دراسة تحليلة في السيرة النبوية عصرها قبل الهجره‌

اشارة

سرشناسه : زرياب خوئي عباس ۱۳۷۳ - ۱۲۹۷
عنوان و نام پديدآور : دراسة تحليلية في السيرة النبوية عصرها قبل الهجره تاليف عباس زرياب خويي ترجمه علي السيدهادي مشخصات نشر : بيروت : الغدير، ۱۴۱۷ق = ۱۹۹۷م = ۱۳۷۶.
مشخصات ظاهري : ص ۲۷۷
وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عنوان اصلي سيره رسول‌الله
يادداشت : كتابنامه ص ۲۷۱ - ۲۷۰؛ همچنين به‌صورت زيرنويس موضوع : محمد (ص ، پيامبر اسلام ۵۳ قبل از هجرت - ۱۱ق -- سرگذشتنامه موضوع : اسلام -- تاريخ -- از آغاز تا ق‌۱۱
شناسه افزوده : هادي علي سيد، مترجم رده بندي كنگره : BP۲۲/۹/ز۴س‌۹۰۴۳ ۱۳۷۶
شماره كتابشناسي ملي : م‌۸۱-۲۳۲۲۰

تقديم

عصر ما قبل الهبرةيبحث المؤلف، في هذا الكتاب، في «سيرة رسول اللّه (ص) من الولادة حتي البعثة». ويعني بالجانب التاريخي من‌الموضوع فحسب، فيحقق الوقائع، ويبين صحة وقوعهاوشروطها وملابساتها واسبابها. ولا يخفي ان المكتبة الاسلامية بامس الحاجة الي كتاب من‌هذا النوع، وذلك يعود الي امرين: اولهما: ان المؤلفات الاسلامية في السيرة، كما يقول ابن‌خلدون، «لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وكثيرا ما وقع للمؤلفين و المفسرين وائمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها علي مجرد النقل غثا وسمينا، ولم يعرضوها علي اصولها ولا قاسوها باشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف علي طبائع الكائنات وتحكيم النظر و البصيرة في الاخبار فضلوا عن الحق و تاهوا في بيداء الوهم و الغلط. وثانيهما: ان المؤلفات التي صنفها المستشرقون كان الغرض منها تلبية رغبات اقوامهم واهل ديانتهم، فجاءت لتلبي هذه الاغراض التي جعلتهم غير محايدين، فحرفوا الوقائع والاحداث، وراوا اليها من المنظور الذي يخدمهم ويضرب الاسلام، اضافة الي انهم ينفون الجانب الغيبي وينكرون جميع ما وراء المادة والحس. يحاول المؤلف، وهو يعي هذين الامرين، ان يفيدن ايجابيات المنهجين في الوقت الذي يتجنب فيه سلبياتهما. وقد اتبع بغية تحقيق ذلك منهجا موضوعيا يري الي الاحداث التاريخية في سياقها التاريخي، فيرصد الظواهر التاريخية، ويتبينها ويصفها، وينفذ الي جوهرها، فيعرف حقائقها واسبابها الحقيقية، ويقدمها الي القاري‌ء باسلوب سهل واضح. ويبدو انه استخدم ما يمكن ان نسميه «المنهج الاجتماعي النفسي» الذي يركز علي معرفة الظروف الاجتماعية والشخصية التي اسهمت في نشوء الظاهرة وتكونها وتبلورها، ثم يبحث في تلك الظاهرة نفسها، فيقدم بذلك معرفة تاريخية تلبي الحاجة الي التحقيق والضبط وحسن الفهم. وقد توافرت في المؤلف الصفات التي يحتاجها هذا النوع من البحث فهو استاذ متمرس درس تاريخ الاسلام وسيرة النبي الاكرم (ص) عدة سنين في جامعة طهران، وقد مكنته خبرته الواسعة في معرفة المجتمع الجاهلي ومجتمع صدر الاسلام من الغوص مع الاحداث الي اسسها، فقدم للكتاب مبينا مشروعيته ومنهجه، ومهد لموضوعه ببحث ثلاث قضايا هي: الجزيرة العربية قبل الاسلام، وقريش في مكة، والحياة الاجتماعية في مكة، ثم بحث في الموضوع الاساسي وهو سيرة الرسول من الولادة حتي البعثة. وقد توخي المترجم الامانة والدقة في نقل المادة الي اللغة العربية، اضافة الي العناية بسلامة اللغة وجمالها ومراعاتها اساليب اللغة التي ينقل اليها. وان كان المؤلف قد انتهي الي نتائج لا يوافقه عليها، فانه اكتفي بالاشارة الي ذلك بتعليقات موجزة في الهامش. ويسر مركز الغدير ان يقدم هذا الكتاب القيم الي قرائه آملا ان يكون قد قام بما يخدم ديننا الحنيف ونبيه الكريم (ص) مركز الغدير للدراسات الاسلامية بيروت.

مقدمة المترجم

والحمدللّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي صفوة خلقه وامين وحيه وحجته علي خلقه الذي بعثه رحمة للعالمين ليخرجهم من ظلمات الجهل الي نور العلم ومن حضيض الارض الي آفاق السماء، ثم الصلاة والسلام علي اهل بيته وحملة امانته ومستودع علمه ومن تبعهم باحسان الي يوم الدين. وبعد فاننا يمكن ان نحصر الدراسات التي كتبت حول السيرة النبوية في طائفتين رئيسيتين: الاولي: في فقة السيرة. والثانية: في توثيقها. ونعني بفقه السيرة التدبر في احداثها و وقائعها والتامل في كل ناحية من نواحيها. لناخذ منها الدرس والعبرة. ونجعلها تشع في حياتنا بكل ابعادها سياسية واجتماعية واقتصادية. لقد كانت السيرة النبوية تجسيدا علميا معصوما للاسلام وتطبيقا لتعاليمه السامية في انقي صورها واطهر معانيها. وتستهدف الدراسات في هذا الحقل، تفجير تلك المعاني واستنطاق الوقائع والمواقف النبوية لتزهو بها حياتنا ويخضر مايبس من عروقها وجف. ولا شك ان الحبث في هذا الباب لايتسق، ويستقيم الا اذا حسم الامر في ركنين سابقين يشكلان معا القاعدة التي تستند اليها هذه الدراسات: الاول: حجية السيرة وما فيها من قوة الزامية وطاقة تنجزية وهذا ما تعهد به علم الاصول، بل وعلم الكلام حتي اصبحت امر بديهيا لا تجد بين المسلمين من يناقش فيه ايا كان مذهبه: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). الثاني: توثيق السيرة، وهذا بحث تاريخي مجاله علم التاريخ، وقد عني به المسلمون عناية فائقة حتي انهم جاوزوا فيه غيرهم‌من الاممم وقد توزعت اعمالهم في هذا المجال علي محورين رئيسين: 1 الاعمال التي كان غرضها الاساس حفظ السيرة من الضياع وتسجيل وقائعها قبل ان يطويها النسيان. ولما كان هذا الغرض نصب اعين المحدثين والمؤرخين فقد شغلهم عن غيره وانطلقوا يسجلون كل ما مت الي النبي (ص) بصلة من قول اوفعل. واكتفوا من التثبت من صحة الخبر والحادثة، باثبات السند فحسب. يقول الطبري في مقدمة: مما يكن في كتابي هذامن خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارؤه ان يستشنعه سامعه من اجل انه لم يعرف له وجها صحيحا، ولامعني في الحقيقة فليفهم انه لم يؤت في ذلك من قبلنا وانما اتي من بعض ناقليه الينا، وانما ادينا ذلك علي نحو ما ادي الينا». ولو جزنا الطبري وتوغلنا ابعد في عمق التاريخ لوجدنا الجيل الاول من كتاب السيرة امثال عروة بن الزبير (94 ه) وابان بن‌عثمان بن عفان (105 ه) ووهب بن منبه (110 ه) وكذلك الجيل الثاني والثالث كابن شهاب الزهري (124 ه) وموسي بن عقبة (141 ه) ومحمد بن اسحاق (152 ه) والواقدي (207ه) لوجدنا هم جميعا قد جروا علي نفس المنوال واثبتوا الغث والسمين هذا ان لم يتزيدوا هم من عند انفسهم في اضافة شي‌ء غريب او اسقاط آخر اصيل لهذا كان من الطبيعي جداان تجد الراوي ياتي بالروايات المتعارضه عن الواقعة الواحدة بحيث يستحيل ان تصح معا، دون ان كيلف نفسه عناء الموازنة بينها او ترجيح بعضها علي بعض. ولم تكن هذه سنة المؤرخين وحدهم بل والمحدثين كذلك. وهذا ما اشار اليه ابن حجر بقوله: «ان الحفاظ يعتمدون في روايتهم علي الاحاديث الموضوعة مع سكوتهم عنها علي ذكرهم الاسانيد، لاعتقادهم انهم متي اوردوا الحديث باسناده فقد برئوا من عهدته واسندوا امره الي النظر في اسناده». 2 ولما اكتملت المادة التاريخية للاجيال التالية واستوي للمتاخرين ما جمع المتقدمون، جاءت فكرة النقد والتعليق، وكان ابن هشام، من اوائل الذين مارسوا هذا العمل، وتوالت الاعمال بعده تباعا. لقد ظهر ابن هشام في عصر كانت الرواية الشفهية قد تراجعت فيه وانحسر دورها الي حد ما. فقد اثقلت الذاكرة العربيه آنذاك وكان عليها ان تحفظ اضافة الي ما توارثته من اخبار العرب احاديث النبي واحداث السيرة ووقائعها. لكن ذلك لم يحط‌من شان الرواية الشفهية ولم يزعزع من مكانتها الموروثة اداة اولي في النقل المامون والتوثيق المعتبر فرغم ظهور الكتب وانتشارها كان من الصعوبة بمكان التمييز بين المؤلف الذي قصد ان تروي مادته والمؤلف الذي دونها. وظلت الكتابة تزداد اهمية خصوصا في مجال السيرة كلما ابتعد بالناس الزمن عن الصدر الاول وجفت منابع السيبرة الاساسية المتمثلة في المشاهدة العينية والمصاحبة اليومية‌هه لصاحب السرة (ص). وحين فتح ابن هش ام عينيه علي الدنيا كان بينه وبين الصدرالاول بطنان او ثلاثة بطون مما منحه حرية اكثر في التصرف والاضافة والحذف. فلم يكن مجرد راو لسيرة ابن اسحاق التي سمعها من زياد البكائي (183 ه) بل كثيرا ما اضاف اليها اشياء لم يذكرها ابن اسحاق واسقط امورا اخري اثبتها الاخير. وقد اوضح ابن هشام منهجه في نقده لسيرة بن اسحاق بقوله: «وانا ان شاء اللّه مبتدي‌ء هذا الكتاب بذكر اسماعيل بن ابراهيم ومن ولد رسول اللّه من ولده واولادهم لاصلابهم، الاول فالاول، من اسماعيل الي رسول اللّه (ص)، وما يعرض من حديثهم وتارك ذكر غيرهم من ولد اسماعيل، علي هذه الجهة للاختصار، الي حديث سيرة رسول اللّه (ص) وتارك بعض ما يذكره ابن‌اسحاق في هذا الكتاب، مما ليس لرسول اللّه (ص) فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شي‌ء، وليس شيئا لشي‌ء من هذا الكتاب ولا تفسيرا له، ولا شاهدا عليه، لما ذكرت من الاختصار، واشعارا ذكرها لم ار احدا من اهل العلم بالشعر يعرفها واشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته ومستقص ان شاء اللّه تعالي ما سوي ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به». وصارت سيرة ابن هشام هذه فيما بعد محورا لاعمال كثيرة تناولتها بالشرح والتعليق حينا والنقد والاختصار حينا آخر منهاعلي سبيل المثال كتاب (الروض الانف) لعبد الرحمن السهيلي (581 ه) فكان يتعقب ابن اسحاق وابن هشام بالتحرير والضبط حينا، وبالشرح والزيادة حينا آخر. ثم كتاب (الذخيرة في مختصر السيرة) الذي فرغ منه مؤلفة برهان الدين ابراهيم بن محمد الشافعي سنة (611 ه) وبعد هذا بقرن ظهر كتاب (مختصر سيرة ابن هشام) لعماد الدين ابوالعباس الواسط‌ي وكان اختصارا فحسب. وشيئا فشيئا تنبه المؤرخون المسلمون ومنهم كتاب السيرة آالي ضرورة الالتفات بالنقد والتمحيص الي جانب آخر من المادة التاريخية ذلك هو موضوع هذه المادة والمسالة التي تعالجها. بعبارة اخري تجاوز سند الخبر الي متنه والعبور من مسالة ضبطه وتحريره الي الموضوع الذي يعالجه والاحداث الذي تكتنفه، فقد كتب النويري (732 ه) في موسوعته (نهاية‌الارب) قائلا: «واما من ينسخ التاريخ فانه يحتاج الي معرفة اسماء الملوك والقابهم ولغاتهم وكناهم.. وكذلك اسماء المدن والبلاد والقري والقلاع والرساتيق والكور والاقاليم». فلكي يكون الراوي دقيقا فيما ينقل من مادة تاريخية عليه من الان فصاعدا ان يكون اضافة الي وثاقته ذو خبرة بموضوع مادته لاتشتبه عليه الالفاظ ولا تختلط عليه الاماكن والاسماء والوقائع. وتطور هذا النوع من النقد ليبلغ اعلي درجات نضجه علي يد المؤرخ ابن خلدون (808 ه) الذي بلغ اهتمامه بهذا الجانب ان قدمه علي الجانب الاخر فصار عنده نقد الخبر من الداخل اهم من نقده من الخارج. ولم يشا ان يترك ذلك دون ان يضع له قواعد واضحة وضوابط عامة بينها بقوله: «لان الاخبار اذا اعتمد فيها علي مجرد النقل لم تحكم فيها اصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والاحوال في الاجتماع الانساني، ولاقيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيرا ما وقع للمؤلفين والمفسرين وائمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها علي مجرد النقل غثا او سمينا، ولم يعرضوها علي اصولها ولا قاسوها باشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف علي طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الاخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط». وبعد ان يورد ابن خلدون شواهد عديدة علي هذه الاشتباهات يختم كلامه بتقرير يقول فيه: «فاذن يحتاج صاحب هذا الفن الي العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الامم والبقاع والاعصار في السير والاخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الاحوال والاحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق او ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام علي اصول الدول والملل ومبادي‌ء ظهورها. واسباب حدوثها ودواعي كونها واحوال القائمين بها واخبارهم، حتي يكون مستوعب الاسباب كل حادث واقفا علي اصول كل خبر. وحينئذ يعرض خبر المنقول علي ما عنده في القواعد والاصول فان وافقها وجري علي مقتضاها كان صحيحا والا زيفه واستغني عنه. وما استكبر القدماء علم التاريخ الا لذلك حتي انتحله الطبري والبخاري وابن اسحاق من قبلهما وامثالهم من علماء الامة، وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه». وبهذا انفتح امام المحققين باب واسع من ابواب التاريخ واصبحت المادة التاريخية برمتها موضعا للفحص والمناقشة ومعرفة صدقها او كذبها من طريق آخر غير تعديل الراوي اوجرحه. ولعل من الاسباب التي صرفت المؤرخينن المسلمين‌عن الاهتمام بهذا الجانب من النقد في وقت مبكر هو طبيعة الدوافع التي حفزتهم علي كتابة التاريخ. لقد كانت في اغلب الاحيان حوافز دينية بحيث يمكننا القول ان منا شي‌ء التاريخ الاسلامي كانت منا شي‌ء دينية، بل ان التاريخ كله قد ولجه المسلمون من باب الحديث. فكان المحدث هو الاخباري نفسه الي ان انفصلت الشخصيتان وصار الاخباري غير المحدث لكنه بقي ادني منه مرتبة واقل قدرا. كان (الاسناد) اي تتبع سلسلة الرواة هو موضع اهتمام المحدث والغاية التي ينشدها في جهده وعمله وحين يصح الحديث بتعديل رواته وتوثيق ضبطه وتحريره لايبقي الا العمل به وليس هناك من مسوغ لمناقشة المتن وتطبيق القواعد المعروفة عليه. وهذا ما اشار اليه ابن خلدون في مقدمته قائلا: «انما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الاخبار الشرعية لان معظمها تكاليف انشائية اوجب الشارع العمل بها (متي) حصل الظن بصدقها وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة العدالة والضبط. اما الاخبار عن والواقعات فلابد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة فلذلك وجب ان ينظر في امكان وقوعه وصار فيها ذلك اهم من التعديل ومقدما عليه اذ فائدة الانشاء مقتبسة منه فقط. وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة واذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الاخبار بالامكان والاستحالة ان ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران». وبذلك اصبح التاريخ الاسلامي جميعا حقبة حقبة بل واقعة واقعة موضعا للدراسة والتحقيق من هذا الجانب. وقد اجتذبت السيرة النبوية اكثر اهتمام الدارسين بهذا التاريخ وصارت محورا لعمل المحققين وميدانا لمجهودات متواصلة منذ عدة قرون حتي يومنا هذا. ورغم هذه الجهود ما زالت السيرة لنبوية بامس الحاجة الي الدراسات النقدية الجادة التي يمكنها الختراق الحجب والتاشير علي مواضع الخروق التي احدثتها اصابع الككذابين والقصاصين واهل الملل والنحل. والدراسة التي بايدينا هي من دراسات المجموعة الثانية غرضها التحقيق في الوقائع والتدقيق في صحة ما ينسب الي رسول اللّه (ص) من الناحية التاريخية بمعني ان موضع اهتمامها هو التاريخ فحسب فلم تدرس من السيرة الا ما كان تاريخا وما وقع منها في هذا المجري ولهذا كانت الحادثة موضع اهتمامها لا الحديث والواقعة النبوية لا القول النبوي. فهي ليست دراسة قهية في السيرة النبوية ولا كلامية ولاسياسية بل هي دراسة تاريخية حصرت اهتمامها بهذا الجانب فحسب وحين يكون للواقعة اكثر من وجه تاريخي وغيره آكحادثة الاسراء والمعراج، ووقعة الغرانيق وما الي ذلك، فاننا نجد المؤلف لم يبحث فيها الا بعدها التاريخي، اي مسالة وقوع هذه الحادثة وعدم وقوعها مع الكشف عن ملابسات ذلك الوقوع ويترك ما في الحادثة من قيمة اعجازية او مداليل آكلامية او تشريعية لمجالاتها الخاصة. وقد سعت الدراسة جاهدة لان تضع الامور في سياقها الطبيعي وترجع الظواهر الي اسبابها الحقيقة التي اخفت رؤوسها تحت السطح. ولم تنهج في اثبات ما ينسب للسيرة اوينفي عنها المنهج الكلاسيكي المعروف، من التدقيق في سند الواقعة وقضايا الجرح والتعديل، وما الي ذلك، بل انتجهت منهجا اجتماعيا نفسيا يركز علي تحيل الظروف والملابسات الاجتماعية والسياسية الشخصية التي اكتنفت تلك الواقعة والخروج من خلال هذه المقارنات بترجيح جانب علي آخرنفيا او اثباتا. وقد اكسبت المؤلف تجربته الطويلة في هذا الميدان قدرة جيدة علي تشخيص الظواهر وامدته بخبرة واسعة مكنته من سبر اغوار المجتمع الجاهلي ومجتمع صدر الاسلام ليغوص مع الاحداث التي تبرز علي السطح الي جذورها، فهو لايكتفي عادة بالوصف العام الذي لا يلامس حقيقة الاشياء ولايهتدي الي كنهها. وقد اختلط المؤلف له منهجا في هذه الدراسة اراد له ان يكون كما يبدو وسطا بين منهج بعض المؤرخين المسلمين المحدثين والمنهج الاستشراقي التشكيكي في دراسة التاريخ. فحاول ان يلتقط من الاول ايجابياته ويتجنب في الثاني مخاطره وسلبياته. وربما مال في بعض تحليلاته الي هذا الطرف او ذاك فقد اخذ علي المستشرقين مثلا نفيهم للجانب‌الغيبي في دراسة السيرة ونكرانهم لكل ما وراء المادة والحس. بينما لم يتفق مع بعض المسلمين في اعتبارهم السيرة النبوية ظاهرة سماوية‌حضة مقطوعة الصلة بالناحية البشرية وصيرورتها في الزمان والمكان. وجريا علي هذا المنهج بدا المؤلف دراسته بمقدمة تمهيدية درس فيها طبيعة المجتمع الجاهلي قبل الاسلام والعناصرالمؤثرة فيه والقيم والنظم التي كانت تحكمه وتؤثر فيه وخاصة النظام القبلي وما يترتب، وما يتصل به من اهتمام بالانساب وضبط لها باعتبارها الخيط الوحيد الذي يجمع اولئك الناس المنتشرين في صحراء مترامية الاطراف لا يوجد فيها استقرار دائم ولا وطن دائم ولا سلطان دائم. لقد ثابر المؤلف واجتهد في تحليل المجتمع الجاهلي وحاول ان يتعقب العناصر المؤثرة فيه الي ما بعد الاسلام ويكشف عن دورها فيما بعد في نشوب النزاعات وانشاء التحالفات في‌العصر الاسلامي، وقد مال المؤلف في بعض هذه الابحاث الي الجانب الثاني (اي المنهج الاستشراقي) مما جعله ينتهي الي نتائج لا نتفق معه فيها، اشرنا الي بعضها في الهامش بتعليقات مختصرة. لكن ذلك لا يضعف الدراسه ولا يقلل من‌اهمية الجهد المبذول فيها. واخيرا نتقدم بجزيل الشكر والامتنان الي مركز الغدير للدراسات الاسلامية الذي احتضن هذه الدراسة وعمل علي نشرها بعد ان مر علي نقلها الي العربية اكثر من اربع سنوات. داعين المولي جل شانه ان ياخذ بايدينا جميعا لما فيه خير امتناوخدمة ديننا الحنيف ونبيه الكريم (ص) و آخر دعوانا ان الحمدللّه رب العالمين. علي السيد هادي 18 جمادي الاخرة 1417 ه 30/10/1996 م بيروت لبنان.

