الاعتصام بالکتاب و السنة : دراسة مبسطة في مسائل فقهیة مهمة

هوية الكتاب

الاعتصام بالکتاب و السنة: دراسة مبسطة في مسائل فقهیة مهمة

نويسنده: سبحانی تبریزی، جعفر

زبان: عربی

ناشر: المجمع العالمي لاهل البيت (عليهم السلام) - قم - ایران

سال نشر: 1403 هجری قمری|2009 میلادی

تنظیم کننده متن دیجیتالی: میثم حیدری

ص: 1

اشارة

ص: 2

مقدّمة المجمع العالمي لاَهل البيت

بِسْمِ اللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

و له الحمد و الصلاة و السلام على سيّد الاَنبياء و المرسلين محمّد و آله الطيبين الطاهرين و صحبه المنتجبين.

و بعد؛

فإنّ الوحدة الاِسلامية هي من أهم خصائص الأمّة الاِسلامية التي أكّد عليها القرآن الكريم و دعا كل مسلم للعمل على تحقيقها، و خطّط لها بشتّى الاَساليب.

و أعلن أنّ هذه الوحدة ليست وحدة مصالح، و لا وحدة مكان أو عنصر و إنّما هي وحدة قلوب، وهبها اللّه تعالى التآلف و التحابّ و هو أمر لا يتحقّق عبر الوسائل المادية مهما تعاظمت... و بها تمّ الانتصار الاِسلامي الاَوّل على كل طواغيت الكفر و أساطين الاستكبار فقال تعالى: "هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مٰا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (الاَنفال 6362).

ص: 3

و قد ظن البعض أنّها وحدة عاطفية ممّا يجعلها واهيةً أيضاً إلاّ أنّ الحقيقة هي أنّها وحدة قلوب، و ليس القلب عاطفة لا تقوم على أُسس عقلية كما أنّه ليس عقلاً مجرّداً يبتعد عن التجسّد العاطفي، إنّه التحام الوعي بالاِحساس... و هكذا الوحدة الاِسلامية.. انّها تنطلق من أُسس عقائدية متينة واقعية تنير الوجود الاِنساني بأنوارها و تصوغ الاَحاسيس بلطفها كما تصوغ المفاهيم عن الكون و الحياة و الانسان تماماً، و حينئذ يشكل المجموع (العقيدة، و المفاهيم و الاَحاسيس) القاعدة الاَساسية لقيام المجتمع الاِسلامي الرصين الواحد.

و لا ريب في أنّ الاِسلام أراد من كل نظمه أن تساهم في إغناء هذه الحقيقة و المساهمة الفاعلة في إيجاد أُمّة موحّدة تغييرية تعمل جادة لتحقيق هدف الخلقة على المستوى الحضاري التاريخي الممتد. و من هذه النظم الاِسلامية نفس نظام الاجتهاد الذي يعبّر عن أروع صورة للمرونة الاِسلامية كما تعبّر عن أرضية الخصوبة الفكرية المستمرة و طبيعي أن يعلن الاِسلام و هو المبدأ الواقعي حرية الاجتهاد و الاستنباط نظراً لاَنّه دين الحياة، و نظراً لاَنّه يعطي رأيه في كل واقعة، و الوقائع متكثّرة و الاِسلام إذ يفتح باب الاجتهاد يمنح المتخصّصين و العلماء كل القواعد و كل المنابع الواضحة، و يعيّن كل الشروط التي تضمن للعملية الاجتهادية أن تبقى في الخط العام تنتج و تثمر و تتعامل مع الواقع منطلقة من الروية المبدئية فإذا الاجتهاد، انطلاقة مبدئية، و ثراء علمي و قدرة على استيعاب الجديد و امتداد مع المسيرة الفطرية الصافية نحو الغد المرسوم هكذا شاء اللّه تعالى للاجتهاد أن يكون مصدر عظمة، و مصدر توحّد، و لا خير في أن تختلف النتائج و تختلف الآراء إن كانت جميعاً في الخط العام.. و ما ورد من النصوص الناهية عن الاختلاف إنّما تنصب على الموقف العملي الاجتماعي و السياسي للأمّة في حين تصوّر البعض أنّها تشير للاختلاف الاستنباطي الفقهي أو المفهومي و ليس الاَمر كذلك.

ص: 4

هذه الحقائق كان ينبغي للقادة و العلماء أن يعلنوها بكل صراحة و أن يمرّنوا الأمّة عليها و هذا هو ما أكّده الاِسلام و رسوله العظيم و أهل بيته الطاهرون، و من هنا أمكننا أن نقول إنّ مدرسة أهل البيت - عليهم السلام - كانت من أهم المدارس مرونة و رحابة صدر، يجلس فيها أئمّة المذاهب لينهلوا من علومها و يرشفوا من معينها الصافي بروح الاخوة و المحبة الخالصة.

إلاّ أنّ عصور الظلمة، و دسائس الاَعداء، و جهل البعض حول هذه الحالة الاَخوية مع الاَسف أدّت إلى حالات تنافر و تباعد، و تصوّر بعض العامة أنّ الاختلاف في الآراء الفقهية يعني الاختلاف في المواقف الاِسلامية الاجتماعية.

و هذا الكتاب القيّم يعبّر عن محاولة علمية جادة تجمع بين الرأي العلمي القوي و النظرة الاجتماعية القويمة و اللغة السمحة لبيان الموقف في بعض الموارد الفقهية المختلف فيها ممّا يؤكّد ما قلناه... و سماحة آية اللّه الشيخ السبحاني رجل غني عن التعريف... خصوصاً و انّ نتاجه العلمي الثر و قدرته الاستقلالية الفائقة تبدو بوضوح من كتبه الكثيرة و الغزيرة بمعلوماتها.

و إنّنا إذ نسأل اللّه جلّ و علا أن يوفّق كل القرّاء الكرام للانتهال من هذا المنهل العذب لنرجوه عزّ و جلّ أن يوفقنا جميعاً لوعي أهداف رسالتنا و العمل بجد و وعي على تحقيقها بما نستطيع إنّه السميع المجيب.

الشيخ محمّد علي التسخيري الاَمين العام للمجمع العالمي لاَهل البيت - عليهم السلام -

ص: 5

مقدمة المؤلف:

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

المذاهب الفقهية تراث إسلامي ثمين

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على رسوله نبي الرحمة

و عترته الأسوة، و على من اهتدى بهداهم و اعتصم بالعروة الوثقى.

بُني الاِسلام على دعامتين: العقيدة و الشريعة.

فالعقيدة تتكفّل البحث عن اللّه سبحانه و صفاته و أفعاله. و الشريعة تبحث عن وظائف العباد أمام اللّه و أمام أنبيائه و عباده. فلكل من المجالين رجال و أبطال خدموا الاِسلام بآرائهم و أفكارهم و أقلامهم.

فالمناهج الكلامية تحاول أن تشقَّ الطريق وصولاً إلى الواقع كما أنّ المذاهب الفقهية تسعى إلى كشف الستر عن وجه الاَحكام الواقعية. و الحقّ لا يتلخّص في منهج دون منهج أو في مذهب دون آخر، إذ لازم ذلك بطلان سائر المناهج و المذاهب من رأس و إن كانت تتميّز بقلّة الخطأ و كثرته. و مع ذلك فللمصيب أجران و للمخطئ أجر واحد.

إنّ الطريق المهيع لكسح الخلاف، و تقريب السُّبل، و تداني الآراء؛ هو دراسة الآراء و المقارنة ما بينها في العقيدة و الشريعة، فعند ذاك يتجلّى الحقّ في اطار النقاش بصورة واضحة و يرجع المخطئ المنصف عن خطئه، و يُدعم الحق برجوع الآخر إليه.

إنّ المذاهب الفقهية ثمرة ناضجة لدراسة الكتاب و السنّة و تراث إسلامي وصل إلينا من المشايخ الكبار فللخلف النظر إليها بالاكبار و التقدير، فإنّها جهود رجال نذروا حياتهم في استثمار تلك الشجرة الطيبة. و لكن ذلك لا يعني عدم جواز النقاش فيها على ضوء المنطق الصحيح فانّ التقاء الفكرين أشبه بالتقاء

ص: 6

الاَسلاك الكهربائية التي يتفجّر منها النور.

ففي ضوء هذا الاَصل نستعرض في هذه الرسالة مسائل فقهية اختلف فيها مذهب فقهاء الشيعة مع سائر المذاهب الفقهية و ليس الاختلاف ناجماً عن الرغبة في الاطاحة بالحق. بل هو أمر طبيعيّ في كل علم له مسائل نظرية تستنبط من أُصول و ضوابط. فابتغاء الوفاق في جميع المسائل أمر في غير محلّه.

و قد سبقنا في هذا النمط من البحث سيّدنا الجليل العلاّمة الاَكبر السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي (13771290) المغفور له، فآثرنا مواقفه و خطواته، و مشينا على الخط الذي مشى عليه في النقاش و الجدال في كتابه المعروف ب «مسائل فقهية» و إن كانت المسائل مختلفة جوهراً لكنّها متشاكلة عرضاً و استدلالاً.

و قد اخترنا للبحث المسائل التالية و رتّبناها حسب ترتيب الكتب الفقهية:

1 مسح الرجلين أو غسلهما.

2 التثويب في أذان صلاة الفجر.

3 وضع اليد اليمنى على اليسرى في القراءة.

4 السجود على الاَرض أو ما أنبت منها.

5 الخمس في الاَرباح و المكاسب.

6 الزواج الموَقت.

7 الاشهاد على الطلاق.

8 الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد.

9 الحلف بالطلاق.

10 الطلاق في الحيض و النفاس.

11 الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث.

12 ارث المسلم من الكافر.

13 التعصيب في الارث.

14 العول.

15 التقيّة في الكتاب و السنّة.

ص: 7

و بما أنّا صدرنا في هذه المسائل عن الاَحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت بعد الاستضاءة من الكتاب و السنّة، فيطيب لنا البحث في الخاتمة حول مصادر علومهم ليكون كالأَساس لكلّ ما نقلنا عنهم. و إن كان حسب وضع الكتاب خاتمة المطاف.

و إنّي أتقدّم بكتابي هذا إلى حملة لواء التقريب بين المسلمين و دعاته في جميع أصقاع العالم الاِسلامي و بهذه الاَبيات الرائعة التي تفجّرت من روح موّارة تسعى لصالح تقريب المسلمين و لا تهدأ حتى تتحقّق تلك الأمنية بأحسن ما يمكن إن شاء اللّه تعالى.

فيم التفرّق و الكتاب المرجع *** قلباً إلى قلب يضم و يجمعُ

فيم التفرّق و النبيّ محمد *** ينهى عن الصف الشتيت و يردعُ

الوحدة البيضاء نهج نبيّنا *** فعلام نهجُ نبيّنا لا يُتْبعُ

الوحدة البيضاء صخرة عزِّنا *** فعلام صخرة عزِّنا تتصدّعُ

إنّ الخلاف طريق كلّ مضلل *** مهما يُزَين قبحه و يرقّعُ

الدين دين اللّه لا دين الهوى *** فتوحَّدوا بطريقه و تسرّعوا

يا من تُفرِّقُنا و تنقض صفَّنا *** هبطت عليك مصيبة لا ترفعُ (1)

و نحن و جميع المؤَلّفين الاِسلاميين كما يصفهم شاعر الاَهرام، محمد حسن عبد الغني المصري:

إنّا لتجمعنا العقيدة أُمّة *** و يضمّنا دين الهدى أتباعا

و يؤَلّف الاِسلام بين قلوبنا *** مهما ذهبنا في الهوى أشياعا

اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الاِسلام و أهله، و تُذِلُّ بها النفاق و أهله، و تجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، و القادة إلى سبيلك و ترزقنا بها كرامة الدنيا و الآخرة.

قم الحوزة العلمية جعفر السبحاني 16 رمضان المبارك 1413 ه

ص: 8


1- . الاَبيات للأستاذ: محمود البغدادي دام علاه.

المسألة الأولى: مسح الرجلين أو غسلهما في الوضوء

اختلف المسلمون في غسل الرجلين و مسحهما، فذهب الاَئمّة الاَربعة إلى أنّ الواجب هو الغسل وحده، و قالت الشيعة الاِمامية: إنّه المسح، و قال داود بن علي و الناصر للحق من الزيدية: يجب الجمع بينهما و هو صريح الطبري في تفسيره: و نقل عن الحسن البصري: إنّه مخيّر بينهما(1).

و ممّا يثير العجب اختلاف المسلمين في هذه المسألة، مع أنّهم رأوا وضوء رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - كلّ يوم و ليلة في موطنه و مهجره، و في حضره و سفره، و مع ذلك اختلفوا في هذه المسألة التي هي من أشدّ المسائل ابتلاءً ، و هذا يعرب عن أنّ الاجتهاد لعب في هذه المسألة دوراً عظيماً، فجعل أوضح المسائل أبهمها.

إنّ الذكر الحكيم تكفّل ببيان المسألة و ما أبقى فيها إبهاماً و اعضالاً، و قد بيّنها رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و من هنا فلا بد من الجزم بأنّ المسلمين كانوا قد اتّفقوا على فعل واحد، و إلاّ فما كان هذا الاَمر يخفى، إذن فلا محيص من القول بأنّ الحاضرين في عصر النزول فهموا من الآية معنىً واحداً: إمّا المسح أو

ص: 9


1- . الطبري: التفسير: 6/86 و مفاتيح الغيب: 11/162 و المنار: 6/228.

الغسل، و لم يتردّدوا في حكم الرجلين أبداً. و لو خفي حكم هذه المسألة بعد رحلة الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - على الاَجيال الآتية فلا غرو في أن يخفى على المسلمين حكم أكثر المسائل.

و ليس فيها شيء أوثق من كتاب اللّه فعلينا دراسة ما جاء فيه، قال سبحانه: "يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرٰافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ "(1) و قد اختلف القرّاء في قراءة: "وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ " فمنهم من قرأ بالفتح، و منهم من قرأ بالكسر. إلاّ أنّه من البعيد أن تكون كلّ من القراءتين موصولة إلى النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - فإنّ تجويزهما يضفي على الآية ابهاماً و اعضالاً، و يجعل الآية لغزاً، و القرآن كتاب الهداية و الارشاد، و تلك الغاية تطلب لنفسها الوضوح و جلاء البيان، خصوصاً فيما يتعلّق بالاَعمال و الاَحكام التي يبتلى بها عامّة المسلمين، و لا تقاس بالمعارف و العقائد التي يختصّ الامعان فيها بالاَمثل فالاَمثل.

و على كلّ تقدير فممّن حقّق مفاد الآية و بيّنها الاِمام الرازي في تفسيره، ننقل كلامه بتلخيص و سيوافيك مفصل كلامه في آخر البحث:

قال: حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله: "وَ أَرْجُلَكُمْ " و هما:

الاَوّل: قرأ ابن كثير و حمزة و أبو عمرو و عاصم في رواية أبو بكر عنه بالجرّ.

الثاني: قرأ نافع و ابن عامر و عاصم في رواية حفص عنه بالنصب.

ص: 10


1- . المائدة/ 6.

أمّا القراءة بالجرّ فهي تقتضي كون الاَرجل معطوفة على الرءوس فكما وجب المسح في الرأس، فكذلك في الاَرجل.

فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الجرّ على الجوار؟ كما في قوله: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ » و قوله: «كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مَزَمّلٍ ».

قيل: هذا باطل من وجوه:

1 إنّ الكسر على الجوار معدود من اللحن الذي قد يتحمّل لاَجل الضرورة في الشعر، و كلام اللّه يجب تنزيهه عنه.

2 إنّ الكسر على الجوار انّما يصار إليه حيث يحصل الاَمن من الالتباس كما في قوله: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ » فإنّ «الخَرِب» لا يكون نعتاً للضبّ بل للجحر، و في هذه الآية الاَمن من الالتباس غير حاصل.

3 إنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف و أمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب.

و أمّا القراءة بالنصب فهي أيضاً توجب المسح، و ذلك لاَنّ "بِرُؤُسِكُمْ " في قوله: "وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ " في محل النصب(1) بامسحوا لاَنّه المفعول به، و لكنّها مجرورة لفظاً بالباء، فإذا عطفت الاَرجل على الرءوس جاز في الاَرجل النصب عطفاً على محل الرءوس، و جاز الجر عطفاً على الظاهر.

ص: 11


1- . يقال: ليس هذا بعالم و لا عاملا. قال الشاعر: معاوي انّنا بشر فاسجح فلسنا بالجبال و لا الحديدا لاحظ: المغني لابن هشام: الباب الرابع.

و نزيد بياناً أنّه على قراءة النصب يتعيّن العطف على محل برءوسكم، و لا يجوز العطف على ظاهر "أَيْدِيَكُمْ " لاستلزامه الفصل بين المعطوف و المعطوف عليه بجملة أجنبية و هو غير جائز في المفرد، فضلاً عن الجملة.

هذا هو الذي يعرفه المتدبّر في الذكر الحكيم، و لا يسوغ لمسلم أن يعدل عن القرآن إلى غيره، فإذا كان هو المهيمن على جميع الكتب السماوية، فأولى أن يكون مهيمناً على ما في أيدي الناس من الحقّ و الباطل، و المأثورات التي فيها الحديث ذو شجون. مع كونها متضاربة في المقام، فلو ورد فيها الاَمر بالغسل، فقد جاء فيها الاَمر بالمسح، رواه الطبري عن الصحابة و التابعين نشير إليه على وجه الاجمال.

1 ابن عباس، قال: الوضوء غسلتان و مسحتان.

2 كان أنس إذا مسح قدميه بلّهما، و لمّا خطب الحجّاج و قال: ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه في قدميه فاغسلوا بطونهما و ظهورهما و عراقيبهما، قال أنس: صدق اللّه و كذب الحجّاج، قال اللّه: "وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ " و كان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.

3 عكرمة، قال: ليس على الرجلين غسل و إنّما نزل فيهما المسح.

4 الشعبي قال: نزل جبرئيل بالمسح و قال: أ لا ترى انّ التيمّم أن يُمسَحَ ما كان غسلاً و يُلْغى ما كان مسحاً.

5 عامر: أُمر أن يمسح في التيمّم ما أُمر أن يغسل بالوضوء، و أُبطل ما أُمر أن يمسح في الوضوء: الرأس و الرجلان. و قيل له: إنّ أُناساً يقولون: إنّ جبرئيل نزل

ص: 12

بغسل الرجلين فقال: نزل جبرئيل بالمسح.

6 قتادة: في تفسير الآية: افترض اللّه غسلتين و مسحتين.

7 الاَعمش: قرأ "و أرجلكم" مخفوضة اللام.

8 علقمة: قرأ "أرجلكم" مخفوضة اللام.

9 الضحاك: قرأ "و أرجلكم" بالكسر.

10 مجاهد: مثل ما تقدّم(1).

و هؤلاء من أعلام التابعين و فيهم الصحابيان: ابن عباس و أنس و قد أصفقوا على المسح و قراءة الجر الصريحة في تقديم المسح على الغسل، و جمهور أهل السنّة يحتجّون بأقوالهم في مجالات مختلفة فلما ذا أُعرض عنهم في هذا المجال المهم و الحساس في عبادة المسلم.

إنّ القول بالمسح هو المنصوص عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، و هم يسندون المسح إلى النبيّ الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم -، و يحكون وضوءه به، قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: «أ لا أحكي لكم وضوء رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -؟ ثمّ أخذ كفّاً من الماء فصبّها على وجهه... إلى أن قال: ثمّ مسح رأسه و قدميه.

و في رواية أُخرى: ثمّ مسح ببقيّة ما بقي في يديه رأسه و رجليه و لم يعدهما في الاناء(2).

و في ضوء هذه الروايات و المأثورات اتّفقت الشيعة الاِمامية على أنّ

ص: 13


1- . الطبري: التفسير: 836/82.
2- . الحرّ العاملي: الوسائل 1، الباب 15 من أبواب الوضوء، الحديث 9 و 10.

الوضوء غسلتان و مسحتان، و إلى ذلك يشير السيّد بحر العلوم في منظومته الموسومة بالدرة النجفيّة:

إنّ الوضوء غسلتان عندنا *** و مسحتان و الكتاب معنا

فالغسل للوجه و لليدين *** و المسح للرأس و للرجلين

و بعد وضوح دلالة الآية، و اجماع أئمّة أهل البيت على المسح، و استناداً إلى جملة الاَدلّة الواضحة التي ذكرنا بعضاً منها، فانّ القول بما يخالفها يبدو ضعيفاً و لا يصمد أمام النقاش، إلاّ أنّا سنحاول أن نورد الوجوه التي استدل بها القائلون بالغسل ليتبيّن للقارئ الكريم مدى ضعف حجّيتها:

1 إنّ الاَخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، و الغسل مشتمل على المسح و لا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه، و يكون غسل الاَرجل يقوم مقام مسحها(1).

يلاحظ عليه: أنّ أخبار الغسل معارضة بأخبار المسح، و ليس شيء أوثق من كتاب اللّه، فلو دلّ على لزوم المسح لا يبقى مجال لترجيحه على روايات المسح. و القرآن هو المهيمن على الكتب و المأثورات، و المعارض منها للكتاب لا يقام له وزن.

و أعجب من ذلك قوله: إنّ الغسل مشتمل على المسح، مع أنّهما حقيقتان مختلفتان، فالغسل إمرار الماء على المغسول، و المسح إمرار اليد على الممسوح(2)

ص: 14


1- . مفاتيح الغيب: 11/162.
2- . قال سبحانه حاكياً عن سليمان: (رُدّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ و الاَعْناق) ص/ 33 أي مسح بيده على سوق الصافنات الجياد و أعناقها.

و هما حقيقتان مختلفتان لغة و عرفاً و شرعاً، و لو حاول الاحتياط لوجب الجمع بين المسح و الغسل، لا الاكتفاء بالغسل.

2 ما روي عن علي عليه السّلام من أنّه كان يقضي بين الناس فقال: «"وَ أَرْجُلَكُمْ " هذا من المقدّم و المؤخّر في الكلام فكأنّه سبحانه قال: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرٰافِقِ و اغسلوا أرجلكم وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ )».

لكنّه يرد: بأنّ أئمّة أهل البيت كالباقر و الصادق - عليهما السلام - أدرى بما في البيت، و هما اتّفقا على المسح، و هل يمكن الاتّفاق على المسح مع اعتقاد كبيرهم بالغسل ؟! إنّ المؤَكد هو أنّ هذه الرواية موضوعة عن لسان الاِمام ليثيروا الشك بين أتباعه و شيعته. و لا نعلّق على احتمال التقديم و التأخير شيئاً، سوى أنّه يجعل معنى الآية شيئاً مبهماً في المورد الذي يطلب فيه الوضوح، إذ هي المرجع للقروي و البدوي، و للحاضر عصر النزول، و الغائب عنه، فيجب أن يكون على نسق ينتقل منه إلى المراد، ثمّ إنّه أيّ ضرورة اقتضت هذا التقديم و التأخير، مع إنّه كان من الممكن ذكر الاَرجل بعد الاَيدي من دون تأخير؟ و لو كان الدافع إلى التأخير هو بيان الترتيب، و إنّ غسل الاَرجل بعد مسح الرأس، فكان من الممكن أن يُذكر فعله و يقال: (فامسحوا برءوسكم و اغسلوا أرجلكم إلى الكعبين). كلّ ذلك يعرب عن أنّ هذه محاولات فاشلة لتصحيح الاجتهاد تجاه النص و ما عليه أئمّة أهل البيت من الاتّفاق على المسح.

3 ما روي عن ابن عمر في الصحيحين قال: تخلّف عنّا رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - في سفره، فأدركنا و قد أرهقنا العصر، و جعلنا نتوضّأ و نمسح

ص: 15

على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: «ويل للاَعقاب من النار» مرتين أو ثلاث(1).

و يرد هذا الاستدلال: أنّ هذه الرواية على تعيّن المسح أدلّ من دلالتها على غسل الرجلين، فإنّها صريحة في أنّ الصحابة يمسحون، و هذا دليل على أنّ المعروف عندهم هو المسح، و ما ذكره البخاري من أنّ الانكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل، اجتهاد منه، و هو حجّة عليه لا على غيره، فكيف يمكن أن يخفى على ابن عمر حكم الرجلين حتى يمسح رجليه عدّة سنين إلى أن ينكر عليه النبيّ المسح ؟!

على أنّ للرواية معنى آخر تؤيّده بعض المأثورات، فقد روي: أنّ قوماً من أجلاف العرب، كانوا يبولون و هم قيام، فيتشرشر البول على أعقابهم و أرجلهم فلا يغسلونها و يدخلون المسجد للصلاة، و كان ذلك سبباً لذلك الوعيد(2) و يؤَيّد ذلك ما يوصف به بعض الاَعراب بقولهم: بوّال على عقبيه، و على فرض كون المراد ما ذكره البخاري، فلا تقاوم الرواية نص الكتاب.

4 روى ابن ماجة القزويني عن أبي إسحاق عن أبي حيّة، قال: رأيت عليّاً توضّأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثمّ قال: «أردت أن أُريكم طهور نبيّكم»(3).

يلاحظ عليه: أنّ أبا حيّة مجهول لا يعرف، و نقله عنه أبو إسحاق الذي شاخ و نسى و اختلط و ترك الناس روايته(4) أضف إليه أنّه يعارض ما رواه عنه أهل

ص: 16


1- . صحيح البخاري ج 1 كتاب العلم ص 18 باب من رفع صوته، الحديث 1.
2- . مجمع البيان: 2/167.
3- . سنن ابن ماجة: 1/170 باب ما جاء في غسل القدمين الحديث الاَوّل.
4- . لاحظ التعليقة لسنن ابن ماجة 170 و ميزان الاعتدال للذهبي: 4/519، برقم 10138 و ص 489 باب «أبو إسحاق».

بيته، و أئمّة أهل بيته، خصوصاً من لازمه في حياته و هو ابن عباس كما مرّ.

5 قال صاحب المنار: و أقوى الحجج اللفظية على الاِمامية جعل الكعبين غاية طهارة الرجلين، و هذا لا يحصل إلاّ باستيعابهما بالماء، لاَنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل.

و هذا القول يلاحظ عليه: أنّا نفترض أنّ المراد من الكعبين هو ما ذكره، لكنّا نسأله: لما ذا لا تحصل تلك الغاية إلاّ باستيعابها بالماء؟ مع أنّه يمكن تحصيل تلك الغاية بمسحهما بالنداوة المتبقية في اليد، و الاختبار سهل، و نحن لا نرى في العمل اعضالاً و عسراً.

6 و قال: إنّ الاِمامية يمسحون ظاهر القدم إلى معقد الشراك عند المفصل بين الساق و القدم، و يقولون هو الكعب، ففي الرجل كعب واحد على رأيهم، فلو صحّ هذا لقال: إلى الكعاب كما قال في اليدين: "إِلَى اَلْمَرٰافِقِ "(1).

أقول: إنّ المشهور بين الاِمامية هو تفسير الكعب بقبّة القدم التي هي معقد الشراك، و هناك من يذهب إلى أنّ المراد هو المفصل بين الساق و القدم، و ذهب قليل منهم إلى أنّ المراد هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل. و على كلّ تقدير، يصح اطلاق الكعبين، و إن كان حدّ المسح هو معقد الشراك أو المفصل، فيكون المعنى: (فامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين منكم) إذ لا شك أنّ كلّ مكلّف يملك كعبين في رجليه.

ص: 17


1- . المنار: 6/234.

أضف إلى ذلك: أنّه لو صحّ التفسير بما ذكره فإنّه يجب أن يوسع الممسوح و يحدّد بالعظمين الناتئين لا أن يبدّل المسح بالغسل، و كأنّه تخيّل أنّ المسح بالنداوة المتبقّية في اليد لا يتحقّق بها، و أنّه تجفّ اليد قبل الوصول إليهما.

و لعمري أنّ هذه اجتهادات واهية، و تخرّصات لا قيمة لها في مقابل الذكر الحكيم.

7 آخر ما عند صاحب المنار في توجيه غسل الاَرجل هو التمسّك بالمصالح، حيث قال: لا يعقل لاِيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبلّلة بالماء حكمة، بل هو خلاف حكمة الوضوء، لاَنّ طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه غبار أو وسخ يزيده وساخة، و ينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره استحسان لا يُعرَّج عليه مع وجود النص، فلا شك أنّ الاَحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية و لا يجب علينا أن نقف عليها، فأي مصلحة في المسح على الرأس و لو بمقدار اصبع أو اصبعين حتى قال الشافعي: إذا مسح الرأس باصبع واحدة أو بعض اصبع أو باطن كفه، أو أمر مَن يمسح له أجزأه ذلك ؟!

و هناك كلمة قيّمة للاِمام شرف الدين الموسوي نأتي بنصها، قال رحمه اللّه: نحن نؤمن بأنّ الشارع المقدّس لاحظ عباده في كل ما كلّفهم به من أحكامه الشرعية، فلم يأمرهم إلاّ بما فيه مصلحتهم، و لم ينههم إلاّ عمّا فيه مفسدة لهم، لكنّه مع ذلك لم يجعل شيئاً من مدارك تلك الاَحكام منوطاً من حيث المصالح و المفاسد بآراء العباد، بل تعبّدهم بأدلّة قويّة عيّنها لهم، فلم يجعل لهم مندوحة

ص: 18

عنها إلى ما سواها. و أوّل تلك الاَدلّة الحكيمة كتاب اللّه عزّ و جلّ ، و قد حكم بمسح الرءوس و الاَرجل في الوضوء، فلا مندوحة عن البخوع لحكمه، أمّا نقاء الاَرجل من الدنس فلا بدّ من احرازه قبل المسح عليها عملاً بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه(1) و لعلّ غسل رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - رجليه المدعى في أخبار الغسل إنّما كان من هذا الباب و لعلّه كان من باب التبرّد، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء. و اللّه أعلم(2).

***

ثمّ إنّ هناك لفيفاً من أهل السنّة اعترفوا بما ذكرنا من أنّ المستفاد من الكتاب هو المسح لا الغسل، و يطيب لي نقل نصوصهم:

1 قال ابن حزم: إنّ القرآن نزل بالمسح، قال اللّه تعالى: "وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ " و سواء قرى بخفض اللام أو بفتحها هي على كل حال عطف على الرءوس: إمّا على اللفظ و إمّا على الموضع، لا يجوز غير ذلك، لاَنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف و المعطوف عليه بقضية مبتدأة. و هكذا جاء عن ابن عباس: نزل القرآن بالمسح يعني في الرجلين في الوضوء.

و قد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف، منهم علي بن أبي طالب

ص: 19


1- . و لذا ترى حفاة الشيعة و العمال منهم كأهل الحرث و أمثالهم و سائر من لا يبالون بطهارة أرجلهم في غير أوقات العبادة المشروطة بالطهارة إذا أرادوا الوضوء غسلوا أرجلهم ثمّ توضّئوا فمسحوا عليها نقيّة جافّة.
2- . مسائل فقهية: 82.

و ابن عباس و الحسن و عكرمة و الشعبي و جماعة غيرهم، و هو قول الطبري، و رويت في ذلك آثار.

منها أثر من طريق همام، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة: حدثنا علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه، عن عمه هو رفاعة بن رافع أنّه سمع رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يقول: «إنّها لا تجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره اللّه عزّ و جلّ ثمّ يغسل وجهه و يديه إلى المرفقين و يمسح رأسه و رجليه إلى الكعبين».

و عن إسحاق بن راهويه: حدثنا عيسى بن يونس، عن الاَعمش، عن عبد خير، عن علي: «كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح حتى رأيت رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يمسح ظاهرهما».

ثمّ إنّه ذكر خبر «ويل للاَعقاب من النار» و استظهر منها أنّه يستفاد من الخبر شيء زائد على ما في الآية، و يكون ناسخاً لما فيها، و الاَخذ بالزائد واجب.

و لكنّك عرفت أنّ هذا الخبر على فرض صحّته لا يهدف إلى ما يرتئيه من وجوب الغسل، و قد عرفت معنى الرواية.

ثمّ قال: و قال بعضهم: إنّه سبحانه و تعالى قال في الرجلين: "إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ " كما قال في الاَيدي: "إِلَى اَلْمَرٰافِقِ "، دلّ على أنّ حكم الرجلين حكم الذراعين.

فأجاب عنه بقوله: ليس ذكر المرفقين و الكعبين دليلاً على وجوب غسل ذلك، لاَنّه تعالى قد ذكر الوجه و لم يذكر في مبلغه حدّاً، و كان حكمه الغسل، لكن لما أمر اللّه تعالى في الذراعين بالغسل كان حكمهما الغسل، و إذا لم يذكر ذلك في

ص: 20

الرجلين وجب أن لا يكون حكمهما ما لم يذكر فيها إلاّ أن يوجبه نصّ آخر.

قال علي: و الحكم للنصوص لا للدعاوي و الظنون. و باللّه تعالى التوفيق(1).

2 قال الاِمام الرازي: اختلف الناس في مسح الرجلين و في غسلهما، فنقل القفّال في تفسيره عن ابن عباس و أنس بن مالك و عكرمة و الشعبي و أبي جعفر محمد بن علي الباقر: أنّ الواجب فيهما المسح، و هو مذهب الاِمامية من الشيعة. و قال جمهور الفقهاء و المفسرين: فرضهما الغسل، و قال داود الاَصفهاني: يجب الجمع بينهما و هو قول الناصر للحق من أئمّة الزيدية. و قال الحسن البصري و محمد بن جرير الطبري: المكلف مخيّر بين المسح و الغسل.

حجّة من قال بوجوب المسح مبنى على القراءتين المشهورتين في قوله "وَ أَرْجُلَكُمْ " فقرأ ابن كثير و حمزة و أبو عمرو و عاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر، و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم في رواية حفص عنه بالنصب، فنقول: أمّا القراءة بالجر فهي تقتضي كون الاَرجل معطوفة على الرءوس فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الاَرجل.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذا كسر على الجوار كما في قوله: جحر ضبّ خرب. و قوله: كبير أُناس في بجاد مزمل.

قلنا: هذا باطل من وجوه: الاَوّل: أنّ الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لاَجل الضرورة في الشعر، و كلام اللّه يجب تنزيهه عنه.

و ثانيها: أنّ الكسر إنّما يصار إليه حيث يحصل الاَمن من الالتباس، كما في

ص: 21


1- . ابن حزم: المحلّى: 2/56 برقم 200.

قوله: جحر ضب خرب، فإنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر، و في هذه الآية الاَمن من الالتباس غير حاصل.

و ثالثها: أنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف، و أمّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، و أمّا القراءة بالنصب فقالوا أيضاً: إنّها توجب المسح. و ذلك لاَنّ قوله: "وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ " فرءوسكم في محل النصب و لكنّها مجرورة بالباء، فإذا عطفت الاَرجل على الرءوس جاز في الاَرجل النصب عطفاً على محل الرءوس، و الجر عطفاً على الظاهر، و هذا مذهب مشهور للنحاة.

إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله: "وَ أَرْجُلَكُمْ " هو قوله: "وَ اِمْسَحُوا " و يجوز أن يكون هو قوله: "فَاغْسِلُوا " لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الاَقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله "وَ أَرْجُلَكُمْ " هو قوله "وَ اِمْسَحُوا " فثبت أنّ قراءة "وَ أَرْجُلَكُمْ " بنصب اللام توجب المسح أيضاً، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح. ثمّ قالوا: و لا يجوز دفع ذلك بالاَخبار لاَنّها بأسرها من باب الآحاد، و نسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز.

و اعلم أنّه لا يمكن الجواب عن هذا إلاّ من وجهين: أنّ الاَخبار الكثيرة وردت بايجاب الغسل، و الغسل مشتمل على المسح و لا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه(1) و على هذا الوجه يجب القطع بأنّ غسل الرجل يقوم مقام مسحها، و الثاني: أنّ فرض الرجلين محدود إلى الكعبين، و التحديد إنّما جاء في الغسل لا في المسح.

ص: 22


1- . قد عرفت الجواب عنه فيما سبق.

و القوم أجابوا عنه بوجهين: الاَوّل: أنّ الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم، و على هذا التقدير فيجب المسح إلى ظهر القدمين.

و الثاني: أنّهم سلّموا أنّ الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، إلاّ أنّهم التزموا أنّه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين، و حينئذ لا يبقى هذا السؤال(1).

3 إنّ الزمخشري لمّا سلّم بأنّ قراءة الجر تجرّه إلى القول بوجوب المسح أراد التخلّص منه بقوله:

فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجر و دخولها في حكم المسح ؟

قلت: الاَرجل من بين الاَعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصبّ الماء عليها، فكانت مظنّة للاِسراف المذموم المنهية عنه، فعطفت على الثالث «الرءوس» الممسوح لا لتمسح و لكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها(2).

يلاحظ عليه: أنّ الوجوه و الاَيدي مظنّة للاِسراف المذموم مثل الاَرجل، فلما ذا نبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء في خصوص الاَرجل دون غيرهما مع كون الجميع مظنّة للاِسراف في صبّ الماء.

و لا يخفى أنّه تفلسف في تفسير الآية بشيء تافه لا يرضى به الذوق العربي. فإنّه لو صحّ ما ذكره من الفلسفة فإنّما يصحّ فيما إذا أُمن من الاِلتباس لا في مثل المقام الذي لا يؤمن منه، و يحمل ظاهر اللفظ على وجوب المسح من دون التفات لما ذكره من النكتة البديعة!.

ص: 23


1- . الاِمام الرازي: مفاتيح الغيب: 11/161.
2- . الزمخشري: الكشاف: 1/449.

ص: 24

المسألة الثانية: التثويب في أذان صلاة الفجر

اشارة

المسألة الثانية: التثويب(1)في أذان صلاة الفجر

اتفقت الشيعة الاِمامية تبعاً للنصوص المتضافرة من أئمة أهل البيت على أنّ الاَذان و مثله الاِقامة من صميم الدين و من شعائره، أنزله اللّه سبحانه على قلب سيّد المرسلين و أنّ اللّه الذي فرض الصلاة، هو الذي فرض الاَذان، و أنّ منشىَ الجميع واحد، و لم يشارك في تشريعه أيّ ابن أُنثى، لا في اليقظة و لا في المنام. ففي جميع فصوله من التكبير إلى التهليل مسحة إلهية، و عذوبة و إخلاص، و سموّ المعنى و فخامته، تثير شعور الاِنسان إلى مفاهيم أرقى، و أعلى و أنبل ممّا في عقول الناس. و لو حاولت يد التشريع الانساني أن تضيف فصلاً إلى فصوله أو تقحم جملة في جُملة لاَصبح المضاف كالحصى بين الدرر و الدراري.

و الفصل الاَول من فصوله يشهد على أنّه سبحانه أكبر من كل شيء و بالتالي: أقدر و أعظم و أنّ غيره من الموجودات و إن بلغ من العظمة ما بلغ، ضئيل و صغير عنده خاضع لمشيئته.

و الفصل الثاني يشهد على أنّه سبحانه هو الاِله في صفحة الوجود و أنّ ما سواه سراب ما أنزل اللّه به من سلطان.

ص: 25


1- . سيوافيك معنى التثويب في محلِّه فانتظر.

و ثالث الفصول، يشهد على أنّ محمّداً - صلى الله عليه و آله و سلم - رسوله، الذي بعثه لاِبلاغ رسالاته و إنجاز دعوته.

ففي نهاية ذلك الفصل يتبدّل صراحه و اعلانه من الشهادة، إلى الدعوة إلى الصلاة التي فرضها و التي بها يتّصل الانسان بعالم الغيب، و فيها يمتزج خشوعه، بعظمة الخالق، ثمّ الدعوة إلى الفلاح و النجاح، و خير العمل(1) التي تنطوي عليها الصلاة.

و في نهاية الدعوة إلى الفلاح و خير العمل، يعود و يذكر الحقيقة الاَبدية التي صرّح بها في أوليات فصوله و يقول: اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه، لا إله إلاّ اللّه.

هذه هي حقيقة الاَذان و صورته و الجميع سبيكة واحدة أفرغتها يد التشريع السماوي في قالب جملٍ ، تحكي عن حقائق أبدية، تصدّ الانسان عن الاِنكباب في شواغل الدنيا و ملاذّها.

هذا ما يحسّه كل إنسان واع منصت للاَذان، و متدبر في فصوله و معانيه، و لكن هنا حقيقة مرّة لا يمكن لي و لا لغيري إخفاؤها بشرط التجرّد عن كل رأي مسبق، أو تعصّب لمذهب و هو أنّ المؤَذِّن إذا انحدر من الدعوة إلى الصلاة، و الفلاح و خير العمل في أذان صلاة الفجر إلى الاِعلان بأنّ الصلاة خير من النوم، فكأنّما ينحدر من قمة البلاغة إلى كلامٍ عارٍ عن الرفعة و البداعة، يُعلِن شيئاً يعرفه الصبيان و من دونهم، يصيح بجدّ و حماسٍ على شيء لا يجهله إلاّ من يجهل البديهيات، فإنّ صراخه و اعلانه بأنّها خير من النوم، أشبه بصراخ من يُعلن في محتشد كبير بأنّ الاثنين نصف الاَربعة.

ص: 26


1- . سيأتي أنّه من فصول الاَذان أُسقط منها لغاية خاصة.

هذا هو الذي أحسسته عند ما تشرفت بزيارة بيت اللّه الحرام عام 1375 و أنا أستمع للاَذان في الحرمين الشريفين، و لم تزل تجول في ذهني و مخيلتي أنّ هذا الفصل ليس من كلام الوحي و انّما أُقحم بسبب، بين فصول الاَذان، فهذا ما دعاني إلى البحث و التنقيب في هذا الموضوع فلم أر بدّاً من البحث عن أمرين:

1 كيفية تشريع الاَذان و دراسة تاريخه.

2 ما هو السبب لدخول هذا الفصل بين فصول الاَذان.

المقام الأوّل: كيفية تشريع الأذان و دراسة تاريخه:

اشارة

اتفقت أئمّة أهل البيت على أنّ اللّه سبحانه هو المشرّع للاَذان، و انّه هبط به جبرئيل و علّمه رسول اللّه و هو علّمه بلالاً، و لم يشارك في تشريعه أحد. و هذا عندهم من الأمور المسلّمة، نذكر بعض ما أثر عنهم:

1 روى ثقة الاِسلام الكليني بسند صحيح عن زرارة و الفضيل، عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - قال: لمّا أُسري برسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - إلى السماء فبلغ البيت المعمور، و حضرت الصلاة، فأذّن جبرئيل - عليه السلام - و أقام فتقدم رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و صفَّت الملائكة و النبيون خلف محمّد - صلى الله عليه و آله و سلم -.

2 روى أيضاً بسند صحيح عن الاِمام الصادق - عليه السلام - قال: لمّا هبط جبرئيل بالاَذان على رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - كان رأسه في حجر علي - عليه السلام - فأذّن جبرئيل و أقام(1) فلمّا انتبه رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - قال: علي سمعت ؟ قال: نعم(1) قال:

ص: 27


1- . لا منافاة بين الروايتين و كم نزل أمين الوحي بآية واحدة مرّتين، و الغاية من التأذين في الاَوّل غيرها في الثاني كما هو واضح لمن تدبّر. ( (1) . كان علي - عليه السلام - محدَّثاً و هو يسمع كلام الملك. لاحظ صحيح البخاري و شرحه: إرشاد الساري: 6/99 و غيره باب رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء... روى عن النبيّ أنّه قال: لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل...

حفظتَ؟ قال: نعم. قال: ادع لي بلالاً، فدعا علي - عليه السلام - بلالاً فعلّمه.

3 روى أيضاً بسند صحيح أو حسن عن عمر بن أذينة عن الصادق عليه السلام قال: تروي هؤلاء؟ فقلت: جعلت فداك في ما ذا؟ فقال: في أذانهم... فقلت: إنّهم يقولون إنّ أُبيّ بن كعب رآه في النوم. فقال: كذبوا فانّ دين اللّه أعزّ من أن يرى في النوم. قال: فقال له سدير الصيرفي: جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكراً. فقال أبو عبد اللّه (الصادق): إنّ اللّه تعالى لمّا عرج بنبيه «صلى الله عليه و آله و سلم» إلى سماواته السبع إلى آخره(1).

4 و روى محمد بن مكي الشهيد في الذكرى عن فقيه الشيعة في أوائل القرن الرابع، أعني ابن أبي عقيل العماني أنّه روى عن الاِمام الصادق: أنّه لعن قوماً زعموا أنّ النبيّ أخذ الاَذان من عبد اللّه بن زيد(2) فقال: ينزل الوحي على نبيكم فتزعمون أنّه أخذ الاَذان من عبد اللّه بن زيد(3).

و ليست الشيعة متفردة في هذا النقل عن أئمة أهل البيت، فقد روى الحاكم و غيره نفس النقل عنهم و إليك بعض ما أثر في ذلك المجال عن طريق أهل السنّة.

ص: 28


1- . الكليني: الكافي: 3/302 باب بدء الاَذان الحديث 21 و باب النوادر ص 482 الحديث 1. و سيأتي أنّه ادّعى رؤية الاَذان في النوم ما يقرب من أربعة عشر رجلاً.
2- . سيوافيك نقله عن السنن.
3- . وسائل الشيعة: الجزء 4/612، الباب الاَوّل من أبواب الاَذان و الاقامة، الحديث 3.

5 روى الحاكم عن سفيان بن الليل قال: لمّا كان من الحسن بن علي ما كان، قدمت عليه المدينة قال: فقد ذكروا عنده الاَذان فقال بعضنا: إنّما كان بدء الاَذان برؤيا عبد اللّه بن زيد، فقال له الحسن بن علي: إنّ شأن الاَذان أعظم من ذلك، أذَّن جبرئيل في السماء مثنى، و علّمه رسول اللّه و أقام مرة مرة(1) فعلّمه رسول اللّه(2).

6 روى المتقي الهندي عن هارون بن سعد عن الشهيد زيد بن الاِمام علي ابن الحسين عن آبائه عن علي: أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - عُلِّمَ الاَذان ليلة أُسري به و فرضت عليه الصلاة(3).

7 روى الحلبي عن أبي العلاء، قال: قلت لمحمد بن الحنفية: إنّا لنتحدّث أنّ بدء الاَذان كان من رؤيا رآها رجل من الاَنصار في منامه، قال: ففزع لذلك محمد بن الحنفية فزعاً شديداً و قال: عمدتم إلى ما هو الاَصل في شرائع الاِسلام، و معالم دينكم، فزعمتم أنّه كان من رؤيا رآها رجل من الاَنصار في منامه، يحتمل الصدق و الكذب و قد تكون أضغاث أحلام، قال: فقلت له: هذا الحديث قد استفاض في الناس. قال: هذا و اللّه الباطل...(4).

8 روى المتقي الهندي عن مسند رافع بن خديج: لمّا أُسري برسول اللّه إلى السماء أُوحي إليه بالاَذان فنزل به فعلّمه جبرئيل. (الطبراني في الاَوسط عن ابن عمر)(5).

ص: 29


1- . المروي عنهم - عليهم السلام - أنّ الاِقامة مثنى مثنى إلاّ الفصل الاَخير و هو مرة.
2- . الحاكم: المستدرك: 3/171، كتاب معرفة الصحابة.
3- . المتقي الهندي: كنز العمال: 6/277 برقم 397.
4- . برهان المدني الحلبي: السيرة: 2/297.
5- . المتقي الهندي: 8/329 برقم 23138، فصل في الاَذان.

9 و يظهر ممّا رواه عبد الرزاق عن ابن جريج: قال عطاء: إنّ الاَذان كان بوحي من اللّه سبحانه(1).

10 قال الحلبي: و وردت أحاديث تدل على أنّ الاَذان شرّع بمكة قبل الهجرة، فمن تلك الاَحاديث ما في الطبراني عن ابن عمر... و نقل الرواية الثامنة(2).

هذا هو تاريخ الاَذان و طريق تشريعه أخذته الشيعة من عين صافية من أُناسٍ هم بطانة سنّة الرسول يروي صادق عن صادق حتى ينتهي إلى الرسول.

و أمّا غيرهم فقد رووا في تاريخ تشريع الاَذان أُموراً لا تصح نسبتها إلى الرسول الاَعظم، يروون أنّ الرسول كان مهتمّاً بأمر الصلاة و لكن كان متحيراً في انّه كيف يجمع الناس إلى الصلاة، مع بُعدِ الدار و تفرّق المهاجرين و الاَنصار في أزِقَّة المدينة، فاستشار أصحابه في حلّ العقدة فأشاروا إليه بعدة أُمور:

1 أن يستعين بنصب الراية فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه.

2 أشاروا إليه باستعمال القُبع أي بوق اليهود، فكرهه النبي.

3 أن يستعين بالناقوس كما يستعين به النصارى، كرهه أوّلاً ثمّ أمر به فعمل من خشب ليضرب به للناس حتى يجتمعوا للصلاة.

كان النبي الاَكرم على هذه الحالة إذ جاء عبد اللّه بن زيد و أخبر رسول اللّه بأنّه كان بين النوم و اليقظة إذ أتاه آت فأراه الاَذان، و كان عمر بن الخطاب قد رآه

ص: 30


1- . عبد الرزاق: همام الصنعاني (211126): المصنف: 1/456 برقم 1775.
2- . الحلبي: السيرة: 2/296 باب بدء الاَذان و مشروعيته.

قبل ذلك بعشرين يوماً فكتمه ثمّ أخبر به النبي فقال: ما منعك أن تخبرني ؟ فقال: سبقني عبد اللّه بن زيد فاستحييت، فقال رسول اللّه: يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد اللّه بن زيد فعلّمه، فتعلّم بلال الاَذان و أذّن.

هذا مجمل ما يرويه المحدثون حول تاريخ تشريع الاَذان، فتجب علينا دراسة أسناده و متونه، و إليك البيان.

روايات حول كيفية تشريع الأذان:

[ما ورد في الصحاح]
1. روى أبو داود (202-275)

قال: حدّثنا عباد بن موسى الختلي، و زياد بن أيوب، و حديث عباد أتم قالا: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، قال زياد: أخبرنا أبو بشر، عن أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من الاَنصار، قال: اهتمّ النبيّ «صلى الله عليه و آله و سلم» للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القُبْع يعني الشبور قال زياد: شبور اليهود، فلم يُعجبه ذلك، و قال: «هو من أمر اليهود» قال: فذكر له الناقوس فقال: «هو من أمر النصارى».

فانصرف عبد اللّه بن زيد (بن عبد ربّه) و هو مهتم لهمِّ رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم»، فأُري الاَذان في منامه، قال: فغدا على رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» فأخبره فقال (له): يا رسول اللّه، إنّي لبين نائم و يقظان، إذ أتاني آت فأراني الاَذان، قال: و كان عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً(1) قال: ثمّ أخبر النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - فقال

ص: 31


1- . أ فيصح في منطق العقل أن يكتم الاِنسان تلك الرؤيا التي فيها إراحة للنبيّ و أصحابه عشرين يوماً، ثمّ يعلّل ذلك بعد سماعها من ابن زيد بأنه استحيى...

له: «ما منعك أن تخبرني»؟ فقال: سبقني عبد اللّه بن زيد فاستحييت، فقال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: «يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد اللّه بن زيد فافعله» قال: فأذّن بلال، قال أبو بشر: فأخبرني أبو عمير أنّ الاَنصار تزعم أنّ عبد اللّه بن زيد لو لا أنّه كان يومئذ مريضاً، لجعله رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» مؤَذناً.

2. حدثنا محمد بن منصور الطوسي، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي،

عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن محمد بن عبد اللّه بن زيد بن عبد ربّه، قال: حدثني أبي: عبد اللّه بن زيد، قال: لمّا أمر رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي، و أنا نائم، رجل يحمل ناقوساً في يده فقلت: يا عبد اللّه، أ تبيع الناقوس ؟ قال: و ما تصنع به ؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة قال: أ فلا أدلّك على ما هو خير من ذلك ؟ فقلت (له): بلى، قال: فقال تقول:

اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أنّ محمداً رسول اللّه، أشهد أنّ محمداً رسول اللّه، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه.

قال: ثمّ استأخر عني غير بعيد ثمّ قال: و تقول إذا أقمت الصلاة:

اللّه أكبر، اللّه أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أنّ محمداً رسول اللّه، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه.

فلمّا أصبحت أتيت رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - فأخبرته بما رأيت فقال: «إنّها لرؤيا حق

ص: 32

إن شاء اللّه، فقم مع بلال فالق عليه ما رأيت فليؤَذّن به، فانّه أندى صوتاً منك». فقمت مع بلال، فجعلت أُلقيه عليه و يؤَذِّن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب و هو في بيته فخرج يجر رداءه و يقول: و الذي بعثك بالحق يا رسول اللّه لقد رأيت مثل ما رأى، فقال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: فللّه الحمد»(1).

و رواه ابن ماجة (275207) بالسندين التاليين:

3. حدثنا أبو عبيد: محمد بن ميمون المدني،

حدثنا محمد بن سلمة الحرّاني، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد اللّه بن زيد عن أبيه، قال: كان رسول اللّه قد همَّ بالبوق، و أمر بالناقوس فنُحِتَ ، فأُري عبد اللّه بن زيد في المنام... إلخ.

4. حدثنا: محمد بن خالد بن عبد اللّه الواسطي:

حدثنا أبي، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أنّ النبي استشار الناس لما يهمّهم إلى الصلاة فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود، ثمّ ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى، فأُري النداء تلك الليلة رجل من الاَنصار يقال عبد اللّه بن زيد و عمر بن الخطاب...

قال الزهري: و زاد بلال في نداء صلاة الغداة: الصلاة خير من النوم، فأقرّها رسول اللّه...(2).

و رواه الترمذي بالسند التالي:

5. حدثنا سعد بن يحيى بن سعيد الاَموي،

حدثنا أبي، حدثنا محمد بن

ص: 33


1- . أبو داود: السنن: 1351/134 برقم 499498 تحقيق محمد محيي الدين.
2- . ابن ماجة: السنن: 2331/232 باب بدء الاَذان، برقم 707706.

إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن محمد بن عبد اللّه بن زيد، عن أبيه قال: لمّا أصبحنا أتينا رسول اللّه فأخبرته بالرؤيا... إلخ.

6. و قال الترمذي: و قد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق

أتمَّ من هذا الحديث و أطول، ثمّ أضاف الترمذي: و عبد اللّه بن زيد هو ابن عبد ربّه، و لا نعرف له عن النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - شيئاً يصحّ إلاّ هذا الحديث الواحد في الاَذان(1).

هذا ما رواه أصحاب السنن المعدودة من الصحاح أو الكتب الستة و لها من الاَهمية ما ليس لغيرها كسنن الدارمي أو الدارقطني أو ما يرويه ابن سعد في طبقاته، و البيهقي في سننه، و لأَجل تلك المكانة الخاصّة فصلنا ما روي في السنن المعروفة، عمّا روي في غيرها.

فلندرس هذه الروايات متناً و سنداً حتّى تتّضح الحقيقة ثمّ نذكر بقية النصوص الواردة في غيرها فنقول:

هذه الروايات لا تصلح للاحتجاج:

إنّ هذه الروايات غير صالحة للاحتجاج لجهات شتى:

الأولى: لا تتفق مع مقام النبوّة:

إنّه سبحانه بعث رسوله لاِقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة. و طبع القضية يقتضي أن يعلّمه سبحانه كيفية تحقق هذه الأمنية. فلا معنى لتحيّر النبيّ

ص: 34


1- . الترمذي: السنن: 1/358، باب ما جاء في بدء الاَذان برقم 189.

أياماً طويلة أو عشرين يوماً على ما في الرواية الأولى التي رواها أبو داود و هو لا يدري كيف يحقّق المسئولية الملقاة على عاتقه، فتارة يتوسّل بهذا، و أُخرى بذاك حتى يرشد إلى الاَسباب و الوسائل التي تؤمِّن مقصوده، مع أنّه سبحانه يقول في حقّه: "وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً " (النساء/ 113) و المقصود من الفضل هو العلم بقرينة ما قبله: "وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ".

إنّ الصلاة و الصيام من الأمور العبادية و ليسا كالحرب و القتال الذي ربّما كان النبي يتشاور فيه مع أصحابه و لم يكن تشاوره في كيفية القتال عن جهله بالاَصلح، و إنّما كان لاَجل جلب قلوبهم كما يقول سبحانه:

"وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ " (آل عمران/ 159).

أ ليس من الوهن في أمر الدين أن تكون الرؤيا و الاَحلام و المنامات من أفراد عاديين، مصدراً لاَمر عبادي في غاية الاَهمية كالأَذان و الاِقامة ؟...

إنّ هذا يدفعنا إلى القول بأنّ كون الرؤيا مصدراً للاَذان أمر مكذوب على الشريعة. و من القريب جداً أنّ عمومة عبد اللّه بن زيد هم الذين أشاعوا تلك الرؤيا و روّجوها، لتكون فضيلة لبيوتاتهم و قبائلهم. و لذلك نرى في بعض المسانيد أنّ بني عمومته هم رواة هذا الحديث، و أنّ من اعتمد عليهم انّما كان لحسن ظنّه بهم.

الثانية: انّها متعارضة جوهراً:

إنّ الروايات الواردة حول بدء الاَذان و تشريعه متعارضة جوهراً من جهات:

ص: 35

1 إنّ مقتضى الرواية الأولى (رواية أبي دواد) أنّ عمر بن الخطاب رأى الاَذان قبل عبد اللّه بن زيد بعشرين يوماً. و لكن مقتضى الرواية الرابعة (رواية ابن ماجة) أنّه رأى في نفس الليلة التي رأى فيها عبد اللّه بن زيد.

2 إنّ رؤيا عبد اللّه بن زيد هو المبدأ للتشريع، و أنّ عمر بن الخطاب لمّا سمع الاَذان جاء إلى رسول اللّه و قال: إنّه أيضاً رأى نفس تلك الرؤيا و لم ينقلها إليه استحياءً .

3 إنّ المبدأ به، هو نفس عمر بن الخطاب، لا رؤياه لاَنّه هو الذي اقترح النداء بالصلاة الذي هو عبارة أُخرى عن الاَذان، روى الترمذي في سننه و قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة... إلى أن قال: و قال بعضهم: اتّخذوا قرناً مثل قرن اليهود، قال: فقال عمر بن الخطاب: أ وَ لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة ؟ قال: فقال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: يا بلال قم فناد بالصلاة، أي الاَذان.

نعم فسّر ابن حجر النداء بالصلاة ب «الصلاة جامعة»(1) و لا دليل على هذا التفسير.

و رواه النسائي و البيهقي في سننهما(2).

4 إنّ مبدأ التشريع هو نفس النبي الاَكرم.

روى البيهقي:... فذكروا أن يضربوا ناقوساً أو ينوّروا ناراً فأُمر بلال أن يشفع الاَذان و يوتر الاِقامة. قال: و رواه البخاري عن محمد بن عبد الوهاب و رواه

ص: 36


1- . الحلبي: السيرة النبوية: 2/297.
2- . الترمذي: السنن: 1/362 رقم 190، النسائي: السنن: 2/3، البيهقي: السنن: 1/389 في باب بدء الاَذان الحديث الاَوّل.

مسلم عن إسحاق بن عمار(1).

فمع هذا الاختلاف في النقل كيف يمكن الاعتماد على هذه النقول.

الثالثة: انّ الرائي كان أربعة عشر شخصاً لا واحداً:

يظهر ممّا رواه الحلبي أنّ الرائي للاَذان لم يكن منحصراً بابني زيد و الخطاب، بل ادّعى أبو بكر أنّه أيضاً رأى نفس ما رأياه و قيل: انّه ادّعى سبعة من الاَنصار، و قيل: أربعة عشر(2) كلّهم ادّعوا أنّهم رأوا في الرؤيا الاَذان، و ليست الشريعة ورداً لكل وارد، فاذا كانت الشريعة و الاَحكام خاضعة للرؤيا و الاَحلام فعلى الاِسلام السلام. فالرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - يستسقي تشريعاته من الوحي لا من أحلامهم.

الرابعة: التعارض بين نقلي البخاري و غيره:

إنّ صريح صحيح البخاري أنّ النبي أمر بلالاً في مجلس التشاور بالنداء للصلاة و عمر حاضر حين صدور الاَمر، فقد روى عن ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصلاة، ليس ينادى لها فتكلّموا يوماً في ذلك فقال بعضهم: اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، و قال بعضهم: بل قرناً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أ وَ لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة ؟ فقال رسول اللّه: يا بلال قم فناد بالصلاة(3).

و صريح أحاديث الرؤيا: أنّ النبي إنّما أمر بلالاً بالنداء عند الفجر إذ قصّ

ص: 37


1- . البيهقي: السنن: 1/390. الحديث 1 و 2.
2- . الحلبي: السيرة الحلبية: 2/300.
3- . البخاري: الصحيح: 1/120 باب بدء الاَذان.

عليه ابن زيد رؤياه ذلك بعد الشورى بليلة في أقل ما يتصوّر و لم يكن عمر حاضراً و إنّما سمع الاَذان و هو في بيته، خرج و هو يجر ثوبه و يقول: و الذي بعثك بالحق يا رسول اللّه لقد رأيت مثل ما رأى.

و ليس لنا حمل ما رواه البخاري على النداء ب «الصلاة جامعة» و حمل أحاديث الرؤيا على التأذين بالاَذان، فانّه جمع بلا شاهد أوّلاً، و لو أمر النبي بلالاً برفع صوته ب «الصلاة جامعة» لحلّت العقدة ثانياً، و رفعت الحيرة خصوصاً إذا كررت الجملة «الصلاة جامعة» و لم يبق موضوع للحيرة و هذا دليل على أنّ أمره بالنداء، كان بالتأذين بالاَذان المشروع(1).

هذه الوجوه الاَربعة ترجع إلى دراسة مضمون الاَحاديث و هي بوحدتها كافية في سلب الركون عليها. و إليك دراسة أسنادها واحداً بعد الآخر. و هي بين موقوف لا يتّصل سندها بالنبي الاَكرم، و مسند مشتمل على مجهول أو مجروح أو ضعيف متروك، و إليك البيان حسب الترتيب السابق.

أمّا الرواية الأولى التي رواها أبو داود فهي ضعيفة:

1 تنتهي الرواية إلى مجهول أو مجاهيل، لقوله: عن عمومة له من الاَنصار.

2 يروي عن العمومة، أبو عمير بن أنس، فيذكره ابن حجر و يقول فيه: روى عن عمومة له من الاَنصار من أصحاب النبي في رؤية الهلال و في الاَذان.

و قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث.

و قال ابن عبد البر: مجهول لا يحتج به(2).

ص: 38


1- . شرف الدين: النص و الاجتهاد: 137.
2- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 12/188 برقم 767.

و قال جمال الدين: هذا ما حدث به في الموضوعين: رؤية الهلال و الاَذان جميع ما له عندهم(1).

أمّا الرواية الثانية: فقد جاء في سندها من لا يصح الاحتجاج به نظراء:

1 محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي: أبو عبد اللّه المتوفّى حدود عام 120.

قال أبو جعفر العقيلي عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي و ذكر محمد بن إبراهيم التيمي المدني فقال: في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير، أو منكرة(2).

2 محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، فانّ أهل السنّة لا يحتجون برواياته، و إن كان هو الاَساس ل «سيرة ابن هشام المطبوعة».

قال أحمد بن أبي خيثمة: سئل يحيى بن معين عنه فقال:... ضعيف عندي سقيم ليس بالقوي.

و قال أبو الحسن الميموني: سمعت يحيى بن معين يقول: محمد بن إسحاق ضعيف، و قال النسائي: ليس بالقوي(3).

3 عبد اللّه بن زيد، راوية الحديث و كفى في حقّه أنّه قليل الحديث، قال الترمذي: لا نعرف له شيئاً يصح عن النبي إلاّ حديث الاَذان، قال الحاكم: الصحيح: أنّه قُتل بأُحد، و الروايات عنه كلّها منقطعة، قال ابن عدي: لا نعرف

ص: 39


1- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 34/142 برقم 7545.
2- . المصدر نفسه: 24/304.
3- . المصدر نفسه: 42424/423، و لاحظ تاريخ بغداد: 2241/221.

له شيئاً يصح عن النبيّ إلاّ حديث الاَذان(1).

و روى الترمذي عن البخاري: لا نعرف له إلاّ حديث الاَذان(2).

و قال الحاكم: عبد اللّه بن زيد هو الذي أُرِيَ الاَذان، الذي تداوله فقهاء الاِسلام بالقبول و لم يخرج في الصحيحين لاختلاف الناقلين في أسانيده(3).

و أمّا الرواية الثالثة: فقد اشتمل السند على محمد بن إسحاق بن يسار، و محمد بن إبراهيم التيمي، و قد تعرّفت على حالهما كما تعرفت على أنّ عبد اللّه بن زيد كان قليل الرواية، و الروايات كلّها عنه منقطعة.

و أمّا الرواية الرابعة: فقد جاء في سنده:

1 عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد اللّه المدني.

قال يحيى بن سعيد القطان: سألت عنه بالمدينة، فلم أرهم يحمدونه و كذلك قال علي بن المديني.

و قال علي أيضاً: سمعت سفيان و سئل عن عبد الرحمن بن إسحاق، قال: كان قدرياً فنفاه أهل المدينة فجاءنا هاهنا مقتل الوليد فلم نجالسه.

و قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: روى عن أبي الزناد أحاديث منكرة.

و قال أحمد بن عبد اللّه العجلي: يكتب حديثه و ليس بالقوي.

ص: 40


1- . السنن: الترمذي: 1/361، ابن حجر: تهذيب التهذيب: 5/224.
2- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 14/541.
3- . الحاكم: المستدرك: 3/336.

و قال أبو حاتم: يكتب حديثه و لا يحتج به.

و قال البخاري: ليس ممّن يعتمد على حفظه... و لا يعرف له بالمدينة تلميذ إلاّ موسى الزمعي، روى عنه أشياء في عدّة منها اضطراب.

و قال الدارقطني: ضعيف يرمى بالقدر. و قال أحمد بن عدي: في حديثه بعض ما ينكر و لا يتابع(1).

2 محمد بن عبد اللّه الواسطي (240150) فيعرّفه جمال الدين المزّي بقوله: قال ابن معين: لا شيء، و أنكر روايته عن أبيه، و قال أبو حاتم: سألت يحيى بن معين فقال: رجل سوء كذاب، و أخرج أشياء منكرة، و قال أبو عثمان سعيد بن عمر البردعي: و سألته أبا زرعة عن محمد بن خالد، فقال: رجل سوء، و ذكره ابن حبان في كتاب الثقات و قال: يخطىَ و يخالف(2).

و قال الشوكاني بعد نقل الرواية: و في اسناده ضعف جدّاً(3).

و أمّا الرواية الخامسة: فقد جاء في سندها:

1 محمد بن إسحاق بن يسار.

2 محمد بن الحارث التيمي.

3 عبد اللّه بن زيد.

و قد تعرّفت على جرح الاَوّلين، و انقطاع السند في كل ما يرويان عن الثالث

ص: 41


1- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 16/519 برقم 3755.
2- . المصدر نفسه: 25/139 برقم 5178.
3- . الشوكاني: نيل الاَوطار: 2/42.

و بذلك يتضح حال السند السادس فلاحظ.

[ما ورد في غير الصحاح]
اشارة

هذا ما ورد في الصحاح. أمّا ما ورد في غيرها فنذكر منه ما رواه الاِمام أحمد، و الدارمي، و الدارقطني في مسانيدهم، و الاِمام مالك في موطئه، و ابن سعد في طبقاته و البيهقي في سننه و إليك البيان:

ألف ما رواه الإمام أحمد في مسنده:

روى الاِمام أحمد رؤيا الاَذان في مسنده عن عبد اللّه بن زيد بأسانيد ثلاثة(1):

1 قد ورد في السند الاَول زيد بن الحباب بن الريان التميمي (المتوفّى 203 ه).

و قد وصفوه بكثرة الخطأ و له أحاديث تستغرب عن سفيان الثوري من جهة اسنادها، و قال ابن معين: أحاديثه عن الثوري مقلوبة(2).

كما اشتمل على عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه بن زيد بن عبد ربّه، و ليس له في الصحاح و المسانيد إلاّ رواية واحدة و هي هذه، و فيها فضيلة لعائلته، و لأَجل ذلك يقل الاعتماد عليها.

كما اشتمل الثاني على محمد بن اسحاق بن يسار الذي تعرَّفت عليه.

و اشتمل الثالث على محمد بن إبراهيم الحارث التيمي، مضافاً إلى محمد بن إسحاق، و ينتهي إلى عبد اللّه بن زيد و هو قليل الحديث جداً.

ص: 42


1- . الاِمام أحمد: المسند: 434/42.
2- . الذهبي: ميزان الاعتدال: 2/100 برقم 2997.

و قد جاء في الرواية الثانية بعد ذكر الرؤيا و تعليم الاَذان لبلال:

إنّ بلالاً أتى رسول اللّه فوجده نائماً فصرخ بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، فأُدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر.

ب - ما رواه الدارمي في مسنده:

روى رؤيا الاَذان الدارمي في مسنده بأسانيد، و كلها ضعاف و إليك الاَسانيد وحدها:

1 أخبرنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق و قد كان رسول اللّه حين قدمها... الخ.

2 نفس هذا السند و جاء بعد محمد بن إسحاق: حدّثني هذا الحديث، محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن محمد بن عبد اللّه بن زيد بن عبد ربّه عن أبيه بهذا الحديث.

3 أخبرنا محمد بن يحيى، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق... و الباقي نفس ما جاء في السند الثاني(1).

و الاَول منقطع، و الثاني و الثالث مشتملان على محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي و قد عرفت حاله، كما تعرفت على حال ابن إسحاق.

ج - ما رواه الإمام مالك في الموطإ:

روى الاِمام مالك رؤيا الاَذان في موطئه: عن يحيى، عن مالك، عن يحيى

ص: 43


1- . الدارمي: السنن: 2691/267 باب بدء الاَذان.

ابن سعيد أنّه قال: كان رسول اللّه قد أراد أن يتّخذ خشبتين يضرب بهما...(1).

و السند منقطع، و المراد يحيى بن سعيد بن قيس المولود عام 70 و توفي بالهاشمية سنة 143(2).

د - ما رواه ابن سعد في طبقاته:

رواه محمد بن سعد في طبقاته بأسانيد(3) موقوفة لا يحتج بها:

الاَوّل: ينتهي إلى نافع بن جبير الذي توفّي في عشر التسعين و قيل سنة 99.

و الثاني: ينتهي إلى عروة بن الزبير الذي تولّد عام 29 و توفّي عام 93.

و الثالث: ينتهي إلى زيد بن أسلم الذي توفّي عام 136.

و الرابع: ينتهي إلى سعيد بن المسيب الذي توفّي عام 94 و إلى عبد الرحمن ابن أبي ليلى الذي توفي عام 82، أو 83.

و قال الذهبي في ترجمة عبد اللّه بن زيد: حدّث عنه سعيد بن المسيب و عبد الرحمن بن أبي ليلى و لم يلقه(4).

و روى أيضاً بالسند التالي:

أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الاَزرقي، أخبرنا مسلم بن خالد، حدثني

ص: 44


1- . مالك: الموطأ: 75 باب ما جاء في النداء للصلاة برقم 1.
2- . الذهبي: سير أعلام النبلاء: 5/468 برقم 213.
3- . ابن سعد: الطبقات الكبرى: 2471/246.
4- . الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2/376 برقم 79، و سيوافيك تفصيله في المقام الثاني. و الضمير يرجع إلى عبد الرحمن، و سيوافيك أنّه من البعيد أن يروي سعيد بن المسيب عن عبد اللّه بن زيد.

عبد الرحيم بن عمر، عن ابن شهاب عن سالم بن عبد اللّه بن عمر، عن عبد اللّه بن عمر: أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - أراد أن يجعل شيئاً يجمع به الناس... حتى أُريَ رجل من الاَنصار يقال له عبد اللّه بن زيد، و أُريه عمر بن الخطاب تلك الليلة... إلى أن قال: فزاد بلال في الصبح «الصلاة خير من النوم» فأقرّها رسول اللّه.

