل الذى بالزيادة المذكورة من عمل الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاون، أنشأه فى حدود سنة تسع و خمسين و سبعمائة أو فى التى بعدها(3).

و أما ما وقع فى المسجد من العمارة و التجديد فكثير، منها العمارة الكبيرة التى كانت فى سنة أربع و ثمانمائة، و إنما ذكرتها دون ما كان قبلها و بعدها من العمائر لكونها أعظم من غيرها مما عمر بعد الخلفاء، و لما ظهر من همة الأمير المباشر لذلك و قوة العزم. و سبب ذلك أن فى ليلة السبت الثامن و العشرين من شوال سنة اثنتين و ثمانمائة ظهرت نار من رباط رامشت المعروف الآن برباط ناظر الخاص عند باب الحزورة المصحف بباب عزورة بالجانب الغربى من المسجد الحرام، فلم يكن غير لحظة حتى تعلقت بسقف المسجد و عم الحريق الجانب الغربى و بعض الرواقين المقدمين من الجانب الشامى بما فى ذلك من السقوف و الأساطين الرخام و صارت قطعا، و انتهى الحريق إلى محاذاة باب العجلة، فصار ما احترق أكواما عظيمة تمنع من الصلاة فى موضعها و من رؤية البيت الشريف. ثم من اللّه تعالى بعمارة ذلك فى مدة يسيرة على يد الأمير بيسق الظاهرى و كان قدومه لذلك فى موسم سنة ثلاث و ثمانمائة، فلما رحل الحاج من مكة شرع فى رفع تلك الأكوام حتى فرغت، ثم ابتدأ فى العمارة حتى عاد ذلك كما كان، و كان الفراغ من عمارة ذلك فى أواخر شعبان سنة أربع و ثمانمائة(4).

ص: 182


1- 339. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 364.
2- 340. ( 2) لدى الفاسى:« فانتفع».
3- 341. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 364.
4- 342. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 365.

و عجب الناس كثيرا من سرعة العمارة فى هذه المدة لأن من رأى ذلك قبل العمارة كان يقطع بأن هذه العمارة إنما تتم فى مدة سنين باعتبار العادة فى العمارة، فسهل اللّه فراغها فى تلك المدة، و جعلت الأساطين التى فى الجانب الغربى كلها من حجارة منحوتة و كذلك الجانب الشامى ما خلا أساطين يسيرة فى مقدمه، فإنها رخام مكسر ملصق بالحديد، و هذا كله ظاهر بين و لم يبق من ذلك إلا سقف الجانب الغربى لتعذر خشب الساج. ثم عمل ذلك من خشب العرعر فى أوائل سنة سبع و ثمانمائة- بتقديم السين- على يد الأمير بيسق المذكور، و كانت العمارة المذكورة فى أيام السلطان الناصر فرج بن برقوق(1).

ذكر منائر المسجد الحرام

فى المسجد الحرام الآن ست منائر: أربعة فى الأركان، و الخامسة فى زيادة دار الندوة، و السادسة بمدرسة السلطان الأشرف قايتباى رحمه اللّه تعالى المجاورة لباب السلام على يسار الداخل إلى المسجد عمرت فى حدود الثمانين و الثمانمائة. و الخمس المنائر قديمة، أما منارة زيادة دار الندوة فعمرت مع الزيادة المذكورة من قبل المعتضد العباسى كما تقدم و أما الأربعة التى بالأركان، فالأولى تعرف بمنارة عزورة لأنها على باب عزورة، و الثانية على باب على و تعرف بمنارة على، و الثالثة على باب العمرة و تعرف بمنارة باب العمرة، و الرابعة تسمى بمنارة باب السلام لأنها على باب السلام، و لم أقف على من أنشأ هذه الأربع المنائر(2). غير أن الفاسى رحمه اللّه ذكر أن المنصور عمر منارة باب العمرة، و عمر ابنه المهدى المنائر الثلاث التى على باب السلام و التى على باب علىّ، و التى على باب الحزورة. (أقول) المفهوم من كلام الفاسى بقوله عمر المنصور منارة باب العمرة، و عمّر ابنه المهدى إلى آخره(3)، أن مراده بذلك الترميم و التجديد لا الإنشاء بدليل قوله بعد ذلك: و عمر الجواد جمال الدين محمد بن على الأصفهانى وزير صاحب الموصل منائر المسجد. و كذا قوله: و عمّرت منارة باب الحزورة فى زمن الأشرف شعبان صاحب مصر، و كانت سقطت فى سنة إحدى و تسعين و سبعمائة. و كذا قوله: و عمرت منارة باب بنى شيبة

ص: 183


1- 343. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 366، إخبار الكرام ص 187.
2- 344. ( 2) إخبار الكرام ص 188.
3- 345. ( 3) شفاد الغرام ج 1 ص 386.

فى زمن الناصر فرج، و ذلك بعد أن سقطت فى سنة تسع و ثمانمائة لأن السقوط يستدعى تقدم البناء قبل ذلك(1).

و لو وقف الفاسى على من أنشأ ذلك لذكره كما هو دأبه فى استيفاء الكلام و تبيين الأمور على أحسن الوجوه و أكملها. انتهى.

و كانت منائر أخر فى غير المسجد الحرام على رءوس الجبال يؤذن فيها، نقله الفاسى عن الفاكهى. فمن ذلك على جبل أبى قبيس أربع منائر، و على رأس الجبل(2) الأحمر المقابل له منارة، و على الجبل المشرف على شعب ابن عامر منارة و من ذلك منارة تشرف على المجزرة، و منارة على جبل تفاحة، و منارة على جبل خليفة بن عمر البكرى، و منارة على كدىّ بضم الكاف تشرف على وادى مكة. (فهذه المنائر) كلها تنسب إلى عبد اللّه بن مالك الخزاعى من خدام أمير المؤمنين هارون الرشيد. و لبغا مولى أمير المؤمنين عدة منائر أيضا من ذلك منارة على رأس الفلق، و منارة على الأحمر، و منارة على جبل خليفة كما لعبد اللّه، و منارة على جبل المقبرة، و منارة على جبل الحزورة، و منارتان على جبل عمر بن الخطاب و لعله المسمى بالنوبى، و منارة على جبل الأنصار الذى يلى أجياد، و منارة على ثنية أم الحارث المشرف على الحصحاص، و سيأتى تعريفه و موضعه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى، و منارة على الجبل المشرف على الخرمانية، و منارة مشرفة على الخضير أو بئر ميمون، و منارة بمنى عند مسجد الكبش، فهذه كلها لبغا و كان لهذه المنائر فيما مضى أناس يؤذنون للصلاة تجرى عليهم الأرزاق فى كل شهر. ثم قطع ذلك لتغيير الأحوال و تطاول الأزمان. و اللّه أعلم(3).

ذكر ذرع المسجد الحرام و الزيادتين

نقل الأزرقى أن ذرع المسجد الحرام مكسرا مائة ألف ذراع و عشرون ألف ذراع(4).

و أما طول المسجد الحرام و عرضه فقد حرره الفاسى رحمه اللّه بذارع الحديد، فكان طوله من وسط جداره الغربى الذى هو جدار رباط الخوزى- بضم الخاء المعجمة و بعدها واو ثم زاء معجمة- إلى وسط جداره الشرقى الذى عند باب الجنائز مع المرور فى نفس الحجر

ص: 184


1- 346. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 386.
2- 347. ( 2) سقطت من المطبوع.
3- 348. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 387 و 388.
4- 349. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 81.

- بكسر الحاء- و اللصوق بجدار الكعبة الشامى ثلاثمائة ذراع و ستة و خمسين ذراعا و ثمن ذراع بالذراع المذكور، و يكون ذلك بذراع اليد أربعمائة ذراع و سبعة أذرع. و كان عرضه من وسط جداره القديم الذى يدخل منه إلى زيادة دار الندوة إلى وسط جدار المسجد اليمانى فيما بين بابى المسجد باب الصفا و باب أجياد مارا كذلك فيما بين مقام إبراهيم و الكعبة و أنت إلى المقام أقرب مائتى ذراع و ستة و ستين ذراعا بذراع الحديد، و يكون ذلك بذراع اليد ثلاثمائة ذراع و أربعة أذرع، و كان تحريره لذلك فى ليلة الخميس السابع و العشرين من ربيع الأول سنة أربع عشرة و ثمانمائة(1).

فائدة: أخرج الأزرقى بسنده إلى أبى هريرة رضى اللّه عنه أنه قال: إنا لنجد فى كتاب اللّه تعالى أن حد المسجد الحرام من الحزورة إلى المسعى. و أخرج أيضا بسنده إلى عمرو بن العاص رضى اللّه عنه أنه قال: أساس المسجد الحرام الذى وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزورة إلى المسعى إلى مخرج سيل أجياد. ثم قال: و المهدىّ وضع المسجد على المسعى انتهى(2).

ذكر ذرع زيادة دار الندوة

أما ذرعها طولا و ذلك من جدار المسجد الكبير إلى الجدار المقابل له الشامى الذى عنده باب المنارة أربعة و سبعون ذراعا- بتقديم السين- إلا ربع ذراع بذراع الحديد، و ذرع عرضها من وسط جدارها الشرقى إلى وسط جدارها الغربى سبعون ذراعا و نصف- بتقديم السين- و هذا ذرع الأروقة مع الصحن، و أما ذرع الصحن وحده فطوله من الأساطين التى فى مقدم الجانب الجنوبى مما يلى المسجد الكبير إلى الاساطين التى فى مقدم الجانب الشمالى سبعة و ثلاثون ذراعا- بتقديم السين- و عرضه كذلك بزيادة سدس ذراع بذراع الحديد(3).

ص: 185


1- 350. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« و ثلاثمائة» و صوابه من د، و الفاسى، و انظر الخبر لديه ج 1 ص 369 و 370.
2- 351. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 62.
3- 352. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 372.

ذكر ذرع زيادة باب إبراهيم

أما طولها و ذلك من الأساطين التى تلى المسجد الكبير إلى العتبة التى فيها باب هذه الزيادة فسبعة و خمسون ذراعا إلا سدس ذراع- بتقديم السين- و أما عرضها من جدار رباط الخوزى- بضم الخاء و كسر الزاى المعجمتين بينهما واو- إلى جدار رباط رامشت المقابل له فاثنان و خمسون ذراعا و ربع و ذلك ذرع الأروقة من الصحن، و ذرع الوسط وحده طولا من الأساطين الشرقية التى تلى المسجد الكبير إلى باب إبراهيم ستة و ثلاثون ذراعا و ربع و ثمن. و ذرعه عرضا ثلاثة و ثلاثون ذراعا و نصف بالحديد. هذا تحرير الفاسى رحمه اللّه

أقول(1): كان ذرع زيادة باب إبراهيم كما ذكره الفاسى، و أما فى وقتنا هذا فينقص ذرع هذه الزيادة بعض أذرع يسيرة، بمقتضى تغيير الباب و رفعه، و ما أحدثه الأمير خاير بك المعروف بالمعمار الجركسى من البلاط و الدرج البارزة إلى نفس المسجد و زوال تلك العتبة الأولى كما قدمته آنفا. انتهى و اللّه الموفق.

ذكر كيفية المقامات التى هى الآن فى زمننا موجودة بالمسجد الحرام و بيان مواضعها و كيفية الصلاة فيها و ما فى المسجد من القبب و السقايات و غيرها

أما المقامات فأربع: مقام الشافعى، و صفته بترتان(2) عليهما عقد لطيف مشرف من أعلاه مبيض بالنورة و خشبة معترضة للقناديل، و هو خلف مقام الخليل عليه السلام. و أما مقام الحنفى فكان قديما أربع أساطين من حجارة عليها سقف مدهون مزخرف و أعلاه مما يلى السماء مطلى بالنورة، و بين الأسطوانتين المقدمتين محراب مرخّم، و كان ابتداء عمله على هذه الصفة فى أواخر سنة إحدى و ثمانمائة، و انتهى فى أوائل سنة اثنين و ثمانمائة كذا ذكره الفاسى(3).

ص: 186


1- 353. ( 1) سقطت من المطبوع.
2- 354. ( 2) البتر: القوائم.
3- 355. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 391.

ثم قال و أنكر عمله على هذه الصفة جماعة من العلماء منهم الشيخ العلامة زين الدين الفارسكورى الشافعى، و ألف فى ذلك تأليفا حسنا، و الشيخ سراج الدين البلقينى و ولده الإمام العلامة قاضى القضاء بالديار المصرية شيخ الإسلام جلال الدين، و كان إذ ذاك متوليا و باقى القضاة، و أفتوا بهدم هذا المقام و تعزير من أفتى بجوار بنائه على هذه الصفة، و رسم ولى الأمر بهدمه، فعارض فى ذلك بعض ذوى الهوى فلم يتم الأمر(1).

و سبب الإنكار ما حصل من شغل الأرض بالبناء و قلة الانتفاع بموضعه و ما يتوقع من إفساد أهل اللهو فيه لأجل سترته لهم انتهى(2).

و سبب المعارضة أن جماعة من علماء الحنفية إذ ذاك أفتوا بجواز بقائه على هذه الصفة لما فيه من النفع لعامة المسلمين من الاستظلال من حر الشمس و التوقى من البرد و المطر، و أن حكمه حكم الأروقة و الأساطين الكائنة بالمسجد الحرام. ثم فى سنة ست و ثلاثين و ثمانمائة كشف الأمير سودون المحمدى سقف المقام المذكور و عمره و زخرفه أحسن مما كان، و وضع عليه من أعلاه قبة من خشب مبيضة تظهر من فوق و لا أثر لها من داخل المقام، و فرش فيه حجارة حمرا تقرب من حجر الماء، و لم يكن هذا فيه قبل ذلك، ثم جدّد بعد ذلك مرارا آخرها فى حدود عام سبعة عشر و تسعمائة، و قد أدركته، و هو على هذه الصفة، و استمر كذلك إلى عام أربعة و عشرين و تسعمائة.

فلما حج الأمير مصلح الدين الرومى فى موسم سنة ثلاث و عشرين فى أول ولاية مولانا السلطان سليم بدا له أن يهدمه، فهدمه فى أول عام أربعة و عشرين و جعله قبة كبيرة شامخة على أربع بتر عراض جدا بأربع عقود كل ذلك من حجر يعرف عند أهل مكة بحجر الماء، يؤتى به من جهة الحديبية أحمر و أصفر منحوت، و زاد فى طوله و عرضه، و أراد إيصاله بالمطاف فعرف بأن ذلك يؤدى إلى قطع الصف الأول الذى يصلى خلف إمام الشافعية، فاقتصر و انتهى بمحرابه إلى إفريز حاشية المطاف، و استمر الأول متصلا، و استمرت هذه القبة كذلك نحو خمس و عشرين سنة فلما كان فى عام تسعة و أربعين و تسعمائة برز أمر مولانا سلطان الإسلام بهدم هذه القبة لما أنهى إليه من شموخها و أخذها جانبا كبيرا من المسجد.

ص: 187


1- 356. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 392.
2- 357. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 392.

و كان هدمها من كرامات الشيخ محمد بن عراق رحمه اللّه، فإنى سمعت من غير واحد عن الشيخ المذكور أنه كان يقول: لا بد أن تهدم هذه القبة، و كان كذلك و كرامات الولى حق. فلما برز الأمر بذلك بادر إلى هدمها الأمير خشقلدى، صاحب الهمم العالية، مزيل المنكرات، و موسع الطرقات، نقمة اللّه على أهل المفاسد، نائب جدة المحروسة و مباشر العمائر السلطانية المأنوسة. أعزه اللّه تعالى، و كان له و أحسن إليه. فبادر إلى امتثال الأمر و حضر بنفسه على جارى عادته فى علو الهمة و هدم القبة المذكورة و ذلك فى أوائل شهر رجب أحد شهور عام تسعة و أربعين و تسعمائة.

ثم شرع فى بناء مقام عظيم فى الشهر المذكور و صفته أربع بتر لطاف فى الأركان من أنقاض القبة الأولى من حجر الماء و ستة أعمدة من حجر الصوان مثمنة كل عمود قطعة واحدة. فمن ذلك عمودان بين البترتين المقدمتين إلى جهة القبلة، و عمودان بين البترتين المؤخرتين، و عمود بين البترتين من ناحية باب العمرة، و عمود بين البترتين من جهة باب السلام مقابل له، و على ذلك عشرة عقود لطاف و شقة ثلاثة منها إلى جهة القبلة و ثلاثة منها إلى جهة آخر المقام مقابلة للثلاثة الأولى و عقدان إلى جهة باب العمرة عن يمين من كان جالسا فى المقام مستقبل القبلة و عقدان مقابلان لهما إلى جهة باب السلام و فوق ذلك سقف مزخرف من خشب الساج بصناعة ظريفة و كان تركيب هذا السقف فى يوم الخميس غرة شعبان أحد شهور العام المذكور آنفا.

ثم جعل فوق هذا السقف ظلة للمبلغين بأربع بتر و ستة أعمدة ألطف من الأعمدة التحتانية على حكم ما جعل أسفل، عليها سقف مزخرف بعمل محكم و فوق هذا السقف جملون عليه رصاص إلى جهة السماء لدفع المطر، و فى أرض السقف الأول طاقة فى وسطه يرى المبلغ منها الإمام و جعلت درجة لطيفة يصعد منها المبلغ إلى الظلة فى وقت المكتوبات.

و كان ابتداء تركيب سقف الظلة فى يوم الثلاثاء رابع شهر رمضان و انتهى بعد الترصيص فى ثالث عشر رمضان من العام المذكور(1).

و أما مقام المالكى و الحنبلى فكان قديما كمقام الشافعى المتقدم بترتان عليهما عقد،

ص: 188


1- 358. ( 1) إخبار الكرام ص 195 و 196.

و فى أعلاه نحو ثلاث شراريف غير أن بين البترتين من أسفل جدارا لطيفا فيه محراب فى هذين المقامين فقط.

و نقل الفاسى رحمه اللّه فى كتابه «شفاء الغرام» أن ابتداء عمارة هذه الثلاث المقامات على هذه الصفة المذكورة كان فى سنة سبع و ثمانمائة، ثم قال: و قد ذكرنا صفتها القديمة فى أصل هذا الكتاب يعنى به أصل «شفاء الغرام» و لم يوجد هذا الأصل بعد الفاسى و لا عثر عليه مطلقا. فما كان من مقام الشافعى فهو كذلك إلى يومنا هذا.

و أمام مقام المالكى و الحنبلى فقد أدركتهما كذلك ثم غيرا بعد الثلاثين و تسعمائة قبل تأليفنا لهذا الكتاب بأحسن مما كانا عليه فى أيام مولانلا الخنكار(1) الأعظم سلطان الإسلام خان أدام اللّه أيامه، و رفع بالنصر و التأييد أعلامه، و صفتهما الآن كل مقام بأربع أساطين مثمنة الشكل كل أسطوانة قطعة واحدة من الحجر الصوان المكى، و تحت كل أسطوانة قاعدة منحوتة بتربيع و تثمين و فوقها أخرى كذلك من الحجر الصوان و فوق ذلك سقف من الخشب المدهون المزخرف و فوقه إلى جهة السماء أخشاب هيئة جملون عليها صفائح الرصاص لأجل المطر، و فى كل مقام محراب فيما بين الأسطوانتين المقدمتين إلى جهة القبلة و هما كذلك إلى هذا التاريخ، و كان المباشر لذلك عبد الكريم اليازجى الرومى و اللّه أعلم.

ذكر كيفية صلاة الأئمة بهذه المقامات و بيان مواضعها من المسجد الحرام

أما كيفية الصلاة فإنهم فى زماننا هذا يصلون مرتبين، الشافعى فى مقام الخليل عليه السلام ثم الحنفى إمام الحنفية بعده فى مقام الحنفية، ثم إمام المالكية بعده فى مقامه المتعين له، ثم إمام الحنابلة بعده فى مقامه، و هذا فى الأربع الفروض الفجر و الظهر و العصر و العشاء و أما صلاة المغرب فكان فيما أدركناه قريبا يصلى الحنفى و الشافعى معا فى وقت واحد، فحصل بذلك التخليط و التشويش على المصلين من الطائفتين بسبب اشتباه أصوات المبلغين فأنهى ذلك إلى مولانا السلطان سليمان، فبرز أمره بالنظر فى ذلك و إزالة هذا التخليط.

ص: 189


1- 359. ( 1) الخنكار: بمعنى الموفق، و هى لقب لسلاطين الدولة العثمانية.

فاجتمع القضاة و الأمير على بك نائب جدة فى الحطيم و اقتضى رأيهم أن الحنفى يتقدم فى صلاة المغرب و عند التشهد يدخل إمام الشافعى و كان هذا فى حدود إحدى و ثلاثين و تسعمائة، و استمر ذلك إلى وقتنا هذا عام تسعة و أربعين و تسعمائة فجزى اللّه الساعى فى ذلك خيرا، و أما المالكى و الحنبلى فلا يصلون المغرب فيما أدركناه.

و أما كيفية الصلاة فيما تقدم من الزمان فكانوا يصلون مرتبين كما فى الأربع الفروض المتقدمة إلا أن المالكى كان يصلى قبل الحنفى مدة، ثم تقدم عليه الحنفى بعد التسعين- بتقديم التاء على السين- و سبعمائة و نقل الفاسى عن ابن جبير ما يقتضى أن كلا من الحنفى و الحنبلى كان يصلى قبل الآخر، أما صلاة المغرب فكانوا يصلونها جميعا أعنى الأربعة الأئمة فى وقت واحد فيحصل للمصلين بسبب ذلك لبس كثير من اشتباه أصوات المبلغين و اختلاف حركات المصلين، فأنكر العلماء ذلك و سعى جماعة من أهل الخير عند ولى الأمر إذ ذاك و هو الناصر فرج بن برقوق الجركسى صاحب مصر فبرز أمره فى موسم سنة إحدى عشرة و ثمانمائة بأن الإمام الشافعى بالمسجد الحرام يصلى المغرب بمفرده فنفذ أمره بذلك(1).

و استمر الحال كذلك إلى أن تولى الملك المؤيد شيخ صاحب مصر، فرسم بأن الأئمة الثلاثة يصلون المغرب كما كانوا قبل ذلك، فابتدأوا بذلك فى ليلة السادس من ذى الحجة عام ستة عشر و ثمانمائة(2) و استمروا يصلون كذلك إلى ...(3).

و أما وقت حدوث صلاة الأئمة المذكورين على الكيفية المتقدمة، فقال الفاسى رحمه اللّه: لم أعرفه تحقيقا، ثم نقل ما يدل على أن الحنفى و المالكى كانا موجودين مع الشافعى فى سنة سبع و تسعين- بتقديم السين، فى الكلمة الأولى و التاء فى الثانية- و أربعمائة و أن الحنبلى لم يكن موجودا فى ذلك الوقت، و إنما كان إمام الزيدية. ثم قال:

و وجدت ما يدل على أن إمام الحنابلة كان موجودا فى عشر الأربعين و خمسمائة(4) و اللّه تعالى أعلم.

و أما بيان محل المقامات المذكورة من المسجد الحرام:

ص: 190


1- 360. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 393.
2- 361. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 394.
3- 362. ( 3) بياض بالأصلين.
4- 363. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 395.

فإن مقام الشافعى خلف مقام الخليل و لكن ما يصلى إمام الشافعية إلا فى مقام الخليل قديما و حديثا، و مقام الحنفى بين الركنين الشامى و يسمى العراقى أيضا، و الغربى عن يمين مقام الخليل فى جهة الشام تجاه جدار الكعبة الذى فيه الميزاب قريب من حاشية المطاف، و مقام المالكى بين الركنين الغربى، و اليمانى قريب من الحاشية، و مقام الحنبلى تجاه الحجر الأسود و قربه من المطاف كقرب مقام الحنفى.

ذكر ما فى المسجد الحرام من القبب و غيرها

فيه الآن قبتان كبيرتان متقاربتان جدا إلى جانب بئر زمزم من جهة المشرق: إحداهما و هى التى تلى زمزم معدة لمصالح المسجد كالمصاحف و الربعات الموقوفة و حفظ الفوانيس و الشمع و الشمعدانات النحاس و المسارج النحاس و الكراسى الخشب التى ترفع عليها الرباع، و ما أشبه ذلك من الأشياء الموقوفة لمصالح المسجد الحرام. و لم أقف على ابتداء عمارتها متى كانت (و قد) جددها الناصر العباسى، و كانت موجودة قبله(1).

و ذكر الفاسى رحمه اللّه ما يدل على أنها قديمة لأنه نقل عن ابن عبد ربه أنه ذكرها فى «العقد»(2) و أن ابن عبد ربه توفى سنة ثمان و عشرين و ثلاثمائة و نقل أيضا عن ابن جبير أنه ذكر هذه القبة فى أخبار «رحلته»(3) و ذكر أنها تنسب لليهودية و لم يبين سبب هذه النسبة.

(و القبة الثانية) هى سقاية العباس عمرت فى سنة 807، و خلف سقاية العباس ملاصقا لجداره محل لطيف مسقوف فيه آلات الوقادة كالعيدان التى ينزل بها القناديل و يسرج بها، و كالقصب المجوف الذى يطفأ به المصابيح، و بعض شى ء من الزيت الذى يحتاج إليه لوقيد الشهر، و بعض شى ء من القناديل الزجاج و الحراريق التى توقد على المقامات فى الليالى المباركة كليلة أول المحرم و ليلة العشر منه و ليلة النصف من شعبان و ليلة أوائل الشهور و غير هذا.

و منها: فى المسجد الحرام بئر زمزم، و محلها تجاه الحجر الأسود فى محل مرخم عليه سقف و فوقه ظلة مسقفة بالخشب المزخرف، و فوقه جمالون بقبة فى الوسط مصفح بالرصاص و قد جدد ذلك فى عام ثمانية و أربعين و تسعمائة، على يد الأمير خشقلدى كان

ص: 191


1- 364. ( 1) إخبار الكرام ص 189 و ما بين حاصرتين منه.
2- 365. ( 2) العقد الفريد ج 6 ص 258.
3- 366. ( 3) رحلة ابن جبير ص 76.

اللّه له، تجديدا حسنا، و فى هذه الظلة خزانة لطيفة فيها مناكيب زجاج لمعرفة أوقات الصلاة، و إلى جانبها مزولة يعلم بها الماضى و الباقى من النهار، و فى الظلة يؤذن رئيس المؤذنين و يبلغ خلف إمام الشافعية فى الصلوات الخمس.

هذا و فى زيادة باب إبراهيم حاصلان مسقوفان باباهما فى نفس الزيادة معدان لحفظ أخشاب المسجد المنكسرة و المنائر الدائرة و الرصاص المتقلع و غير ذلك من الأنقاض، عمرا فى حدود عام سبعة عشر و تسعمائة أو فى الذى قبله فى زمن السلطان الغورى على يد الأمير خاير بك العلائى المعروف بالمعمار. هذا ما فى المسجد الحرام مما أعد لمصالحه.

و مما أحدث لمصالح المسجد الحرام حاصلان كبيران فى زيادة دار الندوة على يسار النازل من باب سويقة أحد أبواب المسجد الحرام أحدثهما الجناب الكريم ذو الهمة العظيمة و الرأى المستقيم الأمير خشقلدى أعز اللّه جنابه و أجزل أجره و ثوابه، و كان مبدأ عمارتهما فى شهر رجب أيضا عام تسعة و أربعين و تسعمائة، و كانت عمارتهما فى هذا المحل فى غاية الصواب لأن محلهما كان به دكة عالية و ربما يحصل فيها أو قد حصل من المفاسد ما اللّه أعلم به، فانصان ذلك المحل بعمارة هذين الحاصلين و زال ما يتوقع من المفاسد و نقل الزيت المتعلق بالمسجد من محله الأول الذى كان خارج المسجد إلى أحد هذين الحاصلين، و صار ذلك أحفظ له كل هذا بهمة الأمير المذكور و حسن رأيه جزاه اللّه تعالى خيرا و اللّه أعلم.

ذكر عدد أبواب المسجد الحرام و أسمائها و بيان محلها من المسجد

ذكر عدد أبواب المسجد الحرام(1) و أسمائها و بيان محلها من المسجد

للمسجد الحرام الآن من الأبواب تسعة عشر بابا بثمانية و ثلاثين منفذا، فمن ذلك بالجانب الشرقى أربعة أبواب بأحد عشر منفذا:

الأول: باب السلام و يعرف قديما بباب بنى شيبة و هو ثلاثة منافذ.

الثانى: باب الجنائز، و سمى بذلك لأن الجنائز قديما كان يخرج بها منه و هو منفذان.

ص: 192


1- 367. ( 1) انظر فى عدد أبواب المسجد الحرام: شفاء الغرام ج 1 ص 381، إخبار الكرام ص 198.

و عرفه الأزرقى بباب النبى صلى اللّه عليه و سلم لأنه كان يخرج منه إلى منزله دار خديجة زوجته و يدخل منه.

الثالث: باب العباس بن عبد المطلب لأنه يقابل داره التى بالمسعى و هو ثلاثة منافذ.

الرابع: باب علىّ و هو ثلاثة منافذ أيضا، و عرفه الأزرقى بباب بنى هاشم و بباب البطحاء أيضا.

(و من ذلك) بالجانب الشامى خمسة أبواب بسته منافذ:

الأول: باب الدريبة منفذ واحد على يمين الداخل إلى المسجد من باب السلام.

الثانى: باب سويقة فى صدر زيادة دار الندوة منفذان.

الثالث: باب الزيادة غربى الزيادة المذكورة على يمين الداخل إلى المسجد الحرام من باب سويقة و هو منفذ واحد.

الرابع: باب العجلة و سمى بذلك لكونه عند دار كانت تسمى قديما دار العجلة و لم أدر ما هذه العجلة و هو منفذ واحد.

الخامس: باب السدة لكونه سد ثم فتح. و عرفه الأزرقى بباب عمرو بن العاص رضى اللّه عنه، و سكن مؤلف هذا الجامع على يسار النازل من هذا الباب إلى المسجد الحرام بجوار المسجد فلله الحمد على اختصاصى بجوارين و هو منفذ واحد.

(و من ذلك) بالجانب الغربى ثلاثة أبواب بأربعة منافذ:

الأول: باب العمرة لأن المعتمرين من جهة التنعيم يخرجون منه و يدخلون منه فى الغالب و سماه الأزرقى باب بنى سهم و هو منفذ واحد.

الثانى: باب إبراهيم منفذ واحد كبير أكبر أبواب المسجد فى الزيادة التى بهذا الجانب.

قال الفاسى: و إبراهيم المنسوب إليه هذا الباب كان خياطا عنده على ما قيل كما ذكره البكرى فى كتاب «المسالك و الممالك» و أن العوام نسبوه إليه، و وقع للحافظ أبى القاسم ابن عساكر و ابن جبير و غيرهما من العلماء ما يقتضى أنه الخليل عليه السلام، و هو بعيد لا وجه له. و اللّه أعلم. انتهى.

ص: 193

الثالث: باب الحزورة المصحف الآن بعزورة- بالعين المهملة- و هو منفذان و عرفه الأزرقى بباب بنى حكيم بن حزام- بالحاء المهملة المكسورة و الزاى المعجمة- و بباب بنى الزبير بن العوام أيضا ثم قال: و الغالب عليه باب الحزامية لانه يلى خط الحزامية.

(و من ذلك) بالجانب الجنوبى سبعة أبواب بسبعة عشر منفذا:

الأول: باب أم هانئ بنت أبى طالب و بذلك عرفه الأزرقى و هو منفذان.

و ذكر الفاسى أنه يسمى بباب الملاعبة، لأنه بحذاء دار تنسب للقواد الملاعبة يعنى فى زمنه. و عرفه الآقشهرى بباب الفرج و نسبته إلى أم هانئ هو الأشهر إلى يومنا هذا، لأن ما يليه من المسجد كان دارا لأم هانئ و كان عندها بئر جاهلية فدخلت الدار و البئر فى المسجد فى زيادة المهدى الثانية. فحفر المهدى عوضا بئر على باب البقالين فى حد ركن المسجد الحرام نبه عليه الأزرقى.

أقول: لعل هذه البئر التى هى عند باب الحزورة على يسار الخارج من المسجد الحرام يغسل منها الأموات الطرحاء الفقراء الآن، فإنى لا أعلم هنا بئرا غيرها. و فى هذا دلالة على أن باب البقالين هو باب الحزورة كما سبق التنبيه عليه. انتهى.

الثانى: باب مدرسة الشريف عجلان لأنها بجانبه، كذا عرفه الفاسى. و عرفه الأزرقى بباب بنى تيم(1) و هو منفذان.

الثالث: باب المجاهدية لأن عنده مدرسة المالك المجاهد صاحب اليمن، كذا عرفه الفاسى و يقال له باب الرحمة. و ما عرفت سبب هذه التسمية. و ذكر الأزرقى أنه من أبواب بنى مخزوم و هو منفذان.

الرابع: باب أجياد الصغير منفذان كذا عرفه ابن جبير. و عرفه أيضا بباب الخلقيين(2) و لم أعرف ما المراد بذلك. و عرفه الأزرقى بباب بنى مخزوم.

الخامس: باب الصفا خمسة منافذ. و عرفه الفقهاء فى المناسك بباب بنى مخزوم و كذا

ص: 194


1- 368. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 90.
2- 369. ( 2) فى المطبوع:« الحلقيين» و فى د:« الخليفتين» و المثبت رواية ابن جبير، و الخبر لديه ص 81.

عرفه الأزرقى أيضا و سبب تعريف هذه الأبواب ببنى مخزوم كونهم كانوا ساكنين فى تلك الجهة.

السادس: باب البغلة- بباء موحدة و غين معجمة- و هو منفذان كذا عرفه الفاسى و لم أدر ما سبب هذه الشهرة. و عرفه الأزرقى بباب بنى سفيان.

السابع: باب بازان كذا سماه الفاسى، و قال: لأن عين مكة المعروفة ببازان عنده و عرفه الأزرقى بباب بنى عائد و هو منفذان.

أقول: فى عبارة الفاسى بعض تسامح، لأن بازان هو المحل الذى تمر فيه عين مكة ينزل إليه بدرج لا نفس العين الجارية، و كل محل ينزل إليه بدرج و يكون مستطيلا يسمى بازان فى عرف أهل هذا الزمان. و فى مكة الآن ثلاثة أماكن الثالث بغير درج و الظاهر أن درجة أزيلت فيحتمل أن عين مكة كانت تسمى فى ذلك الوقت بازان. و سمى هذا المحل باسم العين و يحتمل أن يكون من باب تسمية الحال باسم المحل. انتهى. فهذه عدة أبواب المسجد الحرام الموجودة الآن و اللّه أعلم.

ص: 195

ص: 196

الباب الثامن فى فضل أهل مكة و احترامهم و مزيد شرفهم و إكرامهم و ذكر شى ء من فضل قريش و نسبة النبى صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه العشرة

اشارة

روى الأزرقى فى «تاريخه» عن وهب بن منبه، أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض استوحش لما رأى من سعتها و لم ير فيها أحدا غيره، فقال: يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها و يقدس لك غيرى؟ فقال له: سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدى و يقدس لى، و سأجعل فيها بيوتا لذكرى و يسبحنى فيها خلقى، و سأبوئك فيها بيتا أختاره لنفسى و أختصه بكرامتى، و أوثره على بيوت الأرض كلها باسمى فأسميه بيتى و أنطقه بعظمتى و أجوزه بحرماتى، و أجعله أحق بيوت الأرض كلها و أولاها بذكرى، و أجعله فى البقعة التى اخترت لنفسى، فإنى اخترت مكانه يوم خلقت السموات و الأرض، و أجعل ذلك البيت لك و لمن بعدك حرما و أمنا، أحرّم بحرماته ما فوقه و ما تحته و ما حوله، فمن حرمه بحرمتى فقد عظم حرماتى، و من أحله فقد أباح حرماتى، و من آمن أهله فقد استوجب بذلك أمانى، و من أخافهم فقد أخفرنى فى ذمتى، و من عظم شأنه عظم فى عينى، و من تهاون به فقد صغر فى عينى، و لكل ملك حيازة مما حواليه، و بطن مكه خيرتى و حيازتى و جيران بيتى و عمارها وفدى و أضيافى فى كنفى ضامنون على فى ذمتى و جوارى، فأجعله أول بيت وضع للناس و أعمره بأهل السماء و أهل الأرض يأتون أفواجا شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق، يعجون بالتكبير عجيجا و يرجون بالتلبية رجيجا، و ينتحبون بالبكاء نحيبا.

فمن اعتمره لا يريد غيره فقد زارنى و وفد إلى و نزل بى، و من نزل بى فحقيق على أن أتحفه بكرامتى و حق على الكريم أن يكوم وفده و أضيافه و أن يسعف كل واحد منهم بحاجته.

تعمره يا آدم ما كنت حيا ثم تعمره من بعدك الأمم و القرون و الأنبياء أمة بعد أمة و قرن

ص: 197

بعد قرن و نبى بعد نبى حتى ينتهى ذلك إلى نبى من ولدك و هو خاتم النبيين، فأجعله من عماره و سكانه و حماته و ولاته و سقاته، يكون أمينى عليه ما كان حيا.

و أجعل اسم ذلك البيت و ذكره و شرفه لنبى من ولدك قبل هذا النبى و هو أبوه يقال له إبراهيم، أرفع له قواعده و أقضى على يديه عمارته، و أنيط له سقايته، و أريه حله و حرمه و مواقفه، و أعلمه مشاعره و مناسكه و أجعله أمة واحدة قانتا لى قائما بأمرى أجتبيه و أهديه إلى صراط مستقيم، أستجيب له فى ولده و ذريته من بعده.

و أشفعه فيهم فأجعلهم أهل ذلك البيت و ولاته و حماته و سقاته و خدامه و خزانه و حجابه حتى يبتدعوا و يغيروا.

فإذا فعلوا ذلك فأنا اللّه أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء أجعل إبراهيم إمام أهل ذلك البيت و أهل تلك الشريعة، يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس و الجن يطئون فيها آثاره و يتبعون فيها سنته و يقتدون فيها بهديه.

فمن فعل ذلك منهم أو فى نذره و استكمل نسكه و من لم يفعل ذلك منهم ضيع نسكه و أخطأ بغيته، فمن سأل عنى يومئذ فى تلك المواطن أين أنا؟ فأنا مع الشعث الغبر الموفين بنذرهم المستكملين مناسكهم المبتهلين إلى ربهم الذى يعلم ما يبدون و ما يكتمون.

و ليس هذا الخلق و هذا الأمر الذى قصصت عليك شأنه يا آدم بزائد فى ملكى و لا عظمتى و لا سلطانى و لا شى ء مما عندى إلا كما زادت قطرة من رشاش وقعت فى سبعة أبحر، تمدها من بعدها سبعة أبحر لا تحصى بل القطرة أزيد فى البحر من هذا الأمر فى شى ء مما عندى و لو لم أخلقه لم ينتقص شى ء من ملكى و لا عظمتى و لا مما عندى من الغنى و السعة إلا كما نقصت الأرض ذرة وقعت فى جبالها و ترابها و حصاها و رمالها و أشجارها، بل الذرة أنقص للأرض من هذا الأمر لو لم أخلقه لشى ء مما عندى و بعد هذا من هذا مثلا للعزيز الحكيم. انتهى(1) بنصه.

و جاء فى الحديث أن سفهاء مكة حشو الجنة، كذا نقل عن أبى العباس الميورقى.

و وقع بين عالمين منازعة فى الحرم المكى فى تأويل هذا الحديث و سنده فكابر أحدهما

ص: 198


1- 370. ( 1) الخبر بطوله لدى الأزرقى ج 1 ص 46- 48.

و طعن فى سند الحديث و معناه، فأصبح و قد طعن أنفه و اعوجّ، و قيل له: إى و اللّه سفهاء مكة من أهل الجنة، سفهاء مكة من أهل الجنة، سفهاء مكة من أهل الجنة ثلاثا. فأدركه روع و خرج إلى الذى كان يكابره فى الحديث من علماء عصره، و أقر على نفسه بالكلام فيما لا يعنيه و فيما لم يحط به خبرا(1).

قال القاضى تقى الدين الفاسى رحمه اللّه: بلغنى أن الرجل المنكر للحديث هو الإمام تقى الدين محمد بن اسماعيل بن أبى الصيف اليمنى الشافعى نزيل مكة و مفتيها، و أنه كان يقول: إنما الحديث أسفاء مكة أى المحزونون فيها على تقصيرهم، و اللّه أعلم. انتهى(2).

و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه صلى اللّه عليه و سلم قال لمقبرة مكة: نعم المقبرة هذه. و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال: وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على المقبرة يعنى مقبرة مكة و ليس فيها يومئذ مقبرة قال: يبعث اللّه عز و جل من هذه البقعة أو من هذا الحرم سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم فى سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر، فقال أبو بكر رضى اللّه عنه و من هم يا رسول اللّه؟ قال: هم الغرباء. قال الجد رحمه اللّه بعد أن ذكر هذا الحديث فى «منسكه»: و إنما ذكرت هذا الحديث فى فضل أهل الحرم، لأن الغرباء المدفونين فى الحرم صاروا من أهل الحرم فى الجملة، و يروى أن أهل مكة كانوا يلقبون فيما مضى بأهل اللّه، و هذا من أهل اللّه، ذكره الأزرقى و غيره.

أقول: المراد بأهل مكة قريش و بما مضى حال شركهم و كفرهم كما ذكره أهل السير، فبالأولى أن يقال لهم بعد أن أكرمهم اللّه بدين الإسلام و أعزهم بنبيه صلى اللّه عليه و سلم، فطوبى لأهل مكة ثم طوبى. انتهى.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم، أنه سأل اللّه عما لأهل بقيع الغرقد؟ فقال لهم الجنة، فقال يا رب ما لأهل المعلاة؟ قال: يا محمد سألتنى عن جوارك فلا تسألنى عن جوارى، و الغرقد- بالغين المعجمة-.

و عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عتاب بن أسيد

ص: 199


1- 371. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 139.
2- 372. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 139.

على مكة قال له: هل تدرى إلى من أبعثك؟ أبعثك إلى أهل اللّه. زاد الأزرقى: فاستوص بهم خيرا. يقولها ثلاثا(1).

و أخرج الأزرقى أن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه عزل عامله رافع بن حارث الخزاعى لاستعماله على أهل مكة مولاه عبد الرحمن بن أبزى، و اشتد غضبه عليه لذلك، و لم يسكن غضبه عن رافع إلا حين أخبر أن ابن أبزى قارئ لكتاب اللّه تعالى عالم بالفرائض، و تواضع حينئذ عمر رضى اللّه عنه، و قال: لئن كان كذلك فقد سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: إن اللّه يرفع بهذا الدين أقواما و يضع به آخرين، و فى رواية بهذا القرآن(2).

أقول: ما تقرر من الفضل المذكور لأهل مكة، فهو على سبيل العموم للصالح منهم و الطالح كما دل عليه سياق الكلام الذى هو فى مقام الامتنان. و يشهد لذلك الحديث المتقدم آنفا سفهاء مكة حشو الجنة. و هذا مما لا يخفى على من له أدنى تأمل، و هذا الفضل لا يشاركهم فيه أحد بل تميزوا به و شاركوا غيرهم فى أعظم الأمور، و هو الإسلام، و كذلك الحج. فإن الواحد منهم منذ سقط رأسه و إلى حين وفاته يحج هذا البيت إذا كان مقيما فإن أحرم عنه وليه فى كل عام إلى حين بلوغه، فلا ريب فى تسميته حاجّا و حصول ثواب الحج النفل، و إلا فقد شهد المشاعر العظام و لا يتهيأ هذا لغيرهم، و هذا حال أكثرهم فلله الحمد و المنة على ذلك.

فلو خصص اللّه أحدا منهم بزيادة خلة- بفتح الخاء- و هى الخصلة من خصال الخير، إما علم أو ورع أو زهد أو تقوى أو صلاح، فلا ريب حينئذ فى زيادة فضله و شرفه و علو مقامه.

و أما من جمع اللّه فيه هذه الخصال فبخ بخ له، و أين ذاك، فإن كان من قريش و اجتمع فيه ما تقدم من النعوت فلا كلام حينئذ فى زيادة شرفه لما أن كثرة الخصال الحميدة و الأوصاف المجيدة مما يدل على شرف القائم بها و زيادة فضله، لا سيما إذا كان ثابت التوالد بمكة هو و أبوه و أجداده جاهلية و إسلاما، و ذلك لفضل قريش مطلقا على جميع العرب و لما خصهم اللّه به من سنى المجد و رفيع النسب. انتهى و اللّه الموفق.

ص: 200


1- 373. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 151.
2- 374. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 152.

فصل فيما ورد فى حق قريش من الآيات و الأحاديث و الآثار

اشارة

قال اللّه تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ السورة (سورة قريش) قال الكواشى: أصل الرحلة السير على الراحلة ثم استعمل لكل سير و قرئ بضم الراء، و هى الجهة يرحل إليها، و أراد رحلتى الشتاء و الصيف فأفرد للعلم به لأن قريشا كانت ترتحل كل عام للتجارة رحلتين رحلة شتاء إلى اليمن لأنه أدفأ، و رحلة صيف إلى الشام يستعينون بهم على المقام بمكة. و قريش من ولد النضر بن كنانة، و من لم يلده فليس بقرشى. انتهى. و الأشهر أن كل من كان من ولد فهر بن مالك فهو قرشى، و من لم يكن من ولده فليس بقرشى، و هو جماع قريش بأسرها، و الدليل على صحة ذلك أنه لا يعلم قرشى من كتب النسب اليوم أن قريشا تنسب إلى أب فوق فهر، و فهر لقب له و الذى سمته به أمه قريش.

و سيأتى آنفا سبب تسميته بذلك بأبسط من هذا إن شاء اللّه تعالى. قال صاحب «المدارك» و كانت قريش فى رحلتهم آمنين لأنهم أهل حرم اللّه فلا يتعرض لهم و غيرهم يغار عليهم. و التنكير فى جوع و خوف لشدتهما يعنى أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، و آمنهم من خوف عظيم، و هو خوف أصحاب الفيل أو خوف التخطف فى بلدهم و مسيرهم. و آمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدهم. انتهى ملخصا.

