السيف والسياسه في الاسلام الصراع بين الاسلام النبوي و الاسلام الاموي

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: ورداني، صالح

Wardani, Salih

عنوان واسم المنتج: السيف والسياسه في الاسلام الصراع بين الاسلام النبوي و الاسلام الاموي/ صالح الورداني

مواصفات النشر: بيروت : دارالراي ، ق 1419 = .م 1999 = .1378.

خصائص المظهر: ص 208

ملحوظة: كتابنامه: ص. []204

موضوع : الشيعة -- الدفاعات والتفنيد

موضوع : الشيعة -- العقايد

تصنيف الكونجرس: BP212/5 /و4س9 1378

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-21994

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران آية 144]

ص: 4

كنت قد أعلنت عن هذا الكتاب منذ عدة سنوات تحت عنوان: (صفين). رؤية جديدة لحركة التاريخ. وكانت خطة الكتاب تقتضي بحث الصراع الذي دار بين الإمام علي ومعاوية ونتائج هذا الصراع وانعكاساته علي واقعنا.. إلا أنني عندما خضت في الوقائع والأحداث التاريخية تبين لي أن وقعة صفين لم تكن سوي واجهة لأحداث أكبر انبنت علي أساسها وتولدت منها. من هنا فقد عدت إلي الوراء لأبحث في أمر عثمان. والبحث في أمر عثمان دفعني إلي البحث في أمر عمر. والبحث في أمر عمر دفعني إلي البحث في أمر أبي بكر حتي وصلت إلي الرسول (صلي الله عليه وسلم) لأكتشف أن الانحراف بدأ مع احتضاره وأن صفين بدأت من هنا.. ومنذ وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) بدأت السياسة يساندها السيف تلعب لعبتها لتبرز لنا الخط القبلي الذي أرسي دعائمه أبو بكر وعمر والذي قام علي أساسه الخط الأموي فيما بعد.. لم تكن صفين سوي نهاية الطريق بالنسبة لمسيرة الإسلام القبلي الذي ساد بعد وفاة لرسول (صلي الله عليه وسلم). وأن فقه صفين يتوقف علي فقه مرحلة احتضار الرسول.. لقد برز بعد وفاة الرسول خطان: خط سار في طريق القبلية نتج من سقيفة بني ساعدة.. وخط سار في طريق آل البيت وتحالف مع الإمام علي.. الخط الأول مثل الإسلام القبلي.. والخط الثاني مثل الإسلام النبوي.. وإن الصراع قد احتدم بين الإسلام القبلي والإسلام النبوي فور وفاة وإن كان الإسلام القبلي قد تحققت له السيادة فقد بقي الإسلام النبوي في ساحة المواجهة.. تارة يصارع السيف.. وتارة يصارع السياسة..

ص: 5

وتارة يصارعهما معا.. إن الهدف من هذه الدراسة هو بعث الدعوة إلي إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وإعادة قراءته من جديد فمن الواضح أن هذا التاريخ قد صبغته السياسة وطغي فيه الرجال علي النصوص وتغلبت فيه النزعات علي القيم الإسلامية.. ولقد استمر المسلمون منذ وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم وحتي اليوم يرصدون حركة التاريخ بعين واحدة. هي عين القداسة دون أن ينظروا إليها بعين النقد.. ومنبع هذه النظرة يكمن في تلك الأغلال السلفية التي طوق بها المسلمون والتي تحول دون رؤيتهم لحركة التاريخ بصورة متكاملة بمعزل عن القداسة التي أضفيت علي رموز وشخصيات معينة لعبت دور بارزا في دائرة هذه الحركة. ونحن لا نهدف من خلال هذه الدراسة إلي التجريح أو الطعن والتشويه وهدم رموز معينة هي محل قداسة المسلمين ولكن الهدف هو وضع النصوص فوق الرجال ثم وزن هؤلاء الرجال علي ضوء هذه النصوص.. ما نهدف إليه هو أن نرسي قاعدة تعيننا علي قراءة التاريخ قراءة متبصرة من خلال النصوص لا من خلال الرجال.. إن البحث في وقائع التاريخ يجب أن تكون له دلالاته الواقعية. وما طرحناه في هذه الدراسة إنما له انعكاساته علي واقعنا وما نعايشه من خلال واقع الإسلاميين والفكر الإسلامي بصورة عامة.. وما يجب أن يدركه الذين يتصدون لأمر الدعوة والتوجيه في الميدان الإسلامي أن فقه حركة التاريخ مقدمة ضرورية لفقه الإسلام.. وإن فقه الماضي مقدمة لفقه الحاضر. ومن الماضي إلي الحاضر كانت رحلة هذا الكتاب الذي أرجو أن يكون خطوة علي طريق تحرير العقل المسلم من أغلال الماضي.. صالح الورداني القاهرة يناير 1996 م

ص: 6

ص: 7

وفاة الرسول

اشاره

وأطلت الفتنة برأسها والرسول لا زال علي فراش المرض..

ص: 8

منذ أن بدأ المرض يشتد برسول الله (صلي الله عليه وسلم) وبدأت الفتنة تبرز علي ساحة المدينة بين قطاعات المهاجرين والأنصار. تلك القطاعات التي كانت تهيأ نفسها لاستثمار مرحلة ما بعد الرسول.. كانت زعامات قريش التي أطاح بها الإسلام في مرحلة الفتح ترقب من بعيد البيت النبوي وتطورات مرض الرسول.. وكانت قطاعات المهاجرين في المدينة تتداول الأمر فيما بينها علي ضوء وصية الرسول في حجة الوداع وما تنزل من القرآن في أواخر حياته. وذلك بهدف وضع ملامح المرحلة القادمة. مرحلة ما بعد الرسول. وتحديد دورهم فيها.. وكانت الأنصار ترقب الأحداث في توجس خوفا من فقد مكانتها ووضعها الاستراتيجي بوفاة الرسول.. وكان المنافقون يعدون العدة لإنهاء مرحلة السرية والتخفي وتجهيز أنفسهم للتكيف مع المرحلة الجديدة.. وكانت هناك فئة قليلة من المؤمنين منشغلة بالرسول ومستقبل الدعوة وردود الأفعال التي سوف تحدث بعد وفاته علي مستوي المدينة وخارجها.. ويلاحظ من خلال استقراء الروايات التي تشخص لنا واقع المدينة أثناء مرض الرسول أن هناك ضغوطا كان يواجهها الرسول من فئات مختلفة لها توجهاتها المختلفة. ويبدو أن هذه الضغوط كانت تتركز جميعها حول مسألة الخلافة والحكم ومثل هذه الضغوط لا تكون إلا إذا كان الرسول قد أشار أو حدد الأمر في شخص أو جهة معينة كانت محل التنازع. فلو لم يكن الرسول قد أشار إلي أحد لما كان هناك مبرر للاختلاف والتنازع أمامه. فالواجب الصبر حتي يقضي الله أمره. فإن عوفي كان بها. وإن توفاه الله اختاروا من بينهم من يقوم بالأمر.. إلا أن الروايات لا تقودنا إلي مثل هذه الاستنتاجات. وإنما تؤكد أن الرسول

ص: 9

كان يشغله مستقبل الدعوة وأمر الأمة من بعده ويريد أن يحدد لها معالم الطريق حتي لا تضل وتشقي لكن هناك فئات تري هذا الأمر يصطدم مع مصالحها ونفوذها ويهدد مكاسبها. فكانت تعمل علي وضع العراقيل التي تحول دون تحقيقه.. والرسول كقائد يودع أمته يدرك أن هناك مجموعة من الأخطار تتهددها علي مستوي الداخل والخارج لا بد له من أن يضع خطة لمواجهتها.. لا بد له من أن يتخذ بعض الخطوات علي مستوي الخارج حيث الروم والفرس يتربصون بالإسلام والمسلمين.. ولا بد له من اتخاذ خطوات علي مستوي الداخل حيث يوجد المنافقون واليهود.. وعلي مستوي الخارج كان تجهيز جيش أسامة.. وعلي مستوي الداخل كان كتابة الوصية وخطبة الوداع..

خطبة الوداع

هل يمكن أن تخلو خطبة رسول يودع أمته ولا نبي بعده. من خطوط عريضة تسير عليها الأمة من بعده..؟ إن الإجابة علي هذا السؤال تدعونا إلي التأمل في نصوص خطبة الوداع الواردة في كتب السنن كما تدعونا إلي التأمل في الآيات القرآنية التي ارتبطت بتلك الفترة.. وعلي رأس النصوص القرآنية التي ارتبطت بحجة الوداع قوله تعالي: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس (1) .

ص: 10


1- 1. سورة المائدة.

فقد أشار كثير من المفسرين والفقهاء إلي أن مناسبة هذه الآية كانت حجة الوداع وأن الأمر الصادر للرسول كي يبلغه للأمة كان يتعلق بمستقبل الدعوة من بعده.. يروي البخاري عن عائشة قالت: من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب والله يقول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) (1) . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا تقول عائشة هذا الكلام..؟ لا شك أن هناك مناسبة ما اضطرتها إلي قولها هذا.. ويبدو أن هناك من أكثر القول حول هذه الآية وأن هناك شيئا ما له أهميته نزلت به الآية.. ولا يعقل بل لا يجوز أن يوجه الاتهام إلي الرسول (صلي الله عليه وسلم) بكتمان ما أنزل الله. فإن هذا الكتمان بكافة أحواله هو في صالح المنافقين والقبليين وأصحاب المصالح والأهواء. فما الذي يضطرهم إلي تكذيب الرسول واتهامه بالكتمان وهم يعلمون أن القرآن يتنزل علي الرسول فاضحا لهم وكاشفا لنواياهم.. إذن الرسول لم يكتم شيئا وأبلغ الأمة ما أنزل إليه. لكن الكتمان جاء من أطراف أخري. وهو ليس كتمانا لنصوص قرآنية بلا شك وإنما هو كتما لقول الرسول حول هذه النصوص ويبدو أن هناك اتجاه كان يؤمن بأن هذه الآية كانت تتعلق بوصية الرسول فيمن يخلفه من بعده. ولعل هذا يبرر قول عائشة الذي يشير إلي أن الآية لو كانت تشير إلي هذه القضية لبين الرسول ذلك وما كتمه.. وهو ما يبرر رواية عائشة الأخري في البخاري التي تقول منكرة وصية الرسول لعلي: متي أوصي إليه..؟ فلقد أنخنث في حجري وما شعرت أنه مات. فمتي أوصي إليه..؟ (2) . وإذا ما استعرضنا النصف الآخر للآية الذي يقول: وإن لم تفعل ما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) تبين لنا أن هناك أمر جلل بلغ للأمة أوجب

ص: 11


1- 2. البخاري. كتاب العلم.
2- 3. البخاري كتاب الوصايا ومسلم كتاب الوصية.

طمئنة الرسول بأن ردود الأفعال من قبل المنافقين والقبليين وأصحاب الأهواء لن تضره شيئا وهو ما يمكن فهمه من قوله تعالي (والله يعصمك من الناس).. والرسول تتنزل عليه الآيات بكثير من الأحكام يبلغها للناس منذ سنوات فلماذا ارتبط تبليغ هذا الأمر الأخير بالعصمة من الناس..؟ وقوله تعالي: (اليوم أكملت لكم دينكم. وأتممت عليكم نعمتي. ورضيت لكم الإسلام دينا) (1) من الآيات التي نزلت في حجة الوداع كما روي الجمهور عن أبي سعيد الخدري أن النبي (صلي الله عليه وسلم) دعا الناس إلي علي في يوم غدير خم. وأمر بما تحت الشجرة من الشوك فقام فدعا عليا. فأخذ بضبعيه فرفعها حتي نظر الناس إلي بياض إبطي رسول الله وعلي. ثم لم يتفرقوا حتي نزلت هذه الآية.. ثم قال (صلي الله عليه وسلم): من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله.. (2) . يروي البخاري أن رسول الله خطب في الناس فقال: ألا تدرون أي يوم هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: حتي ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: أليس بيوم النحر؟ قلنا بلي يا رسول الله. قال: أي بلد هذا..؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا بلي يا رسول الله قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا. في بلدكم هذا. ألا هل بلغت. قلنا نعم. قال اللهم فاشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فإنه رب مبلغ يبلغه من هو أوعي له فكان كذلك. قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.. (3) . وفي رواية: لا ترتدوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.. (4) .

ص: 12


1- 4. سورة المائدة.
2- 5. أنظر كتب التفسير وأسباب النزول. والحديث رواه أحمد في مسنده ح 1 / 118 وإسناده صحيح.
3- 6. البخاري. كتاب الفتن.
4- 7. المرجع السابق.

وعن جرير قال؟ قال لي رسول الله في حجة الوداع: استنصت الناس. ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.. (1) . وروي مسلم: أيها الناس: اسمعوا قولي. فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس. أن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا وإن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وأن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله.. أيها الناس. إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوي ذاك فقد رضي به ما تحقرون من أعمالكم. فاحذوره علي دينكم. أيها الناس: إن النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم. ثلاثة متواليات. ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان. اتقوا الله في النساء. فإنكم إنما أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهم بكلمة الله. إن لكم عليهن حقا. ولهن عليكم حقا. لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبدا إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله.. يا أيها الناس: اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله.

ص: 13


1- 8. المرجع السابق.

أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه. تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم. وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه. فلا تظلموا أنفسكم. اللهم هل بلغت وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون..؟ (1) وروي ابن سعد: أرقاءكم. أرقاءكم. أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون. وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم.. (2) . وروي ابن إسحاق في سيرته نفس هذه الرواية كما رواها ابن سعد في طبقاته. تروي كتب السنن أن الرسول (صلي الله عليه وسلم) قال: إني أوشك أن أدعي فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما.. (3) . وفي رواية: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتي يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما.. (4) . وفي رواية مسلم: أيها الناس. إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله عز وجل فيه الهدي والنور فخذوا بكتاب الله تعالي واستمسكوا به فحث علي كتاب الله ورغب فيه. وشال: أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي (5) .. وفي رواية أن الإمام علي نشد الناس في الرحبة قائلا: من سمع رسول الله (صلي الله عليه وسلم)

ص: 14


1- 9. مسلم س 4 / 37. [
2- 10. الطبقات ح 1 /.
3- 11. مسلم باب فضائل الإمام علي. ورواه الطبراني في الأوسط وجمع الجوامع للسيوطي والترمذي باب مناقب آل البيت والهيثمي في مجمع الزوائد ح 9/ 163.
4- 12. الحاكم في المستدرك ح 3 / 146. وانظر مسلم.
5- 13. مسلم باب فضائل الإمام علي. وانظر الترمذي والنسائي والدارمي ومسند أحمد.

يقول في غدير خم - موضع ماء خطب فيه الرسول أثناء حجة الوداع - إلا قام. فقام من قبل سعيد ستة. ومن قبل زيد ستة. فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول لعلي يوم غدير خم: أليس الله أولي من المؤمنين. قالوا: بلي. قال اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.. (1) . وعن البراء بن عازب قال: أقبلنا مع رسول الله (صلي الله عليه وسلم) في السنة التي حج فنزل في بعض الطريق. فأمر الصلاة جامعة. فأخذ بيد علي فقال: ألست أولي بالمؤمنين من أنفسهم. قالوا: بلي. قال: ألست أولي بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلي: قال: فهذا - أي علي - ولي من أنا مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عادا.. (2) . ويقول ابن تيمية عن أهل السنة: ويحبون أهل بيت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله حيث قال يوم غدير خم: أذكركم الله في أهل بيتي.. (3) .

مناقشة الروايات

من خلال عرض الروايات السابقة نلخص إلي ما يلي: - أن رواية البخاري قد حددت أمامنا عدة أمور مستقبلية: الأول يتعلق بحفظ الدماء بين المسلمين.. والثاني يتعلق بعدم الالتزام بالأول.. والثالث يتعلق بشهادة الرسول.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا يركز الرسول في خطبة يودع فيها أمته علي الدماء والردة. ثم هو يبلغ ذلك ويشهد عليه ليعلن براءته أمام الله كرسول ناصح لأمته..؟.

ص: 15


1- 14. مسند أحمد.
2- 15. المرجع السابق.
3- 16. العقيدة الواسطية. ط القاهرة.

إن هذا البلاغ إنما هو إشارة صريحة من قبل الرسول إلي قطاع من صحابته يبدو من مواقفهم وممارساتهم ما يدعو إلي هذا التحذير.. ولعل هذا هو المعلم الوحيد الذي تبرزه رواية البخاري فيما يتعلق بمستقبل الدعوة وحال الأمة بعد وفاة الرسول.. ولا يوجد ما يبرر الصراع والتطاحن وشهر السيوف وضرب الأعناق بعد الرسول إلا الحكم والسعي نحو الفوز به.. ولقد كانت ولاية أبي بكر سببا مباشرا في قيام صراع مسلح بين المسلمين حسمته السيوف بقسوة فيما سمي بقتال مانعي الزكاة...؟؟ وما ذكره البخاري هو جزء من خطبة الوداع أما بقيتها فقد شتتها كعادته بين الأبواب التي ترتبط بموضوعاتها. فالجزء الخاص منها بالربا وضعه في باب الربا والجزء الخاص بالنساء وضعه في باب يلائمه وهكذا.. وهذا من شأنه أن يضيع المفهوم العام لخطبة الوداع ويبدد أغراضها.. أما رواية مسلم فهي رواية متكاملة حددت عدة معالم واضحة: الأول: حفظ الدماء.. الثاني: نبذ الجاهلية.. الثالث: وضع الربا.. الرابع: احترام النساء.. الخامس: الاعتصام بالكتاب والسنة. السادس: طاعة الحكام.. السابع: حفظ الحقوق بين المسلمين.. الثامن: البلاغ والشهادة.. وكون أن الرسول يوصي أمته بحفظ الدماء ونبذ الجاهلية واحترام النساء وحفظ

ص: 16

الحقوق ووضع الربا فهذا أمر مقبول عقلا. لكن الأمر الغير مقبول هو حضه علي الاعتصام بالكتاب والسنة وطاعة الحكام.. فكان من الأولي أن يحض علي الكتاب وحده فلم تكن السنة قد جمعت ولم تكن معروفة كمصدر للتشريع. حتي الكتاب - حسب رواياتهم - لم يكن قد جمع ولم يكن يحفظه إلا القلة القليلة من الصحابة. ويبدو أن إضافة السنة هنا هي من اختراع الرواة حيث أن هناك رواية أخري لمسلم ذكر فيها الكتاب وحده ولم يذكر السنة.. أما طاعة الحكام فمن الواضح أنها من اختراع السياسة كي تمهد للأنظمة الحاكمة التي سوف تقوم بعد وفاة الرسول. وهي قضية مهدت لها عشرات الأحاديث الأخري التي تلزم الأمة بطاعة الحكام وإن كانوا فجارا ينتهكون حرمات الناس.. (1) . وما رواه مسلم والبخاري وغيرهما إنما يتعلق بالشق الأول من خطبة الوداع. لكن هناك شق آخر للخطبة تفوق أهميته أهمية الشق الأول. خطبه الرسول في مكان آخر أثناء عودته من الحج مكان يدعي غدير خم بالقرب من المدينة.. وهذا الشق لم يروه البخاري إنما رواه مسلم وكتب السنن الأخري. وهو محل جدل بين السنة والشيعة. حيث إن السنة تشكك فيه وإن اعترفت به فهي تشكك في أبعاده والمراد منه. بينما الشيعة تعده من أقوي التصريحات النبوية علي وصية الرسول للإمام علي والتي تؤكد أن الرسول وضع خطوطا عريضة للأمة تهتدي بها بعد وفاته فيما يتعلق بالحكم والإمامة وسائر أمور الدين.. وكون أن الرسول يوصي في حجة الوداع بكتاب الله وآل بيته فإن المسألة يكون لها مدلول آخر. وكونه يمسك بيد علي ويعلن أنه وليه ويدعو لمن والاه ويدعو علي من عاداه فإن المسألة هنا تزداد وضوحا..

ص: 17


1- 17. أنظر البخاري ومسلم وكتب السنن وهي تكتظ بعشرات الأحاديث التي توجب طاعة الحكام وأن جلدوا ظهور الناس وسلبوا أموالهم وعدم منابذتهم والخروج عليهم وأن الخروج يوجب الحكم بالإعدام ويخرج المسلم من دائرة الإسلام. وانظر لنا عقائد السنة وعقائد الشيعة باب الإمامة.

ولعل هذا ما دفع بخصوم علي من الصحابة إلي إنكار ما سمعوه من الرسول بحقه بعد وفاته عندما احتدم الصراع علي الحكم. فقد كانت القبلية لا زالت مستحكمة في نفوس الناس آنذاك. كما أن المنافقون وهم قطاع بارز في المجتمع المدني في حياة الرسول قد برز أكثر بعد وفاته.. ويبدو أن هناك تحالف بين جبهة القبليين وجبهة المنافقين تم في مواجهة جبهة علي وشيعته من الصحابة انتهت بهزيمة جبهة علي.. ويروي أن عليا شكي الناس لرسول الله (صلي الله عليه وسلم) فقام الرسول خطيبا فقال: أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله.. (1) . والناس هنا بالطبع هم قطاع من الصحابة كان يتقول علي علي ويحسده علي مكانته من الرسول وعلو شأنه في الإسلام.. وقد حسم رسول الله هذا الأمر بالحكم علي مبغضي الإمام علي وكارهيه بالنفاق فيما يروي علي لسان علي: عهد إلي النبي الأمي: أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق..) (2) . ويروي: كنا نعرف المنافقين علي عهد رسول الله بأمرين: صلاة العتمة وبغض عليا.. ومثل هذه الروايات إنما تشير إلي أن الجبهة المعادية لعلي كان لها وجودها في حياة الرسول. كما أن الجبهة المناصرة له كان لها وجودها أيضا.. وابن تيمية وهو خصم للشيعة ولكل الخارجين علي خط بني أمية أقر بأن الرسول أوصي في غدير بأهل البيت وذكر قوله (أذكركم الله في أهل بيتي) في عقيدته الواسطية دون ذكر بقية كلام الرسول في علي.. وبالطبع فإن ابن تيمية لا يري ولا يفهم من كلام الرسول هذا ما يفهمه أصحاب العقول من أنه دلالة علي أحقيتهم بالإمامة والاتباع من بعده. وهذا الفهم لدور آل البيت هو الذي ساد بعد وفاة الرسول وانتصر له ابن تيمية وتلقفته الحكومات

ص: 18


1- 18. مسند أحمد ج 3 / 86.
2- 19. سنن ابن ماجة باب فضائل أصحاب رسول الله. ومثله في الترمذي ومسلم وأحمد.

منه حتي آل سعود اليوم ليصبح هو الفهم السائد لدي مسلمي الحقبة النفطية المعاصرة.. (1) .

جيش أسامة

/كثرت الروايات التي تتحدث عن جيش أسامة في كتب السنن وكتب التاريخ. إلا أن هذه الروايات علي كثرتها لم تكشف لنا السر وراء إصرار الرسول (صلي الله عليه وسلم) علي بعث هذا الجيش إلي الخارج في مثل تلك الظروف التي كان يعيشها المجتمع المدني آنذاك وهو يترقب وفاة الرسول ما بين ساعة وأخري.. لقد كان الرسول كثيرا ما يردد وهو علي فراش المرض: أنفذوا بعث أسامة. أنفذوا بعث أسامة.. (2) . إن إصرار الرسول علي ضرورة تحقيق هذا الأمر يكشف لنا عدة حقائق: الأولي: أن هناك قوي تقف في طريق تحرك هذا الجيش.. الثانية: أن تحرك هذا الجيش له أهميته القصوي بالنسبة لحركة الدعوة.. الثالثة: أن الرسول كان يتعجل خروجه.. الرابعة: ما هي حكمة تولية فتي صغير علي كبار الصحابة في بعثه عسكرية هامة كهذه؟ يروي البخاري: استعمل النبي أسامة فقالوا فيه.. فقال النبي (صلي الله عليه وسلم) قد بلغني أنكم قلتم في أسامة وأنه أحب الناس إلي.. لماذا يقول الصحابة في أسامة. وماذا يقولون فيه..؟ هذا ما لم تخبرنا الرواية. إلا أن هناك رواية أخري أكثر تفصيلا.. عن ابن عمر قال إن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن

ص: 19


1- 20. أنظر لنا العقل المسلم بين أغلال السلف وأوهام الخلف. وأيضا فقهاء النفط ويذكر أن فتاوي ابن تيمية الكبري (37) جزءا طبعت علي نفقة خادم الحرمين وتوزع مجانا.
2- 21. أنظر طبقات ابن سعد ح 4 / 3.

الناس في إمارته. فقام رسول الله فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وأيم الله إن كان لخليقا بالإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي. وإن هذا - أسامة - لمن أحب الناس إلي بعده.. (1) . والرواية الثانية تجلي لنا الموقف بصورة أكثر وضوحا وهو أن هناك طعنا في أسامة ورفضا لإمارته. وإن هذا الموقف كان قد اتخذ مسبقا من إمارة أبيه في غزوة مؤتة التي استشهد فيها.. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: أليس الطعن في إمارة أسامة يعد طعنا في أمر الرسول الذي عينه..؟ وهل هذا الموقف كان يتركز في أسامة بشخصه أم في أهداف البعثة؟ إن الأمر علي ما يبدو يتجاوز المسألة الشخصية ويشير إلي أن هناك قضية أخري أكبر من أسامة ومن بعثته.. وكعادة الروايات التي تروي في كتب السنن خاصة الصحيحين وتتعلق بمواقف الصحابة وتجاوزاتهم. فإنها تكون مبتورة المعني أو لا تسمي الشخص أو لا تفصل الحدث.. والهدف من وراء ذلك هو محاولة التمويه علي الحقيقة وعدم إثارة الشبهات حول شخصيات معينة حتي لا تهتز في أعين المسلمين.. وهو أمر يعود أولا وأخيرا إلي أمانة الراوي. أنظر حديث عائشة: خرج رسول الله (صلي الله عليه وسلم) في مرضه وهو مستند علي رجلين أحدهما العباس ورجل آخر. وكان الرجل الآخر الذي لم تسمه عائشة هو علي.. (2) . وانظر حديث أبو هريرة: حفظت وعاءين عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وعاء بثثته. أما الآخر فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم.. (3) .

ص: 20


1- 22. البخاري باب بعث أسامة.
2- 23. البخاري. كتاب المغازي. باب مرض النبي ووفاته. وانظر مسلم.
3- 24. البخاري. كتاب العلم.

وانظر حديث ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس: اشتد برسول الله (صلي الله عليه وسلم) وجعه. فقال ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا ما شأنه أهجر. فذهبوا يردون عليه. فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه وأوصاهم بثلاث. قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها.. فالبخاري هنا لم يخبرنا من الذي قال عن الرسول: ما شأنه أهجر. وهي طعن في الرسول واتهامه بالتخريف والهلوسة.. ثم أنه لم يخبرنا عن الثالثة هل سكت عنها ابن عباس أم سكت عنها هو، وهو علي ما يبدو من الرواية متأرجح بين أن يكون ابن عباس سكت عنها أو نسيها هو. كما فاته أن يذكر أن الذي طعن في الرسول وهو علي فراش المرض هو عمر بن الخطاب.. ومثل هذا الأمر ينطبق علي الروايات المتعلقة بجيش أسامة فقد ذكرت رواية البخاري: استعمل النبي أسامة فقالوا فيه.. وفي الرواية الثانية فطعن الناس في إمارته.. ولم يخبرنا البخاري من الذين قالوا في أسامة ومن الذين طعنوا في إمارته من الصحابة..؟ إن مثل هذا الأمر يطابق النهي عن الخوض في خلافات الصحابة واعتبار ذلك من المحرمات ومن أصول العقيدة كما تنص علي ذلك كتب العقائد.. (1) . فكلا الأمرين الهدف منهما التغطية علي أحداث التاريخ التي تتعلق بالصحابة حتي لا تهتز صورتهم في أعين المسلمين وتفقد الثقة فيهم وتكون النتيجة هي خروج المسلمين عن خط أهل السنة وخط الحكام علي ما سوف نبين. ومن المعروف أن جيش أسامة كان فيه كبار الصحابة وعلي رأسهم أبي بكر وعمر عدا الإمام علي الذي أبقاه الرسول (صلي الله عليه وسلم) إلي جواره..

ص: 21


1- 25. أنظر العقيدة الطحاوية والواسطية والعواصم من القواصم وانظر لنا عقائد السنة وعقايد الشيعة باب الرجال:.

وهنا تتضح لنا معالم جديدة حول هذا الحدث. ماذا كان يهدف الرسول من وراء تأمير فتي كأسامة علي أبي بكر وعمر وكبار الصحابة ثم يصر علي ضرورة خروجهم من المدينة في أسرع وقت. وهو الذي علي فراش الموت. ومن الممكن أن يتوفاه الله في أية لحظة فلا يكون إلي جواره في المدينة أحد من الصحابة لعل هذا الأمر أثار الريب في نفوس الصحابة وجعلهم يتلكأون في الخروج محتجين بصغر سن أسامة. ولعل جواب الرسول (صلي الله عليه وسلم): أن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل يشير إلي شكه في موقفهم مذكرا لهم أن هذا الموقف اتخذتموه من قبل من أبيه زيد ولم يكن زيد صغير السن..؟ إذن هؤلاء القوم كانوا يضمرون في نفوسهم أمرا ويتحججون بحجج واهية كي لا يخرجوا من المدينة. ولكن لماذا يريدون البقاء في المدينة..؟ إن الجواب علي هذا السؤال تكشفه لنا الرواية التي ذكرناها آنفا وهي رواية يوم الخميس حين طلب الرسول (صلي الله عليه وسلم) أن يكتب لهم كتابا لا يضلوا بعده. فهاجوا وماجوا وطعن بعضهم في الرسول حتي يفوتوا عليه كتابة هذا الكتاب. فهذا الحدث قد كشف لهذه الطائفة التي يتزعمها عمر علي ما يبدو وعلي ما سوف نبين أن الرسول يضمر شيئا يتعلق بالأمر من بعده. فمن ثم هم لا يريدون أن يفوتهم هذا الأمر. ومما يؤكد هذا الظن أن الرسول (صلي الله عليه وسلم) قد كرر هذا الموقف في غزوة تبوك مع الإمام علي وصرح أمام الصحابة بمقالة فيه أثارت الريب في نفوسهم.. يروي البخاري أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) خرج إلي تبوك واستخلف عليا. فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي. إلا أنه ليس نبي بعدي.. (1) .

ص: 22


1- 26. البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب علي.

ولعل الصحابة تذكروا هذا النص حين أمرهم بالخروج في بعث أسامة وأدركوا أن الأمر يحمل أبعادا أخري تتعدي مسألة الخروج خاصة بعد أن رأوا الرسول قد استبقي عليا مع إصراره علي خروجهم من المدينة. إن بعث أسامة يكشف أمامنا قضية هامة وهي قضية التفضيل. تفضيل الصحابة علي بعضهم. وتفضيل أبي بكر وعمر علي الصحابة بل علي الأمة. فإن هذا التفضيل لو كان حقيقة ما جعل رسول الله أسامة أميرا علي أبي بكر وعمر وما استبقي عليا.. كما يكشف لنا من جهة أخري أنه لو كان الرسول قد نص علي استخلاف أبي بكر كما يقال ما وضعه علي مقدمة الجيش بينما هو علي فراش المرض الذي توفي فيه (1) . يقول ابن حجر: كان تجهيز أسامة قبل موت الرسول بيومين فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر. ودعا أسامة فقال؟ سر إلي موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش.. فعقد الرسول لأسامة لواء بيده. وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم ثم اشتد علي الرسول وجعه: فقال انفذوا بعث أسامة. فتكلم في ذلك قوم منهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي. فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف.. (2) . وقد أنكر ابن تيمية أن يكون أبو بكر وعمر كانا في بعث أسامة. لكن ابن حجر رد عليه وأورد عدد من الروايات التي تبطل قوله.. (3) . وهنا يطرح أمامنا السؤال التالي: لماذا يحاول ابن تيمية نفي وجود أبو بكر وعمر في بعث أسامة..؟. أليس وجودهما يعد امتثالا لأمر الرسول وهو شرف لهما..؟.

ص: 23


1- 27. ليست هذه المرة الأولي التي وضع فيها أبو بكر وعمر في هذا الموضع فقد سبق أن وضعهما الرسول صلي الله عليه وسلم تحت إمرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل. أنظر البخاري. باب مناقب أبو بكر وشرح الرواية فن فتح الباري ج 7.
2- 28. فتح الباري ح 8 / 152 كتاب المغازي باب 87.
3- 29. المرجع السابق.

لماذا يحاول ابن تيمية أن ينفي عنهما شرف الامتثال لطاعة الرسول والجهاد في سبيل الله؟. إن ابن تيمية قد اتخذ هذا الموقف في معرض رده علي العلامة الحلي أبرز علماء الشيعة المعاصرين له. وقد اضطر في مواجهته إلي التشكيك في حديث الثقلين المروي في صحيح مسلم وهو ما دأب ابن تيمية علي فعله في مواجهة خصومه من العلماء داخل أهل السنة وخارجها خاصة من الشيعة.. (1) . والطريف في هذا الأمر هو تجهيز أبو بكر للجيش بعد وفاة الرسول وبعثه إلي الروم.. يقول ابن حجر: ولما جهزه أبو بكر بعد أن استخلف سأله - أي أسامة - أن يأذن لعمر بالإقامة - في المدينة - فأذن.. تأمل.. (2) . لماذا عمل أبو بكر علي استثناء عمر من جيش أسامة..؟ لقد جهز أبو بكر الجيش امتثالا لأمر الرسول حيث أنه قد رفع شعارا مفاده إنما أنا متبع وليست بمبتدع.. وعمد إلي تقليد الرسول في كل مواقفه وممارساته.. فإذا كان هو كذلك فلماذا عمل علي استثناء عمر. أليس ذلك مخالفة لسنة الرسول وأمره. وهو قد استثني نفسه بحكم تسلمه الخلافة فبأي حجة استثني عمر..؟ هل يمكن أن نتهم أبو بكر بالسطحية في فهم النصوص إذ أن الغرض من بعث أسامة قد انتفي بوفاة الرسول واستخلافه. بينما هو يصر علي خروجه ويستثني منه عمر. أم أن أبا بكر يحاول أن يموه علي الهدف الحقيقي من بعثة أسامة؟ ولنترك القوم مع جيش أسامة علي أبواب المدينة ينتظرون ويراقبون من بعد تطورات مرض الرسول (صلي الله عليه وسلم) وهم بموقفهم هذا قد تحايلوا علي أمر الرسول: فلا هم نفذوا أمره ولا هم ظاهرون أمامه. وبدا وكأنهم يوهمون الرسول أنهم خرجوا.. هل مثل هذا السلوك يصح من أناس تخرجوا من مدرسة الرسول..؟

ص: 24


1- 30. أنظر منهاج السنة وهو رد علي كتاب العلامة الحلي منهاج الكرامة في إثبات الولاية لآل البيت.. ط بيروت.
2- 31. فتح الباري ح 8 / باب 87 كتاب المغازي.

بين المرض والوفاة

روي البخاري عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس.. وما يوم الخميس؟ اشتد برسول الله (صلي الله عليه وسلم) وجعه: فقال: إئتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع: فقالوا ما شأنه أهجر استفهموه. فذهبوا يردون عليه. فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه. وأوصاهم بثلاث. قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها.. وفي رواية: لما حضر رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وفي البيت رجال: فقال النبي هلموا أكتب لم كتابا لا تضلوا بعده. فقال بعضهم أن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا. فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغو والاختلاف. قال رسول الله: قوموا. قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.. (1) . وفي رواية ثالثة عن ابن عباس: لما اشتد بالنبي وجعه قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط. قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول: أن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه.. (2) . قال القرطبي وغيره ائتوني أمر وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال. لكن ظهر لعمر مع طائفة أنه ليس علي الوجوب وأنه من باب الارشاد إلي الأصلح فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قول الله تعالي (ما فرطنا في الكتاب من شئ) وقوله: (تبيانا لكل شئ)..

ص: 25


1- 32. البخاري كتاب العلم وانظر كتاب المرضي. وانظر مسلم كتاب الوصية ومسند أحمد ح 1 / 355.
2- 33. المراجع السابقة.

وقال الخطابي: إنما ذهب عمر إلي أنة لو نص بما يزيل الخلاف لبطلت فضيلة العلماء وعدم الاجتهاد.. وقال ابن الجوزي.. وإنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه في حالة غلبة المرض فيجد بذلك المنافقون سبيلا إلي الطعن في ذلك المكتوب.. ويقول ابن حجر معلقا علي قول ابن عباس: إن الرزية كل الزرية ما حال بين رسول الله وبين كتابه.. وليس الأمر في الواقع علي ما يقتضيه هذا الظاهر. بل قول ابن عباس المذكور إنما كان يقوله عندما يحدث بهذا الحديث. وجزم ابن تيمية في الرد علي الرافضي - الحلي - بما قلته.، إنما تعين حمله علي غبر الظاهر لأن عبيد الله بن عباس راوي الحديث تابعي من الطبقة الثانية لم يدرك القصة في وقتها لأنه ولد بعد النبي بمدة طويلة ثم سمعها من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخري.. (1) . وروت عائشة أن الرسول في حال احتضاره كان يقول: لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) . ويروي أن الناس قد ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا. فقالت: متي أوصي إليه فقد كانت مسندته إلي صدري (أو قالت حجري) فدعا بالطست.. فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنه مات. فمتي أوصي إليه..؟ (3) . وروي عن عائشة أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) كان إذا اشتكي نفث علي نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده. فلما اشتكي وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث علي نفسه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي عنه.. وقد أذن له في أن يمرض في بيت عائشة من قبل نسائه لما يعلمن محبته لها وارتياحه إليها.. (4) .

ص: 26


1- 34. أنظر فتح الباري ج 13 / 336 و ح 8 / 132 وما بعدها وقول ابن حجر هذا يفتح باب الشك في طرق الرواية عند أهل السنة.
2- 35. البخاري ومسلم.
3- 36. البخاري ومسلم.
4- 37. البخاري. كتاب المغازي. باب مرض النبي ووفاته.. وانظر مسلم.

وفي بيت عائشة اشتد به الوجع. وكان يقول: أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلي الناس. ثم خرج عاصبا رأسه بعد أن صب عليه الماء فجلس علي المنبر ثم قال: أيها الناس إن آمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن إخوة الإسلام. لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر. وإني فرط لكم. وأنا شهيد عليكم. وإني والله لأنظر إلي حوضي الآن. وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض. وإني والله ما أخاف أن تشركوا من بعدي ولكن أخشي عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها.. (1) . ويروي عن عائشة قالت: قال لي رسول الله في مرضه أدعي لي أبا بكر أباك وأخاك. حتي أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمني متمن ويقول قائل: أنا أولي. ويأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر.. (2) . ولما حال المرض بين رسول الله وبين الخروج قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقالت عائشة: يا رسول الله: إن أبا بكر رجل أسيف (رقيق) وأنه إذا قام مقامك لم يكد يسمع الناس. فقال: أنكم صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس.. (3) . ويروي عن عائشة أنها قالت: ورأساه: فقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ذلك لو كان وأنا حي وأستغفر لك وأدعو لك. فقال عائشة، واثكلتاه والله إني لأظنك تحب موتي ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك.. فقال النبي: بل أنا وا رأساه. لقد هممت أو أردت أن أرسل إلي أبي بكر فأعهد أن يقول القائلون أو يتمني المتمنون. ثم قلت يأبي الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبي المؤمنون.. (4) . وإذا ما قمنا بمناقشة هذه النصوص المتعلقة بمرض الرسول ووفاته فسوف تتكشف

ص: 27


1- 38. البخاري. كتاب المغازي. باب مرض النبي. وكتاب فضائل الصحابة. باب فضل أبي بكر.
2- 39. مسلم. كتاب فضائل الصحابة باب فضل أبي بكر. وانظر البخاري كتاب الأحكام باب الاستخلاف.
3- 40. مسلم كتاب الصلاة. باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر.
4- 41. البخاري. كتاب الأحكام. باب الاستخلاف.

أمامنا بعض النتائج التي من الممكن أن تقودنا إلي حل بعض النقاط الغامضة المتعلقة بوصية الرسول فرواية ابن عباس المتعلقة بطلب الرسول كتابة كتاب تهتدي به الأمة بعد وفاته التزم أمامها أهل السنة بسياستهم التبريرية المعتادة لذلك السلوك وتلك المواقف المتناقضة مع روح الإسلام ومع العقل التي سلكها الصحابة وفي مقدمتهم عمر أمام نبيهم مما هو واضح من خلال أقوالهم التي عرضناها والتي ترتكز في صميمها علي هدم أية محاولة لتفسير النص تفسيرا يمس الصحابة؟ ولو بشئ من النقد حتي لا تهتز صورتهم في أعين الناس فيفقدوا قدوتهم وتضيع مثاليتهم حتي لو أدي ذلك إلي إلجام العقل وتكبيله. فالعقل لا يمثل أهمية كبيرة عندهم ولو كانوا يحترمونه ما اخترعوا كل تلك القواعد التي تزجره عن الخوض في خلافات الصحابة أو في النصوص المنسوبة للرسول الخاصة بطاعة الحكام أو تلك المتناقضة مع القرآن والتي هي صحيحة بطرقهم.. (1) . وقد نقل ابن حجر أن المقصود بالكتاب في حديث ابن عباس هو تعيين الخليفة (2) . وقال عياض: معني كلمة هجر التي ذكرها عمرة أفحش. يقال هجر الرجل إذا هذي. وأهجر إذا أفحش.. (3) . إذا كان معني كلمة هجر بهذه الصورة فهل يحق لصحابي أن يقولها لنبيه..؟ يقول ابن حجر: وقوع ذلك عن النبي (صلي الله عليه وسلم) مستحيل لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالي (وما ينطق عن الهوي..) (4) . فهل كان عمر يجهل أن الرسول معصوما..؟ وليت أهل السنة يسيرون في تأويل مواقف الصحابة علي أساس القرآن كما فعل ابن حجر في مواجهة موقف عمر من الرسول.. لو فعلوا ذلك لكانوا قد

ص: 28


1- 42. أنظر لنا العقل المسلم. وانظر العواصم من القواصم..
2- 43. فتح الباري ح 13 / 206.
3- 44. المرجع السابق.
4- 45. المرجع السابق.

أغلقوا الباب في وجه السياسة إلي الأبد. فقد استثمرت السياسة مواقف الصحابة أفضل استثمار. واشتقت من أحداث السقيفة ومواقف عمر وعثمان ما بنيت علي أساسه قواعد العلاقة بين الحاكم والمحكوم.. (1) . إلا أن هذا الاستدلال الذي بناه ابن حجر علي الآية يعد من فلتأته. فقد تابع أهل السنة في مواقفهم التي تبرر أفعال الصحابة وممارستهم علي أساس السياسة وعلي أساس كونهم عدول مجتهدون.. (2) . والحق أن موقف عمر كان رزية كبيرة تسببت في تعويق مسيرة الإسلام وضياع الأمة وشتاتها بين الحكام والفقهاء وأهل الأهواء.. وهو فعل يضاف إلي سيئات الرجل وليس محمدة له كما يحاول فقهاء التبرير تصوير ذلك. والعقل لا يقبل أن يحمل مثل هذا السلوك من قبل عمر علي محمل الخير. أي خير في معارضة نبي؟ وإذا اعتبرناه مجتهدا فهل يحق له الاجتهاد علي أمر رسول الله..؟ وقول عمر حسبنا كتاب الله قول مغرض. فهو لم يكن من الحافظين لكتاب الله المسلمين بأحكامه وإن كان مخترعو الأحاديث وفقهاء التبرير قد حاولوا أن يضفوا عليه صفة الفقيه المجتهد ويدل علي ذلك موقفه بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) حين ادعي عدم موته وهدد القائلين بموته وهو موقف لا ينم عن علمه بطبيعة الرسالة ودور الرسول. ولم يتخذ هذا الموقف أحد سواه حتي جاء أبو بكر ففقهه بالآية. فقال كأني أسمعها أول مرة.. (3) . إن موقف عمر ومن حالفه إنما يشير إلي أن هناك جبهة من الصحابة كانت ضد كتابة الوصية وموقف هذه الجبهة إنما ينبع من يقينها أن هذه الوصية ليست في صالحها. إذ لا يعقل أن ترفض أمة وصية نبيها في احتضاره وهي تعلم أنه خاتم الرسل. فإن عدم وجود رسل من بعده يجعل الحاجة لهذه الوصية أشد وأكثر مصيرية.

ص: 29


1- 46. سوف نبين الأمر في الفصول القادمة.
2- 47. أنظر العواصم وكتب العقائد. ويعتبر أهل السنة عدالة الصحابة من العقائد.
3- 48. أنظر المحطة الثالثة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا استجاب الرسول لعدم الكتابة وطرد الجميع.. وكان من الأولي له كرسول خاتم أن يصر علي كتابها لكونها مسألة مصيرية تتعلق بمستقبل الإسلام والمسلمين..؟ إن الجبهة المعارضة لكتابة الوصية كانت تعلم بموقفها هذا أنها لن تحول بين الرسول وبين الوصية. فهي لن تستطع بحال أن تمنع الرسول من أداء مهمته لكونه مؤيد من قبل الله تعالي ومن مهمته أن يوصي أمته حال وفاته. فالوصية جزء من البلاغ الذي هو أساس مهمته والذي بعث من أجله.. لكن هناك فرق بين أن يكتب الرسول الوصية وبين أن يبلغها شفاهية. عندما يكتبها تكون حجة علي المخالفين إلي يوم الدين ويصبح من العسير تحريفها.. وعندما تكون شفاهية فهنا يكون الباب مفتوحا للتأويل والتزييف. فإن تحريف القول أيسر من تحريف الكتاب.. وهذا هو هدف جبهة عمر أن تحول دون كتابة الوصية وليس منعها وهو ما حدث

دور عائشة

ويلاحظ أن معظم الروايات الخاصة باحتضار الرسول ووفاته إن لم نقل جميعها تروي علي لسان عائشة. ومثل هذا الأمر يثير في النفس تساؤلات عديدة.. أولها: لماذا اختصت عائشة بهذه الروايات دون غيرها من نساء النبي..؟ والإجابة علي هذا التساؤل تدفعنا إلي مناقشة حقيقتين تتعلقان بعائشة. الأولي: تتعلق بفضائلها وموقعها من الرسول صلي الله عليه وسلم.. والثانية: تتعلق بموقفها من الإمام علي.. فبخصوص فضائلها فهي كما يرويها البخاري ومسلم وغيرهما تنقل علي لسانها. أي ترويها هي عن نفسها كحال أبي هريرة الذي روي جميع فضائله عن نفسه. وهو أمر مرفوض عقلا إذ أن الفضائل من المفروض أن يرويها عنها غيرها حتي تكون مقبولة عقلا بينما يلاحظ أن فضائل الإمام علي يرويها عنه كثير من الصحابة ولم يروها هو عن نفسه.