المقدمة المولف

اتفق جماعة من الاخوة العلماء، علي تاليف سلسلة كتب في حياة الرسول (ص) والائمة المعصومين (ع) علي النحو الذي يلبي حاجات عصرنا الراهن، ويستجيب لطموحات المعاصرين الفكرية والنفسية، وقد تحمل كل واحد من هؤلاء الاخوة الكرام الكتابة في حياة واحد او اثنين من هؤلاء العظام، وعهدوا الي بالبحث في سيرة الرسول (ص) والكتابة في هذا الامر المهم، نظرا لمعرفتهم باشتغالي في تدريس تاريخ الاسلام وسيرة النبي الاكرم لعدة سنين في جامعة طهران. هذا وقد الفت كتب عديدة في سيرة الرسول (ص) يمكننا رغم تعددها وتنوعها تصنيفها الي مجموعتين رئيسيتين تنقسم كل واحدة منهما الي مجاميع اصغر. المجموعة الاولي: وهي الكتب التي صنفها المؤلفون المسلمون ابتدا من القرن الهجري الثاني الي يومنا هذا، وكان الهدف منها سد حاجة المسلمين وتلبية رغبتهم الشديدة في الاطلاع علي حياة الرسول. وكان من الطبيعي ان تزادالاضافات والاسقاطات التي تنسجم مع مذاهب المؤلفين كلما ابتعدنا عن عصر الرسول وكلما زادت العقائد وكثرت الفرق والنحل في العالم الاسلامي. وكلما اقتربنا من عصر الرسول (ص) كلما قل الحذف والاسقاط وكذلك الاضافات والزوائد المذهبية. اما التعصبات القومية والقبلية فستبقي تلقي بظلها الثقيل علي السيرة النبوية وتترك آثارها عليها. لقد انتقل ميدان المواجهة بين قبائل جنوب الجزيرة وشمالها من السهول والصحرا والمدن الي الشعر والحديث والتاريخ والقصة، وقد ظهرت آثار هذه النزاعات وامثالها حتي علي كتب السيرة. المجموعة الثانية: وهي الكتب التي صنفها المؤلفون الاوروبيون او الاجانب غير المسلمين، بشكل عام. وكان الغرض منها كذلك تلبية رغبة اقوامهم واهل ديانتهم في الاطلاع علي حياة رجل ربما يكون قد ترك اكبر الاثر في التاريخ. اليهود المتعصبين، الذين يعتبرون نبي الاسلام (ص) ذلك الانسان الذي وجه الي دينهم اقوي الضربات، والحق به اعظم الاضرار، فلا يسعهم والحالة هذه ان ينظروا اليه نظرة محايدة خالية من الخصومة، فحرفوا الوقائع والاحداث بالصورة التي تخدمهم وتضر بالاسلام. وقد تعرض ايمان المفكرين والمؤرخين المؤمنين بالكنيسة والقائمين عليها الي هزة عنيفة منذ القرن التاسع عشر فما بعدنتيجة لظهور افكار عصر النهضة منذ القرن الثامن عشر، ونال‌الكتاب قدرا اكثر من الحرية، ولم يعودوا مجبرين علي متابعة اصحاب الكنيسة، اضف الي ذلك نفوذ الروح العلمية والتحقيقية في طريقة كتابة التاريخ، فقد تبدلت طريقة ولهجة كتاب تاريخ الاسلام وسيرة الرسول (ص) في اوروبا، وآلت بالتدريج الي النقد العلمي للمصادر وابدا وجهات النظر المحايدة والمجردة عن العصبية الدينية والقومية بدلا عن النهج السابق، وبذلت المساعي للتحقيق في حياة نبي الاسلام (ص) وسيرته بنفس القدر المبذول للتحقيق في سيرة موسي وعيسي (ع) وكنفوسيوس وزرادشت وامثالهم. ورغم ان التحقيق العلمي في المصادر والوثائق والروايات المرتبطة بتاريخ صدر الاسلام اعط‌ي نتائج مهمة نسبيا من وجهة نظر كتابة التاريخ، وطرح جانبا اكثر آرا مصادر تاريخ الاسلام المتحيزة والناجمة عن العصبية، فقد برز خطر آخر في هذا النوع من الكتابة قتل بصيص الامل الذي اوجده النفس التحقيقي غير المنحاز، وابدله الي حالة من الياس، ولم يكن ذلك في تاريخ الاسلام فحسب بل ظهر بنفس الشدة بل اكثروا خطر في تاريخ الاديان والمذاهب الاخري. لم يكن هؤلاء الكتاب ينظرون الي الدين باعتباره شيئا فوق الطبيعة، انما تعاملوا معه تعاملهم مع سائر الشؤون الاجتماعية، ولم يكن ثمة فرق في نظرهم بين الدين وباقي الامور والظواهر الاجتماعية، والتحقيق في تاريخ وظهور الاديان لديهم كالتحقيق في تاريخ السياسة والاقتصاد والشؤون الحربية وتغلب بعض الاقوام والدول علي بعض، ولذلك صار الدين‌عندهم امرا دنيويا. وان خطر تحول الدين الي امر دنيوي من شانه ان يزعزع ايمان وعقيدة اولئك المشتاقين المتطلعين الي معرفة سير العظام من اصحاب الرسالات وتاريخ ظهور الاديان، وهذا هو خطر «تدوين التاريخ» الذي يري ان معرفة كل شي‌ء يجري في اطار التاريخ ومن خلال تطوره، ولا يقيم اية اهمية «للصورة» و «الماهية» و «المثال»، وهكذا يصبح الدين امرا طبيعيا ناشئا عن غريزة الخوف او المصالح الاخلاقية او العامل الاقتصادي او ما شابه ذلك، لان تاريخ تطور كل شي‌ء يجري في اطار الطبيعة، وتنطوي «الكتابة التاريخية» و «انباء التاريخ» علي خطر اهم، ذلك هو خطر الوقوع في النسبية ونسبية الامور وخصوصا الاخلاقيات، فبموجب هذه النظرة يجب ان تكون حقيقة الامور متحققة في تطورها ونموها، اذن ليست هناك حقيقة مطلقة كتلك التي يذهب اليها اصحاب الاديان ويدعون لها، كما لا توجد قيم اخلاقية مطلقة، كل شي‌ء مرتبط بطبيعته السياسية غير الثابتة، وله في كل حالة وآن حقيقة تختلف عن الحالات السابقة واللاحقة لها. ولكن اثبتت الهزات والاضطرابات والتحولات الاجتماعية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ان عدم الايمان بحقائق مسلمة وثابتة وغير قابلة للتغير، لا يسلب المجتمعات البشرية قدرتها علي تحسين اوضاعها الاجتماعية والاخلاقية فحسب بل ويجعل العلائق الاجتماعية والاخلاقية في حالة مؤسفة من الضعف والانحلال، ومهما كانت القوانين الوضعية صارمة وشاملة ومهما بذل من جهد لتطبيقها لا يمكنها ان تحل محل قوانين الاديان الابدية الحاكمة علي القلوب والمهيمنة علي اعماق نفوس البشر، ففي بناء المجتمعات تكون القوانين الوضعية كالقوانين والقواعد الهندسية التي يستخدمها المهندسون والمعماريون في تشييد المباني. فلو فقدت المواد الانشائية اللازمة واريد اقامة مبني طبقا للقوانين الهندسية من الورق والمقوي مثلا، فقد يبدو مثل هذا المبني جميلا ومستقرا من الخارج، ولكنه سرعان ما ينهار عند تعرضه لابسط هزة، كما هي عليه الان المجتمعات التي بلغت قمة الرفاه الاقتصادي والتي يجري فيها تطبيق القوانين الوضعية بشدة وصرامة، نجدها تعيش الفساد الاخلاقي والاجتماعي اكثر من اي مكان وزمان آخرين. اذا لا يمكن النظر الي الدين علي انه مجرد ظاهرة تاريخية، ولا يمكن قراته من خلال التطورات والتحولات التاريخية الصرفة، فالنظرة التاريخية الي الدين شي‌ء لازم لكنه غير كاف، فاذا ما حاولنا متابعة ظهور وانتشار دين ما علي ضوء الموازين التاريخية المتاحة، فيجب ان يتم ذلك من خلال الانتباه الي كمال «الصورة» و «المثال» وخلودهما، فهما الحاكمان علي تلك التطورات والتحولات والملازمان للدين في جميع مراحله، وهما اللذان يحفظانه من السقوط في حضيض النسبية، بل يجب ان نعتبر ذلك اصلا، اما مراحل التطور والتحول والمجريات التاريخية فهي فرع. يقول الشاعر الايراني مولوي: انك لتري صورة القمر والنجوم مستقرة علي ماء يجري باستمرار [1] .ان الامور الطبيعية في عالم الطبيعة والامور الانسانية ومنها التاريخ، انما هي بناء- علي طبيعتها الزمانية- دائما في حالة حركة وتجدد وسيلان، وهذا من الامور المسلمة تقريبا لدي الجميع باستثناء اولئك الذين ينكرون الحركة، اما الامور غير المادية وغير الطبيعية فهي ليست في معرض الكون والفساد، وليس لها صيرورة، بل ان وجودها ثابت ومتحقق من الاول ولاتخضع للحركة والتغيير، واثبات ذلك من شؤون العلم الالهي وما ورا الطبيعة، ونحن نبحثه هنا علي انه من الامور المسلمة او باعتباره اصلا موضوعيا ثابتا. كذلك الذات الالهية المنزهة عن المادة والتركيب والحاكمة علي الكون والمهيمنة عليه، هي الاخري ابدية لا تتغير، وكذلك القوانين الالهية الحاكمة علي العالم والهادية له بحكم اللّه، هي الاءخري ابدية لا تتغير، ومن هذه القوانين قانون الحركة والسيلان وتطور الامور الطبيعية الذي هو ثابت وابدي. فقانون التطور الذي يبين تطور الموجودات وتغيرها الدائم هو نفسه ثابت وابدي من ناحية انتسابه الي ما ورا الطبيعة و ذات‌الباري. ان الاديان الالهية ابدية وازلية وثابتة كقانون الحركة والتكامل من ناحية انتسابها الي ذات الباري تعالي، اما من ناحية وجودها في عالم الطبيعة وفي المجتمعات الانسانية فانها تابعة الي قوانين الطبيعة ومنقادة للحركة والاستمرارية والتطور. ولا بد لمن يؤرخ للاديان الالهية ان ياخذ بنظر الاعتبار كلا الجانبين الطبيعي والالهي، فهو في اطار الطبيعة والمجتمعات الانسانية مشمول بقوانين الزمن والتاريخ والحركة، ومن جهة‌كونه الهيا وكونه فوق الطبيعة ثابت وازلي، هذا هو سر التطابق والتوافق بين الاية الشريفة (ان الدين عند اللّه الاسلام) «آل‌عمران: 19». الناظرة الي الجانب الالهي الخالد، والاية الشريفة (اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي) «المائدة: 3». الناظرة الي سير الدين في مجري الطبيعة والتاريخ. ولكن ينبغي الانتباه الي ان تلك سنة الهية، والسنة الالهية غير قابلة للتغيير والتبدل، فكل شي‌ء في عالم الطبيعة ومنها التاريخ يجري طبقا للاسباب والمسببات القانونية، اي‌العلة والمعلول. كل شي‌ء في الطبيعة- بناء علي ارادة اللّه الازلية- مقهور للطبيعة ومحكوم لاحكام تلك السنة، لكن لايمكن للنظرة المتفحصة الا ان تلمح اليد الخفية الغيبية والمشيئة الالهية في سير هذه الاحداث الطبيعية وضمن هذا التسلسل من العلل والمعلولات. واخيرا فانه لا بد للمؤرخ والمحقق من عينين ينظر باحديهما الي عالم الغيب والارادة الالهية، وبالأخري الي عالم الحس وعالم الطبيعة ويري فيها اسبابه ولوازمه، ينبغي ان يتمتع بالنظرتين ولا يكون احادي النظرة والاتجاه. فرغم ايماننا حين نستعرض احوال النبي الاكرم (ص) بانه مبعوث من قبل اللّه سبحانه وتعالي وانه هادي البشرية، وان دينه اكمل الاديان، وهو خاتم الانبياء، وان رسالته فوق الزمان والمكان، ومصونة عن التغيير والتبدل، ولكننا لا نملك الا ان نتابع سير الاحداث التاريخية وفقا لما يجري في الطبيعة وعالم المادة، فنبي الاسلام (ص) كاي بشر آخر ولد من اب وام، ثم‌كبر وتزوج، واخيرا ارتحل عن هذه الدنيا. فالولادة والموت، والرشد والبلوغ، والشباب والشيخوخة، انما هي امور حتمية يواجهها كل كائن حي، ولا يوجد في حياته (ص) من هذه الناحية امر معجز خارق للعادة، واذا ما حكمنا عليه (ص) من خلال التاريخ فيجب ان تنسب الاءمور الخارقة للعادة والمعجزات والكرامات الي الجانب الالهي فيه، ونتحدث في ذلك علي ضوء معتقداتنا. واذا ما سكت التاريخ عن هذه الناحية، فلا نبدل سكوته هذا الي نعي وانكار ونؤكد في باب المعجزة علي معجزته التاريخية فقط، وهي القرآن الكريم الذي ثبت انه ابدي، ولا يستطيع احد ان ياتي بمثله، وقد انجزاللّه وعده وتعهد بحفظه من اي تغيير او تبديل طيلة الاربعة عشر قرنا الماضية، وسيبقي الي الابد. وفضلا عن هذا، فان اي امر معجز نسب اليه، له وجهان وجانبان كوجهي العملة الواحدة، لا يمكن فصلهما، احدهما الهي غيبي، فنحن علي يقين ان لا شي‌ء يخرج عن ارادته سبحانه وتعالي، ومهما بدا الامر مستحيلا في عالم الطبيعة، فانه خارج عالم الطبيعة امر ممكن وقابل للتصور. والجانب الاخر هو الجانب الطبيعي الذي نعتقد في حدوده ان جميع ماينسب الي الانبياء (ع) من معاجز وامور خارقة للعادة قابلة للتعليل والتفسير من ناحية عالم المادة والطبيعة، واذا ما ظهرعجز في تحليلها وتعليلها فان ذلك عائد الي عجزنا نحن، وما اكثر الامور الطبيعية في هذا العالم التي ما زالت عقول البشرعاجزة عن ادراك كنهها وتفسيرها! وسنسعي مع ذلك الي توجيه تلك المسائل بما تتيحه لنامداليل الايات والاخبار الشريفة، وبما لا يذهب بنا بعيدا عن الذوق والسليقة، توجيها لا يتنافي وقوانين الطبيعة الظاهرة المانوسة لدينا. وهذه التوجيهات التي ستطرح في مناسباتها من الوقائع التاريخية وحوادث حياة الرسول (ص) لا تعني خوضنا في المسائل الكلامية والاعتقادية، فنبحث مثلا بمناسبة الاسرا والمعراج مسالة المعراج الجسماني والروحاني، فهذه الأمور وامثالها من مسائل علم الكلام الاسلامي، ولا صلة لها بالتاريخ. ولانها ذكرت في سيرة الرسول (ص) فسنضطر الي‌استعراضها بالقدر الذي تدعو الحاجة اليه، وسيكون ذلك في نطاق سيرة الرسول (ص) والتاريخ، وسنصرف النظر عن المعجزات التي نسبت اليه (ص) والتي لا صلة لها بحادثة او واقعة تاريخية معينة، اذ تنعدم هنا العلاقة بالتاريخ وتدخل المسالة في مباحث علم الكلام ومسالة اثبات النبوة الخاصة.

القرآن و سيرة الرسول

لا يمكننا قول شي‌ء فيما يخص القرآن الكريم، فوق ما يقوله القرآن نفسه، وهذه الاية الشريفة التي تقول: (ذلك الكتاب لاريب فيه هدي للمتقين) «البقرة: 2» هي بيان لصفتين مهمتين في القرآن الكريم: كونه قطعيا، وكونه هاديا، وتعني قطعيته بالنسبة للمسلمين شيئين، احدهما: صدوره القطعي من قبل اللّه تعالي، والاخر: ان جميع آيات هذا الكتاب العظيم سمعت بلسان عربي مبين نطق بها الرسول (ص)، وحفظت بدقة وحرص متواصل طيلة اربعة عشر قرنا، وستبقي هكذا محفوظة علي مر العصور وتعاقب الايام، وما نقصده بهذا الحديث ان القرآن الكريم من اوثق الوثائق الباقية عن الرسول (ص) واكثرها يقينية. واذا ما تردد البعض من غير المسلمين في قطعية صدور القرآن الكريم عن اللّه سبحانه وتعالي، فانهم لا يترددون بصدور كلماته وآياته عن الرسول (ص) نفسه، ولا قيمة لتردد قلة معدودة في هذا المجال، وربما سنتعرض لهذا الموضوع في مباحث قادمة بصورة استدلالية اكثر تفصيلا. وكون القرآن قطعي الصدور عن الرسول (ص) (اي مع قطع النظر عن كونه وحيا الهيا) فان ذلك وحده يجعله وثيقة لها قيمة تاريخية خاصة بالنسبة لحياة الرسول (ص). اما ما يمكن استخلاصه بشكل واضح من الاية الشريفة، ان القرآن الكريم بلحاظ الموضوع كتاب هداية وارشاد وليس شيئا آخر، وما نجده من كثرة الايات التي تتحدث عن حياة الانبياء امثال: يوسف وموسي ونوح وابراهيم وعيسي عليهم السلام، او التي تتحدث عن مصير بعض الاقوام من قبيل عاد وثمود وقوم لوط وامثالهم، انما هي متعلقة بالدرجة الأولي بموضوع الهداية والتوجيه، وهكذا الايات التي تتحدث عن سيرة الرسول (ص) وشؤون حياته وما واجهه من احداث وتطورات في اثنائها هي الاءخري تتعلق بموضوع الهداية قبل اي شي‌ء آخر، ويتضح هذا المعني عند ادني تامل فيها. ولكن ذلك لا يمنع من ان تكون تلك الايات بمثابة وثيقة قطعية يستند اليها كتاب السيرة لمعرفة حياة الرسول (ص) والاحداث التي حفلت بها حياته الشريفة. وبذلك يكون القرآن الكريم اعظم الوثائق التاريخية اتقانا، واكثرها قطعية بالنسبة الي بعض ما حدث للرسول (ص) اثناء حياته، وهو يؤيد ما ورد حول حياته (ص) في المصادر الأخري. ولكن نظرا لان مسالة الهداية هي الموضوع الاساسي لهذه الايات، فانها لم تات في القرآن الكريم بنظم وترتيب تاريخي، بل جاءت في مواضع ومناسبات اخري يرتبط اكثرها بالهدف الاساسي للقرآن الكريم. مصادر سيرة الرسول (ص): بدا تدوين سيرة الرسول (ص) في الوقت الذي اصبحت الحاجة اليها محسوسة، وقد استشعر الناس بهذه الحاجة عندما فقدوا تدريجيا عددا كبيرا من الصحابة (ص) الذين كانوا شهودا علي احداث كبري في حياته، وكان المسلمون، من غيرالعرب واهل البلاد المفتوحة، يستشعرون عظمة الدين‌الجديد بعمق ويتوقون لمعرفة احوال صاحب الرسالة (ص)، فقد كان اهل المدن الاسلامية الكبري من الكوفة والبصرة ودمشق ومصر والري في اتم الشوق واللهفة لمعرفة وقائع ايام الرسول (ص) وصدر الاسلام، وقد اصبح العدد المحدود من اصحاب الرسول (ص) الذين ما زالوا علي قيد الحياة مرجعا اوليا ومصدرا اساسيا يرجع اليه في هذا المجال، ثم اخذ المحيطون بهم والراوون عنهم والذين اطلق عليهم (التابعون)، يحتلون نفس الموقع تدريجيا. وكانت مرجعية التابعين من اولاد الصحابة في المدينة، سيما اولاد المهاجرين الذين هم اقرب الناس اليه (ص)، اكثر وضوحا من غيرها، وتتاكد هذه المرجعية اكثر حين يكون لدي التابعي نفسه شوق ورغبة في الاطلاع علي حياة الرسول ووقائع صدر الاسلام، وتذكر كتب السيرة والحديث علمين بارزين من التابعين هما: ابان بن عثمان بن عفان، ابن الخليفة الثالث والمتوفي عام (81 او 105ه) والاخر ابو عبداللّه (عروة بن الزبير بن العوام الاسدي) المتوفي عام (91 ه) وابوه من اشهر اصحاب الرسول (ص)، ولكن لاسباب سياسية كما يبدو لم يمض العمل بتدوين سيرة الرسول (ص) ايام الامويين الا ببط‌ء، ولم تسمح المصالح والمطامع السياسية لهذا العمل ان يتقدم رغم شوق الناس وتعطشهم الشديد اليه. والسبب في ذلك هو ان بني امية كان اكثرهم من اعدا الدعوة الاسلامية ايام انطلاقتها الاولي، وعلي راسهم زعيم هذه العائلة ابو سفيان، الذي كان من الد اعدا الرسول (ص)، وهو الذي قاد معارك كفار قريش ضد المسلمين، ولم يسلم هو وابناؤه وعدد آخر من بني امية الا في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكة. فكتابة تاريخ الاسلام وتدوين حياة الرسول (ص) واستعراض فتوحاته، التي كان خصمه الرئيسي فيها وعدو الاسلام الاول بني امية واجداد الخلفاء الامويين وعشيرتهم، ان تاريخا كهذا لا يسر هذا البطن الا اذا حرف كثير من الاحداث والوقائع بالشكل الذي يخدم مصالح بني امية. هذا وقد كان اهل المدينة (اي الانصار) قد اوقعوا بالمكيين والقرشيين، وخصوصا بني امية، ضربات قوية، ولم يقفوا الي جانب عثمان بن عفان الأموي في الثورة التي آلت الي قتله، فمن الطبيعي في مثل هذه الحالة ان تكون ثمار تدوين سيرة الرسول (ص) لصالح الانصار، وهذا ما لا يسع خلفاء بني امية قبوله. ومن جانب آخر كان بنو هاشم، وهم اسرة الرسول (ص)، قد بذلوا التضحيات الجسام في تلك المعارك، وابروا من الشجاعة والاقدام شيئا عجيبا، وكان اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (ع) قد قتل جماعة من رؤوس بني امية في معركة بدر، في الوقت الذي كان خصمه الرئيسي ومدعي الخلافة من بني امية هو معاوية بن ابي سفيان. فلا يمكن لبني امية ان يرتضوا تدوين تاريخ، يحتل اعداؤهم موقع الصدارة فيه دفاعا عن الاسلام وتاييدا له، ويحتل اجدادهم موقع الاعدا الالدا للاسلام ودعوته، اللهم الا ان يكتب تاريخ ليس فيه ذكر لاعمال بني امية، ولا اشارة لمعاداتهم الشديدة للاسلام. وهناك من الشواهد التي في ايدينا ما يؤكد هذا الامر بل يجعله اقرب الي اليقين. احد هذه الشواهد رواية ينقلها الزبير بن بكار في الموفقيات، [2] جاء فيها: «قدم علينا سليمان بن عبدالملك، [3] حاجا سنة اثنتين وثمانين، وهو ولي عهد، فمربالمدينة، فدخل عليه الناس، فسلموا عليه، وركب الي مشاهد النبي (ص) التي صلي فيها، وحيث اصيب اصحابه بأحد، ومعه ابان بن عثمان وعمر بن عثمان، وابو بكر بن عبداللّه بن ابي احمد، فاتوا به قباء، ومسجد الفضيخ، ومشربة ام ابراهيم، واحد، وكل ذلك يسالهم، ويخبرونه عما كان، ثم امر ابان بن‌عثمان ان يكتب سيرة النبي صلي اللّه عليه وآله وسلم ومغازيه، فقال ابان: هي عندي قد اخذتها مصححة ممن اثق به، فامر بنسخها، والقي فيها «الي عشرة من الكتاب، فكتبوها في رق، فلما صارت اليه نظر فاذا فيها ذكر الانصار في العقبتين، وذكر الانصار في بدر، فقال: ما كنت اري لهؤلاء القوم هذا الفضل، فاما ان يكون اهل بيتي غمصوا عليهم، واما ان لايكونوا كذلك. فقال ابان بن عثمان: ايها الامير، لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم من خذلانه، ان القول بالحق، هم علي ما وصفنا لك في كتابنا هذا. قال: ما حاجتي الي ان انسخ ذاك حتي اذكره لامير المؤمنين، لعله يخالفه، فامر بذلك الكتاب فحرق. وقال: اسال امير المؤمنين اذا رجعت، فان يوافقه، فما ايسر نسخه! فرجع سليمان بن عبد الملك فاخبر اباه بالذي كان من قول ابان، فقال عبد الملك: وما حاجتك ان تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل، تعرف اهل الشام امورا لا نريد ان يعرفوها. قال سليمان: فلذلك يا امير المؤمنين، امرت بتخريق ما كنت نسخته حتي استطلع راي امير المؤمنين. فصوب رايه. وكان عبد الملك يثقل عليه ذلك، ثم ان سليمان جلس مع قبيصة بن ذؤيب، فاخبره خبر ابان بن عثمان، وما نسخ من تلك الكتب، وما خالف امير المؤمنين فيها، فقال قبيصة: لولا ماكرهه امير المؤمنين، لكان من الحظ ان تعلمها وتعلمها ولدك واعقابهم، ان حظ امير المؤمنين فيها لوافر، ان اهل بيت اميرالمؤمنين لاكثر من شهد بدرا، فشهدها من بني عبد شمس ستة عشر رجلا من انفسهم وحلفائهم ومواليهم، وحليف القوم منهم، ومولي القوم منهم، وتوفي رسول اللّه (ص) وعماله من بني امية اربعة: عتاب بن اسيد علي مكة، وابان بن سعيد علي البحرين، وخالد بن سعيد علي اليمن، وابو سفيان بن حرب علي نجران، عاملا لرسول اللّه (ص) ولكني رايت اميرالمؤمنين كره من ذلك شيئا، فما كره فلا تخالفه. ثم قال قبيصة: لقد رايتني وهو يعني عبد الملك وعدة من ابناء المهاجرين، مالنا علم غير ذلك حتي احكمناه، ثم نظرنا بعد في الحلال والحرام. فقال سليمان: يا ابا اسحاق، الا تخبرني عن هذا البغض من‌امير المؤمنين واهل بيته لهذا الحي من الانصار وحرمانهم اياهم، لم كانا؟، فقال: يا ابن اخي، اول من احدث ذلك معاوية بن ابي سفيان، ثم احدثه ابو عبد الملك، ثم احدثه ابوك. فقال:علام ذلك؟ قال: فواللّه ما اريد به الا لاعلمه واعرفه. فقال: لانهم قتلوا قوما من قومهم، وما كان من خذلانهم عثمان رضي اللّه عنهم فحقدوا عليهم، وتوارثوا ذلك الحقد، وكنت احب لامير المؤمنين ان يكون علي غير ذلك لهم، وان اخرج من مالي، فكلمه. فقال سليمان: افعل واللّه. فكلمه وقبيصة حاضر، فاخبره قبيصة بما كان من محاورتهم. فقال عبد الملك: واللّه ما اقدر علي غير ذلك، فدعونا من ذكرهم، فاسكت القوم». وتتضمن الرواية المذكورة، التي نكاد نطمئن الي صحتها، نقاطا مهمة، الاءولي: رغبة الجيل الثالث بعد الرسول في الاطلاع علي سيرته (ص). والثانية: ان هذه السيرة قد دونت منذ القدم، فاخذها ابان بن عثمان وهو من التابعين عن احد الثقات وربما كان من اصحاب رسول اللّه (ص). وعلي هذا يمكننا القول ان هناك من بين الصحابة من كان يدون احداث ذلك العصر، ويؤيد ذلك خبر مروي عن عبداللّه بن عمر بن العاص انه كان يكتب كل ما يسمعه من الرسول (ص) في كتاب اطلق عليه (الصحيفة الصادقة) [4] ولا تدل الرواية علي تدوين الوقائع والاحداث بل تنص علي تدوين الحديث. والنقطة المهمة الأخري التي هي محل بحثنا ان بني امية كانوا يكرهون انتشار سيرة الرسول (ص) وتدوينها لاسباب سياسية اوعصبيات عشائرية، او بصورة اكثر تحديدا بسبب الاحداث الدامية التي وقعت بين الانصار وبني امية. وهناك روايات تتحدث عن ان عبد الملك بن مروان كان قدسال عروة بن الزبير كتبا بعض الاسئلة المتعلقة باحداث صدر الاسلام واجابه الاخير عليها. وربما كان يمكن اعتبار ذلك دليلا علي رغبة عبد الملك في الاطلاع علي سيرة النبي (ص) لو كان ما سال عنه عبد الملك ذا قيمة واهمية او من المسائل الحساسة كفضائل بني هاشم ومناقب الانصار، انما كانت حول مسائل اخري من قبيل خروج ابي سفيان لمعركة بدر، او وقائع معركة خالد بن الوليد في فتح مكة وغير ذلك. ومن ضمن الروايات التي تحكي معارضة بني امية لتدوين السيرة، خبر جاءنا عن خالد بن عبداللّه القسري، حاكم العراقين في عهد هشام بن عبد الملك، والمقتول في السجن عام 135 او 136 ه، حيث يقول الخبر الذي اورده صاحب الاغاني: ان خالد بن عبداللّه طلب من العالم والمحدث المشهور محمد بن شهاب الزهري ان يكتب له السيرة، فقال له: فانه يمر بي الشي‌ء من سير علي بن ابي طالب صلوات اللّهعليه اذكره؟ فقال: لا، الا ان تراه في قعر الجحيم. [5] وكان‌خالد واليا من قبل هشام بن عبد الملك، ورغم وجود الصفات الجيدة من السخاء والفصاحة الا انه كان رجلا بخيلا ومتهمافي دينه، وبالفساد وخصوصا الفساد الاخلاقي، حيث نقل عنه‌في شبابه انه: كان في حداثته يتخنث ويتتبع المغنين والمخنثين متهما ويمشي بين عمر بن ابيربيعة وبين النساء في رسائلهن اليه [6] .رغم هذا كله لم يستطع بنو امية الوقوف امام رغبة الناس وشوقهم في الاطلاع علي السيرة، فشرعت شخصيات عظيمة وعلماء كبار، امثال: ابن شهاب الزهري، وابو الاسود، وموسي بن عقبة، ومحمد بن اسحاق، وابو معشر السندي بتاليف وتدوين سيرة الرسول (ص). ومن اهم تلك الاثار، التي وصلت الينا واشملها: سيرة محمد بن اسحاق بتلخيص ابي محمد عبدالملك بن هشام الحميري النحوي المتوفي (218 او 213 ه) كما انها تعتبر اقدم واوثق كتاب حول الرسول (ص). ومصادرنا الاساسية في كتابنا هذا، اولا: ذلك التلخيص (اي تلخيص ابن هشام) المعروف بسيرة ابن هشام، وثانيا: تاريخ الطبري، الذي ينقل سيرة ابن اسحاق بطرق اخري (اي عن رواة آخرين نقلوا عن محمد بن اسحاق، امثال سلمة بن‌الفضل، ويونس بن بكير. والثالث: سيرة ابن اسحاق عن نسخة القرويين، وهي النسخة التي وجدت في مكتبة القرويين في مدينة فاس المغربية، وبتحقيق محمد حميد اللّه عام 1979 م، وقد طبعت في المغرب، ونسخة القرويين برواية يونس بن بكير. ومن مصادرنا الاءخري: كتاب (المغازي) لمحمد بن‌عمر الواقدي (طبعة لندن، 1966) وطبقات ابن سعد كاتب الواقدي (منشورات زاخاو، برلين) وكتاب (انساب الاشراف) للبلاذري (ج‌1)، وكتب اخري سنشير اليها اثناء البحث.

الجزيرة العربية قبل الاسلام

اشاره

لم يكتشف تاريخ شبه الجزيرة العربية بشكل علمي الا في‌القرن التاسع عشر، ففي هذا القرن توغل السياح وعلماء الاثارفي الصحرا العربية، و عثروا علي كثير من الاثار والمجسمات القديمة التي وجدوها موزعة في الاجزا الماهولة منها، وخاصة في القسم الجنوبي الغني جدا بتلك الاثار. واستطاعوا بعد جهود مضنية قراتها وتحليل النقوش التي كانت عليها والخروج بنتائج علمية قيمة، ازاحت الستار عن تاريخ قديم، ولولا هذه الدراسات لكانت تلك الاثار ترقد في باطن الارض حتي هذه‌اللحظة. وطبقا لهذه الحفريات ثبت ان هناك حضارات مهمة نمت وترعرعت فوق هذه الارض قبل مولد المسيح (ع)، وخضعت لملوك وحكومات متعددة فرضت سيطرتها علي هذه البلاد، ولسنا الان بصدد هذا البحث الذي يشكل اليوم قسما مستقلا في الدراسات الشرقية، ذلك ان تلك الحضارة كانت قد زالت وانتهي امرها قبل مولد الرسول (ص) في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، وكان الناس قد نسوا لغتهم وكتابتهم القديمة حتي ان الخط الحميري ما كان يقرا الامن قبل علماء معدودين في ذلك العصر وبصعوبة بالغة. وقد وجدت اللغة العربية المتداولة حاليا، والتي نزل بها القرآن الكريم علي صدر الرسول (ص)، رواجا ملحوظا في القرن السادس الميلادي بين البدو والقبائل التي استوطنت القسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية، وظهر شعرا عرب نبغوا في نظم الشعر واظهروا ثرا اللغة العربية ونضجها وقدرتها علي حمل ثقافات وافكار غنية، وكانت هذه اللغة قد انتشرت حتي غطت شبه الجزيرة العربية من الشمال الي اقصي الجنوب. وقد رافق الانتشار اللغوي هذا انتشار للعادات والانماط الحياتية التي كان عليها اهل البادية واصحاب اللغة الاصليون، وسادت في الجنوب كما في الشمال النظم القبلية والاعراف العشائرية نفسها باستثناء بعض المدن في اليمن. وقد تزايد نفوذ هذا النظام القبلي حتي خضع له اهل المدر في مدن مكة والطائف ويثرب، واستحكم بهم تماما. ولا يمكننا فهم سيرة الرسول (ص) وادراك المعاني الحقيقية لمواقفه مع افراد قبيلته، ومعرفة العلاقات التي كانت تربط قريش بباقي القبائل، وكذلك تقييم حروب الرسول (ص) ومغازيه، الا بدراسة المجتمع العربي آنذاك والاحاطة باوضاعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ونقصد بهذه الاوضاع نظام‌القبائل العربية في ذلك الزمان الذي كان يحكم كما اشرنا سابقا شبه الجزيرة العربية باكملها تقريبا، ولهذا ستنتفي الحاجة لدراسة التاريخ القديم لشبه الجزيرة العربية وما سجله‌علماء التاريخ وخبرا الاثار عن تلك الادوار القديمة من تاريخ هذا الجزء من العالم.