و قال تعالى: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ (سورة الزخرف: 44) قيل فى تفسيرها يقال، ممن هذا الرجل؟ فيقال: من العرب. فيقال: من أيهم؟ فيقال رجل من قريش.

و عن ابن عباس: و إنه لذكر لك و لقومك شرف لك و لقومك. و قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ (سورة الأنبياء: 10) أى فيه شرفكم و قال تبارك و تعالى: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (سورة الشعراء: 214) المراد قريش، و قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ أى كريم يعنى قريشا، و قال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (سورة الشورى: 23) أى لا أسألكم أجرا إلى ما أدعوكم

ص: 201

إليه إلا أن لا تؤذونى بقرابتى منكم و تخفطونى بها و لا تكذبونى قال ابن عباس رضى اللّه عنه: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أوسط النسب فى قريش ليس بطن من بطونهم إلا و قد ولده.

ما ورد فى حق قريش من الأحاديث

و أما ما ورد فى حقهم من الأحاديث فكثيرة من ذلك فى «صحيح البخارى» قوله صلى اللّه عليه و سلم: الناس تبع لقريش. و فيه أيضا: إن هذا الأمر فى قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه اللّه على وجهه ما أقاموا الدين، و فيه لا يزال هذا الأمر فى قريش ما بقى منهم اثنان. و فى «الفائق» بلفظ ما بقى فى الناس اثنان.

قال العلامة السيوطى فى شرح هذا الحديث: هو خبر بمعنى الأمر و إلا فقد خرج الأمر عنهم من أكثر من مائتى سنة، و يحتمل أن يكون على ظاهره و أنه مقيد بقوله فى الحديث الآخر: ما أقاموا الدين و لم يخرج عنهم إلا و قد انتهكوا حرماته انتهى.

و فى «الفائق» عنه صلى اللّه عليه و سلم: أذق اللهم آخر قريش نوالا كما أذقت أولهم و بالا. و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: استقيموا لقريش ما استقاموا لكم. و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: خير نساء صلح نساء قريش أحناهن على ولد و أرعاهن لزوج. و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: خيار قريش خيار الناس. و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: دخلت الجنة فرأيت قصرا من ذهب فقلت لمن هذا؟ فقيل: لرجل من قريش. و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: ذروا فعل قريش و خذوا بقولهم.

أقول: يحتمل أن هذا قاله صلى اللّه عليه و سلم فى ابتداء الأمر قبل إسلام قريش و هو الظاهر من فحوى الكلام، و فيه من التنويه بشأنهم ما لا يخفى حيث كانت أقوالهم سديدة معتبرة و هم فى تلك الحال المطبوع على قلوبهم فيها، و مع ذلك فقد أمر صلى اللّه عليه و سلم بالأخذ بقولهم و يحتمل أن ذلك بعد إسلامهم و يحمل على بعض منهم كانت أفعالهم غير مستقيمة و يحتمل أن يكون ذلك فى واقعة مخصوصة اقتضاها الحال و هذا منى على سبيل البحث و ما أدى إليه الفهم و إلا لم أقف على كلام فى ذلك. انتهى.

و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: شرار قريش خير شرار الناس. و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: قريش أهل اللّه و خاصته. و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: أسرع الناس فناء قريش. و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: قريش هم الأنصار ليس لهم دون اللّه و رسوله مولى قرت عين من أطعم الناس الطعام.

ص: 202

أقول: قوله فى آخر الحديث: قرت عين من أطعم الناس الطعام، يحتمل أن يكون الكلام راجعا إلى قريش و يصير المعنى من أطعم أحدا من قريش الطعام قرت عينه و يكون فيه حث على قراء الأضياف و مكارم الأخلاق، لأن العرب قديما و حديثا يفتخرون بذلك و يتمادحون به و هذا هو الأشبه الذى سبق إليه الفهم، و يحتمل أن يرجع إلى غيرهم ممن يكرم قريشا و يقريهم و يطعمهم. و على كلا التقديرين ففيه إشارة لهم و مدحة. انتهى.

و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: قدموا قريشا و لا تتقدموهم. و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: من أهان قريشا أهانه اللّه و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: من يرد إهانة قريش يهنه للّه.

فتأمل هذه الكرامة التى أكرمهم اللّه بها و أن بمجرد النية جوزى بالإهانة على حد قوله تعالى وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (سورة الحج: 25) فسبحان من فضل بعض الناس على بعض. و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم: لا يبغض قريشا رجل يؤمن باللّه و اليوم الآخر.

و فيه عنه صلى اللّه عليه و سلم قال: إنى امرؤ من قريش فمن نال من قريش شيئا فقد نالنى رواه الزبير بن بكار. و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: صلب الناس قريش و هل يمشى الرجل بغير صلب. و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: قريش كالملح فهل يطيب طعام إلا به و لو لا أن تطغى و فى رواية أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند اللّه عز و جل. و عنه صلى اللّه عليه و سلم: أمان لأهل الأرض من الاختلاف الموالاة لقريش أهل اللّه فإذا خالفتها قبيلة من العرب صاروا حزب إبليس رواه أبو نعيم.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم: اللهم فقه قريشا فى الدين. و عنه صلى اللّه عليه و سلم: لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما. قال بعض العلماء: إن هذا العالم هو الإمام الشافعى رضى اللّه عنه لأن علمه قد ظهر و انتشر فى البلاد و كتبت كتبه كما كتب المصاحف و درسها المشايخ و الشبان و استظهروا أقاويله و أجروها فى مجالس الحكام و القراء و الأمراء، و هذه صفة لا نعلمها قد أحاطت بأحد إلا بالإمام الشافعى، إذ كل واحد من قريش من علماء الصحابة و التابعين و من بعدهم و إن كان علمه قد ظهر و انتشر لكنه لم يبلغ مبلغا يقع تأويل هذه الرواية عليه، و إلى مثل هذا التأويل ذهب الإمام أحمد بن حنبل رضى اللّه عنه.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: لا تعلموا قريشا و تعلموا منها فإن أمانة الأمين من قريش تعدل أمانة الاثنين من غيرهم. و للقريشى قوة الرجلين من غير قريش و عقل الرجل من قريش عقل رجلين من غيرهم. و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: إن قريشا أهل أمانة و صدق فمن بغى لهم

ص: 203

الغوائل- و فى رواية العواثر(1)- أكبه اللّه لوجهه فى النار يوم القيامة. و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: أحبوا قريشا فإن من أحبهم أحبه اللّه تعالى. و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال لأبى الدرداء: يا أبا الدرداء إذا فاخرت ففاخر بقريش. و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال لعائشة إن أول من يهلك من الناس قومك. فقالت: فما بقاء الناس بعدهم؟ فقال صلى اللّه عليه و سلم: هم صلب الناس إذا هلكوا هلك الناس. و فى رواية أنها قالت: فكيف الناس بعد ذلك أو عند ذلك؟ فقال صلى اللّه عليه و سلم: دباء يأكل شداده ضعافه حتى تقوم الساعة. و الدباء التى لم تنبت أجنحتها من الجراد.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: إن اللّه تعالى فضل قريشا بسبع خصال لم يعطها أحدا قبلهم و لا بعدهم، فضلهم بأنى منهم و أن النبوة فيهم و الحجابة فيهم و السقاية فيهم و نصرهم على الفيل و عبدوا اللّه عشر سنين لم يعبده فيها أحد غيرهم. و أنزل اللّه فيهم سورة من القرآن لم يشركهم فيها أحد غيرهم يعنى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ.

و روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما جاء من بدر سمع رجلا من الأنصار و هو يقول: و هل لقينا إلا عجائز كالجزر المعلقة فنحرناها، فتغير وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم قال صلى اللّه عليه و سلم: لا تقل ذاك يا بن أخى أولئك الملأ الأكبر من قريش، أما إنك لو رأيتهم فى مجالسهم بمكة هبتهم، فواللّه لقد أتيت مكة فرأيتهم قعودا فى المسجد فى مجالسهم فما قدرت أن أسلم عليهم من هيبتهم.

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: عبد مناف عز قريش، و أسد بن عبد العزى عضدها و ركحها و زهرة الكبد، و تيم و عدى رئتها، و مخزوم فيها كالأراكة فى نضرتها و جمح و سهم جناحاها و عامر ليوثها و فرسانها، و كل تبع لولد قصى و الناس تبع لقريش و ركحها بكسر الراء المهملة ثم كاف ثم حاء مهملة. و الأحاديث فى فضلهم كثيرة لا يحملها هذا التعليق، و فيما ذكرته مقنع.

ما ورد فى حق قريش من الآثار

و أما ورد فى حقهم من الآثار، فروى عن عروة بن الزبير أنه قال: كانت قريش فى أيام الجاهلية تدعى العالمية للعلم. و عن أنس بن مالك رضى اللّه عنه أنه قال: لما أمر عثمان رضى اللّه عنه زيد ابن ثابت و سعيد بن العاص، و عبد اللّه بن الزبير، و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضى اللّه عنهم

ص: 204


1- 375. ( 1) فى المطبوع:« العوائر».

أن ينسخوا المصحف من الصحف التى جمع فيها القرآن فى خلافة الصديق رضى اللّه عنه. قال لهم: إذا اختلفتهم أنتم و زيد بن ثابت فى عربية من القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا فلما بلغوا ذكر التابوت قال زيد بن ثابت رضى اللّه عنه: التابوه بالهاء، و هى لغة الأوس و الخزرج، فاختلفوا. فأمر عثمان أن يكتب بالتاء بلغة قريش قال اللّه تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ (سورة إبراهيم: 4) و عن هشام بن عروة بن الزبير أنه قال:

كان لقريش فى ذلك ضابط كمملكة فارس، و ليس لهم ملك، و إنما كان ذلك بأحلامهم، و كان كالسلطان الضابط و كان يقال لهم قطين اللّه. و ذكر أن العربى من غير قريش كان فيما مضى لم يقدر على الخروج من دار قومه فى غير الأشهر الحرم إلا فى جماعة. و كان القرشى يخرج وحده حيث شاء و أنى شاء. فيقال رجل من أهل اللّه عز و جل، فلا يعرض له عارض، و لا يريبه أحد و لم يعهد أن الحرم غزى و لا سبيت قرشية فى جاهلية و لا إسلام قط.

و يروى أن كنانة بن خزيمة بن مدركة أتى فى منامه و هو فى الحجر، فقيل له: تخير يا أبا النضر بين الصهيل و الهدرة أو عمارة الجدار عز الدهر، فقال: كلا يا رب فصار كل هذا من قريش، و كانت قريش على إرث من دين أبويهم إبراهيم و إسماعيل صلوات اللّه عليهما من قرى الضيف و رفد الحاج و تعظيم مكة المكرمة، و منع الملحد و الباغى فيها و قمع الظالم و نصر المظلوم غير أن أوائلهم دخلت فيهم أحداث غيرت أصول الحنيفية دين إبراهيم و طال الدهر حتى أفضى بهم ذلك إلى الجهل بشعار الدين و الضلال عن سنن التوحيد، فمحا اللّه عز و جل ذلك كله بنبيه محمد خاتم الأنبياء صلى اللّه عليه و سلم فأنقذهم به من الضلالة و هداهم من العماية و الجهالة.

استطراد مهم

حيث ذكرت شيئا من فضائل قريش رأيت أن أذكر نسب سيد قريش و صميمها و غلصمتها(1) و عظيمها سيدنا محمدا خاتم النبيين و حبيب رب العالمين، و نسب أصحابه العشرة الكرام البررة و ذكر شى ء من مناقبهم و أحوالهم على سبيل الاختصار لتشمل بركتهم

ص: 205


1- 376. ( 1) الغلصمة: رأس الحلقوم، و هو الموضع الناتئ فى الحلق.

هذا المؤلف و يسطر ثواب ذلك فى صحائف المؤلف، لما أن العشرة رضى اللّه عنهم كلهم من قريش و نسبهم متصل بنسبه صلى اللّه عليه و سلم فأقول:

أما نسبه(1) صلى اللّه عليه و سلم فهو (سيدنا محمد بن عبد اللّه الذبيح) و سيأتى سبب تسميته بذلك قريبا فى فضل زمزم إن شاء اللّه تعالى.

(ابن عبد المطلب): و اسمه شيبة الحمد، و قيل عامر، و إنما قيل له شيبة الحمد لشيبة كانت فى ذؤابته ظاهرة، و كنيته أبو الحارث بابن له، و إنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشما قال لأخيه المطلب و هو بمكة حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك بيثرب، فسمى عبد المطلب لهذا، و قيل: إن عمه المطلب جاء به إلى مكة رديفه، و هو بهيئة غير لائقة فسألوه عنه فقال: هو عبدى حياء أن يقول هو ابن أخى، و هو بتلك الحالة، فلما أدخله و أحسن من حاله أظهر أنه ابن أخيه فلذلك قيل له عبد المطلب، و قيل: إنه كان أسمر اللون فلما جاء به مردفه خلفه ظن الناس أنه عبده فقالوا قدم المطلب بعبد، فلزمه ذلك.

(ابن هاشم) و اسمه عمرو العلا، و إنما سمى هاشما لأنه كان يهشم الثريد لقومه فى أيام الجدب و المجاعة، و فيه يقول القائل.

عمرو الذى هشم الثريد لقومه و رجال مكة مسنتون عجاف

و بلغ فى الكرم مبلغا عظيما حتى أنه كان يطعم الوحش و الطير فينحر لهما فى رءوس الجبال، و إذا وقع القحط أطعم الناس، و أمر الموسرين من أهل مكة بالإنفاق على فقرائهم حتى يأتى اللّه بالغيث. ثم إنه وفد الشام على قيصر فأخذ كتابا بالأمان لقريش، و أرسل أخاه المطلب إلى اليمن فأخذ من ملوكهم كتابا أيضا ثم أمر بذلك تجار قريش برحلتى الشتاء و الصيف، فكانوا يرحلون فى الصيف إلى الشام، و فى الشتاء إلى اليمن كما تقدم، فاتسعت من يومئذ معيشتهم بالتجارة، و أنقذهم اللّه من الخوف و الجوع ببركة هاشم.

(ابن عبد مناف) و كان يسمى قمر البطحاء لصباحته، و هو الذى قام مقام أبيه قصى بالسيادة و سقاية الحاج، و كان يسمى المغيرة على ما قيل، و كنيته أبو عبد شمس.

ص: 206


1- 377. ( 1) انظر فى نسب الرسول و من بعده من الصحابة كتب السير و كتب تراجم الصحابة و كتاب الطبقات الكبير لابن سعد، و سير أعلام النبلاء للذهبى و غيرها.

(ابن قصى) و اسمه زيد، و قيل يزيد، و إنما قيل له قصى لأنه ذهب مع أمه فاطمة بنت سعد من بنى عذرة و نشأ مع أخواله، و بعد عن مكة فسمى لذلك قصيّا مأخوذ من القاصى، و هو البعيد، و كان يدعى مجمعا لأنه لما كبر و عاد إلى مكة جمع قريشا من البوادى، وردها إلى مكة بعد أن تفرقت، و أخرج خزاعة منها فلذا سمى مجمعا، و فيه يقول الفضل بن عباس بن أبى لهب:

أبوكم قصى كان يدعى مجمعابه جمع اللّه القبائل من فهر

(ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر) و اسمه قريش، و به سميت قريش على أحد الأقوال، و قيل أول من سمى قريشا قصى، و هو ضعيف و سيأتى قريبا ما عليه الاعتماد فى ذلك إن شاء اللّه تعالى.

(ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة) و اسمه عامر و قيل عمرو، و إنما سمى مدركة على ما قيل لأنه جرى خلف أرنب فأدركها فسماه أبوه مدركة.

(ابن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان): هذا هو المجمع عليه، و كان صلى اللّه عليه و سلم إذا وصل إلى عدنان أمسك و قال كذب النسابون فيما وراء ذلك. (و آباؤه صلى اللّه عليه و سلم كلهم سادات ما منهم إلا من هو سيد قومه فى عصره) و ما أحسن ما قيل فى هذا المعنى:

فأولئك السادات لم تر مثلهم عين على متتابع الأحقاب

لم يعرفوا رد العفاة و طال ماردوا عداتهم على الأعقاب

زهر الوجوه كريمة أحسابهم يعطون سائلهم بغير حساب

حلموا إلى أن لا تكاد تراهم يوما على ذى هفوة بغضاب

و تكرموا حتى أبوا أن يجعلوابين العفاة و ما لهم من باب

كانت تعيش الطير فى أكنافهم و الوحش حين يشح كل سحاب

و كفاهم أن النبى محمدامنهم فمدحهم بكل كتاب

و أمه صلى اللّه عليه و سلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى

ص: 207

بن غالب بن فهر القرشية الزهرية فهو صلى اللّه عليه و سلم أصيل الطرفين كريم الأصلين زاده اللّه شرفا و كرما، حملت به فى شعب أبى طالب و ولد بمكة فى الدار التى كانت لمحمد بن يوسف أخى الحجاج فى شعب بنى هاشم و سيأتى ذكرها و محلها فى الخاتمة عند عد الأماكن المباركة التى تزار بمكة إن شاء اللّه تعالى.

و كانت ولادته يوم الاثنين على الصحيح لاثنى عشر من ربيع الأول عام الفيل على الصحيح و قيل لليلتين خلتا منه. و قيل لثمان ليال و قيل لعشر خلون منه. و قيل أول اثنين منه و ذلك بعد قدوم الفيل بشهر و قيل بأربعين يوما و قيل بخمسين يوما و كان قدوم الفيل على ما قيل يوم الأحد السابع عشر من المحرم سنة اثنتين و ثمانين و ثمانمائة من تاريخ الإسكندر ذى القرنين، و وافق يوم ولادته صلى اللّه عليه و سلم يوم عشرين من شهر نيسان أحد شهور الروم. و كانت ولادته صلى اللّه عليه و سلم بعد هبوط آدم بستة آلاف سنة و ثلاث و أربعين سنة فى ولاية كسرى أنوشروان سنة سبع عشرة منها بعد رفع عيسى بن مريم عليه السلام بخمسمائة و ثمان و أربعين سنة. كذا ذكره العلامة الحافظ عبد الرحيم الأسيوطى الشافعى فى ورقات له.

و كان له صلى اللّه عليه و سلم من الأولاد سبعة: ثلاثة ذكور و أربع إناث، فالذكور: القاسم و به كان يكنى صلى اللّه عليه و سلم، و عبد اللّه الطاهر و يقال الطيب أيضا، و إبراهيم، و الإناث: رقية و زينب و أم كلثوم و فاطمة، و كلهم من خديجة إلا إبراهيم فإن أمه مارية القبطية التى أهداها له المقوقس القبطى صاحب مصر.

و توفى صلى اللّه عليه و سلم يوم الاثنين بلا اختلاف وقت الضحى ثانى عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة لتمام عشر سنين من الهجرة و سنه ثلاث و ستون سنة، و دفن يوم الثلاثاء و قيل يوم الأربعاء صلى اللّه عليه و سلم و شرف و كرم.

(و أما نسب أبى بكر الصديق) رضى اللّه عنه فهو أبو بكر عبد اللّه بن أبى قحافة و اسمه عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. و من هنا يجتمع نسبه بالنبى صلى اللّه عليه و سلم و ينسب إلى تيم فيقول التيمى، و هو فى العدد إلى مرة مثل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، لأن كل واحد بينه و بين مرة ستة آباء فهذه موافقة بينهما فى النسب كما فى العمر على أصح الأقوال.

ص: 208

(أمه): أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بنت عم أبيه كذا ذكره جمهور أهل النسب أسلمت قديما فى دار الأرقم بن أبى الأرقم و سيأتى تعريفها فيما بعد إن شاء اللّه تعالى، و بايعت النبى صلى اللّه عليه و سلم و ماتت مسلمة. و كان اسم أبى بكر الصديق عبد الكعبة فلما أسلم سماه النبى صلى اللّه عليه و سلم عبد اللّه، و قيل كان اسمه عتيقا لعتاقة وجهه و جماله. و العتق- بالتحريك- الجمال، و قيل بل لقبته به أمه لأنها كانت لا يعيش لها ولد فلما ظهر استقبلت به الكعبة ثم قالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت فهبه لى فعاش فلزمه ذلك، و قيل له أخوان عتق و عتيق فسمى باسم أحدهما. و قيل: لأنه لم يكن فى نسبه شى ء يعاب به. و قيل: لأنه قديم فى الخير و العتيق القديم. و قيل: لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا فسمى عتيقا لذلك.

و اختلف فى تلقيبه بالصديق لأى معنى: قيل كان هذا اللقب قد غلب عليه فى الجاهلية لأنه كان من رؤساء قريش، و كانت إليه الديات إذا تحمل دية قالت قريش صدقوه و امضوا حمالته و حمالة من قام معه، و إذا تحملها غيره لم يصدقوه. و قيل: لتصديقه النبى صلى اللّه عليه و سلم فى خبر الإسراء. و عن على بن أبى طالب كرم اللّه وجهه أنه قال: إن اللّه أنزل اسم أبى بكر من السماء الصديق.

(صفته) كان أبيض نحيفا خفيف العارضين غائر العينين و أحنى لا يستمسك إزاره معروق الوجه، ناتئ الجبهة عارى الأشاجع، و قيل أسمر، و أحنى- بالحاء المهملة غير مهموز- يعنى منحنيا و أجنأ- بالجيم و الهمز- بمعناه أيضا. يقال فلان أجنأ الظهر. و معنى معروق الوجه أى قليل اللحم، و الأشاجع جمع أشجع: و هى أصول الأصابع المتصلة بعصب ظاهر الكف، و كان يخضب بالحناء و الكتم.

(خلافته) كانت خلافة الصديق رضى اللّه عنه سنتين و ثلاثة أشهر و عشرة أيام.

(سنه) كان عمره يوم مات ثلاثا و ستين سنة كسن النبى صلى اللّه عليه و سلم.

(أولاده) كان له من الأولاد عبد اللّه و عبد الرحمن و محمد و عائشة و أسماء.

(وفاته) قال أهل السير: توفى أبو بكر رضى اللّه عنه ليلة الثلاثاء بين المغرب و العشاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، و قيل يوم الجمعة لتسع بقين من

ص: 209

الشهر المذكور. و الأول أصح لما ورت عائشة رضى اللّه عنها أن الصديق لما ثقل قال: أى يوم هذا؟ قلنا له: يوم الاثنين، قال اليوم الذى قبض فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إنى أرجو فيما بينى و بين الليل، يعنى يرجو الموت، و كان كذلك.

(و أما نسب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه) فهو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد اللّه بن قرط بن رزاح بن عدى بن كعب يجتمع نسبه بالنبى صلى اللّه عليه و سلم فى كعب و ينسب إلى عدى فيقال له العدوى.

(أمه): حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم، و لم يزل اسمه فى الجاهلية و الإسلام عمر، و كناه النبى صلى اللّه عليه و سلم بأبى حفص، و كان ذلك يوم بدر، و سماه الفاروق و سببه أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد أن أسلم: ألسنا على الحق يا رسول اللّه إن متنا و إن حيينا؟ قال: بلى فقال عمر: ففيم الاختفاء؟ و الذى بعثك لنخرجن، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى صفين من المسلمين حمزة فى أحدهما و عمر فى الآخر، و له زفير حتى دخل المسجد فنظرت قريش إلى عمر و حمزة و قد أصابتهم كآبة، فسماه النبى صلى اللّه عليه و سلم يومئذ الفاروق. و قيل: إن رجلا من المنافقين و يهوديّا اختصما فقال اليهودى، ننطلق إلى محمد ابن عبد اللّه، و قال المنافق بل إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودى و جاء النبى صلى اللّه عليه و سلم فقضى لليهودى فلما خرجا قال المنافق ننطلق إلى عمر بن الخطاب فأقبلا عليه فقصا عليه القصة فدخل البيت ثم خرج و السيف فى يده فضرب عنق المنافق و قال: هكذا أقضى على من لم يرض بقضاء النبى صلى اللّه عليه و سلم فنزل جبريل فقال: إن عمر فرق بين الحق و الباطل، فسمى الفاروق و قيل بل سماه اللّه تعالى بذلك فى السماء.

(صفته): أبيض أمهق و هو الذى لا يكون له دم ظاهر كذا وصفه أهل الحجاز، و وصفه الكوفيون بأنه أسمر، و كان طوالا أصلع أجلح شديد حمرة العينين خفيف العارضين. و اختلف هل كان يصبغ أم لا؟ قولان. و كان رضى اللّه عنه من رؤساء قريش و أشرافهم و إليه كانت السفارة فى الجاهلية و هى أن قريشا كانوا إذا وقع بينهم حرب بعثوه سفيرا و إن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر بعثوه منافرا و مفاخرا.

(خلافته): قال ابن إسحاق: كانت مدة ولاية عمر عشر سنين و ستة أشهر و خمسة أيام و كان يحج بالناس كل عام غير سنتين متواليتين.

ص: 210

(سنه): اختلف أهل السير فى سن عمر فقيل ثلاث و ستون سنة كسن النبى صلى اللّه عليه و سلم و أبى بكر روى ذلك عن معاوية و الشعبى و قيل خمس و خمسون سنة روى ذلك عن سالم ابن عبد اللّه بن عمر، و قال الزهرى أربع و خمسون سنة ذكر جميع ذلك الحافظ أبو عمر و السلفى و غيرهما. و عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول قبل موته بسنتين أو ثلاث: أنا ابن سبع أو ثمان و خمسين.

(عدة أولاده): قال أهل السير كان له ثلاثة عشر ولدا تسعة بنين و أربع بنات بعضهم أشقاء و بعضهم من أمهات.

(وفاته): توفى عمر رضى اللّه عنه مقتولا شهيدا لأربع بقين من الحجة سنة ثلاث و عشرين من الهجرة، و قيل: بل طعن لأربع بقين. و مات فى آخر شهر ذى الحجة. و اتفقوا على أنه أقام بعد ما طعن ثلاثا. ثم مات وروى أن عثمان و عليّا استبقا على الصلاة عليه فقال لهما صهيب: إليكما عنى فقد وليت من أمركما أكثر من الصلاة عليه و أنا أصلى بكما المكتوبة فصلى عليه صهيب. و روى أن ملك الموت لما دخل على عمر سمعه عمر و هو يقول لملك آخر معه: هذا بيت أمير المؤمنين ما فيه شى ء كأنه القبر، فقال له عمر: يا ملك الموت من تكون أنت خلفه هكذا يكون بيته.

(و أما نسب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى اللّه عنه) فهو عثمان بن عفان بن أبى العاص ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف يجتمع نسبه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى عبد مناف و ينسب إلى أمية فيقال الأموى.

(أمه) أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية أسلمت أمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شقيقة أبى طالب.

(صفته): كان رجلا ربع القد ليس بالقصير و لا بالطويل حسن الوجه بوجنتيه آثار جدرى أقنى رقيق البشرة عظيم اللحية طويلها أسمر اللون كثير الشعر له جمة أسفل من أذنيه و لكثرة شعر رأسه و لحيته سماه أعداؤه نعتلا- بالنون ثم العين المهملة ثم تاء مثناة من فوق- ضخم الكراديس بعيد ما بين المنكبين أصلع، و كان يصفر لحيته و يشد أسنانه بالذهب، و كان محببا فى قريش، و فيه يقول قائلهم: أحبك الرحمن حب قريش عثمان.

ص: 211

(خلافته) كانت خلافته اثنتى عشرة سنة إلا اثنى عشر يوما قاله ابن إسحاق. و قيل كانت إحدى عشرة سنة و أحد عشر شهرا و أربعة عشر يوما.

(سنه) اختلف أهل السير فى سن عثمان رضى اللّه عنه فقيل ثمانون سنة و قيل و ثمان و ثمانون، و قيل اثنتان و ثمانون، و قيل ست و ثمانون، و قيل تسعون.

(عدة أولاده) كانت أولاده ستة عشر ولدا تسعة ذكور و سبع إناث.

(وفاته) قال ابن إسحاق: كان قتل عثمان يوم الأربعاء بعد العصر و دفن يوم السبت قبل الظهر، و قيل يوم الجمعة لثمان عشرة أو سبع عشرة خلت من ذى الحجة، و قيل فى وسط أيام التشريق، و قيل مصدر الحاج سنة خمس و ثلاثين، و روى أنه مكث مطروحا يومه إلى الليل، و قيل ثلاثة أيام ثم دفن و صلى عليه جبير بن مطعم، و قيل المسور بن مخرمة، و قيل حكيم بن حزام، و قيل الزبير، و كان عثمان رضى اللّه عنه أوصى بالصلاة عليه، و قيل بل صلى عليه ابنه عمرو الذى كان يكنى به، و شاهد الناس الملائكة و هى تصلى عليه رضى اللّه عنه و أرضاه، و من خصائصه أنه لا يحاسب. روى عن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه أنه قال يا رسول اللّه: من أول من يحاسب يوم القيامة؟ قال: أبو بكر. فقال على: ثم من يا رسول اللّه؟ قال: ثم عمر ثم أنت يا على، قلت يا رسول اللّه: أين عثمان؟ قال: إنى سألت عثمان حاجة سرا فقضاها سرا فسألت اللّه أن لا يحاسبه. كذا فى «الرياض» للمحب الطبرى.

(و أما نسب سيدنا أمير المؤمنين على كرم اللّه وجهه): فهو على بن أبى طالب بن عبد المطلب أقرب العشرة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يجتمع نسبه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى عبد المطلب الجد الأول و بعده فى القرب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عثمان و ينسب إلى هاشم فيقال القرشى الهاشمى ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.

(أمه) فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية أول هاشمية ولدت هاشميا أسلمت و توفيت بالمدينة و صلى عليها النبى صلى اللّه عليه و سلم و تولى دفنها و كانت ربت النبى صلى اللّه عليه و سلم و كناه النبى صلى اللّه عليه و سلم بأبى تراب لأنه نام فى المسجد فسقط رداؤه عن ظهره و مسه التراب فرآه النبى صلى اللّه عليه و سلم و هو بتلك الحال فمسح التراب عن ظهره و قال له: اجلس أبا تراب و يكنى بأبى الحسن و هو أشهر.

ص: 212

(صفته) ربع القامة أدعج العينين عظيمهما حسن الوجه عظيم البطن أصلع ليس فى رأسه من الشعر إلا شى ء يسير من خلفه كثير شعر اللحية. و من خصائصه كرم اللّه وجهه أنه أول من يقرع باب الجنة بعد النبى صلى اللّه عليه و سلم، و أول من يجثو بين يدى اللّه عز و جل يوم القيامة للخصومة.

(خلافته) كانت خلافته أربع سنين و ثمانية أشهر، فمدة خلافة الأربعة على الصحيح تسعة و عشرون سنة و خمسة أشهر و ثلاثة أيام، و قد قال صلى اللّه عليه و سلم: الخلافة بعدى ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا فإما أن يكون أطلق على ذلك ثلاثين لقربه منها أو تكون مدة ولاية الحسن محسوبة منها و هى تكملتها.

أقول: يشكل ذلك بما رواه سهل بن أبى حثمة أنه صلى اللّه عليه و سلم قال بعد كلام: ألا و إن الخلفاء بعدى أربعة و الخلافة بعدى ثلاثون سنة نبوة و رحمة، ثم خلافة و رحمة، ثم ملك، ثم جبرية و طواغيت، ثم عدل و قسط ألا و إن خير هذه الأمة أولها و آخرها أخرجه أبو الخير القزوينى الحاكمى. و وجه الإشكال: التصريح بأن الخلفاء أربعة بعده صلى اللّه عليه و سلم فكيف تحسب مدة الحسن؟ و يمكن أن يجاب عنه بأن مدة الحسن لما كانت يسيرة لم يعده خامسا، و إنما عد الأربعة لطول مدتهم و معظم خلافتهم هذا على تقدير صحة هذه الرواية و تسليمها و إلا فلا يرد الإشكال من أصله.

(عدة أولاده): ثلاثة و ثلاثون ولدا: خمسة عشر ذكرا، و ثمانى عشرة أنثى و قيل: إن الذكور أربعة عشر.

(وفاته): كان قتله فى صبيحة يوم سبعة عشر فى رمضان و قيل ليلة الجمعة لثلاث عشرة منه، و قيل لإحدى عشرة ليلة خلت منه أو بقيت، و قيل: لثمان عشرة ليلة منه سنة أربعين من الهجرة و مات من يومه و دفن بالكوفة ليلا. و اختلف هل قتل و هو فى الصلاة أو قبل الدخول فيها أقوال. و هل استخلف من أتم الصلاة على القول بأنه قتل و هو فيها أو أتمها هو، فالأكثر أنه استخلف جعدة بن هبيرة و جهل موضع قبره، و كان ذلك حكمة من اللّه و غسله الحسن و الحسين و عبد اللّه بن جعفر و صلى عليه ابنه الحسن. و روى أنه كان عنده مسك فاضل من حنوط رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أوصى أن يحنط به ذكره البغوى. و لما بلغ عائشة موته قالت: لتصنع العرب ما شاءت فليس لها أحد ينهاها. و عن أنس رضى اللّه عنه قال

ص: 213

سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: أخبرنى جبريل أن اللّه تعالى لما خلق آدم و أدخل الروح فى جسده أمرنى أن آخذ تفاحة من الجنة فأعصرها فى حلق آدم فعصرتها فخلقك اللّه يا محمد من النقطة الأولى و خلق من الثانية أبا بكر و من الثالثة عمر و من الرابعة عثمان و من الخامسة عليا. فقال آدم: يا رب من هؤلاء الذين أكرمتهم؟ فقال اللّه تبارك و تعالى: هؤلاء من ذريتك و هم أكرم عندى من جميع خلقى. فلما عصى آدم ربه قال يا رب بحرمة أولئك الخمسة الذين فضلتهم إلا تبت علىّ فتاب اللّه عليه أخرجه الطبرى فى «الرياض» و عن أنس رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إن اللّه افترض عليكم حب أبى بكر و عمر و عثمان و على كما افترض الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج» أخرجه الملا فى «سيرته».

(و أما نسب طلحة رضى اللّه عنه): فهو طلحة بن عبيد اللّه بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة و يكنى بأبى محمد يجتمع نسبه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى مرة بن كعب و مع أبى بكر فى عمرو بن كعب بن سعد بن تيم و ينسب إليه كأبى بكر فيقال القرشى التيمى. أمه الصعبة بنت عبد اللّه بن عباد بن ملك بن ربيعة الحضرمى أخت العلاء بن الحضرمى أسلمت.

(صفته): أسمر اللون كثير الشعر حسن الوجه و كان لا يصبغ شعره مربوعا إلى القصر أقرب. و من خصائصه بروكه للنبى صلى اللّه عليه و سلم حتى صعد على ظهره إلى الصخرة فبشره صلى اللّه عليه و سلم أن جبريل لا يراه فى القيامة فى مهم إلا أنقذه منه.

(سنه): ستون سنة و قيل اثنتان و ستون و قيل أربع و ستون، و قيل غير ذلك.

(عدة أولاده): كان له من الأولاد أربعة عشر ولدا عشر ذكور و أربع إناث.

(وفاته): كان مقتل طلحة رضى اللّه عنه يوم الجمل و كان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست و ثلاثين من الهجرة.

(نسب الزبير رضى اللّه عنه): هو أبو عبد اللّه الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصى يجتمع نسبه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى قصى بن كلاب و ينسب إلى أسد بن عبد العزى فيقال القرشى الأسدى.

(أمه): صفية بنت عبد المطلب عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أسلمت و هاجرت. روى عنه

ص: 214

أنه قال لابنه عبد اللّه: يا بنى كانت عندى أمك أسماء بنت أبى بكر و عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أختها عائشة خالتك و عمة أبى أم حبيبة بنت أسد جدته صلى اللّه عليه و سلم، و أمى صفية عمته و أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف و أختها هالة بنت وهب بن عبد مناف جدتى و خديجة بنت خويلد زوجته عمتى.

(صفته): ليس بالطويل و لا بالقصير، و قيل كان طويلا يخط رجلاه فى الأرض إذا ركب خفيف اللحية أسمر اللون أشعر، و كان لا يغير شيبه، و هو أول من سل سيفا فى سبيل اللّه فدعا له النبى صلى اللّه عليه و سلم بالخير و دعا لسيفه.

(سنه): سبع و ستون سنة، و قيل ست و ستون، و قيل أربع و ستون، و قيل ستون، و قيل واحد و ستون، و قيل خمس و سبعون و قيل بضع و خمسون.

(أولاده): كان أولاده عشرين ولدا أحد عشر ذكرا و تسع بنات.

(وفاته) قتل رضى اللّه عنه يوم وقعة الجمل يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست و ثلاثين من الهجرة.

(نسب سعد رضى اللّه عنه) هو سعد بن مالك بن أبى وقاص بن وهب و قيل وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة. يجتمع نسبه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى كلاب بن مرة.

و يجتمع هو و عبد الرحمن بن عوف فى زهرة كما سيأتى، و ينسب إلى زهرة بن كلاب فيقال القرشى الزهرى. و من فضائله رضى اللّه عنه شهادة النبى صلى اللّه عليه و سلم بنسبه. روى عنه أنه قال للنبى صلى اللّه عليه و سلم: من أنا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم؟ قال: أنت سعد بن مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، من قال غير ذلك، فعليه لعنة اللّه.

(أمه) حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، و لم يزل اسمه فى الجاهلية و الإسلام سعدا، و كنيته أبو إسحاق.

(صفته) كان رجلا قصيرا غليظا ذا هامة، أسمر اللون جعد الشعر أشعر الجسد و يخضب بالسواد. و قيل: إنه كان طوالا، و هو أول من رمى سهما فى سبيل اللّه، و كان مجاب الدعوة لدعاء النبى صلى اللّه عليه و سلم له بذلك حيث قال: اللهم استجب لسعد إذا دعاك. و قوله

ص: 215

صلى اللّه عليه و سلم: اللهم سدد سهمه و أجب دعوته و جمع له النبى صلى اللّه عليه و سلم بين أبويه و لم يجمع لأحد غيره، و ذلك أنه جعل يقول له يوم أحد ارم يا سعد فداك أبى و أمى.

(سنه) كان له من العمر يوم مات بضع و ستون سنة، و قيل بضع و سبعون، و قيل بضع و ثمانون و قيل بضع و تسعون.

(أولاده) كان له من الأولاد أربعة و ثلاثون ولدا، سبعة عشر ذكرا، و سبع عشرة أنثى.

(وفاته) توفى رحمه اللّه سنة خمس و خمسين من الهجرة، و قيل أربع و خمسين، و قيل ثمان و خمسين و كف بصره فى آخر عمره، و كان آخر العشرة موتا.

(نسب سيدنا سعيد) هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عد العزّى بن رياح(1) بن عبد اللّه بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب بن لؤىّ يجتمع نسبه بالنبى صلى اللّه عليه و سلم فى كعب بن لؤى ء و مع سيدنا عمر فى نفيل بن عبد العزى المتصل بكعب. و ينسب إلى عدى فيقال القرشى العدوى و عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ابن عم أبيه، و لم بزل اسمه فى الجاهلية و الإسلام سعيدا و يكنى بأبى الأعور.

(أمه) فاطمة بنت بعجة بن ملح الخزاعية.

(صفته) كان أسمر اللون طويلا أشعر.

(سنه) كان سنه بضعا و سبعين سنة بتقديم السين. قال أهل السير: كان له من الأولاد واحدا و ثلاثون ولدا، ثلاثة عشر ذكرا و ثمان عشرة أنثى.

(وفاته) توفى رحمه اللّه بالعقيق و حمل إلى المدينة و دفن بها سنة خمسين من الهجرة أو إحدى و خمسين فى أيام معاوية.

(نسب سيدنا عبد الرحمن) هو عبد الرحمن بن عثمان بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة يجتمع نسبه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى كلاب بن مرة و يجتمع هو و سعد فى زهرة و ينسب إليه فيقال القرشى الزهرى.

(أمه) الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث الزهرية ابنة عم أبيه، أسلمت و هاجرت كان

ص: 216


1- 378. ( 1) تحرف فى د و المطبوع إلى:« رباح».

اسمه فى الجاهلية عبد عمرو، و قيل عبد الحرب و قيل عبد الكعبة، فسماه النبى صلى اللّه عليه و سلم عبد الرحمن و كان يصفه بالصادق البار.

(كنيته): أبو محمد.

(صفته): كان طويلا حسن الوجه رقيق البشرة أبيض اللون مشربا بحمرة و كان لا يصبغ لحيته ضخم الكفين غليظ الأصابع أقنى جعد الشعر له جمة من أسفل أذنيه ساقط الثنيتين و به عرج من جراحة أصيب بها يوم أحد، و من خصائصه صلاة النبى صلى اللّه عليه و سلم خلفه فى بعض الأحوال.

(سنه): كان عمره خمسا و سبعين سنة و قيل ثلاثا و سبعين و قيل اثنتين و سبعين. و دفن بالبقيع و قبره معروف. و صلى عليه عثمان بن عفان و كان أوصاه بذلك.

(أولاده): كان له من الأولاد ثمانية و عشرون ولدا عشرون ذكورا و ثمان إناث.

(وفاته): قال أهل السير: توفى عبد الرحمن بن عوف رضى اللّه عنه سنة إحدى و ثلاثين من الهجرة النبوية و قيل سنة اثنتين و ثلاثين منها، و كان ذا مال عظيم و دنيا طائلة حتى روى أن إحدى زوجاته صولحت عن نصيبها من الميراث على ثمانين ألف دينار.

(نسب سيدنا عامر): هو أبو عبيدة عامر بن عبد اللّه بن الجراح بن هلال بن أهيب بن منبه بن الحارث بن فهر، و هو قرشى يجتمع نسبه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى فهر بن مالك الذى هو جماع قريش و ينسب إلى فهر فيقال القرشى الفهرى و هو أبعد العشرة نسبا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.

(أمه) من بنى الحارث بن فهر أسلمت و لم يزل اسمه فى الجاهلية و الإسلام عامرا.

(و كنيته) أبو عبيدة.

(صفته) كان رجلا طويلا نحيفا أثرم الثنيتين خفيف اللحية يخضب بالحناء و الكتم و سبب خروج ثنيتيه أنه انتزع سهمين من جبهة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم أحد و قيل إن المنتزع حلقتا الدرع. قال الطبرى: و يجوز أن يكون السهمان أثبتا حلقتى الدرع فانتزع الجميع.

ص: 217

و نقل أنه مارئى أهتم كان أحسن منه رضى اللّه عنه و الأهتم و الأثرم بمعنى واحد. و من خصائصه شهادة النبى صلى اللّه عليه و سلم بأنه أمين هذه الأمة.

فائدة: قال العلماء: إذا شهد الرسول صلى اللّه عليه و سلم لبعض أصحابه بفضيلة عليهم وجب القطع بأنه أفضل منهم فى تلك الفضيلة، فيجب أن يقطع بأن أبا عبيدة أفضل من أبى بكر و عمر و غيرهما فى فضيلة الأمانة. و أن أبا ذر أفضل منهم جميعا فى تحرى الصدق حيث قال فيه صلى اللّه عليه و سلم: أصدقكم لهجة أبو ذر، و أن عليا كرم اللّه وجهه أقضاهم حيث قال:

أقضاكم على، و أن معاذا أعلمهم بالحلال و الحرام حيث وصفه بذلك و الفضل المطلق لأبى بكر الصديق بلا خلاف. انتهى.

(سنه): كان له من العمر يوم مات [ثمان و خمسين سنة(1)].

هذا تمام نسب العشرة الكرام رضى اللّه عنهم فما خرج أحد منهم عن قريش و كلهم نسبه ثابت من قريش من الجهتين من جهة أبيه و من جهة أمه ما عدا طلحة و سعيد بن زيد فإن أميهما غير قرشيتين لأن أم طلحة بنت الحضرمى و أم سعيد خزاعية كما تقدم.

ذكر وصف كل واحد من العشرة رضى اللّه عنهم بصفة حميدة

اشارة

عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: أرحم أمتى أبو بكر، و أقواهم فى دين اللّه عمر، و أشدهم حياء عثمان، و أقضاهم على بن أبى طالب، و لكل نبى حوارىّ، و حواريّى طلحة و الزبير و حيث ما كان سعد بن أبى وقاص كان الحق معه، و سعيد بن زيد من أحباء الرحمن، و عبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن، و أبو عبيدة بن الجراح أمين اللّه و أمين رسوله، و لكل نبى صاحب سر، و صاحب سرى معاوية بن أبى سفيان، فمن أحبهم فقد نجا، و من أبغضهم فقد هلك.

(و عنه) صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: أبو بكر فى الجنة و عمر فى الجنة إلى تمام العشرة. و عن أنس رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: من أحسن القول فى أصحابى فقد برئ من النفاق و من

ص: 218


1- 379. ( 1) مكان ما بين حاصرتين بياض بالأصلين، و التكملة عن الاستيعاب ج 4 ص 1711.

أساء القول فى أصحابى كان مخالفا لسنتى و مأواه النار و بئس المصير: و هذا عام فى جميع الصحابة فحصل الفضل للعشرة خصوصا و عموما.

و روى أن اللّه تعالى جمع بين أرواح العشرة قبل خلقهم و خلق من أنوار تلك الأرواح طائرا واحدا و هو فى الجنة. أخرجه الملا فى «سيرته» و غيره فانظر كيف جمع اللّه بينهم أرواحا قبل خلقهم أشباحا ثم جمع بينهم أشباحا و أرواحا فى النسب و الصحبة و الإخاء و التوادد و التراحم فى محبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم فى الجنة، فالسعيد من تولى جملتهم و جملة جميع الصحابة و لم يفرق بين أحد منهم و اهتدى بهديهم و تمسك بحبلهم. و الشقى من تعرض للخوض فيما شجر بينهم و أتبع نفسه هواها فى سب أحد منهم فلله الحمد و المنة و الفضل أن أعاذنا من ذلك و نسأله تمام هذه المنة و دوامها إلى الممات مع حسن الخاتمة آمين. عدنا لما نحن بصدده.

