سلسله المسائل الفقهیه السجود على الأرض على ضوء الكتاب و السنّة المجلد 6

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور:سلسله المسائل الفقهیه / تالیف جعفر السبحانی.

مشخصات نشر:قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1430ق.= 1388.

مشخصات ظاهری:26 ج

فروست:سلسله المسائل الفقهیه؛ 1.

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع:احکام فقهی

موضوع:فقه تطبیقی

شناسه افزوده:موسسه امام صادق (ع)

ص: 1

السجود على الأرض على ضوء الكتاب و السنّة

ص: 2

[6. السجود على الأرض على ضوء الكتاب و السنّة ]

مقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على أفضل خلقه و خاتم رسله محمّد و على آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيبة علمه و حفظة سننه.

أمّا بعد، فانّ الإسلام عقيدة و شريعة، فالعقيدة هي الإيمان باللّه و رسله و اليوم الآخر، و الشريعة هي الأحكام الإلهية التي تكفل للبشرية الحياة الفضلى و تحقّق لها السعادة الدنيوية و الأُخروية.

و قد امتازت الشريعة الإسلامية بالشمول، و وضع الحلول لكافّة المشاكل التي تعتري الإنسان في جميع جوانب الحياة قال سبحانه: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ).(1)

ص: 3


1- . المائدة: 3.

غير أنّ هناك مسائل فرعية اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم فيما أثر عن مبلّغ الرسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم)، الأمر الذي أدّى إلى اختلاف كلمتهم فيها، و بما أنّ الحقيقة بنت البحث فقد حاولنا في هذه الدراسات المتسلسلة أن نطرحها على طاولة البحث، عسى أن تكون وسيلة لتوحيد الكلمة و تقريب الخطى في هذا الحقل، فالخلاف فيها ليس خلافاً في جوهر الدين و أُصوله حتّى يستوجب العداء و البغضاء، و إنّما هو خلاف فيما روي عنه (صلى الله عليه و آله و سلم)، و هو أمر يسير في مقابل المسائل الكثيرة المتّفق عليها بين المذاهب الإسلامية.

و رائدنا في هذا السبيل قوله سبحانه: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً... ).(1)

جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)3.

ص: 4


1- . آل عمران: 103.

1 السجود على الأرض

لعلّ من أوضح مظاهر العبودية و الانقياد و التذلّل من قبل المخلوق لخالقه. هو السجود، و به يؤكِّد المؤمن عبوديّتَه للّه تعالى، و البارئ عزّ اسمه يقدّر لعبده هذا التصاغرَ و هذه الطاعة فيُضفي على الساجد فيضَ لطفه و عظيم إحسانه، لذا روي في بعض المأثورات: «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده».

و لمّا كانت الصلاة من بين العبادات معراجاً يتميّز بها المؤمن عن الكافر، و كان السجود ركناً من أركانها، لم يكن هناك أوضح في إعلان التذلّل للّه تعالى من السجود على التراب و الرمل و الحجر و الحصى، لما فيه من تذلّل

ص: 5

أوضح و أبين من السجود على الحصر و البواري، فضلاً عن السجود على الألبسة الفاخرة و الفرش الوثيرة و الذهب و الفضّة، و إن كان الكلّ سجوداً، إلاّ أنّ العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره.

و الإمامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم و سفرهم، و لا يعدلون عنها إلاّ إلى ما أنبت منها بشرط أن لا يُؤكل و لا يلبس، و لا يرون السجود على غير الأرض و ما أنبت منها صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) و أهل بيته و صحبه. و سيظهر في ثنايا البحث أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت، كانت هي السنّة بين الصحابة، و أنّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخّرة.

ص: 6

2 اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه

اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كلّ ركعة مرّتين، و لم يختلفوا في المسجود له، فإنّه هو اللّه سبحانه الذي له يسجد من في السماوات و الأرض طوعاً و كرهاً(1) و شعار كلّ مسلم قوله سبحانه: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) (2) و إنّما اختلفوا في شروط المسجود عليه أعني: ما يضع الساجد جبهته عليه فالشيعة الإمامية تشترط كون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول و لا ملبوس كالحصر

ص: 7


1- . إشارة إلى قوله سبحانه: (وَ لِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ) الرعد/ 15.
2- . فصلت: الآية 37.

و البواري، و ما أشبه ذلك. و خالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب، و إليك نقل الآراء:

قال الشيخ الطوسي(1) و هو يبيّن آراء الفقهاء: لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل و لا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار. و خالف فقهاء السنّة في ذلك حيث أجازوا السجود على القطن و الكتان و الشعر و الصوف و غير ذلك إلى أن قال: لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة، و طرف الرداء، و كُمّ القميص، و به قال الشافعي، و روي ذلك عن علي (عليه السلام) و ابن عمر، و عبادة بن الصامت، و مالك، و أحمد بن حنبل.

و قال أبو حنيفة و أصحابه: إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه، أجزأه.م.

ص: 8


1- . من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف و المؤلّفات ولد عام 385 هو توفّي عام 460 ه، من تلاميذ الشيخ المفيد (336 413 ه)، و السيّد الشريف المرتضى (355 436 ه) رضي اللّه عنهم.

و إن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده و يسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه، و روي ذلك عن الحسن البصري.(1)

و قال العلاّمة الحلّي(2) و هو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه: لا يجوز السجود على ما ليس بأرض و لا من نباتها كالجلود و الصوف عند علمائنا أجمع، و أطبق جمهور السنّة على الجواز.(3)

و قد اتفقت الشيعة في ذلك أثر أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب و قرناؤه في حديث الثقلين، و نحن نكتفي هنا بإيراد شيء ممّا روي عنهم في هذا الجانب:

روى الصدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبد اللّه (عليه السلام): أخبرني عمّا يجوز السجود عليه، و عمّا لا يجوز؟ قال: «السجود لا يجوز إلاّ على الأرض، أو على ما0.

ص: 9


1- . الخلاف: 3581/357، المسألة 112 113 كتاب الصلاة.
2- . الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي (648 726 ه) و هو زعيم الشيعة في القرن السابع و الثامن، لا يسمح الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة.
3- . التذكرة: 2/434، المسألة 100.