فقد اشتمل السند على:

1 مسلم بن خالد بن قرقرة: و يقال: ابن جرحة.

ضعّفه يحيى بن معين. و قال علي بن المديني: ليس بشيء، و قال البخاري: منكر الحديث، و قال النسائي: ليس بالقوي، و قال أبو حاتم: ليس بذاك القوي، منكر الحديث يكتب حديثه و لا يحتج به، تعرف و تنكر(1).

2 محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن شهاب الزهري المدني (12351).

قال أنس بن عياض، عن عبيد اللّه بن عمر: كنت أرى الزهري يعطى الكتاب فلا يقرأه و لا قرى عليه فيقال له: نروي هذا عنك فيقول: نعم.

و قال إبراهيم بن أبي سفيان القيسراني عن الفريابي: سمعت سفيان الثوري: أتيت الزهري فتثاقل عليّ فقلت له: لو أنّك أتيت أشياخنا، فصنعوا بك مثل هذا، فقال: كما أنت، و دخل فأخرج إليَّ كتاباً فقال: خذ هذا فاروه عنّي فما رويت عنه حرفا(2).

ص: 45


1- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 27/508 برقم 5925.
2- . المصدر نفسه: 44026/439.
ه: ما رواه البيهقي في سننه:

روى البيهقي رؤيا الاَذان بأسانيد لا يخلو الكل عن علّة أو علاّت و إليك الاشارة إلى الضعاف الواردين في أسانيدها:

الاَوّل: يشتمل على أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الاَنصار، و قد تعرفت على أبي عمير بن أنس، أنّه قال فيه ابن عبد البر: و إنّه مجهول لا يحتجّ به يروي عن مجاهيل(1) باسم العمومة، و لا دليل على كون هؤلاء من الصحابة، و إن افترضنا عدالة كل صحابي، و على فرض التسليم أنّ العمومة كانوا منهم لكن موقوفات الصحابي ليست بحجّة إذ لا علم بأنّه روى عن الصحابي.

الثاني: يشتمل على أُناس لا يحتج بهم:

1 محمد بن إسحاق بن يسار.

2 محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي.

3 عبد اللّه بن زيد.

و قد تعرّفت على الجميع.

الثالث: مشتمل على ابن شهاب الزهري، يروي عن سعيد بن المسيب المتوفّى عام 94 عن عبد اللّه بن زيد و قد عرفت أنّه لم يدركا عبد الله بن زيد.(2) و قد توفي عبد اللّه بن زيد سنة 32 ه و قد تولّد سعيد بن المسيب حسب ما ينقله الذهبي لسنتين مضتا من خلافة عمر. و على ذلك فقد تولّد عام 15 ه فيكون عمره عند وفاة زيد قريباً من 17 سنة.

ص: 46


1- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 12/188 برقم 768.
2- . البيهقي: السنن: 1/390.
و - ما رواه الدارقطني:

روى الدارقطني رؤيا الاَذان بأسانيد، إليك بيانها:

1 حدثنا محمد بن يحيى بن مرداس، حدثنا أبو داود، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا حماد بن خالد، حدثنا محمد بن عمرو، عن محمد بن عبد اللّه، عن عمِّه عبد اللّه بن زيد.

2 حدثنا محمد بن يحيى: حدثنا أبو داود، حدثنا عبيد اللّه بن عمر، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا محمد بن عمرو، قال: سمعت عبد اللّه بن محمد، قال: كان جدي عبد اللّه بن زيد بهذا الخبر(1).

و قد اشتمل السندان على محمد بن عمرو، و هو مردّد بين الاَنصاري، الذي ليس له في الصحاح و المسانيد إلاّ هذه الرواية، قال الذهبي: لا يكاد يعرف، و بين محمد بن عمرو أبو سهل الاَنصاري الذي ضعّفه يحيى القطان، و ابن معين و ابن عدي(2).

3 حدثنا أبو محمد بن ساعد، حدثنا الحسن بن يونس، حدثنا الاَسود بن عامر، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الاَعمش عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: قام رجل من الاَنصار، يعني عبد اللّه بن زيد، إلى النبي فقال: إنّي رأيت في النوم...(3).

ص: 47


1- . الدارقطني: السنن: 1/245 برقم 56 و 57.
2- . الذهبي: ميزان الاعتدال: 3/674 برقم 8017 و 8018، جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 26/220 برقم 5516، ابن حجر: تهذيب التهذيب: 9/378 برقم 620.
3- . الدارقطني: السنن: 1/242 برقم 31.

و هذا السند منقطع لاَنّ معاذ بن جبل توفي عام 20 أو 18 و تولّد عبد الرحمن بن أبي ليلى، سنة 17، مضافاً إلى أنّ الدارقطني ضعّف عبد الرحمن و قال: ضعيف الحديث سيّئَ الحفظ و ابن أبي ليلى لا يثبت سماعه من عبد اللّه بن زيد(1).

إلى هنا تم الكلام في المقام الاَوّل و اتّضح أنّ الاَذان انّما شرع بوحي إلهي لا برؤيا عبد اللّه بن زيد و لا برؤيا عمر بن الخطاب و لا غيرهما كائناً من كان، و انّ هذه الاَحاديث، متعارضة جوهراً، غير تامّة سنداً، لا يثبت بها شيء، مضافاً إلى ما ذكرنا في صدر البحث من الاستنكار العقلي فلاحظ.

و حان البحث عن كيفية دخول التثويب في أذان الفجر، و هذا هو المقام الثاني الذي نتلوه عليك فنقول:

المقام الثاني: ما هو السبب لدخول التثويب في أذان صلاة الفجر

اشارة

التثويب من ثاب يثوب: إذا رجع فهو بمعنى الرجوع إلى الاَمر بالمبادرة إلى الصلاة، فانّ المؤَذّن إذا قال: «حيّ على الصلاة» فقد دعاهم إليها، فإذا قال: «الصلاة خير من النوم» فقد رجع إلى كلام معناه: المبادرة إليها.

و فسّره صاحب القاموس: بمعان منها: الدعاء إلى الصلاة، و تثنية الدعاء، و أن يقول في أذان الفجر «الصلاة خير من النوم مرتين».

و قال في المغرب: التثويب: القديم، هو قول المؤَذن في أذان الصبح: «الصلاة خير من النوم مرتين» و المحدَث «الصلاة الصلاة» أو «قامت

ص: 48


1- . الدارقطني: السنن: 1/242 برقم 31.

قامت»(1).

و الظاهر أنّه غلب استعماله بين أئمّة الحديث في القول المذكور أثناء الاَذان، ربّما يطلق على مطلق الدعوة بعد الدعوة، فيعم ما إذا نادى المؤَذن بعد تمام الاَذان بالقول المذكور أيضاً أو بغيره ممّا يفيد الدعوة إليها بأيّ لفظ شاء.

قال السندي في حاشيته على سنن النسائي: التثويب هو العود إلى الاعلام بعد الاعلام، و قول المؤَذن «الصلاة خير من النوم» لا يخلو عن ذلك. فسمي تثويباً(2).

فالمقصود في المقام تبيين حكم قول المؤَذن أثناء الاَذان لصلاة الفجر: الصلاة خير من النوم، فهل هو مشروع أو بدعة حدثت بعد النبي لما استحسنه بعض الناس من اقراره في الاَذان، سواء كان هو التثويب فقط أو عمَّ مطلق الدعوة إلى الصلاة و لو بعد تمام الاَذان، بهذا اللفظ أو بغيره.

فنقول: التثويب بهذا المعنى ورد تارة في خلال أحاديث رؤية الاَذان، و أُخرى في غيرها، أمّا الاَوّل فقد ورد في ما يلي:

1 ما رواه ابن ماجة (الرواية الرابعة) و قد عرفت نصَّ الشوكاني على ضعفها(3).

2 ما رواه الاِمام أحمد: و قد عرفت ما في سنده من الضعف حيث جاء فيه:

ص: 49


1- . ابن الاثير: النهاية في غريب الحديث: 1/226 و ابن منظور: لسان العرب مادة «ثوب»، و الفيروزآبادي: القاموس، مادة «ثوب». و البحراني: الحدائق: 7/419.
2- . السنن: 2/14 قسم التعليقة.
3- . لاحظ ص 41 من هذا الكتاب.

محمد بن إسحاق، و ابن شهاب الزهري و عبد اللّه بن زيد بن عبد ربّه(1).

3 ما رواه ابن سعد في طبقاته: و في سنده: مسلم بن خالد بن قرقرة و قد عرفت ضعفه(2).

و أمّا الثاني فقد نقله أصحاب السنن و إليك النصوص:

4 ما رواه ابن ماجة: بالسند التالي: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد اللّه الاَسدي، عن أبي إسرائيل، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال، قال: أمرني رسول اللّه أن أثوب في الفجر و نهاني أن أثوب في العشاء(3) و في هذه الرواية دلالة على أنّ التثويب يستعمل في مطلق الدعوة إلى الصلاة، و إن لم يكن بلفظ «الصلاة خير من النوم» بشهادة النهي عن التثويب في العشاء، لاَنّ الاَنسب للتثويب في صلاة العشاء هو «الصلاة جامعة»، أو «قد قامت الصلاة» و غيرهما.

5 حدثنا عمرو بن رافع، حدثنا عبد اللّه بن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن بلال: أنّه أتى النبيّ يؤذِّنه بصلاة الفجر فقيل: هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فأُقرت في تأذين الفجر فثبت الاَمر على ذلك(4).

و السندان منقطعان أمّا الاَوّل: فابن أبي ليلى ولد عام 17 و مات بلال عام 20 أو 21 بالشام و كان مرابطاً بها قبل ذلك من أوائل فتوحها، فكيف يسمع منه

ص: 50


1- . لاحظ ما نقلناه عن الاِمام أحمد، بعد أحاديث السنن ص 42.
2- . لاحظ ص 44 من هذا الكتاب.
3- . ابن ماجة: السنن: 1/237 برقم 716715.
4- . ابن ماجة: السنن: 1/237 برقم 716715.

مع حداثة السن و تباعد الديار(1).

و رواه الترمذي مع اختلاف في أوّل السند و قال: حديث بلال لا نعرفه إلاّ من حديث أبي إسرائيل الملاّئي، و أبو إسرائيل لم يسمع هذا الحديث من الحكم (ابن عيينة) قال: إنّما رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم.

و أبو إسرائيل اسمه: إسماعيل بن أبي إسحاق و ليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث(2).

أمّا الثاني فقد قال فيه ابن ماجة نقلاً عن الزوائد: اسناده ثقات إلاّ أنّ فيه انقطاعاً (لاَنّ ) سعيد بن المسيب لم يسمع من بلال(3).

6 ما رواه النسائي: أخبرنا سويد بن نصر قال: أنبأنا عبد اللّه، عن سفيان، عن أبي جعفر، عن أبي سلمان، عن أبي محذورة، قال: كنت أُؤذن لرسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و كنت أقول في أذان الفجر: حيّ على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه(4).

و في سنن البيهقي(5) و سبل السلام (6) مكان «أبي سلمان»: «أبي سليمان».

قال البيهقي: و أبو سليمان اسمه «همام المؤَذن» و لم نجد ترجمة لهمام المؤَذّن فيما بأيدينا من كتب الرجال فلم يذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، و لا المزّي في تهذيب الكمال، و الرجل غير معروف.

ص: 51


1- . الشوكاني: نيل الاَوطار: 2/42.
2- . الترمذي: السنن: 1/378، برقم 198.
3- . ابن ماجة: السنن: 1/237، برقم 716، و ولد سعيد بن المسيب عام 13 و توفي عام 94.
4- . النسائي: السنن: 2/13 باب التثويب في الاَذان.
5- . البيهقي: السنن: 1/422، الصنعاني: سبل السلام: 1/221. (6) البيهقي: السنن: 1/422، الصنعاني: سبل السلام: 1/221.

و أمّا أبو محذورة فهو من الصحابة لكنّه قليل الرواية، لا يتجاوز ما رواه عن عشر روايات و قد أذّن لرسول اللّه في العام الثامن، في غزوة حنين(1).

7 ما رواه البيهقي في سننه بسند ينتهي إلى أبي قدامة عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه، عن جده قال: يا رسول اللّه علّمني سنّة الاَذان، و ذكر الحديث و قال فيه: حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، فإن كان صلاة الصبح قل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم...

8 ما رواه أيضاً بسند ينتهي إلى عثمان بن السائب: أخبرني أبي، و أُم عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة عن النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - نحوه(2).

و محمد بن عبد الملك قد تعرّفت على حاله. و عثمان بن السائب ولداً و والداً، غير معروفين ليس لهما إلاّ رواية واحدة(3).

9 ما رواه أبو داود بسند ينتهي إلى الحرث بن عبيد، عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول اللّه علّمني سنّة الاَذان إلى أن قال: فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم...(4).

و السند مشتمل على محمد بن عبد الملك، قال ابن حجر: قال عبد الحق: لا يحتج بهذا الاسناد، و قال ابن القطان: مجهول الحال، لا نعلم روى عنه إلاّ

ص: 52


1- . ابن حزم الاَندلسي: أسماء الصحابة الرواة: برقم 188.
2- . البيهقي: السنن: 4221/421 باب التثويب في أذان الصبح.
3- . الذهبي: ميزان الاعتدال: 2/114، برقم 3075 (السائب)، و ابن حجر: تهذيب التهذيب: 7/117 برقم 252 (عثمان بن السائب).
4- . أبو داود: السنن: 1/136، برقم 500.

الحارث(1).

و قال الشوكاني في حقّ محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة: غير معروف الحال، و الحرث بن عبيد و فيه مقال(2).

10 روى أيضاً بسند ينتهي إلى عثمان بن سائب: أخبرني أبي، و أُم عبد المالك بن أبي محذورة عن أبي محذورة عن النبي. نحو هذا الخبر(3).

و قد عرفت ضعف السند.

11 روى أيضاً بسند ينتهي إلى إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة قال: سمعت جدي عبد الملك بن أبي محذورة يذكر أنّه سمع أبا محذورة يقول: ألقى عليّ رسول اللّه الاَذان حرفاً حرفاً إلى أن قال: و كان يقول في الفجر: الصلاة خير من النوم...(4).

و إبراهيم بن إسماعيل له رواية واحدة، و هو بعد لم يوثق(5) مضافاً إلى احتمال الانقطاع في السند.

و

ما رواه الدارقطني

فعلى أقسام:

12 ما يدل على أنّه سنّة في الاَذان، رواه عن أنس من دون أن ينسبه «أنس» إلى النبي و فيه أحاديث ثلاثة (6).

ص: 53


1- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 9/317.
2- . الشوكاني: نيل الاَوطار: 2/43.
3- . أبو داود: السنن: 1371/136، باب كيفية الاَذان برقم 504501.
4- . أبو داود: السنن: 1371/136، باب كيفية الاَذان برقم 504501.
5- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 2/44 برقم 147. (6) الدارقطني: السنن: 1/243 برقم 403938.

13 ما يدل على أنّ النبي أمر بلالاً بذلك لكن السند منقطع. رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال(1) مع ضعف في سنده لمكان عبد الرحمن بن الحسن فيه المكنّى ب «أبي مسعود الزجاج» و قد عرّفه أبو حاتم: بأنّه لا يحتج به و إن ليّنه الآخرون(2).

14 ما يدل على جواز الاعلام بعد الاَذان، بأي شكل اتّفق و هو خارج عن المقصود و قد ضعف بعض من جاء في سنده(3).

ما رواه الدارمي:

15 روى الدارمي بسند ينتهي إلى الزهري عن حفص بن عمر بن سعد المؤَذن... قال حفص: حدثني أهلي، أنّ بلالاً أتى رسول اللّه يؤذِّنه لصلاة الفجر فقالوا: إنّه نائم، فنادى بلال بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم. فأُقرّت في أذان صلاة الفجر(4).

و الرواية لا يحتج بها لمكان الزهري أوّلاً، و حفص بن عمر الذي ليس له إلاّ رواية واحدة و هي هذه(5) مضافاً إلى كون الاَصل الناقل مجهولاً.

16 ما رواه الاِمام مالك: إنّ المؤَذّن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة

ص: 54


1- . الدارقطني: السنن: 1/243 برقم 41.
2- . الذهبي: ميزان الاعتدال: 2/556 برقم 4851.
3- . الدارقطني: السنن: 2451/244 برقم 48، 51، 52، 53.
4- . الدارمي: السنن: 270/1، باب التثويب في أذان الفجر.
5- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 7/30 برقم 1399، و قال الذهبي في ميزان الاعتدال: 1/560 برقم 2129: تفرّد عن حفص، الزهري.

الصبح فوجده نائماً فقال: الصلاة خير من النوم. فأمر عمر أن يجعلها في نداء الصبح(1).

حصيلة الروايات:

إنّ روايات التثويب متعارضة جداً لا يمكن ارجاعها إلى معنى واحد، و إليك أقسامها:

1 ما يدل على أنّ عبد اللّه بن زيد رآه في رؤياه و أنّه كان جزءاً من الاَذان من أوّل الاَمر.

2 ما يدل على أنّ بلالاً زاده فيه و قرّره النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - على أن يجعله بلال جزءاً من الاَذان كما في رواية الدارمي.

3 ما يدل على أنّ عمر بن الخطاب أمر المؤَذّن أن يجعلها في نداء الصبح كما رواه الاِمام مالك.

4 ما يدل على أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - علّمها أبا محذورة، كما رواه البيهقي في سننه.

5 ما يظهر أنّ بلالاً ينادي بالصبح فيقول: «حيَّ على خير العمل» فأمره النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - أن يجعل مكانها: «الصلاة خير من النوم» و ترك «حيّ على خير العمل» كما رواه المتقي الهندي في كنزه (8/345 برقم 23188).

و مع هذا التعارض الواضح، لا يمكن الركون إليها و بما أنّ أمرها دائر بين

ص: 55


1- . الاِمام مالك: الموطأ: 78 برقم 8.

السنّة و البدعة، فتركها متعيّن لعدم العقاب على تركها، بخلاف ما لو كانت بدعة.

تصريح أعلام الأُمّة على كونها بدعة:

و هناك من يراها بدعة و أنّه لم يأمر بها النبي الاَكرم «صلى الله عليه و آله و سلم» و إنّما حدثت بعده - صلى الله عليه و آله و سلم - و إليك نصوصهم:

1 قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن حفص أنّ سعداً (المؤَذّن) أوّل من قال: الصلاة خير من النوم، في خلافة عمر فقال عمر: بدعة، ثمّ تركه و انّ بلالاً لم يؤذّن لعمر.

2 و عنه أيضاً: أخبرني حسن بن مسلم أنّ رجلاً سأل طاوساً: متى قيل الصلاة خير من النوم ؟ فقال: أما أنّها لم تقل على عهد رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» و لكن بلالاً، سمعها في زمان أبي بكر بعد وفاة رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم». يقولها رجل غير مؤَذن، فأخذها منه. فأذّن بها فلم يمكث أبو بكر إلاّ قليلاً حتى إذا كان عمر قال: لو نهينا بلالاً عن هذا الذي أحدث و كأنّه نسيه و أذّن بها الناس حتى اليوم(1).

3 روى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ليث عن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر فسمع رجلاً يثوب في المسجد فقال: اخرج بنا من (عند) هذا المبتدع(2).

ص: 56


1- . المتقي الهندي: كنز العمال: 8/357 برقم 23252 و 23251، و رواه عبد الرزاق في المصنف: 1/474 برقم 1827 و 1828 و 1829.
2- . عبد الرزاق الصنعاني: المصنف: 1/475 برقم 1832، و رواه أيضاً المتقي الهندي: 8/357 برقم 23250.

نعم يظهر ممّا رواه أبو داود في سننه أنّ الرجل ثوب في الظهر و العصر لا في صلاة الفجر(1).

4 ما روي عن أبي حنيفة كما في جامع المسانيد عنه عن حماد عن إبراهيم قال: سألته عن التثويب ؟ فقال: هو ممّا أحدثه الناس و هو حسن، ممّا أحدثوه. و ذكر أنّ تثويبهم كان حين يفرغ المؤَذّن من أذانه: إنَّ الصلاة خير من النوم مرتين. قال: أخرجه الاِمام محمد بن الحسن (الشيباني) في الآثار فرواه عن أبي حنيفة ثمّ قال محمد: و هو قول أبي حنيفة رضي اللّه عنه و به نأخذ(2).

و هذه الرواية تدلّ على أنّ التثويب في عصر الرسول «صلى الله عليه و آله و سلم» أو في عصر الخلفاء كان بعد الفراغ عن الاَذان و لم يكن جزءاً منه و انّما كان يذكره المؤَذّن من عند نفسه ايقاظاً للناس من النوم. ثمّ إنّه أُدرج في نفس الاَذان.

5 قال الشوكاني نقلاً عن البحر الزخار: أحدثه عمر فقال ابنه: هذه بدعة. و عن علي - عليه السلام - حين سمعه: لا تزيدوا في الاَذان ما ليس منه، ثمّ قال بعد أن ذكر حديث أبي محذورة و بلال: قلنا لو كان لما أنكره علي و ابن عمر و طاووس سلمنا فأُمرنا به اشعاراً في حال، لا شرعاً جمعاً بين الآثار(3).

6 و قال الاَمير اليمني الصنعاني المتوفى عام 182: قلت: و على هذا ليس «الصلاة خير من النوم» من ألفاظ الاَذان المشروع للدعاء إلى الصلاة و الاخبار بدخول وقتها، بل هو من الاَلفاظ التي استعملت لإيقاظ النائم فهو كألفاظ

ص: 57


1- . أبو داود: السنن: 1/148 برقم 538.
2- . الخوارزمي: جامع المسانيد: 1/296.
3- . الشوكاني: نيل الاَوطار: 2/43 و لعلّ الصحيح «شعاراً» لا «اشعاراً».

التسبيح الاَخير الذي اعتاده الناس في هذه الاَعصار المتأخرة عوضا عن الاَذان الاَوّل. ثمّ قال: و إذا عرفت هذا، هان عليك ما اعتاده الفقهاء من الجدال في التثويب هل هو من ألفاظ الاَذان أو لا، و هل هو بدعة أو لا؟(1).

7 نقل ابن قدامة عن إسحاق أنّه بعد ما نقل رواية أبي محذورة قال: هذا شيء أحدثه الناس، و قال أبو عيسى: هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم و هو الذي خرج منه ابن عمر من المسجد لما سمعه(2).

8 ما استفاض من أئمّة أهل البيت من كونها بدعة: روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد اللّه عن التثويب الذي يكون بين الاَذان و الاِقامة ؟ قال: لا نعرفه(3).

و الذي أحتمله جداً من خلال دراسة ما ورد حول الاَذان: أنّ عائلتين استغلّتا ما روي عن جدّهم عبد اللّه بن زيد و أبي محذورة فعمدتا إلى نشر ما نُسِبَ إلى جدهما لما فيه من فضيلة للعائلة، و لو لا ذلك لم يكن لهذين الاَمرين (تشريع الاَذان بالرؤيا و التثويب في أذان صلاة الفجر) انتشار بهذا النحو الواسع، و لأَجل ذلك ربّما يرتاب الانسان فيما نقل عن جدهما، و قد عرفت وجود رواتٍ في أسانيد الروايات يُنسَبون إلى هاتين العائلتين.

***

ص: 58


1- . الصنعاني: سبل السلام في شرح بلوغ المرام: 1/222.
2- . ابن قدامة: المغني: 4201/419.
3- . الوسائل: 4 /الباب 92 من أبواب الاَذان و الاِقامة، الحديث 1، و لاحظ أحاديث الباب.

قد تقدم منّا أنّ التصرّف في الاَذان بادخال التثويب ليس فريداً في بابه، بل له نظير آخر، و هو: حذف «حيّ على خير العمل» من فصول الاَذان و الاِقامة، و ذلك لغاية أن لا يكون الاعلان به في الاَذان سبباً في تثبيط العامة عن الجهاد، لاَنّ الناس إذا عرفوا أنّ الصلاة خير العمل، لاقتصروا عليها و أعرضوا عن الجهاد.

و هذا بعين اللّه اطاحة بالتشريع و تصرّفٌ فيه، بتفلسفٍ تافه. فانّ المشرّع كان واقفاً على هذا المحذور، و مع ذلك أدخله في الاَذان.

قال القوشجي و هو من متكلّمي الاَشاعرة ناقلاً عن الخليفة الثاني أنّه قال على المنبر:

ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و أنا أنهى عنهنّ و أُحرّمهنّ و أُعاقب عليهنّ : متعة النساء، و متعة الحج، و حيّ على خير العمل(1).

و قد أطبقت الشيعة على كونه جزءاً من الاَذان، و على ذلك جروا، من العهد النبوي إلى يومنا هذا، و صار ذلك شعاراً لهم. و إنّ كثيراً من الموَرّخين يكنّون عن الشيعة بمن يحيعلون أي الذين يقولون: «حيّ على خير العمل».

قال أبو الفرج في «مقاتل الطالبيين» في مقتل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين - عليه السلام -: أنّه استولى على المدينة، و صعد عبد اللّه بن

ص: 59


1- . علاء الدين القوشجي (المتوفى عام 879 ه بالقسطنطينية): شرح التجريد: اقرأ ترجمته في كتابنا «بحوث في الملل و النحل ج 2 ط. بيروت.

الحسن الاَفطس المنارة التي عند رأس النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - عند موضع الجنائز، فقال للمؤذّن: أذّن ب «حي على خير العمل»...(1).

و قال الحلبي: إنّ ابن عمر و الاِمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام كانا يقولان في الاَذان بعد «حيّ على الفلاح»: «حيّ على خير العمل»(2).

ص: 60


1- . أبو الفرج الاصفهاني (284 ه 356 ه): مقاتل الطالبيين: 297.
2- . برهان الدين الحلبي: السيرة: 2/295.

المسألة الثالثة: وضع اليد اليمنى على اليسرى في القراءة

اشارة

اتّفق المسلمون على عدم وجوب القبض الذي يعبّر عنه بوضع اليمين على الشمال أو بالتكتيف أو بالتكفير(1) و لكن اختلفوا في حكمه في ما عدا الوجوب.

فقالت الحنفية: إنّ التكتّف مسنون و ليس بواجب، و الاَفضل للرجل أن يضع باطن كفّه اليمنى على ظاهر كفّه اليسرى تحت سرّته، و للمرأة أن تضع يديها على صدرها.

و قالت الشافعية: أنّه يُسَنُّ للرجل و المرأة، و الاَفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر و فوق السرة، ممّا يلي الجانب الاَيسر.

و قالت الحنابلة: أنّه سنّة و الاَفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه، و يجعلها تحت السرة.

و قالت المالكية: بأنّه جائز، و لكن يندب ارسال اليدين في صلاة الفرض.

ص: 61


1- . من تكفير العلج للملك، بمعنى وضع يده على صدره، و التضامن له.

فهؤلاء اتّفقوا على عدم وجوبه بينما تراه الاَكثرية أنّه مسنون، و المالكية على خلافه، و قد صرّح غير واحد من أهل السنّة بكونه غير واجب(1).

و قد نقل عن المالكيّة أنّ بعضهم استحبّه و بعضهم استحبّ الارسال و كرهه، و بعضهم خَيّر بين الوضع و الارسال(2).

و أمّا الشيعة، فالمشهور بينهم كونه حراماً و مبطلاً و قال بعضهم: إنّه حرام و ليس بمبطل، إلى ثالث كالحلبي، قال: إنّه مكروه. و من أراد أن يقف على دلائل القائلين و الروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيت في هذا المجال فليرجع إلى مظانّه(3).

و مع أنّ أهل السنّة اتّفقوا على عدم وجوبه، فقد أثارت المسألة مشكلاً في الاَوساط الاِسلامية، أنّ الشيعة بأجمعهم تبعاً للنهي عن أئمّة أهل البيت، يرسلون الاَيدي في حال الصلاة فترى أنّ كثيراً من عوام أهل السنّة ينظرون إليهم بنظر خاص، و ربّما يعدّونهم مبتدعين بتركهم هذا العمل مع أنّ أقصى ما عندهم كونه أمراً مسنوناً، و لا يعد ترك السنّة بدعة مع أنّ المالكية يكرهونه، مضافاً إلى أنّ أئمة أهل البيت نهوا عنه.

و على كلّ تقدير فعلى المخلصين من دعاة التقريب السعي في أن لا يقع ارسال اليدين أو قبضهما ذريعة للتفرقة.

ص: 62


1- . محمد جواد مغنية: الفقه على المذاهب الخمسة: ص 110.
2- . صحيح مسلم: 1/382، مؤَسسة عزّ الدين، بيروت 1407.
3- . النجفي، جواهر الكلام: 11/15 و 16، و لاحظ وسائل الشيعة: 4/126 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة.

و المسألة لم تحدث مشكلاً بين الشيعة بل ربّما صارت ذريعة بين أهل السنّة للضرب و الشتم و سفك الدم بحجّة أنّ إمام هذا المصلّي يتكتّف على كيفية، و إمام المصلّي الآخر يقبض على كيفية أُخرى أو يرسل يديه.

يقول محمد صالح العثيمين:

«لقد جرى في سنة من السنين مسألة في «منى» على يدي و يد بعض الاخوان، و قد تكون غريبة عليكم، حيث جيء بطائفتين، و كل طائفة من ثلاثة أو أربعة رجال، و كل واحدة تتهم الأُخرى بالكفر و اللعن و هم حُجّاج و خبر ذلك أنّ إحدى الطائفتين، قالت: إنّ الاخرى إذا قامت تصلّي وضعت اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر، و هذا كفر بالسنّة، حيث إنّ السنّة عند هذه الطائفة إرسال اليدين على الفخذين، و الطائفة الأُخرى تقول: إنّ إرسال اليدين على الفخذين دون أن يجعل اليمنى على اليسرى، كفر مبيح للّعن، و كان النزاع بينهم شديداً.

ثمّ يقول: فانظر كيف لعب الشيطان بهم في هذه المسألة التي اختلفوا فيها، حتّى بلغ أن كفَّر بعضهم بعضاً بسببها التي هي سنّة من السُّنن فليست من أركان الاِسلام و لا من فرائضه، و لا من واجباته، غاية ما هنالك إنّ بعض العلماء يرى أنّ وضع اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر هو السنّة و آخرين من أهل العلم يقولون: إنّ السنّة هو الارسال، مع أنّ الصواب الذي دلّت عليه السنّة هو وضع اليد اليمنى على الذراع اليسرى»(1).

و قد سمعت عن بعض الشباب المصريين في مكّة المكرّمة عام 1412: أنّ

ص: 63


1- . محمد بن صالح العثيمين: دروس و فتاوى في الحرم المكّي ص 26.

الشباب المجاهدين في مصر الذين يقومون في وجه الحكومة المصرية الاستعمارية جرّهم البحث في هذه المسألة الى اختلاف شديد ما كانت تحمد عقباه لو لا أن منَّ اللّه عليهم بائتلاف جديد.

أقول: لا أظنّ أنّ الشباب و لا الاخوان و لا غيرهم مقصّرين في المسألة، و إنّما التقصير في المسألة يرجع إلى العلماء و الخطباء، حيث يأمرون بالمسنون كأمرهم بالواجب، فتظنّ العامّة أكثر المسنونات فرائض. و كما أنّ ترك المسنون من رأس، يخالف روح الشريعة فهكذا المداومة به على وجه يتخيّل الناس أنّه واجب كسائر الفرائض، ليس ببعيد عن البدعة، بل يجب الاصحار بالحقيقة مع المداومة.

إنّ النبيّ الاَكرم كان يفرّق الصلوات الخمس، و ربّما كان يجمع بينهما(1) لئلاّ يتخيّل الناس أنّ التفريق فريضة و للاَسف إنّه صار كذلك، عند الفقيه و المتفقّه و المقلّد. و الحديث ذو شجون.

إنّ إمام كلّ صقع و خطيبه، يعتقد أنّ ما عليه إمام مذهبه في الفقه هو الوحي المنزل الذي لا غبار عليه، فانتهى ذلك إلى جهل المسلمين بأحكام صلواتهم إلى أن عاد يكفّر بعضهم بعضاً، و هم مساكين لا يعلمون من الاِسلام شيئاً.

أضف إلى ذلك، أنّ ما استدلّوا به من الروايات، على كونه سنّة، غير وافية

ص: 64


1- . روى مسلم عن ابن عباس قال: صلّى رسول اللّه الظهر و العصر جميعاً بالمدينة في غير خوف و لا سفر. قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لِمَ فعل ذلك ؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أُمّته. (صحيح مسلم: 2/151 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر).

باثباته أمراً مسنوناً، فإليك بما استدلّوا به على كونه مسنوناً و الذي هو عند أئمة أهل البيت بدعة و إليك دراسة ما روي في المقام.

إنّ مجموع ما يمكن الاستدلال به على أنّ القبض سنّة في الصلاة لا يعدو عن مرويات ثلاثة:

1. حديث سهل بن سعد. رواه البخاري.

2 حديث وائل بن حجر. رواه مسلم و نقلها البيهقي بأسانيد ثلاثة.

3 حديث عبد اللّه بن مسعود. رواه البيهقي في سننه.

و إليك دراسة كلّ حديث.

ألف: حديث سهل بن سعد:

روى البخاري عن أبي حازم عن سهل بن سعد، قال: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» قال أبو حازم: لا أعلمه إلاّ يَنمي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه و آله و سلم -(1).

قال إسماعيل(2): يُنمى ذلك و لم يقل يَنمي.

و الرواية متكفّلة لبيان كيفية القبض إلاّ أنّ الكلام في دلالته على وروده من النبي الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم -. و لا يدلّ عليه بوجهين:

أوّلاً: لو كان النبيّ الاَكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله: «كان الناس

ص: 65


1- . ابن حجر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 2/224، باب وضع اليمنى على اليسرى. و رواه البيهقي في السنن الكبرى: 2/28 الحديث 3 في باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة.
2- . المراد: إسماعيل بن أبي اويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري: 5/325.

يؤمرون»؟ أ وَ ما كان الصحيح عندئذ أن يقول: كان النبيّ يأمر؟ أو ليس هذا دليلاً على أنّ الحكم نجم بعد ارتحال النبيّ الاَكرم حيث إنّ الخلفاء و أُمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيّل أنّه أقرب للخشوع ؟ و لأَجله عقد البخاري بعده باباً باسم باب الخشوع. قال ابن حجر: الحكمة في هذه الهيئة أنّه صفة السائل الذليل، و هو أمنع عن العبث و أقرب إلى الخشوع، كان البخاري قد لاحظ ذلك و عقبه بباب الخشوع.

و ثانياً: إنّ في ذيل السند ما يؤيّد أنّه كان من عمل الآمرين، لا الرسول الاَكرم نفسه حيث قال:

قال إسماعيل: «لا أعلمه إلاّ يُنمى ذلك إلى النبي» بناءً على قراءة الفعل بصيغة المجهول.

و معناه أنّه لا يعلم كونه أمراً مسنوناً في الصلاة غير أنّه يُعزى و ينسب إلى النبيّ ، فيكون ما يرويه سهل بن سعد مرفوعاً.

قال ابن حجر: و من اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي: ينميه، فمراده: يرفع ذلك إلى النبيّ (1).

هذا كلّه إذا قرأناه بصيغة المجهول، و أمّا إذا قرأناه بصيغة المعلوم، فمعناه أنّ سهلاً ينسب ذلك إلى النبيّ ، فعلى فرض صحّة القراءة و خروجه بذلك من الارسال و الرفع، يكون قوله: «لا أعلمه إلاّ...» معرباً عن ضعف العزو و النسبة و أنّه سمعه عن رجل آخر و لم يسم.

ص: 66


1- . المصدر السابق، هامش رقم 1.

ب - حديث وائل بن حجر:

و روي بصور:

1 روى مسلم عن وائل بن حجر: أنّه رأى النبيّ رفع يديه حين دخل في الصلاة كبّر ثمّ التحف بثوبه ثمّ وضع يده اليمنى على اليسرى، فلمّا أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثمّ رفعهما ثمّ كبّر فركع...(1).

و الاحتجاج بالحديث احتجاج بالفعل، و لا يُحتجّ به إلاّ أن يعلم وجهه، و هو بعد غير معلوم لاَنّ ظاهر الحديث أنّ النبيّ جمع أطراف ثوبه فغطّى صدره به، و وضع يده اليمنى على اليسرى و هل فعل ذلك لاَجل كونه أمراً مسنوناً في الصلاة، أو فعله لئلاّ يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن و يتّقي به نفسه عن البرد؟ و الفعل أمر مجهول العنوان، لا يكون حجّة إلاّ إذا علم أنّه فعل به لاَجل كونه مسنوناً.

إنّ النبيّ الاَكرم صلّى مع المهاجرين و الاَنصار أزيد من عشر سنوات، فلو كان ذلك ثابتاً من النبيّ لكثر النقل و ذاع، و لما انحصر نقله بوائل بن حجر، مع ما في نقله من الاحتمالين.

نعم روي بصورة أُخرى ليس فيه قوله «ثمّ التحف بثوبه» و إليك صورته:

ص: 67


1- . مسلم: الصحيح: 1/382، الباب الخامس من كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى، و في سند الحديث «همّام» و لو كان المقصود، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه: كان يحيى القطان لا يعبأ ب «همام» و قال عمر بن شيبة: حدثنا عفان قال: كان يحيى بن سعيد يعترض على همّام في كثير من حديثه. و قال أبو حاتم: ثقة في حفظه. لاحظ هدى الساري: 1/449.

2 روى البيهقي بسنده عن موسى بن عمير: حدثني علقمة بن وائل عن أبيه: أنّ النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - كان إذا قام في الصلاة قبض على شماله بيمينه و رأيت علقمة يفعله(1).

و بما أنّه إذا دار الاَمر بين الزيادة و النقيصة فالثانية هي المتعيّنة، فيلاحظ عليها بما لوحظ على الأولى و أنّ وجه الفعل غير معلوم.

على أنّه لو كان النبيّ مقيماً على هذا العمل، لاشتهر بين الناس، مع أنّ قوله: «و رأيت علقمة يفعله» يعرب عن أنّ الراوي تعرّف على السنّة من طريقه.

3 رواه البيهقي أيضاً بسند آخر عن وائل بن حجر(2) و يظهر الاشكال فيه بنفس ما ذكرناه في السابق.

4 روى البيهقي مسنداً عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنّه كان يصلّي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - فوضع يده اليمنى على اليسرى(3).

يلاحظ عليه مضافاً إلى أنّه من البعيد أن لا يعرف مثل عبد اللّه بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ما هو المسنون في الصلاة مع أنّه من السابقين في الاِسلام: أنّ في السند هشيم بن بشير و هو مشهور بالتدليس(4).

ص: 68


1- . سنن البيهقي: 2/28 و في سند الحديث عبد اللّه بن جعفر، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين: ليس بشيء، و قال النسائي: متروك، و كان وكيع إذا أتى على حديثه جزّ عليه، متّفق على ضعفه. لاحظ دلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفّر: 1/87.
2- . المصدر نفسه و في سنده عبد اللّه بن رجاء. قال عمرو بن علي الفلاس: كان كثير الخلط و التصحيف، ليس بحجّة. لاحظ هدى الساري: 1/437.
3- . سنن البيهقي: 2/28 باب وضع اليد اليمنى على اليسرى الحديث 5.
4- . هدى الساري: 1/449.

و لأَجل ذلك نرى أنّ أئمّة أهل البيت كانوا يتحرّزون عنه و يرونه من صنع المجوس أمام الملك.

روى محمد بن مسلم عن الصادق أو الباقر عليهما السلام قال: قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة و حكى اليمنى على اليسرى ؟ فقال: ذلك التكفير، لا يفعل.

و روى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - أنّه قال: و عليك بالاقبال على صلاتك، و لا تكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس.

و روى الصدوق باسناده عن علي - عليه السلام - أنّه قال: لا يجمع المسلم يديه في صلاته و هو قائم بين يدي اللّه عزّ و جلّ يتشبّه بأهل الكفر يعني المجوس(1).

على أنّ الاعتبار لو قلنا بحجّية الاستحسان، يقتضي أن يقوم العبد أمام الربّ مرسل اليد، لاَنّ التكتّف شعار المتمرّدين الذين أُلقي عليهم القبض فصاروا أسارى أمام الملوك و الجبابرة و مقام المصلّي أمام الله فوق ذلك فهو عبد خاضع خاشع لا يملك لنفسه موتاً و لا حياة و لا بعثاً و لا نشورا، فالاَولى أن يطرق رأسه و يقوم أمام الله سبحانه مشعراً بأنّه لا يملك شيئاً و أنّه أذلّ من كلّ شيء، و القبض اشعار بالشخصية المقهورة، و عباد الرحمن الذين يبيتون لربّهم سجّداً و قياما، و تتجافى جنوبهم عن المضاجع، أعلى منزلة من ذلك.

و في الختام نلفت نظر القاري إلى كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس: فهو بعد ما نقل آراء فقهاء الفريقين، وصف القائلين بالتحريم و الابطال بقوله: «و أُولئك الذين ذهبوا إلى التحريم و الاِبطال، أو التحريم فقط، يمثّلون التعصّب المذهبي و حبّ الخلاف، تفريقاً بين المسلمين»(2).

ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد و الفحص في الكتاب و السنّة إلى أنّ القبض أمر حدث بعد النبيّ الاَكرم و كان الناس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء، فمن زعم أنّه جزء من الصلاة فرضاً أو استحباباً، فقد أحدث في الدين ما ليس منه، أ فهل جزاء من اجتهد أن يرمى بالتعصّب المذهبي و حبّ الخلاف ؟!

ص: 69


1- . الحر العاملي: الوسائل 4 /الباب الخامس عشر من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1 و 2 و 7.
2- . فقه الشيعة الاِمامية و مواضع الخلاف بينه و بين المذاهب الاَربعة/ 183.

و لو صحّ ذلك، فهل يمكن توصيف الاِمام مالك به ؟ لاَنّه كان يكره القبض مطلقاً أو في الفرض أ فهل يصحّ رمي إمام دار الهجرة بأنّه كان يحبّ الخلاف ؟!

أجل لما ذا لا يكون عدم الارسال ممثلاً للتعصّب المذهبي و حبّ الخلاف بين المسلمين، يا ترى ؟!

ص: 70

المسألة الرابعة: السجود على الأرض

اشارة

لعلّ من أوضح مظاهر العبودية و الانقياد و التذلّل من قبل المخلوق لخالقه، هو السجود، و به يؤكد المؤمن عبوديته المؤَكّدة للّه تعالى، و من هنا فانّ البارىَ عزّ اسمه يقدّر لعبده هذا التصاغر و هذه الطاعة فيضفي على الساجد فيض لطفه و عظيم إحسانه، لذا روي في بعض المأثورات «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده».

و لمّا كانت الصلاة من بين العبادات معراجاً يتميّز بها المؤمن عن الكافر، و كان السجود ركناً من أركانها، فليس هناك أوضح في إعلان التذلّل للّه تعالى من السجود على التراب و الرمل و الحجر و الحصى، لما فيه من التذلّل شيء أوضح و أبين من السجود على الحصر و البواري، فضلاً عن السجود على الاَلبسة الفاخرة و الفرش الوثيرة و الذهب و الفضّة، و إن كان الكلّ سجوداً، إلاّ أنّ العبودية تتجلّى في الاَوّل بما لا تتجلّى في غيره.

و الاِمامية ملتزمة بالسجدة على الاَرض في حضرهم و سفرهم، و لا يعدلون عنها إلاّ إلى ما أنبت منها من الحصر و البواري بشرط أن لا يؤكل و لا يلبس، و لا

ص: 71

يرون السجود على غيرهما صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبيّ الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم - و أهل بيته و صحبه. و سيظهر في ثنايا البحث أنّ الالتزام بالسجود على الاَرض أو ما أنبتت، كانت هي السنّة بين الصحابة، و أنّ العدول عنها حدث في الاَزمنة المتأخّرة.

و لأجل توضيح المقام نقدّم أُموراً:

1. اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه:

اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كلّ ركعة مرّتين، و لم يختلفوا في المسجود له، فإنّه هو اللّه سبحانه الذي له يسجد من في السموات و الاَرض طوعاً و كرهاً(1) و شعار كلّ مسلم قوله سبحانه: "لاٰ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لاٰ لِلْقَمَرِ وَ اُسْجُدُوا لِلّٰهِ اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ "(2) و إنّما اختلفوا في شروط المسجود عليه أعني ما يضع الساجد جبهته عليه فالشيعة الاِمامية تشترط كون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول و لا ملبوس كالحصر و البواري، و ما أشبه ذلك. و خالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب، و إليك نقل الآراء:

قال الشيخ الطوسي(3) و هو يبيّن آراء الفقهاء: لا يجوز السجود إلاّ على الاَرض أو ما أنبتته الاَرض ممّا لا يؤكل و لا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار.

ص: 72


1- . إشارة إلى قوله سبحانه: (وَ للّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّماواتِ و الاَرضِ طَوْعاً وَ كرْهاً و ظلالُهُم بِالغُدُوِّ وَ الآصالِ ) الرعد/ 15.
2- . فصلت: الآية 37.
3- . من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف و المؤَلّفات ولد 385 هو توفّي عام 460 ه من تلاميذ الشيخ المفيد 413336 ه، و السيّد الشريف المرتضى 436355 ه رضي اللّه عنهما.

و خالف جميع الفقهاء في ذلك حيث أجازوا السجود على القطن و الكتان و الشعر و الصوف و غير ذلك إلى أن قال: لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة، و طرف الرداء، و كم القميص، و به قال الشافعي، و روي ذلك عن علي عليه الصلاة و السلام و ابن عمر، و عبادة بن الصامت، و مالك، و أحمد بن حنبل.

و قال أبو حنيفة و أصحابه: إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه أجزأه.

و إن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده و يسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه، و روي ذلك عن الحسن البصري(1).

و قال العلاّمة الحلّي(2) و هو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه: لا يجوز السجود على ما ليس بأرض و لا من نباتها كالجلود و الصوف عند علمائنا أجمع، و أطبق الجمهور على الجواز.

و قد اقتفت الشيعة في ذلك أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب و قرناؤه في حديث الثقلين و نحن نكتفي هنا بإيراد شيء ممّا روي في هذا الجانب:

روى الصدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لاَبي عبد اللّه عليه السلام: أخبرني عمّا يجوز السجود عليه، و عمّا لا يجوز؟ قال: «السجود لا يجوز إلاّ على الاَرض، أو على ما أنبتت الاَرض إلاّ ما اُكل أو لبس». فقال له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك ؟

ص: 73


1- . الخلاف: 1 كتاب الصلاة/ 358357، المسألة 113112.
2- . الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي 726648 هو هو زعيم الشيعة في القرن السابع، لا يسمح الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة.

قال: «لاَنّ السجود خضوع للّه عزّ و جلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل و يلبس، لاَنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون، و الساجد في سجوده في عبادة اللّه عزّ و جلّ ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها»(1).

فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الاَرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولاً و لا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم، على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام، يدعم نظريّة الشيعة، و سيظهر لك فيما سيأتي من سرد الاَحاديث من طرقهم، و يتّضح أنّ السنّة كانت هي السجود على الاَرض، ثمّ جاءت الرخصة في الحصر و البواري فقط، و لم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.

روى المحدث النوري في المستدرك عن دعائم الاِسلام: عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي - عليهم السلام -، أنّ رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» قال: «إنّ الاَرض بكم برّة، تتيمّمون منها، و تصلّون عليها في الحياة (الدنيا) و هي لكم كفاة في الممات، و ذلك من نعمة اللّه، له الحمد، فأفضل ما يسجد عليه المصلّي الاَرض النقيّة».

و روى أيضاً عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنّه قال: «ينبغي للمصلّي أن يباشر بجبهته الاَرض، و يعفّر وجهه في التراب، لاَنّه من التذلّل للّه»(2).

و قال الشعراني ما هذا نصّه: المقصود اظهار الخضوع بالرأس حتى يمسّ

ص: 74


1- . الوسائل: ج 3، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، و هناك روايات بمضمونه. و الكلّ يتضمّن أنّ الغاية من السجود التي هي التذلّل لا تحصل بالسجود على غيرها فلاحظ.
2- . مستدرك الوسائل: 4 باب 10 من أبواب ما يسجد عليه. و لعلّ الحديث ورد في أوائل الهجرة و قد كان المسلمون آنذاك يسجدون على الاَرض فقط و لا منافاة بينه و بين ما يأتي من الرخصة بالنسبة إلى ما أنبتته الاَرض.

الاَرض بوجهه الذي هو أشرف أعضائه، سواء كان ذلك بالجبهة أو الاَنف، بل ربّما كان الاَنف عند بعضهم أولى بالوضع من حيث إنّه مأخوذ من الاَنفة و الكبرياء، فإذا وضعه على الاَرض، فكأنّه خرج عن الكبرياء التي عنده بين يدي اللّه تعالى إذ الحضرة الاِلهية محرّم دخولها على من فيه أدنى ذرة من كبر فانّها هي الجنة الكبرى حقيقة و قد قال - صلى الله عليه و آله و سلم -: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(1).

نقل الاِمام المغربي المالكي الروداني: عن ابن عباس رفعه: من لم يلزق أنفه مع جبهته بالاَرض إذا سجد لم تجز صلاته(2).

2. الفرق بين المسجود له و المسجود عليه:

كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الاَرض أو ما أنبتت منها بدعة و يتخيّل الحجر المسجود عليه وثناً، و هؤلاء هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له، و المسجود عليه، و يزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي وثناً يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. و لكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف، و لم يفرّق بين الاَمرين، و زعم المسجود عليه مسجوداً له، و قاس أمر الموحّد بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر، فأخذ بالصور و الظواهر، مع أنّ الملاك هو الاَخذ بالبواطن و الضمائر، فالوثن عند الوثني معبود و مسجود له يضعه أمامه و يركع و يسجد له، و لكن الموحّد الذي يريد أن يصلّي في إظهار العبودية إلى نهاية

ص: 75


1- . اليواقيت و الجواهر في عقائد الاَكابر: عبد الوهاب بن أحمد بن علي الاَنصاري المصري المعروف بالشعراني (من أعيان علماء القرن العاشر): 1/164. الطبعة الأولى.
2- . محمد بن محمد بن سليمان المغربي (المتوفى عام 1049): جمع الفوائد من جامع الأصول و مجمع الزوائد: 1/214 برقم 1515.

مراتبها، يخضع للّه سبحانه و يسجد له، و يضع جبهته و وجهه على التراب و الحجر و الرمال و الحصى، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلاً: أين التراب و ربّ الاَرباب.

نعم: الساجد على التربة غير عابد لها، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها، و من توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان، و سيؤَدي إلى إرباك كلّ المصلين و الحكم باشراكهم، فمن يسجد على الفرش و القماش و غيره لا بدّ أن يكون عابداً لها على هذا المنوال فيا للعجب العجاب!!

3. السنّة في السجود في عصر الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - و بعده:

إنّ النبي الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم - و صحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الاَرض مدّة لا يستهان بها، متحمّلين شدّة الرمضاء، و غبار التراب، و رطوبة الطين، طيلة أعوام. و لم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب و كور العمامة بل و لا على الحصر و البواري و الخمر، و أقصى ما كان عندهم لرفع الاَذى عن الجبهة، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود عليها، و قد شكا بعضهم رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» من شدّة الحرّ، فلم يجبه، إذ لم يكن له أن يبدل الاَمر الاِلهي من تلقاء نفسه، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر و الحصر، فوسع الاَمر للمسلمين لكن في إطار محدود، و على ضوء هذا فقد مرّت في ذلك الوقت على المسلمين مرحلتان لا غير:

1 ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الاَرض بأنواعها المختلفة من التراب و الرمل و الحصى و الطين، و لم تكن هناك أيّة رخصة لغيرها.

2 المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الاَرض من الحصى

ص: 76

و البواري و الخمر، تسهيلاً للاَمر، و رفعاً للحرج و المشقّة، و لم تكن هناك أيّة مرحلة أُخرى توسع الاَمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدّعيه البعض، و إليك البيان:

المرحلة الأُولى: السجود على الأرض:

اشارة

1 روى الفريقان عن النبيّ الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم - أنّه قال: «و جُعلت لي الاَرض مسجداً و طهوراً»(1).

و المتبادر من الحديث أنّ كلّ جزء من الاَرض مسجد و طهور يُسجد عليه و يُقصد للتيمّم، و على ذلك فالاَرض تقصد للجهتين: للسجود تارةً ، و للتيمّم اُخرى.

و أمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة و السجود للّه سبحانه لا يختص بمكان دون مكان، بل الاَرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبِيَع و الكنائس، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه، فإنّه إذا كانت الاَرض على وجه الاِطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الاَرض كلّها صالحة للعبادة، فما ذكر معنى التزامي لما ذكرناه، و يعرب عن كونه المراد ذكر «طهوراً» بعد «مسجداً» و جعلهما مفعولين ل «جُعلت» و النتيجة هو توصيف الاَرض بوصفين: كونه مسجداً و كونه طهوراً، و هذا هو الذي فهمه الجصاص و قال: إنّ ما جعله من الاَرض مسجداً هو الذي جعله طهوراً(2).

و مثله غيره من شرّاح الحديث.

ص: 77


1- . صحيح البخاري: 1/91 كتاب التيمّم الحديث 2 و سنن البيهقي: 2/433 باب: أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد، و رواه غيرهما من أصحاب الصحاح و السنن.
2- . أحكام القرآن للجصاص: 2/389 نشر بيروت.

تبريد الحصى للسجود عليها:

2 عن جابر بن عبد اللّه الاَنصاري، قال: كنت اُصلّي مع النبيّ «صلى الله عليه و آله و سلم» الظهر، فآخذ قبضة من الحصى، فأجعلها في كفّي ثمّ اُحوّلها إلى الكف الأُخرى حتى تبرد ثمّ أضعها لجبيني، حتّى أسجد عليها من شدّة الحرّ(1).

و علّق عليه البيهقي بقوله: قال الشيخ: و لو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف و وضعها للسجود(2).

و نقول: و لو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلاً أم منفصلاً جائزاً لكان أسهل من تبريد الحصى، و لاَمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه.

3 روى أنس قال: كنّا مع رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه و سجد عليه(3).

4 عن خباب بن الاَرت قال: شكونا إلى رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» شدّة الرمضاء في جباهنا و أكفّنا فلم يشكنا(4).

قال ابن الاَثير في معنى الحديث: إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم(5).

ص: 78


1- . مسند أحمد: 3/327 من حديث جابر و سنن البيهقي: 1/439 باب ما روي في التعجيل بها في شدّة الحرّ.
2- . سنن البيهقي: 2/105.
3- . السنن الكبرى: 2/106.
4- . سنن البيهقي: 2/105 باب الكشف عن الجبهة.
5- . ابن الاَثير: النهاية: 2/497 مادة «شكى».

هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الاَرض فقط، حتّى أنّ الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنفصلة، و هو «صلى الله عليه و آله و سلم» مع كونه بالمؤمنين رءوفاً رحيماً أوجب عليهم مسّ جباههم الاَرض، و إن آذتهم شدّة الحرّ.

و الذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الاَرض، و عن إصرار النبي الاَكرم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتّصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل و السجاجيد، ما روي من حديث الاَمر بالتتريب في غير واحد من الروايات.

الأمر بالتتريب:

6 عن خالد الجهني: قال: رأى النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له: «ترّب وجهك يا صهيب»(1).

7 و الظاهر أنّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب، بالسجود على الثوب المتّصل و المنفصل، و لا أقل بالسجود على الحصر و البواري و الاَحجار الصافية، و على كلّ تقدير، فالحديث شاهد على أفضليّة السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما مرّ من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الاَرض.

8 روت أُمّ سلمة رضي اللّه عنها: رأى النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - غلاماً لنا يقال له أفلح ينفخ إذا سجد، فقال: «يا أفلح ترّب»(2).

ص: 79


1- . المتقي الهندي: كنز العمال: 7/465 برقم 19810.
2- . المصدر نفسه: 7/459 برقم 19776.

9 و في رواية: «يا رباح ترّب وجهك»(1).

10 روى أبو صالح قال: دخلت على أُمّ سلمة، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين، فلمّا سجد نفخ التراب، فقالت أُمّ سلمة: ابن أخي لا تنفخ، فإنّي سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يقول لغلام له يقال له يسار و نفخ: «ترّب وجهك للّه»(2).

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة:

11 روي: أنّ النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته(3).

12 روي عن علي أمير المؤمنين أنّه قال: «إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه»، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة(4).

13 روى صالح بن حيوان السبائي: أنّ رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» رأى رجلاً يسجد بجنبه و قد اعتمّ على جبهته فحسر رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» عن جبهته(5).

14 عن عياض بن عبد اللّه القرشي: رأى رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» رجلاً يسجد على كور عمامته فأومأ بيده: «ارفع عمامتك» و أومأ إلى جبهته (6).

هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ

ص: 80


1- . المتقي الهندي: كنز العمال: 7/459 برقم 19777.
2- . المصدر نفسه: 7/465، برقم 19810 و مسند أحمد: 6/301.
3- . ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1/151 كما في السجود على الاَرض 41.
4- . منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند: 3/194.
5- . البيهقي: السنن الكبرى: 2/105. (6) المصدر نفسه.

السجود على الاَرض، و لم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى، و لو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك، و لما أمر النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - بالتتريب، و حسر العمامة عن الجبهة.

المرحلة الثانية: الترخيص في السجود على الخُمر و الحصر:

اشارة

هذه الاَحاديث و المأثورات المبثوثة في الصحاح و المسانيد و سائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - و أصحابه بالسجود على الاَرض بأنواعها، و أنّهم كانوا لا يعدلون عنه، و إن صعب الاَمر و اشتدّ الحرّ، لكن هناك نصوصاً تعرب عن ترخيص النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - بايحاء من اللّه سبحانه إليه السجود على ما أنبتت الاَرض، فسهل لهم بذلك أمر السجود، و رفع عنهم الاصر و المشقّة في الحرّ و البرد، و فيما إذا كانت الاَرض مبتلّة، و إليك تلك النصوص:

1 عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يصلّي على الخمرة(1).

2 عن ابن عباس: كان رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يصلّي على الخمرة، و في لفظ: و كان النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - يصلّي على الخمرة(2).

3 عن عائشة: كان النبيّ صلّي على الخمرة(3).

4 عن أُمّ سلمة: كان رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يصلّي على الخمرة(4).

ص: 81


1- . أبو نعيم الاصفهاني: أخبار اصبهان: 2/141.
2- . مسند أحمد: 3093031/269 و 358.
3- . المصدر نفسه: 6/179 و فيه أيضاً قال للجارية و هو في المسجد: ناوليني الخمرة.
4- . المصدر نفسه: 302.

5 عن ميمونة: و رسول اللّه يصلّي على الخمرة فيسجد(1).

6 عن أُمّ سليم قالت: كان [رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -] يصلّي على الخمرة(2).

7 عن عبد اللّه بن عمر: كان رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يصلّي على الخمر(3).

السجود على الثياب لعذر:

قد عرفت المرحلتين الماضيتين، و لو كانت هناك مرحلة ثالثة فإنّما هي مرحلة جواز السجود على غير الاَرض و ما ينبت منها لعذر و ضرورة. و يبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ «صلى الله عليه و آله و سلم» لم يُجب شكوى الاَصحاب من شدّة الحرّ و الرمضاء، و راح هو و أصحابه يسجدون على الاَرض متحمّلين الحرّ و الاَذى، و لكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر و ضرورة، و إليك ما ورد في هذا المقام:

1 عن أنس بن مالك: كنّا إذا صلّينا مع النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الاَرض، طرح ثوبه ثمّ سجد عليه.

2 و في صحيح البخاري: كنّا نصلّي مع النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الاَرض، بسط ثوبه.

3 و في لفظ ثالث: كنّا إذا صلّينا مع النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - فيضع أحدنا طرف الثوب

ص: 82


1- . مسند أحمد: 3356/331.
2- . المصدر نفسه: 377.
3- . المصدر نفسه: 982/92.

من شدّة الحرّ مكان السجود(1).

و هذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح و المسانيد تكشف حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً. و ذلك لاَنّ رواية أنس نصّ في أنّهم كانوا يفعلون ذلك حالة الضرورة، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات، و إليك بعض ما روي في هذا المجال:

1 عبد اللّه بن محرز عن أبي هريرة: كان رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» يصلّي على كور عمامته(2).

إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّ «صلى الله عليه و آله و سلم» عن السجود عليه، محمولة على العذر و الضرورة، و قد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه، حيث قال: قال الشيخ: «و أمّا ما روي في ذلك عن النبيّ «صلى الله عليه و آله و سلم» من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك، و أصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ «صلى الله عليه و آله و سلم»(3).

و قد روي عن ابن راشد قال: رأيت مكحولاً يسجد على عمامته فقلت: لما تسجد عليها؟ قال أتّقي البرد على أسناني(4).

2 ما روي عن أنس: كنّا نصلّي مع النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - فيسجد أحدنا على ثوبه(5).

ص: 83


1- . صحيح البخاري: 1/101، صحيح مسلم: 2/109، مسند أحمد: 1/100، السنن الكبرى: 2/106.
2- . كنز العمال: 8/130 برقم 22238.
3- . البيهقي: السنن: 2/106.
4- . المصنف لعبد الرزاق: 1/400 كما في سيرتنا و سنّتنا، و السجدة على التربة 93.
5- . البيهقي: السنن الكبرى: 2/106، باب من بسط ثوباً فسجد عليه.

و الرواية محمولة على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه، و بما رواه عنه البخاري: كنّا نصلّي مع النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - في شدّة الحرّ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن وجهه من الاَرض بسط ثوبه فسجد عليه(1).

و يؤَيّده ما رواه النسائي أيضاً: كنّا إذا صلّينا خلف النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ(2).

و هناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدلّ إلاّ على أنّ النبيّ «صلى الله عليه و آله و سلم» صلّى على الفرو. و أمّا أنّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.

3 عن المغيرة بن شعبة: كان رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يصلّي على الحصير و الفرو المدبوغة(3).

و الرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث، ليست ظاهرة في السجود عليه. و لا ملازمة بين الصلاة على الفرو و السجدة عليه، و لعلّه «صلى الله عليه و آله و سلم» وضع جبهته على الاَرض أو ما ينبت منها. و على فرض الملازمة لا تقاوم هي و ما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.

حصيلة البحث:

إنّ المتأمّل في الروايات يجد و بدون لبس أنّ قضيّة السجود في الصلاة مرت بمرحلتين أو ثلاثة مراحل ففي المرحلة الأولى كان الفرض السجود على الاَرض و لم

ص: 84


1- . البخاري: 2/64 كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.
2- . ابن الاَثير: الجامع الأصول: 5/468 برقم 3660.
3- . أبو داود: السنن: باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331.

يرخّص للمسلمين السجود على غيرها، و في الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الاَرض، و ليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أُخرى إلاّ جواز السجود على الثياب لعذر و ضرورة، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو و أمثاله مطلقاً فمحمولة على الضرورة، أو لا دلالة لها على السجود عليها، بل غايتها الصلاة عليها.

و من هنا يظهر بوضوح أنّ ما التزمت به الشيعة هو عين ما جاءت به السنّة النبويّة، و لم تنحرف عنه قيد أنملة، و لعلّ الفقهاء أدرى بذلك من غيرهم، لاَنّهم الامناء على الرسالة و الادلاء في طريق الشريعة، و نحن ندعو إلى قليل من التأمّل لاِحقاق الحقّ و تجاوز البدع.

ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة ؟

بقي هنا سؤال يطرحه كثيراً اخواننا أهل السنّة حول سبب اتّخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر و الحضر و السجود عليها دون غيرها. و ربّما يتخيّل البسطاء كما ذكرنا سابقاً أنّ الشيعة يسجدون لها لا عليها، و يعبدون الحجر و التربة، و ذلك لاَنّ هؤلاء المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة، و السجود لها.

و على أيّ تقدير فالاِجابة عنها واضحة، فإنّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها، من أيّ أرض أُخذت، و من أيّ صقع من أرجاء العالم كانت، و هي كلّها في ذلك سواء.

و ليس هذا الالتزام إلاّ مثل التزام المصلّي بطهارة جسده و ملبسه و مصلاّه، و أمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها، و يتّخذها

ص: 85

مسجداً، لا تتأتّى له في كلّ موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حلّه و ترحاله، بل و أنّى له ذلك و هذه الاَماكن ترتادها أصناف مختلفة من البشر، مسلمين كانوا أم غيرهم، ملتزمين بأُصول الطهارة أم غير ذلك، و في ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم في صلاته لا يجد مناصاً من أن يتخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئنّ بها و بطهارتها، يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على الرجاسة و النجاسة، و الاَوساخ التي لا يتقرّب بها إلى اللّه قط و لا تجوّز السنّة السجود عليها و لا يقبله العقل السليم، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي و لباسه و النهي عن الصلاة في مواطن منها:

المزبلة، و المجزرة، و قارعة الطريق، و الحمام، و مواطن الاِبل، بل و الاَمر بتطهير المساجد و تطييبها(1).

و هذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح و إن غفل التاريخ عن نقلها، فقد روي: أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الاَجدع المتوفّى عام 62 كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها. كما أخرجه بن أبي شيبة في كتابه المصنف، باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها(2).

إلى هنا تبيّن أنّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلاّ لتسهيل الاَمر للمصلّي في سفره و حضره خوفاً من أن لا يجد أرضاً طاهرةً أو حصيراً طاهراً فيصعب الاَمر عليه، و هذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليها.

ص: 86


1- . العلاّمة الاَميني: سيرتنا و سنّتنا 159158.
2- . أبو بكر بن أبي شيبة: المصنف: 1/400 كما في السجدة على التربة 93.

و أمّا السرّ في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية فإنّ من الاَغراض العالية و المقاصد السامية منها، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة، تضحية ذلك الاِمام بنفسه و أهل بيته و الصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة و المبدأ و مقارعة الجور و الفساد.

و لمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة، و في الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية، أُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ ، و ارتفعت أرواحهم إلى الملا الاَعلى، ليخشع و يخضع و يتلازم الوضع و الرفع، و تحتقر هذه الدنيا الزائفة، و زخارفها الزائلة، و لعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر، فيكون حينئذ في السجود سر الصعود و العروج من التراب إلى ربّ الاَرباب(1).

و قال العلاّمة الاَميني: نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً، و أقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الاَجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها، و الرجل تلميذ الخلافة الراشدة، فقيه المدينة، و معلّم السنّة بها، و حاشاه من البدعة. فليس في ذلك أيّ حزازة و تعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة اللّه و سنّة رسوله - صلى الله عليه و آله و سلم - أو خروج من حكم العقل و الاعتبار.

و ليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم، و لا من واجب الشرع و الدين، و لا ممّا ألزمه المذهب، و لا يفرق أيّ أحد منهم منذ أوّل

ص: 87


1- . الاَرض و التربة الحسينية: 24.

يومها بينها و بين غيرها من تراب جميع الاَرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم و بآرائهم، و إن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ، و اختيار لما هو الاولى بالسجود لدى العقل و المنطق و الاعتبار فحسب كما سمعت، و كثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله و يسجدون عليه في صلواتهم(1).

هذا إلمام إجمالي بهذه المسألة الفقهية و التفصيل موكول إلى محلّه، و قد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر و أكابره، و أخص بالذكر منهم.

1 المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (13731295 ه) في كتابه الاَرض و التربة الحسينية.

2 العلاّمة الكبير الشيخ عبد الحسين الاَميني مؤَلّف الغدير (13901320 ه) فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبع في آخر كتابه «سيرتنا و سنّتنا».

3 السجود على الاَرض للعلاّمة الشيخ علي الاَحمدي دام عزّه فقد أجاد في التتبّع و التحقيق.

فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم اللّه الماضين من علمائنا و حفظ اللّه الباقين منهم.

هذا ما وقفنا عليه من الاَبحاث و التي أوردناها في هذا المختصر.

***

ص: 88


1- . العلاّمة الاَميني: سيرتنا و سنّتنا: 167166 طبعة النجف الاَشرف.

ليست هذه أوّل قارورة كسرت في الاِسلام:

قد وقفت على أنّ السجود على الاَرض أو على الحصر و البواري و أشباهها هو السنّة، و أنّ السجود على الفرش و السجاجيد و أشباهها هو البدعة، و أنّه ما أنزل اللّه به من سلطان، و لكن يا للاَسف صارت السنّة بدعة و البدعة سنّة. فلو عمل الرجل بالسنّة في المساجد و المشاهد، و سجد على التراب و الاَحجار يوصف عمله بالبدعة، و الرجل بالمبدع. و لكن ليس هذا فريداً في بابه فقد نرى في فقه المذاهب الاَربعة نظائر. نذكر موضعين:

1 قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي:

السنّة في القبر، التسطيح. و هو أولى على الراجح من مذهب الشافعي.

و قال أبو حنيفة و مالك: التسنيم أولى، لاَنّ التسطيح صار شعاراً للشيعة(1).

2 قال الاِمام الرازي: روى البيهقي عن أبي هريرة قال: كان رسول اللّه يُجهر في الصلاة ب «بسم اللّه الرحمن الرحيم» و كان عليٌّ رضي اللّه عنه يُجهر بالتسمية و قد ثبت بالتواتر، و كان علي بن أبي طالب يقول: يا من ذكره شرف للذاكرين، و مثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه.

و قالت الشيعة: السنّة، هي الجهر بالتسمية، سواء أ كانت في الصلاة

ص: 89


1- . الدمشقي: رحمة الأُمة في اختلاف الاَئمّة: 1/88 و نقله أيضاً العلاّمة الاَميني في الغدير: 10/209.

الجهرية أو السرية، و جمهور الفقهاء يُخالفونهم إلى أن قال: إنّ عليّاً كان يُبالغ في الجهر بالتسمية، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أُميّة بالغوا في المنع من الجهر، سعياً في إبطال آثار عليّ رضي اللّه عنه(1).

ص: 90


1- . الرازي: مفاتيح الغيب: 2061/205.

المسألة الخامسة: الخمس في الأرباح و المكاسب

[الأصل في ضريبة الخمس هو قوله سبحانه: "وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ ...]

اشارة

المسألة الخامسة: الخمس في الأرباح و المكاسب(1)

[الأصل في ضريبة الخمس هو قوله سبحانه: "وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ ...]

الاَصل في ضريبة الخمس هو قوله سبحانه:" وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا يَوْمَ اَلْفُرْقٰانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ " (الاَنفال/ 41).

لا شك أنّ الآية نزلت في مورد خاص، أعني يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان و هو غزوة «بدر» الكبرى، لكن الكلام في أنّ قوله" ما غَنِمْتُمْ "هل هو عام لكل ما يفوز به الانسان في حياته أو خاص بما يظفر به في الحرب من السلب و النهب ؟

و على فرض كونه عامّاً فهل المورد مخصّص أو لا؟

فيقع الكلام في مقامين:

اشارة

ص: 91


1- . ربّما يتخيّل بعض البسطاء أنّ الشيعة تنفرد بالقول بوجوب الخمس في غير الغنائم، و لأَجل توضيح الحال ندرس الموضوع في ظل الكتاب و السنّة، و كلمات الفقهاء.
الأوّل: الغنيمة مطلق ما يفوز به الإنسان:

أمّا الاَوّل فالظاهر من أئمّة اللغة أنّه في الاَصل أعم ممّا يظفر به الانسان في ساحات الحرب، بل هو لغة لكلّ ما يفوز به الانسان و إليك بعض كلماتهم.

1 قال الاَزهري: «قال الليث: الغنم: الفوز بالشيء، و الاغتنام انتهاز الغنم»(1).

2 قال الراغب: الغنم معروف... و الغُنْم: إصابته و الظفر به، ثمّ استعمل في كل مظفور به من جهة العِدَى و غيرهم قال:" وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ "" فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلاٰلاً طَيِّباً "و المغنم: ما يُغنم و جمعه مغانم، قال:" فَعِنْدَ اَللّٰهِ مَغٰانِمُ كَثِيرَةٌ (2) ".