النظام القبلي

القبيلة: وحدة اجتماعية يدعي افرادها انحدارهم من اب واحدحتي لو كان هذا الاب بعيدا جدا ويعيشون حياة اجتماعية واقتصادية مشتركة. والحياة الاقتصادية المشتركة، هي عبارة عن امتلاك مرعي ومرتع مشترك، والاشتراك في سوق القبائل المتنقل، وكذلك الانتقال، من مرعي الي مرعي ومن واحة الي اخري بصورة جماعية، اما الاشتراك في الحياة الاجتماعية فيتحقق من خلال طاعة رئيس القبيلة او شيخ العشيرة كما يطلق عليه في شبه جزيرة العرب، ومشاركة افراد القبيلة جميعا في الحروب والغزو والدفاع عنها، واخذ القصاص وتسلم الديات، ديات قتلي القبيلة من قبيلة القاتل، وكذلك دفع دية المقتول الي قبيلته، واتخاذ قرار التحالف مع القبائل الاخري، او بالعكس، اي الخروج من التحالف وفك عري الاتحاد، وغير ذلك من امور يشترك افراد القبيلة الواحدة فيها. ويتضح من هذا ان النظام القبلي من شؤون اهل البادية وسكان الصحرا، ولهذا فهو نمط من الحياة متقدم زمنيا علي نمط حياة المدن، ويعتبر هذا الاخير اعلي مرتبة منه، واكثر تعقيدا من ناحية التطور الاجتماعي. وتعتبر المسؤولية المشتركة لافراد القبيلة، في الدفاع عن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، من اهم خصائص النظام القبلي، وفيما اذا جفت الصحرا وعجزت مواردها عن تلبية حاجة القبيلة وتوفير مستلزماتها الغذائية والمعيشية فسيكون ابناء القبيلة جميعا امام مسؤولية مشتركة لغزو القبائل، بل القري والمدن المجاورة، لتامين الحياة الاقتصادية لجميع افراد القبيلة، وقد اورثت هذه المسؤولية المشتركة لافراد القبيلة، في‌الحروب الدفاعية والهجومية، حالة من الشجاعة والاقدام والجلد عند افراد القبائل لا يملكها اهل المدن بصورة عامة. فالحياة الاجتماعية المتطورة تستدعي تقسيم الاعمال بحيث تكون جماعة معينة مسؤولة عن توفير مستلزمات العيش، بينما تتحمل جماعة اخري قضايا الدفاع وحماية مصالح المجتمع. وكان هذا الاحساس المشترك بالدفاع عن المصالح الحيوية هوالمسؤول عن بروز سمة التعصب في المجتمع الجاهلي، وهي حالة من التضامن الوثيق بين افراد القبيلة الواحدة في الامور الاقتصادية والمعيشية، ما لبثت ان تحولت الي امر معنوي روحي كالشعور بالاعتزاز والفخر والشرف بالانتماء الي القبيلة، ولولا هذه المشاعر والاحاسيس، ما كان الانسان القبلي مؤهلا للتحرك والحضور الي ساحة الدفاع متي ما دعت الحاجة. ومن هنا صارت الشجاعة والتعصب والشرف ووالتفاخر بالوحدة القبلية، التي كانت تتشكل غالبا من المحافظة علي الانساب وعلي سمعة الاباء والاجداد من ان يمسها شي‌ء، صفاتا مشتركة لافراد القبائل البدوية بشكل عام، ولا تشاهد مثل هذه الصفات بين سكان المدن بصورة عامة، سيما مايخص الانساب والمحافظة علي اسماء الاباء والاجداد التي كانت غائبة في المدن الا عند الاشراف والاعيان، ولم يتقن اهل المدن فن معرفة القبائل والاحلاف التي تجمعهاوالتفرعات والافخاذ التي تنشا منها.

اهمية النسب داخل القبيلة

رغم الدور الاساسي الذي تلعبه العوامل الاقتصادية والاجتماعية في حفظ كيان القبيلة، يبقي للنسب مكانته الخاصة كمائز تمتاز به القبائل عن بعضها البعض، ويحدد لها شخصيتها الذاتية دون ان تختلط مع بعضها. لهذا كان ابناء القبائل يسعون جهدهم لحفظ اسماء آبائهم واجدادهم، وبذلك لا يحفظون نسبهم، اي هوية قبيلتهم، فحسب، بل ويستحضرون مفاخر القبيلة ومناقبها، ليستحثوا الهمم، ويزيدوا التعصب حدة وقوة. وكان سكان المدن لا يشعرون بالحاجة الملحة لمثل هذه الأمور، رغم حاجتهم الي عوامل الفخر والشرف لتحقيق الانجازات الاجتماعية المهمة، لكن ليس بتلك الشدة التي كان عليها اهل البادية، وكان عمر ينتقص من انباط العراق ويقول: ان هؤلاء ينسبون انفسهم الي قراهم ومحال سكنهم عندما يسالون عن اصلهم ونسبهم. وكان يوصي العرب بالمحافظة علي انسابهم لكي ينتسبوا اليها عندما يسالون عن‌اصلهم [7] .

حقيقة النسب

يقول ابن خلدون في مقدمته: ان النسب امر وهمي ليس له حقيقة، وتكمن اهميته في ربطه للاقارب بعضهم مع بعض وتعصبهم لبعضهم. [8] ولعل هذا القول ينطوي علي شي‌ء من المبالغة، لكنه لا يفتقر الي الحقيقة تماما، فمن خلال مطالعة علم الانساب لدي العرب نجد في التحالفات القبلية التي تنظم فيها القبائل الضعيفة الي القبائل القوية، ينسب اهل القبائل الضعيفة انفسهم الي القبائل القوية التي تحالفوا معها، الي ان يؤدي ذلك بمرور الزمن الي نسيان انتمائهم الي قبائلهم الاصلية، ولا يبقي امامهم سوي نسب واحد هو نسبهم الي القبيلة القوية، ويصدق نفس الامر في حالة الاستلحاق والجوز والولاء بالنسبة الي الافراد.

الحلف

كانت الاحلاف والمواثيق من الامور الشائعة جدا لدي العرب، فرضتها المتطلبات السياسية وضرورات حفظ الكيان القبلي من الزوال، حيث تتفق قبيلتان او اكثر بشكل كلي او في‌امور معينة علي ان يدافعا عن بعضهما، ويتحدا معاضد العدو المشترك، ويتم هذا الاتحاد في مراسم خاصة منها القسم اوالحلف، ولهذا سمي بالحلف او التحالف، او ما الي ذلك من الفاظ اشتقت من المعني نفسه، كما تجري مراسم اخري بهذه المناسبة سنشير الي بعضها ضمن الحديث عن حلف «المطيبين». ولهذه الاحلاف آثار كبيرة علي النسب كما اشرنا سابقا فغالبا ما ينتهي ابناء القبائل المتحالفة الي نسب واحد بمرور الزمن ويصيرون وكانهم ابناء قبيلة واحدة.

الجوار

من الاعراف التي كانت شائعة لدي العرب والتي فرضتها طبيعة الحياة الصحراوية والقبلية. فكان الفرد او القبيلة الضعيفان يلجاان الي من يجاورهما ويلوذان به خوفا من الافراد او القبائل الاقوي. فهما يطلبان الجوار، وفي حالة قبول لجوئهما او (جوارهما) من قبل الفرد او القبيلة (المجيرة) فسيعتبر الاعتدا علي هؤلاء بمثابة اعتدا علي الفرد او القبيلة المجيرة، ويحدث احيانا ان يسترد الجوار بطلب من المجيراو غيره، وكل من اعطاء الجوار او استرداده لا يتم الا باعلانه علي عامة القوم.

الولاء

وهو من العوامل المهمة في تعيين النسبة الي القبائل حتي اشتهرت بين العرب مقولة «الولاء لحمة كلحمة النسب». وكان الولاء علي عدة انواع، منها ولاء «العنق»، ويتحقق هذا فيما اذا اطلق شخص عبدا، فسينسب ذلك العبد المحرر الي عشيرة الشخص الذي حرره واطلقه، ويسمي مولي فلان «المحرر»، والمولي هو الشخص المتحرر. ولهذه الحالة احكامها الخاصة في الفقه في باب المواريث وغيرها. ويرتبط هذا (المولي) اوالشخص المتحرر بالقبيلة التي حررته وينتسب اليها، ولكن مع اضافة كلمة (بالولاء)، اي ان نسبته الي هذه القبيلة ولاء لاحقيقة، ويحصل الولاء ايضا من المعاشرة والحلف والتعاهد كما حدث ليهود يثرب مع قبيلتي الاوس والخزرج. وكان يطلق اسم الموالي علي غير العرب جميعا بعد الفتوحات الاسلامية، ولوحظ نوع من الاصرار الشديد علي ان يطلق اسم الموالي علي غير العرب خلال ايام الدولة الاموية. وينطوي التعبير بالموالي علي شي‌ء من الاستصغار والتحقير، فالمولي رغم انه اعلي في المرتبة الاجتماعية من العبد، الا انه‌ادني من المالك. وفي مقدمة ابن خلدون فصل «في ان البيت والشرف للموالي واهل الاصطناع انما هو بمواليهم لا بانسابهم»، يقول: «فشرف المولي منشق من شرف مواليه، وبناؤه من بنائهم، فلم ينفعه نسب ولادته»، ويروي في هذا الباب حديث عن الرسول (ص): «مولي القوم منهم».

الاستلحاق

والاستلحاق من الموارد التي يتم فيها الغاء النسب الاصل واكتساب نسب جديد مكانه، وذلك عندما يلحق شخص من عائلة او قوم معينين شخصا آخر بنفسه كابن له او اخ، ويدعي الشخص الذي يلحق نسبه بنسب آخر ب (الدعي) والجمع (ادعياء)، وسنري كيف ان زيد بن حارثة صار يدعي زيد بن محمد (ص)، وبهذا نزلت الاية (4) من سورة الاحزاب: (وماجعل ادعي‌آءكم ابناءكم ذلكم قولكم بافواهكم واللّه يقول الحق وهو يهدي السبيل). وهنا نهي صريح عن (التبني) اواتخاذ (البنوة). اما الاية التي تليها فتقول: (ادعوهم لابائهم هو اقسط عند اللّه فان لم تعلموا آباءهم فاخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما اخطاتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان اللّه غفورا رحيما) «الاحزاب: 5»، فبعد هذه الاية اصبح زيد يسمي باسم ابيه زيد بن حارثة. ولعل من المناسب ان نذكر الحادثة التي وقعت في خلافة معاوية، حيث قام معاوية باستلحاق زياد بن ابيه بنسبه، وخالف بذلك صريح الاية الشريفة السابقة، الدال علي ان الاب غير الشرعي ليس ابا في الاسلام، كما ان اثبات ذلك في الموارد المشكوكة من الأمور الصعبة جدا ان لم تكن المستحيلة.

الخلع

وبعكس الاستلحاق كان هناك الخلع عند العرب، حيث يتم التبري من الاشخاص الذين يرتكبون الجرائم والاعمال الشنيعة التي من شانها ان تلحق العار بعوائلهم وقبائلهم التي ينتسبون اليها، لذا تبادر القبيلة او الاب الي اعلان المتبرئة من ذلك الشخص علي الملا العام، وبعد ذلك تكون الجهة المتبرية غير مسؤولة عن الجرائم التي يرتكبها، وغير ملزمة في دفع الدية عن الخليع. ويسمي مثل هذا الشخص ب (الخليع)، ويحدث احيانا ان يتحد الخلعاء مع بعضهم في وسط البادية ليكونوا قوة تهدد الطرق والقوافل. كان قيس بن الحدادية من خلعاء العرب المشهورين، وهو من قبيلة خزاعة، وكان شجاعا وشاعرا، قام بقطع الطرق علي القوافل فطردته خزاعة وتخلت عنه، واعلنت ذلك في سوق عكاظ، وقالت: انها لن تكون بعد الان مسؤولة عن جرائمه، وقد وردت اخبار قيس بن الحدادية (حدادية بضم او كسر الحاء هو اسم امه) في كتاب الاغاني لابي الفرج الاصفهاني. [9] ومن بين الذين خلعوا من قبائلهم في عهد الاسلام يعلي الاحول الاردبي وهو شاعروقاطع طريق [10] .

اهمية انساب القبائل في تاريخ الاسلام

تؤكد الاية (13) من سورة الحجرات علي هذا الموضوع حيث تقول: (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند اللّه اتقاكم..). والدلالة الالتزامية لهذه الاية الشريفة هي رفض واستنكار العصبيات القبلية والخصومات العنصرية والتفاخر بالانساب، وكلها من الظواهر التي اشتهرت بها العرب، وبلغت حدا جعل القبائل العربية لاتعرف شيئا اسمه قوم او امة (العرب) ولم تكن تفهم معني للوطنية او القومية، وللقبيلة او الشعب احيانا، الذي هو اكبر منها (مجموعة من القبائل يجمعها نسب واحد) معني يشبه معني المدينة عند اليونانيين او معني الامة عند الكثير من شعوب العالم في القرون الحديثة. ويطلق علي اهل البادية «الاعراب» كما يطلق اللفظ نفسه بنوع من الاستخفاف علي البدو الرحل في الصحرا دلالة علي خشونتهم وجفاف اخلاقهم. وقد وردت كلمة (عربي) في اللغة العربية التي كانت لغة عامة القبائل، ونادرا ما كانت تستعمل كلمة (العرب) بالمعني نفسه الذي استعملت فيه بعد الاسلام، وقد وردت اشارة في (سورة الحجرات) الي الحرب التي نشبت بين طائفتين من المسلمين في المدينة (الاوس والخزرج) علي اثر عدا قبلي وتخاصم عشائري (تفسير الطبري في ذيل هذه الاية من سورة الحجرات). ولم يات الاسلام، وهو دين التوحيد، للقضاء علي التمييز القبلي فحسب، وانما جاء ليمحو التمييز العنصري بشكل عام، وان معني التوحيد في مراتبه الدنيا هو ايجاد الوحدة بين الناس تحت شعار الاسلام. ولم تسنح الفرصة امام هذه التعاليم الالهية السامية لتاخذ طريقها الي قلوب المسلمين بحيث تجعل مفهوم توحيد الناس والمساواة فيما بينهم، التي لم تزل هدف الانسانية المنشود، واقعا معاشا. وفي هذه السورة نفسها اي سورة الحجرات، توجد اشارة الي هذا المعني، فبعد ان تشجب الاية الشريفة النزاع والتفاخر القبلي تاتي الاية التالية لتقول: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في‌قلوبكم..) «الحجرات: 14» ويدل مجي‌ء هذه الاية بعد تلك الاية مباشرة علي ان المقصود بالايمان هو الايمان بهذا المبداعلي الصعيد الاجتماعي، اي الايمان بالمساواة ورفض التمايز القبلي والتفاخر بالانساب، وهذا ما لم يستقر بعد في قلوب العرب ووجدانهم. وفي الوقت الذي اختفت فيه المفاخرات النسبية والعداوات القبلية اثناء الفتوحات الاسلامية، نجد انها قد عادت بعد تفجر الحروب الداخلية ايام خلافة امير المؤمنين علي بن ابي‌طالب (ع)، واستفحلت في النصف الثاني من القرن الهجري الاول، فكانت من اهم الاسباب التي ادت الي سقوط الدولة الاموية. والي هذا السبب يعود الرواج الواضح لعلم الانساب في القرن الهجري الاول، حيث كانت التحالفات القبلية الكبري بامس الحاجة لمعرفة انسابها وشد الاواصر فيما بينها لتدافع عن كيانها وتقاوم اعداها، اضافة الي ان تاريخ شبه الجزيرة العربية قبل الاسلام يتلخص ككل في التنازع والتخاصم القبلي والتفاخر بالانساب، الامر الذي ادي الي تطور علم الانساب لتمييز القبائل المختلفة بعضها عن بعض. ورغم ان الحروب التي خاضها الرسول (ص) كانت بين‌الاسلام والكفر، وبين التوحيد والشرك، الا انها كانت في لباسها الدنيوي والمادي تتحول الي حرب بين القبائل، ففي الوقت الذي كان الرسول (ص) يقود المهاجرين في معركة بدر، كان ابو سفيان يقود كفار قريش، والاثنان كانا من قريش، الا انها كانت في واقعها حربا بين قريش من جانب وقبائل الاوس والخزرج من جانب آخر، فبعد معركة احد نجد شعرا قريش يتغنون بانتصارهم علي الاوس والخزرج، ويتفاخرون بذلك النصر. وفضلا عن هذا فان الاية الشريفة من سورة الحجرات، تذكران معرفة القبائل والطوائف والاطلاع علي انسابها انما هي من اجل تشخيص هوية الافراد، ولان التاريخ هو عبارة عن تاريخ الاحاد والافراد اذا ما قطعنا النظر عن جانبه العام والانتزاعي فلا يمكن معرفة هؤلاء الاشخاص والاحاد في التاريخ الاسلامي الا عن طريق الاحاطة بالقبائل والانساب، ومن هنا يمكن ادراك الاهمية الخاصة لمعرفة القبائل وانسابها في فهم التاريخ الاسلامي.

اقسام الطوائف

كانت القبيلة اشهر وحدة اجتماعية واكثرها شيوعا وتداولا في حياة العرب في الجزيرة العربية، ولا نجد تعريفا محددا لها اكثر من كونها اشتراك في النسب وطرق المعيشة والامور الاجتماعية الاءخري، فليس من المعروف او الواضح عدد العوائل او الافراد الذين تتكون منهم القبيلة الواحدة. وتوجد تقسيمات اخري اكبر من القبيلة او اصغر منها، تنقسم فيها القبيلة الي فروع متعددة، وهذه الأخري غير محددة في‌عدد العوائل او الافراد الذين تتكون منهم، واشهرهذه التقسيمات ما ذكره (النويري) في (نهاية الارب) [11] .حيث اعتبر (الجذم) و (الجماهير) و (الشعب) و (القبيلة) من الاقسام الكبري بينما الصغري عبارة عن (العمارة) و (البطن) و (الفخذ) و (العشيرة) و (الفصيلة) و (الرهط). واختلف ايضا في تحديد مصاديق هذه الاسماء، فبينما جرت العادة علي اعتبار قريش قبيلة مثلا، نجد علماء الانساب لا يوافقون علي ذلك بل يجعلونها عادة عمارة، اما القبائل فهي امثال: مضر، وربيعة، وبني مخزوم، وبني عبد مناف، او بني هاشم، اما بنو امية فهم بطن، ويعتبر العباسيون فصيلة، وكذلك الطالبيون، ويذكر النويري في نسب الرسول (ص) بني عدنان، ويقول: انهم «جذم»، ويطلق علي معد «جمهور»، وعلي نزار «شعب»، وعلي مضر «قبيلة»، وعلي خندف «عمارة»، وعلي كنانة «بطن»، وعلي قريش «فخذ» وعلي قصي «عشيرة»، وعلي عبدمناف «فصيلة» ويسمي بني هاشم «رهط».

اليماني والنزاري او القحطاني و العدناني

كانت القبائل في صدر الاسلام تنقسم الي شعبتين او شعبين كبيرين يماني ونزاري. وقد حدث ذلك بسبب ما ظهر من خصومات ونزعات قبلية بين مجموعتين من القبائل. وليس خافيا ان الخصومات القبلية كانت موجودة قبل الاسلام، وكانت في اغلبها خصومات وحروبا تنشا لعوامل اقتصادية اومعيشية او لاسباب ثارية، اما علي شكل خصومات شاملة بين ما يسمي باهل الجنوب واهل الشمال، او القحطانيين والعدنانيين، فهذا ما لم يلحظ قبل الاسلام. ويرجع اصل هذه المسالة الي هجرة القبائل من الجنوب او اليمن الي الشمال، فكانت القبائل التي هاجرت من الجنوب ووجدت لها مراتع شتوية هناك، قد احيت هذه المسالة التي كانت قد طرحت بصورتها العامة المبهمة، حيث ارجع الشماليون نسبهم الي نزار او معد او عدنان، واخيرا الي اسماعيل بن ابراهيم (ع)، ولهذا اصبح جميع هؤلاء يسمون فيما بعد بالعرب المستعربة (اي المتعربين)، فمن المعروف ان اسماعيل وابراهيم ليسا من‌العرب، وصار ابناء اسماعيل عربا بعد ان استوطنوا شبه‌الجزيرة العربية في جزئها الشمالي، وقد انتسبت قريش، التي كانت تستوطن مكة، الي نزار بن معد بن عدنان، ولهذا صاريطلق علي القرشيين (النزاريين) او (المعديين) او (العدنانيين)، اما سكان المدينة وهم في الغالب من قبيلتي الاوس والخزرج فهم يمانيون جاءوا من الجنوب. وحتي الخصومات التي حدثت بين قريش وقبيلتي الاوس والخزرج لم تكن موجودة قبل الاسلام، ولم ير لها اثر يذكر في الشعر الجاهلي، بعكس النزاع بين الاوس والخزرج داخل المدينة نفسها حيث كان قدبلغ الذروة قبيل الهجرة، وكاد ان يهدد الطرفين بالفناء. واكتسبت قبيلتا الاوس والخزرج اسما جديدا بعد هجرة الرسول (ص) الي المدينة، فصاروا يسمون ب «الانصار» اما الذين هاجروا من مكة الي المدينة فصاروا يدعون ب (المهاجرين). ولم يظهر في حياة الرسول (ص) خلاف واضح بين المهاجرين والانصار، اما بعد وفاته (ص) فقد احدثت مسالة الخلافة تنافسا شديدا بين المهاجرين والانصار، او بين قريش وقبيلتي الاوس والخزرج، ويمكن الاشارة هنا الي ظهور بعض الخصومات القديمة بين الاوس والخزرج انفسهم، التي انتهت لصالح قريش وحسمت الخلافة لها. وقد ساهمت الفتوحات الاسلامية وهجرة العرب الي بلدان‌اخري خارج شبه الجزيرة العربية واستقرارهم في مدن مثل الكوفة والبصرة، في تجميد الاختلافات واختفائها مؤقتا. حتي جاء الخليفة الثالث عثمان الاموي القرشي الذي قتل بيد الانصار (اهل المدينة)، فقد تحول هذا الحدث الي حجة رفعها معاوية لتحريك الناس، وتعبئتها للمطالبة بدم عثمان والانتقام من قتلته، وتبدلت هذه الخصومة بين الانصار (وهم من قبائل الجنوب او اليمن) من جانب والمطالبين بدم عثمان من جانب آخر الي خلاف بين عرب الجنوب وعرب الشمال او بين اليمانيين والنزاريين، هذا مع ان قيادة الطرفين المتخاصمين في معركة صفين كانت من قريش (امير المؤمنين ومعاوية)، وقد بلغ النزاع بين القبائل مبلغا عظيما بعد مقتل‌عثمان ومعركة صفين وعاد كما كان قبل الاسلام، غير ان المسائل الاقتصادية وقضايا قطع الطرق لم تعد موجودة بين الطرفين، بل تجلي الخلاف علي شكل نزاع بين طائفتين كبيرتين من العرب اليمانيين والنزاريين. وقد زادت العوامل السياسية هذا النزاع اتساعا واخرجته علي شكل خصومات عرقية (لا نقصد بالعرق هنا المعني المعروف اليوم، بل نقصدبه ذلك الامر الذي يصنف الناس علي اساس الدم او الجنس او ما يشبههما من الامور الاءخري، ويفصل فصلا اصطناعيا بين جماعتين كبيرتين من البشر، ويؤدي الي ظهور النزاع واثارة الضغائن بينهما). وصل الخلاف بين هاتين المجموعتين من القبائل النزارية واليمانية الي الحد الذي اوقد بينهما نار الحرب واحدث معارك داخلية ايام الدولة الأموية ادت الي ضعفها ومن ثم سقوطها، وقد هيات هذه الاختلافات فرصة جيدة للشعرا والخطباء ليذكوا نار الاحقاد ويذكروا الطرفين بامجادهم ومناقبهم، ولم يكن النزاريون او المعديون او العدنانيون، ومنهم قريش والرسول (ص) والخلفاء جميعا، بحاجة ماسة الي البحث عن مفاخر وامجاد اخري، اما الجنوبيون من اهل اليمن، فقد كانوا في صدد تحويل هذه الخصوصية الجغرافية الي خصوصية عرقية، فكما ان الشماليين نسبوا انفسهم بموجب العهد القديم الي اسماعيل، نسب الجنوبيون انفسهم الي قحطان (او يقطان كما في العهد القديم) ومن هنا صار يعرف اليماني والنزاري بالقحطاني والعدناني في التاريخ الاسلامي. ونريد بهذا التفصيل ان نوضح ان تصنيف القبائل العربية الي مجموعتين كبيرتين عدنانية وقحطانية، كان قد ظهربعد الاسلام.. فرغم ان القبائل العربية كانت تحرص في تاريخها قبل الاسلام علي معرفة انسابها واستحضار آبائها واجدادها كوسيلة من وسائل حفظ كيانها وحماية وحدتها.. الاان تلك السلسلة النسبية لم تصل الي حد تقسيم القبائل العربية‌جميعا الي قسمين رئيسيين او ثلاثة اقسام او اربعة.

تدوين الانساب

اتضح ان القبائل كانت قبل الاسلام تحرص علي حفظ سلسلة نسبها، وكان يوجد بين افرادها من له الخبرة والمعرفة اكثر من‌غيره، فكانوا يرجعون اليه عندما يشكل الامر عليهم، وكان جبير بن مطعم اكثر افراد قريش معرفة في علم الانساب اثناء خلافة عمر بن الخطاب، وكان اخذ علمه عن ابي‌بكر. [12] وهو احد الثلاثة (جبير بن مطعم، ومخرمة بن‌نوفل، وعقيل بن ابي طالب) الذين استعان بهم عمر عندما عزم علي تشكيل ديوان العطايا لتحديد اعطياتالناس وانسابهم [13] .ونتيجة لتفاقم حالة التنافس والتخاصم بين القبائل نشات الحاجة الي خبرا يهتمون بشؤون الانساب ويدونوها. وظهرت فعلا طائفة من هؤلاء الذين عرفوا ب (النسابة)، وقد الفوا كتبافي ذلك، اشهرها واهمها واكثرها شمولا كتاب (جمهرة الانساب، لهشام بن محمد الكلبي). وبهذا يتضح ان تدوين انساب العرب وجمعها بالشكل الذي ورد في كتب التاريخ والانساب، قد حدث بعد ظهورالاسلام، وقد دونها المؤلفون وجمعوها من افواه الناس،وبالاستعانة بالنسابة الذين كانوا يحفظون الانساب عن ظهر قلب. ونظرا للعصبيات القبلية الشديدة وما ورد من روايات عديدة حول تزوير الانساب والحاق بعضها ببعض لاسباب سياسية، فان الاعتماد الكلي علي المعلومات التي وردت بهذا الشان في كتب السير والاخبار، قد لا يكون عملا علميا تتوفر فيه الدقة اللازمة، خصوصا ان احتفاظ شخص واحد بمثل هذا العدد الهائل من الاسماء لمدة طويلة قد لا يكون امرا عاديا، سيما اذاكان الاعتماد علي الذاكرة وحدها. غير ان الكتابة في سيرة الرسول (ص) والتاليف في تاريخ صدر الاسلام، ربما لا يحتاج الي اكثر من معرفة اجمالية، باحوال العرب في ذلك العصر، وكيف كانوا ينظرون الي التركيب القبلي، وما هي الطبقات التي كان عليها المجتمع العربي، والانساب التي تنتمي اليها القبائل المكونة لهذا المجتمع؟ فكل ما كان من عصبيات وخصومات ومفاخرات مبني علي هذه الامور الادعائية. اما التحقيق او التفصيل في هذه المسالة، فهو عمل مستقل، وينبغي ان ينظر اليه علي انه بحث منفصل عن السيرة والتاريخ، اذ لو انتهي هذا التحقيق الي نتائج علمية غير تلك النتائج التي عرفت عن ذلك العصر ونقلت عنه، فسوف لن يحدث ذلك شيئا علي مسار التاريخ. ان العصبيات والمشاجرات جميعا كانت مبنية علي اساس مايعرفه هؤلاء من معلومات، وما يعتقدون به من الصحة والخطا، لا علي اساس ما هو ثابت حقا وواقعا. ومن اجل ادراك تاريخ الاسلام وسيرة الرسول (ص)، لابد من الاطلاع علي اوضاع مدينتي مكة والمدينة ايام ظهورالدعوة الاسلامية، ومعرفة القبائل التي كانت تستوطن هاتين المدينتين، وبناء علي هذا سنحاول اولا تسليط الضوء علي اوضاع قريش واحوال مكة في تلك الفترة، اما الاحاطة باوضاع مدينتي الحجاز الاءخريين: المدينة والطائف، ودراسة شؤون القبائل التي كانت تعيش فيهما، فنرجئه الي محله.