أنبتت الأرض إلاّ ما اكل أو لبس». فقال له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟ قال: «لأنّ السجود خضوع للّه عزّ و جلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل و يلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون، و الساجد في سجوده، في عبادة اللّه عزّ و جلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها».(1)

و قال الصادق (عليه السلام): «و كلّ شيء يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه، أو ملبسه، فلا تجوز الصلاة عليه، و لا السجود إلاّ ما كان من نبات الأرض من غير ثمر، قبل أن يصير مغزولاً، فإذا صار غزلاً فلا تجوز الصلاة عليه إلاّ في حال ضرورة».(2)1.

ص: 10


1- . الوسائل: ج 3، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، و هناك روايات بمضمونه. و الكلّ يتضمّن أنّ الغاية من السجود التي هي التذلّل لا تحصل بالسجود على غير الأرض و ما ينبت غير المأكول و الملبوس فلاحظ.
2- . الوسائل: 3، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 11.

فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولاً و لا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم.

على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام، يدعم نظريّة الشيعة، و سيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم، و يتّضح أنّ السنّة كانت هي السجود على الأرض، ثمّ جاءت الرخصة في الحصر و البواري فقط، و لم يثبت الترخيص الثالث، بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.

روى المحدث النوري في «المستدرك» عن «دعائم الإسلام»: عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام)، أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «إنّ الأرض بكم برّة، تتيمّمون منها، و تصلّون عليها في الحياة (الدنيا) و هي لكم كفاة في الممات، و ذلك من نعمة اللّه، له الحمد، فأفضل ما يُسجد عليه المصلّي الأرض النقيّة».(1)

و روى أيضاً عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنّه قال:1.

ص: 11


1- . مستدرك الوسائل: 4، الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

«ينبغي للمصلّي أن يباشر بجبهته الأرض، و يعفّر وجهه في التراب، لأنّه من التذلّل للّه».(1)

و قال الشعراني ما هذا نصّه: المقصود إظهار الخضوع بالرأس حتى يمسّ الأرض بوجهه الذي هو أشرف أعضائه، سواء كان ذلك بالجبهة أو الأنف، بل ربّما كان الأنف عند بعضهم أولى بالوضع من حيث إنّه مأخوذ من الأنفة و الكبرياء، فإذا وضعه على الأرض، فكأنّه خرج عن الكبرياء التي عنده بين يدي اللّه تعالى، إذ الحضرة الإلهية محرّم دخولها على من فيه أدنى ذرة من كبر فانّها هي الجنة الكبرى حقيقة، و قد قال (صلى الله عليه و آله و سلم): «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر».(2)ى.

ص: 12


1- . مستدرك الوسائل: 4/14، الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 2.
2- . اليواقيت و الجواهر في عقائد الأكابر: عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المصري المعروف بالشعراني (من أعيان علماء القرن العاشر): 1/164. الطبعة الأُولى.

نقل الإمام المغربي المالكي الروداني: عن ابن عباس رفعه: من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته.(1)

كما انّ أصل العمل العبادي أمر توقيفي فكذلك شرائطه و أحكامه هي الاخرى التي يجب أن تُوضح و تبيَّن من جانب مبيّن الشريعة و مبلّغها و نعني به رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لانّه (صلى الله عليه و آله و سلم) هو الاسوة بنصّ القرآن الكريم و المبين للكتاب العزيز و على المسلمين جميعاً أن يتعلموا منه أحكام دينهم و تفاصيل شريعتهم و قد قال سبحانه:

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً ).(2)

(وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ).(3)2.

ص: 13


1- . محمد بن محمد بن سليمان المغربي) المتوفّى عام 1049): جمع الفوائد من جامع الأُصول و مجمع الزوائد: 1/214 برقم 1515.
2- . الأحزاب: 21.
3- . الحشر: 2.

3 الفرق بين المسجود له و المسجود عليه

كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة و تُتخيّل التربة المسجود عليها وَثَناً، و هؤلاء، هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له، و المسجود عليه، و يزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلِّي وثن يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. و لكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف، و لم يفرّق بين الأمرين، و زعم المسجودَ عليه مسجوداً له، و قاس أمرَ الموحّد بأمرِ المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر، فأخَذَ بالصور و الظواهر، مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن و الضمائر، فالوثن عند الوثني معبود و مسجود له، يضعه

ص: 14

أمامه و يركع و يسجد له، و لكن الموحّد الذي يريد إظهارَ العبودية إلى نهاية مراتبها، يخضع للّه سبحانه و يسجد له، و يضع جبهته و وجهه على التراب و الحجر و الرمال و الحصى، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلاً: أين التراب و ربّ الأرباب؟ نعم: الساجد على التربة غير عابد لها، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها، و من توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان، و سيؤدي إلى إرباك كلّ المصلين و الحكم بشركهم، فمن يسجد على الفرش و القماش و غيره لا بدّ أن يكون عابداً لها على هذا المنوال فيا للعجب العجاب!! روى الآمدي عن علي أمير المؤمنين (عليه السلام) انّه قال: السجود الجسماني: وضع عتائق الوجوه على التراب.(1)4.

ص: 15


1- . غرر الحكم و درر الكلم: 1/107 برقم 2234.

4 السجدة في اللغة

اشارة

لا شكّ انّ السجود من فرائض الصلاة، و قد روى الفريقان عن ابن عباس) (رضي الله عنه) قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم): أُمرت أن أسجد على سبعة أعظمُ: على الجبهة و اليدين و الركبتين و أطراف القدمين.(1)

و مع ذلك فانّ حقيقة السجدة و واقعها و مقومها هو وضع الجبهة على الأرض، و أمّا الباقون فأشبه بالشرائط و يدلّ على ذلك قول أصحاب المعاجم حيث لا يذكرون في تعريف السجدة إلاّ وضع الجبهة على الأرض فكأنّ غيرها من شرائط السجدة التي فرضها الشارع و أضافها

ص: 16


1- . أخرجه الشيخان البخاري: 1/206 و مسلم: 1/354.

إلى حقيقتها اللغوية و العرفية.

قال ابن منظور ناقلاً عن ابن سيده: سجد يسجد سجوداً: وضَعَ جبهته بالأرض، و قوم سُجَّد و سجود.(1)

و قال ابن الأثير: سجود الصلاة، و هو وضع الجبهة على الأرض، و لا خضوع أعظم منه.(2)

و في «تاج العروس من جواهر القاموس»: سجد: خضع، و منه سجود الصلاة و هو وضع الجبهة على الأرض، و لا خضوع أعظم منه، و الاسم، السجدة (بالكسر).(3)

و هذه الكلمات من أصحاب المعاجم و نظائرها المبثوثة في كتب اللغة، تعرب عن أنّ حقيقة السجدة و واقعها و مقومها هو وضع الجبهة على الأرض، و لو لا انّ النبي فرض السجود على سبعة أعظم لكفى وضع الجبهةد.