ص: 30

والمتأمل في الأحاديث التي تختص بفضائل عائشة يجد أن هذه الأحاديث لا تشير إلي فضيلة بل ربما أشارت إلي العكس من ذلك. لنتأمل علي وجه المثال الأحاديث التي تروي علي لسانها عن غيرتها من خديجة ومن نسوة الرسول عموما.. روي مسلم عن عائشة أن الرسول (صلي الله عليه وسلم) ذكر خديجة فغرت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها. إلي هنا تنتهي رواية مسلم. إلا أن هناك رواية أخري رد فيها الرسول عليها قائلا: لا والله ما أبدلني الله خيرا منها. وروت عائشة: ما غرت للنبي علي امرأة من نسائه ما غرت علي خديجة لكثرة ذكره إياها وما رأيتها قط.. (1) . وفي هذا رد كاف علي عائشة وكون خديجة أفضل منها. وماذا يمكن أن تكون قد قدمت عائشة للدعوة من بذل وعطاء حتي تفضل خديجة؟ أنها لم تقدم شئ سوي كم كبير من الأحاديث التي خدمت الخط الأموي ونصرته علي آل البيت. وتأمل قول فقهاء التبرير في الرواية المذكورة.. ينقل النووي شارح مسلم قولهم: الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك ولهذا لم يزجر - أي الرسول - عائشة عنها.. (2) . وقال القاضي: وعندي أن ذلك جري من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها ولعلها لم تكن بلغت حينئذ.. (3) . فإذا كان القوم يبررون تجاوزات عائشة مع الرسول بصغر سنها فبماذا يبررون مواقفها الأخري. وهل صغر سنها يبرر لها أن تتجاوز حدودها مع الرسول؟.

ص: 31


1- 49. مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل خديجة.
2- 50. أنظر شرح صحيح مسلم باب فضائل عائشة.
3- 51. المرجع السابق.

وتأمل الرواية التي تقول إن عائشة إذا كانت راضية عن الرسول تقول ورب محمد وإذا كانت غاضبة عليه تقول ورب إبراهيم أي أنها إذا أغضبت من الرسول كانت لا تذكر اسمه.. (1) . هل هذا سلوك يليق بامرأة نبي..؟. وكيف لها أن لا ترضي عن رسول الله..؟. وما هو حكم من لا يرضي عن رسول الله في فقه القوم..؟. إن مثل هذا السلوك لا يكون إلا من امرأة غير راشدة تلهو في حجر رسول الله أو كما تقول الروايات تلعب بالبنات عند الرسول.. (2) . ويروي مسلم عن عائشة أن نسوة النبي أو فدن إليه فاطمة (ع) وهو مضطجع معها تسأله علي لسانهن العدل في ابنة أبي قحافة. فقال الرسول (صلي الله عليه وسلم): أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلي. قال: فأحبي هذه (عائشة).. فأرسل نسوة النبي بعد ذلك زينب بن جحش فسألت الرسول العدل في ابنة أبي قحافة. ثم وقعت في عائشة واستطالت عليها والرسول ساكت. وهنا هجمت عائشة علي زينب وحسبما تقول الرواية علي لسان عائشة: فلما وقعت بها لم أنشبها حتي أنحيت عليها. وفي رواية أخري: فلما وقعت بها لم أنشبها أن أثخنتها غلبة.. (3) .

ص: 32


1- 52. مسلم باب فضائل عائشة.
2- 53. يروي مسلم عن عائشة: كنت ألعب بالبنات في بيته - بيت الرسول - وكانت تأتيني صواحبي فكن ينقمعن من رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فكان رسول يسربهن إلي.. تأمل. هل كان الرسول متفرغا لرعاية عائشة في طفولتها واللعب معها..؟ وهل طغي شوق الرسول إليها فدفعه إلي الزواج بها في هذا السن الصغيرة وفي طبقات ابن سعد ح 8 / 58 ما يفيد أن رسول الله تزوج عائشة وكانت ثيبا يروي ابن سعد: خطب رسول الله عائشة فقال أبو بكر: يا رسول الله إني كنت قد أعطيتها مطعما لابنة جبير فدعني حتي أستلها منهم فاستلها منهم فطلقها فتزوجها رسول الله.
3- 54. مسلم فضائل عائشة.

والمتأمل في هذه الرواية يتبين له كم هي تحط من قدر الرسول وتظهره بمظهر الرجل المنشغل بنسائه المتعلق بهن المشغول بمشاكلهن الشغوف بابنة أبي بكر بحيث لا يفارق خدرها ولا يمل جوارها.. وكيف يطالب الرسول بالعدل وهو الذي بعث لتحقيقه بين الناس..؟ وإذا كان الرسول عاجز عن تحقيق العدل بين نسائه وقد قرب عائشة علي حسابهن أليس من الأولي أن يكون عاجزا عن تحقيق العدل بين الناس..؟ إن هذا الصدام بين امرأتين من نساء الرسول علي مشهد منه بينما هو يواجهه بالتبسم قائلا لزينب: إنها ابنة أبي بكر. ليدل علي تهاون من قبل الرسول وإصرار منه علي تقديم عائشة وظلم بقية نساءه. وكيف لنا أن ننسب إلي الرسول هذا اللهم لا تؤاخذنا. لكنها روايات القوم.. ولنتأمل رواية ثالثة علي لسان عائشة تكشف لنا مدي انشغال الرسول بها حتي وهو مع نساءه في ليلتهن: تقول الرواية: إن كان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ليتفقد - نساءه - يقول أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا.؟ - استبطاء ليوم عائشة -.. (1) . إن الرسول بهذه الصورة التي تصورها لنا هذه الرواية ليس إلا مجرد عاشق ولهان ليس علي لسانه سوي عائشة كما ليس في قلبه سواها. وما علاقته بنساءه الآخريات سوي علاقة فاترة لا نشوة لها ولا أثر. فإن النشوة والأثر لا يكون إلا مع عائشة فهل يرتضي مسلم أن يكون رسوله بهذه الصورة الفاضحة..؟. ثم إن هذه الرواية كما تؤكد عائشة كانت قبل وفاة الرسول بساعات قليلة أي أن عمر الرسول وقتها قد جاور الستين ببضع سنين بينما هي لم تتجاوز الثمانية عشر عاما. فهل يعقل أن شيخا في مثل هذا السن يكون متعلقا بالنساء إلي هذا الحد..؟ تقول عائشة استكمالا للرواية السابقة: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري.. أي أن الرسول بعد أن أفلت من نساءه وظفر بعائشة توفاه الله دون أن يقضي وطره منها. أي أن الرسول مات في حضن عائشة..

ص: 33


1- 55. مسلم والبخاري.

هل يمكن أن يحتمل العقل والوجدان المسلم مثل هذه الوقاحة في حق نبيه..؟ ويروي البخاري نفس الرواية السابقة بشئ أكثر فجاجة وتعرية للرسول أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول أين أنا غدا..؟ حرصا علي بيت عائشة. قالت عائشة: فلما كان يومي سكن (1) . وهذه الرواية كأنها تقول لنا أن الرسول رغم مرضه كان شغوفا بالجنس والطواف علي نسائه اللواتي لم يشبعن شغفه حتي جاء إلي عائشة فتتحقق له السكن معها وهذا التفصيل الفاضح لم تكشفه رواية مسلم السابقة.. ويروي مسلم عن عائشة أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله (صلي الله عليه وسلم.. (2) . وهذه الرواية تكشف لنا أن علاقة الرسول بنسائه كانت علي الملأ. حتي أن الناس كانوا يعرفون يوم عائشة من بين الأيام الأخري التي يطوف فيها علي نسائه وهذا يعني أن حركة الرسول بين نسائه كانت تحت رقابة الناس انتظارا ليوم عائشة فيهرعون نحوها بهداياهم تقربا للرسول.. إن هذا الحديث يشير إلي دلالة خطيرة وهي أن الطريق إلي رضا الرسول يكون بواسطة عائشة. وهذا يعني أن عائشة سيطرت علي قلب الرسول ووجدانه وأحاسيسه للدرجة التي جعلتهم يستثمرون هذا الحب في كسب رضا الرسول عن طريق رشوة عائشة بهداياهم. مما يعني بطريق غير مباشر رشوة الرسول الذي تصوره الرواية أنه يغضب لغير الله ويرضي لغيره سبحانه وبواسطة عائشة يكسب الناس رضاه. فهل سيطرت عائشة علي الرسول إلي هذا الحد..؟ إن البخاري يروي نفس هذه الرواية بشئ من التفصيل. تقول الرواية: إن نساء النبي اجتمعن بأم سلمة بسبب أن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وقلن للرسول: إنا نريد الخير كما تريده عائشة. وطلبن من الرسول أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث دار. فذكرت أم سلمة الأمر للرسول ثلاثا وهو

ص: 34


1- 56. البخاري كتاب فضائل الصحابة. باب فضل عائشة.
2- 57. مسلم فضائل عائشة وانظر البخاري.

يعرض عنها ثم أجابها في الثالثة بقوله: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها.. (1) . وظاهر الرواية يفيد أن نسوة النبي استفزهن أمر الهدايا فاجتمعن لهذا الغرض وأوفدن أم سلمة للتحدث بلسانهن مع الرسول الذي كان في مكانه المعتاد إلي جوار عائشة. فهل كان الرسول لا يشغله سوي النسوة ومشاكلهن..؟ أن الرواية تقول إن الرسول انحاز إلي عائشة كما انحاز إليها في الرواية السابقة ضد بقية زوجاته معتبرا أن مثل هذا السلوك يعتبر أذي له مؤكدا أن درجة عائشة أعلي من درجتهن لأن الوحي كان ينزل في لحافها ولم ينزل في لحافهن فهل كان الوحي يتنزل علي الرسول وهو في لحاف عائشة..؟ أليس هذا امتهانا للوحي وللرسول أن تتنزل آيات الله في هذا الموضع..؟ لقد بلغ القوم مبلغا عظيما في محاولاتهم اختراع المناقب لعائشة إلي الدرجة التي أهانوا فيها الرسول وأهانوا فيها الوحي وأهانوا فيها بقية زوجات الرسول.. وتستمر عائشة في رواية فضائلها قائلة: قال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يا عائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام. فقلت: وعليه السلام ورحمة الله. وهو يري ما لا أري.. (2) . ويبدو أن القوم أرادوا أن ينتزعوا لعائشة منقبة علي لسان الوحي بعد أن عجزوا عن انتزاعها من لسان الرسول. حتي أن أنس بن مالك يروي علي لسان الرسول قوله: فضل عائشة علي النساء كفضل الثريد علي الطعام.. (3) . ألم يجد الرسول شيئا يفضل به عائشة علي غيرها سوي الطعام..؟. هل كان الرسول أكولا وعاشقا للطعام إلي الحد الذي يضرب به المثل..؟. تروي عائشة: كان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) إذا خرج أقرع بين نسائه فطارت القرعة

ص: 35


1- 58. البخاري. فضل عائشة.
2- 59. مسلم فضائل عائشة.
3- 60. المرجع السابق.

علي عائشة وحفصة فخرجتا معه جميعا. وكان الرسول إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث معها. فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر. قالت: بلي. فركبت عائشة علي بعير حفصة وركبت حفصة علي بعير عائشة. فجاء رسول الله إلي جمل عائشة وعليه حفصة فسلم ثم سار معها حتي نزلوا. فافتقدته عائشة فغارت. فلما نزلوا جعلت تجعل رجلها بين الإذخر وتقول يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني.. رسولك ولا أستطيع أن أقول شيئا.. (1) . إن هذا النص يفرض عدد من التساؤلات: هل كان الرسول (صلي الله عليه وسلم) يأخذ نساءه معه عند الخروج..؟ ولماذا ندمت عائشة علي ما فعلت مع حفصة..؟ وهل الغيرة تدفع بأم المؤمنين إلي محاولة الانتحار بوضع رجلها في نبت تكثر فيه الهوام كالحيات وغيرها..؟ إن القرآن يكشف لنا أن رسول الله كان يخلف دائما النساء والصبيان والعجزة عند خروجه للغزو. وهو الدافع الوحيد لخروجه فلم يكن يخرج لسبب آخر فلم نسمع أن الرسول خرج للصيد أو التنزه فلم يكن لديه الوقت لمثل هذه الأمور والذي تؤكده كثير من الروايات أن مسؤوليات وتبعات الدعوة كانت ثقيلة عليه بحكم كونه خاتم الأنبياء. والإسلام هو خاتم الرسالات (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا).. فهل رسول خاتم يحمل مثل هذه المسؤولية لديه وقت للهو مع النساء..؟ وهل يمكن لامرأة مثل عائشة أن تتدلل علي الرسول إلي هذا الحد..؟ وهل الرسول بمثل هذه السذاجة بحيث تنطلي عليه حيلة حفصة فيأخذها وهي علي بعير عائشة ويسلم عليها ولا يعرفها..؟ وتروي عائشة: فلما نزل برسول الله (صلي الله عليه وسلم) المرض - ورأسه علي فخذي غشي

ص: 36


1- 61. المرجع السابق.

عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلي السقف ثم قال: اللهم الرفيق الأعلي. قالت عائشة قلت إذا لا يختارنا.. (1) . هل طمعت عائشة في رسول الله إلي الحد الذي تريد أن تجعل الرسول يفضلها علي الرفيق الأعلي ويختار جوارها علي جواره..؟ كم حطت هذه الروايات من قدر الرسول وأهانته حتي وهو علي فراش المرض جعل من فخذي عائشة وسادته.. ولقد بلغ من خيال القوم في صنع مناقب عائشة أن جعلوا الرسول (صلي الله عليه وسلم) يحلم بها وهو في مكة وربما من قبل أن تولد.. تروي عائشة: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول هذه امرأتك فاكشف عن وجهك فإذا أنت هي: فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه.. (2) . وإذا ما تبين لنا أن روايات عائشة لا تصرح بمناقب لها بقدر ما تعريها وتفضحها وتحط من قدر الرسول ومكانته أدركنا أن الهدف من هذه الروايات ليس هو عائشة في ذاتها وإنما الخط الذي سوف يتولد منها. وأدركنا أيضا حجم مكانتها وموقعها من الرسول وموقفه منها. إن اختلاق مثل هذه الروايات ليدل علي أن موقع عائشة من الرسول كان مهزوزا وأن موقف الرسول منها كان لا ينم عن الرضا عنها أو عن أبيها. فلو كان موقع عائشة من الرسول حسنا ما كانت هناك حاجة إلي خلق مثل هذه الروايات التي تسئ إليها قبل أن تسئ للرسول. ولترك الأمر للأطراف الأخري تروي محاسنها وتصف موقعها وتعدد مناقبها. لكن الأمر كما هو واضح أمامنا هو من اختلاق عائشة أو اختلق علي لسانها.. وهذا الأمر ندركه بقليل من التأمل في مناقب خديجة فقد جاء علي لسان الإمام

ص: 37


1- 62. البخاري ومسلم.
2- 63. مسلم فضائل عائشة والبخاري.

علي أنه قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: خير نسائها مريم بنت عمران. وخير نسائها خديجة بنت خويلد (1) . ويروي أبو هريرة: أتي جبريل النبي صلي الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك فأقرأ عليها السلام من ربها عز وجل ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب (2) . وتروي عائشة: بشر رسول الله صلي الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد ببيت في الجنة (3) . ويروي أيضا: أن الرسول إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا بها إلي أصدقاء خديجة فأغضبته يوما فقلت خديجة فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم إني قد رزقت حبها (4) . فهاهي مناقب خديجة تروي علي لسان الآخرين حتي علي لسان عائشة نفسها وهاهي الروايات تثبت أن خديجة أفضل من عائشة.. وهاهو الرسول يبشرها ببيت في الجنة ولم يبشر عائشة. وهاهو الرسول بعد موتها يظل وفيا لذكراها ويكرم خلانها وأقربائها حتي أدي الأمر إلي غضب عائشة.. وهاهو الرسول يصرح أنه قد رزق حبها. وها هو جبريل يقرأها السلام من الله سبحانه من قبل أن يتزوج الرسول بعائشة وبمقارنة النصوص الواردة في خديجة والروايات التي ترويها عائشة عن نفسها يتبين لنا صحة مناقب خديجة وبطلان مناقب عائشة. كما يتبين لنا عظيم مكانة خديجة وموقعها من الرسول وضعف موقف عائشة (5) . لقد كانت عائشة صغيرة السن وقد تركها الرسول وعمرها ثمانية عشر عاما.

ص: 38


1- 64. مسلم فضائل خديجة أم المؤمنين.. وتأمل فضائل فاطمة أيضا.
2- 65. المرجع السابق.
3- 66. المرجع السابق.
4- 67. المرجع السابق.
5- 68. تأمل فضائل زوجات النبي الآخريات وقارن بينها وبين فضائل عائشة.

فكيف يمكن لمن في مثل سنها أن ترث كل هذا العلم الذي ينسبونه إليها وقد قضت سني بلوغها مع الرسول في شكل وغيرة وغرام كما تحكي الروايات علي لسانها؟. وكيف يمكن للرسول أن يأتمن امرأة في مثل هذا السن علي علم السماء؟ أليس هذا يتناقض مع قول الرسول صلي الله عليه وسلم: لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة (1) . وقد قيل عنها أنها روت عن الرسول أربعين ألف حديث فكيف وعت كل هذا الكم من الأحاديث عن الرسول في فترة البلوغ القصيرة التي قضتها مع الرسول.؟. إن مثل عائشة كمثل أبي هريرة كلاهما روي كما هائلا من الأحاديث علي لسان الرسول في مدة تثير الشك في هذا الكم ومدي تناسبه مع فترة معايشتهم. إن الأمر علي ما يبدو يتجاوز عائشة وأبو هريرة. إنه خط يريد أن يفرض علي الأمة من خلالهما مما سوف يتضح عند استعراضنا موقف عائشة من الإمام علي وإن محاولة إرجاع موقف عائشة العدائي من الإمام إلي حادث الإفك وقول الإمام للرسول (تزوج يا رسول الله إن النساء كثيرات) إنما هو تسطيح لحقيقة الموقف وجذوره. فقد وقفت عائشة من بعد وفاة الرسول إلي جوار أبيها ضد الإمام وأنصاره من الصحابة وضد فاطمة التي اصطدمت بأبيها بسبب ميراث الرسول وقاطعته وتوفت غاضبة عليه.. ولا شك أن الإمام كان يمثل خط آل البيت الذي اصطدم بجبهة القبليين والمنافقين بعد وفاة الرسول بسبب الخلافة. وعندما يتبين لنا أن عائشة كانت تقف في صف الجبهة المناوئة للإمام تتكشف لنا جذور موقفها العدائي منه.. ودور عائشة في مواجهة الإمام إنما برز بشكله السافر في عهد الإمام وبعد مقتل عثمان. فلم تكن هناك حاجة لبروزها في عهد أبيها وعهد عمر من بعده لسيادة الخط القبلي واختفاء خط الإمام. وبعد سيادة الخط الأموي بعد مرحلة صفين استثمرت مواقف عائشة من الإمام

ص: 39


1- 69. البخاري. كتاب المغازي. باب كتاب النبي إلي كسري وقيصر.

كما استثمرت مكانتها كزوجة للرسول في إضفاء المشروعية علي هذا الخط عن طريف إسباغ الفضائل عليها واختراع الروايات علي لسانها كما استثمرت شخصية أبو هريرة وابن عمر من بعد (1) . ومما سبق يتبين لنا أن اختصاص عائشة برواية أحاديث احتضار الرسول أمر مستهدف له غاية محددة هي ضرب وصية الرسول وتوجيهاته الحقيقية التي أدلي بها قبل وفاته كي تهتدي بها الأمة. فعائشة تتوافر بها كل المقومات اللازمة لدعم خط بني أمية في مواجهة خط آل البيت. هذه المقومات التي تتمثل فيما يلي: - قربها من الرسول. - كراهيتها للإمام علي.. - كونها ابنة أبي بكر الخليفة الأول.. - مواقفها مع زوجات الرسول.. - صغر سنها. وبالطبع ليس هناك من بين زوجات النبي من تتوافر بها هذه المقومات سوي عائشة فمواقفها وممارستها في حياة الرسول والتي نزل القرآن يؤكدها رشحتها للقيام بهذا الدور.. (2) . من هنا يتبين لنا أن التركيز علي روايات عائشة الخاصة بوفاة الرسول لن يقودنا إلي الحقيقة التي نبحث عنها وسوف يؤدي بنا إلي التعتيم علي الخط الآخر خط آل البيت الذي يقول بالوصية والمناهض لبني أمية والخلفاء..

ص: 40


1- 70. أنظر لنا فقه الهزيمة فصل الرجال وتتبع سيرة ابن عمر وأبو هريرة في كتب السيرة وكتب التاريخ.
2- 71. أنظر تفسير سورتي الأحزاب والتحريم في كتب التفسير ويروي البخاري أن الرسول (صلي الله عليه وسلم) أشار إلي بيت عائشة وقال: هاهنا الفتنة ثلاثا من حيث يطلع قرن شيطان انظر باب ما جاء في بيوت أزواج النبي. وانظر مسلم ح 8 / 183. وانظر روايات تنبح عليك كلاب الحوأب يا عائشة. والحوأب بئر ماء في طريق البصرة حين سارت لقتال علي أنظر الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي.

وهذا يقودنا إلي تقصي الروايات الأخري التي تتعلق بوفاة الرسول والتي رويت من جهات أخري غير جهة عائشة.. يروي أن العباس جاء إلي النبي في وجعه الذي توفي فيه فقال علي ما تريد؟ فقال العباس: أريد أن أسال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) أن يستخلف منا خليفة. فقال علي: لا تفعل. قال: ولم. قال أخشي أن يقول لا فإذا ابتغينا ذلك من الناس قالوا: أليس قد أبي رسول الله..؟ (1) . وسئل علي: أخصكم رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بشئ؟ فقال ما خصنا رسول الله بشئ لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا. قال. فأخرج صحيفة مكتوب فيها: لعن الله من ذبح لغير الله. ولعن الله من سرق منار الأرض. ولعن الله من لعن والده. ولعن الله من آوي محدثا.. (2) . وفي رواية ما عهد إلي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) شيئا خاصا من دون الناس. إلا شئ سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي. قالوا: فلم يزالوا به حتي أخر الصحيفة قال فإذا فيها: من أحدث حدثا أو آوي محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه حرف ولا عدل. قال وإذا فيها أن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة. حرم ما بين حريتها وحماها كله. لا يختلي خلاها ولا ينفر صيدها. ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها. ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره ولا يحمل فيها السلاح لقتال. قال وإذا فيها: المؤمنون تتكافؤ دماءهم ويسعي بذمتهم أدناهم وهم يد علي من سواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده... (3) . وفي روايات أخري يأتي السؤال بصيغة أخبرنا بشئ أسره إليك رسول الله. أو ما كان النبي يسر إليك. أو أفشئ عهده إليك رسول الله.. (4) .

ص: 41


1- 72. طبقات ابن سعد ص 2.
2- 73. مسلم كتاب الأضاحي باب 8. ومسند أحمد ح / 1181.
3- 74. مسند أحمد ص 1 / 119.
4- 75. أنظر مسلم كتاب الأضاحي.

وفي رواية البخاري سئل الإمام علي عما تركه له الرسول فقال كتاب الله وهذه الصحيفة. فقيل وما في هذه الصحيفة قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر.. (1) . وسئل عبد الله بن أبي أوفي. أوصي النبي؟ قال: لا. فقلت: كيف كتب علي الناس الوصية أو أمروا بها؟ قال: أوصي بكتاب الله.. (2) . ويروي أن الذين غسلوا الرسول بعد وفاته ثلاثة علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وأسامة بن زيد. وكان علي يغسله والفضل وأسامة يحجبانه.. (3) . وفي رواية علي والعباس والفضل.. (4) . ويروي أن الرسول فاضت روحه بين يدي علي. (5) . يروي ابن عباس: والله لتوفي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وأنه لمستند إلي صدر علي وهو الذي غسله وأخي الفضل بن عباس. (6) . ويروي: قال رسول الله في مرضه: أدع لي أخي. فدعي له عليا. فقال: أدن مني. فدنوت منه. فاستند إلي فلم يزل مستندا إلي وأنه ليكلمني حتي أن بعض ريق النبي (صلي الله عليه وسلم) ليصيبني. (7) . ويتضح لنا من خلال هذه الروايات أن بعضها يناقض روايات عائشة والبعض الآخر يعطينا مدلولات جديدة لم تشر إليها روايات عائشة كما أن هناك روايات منها

ص: 42


1- 76. البخاري. كتاب العلم. وانظر كتاب فضائل القرآن. باب من قال لم يترك النبي إلا ما بين الدفتين.
2- 77. البخاري كتاب المغازي. باب 83.
3- 78. أنظر طبقات ابن سعد ح 2 / 52 وما بعدها.
4- 79. المرجع السابق.
5- 80. طبقات ابن سعد ح 2 / 52 وما بعدها.
6- 81. المرجع السابق.
7- 82. المرجع السابق.

إما الروايات التي تناقض روايات عائشة فهي الروايات التي تتحدث عن تغسيل الإمام علي للرسول ووفاته بين يديه.. ويلاحظ أن هذه الروايات لم تروها كتب الصحاح مثل البخاري ومسلم. وإنما رواها ابن سعد في طبقاته وأحمد في مسنده والطيالسي، وغيرهم. أما الأحاديث التي روتها عائشة فقد رواها البخاري ومسلم. والهدف من وراء هذا الأمر هو دفع المسلمين إلي تبني موقف عائشة أو بمعني آخر تبني الخط الأموي والتشكيك في خط آل البيت حيث أن البخاري ومسلم محل ثقة المسلمين لصحة أحاديثهما وإجماع الأمة عليهما. والحق أن تقديم البخاري ومسلم علي غيرهما من كتب الأحاديث إنما هي قضية سياسة في المقام الأول ولا صلة لها بالشرع. فهذان الكتابان يخدمان خط بني أمية وخط الحكام ويعاديان خط آل البيت وإن كان موقف البخاري أشد عداءا من موقف مسلم. إلا أن موقف مسلم أشد عداءا من الكتب الأخري.. (1) . والباحث في مسألة الاجماع علي صحة هذين الكتابين سوف يتبين له أن مسألة الاجماع هذه مشكوك فيها.. (2) . إلا أن هذا لا يعني أن هناك أحاديث صحيحة في كتب الأحاديث غير البخاري ومسلم وعلي رأسها حديث غدير خم المذكور سابقا والذي رواه أحمد والنسائي والترمذي وغيرهم.. من هنا فإننا بمناسبة الحديث عن البخاري ومسلم نتوجه بالدعوة إلي الفقهاء والمتخصصين من أهل الحديث والأثر إلي العمل علي جمع الأحاديث الصحيحة كلها في كتاب واحد بما فيها البخاري ومسلم والأحاديث الواردة بطرق آل البيت المعمول بها عند الشيعة الإمامية مع ملاحظة ضبط هذه الأحاديث بالقرآن بحيث يتم استثناء الأحاديث المتناقضة معه. فهذه هي الخطوة الأولي والأساسية علي طريق الوحدة الإسلامية..

ص: 43


1- 83. أنظر لنا فقه الهزيمة فصل السنة. وانظر تأملات في الصحيحين ط بيروت.
2- 84. أنظر أضواء علي السنة المحمدية ط القاهرة والمرجعين السابقين.

ونعود إلي الروايات التي نحن بصددها فنقول أن الروايات التي تكشف لنا تساؤلات القوم حول وصية الرسول واختصاص الإمام علي بها إنما تعطينا مدلولا هاما وهو أن هناك وصية يحاول البعض التعتيم عليها فيختلقون الروايات علي لسان الإمام التي تنفي هذه الوصية. وليس من المقبول عقلا أن الإمام علي المشهود له من قبل جميع الأطراف بوافر العلم وهو الذي قال فيه الرسول (صلي الله عليه وسلم) أنا مدينة العلم وعلي بابها.. (1) . ليس من المقبول عقلا أن يكون ميراثه العلمي من الرسول هو تلك الأمور الشكلية مثل فكاك الأسير وعدم قتل المسلم بالكافر والقصاص بينما نجد واحدة مثل عائشة يقول فيها ابن حجر أنها حفظت عن الرسول شيئا كثيرا فأكثر الناس الأخذ عنها ونقلوا عنها من الأحكام والآداب شيئا كثيرا حتي قيل أن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها.. (2) . وليس من المعقول أن واحدا مثل أبو هريرة أو ابن عمر يرثان من علم رسول الله ما يفوق الإمام بنسبة لا تجعل هناك مجالا للمقارنة.. (3) . إن مثل هذا الأمر يثير الشك في نفوس العقلاء. غير أن تقص حركة الرسول وعلاقة الإمام علي به سرعان ما تكشف لنا أن رفع عائشة وابن عمر وأبو هريرة علي حساب الإمام إنما هي مسألة سياسية من صنع بني أمية.. والمدقق في خط بني أمية الذي تحول فيما بعد إلي أهل السنة والجماعة يتبين له أن هذا الخط يرتكز علي هذه الشخصيات الثلاثة.. وليس من المعقول أيضا أن يترك الرسول الأمة بلا وصية فهذا الأمر يناقض القرآن الذي جاء به ويخل بمهمته ودوره كرسول خاتم.

ص: 44


1- 85. رواه ابن المغازلي في مناقبه. والخطب في تاريخ بغداد. والترمذي بلفظ أنا دار الحكمة وعلي بابها.
2- 86. فتح الباري ح 7 / 107 شرح فضائل عائشة.
3- 87. أنظر أضواء علي السنة. وانظر هدي الساري مقدمة شرح البخاري لابن حجر وفيه إحصائية بكم الأحاديث التي رواها كبار الصحابة. ويتضح من هذه الإحصائية أن عائشة روت (242) وأبو هريرة روي (446) وابن عمر روي (270) بينما روي الإمام علي (29) وفاطمة حديثا واحدا.

فالقرآن يقول: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا علي المؤمنين) (1) . فهل يجوز للرسول أن يخالف القرآن الذي جاء به وهو يأمر بالوصية..؟ وإذا كانت الوصية واجبة في حق المؤمنين فيما يتعلق بالأموال والتركات وما يتعلق بالمصالح الدنيوية. أفلا تكون واجبة فيما يتعلق بمستقبل الإسلام والمسلمين؟ يروي البخاري أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده.. (2) . فهل الرسول يناقض نفسه يأمر بالوصية ولا يطبقها..؟ وأيهما نصدق القرآن والرسول أم هؤلاء الذين ينكرون وجود الوصية من الصحابة وفقهاء التبرير..؟ إن المتتبع لحركة الرسول سوف يجد أنه كان يطبق الوصية في كل مناسبة تقتضي تطبيقها. في الغزوات والعلاقات الشخصية وحين الموت.. وقد أوصي الرسول للإمام علي في المدينة حين خرج في غزوة تبوك.. وأوصي أبا بكر ليصلي بالناس في مرضه.. وأوصي بلعن بناة القبور في المساجد.. وأوصي بالنساء في حجة الوداع.. وأوصي بالأنصار قبل وفاته.. فإذا كان يوصي بمثل هذه الأمور التي جاءت بها روايات القوم وهو علي قيد الحياة. أليس هذا دليلا علي كونه قد وضع الوصية نصب عينيه.؟.

ص: 45


1- 88. البقرة آية رقم 180.
2- 89. البخاري كتاب الوصايا.

وإذا كان فد خلف عليا في المدينة وهو في غزوة سوف يعود منها. أليس من الأولي أن يستخلف وهو راحل عن الدنيا.؟. إن فقهاء التبرير ليخوضون في مثل هذه المواقف والممارسات ويحاولون طمس معالمها وتبديد أهدافها بتبريرات وتأويلات واهية تصطدم بالعقل كما تصطدم بالنصوص بهدف الحفاظ علي خط ورثوه عن أسلافهم واعتبروه من صلب العقيدة..

ص: 46

ص: 47

السقيفة

اشاره

احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.... الإمام علي

ص: 48

تعد مرحلة السقيفة بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) مرحلة سيادة الخط القبلي علي واقع المسلمين. فقد أخذ هذا الخط امتداده وشرعيته من تلك المرحلة متسترا بستار الشوري.. إن الراصد لما دار في السقيفة يتبين له بوضوح أن الأمر كان أبعد ما يكون عن الشوري وإنما هو في الحقيقة أشبه بالانقلاب علي خط واضح الملامح وضع أسسه الرسول (صلي الله عليه وسلم). ومن السذاجة تصور أن معاوية حمل راية المواجهة ضد الإمام دون أن يستند إلي ركائز ثابتة تؤهله برفع هذه الراية. وهذه الركائز إنما كانت تقوم علي أساس الواقع القبلي الذي فرض في مرحلة السقيفة واستمر حتي عصر الإمام علي..

كلمة التاريخ

يروي شهاب الدين النويري أحداث السقيفة قائلا: وكان من خبر سقيفة بني ساعدة أنه لما توفي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وقالوا: نولي هذا الأمر بعد رسول الله سعد ابن عبادة. وأخرجوا سعد إليهم وهو مريض. فلما اجتمعوا قال سعد لأبيه أو لبعض بني عمه: إني لا أقدر أشكو أي أن أسمع القوم كلهم كلامي. ولكن تلق مني قولي فاسمعوه. فكان سعد يتكلم ويحفظ الرجل قوله فيرفع به صوته. فيسمع أصحابه. فقال بعد أن حمد الله وأثني عليه: يا معشر الأنصار. إن لكم سابقة في الدين. وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. إن محمدا (صلي الله عليه وسلم) لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلي عباده الرحمن وخلع الأوثان. فما آمن به من قومه إلا رجال قليل. والله ما كانوا يقدرون علي أن يمنعوا رسوله. ولا أن يعزوا دينه. ولا أن يدفعوا عن أنفسهم فيما عموا به. حتي إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة. وخصكم بالنعمة ورزقكم الإيمان به ورسوله والمنع له ولأصحابه. والإعزاز له ولدينه والجهاد لأعدائه. فكنتم أشد الناس علي عدوه من غيركم حتي استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها. وأعطي البعيد المفادة صاغرا داخرا وحتي أثخن الله

ص: 49

لرسوله بكم الأرض. ودانت بأسيافكم له العرب. وتوفاه الله إليه وهو عنكم راض. وبكم قرير العين. استبدوا بهذا الأمر دون الناس. فإنه لكم دون الناس.. فأجابوه بأجمعهم. أن قد وفقت في الرأي. وأصبت في القول. ولن نعدو ما رأيت. نوليك هذا الأمر فإنك فينا رفيع. ولصالح المؤمنين رضا.. (1) . وتجنبا للصدام مع المهاجرين طرح بعض الأنصار فكرة المشاركة في الإمارة. من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير. وكان رد زعيمهم سعد بن عبادة هذا أول الوهن.. (2) . كان هذا هو موقف الأنصار أما موقف المهاجرين فيظهر لنا من خلال تحرك عمر الذي تزعم حركة المهاجرين في مواجهة الأنصار.. يروي النويري أن عمر لما أتاه الخبر ذهب إلي أبي بكر فوجده مشغولا (3) . فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره. فخرج إليه فقال: أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولي هذا الأمر سعد بن عبادة. وأحسنهم مقالة من يقول منا أمير ومنكم أمير. فخرجا مسرعين نحو السقيفة وجمعا في طريقهما عددا من المهاجرين وتنازعوا بين الذهاب، أو حسم الأمر بينهم دون الأنصار. ثم قرروا الذهاب.. قال عمر: والله لنأتينهم.. وخطب أبي بكر في أهل السقيفة قائلا: إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أواسط العرب دارا ونسبا.. وصاح أحد الأنصار: منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.. وارتفعت الأصوات وكثر اللغط. وهنا أصدر عمر قراره لأبي بكر: أبسط يدك

ص: 50


1- 90. أنظر نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري.
2- 91. أنظر فتح الباري شرح البخاري ج 7 / 30 وما بعدها وج 13 / 206 وما بعدها وانظر كتب التاريخ.
3- 92. لم تكف لنا الروايات ما كان مشغولا به أبو بكر في بيتة بينما الرسول يجهز. للدفن الإمام علي.

نبايعك: فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون. وبايعه الأنصار. ثم نزوا علي سعد. حتي قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقال عمر: قتل الله سعدا. وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوي من مبايعة أبي بكر أنا خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة. فإما أن نبايعهم علي ما نرضي. أو نخالفهم فيكون فشل.. (1) . وهناك روايات أخري تنص علي تصريحات أخري لأبي بكر وعمر والأنصار كل في مواجهة الآخر يقول فيها أبو بكر: إن قريشا أحق الناس بهذا الأمر من بعد الرسول لا ينازعهم ذلك إلا ظالم. فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. لا تفاتون بمشورة ولا تقضي دونكم الأمور.. (2) . أما تصريح الأنصار في مواجهة المهاجرين فقد حمله الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار. املكوا علي أيديكم. فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم. ولن يجترئ مجترئ علي خلافكم. ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم. وأنتم أهل العزة والثروة وأولوا العدد والتجربة. وذوو اليأس والنجدة. وإنما ينظر الناس إلي ما تصنعون. فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم. وتنتقض أموركم فإن أبي هؤلاء إلا ما سمعتم. فمنا أمير ومنهم أمير.. (3) . وكان رد عمر أكثر عنفا. قال: هيهات؟ لا يجتمع اثنان في قرن. إنه والله لا يرضي العرب أن يؤمروكم ونبيها (صلي الله عليه وسلم) من غيركم. ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمورها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم. ولنا بذلك علي من أبي من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين. من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته. ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة.. ورد الحباب علي عمر بلغة أشد عنفا فقال: يا معشر الأنصار. املكوا علي أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر. فإن أبوا عليكم ما سألتموه. فاجعلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور. فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم. فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين.

ص: 51


1- 93. أنظر المراجع السابقة ومروج الذهب للمسعودي والبداية والنهاية لابن كثير.
2- 94. المراجع السابقة.
3- 95. المراجع السابقة.

ورد عمر: إذن يقتلك الله.. ورد الحباب: بل إياك يقتل.. (1) . وصاح صوت من المهاجرين (أبو عبيدة): يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزر. فلا تكونوا أول من بدل وغير.. (2) . وطالب بشير بن سعد من الأنصار قومه بالتخلي عن هذا الأمر لقريش ابتغاء وجه الله. وقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا. (3) . ورجح عمر وأنصاره كفة أبي بكر وقدموه للخلافة وحدث صدام بين الأنصار بسبب مبايعة بعض الأنصار له. وتحركت الأوس لمبايعة أبي بكر حتي تفوت الفرصة علي الخزرج بزعامة سعد بن عبادة. ودخلت قوات قبيلة أسلم الموالية لأبي بكر المدينة وسيطرت علي دروبها ومسالكها ولما رآها عمر قال في فرح: ما هو إلا أن رأيت أسلم. فأيقنت بالنصر.. (4) . ويروي أن الناس أقبلوا من كل جانب يبايعون أبا بكر. وكادوا يطئون سعد بن عبادة. وقال ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطئوه. قال عمر: اقتلوه. اقتلوه.. قتله الله. ثم قام علي رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتي تندر عضدك.. فأخذ قيس بن سعد. بلحية عمر ثم قال: والله لو حصصت منها شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة.. (5) . ويروي ابن عبد البر: وتخلف عن بيعته سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش ثم بايعوه بعد غير سعد.. (6) .

ص: 52


1- 96. المراجع السابقة.
2- 97. المراجع السابقة.
3- 98. المراجع السابقة.
4- 99. أنظر مروج الذهب والإمامة والسياسة لابن قتيبة وتاريخ اليعقوبي. [
5- 100. المراجع السابقة.
6- 101. أنظر الإستيعاب هامش الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر.

وكان عمر يحرض أبي بكر علي سعد ليجبره علي البيعة فقيل له: أنه ليس يبايعكم حتي يقتل وليس بمقتول حتي يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته. فتركوه.. (1) .

موقف الإمام علي

كان هذا العرض التاريخي علي جانب الأنصار وقطاع من المهاجرين القريشيين. إلا أنه هناك جانب آخر من قريش كان بعيدا عن السقيفة. وهذا الجانب يملك رصيدا أقوي من رصيد قطاع أبو بكر وعمر ومن تابعهما. يملك رصيدا شرعيا. ويملك رصيدا جماهيريا.. ويملك رصدا تاريخيا. ويملك وزنا أكبر في قريش.. ذلك الجانب هو جانب الهاشميين بزعامة آل بيت النبي والذي كان مشغولا بتجهيز الرسول للدفن بينما القوم يتصارعون في السقيفة.. ويروي في نهج البلاغة أن عليا سأل عما حدث في السقيفة. فقال: ماذا قالت قريش.؟ قالوا: احتجت قريش بأنها شجرة الرسول (صلي الله عليه وسلم). فقال علي: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة (2) . وتروي كتب التاريخ روايات تشير إلي صدامات وقعت بين جناح الهاشميين بقيادة الإمام علي وجناح القريشيين بقيادة عمر بن الخطاب. وكان الصدام الأول بين فاطمة وبين أبي بكر حين طالبته بميراث الرسول (صلي الله عليه وسلم) في فدك ورفضه طلبها محتجا بحديث رواه هو..

ص: 53


1- 102. أنظر مروج الذهب.
2- 103. المراجع السابق. والمقصود بالثمرة آل البيت.

يقول أبو بكر: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) نحن معشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة. (1) . ومن المعروف أن فاطمة خاصمت أبي بكر وهجرته غاضبة حتي ماتت فدفنها علي (ع) ليلا في خفية عن القوم. وكانت وفاتها بعد وفاة الرسول بستة أشهر.. (2) . وكما كان عمر يحرض أبي بكر علي سعد. أصبح يحرضه علي علي ويطالبه بحسم الأمر معه وإجباره علي البيعة له لما يشكله موقفه من خطورة علي استقرار الحكم القبلي الذي أرسي دعائمه ويعد نفسه لقطف ثمرته.. إن عليا لم يكن وحده فقد كان معه بني هاشم وكثير من العناصر الفاعلة في المجتمع المدني من الأنصار والمهاجرين مثل العباس وعمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وبلال بن رباح والمقداد وجابر بن عبد الله وابن عباس وغيرهم.. وتروي الروايات أن عمر هم بإحراق بيت فاطمة الذي كان مقرا للقطاع المعارض لحكم أبي بكر بقيادة الإمام علي.. (3) . ويبدو أن ممارسات عمر هذه قد زادت من حدة العداء بينه وبين الإمام علي. يروي الطبري أن عليا أرسل إلي أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد (يقصد عمر).. فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك..

ص: 54


1- 104. أنظر مسلم كتاب الجهاد والسير والبخاري.
2- 105. أنظر فتح الباري ب 7 / 105.. وانظر تفاصيل الصدام بين فاطمة وأبي بكر في البداية والنهاية لابن كثير ح 6. وكتب التاريخ الأخري. وكان الهدف عن حجب ميراث فاطمة هو محاصرة آل البيت اقتصاديا من أجل إضعافهم. ومما يدل علي أن موقف أبو بكر هذا نابع من القبلية والسياسة أن عمر بن عبد العزيز رد ميراث فدك لآل البيت. ويلاحظ أن موقف أبو بكر هنا مخالف لنصوص القرآن مثل قوله تعالي (وورث سليمان داود) وقوله (يرثني ويرث آل يعقوب).
3- 106. أنظر تاريخ الطبري ح 3 / 198 / والملل والنحل للشهرستاني ح 1 / 75 والإمامة والسياسة لابن قتيبة ح 1 / 12. وتاريخ أبي الفداء ح 1 / 156 واليعقوبي 2 / 105.

فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي.. والله لآتينهم إلا منفردا.. فدخل أبو بكر علي بني هاشم وفيهم علي والعباس. فاستقبلوه استقبالا حسنا. (1) . ويروي المسعودي: ولما بويع أبو بكر في يوم السقيفة وجددت البيعة له يوم الثلاثاء علي العامة خرج علي فقال: أفسدت علينا أمورنا ولم تستشر. ولم ترع لنا حقا.. فقال أبو بكر: بلي. ولكني خشيت الفتنة. وكان للمهاجرين والأنصار يوم السقيفة خطب طويل. ومجاذبة في الإمامة. وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع. فصار إلي الشام. فقتل هناك في سنة خمس عشرة. وليس كتابنا هذا موضعا لخبر مقتله. ولم يبايع أحد من بني هاشم حتي ماتت فاطمة (2) . وينقل في كتب التراجم والتاريخ الكثير من الروايات التي تنسب لأبي بكر وعمر وعمر بن العاص وابن عمر وغيرهم وذلك في وقت الاحتضار وهم علي مشارف الموت. تلك الروايات التي تشير إلي ندمهم الشديد علي ما اقترفوه في حياتهم بسبب السياسة. يروي المسعودي عن أبي بكر: ولما احتضر قال: ما آسي علي شئ إلا علي ثلاث فعلتها وددت أني تركتها. وثلاث تركتها وددت أني فعلتها. وثلاث وددت أني سألت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) عنها: فأما الثلاث التي وددت أني تركتها: فوددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة وذكر في ذلك كلاما كثيرا. وودت أني لم أكن قد حرقت الفجاءة وأطلقته نجيحا أو قتلته صريحا. ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين فكان أميرا وكنت وزيرا.

