الم... ذلك الحسين

اشارة

سرشناسه : سيد، كمال، - 1336

عنوان و نام پديدآور : الم ... ذلك الحسين/ المولف كمال السيد

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاريان، [1374؟].

مشخصات ظاهري : ص 96

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : چاپ سوم: 1382؛ ق 1424

يادداشت : چاپ چهارم: 1425ق. = 2004م. = 1383

موضوع : حسين بن علي(ع)، امام سوم، ق 61 - 4

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

رده بندي كنگره : BP41/4/س 9الف 7

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 74-4351

المقدمة

اودّلو لو غرقتُ في دمي الي القرارلأحمل العب، مع البشرو ابعث الحياةان موتي انتصار [ صفحه 7] تقدمت الفتاة بأدب وقدمت بين يديه طاقة من الرياحين...- السلام عليك يا سيّديانتشر عبير ربيعي.. ملأ الانف الأشمّ:- انطلقي حرّة لوجه اللَّهسرت همهمة.. تناثرت اسئلة.. علامات استفهام..- جارية تساوي الف دينار مقابل باقة ورد؟!ابتسم الوجه المضمخ بعبير النبوّات- هكذا علّمنا اللَّه، أن نردّ التحية بأحسن منها،و هل هناك سوي الحرّية؟! [ صفحه 9]

الكلاب تنهش جسده بقسوة...

الكلاب تنهش جسده بقسوة.. كلاب لم يرها من قبل.. متوحشة.. ملوّثة بكل القذارات.. ينزّ من أنيابها الصديد. يحاول دفعها ولكن لا جدوي. انها مسعورة وتزداد ضراوة وقسوة. و أشدّها كان الأبقع. انه يطلب العنق.. يندفع بوحشية لينقضّ علي الرقبة الناصعة.. كإبريق فضة.- آه.. آه.. ماء.. ماء.. قلبي يتفطّر عطشاً.انتبه من نومه.. جفّف حبّاب عرق كانت تتلألأ في ضوء القمر.تقابل الوجهان.. وجه القمر، ووجهه.تأمّل الحسين النجوم في أغوارها البعيدة.البريق القادم من الأعماق السحيقة يشتدّ لمعاناً.. يومض.. يحاول كشف الأسرار. [ صفحه 10] نهض السبط من فراشه.. أسبغ وضوءه.. أشاعت برودة الماء السلام في روحه. لقد مضي من لليل ثلثاه، و ليس هناك ما يخدش صمت الليل سوي نباح كلاب بعيدة.حمل جراباً مليئاً بالطعام، وكيساً يغصّ بصرار الدراهم الفضية والدنانير، وراح يجوس أزقّة المدينة.اجتاز بعض المنعطفات.. توقّف أمام بيت يكاد يتهدّم. أحكم لثامه، فبدا كشبح من أشباح الليل، أو سرّ من أسراره. وضع قدراً من السمن، و شيئاً من الدقيق، وأسقط- من كوّة صغيرة- صرّه نقود، ثم طرق الباب، وحثّ الخطي- قبل ان تفتح- داخل زقاق غارق في الظلام..كانت تنبعث من كوّة بيت كبير أضواء ساطعة.. و سمع ضحكة ما جنة أعقبتها ضحكات. استعاذ باللَّه، و

هو ينعطف نحو اليمين. صار قريباً من قصر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان- حاكم المدينة.منظر القصر المنيف، والبيوت الطينية التي تحيطه من كل الجهات يعبّر عن الظلم الفادح في توزيع الثروات، الفقر الي جانب الغني.. البؤس الي جانب الترف والبذخ..- اين انت يا رسول اللَّه؟!.. هلّم لتشاهد ما يفعل طلقاؤك.. في مدينتك.. اين أنت يا جدّاه.... [ صفحه 11] الليل ما يزال يغمر المدينة بظلمة حالكة يحيطها بالاسرار، و النجوم ما تزال مسمّره في صفحة السماء، و القمر يختفي خلف الربي و التلال، فيزداد الظلام رهبة. كراهبة ترفل بحلّتها السوداء بدت المدينة تلك الليلة.توقّف الرجل الاسمر ذوالعينين المتألّقتين والانف الاشمّ. وقف الي جانب النخلة التي غرسها جدّه النبي و تذكّر حديثه: اكرموا عمتكم النخلة. لقد شاخت كثيراً، ولكنها ما تزال تهَب الرطب والتمر والظلال. أسند جذعه الي جذعها.. أضحيا جذعاً واحداً.. انبثق نبعمن الصلاة، و غمر رشاش الكلمات السماوية المكان... و صلّي الحسين ركعتين.. ثم انطلق نحو النبي.الذاكرة ماتزال تتألق بصور الطفولة.. الحسين بسنواته السبع يركض نحو جدّه العظيم.. يرتمي في أحضان النبوّة وعبق الوحي، وابتسامات الملائكة تغمر دنياه. و تتلاحق الصور.. تشتعل و تنطفئ كبروق سماوية.ألقي الرجل الذي ذرّف علي الخمسين بنفسه علي القبر، شعر بدف ء الاحضان. احتضن التربة الطاهرة، وراح يستنشق.. يملأ صدره بشذي السماء شعر بأنه يقبّل وجه جدّه.. يمسّد شعره المتموّج تموّج الصحاري، و يداعب سوالفه المتلألئة. شعر أنه يعانق آدم [ صفحه 12] و ابراهيم، و يحتضن الكون كلّه.- يا جدّاه، انهم يريدون مني شيئاً عظيماً.. تكاد له السماوات يتفطّرن و تنشقّ الارض. يريدون لقمم الجبال أن تغادر اماكنها الشماء الي الهاوية، و للسحب أن تدع السماء، وللنخيل أن تنحني..

انهم يريدون للحسين أن يبايع.. يبايع يزيد....أغمض الحسين عينيه المتعبتين، فانبثق شلال من نور محمد.. وجه يتلألأ كالبدر، ترفرف حوله أجنحة الملائكة مثني و ثلاث و رباع.- حبيبي يا حسين.. إن اباك وامك و اخاك قدموا عليّ.. انهم مشتاقون اليك، فهلمّ إلينا.- لا حاجة بي الي الدنيا، فخدني اليك يا أبتي.- و الشهادة يا بني.. الدنيا كلّها تحتاج شهادتك.وانتبه الحسين علي أنفاس الصبح، فودّع جدّه وقفل عائداً الي منزله. الرؤيا تتجسّد امام عينيه، حتي كاد يلمس غصناً من سدرة المنتهي. نور سماويّ يسطع في أعماقه.. ونداء يتردد في صدره.. يدعوه الي الرحيل. لقد أزفت الساعة.. والنوق في الصحاري رفعت رؤوسها تترقب انتظام القافلة. [ صفحه 13]

ما لها المدينة خائفة هكذا، بيوتها ترتجف، وجدرانها تهتزّ رعباً؟...

ما لها المدينة خائفة هكذا، بيوتها ترتجف، وجدرانها تهتزّ رعباً؟.. اين مجد الكوفة الضائع؟.. أين هيبتها القديمة؟.. أم تراها نسيت أنها كانت العاصمة؟!تساءل الرجل الغريب- الذي كانت تحفه الألوف قبل ليلة.. امّا الآن فهو يجوس أزقّة المدينة خائفاً يترقب.. ليس معه من يدلّه علي الطريق....هل تراه أخفق في مهمته.. انه سفير الحسين الي الكوفة عاصمة المجد الغابر. أين الرجال الذين بايعوه علي الثورة؟.. اين كل تلك السيوف والدروع، وتلك الكلمات التي تشبه بوارق الفضاء و دويّ الرعود؟!.كيف تحوّل جيش ناهز العشرين ألفاً الي فئران خائفة تختبئ مذعورة في جحور.. منقوبة في الأرض؟. [ صفحه 14] فكّر أن ينادي بأعلي صوته: «يا منصور أمت»، شعار الثورة.. ذكريات بدر.. علّهم يلتفّون حوله من جديد.. علّهم يهبّون لحصار قصر الظلم مرّة أخري. ولكن من تركوه في وضح النهار، كيف يعودون اليه في قلب الظلام. الذين فرّوا في ضوء الشمس، هل يعودون في غمرة الليل؟كان مسلم بن عقيل يسير.. ينقل خطيً واهنة.

تداعت أمامه كل الصور المثيرة، وهو يعبر الصحراء مع دليليه.. الرمال المتموّجة القاحلة حيث لا ماء.. و لا حياة.. و لا شي ء، سوي الذرات الملتهبة.. الظمأ.. التيه..مات الدليلان عطشاً، اما هو فبقي يواصل سيره وحيداً، أراد أن يعود من حيث أتي.. ولكن الحسين كان يريد له المسير حتي النهاية. انه سفيره الي الكوفة.. الكوفة التي تريد إسترداد مجدها الضائع.. الكوفه التي تتلهف لرؤية علي بن أبي طالب مرّه أخري.. تنشد عدله.. رحمته.. رفقه بالفقراء و المساكين.. تريد أن تطرب علي بلاغته من جديد.. تريد للمنبر المهجور أن يتدفّق علماً و فصاحة.تلك الحلام الرجال الفئران تحلم في جحورها و ترتجف ذعراً.الاحلام الوردية تحتاج سواعد بقوّة الحديد أو اشدّ بأساً.«السفير» أعياه التعب.. كقائد مخذول كان يجرجر نفسه بعناء.. [ صفحه 15] يحسّ مرارة الهزيمة. أمام جيش و همي. حقّ له أن يندهش كيف تشتّت جيشه الكبير امام شائعة كاذبة!.. امام جيش سوف يصل من الشام.. جيش وهمي.. صنعه الخيال المريض.. الخيال الذي يحلم بعقل فأرة مذعورة من القط.. من اسمه فقط.جلس الغريب عند بابٍ عتيقة، وراح يلتقط أنفاسه كأنه ما يزال يخترق الصحراء.. يجوب الأودية.فتحت «طوعة»- المرأة العجوز التي كانت تنتظر عودة ابنها، والابن ذهب يبحث عن الرجل الجائزة.- هل لي في جرعة من الماء؟.و ما أسرع أن عادت المرأة تحمل اليه الماء.. فراح يعبّ منه، ثم سكب الباقي علي صدره. اراد ان يطفئ لهيب الصحراء في أعماقه.قالت العجوز مستنكرة جلوسه:- ألم تشرب يا عبداللَّه؟!.. قم فانصرف الي اهلك.اعتصَم بالصمت.. الصمت المجهول الذي لا يريد أن يسير غوره أحد.- قم عافاك اللَّه.. فانه لا يجدر بك الجلوس علي بابي.- و ماذا افعل.. لقد ضللت الطريق.. و ليس هناك

من يدلّني. [ صفحه 16] قالت المرأة متوجسة:- من تكون يا عبداللَّه؟!- انا مسلم بن عقيل.فهتفت المرأة مأخوذة بالمفاجأة:- انت مسلم؟!.. انهض اذن انهض.- الي اين يا أمة اللَّه.- الي بيتي..وانفتح باب في الافق المظلم.. كوّة تفضي الي النور.. لحظة من أمل.. قطرة ماء في لهب الصحراء.واحتضن بيت كوفي «مسلم بن عقيل»- الرجل الشريد. امّا بقية البيوت فقد كانت تصغي برعب الي حوافر الخيل و هي تدكّ الارض بحثاً عن رجل غريب. [ صفحه 17]

القافلة تطوي الصحراء في طريقها الي أم القري...