ص: 17


1- . لسان العرب: 6، مادة سجد.
2- . النهاية: 2، مادة سجد.
3- . تاج العروس: 8، مادة سجد.

على الأرض، و لكنّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أضاف إلى الوضع أُموراً أُخرى، فصار الواجب السجود على سبعة أعظم.

فإذا كان كذلك فلا غرو في أن يختص وضع الجبهة بشرط خاص دون سائر الأعضاء، و هو اشتراط كون المسجود عليه هو الأرض أو ما ينبت منها و لا يجوز السجود على غيرها. دون سائر الأعضاء.

سرّ كشف الجبهة في السجدة

و الذي يعرب عن ذلك انّ معظم فقهاء السنّة ذهبوا إلى لزوم كشف الجبهة دون سائر الأعضاء، فلو كان لسائر الأعضاء دور في حقيقة السجدة كالجبهة، لكان حكمها حكم الجبهة مع أنّ الواقع خلافه.

1. ففي مختصر أبي القاسم الخرقي و شرحه: «و لا تجب عليه مباشرة المصلّي بشيء منها إلاّ الجبهة على إحدى الروايتين»، و في رواية أُخرى انّه يجب عليه مباشرة المصلّي بالجبهة ذكرها أبو الخطاب و روى الأثرم قال: سألت أبا

ص: 18

عبد اللّه عن السجود على كور العمامة فقال: لا يسجد على كورها و لكن يحسر(1) العمامة. و هو مذهب الشافعي.

لما روى خباب قال: شكونا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) حرّ الرمضاء في جباهنا و أكفنا فلم يشكنا إلى أن قال: و عن علي) (رضي الله عنه) قال: إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن جبهته، رواه البيهقي.(2)

2. و في «الوجيز»: يجب كشف الجبهة في السجود لما روي عن خباب، قال: شكونا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) حرّ الرمضاء في جباهنا و أكفّنا فلم يشكّنا، أي لم يزل شكوانا.

و قال في شرحه: و لا يجب كشف الجميع من (الجبهة) بل يكفي ما يقع عليه الاسم كما في الوضع، و يجب أن يكون المكشوف من الموضوع على الأرض، فلو كشف شيئاً و وضع غيره لم يجز، و إنّما يحصل الكشف إذا لم يكن بينه و بين موضع السجود حائل متصل به يرتفعي.

ص: 19


1- . في المصدر: يحصر (بالصاد).
2- . الشرح الكبير على متن الخرقي: 5581/557 على هامش المغني.

بارتفاعه، فلو سجد على طرفه أو كور عمامته لم يجز، لأنّه لم يباشر بجبهته موضع السجود.

لنا حديث خباب، و أيضاً روي أنّه (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: الزق جبهتك بالأرض.(1)

3. و قال ابن رشد: اختلفوا أيضاً هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة (مكشوفة) و موضوعة على الذي يوضع عليه الوجه، أم ليس ذلك من شرطه؟ و قال مالك: ذلك من شرط السجود أحسبه شرط تمامه.(2)

و قال جماعة: ليس ذلك من شرط السجود.

و من هذا الباب: اختلافهم في السجود على طاقات العمامة و للناس فيه ثلاثة مذاهب:

قول بالمنع، و قول بالجواز، و قولل.

ص: 20


1- . العزيز، شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير: 1/521.
2- . و معنى ذلك انّه ليس شرطاً للصحة بل شرط للكمال.

بالفرق بين أن يسجد على طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة، و قول بالفرق بين أن يمس من جبهته الأرض شيء أو لا يمس منها.(1)

4. و قال القفال: فإن كان على جبهته عصابة لعلة بها فسجد عليها أجزأ و لا إعادة عليه، و من أصحابنا خرّج فيه قولاً آخر في وجوب الإعادة من المسح على الجبيرة.(2)

5. و في «الفقه على المذاهب الأربعة»: الشافعية قالوا: يضر السجود على كور العمامة و نحوها كالعصابة إذا ستر كلّ الجبهة، فلو لم يسجد على جبهته المكشوفة بطلت صلاته إن كان عامداً عالماً إلاّ لعذر كأن كان به جراحة و خاف من نزع العصابة حصول مشقة شديدة، فإنّ سجوده عليها في هذه الحالة صحيح.(3)

الظاهر انّ سرّ لزوم كشف الجبهة لأجل إلصاق الجبهة المكشوفة بالصعيد حتّى يبلغ المصلّي منتهى الخضوع و العبودية.

غير انّ هؤلاء خصّوا كشف الجبهة بعدم وجود3.

ص: 21


1- . بداية المجتهد: 1/139.
2- . حلية العلماء في معرفة مذهب الفقهاء: 122.
3- . الفقه على المذاهب الأربعة: 1/233.

حاجز عليها يمنعها من السجود ككور العمامة و طاقاتها و العصابة و بالرغم من ذلك فقد سوغوا السجدة على السجاد و الفرش.

و بذلك أبطلوا سرّ لزوم كشف الجبهة و فائدته.

فعندئذ يتوجه إليهم السؤال التالي:

إذا كانت السجدة على الفرش و السجاد جائزة، فأي فرق بين السجود عليها و السجود على العصابة و كور العمامة؟! فانّ التفريق بين الأمرين أمر غريب، فانّ العصابة أو العمامة منسوج كالفرش و السجاد، و كون العمامة و أجزائها ممّا يحمله المصلّي دون الفرش و السجاد لا يوجب الفرق بعد اشتراكهما في تحقّق السجدة على زعمهم. و هذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ سرّ الكشف هو لصوق الجبهة بالصعيد، فعندئذ لا يكون أي فرق بين العصابة و السجاد.

و إلى ذلك ذهب علماؤنا أجمع، قال العلاّمة: يجب ابراز الجبهة للسجود، على ما يصحّ عليه السجود.(1)4.

ص: 22


1- . منتهى المطلب: 5/154.

5 السنّة في السجود في عصر الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) و بعده

اشارة

إنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) و صحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها، متحمّلين شدّة الرمضاء، و غبار التراب، و رطوبة الطين، طيلة أعوام. و لم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب و كور العمامة بل و لا على الحصر و البواري و الخُمر، و لا على الفرش و السجاد، و أقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود عليها، و قد شكا بعضهم رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) من شدّة الحرّ، فلم يجبه، إذ لم يكن له (صلى الله عليه و آله و سلم) أن يُبدِّل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه، إلى أن وردت الرخصة

ص: 23

بالسجود على الخمر و الحصر، فوسَّع الأمر للمسلمين لكن في إطار محدود، و على ضوء هذا فقد مرّت في ذلك الوقت على المسلمين مراحل ثلاث لا غير:

1. ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب و الرمل و الحصى و الطين، و لم تكن هناك أيّة رخصة لغيرها.

2. المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر و البواري و الخُمُر، تسهيلاً للأمر، و رفعاً للحرج و المشقّة.

3. المرحلة التي رخّص فيها السجود على الثياب اضطراراً و في حال الضرورة.

و إليك البيان:

ص: 24

المرحلة الأُولى السجود على الأرض

اشارة

1. روى الفريقان عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «و جُعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً».(1)

و المتبادر من الحديث أنّ كلّ جزء من الأرض مسجد و طهور يُسجد عليه و يُقصد للتيمّم، و على ذلك فالأرض تقصد للجهتين: للسجود تارةً، و للتيمّم أُخرى.

انّ هذا الحديث يثبت بجلاء انّ وجه الأرض، تراباً كان أو صخراً أو حصى هو الأصل في السجود و هو الذي يجب أن يتخذ موضعاً للسجود و لا يجوز التعدي عن ذلك إلاّ بدليل آخر.

ص: 25


1- . صحيح البخاري: 1/91 كتاب التيمّم الحديث 2; سنن البيهقي: 2/433 باب: أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد، و رواه غيرهما من أصحاب الصحاح و السنن.

و أمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة و السجود للّه سبحانه لا يختص بمكان دون مكان، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبِيَع و الكنائس، فليس هذا المعنى مغايراً لما ذكرناه، فإنّه إذا كانت الأرض على وجه الإطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة، فما ذكر معنى التزامي لما ذكرناه، و يعرب عن كونه المراد ذكر «طهوراً» بعد «مسجداً» و جعلهما مفعولين ل «جُعلت» و النتيجة هي توصيف الأرض بوصفين: كونها مسجداً و كونها طهوراً، و هذا هو الذي فهمه الجصاص و قال: إنّ ما جعله من الأرض مسجداً، هو الذي جعله طهوراً.(1)

و مثله غيره من شرّاح الحديث.

فإذا كانت التربة و الحصى طهوراً فهي أيضاً مسجود عليه للمصلّي. فالحصر حجّة إلى أن يدلّ دليل على الخروج عنه.ت.

ص: 26


1- . أحكام القرآن: 2/389 نشر بيروت.

تبريد الحصى للسجود عليها

2. عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: كنت أُصلّي مع النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) الظهر، فآخذ قبضة من الحصى، فأجعلها في كفّي ثمّ أُحوّلها إلى الكف الأُخرى حتى تبرد ثمّ أضعها لجبيني، حتّى أسجد عليها من شدّة الحرّ.(1)

و علّق عليه البيهقي بقوله: قال الشيخ: و لو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف و وضعها للسجود.(2)

و نقول: و لو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلاً أم منفصلاً جائزاً، لكان أسهل من تبريد الحصى، و لأمكن حمل منديل أو سجّادة أو ما شابه للسجود عليه.

ص: 27


1- . مسند أحمد: 3/327 من حديث جابر; سنن البيهقي: 1/439 باب ما روي في التعجيل بها في شدّة الحرّ.
2- . سنن البيهقي: 2/105.

3. روى أنس قال: كنّا مع رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) في شدّة الحرّ، فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه و سجد عليه(1).

4. عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) شدّة الرمضاء في جباهنا و أكفّنا فلم يشكنا.(2)

قال ابن الأثير في معنى الحديث: إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك، لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم.(3)

هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط، حتّى أنّ الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) لم يفسح للمسلمين العدولَ عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنسوجات المنفصلة، و هو (صلى الله عليه و آله و سلم) مع كونه بالمؤمنين رءوفاً رحيماً أوجب عليهم مسَّ جباههم الأرض،».

ص: 28


1- . السنن الكبرى: 2/106.
2- . سنن البيهقي: 2/105 باب الكشف عن الجبهة.
3- . النهاية: 2/497، مادة «شكا».

و إن آذتهم شدّة الحرّ.

و الذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض، و عن إصرار النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتّصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل و السجاجيد، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحدة من الروايات، و إليك البيان.

الأمر بالتتريب

5. عن خالد الجهني: قال: رأى النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له: «ترّب وجهك يا صهيب».(1)

و الظاهر أنّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب، بالسجود على الثوب المتّصل و المنفصل، و لا أقل بالسجود على الحصر و البواري و الأحجار الصافية، و على كلّ تقدير،

ص: 29


1- . المتقي الهندي: كنز العمال: 7/465 برقم 19810.

فالحديث شاهد على أفضليّة السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما مرّ من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.

6. روت أُمّ سلمة: رأى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) غلاماً لنا يقال له «أفلح» ينفخ إذا سجد، فقال:

«يا أفلح ترّب».(1)

7. و في رواية: «يا رباح ترّب وجهك».(2)

8. روى أبو صالح قال: دخلت على أُمّ سلمة، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين، فلمّا سجد نفخ التراب، فقالت أُمّ سلمة: ابن أخي لا تنفخ، فإنّي سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول لغلام له يقال له يسار و نفخ: «ترّب وجهك للّه».(3)1.

ص: 30


1- . المصدر نفسه: 7/459 برقم 19776.
2- . المصدر نفسه: 7/459 برقم 19777.
3- . المصدر نفسه: 7/465، برقم 19810; مسند أحمد: 6/301.

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة

9. روي: أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته.(1)

10. روي عن علي أمير المؤمنين أنّه قال: «إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه»، يعني حتّى لا يسجد على كور(2) العمامة.

11. روى صالح بن حيوان السبائي: أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) رأى رجلاً يسجد بجنبه و قد اعتمّ على جبهته فحسر رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) عن جبهته.(3)

12. عن عياض بن عبد اللّه القرشي: رأى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) رجلاً يسجد على كور عمامته فأومأ بيده: «ارفع

ص: 31


1- . الطبقات الكبرى: 1/151، كما في السجود على الأرض: 41.
2- . منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند: 3/194.
3- . السنن الكبرى: 2/105.

عمامتك» و أومأ إلى جبهته.(1)

هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ السجود على الأرض، و لم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى، و لو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك، و لما أمر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بالتتريب، و لما حسر العمامة عن الجبهة.