مكة قبل الاسلام

واد غير ذي زرع

جاء في الاية (37) من سورة ابراهيم: (ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون). تنص الاية الشريفة علي ان مكة بنيت بواد غير ذي زرع اي غير صالح للزراعة واد يقع بين سلاسل جبلية صخرية، واذا ماسقط عليها المطر احيانا فانه ينحدر بشدة محدثا سيلا. تقع‌هذه المدينة في الحجاز في الجزء الغربي من شبه الجزيرة العربية بين البحر الاحمر وجبال سراة التي تمتد من الشمال الي حدود اليمن، وتبعد مكة عن ميناء جدة الواقع علي البحرالاحمر مسافة (70) كلم. واصبحت هذه المدينة المقدسة، بفضل وسائل المدنية الحديثة، من اهم المدن العامرة في شبه الجزيرة العربية، اما موقعها فلم يكن مناسبا، كما عرضته الاية الشريفة، للعيش والسكن والعمارة، اذ تتواجد المدن عادة في الوديان الخصبة، او بالقرب من الانهار الجارية، او علي سواحل البحار، او في السهول الخضرا. وكان كلما اجتمع اهل البادية وبدو الصحرا في مكان معين، وبداوا يشتغلون بالزراعة وتربية الحيوانات، تكونت طبقة جديدة من اهل المشاغل الاخري غير الزراعية، كالحرفيين والتجار الذين يقومون بالمبادلات التي كان يحتاجها المزارعون، وتهيئة الوسائل الزراعية واصلاحها، ومع مرورالزمن تكونت مدن تضم اناسا يعملون بغير الزراعة وتربية الحيوانات، وعملهم الاساس هو الحرف والصناعات المختلفة التي نشات الحاجة اليها نتيجة الاشتغال بالزراعة والاستقرار في تجمعات سكنية كبيرة، وهكذا ظهرت طبقات اخري من التجار والصرافين والعمال والملاكين والحكام. وبنيت فيما بعد مدن علي ضفاف الانهار وفي سواحل البحارلاغراض تجارية، ومنذ الثورة الصناعية وحتي الان اخذت تشاد المدن الصناعية بالقرب من المناجم وحول المصانع الكبري، وقد اتضح الان افتقاد مكة في اول بنائها لكل مبررات نشوء المدن، التي مر ذكرها، ولهذا يطرح السؤال التالي: ماالذي دعا الي بنائها؟. ان الهدف من ورا بناء هذه المدينة المقدسة كان هدفا دينيا منذ اللحظات الأولي طبقا للاية الشريفة، بمعني انها انشئت للعبادة، يعبد فيها ابراهيم وبعض افراد اسرته ربهم الي جواربيته المقدس (عند بيتك المحرم) ولانها كانت غير آهلة وتنعدم فيها الحياة، فقد توجه ابراهيم الي ربه طالبا منه ان يجعل افئدة من الناس تهوي اليهم، لكن يبقي السؤال: لماذا ينشا مثل هذا المبني المقدس والمعبد الالهي في مثل هذا المحيط الجاف والقاسي؟.

الكعبة اول بيت

قال تعالي: (ان اول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين، فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومن دخله كان آمنا) «آل عمران: 96، 97». تؤكد الايتان الشريفتان علي ان الكعبة المشرفة الواقعة في مكة، هي اول بيت وضع للناس، وهنا يبرز السؤال الثاني: كيف تكون الكعبة اول بيت، ومكة اول مدينة، ونحن نعلم يقينا بوجود مدن ومعابد اقدم منهما بنيت منذ القدم في مصر وكلده وآشور والصين والهند؟. والجواب يكمن في قوله تعالي: (وضع للناس) فالمعابد التي بنيت في العصور القديمة كانت خاصة بمدن وقبائل معينة، كما يعكس ذلك بوضوح تاريخ الاديان القديمة والاقوام البائدة، فقد وقعت معارك عديدة من اجل السيطرة علي المعابد، ودارت بين الاقوام المختلفة حروب دامية كان هدفها تحطيم معابد الاقوام الأخري وحرقها، وغالبا ما كانت تعتبر سيطرة قوم ما علي المعابد والاصنام علامة علي تغلبهم وانتصارهم، بينما تواجه الاقوام المغلوبة التي تحرم من معابدها، وتسلب منها آلهتها، التدهور والتبعية والانهيار القومي والثقافي، وربما الزوال والفناء. وهكذا فان جميع تلك المعابد تشترك في كونها معابد خاصة بقوم دون قوم، وبمكان دون آخر، خلافا للكعبة المشرفة التي وضعت للناس كافة، من اي عنصر او مكان كانوا. وهنا سيطرح السؤال السابق نفسه بالحاح اشد: ما هي الحكمة من وضع مثل‌هذا المكان المقدس في هذه الارض الجافة القاحلة؟.

فيه آيات بينات

يجب ان نبحث عن جواب هذا السؤال في طيات الاية الشريفة التي تقول: (فيه آيات بينات) يقول الطبري في تفسيرهذه الاية من سورة آل عمران: ان واحدة من هذه الايات مقام ابراهيم، والأخري الحجر الاسود، والثالثة الحطيم. ومن المستبعد ان يكون الحطيم الجدار المبني علي شكل نصف دائرة، ويقع حجر اسماعيل بينه وبين الكعبة من تلك الايات الالهية التي تشير اليها الاية الشريفة. اما الحجر الاسود فهو من اوضح تلك الايات واهمها، ومن المحتمل جدا ان يكون بناء الكعبة لاجله. لقد ورد في الروايات ان الحجر الاسود نزل من السماء، وسنشير في المواضع المناسبة الي ان كل حادثة دينية لها جانبان: احدهما الهي غيبي، والاخر طبيعي مادي. ولو كانت‌جميع الايات الالهية تظهر للناس علي شكل قضايا ربانية خارقة لقوانين الطبيعة، او بعبارة اخري علي صورة معجزات، فلن يبقي مجال للانكار والتغاضي، وبالتالي سيؤمن اشد الناس كفرا واكثرهم عنادا في التاريخ الاسلامي، امثال ابي جهل وابي لهب. اما اذا خلت الايات الربانية من الجانب الالهي الغيبي، واصبحت لا تختلف عن غيرها من الاءمور الطبيعية، فسيكون لايمان بعض الناس وكفر بعضهم الاخر معني ومغزي. فالايات الالهية والقضايا الغيبية يجب ان تتجلي في هذا العالم باللباس المادي الطبيعي، ولا ينبغي ان تكون خارقة للنواميس الكونية والقوانين الطبيعية في الوقت الذي يستطيع فيه الانسان الواعي ذو البصيرة ان يدرك المعاني الغيبية ويلمح الاثار الالهية في تلك الايات والعلامات. ولا يوجد تناقض بين ان يكون هذا الحجر الاسود مرسلا من السماء وبين ان يكون احد الاجسام والاحجار السماوية الكثيرة جدا المعلقة في الفضاء، والتي تسقط علي الارض بدرجات حرارية عالية جدا نتيجة احتكاكها بالغلاف الجوي وتاثرها بقوة الجاذبية الارضية، واذا اعتبرها الانسان المادي مجرد حجر هوي من السماء، فان الانسان المؤمن الذي يعتقد بالقدرة الالهية والايات الربانية سيري في ذلك آية اخري من آيات الباري جل وعلا. واخيرا فان كثيرا من الايات الالهية تتحول الي امور عادية غير مثيرة تالفها نفوسنا نتيجة تكررها فنعتاد عليها، امثال النجوم والسماء والارض والقمر وطلوع الشمس وغروبها، التي صارت ظواهر عادية لا تلفت نظرنا بسبب مشاهدتنا لها يوميا،علما ان كل جرم من هذه الاجرام وكل جسم صغير نراه علي هذه الارض، انما هو عالم من الايات والغرائب قائم بذاته. هذا في الوقت الذي ننظر الي الظواهر الأخري بمزيد من‌الاستغراب والخشية، كالخسوف والكسوف والصواعق والزلازل، لانها لا تحدث الا نادرا، كما سن لها الشارع المقدس صلاة خاصة سميت بصلاة الايات، التي يجب علي المكلف اداؤها عند حدوث احدي تلك الايات. فسقوط الحجر من السماء، يعتبر هو الاخر امرا غير عادي، يلفت انظار الانسان الواعي الي عالم آخر غير العالم المعاش يوميا والمتكرر علي مدار الساعة. لقد لفت هذا الحجر، الذي سقط من السماء في مكة، انظارعدد من الناس (وربما كان منهم ابراهيم واسماعيل) كانوايعيشون هناك، الي وجود قوة عظيمة فوق هذه القوي الاعتيادية، ولا يمكن ارجاعها الي تلك الاصنام الجامدة والارباب المفتعلة. وقد كان ابراهيم (ع)، طبقا لما يعرضه القرآن الكريم، يفكر منذ الصغر بهذه القدرة العظيمة التي هي اكبر من الشمس والقمر والنجوم، وكل الاصنام التي كان الناس يعتقدون انها هي التي تمثل تلك القوة الخارقة قد تحطمت، وكان هذا ايضا من دواعي الالتفات الي القدرة العالية المتفوقة علي هذه القوي العادية. لا يمكن ان يكون هذا الحجر الاسود الهابط من السماء الها وصنما لقبيلة دون اخري او لقوم دون قوم، لقد جاء هذا الحجرمن جهة اخري في هذا الفضاء معبرا عن تلك القدرة العظمي، اذن لماذا لا نتوجه اليه؟، ونجعل من موضع سقوطه معبدا نعبد فيه تلك القدرة العليا التي يخضع الجميع لها؟ وقام ابراهيم (ع) بمساعدة ابنه اسماعيل او شخص آخر قبله ببناء جدار حول هذا المكان علي شكل مكعب بواسطة احجار رصف بعضها علي بعض حتي وصل ارتفاعها الي ما يساوي قامة انسان او اكثر، ثم وضع الحجر الاسود في احد اركان هذا المبني، ولاول مرة وقف ابراهيم (ع) يصلي الي حجر آخر، وربما تكون صلاته هذه صلاة يقصد بها وجه اللّه وحده، وفي مكان لا يختص بقبيلة او قوم دون غيرهم. وهذا ما اشارت اليه الاية الشريفة (127) من سورة البقرة: (واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم). وبهذا اصبحت الكعبة اول بيت وضع للناس جميعا، فقد اسس ليعبد فيه رب الناس جميعا، والههم الذي لا شريك له، وبهذا فهو اقدم من معابد اليهود والنصاري، لان ابراهيم (ع) جدا ليهود والعرب، وليس هناك في العالم اجمع من معبد وضع للّهوحده اقدم منه، تقول الاية الكريمة (125) من سورة البقرة: (واذ جعلنا البيت مثابة للناس وامنا واتخذوا من مقام ابراهيم مصلي وعهدنا الي ابراهيم واسماعيل ان طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود).

مكة تصبح مدينة

بعد ان استقر ابراهيم (ع) وذووه في هذا المكان، اخذ الناس يترددون اليه ويقصدونه للزيارة او لغيرها، ثم استوطن آخرون المكان نفسه للعمل علي خدمة الزوار والمسافرين، واخذ هؤلاء يبنون المنازل لتامين سكنهم وسكن الحجاج القادمين من اماكن بعيدة، وهكذا لم يمض وقت طويل حتي تم تشييد هذه المدينة في ذلك الوادي القاحل الخالي من الزرع والحياة. كانت القوافل تنقل الامتعة، وخاصة المواد الصمغية والعطرية، من جنوب شبه الجزيرة العربية الي شمالها، ليستخرج منها الطيب فتعطر به المعابد والمنازل في الشام وفلسطين وآسيا الصغري وايطاليا. وكانت هذه القوافل تحتاج الي محطات استراحة علي الطريق، وتمثل مكة في موقعها الذي بنيت فيه محطة استراحة جيدة، وقد زادتها الابار، التي حفرت فيها لتوفير الماء للزوار والمستوطنين، اهمية، حيث كانت ترد اليها القوافل التجارية التي ارهقها الطريق الصحراوي الطويل، وهكذا تحولت مكة بمرور الزمن الي مدينة دينية تجارية، استقطبت اهتمام القبائل التي وقعت بينها معارك عديدة منذ القدم من اجل السيطرة عليها. فخضعت اولا الي سيطرة قبيلة جهرم، ثم خزاعة التي استمرت هيمنتها حتي طردتها قريش وحلت محلها. وقد اشتغل القرشيون كسدنة لبيت اللّه الحرام، يوفرون المستلزمات الضرورية لزواره، ويسهرون علي صيانته وحمايته وامنه، واهتموا من جانب آخر بتوفير سوق جيدة لتجار الجنوب والشمال لعرض بضائعهم وبيعها لتجار الشام والعراق وباقي انحاء شبه الجزيرة العربية.

قريش في مكة

مكانة قبيلة قريش

تصنف قبيلة قريش ضمن القبائل الشمالية او المعدية اوالعدنانية في التصنيف الاساسي الذي يقسم العرب جميعا الي قسمين رئيسيين: الجنوبيين والشماليين او اليمانيين والنزاريين، او القحطانيين والعدنانيين، وتنتمي قريش الي فرع كنانة من قبائل مضر ضمن القسم العدناني، ويرجع نسب الرسول (ص)، وكذلك خلفاء بني امية وبني العباس واكثر زعماء المسلمين في صدر الاسلام، الي هذه القبيلة، واذا مااعتبرنا قريش قبيلة، فان تفرعاتها وشعبها يمكن ان نطلق عليها افخاذا وبطونا، ومن اراد الاطلاع اكثر علي التاريخ الاسلامي لابد له من الاحاطة بهذه التفرعات التي سيرد ذكرها كثيرا في التاريخ الاسلامي عند الحديث عن الرموز الاسلامية والشخصيات المرموقة التي تنتهي الي تلك الافخاذ والبطون. فهر بن مالك: تنتهي كافة بطون قريش وافخاذها الي فهر بن مالك بن النضربن كنانة، لذلك فهو الجد الاعلي لقريش. قريش الظواهر: هناك بطنان من اولاد فهر بن مالك يطلق عليهما (قريش الظواهر)، هما بنو الحارث وبنو المحارب، وكانوا يستوطنون خارج مكة، والي بني الحارث ينتهي نسب عبيداللّه بن‌الجراح، وينتسب الضحاك بن قيس الفهري، الذي قتل في معركة (مرج راهط) بين بني امية وانصار الزبير، الي بني المحارب، وكان الضحاك علي راس انصار الزبير في تلك المعركة. غالب بن فهر: تلتقي طائفة بني ادرم ببطون قريش الأخري في غالب بن‌فهر، اما البطون الأخري فجدها لؤي بن غالب. لؤي بن غالب: وهو الجد الرابع لبطن بني كعب وبني عامر وبني اسامة وبني خزيمة، وكعب بن لؤي جد الرسول (ص)، ويعتبر عمرو بن‌عبد ود العامري الذي قتل علي يد اميرالمؤمنين (ع) في معركة الخندق من مشاهير هذا البطن. كعب بن لؤي: يعتبر كعب بن لؤي جد الرسول (ص)، الجد الثاني لبطن بني‌عدي وبني الهصيص. ويعد عمر بن الخطاب اشهر شخصية في بني عدي، وكان بنو الهصيص بطنين، هما بنو سهم وبنو جمح، واشهر رجال بني سهم عمر بن العاص الداعدا اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، بينما كان صفوان بن امية‌وعثمان بن مظعون اشهر بني جمح جميعا. مرة بن كعب بن لؤي: يلتقي البطنان: بنو تيم، وبنو مخزوم، باجداد الرسول (ص) بمرة بن كعب بن لؤي، وابرز رجال بني تيم: ابو بكر بن ابي قحافة، وليس بين بني مخزوم او بني يقظة رجل اشهر من خالد بن‌الوليد، وابي جهل بن هشام الد خصوم الرسول (ص) في مكة واكثرهم عنادا، هذا وتنتسب ام سلمة زوجة الرسول (ص) الي البطن نفسه. بنو زهرة: ويعتبر كلاب بن مرة بن كعب جد الرسول (ص) جدا لبطن بني زهرة ايضا، ومنهم ام الرسول (ص) آمنة بنت وهب، وكذلك الصحابي عبد الرحمن بن عوف. بنو اسد وبنو عبد الدار: وتلتقي هاتان الطائفتان بنسب الرسول (ص) بواسطة قصي بن كلاب، واشهر افراد بني اسد زوجة الرسول (ص) خديجة بنت خويلد، والزبير بن العوام، والي بني عبد الدار يعود نسب بني شيبة سدنة الكعبة المشرفة. بنو امية وبنو عبد المطلب: يجتمع بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو امية في عبد مناف، وينقسم بنو امية الي قسمين: بنو امية الاكبر، ومنهم: عثمان بن‌عفان، وابو سفيان وابنه معاوية، ومروان بن الحكم. وبنو امية الاصغر ويسمون (بالعبلات). بنو هاشم: واليهم يعود نسب الرسول (ص) وامير المؤمنين علي بن ابي‌طالب (ع)، فهما من اولاد عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، ولعبد المطلب بن هاشم، طبقا لقول بعض‌علماء الانساب، اثنا عشر ولدا، هم: عبداللّه، ابو طالب، الزبير،عبد الكعبة، العباس، ضرار، حمزة، حجل، ابو لهب، قثم،عيذاق الحارث. وعبداللّه هو ابو الرسول (ص)، وابو طالب والد امير المؤمنين‌علي بن ابي طالب (ع)، والعباس جد خلفاء بني العباس. وفي حياة الرسول (ص) اشتهر كل من حمزة وابي لهب، احدهما اكتسب شهرته بنصرة رسول اللّه (ص) ووقوفه الي جانب دعوة ابن اخيه، وهو حمزة، بينما اشتهر ابولهب بعدائه للرسول (ص) وايذائه لاصحابه، وتكذيبه لدعوته (ص). ولم يعقب من ابناء عبد المطلب سوي اربعة، هم: العباس، وابوطالب، وابو لهب، والحارث. [14] وهناك اختلاف في‌اسماء بعض اولاد عبد المطلب وعددهم، حيث قال بعضهم: انهم عشرة اولاد.

تسلط قريش علي مكة

انشئت مكة اولا كمدينة دينية للزوار الذين يقصدونها من انحاء مختلفة، ثم ما لبث ان اشتغل اهلها بالتجارة، وبعد ان تكاثر اولاد اسماعيل حسب رواية ابن اسحاق في اطراف مكة، كانت هناك قبيلتان قد تركتا اليمن بحثا عن المرتع والمنزل كما يبدو هما (جرهم) و (قطورا)، قد وصلتا مكة، ووجدتا هناك مدينة نالت اعجابهما لما وجدتا فيها من الماءوالكلا، فوضعتا فيها الرحال، واستقرتا هناك [15] .يفهم من تلك الروايات ان اولاد اسماعيل (ع) وهم سكان مكة الاصليون اخذ عددهم يتزايد حول مكة وفي اطرافها، فبداوا يحفرون الابار، ويزرعون الاشجار، وبعد فترة تحول ذلك الوادي (غير ذي زرع) الي واد عامر، ويفهم مما جاء عقب تلك الرواية ان مكة كانت محطة للقوافل القادمة والذاهبة، غير ان الرواية لم توضح اهداف تلك القوافل، وهل انها كانت تقصد الزيارة والعبادة فحسب، ام انها كانت تقوم بانشطة تجارية ايضا في هذه البلدة؟ وطبقا لتلك القصة التي اوردها ابن اسحاق، فان ابناء القبيلتين «جرهم» و «قطورا» كانوا ابناء عم، وكان «مضاض» زعيما لقبيلة (جرهم)، بينما اتخذت (قطورا) سميدع، رئيسا لها، واستقرسميدع بقومه اسفل مكة، بينما استوطن (مضاض) مع قومه‌اعاليها. وقد فرضت الطائفتان ضرائب مالية علي القادمين الي‌مكة، فكانت جرهم تاخذ هذه الضرائب من الزوار القادمين الي مكة من اعاليها وقبل دخولهم اليها، بينما كانت «قطورا» تاخذ الضرائب نفسها من زوار مكة الداخلين اليها من اسفلها. ويبدو ان اهل مكة لم يشتغلوا بعد بالتجارة، وكانوا يعتمدون في تامين معيشتهم علي ما تدره عليهم حيواناتهم، وما يتقاضونه من ضرائب مالية من الزوار. ويبدو ان هؤلاء الزوار الذين كانوا يتوافدون الي مكة بهدف الزيارة وتادية المراسم العبادية المتبعة كانوا في الوقت نفسه يقدمون بعض الاموال والهدايا الي الكعبة، وهذا ما دعا كل من القبيلتين (جرهم) و (قطورا) الي ان يهجروا اليمن ويتجهوا الي مكة بهدف السيطرة عليها والاستحواذ علي هذه الاموال التي كانت تهدي الي الكعبة، وكذلك لتقاضي الضرائب المالية المفروضة علي الزوار القادمين الي هذه المدينة الدينية. وقد ادي هذا الطمع الذي قاد كل من «جرهم» و «قطورا» الي ان يتركوا اليمن ويستوطنوا مكة الي التنازع، بل والتقاتل فيما بينهم، كل يريد السيطرة والاستئثار بالمنافع، وحسمت نتيجة الصراع لصالح (جرهم) وانتصرت علينظيرتها (قطورا). [16] .وحين سيطرت جرهم علي مكة لم تبادر الي طرد ابناء اسماعيل من هذه المنطقة، بل قامت بتوثيق العلائق معهم وايجاد الصلات المختلفة التي من شانها ان تشدهم وتقارب فيما بينهم، ولكي يجنبوا المدينة (القتل والفساد والتخريب) عمدوا الي ابرام معاهدة صلح فيما بينهم، التزموا بموجبها بحفظ حرمة المدينة وعدم القيام باي عمل من شانه هتك حرمتها وتعكير صفو الحياة فيها. لقد اسهم هذا الوضع في اعطاء اهمية اضافية لهذه المدينة، وادي الي تزايد عدد الزوار الوافدين اليها، وبالتالي الي تضاعف مواردها المالية. وفي هذا الوقت كانت حالة (اولاد اسماعيل) قد تدهورت، وتحولوا من حاكمين لهذه البلدة الي محكومين فيها، واخذ عددهم يتزايد تدريجيا، بينما كانت الطبقة الحاكمة تبدو اقل عددا، لكنها قد استاثرت (الطبقة الحاكمة جرهم) بجميع الموارد لنفسها، وعاشت حياة مترفة دب فيها الفساد والتهتك، وكانت لا ترعي الا ولا ذمة، ولا تتورع عن ارتكاب مختلف الاعمال التي تتناقض وحرمة هذه المدينة المقدسة، فقد شهرت السلاح بوجه كل من عارضها، واخذتهم بالشدة والقسوة، ثم عم شرها حتي شمل حجاج البيت، فذاقوا منها كل اذي ومكروه. ولغرض التباهي بالاموال واكتساب المزيد من الثروات التي تنفقها للانفاق علي الملذات، لجات الطبقة الحاكمة الي زيادة الضرائب المفروضة علي الزوار، بل وذهبت الي ابعد من ذلك عندما بدات ببيع بعض الحلي والهدايا الثمينة التي كانت توضع في الكعبة وتعلق علي جدرانها. وقد اتخذ ابناء اسماعيل موقف الصمت امام هذه الاعمال مراعاة كما يبدو لقرابتهم من الطبقة الحاكمة، واملا في الحصول علي شي‌ء من موارد المدينة وعائداتها، ولم يعترض احد من اولئك الذين كانوا يعيشون داخل مكة علي جرهم، بل بدات الاعتراضات تثار عليها من قبيلة قوية اخري كانت تسكن اطراف مكة هي (قبيلة خزاعة). استفادت قبيلة خزاعة، التي كانت قد جاءت من اليمن من‌اخطاء جرهم وفسادها، فحشدت حولها المعارضين، وفي مقدمتهم قبيلة بكر، وترجع الي بني بكر بن عبد مناة، وهي من كنانة، ومن القبائل التي كانت تستوطن شمال شبه الجزيرة العربية، وانضم اليها كذلك اولاد اسماعيل الذين ضاقوا ذرعا بتصرفات «جرهم»، وبهذا استطاعت خزاعة ان تخلع جرهم عن عرشها، وتحل محلها في حكم المدينة والسيطرة علي مواردها الكبيرة التي كانت تاتيهم دونما عناء. بعد السيطرة علي الكعبة نشب الخلاف بين الفاتحين الجدد خزاعة، وبكر بن عبد مناة حول الرئاسة، وبعد فترة من الخصومة والنزاع استقرت الاءمور لصالح بطن من خزاعة ترعي (غبشان). وقد اوجد تسلط خزاعة وضعا جديدا في مكة، فحتي مجيئها كان اولاد اسماعيل ما زالوا يحافظون علي بقايا تعاليم دين التوحيد رغم خضوعهم لسيطرة (جرهم)، هذا ما تنقله الروايات التي تتحدث عن تاريخ ما قبل الاسلام، وربما اعتبر ذلك برهان علي ان ابناء اسماعيل تبعوا آباءهم في البقاء علي عقيدة التوحيد وعبادة اللّه وحده. غير ان سيطرة جرهم، القبيلة القادمة من اقصي جنوب شبه الجزيرة العربية، ادي الي ضعف هذه العقيدة التوحيدية، وافساد بعض تعاليمها، وقد جاء في الرواية: «انه كان اولاد معدعلي بقية من دين اسماعيل». ولكن انتهي كل شي‌ء بعد ان سيطرت خزاعة علي الاءمور، واعادت الاوضاع الي سابق‌عهدها من الشرك وعبادة الاوثان، وهكذا استحكم الشرك في مكة. وقد نسبت هذه الاعمال في تاريخ ما قبل الاسلام الي احد زعماء خزاعة المسمي عمر بن لحي، وقيل انه تعلم عبادة الاوثان من اهل الشام وجاء بها الي مكة، ويبدو ان سبب نسبة عبادة الاصنام التي كانت عليها خزاعة الي عمر بن لحي، يعود الي كون هذا الاخير زعيما لهذه القبيلة التي يعتقد اكثر علماء انساب العرب بانها جاءت من اليمن. وقد خالف بعض النسابة ذلك، وقرروا اعتمادا علي بعض الروايات ان خزاعة من عرب الشمال. [17] وبما ان هؤلاء كانوا كبقية العرب من عبدة الاوثان، فقد فرضوا عقيدتهم تلك علي اهل مكة، وطبعوا المدينة بطابعهم الخاص. وقد نقلت خزاعة اعرافا اخري الي مكة، حاربها الاسلام فيما بعد ونهي عن متابعتها، وتركزت هذه الاعراف حول الابل والاغنام التي كانوا يمتنعون عن تناول لحومها في اوقات معينة او يهدونها الي اصنامهم، حيث نهي القرآن الكريم عن ذلك في الاية الشريفة (103) من سورة المائدة: (ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام). لكن لم تبلغ عبادة الاصنام في مكة في عهد خزاعة درجة تختفي معها كل معالم عقيدة التوحيد من تعظيم بيت اللّه واقامة مراسم الحج، حتي انهم كانوا يرددون اثناء الطواف شعار التقديس للّه ولاوثانهم، ويعترفون بان اللّه هو المالك الحقيقي الذي تستمد منه اصنامهم قوتها، الا انهم كانوا يشركون في‌عبادته تعالي، حيث يهتفون «لبيك لا شريك لكالا شريك هو لك تملكه وما ملك» [18] .