القافلة تطوي الصحراء في طريقها الي أم القري.. قافلة عجيبة. لم تكن قافلة تجارية، و لم تبدُ- كذلك- قافلة للحجاج.. ففيها اطفال كثيرون.. اطفال يشبهون ورود الربيع.. قافلة يتقدمها رجل في عينيه بريق الشمس وفي جبينه يتلألأ القمر، وفي حنايا صدره تنطوي الصحاري، الي جانبه وجه يشبه البدر.. شاب في الثلاثين من عمره أو يزيد.. يدعي «أبوالفضل» أو قمر بني هاشم.. دائم النظر الي اخيه يتأمله بخشوع.. يخاطبه: يا سيّدي.و يظهر خلفه فتي عجيب يشبه النبي خلْقاً وخُلُقاً و منطقاً.. انه علي.. علي الاكبر. وفي القافلة هوادج كثيرة.. كثيرة جداً.. واطفال....القافلة تسير، والتاريخ يحبس انفاسه، وكلمات تتردد بخشوع، فتمتزج مع تمتمات النوق. [ صفحه 18] - و لّما توجّه تلقاء مدين قال عسي ربي أن يهديني سواء السبيل.- الطريق محفوفة بالاخطار، فلو تنكبت الطريق.قدر عجيب يسيّر القافلة.. قافلة صغيرة تحاول تصحيح المسار الانساني.الكلمات التي قالها الحسين ما زالت تدوّي في الآذان. الاهداف العظيمة.. الروح السامية في جلال الملكوت. كلماته تذهب مع نسائم الصحراء بذوراً تنبت في اعماق الارض.. هل يكون الموت هدفاً.. كيف تخرج الحياة من رحم الموت؟. واذا كان الموت هو النهاية لكل كائن، فلم لا نختار الطريقة التي

سنموت بها؟ هل يكون الموت جميلاً احيانا، لكي يقول الحسين: خُطّ الموت علي ولد آدم مَخَطّ القلادة علي جيد الفتاة، و ما أولهني الي اسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف.- ولكن اذا كان هدفك الموت، فلم تأخذ معك الاطفال و النساء؟ و اذا كانت الآفاق مظلمة، لماذا تصطحب كل هذا الحَشْد من الضعفاء؟...- شاء اللَّه ان يراهن سبايا.. شاء اللَّه ان يراني قتيلاً.. سوف اموت عطشاً.. سأسقط قرب نهر يموج بالمياه كأنه بطوت الحيّات.- ماذا يريد الحسين؟. [ صفحه 19] - يريد.ن يموت ظامئاً.- لماذا؟!.- انها مشيئة اللَّه!- مشيئة الامّة..القافلة تقترب من مكّة.. ام القري واد غير ذي زرع.. أول بيتوضع للناس.. مبهط جبريل فوق جبل النور.. غار حراء، حيث التقت السماء بالارض.. طفولة محمّد.. شبابه.. آخر النبوات في التاريخ...المساء ينشر ظلاله الخفيفة.. وانوار واهنة تحاول أن تلألأ كالنجوم.. اضواء مدينة حائرة هزّتها انباء قادمة من دمشق. لقد هلك هرقل و جلس مكانه هرقل آخر.شعبان يطوي ثلاثة من ايامه.. القافلة تدخل مكّة، و تلقي عصا الترحال عند البيت العتيق. الحسين يحنّ الي زيارة قبر جدّته خديجة الكبري.. يذكر تضحياتها من اجل محمّد.. و هو يريد أن يواصل ذات الدرب.. يريد اعادة نهج النبي العظيم.- ماذا تريد يا سيدي الحسين.. ألا تبقي هنا في حرم اللَّه؟. [ صفحه 20] - انهم لن يدعوني اعيش بسلام.. انهم يريدون الفتك بي، حتي لو تعلقت بأستار الكعبة.. انهم يطلبون مني شيئاً عظيماً.. هل رأيت النخيل ينحني أو الجبال؟ هيهات.. هيهات.- و لِمَ العراق؟.. أليس هناك مكان آخر؟ العراق الذي قتل اباك واغتال اخاك، وسلّم المنبر لمعاوية!..- و لِم الذهاب الآن.. ألا تمكث قليلاً.- إن لم اذهب اليوم ذهبتُ غداً، وان

لم أذهب غداً ذهبت بعد غد، وما من الموت واللَّه بُدّ.. و إني لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه.تنبعث من الارض اسئلة.. تتفجر علامات استفهام سرعان ما تتلاشي أمام كلمات سماوية كأنها تأتي من وراء استار الغيب.ينظرون فلا يرون سوي بيارق امويّة.. سيوفاً تقطر غدراً وخناجر مسمومة... اما هو فيري ينابيع تتدفق.. انهاراً وسواقي.. انه يري ماوراء الآفاق.. يري المستقبل القادم من رحم الايام.عجيب أمر هذا الرجل.. يحاول أن يلوي القدر.. أن يقهر كل شياطين الارض.. أن يهزم نظاماً مدجّجا بالسلاح.. كيف؟!بقافلة صغيرة.. سبعين أو يزيدون.. اطفال و نساء.. وتصغي الصحاري لكلمات متمرّدة ثائرة.. كلمات تختصر النبوّات.. تبدأ [ صفحه 21] ببسم اللَّه.. مجراها و مرساها...- هذا ما أوصي به الحسين بن علي الي اخيه محمد بن الحنفية.ان الحسين يشهد أن لا اله الا اللَّه وحده لا شريك له، وان محمداً عبده و رسوله.. جاء بالحق من عنده.وان الجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها. و ان اللَّه يبعث من في القبور.و اني لم اخرج اشراً و لا بطراً و لا مفسداً و لا ظالماً، وانما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدي.أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، و أسير بسيرة جدّي، و أبي علي بن أبي طالب.فمن قبلني بقبول الحق، فاللَّه أولي بالحق، و من ردّ عليّ هذا اصبر حتي يقضي اللَّه بيني و بين القوم بالحق، و هو خير الحاكمين...انطلقت الثورة و صدر بيانها الأول. أسلحتها الصبر و المقاومة والموت.الموت صلاح.. بل حياة.. حياة.. كيف؟- اجل.. إن من يموت كريماً سيحيا.. سيحيا إلي الابد.. هكذا علّمني أبي قال علي شاطئ الفرات بصفين:الموت في حياتكم مقهورين، و الحياة في موتكم قاهرين. [ صفحه 23]

قصر الإمارة يجثم فوق الكوفة...

قصر الإمارة يجثم فوق الكوفة.. نسر هائل جاثم علي فريسته.. غراب اسطوري ينعب فتطير الرؤوس وتطيح الايدي..ذئاب جائعة من بعيد.. وكلاب مسعورة تنبح.. وليل حالك ملي ء بالاسرار والغموض.. ورجل ارقط مجهول النسب اسمه ابن زياد بن ابيه.. ابن الليلة الماجنة. الرجل الارقط بدا مفزعاً تلك الليلة.. شيطانا مريداً يفكّر و يدبّر، فقتل كيف فكر.. يتشبث بمخالب نسر.. يهدّد بجنود قادمين من الشام.. فتطيع القبائل، وتنحني الرقاب.. و تتساقط الرؤوس....التفت نحو هاني بن عروة، وصرخ بعصبية:- اتيت بابن عقيل الي دارك، وجمعت له السلاح؟قال هاني بثبات:- أفضّل لك أن تمضي الي الشام، فقد جاء من هو احقّ بالامر منك [ صفحه 24] قال هاني بثبات:- أفضّل لك أن تمضي الي الشام، فقد جاء من هو احقّ بالامر منك و من صاحبك.و تفجّر ابن زياد غضباً:- واللَّه لا تفارقني حتي تأتيني به.و جاءه الجواب هادئاً ثابتا.. ثبات الجبال:- واللَّه لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه.- لأقتلنّك.- اذن تكثر البارقة حولك.هجم الارقط علي زعيم «مراد» وجرّه من شعره، و سدّد له ضربة هشمت انفه.يا كوفة.. يا مدينة عجيبة.. ايتها الغانية اللعوب.. يا مومساً تريد كل يوم بعلاً.. لِمَ تُضيعين ابناءك؟ ابن مسلم ايتها الغادرة؟!..خيول الدوريات تجوس المدينة الخائفة.. الخائنة.. يبحثون عن رجل مكّي مدني اسمه مسلم.. مسلم حقاً. [ صفحه 25] - لم يبحثون عنه؟..- انه يحمل اشياء ممنوعة. اشياء خطيرة. يحمل سيفاً علوياً.. وقلباً حسينياً.. يريد تهريب الثورة..- في هذا الليل والناس نيام؟!العيون الحمراء ترقب المدينة..ومسلم في بيت طوعة.. رجلانقطعت به السبل، وضاقت عليه الارض بما رحبت، ولا ملجأ له سوي مهنّد في يمينه.وطوعة.. المرأة العجوز.. تتأمل اسداً جريحاً من ليوث محمّد.. يقبض علي قائمة

سيفه. لقد طلع الفجر، وآن للنهاية ان تبدأ.- انهم كثيرون.. مئة أو يزيدون.- لا عليك يا أمَة اللَّه. لقد حان اللقاء. رأيت عمي اميرالمؤمنين- في المنام- يقول لي: انت معي غداً...اقتحمت الذئاب منزل طوعة، ولمع السيف العلوي كبرق سماوي.. و دوّي رعد مهيب له صوت مسلم:اقسمت لا أُقتل الّا حرّا وإن رأيت الموت شيئاً نكرا [ صفحه 26] الرجل الغريب القادم من رمال الجزيرة، يقاتل لوحده في المدينة المشهورة بالغدر، والرجال الذين ابتسموا له بالأمس يكشرون عن انياب مسمومة.. ملوّثة بالصديد.وصرخ «ابن الاشعث» مستمدّاً:- الرجال.. الرجال.ويستنكر قصر الامارة:- ويلك انه رجل واحد.- اتظن انك ارسلتني الي بقال من بقالي الكوفة!.. انه سيف من اسياف محمّد.وعجزت السيوف أن تكسر سيفه.. والرجل ما يزال يقاتل.. يقاتل بضراوة اسطورية.. الجراح النازفة.. الظمأ.. الاعياء.. غامت المرئيات أمام عينيه.. وتوالت الطعنات. طعنات الغدر. الخناجر المسمومة تنغرز في جسده. و تهاوي الجبل. الارادة الفولاذية عجز الجسد عن مواكبتها. تراخت قبضته. ولمّا انتزعوا سيفه بكي. و تعجّب الذين حوله.. لم يدركوا سرّ البكاء. [ صفحه 27]

القافلة تطوي الصحراء...

القافلة تطوي الصحراء.. والنجوم المحتشدة في السماء ترسل اضواء واهنة، فتبرق ذرّات الرمال، و القافلة التي سبقت قوافل الحجيج في مغادرة مكّة تنساب في بطون الاودية.. و خشخشة الاشواك تبوح باسرار الليل.وصادفهم رجل في «الصفاح» يريد العمرة.- من الرجل؟- الفرزدق بن غالب.- هذا نسب قصير.- انت اقصر نسباً مني.. انت ابن رسول اللَّهولاح سؤال عن الكوفة.. عاصمة ابيه واخيه.- قلوبهم معك وسيوفهم عليك.اية قلوب تلك لا تنقادلها السواعد.. القلوب الخائفة قلوب ميتة.. [ صفحه 28] انها قطعة لحم باردة.و في «ذات عرق» كان الحسين جالساً يقرأ كتاباً بين يديه.. و بين يديه ايضاً الصحراء المترامية.. صحراء

لا نهاية لرمالها.. وبين يديه وقف التاريخ حائراً لا يدري أين مساره. ومرّ به رجل كان في الكوفة منذ ايام...هزّ الرجل رأسه آسفاً:- السيوف مع بني امية والقلوب معك.- صدقت.- ماذا تقرأ يابن رسول اللَّه؟- كتاباً من أهل الكوفة وهم قاتلي.. فاذا فعلوا ذلك لم يدعوا للَّه محرماً الّا انتهكوه.- انشدك اللَّه في حرمة العرب.ومضي الرجل الي وجهته... ومضي التاريخ بعد أن عرف مساره... كان يسير باتجاه يختلف قليلاً عن جهة الكوفة. هناك بمحاذاة النهر سيكون اللقاء.. سيبني التاريخ في تلك البقعة احدي مدنه الخالدة. [ صفحه 29] و في «الخزيمية» لوت النوق اعناقها.. توقفت هنيهة.. اصغت الي هاتف عجيب:الا يا عين فاحتفلي بجهد فمن يبكي علي الشهداء بعديعلي قوم تسوقهم المنايا باقدار الي انجاز وعدِو تمتم الحسين:- القوم يسيرون و المنايا تسري اليهم.- او لسنا علي الحق يا أبي؟تأمل ابنه الاكبر.. فحنّ الي جدّه...- بلي والذي اليه مرجع العباد.- يا ابت اذن لا نبالي.وفاضت عيناه شوقاً الي جدّه.وفي «الثعلبية» قال الحسين لرجل تاهت به السبل.. لا يدري أي الطريقين يسلك.- يا أخا العرب لو لقيتك بالمدينة لا ريتك اثر جبريل في دارنا.. افعلموا وجهلنا؟! هذا مما لا يكون! [ صفحه 30] و مضي الرجل حائراً لا يدري أي الطريقين يعني النجاة. طريق الحسين أم طريق الحياة.و مضت القافلة لا تلوي علي شي ء. الي الكوفة كانت الخطي تتجه، ولكن القلوب كانت تهفو الي مدينة أخري.. مدينة لم تولد بعد.كبّر صاحب للحسين:- رأيت النخيل.. نخيل الكوفة.استنكر آخر:- ما بهذا الموضع نخل.. وانما هو اسنّة الرماح وآذان الخيل.ونظر الحسين:- وأنا اراه ذلك.. أليس هنا ملجأ؟.- نعم «ذو حسم» جبل عن يسارك.وأناخت النوق.. هوَتْ بأثقالها الي الارض.. توقّفت سفُنالصحراء. توقفت

لتتأكد من اتجاه البوصلة.. أو لتواجه القراصنة.. قراصنة التاريخ. [ صفحه 31]

الكوفة خائفة جلست ذليلة في حضرة ابن زياد...