سيرة النبي في السجود

يظهر من غير واحد من الروايات انّ النبي كان يهتم بالسجود على الأرض و إليك نماذج من هذا:

1. يقول وائل بن حجر: «رأيت النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) إذا سجد وضع جبهته و أنفه على الأرض».(2)

2. يقول ابن عباس: انّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) سجد على

ص: 32


1- . المصدر نفسه.
2- . أحكام القرآن: 3/36; مسند أحمد: 315، 317.

الحجر.(1)

3. روي عن عائشة: ما رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) متقياً وجهه بشيء».(2)

قال ابن حجر: و في الحديث إشارة إلى انّ مباشرة الأرض عند السجود هو الأصل لانّه علق بعدم الاستطاعة.(3)

و هذا الحديث يعرب عن جواز السجود على الثياب عند الضرورة و عدم جوازه في حال الاختيار، و هذا هو المروي عن أئمّة أهل البيت.

فعن عيينة بياع القصب قال: قلت لأبي عبد اللّه أدخل في المسجد في اليوم الشديد الحرّ فأكره انّ أُصلي على الحصى فأبسط ثوبي فأسجد عليه، قال: نعم ليس به بأس.(4)1.

ص: 33


1- . السنن للبيهقي: 2/102.
2- . المصنف: 1/397 و كنز العمّال: 4/212.
3- . فتح الباري: 1/414.
4- . الوسائل: 3، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

و عن القاسم بن الفضيل قال: قلت للرضا (عليه السلام): جعلت فداك الرجل يسجد على كمه من اذى الحرّ و البرد، قال: لا بأس به.(1)

*** انّ هناك أحاديث و روايات تعرب عن انّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) كان يسجد على الطين و الأرض في البرد القارص، و كان يصلي في كساء يتقي به برد الأرض بيده و رجله دون جبهته، و إليك ما يدلّ على ذلك.

1. عن وائل بن حجر رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي في كساء أبيض في غداة باردة يتقي بالكساء برد الأرض بيده و رجله.(2)

2. عن ثابت بن صامت انّ رسول اللّه صلّى في بني عبد الأشهل و عليه كساء متلفف به يضع يديه عليه يقي6.

ص: 34


1- . الوسائل: 3، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 2.
2- . السنن الكبرى للبيهقي: 2/106.

برد الحصى.(1)

3. عن أبي هريرة قال: سجد رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) في يوم مطير حتّى أنّي لأنظر إلى أثر ذلك في جبهته و أرنبته.(2)

هذه الروايات و نظائرها تعرب عن عمل النبي في سجدته في يوم مطير و البرد و انّه كان يسجد تارة على الطين و لم يقي وجهه بشيء، و أُخرى وقى يديه من دون تعرض للوجه مع انّ تدقيق الرواة في بيان عمل النبي في اتقاء يديه بالكساء عن البرد و الطين و تركهم ذكر الجبهة يكشف عن انّه لم يق وجهه بشيء و إلاّ لذكره الرواة و لم يغفلوا عنه.

***6.

ص: 35


1- . سنن ابن ماجة: 1/329.
2- . مجمع الزوائد: 2/126.

سيرة الصحابة و التابعين في السجود

يظهر من غير واحد من الروايات انّ سيرة لفيف من الصحابة كانت جارية على السجود على الأرض.

1. عن أبي أُميّة انّ أبا بكر كان يسجد أو يصلّي على الأرض مفضياً إليها.(1)

2. عن أبي عبيدة انّ ابن مسعود لا يسجد أو قال لا يصلّي إلاّ على الأرض.(2)

3. كان مسروق بن الأجدع من أصحاب ابن مسعود لا يرخص في السجود على غير الأرض حتّى في السفينة، و كان يحمل في السفينة شيئاً يسجد عليه.(3)

4. كان إبراهيم النخعي الفقيه الكوفي التابعي يقوم على البردي و يسجد على الأرض.

ص: 36


1- . المصنف: 1/397.
2- . المصنف: 1/397.
3- . الطبقات الكبرى لابن سعد: 6/53; و المصنف عبد الرزاق: 2/583.

قال الراوي: قلنا ما البردي، قال: الحصير.(1) و في لفظ انّه كان يصلّي على الحصر و يسجد على الأرض.

5. كان عمر بن عبد العزيز لا يكتفي بالخمرة بل يضع عليها التراب و يسجد عليه.(2)

6. كان عروة بن الزبير يكره الصلاة على شيء دون الأرض.(3)

7. كتب علي بن عبد اللّه بن عباس إلى «زرين» ان ابعث إلىّ بلوح من أحجار المروة عليه أسجد.(4)

*** و الحاصل انّ التذلل و الخضوع في مقابل عظمة اللّه سبحانه يتحقّق بأفضل مجاليه بوضع الجبهة و الأنف على التراب و الطين، قائلاً: أين التراب و رب الأرباب و أنّه التراب سواسية و لا تجد ذلك في السجود على المصنوعات و للعلّامة الأميني كلمة قيمة و إليك نصّها:ي.

ص: 37


1- . المصنف لعبد الرزاق: 1/397.
2- . فتح الباري: 1/410.
3- . فتح الباري: 1/410.
4- . أخبار مكة للازرقي.

و الأنسب بالسجدة التي إن هي إلاّ التصاغر و التذلّل تجاه عظمة المولى سبحانه و وجاه كبريائه، أن تُتخذ الأرضُ لديها مسجداً يعفِّر المصلّي بها خدّه و يرغم أنفه لتذكّر السّاجد للّه طينته الوضيعة الخسيسة التي خلق منها و إليها يعود و منها يعاد تارة أُخرى حتّى يتّعظ بها و يكون على ذكر من وضاعة أصله ليتأتى له خضوع روحي و ذلّ في الباطن و انحطاط في النفس و اندفاع في الجوارح إلى العبودية و تقاعس عن الترفّع و الأنانية، و يكون على بصيرة من انّ المخلوق من التراب حقيق و خليق بالذلّ و المسكنة ليس إلاّ.

و لا توجد هذه الأسرار قطّ و قطّ في المنسوج من الصوف و الديباج و الحرير و أمثاله من وسائل الدَّعة و الراحة ممّا يُرى للإنسان عظمة في نفسه، و حرمة و كرامة و مقاماً لديه و يكون له ترفّعاً و تجبراً و استعلاءً و ينسلخ عند ذلك من الخضوع و الخشوع.(1)5.

ص: 38


1- . سيرتنا و سنّتنا: 126125.