نمو قدرة قريش وسيطرتها علي مكة

في الوقت الذي كانت فيه مكة تخضع لسلطة خزاعة، كانت بطون قريش وافخاذها متفرقة وموزعة علي مناطق متباعدة لايجمعها مكان واحد، وكانت السلطة تنتقل في خزاعة بالوراثة الي ان وصلت الي آخر زعيم لهم، وهو حليل بن حبشية او (حبشية). ويبدو ان هذا الرجل لم ينجب سوي الاناث، وكانت (حبي) احدي بناته التي زوجها من قصي بن كلابزعيم قبيلة قريش في حينها [19] .وعلي رواية زيد فان قصي كان قد ذهب الي ديار «قضاعة» مع امه التي كانت قد تزوجت احد رجالهم، ونظرا لابتعاده عن مواطن الاهل، واغترابه، فقد سمي (قصي) اشارة الي ابتعاده وغربته. وكان قصي قد عاد الي مكة ثانية، علي اثر حادثة واستطاع بما كان يتمتع به من شجاعة وبسالة ان ينال اعجاب رئيسها في عهده «حليل بن الحبشية» فزوجه بنته (حبي). وربما كان حليل يهدف من ورا هذا الزواج الي استمالة قريش، والتي كانت قد تزايدت قوتها كثيرا، وكذلك استمالة قضاعة التي تربطها بقصي صلة رحم عن طريق امه. وقد عجز (حليل) في آخر عمره عن ادا مهامه في ادارة شؤون‌الكعبة ورعاية زوارها، فسلم مفتاح الكعبة الي ابنته حبي، التي سلمته بدورها الي زوجها قصي بموافقة ابيها، وقد احسن الزوج ولما كان عليه من ذكاء وطموح استثمار الفرصة، فاخذ يفرض سيطرته علي مكة، ويمد نفوذه الي الكعبة ليستولي علي مواردها، وكان مما اعانه كثيرا علي ذلك اسناد قبيلته «قريش» له، ووقوفها الي جانبه، اضافة الي الدعم الذي حظي به من قبيلة زوج امه «قضاعة»، وكانت كلا القبيلتين علي جانب من القوة والنفوذ. وقد بدات خزاعة، بعد وفاة حليل، تخشي قصي وتخاف من تعاظم نفوذه، فبادرت الي اخذ مفتاح الكعبة من حيي، فما كان من قصي الا الاهابة بقريش واحلافها من بني كنانة وقضاعة للوقوف الي جانبه ومساندته في نزاعه مع خزاعة، فلبوا دعوته، وحضروا في موسم الحج الي مكة، اعرابا عن تاييدهم له، واستعدادا للتضحية في سبيل نصرته. ثم طلبوا الي خزاعة ان تعيد مفتاح الكعبة الي قصي كما سلمه له حليل، غير ان خزاعة رفضت ذلك، فنشب القتال بينها وبين قريش وقضاعة، رغم حرمة المكان (مكة) وحرمة الزمان (ايام الحج)، واخيرا توقف القتال بين الطرفين بتدخل بعض القبائل للاصلاح، ووافقا معا علي ان يحكم بينهما رجل من كنانة. ويفهم من فحوي القصة التي ينقلها الازرقي: ان الغلبة كانت لقريش وحلفائها في هذه المعركة، الامر الذي دفع خزاعة الي الموافقة علي الصلح والتحكيم، وهذا ما تؤيده ايضا كثرة القتلي بين بني خزاعة. كان الحكم من بني بكر بن عبد مناة، وهم من بني كنانة المحالفين لخزاعة، ويبدو ان غموض موقف بني كنانة في هذه الحرب، ووقوف بعض افرادهم الي جانب قريش، ووقوف البعض الاخر الي جانب خزاعة، واتخاذ بعضهم الحياد، هوالذي دفع قريش لقبول الحكم البكري الكناني. وجاء حكم القاضي وهو يعمر بن عوف لصالح قريش وقصي، فقضي ان لا دية للدماء التي اريقت في هذه المعركة، وان تعود السدانة (سدانة الكعبة) وحمايتها والسهر علي مصالحها لقصي، لان حليل كان قد اعطاه اياها. وفي هذا المجال اختلاف بين رواية ابن اسحاق ورواية الازرقي، حيث جاء في رواية ابن اسحاق ان يعمر بن عوف قد قضي بان لا دية لدم خزاعة، بينما قضي بالدية علي خزاعة لما اهرقته من دماء قريش، وسبب ذلك كما هو واضح ان الحق كان مع قريش في هذا النزاع، وتتحمل خزاعة، التي خاضت حربا ظالمة، دية ما سفكته من دماء قريش. لكننا لا نري صحة مثل هذا الحكم، اذ يكفي خزاعة ضعفا اقصاؤها عن رئاسة مكة وسدانة الكعبة فضلا عن ان تتحمل دية قتلي اعدائها، وان يصل بها الضعف الي درجة قبولها بمثل هذا العار، وبناء علي ذلك فاننا نرجع صحة رواية الازرقي. وهناك نقطة افتراق اخري بين الروايتين، اذ يعزو ابن اسحاق سبب النزاع الي خلاف حصل بين قصي وبطن الصوفة حول بعض الموارد التي كانت تحصل عليها هذه الاخيرة في موسم الحج، ولكن هناك غموض في روايته من ناحية الجهة التي كانت تملك مثل هذه الموارد آنذاك، وهل هي الصوفة، او آل صفوان؟ لذا تصبح رواية الازرقي اكثر قبولا، هذا مع احتمال ان تكون رواية الازرقي قد لاحظت هذا الابهام وبادرت الي تصحيحه. وبغض النظر عن هذه التفصيلات، فان قريش كانت قد فرضت سيطرتها علي مكة بمساندة قضاعة، ولعل مسالة التحكيم جاءت لتعط‌ي هذه السيطرة طابعها الشرعي، وتضفي عليها لباسا من الحق، بدلا من ان تكون نتيجة القوة والقهر. وجاء في رواية الازرقي ان قرار القاضي كان قد نص علي عدم اخراج خزاعة من مكة، [20] بينما جاء في رواية اخريان قصي اخرج خزاعة وبني بكر من مكة. [21] .وقد تكون الرواية الاخيرة هي الاقرب الي الصحة، باعتبار ان مكة لم تكن بتلك السعة التي تستوعب قريش مع خزاعة التي كانت تسكنها اصلا.

اعمال قصي في مكة

اسكان قريش

كان اول عمل قام به قصي هو اسكان قريش في مكة، فقام اولا طبقا لرواية ابن اسحاق بتقسيم مكة بين بطون قريش، واعطي كل جماعة منازلها التي اقامت فيها.

قطع الاشجار

امر قصي بقطع الاشجار التي كانت في الحرم ليتسني لقريش البناء فيه، في وقت كان الناس يتخوفون من قطع الاشجار التي كانت في مكة باعتبارها جزأ من الحرم. وهناك رواية اخري تقول: ان الناس ظلت علي عبادتها بالامتناع عن قطع اشجار الحرم حتي ظهور الاسلام، وكان عبداللّه بن الزبير اول من خالف هذه السنة باباحته قطعاشجار الحرم [22] .

تاسيس دار الندوة

ان تاسيس مثل هذه الدار التي كانت بمثابة ناد يتم فيه تداول مختلف شؤون المدينة، يعتبر عملا جديدا لم يسبق لاهل البادية ان شاهدوا مثله، وكان قصي طبقا للروايات هو الذي اسسها في مكة، مع ان مكة كانت قد تحولت الي حاضرة منذز من، وسكنها قبل قريش كل من «جرهم» و «خزاعة». وظل يسودها النظام القبلي حتي ظهور الاسلام، وهكذا كان حال المدن الاءخري في شبه الجزيرة العربية، مثل الطائف التي كان يسكنها بنو ثقيف، ويثرب التي استوطنتها قبيلتا الاوس والخزرج، فجاء تاسيس دار الندوة علي يد قصي كاول علامة علي وجود مدينة بالمعني الصحيح، كما ان النظام الذي وضع لادارة هذا النادي كان هو الاخر من الأمور الملفتة للنظر وقتها، حيث نص علي ان يكون ابناء قصي جميعا اعضاء في هذا النادي بينما لا يستطيع ابناء بطون قريش الاخرون ان يحصلوا علي العضوية الا بعد بلوغهم الاربعين. ويعتبر ذلك اوضح دليل علي اعتقاد قريش بضرورة المحافظة علي الشرف العائلي، الذي هو من خصائص النظام القبلي، ويعبر شرط بلوغ الاربعين عن اصرار قريش علي ضرورة بلوغ عضو النادي مرحلة النضج والكمال العقلي التي لا تتحقق، في نظر قريش والعرب جميعا، الا بعد بلوغ هذا السن. ولم تكن الوظائف التي انيطت بهذا النادي باقل طرافة والفاتا من شروط دخوله، فكانت في معالجاتها الاجتماعية وتحديداتها الادبية والعرفية تشكل دلالة للباحث الاجتماعي الذي يريد معرفة الشعوب وتقاليدها. كان من مسؤوليات النادي تحديد سن البلوغ، وتزويج الفتيات، وعليه ان يعلن بلوغ الفتاة ذلك السن ويزودها بلباس خاص.. ومن واجبات النادي ايضا ختن الذكور من الاطفال. وكان ينبغي‌ان يتم التزويج بعد موافقة اعضاء النادي، هذا اضافة الي ما كان يقوم به من اعمال سياسية وحربية، كاعلان الحرب، واقامة المراسم الخاصة باستقبال وتوديع القوافل، وجعل باب هذه الدار او تلك الي البيت الحرام. والجدير بالملاحظة ان هذه التشريعات والقرارات التي تصدرعن دار الندوة كان ينظر اليها من قبل قصي علي انها سنن مقدسة تجب طاعتها في الحياة وبعد الممات كالتعاليم الدينية، قال ابن سعد: يتبعون امره كالدين لا يعمل بغيره فيحياته وبعد موته. [23] .

وضع الضرائب

وجاء في رواية ابن سعد ان قصي كان قد فرض ضرائب مالية علي الداخلين مكة من غير اهلها، وكان يعشر من دخل مكة سوي اهلها. [24] فكان علي من ينوي زيارة مكة وادا الحج ودخول الكعبة ان يدفع مقدارا من المال، يسهم من خلاله في تامين ما تحتاجه هذه المدينة الدينية من نفقات وما تحتاجه الكعبة من صيانة وامور اخري، وشكلت هذه الضرائب المالية موردا لا باس به، مما اثار طمع القبائل، فثارت بينها الحروب والمعارك للسيطرة علي هذا الوادي القاحل (غير ذي الزرع).

مناصب الحج

استحدث قصي بعض المناصب، ووزع المسؤوليات المختلفة لتسهيل امر الحج والقيام بالخدمات اللازمة للحجاج باحسن صورة ممكنة، فجعل حراسة الكعبة وخدمتها والسهر عليها والوقوف علي ابوابها مسؤولية مستقلة اسماها (الحجابة)، واوكل مهمة القيام بها لجماعة من قريش اسماهم «الحجاب». ثم امر جماعة آخرين بالقيام بشؤون سقاية الحاج وتوفير مايلزمهم من مياه الشرب، وكان هؤلاء يعدون مخازن خاصة للمياه من الجلود، يضعونها الي جانب الكعبة، ويقفون عليها ايام الحج ليسقوا الحجيج منها. واستحدث قصي ضريبة سماها «الرفادة» وهي مساهمة حالية يدفعها القرشيون سنويا، لتقدم بين يدي قصي في موسم الحج، الذي ينفقها بدوره علي الحجيج الفقرا الذين لايستطيعون توفير ما يلزمهم من زاد ومؤونة اثناء الحج. ووزع قصي تلك المناصب بين ابنائه، فجعل حجابة دار الندوة ورئاستها لعبد الدار الذي كان يحبه كثيرا، وجعله ايضا حامل لوائه، واعط‌ي سدانة البيت وقيادة الحجيج لعبد مناف. وفي رواية اخري لابن اسحاق: ان جميع هذه المناصب اسندت لعبد الدار [25] لما كان يتمتع به من مكانة خاصة واحترام وتقدير بين ابناء قصي. وبعد معاهدة (حلف المطيبين) صارت سقاية الحاجوالرفادة من شؤون ابناء عبد مناف [26] .

المسؤوليات و المناصب الأخري

استحدثت بعد قصي مناصب ومسؤوليات جديدة، ظلت تنتقل بين بطون قريش حسب الشرف والمكانة الاجتماعية وطبقة النسب التي تؤلف المنظومة القبلية داخلها، وبمرور الزمن صارت هذه المناصب ارثا كالمناصب السابقة تتداوله بطون معينة من قريش حسب الترتيب الطبقي الذي كان عليه المجتمع المكي، واستمر هذا الوضع الي ان ظهر الرسول (ص) في مكة، طبقا لما رواه ابن هشامومحمد الكلبي [27] .وفي هذا الوقت كانت السقاية قد اصبحت بيد العباس بن عبدالمطلب، الذي احتفظ بهذا المنصب بعد فتح مكة، وكان ابوسفيان بن حرب صاحب لوا قريش، ويطلق علي اللوا اسم (العقاب)، ويحمل اللوا عادة القائد اثناء المعركة، وكلما رفض القائد حمل اللوا وجب علي ابي سفيان بن حرب حمله وقيادة المعركة. وكان من الأمور التي استحدثت فيما بعد (الاشناق) وهو من شؤون الدية، ويحق لمن يتسلم هذا المنصب ان يعين الدية التي تقع علي القبيلة حسب رايه، وكان لا يقبل ذلك من احد غيره، وقد صار هذا المنصب لبني تيم، وعندما بعث الرسول (ص) في مكة كان قد تسلمه ابو بكر. ومن المناصب المستحدثة ايضا منصب (القبة) ومنصب (الاعنة)، وقد عهد بهما الي بني مخزوم، حتي تولاهما خالد بن الوليد، ويبدو انهما كانا يختصان بشؤون الحرب والتجهيزات الحربية، كتهيئة الخيم والخيول والمؤن وما شابه ذلك. ويبدو ان الحاجة قد دعت قريش الي استحداث منصب باسم «السفارة» يتولي صاحبها تمثيل قريش في المفاوضات التي تجري لحل نزاعاتها الحربية مع الاطراف الأخري، كما ينوب عنها في جميع المحادثات القبلية التي تعقد عادة لحل الخلافات بين القبائل حلا سلميا، وكان هذا المنصب قد وقع قبل الهجرة النبوية بيد بني عدي التي انتدبت له عمر بن‌الخطاب، احد ابرز شخصياتها آنذاك، بينما تسلم صفوان بن‌امية منصب الاشراف علي اجرا القرعة (الايسار والازلام) وهو من بني جمح الذين عهد اليهم بهذا المنصب. وجعلوا ادارة الاوقاف والاموال التي كانت تهدي لاصنام قريش في بني سهم، وكان المسؤول عنها حينئذ الحارث بن قيس، وقد اطلق علي هذه الادارة اسم (الحكومة والاموال المحجرة). ومن المناصب المستحدثة ايضا (العمارة)، وذلك لتنظيم شؤون البيت الحرام، وعدم السماح بارتكاب الاعمال المخالفة للقواعد العامة، او تداول الاحاديث السيئة، او رفع الاصوات بما لا ينسجم والاصول العامة داخل الحرم، واوكل هذا الامر لبني هاشم. وهناك منصب آخر اطلق عليه (حلوان النفر)، اذ يلجا عادة في ايام الحرب الي الاقتراع لتعيين رئيس او قائد فخري للحرب، ويشارك في هذه القرعة جميع الذكور من بني هاشم، صغيرهم وكبيرهم. ففي حرب الفجار وقعت القرعة مثلا علي العباس بن عبد المطلب كقائد فخري ورمزي للحرب، وكان حينها طفلا ليس الا. وهكذا يتضح الفرق بين هذا المنصب ومنصب حمل لوا (العقاب).

تغير الوضع الاقتصادي في مكة

تم لقريش السيطرة علي مكة في اواخر القرن الخامس الميلادي، فقد ولد الرسول (ص) عام (570 م) وكان عبداللّه والد الرسول (ص) قد توفي في الايام الأولي لولادته (ص)، وليس بين عبداللّه وقصي سوي ثلاث بطون (عبد المطلب وهاشم وعبد مناف)، وكان عبد مناف كبير السن حين سيطر قصي علي مكة، وبناء علي ذلك، فان الفترة بين عهد قصي وعام (570م) لا يمكن ان تكون اكثر من (100 عام) في اقصي احتمالاتها، لذلك يمكننا القول ان سيطرة قريش علي مكة كان في حدود اواخر القرن الخامس الميلادي. ويبدو ان اشتغال قريش بالتجارة تم بعد سيطرتها علي مكة وهيمنتها علي الحج، حيث اخذت تتاجر مع بلدان اخري خارج الحجاز وشبه الجزيرة العربية، واصبحت مركزا تجاريا مهما يربط بين سواحل البحر الاحمر والبحر المتوسط وجنوب شبه الجزيرة العربية والعراق، وذلك لوقوعها في قلب الطرق التجارية التي تصل بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، ولا يعني هذا انعدام النشاط التجاري قبل سيطرة قريش علي مكة، فهناك نشاط تجاري سابق بين الروم وبلاد الشام وجنوب شبه الجزيرة العربية والمحيط الهندي، اذ كانت القوافل التجارية تاتي بالعطور من الهند وجنوب شبه الجزيرة العربية الي البلاد المتمدنة، وتعود بمصنوعات هذه البلاد الي شبه الجزيرة العربية. لكن هذا النشاط التجاري، كانت تقوم به اقوام اخري غير اهل مكة، وربما كانت مكة فقط محطة‌استراحة وتزود للقوافل التجارية القاطعة للصحرا، والدليل‌علي ذلك اننا لم نجد في اخبار (جرهم) وخزاعة وهم سكان مكة الاصليون ما يدل علي انهم كانوا يعملون في التجارة، كما اننا نجد من الروايات ما يؤكد ان عبد مناف احد ابناء قصي هواول من قام بعقد صفقات تجارية كبيرة مع جيرانه، وحاز علي‌قبول البدو بمرافقة القوافل التجارية وحمايتها. ويبدو ان القرشيين استفادوا كثيرا من التجارب المرة التي مربها القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية في حدود عام (525 م) فما بعد، والتي انتهت الي سيطرة الاحباش علي‌اليمن. كان لتلك الحوادث التي وقعت في اوائل القرن السادس الميلادي في اليمن وجنوب شبه الجزيرة العربية علاقة وطيدة بالوضع الاقتصادي والسياسي العام لتلك المنطقة، وكانت الامبراطورية الرومانية تسعي لفرض سيطرتها علي سواحل المحيط الهندي والبحر الاحمر لتامين الطريق امام القوافل التجارية العائدة اليها. وكانت تحاول ضمن هذا المسعي ان تجد لها موط‌ي قدم داخل شبه الجزيرة العربية، وقد شجعتها مسيحية ملك الحبشة علي ذلك ووجدت فيه فرصة مهمة لبسط النفوذ. وقد وقف الملك الحميري اليهودي (ذو نواس) بوجه النصاري في شبه الجزيرة العربية والحبشة، فقام ملك الحبشية بتجهيز قوة عسكرية بحرية، وشن هجوما علي اليمن بمساعدة الروم، وبعد حوادث عديدة تمت له السيطرة عليها وقتل ملكها (ذا نواس). ثم قام الاحباش بتنصيب احد المسيحيين الحميريين المسمي (سميفع) ملكا علي اليمن، [28] وقتل‌هذا علي اثر تمرد كبير حدث ضده، وفتح الباب من جديد لتدخل الاحباش الذين اعادوا سيطرتهم علي اليمن، واستمرت هذه السيطرة الي عهد ابرهة (ابراهيم). ورغم ان‌هذا الاخير حبشي، ويبدو انه كان يتبع النجاشي ظاهريا، الا ان ادارته لشؤون اليمن كانت مستقلة. استمر حكم ابرهة لجنوب شبه الجزيرة العربية مدة اربعين‌عاما تقريبا، وكان قد فرض علي القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية حكما صارما وقويا طيلة هذه الفترة حتي قام بهجومه الشهير علي مكة عام (570 م)، والذي واجه فيه الفشل الذريع، وبعد هذه الحملة الفاشلة بدا حكمه يتصدع الي ان سقط بعد تدخل الفرس، وانتهي بذلك حكم الاحباش لجنوب شبه الجزيرة العربية. وكان ابرهة قد بلغ في حكمه لليمن من القوة والهيبة درجة جعلت اباطرة عصره (امبراطور الروم وملك الفرس وملك الحبشة وملك الغساسنة وملك الحيرة) يتسابقون فيما بينهم لخطب وده والفوز برضاه، فكان سفراؤهم يتوافدون عليه الواحد بعد الاخر، وكان ذلك من الامور التي سجلهاابرهة وتركها في تاريخه. [29] .لقد ا‌عطي هذا الوضع شبه الجزيرة العربية بعدا عالميا، فتحفزت كل من الدولتين الكبيرتين في ذلك العصر (الدولة الساسانية، والدولة الرومانية) للعمل لايجاد مناطق نفوذ لها داخل شبه الجزيرة العربية. وكان لكل واحدة من هاتين الامبراطوريتين اهدافها الخاصة من ورا هذا النشاط، فكان هدف الفرس هو قطع الطرق التجارية وحرمان الامبراطورية الرومانية من ممارسة نشاطها التجاري والاقتصادي مع بلدان الجنوب، من خلال فرض الهيمنة علي سواحل المحيط الهندي وجنوب شبه الجزيرة العربية، وعلي العكس تماما فقد كان الروم يسعون من ورا ذلك الي تامين طرقهم التجارية وحماية النشاط الاقتصادي للامبراطورية الرومانية، الذي كان يوفر لها سلعا رخيصة بطرق سهلة. وكان من الطبيعي ان تحدث هذه التطورات بعض التبدلات في الاوضاع الاقتصادية والتجارية المحلية والعالمية، وتؤدي الي اكتشاف طرق جديدة للتجارة، وقد اقترنت هذه التطورات مع اخبار متظافرة عن ظهور وضع اقتصادي وتجاري جيد في مكة، وعن اشتراك قريش كطرف في التجارة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، ومن الطبيعي ايضا ان تعزي هذه المستجدات الي الاحداث المذكورة، رغم اننا ما زلنا نجهل الكيفية التي حصلت بها هذه التبدلات بصورة دقيقة.

تجارة قريش مع الخارج

يقول الطبري نقلا عن هشام بن محمد الكلبي: «ان اولاد عبد مناف كانوا اول من اخذ لقريش العصم»، اي اول من عقد صفقات تجارية مع الدول المجاورة، فقد ابرم هاشم اتفاقا مع بيزانس امبراطور الروم في الشام، واخذ عهدا من ملك الغساسنة للمتاجرة مع الشام، بينما عقد عبد شمس (الابن‌الاخر لعبد مناف) اتفاقا مشابها مع النجاشي الاكبر ملك الحبشة، ومضي نوفل (الابن الثالث لعبد مناف) الي بلاد فارس، فوقع مع خسروان امبراطور الفرس عقدا تجاريا، في الوقت الذي اختار مطلب وهو الابن الرابع لعبد مناف الدولة الحميرية، كطرف تجاري يتعامل معه، فابرم مع ملكها (ابرهة) او (سميفع) معاهدة تجارية مماثلة للمعاهدات التي عقدها اخوته الثلاثة. وتتضمن رواية الطبري لهذه القصة نقطة مهمة حيث قال: «فانتشروا من الحرم»، اي خرجوا من مكة، وانطلق وامنها الي الخارج. ولعل ذلك العمل التجاري الاول الذي يقوم به اهل مكة مع الدول المجاورة، ليحصلوا منه ورائه علي موارد تتجاوز في حجمها ما كانوا يحصلون عليه من الضرائب المالية التي فرضت علي القوافل التجارية المارة عبر مكة، وما كانوا يجمعونه من الحجيج في كل عام، وقد رافق هذا النشاط التجاري اضطرابات واسعة وحروب عديدة جرت علي ارض اليمن، وادت الي امتناع بعض التجار القدماء من ممارسة نشاطهم التجاري، في الوقت الذي وقعت تجارة قريش جميعها بيد ابناء عبد مناف. وما يمكن ان نستخلصه من هذا السرد التاريخي ان تجارة قريش مع العالم الخارجي، وما كانت تدره عليها من موارد ضخمة، لم تنعكس آثارها علي المجتمع القرشي بصورة عامة، بل استاثر بها عدد محدود جدا من القرشيين شكل مع مرور الزمن طبقة راقية، وتمضي الرواية الي القول: ان هذا الانتعاش التجاري تبعته سنوات من الضيق والشدة، بل القحط الذي حل بمكة، وذهب علي اثره الكثير من ثرواتها. وحينها كان هاشم قد سافر الي الشام، وامر من هناك باحضار الخبز وارساله باكياس خاصة الي مكة، كما اوصي بذبح الابل التي كانت تحمل الخبز الي مكة، وتوزيع لحمها علي الناس مع ثريد الخبز الذي كان ينقع بماء اللحم، ولهذا سمي بهاشم (لانه هشم الثريد لقومه). ويفهم من ذلك ان التجار كانوا من فئات اخري غير المزارعين واصحاب الحيوانات والابل، كماان القحط قد اصاب المزارع والحيوانات، ولم يضر بالتجار وتجارتهم، ولهذا استطاع هاشم (وهو التاجر المعروف) انقاذ الموقف بارسال كميات ضخمة من الخبز الي مكة، كما يفهم من توصية هاشم بذبح الابل التي كانت تحمل هذا الخبز الي مكة ان الابل قد فقدت هناك، واصبحت مكة لا تجد منها ماتسد به رمقها.