3 قال ابن فارس: «غنم» أصل صحيح واحد يدل على افادة شيء لم يملك من قبل ثمّ يختص بما أُخذ من المشركين(3).

4 قال ابن منظور: «الغُنْم» الفوز بالشيء من غير مشقّة(4).

5 قال ابن الاَثير: في الحديث: «الرهن لمن رهنه، له غُنمه و عليه غُرمه، غنمه: زيادته و نماؤه و فاضل قيمته»(5).

6 قال الفيروزآبادي: «الغنم» الفوز بالشيء لا بمشقّة، و أغنمه كذا تغنيماً

ص: 92


1- . الاَزهري: تهذيب اللغة، مادة «غنم».
2- . الراغب الاصفهاني: المفردات، مادة «غنم».
3- . ابن فارس: مقاييس اللغة مادة «غنم».
4- . ابن منظور الاَفريقي: لسان العرب نفس المادة.
5- . نهاية اللغة، مادة «غنم».

نفله إيّاه، و اغتنمه و تغنّمه، عدّه غنيمة(1).

و هذه النصوص تعرب عن أنّ المادّة لم توضع لما يفوز به الانسان في الحروب، بل معناها أوسع من ذلك و إن كان لا يستعمل في العصور المتأخّرة عن نزول القرآن إلاّ في ما يظفر به في ساحة الحرب.

و لأَجل ذلك نجد أنّ المادة استعملت في مطلق ما يفوز به الانسان في الذكر الحكيم و السنّة النبويّة.

لقد استعمل القرآن لفظة «المغنم» فيما يفوز به الانسان و إن لم يكن عن طريق القتال بل كان عن طريق العمل العادي الدنيوي أو الأُخروي إذ يقول سبحانه:

" يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لاٰ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقىٰ إِلَيْكُمُ اَلسَّلاٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا فَعِنْدَ اَللّٰهِ مَغٰانِمُ كَثِيرَةٌ "(2).

و المراد بالمغانم الكثيرة: هو أجر الآخرة، بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا فيدل على أنّ لفظ المغنم لا يختصّ بالأمور و الاَشياء التي يحصل عليها الانسان في هذه الدنيا و في ساحات الحرب فقط، بل هو عام لكلّ مكسب و فائدة.

ثمّ إنّه قد وردت هذه اللفظة في الاَحاديث و أُريد منها مطلق الفائدة الحاصلة للمرء.

ص: 93


1- . قاموس اللغة، مادة «غنم».
2- . النساء: الآية 94.

روى ابن ماجة في سننه: أنّه جاء عن رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: «اللّهمّ اجعلها مغنماً و لا تجعلها مغرما»(1).

و في مسند أحمد عن رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: «غنيمة مجالس الذكر الجنّة»(2).

و في وصف شهر رمضان عنه - صلى الله عليه و آله و سلم -: «غنم للمؤمن»(3).

و في نهاية ابن الاَثير: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، سمّاه غنيمة لما فيه من الاَجر و الثواب(4).

فقد بان ممّا نقلناه من كلمات أئمّة اللغة و موارد استعمال تلك المادة في الكتاب و السنّة، أنّ العرب تستعملها في كل مورد يفوز به الانسان، من جهة العدى و غيرهم، و إنّما صار حقيقة متشرعة في الاَعصار المتأخّرة في خصوص ما يفوز به الانسان في ساحة الحرب، و نزلت الآية في أوّل حرب خاضها المسلمون تحت لواء رسول اللّه، و لم يكن الاستعمال إلاّ تطبيقاً للمعنى الكلّي على مورد خاص.

الثاني: المورد لا يخصّص:

إذا كان مفهوم اللفظ عامّاً يشمل كافّة ما يفوز به الانسان، فلا يكون وروده في مورد خاص، مخصّصاً لمفهومه و مضيقاً لعمومه، إذا وقفنا على أنّ التشريع الاِسلامي فرض الخمس في الركاز و الكنز و السيوب أوّلاً، و أرباح المكاسب ثانياً، فيكون ذلك التشريع مؤَكّداً لإطلاق الآية، و لا يكون وروده في الغنائم الحربية

ص: 94


1- . ابن ماجة: السنن: كتاب الزكاة، باب ما يقال عند اخراج الزكاة، الحديث 1797.
2- . أحمد: المسند: ج 2 ص 330 و 374 و 524.
3- . المصدر نفسه: ص 177.
4- . النهاية، مادة «غنم».

رافعاً له. و إليك ما ورد في السنّة من الروايات في الموردين:

[ما ورد في السنّة من الروايات]

1. الخمس في الركاز و الكنز و السيوب:

اشارة

تضافرت الروايات عن النبي الاَعظم على وجوب الخمس في الركاز و الكنز و السيوب و إليك النصوص أوّلاً، ثمّ تبيين مفادها ثانياً.

روى لفيف من الصحابة كابن عباس و أبي هريرة و جابر و عبادة بن الصامت و أنس بن مالك، وجوب الخمس في الركاز و الكنز و السيوب، و إليك قسماً ممّا روي في ذلك المجال:

1 في مسند أحمد و سنن ابن ماجة و اللفظ للاَوّل: عن ابن عباس قال:

قضى رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - في الركاز، الخمس(1).

2 و في صحيحي مسلم و البخاري و اللفظ للاَوّل: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -:

«العجماء جرحها جبار، و المعدن جبار، و في الركاز الخمس»، و في بعض الروايات عند أحمد: البهيمة عقلها جبار(2)

قال أبو يوسف في كتاب الخراج: كان أهل الجاهلية إذا عطبَ الرجل في قُلَيبٍ جعلوا القليب عَقَله، و إذا قتلته دابة جعلوها عقله، و إذا قتله معدن جعلوه عقله. فسأل سائل رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - عن ذلك فقال: «العجماء جبار، و المعدن جبار،

ص: 95


1- . أحمد: المسند: 1/314، و سنن ابن ماجة 2/839 ط 1373 ه.
2- . مسلم: الصحيح: 5/127 باب جرح العجماء و المعدن و البئر جبار، من كتاب الحدود، و صحيح البخاري 1/182 باب في الركاز الخمس.

و البئر جبار، و في الركاز الخمس» فقيل له: ما الركاز يا رسول اللّه ؟ فقال: «الذهب و الفضة الذي خلقه اللّه في الاَرض يوم خلقت»(1).

3 و في مسند أحمد: عن الشعبي عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: «السائمة جبار، و الجَبّ جبار، و المعدن جبار، و في الركاز الخمس» قال الشعبي: الركاز: الكنز العادي(2).

4 و فيه أيضاً: عن عبادة بن الصامت قال:

من قضاء رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - أنّ المعدن جبار، و البئر جبّار، و العجماء جرحها جبار، و العجماء: البهيمة من الاَنعام و غيرها، و الجبار هو الهدر الذي لا يُغرم، و قضى في الركاز الخمس(3).

5 و فيه: عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - إلى خيبر فدخل صاحب لنا إلى خربةٍ يقضي حاجته فتناول لبنة ليستطيب بها فانهارت عليه تبرا، فأخذها فأتى بها النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - فأخبره بذلك، قال: «زنها» فوزنها فإذا مائتا درهم فقال النبي: «هذا ركاز و فيه الخمس»(4).

6 و فيه: أنّ رجلاً من مزينة سأل رسول اللّه مسائل جاء فيها: فالكنز نجده في الخرب و في الآرام ؟ فقال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: «فيه و في الركاز الخمس»(5).

ص: 96


1- . الخراج: 22.
2- . أحمد: المسند: 3/335.
3- . المصدر نفسه: 5/326.
4- . المصدر نفسه: 3/128.
5- . المصدر نفسه: 2/186.

7. و في نهاية اللغة و لسان العرب و تاج العروس في مادة «سيب» و اللفظ للاَوّل: و في كتابه أي كتاب رسول اللّه لوائل بن حجر: «و في السيوب الخمس» السيوب: الركاز.

قالوا:

«السيوب: عروق من الذهب و الفضة تَسيب في المعدن، أي تتكوّن فيه و تظهر» و السيوب: جمع سيب، يريد به أي يريد النبي بالسيب المال المدفون في الجاهلية، أو المعدن لاَنّه من فضل اللّه تعالى و عطائه لمن أصابه»(1).

تفسير ألفاظ الأحاديث:

العجماء: الدابة المنفلتة من صاحبها، فما أصابت في انفلاتها فلا غرم على صاحبها، و المعدن جبار يعني: إذا احتفر الرجل معدناً فوقع فيه انسان فلا غرم عليه، و كذلك البئر إذا احتفرها الرجل للسبيل فوقع فيها إنسان فلا غرم على صاحبها، و في الركاز الخمس، و الركاز: ما وجد من دفن أهل الجاهلية فمن وجد ركازاً أدّى منه الخمس إلى السلطان و ما بقي له(2).

و الآرام: الاَعلام و هي حجارة تجمع و تنصب في المفازة يُهتدى بها، واحدها إرَم كعنب. و كان من عادة الجاهلية أنّهم إذا وجدوا شيئاً في طريقهم لا يمكنهم استصحابه، تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه(3).

و في لسان العرب و غيره من معاجم اللغة،: ركَزَه يركُزُه رَكزاً: إذا دفنه.

ص: 97


1- . ابن الاَثير: النهاية، مادة «سيب».
2- . الترمذي: السنن 6/145 باب ما جاء في العجماء.
3- . النهاية، مادة «ارم».

و الركاز: قطع ذهب و فضة تخرج من الاَرض أو المعدن، واحده الركزة كأنّه ركز في الاَرض.

و في نهاية اللغة: و الركزة: القطعة من جواهر الاَرض المركوزة فيها و جمع الركزة الركاز.

إنّ هذه الروايات تعرب عن كون وجوب الخمس في الكنز و المعادن، ضريبة غير الزكاة، و قد استند إليها أُستاذ الفقهاء أبو يوسف في كتابه «الخراج» و إليك نصّه:

كلام أبي يوسف في المعدن و الركاز:

قال أبو يوسف: في كل ما أُصيب من المعادن من قليل أو كثير، الخمس، و لو أنّ رجلاً أصاب في معدن أقل من وزن مائتي درهم فضّة أو أقل من وزن عشرين مثقالاً ذهباً فإنّ فيه الخمس، و ليس هذا على موضع الزكاة إنّما هو على موضع الغنائم(1)، و ليس في تراب ذلك شيء إنّما الخمس في الذهب الخالص و الفضة الخالصة و الحديد و النحاس و الرصاص، و لا يحسب لمن استخرج ذلك من نفقته عليه شيء، و قد تكون النفقة تستغرق ذلك كلّه فلا يجب إذن فيه خمس عليه، و فيه الخمس حين يفرغ من تصفيته قليلاً كان أو كثيراً، و لا يحسب له من نفقته شيء من ذلك و ما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة مثل الياقوت و الفيروزج و الكحل و الزئبق و الكبريت و المغرّة فلا خمس في(2) من ذلك، إنّما

ص: 98


1- . ترى أنّ أبا يوسف يعد الخمس الوارد في هذا الموضع من مصاديق الغنيمة الواردة في آية الخمس و هو شاهد على كونها عامة مفهوماً.
2- . هذا رأي أبي يوسف، و اطلاق الآية يخالفه مضافاً إلى مخالفته مع روايات أئمّة أهل البيت فإنّها تفرض الخمس في الجميع.

ذلك كلّه بمنزلة الطين و التراب.

قال: و لو أنّ الذي أصاب شيئاً من الذهب أو الفضة أو الحديد أو الرصاص أو النحاس، كان عليه دين فادح لم يُبطل ذلك الخمس عنه، أ لا ترى لو أنّ جنداً من الاَجناد أصابوا غنيمة من أهل الحرب خُمِّسَت و لم ينظر أ عليهم دين أم لا، و لو كان عليهم دين لم يمنع ذلك من الخمس.

قال: و أمّا الركاز فهو الذهب و الفضة الذي خلقه اللّه عزّ و جلّ في الاَرض يوم خلقت، فيه أيضاً الخمس، فمن أصاب كنزاً عاديّاً في غير ملك أحد فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب فإنّ في ذلك الخمس و أربعة أخماسه للذي أصابه و هو بمنزلة الغنيمة يغنمها القوم فتخمَّس و ما بقي فلهم.

قال: و لو أنّ حربياً وجد في دار الاِسلام ركازاً و كان قد دخل بأمان، نزع ذلك كلّه منه و لا يكون له منه شيء، و إن كان ذمّياً أُخذ منه الخمس كما يؤخذ من المسلم، و سلِّم له أربعة أخماسه. و كذلك المكاتب يجد ركازاً في دار الاِسلام فهو له بعد الخمس...(1).

2. الخمس في أرباح المكاسب:

يظهر من غير واحد من الروايات أنّ النبيّ الاَكرم أمر باخراج الخمس من مطلق ما يغنمه الانسان من أرباح المكاسب و غيرها و إليك بعض ما ورد في المقام:

1 لمّا وفد عبد القيس لرسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - فقالوا: «إنّ بيننا و بينك المشركين

ص: 99


1- . الخراج: 22.

و إنّا لا نصل إليك إلاّ في الاَشهر الحرم فمرنا بجمل الاَمر، إن عملنا به دخلنا الجنة و ندعو إليه من وراءنا» فقال - صلى الله عليه و آله و سلم -: «آمركم بأربع و أنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان باللّه، و هل تدرون ما الاِيمان، شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و تعطوا الخمس من المغنم»(1).

و من المعلوم أنّ النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - لم يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا غنائم الحرب كيف و هم لا يستطيعون الخروج من حيّهم في غير الاَشهر الحرم، خوفاً من المشركين. فيكون قد قصد المغنم بمعناه الحقيقي في لغة العرب و هو ما يفوزون به فعليهم أن يعطوا خمس ما يربحون.

و هناك كتب و مواثيق، كتبها النبيّ و فرض فيها الخمس على أصحابها و ستتبيّن بعد الفراغ من نقلها، دلالتها على الخمس في الاَرباح و إن لم تكن غنيمة حربية فانتظر.

2 كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم... هذا... عهد من النبي رسول اللّه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى اللّه في أمره كلّه، و أن يأخذ من المغانم خمس اللّه، و ما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عُشر ما سقى البعل و سقت السماء، و نصف العُشر ممّا سقى الغرب»(2).

ص: 100


1- . البخاري: الصحيح: 4/250 باب «و اللّه خلقكم و ما تعملون» من كتاب التوحيد، و ج 1 ص 13 و 19، و ج 3 ص 53، و مسلم: الصحيح 361/35 باب الاَمر بالإيمان، النسائي: السنن: 1/333، و أحمد: المسند 1/318، الاَموال: ص 12 و غيرها.
2- . البلاذري: فتوح البلدان: 1/81 باب اليمن، و سيرة ابن هشام: 4/265. و تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك: 1/157.

و البعل ما سُقِيَ بعروقه، و الغرب: الدلو العظيمة.

3 كتب إلى شرحبيل بن عبد كلال و نعيم بن عبد كلال و الحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين، و معافر و همدان:

«أمّا بعد، فقد رجع رسولكم و أُعطيتم من المغانم خمس اللّه»(1).

4 كتب إلى سعد هُذيم من قضاعة، و إلى جذام كتاباً واحداً يعلّمهم فرائض الصدقة، و يأمرهم أن يدفعوا الصدقة و الخمس إلى رسوليه أُبيّ و عنبسة أو من أرسلاه»(2)..

5 كتب للفُجَيع و من تبعه:

«من محمد النبيّ للفجيع، و من تبعه و أسلمَ و أقام الصلاةَ و آتى الزكاة و أطاع اللّه و رسوله و أعطى من المغانم خمس اللّه...»(3).

6 كتب لجنادة الاَزدي و قومه و من تبعه:

«ما أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أطاعوا اللّه و رسوله و أعطوا من المغانم خمس اللّه و سهم النبي و فارقوا المشركين فإنّ لهم ذمّة اللّه و ذمّة محمد بن عبد اللّه»(4).

7 كتب لجهينة بن زيد فيما كتب:

«إنّ لكم بطون الاَرض و سهولها و تلاع الاَودية و ظهورها، على أن ترعوا نباتها

ص: 101


1- . الوثائق السياسية: 227 برقم 110. (ط 4 بيروت).
2- . ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1/270.
3- . المصدر نفسه: ص 305304.
4- . المصدر نفسه: ص 270.

و تشربوا ماءها، على أن تؤدّوا الخمس»(1).

8 كتب لملوك حمير فيما كتب:

«و آتيتم الزكاة، و أعطيتم من المغانم: خمس اللّه، و سهم النبي و صفيّه و ما كتب اللّه على المؤمنين من الصدقة»(2).

9 كتب لبني ثعلبة بن عامر:

«من أسلم منهم و أقام الصلاة و آتى الزكاة و أعطى خمس المغنم و سهم النبي و الصفي»(3).

10 كتب إلى بعض أفخاذ جهينة:

«من أسلم منهم و أقام الصلاة و آتى الزكاة و أطاع اللّه و رسوله و أعطى من الغنائم الخمس»(4).

ايضاح الاستدلال بهذه المكاتيب:

يتبيّن بجلاء من هذه الرسائل أنّ النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - لم يكن يطلب منهم أن يدفعوا خمس غنائم الحرب التي اشتركوا فيها، بل كان يطلب ما استحقّ في أموالهم من خمس و صدقة.

ثمّ إنّه كان يطلب منهم الخمس دون أن يشترط في ذلك خوض الحرب و اكتساب الغنائم.

ص: 102


1- . الوثائق السياسية: ص 265 برقم 157.
2- . فتوح البلدان: 1/82 و سيرة ابن هشام: 4/258.
3- . الاصابة: 2/189 و أُسد الغابة: 3/34.
4- . ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1/271.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم الاِسلامي أو نائبه هما اللّذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب و تقسيمها بعد استخراج الخمس منها، و لا يَملِك أحد من الغزاة عدا سلب القتيل شيئاً ممّا سلب و إلاّ كان سارقاً مغلاّ.

فإذا كان اعلان الحرب و إخراج خمس الغنائم على عهد النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - من شئون النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - فما ذا يعني طلبه الخمس من الناس و تأكيده في كتاب بعد كتاب، و في عهد بعد عهد؟

فيتبيّن أنّ ما كان يطلبه لم يكن مرتبطاً بغنائم الحرب. هذا مضافاً إلى أنّه لا يمكن أن يقال: إنّ المراد بالغنيمة في هذه الرسائل هو ما كان يحصل الناس عليه في الجاهلية عن طريق النهب، كيف و قد نهى النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - عن النهب و النهبى بشدّة، ففي كتاب الفتن باب النهي عن النُّهبة عنه - صلى الله عليه و آله و سلم -:

«من انتهب نهبة فليس منّا»(1)، و قال: «إنّ النهبة لا تَحِلّ »(2) و في صحيح البخاري و مسند أحمد عن عبادة بن الصامت: بايعنا النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - على أن لا ننهب(3).

و في سنن أبي داود، باب النهي عن النهبى، عن رجل من الاَنصار قال: خرجنا مع رسول اللّه فأصاب الناس حاجة شديدة و جهدٌ، و أصابوا غنماً فانتهبوها، فإنّ قدورنا لتغلي، إذ جاء رسول اللّه يمشي متّكئاً على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه، ثمّ جعل يُرمِّل اللحم بالتراب ثمّ قال: «إنّ النهبة ليست بأحلَّ من الميتة»(4).

ص: 103


1- . ابن ماجة: السنن: كتاب الفتن ص 1298 برقم 3937 و 3938.
2- . ابن ماجة: السنن: كتاب الفتن ص 1298 برقم 3937 و 3938.
3- . البخاري: الصحيح: 2/48 باب النهب بغير اذن صاحبه.
4- . أبو داود: السنن: 2/12.

و عن عبد اللّه بن زيد: نهى النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - عن النهبى و المثلة(1).

إلى غير ذلك من الاَحاديث التي وردت في كتاب الجهاد.

و قد كانت النهيبة و النهبى عند العرب تساوق الغنيمة و المغنم في مصطلح يومنا هذا الذي يستعمل في أخذ مال العدو.

فإذا لم يكن النهب مسموحاً به في الدين، و إذا لم تكن الحروب التي يقوم بها أحد بغير اذن النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - جائزة، لم تكن الغنيمة في هذه الوثائق تعني دائماً ما يؤخذ في القتال، بل كان معنى الغنيمة الواردة فيها هو ما يفوز به الناس من غير طريق القتال بل من طريق الكسب و ما شابهه، و لا محيص حينئذ من أن يقال: إنّ المراد بالخمس الذي كان يطلبه النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - هو خمس أرباح الكسب و الفوائد الحاصلة للانسان من غير طريق القتال أو النهب الممنوع في الدين.

و على الجملة: أنّ الغنائم المطلوب في هذه الرسائل النبويّة أداء خمسها إمّا أن يراد ما يستولي عليه أحد من طريق النهب و الاغارة، أو ما يستولى عليه من طريق محاربة بصورة الجهاد، أو ما يستولى من طريق الكسب و الكد.

و الاَوّل ممنوع، بنصّ الاَحاديث السابقة فلا معنى أن يطلب النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - خمس النهيبة.

و الثاني يكون أمر الغنائم فيه بيد النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - مباشرة، فهو الذي يأخذ كل الغنائم و يضرب لكلّ من الفارس و الراجل ما له من الاَسهم بعد أن يستخرج الخمس بنفسه من تلك الغنائم، فلا معنى لاَن يطلبه النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - من الغزاة، فيكون الثالث هو المتعيّن.

ص: 104


1- . رواه البخاري في الصيد، راجع التاج: 4/334.

و ورد عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ما يدلّ على ذلك، فقد كتب أحد الشيعة إلى الاِمام الجواد - عليه السلام - قائلاً: أخبرني عن الخمس أ عَلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل و كثير من جميع الضروب و على الصنّاع و كيف ذلك ؟ فكتب - عليه السلام - بخطّه: الخمس بعد المئونة(1).

و في هذه الاِجابة القصيرة يظهر تأييد الاِمام - عليه السلام - لما ذهب إليه السائل، و يتضمّن ذكر الكيفية التي يجب أن تراعى في أداء الخمس:

و عن سماعة قال: سألت أبا الحسن (الكاظم) - عليه السلام - عن الخمس ؟ فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير(2).

و عن أبي علي بن راشد (و هو من وكلاء الاِمام الجواد و الاِمام الهادي عليهما السلام) قال: قلت له (أي الاِمام - عليه السلام -): أمرتني بالقيام بأمرك، و أخذ حقّك، فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: و أي شيء حقّه ؟ فلم أدر ما أُجيبه ؟ فقال: يجب عليهم الخمس، فقلت: و في أي شيء؟ فقال: في أمتعتهم و صنائعهم، قلت: و التاجر عليه، و الصانع بيده ؟ فقال: إذا أمكنهم بعد مئونتهم(3).

إلى غير ذلك من الاَحاديث و الاَخبار المرويّة عن النبيّ الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم - و أهل بيته الطاهرين - عليهم السلام - التي تدلّ على شمول الخمس لكلّ مكسب.

***

ص: 105


1- . الوسائل: ج 6 الباب 8 من أبواب الخمس، الحديث 1.
2- . المصدر نفسه، الحديث 6.
3- . المصدر نفسه، الحديث 3.

مواضع الخمس في الكتاب:

يقسم الخمس حسب تنصيص الآية على ستة أسهم، فيفرق على مواضعها الواردة في الآية، قال سبحانه: "وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ " (الاَنفال/ 41) غير أنّه يطيب لي تعيين المراد من ذي القربى.

إنّ "ذي اَلْقُرْبىٰ " بمعنى صاحب القرابة و الوشيجة النسبية، ويتعيّن فرده، بتعيين المنسوب إليه. و هو يختلف حسب اختلاف مورد الاستعمال، و يستعان في تعيينه بالقرائن الموجودة في الكلام إن وجدت و منها السياق، و إلاّ فيستعان بالسنّة.

قال سبحانه: "مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبىٰ " (التوبة/ 113) و المراد أقرباء المذكورين في الآية أي النبيّ و المؤمنين.

و قال سبحانه: "وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ " (الاَنعام/ 152)، و المراد أقرباء المخاطبين في الآية بقوله: "قُلْتُمْ " و "فَاعْدِلُوا ".

و قال سبحانه: "وَ إِذٰا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبىٰ " (النساء/ 8) و المراد أقرباء من يقسم ماله أعني الميّت.

و قوله سبحانه: "مٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ " (الحشر/ 7).

و قوله سبحانه: "قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ " (الشورى/ 23) المراد في الآيتين قرابة الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - لتقدم ذكره و عدم صلاحية

ص: 106

السياق إلاّ لذلك.

و أمّا آية الخمس من سورة الاَنفال المتقدم ذكرها فقد اتفق المفسرون على أنّ المراد من ذي القربى قرابة الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - و اختلفوا في اليتامى و المساكين و ابن السبيل أنّهم مطلق اليتامى و المساكين و أبناء السبيل أو من ذوي القربى على الخصوص. و السياق هنا و إن لم يقتض الالتزام بأحدهما إلاّ أنّ السنّة الشريفة الواردة عن الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - و أهل بيته اقتضت الاَخير كما يأتي في البحث التالي.

مواضع الخمس في السنّة:

و أمّا السنّة فهي أيضاً تدعم ما هو مفاد الآية:

روي عن ابن عباس: «كان رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يقسم الخمس على ستة: للّه و للرسول سهمان و سهم لاَقاربه حتى قبض»(1).

و روي عن أبي العالية الرياحي(2) كان رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -، يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة فتكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثمّ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفّه، فيجعله للكعبة و هو سهم اللّه، ثمّ يقسّم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول و سهم لذي القربى و سهم لليتامى و سهم للمساكين و سهم لابن السبيل. قال: و الذي جعله للكعبة فهو سهم اللّه(3).

ص: 107


1- . النيسابوري: ط بهامش الطبري: 10/4.
2- . أبو العالية الرياحي: هو رفيع بن مهران مات سنة 90، لاحظ تهذيب التهذيب: 3/246.
3- . أبو عبيد القاسم بن سلام: الاَموال: 325، الطبري: التفسير: 10/4، و الجصاص: أحكام القرآن: 3/60.

و لعلّ جعله للكعبة كان لتجسيد السهام و تفكيكها و ربّما خالفه كما روى عطاء بن أبي رباح(1) قال: «خمس اللّه، و خمس رسوله واحد، و كان رسول اللّه يحمل منه و يعطي منه و يضعه حيث شاء و يصنع به ما شاء»(2).

و المراد من كون سهمهما واحداً، كون أمره بيده - صلى الله عليه و آله و سلم - بخلاف الاَسهم الاُخر، فإنّ مواضعها معيّنة.

و بذلك يظهر المراد ممّا رواه الطبري: «كان نبيّ اللّه إذا اغتنم غنيمة جعلت أخماساً، فكان خمس للّه و لرسوله. و يقسم المسلمون ما بقي (الاَخماس الاَربعة) و كان الخمس الذي جعل للّه و لرسوله، لرسوله، و لذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل، فكان هذا الخمس خمسة أخماس خمس للّه و لرسوله»(3).

فالظاهر أنّ المراد كان أمر السهمين بيد الرسول و لذا جعلهما سهماً واحداً، بخلاف السهام الاُخر، و إلاّ فالخبر مخالف لتنصيص القرآن الكريم.

و أمّا تخصيص بعض سهام الخمس بذي القربى و من جاء بعدهم من اليتامى و المساكين و ابن السبيل، فلأَجل الروايات الدالة على أنّه لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس. روى الطبري: كان آل محمد - صلى الله عليه و آله و سلم - لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس، و قال: قد علم اللّه أنّ في بني هاشم الفقراء فجعل لهم الخمس مكان الصدقة(4) كما تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت

ص: 108


1- . عطاء بن أبي رباح مات سنة 114، أخرج حديثه أصحاب الصحاح.
2- . الطبري: التفسير: 10/4.
3- . المصدر نفسه. و الاَصح أن يقول ستة أسداس و عرفت وجه العدول عنه.
4- . المصدر نفسه/ 5، فجعل خمس الخمس، بلحاظ المواضع الخمسة ما سوى للّه، و جعله كله لهم باعتبار أنّ أمره أيضاً بيده، فلا منافاة بين الجعلين.

أنّ السهام الاَربعة من الخمس، لآل محمد - صلى الله عليه و آله و سلم -(1).

هذا ما يستفاد من الكتاب و السنّة غير أنّ الاجتهاد لعب دوراً كبيراً في تحويل الخمس عن أصحابه و إليك ما ذهبت إليه المذاهب الاَربعة:

«قالت الشافعية و الحنابلة: تقسم الغنيمة، و هي الخمس، إلى خمسة أسهم، واحد منها سهم الرسول، و يصرف على مصالح المسلمين، و واحد يعطى لذوي القربى، و هم من انتسب إلى هاشم بالابوّة من غير فرق بين الاَغنياء و الفقراء، و الثلاثة الباقية تنفق على اليتامى و المساكين و أبناء السبيل سواء أ كانوا من بني هاشم أو من غيرهم.

و قالت الحنفية: إنّ سهم الرسول سقط بموته، أمّا ذوو القربى فهم كغيرهم من الفقراء يعطون لفقرهم لا لقرابتهم من الرسول.

و قالت المالكية: يرجع أمر الخمس إلى الاِمام يصرفه حسبما يراه من المصلحة.

و قالت الاِمامية: إنّ سهم اللّه و سهم الرسول و سهم ذوي القربى يفوّض أمرها إلى الاِمام أو نائبه، يضعها في مصالح المسلمين. و الاَسهُم الثلاثة الباقية تعطى لاَيتام بني هاشم و مساكينهم و أبناء سبيلهم، و لا يشاركهم فيها غيرهم».(2) و قال ابن قدامة في المغني، بعد ما روى أنّ أبا بكر و عمر رضى اللّه عنهما قسّما الخمس على ثلاثة أسهم: «و هو قول أصحاب الرأي أبي حنيفة و جماعته

ص: 109


1- . الوسائل: ج 6 الباب 29 من أبواب المستحقّين للزكاة، و لاحظ أيضاً صحيح البخاري 1/181، باب تحريم الزكاة على رسول اللّه.
2- . محمد جواد مغنية: الفقه على المذاهب الخمسة: 188.

قالوا: يقسّم الخمس على ثلاثة: اليتامى و المساكين و ابن السبيل، و أسقطوا سهم رسول اللّه بموته، و سهم قرابته أيضاً.

و قال مالك: الفيء و الخمس واحد يجعلان في بيت المال.

و قال الثوري: و الخمس يضعه الاِمام حيث أراه اللّه عزّ و جلّ .

و ما قاله أبو حنيفة مخالف لظاهر الآية، فإنّ اللّه تعالى سمّى لرسوله و قرابته شيئاً و جعل لهما في الخمس حقّاً كما سمّى الثلاثة الاَصناف الباقية، فمن خالف ذلك فقد خالف نصّ الكتاب، و أمّا جعل أبي بكر و عمر رضى اللّه عنهما سهم ذي القربى في سبيل اللّه، فقد ذكر لاَحمد فسكت و حرّك رأسه و لم يذهب إليه، و رأى أنّ قول ابن عباس و من وافقه أولى، لموافقته كتاب اللّه و سنّة رسوله - صلى الله عليه و آله و سلم -...»(1).

الاجتهاد مقابل النص:

ثمّ إنّ الخلفاء بعد النبيّ الاَكرم اجتهدوا مقابل النص في موارد منها: إسقاط سهم ذي القربى من الخمس، و ذلك أنّ اللّه سبحانه و تعالى جعل لهم سهماً، افترض أداءه نصاً في الذكر الحكيم و الفرقان العظيم يتلوه المسلمون آناء الليل و أطراف النهار، و هو قوله عزّ من قائل: "وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا يَوْمَ اَلْفُرْقٰانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ "(2).

ص: 110


1- . أبو فرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي: الشرح الكبير على هامش المغني: 49410/493.
2- . الاَنفال: الآية 41.

و قد أجمع أهل القبلة كافّة على أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - كان يختصّ بسهم من الخمس و يخص أقاربه بسهم آخر منه، و أنّه لم يَعْهَد بتغيير ذلك إلى أحد حتى دعاه اللّه إليه، و اختار اللّه له الرفيق الاَعلى.

فلمّا ولى أبو بكر تأوّل الآية فأسقط سهم النبيّ و سهم ذي القربى بموت النبي - صلى الله عليه و آله و سلم -، و منع بني هاشم من الخمس، و جعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين و مساكينهم و أبناء السبيل منهم.

قال الزمخشري: و عن ابن عباس: الخمس على ستّة أسهم: للّه و لرسوله، سهمان، و سهم لاَقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة، و كذلك روي عن عمر و من بعده من الخلفاء قال: و روي أنّ أبا بكر منع بني هاشم الخمس(1).

و قد أرسلت فاطمة - عليها السلام - تسأله ميراثها من رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك و ما بقي من خمس خيبر، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتى توفّيت، و عاشت بعد النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - ستّة أشهر فلمّا توفيت دفنها زوجها علي ليلاً و لم يؤذن بها أبا بكر، و صلّى عليها. الحديث(2).

و في صحيح مسلم عن يزيد بن هرمز. قال: كتب نجدة بن عامر الحروري الخارجي إلى ابن عباس قال ابن هرمز: فشهدت ابن عباس حين قرأ الكتاب و حين كتب جوابه و قال ابن عباس: و اللّه لو لا أن أردّه عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه، و لا

ص: 111


1- . الكشاف: 2/126.
2- . البخاري: الصحيح: 3/36 باب غزوة خيبر. و في صحيح مسلم: 5/154: «... و صلّى عليها علي».

نعمة عين. قال: فكتب إليه: إنّك سألتني عن سهم ذي القربى الذين ذكرهم اللّه من هم ؟ و إنّا كنّا نرى أنّ قرابة رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - هم نحن فأبى ذلك علينا قومُنا، الحديث(1).

و أخرجه الاِمام أحمد من حديث ابن عباس في أواخر ص 294 من الجزء الاَوّل من مسنده.

و رواه كثير من أصحاب المسانيد بطرق كلها صحيحة، و هذا هو مذهب أهل البيت المتواتر عن أئمّتهم - عليهم السلام -.

لكن الكثير من أئمّة الجمهور أخذوا برأي الخليفتين رضى اللّه عنهما فلم يجعلوا لذي القربى نصيباً من الخمس خاصّاً بهم.

فأمّا مالك بن أنس فقد جعله بأجمعه مفوّضاً إلى رأي الاِمام يجعله حيث يشاء في مصالح المسلمين، لا حقّ فيه لذي قربى و لا ليتيم و لا لمسكين و لا لابن سبيل مطلقاً.

و أمّا أبو حنيفة و أصحابه فقد أسقطوا بعد النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - سهمه و سهم ذي قرباه، و قسموه بين مطلق اليتامى و المساكين و ابن السبيل على السواء، لا فرق عندهم بين الهاشميين و غيرهم من المسلمين.

و الشافعي جعله خمسة أسهم: سهماً لرسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يصرف إلى ما كان يصرف إليه من مصالح المسلمين كعُدَّة الغزاة من الخيل و السلاح و الكراع و نحو ذلك، و سهماً لذوي القربى من بني هاشم و بني المطلب دون بني عبد شمس

ص: 112


1- . مسلم: الصحيح: 2/105، كتاب الجهاد و السير.

و بني نوفل يقسم بينهم "لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ "، و الباقي للفرق الثلاث: اليتامى و المساكين و ابن السبيل مطلقاً(1).

إلى هنا خرجنا بنتيجتين:

1 وجوب الخمس في كل ما يفوز به الانسان. و أنّه لا يختصّ بالغنائم الحربيّة.

2 إنّ الخمس يقسم على ستة أسهم، الثلاثة الاُولى، أمرها بيد الاِمام يتولاّها حسب ما رأى من المصلحة، و الثلاثة الاُخرى، للاَيتام و المساكين و أبناء السبيل من آل النبيّ الاَكرم لا مطلقهم.

ص: 113


1- . لشرف الدين: النص و الاجتهاد: 2725.

ص: 114

المسألة السادسة: الزواج الموَقت

اشارة

اتفقت المذاهب الفقهية على أنّ المتعة كانت نكاحاً حلالاً أحلها رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - بوحي منه سبحانه في برهة من الزمن، و إنّما اختلفوا في استمرار حليتها، و الشيعة الاِمامية على بقاء حليتها و عدم ورود أي نسخ عليها خلافاً للمذاهب الاَربعة فهي على التحريم البات قائلة بالنسخ.

و لما كانت الحلية من مختصات فقه الشيعة، آثرنا أن نبحث عنها في إطار الكتاب و السنّة، على وجه الاجمال، حتى يقف القاري على أنّ القول بأصل تشريعها و عدم نسخها ممّا يثبته الكتاب و السنّة، و انّ قول بعضهم بعدم تشريعها بتاتاً أو ادّعاء نسخها يضادّهما. و سيوافيك أنّ لفيفاً من الصحابة و التابعين كانوا يفتون بجوازها و عدم نسخها، و إنّما منع عنها عمر بن الخطاب لحافز نفسي أو اجتهاد شخصي لا دليل عليه و ليس حجّة على الآخرين. و قد قال بنظيره في متعة الحج التي كانت في زمن رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -.

فأمّا زواج المتعة: فهو عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها و بين الزوج مانع من نسب أو سبب أو رضاع أو احصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا و الاتّفاق، فإذا

ص: 115

انتهى الاَجل تبين منه من غير طلاق. و يجب عليها مع الدخول بها إذا لم تكن يائسة أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض و إلاّ فبخمسة و أربعين يوماً(1).

و ولد المتعة ذكراً كان أو أُنثى يلحق بالاَب و لا يدعى إلاّ به، و له من الارث ما أوصانا اللّه سبحانه به في كتابه العزيز. كما يرث من الأُم، و تشمله جميع العمومات الواردة في الآباء و الاَبناء و الأمّهات، و كذا العمومات الواردة في الاخوة و الاَخوات و الاَعمام و العمّات.

و بالجملة: المتمتّع بها زوجة حقيقة، و ولدها ولد حقيقة. و لا فرق بين الزواجين: الدائم و المنقطع إلاّ أنّه لا توارث هنا ما بين الزوجين، و لا قسمة و لا نفقة لها إلاّ أن تشترط ذلك في العقد. كما أنّ له العزل عنها. و هذه الفوارق الجزئية فوارق في الاَحكام لا في الماهية، لاَنّ الماهية واحدة غير أنّ أحدهما موَقت و الآخر دائم، و انّ الاَوّل ينتهي بانتهاء الوقت و الآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ.

و قد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرّع هذا النكاح في صدر الاِسلام، و لا يشك أحد في أصل مشروعيّته، و انّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.

و الأَصل في مشروعيته قوله سبحانه: [فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ]

اشارة

"وَ حَلاٰئِلُ أَبْنٰائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاٰبِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّٰ مٰا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ كِتٰابَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً "(2).

ص: 116


1- . لاحظ الكتب الفقهية للشيعة الاِمامية في ذلك المجال.
2- . النساء: الآية 2423.

و الآية ناظرة إلى نكاح المتعة و ذلك لوجوه:

1. الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه:

إنّ هذه السورة، أي سورة النساء، تكفّلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الاَحكام و الحقوق، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص، أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله: "وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتٰامىٰ فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسٰاءِ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً ... "(1).

و أمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية: "وَ آتُوا اَلنِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً "(2).

و قال سبحانه: "يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّسٰاءَ كَرْهاً وَ لاٰ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مٰا آتَيْتُمُوهُنَّ ... "(3).

و قال سبحانه: "وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلاٰ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً "(4).

و أمّا نكاح الاِماء فقد جاء في قوله سبحانه: "وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ

ص: 117


1- . النساء: الآية 3.
2- . النساء: الآية 4.
3- . النساء: الآية 19.
4- . النساء: الآية 20.

يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنٰاتِ اَلْمُؤْمِنٰاتِ فَمِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ فَتَيٰاتِكُمُ اَلْمُؤْمِنٰاتِ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنٰاتٍ غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ وَ لاٰ مُتَّخِذٰاتِ أَخْدٰانٍ ... "(1).

فقوله سبحانه: "فَمِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ " إشارة إلى نكاح السيّد لأمته، الذي جاء في قوله سبحانه أيضاً: "إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ... "(2).

و قوله سبحانه: "فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ " إشارة إلى تزويج أمة الغير.

فإلى هنا تم بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلاّ نكاح المتعة، و هو الذي جاء في الآية السابقة، و حمل قوله سبحانه: "فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ " على الزواج الدائم.

و حمل قوله: "فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ " على المهور و الصدقات مستلزم للتكرار. و سيوافيك وجود نكاح المتعة في صدر الاِسلام، و لا يصح للشارع السكوت عن حكمها.

فالناظر في السورة يرى أنّ آياتها تكفّلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاص و لا يتحقّق ذلك إلاّ بحمل الآية على نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً.

2. تصريح جماعة من الصحابة بشأن نزولها:

ذكرت أُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها، و ينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عباس، و أُبي بن كعب، و عبد اللّه بن مسعود، و جابر بن عبد اللّه الاَنصاري، و حبيب بن أبي ثابت، و سعيد بن جبير، إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع و الجعل.

ص: 118


1- . النساء: الآية 25.
2- . المؤمنون: الآية 6.

و قد ذكر نزولها من المفسّرين و المحدّثين:

إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في مسنده(1).

و أبو جعفر الطبري في تفسيره(2).

و أبو بكر الجصّاص الحنفي في أحكام القرآن(3).

و أبو بكر البيهقي في السنن الكبرى(4).

و محمود بن عمر الزمخشري في الكشاف(5).

و أبو بكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن (6).

و فخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب (7).

إلى غير ذلك من المحدّثين و المفسّرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا، و لا نطيل الكلام بذكرهم.

و ليس لاَحد أن يتّهم هؤلاء الاَعلام بذكر ما لا يفتون به. و بملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشكّ في ورودها في نكاح المتعة.

و معنى الآية: انّ اللّه تبارك و تعالى شرّع لكم نكاح ما وراء المحرّمات لاَجل

ص: 119


1- . أحمد: المسند: 4/436.
2- . الطبري: التفسير: 5/9.
3- . أحكام القرآن: 2/178.
4- . السنن الكبرى: 7/205.
5- . الكشاف: 1/360. (6) جامع أحكام القرآن: 5/13. (7) مفاتيح الغيب: 3/267.

أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم و يصون عفّتكم و يصدّكم عن الزنا، فإذا تزوجتم استمتاعاً فآتوهنّ أُجورهنّ .

و الغاية من النكاح مطلقاً هو صيانة النفس، و هي موجودة في جميع الاَقسام، النكاح الدائم، و الموَقت و الزواج بأمة الغير المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الآية 25.

هذا هو الذي يفهمه كلّ انسان من ظواهر الآيات غير أنّ من لا يروقه الاَخذ بظاهر الآية: "فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ " لرواسب نفسية أو بيئية حاول أن يطبق معنى الآية على العقد الدائم، و ذكر في المورد شبهات ضعيفة لا تصمد أمام النقاش نجملها بما يلي:

الشبهة الأولى: إنّ الهدف من تشريع النكاح هو تكوين الأسرة و إيجاد النسل، و هو يختصّ بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتّب عليه إلاّ إرضاء القوّة الشهوية و صبّ الماء و سفحه(1).

و يجاب عنها: بأنّه خلط بين الموضوع و الفائدة المترتّبة عليه، و ما ذكر إنّما هو من قبيل الحكمة، و ليس الحكم دائراً مدارها، لضرورة أنّ النكاح صحيح و إن لم يكن هناك ذلك الغرض، كزواج العقيم و اليائسة و الصغيرة. بل أغلب المتزوجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر و استيفاء الشهوة من طريقها المشروع، و لا يخطر ببالهم طلب النسل أصلاً و إن حصل لهم قهراً، و لا يقدح ذلك في صحّة زواجهم.

ص: 120


1- . و سنعود إلى هذه الشبهة في نقد كلام «الدرينيّ » أيضاً.

و من العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر، مع أنّها كالدائم قد يقصد منها النسل و الخدمة و تدبير المنزل و تربية الاَولاد و الارضاع و الحضانة و إن كانت قليلة.

و نسأل المانعين الذين يعتبرون نكاح المتعة، مخالفاً للحكمة، التي من أجلها شرّع النكاح، نسألهم عن الزوجين اللذين يتزوّجان نكاح دوام، و لكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين، فهل هذا نكاح صحيح أو لا؟ لا أظن أنّ فقيهاً من فقهاء الاِسلام يمنع ذلك إلاّ إذا أفتى بغير دليل و لا برهان، و بهذا الشكل يتعين الجزم بأصحّية هذا النكاح، فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة و هذا النكاح الدائم سوى أنّ المدّة مذكورة في الاَوّل دون الثاني ؟

يقول صاحب المنار: إنّ تشديد علماء السلف و الخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنيّة الطلاق، و إن كان الفقهاء يقولون إنّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت و لم يشترطه في صيغة العقد، و لكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعاً و غشّاً و هو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت(1).

أقول: نحن نفترض أنّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّاً، حتى لا يكون هناك خداع و غشّ ، فهو صحيح بلا اشكال.

الشبهة الثانية: إنّ تسويغ النكاح الموَقت ينافي ما تقرّر في القرآن كقوله عزّ و جلّ في صفة المؤمنين: "وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ * إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ اِبْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ

ص: 121


1- . المنار: 5/17.

اَلعٰادُونَ "(1).

و المراد من قوله: "من اِبْتَغىٰ " هم المتجاوزون ما أحلّه اللّه لهم إلى ما حرّمه عليهم. و المرأة المتمتّع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف.

إلاّ أنّه يرد عليها: انّها دعوى بلا دليل. فإنّها زوجة و لها أحكام، و عدم وجود النفقة و القسمة لا يخرجانها عن الزوجيّة، فإنّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة و حقّ القسمة، و مثلها الصغيرة. و العجب أن يستدل بعدم وجود الاَحكام على نفي الماهية، فإنّ الزوجيّة رابطة بين الزوجين تترتّب عليها جملة من الاَحكام و ربّما تختص بعض الاَحكام ببعض الاَقسام.

الشبهة الثالثة: إنّ المتمتّع في النكاح الموَقت لا يقصد الاحصان، بل يكون قصده المسافحة، و إن كان هناك نوع ما من الاحصان بالنسبة إليه حيث يمنعها من التنقّل في دِمنِ الزنا، فإنّه لا يكون فيه شيء من الاِحصان بالنسبة إلى المرأة التي تؤجر نفسها كل مدة من الزمن لرجل فتكون كما قيل:

كرة حُذِفت بصوالجة فتلقّفها رجل رجل(2).

و يرد على هذه الشبهة: انّه من أين وقف على أنّ الاحصان في النكاح الموَقّت يختص بالرجل دون المرأة، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً، فكل واحد من الطرفين يُحصن نفسه من هذا الطريق، و إلاّ فلا محيص عن التنقل في دمن

ص: 122


1- . المؤمنون: الآية: 75.
2- . المنار: 5/13.

الزنا. و الذي يصون الفتى و الفتاة عن البغي أحد الأمور الثلاثة:

1 النكاح الدائم.

2 النكاح الموَقّت بالشروط الماضية.

3 كبت الشهوة الجنسية.

فالاَوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب و الطالبة اللذين يعيشان بمنح و رواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة، و كبت الشهوة الجنسية أمر شاق لا يتحمّله إلاّ الاَمثل فالاَمثل من الشباب و المثلى من النساء، و هم قليلون، فلم يبق إلاّ الطريق الثاني، فيحصنان نفسهما عن التنقّل في بيوت الدعارة.

إنّ الدين الاِسلامي هو الدين الخاتم، و نبيّه خاتم الاَنبياء، و كتابه خاتم الكتب، و شريعته خاتمة الشرائع، فلا بد أن يضع لكل مشكلة اجتماعية حلولاً شرعية، يصون بها كرامة المؤمن و المؤمنة، و ما المشكلة الجنسية عند الرجل و المرأة إلاّ إحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الاِسلامي أن يهملها، و عندئذ يطرح هذا السؤال نفسه:

ما ذا يفعل هؤلاء الطلبة و الطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم، و تمنعهم كرامتهم و دينهم عن التنقّل في بيوت الدعارة و الفساد، و الحياة المادية بجمالها تؤجّج نار الشهوة في نفوسهم ؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلاّ من عصمه اللّه، فلم يبق طريق إلاّ زواج المتعة، الذي يشكّل الحل الاَنجح لتلافي الوقوع في الزنا، و تبقى كلمة الاِمام علي بن أبي طالب ترن في الآذان محذّرة

ص: 123

من تفاقم هذا الاَمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرّع الحكيم له، حيث قال عليه السّلام: «لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي أو شقيّة».

و أمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة و حدودها، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل(1) و غيره إلى الشيعة، و هم براء من هذا الاِفك، إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة الاعتداد على ما ذكرنا، فكيف يمكن أن تؤجّر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل ؟! سبحان اللّه ما أجرأهم على الكذب على الشيعة و الفرية عليهم، و ما مضمون الشعر إلاّ جسارة على الوحي و التشريع الاِلهي، و قد اتّفقت كلمة المحدّثين و المفسّرين على التشريع، و أنّه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنّما هو بعد التشريع و العمل.

الشبهة الرابعة: إنّ الآية منسوخة بالسنّة، و اختلفوا في زمن نسخها على أقوال شتّى:

1 أُبيحت ثمّ نهي عنها عام خيبر.

2 ما أُحلّت إلاّ في عمرة القضاء.

3 كانت مباحة و نهي عنها في عام الفتح.

4 أُبيحت عام أوطاس ثمّ نهي عنها(2).

ص: 124


1- . لاحظ كتابه: السنّة و الشيعة: 6665.
2- . لاحظ للوقوف على مصادر هذه الاَقوال مسائل فقهية: لشرف الدين: 6463، الغدير: 6/225، أصل الشيعة و أُصولها: 171، و الاَقوال في النسخ أكثر مما جاء في المتن.

و هذه الاَقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ، كما أنّ نسخ القرآن بأخبار الآحاد ممنوع جدّاً، و قد صحّ عن عمران بن الحصين انّه قال: «إنّ اللّه أنزل المتعة و ما نسخها بآية أُخرى، و أمرنا رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - بالمتعة و ما نهانا عنها، ثمّ قال رجل برأيه»، يريد به عمر بن الخطاب. و سيوافيك مصدره.

إنّ الخليفة الثاني لم يدّع النسخ و إنّما أسند التحريم إلى نفسه، و لو كان هناك ناسخ من اللّه عزّ و جلّ أو من رسوله، لاَسند التحريم إليهما، و قد استفاض قول عمر و هو على المنبر: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و أنا أنهى عنهما و أُعاقب عليهما: متعة الحج و متعة النساء.

بل نقل متكلّم الاَشاعرة في شرحه على شرح التجريد انّه قال: أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -، و أنا أنهى عنهنّ ، و أُحرمهنّ ، و أُعاقب عليهنّ ، متعة النساء، و متعة الحج، و حيّ على خير العمل(1).

و قد روي عن ابن عباس و هو من المصرحين بحلّية المتعة و إباحتها في رده على من حاجّه بنهي أبي بكر و عمر لها، حيث قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -، و تقولون: قال أبو بكر و عمر.

حتى أنّ ابن عمر لمّا سئل عنها، أفتى بالاِباحة، فعارضوه بقول أبيه، فقال لهم: أمر رسول اللّه أحقّ أن يتّبع أم أمر عمر؟

كلّ ذلك يعرب عن أنّه لم يكن هناك نسخ و لا نهي نبوي و إنّما كان تحريماً من جانب الخليفة، و هو في حدّ ذاته يعتبر اجتهاداً قبالة النص الواضح، و أنّه ما انفك يعلن جملة من الصحابة رفضهم له و عدم اذعانهم لاَمره، و إذا كان

ص: 125


1- . مفاتيح الغيب: 5310/52، القوشجي: شرح التجريد: 484 طبع إيران.

الخليفة قد اجتهد لاَسباب رآها و أفتى على أساسها فكان الاولى بمن لحقوه أن يتنبّهوا لهذا الاَمر لا أن يسرفوا في تسويغه دون حجة و لا دليل.

المنكرون للتحريم:

ذكرنا أنّ لفيفاً من وجوه الصحابة و التابعين أنكروا هذا التحريم و لم يقروا به، و منهم:

1 علي أمير المؤمنين، في ما أخرجه الطبري بالاسناد إليه أنّه قال: «لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقيّ »(1).

2 عبد اللّه بن عمر، أخرج الاِمام أحمد من حديث عبد اللّه بن عمر، قال و قد سئل عن متعة النساء: و اللّه ما كنّا على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - زانين و لا مسافحين، ثمّ قال: و اللّه لقد سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يقول: «ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيح الدجّال و كذّابون ثلاثون و أكثر»(2).

3 عبد اللّه بن مسعود، روى البخاري عن عبد اللّه بن مسعود، قال: كنّا نغزو مع رسول اللّه و ليس لنا شيء، فقلنا: أ لا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخّص لنا أن تنكح المرأة بالثوب إلى أجل معيّن، ثمّ قرأ علينا: "يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُحَرِّمُوا طَيِّبٰاتِ مٰا أَحَلَّ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ لاٰ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ "(3) .(4)

ص: 126


1- . الطبري: التفسير: 5/9.
2- . أحمد: مسند: 2/95.
3- . المائدة: الآية 87.
4- . البخاري: الصحيح: 7/4، كتاب النكاح، الباب 8، الحديث 3.

4. عمران بن حصين، أخرج البخاري في صحيحه عنه، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -، و لم ينزل قرآن يحرّمها و لم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء(1).

أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه و عملنا بها مع رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -، فلم تنزل آية تمنعها، و لم ينه عنها النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - حتى مات(2).

5 كما أنّ الخليفة العباسي المأمون أوشك أن ينادي في أيام حكمه، بتحليل المتعة إلاّ أنّه توقّف خوفاً من الفتنة و تفرّق المسلمين. قال ابن خلّكان، نقلاً عن محمّد بن منصور: قال: كنّا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي و لأَبي العيناء: بكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، و إلاّ فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه و هو يستاك و يقول و هو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و على عهد أبي بكر رضي اللّه عنه و أنا أنهى عنهما، و من أنت يا جعل حتى تنهى عمّا فعله رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و أبو بكر رضي اللّه عنه ؟! فأومأ أبو العيناء إلى محمّد بن منصور و قال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلّمه نحن ؟ فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس و جلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيّراً؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الاِسلام، قال: و ما حدث فيه ؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: و من أين قلت هذا؟ قال: من كتاب اللّه عزّ و جلّ ، و حديث رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -،

ص: 127


1- . البخاري: الصحيح: 6/27، كتاب التفسير، تفسير قوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) من سورة البقرة.
2- . أحمد: المسند: لاحظ مسائل فقهية للسيد شرف الدين: 70.

قال اللّه تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ " إلى قوله: "وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ * إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ اِبْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلعٰادُونَ "(1) يا أمير المؤمنين زوج المتعة ملك يمين ؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند اللّه ترث و تورث و تلحق الولد و لها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين، من العادين(2).

أقول: هل عزب عن ابن أكثم و قد كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت أنّ المتعة داخلة في قوله سبحانه: "إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ " و انّ عدم الوراثة تخصيص في الحكم، و هو لا ينافي ثبوتها، و كم لها من نظير، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم، و بالعكس، كما أنّ القاتلة لا ترث و هكذا العكس، و أمّا الولد فيلحق قطعاً، و نفي اللحوق ناشئ امّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.

و ما أقبح كلامه حيث فسّر المتعة بالزنا و قد أصفقت الأمّة على تحليلها في عصر الرسول و الخليفة الاَوّل، أ فيحسب ابن أكثم أنّ الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - حلّل الزنا و لو مدَّة قصيرة.

و هناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه، تعرب عن أنّ التحريم كان صميم رأيه، من دون استناد إلى آية أو رواية.

فقد روى مسلم في صحيحه: عن ابن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، و كان ابن الزبير ينهى عنها، فذكر ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث: تمتّعنا مع رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - فلمّا قام عمر قال: إنّ اللّه كان يحل لرسوله ما شاء

ص: 128


1- . المؤمنون: الآية 71.
2- . ابن خلكان: وفيات الاَعيان: 1506/149.

بما شاء، فأتمّوا الحجّ و العمرة و أبتّوا نكاح هذه النساء، فلئِن أُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة(1).

و روى الاِمام أحمد في مسنده عن أبي نضرة قال: قلت لجابر: إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة، و انّ ابن عباس يأمر بها، فقال لي: على يدي جرى الحديث: تمتّعنا مع رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و مع أبي بكر، فلمّا ولي عمر خطب الناس فقال: إنّ القرآن هو القرآن، و إنّ رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - هو الرسول، و إنّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - إحداهما متعة الحج و الأُخرى متعة النساء(2).

و هذه المأثورات تعرب جملة من الملاحظات نجملها بملاحظتين اثنتين:

أوّلاً: إنّ المتعة كانت باقية على الحلّ إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، و بقيت لوقت في أيامه حتى نهى عنها و منع.

و ثانياً: إنّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب و السنّة، و من المعلوم انّ اجتهاده لو صحّت تسميته بالاِجتهاد حجّة على نفسه لا على غيره.

و في الختام نقول:

إنّ الجهل بفقه الشيعة أدّى بكثير من الكتّاب إلى التقوّل على الشيعة، و خصوصاً في مسألة المتعة التي نحن بصدد الحديث عنها، برميهم بآراء و أحكام، يدلّ على جهل مطبق أو خبث سريرة لا يدمغ، و من هذه الاَقوال: إنّ من أحكام المتعة عند الشيعة أنّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه، و أنّ المتمتَّع بها لا عدّة لها،

ص: 129


1- . مسلم: الصحيح: 4/130، باب نكاح المتعة الحديث 8، طبع محمد علي صبيح.
2- . أحمد: المسند: 1/52.

و أنّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. و من أجل هذا استقبحوا المتعة و استنكروها و شنَّعوا على من أباحها.

و قد خفي الواقع على هؤلاء. و انّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلاّ بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة، و انّ المتمتَّع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع، و انّ ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوارث، و الانفاق و سائر الحقوق المادية، و انّ عليها أن تعتدّ بعد انتهاء الاَجل مع الدخول بها، و إذا مات زوجها و هي في عصمته اعتدّت كالدائمة من غير تفاوت، إلى غير ذلك من الآثار(1).

على أنّ الاَمر الذي ينبغي الالتفات إليه و إدراكه بوضوح، انّ الشيعة رغم إدراكهم و إيمانهم بحلّية زواج المتعة و عدم تحريمه و هو ما يعلنون عنه صراحة و دون تردد إلاّ أنّهم لا يلجئون إلى هذا الزواج إلاّ في حدود ضيّقة و خاصة، و ليس كما يصوّره و يتصوّره البعض من كونه ظاهرة متفشية في مجتمعهم و بشكل مستهجن ممجوج.

ص: 130


1- . الاثنا عشرية و أهل البيت تأليف مغنية 46.

نحن و الدكتور محمد فتحي الدريني:

اشارة

قد وقفت أخيراً على كتاب حول المتعة بقلم: السائح علي حسين، أسماه بهذا النحو: «الاَصل في الاَشياء..؟ و لكن المتعة حرام!!» نشرته دار قتيبة، و قدّم له الدكتور محمد فتحي الدريني، عميد كلّية الشريعة بدمشق.

و الذي دعاني إلى التعليق عليه أمران:

1 اسم الكتاب، حيث أسماه بما عرفت، و حاول أن يقرّر أنّ الاَصل الاَوّلي في الاَشياء الحلّية، و المتعة داخلة في هذا الاَصل، و لكن خرج عنه بالدليل و لولاه لكانت محكومة بالحلّية. و بعبارة أُخرى: حاول أن يتظاهر لصالح الخصم (القائل بحلّية المتعة) موَقَّتاً و أنّ الاَصل معه، و لكنّه خرج عن الاَصل بدليل حاسم.

2 تقديم الدكتور الدريني المحرّر بقلم نزيه من دون همز و لمز للمخالف الذي يرى كون المتعة حلالاً، و موقفه من رعاية أدب المناظرة مشكور، و الحق انّ مثله قليل فيما كتب حول عقائد الشيعة بقلم أهل السنّة فإنّ الغالب إلاّ ما شذّ و ندر لا يفارق اللذع و اللدغ أو الطعن و السبّ ، و أحياناً التكفير أعاذنا اللّه من شرور أنفسنا.

و مع ذلك كلّه لنا تأمّلات فيما كتب يظهر بعضها من الامعان فيما سبق، و لكن لاَجل إيقاف القاري على النقاط الخاطئة في كلامه، نذكر أهم ما أفاده مع التعليق. و إن مرّ بعضها عند مناقشة الشبهات.

أمّا حول الاِسم فنقول: إنّ قول الفقهاء و الأصوليين الاَصل في الاَشياء الحلّية، لا يعمُّ الدماء و الاَعراض و الاَموال فإنّ الاَصل فيها هو الحرمة، يعرف ذلك

ص: 131

من له أدنى إلمام بالفقه، فلأَجل ذلك نرى أنّ اللّه سبحانه يجعل الاَصل في الدماء الحرمة، و يستثني مورداً واحداً و ذلك إذا كان القتل عن حق فيقول: "وَ لاٰ يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ " (الفرقان/ 68) كما أنّه سبحانه يأتي بذلك البيان في الاَعراض و استباحة الفروج، فيقول: "وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ * إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ " (المؤمنين/ 5-6).

و يكفي في كون الاَصل في الاَموال، الحرمة قوله سبحانه: "لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ " (النساء/ 29) و قول النبي الاَكرم: لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه(1) فالاَصل في التصرّف في مال الغير هو الحرمة إلاّ إذا طابت نفسه.

و على ضوء ذلك فالاَصل في المتعة بما أنّها استباحة للفروج هو الحرمة و الخروج عن الاَصل يحتاج إلى دليل، و ما ذكره الأصوليون من كون الاَصل في الاَشياء هو الحلّية راجع إلى غير هذه الموارد ممّا يرجع إلى استفادة الانسان من مظاهر الطبيعة و معطياتها.

و على ضوء ذلك فما حاوله مؤَلّف الكتاب من التظاهر بالمرونة في البحث و أنّه يوافق أخاه الشيعي في حلّية المتعة حسب الاَصل الاَوّلي و لكن الاَدلّة القطعية دفعته إلى القول بالتحريم، محاولة خاطئة واقعة في غير محلّها، و أظنُّ أنّ الكاتب قصير الباع في هذه المسائل.

و الكتاب بلا إنكار و بخس لحقوق المؤَلّف أشبه بكتاب قصصي، لا فقهي، و إنّي استغربتُ من قيام الدكتور الدريني بالتقديم لهذا الكتاب، و لذلك

ص: 132


1- . حديث رواه الفريقان.

أعرضنا عن مناقشة محتوياته و اكتفينا بما جاء في التقديم.

و أمّا التقديم فقد ذكرنا وصفه و لكن لنا فيما ذكره تأمّلات و تعليقات نذكرها بعد نقل كلامه موجزاً. فإنّ نقل كل كلامه يوجب الاِطناب.

و لأَجل أن يسهل للقارئ الوقوف على الفكرتين، نفصِّل كلَّ موضوع بعنوان معه رقم رياضي.

1. الأحكام الشرعية تابعة للمصالح:

يقول الاُستاذ: من المتفق عليه بين الأصوليين و الفقهاء ممّن يُعتدّ برأيهم في ميزان العلم و الاجتهاد أنّ أحكام التشريع الاِسلامي ذات مقاصد و غايات قد توخّى الشارع تحقيقها قطعاً من خلال تشريعه للاَحكام، و قد أشار المحققون إلى هذا الاَصل: أنّ الاَحكام معلّلة بمصالح العباد. ثمّ قال: و قد ألّف الاِمام الشاطبي كتاب الموافقات في أُصول الشريعة و مقاصدها و أثبت أنّ أحكام الشريعة ما عدا التعبُّديات ذات مقاصد معتبرة من قِبَل الشارع في تشريعه للحكم، و أنّه لا عبرة بالوسيلة إذا تخلّفت عنها غايتها، أو أفضتْ إلى النقيض منها.

يلاحظ على هذا الكلام بأُمور:

1 إنّ كون الاَحكام معلّلة بمصالح، أمر يُصدّقه الذكر الحكيم، و أحاديث العترة الطاهرة، يقول سبحانه: "إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمٰا يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ عَنِ اَلصَّلاٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ

ص: 133

مُنْتَهُونَ " (المائدة/ 9190) إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول تشريع الاَحكام ففيها إلماع إلى المصالح التي صارت سبباً لتشريعها.

و أمّا أحاديث أئمّة أهل البيت فقد جمعها الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه (381306) في كتاب أسماه ب «علل الشرائع» و هو نسخة من علوم أئمّة أهل البيت يليق بكل مسلم واع الرجوع إليها و الصدور عنها، و ذلك قبل أن يولد الشاطبي أو يكون أثر من أُستاذه أو أُستاذ أُستاذه، و الشيعة الاِمامية معروفة بالقول بتبعية الاَحكام للمصالح تبعاً لاَئمّتهم كما هو ظاهر لِمَنْ راجع كتبهم الفقهية و الأصولية. فكان التركيز على هذا الاَصل أشبه بنقل التمر إلى هَجَر.

2 إنّ الشيخ الاَشعري الاِمام الشهير لاَكثر أهل السنّة ممّن يخالف هذا الاَصل و يراه تحديداً لاِرادة اللّه تعالى، و مزاحماً لاِطلاقها. و هذا ظاهر لمن راجع كتب الاَشاعرة(1) في الأصول و الفروع، و هؤلاء هم المندّدون بالقائلين بتبعية الاَحكام للمصالح، و مع ذلك فكيف يجعله الأستاذ قولاً متّفقاً عليه بين الأصوليين و الفقهاء، نعم قيّد القائلين بالتبعية بمن يعتد برأيهم في ميزان العلم و الاجتهاد.

و لا أظن أن لا يكون الاِمام الاَشعري و الجماهير التابعة له ممّن لا يعتدّ برأيهم في ذلك المجال.

3 إنّ الأستاذ تبعاً للاِمام الشاطبي خصّ تبعية الاَحكام للمقاصد و المصالح بما عدا التعبّديات، و لم يظهر لي وجه الاستثناء، مع أنّ الدليل على

ص: 134


1- . لاحظ أُصول الدين للاِمام أبي منصور البغدادي: 150 طبع بيروت، و نهاية الاِقدام للشهرستاني: 397، تحقيق «الفرد جيوم» و المواقف للايجي: 321 و غيرها.

التبعية في الجميع واحد و هو صون فعل الحكيم عن اللغو، و هذا يشارك فيه التعبّدي و غير التعبّدي.

نعم ربّما لا نصل إلى المقاصد الموجودة في التعبّديات و لكنّه غير كونها خالية عنها، قال سبحانه: "وَ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِذِكْرِي " (طه/ 14) و قال سبحانه: "إِنَّ اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ " (العنكبوت/ 45) و قال سبحانه في حق الصيام: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " (البقرة/ 183).

فاخراج التعبّديات عن تحت الضابطة أشبه بتخصيص القاعدة العقلية و من المعلوم أنّ القاعدة العقلية لا تخصّص فلا يصح أن يقال: إنّ حاصل ضرب 2 * 4\2 إلاّ في مورد خاص.

إنّ القائلين بلزوم تبعية الاَحكام للمناطات و الملاكات هم القائلون بحجّية العقل في مجال استنباط الاَحكام الشرعية في باب الملازمات العقلية و نظائرها، و العقل الحاكم بتبعية الاَحكام للمصالح، لا يفرّق بين العبادات و غيرها، بين التعبّديات و التوصليات قائلاً بأنّ الشارع حكيم، و الحكيم مصون فعله عن اللغو و العبث فلأَحكامه و تشريعاته سبحانه، غايات ترجع إلى العباد، و مصالح تتم لصالح العاملين بها.

2. المقصد الأساسي للنكاح هو تكوين الأسرة:

قال الدكتور: شُرِّع النكاح في الاِسلام لمقاصد أساسية قد نصّ عليها القرآن الكريم صراحة، ترجع كلّها إلى تكوين الأسرة الفاضلة التي تشكّل النواة

ص: 135

الأولى للمجتمع الاِسلامي، بخصائصه الذاتية من العفّة، و الطهر، و الولاية، و النصرة و التكافل الاجتماعي ثمّ استشهد بآيات على ذلك الاَصل ثمّ يقول: إنّ اللّه إذ يربط الزواج بغريزة الجنس، لم يكن ليقصد مجرّد قضاء الشهوة، بل قَصد أن يكون على النحو الذي يحقّق ذلك المقصد بخصائصه من تكوين الأسرة التي شرّع أحكامها التفصيلية القرآن الكريم.

و على هذا فإنّ الاستمتاع مجرداً عن الاِنجاب و بناء الأسرة، يحبط مقصد الشارع من كل أصل تشريع النكاح(1).

يلاحظ عليه أمران:

الاَوّل: أنّ الأستاذ خلط علّة التشريع و مناطه، بحكمته، فإنّ العلّة عبارة عمّا يدور الحكم مدارها، يحدث الحكم بوجودها و يرتفع بارتفاعها، و هذا بخلاف الحكمة، فربّما يكون الحكم أوسع منها، و إليك توضيح الاَمرين:

إذا قال الشارع اجتنب المسكر، فالسكر علّة وجوب الاجتناب بحجّة تعليقه على ذلك العنوان، فما دام المائع مسكراً، له حكمه، فإذا انقلب إلى الخلّ يرتفع.

و أمّا إذا قال: "وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ وَ لاٰ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ

ص: 136


1- . المقدمة: و قد أخذه من تفسير «المنار» قال: «إنّ مصلحة البشر أن تكون هذه الداعية الفطرية سائقة لكل فرد من أفراد أحد الجنسين لاَن يعيش مع فرد من الجنس الآخر عيشة الاختصاص، لتتكون بذلك البيوتات و يتعاون الزوجان على تربية أولادهما، فإذا انتفى قصد هذا الاحصان، انحصرت طاعة الداعية الفطرية في قصد سفح الماء...» (المنار: 5/8) ط عام 1367.

اَلْآخِرِ... " (البقرة/ 228).

فإنّ الامعان في الآية يكشف عن أنّ وجه التربّص لاَجل تبيّن وضع الرحم، و إنّها هل تحمل ولداً أو لا؟ و من المعلوم أنّ هذا حكمة الحكم، لا علّته و لأَجل ذلك نرى أنّ الحكم أوسع منها بشهادة أنّ الفقهاء يحكمون بوجوب التربّص على من نعلم بعدم وجود حمل في رحمها.

1 كما إذا كانت عقيماً لا تلد أبداً.

2 إذا كان الرجل عقيماً.

3 إذا غاب عنها الزوج مدة طويلة كستة أشهر فما فوق، و نعلم بعدم وجود حمل في رحمها.

4 إذا تبيّنت عن طريق إجراء الفحوصات الطبّية خلو رحمها عنه.

فالآية محكمة و إن لم تكن حكمة الحكم موجودة، و هذا لا ينافي ما توافقنا عليه من تبعية الاَحكام للمصالح، فانّ المقصود منه هو وجود الملاكات في أغلب الموارد لا في جميعها.

إذا عرفت الفرق بين الحكمة و العلّة تقف على أنّ الأستاذ خلط بين العلة و الحكمة، فتكوين الأسرة و الانجاب و التكافل الاجتماعي كلها من قبيل الحكم بشهادة أنّ الشارع حكم بصحّة الزواج في موارد فاقدة لهذه الغايات.

1 يجوز زواج العقيم بالمرأة الولود.

2 يجوز زواج المرأة العقيم بالرجل المنجب.

3 يجوز نكاح اليائسة.

ص: 137

4 يجوز نكاح الصغيرة.

5 يجوز نكاح الشاب من الشابة مع العزم على عدم الانجاب إلى آخر العمر.

أ فيصح للأستاذ أن يشطب على هذه الاَنكحة بقلم عريض بحجّة افتقادها لتكوين الاسرة ؟!