المرحلة الثانية الترخيص في السجود على الخُمر و الحُصر

ما مرّ من الأحاديث و المأثورات المبثوثة في الصحاح و المسانيد و سائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و أصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها، و أنّهم كانوا لا يعدلون عنها، و إن صعب الأمر و اشتدّ الحرّ، لكنّ هناك نصوصاً تعرب عن ترخيص النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بإيحاء من اللّه سبحانه إليه السجود على ما أنبتت الأرض، فسُهل لهم بذلك أمر السجود، و رُفع عنهم الاصر و المشقّة في الحرّ و البرد، و فيما إذا كانت الأرض مبتلّة، و إليك تلك النصوص:

1. عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)

ص: 39

يصلّي على الخمرة.(1)

2. عن ابن عباس: كان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي على الخمرة، و في لفظ: و كان النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي على الخمرة.(2)

3. عن عائشة: كان النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي على الخمرة.(3)

4. عن أُمّ سلمة: كان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي على الخمرة.(4)

5. عن ميمونة: و رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي على الخمرة فيسجد.(5)

6. عن أُمّ سليم قالت: كان [رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)] يصلّي5.

ص: 40


1- . أبو نعيم الاصفهاني: أخبار اصبهان: 2/141.
2- . مسند أحمد: 1/269، 303، 309 و 358.
3- . المصدر نفسه: 6/179 و فيه أيضاً قال للجارية و هو في المسجد: ناوليني الخمرة.
4- . المصدر نفسه: 302.
5- . مسند أحمد: 6/331 و 335.

على(1) الخمرة.

7. عن عبد اللّه بن عمر: كان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي على الخُمر.(2)

و قد اعترض علىّ بعض المرشدين في المسجد الحرام لمّا رأى التزامي بالسجود على الحصير، و سألني عن وجهه فقلت له: إنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) كان يصلّي على الحصير، فقال: إنّ صلاة النبي على الحصر و البواري لا يلازم السجود عليهما إذ يمكن أن يصلّي على الحصير و يسجد على شيء آخر.

فقلت له: إنّ التفريق بين الأمرين لا يقبله الذوق السليم فانّ قوله: يصلّي على الحصير بمعنى انّه يصلّي عليه في عامة حالات الصلاة من القيام و الركوع و السجود لا انّه يضع قدميه على الحصير أو ركبتيه و يديه عليه و يضع جبهته على شيء آخر.8.

ص: 41


1- . المصدر نفسه: 377.
2- . المصدر نفسه: 2/92 و 98.

على أنّ في لفيف من الروايات تصريحاً بسجوده على الحصير.

1. روى أبو سعيد الخدري أنّه دخل على النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)، قال: فرأيته يصلّي على حصير يسجد عليه.(1)

2. و عن أنس بن مالك قال:

«كان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي على الخمرة و يسجد عليها».(2)

و في ضوء الأحاديث المذكورة يتبين جواز السجود على الأرض و التراب و بعض ما ينبت من الأرض مثل الحصير المصنوع من خوص جريد النخل.2.

ص: 42


1- . صحيح مسلم: 2/62، دار الفكر، بيروت.
2- . صحيح ابن خزيمة: 2/105، المكتب الإسلامي، ط 2 1412 ه; المعجم الأوسط: 8/348; المعجم الكبير: 12/292.

المرحلة الثالثة السجود على الثياب لعذر

اشارة

قد عرفت المرحلتين الماضيتين، و لو كانت هناك مرحلة ثالثة فإنّما هي مرحلة جواز السجود على غير الأرض و ما ينبت منها لعذر و ضرورة. و يبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ و الرمضاء، و راح هو و أصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحرّ و الأذى، و لكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع حرج السجود على الثياب لعذر و ضرورة، و إليك ما ورد في هذا المقام:

1. عن أنس بن مالك: كنّا إذا صلّينا مع النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فلم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض، طرح ثوبه ثمّ سجد عليه.

ص: 43

2. و في لفظ آخر: كنّا نصلّي مع النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض، بسط ثوبه.

3. و في لفظ ثالث: كنّا إذا صلّينا مع النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ مكان السجود.(1)

و هذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح و السنن و المسانيد تكشف عن حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً. و ذلك لأنّ رواية أنس نصّ في اختصاص الجواز بحالة الضرورة، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات، و إليك بعض ما روي في هذا المجال:

1. عبد اللّه بن محرز عن أبي هريرة: كان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي على كور عمامته.(2)8.

ص: 44


1- . صحيح البخاري: 1/101; صحيح مسلم: 2/109; مسند أحمد: 1/100; السنن الكبرى: 2/106.
2- . كنز العمال: 8/130 برقم 22238.

إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) عن السجود عليه(1) ، محمولة على العذر و الضرورة، و قد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه، حيث قال: قال الشيخ: و أمّا ما روي في ذلك عن النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك، و أصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم).(2)

و قد روي عن ابن راشد قال: رأيت مكحولاً يسجد على عمامته فقلت: لم تسجد عليها؟ قال أتّقي البرد على أسناني.(3)

2. ما روي عن أنس: كنّا نصلّي مع النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) فيسجد أحدنا على ثوبه.(4)ه.

ص: 45


1- . لاحظ ص 31.
2- . السنن الكبرى: 2/106.
3- . المصنف لعبد الرزاق: 1/400، كما في سيرتنا و سنّتنا، و السجدة على التربة: 93.
4- . السنن الكبرى: 2/106، باب من بسط ثوباً فسجد عليه.

و الرواية محمولة على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه، و بما رواه عنه البخاري: كنّا نصلّي مع النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) في شدّة الحرّ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه(1).

و يؤيّده ما رواه النسائي أيضاً: كنّا إذا صلّينا خلف النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ.(2)

و هناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدلّ إلاّ على أنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) صلّى على الفرو. و أمّا أنّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.

3. عن المغيرة بن شعبة: كان رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يصلّي على الحصير و الفرو المدبوغة.(3)

و الرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث، ليست1.

ص: 46


1- . البخاري: 2/64 كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.
2- . ابن الأثير: جامع الأُصول: 5/468 برقم 3660.
3- . أبو داود: السنن: باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331.

ظاهرة في السجود عليه. و لا ملازمة بين الصلاة على الفرو و السجدة عليه، خصوصاً إذا كان الفرو صغيراً و لعلّه (صلى الله عليه و آله و سلم) وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها. و على فرض الملازمة لا تقاوم هي و ما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.