(اعلم): أنه قد اختلف فى قريش لم سميت قريشا، فقيل: سميت باسم دابة تسكن البحر يقال لها القرش تشبيها لهم بها لشدتهم و منعتهم(1)، لأن هذه الدابة تأكل و لا تؤكل و تعلو و لا تعلى. قال فى «المدارك» و هى دابة عظيمة تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار و التصغير للتعظيم انتهى، و فى شعر اللهبى:

و قريش هى التى تسكن البحر بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث و السمين و لا تترك فيه لذى الجناحين ريشا

هكذا فى البلاد حى قريش يأكلون البلاد أكلا قشيشا

و لهم آخر الزمان نبى يكثر القتل فيهم و الخموشا(2)

و القشيش مصدر قشت الحية، و هو صوتها من جلدها، و قيل سميت بقريش بن يخلد ابن غالب بن فهر، و كان صاحب عيرهم فكانوا يقولون قدمت عير قريش و خرجت عير

ص: 219


1- 380. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 105.
2- 381. ( 2) الشعر لدى الأزرقى فى أخبار مكة ج 1 ص 109.

قريش. و قيل: إن قصيا قرشها أى جمعها من الأقطار وردها إلى مكة و لذلك سمى مجمعا كما تقدم فى شعر الفضل بن عباس بن عتبة، و من شعره أيضا:

نحن كنا سكانها من قريش و بنا سميت قريش قريشا

و قيل: بل كان اسم قصى قريش فسميت به و الأشهر أن اسمه زيد كما تقدم، و قيل:

لأنهم كانوا يتقرشون فى البياعات أى يتكسبون، و التقرش التكسب، و قيل: إن النضر كان يقال له القرشى فسموا باسمه، و قيل: لأنهم كانوا يقرشون عن خلة الحاج فيسدونها، و التقريش: التفتيش و يدل لذلك قول الحارث بن حلّزة(1) اليشكرىّ:

أيها الناطق المقرش عناعند عمرو فهل لنا إيفاء

أى المفتش. و اعلم أن قريشا ثلاثة أصناف: صنف منهم قريش الأباطح و يسمون أيضا قريش البطاح، و صنف منهم قريش الظواهر، و الصنف الثالث ليسوا من الأباطح و لا من الظواهر. أما قريش الأباطح: فبنو عبد مناف و أسد بن عبد العزى بن قصى، و زهرة و تيم، و بنو مخزوم و بنو سهم و جمح و عدى و بنو حسل(2) بن عامر بن لؤى، و بطنان من بنى الحارث بن فهر. و أما قريش الظواهر: فبنو الأدرم بن غالب، و بنو محارب، و بنو فهر الأبطنين، و بنو معيص(3) بن عامر بن لؤى. و أما غير هؤلاء من قريش فليسوا من الأباطح و لا من الظواهر و ذلك لأنهم خرجوا عن مكة فتنحوا عن البلاد. منهم سامة بن لؤى وقع بعمان، و جثم بن لؤى، و هو خزيمة وقع باليمامة فهم فى بنى هزّان من عنزة(4) و بنانة فى شيبان و هم بنو سعد بن لؤى، و هو فى شيبان، و بنو الحارث بن لؤى و هم أيضا فى بنى أبى ربيعة بن شيبان بن ذهل بن شيبان، و إنما سموا الأباطح لأن قصيا أدخلهم معه إلى بطن مكة و أقام الآخرون بالظواهر كذا فى «الغاية» للإتقانى، و عزاه إلى «شرح ديوان كثير» لمحمد بن حبيب.

ص: 220


1- 382. ( 1) تحرف فى الأصل و المطبوع إلى:« خلدة» و صوابه فى المفضليات 132، الشعر و الشعراء ج 1 ص 197.
2- 383. ( 2) تحرف فى المطبوع إلى:« حنيبل».
3- 384. ( 3) تحرف فى الأصلين؟؟؟ إلى« بنو معيض» و صوابه لدى ابن هشام ج 2 ص 592.
4- 385. ( 4) تحرف فى المطبوع إلى:« عترة» و صوابه من: د و جمهرة ابن حزم ص 13.

ثم اعلم أن طبقات العرب: ست شعب و قبائل و عمارة و بطون و أفخاذ و فصائل فخزيمة شعب و كنانة قبيلة و قريش عمارة و قصى بطن و هاشم فخذ و العباس فصيلة، و سميت شعوبا لأن القبائل تتشعب منها، و الشّعب- بفتح الشين- و العمارة- بفتح العين المهملة- و فى «معالم التنزيل» قيل: إن الشعوب من العجم و القبائل من العرب، و الأسباط من بنى إسرائيل انتهى. قال القرطبى فى «تفسيره» و قد نظمها بعضهم فقال:

قبيلة قبلها شعب و بعدهماعمارة ثم بطن بعده فخذ

و ليس يؤوى الفتى إلا فصيلته و لا سداد لسهم ما له قذذ

انتهى. و القذذ بالذال المعجمة. قال فى «القاموس»: و الفصائل هى العشائر واحدها عشيرة، و منه قوله تعالى: وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ أى عشيرته التى تضمه.

فرعان:

الأول: يعتبر التفاضل عندنا بين قريش فى حق الكفاءة لقوله صلى اللّه عليه و سلم: قريش بعضهم أكفاء لبعض حتى لو تزوجت هاشمية قرشيا غير هاشمى صح عقدها، و إن تزوجت عربيا غير قرشى فللأولياء حق الرد إلا أن يكون الولى هو الأب أو الجد فإن لهما تزويج الصغيرة بغير كف ء و بغبن فاحش فى المهر عند أبى حنيفة رضى اللّه عنه خلافا لصاحبيه، و التعليل من الطرفين مقرر فى محله. ألا ترى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم زوج بنته رقية و أم كلثوم من عثمان و لهذا لقب بذى النورين، و كان أمويا لا هاشميا، و زوج على ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب و كان عدويا لا هاشميا فثبت أن قريشا كلهم سواء فى حق الكفاءة.

الثانى: مذهب الإمام محمد بن الحسن من أصحابنا أن التفاضل إنما يعتبر فيما بين قريش إذا كان النسب مشهورا فى الحرمة كأهل بيت الخلافة، حتى لو تزوجت قرشية من بنات الخلفاء قرشيا ليس من أولاد الخلفاء يكون للأولياء حق الرد، و كأنه قال هذا لتسكين الفتنة و تعظيم أمر الخلافة لا لانعدام أصل الكفاءة كذا نقله الإتقانى فى «الغاية» و اللّه تعالى أعلم.

ص: 221

ص: 222

الباب التاسع فى ذكر مبدأ بئر زمزم و سبب حفر عبد المطلب لها و فضل مائها و أفضليته و بركته و خواصه و ما ورد فى ذلك

اشارة

الباب التاسع فى ذكر مبدأ بئر زمزم(1) و سبب حفر عبد المطلب لها و فضل مائها و أفضليته و بركته و خواصه و ما ورد فى ذلك

اعلم أن بئر زمزم تنسب إلى سيدنا إسماعيل صلوات اللّه عليه و سببه أن سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام لما هاجر بإسماعيل و أمه من الشام إلى مكة شرفها اللّه تعالى و كانت إذ ذاك ترضعه وضعهما تحت دوحة، و هى شجرة كبيرة و ليس معهما إلا شنة فيها قليل ماء و لم يكن بمكة يومئذ أحد و لا بها ماء، و وضع عندهما جرابا فيه تمر ثم ذهب راجعا إلى الشام فتبعته أم إسماعيل فقالت له: يا إبراهيم، إلى أين تذهب و تتركنا بهذا الوادى الذى ليس به أنيس؟ و جعلت تردد ذلك مرارا و إبراهيم لا يلتفت إليها. فقالت له: آللّه أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا، ثم رجعت عنه.

فانطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا غاب عن البصر وقف و استقبل البيت و رفع يديه و دعا بالآيات رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ إلى قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ثم مضى سائرا و جعلت أم إسماعيل ترضعه و تشرب من ذلك الماء و لبنها يدر على صبيها إلى أن نفد فعطشت و عطش ابنها و صار يتلوى، و فى رواية يتلبط فانطلقت كراهة أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادى و رفعت طرف درعها ثم سعت أى جرت- سعى الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادى، ثم أتت المروة فقامت عليها و نظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات فكان فعلها ذلك سبب السعى بين الصفا و المروة.

فلما أشرفت على المروة آخرا و لم يكن فى الوادى غيرها سمعت صوتا فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تسمعت، فإذا الصوت فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هى

ص: 223


1- 386. ( 1) انظر فى بئر زمزم: أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 39 و ما بعدها، شفاء الغرام ج 1 ص 397 و ما بعدها.

بالملك يعنى جبريل عليه السلام عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو بجناحه حتى ظهر الماء فصارت تحوطه بيدها و تغرف من الماء فى سقائها و هو يفور بعد أن تغرف.

قال ابن عباس رضى اللّه عنهما قال النبى صلى اللّه عليه و سلم: يرحم اللّه أم إسماعيل لو تركت زمزم و لم تغرف من الماء لكانت عينا معينا. فشربت و أرضعت ولدها، فقال لها جبريل: لا تخافى الضيعة فإن هاهنا بيت اللّه يبنيه هذا الغلام و أبوه، و إن اللّه لا يضيع أهله كذا فى «صحيح البخارى».

فاستمرت زمزم كذلك إلى أن مرت رفقة من جرهم يريدون الشام فرأوا طائرا يحوم على جبل أبى قبيس عائفا فقالوا، إن هذا الطير ليدور على ماء و عهدنا بهذا الوادى و ما فيه ماء، فأرسلوا رسولا فرأى الماء فأخبرهم فأقبلوا و أم اسماعيل عند الماء فقالوا لها: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، و لكن لا حق لكم فى الماء، قالوا: نعم. فنزلوا و أرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى صاروا أهل أبيات و أول سكان مكة، و شب إسماعيل عليه بالسلام و تعلم العربية منهم و زوجوه امرأة من نسائهم، ثم لم تلبث أم إسماعيل أن ماتت و لها من العمر تسعون سنة و لإسماعيل عشرون سنة، فدفنها فى الحجر.

و اسمها هاجر، و قيل: آجر بالهمزة و المد القبطية و قيل الجرهمية، و كانت للجبار الذى يسكن عين البحر التى بقرب بعلبك، فوهبها لسارة امرأة إبراهيم فوهبتها لإبراهيم صلوات اللّه عليه.

فائدة استطرادية

قال فى «منهاج التائبين»: اختلف العلماء فى الذبيح هل هو إسماعيل أم إسحاق؟ فقال قوم: هو إسحاق عليه السلام و إليه ذهب من الصحابة عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه و على بن أبى طالب و عبد اللّه بن مسعود و العباس بن عبد المطلب رضى اللّه عنهم و من التابعين و أتباعهم كعب الأحبار و سعيد بن جبير و قتادة و مسروق و عكرمة و القاسم بن أبى بزّة و عطاء و مقاتل و عبد الرحمن بن سابط و الزهرى و السدى و رواه عكرمة و ابن جبير عن ابن عباس.

و قال آخرون: هو إسماعيل و إلى هذا ذهب عبد اللّه بن عمر، و أبو الطفيل عامر بن واثلة و سعيد بن المسيب و الشعبى و يوسف بن مهران و مجاهد و الربيع بن أنس و محمد بن

ص: 224

كعب القرظى و الكلبى و رواه عطاء بن أبى رباح و أبو الجوزاء و يوسف بن ماهك عن ابن عباس، و زعمت اليهود أنه إسحاق و كذبت.

و احتج القائلون بأنه إسحاق من القرآن بأن اللّه تعالى أخبر عن خليله عليه السلام حين فارق قومه مهاجرا إلى الشام بامرأته سارة و ابن أخيه لوط عليه السلام: وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (سورة الصافات: 99) أنه دعا إذ ذاك فقال رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (سورة الصافات: 100) و كان ذلك قبل أن يعرف هاجر و قبل أن تصير له، ثم اتبع ذلك الخبر عن إجابته و دعوته و تبشيره إياه بغلام حليم، ثم عن رؤيا إبراهيم أن يذبح ذلك الغلام الذى بشر به حين بلغ معه السعى، و ليس فى القرآن أنه بشر بولد إلا بإسحاق.

و أما حجة القائلين بأنه إسماعيل من القرآن فهو ما رواه محمد بن إسحاق عن محمد ابن كعب القرظى أنه كان يقول إن الذى أمر الخليل عليه السلام بذبحه هو إسماعيل لأن اللّه تعالى قال حين فرغ من قصة المذبوح وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (سورة الصافات: 112) و قال تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (سورة هود: 71) ابن و ابن ابن، و لم يكن يأمره بذبح إسحاق و له فيه من اللّه الموعود، فلما لم يذكر اللّه تعالى إسحاق إلا بعد انقضاء الذبح ثم بشره بولد اسحاق علم أن الذبيح إسماعيل.

أقول: فذكرت ذلك لعمر بن عبد العزيز و هو خليفة إذ كنت معه بالشام فقال لى عمر و إنى لأراه كما قلت، ثم أرسل عمر إلى رجل كان يهوديا بالشام و قد أسلم و حسن إسلامه فسأله عن ذلك و أنا عنده فقال: الذبيح إسماعيل و إن اليهود لتعلم ذلك، و لكنهم يحسدون العرب على ذلك لكون إسماعيل أباهم و يقولون: إنه إسحاق لأنه أبوهم انتهى قول صاحب «المنهاج».

(أقول): احتجاج القرظى رحمه اللّه بهذه الآيات المذكورة فى كون الذبيح إسماعيل عليه السلام لا يتم إلا بأن تكون آية الذبح متقدمة تلاوة و نزولا، أما لو تقدمت تلاوة و تأخرت عن آية البشرى فى النزول احتملت أن يكون إسحاق هو الذبيح أيضا و سقط الاستدلال بها. و أما قول القرظى: و لم يكن يأمره إلى آخره الذى فسر به الآية الأخرى من سورة هود لا ينافى كون الذبيح إسحاق، لأنه لما سبق فى علم اللّه سبحانه أنه لا يذبح،

ص: 225

ثم أمر خليله بذلك علم أن الأمر للامتحان كما هو شأن اللّه تعالى فى أنبيائه و أحبائه. فلما مضى الخليل صلوات اللّه عليه لما أمر به منشرح الخاطر راضيا بما قضاه اللّه تعالى شكر اللّه له ذلك و سلم ابنه له من الذبح ببركة التسليم و فدى بالذبح العظيم. و صحت البشرى و تم الموعد فى هذه الآية التى لم يتقدم قبلها قصة ذبح. انتهى.

عدنا إلى المقصود: و لم تزل زمزم كذلك إلى أن دفنتها جرهم حين ظعنوا من مكة بين صنمى قريش إساف- بكسر الهمزة- و نائلة، و قيل بل دفنتها السيول، فاستمرت مدفونة إلى أن نبه عبد المطلب و أمر بحفرها(1). و له منقبتان عظيمتان: إهلاك أصحاب الفيل كما تقدم، و حفر بئر زمزم.

ذكر ابن إسحاق و غيره أن عبد المطلب بينما هو نائم إذ أتاه آت فقال له: احفر طيبة، فقال له: و ما طيبة؟ فذهب عنه ثم جاءه مرة أخرى فقال له احفر المضنونة فقال له و ما المضنونة؟ فذهب عنه ثم جاءه مرة ثالثة فقال له: احفر زمزم، فقال له عبد المطلب و ما زمزم؟ قال لا تنزف أبدا و لا تذمّ(2) تسقى الحجيج الأعظم و هى بين الفرث و الدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل(3).

و فى رواية احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، و هى تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا و لا تذمّ إلى آخر ما تقدم.

فلما بين له شأنها غدا بمعوله و معه ابنه الحارث و ليس معه يومئذ غيره فحفرها، فلما بدا له أعلى البئر كبّر فحسدته بطون قريش و هموا أن يمنعوه و قالوا له: أشركنا معك، فقال لهم: ما أنا بفاعل شى ء خصصت به دونكم، فاجعلوا بينى و بينكم من شئتم أحاكمكم إليه فقالوا: كاهنة بنى سعد(4).

فخرجوا إليها فعطشوا فى الطريق حتى أيقنوا بالهلاك، فقال عبد المطلب: و اللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا لعجز فعسى اللّه أن يرزقنا ماء فارتحلوا بنا(5).

ص: 226


1- 387. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 398.
2- 388. ( 2) تحرف فى الأصلين إلى:« و لا تزم» و صوابه لدى ابن هشام، و لا تذم: أى لا توجد قليلة الماء.
3- 389. ( 3) ابن هشام ج 1 ص 143.
4- 390. ( 4) منائح الكرم ج 1 ص 404.
5- 391. ( 5) منائح الكرم ج 1 ص 404.

و قام عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت تحت خفها عين ماء عذب، فكبّر عبد المطلب، و كبّر أصحابه و شربوا جميعا، و قالوا: قد قضى لك علينا الذى سقاك، فواللّه لا نخاصمك فيها أبدا(1).

فرجعوا و خلوا بينه و بين زمزم، و كفاه اللّه شرهم، فنذر عند ذلك لئن رزق عشرة من الذكور يمنعونه ليتقرب إلى اللّه بذبح أحدهم. فلما تم له عشرة من الذكور أعلمهم بنذره، فقالوا له: أوف بنذرك و اقض فينا أمرك، فأسهم بينهم فخرج السهم على عبد اللّه أبى النبى صلى اللّه عليه و سلم، فأراد أن يذبحه فمنعته قريش و أخواله من بنى مخزوم لئلا يكون ذلك فيهم سنة، فتحاكموا إلى كاهن كان بالمدينة، و قيل كاهنة، فأفتاهم بأن يسهم على عبد اللّه و على عشرة من الإبل، و كانت عندهم إذ ذاك دية الرجل ففعل عبد المطلب ذلك، فخرج السهم على عبد اللّه أيضا، فقال له الكاهن: زد عشرا أخرى فإن ربك لم يرض، فزاد فخرج السهم على عبد اللّه فأمره الكاهن بزيادة عشرة أخرى فزاد، و فى كل ذلك يخرج السهم على عبد اللّه حتى بلغ العدد مائة من الإبل فخرج السهم حينئذ على الإبل، فقال له الكاهن: أعد القرعة، فأعادها فخرج على الإبل، ثم أعادها ثالثا، فخرج على الإبل، فقال له الكاهن:

قد رضى ربك فانحرها فداء عن ابنك، ففعل فاستمرت الدية فى قريش مائة من الإبل من يومئذ(2).

ثم جاء الشرع فقررها دية لكل واحد من المسلمين، و استمرت زمزم لا يصد عنها أحد و لا يمنع إلى يومنا هذا كما ترى.

و يروى أن عبد المطلب لما حفر زمزم وجد غزالين من ذهب يقال: إن جرهما دفنتهما حين خرجوا من مكة، و وجد أسيافا و سلاحا، فأرادت قريش أن يشاركوه فيها فامتنع و ضرب بالقداح، فخرج الغزالان للكعبة و السلاح لعبد المطلب، و لم يخرج لقريش شى ء بل تخلف قدحاها فضرب الأسياف التى خرجت له مع أحد الغزالين على باب الكعبة، و جعل الغزال الآخر فى الجب الذى فى بطن الكعبة، فكان ذلك أول حلية للكعبة. أخرجه الأزرقى(3).

ص: 227


1- 392. ( 1) منائح الكرم ج 1 ص 405.
2- 393. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 47 و ما بعدها.
3- 394. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 46.

و أما فضل ماء زمزم و بركته، فرورى عن جابر رضى اللّه عنه أنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: من طاف بالبيت سبعا و صلى خلف المقام ركعتين و شرب من ماء زمزم غفرت له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت. أخرجه الواحدى فى «تفسيره» و غيره.

و روى الطبرانى و غيره أنه صلى اللّه عليه و سلم جاء إلى زمزم فنزعوا له دلوا فشرب ثم مج فى الدلو ثم صبه فى زمزم ثم قال: لو لا أن تغلبوا عليها لنزعت معكم.

و فى رواية أنه غسل وجهه و تمضمض منه ثم أعاده فيها. و روى أن الذى نزع له الدلو هو العباس بن عبد المطلب. و روى الواقدى أنه نزعه لنفسه، و هو ضعيف جدا. و روى جابر عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: ماء زمزم لما شرب له، و قال العلامة بركة المتأخرين شيخ الإسلام السيوطى: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه بسند جيد. و أخرجه الخطيب فى «التاريخ» بسند صححه الدمياطى و المنذرى. و ضعفه النووى و حسنه ابن حجر لوروده من طرق عن جابر. و ورد من حديث ابن عباس و ابن عمر مرفوعا.

و أخرج الديلمى: ماء زمزم شفاء من كل داء، و سنده ضعيف جدا. انتهى.

و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما عن النبى صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم أخرجه الطبرانى فى «معجمه» بسند رجاله ثقات و صححه ابن حبان. و عنه أيضا أنه صلى اللّه عليه و سلم قال: إن التضلع من ماء زمزم علامة ما بيننا و بين المنافقين. و عنه أن النبى صلى اللّه عليه و سلم كان إذا أراد أن يتحف الرجل بتحفة سقاه من ماء زمزم. و عنه أيضا قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: ماء زمزم لما شرب له إن شربته تستشفى به شفاك اللّه، و إن شربته لقطع ظمئك قطعه هى هزمة جبريل و سقيا اللّه إسماعيل(1). و يروى أن فى بعض كتب اللّه المنزلة: زمزم لا تنزف و لا تذم لا يعمد إليها امرؤ فيتضلع منها ريّا ابتغاء بركتها إلا أخرجت منه مثل ما شرب من الداء، و أحدثت له شفاء، و ما امتلأ جوف عبد من زمزم إلا ملأه اللّه علما و برّا(2).

و عن وهب بن منبه أنه قال: و الذى نفسى يده إن زمزم لفى كتاب اللّه عز و جل مضنونة، و إنها لفى كتاب اللّه برة، و إنها لفى كتاب اللّه شراب الأبرار، و إنها لفى كتاب اللّه طعام طعم، و شفاء سقم(3).

ص: 228


1- 395. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 50.
2- 396. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 50.
3- 397. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 49.

و عن على بن أبى طالب كرم اللّه وجهه أنه قال: خير واديين فى الناس: وادى مكة و واد بالهند الذى هبط به آدم عليه السلام، و منه يؤتى بهذا الطيب الذى يتطيب به الناس.

و شر واديين فى الناس: واد بالأحقاف، و واد بحضرموت يقال له برهوت. و خير بئر فى الناس زمزم، و شر بئر فى الناس برهوت، و إليها تجتمع أرواح الكفار(1). كما سيأتى.

و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: الحمى من فيح جهنم فأبردوها بماء زمزم رواه أحمد و ابن أبى شيبة و ابن حبان، و رواه البخارى فى صحيحه على الشك فقال:

فأبردوها بالماء أو بماء زمزم(2).

و عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: خمس من العبادة: النظر إلى المصحف، و النظر إلى الكعبة، و النظر إلى الوالدين، و النظر فى زمزم و هى تحط الخطايا، و النظر فى وجه العالم رواه الدارقطنى.

فصل فى فضائل ماء زمزم

اعلم أن لماء زمزم فضائل كثيرة و عجائب شهيرة، فمن ذلك ما رواه ابن عباس رضى اللّه عنهما قال كان أهل مكة لا يسابقهم أحد إلا سبقوه و لا يصارعهم أحد إلا صرعوه حتى رغبوا عن ماء زمزم أخرجه أبو ذر.

و منها ما أخرجه الأزرقى عن عكرمة بن خالد قال: بينما أنا ليلة فى جوف الليل عند زمزم جالس إذا نفر يطوفون عليهم ثياب لم أر بياضها لشى ء قط، فلما فرغوا صلوا قريبا منى فالتفت بعضهم لأصحابه فقال: اذهبوا بنا نشرب من شراب الأبرار، فقاموا و دخلوا زمزم، فقلت: لو دخلت على القوم فسألتهم، فدخلت فإذا ليس فيها أحد من البشر(3).

و منها ما أخرجه أيضا أن أبا ذر الصحابى رضى اللّه عنه قال: لما قدمت مكة مكثت أربعة عشر يوما بلياليها و ما لى طعام و لا شراب إلا زمزم حتى تكسرت عكن بطنى، و ما أجد على كبدى سخفة الجوع(4)، يعنى رقته و هزاله. و قيل: هى الخفة التى تعترى الإنسان إذا جاع.

و منها ما أخرجه أيضا عن بعض الموالى أنه قال: كنت مع أهلى بالبادية فابتعت بمكة،

ص: 229


1- 398. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 50.
2- 399. ( 2) القرى ص 487.
3- 400. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 51.
4- 401. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 53.

ثم أعتقت فمكثت ثلاثة أيام لا أجد شيئا آكله، فانطلقت إلى زمزم فبركت على ركبتى مخافة أن أستقى و أنا قائم فيرفعنى الدلو من الجهد، فجعلت أنزع قليلا قليلا حتى أخرجت الدلو، فشربت فإذا أنا بصريف اللبن فقلت: لعلّى ناعس، فضربت بالماء على وجهى و انطلقت و أنا أجد قوة اللبن و شبعه(1). و معنى صريف اللبن: ساعة يصرف عن الضرع.

و منها ما أخرجه أيضا عن بعض الرعاة من العباد أنه كان إذا حصل له ظمأ و شرب من زمزم وجد الماء لبنا، و إذا أراد أن يتوضأ وجده ماء(2).

و منها ما ذكره الفاسى عن الفاكهى أن رجلا شرب سويقا و كان فى السويق إبرة، فنزلت فى حلق الرجل و اعترضت، و صار لا يقدر يطبق فمه، فأتاه آت فقال له: اذهب إلى ماء زمزم، فاشرب منه و اسأل اللّه الشفاء. فدخل إلى زمزم فشرب منه شيئا و ما أساغه إلا بعد جهد و مشقة من ألم تلك الإبرة ثم خرج و هو على تلك الحال، فانتهى إلى أسطوانة من أساطين المسجد و استند إليها فغلبته عيناه فنام ثم انتبه من نومه و لم يجد من ذلك الألم شيئا(3).

و منها أن الشيخ العلامة المفتى أبا بكر عمر الشهير بالشنينى- بشين معجمة و نون ثم مثناة من تحت و نون و ياء النسبة- أحد بنى العلماء المعتبرين ببلاد اليمن، حصل له استسقاء عظيم و اشتد به فذهب إلى طبيب فلما رآه أعرض عنه، و قال لبعض أصحابه: هذا ما يمكث ثلاثة أيام فانكسر خاطره لذلك، و ألقى اللّه بباله أن يشرب من ماء زمزم بنية الشفاء عملا بالحديث، فقصد زمزم و شرب منه حتى تضلع فأحس بانقطاع شى ء فى جوفه، فبادر حتى وصل إلى رباط السدرة الذى هو الآن مدرسة السلطان قايتباى رحمه اللّه فأسهل إسهالا كثيرا ثم عاد إلى زمزم و شرب منها ثانيا حتى امتلأ ريّا، ثم أسهل إسهالا بليغا فشفاه اللّه من ذلك الاستسقاء. فبينما هو فى بعض الأيام برباط ربيع يغسل ثوبه و إذا بالطبيب الذى أعرض عن ملاطفته قد رآه، فقال له: أنت صاحب تلك العلة؟ قال: نعم فقال له:

بم تداويت؟ فقال: بماء زمزم، فقال الطبيب: لطف بك(4).

ص: 230


1- 402. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 53.
2- 403. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 54.
3- 404. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 409.
4- 405. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 410.

و منها أن أحمد بن عبد اللّه المعروف بالشريفى الفراش بالحرم الشريف المكى حصل له عمى، فشرب من ماء زمزم بنية التداوى فشفى من ذلك العمى(1).

و منها أن رجلا آخر عمى فشرب من ماء زمزم و صب فى عينيه منه بنية الشفاء فشفى فى أسرع وقت. و هذا من العجب فإن الأطباء ينهون عن إدخال الماء فى العين و يجعلونه من أسباب العمى.

و منها ما ذكر الحافظ الذهبى فى «طبقات الحفاظ» أن الخطيب البغدادى لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث مرات و سأل اللّه ثلاث حاجات: الأولى أن يحدث بتاريخ بغداد بها، الثانية أن يملى الحديث بجامع المنصور، الثالثة أن يدفن عند بشر الحافى، فقضى اللّه له ذلك(2).

و منها أن الحاكم أبا عبد اللّه شربه لحسن التصنيف و غيره فكان أحسن أهل عصره تصنيفا.

و منها ما ذكره العلامة التاج السبكى فى «طبقاته» فى ترجمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، أنه قيل له: من أين أوتيت هذا العلم؟ فقال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: ماء زمزم لما شرب له، و إنى لما شربته سألت اللّه علما نافعا(3).

و منها ما ذكره العلامة الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر عن نفسه فقال: و أنا شربته مرة و سألت اللّه و أنا فى بداية طلب الحديث أن يرزقنى اللّه حالة الذهبى فى حفظ الحديث، ثم حججت بعد مدّة تقرب من عشرين سنة، و أنا أجد من نفسى المزيد على تلك المرتبة، فسألت رتبة أعلى منها، فأرجو اللّه أن أنال ذلك(4).

و منها ما نقل عن الإمام الشافعى رضى اللّه عنه، أنه قال: شربت من ماء زمزم لثلاث: شربته للعلم، و شربته للرمى فكنت أصيب عشرة عشرة و من عشرة تسعة، و شربته للجنة و أرجوها.

و منها ما أخرجه أبو الفرج فى «مثير الغرام» عن الشيخ أبى عبد اللّه الهروى أنه قال

ص: 231


1- 406. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 410.
2- 407. ( 2) تذكرة الحفاظ ج 3 ص 1139.
3- 408. ( 3) طبقات الشافعية الكبرى ج 3 ص 110.
4- 409. ( 4) طبقات الحفاظ للسيوطى ص 579.

لبعض أصحابه: دخلت المسجد فى السحر فجلست إلى زمزم و إذا بشيخ قد دخل إلى زمزم و ثوبه مسدول على وجهه، فأتى البئر فنزع الدلو فشرب فأخذت فضلته فشربتها، فإذا سويق لوز لم أذق قط أطيب منه، ثم التفت فإذا الشيخ قد ذهب ثم عدت فى الليلة الثانية عند السحر فجلست إلى زمزم، فإذا الشيخ قد دخل إلى زمزم فنزع الدلو فشرب فشربت فضلته، فإذا ماء مضروب بعسل لم أذق قط أطيب منه، ثم ذهب الشيخ فعدت فى الليلة الثالثة عند السحر فجلست عند زمزم، فإذا الشيخ قد أتى زمزم فنزع الدلو فشرب فأخذت فضلته فشربتها، فإذا سكر مضروب بلبن لم أذق قط أطيب منه، فأخذت ملحفته فلففتها على يدى، و قلت: يا شيخ، بحق هذه البنيّة عليك، من أنت؟ قال: تكتم على حتى أموت؟

قلت: نعم، قال أنا سفيان بن سعيد الثورى(1).

و منها ما أخرجه أبو الفرج أيضا عن الحميدى أنه قال: كنا عند سفيان بن عيينة فحدثنا بحديث: ماء زمزم لما شرب له، فقام رجل من المجلس ثم عاد فقال: يا أبا محمد، أليس الحديث الذى حدثتنا به عن زمزم صحيحا؟ فقال سفيان: نعم قال: فإنى قد شربت الآن دلوا من زمزم على أنك تحدثنى بمائة حديث. فقال سفيان: اقعد فحدثه مائة حديث.

فهذه الأخبار مما تؤيد صحة حديث ماء زمزم لما شرب له مع أنه صحيح الإسناد كما سبق. و لم ينصف ابن الجوزى فى ذكره هذا الحديث فى كتاب الموضوعات لكونه إما صحيحا أو حسنا.

و منها كما نقله القاضى جمال بن عبد اللّه الشافعى الظهيرى فى مؤلفه «الجواهر المكنونة فى فضائل المضنونة» عن علماء الشافعية و غيرهم أن الدعاء يستجاب عند زمزم و فضائل ماء زمزم كثيرة و فى هذا القدر كفاية.

و أما أفضليته فنقل الجد تغمده اللّه برحمته عن شيخ الإسلام سراج الدين البلقينى أنه قال: ماء زمزم أفضل من ماء الكوثر، لأن به غسل صدر النبى صلى اللّه عليه و سلم و لم يكن يغسل إلا بأفضل المياه. انتهى.

قال الجد رحمه اللّه: و فيما استدل به وقفة، فقد يقال قوله: و لم يكن يغسل إلا

ص: 232


1- 410. ( 1) انظر فى ذلك: القرى ص 489.

بأفضل المياه مسلم. و لكن بأفضل مياه الدنيا. إذ ماء الكوثر من متعلقات دار البقاء فلا يستعمل فى دار الفناء، و لا يشكل بكون الطست الذى غسل فيه صدره صلى اللّه عليه و سلم من الجنة، لأن استعمال هذا ليس فيه إذهاب عين بخلاف ذاك و اللّه أعلم. انتهى.

و قد سئل شيخ الإسلام جلال الدين السيوطى تعاهده اللّه بالرحمة عن ذلك بما صورته:

يا غرة فى جبهة الدهر افتنالا زلت تفتى كل من جا(1) يسأل

فى زمزم أو ماء كوثر حشرنامن منهما يا ذا المعالى أفضل

جوزيت بالإحسان عنا كلناو بجنة المأوى جزاؤك أكمل

فأجاب بما صورته:

للّه حمدى و الصلاة على النبى محمد من للبرية يفضل

ما جاءنا خبر بذلك ثابت فالوقف عن خوض بذلك أجمل

هذا جواب ابن السيوطى راجيامن ربه التثبيت لمّا يسأل

و قد ذكر العلماء رحمهم اللّه أن لماء زمزم و بئره خواص مباركة(2)، (و منها): أنه يبرد الحمى و قد تقدم فى الحديث. (و منها): أنه يذهب الصداع. (و منها): أن جميع المياه العذبة التى فى الأرض ترفع و تغور قبل يوم القيامة إلا زمزم قالهما الضحاك. (و منها): أنه يفضل مياه الأرض كلها طبّا و شرعا ذكر عن الإمام بدر الدين ابن الصاحب المصرى أنه قال: و ازنت ماء زمزم بماء عين مكة فوجدت زمزم أثقل من العين بنحو الربع، ثم اعتبرته

ص: 233


1- 411. ( 1) فى المطبوع:« جاء» و هو غير صحيح عروضيا.
2- 412. ( 2) انظر فى ذلك: شفاء الغرام ج 1 ص 413.

بميزان الطب فوجدته يفضل مياه الأرض كلها. (و منها): أنه يحلو ليلة النصف من شعبان.

و يطيب و يقال يقول أهل مكة إن عين السلوان تتصل بزمزم فى تلك الليلة. (و منها): أنه يكثر فى ليلة نصف شعبان فى كل عام بحيث يفيض الماء من البئر على ما نقل، لكن لا يشاهد ذلك إلا العارفون. و ممن شاهده كذلك الشيخ الصالح أبو الحسن المعروف بكرباج، و كان ذلك فى عام ست و سبعمائة. (و منها): أن الاطلاع فى بئر زمزم يجلو البصر و يحط الخطايا.

(و منها): كما أخرجه الفاسى عن الفاكهى أن شيخا من أهل مكة أسر فى بلاد الروم، فقال له الملك: من أى بلد أنت؟ قال: من مكة، قال له: هل تعرف بمكة هزمة جبريل؟

قال نعم، قال: فهل تعرف برة؟ قال: نعم، قال فهل لها اسم غير هذا قال: نعم هى اليوم تعرف بزمزم قال: إنا نجد فى كتبنا أنه لا يحثو رجل على رأسه من مائها ثلاث حثيات فتصيبه ذلة أبدا(1).

(و منها): أنه لا يجتمع هو و نار جهنم فى جوف عبد أبدا كما نقله المحب الطبرى.

(و منها): أنه يقوى القلب و يسكن الروع، و لهذا قال الحافظ زين الدين العراقى: إن الحكمة فى غسل صدر النبى صلى اللّه عليه و سلم بماء زمزم ليقوى به على رؤية ملكوت السموات و الأرض و الجنة و النار.

(و منها): اجتماع أرواح المؤمنين فى بئرها كما نقله فى «منهاج التائبين» قال روى عن مجاهد بن يحيى البلخى أنه قال كان عندنا بمكة رجل من أهل خراسان و كان كثير الطواف بالليل و يعكف على قراءة القرآن بالنهار و ذلك منذ ستين سنة، و كان الناس يودعونه و دائعهم فجاء رجل من الصالحين و كان بينه و بين الخراسانى صداقة، فأودعه عشرة آلاف دينار ثم سافر، فلما قدم من سفره وجد الخراسانى قد مات، فسأل أهله و أولاده عن ماله، فقالوا ما لنا به علم لا ندرى ما نقول فقص أمره على فقهاء مكة يومئذ و أخبرهم بما قال له أهله و أولاده، فقالوا له: نحن نرجو أن يكون الخراسانى من أهل الجنة، فإذا مضى ثلث الليل أو نصفه ائت زمزم فاطلع فيها و ناد يا فلان بن فلان أنا صاحب الوديعة، ففعل ذلك ثلاث ليال فلم يجبه أحد فأتى الفقهاء.

ص: 234


1- 413. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 413 و 414.

فأخبرهم بذلك فقالوا: إنا للّه و إنا إليه راجعون. نخشى أن يكون صاحبك من أهل النار، اذهب إلى اليمن فإن بها بئرا اسمها برهوت يجتمع فيها أرواح المعذبين، و هى على فم جهنم فاطلع فيها إذا مضى ثلث الليل أو نصفه، و ناد يا فلان بن فلان أنا صاحب الوديعة قال: فمضيت إلى تلك البئر فاذا أنا بشخصين قد جاءا فنزل فيها و هما يبكيان، فقال أحدهما للآخر. من أنت؟ قال: أنا روح رجل ظالم كنت أضمن المكوس و آكل الحرام، فرمانى ملك الموت إلى هذه البئر أعذب فيها، و قال الآخر: أنا روح عبد الملك بن مروان كنت عاصيا ظالما و أنا أعذب فى هذه البئر ثم سمعت لهما صراخا، فقامت كل شعرة فى بدنى من الفزع.

ثم تطلعت فى البئر و ناديت يا فلان، فأجابنى من تحت العقوبة و الضرب، فقلت:

و يحك يا أخى، ما الذى أنزلك ها هنا؟ و بأى ذنب جئت إلى منازل الأشقياء، و قد كنت صاحب خير؟ قال: بسبب أختى كانت صعلوكة، و هى بأرض العجم فاشتغلت عنها بالمجاورة بمكة و العبادة و ما كنت أفتقدها بشى ء و لا أسأل عنها، فلما مت حاسبنى اللّه عز و جل عنها، و قال: نسيتها، تعرى و أنت تكتسى، و تجوع و أنت شبعان مكتفى. و عزتى و جلالى: إنى لا أرحم قاطع الرحم، اذهبوا به إلى بئر برهوت. فأنا معذب مع قطاع الرحم فى هذه البئر، فعساك يا أخى تذهب إليها و تشرف على حالها و تطلب لى منها أن تجعلنى فى حل، فليس لى ذنب عند اللّه سوى هذا.

قال فقلت له: أين مالى الذى أودعته عندك؟ فقال: هو على حاله و إنى لم أثق عليه أولادى و لا غيرهم، فدفنته فى بيتى تحت العتبة فى الموضع الفلانى فاذهب إلى أولادى و قل لهم يدخلوك دارى، فاحفر فإنك ستجد مالك.

قال فمضيت إلى الموضع الذى قال لى عنه، فحفرته فوجدت ذهبى على حاله كما ربطته، فأخذته و مضيت إلى بلاد العجم، فسألت عن أخته، و اجتمعت بها و حدثتها حديثه فبكت و جعلته فى حل ثم شكت إلىّ القلة و الضرورة فوهبتها شيئا من الدنيا، و انصرفت راجعا إلى مكة شرفها اللّه تعالى، فلما كان نصف الليل جئت إلى زمزم، و ناديت: يا فلان، فقال: لبيك، جزاك اللّه عنى خيرا.

ص: 235

فصل فيما لزمزم من الأسماء

نقل الفاسى عن الفاكهى رحمهما اللّه تعالى عن أشياخه من أهل مكة أن لزمزم عدة أسماء، و هى: زمزم، و هزمة جبريل، و سقيا اللّه إسماعيل، و بركة، و سيدة، و نافعة، و مضنونة أى ضن بها لبنى إسماعيل، لأنها أول ما أخرجت له عليه السلام، أخرجه الأزرقى(1) عن كعب. و عونة، و بشرى، و صافية، و برّة، و عصمة، و سالمة، و ميمونة، و مباركة، و كافية، و عافية، و مغذّية بضم الميم و الغين المعجمة من الغذاء، و طاهرة، و حرمية بالحاء المهملة لكونها و اللّه أعلم بالحرم، و مروية بضم الميم و تخفيف التحتية، و مؤنسة، و طعام طعم، و شفاء سقم(2).

و ذكر الفاكهى عن عثمان بن ساج أن من أسماء زمزم سابق. و ذكر الفاسى رحمه اللّه أن لها أسماء أخر، من ذلك: ظبية بالظاء المعجمة المشالة و بعدها باء موحدة ساكنة ثم مثناة من تحت مفتوحة.

قال القاضى جمال الدين عبد اللّه بن ظهيرة تغمده اللّه برحمته سميت بها تشبيها بالظبية التى هى الخريطة لجمعها ماء فيها. و من ذلك: تكتم بتاءين مثناتين من فوق بينهما كاف ثم ميم فى الآخر و هو فعل مضارع بفتح التاء الأولى و سكون الكاف و ضم التاء الثانية، و شباعة العيال، و شراب الأبرار، و قرية النمل، و هزمة إسماعيل، و حفيرة العباس. و عزا هذا الأخير إلى «معجم البلدان» لياقوت، و نقرة الغراب هذا ما ذكره. ثم قال: و قد ذكرنا معانى بعض هذه الأسماء فى أصل هذا الكتاب يريد بذلك أصل كتابه «شفاء الغرام» و لم يوجد و لا عثر عليه أحد مطلقا.

و أخرج الأزرقى رحمه اللّه أن معنى تسميتها بنقرة الغراب، هو أن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم و نبه على ذلك و قيل له عند نقرة الغراب الأعصم كما تقدم، جاء إلى المسجد ليتعرف موضع الحفر بما رأى من العلامات، فبينما هو على ذلك إذ نحرت بقرة عند

ص: 236


1- 414. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 404.
2- 415. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 404.

الحزورة فانفلتت من الذابح تجرى حتى غلبها الموت فى موضع زمزم فجزرت فى ذلك الموضع. فأقبل غراب يهوى حتى وقع فى الفرث فبحث عن قرية النمل فقام عبد المطلب فحفر هناك(1) انتهى.

و لم أدر ما قرية النمل التى بحث عنها الغراب و لا وقفت على كلام فيها. و الغراب الأعصم هو الذى فى جناحه ريشة بيضاء كذا فى «الصحاح» و من أسماء زمزم على ما نقله السهيلى فى «روضه» همزة جبريل بتقديم الميم على الزاى و قال: لأن جبريل همز بعقبه فنبع الماء، و زمازم حكاهما عن المطرز و فى بعض نسخ «الروض» ضبط زمزم بالشكل فجعل على الزاى الأولى ضمة و على الميم شدة و فتحة. و طيبة بالطاء المهملة بعدها ياء مثناة من تحت مشددة ثم باء موحدة كما يقتضيه كلام السهيلى.

و رأيت فى النسخة التى وقفت عليها من تاريخ الأزرقى كذلك بالطاء المهملة و يقال للماء زمزم و زمزوم و زمزام.

و قد اختلف فى سبب تسمية زمزم بزمزم فقيل: لكثرة مائها. قال ابن هشام: و الزمزمة عند العرب الكثرة و الاجتماع، و قيل: لأنها زمت بالتراب حين نبع الماء لئلا يأخذ يمينا و شمالا و لو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شى ء كذا نقل عن ابن عباس.(2)

الجامع اللطيف ؛ ص237

قيل: سميت بذلك لزمزمة الماء و هى صوته، قاله الحربى(3). و قيل: لأن الفرس كانت تحج فى الزمن الأول فتزمزم عليها(4).

قال المسعودى: و الزمزمة صوت تخرجه الفرس من خياشمها عند شرب الماء. و روى أن عمر رضى اللّه عنه كتب إلى عماله بأن ينهوا الفرس عن الزمزمة و أنشد المسعودى البيت:

زمزمت الفرس على زمزم و ذاك فى سالفها الأقدم(5)

و قيل: إن زمزم غير مشتقة(6). و اللّه تعالى أعلم

ص: 237


1- 416. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 42.
2- 417. ابن ظهيره، محمد بن محمد، الجامع اللطيف في فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف، 1جلد، مكتبة الثقافة الدينية - قاهره، چاپ: اول، 1423 ه.ق.
3- 418. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 405.
4- 419. ( 3) مروج الذهب ج 1 ص 242.
5- 420. ( 4) مروج الذهب ج 1 ص 242، شفاء الغرام ج 1 ص 405.
6- 421. ( 5) شفاء الغرام ج 1 ص 405.