حملة ابرهة علي مكة

بعد ان استتبت الأمور لابرهة في جنوب شبه الجزيرة العربية، واتسق له الامر، وخضع له جميع القبائل والبدو في‌تلك المنطقة، اخذ يفكر في غزو شمال شبه الجزيرة العربية والحجاز لاخضاعها الي سيطرته وضمها بالقوة الي حكمه، كما هي عادة الملوك دائما حينما يستتب لهم الامر في مكان معين فانهم يبداون بالتفكير في توسيع ملكهم وضم المزيد من الاراضي والاقوام المجاورة الي دولهم. وقد لا يخلو الامر من عوامل اخري دفعت ابرهة الي التشريع في حملته علي شمال شبه الجزيرة العربية، وفي مقدمة هذه‌الأمور المحتملة سعي ابرهة الي الاقتراب اكثر من‌الامبراطورية الرومانية في بلاد الشام، فهما (اي المملكتان) يدينان بالدين المسيحي، رغم ان الاحباش يعقوبيي المذهب، ولهم اختلافاتهم الخاصة مع الروم. ولعل الروم قد ساهموا في تحريك ابرهة، ودفعه الي هذه الحملة، علي امل ان تقع الطرق التجارية المؤدية الي المحيط الهندي في قبضة دولة مسيحية لا يساورهم القلق بشانها. وربما ساقه الي ذلك حسده لاهل مكة، فضاق ذرعا من اتساع نشاطهم التجاري ونمو ثرواتهم بسرعة فائقة عن طريق التجارة، لقد اثار ذلك الثرا وتلك المكانة الاقتصادية التي كانت تتمتع بها مكة مطامع ابرهة، وجعلته يفكر في فرض هيمنته علي هذا المركز الاقتصادي والتجاري والديني النشيط. وتذكر الروايات التاريخية من اسباب حملة ابرهة علي مكة، انه كان قد بني في صنعاء كنيسة كبري (قليس) وبذل لذلك اموالا طائلة من اجل ان يحول اليها انظار سكان شبه الجزيرة العربية جميعا، ويجعلها كعبة جديدة لهم، وبذلك تصبح صنعاء المركز السياسي الاهم في شبه الجزيرة العربية، ويتحول ابناء الجزيرة تدريجيا الي الديانة المسيحية التي كان يدين بها ابرهة وقومه. ولكن الأمور جرت باتجاه آخر، ولم يحظ هذا المبني الكنسي الضخم باحترام تجار الشمال الذين كانوا يزورون صنعاء باستمرار لغرض التجارة، بل انهم كانوا ينظرون اليه بمزيد من الاحتقار والاشمئزاز، خصوصا انه انشي من قبل قوم آخرين من خارج شبه الجزيرة العربية ويتكلمون لغة اخري غير لغتهم. لقد ادت هذه النظرة وذلك الاحتقار الي هدر قدسية هذا المبني الضخم الذي كان محترما لدي ابرهة، فثار غضبه وقرر الهجوم علي المركز الديني والاقتصادي لشمال شبه الجزيرة العربية لهدمه، والفسح في المجال امام عاصمته صنعاء لتغدواهم مركز سياسي واقتصادي علي ارض شبه الجزيرة العربية، ولتبسط المسيحية وجودها علي هذه الارض من الشمال الي اقصي الجنوب. ومهما كانت الاهداف المتوخاة، فقد جهز ابرهة جيشه، واعد نفسه اعدادا جيدا للقيام بهذه الحملة، فتحرك من اليمن قاصدا الحجاز وطبقا لما ورد في تاريخ هذه الحملة جعل ابرهة علي مقدمة جيشه فيلا، كان قد اتي به من افريقيا، اسمه (محمود)، وقيل: انه جلب معه ثلاثة عشر فيلا، وفي طريقه الي الشمال تعرض جيشه الي هجمات متتالية من قبل بدو الصحرا والقبائل الواقعة علي الطريق فهزمها جميعا واسر شيوخها، وعندما وصل مكة، كان اهلها قد غادروها ولاذوا بصياصي الجبال والمرتفعات المجاورة. لم يترك ابرهة شيئا من الابل والممتلكات الا ونهبه، حتي قيل انه استولي علي مئتي بعير من ابل عبد المطلب وحده، ولماجاءه عبد المطلب يلتمسه ان يرد اليه مئتي بعير اصابها له، قال ابرهة لترجمانه: «قل له قد كنت اعجبتني حين رايتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، اتكلمني في ابلك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه»؟! قال عبد المطلب: «انا رب الابل، وللبيت رب يمنعه». ثم امر ابرهة جيشه بالهجوم لهدم البيت، فالقي الفيل نفسه الي الارض، فصعدوا الجبل وضربوا الفيل فابي، فوجهوه راجعا الي اليمن فقام يهرول، ووجهوه الي الشام ففعل كذلك، ووجهوه الي المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه الي مكة فسقط الي الارض. وارسل اللّه عليهم طيرا ابابيل من البحر امثال الخطاطيف، مع كل طير منها ثلاثة احجار تحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، فقذفتهم بها، وهي مثل الحمص والعدس، لاتصيب احدا منهم الا هلك، وليس كلهم اصابت، وارسل اللّهسيلا القاهم في البحر، وخرج من سلم مع ابرهة هاربا يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه.. فخرجوا يتساقطون بكل منهمل، واصيب ابرهة في جسده، فسقطت اعضاؤه عضوا عضوا، حتي قدموا به صنعاء، وهو مثل الفرخ، فما ماتحتي انصدع صدره. [30] .

القرآن الكريم و اصحاب الفيل

قد يصعب علي العقل قبول ما ورد في كتب التاريخ من تفاصيل حول هذه القصة، خصوصا مسالة الطيور التي امطرت الجيش الحبشي بالحجارة، وكانت السبب في الحاق الهزيمة به وحمله علي الفرار مع قائده ابرهة، لولا نزول القرآن بها ونصه عليها في سورة الفيل، واخباره عن كيفية هلاك اصحاب الفيل بتلك الحجارة التي حملتها الطير الابابيل. تذهب اكثر الروايات الي ان ولادة الرسول (ص) كانت في عام الفيل (اي العام الذي حدثت فيه تلك الواقعة، وبما ان الرسول (ص) لم يبعث الا في الاربعين من عمره الشريف، فان الاشخاص الذين كان لهم من العمر خمسين او ستين او سبعين او ثمانين عاما عند نزول سورة الفيل كانوا من الذين‌عاصروا هذه الواقعة، وشاهدوا الفيل في مكة، وهم ما زالوا يتذكرونها جيدا بتفاصيلها، وقد سكتوا ولم يعترض منهم احد، لانهم لاحظوا انطباق الرواية القرآنية علي الواقع تماما، وانها لم تات بشي‌ء غير الذي شاهدوه بأم اعينهم، وتختلف هذه الاية‌عن الايات التي ذكرت احداثا وقعت في ازمنة قديمة لم يعاصرها احد ممن عاش في عصر القرآن مثل: (الم تر كيف فعل ربك بعاد) «الفجر: 6». وقد اشار الشيخ الطوسي في تفسير التبيان الي هذه النقطة، وبناء علي هذا فاما ان تكون القصة كما ترويها الاية بالمعني الظاهر من الفاظها في خصوص ارسال الطير الابابيل التي رمتهم بحجارة من سجيل، او تكون للاية الكريمة معني آخر غاب عنا واصبحنا لا ندركه علي حقيقته، لان الكلام الالهي لابد ان يكون مطابقا للواقع والحقيقة، رغم ان هذه الحقيقة قدتبين بصورة التمثيل او التاويل. ورد في الاية الشريفة كلمتان لم يتضح معناهما تماما للمفسرين بما فيهم المفسرين القدامي، الاولي: كلمة (ابابيل) والثانية: (سجيل)، فما وضع لهاتين الكلمتين من معني لم يكن مقنعا تمام الاقناع، فقالوا مثلا في معني كلمة (سجيل) انها تعريب لكلمتي (سنگ وكل) [31] وهذا يتضمن نوعا من الحشوا لتكرار لا يليق بكلام اللّه. ومن جانب آخر يفهم من الروايات ان جيش ابرهة كان قد اصيب بمرض جلدي (الحصبة او الجدري) بما فيهم قائد الجيش ابرهة نفسه، واتفقت هذه الروايات علي ان ابرهة نجا من الهلاك، وعاد الي اليمن، وعاش مدة هناك قبل ان يموت. واذا ما حاولنا تفسير الايات الشريفة بما ينسجم مع السنن الطبيعية، كان علينا ان نقول: ان اللّه سبحانه وتعالي اراد دفع الاعدا ورد كيدهم عن الكعبة المشرفة، فابتلاهم بمرض شديد لم يستطيعوا معه مواصلة حملتهم، فأجبروا علي العودة بعد ان الحقت بهم الخسائر الجسيمة دون قتال، فيصبح ما جاء في الايتين الكريمتين: (وارسل عليهم طيرا ابابيل، ترميهم بحجارة من سجيل) «الفيل: 3-4». اشارة الي هذا المرض العضال، ويمكن ان نستخلص من بعض الروايات ان ثمة عاصفة كانت قد هبت من البحر الاحمر باتجاه مكة، وحملت معها الطيور والحجارة والحصي والقتها علي رؤوس الاحباش. ومهما كانت صورة الضربة التي هزم بسببها جيش الحبشة، سوا كانت علي شكل طيور حقيقية رمت جيشه بالحجارة فاهلكته، او بصورة اخري ا كثر انسجاما مع قوانين الطبيعة، فالنتيجة واحدة هي ان اللّه هزم ابرهة وجيشه، وصدهم عن الحاق الاذي بمكة والكعبة المشرفة التي كان مقررا لها ان تصبح قبلة للعالمين ومطافا لهم ومركزا لاعظم واسمي رسالات التوحيد واديان السماء. وهكذا حصلت المعجزة بمنع ابرهة وجيشه من احتلال مكة وقتل الناس هناك وتهديم الكعبة، فان اللّه لم يكن يريد ذلك بل يريد ان يجعل عما قريب من هذه البلدة منطلقا للدين الاسلامي الحنيف الي جميع انحاء العالم.

لايلاف قريش

تاتي سورة قريش بعد سورة الفيل مباشرة في القرآن الكريم، وتبتدي بالايتين الكريمتين (1- 2): «(لايلاف قريش، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف». وقد اختلف المفسرون في معني اللام التي وردت في (لايلاف) فقال بعضهم: انها لام التعجب، بينما ارجعها آخرون الي السورة التي قبلها (اي سورة الفيل) فيكون المعني ان اللّه ارسل علي الاحباش الطير الابابيل التي ترميهم بحجارة من سجيل ليهلكهم وتبقي قريش آمنة في رحلتيها التجاريتين: رحلة الشتاء الي اليمن ورحلة الصيف الي الشام. وقد رفض الطبري قبول هذا التفسير، وقال: ان ذلك يستلزم كون السورتين سورة واحدة. ومن الطريف ان الفقه الشيعي يعتبر السورتين سورة واحدة، وبناء علي ذلك فقد افتي فقهاء الشيعة بان قراة سورة الفيل وحدها بعد الفاتحة في الصلاة غير مجز، بل لا بد من ان نضيف اليها في القراة سورة قريش. وقد يكون راي فقهاء الشيعة هو الاصح والاقرب الي مضمون السورتين والاكثر انسجاما مع واقع الاحداث في تلك المرحلة التاريخية. اذ يقول القرآن الكريم: ان اللّه حطم جيش ابرهة، ورده خائبا، لكي تبقي قريش آمنة مطمئنة في سفرها التجاري نحو الشمال والجنوب، وهذا بدوره كان احدي العلل التي حفزت ابرهة لمهاجمة مكة. اذ حاول منعها من المتاجرة بين اليمن والحبشة وبين اليمن والمحيط الهندي. وضمن هذا السياق جاءت الايتان (3- 4) من سورة قريش: (فليعبدوا رب هذا البيت، الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من‌خوف)، ويمكن ان يكون قوله تعالي: (آمنهم من خوف) اشارة الي قطع نفوذ الاحباش في شبه الجزيرة العربية الي الابد، فقد تضافرت الروايات علي ان هناك ملكين هما (مسروق) و (يكسوم) وكلاهما من ابناء ابرهة حكما اليمن بعد وفاة ابيهما، ثم جاء ملك الفرس انو شروان فاعان سيف بن ذي يزن في اليمن علي الاحباش فطردهم من اليمن وازال ملكهم. كان ذلك بعد سنوات من عام الفيل، اذ لم تزل قريش خائفة غير مطمئنة بعد عودة ابرهة الي اليمن، وهي تتوقع انتقامه لابنائه وجنوده الذين هلكوا هناك في اية لحظة، الي ان اذلهم اللّه علي يد سيف بن ذي يزن والقائد الايراني وهرز، اللذين طرداهم من اليمن، وطهرا شبه الجزيرة العربية منهم الي الابد.

الاختلافات داخل قريش

مرت الاشارة فيما سبق الي ان كل من هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب، كانوا جميعا ابناء عبد مناف، وقد سيطروا علي التجارة الخارجية، حتي صارت حكرا عليهم لا ينازعهم عليها احد، وجمعوا من هذا الطريق ثروة طائلة بهرت الناس من حولهم، فاخذوا ينظرون اليهم بمزيد من التقدير والاحترام، حيث كانت العرب تقيم للمال وزنا كبيرا في الجاهلية، وتعتبره دالة علي الشرف والعظمة ومدعاة للفخر والتباهي. وفي مجتمع كهذا لا تنفصل فيه المكانة الاقتصادية عن الموقع السياسي، فالقدرة الاقتصادية تجلب نفوذا سياسيا يتناسب وحجمها، كان ينبغي لابناء عبد مناف ان يكونوا زعماء مكة السياسيين تبعا لزعامتهم الاقتصادية. اما قصي فقد منح كافة المناصب، وجمع في يده ازمة الامور الدينية والسياسية وغيرها في مكة، ثم سلمها جميعا الي ابنه المحبوب لديه عبد الدار، ومن ثم انتقلت بالارث الي ابنائه، في وقت كان يري فيه ابناء عبد مناف انفسهم الاولي بهذه المناصب، بعد ان اتسعت تجارتهم في الخارج، واثروا ثرا فاحشا، وراوا انهم احق بها منهم لشرفهم وفضلهم في قومهم. لم تذكر الرواية سبب هذا الفضل والشرف، غير انه كان يعود في حقيقة الامر الي تمولهم. كان هاشم ايام الجاهلية بصدد سلب هذه المسؤوليات من ابناء عبد الدار، غير ان هؤلاء قاوموا تلك المحاولة بطبيعة الحال، ولم يستسلموا لها، ومن هنا بدا النزاع.

حلف المطيبين ولعقة الدم

افلح اولاد عبد مناف في عقد تحالفات مع بني اسد وبني زهرة وبني تيم وبني الحارث من بطون قريش، واقسموا ان لايعودوا عن هذا الحلف او تقطع رقابهم. قال البلاذري: اما الرفادة والسقاية، فانهما لم تزالا في حياة قصي الي عبد بن قصي، ثم صارتا الي عبد الدار بن قصي، حتي عظم شان بني عبد مناف بن قصي، فقالوا: نحن اولي بما يتولاه بنو عبد الدار، فجمعوا من مال اليهم وعرف فضلهم من بني اسد وبني زهرة وبني تيم، ومن كان داخل مكة من بني‌الحارث، واتوا باناء فيه طيب، فغمسوا ايديهم فيه، ومسحوها بالكعبة، وتحالفوا ان لا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحرصوفة، وسمي الحلف بحلف المطيبين [32] .لم يشا ابناء عبد الدار الوقوف متفرجين، بل سعوا الي ابرام اتفاقات تحالفية مع باقي بطون قريش، وكانت هذه البطون،عبارة عن بني مخزوم وبني جمح وبني سهم وبني عدي، وقدعاب بنو عدي (معاهدة المطيبين) وسخروا منهما بقولهم: «ان‌الطيب لربات الحجال» فاتوا بجفنة فيها دم، فغمسوا ايديهم فيها، وكان العرب اذا تحالفوا غمسوا ايديهم في الملح والرماد، فسمي بنو عدي منذ ذلك الحين بلعقة الدم او ولغة الدم. ويقال: ان بعضهم لعق من الدم، وسمي الحلف بحلف لعقة الدم. وهنا تلاحظ آثار النعمة وافرازات الترف، حيث ابي ابناء عبد مناف، وهم التجار الكبار، الذين كانوا في سفر دائم الي العراق واليمن والحبشة، والاثرياء الاشراف، ان يغمسوا ايديهم بالرماد والملح جريا علي العادات السابقة، وبدلا عن ذلك غمسوا ايديهم بالطيب الثمين. فعاب عليهم خصومهم ذلك الترف وسخروا منهم واتهموهم بالتخنث وتقليد النساء في افعالها، ولكي يظهر اعداؤهم المزيد من الرجولة قرروا غمس ايديهم بالدم لا العطر ومن ثم لعقه. واخذ العدا يتصاعد حتي اوشكت الحرب ان تقع بين الطرفين، لولا ما بذل من وساطات انتهت الي التصالح، علي ان تكون مسؤولية (الرفادة والسقاية) لابناء عبد مناف بدل ابناء عبد الدار، بينما اقر هؤلاء علي مناصبهم في (الحجابة وعقداللوا) والاشراف علي (دار الندوة)، وعلي حد قول البلاذري في (انساب الاشراف) فان ابناء عبد مناف تحملوا العب‌ء الاكبر: «واحتملت بنو عبد مناف اعظم الامور مؤنة». فلا تتم الضيافة ولا السقاية الا ببذل الاموال الطائلة، ولا ينهض بهذه المهمة سوي الاشخاص المتمولين، في وقت عهد بسدانة الكعبة وادارة (دار الندوة) وهما امران ليس فيهما كلفة زائدة، بل فيهما موارد مالية الي الجماعة الفقيرة. ورغم ان السقاية والرفادة من الامور التي تستنزف مالا ضخما، الا انها كانت كما يبدو تدر علي اصحابها موارد جيدة، علما ان قريش جميعها كانت تساهم في هذه الضيافة، ويقوم كل واحد منهم باستضافة ما يسعه من الزوار والحجاج الفقرا، وتقديم الطعام اليهم دون ثمن، ولكن يبدو ان ما يصرف علي الرفادة والسقاية يؤمن اما من الضرائب التي يدفعها القرشيون سنويا، او من الاموال التي يقدمها الزوار الاثرياء كثمن لما ياكلونه من طعام. ومن الادلة علي مساهمة قريش بصورة عامة في استضافة الزوار ما رواه ابن سعد في الطبقات، قال: «كان اذا حضرالحج، قام اي هاشم في قريش فقال: يا معشر قريش، انكم جيران اللّه واهل بيته، وان ياتكم في هذا الموسم زوار اللّه يعظمون حرمة بيته فهم ضيوفه، واحق الضيف بالكرامة ضيفه، وقد خصكم اللّه بذلك وكرمكم به، وحفظ منكم افضل ماحفظ، جار من جاره، فاكرموا ضيفه زوره، فهم ياتون شعثاغبرا من كل بلد علي ضوامر كانهن القداح، قد ازحفوا وتفلواوقملوا وارملوا، فاقروهم واسقوهم، فكانت قريش ترافد علي ذلك حتي انه كان اهل البيت ليرسلون بالشي‌ء اليسير علي قدرهم، وكان هاشم بن عبد مناف بن قصي يخرج في كل عام مالا كثيرا، وكان قوم من قريش اهل يسر يترافدون، وكان كل انسان يرسل بمئة مثقال هرقلية (من ذهب او فضة)، وكان هاشم يامر بحياض من ادم فتجعل في موضع زمزم ثم يستقي فيها الماء من الابار التي بمكة فيشربه الحاج، وكان يطعم اول ما يطعم قبل التروية من كان بيوم بمكة ومني وجمع عرفة، وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن والسويق والتمر، ويجعل لهم الماء فيسقون بمني، والماء يومئذ قليل في حياض الادم الي ان يصدروا من مني، فتنقطع الضيافة ويتفرق الناس اليبلادهم» [33] .ولنر الان كيف انتقلت مسؤولية الرفادة الي هاشم. هذا ما يجيب عنه البلاذري في روايته، حيث يقول: اقترع بنوعبد مناف علي الرفادة والسقاية، فصارتا لهاشم بن عبد مناف، ثم صارتا بعده للمطلب بن عبد مناف بوصية، ثم لعبد المطلب، ثم للزبير بن عبد المطلب، ثم لابي طالب (والد اميرالمؤمنين)، ولم يكن له مال فاستدان من اخيه العباس بن عبدالمطلب عشرة آلاف درهم فانفقها، فلما كان العام المقبل ساله ان يسلفه خمسة عشر «الف درهم، ويقال اربعة عشر الف درهم، فقال له: انك لم تقضي ما لي عليك، وانا اعطيك ماسالت، علي انك ان لم تعد الي جميع مالي في قابل فامرالرفادة والسقاية الي دونك، فاجابه الي ذلك، فلما كان الموسم الثالث ازداد ابو طالب عجزا وضعفا ولم يتمكن من النفقة، واعدم حتي اخذ كل رجل من بني هاشم ولدا من اولاده يحمل عنه مؤنته، فصارت الرفادة والسقاية الي العباس،وابرا ابا طالب مما له عليه [34] .والذي يفهم من الرواية نفسها ان كلا المنصبين لم يكونا خاليين من الموارد والعائدات، غير ان ابا طالب عجز عن ادارة الموقف لفقره الشديد، اذ لم تسنح له الفرصة بجمع ما كان بذمته من الديون، ويبدو ان هذه العائدات هي التي دفعت العباس الي تقديم مبلغ قدره خمسة وعشرون درهما الي ابي‌طالب ثمنا للمنصبين.

عبد المطلب

اشاره

عبد المطلب الذي ورد ذكره في حديثنا عن حملة ابرهة علي مكة، كان ابنا لهاشم، اما امه فكانت قد اعجبت هاشما عندما شاهدها في يثرب في احد اسفاره التجارية الي الشام، فطلب يدها من ابيها. كانت هذه المراة من بني النجار من قبيلة الخزرج، وكانت تشترط علي من يتزوجها ان يكون الامر لها، واذا ما ضاق الزوج بذلك فلها الحق في الانفصال عنه والخروج من عصمته متي شاءت، والذي اهلها لمثل هذا الشرط مكانتها الاجتماعية المرموقة، وشرفها الذي استهوي الرجال اليها، هذا وقد اضاف والدها شرطا آخر ان تكون ولادتها في بيت والدها لا في بيت زوجها، وبينما كان هاشم في سفر تجاري الي الشام وافته المنية في غزة، وترك الزوجة في يثرب، وقد اولدها ولدا سماه شيبة الحمد، وسمي بهذا الاسم لانه ولد وفي شعره بياض كالشيب. وبعد ان كبر الوليد ووصل خبره الي مكة، ذهب عمه المطلب الي يثرب وعاد به الي مكة، وحين راي الناس عودته مع المطلب، ظنوا انه عبدا له، فاطلقوا عليه لقد عبد المطلب، فصار اسما له، ولم يفارقه حتي نهاية حياته. وقيل: ان المطلب ادعي في البداية ان الولد عبد له اشتراه من هناك،فسمي عبدالمطلب [35] .

اعمال عبد المطلب

كانت الرفادة والسقاية قد اوكلت الي المطلب بعد وفاة هاشم، ثم وصلت الي عبد المطلب بوفاة المطلب في (ردمان) عند ماكان في سفر تجاري الي اليمن، ويبدو ان مشاكل السقاية ومصاعب توفير المياه اللازمة للحجيج، دفعت عبد المطلب الي حفر بئر كبيرة سميت فيما بعد ب (بئر زمزم). ولم يكن هذا البئر هو البئر الاول الذي حفر في مكة، فهناك آبار اخري تم حفرها في انحاء مختلفة من مكة قبل هذا التاريخ، بل ان احدي الروايات قد نسبت تاريخ انشاء بئر زمزم الي زمان اسماعيل (ع)، وبهذا تكون زمزم اول بئر تم انشاؤها لسقي الحجاج. الا ان الازرقي يروي ان البئر دفنت فيما بعد بالسيل، ولميبق لها اثر [36] .كانت قبيلة جرهم قد اودعت خزائن الكعبة ونفائسها داخل بئرزمزم قبل ان تخلي مكة، ويبدو انها دفنت البئركي لا ينتفع الاعدا من مائها، ولا يجدون طريقا للوصول الي الخزائن التي وضعت فيها، علي امل ان تعود جرهم لاستخراجها ان عادت مرة اخري الي مكة. ومهما كانت القصة الحقيقية لتلك البئر، فقد دفعت مشاكل السقاية ومصاعب الحصول علي المياه اللازمة للحجاج، وتوفير ما يلزم من المخازن، عبد المطلب الي التفكير الجدي بايجاد بئر قرب الكعبة يوفر حاجة الحجيج من المياه، وبتتبع بعض الاثار والعلامات المتبقية اهتدي الي المكان ذاته الذي شق فيه البئر الاولي، وربما كان بعض الناس يستطيع الاشارة الي منطقة تواجده قبل ان يندرس، وقد جاء في احدي الروايات ان الاهتدا الي موقع البئر، تم عبر رؤيا رآها عبد المطلب في المنام، حيث شاهد غرابا ينبش الارض بمنقاره، فامر وهو في المنام ان يشق البئر حيث نقر الغراب. لم يكن لعبد المطلب من الاولاد في حينها سوي الحارث، فشرعا معا في حفر البئر، ومثل هذا العمل لا يجد عادة التاييد المطلوب من الناس في مراحله الاولي، بسبب عدم اطمئنانهم الي النتائج، ولم تشذ قريش عن هذه القاعدة، واكتفت تقريبا بموقف المتفرج. اما بعد ان عثر ابوطالب علي بعض النفائس التي كانت مخباة هناك، فقد تغير ذلك الموقف تماما، وابدت قريش حماسا شديدا للمساهمة في مشروع الحفر، وبعد ان ادعت شركتها في تلك النفائس وسعت مطامعها، فطالبت بحصة خاصة لها في ماء البئر وفي موارده الاخري، وقد ترك هذا الموقف آثارا عكسية في نفس عبد المطلب، واثار سخطه وامتعاضه، فقرران يهدي الي الكعبة، بعض تلك النفائس المكونة من مجسمتين، كل واحدة منهما علي شكل غزال مزين بالذهب، وعدد من السيوف والدروع واسلحة اخري، فنصبت احدي المجسمتين مع السيوف علي باب الكعبة، بينما وضعت المجسمة الاخري داخل الكعبة حيث تحفظ الهدايا والنذور، وللمجسمة التي نصبت علي باب الكعبة قصة طريفة سناتي علي ذكرها لاحقا. تطور الخلاف بين قريش وعبد المطلب حتي ذهبا معا طبقالما ورد في المصادر التاريخية الي احد الكهنة ليحكم بينهما، وبعد جولة من النزاع انتهت الازمة علي ما يبدو لصالح عبدالمطلب، حيث تولي امر البئر (بئر زمزم) تبعا لبقائه في منصب السقاية.

نذر عبد المطلب

كان عبد المطلب، الذي تحمل مشاق حفر البئر مع ابنه الوحيد الحارث، وواجه قريش وخصوماتها، وحده قد نذر ان رزق عشرة من الذكور، فسيذبح احدهم قربانا للمعبد. اذ يبدو ان التقرب بذبح الابن قربانا للمعبد، من التقاليد التي عرفها العرب منذ القدم، وكانت اقدم اشارة الي هذا التقليد عمل ابراهيم (ع) الذي قدم ابنه اسماعيل (ع) قربانا وتله للذبح لولا ان فداه اللّه تعالي (بذبح عظيم) علامة لتقبله القربان، كان نذر عبد المطلب ان يذبح احد ابنائه جزأ من هذا التقليد القديم. وبعد ان رزق عبد المطلب عشرة ابناء، جاء دور الوفاء بالنذر، وجرت القرعة طبقا للاعراف المتبعة علي يد سادن الكعبة، فوقعت علي اصغر اولاده سنا عبداللّه والد الرسول (ص)، وهناعادت من جديد ذكري ذلك التقليد القديم، فاعترضت قريش واشارت عليه ان يجعل القرعة بينه وبين مجموعة من الابل، وكانت نتيجة القرعة التي جرت في البداية بين عبداللّه وعشرة من الابل علي عبداللّه، واعيدت القرعة ثانية بعد ان زيدت الابل الي مئة بعير، فوقعت علي الابل، وقام عبد المطلب بذبح مئة بعير فدا لعبداللّه. وجعلت هذه الضحايا المئة في متناول الجميع بلا استثناء، حتي قيل انها قد اكلت منها الوحوش والطيور دون ان يمنعها احد، وكان صاحب النذر وابنه عبداللّه الوحيدين اللذين امتنعا عن تناول شي‌ء منها، وهذا ايضا من‌التقاليد المتبعة في اكل لحوم القرابين.

حلف خزاعة مع عبد المطلب

يعتبر الاطلاع علي ما ورد في المصادر التاريخية من تفاصيل حول الحلف الذي وقعه عبد المطلب مع خزاعة ضروري المعرفة تاريخ العرب قبل الاسلام والتاريخ الاسلامي كذلك، وتتلخص اهمية ذلك بالنسبة الي التاريخ الجاهلي في اعطاء صورة واضحة عن كيفية ابرام المعاهدات وعقد الاتفاقاتبين‌القبائل العربية [37] .واذا ثبتت صحة تلك التفاصيل فانها تكشف بجلاء عن المكانة‌المرموقة التي كان يتمتع بها عبد المطلب داخل المجتمع المكي، واوضح دليل علي ذلك عنوان المعاهدة، حيث جاء بصيغة: (حلف خزاعة لعبد المطلب) فكان التحالف بين قبيلة خزاعة من جانب، وشخص عبد المطلب من جانب آخر، وقد وقع التحالف اولاده نيابة عنه، ولم يكن بين قبيلتين، ولهذا اعتزعبد المطلب بهذه المعاهدة، واوصي ابنه الزبير بالاحتفاظ بها من بعده، ثم سلمها هذا الي اخيه ابي طالب،الذي سلمها بدوره الي اخيه العباس [38] .اذن كان الحلف بين شخص (يمثل قومه وعشيرته)، وبين قبيلة باكملها، فقد جاء في نص المعاهدة: (رجالات بني عمر من خزاعة ومن معهم من اسلم ومالك). [39] وقد تكون هذه المعاهدة هي الاولي التي تم تدوينها ومن ثم حفظها في الكعبة المشرفة، وهذه هي النقطة الثانية التي تؤكد اهمية دراسة هذا التحالف لمعرفة التاريخ الجاهلي. وربما كانت هناك اتفاقيات اخري تم ابرامها قبل هذه المعاهدة، ولكن تبقي هذه اقدم معاهدة وصلتنا اخبارها علي اقل تقدير. ومن الامور المهمة ايضا في هذا الاتفاق، ما جري من التاكيدات لتحكيمه، وما صدر من اعمال لتاييده وامضائه. وتنبع اهميتها بالنسبة الي التاريخ الاسلامي، من كونها المعاهدة التي احترمتها خزاعة في السنة السادسة للهجرة، اثناء صلح الحديبية، فاختارت الوقوف الي جانب رسول اللّه (ص)، ولتاكيدها واحترامها الغي الرسول (ص) صلح الحديبية عندما قتل بعض المتحالفين مع قريش جماعة من خزاعة، وقد انتهي‌الامر الي فتح مكة.