الكوفة خائفة. جلست ذليلة في حضرة ابن زياد.. و زياد يشير بسوطه.. فتتساقط الرؤوس.. و تطيح الايدي. وانحنت الرقاب «للأرقط». لقد انتصر بجيشه الوهمي القادم من الشام. الكوفة كلّها اسيرة في قبضته.. تنقاد له طائعة. يصرخ فيها:- اقتلوا آل الحسين.. إنهم اناس يتطهّرون.وينتظم العبيد. عبيد الدنيا جيشاً عرومرماً يقوده «الحرّ».المهمة خطيرة.. القبض علي القافلة.. فارس يقود الف فارس مدجّج السلاح يجوبون الصحراء بحثاً عن قافلة صغيرة.قدر عجيب ساق هذا الرجل.. جعله في طليعة الذين يريدون اغتيال الحرّية.. و هو «الحرّ» كما سمّته امّه.. [ صفحه 32] و الحرّ يجوب الصحراء في مهمّة كان يلعنها في اعماق نفسه.. الرمال الممتدة الي ما لا نهاية تدعوه الي الرحيل.. الرحيل الي الشمس، وكانت الارض تشدّه اليها كما شدّت الفاً يسيرون خلفه.و يسمع الحرّ صوتاً عجيباً.. صوتاً قادماً من وراء الرمال:- ابشر يا حرّ بالجنّة.- اية جنّة وانا سائر لقتال سبط النبيالخيل تلهث.. أضرّ بها الظمأ.. والصحراء تلتهب.. تتوهج.. تشتعل جحيماً لايطاق والحرّ يُبشَّر بالجنّة. وتبدو في الافق قافلة تتجه نحو ذي حسم (الجبل الصغير).الشمس في كبد السماء تتشظي حمماً.. تتفجّر لهباً، والرمال تشتعل جمراً، والخيل تلهث.. تهوّم عيونها نحو سراب بعيد يحسبه الظمآن ماء. وقف الحرّ قبال الحسين في الظهيرة العظمي.. الخيول تنظر الي الحسين.. تشمّ رائحة الماء وتحمحم.هتف الحسين:- اسقوهم و ارشفوا الخيل...و مرّت مئات الخيول الظامئة.. تعبّ من الماء.. وتطفئ لهب [ صفحه 33] الصحراء.ورأي الحسين فارساً وصل متأخراً، وقد اضرّ به العطش، فقال بلغة حجازية:- أنخ الرواية.-..؟!- انخ الجمل.اناخ الظامئ الجمل. و لما أراد أن يشرب، جعل الماء يسيل من السقاء، فقال

الحسين بلغة حجازية:- أخنث السقاء.فلم يدر الرجل ما يصنع، فعطف الحسين له السقاء حتّي ارتوي وسقي فرسه.و ساد صمت رهيب رغم حمحمة الخيل.. و كان الجميع يتساءلون عن سرّ وجودهم في تلك البقعة الملتهبة من دنيا اللَّه. وأذَّن «ابن مسروق» للصلاة، فقال الحسين:- اتصلّي بأصحابك. [ صفحه 34] - لا، بل نصلّي جميعاً بصلاتك.و صلّي الحسين بالجموع.. و صلّي خلفه الف فارس كانوا يريدون القبض علي الرجل القادم من الحجاز. و قال الحسين بعد الصلاة:- نحن أهل بيت محمّد أولي بالأمر من هؤلاء المدّعين.. السائرين بالجور والعدوان، فإن ابيتم الّا الكراهية لنا، و الجهل بحقنا، وكان رأيكم علي غير ما اتتني به كتبكم انصرفت عنكم...تساءل الحرّ:- ما ادري، ما هذه الكتب التي تذكرها؟!فنظر الحسين الي «ابن سمعان»، فاحضر خرجين مملوءين كتبا.. رسائل بالآلاف.. كتبها الكوفيون، كلّها تقول ان أقدم علينا ليس لنا امام غيرك.تمتم الحرّ خجلا:- اني لست من هؤلاء.. و اني أمرت ان اقدامك الكوفة علي ابن زياد.قال صاحب الأنف الاشمّ: [ صفحه 35] - الموت ادني اليك من ذلك..القافلة تريد أن تستأنف رحلتها.. سفن الصحراء ترفع مراسيها.و «الحرّ» يعترض:- انا انفّذ أمر الخليفة.- ثكلتك امّك.- اما لو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر امّه كائناً من كان.. ولكن مالي الي ذكر امّك من سبيل.. فامّك الزهراء البتول.واردف الحرّ متوسّلاً:- لتسلك طريقاً وسطاً.. لا يدخلك الكوفة و لا يردّك الي المدينة، حتي اكتب الي ابن زياد، فلعلّ اللَّه يرزقني العافية.كانت القافلة تسير باتجاه بوصلة القدر.. باتجاه مدينة تعيش في رحم المستقبل.كانا يسيران علي مهل.. يسيران في طريق واحد.. طريق رسمته الاقدار.همس الحرّ بحزن: [ صفحه 36] - اني اذكّرك اللَّه في نفسك،

فاني اشهد لئن قاتلت لتُقتلَنَّ وادرك الحسين ماتموج به اعماق «الحرّ».- أفبالموت تخوّفني؟!سأمضي وما بالموت عار علي الفتي اذا ما نوي حقاً وجاهد مسلمافان عشت لم اندم وان متّ لم أُلَم كفي بك ذلاً أن تعيش وترغماوادرك الحرّ هدف الحسين.. الغاية التي يتحرك نحوها. ابتعد عنه.. أخذ ناحية أخري من الطريق.. يسايره فيها من بعيد.. ولكنه شعر بنفسه تهفو الي الرجل السائر نحو الموت.. الرجل الذي قال من قبل: من لحق بنا استشتهد و من تخلّف عنا لم يبلغ الفتح. [ صفحه 37]

ما بين عين التمر و القريات، لاحت من بعيد خيمة وحيدة...

ما بين «عين التمر» و «القريات»، لاحت من بعيد خيمة وحيدة.. في خارجها رمح مركوز وفرس تحمحم و في داخل الخيمة رجل وحيد.. فرّ من الكوفة.. يريد أن ينأي بنفسه بعيداً عن قدر رهيب. فجاءه رجل من أقصي الجزيرة يسعي.- ماذا تريد!!- اني جئتك بهدية وكرامة. هذا الحسين يدعوك الي نصرته.أجاب الرجل الوحيد:- واللَّه ما خرجت من الكوفة الا لكي لا أراه.. لعلّك لم تسمع الاخبار. لقد خذلته شيعته.. قُتل «مسلم بن عقيل» و «هاني بن عروة» و رجال آخرون، و لا اقدر علي نصره..وأردف و هو يطرق برأسه الي الارض:- ولست أحب أن يراني وأراه. [ صفحه 38] ولكن الحسين أراد أن يراه فمضي اليه.. و رأي «الجعفي» لمّةً من الناس تهفو اليه.رجل ذرّف علي الخمسين و حوله رجال وصبية وأطفال قادمين، فأوسع لهم في المجلس، وجلس الجعفي قبال رجل لم يره من قبل.. تموج في جبينه طيوف النبوّات. أراد أن يكسر حاجز الصمت، فقال مبتسماً و هو يشير الي لحيه تشبه ليلة غاب فيها القمر:- أسواد أم خضاب؟!- عجّل عليّ الشيب يا ابن الحرّ.- خضاب اذن!- يا ابن الحرّ..

الا تنصر ابن بنت نبيّك و تقاتل معه؟- إنّ نفسي لا تسمح بالموت.. ولكن فرسي «المللحقة» هذه لك.. واللَّه ما طلبت عليها شيئاً قط الّا لحقته.. ولا طلبني أحد الّا سبقته...- اما اذا رغبت بنفسك عنّا، فلا حاجة لنا في فرسك.ونهض الحسين. كان يريد أن يرفع الرجل.. أن يسمو به، ولكنه اثّاقل الي الأرض.و في آخر الليل أمر الحسين فتيانه بالاستقاء والرحيل. و نهضت النوق.. يمّمت وجوهها نحو الارض التي بورك فيها للعالمين.. و كان [ صفحه 39] هناك ألف ذئب تتوهج عيونها غدراً.. القافلة تسير.. تشقّ طريقها في الظلام.. تتبعها قطعان الذئاب وهي تعوي في آخر الليل.لاح راكب من بعيد... مدجج بالسلاح. كان رسولاً من ابن زياد الي «الحرّ» يحمل اليه كتاباً خطيراً. قرأه الحرّ بصوت يسمعه الحسين:- جعجع بالحسين حين تقرأ كتابي و لا تنزله الّا بالعراء علي غير حصن ولا ماء. قال الحسين:- دعنا ننزل «نينوي» أو «الغاضريات».- لا استطيع. فحامل الكتاب عين عليّ.قال «زهير بن القين»، و كان رجلاً صحب الحسين علي قدر:- يابن رسول اللَّه! دعنا نقاتلهم.. ان قتال هؤلاء أهْون علينا من قتال من يأتينا بعدهم. فلعمري ليأتينا ما لا قبل لنا به.- ما كنت أبدأهم بقتال.- ههنا قرية و «الفرات» يحدق بها من ثلاث جهات.- ما اسمها؟.- «العقر».- نعوذ باللَّه من العقر.والتفت الحسين الي الحر: [ صفحه 40] - سر بنا قليلاً.و مضت القافلة لا تلوي علي شي ء.. يتبعها ألف ذئب أغبر.اهتزّت البوصلد.. تعثرت النوق.. و وقف جواد الحسين.. تسمّر في مكانه.. رفعت النوق رؤوسها.. تلفتت.. لعلّها شمّت رائحة وطن تبحث عنه. سأل الحسين:- ما اسم هذه الأرض؟- الطّف.- فهل لها اسم آخر؟- كربلاء.تجمّعت الدموع في عينيه كغيوم ممطرة:-

أرض كرب و بلاء.. ههنا محطّ ركابنا وسفْك دمائنا. بهذا اخبرني جدّي رسول اللَّه.و في تلك الليلة، لاح هلال «المحرّم» حزيناً كقارب وحيد.. تائه في بحر الظلمات.تعالت أصوات رجال يدقّون أوتاد الخيام، وضحكات بريئة لأطفال يلهون في الرمال.. ونسائم عذبة تهبّ من ناحية «الفرات»، و كان الحسين واقفاً يتأمّل الأفق البعيد.. يحدّق في آخر الدنيا. [ صفحه 41]

مادت الكوفة بأهلها، واهتزّت الارض تحت الأقدام...