فصل فى آداب الشرب من زمزم و ما ينبغى أن يقال عند ذلك

اشارة

قال العلماء رحمهم اللّه: من أراد أن يشرب من ماء زمزم فينبغى له أن يأخذ السقاء بيده اليمنى و يستقبل الكعبة الشريفة و يقول: اللهم إنه بلغنى عن نبيك صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: ماء زمزم لما شرب له، اللهم إنى أشربه لكذا و يذكر ما يريد ثم يشرب و يتنفس ثلاثا، و يسمى اللّه فى ابتداء كل مرة و يحمده عند فراغها لما روى أن محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر قال:

كنت عند ابن عباس رضى اللّه عنهما فجاءه رجل، فقال له: من أين جئت؟ قال: من زمزم قال:

فشربت كما ينبغى؟ قال: و كيف ذلك؟ قال: إذا شربت منها استقبل الكعبة و اذكر اسم اللّه عز و جل ثم تنفس ثلاثا و تضلع منها، فإذا فرغت فاحمد اللّه تعالى فإن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال:

آية ما بيننا و بين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم. رواه البيهقى من طرق.

و عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه كان إذا شرب من ماء زمزم قال: اللهم إنى أسألك علما نافعا و رزقا واسعا و شفاء من كل داء. قال العلماء: و لا يقتصر على هذا الدعاء بل يدعو بما أحب من أمور الدنيا و الآخرة و يجتنب الدعاء بما فيه مأثمة(1).

و عن سويد بن سعيد قال: رأيت عبد اللّه بن المبارك بمكة أتى زمزم و استقى منها ثم استقبل الكعبة فقال: اللهم إن ابن أبى الموالى حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: ماء زمزم لما شرب له، و أنا أشربه لعطش يوم القيامة ثم شرب.

فائدة: أخرج الأزرقى رحمه اللّه أن فى بئر زمزم ثلاث عيون: عين حذاء الركن الأسود، و عين حذاء أبى قبيس و الصفا، و عين حذاء المروة.

و نقل الفاكهى عن العباس بن المطلب عن كعب الأحبار أن العين التى تجرى من جهة الحجر الأسود هى أغزر العيون الثلاثة: قال الجد رحمه اللّه: إنها من عيون الجنة، و اللّه أعلم.

ص: 238


1- 422. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 414.

فروع:

الأول: يجوز الوضوء من ماء زمزم و الغسل به عند الحاجة إليه(1) كما صرح به أئمتنا من غير كراهة، و كذلك مذهب السادة الشافعية و المالكية و الحنابلة. و فى «شرح المهذب» للنووى أن الجواز مذهب الجمهور.

الثانى: فى حكم الاستنجاء به أما عندنا فلم أقف على نقل فى ذلك و المنقول عن الماوردى و النووى من الشافعية أن ماء زمزم و ان كان له حرمة فليست هى بحيث تمنع استعماله فى الاستنجاء. و المنقول عن الرويانى الكراهة فى ذلك.

قال ابن درياس من الشافعية: إن ماء زمزم و غيره فى ذلك سواء على المذهب ثم نقل فى «شرحه على المهذب» عن الصيمرى أنه قال: إن غيره من الماء أولى منه فى الاستنجاء. و جزم المحب الطبرى رحمه اللّه بتحريم إزالة النجاسة به و إن حصل به التطهير.

قال أكثرهم: و ينبعى توقى إزالة النجاسة به لا سيما مع وجود غيره و خصوصا فى الاستنجاء، فقد قيل إن بعض الناس استنجى به فحدث له الباسور.

و قال ابن شعبان من المالكية: لا يغسل بماء زمزم ميت و لا نجاسة(2).

و أخرج الفاكهى أن أهل مكة كانوا يغسلون موتاهم بماء زمزم إذا فرغوا من غسل الميت و تنظيفه تبركا به، و أن أسماء بنت الصديق رضى اللّه عنهما غسلت ابنها عبد اللّه بن الزبير رضى اللّه عنهما بماء زمزم(3).

الثالث: يجوز نقل ماء زمزم إلى البلدان للتبرك به باتفاق المذاهب الأربعة(4). بل ذلك مستحب عند الشافعية و المالكية، و كذلك يجوز عندنا إخراج اليسير من حجارة الحرم و ترابه للتبرك و لم يجوزه الشافعى رحمه اللّه، و الفرق بين ذلك و ماء زمزم عنده أن الماء إذا زال حدث غيره بخلاف حجارة الحرم. و الدليل على جواز إخراج ماء زمزم إلى الحل أن عائشة

ص: 239


1- 423. ( 1) انظر فى ذلك: شفاء الغرام ج 1 ص 414.
2- 424. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 415.
3- 425. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 415.
4- 426. ( 4) انظر فى ذلك: شفاء الغرام ج 1 ص 415.

رضى اللّه عنها حملت من ماء زمزم فى قوارير و قالت: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حمله فى الأداوى و القرب أخرجه الترمذى فى جامعه(1).

و عن ابن عباس أيضا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم فبعث له براويتين أخرجه الطبرانى بسند رجاله ثقات(2).

و روى أن كعب الأحبار حمل من ماء زمزم اثنتى عشر راوية إلى الشام. و جاء عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه كان يصبه على المرضى و يسقيهم منه. و أنه صلى اللّه عليه و سلم حنك به الحسن و الحسين رضى اللّه عنهما مع تمر العجوة.

استطراد لطيف فى ذكر ما ورد فى فضل السبطين و أنهما سيدا شباب أهل الجنة و فضل الشيخين و أنهما سيدا كهول أهل الجنة و فى معنى ذلك و المراد به

جاء فى الحديث عن أبى سعيد الخدرى رضى اللّه عنه أن رسول اللّه قال «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة» رواه الترمذى و قال حديث حسن صحيح.

و عن أنس رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لأبى بكر و عمر رضى اللّه عنهما: هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين و الآخرين إلا النبيين و المرسلين. رواه الترمذى و حسنه.

و توفى أبو بكر و عمر و السبطان رضى اللّه عنهم و هم شيوخ كلهم. معنى الحديثين أن الحسن و الحسين سيدا كل من مات شابا و دخل الجنة و إن أبا بكر و عمر سيدا كل من مات كهلا و دخل الجنة، فكل أهل الجنة يكونون فى سن أبناء ثلاث و ثلاثين، و لكن لا يلزم كون السيد فى سن من يسودهم، فقد يكون أكبر منهم سنا و قد يكون أصغر، و لا يجوز أن يقال وقع الخطاب حين ماتا شابين أو كهلين، فإن هذا جهل ظاهر و غلط فاحش، لأن النبى صلى اللّه عليه و سلم توفى و الحسن و الحسين دون ثمان سنين فلا يسميان شابين و لأبى بكر فوق الستين سنة و لعمر فوق خمسين، فكانا حال الخطاب شيخين فإن هذا الخطاب كان بالمدينة، و إنما

ص: 240


1- 427. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 415.
2- 428. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 415.

إقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بها عشر سنين، و لعل هذا الخطاب كان فى آخرها و ينقضى سن الكهولة ببلوغ أربعين سنة و يدخل بالأربعين سن الشيخوخة، و اللّه أعلم قاله النووى فى فتاويه.

و قوله: فكل أهل الجنة يكونون فى سن أبناء ثلاث و ثلاثين يؤيده ما نقله الشيخ جلال الدين السيوطى رحمه اللّه فى «البدور السافرة» فقال: أخرج الطبرانى عن المقداد بن الأسود سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: يحشر الناس ما بين السقط و الشيخ الفانى أبناء ثلاث و ثلاثين فى خلق آدم و حسن يوسف و قلب أيوب مكحلين ذوى أفانين.

قال القرطبى رحمه اللّه: يكون الآدميات فى الجنة على سن واحد، و أما الحور فأصناف مصنقة صغار و كبار، و على ما اشتهت أنفس أهل الجنة.

و أخرج ابن أبى الدنيا عن ابن عباس قال أهل الجنة جرد مرد مكحلون ليس لهم لحى الا ما كان من موسى بن عمران عليه السلام فإن لحيته تضرب إلى صدره و أخرج هنا.

و عن أبى الدرداء أنه كان يأخذ لحيته و يقول: نزع اللّه اللحى متى الراحة منها، قيل له متى الراحة منها؟ قال: إذا أدخلنا الجنة.

و أخرج أبو الشيخ فى «العظمة» و ابن عساكر عن جابر أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال: ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد إلا موسى بن عمران عليه السلام، فإن لحيته تبلغ سرته، و ليس أحد يكنى فى الجنة إلا آدم، فإنه يكنى أبا محمد.

و أخرج عن كعب رضى اللّه عنه قال: ليس أحد فى الجنة له لحية إلا آدم عليه السلام له لحية سوداء إلى سرته، و ذلك لأنه لم يكن له لحية فى الدنيا، و إنما كانت اللحى بعد آدم، و ليس أحد يكنى فى الجنة غير آدم يكنى فيها أبا محمد.

أقول: من المعلوم المقرر عند النحاة و الأصوليين أن الاستثناء من النفى إثبات، و هو مفيد للحصر، فإذا كان كذلك، فبين الخبرين المذكورين الدالين على اختصاص اللحية فى الجنة بآدم و موسى عليهما السلام تعارض ظاهر من غير ترجيح، لأنه حيث ثبت الحصر فى حق آدم انتفى عن موسى أو فى حق موسى انتفى عن آدم، و إذا تعارض الخبران و لم يكن مرجح تساقطا. غير أنه يمكن الجمع بما ذكره من الصنف من كون لحية آدم سوداء،

ص: 241

فيجوز أن يكون لموسى لحية غير سوداء بأن تكون بيضاء أو شمطاء أو غير ذلك، لأن أحوال الآخرة لا تكيف و لا تقاس على أحوال الدنيا، ثم ما ذكر من العلة فى حق آدم عليه السلام من كونه لم يكن له لحية فى الدنيا لما أن اللحى لم تظهر إلا بعده لا يصدق ذلك على موسى عليه السلام، إذ فى زمنه كانت اللحى قد ظهرت، و يشهد لذلك قوله تعالى حكاية عن أخيه هارون معه: قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي (سورة طه: 94) فهذا صريح فى وجود اللحى زمن موسى فيحتمل أن يكون ذلك كرامة لسيدنا موسى اختصه اللّه بها أو غير ذلك مما اللّه أعلم به، فتأمل و اللّه الموفق.

الرابع: إن قيل الحرمة الثابتة لماء زمزم هل هى لعينه أم لأجل البقعة؟ فالجواب أنها لعينه و إلا يلزم أنه لو حفرت بئر أخرى فى المسجد أن يثبت لها من الفضل ما ثبت لزمزم و لا قائل به، كذا فى «منسك الجد» رحمه اللّه.

الخامس: يستحب عندنا لكل من طاف طوافا بعده سعى أن يأتى زمزم بعد فراغه من ركعتى طوافه و يشرب منها ثم يعود إلى الحجر و يقبله و يخرج إلى الصفا، و كذلك يستحب للحاج إذا فرغ من طواف الصدر و هو طواف الوداع أن يأتى إلى زمزم فيشرب منها، و يستعمل آداب الشرب المتقدمة و يصب منه على وجهه و يغتسل منه إن أمكن.

و لنختم هذا الباب بذكر أبيات الشيخ العلامة بدر الدين أحمد بن محمد المصرى فى مدح ماء زمزم و هى:

شفيت يا زمزم داء السقيم فأنت أصفى من تعاطى النديم

و كم رضيع لك أشواقه إليك بعد الشيب مثل الفطيم

و له أيضا:

يا زمزم(1) الطيبة المخبر

يا من علت غورا على المشترى

ص: 242


1- 429. ( 1) فى المطبوع:« يا ماء زمزم» و هو غير صحيح عروضيا.

رضيع أخلاقك لا يشتهى فطامه إلا لدى الكوثر

و له أيضا:

باللّه قولوا لنيل مصربأننى عنه فى غناء

بزمزم العذب عند بيت مخلق الستر بالوفاء

و له أيضا:

لزمزم نفع فى المزاج و قوةتزيد على ماء الشباب لذى فتك

و زمزم فاقت كل ماء بطيبهاو لو أن ماء النيل يجرى على المسك

و ليكن المسك ختام الباب، و إلى المرجع و المآب.

ص: 243

الباب العاشر فى ذكر أمراء مكة من لدن عهد النبى صلى اللّه عليه و سلم إلى تاريخ وقتنا هذا و هو عام تسعة و أربعين و تسعمائة

اشارة

ص: 244

و هذا المؤلف و إن كنت وضعته لبيان فضل مكة فقد يذكر الشى ء بالشى ء تكثيرا للفائدة، و هذا الفرع لم يتصد لجمعه أحد كما ينبغى سوى العلامة تقى الدين الفاسى رحمه اللّه، فأحببت أن أذكر ما ذكره و أزيد من حدث بعده من أمراء مكة إلى يومنا هذا ليصير هذا المؤلف جامعا مغنيا عن مطالعة غيره من المطولات، مع توسط العبارة و عدم الإخلال بأحد ممن عده الفاسى مع زيادة الإيضاح، و اللّه ولى التوفيق و المعونة.

فأول أمير ولى مكة عتّاب بن أسيد- بفتح الهمزة- ابن أبى العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى بن كلاب القرشى الأموى، ولاه سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عند مخرجه إلى عزورة حنين فى العشر الأول من شوال سنة ثمان من الهجرة، و هو ابن إحدى و عشرين سنة، قاله ابن إسحاق(1) و غيره ممن لا يحصى، و هو فى عامة كتب الحديث بل و غيرها.

و ذكر ابن عقبة أن النبى صلى اللّه عليه و سلم حين خرج إلى حنين استخلف معاذ بن جبل الأنصارى على أهل مكة و أمره أن يعلم الناس القرآن، و يفقههم فى الدين(2).

و ذكر ابن عبد البر عن الطبرى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما سار إلى الطائف استخلف على مكة هبيرة بن سبل(3) الثقفى، و هو أول من صلّى بمكة جماعة بعد الفتح(4).

ص: 245


1- 430. ( 1) سيرة ابن هشام ج 4 ص 440.
2- 431. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 251.
3- 432. ( 3) فى الإصابة بفتح المهملة و الموحدة بعدها لام، ضبطه الخطيب عن خط ابن الفرات، و أما الدارقطنى فذكره بكسر المعجمة و سكون الموحدة.
4- 433. ( 4) الاستيعاب ص 1548.

و قد جمع الفاسى رحمه اللّه بين هذه الأخبار بأن عتّابا جعل أميرا على مكة و معاذا إماما و فقيها، و اشترك هبيرة مع معاذ فى الإمامة(1).

و لا يعارض ذلك ما قيل فى ترجمة هبيرة من أنه أول من صلى بمكة جماعة كما تقدم، لإمكان أن يكون حان وقت الصلاة و هبيرة حاضر فى الناس و معاذ غائب فبادر هبيرة فصلى بالناس لتحصيل فضيلة أول الوقت، ثم حضر معاذ و صلى بمن لم يكن يدرك الصلاة خلف هبيرة و هذا أولى من جعل الأخبار متعارضة فى ولاية عتاب.

هذا معنى كلام الفاسى، و قد أجاد لأن ولاية عتاب مما بلغ حد التواتر، و لم يزل عتاب أميرا على مكة إلى أن مات. و كانت وفاته يوم مات أبو بكر رضى اللّه عنه، و قيل بل يوم جاء نعى الصديق إلى مكة(2).

و نقل ابن عبد البر ما يقتضى أن الصديق عزل عتّابا، و ولى الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب القرشىّ الهاشمى، و هو ضعيف(3). و المشهور دوام ولاية عتاب على مكة إلى أن مات فى التاريخ المتقدم آنفا، ثم ولى مكة فى خلافة الصديق نيابة عن عتاب لسفر طرأ له المحرز بن حارثة بن ربيعة بن عبد العزّى بن عبد شمس بن عبد مناف القرشى(4).

ذكر من ولى مكة فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه

وليها له جماعة أولهم المحرز بن حارثة المذكور و ذلك فى أول خلافته ثم وليها قنفذ ابن عمر بن جدعان التيمى بعد عزل المحرز، ثم وليها نافع بن عبد الحارث الخزاعى بعد عزل قنفذ، و وليها بعد عزل نافع خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومى، و طارق بن المرتفع بن الحارث بن عبد مناف، و عبد الرحمن بن أبزى مولى خزاعة نيابة عن مولاه نافع بن عبد الحارث لما خرج لملاقاة عمر رضى اللّه عنه بعسفان، و أنكر عمر ذلك على نافع كما

ص: 246


1- 434. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 251.
2- 435. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 253.
3- 436. ( 3) الاستيعاب ص 291.
4- 437. ( 4) الاستيعاب ص 1461، شفاء الغرام ج 2 ص 254.

قد علمته فيما سبق فى الباب الثامن، و الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب القريشى الهاشمى(1). و نقل الذهبى أن الحارث هذا ولى مكة لأبى بكر(2) و هو ضعيف.

ذكر من ولى مكة فى خلافة عثمان رضى اللّه عنه

وليها جماعة، أولهم: على بن عدىّ بن ربيعة بن عبد العزّى بن عبد شمس بن عبد مناف القرشى، ولاه عليها أول خلافته، ثم خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومى المتقدم، و كذلك ولى عثمان الحارث بن نوفل السابق آنفا، و عبد اللّه بن خالد بن أسيد بن أبى العيص بن أمية بن عبد شمس القرشى ابن أخى عتاب بن أسيد، و عبد اللّه بن عامر الحضرمى(3).

و ذكر ابن الأثير(4) أنه كان على مكة فى سنة خمس و ثلاثين و فيها قتل عثمان. ثم نافع ابن عبد الحارث الخزاعى السابق ذكره.

ذكر من ولى مكة فى خلافة أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه

وليها جماعة أولهم أبو قتادة الأنصارى فارس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و اسمه الحارث بن ربعىّ، و قيل النعمان بن ربعى، و قيل غير ذلك(5).

ثم قثم- بضم القاف و فتح المثلثة- ابن عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشى الهاشمى ابن عم النبى صلى اللّه عليه و سلم بعد عزل أبى قتادة الأنصارى، و لم يزل واليا عليها إلى أن قتل على رضى اللّه عنه على الأشهر، ثم أخوه معبد بن العباس بن عبد المطلب على ما قيل، و قيل: إن المحرز بن حارثة ولى مكة لعلى قال الفاسى: و هو تصحيف(6).

ص: 247


1- 438. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 255.
2- 439. ( 2) تاريخ الإسلام: عهد الخلفاء الراشدين ص 463.
3- 440. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 256- 257.
4- 441. ( 4) الكامل فى التاريخ ج 3 ص 207.
5- 442. ( 5) شفاء الغرام ج 2 ص 257.
6- 443. ( 6) شفاء الغرام ج 2 ص 257- 258.

ذكر ولاة مكة فى خلافة معاوية بن أبى سفيان

ذكر ولاة مكة فى خلافة معاوية بن أبى سفيان(1)

و هم جماعة لا نعرف أولهم منهم أخوه عتبة بن أبى سفيان، و خالد بن العاص بن هشام المخزومى المتقدم، و مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس القرشى الأموى أبو عبد الملك، و سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس القرشى الأموى يكنى أبا عثمان، و قيل أبا عبد الرحمن أحد أشراف مكة و أجوادها و فصحائها، و عمرو بن سعيد بن العاص القرشى الأشدق، و كذا سعيد المتقدم، و عبد اللّه ابن خالد بن أسيد بن أبى العيص القرشى ابن أخى عتاب السابق، و كانت ولايته سنة أربع و أربعين و فيها حج معاوية حجته الأولى.

ذكر ولاة مكة فى خلافة يزيد بن معاوية

اشارة

ذكر ولاة مكة فى خلافة يزيد بن معاوية(2)

و هم جماعة: عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق السابق فى ولاية معاوية، و الوليد بن عتبة بن أبى سفيان بن حرب القرشى ابن عم يزيد، و عثمان بن محمد بن أبى سفيان بن حرب القرشى ابن عم يزيد أيضا الأمويون، و الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومى المتقدم ذكر والده خالد، و عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بن نفيل العدوى القرشى ابن أخى عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه، و يحيى بن حكيم بن عمرو بن صفوان ابن أمية بن خلف الجمحى. و فى ترتيب ولايتهم اختلاف إلا عمرو بن سعيد فإنه أولهم ثم الوليد بعده.

خلافة عبد الله بن الزبير رضى اللّه عنهما

خلافة عبد الله بن الزبير رضى اللّه عنهما(3)

ثم ولى مكة عبد اللّه بن الزبير بعد أن لقى فى ذلك بلاء شديدا من الحصين بن نمير المقدم على عسكر يزيد، و كان وصول الحصين إلى مكة لمحاربة ابن الزبير لما بايعه أهل الحجاز لأربع بقين من المحرم سنة أربع و ستين، و تقاتل هو و ابن الزبير مدة.

ص: 248


1- 444. ( 1) انظر فى ولاة مكة فى خلافة معاوية: شفاء الغرام ج 2 ص 259 و ما بعدها.
2- 445. ( 2) انظر فى ولاة مكة فى خلافة يزيد: شفاء الغرام ج 2 ص 261 و ما بعدها.
3- 446. ( 3) انظر فى ذلك: شفاء الغرام ج 2 ص 263.

ثم فرج اللّه على ابن الزبير وصول نعى يزيد فى ليلة الثلاثاء لثلاث مضين من شهر ربيع الآخر سنة أربع و ستين فولى الحصين راجعا إلى الشام، و بويع ابن الزبير حينئذ بالخلافة بالحرمين، ثم بويع بها فى العراق و اليمن و غيرهما من البلاد، و ساد أمره و دامت ولايته على مكة إلى أن حاربه الحجاج و قتله و كان من أمره ما ليس هذا محل ذكره.

ذكر ولاة مكة فى خلافة عبد الملك بن مروان

وليها له جماعة، و هم ابنه مسلمة، و الحجاج بن يوسف، و الحارث بن خالد المخزومى السابق ذكره، و خالد بن عبد اللّه القسرىّ، و عبد اللّه بن سفيان المخزومى، و عبد العزيز بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد بن العيص الأموى، و نافع بن علقمة الكنانى، و يحيى بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس القرشى الأموى(1).

و أولهم فى الولاية الحجاج و الباقون لا يعرف ترتيبهم، و ممن ولى لعبد الملك كما قيل: هاشم بن إسماعيل المخزومى، و أبان بن عثمان بن عفان(2).

ذكر ولاة مكة فى خلافة الوليد بن عبد الملك

و أما ولاة مكة فى خلافة الوليد بن عبد الملك فاثنان: الإمام العادل عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم القرشى الأموى رضى اللّه عنه و ولاه المدينة الشريفة أيضا ثم خالد بن عبد اللّه القسرى(3).

و أما ولاتها فى خلافة سليمان بن عبد الملك فثلاثة أنفار: خالد بن عبد اللّه القسرىّ، ثم طلحة بن داود الحضرمىّ ثم عبد العزيز بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد بن أبى العيص الأموى(4).

و أما ولاتها فى خلافة عمر بن عبد العزيز رضى اللّه عنه فخمسة رجال: عبد العزيز بن عبد اللّه ابن خالد بن أسيد المذكور، و محمد بن طلحة بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق، و عروة بن عياض بن عدىّ بن الخيار(5) بن نوفل بن عبد مناف بن قصى القرشى

ص: 249


1- 447. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 266.
2- 448. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 269- 270.
3- 449. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 270.
4- 450. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 270- 271.
5- 451. ( 5) بكسر المعجمة و تخفيف التحتانية قيده ابن حجر فى التقريب، و تحرف فى الأصلين إلى:« الحبان» و هو تحريف قبيح.

النوفلى كذا ترجمه الذهبى(1) و غيره، و عبد اللّه بن قيس بن مخرمة بن المطلب القرشى، و عثمان بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن سراقة العدوى(2).

و ذكر ابن جرير(3) أن عبد العزيز بن خالد هو الذى كان واليا على مكة مدة خلافة عمر جميعها.

و جمع الفاسى رحمه اللّه فقال: و لعل المذكورين من الولاة غير عبد العزيز بن خالد ولّوا لعمر فى زمن ولايته لمكة عن الوليد بن عبد الملك فى المدّة التى كان فيها بالمدينة فإنها كانت فى ولايته أيضا(4).

و أما ولاتها فى خلافة يزيد بن عبد الملك فجماعة أولهم: عبد العزيز بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد المذكور، ثم عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس القرشى الفهرى مع ولايته للمدينة أيضا، و ولايته لمكة فى سنة ثلاث و مائة، و للمدينة فى سنة إحدى و مائة، ثم عبد الواحد بن عبد اللّه النّصرى- بالنون- من بنى نصر بن معاوية بعد عزل عبد الرحمن بن الضحاك فى سنة أربع و مائة مع المدينة أيضا(5).

و أما ولاتها فى خلافة هشام بن عبد الملك فجماعة أيضا أولهم: عبد الواحد المذكور، و مدة ولايته لذلك فى خلافة يزيد و هشام سنة و ثمانية أشهر على ما ذكره ابن الأثير(6).

ثم بعده إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومى خال هشام بن عبد الملك فى سنة ست و مائة، و ولى مع ذلك المدينة أيضا، و دامت ولايته على مكة إلى سنة ثلاث عشرة، و قيل أربع عشرة و مائة(7).

ثم بعد إبراهيم المذكور أخوه محمد بن هشام بن إسماعيل، و دامت ولايته على ما

ص: 250


1- 452. ( 1) تاريخ الإسلام للذهبى( حوادث و وفيات 101- 120 ه) ص 169.
2- 453. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 272.
3- 454. ( 3) تاريخ الرسل ج 6 ص 554 و 589.
4- 455. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 273.
5- 456. ( 5) شفاء الغرام ج 2 ص 273.
6- 457. ( 6) الكامل فى التاريخ ج 5 ص 105 و 126 و 133.
7- 458. ( 7) الكامل ج 5 ص 133 و 179.

قيل إلى سنة خمس و عشرين و مائة(1). و ذكر الفاكهى أن ممن ولى لهشام مكة نافع بن علقمة الكنانى السابق ذكره، فى خلافة أبيه عبد الملك(2).

و ممن وليها على الشك فى خلافة(3) عبد الملك بن مروان أو فى خلافة أحد أولاده الأربعة، أو خلافة عمر بن عبد العزيز: أبو جراب محمد بن عبد اللّه بن الحارث بن أمية الأصغر الأموى ذكره الفاكهى و ذكر ما يقتضى أنه كان على مكة زمن عطاد بن أبى رباح(4).

و أما ولاتها فى خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فيوسف بن محمد بن يوسف الثقفى مع المدينة و الطائف فى سنة خمس و عشرين و مائة، و ذلك بعد عزل(5) محمد بن هشام خال الوليد المذكور، و دامت ولايته إلى انقضاء دولة الوليد بن يزيد سنة ست و عشرين و مائة(6).

و أما ولاتها فى خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك: فعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان على ما قيل(7).

و أما ولاتها فى خلافة مروان بن محمد بن مروان الأموى- المعروف بالحمار- خاتمة خلفاء بنى أمية: فعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان المذكور آنفا، و دامت ولايته إلى أن حج بالناس فى سنة ثمان و عشرين و مائة(8).

ثم بعده عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك و ولى مع ذلك المدينة، و استمر متوليا إلى أن حج بالناس فى سنة تسع و عشرين و مائة(9). ثم ولى مكة بعده بالتغلب أبو حمزة الخارجى الأباضى و اسمه المختار بن عوف، و سببه أن عبد اللّه بن يحيى الأعور الكندى المسمّى طالب الحق بعد أن ملك حضرموت(10) و صنعاء و تغلب عليهما، طرد عامل مروان: القاسم بن عمر الثقفى عنهما، و بعث أبا حمزة المذكور إلى مكة فى عشرة آلاف

ص: 251


1- 459. ( 1) الكامل ج 5 ص 179 و 275، تاريخ خليفة 357.
2- 460. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 274.
3- 461. ( 3) فى المطبوع:« فى خلافته».
4- 462. ( 4) أخبار مكة للفاكهى ج 3 ص 177.
5- 463. ( 5) تحرف فى المطبوع إلى:« عزم» و صوابه لدى الفاسى الذى ينقل عنه المصنف.
6- 464. ( 6) شفاء الغرام ج 2 ص 274.
7- 465. ( 7) شفاء الغرام ج 2 ص 274.
8- 466. ( 8) شفاء الغرام ج 2 ص 275.
9- 467. ( 9) شفاء الغرام ج 2 ص 275.
10- 468. ( 10) حضرموت: مخلاف من اليمن.

من العسكر، فهرب عبد الواحد المذكور يوم النفر الأول من منى، و قصد المدينة و جهز جيشا من المدينة إلى أبى حمزة فخرج أبو حمزة قاصدا المدينة، فلقيه جيش عبد الواحد بقديد(1). فكان الظفر لأبى حمزة ثم قصد المدينة و قتل بها جماعة، و بلغ خبره مروان فجهز إليه عبد الملك بن محمد بن عطية السعدى فى أربعة آلاف فارس فالتقى هو و أبو حمزة بمكة بالأبطح، فقتل أبو حمزة، و كان عسكره خمسة عشر ألفا و ظفر عبد الملك(2).

و ذكر ابن الأثير ما يقتضى أن عبد الملك سار إلى اليمن لقتال طالب الحق المتقدم ذكره، و أنه ظفر بطالب الحق و قتله و أرسل برأسه إلى مروان.

و ممن ولى مكة لمروان: الوليد بن عروة السعدى ابن أخى عبد الملك المذكور، و أنه كان عليها فى سنة إحدى و ثلاثين و مائة، و يقال: إن محمد بن عبد الملك بن مروان كان على مكة و المدينة فى سنة ثلاثين و مائة، و أنه حج بالناس فيها، و اللّه أعلم(3).

ذكر ولاة مكة فى أيام بنى العباس

أما ولاتها فى خلافة أبى العباس عبد اللّه بن محمد بن على بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، أول خلفاء بنى العباس و تلقب بالسفاح: فداود بن على بن عبد اللّه بن العباس عم السفاح و ذلك فى سنة اثنتين و ثلاثين و مائة، و ولاه مع مكة المدينة و اليمن و اليمامة(4).

ثم بعده زياد بن عبيد(5) اللّه الحارثى خال السفاح مع المدينة و اليمامة أيضا، و دامت ولايته إلى سنة ست و ثلاثين و مائة على ما يقتضيه كلام ابن الأثير(6).

ص: 252


1- 469. ( 1) قديد بالتصغير: مكان معروف فى طريق مكة المدينة، و هو إلى مكة أقرب، و ما زال معروفا بهذا الاسم إلى الآن.
2- 470. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 275.
3- 471. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 277.
4- 472. ( 4) اليمامة: منطقة فى نجد بينها و بين البحرين عشرة أيام، و بها كانت منازل طسم و جديس، و بها كانت دعوة مسيلمة الكذاب، و فتحها خالد ين الوليد فى زمن أبى بكر الصديق، و بها قتل مسيلمة الكذاب و عادت إلى الإسلام، و يقال: إنها كانت من مخاليف مكة، أى محلقاتها، و كان يضمّ إلى حكام مكة حكم اليمامة أحيانا( شفاء الغرام ج 2 ص 278 هامش 1).
5- 473. ( 5) تحرف فى المطبوع إلى:« عبد اللّه» و صوابه لدى الفاسى فى شفاء الغرام الذى ينقل عنه المصنف، و ابن فهد فى غاية المرام ج 1 ص 309.
6- 474. ( 6) الكامل فى التاريخ ج 5 ص 449 و 462.

ثم ولى بعد زياد: العباس بن عبد اللّه بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمى فى سنة ست و ثلاثين و مائة، و استمر عليها إلى موت السفاح قاله ابن الأثير(1).

و ممن ولى مكة للسفاح على ما ذكر ابن حزم فى «الجمهرة»(2) عمر بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوى، و هذا يخالف ما تقدم عن ابن الأثير من كون العباس كان مستمرا على ولاية مكة إلى موت السفاح، و اللّه أعلم بحقائق الأمور(3).

و أما ولاتها فى خلافة المنصور أبى جعفر عبد اللّه بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس أخى السفاح فجماعة، أولهم: العباس بن عبد اللّه بن معبد المذكور آنفا، و ذلك سنة سبع- بتقديم السين- و ثلاثين و مائة ثم مات بعد انقضاء الموسم(4).

ثم ولى بعده زياد بن عبيد اللّه الحارثى المتقدم ودامت ولايته إلى سنة إحدى و أربعين و مائة، و هو الذى تولى عمارة ما زاده المنصور فى المسجد الحرام(5).

ثم ولى بعد عزل زياد الهيثم بن معاوية العتكى الخراسانى فى سنة إحدى و أربعين و مائة، و استمر إلى سنة ثلاث و أربعين.

ثم ولى بعد عزله: السّرىّ بن عبد اللّه بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب و استمر إلى سنة خمس و أربعين(6).

ثم ولى بعده بالتغلّب محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبى طالب القرشى الهاشمى الجعفرى من قبل- بكسر القاف و فتح الموحدة- محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب الملقب بالنفس الزكية، لأنه لما تغلب على المدينة النبوية، و خرج على المنصور فى سنة خمس و أربعين أمر على مكة محمد بن الحسن بن معاوية المذكور، فسار إلى مكة فخرج إليه السرى بن عبد اللّه أمير مكة من قبل المنصور، فتحاربا فانهزم السرى و دخل محمد مكة، ثم أنفذ المنصور جيشا لمحاربة محمد ابن عبد اللّه، فقتل كذا ينقله ابن الأثير(7).

ص: 253


1- 475. ( 1) الكامل ج 5 ص 463.
2- 476. ( 2) جمهرة أنساب العرب ص 18.
3- 477. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 278.
4- 478. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 278.
5- 479. ( 5) شفاء الغرام ج 2 ص 279.
6- 480. ( 6) انظر فى ولاية السرى و من بعده: شفاء الغرام ج 2 ص 279 و ما بعدها.
7- 481. ( 7) الكامل ج 5 ص 542.

و ذكر الزبير بن بكار ما يقتضى أن الذى ولاه محمد بن عبد اللّه على مكة حسن بن معاوية والد محمد المذكور، و اللّه أعلم بالصواب.

ثم عاد السرى على ولاية مكة من قبل المنصور، و استمر إلى سنة ست و أربعين و مائة.

ثم ولى بعده عبد الصمد بن على بن عبد اللّه بن العباس العباسى عم المنصور و السفاح، و استمر إلى سنة تسع و أربعين- بتقديم المثناة الفوقية- و قيل: إلى سنة خمس، و قيل: إنه كان على مكة فى سنة سبع و خمسين بتقديم السين.

ثم ولى بعد عبد الصمد: محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس، و مكث إلى سنة ثمان و خمسين.

و أما ولاتها فى خلافة المهدى أمير المؤمنين محمد بن المنصور العباسى فجماعة.

أولهم: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس، بوصية من المنصور.

ثم جعفر بن سليمان بن على بن عبد اللّه بن عباس و كان على ذلك فى سنة إحدى و ستين، و ثلاث و ستين.

ثم عبيد اللّه بن قثم- بضم القاف و فتح المثلثة- ابن العباس بن عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب و كان متوليا لذلك فى سنة ست و ستين.

و ممن ولى للمهدى أيضا محمد بن إبراهيم الإمام العباسى المتقدم. ذكره الفاكهى.

و ممن ولى مكة على الشك فى خلافة المهدى و ابنه الهادى: قثم بن العباس بن عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب والد عبيد اللّه المتقدم و اللّه أعلم بذلك.

و أما ولاتها فى خلافة الهادى موسى بن المهدى العباسى: فعبيد اللّه بن قثم بن العباس المتقدم، و ذلك فى سنة تسع و ستين- بتقديم المثناة-.

ثم وليها بالتغلب فى أيام الهادى: الحسين بن على بن الحسن بن الحسن بن الحسن ابن على بن أبى طالب الحسنى، لأنه خرج عن طاعة الهادى و فتك بمن فى المدينة من جماعة الهادى و نهب بيت المال الذى بالمدينة و بويع على كتاب اللّه و سنة نبيه، و خرج

ص: 254

بجماعته إلى مكة لست بقين من ذى القعدة سنة تسع و ستين، و بلغ الهادى خبره فكتب إلى محمد بن سليمان بن على بن عبد اللّه بن عباس و أمره بمحاربة الحسين المذكور، و كان محمد بن سليمان قد توجه فى هذه السنة المذكورة للحج فى جماعة من أهل بيته و خيل و سلاح فلما دخل من عمرته عسكر بذى طوى، و انضم إليه من حج من جماعتهم و قوادهم، و التقواع الحسين و أصحابه و كان القتال فى يوم التروية، فقتل الحسين فى أزيد من مائة من أصحابه بفخّ(1) بظاهر مكة عند الزاهر و دفن هنالك.

قال الفاسى: و قبره معروف إلى وقتنا هذا فى قبة على يمين الداخل إلى مكة و يسار الخارج منها إلى جهة وادى مر، و حمل رأسه إلى الهادى فلم يحمد ذلك. و كان الحسين هذا شجاعا كريما، يحكى أنه قدم على المهدى فأعطاه أربعين ألف دينار ففرقها فى الناس ببغداد و الكوفة، و خرج لا يملك ما يلبسه إلا فروة ليس تحتها قميص. رحمه اللّه و غفر له(2).

و ممن ولى مكة فى خلافة الهادى و أخيه الرشيد(3) محمد بن عبد الرحمن السفيانى، كان على إمارتها و قضائها و استمر إلى أن صرفه المأمون إلى قضاء بغداد.

و أما ولاتها فى خلافة هارون الرشيد بن المهدى فجماعة لا يعرف ترتيبهم فى الولاية و هم: أحمد بن إسماعيل بن على بن عبد اللّه بن عباس، و حمّاد البربرى، و سليمان بن جعفر بن سليمان بن على بن عبد اللّه بن عباس، و العباس بن موسى بن عيسى بن موسى ابن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس، و أخوه على بن موسى بن عيسى، و العباس بن محمد بن إبراهيم الإمام، و عبد اللّه بن محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد اللّه التيمى، و عبيد اللّه بن قثم بن العباس المتقدم فيما سبق، و عبيد اللّه بن محمد بن إبراهيم الإمام، و الفضل بن العباس بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس، و محمد بن إبراهيم الإمام، و محمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المغيرة بن عمرو بن عثمان بن عفان

ص: 255


1- 482. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« بفيح» و صوابه لدى الفاسى الذى ينقل عنه المصنف.
2- 483. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 283.
3- 484. ( 3) لدى الفاسى:« و فى خلافة الهادى أو خلافة الرشيد».

العثمانى(1) و موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن على والد العباس و على المتقدم ذكرهما.

و أما ولاتها فى خلافة الأمين محمد بن هارون الرشيد العباسى: فداود بن عيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس، و كان ذلك فى سنة ثلاث و تسعين- بتقديم المثناة على السين- و استمر إلى انقضاء خلافة الأمين فى سنة ست و تسعين و هو الذى تولى خلع الأمين بمكة فيها.

و أما ولاتها فى خلافة المأمون أمير المؤمنين عبد اللّه بن هارون الرشيد فداود المذكور أيضا، ولاه المأمون بعد خلع الأمين، و استمر إلى أواخر سنة تسع و تسعين و مائة- بتقديم المثناة الفوقية- ثم فارق مكة متخوفا من الحسين بن الحسن بن على بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب المعروف بالأفطس و سببه أن أبا السرايا السرى بن منصور الشيبانى داعية ابن طباطبا لما تغلب و استولى على العراق ولى مكة الحسين بن الحسن الأفطس فسار إلى أن وصل إلى وادى سرف(2) المعروف فى وقتنا هذا بالنّوارية- بتشديد النون- على مرحلة لطيفة من مكة إلى جهة مر الظهران، فتوقف عن الدخول خشية من أميرها داود فلما بلغه خروج داود دخلها ليلة عرفة فطاف و سعى ثم مضى إلى عرفة فوقف بها ليلا ثم دفع إلى مزدلفة فصلى بالناس الصبح، ثم دفع إلى منى، فلما انقضى الحج عاد إلى مكة فلما كان مستهل المحرم سنة مائتين نزع الحسين المذكور كسوة الكعبة التى كانت عليها من قبل العباسيين، ثم كساها كسوتين أنفذهما معه أبو السرايا المذكور من قزّ رقيق، إحدهما صفراء و الأخرى بيضاء، ثم عمد الأفطس إلى خزانة الكعبة و أخذ ما فيها من الأموال فقسمها مع كسوة الكعبة على أصحابه، و هرب الناس من مكة لأنه كان يأخذ أموال الناس و يزعم أنها و دائع بنى العباس عندهم.

و لم يزل كذلك على ظلمه إلى أن بلغه قتل مرسله أبى السرايا فى سنة مائتين، فلما علم بذلك و رأى الناس قد تغيروا عليه لما فعله معهم من القبيح و استباحة الأموال جاء هو و أصحابه إلى محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن على بن الحسين

ص: 256


1- 485. ( 1) فى المطبوع:« العفانى» و المثبت رواية الفاسى الذى ينقل عنه المصنف.
2- 486. ( 2) سرف: موضع معروف بقرب مكة، و به قبر السيدة ميمونة زوجة النبى صلى اللّه عليه و سلم.

ابن على بن أبى طالب الحسينى الملقب بالديباجة لجمال وجهه، و سألوه فى المبايعة بالخلافة، فكره محمد ذلك، فاستعان الأفطس عليه بولده على، و لم يزالوا به حتى بايعه بالخلافة و ذلك فى ربيع الأول سنة مائتين.

و جمعوا الناس على بيعة محمد بن جعفر طوعا و كرها و لقبوه بأمير المؤمنين، و بقى شهورا و ليس له من الأمر شى ء و إنما ذلك لابنه على و للأفطس و هما على أقبح سيرة مع الناس، فلم يكن إلا مدة يسيرة إذ جاء عسكر المأمون فيهم الجلودى و ورقاء بن جميل، و قد انضم إلى محمد بن جعفر غوغاء أهل مكة و سواد البادية، فالتقى الفريقان فانهزم محمد و أصحابه، و طلب الديباجة من الجلودى الأمان فأجلوه ثلاثا، ثم خرج من مكة و دخل الجلودى بعسكره إلى مكة فى جمادى الآخرة سنة مائتين(1).

و توجه الديباجة إلى جهة بلاد جهينة فجمع منها جيشا و قاتل والى المدينة هارون بن المسيب، فانهزم الديباجة بعد أن فقئت عينه بنشّابة، و قتل من عسكره خلق كثير(2).

ثم عاد إلى مكة و طلب الأمان من الجلودى، فأمنه فدخل مكة فى أواخر الحجة سنة مائتين و صعد المنبر معتذرا بأنه إنما وافق على المبايعة لأنه بلغه موت المأمون، ثم قدم على المأمون و اعتذر و استغفر فقبل عذره و أكرمه و عفا عنه، فلم يمكث إلا قليلا ثم مات فجأة بجرجان فصلى عليه المأمون و نزل فى لحده و قال: هذه رحم قطعت من سنين و كان موته فى شعبان سنة ثلاث و مائتين و سبب موته على ما قيل أنه جامع و افتصد و دخل الحمام فى يوم واحد(3).

ثم وليها بعد هزيمة الديباجة فى خلافة المأمون عيسى بن يزيد الجلودى، و وليها له نيابة ابنه محمد، و يزيد بن محمد بن حنظلة المخزومى.

ثم وليها بعد عزل الجلودى هارون بن السيب.

و وليها للمأمون أيضا حمدون بن على بن عيسى بن ماهان، و إبراهيم بن موسى بن

ص: 257


1- 487. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 287.
2- 488. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 287.
3- 489. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 287.

جعفر بن محمد بن على بن الحسن بن على بن أبى طالب، و حج بالناس سنة اثنتين و مائتين كذا نقله الفاسى عن العتيقى(1).

و ذكر الأزرقى أن حنظلة كان واليا على مكة فى سنة اثنتين و مائتين خليفة لحمدون بن على(2).

و جمع الفاسى بين ذلك بأنه يمكن أن يكون حمدون كان واليا فى أول سنة اثنتين و مائتين، و استناب حنظلة المذكور و إبراهيم كان واليا فى آخر هذه السنة(3).

و عبيد اللّه بن الحسن(4) ابن عبيد اللّه بن العباس بن على بن أبى طالب مع المدينة، و ذلك فى سنة أربع و مائتين، و استمر إلى سنة ست، و قيل إلى سنة تسع بتقديم المثناة الفوقية(5).

و صالح بن العباس بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس و ذلك فى سنة عشر و مائتين، و استمر إلى أن حج بالناس سنة اثنتى عشرة و مائتين.

ثم وليها بعده على الأشهر سليمان بن عبد اللّه بن سليمان بن على بن عبد اللّه بن عباس مع المدينة.

و ولى أيضا للمأمون محمد بن سليمان المتقدم ذكر والده، و ذلك فى سنة ست عشرة و مائتين كما يقتضيه كلام الفاسى(6).

و عبيد اللّه بن عبد اللّه بن حسن بن جعفر بن حسن بن حسن بن على بن أبى طالب.

و ممن ولى مكة للمأمون من غير مباشرة: الحسن بن سهل أخو الفضل بن سهل، لأن المأمون بعد قتل أخيه الأمين استعمل الحسن هذا على كل ما افتتحه طاهر بن الحسين من العراق و الأهواز و فارس و الحجاز و اليمن، و ذلك فى سنة ثمان و تسعين و مائة(7).

ص: 258


1- 490. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 289.
2- 491. ( 2) أخبار مكة و للأزرقى ج 1 ص 266.
3- 492. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 290.
4- 493. ( 4) فى المطبوع:« الحسين» و المثبت رواية د، و مصعب فى نسب قريس ص 79، و ابن فهد فى غاية المرام ج 1 ص 408.
5- 494. ( 5) شفاء الغرام ج 2 ص 290.
6- 495. ( 6) شفاء الغرام ج 2 ص 290.
7- 496. ( 7) شفاء الغرام ج 2 ص 291.

و أما ولاتها فى خلافة المعتصم محمد بن هارون الرشيد(1):

فصالح بن العباس المتقدم ذكره آنفا و كان فى سنة تسع عشرة- بتقديم المثناة- و مائتين(2).