اصناف قريش

كانت هناك جماعتان من قريش وقفت ضد عبد المطلب وحلفائه من بني خزاعة، وهما بنو امية وبنو نوفل، وكان بنو امية قد ناصبوا هاشما وابناءه العدا في حياة هاشم نفسه، وليس هناك من سبب يحملهم علي العدا سوي الحسد والحنق اللذين امتلات بهما صدور بني امية علي هاشم لما كان يتمتع به من مكانة شريفة بين قومه، وقد اضطر امية الي الجلاء عن الوطن بسبب هذه الخصومة والعيش في الشام فترة عشر سنوات. واضطر عبد المطلب يوما الي الاستعانة بقوم امه في يثرب، لاسترجاع الارض التي كان قد غصبها منه عمه نوفل، واستعادها فعلا من عمه، وبقيت الضغائن والخصومات تتوارث بين ابناء بني امية وبني نوفل ضد بني هاشم حتي توصلا الي اتحاد يجمعهما ضد عبد المطلب الذي اضطر بدوره الي التحالف مع خزاعة.

الاحابيش

يعتقد (لامنس) [40] احد المستشرقين الاوروبيين ان‌قريش كانت قد فقدت خصائصها القتالية ايام ظهورالرسول (ص)، واعتمدت في حربها ضد المسلمين علي (الاحابيش) ويتكون (الاحابيش) في راي (لامنس) من‌الحبشيين والعبيد السود وبعض قبائل البدو الرحل، الذين كانواعلي استعداد للقتال لقاء اجور معينة، ويرد المستشرقون‌الاخرون علي هذه الفكرة، اذ يذكر المستشرق (منغري واف) ملخصا عن فكرة لامنس في الملحق (ا) من كتابه (محمد (ص) في مكة) ثم يرد عليها هو الاخر، وبما انه سيرد ذكر الاحابيش في تاريخ حروب الرسول (ص)، وخصوصا في معركة احد، لذا نحاول تسليط الضوء علي هذا، ونحن (المؤلف) نرفض‌وجهة النظر هذه ولا نقبلها عموما. من الامور التي يستدل بها لامنس علي تاييد فكرته، التصرفات التي صدرت من قريش بعد هزيمتها في بدر، فطبقا لسيرة ابن‌هشام فان قريش اخذت تفكر بالانتقام وتخطط له، وبعد عودة قافلتها التجارية من الشام سالمة الي مكة، قررت ان تنفق ماجنته في هذه الرحلة علي شرا الاسلحة وتوفير مستلزمات الحرب، ومضت فعلا في مسعاها لمحاربة الرسول (ص). لقداتفقت قريش (واحابيشها) مع قبائل من كنانة وتهامة علي محاربة رسول اللّه (ص)، [41] وعند شروع المعركة (كان‌اول من لقيهم اي المسلمين ابا عامر من الاحابيش وعبدان اهل مكة). [42] وليس هناك ما يؤيد وجهة نظر لامنس في كلتا الفقرتين المذكورتين، ومن البعيد ان يكون (بالاحابيش) عبارة عن الحبشيين والسود، وقد وردت كلمة احابيش في قصيدة لحسان يخاطب بها قريش، غير انها هي الاخري لا تساعد علي وجهة نظر لامنس، يقول حسان:فسقتم كنانة جهلا من سفاهتكم الي الرسول فجند اللّه مخزيهافجمعتموها احابيشا بلا حسب ائمة الكفر غرتكم طواغيها [43] .اعتبر لامنس كلمة «بلا حسب»، بمعني (بلا نسب)، ولا يوجد في الابيات السابقة ما يؤيد وجهة نظر هذا المستشرق، حيث يعود الضمير (ها) في «جمعتموها» الي بني كنانة، ويكون المعني: (انكم جمعتم بني كنانة كما جمعتم طوائف اخري لا اعتبار ولا قيمة لها لمحاربة رسول اللّه (ص». ويذكر لامنس ادلة اخري كلها من هذا القبيل، اذ ليس هناك ما يساعد علي الاعتقاد ان الاحابيش (الحبشيون) والغلمان السود) كانوا مرتزقة، وقد ذكرت كلمة (احابيش) في بعض الموارد مثل شعر حسان وشعر كعب بن مالك [44] ولكنها كانت تستخدم، ويراد بها الجماعة من الناس ليس الا، سوا في الموردين الاولين او في المورد الذي يقول: ان حليس بن زبان، او بن يزيد، كان (سيد الاحابيش)، ففي هذا المورد اطلقت كلمة احابيش علي جماعة خاصة من الناس، وقد اعتمد لامنس علي كلمة احابيش في هذه الموارد واستنتج ان المرادمنها (الاحباش والغلمان السود). الا انه ينبغي ان يعرف المقصود الحقيقي بكلمة (احابيش) ومن هم الجماعة الذين كان يطلق عليهم هذا الاسم. الذي يظهر من الروايات ان الاحابيش كانت تطلق علي قبائل بني‌الحارث بن عبد مناة (من كنانة، و (عضل) و (دليش) (من بني‌الحصون)و (مصطلق) و (حيا) (من خزاعة) [45] .وطبقا لرواية الدر المنمق [46] التي ينقلها عن ابن ابي‌ثابت، فان قريش بعد ان اخرجت خزاعة وبني بكر من مكة واصبحت بعيدة عن انصارها من بني قضاعة وبني اسد، خافت ان يتعرض انصارها الي الغزو من قبل بني بكر، فعقد عبدمناف تحالفا مع القبائل المذكورة، وتم ابرام هذا الحلف في منطقة تبعد عشرة اميال عن مكة تسمي (حبش) واصبح يعرف المتحالفون ب (الاحابيش). وفي رواية اخري: ان بني بكر ارادوا في زمن (المطلب) او (عبد المطلب) بن عبد مناف ان يطردوا قريش من مكة، فعقد (المطلب) حلفا بين قريش و (الاحابيش) (اي القبائل المذكورة) وبمساعدة (الاحابيش) تم لقريش النصر علي بنيبكر في معركة (ذات نكيف) [47] .وجاء في الياقوت: ان قائد قريش في هذه الحرب كان عبدالمطلب، بينما ورد في (الدر المنمق) ان القائد هو المطلب عم‌عبد المطلب، وفي حرب الفجار كان هؤلاءالاحابيش مع قريش [48] .وبهذا يتضح ان الاحابيش قبائل تحالفت مع قريش ووقفت الي جانبها في نزاعاتها مع الاطراف الاخري منذ زمان المطلب «اوعبد المطلب الي فتح مكة. والصحيح في فكرة لامنس هو ان قريش انما لجات الي التحالف مع الاحابيش لخوفها من الاعدا وخشيتها من تغلب الخصوم عليها، ولكن هذا لا يعني ان قريش فقدت قدرتها علي القتال، بل قد يعني ان قريش كانت بحاجة لمثل هؤلاء الحلفاء وهي منهمكة في تجارتها لتستطيع بمساعدتهم رد العدوان عنها ودفع الاعدا من التعرض لمصالحها، ومما لاشك فيه ان حلفاء قريش كانوا يتلقون منها بعض الاموال، وليس ببعيد ان تكون ثروة قريش من جملة العوامل التي دفعت الاحابيش للتحالف معها، فالتحالف لا يخلو من مكاسب مادية لكلا الطرفين، خصوصا ان الاحابيش لم يكونوا من قبائل كبيرة او معروفة في شبه الجزيرة العربية. اما كون الاحابيش جميعا من الحبشيين او العبيد السود، فهذا مالا يمكن استفادته من نصوص الروايات، وتاييده. اعتمد لامنس في رايه علي كلمة احابيش، وقد ذكرت وجوه ومعان عديدة لهذه الكلمة دون ان ياتي ذكر لراي لامنس والمعني الذي فهمه منها، واكثر الوجوه قبولا ما افاده ابن‌الاثير [49] حيث قال: «التحبش والتجمع».

الحياة المعنوية والاجتماعية في مكة

اشاره

مرت الاشارة فيما سبق، الي انه طبقا لما ورد في القرآن‌الكريم فان ابراهيم وابنه اسماعيل كانا قد بنيا الكعبة في وادغير ذي زرع، واستقر حولها ابناء ابراهيم بسعيهم وكدحهم ثم‌هناك انشا ذلك المعبد التوحيدي العظيم. تعتبر مرحلة التوحيد وعبادة اللّه الواحد الاحد متاخرة زماناعن مرحلة الشرك وعبادة الارباب المتعددين في تاريخ الاديان، من وجهة نظر علماء الاديان. واذا نظرنا الي تاريخ التحولات الفكرية في المجتمع البشري، فاننا نري مرحلة التوحيد ارقي مرتبة من مرحلة الشرك وتعدد الالهة، وفي قصة ابراهيم (ع)، التي يذكرها القرآن الكريم‌ويشير فيها الي التحول الروحي لابراهيم (ع) من عبادة الظواهر الطبيعية الي عبادة اله العالمين، اشارة رمزية الي تحول الانسان الفكري من الشرك الي التوحيد، وهذا لا يتنافي مع كون الانبياء موحدين منذ البداية، فان الشرك مقدم من الناحية الطبيعية علي التوحيد، واول مهمة للانبياء والمبعوثين الالهيين، محاربة الجهل الذي هو جزء من الطبيعة البشرية. وان الشي‌ء الفطري المغروس في النفس الانسانية والذي بينه اللّه تعالي انما هو الاعتقاد بالخالق والصانع، اما الاعتقاد بالتوحيد والايمان به فهذا ما يعلمه الانبياء. فكلمة (لا اله الا اللّه) اقرار بالتوحيد، لا الخالق والصانع. وطبقا لما جاء في القرآن الكريم فان قوم نوح كانوا يعبدون الاصنام، بينما كان نوح، الذي شرفه اللّه تعالي بالنبوة، يدعوهم الي ترك عبادة الاصنام والارتقاء بتفكيرهم الي مستوي اعلي. تمثل مرحلة الشرك ادني مراتب التفكير، ولهذا فهي من الناحية التاريخية اقدم من مرحلة التوحيد، وفي الوقت الذي جعل ابراهيم (ع) وابنه اسماعيل من الكعبة مقرا للعبادة وبيتا للّه سبحانه، نجد من جاء بعدهم قد ارتد بهم التفكير كباقي ابناء زمانهم، الي ادني المستويات، ولم يمض وقت طويل حتي تحولت الكعبة المشرفة الي محل تنصب فيه الاصنام، ويعبد فيه الارباب كباقي المعابد عند العرب. جاء في الروايات وفي اخبار العرب ايام الجاهلية: ان الذي اتي بعبادة الاصنام هم خزاعة وبالذات رئيسهم عمر بن لحي، فهو الذي جاء بالاصنام من الشام ووضعها في الكعبة. وتقول روايات اخري: ان ابناء اسماعيل كانوا ياخذون معهم عند السفر احجارا من الكعبة للذكري والاعتزاز، ينصبونها في اي مكان يحلون فيه، ثم يبدؤون بالطواف حولها، وبالتدريج غشيتهم الغفلة عن اللّه واخذوا يعبدون هذه الاحجار من دونه. ان تقدم الشرك علي التوحيد شي‌ء طبيعي كتقدم الجهل علي العلم والتعقل، [50] ولهذا السبب عادت الكعبة ثانية لتتحول كباقي المعابد الي بيت للاصنام، لكن ذلك لم يقض‌علي الاعتقاد الراسخ في اعماق النفس الانسانية بالصانع الذي خلق الكون والحياة، وظل اهل مكة يعتقدون باللّه الاله الخالق الذي هو اكبر من بقية الالهة، ففي الوقت الذي يقدمون نذورهم وهداياهم وقرابينهم الي الالهة الصغار التي يطوفون حولها ويعبدونها دوما، وهم يقولون كما جاء في القرآن الكريم: (ما نعبدهم الا ليقربونا الي اللّه زلفي) «الزمر: 3» او يقولون:هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه: (ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه) «يونس: 18». لقد حفظ لنا تاريخ العرب في الجاهلية عددا كبيرا من اسماء هذه الاصنام، كما ورد ذكر بعض منها في القرآن الكريم في الايات (20،19، 21) من سورة النجم: (افرايتم اللات والعزي، ومناة الثالثة الاخري، الكم الذكر وله الانثي). كان (مناة) علي ساحل البحر بين مكة والمدينة، وكان اهل المدينتين (مكة والمدينة) يقدمون له المزيد من القرابين والنذور، ويكنون له قدرا خاصا من التعظيم والتبجيل. ولا يكتمل حج الاوس والخزرج وكلاهما يستوطن يثرب‌الي الكعبة الا بعد ان يزوروا مناة، وبعد زيارة مناة يحلقون رؤوسهملا قبلها. [51] .اما (اللات) فهو احدث من مناة، وكان محله الطائف، ومنها كان سدنته وخدامه. ويبدو ان العزي كان احدث من الاثنين (اللات ومناة) واكبر منهما، بل هو اكبر اصنام قريش قاطبة، وكان الكل يزوره ويقدم له القرابين والنذور، وكانت من بين الاسماء التي تتردد كثيرا في قريش: (عبد اللات) (عبد مناة) و (زيد اللات) (وعبدالعزي) ويحكي ذلك عن عبادتهم لهذه الاسماء. ومن اصنام قريش المهمة (هبل) وقد جعل له مكان داخل الكعبة، وتم صنعه من العقيق علي هيئة انسان، وقد صاغت له قريش يدا من الذهب جعلتها مكان يده اليمني المقطوعة اصلا، وكان قد وضع امامه سبعة اقداح (اسهم)، يرجع اليهاعادة في اجرا القرعة للامور المهمة والمعقدة، واذا ما واجه شخص مشكلة ما يعود الي هذه الاسهم، ويختار واحدا منها، ثم يقرا ما كتب عليه من كلمات لتخبره بعاقبة عمله. ان كانت خيرا او شرا. وغالبا ما يرجع الي هذه الاسهم لحسم احدي المشاكل الاجتماعية المهمة التي كانت تعاني منها قريش بل العرب جميعا، وهي كيفية معرفة الاب الاصلي للمولود في ضوء العلاقات غير الشرعية واختلاط الدماء وتردي اوضاع الزواج والطلاق، وما الي ذلك من مشاكل سناتي علي بحثها لاحقا. كان يتم حسم المشكلة التي تنشا من صعوبة تشخيص الاب الحقيقي للمولود باجرا القرعة علي سهمين من السهام السبعة الموجودة الي جانب هبل، وقد كتب علي احد هذين السهمين كلمة (صريح) بينما كتب علي الاخر كلمة (ملصق)، فاذا اصابت القرعة (الصريح) اصبح المولود ابنا حقيقيا لذلك الاب المشتبه، واذا ما اصابت (الملصق) ارتفعت ابوة هذا الاب.اوقل ارتفعت بنوة هذا المولود المشتبه لهذا الاب. [52] .وعندما غلب المسلمون في معركة احد صاح ابو سفيان زعيم المشركين (اعل هبل). يوضح تاريخ العرب قبل الاسلام ان القبائل العربية كانت تتخذلها اوثانا خاصة، فلكل قبيلة صنمها الخاص الذي لا تشاركها به‌القبائل الاخري وان كانت تحترمه وتقدسه، فمثلا اتخذت قبيلة هذيل (سواعا) وقبيلة كلب (ودا) او (ودا) وقبيلة مذحج (يغوث) بينما اختصت قبيلتا حمير وخيوان ب (نسر) و (يعوق) علي التوالي. [53] وقد وردت اسماء هذه الاوثان في سورة نوح، ويفهم من السورة المباركة ان قوم نوح كانوا هم ايضا يعبدون هذه الاوثان. بالاضافة الي هذه الاصنام التي كانت تعبد علي امتداد شبه الجزيرة العربية والتي كانت لها اسماؤها الخاصة، كان هناك ثمة اشياء اخري عبدها الناس من دون اللّه، واطلق عليها اسم (الانصاب) او (النصب) التي وردت في القرآن الكريم في سورة المائدة الاية (3)، التي استعرضت الحرام من اللحوم فقالت: (وما ذبح علي النصب) وذكرت (الانصاب) في‌الاية (90) من السورة الشريفة نفسها كواحدة من المحرمات التي تعرضت لها السورة. والانصاب او النصب عبارة عن احجار كانت توضع امام الاصنام لتذبح عليها القرابين المقدمة لتلك الاصنام، وكان ينبغي ان تلطخ بالدم حتي تخضب تماما وتصطبغ جميع اجزائها به. والغبغب او العبعب هو اسم للمكان الذي تذبح فيه القرابين. وقال بعضهم: انه الحفرة التي ينحدر اليها الدم، من فوق الانصاب، او الاخدود الذي تكدس به النذور والقرابين المقدمة للصنم. والقربان اسم مشتق من (القرب) وهو الحيوان الذي يذبح في مراسم خاصة من اجل التقرب به الي الرب. وتسمي الحيوانات التي كانت تقدم كقرابين في شهر رجب ب (العتيرة)، وتقدم القرابين عادة للوفاء بالنذر او الوفاء بالعهداو لاتمام مراسم الحج والزيارة. وتحترم الاصنام ما دامت لا تتعارض مع مصالح الزوار والعباد، وفي هذا المجال قصة طريفة اوردها ابن الكلبي في (الاصنام) وجاء فيها انه حينما اراد الشاعر المعروف امرؤ القيس الهجوم علي بني اسد انتقاما لدم ابيه، ذهب الي صنم من الاصنام يدعي (ذو الخلصة) يطلب استشارته بالامر وبعد ان اجري القرعة في السهام الموضوعة امام الصنم، وقعت القرعة علي «الناهي» اعادها ثلاث مرات فلم تصب غير (الناهي) و (الناهي) كناية عن النهي عن ذلك العمل، فغضب امرؤ القيس، وحمل‌علي الاسهم فكسرها وضرب بها وجه الصنم، ثم شتمه وقال له: لو كان المقتول اباك لما نهيتني عن هذاالعمل [54] .كانت الشمس والقمر كذلك من ارباب العرب، ولهذا سمي بعضهم بعبد شمس، وقد نهي القرآن الكريم عن ذلك في الاية (37) من سورة فصلت: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر). وجاء في الايتين (5و6) من سورة الرحمن (الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان) وقال في سورة الانعام الاية 96: (فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا). تشير سورة الرحمن ايضا الي ان قسما من العرب كانوا يعبدون بعض النجوم والاشجار، وقد ورد في قصة العزي ان امراة شريرة كانت تختفي ورا اشجار ثلاث، كان خالد بن الوليد قد قطعها بامر من الرسول (ص)، فوجد تحتها امراة سودا شعثاء الشعر. وتظهر هذه القصة صحة الاخبار التي تتحدث عن عبادة الاشجار عند العرب، وقد شجب القرآن جميع الارباب المتخذة من دون اللّه، ونهي عن عبادتها، وقال في الكتاب الكريم: ان الشجر والنجم انما هي مخلوقات للّه عز وجل تاتمر بامره. ويري المؤلف ان تاويل بعض المفسرين الذي ورد في الاية الكريمة بانه نوع من العشب غير صحيح، حيث يذهب اكثر المفسرين الي ان المراد بالنجم، الذي اقسم به الباري في سورة النجم بقوله: (والنجم اذا هوي) «النجم: 1»، هو الثريا، واقسم بنجم آخر في سورة الطارق: (والسماء والطارق، وما ادراك ما الطارق، النجم الثاقب) «الطارق:1-3». ويبدو ان الليل والنهار هما ايضا من الاشياء التي عبدها العرب، وكانوا لها يعكفون، او انها كانت علي الاقل تنال منهم احتراما وتقديسا، هذا ما يمكن استخلاصه من بعض الايات في سورتي الانعام وفصلت، فقد ورد في مقام الرفض والنهي عن ذلك ان اقسم اللّه تعالي بهما باعتبارهما آيتين من آيات اللّه في هذا الكون، ففي سورة الشمس اقسم اللّه تعالي بالشمس والقمر بقوله: (والشمس وضحاها، والقمر اذا تليها، والنهار اذا جليها) «الشمس: 1-3». وفي سورة الليل: (والليل اذا يغشي، والنهار اذا تجلي) «الليل: 1-2». وفي سورة المدثر: (كلا والقمر، والليل اذ ادبر، والصبح اذا اسفر) «المدثر: 32-34». توضح هذه الاقسام الالهية، بالشمس والقمر والليل والنهار والصبح، المكانة غير الاعتيادية والاحترام والتقديس التي كانت تحظي بها هذه الظواهر الطبيعية عند العرب، ففي الوقت الذي يلفت به الباري جل شانه من خلال القسم الانظار الي هذه الظواهر باعتبارها ظواهر طبيعية، يشير الي انها معلولة له ومؤتمرة بامره، حيث قال في سورة التكوير: (اذا الشمس كورت، واذا النجوم انكدرت) «التكوير: 1-2»، وفي موضع آخر يستعرض التحولات والتغيرات التي تحدث في الطبيعة من قبيل (ادبر)، (اسفر)، (جليها)، (يغشيها)، ليؤكد علي انها امور زائلة لا تستقر علي حال، وقد يوحي ايضا القسم بالسماء والارض كما في: (والسماء وما بنيها، والارض وما طحيها) «الشمس: 5-6». قال بعضهم: ان الشمس كانت عبارة عن وثن من اوثان العرب. [55] وورد في كتاب (المحبر) اسم الشمس اثناء استعراضه لتلبية الاصنام، غير ان الظاهر ان المقصود بالشمس التي استعرض تلبيتها المخبر هي نفس الشمس السماوية، وكانت تلبية الذين يعبدون الشمس طبقا لما قاله المخبر (ص‌312) كما ياتي: لبيك اللهم لبيك لبيك ما نهارنا بجره ادلاجه وحره وقره لا نتقي شيئا ولا نفره حجا لرب مستقيم بره. واري (المؤلف) عدم صحة بعض الكلمات الواردة في‌المحبر، وقد بادرت (المؤلف) الي اصلاحها، فنجره بدل بجره، ونضره بدل نفره. جاء في قصة (المنافرة بين عبد المطلب وثقيف) التي وردت‌في (المنمق) ان الكاهن او القاضي الذي حكم بينهم كان قد اقسم ب (الضياء والظلم)، وقد ورد قسم مشابه في سورة التكوير: (والليل اذا عسعس، والصبح اذا تنفس) «التكوير:17-18» واقسم في سورة الواقعة بمواقع النجوم واعتبره امرا عظيما: (فلا اقسم بمواقع النجوم، وانه لقسم لو تعلمون‌عظيم) «الواقعة: 75-76».

الحج و العمرة

تبلغ مكة في موسم الحج والعمرة اوج حركتها وحيويتها المعنوية، ولقد اجري الاسلام تغييرات مهمة في مناسك الحج الجاهلي وآدابه، وجعله واجبا عينيا علي كل مسلم مرة واحدة في حياته ان استطاع اليه سبيلا، والذي ابطله الاسلام من مناسك الحج الجاهلي تلك الامور المتصلة بالاصنام اوالتي لا تليق بالاداب العامة، وحافظ علي تلك المراسم التي تؤكد التوحيد والاخلاص للعبادة للّه وحده وتبني السلام وتشيع الامن العام وترسخ الوحدة بين المسلمين، كما شدد علي اقامة المناسك التي من شانها ان تزيل الامتيازات الطبقية او الاقتصادية او العنصرية وتقوي رابطة الاخوة بين المسلمين جميعا، بما فيهم الفقرا والاغنياء، الضعفاء والاقوياء دون فرق بين احد منهم. لما حج النبي (ص) خطب الناس بعرفة وقال (ص): ان اهل الشرك والاوثان كانوا يدفعون من عرفة اذا صارت الشمس‌علي رؤوس الجبال كانها عمائم الرجال في وجوههم، ويدفعون من مزدلفة اذا طلعت الشمس علي رؤوس الجبال فانها عمائم الرجال في وجوههم، وانا لا ندفع من عرفة حتي تغرب الشمس وغسل فطر الصائم، وندفع من مزدلفة غدا ان شاء اللّه قبل طلوع الشمس هدينا مخالف لهدي اهلالشرك والاوثان. [56] .كانت قريش تري لنفسها امتيازات واحكام خاصة في الحج، بعبارة اخري كان لها حجمها الخاص، فهي لا تخرج عن اطار حدود الحرم ولا تري الوقوف بعرفات جزأ من الحج، بل تراه واجبا علي اهل الحل، فقط، وهم اولئك الذين ياتون من خارج حدود الحرم، بينما كان يجب علي باقي الناس ان يخلعوا ما عليهم من ملابس ولا يدخلوا في مناسك الحج الا بعد ان يرتدوا ملابس يشترونها او يستعيرونها من قريش، في وقت كان القرشيون يؤدون مناسكهم بلباسهم العادي دون تغيير او تبديل. وفي حال عجزهم عن الحصول علي ملابس قرشية شرا او اعارة كان عليهم ان يطوفوا عراة كما ولدتهم امهاتهم. وقد شجب الباري جل شانه هذه الفاحشة ونهي عنها في محكم كتابه الكريم: (واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا واللّه امرنا بها قل ان اللّه لا يامر بالفحشاء اتقولون علي اللّهما لا تعلمون) «الاعراف: 28». ينقسم العرب في ادائهم لمراسم الحج الي مجموعتين: مجموعة (الحمس) ومجموعة (الحلة) او اهل الحل، ولكل من المجموعتين اعمالها الخاصة في الحج، وقد اضاف البعض مجموعة ثالثة سماها (الطلس) وهم الذين يحجون بمناسك بعضها من الحمس وبعضها الاخر من اهل الحل. والحمس‌هم اهل قريش وقبائل خزاعة والقبائل التي لها صلة ونسب بقريش. وقد استغلت قريش موقعها في سدانة الكعبة المشرفة، فاتخذت لنفسها امتيازات خاصة، كالتي اشرنا اليها من عدم الوقوف بعرفات والطواف بنفس ملابسهم دون حاجة الي تبديلها كما هو الحال مع اهل الحل، غير انهم الزموا انفسهم التزامات اخري وشددوا عليها، فاذا نسكوا لم يدخروا لبنا، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتي يعافه، ولم يجزوا شعرا ولاظفرا، ولم يدهنوا، ولم يمسوا النساء ولا الطيب، ولم ياكلو الحما، ولم يلبسوا في حجهم وبرا ولا صوفا ولا شعرا، يلبسون الجديد، ويطوفون بالبيت في نعالهم لا يطاون ارض المسجد تعظيما له،ولا يدخلون البيوت من ابوابها [57] .كان اكثر العرب يكفون عن الحرب والنزاع في الاشهر الحرم: ذي القعدة وذي الحجة ومحرم. وقد اتبع هذا التقليد اصلا كما يبدو لوقوع الحج في هذه الاشهر الثلاثة، ولبلوغ التجارة ذروتها في هذا الموسم من السنة، ومن الواضح ان مناسك الحج تبدا في ذي الحجة، غير ان حركة السوق تكون مع توافد الزوار وتقادم الحجيج في ذي القعدة، ولا تنتهي الا بعد رحيلهم الي اوطانهم. وقد يمتد ذلك الي المحرم، ولكي تؤمن الطرق وتمنع الغارات ويشعر الناس بالاطمئنان، فتزدهر التجارة، وينشط السوق، فلا بد من فرض مثل هذا الموسم السلمي. والذي يشعر فيه الزوار بالامان، ويجد فيه التجار المناخ المناسب لنمواسواقهم وتوسع حركتهم التجارية. اما العمرة فموعدها شهر رجب، الذي الحق هو الاخر بالاشهر الحرم، مع ان هناك من بين القبائل العربية من لا يؤمن بهذا الموسم ولا يقيم له وزنا، كقبيلتي (ط‌ي‌ء) و (خثعم) اللتين‌لا تقيمان حرمة للحج او الكعبة. كان الناس يبداون تجمعهم في سوق عكاظ منذ الايام الاولي لشهر ذي القعدة، ويقيمون هناك عشرين يوما يقضونها بالبيع والشرا وتبادل البضائع في حركة دائبة حتي يغادروا السوق الي مكان آخر يدعي (مجنة) يمكثون فيه عشرة ايام، وكان يموج بالحركة، وتزدهر فيه التجارة، وبعد انقضاء ذي القعدة ودخول ذي الحجة يغادر الناس (مجنة) ويتجهون الي مكان آخريعرف ب (ذي المجاز) ينشغلون فيه بالتجارة ايضا حتي ياتي اليوم الثامن او ما يسمونه بيوم التروية، وهو آخر ايام التجارة، وفيه يبدا الاستعداد لمغادرة (ذي المجاز) الي عرفة، واول شي‌ء يقومون به هو تخزين المياه اللازمة لحملها معهم الي‌عرفات حيث لا ماء هناك، ومن هنا سمي هذا اليوم بيوم التروية (اي يوم الارتوا من الماء). ومن ثم يشرع بمناسك الحج ومراسم العبادة، حيث تلبي كل قبيلة تلبيتها الخاصة بها، وتردد شعار الولاء لالهتها. كانت قريش وباقي العرب تحرم دخول اسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز قبل عقد الاحرام وارتدا الملابس الخاصة به، وبدخول الانسان حالة الاحرام يصبح في حالة روحانية خاصة تصده عن ارتكاب التجاوزات والاعتدا علي الاخرين، ويستبطن هذا الامر نقطتين مهمتين: الاولي: اعتياد العرب علي الاعتدا والغصب والغزو، الامر الذي تحول الي عادة وسنة من سننهم، لا يمتنعون عنها الا حينما يبدا الموسم التجاري السنوي، وتنشط الاسواق العامة بحركة البيع والشرا والكسب. الثانية: رغم تحول هذه الحالة اي حالة الاعتدا والغزو الي صفة عامة لجميع العرب تقريبا، الا انه كان يرفضها الوجدان العام ولا يقرها الضمير الباطني، لهذا كانوا ومنذ القدم يمتنعون‌عن هذه الاعمال ويابون ارتكابها عند دخولهم في حالات دينية وروحية معينة. يبدو ان الدخول في حالة القداسة الدينية (الاحرام) والتجارة كانا توامين، فمن ناحية يطمئن الوجدان الديني وتكون الاحساسات والمشاعر الروحية والمعنوية في حالة من السكينة والاستقرار، ومن ناحية ثانية تجد التجارة مناخا جيدا من الامن والامان يساعد علي نموها ويوفر للقوافل التجارية طرقا آمنة وسوقا مزدهرة. وبناء علي هذا فان هذه الاشهرالثلاثة المتتالية التي تسمي الاشهر الحرم، تمثل قمة الحيوية الروحية وذروة النشاط الاقتصادي والاجتماعي وتكثر فيها الافراح والاحتفالات. لقد اقر الاسلام هذه الاشهر الحرم، ووجد فيها فرصة جيدة لتاكيد اهتمامه بالامن وحرصه علي رفاه الناس واستقرارهم، ثم‌عمل علي تهذيب مناسك الحج مما علق بها من مظاهر الشرك وشوائب الجاهلية، وفي الوقت نفسه اقر ما فيه من طقوس تعود بالنفع المادي والمعنوي علي الناس، واضاف اليه مناسك ترقي به من الجانب الروحي وتضفي عليه مسحة عبادية وروحية خاصة. فمن التقاليد التي نهي عنها الاسلام مسالة (الصرورة) وتطلق‌علي الحجة الاولي للشخص ويقال لصاحب هذه الحجة (الصرور). اذ يبدو ان العرب قد اعتادوا في الجاهلية علي ترك المجرم‌حتي لو ارتكب ذنبا عظيما كالقتل، وعدم التعرض له في الحرم المكي فيما لو ادعي انه صرور ولم يسبق له ان حج او تعرف‌علي ما يجب اجتنابه في موسم الحج. لقد نهي الرسول (ص) عن ذلك، وقال: «لا صرورة في الاسلام»، ودعا الي معاقبة‌المذنبين والاقتصاص منهم وعدم السماح لهم بارتكاب ما من شانه انتهاك حرمة الحرم المكي.وقال البعض: ان الصرورة تعني الرهبانية واعتزال‌النساء. [58] .