حصيلة البحث

إنّ المتأمّل في الروايات يجد بوضوح أنّ قضيّة السجود في الصلاة مرت بمرحلتين أو ثلاث مراحل، ففي المرحلة الأُولى كان الفرض السجود على الأرض و لم يرخّص للمسلمين السجود على غيرها، و في الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض، و ليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أُخرى إلاّ مرحلة جواز السجود على الثياب لعذر و ضرورة، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو و أمثاله مطلقاً فمحمولة على الضرورة، أو لا دلالة لها على السجود عليها، بل غايتها الصلاة عليها.

ص: 47

و من هنا يظهر بوضوح أنّ ما التزمت به الشيعة من السجود على الأرض أو ما أنبتته الأرض هو عين ما جاءت به السنّة النبويّة، و لم تنحرف عنه قيد أنملة، و نحن ندعو إلى قليل من التأمّل لإحقاق الحقّ و تجاوز البدع.

فالسجدة على الفراش و السجاد و البسط المنسوجة من الصوف و الوبر و الحرير و أمثالها و الثوب المتّصل فلا دليل يسوِّغها قطُّ، و لم يرد في السنّة أيُّ مستند لجوازها و هذه الصحاح الستُّ و هي تتكفّل بيان أحكام الدين و لا سيّما الصلاة الّتي هي عماده لم يوجد فيها و لا حديث واحد، و لا كلمة إيماء و إيعاز إلى جواز ذلك.

فالقول بجواز السجود على الفرش و السجاد و الالتزام بذلك، و افتراش المساجد بها للسجود عليها كما تداول عند الناس بدعة محضة، و أمر محدث غير مشروع، يخالف سنّة اللّه و سنّة رسوله، و لن تجد لسنّة اللّه تحويلاً.(1)3.

ص: 48


1- . سيرتنا و سنّتنا: 134133.

6 ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة؟

بقي هنا سؤال يطرحه كثيراً اخواننا أهل السنّة حول سبب اتّخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر و الحضر و السجود عليها دون غيرها. و ربّما يتخيّل البسطاء كما ذكرنا سابقاً أنّ الشيعة يسجدون لها لا عليها، و يعبدون الحجر و التربة، و ذلك لأنّ هؤلاء المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة، و السجود لها.

و على أىّ تقدير فالإجابة عنها واضحة، فإنّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها، من أىّ أرض أُخذت، و من أىّ صقع من أرجاء العالم كانت، و هي كلّها في ذلك سواء.

و ليس هذا الالتزام إلاّ مثل التزام المصلّي بطهارة

ص: 49

جسده و ملبسه و مصلاّه، و أمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها، و يتّخذها مسجداً، لا تتأتّى له في كلّ موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حلّه و ترحاله، بل و أنّى له ذلك و هذه الأماكن ترتادها أصناف مختلفة من البشر، مسلمين كانوا أم غيرهم، ملتزمين بأُصول الطهارة أم غير ذلك، و في ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم في صلاته فلا يجد مناصاً من أن يتخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئنّ بها و بطهارتها، يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على الرجاسة و النجاسة، و الأوساخ التي لا يتقرّب بها إلى اللّه قط و لا تجوّز السنّةُ السجودَ عليها و لا يقبله العقل السليم، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي و لباسه و النهي عن الصلاة في مواطن منها:

المزبلة، و المجزرة، و قارعة الطريق، و الحمام، و مواطن الإبل، بل و الأمر بتطهير المساجد و تطييبها.(1)9.

ص: 50


1- . العلاّمة الأميني: سيرتنا و سنّتنا: 158 159.

و هذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح و إن غفل التاريخ عن نقلها، فقد روي: أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع المتوفّى عام 62 كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها. كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف، باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها.(1)

إلى هنا تبيّن أنّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلاّ لتسهيل الأمر للمصلّي في سفره و حضره خوفاً من أن لا يجد أرضاً طاهرةً أو حصيراً طاهراً فيصعب الأمر عليه، و هذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليها.

و أمّا السرّ في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية، فإنّ من الأغراض العالية و المقاصد السامية منها، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على.

ص: 51


1- . أبو بكر بن أبي شيبة: المصنف: 2/172، دار الفكر 1409 ه.

تلك التربة تضحية ذلك الإمام (عليه السلام) بنفسه و أهل بيته و الصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة و المبدأ و مقارعة الجور و الفساد.

و لمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة، و في الحديث: «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية، أُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ، و ارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى، ليخشع و يخضع و يتلازم الوضع و الرفع، و تحتقر هذه الدنيا الزائفة، و زخارفها الزائلة، و لعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يُخرق الحجب السبع كما في الخبر، فيكون حينئذ في السجود سر الصعود و العروج من التراب إلى ربّ الأرباب.(1)

و قال العلاّمة الأميني: نحن نتّخذ من تربة كربلاء قِطَعاً لمعاً، و أقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع، يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة4.

ص: 52


1- . الأرض و التربة الحسينية: 24.

يسجد عليها، و الرجل تلميذ الخلافة الراشدة، فقيه المدينة، و معلّم السنّة بها، و حاشاه من البدعة. فليس في ذلك أىّ حزازة و تعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة اللّه و سنّة رسوله (صلى الله عليه و آله و سلم) أو خروج من حكم العقل و الاعتبار.

و ليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم، و لا من واجب الشرع و الدين، و لا ممّا ألزمه المذهب، و لا يفرّق أيّ أحد منهم منذ أوّل يومها بينها و بين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم و بآرائهم، و إن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ، و اختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل و المنطق و الاعتبار فحسب كما سمعت، و كثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله و يسجدون عليه

ص: 53

في صلواتهم.(1)

هذا إلمام إجمالي بهذه المسألة الفقهية و التفصيل موكول إلى محلّه، و قد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر و أكابره، و أخص بالذكر منهم.

1. المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (13731295 ه) في كتابه «الأرض و التربة الحسينية».

2. العلاّمة الكبير الشيخ عبد الحسين الأميني مؤلّف الغدير (1320 1390 ه) فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبعت في آخر كتابه «سيرتنا و سنّتنا».

3. «السجود على الأرض» للعلاّمة الشيخ علي الأحمدي (قدس سره) فقد أجاد في التتبّع و التحقيق.

فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم اللّه الماضين من علمائنا و حفظ اللّه الباقين منهم.

هذا ما وقفنا عليه من الروايات و التي أوردناها في هذا المختصر.ف.