ثم وليها محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس الملقب بترنجه، و ذلك فى سنة اثنتين و عشرين و مائتين، و يقال: إن ولايته دامت إلى أثناء خلافة المتوكل(3).

و ولى للمعتصم أيضا: أشناس التركى و هو من كبار قواده، و ذلك أنه لما أراد الحج فى سنة ست و عشرين و مائتين فوض إليه المعتصم الولاية على كل بلد يدخلها، فلما دخل مكة جعل محمد بن داود المتقدم نائبا عنه على الحج بالناس، و دعا لأشناس على منابر الحرمين و غيرهما من البلاد التى دخلها(4).

و أما ولاتها فى خلافة الواثق هارون بن المعتصم: فعلى بن عيسى بن جعفر بن أبى جعفر المنصور، و ذلك سنة ثمان و ثلاثين، و استمر إلى أن توفى سنة تسع و ثلاثين.

ثم ولى بعده عبد اللّه بن محمد بن داود بن عيسى المتقدم ذكر والده فى خلافة المعتصم و استمر إلى سنة إحدى و قيل اثنتين و أربعين و مائتين.

ثم ولى بعده عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس سنة اثنتين و أربعين.

ثم ولى بعده محمد بن سليمان بن عبد اللّه بن محمد بن إبراهيم الإمام المعروف بالزينبى.

و ممن عقد له على مكة و لم يباشر فى خلافة المتوكل ابنه المنتصر محمد الذى ولى الخلافة بعد أبيه المتوكل.

ص: 259


1- 497. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« فى خلافة المعتصم فمحمد بن هارون الرشيد» و صوابه لدى الفاسى الذى ينقل عنه المصنف.
2- 498. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 291.
3- 499. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 291.
4- 500. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 291.

و ممن ولى على ما قيل فى خلافة المتوكل إيتاج(1)- بهمزة و بعدها مثناة تحتية ثم مثناة فوقية فألف فجيم- الخوزى- بضم الخاء المعجمة و كسر الزاء المعجمة- مولى المعتصم، و كان من كبار قواد المتوكل، و اللّه أعلم بذلك.

و أما ولاتها فى خلافة المنتصر محمد بن المتوكل: فمحمد بن سليمان الزينبى المتقدم آنفا.

و أما ولاتها فى خلافة المستعين أبى العباس أحمد بن المعتصم العباسى: فعبد الصمد ابن موسى الإمام المتقدم ذكره، و ذلك فى سنه تسع و أربعين بتقديم المثناة.

ثم بعده جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس المعروف بشاشات، و كانت ولايته فى سنة خمسين و مائتين، و استمر إلى سنة إحدى و خمسين.

ثم وليها بعد شاشات بالتغلب إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد اللّه ابن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب، لأنه لما تغلب على مكة هرب منه عاملها جعفر شاشات، و قتل الجند الذى بمكة و جماعة من أهل مكة، و نهب منزل شاشات و غيره، و أخذ من الناس نحو مائتى ألف دينار، و عمد إلى الكعبة الشريفة فأخذ كسوتها، و أخذ ما فى خزائنها من الأموال و ما كان حمل من المال لإصلاح العين، و نهب مكة، و أحرق بعضها، ثم خرج منها فى شهر ربيع الأول بعد إقامته فيها خمسين يوما، و قصد المدينة الشريفة فتوارى عنه عاملها، فرجع إلى مكة فى رجب، فحصر أهلها حتى ماتوا جوعا و عطشا، و بلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم، و لقى أهل مكة منه بلاء شديدا، ثم سار إلى جدّة فحبس عن الناس الطعام، و أخذ أموال التجار و أصحاب المراكب، ثم وافى الموقف و الناس بعرفة فأفسد فيها، و قتل من الحجاج نحو ألف و مائة، و نهب الناس فهرب الحجاج و لم يقف بعرفة أحد لا ليلا و لا نهارا سوى إسماعيل و عسكره، ثم بعد انفصاله من عرفة رجع إلى جدّة ثانيا، و أفنى أموالها، و فعل أمورا قبيحة. ليس هذا محل ذكرها هذا كله فى خلافة المستعين(2).

ص: 260


1- 501. ( 1) ولدى الفاسى الذى ينقل عنه المؤلف:« إيتاخ» بالخاء المعجمة، و مثله لدى ابن فهد فى غاية المرام ج 1 ص 432.
2- 502. ( 2) الخبر بطوله لدى الفاسى فى شفاء الغرام ج 2 ص 294.

و ممن عقد له على مكة و لم يباشر فى خلافة المستعين اثنان: ابنه العباس و محمد بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسين.

و أما ولاتها فى خلافة المعتز و اسمه محمد، و قيل طلحة، و قيل الزبير بن المتوكل العباسى: فعيسى بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الحميد بن عبد اللّه بن أبى عمرو(1) بن حفص بن المغيرة المخزومى. و ذكر الفاكهى ما يقتضى أنه ولى مكة مرتين.

و من ولاتها فى خلافة المعتز أو خلافة المهتدى، أو خلافة المعتمد أحمد بن المتوكل على الشك: محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور العباسى الملقب كعب البقر و ولايته، لا تخرج على أحد هؤلاء الثلاثة(2).

و أما ولاتها فى خلافة المهتدى، و اسمه محمد بن الواثق العباسى: فعلى بن الحسن الهاشمى ذكره الفاكهى، و لم يزد على اسمه و اسم أبيه و ذكر أن ولايته فى سنة ست و خمسين و مائتين(3). و أنه أول من فرق بين الرجال و النساء فى جلوسهم فى المسجد الحرام، أمر بحبال تربط بين الأساطين التى تقعد عندها النساء تفصل بينهن و بين الرجال(4).

و أما ولاتها فى خلافة المعتمد أحمد بن المتوكل العباسى فجماعة: أخوه أبو أحمد الموفق، و اسمه طلحة، و قيل محمد بن المتوكل، و ذلك فى سنة سبع و خمسين- بتقديم السين على الموحدة- و مائتين على ما اقتضاه كلام ابن الأثير(5).

و ابراهيم بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن على بن عبد اللّه بن عباس العباسى الملقب بزيه- بباء موحدة ثم زاى معجمة ثم مثناة تحتية ثم هاء الوقف-(6) و كانت ولايته فى حدود تسع و خمسين- بتقديم المثناة الفوقية- و مائتين إلى إحدى و ستين و مائتين(7).

ص: 261


1- 503. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« بن عمرو» و صوابه لدى الفاسى الذى ينقل عنه المصنف، و مثله لدي ابن فهد فى غاية المرام ج 1 ص 439.
2- 504. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 296.
3- 505. ( 3) أخبار مكة للفاكهى ج 1 ص 477.
4- 506. ( 4) أخبار مكة للفاكهى ج 3 ص 242.
5- 507. ( 5) الكامل فى التاريخ ج 7 ص 241.
6- 508. ( 6) و فى حواشى نزهة الألباب فى الألقاب ص 121:« و بريه- بالراء المهملة- مصغر: إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن على بن عبد اللّه بن عباس الهاشمى العباسى أمير مكة».
7- 509. ( 7) شفاء الغرام ج 2 ص 297.

و أبو المغيرة محمد بن عيسى بن محمد المخزومى ولد عيسى بن محمد المتقدم ذكره فى خلافة المعتز آنفا، و ذلك فى سنة ثلاث و ستين و مائتين كما تقتضيه عبارة الفاسى و الفاكهى(1).

و ذكر ابن الأثير ما يدل أنه وليها نائبا لصاحب الزّنج فى سنة خمس و ستين(2)، و استمر إلى سنة ثمان و ستين و مائتين.

و هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس العباسى، و كانت ولايته فى سنة تسع و ستين- بتقديم المثناة الفوقية- و مائتين، كما دل عليه كلام ابن جرير و ابن الأثير.

و أحمد بن طولون صاحب مصر، أقول كذا عده الفاسى مع أنه لم يباشر ذلك، و لو لا ما قدمته أول هذا الباب بأنى لم أخل بأحد ممن عده الفاسى لما ذكرته، و لعل سبب ذكر الفاسى لأحمد المذكور- و اللّه أعلم- ما نقله عن ابن جرير(3) أن فى عام تسع و ستين و مائتين أرسل ابن طولون هذا قائدين من مصر فى أربعمائة و تسعين فارسا- بتقديم المثناة الفوقية على السين-(4) و ألفى راجل، فوافوا مكة لليلتين بقيتا من ذى القعدة، و أعطوا الجزارين و الحناطين بمكة دينارين لكل رجل و لغيرهم سبعة دنانير، و كان هارون بن محمد المتدم آنفا يومئذ أميرا على مكة، و معه مائة و عشرون فارسا و مائتا عبد من السودان، فوافاه جعفر بن الباغمردى(5) لثلاث خلون من ذى الحجة فى نحو مائتى فارس فقوى بهم هارون فالتقوا هم و أصحاب ابن طولون فانهزم عسكر ابن طولون، و قتل منهم بمكة نحو مائتى رجل، و أخذت دوابهم و أموالهم، و أمّن جعفر الباغمردى المصريين و الحناطين و الجزارين و سلم الناس، و أموال التجار، و لعن أحمد بن طولون فى المسجد الحرام(6) و بهذا لا يثبت لابن طولون ولاية على مكة، و كان عدم ذكره أولى، و اللّه أعلم. انتهى.

ص: 262


1- 510. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 300.
2- 511. ( 2) الكامل ج 7 ص 328.
3- 512. ( 3) تاريخ الرسل ج 9 ص 652.
4- 513. ( 4) الذى لدى الفاسى الذى ينقل عنه المصنف:« فى أربعمائة و سبعين فارسا» و مثله لدى الطبرى.
5- 514. ( 5) فى الأصلين:« الباعمرون» و هو خطأ صوابه لدى الطبرى ج 9 ص 652، و الفاسى فى شفاء الغرام ج 2 ص 298.
6- 515. ( 6) تاريخ الرسل ج 9 ص 652، شفاء الغرام ج 2 ص 298، غاية المرام ج 1 ص 454.

و محمد بن أبى الساج و أخوه يوسف بن أبى الساج، فأما محمد ففى كلام ابن جرير(1) ما يدل على أنه لم يباشر، و إنما عقد له على الحرمين.

و أما ولاية أخيه يوسف فذكر ابن الأثير أنها فى سنة إحدى و سبعين(2)- بتقديم السين على الموحدة- و مائتين.

و الفضل بن العباس بن الحسين بن إسماعيل بن محمد بن العباس، و كان متوليا على مكة فى سنة ثلاث و ستين و مائتين، كذا نقله الفاكهى(3).

أقول: و فيه نظر، لأنه قد تقدم أن أبا المغيرة بن عيسى كان واليا على مكة فى هذه السنة، و يمكن الجمع بأن الفضل لعله كان واليا فى أول السنة، ثم ولى بعده أبو المغيرة فى أثنائها أو آخرها، و اللّه أعلم بذلك، و لم ينبه الفاسى على ذلك.

و أبو عيسى محمد بن يحيى بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن عبد الوهاب بن عبد اللّه بن أبى عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومى، ذكر ولايته عن المعتمد ابن حزم و لم يذكر لها تاريخا، لكنه نقل أن أبا عيسى عزل بأبى المغيرة المخزومى المتقدم(4)، فيحتمل أن تكون ولايته تقريبا من ثلاث و ستين إلى ثمان و ستين و مائتين لأن أبا المغيرة كان واليا فى هذه الحدود على اختلاف الأقوال المتقدمة فى تاريخ ولايته. انتهى.

و نقل الفاكهى ما يقتضى أن أبا عيسى هذا ولى مكة نيابة عن الفضل بن العباس المذكور آنفا.

و جمع الفاسى بين ما ذكره ابن حزم و الفاكهى فقال: و لا مانع لأنه يجوز أن يكون أبو عيسى ولى مكة عن الفضل نيابة عن المعتمد استقلالا. انتهى(5).

و أما ولاتها فى خلافة المعتضد أبى العباس أحمد بن أبى أحمد الموفق بن المتوكل العباسى ثم فى خلافة أولاده المكتفى أبى محمد على و المقتدر أبى الفضل جعفر و القاهر أبى منصور محمد ثم فى خلافة الراضى أبى العباس أحمد بن المقتدر، ثم فى خلافة

ص: 263


1- 516. ( 1) تاريخ الرسل ج 9 ص 549.
2- 517. ( 2) الكامل ج 7 ص 417.
3- 518. ( 3) أخبار مكة للفاكهى ج 1 ص 482.
4- 519. ( 4) جمهرة أنساب العرب ص 149.
5- 520. ( 5) شفاء الغرام ج 2 ص 300.

المتقى أبى إسحاق إبراهيم بن المقتدر، ثم فى خلافة المستكفى عبد اللّه بن المكتفى على بن المعتضد، ثم فى خلافة المطيع أبى القاسم الفضل بن المقتدر العباسى فجماعة كثيرة، لم يعرف منهم و يذكر سوى عجّ- بالعين المهملة و الجيم- ابن حاج، و لم يعلم مبدأ ولايته متى كانت، غير أن إسحاق الخزاعى ذكر أنه كان واليا على مكة فى سنة إحدى و ثمانين و مائتين.

و ذكر ابن الأثير ما يدل على أنه كان واليا فى عام خمس و تسعين- بتقديم المثناة الفوقية- و مائتين(1) فيحتمل أنه استمر من عام واحد و ثمانين إلى التاريخ ذكره ابن الأثير، أو تولى غيره ثم أعيد هو و اللّه أعلم.

و مؤنس المظفّر و ذلك فى سنة ثلاثمائة حسبما ذكره ابن الأثير(2) و كان أميرا على الحرمين و الثغور بالعقد لا بالمباشرة.

و ابن ملاحظ لأن النسابة(3) أبا محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمدانى ترجم ابن ملاحظ بسلطان مكة من غير ذكر تاريخ(4).

قال العلامة الفاسى: و ما عرفت اسم ابن ملاحظ و لا متى كانت ولايته، غير أنى أظن أنه كان عليها بعد سنة ثلاثمائة أو قبلها بقليل. انتهى(5).

و ابن محلب(6) و قيل ابن محارب و الأول أصوب، و لم يعلم أول ولايته، غير أن ابن الأثير لما ذكر ما فعله أبو طاهر القرمطى من القبائح بمكة فى سنة سبع عشرة- بتقديم المهملة على الموحدة- و ثلاثمائة، قال ما صورته: فخرج إليه ابن محلب أمير مكة فى جماعة من الأشراف فقاتلوه فقتلهم أبو طاهر أجمعين(7). انتهى.

فاستفيد من كلامه أن ابن محلب كان والى مكة فى تلك السنة.

ص: 264


1- 521. ( 1) الكامل ج 8 ص 11 و 12.
2- 522. ( 2) الكامل ج 8 ص 75.
3- 523. ( 3) فى المطبوع:« النابه».
4- 524. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 303.
5- 525. ( 5) شفاء الغرام ج 2 ص 304.
6- 526. ( 6) كذا فى الأصلين، و مثله لدى ابن الأثير فى الكامل ج 8 ص 207 ولدى الفاسى فى شفاء الغرام: « ابن مخلب».
7- 527. ( 7) الكامل فى التاريخ ج 8 ص 207.

و محمد بن طعج- بالطاء و العين المهملتين ثم بالجيم(1)،- المعروف بالإخشيد، و ابناه أبو القاسم أونجور- بالنون و الجيم- و معنى أونجور: محمود، و أبو الحسن على. و كان مبدأ ذلك فى سنة إحدى و ثلاثين و ثلاثمائة، كما دل عليه كلام المؤرخين بأن الخليفة التقى العباسى ولى محمدا المذكور مصر و الشام و الحرمين فى السنة المذكورة، و عقد لولديه أبى القاسم و على أبى الحسن من بعد أبيهما على البلد المذكورة على أن يكفلهما خادمه كافور الخصى المعروف بالإخشيدى. و هذه الولاية بالعقد عن غير مباشرة، و دليله أن الفاسى رحمه اللّه قال بعد استيفاء كلام المؤرخين فى عقد المتقى لمحمد و ولديه ما صورته: و ما عرفت من كان يباشر لهم ولاية مكة و لا من يباشر ذلك لمؤنس المظفر(2).

انتهى. و اللّه أعلم.

و ممن ولى مكة القاضى أبو جعفر محمد بن الحسن بن عبد العزيز العباسى، ذكر ذلك بعض مؤرخى مصر، و ذلك فى سنة ثمان و ثلاثين و ثلاثمائة، و قيل: إنه باشر ذلك لأبى الحسن على بن الإخشيد(3)، و اللّه أعلم.

ثم ولى مكة فى زمن الإخشيدية بالتغلّب: جعفر بن محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد اللّه بن موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب الحسنىّ، كذا ذكره ابن حزم(4)، ثم قال و ولده إلى اليوم ولاة مكة يعنى فى زمنه.

قال العلامة الفاسى: و لعل ولاية جعفر المذكور بعد موت كافور الإخشيدى، و قيل أخذ العبيديين مصر من الإخشيدية، و يصدق على ذلك أنها الإخشيدية، و يبعد أن يلى جعفر مكة فى أيام كافور لعظم أمره، و قد رأيت فى بعض التواريخ ما يدل على أنه كان يدعى لكافور على المنابر بمكة، و كان موت كافور فى سنة ست و خمسين و ثلاثمائة فى

ص: 265


1- 528. ( 1) كذا ضبطها ابن ظهيرة، و لدى ابن خلكان فى وفيات الأعيان ج 5 ص 62:« طغج: بضم الطاء المهملة و سكون الغين المعجمة و بعدها جيم- و تفسيره: عبد الرحمن» و مثله فى سائر المصادر.
2- 529. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 305.
3- 530. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 305.
4- 531. ( 4) جهرة أنساب العرب ص 47.

جمادى الأولى، و قيل: فى سنة سبع و خمسين، فتكون ولاية جعفر فى إحدى هاتين السنتين، أو فى سنة ثمان و خمسين، و لا تخرج ولايته عن هذا. انتهى(1).

ثم ولى مكة بعد جعفر هذا ابنه عيسى بن جعفر، و دامت ولايته إلى سنة أربع و ثمانين و ثلاثمائة(2).

و لم يتعرض الفاسى لموت أبيه جعفر متى كان ليعلم من ذلك مبدأ ولاية عيسى، و إنما أفاد ولاية عيسى بعد أبيه لا غير.

ثم ولى بعد عيسى أخوه أبو الفتوح الحسن بن جعفر الحسنىّ، و دامت ولايته إلى أن مات فى سنة ثلاثين و أربعمائة، إلا أن الحاكم العبيدى صاحب مصر كان قد ولّى مكة لابن عم أبى الفتوح أبى الطيب فى المدة التى خرج فيها أبو الفتوح عن طاعة الحاكم، ثم أعاده إلى مكة بعد أن راجع طاعته.

و قيل: إن أخا لأبى الفتوح كان خرج عليه بمكة فى زمن عصيانه، و اللّه أعلم بحقائق الأمور، و كان عصيان أبى الفتوح فى سنة إحدى و أربعمائة و قيل فى سنة اثنتين.

و ذكر ابن خلدون أن أبا الفتوح ولى المدينة الشريفة أيضا و أزال عنها إمرة بنى المهنا الحسينيين(3)، و ذلك فى سنة تسعين بتقديم المثناة و ثلاثمائة.

ثم ولى مكة بعد أبى الفتوح ابنه شكر بن أبى الفتوح و استمرت ولايته إلى أن مات فى سنة ثلاث و خمسين و أربعمائة، و نقل ابن خلدون أنه ملك المدينة و جمع بين الحرمين(4)، و يقال: إنه ملك ثلاثا و عشرين سنة، و مات و لم يعقب و لا ولد له قط، و إنما صار أمر مكة بعده إلى عبد كان له، كذا ذكره ابن حزم(5).

و نقل صاحب «المرآة» ما يقتضى أن شكرا كانت له ابنة، و اللّه أعلم.

ثم ولى مكة بعد شكر بنو أبى الطيب الحسنيون، و هم الذين يقال لهم السليمانيون من جماعة شكر، و لم يذكر الفاسى عدتهم.

ص: 266


1- 532. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 306.
2- 533. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 307.
3- 534. ( 3) فى المطبوع:« الحسنيين».
4- 535. ( 4) العبر و ديوان المبتدأ و الخبر ج 4 ص 102.
5- 536. ( 5) انظر الجمهرة ص 47.

ثم ولى مكة على بن محمد الصّليحى صاحب اليمن، و ذلك فى سنة خمس و خمسين و أربعمائة فى شهر ذى الحجة، و أظهر العدل بها و استعمل الجميل مع أهلها، و كثر الأمن و طابت به قلوب الناس، و رخصت الأسعار فى أيامه، و كثرت له الأدعية، و كسا البيت ثوبا أبيض، ورد إلى البيت الحلى الذى أخذه بنو أبى الطيب الحسنيون لما ملكوا بعد شكر، و أقام بمكة إلى يوم عاشوراء، و قيل: إلى ربيع الأول سنة ست و خمسين، و عاد إلى اليمن(1).

ثم ولى بعده نائبا أبو هاشم محمد بن جعفر بن محمد بن عبد اللّه بن أبزى هاشم محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن عبد اللّه بن موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب الحسنى، و سببه أن الصليحى لما دخل مكة كان الأشراف بنو أبى الطيب قد أبعدوا عن مكة، و جمعوا عليه، ثم راسلوه بأن يخرج من مكة و يؤمر بها من يختاره منهم، و كان قد وقع فى عسكره الوباء فمات منهم سبعمائة رجل، و لم يبق معه إلا نفر يسير، فاختار محمدا هذا ابن جعفر بن أبى هاشم و أقامه نائبا عنه و أمره على مكة و استخدم له عساكر و أعطاه مالا و سلاحا و خمسين فرسا، ثم سار إلى اليمن فجاء الأشراف بنو سليمان و معهم حمزة بن أبى وهاس، و حاربوا محمد بن جعفر فحاربهم، و لم يكن له بهم طاقة فخرج هاربا من مكة فتبعوه فكر راجعا و ضرب واحدا منهم ضربة قطع بها درعه و فرسه و جسده و وصل إلى الأرض فرجعوا عنه، و كان تحته فرس يقال لها دنانير لا تكلّ و لا تملّ(2).

و محمد بن جعفر هذا هو أحد أمراء مكة المعروفين بالهواشم، و قيل: إنه كان صهر شكر بن أبى الفتوح على ابنته و اللّه أعلم بذلك.

ثم عاد محمد بن جعفر إلى مكة بعد خروجه، و استمر متوليا إلى أن مات فى سنة سبع و ثمانين- بتقديم السين- و أربعمائة، و هو أول من أعاد الخطبة العباسية بمكة بعد أن قطعت نحو مائة سنة، و قد بالغ ابن الأثير فى ذمه، فقال: لما أن ذكر وفاته ما له ما يمدح(3) به. انتهى.

ص: 267


1- 537. ( 1) اتعاظ الحنفا ج 2 ص 268 و 269.
2- 538. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 310 و 311.
3- 539. ( 3) الكامل ج 10 ص 239.

قال الفاسى رحمه اللّه: و لعل ذلك لنهبه الحاج، و قتله منهم خلقا كثيرا فى سنة ست و ثمانين، و لأخذه حلية الكعبة فى سنة اثنتين و ستين و اللّه أعلم. انتهى(1).

و ذكر ابن خلدون أن إمرته على مكة كانت ثلاثين سنة، و أنه ملك المدينة و اللّه أعلم.

ثم ولى مكة بعده ابنه قاسم بن محمد بن جعفر بن أبى هاشم مدة يسيرة، ثم وليها أصبهبذ(2) بن سارتكين(3) بسين مهملة ثم ألف ثم راء مهملة ثم مثناة فوقية ثم كاف ثم مثناة تحتية ثم نون، و كان استيلاؤه عنوة فى أوائل سنة سبع و ثمانين- بتقديم المهملة- فهرب منها قاسم بن محمد و أقام أصبهبذ بمكة إلى شوال فجمع قاسم عسكرا و كبس أصبهبذ بعسفان، فانهزم أصبهبذ إلى الشام، و دخل قاسم مكة، و دامت ولايته عليها إلى أن مات فى سنة ثمان عشرة و خمسمائة(4).

و ذكر ابن خلدون أن إمرته نحو ثلاثين سنة على الاضطراب.

ثم ولى مكة بعده ابنه فليتة، و قيل: أبو فليتة، و استمرت ولايته حتى مات فى سنة سبع و عشرين بتقديم المهملة و خمسمائة(5).

ثم ولى مكة بعده ابنه هاشم بن فليتة، و استمر متوليا إلى أن مات فى سنة تسع و أربعين- بتقديم المثناة الفوقية- و خمسمائة، و قيل فى سنة خمسين، و قيل إحدى و خمسين، و لم يختلف عليه اثنان مدة ولايته(6).

ثم ولى بعده ابنه قاسم بن هاشم بن فليتة، و استمر إلى سنة ست و خمسين ثم فارق مكة متخوفا من أمير الحاج العراقى، و ذلك وقت الموسم لإساءته السيرة فى مكة.

ص: 268


1- 540. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 312.
2- 541. ( 2) فى المطبوع:« أصيهيد» و فى د:« أصبهيد» و المثبت رواية ابن الأثير فى الكامل ج 10 ص 239، و الفاسى فى شفاء الغرام ج 2 ص 312.
3- 542. ( 3) و الذى لذى ابن الأثير فى الكامل ج 10 ص 239:« ساوتكين» و لدى ابن فهد فى إتحاف الورى ج 2 ص 487:« سرتكين».
4- 543. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 312.
5- 544. ( 5) شفاء الغرام ج 2 ص 313.
6- 545. ( 6) شفاء الغرام ج 2 ص 313.

ثم ولى مكة بعده عمه عيسى بن فليتة، ثم عاد قاسم إلى مكة و استولى عليها فى شهر رمضان سنة سبع و خمسين- بتقديم السين على الموحدة- أقام بها أياما يسيرة، ثم قتل(1).

و استقر الأمر بعده لعمه عيسى و دامت ولايته إلى أن مات فى سنة سبعين- بتقديم السين- و خمسمائة(2).

ثم ولى بعد عيسى ابنه داود بن عيسى بن فليتة بعهد من أبيه و استمر إلى ليلة النصف من رجب [سنة] إحدى و سبعين(3).

ثم وليها أخوه مكثر بن عيسى، و استمر إلى موسم هذه السنة، ثم عزل و جرى بينه و بين أمير الركب العراقى حرب شديد فى ذلك الموسم كان الظفر فيه لطاشتكين(4).

ثم ولى مكة فى الموسم المذكور الأمير قاسم بن مهنا الحسينى بعد عزل مكثر، و أقام متوليا نحو ثلاثة أيام، ثم إنه رأى من نفسه العجر عن القيام بإمرة مكة فأعاد أمير الحاج داود بن عيسى المذكور آنفا إلى إمرة مكة، و شرط عليه أن يسقط جميع المكوس، و لم تعلم ولايته هذه إلى متى استمرت غير أنه بعدها كان يتداول هو و أخوه مكثر إمرة مكة، ثم انفرد بها مكثر عشر سنين متوالية، آخرها سنة سبع- بتقديم السين- و تسعين- بتقديم المثناة الفوقية- و خمسمائة و هو آخر أمراء مكة المعروفين بالهواشم(5).

غير أن فى ولايته أو فى ولاية أخيه داود على الشك كان ممن ولى مكة سيف الإسلام طغتكين- بطاء مهملة ثم غين مهجمة ثم مثناة فوقية- ابن أيوب أخو السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، و ذلك فى سنة إحدى و ثمانين و خمسمائة، لأنه قدم مكة فى هذه السنة، و منع من الأذان [فى الحرم] بحى على خير العمل، و قتل جماعة من العبيد المفسدين، و هرب منه أمير مكة إلى قلعته بأبى قبيس، و شرط على العبيد أن لا يؤذوا الحاج، و ضرب طغتكين الدراهم و الدنانير بمكة باسم أخيه السلطان صلاح الدين(6).

ص: 269


1- 546. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 313.
2- 547. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 313.
3- 548. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 314 و ما بين حاصرتين منه.
4- 549. ( 4) فى المطبوع:« لطاستكين» و المثبت رواية ابن الأثير فى الكامل ج 11 ص 432، و مثلها لدي الفاسى الذى ينقل عنه المصنف.
5- 550. ( 5) شفاء الغرام ج 2 ص 314.
6- 551. ( 6) شفاء الغرام ج 2 ص 314 و ما بين حاصرتين منه.

ثم ولى مكّة بعد مكثر: أبو عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى ابن حسين بن سليمان بن على بن عبد اللّه بن محمد بن موسى بن عبد اللّه بن موسى بن حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب الحسنى، و ذلك فى سنة سبع- بتقديم السين- و تسعين- بتقديم المثناة- و خمسمائة، و قيل: فى سنة ثمان و تسعين، و قيل فى سنة تسع و تسعين و خمسمائة، و دامت ولايته إلى أن مات فى سنة سبع عشرة- بتقديم السين- و قيل فى سنة ثمان عشرة و ستمائة فتكون ولايته عشرين سنة أو ما يقاربها للاختلاف فى مبدأ ولايته، و كانت ولايته ممتدة إلى ينبع(1) و إلى حلى(2)، و كان يحارب صاحب المدينة الشريفة، و يغلب كل منهما الآخر حينا، و كان ممن ولى مكة بالعقد لا بالمباشرة فى أيام قتادة: آقباش بن عبد اللّه الناصرى فتى الخليفة الناصر لدين اللّه العباسى، لأن مولاه عقد له على الحرمين و إمرة الحج لعظم مكانته عنده(3).

ثم بولى مكة بعده ابنه حسن بن قتادة، و قتل بعض عسكره آقباش المتقدم آنفا لأنهم اتهموه أنه واطأ راجح بن قتادة على أن يوليه عوضا عن أخيه حسن، و استمر حسن المذكور إلى سنة تسع عشرة- بتقديم المثناة- و قيل إلى سنة عشرين و ستمائة(4).

ثم وليها بعده الملك المسعود يوسف الملقب أقسيس بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبى بكر بن أيوب صاحب اليمن، لأنه صار إلى مكة و تحارب هو و حسن بن قتادة بالمسعى فانهزم حسن و هرب من مكة و نهبها عسكر الملك المسعود إلى وقت العصر، و دامت ولايته عليها إلى أن مات فى سنة ست و عشرين و ستمائة(5).

و كان ممن ولى مكة نيابة للملك المسعود رجلان: الأول نور الدين عمر بن على بن

ص: 270


1- 552. ( 1) ينبع: بلد حجازى على ساحل البحر الأحمر من جهة الشمال الغربى لمكة المكرمة، و يقال لها ينبع البحر، و قريب منها فى الداخل بلد يقال لها ينبع النخل، و هى قرية غنّاء ذات عيون و مزارع و قد كانت عامرة، و قال يا قوت فى معجمه: قال الشريف بن مسلمة بن عياش الينبعى: عددت بها مائة و سبعين عينا.
2- 553. ( 2) حلى: بلد حجازى على ساحل البحر الأحمر من جهة الجنوب الغربى لمكة.
3- 554. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 315.
4- 555. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 315.
5- 556. ( 5) شفاء القلوب فى مناقب بنى أيوب ص 365.

رسول الذى ولى السلطنة ببلاد اليمن بعد ذلك، فقصده حسن بن قتادة بجيش جاء به من ينبع، فتحاربا فانكسر حسن.

و الثانى الأمير حسام الدين ياقوت بن عبد اللّه المسعودى، و ذلك فى سنة خمس و عشرين و ستمائة.

ثم ولى مكة بعد الملك المسعود والده الملك الكامل، و استمر إلى شهر ربيع الآخر سنة تسع و عشرين- بتقديم المثناة الفوقية- و ستمائة.

ثم وليها نائبه على اليمن نور الدين عمر بن على بن رسول بعد أن بويع بالسلطنة فى بلاد اليمن، و ذلك أنه بعث جيشا إلى مكة و معهم راجح بن قتادة الحسنى أخو حسن المتقدم فأخرجوا متوليها الأمير طغتكين نائب الملك الكامل، فهرب إلى ينبع، فبلغ ذلك الملك الكامل فجهز إلى طغتكين جيشا كثيفا مقدمهم الأمير فخر الدين بن الشيخ على ما قيل، فوصل إلى طغتكين و دخل إلى مكة مع الجيش فأخرجوا منها راجحا و من معه من أهل اليمن، و استولى طغتكين على مكة و قتل خلقا كثيرا من أهل مكة لخذلانهم له فى النوبة الأولى، و كان استيلاؤه [على مكة] فى رمضان سنة تسع و عشرين- بتقديم المثناة- و ستمائة(1).

ثم وليها مع راجح بن قتادة، عسكر صاحب اليمن بغير قتال، و ذلك فى سفر سنة ثلاثين و ستمائة(2).

أقول: لم يبين الفاسى من هو صاحب اليمن، و الذى يظهر أنه الرسولى لأن الكلام الآتى يدل على ذلك. انتهى.

ثم وليها فى آخر سنة ثلاثين عسكر الملك الكامل، و كان المقدّم عليه أميرا يعرف بالزاهد، و أقام أميرا بمكة يعرف بابن مجلى بميم ثم جيم(3).

ثم وليها فى سنة إحدى و ثلاثين عسكر الملك المنصور صاحب اليمن، مع راجح بن قتادة(4).

ص: 271


1- 557. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 316 و ما بين حاصرتين منه.
2- 558. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 317.
3- 559. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 317.
4- 560. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 317.

أقول: لم يبين الفاسى من هو الملك المنصور، و هو عمر الرسولى، لأنه بعد أن بويع بالسلطنة لقب بالمنصور. انتهى.

ثم وليها نيابة عن الملك الكامل أميره المسمى بجفريل(1)- بجيم ثم فاء ثم راء مهملة ثم مثناة تحتية ثم لام- و ذلك أن الملك الكامل كان قد جهز عسكرا كبيرا فيه ألف فارس، و قيل تسعمائة، و قيل خمسمائة و خمسة أمراء مقدمهم جفريل المذكور، و استمرت ولاية جفريل على مكة إلى سنة خمس و ثلاثين و ستمائة(2).

ثم وليها الملك المنصور صاحب اليمن فى هذه السنة و سار إليها بنفسه و دخلها فى رجب، بعد أن هرب جفريل و من معه، و كان مع المنصور ألف فارس، و دامت ولايته إلى سنة سبع و ثلاثين- بتقديم السين- و رتب بمكة مائة و خمسين فارسا، و جعل عليهم أميرين: ابن الوليد و ابن التّعزى(3).

ثم وليها الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل صاحب مصر، لأنه جهز إليها جيشا ألف فارس معهم الشريف شيحه- بشين معجمة مكسورة ثم مثناة تحتية ثم حاء مهملة ثم هاء الوقف- صاحب المدينة الشريفة، فاستولوا على مكة بغير قتال. و ذلك فى سنة سبع و ثلاثين(4).

ثم وليها عسكر الملك المنصور صاحب اليمن، و لما قدم العسكر المذكور هرب الشريف شيحه و من معه.

ثم وليها ثانيا عسكر الملك الصالح صاحب مصر فى سنة ثمان و ثلاثين.

و كان ممن وليها للملك الصالح الأمير شهاب الدين أحمد بن التركمانى.

ص: 272


1- 561. ( 1) و الذى فى السلوك للمقريزى 1/ 1/ 250 و 1/ 2/ 274:« جغريل» و مثله لدى ابن فهد فى غاية المرام ج 1 ص 602.
2- 562. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 317.
3- 563. ( 3) و كذا لدى الخزرجى فى العقود اللؤلؤية ج 1 ص 62 و مثله لدى ابن فهد فى إتحاف الورى ج 3 ص 55، و غاية المرام ج 1 ص 603. و فى د:« ابن التغرى» و مثله لدى الفاسى الذى ينقل عنه المصنف.
4- 564. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 318.

ثم وليها الملك المنصور صاحب اليمن، و ذلك فى سنة تسع و ثلاثين، و سار بنفسه و دخل مكة فى رمضان بعد أن فارقها عسكر الملك الصالح خوفا منه، و دامت ولايته إلى أن مات، و أمر على مكة فى هذه السنة مملوكه الأمير فخر الدين الشّلّاح(1)، و ابن فيزور، و جعل الشريف أبا سعد بن على بن قتادة الحسنى بالوادى مساعدا لعسكره بعد أن استدعاه من ينبع و أحسن إليه، و استمر مملوكه الشلاح على نيابة مكة إلى سنة ست و أربعين و ستمائة(2).

ثم ولى فيها ابن المسيب و عزل الشّلاح.

ثم ولى مكة الشريف أبو سعد [حسن] بن على بن قتادة، بعد أن قبض على ابن المسيب فى ذى القعدة، و قيل فى شوال سنة سبع و أربعين- بتقديم السين- و استمر على مكة إلى أن قتل فى أوائل شعبان سنة إحدى و خمسين و ستمائة، و قيل فى رمضان(3).

ثم وليها بعد قتله جماز بن حسن بن قتادة، و هو أحد قتلة أبى سعد، و دامت ولايته آخر يوم من ذى الحجة سنة إحدى و خمسين.

ثم وليها بعد جماز عمه راجح بن قتادة الذى كان يليها مع عسكر صاحب اليمن، و استمر متوليا إلى شهر ربيع الأول سنة اثنتين و خمسين و ستمائة(4).

ثم وليها بعده ابنه غانم بن راجح و استمر إلى شوال من السنة المذكورة.

ثم وليها عمه إدريس بن قتادة و أبو نمى بن أبى سعد بن على بن قتادة، و استمرت ولايتهما(5) إلى الخامس و العشرين من ذى القعدة سنة اثنتين و خمسين.

ثم وليها المبارز على بن الحسن بن برطاس- بموحدة ثم راء و طاء مهملتين فألف فسين مهملة- من قبل الملك المظفر بن المنصور صاحب اليمن، لأنه جهز ابن برطاس

ص: 273


1- 565. ( 1) فى المطبوع:« السلاح» بالسين المهملة، و المثبت رواية الفاسى الذى ينقل عنه المصنف، و مثلها لدى ابن فهد فى غاية المرام ج 1 ص 605.
2- 566. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 318.
3- 567. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 319 و ما بين حاصرتين منه.
4- 568. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 319.
5- 569. ( 5) فى المطبوع:« ولايتها».

المذكور إلى مكة فى عسكر و مائتى فارس فتحارب هو و إدريس و أبو نمى و من معهما، فكان الظفر لابن برطاس، فاستمر على مكة إلى يوم السبت لأربع بقين من المحرم سنة ثلاث و خمسين و ستمائة(1).

فوقع الحرب بين ابن برطاس و الأمير ابن ادريس و أبى(2) نمى فى الشهر المذكور و سفكت الدماء بالحجر من المسجد الحرام و أسر ابن برطاس ففدى نفسه ثم خرج بمن معه من مكة و استمر الشريفان على مكة(3).

ثم انفرد أبو نمى بالولاية فى سنة أربع و خمسين لذهاب عمه إدريس إلى أخيه راجح ابن قتادة، ثم عاد إدريس لمشاركة أبى نمى(4).

ثم ولى مكة أولاد حسن بن قتادة و أقاموا ستة أيام، و قبضوا على إدريس، ثم جاء أبو نمى و أخرجه منها و لم يقتل منهم أحدا، و استمر أبو نمى و إدريس شريكين فى الإمرة إلى سبع و ستين- بتقديم السين- و ستمائة(5).

ثم انفرد أبو نمى بالإمرة مدة يسيرة فى هذه السنة، ثم عاد شريكا لإدريس فى سنتهما هذه، و استمرت ولايتهما إلى ربيع الأول سنة تسع و ستين و ستمائة- بتقديم المثناة الفوقية.

ثم انفرد فيها إدريس نحو أربعين يوما ثم قتل فى السنة المذكورة بخليص(6). فوليها أبو نمى، و استمر إلى سنة سبعين و ستمائة بتقديم السين(7).

ثم وليها فى هذه السنة فى صفر الشريف جماز بن شيحه صاحب المدينة و غانم بن إدريس بن حسن بن قتادة صاحب ينبع شريكين ثم عاد أبو نمى إلى ولايتها بعد أربعين يوما من سنة سبعين.

أقول: مقتضى هذا الكلام أن ولاية جماز و غانم المذكورين إنما هى أيام يسيرة، إما

ص: 274


1- 570. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 319.
2- 571. ( 2) تحرف فى المطبوع إلى:« ابن».
3- 572. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 319.
4- 573. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 320.
5- 574. ( 5) شفاء الغرام ج 2 ص 320.
6- 575. ( 6) خليص: قرية قريبة من مكة فى طريق المدينة المنورة.
7- 576. ( 7) شفاء الغرام ج 2 ص 320.

عشرة أو أقل، لأن أبا نمى كان مالكا لمكة جميع شهر محرم سنة سبعين بلا ريب كما تعطيه العبارة، و تكون ولاية جماز و غانم على تقدير أنها عشرة أيام أول يوم من صفر سنة سبعين، و إلا كانت أقل و يكون عود أبى نمى فى الحادى عشر من صفر من السنة لأنه بعد أربعين يوما و اللّه الموفق.

و استمر أبو نمى على مكة فى عودة هذا بعد أن أخرج جمازا و غانما إلى سنة سبع و ثمانين و ستمائة- بتقديم السين- ثم عاد جماز بن شيحه المذكور إلى ولاية مكة فى أواخر هذه السنة و أقام مدة يسيرة ثم عاد أبو نمى و استمر إلى قبل وفاته بيومين. فعهد إلى ابنيه حميضة و رميثة بالإمرة بعده، و كانت وفاته فى يوم الأحد رابع صفر سنة إحدى و سبعمائة فكانت إمرته على مكة شريكا و مستقلا نحو خمسين سنة، و استقلاله بالإمرة يزيد على ثلاثين سنة شيئا يسيرا.

و كان ممن ولى مكة فى ولاية أبى نمى و إدريس من قبل السلطان الظاهر بيبرس صاحب مصر، أمير يقال له شمس الدين مروان، و ذلك بسؤال أبى نمى و عمه فى ذلك ليرجع أمرهما إليه، و كان ذلك فى سنة سبع و ستين و ستمائة(1).

و فيها حج السلطان بيبرس ثم عزل مروان عن ذلك فى سنة ثمان و ستين و ستمائة.

ثم وليها بعد موت أبى نمى ابناه حميضة و رميثة المذكوران و ذلك فى سنة إحدى و سبعمائة فى صفر منها، و استمر إلى موسمها فقبض عليهما.

ثم وليها عوضهما أخواهما أبو الغيث و عطيفة و قيل بل محمد بن إدريس بن قتادة عوض عطيفة، و كان ذلك بمباشرة أمير الحاج بيبرس الجاشنكير- بجيم ثم ألف نشين معجمة فنون ثم كاف و مثناة تحتية وراء مهملة- الذى ولى السلطنة بعد ذلك بمصر فى سنة ثمان و سبعمائة. و كان فعله هذا تأديبا لحميضة و رميثة لإساءتهما إلى أخويهما أبى الغيث و عطيفة.

ثم عاد حميضة و رميثة إلى إمرة مكة فى سنة ثلاث و سبعمائة و قيل فى التى بعدها بولاية من الملك الناصر صاحب مصر و استمرا متوليين إلى موسم سنة ثلاث عشرة و سبعمائة(2).

ص: 275


1- 577. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 321.
2- 578. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 322.

ثم وليها أبو الغيث بن أبى نمىّ من قبل الملك الناصر أيضا فحاربه حميضة فظفر بأبى الغيث فقتله و استمر على مكة إلى شعبان سنة خمس عشرة و سبعمائة(1).

ثم وليها رميثة فى السنة المذكورة من الناصر، و استمر إلى انقضاء الحج من سنة سبع عشرة أو أول ثمان عشرة(2).

ثم وليها حميضة و استمر إلى أوائل سنة تسع عشرة.

ثم وليها عطيفة بن أبى نمىّ من قبل الملك الناصر، و دامت ولايته على مكة إلى أوائل سنة إحدى و ثلاثين و سبعمائة، غير أن أخاه رميثة فى بعض السنين المذكورة شاركه فى الإمرة، ثم انفرد رميثة بالإمرة و ذلك فى ربيع الآخر أو جمادى من سنة إحدى و ثلاثين، و استمر إلى سنة أربع و ثلاثين، ثم شاركه فيها أخوه عطيفة بلا قتال، ثم انفرد رميثة أيضا بالإمرة فى سنة أربع و ثلاثين بعد رحيل الحاج و استمر إلى موسم سنة خمس و ثلاثين ثم عاد عطيفة لمشاركته فى هذا التاريخ و استمر إلى أثناء سنة ست و ثلاثين، فحصلت بينهما منافرة، فانفرد عطيفة بمكة و أقام رميثة بالجديد ثم اصطلحا فى سنة سبع و ثلاثين بتقديم بالسين.

ثم انفرد رميثة فى هذه السنة بالإمرة و استمر إلى سنة ست و أربعين و سبعمائة.

ثم وليها عجلان بن رميثة بمفرده من قبل الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم من أخيه الكامل شعبان، و ذلك بعد وصول عجلان إلى القاهرة، فعاد متوليا فى شهر جمادى الآخرة سنة ست و أربعين فى حياة أبيه، ثم مات أبوه فى ذى القعدة من هذه السنة و استمر إلى سنة ثمان و أربعين(3).

ثم وليها معه أخوه ثقبة(4) و دامت ولايتهما إلى سنة خمسين و سبعمائة.

ثم استقل ثقبة بالإمرة فى سنة خمسين لغيبة عجلان بمصر.

ثم وليها عجلان فى خامس شوال سنة خمسين، و استمر إلى موسم سنة اثنتين و خمسين.

ص: 276


1- 579. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 322.
2- 580. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 322.
3- 581. ( 3) شفاء الغرام ج 2 ص 324.
4- 582. ( 4) تحرف فى المطبوع إلى:« تقية».