على أنّ من الأمور الواضحة، أنّ أغلب المتزوّجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر، و استيفاء اللذة من طريقها المشروع، و لا يخطر ببالهم طلب النسل، و إن كان يحصل لهم قهراً.

الثاني: يجب على الأستاذ التفصيل بين من يتزوّج متعة لغاية الاِنجاب و تشكيل الاسرة بخصائصها الذاتية من العفّة، و الطهر، و الولاية، و النصرة، و التكافل الاجتماعي، و بين من يتزوّج لقضاء الوطر، و دفع الشهوة بهذا الطريق، و أمّا إنّه لما ذا يتزوّج زواجاً موَقتاً فلأَجل وجود بعض التسهيلات في الموَقت دون الدائم.

إنّ الأستاذ كأكثر من كتب عن المتعة من أهل السنّة، يتعامل مع المتمتع بها معاملة الغانيات المفتوحة أبوابهنّ ، يدخل عليهنّ في كل يوم رجل و يجتمع معها ذلك اليوم ثمّ يفارق و يأتي رجل آخر بهذه الخصوصية. فلو كان هذا معنى التمتّع بالمرأة و الزواج الموَقت، فالشيعة الاِمامية و أئمّتها و رسولها و كتابها بريئون من هذا التشريع الذي يرادف الزنا إلاّ في التسمية. و لكن المتعة يفارق ذلك مائة بالمائة، فربّما يكون هناك نساء توفّي عنهنّ أزواجهنّ و لهنّ جمالهنّ و كمالهنّ ، و ربّما لا يتمكّن الرجل من الزواج الدائم لمشاكل اجتماعية، و مع ذلك يرغب إلى هذه الطبقة

ص: 138

من النساء فيتزوّجها طالباً بها رفع العنت أوّلاً و تشكيل الأسرة بما لها من الخصوصيات ثانياً.

و الحق أنّ ما اختمر في ذهن الكاتب و غيره من المتعة أشبه بالنساء المبذولات في بيوت خاصة، و محلاّت معيّنة فمثل ذلك لا يمكن أن تضفى عليه المشروعية، غير أنّ المتعة الشرعية غير ذلك، و ربّما يتوقّف التزوّج بهنّ على طي عقبات، فيشترط فيها ما يشترط في الدائم، و يفارق الدائم بأمرين: الطلاق و النفقة. و أمّا التوارث فيتوارثان بالاشتراط و مثل ذلك يلازم الغايات المطلوبة للنكاح غالباً. و قد أوضحنا حقيقة زواج المتعة في صدر البحث.

و الحق أنّ الغاية القصوى في كل مورد رخّص فيه الشارع العلاقة الجنسية بعامّة أقسامها حتى ملك اليمين و تحليل الاِماء... هو صيانة النفس عن الوقوع في الزنا و السفاح. و أمّا سائر الغايات من تشكيل الأسرة، و التكافل الاجتماعي، فإنّما هي غايات ثانوية تحصل بالنتيجة سواء توخّاها الزوجان أم لا.

و الغاية القصوى موجودة في الزواج الموَقت، و أنّ الهدف من تشريعه هو صيانة النفس عن الحرام لمن لا يتمكّن من الزواج الدائم، و لأَجل ذلك استفاض عن ابن عباس قال: «يرحم اللّه عمر ما كانت المتعة إلاّ رحمة من اللّه رحم بها أُمّة محمد و لو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلاّ شقيّ »(1).

إنّ قوله سبحانه: "وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ نِكٰاحاً حَتّٰى يُغْنِيَهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ ... " (النور/ 33) دليل على أنّ الغاية من تجويز النكاح، و النهي عن

ص: 139


1- . السيوطي: الدر المنثور: 2/141 و روى النص عن عليّ - عليه السلام - أيضاً لاحظ تفسير الاِمام الرازي: 3/200 المسألة الثالثة في بيان نكاح المتعة.

الرهبانية هو صيانة النفس عن الفحشاء و دفعها إلى التعفّف، و هذه الغاية كما عرفت موجودة في جميع الاَنكحة و العلاقات الجنسية من الزواج الدائم إلى الزواج الموَقّت إلى ملك اليمين إلى تحليل الاِماء بشروطها المقرّرة في الفقه.

3. المتعة داخلة تحت السفح المنهى عنه في الآية:

ذكر الأستاذ أنّ مجرّد قضاء الشهوة و الاستمتاع، هو ما أطلق عليه القرآن «السفاح» و لذا حذّر الاِسلام من اتّباع هذا السبيل بقوله: "وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ " (النساء/ 24) إذ مؤَداه أن تتزوّجوا النساء بالمهور، قاصدين ما شرع اللّه النكاح لاَجله من الاحصان، و تحصيل النسل دون مجرّد سفح الماء و قضاء الشهوة كما يفعل الزناة، و في هذا اشعار بتحريم أن تبتغى المرأة من أجل مجرد الاستمتاع بها و سفح الماء في رحمها.(1).

يلاحظ عليه بأمرين:

الاَوّل: أنّ السفح في الآية إنّما هو بمعنى الزنا لا بمعنى صبَّ الماء حتى و لو كان الطرف زوجة شرعية، و بعبارة أُخرى أُريد من قوله: "مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ " كونهم متزوّجين غير زانين، و يظهر ذلك بتوضيح معنى الاحصان، و بالتالي معنى السفح الواردين في الآية. و إليك نصَّ الآية و ما بعدها.

"وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ كِتٰابَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ... " (النساء/ 24).

ص: 140


1- . المقدمة: 15 اقرأ مضمون كلامه في تفسير المنار 6/5.

"وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنٰاتِ اَلْمُؤْمِنٰاتِ فَمِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ فَتَيٰاتِكُمُ اَلْمُؤْمِنٰاتِ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنٰاتٍ غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ وَ لاٰ مُتَّخِذٰاتِ أَخْدٰانٍ فَإِذٰا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى اَلْمُحْصَنٰاتِ مِنَ اَلْعَذٰابِ ذٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ ... " (النساء/ 25).

ترى أنّ مادة الاِحصان وردت بصورها المختلفة في الآيتين ست مرات و أمّا معناه لغة فليس له إلاّ معنىً واحداً و هو المنع، غير أنّ أسباب المنع أو متعلقاته يختلف، فالمرأة تكون محصنة بأُمور:

1 الاِسلام 2 العفاف 3 الحرية 4 الزواج.

فالاِسلام يمنعها عن التزوّج بالمشرك مثلاً، و العفاف يصدّها عن الزنا، و الحرية تمنعها عن التبذّل الجنسي أكثر من الامة، أو التزوّج بغير الكفوء، و الزواج يصد المرأة عن الفحشاء أو الزواج مع الغير.(1).

روى السيوطي في الدر المنثور عن النبي الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم - أنّه قال: الاحصان احصانان: احصان نكاح، و احصان عفاف(2) و على ضوئه يتبيّن المقصود من الاحصان الوارد في الآيتين، فقد أُريد:

من قوله: "وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ ". و قوله: "مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ ". و قوله: "فَإِذٰا أُحْصِنَّ ". الاحصان بالتزويج.

ص: 141


1- . ابن الاَثير: النهاية، مادة «الحصن» بتوضيح منّا.
2- . السيوطي: الدر المنثور: 2/139.

كما أُريد من قوله: "مُحْصَنٰاتٍ غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ ". هو الاحصان بالعفة.

و أُريد: من قوله: "أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنٰاتِ اَلْمُؤْمِنٰاتِ ". و قوله: "نِصْفُ مٰا عَلَى اَلْمُحْصَنٰاتِ مِنَ اَلْعَذٰابِ ". الاحصان بالحرية.

إلى هنا تبيّن المقصود من الاحصان و اتّضح أنّ المراد من قوله "مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ " هو كونهم متزوّجين، كما أنّ المراد من قوله "مُحْصَنٰاتٍ غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ " أي كونهنَّ عفائف(1).

هذا حول الاحصان، و أمّا السفح فهو في اللغة بمعنى صبّ الماء، يقال: سفحتُ الماء: إذا صببتَه. و دم مسفوح أي مراق، و السفاح: الزنا مأخوذ من سفحت الماء إذا صببته. و في الحديث أوّله سفاح و آخره نكاح، و المراد أنّ المرأة تسافح رجلاً مدّة ثمّ يتزوّجها بعد ذلك.

إذا تبيّن ذلك تقف على أنّ المراد من قوله: "غَيْرَ مُسٰافِحِينَ " هو غير زانين كما هو الحال في قوله: "غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ " و ذلك بحكم كونهما قرينين ل «محصنين» أو «محصنات».

فقوله سبحانه في الآية: "مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ " يدعو إلى أنّ مباشرة الرجل للمرأة يجب أن يكون بالتزويج، لا بالزنا، كما أنّ قوله سبحانه في الآية الثانية: "مُحْصَنٰاتٍ غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ " يدعو إلى أنّ الامة التي يباشرها الرجل يجب أن تكون عفيفة لا زانية، و الهدف هو الدعوة إلى التزوّج و النهي عن الزنا، لا الدعوة إلى تكوين النسل و النهي عن مطلق صبّ الماء.

ص: 142


1- . نظيره قوله سبحانه (و مريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها) (التحريم: الآية 12) أي منعت فرجها من دنس المعصية و عفّت عن الحرام.

و أظنّ أنّ من حمل قوله سبحانه: "غَيْرَ مُسٰافِحِينَ " على المعنى اللغوي، لاَجل أنّه اتّخذ موقفاً خاصاً من المتعة و هو موقف التحريم فحاول البرهنة على مدعاه فتمسّك بهذه الكلمة حاملاً إيّاه على المعنى اللغوي، أي تحريم صبّ الماء سواء كانت المرأة زوجة أو غيرها.

ثمّ إنّه كيف يمكن القول بحرمة صبّ الماء فيما إذا كان الطرف للرجل زوجته الشرعية فيجامعها التذاذاً و دفعاً للعنت و الشبق، و لا يطلب الولد أ فيمكن لفقيه الافتاء بالحرمة ؟

فإذا كان المتمتّع بها زوجة شرعية كما هو المفترض، فمباشرتها للالتذاذ بلا طلب للولد نفس المباشرة للزوجة الدائمة بهذه الكيفية، فكما أنّ الثاني مباح، فهكذا الاَوّل.

فلو كان القائل بالتحريم يريد البرهنة على مدّعاه فليركّز على نفي كونها زوجة و إلاّ مع التسليم بكونها زوجة لا دليل على حرمة صبّ الماء بلا طلب للولد، و قد وقع الكاتب في هذا الاشتباه تبعاً لما ذكره الاِمام عبده في تفسيره(1) و أنا شخصياً أجلُّ الاِمام عن هذا التفسير، إنّما هو من منشىَ المنار السيد محمد رشيد رضا و قد أدخل أفكاره في ثنايا نظريات الاِمام عبده.

الثاني: لو كان سبب الحرمة كون التزوّج متعة لغاية صبّ الماء لا لتكوين الولد و تشكيل الأسرة، يلزم التفصيل بين كون الغاية منه هو صبّ

ص: 143


1- . الاِمام عبده: المنار: 5/9: ليكنّ عفيفات طاهرات و لا يكون التزوّج لمجرد التمتع و سفح الماء و إراقته و هو يدل على بطلان النكاح الموَقّت و هو نكاح المتعة الذي يشترط فيه الاَجل.

الماء و ما إذا كانت الغاية تشكيل الأسرة أو طلب الولد. فهل الأستاذ يُفتي به أو لا؟

4. الآية تهدف إلى تأكيد المهر بعد الاستمتاع:

إنّ القائلين بحلّية المتعة تبعاً للنصوص الواردة في السنّة (و إن أغفل الكاتب ذكرها، و ذكر القائلين بنزول الآية فيها من أهل السنّة) يستدلّون على حلّية المتعة بقوله سبحانه: "فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ... " و سيوافيك كيفية الاستدلال بها و لأَجل إخلاء الآية عن الدلالة على حكم المتعة حملها الأستاذ على معنى آخر و قال: إنّما أوردها تعالى هنا للدلالة على تأكيد المهر بعد الاستمتاع و عدم قابليته للسقوط بعد هذا الاستمتاع إذ من المعلوم أنّ «عقد الزواج» و إن كان يثبت به المهر كاملاً إثر إبرامه، و تستحقّه الزوجة بنفس العقد، غير أنّه يثبت ثبوتاً قابلاً لسقوط بعضه، كالطلاق قبل الدخول مثلاً، حيث يثبت نصفه فقط، أمّا بعد «الاستمتاع» بالزوجة فيتأكد «المهر» كملاً و يصبح العقد غير قابل لاَن يسقط شيء منه.

فالآية الكريمة "فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ " تفيد أنّ المهر كما ذكرنا يتأكّد وجوبه كاملاً بالاستمتاع، لا بعقد الزواج وحده، لاَنّه عرضة لاَن يسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول، فيتأكد حقّ المرأة في تمام المهر بالدخول. فالاستمتاع هنا، أثر لعقد النكاح الصحيح الدائم الذي يثبت به المهر كملاً غير قابل للسقوط. و ليس انشاءً لعقد المتعة(1).

ص: 144


1- . مقدمة الدريني على كتاب «الاَصل في الاَشياء...» ص 1716.

يلاحظ عليه بأمرين:

الاَوّل: أنّ الاستمتاع ورد في الآية على وجه الاطلاق، و هو كما يشمل الدخول، يشمل سائر الوجوه من الاستمتاعات من التقبيل إلى سائر ألوانها، فلو حملنا الآية على أنّها بصدد بيان استقرار جميع المهر على الزوج يلزم القول بوجوبه عليه بمجرّد التمتع و هذا باطل بضرورة الفقه، لاَنّ استقراره كاملاً يتوقّف على الدخول و إلاّ فلا يجب إلاّ النصف، قال سبحانه: "وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ " (البقرة/ 237).

فعلى ما فسّر به الآية يجب دفع جميع المهر لمطلق التمتّع و هو أمر باطل، و القول بتخصيص الآية باخراج جميع ألوان التمتع، يستلزم الاستهجان في الكلام لاَنّه يكون من قبيل تخصيص الاَكثر.

الثاني: أنّ القرآن الكريم تكفّل ببيان حكم المهر في الآية السابقة حيث فرّق بين المس و عدمه فلا حاجة إلى اعادة مضمونه بلا ملزم.

أضف إليه أنّه سبحانه ذكر حكم المهور قبل هذه الآية في نفس السورة فقال: "وَ آتُوا اَلنِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً " (النساء/ 4).

و قال سبحانه: "وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلاٰ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً " (النساء/ 20).

و على ذلك فلا حاجة للاعادة مع هذه الآيات الصريحة.

ص: 145

5. حمل الآية على المتعة يوجب انقطاعها عن قبلها:

إنّ حمل الآية على المتعة يستلزم كونها كلاماً جديداً منقطعاً عمّا قبلها و عمّا بعدها لاَنّه من وجهة نظرهم يتناول موضوعاً جديداً و هو «عقد المتعة» خلافاً لما قبله، و هو النكاح الصحيح الدائم، و هذا غير صحيح لغة، لاَنّ المعلوم أنّ «الفاء» في قوله تعالى: "فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ " تربط ما بعدها بما قبلها، و إلاّ تفكّك النظم القرآني، فالعطف بالفاء مانع من قطع المعنى بعدها، عمّا قبلها، فيتعيّن أن يكون قوله تعالى: "فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ " منصرفاً إلى الاستمتاع بالنكاح الدائم الصحيح، لا بالمتعة، لاَنّ العطف يمنع هذا الانقطاع.

يدلّك على هذا، آخر الآية الكريمة من قوله تعالى: "وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنٰاتِ اَلْمُؤْمِنٰاتِ فَمِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ " و يتبع ذلك قوله تعالى معلّلاً السبب: "ذٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ".

و لا جرم، أنّ هذا السياق من أوّل الآية إلى آخرها خاص بالنكاح المشروع الدائم، فكان هذا مانعاً من أن يقحم نكاح المتعة في وسطها، و مانعاً أيضاً من الدلالة على ذلك، لوحدة السياق الذي ينتظم وحدة الموضوع التي تتناولها الآيات بأحكامها، إذ لو كانت «المتعة» جائزة لما نصّت الآية صراحة على التزوّج من الاماء، و لما اضطر الناس إلى ذلك، و لما جعل الشارع خشية العنت، ثمّ جعل الصبر على ترك نكاح الامة خيراً من نكاحهنّ ، و لكان في نكاح المتعة مندوحة عن ذلك كلّه، لو كان جائزاً!!(1).

ص: 146


1- . المصدر السابق: ص 1817.

يلاحظ عليه بأُمور:

ألف: أنّ حاصل كلامه في المقام يرجع إلى أمرين:

أحدهما: أنّ حمل قوله سبحانه: "فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ ... " على المتعة يوجب تفكيك النظم القرآني.

الثاني: أنّه لو كانت المتعة جائزة لما نصّت الآية صراحة على التزوّج بالاماء و لما اضطرّ الناس إلى ذلك مع أنّه سبحانه يقول: "وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً... ".

و الاَوّل مأخوذ من كتاب «الوشيعة في نقض عقائد الشيعة» لموسى جار اللّه قال فيها: «و أرى أنّ أدب البيان يأبى، و عربية هذه الجملة الكريمة تأبى أن تكون هذه الجملة الجليلة الكريمة قد نزلت في المتعة لاَنّ تركيب هذه الجملة يفسد، و نظم هذه الآية الكريمة يختل لو قلنا بأنّها نزلت فيها»(1) و أدب المناظرة تقتضي بيان مصادر الفكرة و أداء حق كلّ ذي حق حقّه، و لكن الأستاذ شطب على هذا الاَصل الاَخلاقي بقلم عريض، و قد تكرّر منه ذلك كما عرفت.

ب: أنّ دراسة الظروف السائدة للبيئة التي نزلت فيها الآية تُعين على دراسة الآية و تحديد مفهومها. فيجب على المفسّر الواعي النظر إلى الشرائط الموجودة في زمان نزولها بذهن خالٍ عن كل رأي مسبَق و إلاّ فدراسة الآية، بالذهن المكتظّ بالمفاهيم السلبيّة، تعرقل خطى المفسّر و تصدّه عن الوصول إلى الحقيقة فنقول:

إنّ الظاهر من السنّة، أنّ المتعة شرّعت بسنّة النبي الاَكرم و تحليله، أو

ص: 147


1- . موسى جار اللّه: الوشيعة في نقض عقائد الشيعة/ 32.

بامضائه ما هو الموجود في صدر الاِسلام و الآية نزلت تأكيداً لما شرّعه النبيّ الاَكرم بأمر منه سبحانه و يدل على ذلك:

1 ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت متعة النساء في أوّل الاِسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته و لا يحفظ متاعه فيزوّج المرأة إلى قدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته فتنظر له متاعه و تصلح له ضيعته...

2 و رواه الطبراني و البيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كانت المتعة في أوّل الاِسلام... فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوّج بقدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته لتحفظ متاعه و تصلح له شأنه...

3 أخرج عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم عن ابن مسعود قال: كنّا نغزو مع رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و ليس معنا نساؤنا فقلنا: أ لا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك و رخّص لنا أن نتزوّج المرأة بالثوب إلى أجل ثمّ قرأ عبد اللّه: "يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُحَرِّمُوا طَيِّبٰاتِ مٰا أَحَلَّ اَللّٰهُ لَكُمْ ".

4 و أخرج عبد الرزاق و أحمد و مسلم عن سبرة الجهني قال: أذن لنا رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - عام فتح مكة في متعة النساء، فخرجت أنا و رجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال و هو قريب من الدمامة...

5 و أخرج ابن شيبة و أحمد و مسلم عن سبرة قال: رأيت رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» قائماً بين الركن و الباب و هو يقول: يا أيُّها الناس إنّي كنت أذنت في الاستمتاع ألا و أنّ اللّه حرّمها إلى يوم القيامة...(1).

ص: 148


1- . السيوطي: الدر المنثور: 2/140.

6 روى البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد اللّه و سلمة بن الاَكوع قال: كنّا في جيش فأتانا رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - فقال: إنّه قد أُذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا(1).

7 روى مسلم في صحيحه بسنده: خرج علينا منادي رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» فقال: إنّ رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - قد أذن لكم أن تستمتعوا، يعني متعة النساء(2).

8 روى مسلم في صحيحه أيضاً بسنده عن سلمة بن الاَكوع، و جابر بن عبد اللّه: أنّ رسول اللّه أتانا فأذن لنا في المتعة(3).

إلى غير ذلك من الروايات التي دعت الفخر الرازي و غيره في تفسيره إلى القول بأنّها كانت مباحة في ابتداء الاِسلام(4).

و بما أنّ الآية مدنية فقد نزلت في أجواء كان هنا وراء النكاح الدائم الذي هو الاَصل في النكاح، نكاح المتعة، و تزويج الاماء، و الآية واردة في سورة النساء التي تكفّلت لبيان أحكام النساء و ما يرجع إليهم في مختلف الاَحوال، و على ذلك فلا يكون هنا اقتضاب و لا ارتجال في أن تبيّن حكم المتعة أوّلاً و تزويج الاِماء ثانياً، بعد الفراغ من حكم النكاح الدائم.

إنّ الناظر في آيات السورة من أوّلها إلى الآية الخامسة و العشرين التي تكفّلت ببيان تزويج الاِماء، يقف على أنّ المحور للاَحكام الواردة فيها هو النكاح الدائم فأصدرت فيها أحكاماً بالشكل التالي:

ص: 149


1- . البخاري: الصحيح: 7/13 كتاب النكاح.
2- . مسلم: الصحيح: 4/130 باب نكاح المتعة.
3- . مسلم: الصحيح: 4/130 باب نكاح المتعة.
4- . الفخر الرازي: مفاتيح الغيب: 10/49.

1 يجوز نكاح ما طاب من النساء إلى أربع بشرط رعاية العدالة و إلاّ فواحدة (الآية 3).

2 يجب ايتاء صدقات النساء و مهورهنّ و لا يجوز أخذ شيء، منها إلاّ بإذنهنّ (الآية 4).

3 حكم من يأتي الفاحشة من النساء (الآية 7).

4 ميراث الاَزواج زوجاً و زوجة، ذات ولد أو غير ذات ولد (الآية 12).

5 ردع السنّة الجاهلية من ارث النساء حيث كانت نساء الموتى معدودة من التركة (الآية 19).

6 النهي عن امساك الزوجة التي لا رغبة له فيها، اضراراً ليأخذ بعض ما آتاها من المهر.

7 الاَمر بالمعاشرة معها بالمعروف في القول و النفقة و المبيت (الآية 19).

8 إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، و أعطى لواحدة من زوجاته مالاً كثيراً صداقاً فليس له الاَخذ، فلو أخذ، فقد أخذ ظلماً و زوراً. (الآية 20).

ثمّ بيّن المحرّمات اللاتي، لا يجوز نكاحهنّ ضمن آيات ثلاث (21 و 22 و صدر الآية 23).

فبقوله سبحانه: "وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ كِتٰابَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ " تمّ بيان ما يرجع إلى أحكام النكاح الدائم و ما حوله من وظائف للزوجين.

غير أنّ التشريع لمّا كان بصدد بيان حكم ما هو الرائج يوم ذاك، ذكر

ص: 150

حكم أمرين:

1 النكاح الموَقت فأشار إليه بقوله: "فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ".

2 تزويج الاِماء فأشار إليه بقوله: "وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنٰاتِ اَلْمُؤْمِنٰاتِ فَمِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ ".

و لا يعد مثل ذلك الانتقال من الدائم، إلى الموَقّت، ثمّ إلى نكاح الاِماء، اقتضاباً في الكلام أو ارتجالاً في البيان، لما عرفت أنّ الآية نزلت، و المتعة كانت أمراً رسمياً، مثل نكاح الاِماء فالاكتفاء ببيان حكم النكاح الدائم و السكوت عن الآخرين مخالف لاِكمال التشريع.

و من هنا يعلم: أنّ قوله: "اِسْتَمْتَعْتُمْ " ليس بمعناه اللغوي أي التمتع و الالتذاذ، بل بمعنى عقد المتعة، يظهر ذلك بملاحظة ما سبق من الروايات، حيث جاءت فيها المتعة، بمعنى العقد على المرأة متعة. و الذي أوقع الأستاذ و غيره فيما أوقع، هو تصوّر أنّ اللفظ بمعناه اللغوي، غافلاً عمّا هو المصطلح في ذلك اليوم، و حمله على المعنى اللغوي، أشبه بحمل ألفاظ الصلاة و الصوم و الحج على معانيها اللغوية.

فلو رجع الأستاذ و من لفَّ لفَّه إلى النصوص الواردة حول المتعة جوازاً و منعاً في التفاسير بالاَثر، نظير تفسير الطبري و الدر المنثور لاَذعن بأنّ اللفظة، كانت في ذلك اليوم حقيقة في النكاح الموَقت، بحيث لا يراد منها سوى هذا. و أمّا العدول عن لفظ النكاح و الزواج إلى هذا اللفظ فللاشعار إلى ما هو الغاية من هذا العقد، و لأَجل ذلك أتى بلفظ الاَجر مكان المهر، للايماء إلى لزوم ادائه و عدم

ص: 151

التهاون في دفعه.

فاتّضح أنّ السورة من أوّلها إلى نهاية الآية الخامسة و العشرين عالجت الموضوعات المطروحة في ذلك اليوم، و بيّن أحكامها و أوضح معالمها و حدودها و كان ذلك مقتضى اكمال الشريعة.

وجه تصدير الجملة ب «فاء» التفريع:

بقي الكلام في أنّه لما ذا صُدّر بيان الزواج الموَقت بلفظة «فاء» التفريع حيث قال: "فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ " مع أنّه لم يسبق منه في الظاهر شيء في الآيات المتقدمة: و لكن الاجابة عنه واضحة لاَنّ المصحّح لدخولها، تقدّم جملتين في كل واحدة ايماء إلى هذا النوع من النكاح:

أحدهما: "أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ ".

ثانيهما: "مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ ".

و في كل من هذين القيدين اشارة إلى الزواج الموَقّت.

قال سبحانه: "وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ ... ".

توضيحه: ما ذا يريد سبحانه من قوله: "وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ " هل يريد حل ما وراءه بالنكاح الدائم فقط أو يريد شيئاً وراء ذلك ؟ و الاحتمال الاَوّل يوجب خروج الكلام مخرج توضيح الواضح للعلم الضروري، بحلّية نكاح ما وراء المحرمات بالنكاح الدائم، فما هو الدافع على توضيح الواضح خصوصاً

ص: 152

أنّه تقدم في صدر السورة قوله: "فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسٰاءِ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ " (النساء/ 3).

فلا مناص عن احتمال آخر، و هو: أنّه يهدف إلى بيان حلّية النكاح الذي يبتغى بالاَموال بحيث يكون للمال (الصداق) هناك دور واسع. بحيث لولاه لبطل، أو لما تحقق. فيوضح قوله: "مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ " بقوله: "أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ " و ليس ذلك إلاّ نكاح المتعة، لا النكاح الدائم، فانّ الصداق في الثاني ليس بركن، بل يجوز تركه قال سبحانه: "لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ مٰا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً " (البقرة/ 236) قال ابن قدامة: و يستحب أن لا يعرى النكاح عن تسمية الصداق، لاَنّ النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - كان يزوّج بناته و غيرهنّ و يتزوّج، فلم يكن يخلي ذلك من صداق(1).

و هذا بخلاف المتعة، فانّ الاَجل و الصداق فيها ركن، تبطل بترك واحد منهما، قال الاِمام الصادق: «لا تكون متعة إلاّ بأمرين: أجل مسمّى، و أجر مسمّى»(2) و لأَجل ذلك صحّ الاتيان بفاء التفريع.

ثمّ وصف الزوج بأن يكون محصناً لا زانياً و قال: "مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ " بأن يكون اللقاء بنيّة الزواج لا الزنا، و بما أنّ عقد المتعة ربّما ينحرف عن مجراه و مسيره الصحيح فيتخذ لنفسه لون السفاح لا الزواج، أمر سبحانه بأن يكون الهدف هو الزواج لا السفاح. فصار ذلك أيضاً مصححاً لدخول الفاء في الجملة لما فيها من الاِيماء إلى ما ربّما يكون الرجل فيه زانياً لا متزوّجاً.

ص: 153


1- . المغني: 7/136 و كلامه صريح في عدم الوجوب و عدم الخلاف فيه بين المذاهب.
2- . الحر العاملي: الوسائل: 14 الباب 17 من أبواب المتعة الحديث 1 و السند صحيح.

و بما أنّ نكاح الاِماء أيضاً، مظنّة لذلك الاَمر إذ الغالب على الاِماء هو روح الابتذال قيّد سبحانه العفة في نكاحين بقوله: "مُحْصَنٰاتٍ غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ وَ لاٰ مُتَّخِذٰاتِ أَخْدٰانٍ " (النساء/ 25).

و بالجملة: إنّ افتتاح الكلام، بجملتين، حاملتين مفهوم المتعة، هو المسوّغ لدخول الفاء.

و بذلك تقف على أنّ النظم القرآني بعد لم يتفكك، و أنّ أدب البيان يقتضي حمله على ما فهمه السلف الصالح من هذه الجملة و إن اختلفوا في نسخها و عدمها.

و من رجع إلى كتب الحديث و التفسير و الفقه، يرى أنّ المحدّثين و المفسّرين و الفقهاء، تسلّموا نزول الآية في عقد المتعة و انّما اختلفوا في بقاء حلّيتها، فقد رووا عن النبي الاَكرم أنّه - صلى الله عليه و آله و سلم - حرّمها، كما رووا عن غيره. و لم يخطر ببال أحد منهم أنّ حملها على الزواج الموَقت يهدم نظم الآية، أو يوجد خللاً في بيانها.

هذا كلّه حول الاَمر الاَوّل و أمّا الاَمر الثاني و هو لو كانت المتعة جائزة لما وصلت النوبة إلى نكاح الاِماء، مع أنّه سبحانه قيّد نكاحهنّ بعدم الاستطاعة على نكاح الحرائر دائماً أو منقطعاً حسب الفرض.

يلاحظ عليه: أنّ الاِماء بطبيعة الحال تكون مبتذلة و لأَجل ذلك لا يجوز نكاحهنّ إلاّ عند الضرورة و عدم الطول لنكاح المحصنات، و لأَجل ذلك اشترط فيهنّ الاحصان، قال سبحانه: "مُحْصَنٰاتٍ غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ وَ لاٰ مُتَّخِذٰاتِ أَخْدٰانٍ " و لا ترى هذا الشرط في جانب الحرائر و ما هذا إلاّ للابتذال

ص: 154

السائد عليهن.

و أمّا اغناء نكاح المتعة عن نكاح الاِماء فهو رجم بالغيب إذ ليست بالوفرة التي يتخيّلها الكاتب حتى يستغنى بها عن نكاح الاِماء، فانّ كثيراً من النساء الثيّب تأبى نفسها عن العقد المنقطع، فضلاً عن الابكار، فليس للشارع إلاّ فتح طريق ثالث و هو نكاح الاِماء عند عدم الطول.

إنّ المرأة المتمتع بها عند الكاتب لا تختلف عن النساء المبتذلات اللاتي يعرضن أنفسهنّ في النوادي و الفنادق و بيوت الدعارة و الالتذاذ بهن يغني عن نكاح الاِماء، لكن المتمتع بهنّ متعة مشروعة بالكتاب و السنّة حرائر عفاف لا صلة بينهنّ و بين المتواجدات في دمن الفحشاء أعاذنا اللّه و إيّاكم من شرور أنفسنا.

إلى هنا تبيّن أنّ دلالة الذكر الحكيم على جواز الزواج الموَقت ممّا لا غبار عليها، بشرط أن يتجرّد الناظر عن كل رأي مسبق و عمّا يقوله هذا الاِمام، أو ذاك، فلا محيص عن الاَخذ بمفاد الذكر الحكيم إلاّ إذا ثبت النسخ بالدليل القاطع و أنّى للقائل بالتحريم اثباته فقد اختلفوا في زمان النسخ إلى أقوال مختلفة تسلب الركون إلى الجميع، كما عرفت.

و أمّا قراءة الآية بزيادة «إلى أجل مسمّى» فلا تعني كونها جزءاً من الآية سقطت منها، بل تعني إلى تبيين المراد، و قد قرأ بها ابن مسعود، و أُبي بن كعب و ابن عباس و ليست خاصّة بابن مسعود كما زعمه الكاتب فلاحظ(1).

ص: 155


1- . لاحظ التفاسير بالاَثر: الدر المنثور: 2/140.

6. نقد استدلال المجيزين بالسنّة:

إنّ الكاتب عطف عنان البيان إلى نقد استدلال المجيزين و قال: «قالوا إنّ الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - قد أباح المتعة لاَصحابه. و يرد عليهم أنّ هذه الاباحة إنّما كانت عارضة لاَمر عارض يوم فتح مكّة، و هذا استثناء من أصل التحريم، و قد ثبت قطعاً نسخها بالاَحاديث الصحيحة فتعود إلى الاَصل و هو التحريم»(1).

كان المترقّب من كاتب موضوعي، أن ينقل دليل المخالف برحابة صدر و الاَسف أنّه تخلّف عن ذلك الطريق فنقل دليل المجوّز بصورة ناقصة جداً، إنّ المجيز يستدل بروايات صحيحة في الصحاح و المسانيد تدلّ بوضوح على أنّ النبيّ الاَكرم شرّع المتعة بوحي منه سبحانه و لم يحرّمها إلى رحيله، و قد نصّت على أنّ التحريم انّما جاء بعد رحيله و إليك بعض ما روي فانّ الاستيعاب لا يناسب المقام:

1 روى مسلم بسنده: عن أبي نضر قال: كنت عند جابر بن عبد اللّه فأتاه آت فقال: ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول اللّه ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما(2).

2 روى البيهقي عن أبي نضرة عن جابر رضي اللّه عنه قال: قلت: إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة و انّ ابن عباس يأمر، قال: على يدي جرى الحديث تمتّعنا مع رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و مع أبي بكر رضى اللّه عنه فلمّا ولي عمر خطب

ص: 156


1- . المقدمة: 22.
2- . مسلم: الصحيح، الجزء 4 باب نكاح المتعة، ص 131 الحديث 8، البيهقي: السنن: 7/206.

الناس: إنّ رسول اللّه هذا الرسول، و إنّ القرآن هذا القرآن، و إنّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه و أنا أنهى عنهما و أُعاقب عليهما: إحداهما متعة النساء و لا أقدر على رجل تزوّج امرأة إلى أجل إلاّ عيبته بالحجارة، و الأُخرى متعة الحج...(1).

3 روى الاِمام أحمد باسناد رجال كلّهم ثقات، عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه تبارك و تعالى و عملنا بها مع رسول اللّه فلم تنزل آية تنسخها و لم ينه عنها النبي حتى مات(2).

4 روى أبو جعفر الطبري في تفسيره باسناد صحيح، عن شعبة، عن الحكم قال، قال: سألته عن هذه الآية أ منسوخة هي ؟ قال: لا. قال الحكم: و قال علي رضي اللّه عنه لو لا أنّ عمر رضى اللّه عنه نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي(3).

إلى غير ذلك من المرويات في السنن و المسانيد، الدالّة على جوازها شرعاً في عصر الرسول و أنّها بقيت على ما كانت عليه، غير أنّه قال فيها رجل برأيه، و صارت السنّة بدعة.

و أوضح دليل على أنّ مبدأ التحريم هو منع الخليفة عنها، ما جاء في بعض خطبه: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و أنا أنهى عنهما و أُعاقب عليهما: متعة الحج و متعة النساء.

و قد اشتهر هذا الكلام منه، اشتهار الشمس في رابعة النهار رواه عنه نظراء

ص: 157


1- . البيهقي: السنن: 7/206، و مسلم: الصحيح الجزء 4 باب في المتعة بالحج الحديث 1.
2- . الاِمام أحمد: المسند: 4/436.
3- . الطبري: التفسير: 5/9.

الجاحظ في البيان و التبيين 2/223، الجصاص في أحكام القرآن 1/342 و 345، القرطبي: جامع الاَحكام 2/370، التفسير الكبير: الرازي 2/167، ابن قيم: زاد المعاد 1/444 إلى غيرها من المصادر التي جاءت فيها هذه الجملة.

قال الراغب في المحاضرات: قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة: بمن اقتديت في جواز المتعة ؟ قال: بعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال: كيف و عمر كان أشد الناس فيها؟ فقال: لاَنّ الخبر الصحيح أنّه صعد المنبر فقال: إنّ اللّه و رسوله قد أحلاّ لكم متعتين و إنّي محرّمهما عليكم و أُعاقب عليهما. فقبلنا شهادته و لم نقبل تحريمه(1).

7. أدلّة جماهير الأُمّة القائلين بتحريم نكاح المتعة:

ذكر الأستاذ في هذا الفصل أدلّة القائلين بتحريم نكاح المتعة، و جعل القول بالحرمة رأياً لجماهير الأمّة كما عرفت، و كأنّ الشيعة و هم ربع المسلمين أو ثلثهم ليسوا من جماهير الأُمة، و كأنّهم شذّاد الآفاق، كما أنّ أئمّة أهل البيت الذين هم أعدال الكتاب و قرناؤه ليسوا منهم. و لو أنصف كان عليه أن يقول: أدلّة القائلين بالتحريم، بحذف كلمة «جماهير الأُمة».

و على كلّ تقدير فقد نقل استدلالهم بقوله تعالى: "وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ * إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ اِبْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلعٰادُونَ " (المؤمنون/ 5-7).

وجه الاستدلال: أنّ المرأة المتمتّع بها ليست أمة كما هو واضح، و لا زوجة،

ص: 158


1- . الراغب: المحاضرات: 2/94.

لعدم ترتّب آثار عقد النكاح الصحيح كالنفقة و الارث و الطلاق(1).

يلاحظ عليه: بأنّه خلط آثار الشيء بمقوّماته، فالذي يضر هو فقدان المقوّمات لا الآثار، فانّ النكاح رابطة و علقة بين الزوجين، كما أنّ البيع رابطة بين المالين، فالذي يجب وجوده هو ما جاء في التعريف من وجود الزوجين، أو وجود المالين، و أمّا ما وراء ذلك فإنّما هي آثار ربّما تترتّب، و ربّما تتخلّف، فقد ذكر من آثار النكاح: النفقة، و الارث، و الطلاق. و زعم أنّ فقدان واحد منها يوجب فقدان حقيقة النكاح، و لكنّ الاَمر ليس كذلك، بشهادة الموارد التالية التي تفقد الآثار و لا تفقد حقيقة النكاح:

1 الزوجة الناشزة لا تجب نفقتها مع أنّها زوجة.

2 الزوجة الصغيرة زوجة و لا تجب نفقتها.

3 الزوجة القاتلة لا ترث الزوج مع أنّها زوجة.

4 الزوجة الكافرة لا ترث زوجها المسلم مع أنّها زوجة، و كذا الزوجة المسلمة زوجة و لا ترث زوجها الكافر عند أهل السنّة.

5 الزوجة المجنونة و غيرها من ذوي العاهات(2) تبين بلا طلاق.

إلى غير ذلك من الموارد التي يبين فيها الزوجان بلا طلاق ممّا ذكره الفقهاء في مجوّزات الفسخ.

6 الزوجة التي باهلها الزوج تبين بلا طلاق.

ص: 159


1- . مقدمة كتاب «الاَصل في الاَشياء...» ص 26.
2- . قال الخرقي في متن المغني: «و أي الزوجين وجد بصاحبه جنوناً أو جذاماً أو برصاً أو كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء أو فتقاء أو الرجل مجنوناً فلمن وجد ذلك منهما يصاحبه الخيار في فسخ النكاح» المغني: 7/109 تصحيح محمد خليل، و لاحظ الخلاف للطوسي: 2/396 فصل في العيوب المجوّزة للفسخ المسألة 124.

و كان على الأستاذ أن يدرس مقوّمات الموضوع و يميّزها عن آثاره، و على ذلك فالمتمتّع بها داخلة في قوله: "إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ " بلا إشكال.

ثمّ نقل استدلالاً آخر للقائلين بالمنع، و هو قوله تعالى: "وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ نِكٰاحاً حَتّٰى يُغْنِيَهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ " (النور/ 33) قائلين بأنّ المتعة لو كانت جائزة لما أمر اللّه تعالى بالاستعفاف، لاَنّ أعباء الاستمتاع و تكاليفه سهلة ميسورة، فلا حاجة إذن إلى الاَمر بالاستعفاف(1).

يلاحظ عليه: أنّ الكاتب خلط بين النساء المتعفّفات، و المبتذلات في النوادي و الفنادق و بيوت الدعارة، و قد عرفت أنّ كثيراً من النساء لعلوّ طبعهنّ لا يخضعن للمتعة و إن كانت حلالاً، إذ ليس كل حلالٍ مرغوباً عند الكل، و لأَجل ذلك تصل النوبة إلى الاستعفاف و لا يجد الشاب نكاحاً موَقتاً و لا دائماً.

و العجب أنّه استدلّ على التحريم بالسنّة بروايتين، و أغفل عمّا تدلّ على الاباحة من السنّة (ما هكذا تورد يا سعد الاِبل) و قد سمعت أُذن العالم أنّ السلطة أيام خلافة عمر بن الخطاب حالت بين الأُمة و حلالها، و لولاه لما كان للمنع صخب و هياج.

و لأَجل ذلك أخرج ابن أبي شيبة النافع: أنّ ابن عمر سئل عن المتعة فقال: حرام، فقيل له: إنّ ابن عباس يفتي بها، قال: فهلاّ تزمزم بها في زمان عمر.

نعم، لو تزمزم بها في أيامه لعلته الدرّة التي كانت أهيب من سيف الحجاج.

و أخيراً نذكر كلام السدّي أحد التابعين، قال في تعريفه نكاح المتعة: الرجل

ص: 160


1- . المقدّمة: 28.

ينكح المرأة بشرطٍ إلى أجلٍ مسمّى و يشهد شاهدان، و ينكح باذن وليّها، و إذا انقضت المدّة فليس له عليها سبيل، و هي منه بريئة و عليها أن تستبرئَ ما في رحمها، و ليس بينهما ميراث(1).

8. هل المتعة من أقسام السفاح ؟

إنّ في كلام الكاتب ايماء إلى أنّ المتعة من أقسام الزنا، يقول: «و لطالما نهى القرآن عن السفاح، و حرّمه تحريماً قاطعاً و حاسماً بالنسبة إلى الرجال و النساء على السواء، و دعا إلى النكاح المشروع الدائم و رغّب فيه...»(2).

يلاحظ عليه: أنّ المسلمين عامّة أصفقوا على أنّ الاِسلام أحلَّ المتعة، أياماً قلائل في فتح مكة على قول الكاتب أو قبله في خيبر و غيره على قول الاَخيرين، و معنى كون المتعة داخلة تحت السفاح، أنّ الوحي السماوي أمر به في أيام أو شهور أو سنوات، و السفاح من أقسام الفحشاء و اللّه سبحانه لا يأمر به و إن بلغ الاَمر ما بلغ "قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ " (الاَعراف/ 28).

و المسلم المؤمن بكتاب اللّه و سنّة رسوله، لا يخطر بباله أنّ التشريع، الاِسلامي جوّز الزنا للمسلمين فترة من الزمن، و أمر بالقبيح، مكان الاَمر بالحسن و لا محيص إلاّ بتفكيك المتعة عن السفاح، موضوعاً و حدّاً و خصوصيّة، و قد عرفت تعريف السدّي لها.

و أظنّ و ظن الاَلمعي يقين أنّ العناية بحفظ كرامة الخليفة و تبرئته من

ص: 161


1- . الطبري: التفسير: 5/9.
2- . المقدّمة: 31.

تحريم ما أحلّ اللّه سبحانه، جرّ القوم إلى هذه التسويلات. مع أنّ المتتبّع لسيرة الخلفاء يقف على أنّها ليست أوّل قارورة كسرت في الاِسلام، و ليست أوّل مرّة، صارت السنّة بدعة، و لعبت يد الهوى في التشريع فغيّرت الكلم عن مواضعها، و سيوافيك أنّ الخليفة حكم على الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد بلا تخلّل العدّة و الرجوع، بأنّها تحسب تطليقات ثلاث، مع أنّها على خلاف نص الكتاب و السنّة، و قد وقف عليه الخليفة بعد أن بلغ السيل الزبى.

زلّة لا تستقال:

إنّ الدكتور الدريني يصرّ على أنّ المتعة أُبيحت يوم فتح مكة ثلاثة أيام فقط (أي أباح نبي العظمة و العصمة الفروج ثلاثة أيام لجنوده يوم فتح مكة سفاحاً) و لمّا رأى أنّ هناك أحاديث تدلّ على أنّه - صلى الله عليه و آله و سلم - نهى يوم خيبر و هي تدل التزاماً على وجود اباحة لها قبل هذا اليوم و كانت غزوة خيبر في العام السابع من الهجرة و فتح مكة في الثامن منها، حاول أن يجمع بينها بوجه يمس كرامة الصحابة العدول، و قال: «إنّ نهي الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - عن المتعة يوم خيبر، لا يدلّ على أنّه أذن لاَصحابه بها أوّلاً ثمّ نهاهم عنها، فَلِمَ لا يكون من بعضهم استمرار العادات الجاهلية و كانوا حديثي عهد بها، فيكون النهي عنها كغيرها من العادات الجاهلية التي حرّمها الاِسلام دون أن تكون مسبوقة باذن أو ترخيص(1).

يلاحظ عليه: أنّ بين المستمتعين، عبد اللّه بن مسعود، و جابر بن عبد اللّه الاَنصاري، و لا يمكن رميهما بالجهل بحكم اللّه، و معنى ما ذكره الكاتب أنّهم كانوا

ص: 162


1- . المقدّمة: 23.

يقترفون الزنا، مدة طويلة إلى أن وصل إليهم نهي النبي في خيبر و هذا ممّا لا يلتزم به أحد في أمثال ذينك الصحابيين الجليلين، قال ابن مسعود: كنّا نغزوا مع رسول اللّه و ليس معنا نساؤنا فقلنا: أ لا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك و رخّص لنا أن نتزوّج المرأة بالثوب إلى أجل ثمّ قرأ عبد اللّه "يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُحَرِّمُوا طَيِّبٰاتِ مٰا أَحَلَّ اَللّٰهُ لَكُمْ "(1).

و في ذيل كلامه ايماء إلى التحريم البدعي الذي قامت به السلطة. و ليست استباحة فروج النساء أمراً نادراً يعذر فيه المقترف، خصوصاً إذا كان نظير عبد اللّه ابن مسعود و جابر بن عبد اللّه. و كان الاَوّل كثير الولوج على النبي و قال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: «إذنك عليَّ أن ترفع الحجاب». أسلم بمكة قديماً، و توفّي عام 32 ه(2) و هل يصحّ أن يجهل مثله حكم اللّه و ينحرف في سنن الجاهلية.

و لو رمى شيعي أحد الصحابة بهذا الاَمر لثارت ثورة القائلين بعدالة كل صحابي و لكن...

هذا بعض الكلام حول هذه السنّة التي اتخذت لنفسها في هذه الاَيام عند إخواننا أهل السنّة لون البدعة، و كثير منهم غير واقفين على منطق القائلين بالجواز، و لو أنّهم رجعوا إلى الكتاب و السنّة من غير رأي مسبق لعادوا إلى الحقّ .

و أقصى ما يمكن أن يقال تبريراً لعمل الخليفة هو أنّ النهي كان نهياً حكومياً لا إلهياً، و مثله يتبع المصالح و المفاسد، فلو فقد الملاك ارتفع النهي.

ص: 163


1- . السيوطي: الدر المنثور: 2/140. و الآية في سورة المائدة/ 87.
2- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 16/123.

ص: 164

المسألة السابعة: الإشهاد على الطلاق

و ممّا انفردت به الاِماميّة، القول: بأنّ شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق، و متى فقد لم يقع الطلاق و خالف باقي الفقهاء في ذلك(1).

و قال الشيخ الطوسي: كلّ طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان و إن تكاملت سائر الشروط، فإنّه لا يقع. و خالف جميع الفقهاء و لم يعتبر أحد منهم الشهادة(2).

و لا تجد عنواناً للبحث في الكتب الفقهية لاَهل السنّة و انّما تقف على آرائهم في كتب التفسير عند تفسير قوله سبحانه: "فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ " (الطلاق/ 2). و هم بين من يجعلونه قيداً للطلاق و الرجعة، و من يخصّه قيداً للرجعة المستفادة من قوله: "فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ".

روى الطبري عن السدّي أنّه فسّر قوله سبحانه: "وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ

ص: 165


1- . المرتضى: الانتصار: 128127.
2- . الطوسي: الخلاف: 2، كتاب الطلاق المسألة 5.

مِنْكُمْ " تارة بالرجعة و قال: أشهدوا على الامساك إن أمسكتموهنّ و ذلك هو الرجعة، و اُخرى بها و بالطلاق و قال: عند الطلاق و عند المراجعة.

و نقل عن ابن عباس: أنّه فسّرها بالطلاق و الرجعة(1).

و قال السيوطي: أخرج عبد الرزاق عن عطاء قال: النكاح بالشهود، و الطلاق بالشهود، و المراجعة بالشهود.

و سئل عمران بن حصين عن رجل طلّق و لم يشهد، و راجع و لم يشهد؟ قال: بئس ما صنع طلّق في بدعة و ارتجع في غير سنّة فليشهد على طلاقه و مراجعته و ليستغفر اللّه(2).

قال القرطبي: قوله تعالى: "وَ أَشْهِدُوا " أمرنا بالاشهاد على الطلاق، و قيل: على الرجعة، و الظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. ثمّ الاشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله: "وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ " و عند الشافعي واجب في الرجعة(3).

و قال الآلوسي "وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ " عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبرّياً عن الريبة(4).

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية.

و ممّن أصحر بالحقيقة عالمان جليلان: أحمد محمد شاكر القاضي المصري، و الشيخ أبو زهرة. قال الاَوّل بعد ما نقل الآيتين من أوّل سورة الطلاق: و الظاهر

ص: 166


1- . الطبري: جامع البيان: 28/88.
2- . السيوطي: الدر المنثور: 6/232، و عمران بن حصين من كبار أصحاب الاِمام عليّ عليه السلام.
3- . القرطبي: الجامع لاَحكام القرآن: 18/157.
4- . الآلوسي: روح المعاني: 28/134.

من سياق الآيتين أنّ قوله: "وَ أَشْهِدُوا " راجع إلى الطلاق و إلى الرجعة معاً و الاَمر للوجوب، لاَنّه مدلوله الحقيقي، و لا ينصرف إلى غير الوجوب كالندب إلاّ بقرينة و لا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب، بل القرائن هنا تؤيّد حمله على الوجوب إلى أن قال: فمن أشهد على طلاقه، فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، و من أشهد على الرجعة فكذلك، و من لم يفعل فقد تعدّى حدود اللّه الذي حدّه له فوقع عمله باطلاً، لا يترتّب عليه أي أثر من آثاره إلى أن قال: و ذهب الشيعة إلى وجوب الاشهاد في الطلاق و أنّه ركن من أركانه، و لم يوجبوه في الرجعة و التفريق بينهما غريب لا دليل عليه(1).

و قال أبو زهرة: قال فقهاء الشيعة الاِمامية الاثني عشرية و الاِسماعيلية: إنّ الطلاق لا يقع من غير اشهاد عدلين، لقوله تعالى «في أحكام الطلاق و انشائه في سورة الطلاق»: "وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ " فهذا الاَمر بالشهادة جاء بعد ذكر انشاء الطلاق و جواز الرجعة، فكان المناسب أن يكون راجعاً إليه، و إنّ تعليل الاشهاد بأنّه يوعظ به من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر يرشّح ذلك و يقويه، لاَنّ حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى اللّه سبحانه و تعالى.

و أنّه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين(2).

ص: 167


1- . أحمد محمد شاكر: نظام الطلاق في الاِسلام: 119118.
2- . أبو زهرة: الاَحوال الشخصية: 365 كما في الفقه على المذاهب الخمسة: 131 (و الآية: 32 من سورة الطلاق).

و هذه النصوص تعرب عن كون القوم بين من يقول برجوع الاشهاد إلى الرجعة وحدها، و بين من يقول برجوعه إليها و إلى الطلاق، و لم يقل أحد برجوعه إلى الطلاق وحده إلاّ ما عرفته من كلام أبي زهرة. و على ذلك فاللازم علينا بعد نقل النص، التدبّر و الاهتداء بكتاب اللّه إلى حكمه.

قال سبحانه: "يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ رَبَّكُمْ لاٰ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لاٰ يَخْرُجْنَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّٰهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاٰ تَدْرِي لَعَلَّ اَللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً * فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً " (الطلاق/ 1-2).

إنّ المراد من بلوغهنّ أجلهنّ : اقترابهنّ من آخر زمان العدة و اشرافهنّ عليه. و المراد بامساكهنّ : الرجوع على سبيل الاستعارة، كما أنّ المراد بمفارقتهنّ : تركهنّ ليخرجن من العدّة و يبنّ .

لا شك أنّ قوله: "وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ " ظاهر في الوجوب كسائر الاَوامر الواردة في الشرع و لا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل، إنّما الكلام في متعلّقه. فهناك احتمالات ثلاثة:

1 أن يكون قيداً لقوله: "فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ".

2 أن يكون قيداً لقوله: "فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ".

3 أن يكون قيداً لقوله: "أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ".

ص: 168

لم يقل أحد برجوع القيد إلى الاَخير فالاَمر يدور بين رجوعه إلى الاَوّل أو الثاني، فالظاهر رجوعه إلى الاَوّل و ذلك لاَنّ السورة بصدد بيان أحكام الطلاق و قد افتتحت بقوله سبحانه: "يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ " فذكرت للطلاق عدّة أحكام:

1 أن يكون الطلاق لعدّتهنّ .

2 احصاء العدّة.

3 عدم خروجهنّ من بيوتهنّ .

4 خيار الزوج بين الامساك و المفارقة عند اقتراب عدّتهنّ من الانتهاء.

5 اشهاد ذوي عدل منكم.

6 عدّة المسترابة.

7 عدّة من لا تحيض و هي في سن من تحيض.

8 عدّة أُولات الاَحمال.

و إذا لاحظت مجموع آيات السورة من أوّلها إلى الآية السابعة تجد أنّها بصدد بيان أحكام الطلاق لاَنّه المقصود الاَصلي، لا الرجوع المستفاد من قوله: "فَأَمْسِكُوهُنَّ " و قد ذكر تبعا.

و هذا هو المروى عن أئمتنا - عليهم السلام -. روى محمد بن مسلم قال: قدم رجل إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - بالكوفة فقال: إنّي طلّقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل أن أُجامعها، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: أشهدت رجلين ذوي عدل

ص: 169

كما أمرك اللّه ؟ فقال: لا، فقال: اذهب فانّ طلاقك ليس بشيء(1).

و روى بكير بن أعين عن الصادقين عليهما السلام أنّهما قالا: و إن طلّقها في استقبال عدّتها طاهراً من غير جماع، و لم يشهد على ذلك رجلين عدلين، فليس طلاقه إيّاها بطلاق(2).

و روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن - عليه السلام - أنّه قال لاَبي يوسف: إنّ الدين ليس بقياس كقياسك و قياس أصحابك، إنّ اللّه أمر في كتابه بالطلاق و أكّد فيه بشاهدين و لم يرض بهما إلاّ عدلين، و أمر في كتابه التزويج و أهمله بلا شهود، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل اللّه، و أبطلتم شاهدين فيما أكّد اللّه عزّ و جلّ ، و أجزتم طلاق المجنون و السكران، ثمّ ذكر حكم تظليل المحرم(3).

قال الطبرسي: قال المفسرون: أُمروا أن يشهدوا عند الطلاق و عند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدّة و لا الرجل الطلاق. و قيل: معناه و أشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم، و هو المروى عن أئمتنا عليهم السلام و هذا أليق بالظاهر، لاَنّا إذا حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب و هو من شرائط الطلاق، و من قال: إنّ ذلك راجع إلى المراجعة، حمله على الندب(4).

ثمّ إنّ الشيخ أحمد محمد شاكر، القاضي الشرعي بمصر كتب كتاباً حول «نظام الطلاق في الاِسلام» و أهدى نسخة منه مشفوعة بكتاب إلى العلامة الكبير

ص: 170


1- . الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 7 و 3 و 12 و لاحظ بقية أحاديث الباب.
2- . الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 7 و 3 و 12 و لاحظ بقية أحاديث الباب.
3- . الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 7 و 3 و 12 و لاحظ بقية أحاديث الباب.
4- . مجمع البيان: 5/306.

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء و كتب إليه: إنّني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، و إنّه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً و لم يعتد به، و هذا القول و إن كان مخالفاً للمذاهب الاَربعة المعروفة إلاّ أنّه يؤيّده الدليل و يوافق مذهب الاَئمّة أهل البيت و الشيعة الاِمامية.

و ذهبت أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة، و هو يوافق أحد قولين للاِمام الشافعي و يخالف مذهب أهل البيت و الشيعة، و استغربت(1) من قولهم أن يفرقوا بينهما و الدليل له: "وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ " واحد فيها.

و أجاب العلاّمة كاشف الغطاء في رسالة إليه بيّن وجه التفريق بينهما و إليك نص ما يهمنا من الرسالة:

قال بعد كلام: «و كأنّك أنار اللّه برهانك لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما هي عادتك من الامعان في غير هذا المقام، و إلاّ لما كان يخفى عليك أنّ السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق و أحكامه حتى أنّها قد سمّيت بسورة الطلاق، و ابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى: "إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ " ثمّ ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدّة أي لا يكون في طهر المواقعة، و لا في الحيض، و لزوم احصاء العدّة، و عدم اخراجهنّ من البيوت، ثمّ استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق حيث قال عزّ شأنه: "فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ " أي إذا أشرفن على الخروج من العدّة، فلكم امساكهنّ بالرجعة أو تركهنّ على المفارقة. ثمّ عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال: "وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ " أي في الطلاق الذي سيق الكلام كلّه لبيان أحكامه و يستهجن

ص: 171


1- . مرّ نصّ كلامه حيث قال: و التفريق بينهما غريب.

عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلاّ تبعاً و استطراداً، أ لا ترى لو قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه و اكرامه و أن تستقبله سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه، و يجب المشايعة و حسن الموادعة، فانّك لا تفهم من هذا الكلام إلاّ وجوب المشايعة و الموادعة للعالم لا له و لخادمه و رفيقه، و إن تأخّرا عنه، و هذا لعمري حسب القواعد العربية و الذوق السليم جلي واضح لم يكن ليخفى عليك و أنت خريت العربية لو لا الغفلة (و للغفلات تعرض للاريب)، هذا من حيث لفظ الدليل و سياق الآية الكريمة.

و هنالك ما هو أدقّ و أحقّ بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية و الفلسفة الاِسلامية و شموخ مقامها و بعد نظرها في أحكامها. و هو أنّ من المعلوم أنّه ما من حلال أبغض إلى اللّه سبحانه من الطلاق، و دين الاِسلام كما تعلمون جمعي اجتماعي لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة لا سيما في العائلة و الأسرة، و على الاَخص في الزيجة بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى.

فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق و الفرقة، فكثّر قيوده و شروطه على القاعدة المعروفة من أنّ الشيء إذا كثرت قيوده، عزّ أو قلّ وجوده، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوّلاً و للتأخير و الاَناة ثانياً، و عسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم و يعودان إلى الالفة كما أُشير إليه بقوله تعالى: "لاٰ تَدْرِي لَعَلَّ اَللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً " و هذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لا شكّ أنّها ملحوظة للشارع الحكيم مضافاً إلى الفوائد الأُخر، و هذا كلّه بعكس قضية الرجوع فإنّ الشارع يريد التعجيل به و لعلّ للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أيّ شرط من الشروط.

ص: 172

و تصح عندنا معشر الاِمامية بكلّ ما دلّ عليها من قول أو فعل أو إشارة و لا يشترط فيها صيغة خاصة كما يشترط في الطلاق؛ كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الاَمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده و الرغبة الاَكيدة في الفتهم و عدم تفرّقهم، و كيف لا يكفي في الرجعة حتى الاشارة و لمسها و وضع يده عليها بقصد الرجوع و هي أي المطلّقة الرجعية عندنا معشر الاِمامية لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدّة، و لذا ترثه و يرثها، و تغسله و يغسلها، و تجب عليه نفقتها، و لا يجوز أن يتزوّج بأُختها، و بالخامسة، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية».(1)

ص: 173


1- . أصل الشيعة و أُصولها: 165163، الطبعة الثانية.

ص: 174

المسألة الثامنة: الطلاق ثلاثاً دفعة أو دفعات في مجلس واحد

اشارة

من المسائل التي أوجبت انغلاقاً و عنفاً في الحياة و انتهت إلى تمزيق الأسرة و تقطيع صلاة الاَرحام في كثير من البلاد، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة، بأن يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو يكرّره ثلاث دفعات و يقول في مجلس واحد: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق. فتحسب ثلاث تطليقات حقيقة و تحرم المطلّقة على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.

إنّ الطلاق عند أكثر أهل السنّة غير مشروط بشروط عائقة عن التسرّع في إيقاعه، ككونها غير حائض، أو في غير طهر المواقعة، أو لزوم حضور العدلين. فربّما يتغلّب الغيظ على الزوج و يأخذه الغضب فيطلّقها ثلاثاً في مجلس واحد، ثمّ يندم على عمله ندامة شديدة تضيق عليه الاَرض بما رحبت فيطلب المَخلَص عن أثره السيّئ، و لا يجد عند أئمّة المذاهب الاَربعة و الدعاة إليها مخلصاً فيقعد ملوماً محسوراً و لا يزيده السؤال و الفحص إلاّ نفوراً عن الفقه و الفتوى.

نحن نعلم علماً قاطعاً بأنّ الاِسلام دين سهل و سمح، و ليس فيه حرج و هذا

ص: 175

يدفع الدعاة المخلصين إلى دراسة المسألة من جديد دراسة حرّة بعيدة عن أبحاث الجامدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الاَحكام الشرعية على وجوههم، و عن أبحاث أصحاب الهوى الهدّامين الذين يريدون تجريد الأمم عن الاِسلام، و أن ينظروا إلى المسألة و يطلبوا حكمها من الكتاب و السنّة، متجرّدين عن كلّ رأي مسبق فلعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً، و ربّما تفك العقدة و يجد المفتي مَخلصاً من هذا المضيق الذي أوجده تقليد المذاهب.

و إليك نقل الاَقوال:

قال ابن رشد: جمهور فقهاء الاَمصار على أنّ الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، و قال أهل الظاهر و جماعة: حكمه حكم الواحدة و لا تأثير للفظ في ذلك(1).

قال الشيخ الطوسي: إذا طلّقها ثلاثاً بلفظ واحد، كان مبدعاً و وقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا، و فيهم من قال: لا يقع شيء أصلاً و به قال علي عليه الصلاة و السلام و أهل الظاهر، و حكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنّه تقع واحدة كما قلناه، و روي أنّ ابن عباس و طاوساً كانا يذهبان إلى ما يقوله الاِمامية.

و قال الشافعي: فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه، دفعة أو متفرّقة كان ذلك مباحاً غير محذور و وقع. و به قال في الصحابة عبد الرحمن بن عوف، و رووه عن الحسن بن علي عليهما الصلاة و السلام، و في التابعين ابن سيرين، و في الفقهاء أحمد و إسحاق و أبو ثور.

ص: 176


1- . ابن رشد: بداية المجتهد: 2/62، ط بيروت.

و قال قوم: إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثاً دفعة واحدة، أو متفرقة، فعل محرّماً و عصى و أثم، ذهب إليه في الصحابة علي عليه الصلاة و السلام، و عمر، و ابن عمر، و ابن مسعود، و ابن عباس، و في الفقهاء أبو حنيفة و أصحابه و مالك، قالوا: إلاّ أنّ ذلك واقع(1).

قال أبو القاسم الخرقي في مختصره: و إذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، لزمه تطليقتان إلاّ أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى فتلزمه واحدة، و إن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى و لم يلزمها ما بعدها لاَنّه ابتداء كلام.

و قال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي: إنّه إذا قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق مرّتين و نوى بالثانية ايقاع طلقة ثانية، وقعت لها طلقتان بلا خلاف، و إن نوى بها إفهامها أنّ الأولى قد وقعت بها أو التأكّد لم تُطلّق إلاّ مرّة واحدة، و إن لم تكن له نيّة وقع طلقتان و به قال أبو حنيفة و مالك، و هو الصحيح من قولي الشافعي و قال في الآخر: تطلّق واحدة.

و قال الخرقي أيضاً في مختصره: «و يقع بالمدخول بها ثلاثاً إذا أوقعها مثل قوله: أنت طالق، فطالق فطالق، أو أنت طالق ثمّ طالق، ثمّ طالق، أو أنت طالق، ثمّ طالق و طالق أو فطالق.

و قال ابن قدامة في شرحه: إذا أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهنّ

ص: 177


1- . الشيخ الطوسي: الخلاف: 2 كتاب الطلاق، المسألة 3. و على ما ذكره، نقل عن الاِمام عليّ رأيان متناقضان، عدم الوقوع و الوقوع معا لإثم.

معاً، فوقعن كلّهنّ كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً(1).

و قال عبد الرحمن الجزيري: يملك الرجل الحر ثلاث طلقات، فإذا طلق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثاً، لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الاَربعة و هو رأي الجمهور، و خالفهم في ذلك بعض المجتهدين: كطاوس و عكرمة و ابن إسحاق و على رأسهم ابن عباس رضي اللّه عنهم(2).

إلى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتّفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق محتجّين بما، تسمع، و رائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب، الطلاق الثلاث بمرأى و مسمع من الصحابة و لكن لو دلّ الكتاب و السنّة على خلافه فالاَخذ به متعيّن.

دراسة الآيات الواردة في المقام:

قال سبحانه:

"وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ وَ لاٰ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذٰلِكَ إِنْ أَرٰادُوا إِصْلاٰحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (البقرة/ 228).

"اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ وَ لاٰ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ

ص: 178


1- . ابن قدامة: المغني: 7/416.
2- . عبد الرحمن الجزيري: الفقه على المذاهب الاَربعة: 4/341.

تَأْخُذُوا مِمّٰا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّٰ أَنْ يَخٰافٰا أَلاّٰ يُقِيمٰا حُدُودَ اَللّٰهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ يُقِيمٰا حُدُودَ اَللّٰهِ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ فَلاٰ تَعْتَدُوهٰا وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ (البقرة/ 229).

" فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلاٰ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يَتَرٰاجَعٰا إِنْ ظَنّٰا أَنْ يُقِيمٰا حُدُودَ اَللّٰهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ يُبَيِّنُهٰا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " (البقرة/ 230).

" وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لاٰ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ... (البقرة/ 231).

جئنا بمجموع الآيات الاَربع مع أنّ موضع الاستدلال هو الآية الثانية للاستشهاد بها في ثنايا البحث و قبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات:

1 قوله سبحانه: "وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ " كلمة جامعة لا يؤدّي حقّها إلاّ بمقال مسهب، و هي تعطي أنّ الحقوق بينهما متبادلة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلاّ و على الرجل عمل يقابله، فهما في حقل المعاشرة متماثلان في الحقوق و الاَعمال، فلا تسعد الحياة إلاّ باحترام كل من الزوجين الآخر، و قيام كلّ بوظيفته تجاه الآخر، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل و القيام بالاَعمال فيه، و على الرجل السعي و الكسب خارجه، هذا هو الاَصل الاَصيل في حياة الزوجين الذي تؤيدها الفطرة، و قد قسم النبيّ الأمور بين ابنته فاطمة و زوجها علي فجعل أُمور داخل البيت على ابنته و أُمور خارجه على زوجها صلوات اللّه عليهما.

ص: 179

2 «المرّة» بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل، و «الامساك» خلاف الاطلاق، و «التسريح» مأخوذ من السرح و هو الاطلاق يقال: سرح الماشية في المرعى: إذا أطلقها لترعى. و المراد من الامساك هو ارجاعها إلى عصمة الزوجية. كما أنّ المقصود من «التسريح» عدم التعرّض لها لتنقضي عدتها في كل طلاق أو الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح. على اختلاف في معنى الجملة. و إن كان الاَقوى هو الاَوّل لاَنّ الظاهر أنّ تصريح عدم إرجاعها بعد الطلاق لاَنّها قبل انقضاء العدة لا زالت في قيده فتركها و عدم إرجاعها يخرجها من القيد.

3 قيّد الاِمساك بالمعروف، و التسريح باحسان، مشعراً بأنّه يكفي في الامساك قصد عدم الاضرار بالرجوع، و أمّا الاضرار فكما إذا طلّقها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثمّ يطلّق كذلك، يريد بها الاضرار و الايذاء، و على ذلك يجب أن يكون الامساك مقروناً بالمعروف، و عندئذ لو طلب بعد الرجوع ما آتاها من قبل، لا يعد أمراً منكراً غير معروف، إذ ليس اضراراً.

و هذا بخلاف التسريح فلا يكفي ذلك بل يلزم أن يكون مقروناً بالاحسان إليها فلا يطلب منها ما آتاها من الاَموال. و لأَجل ذلك يقول تعالى: "وَ لاٰ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّٰا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً " أي لا يحلّ في مطلق الطلاق استرداد ما آتيتموهنّ من المهر، إلاّ إذا كان الطلاق خلعاً فعندئذ لا جناح عليها فيما افتدت به نفسها من زوجها.

و قوله سبحانه: "فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ " دليل على وجود النفرة من الزوجة فتخاف أن لا تقيم حدود اللّه فتفتدي بالمهر و غيره لتخلّص نفسها.

4 لم يكن في الجاهلية للطلاق و لا للمراجعة في العدة، حدّ و لا عدّ، فكان

ص: 180

الاَزواج يتلاعبون بزوجاتهم يضارّوهنّ بالطلاق و الرجوع ما شاءوا، فجاء الاِسلام بنظام دقيق و حدّد الطلاق بمرّتين، فإذا تجاوز عنه و بلغ الثالث تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره.

روى الترمذي: كان الناس، و الرجل يُطلِّق امرأته ما شاء أن يطلّقها، و هي امرأته إذا ارتجعها و هي في العدّة، و إن طلّقها مائة مرّة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: و اللّه لا أُطلقك فتبيني منّي، و لا آويك أبداً قالت: و كيف ذلك ؟ قال: أُطلّقك فكلّما همَّت عدّتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي فسكت حتى نزل القرآن: "اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ ... "(1).

5 اختلفوا في تفسير قوله سبحانه: "اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ " إلى قولين:

ألف: إنّ الطلاق يكون مرّتين، و في كلّ مرّة إمّا إمساك بمعروف أو تسريح باحسان، و الرجل مخيّر بعد إيقاع الطلقة الأولى بين أن يرجع فيما اختار من الفراق فيمسك زوجته و يعاشرها باحسان، و بين أن يدع زوجته في عدّتها من غير رجعة حتى تبلغ أجلها و تنقضي عدّتها.

و هذا القول هو الذي نقله الطبري عن السدي و الضحاك فذهبا إلى أنّ معنى الكلام: الطلاق مرتان فامساك في كلّ واحدة منهما لهنّ بمعروف أو تسريح لهنّ باحسان، و قال: هذا مذهب ممّا يحتمله ظاهر التنزيل لو لا الخبر الذي رواه إسماعيل بن سميع عن أبي رزين(2).

ص: 181


1- . الترمذي: الصحيح: 3 كتاب الطلاق، الباب 16، الحديث 1192.
2- . الطبري: التفسير: 2/278 و سيوافيك خبر أبي رزين.

يلاحظ عليه: أنّ هذا التفسير ينافيه تخلّل الفاء بين قوله: "مَرَّتٰانِ " و قوله "فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ " فهو يفيد أنّ القيام بأحد الاَمرين بعد تحقّق المرّتين، لا في أثنائهما. و عليه لا بدّ أن يكون كل من الامساك و التسريح أمراً متحقّقاً بعد المرّتين، و مشيراً إلى أمر وراء التطليقتين.