ص: 55


1- 107. أنظر تاريخ الطبري.
2- 108. أنظر الطبري ومروج الذهب - للمسعودي.

والثلاث التي تركتها ووددت أني فعلتها: وددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا ضربت عنقه. فإنه قد خيل لي أنه لا يري شرا إلا أعانه. ووددت أني كنت قد قذفت المشرق بعمر بن الخطاب. فكنت قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله. وودت أني يوم جهزت جيش الردة ورجعت أقمت مكاني فإن سلم المسلمون سلموا. وإن كان غير ذلك كنت صدق اللقاء أو مددا. والثلاث التي وددت أني سألت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) عنها. وددت أني كنت سألته في من هذا الأمر فلا ينازع الأمر أهله. ووددت أني سألته عن ميراث العمة وبنت الأخ فإن بنفسي منها حاجة. ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب فنعطيهم إياه. (1) . ولم يكن الصراع علي الحكم ينحصر بين الأنصار وبين قطاع أبو بكر وعمر من المهاجرين إنما كانت هناك قطاعات أخري تتطلع إلي الحكم من قريش علي رأسها قطاع السفيانيين الذين تزعمهم أبو سفيان بن حرب الذي فقد سلطانه ونفوذه بعد فتح مكة.. ولم يكن أمام أبو سفيان الذي لا توجد له شوكة في المدينة سوي تحريض الإمام علي علي المجتمعين في السقيفة.. يروي الطبري أن أبا سفيان قال للإمام: ما بال هذا الأمر (الخلافة) في أذل قبيلة من قريش وأقلها. والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا.. وكان جواب الإمام: ما زلت عدوا للإسلام وأهله فما ضر ذلك الإسلام وأهله شيئا. والله ما أريد أن تملأها عليه خيلا ورجالا ولو رأينا أبا بكر لذلك أهلا ما خليناه وإياها. يا أبا سفيان إن المؤمنين قوم نصحه بعضهم لبعض متوادون. وإن بعدت ديارهم وأبدانهم وأن المنافقين قوم غششة بعضهم لبعض.. (2) .

ص: 56


1- 109. أنظر مروج الذهب.
2- 110. أنظر الطبري ح 2 / 449 الإستيعاب لابن عبد البر.

ويروي الطبري أيضا أن الإمام علي سارع ببيعة أبي بكر ولزم مجلسه وهناك روايات أخري تقول أنه بايع بعد ستة أشهر وبايع بعده شيعته من الصحابة.. (1) . يقول الإمام: فأمسكت يدي حتي رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام. يدعون إلي محق دين محمد (صلي الله عليه وسلم) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أري فيه ثلما أو هدفا تكون المصيبة به علي أعظم من موت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب. فنهضت في تلك الأحداث حتي زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه.. (2) . ومثل هذه الروايات التي تتحدث عن بيعة الإمام لأبي بكر سواء كانت قبل ستة شهور أو بعد هذه المدة أو حتي بعد دفن الرسول مباشرة. إنما تؤكد حقيقة واحدة وهي أن الإمام كان له موقف مما جري بالسقيفة بشكل عام ومن أبي بكر وعمر بشكل خاص. إن تسامح الإمام في أمر البيعة لا يعني تخليه عن موقفه الفكري والعقائدي تجاه هذا الخط القبلي الذي بدأت توضع قواعده أمامه. فهذا التسامح لا يخرج عن كونه موقفا سياسيا في مواجهة الأمر الواقع. فالإمام لم يتنازل عن قضيته ولكن تنازل عن شخصه من أجل حفظ قضيته التي تعكس الجوهر الحقيقي للإسلام.. لقد كان الإمام مخير بين أن يتنازل عن إمامته من أجل الحفاظ علي الإسلام أو يصطدم الواقع وتكون النتيجة خسارة الإسلام وخسارة الإمامة فقد كانت جيوب المنافقين بالمجتمع المدني قوية وكانت القبلية مستشرية. هذا علي مستوي الداخل. أما علي مستوي الخارج فكانت هناك قوي الروم والفرس تتربص بالمسلمين.. إن الانحراف في عصر أبي بكر لم يكن كبيرا إلي الحد الذي يستفز الإمام. ويؤرقه. إنما الانحراف الأكبر برز في عصر عثمان. وهنا تغير موقف الإمام.

ص: 57


1- 111. أنظر الطبري.
2- 112. نهج البلاغة ح.. 1 / خطبة رقم 3.

وتعايش الإمام مع عصر الخليفة الأول والثاني يبرهن به البعض علي شرعية هذين العصرين حيث أن الإمام اعترف بشرعيتهما ولم يصطدم بهما.. وفات هؤلاء إن هناك فرق بين التعايش والرضا.. وفات هؤلاء إن الإمام تعايش مع واقع الخلفاء تعايش العالم المتميز. تعايش العالم المدرك لحقائق الأمور حيث أنه قد نبأ من قبل الرسول (صلي الله عليه وسلم) بتصورات الأحداث من بعده. والبون شاسع بين من يفاجأ بظهور انحراف من جهة لم يكن يتوقع الانحراف منها. وبين من لعلم بحدوث هذا الانحراف مسبقا.. ومن بين الروايات التي تؤكد علم الإمام بهذه الحوادث.. قول الرسول (صلي الله عليه وسلم): يا علي. قاتلت علي التنزيل وأنت تقاتل علي التأويل.. (1) . أي أن الرسول قاتل المشركين الذين كفروا بما أنزل عليه ورفضوا الاعتراف بنبوته أما علي فسوف يقاتل المنتسبين لهذا الدين من المنافقين والمارقين الذين يؤولون النصوص ويستندوا إلي هذا التأويل في تبرير الانحراف والفساد ونسبته إلي الدين.. وقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): يأتي علي الناس زمان يكون فيه حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون بقول خير البرية ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. لا يجاور إيمانهم حناجرهم تحقر صلاتك خلف صلاتهم إذا وجدتموهم فاقتلوهم.. (2) . وقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): هلاك أمتي علي يدي غلمة من قريش. قال أبو هريرة الرواي إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان.. (3) .

ص: 58


1- 113. أنظر مسند أحمد ح 3 / 82.
2- 114. أنظر مسلم بشرح النووي ج 3.
3- 115. أنظر البخاري كتاب الفتن والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم يصرح بهم أبو هريرة؟. وفي هذا النص إشارة إلي ردة الصحابة من بعد الرسول. أنظر أحاديث الحوض في البخاري.

وقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (1) . وقول الرسول (صلي الله عليه وسلم) لعمار تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلي الجنة ويدعونك إلي النار (2) . وحديث السر الذي كشفته عائشة وحفصة في سورة التحريم ذلك السر الذي كان يتعلق بموقف كلا من أي بكر وعمر بعد وفاة الرسول.. (3) . إن مثل تلك الروايات إنما تشير إلي أن الرسول (صلي الله عليه وسلم) قد أجلي الأمور أمام الأمة وحدد لها معالم الانحراف عن خط الإسلام. وهي تشير أيضا إلي أن هناك الكثير من الصحابة الذين كانت لديهم دراية بأخبار الحوادث التي سوف تقع بعد وفاة الرسول مثل حذيفة.. (4) . ومن المعروف أن الإمام علي لم يشهر سيفا بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) إلا علي أهل القبلة وقد شهر هذا السيف في وجه عائشة والزبير وطلحة ومعاوية وابن العاص والخوارج. وهذا كله يشير إلي أن لديه علم خاص يبيح له فعل ذلك.. كما أنه من المعروف أن جميع العقائد والاتجاهات التي خالفت خط الإمام علي وفي مقدمتها عقيدة أهل السنة قد قامت علي التأويل.. (5) . إن الإمام قد تعايش مع واقع رافض له غير راض عنه لا مستسلما له. وهو فوق ذلك له وضعه المتميز فيه والذي يتلائم مع مكانته وقدره ووزنه. وفد اتخذه كل من الخليفة الأول والثاني مستشارا شرعيا وسياسيا له.. يقول الإمام: أما والله لقد تقمصها فلان - أبو بكر - وإنه ليعلم أن محلي منها

ص: 59


1- 116. المرجع السابق.
2- 117. أنظر مسلم.
3- 118. أنظر تفسير الكشاف للزمخشري وكتب التفسير الأخري.
4- 119. أنظر رواية البخاري في حذيفة صاحب سر رسول الله (صلي الله عليه وسلم) كتاب فضائل الصحابة. ورواية كان الناس يسألون الرسول عن الخبر وكنت أسأله عن الشر. كتاب الفتن. وانظر المحطة الخامسة من هذا الكتاب.
5- 120. أنظر لنا كتاب الخدعة. وكتاب عقائد السنة وعقائد الشيعة.. وانظر المحطة الخامسة من هذا الكتاب.

محل القطب من الرحا ينحدر عني السيل ولا يرقي إلي الطير. فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جزاء أو أصبر طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتي يلقي ربه فرأيت أن الصبر علي هاتا أحجي. فصبرت وفي العين قذي وفي الحلق شجا. أري تراثي نهبا حتي مضي الأول لسبيله فأدلي إلي فلان بعده - عمر - فيا عجبا. بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته. لشد ما تشطرا ضرعيها فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة أن أشنق لها خرم وأن أسلس لها تقحم. فمني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس وتلون واعتراض فصبرت علي طول المدة وشدة المحنة. حتي إذا مضي لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم. فيا لله وللشوري متي أعترض الريب في مع الأول منهم حتي صرت أقرن إلي هذه النظائر لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا فصغي رجل منهم لضغنه. ومال الآخر لصهره مع هن وهن.. (1) .

مناقشة الروايات

يبدو لنا من خلال رصد الروايات التي تدور حول أحداث السقيفة أن هناك الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام التي تدور في الأذهان بمجرد قراءة هذه الروايات.. وسوف نعرض هنا لبعض الملاحظات حول هذه الروايات ونبدأ مناقشتنا لها علي أساسها. الملاحظة الأولي: أن الأنصار أرادوا الاستئثار بأمر الخلافة وهم طائفة لا يمثلون جميع المسلمين.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: علي أي أساس استند الأنصار في موقفهم هذا..؟ إن الأنصار لم يتحصنوا في موقفهم هذا بدليل شرعي محدد. فقط هم حاولوا أن يستثمروا مكانتهم ودورهم في إيواء الرسول ونصرته.. ولكن هل يعد هذا سببا كافيا لمطالبتهم بالخلافة..؟

ص: 60


1- 121. نهج البلاغة ج 1 خطبة رقم 3.

ليس هناك من إجابة علي هذا السؤال سوي أن الدافع القبلي قد تسلط علي القوم حتي أدي في النهاية إلي انقسامهم وإضعاف شوكتهم بتحالف الأوس مع جناح أبو بكر وعمر مخافة أن تسيطر الخزرج علي الأمر ويصبحون تحت إمرتها. وهذا عمل قبلي في المقام الأول قدمت فيه الحسابات القبلية علي الحسابات الشرعية. أو بمعني أكثر وضوحا قدمت فيه مصلحة القبلية علي مصلحة الدعوة.. وعلي الرغم من تبعات هذا الموقف من قبل الأوس وآثاره علي وحدة المسلمين واستقرار المجتمع الإسلامي إلا أن الجناح القرشي بزعامة أبي بكر استقبله بالترحاب واستثمره لصالحه.. الملاحظة الثانية: أن عمر كان المحرك الفعلي للأحداث وبدا أبو بكر وكأنه تابع له.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا تصدي عمر للأمر وتخطي كبار المهاجرين وآل البيت..؟ هناك جواب جاهز عند البعض وهو أن عمر فعل ذلك من أجل الحفاظ علي الدعوة وتأمين مستقبلها وينتفي عنه أي عرض آخر لعظيم مكانته عند الرسول بحكم النصوص الواردة فيه.. إلا أن الروايات تدحض هذا التصور وتشكك فيه.. يروي البخاري: أن عمر طاف في المدينة بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) وهو يصبح مقسما: والله ما مات رسول الله. والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك. وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. وجاء أبو بكر فقال: أيها الحالف علي رسلك. فلما تكلم أبو بكر جلس عمر.. (1) . أن هذه الرواية تشير إلي أن عمر لم يكن يعتقد في وفاة الرسول (صلي لله عليه وسلم) وأنه حسب روايات أخري - ذهب ليكلم ربه ويعود كما حدث لموسي. ونحن لن نناقش هنا مدي صحة هذا الاعتقاد وكيف طرأ علي ذهن واحد مثل عمر وهو من هو. إلا أن ما نريد توضيحه أن هذا الموقف من قبله يكشف لنا أن فكرة تبنيه موضوع الخلافة كانت فكرة طارئة عليه لم تكن تشغله بعد وفاة الرسول وإنما كان يشغله

ص: 61


1- 122. أنظر البخاري كتاب فضائل الصحابة باب فضل أبي بكر.

موت الرسول وبعثه وعودته حتي جاء أبو بكر فبصره بالأمر وتلي عليه قوله تعالي: (ما كان محمد أبا أحدا من رجالكم أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم) (1) . فقال عمر كأني أسمع هذه الآية لأول مره. ثم إنه سكن وهدأ وأتاه خبر السقيفة فهرع إلي هناك مصطحبا أبا بكر وأبا عبيدة بن الجراح.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل كان عمر غير مستوعب لنصوص القرآن التي تتنزل علي الرسول (صلي الله عليه وسلم) حتي يدعي أن الرسول سوف يعود بعد وفاته ويتوعد من يقول بوفاته؟ وإذا كان عمر بهذا المستوي من الفهم أفلا يشير هذا إلي أنه لم يفهم النصوص القرآنية الأخري الواردة بشأن آل البيت والإمام علي ومستقبل الدعوة..؟ وإذا كان عمر قد تصدي لأمر الخلافة من باب المصلحة وكان متحمسا للأمر ويصول ويجول هنا وهناك من أجل أخذ البيعة لأبي بكر. فلماذا لم يكن صاحب المصلحة أبو بكر بنفس المستوي من الحماس ومن المفروض أن يكون حماسه يفوق حماس عمر. وقد أشارت الروايات إلي أنه كان مشغولا وقت وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) بشئ آخر لم توضحه الروايات.. وكان عمر يلح علي طلبه بينما هو يتمنع حتي أعلمه بخبر السقيفة فانطلق معه.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أي شئ كان يشغل أبو بكر غير تجهيز الرسول..؟. وأي ما تكون الإجابة فإن الأمر المقطوع به أنه كان مشغولا بأمر غير الخلافة حتي جاء عمر فأحيا الفكرة في نفسه.. ومن هنا يتضح لنا أن فكرة الخلافة كانت طارئة أيضا علي أبي بكر كما كانت طارئة علي عمر وهي لا تخرج عن كونها رد فعل لموقف الأنصار ومبادرتهم السريعة المفاجئة لقريش..

ص: 62


1- 123. سورة آل عمران.

لكن الأمر يوحي وكأن هناك طرف ثالث هو أحق بهذا الأمر ويتسابق كل من الأنصار والمهاجرين لكي يفوت عليه الفرصة. وليس هناك من تفسير لموقف عمر وتحالفه مع أبي بكر الطاعن في السن. ضد القطاعات الأخري. سوي أن شخصية أبي بكر كانت تتيح له ذلك.. تتيح له أن يتسلقها لكي يحقق مآربه.. وتتيح له التحصن بها في مواجهة الآخرين.. وعمر لم يكن يجرؤ علي ترشيح نفسه للخلافة بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) لأن الظروف غير ملائمة لكنه ناولها لأبي بكر ثم تناولها منه.. ولو كان عمر بهذه المكانة التي تضعه فيها الأحاديث لكان من الأولي له أن يتصدي لأمر الخلافة وهو القوي الشديد بدلا من رجل ضعيف كهل كأبي بكر.. ولو كان عمر بهذه المكانة ما ناطحته الأنصار وتطاولت عليه عندما خطب فيهم. واحتد معه الحباب قائلا: لا تسمعوا مقالة هذا. وعندما قال له عمر: يقتلك الله. رد عليه: بل إياك يقتل.. وما أمسك قيس بن سعد بلحيته وهدده.. إن القوم بين أن يكونوا قد طغت عليهم القبلية فنسوا أخلاق الإسلام وتجاوزوها. أو يكونوا أصحاب مقادير متساوية ووزن واحد ولا يملك كل منها ما يرجح به كفته علي الآخر من نصوص الشرع. والراجح الأمرين معا.. وإذا كان عمر قد احتج علي الأنصار بقوله: ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمورها من كانت النبوة فيهم. فإن هذا القول يوجب عليه التنحي مع صاحبه وإفساح الطريق أمام أهل بيت النبي (صلي الله عليه وسلم) فإنهم أرقي بيوت قريش، فلا هو ولا صاحبه يمثلان بيتا راقيا في قريش. وهذا هو ما استفز أبو سفيان ودفعه لتحريض الإمام بقوله: ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها.. وتأمل تعليق ابن حجر علي قول عمر لسعد بن عبادة: اقتلوه. قتله الله..

ص: 63

يقول ابن حجر: نعم لم يرد الأمر بقتله حقيقة. وأما قوله قتله الله فهو دعاء عليه وعلي الأول هو إخبار عن إهماله والإعراض عنه. وفي حديث مالك فقلت - عمر - وأنا فغضب: قتل الله سعدا فإنه صاحب شر وفتنة.. (1) . إن ابن حجر بتعليقه هذا يسير علي نهج التبرير والتأويل الذي يعتمده أهل السنة في مواجهة الحوادث والنصوص التي توقعهم في حرج شرعي.. ويتمادي ابن حجر في تأويل كلام عمر وتبرير مواقفه هو وصاحبه قائلا: وتركوا لأجل أقامتها (الخلافة) أعظم المهمات وهو التشاغل بدفن الرسول حتي فرغوا منها. والمدة المذكورة - أي مدة تركهم الرسول والانشغال بالخلافة - زمن يسير في بعض يوم يغتفر مثله لاجتماع الكلمة.. (2) . ويروي البخاري رواية تبريرية أخري لمواقف عمر وممارساته في السقيفة. تقول الرواية: لقد خوف عمر الناس وأن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك.. (3) . وقد جاءت هذه الرواية علي لسان عائشة ابنة أبي بكر ومعني هذا الكلام أن أسلوب العنف والإرهاب الذي مارسه عمر علي الرافضين بيعة أبي بكر كان عملا حسنا حاز رضا الله ومعونته. وعائشة بهذا تكون قد حكمت علي كل الرافضين لخلافة أبي بكر من بني هاشم والأنصار وغيرهم بالنفاق. ألا يعني مثل هذا الكلام مساسا بعدالة جميع الصحابة التي يعتقدها أهل السنة ويفسرون علي ضوئها الأحداث التي وقعت بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) بداية من السقيفة وحتي صفين.؟ (4) .

ص: 64


1- 124. أنظر فتح الباري شرح البخاري ص 7 / 32.
2- 125. المرجع السابق.
3- 126. البخاري كتاب فضائل الصحابة. باب فضل أبي بكر..
4- 127. أنظر كتاب العواصم من العواصم لأبي بكر بن العربي، وهو كتاب يضفي صفة العدالة علي جميع الصحابة ويقوم بتأويل النصوص الواردة في ذمهم وتبرير الأحداث التي ارتبطوا بها بما لا يمسهم وبما يخدم الخط الأموي. أنظر فتاوي ابن تيمية ح 35. وابن كثير البداية والنهاية. وانظر المحطات القادمة من الكتاب.

الملاحظة الثالثة: لماذا جاءت قبيلة أسلم إلي المدينة ومن الذي استدعاها. ولماذا أيقن عمر بالنصر فور رؤيتها..؟ إن الإجابة علي هذه التساؤلات يدفعنا إلي إلقاء الضوء علي الجانب الأكثر أهمية في أحداث السقيفة. جانب التحول من الجدال والنقاش إلي فرض الرأي بالقوة المسلحة.. لقد كان دخول قبيلة أسلم إلي المدينة أشبه بالانقلاب العسكري وهو دخول مرتب له من قبل بلا شك من قبل فريق عمر.. ويبدو أن الصراع بين فريق عمر وفريق الأنصار قد دخل طورا حرجا بحيث اهتزت كفه عمر وفريقه ورجحت كفة الأنصار أو من الممكن أن يكون الأنصار قد مالوا للإمام علي وحسموا الخلاف بينهم. وعمر وفريقه ليس بذاك الوزن الفاعل في المدينة. فضلا عن كونه من الوافدين عليها مع المهاجرين هو لا يمثل كل المهاجرين ولا جميع قريش. فهناك قطاع من المهاجرين مع الإمام. وهناك قطاع من قريش ينتظر النتيجة أو هو لا يعلم ما يجري هناك. ولعل هذا الوضع يفسر لنا قول عمر حين رأي قوات قبيلة أسلم تدخل المدينة الآن أيقنت بالنصر. وهذا بشير بصورة غير مباشرة أن عمر وفريقه هو الذي استدعي تلك القوات. ألا يدل مثل هذا التصرف أن جانب عمر قد فقد ميزانه الشرعي والأخلاقي. كما يشير من جانب آخر إلي أن النصوص التي واجه فريق عمر فريق الأنصار بها هي نصوص من اختراع تلك المرحلة. ولو كانت هذه النصوص صحيحة ومعترف بها ما نازعهم أحد ولكانت قد حسمت الصراع في مهده.. ويبدو أن اللغط والجدال حول أحقية أبي بكر بالخلافة قد امتد إلي فترات لاحقة مما استدعي الأمر إلي ضرورة اختراع أحاديث علي لسان الرسول (صلي الله عليه وسلم) تحدد الخلافة لأبي بكر في صراحة ووضوح وترفع من مكانته. لينتج عنها صنع هالة

ص: 65

مقدسة حول أبي بكر تمنع المساس به أو الخوض في شخصه وتقطع الطريق أما أية محاولات لإعادة قراءة مرحلة السقيفة.. (1) . ونفس هذا الأمر قد تم تطبيقه مع الخليفة الثاني حيث اخترعت له الكثير من المناقب التي رفعته حتي فوق الرسول نفسه أو ساوته به.. (2) . وقاموا بنفس الأمر مع الخليفة الثالث غير أن ممارساته ومواقفه المخالفة للكتاب والسنة والمضرة بمصالح المسلمين قد فضحته وعرته.. (3) . أما الإمام علي فقد فعلوا معه العكس من ذلك وبدلا من أن يضفوا عليه المناقب كما فعلوا مع السابقين. قاموا بالطعن في المناقب الواردة فيه والعمل علي التقليل من شأنه بمساواته بمعاوية واعتبار الخارجين علي حكمه بمثابة المجتهدين المأجورين.. (4) . الملاحظة الرابعة: أين الإمام علي..؟ إن المتتبع لأحداث السقيفة يكتشف غياب كثير من الرموز البارزة من الصحابة وعلي رأسهم الإمام علي فأين كان هؤلاء ولماذا انشغلوا عن هذا الحدث الضخم وهو اختيار خليفتهم؟.. أين أبو ذر. وأين المقداد. وأين الزبير. وأين جابر بن

ص: 66


1- 128. أنظر البخاري ومسلم باب فضل أبي بكر. ومن هذه الروايات: أتت امرأة إلي النبي (صلي الله عليه وسلم) فأمرها أن ترجع إليه. فقالت أرأيت إن جئت ولم أجدك.. قال النبي: إن لم تجديني فأتي أبا بكر. وعلي لسان الإمام علي رواية تقول سئل الإمام من ولده ابن الحنفية أي أناس خير بعد رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: أبو بكر. قال ثم من؟ قال: عمر. وخشيت أن يقول عثمان قلت ثم أنت. قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
2- 129. أنظر البخاري ومسلم. ومن هذه الروايات قول الرسول (صلي الله عليه وسلم) لعمر:.. ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك. وقول الرسول فيه: لم أر عبقريا يفري فريه. وقوله كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر. أنظر لنا كتاب الخدعة. وانظر المحطة القادمة.
3- 130. أنظر مناقب عثمان في البخاري ومسلم وشرحيهما لابن حجر والنووي. وأنظر كتاب الخدعة والمحطة الرابعة.
4- 131. أنظر مناقب الإمام في المرجعين السابقين. وانظر الخدعة والمحطة الخامسة.

عبد الله. وأين أبي بن كعب وبلال بن رباح وحذيفة بن اليمان وخزيمة ذي الشهادتين وعمار بن ياسر وأبو أيوب الأنصاري وأبو سعيد الخدري والبراء بن مالك وخباب بن الأرت ورفاعة بن مالك وأبي الطفيل عامر بن وائلة وغيرهم.. لقد كان اختفاء كل هؤلاء من سقيفة بني ساعدة عامل قلق لفريق عمر. حيث أن هذه الشخصيات الغائبة لها وزنها وفاعليتها ومن الممكن أن تشكل تحديا لهذا الفريق مستقبلا.. تروي الروايات أن الإمام ومعه عصبة من الصحابة كان مشغولا بتجهيز الرسول للدفن بينما كان القوم يتصارعون علي الخلافة في السقيفة.. (1) . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل من أخلاق المسلمين أن يتركوا رسولهم في مثل هذا الحال ويتصارعوا علي الحكم..؟. أين ما تعلموه من الرسول إذن..؟. لقد ترك الرسول في حياته في مواقف كثيرة من قبل هؤلاء الناس. ترك في أحد. وترك في مسجده وهو يخطب فيهم ونزل فيهم قوله تعالي (وتركوك قائما) وترك وهو يلفظ أنفاسه وطلب منهم إحضار قلم وقرطاس ليكتب لهم كتابا لا يضلوا بعده أبدا. وترك بعد وفاته.. (2) . ومثل هذا السلوك إن دل علي شئ فإنما يدل علي مدي استحكام أمر الدنيا وطغيانها علي كثير من هؤلاء.. ولعل هذا هو ما يشير إليه قوله تعالي (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)

ص: 67


1- 132. أنظر كتب التاريخ.
2- 133. أنظر في السيرة والتاريخ وتفسير سورة الجمعة وراجع باب وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم).

الملاحظة الخامسة: بيعه أبي بكر كانت فلتة.. لماذا..؟ الحمد لله إن هذه المقالة جاءت علي لسان عمر مدبر أحداث السقيفة وقاطف ثمرتها ولو كانت قد جاءت علي لسان سواه لكان للقوم فيها كلام آخر.. لقد قال عمر ما نصه: ألا إن بيعة أبا بكر كانت فلتة وقي الله الأمة شرها. فمن عاد إلي مثلها فاقتلوه. فأيما رجل بايع من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرة أن يقتلا... (1) . أليس هذا اعتراف صريح من عمر بأن ما حدث في السقيفة كان أمرا بعيدا عن الشوري بل كان بعيدا عن روح الإسلام بحيث يوجب علي فاعله القتل تقديرا لخطورته وجسامته وآثاره الوخيمة علي الأمة.. إن قول عمر هذا يؤكد أن حروب الردة ومانعي الزكاة التي خاضتها قوات أبو بكر بقيادة خالد بن الوليد لم تكن في حقيقتها سوي حركة تمرد علي حكم أبي بكر: وقد تكون هناك حالة ردة من البعض إلا أن الظاهر أن هذا الصدام العسكري كانت له أسبابه القبلية ولعل قمع خالد وتجاوزته في مواجهة هذه الانتفاضة ما يدعم هذا التصور.. (2) . وكان مناسبة هذا الكلام كما يروي البخاري أن عمر بلغه كلام أناس يقولون لو مات مات عمر لتولاها فلان. فقام عمر خطيبا وقال هذا الكلام.. (3) . فهل كان المقصود من كلام عمر هذا هو ردع اتجاه برز في المدينة ينادي بالشوري ويطعن في أحداث السقيفة وطريقة اختيار الخليفة الأول..؟ لا يعنينا هنا بقدر كبير الإجابة علي هذا السؤال وإن كانت إجابته واضحة. وإنما

ص: 68


1- 134. أنظر البخاري كتاب المحاربين ومسند أحمد ح 1 وفتح الباري ح 12.
2- 135. أنظر حوادث الردة في عصر أبي بكر في كتب التاريخ. وقصة خالد مع مالك بن نويرة.
3- 136. أنظر البخاري وفتح الباري ج 7 كتاب فضائل الصحابة.

يعنينا هو اعتراف عمر بأنه بيعة أبا بكر كانت فلتة وكان من الممكن أن تكون لها آثارا خطيرة علي الأمة لولا لطف الله. فإن كلام عمر هذا لا يعني إلا شيئا واحدا هو أن بيعته هو أيضا كانت فلتة.. . فلماذا قال عمر عن بيعة أبي بكر أنها كانت فلتة ونسي أنه استخلف بوصية منه..؟ ويروي البخاري أن عمر قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله (صلي الله عليه وسلم) حتي يدبرنا. فإن يك قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به بما هدي الله محمدا. وأن أبا بكر صاحب رسول الله ثاني اثنين. فإنه أولي الناس بأموركم فقوموا فبايعوه. وقال عمر لأبي بكر إصعد المنبر. فلم يزل به حتي صعد المنبر فبايعه الناس عامة.. (1) . ورواية البخاري المذكورة تعطينا إشارات جديدة حول موقف عمر وكونه المحرك الأول لعملية اختيار أبي بكر. وهي تكشف لنا من وجه آخر أن أبا بكر قد أقحم في الأمر ولم تكن له رغبة فيه وهذا واضح من إلحاح عمر عليه بالصعود إلي المنبر ليبايعه الناس. وهذه إشارة إلي كونه غير منصوص عليه بشئ وأن الأمر لا يخرج عن كونه محاولة استثمار لظرف طارئ.. وهذا أبو بكر يقول: هذا عمر وأبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا.. فإذا كان أبو بكر قد تنازل عن ترشيح نفسه وقدم عمر وأبو عبيدة ألا يدل هذا علي أن الأمر لا يخرج عن كونه مواقف فردية ارتجلت في حينها لمواجهة الأنصار..؟ وإذا ما تأملنا قول عمر: وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوي من مبايعة أبي بكر.

ص: 69


1- 137. المرجع السابق.

إنا خشينا إن فارقنا القوم - الأنصار - ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة. فإما أن نبايعهم علي ما نرضي أو نخالفهم فيكون الفشل.. وتأمل قوله وهو في الطريق إلي السقيفة ومعه أبو بكر وأبو عبيدة محدثا نفسه: كنت أزور في نفسي كلاما في الطريق فلما وصلنا السقيفة أردت أن أتكلم. فقال أبو بكر. مه يا عم.. وذكر ما كنت أقدره في نفسي كأنه يخبر عن غيب.. من هذه الروايات نلخص إلي أن الأمر كان من ترتيب القوم بزعامة عمر ولم يكن له وجهه الشرعي ويتضح هذا الأمر من قول عمر حين وفاته: لو كان سالم مولي حذيفة حيا لوليته وسالم هو عتيق حذيفة. وهو بهذا يخالف نص الإمامة في قريش ويناقض نفسه حين احتج علي الأنصار بقوله: ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمورها من كانت النبوة فيهم.

ص: 70

ص: 71

عمر بن الخطاب

اشاره

وبدأ معاوية يطل برأسه..

ص: 72

إن الشوري لا تثمر إلا شوري والاستبداد لا يثمر إلا استبدادا.. ولأن ما جري في السقيفة لم يكن له صلة بالشوري كان من الطبيعي أن تكون ثمرته مناقضة للشوري.. وهكذا جاء عمر. فلتة من فلتة. مهد لصاحبه ثم تلقفها منه بوصية من شيخ يحتضر دون حساب لرأي الأمة.. تقول وصية أبي بكر: هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة. آخر عهده في الدنيا نازحا وأول عهده داخلا بالآخرة. إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن تروه عدل فيكم فذلك ظني به. ورجائي فيه. وإن بدل وغير فالخير أردت. ولا أعلم الغيب. (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).. (1) . لقد كان علي أبي بكر أن يقوم برد الجميل الذي أسداه إليه عمر بتوصيله للحكم فقام هو بدوره ليوصله إلي الحكم وسن لأول مرة في تاريخ الإسلام نظام توريث الحكم. ذلك النظام الذي استند عليه فقهاء التبرير فيما بعد في تبرير استيلاء بن أمية وبني العباس علي السلطة في بلاد المسلمين. كما كانت هذه السنة هي الدفعة الأولي للخط الأموي الذي بدأت ملامحه تبرز في عهد عمر.. ولما كان موقف أبو بكر هذا لا سند له من شرع أو شوري فقد أثار المسلمين في المدينة وتصدي له الكثير من الصحابة بين منكرين له ورافضين.. وأول الرافضين كان الأنصار.. وثانيهم آل البيت بزعامة الإمام علي.. وثالثهم طلحة ومن شايعه الذي هرول نحو أبي بكر منكرا قائلا: ماذا تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا تفرق منه النفوس وتنفض منه القلوب.. (2) . ومن هنا يتبين لنا أن عمر لم يكن مرغوبا فيه وأن هذا الرفض لشخصه كانت له مبرراته الناتجة من سلوك عمر ومواقفه الاستفزازية طوال فترة حكم أبو بكر..

ص: 73


1- 138. أنظر تاريخ الطبري ج 3 وطبقات ابن سعد ج 3 / 199 والإمامة والسياسة وكتب التاريخ.
2- 139. أنظر طبقات ابن سعد ج 3 / 199 والطبري ج 3.

وإذا كان ما بني علي باطل فهو باطل. فإن خلافة عمر باطلة لكونها بنيت علي خلافة باطلة. والأولي والثانية لم تقم بمشورة المسلمين.. وكما فرضت خلافة أبي بكر علي المسلمين بقوة السيف فرضت أيضا خلافة عمر علي المسلمين بقوة السيف وبدأ عمر في قمع المناهضين له وإجبارهم علي بيعته وهو يكرر نفس الدور الذي كان يقوم به مع أبي بكر..

عمر والإمام علي

تعايش الإمام علي مع عمر كما تعايش مع أبي بكر من قبل. تعايش المغلوب علي أمره الإيجابي في مواجهة الواقع والأحداث. المستعد علي الدوام لتقديم المشورة ونصرة المظلوم والبذل والعطاء من أجل صالح الإسلام والمسلمين.. وإذا كانت هناك ضغوط علي الإمام في عصر أبي بكر فإن الضغوط عليه في عصر عمر أشد لأن عمر كما بينا سابقا هو رأس الأمر كله. وكان هو الرجل الثاني في السلطة أيام أبي بكر إن لم يكن هو الحاكم الحقيقي ولم يكن أبو بكر سوي ظل له. فإذا ما تسلم عمر السلطة وهو ما كان يخطط له فلا بد وأن تكون له سياسة كثر شدة في مواجهة آل البيت والإمام علي بحكم كونه يمثل جماعة ضغط فاعلة لها وزنها الشرعي والجماهيري وهي جديرة بالحكم. فضلا عن اعتقاده بأحقيتها بإمامة المسلمين.. وأمر آخر يبرر موقف عمر المتشدد والعدائي من آل البيت هو قناعته بضآلة قدراته العلمية والقيادية أمام قدرات الإمام علي.. يقول عمر عن نفسه بعد أن كثرت أخطائه في الفتيا وقراراته التي تصطدم بأحكام الإسلام: كل الناس أفقه من عمر.. (1) . ويقول مقرا بضآلته العلمية أمام الإمام علي: ما من معضلة ليس لها أبو الحسن.. (2) .

ص: 74


1- 140. أنظر قصة عمر مع المرأة حين صعد المنبر ينهي عن المغالاة في المهور حين قال أصابت امرأة وأخطأ عمر في الدر المنثور ج 1 / 133 / وتفسير قوله تعالي: (وآتيتم إحداهن قنطارا) في كتب التفسير.
2- 141. أنظر مستدرك الحاكم ويروي الحكم لم يكن أحد من الصحابة يقول سلوني إلا علي.

ويقول أيضا مبرزا حجم الموقف الإيجابي الذي التزم به الإمام تجاهه حفاظا علي مصالح المسلمين: لولا علي. لهلك عمر.. (1) . وكتب الحديث والتاريخ مليئة بالمواقف والممارسات والأحكام التي أصدرها عمر وتبين اصطدامها مع النصوص ومخالفتها لأحكام الإسلام مما يدل علي ضآلة علمه وقلة فقهه وحاجته الماسة لمن يدعمه فقهيا.. (2) . فهو قد حرم متعة الحج ومتعة النساء.. (3) . وجعل الثلاث طلقات في مكان واحد طلقة بائنة بينونة كبري لا تحل بعدها الزوجة حتي تنكح زوجا غيره.. (4) . وشرع لصلاة التراويح جماعة ولا جماعة في نفل.. (5) . وجعل التكبير في صلاة الجنائز أربعا بعد أن كان خمسا.. (6) . وأفتي في المواريث فتاوي تناقض بعضها بعضا.. (7) . وتجسس علي الناس بمجرد الظن مخالفا القرآن.. (8) .

ص: 75


1- 142. أنظر الإستيعاب هامش الإصابة ج / 39. والرياض النضرة ج 2 / 194.
2- 143. أنظر النص والاجتهاد للسيد شرف الدين. ومعالم المدرستين ج 2 للسيد مرتضي العسكري. وانظر لنا فقه الهزيمة فصل الرجل.
3- 144. أنظر صحيح مسلم والبخاري يتبين لك أن زواج المتعة كان معمولا به علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وشطر من عهد عمر حتي حرمها بقوله: متعتان كانتا علي عهد رسول الله وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء..) أنظر سنن البيهقي وكتب التفسير. وانظر كتاب المتعة وأثرها في الاصلاح الاجتماعي بيروت. وانظر كتابنا زواج المتعة حلال.
4- 145. أنظر صحيح مسلم وسنن البيهقي ومسند أحمد وكتب التفسير ويذكر أن الأزهر وأهل السنة عموما يطبقون رأي عمر هذا ويلتزمون به ويفتون علي أساسه اليوم.
5- 146. كانت صلاة التراويح تصلي مثني مثني في البيوت علي عهد الرسول وعهد أبي بكر حتي جاء عمر فجمع الناس ليصلونها جماعة وكان يقول: إنها بدعة ونعمت البدعة أنظر البخاري ومسلم كتاب الصلاة.
6- 147. أنظر تاريخ الخلفاء للسيوطي.
7- 148. أنظر البيهقي ج 6 / 245 حيث يروي عن عبيدة قوله: إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضا.
8- 149. قصة تجسس عمر علي البيوت مشهورة حين تسلق البيت علي أصحابه. والله ينهي عن التجسس وانظر سيرة عمر في كتب التاريخ.

وأوقف إقامة الحد علي المغيرة بن شعبة.. (1) . ورفض أن يورث أحدا من الأعاجم.. (2) . ورجم الحبلي والمضطرة وأقام الحد بغير وجه حق.. (3) . وأسهم في زرع الطبقية بين المسلمين وشاطر العمال أموالهم.. (4) . وغير ذلك من التجاوزات والمخالفات التي لا يتسع المجال لذكرها هنا والتي تؤكد عدم جدارة عمر لأمر الخلافة وأنه أقحم نفسه فيها.. ولقد كان للإمام علي دورا بارزا في التصدي لانحرافات عمر وتجاوزاته للنصوص وأحكامه الجائرة علي الرعية وسياسة البطش والإرهاب التي ألقت الرعب في قلوب الناس حتي أن امرأة حاملا أسقطت جنينها خوفا منه حين بعث في طلبها وقد جمع كبار الصحابة ليشيروا عليه في حكم هذا الأمر.. (5) . وعندما منع زواج المتعة هدد الصحابة من المؤمنين بوجوبه والقائلين به وعلي رأسهم ابن عباس الذي لم يجهر برأيه في هذا الزواج إلا بعد وفاته.. (6) . إن التهديد والتخويف علامة بارزة س سياسة عمر وشخصيته من أيام

ص: 76


1- 150. شهد مجموعة من الصحابة علي المغيرة بن شعبة أنه زني بامرأة محصنة ذات بعل ولم يقم عمر الحد عليه بل أقامه علي الشهود بتهمة القذف أنظر ترجمة المغيرة في الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر وأسد الغابة لابن الأثير.
2- 151. أنظر موطأ مالك ج 2 / 12.
3- 152. حاول عمر أن يقيم الحد علي امرأة اضطرت للزنا ولا إثم علي المضطر كما حاول أن يقيم الحد علي امرأة حبلي من الزنا وامرأة مجنونة وامرأة حملت من ستة أشهر وقد تدخل الإمام علي ومع إقامة هذه الحدود وأثبت جهل عمر. أنظر كتب السنن. وانظر قصة أخذ الدية بغير حق في الإستيعاب ترجمة أبي خراش الهزلي. وانظر جهله بأحكام الصلاة فتح الباري ج 3 / 69.
4- 153. قدم عمر البدريين علي من سواهم والمهاجرين علي الأنصار وأمهات المؤمنين علي غيرهن. وكان يقتسم أموال العمال مثل أبو هريرة عامل البحرين. أنظر الأموال لأبي عبيدة وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي وكتب الفقه.
5- 154. أنظر تاريخ الخلفاء والبيهقي وكتب السنن وترجمة عمر في الإصابة وأسد الغابة والاستيعاب.
6- 155. قال عمر لا أوتي برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة. يعني الرجم.. تأمل. أنظر القرطبي تفسير سورة النساء قوله تعالي (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) وانظر تفسير الخازن وروح المعاني للآلوسي وتفسير ابن كثير وكتب الفقه.

الرسول (صلي الله عليه وسلم) عندما كان يرفع شعار (دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله) وعندما هدد القائلين بوفاة الرسول. وعندما هدد الأنصار والرافضين لبيعة أبي بكر في السقيفة.. وإذا كان عمر يمارس الارهاب في حدود الأحكام الفقهية وفي حدود الرعية أفلا يمارسها ضد آل البيت الذين يشكلون خطرا علي نفوذه وسلطانه.. ومما يشير إلي موقف عمر العدائي تجاه آل البيت التزامه بسياسة الحصار الاقتصادي التي وضعها مع أبي بكر تجاه فاطمة وعلي وأبنائهما.. يروي أن عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك دخلوا علي عمر. ثم جاء العباس وعلي يختصمان. فقال عمر لهم: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض تعلمون أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: لا نورث ما تركنا صدقة. قالوا: نعم. قال عمر: فلما توفي رسول الله قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله. فجئت أنت وهذا إلي أبي بكر تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك. ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها. فقال أبو بكر: إن رسول الله قال: لا نورث ما تركنا صدقة والله يعلم إنه صادق بار راشد تابع للحق.. (1) . وفي رواية أخري: جاء العباس وعلي إلي عمر يختصمان. فقال العباس: أقضي بيني وبين هذا. فقال الناس: أفصل بينهما. أفصل بينهما. قال: لن أفصل بينهما قد علما أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: لا نورث ما تركنا صدقة.. (2) . والواضح من هاتين الروايتين أن الهدف منهما تشويه صورة الإمام علي والعباس وآل البيت بصورة عامة. فكل من علي والعباس اختصما بسبب المال وتطور الصدام بينهما حتي وصل إلي عمر وشاع أمره بين الناس. وفي هذا طعن

ص: 77


1- 156. أنظر تاريخ عمر لابن الجوزي والبخاري ومسلم. ويلاحظ هنا أن الخمسة المذكورين في الرواية هم من أنصار الخط القبلي وخصوم الإمام علي والأربعة الأول عثمان والزبير و عبد الرحمن وسعد هم من أصحاب الشوري الذين أضيف إليهم طلحة بأمر عمر واختاروا عثمان بعد مصرعه. تري هل وجودهم عند عمر كان محض صدفة..؟.
2- 157. أنظر البخاري ومسلم والترمذي.

في الإمام وإظهار بمظهر الحريص علي الدنيا المتهافت علي مطامعها حتي أنه تخاصم مع عم الرسول بسببها.. إلا أن يعنينا هنا هو كشف موقف عمر العدائي تجاه آل البيت وبحضور عدد من خصومهم مثل أنس وسعد وعثمان والزبير و عبد الرحمن والذين من الصعب أن نحمل تواجدهم في هذا الوقت من قبيل الصدفة.. وحتي لا يتبادر إلي ذهن المسلم ما يشير إلي وجود موقف عدائي من قبل عمر للإمام علي حرص أنصار الخط الأموي علي تبديد أي شك حول وجود أي خلاف بين الطرفين.. تأمل رواية مسلم عن ابن عباس يقول: وضع عمر بن الخطاب علي سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم. قال فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم علي عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقي الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك إني كنت أكثر أسمع رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يقول جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر. وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو ولأظن أن يجعلك الله معهما.. (1) . ويروي البخاري علي لسان الإمام جوابا علي سؤال ولده محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: أبو بكر. قلت ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول عثمان قلت ثم أنت. قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.. ويلاحظ من هاتين الروايتين أنهما لا تهدفان فقط إلي إثبات رضا الإمام عن عمر ومودته له واعترافه بأفضليته عليه. وإنما تهدفان أيضا إلي إثبات نفس الموقف علي أتباع الإمام علي وشيعته من الصحابة وحتي من آل البيت. إن هؤلاء الأشياع والأتباع يوالون عمر ويحبونه مما ينفي تبعا وجود أي خلاف أو عداء بين عمر وعلي..

ص: 78


1- 158. مسند أحمد 1 / 49. وانظر البخاري.