مادت الكوفة بأهلها، واهتزّت الارض تحت الأقدام. كتائب جنود مذعورين تتحرك في كل اتجاه.. عيون زائغة لأشباه رجال تحمل اسلحة القتل.. تنطلق الي خارج المدينة.«زجر بن قيس» يقود خمسمئة فارس.. يتّجه صوب جسر «الصراة».و خرج «الشمر» في أربعة آلاف مقاتل، و «الحصين بن نمير» في أربعة آلاف، و «شبث بن ربعي» في ألف، و «حجّار بن أبجر» في ألف.. وتتابعت الكتائب تلو الكتائب.. جنود يشبهون في ذلّتهم الاسري.. قلوبهم مع الحسين و سيوفهم تستهدف قلبه.حيّات و أفاعٍ تتلوّي.. تزحف باتجاه «الفرات». وبدا النهر أفعي خرافية تتمدد وسط الرمال...و في الكوفة، مطرت السماء ذهباً يخطف الأبصار و يسلب الألباب، [ صفحه 42] و اجتمع زعماء «القبائل» تحت المطر، فلم يبرحوا حتي طمّت رؤوسهم بالذهب، والأرقط ينثر الأموال و يوفّر العطاء.. يلقي حباله و عصيّه، فاذا هي حيّات وعقارب تسعي.وافتتنت «المومس» بابن زياد فنسيت ذكر الحسين. قالت بخلاعة:- مالي والدخول بين السلاطين..قهقهه «الأرقط». دوّت ضحكة شيطانية في أرجاء القصر.. جيوشه تحاصر القافلة.. تمنعها من العودة.- وقعتَ في قبضتي يا حسين.. ها أنا أرتقي قمّة المجد.. سيدخل بوابة قصري قائلاً: حطّة. أنا ابن زياد ابن.. أبي سفيان.. صخر بن حرب.افتر الرجل الأبرص، فظهرت أنياب حادّة.- لا تقبل من الحسين الّا النزول علي حكمك. إنه الآن في أرضك، فضيّق عليه الخناق.ما لهذا

الأبرص؟!.. صوته كفحيح الافعي. الخنزير يريد للنخل أن يركع.. والنخل الباسق يعشق الفضاء والّا مات واقفاً.الأرقط يجيد «الشطرنج». ينقل جنده وقلاعه.. يحرك فيلة و خنازير و بيادق تحلم بحكم «الري و جرجان». [ صفحه 43] الأرقط يعرف «أصول اللعبة». من يمينه تتدلّي مشانق وحبال، ومن شماله يسيل ذهب اصفر يأخذ بالألباب. والبيادق الفئران تفرّ مذعورة.. تحمل سيوفاً خشبية.. وتمتلئ جيوبها فضة أو ذهبا....والأرقط الذي تلبّس وجهه جلد الأفعي يتمدّد في «النخيلة»، يراقب بيادقه بحذر وترقب. هناك رجل سيد مّر لعبته. سيلقف سيفه كلّ حباله و عصيّه.. وجيوشه الوهمية.صرخ الأرقط بالرجل الأبرص.- اكتب «لابن سعد»: اما بعد، اني لم أبعثك الي الحسين لتكفّ عنه ولا لتمنّيه السلامة. انظر، فإن نزل الحسين و أصحابه علي حكمي فابعث بهم اليّ، و أن أبوا فازحف اليهم حتي تقتلهم و تمثّل بهم.كخنزير راح الشمر يجري صوب أحلامه المريضة.. تفوح منهرائحة الموت، وآلالف الضحايا ترقد في عينه المنطفئة.. و من عطفيه تنبعث حرائق و دخان، و روائح أجساد محترقة.سلّم الكتاب الي «قائد الجيش»، وراح ينظر اليه خلسة بعين نصف مغمضة. أما عينه الاخري فقد بدت هوّة سحيقه تعشعش فيها العناكب.ادرك الرجل الذي ناهز السبعين أن الأبرص قد جاء يسرق منه أحلاماً قديمة.. جميلة تحكي جمال مدن «الري» و «جرجان». [ صفحه 44] - قبّحك اللَّه وقبّح ما جئت به. و اللَّه لا يستلسلم الحسين. إنَّ نفس أبيه بين جنبيه.- فخلّ بيني وبين العسكر.- بل أنا الذي أتولّي ذلك.عقربان يتنافسان في الصحراء..ينعب في صدريهما يوم و غراب.. يتنافسان علي الفوز في سباق من الخسران المبين. [ صفحه 45]

تجمعت في السماء النذر...

تجمعت في السماء النذر.. وإرهاصات حرب مدمّرة تتراكم، كأكوام من الغيوم المشحونة بآلاف

الصواعق.. وليل الصحراء ملي ء بالاسرار.خرج رجل من بين مضارب الخيام.. عيناه تتألّقان تألّق النجوم.. و خرج رجل يتبعه.. يخاف عليه الغدر.- من الرجل؟!- نافع بن هلال الجملي.- ما الذي أخرجك في جوف الليل؟.- أفزعني خروجك يا ابن النبي.. والظلام يخفي سيوفاً مسمومة وخناجر.- خرجت اتفقّد التلاع والروابي، مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون و يحملون. [ صفحه 46] شد الحسين علي يد صاحبه و قال:- هذه هي الارض التي وُعدت بها. ونظر الي صاحبه بإشفاق وأردف:- لا تسلُك بين هذين الجبلين و تنجو بنفسك؟.كظامئ اكتشف ينابيع الماء، ألقي نافع نفسه علي ينبوع الخلد و حياة لا تفني:- ثكلتْني أمي يا سيّدي.. و اللَّه الذي منّ بك عليّ! لا فارقْتُك أبدا.ماذا رأي «نافع» تلك الليلة؟! ماذا اكتشف لكي يفرّ من الدنيا..لكي يسافر مع الحسين.. لعلّه شاهد في عينيه جنة من أعناب و نخيل تجري من تحتها الأنهار...وعاد الحسين الي مضارب القافلة، وفي عينيه تصميم وعزم...الجيوش التي أحدقت بالفرات تسدّ الأفق.. تموج كالسيل.. كلاب مسعورة وذئاب تريد الفتك.. قبائل وحشية، أسكرتها نشوة السلب والنهب.. ما عساها تفعل القافلة في مهبّ إعصار فيه نار؟!. سبعون سنبلة خضراء تحدق بها أسراب الجراد..نظر الحسين الي آلالف السيوف التي جاءت تتخطفّه، وقال بحزن:- الناس عبيد الدنيا والدين لعق علي ألسنتهم يحوطونه مادرّت [ صفحه 47] معايشهم.و تلفّت خلفه، فلم يجد الّا ثلّة من المؤمنين، سبعون أو يزيدون ومثلهم معهم من الضعفاء صبية ونساء و طريقان لا ثالث لهما: السلّة أو الذلّة.- هيهات منّا الذلّة.. الموت أولي من ركوب العار.- لسوف يقودون بنات محمدٍ سبايا!- العار أولي من دخول النار.الذئاب الجائعة تعوي.. تتحفّز للفتك، والقبائل تحلم بالغزو وليالي السلب المجنونة.شمّت

النسور من بعيد رائحة معركة وشيكة، فراحت تدور في السماء.. تترقب صيدها بفارغ الصبر.. بدت وكأنها مقبرة هائلة فاغرة الأفواه....القبائل تشاورت حول الأسلاب.. تفاهمت.وقف «الأبرص» علي الميسرة، وانفرد «ابن الحجاج» بالميمنة، فيما وقف بينهما رجل قارب السبعين يحلم ب«الري» و «الجرجان».- ماذا أعددت لهؤلاء يا سيدي الحسين؟- سيف محمّد. [ صفحه 48] - وماذا؟- و رجالاً صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه.- و ماذا؟- و الأجيال.و شوهد الحسين يجول بفرسه.. يرسم خطّة المواجهة.- قاربوا بين الابنية.تعانقت الخيام ببعضها.. تلحمت كالبنيان المرصوص.و شوهد الحسين و أصحابه يحفرون الخنادق خلف الخيام و يملأونها حطباً.- كيلا تقتحمه الخيل..- و يكون القتال في جبهة واحدة.الاطفال ينظرون- بحزن- جهة الفرات. شفاه يابسة تحلم بالندي.. وفتيات بلغتْ قلوبهن الحناجر يصغين- برعب- الي طبول قبائل تحلم بالغزو والسبي، ونسور مجنونة تحوم.. تنتظر لحظة الانقضاض. هي ذي لحظات الغروب تتراكم ملتهبة.. والفرات يتأجّج خلف ذري النخيل المتقدة.. الليل يوشك أن يهبط و الحمرة القانية تتحول الي رماد.. الظلام يجثم فوق الرمال كغراب في مساء [ صفحه 49] خريفي. الحزن يجوس خلال الخيام.. ينشر ظلّه الثقيل.. و آهات تتصاعد من كل مكان.. وأمنيات خضراء تحلم بالمطر و الخصب و الحياة.دخل الحسين خيمة أخته زينب.. المرأة التي شهدتْ- من قبل- مصرع أبيها واغتيال أخيها.. فجاءت تحرس آخر أصحاب الكساء تريد أن تشاركه في كل شي ء.. تقتسم معه الموت والخلود.نسيم هادئ حرّك طرف الخيمة.. ربّما مسح عليها مواسياً قبل هبوب العاصفة. قالت زينب:- هل استعلمت من أصحابك نياتهم، فإني أخشي أن يسلموك عند الوثبة.- و اللَّه لقد بلوتهم، فما وجدت فيهم الّا الأشوس.. يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل الي محالب امّه.و كان نافع يصغي الي هموم زينب..

الي مخاوف عقيلة بني هاشم.اسرع نافع الي رجل ذرّف علي الستين بأعوام:- هلم يا حبيب.. هلّم الي زينب.. انها تخشي الغدر.. و قد اجتمعت النسوة عندها يبكين.بريق نفّاذ اتّقد في العينين الا سديتين.. توهجات الغضب المخزون اشتعلت كلّها في لحظة واحدة... هتف حبيب: [ صفحه 50] - يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة!انبعثت من بين الخيام سيوف و رجال. العزم المشتعل في العيون يكاد يضي ء التاريخ، و السواعد المفتولة توشك أن تلوي الاقدار.وقف الرجال ازاء خيمة يعصف بها القلق والخوف.هتف حبيب:- يا معشر حرائر رسول اللَّه! هذه صوارم فتيانكم، آلوا ألّا يغمدوها الّا في رقاب من يريد السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم أقسموا ألّا يركزوها الّا في صدور من يفرق ناديكم...و من قلب الخيمة الحزينة، ينبعث صوت استغاثة.. استغاثة ما تزال حتي اليوم تستفهم التاريخ والانسانية. صوت امرأة خائفة تنشد حقّها في السلام.- ايّها الطيّبون حاموا عن بنات رسول اللَّه.لو كانت الغيوم حاضرة لتفجّرت مطراً ساخناً كدموع الأطفال.و بكي الرجال.. بكت العيون المتأجّجة وهي تتطلّع إلي مذبحة مروّعة ستحدث بعد ساعات.و في سحر تلك الليلة، رأي الحسين- في عالم الاطياف- كلاباً تنهشه.. تتخطف جسده، وأشدّها كان الأبقع.. [ صفحه 51]

فجر يشبه رماداً ذرته الريح في العيون...

فجر يشبه رماداً ذرّته الريح في العيون، والفرات ما يزال يجري متلوّياً كحيّة تسعي، والقبائل التي باتت تحلم بالأسلاب استيقظت ترنو بعيون متنمّرة الي مضارب خيام بعيدة.اختلطت أصوات عديدة، رغاء جمال.. و صهيل خيول.. وقعقعة سيوف و رماح ودموع.و الحرّ الذي أوقع بالقافلة، و ساقَها الي أرض الموت، يقف مشدوهاً لمنظر جموع غفيرة.. جاءت لقتل سبط النبي. لم يخطر بباله أبداً أن تنحدر الكوفة لقتل «المخلّص».حرّك فرسه الي مقدّمة الصفوف، وراح يحدّق في الأفق حيث يقف الحسين. شاهده

من بعيد يرتّب مقاتليه. انهم لا يزيدون علي السبعين أو الثمانين. هل سيقاتل الحسين حقاً؟ هل يدخل معركة خاسرة؟ [ صفحه 52] و سمع الحرّ الحسين يخطب بجيشه الصغير:- ان اللَّه تعالي قد أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم فعليكم بالصبر والقتال....رآهم ينقسمون الي ثلاث فرق، الجناح الأيمن بقيادة «زهير بن القين»، والجناح الأيسر بقيادة «حبيب بن مظاهر». اما الحسين فقد ثبت في القلب.. و تسلّم الراية «أبوالفضل» فبدا والراية تخفق فوق رأسه جيشاً لوحده.القبائل تزحف باتجاه الخيام.. والخيول تجول.. تثير غباراً والقلوب الصغيرة في حنايا الخيام تخفق بشدّة.. يا له من يوم عصيب!اصدر الحسين أمره بإضرام النار في الخندق.. فتصاعدت ألسنة اللهب.. وتراجعت الخيول.. فرّت مذعورة من خطّ النار.اغتاظ «الأبرص» من هزيمة فرسانه، فصاح بنفاق:- يا حسين، تعجّلت بالنار قبل يوم القيامة!سأل الحسين مستوثقاً:- من هذا؟! كأنّه شمر بن ذي الجوشن.- نعم.. إنه الشمر.انطلق صوت الحسين: [ صفحه 53] - يابن راعية المعزي! أنت أولي بها صليّاً.وضع «مسلم بن عوسجة» سهماً في كبد القوس.. استهدف الأبرص الذي باع نفسه للشيطان. و في اللحظة الأخيرة. تدخّل الحسين قائلاً:- أكره أن أبدأهم بقتال.تذكّر الحسين كيف كان الأبقع ينهش جسده بوحشية. رفع يديه الي السماء.. الي العالم اللانهائي.. شاكياً ويلات الارض. كانت كلماته تنساب كنهر بارد.. نهر قادم من جنات عدن:- اللَّهم أنت ثقتي في كل كرب، و رجائي في كل شّدة، وانت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدّة.. كم من هم يضعف فيه الفؤاد و تقلّ فيه الحيلة، و يخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بي وشكوته اليك رغبةً مني اليك عمّن سواك، فكشفتَه و فرّجتَه. فأنت وليّ كلّ نعمة و منتهي