نعم يستفاد لزوم القيام بأحد الاَمرين بعد كلّ تطليقة، من آية أُخرى أعني قوله سبحانه: "وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لاٰ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا "(1).

و لأَجل الحذر عن تكرار المعنى الواحد في المقام يفسّر قوله: "فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ " بوجه آخر سيوافيك.

ب أنّ الزوج بعد ما طلّق زوجته مرّتين، يجب أن يتفكّر في أمر زوجته أكثر ممّا مضى، فيقف أن ليس له بعد التطليقتين إلاّ أحد الاَمرين: إمّا الامساك بمعروف و ادامة العيش معها، أو التسريح باحسان بالتطليق الثالث الذي لا رجوع بعده أبداً، إلاّ في ظرف خاص.

فيكون قوله تعالى: "أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ " اشارة إلى التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه و يكون التسريح متحقّقاً به. و هنا سؤالان أثارهما الجصاص في تفسيره:

1 كيف يفسّر قوله: "أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ " بالتطليق الثالث. مع أنّ المراد من قوله في الآية المتأخّرة "أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِإِحْسٰانٍ " هو ترك الرجعة و هكذا المراد من قوله "فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ "

ص: 182


1- . البقرة: الآية 231 و أيضاً في سورة الطلاق: (فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنَّ بمعروف أو فارقوهنَّ بمعروف) (الطلاق/ 2).

(الطلاق/ 2) هو تركها حتى ينتهي أجلها، و معلوم أنّه لم يرد من قوله: "أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ " أو قوله: "أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ": طلّقوهنّ واحدة أُخرى(1).

يلاحظ عليه: أنّ السؤال أو الاشكال ناشئ من خلط المفهوم بالمصداق، فاللفظ في كلا الموردين مستعمل في السرح و الاطلاق، غير أنّه يتحقّق في مورد بالطلاق، و في آخر بترك الرجعة، و هذا لا يعد تفكيكاً في معنى لفظ واحد في موردين، و مصداقه في الآية 229، هو الطلاق، و في الآية 231، هو ترك الرجعة، و الاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافاً في المفهوم.

2 إنّ التطليقة الثالثة مذكورة في نسق الخطاب بعده في قوله تعالى: "فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلاٰ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ " و عندئذ يجب حمل قوله تعالى: "أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ " المتقدم عليه على فائدة مجدّدة و هي وقوع البينونة بالاثنين(2) بعد انقضاء العدّة.

و أيضاً لو كان التسريح باحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى: "فَإِنْ طَلَّقَهٰا " عقيب ذلك هي الرابعة، لاَنّ الفاء للتعقيب قد اقتضى طلاقاً مستقلاّ بعد ما تقدم ذكره(3).

و الاجابة عنه واضحة، لاَنّه لا مانع من الاجمال أولاً ثمّ التفصيل ثانياً، فقوله تعالى: "فَإِنْ طَلَّقَهٰا " بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الاجمالي، و التفصيل مشتمل على ما لم يشتمل عليه الاجمال من تحريمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره.

ص: 183


1- . الجصاص: التفسير: 1/389.
2- . الاولى أن يقول: بكل طلاق.
3- . الجصاص: التفسير: 1/389.

فلو طلّقها الزوج الثاني عن اختياره فلا جناح عليهما أن يتراجعا بالعقد الجديد إن ظنّا أن يُقيما حدود اللّه فأين هذه التفاصيل من قوله: "أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ ".

و بذلك يعلم أنّه لا يلزم أن يكون قوله: "فَإِنْ طَلَّقَهٰا " طلاقاً رابعاً.

و قد روى الطبري عن أبي رزين أنّه قال: أتى النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» رجل فقال: يا رسول اللّه أ رأيت قوله: (اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ "فأين الثالثة ؟ قال رسول اللّه:" امساك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ "هي الثالثة(1).

نعم الخبر مرسل و ليس أبو رزين الاَسدي صحابياً بل تابعي.

لكن تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت أنّ المراد من قوله:" أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ "هي التطليقة الثالثة(2).

إلى هنا تمّ تفسير الآية و ظهر أنّ المعنى الثاني لتخلّل لفظ «الفاء» أظهر بل هو المتعيّن بالنظر إلى روايات أئمّة أهل البيت - عليهم السلام -.

بقي الكلام في دلالة الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً بمعنى عدم وقوعه بقيد الثلاث، و أمّا وقوع واحدة منها فهو أمر آخر، فنقول:

الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً:

اشارة

إذا تعرّفت على مفاد الآية، فاعلم أنّ الكتاب و السنّة يدلاّن على بطلان الطلاق ثلاثاً، و أنّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى، يتخلّل بينهما رجوع

ص: 184


1- . الطبري: التفسير: 2/278.
2- . البحراني: البرهان: 1/221، و قد نقل روايات ست في ذيل الآية.

أو نكاح، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة. أو كرّر الصيغة فلا يقع الثلاث. و أمّا احتسابها طلاقاً واحداً، فهو و إن كان حقّاً، لكنّه خارج عن موضوع بحثنا، و إليك الاستدلال عن طريق الكتاب أوّلاً و السنّة ثانياً:

أوّلاً: الاستدلال عن طريق الكتاب:

1. قوله سبحانه: (فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ ).

تقدّم أنّ في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين، و المفسّرون بين من يجعلونها ناظرة إلى الفقرة المتقدّمة أعني قوله: "اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ ... " و من يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الذي جاء في الآية التالية، و قد عرفت ما هو الحق، فتلك الفقرة تدل على بطلان الطلاق ثلاثاً على كلا التقديرين.

أمّا على التقدير الاَوّل، فواضح لاَنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح باحسان.

قال ابن كثير: أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخيّر فيها ما دامت عدّتها باقية، بين أن تردّها إليك ناوياً الاصلاح و الاحسان و بين أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك، و تطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقّها شيئاً و لا تضارّ بها(1) و أين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل واحد من الاَمرين الامساك أو تركها حتى ينقضي أجلها سواء طلّقها بلفظ: أنت طالق ثلاثاً، أو: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق.

ص: 185


1- . ابن كثير: التفسير: 1/53.

و أمّا على التقدير الثاني، فإنّ تلك الفقرة و إن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث، و ساكتة عن حال الطلاقين الاَولين، لكن قلنا إنّ بعض الآيات، تدل على أنّ مضمونها من خصيصة مطلق الطلاق، من غير فرق بين الاَولين و الثالث فالمطلق يجب أن يُتبعَ طلاقه بأحد أمرين:

1 الامساك بمعروف.

2 التسريح باحسان.

فعدم دلالة الآية الأولى على خصيصة الطلاقين الاَولين، لا ينافي استفادتها من الآيتين الماضيتين(1) و لعلّهما تصلحان قرينة لإلقاء الخصوصية من ظاهر الفقرة "فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ " و إرجاع مضمونها إلى مطلق الطلاق و لأَجل ذلك قلنا بدلالة الفقرة على لزوم اتباع الطلاق بأحد الاَمرين على كلا التقديرين، و على أي حال فسواء كان عنصر الدلالة نفس الفقرة أو غيرها كما ذكرنا فالمحصّل من المجموع هو كون اتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع.

و يظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أنّ قوله: "فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ " من القيود الغالبية، و إلاّ فالواجب منذ أن يطلّق زوجته، هو القيام بأحد الاَمرين، لكن تخصيصه بزمن خاص و هو بلوغ آجالهن، هو لاَجل أنّ المطلّق الطاغي عليه غضبه و غيظه، لا تنطفي سورة غضبه فوراً حتى تمضي عليه مدّة من الزمن تصلح فيها، لاَن يتفكّر في أمر زوجته و يخاطب بأحد الاَمرين، و إلاّ فطبيعة الحكم الشرعي "فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ " تقتضي أن يكون حكماً سائداً

ص: 186


1- . الآية 231 من سورة البقرة و الآية 2 من سورة الطلاق.

على جميع الاَزمنة من لدن أن يتفوّه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي معها العدّة.

و على ضوء ما ذكرنا تدلّ الفقرة على بطلان الطلاق الثلاث و أنّه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق، غير أنّ دلالتها على القول الاَوّل بنفسها، و على القول الثاني بمعونة الآيات الأُخر.

2 قوله سبحانه: "اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ ".

إنّ قوله سبحانه: "اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ ": ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة و إلاّ يصير مرّة و دفعة، و لأَجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل و انّه الواحد منه، كما أنّ الدفعة و الكرّة و النزلة، مثل المرّة، وزناً و معنى و اعتباراً.

و على ما ذكرنا فلو قال المطلِّق: أنت طالق ثلاثاً، لم يطلِّق زوجته مرة بعد أُخرى، و لم يطلّق مرّتين، بل هو طلاق واحد، و أمّا قوله «ثلاثاً» فلا يصير سبباً لتكرّره، و تشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضم عدد فوق الواحد. مثلاً اعتبر في اللعان شهادات أربع، فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله «أربعا». و فصول الاَذان المأخوذة فيها التثنية، لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة و اردافها بقوله «مرتين» و لو حلف في القسامة و قال: «أُقسم باللّه خمسين يميناً أنّ هذا قاتله» كان هذا يميناً واحداً. و لو قال المقرّ بالزنا: «أنا أُقرّ أربع مرّات أنّي زنيت» كان اقراراً واحداً، و يحتاج إلى اقرارات، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار.

ص: 187

قال الجصاص: "اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ "، و ذلك يقتضي التفريق لا محالة، لاَنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين، و كذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين، حتى يفرق الدفع، فحينئذ يطلق عليه، و إذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لاَدّى ذلك إلى اسقاط فائدة ذكر المرّتين، إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرة الواحدة إذا طلّق اثنتين، فثبت بذلك أنّ ذكر المرتين إنّما هو أمر بايقاعه مرتين، و نهى عن الجمع بينهما في مرّة واحدة.(1).

هذا كلّه إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة، أمّا إذا كرّر الصيغة كما عرفت، فربّما يغتر به البسطاء و يزعمون أنّ تكرار الصيغة ينطبق على الآية، لكنّه مردود من جهة أُخرى و هي:

أنّ الصيغة الثانية و الثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق، فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع علقة الزوجية، فلا زوجية بعد الصيغة الأولى حتى تقطع، و لا رابطة قانونية حتى تصرم، و بعبارة واضحة: إنّ الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجيّة بينه و بين امرأته و يطلق سراحها من قيدها، و هو لا يتحقّق بدون وجود تلك العلقة الاعتبارية الاجتماعية، و من المعلوم أنّ المطلّقة لا تطلق، و المسرَّحة لا تسرح.

و ربّما يقال: إنّ المطلقة ما زالت في حبالة الرجل و حكمها حكم الزوجة، فعندئذ يكون للصيغة الثانية و الثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة. و لكن الاِجابة عنه واضحة و ذلك لاَنّ صيغة الثانية لغوٌ جداً، و ذلك لاَنّ الزوجة بعدها أيضاً بحكم الزوجة. و إنّما تخرج عنه إذا صار الطلاق بائناً و هو يتحقق بالطلاق ثلاثاً.

ص: 188


1- . الجصاص: أحكام القرآن: 1/378.

و الحاصل: أنّه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث، العدد الخاص الذي هو الموضوع للآية التالية أعني قوله سبحانه: "فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلاٰ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ " و كيف لا يكون كذلك، و قد قال - صلى الله عليه و آله و سلم -: لا طلاق إلاّ بعد نكاح، و قال: و لا طلاق قبل نكاح(1).

فتعدّد الطلاق رهن تخلّل عقدة الزواج بين الطلاقين، و لو بالرجوع، و إذا لم تتخلّل يكون التكلّم أشبه بالتكلّم بكلام لغو.

قال السماك: إنّما النكاح عقدة تعقد، و الطلاق يحلّها، و كيف تحل عقدة قبل أن تعقد؟!(2).

3 قوله سبحانه: "فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ".

إنّ قوله سبحانه: "اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ " وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع(3)، و من جانب آخر دلّ قوله سبحانه: "إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ " (الطلاق/ 1). على أنّ الواجب في حقّ هؤلاء هو الاعتداد و احصاء العدّة، من غير فرق بين أن نقول أنّ «اللام» في "عدتهن" للظرفية بمعنى «في عدّتهنّ » أو بمعنى الغاية، و المراد لغاية أن يعتددن، إذ على كلّ تقدير يدلّ على أنّ من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع، هو الاعتداد و احصاء العدّة، و هو لا يتحقّق إلاّ بفصل الاَوّل عن الثاني، و إلاّ يكون الطلاق الاَوّل بلا عدّة و احصاء لو طلّق اثنتين مرّة. و لو طلّق ثلاثاً يكون الاَوّل و الثاني كذلك.

ص: 189


1- . البيهقي: السنن الكبرى: 3217/318، الحاكم: المستدرك: 2/24.
2- . المصدر نفسه: 7/321.
3- . فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة، و طلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن و غيرهما.

و قد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً.

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -: أنّ رجلاً قال له: إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس واحد؟ قال: ليس بشيء، ثمّ قال: أما تقرأ كتاب اللّه: "يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ إلى قوله سبحانه: لَعَلَّ اَللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً " ثمّ قال: كلّ ما خالف كتاب اللّه و السنّة فهو يرد إلى كتاب اللّه و السنّة(1).

أضف إلى ذلك: أنّه لو صحّ التطليق ثلاثاً فلا يبقى لقوله سبحانه: "لَعَلَّ اَللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً " فائدة لاَنّه يكون بائناً و يبلغ الاَمر إلى ما لا تحمد عقباه، و لا تحل العقدة إلاّ بنكاح رجل آخر و طلاقه مع أنّ الظاهر أنّ المقصود حلّ المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدّة.

ثانياً: الاستدلال عن طريق السنّة:

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في المسألة، و أمّا حكم السنّة، فهي تعرب عن أنّ الرسول كان يعد مثل هذا الطلاق لعباً بالكتاب.

1 أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول اللّه عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثمّ قال: أ يلعب بكتاب اللّه و أنا بين أظهركم ؟ حتى قام رجل و قال: يا رسول اللّه أ لا أقتله ؟(2). إنّ محمود بن لبيد صحابي صغير و له سماع، روى أحمد باسناد صحيح عنه قال: أتانا رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -

ص: 190


1- . عبد اللّه بن جعفر الحميري: قرب الاسناد: 30، و رواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ج 15 الباب 22، الحديث 25.
2- . النسائي: السنن: 6/142، السيوطي: الدر المنثور: 1/283.

فصلّى بنا المغرب في مسجدنا فلمّا سلّم منها...(1).

و لو سلمنا عدم سماعه كما يدّعيه ابن حجر في فتح الباري(2) فهو صحابي و مراسيل الصحابة حجة بلا كلام عند الفقهاء، أخذاً بعدالتهم أجمعين.

2 روى ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول اللّه: كيف طلّقتها؟ قال: طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد. قال: إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها(3).

و السائل هو ركانة بن عبد يزيد، روى الاِمام أحمد باسناد صحيح عن ابن عباس قال: طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً قال: فسأله رسول اللّه: كيف طلّقتها؟ قال: طلّقتها ثلاثاً. قال، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنّما تلك واحدة فأرجعها إن شئت. قال: فأرجعها فكان ابن عباس يرى إنّما الطلاق عند كلّ طهر(4).

ص: 191


1- . أحمد بن حنبل: المسند: 5/427.
2- . ابن حجر: فتح الباري: 9/315، و مع ذلك قال: رجاله ثقات، و قال في كتابه الآخر بلوغ المرام 224: رواته موثّقون، و نقل الشوكاني فينيل الاَوطار: 7/11، عن ابن كثير أنّه قال: اسناده جيد، أُنظر «نظام الطلاق في الاِسلام» للقاضي أحمد محمد شاكر: 37.
3- . ابن رشد: بداية المجتهد: 2/61، و رواه آخرون كابن قيم في اغاثة اللهفان: 156 و السيوطي في الدر المنثور: 1/279 و غيرهم.
4- . أحمد بن حنبل: المسند: 1/265.

الاجتهاد مقابل النص:

التحق النبيّ الاَكرم بالرفيق الاَعلى و قد حدث بين المسلمين اتّجاهان مختلفان، و صراعان فكريان، فعليّ و من تبعه من أئمّة أهل البيت، كانوا يحاولون التعرّف على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية و رواية، و لا يعملون برأيهم أصلاً، و في مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتعرّف على الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة و وضع الحكم وفق متطلّباتها.

إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه، و وضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث و النقاش، إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نص، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة بل حتى فيما كان فيه نصّ و دلالة.

يقول أحمد أمين المصري: ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه، و ذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب و لا سنّة، و لكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لاَجلها نزلت الآية أو ورد الحديث، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، و هو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته(1).

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر، و نبذ النص و العمل بالرأي أمر آخر، و لكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النص و يعملون

ص: 192


1- . أحمد أمين: فجر الاِسلام: 238، نشر دار الكتاب.

بالرأي، و ما روي عن الخليفة في هذه المسألة، من هذا القبيل. و إن كنت في ريب من ذلك فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه:

1 روى مسلم عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم(1).

2 و روى عن ابن طاوس عن أبيه: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - و أبي بكر و ثلاثاً من (خلافة) عمر؟ فقال: نعم(2).

3 و روى أيضاً: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، أ لم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللّه و أبي بكر واحدة ؟ قال: قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم(3).

4 روى البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - و أبي بكر رضى اللّه عنه و صدراً من امارة عمر رضى اللّه عنه فلمّا رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم(4).

5 أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال: لمّا كان زمن عمر رضى اللّه عنه قال: يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة و إنّه من تعجل

ص: 193


1- . مسلم: الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 31. التتابع: بمعنى الاكثار من الشر.
2- . مسلم: الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 31. التتابع: بمعنى الاكثار من الشر.
3- . مسلم: الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 31. التتابع: بمعنى الاكثار من الشر.
4- . البيهقي: السنن: 7/339، السيوطي: الدر المنثور: 1/279.

أناة اللّه في الطلاق ألزمناه إياه(1).

6 عن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم و قد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك(2).

7 عن الحسن: أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الاَشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة، و لكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم، فألزِم كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه. من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، فهي حرام، و من قال لامرأته: أنت بائنة، فهي بائنة، و من قال: أنت طالق ثلاثاً، فهي ثلاث(3).

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه و لا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط و اسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تتشارك المنصوص في المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلى كلّ مسكرٍ أخذاً بروح القانون و هو أنّ علّة التحريم هي الاسكار الموجود في المنصوص و غير المنصوص، و انّما كان عمله من نوع ثالث و هو الاجتهاد تجاه النص و نبذ الدليل الشرعي، و السير وراء رأيه و فكره و تشخيصه، و قد ذكروا هنا:

تبريرات لحكم الخليفة:

اشارة

لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نصّ القرآن أو ظاهره، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتّى يبرّر حكمه و يصحّحه و يخرجه عن مجال الاجتهاد مقابل النص بل يكون صادراً عن دليل شرعي، بيانها:

ص: 194


1- . العيني: عمدة القاري: 9/537، و قال: اسناده صحيح.
2- . المتقي الهندي: كنز العمال: 9/676، برقم 27943.
3- . المتقي الهندي: كنز العمال: 9/676، برقم 27943.

1. نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النص:

إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ، فان قلت: ما وجه هذا النسخ و عمر رضى اللّه عنه لا ينسخ، و كيف يكون النسخ بعد النبي - صلى الله عليه و آله و سلم -؟ قلت: لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع انكار، صار اجماعاً، و النسخ بالاجماع جوّزه بعض مشايخنا، بطريق أنّ الاجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، و الاجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.

فان قلت: هذا اجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقهم، قلت: يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ و لم ينقل إلينا(1).

يلاحظ عليه أولاً: أنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة، فكيف انعقد الاجماع على قول واحد، و قد عرفت الاَقوال في صدر المسألة. و لأَجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الاجماع البتة و يقول: و قد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظ واحد واحدة، و لم ينقض هذا الاجماع بخلافه، بل لا يزال في الأمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا»(2).

و ثانياً: أنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، و لو كان هناك نص عند الخليفة، لكان التبرير به هو المتعيّن.

ص: 195


1- . العيني: عمدة القاري: 9/537.
2- . تيسير الوصول: 3/162.

و في الختام نقول: أين ما ذكره صاحب العمدة ممّا ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفى 1298) حيث قال: إنّ المعروف عند الصحابة و التابعين لهم باحسان إلى يوم الدين، و عند سائر العلماء المسلمين: أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب اللّه تعالى أو سنّة رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» وجب نقضه و منع نفوذه، و لا يعارض نصّ الكتاب و السنّة بالاحتمالات العقليّة و الخيالات النفسية، و العصبيّة الشيطانية بأن يقال: لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النصّ و تركه لعلّة ظهرت له، أو أنّه اطّلع على دليل آخر، و نحو هذا ممّا لهج به فرق الفقهاء المتعصّبين و أطبق عليه جهلة المقلّدين(1).

2. تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود اللّه:

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس، إلاّ عقابهم من جنس عملهم، و تعزيرهم على ما تعدّوا حدود اللّه، فاستشار أُولي الرأي، و أُولي الاَمر و قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ؟ فلمّا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم و قال: أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة و أنّه من تعجّل أناة اللّه ألزمناه إيّاه(2).

لم أجد نصّاً فيما فحصت في مشاورة عمر أُولي الرأي و الاَمر، غير ما كتبه إلى أبي موسى الاَشعري بقوله: «لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في

ص: 196


1- . العمري: ايقاظ همم أُولي الاَبصار: 9.
2- . أحمد بن حنبل: المسند: 1/314، برقم 2877، و قد مرّ تخريج الحديث أيضاً، لاحظ نظام الطلاق في الاِسلام لاَحمد محمد شاكر: 79.

مجلس أن أجعلها واحدة...»(1) و هو يخبر عن عزمه و همّه و لا يستشيره، و لو كانت هنا استشارة كان عليه أن يستشير الصحابة من المهاجرين و الاَنصار القاطنين في المدينة و على رأسهم علي بن أبي طالب، و قد كان يستشيره في مواقف خطيرة و يقتفي رأيه.

و لا يكون استعجال الناس، مبرّراً لمخالفة الكتاب و السنّة بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيّئ بقوّة و منعة، و كيف تصحّ مؤَاخذتهم بما أسماه رسول اللّه لعباً بكتاب اللّه(2).

يقول ابن قيم: إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب و السنّة و القياس و الاجماع القديم، و لم يأت بعده اجماع يبطله و لكن رأى أمير المؤمنين عمر رضى اللّه عنه أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق و كثر منهم ايقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بامضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة، و حرّمت عليه، حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة، يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرَّم، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، و رأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ و عهد الصديق، و صدراً من خلافته كان الاَليق بهم، لاَنّهم لم يتابعوا فيه و كانوا يتّقون اللّه في الطلاق، و قد جعل اللّه لكلّ من اتّقاه مخرجاً، فلمّا تركوا تقوى اللّه و تلاعبوا بكتاب اللّه و طلّقوا على غير ما شرّعه اللّه ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ اللّه شرّع الطلاق مرّة بعد مرّة، و لم يشرّعه

ص: 197


1- . المتقي الهندي: كنز العمال: 9/676، برقم 27943.
2- . السيوطي: الدر المنثور: 1/283.

كلّه مرّة واحدة(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من التبرير لعمل الخليفة غير صحيح، إذ لو كانت المصالح الموَقتة مبررة لتغيّر الحكم فما معنى «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة» و لو صحّ ما ذكره لتسرّب التغيّر إلى أركان الشريعة، فيصبح الاِسلام ألعوبة بيد الساسة، فيأتي سائس فيحرِّم الصوم على العمال لتقوية القوة العاملة في المعامل.

و في الختام نذكر تنبّه بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور لما في تنفيذ هذا النوع من الطلاق، و لأَجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعية و خالف مذهب الحنفية بعد استقلالها و تحرّرها عن سلطنة الدولة العثمانية.

و يا للاَسف أنّ كثيراً من مفتي أهل السنّة على تنفيذ هذا النوع من الطلاق، و لأَجل ذلك يقول مؤَلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة: «ليس المراد مجادلة المقلّدين أو ارجاع القضاة و المفتين عن مذاهبهم، فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث و غيرها و لا يبالي بها لاَنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللّه و سنّة رسوله(2).

ص: 198


1- . ابن قيم الجوزية: اعلام الموقعين: 3/36.
2- . السيد محمد رشيد رضا: المنار: 2/386، الطبعة الثالثة 1376.

3. تغيّر الأحكام بالمصالح:

و لابن قيم كلام مسهب في تحليل امضاء عمر الطلاق ثلاثاً نأتي بملخّصه، و هو يعتمد على تغيّر الاَحكام بالمصالح و يخلط الصحيح بالسقيم و إليك كلامه قال: الاَحكام نوعان: نوع لا يتغيّر عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الاَزمنة و لا الاَمكنة و لا اجتهاد الاَئمّة، كوجوب الواجبات و تحريم المحرّمات و الحدود المقدرة بالشرع على الجرائم.

و النوع الثاني: ما يتغيّر بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً و مكاناً و حالاً، كمقادير التعزيرات و أجناسها و صفاتها ثمّ أتى بأمثلة كثيرة عن باب التعزيرات و قال: و من ذلك أنّه رضى اللّه عنه، يريد عمر بن الخطاب لما رأى الناس قد أكثروا في الطلاق، رأى أنّهم لا ينتهون عنه إلاّ بعقوبة فرأى الزامهم بها عقوبة لهم ليكفّوا عنها و ذلك:

إمّا من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين و يحلق فيها الرأس.

و إمّا ظنّاً أنّ جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط و قد زال.

و إمّا لقيام مانع قام في زمنه منع من جعل الثلاث واحدة.

إلى أن قال: فلمّا رأى أمير المؤمنين أنّ اللّه سبحانه عاقب المطلِّق ثلاثاً، بأن حال بينه و بين زوجه و حرّمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره، علم أنّ ذلك لكراهة الطلاق المحرّم، و بغضه له، فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلّق ثلاثاً

ص: 199

بأن ألزمه بها و أمضاها عليه. و قال:

فإن قيل: كان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من ايقاع الثلاث، و يحرمه عليهم و يعاقب بالضرب و التأديب من فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه.

قيل: نعم، لعمر اللّه كان يمكنه ذلك و لذا ندم في آخر أيامه و ودَّ أنّه كان فعله، قال الحافظ أبو بكر الاسماعيلي في مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه: ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرّمت الطلاق، و على أن لا أكون أنكحت الموالي، و على أن لا أكون قتلت النوائح.

و ليس مراده من الطلاق الذي حرّمه، الطلاق الرجعيّ الذي أباحه اللّه تعالى و علم من دين رسول اللّه جوازه، و لا الطلاق المحرّم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض و الطهر المجامع فيه، و لا الطلاق قبل الدخول، فتبيّن قطعاً أنّه أراد تحريم الطلاق الثلاث إلى أن قال: و رأى عمر رضى اللّه عنه أنّ المفسدة تندفع بالزامهم به فلمّا تبيّن أنّ المفسدة لم تندفع بذلك و ما زاد الاَمر إلاّ شدّة، أخبر أن الاولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، و اندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الاَمر في زمن رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» و أبي بكر و أوّل خلافة عمر رضى اللّه عنه(1).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من تقسيم الاَحكام إلى نوعين، صحيح. لكن من أين علم أنّ حكم الطلاق الثلاث من النوع الثاني، فأيّ فرق بين حكم الواجبات و المحرّمات و قوله سبحانه: "اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ " و كيف يتغيّر حكم وصفَ رسول اللّه خلافه لعباً بالدين ؟

و ما ذكره من الاحتمالات الثلاثة فالاحتمال الاَوّل هو المتعيّن و هو الموافق لكلام الخليفة نفسه، و أمّا الاحتمالان الاَخيران من أنّ جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط و قد زال، أو قام مانع عن امضائه، فلا يعتمد عليهما و الدافع إلى تصوير الاحتمالين هو الخضوع للعاطفة و تبرير عمل الخليفة بأي نحو كان.

ص: 200


1- . ابن قيم الجوزيّة: إعلام الموقعين: 3/36، و أشار إليه أيضاً في كتابه «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان»: 1/336.

4. تغيّر الأحكام حسب مقتضيات الزمان:

إنّ الاَحكام التي تتغيّر بتغيّر الزمان و تبدّل الظروف، عبارة عن الاَحكام التي حُدّد جوهرها برعاية المصالح، و تركت خصوصياتها و اشكالها إلى رأي الحاكم الاِسلامي، فهذا النوع من الاَحكام يتعرّض للتغيّر دون ما قام الشارع بتحديد جوهره و شكله و كيفيته، و لم يترك للحاكم الاِسلامي أيّ تدخّل فيه و الاَحكام الواردة في الاَحوال الشخصية من هذا القبيل، فليس للحاكم التدخل في أحكام النسب و المصاهرة و الرضاع و العدد، فليس له أن يحرّم ما أحلّ اللّه عقوبة للخاطئ. و بالعكس و إنّما هي أحكام ثابتة لا تخضع لرأي حاكم و غيره.

و أمّا ما يجوز للحاكم التدخل فيه فهو عبارة عن الاَحكام التي تركت خصوصياتها و أشكالها إلى الحاكم، ليصون مصالح الاِسلام و المسلمين، بما تقتضيه الظروف السائدة و إليك نزراً يسيراً منها، لئلاّ يخلط أحدهما بالآخر:

ص: 201

1 في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية: يجب على الدولة الاِسلامية أن تراعي مصالح الاِسلام و المسلمين، فهذا أصل ثابت و قاعدة عامة، و أمّا كيفية تلك الرعاية، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية و المكانية، فتارة تقتضي المصلحة، السلام، و المهادنة و الصلح مع العدو، و أُخرى تقتضي ضد ذلك.

و هكذا تختلف المقررات و الاَحكام الخاصّة في هذا المجال، باختلاف الظروف و لكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي، هو رعاية مصالح المسلمين، كقوله سبحانه:

"وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً " (النساء/ 141).

و قوله سبحانه: "لاٰ يَنْهٰاكُمُ اَللّٰهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ".

"إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اَللّٰهُ عَنِ اَلَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلى إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ " (الممتحنة/ 98).

2 العلاقات الدولية التجارية: فقد تقضي المصلحة عقد اتّفاقيات اقتصادية و انشاء شركات تجارية أو مؤَسّسات صناعية، مشتركة بين المسلمين و غيرهم، و قد تقتضي المصلحة غير ذلك. و من هذا الباب حكم الاِمام المغفور له، الفقيد المجدّد السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتّفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران و انكلترا، إذ كانت مجحفة بحقوق الأمّة المسلمة الاِيرانية لاَنّها خوّلت لانكلترا حقّ احتكار التنباك الاِيراني.

3 الدفاع عن بيضة الاِسلام و حفظ استقلاله و صيانة حدوده من الاَعداء،

ص: 202

قانون ثابت لا يتغيّر، فالمقصد الاَسنى لمشرّع الاِسلام، إنّما هو صيانة سيادته من خطر أعدائه و اضرارهم و لأَجل ذلك أوجب عليهم تحصيل قوة ضاربة ضدّ الاَعداء، و اعداد جيش عارم جرّار، تجاه الاَعداء كما يقول سبحانه: "وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ " (الاَنفال/ 60) فهذا هو الاَصل الثابت في الاِسلام الذي يؤيده العقل و الفطرة، أمّا كيفيّة الدفاع و تكتيكه و نوع السلاح، أو لزوم الخدمة العسكرية و عدمه، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان، تتغيّر بتغيّره، و لكن في اطار القوانين العامة فليس هناك في الاِسلام أصل ثابت، حتى مسألة لزوم التجنيد الاِجباري، الذي أصبح من الأمور الاَصلية في غالب البلاد.

و ما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب أو وضع كتاب خاص، لاَحكام السبق و الرماية، و غيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الاَزمنة الغابرة، و نقل أحاديث في ذلك الباب، عن الرسول الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم - و أئمّة الاِسلام فليست أحكامها أصلية ثابتة في الاِسلام، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة، بل كانت هي نوع تطبيق لذلك الحكم، و الغرض منه، تحصيل القوّة الكافية تجاه العدو في تلك العصور، و أمّا الاَحكام التي ينبغي أن تطبّق في العصر الحاضر، فإنّه تفرضها مقتضيات العصر نفسه(1).

ص: 203


1- . قال المحقق في الشرائع: 152: و فائدة السبق و الرماية: بعث النفس على الاستعداد للقتال و الهداية لممارسة النضال و هي معاملة صحيحة. و قال الشهيد الثاني: في المسالك في شرح عبارة المحقق: لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد، بل أمر به النبي في عدّة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة و هي من أهم الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدو في الجهاد لاَعداء اللّه تعالى. الذي هو أعظم أركان الاِسلام و لهذه الفائدة يخرج عن اللهو و اللعب المنهى عن المعاملة عليهما. فإذا كانت الغاية من تشريعها الاستعداد للقتال و التدرّب للجهاد، فلا يفرق عندئذ بين الدارج في زمن النبيّ و غيره أخذاً بالملاك المتيقّن.

فعلى الحاكم الاِسلامي تقوية جيشه و قواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الاِسلام و معتنقيه من الخطر، و يصدّ كلّ مؤَامرة عليه من جانب الاَعداء حسب امكانيات الوقت.

و المقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه و دوامه و سيادة نظامه الذي جاء به، لا يجب عليه التعرّض إلى تفاصيل الأمور و جزئياتها، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات و الأصول ليساير قانونه جميع الاَزمنة بأشكالها و صورها المختلفة، و لو سلك غير هذا السبيل لصار حظّه من البقاء قليلاً جدّاً.

4 نشر العلم و الثقافة و استكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع ماديّاً و معنوياً يعتبر من الفرائض الاِسلامية، أمّا تحقيق ذلك و تعيين نوعه و نوع وسائله فلا يتحدّد بحدّ خاص، بل يوكل إلى نظر الحاكم الاِسلامي، و اللّجان المقررة لذلك من جانبه حسب الاِمكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.

و بالجملة: فقد ألزم الاِسلام، رعاة المسلمين، و ولاة الاَمر نشر العلم بين أبناء الانسان و اجتثاث مادة الجهل من بينهم و مكافحة أيّ لون من الأميّة، و أمّا نوع العلم و خصوصياته، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الاِسلامي و هو أعلم بحوائج عصره.

فربّ علم، لم يكن لازماً، لعدم الحاجة إليه، في العصور السابقة، و لكنّه أصبح اليوم في الرعيل الاَوّل من العلوم اللازمة التي، فيها صلاح المجتمع، كالاقتصاد و السياسة.

5 حفظ النظام و تأمين السبل و الطرق، و تنظيم الأمور الداخلية و رفع مستوى الاقتصاد و غيرها من الضروريات، فيتبع فيه و أمثاله، مقتضيات الظروف

ص: 204

و ليس فيه للاِسلام حكم خاص يتبع، بل الذي يتوخّاه الاِسلام، هو الوصول إلى هذه الغايات، و تحقيقها بالوسائل الممكنة، دون تحديد و تعيين لنوع هذه الوسائل و إنّما ذلك متروك إلى امكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر، و كلّها في ضوء القوانين العامة.

6 قد جاء الاِسلام بأصل ثابت في مجال الاَموال و هو قوله سبحانه: "وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ " و قد فرع الفقهاء على هذا الاَصل شرطاً في صحّة عقد البيع أو المعاملة فقالوا: يشترط في صحّة المعاملة وجود فائدة مشروعة و إلاّ فلا تصح المعاملة و من هنا حرّموا بيع (الدم) و شراءه.

إلاّ أنّ تحريم بيع الدم و شرائه ليس حكماً ثابتاً في الاِسلام بل التحريم كان في الزمان السابق صورة اجرائية لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل و كان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً له، فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) و عدم تحقّق الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) فلو ترتّبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدّل حكم الحرمة إلى الحلّية، و الحكم الثابت هنا هو قوله تعالى: "لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ ".

و في هذا المضمار ورد أنّ علياً - عليه السلام - سئل عن قول الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم -: غيّروا الشيب و لا تشبّهوا باليهود؟ فقال عليه السلام: إنّما قال - صلى الله عليه و آله و سلم - ذلك و الدين قُلٌّ ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه و ضرب بجرانه فامْرؤٌ و ما اختار(1).

هذا و لما كان الحكم بصحة الطلاق ثلاثاً، مثيراً للفساد، عبر التاريخ، قام ابن

ص: 205


1- . نهج البلاغة، الحكمة رقم 16. لاحظ كتابنا مفاهيم القرآن: 2753/265.

قيم مع تبريره عمل الخليفة بما ذكر ببيان ما ترتّب عليه من شماتة أعداء الدين عليه، و ها نحن ننقل نصّ كلامه:

جزاء الانحراف عن الطريق المهيع:

إنّ ابن قيم كما عرفت كان من المدافعين المتحمّسين عن فتيا الخليفة، و قد برّر حكمه بأنّ المصلحة يومذاك كانت تقتضي الاَخذ بما التزم به المطلّق على نفسه، و قد عرفت ضعف دفاعه و وهن كلامه، و لكنّه ذكر في آخر كلامه بأنّ المصلحة في زماننا هذا على عكس ما كان عليه زمن الخليفة، و أنّ تصحيح التطليق ثلاثاً، جرّ الويلات على المسلمين في أجوائنا و بيئاتنا و صار سبباً لاستهزاء الاَعداء، بالدين و أهله، و أنّه يجب في زماننا هذا الاَخذ بمُرّ الكتاب و السنّة، و هو أنّه لا يقع منه إلاّ واحد.

و لكنّه غفل عمّا هو الحق في المقام و أنّ المصلحة في جميع الاَزمنة كانت على وتيرة واحدة، و أنّ ما حدّه سبحانه من الحدود، هو المطابق لمصالح العباد و مصائرهم، و أنّ الشناعة و الاستهزاء اللَّتين يذكرهما ابن قيم إنّما نجمتا من الانحراف عن الطريق المهيَع و الاجتهاد مقابل النص بلا ضرورة مفضية إلى العدول و من دون أن يكون هناك حرج أو كلفة، و لأَجل ذلك نأتي بكلامه حتى يكون عبرة لمن يريد في زماننا هذا أن يتلاعب بالاَحكام الشرعية بهذه المصالح المزعومة، و إليك نصّ كلامه:

هذه المسألة ممّا تغيّرت الفتوى بها بحسب الاَزمنة و أمّا في هذه الاَزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربّها من مفسدة التحليل، و قبح ما يرتكبه المحلّلون ممّا

ص: 206

هو رمد بل عمىً في عين الدين، و شجىً في حلوق المؤمنين، من قبائح تشمّت أعداء الدين بها، و تمنع كثيراً ممّن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، و لا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلّهم من أقبح القبائح و يعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه، و غيّرت منه اسمه، و ضمخ التيس المستعار فيها المطلّقةَ بنجاسة التحليل، و قد زعم أنّه قد طيّبها للتحليل، فيا للّه العجب! أيّ طيب أعارها هذا التيس الملعون ؟ و أيّ مصلحة حصلت لها و لمطلِّقها بهذا الفعل الدون ؟

أ ترى وقوف الزوج المطلِّق أو الولي على الباب، و التيس الملعون قد حلّ ازارها و كشف النقاب، و أخذ في ذلك المرتع، و الزوج أو الولي يناديه: لم يُقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت و الزوجة و نحن و الشهود و الحاضرون و الملائكة الكاتبون، و ربّ العالمين، أنّك لست معدوداً من الاَزواج، و لا للمرأة أو أوليائها بك رضاً و لا فرح و لا ابتهاج، و إنّما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب، الذي لو لا هذه البلوى لما رضينا وقوفك على الباب، فالناس يُظهرون النكاح و يُعلنونه فرحاً و سروراً، و نحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال، و نجعله أمراً مستوراً بلا نثار و لا دف، و لا خوان و لا اعلان، بل التواصي بهس و مس و الاخفاء و الكتمان، فالمرأة تنكح لدينها و حسبها و مالها و جمالها.

و التيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك، فانّه لا يُمسك بعصمتها، بل قد دخل على زوالها، و اللّه تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكناً لصاحبه، و جعل بينهما مودة و رحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم، و تتم بذلك المصلحة التي شرّعه لاَجلها العزيز الحكيم.

ص: 207

فسل التيس المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد و مقصوده و مصلحته أجنبي غريب ؟ و سله: هل اتّخذ هذه المصابة حليلة و فراشاً يأوى إليه ؟ هل رضيت به قط زوجاً و بعلاً تعول في نوائبها عليه ؟ وسل أُولي التمييز و العقول: هل تزوّجت فلانة بفلان ؟ و هل يعد هذا نكاحاً في شرع أو عقل أو فطرة انسان ؟ و كيف يلعن رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - رجلاً من أُمّته نكح نكاحاً شرعياً صحيحاً، و لم يرتكب في عقده محرماً و لا قبيحاً؟ و كيف يشبهه بالتيس المستعار، و هو من جملة المحسنين الاَبرار؟ و كيف تعيّر به المرأة طول دهرها بين أهلها و الجيران، و تظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان ؟ وسل التيس المستعار: هل حدّث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق ؟ و هل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو حدّثت نفسها به هنالك ؟ و هل طلب منها ولداً نجيباً و اتّخذته عشيراً و حبيباً؟

وسل عقول العالمين و فطرهم: هل كان خير هذه الأمّة أكثرهم تحليلاً، و كان المحلّل الذي لعنه اللّه و رسوله أهداهم سبيلاً؟ وسل التيس المستعار و من ابتليت به: هل تجمّل أحد منهما بصاحبه كما يتجمّل الرجال بالنساء و النساء بالرجال، أو كان لاَحدهما رغبة في صاحبه بحسب أو مال أو جمال ؟ وسل المرأة: هل تكره أن يتزوّج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرّى، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أُخرى، أو تسأله عن ماله و صنعته أو حسن عشيرته وسعة نفقته ؟ وسل التيس المستعار: هل سأل قط عمّا يسأله عنه مَن قصد حقيقة النكاح، أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية و الحمولة، و النقد الذي يتوسّل به خاطب الملاح ؟ و سله: هل هو «أبو يأخذ» أو «أبو يعطي»؟ و هل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد: خذي

ص: 208

نفقة هذا العرس أو حطي ؟ و سله: هل تحمّل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي ؟

و سله عن وليمة عرسه: هل أولم و لو بشاة ؟ و هل دعا إليها أحداً من أصحابه فقضى حقّه و أتاه ؟ و سله: هل تحمّل من كلفه هذا العقد ما يتحمّله المتزوّجون، أم جاءه كما جرت به عادة الناس الاَصحاب و المهنئون ؟ و هل قيل له بارك اللّه لكما و عليكما و جمع بينكما في خير و عافية، أم لعن اللّه المحلِّل و المحلَّل له لعنة تامة وافية ؟(1).

يلاحظ عليه: أنّ العار الذي على زعمه دخل الاِسلام رهن تصحيح الطلاق ثلاثاً، و أنّ الطلاق الواحد حقيقة يعد ثلاثاً، و أمّا ما شرّعه الذكر الحكيم من توقّف صحّة النكاح بعد التطليقات الثلاث على المحلّل فهو من أفضل قوانينه المشرقة، و أرسخها و أتقنها فلا يدخل العار من جانبه على الاِسلام أبداً، و ذلك:

أوّلاً: أنّه يصد الزوج عن الطلاق الثالث لما يعلم أنّ النكاح بعده يتوقّف على التحليل الذي لا يتحمّله أكثر الرجال.

و ثانياً: أنّه لا يقوم به إلاّ إذا يئس من التزويج المجدّد، لاَنّ التجارب المتكرّرة، أثبتت أنّ الزوجين ليسا على شاكلة واحدة من جانب الاَخلاق و الروحيات فلا يُقدِم على الطلاق إلاّ إذا كان آيساً من الزواج المجدّد و قلّما يتّفق تجدد الجنوح إلى بناء البيت بالزوجة التي طلّقها ثلاثاً لو لم نقل إنّه يندر جداً فعند ذاك تقل الحاجة إلى المحلّل جداً، و هذا بخلاف تصحيح الطلاق الواحد،

ص: 209


1- . ابن قيم (المتوفى 751): اعلام الموقّعين. 433/41، و لاحظ اغاثة اللهفان له أيضاً: 1/312.

ثلاثاً، فكثيراً ما يندم الزوج من الطلاق و يريد اعادة بناء البيت الذي هدمه بالطلاق و هو حسب الفرض يتوقّف على المحلّل الذي يلصق العار بهما و يترتّب عليه ما ذكره ابن قيم في كلامه المسهب.

و في كلامه ملاحظات أُخرى تركناها خصوصاً في تصويره المحلّل كأنّه الاَجير للتحليل، و يتزوّج لتلك الغاية و هو تصوير خاطىَ جداً بل يتزوج بنفس الغاية التي يتزوّج لاَجلها، سائر النساء، غير أنّه لو طلّق الزوجة عن اختيار يصير حلالاً للزوج السابق و أين ذلك مما جاء في كلامه.

ص: 210

المسألة التاسعة: الحلف بالطلاق

اعلم أنّ الطلاق غير المنجز ينقسم إلى قسمين:

1. الطلاق المعلّق.

2. الحلف بالطلاق.

و كلاهما من أقسام غير المنجّز، و الفرق بينهما أنّه لو قصد من التعليق الحثّ على الفعل، أو المنع عنه، يسمّى حلفاً بالطلاق كقوله: إن دخلت الدار فأنتِ طالق، أو إن لم تدخلي الدار فأنت طالق، أو قصد منه تصديق المخبر، كقوله: أنتِ طالق إن لم يقدم زيد، أو زوجتي طالق لو كان في حقيبتي بضاعة ممنوعة.

و أمّا إذا علّق و لم يكن منه لا الحث على الفعل و لا المنع منه، و لا التنبيه على تصديق المخبر، يسمّى طلاقاً معلّقاً، كقوله: أنتِ طالق إن طلعت الشمس، أو أنتِ طالق إن قدم الحاج، أو أنتِ طالق إن لم يقدم السلطان، فهو شرط محض ليس بحلف، لاَنّ حقيقة الحلف القسم.

و إنّما سمي تعليق الطلاق على شرط حلفاً تجوزاً، لمشاركته الحلف في المعنى المشهور و هو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر نحو قوله: و اللّه لاَفعلنّ ، أو لا و اللّه لا

ص: 211

أفعل، أو و اللّه لقد فعلت أو و اللّه لم أفعل، و ما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصحّ تسميته حلفاً(1).

و قال السبكي: إنّ الطلاق المعلّق، منه ما يعلّق على وجه اليمين، و منه ما يعلّق على غير وجه اليمين، فالطلاق المعلَّق على غير وجه اليمين كقوله: إذا جاء رأس الشهر فأنتِ طالق، أو إن أعطيتني ألفاً فأنتِ طالق.

و الذي على وجه اليمين كقوله: إن كلّمتِ فلاناً فأنت طالق، أو إن دخلت الدار فأنتِ طالق، و هو الذي يقصد به الحث أو المنع أو التصديق، فإذا علّق الطلاق على هذا الوجه، ثمّ وجد المعلّق عليه وقع الطلاق(2).

هذا هو مذهب أكثر أهل السنّة إلاّ من شذّ و سنشير إليه، فقد أجازت هذه المذاهب الطلاق بغير الحلف، بكل ما دلّ عليه لفظاً و كتابة و صراحة و كناية، مثل: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ بريّة، أو اذهبي فتزوّجي، أو حبلك على غاربك، أو الحقي بأهلك، إلى غير ذلك من الصيغ.

و الجدير بالذكر أنّهم سوّدوا الصفحات الطوال العراض حول أقسام الطلاق المعلّق خصوصاً النوع الخاص به، أعني: الحلف به، و جاءوا بآراء و فتاوى لم يبرهنوا عليها بشيء من الكتاب و السنّة، و الراجع إليها يقطع بأنّ الطلاق عند هؤلاء أُلعوبة، يتلاعب به الرجل بصور شتّى.

و إن كنت في شكّ ممّا ذكرت فلاحظ الكتابين المعروفين:

1 المغني: تأليف محمد بن عبد اللّه بن أحمد بن محمد بن قدامة (المتوفّى

ص: 212


1- . ابن قدامة: المغني: 7/365.
2- . السبكي: تقي الدين علي بن عبد الكافي (المتوفى 756): الدرّة المضيئة: 155.

عام 620) و هو أوسع فقه ظهر عند الحنابلة مع الترجيح بين الاَقوال بالدليل المقنع لهم. فقد خصّ (45) صفحة من كتابه بهذا النوع من الصيغ(1).

2 الفقه على المذاهب الاَربعة: تأليف الشيخ عبد الرحمن الجزيري، فقد ألّفه ليعرض الفقه بثوبه الجديد على الناشئ، و مع ذلك فقد خصّ من كتابه لهذا النوع من صور الطلاق صفحات كثيرة(2) و إليك نماذج من هذه الصور حتى تقف على صدق ما قلناه؛ ننقله من الكتاب الاَوّل:

1 إن قال لامرأتيه: كلّما حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان، ثمّ أعاد ذلك ثلاثاً، طلّقت كل واحدة منهما ثلاثاً.

2 إن قال لاِحداهما: إن حلفت بطلاقك فضرّتك طالق، ثمّ قال للأخرى مثل ذلك...

3 و إن كان له ثلاث نسوة فقال: إن حلفت بطلاق زينب، فعمرة طالق، ثمّ قال: و إن حلفت بطلاق عمرة، فحفصة طالق، ثمّ قال: إن حلفت بطلاق حفصة، فزينب طالق، طلقت عمرة، و إن جعل مكان زينب عمرة طلّقت حفصة، ثمّ متى أعاده بعد ذلك طلّقت منهنّ واحدة...

4 و متى علّق الطلاق على صفات فاجتمعن في شيء واحد وقع بكلّ صفة ما علّق عليها كما لو وجدت متفرّقة و كذلك العتاق، فلو قال لامرأته: إن كلّمت رجلاً فأنت طالق، و إن كلّمت طويلاً فأنت طالق، و إن كلّمت أسود فأنت

ص: 213


1- . لاحظ الجزء السابع 414369 بتصحيح الدكتور محمد خليل هراس.
2- . الفقه على المذاهب الاَربعة الجزء الرابع.

طالق، فكلّمت رجلاً أسود طويلاً، طلّقت ثلاثاً(1).

إلى غير ذلك من الصور التي لا يترتب على نقلها سوى اضاعة الوقت و الورق.

و في مقابل هؤلاء، أئمّة أهل البيت، لا يذكرون للطلاق إلاّ صيغة واحدة، روى بكير بن أعين عن أحدهما: الباقر و الصادق عليهما السلام قال: ليس الطلاق إلاّ أن يقول الرجل لها و هي طاهر في غير جماع: أنت طالق و يشهد شاهدي عدل، و كلّ ما سوى ذلك فهي ملغى(2).

و مع أنّ المشهور عند أهل السنّة وقوع الطلاق بالحلف به، فنجد بين الصحابة و التابعين من ينكر ذلك و يراه باطلاً، و وافقه بعض المتأخّرين من الظاهريين كابن حزم، و ابن تيمية من الحنابلة.

قال ابن حزم: و صحّ خلاف ذلك (وقوع الطلاق باليمين) عن السلف.

1 روينا من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن: انّ رجلاً تزوّج امرأة و أراد سفراً فأخذها أهل امرأته فجعلها طالقاً إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الاَجل و لم يبعث بشيء، فلمّا قدم خاصموه إلى عليّ ، فقال عليّ عليه السلام: اضطهدتموه حتى جعلها طالقاً، فردّها عليه(3).

2 روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء: في رجل قال

ص: 214


1- . المغني: 3767/369.
2- . وسائل الشيعة 15، الباب 16 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه، الحديث 1.
3- . ظاهر الحديث: أنّ الاِمام ردّ المرأة لوقوع الطلاق مكرهاً، و بما أنّه لم تكن هناك كراهة و لم يطلب أهل المرأة سوى النفقة، يحمل على خلاف ظاهره، من بطلان الطلاق لاَجل الحلف به.

لامرأته: أنتِ طالق إن لم أتزوّج عليك. قال: إن لم يتزوّج عليها حتى تموت أو يموت، توارثا. و الحكم بالتوارث آية بقاء العلقة.

3 و من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن غيلان بن جامع عن الحكم بن عتيبة قال: في الرجل يقول لامرأته: أنتِ طالق إن لم أفعل كذا ثمّ مات أحدهما قبل أن يفعل، فإنّهما يتوارثان.

إنّ في عدم اعتداد الاِمام عليّ بالطلاق بلا اكراه و الحكم بالتوارث في الروايتين الاَخيرتين دلالة على عدم الاعتداد باليمين بالطلاق.

4 و من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنّه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئاً. قلت: أ كان يراه يميناً؟ قال: لا أدري.

قال ابن حزم بعد نقل هذه الروايات: فهؤلاء علي بن أبي طالب و شريح(1) و طاووس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، و لا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة رضي اللّه عنهم ثمّ يقول: من أين أجزتم الطلاق بصفة و لم تجيزوا النكاح بصفة، و الرجعة بصفة كمن قال: إذا دخلت الدار فقد راجعت زوجتي المطلّقة، أو قال: فقد تزوّجتك و قالت هي مثل ذلك، و قال الولي مثل ذلك و لا سبيل إلى فرق(2).

فقد سئل ابن تيميّة عن مسألة الحلف بالطلاق، فأفتى بعدم وقوع الطلاق بنفس الحلف و لكن قال: تجب الكفّارة إذا لم يطلّق بعد، فقال: إنّ في المسألة بين السلف و الخلف أقوالاً ثلاثة:

ص: 215


1- . نقل رواية عن شريح تركنا نقلها لعدم دلالتها. و كان عليه عطف عطاء عليه أيضاً.
2- . ابن حزم الاَندلسي: المحلّى: 21310/212.

1 إنّه يقع به الطلاق إذا حنث في يمينه، و هذا هو المشهور عند أكثر الفقهاء المتأخّرين حتى اعتقد طائفة منهم أنّ ذلك اجماع، و لهذا لم يذكر عامتهم عليه حجة، و حجتهم عليه ضعيفة، و هي أنّه التزم أمراً عند وجوب شيء فلزمه ما التزمه(1).

2 إنّه لا يقع به طلاق و لا تلزمه كفّارة، و هذا مذهب داود و أصحابه، و طوائف من الشيعة، و يذكر ما يدل عليه عن طائفة من السلف(2) بل هو مأثور عن طائفة صريحاً كأبي جعفر الباقر - عليه السلام - رواية جعفر بن محمد، و أصل هؤلاء أنّ الحلف بالطلاق و العتاق و الظهار لغو كالحلف بالمخلوقات.

3 و هو أصح الاَقوال، و هو الذي يدل عليه الكتاب و السنّة، و الاعتبار أنّ هذا يمين من أيمان المسلمين فيجري فيها ما يجري في أيمان المسلمين، و هو الكفّارة عند الحنث إلاّ أن يختار الحالف ايقاع الطلاق، فله أن يوقعه، و لا كفّارة، و هذا قول طائفة من السلف و الخلف كطاوس و غيره، و هو مقتضى المنقول عن أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - في هذا الباب، و به يفتي كثير من المالكية و غيرهم، حتى يقال: إنّ في كثير من بلاد المغرب من يفتي بذلك من أئمّة المالكية، و هو مقتضى نصوص أحمد ابن حنبل، و أُصول في غير هذا الموضع(3).

إنّ هنا أُموراً:

الاَوّل: في وقوع الطلاق بنفس هذا الانشاء.

ص: 216


1- . سيوافيك ضعف هذا الدليل بعد الفراغ من نقل كلامه.
2- . قد تعرفت على القائلين بعدم كفاية الحلف في تحقّق الطلاق في كلام ابن حزم الظاهري.
3- . ابن تيمية، الفتاوى الكبرى: 3/12 و 13.

الثاني: لزوم الكفّارة عند الحنث أي عدم ايقاع الطلاق.

الثالث: ما هو حكم الزوجة في الفترة التي لم يقع المعلّق عليه.

أمّا الاَوّل: فالدليل الذي نقله ابن تيمية عن القائل كان عبارة أنّه التزم أمراً عند وجوب شرط فلزمه ما التزمه، مثلاً التزم بأنّه إذا كلّمت الزوجة فلاناً فهي طالق.

يلاحظ عليه: أنّه ليس لنا دليل مطلق يعم نفوذ كل ما التزم به الانسان حتى فيما يحتمل أنّ الشارع جعل له سبباً خاصّاً كالطلاق و النكاح، إذ عند الشكّ يكون المرجع هو بقاء العلقة الزوجية إلى أن يدل دليل على خروجها عن عصمته، أخذاً بالقاعدة المأثورة عن أئمّة أهل البيت بأنّه لا ينقض اليقين بالشك، المعبّر عنه في مصطلح الأصوليين بالاستصحاب.

قال السبكي: «قد أجمعت الأمّة على وقوع المعلّق كوقوع المنجز، فإنّ الطلاق ممّا يقبل التعليق، و لا يظهر الخلاف في ذلك إلاّ عن طوائف من الروافض، و لمّا حدث مذهب الظاهريين، المخالفين لإجماع الأمّة، المنكرين للقياس، خالفوا في ذلك إلى أن قال: و لكنّهم قد سبقهم الاجماع(1).

ثمّ قال: و قد لبَّس ابن تيمية بوجود خلاف في هذه المسألة و هو كذب و افتراء و جرأة منه على الاِسلام، و قد نقل اجماع الأمّة على ذلك أئمّة لا يرتاب في قولهم و لا يتوقّف في صحّة نقلهم.

كيف يحكم بسبق الاجماع مع خلاف الاِمام علي و لفيف من التابعين و أئمّة أهل البيت، و ليس ابن تيميّة ناقلاً للخلاف بل نقله ابن حزم الاَندلسي و نقله هو

ص: 217


1- . السبكي: الدرّة المضيئة: 156155.

عنه كما صرّح في رسائله.

و هناك كلمة لبعض مشايخ الاِمامية نأتي بنصّها و فيها بيان و بلاغ، قال: إنّ الاِمامية يضيّقون دائرة الطلاق إلى أقصى الحدود، و يفرضون القيود الصارمة على المطلِّق و المطلَّقة، و صيغة الطلاق و شهوده. كلّ ذلك لاَنّ الزواج عصمة و مودة و رحمة و ميثاق من اللّه. قال تعالى: "وَ قَدْ أَفْضىٰ بَعْضُكُمْ إِلىٰ بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً " (النساء/ 21) و قال سبحانه: "وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً " (الروم/ 21) اذن لا يجوز بحال أن ننقض هذه العصمة و المودة و الرحمة، و هذا العهد و الميثاق إلاّ بعد أن نعلم علماً قاطعاً لكل شكّ بأنّ الشرع قد حلّ الزواج و نقضه بعد أن أثبته و أبرمه(1).

و قد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت على بطلان هذا الطلاق، بل و عدم الاعتداد بهذا اليمين مطلقاً، و من أخذ دينه عن أئمّة أهل البيت، فقد أخذ عن عين صافية. نكتفي ببعض ما ورد عنهم:

1 روى الحلبي عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - قال: كل يمين لا يراد به وجه اللّه في طلاق أو عتق فليس بشيء(2).

2 جاء رجل باسم «طارق» إلى أبي جعفر الباقر و هو يقول: يا أبا جعفر إنّي هالك إنّي حلفت بالطلاق و العتاق و النذر، فقال: يا طارق إنّ هذا من خطوات الشيطان(3).

ص: 218


1- . الفقه على المذاهب الخمسة: 414.
2- . وسائل الشيعة: الجزء 16، الباب 14 من أبواب كتاب الايمان، الحديث 1 و 4، و لاحظ سائر أحاديث الباب.
3- . وسائل الشيعة: الجزء 16، الباب 14 من أبواب كتاب الايمان، الحديث 1 و 4، و لاحظ سائر أحاديث الباب.

3 عن أبي أُسامة الشحام، قال: قلت لاَبي عبد اللّه - عليه السلام -: إنّ لي قريباً لي أو صهراً لي حلف إن خرجت امرأته من الباب فهي طالق ثلاثاً، فخرجت و قد دخل صاحبها منها ما شاء اللّه من المشقة فأمرني أن أسألك فأصغى إليّ ، فقال: مره فليُمسكها فليس بشيء، ثمّ التفت إلى القوم فقال: سبحان اللّه يأمرونها أن تتزوّج و لها زوج(1).

و قد عرفت الشيعة بانكارها الأمور الثلاثة في باب الطلاق:

1 طلاق المرأة و هي حائض.

2 الطلاق بلا اشهاد عدلين.

3 الحلف على الطلاق.

هذا كلّه حول وقوع الطلاق و إليك الكلام في المقامين الثاني و الثالث:

و أمّا الثاني و هو ترتّب الكفّارة أو لا، فيحتاج إلى تنقيح ما هو الموضوع للكفّارة، فلو دلّ الدليل على أنّ الكفّارة من آثار الحلف بلفظ الجلالة أو ما يعادله أو يقاربه، كالربّ و غيره فلا تترتب على الحلف بالطلاق و العتاق، و بما أنّ المسألة خارجة عن موضوع البحث لذا نحيل تحقيقها إلى محلّه.

و أمّا الثالث: فقد نقل ابن حزم عن الشافعي: الطلاق يقع عليه و الحنث في آخر أوقات الحياة فلو قال لامرأته: أنتِ طالق إن لم أضرب زيداً، فإنّما يتحقّق الحنث إذا لم يضرب عند موته، و معنى هذا أنّها زوجته إلى ذلك الآن، و نقل عن مالك: يوقف عن امرأته و هو على حنث حتى يبر، ثمّ استشكل على الاِمامين(2).

ص: 219


1- . الوسائل: الجزء 15، الباب 18 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 3.
2- . ابن حزم الاَندلسي: المحلّى: 10/213.

و جملة الكلام فيه على القول بانعقاد الطلاق به أنّ المعلّق عليه تارة يكون أمراً وجودياً كالخروج عن الدار و أُخرى عدمياً مثل إن لم أفعل و على التقديرين تارة يكون محدّداً موَقتاً بزمان و أُخرى مطلقاً مرسلاً عنه، فلو كان أمراً وجودياً فهي زوجته ما لم يتحقق، فإذا تحقّق في ظرفه المعيّن، أو مطلقاً حسب ما علّق تكون مطلّقة. و لو كان أمراً عدمياً، فلو كان محدداً و موَقتاً بزمان، فلو لم يفعل في ذلك الزمان تكون مطلّقة، بخلاف ما لو لم يكن كذلك، فلا تكون مطلّقة إلاّ في آخر الوقت الذي لا يستطيع القيام به.

و لكنّها فروض على أساس منهار.

الكلام في الطلاق المعلّق:

قد عرفت أنّ الطلاق المعلّق ينقسم إلى قسمين: منه ما يوصف بالحلف بالطلاق و منه ما يوصف بالمعلّق فقط، و قد عرفت حكم الاَوّل و إليك الكلام في التالي:

فنقول: إنّ للشروط تقسيمات:

1 ما يتوقّف عليه صحّة الطلاق ككونها زوجة، و ما لا يتوقف عليه كقدوم زيد.

2 ما يعلم المطلّق بوجوده عند الطلاق كتعليقه بكون هذا اليوم يوم الجمعة، و أُخرى ما يشك في وجوده.

3 ما يذكر في الصيغة تبرّكاً، لا شرطاً و تعليقاً كمشيئته سبحانه (إن شاء اللّه)، و ما يذكر تعليقاً حقيقة.

ص: 220

و مورد البحث هو القسم الاَوّل من الاَقسام الثلاثة و قد اتّفقت كلمة الاِمامية(1) على بطلان المعلّق و الدليل المهم هو النص و الاجماع و إليك البيان:

الطلاق المعلّق باطل نصّاً و إجماعاً:

دلّ النصّ عن أئمّة أهل البيت على بطلان الطلاق المعلّق، و يكفي في ذلك ما رواه بكير بن أعين عنهم - عليهم السلام - أنّهم قالوا: ليس الطلاق إلاّ أن يقول الزوج لزوجته و هي طاهرة من غير جماع: أنتِ طالق، و يشهد شاهدي عدل، و كل ما سوى ذلك فهي ملغى(2).

فأيّ تصريح أولى من قوله: «و كل ما سوى ذلك فهي ملغى» مع شيوع الطلاق المعلّق خصوصاً قسم الحلف في أعصارهم.

و إذا أُضيف إلى ذلك ما روي عنهم - عليهم السلام - في بطلان الحلف بالطلاق لاتّضح الحكم بأجلى وضوح لاَنّ الحلف به قسم من أقسام المعلّق، فليس بطلانه إلاّ لبطلان المعلّق غاية الاَمر يتضمّن حلفاً و يميناً، و قد عرفت أنّ الاِمام قال: سبحان اللّه يأمرونها أن تتزوج و لها زوج(3).

و أمّا الاجماع فقد قال المرتضى: و ممّا انفردت به الاِمامية أنّ تعليق الطلاق بجزء من أجزاء المرأة أيّ جزء كان لا يقع فيه الطلاق(4).

ص: 221


1- . الطوسي: الخلاف: 2، كتاب الطلاق، المسألة 40.
2- . الوسائل: الجزء 15، الباب 16، الحديث 1.
3- . المصدر نفسه: الباب 18 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 4.
4- . السيد المرتضى: الانتصار: 14.

و قال الشيخ في الخلاف: إذا قال لها: أنت طالق إذا قدم فلان، فقدم فلان. لا يقع طلاقه(1).

و قال ابن ادريس: اشترطنا اطلاق اللفظ احترازاً من مقارنة الشرط(2).

و من تفحّص فقه الاِمامية يجد كون البطلان أمراً متّفقاً عليه.

و يؤَيّد ذلك: أنّ عناية الاِسلام بنظام الأسرة الذي أُسّها النكاح و الطلاق، يقتضي أن يكون الاَمر فيها منجزاً لا معلّقاً، فإنّ التعليق ينتهي إلى ما لا تحمد عاقبته من غير فرق بين النكاح و الطلاق، فالمرء إما أن يقدم على النكاح و الطلاق أو لا، فعلى الاَوّل فينكح أو يطلّق بتاتاً، و على الثاني يسكت حتى يحدث بعد ذلك أمراً، فالتعليق في النكاح و الطلاق لا يناسب ذلك الاَمر الهام، فقد قال سبحانه: "وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً " (النساء/ 129).

و اللّه سبحانه يشبّه المرأة التي يترك الزوج اداء الواجب لها بالمعلّقة التي هي لا ذات زوج و لا أيّم، فالمنكوحة معلّقةً ، أو المطلّقة كذلك، أشبه شيء بالمعلّقة الواردة في الآية، فهي لا ذات زوج و لا أيّم.

نعم ربّما استدلّ ببعض الوجوه العقلية على البطلان و هي ليست تامّة عندنا نظير:

أ أنّ الطلاق المعلّق من قبيل تفكيك المنشأ عن الانشاء، لاَنّ المفروض

ص: 222


1- . الطوسي: الخلاف، كتاب الطلاق، المسألة 13.
2- . ابن ادريس الحلي: السرائر، كتاب الطلاق: 322. و لاحظ الطبعة الحديثة 2:665.

عدم وقوعه قبل الشرط، فيلزم تفكيك المنشأ عن الانشاء.

و أنت خبير بعدم استقامة الدليل، فإنّ المنشأ بعد الانشاء محقّق من غير فرق بين المنجّز و المعلّق، غير أنّ المنشأ تارة يكون منجزاً و أُخرى معلّقاً، و فائدة الانشاء أنّه لو وقع المعلّق عليه لا يحتاج إلى انشاء جديد.

ب ظاهر الاَدلّة ترتّب الاَثر على السبب فوراً، فاشتراط تأخّره إلى حصول المعلّق عليه، خلاف ظاهر الاَدلّة.

يلاحظ عليه: أنّه ليس في الاَدلّة ما يثبت ذلك، فالوارد في الاَدلّة هو لزوم الوفاء بالانشاء غير أنّ الوفاء يختلف حسب اختلاف مضمونه، فالاَولى الاستدلال بالنص و الاجماع.

ص: 223

ص: 224

المسألة العاشرة: الطلاق في الحيض و النفاس

اشارة

اتّفقت كلمتهم على أنّه يجب أن تكون المطلّقة في حال الطلاق طاهرة عن الحيض و النفاس بلا خلاف، و لكن اختلفوا في أنّ الطهارة هل هي شرط الصحّة و الاِجزاء، أو شرط الكمال و التمام، و بعبارة أُخرى هل هي حكم تكليفي متوجّه إلى المطلّق، و هو أنّه يجب أن يحلَّ العقدة في حال كونها طاهرة من الحيض و النفاس، فلو تخلّف أثم و صحَّ الطلاق، أو هو حكم وضعي قيد لصحّة الطلاق، و لولاه كان الطلاق باطلاً؟ فالاِمامية و قليل من سائر المذاهب الفقهية على الثاني و أكثر المذاهب على الاَوّل و إليك بعض كلماتهم:

قال الشيخ الطوسي في الخلاف: الطلاق المحرّم، هو أن يطلّق مدخولاً بها غير غائب عنها غيبة مخصوصة، في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه، فما هذا حكمه فانّه لا يقع عندنا، و العقد ثابت بحاله، و به قال ابن عليَّة، و قال جميع الفقهاء: انّه يقع و إن كان محظوراً.

ذهب إليه أبو حنيفة و أصحابه و مالك و الاوزاعي و الثوري و الشافعي دليلنا اجماع الفرقة، و أيضاً الاَصل بقاء العقد، و وقوع الطلاق يحتاج إلى دليل

ص: 225

شرعي، و أيضاً قوله تعالى: "فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ " و قد روي لقبل عدّتهنّ ، و لا خلاف انّه أراد ذلك، و إن لم تصحّ القراءة به، فإذا ثبت ذلك دل على أنّ الطلاق إذا كان ما غير الطهر محرّماً منهياً عنه، و النهي يدل على فساد المنهى عنه(1).

و ستوافيك دلالة الآية على اشتراط الطهارة من الحيض و النفاس.

و قال ابن رشد في حكم من طلّق في وقت الحيض: فانّ الناس اختلفوا من ذلك في مواضع منها أنّ الجمهور قالوا: يُمضى طلاقه، و قالت فرقة: لا ينفذ و لا يقع، و الذين قالوا: ينفذ، قالوا: يؤمر بالرجعة، و هؤلاء افترقوا فرقتين، فقوم رأوا أنّ ذلك واجب، و أنّه يجبر على ذلك، و به قال مالك، و أصحابه، و قالت فرقة: بل يندب إلى ذلك و لا يجبر، و به قال الشافعي و أبو حنيفة و الثوري و أحمد(2).

و قد فصل الجزيري و بيّن آراء الفقهاء في كتابه(3).

هذه هي الاَقوال، غير أنّ البحث الحرّ يقتضي نبذ التقليد و النهج على الطريقة المألوفة بين السلف حيث كانوا يصدعون بالحق و لا يخافون لومة المخالف، و كانوا لا يخشون إلاّ اللّه، فلو وجدنا في الكتاب و السنّة ما يرفض آراءهم فهما أولى بالاتباع.

ص: 226


1- . الشيخ الطوسي: الخلاف: 2، كتاب الطلاق المسألة 2. و ما ذكره من تقدير «قبل» إنّما يتم على القول بكون العبرة في العدَّة بالحيض فيكون قبلهما بين طهرها من الحيض و النفاس فتتم الدلالة.
2- . ابن رشد: بداية المجتهد: 662/65.
3- . الجزيري: الفقه على المذاهب الاَربعة: 3024/297.

الاستدلال بالكتاب:

قال اللّه تعالى: "يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ رَبَّكُمْ "(1).

توضيح دلالة الآية يتوقّف على تبيين معنى العدَّة في الآية، فهل المراد منها، الاَطهار الثلاثة أو الحيضات الثلاث ؟ و هذا الخلاف يتفرّع على خلاف آخر هو تفسير «قروء» بالاَطهار أو الحيضات.