عمر و معاوية

إن الراصد لسيرة عمر يكتشف عدم وجود أية مواقف عدائية تجاه بني أمية وعلي رأسهم أبو سفيان ومعاوية ولده. بل من الممكن للراصد أن يجد العكس من ذلك. فقد قام عمر بوقف نصيب المؤلفة قلوبهم الذي كان يعطي من الزكاة علي عهد الرسول (صلي الله عليه وسلم) وعهد أبي بكر وأصبح بالتالي معاوية وأبوه كبقية المسلمين بعد أن كانا من المؤلفة قلوبهم.. (1) . ولم يقف الأمر عند حد تحرير معاوية وأبوه من إطار المؤلفة قلوبهم ورفعه إلي درجة المسلمين. بل تمادي عمر في موقفه المبارك لبني أمية وقام بتولية معاوية علي الشام مكان أخيه يزيد.. (2) . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا فعل عمر ذلك..؟ ألم يجد بين المسلمين من هو أجدر منه بهذه المهمة..؟ وهل نسي عمر تاريخ بني أمية وتاريخ أبو سفيان في مواجهة الدعوة ومحاربة الرسول..؟ وما هي المقومات التي كان يملكها معاوية حتي يسلمه الشام..؟ هل كان من المهاجرين..؟ هل كان من المجاهدين..؟ هل كان من المقربين للرسول (صلي الله عليه وسلم). هل كان من أهل العلم..؟ بالطبع لم يكن من هؤلاء والثابت أنه. كان من الطلقاء.. (3) .

ص: 79


1- 159. أنظر الإستيعاب ترجمة معاوية.. وكتب التاريخ.
2- 160. أنظر الإصابة في تمييز الصحابة والاستيعاب ترجمة معاوية وانظر كتب التاريخ.
3- 161. كان معاوية وأبوه من الطلقاء. والطلقاء تعبير أطلقه الرسول صلي الله عليه وسلم لا علي أهل مكة حين فتحها بقوله: اذهبوا فأنتم الطلقاء. والطلقاء كانوا من المؤلفة قلوبهم. والثابت عند أهل العلم أنه لم تصح في معاوية منقبة أي لم يذكر الرسول فيه شيئا حسنا. أنظر فتح الباري ج 7 / كتاب فضائل أصحاب رسول الله باب ذكر معاوية. وانظر سنن النسائي وكتابه خصائص الإمام علي. ويذكر أن النسائي قتل علي أيدي أهل الشام لرفضه كتابه كتاب يثني فيه علي معاوية ويجمع في مناقبه كما فعل مع الإمام علي. أنظر ترجمة النسائي في وفيات الأعيان لابن خلكان وغيره من كتب التراجم.

فكيف بطليق ابن طليق أن يلي أمر المسلمين في حضرة كبار الصحابة ووجود آل البيت.؟ وكيف بعمر علي شدته في الحق وتقواه أن يقدم علي مثل هذا الأمر..؟ يبدو لنا من خلال رصد علاقة عمر بمعاوية أن هناك شيئا غامضا يبلور علاقته به وهذا الشئ غير واضح في كتب التاريخ.. ربما يكون عمر قد أحس بضعفه في مواجهة خصومه فأراد أن يتحصن ببني أمية.. وربما أراد أن يضع حجر عثرة في طريق حركة آل البيت من بعده.. وربما يكون في الأمر شيئا آخر. إلا أن ما يعنينا قوله هو أن تولية معاوية علي الشام لا يمكن اعتباره مجرد خطأ.. لقد أخذ الخط الأموي دفعته الأولي من عمر بتمكين معاوية علي أرض الشام وبدأ يعد العدة لتحطيم العوائق التي تقف في طريقه وعلي رأسها دولة الخلافة.. ولا بد لنا من استقصاء الروايات التي تتعلق بموقف عمر من معاوية حتي يتبين لنا الأمر بصورة كثر وضوحا.. يروي ابن حجر: كان عمر إذا نظر إلي معاوية قال هذا كسري العرب.. (1) . أما مناسبة هذا الكلام فيرويها ابن عبد البر: قال عمر إذ دخل الشام ورأي معاوية: هذا كسري العرب. وكان قد تلقاه معاوية في موكب عظيم. فلما دنا منه قال له أنت صاحب الموكب العظيم. قال نعم يا أمير المؤمنين. قال ما يبلغني عنك من وقوف ذوي الحاجات ببابك..؟ قال مع ما يبلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا..؟ قال نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به. فإن أمرتني فعلت وإن نهيتني انتهيت فقال عمر لمعاوية: ما أسألك عن شئ إلا تركتني في مثل رواجب الضرس إن كان ما قلت حقا إنه لرأي أريب وإن

ص: 80


1- 162. أنظر الإستيعاب ومقدمة ابن خلدون.

كان باطلا إنه لخدعة أديب. قال فمرني يا أمير المؤمنين. قال لا آمرك ولا أنهاك.. (1) . والمتأمل في هذه الرواية يكتشف مدي تواطؤ عمر مع معاوية وتغاضيه عن انحرافاته الخطيرة. فكيف نوفق بين موقف عمر هذا وبين موقفه من الصحابة الآخرين الذين ولا هم علي الأمصار وكان يوجعهم بدرته ويصادر أموالهم ويعزلهم عن وظائفهم..؟ وإذا ما تأملنا حجة معاوية بإرهاب العدو بعز السلطان فإننا نكتشف أنها حجة واهية وهي تضع عمر بين أمرين: إما أنه ساذج استغفله معاوية.. وإما أنه متواطئ معه.. وقول عمر لمعاوية لا آمرك ولا أنهاك إنما يرجح الأمر الثاني.. ولقد كان العرب يخرجون للغزو حفاة عراة رجالا وركبانا يواجهون الروم والفرس وينتصرون عليهم بدون أبهة الملك وعز السلطان.. وإذا كان عز السلطان يرهب العدو كما يدعي معاوية فمن الأولي أن يظهره عمر وهو الخليفة لا أن يظهره معاوية وهو الوالي من قبل عمر.. ويروي أن معاوية صحب عمر في رحلة الحج وكان في كامل هيئته فقال عمر بخ بخ إذ نحن خير الناس أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة. حمي إذا جاء ذا طوي أخرج معاوية حلة فلبسها فوجد عمر منها ريحا كأنه ريح طيب. فهاجمه عمر: فقال معاوية: إنما لبستها لأدخل بها علي عشيرتي يا عم والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام.. (2) . ومن الواضح من خلال هذه الرواية أن علاقة عمر بمعاوية تفوق كونها علاقة

ص: 81


1- 163. أنظر الإستيعاب. ويذكر أن راتب معاوية السنوي بلغ عشرة آلاف دينار. وفي رواية بلغ راتبه الشهري ألف دينار.
2- 164. أنظر الإصابة ترجمة معاوية.

بين خليفة وواحد من عماله. فإن اللغة التي يخاطب بها معاوية عمر إنما تشير إلي أن معاوية يشكل ندا لعمر.. ويروي أن معاوية دخل علي عمر وعليه حلة خضراء فنظر إليه الصحابة. فلما رأي ذلك عمر قام ومعه الدرة فجعل ضربا بمعاوية ومعاوية يقول الله الله يا أمير المؤمنين فيم فيم. فلم يكلمه حتي رجع فجلس في مجلسه. فقالوا له لم ضربت الفتي وما في قومك مثله؟ فقال ما رأيت إلا خيرا وما بلغني إلا خير ولكني رأيته وأشار بيده يعني إلي فوق فأردت أن أضع منه.. (1) . فتأمل قول عمر ما رأيت إلا خيرا وما بلغني إلا خير. أي أن سيرة معاوية ومواقفه محل رضا عمر التام والشئ الوحيد الذي استفز عمر في شخصية معاوية هو غروره فقام بضربه ليحط منه ويقضي علي غروره.. فهل قضي عمر علي غرور معاوية وحال بينه وبين تطلعاته..؟ وتلفت انتباهنا ملاحظة هامة من خلال هذه الرواية وهي قول جلساء عمر: لم ضربت الفتي وما في قومك مثله..؟ فمن الواضح أن أصحاب هذا القول هم من أنصار الخط الأموي. إذ كيف يجعلون معاوية لا يساويه أحد من الصحابة. وكيف يقبل عمر منهم هذا القول؟ إننا بعد عرض هذه الروايات لا نكون مبالغين إذا ما قلنا أن معاوية إنما هو من صناعة عمر. استظل به واحتمي بحمايته. وإن عمر كان يدرك تماما مدي خطورة معاوية وأطماعه ولعله قد بلغه تحذير الرسول (صلي الله عليه وسلم) من بني أمية.. (2) .

ص: 82


1- 165. المرجع السابق.
2- 166. وردت عدة أحاديث تذم بني أمية علي لسان الرسول صلي الله عليه وسلم مثل قوله. هلاك أمتي علي يدي غلمة من قريش. قال أبو هريرة إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان. وقوله يهلك الناس هذا الحي من قريش. قالوا فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم. كما ورد عن الرسول قوله إن بني أمية هم الشجرة الملعونة في القرآن. أنظر الدر المنثور 4 / 191 وانظر البخاري كتاب الفتن.

وإن إدراك عمر لخطورة معاوية ليتجلي لنا بوضوح من خلال تصريحه لمجموعة الشوري حين طعن حيث قال: إياكم والفرقة بعدي فإن فعلتم فاعلموا أن معاوية بالشام فإذا وكلتم إلي رأيكم كيف يستبزها منكم.. (1) . إذن معاوية يتأهب للاستيلاء علي الحكم.. وعمر يدرك ذلك ويحذر الصحابة منه قبل وفاته وكان يضرب عرض الحائط بتحذيرات الصحابة من معاوية أثناء حياته.. تأمل قول عمر: دعونا من ذم فتي من قريش. من يضحك في الغضب. ولا ينال ما عنده من الرضا. ولا يؤخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه.. (2) . وما كان عمر يقول مثل هذا الكلام لولا أن هناك اتجاه من بين الصحابة يذم معاوية ويحذر عمر منه. فهل أدرك عمر خطورة معاوية متأخرا..؟ إن الروايات التي بين أيدينا لا تقودنا إلي هذا الاستنتاج بالطبع..

عمر والاستخلاف

حين طعن عمر جعل الشوري في ستة يختار من بينهم من يخلفه وهؤلاء الستة هم طلحة والزبير و عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعثمان ثم الإمام علي.. وبالتأمل في سيرة الخمسة غير الإمام علي نجدهم لا يمكن بحال أن يتفقوا علي الإمام بل هم من خصومه وهم في الأساس من أركان الخط القبلي الذي أوصل عمر للحكم.. فلماذا اختار عمر هؤلاء الستة وهو يعلم يقينا أنهم لن يجمعوا علي الإمام علي ولن يرضي علي بأحد منهم..؟ (3) . ولقد سارت عملية الشوري بطريقة هزلية لتستقر في النهاية بالخلافة في أحضان الخط الأموي وكأنه أمر مدبر ومرسوم..

ص: 83


1- 167. الإصابة ترجمة معاوية.
2- 168. أنظر الإستيعاب بهامش الإصابة.
3- 169. أنظر سيرة الخمسة وتبين مواقفهم من الرسول ومواقف الرسول منهم ومدي سيطرة الروح القبلية علي مواقفهم وممارساتهم. في كتب التراجم.

فحين تشاور القوم مال الزبير لعلي ومال سعد لعثمان ومال طلحة لعبد الرحمن ثم انسحب عبد الرحمن ورفض ترشيح نفسه ومال لعثمان لتصبح النتيجة ثلاثة إلي واحد. ثلاثة مع عثمان وواحد مع علي فعبد الرحمن عندما مال لعثمان مال طلحة معه. (1) . وفي رواية أخري انتهت النتيجة اثنين في مواجهة اثنين أي تعادلت الأصوات وهنا عرض عبد الرحمن علي الإمام علي أن يبايع علي كتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين فأبي إلزامه بسنة الشيخين. فطلب من عثمان ذلك فوافق فأعلن بيعته (2) . والطريف في الأمر أن عثمان حين استخلف واستتب له الأمر خرج علي الكتاب والسنة وسنة الشيخين وكفر به القوم حتي الذين رشحوه واختاروه.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل عمل عمر هذا يطابق الشوري وروح الإسلام..؟ والجواب بالطبع لا. فقد كان اختيار عمر لمجموعة الشوري يقوم علي أساس قبلي بحت ولم يكن وضع الإمام علي في هذه المجموعة سوي محاولة للتغطية علي الهدف الحقيقي من وراء اختيار هذه المجموعة التي أشار البعض علي عمر أن يضع ولده عبد الله فيها. (3) . لقد سن عمر للخط الأموي بهذا العمل سنة أتاحت له فرصة البروز والحصول علي الشرعية من خلال عثمان.. واستثمار هذه السنة فيما بعد في ضرب فكرة الشوري في الإسلام ودعم نظام الوراثة.. وجعل الشوري في ستة أفراد متناقضين متنافرين فضلا عن كونه أمر مغرض

ص: 84


1- 170. أنظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 7 / 59 وما بعدها، وانظر كتب التاريخ.
2- 171. المرجع السابق.
3- 172. أنظر فتح الباري ج 7 / 67.

هو يصطدم بالقرآن الذي يقول: وأمرهم شوري بينهم..، أي بين المؤمنين جميعا وليس بين فئة محددة.. ويصطدم بسنة الرسول الذي طبق النص القرآني وعمل به بين الصحابة وفتح الباب لحرية الرأي الذي أغلقه أبو بكر وعمر ليفتح الباب علي مصراعيه لدكتاتورية الخط الأموي.. وإذا كان عمر وهو ينازع في حيرة من أمره يستخلف أو لا يستخلف مرددا إن لم أستخلف فلم يستخلف الذي هو خبر مني - أي الرسول - وإن أستخلف فقد استخلف أبو بكر. (1) . وقد انتهز فرصة حيرة عمر هذه رجل لم تكشف لنا الروايات من يكون. وقال له: استخلف عبد الله بن عمر.. فقال عمر: قاتلك الله. والله ما أردت الله بهذا. أستخلف من لم يحسن أن يطلق امرأته... (2) . إلا أن عمر مال إلي الاستخلاف في حدود مجموعة لن تحيد عن الخط القبلي الذي وضع أساسه مع أبي بكر وهي في النهاية سوف تستقر علي واحد من أنصار هذا الخط ولن تتجه بحال إلي الحيدة عنه والاتجاه نحو علي.. وعلي الرغم من موقف عمر من ولده عبد الله وكونه صاحب شخصية ضعيفة تجعل منه عديم القدرة علي اتخاذ القرار. علي الرغم من ذلك جعله في أهل المشاورة جبرا لخاطره. وقال عمر: إذا اجتمع ثلاثة علي رأي وثلاثة علي رأي فحكموا عبد الله بن عمر فإن لم ترضوا بحكمه فقدموا من معه عبد الرحمن بن عوف وإن ولي عثمان فرجل فيه لين وإن ولي علي فستختلف عليه الناس وإن ولي سعدا وإلا فليستعن به الوالي (3) .

ص: 85


1- 173. البخاري ومسلم.
2- 174. أنظر فتح الباري ج 7 / 67 وانظر تاريخ الخلفاء.
3- 175. المرجع السابق. والسؤال هنا لماذا لم يرشح عمر أبو ذر أو عمار مثلا بدلا من ولده..؟ وما يجب ذكر. هنا هو أن ابن عمر هذا رفض بيعة علي بعد عثمان وبايع معاوية وولده يزيد وقد أطال الله في عمره حتي لحق بالحجاج وكان يصلي خلفه ومعه أنس بن مالك. أنظر تاريخ ابن عمر في كتب التراجم.

وهكذا يبدو لنا بوضوح أن الأمور تتجه إلي غير صالح الإمام علي فعبد الله بن عمر لا وزن له و عبد الرحمن حليف عثمان.. يقول الإمام علي حول هذه الحادثة: لقد قرن بي عثمان.. وقال كونوا مع الأكثر. ثم قال كونوا مع عبد الرحمن بن عوف. وسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن. وعبد الرحمن صهر لعثمان.. وهم لا يختلفون. فإما أن يوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن (1) . ويبدو أن الإمام قد أقحم في أمر الشوري متضررا مع علمه الكامل بخبايا هذه اللعبة وكونها سوف تستقر علي خط عمر الذي استحي علي ما يبدو من تطبيق سنة صاحبه الذي استخلفه دون مشورة المسلمين فأراد أن يوسع دائرة الاستخلاف قليلا في حدود من يريد أن يستخلفه لتستقر في النهاية علي واحد بعينه هو من يريده. إن عمر كان يعلم مسبقا أن الأمر سوف يستقر في النهاية علي اثنين. علي وعثمان ولأن علي لا يمثل مصالح القوم بل سوف يضربها فإن الأمر سوف يستقر لعثمان. وكأن عمر يريد أن يستخلف عثمان واخترع أمر الشوري ليموه علي غايته (2) . يقول عمر: إن تولاها الأجلح لسار بهم علي الطريق. فقال له ولده: فلم لا توله. قال: لا أريد أن أحملها حيا وميتا (3) . ولعل هذا القول يؤكد صحة الاستنتاج الذي توصلنا إليه فالأجلح هنا المقصود به الإمام علي.

ص: 86


1- 176. تاريخ الطبري وانظر نهج البلاغة.
2- 177. هناك تصريح لعمر يؤكد هذا أنظر فتح الباري ج 7 / 67 وما بعدها.
3- 178. فتح الباري ج 7 / 68.

ص: 87

عثمان

اشاره

ووضع حجر الأساس للخط الأموي

ص: 88

لم يكن عثمان كسابقيه يحتاط لأمره ويحسب لخصومه ويداري قبيلته. وإنما وبمجرد أن أمسك زمام الحكم في يده جهر بقبيلته وأظهر ميله لقومه معلنا أمويته فأسخط عليه الناس واستفز الجميع حتي أنصاره ومؤيديه من خارج بني أمية.. لقد تجاوز عثمان حدود الخط القبلي الذي رسمه من قبله أبي بكر وعمر وحصر هذا الخط في دائرة بني أمية. وهو قد خالف الكتاب والسنة. وضرب عرض الحائط بنصح الآخرين ولم يعبأ بأحد. فهل كان مركز عثمان من القوة بحيث جعله يتمادي في موقفه هذا..؟. أم أنه وجد الخط القبلي قد ترسخ وتمكن علي ساحة الواقع ولم تعد هناك حاجة للتمويه أو المواربة..؟. إن الضربات التي وجهت لخط آل البيت بقيادة الإمام علي بداية من عهد أبي بكر وحتي عهد عمر أضعفت من شوكة هذا الخط وقدراته. فقد كانت كل الضغوط مركزة عليه وكل العوائق تقف في طريقه لكونه يمثل الاتجاه الفاعل والوحيد الذي يقف في مواجهة الخط القبلي. فمن ثم فإن صدام الخط القبلي به أمر حتمي ومصيري. فالخط القبلي لن يعيش إلا علي حساب خط آل البيت.. وخط آل البيت ليس أمامه إلا التعايش مع الخط القبلي والاعتراف به أو قبول الفناء التدريجي كجماعة لها وجودها ولها أنصارها وليس كاتجاه له عقيدته وفكره المتميز. ولقد عمل أبو بكر وعمر علي تشتيت الصحابة الموالين للإمام في الأمصار حف لا يشكلوا بتواجدهم حوله قوة ضغط علي الخط القبلي. وعندما جاء عثمان وجد الظروف والأوضاع مهيأة لإعلان نتيجة الخط القبلي ووضع أساس الخط الأموي. فالخط القبلي من شأنه أن يضعف مع مرور الزمن ولا بد له من أن يتركز في النهاية في دائرة أقوي عائلة من عائلات هذا الخط.

ص: 89

ولا توجد عائلة علي مستوي قريش لديها القدرة علي الحفاظ علي الخط القبلي ومواجهة خط آل البيت كالعائلة الأموية فهي المرشح الوحيد لهذا الدور وقد حملت رايته في مواجهه بني هاشم من قبل الإسلام بزمان (1) .

عثمان والصحابة

وقف عثمان من الصحابة موقفين متناقضين: موقف مؤيد ومناصر.. وموقف معاد مجاهر.. أما الذين أيدهم وناصرهم فهم الذين أيدوه وبايعوه ومهدوا له طريق الوصول للحكم وعلي رأسهم سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وهؤلاء قد أغدق عثمان عليهم العطاء وكافئهم أحسن مكافأة ليجمعوا ثروات طائلة بعد أن فتح الباب أمامهم علي مصراعيه للثراء بلا حدود. (2) . ويبدو أن هؤلاء قد رضوا أن يكونوا من الرأسماليين علي أن يكونوا من السياسيين. أي أنهم اختاروا الثراء علي الحكم الذي تركوه لبني أمية. أما الذين عاداهم فهم الذين صدعوا بالحق في وجهه وتحالفوا مع علي ضده وعلي رأسهم أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود. وموقفه من أبي ذر إنما يعد من أشد المواقف حدة وعداءا نظرا لشدة موقف أبي ذر من الخط الأموي بشكل عام ومن عثمان ومعاوية بشكل خاص.. ومن الخطأ

ص: 90


1- 179. أنظر كتاب النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم للمقريزي ط القاهرة. وانظر تفاصيل الصراع بين البيتين في كتب التأريخ.
2- 180. مات الزبير وله الكثير من العقارات والأراضي منها إحدي عشر دارا بالمدينة. ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ودارا بمصر. ونزل أرضا تسمي الغابة اشتراها بسبعين ومائة ألف. وكان الزبير متزوجا أربعة نسوة. كان نصيب الواحدة منهن في ميراثه ألف ألف ومائتا ألف. أما ثروة عبد الرحمن بن عوف فهي أضعاف ذلك.. ويروي ابن عساكر أن قيمة ما ترك طلحة من المال والعقار ثلاثين ألف ألف درهم وترك من العين ألف ألف ومائتين ألف دينار أنظر ج 7 / 90.

تصور أن موقف أبو ذر من عثمان ومعاوية كان بسبب الترف وكنز الأموال وهضم حقوق الفقراء والمحتاجين. فلم يكن هذا السبب إلا ظاهر الموقف. أما باطنه فيكمن في بطلان الخط الأموي وعدم شرعيته. إن الصدام بين أبي ذر وعثمان لم يكن وليد عصره وإنما كانت له جذوره من عصر أبي بكر وعمر حين بدأت عملية الانحراف عن خط الرسول صلي الله عليه وسلم. فإن أبا ذر الذي كان يصدع بالحق في مواجهة مشركي مكة ويلاقي ما يلاقي. لم يكن ليتوقف عن الصدع بالحق في عهد أبي بكر وعهد عمر وقد روي فيه الرسول ما روي. (1) . ومن هنا يتبين لنا أن الصدام بين أبي ذر وعثمان كان صداما عقائديا. بين عقيدة ملتزمة وعقيدة مخالفة.. بين صحابي موال لآل البيت ورمز بني أمية.. بين خط آل البيت وخط بني أمية.. وعلي هذا الأساس كان حكم عثمان علي أبي ذر قاسيا فهو حكم علي قدر الموقف الذي اتخذه أبو ذر. ألا وهو الحكم بالنفي.. وربما يكون عثمان هو أول من طبق سنة نفي القادة والمصلحين في تاريخ الحكام الطغاة الذين هيمنوا علي بلاد المسلمين. وموقف عثمان من عمار هو نفس موقفه من أبي ذر. فكلا من أبي ذر وعمار من أتباع الإمام وموقفهما من الخط الأموي واحد وثابت. فمن ثم فقد تصدي عثمان لعمار كما تصدي لأبي ذر وقرر نفيه ليحل محل أبو ذر الذي كان قد توفي لولا تدخل الإمام الذي نهر عثمان قائلا: إتق الله. فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك. ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره (2) . وكانت النتيجة أن هدد عثمان الإمام علي بالنفي قائلا له: أنت أحق بالنفي منه. وكان رد الإمام: إفعل إن شئت ذلك (3) .

ص: 91


1- 181. قال الرسول صلي الله عليه وسلم في قبيلة أبي ذر: غفار غفر الله لها. أنظر سيرته في كتب التراجم.
2- 182. أنظر البداية والنهاية لابن كثر ج 7 / 173 وما بعدها وانظر الطبري وابن عساكر ومروج الذهب.
3- 183. أنظر المراجع السابقة وطبقات ابن سعد والكامل لابن الأثير.

ثم إن عثمان تراجع عن قراره بعد ضغوط لكن عمار لم يغير موقفه من عثمان وتصدي له ثانية حين وهب بعض نسائه من مال المسلمين ما تتزين به. فأوعز عثمان إلي شرطته فأخذوه وضربوه حتي غشي عليه (1) . ويروي أنه حين بويع عثمان خطب عمار في مسجد الرسول صلي الله عليه وسلم فقال: يا معشر قريش أما إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة وههنا مرة. فما أنا بآمن من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله (2) . وقام المقداد فقال: ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم. فتصدي له عبد الرحمن بن عوف قائلا: وما أنت وذاك يا مقداد بن عمرو.؟. فقال المقداد: إني والله لأحبهم لحب رسول الله صلي الله عليه وسلم إياهم وإن الحق معهم وفيهم. يا عبد الرحمن. أعجب من قريش - وإنما تطولهم علي الناس بفضل أهل هذا البيت - قد اجتمعوا علي نزع سلطان رسول الله بعده من أيديهم. وأيم الله يا عبد الرحمن لو أجد علي قريش أنصارا لقاتلتهم كقتالي إياهم مع النبي يوم بدر (3) . ولقد تصدي عبد الله بن مسعود لعثمان وحرض عليه المسلمين وكان علي الكوفة يعظ الناس ويعلمهم كتاب الله فعزله عثمان وأرسل مكانه الوليد بن عقبة فاصطدم به ابن مسعود وأسمعه كلاما شديدا في حق عثمان. ثم رحل إلي المدينة تاركا الكوفة في وداع أهلها (4) . وفي المدينة وقع صدام بينه وبين عثمان الذي أمر زبانيته فضربوه حتي دق ضلعه ثم أمر بقطع رزقه. مما دفع بالإمام علي إلي التصدي له وحمل ابن مسعود إلي بيته ليكون تحت رعايته (5) .

ص: 92


1- 184. أنظر المراجع السابقة.
2- 185. أنظر المراجع السابق.
3- 186. أنظر المراجع السابق.
4- 187. أنظر المراجع السابق.
5- 188. أنظر المراجع السابق.

ولم يكتفي عثمان بهذا بل أصدر قرارا بمنع ابن مسعود من الخروج من المدينة فبقي فيها حتي مرض مرضه الذي توفي فيه (1) .

عثمان و علي

كان تعايش الإمام علي مع أبي بكر وعمر تعايش المحافظ والمدافع. فقد كانت الضغوط الموجهة إليه تتركز علي دوره كممثل شرعي للأمة وكقائد لتيار آل البيت الذي يضم الكثير من كبار الصحابة. وقد تنازل الإمام عن هذا الدور حفاظا علي وحدة الأمة. لكنه لم يتنازل عن المبدأ الذي ورثه عن الرسول صلي الله عليه وسلم. أي أن الإمام تنازل عن السلطة ولم يتنازل عن الفكرة. تنازل عن الحكم ولم يتنازل عن الدعوة. فهو قد أفسح الطريق للخط القبلي ليحكم لكنه لم يفسح له الطريق ليعبث بالإسلام. ويبدو أن الخليفتين أبو بكر وعمر لم يكونا من المتحرشين بهذا الجانب. جانب الإسلام فقد احترم كل منهما قدرات الإمام العلمية وأقرا بتفوقه عليهما. وهذا لا يعني أن صورة الإسلام كانت سوية ومستقيمة بشكل كامل في عهد الخليفتين وإنما كان هناك انحراف. لكنه لم يكن كبيرا بالقدر الذي يستفز الإمام ويدفعه إلي الصدام به. وما كان يقلق الإمام هو ما سوف يترتب علي هذا الانحراف في المستقبل. وعندما جاء عثمان برز الانحراف بصورة تجاوزت الحدود التي وقف عندها الشيخان وتعدي حدود الحكم ليصل إلي الإسلام. وهنا تغير موقف الإمام وشيعته وانتقل بهم من المقاومة السلبية إلي المقاومة الإيجابية. وتصدي لعثمان وبني أمية الذين رفعوا رايتهم لأول مرة بعد سقوطهم علي أيدي الرسول حين فتح مكة. لقد كان ظهور بني أمية في عهد عثمان بداية لتحول الأمة إلي طريق الجاهلية وبداية لظهور إسلام آخر مناقض لإسلام آل البيت ومعاد له ومعلنا هذا العداء.

ص: 93


1- 189. أنظر المراجع السابق.

لم يكن الأمر إذا مجرد تغلغل عائلة في الحكم وإنما كان في حقيقته محاولة لإظهار إسلام جديد بديل عن إسلام الخلفاء السائد الذي كان فاقد الأساس لكنه ليس منحرفا بالقدر الذي يتيح لهم تحقيق مآربهم والعودة إلي جاهليتهم.. لقد انتهز بني أمية فرصة وصول عثمان للحكم وأحاطوا به موحدين صفوفهم للثأر والانقضاض علي بني هاشم ممثلين في آل البيت تحت زعامة الإمام علي. وفي مواجهة وضع كهذا لا بد علي الإمام علي أن يعلن المواجهة والتصدي لا أن يلتزم بالمهادنة والتعايش السلبي كما كان حالة مع أبي بكر وعمر. ومما تقدم تتضح لنا طبيعة العلاقة بين الإمام وعثمان وطبيعة الموقف الذي تبناه في مواجهة سياساته وممارساته. فقد كان موقفه من أبي بكر وعمر موقف الموجه الشرعي أمام تجاوزاتهم للنصوص أما موقفه من عثمان فهو موقف شرعي سياسي تجاوز الحدود النظرية إلي الحدود العملية. يقول الإمام في عثمان:.. إلي أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه. وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع. إلي أن انتكث فتله وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته (1) . والإمام هنا يهاجم عثمان ويتهمه بالغرور والتكبر والتواطئ مع بني أمية وتبديد مال المسلمين علي قومه الذين فتحت أمامهم الأبواب علي مصراعيها ليحثو من هذا المال مشبها إياهم بالإبل التي ترعي في النبات وقت الربيع وتأكله بشراهة وملء الفم. وليس بعد هذا التشبيه الدقيق من تشبيه يصور حال عثمان مع بني أمية. وحالهم مع أموال المسلمين. ولم يكن هذا حال سابقيه. فقد كان علي الرغم من موقفهما من النصوص ومن آل البيت يلتزمان بسياسة التقشف علي أنفسهما ويحرصان علي صيانة المال العام ولم تكن لهما ميول للتحصن والاحتماء بقومهما كما فعل عثمان.

ص: 94


1- 190. نهج البلاغة ج 1 / خطبة رقم 3.

ولم يرد علي لسان الإمام أي نقد لهما فيما يتعلق بهذا الجانب وإنما كان صدامه معهما في حدود النصوص وتطبيقها. أما إذا تعلق الأمر بأمور المسلمين فإن الإمام لا يسالم. يقول الإمام حين آل الأمر لعثمان: لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التمسا لأجر ذلك وفضله وزهدا فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجه (1) . وفي هذا القول دلالة علي موقف الإمام الثابت من الخلفاء. ذلك الموقف المبني علي التضحية بشخصه من أجل صالح الإسلام والمسلمين. فإذا ما حدث مساس بمصالح المسلمين أو مساس بالإسلام فإن الإمام لا يقف ساكنا وهو ما نراه بوضوح من خلال مواقفه من عثمان. وحين أصدر عثمان قراره بنفي أبي ذر نادي في الناس أن لا يكلم أحدا أبا ذر ولا يشيعه ضرب الإمام بقرار عثمان هذا عرض الحائط وخرج يشيعه إلي الربذة ومعه عقيل أخوه والحسن والحسين وعمار بن ياسر. يقول الإمام في وداع أبي ذر: يا أبا ذر إنك غضبت لله فارج من غضبت له. إن القوم خافوك علي دنياهم وخفتهم علي دينك. فاترك في أيديهم ما خافوك عليه. واهرب منهم بما خفتهم عليه. فما أحوجهم إلي ما منعتهم. وما أغناك عما منعوك؟. وستعلم من الرابح غدا والأكثر حسدا. ولو أن السماوات والأرض كانتا علي عبد رتقه ثم اتقي الله لجعل الله له منهما مخرجا. لا يؤنسنك إلا الحق. ولا يوحشنك إلا الباطل. فلو قبلت دنياهم لأحبوك. ولو قرضت منها لأمنوك (2) . لقد تراكمت التجاوزات والمفاسد والانحرافات في عهد عثمان حتي حاصرته ودفعت بالمسلمين إلي الثورة عليه.

ص: 95


1- 191. المرجع السابق.
2- 192. المرجع السابق ج 2 / خطبة رقم 126.

وتحاول كتب التاريخ والمؤرخون الدفاع عن عثمان وتبرئته من هذه المفاسد وإلقاء المسؤولية علي قوم آخرين (1) . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما دور الإمام علي في الصدام الذي وقع بين المسلمين وعثمان..؟. هل تحالف الإمام مع الثوار ضد عثمان. أم صد عن الثورة..؟. إن المؤرخين يحاولون جاهدين تبييض وجه عثمان بإظهار الإمام علي بمظهر المؤيد له والمتعاطف معه. حتي أنه تصدي للثوار الذين يحاصرون بيت عثمان ووضع الحسن والحسين علي بابه شاهرين سيوفهما في وجه الثوار وقد وبخهم توبيخا شديدا علي تهاونهما في الدفاع عنه بعد مصرعه (2) . إلا أن المتتبع لأحداث تلك الفترة يكتشف أن الإمام قد بذل جهدا كبيرا في نصح عثمان ومحاولة تحريره من سيطرة بن أمية. لكن جهوده هذه قد ضاعت هباءا منثورا أمام إصرار عثمان وموقفه المتصلب والمتعصب لقومه (3) . وأمام موقف عثمان هذا اضطر الإمام إلي التنحي جانبا مفسحا الطريق أمام الثوار الذين يدافعون عن حقوق المسلمين لينالوا من عثمان.. وإذا كان معظم الذين شاركوا في الثورة والذين تزعموها هم من أتباع الإمام ومن تلامذته. فبهذا يتأكد لنا أن الإمام هو المحرك الأول لهذه الثورة التي كانت ترفع لواء الإسلام الحق في مواجهة بني أمية. أو بصورة أخري ترفع لواء آل البيت في. مواجهة الخط القبلي الذي كشف عن وجهه القبيح علي يد عثمان. إن الصراع لم يكن صراع بين ظالم ومظلوم كما يحلو للبعض تصويره بذلك وإنما كان صراعا بين الحق والباطل. الحق المتمثل في الثوار.. والباطل المتمثل في عثمان وبني أمية.

ص: 96


1- 193. أنظر كتب التاريخ. وكتاب العواصم من القواصم. والمغني للقاضي عبد الجبار ج 20.
2- 194. أنظر الطبري والبداية والنهاية والكامل لابن الأثير.
3- 195. أنظر مروج الذهب والإمامة والسياسة والطبري والبداية والنهاية لابن كثير.

والإمام ليس مخيرا في الانحياز لأي من الطرفين. وإنما هو مقيد بالحق ويدور معه حيث دار. والحق واضح وضوح الشمس والباطل كذلك. ولعل موقف الإمام هذا هو الذي استثمره معاوية فيما بعد في تزكية نار الصراع بينه وبين الإمام من أجل تحقيق مآربه في التسلط علي المسلمين. وقد كان بإمكانه نصرة عثمان وإنقاذه لكنه رأي أن التضحية به أنفع له في صراعه مع الإمام (1) .

عثمان و بني أمية

قال أبو سفيان حين تولي عثمان مخاطبا بني أمية: يا بني أمية. تلقفوها تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلي صبيانكم وراثة (2) . ويحاول الكثير من المؤرخين إنكار نسبة هذا الكلام لأبي سفيان وإنكار عثمان له إلا أن سياسة عثمان ومواقفه تكشفان صحة هذا القول وصدق نبوءة أبو سفيان. يقول المودودي: غير أن عثمان حين خلفه - أي عمر - أخذ يحيد عن هذه السياسة رويدا رويدا فطفق يعهد إلي أقاربه بالمناصب الكبري ويخصهم بامتيازات أخري اعترض الناس عليها عامة.. ولم يكن رد فعل هذه الأمور سيئا علي العامة وحدهم بل علي أكابر الصحابة أيضا. مثال ذلك حينما أخذ الوليد بن عقبة مرسوم حكومة الكوفة وجاء إلي سعد بن أبي وقاص قال له سعد: والله ما أدري أكست بعدنا أم حمقنا بعدك. فأجابه. لا تجزعن أبا إسحاق فإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون. فقال سعد: أراكم والله ستجعلونها ملكا (3) . إن أفراد العائلة الأموية الذين تغلغلوا في الحكم بمعونة عثمان ودعمه لم تكن تتوافر بهم المؤهلات الشرعية والسياسية فضلا عن أن مكانتهم الشرعية كانت حرجه فقد ذمهم الرسول صلي الله عليه وسلم في أحاديث صريحة وحذر منهم لكن عثمان ضرب

ص: 97


1- 196. أنظر المراجع السابق. وانظر كتاب عثمان إلي معاوية يستنصر. في الطبري ج 1 / 185 يقول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام علي كل صعب وذلول.. وانظر ابن كثير ج 7 / 185.
2- 197. أنظر تاريخ الطبري.
3- 198. أنظر الخلافة والملك وانظر الإستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ج 2 / 604 هامش الإصابة.

بتحذيرات الرسول عرض الحائط وكشف عن وجهه الأموي المعادي لخط آل البيت (1) . يقول المودودي: إن أفراد العائلة الذين ارتقوا في عهد عثمان كانوا جميعا من الطلقاء. والمراد بالطلقاء تلك البيوت المكية التي ظلت لآخر وقت معادية للنبي صلي الله عليه وسلم وللدعوة الإسلامية فعفا الرسول صلي الله عليه وسلم عنهم بعد فتح مكة ودخلوا في الإسلام. ومعاوية والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم كانوا من تلك البيوتات التي أعطيت الأمان وعفا الرسول عنهم. أما عبد الله بن أبي سرح فقد ارتد بعد إسلامه وكان واحدا من الذين أمر الرسول في فتح مكة بقتلهم حتي ولو وجدوا تحت أستار الكعبة (2) . ولقد وسع عثمان من نفوذ معاوية علي الشام وضم إليه حمص وقنسرين وفلسطين والأردن حي بسط نفوذه علي كل الشام وأصبح من أقوي الولاة وأغناهم مما أتاح له الفرصة علي منازعة الإمام علنا. فالشام كانت علي هوي بني أمية فلم تكن موطنا للعرب والصحابة كما هو حال العراق. فمن ثم لم يجد معاوية وبني أمية من بعده من ينازعهم فيها وهم استطاعوا التعايش مع أهلها وأهلها تعايشوا معهم ولم يجدوا اختلافا كبيرا بين حياتهم قبل الإسلام وحياتهم بعده بعد أن فتح لهم، معاوية الدنيا علي مصراعها. ومثل هؤلاء يكونون سيفا واحدا علي كل من يحاول المساس بدنياهم ولأجل هذا وقفوا صفا واحدا من خلف معاوية في مواجهة الإمام. لقد اختار أهل الشام إسلام بني أمية ورفضوا إسلام آل البيت فإسلام بني أمية سوف يحفظ لهم دنياهم ومصالحهم. وإسلام آل البيت سوف يحرمهم من هذه الدنيا وسوف يضرب هذه المصالح اختار أهل الشام معاوية لكونه يمثل استمرارا لخط هرقل والروم والدنيا.. ورفضوا الإمام لكونه استمرارا لخط النبوة والإسلام والآخرة. يقول عثمان: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتي يدخلوا من عند آخرهم (3) .

ص: 98


1- 199. أنظر نماذج من هذه الأحاديث في البخاري كتاب الفتن.
2- 200. أنظر كتب التاريخ وكتب السيرة.
3- 201. رواه أحمد. نقلا عن البداية والنهاية لابن كثير ج 7 / 178.

وعلي الرغم من هذا الحب من قبل عثمان لعشيرته. وما حققه لبني قومه من إنجازات ونفوذ وثراء علي حساب المسلمين. رغم هذا كله كان قومه هم الذين سعوا إلي القضاء عليه والتآمر علي قتله فهم قوم سوء استعان بهم عثمان فكان ضحيتهم. ولقد كانت سياسة عثمان وممارساته المعوجة وتحالفه مع قومه ونبذه لكبار الصحابة وفساد ولاته علي الأمصار كل ذلك قد أفقده تعاطف المسلمين وأهل المدينة علي الخصوص الذين لم يتحرك أحد منهم لنصرته والدفاع عنه حين حوصر وتركوه ليلقي مصيره ويجني ما كسبت يداه وإذا كان قومه الذين والاهم وارتبطت مصالحهم به لم يتحركوا لنصرته فكيف يتحرك الغرباء للدفاع عنه. يبرر ابن كثير الموقف السلبي للصحابة وأهل المدينة تجاه عثمان بقوله: إن كثيرا منهم بل أكثرهم أوكلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلي قتله. ثانيا: إن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة ولكن لما وقع التضييق الشديد عزم. عثمان علي الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا فتمكن أولئك مما أرادوا.. ومع هذا ما ظن أحدا من الناس أن يقتل بالكلية. الثالث: أن هؤلاء (الخوارج) لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة بل لما اقترب مجيئهم انتهزوا فرصتهم وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم. الرابع: إن هؤلاء (الخوارج) كانوا قريبا من ألفي مقاتل من الأبطال وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم وفي كل جهة. ومع هذا فإن كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم. ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجئ إلا ومعه السيف.. وربما لو أرادوا صرفهم عن المدينة لما أمكنهم ذلك وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله فهذا

ص: 99

لا يصح عند أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان. بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله. ولكن بعضهم يود لو خلع نفسه من الأمر كعمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وعمرو بن الحمق وغيرهم (1) . وكلام ابن كثير هذا - وهو فقيه أموي النزعة - يحمل الكثير من المتناقضات إذ كيف للصحابة وأهل المدينة وهم يرون هذه الثورة العارمة ضد عثمان ولا يتوقعون مقتله؟ وكيف لهم أن يتركوا الدفاع عنه وهم يرونه ضائع لا محالة في مواجهة ألفي مقاتل..؟ وكيف يستقيم هذا التفسير مع قوله أن كثير من الصحابة اعتزلوا الفتنة؟. وعلي أي أساس نفي ابن كثير وجود موقف من عثمان ورضي بقتله في الوقت الذي تؤكد الروايات أن هناك عدد من الصحابة كان يتزعم هذه الثورة ويحرض المسلمين علي عثمان؟ وكيف له أن يؤكد أن عمار أو ابن أبي بكر وابن الحمق تراجعوا عن موقفهم العدائي..؟ ثم أين معاوية وجيشه..؟ وابن كثير يدافع عن عثمان دفاعا مستميتا مبررا منكراته مضيفا عليها الشرعية وهو بهذا إنما يدافع عن خطه وفقهه الذي ورثه من القوم والذي هو نابع من الخط الأموي. فمن ثم ليس مستغربا منه هذا الموقف ولا من أي من فقهاء الشام مثل الذهبي والنووي وابن تيمية وابن عساكر وغيرهم ممن ناصبوا خط آل البيت العداء (2) . يقول ابن كثير: أنه قيل لعثمان حين أنكر أمر البريد - أي الكتاب الذي زوره مروان وعاد علي أساسه الثوار لحصار عثمان بعد أن تركوا حصاره لرضوخه لمطالبهم -: إن لم تكن قد كتبته بل كتب علي لسانك وأنت لا تعلم فقد عجزت ومثلك لا يصلح للخلافة. إما لخيانتك وإما لعجزك. ويعلق ابن كثير علي هذا الكلام بقوله: وهذا الذي قالوه باطل علي كل تقدير

ص: 100


1- 202. المرجع السابق ص 186، 187.
2- 203. أنظر تاريخ الإسلام للذهبي. وفتاوي ابن تيمية ج 3. والنووي شرح مسلم باب مناقب عثمان.

فإنه لو فرض أنه كتب الكتاب وهو لم يكتبه في نفس الأمر لا يضره ذلك لأنه قد يكون رأي في ذلك مصلحة للأمة في إزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين علي الإمام. وأما إذا لم يكن قد علم فأي عجز ينسب إليه إذا لم يكن قد أطلع عليه وزور علي لسانه وليس هو بمعصوم بل الخطأ والغفلة جائزان عليه. وإنما هؤلاء الجهلة البغاة متعنتون خونة ظلمة مفترون (1) . لقد تمادي ابن كثير في تبريره لانحرافات عثمان إلي الحد الذي دفعه إلي تغليف هذه الانحرافات بالنصوص النبوية التي تضفي المشروعية عليها. فهو قد اعتبر أن الحاكم من حقه أن يفعل ما يشاء بالأمة تحت شعار المصلحة وعلي الأمة أن تلتزم بالسمع والطاعة لأن الرسول أمر بذلك. ومعني ذلك أن عثمان بعد ما وافق الثوار علي مطالبهم ثم عاد وانقلب عليهم وأرسل كتابه المذكور الذي يأمر فيه ولاة الأمصار التي سوف يصلون إليها بقتلهم - معني ذلك أن هذا الغدر مبرر في عرف ابن كثير. ثم تأمل الألفاظ العصبية التي تنم عن عدم معالجته الحدث برؤية حيادية منصفة والتي وصف بها الثوار فهو قد نصب نفسه قاضيا وجلادا في آن واحد (2) . ونفس هذا النهج في تفسير أحداث التاريخ المتعلقة بالخط القبلي وخط بني أمية التزم به ابن تيمية والذهبي والنووي وابن خلدون وابن حزم وغيرهم (3) . ومثلما دافع هؤلاء عن عثمان دافعوا أيضا عن معاوية ومروان وسائر بني أمية وزكوهم وأضفوا المشروعية علي مواقفهم وممارساتهم في الوقت الذي وقفوا فيه من الإمام علي موقفا مشبوها ومعاديا في أحيان كثيرة (4) . ولقد كان مصرع عثمان هو بداية الصراع العسكري بين الخط الأموي وخط آل البيت. ذلك الصراع الذي انتهي بسيادة الخط الأموي.