ثم وليها ثقبة بمفرده فى هذه السنة فلم يمكنه عجلان، ثم اتفقا على المشاركة، ثم استقل ثقبة بالإمرة فى أثناء سنة ثلاث و خمسين بعد أن قبض على أخيه عجلان و استمر إلى أن قبض عليه فى موسم سنة أربع و خمسين.

ثم وليها أخوه عجلان بمفرده و استمر إلى تاسع عشر المحرم من سنة سبع و خمسين بتقديم السين.

ثم انفرد ثقبة بالإمرة فى ثالث عشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة.

ثم وليها عجلان بمفرده فى موسم هذه السنة، ثم اشتركا فى الإمرة فى موسم سنة ثمان و خمسين و استمرا إلى أن عزلا فى أثناء سنة ستين و سبعمائة.

ثم وليها أخوهما سند و ابن عمهما محمد بن عطيفة بن أبى نمى، و كان محمد بمصر فوصل بعسكره إلى مكة فى جمادى الآخرة سنة ستين، و استمر إلى سنة إحدى و ستين و سبعمائة، فزالت ولاية محمد بن عطيفة.

ثم اشترك ثقبة مع أخيه سند فى الإمرة إلى أن كان شهر شوال سنة اثنتين و ستين و سبعمائة.

ثم ولى مكة فى هذه السنة السيد عجلان بن رميثة و كان معتقلا بمصر، فأطلق و أخوه ثقبة بسؤال السيد عجلان له فى ذلك، ثم خرج عجلان من مصر و كان ثقبة مريضا، فلما قارب مكة لم يدخلها حتى مات ثقبة فى شهر شوال سنة اثنتين و ستين، فاشترك معه ابنه أحمد بن عجلان حال دخوله و جعل له ربع المتحصل يصرفه فى خاصة نفسه، و على عجلان كفاية العسكر. ثم مات سند عقيب ذلك و دامت ولاية عجلان و ابنه أحمد إلى سنة أربع و سبعين.

ثم انفرد أحمد بن عجلان بالإمرة بسؤال أبيه عجلان له بشروط شرطهما عليه أبوه، منها: أن لا يقطع(1) اسمه فى الخطبة و الدعاء على زمزم إلى غير ذلك فوفى له أحمد بذلك(2).

و استمر أحمد منفردا بالإمرة إلى سنة ثمانين و سبعمائة، ثم وليها معه ابنه محمد بن

ص: 277


1- 583. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« أن لا يقع».
2- 584. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 326.

أحمد بسؤال أبيه و لم يظهر لولايته أثر لصغره و استبداد والده بالأمر، و استمرا إلى أن مات أحمد بن عجلان فى حادى عشرى شعبان سنة ثمان و ثمانين(1).

ثم استقل محمد بالإمرة إلى أن فاز بالشهادة فى مستهل شهر ذى الحجة من هذه السنة، و سببه أنه حضر لخدمة المحمل فى يوم العرضة على العادة، و كان عمه كبيش أشار إليه بعدم الحضور لأنه كان مدبر أموره فلم يسمع منه فقتل، و كان أمر اللّه قدرا مقدورا.

ثم وليها بعد قتل محمد: عنان بن مغامس بن رميثة بن أبى نمّى، و أشرك معه فى الإمرة بنى عمه: أحمد بن ثقبة و عقيل بن مبارك بن رميثة، و أخاه على بن مبارك و كان يدعى لهؤلاء الثلاثة معه على زمزم، و استمر عنان و شركاؤه إلى شهر شعبان تسع و ثمانين و سبعمائة فبلغ السلطان ما حصل من الفتن و عدم الأمن بسبب تخبيط كبيش على عنان، فعزل عنانا فى هذا التاريخ(2).

ثم وليها بعد عزله على بن عجلان، فلم يمكنه عنان من مكة، فاجتمع آل عجلان و معهم كبيش و اقتتلوا، فقتل كبيش و غيره، و انهزم على بن عجلان و توجه إلى مصر، و دخل عنان مكة و استولى عليها إلى موسم سنة تسع و ثمانين.

ثم عاد على بن عجلان شريكا لعنان بشرط حضور عنان العرضة لخدمة المحمل، فلم يحضره خشية من آل عجلان، ثم سافر إلى مصر فى أثناء سنة تسعين فانفرد على بن عجلان بالامرة إلى أثناء سنة اثنتين و تسعين، ثم شاركه عنان بولاية من الملك الظاهر برقوق، و كان الشرفاء مع على و القواد مع عنان فلم يتم أمرهما كما ينبغى، و استمرا كذلك إلى الرابع و العشرين من صفر سنة أربع و تسعين و سبعمائة.

ثم انفرد بها على بن عجلان، ثم استدعاه السلطان هو و عنانا للحضور إلى مصر فتوجه عنان أولا ثم لحقه على و ترك على مكة عوضه أخاه محمد بن عجلان، ثم عاد على إلى مكة فى موسم سنة أربع و تسعين منفردا بولاية مكة و استمر إلى أن استشهد فى تاسع شوال سنة سبع- بتقديم السين- و تسعين، و كان فى غالب ولايته مقلوبا مع الأشراف، و أفضى الحال إلى أن قل الأمان بمكة و نواحيها و هربت التجار إلى ينبع، و لحق أهل مكة

ص: 278


1- 585. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 327.
2- 586. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 327.

بسبب ذلك شدة فلما قتل قام بأمر مكة أخوه محمد و استمر إلى الرابع و العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان و تسعين و سبعمائة.

ثم ولى مكة السيد الشريف حسن بن عجلان و كان قدم مصر سنة سبع و تسعين، فاعتقله السلطان، فلما قتل أخوه أطلقه و أنعم عليه بولاية مكة فقدم مكة فى السنة المذكورة و ضبط أحوال البلاد و حسم مواد الفساد، و أخذ بثأر أخيه على من الأشراف فى الحرب الذى كان بالزّبارة(1) بوادى مرّ فى يوم الثلاثاء خامس عشرى شوال من السنة المتقدمة، و كان عدة من قتل من الأشراف و جماعتهم نحو أربعين رجلا، و لم يقتل من جماعة السيد حسن إلا واحد أو اثنان(2).

و استمر السيد حسن منفردا بالولاية إلى سنة تسع- بتقديم المثناة- و ثمانمائة، ثم أشرك معه فى الإمرة ابنه السيد بركات، و استمر إلى أثناء سنة إحدى عشرة و ثمانمائة، ثم سأل لابنه السيد أحمد بن حسن فى أن يكون شريكا لأخيه السيد بركات و تكون الإمرة بينهما فأجيب إلى ذلك.

و ولى السيد حسن نيابه السلطنة بجميع بلاد الحجاز، و صار يدعى له فى الخطبة بمكة و على زمزم، و دامت ولايتهم إلى أثناء صفر سنة ثمانى عشرة و ثمانمائة.

ثم ولى ذلك السيد رميثة بن محمد بن عجلان بن رميثة، و لم يصل إلى مكة إلا فى مستهل ذى الحجة من السنة المذكورة، و استمر متوليا إلى ثامن رمضان سنة تسع عشرة.

ثم عاد السيد حسن بن عجلان لإمرة مكة بمفرده دون ولديه، فخرج رميثة من مكة بعد وقوع المحاربة بالمعلاة بينه و بين عسكر عمه السيد حسن على كره من السيد حسن، و كان الظفر لعسكر السيد حسن، و استمر السيد حسن متوليا إلى أول سنة أربع و عشرين و ثمانمائة.

ص: 279


1- 587. ( 1) الزبارة: قرية لبنى عمير فى واد مر. تقع بعد التقاء النخلتين، و عندهما أخذ الوادى اسمها. و قد تحرف فى المطبوع إلى« الزيارة» بالياء، و هو تحريف قبيح. صوابه من: د و غاية المرام ج 2 ص 253.
2- 588. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 329.

ثم شاركه ابنه السيد بركات بولاية من الملك المظفر أحمد بن الملك المؤيد صاحب مصر، و دامت ولايتهما إلى أوائل سبع- بتقديم السين- و عشرين و ثمانمائة.

ثم ولى مكة السيد على بن عنان بن مغامس بن رميثة الحسنى بمفرده، بولاية من قبل الملك الأشرف برسباى، و كان بمصر فقدم مكة صحبة العسكر الأشرفى و استمر متوليا إلى أوائل الحجة سنة ثمان و عشرين(1).

ثم أعاد الأشرف برسباى: السيد حسن إلى إمرة مكة و رضى عنه، و توجه السيد حسن بعد انقضاء الحج إلى مصر، فنال من السلطان إكراما كثيرا و أقره على إمرة مكة، و استمر بمصر إلى أن مرض بها و توفى فى سادس عشر جمادى الآخرة سنة تسع و عشرين و ثمانمائة بعد أن كان تجهز للسفر إلى مكة رحمه اللّه و أسكنه فسيح جناته(2).

ثم وليها السيد بركات بن حسن بعد وفاة أبيه، و كان السلطان قد استدعاه إلى مصر، فقدم عليه فى ثالث رمضان، ففوض إليه إمرة مكة عوضا عن أبيه فى السادس و العشرين من رمضان المذكور و استمر أخوه السيد إبراهيم نائبا عنه، و لبس خلعة النيابة بمصر ثم توجه السيد بركات إلى مكة فوصلها فى أوائل العشر الأوسط من ذى القعدة هذا آخر معنى كلام الفاسى فى شأن أمراء مكة.

ثم قال رحمه اللّه ما صورته: هذا ما علمناه من خبر ولاة مكة فى الإسلام، و قد أو عبنا فى تحصيل ذلك الاجتهاد، و ما ذكرناه من ذلك غير واف بكل المراد، لأنه خفى علينا جماعة من ولاة مكة، و خصوصا ولاتها من زمن المعتضد إلى ابتداء ولاية الأشراف فى آخر خلافة المطيع العباسى و خفى علينا كثير من تاريخ ابتداء ولاية كثير منهم و تاريخ انتهائها، و مع ذلك فهذا الذى ذكرناه من ولاة مكة ليس له فى كتاب نظير، و الذى لم نذكره من الولاة هو اليسير، و سبب الإقلال(3) فى ذلك و التقصير، أنّا لم نر مؤلفا فى هذا المعنى فنستضى ء به لعدم العناية بتدوين ذلك(4). انتهى كلامه.

ص: 280


1- 589. ( 1) شفاء الغرام ج 2 ص 334.
2- 590. ( 2) شفاء الغرام ج 2 ص 334.
3- 591. ( 3) فى الأصلين:« الإخلال» و المثبت رواية الفاسى.
4- 592. ( 4) شفاء الغرام ج 2 ص 335.

و استمر السيد بركات بعد موت الفاسى على ولاية مكة إلى أثناء سنة خمس و أربعين و ثمانمائة، فعزل عن ذلك.

ثم وليها أخوه السيد على بن حسن(1)، و كان بالقاهرة، فوصل مكة يوم السبت مستهل شعبان، و استمر متوليا إلى رابع شوال سنة ست و أربعين، فقبض عليه و على أخيه إبراهيم.

ثم وليها أخوه أبو القاسم بن حسن، فقدم من مصر متوليا، و دخل مكة فى يوم السبت السابع و العشرين من ذى القعدة سنة ست و أربعين و ثمانمائة، و استمر على ولايته إلى أوائل سنة خمسين، فعزل.

ثم أعيد السيد بركات بن حسن إلى ولاية مكة، و دامت ولايته إلى أن مرض و توعك بدنه و ذلك سنة تسع و خمسين- بتقديم المثناة الفوقية- و ثمانمائة، فسأل نائب جدة الأمير جانبك الظاهرى(2) بأن يرسل إلى السلطان يسأله فى ولاية إمرة مكة لولده السيد محمد عوضا عن أبيه، فأجاب السلطان إلى ذلك، فقبل وصول الخبر توفى السيد بركات فى عصر يوم الاثنين تاسع عشر شعبان سنة تسع و خمسين بأرض خالد بوادى مر، و حمل على أعناق الرجال إلى مكة، و دفن بها فى صبح يوم الثلاثاء لعشرين من شعبان.

فلما كان عصر اليوم المذكور، وصل قاصد من الديار المصرية بمرسوم مؤرخ بسادس عشر رجب مضمونه ولاية السيد محمد إمرة مكة، فدعى له على زمزم بعد المغرب من ليلة الأربعاء حادى عشر شعبان.

ثم وصل السيد محمد إلى مكة ليلة الجمعة سابع رمضان، و قرئ مرسومه فى صبحها.

ثم كان رابع شوال من السنة المذكورة وصل إلى السيد محمد كتاب من السلطان بالعزاء فى والده، و توقيع باستمراره فى الإمرة مؤرخ بشهر رمضان، و استمر السيد محمد رحمه اللّه على ولاية مكة، و دانت له البلاد، و أطاعه العباد، و أظهر العدل و الإحسان

ص: 281


1- 593. ( 1) انظر فى السيد على بن حسن: غاية المرام ج 2 ص 487.
2- 594. ( 2) تحرف فى المطبوع إلى:« الطاهرى» بالطاء المهملة. و صوابه من: د و ابن فهد فى غاية المرام.

و الشفقة و الرأفة على الرعية و الالتفات فى أمور المسلمين و عدم الغفلة عن ذلك فبسبب ذلك طالت مدته و حمدت سيرته و طابت سريرته، و كانت مدة ولايته ثلاثا و أربعين سنة و نصف سنة إلا خمسة أيام أو نحوها مع مشاركة ولده السيد بركات على عوائدهم، ثم انتقل إلى رحمة اللّه تعالى فى الحادى و العشرين من شهر المحرم الحرام سنة ثلاث و تسعمائة بوادى الابهار، و حمل إلى مكة و دفن بها.

ثم وليها بعده ولده السيد بركات من قبل الملك الناصر محمد بن قايتباى فى رابع ربيع الآخر من سنة ثلاث، و استمر على ولايتها إلى أن كان موسم سنة ست و تسعمائة.

فوليها أخوه السيد هزاع بن محمد بعد محاربة وقعت بينه و بين أخيه السيد بركات فى الموسم المذكور بمحل يقال له وادى الجموم(1) بمر الظهران، فانهزم السيد بركات، و دخل السيد هزاع مكة و حج بالناس، ثم خرج منها بعد انقضاء الحج إلى ينبع خوفا من أخيه بركات لقلة عسكره، فعاد السيد بركات إلى مكة، و استمر بها إلى جمادى الثانية عام سبع- بتقديم السين- و تسعمائة، فوصل السيد هزاع من ينبع بعسكر عظيم و تحارب هو و أخوه بركات محاربة ثانية بمحل يقال له طرف البرقاء(2) فانهزم السيد بركات.

ثم وليها السيد هزاع ثانيا، و استمر إلى خامس عشر رجب ثم توفى إلى رحمة اللّه تعالى(3).

ثم عاد السيد بركات إلى مكة، و استمرت الفتن و الشرور بينه و بين أخيه السيد أحمد جازان و تحاربا مرارا، و كان ابتداء ذلك من أواخر ذى الحجة عام سبع و تسعمائة، إلى أن كان يوم السبت الخامس و العشرين من شهر شوال عام ثمان و تسعمائة، فوصل السيد جازان بعسكر كبير من ينبع من بنى إبراهيم و غيرهم، و وقع الحرب بينه و بين أخيه السيد بركات، فانهزم السيد بركات.

ثم وليها السيد جازان و دخل مكة فى يوم السبت المذكور، و نهب عسكره مكة و فعلوا أفعالا قبيحة، و انتهكوا حرمة البيت، و جرى منهم على مكة و أهلها أمور شنيعة ليس هذا

ص: 282


1- 595. ( 1) منائح الكرام ج 3 ص 105.
2- 596. ( 2) تحرف فى المطبوع إلى:« البرفاء» بالفاء، و صوابه من: د، و منائح الكرم ج 3 ص 110.
3- 597. ( 3) منائح الكرم ج 3 ص 110- 111.

محل ذكرها و لا نحن بصددها، و استمر السيد جازان بمكة إلى آخر ذى القعدة من السنة المذكورة، فبلغه وصول التجريدة من قبل السلطان الغورى، و باشتها الأمير الكبير المعروف بقيت الرّجبىّ- بالجيم ثم الموحدة- بسبب ما فعله السيد جازان من نهب مكة، و نهب الحاج الشامى و المصرى، فخرج من مكة هاربا.

فعاد السيد بركات إلى مكة و واجه أمير التجريدة، فقبض عليه و توجه به إلى القاهرة فى أوائل سنة تسع و تسعمائة.

ثم عاد السيد جازان إلى مكة، و استمر بها إلى يوم الجمعة عاشر رجب سنة تسع، فقتله الأتراك الشراكسة بالمطاف.

ثم وليها بعده السيد حميضة بن محمد، و استمر إلى أواخر المحرم أو أوائل صفر من سنة عشر و تسعمائة، فعزل.

ثم وليها أخوه السيد قايتباى بن محمد بإشارة من أخيه السيد بركات، و استمر متوليا موافقا لأخيه السيد بركات مستضيئا برأيه إلى أن توفى إلى رحمة اللّه تعالى فى يوم الأحد الحادى و العشرين من صفر عام ثمان عشرة و تسعمائة بأرض حسان بوادى مر، و حمل إلى مكة و دفن بها.

ثم استولى السيد بركات بعد موته على مكة إلى شهر شعبان من هذه السنة. ثم أرسل ولده مولانا السيد أبا نمى بن بركات إلى الديار المصرية، فوصلها و قابل السلطان قانصوه الغورى، فأكرمه و عظمه و أنعم عليه بإمرة مكة، ثم عاد إليها شريكا لأبيه، و كان وصوله فى أواخر ذى القعدة الحرام بين يدى الحاج من السنة المذكورة، و استمر كذلك إلى أن كان عام ثلاث و عشرين فاستولى مولانا الخنكار(1) الأعظم سليم خان بن عثمان على الديار الشامية و المصرية و الحرمين الشريفين، و جهز قاصدا إلى مكة للسيد بركات و السيد أبى نمى باستقرارهما على إمرة مكة، فتجهز حينئذ مولانا السيد أبو نمى و سافر إلى القاهرة، و قابل السلطان فأكرمه و احترمه و أقره هو و والده على إمرة مكة.

ثم عاد إلى مكة، و استمر شريكا لأبيه إلى أن أذن اللّه بوفاة مولانا السيد بركات فى

ص: 283


1- 598. ( 1) الخنكار: أحد ألقاب السلطان العثمانى، و تعنى: مبدع العالم.

أثناء ليلة الأربعاء الرابع و العشرين من شهر ذى القعدة الحرام عام أحد و ثلاثين و تسعمائة رحمه اللّه و أسكنه جنته.

ثم وليها بعده ابنه السيد أبو نمى أدام اللّه أيامه بمفرده، و وصلت الأحكام الخنكارية السليمانية بولايته لإمرة مكة فى أواخر سنة اثنتين و ثلاثين و تسعمائة، فاطمأنت به الخواطر، و قرت النواظر، و استمر أدامه اللّه و متع المسلمين بحياته منفردا بالولاية إلى عام ست و أربعين و تسعمائة.

ثم وليها ابنه مولانا السيد أحمد شريكا لوالده فى هذا العام بعد وصوله إلى الديار الرومية و مقابلته لمولانا الخنكار الأعظم و الخاقان الأكرم الملك المظفر سليمان خان خلد اللّه ملكه و أدام أيامه، فقوبل بالإكرام و الرعاية و الاحترام، و عاد إلى مكة فى أول ربيع الأول عام سبع و أربعين و تسعمائة، و استمر شريكا لوالده مولانا السيد أبى نمى إلى عامنا هذا، و هو عام خمسين و تسعمائة، متع اللّه بحياتهما و أدام أيامهما و خلدهما خلود الدهر و أمدهما بالتأييد و النصر آمين.

هذا ما وقفت عليه فى ذكر أمراء مكة من عهد النبى صلى اللّه عليه و سلم إلى يومنا هذا و اللّه تعالى أعلم.

ص: 284

الخاتمة

اشارة

نسأل الله حسن الخاتمة فى ذكر الأماكن المعظمة و المشاهد المكرمة التى تقصد زيارتها المشهورة بالفضل بمكة شرفها اللّه تعالى و حرمها و ضواحيها من المواليد و الدور و المساجد و الجبال و المقابر و ما أشبه ذلك أما المواليد فمنها و هو أجلها: مولد سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنبدأ به و هو بمكة فى المكان المعروف بسوق الليل مشهور بمولد النبى صلى اللّه عليه و سلم(1).

و كان عقيل بن أبى طالب قد استولى عليه زمن الهجرة، و فيه و فى غيره أشار صلى اللّه عليه و سلم بقوله فى حجة الوداع و هل ترك لنا عقيل من ظل أو منزل، و لم يزل بيد عقيل و ولده حتى باعه بعضهم من محمد بن يوسف الثقفى أخى الحجاج، فأدخله فى داره التى يقال لها البيضاء، و لم يزل كذلك حتى حجت الخيزران أم الخليفتين موسى الهادى العباسى و أخيه هارون الرشيد، فأخرجته و جعلته مسجدا يصلى فيه(2).(3)

الجامع اللطيف ؛ ص285

كون هذا المكان مولده صلى اللّه عليه و سلم مشهور متوارث يأثره الخلف عن السلف، و جرت العادة بمكة فى ليلة الثانى عشر من ربيع الأول فى كل عام أن قاضى مكة الشافعى يتهيأ لزيارة هذا المحل الشريف بعد صلاة المغرب فى جمع عظيم منهم الثلاثة القضاة و أكثر الأعيان من الفقهاء و الفضلاء، و ذوى البيوت بفوانيس كثيرة، و شموع عظيمة و زحام عظيم، و يدعى فيه للسلطان و لأمير مكة، و للقاضى الشافعى بعد تقدم خطبة مناسبة للمقام، ثم يعود منه إلى المسجد الحرام قبيل العشاء و يجلس خلف مقام الخليل عليه السلام بإزاء قبة الفراشين، و يدعو الداعى لمن ذكر آنفا بحضور القضاة و أكثر الفقهاء، ثم يصلون العشاء و ينصرفون.

ص: 285


1- 599. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 431.
2- 600. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 198، شفاء الغرام ج 1 ص 431.
3- 601. ابن ظهيره، محمد بن محمد، الجامع اللطيف في فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف، 1جلد، مكتبة الثقافة الدينية - قاهره، چاپ: اول، 1423 ه.ق.

و لم أقف على أول من سن ذلك، و سألت مؤرخى العصر فلم أجد عندهم علما بذلك.

و من فضائل هذا المحل المبارك ما نقله الأزرقى عمن كان ساكنا به قبل أن تخرجه الخيزران أنه قال: و اللّه لم يصبنا فيه منذ سكناه لا جائحة و لا حاجة حتى خرجنا منه فاشتد علينا الزمان(1). انتهى بمعناه.

و قد ذكر السهيلى أنه صلى اللّه عليه و سلم ولد بالشّعب، و قيل بالدار التى عند الصفا التى كانت لمحمد بن يوسف أخى الحجاج، ثم بنتها زبيدة مسجدا لما حجت(2). انتهى. و هو غريب.

و نقل مغلطاى فى «سيرته» ما ذكره السهيلى، ثم قال و يقال ولد بالردم، و يقال بعسفان. انتهى بمعناه(3). و هو أغرب.

و المراد بالردم: ردم بنى جمح لا الذى بأعلى مكة لأن ذلك لم يكن إلا فى زمن عمر ابن الخطاب رضى اللّه عنه. و يعرف الآن بالمدعى و نسبة الأول لبنى جمح هو أنهم قتلوا و ردم عليهم التراب هنالك(4). و لم أقف على تعيين محله بمكة و لا رأيت من ذكره، و المعروف المشهور فى مولده صلى اللّه عليه و سلم هو الأول الذى بسوق الليل، و لا اختلاف فيه عند أهل مكة.

و منها: مولد السيدة فاطمة ابنة سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و رضى عنها، و هو فى دار أمها خديجة رضى اللّه عنها بمكة فى الزقاق المعروف بزقاق الحجر. و سماها الطبرى دار خزيمة بمعجمتين(5).

قال الأزرقى: و هذه الدار كان يسكنها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مع خديجة، و فيها ابتنى بها، و ولدت جميع أولادها، و توفيت بها، و لم يزل النبى صلى اللّه عليه و سلم ساكنا بها حتى هاجر إلى المدينة، فاستولى عليها عقيل بن أبى طالب، ثم اشتراها منه معاوية و هو خليفة فجعلها

ص: 286


1- 602. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 199.
2- 603. ( 2) الروض الأنف ج 1 ص 184.
3- 604. ( 3) الإشارة إلى سيرة المصطفى ورقة 4.
4- 605. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 432، الزهور المقتطفة ص 156.
5- 606. ( 5) القرى لقاصد أم القرى ص 664.

مسجدا و فتح فيه بابا من دار أبيه أبى سفيان التى قال فيها صلى اللّه عليه و سلم يوم الفتح: من دخل دار أبى سفيان فهو آمن(1). انتهى.

و تسمى هذه الدار جميعها بمولد فاطمة، و موضع مسقط رأسها معروف فيها، قال الفاسى رحمه اللّه: و لا ريب فى كون فاطمة رضى اللّه عنها ولدت فى هذه الدار(2). انتهى.

و غالب هذه الدار الآن على صفة المسجد و بها قبة يقال لها قبة الوحى و إلى جنبها موضع يزوره الناس يسمى المختبأ زعموا أن النبى صلى اللّه عليه و سلم كان يختبئ فيه من الحجارة التى يرميه بها المشركون و لا أصل لذلك.

قال الأزرقى: سألت جدى و يوسف بن محمد بن إبراهيم و غيرهما من أهل العلم بمكة عن ذلك فأنكروه. انتهى. و دار خديجة هذه أفضل موضع بمكة بعد المسجد الحرام، قاله المحب الطبرى(3).

و منها: مولد سيدنا على بن أبى طالب كرم اللّه وجهه، و هو بالمحل المعروف بشعب على و هو مقابل لمولد النبى صلى اللّه عليه و سلم من أعلاه مما يلى الجبل مشهور عند أهل مكة لا اختلاف فيه و على بابه حجر مكتوب عليه: هذا مولد أمير المؤمنين على بن أبى طالب، و فى هذا المحل تربى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم(4). و فى هذا المحل موضع كالتنور يقال إنه مسقط رأسه رضى اللّه عنه. و نقل الجد عن سعد الدين الإسفراينى أن فى جدار هذا المحل بالزاوية حجرا يقال إنه كان يكلم النبى صلى اللّه عليه و سلم، و قيل: إن مولد سيدنا على رضى اللّه عنه فى جوف الكعبة.

و ضعفه النووى فى «تهذيب الأسماء و اللغات».

و منها: فيما قيل مولد سيدنا حمزة بن عبد المطلب عم النبى صلى اللّه عليه و سلم، و هو بأسفل مكة على طريق الذاهب إلى بركة الماجن بالنون و أهل مكة يقولون ماجد بالدال و هو خطأ. قال الفاسى رحمه اللّه: و لم أر شيئا يدل بصحة ذلك، بل فى صحته نظر، لأن هذا الموضع ليس محلا لبنى هاشم و اللّه أعلم(5). انتهى.

و منها: غار لطيف فى أعلى الجبل المجاور لضريح الشيخ عبد الكبير بن يس

ص: 287


1- 607. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 199.
2- 608. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 434.
3- 609. ( 3) القرى لقاصد أم القرى ص 664.
4- 610. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 434.
5- 611. ( 5) شفاء الغرام ج 1 ص 435.

الحضرمى المعروف عند أهل مكة بجبل النوبى أسفل مكة و يسمى ثبير الزنج، كما سيأتى.

يقال: إن سيدنا عمر بن الخطاب ولد به. قال الفاسى: و لا أعلم فى ذلك شيئا يستأنس فيه إلّا أنّ جدّى لأمّى(1) القاضى أبا الفضل النويرى كان يزور هذا الموضع فى جمع من أصحابه فى ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول فى كل سنة فى الغالب، و اللّه أعلم بحقيقة ذلك(2).

و منها: موضع بالدار المعروفة بدار أبى سعيد و تعرف أيضا بدار الدقوقى- بقافين بينهما واو- بالقرب من دار العجلة، يقال له مولد جعفر الصادق. و نقل الفاسى رحمه اللّه: أن على بابه حجرا مكتوبا عليه: هذا مولد جعفر الصادق و دخله النبى صلى اللّه عليه و سلم ثم قال: و يقال له: جعفر بن أبى طالب رضى اللّه عنه، و اللّه أعلم بحقيقة ذلك(3). انتهى.

ذكر الدور المباركة

و منها: دار أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه و هى بزقاق الحجر معروف عند أهل مكة، و على بابها حجر مكتوب فيه: هذه دار صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى الغار و رفيقه فى الأسفار أبى بكر الصديق(4).

و تسمى أيضا بدكان أبى بكر، يقال: إنه كان يبيع فيه الخز، و أسلم فيه جمع من الصحابة، منهم: على و عثمان و طلحة و الزبير. و فى جدار هذا المكان أثر مرفق النبى صلى اللّه عليه و سلم و لهذا يسمى بزقاق المرفق أيضا.

و يقابل هذه الدار جدار فيه حجر مبارك بارز عن الحائط قليلا يتبرك الناس بلمسه، يقال: إنه كان يسلم على النبى صلى اللّه عليه و سلم كلما اجتاز عليه. قال الفاسى رحمه اللّه: و هذا الحجر إن صح سلامه على النبى صلى اللّه عليه و سلم، فلعله المعنى بقوله صلى اللّه عليه و سلم: إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علىّ ليالى بعثت(5).

ص: 288


1- 612. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« لاقى» و صوابه لدى الفاسى الذى ينقل عنه المصنف.
2- 613. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 435.
3- 614. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 436.
4- 615. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 438.
5- 616. ( 5) شفاء الغرام ج 1 ص 439، و الحديث أخرجه مسلم رقم 2277 فى كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبى صلى اللّه عليه و سلم و تسليم الحجر عليه قبل النبوة.

و فى «الشفاء» قيل: إنه الحجر الأسود، و استبعده المحب الطبرى.

و منها: دار خديجة زوج النبى صلى اللّه عليه و سلم، و هى التى يقال لها مولد فاطمة. و قد تقدم الكلام عليها آنفا و بيان محلها مستوفى، و إنما ذكرتها هنا ليعلم أنها من جملة الدور المباركة، و إنما غلب عليها اسم المولد و اشتهرت به.

و منها: دار الأرقم بن أبى الأرقم المخزومى المعروفة الآن بدار الخيزران المجاورة للصفا، و المقصود بالزيارة المسجد الذى فيها، لأن النبى صلى اللّه عليه و سلم كان مستترا فيه فى مبدأ الإسلام، و فيه أسلم عمر بن الخطاب و حمزة بن عبد المطلب و غيرهما. و منه ظهر الإسلام، و به كان اجتماع الصحابة فله فضل كبير. و هذا المسجد بنته الخيزران جارية المهدى العباسى المتقدمة آنفا(1).

أقول: و لعله لهذا السبب نسبت الدار إليها و اللّه أعلم. انتهى.

و منها: دار العباس بن عبد المطلب رضى اللّه عنه التى هى الآن رباط للفقراء بالمسعى المعظم، و فى جدارها أحد الميلين الأخضرين اللذين يسن الجرى بينهما حالة السعى(2).

و منها: الموضع المعروف برباط الموفق، و اشتهر فى هذا الزمان برباط المغاربة لسكناهم به، و هو أسفل مكة عند سوق باب إبراهيم. قال الفاسى رحمه اللّه: وجدت بخط جد أبى الشريف أبى عبد اللّه الفاسى أنه سمع الشيخ أبا عبد اللّه بن مطرف نزيل مكة الولى المشهور يقول: ما وضعت يدى فى حلقة هذا الرباط إلا وقع فى نفسى كم ولى للّه وضع يده فى هذه الحلقة. ثم قال: و بلغنى أن الشيخ خليلا المالكى كان يقول: إن الدعاء يستجاب فيه أو عند بابه و كان يكثر إتيانه للدعاء(3). و اللّه أعلم انتهى.

و منها: الموضع الذى يقال له معبد الجنيد بلحف الجبل الذى يقال له الأحمر، أحد أخشبى مكة. قال الفاسى رحمه اللّه: و يقال له الآن قعيقعان(4) و جبل أبى الحارث(5) أيضا. انتهى.

ص: 289


1- 617. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 440.
2- 618. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 440.
3- 619. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 440 و 441.
4- 620. ( 4) تحرف فى المطبوع إلى:« قعبقان» و صوابه لدى الفاسى الذى ينقل عنه المصنف.
5- 621. ( 5) شفاء الغرام ج 1 ص 441.

و هو الآن مشهور عند أهل مكة بجبل جزل. و نقل الجد أنه معبد إبراهيم بن أدهم على ما قيل، و اللّه أعلم.

ذكر مساجد

و هى كثيرة، ذكرها من المتقدمين الأزرقى و غيره، و تبعه من المتأخرين الطبرى و الفاسى و غيرهما. منها ما هو موجود معروف إلى يومنا هذا. و منها ما هو داثر لا يعرف بمكة و خارجها ذكرها الأزرقى ثم تبعه الطبرى و الفاسى و لم يبينا أمرها فيتوهم أنها موجودة.

و منها: ما ذكره الأزرقى و الفاسى منفردا عن المساجد التى تقصد بالزيارة.

و قد رأيت أن أذكر أولا المساجد المعروفة إلى وقتنا هذا المستحب زيارتها، ثم أعقبها بالداثرة ثم أنبه على ما ذكره منفردا، ثم أذكر ما لم يذكره الأزرقى و الفاسى فأقول:

أما المساجد المعروفة فمنها مسجد بأعلى مكة عند الردم و هو المدعى، عرفه الطبرى بمسجد الراية(1)، و يعرف بذلك إلى وقتنا هذا و بجانبه الآن منارة تعرف بمنارة أبى شامة، يقال: إن النبى صلى اللّه عليه و سلم صلى فيه كما نقله الأزرقى، و ذكر أن عبد اللّه بن العباس بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس بناه(2).

و منها: مسجد بقرب المجزرة الكبيرة عند المدعى على يمين الهابط إلى مكة و يسار الصاعد منها و يقال: إن النبى صلى اللّه عليه و سلم صلى فيه المغرب، كما هو مكتوب بحجرين هنا.

و منها: مسجد بسوق الليل بقرب مولد النبى صلى اللّه عليه و سلم يقال له المختبأ يزوره الناس كثيرا فى شهر ربيع الأول كغيره من المحال التى تزار، قال الفاسى: و لم أر من ذكره و لا عرفت شيئا من خبره(3).

و نقل الشيخ العلامة سراج الدين عمر بن فهد رحمه اللّه أن هذا المحل معبد عثمان بن عفان، و أن النبى صلى اللّه عليه و سلم كان يختبئ فيه من الكفار و عزاه إلى كتاب «الكوكب المنير» لنصر اللّه.

ص: 290


1- 622. ( 1) القرى لقاصد أم القرى ص 664.
2- 623. ( 2) الزهور المقتطفة ص 153.
3- 624. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 419.

و منها: مسجد على جبل أبى قبيس يقال له مسجد إبراهيم، و ليس المراد به الخليل عليه السلام، و إنما هو إبراهيم القبيسى، إنسان كان يسأل عنده. ذكره الأزرقى(1).

و منها: مسجد بأسفل مكة ينسب لأبى بكر الصديق رضى اللّه عنه: يقال: إنه من داره التى هاجر منها إلى المدينة(2)، و يعرف الآن بدار الهجرة و هو بالقرب من بركة الماجن.

هذه المساجد التى بمكة و أما التى فى خارجها فمنها: مسجد يقال له مسجد البيعة و مسجد الجن. قال الأزرقى: و يسميه أهل مكة مسجد الحرس، لأن صاحب الحرس كان يطوف بمكة حتى إذا انتهى إليه وقف حتى يتوافى عنده حرسه و عرفاؤه، فإنهم يأتونه من شعب ابن عامر و من ثنية المدنيين، فإذا توافوا رجع منحدرا إلى مكة، و هو فيما يقال موضع الخط الذى خطه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لابن مسعود ليلة اجتمع عليه الجن و بايعوه صلى اللّه عليه و سلم كما يقال(3) انتهى. و شهرته بمسجد الحرس مستمرة إلى وقتنا هذا.

و منها: مسجد يعرف بمسجد الإجابة، على يسار الذاهب إلى منى فى شعب بقرب ثنية أذاخر، كذا عرفه الفاسى(4) رحمه اللّه. و هو مشهور بذلك إلى وقتنا هذا، يقال إن النبى صلى اللّه عليه و سلم صلى فيه و اللّه أعلم.

ذكر المساجد التى فى منى وجهتها

اشارة

منها: مسجد يقال له مسجد البيعة و هى التى بايع فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الأنصار بحضرة عمه العباس حسبما ذكره أهل السير. و هو بقرب العقبة التى هى حد منى من جهة مكة فى شعب على يسار الصاعد إلى منى(5).

و منها بمنى مسجد يقال له مسجد النحر، بين الجمرتين الأولى و الوسطى على يمين الذاهب إلى عرفة، يقال: إن النبى صلى اللّه عليه و سلم صلى فيه الضحى و نحر هديه عنده، كذا وجد فى حجر مكتوب فيه ذلك(6).

و منها: مسجد يقال له مسجد الكبش على يسار الصاعد إلى عرفة بسفح ثبير، و هو

ص: 291


1- 625. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 202.
2- 626. ( 2) الزهور المقتطفة ص 153.
3- 627. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 200.
4- 628. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 419.
5- 629. ( 5) الزهور المقتطفة ص 154.
6- 630. ( 6) الزهور المقتطفة ص 154.

مشهور. و المراد بالكبش هو الذى فدى به الذبيح إسماعيل أو إسحاق على الخلاف فى ذلك. و نقل الفاسى عن الفاكهى رحمهما اللّه تعالى ما يقتضى أن الكبش نحر فى غير هذا الموضع بين الجمرتين. و يؤيده ما أخرجه الطبرى عن ابن عباس أن النبى صلى اللّه عليه و سلم نحر فى منحر الخليل عليه السلام الذى نحر فيه الكبش المفدى(1) به. ثم بينه الطبرى فقال: و ذلك فى سفح الجبل المقابل له- يعنى ثبيرا- و أراد بذلك الموضع الذى عند مسجد النحر المتقدم آنفا و اللّه أعلم بالحقائق.

و منها: مسجد عائشة رضى اللّه عنها و هو بسفح ثبير أيضا فوق مسجد الكبش المذكور. و هو غار لطيف عليه بناء دائر و يسمى معتكف عائشة و بيت أم المؤمنين.

و منها: مسجد الخيف المشهور بمنى، و هو مسجد عظيم الفضل و قد وردت فى فضله أحاديث و آثار فمن ذلك ما أخرجه الطبرانى فى «معجمه الأوسط» عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الخيف و المسجد الحرام، و مسجدى» و إسناده ضعيف كما نص عليه الحفاظ. و إنما ذكرته لغرابته و لجواز العمل به فى فضائل الأعمال كما ذكره النووى و غيره من علماء الحديث. و أخرج أيضا فى «معجمه الكبير» عن ابن عباس رضى اللّه عنهما عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال «صلى فى مسجد الخيف سبعون نبيا منهم موسى» و كذا أخرجه الأزرقى أيضا. و فى رواية عن مجاهد خمسة و سبعون نبيا، و عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضى اللّه عنهما أن النبى صلى اللّه عليه و سلم قال: فى مسجد الخيف قبر سبعين نبيا(2).

و أما الآثار: فروى الشيخ العلامة مجد الدين صاحب «القاموس» فى كتابه «الوصل و المنى فى بيان فضل منى» بسند جيد عن أبى هريرة رضى اللّه عنه أنه كان يقول لو كنت من أهل مكة لأتيت مسجد منى كل سبت. و أخرج الأزرقى عن أبى هريرة بلفظ: لو كنت من أهل مكة لأتيت مسجد الخيف كل سبت. و فى آخر عنه أخرجه الجندى: لو كنت امرأ من أهل مكة ما أتى على سبت حتى آتى مسجد الخيف فأصلى فيه(3).

و أما تعيين مصلى النبى صلى اللّه عليه و سلم من مسجد الخيف فأخرج الأزرقى بسنده إلى جده أن

ص: 292


1- 631. ( 1) الزهور المقتطفة ص 154.
2- 632. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 423.
3- 633. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 424.

الأحجار التى بين يدى المنارة هى موضع مصلاه صلى اللّه عليه و سلم(1). و المراد بالمنارة هى الصغيرة التى فى وسط المسجد الملاصقة لجدار القبة الكبيرة لا المنارة التى على الباب، و المحراب الذى فى القبة هو موضع مصلاه صلى اللّه عليه و سلم، لأنه فى موضع الأحجار التى ذكرها الأزرقى(2).

كذا نقله الجد رحمه اللّه.

و منها: بلحف الجبل المشرف على مسجد الخيف المسمى بالضب- بمعجمة و موحدة- نقله الصغانى. و بالصفايح أيضا- بصاد مهملة آخره تحتية و مهملة- و قيل: الصابح- بمهملتين بينهما ألف و موحدة قاله الأزرقى- مسجد لطيف يمانى مسجد الخيف فيه غار به أثر يقال إنه أثر رأس الرسول صلى اللّه عليه و سلم.

أخرج ابن جبير أن النبى صلى اللّه عليه و سلم جلس بهذا الغار مستظلا فيه فمس رأسه الكريم الحجر فلان حتى أثر فيه تأثيرا بقدر دورة الرأس، فصار الناس يبادرون بوضع رءوسهم فى هذا الموضع تبركا و استجارة لرءوسهم بموضع مسه الرأس الكريم أن لا تمسها النار برحمة اللّه عز و جل(3). انتهى.

و يعرف بغار المرسلات و هو مشهور به إلى هذا الوقت و فى «صحيح البخارى(4)» فى باب ما يقتله المحرم من الدواب من رواية ابن مسعود أنه قال «بينما نحن مع النبى صلى اللّه عليه و سلم فى غار بمنى إذ نزلت عليه وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً و إنه ليتلوها و إنى لأتلقاها من فيه و إنّ فاه لرطب بها، إذ وثبت علينا حية، فقال النبى صلى اللّه عليه و سلم: اقتلوها فابتدرناها فذهبت. فقال النبى صلى اللّه عليه و سلم: وقيت شرّكم كما وقيتم شرّها».

فائدة: من عجيب الاتفاق أن الشيخ مجد الدين الشيرازى صاحب «القاموس» دخل إلى الغار فى جماعة أصحابه و قرأوا سورة المرسلات، فخرجت عليهم منه حية، فابتدروها ليقتلولها فهربت(5).

و منها: مسجد عرفة الذى يصلى فيه الإمام، و هو مشهور لا يحتاج إلى مزيد بيان،

ص: 293


1- 634. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 1 ص 174.
2- 635. ( 2) رحلة ابن جبير ص 141.
3- 636. ( 2) رحلة ابن جبير ص 141.
4- 637. ( 3) ج 4 ص 29 فى الحج، باب ما يقتل من الدواب.
5- 638. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 452.

و عرفه الأزرقى بمسجد إبراهيم الخليل عليه السلام(1). و جزم به الرافعى و النووى، و خالف ابن جماعة، و قال ليس لذلك أصل، و تبعه الإسنوى على ذلك، قال الفاسى: و فيه نظر لمخالفتهما ما يقتضى كلام الأزرقى و هو عمدة فى هذا الشأن. انتهى(2).

و منها: مسجد التنعيم الذى اعتمرت منه عائشة أم المؤمنين بعد حجها عام حجة الوداع، و اختلف فيه، فقيل هو المسجد الذى يقال له مسجد الهليلجة(3) بشجرة كانت فيه.

قال الفاسى: و هو المتعارف عند أهل مكة و فيه حجارة مكتوب فيها ما يؤيد ذلك، و قيل هو المسجد الذى بقربه بئر و هو بين هذا المسجد و بين المسجد الذى يقال له مسجد [على] بطريق وادى مرّ. و فى هذا أيضا حجارة مكتوب فيها بما يشهد لذلك، و الخلاف قديم انتهى. و رجح الطبرى أنه الذى بقربه البئر(4).

فائدتان:

الأولى: إنما سمى هذا المحل التنعيم لأن على يمينه جبلا يقال له نعيم و عن يساره جبلا يقال له ناعم، و الوادى الذى بينهما نعمان كذا قيل.

الثانية: نعمان واد آخر فوق عرفة بقليل مشتمل على أودية كثيرة لأعراب مكة و غيرهم. قال البغوى و غيره من المفسرين: إنه واد مقدس و فيه أخذ اللّه العهد.

و منها: مسجد الجعرانة، و هو الذى أحرم منه النبى صلى اللّه عليه و سلم بعمرة مرجعه من الطائف بعد فتح مكة، و موضع إحرامه من وراء الوادى حيث الحجارة المنصوبة بالعدوة القصوى.

أخرجه الأزرقى عن مجاهد رضى اللّه عنه. و كذا ذكره الواقدى أيضا. و اختلف فى إحرامه صلى اللّه عليه و سلم متى كان، و الراجح أنه ليلة الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة عام الفتح.

و الجعرانة بكسر الجيم و إسكان العين و تخفيف الراء و فتحها. و قيل بكسر الجيم و العين و فتح الراء المشددة لغتان حكاهما النووى فى «تهذيب الأسماء و اللغات»(5).

ص: 294


1- 639. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 202.
2- 640. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 486 و ما بعدها.
3- 641. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى:« الهليجة» و صوابه لدى الفاسى الذى ينقل عنه المصنف.
4- 642. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 429 و ما بين حاصرتين منه.
5- 643. ( 5) ق 2 ج 1 ص 58 ولديه:« بكسر الجيم و إسكان العين و تخفيف الراء هكذا صوابها عند إمامنا الشافعى و الأصمعى، و أهل اللغة و محققى المحدّثين و غيرهم، و منهم من يكسر العين و يشدد الراء و هو قول أكثر المحدّثين، قال صاحب مطالع الأنوار: أصحاب الحديث يشددونها، و أهل الإتقان و الأدب يخطئونهم و يخففون و كلاهما صواب».