توضيحه: أنّ الفقهاء اختلفوا في معنى قوله سبحانه: "وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ "(2) فذهبت الشيعة الاِمامية إلى أنّ المراد من القروء هو الاَطهار الثلاثة، و قد تبعوا في ذلك ما روي عن علي - عليه السلام -: روى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: فقلت: أصلحك اللّه أ كان عليّ يقول: إنّ الاَقراء التي سمّى اللّه في القرآن إنّما هي الطهر فيما بين الحيضتين و ليست بالحيض ؟ قال: نعم، كان يقول: إنّما القرء الطهر، تقرأ فيها الدم فتجمعه فإذا جاء الحيض، قذفته(3).

و ذهب أصحاب سائر المذاهب إلاّ قليل كربيعة الرأي إلى أنّ المراد منها هي الحيضات. و لسنا في مقام تحقيق ذلك إنّما الكلام في بيان دلالة الآية على كلا المذهبين على اشتراط الطهارة في حال الطلاق، بعد الوقوف على أنّ من جوّز الطلاق في الحيض قال بعدم احتساب تلك الحيضة من «القروء» فنقول:

أمّا إذا قلنا بأنّ المراد من العِدّة في قوله سبحانه: "لِعِدَّتِهِنَّ " هي الاَطهار الثلاثة، فاللام متعيّنة ظاهرة في الغاية و التعليل، و المعنى: فطلّقوهنّ لغاية أن

ص: 227


1- . الطلاق: الآية 2.
2- . النساء: الآية 228.
3- . الحر العاملي: الوسائل: 15، الباب 15 من أبواب العدد، الحديث 4.

يعتددن، و الاَصل هو ترتّب الغاية على ذيها بلا فصل و لا تريّث (ما لم يدل دليل على الخلاف)، مثل قوله سبحانه: "وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ "(1) و قوله تعالى: "وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ إِلاّٰ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ "(2) ،و احتمال كون اللام للعاقبة التي ربّما يكون هناك فيها فصل بين الغاية و ذيها، مثل قوله سبحانه: "فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً "(3) غير صحيح، لاَنّ موردها فيما إذا كانت النتيجة مرتبة على ذيها ترتّباً قهرياً غير إرادي كما في الآية، و مثل قولهم: لدوا للموت و ابنوا للخراب.

و أمّا إذا قلنا بأنّ العدّة في الآية هي الحيضات الثلاث، فبما أنّ الحيضة التي تُطلّق فيها لا تحسب من العدّة باتفاق القائلين بجواز الطلاق في الحيض، يكون الاَمر به فيها لغواً، و التعجيل بلا غاية، فلا محيص لم يجد المفسرون حلاّ إلاّ بتقدير جملة مثل «مستقبلاتٍ لعدّتهنّ » نظير قولهم: لقيته لثلاث بقين من الشهر، يريد مستقبلاً لثلاث، و عندئذ يدل على وقوع الطلاق في حالة الطهر، و ذلك لاَنّها إذا كانت العدّة هي الحيضة فيكون قُبيلها ضِدَّها، و هي الطهارة.

و نخرج بهذه النتيجة أنّ الآية ظاهرة في شرطية الطهارة من الحيض في صحة الطلاق.

ثمّ إنّ بعض الباحثين ذكر الحكمة في المنع من الطلاق في الحيض: أنّ ذلك يطيل على المرأة العدة، فانّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدّتها، فتنتظر حتى تطهر من حيضها و تتم مدّة طهرها ثمّ تبدأ العدة من الحيضة التالية(4).

ص: 228


1- . النحل: الآية 44.
2- . النحل: الآية 64.
3- . القصص: الآية 8.
4- . أحمد محمد شاكر: نظام الطلاق في الاِسلام: 27.

هذا على مذاهب أهل السنّة من تفسير «القروء» و بالتالي العدّة بالحيضات، و أمّا على مذهب الاِمامية من تفسيرها بالاَطهار، فيجب أن يقال:... فإنّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدتها فتنتظر حتى تطهر من حيضها و تبدأ العدّة من يوم طهرت.

و على كل تقدير، فبما أنّهم اتّفقوا على أنّ الحيضة التي وقع الطلاق فيها لا تحسب من العدّة إمّا لاشتراط الطهارة أو لعدم الاعتداد بتلك الحيضة، تطيل على المرأة العدّة سواء كان مبدؤها هو الطهر أو الحيضة التالية.

الاستدلال بالسنّة:

إنّ الروايات تضافرت عن أئمّة أهل البيت على اشتراط الطهارة. روى الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - قال: كلّ طلاق لغير العدّة (السنّة) فليس بطلاق: أن يطلّقها و هي حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها قبل أن تحيض فليس طلاقها بطلاق(1).

هذا ما لدى الشيعة و أمّا ما لدى السنّة فالمهم لديهم في تصحيح طلاق الحائض هو رواية عبد اللّه بن عمر، حيث طلّق زوجته و هي حائض، و قد نقلت بصور مختلفة نأتي بها(2).

الأولى: ما دلّ على عدم الاعتداد بتلك التطليقة و إليك البيان:

1 سئل أبو الزبير عن رجل طلّق امرأته حائضاً؟ قال: طلّق عبد اللّه بن عمر رضى اللّه عنهما امرأته و هي حائض على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - فسأل

ص: 229


1- . الحر العاملي: الوسائل: 15، الباب 8 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 9، و غيره.
2- . راجع في الوقوف على تلك الصور، السنن الكبرى للبيهقي: 3257/324.

عمر - رضي الله عنه - رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - فقال: إنّ عبد اللّه بن عمر طلّق امرأته و هي حائض ؟ فقال النبي: ليراجعها، فردّها عليّ و قال: إذا طهرت فليطلّق أو ليمسك، قال ابن عمر: و قرأ النبيّ «صلى الله عليه و آله و سلم»: "يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ " أي في قبل عدّتهنّ .

2 روى أبو الزبير قال: سألت جابراً عن الرجل يطلّق امرأته و هي حائض ؟ فقال: طلّق عبد اللّه بن عمر امرأته و هي حائض، فأتى عمر رسول اللّه فأخبره بذلك فقال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: ليراجعها فانّها امرأته.

3 روى نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنّه قال في الرجل يطلّق امرأته و هي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد بها.

الثانية: ما يتضمّن التصريح باحتساب تلك التطليقة طلاقاً صحيحاً و إن لزمت إعادة الطلاق و إليك ما نقل بهذا المضمون:

1 يونس بن جبير قال: سألت ابن عمر قلت: رجل طلّق امرأته و هي حائض ؟ فقال: تعرف عبد اللّه بن عمر؟ قلت: نعم، قال: فانّ عبد اللّه بن عمر طلّق امرأته و هي حائض، فأتى عمر رضى اللّه عنه النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - فسأله، فأمره أن يراجعها ثمّ يطلّقها من قبل عدّتها. قال، قلت: فيعتدّ بها؟ قال: نعم، قال: أ رأيت إن عجز و استحمق.

2 يونس بن جبير قال: سألت ابن عمر قلت: رجل طلّق امرأته، و هي حائض ؟ قال: تعرف ابن عمر؟ إنّه طلّق امرأته و هي حائض، فسأل عمر النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - فأمره أن يراجعها، قلت: فيعتد بتلك التطليقة ؟ قال: فمه ؟ أ رأيت إن عجز و استحمق.

ص: 230

3. يونس بن جبير قال: سمعت ابن عمر قال: طلّقت امرأتي و هي حائض. فأتى عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه و آله و سلم -: ليراجعها، فإذا طهرت فليطلّقها، قال: فقلت لابن عمر: فاحتسبت بها؟ قال: فما يمنعه ؟ أ رأيت إن عجز و استحمق.

4 أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر يقول: طلَّقت امرأتي و هي حائض، قال: فذكر ذلك عمر للنبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - قال، فقال: ليراجعها فإذا طهرت فليطلقها. قال: فقلت له يعني لابن عمر: يحتسب بها؟ قال: فمه ؟

5 أنس بن سيرين: ذكر نحوه غير أنّه قال: فليطلّقها إن شاء. قال: قال عمر رضى اللّه عنه: يا رسول اللّه أ فتحتسب بتلك التطليقة ؟ قال: نعم.

6 أنس بن سيرين قال: سألت ابن عمر عن امرأته التي طلّق ؟ فقال: طلّقتها و هي حائض. فذكر ذلك لعمر رضي اللّه عنه فذكره للنبيّ «صلى الله عليه و آله و سلم» فقال: مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلّقها لطهرها. قال: فراجعتها ثمّ طلّقتها لطهرها. قلت: و اعتدّت بتلك التطليقة التي طلّقت و هي حائض ؟ قال: مالي لا أعتدّ بها، و إن كنت عجزت و استحمقت.

7 عامر قال: طلّق ابن عمر امرأته و هي حائض واحدة، فانطلق عمر إلى رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - فأخبره، فأمره إذا طهرت أن يراجعها ثمّ يستقبل الطلاق في عدّتها ثمّ تحتسب بالتطليقة التي طلّق أوّل مرّة.

8 نافع عن ابن عمر رضى اللّه عنه أنّه طلّق امرأته، و هي حائض، فأتى عمر رضى اللّه عنه النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - فذكر ذلك له فجعلها واحدة.

9 سعيد بن جبير عن ابن عمر رضى اللّه عنه قال: حُسِبَتْ عليَّ بتطليقة.

ص: 231

الثالثة: ما ليس فيه تصريح بأحد الاَمرين:

1 ابن طاوس عن أبيه: أنّه سمع ابن عمر سئل عن رجل طلق امرأته حائضاً؟ فقال: أ تعرف عبد اللّه بن عمر؟ قال: نعم. قال: فإنّه طلّق امرأته حائضاً، فذهب عمر رضى اللّه عنه إلى النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - فأخبره الخبر، فأمره أن يراجعها. قال: لم أسمعه يزيد على ذلك لاَبيه.

2 منصور بن أبي وائل: إنّ ابن عمر طلّق امرأته، و هي حائض، فأمره النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - أن يراجعها حتى تطهر، فإذا طهرت طلّقها.

3 ميمون بن مهران عن ابن عمر أنّه طلّق امرأته في حيضها، قال: فأمره رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - أن يرتجعها حتى تطهر فإذا طهرت فإن شاء طلّق و إن شاء أمسك قبل أن يجامع.

و هناك رواية واحدة تتميّز بمضمون خاص بها، و هي رواية نافع قال: إنّ عبد اللّه بن عمر طلّق امرأته و هي حائض، على عهد رسول اللّه، فسأل عمر بن الخطاب رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - عن ذلك ؟ فقال رسول اللّه: فليراجعها، فليمسك حتى تطهر ثمّ تحيض ثمّ تطهر، إن شاء أمسكها بعد و إن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدّة التي أمر اللّه أن يطلّق لها النساء.

و بعد تصنيف هذه الروايات نبحث عن الفئة الراجحة منها بعد معرفة طبيعة الاشكالات التي تواجه كلاً منها و معالجتها.

ص: 232

معالجة الصور المتعارضة:

لا شك أنّ الروايات كانت تدور حول قصة واحدة، لكن بصور مختلفة، فالحجة بينها مردّدة بين تلك الصور و الترجيح مع الأولى لموافقتها الكتاب و هي الحجّة القطعية، و ما خالف الكتاب لا يحتج به، فالعمل على الأولى.

و أمّا الصورة الثالثة، فيمكن ارجاعها إلى الأولى لعدم ظهورها في الاعتداد و الصحّة، نعم ورد فيه الرجوع الذي ربّما يتوهّم منه، الرجوع بعد الطلاق الملازم لصحّته، لكن ليس بشيء.

فانّ المراد من المراجعة فيها هو المعنى اللغوي لا مراجعة المطلّقة الرجعية، و يؤَيّد ذلك أنّ القرآن يستعمل كلمة الرد أو الامساك، فيقول: "وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ "(1).

و قال سبحانه: "اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ "(2) .و قال سبحانه: "فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ "(3) و قال تعالى: "وَ لاٰ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا "(4).

نعم استعمل كلمة الرجعة في المطلقة ثلاثاً إذا تزوّجت رجلاً آخر فطلّقها، قال سبحانه: "فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلاٰ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يَتَرٰاجَعٰا "(5).

ص: 233


1- . البقرة: الآية 228.
2- . البقرة: الآية 229.
3- . البقرة: الآية 231.
4- . البقرة: الآية 231.
5- . البقرة: الآية 230.

بقي الكلام في النصوص الدالة على الاحتساب أعني الصورة الثانية، فيلاحظ عليها بأُمور:

1 مخالفتها للكتاب، و ما دلّ على عدم الاحتساب.

2 أنّ غالب روايات الاحتساب لا تنسبه إلى النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و إنّما إلى رأي ابن عمر و قناعته، فلو كان النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - قد أمر باحتسابها، لكان المفروض أن يستند ابن عمر إلى ذلك في جواب السائل، فعدم استناده إلى حكم النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - دليل على عدم صدور ما يدل على الاحتساب من النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - نفسه، فتكون هذه النصوص موافقة للنصوص التي لم تتعرّض للاحتساب، لاَنّها كلّها تتّفق في عدم حكم النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - باحتساب التطليقة، غايته اشتمل بعضها على نسبة الاحتساب إلى ابن عمر نفسه، و هو ليس حجّة لاثبات الحكم الشرعي.

نعم روايتا نافع رويتا بصيغتين، نسب الحكم بالاحتساب في احدى الصيغتين إلى النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - نفسه (الرواية 8 من القسم الثاني)، بينما رويت الثانية بصيغة أُخرى تضمّنت النسبة إلى ابن عمر بعدم الاحتساب (الرواية 3 من القسم الاَوّل).

و أمّا رواية أنس فرويت بصيغتين تدلاّن أنّ الحكم بالاحتساب هو قناعة ابن عمر نفسه لا قول النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - (الرواية 4 و 6 من القسم الثاني) و بصيغة ثالثة نسبت الاحتساب إلى النبيّ (الرواية 5 من القسم الثاني) و مع هذا الاضطراب لا تصلح الرواية لاثبات نسبة الحكم بالاحتساب إلى النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» نفسه.

3 أنّ فرض صحّة التطليقة المذكورة لا يجتمع مع أمر النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» بارجاعها و تطليقها في الطهر هذه، لاَنّ القائلين بصحّة الطلاق في الحيض لا يصحّحون

ص: 234

اجراء الطلاق الثاني في الطهر الذي بعده، بل يشترطون بتوسّط الحيض بين الطهرين و اجراء الطلاق في الطهر الثاني. فالاَمر من النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - بارجاعها و تطليقها في الطهر الثاني ينافي احتساب تلك تطليقة صحيحة.

4 اشتهر في كتب التاريخ أنّ عمر كان يعيّر ولده بالعجز عن الطلاق، و ظاهره يوحي بأنّ ما فعله لم يكن طلاقاً شرعاً.

و بعد ملاحظة كل ما قدّمناه يتّضح عدم ثبوت نسبة الاحتساب إلى النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - و الذي يبدو أنّ النص على فرض صدوره لم يتضمّن احتساب التطليقة من قبل النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - و انّما هي اضافات أو توهّمات بسبب قناعة ابن عمر أو بعض من هم في سلسلة الحديث، و لذلك اضطربت الصيغ في نقل الحادثة.

و أمّا رواية نافع المذكورة فيلاحظ عليها أنّها لا تدلّ على صحّة التطليقة الاولى إلاّ بادّعاء ظهور «الرجوع» في صحّة الطلاق و قد علمت ما فيه، و أمّا أمره بالطلاق في الطهر الثاني بعد توسّط الحيض بين الطهرين حيث قال: «مره فليراجعها، فليمسك حتى تطهر ثمّ تحيض ثمّ تطهر. إن شاء أمسكها و إن شاء طلّق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمره أن يطلّق لها النساء» فلعلّ أمره بمضي طهرٍ و حيض، لاَجل مؤَاخذة الرجل حيث تسرّع في الطلاق و جعله في غير موضعه فأُرغم عليه أن يصبر طهراً و حيضاً، فإذا استقبل طهراً ثانياً فليطلّق أو يمسك.

و بعد كل هذا يمكننا ترجيح الحكم ببطلان الطلاق في الحيض، لاضطراب النقل عن ابن عمر، خصوصاً مع ملاحظة الكتاب العزيز الدال على وقوع الطلاق في العدة.

ص: 235

ص: 236

المسألة الحادية عشرة: الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

اتّفقت المذاهب الخمسة على أنّ الوصية التبرّعيّة تنفذ في مقدار الثلث فقط، مع وجود الوارث سواء صدرت في المرض أم في الصحّة، و ما زاد عن الثلث يفتقر إلى اجازة الورثة. و إن كان الاَفضل في بعض المذاهب أن لا يستوعب الثلث بالوصية(1).

و أمّا في مقدار الثلث فتنفّذ وصيته عند الاِمامية في الاَقرب و الاَجنبي، و من غير فرق في الاَقرب، بين الوارث و غيره. و أمّا المذاهب الاَربعة فأجازت الوصية للاَقرب بشرط أن لا يكون وارثاً، و أمّا الوارث فلا تجوز الوصية له سواء كان بمقدار الثلث أم أقل أم أكثر، إلاّ بإجازة الورثة.

قال السيد المرتضى: و ممّا ظنّ انفراد الاِمامية به، ما ذهبوا إليه من أنّ الوصية للوارث جائزة، و ليس للوارث (غير الموصى له) ردّها. و قد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء(2) و إن كان الجمهور و الغالب، على خلافه(3).

ص: 237


1- . ابن قدامة: المغني: 6/78.
2- . سيوافيك التصريح به من صاحب المنار أيضاً.
3- . السيد المرتضى: الانتصار: 308.

و قال الشيخ الطوسي: تصحّ الوصية للوارث مثل الابن و الاَبوين. و خالف جميع الفقهاء في ذلك و قالوا: لا وصية للوارث(1).

و قال الخرقي في متن المغني: «و لا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة ذلك». و قال ابن قدامة في شرحه: إنّ الاِنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة، لم تصح، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر و ابن عبد البرّ: أجمع أهل العلم على هذا، و جاءت الاَخبار عن رسول اللّه بذلك فروى أبو أُمامة قال: سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يقول: «إنّ اللّه قد أعطى كل ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث» رواه أبو داود و ابن ماجة و الترمذي، و لاَنّ النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» منع من عطية بعض ولده و تفضيل بعضهم على بعض في حال الصحّة و قوّة الملك و امكان تلافي العدل بينهم باعطاء الذي لم يعطه فيما بعد ذلك، لما فيه من ايقاع العداوة و الحسد بينهم، ففي حال موته أو مرضه و ضعف ملكه و تعلّق الحقوق به و تعذّر تلافي العدل بينهم أولى و أحرى، و إن أجازها جازت في قول الجمهور من العلماء(2).

و مع أنّ الكتب الفقهية للمذاهب الاَربعة تنفي جواز الوصية للوارث، إلاّ إذا أجاز الورثة، حتى أنّ بعضهم يقول بأنّ الوصية باطلة و إن أجازها سائر الورثة إلاّ أن يعطوه عطية مبتدأة(3) و مع هذا التصريح ينقل الشيخ محمد جواد مغنية: كان عمل المحاكم في مصر على المذاهب الاَربعة، ثمّ عدلت عنها إلى مذهب الاِمامية، و ما زال عمل المحاكم الشرعية السنّية في لبنان على عدم صحّة

ص: 238


1- . الطوسي: الخلاف: 2 كتاب الوصية 1.
2- . المغني: 806/79.
3- . المصدر نفسه.

الوصية للوارث، و منذ سنوات قدّم قضاتها مشروعاً إلى الحكومة يجيز الوصية للوارث و رغبوا إليها في تبنّيه(1).

يلاحظ على ما ذكره ابن قدامة من الحكمة: أنّها لا تقاوم الذكر الحكيم، و اتّفاق أئمّة أهل البيت، و لو صحّت لزم تحريم تفضيل بعضهم على بعض في الحياة في البر و الاحسان، لاَنّ ذلك يدعو إلى الحسد و البغضاء مع أنّه لا خلاف في جوازه، و ما نقل عن النبي من النهي، فهو محمول على التنزيه لا التحريم إذ لم يقل أحد بحرمة التفضيل في الحياة. و العجب استدلال من ينكر التحسين و التقبيح العقليين، بهذه الحكم و المصالح التي لا يدركها إلاّ العقل، مع أنّه بمعزلٍ عندهم عن إدراكهما عند أصحاب المذاهب الاَربعة، و سيوافيك الكلام فيما تصور من الحكمة.

و الاَولى عرض المسألة على الكتاب و السنّة، أمّا الكتاب فيكفي في جواز الوصية قوله سبحانه: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ " (البقرة/ 180).

المراد من حضور الموت: ظهور أماراته من المرض و الهرم و غيره، و لم يرد إذا عاين ملك الموت، لاَنّ تلك الحالة تشغل الاِنسان عن الوصيّة، و أيضاً يجب أن يراعى جانب المعروف في مقدار الوصية و الموصى له، فمن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف، كما أنّ الايصاء للغني دون الفقير خارج عن المعروف، فانّ المعروف هو العدل الذي لا ينكر، و لا حيف فيه و لا جور.

و الآية صريحة في الوصية للوالدين، و لا وارث أقرب للاِنسان من والديه، و قد

ص: 239


1- . الفقه على المذاهب الخمسة: 465.

خصّهما بالذكر لاَولويتهما بالوصية ثمّ عمّم الموضوع و قال: "وَ اَلْأَقْرَبِينَ " ليعمّ كل قريب، وارثاً كان أم لا.

و هذا صريح الكتاب و لا يصح رفع اليد عنه إلاّ بدليل قاطع مثله، و قد أجاب القائلون بعدم الجواز عن الاستدلال بالآية بوجهين:

1 آية الوصية منسوخة بآية المواريث:

قالوا: إنّها منسوخة بآية المواريث، فعن ابن عباس و الحسن: نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة النساء(1) و تثبت للاَقربين الذين لا يرثون، و هو مذهب الشافعي و أكثر المالكيين، و جماعة من أهل العلم.

و منهم من يأبى عن كونها منسوخة، و قال: بأنّها محكمة ظاهرها العموم و معناها الخصوص في الوالدين اللَّذين لا يرثان كالكافرين و العبدين، و في القرابة غير الورثة(2).

و مرجع الوجه الاَوّل: إلى النسخ في الوالدين و أنّه لا يوصى لهما وارثين كانا أو ممنوعين، و التخصيص في الاَقربين فيصح الايصاء لهم إذا لم يكونوا وارثين.

و مرجع الوجه الثاني: إلى التخصيص في كلا الموردين.

و قال الجصاص في تفسير الآية: نسختها آية الفرائض.

1 قال ابن جريج عن مجاهد: كان الميراث للولد و الوصية للوالدين و الاَقربين. فهي منسوخة(3).

ص: 240


1- . (و لأَبويه لكل واحد منهما السدس ممّا ترك إن كان له ولد...) النساء: الآية 12.
2- . القرطبي: الجامع لاَحكام القرآن: 2632/262.
3- . رواه الدارمي في سننه، مرسلاً عن قتادة: السنن: 2/419.

2 و قالت طائفة أُخرى: قد كانت الوصية واجبة للوالدين و الاَقربين فنسخت عمّن يرث، و جعلت للوالدين و الاَقربين الذين لا يرثون(1).

و على الوجه الاَوّل فآية الوصية منسوخة بالمعنى الحقيقي، و على الثاني مخصّصة حيث أخرج الوارث منهما و أبقى غير الوارث، لكن لازم كون الوصية واجبة و بقاء الاَقربين تحت العموم، وجوب الوصية لغير الوارث منهما. و هو كما ترى.

ترى نظير هذه الكلمات في كتب التفسير و الفقه لاَهل السنّة و نحن نعلّق عليها بوجهين:

الاَوّل: إنّ السابر في كتب القوم يقف على أنّ الذي حملهم على ادّعاء النسخ و التخصيص في الآية هو رواية أبي أُمامة أو عمر بن خارجة و أنّه سمع رسول اللّه يقول في خطبته عام حجة الوداع: ألا أنّ اللّه قد أعطى كل ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث(2) و لو لا هذه الرواية لما خطر في بال أحدٍ بأنّ آية المواريث ناسخة لآية الوصية، إذ لا تنافي بينهما قيد شعرة حتى تكون إحداهما ناسخة أو مخصّصة، حيث لا منافاة أن يكتب سبحانه على الاِنسان فرضاً أو ندباً أن يوصي للوالدين و الاَقربين بشيء، لا يتجاوز الثلث، و في الوقت نفسه يُورِّث الوالدين و الاَقربين على النظام المعروف في الفقه.

و الذي يوضح ذلك: هو أنّ الميراث، في طول الوصيّة، و لا يصح للمتأخّر أن يعارض المتقدّم، و أنّ الورّاث يرثون بعد إخراج الدين و الوصية، قال سبحانه: "مِنْ

ص: 241


1- . الجصاص: أحكام القرآن: 1/164.
2- . سيوافيك نصّه و سنده.

بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ "(1) و في موردين آخرين: "مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصىٰ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ "(2) فلا موضوع للنسخ و لا للتخصيص.

و قد تفطّن القرطبي لبعض ما ذكرنا و قال: و لو لا هذا الحديث لاَمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورِّث بالوصية، و بالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن منع من ذلك هذا الحديث و الاجماع(3).

أقول: أمّا الاجماع، فغير متحقّق، و كيف يكون كذلك مع أنّ أئمة أهل البيت كما سيوافيك اتّفقوا على جوازه و كذلك فقهاء الاِمامية طوال القرون و هم ثلث المسلمين، و بعض السلف كما يحدّث عنه صاحب المنار، و أمّا الحديث فسيوافيك ضعفه، و أنّه على فرض الصحّة سنداً، قابل للتأويل و الحمل على ما زاد الايصاء عن الثلث.

الثاني: إنّ ادّعاء النسخ أو التخصيص في الآية، بآية المواريث، متوقّف على تأخّر الثانية عن الأولى و أنّى للقائل بهما اثباته، بل لسان آية الوصية بما فيها من التأكيد لاَجل الاِتيان بلفظ "كُتِبَ " و توصيفه بكونه حقّاً على المؤمنين يأبى عن كونه حكماً موَقتاً لا يدوم إلاّ شهراً أو شهور.

قال الاِمام عبده: إنّه لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا فانّ السياق ينافي النسخ، فانّ اللّه تعالى إذا شرّع للناس حكماً و علم أنّه موَقت و أنّه سينسخه بعد زمن قريب فانّه لا يؤكّده و لا يوثقه بمثل ما أكّد به أمر الوصية هنا

ص: 242


1- . النساء: الآية 11.
2- . النساء: الآية 12.
3- . القرطبي: الجامع لاَحكام القرآن: 1/263.

من كونه حقّاً على المتّقين و من وعيدٍ لمن بدّله.

ثمّ قال: «و بامكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا أنّ الوصيّة في آية المواريث مخصوصة بغير الوارث بأن يخصّ القريب هنا بالممنوع من الارث و لو بسبب اختلاف الدين، فإذا أسلم الكافر و حضرته الوفاة و والداه كافران، فله أن يوصي لهما بما يؤلّف به قلوبهما»(1).

و لا يخفى ما في صدر كلامه من الاتقان لو لا ما تنازل في آخره و حاول الجمع بين الآيتين بتخصيص جواز الوصية لمن لا يرثان من الوالدين لسبب كالقتل و الكفر و السرقة، إذ لقائل أن يسأل الاِمام أنّه إذا كان المراد من الوالدين و الاَقربين في آية الوصية هم الممنوعين من الوراثة، فما معنى هذا التأكيد و العناية البارزة في الآية مع ندرة المصداق أو قلته بالنسبة إلى غير الممنوعين، أ وَ ليس هذا أشبه بالتخصيص المستهجن فلا محيص عن القول بعموم الآية، لكل والد و والدة و أقرب، ممنوعين كانوا أم غيره.

و أمّا ما يثيرون حول الايصاء للوالدين من كونه سبباً لظهور العداء، فقد مرّ جوابه في صدر البحث و هنا نزيد ما ذكره ذلك الاِمام بقوله:

و جوّز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخصّ بها من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنياً و البعض الآخر فقيراً. مثال ذلك أن يطلّق أبوه أُمّه و هو غنيّ ، و لا عائل لها إلاّ ولدها، و يرى أنّ ما يصيبها من التركة لا يكفيها، و مثله أن يكون بعض ولده أو إخوته إن لم يكن له ولد عاجزاً عن الكسب فنحن نرى أنّ الحكيم الخبير اللطيف بعباده، الذي وضع الشريعة و الاَحكام لمصلحة خلقه،

ص: 243


1- . المنار: 1372/136.

لا يحكم أن يساوي الغني الفقير. و القادر على الكسب من يعجز عنه، فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنّهم سواسية في الحاجة كما أنّهم سواء في القرابة، فلا غرو أن يجعل أمر الوصيّة مقدّماً على أمر الارث... و يجعل الوالدين و الاَقربين في آية أُخرى أولى بالوصيّة لهم من غيرهم لعلمه سبحانه و تعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحياناً، فقد قال في آيات الارث في سورة النساء: "مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ " فأطلق أمر الوصية و قال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك.

لقد بان الحق ممّا ذكرنا و انّ الذكر الحكيم أعطى للانسان حقّ الايصاء للوالدين لمصالح هو أعرف بها، على حدّ لا يتجاوز الثلث، و ليكون ايصاؤه أيضاً على حدّ المعروف.

و يؤَيده اطلاق قوله سبحانه في ذيل آية المواريث قال سبحانه: "وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهٰاجِرِينَ إِلاّٰ أَنْ تَفْعَلُوا إِلىٰ أَوْلِيٰائِكُمْ مَعْرُوفاً كٰانَ ذٰلِكَ فِي اَلْكِتٰابِ مَسْطُوراً " (الاَحزاب/ 7). و يريد من الذيل الاحسان في الحياة و الوصية عند الموت فانّه جائز(1) و اطلاقه يعم الوارث و غيره.

و اللّه سبحانه هو العالم بمصالح العباد، فتارة يخصّ بعض الورّاث ببعض التركة عن طريق تنفيذ الوصية ما لم تتجاوز الثلث، و أُخرى يوصي لغير الوارث

ص: 244


1- . الجامع لاَحكام القرآن: 14/126.

بشيء منها، يقول سبحانه: "وَ إِذٰا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً " (النساء/ 8).

و المراد من ذوي القربى الاَخ للميت الشقيق و هو لا يرث، و كذلك العم و الخال و العمّة و الخالة و يعدّون من ذوي القربى للوارث، الذي لا يرثون معه و قد يسري إلى نفوسهم الحسد فينبغي التودّد إليهم، و استمالتهم باعطائهم شيئاً من ذلك الموروث، بحسب ما يليق بهم و لو بصفة الهبة أو الهدية...(1).

2 آية الوصية منسوخة بالسنّة:

قد عرفت مدى صحّة نسخ الآية بآية المواريث فهلمّ معي ندرس منسوخية الآية بالسنّة التي رواها أصحاب السنن و لم يروها الشيخان: البخاري و مسلم في صحيحيهما، و إليك ما نقل سنداً أو متناً.

روى الترمذي في باب ما جاء لا وصية لوارث:

1 حدثنا علي بن حجر و هنّاد قالا: حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أُمامة الباهلي قال: سمعت رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» يقول في خطبته عام حجة الوداع: إنّ اللّه قد أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث، الولد للفراش و للعاهر الحجر...

2 حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة: أنّ النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - خطب على ناقته و أنا تحت

ص: 245


1- . المنار: 4/396.

جِرانها و هي تقصع بجرّتها(1) و إنّ لعابها يسيل بين كتفي فسمعته يقول: إنّ اللّه أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، و لا وصية لوارث و الولد للفراش و للعاهر الحجر...(2).

و في الاسناد: من لا يحتجّ به.

1 إسماعيل بن عياش:

قال الخطيب: عن يحيى بن معين يقول: أمّا روايته عن أهل الحجاز فإنّ كتابه ضاع، فخلط في حفظه عنهم.

و قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني: كان يوثق فيما روى عن أصحابه أهل الشام فأمّا ما روى عن غير أهل الشام ففيه ضعف.

و قال عمر بن علي: كان عبد الرحمن بن المهدي: لا يحدّث عن إسماعيل بن عياش(3).

و قال ابن منظور: و قال مضر بن محمد الاَسدي، عن يحيى: إذا حدّث عن الشاميين و ذكر الخبر فحديثه مستقيم، فإذا حدّث عن الحجازيين و العراقيين خلط ما شاء(4).

و قال الحافظ جمال الدين المزّي: قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل: سئل أبي عن إسماعيل بن عياش فقال: نظرت في كتابه عن يحيى بن سعيد أحاديث

ص: 246


1- . «الجران»: هو من العنق ما بين المذبح إلى المنحر. و «تقصع بجرّتها»: أراد شدة المضغ و ضمّ بعض الاَسنان على بعض، و قيل: قصع الجرّة: خروجها من الجوف إلى الشدق. النهاية.
2- . الترمذي: السنن: 4/433، باب ما جاء لا وصية لوارث، الحديث 21212120.
3- . الخطيب: تاريخ بغداد: 2276/226.
4- . ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق: 4/376.

صحاح، و في «المصنف» أحاديث مضطربة.

و قال عثمان بن سعيد الدارمي عن دحيم: إسماعيل بن عياش في الشاميين غاية، و خلط عن المدنيين.

و قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت وكيعاً يقول: قدم علينا إسماعيل بن عياش فأخذ من أطراف لإسماعيل بن أبي خالد، فرأيته يخلط في أخذه.

و قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: ما أشبه حديثه بثياب سابور يُرقّم على الثوب المائة، و أقل شرائه دون عشرة. قال: كان من أروى الناس عن الكذابين. و قال أبو إسحاق الفزاري في حقّه: ذاك رجل لا يدري ما يخرج من رأسه(1).

و نقل الترمذي بعد ذكر الحديث عن أبي إسحاق الفزاري: و لا تأخذوا عن إسماعيل بن عياش ما حدّث عن الثقات و لا عن غير الثقات.

2 شرحبيل بن مسلم الخولاني الشامي:

قال ابن معين: ضعيف و اختُتِنَ في ولاية عبد الملك بن مروان(2) و وثّقه الآخرون.

3 شهر بن حوشب:

تابعي توفّي حدود عام 100.

قال النسائي: ليس بالقوي(3).

ص: 247


1- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 1783/175.
2- . الترمذي: السنن: 4/433، الحديث 220.
3- . النسائي: الضعفاء و المتروكين: 134 برقم 310.

و قال يحيى بن أبي بكر الكرماني عن أبيه: كان شهر بن حوشب على بيت المال فأخذ خريطة فيها دراهم فقال القائل:

لقد باع شهر دينه بخريطة *** فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهرُ(1)

و قال جمال الدين المزّي: قال شبابة بن سوّار عن شعبة: و لقد لقيت شهراً فلم أعتد به. و قال عمرو بن علي: كان يحيى لا يُحدِّث عن شهر بن حوشب. و قال أيضاً: سألت ابن عون عن حديث هلال بن أبي زينب عن شهر... فقال: ما يُصنع بشهر إنَّ شعبة نزك شهراً. فقال النضر: نزكوه. أي طعنوا فيه.

و قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: أحاديثه لا تشبه حديث الناس. و قال موسى بن هارون: ضعيف. و قال علي بن المديني: كان يحيى بن سعيد لا يحدّث عن شهر، و قال يعقوب بن شيبة:... على أنّ بعضهم قد طعن فيه(2).

3 روى أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا ابن عياش، عن شرحبيل بن مسلم: سمعت أبا أُمامة: سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يقول: «إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث»(3).

و الاسناد مشتمل على إسماعيل بن عياش و شرحبيل بن مسلم و قد عرفت حالهما. فلاحظ.

4 روى النسائي: أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا أبو عوانة عن قتادة

ص: 248


1- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 4/286، برقم 570.
2- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 12/581.
3- . أبو داود: السنن: 3/114، باب ما جاء في الوصية للوارث، برقم 2870.

عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة قال: خطب رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - فقال: إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، و لا وصية لوارث.

5 أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدّثنا خالد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدّثنا قتادة عن شهر بن حوشب، أنّ ابن غنم ذكر أنّ ابن خارجة ذكر له أنّه شهد رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يخطب الناس على راحلته، و إنّها لتقصع بجرّتها و إنّ لعابها ليسيل. فقال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - في خطبته: إنّ اللّه قد قسّم لكل إنسان قسمة من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية.

فالاِسنادان اشتملا على شهر بن حوشب، و قد تعرّفت عليه.

6 أخبرنا عتبة بن عبد اللّه المروزي قال: أنبأنا عبد اللّه بن المبارك، قال: أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قتادة عن عمرو بن خارجة قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: «إنّ اللّه عزّ اسمه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، و لا وصيّة لوارث»(1).

و قد اشتمل الاِسناد على قتادة بن دعامة بن قتادة: أبو الخطاب البصري (11761 ه) الذي ورد في حقّه عن حنظلة بن أبي سفيان: كنت أرى طاوساً إذ أتاه قتادة يسأله يفرّ منه، قال: و كان قتادة يتهم بالقَدَر.

و قال علي بن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: إنّ عبد الرحمن يقول: اترك كلّ من كان رأساً في بدعة يدعو إليها. قال: كيف تصنع بقتادة...؟ ثمّ قال يحيى: إن ترك هذا الضرب ترك ناساً كثيراً.

و قال الحاكم في علوم الحديث: لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس.

ص: 249


1- . النسائي: السنن: 6/207، كتاب الوصايا باب ابطال الوصية للوارث، الحديث بأسناده الثلاثة ينتهي إلى عمرو بن خارجة الذي قال البزار في حقّه: إنّه لا نعلم له عن النبي إلاّ هذا الحديث.

و قال أبو داود: حدّث قتادة عن ثلاثين رجلاً لم يسمع منهم(1).

7 روى ابن ماجة: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون: أنبأنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة: أنّ النبيّ خطبهم و هو على راحلته، و إنّ راحلته لتقصع بجرّتها، و إنّ لُغامَها ليسيل بين كتفيَّ ، قال: إنّ اللّه قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث، فلا يجوز لوارث وصية، و الولد للفراش...

كذلك فالاِسناد مشتمل على شهر بن حوشب.

8 حدثنا هشام بن عمّار، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني: سمعت أبا أُمامة الباهلي يقول: سمعت رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» يقول في خطبته، عام حجّة الوداع: إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث.

و في الاسناد إسماعيل بن عياش، و قد عرفت حاله.

9 حدثنا هشام بن عمّار، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، حدثنا عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، عن سعيد بن أبي سعيد، أنّه حدّثه عن أنس بن مالك قال: إنّي لتحت ناقة رسول اللّه، يسيل عليَّ لعابها فسمعته يقول: إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ألا لا وصية لوارث(2).

و في السند، من لا يحتج به:

1 عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الاَزدي أبو عتبة الشامي (المتوفى

ص: 250


1- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 8/319، جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 23/509.
2- . سنن ابن ماجة: 2/905، كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث، الاَحاديث 27142712.

عام 153).

قال الفلاس: ضعيف الحديث... روى عن أهل الكوفة أحاديث مناكير(1).

2 سعيد بن أبي سعيد، و اسمه كيسان المقبري أبو سعد المدني (المتوفى عام 125).

قال يعقوب بن شيبة: قد كان تغيّر و اختلط قبل موته يقال بأربع سنين، و قال الواقدي: اختلط قبل موته بأربع سنين، و قال ابن حبّان في الثقات: اختلط قبل موته بأربع سنين(2).

10 روى الدارقطني: نا أبو بكر النيسابوري، نا يوسف بن سعيد، نا حجاج، عن جريج، عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم»: لا تجوز الوصية لوارث إلاّ أن يشاء الورثة.

و في الاسناد عطاء بن أبي مسلم الخراساني (50 ه 135 ه).

قال الدارقطني: لم يلق ابن عباس.

و قال أبو داود: و لم يدرك ابن عباس و لم يره.

البخاري قد ذكر عطاء الخراساني في الضعفاء... و البخاري لم يخرج له شيئاً.

و قال ابن حبّان: كان رديء الحفظ يخطىَ و لا يعلم فبطل الاحتجاج به(3).

و قال البيهقي: عطاء هذا هو الخراساني لم يدرك ابن عباس و لم يره. قاله أبو

ص: 251


1- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 6/266 برقم 581.
2- . المصدر نفسه: 4/34 برقم 61.
3- . المصدر نفسه: 7/190 برقم 395.

داود السجستاني و غيره و قد روى من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس(1).

11 نا علي بن إبراهيم بن عيسى، نا أحمد بن محمد الماسرجسي، نا عمرو ابن زرارة، نا زياد بن عبد اللّه، نا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن عمرو بن خارجة قال: قال رسول اللّه: لا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة.

و لو صحّ الاسناد، فهو محمول على ما إذا زاد عن الثلث كما سيأتي نقله.

12 نا عبيد اللّه بن عبد الصمد بن المهتدي، نا محمد بن عمرو بن خالد، نا أبي، عن يونس بن راشد، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه: «لا يجوز لوارث وصية إلاّ أن يشاء الورثة»(2).

و لا أظنّ أن فقيهاً يحتجّ بحديث في سنده:

عكرمة البربري: أبو عبد اللّه المدني مولى ابن عباس: و قد عرّفه أهل الرجال بما يلي:

قال ابن لهيعة: عن أبي الاَسود: كان عكرمة قليل العقل خفيفاً، كان قد سمع الحديث من رجلين، و كان إذا سئل حدّث به عن رجل يسأل عنه بعد ذلك، فيحدّث به عن الآخر، فكانوا يقولون: ما أكذبه.

و قال يحيى بن معين: إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة لاَنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية (طائفة من الخوارج) و قال عطاء: كان إباضياً.

و قال أبو خلف الخزاز، عن يحيى البكاء: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتّق

ص: 252


1- . البيهقي: السنن الكبرى: 6/264.
2- . الدارقطني: السنن: 4/152 «الوصايا» الحديث 10 و 11.

اللّه ويحك يا نافع و لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.

و عن سعيد بن المسيب أنّه كان يقول لغلامه: لا تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس.

و عن عطاء الخراساني: قلت لسعيد بن المسيب: إنّ عكرمة يزعم أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - تزوّج ميمونة و هو محرم، فقال: كذب مخبثان.

و قال سعيد بن جبير: كذب عكرمة.

و قال وهيب بن خالد عن يحيى بن سعيد الاَنصاري: كان كذّاباً.

و كان مالك لا يرى عكرمة ثقة و يأمر أن لا يؤخذ عنه.

و قال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل:... و عكرمة مضطرب الحديث يختلف عنه.

و قال ابن عليه: ذكره أيوب فقال: قليل العقل.

و قال الحاكم: أبو أحمد احتجّ بحديثه الاَئمّة القدماء لكن بعض المتأخرين أخرج حديثه من حيز الصحاح(1).

13 نا أحمد بن كامل، نا عبيد بن كثير، نا عباد بن يعقوب، نا نوح بن دراج، عن أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول اللّه: لا وصية لوارث و لا إقرار بدين.

و في الاسناد من لا يحتجّ به أهل السنّة و هو نوح بن دراج (المتوفى عام 182)

ص: 253


1- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 7/234 رقم 476.

و الحديث نقل محرّفاً.

فقد تضافر عن جعفر بن محمد، صحّة الوصية للوارث إلاّ إذا تجاوز عن الثلث، فانّه اضرار بالورثة و يؤَيده ذيل الحديث «و لا إقرار بدين» و الاِقرار بالدين، و الايصاء فوق الثلث مظنّة الاضرار بالورثة.

14 نا أحمد بن زياد، نا عبد الرحمن بن مرزوق، نا عبد الوهاب، نا سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول اللّه بمنى فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ قد قسّم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث، فلا يجوز لوارثٍ وصية إلاّ من الثلث، قال: و نا سعيد بن مطر عن شهر، عن عمرو بن خارجة عن النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - مثله(1).

و السند مشتمل على شهر بن حوشب، و المتن يؤيد مقالة الاِمامية حيث قال: فلا يجوز له ارث إلاّ من الثلث.

15 روى الدارمي: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدستوائي، حدثنا قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة، قال: كنت تحت ناقة النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - و هي تقصع بجرّتها و لعابها و ينوص بين كتفي، سمعته يقول: ألا إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا يجوز وصية لوارث(2).

و في الاسناد شهر بن حوشب و كفى به ضعفاً.

16 روى البيهقي بأسانيد مختلفة، لا تخلو من ضعف.

ص: 254


1- . الدارقطني: السنن: 4/152 «الوصايا» الحديث 12 و 13.
2- . الدارمي: السنن: 2/419، باب الوصية للوارث.

فالاَوّل مقطوع برواية عطاء عن ابن عباس و قد عرفت عدم ادراكه له و عطاء هذا هو عطاء الخراساني.

و الثاني مشتمل على رواية: عطاء عن عكرمة عن ابن عباس، و قد عرفت حال الرجلين.

و الثالث أيضاً مثل الثاني.

و الرابع مشتمل على الربيع بن سليمان، الذي كان يوصف بغفلة شديدة، و عن الشافعي أنّه ليس بثبت و إنّما أخذ أكثر الكتب من آل البويطي بعد موت البويطي(1).

و على سفيان بن عيينة (المتوفّى عام 198) قال محمد بن عبد اللّه بن عمّار: سمعت يحيى بن سعيد يقول: اشهدوا أنّ سفيان بن عيينة اختلط سنة 97، فمن سمع في هذه السنة و بعدها، سماعه لا شيء(2).

و على مجاهد بن جبر المكّي المولود في خلافة عمر (المتوفى عام 100) فمضافاً إلى أنّ الرواية مقطوعة فقد ورد في حقّه: مجاهد معلوم التدليس فعنعنته لا تفيد الوصل(3).

و الخامس مشتمل على ابن عياش و شرحبيل بن مسلم و قد تعرّفت عليهما.

و السادس مشتمل على شهر بن حوشب.

ص: 255


1- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 3/213 برقم 473.
2- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 11/196.
3- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 10/40 برقم 68.

و السابع مشتمل على حماد بن سلمة عن قتادة، و السند إمّا مقطوع أو موصول بواسطة شهر بن حوشب بقرينة الرواية السابقة.

و الثامن مشتمل على إسماعيل بن مسلم و هو مردّد بين العبدي (أبو محمد (البصري) و المكي (أبو إسحاق البصري) الذي ضعّفه جمال الدين المزّي بقوله: قال: عمرو بن علي: كان يحيى و عبد الرحمن لا يحدّثان عن إسماعيل المكي.

و قال أبو طالب: قال أحمد بن حنبل: إسماعيل بن مسلم المكي منكر الحديث.

و قال عباس الدوري عن يحيى بن معين: إسماعيل بن مسلم المكي ليس بشيء. و كذلك قال عثمان بن سعيد الدارمي و أبو يعلى الموصلي عن يحيى.

و عن علي بن المديني: إسماعيل بن مسلم المكي لا يكتب حديثه... و كان ضعيفاً في الحديث... يكثر الخلط.

و قال أبو زرعة: هو بصري سكن مكة، ضعيف الحديث.

و قال النسائي:... متروك الحديث. و قال في موضع آخر: ليس بثقة(1).

و التاسع مشتمل على عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الاَزدي، و سعيد بن أبي سعيد و قد تعرّفت عليهما.

و العاشر مشتمل على سفيان بن عيينة و قد تعرّفت عليه و على طاوس بن كيسان اليماني و هو تابعي لم يدرك النبيّ و إنّما ينقل ما ينقل عن ابن عباس(2).

ص: 256


1- . جمال الدين المزّي: تهذيب الكمال: 3/198 برقم 483.
2- . البيهقي: السنن: 2656/264.

17 روى الحافظ سعيد بن منصور المكي (المتوفى 227) في سننه هذا الحديث بأسانيد مختلفة.

فالاَوّل مضافاً إلى أنّه مقطوع بمجاهد: مشتمل على سفيان بن عيينة.

و الثاني: مقطوع بعمرو بن دينار (المتوفى حدود عام 125) و مشتمل على سفيان بن عيينة.

و الثالث: مشتمل على إسماعيل بن عياش و شرحبيل بن مسلم.

و الرابع: مشتمل على شهر بن حوشب.

و الخامس: مشتمل على سفيان بن عيينة و هشام بن حجر المكي الذي ضعّفه يحيى بن معين، و عن غيره أنّه يضرب على حديثه، و عن أبي داود أنّه ضرب الحدّ بمكة(1).

18 روى الصنعاني بسند ينتهي إلى شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة، قال: سمعت رسول اللّه يقول: لا وصية لوارث(2) و قد تعرفت على حال «شهر».

ملاحظات على نسخ الآية بالسنّة:

و يلاحظ على هذه الاجابة، أي نسخ الكتاب بهذه الروايات، بوجوه:

1 الكتاب العزيز، قطعي السند، و صريح الدلالة في المقام. و ظاهر الآية

ص: 257


1- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 11/32 برقم 74.
2- . الصنعاني: عبد الرزاق بن همام (211176): المصنف: 9/70 برقم 16376.

كون الحكم أمراً أبدياً و أنّه مكتوب على المؤمنين، و هو حقّ على المتّقين، أ فيصح نسخه أو تخصيصه برواية لم يسلم سند منها عن خلل و نقاش فرواتها مخلّط، من أروى الناس عن الكذابين، لا يرى ما يخرج من رأسه، إلى ضعيف اُختُتِنَ في كبر سنِّه، إلى بائع دينه بخريطة، إلى مسند و لم ير المسند إليه، إلى محدود أُجري عليه الحد في مكة، إلى خارجيّ يُضرب به المثل، إلى، إلى، إلى(1)

و لو قلنا بجواز نسخ الكتاب فانّما نقول به إذا كان الناسخ، دلالة قرآنية أو سنّة قاطعة.

2 كيف يمكن الاعتماد على رواية، تدّعي أنّ النبي الاَكرم خطب في محتشد كبير لم ينقل لنا التاريخ له مثيلاً في حياة النبي إلاّ في وقعة الغدير، و قال: إنّه لا وصية لوارث، و لم يسمعه أحد من الصحابة إلاّ أعرابي مثل عمرو بن خارجة الذي ليس له رواية عن رسول اللّه سوى هذه(2) أو شخص آخر كأبي أُمامة الباهلي و هذا ما يورث الاطمئنان على وجود الخلل فيها سنداً أو دلالة.

3 لو سلم أنّ الحديث قابل للاحتجاج، لكنّه لا يعادل و لا يقاوم ما تواتر عن أئمّة أهل البيت من جواز الوصية للوارث. فهذا هو محمد بن مسلم أحد فقهاء القرن الثاني، من تلاميذ أبي جعفر الباقر - عليه السلام - يقول: سألت أبا جعفر عن الوصية للوارث ؟ فقال: تجوز، ثمّ تلا هذه الآية: "إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ ".

و هذا أبو بصير المرادي شيخ الشيعة في عصر الصادق - عليه السلام - يروي عنه

ص: 258


1- . لاحظ ما نقلناه عن أئمة الرجال في حق رواة الحديث و نقلته.
2- . ابن حجر: الاصابة: 2/527 و المزّي: تهذيب الكمال: 21/599 و ابن حبّان: الثقات: 3/271.

أنّه سأله عن الوصية للوارث ؟ فقال: تجوز(1).

4 أنّ التعارض فرع عدم وجود الجمع الدلالي بين نصّ الكتاب و الحديث، إذ من المحتمل جداً أنّ الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - ذكر قيداً لكلامه، و لم يسمعه الراوي أو سمعه، و غفل عن نقله، أو نقله و لم يصل إلينا و هو أنّه مثلاً قال: «و لا تجوز وصية للوارث» إذا زاد عن الثلث أو بأكثر منه، كما ورد كذلك من طرقنا، و طرق أهل السنّة. و قد عرفت: أنّ الدارقطني نقله عن الرسول الاَكرم بهذا القيد(2) و قد ورد من طرقنا عن النبي الاَكرم أنّه قال في خطبة الوداع: «أيّها الناس إنّ اللّه قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، و لا تجوز وصية لوارث بأكثر من الثلث»(3).

و بعد هذه الملاحظات لا يبقى أيّ وثوق للرواية بالصورة الموجودة في كتب السنن.

أضف إلى ذلك: أنّ الاِسلام دين الفطرة، و رسالته خاتمة الرسالات فكيف يصحّ أن يسد باب الاِيصاء للوارث، مع أنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى الايصاء للوارث، بعيداً عن الجور و الحيف، من دون أن يثير عداء الباقين و حسد الآخرين كما إذا كان طفلاً، أو مريضاً، أو معوّقاً أو طالب علم، لا يتسنّى له التحصيل إلاّ بعون آخرين.

كل ذلك يدعو فقهاء المذاهب في الاَمصار، إلى دراسة المسألة من الاَصل عسى أن يتبدّل المختلف إلى المؤتلف و الخلاف إلى الوفاق بفضله و كرمه سبحانه.

ص: 259


1- . وسائل الشيعة: 13، الباب 15 من أبواب أحكام الوصايا الحديث، و فيه ثلاثة عشر حديثاً تصرِّح على جواز الوصية للوارث.
2- . لاحظ الرقم 14 ممّا سلف و فيه: فلا يجوز لوارث وصية إلاّ من الثلث.
3- . الحسن بن علي بن شعبة (من محدّثي القرن الرابع) تحف العقول: 34.

ص: 260

المسألة الثانية عشرة: إرث المسلم من الكافر

لا خلاف بين المسلمين أنّ الكافر لا يرث المسلم، و إنّما الخلاف في أنّ المسلم يرث الكافر أو لا، فأئمّة أهل البيت على الاَوّل، قائلين بأنّ الاِسلام لا يزيد إلاّ عزّاً، لا بؤساً و شقاء، فلا وجه معقول لمنع المسلم عن ارث ما ترك آباؤه أو أبناؤه، نعم الكفر يزيد بؤساً و شقاءً و حرماناً، فلا يرث الكافر المسلم لكرامة المورّث و دناءة الوارث إلاّ إذا أسلم.

و قد تضافرت رواياتهم على الارث، إذا كان الوارث مسلماً سواء كان المورّث مسلماً أو كافراً.

و أمّا الصحابة فقد ذهب كثير منهم إلى هذا القول و هو مروي عن علي عليه السلام و معاذ بن جبل و معاوية بن أبي سفيان و من التابعين مسروق و سعيد و عبد اللّه بن معقل، و محمد بن الحنفية، و محمد بن علي الباقر - عليهم السلام - و إسحاق ابن راهويه.

و قال الشافعي: لا يرث المسلم الكافر، و حكوا ذلك عن علي عليه السلام و عمر، و عبد اللّه بن مسعود، و عبد اللّه بن عباس، و زيد بن ثابت و الفقهاء

ص: 261

كلّهم(1).

و قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أنّ الكافر لا يرث المسلم. و قال جمهور الصحابة و الفقهاء لا يرث المسلم الكافر يُروَى هذا عن أبي بكر و عمر و عثمان و علي و أُسامة بن زيد و جابر بن عبد اللّه، و به قال عمرو بن عثمان و عروة، و الزهري و عطاء و طاووس و الحسن، و عمر بن عبد العزيز و عمرو بن دينار، و الثوري و أبو حنيفة و أصحابه و مالك و الشافعي و عامة الفقهاء و عليه العمل.

و روي عن عمر و معاذ و معاوية، أنّهم ورّثوا المسلم من الكافر، و لم يورّثوا الكافر من المسلم، و حكي ذلك عن محمد بن الحنفية، و علي بن الحسين، و سعيد ابن المسيب، و مسروق، و عبد اللّه بن معقل، و الشعبي، و النخعي، و يحيى بن يعمر، و إسحاق و ليس بموثوق به عنهم، فإنّ أحمد قال: ليس بين الناس اختلاف في أنّ المسلم لا يرث الكافر(2).

دليلنا: اطلاقات الكتاب و عموماته مثل قوله سبحانه: "يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ " و قوله سبحانه: "وَ لَكُمْ نِصْفُ مٰا تَرَكَ أَزْوٰاجُكُمْ " و قوله تعالى: "لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ اَلْوٰالِدٰانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ " فإنّها تعمّ ما إذا كان المورِّث كافراً و الوارث مسلماً و أمّا عكس المسألة فقد خرج بالدليل.

أضف إلى ذلك، ما تضافر من الروايات عن أئمّة أهل البيت الصريحة في التوريث.

منها: صحيحة أبي ولاّد قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: المسلم يرث امرأته

ص: 262


1- . الطوسي: الخلاف 2 /كتاب الفرائض المسألة 16.
2- . ابن قدامة: المغني: 6/340.

الذميّة، و هي لا ترثه(1).

منها موثقة سماعة: عن أبي عبد اللّه قال: سألته عن المسلم هل يرث المشرك ؟ قال: نعم فأمّا المشرك فلا يرث المسلم(2).

و قد علّل في بعض الروايات حكم التوريث بقولهم «نحن نرثهم و لا يرثونا إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يزدنا بالاِسلام إلاّ عزّا(3) و في رواية أُخرى قال أبو عبد اللّه: نرثهم و لا يرثونا إنّ الاِسلام لم يزده في ميراثه إلاّ شدّة(4).

و قد فهم معاذ بن جبل من قول النبي: «الاِسلام يزيد و لا ينقص» حكم المسألة فورث المسلم، من أخيه اليهودي(5).

نعم استدلّ المخالف بأُمور:

1 رواية أُسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - أنّه قال: لا يرث الكافر المسلم، و لا المسلم الكافر. و قال ابن قدامة: متّفق عليه (6).

يلاحظ عليه: أنّها رواية واحدة لا تقابل اطلاق الكتاب و عمومه، و قد قلنا في البحوث الأصولية أنّه لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، و إنّ منزلة الكتاب أرقى من أن يخصّص بالظن و قد قال به أيضاً المحقّق الحلّي في المعارج.

2 روي عن عمر أنّه قال: لا نرث أهل الملل و لا يرثوننا (7) لكنّه خبر موقوف لم يسنده إلى النبي فهو كسائر موقوفات الصحابة ليس حجّة كما حقّقناه

ص: 263


1- . الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الاِرث ح 1 و 5، و لاحظ ح 6 و 7 و 8 و 14 و 17 و 19 من ذلك الباب.
2- . الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الاِرث ح 1 و 5، و لاحظ ح 6 و 7 و 8 و 14 و 17 و 19 من ذلك الباب.
3- . لاحظ الرواية 6 و 17 و 8 من ذلك الباب.
4- . لاحظ الرواية 6 و 17 و 8 من ذلك الباب.
5- . لاحظ الرواية 6 و 17 و 8 من ذلك الباب. (6) ابن قدامة: المغني: 6/341. (7) ابن قدامة: المغني: 6/341.

في «أُصول الحديث و أحكامه».

3 ما رواه الفريقان عن النبي الاَكرم أنّه قال: «لا يتوارث أهل ملّتين» لكنّه غير دال على المدّعى إذ الحديث بصدد نفي التوارث، حتى يتوارث كل من الآخر، بل لا يرث الكافر من المسلم، و يرث المسلم من الكافر.

و قد تضافرت الروايات عن أهل البيت - عليهم السلام - على هذا التفسير، روى عبد الرحمن بن أعين عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: لا يتوارث أهل ملّتين نحن نرثهم و لا يرثونا إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يزدنا بالاِسلام إلاّ عزّا(1).

و في صحيحة جميل و هشام، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - أنّه قال: فيما روى الناس عن النبي أنّه قال: «لا يتوارث أهل ملّتين»، قال: نرثهم و لا يرثونا إنّ الاِسلام لم يزده في حقّه إلاّ شدّة(2).

و روى أبو العباس، قال: سمعت أبا عبد اللّه - عليه السلام - يقول: لا يتوارث أهل ملّتين يرث هذا هذا، و يرث هذا هذا إلاّ أنّ المسلم يرث الكافر، و الكافر لا يرث المسلم(3) إلى غير ذلك من الروايات المفسّرة للنبوي و الرادّة على فتوى الفقهاء المشهورة في عصرهم - عليهم السلام -.

و بذلك تظهر حال مسائل أُخرى مذكورة في الفرائض.

ص: 264


1- . الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الاِرث ح 6 و 14 و 15.
2- . الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الاِرث ح 6 و 14 و 15.
3- . الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الاِرث ح 6 و 14 و 15.

المسألة الثالثة عشرة: التوريث بالعصبة

اشارة

اتّفقت الاِمامية على أنّ ما فضُلَ عن السهام يردُّ على أصحاب السهام بخلاف سائر الفقهاء.

و لأجل إيضاح محل الخلاف بين الإمامية و سائر الفقهاء نذكر أُموراً:

الأوّل: إذا بقي من سهام التركة شيء بعد إخراج الفريضة فله صور:

الصورة الأولى: إنّ الميّتَ إذا لم يخلُف وارثاً إلاّ ذوي فروض و لا يستوعب المال كالبنات و ليس معهنّ أحد، أو الاَخوات كذلك، فإنّ الفاضل عن ذوي الفروض يرد عليهم على قدر فروضهم إلاّ الزوج و الزوجة(1).

الصورة الثانية: أن يكون بين أصحاب الفروض مساوٍ لا فرض له، و بعبارة أُخرى أن يجتمع من لا فرض له مع أصحاب الفرض، ففيها يرد الفاضل، على المساوي الذي ليس له سهم خاص في الكتاب و إليك بعض الاَمثلة:

1 إذا ماتت عن أبوين و زوج.

2 إذا مات عن أبوين و زوجة.

ص: 265


1- . المغني: 6/256 و نقل عن ابن سراقة أنّه قال: أنّ عليه العمل اليوم في الاَمصار.

فالزوج في الاَوّل، و الزوجة في الثاني، و الأُم في كليهما من أصحاب الفروض دون الاَب فما فضل بعد أخذهم، فهو لمن لا فرض له، أي الاَب، فللزوج و الزوجة نصيبهما الاَعلى و للأم الثلث، و الباقي للاَب لاَنّه لا فرض له، نعم الاَب من أصحاب الفروض إذا كان للميّت ولد قال سبحانه: "وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّٰا تَرَكَ إِنْ كٰانَ لَهُ وَلَدٌ " (النساء/ 11) بخلاف الاُمّ فهي مطلقاً من ذوات الفروض.

قال الخرقي في متن المغني: «و إذا كان زوج و أبوان، أُعطي الزوج النصف و الام ثلث ما بقي، و ما بقي فللأَب، و إذا كانت زوجة أُعطيت الزوجة الربع، و الأمّ ثلث ما بقي، و ما بقي للاَب.

قال ابن قدامة: هاتان المسألتان تسمّيان العمريتين لاَنّ عمر رضى اللّه عنه قضى فيهما بهذا القضاء، فتبعه على ذلك عثمان و زيد بن ثابت و ابن مسعود، و روي ذلك عن علي، و به قال الحسن و الثوري و مالك و الشافعي رضي اللّه عنهم و أصحاب الرأي، و جعل ابن عباس ثلث المال كلّه للأمّ في المسألتين، و يروى ذلك عن علي»(1).

3 ذلك الفرض و لكن كان للأمّ حاجب، فللزوج و الزوجة نصيبهما الاَعلى و للأمّ السدس، و الكل من أصحاب الفرض، و الباقي للاَب الذي لا فرض له.

ص: 266


1- . المغني: 2376/236. و هذا و نظائره الكثيرة في الفرائض يعرب عن عدم وجود نظام محدّد في الفرائض في متناول الصحابة، و معانّهم يروون عن النبي أنّ أعلم الصحابة بالفرائض هو زيد بن ثابت و انّه - صلى الله عليه و آله و سلم - قال: «أفرضهم زيد، و أقرأهم أُبيّ ». لكنّه تبع قضاء عمر و لم يكن عنده شيء في المسألة التي يكثر الابتلاء بها.

4 إذا مات عن أبوين و ابن و زوج أو زوجة، فلهما نصيبهما الاَدنى لاَجل الولد و للوالدين السدسان و الباقي للابن الذي لا فرض له.

5 إذا مات عن زوج أو زوجة و إخوة من الأمّ ، و إخوة من الاَبوين أو من الاَب، فللزوج النصف أو للزوجة الربع، و للإِخوة من الأُم الثلث، و الباقي لمن لا فرض له أي الاِخوة من الاَبوين أو الذين يتقرّبون بالاَب.

ففي هذه الصورة فالزائد بعد اخراج الفرائض للمساوي في الطبقة الذي لا فرض له. و لعلّ هذه الصورة موضع اتّفاق بين الفقهاء: السنّة و الشيعة.

الصورة الثالثة: إذا لم يكن هناك قريب مساوٍ لا فرض له و زادت سهام التركة عن الفروض فهناك رأيان مختلفان بين الفقهاء: الشيعة و السنّة.

1 الشيعة كلّهم على أنّ الزائد يرد إلى أصحاب الفرائض عدا الزوج و الزوجة(1) بنسبة سهامهم، فإذا مات عن أبوين و بنت و ليس في طبقتهم من ينتمي إلى الميّت بلا واسطة سواهم، يرد الفاضل أي السدس عليهم بنسبة سهامهم، فيرد السدس عليهم أخماساً فللأَبوين: الخمسان من السدس، و للبنت ثلاثة أخماس منه، و لا تخرج التركة عن هذه الطبقة أبداً.

2 أهل السنّة يرون أنّه يرد إلى أقرباء الميّت من جانب الاَب و الابن و هم العصبة.

ص: 267


1- . اتّفقت عليه المذاهب كلّها قال ابن قدامة: «فأمّا الزوجان فلا يرد عليهما، باتّفاق أهل العلم» المغني: 6/257.

الأمر الثاني: ما هو المراد من العصبة لغة و اصطلاحاً؟

قال ابن منظور: العصبة و العصابة: جماعة ما بين العشرة إلى الاَربعين. و في التنزيل: "وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ "(1).

قال الاَخفش: و العصبة و العصابة: جماعة ليس لها واحد.

و قال الراغب: العصَب: اطناب المفاصل، ثمّ يقال: لكل شدٍّ عصب، و العصبة: جماعة متعصّبة متعاضدة. قال تعالى: "لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ "(2) و العصابة: ما يعصب بها الرأس و العمامة.

و قال في النهاية: العصبة: الاَقارب من جهة الاَب لاَنّهم يعصبونه و يعتصب بهم أي يحيطون به و يشتد بهم.

و قال الطريحي: عَصَبة الرجل، جمع «عاصب» ككفرة جمع كافر، و هم بنوه و قرابته، و الجمع: العصاب، قال الجوهري: و انّما سمُّوا عصبة، لاَنّهم عصبوا به أي: أحاطوا به فالاَب طرف، و الابن طرف، و الاَخ طرف، و العم طرف... و كلامه توضيح لما أجمله ابن الاَثير.

و قد سبق الطريحي، ابن فارس في مقاييسه فقال: له أصل واحد يدل على ربط شيء بشيء ثمّ يفرع ذلك فروعاً و تطلق على أطناب المفاصل التي تلائم بينها، و على العشرة من الرجال لاَنّها قد عصبت كأنّها ربط بعضها ببعض.

و على كل تقدير فهو في الاَصل بمعنى الربط و الاحاطة و كأنّ الانسان يحاط

ص: 268


1- . يوسف: الآية 8.
2- . القصص: الآية 76.

بالعصبة و يرتبط بها مع غيرهم.

و أمّا في اصطلاح الفقهاء فهو لا يتجاوز عمّا ذكره الطريحي في كلامه، و أحسن التعاريف ما ذكره صاحب الجواهر حيث قال: العصبة: الابن و الاَب و من تدلّى بهما، و هو يشمل الاَخ و العم و غيرهما.

و قال ابن قدامة: هو الوارث بغير تقدير، و إذا كان معه ذو فرض أخذ ما فضل عنه قلّ ، أو كثر، و إن انفرد أخذ الكل، و إن استغرقت الفروض المال سقط(1).

و ما ذكره أشبه ببيان حكم العصبة من حيث الحكم الشرعي و ليس تفسيراً لمادة العصبة.

ثمّ إنّ العصبة عندهم تنقسم إلى العصبة بالنفس، و إلى العصبة بالغير و الاَوّل أقرب العصبات، كالابن، ابن الابن، الاَب، الجد لاَب و إن علا، الاَخ لاَبوين، ابن الاَخ لاَبوين، أو أب، العم لاَبوين أو لاَب، ابن العم لاَبوين أو لاَب.

و أمّا الثاني فينحصر في الاناث كالبنت، و بنت ابن و أُخت لاَبوين، أو لاَب.

لاَنّ العصبة من تدلّى إلى الميّت من جانب الاَب و هو يعم الجميع و لا يختص بالذكور، نعم توارثهم بالعصبة على نظام خاص مذكور في كتبهم(2).

قال الخرقي: «و ابن الاَخ للاَب و الام، أولى من ابن الاَخ للاَب. و ابن الاَخ

ص: 269


1- . المغني: 6/226.
2- . لاحظ المغني: 6/236 عند قول الماتن: و ابن الاَخ للاَب أولى من ابن ابن الاَخ للاَب.

للاَب، أولى من ابن ابن الاَخ للاَب و الأُم. و ابن الاَخ و إن سفل إذا كان للاَب(1) أولى من العم. و ابن العم للاَب، أولى من ابن ابن العم للاَب و الأُم. و ابن العم و إن سفل، أولى من عم الاَب»(2).

الأمر الثالث: في تبيين ملاك الوراثة عند الطائفتين:

إنّ الضابط لتقديم بعض الاَقرباء السببيين على البعض الآخر عندنا أحد الاَمرين:

1 كونه صاحب فريضة في الكتاب قال سبحانه: "آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ لاٰ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً " (النساء/ 11).

2 القربى إذا لم يكن صاحب فريضة فالاَقرب إلى الميّت، هو الوارث للكلّ أو لما فضل عن التركة قال سبحانه: "وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ".

و أمّا عند أهل السنّة فالملاك بعد الفرض، هو التعصيب بالمعنى الذي عرفت بعد أصحاب الفرض و إن بعد عنهم، كالأَخ عند ما مات، عن أُخت أو أُختين فيرث الاَخ، أو العم، الفاضل من التركة، بما أنّهما عصبة و يرد عندنا إلى أصحاب الفروض و ربّما لا يترتّب على الخلاف ثمرة كما في الموردين التاليين:

كما لو اجتمع الاَب مع الابن، فالاَب يأخذ فرضه و هو السدس، و ما بقي يأخذه الابن بالاتّفاق لكن عندنا بالقرابة و عند أهل السنّة بالعصبة.

ص: 270


1- . في المصدر: «الاَب» و الصحيح ما أثبتناه.
2- . المغني: 6/236.

و مثله لو اجتمع الاَب مع ابن الابن فبما أنّ الاَولاد تنزل منزلة الآباء فللأَب السدس و الباقي لابن الابن عندنا بالقرابة و عندهم بالتعصيب. لكن تظهر الثمرة في موارد أُخر. كما إذا كانت العصبة بعيداً عن ذي فرض كالأَخ فيما إذا ترك بنتاً أو بنات، و لم يكن له ولد ذكر، أو العم فيما إذا ترك أُختاً أو أخوات و لم يكن له أخ، فعلى مذهب الاِمامية لا يرد إلى البعيد أبداً، سواء كان أخاً أو عمّاً، لاَنّ الضابط في التقديم و التأخير هو الفرض و القرابة و الاَخ و العم بعيدان عن الميّت مع وجود البنت أو الأُخت، فيرد عليهما الفاضل، فالبنت ترث النصف فرضاً و النصف الآخر قرابة، و هكذا الصور الأُخرى.

و أمّا على مذاهب أهل السنّة، فبما أنّه حكموا بتوريث العصبة مع ذي فرض قريب يردون الفاضل إلى الاَخ في الاَوّل، و العم في الثاني.

قال الشيخ الطوسي: القول بالعصبة باطل عندنا و لا يورث بها في موضع من المواضع، و إنّما يورث بالفرض المسمّى أو القربى، أو الاَسباب التي يورث بها من الزوجية و الولاء. و روي ذلك عن ابن عباس لاَنّه قال فيمن خلف بنتاً و أُختاً: إنّ المال كلّه للبنت دون الأُخت، و وافقه جابر بن عبد اللّه في ذلك.