ص: 101


1- 204. ابن كثير ج 7 / 180.
2- 205. ابن كثير من فقهاء الشام وهو يسير علي نهجهم وخاصة نهج أستاذه ابن تيمية.
3- 206. أنظر تاريخ الإسلام للذهبي وفتاوي ابن تيمية وشرح مسلم للنووي وتاريخ ابن خلدون والفصل في الملل والنحل لابن حزم.
4- 207. أنظر المراجع السابقة. وانظر العواصم من القواصم. وقد شكك ابن تيمية في كثير من الروايات الواردة في حق الإمام علي. أنظر منهاج السنة وكذلك الفتاوي. وقد نقل ابن حزم في كتابه المحلي ج 10 / 484 إجماع الأمة علي أن ابن ملجم لم يقتل الإمام علي إلا متأولا.

يروي ابن الأثير: وحمل عبد الله بن سعد بن أبي سرح خمس إفريقية إلي المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان وكان هذا مما أخذ عليه. وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقيا فإن بعض الناس يقول أعطي عثمان خمس إفريقيا عبد الله بن سعد وبعضهم يقول أعطاه مروان بن الحكم وظهر بهذا أنه أعطي عبد الله خمس الغزوة الأولي وأعطي مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقيا (1) . ويروي ابن سعد أن عثمان كتب لمروان خمس مصر (2) . ويروي ابن كثير والطبري أن نائلة زوجة عثمان قالت له ناصحة إنك متي أطعت مروان قتلك ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة (3) . إلا أن عثمان ضرب بنصح زوجته عرض الحائط وقام بتعيين مروان (سكرتيرا) له فكان أن استغل ثقة عثمان به فخطط وتآمر علي الإسلام والمسلمين (4) . وبدافع أبو بكر بن العربي عن موقف عثمان من معاوية بقوله: وأما معاوية فعمر ولاه وجمع له الشامات وأقره عثمان بل إنما ولاه أبو بكر لأنه ولي أخاه يزيد واستخلفه يزيد فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلافه واليا له فتعلق عثمان بعمر وأقره. فانظروا إلي هذه السلسلة ما أوثق عراها وأقدر سردها ولن يأتي مثلها بعدها أبدا (5) . ويدافع عن موقفه من الوليد بن عقبة بقوله: وأما تولية الوليد بن عقبة فلأن الناس علي فساد النيات أسرعوا إلي السيئات قبل الحسنات. وأما قول القائل في مروان والوليد فشديد عليهما وحكمهم عليهما بالفسق فسق منهم. مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين (6) .

ص: 102


1- 208. أنظر الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3 / 46.
2- 209. طبقات ابن سعد ج 2.
3- 210. أنظر الطبري ج 3 / 396 وابن كثير ج 7 / 172.
4- 211. أنظر المراجع السابقة.
5- 212. أنظر العواصم من القواصم.
6- 213. المرجع السابق.

ص: 103

علي

اشاره

نهاية الصراع الفكري وبداية الصراع العسكري

ص: 104

بعد مصرع عثمان هرع الناس نحو الإمام علي ليولوه أمرهم (إنه لا يصلح الناس إلا بأمرة ولا بد للناس من إمام ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلي الله عليه وسلم. وأمام إصرار الجماهير وافق الإمام مشترطا أن تكون بيعته علنا ولا تكون إلا عن رضي المسلمين. وتمت البيعة في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم (1) . ولقد كانت بيعة الإمام أول حركة انتخاب جماهيري حق في تاريخ الإسلام فمن ثم فإن دولة الإمام قامت علي أكتاف الجماهير لتعبر عن مصالح الجماهير رافعة راية الإسلام النبوي. من هنا فقد اصطدم بها أنصار الخط القبلي والمنتفعين والمنافقين ثم بني أمية وعملوا علي هدمها والحيلولة دون أن تأخذ امتدادها الطبيعي علي ساحة الواقع ويتحقق لها الاستقرار والتمكن. إن جميع القوي التي واجهت الإمام كان يتزعمها صحابة كان لهم موقفهم الثابت من الإسلام النبوي ومن آل البيت من قبل وفاة الرسول وقد برز هذا الموقف بوضوح بعد وفاته وأخذ في التطور حتي وصل إلي صورته التي واجهها الإمام وتصدي لها. لقد كانت القوي المناوئة للإسلام النبوي تعمل جاهدة منذ وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم لتقضي علي معالم هذا الإسلام وحصار آل البيت وعزل الإمام علي عن جماهير

ص: 105


1- 214. أنظر الطبري ج 3. والبداية والنهاية ج 7. والاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر. ويذكر أن عدد من الصحابة فروا من المدينة إلي الشام فور تسلم الإمام علي الحكم.. يروي ابن كثير عن الطبري قوله: هرب قوم من المدينة إلي الشام ولم يبايعوا عليا ولم يبايعه قدامة بن مظعون وعبد الله بن سلام والمغيرة بن شعبة.. وقال ابن كثير: وهرب مروان بن الحكم والوليد بن عقبة وآخرون إلي الشام.. وبايع الأنصار إلا سبعة: عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص. وصهيب وزيد بن ثابت ومحمد بن أبي سلمة ومسلمة بن سلامة وأسامة بن زيد. أنظر البداية ج 7 / 227.

المسلمين. وكان وصول علي إلي الحكم بمثابة ضربة قاصمة لهم ولمخططاتهم. فمن ثم فإن المواجهة العسكرية فرضت نفسها كوسيلة وحيدة لإجهاض دولة الإمام. وهكذا دخل الإمام علي في مواجهات عسكرية مع هذه القوي بقيادة كبار الصحابة وزوجة النبي صلي الله عليه وسلم ثم بقيادة بني أمية وأخيرا بقيادة الخوارج. وهذه القوي الثلاث إنما تمثل خطوطا استمرت باقية في واقع الأمة وتفرخت منها الاتجاهات المعادية للإسلام النبوي وخط آل البيت تلك الاتجاهات التي صبت في النهاية في دائرة الإسلام الأموي. ولم تكن مواجهة الإمام علي لهذه القوي من باب الحفاظ علي كيان الدولة واستقرارها فهذا السبب لا يعكس حقيقة الصراع وهو سبب ظاهري يستنتجه من لا يفقه حقيقة الإسلام النبوي وحقيقة الإسلام الأموي. إن فقه الإسلام النبوي سوف تقود إلي فقه حقيقة الإسلام الأموي وبالتالي سوف تقود إلي فقه حركة الصراع الذي دار بين الإمام وبين هذه القوي وإن فهم حقيقة الإسلام النبوي لن يتم إلا بفهم شخصية الإمام علي ودوره ومكانته..

شخصية الإمام علي

هناك عدة ملامح رئيسية لشخصية الإمام علي: الملمح الأول: الربانية فهذه الشخصية قد تربت علي يد الرسول صلي الله عليه وسلم وارتوت من معينه وهذا أمر له دلالته وانعكاساته علي شخصية الإمام فتربية الرسول له ثم مصاهرته إنما يعني الاصطفاء فكما أن الرسول تم اصطفاؤه فإن عليا أيضا تم اصطفاؤه. وهذا الاصطفاء لا يمكن أن يكون عبثا وإنما له أبعاده المستقبلية وهذا ما تشير إليه كثير من النصوص الواردة عن الرسول: ومن هذه النصوص: أنت مني بمنزلة هارون من موسي (1) .

ص: 106


1- 215. أنظر البخاري ومسلم كتاب فضائل الصحابة. باب فضائل علي.. وأنظر الترمذي.

علي مني وأنا منه (1) . من كنت مولاه فعلي مولاه. (2) . لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق (3) . سدوا أبواب المسجد إلا باب علي (4) . ومثل هذه النصوص كثير لا يتسع المجال لذكرها هنا وما ذكرناه فيه الكفاية للاستدلال علي ما نقول. ويكفي في حق علي شموله قوله تعالي: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فهذا النص هو الدليل الساطع والبرهان القاطع علي ربانيته (5) . الملمح الثاني: العلم فإن من يتربي علي يد الرسول صلي الله عليه وسلم لا بد وأن ينهل من علمه. فما دام الرسول قد أعطاه هذه الخصوصية فلا بد أن يسلحه بالعلم حتي يتمكن من القيام بدوره. وقد تفوق الإمام علي بفقهه علي جميع الصحابة ولم يضاهيه في ذلك أحد حتي أن عمر الذي يشهدون له بالفقه والعلم شهد لصالح علي وأقر بتفوقه عليه (6) . هناك الكثير من النصوص النبوية التي تؤكد هذه الحقيقة: أنا مدينة العلم وعلي بابها (7) .

ص: 107


1- 216. أنظر البخاري. باب فضائل علي.
2- 217. أنظر مسند أحمد ج 1.
3- 218. أنظر مسلم كتاب الإيمان.
4- 219. أنظر الترمذي كتاب المناقب. ومسند أحمد ج 1. وفتح الباري ج 7 /.
5- 220. أنظر مسلم كتاب فضائل الصحابة. مناقب علي وآل البيت.
6- 221. أنظر طبقات ابن سعد ج 2. ومسند أبو داود الطيالسي..
7- 222. ورد هذا الحديث في الترمذي كتاب المناقب بلفظ: أنا دار الحكمة وعلي بابها. وورد لفظ أنا مدينة العلم في مستدرك الحاكم ب 3 / 126. وانظر مناقب الخوارزمي وأسد الغابة وتاريخ. بغداد / والبداية والنهاية لابن كثير ج 7 / 358.

أعلمهم بما أنزل الله علي (1) . من أراد أن ينظر إلي آدم في علمه فلينظر إلي علي (2) . أعلم أمتي بعدي علي (3) . أقضاكم علي (4) . وهناك شهادات للإمام علي علي لسان كثير من الصحابة وعلي رأسهم عمر الذي كان يستعين بعلي في كل معضلة وكان يتعوذ بالله من معضلة ليس فيها أبو الحسن (5) . ويقول الإمام علي عن نفسه: سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل.. والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلي من نزلت. إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا طلقا (6) . ومثل هذه النصوص إنما تشير إلي أن الإمام لديه علم خاص ورثه عن الرسول صلي الله عليه وسلم وعلي أساس هذا العلم كان يواجه الواقع والأحداث. فلم يكن الإمام مجرد قائد وجد في ظرف قاس فواجه هذا الظرف بما لديه من خبرة وكفي. ولم يكن الإمام مجرد حاكم واجه تمرد من الرعية فتحرك لمواجهته وحسمه. لم يكن الإمام مجرد صحابي كبقية الصحابة كما يحاول أهل السنة أن يصوروه.

ص: 108


1- 223. أنظر مسند الطيالسي ومسند أحمد.
2- 224. أنظر سنن البيهقي.. ومسلم.
3- 225. أنظر مناقب الخوارزمي.. ومسلم.
4- 226. أنظر مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 / 114. وحلية الأولياء 1 / 65. والاستيعاب.
5- 227. أنظر طبقات ابن سعد ومستدرك الحاكم.. والإصابة في تمييز للصحابة لابن حجر. وسير أعلام النبلاء للذهبي.
6- 228. المرجع السابق.

لقد كان الإمام نموذجا خاصا تربي تربية خاصة ومنح علما خاصا ووضع علي كاهله القيام بدور خاص.. ولعل قول الرسول صلي الله عليه وسلم في الإمام: إن منكم من يقاتل علي تأويل هذا القرآن كما قاتلت علي تنزيله (1) . وهو علي خاصف النعل كما أشارت الرواية. قول الرسول هذا يؤكد وجود هذا العلم الخاص لدي الإمام. فالرسول كان يقاتل المشركين علي علم. والإمام يقاتل المسلمين علي علم أيضا. بل الحاجة للعلم في مقاتلة أهل القبلة من المسلمين أشد من الحاجة إليه في مواجهة المشركين. فكون الإمام يواجه عائشة زوجة النبي ويقاتلها لا بد وأن يكون لديه علم خاص. وكون الإمام يواجه معاوية وابن العاص والمغيرة وغيرهم ويقاتلهم لا بد وأن يكون لديه علم خاص. وكون الإمام يواجه الخوارج وقد كانوا من أتباعه ويقاتلهم لا بد وأن يكون لديه علم خاص.. إن الإمام علي لم يشهر سيفا في مواجهة المشركين بعد الرسول صلي الله عليه وسلم بل شهر سيفه في مواجهه أهل القبلة وهذا أمر له دلالاته الهامة والتي تشير إلي اختصاصه بهذا العلم. ولقد بشر الرسول صلي الله عليه وسلم بخروج عائشة وقتالها لعلي (2) . وبشر بظهور بني أمية وقتالهم علي (3) .

ص: 109


1- 229. مسند أحمد ج 3.
2- 230. تنبأ رسول الله (ص) أن عليا سيقاتل قريشا في سبيل الله. أنظر الترمذي. كتاب المناقب ومسند أحمد ج 2، ويروي أن الرسول (ص) حذر عائشة من الخروج وتنبأ بقتالها علي. أنظر الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي. وانظر طبقات ابن سعد. وتنبأ بقتل عمار علي يد الفئة الباغية فئة معاوية. أنظر مسلم كتاب الفتن باب / 18. وانظر طبقات ابن سعد ج 3 والحاكم.
3- 231. أنظر البخاري كتاب الفتن.

وبشر بظهور الخوارج وقتالهم علي (1) . ومثل هذه النبوءات التي ارتبطت بعلي من دون بقية الصحابة إنما تؤكد أن للإمام علي خاصية يتفرد بها علي الآخرين وهي خاصية العلم. أما الملمح الثالث فهو القيادة. وهي صفة خاصة جعلت من الإمام قائدا نبويا وليس مجرد قائد كبقية القادة الذين برزوا علي ساحة التاريخ. والقيادة النبوية شئ متفرد واختص به الإمام ليلعب دورا من بعد الرسول ويسد الفراغ الذي حدث بغيابه. وبتأمل سلوك الرسول صلي الله عليه وسلم مع الإمام وعلاقته به تتحدد لنا بوضوح هذه الخاصية. يروي ابن عباس: دفع رسول الله صلي الله عليه وسلم الراية إلي علي وهو ابن عشرين سنة (2) . وقال الرسول صلي الله عليه وسلم يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله علي يديه يحب الله ورسوله. ويحبه الله ورسوله: فلما كان الغد دعا عليا فدفعها إليه (3) . وكان الصحابة يرددون لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتي إلا علي. وقد قتل أشهر فرسان العرب يوم الخندق وأصاب المشركين بنكسة معنوية كبيرة (4) . وشجاعة الإمام علي ليست بحاجة إلي برهان وسيرته مع الرسول تشهد بذلك.

ص: 110


1- 232. أنظر مسلم كتاب الزكاة. باب ذكر الخوارج وصفاتهم والتحريض علي قتلهم. ويروي علي عن الرسول (ص) قوله: يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية. لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة.. أنظر مسند أحمد والبخاري كتاب الفتن ومسلم.، وانظر أحاديث حذيفة في كتاب الفتن بالبخاري وهي تبين أن هناك ردة وكفر بعد رسول الله. وحديث كان الناس يسألون رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر. وحذيفة من خط الإمام علي. ويمكن للباحث أن يقارن بين روايات أنصار الخط القبلي وروايات أنصار الإمام ليدرك مدي الهوة السحيقة بين الطرفين ومدي الفارق العلمي بينهما.
2- 233. رواه الطبراني.
3- 234. أنظر البخاري ومسلم. باب فضائل علي. ومسند أحمد ج 2.
4- 235. الفارس الذي قتله علي هو عمرو بن الود.

وقد كان الرسول يوطن فيه من صغره الشجاعة والمواجهة والخشونة. وكان اختياره له ليبيت في مضجعه ليلة الهجرة صورة من صور التربية النبوية له والتي تعده ليكون قائدا فذا يحمل راية الإسلام النبوي من بعده. وتروي كتب التاريخ. أن عليا كان صاحب لواء الرسول صلي الله عليه وسلم يوم بدر وفي كل المشاهد (1) . وشهادة الرسول صلي الله عليه وسلم لعلي في حجة الوداع أمام أكبر حشد من الصحابة والمسلمين في تاريخ الدعوة إنما تؤكد هذه الخاصية وهذا الدور الذي وكل إليه. وهي تؤكد من جانب آخر شرعية هذا الدور وارتباط خطوات الإمام ومواقفه المستقبلية بحدود الشرع وبالإسلام النبوي.. يروي أن عليا نشد الناس قائلا: من سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم إلا قام. فقام اثنا عشر بدريا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول لعلي يوم غدير خم: أليس الله أولي بالمؤمنين قالوا: بلي قال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (2) . ويوم غدير خم أيضا قال الرسول صلي الله عليه وسلم: أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي (3) . وقال صلي الله عليه وسلم: أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدي والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث علي كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي (4) . وغدير خم موضع ماء يقع في واد بين مكة والمدينة توقف فيه الرسول صلي الله عليه وسلم حين عودته من حجة الوداع وخطب فيه خطبة طويلة جزء منها كان خاصا بالإمام علي وبأهل البيت وهم علي وفاطمة والحسن والحسين.

ص: 111


1- 236. أنظر طبقات ابن سعد ج 3.
2- 237. أنظر مسند أحمد 1.
3- 238. أنظر مسلم كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب علي.
4- 239. المرجع السابق.

وكون الرسول يوصي بعلي وأهل البيت في خطبة الوداع فكأنه يؤكد للأمة ضرورة الالتزام بالإسلام النبوي الذي سوف يمثله علي من بعده. ويحذرها من الانحراف عن هذا الإسلام بترك موالاة الإمام علي وأهل البيت. لقد ترك الرسول صلي الله عليه وسلم للأمة الكتاب وربط هذا الكتاب بآل البيت بزعامة الإمام علي فمن التزم بالكتاب التزم بآل البيت. ومن حاد عن الكتاب حاد عن آل البيت. إن ربط الكتاب بالإمام يضفي المشروعية علي كل خطوات الإمام ومواقفه. فهو قد اختير من قبل الرسول ليكون مفسر هذا الكتاب والمعبر عنه والناطق بلسانه. ومن هنا يتبين لنا أن شخصية الإمام ومكانته ودوره لا يقاس به أحد. وإن محاولة فهم حركة الإمام علي بمعزل عن هذه الرؤية سوف يموه علي حقيقة الصراع الذي دار بينه وبين أنصار الخط القبلي بقيادة أبي بكر وعمر وعثمان والذي تطور إلي الصدام العسكري مع عائشة وطلحة والزبير ومع الخوارج ثم في النهاية مع بني أمية بقيادة معاوية. وأن محاولة رفع بني أمية أو التقليل من شأن الإمام علي أو مساواته بمعاوية كما هي عقيدة أهل السنة ليست فقط سوف تؤدي إلي التمويه علي حقيقة الصراع الذي دار بين الإمام وخصومه كما هو الهدف الظاهر منها. وإنما سوف تؤدي إلي التمويه علي حقيقة الإسلام النبوي الذي يمثله الإمام نيابة عن الرسول صلي الله عليه وسلم وبالتالي سوف تكون النتيجة هي ارتفاع الإسلام القبلي إسلام بني أمية وعلو مكانته علي حساب الإسلام النبوي (1) . وتلك هي النتيجة التي استقرت عليها الأمة بعد وقعة صفين وبعد اختفاء الإسلام النبوي وسيادة الإسلام القبلي علي يد بني أمية ذلك الإسلام الذي تعبر عنه عقيدة أهل السنة والذي تحول إلي دين الأغلبية بدعم الحكومات المتعاقبة من عصر بني أمية وحتي اليوم.

ص: 112


1- 240. يروي عن عبد الله بن حنبل قال: سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق. ثم قال: إعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش أعداؤه له عيبا فلم يجدوه، فعمدوا إلي رجل قد حاربه فأطروه كيادا منهم لعلي.. وقال ابن حجر معلقا علي هذا الكلام. فأشار بهذا - أي ابن حنبل - إلي ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له.. أنظر فتح الباري ج 7 / 104.

رجال الإمام

إن المتتبع لسيرة الرسول صلي الله عليه وسلم يكتشف أن هناك عدد من الصحابة كان يناصر الإمام علي ويلتف حوله وكما زكي الرسول الإمام علي وجعل له خصوصية زكي أيضا هؤلاء الصحابة وباركهم. ولكثرة ما ورد في علي علي لسان الرسول صلي الله عليه وسلم أوجب هذا علي المؤمنين المخلصين أن يشايعوه ويتبعوه لكون مشايعته واتباعه هو امتداد للالتزام بنهج الرسول. فما دام حب عليا من الإيمان وبغضه من النفاق ولكون القرآن مع علي وعلي مع القرآن أصبح موالاة الإمام علي مسألة شرعية وواجب إيماني (1) . ومن الصحابة الذين شايعوا الإمام علي في حياة الرسول وبعد وفاته: أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وبلال بن أبي رباح والمقداد وحذيفة بن اليمان. وجابر بن عبد الله وخباب بن الأرت وسلمان الفارسي وحجر بن عدي. وحسان بن ثابت. وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عباس والعباس بن عبد المطلب وأبو أيوب الأنصاري وخزيمة ذي الشهادتين وأبي بن كعب وسهل بن حنيف وقيس بن سعد بن عبادة والبراء بن مالك وعثمان بن الأحنف وخالد بن سعيد بن العاص وهند بن أبي هالة وأبي الطفيل عامر بن وائلة وأنس بن الحرث بن نبيه وجعدة بن هبيرة المخزومي وأبي التيهان ورفاعة بن مالك الأنصاري (2) . ومن الواضح أن هذه النماذج من الصحابة ذات مكانة ودور خاص في واقع الدعوة وبمقارنتها بالنماذج الأخري التي التفت حول معاوية يتضح لنا مدي الهوة السحيقة بينهما. إن النماذج التي تحالفت مع الإمام علي وناصرته هي من خلص الصحابة الذين توفي الرسول وهو عنهم راض. هذه النماذج لم يقتصر دورها في حدود مناصرة الإمام علي أثناء صراعه مع معاوية. بل إن دور هذه العناصر بدأ بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم وقد وقفت هذه

ص: 113


1- 241. حديث علي مع القرآن رواه الحكم ج 3 / 124. وانظر مناقب الخوارزمي وتاريخ الخلفاء للسيوطي.
2- 242. أنظر ترجمة هؤلاء في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر. وأسد الغابة لابن الأثير.

العناصر مع الإمام في مواجهة الخط القبلي كما وقفت معه في موجهة عثمان وعائشة والخوارج. أما النماذج الأخري التي تحالفت مع معاوية فقد حامت من حولها الشكوك وليس في تاريخها ما يوجب الثقة فيها. ويقول الرسول صلي الله عليه وسلم إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم. قيل يا رسول الله سمهم لنا؟ قال: علي منهم. يقول ذلك ثلاثا. وأبو ذر والمقداد وسلمان (1) . وجميع هذه العناصر المذكورة من خواص الرسول صلي الله عليه وسلم وأصفياؤه ولهم تاريخ مشرق ومكانة فذة.. فبلال مؤذن الرسول.. وحذيفة صاحب سره.. وأبي بن كعب من قراء القرآن.. و عبد الله بن عباس حبر الأمة.. وعمار بن ياسر ابن الشهيدين.. وخزيمة ذي الشهادتين.. وحسان بن ثابت شاعر الرسول. ولا تجد في صفوف أنصار الخط القبلي أو الخط الأموي من يضاهي هؤلاء.

شخصية معاوية

كان معاوية من الطلقاء الذين أطلقهم الرسول بعد فتح مكة. وظل هو وأبوه في عداد المؤلفة قلوبهم حتي عهد عمر الذي قام بإلغاء نصيب المؤلفة قلوبهم وتم بالتالي رفع معاوية إلي مرتبة المسلمين هو وأبوه.

ص: 114


1- 243. أنظر الترمذي كتاب المناقب. وانظر سنن ابن ماجة المقدمة. ومسند أحمد ج 5.

إلا أن النصوص التاريخية والنبوية لا تؤكد دخوله هو وأبوه في دائرة الإسلام فلم يظهر من كلاهما ما يبدد شبهة الكفر عنهما. لكن فقهاء القوم بدلا من أن يبحثوا هذه المسألة قاموا بدعم بني أمية وعلي رأسهم معاوية وإضفاء المشروعية عليهم ولم يحاول أحد منهم التشكيك في الروايات المخترعة من أجل رفع مكانته ودفع المسلمين إلي الثقة فيه.. وإذا أردنا تتبع تاريخ معاوية فلن نكتشف له شيئا يذكر في المحيط الإسلامي. فلا هو بصاحب شجاعة ولا هو رجل سيف.. ولا هو صاحب علم ولا هو صاحب فضل.. ولا هو احتك بالرسول ولا هو احتك بالصحابة. فمن أين جاءته تلك المكانة التي وضعوه فيها؟. وكيف للقوم إن يساووا مثل هذا بالإمام علي..؟ إن أهم ملامح شخصية معاوية هي المكر والخديعة والغدر وهي ملامح عباد الدنيا وأهل الفجور ولولا تحالف ابن العاص وأبو هريرة معه ما استقام له الأمر ولا ظل له ذكر.. فابن العاص دعمه بخططه ودهائه. وأبو هريرة دعمه برواياته التي نسبها إلي الرسول (ص).. ثم إن الأحداث خدمته في النهاية ويسرت له الطريق نحو التمكن والسيادة علي المسلمين ولم يكن له دور أو فضل في ذلك.. فالذين وقفوا علي الحياد خدموه.. والذين حاربوا الإمام علي خدموه.. والذين اغتالوا الإمام علي خدموه.. والذين خذلوا الإمام الحسن خدموه.. والتي اغتالت الإمام الحسن خدمته. يروي ابن حجر: كان معاوية بمني وهو غلام مع أمه إذ عثر. فقالت قم

ص: 115

لا رفعك الله فقال لها أعرابي لم تقولين هذا والله إني لأراه يسود قومه. فقالت: لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه (1) . ويروي عن ابن عباس قوله: ما رأيت أحدا أحلي للملك من معاوية.. (2) . ويروي علي لسان الرسول (ص) قوله لمعاوية: يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله وأعدل. يقول معاوية معلقا: فما زلت أظن أني مبتلي بعمل سويد فيه مقال.. (3) .

رجال معاوية

لم تكن لمعاوية مكانة ولا قدرا في الإسلام. ولم يكن بصاحب علم أو دين. إنما كان صاحب جاه ونفوذ لذا فإن الذين التفوا من حوله كانوا من أصحاب الدنيا والمغنم ولم يكونوا من أصحاب الدين.. وكانت وسائل معاوية في جذب الرجال إليه تتركز. في المال والإغراء بالمناصب كما تتركز في الدعاية المضللة التي تهدف إلي التمويه علي الباطل الذي يمثله ويرفع رايته.. المال والمناصب كانت وسيلة جذب من يعرفه وعاصره.. والدعاية كانت وسيلة جذب من لا يعرفه من التابعين.. وكلا من الطرفين كان يرتبط بمعاوية ارتباطا مصيريا إذ أن تركه معاوية يعني أنه لن يجد مكانا لدي الطرف الآخر طرف الإمام علي.. ومن أبرز العناصر التي التفت حول معاوية وتحالفت معه: عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وأبو هريرة وأبو موسي الأشعري ومروان بن الحكم.

ص: 116


1- 244. أنظر الإصابة ج 3 / 433 / 434. ترجمة معاوية حرف الميم. القسم الأول.. ومثل هذه الروايات لا يحكم أهل السنة بثبوتها فلم تصح في معاوية منقبة كما صرح بذلك إسحاق بن راهويه شيخ البخاري لكن القوم اخترعوها لدعم معاوية وتبرير مواقفه وإخفاء المشروعية علي حكمه.
2- 245. المرجع السابق.
3- 246. المرجع السابق.

ومثل هذه العناصر صاحبة تاريخ مشبوه وليست بذا ثقل في واقع الدعوة ولم تكن صاحبة مكانة (1) في حياة الرسول (ص) بل كانت منبوذة مذمومة.. من هنا فقد عملت هذه العناصر علي القيام بحملة دعاية واسعة الهدف منها إضفاء المشروعية علي مواقفهم وممارساتهم ورفع مكانتهم أمام المسلمين: فكان أن قاموا باختراع الروايات ونسبتها للرسول تلك الروايات التي تزكيهم وتضع الحق إلي جانبهم وتموه علي الجانب الآخر وتسهم في جذب المسلمين من التابعين إلي صفوفهم.. (2) . من هنا فقد استطاع معاوية بمعونة أبي هريرة وابن العاص أن يشكلوا جبهة دعاية واسعة استطاعوا بواسطتها أن يغرروا بالمسلمين ويعزلوهم من خط آل البيت.. وكان وقوف عدد من الصحابة علي الحياد في الصراع الدائر بين الإمام ومعاوية قد شكل وسيلة دعم لمعاوية وضربة للإمام علي. إذ دفع بكثير من المسلمين إلي التشكك في جدوي الصراع وهذا أمر في صالح معاوية بلا شك.. وعلي رأس الذين وقفوا علي الحياد عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة. وليس من المعقول تصور أن ابن عمر وهؤلاء المحايدين كانوا يجهلون حقيقة الموقف. وإن سلمنا (3) لهم بذلك. فكيف نسلم بجهلهم بحقيقة أبي هريرة وابن العاص ومعاوية..؟.

ص: 117


1- 247. أنظر لنا فقه الهزيمة باب الرجال. وكتاب الخدعة.
2- 248. نهج البلاغة. ج 1 / خطبة رقم 198.
3- 249. أنظر تراجم هؤلاء في أسد الغابة والإصابة والاستيعاب.. وابن عمر أحد ركائز الخط الأموي وعقيدة وفقه أهل السنة.

ص: 118

ص: 119

المواجهة

اشاره

سيف الإيمان يقارع سيف الشيطان..

ص: 120

لم تكن المواجهة العسكرية التي حدثت بين الإمام علي وبين عائشة ومعاوية والخوارج يعود سببها إلي الصراع علي الحكم كما قد يتصور البعض ممن يقرأون أحداث التاريخ علي أسس سياسية بحتة بمعزل عن الدين. فالإمام لم يواجه هؤلاء كخارجين علي الجماعة فلم تكن هناك جماعة إنما كانت هناك شيع وأحزاب.. كانت سيوف القوم علي الإمام وقلوبهم مع سواه مما دفع بالإمام إلي نقل عاصمته من المدينة إلي الكوفة حيث توجد القاعدة الجماهيرية العريضة المناصرة له.. لقد كان الصراع بين الإمام وبين هذه الجبهات الثلاث صراعا عقائديا ولم يكن صراعا سياسيا.. فهذه الجبهات كانت تواجه الإمام بعقيدة ومنهج وراية.. كانت عائشة ترفع راية الخط القبلي.. وكان معاوية يرفع راية بني أمية.. وكان الخوارج يرفعون راية التكفير.. وكان الإمام في مواجهتهم يرفع راية الإسلام النبوي.. إن عائشة أو معاوية أو الخوارج لم يظهروا من فراغ إنما هم يمثلون خطوطا تهدف إلي فتنة المسلمين. وإن المتأمل في الروايات الواردة حول هؤلاء في كتب السنن يتبين له هذا الأمر بوضوح.. ولقد بدأت المواجهة بين الإمام وبين هؤلاء فور وفاة الرسول (ص) وطوال عهد الخلفاء الثلاثة لم تكن تخرج هذه المواجهة عن حدود الصدام الفكري. أما حين برز دور الإمام بعد مصرع عثمان خرجت المواجهة عن حدود الصدام الفكري إلي الصدام العسكري بعد أن أحست الجبهات الثلاث بخطورة الأمر وتهديده لوجودها ومستقبلها.. فلم يكن يضر عائشة وجود عثمان علي دفة الحكم أو سواه.. ولم يكن يضر معاوية وجوده أو وجود سواه..

ص: 121

أما وجود الإمام فهو يمثل تهديدا صارخا لأنه يرفع راية إسلام آخر يكشف زيف إسلامهم وفي حالة وجود عثمان أو سواه علي دفة الحكم كان معاوية سيخرج رافعا رايته. فقد كانت المسألة بالنسبة له مسألة وقت كان وصول الإمام إلي الحكم قد اختصره.. وأما مواجهة الإمام للخوارج فهي تعكس خصوصيته بمواجهتهم والتصدي لنمطية الفكر والطرح الذي يطرحونه والذي يمثل تهديدا للإسلام النبوي. ويمثل نمطية ثابتة ومستمرة في مواجهة هذا الإسلام علي مر الزمان. وكما تم القضاء علي الخوارج علي يد الإمام علي فلن يتم مواجهتهم والقضاء عليهم بعد الإمام إلا بواسطة خط الإمام.. إن الإمام علي لم يكن يهدف من وراء هذه المواجهة إلي القضاء علي عائشة أو معاوية أو الخوارج بقدر ما كان يهدف إلي إقامة الحجة وإظهار الحق وتعرية الباطل ورفع راية الإسلام النبوي. وهذه هي حقيقة دور الإمام.. إظهار الحق وإن لم يتحقق تمكينه وسيادته.. وتعرية الباطل وإن لم يتم القضاء عليه..

الجمل

يروي أن أبا بكر استأذن علي النبي (ص) فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي.. (1) . وسئلت عائشة من كان رسول الله (ص) مستخلفا؟ قالت: أبو بكر. قيل ثم من؟ قالت: عمر. قيل ثم من لله قالت: أبو عبيدة بن الجراح.. (2) . إن الرواية الأولي تكشف لنا أن هناك موقفا معاديا من علي تتبناه عائشة. وأن هذا الموقف يعود سببه إلي تفضيل الرسول (ص) لعلي علي أبيها..

ص: 122


1- 250. أنظر أحمد وأبو داود والنسائي. وفتح الباري ح 7 / 27.
2- 251. أنظر فتح الباري ح 7 / 32. والحديث رواه مسلم.

والرواية الثانية تكشف لنا أن عائشة لم تكن تعترف بخلافة عثمان ولا بخلافة علي ووضعت مكان عثمان ابن الجراح وهو ما لم يقل به أحد من الرواة ولم يذكر علي لسان أحد من الصحابة. ويخالف عقيدة أهل السنة في الاقرار بخلافة علي بعد عثمان. ومن خلال الروايتين معا يتبين لنا أن موقف عائشة من الإمام علي ليس موقفا هامشيا أو سطحيا عارضا كما يحاول مؤرخو القوم وفقهاؤهم أن يصوروه رابطينه بحادثة الإفك.. (1) . وباستعراض الروايات السابقة الخاصة بعائشة خاصة تلك التي تتعلق بوفاة الرسول (ص) يتبين لنا عمق هذا الموقف وجذريته.. (2) . ولقد تبلور هذا الموقف في حياة الرسول (ص) حين كانت لعلي مكانته المرموقة والعالية التي فاقت جميع الصحابة وعلي رأسهم أبيها.. (3) . ثم أخذ هذا الموقف امتداده وتطوره بعد وفاة الرسول (ص) في حماية أبيها وقد تحقق لها ما كانت تطمح من مكانة ومقام لأبيها وعزل الإمام علي عن واقع المسلمين.. وطوال عهد أبيها وعهد عمر لم تكن لتهتز مكانة عائشة وسلطانها ولم تكن لترتفع مكانة علي عن الحدود المرسومة من قبل الخليفتين.. إلا أنه بعد مصرع عمر ووصول عثمان إلي الحكم تغير الوضع إذ برز بنو أمية وناطحوا عائشة وعلي والجميع مما دفع بعائشة إلي التصدي لعثمان ومنابذته.. وعندما ثار المسلمون علي عثمان وقتلوه وبايع الناس الإمام علي الخلافة وجدت

ص: 123


1- 252. يحاول مؤرخي السنة ربط الموقف العدائي الذي اتخذته عائشة من الإمام علي بحادثة الإفك حين قال الإمام للرسول صلي الله عليه وسلم: تزوج يا رسول الله فإن النساء كثيرات. فحملت عليه عائشة منذ ذلك الحين. والحق أن هناك شك في أن عائشة هي المقصودة بحادثة الإفك. أنظر تفاصيل هذه الحادثة في كتب التفسير وكتب التاريخ.
2- 253. أنظر الباب الأول من الكتاب. وانظر تفسير سورة التحريم وموقف القرآن من عائشة وحفصة.
3- 254. كانت عائشة من الحزب المناهض للإمام علي في حياة الرسول صلي الله عليه وسلم.

عائشة نفسها بين أمرين، إما أن تذعن لعلي وتدين له بالطاعة وذلك يعني انتهاء دورها وضياع مكانتها.. وإما أن تخرج علي علي وتقاتله من أجل الخلاص منه. وقد اختارت عائشة الموقف الثاني فكانت وقعة الجمل الشهيرة التي راح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف نفس وانتهت بهزيمة عائشة. يروي البخاري لما بعث علي عمارا والحسن إلي الكوفة ليستنفرهم - أثناء وقعة الجمل - خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها - أي عائشة - زوجته في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها.. (1) . ويقول ابن حجر معلقا علي هذه الرواية: وقوله في الحديث لتتبعوه أو إياها قيل الضمير لعلي لأنه كان الذي يدعو إليه عمار. والذي يظهر أنه لله والمراد باتباع الله اتباع حكمه الشرعي في طاعة الإمام وعدم الخروج عليه. ولعله أشار إلي قوله تعالي: (وقرن في بيوتكن) فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي صلي الله عليه وسلم ولهذا كانت أم سلمة تقول: لا يحركن ظهر بعير حتي ألقي النبي. والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الاصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان وكان رأي علي الاجتماع وطلب أولياء المقتول للقصاص ممن يثبت عليه القتل.. (2) . وابن حجر كما هو واضح من كلامه يعترف بأن عائشة خالفت القرآن بخروجها من بيتها بينما التزمت أم سلمة بنص القرآن. إلا أن ما لم يعترف به ابن حجر هو أن هذا الخروج قد كلف الأمة الكثير من الرجال والأموال ونتجت عنه مفسدة عظيمة حاول التغطية عليها وسترها بدعوي التأويل كما هو حال فقهاء القوم في مواجهة النصوص والأحداث التي ترتبط بكبار الصحابة وتشكل حرجا لهم.. (3) .

ص: 124


1- 255. أنظر البخاري. باب فضل عائشة. وفتح الباري ح 7 / 108.
2- 256. المرجع السابق.
3- 257. أنظر كتاب العواصم من القواصم. وانظر لنا كتاب الخدعة.

ولم يكن أمام عائشة من مبرر تؤلب عليه الناس ضد الإمام وتدفعهم إلي قتاله سوي المطالبة بدم عثمان. وهو نفس الشعار الذي رفعه معاوية في مواجهة الإمام علي.. وكان انضمام طلحة والزبير إلي عائشة ونقضهما لبيعة الإمام قد دعم موقفها وزاد من حميتها للقتال وأسهم في تنظيم صفوفها. وهو نفس ما حدث مع معاوية حين انتمي إلي صفه عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة.، إن تبني كلا من عائشة ومعاوية قضية عثمان في مواجهة الإمام يدل دلالة واضحة علي افتقادهما للمبررات الشرعية في مواجهته. ومن جهة أخري هو يدل علي ضعف موقفهما ويضفي عليه الانتهازية. يقول الإمام علي ذاما أهل البصرة أنصار عائشة: كنتم جند المرأة وأتباع البهيمة رغا فأجبتم وعقر فهربتم. أخلاقكم دقاق. وعهدكم شقاق. ودينكم نفاق. وماؤكم زعاق والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه.. كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها.. بلادكم أنتن بلاد الله تربة. أقربها من الماء وأبعدها من السماء وبها تسعة أعشار الشر. المحتبس فيها بذنبه والخارج بعفو الله.. (1) . ويقول الإمام في ذم عائشة بعد حرب الجمل: معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان. نواقص الحظوظ. نواقص العقول.. فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن علي حذر ولا تطيعوهن في المعروف حتي لا يطمعن في المنكر.. (2) .

صفين

أصدر الإمام علي قراره بعزل معاوية عن الشام بمجرد أن تولي أمر الخلافة. إلا أن معاوية رفض الانصياع لقرار الإمام وأعلن العصيان رافعا قميص عثمان علي منبر دمشق داعيا الناس إلي الثأر من قتلته مشيرا بإصبع الاتهام إلي الإمام علي وشيعته..

ص: 125


1- 258. نهج البلاغة ح 1 / خطبة رقم 13.
2- 259. المرجع السابق ح 1 / خطبة رقم 78.

ويحاول المؤرخون توجيه اللوم للإمام علي وتخطئته لإصداره قرار عزل معاوية فور توليه الحكم وكان الواجب عليه أن يتركه علي الشام حتي تنجلي الأمور.. ومثل هذا التصور إنما ينبع من رؤية سطحية لطبيعة الصراع. رؤية تنبني علي أساس أن المسألة لا تخرج عن كونها مجرد - صراع داخلي بين حاكم وواحد من ولاته. وتنبني أيضا علي أساس أن معاوية يتحرك وفق دائرة المصلحة.. ولو كان هؤلاء المؤرخون يفقهون شخصية الإمام علي ويقدرون دوره ويعطونه مكانته لكان من الممكن أن يفهموا أن موقف الإمام من معاوية إنما هو موقف يفرضه المبدأ الإسلامي.. لوفقه هؤلاء شخصية معاوية وتاريخه ومكانته الوضيعة ما تبنوا هذه الرؤية.. إن هؤلاء. المؤرخين كغيرهم من الفقهاء سقطوا ضحية السياسة وسلموا بما بين يديهم من أطروحات وروايات دون أن يعقلوها ويراجعوها علي أساس أن هذا الأطروحات والروايات إنما وصلتهم من رجال عدول ثقات.. (1) . لقد حكم معاوية الشام سبعة عشر عاما مكن لنفسه فيها وارتبط مصيره بها وكانت بالنسبة له بمثابة دولة وليست ولاية.. ولأن الإمام كان يفقه حقيقة معاوية والاتجاه الذي يمثله والدور الذي سوف يلعبه كان لا بد من أن يتبني هذا الموقف تجاهه.. حقيقة معاوية أنه شيطان هذه الأمة.. والاتجاه الذي يمثله هو الباطل.. والدور الذي سوف يلعبه هو ضرب الإسلام النبوي.. وأمام شخص كهذا لا تصح المساومات والمداهنات وأنصاف الحلول لأنها سوف تكون علي حساب الحق وسوف ينتج عنها دعم الباطل.. من هنا كان السيف هو الحل الذي فرض نفسه. فلم يكن أمام معاوية سواه ليواجه به الإمام فهو لا يملك أية مقومات أخري ليواجهه بها..

ص: 126


1- 260. أنظر لنا كتاب فقه الهزيمة فصل الحديث وانظر باب انعكاسات الخط الأموي.

لا يملك الشرعية.. ولا يملك العلم.. ولا يملك الرصيد التاريخي.. وعندما بدأ الصدام كان في صف الإمام ثمانون بدريا ومائة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة أما في صف معاوية فكان عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أما أبو هريرة فلم يكن من المقاتلين وإنما كان يتزعم جهاز الدعاية لمعاوية.. أعلن الإمام في عسكره: لا تقاتلوهم حتي يقاتلوكم وأنتم بحمد الله علي حجة وترككم قتالهم حجة أخري فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا علي جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل وإذا وصلتم إلي رجال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا شيئا من أموالهم ولا تهيجوا امرأة وأن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم.. (1) . وهذا الخلق النبوي الذي التزم به الإمام في المعركة واجهه معاوية بالغدر والخديعة حين رأي الهزيمة به لا حقة خاصة بعد مصرع رجل الإمام عمار بن ياسر الذي أخبر الرسول بمصرعه علي يد الفئة الباغية.. (2) . ولقد شكل مصرع عمار هزة كبيرة لمعاوية وابن العاص خاصة بعد أن شاع بين جيش الشام خبر نبوءة الرسول في عمار.. يقول أبو بكر الجصاص: قاتل علي الفئة الباغية بالسيف ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم وكان محقا في قتاله لهم لم يخالف فيه أحد إلا الفئة الباغية التي قابلته واتباعها. وقال النبي صلي الله عليه وسلم لعمار تقتلك الفئة الباغية وهذا خبر مقبول من طريق التواتر حتي أن معاوية لم يقدر علي جحده لما قال له عبد الله بن عمر. فقال: إنما قتله من جاء به فطرحه بين أسنتنا. رواه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الحجاز وأهل الشام.. (3) .

ص: 127


1- 261. أنظر الطبري ح 4 / 6. والكامل لابن الأثير ح 3 / 149.
2- 262. أنظر سلم كتاب الفتن وابن كثير ح 7 / 267. والاستيعاب وسيرة ابن هشام.
3- 263. أنظر أحكام القرآن للجصاص. وانظر ابن كثير والطبري وكتب التاريخ.

ويروي ابن عبد البر: وتواترت الآثار عن النبي صلي لله عليه وسلم أنه قال تقتل عمار الفئة الباغية وهذا من إخباره بالغيب وإعلام نبوته صلي الله عليه وسلم وهو من أصح الأحاديث.. (1) . ويروي ابن حجر: وظهر بقتل عمار أن الصواب كان مع علي واتفق علي ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القديم.. (2) . ويروي مسلم أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لعمار تقتلك الباغية.. (3) . وعلي الرغم من اعتراف الفقهاء بأن الحق كان في جانب علي إلا أن اعترافهم هذا لا يعني الحكم بأن معاوية كان علي باطل عندهم. فهم يعتبرون معاوية مجتهدا مأجورا علي ما فعل لكونه قاتل عليا بقصد الخير لا بقصد الشر.. (4) . يقول النووي: هذا الحديث حجة ظاهرة في أن عليا كان محقا مصيبا والطائفة الأخري بغاة لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك.. (5) . ومثل هذا النهج التبريري يتبناه القوم علي الدوام في مواجهة النصوص التي تدعم الإمام علي وخط آل البيت وشيعتهم وتشكك في الجانب الآخر جانب الخصوم والمخالفين والمنحرفين عن هذا الخط. خاصة عثمان وعائشة ومعاوية.. (6) . ويروي المؤرخون أن عليا بارز في أيام صفين وقتل خلقا كثيرا. وكان أحد فرسان معاوية قد قتل أربعة من رجال الإمام ثم صاح هل من مبارز؟ فبرز إليه الإمام فتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ثم قتل ثلاثة بعده ثم تلا قوله تعالي: (والحرمات قصاص).. ثم نادي الإمام: ويحك معاوية أبرز إلي ولا تفني العرب بيني وبينك.