كل رغبة...القبائل تزداد ضراوة.. و السيوف تبرق من بعيد.. تقطر حقداً ونذالة.. والحرّ يتقدّم قليلاً قليلاً. راح ينظر الي الحسين الذي ركب ناقته.. يريد أن يخطب بالقبائل المحيطة به. أرهف الحرّ سمعه لهذا القادم من اقصي الجزيرة يحمل معه كلمات محمد و عزم علي.استوي الحسين علي ناقته، فبدا كنبيٍّ يعظ قومه: [ صفحه 54] - ايها الناس اسمعوا قولي و لا تعجلوا حتي أعظكم بما هو حق لكم علي، و حتي اعتذر اليكم من مقدمي عليكم. فإن قبلتم عذري و صدّقتم قولي و أعطيتموني النصَف من انفسكم كنتم بذلك أسعد، و لم يكن لكم عليّ سبيل. وإن لم تقبلوا مني العذر و لم تعطوا النصَف من انفسكم فأَجمِعوا أمركم و شركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّة ثم اقضوا إليَّ و لا تُنظرون إنّ وليّي اللَّه الذي نزّل الكتاب و هو يتولّي الصالحين.اختلطت الكلمات مع بكاء مرير انبعث من قلب الخيام....توقف الحسين عن إلقاء الخطاب.. أمر أخاه «أباالفضل» وابنه «علياً الأكبر»:- سكتاهن، فلعمري ليكثر بكاؤهن...عاد الصمت ثقيلاً.. سكوت عجيب يهمين علي كل شي ء ما خلا ريح خفيفة كانت تحمل كلمات الحسين:- ايها الناس إن اللَّه تعالي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوالمتصرّفة بأهلها حالاً بعد حال. فالمغرور من غرّته و الشقي من فتنته فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن اليها و تخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم علي أمر قد أسخطتم اللَّه فيه عليكم، و أعرض بوجهه الكريم عنكم. أحلّ بكم نقمته. فنعم الربّ [ صفحه 55] ربّنا وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد، ثم انكم زحفتم الي ذرّيته وعترته تريدون قتلهم. لقد استوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر

اللَّه العظيم.. فتبّاً لكم و لما تريدون. انا للَّه و انا اليه راجعون.. هؤلاء قوم كفروا بعد ايمانهم، فبعداً للقوم الظالمين...الكلمات تخترق الآذان.. تتغلغل في القلوب. شعر الحرّ بأن زلزالاً يضرب دنياه. راح يصغي الي دويّ الانقاض وهي تتراكم في اعماقه: هل أنا في كابوس؟.. ماذا أري؟.. ماذا اسمع؟ ربّاه ماذا افعل؟!راكب الناقة مايزال يرسل كلمات يبعثها مع الريح.. علي اجنحة الفكر..- ايها الناس انسبوني من أنا، ثم ارجعوا الي انفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي.. ألست أنا ابن بنت نبيكم؟ وابن وصيه وابن عمه؟ و أول المؤمنين باللَّه والمصدّق لرسوله؟.. أو ليس حمزة سيدالشهداء عم أبي؟! أو ليس جعفر الطيار في الجنة عمّي؟.. أو لم يبلغكم قول رسول اللَّه لي ولأخي هذان سيدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول، و هو الحق واللَّه ما تعمدت الكذب منذ علمت أن اللَّه يقمت عليه أهله و يضرّ به من اختلقه. وإن كذبتموني فإنّ فيكم من اذا سألتموه عن ذلك أخبركم. سلوا «جابر بن عبداللَّه الانصاري» و «أبا سعيد الخدري» و «سهل بن سعد الساعدي» [ صفحه 56] و «زيد بن أرقم» و «أنس بن مالك» يخبرونكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللَّه لي و لأخي. أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟.صرخ صوت شيطاني يريد أن يبتلع كلمات الانبياء. صرخ الابرص:- إنّا لا ندري ما تقول؟!هتف حبيب، و كان رجلاً علي أعتاب السبعين،- أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول. قد طبع اللَّه علي قلبك.البركان الثائر يستأنف إرسال حممه:- فإن كنتم في شكّ من هذا القول، أتشكّون اني ابن بنت نبيكم، فواللَّه ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في

غيركم، ويْحَكم! اتطلبوني بقتيل لكم قتلته! أو بمال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة؟!.وقفت القبائل عاجزة. ان في طينة البشر قابلية الانحطاط..الانحطاط حتي المسخ.. قابلية تشبه الجاذبية في الاجسام. الكوفة مثقلة بالاثم والغدر.. قلبها مع الحسين وسيفها يمزّق قلبه.ونادي الحسين بصوت جهوري:- يا «شبث بن ربعي» و يا «حجّار بن أبجر» و يا «قيس بن الأشعث» و يا «زيد بن الحارث» ألم تكتبوا الي أن أقدم قد أينعت [ صفحه 57] الثمار و اخضرّ الجناب وانما تقدم علي جند لك مجنّدة؟تعالت اصوات مذعورة.. أصوات فئران خائفة:- لم نفعل.. لم نفعل.- سبحان اللَّه! بلي واللَّه لقد فعلتم.. ايها الناس اذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم الي مأمن من الارض.صرخ قيس بن الاشعث، وقد التمعت عيناه بالغدر:- أوَلا تنزل علي حكم ابن عمّك؟ فإنهم لن يروك الا ما تحب، ولن يصل اليك منهم مكروه.- انت اخو أخيك. أتريد أن يطلبك بنوهاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا واللَّه لا اعطيهم بيدي اعطاء الذليل و لا أفرّ فرار العبيد.. عباد اللَّه اني عذت بربي و ربكم أن ترجُمون. اعوذ بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. [ صفحه 59]

اشرقت الشمس...

اشرقت الشمس.. حمراء.. حمراء. بركة من دماء. التمعت ذري النخيل، وتوهجت ذرات الرمال، واصطبغت وجوه القبائل بلون الجريمة.. واستيقظ الشيطان يعربد و يدمّر....صرخ شيطان من القبائل:- يا حسين.. أبشر بالنار.- كذبت بل أقدم علي ربّ غفور كريم.. فمن انت؟.- انا ابن حوزة.رفع السبط يديه الي السماء- اللَّهم حِزة الي النار.لا أحد يعرف كيف حدث الأمر. ما الذي أغضب الفرس؟ ما الذي دفعها لأن تركض كالمجنونة.. تدور و تدور. و في فورة غضب تمكنت الفرس أن تقذف

من علي ظهرها الفارس.. في قلب الخندق [ صفحه 60] المشتعل. لحظات مرّت تحول فيها ابن حوزة الي رماد.. تحولت احلام السلب و النهب و شهوة القتل الي هشيم تذروه الريح....لو كان هناك رجل من الحواريين لقال هذا ابن اللَّه.و لقال له الحسين.- انا ابن نبي اللَّه.هتف السبط:- اللَّهم انا اهل بيت نبيك و ذريته و قرابته، فاقصم من ظلمنا وغضبنا حقّنا إنك سميع قريب...ما أقرب السماء للإنسان إن سما. و تذكر الحسين رجلاً سأل أباه:كم هي المسافه بين السماء و الارض؟ فأجاب «باب مدينة العلم»: دعوة مستجابة.وقف ابن سعد منتشياً بأحلامه... ماهي الّا ساعة، ثم ينتهي كل شي ء... سوف يُحكم قبضته علي الري و جرجان.... لم تبق الّا خطوة واحدة... أن يعبر جثة الحسين.. بركة صغيرة من الدم.. ثم ينطلق صوب الشرق.. الي عالم يزخر بالجواري والحريم.تقدم الحرّ.. أيقظه من الحلم:- أمقاتل انت هذا الرجل؟! [ صفحه 61] - إي و اللَّه قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الايدي.- دعوه ينصرف الي مكان في هذه الارض؟- لو كان الأمر بيدي لقبلت.. انها أوامر ابن زياد.ادرك الحرّ أن الساعة آتية لا ريب فيها، و لسوف تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتري الناس سكاري و ما هم بسكاري.. وبدأ الحرّ يخطو صوب القافلة.. قال «ابن أوس» و قد ذهبت به الظنون.- اتريد أن تحمل؟!-...ضرب الزلزال الاعماق مرّة أخري، وشعر الحرّ بالانقاض تتراكم بعضها فوق بعض...هتف ابن أوس متعجباً:- لو قيل لي من اشجع أهل الكوفة لما عدوتك؟ فما هذا الذي اراه منك؟.التفت الحرّ و صوّب نحوه نظرة تحمل كل معاني الاكتشاف:- اني أخيّر نفسي بين الجنّه والنار.. واللَّه لا أختار علي الجنة شيئاً ولو أُحرقت...تمتم

ابن سعد مذهولاً:- ماذا أري؟.. ماذا يفعل هذا المجنون؟.. كيف يختار الانسان [ صفحه 62] الموت!.. انظروا اليه.. كيف يبدو خاشعاً أمام الحسين...- انصتوا انه الحرّ.قهقه أحدهم:- إنه يريد موعظتنا هو الآخر...هتف شبث بن ربعي:- ايها الاحمق، دعنا نسمع ما يقول.وجاء صوت الحرّ جهورياً مدوّياً منطلقاً من اعماق نفس اكتشفت ينابيع الخلود:- يا أهل الكوفة لأمّكم الهبل والعبر، إذ دعوتموا هذا العبد الصالح وأحطتم به من كل جانب و منعتموه التوجه الي بلاد اللَّه العريضة حتي يأمن هو و أهل بيته، واصبح كالأسير في ايديكم لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّا و حلأتموه و نساءه وصبيته و صحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصاري والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه! وهاهم قد صرعهم العطش. بئسما خلفتم محمداً في ذريته..وانطلقت نحوه السهام كالمطر.. و تقهقر الحرّ متفادياً نبال القبائل الغادرة. [ صفحه 63]

نسور مجنونة تحوم في السماء...

نسور مجنونة تحوم في السماء، و ريح عاصف تهب من ناحية الصحراء، وبدت اشجار النخيل كرماح مركوزة في خاصرة الفرات.بدا الجوّ مشحوناً بالخطر، ومثلما تندلع الصواعق بين اكوام السحب، تدفقت سهام مجنونة تحمل في انصالها الموت.هتف الحسين بأنصاره:- قوموا رحمكم اللَّه الي الموت الذي لابدّ منه، فإن هذه السهام رسل القوم اليكم.هبّ رجال كانوا ينتظرون علي أحرّ من الجمر.كيف اصبح الموت أمنيد لهم؟. كيف اضحي في نظرهم خلودشا.. كيف تحولت الصحراء الملتهبة الي جنات تجري من تحتها الانهار.غاص الرجال في احراش كثيفة من رماح و سيوف. كانوا يقاتلون بضرواة لانظير لها. اكمالو كانوا يريدون توجيه مسار التاريخ الاتجاه [ صفحه 64] الذي ينشدون.امتلأ الجوّ غباراً و دخاناً، و كانت السيوف تهوي كبروق مشتعلة. وعندما غادر الغبار ارض المعركة، كان