و روى موافقة ابن عباس عن إبراهيم النخعي، روى عنه الاَعمش و لم يجعل داود الاَخوات مع البنات عصبة، و خالف جميع الفقهاء في ذلك و أثبتوا العصبات من جهة الاَب و الابن(1).

ص: 271


1- . الطوسي: الخلاف: 2 /كتاب الفرائض المسألة 80.

إذا عرفت ذلك فلنأخذ بدراسة أدلّة نفاة العصبة فنقول:

دراسة أدلّة نفاة العصبة:

احتجّت الاِماميّة على نفي التعصيب و أنّه مع وجود الاَقرب و إن كان ذا فرض لا يرد الباقي إلى البعيد و إن كان ذكراً، بوجوه:

الاَوّل: قوله سبحانه: "لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ اَلْوٰالِدٰانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ اَلْوٰالِدٰانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّٰا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً " (النساء/ 6).

وجه الاستدلال: أنّه أوجب توريث جميع النساء و الاَقربين و دلّت على المساواة بين الذكور و الاِناث في استحقاق الارث، لاَنّها حكمت بأنّ للنساء نصيباً كما حكمت بأنّ للرجال نصيباً، مع أنّ القائل بالتعصيب عليه توريث البعض دون البعض مع كونهما في رتبة واحدة و ذلك في الصور التالية:

1 لو مات و ترك بنتاً، و أخاً و أُختاً، فالفاضل عن فريضة البنت يرد إلى الاَخ، و يحكم على الأُخت بالحرمان.

2 لو مات و ترك بنتاً، و ابن أخ، و ابن أُخت، فالقائل بالتعصيب يعطي النصف للبنت، و النصف الآخر لابن الاَخ، و لا شيء لابن أُخته مع أنّهما في درجة واحدة.

3 لو مات و ترك أُختاً، و عمّاً، و عمّة، فالفاضل عن فريضة الأُخت يرد إلى

ص: 272

العم، لا العمّة.

4 لو مات و ترك بنتاً، و ابن أخ، و بنت أخ، فإنّهم يعطون النصف للبنت، و النصف الآخر لابن الاَخ، و لا يعطون شيئاً لبنت الاَخ مع كونهما في درجة واحدة.

فالآية تحكم على وراثة الرجال و النساء معاً و بوراثة الجميع، و القائل بالتعصيب يورّث الرجال دون النساء و الحكم به أشبه بحكم الجاهلية المبنية على هضم حقوق النساء كما سيوافيك بيانه.

و حمل الآية في مشاركة الرجال و النساء، على خصوص الميراث المفروض، لا الميراث لاَجل التعصيب كما ترى، و الحاصل أنّ نتيجة القول بالتعصيب هو توريث الرجال و اهمال النساء على ما كانت الجاهلية عليه.

قال السيد المرتضى: توريث الرجال دون النساء مع المساواة في القربى و الدرجة، من أحكام الجاهلية، و قد نسخ اللّه بشريعة نبيّنا محمد «صلى الله عليه و آله و سلم» أحكام الجاهلية، و ذمّ من أقام عليها و استمرّ على العمل بها بقوله: "أَ فَحُكْمَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّٰهِ حُكْماً " و ليس لهم أن يقولوا إنّنا نخصّص الآية التي ذكرتموها بالسنّة، و ذلك أنّ السنّة التي لا تقتضي العلم القاطع لا يُخصَّص بها القرآن، كما لم ينسخه بها، و إنّما يجوز بالسنّة أن يخصّص و ينسخ إذا كانت تقتضي العلم و اليقين، و لا خلاف في أنّ الاَخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علماً، و أكثر ما يقتضيه غلبة الظن، على أنّ أخبار التعصيب معارضة بأخبار كثيرة ترويها الشيعة من طرق مختلفة في إبطال أن يكون الميراث بالعصبة، و أنّه بالقربى و الرحم، و إذا تعارضت الاَخبار رجعنا إلى

ص: 273

ظاهر الكتاب(1).

الثاني: قوله سبحانه: "وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ " (الاَنفال/ 75).

وجه الاستدلال: أنّ المراد من الاَولويّة هو الاَقربية أي الاَقرب فالاَقرب، و على ذلك فكيف يرث الاَخ أو العم مع وجود الاَقرب أعني البنت أو الأُخت، و هما أقرب إلى الميّت من الاَخ و العم، لاَنّ البنت تتقرّب إلى الميّت بنفسها، و الاَخ يتقرّب إليه بالاَب، و الأُخت تتقرّب إلى الميّت بالاَب، و العمّ يتقرّب إليه بواسطة الجد، و الأُخت تتقرّب بواسطة، و العم يتقرّب بواسطتين، و أولاده بوسائط.

و العجب أنّهم يراعون هذا الملاك في ميراث العصبة حيث يقدّمون الاَخ لاَبوين، على الاَخ لاَب. و ابن الاَخ لاَبوين، على ابن الاَخ لاَب، كما أنّ العم لاَبوين يقدّمونه على العم لاَب، و ابن العم لاَبوين على ابن العم لاَب. هذا في العصبة بالنفس و مثلها العصبة بالغير.

و ممّا يدل على أنّ الآية في بيان تقديم الاَقرب فالاَقرب مضافاً إلى ما ورد من أنّها وردت ناسخة للتوارث بمعاقدة الاِيمان و التوارث بالمهاجرة اللَّذين كانا ثابتين في صدر الاِسلام(2).

إنّ عليّاً كان لا يعطي الموالي شيئاً مع ذي رحم، سمّيت له فريضة أم لم تسم له فريضة و كان يقول:

ص: 274


1- . الانتصار: 278.
2- . مجمع البيان: 2/563 طبع صيدا.

"وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ " قد علم مكانهم فلم يجعل لهم مع أُولي الاَرحام(1).

و روى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - في قول اللّه: "وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ ": إنّ بعضهم أولى بالميراث من بعض لاَنّ أقربهم إليه رحماً أولى به، ثمّ قال أبو جعفر: أيّهم أولى بالميت و أقربهم إليه ؟ أُمّه ؟ أو أخوه ؟ أ ليس الأمّ أقرب إلى الميّت من إخوته و أخواته ؟(2).

و روي عن زيد بن ثابت أنّه قال: من قضاء الجاهلية أن يورث الرجال دون النساء(3).

قال العلاّمة الصافي في تفسير قوله سبحانه: "لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ اَلْوٰالِدٰانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ ... " قد أبطل اللّه بهذه الآية النظام الجاهلي المبنيّ على توريث الرجال دون النساء، مثل توريث الابن دون البنت، و توريث الاَخ دون الأُخت، و توريث العم دون العمّة، و ابن العم دون بنته، فقرّر بها مشاركة النساء مع الرجال في الارث، إذا كنّ معهم في القرابة في مرتبة واحدة، كالابن و البنت، و الاَخ و الأُخت، و ابن الابن و بنته، و العم و العمّة و غيرهم، فلا يوجد في الشرع مورد تكون المرأة مع المرء في درجة واحدة إلاّ و هي ترث من الميت بحكم الآية... فكما أنّ القول بحرمان الرجال الذين هم من طبقة واحدة نقض لهذه الضابطة المحكمة الشريفة، كذلك القول بحرمان النساء أيضاً... و مثل هذا النظام الذي تجلّى فيه اعتناء الاِسلام بشأن المرأة و رفع مستواها في الحقوق المالية كسائر حقوقها يقتضي أن يكون عامّاً لا يقبل التخصيص و الاستثناء(4).

ص: 275


1- . الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الاِرث الحديث 10 و 11 و 2.
2- . الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الاِرث الحديث 10 و 11 و 2.
3- . الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الاِرث الحديث 10 و 11 و 2.
4- . مع الشيخ جاد الحق، شيخ الاَزهر: 1615.

و يظهر من السيد في الانتصار أنّ القائلين بالتعصيب ربّما يعترضون على الاِمامية بأنّ الحرمان موجود في فقههم، كما إذا مات الرجل عن بنت و عم أو ابن عم، فإنّ التركة كلّها للبنت عندهم و لا حظّ لهما. و هو حرمان الرجال دون النساء عكس القول بالتعصيب، و يشتركان في الحرمان و مخالفة الذكر الحكيم.

و الجواب: أنّ الحرمان في المثال لاَجل عدم الاستواء في القرابة ألاّ ترى أنّ ولد الولد (ذكوراً كانوا أو إناثاً) لا يرث مع الولد، لعدم التساوي في الدرجة و القرابة، و إن كانوا يدخلون تحت التسمية بالرجال و النساء، و إذا كانت القرابة و الدرجة مراعاة بين العم و ابنه، فلا يساوي العم البنت في القربى و الدرجة و هو أبعد منها كثيراً.

و ليس كذلك العمومة و العمّات و بنات العم و بنو العم، لاَنّ درجة هؤلاء واحدة و قرباهم متساوية و المخالف يورث الرجال منهم دون النساء، فظاهر الآية حجّة عليه و فعله مخالف لها، و ليس كذلك قولنا في المسائل التي وقعت الاِشارة إليها و هذا واضح فليتأمّل(1).

الثالث: قوله سبحانه: "إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ ... " (النساء/ 176) و الآية ظاهرة في أنّ توريث الأُخت من الاَخ مشروط بعدم وجود الولد له. مع أنّه يلزم في بعض صور التعصيب توريث الأُخت مع وجود الولد (البنت) للميّت و ذلك فيما إذا كان التعصيب بالغير كأُخت أو أخوات لاَبوين، أو أُخت و أخوات لاَب، فإنّهنّ عصبة بالغير من جانب الاَب فلو مات عن بنت و أُخت لاَبوين أو لاَب، فالنصف للبنت، و النصف الآخر للعصبة

ص: 276


1- . الانتصار: 283.

و هي الأُخت أو الاَخوات مع أنّ وراثة الأُخت مشروطة بعدم الولد في صريح الآية. قال الخرقي: و الاَخوات مع البنات عصبة، لهنّ ما فضل، و ليس لهنّ معهنّ فريضة مسمّاة.

و قال ابن قدامة في شرحه: و المراد بالاَخوات هاهنا، الاَخوات من الاَبوين، أو من الاَب و إليه ذهب عامّة الفقهاء إلاّ ابن عباس و من تابعه، فإنّه يروى عنه أنّه كان لا يجعل الاَخوات مع البنات عصبة فقال في بنت و أخت: للبنت النصف و لا شيء للأخت. فقال ابن عباس: أنتم أعلم أم اللّه، يريد قول اللّه سبحانه: "إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ ... " فإنّما جعل لها الميراث بشرط عدم الولد.

ثمّ إنّ ابن قدامة ردّ على الاستدلال بقوله: إنّ الآية تدل على أنّ الأُخت لا يفرض لها النصف مع الولد، و نحن نقول به، فإنّ ما تأخذه مع البنت ليس بفرض، و إنّما هو بالتعصيب كميراث الاَخ، و قد وافق ابن عباس على ثبوت ميراث الاَخ مع الولد مع قول اللّه تعالى: "وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ " و على قياس قوله «ينبغي أن يسقط الاَخ لاشتراطه في توريثه منها عدم ولدها»(1).

حاصل كلامه: أنّ الأُخت ترث من الاَخ النصف في حالتي وجود الولد و عدمه، غاية الاَمر عند عدم الولد ترث فرضاً، و عند وجوده ترثه عصبة.

يلاحظ عليه: أنّ المهم عند المخاطبين هو أصل الوراثة، لا التسمية فإذا كان الولد و عدمه غير مؤَثّر فيها، كان التقييد لغواً، و ما ذكره من أنّها ترث النصف عند الولد تعصيباً لا فرضاً أشبه بالتلاعب بالاَلفاظ، و المخاطب بالآية هو العرف

ص: 277


1- . ابن قدامة: المغني: 6/227.

العام و هو لا يفهم من الآية سوى حرمان الاخت عند الولد و توريثها معه باسم آخر، يراه مناقضاً.

و ما نسبه إلى ابن عباس من أنّه كان يرى ميراث الاَخ مع الولد، غير ثابت و على فرض تسليمه فهو ليس بحجة.

الرابع: الروايات المروية في الصحاح و المسانيد و في جوامعنا، ننقل منها ما يلي:

1 روى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال: مرضت بمكّة مرضاً فأشفيت(1) منه على الموت فأتاني النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - يعودني فقلت: يا رسول اللّه: إنّ لي مالاً كثيراً و ليس يرثني إلاّ ابنتي أ فأتصدّق بثلثي مالي ؟ قال: لا، قلت: فالشَّطرُ؟ قال: لا، قلت: الثلث ؟ قال: الثلث كبير، إنّك إن تركت ولدك أغنياء خيرٌ من أن تتركهم عالةً يتكفّفون الناس(2).

و في لفظ مسلم في باب الوصية بالثلث: «و لا يرثني إلاّ ابنة لي واحدة». و الرواية صريحة في أنّه كان يدور في خلد سعد، أنّها الوارثة المتفرّدة و النبيّ سمع كلامه و أقرّه عليه و لم يرد عليه بشيء و قد كان السؤال و الجواب بعد نزول آيات الفرائض.

2 روى البيهقي عن سويد بن غفلة في ابنة و امرأة و مولى قال: كان علي عليه السلام يعطي الابنة النصف و المرأة الثمن و يرد ما بقي على الابنة(3).

ص: 278


1- . أي فأشرفت و قاربت.
2- . صحيح البخاري: 8/150، كتاب الفرائض، باب ميراث البنات.
3- . السنن الكبرى: 6/242 باب الميراث بالولاء.

3 روى: من ترك مالاً فلأَهله(1).

4 و ربّما يستدل بما روي عن واثلة بن الاَسقع، قال: قال رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم»: و المرأة تحوز ثلاث مواريث: عتيقها و لقيطها و ولدها الذي تلاعن عليه(2).

وجه الاستدلال: أنّ سهم الأُم هو السدس أو الثلث و قد حكم على الفاضل عن التركة بالرد عليها دون العصبة. إلاّ أن يقال: إنّ عدم الرد لعدم وجود العصبة (بحكم اللعان) فلا يصحّ الاستدلال به على ما إذا كانت هناك عصبة.

الخامس: إنّ القول بالتعصيب يقتضي كون توريث الوارث مشروطاً بوجود وارث آخر و هو مخالف لما علم الاتّفاق عليه لاَنّه إمّا أن يتساوى الوارث الآخر فيرثان، و إلاّ فيمنع و ذلك في المثال الآتي:

إذا خلف الميّت بنتين، و ابنة ابن، و عم. فبما أنّ العمّ من العصبة بالنفس و الابنة عصبة بالغير يرد الفاضل إلى العم. و لا شيء لبنت الابن. و لكنّه لو كان معها أخ أي ابن الابن، فهي تتعصّب به، و بما أنّه أولى ذكر بالميّت يكون مقدماً على العم و يكون الفاضل بينهما أثلاثاً، للاجماع على المشاركة، لقوله سبحانه: "يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ " (النساء/ 11) و هذا هو ما قلناه من أنّه يلزم أن يكون توريث الابنة مشروطاً بالاَخ و إلاّ فيرث العم.

ص: 279


1- . صحيح البخاري: 8/150 كتاب الفرائض باب قول النبي: من ترك مالاً فلأَهله، و كنز العمال: 11/7 الحديث 30388، و جامع الأصول: 9/631 قال: رواه الترمذي.
2- . المسند: 3/490، و سنن ابن ماجة: 2/916 باب ما تحوزه المرأة، ثلاث مواريث رقم 2742، و في جامع الأصول: 9/614، برقم 7401... ولدها الذي لاعنت عنه. أخرجه أبو داود و الترمذي.

قال الخرقي في متن المغني: «فإن كنّ بنات، و بنات ابن، فللبنات الثلثان و ليس لبنات الابن شيء إلاّ أن يكون معهنّ ذكر فيعصبهن فيما بقي للذكر مثل حظّ الانثيين».

و قال ابن قدامة: «فإن كان مع بنات الابن، ابن في درجتهنّ كأخيهنّ أو ابن عمّهنّ ، أو أنزل منهنّ كابن أخيهنّ أو ابن ابن عمّهنّ أو ابن ابن ابن عمّهن، عصبهنّ في الباقي فجعل بينهم للذكر مثل حظّ الانثيين»(1).

السادس: لقد تضافر عن أئمّة أهل البيت أنّ الفاضل عن الفروض للاَقرب، و هي متضافرة لو لم نقل أنّها متواترة و لعل الشهيد الثاني لم يتفحّص في أبواب الارث فقال: يرجع الاِمامية إلى خبر واحد(2) و يظهر من الروايات أنّه كان مكتوباً في كتاب الفرائض لعليّ - عليه السلام -.

1 روى حماد بن عثمان قال: سألت أبا الحسن - عليه السلام - عن رجل ترك أُمّه و أخاه ؟ قال: يا شيخ تريد على الكتاب ؟ قال، قلت: نعم. قال: كان علي عليه السلام يعطي المال للاَقرب، فالاَقرب. قال: قلت: فالاَخ لا يرث شيئاً؟ قال: قد أخبرتك أنّ علياً - عليه السلام - كان يعطي المال الاَقرب فالاَقرب(3).

2 روى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - في رجل مات و ترك ابنته و أُخته لاَبيه و أُمّه ؟ فقال: المال كلّه للابنة و ليس للأخت من الاَب و الأمّ شيء(4).

ص: 280


1- . المغني: 6/229.
2- . المسالك، كتاب الفرائض عند شرح قول المحقق: و لا يثبت الميراث عندنا بالتعصيب.
3- . الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الاَبوين الحديث: 6 و 1.
4- . الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الاَبوين الحديث: 6 و 1.

3 روى عبد اللّه بن خداش المنقري أنّه سأل أبا الحسن عن رجل مات و ترك ابنته و أخاه ؟ فقال: المال للابنة(1).

4 عن بريد العجلي عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: قلت له: رجل مات و ترك ابنة و عمّه ؟ فقال: المال للابنة و ليس للعم شيء، أو قال: ليس للعم مع الابنة شيء(2).

و يظهر من مناظرة الرشيد مع الاِمام أبي الحسن الاَوّل، أنّ توريث العم مع الاَبناء كان مؤَامرة سرّية لاِقصاء عليّ عن حقّه، بتقديم العم على ابنة رسول اللّه(3).

5 ما رواه حسين الرزاز قال: امرت من يسأل أبا عبد اللّه - عليه السلام - المال لمن هو؟ للاَقرب أو العصبة ؟ فقال: المال للاَقرب و العصبة في فيه التراب(4).

6 ما رواه العياشي في تفسيره عن ابن سنان عن أبي عبد اللّه قال: اختلف علي بن أبي طالب و عثمان في الرجل يموت و ليس له عصبة يرثونه و له ذو قرابة لا يرثونه، ليس لهم سهم مفروض، فقال عليّ : ميراثه لذوي قرابته لاَنّ اللّه تعالى يقول: "وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ " و قال عثمان: اجعل ماله في بيت مال المسلمين(5).

ص: 281


1- . الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الاَبوين الحديث: 3 و 14 و لاحظ الحديث 4 و 5 و 137. من ذلك الباب.
2- . الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الاَبوين الحديث: 3 و 14 و لاحظ الحديث 4 و 5 و 137. من ذلك الباب.
3- . الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الاَبوين الحديث: 3 و 14 و لاحظ الحديث 4 و 5 و 137. من ذلك الباب.
4- . و في السند «صالح بن السعدي و هو ممدوح، و الحسين الرزاز مجهول، و في التهذيب: 9/267 رقم 972 «البزاز» و هو أيضاً مجهول.
5- . الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الاِرث الحديث 1 و 9.

دراسة أدلّة المخالف:

لقد اتّضح الحق و تجلّى بأجلى مظاهره، بقي الكلام في دراسة أدلّة المخالف فقد استدلّ بوجوه:

الاَوّل: لو أراد سبحانه توريث البنات و نحوهنّ أكثر ممّا فرض لهنّ لفعل ذلك و التالي باطل، فإنّه تعالى نصّ على توريثهنّ مفصّلاً و لم يذكر زيادة على النصيب.

بيان الملازمة أنّه تعالى لما ورّث الابن الجميع لم يفرض له فرضاً، و كذا الاَخ للاَب و العم و أشباههم، فلو لا قصر ذوي الفروض على فرضهم لم يكن في التنصيص على المقدار فائدة.

و حاصله: أنّ كل من له فرض لا يزاد عنه و كل من لم يفرض له يعطى الجميع.

يلاحظ عليه: أوّلاً: بالنقض بورود النقيصة على ذوات الفروض عند أهل السنّة إذا عالت الفرائض على السهام، كما سيوافيك شرحه فإنّهم يدخلون النقص على الجميع مثل باب الديون، فربّما يكون سهم البنت و الأُخت أقل من النصف، فإذا جاز النقص فما المانع من الزيادة، بل الاَمر في النقصان أولى لاَنّ النقصان ينافي الفرض بخلاف الزيادة عليه بدليل آخر، فإنّ فيه أعمال الدليلين و الاَخذ بمفادهما.

و ثانياً: بالحلّ إنّ تحديد الفرض بالنصف إنّما يكون لغواً إذا لم تترتّب عليه فائدة مطلقاً،، و لكنّه ليس كذلك لترتّب الثمرة عليه فيما إذا كان معه وارث ذو

ص: 282

فرض كالأم، فإنّ كيفية الرد على الوارثين لا تعلم إلاّ بملاحظة فرضهما ثمّ الرد عليهما بحسب تلك النسبة فلو لم يكن سهم البنت و البنتين منصوصاً في الذكر الحكيم لما علمت كيفيّة الرد.

و بالجملة: أنّه و إن كان لا تظهر للقيد ثمرة إذا كان الوارث هو البنت أو الأُخت وحدها، و لكنّه ليس كذلك إذا كان معه وارث آخر و هو ذو فرض مثلها كالأمّ ، فإنّ الرد عليهما يتوقّف على ملاحظة فرضهما ثمّ الرد بتلك النسبة.

و ثالثاً: أنّ التصريح بالفرض لاَجل التنبيه على أنّها لا تستحق بالذات إلاّ النصف أو الثلثان، بخلاف الاَخ و إنّما تأخذ الزائد بعنوان آخر و هو أنّه ليس معه وارث مساوٍ بخلاف الابن أو الاَخ، فإنّ كلاّ يستحق المال كلّه بالذات.

و رابعاً: إنّ المفهوم في المقام أشبه بمفهوم اللقب و هو ليس بحجة فيه.

الثاني: قوله سبحانه: "إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ " (النساء/ 176).

وجه الاستدلال: أنّه سبحانه حكم بتوريث الأُخت، نصف ميراث أخيها مع عدم الولد و حكم بتوريث الاَخ ميراثها أجمع بدليل قوله تعالى: "وَ هُوَ يَرِثُهٰا " فلو ورثت الأُخت الجميع كما هو مذهبكم لن تبقى للفرق بين الاَخ و الأُخت ثمرة أصلاً.

الجواب: أنّ التقييد بالنصف مع أنّها ربّما ترث الكلّ لاَجل التنبيه، على أنّها لا تستحق بالذات إلاّ النصف و أنّ الاَصل القرآني هو استحقاق الذكر ضعف سهم الانثى و هو النصف، و أنّها إن ورثت المال كله فإنّما هو لاَجل طارئة خاصة،

ص: 283

على أنّ التصريح بالفرض لاَجل تبيين ما يتوقّف عليه تقسيم الفاضل، بينها و بين من يشاركه في الطبقة كالإِخوة أو الاَخوات من الأمّ ، فإنّ الباقي يردّ عليهما بنسبة سهامهما فلو لم يكن هناك تحديد بالنصف فمن أين تعلم كيفيّة الرد.

الثالث: قوله تعالى: "وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي وَ كٰانَتِ اِمْرَأَتِي عٰاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا " (مريم 65).

وجه الاستدلال: أنّ زكريا - عليه السلام - لمّا خاف أن ترثه العصبة، سأل اللّه سبحانه أن يهبه وليّاً حتى يرث المال كلّه، لا وليّةً حتى ترث المال نصفه و يرث الموالي الفاضل، و لو لا ذلك لما أكّد على كون الولد الموهوب من اللّه ذكراً، في قوله سبحانه: "وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي وَ كٰانَتِ اِمْرَأَتِي عٰاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ".

يلاحظ عليه: أنّ المقصود من «وليّاً» هو مطلق الاَولاد ذكراً كان أو أُنثى، و ذلك على مساق اطلاق المذكّر و إرادة الجنس و هو شائع في القرآن الكريم.

مثل قوله سبحانه: "إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ " بشهادة قوله تعالى في آية أُخرى: "هُنٰالِكَ دَعٰا زَكَرِيّٰا رَبَّهُ قٰالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعٰاءِ " (آل عمران/ 38).

بل يمكن أن يقال إنّه طلب ذرّية مثل مريم لقوله سبحانه قبل هذه الآية: "كُلَّمٰا دَخَلَ عَلَيْهٰا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرٰابَ وَجَدَ عِنْدَهٰا رِزْقاً قٰالَ يٰا مَرْيَمُ أَنّٰى لَكِ هٰذٰا قٰالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ * هُنٰالِكَ دَعٰا... " أي في هذه الحال التي رأى فيها في مريم من الكرامة سأل اللّه سبحانه أن يرزقه ذريّة

ص: 284

طيّبة (مثل مريم) فلو لم نقل إنّه سأل انثى مثل مريم، ليس لنا أن نقول إنّه طلب الذكر.

و لو سلمنا أنّه طلب الذكر لكنّه لم يطلب لاَجل أنّه لو رزق الانثى ترثه العصبة و إنّما سأله الذكر لمحبّة كثيرة له، أو لاَنّه أولى بالاِدارة من الانثى كما لا يخفى.

الرابع: الروايات و الآثار الواردة في هذا المجال و لعلّها أهم المدارك و المصادر لهذه الفتيا.

الرواية الأولى:

رواية عبد اللّه بن طاوس بن كيسان اليماني (المتوفّى عام 132) رواها الشيخان في غير مورد.

روى البخاري عن مسلم بن إبراهيم عن وهيب عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عباس: قال رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لاَولى رجل ذكر(1).

ص: 285


1- . صحيح البخاري: 8/151 باب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، و ص 152، باب ميراث الجد مع الاَب و الاِخوة، و رواها عن سليمان بن حرب (مكان مسلم بن إبراهيم) و رجال السند في غيرهما، واحد و باب ابني عم أحدهما أخ و الآخر زوج ص 153، رواها عن أُمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع عن روح عن عبد اللّه بن طاوس. و صحيح مسلم: 5/59 باب ألحقوا الفرائض بأهلها عن ابن طاوس عن ابن عباس رقم 1615. و صحيح الترمذي في الفرائض باب ميراث العصبة رقم 2099. و سنن أبي داود في الفرائض باب ميراث العصبة رقم 2898. و لاحظ السنن الكبرى: 6/238 باب العصبة، و جامع الأصول: 9/6104 رقم 7421.

يلاحظ عليه أوّلاً: الروايات تنتهي إلى عبد اللّه بن طاوس بن كيسان اليماني و قد وثّقه علماء الرجال(1) لكن يعارض توثيقهم مع ما ذكره أبو طالب الاَنباري(2) في حقّ هذه الرواية قال: حدثنا محمد بن أحمد البربري، قال: حدثنا بشر بن هارون، قال: حدثنا الحميري، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن قاربة بن مضرب قال: جلست عند ابن عباس و هو بمكة، فقلت: يا ابن عباس حديث يرويه أهل العراق عنك و طاووس مولاك يرويه: إنّ ما أبقت الفرائض فلاَوْلَى عصبة ذكر؟ قال: أمن أهل العراق أنت ؟ قلت: نعم، قال: أبلغ من وراءك أنّي أقول: إنّ قول اللّه عزّ و جلّ : "آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ لاٰ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اَللّٰهِ " و قوله: "أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ " و هل هذه إلاّ فريضتان و هل أبقتا شيئاً، ما قلت هذا، و لا طاوس يرويه عليّ ، قال قاربة بن مضرب: فلقيت طاوساً فقال: لا و اللّه ما رويت هذا على ابن عباس قط و إنّما الشيطان ألقاه على ألسنتهم، قال سفيان: أراه من قبل ابنه عبد اللّه بن طاوس فإنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك(3) و كان يحمل على هؤلاء القوم

ص: 286


1- . تهذيب التهذيب: 5/268 رقم 458 سير أعلام النبلاء، حوادث عام 132 و غيرهما.
2- . هو عبيد اللّه بن أبي زيد أحمد بن يعقوب بن نصر الاَنباري: قال النجاشي: شيخ من أصحابنا «أبو طالب» ثقة في الحديث، عالم به، كان قديماً من الواقفة توفّي عام 356 (رجال النجاشي برقم 615 طبع بيروت). و أمّا رجال السند ففي تعليقة الخلاف أنّه لم يتعرّف على البربريّ ، و أمّا بشر بن هارون لعلّه تصحيف بشر بن موسى إذ هو الراوي عن الحميدي على ما في تاريخ البغدادي: 86. و الحميدي هو عبد اللّه بن الزبير القرشي توفّي بمكة 219 كما في تذكرة الحفّاظ 2:413، و سفيان هو سفيان بن عيينة و أبو إسحاق هو: عمرو بن عبد اللّه بن عبيد السبيعي.
3- . سليمان بن عبد الملك بن مروان سابع خلفاء بني أُمية بويع سنة 96 و توفّي سنة 98 و هو ابن خمس و أربعين سنة و كان خاتمه بيده يختم رسائله بخاتمه صيانة عن التزوير.

حملاً شديداً أي بني هاشم(1).

إنّ سليمان بن عبد الملك الاَموي المرواني هو الذي قتل أبا هاشم عبد اللّه بن محمد بن علي الحنفية بالسم ظلماً و خداعاً، فكيف يكون حال من يواليهم.

و ثانياً: أنّ نسبة الآيات المتقدمة إلى هذه الرواية و إن كان نسبة الاطلاق إلى التقييد، و لكن الاعتماد على هذه الرواية في تقييد الذكر الحكيم، ممّا لا يجترىَ عليه الفقيه الواعي.

إنّ وراثة العصبة ليست من المسائل التي يقل الابتلاء بها، بل هي ممّا تعمّ البلوى بها في عصر النبيّ و عصور الخلفاء، فلو كان هناك تشريع على مضمون هذه الرواية لما خفي على غيره و نقله الآخرون، و قد عرفت أنّ الاَسناد تنتهي إلى عبد اللّه بن طاوس.

و ثالثاً: أنّ فقهاء المذاهب أفتوا في موارد على خلاف مضمون هذا الخبر، و قد أشار إليها فقيه الطائفة الطوسي، نذكر قسماً منها.

1 لو مات و خلّف بنتاً و أخاً و أُختاً، فقد ذهبوا إلى أنّ للبنت النصف و النصف الآخر للاَخ و الأُخت "لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ " مع أنّ مقتضى خبر ابن طاوس أنّ النصف للبنت أخذاً بقوله - صلى الله عليه و آله و سلم -: «ألحقوا الفرائض بأهلها و النصف الآخر للاَخ لاَنّه أولى رجل ذكر».

2 لو أنّ رجلاً مات و ترك بنتاً، و ابنة ابن، و عمّاً، فقد ذهبوا إلى أنّ النصف للبنت و النصف الآخر لابنة الابن و العم، مع أنّ مقتضى الخبر أن يكون النصف الآخر للعم وحده لاَنّه أولى ذكر(2).

ص: 287


1- . التهذيب: لشيخ الطائفة: 9/262. الخلاف: 2، المسألة 80.
2- . الخلاف: 2/278، المسألة 80 و التهذيب للشيخ الطوسي: 9/262.

قال السيد المرتضى: و فيهم من يذهب فيها إلى أنّ المراد بها قرابة الميّت من الرجال الذين اتّصلت قرابتهم به من جهة الرجال كالأَخ و العم، دون الأُخت و العمّة، و لا يجعل للرجال الذين اتّصلت قرابتهم من جهة النساء عصبة كإخوة الميّت لأمّه، و فيهم من جعل العصبة مأخوذة من التعصّب و الرايات و الديوان و النصرة. و مع هذا الاختلاف لا اجماع يستقرّ على معناها، على أنّهم يخالفون لفظ هذا الحديث الذي يروونه لاَنّهم يعطون الأُخت مع البنت بالتعصيب و ليست برجل و لا ذكر كما تضمّنه لفظ الحديث(1).

إلى غير ذلك من الاَحكام التي اتّفقوا عليها و هي على طرف النقيض من الخبر.

فإن قلت: فما ذا تصنع بالخبر، مع أنّ الشيخين نقلاه بل نقله غيرهما على ما عرفت.

قلت: يمكن حمل الخبر على ما لا يخالف اطلاق الكتاب و لا ما أطبق المسلمون عليه و هو أنّه وارد في مجالات خاصّة: مثلاً:

1 رجل مات و خلّف أُختين من قبل الأمّ ، و ابن أخ، و ابنة أخ لاَب و أُمّ ، و أخاً لاَب، فالأختان من أصحاب الفرائض، كلالة الأمّ ، يعطى لهما الثلث و الباقي لاَولى ذكر، و هو الاَخ لاَب.

2 رجل مات و خلّف زوجة و خالاً و خالة، و عمّاً و عمّة، و ابن أخ، فالزوجة من أصحاب الفرائض تلحق بفريضتها و هي الربع و الباقي يدفع إلى أولى ذكر، و هو ابن الاَخ.

ص: 288


1- . الانتصار 279.

3 رجل مات و خلّف زوجة، و أُختاً لاَب، و أخاً لاَب و أُمّ ، فإنّ الزوجة من أصحاب الفرائض تلحق بفريضتها و هي الربع و الباقي للاَخ للاَب و الأُم، و لا ترث الأُخت لاَب معه.

4 امرأة ماتت و خلّفت زوجاً، و عمّاً من قبل الاَب و الأُم، و عمّة من قبل الاَب، فللزوج النصف سهمه المسمّى و ما بقي للعم للاَب و الأمّ ، و لا يكون للعمّة من قبل الاَب شيء.

إلى غير ذلك من الصور التي يمكن أن ينطبق عليها الخبر.

قال السيد المرتضى، و لا عتب إذا قلنا إنّ الرواية وردت: في من خلّف أُختين لأمّ ، و ابن أخ، و بنت أخ لاَب و أُمّ ، و أخاً لاَب فإنّ الأُختين من الأمّ فرضهنّ الثلث و ما بقي فلاَولى ذكر أقرب و هو الاَخ من الاَب و سقط ابن الاَخ و بنت الاَخ، لاَنّ الاَخ أقرب منهما. و في موضع آخر و هو أن يخلف الميّت امرأة و عمّاً و عمّةً ، و خالاً و خالة، و ابن أخ، فللمرأة الربع و ما بقي فلاَولى ذكر و هو ابن الاَخ و سقط الباقون. و العجب أنّهم ورثوا الأُخت مع البنت عصبة، فان قالوا: من حيث عصبها أخوها، قلنا: فألاّ جعلتم البنت عصبة عند عدم البنين و يكون أبوها هو الذي يعصِّبها.

و كذلك يلزمهم أن يجعلوا العمّة عند عدم العم عصبة في ما توجّه لاِنجازه و فعله، فإن قالوا: البنت لا تعقل عن أبيها، قلنا: و الأُخت أيضاً لا تعقل عن أخيها فلا تجعلوها عصبة مع البنات(1).

ص: 289


1- . الانتصار: 280.

الرواية الثانية:

ما أخرجه الترمذي، و ابن ماجة، و أبو داود، و أحمد عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد اللّه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع، بابنتيها من سعد إلى رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - فقالت: يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أُحد شهيداً، و إنّ عمّهما أخذ مالهما فلم يدَع لهما مالاً، و لا تُنكحان إلاّ و لهما مال، قال: يقضي اللّه في ذلك، فنزلت آية الميراث فبعث رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - إلى عمّهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين و أعط أُمّهما الثمن و ما بقي فهو لك(1).

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ جابر بن عبد اللّه نقل نزول الآية في واقعة أُخرى قال السيوطي: أخرج عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه، من طرق عن جابر بن عبد اللّه قال: عادني رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و أبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبيّ - صلى الله عليه و آله و سلم - لا أعقل شيئاً فدعا بماء فتوضّأ منه ثمّ رشّ عليّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول اللّه ؟ فنزلت: "يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ (2) " و احتمال نزول الآية مرّتين، أو كون سبب النزول متعدّداً كما ترى.

ص: 290


1- . سنن الترمذي 4 /باب ما جاء في ميراث البنات رقم 2092، سنن ابن ماجة: 2/908 باب فرائض الصلب رقم 272، سنن أبي داود: 3/121، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2891.
2- . الدر المنثور: 2/124.

و ثانياً: أنّ الرواية نقلت بصورة أُخرى و هي أنّ الوافدة إلى النبيّ كانت زوجة ثابت بن قيس بن شماس لا زوجة سعد بن الربيع(1).

و ثالثاً: أنّ في سند الرواية من لا يصحّ الاحتجاج به و إليك البيان:

1 عبد اللّه بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، و الاَسانيد في سنن الترمذي و ابن ماجة و ابن داود، تنتهي إليه.

ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة و قال: كان منكر الحديث، لا يحتجّون بحديثه و كان كثير العلم، و قال بشر بن عمر: كان مالك لا يروي عنه، و قال يعقوب بن أبي شيبة عن ابن المديني: لم يدخله مالك في كتبه، قال يعقوب: و ابن عقيل صدوق و في حديثه ضعف شديد جداً، و كان ابن عيينة يقول: أربعة من قريش يترك حديثهم فذكره فيهم، و قال ابن المديني عن ابن عيينة: رأيته يحدّث نفسه فحملته على أنّه قد تغيّر، إلى غير ذلك من الكلمات الجارحة التي تسلب ثقة الفقيه بحديثه(2).

2 الراوي عنه في سنن الترمذي هو عبيد بن عمرو البصري الذي ضعّفه الاَزدي و أورد له ابن عدي حديثين منكرين و ضعّفه الدارقطني و وثّقه ابن حبَّان(3).

3 الراوي عنه في سنن أبي داود: بشر بن المفضّل، قال ابن سعد: كان ثقة

ص: 291


1- . البيهقي: السنن الكبرى ص 69 باب فرض الابنتين، و قد أخطأ البيهقي كون الابنتين لقيس و قال: إنّهما كانتا بنتي سعد، و قال أبو داود 3/121 رقم 2891: أخطأ بشر فيه انّما هما ابنتا سعد بن الربيع، و ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة.
2- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 6/140 لاحظ بقيّة كلامه.
3- . المصدر نفسه: 4/121.

كثير الحديث عثمانياً(1).

إلى غير ذلك من رجال في الاَسانيد، مرميين بأُمور لا يحتج معها.

الرواية الثالثة:

روى الاَسود بن يزيد قال: «أتانا معاذ بن جبل باليمن معلّماً و أميراً، فسألناه عن رجل توفّي و ترك ابنة و أُختاً؟ فقضى: أنّ للابنة النصف، و للأخت النصف. و رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - حي(2).

و في لفظ أبي داود: أنّ معاذ بن جبل ورث أُختاً و ابنة، جعل لكلّ واحدة منهما النصف، و هو باليمن، و نبيّ اللّه يومئذ حي(3).

و الاَثر يتضمّن عمل الصحابة و هو ليس بحجّة إلاّ إذا أُسند إلى المعصوم.

و الرجوع إلى الآثار الواردة عن الصحابة في مجال الفرائض يعرب عن أنّه لم يكن عندهم احاطة بأحكام الفرائض، بل كل كان يفتي حسب معايير و مقاييس يتخيّلها صحيحة. و يكفي في ذلك اختلاف أبي موسى الاَشعري مع ابن مسعود في رجل ترك بنتاً و أُختاً و ابنة ابن.

روى البخاري: سُئل أبو موسى عن ابنة و ابنة ابن، و أُخت ؟ فقال: للابنة النصف، و للأُخت النصف و أْت ابن مسعود فسيتابعني، قال: سئل ابن مسعود

ص: 292


1- . ابن حجر: تهذيب التهذيب: 1/459.
2- . البخاري: الصحيح: 8/150 في الفرائض باب ميراث البنات، و باب ميراث الاَخوات مع البنات عصبة.
3- . صحيح أبي داود في الفرائض باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2893. و لاحظ جامع الأصول: 9/610 رقم 7394.

و أُخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذاً و ما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي - صلى الله عليه و آله و سلم -: للابنة النصف، و لابنة ابنٍ السدس تكملةَ الثلثين، و ما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم(1).

مضاعفات القول بالتعصيب:

ثمّ إنّه يلزم على القول بالتعصيب أُمور يأباها الطبع و لا تصدّقها روح الشريعة نأتي بنموذج واحد:

لو كان للميّت عشر بنات و ابن، يأخذ الابن السدس، و تأخذ البنات خمسة أسداس، و ذلك أخذاً بقوله سبحانه: "لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ ".

لو كان له مكان الابن، ابن عم للميّت، فللبنات فريضتها و هي الثلثان، و الباقي أي الثلث لابن العم. فيكون الابن أسوأ من ابن العم.

قال السيد المرتضى: فإذا تبيّن بطلان القول بالتعصيب يظهر حكم كثير من المسائل، منها: فمن هذه المسائل أن يخلف الرجل بنتاً و عمّاً فعند المخالف أنّ للبنت النصف و الباقي للعم بالعصبة، و عندنا أنّه لا حظّ للعم و المال كلّه للبنت بالفرض و الرد، و كذلك لو كان مكان العم ابن عم، و كذلك لو كان مكان البنت ابنتان، و لو خلف الميت عمومة و عمّات أو بني عم و بنات عم فمخالفنا

ص: 293


1- . البخاري: الصحيح: 8/151 باب ميراث ابنة ابن مع ابنة، و سنن الترمذي: 4/415 باب ما جاء في ميراث ابنة الابن مع ابنة الصلب رقم 2093، و سنن أبي داود: 3/120، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2890.

يورّث الذكور من هؤلاء دون الاِناث لاَجل التعصيب، و نحن نورث الذكور و الاناث. و مسائل التعصيب لا تحصى كثرة(1).

يقول المحقّق محمد جواد مغنية: إنّ الانسان أرأف بولده منه بإخوته، و هو يرى أنّ وجود ولده ذكراً أو أُنثى امتداد لوجوده، و من هنا رأينا الكثير من أفراد الأسر اللبنانية الذين لهم بنات فقط يبدلون مذهبهم من التسنّن إلى التشيّع، لا لشيء إلاّ خوفاً أن يشترك مع أولادهم الاِخوان أو الاَعمام.

و يفكر الآن، الكثير من رجال السنّة بالعدول عن القول بالتعصيب، و الاَخذ بقول الاِمامية من ميراث البنت تماماً كما عدلوا عن القول بعدم صحّة الوصيّة للوارث، و قالوا بصحّتها كما تقول الاِمامية، على الرغم من اتّفاق المذاهب على عدم الصحّة(2).

ص: 294


1- . الانتصار: 282.
2- . الفقه على المذاهب الخمسة: 518517.

المسألة الرابعة عشرة: حكم الفرائض إذا عالت

اشارة

إذا كانت الوراثة بالتعصيب، تجري عند نقص الفرائض عن استيعاب التركة، فالعول يعني زيادة الفرائض عليها و هو مأخوذ من «عال يعول عولاً»: إذا زادت، أو من العول بمعنى الميل، و منه قوله سبحانه: "ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَلاّٰ تَعُولُوا " (النساء/ 3). و كأنَّ الفريضة عائلة لميلها بالجور على أهل السهام بايراد النقص عليهم، أو من العول بمعنى الارتفاع يقال: عالت الناقة ذنبها: إذا رفعته، لارتفاع الفريضة بزيادة السهام. و على كل تقدير فمورد العول على طرف النقيض من مورد التعصيب.

إنّ مسألة العول أي زيادة الفرائض على سهام التركة، من المسائل المستحدثة التي لم يرد فيها نصّ عن رسول اللّه، و قد ابتلي بها عمر بن الخطاب عند ما ماتت امرأة في عهده و كان لها زوج و أُختان فجمع الصحابة فقال لهم: فرض اللّه تعالى للزوج النصف، و للأختين الثلثين، فإن بدأتُ للزوج لم يبق للأختين حقّهما، و إن بدأتُ للأختين لم يبق للزوج حقُّه فأشيروا عليَّ ، فاتّفق رأي أكثرهم(1) على العول أي إيراد النقص على الجميع من دون تقديم ذي فرض على

ص: 295


1- . و على ما نقله أبو طالب الاَنباري اتّفق عليه اثنان: عمر، و عبد اللّه بن مسعود، و كانت الصحابة و في مقدمهم الاِمام علي - عليه السلام - على خلاف هذا القول و لكن القوّة التنفيذية حالت بينهم و بين رأيهم.

آخر، و خالف ابن عباس و قال: إنّ الزوجين يأخذان تمام حقّهما و يدخل النقص على البنات.

و من ذلك العصر صار الفقهاء على فرقتين، فالمذاهب الاَربعة و ما تقدّمها من سائر المذاهب الفقهية قالوا بالعول، و الشيعة الاِمامية، تبعاً للاِمام علي و تلميذه ابن عباس على خلافه، فهم على ايراد النقص على البعض دون بعض من دون أن يكون عملهم ترجيحاً بلا مرجّح.

و خلاصة مذهب الشيعة الاِمامية: أنَّ المال إذا ضاق عن سهام الورثة قُدِّم ذوو السهام المؤَكدة المذكورة من الاَبوين و الزوجين على البنات، و الاَخوات من الأُم على الاَخوات من الاَب و الأُم أو من الاَب، و جعل الفاضل عن سهامهم لهنّ ، و ذهب ابن عباس رحمة اللّه عليه إلى مثل ذلك، و قال به أيضاً عطاء بن أبي رياح.

و حكى فقهاء السنّة هذا المذهب عن محمد بن علي بن الحسين الباقر صلوات اللّه عليهم و محمد بن الحنفية رضي اللّه عنه و هو مذهب داود بن علي الاصبهاني، و قال باقي الفقهاء: إنّ المال إذا ضاق عن سهام الورثة قُسّم بينهم على قدر سهامهم، كما يفعل ذلك في الديون و الوصايا إذا ضاقت التركة عنها، و الذي يدل على صحّة ما نذهب إليه اجماع الطائفة عليه، فإنّهم لا يختلفون فيه، و قد بيّنا أنّ اجماعهم حجّة(1).

قال الشيخ الطوسي:

«العول عندنا باطل فكلّ مسألة تعول على مذهب المخالفين فالقول عندنا

ص: 296


1- . الانتصار: 284.

فيها بخلاف ما قالوه».

و به قال ابن عباس و أُدخل النقص على البنات، و بنات الابن، و الاَخوات للاَب و الأُم، أو للاَب.

و به قال محمد بن الحنفية، و محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الصلاة و السلام و داود بن علي. و أعالها جميع الفقهاء»(1).

و لأَجل إيضاح مذهب العول، لا بأس بالاِشارة إلى مسألة من مسائل العول المعروفة بأُمّ الفروخ(2) و نكتفي بعناوين الوارثين روماً للاختصار:

1 زوج و أُختان: للزوج النصف أي ثلاثة من ستة، و للأختين الثلثان أي أربعة منها. و من المعلوم أنّ المال ليس فيه نصف و ثلثان فلو أُخذ من الست، النصف، لا يفي الباقي بالثلثين و هكذا العكس فتعول السهام إلى السبعة (7\4 + 3).

فالقائل بالعول يقسّم التركة إلى سبعة سهام، مكان الستة فيعطي للزوج ثلاثة سهام، و للأختين أربعة سهام لكن من السبعة، و بذلك يُدخل النقص على الجميع، فلا الزوج ورث النصف الحقيقي و لا الأُختان، الثلثين، بل أخذ كل أقل من سهمه المقرر.

2 تلك الصورة و معهما أُخت واحدة من الأُم فريضتها السدس، و من المعلوم أنّ التركة لا تفي بالنصف و الثلثين و السدس، فتعول التركة إلى ثمانية سهام

ص: 297


1- . الخلاف: 2، كتاب الفرائض: المسألة 81.
2- . و ما ذكرناه قريب من أُم الفروخ المذكورة في الخلاف فلاحظ.

و ذلك (8\1 + 4 + 3).

فالقائل بالعول يورد النقص على الجميع، فيقسّم المال إلى ثمانية سهام، فيعطي للزوج ثلاثة. و للأختين أربعة، و للأخت من الأُم واحداً، و لكن الكل من ثمانية أجزاء، فلا الزوج نال النصف، و لا الأُختان الثلثين، و لا الأُخت من الأُم، السدس.

3 تلك الصورة و معهم أخ من أُم و فريضته أيضاً السدس فتعول الفريض إلى تسعة و ذلك (9\1 + 1 + 4 + 3).

فيعطى للزوج ثلاثة، و للأختين أربعة، و لكلّ من الأُخت و الاَخ من الأُم واحد لكن من تسعة أسهم، لا من ستة سهام، و لا يُمتَّع الزوج بالنصف، و لا الأُختان بالثلثين، و لا الاخت و الاَخ من الأُم بالثلث إلاّ لفظاً.

و إنّما سمّيت أُمّ الفروخ لاَنّها تعول بوتر، و تعول بالشفع أيضاً.

و هناك مسألة أُخرى معروفة باسم المسألة المنبرية، و هي التي سُئل عنها الاِمام عليّ - عليه السلام - و هو على المنبر فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين رجل مات و ترك ابنتيه و أبويه و زوجة ؟ فقال الاِمام - عليه السلام -: صار ثمن المرأة تسعاً، و مراده: أنّه على الرأي الرائج، صار سهمها تسعاً.

و ذلك لاَنّ المخرج المشترك للثلثين و السدس و الثمن هو عدد (24) فثلثاه (16) و سدساه (8) و ثمنه (3) و عند ذلك تعول الفريضة إلى (27) سهماً، و ذلك مثل (27\3 + 8 + 16).

فالقائل بالعول، يورد النقص على جميع أصحاب الفروض، فيعطي

ص: 298

لاَصحاب الثلثين (16) سهماً و للاَبوين (8) سهام، و للزوجة (1) سهام، من (27)، بدل اعطائهم بهذا المقدار من (24) سهماً، و الزوجة و إن أخذت (3) سهام، لكن لا من (24) سهماً حتى يكون ثمناً واقعياً، بل من (27) و هو تسع التركة التي هي (24) سهماً في الواقع(2).

هذه هي نظرية العول و بيانها بوجه سهل غير مبتن على المحاسبات الدقيقة و إن كان بيانه على ضوئها أتقن و أدق، فلنذكر أدلّة(3) القائلين به.

و يظهر من السيد المرتضى أنّ القائلين بالعول ربّما يوافقون الاِمامية في بعض الصور، كامرأة ماتت و خلّفت بنتين و أبوين و زوجاً، و المال يضيق عن الثلثين و السدسين و الربع فنحن بين أُمور: إمّا أن ندخل النقص على كل واحد من هذه السهام أو ندخله على بعضها، و قد أجمعت الأمّة على أنّ البنتين هاهنا منقوصتان بلا خلاف، فيجب أن نعطي الاَبوين السدس و الزوج الربع، و يجعل ما بقي للابنتين، و نخصّهما بالنقص لاَنّهما منقوصتان بالاجماع(3).

أدلّة القائلين بالعول:

استدلّ القائلون بالعول بوجوه:

1 إنّ الدُّيّان يقتسمون المال على تقدير قصوره عن دينهم بالحصص، و كذلك الورّاث، و الجامع الاستحقاق للمال.

ص: 299


1- . الانتصار: 284.
2- . سهم الزوجة مجموع السهام 27\16 + 8 + 3.
3- . أخذنا الدلائل الثلاثة الأول من المغني: 6/242 مع تفصيل منّا.

يلاحظ عليه: أنّه قياس مع الفارق فانّ الدين يتعلّق بالذمة، و التركة كالرهن عند الدائن، و بعبارة أُخرى: تعلّق الدين بعين المال تعلّق استحقاق لا تعلّق انحصار، فلو لم يؤدّوا حقّ الغرماء فلهم مصادرة التركة و استيفاء طلبهم من باب التقاص، و لو قاموا بالتأدية من غير التركة فليس لهم أيّ اعتراض و لأَجل ذلك ليس بمحال أن يكون لرجل على رجل ألف، و لآخر ألفان، و لثالث عشرة آلاف و إن صار الدَّين أضعاف التركة، لاَنّ المديون أتلف مال الغير بالاستقراض و الصرف، فصار مديوناً بما أتلف، كان بمقدار ماله أو أزيد أو أنقص فلا اشكال في تعلّق أضعاف التركة بالذمة لاَنّها تسع أكثر من ذلك.

و أمّا سهام الارث فانّها انّما تتعلّق بالتركة و الاَعيان الموروثة، و من المحال أن يكون للمال نصف، و نصف و ثلث، فامتلاك الورثة من التركة بقدر هذه الفروض أمر غير معقول، فلا بدّ أن يكون تعلّقها بشكل آخر تسعها التركة. بأن لا يكون لبعض أدلّة الفروض اطلاق يعمّ حالي الانفراد و الاجتماع حتى لا يستلزم المحال، و سيوافيك بيان ماله اطلاق لحال الاجتماع مع سائر الفروض و ما ليس له اطلاق.

و قد فصّل أصحابنا في نقد هذا الدليل وجوهاً و ما ذكرناه أتقن.

قال المرتضى: ما يقولونه في العول أنّ الديون إذا كانت على الميّت و لم تف تركته بالوفاء بها، فإنّ الواجب القسمة للمال على أصحاب الديون بحسب ديونهم من غير ادخال النقص على بعضهم، و ذلك أنّ أصحاب الديون مستوون في وجوب استيفاء أموالهم من تركة الميّت، و ليس لاَحد مزية على الآخر في ذلك، فإن اتّسع المال لحقوقهم استوفوها، فإن ضاق تساهموه و ليس كذلك مسائل العول، لاَنّا قد بيّنّا أنّ بعض الورثة أولى بالنقص من بعض، و أنّهم غير مستويين كاستواء

ص: 300

أصحاب الديون فافترق الاَمران(1).

2 إنّ التقسيط مع القصور واجب في الوصية للجماعة فالميراث كذلك، و الجامع بينهما استحقاق الجميع التركة، فلو أوصى لزيد بألف، و لعمرو بعشرة آلاف، و لبكر بعشرين ألفاً، و ضاق ثلثه عن القيام بالجميع يُورد النقص على الجميع حسب سهامهم.

يلاحظ عليه: أنّ الحكم ليس بمسلّم في المقيس عليه حتى يستظهر حال المقيس منها. بل الحكم فيه أنّه يعطى الاَوّل فالاَوّل إلى أن يبقى من المال شيء و يسقط من لم يسعه الثلث، لاَنّه أوصى بشيء لم يملكه فتكون وصيّته باطلة.

نعم لو ذكر جماعة ثمّ سمّى، كما إذا قال: زيد و عمرو و بكر لكل واحد ألف، فعجز عنه مقدار ما ترك، فلا شك أنّه يدخل النقص على الجميع و الفارق بينه و بين المقام هو تصريح الموصي بالعول، و لو ورد التصريح به في الشريعة و أغضينا عمّا سيوافيك يجب اتباعه فكيف يقاس، ما لم يرد فيه التصريح بما ورد.

3 إنّ النقص لا بدّ من دخوله على الورثة على تقدير زيادة السهام أمّا عند العائل فعلى الجميع و أمّا عند غيره فعلى البعض لكن هذا ترجيح من دون مرجّح.

يلاحظ عليه: أنّ رفع الاَمر المحال بايراد النقص على الجميع فرع احراز صحّة أصل تشريعه، و أنّه يصحّ أن يتملّك شخص نصف المال، و آخر نصفه الآخر، و ثالث ثلثه، و قد عرفت أنّه غير صحيح و أنّ المال لا يتحمّل تلك الفروض، و مع عدم صحّة تشريعه لا تصل النوبة إلى احتمال ورود النقص على

ص: 301


1- . الانتصار: 285.

الجميع، و تصويره بصورة العول، و ايراد النقص على الجميع رجوع عن الفرض، و اعتراف بأنّه ليس فيه نصفان و ثلث. كما سيظهر عند بيان أدلّة القائلين ببطلانه.

أضف إلى ذلك وجود المرجّح الذي أشار إليه الاِمام أمير المؤمنين و تلميذه ابن عباس و سيأتي كلامهما. و كلام العترة الطاهرة.

4 ما رواه أبو طالب الاَنباري(1) باسناده عن سماك عن عبيدة السلماني، قال: كان علي - عليه السلام - على المنبر فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين رجل مات و ترك ابنتيه، و أبويه و زوجة ؟ فقال علي - عليه السلام -: صار ثمن المرأة تسعاً. قالوا: إنّ هذا صريح في العول لاَنّكم قد قلتم إنّها لا تنقص عن الثمن و قد جعل - عليه السلام - ثمنها تسعاً(2).

و ذيله دال على أنّ الاِمام ذكره مجاراةً للرأي السائد في ذلك العصر و إلاّ فمن يجهل بأنّ الاِمام و عترته الطاهرة و خريجي منهجهم ينكرون العول بحماس. و إليك الذيل:

قلت لعبيدة: و كيف ذلك ؟ قال: إنّ عمر بن الخطاب وقعت في امارته هذه الفريضة فلم يدر ما يصنع و قال: للبنتين الثلثان، و للاَبوين السدسان، و للزوجة الثمن. قال: هذا الثمن باق بعد الاَبوين و البنتين، فقال له أصحاب محمد «صلى الله عليه و آله و سلم»: اعط هؤلاء فريضتهم، للاَبوين السدس، و للزوجة الثمن، و للبنتين ما يبقى، فقال:

ص: 302


1- . هو عبيد اللّه بن أبي زيد أحمد بن يعقوب بن نصر الاَنباري شيخ من أصحابنا، ثقة في الحديث عالم به، كان قديماً من الواقفة توفّي عام 356، اقرأ ترجمته في رجال النجاشي: 2/41 رقم 615، و تنقيح المقال و غيره و هو الذي روى خبر تكذيب ابن عباس رواية التعصيب. و قد تقدمت الاشارة إليه أيضاً.
2- . سهم الزوجة مجموع السهام 27\16 + 8 + 3.

فأين فريضتهما الثلثان ؟ فقال له علي بن أبي طالب عليه السلام: لهما ما يبقى. فأبى ذلك عمر و ابن مسعود فقال علي - عليه السلام -: على ما رأى عمر. قال عبيدة: و أخبرني جماعة من أصحاب علي - عليه السلام - بعد ذلك في مثلها أنّه أعطى للزوج الربع، مع الابنتين، و للاَبوين السدسين و الباقي ردّ على البنتين و ذلك هو الحق و إن أباه قومنا(1).

و يستفاد من الحديث أوّلاً: أنّ عليّاً و أصحاب النبيّ إلاّ شخصين كانوا يرون خلاف العول، و أنّ انتشاره لكون الخليفة يدعم ذلك آنذاك.

و ثانياً: أنّ الاِمام عمل في واقعة برأيه و أورد النقص على البنتين فقط، و على ذلك يكون المراد من قوله، فقال علي - عليه السلام -: على ما رأى عمر، هو المجاراة و المماشاة، و إلاّ يصير ذيل الحديث مناقضاً له.

إلى هنا تمت دراسة أدلّة القائلين بالعول. فلنذكر أدلّة المنكرين.

أدلّة القائلين ببطلان العول:

1 يستحيل أن يجعل اللّه تعالى في المال نصفين و ثلثاً، أو ثلثين و نصفاً و نحو ذلك ممّا لا يفي به و إلاّ كان جاهلاً أو عابثاً تعالى اللّه عن ذلك.

2 أنّ القول بالعول يؤدّي إلى التناقض و الاغراء بالجهل، أمّا التناقض فقد بيّنا عند تفصيل القول بالعول أنّه إذا مات و ترك أبوين و بنتين و زوجاً، و قلنا: إنّ فريضتهم من اثني عشر، فمعنى ذلك أنّ للاَوّلين أربعة من اثني عشر، و للثانيتين،

ص: 303


1- . الوسائل: 17، الباب 7، من أبواب موجبات الاِرث الحديث 14 و لاحظ التهذيب لشيخ الطائفة: 9/259 رقم 971.

ثمانية من اثني عشر، و للزوج ثلاثة من اثني عشر، فإذا أعلناها إلى خمسة عشر فأعطينا الاَبوين أربعة من خمسة عشر و للبنتين ثمانية من خمسة عشر، و للزوج ثلاثة من خمسة عشر، فقد دفعنا للاَبوين (مكان الثلث) خمساً و ثلُثه، و إلى الزوج (مكان الربع) خُمساً، و إلى الابنتين (مكان الثلثين) ثلثاً و خمساً و ذلك نفس التناقض.

و أمّا الاغراء بالجهل، فقد سمّى اللّه سبحانه، الخمس و ثلثه باسم الثلث، و الخُمس باسم الربع، و ثلثاً و خمساً باسم الثلثين(1).

و الاَولى أن يقرّر الدليلان بصورة دليل واحد، مؤَلّف من قضية حقيقية بأن يقال: إذا جعل اللّه سبحانه في المال نصفين و ثلثاً، فأمّا أن يجعلها بلا ضم حلولٍ مثل العول إليه، فيلزم كونه سبحانه جاهلاً أو عابثاً تعالى عن ذلك، و أمّا أن يجعل مع النظر إلى حلول مثل العول، فيلزم التناقض بين القول و العمل و الاغراء مع كونه قبيحاً.

3 أنّه يلزم على القول بالعول تفضيل النساء على الرجال في موارد و من المعلوم أنّه يخالف الشريعة الاِسلامية، منها ما يلي:

1 إذا خلّفت زوجاً و أبوين و ابنا.

2 إذا خلّفت زوجاً و أُختين لأم، و أخاً لاَب.

بيان الملازمة: أنّه لو خلّفت المرأة زوجاً و أبوين، فعلى ظاهر النصوص،

ص: 304


1- . سهام الاَبوين مجموع السهام 15\2 + 2 + 3 + 8. للبنتين. سهم الزوج.

يدفع إلى الزوج النصف أي ثلاثة من ستة، و للأم اثنان من ستة، و الباقي و هو الواحد للاَب، و لكن المذاهب لم تعمل بظاهر النصوص لاستلزامه تفضيل النساء على الرجال.

و لكنّه يلزمهم التفضيل في الموردين المتقدّمين على القول بالعول بالبيان التالي.

أنّهم التزموا في المورد الاَوّل بدفع الربع إلى الزوج و السدسين للاَبوين و الباقي (و هو خمسة أسهم من اثني عشر) للابن.

و في المورد الثاني يدفع إلى الزوج النصف و إلى الأُختين الثلث، و الباقي و هو الواحد إلى الاَخ لاَب بلا عول.

و لكن: لو كان بدل الابن بنتاً و بدل الاَخ أُختاً لاَب فهما تأخذان أكثر من الذكر.

و ذلك لاستلزامهما العول في كلتا الصورتين و ورود النقص على الجميع، و إن شئت التوضيح فلاحظ التعليقة(1).

ما هي الحلول لهذه المشكلة:

كان الاِمام عليّ يُندِّد القول بالعول و يقول: «إنّ الذي أحصى رمل عالج يعلم أنّ السهام لا تعول على ستة لو يبصرون وجهها لم تجز ستّة»(2) و قد تضافر

ص: 305


1- . لو كان ابناً 5\12.77\3 + 2 + 2. فلو كان مكان الابن بنتاً يلزم أن يكون نصيبها أكثر من الابن للبنت لو كان الوارث أخاً لاَب 1\35 + 2\65 و لو كان مكان الاَخ أُختاً لاَب فسهمها و سهم الاَخ 8\3 + 2 + 3
2- . الوسائل: 17 الباب 6 من أبواب موجبات الارث، الحديث 7 و 9 و 14.

القول «السهام لا تعول» عن أئمّة أهل البيت(1).

و قد جاء تفصيل تاريخ العول في رواية ابن عباس و بيان الحلول التي لجأ إليها تلميذ الاِمام في رواية عبيد اللّه بن عبد اللّه و إليك نصَّها:

«جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض في المواريث فقال ابن عباس: سبحان اللّه العظيم أ ترون أنّ الذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في مال نصفاً و نصفاً و ثلثاً، فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث ؟

فقال له زفر بن أوس البصري: فَمَن أوّل من أعال الفرائض ؟

فقال: عمر بن الخطاب لما التفَّت الفرائض عنده و دفع بعضها بعضاً فقال: و اللّه ما أدري أيّكم قدم اللّه و أيّكم أخّر و ما أجد شيئاً هو أوسع من أن أُقسِّم عليكم هذا المال بالحصص، فأدخل على كل ذي سهم ما دخل عليه من عول الفرائض، و أيم اللّه لو قدّم مَن قدّم اللّه و أخّر من أخّر اللّه ما عالت فريضة.

فقال له زفر: و أيّها قدّم و أيّها أخّر؟

فقال: كل فريضة لم يهبطها اللّه عن فريضة إلاّ إلى فريضة فهذا ما قدّم اللّه. و أمّا ما أخّر: فلكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يبق لها إلاّ ما بقي، فتلك التي أخّر. فأمّا الذي قدَّم: فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء، و الزوجة لها الربع، فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء، و الأُم لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى

ص: 306


1- . الوسائل: 17 الباب 6 من أبواب موجبات الارث، الحديث: 1، 2، 3، 5، 7، 8، 10، 11، 12، 15، 16.

السدس، و لا يزيلها عنه شيء، فهذه الفرائض التي قدّم اللّه. و أمّا التي أخّر: ففريضة البنات و الاَخوات لها النصف و الثلثان، فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهنّ إلاّ ما بقي، فتلك التي أخّر، فإذا اجتمع ما قدّم اللّه و ما أخّر بدئ بما قدّم اللّه فأُعطي حقّه كاملاً، فإن بقي شيء كان لمن أخّر، و إن لم يبق شيء فلا شيء له»(1).

فقد جاء في كلام ابن عباس ذكر الطوائف الذين لا يدخل بهم النقص و هم عبارة عن:

1 الزوج. 2 الزوجة. 3 الأُم، و هؤلاء يشاركون في أنّهم لا يهبطون عن فريضة إلاّ إلى فريضة أُخرى و هذا آية أنّ سهامهم محدودة لا تنقص.

و كان عليه أن يذكر الاَخ و الأُخت من أُمّ ، لاَنّهم أيضاً لا يهبطون من سهم (الثلث) إلاّ إلى سهم آخر و قد جاء الجميع في كلام الاِمام أمير المؤمنين. روى أبو عمر العبدي عن علي بن أبي طالب أنّه كان يقول: الفرائض من ستة أسهم: الثلثان أربعة أسهم، و النصف ثلاثة أسهم، و الثلث سهمان، و الربع سهم و نصف، و الثمن ثلاثة أرباع سهم، و لا يرث مع الولد إلاّ الاَبوان و الزوج و المرأة، و لا يحجب الأُم عن الثلث إلاّ الولد و الاِخوة، و لا يزاد الزوج عن النصف و لا ينقص من الربع، و لا تزاد المرأة على الربع و لا تنقص عن الثمن، و إن كنّ أربعاً أو دون ذلك فهنّ فيه سواء، و لا تزاد الاِخوة من الأُم على الثلث و لا ينقصون من السدس و هم فيه سواء الذكر و الانثى، و لا يحجبهم عن الثلث إلاّ الولد، و الوالد، و الدية تقسم

ص: 307


1- . الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الاِرث، الحديث: 6، لاحظ المستدرك للحاكم: 4/340 كتاب الفرائض و الحديث صحيح على شرط مسلم، و أورده الذهبي في تلخيصه اذعاناً بصحته.

على من أحرز الميراث(1).

نعم روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - قال: أربعة لا يدخل عليهم ضرر في الميراث: الوالدان، و الزوج، و المرأة(2) و بما أنّ المراد من المرأة هي الزوجة فلا بدّ من تقييد الرواية بكلالة الأُم. فإذا كان هؤلاء من قدّمهم اللّه و لا يزيد عليهم النقص، فيكون من أخّره اللّه عبارة عن البنت أو البنتين أو من يتقرّب بالاَب و الأُم أو بالاَب من الأُخت أو الاَخوات.

روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: قلت له: ما تقول في امرأة تركت زوجها و إخوتها لأمّها و إخوة و أخوات لاَبيها؟ قال: للزوج النصف ثلاثة أسهم، و لاِخوتها من أُمّها الثلث سهمان الذكر و الانثى فيه سواء، و ما بقي سهم للاِخوة و الاَخوات من الاَب: "لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ " لاَنّ السهام لا تعول و لاَنّ الزوج لا ينقص من النصف، و لا الاِخوة من الأُم من ثلثهم فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث(3).

و ورد تعبير لطيف في رواية الصدوق في عيون الاَخبار: عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون و هو أنّه «و ذو السهم أحقّ ممّن لا سهم له»(4).

ما الفرق بين البنت و كلالة الأم:

بقي الكلام في عدّ البنت و البنات و الأُخت و الاَخوات، ممّن يدخل عليهم النقص دون الاخت و الاَخ من الأُم، مع أنّ الطوائف الثلاث على وتيرة واحدة.

ص: 308


1- . الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الاِرث، الحديث 12، 3 و 17 و 15.
2- . الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الاِرث، الحديث 12، 3 و 17 و 15.
3- . الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الاِرث، الحديث 12، 3 و 17 و 15.
4- . الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الاِرث، الحديث 12، 3 و 17 و 15.

فللبنت و البنات: النصف و الثلثان، و للأخت و الاَخوات: النصف و الثلثان، و لكلالة الأُم: الثلث و السدس. فما هو الفارق بين الطائفة الثالثة و الاوليين ؟

يتّضح الجواب ببيان أمر: و هو دخول الاَخ في كلالة الأُم، لا يخرجها عن كونها وارثة بالفرض، فالواحد منها سواء كان ذكراً أم أُنثى له السدس، و غير الواحد، سواء كانوا ذكراً أم أُنثى، أو ذكراً و أُنثى لهم الثلث يقتسمون بالمناصفة.

و هذا بخلاف الطائفتين الأوليين فللبنت و الأُخت المنفردتين النصف، و لأَزيد من الواحدة الثلثان، و لو انضمّ إليهما الاَخ فللذكر مثل حظّ الانثيين في الطائفتين، أي لا يرثن بالفرض بل بالقرابة.

و على ذلك و كلالة الأُم مطلقاً وارثة بالفرض لا ترث إلاّ به، بخلاف البنت و أزيد، أو الأُخت و أزيد، فربّما يرثن بالقرابة و ذلك فيما إذا انضمّ إليهنّ الاَخ.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول:

إنّ كلالة الأُم، ترث بالفرض مطلقاً كان معهم ذكر أو لا، تفرّدت من الطبقة بالارث أو لا، فلو لم يكن وارث سواها ترث الثلث فرضاً و الباقي ردّاً. و لا ينقص حظّهم في صورة من الصور لو لم يزد عند الرد، و هذا آية عدم ورود النقص عند التزاحم.

و بالجملة: لا نرى فيهم أيّ ازالة من الفرض في حال من الحالات و لا ورود نقص عليهم عند تطوّر الاَحوال. و هذا بخلاف البنت و الأُخت فلو دخل فيهم: الاَخ، يتغيّر الفرض من النصف أو الثلثين، إلى مجموع ما ترك بعد دفع سهام الآخرين كالوالدين، أو كلالة الأُم، ثمّ يقتسمون بالتثليث و تنقص حظوظ البنت

ص: 309

أو البنات أو الأُخت و الاَخوات عن النصف و الثلثين بكثير، و هذا آية جواز دخول النقص عليهم عند التزاحم.

و بعبارة أُخرى: أنّ كلالة الأُم ترث دائماً بالفرض حتى فيما إذا تفرّدت، و أمّا الطائفتان الأوليان فإنّما ترثان بالفرض تارة كما إذا لم يكن بينهم أخ، و أُخرى بالقرابة فقط كما إذا انضمّ الاَخ إليهنّ . و أيضاً: كلالة الأُم لا يرد عليها النقص و لا ينقص حظهم عن الثلث و السدس، بخلاف الاَخيرتين فينقص حظّهما عن النصف و الثلثين.