ص: 128


1- 264. أنظر الإستيعاب ترجمة عمار بن ياسر.
2- 265. أنظر الإصابة ح 2 / 502.
3- 266. أنظر مسلم وابن كثير والاستيعاب والحاكم.
4- 267. أنظر العواصم من القواصم. والبداية والنهاية وفتاوي ابن تيمية. والفصل في الملك والنحل لابن حزم.
5- 268. مسلم هامش ترجمة عمار. كتاب فضائل الصحابة.
6- 269. أنظر منهاج السنة لابن تيمية. والعواصم. والفصل في الملك والنحل.

فقال عمرو بن العاص لمعاوية: اغتنمه فإنه قد أثخن بقتل هؤلاء الأربعة فقال معاوية: والله لقد علمت أن عليا لم يقهر قط. وإنما أردت قتلي لتصيب الخلافة من بعدي. اذهب إليك. فليس مثلي يخدع.. (1) . وأغار الإمام علي جيش معاوية وحمل علي عمرو بن العاص وضربه بالرمح فألقاه علي الأرض فبدت سوءته فرجع عنه ولم يقتله.. فقال له أصحابه: ما لك يا أمير المؤمنين رجعته..؟ فقال الإمام: أتدرون ما هو؟ قالوا: لا.. قال: هذا عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فذكرني بالرحمن فرجعت عنه (2) . وأمام الضربات القاتلة التي كان يوجهها الإمام وجنده لقوات معاوية التي أخذت في التقهقر والانهزام أشار ابن العاص علي معاوية بحيلة خبيثة لا تنم عن دين أو تقوي له إنما تنم عن ضلال وكفر وخديعة. وقد تمثلت هذه الحيلة في تمزيق المصحف ورفع أوراقه علي أسنة الرماح أمام جنود الإمام والمطالبة بتحكيمه في الصراع الدائر بينهما.. يقول ابن العاص: فإن أبي بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبل فتكون فرقة بينهم. وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلي أجل.. (3) . أن مثل هذا العمل إنما يدل علي مدي استخفاف معاوية وابن العاص بكتاب الله فهما لم يفعلا ذلك بهدف تحكيم كتاب الله وإنما بهدف التقاط الأنفاس والوقيعة بين جند الإمام.. ولقد تصدي الإمام بقوة لهذه الخدعة وأصر علي استمرار القتال إلا أن أصحاب الهوي وضعاف العقول من جنده طالبوه بالتحكيم ووقف القتال وقبل الإمام هذا الأمر علي كراهية وغضب. وقام معاوية بتنصيب ابن العاص حكما من جهته بينما أوفد جند علي أبو موسي الأشعري بدلا من عبد الله بن عباس الذي كان قد اختاره الإمام (4) .

ص: 129


1- 270. أنظر البخاري ومسلم. باب فضائل علي. ومسند أحمد ج 2.
2- 271. الفارس الذي قتله علي هو عمرو بن الود.
3- 272. أنظر طبقات ابن سعد ج 3.
4- 273. أنظر مسند أحمد 1.

ودار بين ابن العاص وأبي موسي الأشعري الحوار التالي: قال عمرو: كيف تري الأصوب في هذا الأمر..؟ قال الأشعري: أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شوري فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا. قال عمرو: والرأي ما رأيت.. ثم خرجا علي الناس وهم خليط من طرف علي ومن طرف معاوية.. فقال عمرو: يا أبا موسي أعلمهم أن رأينا قد اتفق.. قال الأشعري: إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها من أمر قد أجمع عليه وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا وإني قد خلعت عليا ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلا.. قال ابن العاص: أن هذا قد قال ما سمعتموه وأنا أخلع صاحبه (يعني عليا) كما خلعه وأثبت صاحبي (معاوية) فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.. فصاح الأشعري في غضب: ملك لا وفقك الله غدرت وفجرت.. (1) . وقد وجد هذا الفعل المنكر من قبل ابن العاص تبريرا في فقه القوم إذ يقول ابن كثير: وكان عمرو بن العاص رأي أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدي إلي مفسدة طويلة عريضة أربي مما الناس فيه من الاختلاف فأقر معاوية لما رأي ذلك من المصلحة والاجتهاد يخطي ويصيب (2) . وهذا التبرير الساذج إنما يكشف لنا مدي تفاعل فقهاء القوم مع خط بني أمية واستسلامهم لأطروحتهم والعمل علي ترقيعها والدفاع عنها..

ص: 130


1- 274. البداية والنهاية ج 7 / 283.
2- 275. أنظر الطبري ج 4 / 57.

وفي مواجهة هذه الخدعة قال الإمام: ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما وأحييا ما أمات القرآن واتبع واحد منهما هواه بغير هدي من الله فحكما بغير حجة بينة ولا سنة ماضية واختلفا في حكمها وكلاهما لم يرشدا.. (1) .

جرائم معاوية

لم يكن معاوية يتحلي بشئ من خلق الإسلام أو يتأدب بأدبه كما لم ينهل شيئا من العلم كذلك كان حال من تحالف معه وكان من جنده.. وكانت رايته راية دنيا وهوي ولم يكن للدين فيها أدني نصيب.. من هنا فإنه يمكن القول أن معاوية ربما يكون أول من ابتدع قاعدة الغاية تبرر الوسيلة وعلي أساسها حطم القيم والمبادئ وانتهك الحرمات وأراق الدماء ونقض العهود وغدر بالمسلمين وبدل أحكام الدين.. ولقد استعان معاوية بشرار الخلق من أجل تصفية المعارضين والقضاء علي شيعة الإمام علي ومحو ذكره.. وعلي رأس الذين استعان بهم معاوية في تصفية المسلمين الملتزمين بالإسلام النبوي من أنصار الإمام بسر بن أرطأة. تلك الشخصية الدموية التي لم ترحم شيخا ولا امرأة ولا طفلا وارتكبت من الفظائع والمنكرات ما تقشعر له الأبدان.. تروي كتب التاريخ أن معاوية أرسل بسر بن أبي أرطأة ليستخلص الحجاز واليمن من الإمام علي. ولما دخل المدينة صعد منبرها وقال: أين شيخي الذي عهدته هنا بالأمس (يعني عثمان) ثم قال يا أهل المدينة عليكم ببيعة معاوية وأرسل إلي بني سلمة فقال ما لكم عندي أمان ولا مبايعة حتي تأتوني بجابر بن عبد الله وكان من شيعة الإمام ثم قام بهدم دورا بالمدينة. وانطلق إلي مكة ففر منه أبو موسي الأشعري فقيل ذلك لبسر. فقال ما كنت لأقتله وقد خلع عليا. وأتي إلي اليمن فقتل عاملها وابنه ثم قتل ابنان صغيران لعبيد الله بن عباس

ص: 131


1- 276. أنظر البداية والنهاية لابن كثير ج 7.

الذي كان قد فر من وجهه إلي الكوفة. وقد صاحت في وجه بسر امرأة من بني كنانة قائلة في غضب: يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام. والله يا ابن أبي أرطأة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ. الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء.. (1) . ولم تقف جرائم بسر عند هذا الحد بل تجاوزه.. إلي ارتكاب جريمة لم يسبقه إليها أحد في تاريخ الإسلام وهي سبي نساء المسلمين.. يروي ابن عبد البر: أغار بسر بن أرطأة علي همدان. وكانت في يد علي - وسبي نساءهم فكن أول مسلمات سبين في الإسلام. وقتل أحياء من بني سعد.. (2) . ويروي أن بسر بن أرطأة كان من الأبطال الطغاة وبارز عليا يوم صفين فطعنه علي فصرعه فانكشف له - أي كشف عورته له - فكف عنه كما عرض له مع عمرو بن العاص.. (3) . ويروي بخصوص بسر وعمرو: إنما كان انصراف علي عنهما وعن أمثالها من مصروع أو منهزم لأنه كان لا يري في قتلا الباغين عليه من المسلمين أن يتبع مدبر ولا يجهز علي جريح ولا يقتل أسير وتلك كانت سيرته في حروبه في الإسلام.. (4) . وبسر هذا الذي ارتكب هذه الفظائع من أجل معاوية يعده القوم من الصحابة لأنه ولد في حياة الرسول ورآه وعلي هذا يدخل بسر في دائرة العدالة حسب قاعدة عدالة الصحابة وبالتالي تتحول جرائمه إلي اجتهادات فعلها متأولا ويثاب عليها. وجميع من تحالف مع معاوية هو من نموذج ابن أرطأة من الصحابة المختلقين الذين تحص بهم معاوية وجاء أهل السنة فأضفوا عليهم المشروعية..

ص: 132


1- 277. أنظر الإستيعاب ترجمة بسر بن أرطأة وكذلك الإصابة وأسد الغابة. والمراجع السابقة.
2- 278. أنظر الإستيعاب.
3- 279. المرجع السابق.
4- 280. المرجع السابق.

ومن هنا فقد روي بسر عدة أحاديث في كتب السنن علي لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم ففي سنن أبي داود روي قول الرسول صلي الله عليه وسلم: لا تقطع الأيدي - للسارق - في السفر. وعند ابن حبان روي عن الرسول قوله اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها. وقال فيه ابن حبان: كان يلي لمعاوية الأعمال وكان إذا دعا ربما استجيب له وله أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها.. (1) . وكان معاوية أول من ابتدأ بقطع الرؤوس في الإسلام. وكان قد قطع رأس عمار بن ياسر ورأس عمرو بن الحمق وهو أحد الذين قادوا الثورة ضد عثمان. كذلك فعل مع محمد بن أبي بكر في مصر حين دخلها عمرو بن العاص ووضعوا جثته في حمار ميت وأحرقوها. وقد أصبحت سنة قطع الرؤوس التي سنها معاوية من السنن التي التزم بها الحكام من بعده.. (2) . ومن جرائم معاوية أمره بسب الإمام علي ولعنه علي المنابر ومثل هذه الجريمة لا تعد موقفا شخصيا عدائيا من الإمام إنما هي تعبر عن عدائية معاوية للإسلام النبوي الذي يمثله وخوفه من أن تتسرب مفاهيم هذا الإسلام للمسلمين فيكتشفوا زيفه وضلاله. ولقد تصدي شيعة الإمام لهذه الحملة الإعلامية الشيطانية التي قادها معاوية ضد الإمام علي بعد مصرعه ومصرع الحسن وسيطرته علي الحكم.. وعلي رأس الذين تصدوا لحملة معاوية هذه الصحابي الجليل حجر بن عدي وعدد من أنصار الإمام في ولاية زياد بن أبيه بالعراق. فكان أن قبض عليه زياد وعدد من رفاقه وأرسلهم إلي معاوية في الشام بكتاب يحرضه فيه عليهم متهما حجرا وأصحابه بالدفاع عن علي والبراءة من عدوه وأهل حربه. وقد طلب من حجر وأصحابه البراءة من علي ولعنه فأبوا.

ص: 133


1- 281. أنظر الإصابة ح 1. ترجمة بسر بن أرطاة.. وتأمل تعريف الصحابي في مقدمة الإصابة.
2- 282. أنظر كتب التاريخ والتراجم.

وقال حجر: لا أقول ما يسخط الرب. فأمر معاوية بقتله وعدد من أصحابه في مرج عذراء عام 51 ه.. (1) . ومن جرائم معاوية تآمره علي قتل الإمام الحسن بالسم وتوليه ولده يزيد خليفة له فكان أن شرع للملكية في الإسلام لتذوق الأمة علي يد ولده وملوك بني مروان من بعده ألوان العذاب والظلم والاستبداد.. يقول الحسن البصري: أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة. انتزاؤه علي هذه الأمة بالسيف حتي أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة. واستخلافه بعده ابنه سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب الطنابير. وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقتله حجرا وأصحاب حجر فيا ويلا له من حجر ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر.. (2) . وعلي يد يزيد بن معاوية وقعت جريمتان بشعتان: الأولي قتل الحسين وأهل بيته في كربلاء. والثانية استحلاله مدينة رسول الله وذبح أهلها وهتك أعراض نساءها.. تروي كتب التاريخ أن أهل المدينة عصوا يزيد وشقوا عصا الطاعة بعد مصرع الحسين فكان أن سير إليهم جيشا استباح المدينة ثلاثة أيام وقتل آلاف الأنفس من الأشراف وغيرهم وهتك أعراض النساء حتي قيل أنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زواج.. (3) . وعلي الرغم من هاتين الجريمتين بالإضافة إلي منكرات يزيد الأخري فإن فقهاء

ص: 134


1- 283. أنظر الطبري ح 4 / 190 وما بعدها. وانظر الإصابة ح 1 / 333 حرف الحاء القسم الأول والاستيعاب بهامشه ح 1 / 381 / 382.
2- 284. أنظر الكامل ح 3 / 242. والبداية والنهاية ح 8 / 130.
3- 285. أنظر الطبري ح 4 / 372 وما بعدها. والكامل ح 3 / 310 وما بعدها. والبداية والنهاية ح 8 / 372 وما بعدها.

القوم قد انقسموا علي أنفسهم تجاهه. فمنهم من أجاز لعنه وهم قلة. بينما توقف أكثرهم فيه بحجة أن ذلك سوف يفتح الباب للعن والده أو غيره من الصحابة.. (1) . يقول الحسن البصري عن أهل الشام: قبحهم الله وبرحهم أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يقتلون أهله ثلاثا قد أباحوها لأنباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر ذوات الدين لا ينتهون عن انتهاك حرمة ثم خرجوا إلي بيت الله الحرام فهدموا الكعبة وأوقدوا النيران بين حجارها وأستارها عليهم لعنة الله وسوء الدار.. (2) . ويلاحظ أن الحسن البصري يلعن أهل الشام بالعموم دون تحديد وهو بهذا يسير علي نهج القوم من عدم جواز لعن المعين. كما أن هذا الموقف كان في العصر العباسي. أما ابن تيمية فقد دافع من يزيد ونفي عنه كل الشبهات بقوله: كان من شبان المسلمين ولا كان كافرا ولا زنديقا وتولي بعد أبيه علي كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم. وكان فيه شجاعة وكرم ولم يكن مظهرا للفواحش كما يحكي عنه خصومه وهو لم يأمر بقتل الحسين ولا أظهر الفرح بقتله.. لكن أمر بمنع الحسين وبدفعه عن الأمر ولو كان بقتاله.. (3) .

ص: 135


1- 286. أنظر البداية والنهاية ح 8 / 223. واستدل أحمد علي جواز لعن يزيد بقوله تعالي: فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله سورة محمد.. ثم قال: وأي فساد وقطع رحم أكبر مما ارتكب بزيد.
2- 287. أنظر الكامل ح 4 / 170.
3- 288. فتاوي ابن تيمية ح 3 / 410. وما بعدها.. وابن تيمية معذور في موقفه هذا إذ أن كبير فقهاء الصحابة في نظر أهل السنة عبد الله بن عمر قد بايع يزيد وهدد أهل المدينة الذين خلعوا يزيد بقوله إني لا أعلم عذرا أعظم من أن يبايع رجل - يزيد - علي بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه - أي يزيد - إلا كان الفيصل بين وبينه. ولما جاء جيش يزيد واقتحم المدينة وفعل بها ما فعل بعد مصرع الحسين أمن ابن عمر وحزبه ولم يمسهم بسوء. وما حدث لأهل المدينة علي يد جنود يزيد لا يعد جريمة ولا فاحشة في نظر ابن تيمية. أنظر البخاري كتاب الفتن. وانظر تبريرات فقهاء السنة لهذا الحدث الأليم في البداية والنهاية لابن كثير وغيره من كتب التأريخ.

إن مثل هذه الجرائم من معاوية وولده إنما تؤكد أن الصراع بينهما وبين آل البيت هو صراع مصيري بين عقيدتين متناقضتين ومتباعدتين ليس بينهما لقاء بأي صورة من الصور. مثل هذه الجرائم لا يمكن أن تنسب إلي أناس ينتمون إلي الإسلام.. والذين يصفون هذا الصراع بأنه صراع في دائرة الإسلام ويضفون علي معاوية صفة المجتهد ويحاولون تبرئة ولده إنما يرتكبون جريمة كبري في حق الإسلام والمسلمين من أخطر نتائجها تلميع الإسلام الزائف الذي فرضه معاوية علي الأمة..

الخوارج

عاد الإمام إلي الكوفة بعد التحكيم وأخذ يعد العدة لقتال معاوية إلا أن الخوارج الذين خرجوا عليه بعد التحكيم أصبحوا يعيقون مسيرته ويهددون شيعته بعد أن فشلت الجهود السلمية في إعادتهم إلي الصف وإقناعهم بالتنازل عن أفكارهم.. ولما كثرت اعتداءاتهم علي المسلمين دخل الإمام معهم في مواجهة عسكرية فاصلة انتهت لصالح الإمام وقتل فيها عدد كبير منهم فيما سمي بواقعة النهروان.. (1) . والإمام علي في قتاله هؤلاء الخوارج إنما كان علي علم وبصيرة بهم وبأحوالهم وجرائمهم كما قاتل عائشة ومعاوية من قبل علي علم وبصيرة.. لقد تنبأ الرسول صلي الله عليه وسلم بالخوارج كما تنبأ بدور الإمام علي في مواجهتهم.. يروي مسلم أن الإمام علي بعث من اليمن بذهب إلي الرسول في المدينة فقسمه الرسول صلي الله عليه وسلم بين أربعة. فغضبت قريش.. فقال الرسول: إنما فعلت ذلك لأتألفهم. فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين نائي الجبين محلوق الرأس فقال اتق الله يا محمد. فقال الرسول فمن يطع الله إن عصيته أيأمنني علي أهل الأرض ولا تأمننوني.. ثم أدبر الرجل.. فقال الرسول إن من ضئضي هذا

ص: 136


1- 289. كانت وقعة النهروان في التاسع عشر من صفر عام 38 ه بعد صفين. أنظر كتب التأريخ.

قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد.. (1) . ويقول الإمام علي سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة.. (2) ويقول: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلي قراءتهم بشئ. ولا صلاتكم إلي صلاتهم بشئ ولا صيامكم إلي صيامهم بشئ. يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم علي لسان نبيهم صلي الله عليه وسلم لا تكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع علي رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعيرات بيض فتذهبون إلي معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس فسيروا علي اسم الله.. (3) . ويروي أن الخوارج لما خرجوا علي الإمام قالوا: لا حكم إلا لله. فقال الإمام: كلمة حق أريد بها باطل. أن رسول الله وصف: ناسا أني لأعرف صفتهم في هؤلاء.. (4) . إن مثل هذه الروايات إنما تكشف لنا مدي خطورة خط الخوارج علي الإسلام والمسلمين وهي خطورة لا تقل عن خطورة الخط الأموي. وارتباط الإمام بمواجهة

ص: 137


1- 290. أنظر مسلم كتاب الزكاة. باب ذكر الخوارج وصفاتهم والتحريض علي قتلهم.
2- 291. أنظر مسند أحمد ح 1. وأبو داود الطيالسي. وانظر مسلم والبخاري.
3- 292. أنظر مسلم كتاب الزكاة. باب ذكر الخوارج والتحريض علي قتلهم.
4- 293. المرجع السابق.

هذين الخطين يعني أن هذين الخطين إنما يمثلان توجها واحدا ويحققان نتيجة واحدة. ارتباط الإمام بمواجهة هذين الخطين يعني استمرارهما في مواجهة الإسلام النبوي علي مر الزمان. فالإمام علي هو ممثل الإسلام النبوي ورمز الحق علي مر الزمان.. والخط الأموي وخط الخوارج يمثلان الإسلام الزائف ويرمزان للباطل علي مر الزمان.. ومنهج الخوارج سوف يظل باقيا وإن كان قد ضرب عسكريا وتقوقع فكريا - في مواجهة الإسلام النبوي خط آل البيت. ولن يتمكن المسلمون من تجنبه واعتزاله إلا بفقه حركة الإمام علي وخط آل البيت. فمن حاد عن هذا الخط وقع فريسة للخوارج. ومن استبصر هذا الخط أمكن له أن يحصن نفسه في مواجهته.. ولقد كان الإمام علي يواجه كل هذه الأحداث وهو مستبصر بها عالم بنتائجها ودلالاتها حتي أنه كان يعلم طريقة موته كما أخبره بها الرسول صلي الله عليه وسلم.. (1) . من هنا فإن نتائج صراع الإمام مع هذه الجبهات الثلاث يمكن أن يمنحنا المعالم التي ترشدنا إلي فقه حقيقة الإسلام. وفقه حقيقة الرجال الذين موهوا علي هذا الإسلام وزيفوا نصوصه ومفاهيمه بما اخترعوه من روايات واجتهادات أضلت الناس عن سبيل الله.. إن ارتباط الإمام بمواجهة عائشة ومعاوية والخوارج ليس محض صدفة إنما هو عمل تشريعي للأمة تهتدي به علي الدوام.. اختيار الإمام لهذا الدور اختيار إلهي فلم يكن من بين الصحابة من هو مؤهل للقيام به. وقد دفعت الأمة ثمنا باهظا لتقاعسها عن نصرة الإمام والالتزام بخطه.. دفعته فرقة وشتاتا..

ص: 138


1- 294. أنظر مسند أحمد وتأريخ بغداد والبداية والنهاية ح 7 / 325. وقد أشار الرسول صلي الله عليه وسلم وأن قاتل الإمام هو أشقي الآخرين. وروي الإمام: عهد إلي الرسول أن لا موت حتي أؤمر ثم تخضب هذه - يعني لحيته - من دم هذه يعني هامته.

ودفعته دما ورجالا.. ودفعته فقها وعلما..

معاوية والحسن

بعد أن قضي الإمام علي علي شوكة الخوارج تجهز لقتال أهل الشأم إلا أن أهل العراق افترقوا وتنازعوا أمرهم بينهم مما أدي إلي تعطيل الحملة العسكرية المتجهة لقتال معاوية.. ولقد عاني الإمام من أهل العراق كثيرا فقد تسببوا بتقاعسهم وتخاذلهم في عرقلة مسيرته وإضعاف شوكته أمام معاوية وأمام الخوارج.. يقول الإمام في أهل العراق: أما بعد يا أهل العراق فإنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت قيمها وطال تأيمها وورثها أبعدها. أما والله ما أتيتكم اختيارا ولكن جئت إليكم سوقا. ولقد بلغني أنكم تقولون: علي يكذب. قاتلكم الله فعلي من الكذب؟ أعلي؟ فأنا أول من أمن به. أم علي نبيه؟ فأنا أول من صدقه. كلا والله. ولكنها لهجة غبتم عنها ولم تكونوا من أهلها. ويل أمه كيلا بغير ثمن. لو كان له وعاء. (ولتعلمن نبأه بعد حين).. (1) . ومثلما خذل أهل العراق الإمام علي خذلوا أيضا الإمام الحسن من بعده ودفعوه دفعا إلي معاوية ثم نقموا عليه واستباحوه.. (2) . يروي ابن حجر نقلا عن الطبري: جعل علي علي مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عباده وكانوا أربعين ألفا بايعوه علي الموت. فقتل علي فبايعوا الحسن بن علي بالخلافة. وكان لا يحب القتال ولكن كان يريد أن يشترط علي معاوية لنفسه فعرف أن قيس بن سعد لا يطاوعه علي الصلح فنزعه وأمر عبد الله بن عباس فاشترط لنفسه كما اشترط الحسن.. (3) .

ص: 139


1- 295. أنظر نهج البلاغة ح 1 / خطبة رقم 69.
2- 296. أنظر كتب التأريخ.. والإصابة ح 1 حرف الحاء. القسم الأول.
3- 297. أنظر فتح الباري ح 13 / 63.

ويروي ابن حجر: سلم الحسن لمعاوية الأمر وبايعه علي إقامة كتاب الله وسنة نبيه. ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس فسميت سنة الجماعة لاجتماع الناس وانقطاع الحرب. وبايع معاوية كل من كان معتزلا للقتال كابن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة. وأجاز معاوية الحسن بثلاثمائة ألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل.. وانصرف إلي المدينة وولي معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة والبصرة عبد الله بن عامر ورجع إلي دمشق.. (1) . ويروي البخاري قول النبي صلي الله عليه وسلم للحسن: إن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين.. (2) . ويحاول المؤرخون أن يؤكدوا علي أن معاوية هو الذي رغب في الصلح مع الحسن وسعي إليه وأنه عرض عليه المال ورغبه فيه وحثه علي رفع السيف وذكره ما وعده به جده صلي الله عليه وسلم من سيادته في الاصلاح به فقبل الحسن العرض وصالح معاوية.. (3) . ويؤكد الكثير من المؤرخين أن الحسن اشترط علي معاوية أن يجعل له الأمر من بعده وقبل معاوية هذا الشرط.. (4) . ومن الواضح أن هذه الروايات تفوح منها رائحة السياسة والهدف منها هو التمويه علي حركة الإمام الحسن وطمس معالمها وتشويه أهدافها..

ص: 140


1- 298. المرجع السابق.
2- 299. البخاري كتاب الفتن. ومناسبة هذه الرواية كما جاءت في أن الحسن لما سار بالكتائب إلي معاوية. قال ابن العاص لمعاوية: أري كتيبة لا تولي حتي تدبر أخراها. فقال معاوية: من لذراري المسلمين؟ فقال أي ابن العاص - أنا. فقال عبد الله بن عامر و عبد الرحمن بن سمرة نلقاه فنقول له الصلح. فقبل الحسن الصلح متذرعا بهذه. الرواية. أنظر منسد أحمد ح 5. والبخاري كتاب الاصلاح بين الناس. والترمذي كتاب المناقب.
3- 300. أنظر فتح الباري ح 13 / 61. والإصابة ح 1 حرف الحاء. والاستيعاب باب الأفراد في الحاء.
4- 301. يروي ابن حجر: لما قتل علي سار الحسن بن علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشأم فالتقوا فكره الحسن القتال وبايع معاوية علي أن يجعل العهد للحسن من بعده. وانظر فتح الباري والإصابة. ويروي ابن عبد البر في الإستيعاب: ولا خلاف بين العلماء أن الحسن إنما سلم الخلافة لمعاوية حياته لا غير ثم تكون له من بعد. وعلي ذلك انعقد بينهما ما انعقد في ذلك ورأي الحسن ذلك خيرا من إراقة الدماء في طلبها وإن كان عند نفسه أحق بها.. ويروي أيضا: سم الحسن بن علي. سمته امرأته بنت الأشعث بن قيس الكندي. وقال طائفة: كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها في ذلك.. ويروي أن الحسن لما حضرته الوفاة قال للحسين أخيه يا أخي إن أباك لما قبض رسول الله صلي الله عليه وسلم استشرف لهذا الأمر ورجا أن يكون صاحبه. فصرفه الله عنها ووليها أبو بكر. فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوف لها أيضا فصرفت عنه إلي عمر. فلما احتضر عمر جعلها شوري بين ستة هو أحدهم فلم شك أنها لا تعدوه. فصرفت عنه إلي عثمان. فلما هلك عثمان بويع ثم نوزع حتي جرد السيف وطلبها فما صفا له شئ منها. وإني والله ما أري أن يجمع الله فينا أهل البيت النبوة والخلافة فلا أعرفن ما استخفك سفهاء الكوفة فأخرجوك.. ومن الواضح أن هذه الرواية تهدف إلي التشكيك في الإمام علي والإمام الحسن والحسين ثلاثتهم فهي تصورهم طلاب للملك وهذا من شأنه أن يطمس أطروحتهم وخطهم ويبرر من جهة أخري سلوك ومواقف الطرف الآخر.

ويبدو من رواية الطبري أن الإمام الحسن لم يكن يرغب في السير علي نهج الإمام علي ومواصلة القتال ضد معاوية وهو بمجرد أن بويع بالخلافة قرر الاستلام لمعاوية وتصفية المعارضين لنهج الصلح معه. وكيف لإمام يقود أربعين ألف مقاتل بايعوا علي الموت أن يميل إلي السلم بهذه البساطة؟ كيف له أن يضحي بمبادئه وعقيدته وجنده في مقابل أن يشترط لنفسه؟ إن مثل هذه الرواية تعد طعنا في الإمام علي ونهجه كما تعد طعنا في الإمام الحسن. فكأنها تشير إلي أن الإمام فشل في القيام بدوره وخلف من بعده شخصا ضعيفا لم يتعلم منه شيئا وهواه مع الدنيا ونفسه وليس مع الآخرة والإسلام.. وتأتي رواية ابن حجر لتؤكد رواية الطبري وتسير علي منوالها في تشويه الإمام الحسن والتمويه علي حقيقة الصراع الذي دار بينه وبين معاوية. فهي تشير إلي أن الإمام الحسن بايع معاوية وأدخله الكوفة وقبض منه ثمن ذلك ثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل وفي هذا تشويه ما بعده تشويه للإمام الحسن وتعتيم ما بعده تعتيم علي حقيقة الصراع.. أما رواية البخاري فهي رواية واهية لا يستقيم معناها وطبيعة الحدث وقد غاب عن مخترعيها الحقائق التالية:

ص: 141

- أن الروايات الأخري تشير إلي أن الإمام الحسن تنازل لمعاوية لا اصطلح معه.. - أن المصلح إنما يكون عادة من خارج دائرة الصراع لا أن يكون أحد طرفي الصراع.. - أن الرواية لا تفيد الجزم بوقوع الاصلاح.. - أن قوله بين فئتين من المسلمين يعني أن دعواهما واحدة بينما فئة الإمام الحسن وفئة معاوية ليست دعواهما واحده.. - أن الإمام الحسن مات مقتولا بالسم بينما جعل معاوية ولده يزيد خليفة له وفي هذا إشارة إلي أن الصراع لم ينته بين الحسن ومعاوية حتي مقتله.. أن تولية معاوية ولده يزيد هو غدر بالأمة بأكملها لا بالإمام الحسن وحده وهو برهان ساطع علي عدم وجود صلح من الأصل. إذ لو كان هناك صلحا ما كان هناك غدرا من قبل معاوية. فالغدر لا يكون إلا إذا كان معاوية مغبونا بهذا الصلح إن كان واقعا.. وما حدث بين الحسن ومعاوية إنما هو أمر أشبه بأمر التحكيم لم يرضخ له الإمام الحسن كما لم يرضخ الإمام علي لنتيجته مما اضطر معاوية إلي التآمر والغدر للخلاص من الحسن.. وتركيز الفقهاء والمؤرخون علي رواية صلح الحسن هذه إنما يهدف إلي تبرير سلوك معاوية بنص منسوب للرسول صلي الله عليه وسلم لا يتطرق إليه الشك من قبل المسلمين. وهم بهذا قد وقعوا في الفخ الذي نصبه مخترعو الرواية.. يقول ابن حجر: وفيه - أي في حديث الصلح - فضيلة الاصلاح بين الناس ولا سيما في حقن دماء المسلمين. ودلالة علي رأفة معاوية بالرعية وشفقته علي المسلمين وقوة نظره في تدبير الملك ونظره في العواقب. وفيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل لأن الحسن ومعاوية ولي كل منهما الخلافة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد في الحياة وهما بدريان. وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأي في ذلك صلاحا للمسلمين والنزول عن الوظائف الدينية والدنيوية بالمال

ص: 142

وجواز أخذ المال علي ذلك. واستدل به علي تصويب رأي من قعد عن القتال مع معاوية وعلي.. (1) . لقد بني الفقهاء أحكاما علي رواية الصلح هذه كما هو واضح من كلام ابن حجر الذي بالغ في الاستنباط إلي درجة جواز النزول عن الوظائف الدينية مقابل المال. وهذا الأمر أن دل علي شئ فإنما يدل علي أن فقه القوم ينظر إلي الوظائف الدينية نظرة استخفاف. وهذه النظرة هي التي بررت سلوك الفقهاء مع الحكام وتعايشهم معا.. فما دام الحسن قد تقاضا مالا علي الصلح مع معاوية.. وما دام الرسول صلي الله عليه وسلم قد حكم أن الطائفتين من المسلمين.. وما دام سعد أو سعيد كلاهما أفضل من الحسن.. فإذا ذلك كله يبرر التنازل عن العقائد والمبادئ من أجل المال.. ويبرر القعود عن نصرة الحق ما دامت الطائفتين من المسلمين.. ويبرر أن يحكم المسلمين المفضول مع وجود الأفضل.. وعلي أساس هذه التبريرات قامت عقائد وتأسست مفاهيم في فقه القوم انعكست علي فكرة الدولة والحكم وعلاقة الحاكم بالرعية. وعلاقة الفقيه بالحاكم..

كربلاء

كانت وقعة كربلاء آخر صورة من صور الصدام المسلح بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي استتر بعدها الإسلام النبوي بينما أخذ الإسلام الأموي امتداده وانتشاره وسيادته.. منذ ذلك الحين حلت لغة البيان والقلم مكان لغة السيف في خط المواجهة بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي..

ص: 143


1- 302. أنظر فتح الباري ح 13 / 66 / 67.

حمل أئمة آل البيت وشيعتهم لواء البيان والقلم لتبصير الأمة بحقيقة الإسلام النبوي ودعوتها للالتزام به.. وتبني حكام بني أمية خطة الدفاع عن الإسلام الأموي وتشويه الإسلام النبوي.. لقد سطر الإمام الحسين بدمائه نهج الثورة والمواجهة للإسلام الأموي وكل صور الإسلام الزائفة التي نبعت منه. ووضع الخطوط العريضة للأمة لتبني علي أساسها التصدي ومواجهة الصور الزائفة للإسلام.. إن ثورة الإمام الحسين هزت واقع الأمة وشهادته زلزلتها. ووجهت ضربة قوية إلي معاوية ونهجه أيقظت الأمة من ثباتها وبعثت فيها روح التحدي والمواجهة.. إن هذه الثورة هي نتاج طبيعي لمرحلة الإمام الحسن ورد مباشر علي غدر بني أمية ومؤامراتهم وهي تؤكد للأمة أن الصراع لا زال مستمر ولن ينتهي بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي وتبطل من جهة أخري كل محاولات التشكيك والتعتيم التي أحاطت بحركة الإمام الحسن.. وكما حاول الفقهاء والمؤرخون تشويه هوية الصراع بين الإمام علي ومعاوية وبين الإمام الحسن ومعاوية حاولوا أيضا تشويه الصراع الذي دار بين الإمام الحسين وبين يزيد بن معاوية والتعتيم عليه وطمس معالمه وتبييض وجه يزيد أو وجه الإسلام الأموي الذي يمثلونه. يروي ابن عبد البر: لما مات معاوية وأفضت الخلافة إلي يزيد وذلك في سنة ستين وردت بيعته علي الوليد بن عقبة بالمدينة ليأخذ البيعة علي أهلها أرسل إلي الحسين بن علي وإلي عبد الله بن الزبير ليلا. فأتي بهما فقال: بايعا. فقالا: مثلنا لا يبايع سرا. ولكننا نبايع علي رؤس الناس إذا أصبحنا فرجعا إلي بيوتهما وخرجا من ليلتهما إلي مكة. وأقام الحسين بمكة شعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وخرج يريد الكوفة فكان

ص: 144

سبب هلاكه يوم الأحد لعشر مضين من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدي وستين بموضع من أرض الكوفة يدعي كربلاء قرب الطف.. (1) . ويتضح من خلال هذه الرواية ما يلي: - أن الإمام الحسين كذب علي الوليد بن عتبة وخشي أن يواجهه بالحقيقة.. - أن الإمام الحسين فر من المدينة ليلا خوفا من بطش الوليد.. - أن ثورة الحسين كانت حركة عشوائية كان نتيجتها هلاكه.. ويروي ابن حجر عن ابن عمر أنه قال عندما رأي الحسين مقبلا: هذا أحب أهل الأرض إلي أهل السماء اليوم وكانت إقامة الحسين بالمدينة إلي أن خرج مع أبيه إلي الكوفة فشهد معه الجمل ثم صفين ثم قتال الخوارج وبقي معه إلي أن قتل ثم مع أخيه إلي أن سلم الأمر إلي معاوية فتحول مع أخيه إلي المدينة واستمر بها إلي أن مات معاوية فخرج إلي مكة ثم أتته كتب أهل العراق بأنهم بايعوه بعد موت معاوية فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب فأخذ بيعتهم وأرسل إليه فتوجه وكان من قصة قتله ما كان.. (2) . وهذه الرواية إنما تعضد سابقتها إلا أنها تحاول إثبات أن الإمام الحسين أسهم في تسليم الأمر إلي معاوية مع الإمام الحسن. وهذا الموقف من شأنه أن يثير الشكوك حول حركته. فما دام قد شارك في تسليم الأمر إلي معاوية وتقاضي الأموال مقابل ذلك فإن حركته ضد يزيد من الممكن أن تشوبها أغراض دنيوية. ويروي أن الحسين لما بلغه خبر مقتل مسلم بن عقيل هم بالرجوع. فقال البعض: والله لا نرجع حتي نصيب بثأرنا أو نقتل فساروا. وكان عبيد الله بن زياد قد جهز الجيش لملاقاته فوافوه بكربلاء منزلها ومعه خمسة وأربعون نفسا من الفرسان ونحو مائة راجل فلقيه الحسين وأميرهم عمر بن سعد بن أبي وقاص وكان عبيد الله ولاه بعهده عليها إذا رجع من حرب الحسين. فلما التقيا قال له الحسين: اختر مني إحدي ثلاث: إما أن ألحق بثغر من الثغور. وإما أن أرجع إلي المدينة.

ص: 145


1- 303. أنظر الإستيعاب باب الأفراد في الحاء.
2- 304. أنظر الإصابة ج 1 / حرف الحاد القسم الأول.

وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية. فقبل بذلك عمر منه وكتب إلي عبيد الله فكتب إليه لا أقبل منه حتي يضع يده في يدي. فامتنع الحسين فقاتلوه فقتل معه أصحابه وفيهم سبعة عشر شابا من أهل بيته ثم كان آخر ذلك أن قتل وأتي برأسه إلي عبيد الله بن زياد فأرسله ومن بقي من أهل بيته إلي يزيد ومنهم علي بن الحسين وكان مريضا ومنهم عمته زينب فلما قدموا علي يزيد أدخلهم علي عياله ثم جهزهم إلي المدينة.. (1) . وهذه الرواية تعد من أسوأ الروايات التي رويت حول الصراع بين الإمام الحسين ويزيد فهي تضع الإمام الحسين في موضع غاية في المهانة بينما تبيض وجه يزيد.. وأول ما تحاول إثباته هذه الرواية هو أن الإمام الحسين أصيب بالإحباط فور علمه بنبأ مقتل مسلم بن عقيل وقرر العودة وفي هذا إشارة إلي أن خروجه لم يكن بهدف الثورة كما لم يكن يقوم علي أساس خطة منظمة.. وما تحاول الرواية إثباته ثانيا هو أن أصحاب الحسين قد خالفوه وأصروا علي مواصلة المسير طلبا للثأر. أي أن موقفهم هذا كان مجرد رد فعل لمقتل مسلم ولم يكن نابغا من إيمانهم بالإسلام النبوي الذي يقاتلون تحت لواءه وبالإمام الحسين قائدهم.. ولقد وجهت هذه الرواية طعنة شديدة للإمام الحسين ولأبيه وأخيه وخط آل البيت والإسلام النبوي الذي يمثله حين طرحت علي لسانه هذا الطرح الانهزامي الخانع الذي يعكس شخصية منهارة قدمت التنازلات فور حدوث المواجهة ومن قبل وقوع الصدام. وبدا وكأن الإمام الحسين لم يكن يحسب حدوث مواجهة ولم يكن يتوقع أي صدام مع بني أمية.. فحين يطلب منحه الفرصة للذهاب للقتال في ثغر من الثغور فكأنه بهذا يطلب تجنيده في جيوش في أمية ليقاتل تحت رايتهم. وما دام هو يحمل هذا التصور الذي لا يعكس أية صورة من صور العداء لبني أمية فلماذا خرج من الأساس..؟

ص: 146


1- 305. المرجع السابق.

وحين يطلب الرجوع إلي المدينة كأنه بهذا يضحي بكل القيم والمبادئ التي آمن بها وتبعة الناس عني أساسها من أجل النجاة بنفسه.. وحين يطلب أن يضع يده في يد يزيد فكأنه بهذا يضحي بالإسلام النبوي وجهاد أبيه وأخيه وينفي وجود أية بوادر عداء وصراع بين الحق الذي يمثله والباطل الذي يمثله يزيد وبني أمية.. وكيف للإمام الحسين يطلب وضع يده في يد يزيد ويقدم مثل هذه التنازلات ثم في النهاية يرفض أن يضع يده في يد عبيد الله بن زياد ويقاتل علي ذلك..؟ أن الذي يقدم مثل هذه التنازلات لا تعجزه مثل هذه الخطوة ولا تشكل له حرجا. وهو قد قدم هذه التنازلات حتي يتقي شر القتال فكيف يوقع نفسه فيه بهذا السبب..؟ أن مثل هذه الروايات وغيرها إنما هي من صنع السياسة واخترعت خصيصا لخدمة الخط الأموي ونصرته وضرب خط آل البيت وتشويهه.. تروي كتب التأريخ أن عبيد الله بن زياد صعد منبر المسجد الجامع في الكوفة وخطب في الناس بعد مجزرة كربلاء قائلا: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته.. (1) . ويحاول مؤرخو وفقهاء البلاط الأموي أن يدافعوا عن يزيد وتبرأته من تهمة سفك دم الحسين مستغفلين عقل الأمة بروايات واهية لا يستريح لها عقل ولا تطمئن لها نفس.. يروي أن يزيد حين رأي رؤوس الحسين ورفاقه بكي وقال: كنت أرضي من طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سمية أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه.. (2) .

ص: 147


1- 306. أنظر الطبري والكامل والبداية والنهاية.
2- 307. أنظر الطبري ج 4 / 352. والكامل ج 2 / 298.

ورغم ذلك لم تثبت لنا الروايات التي جاءت عن طريق مؤرخي البلاط أن يزيد أنزل أية صورة من صور العقاب بابن سمية (ابن زياد) بل لم يعاتبه علي هذا الفعل من الأصل.. وهذا الأمر إن دل علي شئ فإنما يدل علي تواطئ يزيد وموافقته بل وتحريضه علي قتل الحسين وأهل بيته. وهذا هو السلوك الذي تلائم معه ومع شخصيته. وهذا هو الموقف الذي يتبناه حكام بني أمية في مواجهة آل البيت.. ولقد قالها عبد الملك بن مروان حين ارتقي منبر الرسول صلي الله عليه وسلم في المدينة عام 57 ه: أني لن أداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف. والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوي الله إلا ضربت عنقه.. (1) .

ص: 148


1- 308. أنظر الكامل ح 4. والمراجع التأريخية الأخري.

ص: 149

ركائز الإسلام النبوي

اشاره

- القرآن.. - آل البيت..

ص: 150

أوضح الرسول صلي الله عليه وسلم مرتكزات الإسلام النبوي في كثير من وصاياه وتوجيهاته للأمة غير أن سيادة الإسلام القبلي بعد وفاته ثم الإسلام الأموي بعد ذلك قد أديا إلي التعتم علي هذه المرتكزات وتضليل المسلمين عنها كوسيلة لضرب الإسلام النبوي ومحوه من واقعهم.. فهذه الروايات التي جاءت علي لسان الرسول صلي الله عليه وسلم، في الإمام علي إنما تؤكد للأمة أن الإمام علي هو مرتكز الإسلام من بعده.. وهذه الروايات التي ذكرها الرسول صلي الله عليه وسلم في شيعة علي من صحابته إنما تؤكد أن هؤلاء الصحابة هم ركيزة الإمام وركيزة هذا الإسلام وأنصاره.. كذلك الروايات الواردة في القرآن الذي ورثه الرسول للأمة إنما تؤكد أن هذا القرآن هو الركيزة الأساسية لهذا الإسلام.. ولقد عمد أنصار الخط الأموي إلي تشويه القرآن والإمام علي وآل البيت وشيعتهم من الصحابة والتابعين واختراع بدائل تحل محلهم.. فبدلا من القرآن الذي ورثه الرسول صلي الله عليه وسلم اعتمدوا مصحف عثمان.. وبدلا من الإمام وآل البيت اعتمدوا عائشة ومعاوية وابن عمر وأبو هريرة وابن العاص وغيرهم. وفي مواجهة الروايات الواردة في الإمام وآل البيت وشيعتهم اخترعوا روايات مناقضة لها تبارك خطهم وتضفي المناقب عليهم.. إن الإسلام النبوي يرتكز علي ركيزتين أساسيتين هما: - القرآن.. - آل البيت.. - القرآن لقد أوصي الرسول صلي الله عليه وسلم الأمة بالقرآن وحث عليه في روايات ومواضع كثيرة كانت آخرها حجة الوداع حيث أوصي الأمة بضرورة التمسك بالكتاب والعترة آل البيت..

ص: 151

يروي البخاري عن طلحة قال سألت عبد الله بن أبي أوفي أوصي النبي صلي الله عليه وسلم؟ فقال: لا. فقال: كيف كتب علي الناس الوصية. أمروا بها ولم يوص؟ قال: أوصي بكتاب الله.. (1) . ويروي: عن الرسول الله صلي الله عليه وسلم قوله: خيركم من تعلم القرآن وعلمه.. (2) . ويروي: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه.. (3) . ويروي: تعاهدوا القرآن. فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها.. (4) . ويروي: اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم.. (5) . ويروي مسلم عن الرسول قوله في خطبة الوداع:.. كتاب الله فيه الهدي والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث علي كتاب الله ورغب فيه.. (6) . ومثل هذه الروايات إنما تشير إلي أن القرآن كان موجودا علي عهد الرسول صلي الله عليه وسلم وكان الصحابة يتناولونه من الرسول. وقد برز من بينهم من هو ماهر فيه ملتزم به يحفظه عن ظهر قلب. وعلي رأس هؤلاء كان الإمام علي وابن مسعود وأبي ابن كعب ومعاذ بن جبل.. روي البخاري عن الرسول صلي الله عليه وسلم: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبي بن كعب..