ص: 54


1- . سيرتنا و سنّتنا: 167116 طبعة النجف الأشرف.

خاتمة المطاف

اشارة

نذكر فيها أمرين:

1. فرض العقيدة و الفقه على الزائر

إنّ من غرائب الدهر و «ما عشت أراك الدهر عجباً» أن تُصادر الحريات في الحرمين الشريفين فتُفرض على الزائر، العقيدةُ و الفقهُ الخاص، مع أنّ السيرة عبر القرون كانت جارية على حرية الزائر في الحرمين الشريفين في عقيدته و عمله.

إنّ التوسل و التبرّك بالنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و أئمة أهل البيت عليهم السَّلام كانت سنّة رائجة في القرون الغابرة، و لم يكن هناك أي منع و قد وردت فيه صحاح الروايات و مسانيدها، و كان الحرمان الشريفان أمناً للزائر كما شاء سبحانه أن يكونا

ص: 55

كذلك، قال تعالى: (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (1) و قال تعالى حاكياً دعاءَ إبراهيم: (وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) و لكن أصبح(2) اليوم من تلك الناحية على خلاف ما دعا إليه إبراهيم، فالزائر الشيعي المقتدي بفقه أئمة أهل البيت لا يُسمح له أن يمارس طقوسه بحرية تامة، و لا أن يتكلم بشيء ممّا يعتقد به، و من مظاهر ذلك فرض السجود على الفرش المنسوجة و المنع من السجدة على الصعيد و التربة.

و نحن بدورنا نقترح على الحكومة الراشدة في أراضي الوحي أن يمنحوا حريات مشروعة لعامّة الحجاج كي يمارسوا طقوسهم بحرية، فانّ ذلك يعزِّز أواصرَ الوحدة و التعاون بين المسلمين على اختلاف طوائفهم.6.

ص: 56


1- . آل عمران: 97.
2- . البقرة: 126.

2. صيرورة السنة بدعة

قد وقفت على أنّ السجود على الأرض أو على الحصر و البواري و أشباهها هو السنّة، و أنّ السجود على الفرش و السجاجيد و أشباهها هو البدعة، و أنّه ما أنزل اللّه به من سلطان، و لكن يا للأسف صارت السنّة بدعة و البدعة سنّة. فلو عمل الرجل بالسنّة في المساجد و المشاهد، و سجد على التراب و الأحجار يوصف عمله بالبدعة، و الرجل بالمبدع. و لكن ليس هذا فريداً في بابه فقد نرى في فقه المذاهب الأربعة نظائر. نذكر الموارد التالية:

1. قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي:

السنّة في القبر، التسطيح. و هو أولى على الراجح من مذهب الشافعي.

و قال أبو حنيفة و مالك: التسنيم أولى، لأنّ

ص: 57

التسطيح صار شعاراً للشيعة.(1)

و قال الرافعي: إنّ النبي سطّح قبر ابنه إبراهيم، و عن القاسم بن محمد قال: رأيت قبر النبي و أبي بكر و عمر مسطَّحة.

و قال ابن أبي هريرة: انّ الأفضل الآن العدول من التسطيح إلى التسنيم، لأنّ التسطيح صار شعاراً للروافض، فالأولى مخالفتهم، و صيانة الميت و أهله عن الاتّهام بالبدعة، و مثله ما حكي عنه: أنّ الجهر بالتسمية إذا صار في موضع شعاراً لهم فالمستحب الإسرار بها مخالفة لهم، و احتج له بما روي انّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «كان يقوم إذا بدت جنازة، فأخبر انّ اليهود تفعل ذلك، فترك القيام بعد ذلك مخالفة لهم».

و هذا الوجه هو الذي أجاب به في الكتاب و مال9.

ص: 58


1- . الدمشقي: رحمة الأُمّة في اختلاف الأئمّة: 1/88، و نقله أيضاً العلاّمة الأميني في الغدير: 10/209.

إليه الشيخ أبو محمد و تابعه القاضي الروباني لكن الجمهور على أنّ المذهب الأوّل.

قالوا: و لو تركنا ما ثبت في السنّة لإطباق بعض المبتدعة عليه لجرّنا ذلك إلى ترك سنن كثيرة، و إذا اطَّرد جريْنا على الشيء خرج عن أن يعد شعاراً للمبتدعة.(1)

2. قال الإمام الرازي: روى البيهقي عن أبي هريرة قال: كان رسول اللّه يُجهر في الصلاة ب «بسم اللّه الرحمن الرحيم» و كان علىٌّ) (رضي الله عنه) يُجهر بالتسمية و قد ثبت بالتواتر، و كان علي بن أبي طالب يقول: يا من ذكره شرف للذاكرين، و مثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه.

و قالت الشيعة: السنّة، هي الجهر بالتسمية، سواء أ كانت في الصلاة الجهرية أو السرية، و جمهور الفقهاء يُخالفونهم إلى أن قال: إنّ عليّاً كان يُبالغ في الجهر3.

ص: 59


1- . العزيز شرح الوجيز: 2/453.

بالتسمية، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أُميّة بالغوا في المنع من الجهر، سعياً في إبطال آثار علىّ ) (رضي الله عنه).(1)

3. قال الزمخشري في تفسير قوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ).

فإن قلت: فما تقول في الصلاة على غيره؟ قلت: القياس جواز الصلاة على كلّ مؤمن لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ) و قوله تعالى:

(وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) و قوله: اللّهم صَلّ على آل أبي أوفى، و لكن للعلماء تفصيلاً في ذلك و هو أنّها إن كانت على سبيل التبع كقولك: صلى اللّه على النبي و آله فلا كلام فيها، و أمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه، لأنّ ذلك صار شعاراً لذكر رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم)، و لانّه يؤدي إلى الاتّهام بالرفض.(2)9.

ص: 60


1- . الرازي: مفاتيح الغيب: 2061/205.
2- . الكشاف: 2/549.

4. و في «فتح الباري»: اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتّفاق على مشروعيته في الحىّ، فقيل يشرع مطلقاً، و قيل بل تبعاً و لا يفرّد لواحد لكونه صار شعاراً للروافضة، و نقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني.(1)

و معنى ذلك انّه لم يجد مبرّراً لترك ما شرّعه الإسلام، إلاّ عمل الرافضة بسنّة الإسلام، و لو صحّ ذلك، كان على القائل أن يترك عامة الفرائض و السنن التي يعمل بها الروافض.

(قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدى ).(2)5.

ص: 61


1- . فتح الباري: 11/14.
2- . طه: 135.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.