و لعلّه إلى ما ذكرنا من التوضيح يشير صاحب الجواهر بقوله: «دون من يتقرّب بالأمّ الذي لا يرث إلاّ بالفرض، بخلاف غيره فإنّه يرث به تارة و بالقرابة أُخرى كالبنت و البنتين، اللَّتين ينقصن إذا اجتمعن مع البنين عن النصف أو الثلثين بنصّ الآية لاَنّ للذكر حينئذ مثل حظّ الانثيين»(1).

و قال العاملي: «و يدخل النقص على البنت و البنات لاَنّهنّ إذا اجتمعن مع البنين ربّما نقصن عن العشر أو نصفه لنصّ الآية "لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ " و كذا الحال في الاِخوة و الاَخوات من قبل الاَب أو من قبلهما»(2).

قال المحقّق: يكون النقص داخلاً على الاَب أو البنت أو البنتين أو من يتقرّب بالاَب و الأُم أو بالاَب من الأُخت و الاَخوات دون من يتقرّب بالأمّ ، و لم يذكر العلاّمة في القواعد(3) «الاَب» و هو الصحيح لاَنّ الكلام في المقام هو

ص: 310


1- . الجواهر 39:110. و حاشية جمال الدين على الروضة البهية: 2/297 في هامش الكتاب.
2- . مفتاح الكرامة: 8/120.
3- . المصدر نفسه.

زيادة الفروض على التركة، فيقع الكلام في تقديم بعض أصحاب الفروض على بعض، و أمّا الوارث الذي ليس بصاحب فرض و إن كان في جنب ذيه فهو خارج عن محل البحث، و الاَب كذلك لاَنّه مع الولد للميّت لا ينقص فرضه عن السدس(1) و مع عدمه ليس ذا فرض بخلاف الأُم فإنّها من ذوات الفروض مطلقاً.

و ليعلم أنّ عامل العول هو الزوج أو الزوجة إذا اجتمع أحدهما مع البنت أو البنات، أو مع الأُخت أو الاَخوات من قبل الاَبوين أو لاَب، و إلاّ لما يلزم العول.

و على ذلك:

1 فلو خلفت زوجاً و أبوين و بنتاً، يختصّ النقص بالبنت بعد الربع و السدس.

2 لو خلفت زوجاً و أحد الاَبوين و بنتين، يختصّ النقص بهما بعد الربع و السدسين.

3 لو خلف زوجة و أبوين و بنتين، يختصّ النقص بهما بعد الثمن و السدسين.

4 لو خلفت زوجاً مع كلالة الأُم و أُختاً أو أخوات لاَب و أُم أو لاَب، يدخل النقص بالأخت أو الاَخوات بعد النصف و السدس إن كانت الكلالة واحدة أو الثلث إن كانت متعدّدة.

ص: 311


1- . الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الارث الحديث 2 و 4 و 10.

بقيت هنا نكات نذكرها:

1 إنّ الآثار المروية عن ابن عباس تشهد على أنّ حبر الأمّة كان قاطعاً ببطلان العول على حد كان مستعدّاً للمباهلة. قال ابن قدامة: روي عن ابن عباس أنه قال في زوج و أُخت و أُم: من شاء باهلته أنّ المسائل لا تعول، إنّ الذي أحصى رمل عالج عدداً، أعدل من أن يجعل في مال نصفاً و نصفاً و ثلثاً، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث ؟ فسُمِّيت هذه المسألة، مسألة المباهلة لذلك(1).

2 إنّ فقيه المدينة: الزهري كان يستحسن فتوى ابن عباس و يقول: إنّها الحجّة لو لا أنّه تقدّم عليه عمر بن الخطاب.

روى الشيخ في الخلاف عن عبيد اللّه بن عبد اللّه و زفر بن أوس البصري أنّهما سألا ابن عباس: من أوّل من أعال الفرائض ؟ قال: عمر بن الخطاب، قيل له: هلا أشرت به عليه ؟ قال: هبته و كان أمره مهيباً، قال الزهري: لو لا أنّه تقدّم ابن عباس، امام عدل و حكم به و أمضاه و تابعه الناس على ذلك لما اختلف على ابن عباس اثنان(2).

3 إنّ موسى جار اللّه قد أطنب الكلام في مسألة «العول» إلى حدّ مملّ جداً و أخذ يجترّ كلاماً واحداً، و حصيلة كلامه: يغلب على ظنّي أنّ القول بأنّ لا عول عند الشيعة، قول ظاهري فإنّ العول هو النقص فإن كان النقص في جميع السهام

ص: 312


1- . المغني: 6/241 و نقله عن ابن عباس أكثر من تعرّض للمسألة.
2- . الخلاف: 2/282، المسألة 81 و غيره.

بنسبة متناسبة، فهو العول العادل أخذت به الأُمة و قد حافظت على نصوص الكتاب، و إن كان النقص في سهم المؤَخّر، فهو العول الجائر أخذت به الشيعة و خالفت به نصوص الكتاب(1).

يلاحظ عليه:

1 أنّ المعنى المناسب للعول في المقام هو الارتفاع أو الميل إلى الجور، و تفسيره بالنقص لو افترضنا صحّة استعماله فيه غير مناسب جداً، لظهور ارتفاع الفرائض عن سهام التركة، و ارتفاعها و إن كان ملازماً لنقص التركة عن الاجابة لجميع الفروض، لكن ينظر إلى المسألة من زاوية ارتفاع الفرائض دون نقصان سهام التركة و لأَجل ذلك يقول ابن عباس: «و أيم اللّه لو قدّموا من قدّم اللّه، و أخّروا من أخّر اللّه ما عالت فريضة» و من المعلوم عدم صحّة تفسيره ب «و ما نقصت الفريضة».

2 سلّمنا أنّ العول بمعنى النقص لكن رمي الشيعة بأنّهم يقولون به حيث إنّهم يوردون النقص على المؤَخّر، غفلة من نظرهم، فانّ النقص إنّما يتصوّر إذا كان المؤَخّر ذا فرض، و لكنّه عندهم ليس بذي فرض بل يرث بالقرابة كسائر من يرثون بها و عندئذ لا يصدق النقص أبداً في هذه الحالة.

يشهد بذلك كلام ابن عباس حيث يفسّر المقدّم بأنّه ممّن له فرضان، و المؤخّر بأنّه ممّن ليس له إلاّ فرض واحد و هو في غير هذا المورد: حيث قال في جواب «زفر» الذي سأله عمّن قدّمه و من أخّره ؟ فقال: و الذي أهبطه من فرض إلى

ص: 313


1- . الوشيعة في نقض عقائد الشيعة، و قد نقلنا كلامه مجرّداً عن الطعن بأئمّة أهل البيت.

فرض فذلك الذي قدّمه، و الذي أهبطه من فرض إلى ما بقي فذلك الذي أخّره اللّه(1)، و بعبارة أُخرى: إنّ الذي أخّره اللّه لم يجعل له حقّا و الاجتماع فيرث ما بقي، و ليس هو بذي فرض في هذا الفرض لكونه وارثاً بالقرابة. و بذلك تبيّن أنّه لا عول عند الشيعة بالمعنى المصطلح عند الفقهاء.

3 ما ذكره من أنّ السنّة حافظت على نصوص الكتاب و لكن الشيعة بادخال النقص على المؤَخّر خالفت نصوصه، من أعاجيب الكلام، فإذا كان في دخول النقص على المؤَخّر (على وجه المسامحة) مخالفة لظاهر الكتاب ففي دخولها على الجميع مخالفة مضاعفة، فقد عرفت في ما سبق أنّ من فرض اللّه له النصف أعطوه أقلّ منه، و من فرض له الثلثان أعطوه أقلّ منهما. فكيف لا يكون فيه مخالفة(2).

ص: 314


1- . لاحظ الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الارث، الحديث 6.
2- . و قد كفانا في نقد ما اختلقه من الشبهات أو أخذها ممّن تقدم عليه: العلمان الجليلان: السيد عبد الحسين العاملي في كتابه «أجوبة موسى جار اللّه». و السيد محسن العاملي في «نقض الوشيعة» قدّس اللّه أسرارهما.

المسألة الخامسة عشرة: التقيّة

اشارة

المسألة الخامسة عشرة: التقيّة(1)

التقيّة من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، و في تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة، ليصون بها نفسه و عرضه و ماله، أو نفس من يمتُّ إليه بصلة و عرضَه و مالَه، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل و التنكيل(2) و لاذ بها عمّار عند ما أُخذ و أُسِر و هُدِّد بالقتل(3) إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب و السنّة، فمن المحتّم علينا أن نتعرّف عليها، مفهوماً و غايةً و دليلاً و حدّاً، حتى نتجنَّب الافراط و التفريط في مقام القضاء و التطبيق.

ص: 315


1- جعل التقية من المسائل الفقهية لاَجل اتّصافها بالجواز و المنع عند الفقهاء، و هذا يكفي في كونها مسألة فقهية، مضافاً إلى البحث عن صحّة الاَعمال الموافقة للتقيّة و عدمها.
2- . القصص: الآية 20.
3- . النحل: الآية 106.

إنّ التقية، اسم ل «اتّقى يتّقي»(1) و التاء بدل من الواو، و أصله من الوقاية، و من ذلك اطلاق التقوى على اطاعة اللّه، لاَنّ المطيع يتخذها وقاية من النار و العذاب. و المراد هو التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ .

مفهومها:

إذا كانت التقية هي اتخاذ الوقاية من الشرِّ، فمفهومها في الكتاب و السنّة هو: إظهار الكفر و إبطان الاِيمان، أو التظاهر بالباطل و إخفاء الحق. و إذا كان هذا مفهومها، فهي تُقابل النفاق، تَقابُل الاِيمان و الكفر، فإنّ النفاق ضدها و خلافها، فهو عبارة عن إظهار الاِيمان و ابطان الكفر، و التظاهر بالحقّ و اخفاء الباطل، و مع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدها من فروع النفاق.

نعم: من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن، و به صوَّر التقية الواردة في الكتاب و السنّة من فروعه، فقد فسّره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن، فإنّه يُعرِّف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان و المبطنين للكفر بقوله تعالى: "إِذٰا جٰاءَكَ اَلْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اَللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ "(2) فإذا كان هذا حدُّ المنافق فكيف يعمُّ من يستعمل التقية تجاه الكفار و العصاة فيخفي إيمانه و يظهر الموافقة لغاية صيانة النفس و النفيس،

ص: 316


1- . قال ابن الاَثير في النهاية: 5/217: و أصل اتقى: أوتقى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثمّ أُبدلت تاء و أُدغمت. و منه حديث علي عليه السّلام: كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه، أي جعلناه وقاية من العدوّ. و لاحظ لسان العرب مادة «وقى».
2- . المنافقون: الآية 1.

و العرض و المال من التعرّض ؟!

و يظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الاِسلامي، و لو كانت من قسم النفاق، لكان ذلك أمراً بالقبيح و يستحيل على الحكيم أن يأمر به: "قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ "(1) .

غايتها:

الغاية من التقية: هي صيانة النفس و العرض و المال، و ذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضار و تهلكة من قوى ظالمة غاشمة كممارسة الحكومات الظالمة الارهاب، و التشريد و النفي، و القتل و التنكيل، و مصادرة الاَموال، و سلب الحقوق الحقة، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقاً محيص عن إبطانها، و التظاهر بما يوافق هوى الحاكم و توجّهاته حتى يسلم من الاضطهاد و التنكيل و القتل، إلى أن يُحدِث اللّه أمراً.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه و عرضه و ماله، لا لشيء إلاّ لاَنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ و الاَفكار.

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول و العمل، و الرأي و العقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت و السكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة و أفكارها، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لا بد منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد و المستضعف الذي لا حول له و لا قوة، فيتظاهر

ص: 317


1- . الاَعراف: الآية 28.

بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولاً إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها، يتصوّر أو يصوِّر أنّ الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم و التخريب، كما هو المعروف من الباطنيين و الاَحزاب الاِلحادية السرية، و هو تصوّر خاطىَ ذهب إليه أُولئك جهلاً أو عمداً دون أن يركزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره، و لو لم تُلجئ الظروف القاهرة و الاَحكام المتعسفة هذه الجموع المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية، و لما تحمّلوا عبء اخفاء معتقداتهم و لدعوا الناس إليها علناً و دون تردّد، إلاّ أنّ السيف و النطع سلاح لا تتردد كل الحكومات الفاسدة من التلويح به أمام من يخالفها في معتقداتها و عقائدها.

أين العمل الدفاعي من الاَعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للاِطاحة بالسلطة و امتطاء ناصية الحكم، فأعمالهم كلها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة.

و هؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرّر الوسائل» فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشئومة.

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء و بين من يتخذ التقية غطاءً ، و سلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير، حتى لا يُقْتَل و لا يُستأصل، و لا تُنهب داره و ماله، إلى أن يُحدث اللّه أمراً، من قبيل عطف المبائن على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب

ص: 318

و المحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها و لا أن تتصورها، فإنّ الشيوعيّين طيلة تسلّطهم على المناطق الاِسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ ، فصادروا أموالهم و أراضيهم، و مساكنهم، و مساجدهم، و مدارسهم، و أحرقوا مكتباتهم، و قتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً و وحشياً، فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشيء من التظاهر بالمرونة، و اخفاء المراسم الدينية، و العمل على اقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللّه سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد، فملكوا أرضهم و ديارهم، و أخذوا يستعيدون مجدهم و كرامتهم شيئاً فشيئاً، و ما هذا إلاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها اللّه تعالى لعباده بفضله و كرمه سبحانه على المستضعفين.

فإذا كان هذا معنى التقية و مفهومها، و كانت هذه غايتها و هدفها، فهو أمر فطري يسوق الانسان إليه قبل كل شيء عقلُه و لبُّه، و تدعوه إليه فطرته، و لأَجل ذلك يستعملها كل من ابتُلي بالملوك و الساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم و فكرتهم و مطامعهم و سلطتهم و لا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك، من غير فرق بين المسلم شيعياً كان أم سنيّاً و غيره، و من هنا تظهر جدوى التقية و عمق فائدتها.

و لأَجل دعم هذا الاَصل الحيويّ ندرس دليله من القرآن و السنّة.

دليلها في القرآن و السنّة:

شرّعت التقية بنص القرآن الكريم حيث وردت جملة من الآيات الكريمة(1). سنحاول استعراضها في الصفحات التالية:

ص: 319


1- . غافر: الآية 28 و 45، و القصص: الآية 20 و ستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.

الآية الأولى:

قال سبحانه: "مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ " (النحل/ 106).

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً و مجاراةً للكافرين خوفاً منهم، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، و صرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى و الجدد، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنّباً عن الاِطالة و الاسهاب، و لمن يبتغي المزيد فعليه بمراجعة كتب التفسير المختلفة:

1 قال الطبرسي: قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر، و هم عمّار و أبوه ياسر و أُمّه سمية، و قُتلَ الاَبوان لاَنّهما لم يظهرا الكفر و لم ينالا من النبيّ ، و أعطاهم عمّار ما أرادوا منه، فأطلقوه، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللّه، و انتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمّار، فقال الرسول: كلاّ إنّ عمّاراً مُلئَ إيماناً من قرنه إلى قدمه، و اختلط الاِيمان بلحمه و دمه.

و في ذلك نزلت الآية السابقة، و كان عمّار يبكي، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه و يقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت(1).

2 و قال الزمخشري: روي أنّ أُناساً من أهل مكّة فُتِنُوا فارتدّوا عن الاِسلام بعد دخولهم فيه، و كان فيهم من أُكره و أجرى كلمة الكفر على لسانه و هو معتقد للاِيمان، منهم عمّار بن ياسر و أبواه: ياسر و سمية، و صهيب و بلال و خباب.

ص: 320


1- . الطبرسي: مجمع البيان: 3/388.

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً...(1).

3 و قال الحافظ ابن ماجة: «و الايتاء: معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية، و التقية في مثل هذه الحال جائزة لقوله تعالى: "إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ "»(2).

4 و قال القرطبي: قال الحسن: التقية جائزة للانسان إلى يوم القيامة ثمّ قال: أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا اثم عليه إن كفر و قلبه مطمئن بالإيمان و لا تبين منه زوجته و لا يحكم عليه بالكفر، هذا قول مالك و الكوفيين و الشافعي(3).

5 قال الخازن: «التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة، قال اللّه تعالى: "إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ " ثمّ هذه التقية رخصة»(4).

6 قال الخطيب الشربيني: «"إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ " أي على التلفّظ به "وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ " فلا شيء عليه لاَنّ محل الاِيمان هو القلب»(5).

7 و قال إسماعيل حقّي: «"إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ " أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه... لاَنّ الكفر اعتقاد، و الاكراه على القول دون الاعتقاد، و المعنى: «و لكن المكره على الكفر باللسان»، "وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ

ص: 321


1- . الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل: 2/430.
2- . ابن ماجة: السنن: 1/53، شرح حديث رقم 150.
3- . القرطبي: الجامع لاَحكام القرآن: 4/57.
4- . تفسير الخازن: 1/277.
5- . الخطيب الشربيني: السراج المنير. في تفسير الآية.

بِالْإِيمٰانِ " لا تتغير عقيدته، و فيه دليل على أنّ الاِيمان المنجي المعتبر عند اللّه، هو التصديق بالقلب»(1).

الآية الثانية:

قال سبحانه: "لاٰ يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّٰهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ "(2).

و كلمات المفسّرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح:

1 قال الطبري: "إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً ": قال أبو العالية: التقية باللسان، و ليس بالعمل، حُدّثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحّاك يقول في قوله تعالى: "إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً " قال: التقيّة باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به و هو للّه معصية فتكلم مخافة نفسه "وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ " فلا اثم عليه، إنّما التقية باللسان(3).

2 و قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: "إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً ": رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، و المراد بتلك الموالاة: مخالفة و معاشرة ظاهرة، و القلب مطمئن بالعداوة و البغضاء و انتظار زوال المانع(4).

ص: 322


1- . إسماعيل حقي: تفسير روح البيان: 5/84.
2- . آل عمران: الآية 28.
3- . الطبري: جامع البيان: 3/153.
4- . الزمخشري: الكشاف: 1/422.

3 قال الرازي في تفسير قوله تعالى: "إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً ": المسألة الرابعة: اعلم: أنّ للتقية أحكاماً كثيرة و نحن نذكر بعضها:

ألف: إنّ التقيّة إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار، و يخاف منهم على نفسه، و ماله، فيداريهم باللسان، و ذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة و الموالاة، و لكن بشرط أن يضمر خلافه و أن يعرض في كل ما يقول، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ب: التقيّة جائزة لصون النفس، و هل هي جائزة: لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله - صلى الله عليه و آله و سلم -: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» و لقوله - صلى الله عليه و آله و سلم -: «من قتل دون ماله فهو شهيد»(1).

4 و قال النسفي: "إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً " إلاّ أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتّقاؤه، أي ألاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك و مالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة و إبطان المعاداة(2).

5 و قال الآلوسي: و في الآية دليل على مشروعية التقية و عرَّفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الاَعداء. و العدو قسمان:

الاَوّل: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين، كالكافر و المسلم.

الثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية، كالمال و المتاع و الملك و الامارة(3).

ص: 323


1- . مفاتيح الغيب: 8/13.
2- . النسفي: التفسير بهامش تفسير الخازن: 1/277.
3- . الآلوسي: روح المعاني: 3/121.

6 و قال جمال الدين القاسمي: و من هذه الآية: "إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً " استنبط الاَئمّة مشروعية التقية عند الخوف، و قد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الاِمام مرتضى اليماني في كتابه (ايثار الحق على الخلق)(1).

7 و فسّر المراغي قوله تعالى: "إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً " بقوله: أي إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يُتّقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية «انّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».

و إذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، و إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة، و ليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين، و لا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.

و قد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الانسان أو يفعل ما يخالف الحق، لاَجل توقّي ضرر من الاَعداء يعود إلى النفس، أو العرض، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك، و قلبه مطمئن بالإيمان، لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً و قلبه مليء بالإيمان و فيه نزلت الآية:

"مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ "(2).

ص: 324


1- . جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل: 4/82.
2- . تفسير المراغي: 3/136.

هذه الجمل الوافية و العبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالاً إلاّ أن يحكم بشرعية التقيّة بالمعنى الذي عرفته بل قد لا يجد أحد مفسّراً أو فقيهاً وقف على مفهومها و غايتها يتردد في الحكم بجوازها، كما أنّك أخي القاري لا تجد انساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

و أمّا المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها، فإنّما يفسّرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية و المذاهب الهدّامة كالنصيرية و الدروز، و الباطنية كلّهم، إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدامة لكل فضيلة رابية.

الآية الثالثة: قوله سبحانه:

"وَ قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّٰهُ وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كٰاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صٰادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّٰابٌ "(1).

و كانت عاقبة أمره أن: "وقاه اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِ مٰا مَكَرُوا وَ حٰاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذٰابِ "(2).

و ما كان ذلك إلاّ لاَنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبيّ اللّه من الموت: "قٰالَ يٰا مُوسىٰ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنّٰاصِحِينَ "(3).

و هذه الآيات تدل على جواز التقية لانقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الكافر.

ص: 325


1- . غافر: الآية 28.
2- . غافر: الآية 45.
3- . القصص: الآية 20.

اتّقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصة:

إنّ مورد الآيات و إن كان هو اتقاء المسلم من الكافر، و لكن المورد ليس بمخصّص لحكم الآية، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلاّ صيانة النفس و النفيس من الشر، فإذ ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع و لا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس و النفيس عن طريق كتمان العقيدة و استعمال التقية، و لو كان هناك وزر فإنّما يتوجّه على من يُتقى منه لا على المتقي، فلو سادت الحرية جميع الفرق الاِسلامية، و تحمّلت كل فرقة آراء الفرقة الأُخرى لوقفت على أنّ الرأي الآخر هو نتيجة اجتهادها، و لما اضطرّ أحد من المسلمين إلى استخدام التقية، و لساد الوئام مكان النزاع.

و قد فهم ذلك لفيف من العلماء و صرّحوا به، و إليك نصوص بعضهم:

1 يقول الاِمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: "إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً ": ظاهر الآية يدل على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفار الغالبين، إلاّ أنّ مذهب الشافعي رضي اللّه عنه: أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين و الكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس، و قال: التقية جائزة لصون النفس، و هل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»، و قوله - صلى الله عليه و آله و سلم -: «من قتل دون ماله فهو شهيد»(1).

ص: 326


1- . الرازي: مفاتيح الغيب: 8/13 في تفسير الآية.

2 ينقل جمال الدين القاسمي عن الاِمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحق على الخلق» ما نصّه: «و زاد الحق غموضاً و خفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين مع قلّتهم من علماء السوء و سلاطين الجور و شياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن، و اجماع أهل الاِسلام، و ما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، و لا برح المحق عدوّاً لاَكثر الخلق، و قد صحّ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّه قال في ذلك العصر الاَوّل: حفظت من رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس و أمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم(1).

3 و قال المراغي في تفسير قوله سبحانه: "مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ ": و يدخل في التقية مداراة الكفرة و الظلمة و الفسقة، و إلانة الكلام لهم، و التبسّم في وجوههم و بذل المال لهم، لكف أذاهم و صيانة العرض منهم، و لا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله - صلى الله عليه و آله و سلم -: «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة»(2).

إنّ الشيعة تتقي الكفّار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لاَجلها يتقيهم السنّي، غير أنّ الشيعي و لأَسباب لا تخفى، يلجأ إلى اتقاء أخيه المسلم لا لقصور في الشيعي، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك لاَنّه يدرك أنّ الفتك و القتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو موافق لأصول الشرع الاِسلامي و عقائده، نعم كان الشيعي و إلى وقت قريب يتحاشى أن يقول: إنّ اللّه ليس له جهة، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة، و إنّ المرجعية العلمية و السياسية لاَهل البيت بعد رحلة النبي

ص: 327


1- . جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل: 4/82.
2- . مصطفى المراغي: التفسير: 3/136.

الاَكرم، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق التي استنبطت من الكتاب و السنّة سوف يُعرّض نفسه و نفيسه للمهالك و المخاطر. و قد مرّ عليك كلام الرازي و جمال الدين القاسمي و المراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب، جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم، و رفض للملاك الذي شُرّعت لاَجله التقية، و اعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الاَهم إذا عارض المهم.

و التاريخ بين أيدينا يحدثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم و بما يملكون، و خير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (2067/195) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة و المحدّثين في زمانه إلى الاِقرار بخلق القرآن قسراً حتى و إن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة، و لما أبصر أُولئك المحدثون حد السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه و أسرّوا معتقدهم في صدورهم، و لما عوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك و قلبه مطمئن بالإيمان، و القصّة شهيرة و صريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة و كأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد و أُصول إسلامية ثابتة و معلومة.

الظروف العصيبة التي مرّت بها الشيعة:

الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين اخوانهم و أبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك في غابر القرون من عصر الامويين ثمّ

ص: 328

العباسيين و العثمانيين أي ضغط على الشيعة، و لم تكن بلادهم و عقر دارهم مخضّبة بدمائهم و التاريخ خير شاهد على ذلك، كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية و أن تحذفها من ديوان حياتها، و لكن يا للأَسف إنّ كثيراً من اخوانهم كانوا أداة طيّعة بيد الامويين و العباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم و يضطهدونهم و ينكلون بهم، و لذا و نتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدّسة التي هي أغلى عنده من نفسه و ماله.

و الشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعد، إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها: فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا و كيفما كانوا، و إليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة:

بيان معاوية إلى عمّاله:

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب «الاَحداث» قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب و أهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة، و على كل منبر، يلعنون علياً و يبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته، و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي - عليه السّلام - فاستعمل عليها زياد بن سمية، و ضم إليه البصرة، فكان يتبع الشيعة و هو بهم عارف، لاَنّه كان منهم أيام

ص: 329

علي - عليه السّلام -، فقتلهم تحت كل حجر و مدر، و أخافهم، و قطع الاَيدي و الاَرجل، و سمل العيون، و صلبهم على جذوع النخل، و طردهم و شرَّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، و كتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق: ألاّ يجيزوا لاَحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً و أهل بيته، فامحوه من الديوان، و أسقطوا عطاءه و رزقه، و شفع ذلك بنسخة أُخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، و اهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق، و لا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة علي - عليه السّلام - ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيُلقي إليه سرّه، و يخاف من خادمه و مملوكه، و لا يحدّثه حتى يأخذ عليه الايمان الغليظة، ليكتمن عليه.

و أضاف ابن أبي الحديد: فلم يزل الاَمر كذلك حتى مات الحسن بن علي - عليهما السّلام -، فازداد البلاء و الفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ و هو خائف على دمه، أو طريد في الاَرض.

ثمّ تفاقم الاَمر بعد قتل الحسين - عليه السّلام -، و ولي عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، و ولّى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرَّب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين ببغض علي و موالاة أعدائه، و موالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم، و أكثروا من البغض من علي - عليه السّلام - و عيبه، و الطعن فيه، و الشنان له، حتى أنّ إنساناً وقف للحجاج و يقال إنّه جد الاَصمعي عبد الملك بن قريب بن قريب فصاح به: أيّها الاَمير إنّ أهلي عقوني فسمّوني علياً، و إنّي فقير و بائس و أنا إلى صلة الاَمير

ص: 330

محتاج، فتضاحك له الحجاج، و قال: للطف ما توسّلتَ به، قد ولّيتك موضع كذا(1).

و نتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة، فقتل الآلاف منهم، و أمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرّض إلى شتى صنوف التنكيل و الارهاب و التخويف، و الحق يقال إنّ من الأمور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك الظلم الكبير و القتل الذريع، بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوّة وعدة، و أقامت دولاً و شيّدت حضارات و برز منها الكثير من العلماء و المفكّرين.

فلو كان الاَخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي، و أن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الاِسلام لاَبنائه، و ليعذره في عقيدته و عمله كما هو عذر أُناساً كثيرين خالفوا الكتاب و السنّة و أراقوا الدماء و نهبوا الدور فكيف بطائفة تدين بدينه و تتفق معه في كثير من معتقداته، و إذا كان معاوية و أبناء بيته و العباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم و إراقة دماء مخالفيهم فما ذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

و إذا كانوا يقولون و ذاك هو العجيب انّ الخروج على الاِمام علي - عليه السّلام - غير مضر بعدالة الخارجين و الثائرين عليه، و في مقدمتهم طلحة و الزبير و أُمّ المؤمنين عائشة، و إنّ إثارة الفتن في صفّين التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة و التابعين و إراقة دماء الآلاف من العراقيين و الشاميين لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين و هم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد

ص: 331


1- . شرح نهج البلاغة: 4611/44.

و أخطأ فَلِمَ لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم و يذهب إلى أنّهم معذورون و مثابون!!

نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة و تتضاءل أُخرى، حسب قوّة الضغط و ضآلته، فشتان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت، و يكرم العلويين، و بين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.

فهذا ابن السكيت أحد أعلام الاَدب في زمن المتوكل، و قد اختاره معلّماً لولديه فسأله يوماً: أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن و الحسين ؟ قال ابن السكيت: و اللّه إنّ قنبر خادم علي عليه السّلام خير منك و من ابنيك. فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك به فمات. و ذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع و أربعين و مائتين، و قيل ثلاث و أربعين، و كان عمره ثمانية و خمسين سنة. و لما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم و قال: هذه دية والدك!!(1).

و هذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي:

أ كلّ أوانٍ للنبيّ محمّد *** قتيل زكيّ بالدماء مضرَّجُ

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم *** لبلواكم عمّا قليل مفرِّجُ

أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم *** تضيء مصابيح السماء فتسرجُ (2)

ص: 332


1- . ابن خلكان: وفيات الاَعيان: 3/33. الذهبي: سير أعلام النبلاء: 12/16.
2- . ديوان ابن الرومي: 2/243.

فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول، فما هو حال شيعتهم و مقتفي آثارهم ؟!

قال العلاّمة الشهرستاني: إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لاَنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الاموية كلّه، و في عهد العباسيين على طوله، و في أكثر أيام الدولة العثمانية، و لأَجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم، و لما كانت الشيعة، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين و في كثير من الاَحكام الفقهيّة، و المخالفة تستجلب بالطبع رقابة و تصدقه التجارب، لذلك أضحت شيعة الاَئمّة من آل البيت مضطرّة في أكثر الاَحيان إلى كتمان ما تختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك، تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس و النفيس، و المحافظة على الوداد و الاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين، لئلاّ تنشق عصا الطاعة، و لكي لا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في المجتمع الاِسلامي فيوسع الخلاف بين الأمّة المحمدية.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية و تحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الأُخرى، متبعة في ذلك سيرة الاَئمّة من آل محمد و أحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل: «التقية ديني و دين آبائي»، إذ أنّ دين اللّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم(1).

ص: 333


1- . غافر: الآية 28، النحل: الآية 106.

روي عن صادق آل البيت - عليهم السّلام - في الاَثر الصحيح:

«التقية ديني و دين آبائي» و: «من لا تقية له لا دين له».

لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت - عليهم السّلام - دفعاً للضرر عنهم، و عن أتباعهم، و حقناً لدمائهم، و استصلاحاً لحال المسلمين، و جمعاً لكلمتهم، و لمّاً لشعثهم، و ما زالت سمة تُعرف بها الاِمامية دون غيرها من الطوائف و الأمم. و كل انسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه، أو ماله بسبب نشر معتقده، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم و يتقي مواضع الخطر. و هذا أمر تقتضيه فطرة العقول.

من المعلوم أنّ الاِمامية و أئمّتهم لاقوا من ضروب المحن، و صنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة، أو أُمّة أُخرى، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم، و ترك مظاهرتهم، و ستر عقائدهم، و أعمالهم المختصة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.

و لهذا السبب امتازوا بالتقية و عرفوا بها دون سواهم.

و للتقية أحكام من حيث وجوبها و عدم وجوبها، بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة(1).

ص: 334


1- . مجلة المرشد: 3/252، 253، و لاحظ: تعليقة أوائل المقالات: ص 96.

حدّها:

قد تعرّفت على مفهوم التقية و غايتها، و دليلها، بقي الكلام في تبيين حدودها، فنقول:

عرفت الشيعة بالتقية و أنّهم يتقون في أقوالهم و أفعالهم، فصار ذلك منشأ لوهم عالق بأذهان بعض السطحيين و المغالطين، فقالوا: بما أنّ التقية من مبادي التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون و يكتبون و ينشرون، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعاياتٍ و الواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة.

و لكن نلفت نظر القاري الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس و النفيس، فإذا دلّت القرائن على أنّه في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت يحتمل أن يدفع بالمؤمن إلى الضرر يصبح هذا المورد من مواردها، و يحكم العقل و الشرع بلزوم الاتقاء حتى يصون بذلك نفسه و نفيسه عن الخطر. و أمّا الأمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصوّر فيها التقية، و الكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الاَخير، إذ لا خوف هناك حتى يكتب خلاف ما يعتقد، حيث ليس هناك لزوم للكتابة أصلاً في هذه الحال فله أن يسكت و لا يكتب شيئاً.

فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن قلّة معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة. و الحاصل: أنّ الشيعة إنّما كانت تتقي في

ص: 335

عصر لم تكن لهم دولة تحميهم، و لا قدرة و لا منعة تدفع عنهم الاَخطار. و أمّا هذه الاَعصار فلا مسوّغ و لا مبرّر للتقية إلاّ في موارد خاصة.

إنّ الشيعة كما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك، و هو حق لا أعتقد أن يخالفها فيه أحد ينظر إلى الأمور بلبّه لا بعواطفه، إلاّ أنّ من الأمور المسلّمة في تاريخ التشيّع، انحصار التقية في مستوى الفتاوى، و لم تترجم إلاّ قليلاً على المستوى العملي، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية، و بوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية و غيره من الحكّام الامويين، و الحكام العباسيين، أمثال حجر بن عدي، و ميثم التمار، و رشيد الهجري، و كميل بن زياد، و مئات من غيرهم، و كمواقف العلويين على امتداد التاريخ و ثوراتهم المتتالية.

التقية المحرّمة:

إنّ التقية تنقسم حسب الاَحكام الخمسة، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس و الاَعراض و الاَموال، فإنّها تحرم إذا ترتّب عليها مفسدة أعظم، كهدم الدين و خفاء الحقيقة على الاَجيال الآتية، و تسلّط الاَعداء على شئون المسلمين و حرماتهم و معابدهم، و لأَجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الاَحيان و قدّموا أنفسهم و أرواحهم أضاحي من أجل الدين، فللتقية مواضع معينة، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.

ص: 336

إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتى يزول الخطر، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش، و لكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة، خائف متردّد الخطوات يملأ حناياه الذل، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا تتعداها، فكما هي واجبة في حين، هي حرام في حين آخر، فليست التقية في جوازها و منعها تابعة للقوّة و الضعف، و إنّما تحددها جوازاً و منعاً مصالح الاِسلام و المسلمين.

إنّ للاِمام الخميني قدّس اللّه سرّه كلاماً في المقام ننقله بنصّه حتى يقف القاري على أنّ للتقية أحكاماً خاصة و ربّما تحرم لمصالح عالية. قال قدّس اللّه سرّه:

تحرم التقية في بعض المحرّمات و الواجبات التي تمثّل في نظر الشارع و المتشرّعة مكانة بالغة، مثل هدم الكعبة، و المشاهد المشرّفة، و الرد على الاِسلام و القرآن و التفسير بما يفسّر المذهب و يطابق الالحاد و غيرها من عظائم المحرّمات، و لا تعمّها أدلة التقية و لا الاضطرار و لا الاكراه.

و تدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة و فيها: «فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز»(1).

و من هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن و أهمية في نظر الخلق، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب و هاتكاً لحرمه، كما لو أُكره على شرب المسكر و الزنا مثلاً، فإنّ

ص: 337


1- . الوسائل كتاب الاَمر بالمعروف الباب 25 الحديث رقم 6.

جواز التقية في مثله متمسّكاً بحكومة دليل الرفع(1) و أدلّة التقية مشكل بل ممنوع، و أولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية، ما لو كان أصل من أُصول الاِسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال و الهدم و التغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الارث و الطلاق و الصلاة و الحج و غيرها من أُصول الاَحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب و حفظ الأصول و جمع شتات المسلمين لاِقامة الدين و أُصوله، فإذا بلغ الاَمر إلى هدمها فلا تجوز التقية، و هو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة.(2).

و هكذا فقد بيّنّا للجميع الاَبعاد الحقيقية و الواقعية للتقية، و خرجنا بالنتائج التالية:

1 إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية، و قد استعملها في عصر الرسالة من ابتلي بها من الصحابة لصيانة نفسه فلم يعارضه الرسول بل أيّده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر، حيث أمره - صلى الله عليه و آله و سلم - بالعودة إذا عادوا.

2 إنّ التقية بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب و الهدم، مرفوضة عند المسلمين عامة و الشيعة خاصة، و هو لا يمت إلى التقيّة المتبناة من قبل الشيعة بصلة.

3 إنّ المفسّرين في كتبهم التفسيرية عند ما تعرّضوا لتفسير الآيات الواردة في التقية اتفقوا على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.

ص: 338


1- . قال رسول اللّه ص: «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه و ما استكرهوا عليه».
2- . الاِمام الخميني: الرسائل: 178171.

4 إنّ التقية لا تختص بالاتقاء من الكافر، بل تعم الاتقاء من المسلم المخالف، الذي يريد السوء و البطش بأخيه.

5 إنّ التقية تنقسم حسب انقسام الاَحكام إلى أقسام خمسة، فبينما هي واجبة في موضع فهي محرّمة في موضع آخر.

6 إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية، و هي فيما إذا كان الخوف قائماً، و أمّا إذا ارتفع الخوف و الضغط، فلا موضوع للتقية لغاية الصيانة.

و في الختام نقول:

نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه و عرضه و ماله و لكنّها في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم و يدفعه إلى أن يتظاهر بشيء من القول و الفعل الذي لا يعتقد به، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد، أن يسمح له الحرية في مجال الحياة و يتركه بحاله، و أقصى ما يصح في منطق العقل، أن يسأله عن دليل عقيدته و مصدر عمله، فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه، و إن كان على خلافها يعذره في اجتهاده و جهاده العلمي و الفكري.

نحن ندعو المسلمين للتأمل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية، و أن يعملوا قدر الاِمكان على فسح المجال لإخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم، رأيه و نظره، و جهده و طاقته.

إنّ الشيعة يقتفون أثر أئمّة أهل البيت في العقيدة و الشريعة، و يرون رأيهم، لاَنّهم هم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً، و أحد الثقلين اللذين أمر الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - بالتمسّك بهما في مجال العقيدة و الشريعة، و هذه عقائدهم لا تخفى

ص: 339

على أحد، و هي حجّة على الجميع.

نسأل اللّه سبحانه: أن يصون دماء المسلمين و أعراضهم عن تعرض أي متعرض، و يوحّد صفوفهم، و يؤَلّف بين قلوبهم، و يجمع شملهم، و يجعلهم صفّاً واحداً في وجه الاَعداء، إنّه على ذلك قدير و بالاِجابة جدير.

ص: 340

خاتمة المطاف مصادر التشريع عند الشيعة الإمامية و أحاديث أئمّة أهل البيت

اشارة

إنّ الاِمامية كما تصدر عن الكتاب و السنّة في مجالي العقيدة و الشريعة كذلك تصدر عن أحاديث أئمّة أهل البيت و ترى قولهم و فعلهم و تقريرهم حجّة، و هذا لا يعني أنّ أحاديثهم، حجّة ثالثة، في عرض الكتاب و السنّة أو أنّهم أنبياء يوحى إليهم كما ربّما يتخيّله من ليس له إلمام بعقائدهم و أُصولهم، بل العترة الطاهرة لما كانوا وعاة علمه و حفظة سنّته، و خلفاءه بعده، يحكون بقولهم و أفعالهم و تقريرهم، سنّة النبي الاَكرم، فالاحتجاج بأحاديثهم، احتجاج في الحقيقة بحديث النبي - صلى الله عليه و آله و سلم - و كلامه. و لأَجل ايضاح الموضوع، نأتي بتفصيل ذلك:

أئمّة الشيعة أوصياء الرسول:

اتّفقت الشيعة على أنّ الاَئمّة الاثني عشر أوصياء الرسول، و أنّهم أئمّة الأمّة و أحد الثقلين اللَّذين أوصى بهما رسول اللّه في غير موقف من المواقف، و قال: «إنّي

ص: 341

تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي» و الحديث من التواتر بمكان أغنانا عن ذكر مصادره و يكفي في ذلك ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الاِسلامية في القاهرة في هذا المجال.

إنّ الشيعة الاِماميّة كسائر المسلمين مؤمنون بعالمية رسالة النبيّ الاَكرم كما هم مؤمنون بخاتمية رسالته، مستدلين بقوله سبحانه: "مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً "(1).

و قوله سبحانه: "وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ * لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(2) " إلى غير ذلك من الآيات و الاَحاديث.

إنّ خاتمية رسالة النبي الاَكرم من الأمور الدينية الضرورية تكفّل لبيانها الذكر الحكيم و الاَحاديث المتضافرة التي بلغت حدّ التواتر، منها قوله «صلى الله عليه و آله و سلم» عند ما خرج إلى غزوة تبوك فقال له علي: أ أخرج ؟ فقال: لا، فبكى علي، فقال له رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»(3).

و هذا علي أمير المؤمنين أوّل الاَئمّة الاثني عشر قال و هو يلي غسل رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -: «بأبي أنت و أُمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة و الاَنباء و أخبار السماء»(4).

ص: 342


1- . الاَحزاب: الآية 40.
2- . فصّلت: الآيتان 4241.
3- . أمالي الصدوق: 29، معاني الاَخبار: 94 و غيرها من المصادر الشيعية و لاحظ صحيح البخاري: 6/3 باب غزوة تبوك.
4- . نهج البلاغة: الخطبة 129.

و في كلام آخر له: «أمّا رسول اللّه فخاتم النبيين ليس بعده نبيّ و لا رسول، و ختم رسول اللّه الاَنبياء إلى يوم القيامة»(1).

و نكتفي في هذه العجالة بهذا المقدار من النصوص فمن أراد أن يقف على نصوص الاَئمّة الاثني عشر على ختم النبوّة و انقطاع الوحي و سدّ باب التشريع بعد رحلة الرسول، فعليه الرجوع إلى الجزء الثالث من كتابنا «مفاهيم القرآن» فقد جاء فيه قرابة (134) نصّاً من النبي الاَكرم و أهل بيته الطاهرين في ذلك المجال.

إنّ فقهاء الشيعة حكموا بارتداد من أنكر عالمية الرسالة، أو خاتميتها، و لأَجل ذلك فالبابية و البهائية و هكذا القاديانية مرتدّون عندهم ارتداداً فطرياً أو

ملّيّاً(2) أحياناً، و هذه كتبهم الفقهية في باب الحدود و أحكام المرتد و غير ذلك.

هذا قليل من كثير اكتفينا به لتبيين عقيدة الشيعة في حقّ الرسول الاَعظم و أنّهم عن بكرة أبيهم معتقدون بعالمية رسالة الرسول و خاتميته، و لم ينحرفوا عن هذا الخط قيد شعرة، و يظهر ذلك من المرور على الكتب الاعتقادية المدوّنة من بداية القرن الثالث الهجري إلى عصرنا هذا، فقد ألّفوا مئات الكتب و الرسائل، بل الموسوعات الكبيرة حول العقائد الاِسلامية و هي بين مخطوطة و مطبوعة منتشرة في العالم و هذه كتبهم و مكتباتهم و جامعاتهم العلمية، و خطباؤهم و منشوراتهم الرسمية لا تجد فيها كلمة تشير إلى نبوّة غير النبي الاَكرم «صلى الله عليه و آله و سلم»، أو بنزول الوحي على غيره فلا محيص عن القول بأنّ هذه النظرية الخاطئة، استنبطها البعض من خلال أُمور لا دلالة لها على ما يرتئيه و لا بأس بالاشارة إلى بعض هذه الأمور التي

ص: 343


1- . نهج البلاغة: الخطبة 230، مجالس المفيد: 527، بحار الاَنوار: 22/527.
2- . المرتد الملّي: عبارة عن من لم يكن أحد والديه مسلماً حين انعقاد نطفته، كما إذا كان الوالدان كتابيين فأسلم الولد بعد البلوغ ثمّ ارتدّ.

كانت سبباً لهذا الوهم، و قد ألمح إليها بعض دكاترة العصر من المستهترين و هي لا تتجاوز أمرين:

1 حجّية أحاديثهم و أفعالهم.

2 القول بعصمتهم من الاِثم و الخطأ.

و إليك تحليل هذين الاَمرين:

الأوّل: الشيعة و حجّية أقوال العترة الطاهرة:

اشارة

إنّ الشيعة يتعاملون مع أحاديث العترة الطاهرة كالتعامل مع أحاديث النبيّ الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم -، فلو لا كونهم أنبياء أو طرفاً للوحي فكيف تكون أحاديثهم حجّة ؟

الجواب: إنّ الشيعة الاِمامية تأخذ بأقوالهم للأمور التالية:

ألف: إنّ النبيّ الاَكرم هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالاَخذ بأقوال العترة حيث قال: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي...(1) فالتمسّك بأحاديثهم و أقوالهم امتثال لقول الرسول الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم -، و هو لا يصدر إلاّ عن الحق، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسّك بما ينقذه من الضلالة و من أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول.

ص: 344


1- . ربّما يروى عنه - صلى الله عليه و آله و سلم -: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و سنّتي. و لا تعارض بين الخبرين، غير أنّ الاَوّل متواتر دون الثاني و الاَوّل مسند، و الثاني مرسل نقله الاِمام مالك في موطئه، و أين هو من حديث العترة الذي أطبق المحدّثون على نقله. و التفصيل موكول إلى محلّه.

ب: نرى أنّ الرسول الاَكرم يأمر الأمّة بالصلاة على آل محمد في الفرائض و النوافل، و المسلمون في مشارق الاَرض و مغاربها يذكرون العترة بعد النبيّ الاَكرم في تشهّدهم و يصلّون عليهم مثل الصلاة عليه، و الفقهاء و إن اختلفوا في صيغة التشهّد و لكنّهم لا يختلفون في لزوم الصلاة على النبي و آله و فيها يقول الاِمام الشافعي:

يا أهل بيت رسول اللّه حبّكمُ *** فرض من اللّه في القرآن أنزلهُ

كفاكمُ من عظيم الشأن أنّكم *** من لم يصلّ عليكم لا صلاة لهُ

فلو لم يكن للعترة شأن و مقام في مجال هداية الأُمة و لزوم الاقتفاء بهم، فما معنى جعل الصلاة عليهم فريضة في التشهّد و تكرارها في جميع الصلوات ليلاً و نهاراً، فريضة و نافلة ؟

و هذا يعرب عن سرٍّ نقف عليه من خلال أمر النبيّ الاَكرم «صلى الله عليه و آله و سلم» في هذا المجال، و هو أنّ لآل محمّد شأناً خاصّاً في الأمور الدينية و القيادة الاِسلامية أظهرها: أنّ أقوالهم و آراءهم حجّة على المسلمين، و أنّ لهم المرجعية الكبرى بعد رحلة الرسول، سواء أ كان في مجال العقيدة و الشريعة أم في مجال آخر.

ج: إنّ النبيّ الاَكرم - صلى الله عليه و آله و سلم - شبّه العترة الطاهرة بسفينة نوح، و أنّه من ركبها نجا، و أنّ من تخلّف عنها غرق(1) و هو يدلّ على حجّية أقوالهم و أفعالهم.

إلى غير ذلك من الوصايا الواردة في حقّ العترة التي نقلها أصحاب

ص: 345


1- . الحاكم: المستدرك: 2/151، السيوطي: الخصائص الكبرى: 2/266، ابن حجر: الصواعق: 191، الباب 12.

الصحاح و المسانيد و من أراد فليرجع إلى مصادرها.

فالمسلم المؤمن بصحّة هذه الوصايا لا يشك في حجّية أقوال العترة سواء أعلم مصدر علومهم أم لم يعلم. قال سبحانه: "وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاٰ مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاٰلاً مُبِيناً "(1).

و مع ذلك كلّه نحن نشير إلى بعض مصادر علومهم حتى يتّضح أنّ حجية أقوالهم لا تدلّ على أنّهم أنبياء أو فوّض إليهم أمر التشريع:

1. السماع عن رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -:

إنّ الاَئمّة يروون أحاديث رسول اللّه سماعاً منه «صلى الله عليه و آله و سلم»، إمّا بلا واسطة أو بواسطة آبائهم، و لأَجل ذلك ترى في كثير من الروايات أنّ الاِمام الصادق - عليه السلام - يقول: حدثني أبي، عن أبيه، عن زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي، عن عليّ أمير المؤمنين، عن الرسول الاَكرم «صلى الله عليه و آله و سلم». و هذا النمط في الروايات كثير في أحاديثهم و قد تضافر عن الاِمام الصادق أنّه كان يقول: «حديثي، حديث أبي، و حديث أبي حديث جديّ »، فعن هذا الطريق تحمّلوا أحاديث كثيرة عن الرسول الاَكرم و بلّغوها، من دون أن يعتمدوا على الاَحبار و الرهبان، أو على أُناس مجاهيل، أو شخصيات متسترة بالنفاق و هذا النوع من الاَحاديث ليس بقليل.

ص: 346


1- . الاَحزاب: الآية 36.

2. كتاب عليّ - عليه السلام -:

يرجع قسم آخر من أحاديثهم إلى ما أخذوه عن كتاب الاِمام أمير المؤمنين بإملاء رسول اللّه و خطّ عليّ و قد أشار أصحاب الصحاح و المسانيد إلى بعض هذه الكتب(1).

فقد كان لعليّ كتاب خاص باملاء رسول اللّه و قد حفظته العترة الطاهرة و صدرت عنه في مواضع كثيرة و نقلت نصوصه في موضوعات مختلفة، و قد بثّ الحر العاملي في موسوعته الحديثية، أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات و من أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.

و قال الاِمام الصادق - عليه السلام - عند ما سئل عن الجامعة ؟ فقال: «فيها كل ما يحتاج الناس إليه و ليس من قضية إلاّ فيها حتى ارش الخدش».

و كان كتاب علي مصدراً لاَحاديث العترة الطاهرة يرثونه واحداً بعد آخر و ينقلون عنه و يستدلّون به على السائلين.

و هذا هو أبو جعفر الباقر - عليه السلام - يقول لاَحد أصحابه أعني حمران بن أعين و هو يشير إلى بيت كبير: يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ علي - عليه السلام - و إملاء رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» لو ولّينا الناس لحكمنا بما أنزل اللّه لم نعد ما في هذه الصحيفة.

و هذا هو الاِمام الصادق - عليه السلام - يعرّف كتاب علي - عليه السلام - بقوله: فهو

ص: 347


1- . الاِمام أحمد: المسند: 1/81، صحيح مسلم: 4/217، البيهقي: السنن الكبرى: 8/26 نقلاً عن الاِمام الشافعي.

كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - من فلق فِيهِ و خطّ علي بن أبي طالب - عليه السلام - بيده، فيه و اللّه جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة حتى أنّ فيه أرش الخدش و الجلدة و نصف الجلدة.

و يقول سليمان بن خالد: سمعت أبا عبد اللّه يقول: «إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً إملاء رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - و خطّ علي عليه السلام بيده، ما من حلال و لا حرام إلاّ و هو فيها حتى أرش الخدش.

و يقول أبو جعفر الباقر - عليه السلام - لبعض أصحابه: «يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا و هوانا لكنّا من الهالكين، و لكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -»(1).

3. الاستنباط من الكتاب و السنّة:

المصدر الثالث لاَقوالهم، هو إمعانهم في الكتاب و السنّة و تدبّرهم فيهما، فاستخرجوا من المصدرين الرئيسيين ما يخص العقيدة و الشريعة بصورة يقصر عنها أكثر الاَفهام، و هذا هو الذي جعلهم متميّزين بين المسلمين بالوعي و الدقّة و الفهم، و خضع لهم أئمّة الفقه في مواقف شتّى حتى قال الاِمام أبو حنيفة بعد تتلمذه على الاِمام الصادق «سنتين»: لو لا السنتان لهلك النعمان. و لأَجل ذلك كانوا يستدلّون على كثير من الاَحكام عن طريق الكتاب و السنّة و يقولون: «ما من

ص: 348


1- . و قد جمع العلاّمة المجلسي ما ورد من الاَثر حول كتب الاِمام عليّ في موسوعته «بحار الاَنوار»: 6626/18 تحت عنوان «باب جهات علومهم و ما عندهم من الكتب» فلاحظ الباب، الحديث 12، 1، 10، 30.

شيء إلاّ و له أصل في كتاب اللّه و سنّة نبيّه».

أخرج الكليني باسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: سمعته يقول: «إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمة إلاّ أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله و جعل لكلّ شيء حدّاً. و جعل عليه دليلاً يدلّ عليه، و جعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».

أخرج الكليني باسناده عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - قال: سمعته يقول: «ما من شيء إلاّ و فيه كتاب أو سنّة».

و أخرج عن سماعة عن أبي الحسن موسى - عليه السلام - قال: قلت له: أ كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه أو تقولون فيه ؟ قال: «بل كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه»(1).

و من وقف على الاَحاديث المروية عنهم يقف على أنّهم كيف يستدلّون على الاَحكام الاِلهية عن المصدرين بفهم خاص و وعي متميّز يبهر العقول، و يورث الحيرة. و لو لا الخوف من الاطالة لنقلت في المقام نماذج من ذلك و نكتفي ببيان موردين:

1 قُدِّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الاِيمان يمحو ما قبله، و قال بعضهم: يُضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكّل إلى الاِمام الهادي يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب: يُضرب حتى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلّة، فكتب:

ص: 349


1- . راجع الكافي «باب الرد إلى الكتاب و السنّة»: 621/59 تجد فيه أحاديث تصرّح بما ذكر، و المراد منها أُصول الاَحكام و جذورها لا فروعها و جزئياتها.

بسم اللّه الرحمن الرحيم "فَلَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا قٰالُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنٰا بِمٰا كُنّٰا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا سُنَّتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبٰادِهِ وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ اَلْكٰافِرُونَ "(1) فأمر به المتوكّل فضرب حتى م(2).

إنّ الاِمام الهادي ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الاَحكام من الذكر الحكيم، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره، و كانوا يزعمون أنّ مصادر الاَحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية، و بذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته، لا يلتفت إليه إلاّ من نزل القرآن في بيته، و ليس هذا الحديث غريباً في مورده، بل له نظائر في كلمات الاِمام و غيره من آبائه و أبنائه - عليهم السلام -.

2 لمّا سمّ المتوكّل نذر للّه: إن رزقه اللّه العافية أن يتصدّق بمال كثير، أو بدراهم كثيرة. فلمّا عوفي اختلف الفقهاء في مفهوم «المال الكثير» فلم يجد المتوكّل عندهم فرجاً، فبعث إلى الاِمام عليّ الهادي فسأله ؟ قال: يتصدق بثلاثة و ثمانين ديناراً، فقال المتوكل: من أين لك هذا؟ فقال: من قوله تعالى: "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّٰهُ فِي مَوٰاطِنَ كَثِيرَةٍ ... "(3).

و المواطن الكثيرة: هي هذه الجملة، و ذلك لاَنّ النبيّ «صلى الله عليه و آله و سلم» غزا سبعاً و عشرين غزوة، و بعث خمساً و خمسين سرية، و آخر غزواته يوم حنين، و عجب المتوكل و الفقهاء من هذا الجواب(4).

ص: 350


1- . غافر: الآية 8584.
2- . ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب: 4/405.
3- . التوبة: الآية 25.
4- . ابن الجوزي: تذكرة الخواص: 202.

و قد ورد عن طريق آخر أنّه قال «بثمانين» مكان «ثلاثة و ثمانين» و ذلك لاَنّ عدد المواطن التي نصر اللّه المسلمين فيها إلى يوم نزول هذه الآية كان أقلّ من ثلاثة و ثمانين(1).

4. الإشراقات الإلهية:

إنّ هناك مصدراً رابعاً لاَحاديثهم نعبّر عنه بالاشراقات الاِلهية، و أيّ وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها إلى العامّة من دون أن يكونوا أنبياء، أو معدودين من المرسلين، و اللّه سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله: "فَوَجَدٰا عَبْداً مِنْ عِبٰادِنٰا آتَيْنٰاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً " و لم يكن المصاحب نبيّاً بل كان وليّاً من أولياء اللّه سبحانه و تعالى بلغ في العلم و المعرفة مكاناً حتى قال له موسى و هو نبيّ مبعوث بشريعة: "هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّٰا عُلِّمْتَ رُشْداً "(2).

يصف سبحانه و تعالى جليس سليمان الذي نسمّيه آصف بن برخيا بقوله: "قٰالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قٰالَ هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي "(3).

و هذا الجليس لم يكن نبيّاً، و لكن كان عنده علم من الكتاب، و هو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي يتدرّج عليها الصبيان و الشبان في المدارس و الجامعات، بل

ص: 351


1- . ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب: 4/402.
2- . الكهف: الآية 66.
3- . النمل: الآية 40.

كان علماً إلهياً أُفيض إليه لصفاء قلبه و روحه و لأَجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه و يقول: "هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ".

تضافرت الروايات على أنّ في الأمّة الاِسلامية مثل الأمم السابقة رجالاً مخلصين محدَّثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء، و إن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنّة في هذا الموضوع.

روى البخاري في صحيحه: لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر(1).

قال القسطلاني ليس قوله: «فان يكن» للترديد بل للتأكيد كقولك: إن يكن لي صديق ففلان، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الاَصدقاء.

و إذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأمّة المفضولة فوجوده في هذه الأمّة الفاضلة أحرى(2).

و أخرج البخاري في صحيحه بعد حديث الغار: عن أبي هريرة مرفوعاً: أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدَّثون إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنّه عمر ابن الخطاب(3).

قال القسطلاني في شرحه: قال المؤَلف: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة(4).

ص: 352


1- . البخاري: الصحيح: 2/149.
2- . القسطلاني: ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 6/99.
3- . البخاري: الصحيح: 2/171.
4- . القسطلاني: ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 5/431.

و قال الخطابي: يُلقى الشيء في روعه، فكأنّه قد حُدِّث به يظن فيصيب، و يخطر الشيء بباله فيكون، و هي منزلة رفيعة من منازل الاَولياء.

و أخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»: قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.

و رواه ابن الجوزي في صفة الصفوة و قال: حديث متّفق عليه(1).

و أخرجه أبو جعفر الطحاوي في «مشكل الآثار» بطرق شتى عن عائشة و أبي هريرة، و أخرج قراءة ابن عباس: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي و لا محدّث. قال: معنى قوله محدَّثون أي ملهمون، فكان عمر رضى اللّه عنه ينطق بما كان ينطق ملهماً(2).

قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد بمحدّثون فقال ابن وهب: ملهمون، و قيل: مصيبون إذا ظنّوا فكأنّهم حُدِّثوا بشيء فظنّوه. و قيل: تكلّمهم الملائكة، و جاء في رواية: مكلّمون. و قال البخاري: يجري الصواب على ألسنتهم و فيه اثبات كرامات الاَولياء.

و قال الحافظ محبّ الدين الطبري في «الرياض»: و معنى «محدّثون و اللّه أعلم أي يلهمون الصواب، و يجوز أن يحمل على ظاهره و تحدّثهم الملائكة لا بوحي و إنّما بما يطلق عليه اسم حديث، و تلك فضيلة عظيمة»(3).

ص: 353


1- . ابن الجوزي: صفة الصفوة: 1/104.
2- . مشكل الآثار: 2/257.
3- . الطبري: الرياض: 1/199.

قال القرطبي: محدَّثون بفتح الدال اسم مفعول جمع محدَّث بالفتح أي ملهم أو صادق الظن، و هو من أُلقي في نفسه شيء على وجه الاِلهام و المكاشفة من الملا الاَعلى، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوّة، أو من إذا رأى رأياً أو ظنّ ظنّاً أجاب كأنّه حدّث به، و أُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له، و هذه كرامة يكرم اللّه بها من شاء من عباده، و هذه منزلة جليلة من منازل الاَولياء.

فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فإنّه عمر، كأنّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنّه نبيّ ، فلذلك أتى بلفظ «إن» بصورة التردّد. قال القاضي: و نظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد و الاختصاص قولك: إن كان لي صديق فهو زيد، فإنّ قائله لا يريد به الشكّ في صداقته بل المبالغة في أنّ الصداقة مختصّة به لا تتخطّاه إلى غيره(1).

فإذا كان في الأمم السالفة رجال بهذا القدر و الشأن فلِمَ إذاً لا يكون بين الأمّة الاِسلامية رجال شملتهم العناية الاِلهية فأحاطوا بالكتاب و السنّة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الأمّة في مجال العقيدة و التشريع.

فمن زعم أنّ مثل هذه الافاضة تساوق النبوّة و الرسالة، فقد خلط الاَعم بالاَخصّ فالنبوّة منصب إلهيّ يقع طرفاً للوحي يسمع كلام اللّه تعالى و يرى رسول الوحي، و يكون إمّا صاحب شريعة مستقلّة أو مروّجاً لشريعة من قبله.

و أمّا الاِمام: و هو الخازن لعلوم النبوّة في كل ما تحتاج إليه الأمّة من دون أن يكون طرفاً للوحي أو سامعاً كلامه سبحانه أو رائياً للملك الحامل له. و لاِحاطته

ص: 354


1- . لاحظ للوقوف على سائر الكلمات حول المحدَّث، كتاب الغدير: 495/42.

بعلوم النبوّة طرقاً أشرنا إليها.

و من التصوّر الخاطي: الحكم بأنّ كل من أُلهم من اللّه سبحانه أو كلّمه الملك فهو نبيّ و رسول، مع أنّ الذكر الحكيم يعرّف أُناساً، أُلهموا أو رأوا الملك و لم يكونوا بالنسبة إلى النبوّة في حلّ و لا مرتحل.

هذه أُمّ موسى يقول في حقّها سبحانه: "وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لاٰ تَخٰافِي وَ لاٰ تَحْزَنِي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ "(1).

أ فصارت أُمّ موسى بهذا الاِلهام نبيّة من الاَنبياء؟

و هذه مريم البتول، تكلّمها الملائكة من دون أن تكون نبيّة قال سبحانه: "وَ إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ * يٰا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ ... "(2).

بلغت مريم العذراء مكاناً شاهدت رسول ربّها المتمثَّل لها بصورة البشر قال سبحانه: "فَأَرْسَلْنٰا إِلَيْهٰا رُوحَنٰا فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا * قٰالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قٰالَ إِنَّمٰا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا * قٰالَتْ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا * قٰالَ كَذٰلِكِ قٰالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّٰاسِ وَ رَحْمَةً مِنّٰا وَ كٰانَ أَمْراً مَقْضِيًّا "(3).

نرى أنّ مريم البتول رأت الملك و سمعت كلامه و لم تصبح نبيّة و لا رسولة،

ص: 355


1- . القصص: الآية 7.
2- . آل عمران: الآية 4342.
3- . مريم: الآية 2117.

فمن تدبّر في الكتاب و السنّة يقف على أبدال شملتهم العناية الاِلهية وقفوا على أسرار الشريعة و مكامن الدين بفضل من اللّه سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء.

الثاني: عصمة الأئمّة الاثني عشر:

اشارة

إنّ القول بعصمة الاَئمّة الاثني عشر وقعت ذريعة لتخيّل أنّهم أنبياء، زاعمين بأنّ العصمة تساوي النبوّة، غافلين عن أنّها أعمّ من النبوّة و إليك البيان:

العصمة: قوّة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية و الخطأ، حيث لا يترك واجباً، و لا يفعل محرّماً مع قدرته على الترك و الفعل، و إلاّ لم يستحقّ مدحاً و لا ثواباً، و إن شئت قلت: إنّ المعصوم قد بلغ في التقوى حدّاً لا تتغلّب عليه الشهوات و الاَهواء، و بلغ من العلم في الشريعة و أحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبداً.

و ليست العصمة شيئاً ابتدعته الشيعة و إنّما دلّهم عليها في حق العترة الطاهرة كتاب اللّه و سنّة رسوله، أمّا الكتاب:

فقد قال سبحانه: "إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً " (الاَحزاب/ 33) و ليس المراد من الرجس إلاّ الرجس المعنوي و أظهره الفسق.

و أمّا السنّة فنذكر بعضها:

1 قال الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم -: «عليٌّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه كيفما

ص: 356

دار»(1) و من دار معه الحقّ كيفما دار محال أن يعصي أو أن يخطىَ .

2 و قال الرسول - صلى الله عليه و آله و سلم - في حقّ العترة: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً»(2) فإذا كانت العترة عدل القرآن، تصبح معصومةً كالكتاب، لا يخلف أحدهما الآخر و ليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول.

و لا أظنّ أن يرتاب فيما ذكرنا أحد، إلاّ أنّ اللازم التعرّف على أهل بيته عن طريق نصوص الرسول الاَكرم فنقول: من هم العترة و أهل البيت ؟

لا أظنّ أنّ أحداً، قرأ الحديث و التاريخ، يشكّ في أنّ المراد من العترة و أهل البيت لفيف خاصّ من أهل بيته، و يكفي في ذلك مراجعة الاَحاديث التي جمعها ابن الاَثير في جامعه عن الصحاح، و نكتفي بالقليل من الكثير منها.

روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: لمّا نزلت هذه الآية: "فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ ... " الآية، دعا رسول اللّه «صلى الله عليه و آله و سلم» عليّاً، و فاطمة، و حسناً، و حسيناً، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهلي».

و روى أيضاً عن أُمّ سلمة رضي اللّه عنها: أنّ هذه الآية نزلت في بيتي: "إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ".

قالت: و أنا جالسة عند الباب، فقلت: يا رسول اللّه، أ لستُ من أهل البيت ؟ فقال: إنّك إلى خير، أنت من أزواج رسول اللّه. قال: و في البيت رسول اللّه،

ص: 357


1- . حديث مستفيض، رواه الخطيب في تاريخه: 14/321، و الهيثمي في مجمعه: 7/236.
2- . حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه و الدارمي في فضائل القرآن و أحمد في مسنده: 2/114 و غيرهم.

و عليّ ، و فاطمة، و حسن، و حسين، فجلّلهم بكسائه و قال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً».

و روى أيضاً عن أنس بن مالك: أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - كان يمرُّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستة أشهر، يقول: «الصلاة أهل البيت»: "إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ".

و روى مسلم عن زيد بن أرقم قال: قال يزيد بن حيّان: انطلقت أنا و حصين بن سبرة و عمر بن مسلم، إلى زيد بن أرقم، فلمّا جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -، و سمعت حديثه، و غزوت معه، و صلّيت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم -؟

قال: يا ابن أخي و اللّه، لقد كبر سنّي، و قدم عهدي، فما حدّثتكم فاقبلوا و ما لا فلا تكلّفونيه. ثمّ قال: قام رسول اللّه - صلى الله عليه و آله و سلم - يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً، بين مكّة و المدينة، فحمد اللّه و أثنى عليه، و وعظ و ذكر ثمّ قال:

«أمّا بعد، ألا أيّها الناس، إنّما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين، أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به فحثّ على كتاب اللّه و رغّب فيه، ثمّ قال: و أهل بيتي، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي».

فقلنا: من أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال: و أيم اللّه، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها و قومها، أهل بيته أصله و عصبته

ص: 358

الذين حرموا الصدقة بعده(1).

3 روى المحدّثون عن النبيّ الاَكرم أنّه قال: «إنّما مثل أهل بيتي في أُمّتي، كمثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق»(2).

فشبّه صلوات اللّه عليه و آله أهل بيته بسفينة نوح في أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ أُصوله و فروعه منهم نجا من عذاب النار، و من تخلّف عنهم كان كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه غير أنّ ذاك غرق في الماء و هذا في الحميم.

فإذا كانت هذه منزلة علماء أهل البيت "فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ "؟

يقول ابن حجر في صواعقه: «و وجه تشبيههم بالسفينة: أنّ من أحبّهم و عظّمهم، شكراً لنعمة مشرّفهم و أخذاً بهدي علمائهم، نجا من ظلمة المخالفات. و من تخلّف عن ذلك، غرق في بحر كفر النعم، و هلك في مفاوز الطغيان»(3).

ص: 359


1- . لاحظ فيما نقلناه من الاَحاديث، جامع الأصول: 1031/100 الفصل الثالث، من الباب الرابع.
2- . الحاكم: المستدرك: ج 2/151، السيوطي: الخصائص الكبرى: 2/266 و للحديث طرق و مسانيد كثيرة من أراد الوقوف عليها، فعليه بتعاليق إحقاق الحق: 2939/270.
3- . الصواعق: 191 الباب 11. يقول سيدنا شرف الدين في مراجعاته: إلاّ أنّي مسائل ابن حجر أنّه إذا كان هذا مقام أهل البيت، فلما ذا لم يأخذ هو بهدي أئمتهم في شيء من فروع الدين و عقائده، و لا في شيء من علوم السنّة و الكتاب و لا في شيء من الاَخلاق و السلوك و الآداب ؟ و لما ذا تخلّف عنهم، فأغرق نفسه في بحار كفر النعم، و أهلكها في مفاوز الطغيان ؟!.

عصمة الإمام في الكتاب:

و ممّا يدلّ على عصمة الاِمام على وجه الاطلاق قوله سبحانه: "أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ " (النساء/ 59).

و الاستدلال مبنيّ على دعامتين:

1 إنّ اللّه سبحانه أمر بطاعة أولي الاَمر على وجه الاطلاق، أي في جميع الاَزمنة و الاَمكنة و في جميع الحالات و الخصوصيات، و لم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم و نواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية.

2 إنّ من البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر و العصيان "وَ لاٰ يَرْضىٰ لِعِبٰادِهِ اَلْكُفْرَ " (الزمر/ 7).

من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناهٍ ، أو يقومون به بعد صدور أمر و نهي من أُولي الاَمر.

فمقتضى الجمع بين هذين الاَمرين: وجوب إطاعة أُولي الاَمر على وجه الاطلاق و حرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان، و أن يتّصف أُولو الاَمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الاطلاق، بخصوصية ذاتية و عناية إلهية ربّانية، تصدّهم عن الاَمر بالمعصية و النهي عن الطاعة. و ليس هذا إلاّ عبارة أُخرى عن كونهم معصومين، و إلاّ فلو كانوا غير واقعين تحت العناية، لما صحّ الاَمر بإطاعتهم على وجه الاطلاق و لما صحّ الاَمر بالطاعة بلا قيد و شرط. فيستكشف من اطلاق الاَمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الاَمر بغير الطاعة.

ص: 360

هذه الآية تدل على عصمة من أمر اللّه بطاعتهم و لا تحدد مصداق المعصوم الواجب طاعته. و لكن اتفقت الأمّة على عدم عصمة غير النبي و الاَئمة الاثني عشر، فلا محيص عن انطباقه عليهم لئلاّ تخلو الآية عن المصداق.

و ممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الاِمام الرازي في تفسيره و يطيب لي أن أُذكر نصّه حتى يمعن فيه من يعشق الحقيقة قال:

«إنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الاَمر على سبيل الجزم في هذه الآية، و من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم و القطع، لا بدّ و أن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، و الخطأ لكونه خطأ منهيٌّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الاَمر و النهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، و أنّه محال فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الاَمر على سبيل الجزم و ثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الاَمر المذكور في هذه الآية لا بدّ و أن يكون معصوماً»(1).

تمّ بيد مؤَلّفه الفقير إلى رحمة اللّه جعفر السبحاني ابن الفقيه الشيخ محمد حسين التبريزي قدّس اللّه سرّه نحمده سبحانه و نشكره

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

ص: 361


1- . مفاتيح الغيب: 10/144.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.