ص: 152


1- 309. أنظر البخاري. كتاب فضائل القرآن. باب 18.
2- 310. المرجع السابق باب 21.
3- 311. المرجع السبق.
4- 312. المرجع السابق باب 23.
5- 313. المرجع السابق باب 37.
6- 314. أنظر مسلم. كتاب فضائل الصحابة. باب من فضائل علي.

ويبدو أن أنصار الخط الأموي لم تعجبهم هذه الرواية علي الرغم من عدم وجود علي فيها لكون الأربعة من أنصار الإمام ومن المناهضين لهم فاخترعوا رواية أخري تناقضها فيها ثلاثة آخرين.. يروي البخاري عن أنس قال: مات الرسول ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد. (1) . ويروي عن ابن مسعود قوله: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت. (2) . إلا أن أبا بكر حين قام بجمع القرآن لم يستعن إلا بزيد بن ثابت وحده. وعثمان حين ألزم الأمة بمصحف واحد اختار مصحف حفصة الذي كان قد جمعه أبو بكر ولم يختر مصحف الإمام علي أو ابن مسعود أو أبي بن كعب أو ابن عباس ولم يستعن بأي من هؤلاء لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان حتي أنه كان هناك مصحف لدي عائشة أيضا لم يستعن به. (3) . إن هذا القرآن الذي تركه الرسول صلي الله عليه وسلم وتلقاه منه الإمام علي ابن مسعود وابن عباس وأبي وغيرهم هو ركيزة الإسلام النبوي التي حض عليها ووصي بها. وإن ما ورثه الإمام عن النبي من تفسيرات حوله وورثها عنه شيعته هي الدافع الفعلي الذي دفع أنصار الإسلام القبلي ومن بعدهم أنصار الإسلام الأموي إلي ضرب هذا القرآن واستبداله بقرآن آخر لا يحوي هذه التفسيرات وليس مرتبا علي الترتيب النبوي. (4) .

ص: 153


1- 315. المرجع السابق. وأنس الراوي من أنصار معاوية والخط الأموي.
2- 316. المرجع السابق. ويلاحظ أن هذه الرواية جاءت علي لسان الإمام علي بنفس النص. أنظر طبقات ابن سعد ج 2 / 338.
3- 317. أنظر البخاري. وكتب تأريخ القرآن. وفصل القرآن في: كتابنا الخدعة.
4- 318. أنظر المراجع السابقة. والإتقان في علوم القرآن للسيوطي.

القرآن

وقوله تعالي للرسول صلي الله عليه وسلم: (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) (1) يحوي الدليل القاطع علي أن القرآن كان مجموعا في عهد الرسول وأن الرسول تلقي بيانه من جبريل والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أين بيان القرآن. ولماذا لم يظهر في عملية الجمع..؟ إن الإجابة علي هذا السؤال تكشف لنا حقيقة المؤامرة التي نسجت خيوطها بعد وفاة الرسول فالقرآن النبوي ببيانه لا يتماشي مع الحظ القبلي والأموي من بعده. فمن ثم كانت الحاجة إلي تجريد القرآن من هذا البيان حتي يمكن أن يتماشي مع الاتجاه السائد..

آل البيت

أوصي الرسول صلي الله عليه وسلم بآل البيت في روايات كثيرة وفي حجة الوداع حين قال: أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. (2) . وقال: إني تارك فيكم ثقلين كتاب الله وأهل بيتي. (3) . ويروي مسلم أنه لما نزلت هذه الآية: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) دعا رسول الله صلي الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي. (4) . ويروي: خرج النبي صلي الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله. ثم قال إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. (5) .

ص: 154


1- 319. سروة القيامة وانظر الخدعة فصل القرآن.
2- 320. مسلم. كتاب فضائل الصحابة. باب من فضائل علي.
3- 321. المرجع السابق.
4- 322. المرجع السابق. وهي تسمي آية المباهلة، أنظر كتب التفسير سورة آل عمران آية رقم 61 الترمذي ج 2 ومسند أحمد ح 1 والحاكم ب 3 والبيهقي ج 7 وانظر المراجع السابقة.
5- 323. المرجع السابق. باب فضائل أهل بيت النبي.

إن ربط الرسول صلي الله عليه وسلم القرآن بأهل البيت يعني تلازمهما. كما يعني أن فهم القرآن والالتزام به لن يتم إلا عن طريقهم. وفي هذا إشارة إلي أن الرسول ورثهم بيان القرآن وتفسيره الذي أخذه عن جبريل. من هنا كانت الحرب الضروس من قبل الأمويين علي آل البيت بداية بالإمام علي ونهاية بالإمام الحسين تلك الحرب التي انتهت بقتل الأئمة الثلاثة وتصفية أنصارهم وشيعتهم.. ثم أكمل العباسيون الحرب من بعدهم فقتلوا بقية أئمة آل البيت وبطشوا ونكلوا بأتباعهم. (1) . هذه الحرب كانت في حقيقتها بين إسلامين متناقضين بقاء أي منهما لا بد وأن يكون علي حساب الآخر. فمن ثم لا مجال للقاء بينهما. وما دامت السلطة والسيادة قد تملكها أعداء آل البيت فلا بد لهم أن يبطشوا بهم لكونهم ممثلو الإسلام النبوي والناطقون بلسانه ذلك الإسلام الذي يشكل الخطر الأكبر علي الإسلام الذي يرفعون رايته والذي يرتبط به وجودهم ومستقبلهم.. ولقد ارتبطت الجماهير المسلمة علي الدوام بآل البيت علي الرغم من إرهاب الحكام وتعتيمهم عليهم وذلك لمكانة آل البيت في قلوب المسلمين تلك المكانة المستمدة من النصوص الشرعية التي وردت فيهم والتي لم يستطع الحكام بإعلامهم وبطشهم أن يطمسوها. (2) .

ص: 155


1- 324. عاصر العباسيون كل من الإمام جعفر الصادق والإمام موسي الكاظم والإمام علي الرضا وحتي الإمام الحادي عشر ثم ظهر المهدي في عصرهم واختفي.. وجميع هؤلاء الأئمة قد قتلوا علي يد حكام بني العباس. ويذكر أن العباسيين استثمروا دعوة آل البيت والإسلام النبوي في ثورتهم ضد الأمويين ولولا تسترهم بالإسلام النبوي وخط آل البيت ما أمكن لهم النجاح.
2- 325. أنظر سيرة آل البيت في الكتب التالية: حياة أئمة آل البيت وهي سلسله في الأئمة الاثني عشر لهاشم معروف الحسني ط بيروت. وقادتنا كيف نعرفهم للميلاني ط بيروت. وأعيان الشيعة لمحسن الأمين ط بيروت. وانظر خصائص الإمام علي للنسائي ونور الأبصار في مناقب آل البيت المختار للشبلنجي ط بيروت والقاهرة. وانظر لنا حركة آل البيت ط بيروت. وهذه الكتب علي كثرتها إنما تدل علي مكانة آل البيت الخاصة والمتميزة التي وضعهم فيها الشرع.

واستمرار وجود خط آل البيت علي مر الزمان علي الرغم من كيد ومؤامرات وبطش الحكام إنما يدل علي أن هذا الخط هو التعبير الحق عن الإسلام. كما أن استمرار ارتباط الجماهير المسلمة به هو البرهان الساطع علي ذلك. فلو كان هذا الخط مجرد طرح عادي لكان قد قدر له أن يندثر كما اندثرت مذاهب وفرق وأصبحت في ذمة التاريخ. لكن بقاء هذا الخط هو تأكيد علي أن الإسلام النبوي باق حتي تقوم الساعة ليكون حجة علي المارقين والمخالفين.. وآل البيت هم الأئمة الاثني عشر الذين بشر بهم الرسول صلي الله عليه وسلم في أحاديثه المنتشرة في كتب القوم والتي اضطروا في مواجهتها إلي تأويلها وصرفها عن آل البيت خدمة للحكام -.. يروي مسلم عن الرسول صلي الله عليه وسلم قوله: إن هذا الأمر - الدين - لا ينقضي حتي يمض فيهم اثنا عشر خليفة. (1) . ويروي أيضا: لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا. (2) . ويروي: لا يزال الإسلام عزيزا إلي اثني عشر خليفة. (3) . يروي: لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلي اثني عشر خليفة. (4) . وجميع هذه الروايات تنتهي بقول الراوي: ثم تكلم بشئ - أي الرسول - لم أفهمه. أو تكلم بكلمة خفيت علي... ثم يفسر الرواي هذا الكلام علي لسان الرسول بقوله: كلهم من قريش (5) .

ص: 156


1- 326. أنظر مسلم. كتاب الإمارة.
2- 327. المرجع السابق.
3- 328. المرجع السابق.
4- 329. المرجع السابق.
5- 330. الموجع السابق.. وانظر شرح مسلم للنووي وفتح الباري شرح البخاري ج 13 / 211 وما بعدها.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ما قاله الرسول خفية كلهم من قريش حقا؟ وما هو مبرر إخفاء الرسول لهذه الكلمة..؟ وهل يجوز للرسول أن يخفي حكما عن المسلمين..؟ إننا أمام هذه الروايات بين أمرين: إما أن يكون الرسول صلي الله عليه وسلم قد قال شيئا أخفاه الراوي وأبدله بكلمة كلهم من قريش.. وإما أن يكون قد قال كلهم من قريش وفي هذه الحالة ليس هناك مبرر لا خفائها لكونها لا تصطدم بالخط السائد.. ولو كان الرسول قد قال: كلهم من آل البيت لكان من الممكن أن يكون مبرر الاخفاء مقبولا لكون الإمام علي هو رأس آل البيت وإمامهم والقوم يسعون إلي عزلهم عن المسلمين. لكن إن يكون المقصود بالإخفاء قريش فهو الأمر الغير مقبول عقلا.. لقد أخضع هذا النص للسياسة كما أخضعت نصوص كثيرة علي شاكلته وما يؤكد ذلك هو إضافة فقهاء القوم من شروح لهذا النص تهدف إلي تطويعه للخط الأموي.. ويجمع فقهاء القوم علي أن المقصود بالأئمة الاثني عشر الذين أشار إليهم الرسول صلي الله عليه وسلم هم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم عبد الملك بن مروان ثم أولاده الأربعة: الوليد وسليمان ويزيد وهشام ثم عمر بن العزيز. (1) . ويبرر الفقهاء هذا لتفسير بأن الأمة اجتمعت علي هؤلاء واختلفت فيما سواهم والمراد بالاجتماع انقيادهم لبيعتهم فمن بعدهم انتشرت الفتن وتغيرت الأحوال. (2) .

ص: 157


1- 331. أنظر شرح العقيدة الطحاوية وكتب العقائد. وانظر لنا عقائد السنة وعقائد الشيعة.. وانظر فتح الباري ج 13 / باب الاستحلاف.
2- 332. أنظر المرجع السابق.

إلا أن الفقهاء فاتهم أن الإمام علي لم تجتمع عليه الأمة ومن ثم يجب حذفه من الاثني عشر كما حذف سواه بحجة عدم الاجتماع عليه. (1) . إن القوم يتخبطون في مواجهة هذا النص تخبطا لا حدود له وهم عاجزون عجزا واضحا عن تحديد الأئمة الاثني عشر الذين قصدهم الرسول وربط عزة الإسلام بهم. (2) . يروي ابن حجر عن أحد الفقهاء قوله: لم ألق أحدا يقطع في هذا الحديث - أي رواية الاثني عشر - بشئ معين. (3) . وهذا التخبط بين الفقهاء في تحديد شخصية الأئمة الاثني عشر إنما يعود إلي حصر مصدر التلقي في محيط الإسلام الأموي. وبالطبع لن يجدوا بين نصوص هذا الإسلام ومفاهيمه ما يهديهم إلي حقيقة مراد الرسول ومعرفة الأئمة الاثني عشر الذين قصدهم وأشار إليهم.. لو أطلع هؤلاء الفقهاء علي خط آل البيت وتعرفوا علي الإسلام النبوي وكسروا حواجز السياسة لأمكن لهم تحديد هوية الأئمة الاثني عشر.. إن ربط مستقبل الإسلام بالحكام لا يمكن أن يكون مقصد الرسول صلي الله وسلم فهؤلاء الحكام لا تنبأ سيرتهم بتقوي أو ورع أو دين يمكن أن يربط مستقبل الإسلام بهم. وأن ربط الفقهاء قضية الاثني عشر بالحكام إنما يبرهن علي خضوعهم للسياسة وتطويعهم النصوص لأهدافها.. والإسلام النبوي يحدد لنا الأئمة الاثني عشر في الشخصيات التالية:

ص: 158


1- 333. المرجع السابق.
2- 334. المرجع السابق. ولمزيد من المعرفة حول تخبط القوم في شرح حديث الاثني عشر أنظر مقدمة كتاب تاريخ الخفاء للسيوطي. وكشف المشكل لابن الجوزي.
3- 335. أنظر فتح الباري ج 13 / 211. وبقول ابن الجوزي: قد أطلت البحث في معني هذا الحديث وتطلبت مظانه وسألت عنه فلم أقع علي المقصود به.. أنظر كشف المشكل.

- الإمام علي بن أبي طالب.. - الإمام الحسن بن علي.. - الإمام الحسين بن علي.. - الإمام علي بن الحسين.. - الإمام محمد بن علي. - الإمام جعفر بن محمد.. - الإمام موسي بن جعفر.. - الإمام علي بن موسي.. - الإمام محمد بن علي.. - الإمام علي بن محمد.. - الإمام الحسن بن علي.. - الإمام المهدي المنتظر ابن الحسن. (1) . وبتتبع سيرة هؤلاء الأئمة يتبين لنا أنهم ممثلي الإسلام النبوي والناطقين بلسانه علي مر الزمان وأن سيرتهم هي سيرة الأنبياء والصالحين وخلقهم هو خلق القرآن. إلا أن حكام الزمان تتبعوهم فقتلوهم ومحو سيرتهم وأسدلوا الستار عليهم وشاركهم الفقهاء هذه المؤامرة التي راح ضحيتها أجيال المسلمين الذين شبوا لا يعرفون شيئا عن هؤلاء الأئمة الذين حجبت عنهم الأضواء وشوهت سيرتهم في كتب القوم وتم ضرب الروايات التي رووها عن الرسول ومحوها من كتب الأحاديث وتضخيم شخصيات معينة من الصحابة والتابعين بهدف التغطية عليهم (2) .

ص: 159


1- 336. أنظر سيرة الأئمة الاثني عشر في كتاب أعيان الشيعة. وقادتنا كيف نعرفهم وكتب التاريخ الأخري.
2- 337. أنظر المراجع السابقة. وانظر لنا كتاب الخدعة. وكتاب حركة آل البيت.

ص: 160

ص: 161

ركائز الإسلام الأموي

اشاره

- مصحف عثمان.. - الصحابة.. - الروايات..

ص: 162

كانت صفين هي المنعطف التأريخي الذي انبثق منه الإسلام الأموي وساد واقع المسلمين. وكان ضرب خط الإسلام النبوي الذي رفع لواءه الإمام علي وتقوقعه هو بداية غياب التصور الإسلامي الصحيح من هذا الواقع.. ومنذ ذلك الحين بدأ معاوية وبني أمية من بعده عملية تأسيس جديدة للإسلام معتمدين فيها علي الخط القبلي ورموزه البارزة وعلي الرموز الأخري التي تحالفت معهم.. وأصبح هذا الإسلام هو الإسلام الشرعي الذي حاز علي رضا الحكام علي مر الزمان من بني العباس وغيرهم فقد وجدوا فيه الحصانة والشرعية التي تؤهلهم لمواجهة الإسلام النبوي والخارجين عليهم. أصبح الإسلام الأموي مباحا وخط الإمام علي محظورا ومجرما يبطش بأتباعه وينكل بهم.. وأصبح الإسلام النبوي إسلام باطل يقود إلي النار.. وأصبح الإسلام الأموي حق يقود إلي الجنة.. ولقد عاش الإسلام الأموي في كنف الحكومات ورعايتها وحمايتها فتحققت له السيادة والبقاء.. وضرب الإسلام النبوي واغتيل أئمته فاضطر إلي الاختفاء. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي ركائز الإسلام الأموي..؟ والإجابة هي أن هذا الإسلام قد قام علي ثلاثة ركائز أساسية:

مصحف عثمان

أحدث عثمان فتنة كبيرة بإحراقه المصاحف وإلزامه الأمة بمصحف محدد بهدف خدمة الخط السائد وضرب خط آل البيت والتعتيم علي الإسلام النبوي. (1) .

ص: 163


1- 338. أنظر لنا الخدعة فصل القرآن. ولولا إحراق عثمان للمصاحف ما قامت دولة بنو أمية.

ولقد مهد عثمان بعمله هذا لبروز الإسلام الأموي ودعم أطروحته إذ أن المصاحف الأخري كانت بين يدي صحابة من شيعة علي الملتزمين بالإسلام النبوي.. كان هناك مصحف ابن مسعود.. ومصحف أبي بن كعب.. ومصحف ابن عباس.. ثم مصحف الإمام علي.. وهؤلاء الأربعة تلقوا القرآن من الرسول صلي الله عليه وسلم مباشرة فمن ثم هم قاوموا عثمان ورفضوا قراره هذا مما اضطره إلي البطش بالرافضين.. ووجه الخلاف بين مصحف عثمان وبين مصحف الإمام علي ومصاحف الصحابة ينحصر في أمرين: - أنه مرتب ترتيبا خاصا.. - أنه مجرد من الحواشي والتفسيرات التي كانت بالمصاحف الأخري.. وبالنسبة لأمر الترتيب فقد اعتمد فيه عثمان علي عدد من الصحابة الذين ليس لهم سابقة في كتابة القرآن أو حفظه. (1) . ومن وجهة أخري هو اعتمد مصحف حفصة من دون بقية المصاحف التي كانت موجودة. ومصحف حفصة هو المصحف الذي جمعه أبو بكر وعمر: فكأنه بهذا لا يريد للمسلمين أن يخرجوا عن حدود القرآن الذي جمعه أبو بكر ولا يريد أن يلتزم المسلمون بمصحف الإمام علي أو ابن مسعود أو أبي أو ابن عباس لأن هؤلاء من شيعة علي ومصاحفهم لا تخدم الخط القبلي وخط بن أمية الذي يقوم بالتمهيد له. (2) .

ص: 164


1- 339. أنظر كتب تاريخ القرآن. والبخاري كتاب فضل القرآن وفتح الباري ج 13. وكتابنا الخدعة.
2- 340. أنظر المراجع السابقة.

إن عثمان بإلزامه الأمة بمصحف حفصة إنما يريد أن يلزمها بالخط القبلي وأن يقضي علي أية بادرة تنحرف بالأمة عن هذا الخط.. وما دامت المصاحف كانت موجودة بين الصحابة فلم يكن هناك من دافع قوي يدفع بعثمان إلي فعله هذا سوي ضرب الإسلام النبوي ومحاصرة الإمام علي الذي بدأ نجمه في البروز نتيجة لكثرة المظالم والانحرافات في عهده.. وإذا كانت مسألة القراءات هي الدافع لعمل عثمان هذا كما يصور المؤرخون وفقهاء القوم فقد كان ممن الممكن لعثمان أن يلزم الأمة بقراءة واحدة دون أن يحرق المصاحف. (1) . لو كانت المسألة مسألة قراءات ما تصدي له الصحابة ولا اصطدم به ابن مسعود.. ومن المعروف تأريخيا أن مصحف الإمام علي كان مرتبا ترتيبا زمنيا ولا شك أن مثل هذا الترتيب من شأنه أن يسهم في فهم مدلولات النص القرآني. (2) . وعندما تكون هناك آيات مدنية في سورة مكية وآيات مكية في سورة مدنية فإن هذا سوف يخلخل مضمون السورة. والهدف من الترتيب العثماني هو التمويه علي نصوص القرآن الخاصة بآل البيت والتي ترمي إلي معان محددة لا تخدم الخط السائد بوضعها في وسط آيات تموه علي معناها الحقيقي وتذهب بها مذهبا آخر.. ومن أمثلة ذلك وضع قوله تعالي في سورة الأحزاب: (إنما يريد الله ليذهب

ص: 165


1- 341. أنظر المراجع السابقة ومقدمات كتب التفسير وليس المقصود بالقراءات هنا الأحرف السبعة وإنما قراءة الآيات بتفسيراتها التي أخذت عن الرسول، مثل قراءة ابن عباس لقوله تعالي (فما استمتعتم به منهن - إلي أجل مسمي - فآتوهن أجورهن) سورة النساء.. وفقهاء القوم يهاجمون هذه القراءة ويعتبرونها شاذة سيرا مع الخط القبلي.
2- 342. اصطدم ابن مسعود وهو من حملة القرآن بعثمان ورفض الاعتراف بمصحفه حتي مات. وهذا الموقت يشير إلي أن المسألة لم تكن مسألة قراءات. وإذا كان هذا موقف ابن مسعود وهو تلميذ الإمام علي فكيف يكون موقف الإمام؟ إن كتب التاريخ قد عتمت علي هذا الموقف. وللمزيد من التفاصيل حول هذا الأمر أنظر المراجع السابقة.

عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) في وسط آيات خاصة بنساء النبي حتي يتوطن في ذهن المسلم أن نساء النبي صلي الله عليه وسلم من أهل البيت وبالتالي يضيع المفهوم الحقيقي لأهل البيت والخاص بالإمام علي وفاطمة وذريتهما ويتشتت بين نساء النبي وذرية علي. (1) . وبالنسبة للأمر الثاني فإن تجريد المصحف من المعاني والتفسيرات التي تلقاها الصحابة عن الرسول صلي الله عليه وسلم يعني حرمان المسلمين من الوسيلة الشرعية لفهم القرآن التي تحسم الخلاف الذي من الممكن أن يقع حول تفسيره. وقد وقع هذا الخلاف.. ويعني من جهة أخري الحيلولة دون فهم القرآن علي نهج النبي صلي الله عليه وسلم ودفع المسلمين إلي تلقي هذا الفهم من جهة محددة هي الجهة التي سوف يفرضها الحكم.. ومن أمثلة ذلك ما كان في مصحف ابن عباس فقد كان يقرأ قوله تعالي في سورة النساء: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) كان يقرأها: فما استمتعتم به منهن - إلي أجل مسمي - فآتوهن أجورهن. (2) . ولا شك أن مصحف كهذا سوف يخدم خط بني أمية ويسهم في دعم نموذج الإسلام الذي فرضوه علي الأمة. فهو مصحف قابل للتأويل ويمكن استثمار نصوصه بهذا الشكل لصالحهم..

الصحابة

ولقد كانت العناصر التي تحالفت مع معاوية والتي أمكن استقطابها من قبله بمثابة صمام أمن للخط الأموي وركيزة أساسية في بناءه..

ص: 166


1- 343. أنظر المراجع السابقة. وقد كان مصحف الإمام يبدأ بسورة العلق.. وانظر تفسير سورة الأحزاب في كتب التفسير. وقد ذم القرآن نساء النبي في سورة التحريم. أنظر كتب التفسير. وهذا الذم فيه دلالة علي أنهن لسن المقصودات بالتطهر في الآية.
2- 344. أنظر مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضل آل البيت. وانظر لنا عقائد السنة وعقائد السنة.

ومن أبرز العناصر التي تحالفت مع معاوية وبني أمية من بعده ودعمت الإسلام الأموي في مواجهة الإسلام النبوي: عمرو بن العاص وعائشة والمغيرة بن شعبة وأبو هريرة وابن عمر وسمرة بن جندب وأنس بن مالك وزيد بن أرقم والأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله. وجميع هؤلاء من الصحابة الذين احتكوا برسول الله صلي الله عليه وسلم واستثمرهم معاوية.. والمتابع لسيرة هؤلاء في كتب الرجال وكتب التأريخ يتبين له أن التزامهم بنهج الرسول كان ضعيفا ومشبوها وقد وردت علي لسان الرسول أحاديث كثيرة بذمهم وكذلك علي لسان الإمام علي ولا تري في كتب السنن أية فضائل لهؤلاء من الممكن أن ترفع مكانتهم وتخرجهم من دائرة الشك (1) . ويروي أن عليا كان يقنت في صلاة الفجر وفي صلاة المغرب ويلعن معاوية وعمرا والمغيرة والوليد بن عقبة وأبا الأعور والضحاك بن قيس وبسر بن أرطأة وحبيب بن مسلمة وأبا موسي الأشعري ومروان بن الحكم وكان هؤلاء يقنتون عليه ويلعنونه. (2) . ويقول الإمام علي في ابن العاص: أنه ليقول فيكذب ويعد فيخلف. ويسأل فيحلف ويسأل فيبخل ويخون العهد ويقطع الآل - الرحم - إنه لم يبايع معاوية حتي شرط أن يؤتيه أنية ويرضخ له علي ترك الدين رضيخة - ولاية مصر. (3) . وقال في مروان بن الحكم حين أسره يوم الجمل:.. لا حاجة لي في بيعته إنها كف يهودية. لو بايعني بكفه لغدر بسبته. أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقي الأمة منه ومن ولده يوما أحمر: الوليد. سليمان. يزيد. هشام. (4) .

ص: 167


1- 345. أنظر كتب تأريخ القرآن.
2- 346. أنظر كتب التراجم. وانظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
3- 347. شرح نهج البلاغة.
4- 348. نهج البلاغة ح 1 / خطبة رقم 82.

الروايات

ولم يكن وقوف هؤلاء الصحابة مع معاوية ومناصرتهم للخط الأموي يقف عند حد القتال معه ونصرته بالسيف والبيان. بل تجاوز هذا الحد إلي اختراع الروايات المنسوبة للرسول صلي الله عليه وسلم والتي تدعم معاوية وتشكك في الإمام علي وتضفي المشروعية علي الإسلام الأموي. وهذه الروايات إنما تنقسم إلي قسمين: الأول: روايات خاصة بضرب الإسلام النبوي والتشكيك في الإمام علي.. الثاني: روايات خاصة بالمسلمين وإخضاعهم للإسلام الأموي.. ومنذ ذلك الحين انقسمت الروايات الواردة في كتب الأحاديث إلي قسمين: قسم من رواية أنصار معاوية والإسلام الأموي.. وقسم من رواية أنصار الإمام علي والإسلام النبوي.. ولقد دعمت السياسية رواة القسم الأول وسلطت الأضواء علي أحاديثهم المنسوبة للرسول والكتب التي تحويها في الوقت الذي قامت بالتعتيم علي رواة القسم الثاني والتشكيك في رواياتهم والكتب التي تحويها.. ومن هنا قدم البخاري علي غيره من الكتب لكونه يحوي روايات أنصار الإسلام الأموي ولا يحوي شيئا من الروايات التي تدعم الإسلام النبوي.. والروايات الخاصة بضرب الإسلام النبوي أكثر من أن تحصي وهي روايات تقود إلي التشكيك في الإمام علي ويبدو أن القوم لم يكتفوا بهذا فاخترعوا روايات خاصة بالإمام لتهز مكانته وقدره في نفوس المسلمين.. ومن هذه الروايات القول المنسوب لرسول صلي الله عليه وسلم: الناس تبع لقريش. ولا يزال هذا الأمر - الحكم - في قريش ما بقي منهم اثنان. (1) .

ص: 168


1- 349. أنظر البخاري ومسلم وكتب السنن.

والقول الأخر: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي (1) . وحديث شهادة الرسول صلي الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر وعثمان بدخول الجنة. (2) . وحديث؟ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ. (3) . وحديث أثبت أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان أي أبو بكر وعمر وعثمان. (4) . وحديث خصومه علي وعم النبي العباس بسبب المال وسب بعضهما البعض. (5) . وحديث خطبة الإمام علي ابنة أبي جهل علي فاطمة الزهراء وغضب الرسول لذلك. (6) . وحديث أفضل الرجال أبو بكر ثم عمر. ثم عثمان. (7) . ومثل هذه الروايات إنما تهدف إلي دعم الإسلام القبلي ورموزه التي تشكل من جانب آخر دعما للإسلام الأموي الذي ارتكز عليه ونبع منه. وهي من جهة أخري تشكل طعنا في الإسلام النبوي الذي رفع رايته الإمام وتشكل أيضا طعنا شخصيا له بتشويه صورته وتقديم الآخرين عليه..

ص: 169


1- 350. مسلم كتاب الإمارة وانظر موطأ مالك والحاكم.
2- 351. رواه مالك في الموطأ والحاكم في مستدركه.
3- 352. البخاري ومسلم كتاب فضائل الصحابة.. باب فضل أبي بكر وعمر وعثمان.
4- 353. أنظر مستدرك الحاكم.
5- 354. البخاري ومسلم كتاب فضائل الصحابة.
6- 355. أنظر البخاري. كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة باب / 5.
7- 356. البخاري. كتاب النكاح.

أما الروايات الخاصة بالمسلمين والتي تهدف إلي إخضاعهم لخط بني أمية فهي أكثر من أن تحصي: يروي أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: من يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني. (1) . ويروي: السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك. (2) . ويروي: علي المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره. (3) . ويروي: إسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم. (4) . يروي: تسمع وتطيع للأمير وأن جلد ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع. (5) . ويروي علي لسان معاوية أنه سمع الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتي يأتي أمر الله وهم ظاهرون علي الناس. (6) . ويروي: من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية. (7) . ويروي: من رأي من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية. (8) .

ص: 170


1- 357. البخاري. كتاب فضائل الصحابة. ويروي البخاري علي لسان علي أنه أقر بتقديم أبي بكر وعمر وعثمان عليه. أنظر باب فضل أبي بكر.
2- 358. مسلم كتاب الإمارة وانظر البخاري.
3- 359. المرجعين السابقين.
4- 360. مسلم كتاب الإمارة،.
5- 361. المرجع السابق.
6- 362. المرجع السابق.
7- 363. المرجع السابق. وقد روي هذا الحديث عدة رجال من أنصار معاوية مثل جابر بن سمرة. وابن عمر. والمغيرة بن شعبة. ومروان الفزاري انظر باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحق.
8- 364. المرجع السابق.

ويروي: من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان.. (1) . ويروي: من أتاكم وأمركم جميع علي رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه.. (2) . وهناك روايات توجب عدم قتال الحكام والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة.. (3) . ومن الواضح أن هذه الروايات من اختراع السياسة وليس من المعقول أن يحض الرسول علي دعم المنكر والظلم وطاعة الحكام الفجرة الذين يسلبون الناس أموالهم ويعذبونهم. وهل جاء الإسلام ليقر الظلم والفساد..؟ وإذا كان الحاكم يسلب الأموال ويجلد الظهور فهو بهذا يكون طاغية أو قاطع طريق وهل مهمة الحكام إلا حفظ الأمن والحقوق والعدل بين الناس ودفع المظالم عنهم..؟ إن مثل هذه الروايات إنما تعكس الوجه الحقيقي للإسلام الأموي الذي ساد الأمة حتي يومنا هذا. فهو إسلام استسلامي مداهن للحكام يبرر الظلم والفساد.. وهو إسلام ينصر الحكام علي الشعوب وينصر الأغنياء علي الفقراء.. وهو إسلام يضخم الفروع علي حساب الأصول.. وهو إسلام يزرع بذور الشقاق والانقسام في الأمة.. وهو إسلام يهين الرسول وآل البيت.. (4) .

ص: 171


1- 365. المرجع السابق.
2- 366. المرجع السابق.
3- 367. المرجع السابق. وما أسهل إقامة الصلاة علي الحكام ما دامت سوف تكسبهم طاعة الجماهير وانقيادها لسياساتهم.
4- 368. أنظر لنا كتاب الخدعة. فصل الرسول والنساء. وانظر عقائد الشيعة وعقائد السنة باب الرجال.

هذه هي صورة الإسلام الأموي وأهم معالمه وهي علي ما يبدو تتناقض تماما مع صورة الإسلام النبوي الذي رفع رايته الإمام علي الذي يرتبط بالجماهير ويتصدي للحكام وينصر الفقراء والمحرومين ويوحد صفوف الأمة ويركز علي الجوهر والأصول ويكرم الرسول ويضعه في مكانته الشرعية كما يضع آل البيت في مكانتهم.

ص: 172

ص: 173

انعاكسات الإسلام الأموي

اشاره

- الدولة الإسلامية.. - الفكر الإسلامي.. - التيارات الإسلامية..

ص: 174

أربعة خطوط برزت بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) خط آل البيت بقيادة الإمام علي وهو يمثل الإسلام النبوي.. وخط أبو بكر وعمر وهو يمثل الإسلام القبلي.. وخط عثمان ومعاوية وهو يمثل الإسلام الأموي.. وخط الخوارج وهو يمثل الإسلام القشري.. وقد انتهي الإسلام القبلي بمصرع عمر وبقيت في الساحة الخطوط الثلاثة الأخري.. بقي خط آل البيت في أبناء الإمام علي من بعده ثم في شيعتهم من بعدهم.. وبقي الإسلام الأموي في كنف الحكومات حتي يومنا هذا.. وبقي الإسلام القشري منبوذا ومحاصرا حتي تبنته الحركة الوهابية وقامت بنشره الدولة السعودية بين صفوف المسلمين والتيارات الإسلامية المختلفة في كل مكان.. ولقد تغلغل الإسلام الأموي في الفكر الإسلامي علي مر الزمان حتي صبغه بصبغته ثم جاء الإسلام القشري ليلقي بظلاله علي هذا الفكر مع الحقبة النفطية المعاصرة بينما قدر للإسلام النبوي أن يظل محصورا في فئة قليلة مستضعفة هي فئة الشيعة. ويظل بعيدا عن الأضواء محاربا من الحكومات حتي قيض الله له دولا رفعت رايته وقوت شوكته في عدة بقاع ولفترة من الزمن. ومن أشهر هذه الدول الدولة الفاطمية في مصر. والدولة الصفوية في إيران. إلا أن البروز المعاصر للإسلام النبوي علي يد الثورة الإسلامية في إيران يعد أكثر الصور فاعلية وتأثيرا في التاريخ الإسلامي إذ بعثت الروح في هذا الإسلام بعد أن طمرته السياسة قرونا طويلة.. من هنا فنحن اليوم نعاصر ثلاث صور للإسلام: الأول: الإسلام الحكومي الذي تفرخ من الإسلام الأموي..

ص: 175

الثاني: الإسلام السعودي الذي تفرخ من إسلام الخوارج.. الثالث: الإسلام الشيعي الذي يعبر عن الإسلام النبوي.. وسوف نعرض في هذا الباب انعكاسات هذه الصور الثلاث علي القضايا التالية: - الدولة الإسلامية.. - الفكر الإسلامي.. - التيارات الإسلامية..

الدولة الإسلامية

أقام الأمويون نظاما ملكيا هو الأول من نوعه في الإسلام وسارت الحكومات التي جاءت من بعدهم علي هذا النهج. وساير الفكر الإسلامي هذا الوضع وبني نظرية الدولة الإسلامية علي أساسه.. ولقد كانت أهم ملامح نظام الحكم الإسلامي علي مر التاريخ تنحصر فيما يلي: الاستبداد.. البذخ.. الملكية.. افتقاد حرية الرأي واحترام الإنسان.. ولم يحدث في تاريخ الفكر الإسلامي أن اصطدم الفقهاء بهذه القواعد بل عايشوها وتفاعلوا معها تماما كما يتعايش فقهاء اليوم مع الحكومات المعاصرة. فقد كان الحاكم هو الذي يعين القضاة ويتدخل في الأحكام وهو الذي يعين الخليفة من بعده وهو صاحب الرأي الأوحد في البلاد ويعيش حياة مترفة علي حساب المسلمين الكادحين المطحونين.. وما يأسف له المرء أن هذه الصورة المنحرفة للحكم الإسلامي باركها الفقهاء

ص: 176

ودعموها ونسجوا من حولها الروايات والفتاوي التي تبرر هذه الصورة وتدفع بالمسلمين إلي التعاطف معها.. (1) . فهم قد دافعوا عن انحرافات عثمان وبرروها.. ودافعوا عن بني أمية وبني العباسي.. ثم عن الأيوبيين والمماليك والعثمانيين.. ثم ها هم يبكون اليوم علي دولة الخلافة العثمانية ويحلمون بعودة حكم الخلفاء. ناسين أو متناسين الجرائم والانتهاكات والدماء التي أراقها الخلفاء طوال فترات التاريخ الإسلامي من أجل تثبيت عروشهم.. إن هؤلاء الفقهاء لا تعنيهم ممارسات الحكام ومواقفهم لكونها لا تمس الدين ولا تصطدم بهم فما دامت لا تمس الدين ولا تصطدم بهم فهي إذن في صالح المسلمين.. وكيف للحكام أن يمسوا الدين وهو ركيزتهم الأساسية ووسيلة تأمين وجودهم ومستقبلهم؟ وكيف لهم أن يصطدموا بالفقهاء وهم حلفائهم وآداتهم في تطويع المسلمين وتحذيرهم..؟

ص: 177


1- 369. تكتظ كتب السنن بالكثير من الروايات التي تدعم الحكام وتباركهم وتفرض علي المسلمين طاعتهم والاستسلام لهم. ومن هذه الروايات المنسوبة للرسول (صلي الله عليه وسلم): إسمعوا وأطيعوا - للحكام - فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم.. تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع.. من رأي من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية.. من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيام لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة - للحكام - مات ميتة جاهلية.. من أتاكم وأمركم جميع علي رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه.. فمن أراد أن يرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان.. أنظر مسلم كتاب الإمارة والبخاري وكتب السنن الأخري.. ومثل هذه الروايات هي التي بني علي أساسها الفقهاء موقفهم وتصورهم حول الحكم والدولة وجعلوه من المفاهيم والعقائد الثابتة التي لا يجوز للمسلم أن يتجاوزها. أنظر كتب العقائد وانظر لنا فساد عقائد أهل السنة.

ومثل هذا الموقف إنما هو نابع من التصور الأحادي الذي يجعلهم يتصورون كل ما يخرج عن دائرتهم ودائرة إسلامهم هو الباطل والضلال المبين. فمن ثم يحق للحاكم أن يقتل وأن ينهب وأن ينتهك الحرمات ما دام كل ذلك يجري في دائرة المخالفين. وإن أهم انعكاسات الخط الأموي علي فكرة الدولة وشكلها ومقوماتها إنما يتمثل في اعتماد الفقهاء لثلاثة صور لقيام الحكم في الإسلام هي مستنبطة من واقع حكم الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان.. الصورة الأولي: الشوري من خلال أهل الحل والعقد وهي مستنبطة من السقيفة ومن فعل أبي بكر وفعل عمر حين أوصي بالستة.. الصورة الثانية: الوصية وهي مشتقة من فعل أبي بكر حين أوصي لعمر وقد مهدت هذه الفكرة لقيام الملكية فيما بعد.. الصورة الثالثة: ولاية العهد وهي مستنبطة من سلوك معاوية وحكام بني أمية وبني العباس وقد أضفت هذه الصورة المشروعية علي نظم الحكم الملكية التي قامت في بلاد المسلمين طوال فترات التاريخ.. يقول القاضي أبو يعلي عن كيفية اختيار الحاكم: وهي فرض علي الكفاية مخاطب بها طائفتان من الناس إحداهما: أهل الاجتهاد حتي يختاروا. والثانية: من يوجد فيه شرائط الإمامة حتي ينتصب أحدهم الإمامة. أما أهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاثة شروط أحدها: العدالة. والثاني: العلم الذي يتوصل به إلي معرفة من يستحق الإمامة. والثالث أن يكون من أهل الرأي والتدبير المؤديين إلي اختيار من هو للإمامة أصلح.. وأما أهل الإمامة فيعتبر فيهم أربع شروط. أحدها: أن يكون قرشيا من الصميم وقد روي أحمد: لا يكون من غير قريش خليفة. الثاني: أن يكون علي صفة من يصلح أن يكون قاضيا: من الحرية والبلوغ والعقل والعلم والعدالة.

ص: 178

الثالث: أن يكون قيما بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود لا تلحقه رأفة في ذلك والذب عن الأمة. الرابع: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين. وقد روي عن أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل. فقال: ومن غلبهم بالسيف - أي المسلمين وحاكمهم - حتي صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه برا كان أو فاجرا فهو أمير المؤمنين. وروي عنه: فإن كان أميرا يعرف بشرب المسكر والغلول - أي سرقة الغنائم - يغزو معه وإنما ذاك له في نفسه.. (1) . ويقول ابن تيمية عن أهل السنة والجماعة: يرون إقام الحج والجهاد والجمع والأعياد، مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا.. (2) . ويقول البيجوري: ونصب إمام عادل واجب علي الأمة عند عدم النص من الله أو رسوله علي معين وعدم الاستخلاف من الإمام السابق بخلافه. ولا يتحقق إلا بشروط خمسة: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية وعدم الفسق. ثم إن هذه الشروط إنما هي في الابتداء وحالة الاختيار وأما في الدوام فلا يشترط. ولو تغلب عليها - الإمامة - شخص قهرا انعقدت له وإن لم يكن أهلا.. (3) . ومن الواضع أن هذه الرؤي التي يجمع عليها فقهاء القوم إنما هي مشتقة من الواقع القبلي والواقع الأموي. وقد بنيت علي أساس سلوك الخلفاء الثلاثة وسلوك معاوية ومن بعده من الخلفاء الذين اغتصبوا الحكم بالقوة وفرضوا أنفسهم علي الأمة وإن لم تتوافر فيهم الشروط المطلوبة في الحاكم حتي ولو كانوا صبيانا أو عبيدا.. ولقد دفعت الأمة الثمن غاليا ولا زالت تدفع بسبب هذا الطرح السياسي الذي

ص: 179


1- 370. أنظر الأحكام السلطانية لأبي يعلي ط القاهرة.. والأحكام السلطانية للماوردي أيضا.
2- 371. أنظر العقيدة الواسطية لابن تيمية ط القاهرة أو السعودية.
3- 372. أنظر شرح البيجوري علي متن الجوهرة المسمي تحفة المريد علي جوهرة التوحيد ط القاهرة. وهو كتاب مقرر علي طلبة المعاهد الأزهرية في مصر.

لا صلة له بالدين وإنما هو من نتاج واقع باركه فقهاء يسيرون في ركاب الحكام وأضفوا عليه المشروعية بروايات واجتهادات ألزمت بها الأمة بتوجيه الحكام.. يقول مالك للمنصور العباسي: لو لم تكن أهلا لما ولاك الله تعالي.. (1) . ومثل هذا القول إنما يعكس فقه المتغلب الذي تبناه القوم في مواجهة حالات اغتصاب الحكم من قبل من هو علي شاكلة المنصور.. ويقول أبو يوسف: إن أمير المؤمنين - هارون - سألني أن أضع له كتابا جامعا يعمل به في جباية الأموال والعشور والصدقات والجوالي - الجماعات الجائلة غير المستقرة في مكان محدد - وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه والعمل به.. (2) . وقد حدد أبو يوسف واجبات الحاكم فيما يلي: - إقامة حدود الله.. - رد الحقوق لأصحابها.. - إحياء سنة الحكام الصالحين.. - منع الظلم والمساواة بين الناس في تطبيق أحكام الشرع.. - أمر الناس بما أمر الله ونهيهم عما نهي عنه.. - لا يؤخذ من الرعية إلا بالحق ولا ينفق إلا بالحق.. (3) . أما واجبات المسلمين تجاه الحاكم فقد حددها بما يلي: - ألا يعصوه أو يقاتلوه.. - ألا يسبوه أو يغشوه..

ص: 180


1- 373. أنظر مناقب أبو حنيفة للكردي. وقد قام مالك بتأليف كتاب الموطأ بتكليف من المنصور. أنظر مقدمة الموطأ ط القاهرة.
2- 374. أنظر مقدمة كتاب الخراج لأبي يوسف.
3- 375. أنظر المرجع السابق.

- أن يصبروا عليه ويخلصوا النصح له.. - أن ينهوه عن المنكر ويعاونوه علي الخير.. (1) . إن الشروط التي اشترطها الفقهاء في الحكام لم تتوافر في حاكم ممن ولي أمر المسلمين منذ وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) وحتي اليوم. كما أن الواجبات التي من المفروض أن يؤدوها تجاه الأمة لم يلتزموا بشئ منها وضربوا بها عرض الحائط ولم يعترض الفقهاء علي هذا الوضع بل عايشوه وطالبوا الأمة بالصبر عليه.. (2) . إن الفقهاء قد حددوا شكل الدولة الإسلامية ومقوماتها وصفات الحاكم من خلال سلوك ومواقف الخلفاء الثلاثة وبني أمية وبني العباس متجنبين الإمام علي ومواقفه ونموذج دولته لكون طرحه ونموذجه يتناقض مع الطرح والنموذج السائد الذي يسيرون في ركابه.. لقد كانت تجربة الإمام علي في الحكم هي التجربة التي تعكس صورة الدولة الإسلامية الحقة والتي قام الخط الأموي بالتعتيم عليها وتشويهها حتي لا تكتشف حقيقة الحكم الأموي وتناقضه مع الإسلام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما هي ملامح دولة الإمام علي..؟ إن الإمام علي كان زاهدا في الحكم كما كان زاهدا في الدنيا. وما كان يهدف إليه هو أن تستقيم الأمة علي نهج الإسلام النبوي وتسترشد بعلمه الذي ورثه عن الرسول (صلي الله عليه وسلم). من هنا فحين طالبه الناس بالبيعة بعد مصرع عثمان قال: دعوني والتمسوا غيري.. واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلي قول القائل وعتب العاتب.. وأنا لكم وزير خير لكم مني أميرا.. (3) .