فوائد:

الأولى: أخرج الجندى فى «فضائل مكة» بسنده إلى يوسف بن ماهك أنه قال: اعتمر من الجعرانة ثلاثمائة نبى و كذا ذكره الفاكهى(1) أيضا.

الثانية: فى جهة الجعرانة ماء شديدة العذوبة يقال: إن النبى صلى اللّه عليه و سلم فحص موضع الماء بيده المباركة، و قيل: إنه غرز فيه رمحه الميمون فنبع الماء من ذلك المحل فشرب منه النبى صلى اللّه عليه و سلم و سقى الناس أخرجه الفاكهى(2).

الثالثة: إنما سميت الجعرانة باسم امرأة من قريش يقال لها رابطة- براء و طاء مهملتين بينهما مثناة تحتية- بنت كعب و لقبها جعرانة، و هى أم أسد بن عبد العزى. و عن ابن عباس رضى اللّه عنه إنما هى التى نزل فيها قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ(3) الآية (سورة النحل: 92).

و منها: مسجد يقال له مسجد الفتح بالقرب من الجموم من وادى مرّ، و هو مشهور بهذا الاسم إلى هذا الزمان، يقال: إن النبى صلى اللّه عليه و سلم صلى فيه و اللّه أعلم(4).

فهذه المساجد كلها معروفة الآن تتعاهد بالزيارة بعضها فى أوقات مخصوصة و بعضها مطلقا.

و أما المساجد التى ذكرها الأزرقى و لم تعرف و لم تعرف الآن فخمسة مساجد:

الأول: مسجد بأعلى مكة بين شعب ابن عامر المعروف الآن بشعب عامر- بدون لفظ ابن- و حرف دار رابغة فى أصله(5) كذا عرفه الأزرقى، ثم قال: إن عنده قرن مسقلة رجل(6) كان يسكن ثم فى الجاهلية، و أن النبى صلى اللّه عليه و سلم بايع الناس عنده يوم الفتح(7) و هذا

ص: 295


1- 644. ( 1) أخبار مكة للفاكهى ج 5 ص 62.
2- 645. ( 2) أخبار مكة للفاكهى ج 5 ص 69.
3- 646. ( 3) الذى لدى الفاسى:« نزلت فى امرأة من قريش من بنى تيم بن مرّة يقال لها: ريطة بنت كعب، و لقبها جعرانة، و هى أم أسد بن عبد العزى.
4- 647. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 430.
5- 648. ( 5) تحرف فى المطبوع إلى:« دار زائغة فى أصل» و هو تحريف قبيح صوابه لدى الأزرقى الذي ينقل عنه المصنف.
6- 649. ( 6) تحرف فى المطبوع إلى:« عنده قرة مستقلة لرجل كان ...» و صوابه لدى الأزرقى الذي ينقل عنه المصنف.
7- 650. ( 7) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 270- 271.

المسجد لا يعرف الآن و لا يمكن حمله على مسجد البيعة المعروف بمسجد الحرس المتقدم. لأن الأزرقى قد ذكره أيضا مع ذكره لهذا المسجد.

الثانى: مسجد بأجياد، يقال: إن النبى صلى اللّه عليه و سلم اتكأ هناك فى موضع منه. قال الأزرقى:

إن أهل العلم ينكرون ذلك، و إنما يثبتون أنه صلى بأجياد الصغير(1)، و لا يوقف على موضع مصلاه أيضا تحقيقا بل حدسا بغير أصل.

الثالث: مسجد بأعلى مكة يقابل مسجد الحرس يقال له مسجد الشجرة، قيل: إن النبى صلى اللّه عليه و سلم كان بمسجد الحرس فدعا شجرة كانت فى هذا المسجد فأقبلت إليه فسألها عن شى ء ثم أمرها بالرجوع فرجعت إلى موضعها(2). و قد دثر.

الرابع: مسجد بذى طوى فى علو مكة بين الثنيتين اللتين يدخل منهما الحاج، يقال:

إن النبى صلى اللّه عليه و سلم نزل هناك حين اعتمر و حين حج تحت سمرة كانت ثمّ. ذكره الأزرقى و أفاد أن زبيدة بنته(3).

الخامس: مسجد السرر، قال الأزرقى: و هو الذى يسميه أهل مكة مسجد عبد الصمد بن على لكونه بناء(4).

و سيأتى ذكر وادى السرر، و هو بمنى فى شرقها ذكره صاحب «القاموس» كما ستقف عليه قريبا إن شاء اللّه تعالى، غير أن تعيين محله يقينا لا يوقف عليه الآن بل جهته.

السادس: مسجد بعرفة عن يمين الموقف يقال له مسجد إبراهيم، و ليس بمسجد عرفة الذى يصلى فيه الإمام. كذا عرفه الأزرقى(5). و لم يبين ما المراد بإبراهيم الذى ينسب إليه. فهذه المساجد المذكورة لم تعرف الآن.

و أما ما ذكر من المساجد منفردا، و لم يتعرض لاستحباب زيارتها، فمسجدان:

الأول: مسجد عرفة المعروف الآن بمسجد نمرة الذى يصلى فيه الإمام. ذكره الأزرقى و أفرده عن المساجد التى يستحب زيارتها. و لم يصب، بل هو أولى أن يعد من جملتها لأن

ص: 296


1- 651. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 202.
2- 652. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 201.
3- 653. ( 3) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 203.
4- 654. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 202.
5- 655. ( 5) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 202.

العلة فى ذلك إنما هو التبرك، و هذا المسجد من البقاع العظيمة التى لا يشك فيها، و كم صلى فيه من حجاج الصحابة، و التابعين و العلماء و الأولياء و السادات، لأن كون هذا المحل مصلى الإمام مما يؤثره الخلف عن السلف، و إذا كان كذلك فيبعد أن يتركه الأخيار و يصلون فى غيره، فكان عده من جملة المساجد المستحب زيارتها أولى، و لهذا ذكرته و عددته من جملتها.

الثانى: مسجد فوق العمرة المعروفة بالتنعيم إلى جهة وادى مرّ على يمين الذاهب إليه، و يعرف بمسجد علىّ. ذكره الفاسى ضمنا عند ذكره لمسجد التنعيم(1). و قد مر كلامه، و لم يبين أمره و لا تعرض لعلى الذى نسب إليه هذا المسجد. و لم أقف على شى ء من خبره.

و أما ما لم يذكر من المساجد، فمسجد واحد بمكة أمام الصاعد من باب العمرة على يسار الذاهب إلى جهة سوق باب إبراهيم، فيه محراب لطيف جدا، يقال: إن النبى صلى اللّه عليه و سلم صلى فيه. هذا ما وقفت عليه، و اللّه أعلم.

ذكر الجبال المباركة بمكة و حرمها

اشارة

منها: الجبل المعروف بأبى قبيس أحد أخشبى مكة المشرف على الصفا، و هو مشهور لا يحتاج إلى بيان، و يروى عن وهب بن منبه رضى اللّه عنه أن قبر آدم صلوات اللّه عليه فى غار فى جبل أبى قبيس يقال له غار الكنز- بالنون و الزاء العجمة- و أن نوحا عليه السلام لما جاء الطوفان استخرجه من الغار و جعله فى تابوت و حمله فى السفينة، فلما غيض الماء أعاده إلى الغار(2). و اللّه أعلم بذلك.

و هذا الغار لا يعرف الآن، و قيل: إن قبره بمسجد الخيف بعد أن صلى عليه جبريل عند باب الكعبة. و قيل ببيت المقدس. و قيل ببلاد الهند. و صححه الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» و نقل عن الذهبى أن قبر حواء و شيث فى جبل أبى قبيس(3). و اللّه أعلم بالحقائق.

و من فضائله أنه كان يدعى الأمين فى الجاهلية. لأن الحجر الأسود استودع فيه عام

ص: 297


1- 656. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 429.
2- 657. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 441.
3- 658. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 441- 442.

الطوفان، فلما بنى الخليل الكعبة ناداه الجبل: الركن منّى بمكان كذا و كذا. فجاء به جبريل فوضعه موضعه(1).

و منها: أنه أول جبل وضع على وجه الأرض حين مادت، روى ذلك عن ابن عباس و مجاهد(2).

و منها: أن الدعاء يستجاب فيه كما ذكره الفاكهى. و استشهد لذلك بحكاية الوفد الذين استسقوا فيه، فأجيب لهم و سقوا(3).

و منها: انشقاق القمر عليه كما ذكره القطب الحلبى و غيره. و نقل عن بعض العلماء أنه أفضل جبال مكة حتى حراء، و علل بكونه أقرب الجبال إلى الكعبة الشريفة. قال الفاسى رحمه اللّه: و فى النفس شى ء من تفضيله على حراء لكونه صلى اللّه عليه و سلم كان يكثر إتيانه للعبادة، و يقيم به لأجلها شهرا فى كل عام، و فيه أكرم بالرسالة، و لم يتفق له صلى اللّه عليه و سلم مثل ذلك فى جبل سواه، و ذلك مما يقتضى امتيازه بالفضل. و الموجب لتفضيل دار خديجة رضى اللّه عنها على غيرها من دور الصحابة طول سكناه عليه السلام بها، و نزول الوحى عليه فيها لا لأجل القرب من الكعبة، إذ كثير من البيوت أقرب إليها منه كدار العباس بالمسعى، و دار الأرقم بالصفا و اللّه أعلم. انتهى(4).

ثم فى تسميته بأبى قبيس أقوال، أرجحها أنه سمى باسم رجل من إياد يقال له أبو قبيس بنى فيه.

فائدة: نقل القزوينى فى كتابه «عجائب المخلوقات» من خواص جبل أبى قبيس أن من أكل فيه الرأس المشوى يأمن أوجاع الرأس و كثير من الناس يفعله، و اللّه أعلم يحقيقة ذلك(5).

و منها: جبل الخندمة، و هو جبل شامخ مشهور معروف فى ظهر أبى قبيس، و من

ص: 298


1- 659. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 445.
2- 660. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 446.
3- 661. ( 3) أورده الفاسى نقلا عن الفاكهى: شفاء الغرام ج 1 ص 445.
4- 662. ( 4) شفاء الغرام ج 1 ص 442 و 446.
5- 663. ( 5) عجائب المخلوقات ص 126.

فضائله ما روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما، أنه ما مطرت مكة قط إلا كان للخندمة عزة، و ذلك أن فيه قبر سبعين نبيا أخرجه الفاكهى(1). و اللّه أعلم بصحته.

و فيه يقول القائل فى يوم الفتح:

إنّك لو شهدت يوم الخندمه إذ فرّ صفوان و فرّ عكرمه

الأبيات المشهورة(2):

و منها: جبل حراء و هو ممدود، فمن ذكّره صرفه، و من أنّثه منعه من الصرف، و يسمى جبل النور- بالنون- و كأن ذلك لكثرة مجاورة النبى صلى اللّه عليه و سلم و تعبده فيه و ما خصه اللّه به فيه من الإكرام بالرسالة و نزول الوحى عليه فى الغار الذى بأعلاه كما فى «صحيح البخارى» حتى فجأه الحق، و هو فى غار حراء. و هو معروف مشهور يأثره الخلف عن السلف و يقصده الناس بالزيارة(3).

ذكر الأزرقى أن النبى صلى اللّه عليه و سلم اختبأ فيه من المشركين(4). و كذا ذكره الفاكهى، قال أيضا: و المعروف أن النبى صلى اللّه عليه و سلم لم يختبئ من المشركين إلا فى غار ثور. لكن يتأيد ما ذكر بما قاله القاضى عياض و السهيلى فى روضه: أن قريشا حين طلبوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان على ظهر ثبير. فقال له: اهبط عنى يا رسول اللّه، فإنى أخاف أن تقتل و أنت على ظهرى، فيعذبنى اللّه تعالى. فناداه حراء: إلىّ رسول اللّه.

و جمع القاضى تقى الدين رحمه اللّه، فقال: إن صح اختفاؤه صلى اللّه عليه و سلم بحراء، فهو غير اختفائه بثور(5)، و اللّه أعلم.

فيكون فى حراء أولا، و فى ثور حين الهجرة. و ذكر بعض العلماء أن السّرّ فى كونه صلى اللّه عليه و سلم لازم التعبد فيه دون غيره من الجبال من حيث أن فيه فضلا زائدا منه أن يكون فيه منزويا مجموعا لتعبده، و هو يشاهد بيت ربه، و النظر إلى البيت عبادة، فحصل له اجتماع

ص: 299


1- 664. ( 1) أخبار مكة للفاكهى ج 4 ص 134.
2- 665. ( 2) انظر فى هذه الأبيات: أخبار مكة للفاكهى ج 4 ص 136.
3- 666. ( 3) شفاء الغرام ج 1 ص 447.
4- 667. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 288.
5- 668. ( 5) شفاء الغرام ج 1 ص 488.

ثلاث عبادات: الخلوة، و التعبد، و النظر. و مجموع ذلك أولى من الاقتصار على البعض.

و غيره من الأماكن ليس فيه ذلك المعنى، و أيضا أن هذا الجبل كان يختلى فيه أجداده صلى اللّه عليه و سلم.

أقول: و فيما ذكر نظر، لأن غيره من الجبال يتأتى فيه ما ذكر من اجتماع العبادات الثلاث كأبى قبيس مثلا و يزيد بقربه من البيت فكان أولى أن يتعبد فيه. و إن كان المراد البعد من الناس لخلو البال فى التعبد، فالجبال البعيدة كثيرة، اللهم إلا أن يقال إن الغار الذى بحراء مستقبل الكعبة من غير انحراف، و ليس غيره كذلك فله وجه، و الأحسن أن يقال: إن جبل حراء متعبد أجداده فاقتدى بهم فى ذلك، و اللّه الموفق.

و منها: جبل ثور- بالثاء المثلثة- بأسفل مكة، و سماه البكرى أبا ثور و المشهور الأول، و بعده عن مكة ميلان. و قيل ثلاثة، و ارتفاعه نحو ميل. و كان اسمه أطحل- بالطاء و الحاء المهملتين- و إنما سمى ثورا لنزول ثور بن عبد مناف فيه، و قد صح أن النبى صلى اللّه عليه و سلم و أبا بكر اختفيا فى غاره المشهور الذى ذكره اللّه تعالى بقوله: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ الآية (سورة التوبة: 40).

و روى أن النبى صلى اللّه عليه و سلم لما دخل الغار أمر اللّه العنكبوت فنسجت على بابه و شجرة فنبتت و الحمامتين فعششتا على بابه، و يقال إن هذا الحمام الذى بمكة من نسلهما.

و من فضائل هذا الجبل ما يروى أنه كلم النبى صلى اللّه عليه و سلم، و قال له: إلىّ يا رسول اللّه، فإنى قد آويت قبلك سبعين نبيا.

و للغار الذى فيه بابان واسع و ضيق، و كثير من الناس يتجنب دخوله من الباب الضيق لما يقال إن من لم يدخل منه و تعوق فليس لأبيه، و هو باطل لا أصل له.

و قد وسع الباب الضيق فى حدود عام ثمانمائة لأن بعض الناس أراد الدخول منه فانحبس، فنحت منه حتى اتسع و تخلص.

و كان مكثه صلى اللّه عليه و سلم فى الغار المذكور ثلاثا كما فى «صحيح البخارى» و هو الراجح، و قيل بضعة عشر يوما، و وفق الجد رحمه اللّه بينهما فقال: و يحتمل أن يكون كلا القولين صحيحا، و وجه الجمع أنهما مكثا فى الغار ثلاثا، و يكون معنى الحديث مكثت مع صاحبى مختفيين من المشركين فى الغار و فى الطريق بضعة عشر يوما، انتهى.

ص: 300

فائدتان:

الأولى: نقل عن البكرى أنه قال: فى جبل ثور من كل نبات الحجاز و شجره، و فيه شجر البان، و فيه شجرة من حمل منها شيئا لم تلدغه هامة.

الثانية: نقل أيضا فى بعض الروايات عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن قتل قابيل أخاه هابيل كان فى ثور أخرجهما الفاسى(1) رحمه اللّه.

و فى «صحيح مسلم» أن ثورا اسم جبل آخر صغير فى المدينة قريبا من جبل أحد عن يساره، و أنكر ذلك بعض العلماء، و اللّه أعلم.

و منها: جبل ثبير بمنى، و هو جبل عظيم الفضل شامخ، روى الأزرقى عن أنس بن مالك رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: لما تجلى اللّه عز و جل للجبل تشظى، فطارت شظاياه لستة جبال، ثلاثة منها وقعت بمكة و هى حراء و ثور و ثبير، و ثلاثة وقعت بالمدينة و هى أحد و ورقان و رضوى(2).

أقول: و كون ثبير بمكة تسامح، لكن ما قارب بالشى ء أعطى حكمه. و قد جعله القزوينى من جبال مكة أيضا ثم عرفه بأنه الذى أهبط عليه الكبش الذى فدى به إسماعيل، ثم قال: و العرب تقول: أشرق ثبير كيما نغير(3).

و ليس كذلك إلا ثبير الذى بمنى. و كذلك الجوهرى جعله بمكة و ما ذاك إلا لقرب منى منها، انتهى.

و يسمى ثبير الأثبرة، و القابل أيضا- بالقاف و الباء الموحدة-. و نقل صاحب «القاموس» عن النقاش أن الدعاء يستجاب فيه ثم قال ثبير الأثبرة لأن النبى صلى اللّه عليه و سلم كان يتعبد فيه قبل النبوة و أيام ظهور الدعوة و لهذا جاورت به أم المؤمنين عائشة رضى اللّه عنها أيام إقامتها بمكة(4). انتهى.

ص: 301


1- 669. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 450.
2- 670. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 280- 281.
3- 671. ( 3) عجائب المخلوقات ص 127.
4- 672. ( 4) هذا القول ليس فى القاموس، و إنما ورد فى كتاب آخر لصاحب القاموس، و هو:« الوصل و المنى فى فضل منى» كما نص عليه الفاسى فى شفاء الغرام ج 1 ص 451.

و منها: ثبير اسم لثمانية أماكن، سبعة منها جبال بمكة و حرمها و هى ثبير بالأثبرة المذكور، و ثبير الزّنج، و ثبير الأعرج، و ثبير الأحدب، و يقال الأحيدب- بالتصغير- و ثبير الخضراء، و ثبير النّصع، و ثبير غينا، و الثامن اسم لماء فى بلاد مزينة أقطعه النبى صلى اللّه عليه و سلم شريس- بمعجمة فى أوله و مهملة فى آخره- ابن ضمرة- بضاد معجمة- المزنى رضى اللّه عنه و سماه شريح بحاء مهملة.

و لنشر إلى مواضعها تكثيرا للفائدة. فأما ثبير الأثبرة فقد تقدم، و عرف بذلك لأنه أعلاها و أطولها، و قيل إنما سمى ثبير باسم رجل من هذيل دفن فيه، و اللّه أعلم بذلك.

و هو على يسار الذاهب إلى عرفة الذى ذكره الفقهاء فى المناسك بأن المستحب للحاج إذا طلعت الشمس عليه أن يسير إلى عرفة.

و أما ثبير غينا- بالغين المعجمة المفتوحة بعدها مثناة تحتية ثم نون ثم ألف- و ثبير الأعرج فهما بمنى أيضا، يصب بينهما واد من منى يقال له أفاعية- بضم الهمزة بعدها فاء و ألف و عين مهملة مكسورة و مثناة تحتية مفتوحة مخففة بعدها هاء- كذا نقله صاحب «القاموس» عن الزمخشرى. و ذكر الأزرقى فى ثبير الأعرج، أنه المشرف على حق الطارقيين- بمثناتين تحتيتين. بين المغمس و النخيل، و فى ثبير غينا أنه المشرف على بئر ميمون، و قلته مشرفة على شعب علىّ كرم اللّه وجهه. فخالف فى ذلك الزمخشرى.

أقول: و لعله أراد بالنخيل بساتين ابن عامر التى كانت فى جهة عرنة لأنه كان بها نخيل فيما مضى.

و أما ثبير النّصع- بكسر النون و سكون الصاد المهملة بعدها عين مهملة- فهو جبل لطيف بمزدلفة على يسار الذاهب إلى منى ذكره الأزرقى، و قال: هو الذى كانوا يقولون فى الجاهلية إذا أرادوا الدفع من مزدلفة أشرق ثبير، كيما نغير، و لا يدفعون حتى يرون الشمس عليه(1). انتهى.

و المعروف المنقول عن جمع من أهل المناسك أنهم ما كانوا يعنون بهذا الكلام إلا ثبير الأثبرة الذى بمنى. و وجه الفاسى رحمه اللّه تعالى ما قاله الأزرقى، و قال: لا يبعد ذلك لأن قريشا ما كانوا يقولون ذلك إلا و هم بمزدلفة، و هذا أقرب إلى أبصارهم من الذى بمنى انتهى.

ص: 302


1- 673. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 378 و 280.

و أما ثبير الخضراء- بمعجمتين وراء مهملة- هو الجبل المشرف على الموضع الذى يقال له الخضراء بطريق منى، نقله الفاسى(1).

و الخضراء: واد معروف إلى هذا اليوم.

و أما ثبير الزّنج: فهو جبل النوبى المعروف بأسفل مكة فى جهة الشبيكة الذى تقدم أن به مولد سيدنا عمر بن الخطاب على ما قيل. و إنما سمى بذلك لأن سودان مكة كانوا يلعبون عنده، و هم النوبة و السودان الزنوج أيضا فطابقت التسمية على كلا الوجهين(2).

و أما ثبير الأحدب أو الأحيدب فلم أقف على موضعه و لم أر كلاما فى تعيين محله، و اللّه أعلم.

أقول: بمنى جبل يدعى الأحيدب إلى هذا التاريخ، سمعت ذلك من بعض أهل منى، و هو مقابل مسجد الخيف يقرب من ثبير الأثبرة على يسار الذاهب إلى عرفة، و إلى جانبه جبل آخر لا يبعد، و اللّه أعلم أن يكون ثبير غينا، و بينهما شعب الظاهر أنه أفاعية الذى يصب بينهما كما تقدم. و يكون ثبير الأعرج كما ذكره الأزرقى، فى جهة عرفة بين المغمس و النخيل لأنه أمس بذلك(3).

و يبقى ما ذكره الزمخشرى مجرد نقل لم يعضده شى ء يقويه، و يصير على هذا بمنى ثلاثة أثبرة: ثبير المشهور، و ثبير غينا، و ثبير الأحيدب الذى بينهما أفاعية، انتهى. و اللّه الموفق، فهذه الأثبرة التى بمكة و ظاهرها، و اللّه أعلم.

ذكر المقابر المباركة التى تزار بمكة و قربها

اشارة

منها: مقبرة المعلاة لما قد حوته من سادات الصحابة و التابعين و كبار العلماء و الصالحين، و إن لم يعرف قبر أحد من الصحابة تحقيقا الآن. و أفضل شعابها الشعب الذى يقال إن فيه قبر أم المؤمنين خديجة رضى اللّه عنها. و لم يرد ما يعتمد عليه فى ذلك لقوله صلى اللّه عليه و سلم:

نعم الشعب و نعم المقبرة، أخرجه الأزرقى. ثم قال: لا يعلم بمكة شعب يستقبل ناحية من الكعبة ليس فيه انحراف إلا شعب المقبرة فإنه يستقبل وجه الكعبة كله(4). انتهى.

(1) أخبار الفاكهى للأزرقى ج 2 ص 280.

ص: 303


1- 674. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 466.
2- 675. ( 3) أخبار مكة للأزرفقى ج 2 ص 279.
3- 676. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 280.
4- 677. ( 5) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 209.

و قد تقدم ذكر شى ء مما ورد فى فضل هذه المقبرة فى فضائل مكة فلا نطيل بإعادته.

و مما ورد فى فضلها ما روى عن بعض الصالحين أنه قال: كشف لى أهل المعلاة فقلت لهم أتجدون نفعا بما يهدى إليكم من قراءة و نحوها؟ فقالوا: لسنا محتاجين إلى ذلك.

فقلت لهم: ما منكم أحد واقف الحال؟ فقالوا و هل يقف حال أحد فى هذا المكان(1).

و من ذلك ما رواه أبو سعد بن السمعانى فى «تاريخه» عن أبى نصر محمد بن إبراهيم الأصبهانى، أنه رأى فى المنام كأن إنسانا مدفونا فى المعلاة استخرج و مروا به إلى موضع آخر، قال: فسألت عن حاله؟ فقالوا: هذه المقبرة منزّهة عن [قبول] أهل البدعة، لا تقبل أرضها مبتدعا(2).

و نقل عن الشيخ خليل المالكى رحمه اللّه أن الدعاء يستجاب عند ثلاثة أماكن بالمعلاة: عند قبور سماسرة الخير، و عند قبر الشولى، و عند قبر إمام الحرمين عبد المحسن ابن أبى عبد العميد(3).

أقول: قبور سماسرة الخير بالقرب من البئر المعروفة بئر أم سليمان التى يقصر منها القصارون الثياب الآن، و قبر الشولى و إمام الحرمين معروفان. انتهى.

و من مقابر مكة قديما المقبرة العليا، فيستحب زيارتها لما فيها من الأموات و أهل الخير، و هى بين المعابدة و ثنية أذاخر، و كان يدفن فيها فى الجاهلية و صدر الإسلام آل أسيد بن أبى العيص بن أمية بن عبد شمس، و آل سفيان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم. نقله الأزرقى(4). ثم قال: و كان أهل مكة يدفنون موتاهم من جنبتى الوادى يمينه و شاميه(5)، ثم حول الناس جميعا قبورهم فى الشعب الأيسر لما جاء فيه(6). انتهى.

و المراد باليمنى: هو شعب أبى دب المعروف الآن بشعب العفاريت(7)، و فيه كان

ص: 304


1- 678. ( 1) شفاد الغرام ج 1 ص 455.
2- 679. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 455 و ما بين حاصرتين منه.
3- 680. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى:« عبد الحميد» و صوابه من: د، و انظره لدى الفاسى فى شفاء الغرام ج 1 ص 456، و ابن فهد: إتحاف الورى ج 3 ص 43.
4- 681. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 209.
5- 682. ( 5) لدى الأزرقى الذى ينقل عنه المصنف:« يمنة و شامة».
6- 683. ( 6) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 211.
7- 684. ( 7) تحرف فى المطبوع إلى:« العقاريب».

يدفن فى الجاهلية و صدر الإسلام. و أبو دبّ: رجل من بنى سواءة بن عامر سكنه، فسمى به.

و يقال: إن قبر آمنة بنت وهب أم النبى صلى اللّه عليه و سلم فى شعب أبى دب، هذا و أنه صلى اللّه عليه و سلم جاء إليها وزارها و قيل فى غير هذا المحل من المعلاة، و قيل بالأبواء و هو المشهور.

و المراد بالشامى: هو شعب الصفىّ- بتشديد التحتية- المسمى قديما بصفى الشباب، و هو الذى عند أذاخر و الخرمانية فى طرف المحصب، و يسمى المحصب شعب الصفى، و هو خيف بنى كنانة. و إنما سمى شعب الصفى لأن ناسا فى الجاهلية كانوا إذا فرغوا من مناسكهم و نزلوا المحصب المذكور وقفوا بفم هذا الشعب و تفاخروا بالآباء و الأيام و الوقائع فى الجاهلية.

أقول: و ليس فى هذا مناسبة لوجه التسمية. و كأنه و اللّه أعلم مأخوذ من الاصطفاء، لكونهم اختاروا هذا المكان و اصطفوه لمفاخرتهم. لكن الأزرفى لم يعرج على هذا، و إنما أخذته من سياق الكلام.

ثم يظهر أن صدور هذا التفاخر إنما كان يقع من شبابهم ليظهر وجه التسمية. انتهى.

و فى هذه المقبرة العليا قبر سيدنا عبد اللّه بن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنهما، عند قبور آل عبد اللّه بن خالد بن أسيد، و ذلك أنه مات عندهم فى دارهم سنة أربع و سبعين و له من العمر أربع و ثمانون عاما، و كان صديقا لعبد اللّه بن خالد، فلما حضرته الوفاة أوصاه بأن لا يصلى عليه الحجاج بن يوسف الثقفى و كان بمكة بعد مقتل ابن الزبير، فلما قضى صلى عليه عبد اللّه بن خالد و دفنه عند باب داره ليلا أخرجه الأزرقى. و لهذا و اللّه أعلم خفى قبره. و عرف الأزرقى المقبرة العليا بأنها حائط خرمان، و هو المسمى فى هذا الوقت بالخرمانية عند المحصب(1).

قال الفاسى رحمه اللّه: و ما ذكره الأزرقى من كون عبد اللّه بن عمر دفن بالمقبرة العليا يدفع ما يقال إنه مدفون بالجبل الذى بالمعلاة، و لا أعلم فى ذلك دليلا و هو بعيد من الصواب(2). و اللّه أعلم.

ص: 305


1- 685. ( 1) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 210 و 211.
2- 686. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 457.

و من مقابر مكة أيضا قديما مقبرة المهاجرين بالحصحاص، و هو ما بين فخّ و الجبل المسمى بالمقلع و بالبكّاء أو الزاهر. كما هو مقتضى كلام الأزرقى و الفاسى. و إنما سمى بالبكاء لما قيل إنه بكى على النبى صلى اللّه عليه و سلم حين هاجر(1)، و هو مشهور بالبكاء إلى اليوم.

أقول: فتكون المقبرة المذكورة فى المحل المعروف الآن بالمختلع الذى يبيت به أمير الحاج عند قدومه ثم يصبح و يدخل مكة. فينبغى لمن أتى ذلك الموضع أن يقرأ ما تيسر ثم يدعو هناك بالدعاء المأثور عند زيارة القبور، و يهدى ثواب ذلك إليهم و إلى سائر أموات المسلمين، و كذلك عند المقبرة العليا التى تقدم أن بها قبر سيدنا عبد اللّه بن عمر لما علمته و اللّه الموفق.

و سبب تسميتها بمقبرة المهاجرين أن جندع- بجيم و نون- ابن أبى ضمرة- بمعجمة- ابن أبى العاص اشتكى و هو بمكة فخاف على نفسه فخرج يريد الهجرة إلى المدينة فأدركه الموت و هو بهذا المحل فدفن فيه فأنزل اللّه وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً الآية (سورة النساء: 100) فسميت مقبرة المهاجرين به. أخرجه الأزرقى(2).

و وقع مثل ذلك لغير جندع أيضا فدفن هنالك. و ممن دفن بهذا المحل جماعة من العلويين قتلوا فيه فى حرب وقع بينهم و بين عسكر موسى الهادى فى سنة تسع و تسعين و مائة. و فيه جماعة من الأنصار مدفونون.

و يسمى هذا المحل أيضا بأضاة بنى غفار(3) و هى التى قال النبى صلى اللّه عليه و سلم: أتانى جبريل و أنا بأضاة بنى غفار فقال: يا محمد، إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف. فقلت:

أسأل اللّه المعافاة، فقال: فإنه يأمرك أن تقرأه على حرفين، فقلت: أسأل اللّه المعافاة، قال: فإنه يأمرك أن تقرأه على ثلاثة أحرف، فقلت: أسأل اللّه المعافاة، قال: فإنه يأمرك أن تقرأه على سبعة أحرف كلها شاف كاف(4).

و اختلف ما المراد بالسبعة الأحرف، فقيل: سبع لغات.

و من المقابر أيضا المباركة: مقبرة الشبيكة، فيستحب زيارتها لما حوته من أهل الخير و الغرباء لا سيما الفقراء الطرحاء فإنهم ما يدفنون غالبا إلا بها.

ص: 306


1- 687. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 457.
2- 688. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 212.
3- 689. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى:« عقار».
4- 690. ( 4) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 213.

و نقل الفاسى رحمه اللّه عن الفاكهى: أن مقبرة المطيبين قديما كانت بأعلى مكة، و مقبرة الأحلاف(1) بأسفل مكة. ثم قال: و الظاهر أن مقبرة الأحلاف هى هذه المقبرة- يعنى بذلك الشبيكة- لأنه لا يعرف بأسفل مكة مقبرة سواها، و دفن الناس بها إلى الآن مشعر بذلك. ثم قال: و المطيّبون: بنو عبد مناف بن قصى، و بنو أسد بن عبد العزى، و بنو زهرة بن كلاب، و بنو تيم بن مرة، و بنو الحارث بن فهر.

و الأحلاف: بنو عبد الدار بن قصى و بنو مخزوم، و بنو سهم و بنو جمح، و بنو عدى ابن كعب(2). انتهى.

فائدة: و فى سبب تسميتهم بالمطيبين و الأحلاف نقل عن ابن إسحاق: أن قصيّا لما هلك قام بنوه بعده بأمر الرياسة و اقتسموا مآثره كما تقدم، ثم إن بنى عبد مناف بن قصى و هم عبد شمس و نوفل و هاشم و المطلب أجمعوا أن يأخذوا ما فى أيدى بنى عبد الدار بن قصى مما كان قصى جعله إلى بنى عبد الدار من الحجابة و اللواء و السقاية و الرفادة، و رأوا أنهم أحق بذلك منهم لشرفهم عليهم، فافترقت قريش فرقتين. فكانت طائفة منهم مع بنى عبد مناف على رأيهم، و طائفة مع بنى عبد الدار يرون أن لا ينزع منهم ما جعله قصى(3) إليهم.

ثم أخرج بعض نساء عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فغمس القوم أيديهم فيها و تعاقدوا و تعاهدوا أن لا يتخاذلوا فسموا المطيّبين و تعاقد بنو عبد الدار و تعاهدوا عند الكعبة أن لا يسلم بعضهم بعضا فسموا الأحلاف(4).

ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية و الرفادة و القيادة لبنى عبد مناف، و أن تكون الحجابة و اللواء و الندوة لبنى عبد الدار كما كانت. ففعلوا و لم يزالوا على ذلك حتى جاء اللّه بالإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: ما كان من حلف فى الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلّا شدّة(5).

و من القبور التى ينبغى زيارتها خارج مكة قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية

ص: 307


1- 691. ( 1) تحرف فى المطبوع إلى:« الأخلاف» بالخاء المعجمة.
2- 692. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 458.
3- 693. ( 3) سيرة ابن هشام ج 1 ص 130.
4- 694. ( 4) سيرة ابن هشام ج 1 ص 132.
5- 695. ( 5) سيرة ابن هشام ج 1 ص 132.

زوج النبى صلى اللّه عليه و سلم خالة ابن عباس، و هو معروف بطريق وادى مر بمحل يقال له سرف- بسين مهملة مفتوحة، وراء مهملة مكسورة، وفاء- و بينه و بين مكة سنة أميال و قيل: سبعة أميال- بتقديم السين- و قيل: تسعة- بتقديم المثناة- و قيل: اثنا عشر ميلا كذا ذكره صاحب المطالع(1).

أقول: القول الأخير بعيد، و النظر يقضى بخلاف ذلك لمن سلك الطريق إلى وادى مر، و أعدل الأقوال السبعة لأن المعاينة تؤيده انتهى.

قال الفاسى رحمه اللّه: و لا أعلم فى مكة و لا فيما قرب منها قبور أحد ممن صحب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سوى هذا القبر لأنّ الخلف يأثره عن السلف، و موضع قبرها هو الذى بنى بها فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين تزوجها(2). انتهى.

و منها: قبر سيدنا عبد اللّه بن عباس رضى اللّه عنهما، و هو بوادى الطائف فينبغى زيارته لمن قدر على ذلك. قال صاحب «المطالع» إن الطائف هو وادى وجّ، انتهى. و وجّ- بفتح الواو و تشديد الجيم- و سمى باسم وج بن عبد الحق من العمالقة.

و أما وح- بالواو و الحاء المهملة- فهو ناحية بعمان(3) فوق عرفة.

و عن الزبير بن العوام رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: إن صيد وج و عضاهه حرم محرم للّه عز و جل. قال النووى: و إسناده ضعيف.

و ذكر [المحب](4) الطبرى فى تحريم صيد وج احتمالين: أحدهما أن يكون على وجه الحمى له، ثم قال: و عليه العمل عندنا. و الثانى: أن يكون حرمه فى وقت ثم نسخ(5)، انتهى.

و قال النووى فى «الإيضاح»: و يحرم صيد وجّ لكن لا ضمان فيه، انتهى. و أما مذهبنا فليس له حرم.

ص: 308


1- 696. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 459.
2- 697. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 459.
3- 698. ( 3) تحرف فى المطبوع إلى:« ناحية نعمان» و مثله لدى الفاسى فى شفاء الغرام ج 1 ص 143، و صوابه لدى ياقوت و النووى فى تهذيب الأسماء و اللغات ج 2 ق 2 ص 198.
4- 699. ( 4) الإضافة للتوضيح.
5- 700. ( 5) القرى لقاصد أم القرى ص 666.

و إنما سمى الطائف لما روى أن رجلا أصاب دما من قومه، فلحق بثقيف و أقام بها، و قال لهم: ألا أبنى لكم حائطا يطيف ببلدكم؟ فبناه فسمى الطائف لذلك. و قيل: إنما سمى بالطائف لأن جبريل طاف به حول الكعبة. قال بعض المفسرين فى قوله تعالى فى سورة القلم: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ (سورة القلم: 19) إن جبريل عليه السلام اقتلعها من موضعها، و طاف بها حول البيت، فلذلك سميت بالطائف، و قيل إنما اقتلعها جبريل عليه السلام من الشام و طاف بها سبعا، و ذلك لدعوة الخليل عليه السلام حيث يقول الآية وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ (سورة البقرة: 126) و اللّه أعلم بالصواب(1).

و جاء فى قوله تعالى: وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ (سورة الفتح: 2) أى بفتح مكة و الطائف.

و قال المفسرون فى قوله تعالى: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (سورة الزخرف: 31) إنهما مكة و الطائف، فقرن تعالى الطائف بمكة، و ذلك فى غاية الشرف(2).

و فى الرجل قولان: أحدهما أنه عتبة بن عبد شمس، و الثانى أنه مسعود بن معتّب الثقفى(3).

غريبة: حكى الميورقى أن ميضأة- بكسر الميم- وقعت فى عين الأزرق بالطائف فخرجت من عين الأزرق بالمدينة الشريفة(4).

و منها: قبر بأعلى الجبل المشرف على الموضع المعروف بالبرقة بوادى مرّ، يزعم سكان وادى مرّ أنه قبر مريم بنت عمران و يقصدونه بالزيارة و النذور و يذبحون عنده. و لا أعلم لهم فى ذلك سلفا، و لم أر من ذكره، و لم أقف على شى ء من خبره بعد السؤال و التفحص، و اللّه أعلم بحقيقة ذلك.

ص: 309


1- 701. ( 1) شفاء الغرام ج 1 ص 145 و 146.
2- 702. ( 2) بهجة المهج ص 21 و 22.
3- 703. ( 3) انظر فى هذا الاختلاف: إهداء اللطائف فى أخبار الطائف للعجيمى ص 26.
4- 704. ( 4) بهجة المهج للميورقى ص 21.

فوائد

نختم بها الخاتمة يرجع بعضها إلى بعض شى ء مما تقدم الأولى: قال النووى رحمه اللّه فى عدة من كتبه و غيره أيضا: إن الدعاء يستجاب فى خمسة عشر موضعا: فى الطواف، و فى الملتزم كما قدمته و تحت الميزاب و داخل الكعبة و خلف المقام و عند زمزم و على الصفا و على المروة، و فى حال السعى و جميع منى عموما و عند الجمرات الثلاث خصوصا و فى عرفة و فى مزدلفة فهذه خمسة عشر موضعا بالجمرات الثلاث(1).

و ذكر بعض العلماء من الأماكن المستجابة الدعاء: مسجد الخيف بمنى.

و منها على ما ذكره ابن الجوزى: مسجد البيعة، و غار المرسلات، و مغازة الفتح لأنها من ثبير. أقول: مغارة الفتح المذكورة هى فى سفح ثبير قريبا من معتكف عائشة أنشأها القاضى مجد الدين صاحب «القاموس» و كان يختلى بها للعبادة. انتهى.

و ذكر العلامة النقاش فى «منسكه» مواضع يستجاب فيها الدعاء: فى ثبير الأثبرة، و فى مسجد الكبش، و فى مسجد النحر، و حال الدخول من باب السلام، و فى دار خديجة رضى اللّه عنها ليلة الجمعة، و فى مولد النبى صلى اللّه عليه و سلم يوم الاثنين عند الزوال، و فى دار الخيزران عند المختبأ بين العشاءين، و فى مسجد الشجرة يوم الأربعاء، و تحت السدرة بعرفة وقت الزوال، و فى المتكأ غداة الأحد، أقول هذه الثلاث المحال لا تعرف الآن و المتّكأ المذكور الظاهر أنه الذى بأجياد. و قد تقدم الكلام فيه بأنه لا يعرف يقينا بل حدسا بغير دليل و لا قرية انتهى. و فى جبل ثور عند الظهر، و فى حراء مطلقا انتهى كلامه(2).

الثانية: مما يدل على فضل منى أيضا: ما رواه ابن الحاج فى «منسكه» عن أبى سهل ابن يونس الرجل الصالح أنه قال: رأيت كأنى فى سفينة تجرى على وجه الأرض، و قائل يقول: فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فقفزت من موضعى و قلت: يا رسول اللّه استغفر لى. فقال

ص: 310


1- 705. ( 1) انظر فى هذه المواضع: رسالة الحسن البصرى فى فضائل مكة ورقة 4.
2- 706. ( 2) شفاء الغرام ج 1 ص 322 و 323.

لى: حججت؟ فقلت: نعم. فقال لى: حلقت رأسك بمنى؟ قلت: نعم، قال: رأس حلقت بمنى لا يمسه النار أبدا. انتهى.

الثالثة: اختلف فى سبب تسميتها بمنى فقال ابن عباس رضى اللّه عنهما: إنما سميت منى لأن جبريل عليه السلام لما أراد أن يفارق آدم عليه السلام قال له: تمن، قال: تمنيت الجنة فسميت بذلك لأمنية آدم عليه السلام. و قيل: سميت بذلك لما يمنى فيها من الدماء أى يراق، و هذا هو المشهور الذى ذكره جمهور اللغويين و غيرهم. و قيل لما تمنى أن يقدر، و قيل لاجتماع الناس بها لأن العرب تسمى كل موضع يجتمع فيه الناس منى. و قيل لمن اللّه على الخليل عليه السلام بفداء ابنه فيها. و قيل: لمن اللّه بالمغفرة فيها على عباده، و قيل غير ذلك، و يجوز فيها الصرف و عدمه و التذكير و التأنيث. قال صاحب «القاموس» و الأجود صرفه. و جزم الجوهرى فى «صحاحه» بتذكيره و صرفه و أنشدوا على تذكيره:

سقى منى ثم رواه و ساكنه و من ثوى فيه واهى الودق مغتبق

و جاء فى تأنيثه للعرجى:

ليومنا بمنى إذ نحن ننزلهاأسرّ من يوم بالعرج أو ملل

الرابعة: أخرج ابن حبان فى «صحيحه» من حديث عبد اللّه بن عمر رضى اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: إذا كنت بين الأخشبين من منى- و نفخ(1) بيده نحو المشرق- فان هناك واديا يقال له وادى السّرر، لسرحة به سرّ تحتها سبعون نبيا(2). انتهى ملخصا.

و السرحة- بالسين و الحاء المهملتين- الشجرة العظيمة.

و وادى السّرر- بضم السين و فتح الراء- و قيل بفتحهما، و قيل بكسر السين و فتح الراء(3).

ص: 311


1- 707. ( 1) فى المطبوع:« و نفح» بالحاء المهملة، و المثبت رواية المحب الطبرى فى القرى ص 540.
2- 708. ( 2) أورده صاحب الكنز برقم 34792 و النظر فى ذلك: القرى ص 540.
3- 709. ( 3) القرى ص 540.

و معنى سرّ تحتها: أى قطعت(1) سررهم، يعنى: أنهم ولدوا تحتها يصف بركتها و يمنها. و السّرر ما يقطع من المولود فيبان، و الباقى بعد القطع السرة، و لا يقال قطعت سرته بل قطع سرره و من قطع سرره فهو مسرور. قاله صاحب «القاموس».

قال الفاسى رحمه اللّه: لم يبين الطبرى موضع هذا الوادى و ما عرفته أنا أيضا. انتهى.

أقول: قد بين صاحب «القاموس» مسافة ما بينه و بين مكة إجمالا فى كتابه «الوصل» فقال قال أبو سعيد الحسن بن الحسين السكرى: السرر على أربعة أميال من مكة عن يمين الجبل بطريق منى، و كان عبد الصمد بن على اتخذ عنده مسجدا كان به شجرة ذكر أنه سر تحتها سبعون نبيا.

و قد قدمت أن هذا المسجد لا يعرف، فيكون على مقتضى قول الحسن بن الحسين محل وادى السرر المذكور تقريبا بين محسر و منى على يسار الذاهب إلى عرفة، لأن الفقهاء ذكروا فى عدة من المناسك أن بين منى و مكة ثلاثة أميال هذا قول أكثرهم، و يكون من منى إلى محسر قدر ميل فهذه أربعة أميال، و السرحة لا وجود لها الآن و اللّه الموفق.

الخامسة: منى اسم لموضعين: أحدهما منى المذكور، و الثانى اسم جبل من جبال ضريّة- بالضاد المعجمة المفتوحة و الراء المكسورة و المثناة التحتية المشدودة المفتوحة و الهاء- ذكره صاحب القاموس فى «الوصل» و عزاه إلى الأصمعى.

الساسة: الخيف، لغة: المكان المرتفع عن مسيل الماء المنحدر عن غلظ الجبل.

و قال بعضهم: الخيف هبوط و ارتفاع فى سفح جبل أو غلظ، و مسجد الخيف بمنى فى مكان هذه صفته، و قيل الخيف غرة بيضاء فى الجبل الذى خلف أبى قبيس. و الخيف أيضا الناحية، و به سمى خيف منى كأنه ناحيته، و قد تغزل الشعراء فى منى و خيفها بأشعار كثيرة رائقة و أناشيد فائقة رأيت أن أذكر منها بعض شى ء مما انشرح به الخاطر تكثيرا للفائدة، فمن ذلك قول بعضهم:

تبدى لعينى و الحجيج على منى غزال رأيناه بمكة محرما

ص: 312


1- 710. ( 1) فى المطبوع:« قطع» و المثبت رواية المحب الطبرى فى القرى.