هناك خمسون صريعاً يعالجون جراحاتهم في الرمضاء.. الجراح تسقي الارض.. والدماء تروي شجرة الحرّية.. شجرة اصلها ثابت في اعماق التراب، و فرعها في هامة السماءتمتم الحسين متألماً:- اشتد غضب اللَّه علي اليهود اذ جعلوا له ولدا، و اشتدّ غضبه علي النصاري اذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه علي المجوس اذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه علي قوم اتفقت كلمتهم علي قتل ابن بنت نبيهم... أما واللَّه لا اجيبهم الي شي ء مما يريدون حتي ألقي اللَّه وأنا مخضب بدمي.هجم الأبرص علي إحدي الخيام، و قد اشتعلت في عينيه شهوة النهب، وهاج شيطان يعربد في اعماقه:- عليَّ بالنار لأحرقه علي اهله....القلوب الصغيرة الخائفة فرّت مذعورة من الخيمة كطيور هاربة من سفن بعيدة غرقت.صاح الحسين: [ صفحه 65] - يابن ذي الجوشن انت تدعو بالنار لتحرق بيتي علي أهلي... احرقك اللَّه بالنار.واستنكر شبث بن ربعي الحضيض الذي وصل اليه رفيقه.- أمرعباً للنساء صرت؟! ما رأيت مقالاً أسوأ من مقالك، ولا موقفاً أقبح من موقفك...وتمتم و هو يعضّ علي يده:- قاتلنا مع علي بن أبي طالب و مع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثم عدونا علي ولده- وهو خير أهل الارض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية!... ضلال... يا لك من ضلال!!توسطت الشمس كبد السماء، والقبائل تتخطف القافلة..التفت «ابو ثمامة الصائدي» الي الحسين. قال بخشوع:- نفسي لك الفداء. إني أري هؤلاء قد اقتربوا منك. لا واللَّه لا تقتل حتي أُقتل دونك. و احب أن القي اللَّه وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها.رفع الحسين رأسه الي السماء وألقي نظرة علي الشمس:- ذكرت الصلاة.. جعلك اللَّه من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها... [ صفحه 66] وأردف

و هو يجفف حبّات عرق تلتمع فوق جبينه:- سلوهم أن يكفّوا عنا حتي نصلّي.هتف ابن نمير وكان فظّاً غليظ القلب:- انها لا تقبل!اجاب حبيب بن مظاهر غاضباً:- زعمت أنها لا تقبل من آل الرسول و تقبل منك يا حمار!عربد الشيطان في اعماق «ابن نمير»، فأقحم الفرس نحو «حبيب» وحبيب واقف كالجبل لم يكترث بالجموع و هي تنحدر نحوه. وتخطفته سيوف القبائل... وانسابت دماؤه قانية فوق رمال الصحراء تروي لها أروع قصص الوفاء والتضحية والفداء.واسترجع الحسين كثيراً:- عنداللَّه احتسب نفسي وحماة اصحابي.القبائل تموج كأنها ريح صفراء تحمل في طياتها الموت، والحسين وسط الإعصار يصلّي بأصحابه الصلاة الأخيرة.. السماء تفتح ابوابها للقافلة القادمة، والفضاء يزخر بأجنحة الملائكة... ونسائم طيبة تحمل رائحة الربيع.. ربيع جنّات الفردوس.التفت الحسين الي اصحابه و هو يشير الي مسار القافلة [ صفحه 67] - يا كرام هذه الجنّة قد فتحت أبوابها، واتصلت أنهارها، وأينعتثمارها، و هذا رسول اللَّه، والشهداء الذين قُتلوا في سبيل اللَّه يتوقّعون قدومكم و يتباشرون بكم، فحاموا عن دين اللَّه، و دين نبيه وذبّوا عن حرم الرسول...القافلة التي اكتشفت ينابيع الخلد تهبّ للخطي الاخيرة:- نفوسنا لنفسك الفداء، و دماؤنا لدمك الوقاء. فواللَّه لا يصل اليك والي حرمك سوء وفينا عرق يضرب.السماء تفتح أبوابها، والرجال يعرجون. تقدم «أبوثمامة» الي المعراج، و ما اسرع أن حلّق الي السماوات مخلِّفاً وراء برْكة من دماء قانية.ومن بعده انطلق «زهير». وضع يده فوق منكب الحسين، وانشد:أقدم هديت هادياً مهديّا فاليوم ألقي جدّك النبيّاوحسناً والمرتضي عليّا وذا الجناحين الفتي الكميّاوأسد اللَّه الشهيد الحيّا [ صفحه 68] - وأنا القاهما علي اثرك.و ما أسرع أن التحق برفاقه. القافلة تطوي السماوات.. تتخطي الكواكب والافلاك.. في عروج ملكوتي فريدوقف الحسين

عند مصرعه، وقال متأثراً:- لا يبعدنك اللَّه يازهير ولعن قاتليك لعْن الذين مسخوا قردة وخنازير.واستعد «نافع الجملي» للرحيل، فغاص في اعماق القبائل وانهمرت عليه الحجارة من كل صوب، فتهشم عضداه، وسيق اسيراً. كانت الدماء تنزف منه، وقد صبغته بحمرتها المشتعلة. قال ابن سعد بلهجة ينمّ منها الإعجاب ببسالته:- ما حملك علي ما صنعت بنفسك؟!إن ربي يعلم ما أردت.- أما تري ما بك؟!- واللَّه لقد قتلتُ منكم اثني عشر سوي من جرحت، و ما ألوم نفسي علي الجهد... ولو بقيت لي عضد ما أسرتموني.جرّد الأبرص سيفه و قد برقت عيناه حقداً.. فقال نافع بطمأنينة:- و اللَّه يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك ان تلقي اللَّه بدمائنا.. فالحمدللَّه الذي جعل منايانا علي أيدي شرار خلقه.... [ صفحه 69] هوي السيف بقسوة، وتدحرج الرأس فوق الرمال، وعيناه تنظران باتجاه عوالم لانهائية، وقد ارتسمت ابتسامة هادئة فوق شفتين ذابلتين من الظمأ.ونادي رجل من القبائل:- يا برير، كيف تري صنع اللَّه بك؟اجاب برير وهو ينظر الي ما وراء غبار الزمان:- صنع بي خيراً وصنع بك شرّاً.- كذبت وقبل اليوم ما كنت كذابا. اتذكر يوم كنت أماشيك في «بني لوذان» و انت تقول: كان معاوية ضالاً وان إمام الهدي علي بن أبي طالب:- بلي اشهد ان هذا رأيي.- وانا اشهد انك من الضالّين.- تعالي نبتهل الي اللَّه فيلعن الكاذبَ منا ويقتله.توجهت ايد مع قلوب الي السماء تستمد النصر، وارتفعت ايد جذّاء. فتقبِّل من احدهما و لم يُتقبل من الآخر. و بدأت المنازلة.. هوي برير بسيف يشبه صاعقة مدمّرة.. فهوي الرجل الذي حاقت به اللعنه الي الارض كأنما خرّ من شاهق. [ صفحه 71]

الشمس ما تزال مسمرة في زرقة السماء تصب لهيبا يشوي الوجوه...

الشمس ما تزال مسمّرة في زرقة السماء تصبّ لهيباً

يشوي الوجوه... وعجلة الموت تدور مجنونة في الرمال الملتهبة.. تتخطف رجالاً لم تلههم تجارة ولابيع عن ذكر اللَّه....تقدم «جون».. دفعته الأيام من اصقاع بعيدة، وكان فتي لأبي ذر الغفاري..قال الحسين:- يا جون انما تبعتنا طلباً للعافية، فأنت في إذن مني.اجاب جون بضراعة:- أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم.. لا واللَّه لا أفارقكم حتي يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.واندفع جون يقاتل القبائل.. والارض تهتزّ تحت قديمه بشدّة.. كطبول افريقية. [ صفحه 72] وأطبقت السيوف عليه كأنياب وحش اسطوري.تمتم الحسين، وهو يتأمل جراحه النازفة:- اللَّهم احشره مع محمد و عرّف بينه و بين آل محمّد.وتقدم من بعده أنس بن الحارث الكاهلي، وكان شيخاً كبيراً صحابياً، رأي النبي وسمع حديثه، و شهد معه بدراً، و حنيناً، ومعارك دامية أخري.الشيخ الذي حنت ظهره الايام.. و وقفت عاجزة أمام إرادته.. نزع عمامته، وشدّ ظهره المقوّس بها، ورفع حاجبيه بالعصابة.كان الحسين يراقبه، وعيناه تنهمران دموعاً.. ثم أجهش بالبكاء..- شكر اللَّه لك يا شيخ!تقدم الصحابي بخطي واهنة، وعزم كالحديد أو اشد بأساً.. و تداعت امامه صور مشرقة من جهاده مع النبي يوم كان يقاتل المشركين كافّة.. وها هو اليوم يقاتل ابناءهم و احفادهم.. و دوّت في أذنيه كلمات الرسول في المعارك: يا منصور أمت...و وجدت القبائل فيه ثأراً قديماً من ثارات بدر و حنين.. فتكالبت عليه من كل حدب وصوب. وعندما هوي الصحابي الكبير الي الارض، ولامس وجهه الرمال، شعر بأنه يقبّل وجه النبي. [ صفحه 73] الصحراء تئنّ من وقع سنابك الخيل، و الرمال تشرب الدماء وتنشد المزيد، والقبائل تنتشي بثارات قديمة.. قديمة جداً.الفرات يجري.. تتدافع امواجه، فبدا غير مكترث لما يدور علي شواطئه.. بل لعلّه كان يسرع ممعناً

في الفرار.. لا يريد أن يشهد الأهوال.. أو ربّما كان يريد أن يروي للبحر قصة الصحراء والظمأ والحسين.لم يبق مع الحسين من اصحابه أحد.. و دعّوه و ذهبوا بعيداً...لم يبق مع الحسين سوي أهل بيته... فتقدم علي الاكبر.. اعصار يختزن غضب الانبياء.. الاب يودّع ابنه بنظرات حزينة كغيوم ممطرة. كانت دموع الحسين تنهمر. وبصوت، يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر، هتف:- قطع اللَّه رحمك يابن سعد كما قطعت رحمي و لم تحفظ قرابتي من رسول اللَّه.. وسلّط عليك من يذبحك علي فراشك.الأكبر يخترق غابة السيوف والرماح.. والحسين يرفع وجهه.. يحدّق في السماء:- اللّهم اشهد علي هؤلاء القوم، فقد برز اليهم اشبه الناس برسولك محمد خلْقاً و خُلُقاً و منطِقا، وكنا اذا اشتقنا الي رؤية نبيك نظرنا اليه، اللَّهم فامنعهم بركات الارض. [ صفحه 74] العلوي يخترق احراش الرماح.. و بين الفينة والاخري يلوح بريق سيف غاضب كوميض الصواعق بين سحب مشحونة.. مخزونة بالرعود.هزّ «مرّة بن منقذ» رمحه، و قد عصفت في نفسه الحمية.. حمية الجاهلية:- عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه؟واخترق رمح وحشي طيفاً نبوياً. فاعتنق فرسه. فانطلقت وسط احراش السيوف و غابات الرماح.. و تخطفته القبائل المتوحشة.. وانبثقت كلمات «الاكبر» كنافورة حبّ ازليّة:- عليك مني السلام أبا عبداللَّه، هذا جدي قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها، و هو يقول إنّ لك كأساً مذخورة.و عندما وصل الأب المفجوع، كان الابن قد رحل بعيداً.. بعيداً جداً.. وفي عينيه تلوح قوافل مسافرة.الجراح النبويّة تنزف. ملأ الحسين كفّه من ينابيع الحياة ثم رمي بها الي السماء... الرذاذ الأحمر يصّعّد الي الفضاء اللانهائي... يتحول الي نجوم تنبض أملًا، فتهتدي في وميضها قوافل قادمة من رحم الأيام.علي الدنيا بعدك

العفا.. ما أجرأهم علي الرحمن و علي انتهاك حرمة الرسول. [ صفحه 75] الراية ما تزال تخفق بعنف.. تعلن الثورة.. الرفض.. الإباء...الدماء تنزف.. تروي الرمال.. تنفخ فيها روحاً، و تبثّها اسراراً لا يدركها احد من العالمين.- هل رأيتم القمر يمشي علي الارضتمتم التاريخ متعجباً، و هو يري القاسم بن الحسن.. فتيً لم يبلغ الحلم بعد. يمشي الهويني.. عليه قميص وإزار، وفي رجليه نعلان. في يمينه سيف.. يطوّح به يميناً و شمالاً.. يقاتل الذين غدروا.. انهم لا ايمان لهم. انقطع شسع نعله اليسري، فانحني يشدّه.. غير عابئ بالقبائل تدور حوله كدوّامة ما لها من قرار.شدّ عليه رجل يلهث، فاستنكر آخر:- ما تريد من هذا الغلام؟! يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه.- لأشدّن عليه.وارتطم سيف جبّار، فانشقّ القمر:- يا عماه!وهبّ الحسين عاصفة مدّمرة.. إعصار فيه نار. وما اسرع ان هوي العلم علي قاتل ابن اخيه بسيف مشحون غضباً. وصرخ القاتل لهول الضربة. وارادت الخيل أن تدفع عنه الموت، فداسته بحوافرها.. [ صفحه 76] وضاع بين سنابك الخيل. و ضاعت معه كل اطماعه و أوهامه.وقف الحسين عند الفتي الشهيد:- بعداً لقوم قتلوك. خصمهم يوم القيامة جدّك.. عزَّ- واللَّه- علي عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك.الموت يتخطف القافلة... والمسافرون يعرجون الي السماء... ارواحاً شفافة خلعت أهابها الارضي و رحلت الي عالم مغمور بالنور.لم يبق مع الحسين سوي حامل الراية: رجل يدعي أبوالفضل، أبوه أبوالحسن، وأمه امرأة ولدتْها الفحولة من العرب.الراية تخفق في شماله، و في يمينه بتّار يقصف الأعمار.ثمة عيون تتطلع من وراء خيام.. تنظر الي الراية.. تخفق كشراع سفينة تعصف بها الريح من كل مكان.القلوب التي صدّعها الظمأ تنشد الماء، والفرات دونه غابات من الرماح، و