ص: 181


1- 376. المرجع السابق.
2- 377. أنظر شرح مسلم للنووي كتاب الإمارة. وشرح البخاري لابن حجر كتاب الأحكام وكتاب الفتن. ح 13 وانظر كتب العقائد والفقه وهي تحوي شروحات وتبريرات واسعة لهؤلاء الفقهاء تجاه الحكام ومواقفهم وانحرافاتهم وانظر كتاب العواصم من القواصم. وكتابنا فساد عقائد أهل السنة.
3- 378. أنظر نهج البلاغة خطبة رقم 9 / 259.

ولقد حدد الإمام علي نهجه في الحكم فور تسلمه السلطة بقوله: لم تكن بيعتكم إياي فلتة. وليس أمري وأمركم واحد. إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم. أيها الناس أعينوني علي أنفسكم وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه. ولأقودن الظالم بخزامته حتي أورده منهل الحق وإن كان كارها.. (1) . إن الإمام يوضح من خلال كلمته عدة حقائق وإشارات هامة حول صورة الحكم. فهو يوجه نقده لطريقة وصول أبي بكر للحكم مشيرا أن بيعته إنما تمت بإرادة المسلمين وحريتهم دون ضغوط كما حدث في أمر السقيفة. ثم هو يعلنها صراحة أنه سوف يضرب أصحاب المصالح والأهواء والقبليين الذين استثمروا الأوضاع السابقة لصالحهم وحققوا المكاسب علي حساب المسلمين وبواسطة أنظمة الحكم السابقة.. ولقد أوضح الإمام الرؤية للمسلمين كحاكم بقوله: لن يسرع أحد قبلي إلي دعوة حق وصلة رحم وعائدة كرم. فاسمعوا قولي وعوا منطقي عسي أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضي فيه السيوف وتخان فيه العهود حتي يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة.. (2) . والإمام بتوضيح هذه الرؤية للرعية إنما يضرب مثلا رائعا في الأمانة والمصارحة لهم في مواجهة الأحداث القادمة التي تهدد وحدة الأمة.. والإمام يرفض اغتصاب السلطة والاستسلام للأمر الواقع بقوله: أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبي قوتل. ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتي تحضرها عامة الناس فما إلي ذلك سبيل ولكن أهلها يحكمون علي من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار.. (3) .

ص: 182


1- 379. أنظر المرجع السابق خطبة رقم 134 / 339.
2- 380. المرجع السابق خطبة رقم 137 / 344.
3- 381. المرجع السابق خطبة رقم 171 / 408.

ويؤكد الإمام من خلال قوله هذا أيضا رفضه لبيعة الحكام في معزل عن الجماهير كما وقع مع الخلفاء الثلاثة من قبله وكما وقع للمسلمين من بعده.. لقد رفع الإمام شعار العدل في وجه الظالمين ومغتصبي حقوق المسلمين وفي وجه أقارب عثمان وقام بمصادرة ممتلكاته وقطائعه التي ملكها بأموال المسلمين والتي وزعها علي أقاربه وأعوانه.. يقول الإمام عن عثمان وقطائعه: والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.. (1) . وفي عهد الإمام علي لمالك الأشتر حين وجهه إلي مصر ملامح نظرية الحكم الإسلامي علي نهج النبوة وأسس دستور يحقق العدل والاستقرار والأمن والتقدم للأمة.. يقول الإمام لمالك بعد أن أمره بطاعة الله وتقواه:.. وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكون عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم.. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك وممن لك فيه هوي من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة. وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك - أبغضهم - أطلبهم لمعائب الناس. وإن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة. وألصق بأهل الورع والصدق. ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء. وأعلم أنه ليس شئ بأدعي إلي حسن ظن راع رعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم.، ولا تنقضن سنة صالحة عمل بها صدر هذه الأمة واجتمعت به الألفة وصلحت عليه الرعية. وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك. وأعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غني ببعضها عن بعض. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك. ثم أكثر تعاهد قضائه

ص: 183


1- 382. المرجع السابق خطبة رقم 15 / 118.

وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلي الناس. ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا ولا تولهم محاباة وأثرة. ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم علي استصلاح أنفسهم وغني لهم عن تناول ما تحت أيديهم. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله. ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا. ثم الله. الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني - المرضي وأصحاب العاهات - وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم. وتعهد أهل اليتيم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه. واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسا عاما.. فلا تطولن احتجابك عن رعيتك فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور. والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابرا محتسبا. وإن ظنت الرعية بك حيفا - ظلما - فأصحر - أظهر - لهم بعذرك وأعدل عنك ظنونهم بإصحارك. ولا ترفضن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا. وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة. وإياك والدماء وسفكها بغير حلها. وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء. وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها.. (1) . ولا شك أن هذه الأسس التي حواها عهد الإمام للأشتر لا وجود لها في واقع الدول التي سادت من بعد صفين. ولا وجود لها في سلوك الحكام ومواقفهم أولئك الحكام الذين باركهم الفقهاء وطالبوا المسلمين بالصلاة والحج والجهاد من خلفهم.. (2) . ولقد أبرز لنا الإمام من خلال سلوكه ومواقفه ملمحا هاما وخاصية فريدة يجب

ص: 184


1- 383. المرجع السابق ج 2 / خطبة رقم 54 / 621.
2- 384. أنظر عهد الأشتر للشيخ محمد مهدي شمس الدين ط بيروت وعهد الأشتر لمحمد باقر الناصري والراعي والرعية للفكيكي ط بيروت. وانظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد وغيره.

أن تتوافر في الحاكم المسلم ألا وهي خاصية الحوار مع الخصوم حتي ولو شهروا سيوفهم في وجه الدولة. والإمام بانتهاجه هذا السلوك والتزامه بهذا الموقف إنما يبرز روح التسامح ويفسح المجال أمام الرأي الآخر ليقدم حججه وبراهينه التي تدعم موقفه ورؤيته. ويمنح الفرصة للمنشقين كي يعودوا إلي صفوف الجماهير بقناعة ورضا.. برز هذا الموقف في حواره مع أصحاب الجمل.. وبرز في حواره مع أنصار معاوية في صفين.. وبرز في حواره مع الخوارج المنشقين عليه.. يقول الإمام لابن عباس حين أرسله إلي الزبير قبل وقعة الجمل: لا تلقين طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصا قرنه يركب الصعب ويقول: هو الذلول ولكن الق الزبير فإنه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق. فما عدا مما بدا.. (1) . ويقول الإمام في أهل صفين وقد نهي أصحابه عن سبهم: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتي يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به.. (2) . وفي كتاب للإمام إلي معاوية يقول فيه: ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إلا أن تتجني فتجن ما بدا لك والسلام.. (3) . وفي كتاب له أيضا إلي معاوية يقول الإمام: وكيف أنت صانع إذا تكشفت

ص: 185


1- 385. أنظر نهج البلاغة ج 1 / خطبة رقم 31 / 149.
2- 386. المرجع السابق ج 1 خطبة رقم 204 / 492.
3- 387. المرجع السابق ج 2 خطبة رقم 6 / 543.

عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها وخدعت بلذتها دعتك فأجبتها وقادتك فاتبعتها وأمرتك فأطعتها.. (1) . وفي كتاب آخر يقول له: أما بعد فإنا كنا نحن وأنتم علي ما ذكرت من الألفة والجماعة ففرق بيننا وبينكم أمس أنا آمنا وكفرتم. واليوم أنا استقمنا وفتنتم وما أسلم مسلمكم إلا كرها وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول الله (صلي الله عليه وسلم) حزبا.. (2) . ويقول الإمام في الخوارج حين رفعوا شعار لا حكم إلا لله: كلمة حق يراد بها الباطل. نعم لا حكم إلا لله. لكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله.. (3) . ويقول مخاطبا الخوارج لما حكموا علي الإمام بالخطأ في التحكيم وشرطوا للعودة إلي طاعته أن يعترف بأنه كان قد كفر ثم آمن: أصابكم حصب - ريح شديدة - ولا بقي منكم آبر. أبعد إيماني بالله وجهادي مع رسول الله أشهد علي نفسي بالكفر. لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.. (4) . وكان الإمام علي قد أرسل ابن عباس ليحاور الخوارج بعد أن انشقوا عليه. وأقام ابن عباس عليهم الحجة وعاد معه منهم ثلاثة آلاف.. (5) . ولقد اضطر الإمام لمقاتلة الخوارج فيما بعد إلا أنه لم يقاتلهم بسبب الأفكار التي تبنوها أو بسبب خروجهم عليه وإنما قاتلهم بسبب عدوانهم علي المسلمين واستباحتهم دماءهم وأموالهم وهم بهذا الفعل قد استووا مع المحاربين الذين يسعون في الأرض فسادا ويجب علي الإمام استئصالهم. إن تبني الإمام علي لنهج الشوري والعدل والمساواة والحوار قد جذب إلي نهجه

ص: 186


1- 388. المرجع السابق ج 2 / 10 / 546.
2- 389. المرجع السابق ج 2 / 65 / 662.
3- 390. المرجع السابق ج 1 خطبة 4 / 163.
4- 391. المرجع السابق ج 1 / خطبة 58 / 179.
5- 392. أنظر محاورة ابن عباس للخوارج في كتاب جامع بيان العلم ط القاهرة.

الموالي والجنسيات الأخري غير العربية وعلي رأسهم الفرس الذين وجدوا في طرحه ما ينشدون من العدل والمساواة والحرية وهو ما كانوا يفتقدونه في الطرح الأموي الذي كان يقوم علي أساس القبلية والعنصرية.. ولعل هذا يفسر سر ارتباط الفرس بالإمام علي وآل البيت من بعده إذ وجدوا في خطهم الخلاص من الظلم والتفرقة العنصرية التي كانوا يعيشونها في ظل بني ومما سبق يتبين لنا مدي الفروق الشاسعة والهوة السحيقة بين دولة الإمام علي ودولة بني أمية التي يمكن تحديدها فيما يلي: إن دولة الإمام علي هي دولة متغيرة حسب متطلبات الواقع ومصالح الجماهير بينما دولة الأمويون ثابتة المعالم والأطر. إن دولة الإمام علي دولة جماهير بينما دولة معاوية وقومه دولة حكام.. إن دولة الإمام هي دولة العدل والمساواة والشوري بينما هذه الأسس الثلاث لا وجود لها في واقع الدول الأخري.. إن دولة الإمام علي هي دولة الحوار بينما الدول الأخري عدوة له وتغلق الأبواب أمامه.. لقد ارتبطت فكرة الدولة في الطرح السني بالاستبداد والفصل بين سلطة الفقهاء وسلطة الحكام وعدم التدخل في شؤون الحاكم والاستسلام المطلق له وهذه هي أخطر انعكاسات الإسلام الأموي مما أدي إلي ضياع الشوري والعدل والمساواة من واقع المسلمين.. بينما ارتبطت فكرة الدولة في طرح آل البيت بالشوري وعدم الفصل بين السلطتين لضرورة أن يكون الحاكم فقيها كما ارتبطت بالعدل والمساواة والجماهير ووضعت الحاكم تحت رقابتها.. ويحاول الطرح السني أن يلزم الأمة بفكرة ثابتة وشكل ثابت للدولة الإسلامية وهو الشكل الذي تمخض عن الواقع القبلي الأموي والذي يقوم علي سلطة

ص: 187

الحكام وسلطة الفقهاء ونتيجته الدائمة هي سقوط الفقهاء في شباك السياسة وخضوعهم للحاكم.. ويبدو أن هناك تخبط واضح لدي الطرف السني في تحديد معالم الدولة وشكلها وهذا التخبط إنما هو ناتج من اختلاف ممارسات الحكام ومواقفهم واختلاف شكل الدولة من حكم لآخر. فدولة أبي بكر غير دولة عمر. ودولة عمر غير دولة أبي بكر. ودولة عثمان غير دولة عمر. ودولة معاوية تختلف عن دولة الثلاثة.. (1) . أما دولة الإمام علي فهي نموذج آخر غير هذه النماذج والقوم لم يعتدوا به من الأصل ولعل لهم عذرهم في هذا فهم لم يعايشوه وإنما عايشوا حكم بني أمية وبني العباس. إن الدولة الإسلامية في منظور آل البيت ليس لها شكل محدد ومعالم وأطر ثابتة وهي متحررة تماما من النزعة الإلهية. ومثل هذه الأمور إنما هي متروكة للاجتهاد. ولعل طرح فكرة ولاية الفقيه من قبل الإمام الخميني وتطبيقها في إيران اليوم يشير إلي ذلك.. (2) .

الفكر الإسلامي

انعكس الخط الأموي علي الفكر الإسلامي بعد مرحلة صفين كما انعكس خط

ص: 188


1- 393. أنظر كتاب تأريخ الخلفاء للسيوطي وهو يؤرخ من دولة أبي بكر إلي عصر المماليك. ويبدو للمطالع لهذا الكتاب مدي الفوارق والخلافات بين دول الإسلام التي قامت منذ وفاة الرسول (صلي الله عليه وسلم) وحتي اليوم.
2- 394. قام الإمام الخميني بطرح فكرة ولاية الفقيه وتطبيقها عمليا لأول مرة في تأريخ الشيعة. وقد اصطدم به كثير من فقهاء الشيعة وعارضوه في هذه الفكرة حيث أن أغلب فقهاء الشيعة يرون عدم جواز حكم الفقيه في عصر غيبة الإمام المهدي. وفي هذا الموقف إشارة إلي أن مسألة الحكم عند الشيعة ليس بالضرورة أن يتولاها فقيه من رجال الدين وليست فكرة الدولة تقوم علي أساس الماضي كما هو الحال عند السنة. والشيعة لا ترفض فكرة الجمهورية أو الانتخاب الحر أو الأحزاب.

آل البيت. غير أن خط آل البيت لم يقدر له البروز إلا في بعض فترات العصر العباسي وكانت أول صور البروز الفاعلة علي يد الإمام جعفر الصادق في عهد الخليفة المنصور. بينما كان الخط الأموي هو السائد وقنواته هي القنوات المشروعة.. من هنا حرم الفكر الإسلامي من الاستفادة بخط آل البيت الذي عزل عنه تحت ضغط السياسة ليصبح الخط الأموي هو المصدر الوحيد له. ولذا فقد اعتمد الفكر الإسلامي علي مرتكزات الإسلام الأموي وأنبنت علي أساسها مفاهيمه وتصوراته وأطروحته بشكل عام.. لقد انعكست علي هذا الفكر قضية الروايات المختلقة.. وانعكست عليه نظرية الرأي الواحد.. وانعكست عليه فكرة الحكم الإلهي.. وأخطر هذه الانعكاسات إنما تنحصر في هذا الكم من الروايات المختلقة التي بني الإسلام الأموي علي أساسها وتأثر هذا الفكر بها. فعلي أساس هذه الروايات أضفيت المشروعية علي حكام بني أمية والحكام من بعدهم حتي يومنا هذا.. وعلي أساس هذه الروايات أضفيت المشروعية والقداسة علي العناصر التي تم انتخابها من بين الصحابة لتكون مصدرا للتلقي والتوجيه.. وعلي أساس هذه الروايات استنبطت الأحكام الفقهية التي سارت الأمة علي أساسها حتي اليوم والتي نتجت عنها الكثير من المشكلات التي عاني منها المجتمع المسلم ولا زال يعاني وكانت الرواية ولا تزال سلاحا يشهر في وجه المخالفين وأصحاب الرأي من أجل إرهابهم وإلزامهم بالسير وفق الخط السائد.. (1) .

ص: 189


1- 395. من هذه الروايات الروايات الخاصة بالحكام التي أشرنا لها والروايات الخاصة بالصحابة التي تمجد معاوية وابن العاص المغيرة وأبو هريرة وعائشة وابن عمر وغيرهم ممن تحالفوا مع بني أمية وساندوهم وقد روي هؤلاء وعلي رأسهم أبي هريرة وعائشة وابن عمر الكثير من الروايات الخاصة بالأحكام علي لسان الرسول (صلي الله عليه وسلم) واعتمدها الفقهاء وبنوا علي أساسها الكثير من الأحكام والاجتهادات. وهناك روايات اخترعت خصيصا لمواجهة الرأي الآخر وإباحة دماء المعرضين مثل رواية من بدل دينه فاقتلوه. ورواية من خرج عليكم وأنتم جميع فاضربوه ضربة رجل واحد كائنا من كان. أنظر لنا كتاب جريمة الرأي في تاريخ الإسلام.

إن أزمة الفكر الإسلامي علي مر الزمان إنما تكمن في هذه الروايات التي قام علي أساسها وطوق بها وحالت بينه وبين المرونة والتجديد ومواكبة المتغيرات.. مثل هذه الروايات هي التي ولدت التصور الأوحدي لهذا الفكر ذلك التصور الذي يقوم علي أساس الهيمنة الفكرية والاستعلاء العقائدي علي الآخرين. فكون هذا الفكر قد نشأ في مناخ استبدادي خال من التيارات المنافسة قد ولد هذا الوضع لديه حالة من الاستعلاء والمثالية نابعة من تصور انحصار الحق في دائرته ذلك التصور الذي تفرخت منه فكرة الفرقة الناجية أو أهل الحق الذين يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة... (1) . ولم يحدث طوال فترات التأريخ أن دخل أهل السنة أو ممثلو الفكر الإسلامي النابع من الخط الأموي في حوار مع التيارات الأخري. فالحكومات لم تكن لتفسح الطريق لذلك.. من هنا يمكن القول إن الفكر السني لم يختبر حتي يتبين مدي صلاحيته ومواءمته للواقع ولذا فقد تأصلت فيه روح الاستبداد والتعصب وهذه هي أهم ملامحه التي انعكست عليه من الخط الأموي.. وعلي ضوء هذه الروايات أيضا نشأت فكرة الحكم الإلهي وتشبع بها هذا الفكر بحيث أصبحت إحدي مقوماته البارزة. فقد سقط هذا الفكر ضحية الروايات التي تقدس الحكام وتوجب طاعتهم وتلزم الأمة باتباعهم والصلاة والحج والجهاد من خلفهم وإن كانوا فجارا ومجرمين حتي تحولت هذه الفكرة إلي أصل من أصول الاعتقاد في الفكر السني (2) .

ص: 190


1- 396. يعتبر أهل السنة أنفسهم أهل الحق والفرقة الناجية من النار وجميع الفرق الأخري هالكة وقد بنوا. هذا التصور علي حديث يقول: تفترق أمتي علي ثلاث وسبعين فرقة. فرقة ناجية والباقي في النار رواة الترمذي وغيره ومثل هذا التصور إنما هو نابع من كونهم الأغلبية الظاهرة الآمنة وبقية الاتجاهات الأخري قليلة ومستترة.
2- 397. أنظر كتب العقائد والفرق.

ولقد نتجت أطروحات هذا الفكر بمعزل عن المشاركة في الحكم فمن ثم فقد تأصلت فيه فكرة الفصل بين الدين والدولة وأصبحت من ملامحه. فقد قبض الحكام علي السلطة السياسية بينما تركوا الدين لطبقة الفقهاء الذين يدينون لهم بالطاعة والولاء والذين بنوا اجتهاداتهم وتفسيراتهم للنصوص علي أساس هذا الوضع.. من هنا وأمام ممارسات الحكام وانحرافاتهم ظهرت اتجاهات تقول بكفر مرتكب الكبيرة والمصر علي المعصية وتقول بوجوب الخروج علي الحاكم الفاسق والظالم. وقد تصدي الفقهاء لهذه التيارات وقالوا بعدم كفر مرتكب الكبيرة والمصر علي المعصية وعدم جواز الخروج علي الحاكم بأي صورة ولأي سبب وتحولت هذه الأقوال بعد ذلك إلي عقائد ومفاهيم ثابتة في الفكر الإسلامي وما هي في الحقيقة إلا فتاوي اخترعت للدفاع عن الحكام وتبرير سلوكياتهم المنحرفة... (1) . واعتبر الفقهاء كل من يخرج عن هذه العقائد والمفاهيم ويخالفها من أهل البدع والزندقة الذين يجب مقاومتهم والقضاء عليهم فمن ثم أعطوا الضوء الأخضر للحاكم كي يقضي عليهم ويستأصلهم.. (2) . ولقد أضفي فقهاء القوم المشروعية والقداسة علي القرون الثلاثة الأولي التي نشأ وقنن فيها الفكر الإسلامي اعتمادا علي رواية تقول: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.. (3) . وعلي هذا فإن كل الجرائم والانتهاكات والبطش والتنكيل والانحرافات التي وقعت طوال القرون الثلاثة الأولي أضيفت عليها المشروعية وأمكن تبريرها علي ضوء هذه الرواية وبالتالي تم اعتبار عصر الخلفاء وبنو أمية وبنو العباس العصر الذهبي المبارك..

ص: 191


1- 398. أنظر كتب العقائد.
2- 399. يقول ابن حنبل: إن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف. أنظر طبقات الحنابلة. وانظر كتب العقائد. وانظر لنا جريمة الرأي.
3- 400. أنظر البخاري ومسلم.

وإذا كان الفكر الإسلامي السني قد نشأ في كنف الحكومات وتحت رعايتها فإن الفكر الإسلامي الشيعي نشأ في ظل إرهاب الحكومات وبطشها.. الفكر السني نشأ في العلن آمنا.. والفكر الشيعي نشأ في السر خائفا.. من هنا فإن الفكر السني قام علي أساس الاستسلام للواقع والتعايش معه. بينما الفكر الشيعي قام علي أساس رفض الواقع ومقاومته.. وقد نتج عن هذا الوضع أن تبني الفكر السني طاعة الحكام وتقديسهم.. وتبني الفكر الشيعي رفض الحكام ولعنهم.. وتبني الفكر السني الروايات التي جمعت طوال القرون الثلاثة الأولي وأقام علي أساسها أطروحته. ورفض الفكر الشيعي هذه الروايات لكونها صادرة عن جهات مشبوهة لا يثق بها.. وتبني الفكر السني فكرة توثيق الراوي علي أساس أخلاقي ينحصر في مفهومي الصدق والأمانة دون حساب لسلوكيات الراوي ومواقفه السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية.. وتبني الفكر الشيعي فكرة توثيق الراوي علي أساس متكامل مع وضع سلوكياته ومواقفه في الحساب.. وعلي هذا الأساس قبل في الفكر السني رواة الحديث من الخوارج والنواصب والمشكوك في صحبتهم للرسول وأهل الأهواء والبدع.. (1) . بينما اعتبر الفكر الشيعي موالاة الحكام ومعاداة آل البيت ومناصرة الفرق من المواقف التي توجب رفض رواية الراوي والقدح فيه..

ص: 192


1- 401. أنظر كتب الرجال وسوف تجد من هذه النماذج الكثير. وانظر هدي الساري مقدمة شرح البخاري لابن حجر وفيها يدافع عن رواة البخاري المطعون فيهم.

وتبني الفكر السني الكثير من الروايات المناقضة للقرآن والعقل علي أساس أن رواتها عدول.. واعتبر الفكر الشيعي مطابقة الرواية للقرآن والعقل شرط صحتها.. وينحصر مصدر التلقي في الفكر السني في الصحابة والتابعين وتابعيهم.. بينما ينحصر مصدر التلقي في الفكر الشيعي في آل البيت.. ونتيجة لارتباط الفكر السني بالسياسة وخضوعه للأطروحة الأموية أغلق باب الاجتهاد في دائرته منذ قرون طويلة. بينما ظل باب الاجتهاد مفتوحا في ظل الفكر الشيعي إلي يومنا هذا.. وأصبحت المؤسسة الدينية السنية رهينة الحكومات يرتبط مصيرها ومستقبلها بها.. بينما تحررت المؤسسة الدينية الشيعية من سلطة الحكومات وأصبح مصيرها وقرارها بيدها.. والفكر السني اعتمد علي عائشة وابن عمر وأبي هريرة ومعاوية وابن العاص والمغيرة بن شعبة بالإضافة إلي الخلفاء الثلاثة ومن تحالفوا معهم مثل سعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير وابن عوف بينما رفض الفكر الشيعي هؤلاء الرجال والتلقي منهم واعتمد علي الإمام علي وذريته الأئمة الاثني عشر بالإضافة إلي الصحابة الذين تحالفوا مع آل البيت وساروا علي خط الإمام علي مثل أبو ذر وعمار وسلمان وبلال وحذيفة والمقداد وغيرهم.. (1) . وعلي مستوي التابعين وتابعيهم اعتمد الفكر السني علي كل من سار وفق الخط الأموي والعباسي ممن عايشوا رموزه من الصحابة ومن لم يعايشوهم.. بينما رفض الفكر الشيعي اعتماد كل من خالف أهل البيت وتابع حكومات بني أمية وبني العباس من التابعين وتابعيهم.. ونتيجة لالتزام الفكر السني بالخط الأموي تبني الكثير من الادعاءات والقضايا

ص: 193


1- 402. أنظر فتح الباري شرح البخاري ج 7 /.

الوهمية التي تهدف إلي تشويه خط الإمام علي وإثارة الشبهات من حول شيعته.. وعلي رأس هذه الادعاءات والقضايا الوهمية: تمجيد معاوية والبيت الأموي.. اعتماد أبو هريرة (1) كراوي أساسي لأحاديث الرسول.. تبني فكرة السبأية وابن سبأ وإلصاقها بالشيعة.. ربط نشأة الشيعة والتشيع بالفرس.. تضخيم الرجال من الصحابة ورفع مكانتهم.. التقليل من شأن الإمام علي ومكانه.. التقليل من شأن شيعته من الصحابة.. إعلاء كتابي البخاري ومسلم وتقديسهما.. تبني فكرة عدالة الصحابة وتقديسهم.. تبني فكرة الترتيب الرباعي للخلفاء: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.. تبني فكرة الاجماع واعتمادها كمصدر من مصادر التشريع.. التقليل من شأن آل البيت وأهميتهم.. أما تمجيد معاوية والبيت الأموي فأمر لا يقوم علي أساس شرعي ولم تصح فيه رواية بشهادة فقهاء القوم والمحدثين وعلي رأسهم إسحاق بن راهويه أستاذ البخاري الذي قال: لم تصح في معاوية منقبة. وابن حجر في شرحه للبخاري.. (2) .

ص: 194


1- 403. أنظر فتح الباري ج 7 باب ذكر معاوية.
2- 404. اختلف الفقهاء، والمؤرخون في أبي هريرة واسمه أكثر من عشرين خلافا وأصح الأسماء التي مال إليها بعضهم هي عبد الرحمن بن صخر. وقد أسلم أبو هريرة يوم خيبر كما يروي فمن أين أتي بكل هذا العلم الذي رواه علي لسان الرسول (صلي الله عليه وسلم) والذي فاق خمسة آلاف رواية وهو بهذا تفوق علي خير الأمة أبي بكر وعلي عمر. وإذا كان هذا هو حال أبو هريرة وعلمه فلماذا لم يضعوه في مقدمة الأمة ويفضلوه علي أبي بكر وعمر..؟ ويذكر أن أبا هريرة قد هوجم من عمر وعائشة وكثير من الصحابة بسبب إكثاره. الرواية علي لسان الرسول (صلي الله عليه وسلم).. أنظر تاريخ ابن عساكر وهدي الساري والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر والاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر وأسد الغابة لابن الأثير.

ومسألة أبو هريرة من أوهام القوم ونتاجات السياسة إذ لا يعقل أن شخصا مثل هذا أسلم يوم خيبر ولا وزن له ولا تعرف هويته يروي هذا الكم الهائل من الروايات عن الرسول (صلي الله عليه وسلم).. (1) . وقضية ابن سبأ قضية وهمية من اختراع بني أمية. فابن سبأ مشكوك في صحة وجوده تاريخيا والطبري هو الوحيد من بين المؤرخين الذي ذكره وروي عن أخباره والذين تناولوا ابن سبأ من المؤرخين مثل الذهبي وابن كثير وابن خلدون إنما أخذوا منه. وراوي أخبار ابن سبأ هو سيف بن عمر وهو راوي متهم بالكذب عند فقهاء القوم.. (2) . أما قضية فارسية التشيع فالهدف منها التشكيك في هوية التشيع ونشأته بربطه بالفرس المجوس. وقد نسي مخترعو - هذه القضية أن الفرس الذين يتهمونهم بالتستر بدعوة التشيع لضرب الإسلام هم الذين نقلوا لهم الإسلام إلي بلاد الهند وآسيا وهم الذين دونوا العلوم الإسلامية وجمعوا الأحاديث النبوية التي يتعبد بها القوم حتي يومنا هذا.. وإن اختراع قضية التضخيم لبعض الصحابة كان الهدف منها التغطية علي الإمام علي والتمويه عليه والتقليل من شأنه وشأن أتباعه من الصحابة. كذلك كان الهدف منها التغطية علي آل البيت والتقليل من شأنهم وإهمالهم. فما دام أفضل الأمة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فمعني هذا أن الإمام علي وآل البيت ليسوا بهذا القدر والمكانة التي يصورها شيعتهم. وما دام هناك من هو أفضل منهم فسوف تتجه نحوه الأمة وتعتبره، مصدر التلقي والقدوة.. وما دامت الأمة قد اتجهت نحو أبي بكر وعمر وعثمان فسوف تتجه تلقائيا نحو

ص: 195


1- 405. أنظر ترجمة سيف ابن عمر في كتب الرجال. وانظر عبد الله بن سبأ وأساطير أخري للسيد مرتضي العسكري ط بيروت. و عبد الله بن سبأ دراسة تأريخية سلسلة حوليات كلية الآداب جامعة الكويت. ولا تجد ذكرا لابن سبأ في تأريخ المسعودي أو الكامل لابن الأثير أو الفتوح لابن الأعثم.
2- 406. أشهر فقهاء السنة وجامعي الأحاديث التي يتعبد بها القوم هم من الفرس مثل أبو حنيفة والغزالي والجويني والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وغيرهم.. أنظر تراجم هؤلاء وغيرهم في وفيات الأعيان لابن خلكان. وسير أعلام النبلاء للذهبي والأعلام للزركلي وانظر لنا كتاب مصر وإيران.. والأولي أن يقال فارسية التسنن.

بني أمية وخطهم الذي يعد امتداد لخط الخلفاء الثلاثة وهذا هو الهدف من وراء عملية التضخيم.. (1) . ولقد وجهت السياسة الفقهاء نحو اعتبار البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله يليه مسلم ثم إن بقية كتب السنن الأخري محل أخذ ورد وقبول ورفض. وحسب قواعد علم الحديث وشهادة فقهاء القوم ينطبق علي البخاري ومسلم حال الكتب الأخري. وسر التركيز علي هذين الكتابين يكمن في كونهما يحويان الكثير من الروايات التي تقلل من شأن الإمام علي وتحط من قدره ولا تروي شيئا لآل البيت. أما فكرة عدالة الصحابة فهي قمة الوهم إذ تهدف هذه الفكرة إلي إضفاء القداسة والتقوي والمثالية الفائقة علي جميع الصحابة وبالتالي يدخل معاوية وشيعته في دائرة العدالة بصفتهم من الصحابة. وقد انبني علي مفهوم العدالة مفهوم التوقف في الصحابي وعدم الخوض فيه أو سبه أو التقليل من شأنه. وعلي أساس هذه الفكر يمكن تمرير الإسلام الأموي لكون مؤسسيه من الصحابة (2) . ومسألة العدالة هذه تضفي صفة الملائكية علي مجتمع الرسول (صلي الله عليه وسلم) وهو ما لا يستقيم مع النصوص القرآنية وحتي النبوية التي تكشف وجود منافقين حول الرسول. كما لا يستقيم مع العقل أيضا.. وقد اعتمد فقهاء القوم علي فكرة العدالة وبنوا علي أساسها علم الحديث والرواية وقبلوا تجريح سلسة رواة الحديث عدا الصحابي باعتبار أن من ثبتت صحبته ثبتت عدالته.. (3) .

ص: 196


1- 407. أنظر فضائل الصحابة في كتب السنن. وانظر لنا باب تضخيم الرجال في كتاب الخدعة وتبدو الروايات التي تساند الإمام علي وتدعم آل البيت في كتب السنن الأخري مثل النسائي ومسند أحمد والترمذي والطبراني وغيرهم. وقد شكك فقهاء القوم في هذه الكتب وأجازوا رفض ما بها من الروايات لكونها ضعيفة أو موضوعة بينما استثنوا البخاري ومسلم من هذه القاعدة.
2- 408. جميع الصحابة عدول عند السنة الذي عاش عمره مع الرسول (صلي الله عليه وسلم) وهاجر وقاتل معه والذي لم يره سوي دقيقة واحدة أو ولد في عصره. ومن الواضح أن لهذه الفكرة دلالات سياسية.
3- 409. أنظر كتب علم الرجال عند أهل السنة مثل تدريب الراوي ومقدمة ابن الصلاح والعلل ومعرفة الرجال والجرح والتعديل.

وتأتي فكرة الترتيب الرباعي لتكشف لنا مدي تدخل السياسة وانعاكسها علي الفكر السني فهذا الترتيب لا يوجد له سند شرعي من كتاب أو سنة صحيحة والهدف منه إلزام الأمة بخط الخلفاء الذي يرتكز عليه الخط الأموي.. (1) . أما الاجماع فهو السند الأساسي الذي يرتكز عليه الفكر السني لسد النقص في الأدلة والنصوص التي تدعم مفاهيمهم وعقائدهم. فإن فكرة تضخيم الصحابة ومعاوية خاصة وفكرة العدالة وفكرة السبأية واعتبار البخاري ومسلم أصح الكتب وفكرة الترتيب الرباعي كل هذه الأفكار سندها الوحيد هو الاجماع. بالإضافة إلي أن جميع الروايات التي تقلل من شأن الإمام علي وآل البيت والصحابة الذين تشيعوا لهم هي محل إجماع القوم.. (2) . والفكر الشيعي لا يعتمد شيئا من هذه الأوهام لكونه يعتبر العقل أحد مصادر التشريع بعد الكتاب والسنة وهو أن ركز علي الإمام علي وآل البيت ورفع من مكانتهم وشأنهم فهو لا يبتدع هذا الموقف إلا علي أساس نصوص الكتاب والسنة الصحيحة لا علي أساس الروايات المختلقة والإجماع الكاذب كما هو حال الفكر السني. إن الفكر الشيعي إنما يقوم علي أساس النص. بينما الفكر السني يقوم علي أساس أقوال الرجال وهذا الفرق الجوهري بين الفكرين إنما يعكس مدي ارتباط الفكر الشيعي بالإسلام النبوي ومدي ارتباط الفكر السني بالسياسة والحكام..

التيارات الإسلامية

تبنت التيارات الإسلامية الأطروحة السنية كما هي ودخلت بها في صراع مع

ص: 197


1- 410. أنظر هذا الترتيب في كتب العقائد.
2- 411. وتقلل من شأن آل البيت في البخاري ومسلم وكتب السنن الأخري ومن هذه الروايات رواية خطبة الإمام علي بنت أبي جهل علي فاطمة وغضب الرسول منه. ورواية ترك الإمام صلاة الليل ورفضه أمر الرسول له بتأديتها. ومنها رواية جهل الإمام بحكم المذي. وجميع الروايات التي تضخم من أبي بكر وعائشة وعمر وعثمان الهدف منها ضرب آل البيت والتقليل من شأنهم. أنظر البخاري ومسلم وكتب السنن.. وانظر لنا كتاب الخدعة.

الواقع فكانت النتيجة أن أخفقت في تحقيق أهدافها وإقامة الدولة الإسلامية المنشودة.. تبنت التيارات الإسلامية أطروحة حكومية دون أن تدري ودخلت بها في صراع مع الحكومات فكانت النتيجة أن تخلخل بناءها الفكري وتصدت لها المؤسسة الدينية الرسمية لتواجهها بنفس الأطروحة وتعرقل مسيرتها.. لقد سقطت التيارات الإسلامية ضحية الإسلام الأموي بعد أن غاب عنها الإسلام النبوي وضلت عن سبيله. والإسلام الأموي لم يعطها سوي الجمود والفرقة الشتات.. الإسلام الأموي جعلها لقمة سائغة للحكومات وأفقدها ثقة الجماهير وعزلها عن الواقع.. ثم تلقفت التيارات الإسلامية إسلام الخوارج من السعودية في الحقبة النفطية المعاصرة فكانت النتيجة أن ازدادت تخلفا عن الواقع. وتبدو لنا أزمة التيارات الإسلامية المعاصرة في النظرية التي تتبناها في مواجهة الواقع وصورة الدولة التي تنشد إقامتها.. ومن خلال النظرية وصورة الدولة تبرز لنا انعكاسات الإسلام الأموي وإسلام الخوارج علي هذه التيارات التي تشبعت بهذين الإسلامين والتصقت بهما. فقد تبنت هذه التيارات عقائد ومفاهيم السلف مجملة كما تبنت نتاجات الفقهاء.. وتبنت الروايات الواردة عن طريقهم.. وتبنت تقديس الصحابة والسلف وعدم الخوض فيهم.. وتبنت شكل الدولة الإسلامية السلفية.. وتبنت فكرة الصلاة وراء كل بر وفاجر.. وتبنت فكرة الفرقة الناجية والاستعلاء علي المخالفين..

ص: 198

وتبنت خط الخلفاء الثلاثة وخط الملوك من بعده.. وتبنت فكرة مساواة معاوية بالإمام علي.. وتبنت منهج التبرير والتأويل.. وتبنت اجتهادات فقهاء السلف ومواقفهم.. وتبنت فكرة الرفض لكل ما هو مخالف.. ولقد كان نتيجة تبنيها هذه الأفكار أن أصبحت هناك فجوة كبيرة بين نظريتها وبين الواقع حالت بينها وبين التفاعل معه وكسبه إلي صفها.. كان تبني التيارات الإسلامية الفكر السني قد أدي إلي إخفاقها أمام الواقع وافتقادها القدرة علي مواجهته.. فالفكر الذي يساند الحكام ويبرر جرائمهم كيف يمكن أن تبني عليه نظرية مواجهة معهم..؟ والفكر الذي يستعلي علي الواقع والجماهير كيف يمكن أن يحقق الاستقرار والتقدم للدعوة..؟ والفكر الذي يعيش علي عقل الماضي كيف يمكن أن يواجه الحاضر..؟ والفكر الذي يتبني شكل الحكم القبلي والأموي والعباسي كيف يمكن أن يتجاوب معه الواقع..؟ والفكر الذي يقوم علي روايات مختلقة ومناقضة للقرآن والعقل كيف يمكن أن يتحقق له الثبات والصمود في وجه الأحداث والمتغيرات..؟ ولقد ازداد الموقف تعقيدا حين تبنت التيارات الإسلامية الأطروحة الوهابية الحنبلية التي تعد امتدادا لإسلام الخوارج بعد سقوطها في قبضة الأخطبوط السعودي.. وازدادت حدة الأزمة الفكرية والحركية التي تعيشها هذه التيارات في مواجهة

ص: 199

الواقع وليس هناك من سبيل لخروجها من هذه الأزمة إلا بالتحرر من الخط الأموي وخط الخوارج.. وكما انعكست صورة الإسلام الأموي علي التيارات الإسلامية وبدا أثره واضحا علي تصورها ونظريتها. انعكس أيضا إسلام الخوارج وبدت ملامحه تبرز علي مواقفها ونظريتها وممارساتها ذلك الانعكاس الذي يمكن تحديده فيما يلي: القشرية والسطحية في فهم النصوص.. تركيز العداء علي الجماهير.. تكفير المخالفين.. تعطيل العقل.. انعدام الوعي بطبيعة الصراع وبالواقع.. الغلظة في الدعوة وتبني العنف في تطبيق الأحكام.. أما القشرية والسطحية فقد كانت أهم ملامح شخصية الخوارج وهي تبدو اليوم أبرز ملامح التيارات الإسلامية وتظهر لنا من خلال تركيزهم علي مسألة اللحية وتقصير الثوب وتغطية وجه المرأة ومحاربة التدخين والاهتمام بالممارسات التعبدية كالصلاة والصوم وحفظ القرآن دون الاهتمام بجوهر الإسلام.. (1) . ويبدو من خلال ممارسات التيارات الإسلامية ومواقفها أنها تتجه بغضبها نحو الجماهير متهمة إياها بالكفر والفسوق والتسيب ومن مظاهر هذه الممارسات الاعتداء علي الشيعة والمتصوفة والنوادي والمسيحيين واحتفالات الزواج وحرق الأضرحة والاعتداء علي زوارها وكذلك كان تاريخ حركة الخوارج من قبل كان يتركز في العدوان علي المسلمين الآمنين وليس علي الحكام وكذلك أيضا كان تاريخ الوهابيون في جزيرة العرب... (2) .

ص: 200


1- 412. أنظر لنا الحركة الإسلامية في مصر. وأنظر تأريخ الحركة الوهابية. وانظر لنا كتاب فقهاء النفط وكتاب عقائد السنة وعقائد الشيعة. وكتاب فساد عقائد أهل السنة.
2- 413. أنظر المراجع السابقة.

وتكفير المخالفين واستباحتهم سمة بارزة من سمات التيارات الإسلامية اليوم وقد كانت إحدي سمات الخوارج من قبل وهي سن سمات الوهابيين اليوم.. (1) . كذلك تعطيل العقل يعد من الملامح الأساسية للتيارات الإسلامية حيث إن هذه التيارات تعيش بعقل الماضي ولا تعمل العقل في الحاضر أو في النصوص المختلقة التي تتبناها وتنادي بتطبيقها أو حتي في الأحداث والمتغيرات التي تجري من حولها فهي تريد أن تطبق النص كما هو دون حساب للنتائج أو المتغيرات ودون وعي بحقيقة النص ومدلوله. وكذلك كانت عقلية الخوارج.. والتيارات الإسلامية لا تعطي اهتماما بالسياسة أو الثقافة أو فقه الواقع وكل ما يعنيها هو تطبيق الكتاب والسنة دون أن يكون لديها الوعي بطبيعة العوائق التي تقف في طريق هذا التطبيق وطبيعة القوي المعادية التي تتربص بها وبالإسلام. وهذه التيارات تتبني تصورا وهميا مفاده أن تمسكها بالكتاب والسنة سوف ينجيها من كل شر ويحقق لها النصر علي الباطل دون أن تملك أية أسباب أخري. فالوعي عند هذه التيارات ينحصر في دائرة النصوص ويتركز حولها. ويتضح لنا هذا الأمر من خلال محاولة هذه التيارات لتطبيق النصوص علي الواقع كما هي وصدامها مع الواقع بسبب نص وهمي أو نص لا ترمي دلالاته للمعني المقصود. وهذه إحدي ملامح شخصية الخوارج الأساسية حين رفعوا في وجه الإمام علي قوله تعالي (إن الحكم إلا لله) وحكموا بكفر الإمام علي أساسه لكونه حكم الرجال في قضية التحكيم. ومثل هذا الفهم السطحي للنصوص ينطبق علي التيارات الإسلامية.. ولقد كانت الغلظة والعنف ركيزة أساسية في دعوة الخوارج وعلي أساسها أراقوا دماء المسلمين واستباحوا أموالهم وهي سمة بارزة من سمات التيارات الإسلامية اليوم أفقدتها ثقة الجماهير بها وعزلتها عن الواقع.. ونظرة فاحصة علي التيارات الإسلامية الشيعية سوف يتبين مدي الفارق الشاسع بينها وبين التيارات الإسلامية السنية:

ص: 201


1- 414. المراجع السابقة.

علي مستوي الفكر والتصور.. وعلي مستوي الحركة والمواجهة.. وعلي مستوي العلاقة بالواقع والجماهير.. إن نجاح الثورة الإسلامية في إيران يعود لتوافر مقومات الوعي والحركة والمواجهة وفقه الواقع والارتباط بالجماهير. وهذه المقومات إنما هي نتاج خط الإمام علي وتبني نهجه، ولو كانت هذه الثورة تتبني نهجا آخر ما كتب لها النجاح.. (1) إن إيجابية التيارات الإسلامية السنية وفاعليتها لن يتحققا إلا بالالتزام بالإسلام النبوي ونهج الإمام علي ودون ذلك لن تملك الرؤية الواعية للواقع وطبيعة الصراع وسوف تظل تتخبط في ساحة المواجهة بأطروحة هي من اختراع السياسة وتهدف إلي تخدير المسلمين وعزلهم عن الواقع.

ص: 202


1- 415. أنظر كيف يحمل التيار الشيعي راية المواجهة مع اليهود في جنوب لبنان بينما التيار السني يقف موقف المتفرج.

خاتمة

إن إعادة قراءة التاريخ مقدمة ضرورية لتصحيح الفكر الإسلامي المعاصر الذي ورث تراكمات السياسة وصبغها بصبغة الإسلام حتي تحولت بمرور الزمن إلي مفاهيم وقواعد يتعبد بها المسلمون ويقيسون الحق والباطل علي أساسها. لقد أصبح أبو بكر وعمر وعائشة وأبو هريرة وابن عمر رموز الإسلام الكبري التي يستمد منها صورة الإسلام ونهجه. بينما ضرب الإمام علي وعمار وأبو ذر وحذيفة وابن مسعود وغيرهم ممن ساروا علي نهج الإمام. إن الفكر الإسلامي المعاصر لن يقوم اعوجاجه ويتحرر من أغلال الماضي إلا بطرح الرؤية الأحادية للتاريخ والتي فرضتها عليه السياسة.. وعلي المسلمين أن يتحرروا من أغلال الحقبة النفطية المعاصرة والتي فرضت عليهم الرؤية الوهابية الحنبلية وصورتها لهم علي أنها المعبر الحقيقي عن الإسلام. عليهم أن يتحرروا من عبادة الرجال. وعليهم أن يتحرروا من وهم قداسة الماضي. عليهم أن يجعلوا النصوص فوق الرجال. وأن يتخذوها مقياسا ونبراسا لهم علي طريق تصحيح الفكر الإسلامي وقراءة أحداث التاريخ وأخيرا عليهم أن يدركوا حقيقة هامة وهي أن هذا التاريخ الذي بين أيدينا هو تاريخ المسلمين وليس تاريخ الإسلام. والفرق كبير وشاسع بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين. تاريخ الإسلام هو كتاب الله. وتاريخ المسلمين ما دون ذلك مما يخضع للبحث والأخذ والرد.. وعلي ضوء كتاب الله يجب أن يدرس تاريخ المسلمين.

ص: 203

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.