رمى و هو يسعى بالجمار و إنمارمى جمرة القلب المعذب إذ رمى

و من ذلك للشيخ عبد اللّه بن أسعد اليافعى من قصيدة:

بوادى منى نلنا المنى إذ تبسمت ليال و أيام ملاح المباسم

سرور بعيد و اجتماع أحبةو قرب و قربان و عز مواسم

و من ذلك لبعضهم:

ما بال قلبى لا يقر قراره حتى تقضى من منى أوطاره

ما ذاك إلا من تلهب شوقه يسبيه من وادى منى تذكاره

يا سائق الأظعان إن جزت الحمى سلم على من بالمحصب داره

و اشرح لهم ما يلتقى مشتاقه من فرط شوق أحرقته ناره

يصبو إلى ذكر الحطيم و زمزم و الركن و البيت المكرم جاره

و من ذلك لمجنون بن قيس العامرى:

و لم أر ليلى غير موقف ساعةبخيف منى ترمى جمار المحصب

و تبدى الحصى منها إذا قذفت به من البرد أطراف البنان المخضب

فأصبحت من ليلى الغداة كناظرمع الصبح فى أعقاب نجم مغرب

ص: 313

و من ذلك لبعضهم:

أيا حادى الأظعان جز بى على منى و برد لظى أحشاى بالجمرات

وقف بى على ذاك المقام فإن لى به أربا أقضيه قبل وفاتى

و مل بى إلى البيت العتيق و خلنى لديه و ما أبديه من زفراتى

و من ذلك قول ابن الجوزى:

سقى منى و ليالى الخيف ما شربت من المياه و حياها و حياك

الماء عندك مبذول لشاربه و لا ترويك إلا دمعة الباكى

ثم انثنينا إذا ما هزنا طرب على الرحال تعللنا بذكراك

و لغيره:

فلما قضينا من منى كل حاجةو مسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بينناو سالت بأعناق المطىّ الأباطح

بكينا على ما كان من زمن الهوى و لم يعلم الغادى بمن هو رائح

و فى هذا القدر كفاية.

الفائدة السابعة: المشهور عند أهل مكة أن الحجون: هو الجبل الذى فيه الثنية التى يدخل منها الحاج الهابطة على المقبرة، و عرفها الأزرقى: بثنية المدنيين، و يسمونها الحجون الأول بالنسبة إلى الخارج منها إلى جهة ذى طوى و الزاهر، و يقولون لما بينها و بين

ص: 314

الثنية الأخرى الهابطة على المختلع و طريق الوادى، و تسمى الخضراء بين الحجونين و يمين الخارج منها إلى جهة منى كما هو صريح كلام الأزرقى و الخزاعى و الفاكهى و النووى.

فأما الأزرقى فقال عند ذكره لما فى يمانى المعلاة من المواضع و الشعاب و الجبال ما نصه: الحجون الجبل المشرف حذاء مسجد البيعة(1) الذى يقال له مسجد الحرس(2). و مثله كلام الفاكهى.

و أما كلام الخزاعى فنص كلامه: الحجون الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة على يمينك و أنت مصعد(3).

و قال النووى فى «شرح مسلم» الحجون و هو من حرم مكة الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة على يمينك و أنت مصعد(4).

قال السيد الفاسى رحمه اللّه: و قد ذكر المحب الطبرى فى «القرى» ما يوافق ما يقوله الناس، و كنت قلدته فى ذلك، فظهر لى أن الأزرقى بذلك أدرى كيف و قد وافقه الخزاعى و الفاكهى و غيرهما. و إذا كان كذلك فلعله الجبل الذى يزعم الناس أن فيه قبر عبر اللّه بن عمر و الجبل المقابل الذى بينهما الشعب المعروف عند الناس بشعب العفاريت(5). و اللّه أعلم، انتهى.

و أغرب السهيلى فى محل الحجون فقال: و الحجون على فرسخ و ثلث من مكة(6).

انتهى.

و الحجون بفتح الحاء و ضم الجيم كذا ضبطه النووى و الطبرى و صاحب المطالع.

و ضبطه ابن خلكان بضم الحاء و المعروف الفتح.

تمت الفوائد، و بتمامها يتم الكتاب و الحمد للّه الذى بنعمته تتم الصالحات، و الصلاة

ص: 315


1- 711. ( 1) فى المطبوع:« المشرف جدا على مسجد البيعة» و المثبت رواية: د و الأزرقى الذى ينقل عنه المصنف.
2- 712. ( 2) أخبار مكة للأزرقى ج 2 ص 273.
3- 713. ( 3) نقله الفاسى فى شفاء الغرام ج 1 ص 473.
4- 714. ( 4) نقله الفاسى فى شفاء الغرام ج 1 ص 473.
5- 715. ( 5) شفاء الغرام ج 1 ص 472 و 475.
6- 716. ( 6) الروض الأنف ج 1 ص 138.

و السلام على نبيه سيدنا محمد المبعوث بأعظم المعجزات و على آله و أصحابه الأماجد السادات.

و ليكن هذا آخر ما يسره اللّه و من به و هو المنان مما قصدت إثباته حسب الوسع و الإمكان و مع ذلك فإنى عاجز عن بلوغ المراد ملتمس من اللّه سبحانه الإصابة و السداد و ضارع إليه فى التوفيق و الرشاد أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم و عدتى من فائض فيض فضله العميم و يجمعنى و من يطالعه فى جنان النعيم و يختم آخر أعمالى بالخيرات و يرجح ميزانى بالحسنات و يعفو عما اقترفته من الذنوب و السيئات و يرزقنى الثبات عند السؤال بعد الممات، و يفتح على بالعلم الشريف و العمل به فإنه الكنز الموروث عن الأنبياء و نعم الميراث و يجعلنى كما وفقنى لجمع هذه الفضائل ممن شمله قوله صلى اللّه عليه و سلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» و الأعمال بالنيات و لكل امرى ء ما نوى، و اللسان لا يبرز عن الجنان إلا ما حوى.

و المسئول ممن وقف على التأليف من الإخوان أن ينظر فيه بعين الرضا و الرضوان فما كان من نقص كمله و من خطأ أصلحه و أن يصفح عما يجده فى ترتيبه من زلل و ما يظهر له فيه من خلل، فإن القلم قد يهفو و الجواد قد يكبو، و قد سبق من إقرارى بالعجز و الضعف ما يقتضى الصفح و العفو، و الإنسان غير معصوم عن الخطأ و النسيان و المؤمن مرآة أخيه.

و اللّه تعالى يغفر لمن نظره أو كتبه أو أصلح شيئا منه أو فيه.

و لنختم هذا التأليف بما ورد من دعاء النبى صلى اللّه عليه و سلم المأثور الشريف:

اللهم رب السموات السبع و ما أظللن و رب الأرضين و ما أقللن و رب الشياطين و ما أضللن كن لى جارا من شر خلقك كلهم أن يفرط على أحد منهم و أن يبغى على، عز جارك و جل ثناؤك و لا إله غيرك. و صلى اللّه على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم و حسبنا اللّه و نعم الوكيل و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلى العظيم.

و كان الفراغ من نسخ هذا الجامع المبارك عصر الاثنين سنة تسع و عشرين بعد الألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة و السلام(1).

ص: 316


1- 717. ( 1) هذا آخر النسخة المطبوعة و جاء فى آخر نسخة د:« و كان الفراغ من نسخة على يد ناسخه لنفسه و لمن شاء اللّه من بعده بمكة المشرفه فى اليوم الرابع عشر من شهر رمضان المبارك من العام الثلاثمائة و الألف، و الحمد للّه وحده و الصلاة على من لا نبى بعده».

فهرست الفهارس

اشارة

1- فهرس الأعلام.

2- فهرس الأماكن.

3- فهرس الكتب الواردة فى متن الكتاب.

4- فهرس مصادر التحقيق.

5- فهرس موضوعات الكتاب.

ص: 317

ص: 318

1- فهرس الأعلام

الآقشهرى: 194.

إبراهيم عليه السلام: 223.

أبرهة: 156.

أروى بنت كريز بن ربيعة (أم عثمان بن عفان): 211.

الأزرقى: 36، 236، 238، 268، 287.

ابن إسحاق: 210، 212، 226، 307.

أسماء بنت الصديق: 239.

باقوم (نجار): 79.

بدر الدين أحمد بن محمد المصرى: 242.

بشر الحافى: 231.

البغوى: 29.

أبو بكر الصديق: 208.

البكرى (صاحب المسالك و الممالك):

193.

بيبرس الملك الظاهر: 106.

بيسق الظاهرى (الأمير): 182.

التاج السبكى: 231.

تقى الدين الفاسى: 11 و انظر الفاسى.

الثعلبى: 25.

الجاحظ: 52.

ابن جبير: 79، 191، 293.

ابن جريج: 78.

ابن الجوزى: 231، 232.

جلال الدين السيوطى: 233.

ابن جماعة: 36.

جمال بن عبد اللّه الظهيرى: 232.

ابن الحاج: 51.

الحاكم العبيدى: 100.

الحجّاج: 87، 100.

ابن حجر: 49، 89، 231.

الحربى: 237.

الحسن البصرى: 31.

أبو الحسن الماوردى: 177.

الحصين بن نمير: 81.

الحليمى: 84.

حمنة بنت سفيان بن أمية (أم سعيد بن مالك ابن أبى وقاص) 215.

حنتمة بنت هاشم بن المغيرة (أم عمر بن الخطاب) 210.

حواء: 79.

خالد بن عبد اللّه القسرى: 104.

خاير بك العلائى (الأمير) 181، 186، 192.

خشقلدى (الأمير) 188، 191، 192.

الخيزران: 285.

ابن درياس (من الشافعية) 239.

الديلمى: 228.

ص: 319

الذهبى: 231.

ذو القرنين: 76.

رامشت (صاحب الرباط بمكة): 101.

أبو رغال: 156.

الزبير بن العوام: 214.

الزمخشرى: 33، 303.

زين الدين الفارسكورى الشافعى: 187.

سارة: 225.

سراج الدين البلقينى: 232.

سعد بن مالك بن أبى وقاص: 215.

أبو سعيد بن خدابنده (ملك التتار): 106.

سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: 216.

سفيان الثورى: 21.

سليمان (السلطان): 189.

السهيلى: 40، 75، 286.

سودون المحمدى (الأمير) 187.

ابن سيد الناس: 93.

السيوطى: 73.

شاه رخ (صاحب شيراز): 101.

ابن شعبان (من المالكية): 239.

شعبان (الأشرف صاحب مصر): 183.

الشعبى: 44.

الشفاء بنت عوف (أم عبد الرحمن بن عثمان ابن عوف) 216.

شيبة بن عثمان: 31.

أبو الشيخ: 241.

شيخ أويس (صاحب بغداد): 106.

شيخ المحمودى (السلطان المؤيد): 190.

صفية بنت عبد المطلب (أم الزبير بن العوام): 214.

الصليحى (صاحب اليمن و مكة): 100.

أبو طالب المكى: 19.

أبو طاهر القرمطى: سليمان بن الحسن: 41.

طلحة بن عبيد اللّه بن عثمان: 214.

ابن ظهيرة: جمال الدين عبد اللّه: 236.

عباد بن كثير: 78.

العباس بن محمد بن على بن عبد اللّه بن عباس: 32.

ابن عبد البر: 125.

ابن عبد ربه: 191.

عبد الرحمن بن عثمان بن عوف: 216.

عبد الكريم اليازجى الرومى: 189.

أبو عبد اللّه الحاكم: 231.

أبو عبد اللّه خليل (إمام مقام المالكية بالمسجد الحرام): 123.

عبد اللّه بن الزبير: 44.

عبد المطلب: 226.

عبد الملك بن مروان: 44.

أبو عبيدة: عامر بن عبد اللّه بن الجراح:

217.

عتاب بن أسيد: 245.

عثمان بن طلحة: 111.

ص: 320

عثمان بن عفان 211.

ابن عطية: 58.

على بك (نائب جدة): 190.

على شاه (الوزير): 106.

على بن أبى طالب: 212.

على بن الموفق: 65.

ابن العماد: 93.

عمر، أبو بكر الشهير بالشنينى: 230.

عمر بن الخطاب: 210.

عمر بن عبد العزيز: 225.

عمر بن على بن رسول (الملك المنصور صاحب اليمن): 106.

أبو عمرو الزجاجى: 156.

عيسى بن مريم: 208.

الغورى (السلطان): 192.

فاطمة بنت أسد بن هاشم (أم على بن أبى طالب): 212.

فاطمة بنت بعجة (أم سعيد بن زيد بن عمرو): 216.

الفاسى: 236 و انظر تقى الدين الفاسى.

الفاكهى 236، 238، 239، 295.

فخر الدين أبو بكر بن على بن ظهيرة (جد المؤلف): 26.

فرج (السلطان الناصر) 184، 190.

فرقد السبخى: 78.

أبو الفضل العراقى: 92.

القرطبى: 241.

القطب الحلبى: 298.

ابن كثير: 69.

كعب الأحبار: 238.

الكمال ابن الهمام: 15.

كنانة بن خزيمة بن مدركة: 205.

الكواشى: 28.

لوط (عليه السلام): 225.

المأمون: 100.

الماوردى: 239.

المحب الطبرى: 39، 121، 287، 308.

محمد جار اللّه بن ظهيرة القرشى: 11.

محمد بن الحنفية: 82.

محمد بن عباد بن جعفر: 71.

محمد بن عراق: 188.

محمد بن على المنهاجى: 19.

محمد بن كعب القرظى: 224.

محمد بن يوسف الثقفى (أخو الحجاج):

285.

محمود بن سبكتكين (السلطان): 101.

المستنصر العبيدى: 100.

المسعودى: 237.(1)

الجامع اللطيف ؛ ص321

لح الدين الرومى (الأمير): 187.

المعتصم العباسى: 106.

المعتضد العباسى: 183.

مغلطاى: 286.

ص: 321


1- 718. ابن ظهيره، محمد بن محمد، الجامع اللطيف في فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف، 1جلد، مكتبة الثقافة الدينية - قاهره، چاپ: اول، 1423 ه.ق.

المقوقس القبطى (صاحب مصر): 208.

ابن المنير: 162.

المهدى العباسى: 179.

الميورقى: 309.

الناصر العباسى: 191.

الناصر محمد بن قلاوون: 106.

النسفى: 28.

النقاش (المفسر) 58، 176.

النووى: 28، 239.

هاجر: 224.

هارون الرشيد: 88.

ابن هشام: 237.

الوليد بن عبد الملك: 104.

أبو الوليد الأزرقى: 11.

وهب بن منبه: 228.

ولى الدين العراقى: 175.

ياقوت: 236.

يحيى بن معاذ الرازى: 21.

يوسف بن ماهك: 31.

ص: 322

2- فهرس الأماكن

أبو قبيس: 25، 63، 297.

أجياد: 184.

أجياد الصغير: 62.

أرض الهند: 73.

أسوان: 135.

أصبهان: 134.

أضاة بنى غفار: 306.

أم راحم (من أسماء مكة): 149.

أم رحم (من أسماء مكة): 147.

أم الرحمن (من أسماء مكة): 148.

أم روح (من أسماء مكة): 147.

أم صبح (من أسماء مكة): 147.

أم القرى (من أسماء مكة): 145.

أم كوثى (من أسماء مكة): 148.

الأهواز: 134.

باب إبراهيم: 180، 186، 192، 193.

باب أجياد: 185.

باب أجياد الصغير: 194.

باب أم هانئ بنت أبى طالب: 194.

باب بازان: 195.

باب البطحاء: 193.

باب البغلة: 195.

باب البقالين: 180، 194.

باب بنى تيم: 194.

باب بنى حكيم: 194.

باب بنى الزبير بن العوام: 194.

باب بنى سهم: 193.

باب بنى شيبة: 192.

باب بنى مخزوم: 194.

باب بنى هاشم: 180، 193.

باب الجنائز: 184، 192.

باب الحزامية: 194.

باب الحزورة: 101، 180، 182، 194.

باب الخلقيين: 194.

ياب الدريبة: 193.

باب الرحمة: 194.

باب الزيادة: 193.

باب السدة: 193.

باب السلام: 192، 310.

باب سويقة: 192، 193.

باب العباس بن عبد المطلب: 193.

باب العجلة: 182، 193.

باب على: 180، 193.

باب العمرة: 128، 193.

باب عمرو بن العاص: 193.

باب الفرج: 194.

ص: 323

باب الكعبة: 86.

باب المجاهدية: 194.

باب مدرسة الشريف عجلان: 194.

باب الملاعبة: 194.

بازان: 195.

البرقة: 309.

برة (من أسماء مكة): 146.

بركة الماجن: 287، 291.

الباسة (من أسماء مكة): 148.

بخارى: 134.

البساسة (من أسماء مكة): 148.

بساق (من أسماء مكة): 147.

البصرة: 134.

بغداد: 134.

بقيع الغرقد: 195.

بكة (من أسماء مكة): 144.

بلاد البجاة: 135.

بلاد بربر: 135.

بلاد البلين: 135.

بلاد التكرور: 135.

بلاد الجرايد: 135.

بلاد السودان: 134، 135.

بلاد الصين: 134.

بلاد مزينة: 302.

بلاد الهند: 297.

البلد (من أسماء مكة): 145.

البلدة (من أسماء مكة): 145.

البنية (من أسماء مكة): 149.

البيت العتيق (من أسماء مكة): 147.

بيت المقدس: 167.

بئر أم سليمان: 304.

بئر زمزم: 191، 223 و انظر زمزم.

بئر ميمون: 184.

البيضاء: 285.

تكتم (من أسماء زمزم) 236.

التنعيم: 193.

ثبير: 291.

ثبير الأثبرة: 301، 302.

ثبير الأحدب: 302.

ثبير الأعرج: 302.

ثبير الخضراء: 302.

ثبير غينا: 302.

ثبير النصح: 302.

ثنية أذاخر: 304.

ثنية أم الحارث: 184.

ثنية المدنيين: 314.

جبل أبى الحارث 289.

الجبل الأحمر: 184.

ص: 324

جبل ثبير بمنى: 301.

جبل ثور: 300، 301.

جبل جزل: 290.

جبل حراء (جبل النور): 299.

جبل الحزورة: 184.

جبل خليفة: 184.

جبل الخندمة: 298.

جبل المقبرة: 184.

جبل المقلع (البكاء- الزاهر): 306.

جبل النوبى: 288.

جدة: 78، 135.

الجزيرة: 134.

الجعرانة: 295.

الجموم من وادى مرّ: 295.

الجودى: 72.

الحاطمة (من أسماء مكة): 145.

الحبشة: 134.

الحجر: 84.

الحجر الأسود: 80، 86، 191.

الحجون: 314.

حراء: 72.

الحرم (من أسماء مكة) 146.

الحرمة (من أسماء مكة): 149.

الحرمة (من أسماء مكة): 149.

الحزورة: 141.

الحصحاص: 184.

الحطيم: 167، 190.

حفيرة العباس (من أسماء زمزم): 236.

حلوان: 134.

خراسان: 62، 134، 234.

الخضير: 184.

الخرمانية: 184.

خوارزم: 134.

دار أبى بكر الصديق: 288.

دار أبى سعيد: 288.

دار أبى سفيان: 287.

دار الأرقم بن أبى الأرقم المخزومى: 289.

دار أم هانئ: 194.

دار خديجة زوج النبى: 289.

دار خزيمة: 286.

دار الخيزران: 289، 310.

دار الدقوقى: 288.

دار العباس بن عبد المطلب: 193، 289.

دار العجلة: 62، 193، 288.

دار الندوة: 62، 181.

ديار بكر: 134.

ذو طوى: 62.

الرأس (من أسماء مكة): 147.

ص: 325

رباط الخوزى: 184.

رباط رامشت: 182.

رباط الفقراء بالمسعى: 289.

رباط المغاربة: 289.

رباط الموفق: 289.

رباط ناظر الخاص: 182.

الرتاج (من أسماء مكة): 147.

ردم بنى جمع: 286.

الرها: 134.

روح: 308.

الرى: 134.

الزبارة: 279.

زقاق الحجر: 286، 288.

زقاق المرفق: 288.

زمزم: 62، 229، 230، 232، 233، 237، 238، 239، 240، 242.

سابق (من أسماء زمزم) 236.

سبوحة (من أسماء مكة) 149.

سجستان: 134.

سرف: 308.

سقاية العباس: 191.

السلام (من أسماء مكة) 149.

سميساط: 134.

سنجار: 134.

سوق الليل: 285.

السيل (من أسماء مكة) 149.

الشاش: 134.

الشام: 84، 134، 225.

شباعة العيال (من أسماء زمزم) 236.

شراب الأبرار (من أسماء زمزم) 236.

الشّعب: 286.

شعب ابن عامر: 295.

شعب أبى دب (شعب العفاريت): 304.

شعب الصفى: 305.

شعب على: 287.

الشعيبة: 79.

شيراز: 101.

الصفا: 310.

صلاح (من أسماء مكة): 145.

ضريح الشيخ عبد الكبير بن يس الحضرمى:

287.

الطائف: 309.

طور زيتا: 72.

طور سيناء: 72.

طيبة (من أسماء مكة): 49.

ظبية (من أسماء زمزم) 236.

العذراء (من أسماء مكة) 149.

العرش (من أسماء مكة): 146.

ص: 326

العرش: (من أسماء مكة): 149.

عرفة: 291، 308.

العروش (من أسماء مكة): 149.

العروض (من أسماء مكة): 149.

العريش (من أسماء مكة): 146.

عسفان: 286.

العقبة: 291.

عمان: 106، 308.

عيذاب: 135.

عين الأزرق بالطائف: 309.

عين الأزرقى بالمدينة: 309.

غار الكنز: 297.

غار المرسلات: 293.

فاران (من أسماء مكة): 149.

فارس: 134.

فخّ: 306.

فرغانة: 134.

القادس (من أسماء مكة): 146.

القادسية: 134.

قبر آمنة بنت وهب: 305.

قبر إمام الحرمين عبد المحسن بن أبى العميد: 304.

قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية:

307.

قبر بأعلى الجبل المشرف على الموضع المعروف بالبرقة بوادى مرّ: 309.

قبر حواء بجدة: 79، 297.

قبر الشولى: 304.

قبر شيث: 297.

قبر عبد اللّه بن عباس: 308.

قبر عبد اللّه بن عمر بن الخطاب: 305.

قبر النبى: 13.

قبة الفراشين: 285.

قبة الوحى: 287.

قبور سماسرة الخير: 304.

القرية (من أسماء مكة) 145.

قرية الحمس (من أسماء مكة): 149.

قرية النمل (من أسماء زمزم): 236.

قرية النمل (من أسماء مكة): 149.

قعيقعان: 62، 219.

كرمان: 134.

الكعبة: 11، 62، 63، 64، 66، 67، 68، 70، 73، 77، 79، 82، 87، 89، 90، 94، 96، 101، 103، 104، 106، 107، 129، 134، 161، 185، 307.

كوثى (من أسماء مكة): 146.

الكوفة: 134.

ص: 327

لبنان: 72.

المتكأ: 310.

المجزرة الكبيرة: 290.

المختبأ: 287.

مخرج صدق (من أسماء مكة): 149.

مدرسة السلطان قايتباى: 183، 230.

مدرسة الملك المجاهد صاحب اليمن: 94.

المدينة المنورة: 93، 154، 291.

مرو: 134.

المروة: 223، 310.

مزدلفة: 310.

مسجد الآبنوس: 79.

مسجد إبراهيم القبيسى: 291.

مسجد الإجابة: 291.

مسجد بأجياد: 296.

مسجد بأعلى مكة: 296.

مسجد بذى طوى: 296.

مسجد بعرفة: 296.

مسجد البيعة: 291، 310.

مسجد التنعيم: 294، 297.

مسجد الجن: 291.

مسجد الجعرانة: 293.

المسجد الحرام: 62، 161، 184، 185، 191، 192، 193.

مسجد الحرس: 291.

مسجد الخيف: 292، 297، 310.

مسجد الراية: 290.

مسجد عائشة: 292.

مسجد عرفة: 293.

مسجد عرفة (مسجد نمرة): 296.

مسجد الفتح: 295.

مسجد فوق العمرة المعروفة، بالتنعيم: 297.

مسجد الكبش: 184، 291، 310.

مسجد المختبأ: 290.

مسجد المدعى: 290.

مسجد السرر: 296.

مسجد النحر: 291، 310.

المسعى: 193.

المعابدة: 304.

معاد (من أسماء مكة): 145.

معبد الجنيد: 289.

مغارة الفتح: 310.

المغمس: 156.

مقام الحنفى: 186.

مقام الخليل: 186، 285.

مقام الشافعى: 186.

مقبرة الأحلاف: 207.

مقبرة الشبيكة: 306.

ص: 328

مقبرة المطيبين: 307.

المقبرة العليا: 304.

مقبرة المعلاة: 303.

مقبرة المهاجرين بالحصحاص: 306.

المقدسة (من أسماء مكة): 146.

مكة المكرمة: 11، 25، 63، 66، 81، 93، 100، 144، 153، 154، 155، 187، 199، 223، 234، 285، 288، 289، 296، 300.

المكتان (من أسماء مكة) 148.

منارة أبى شامة: 290.

منارة باب الحزورة: 183.

منارة باب السلام: 183.

منارة باب على: 183.

منارة باب العمرة: 183.

منارة بنى شيبة: 183.

منى 184، 291، 310.

الموصل: 134.

مولد جعفر الصادق: 288.

مولد حمزة بن عبد المطلب: 287.

مولد رسول اللّه: 285.

مولد على بن أبى طالب: 287.

مولد فاطمة: 286.

النابية: (من أسماء مكة): 148.

نادرة (من أسماء مكة): 149.

الناسة (من أسماء مكة): 145.

الناشة (من أسماء مكة): 148.

نسا: 134.

النساسة (من أسماء مكة): 145.

نقرة الغراب (من أسماء مكة): 149.

نيسابور: 134.

هزمة إسماعيل (من أسماء زمزم) 236.

همذان: 134.

الوادى (من أسماء مكة): 145.

وادى السرر: 296، 311.

وادى الطائف: 308.

وادى مر: 297، 308، 309.

وادى مكة: 184.

وادى وج: 308.

اليمن: 100.

ص: 329

ص: 330

3- فهرس الكتب الواردة فى متن الكتاب

الإحياء للغزالى: 116.

أخبار مكة لابن شبة: 32.

الإعلام للقطبى: 52.

الإيضاح للنووى: 308.

البحر العميق لابن الضياء: 131.

تاريخ الأزرقى: 48، 62، 89، 128، 128، 141، 237.

تاريخ أبى سعد السمعانى: 304.

تاريخ مكة للفاكهى: 58، 68.

تفسير ابن كثير: 297.

تفسير الكواشى: 29، 137، 145.

التمهيد لابن عبد البر: 142.

تهذيب الأسماء و اللغات للنوى: 287، 294.

الجامع اللطيف فى فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف: 13.

الجواهر المكنونة فى فضائل المضنونة للقاضى جمال بن عبد اللّه الشافعى: 232.

الدرة الضوية فى هجرة خير البرية للأقفهسى: 28.

رحلة ابن جبير: 191.

رسالة الحسن البصرى: 44، 95، 125، 127.

الروض الأنف للسهيلى: 67، 70، 74.

الزهر الباسم: 85.

سنن سعيد بن منصور: 94.

السيرة لمغلطاى: 286.

ص: 331

السيرة النبوية لابن بحرق الحضرمى: 57.

شرح تقريب الأسانيد: 175.

شرح الجامع الصغير لقاضى خان: 124.

شرح ديوان كثير لمحمد بن حبيب: 220.

شرح صحيح البخارى للقاضى مجد الدين الشيرازى: 149.

شرح مسلم للنووى: 315.

شرح المصابيح للتوربشتى: 59.

شفاء الغرام للفاسى: 11، 67، 69، 189، 236، 289.

شفاء الغليل فى حج بيت اللّه الجليل لابن ظهيرة (جد المؤلف): 26.

الشفاء للقاضى عياض: 64، 72.

الصحاح: 62.

صحيح ابن حبان: 311.

صحيح مسلم: 166، 301.

الصفوة لابن الجوزى: 116.

طبقات الحفاظ للذهبى: 231.

طبقات السبكى: 231.

الغاية للإتقانى: 220.

فتح البارى: 84.

فضائل مكة للجندى: 295.

القاموس المحيط: 296، 312.

القرى للمحب الطبرى: 108، 315.

قوت القلوب لأبى طالب المكى: 19.

ص: 332

الكوكب المنير: 290.

مثير العزم لابن الجوزى: 152.

مثير الغرام لابن الجوزى: 231.

المرصع لابن الأثير: 147.

المسالك و الممالك للبكرى: 193.

المستدرك للحاكم: 94.

مسند أحمد: 128.

المطالع: 308.

معجم البلدان لياقوت: 236.

منسك ابن جماعة 35، 44، 47، 125.

منسك ابن الحاج: 310.

منسك ابن خليل: 30، 37، 38.

منسك ابن الصلاح: 97.

منسك النقاش: 310.

منهاج التائبين: 45، 224، 234.

الموضوعات لابن الجوزى: 232.

الوصل و المنى فى بيان فضل منى لمجد الدين (صاحب القاموس): 292.

ص: 333

ص: 334

4- فهرس مصادر التحقيق

إتحاف الورى بأخبار أم القرى، طبعة جامعة أم القرى.

اتعاظ الحنفا للمقريزى. القاهرة: 1973 م.

إخبار الكرام بأخبار المسجد الحرام للأسدى، القاهرة: 1985 م.

أخبار مكة للأزرقى، بيروت: 1385 ه، و طبعة 1403 ه.

أخبار مكة للفاكهى، مكة المكرمة: 1986 م.

الاستيعاب لابن عبد البر، نهضة مصر، القاهرة: 1960 م.

الإشارة إلى سيرة المصطفى لمغلطاى (مخطوط).

الإصابة فى تمييز الصحابة، لابن حجر، مطبعة نهضة مصر، القاهرة 1970 م.

إهداء اللطائف للعجيمى. مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة: 1997 م.

بهجة المهج للميورقى، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 2001 م.

تاريخ الإسلام للذهبى، دار الكتاب العربى، بيروت 1987 م.

تاريخ خليفة بن خياط، بيروت: 1977.

تاريخ الرسل و الملوك للطبرى، دار المعارف بمصر 1960 م.

تاريخ ابن كثير (البداية و النهاية) ابن كثير، دار المعرفة، بيروت 1998 م.

تذكرة الحفاظ للذهبى، بيروت.

تقريب التهذيب، مؤسسة الرسالة، بيروت 1996.

تهذيب الأسماء و اللغات للنووى، المطبعة المنيرية بمصر.

جمهرة أنساب العرب لابن حزم، طبعة دار المعارف بمصر 1971 م.

الحيوان للجاحظ، مطبعة مصطفى الحلبى مصر 1356 ه.

رحلة ابن جبير، لابن جبير، مكتبة مصر، القاهرة: 1955 م.

رسالة الحسن البصرى مخطوط بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة برقم 1069 تاريخ.

الروض الأنف للسهيلى، طبعة دار المعروفة بيروت و طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.

الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المشرفة للفاسى، مكتبة الثقافة الدينية القاهرة 2001 م.

السلاح و العدة فى تاريخ بندر جدة، لابن فرج، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 1997 م.

ص: 335

السلوك للمقريزى، مصر 1934 و ما بعدها.

سيرة ابن سيد الناس (عيون الأثر فى فنون المغازى و السير) بيروت.

سيرة ابن هشام، المكتبة العلمية، بيروت.

الشعر و الشعراء لابن قتيبة، دار المعارف بمصر 1966 م.

الشفاء للقاضى عياض، بيروت.

شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام للفاسى، بيروت 1985 م.

شفاء القلوب فى مناقب بنى أيوب، لأحمد بن إبراهيم الحنبلى، بغداد 1978 م.

صحيح البخارى، طبعة دار الفكر، بيروت.

صحيح مسلم، القاهرة 1997 م.

صفة الصفوة، دار المعرفة بيروت 1986 م.

طبقات الحفاظ للسيوطى، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 1996 م.

طبقات السبكى، القاهرة 1992 م.

طبقات الصوفية للسلمى، مكتبة الخانجى بالقاهرة 1969 م.

العبر فى ديوان المبتدأ و الخبر، لابن خلدون، بيروت 1958 م.

عجائب المخلوقات للقزوينى، طبقة كتاب التحرير بمصر 1966 م.

العقد الفريد لابن عبد ربه لجنة التأليف و الترجمة و النشر، القاهرة 1965 م.

العقود اللؤلؤية للخزرجى، مطبعة الهلال الفجالة بمصر 1911 م.

القرى لقاصد أم القرى للمحب الطبرى، طبعة مصطفى الحلبى، القاهرة 1980 م.

غاية المرام لابن فهد، مكة 1986 م.

الكامل فى التاريخ لابن الأثير، بيروت 1965 م.

كنز العمال فى سنن الأقوال و الأفعال، للمتقى الهندى، مؤسسة الرسالة، بيروت 1989 م.

مروج الذهب، للمسعودى، بيروت 1988 م.

المستدرك للحاكم، بيروت 1990 م.

المفضليات للضبى، دار المعارف بمصر، الطبعة الثامنة.

منائح الكرم للسنجارى.

ص: 336

ترهة الألباب فى الألقاب لابن حجر، الرياض 1985 م.

نسب قريش للزبيرى طبعة دار المعارف بمصر 1976 م.

النهاية فى غريب الحديث و الأثر لابن الأثير، طبعة عيسى الحلبى، القاهرة 1963.

وفيات الأعيان لابن خلكان، بيروت 1968 م.

ص: 337

ص: 338

5- فهرس موضوعات الكتاب

الموضوع الصفحة- مقدمة التحقيق 5

- خطبة الكتاب 11

ترتيب الكتاب على مقدمة و عشرة أبواب و خاتمة 13

المقدمة فى فضل العلم الشريف و أهله و طالبيه 15

لطيفة: تخصيص أولاد إسماعيل بالذكر 17

لطيفة: من الاحتياج إلى العلماء فى الجنة 17

الباب الأول فى مبدأ أمر الكعبة 23

مطلب: أصل طينة النبى 25

مطلب: مدفن الإنسان بتربته 25

مطلب: أول جبل وضع فى الأرض أبو قبيس 25

مطلب: أول مسجد وضع بالأرض المسجد الحرام 26

مطلب: قبلته صلى اللّه عليه و سلم 27

مطلب: تحويل القبلة 28

مطلب: المختار أنه صلى اللّه عليه و سلم لم يكن متعبدا بشرع من قبله بعد البعثة 29

مطلب: عن الحسن و غيره ليس فى المائدة منسوخ 30

مطلب: وجه تسمية البيت الحرام كعبة 31

مطلب: أول من بنى بيتا مربعا بمكة حميد بن زهير 31

مطلب: تسمية الكعبة البيت العتيق 33

الباب الثانى فيما ورد من الآيات الشريفة فى زيادة تعظيم هذا البيت و ما ورد فى فضل المقام و سبب تسميته بذلك 35

مطلب: تقبيل المقام و استلامه ليس بسنة 37

مطلب مهم 37

مطلب فيما يتعلق بالحجر الأسود 37

ص: 339

مطلب الحجر الأسود و المقام ياقوتتان من يواقيت الجنة 38

لطيفة فى ذكر تسويد الحجر الأسود بالخطايا 38

فوائد فى حكمة قول عمر و غير ذلك 39

مطلب: الحكمة فى تغيير الحجر الأسود إلى السواد 40

مطلب: هل كان الحجر الأسود يسمى أسود قبل اسوداده حال كونه أبيض من اللبن أم لا 41

مطلب: خواص الحجر 41

فروع: فى تقبيل الحجر الأسود و غير ذلك 42

فائدتان: فى المزاحمة عند استلام الحجر و فى أول من استلمه 43

مطلب: أول من استلم الركن من الأئمة قبل الصلاة و بعدها ابن الزبير 43

فصل: فى ذكر الركن اليمانى و ذكر شى ء مما ورد فيه 43

فرع: استلام الركن اليمانى عندنا حسن و تركه لا يضر 45

مطلب: فى كيفية استلام الركن اليمانى هل يقبل يده ثم ينقلها إليه أو يضع يده عليه ثم يقبلها 46

فصل: فى فضل الملتزم و الدعاء فيه 46

فصل: فى معرفة الملتزم و المستجار و المتعوذ و المدعى و الحطيم 47

مطلب: دعاء آدم على نبينا و عليه الصلاة و السلام 48

مطلب: الأولى عند الحنفية لمن أراد الملتزم أن يقدمه على ركعتى الطواف ثم يأتى بهما 49

مطلب: ما وقع فى الكعبة من الترميم 49

مطلب: عقوبة من أخذ شيئا من مال الكعبة 51

مطلب: إذا وضع مفتاح البيت فى فم الصغير تكلم سريعا 51

مطلب: دخان البيت يصعد مستويا 51

مطلب: هيبته و تعظيمه فى القلوب 51

ص: 340

مطلب: لا يرى البيت أحد لم يكن رآه من قبل إلا ضحك أو بكى 52

مطلب: تعجيل العقوبة لمن قصد البيت بسوء 52(1)

الجامع اللطيف ؛ ص341

لب: آباء الأنصار أولئك الأربعمائة حكيم 54

مطلب: أبو أيوب الذى نزل عنده صلى اللّه عليه و سلم من ولد العالم الذى شفى به تبع 54

مطلب: فى وجه تسمية قعيقعان 55

قصة أصحاب الفيل 55

فائدة: فى عدم تعجيل العقوبة لهذه الأمة 61

الباب الثالث فيما يتعلق ببناء الكعبة الشريفة 67

سبب بناء الملائكة عليهم الصلاة و السلام 69

فصل فى الكلام على البيت المعمور 70

مطلب: فى كل من السبع الأرضين بيت يعمره أهلها 71

الخلاف فى البيت المعمور و فى مكة 71

سبب بناء آدم عليه السلام 72

مطلب: الأجبل التى بنيت منها الكعبة خمسة 72

سبب بناء الخليل صلوات اللّه عليه 73

مطلب: الخلاف فى هود و صالح هل حجا أم لا 73

مطلب: سبب معرفة إبراهيم أساس البيت الحرام 74

مطلب: الكلام على ذى القرنين صاحب الخضر 76

مطلب: سن ذى القرنين 76

مطلب: الحجر الأسود و هل كان قبل إبراهيم أم لا 77

و أما سبب بناء قريش البيت 78

استطراد فى الكلام على فضل جدة 78

سبب بناء ابن الزبير البيت 81

فائدة فى أول سبب للتكلم فى القدر 82

ص: 341


1- 719. ابن ظهيره، محمد بن محمد، الجامع اللطيف في فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف، 1جلد، مكتبة الثقافة الدينية - قاهره، چاپ: اول، 1423 ه.ق.

نكتة فى المبتدأ الواقع بعد لولا 83

لطيفة فى تصغير ذى السويقتين 87

سبب بناء الحجاج و تغييره 87

فصل فى ذكر كنز الكعبة و الحكم فيه 88

فائدة فيما وجد بجب الكعبة 89

فروع فى حكم ما يهدى للكعبة و ما ينذر لها 90

فصل فى الكلام على دخوله صلى اللّه عليه و سلم الكعبة الشريفة بعد الهجرة و صلاته فيها و بيان مصلاه منها و تعدد دخوله 91

فوائد فى مصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و غير ذلك 92

دخول عثمان بن طلحة 92

استطراد مفيد 93

قد استحب الأئمة الأربعة دخول الكعبة ... إلخ 94

فائدة فيمن خلع النعل عند دخول الكعبة 94

فصل فى دخول الكعبة الشريفة 95

ما يطلب فى الكعبة من الأمور التى فعلها الرسول صلى اللّه عليه و سلم 96

فائدة فيما أحدثه بعض الفجرة فى جوف الكعبة 97

الباب الرابع فى الكلام على كسوة الكعبة 99

فوائد فى نزع عمر لثياب الكعبة و غير ذلك 101

فروع فى بيع ثياب الكعبة و غير ذلك 103

ذكر تطييب الكعبة الشريفة 103

ذكر تحلية الكعبة الشريفة 104

ذكر معاليق البيت الشريف و ما أهدى إليه فى معنى الحلية 105

فصل فى الكلام على سدانة البيت 107

الرفادة 108

ص: 342

السقاية 109

تتميم بذكر شى ء من خبر قصى 109

الندوة- اللواء- القيادة 110

فائدتان فى فتح الكعبة فى الجاهلية و فى فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم الفتح 110

الباب الخامس فى فضل الطواف بالبيت المشرف و الطائفين به 113

و أما الآثار 115

فائدة فى مراتب الطواف 116

فائدة فى المراد بحسنة الدنيا 117

فوائد فى جعل البيت على يسار الطائف و غير ذلك 119

فروع فى الخشوع فى الطواف و غير ذلك 120

المفاضلة بيت الطواف و العمرة 121

نكتة فى منشأ الخلاف بين الأئمة فى ذلك 123

فصل فى ثواب النظر إلى البيت و بيان مصلى النبى صلى اللّه عليه و سلم حول البيت و بيان ملخصه 125

ذكر شى ء من فضائل الحجر 130

ذكر ذرع الحجر من داخله 132

تتميم فى المصلى بين الحفرة و بين الحجر 132

استطراد فى بيان مصلى آدم عليه السلام 133

فصل فى بيان جهات المصلين إلى القبلة من سائر الآفاق 133

الباب السادس فى فضل مكة و حكم المجاورة بها و ذكر شى ء مما ورد فى ذلك 137

فصل فيما يدل على أفضلية مكة على غيرها من البلاد 140

لطيفة فى الحكم فى التجريد فى الإحرام 141

فصل فى أسماء مكة 144

ص: 343

خصائص مكة 151

تنبيهان فى المجاورة للكعبة و فى الموت بالمدينة 152

الباب السابع فى فضل الحرم و حرمته و المسجد الحرام 153

فصل فى فضائل الحرم 156

فصل فى استعمال لفظ المسجد الحرام 161

استطراد مفيد فيما يتعلق بالإسراء 162

تنكيت و آخر 165

استطراد فى الكلام على متن حديث الإسراء 166

فصل فى ذكر مبدأ عمارة امسجد الحرام و توسعته و ذرعه 177

فصل فى ذكر الزيادتين و خبر عمارتها و ذرعهما و ذرع المسجد الحرام و عدد منائره و أبوابه 181

ذكر منائر المسجد الحرام 183

ذكر ذرع المسجد الحرام و الزيادتين 184

ذكر ذرع زيادة دار الندوة 185

ذكر ذرع زيادة باب إبراهيم 186

ذكر كيفية المقامات التى هى الآن فى زمننا موجودة 186

ذكر كيفية صلاة الأئمة بهذه المقامات 189

ذكر ما فى المسجد الحرام من القبب و غيرها 191

ذكر عدد أبواب المسجد الحرام 192

الباب الثامن فى فضل أهل مكة و احترامهم 197

فصل فيما ورد فى حق قريش من الآيات و الأحاديث و الآثار 201

استطراد مهم 205

نسب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم 206

نسب أبى بكر الصديق 208

ص: 344

نسب عمر بن الخطاب 210

نسب عثمان بن عفان 211

نسب على بن أبى طالب 212

نسب طلحة بن عبيد اللّه 214

نسب الزبير بن العوام 214

نسب سعيد بن مالك 215

نسب سعيد بن زيد 216

نسب عبد الرحمن بن عوف 216

نسب أبى عبيدة بن الجراح 217

ذكر وصف كل واحد من العشرة 218

الباب التاسع فى ذكر مبدأ بئر زمزم 223

فائدة استطرادية 224

فصل فى فضائل ماء زمزم 229

فصل فيما لزمزم من الأسماء 236

فصل فى آداب الشرب من زمزم 238

استطراد لطيف فى ذكر ما ورد فى فضل السبطين 240

الباب العاشر فى ذكر أمراء مكة 245

ذكر من ولى مكة فى خلافة عمر بن الخطاب 246

ذكر من ولى مكة فى خلافة عثمان 247

ذكر من ولى مكة فى خلافة على بن أبى طالب 247

ذكر ولاة مكة فى خلافة معاوية 248

ذكر ولاة مكة فى خلافة يزيد بن معاوية 248

خلافة عبد اللّه بن الزبير 248

ذكر ولاة مكة فى خلافة عبد الملك بن مروان 249

ص: 345

ذكر ولاة مكة فى خلافة الوليد بن عبد الملك 249

ذكر ولاة مكة فى أيام بنى العباس و ولاتها بعد ذلك إلى سنة سبع و أربعين و تسعمائة 252

الخاتمة فى ذكر الأماكن المعظمة و المشاهد المكرمة التى تقصد زيارتها المشهورة بالفضل بمكة 285

المواليد 285

ذكر الدور المباركة 288

ذكر المساجد 290

ذكر المساجد التى فى منى وجهتها 291

ذكر الجبال المباركة بمكة و حرمها 297

ذكر المقابر المباركة التى تزار بمكة و قربها 303

فائدة فى سبب تسمية قوم بالمطيبين 307

فوائد تختم بها الخاتمة 310

الفهارس العامة 317

فهرس الأعلام 319

فهرس الأماكن 323

فهرس الكتب الواردة فى متن الكتاب 331

فهرس مصادر التحقيق 335

فهرس الموضوعات 339(1)

الجامع اللطيف في فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف

الجامع اللطيف في فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف

ص: 346


1- 720. ابن ظهيره، محمد بن محمد، الجامع اللطيف في فضل مكة و أهلها و بناء البيت الشريف، 1جلد، مكتبة الثقافة الدينية - قاهره، چاپ: اول، 1423 ه.ق.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.