أبوالفضل يكاد يتفجّر غضباً كلما سمع أنّة بنت أو صراخ صبي: العطش... العطش... و لا شي ء سوي السراب، سراب يحسبه الظمآن ماء.تقدم صاحب الراية من اخيه الذي بقي وحيداً... الحسين ينظر الي آخر القرابين السماوية: [ صفحه 77] - يا أخي انت صاحب لوائي.قال ابوالفضل و هو يكاد يتميز من الغيظ:- قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، وأريد ان آخذ ثاري.- اذا كان ولابدّ، فاطلب لهؤلاء الاطفال ماء.انطلق أبوالفضل الي القبائل.. الي قلوب قاسية اقسي من الحجارة.. و ان من الحجارة لما يتفجّر منها الانهار.- يا عمر بن سعد! هذا الحسين ابن بنت رسول اللَّه.. قد قتلتم اصحابه و أهل بيته، و هؤلاء عياله و أولاده عطاشي فاسقوهم من الماء.. قد أحرق الظمأ قلوبهم. و هو مع ذلك يقول: دعوني اذهب الي الروم أو الهند و أخلي لكم الحجاز والعراق.صاح الابرص بصورت يشبه رنّة الشيطان:- يابن أبي تراب! لو كان وجه الارض كلّه ماء، و هو تحت ايدينا، لما سقيناكم منه قطرة.. إلّا ان تدخلوا في بيعة يزيد.الاطفال يصيحون.. القلوب الظامئة تئنّ.. الشفاه الذابلة تهتف:العطش.. العطش. والفرات يجري.. تتدافع امواجه.. كبطون الحيّات. اعتلي صاحب اللواء صهوة الجواد...حمل القربة، و في أذنيه كلمات قالها أبوه علي شاطئ الفرات [ صفحه 78] بصفين: روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء.انطلق أبوالفضل باتجاه الفرات وسط وابل من سهام ونبال.. رجال القبائل يفرّون بين يديه مذعورين.. كأنما يفرّون من الموت الزؤام..الفارس يشقّ طريقه غير مبالٍ بالألوف التي أحدقت به.. يتوغّل في اعماق النخيل المحدق بالشاطئ كأهداب حوريّة.. أبوالفضل يقحم فرسه النهر، فيتطاير رذاذ الماء. اهتزّت سعفات نخلة لكأنما طربت لشجاعة و بأس ستذكر هما الايام.المياه المتدافعة تجري تحت الأقدام، والفارس

الظامئ يغترف من الماء غرفة.. فيتذكّر قلباً يكاد يتفطّر عطشاً، تمتم و هو يطوّح بقبضة الماء بعيداًيا نفس من بعد الحسين هوني و بعده لا كنت أو تكونيملأ القربة ماءً، ثم قفز فوق جواده، وانطلق نحو مضارب الخيام...القبائل تقطع عليه طريق العودة، و قد غاظها منظر القربة تموج بمياه الفرات.الفارس يسط الملاحم وينشد: [ صفحه 79] لا ارهب الموت إذا الموت زقا حتي أواري في المصاليت لقينفسي لسبط المطفي الطهر وقا إني أنا العباس اغدو بالسقاو لا أخاف الشرّ يوم الملتقي رجل من القبائل يتقن الغدر يختبئ وراء نخلة.. في يده سيف ورثه عن «ابن ملجم».السيف الغادر يهوي- علي حين غفلة- فيطيح باليمين لتستقر عند جذع نخلة سمراء:و اللَّه إن قطعتُم يميني إني أحامي أبداً عن دينيو عن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر اليمينأبوالفضل يشقّ طريقه. اصبح هدفه ايصال الماء إلي قلوب تتصدّع عطشاً و تحلم بمواسم المطر.سيف غادر آخر يهوي من وراء نخلة، فيطيح بالشمال. سقطت الراية و من قبلها سيف علوي.. و أبوالفضل يشقّ طريقه في وابل من السهام والنبال. و عندما اخترق القربة سهم وانزالت المياه، فقد [ صفحه 80] الفارس المقطوع اليدين حماسه في العودة الي المخيم، ودارت به القبائل كدوّامة مجنونة، و هوي رجل- و ما هو برجل- بعمود علي رأسه ففلق هامته. وانطلق صوت يبشر بالسلام القادم.- عليك مني السلام أبا عبداللَّه.وانطلقت من بين مضارب الخيام صيحات تنذر بهبوب العاصفة.. صاحت زينب ومعها نسود وبنات:- واضيعتنا بعدك.فتمتم الحسين و هو ينشج:- واضيعتنا بعدك! [ صفحه 81]

ازفت ساعة الرحيل...

أزفت ساعة الرحيل.. أجال آجر الاسباط عينيه المتألقتين في الرمال الممتدّة حتي الأفق. نساء واطفال خرجوا من بين الخيام.. العيون الحزينة

تحدق بآخر الرجال.. بآخر خيوط الأمل. هتف الحسين بأعلي صوته.. يخاطب التاريخ والانسان.- هل من ذابّ عن حرم رسول اللَّه؟ هل من موحّد يخاف اللَّه فينا؟وامتزجت صرخته بعويل وبكاء.. و انغمست بالدموع.. بالدماء. نهض فتيً طوّح به المرض.. نهض يجرجر نفسه و سيفه.. يتوكأ علي عصا.. فتي ادّخره أبوه ليوم آخر.هتف الحسين بأخته:- احبسيه لئلا تخلوا الأرض من نسل آل محمد!كأسراب الغربان طاف الحزن بين الخيام.. جثم علي القلوب [ صفحه 82] المقهورة، وراح ينعق بصوت ينذر باقتراب الكارثة.وقف الحسين للوداع.. و داع الأرض.. الشمس تغمر الرمال باللهب، والفرات يجري.. يمعن في الفرار. والقبائل مجنونة بثارات قديمة.. والريح تدور.. تعدو بعيداً.. مسكونة بالرحيل.. مبهورة بالسفر.. والحسين يرتدي حلّة العروج.. علي رأسه عمامة مورّدة، ملتحف ببردة النبي.. متقلد سيفه.القبائل تجنّ لمنظره.. تشتعل في اعماقها شهوة الثأر.. تبرق عيونها للأسلاب العظيمة.طلب الحسين ثياباً لا يرغب بها أحد، ليضعها تحت حلّته.فقدموا له سروالاً قصيراً فأبعده بطرف سيفه.- انه من لباس الذّلة.اختار ثوباً قديماً، فخرّقه بسيفه، وليسه تحت ثيابه.القبائل تتحفز لقتل آخر الاسباط.. والسبط يودّع الاطفال والنساء.احتضن طفله الرضيع، وراح يقبله متمتماً بحسرة:- بعداً لهؤلاء القوم اذا كان جدك المصطفي خصمهم.الشفتان الصغيرتان تبحثان عن قطرة ماء.. والفرات يموج بالمياه.يتلوّي وسط الصحراء حيّة تسعي. تقدم الحسين يحمل طفله الظامئ: [ صفحه 83] - ألا قطرة ماء؟و ينطلق سهم غادر يحمل في نصله الذبح. الطفل يخرج يده الصغيرة من القماط. ماتزال يده ممدودة.. تستفهم التاريخ و الانسان.الدماء الشفّافة تغمر صدر الحسين.. الأب يملأكفّه من النافورة الحمراء.. ثم يطوّح بها في السماء. رشاش الدم يصّعد الي الفضاء.. يخترق الحجب البعيدة.. يخرق قوانين الأرض همس الحسين:- هوّن ما نزل بي انه بعين اللَّه، اللَّهم

أنت الشاهد علي قوم قتلوا اشبه الناس برسولك محمد.طيف ملائكي يخطف أمامه.. يحمل في جناحيه عبير الفردوس- دعه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة.مثل عاصفة غاضبة هبّ الحسين يمزّق بسيفه القبائل. تساءل النخيل و هو يهزّ سعفاته بإجلال عن رجل وحيد يقاتل الآلاف.أنا الحسين بن علي آليت الّا انثنيصرخ ابن سعد و هو يري احلامه تتبدد:- هذا ابن الانزع البطين. هذا ابن قتّال العرب. احملوا عليه من كل جانب. فاطبقت عليه القبائل، و أمّته آلاف السهام، و حالت بينه و بين الخيام. [ صفحه 84] هتف آخر الأسباط:- يا شيعة آل أبي سفيان!! إن لم يكن لكم دين و كنتم لا تخافون المعاد، فكونوا احراراً في دنياكم، وارجعوا الي احسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون.صاح الأبرص:- ما تقول يابن فاطمة؟- انا الذي اقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي مادمت حيّا.- لك ذلك.و قصدته القبائل.. الحسين الظامئ يدفع أمواج الغدر.. يقاتل.. يقاوم.. يحصد رؤوس الذين كفروا. شعر بعطش شديد.. والفرات محاصر بأربعة آلاف أو يزيدون... الفرات تنثال مياهه علي الشطآن ترتاده دوابّ الارض... و آخر الاسباط ينشد غرفة واحدة.الزوبعة تتجه نحو النهر.. تجتثّ في طريقها اشباه الرجال.قال ابن يغوث- و كان مع القبائل: ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته وصحبه اربط جأشاً منه و لا امضي جناناً و لا أجرأ مقدماً.. ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيها، و لم يثبت له أحد. [ صفحه 85] الحسين يقهر القبائل.. يحتلّ الفرات.. ويقحم فرسه المياه المتدفّقة.. الأمواج تتلألأ في ضوء الشمس. شعر الفرس ببردودة الماء.. حني رأسه ليشرب.. ليرتوي.قال قاهر الفرات مخاطباً الفرس، و كان من جياد خيل النبي:-

انت عطشان وأنا عطشان فلا اشرب حتي تشرب.رفع الجواد رأسه.. رفض أن يشرب قبل صاحبه. مدّ الفارس يده ليغرف: ناداه رجل من القبائل:- أتلتذّ بالماء و قد هتكت حرمك..طوّح السبط بقبضة الماء وانطلق صوب الخيام.. اشرقبت الوجوه الخائفة. لقد عاد الأمل.التفّت حوله صبية ونساء.. تعلقت به. الشمس تجنح نحو الغروب، والحسين يسافر مع الشمس. ودّع عياله. كشف لهم صفحة من عالم الغد، وقرأ عليهم سطوراً من دفتر الأيام:- استعدّوا للبلاء، و اعلموا أن اللَّه تعالي حاميكم و حافظكم وسينجيكم من شرّ الاعداء ويجعل عاقبة أمركم الي خير و يعذّب عدوّكم بانواع العذاب و يعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة. فلا تشكوا و لا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم.افتقد ابنته سكينة.. لم تكن مع المودّعين.. وجدها وحيدة في [ صفحه 86] الخيمة و قد غلب عليها الاستغراق. كانت تفكّر في طريق ابيها العجيب.صرخ رجل من القبائل و هو يحلم بعبور جثة الحسين:- اهجموا عليه ما دام مشغولًا بنفسه و حرمه.نفثت القبائل سهاماً مسمومة النبال تخترق الخيام.. و تشك أُزرَ النساء. فرّت النسوة الي داخل الخيام.. العيوم تحدّق بالحسين.. ماذا سيفعل آخر الاسباط؟الفارس الذي قدم من الجزيرة علي قدر.. يحدّد ساعة الصفر، ويبدأ الهجوم. التاريخ يركض مبهور الانفاس.. يتشبّث بركاب الحسين.. والحسين يسبق التاريخ.. يغوص في عوالم بعيدة.. و يبقي التاريخ بقلب كفيه حائراً وسط الرمال.القبائل تفرّ مذعورة بين يديه، ووابل النبال يرشقه من كل حدب وصوب، و الحسين يقهر الموت.. يحطّم جدران الزمن.. يتخطي القرون.الروح العظيمة.. تريد الإنطلاق من أهاب الحجسد المجرّح.. الجراح المتدفقة كينابيع فوّارة، تروي الرمال المتوهّجة.. الفرات يمعن في الفرار.. يضنُّ بقطرة ماء- يا حسين! ألا تري الفرات كأنه بطون الحيّات؟

فلا تشرب منه [ صفحه 87] حتي تموت عطشاً.ورماء أبو الحتوف بسهم في جبينه، فانتزعه. وتدفقت الدماء من جبهته الشّماء.همس الرجل الوحيد في قلب السماء: اللهم انك تري ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللهم احصهم عدداً واقتلهم بددا، و لا تذر علي وجه الارض منهم أحدا، و لا تغفر لهم أبدا.ثم هتف بأعلي صوته:- يا أمّة السوء بئسما خلفتم محمداً في عترته. أما انكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله. بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم اياي. وأيم اللَّه اني لأرجو أن يكرمني اللَّه بالشهادة ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.عوي ذئب من القبائل:- وبماذا ينتقم لك منّا يا ابن فاطمة؟- يلقي بأسكم بينكم و يسفك دماءكم ثم يصبّ عليكم العذاب صبّا.الحسد الواهن تتسرب منه الدماء.. دماء كثيرة صبغت صعيد الارض.توقف السبط ليستريح قليلاً، فرماه رجل من القبائل المسعورة [ صفحه 88] بحجر فانبثقت الدماء من جبهته.أراد الحسين أن يوقف نزف الدم بطرف ثوبه، فجاءه سهم محدّد له ثلاث شعب. انغرس السهم المثلث في قلب الحسين.. السهم يتشبث بالقلب الجبل.. انها النهاية.. نهاية الألم.. بداية الحريل الي عوالم السلام.تأوّه الحسين:- بسم اللَّه و باللَّه و علي ملّة رسول اللَّه..ثم رفع وجهه نحو السماء متضرعاً.- الهي انك تعلم انهم يقتلون رجلاً ليس علي وجه الارض ابن بنت نبي غيري!السهم يغوص في الجسد الواهن.. يخرج رؤوسه من القفا كالأفاعي.. و تنبعث الدماء غزيرة.. غزيرة. صوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر.الحسين يملأ كفّيه دماً عبيطاً ثم يطوّح به نحو السماء و يهتف:- هوّن ما نزل بي أنه بعين اللَّه.الدماء القانية الثائرة تسافر في عالم الافلاك.. تصبغ النجوم.. تلوّن الآفاق.مرّة أخري، ملأ الحسين كفّيه دماً،

ثم خضب به رأسه ولحيته [ صفحه 89] استعداداً للرحيل:- هكذا ألقي اللَّه.. و جدّي رسول اللَّه.وأعياه نزف الدم، فهوي علي الارض كنجم منطفئ.تقدم «ابن النسر» اليه وعيناه تبرقان حقداً، فضربه بالسيف علي رأسه.تمتم الحسين متألماً:- لا أكلت بيمينك و لا شربت، وحشرك اللَّه مع الظالمين.وأحاطت به القبائل كلاباً مسعورة. تنهش جسده.همس الحسين:- هذا تأويل روياي قد جعلها ربّي حقاً..ضربه «زرعة» علي كتفه الايسر، ورماه «ابن نمير» في حلقه وطعنه «سنان» في ترقوته، ثم في صدره، ورماه بسهم في نحره.الكلاب تنهش جسده.. وكان أشدّها الابقع....العينان الواهنتان فيها بقايا ألق.. يوشك علي الرحيل.. الحسين يرفع طرفه نحو السماء:- اللَّهم متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر علي ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب اذا دعيت، محيط بما خلقت، [ صفحه 90] ادعوك محتاجاً وارغب اليك فقيرا، صبراً علي قضائك يا رب لاإله سواك.الحسين ينوء بنفسه. الروح تتسرب من أفواه الجراح.. تغوص في الرمال.. تبثّها اسراراً توقظ فيها مدناً ثائرة.ماذا يفعل الفرس؟ لِمَ يدور حوله؟ يلطخ ناصيته بدمه.. يشمه.. يصهل بغضب.. ينادي: الظليمة الظليمة من أمّة قتلت ابن بنت نبيها.صرخ ابن سعد بالقبائل:- دونكم الفرس فإنه من جياد خيل رسول اللَّه. فدارت به الخيل.. اخذت عليه الطرق. الفرس يقاتل.. يقاوم يتحول الي بركان. وانبهر قائد القبائل:- دعوه لننظر ما يصنع..انطلق الفرس نحو مضارب القافلة، وهو يصهل عالياً:- الظليمة.. الظليمة من امّة قتلت ابن بنت نبيها...هبّت نسوة واطفال.. لقد وقعت الواقعة. صرخت زينب:- وامحمداه.. واأبتاه... وا علياه.. وا جعفراه.. وا حمزتاه. هذا حسين بالعراء.. صريع بكربلا.. ليت السماء أطبقت علي الارض، وليت الجبال تدكدكت علي السهل!..عندما وصلت زينب، كان الحسين يوشك

علي الرحيل.. يودّع [ صفحه 91] الصحراء، بعد أن روّاها بدمه.القبائل مفتونة.. تدور حول آخر الاسباط.. و قد زلزلت الارض زلزالها. ماذا بوسع زينب أن تفعل. الحسين يجود بنفسه.. لقد تمزق جسده.. و ما تزال الروح هي هي.. شديدة البأس. زينب تحاول ايفاظ بقايا الانسان في زعيم القبائل... هتفت بلوعة:- اي عمر! أيقتل أبو عبداللَّه وانت تنظر اليه!!لقد مات الانسان في داخله...أهاب بالقبائل لإسدال الفصل الاخير:- انزلوا اليه وأريحوه.صرخت زينب:- اما فيكم مسلم؟!و لا من جواب. لقد مات الانسان في عصر الذئاب والليل والعواء.- انزلوا اليه وأريحوه.كان الأبرص ينتظر الإشارة بلهفة. التمعت عيناه بوحشية، وهويرفس جسد الحسين الممزّق.. جلس علي صدره. الا بقعُ ينهش جسد السبط.. يقبض علي شيبته.. و يهوي يسيف غادر علي رأسه. ينفصل الرأس عن الجسد.. القبائل تموج مأخوذة بهول ما يجري [ صفحه 92] فوق الرمال...الجسد ساكن بلا حراك. الكلاب تهنهش.. تنهش الجسد الدامي.ويرتفع رأس ابن النبي فوق رمح طويل.. يتطلع الي آخر الدنيا، و يقرأ سورة الكهف.انطفأت الشمس.. ومطرت السماء دماً عبيطاً، وبدا الافق الغربي شديد الحمرة كجراح نازفة.وعصفت القبائل المسعورة بالخيام.. فأشعلت فيها النار. وفرّت النسوة والأطفال.. هاموا علي وجهوهم في الرمال.وانبرت عشرة خيول مجنونة.. خيول اعتادت السلّب والنهب والغارات.. تعوّدت سحق ورود البنفسج وبقربطون الاطفال... اهتزّت الارض تحت سنابك الخيل وهي تمزّق صدر الحسين.. وفاحت من الجسد قبلات محمد والزهراء، ملأت الفضاء وامتزجت مع ذرات رمال الصحراء.. والتاريخ.النار المجنونة تلتهم الخيام.. و صراخ الاطفال يملأ الدنيا.. و الذئاب تعوي بقسوة.. والليل شديد الظلمة.. الريح تذرو الرمال.. تغطّي الاجساد العارية بغبرة خفيفة.. والقبائل تنهب و تسلب.. والفرات يمعن في الفرار.. ورأس الحسين فوق رمح طويل.. ينظر الي آخر الدنيا..

الي قوافل قادمة من رحم الأيام. [ صفحه 93]

فرت الشمس...

فرّت الشمس.. توارت خلف الأفق المضمخ بحمرة قانية، وأشرق القمر دامياً كعين تنتحب.. القبائل ما تزال تعصف بالخيام تضرم فيها النار، والنار تمدّ ألسنتها كأفواه جائعة أصابها مسّ من الجنون، فهي تلتهم كل شي ء.الذئاب تعوي.. تفتك بحملان صغيرة خائفة...الشياطين تصارع الملائكة.وصرخات تدوّي:- لا تدعوا منهم أحداً صغيراً و لا كبيراً.الذئاب تفتحم خيمة فيها فتي عليل لا يقوي علي النهوض... جرّد الأبرص سيفه.. مازال متعطشاً للدماء.. استنكر رجل من القبائل:- اتقتل الصبيان؟! انما هو صبي مريض. [ صفحه 94] - لقد أمر ابن زياد بقتل أولاد الحسين.وانبرت زينب بشجاعة ابيها:- لا يُقتل حتي أُقتل دونه.و نادي منادٍ باقتسام الغنائم، فتنازعت القبائل الرؤوس، زلفي الي ابن زياد حاكم المدينة الغادرة.ارتفعت رؤوس مقطوعة فوق رماح. قافلة من العمالقة يتقدمها رأس سبط آخر الانبياء.. يحمله الأبرص. سبعون رأس أو يزيدون لم تنحنِ لغير اللَّه.. فارتفعت فوق ذري الرماح.. و كان في مقدمتها رأس آخر الاسباط.وكان الفتي المريض يجود بنفسه، فقالت عمته وهي تخترق جدران الزمن:- ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي و أبي واخوتي، فهواللَّه ان هذا لعهد من اللَّه الي جدك و أبيك، و لقد أخذ اللَّه ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة الارض، وهم معروفون في أهل السماوات، انهم بمجعون هذه الاعضاء المقطعة والاجسام المضرجة فيوارونها، و ينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك لا يُدرس أثره و لا يمحي رسمه علي كرورو الليالي والايام وليجتهدُنّ ائمة الكفر و أشياع الضلال في محوه وطمسه، فلا يزداد اثره الّا علوّاً. [ صفحه 95] منظر الدماء و الجثث المتناثرة هنا و هناك والسيوف المكسرة والسهام المغروسة في الرمال.. تحكي

ملحمة رهيبة سطّرها رجال قهروا الموت، وفجّروا في قلبه نبع الحياة، وأماطوا اللثام عن سرّ الخلود.تقدمت امرأة تعدّت الخمسين من العمرم الي جسد تعرفه، رعتْه صغيراً وراقبتة كبيراً و شهدته ممزّقاً بحوافر خيل مجنونة.جثت زينب عند مصرع آخر الاسباط: الجسد الممزق ساكن بلا حراك، لقد غادرت الروح التي دوّخت القبائل. دست زينب يديها تحت جسد أخيها.. رفعت بصرها إلي السماء.. الي اللَّه.. و تمتمت بعينين تفيضان دمعاً:- تقبّلْ منا هذا القربان... يا الهي.وألقت «سكينة» بنفسها علي جسد أبيها العظيم واعتنقته، وغمرتها حالة من الاستغراق. كانت تصغي الي صوت ينبعث من اعماق الرمال.. همهمة سماوية عجيبة تشبه صوت والدها الراحل:- شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني.أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني.لملمت القبائل خزيها.. عارها الأبدي تريد العودة الي الكوفة... و «سكينة» ماتزال تتشبت بالجسد المضمخ بالدم. [ صفحه 96] هجم الأعراب من القبائل و جرّوها بعنف وراحوا يكعونها برؤوس الرماح حتي استوت علي ناقتها.عشرون امرأه ثلكي، وفتي عليل، واطفال يتامي مذعورون، هو كل ما غنمته القبائل في اطول يوم في التاريخ. اما الرؤوس فقد راحت تتسابق فيها الخيل بشري الي الارقط حاكم المدينة المشهورة بالغدر.غادرت القبائل شواطي ء الفرات.. تركته وحيداً يتلوي في الصحراء كأفعي حائرة.و غادر موكب السبايا والعيون الحزينة تتلفت الي اجساد متناثرة فوق الرمال كنجوم منطفئة.. الي أن غابت عن البصر، وساد صمت رهيب ما خلا انين خافت ينبعث من اعماق الارض المصبوغة بلون ارجواني.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.