سوق عكاظ

يقع سوق عكاظ مسير ثلاثة ايام بلياليها عن مكة، ويفتح هذا السوق ابوابه في شهر ذي القعدة من كل عام وقيل في شوال غير ان الرواية الاولي اقرب الي الصحة لما قيل من انه يفتح في الاشهر الحرم. ويعتبر سوق عكاظ من اهم الاسواق السنوية في شبه الجزيرة العربية علي الاطلاق، فلو فتح في غير هذه الاشهر لتعرض الي الغزو والنهب والسلب. قال ياقوت في ذيل ترجمته لعكاظ: «قال الاصمعي: عكاظ نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليال، وبه كانت تقام سوق العرب بموضع منه يقال له الاثيرا، وبه كانت ايام الفجار، وكان هناك صخور يطوفون بها ويحجون اليها». وهذا دليل علي ان الحج والتجارة كانا يقترنان عند عرب الجاهلية، ففي ظل الحج وحرمته الدينية يتمتع الاقتصاد بالامن والازدهار، وفي ظل الاقتصاد يتوجه الناس الي المعابد واماكن الزيارة، وفضلا عن كون عكاظ اجتماعا دينيا واقتصاديا، فهو منتدي لاشاعة الثقافة والادب والمسائل السياسية، فالقبائل تتحدث عن مناقبها ومفاخرها، والشعرا ينشدون اشعارهم، وتعقد هناك معاهدات الصلح والسلام. «كانوا ينزلون دومة الجندل اول يوم من ربيع الاول، فيقيمون اسواقها بالبيع والشرا والاخذ والعطاء، وكان يعشوهم فيها اكيدر وهو ملكها وربما غلب علي السوق كلب، فيعشوهم بعض رؤساء كلب فيقوم سوقهم هناك الي آخر الشهر، ثم ينتقلون الي سوق هجر من البحرين في شهر ربيع الاخر فتكون اسواقهم بها، وكان يعشوهم في هذا السوق المنذر بن ساوي احد بني عبداللّه بن دارم وهو ملك البحرين ثم يرتحلون نحو عمان من البحرين ايضا فتقوم سوقهم بها، ثم يرتحلون فينزلون ارم وقري الشحر من اليمن فتقوم اسواقهم بها اياما، ثم‌يرتحلون فينزلون عدن من اليمن ايضا فيشترون منه اللطائم وانواع الطيب، ثم يرتحلون فينزلون حضرموت من بلاد اليمن، ومنهم من يجوزها فيرد صنعاء، فتقوم اسواقهم بها، ويجلبون منها الخرز والاوم والبرود وكانت تجلب اليها من معافر، ثم يرتحلون الي عكاظ في الاشهر الحرم، فتقوم اسواقهم ويتناشدون الاشعار ويتحاجون، ومن له اسير سعي في فدائه، ومن له حكومة ارتفع الي من له الحكومة، وكان الذي يقوم بامر الحكومة فيها من بني تميم، وكان آخر من قام بها منهم الاقرع بن حابس التميمي، ثم يقفون بعرفة ويقضون مناسك الحج، ثم يرجعون الي اوطانهم وقد حصلواعلي الغنيمة، وآبوا بالسلامة». [59] .وكان ملك الحيرة يبعث الي هناك قوافل تجارية، تحمل معها اكثر ما تحمل الطيب وخاصة المسك، ويبدو ان المسك ياتي من طريق التبت او افغانستان او من بلاد ما ورا النهر، وينتقل من فارس الي الحيرة وشبه الجزيرة العربية، ومن هناك يشتري الادم والحرير والوكاء [60] والحذا والبرود من العصب والوشي‌ء والمسير [61] والعدني [62] .وذكرالحرير من جملة هذه البضائع المشتراة، يبدو انه اشتباه، لان الحرير كان يصدر من فارس والصين الي الروم والمغرب. وكانت احدي هذه القوافل قد تسببت في حرب طاحنة هي حرب الفجار. لم يكن عكاظ مجرد سوق لتبادل البضائع، وانما كان ايضا ناديا ثقافيا وادبيا عاما، يلقي فيه الشعرا آخر قصائدهم، ويتصيد فيه الشبان عشيقاتهم الجميلات من فتيات القبائل العربية المختلفة، وقد ادت احدي حالات العشق هذه الي نشوب احدي حروب الفجار، وكان من بين القبائل العربية من لا تقيم اية حرمة لهذه الاسواق ولا ترعي فيها الا ولا ذمة، فيسبب ودخولها حالة من الهلع وفقدان الامن والاستقرار، وقد اطلق علي هؤلاء اسم «المحلون»، بينما كانت هناك طائفة من العرب وظيفتها حماية المظلوم وردع الظالم والحيلولة دون اراقة الدماء، ودعي هؤلاء ب (الذادة المحرمون).

ايام الحج

يبدو من كلام القلقشندي في صبح الاعشي ان الاسفار التجارية للعرب كانت تقترن دائما بموسم الحج والزيارة، وتبدا هذه الاسفار من الشام في شهر ربيع الاول، وتنتهي الرحلتان معا (رحلة الحج، ورحلة التجارة) في شهر ذي‌الحجة في الحجاز. ونظرا لارتباط التجارة بالحج وحصولهما معا في موسم واحد، فلا بد ان يكون محل هذا الموسم محلا ثابتا من السنة، ومع الالتفات الي ان البضائع يجب ان تعرض في الاسواق في فصل معين من السنة، فلا بد ان نقول ان الاسفار التجارية حول شبه الجزيرة العربية تبدا في فصل معين من السنة الشمسية، وتنتهي في فصل معين ايضا من هذه السنة، ويمكننا القول بالالتفات الي كلمة ربيع الاول ان هذا السفر يبدا في الربيع وينتهي في آخر الخريف. وبناء علي ذلك فان ايام الحج واقامة هذه الاسواق الشهيرة كانت في اواخر الخريف واوائل الشتاء، وهذا شي‌ء طبيعي بالنسبة الي المناخ في شبه الجزيرة العربية، ففصل الخريف هو الفصل الذي تنضج وتجني فيه اهم الثمار وهي التمور، وبما ان القبائل العربية تجتمع في موسم الحج والتجارة في سوق عكاظ، فينبغي ان يكون تجمعها هذا في وقت مناسب من حيث المناخ لاقامة هذه المراسم العبادية والقيام بالنشاط التجاري المطلوب واقامة حفلات الفرح والابتهاج. ولم تحظ مسالة المناخ وارتفاع درجات الحرارة بالاهمية ذاتها بالنسبة الي قوافل التجارية القادمة من بلاد الشام وسواحل الخليج الفارسي والبحر العربي، باتجاه اليمن، ومن هناك الي الحجاز لانها اعتادت السفر والفته، ولان اقصي ما يمكن ان تصله درجة الحرارة في صنعاء (28ل) فوق الصفر صيفا، كما ان شهري حزيران وتموز هما اشد الشهورحرارة هناك [63] .اما الشهور العربية فهي شهور قمرية، والسنة عبارة عن (12) شهرا قمريا، وتقل عن السنة الشمسة بعشرة ايام واحدي وعشرين ساعة واثنتي عشرة دقيقة. وبهذا يصبح الفرق بين التاريخ القمري والتاريخ الشمسي شهرا واحدا تقريبا في كل ثلاث سنوات. وبعبارة اخري تعادل كل ثلاث سنوات شمسية ثلاث سنوات قمرية وشهرا واحدا. وبناء علي ما ينقله ابو ريحان البيروني، [64] فان السنة المعتبرة لدي الاقوام السامية (العبرانيين والصائبة والحرانيين) هي السنة الشمسية، اما الاشهر فهي بحساب السنة القمرية، لانهم كانوا يحسبون الايام والاحتفالات والاعياد وفقا للسنة القمرية، ولكنها تنطبق مع فصول السنة الشمسية، وذلك لانهم كانوا يكبسون سبعة اشهر قمرية في كل (19) سنة قمرية، لكي تنطبق ايام الاعياد والمناسبات الدينية الموزعة وفقا لاشهر القمرية علي فصول السنة الشمسية. وكان العرب يكبسون الاشهر بما يقرب من هذا، وقد اخذوا هذا الحساب عن اليهود، وجروا عليه لما يقرب من (200) سنة قبل الاسلام، وكانوا يكبسون (9) اشهر في كل (24) سنة بدلا من (7) اشهر في كل (19) سنة، وبذلك تنطبق عندهم السنون القمرية مع فصول السنة الشمسية دون تقديم او تاخير، وكان عمل النسية او الكبيسة يؤديه افراد متمرسون من قبيلة كنانةيعرفون ب (القلمس) [65] .وفي موضع آخر من الاثار الباقية، [66] يقول: كان العرب‌في الجاهلية، يعملون بالاشهر القمرية كما هي عليه بعد الاسلام، الا انهم كانوا يكبسونها، فكان حجهم يدور علي‌الفصول الاربعة، بسبب الكسر المتبقي من جرا الفرق بين السنة القمرية والسنة الشمسية (وهو (10) ايام و (20) ساعة). ومن ثم ارادوا ان يكون الحج موافقا لموسم المحصولات الزراعية والمنتجات الحيوانية كالجلود وغيرها، فجعلوا موسم الحج ثابتا علي مدار السنين وذلك لانهم كانوا ينسئون الشهر، حيث يضيفون كسور السنة القمرية الي نفس السنة القمرية بعد مضي شهر واحد من السنة الشمسية، وكان المتولي لهذا العمل هو احد افراد قبيلة كنانة من (القلامس)، حيث يخطب في موسم الحج معلنا اضافة هذا الشهر الي السنة، ويسمي الشهر الذي يليه بالاسم نفسه، فاذا اضيف شهر الي السنة القمرية في اول السنة فيسمي الشهر المضاف محرما، والشهر الذي بعده، والذي هو صفر بالحقيقة، يسمي ايضا محرما. وقد توافق العرب في الجاهلية علي هذا العمل، وكانوا يسمونه النسي‌ء، اي التاخير او الاضافة، فالنسي‌ء الاول كان في المحرم، ففي سنة النسي‌ء الاولي ذات ال (13) شهرا يكون محرمان متتابعان، فيصير صفر محرما وربيع الاول صفرا وهكذا يستمر النسي‌ء حتي يقع المحرم في ايامه الحقيقية، ومن ثم‌يبداون بالنسي‌ء، ويستمد دوران الشهر القمري علي فصول السنة الشمسية الاربعة حتي يقع في ايامه الحقيقية (32) سنة. وايام هجرة الرسول (ص) كان النسي‌ء قد وصل الي شعبان، اي ان شعبان الواقعي جعلوه محرما اي اول اشهر السنة، وجعلوا رمضان الواقعي صفرا، فلبث رسول اللّه (ص) عشر سنين، حتي حلت حجة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، ولذلك قال (ص): «الا وان الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللّه السماوات والارض، السنة اثنا عشر شهرا، منها اربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان»، اراد (ص) ان يقول ان الاشهر الحرم رجعت الي مواضعها وعاد الحج الي ذي الحجة وبطل النسي‌ء. هذا ما ذكره ابو ريحان البيروني، وهو الاقرب الي الصحة، بل هو الاصح في راينا والاكثر واقعية من جميع الارا التي ذكرها المحدثون والمفسرون واللغويون والرواة في معني (النسي‌ء)، فقد اوضح ابو ريحان ان كل اربع وعشرين سنة كانت هناك سنة كبيسة من تسعة اشهر، وكان شهر شعبان من السنة الاولي للهجرة هو شهر محرم واقعا، وكان شهر رمضان من تلك السنة هو الشهر التاسع (اي الاخير) من السنة الكبيسة التي انتهت بها دورة الاربعة والعشرين عاما، وكان يجب ان تمر ثمانية اعوام اخري تقريبا حتي يعود محرم الي موقعه الاصلي من السنة. ولهذا اعلن الرسول (ص) في السنة العاشرة للهجرة بعد اتمامه لحجة الوداع ان الاشهر القمرية عادت الي مواقعها الاصلية ولا حاجة للنسي‌ء مستقبلا. وقد ورد في القرآن الكريم ما يؤيد الراي الذي ذهب اليه البيروني، قال تعالي: (ان عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق السموات والارض..) «التوبة: 36». وجاء هذا التاكيد علي ان عدة الشهور (اي شهور السنة) عنداللّه اثنا عشر شهرا، لينفي ما جرت عليه العادة من جعل السنة الكبيسة ثلاثة عشر شهرا. لقد اكد الباري جل شانه علي ان السنة تتكون من اثني عشر شهرا لا اكثر ولا اقل، ونفي ان تكون السنة ثلاثة عشر شهرا، والنسي‌ء او الكبيسة، طبقا لقول البيروني، هو اضافة شهر واحد علي الاثني عشر شهرا، اما الاشهر الحرم فهي اربعة فقط، ليتم نفي الشهر الخامس من الاشهر الحرم الذي سيتحقق فيما لو اقرت السنة الكبيسة فيتكرر محرم فيها مرتين. وجاءت الاية التالية لتقول: (انما النسي‌ء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم‌اللّه) «التوبة: 37». وتوضح الاية ان النسي‌ء هو زيادة شهر واحد علي اشهر السنة الاثني عشر، جاء (في لسان العرب ذيل كلمة النساء): (النسي‌ء: شهر كانت العرب تؤخره في الجاهلية). اي كما نصت عليه الاية الشريفة (زيادة في الكفر) فقد جري العرب ايام الجاهلية علي هذه السنة (يضل به الذين كفروا) فبزيادتهم هذا الشهر يزدادون ضلالا، اذ يحلون احد الاشهر الحرم عاما ويحرمونه عاما في اشارة الي السنة الكبيسة (ليواطئوا عدة ما حرم اللّه) ليجعلوا الاشهر الحرم متوافقة مع مصالحهم واهوائهم من خلال النسي‌ء، وبعبارة اخري ان من شان ذلك النظام (النسي‌ء) ان يغير مواقع الشهور في السنة، فيصبح شهر ذي الحجة مثلا حراما مرة وحلالا اخري، وهو الشهر المقدس وشهر الحج والعبادة، لينسجم مع مصالحهم التجارية من خلال انطباقه علي فصول السنة الشمسية، لهذا اكتسب امر الغاء النسي‌ء اهمية قصوي من الناحية الدينية والاجتماعية، فببركته لم يعد الحج مقترنا بالتجارة، وخلص مماعلق به من شؤون الدنيا ومشاغل الحياة المادية، ولم تعد ايامه تحدد في موعد ثابت، وهو الموسم الذي تزدهر فيه التجارة وتعرض فيه المحاصيل الزراعية والصناعية ويكثر فيه البيع والشرا، وعلي الحجاج من الان فصاعدا ان يقصدوا مكة ويشدوا الرحال اليها من اجل الحج وتادية مناسكه واقامة هذه الشعيرة الالهية ليس الا، وبناء علي هذا تم اقفال سوق عكاظ الي الابد، واكتسب امر الغاء النسي‌ء اهميته الاجتماعية من خلال اخراج العرب من حالة البداوة والترحال الي حالة الاستقرار والتحضر، اذ لم تعد التجارة شانا موسميا يمارسه اهل البادية في موسم معين من السنة ويتركونه ما بقي منها، لقدا صبح علي القبائل المتنقلة ان تمارس التجارة علي مدار السنة وفي جميع الفصول. وكان ذلك من الانجازات المهمة التي حققها الاسلام في حياة العرب وفتح لهم آفاق التمدن، وعلمهم نظم الحياة وكيفية ادارة شؤون المدن الكبري في آسيا وافريقيا.

اديان اخري في مكة

ليس لدينا معلومات عن وجود قبائل في مكة كانت قد اعتنقت اليهودية، في الوقت الذي كانت توجد مثل هذه القبائل بكثرة في يثرب واليمن واطرافهما، كما كان هناك من القبائل العربية من دانت بالديانة اليهودية، وسياتي الحديث في محله عن خصومات هذه القبائل وصراعها مع الرسول (ص)، وكان في مكة بعض المسيحيين الذين لجاوا اليها من بلاد الروم والحبشة وبلدان اخري. قال اليعقوبي: «تنصر من احياء العرب قوم من قريش من بني اسد بن عبد العزي، منهم: عثمان بن الحويرث بن اسد بن عبد العزي، وورقه بن نوفلبن اسد» [67] .وتذكر بعض المصادر التاريخية ان هناك قوما من قريش كانواقد تزندقوا فقالوا بالثنوية. ويقصد بالزنادقة قديما (المانويين)، ثم تحولت الكلمة الي مصطلح يطلق علي كل من خالف الدين الاسلامي. جاء في المحبر ذكر بعض الاسماء (من قريش) التي اشتهر اصحابها في عدائهم لرسول اللّه (ص) وعبر عنهم ب (زنادقة قريش)، من بين هؤلاء ابو سفيان بن حرب. [68] غير ان ذلك يتنافي مع الشعار الذي رفعه ابو سفيان يوم احد حيث صاح باعلي صوته: «اعل هبل» الا اذا قلنا ان ابا سفيان اطلق ذلك الشعار باعتباره ممثلا لقوم كانوا يعبدون الاصنام وهم قريش ولا يعبر بذلك عن معتقداته المانوية. ومن الزنادقة او المانويين الذين وردت اسماؤهم في المحبر: العاص بن وائل السهمي، والد عمر بن العاص، والوليد بن المغيرة المخزومي، والد خالد بن الوليد. وجاء في المحبر ان المانوية ديانة اقتبسها اهل قريش من نصاري الحيرة. علي ان المانوية غير النصرانية، وهي ديانة مستقلة تماما عن النصرانية، وقد تكون اوجه التشابه بين الديانتين في قضايا الزهد والعبادة، هي التي سببت هذا الخلط‌بين الاثنتين، خصوصا ان بعض الفرق في العراق كانت قد اخذت عقائدها من المانوية والمسيحية، الامر الذي اوقع بعض المؤرخين في مثل هذا الالتباس، وقد استوطن الحيرة قوم كان فيهم المسيحيون وعبدة الاصنام المشركون وربما المانويون ايضا. يقول ابن قتيبة: «وكانت الزندقة في قريشاخذوها من الحيرة». [69] .ويضيف ابن قتيبة في الصفحة نفسها: ان جماعة من تميم كانت تدين بالديانة الزرداشتية، وقد عقد صاحب المنمق فصلا خاصا لمن كانت امهاتهم من اليهود من ابناءقريش. [70] .وبمطالعة هذا الفصل الذي افرده المؤلف لهذا الغرض، يتضح‌عدد القرشيين الذين تزوجوا يهوديات من يهود يثرب وخيبروغيرهم. لكن يبدو ان احدا من هؤلاء الابناء لم يتابع امه في دينها، بل بقوا علي ديانة آبائهم.

مراسم الزواج

كانت العلاقة بين الزوج والزوجة، طبقا لما جاء في المحبر، [71] علي اربعة انواع: 1- امراة تخطب فتزوج. 2- امراة يكون لها خليل يختلف اليها، فان ولدت منه قالت: «هو لفلان»، فيتزوجها بعد ذلك. 3- امراة ذات راية يختلف اليها، فان جاء اثنان فوافياها في طهر واحد، الزمت الولد واحدا منهما، وهذه تدعي المقسمة. 4- رجل يقع علي امة قوم، فتحمل منه ويكون لها ولد، فان رغب في ابتياع ذلك الولد فله ان يدعيه، ويكون له في هذه الحالة حق شرا الامة واتخاذها زوجة له. وكانوا يخطبون المراة الي ابيها او اخيها او عمها او بعض بني عمها، وكان يخطب الكف‌ء الي الكف‌ء، فان كان احدهما اشف من الاخر في الحسب ارغب له المهر، وان كان هجينا خطب الي هجين فزوجه هجينة مثله، فيقول الخاطب اذا اتاهم: «انعموا صباحا». ثم يقول: «نحن اكفاؤكم ونظراؤكم، فان زوجتمونا فقد اصبنا رغبة واصبتموها، وكنا لصهركم حامدين، وان رددتمونا لعلة نعرفها، رجعنا عاذرين». وان كان قريب القرابة منه او من قومه قال ابوها او اخوها اذا حملت اليه: «ايسرت واذكرت ولا آنثت! جعل اللّه منك عددا وعزاوجلدا، احسني خلقك، واكرمي زوجك، وليكن طيبك الماء»، واذا زوجت في غربة قال لها: «لا ايسرت ولا اذكرت، فانك تدنين البعدا، وتلدين الاعدا، احسني خلقك، وتحببي الي احمائك، فان لهمعليك عينا ناظرة واذنا سامعة، وليكن طيبك الماء». [72] .ومن هنا تتبين الاهمية القصوي التي كان يوليها العرب لشرف الشخص وحسبه ونسبه خصوصا عند تزويجه، والاهم من ذلك ما اشرنا اليه سابقا الانتماء القبلي ومنزلة القبيلة التي هي اهم وحدة اجتماعية في المجتمع العربي الجاهلي آنذاك. وغالبا ما كان يعرف الاشخاص بقبائلهم كما يعرف الافراد حاليا باوطانهم وجنسياتهم. ويظهر من خلال هذا الاستعراض ماكانت عليه المراة من مكانة اجتماعية متردية لا ترقي الي مستوي الرجل باية حال من الاحوال، لذا كان هم الاباء والاقرباء جميعا ان تلد بناتهم ذكورا لا اناثا، فبهؤلاء الذكور تنال القبيلة عزها وترفها، وبهم فقط يفتخر الاباء لا بالبنات مهما كثرن، علما ان التفاخر بالابناء والاباء كان من التقاليد المعروفة التي درج عليها العرب في الجاهلية حتي صارت تقليدا من تقاليدهم الدينية. لقد جاء في القرآن الكريم ان العرب كانوا يذكرون مفاخر آبائهم، ويعودون الي التفاخر بها بمجرد اتمامهم لمناسك الحج، وكان يدعوهم لان يذكروا اللّه كذكرهم آباءهم او اشد ذكرا، (فاذا قضيتم مناسككم فاذكروااللّه كذكركم آباءكم او اشد ذكرا...) «البقرة: 200». لقد جرت العرب علي عدم توريث النساء شيئا مما ترك الاباء والابناء، وكان ذلك من بين المظاهر الكثيرة التي تدل علي احتقار المراة وهبوط درجتها في السلم الاجتماعي الجاهلي، فالذكور وحدهم الذين يرثون لانهم وحدهم القادرون علي ركوب الخيل ومهاجمة الاعدا وجلب السلب والنهب، وهم الذين يردون كيد الاعدا عن القبيلة ويشيدون امجادها ومكارمها ومفاخرها، هؤلاء هم وحدهم الذين يرثون آباءهم، اما الصغار، حتي من الذكور، فلا نصيب لهم من الارث قط. جاء في بعض المصادر التاريخية ان اول شخص خرج علي‌هذا التقليد الجاهلي فورث ابنته حصة من ماله تساوي نصف ماورثه لابنه هو (ذو المجاسر اليشكري). هذا وقد جعل الاسلام للبنات والامهات نصيبا من الارث. وفي الوقت الذي كرم فيه الاسلام المراة شجب الاعراف الجاهلية القاضية باحتقارها وحرمانها موقعها وحقوقها في الحياة: (واذا بشر احدهم بالانثي ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتواري من القوم من سوء ما بشر به ايمسكه علي هون ام يدسه في‌التراب الا ساء ما يحكمون) «النحل: 58-59». في الاية الشريفة اشارة الي عادة (واد البنات) التي اشتهرت لدي العرب قبل الاسلام، فكان يلجا بعض الاباء الي دفن اولادهم وخاصة البنات وهم احياء، وتشير الاية الشريفة هنا الي الاسباب الاجتماعية لذلك، والتي تتلخص بالخوف من العار الذي يلحق بالاب ومن ثم بالقبيلة اذا ما وقعت البنت بالاسر واخذتها القبائل الغازية معها، كما يوجد هناك سبب آخر كان هو الاخر يدفع الاباء الي دفن اولادهم، حتي الذكور منهم، وقتلهم والتخلص منهم وهو الخوف من الفقر والجوع. لقد شجب القرآن الكريم عملهم القبيح هذا، رفض اسبابه قائلا: (ولا تقتلوا اولادكم من املاق نحن نرزقكم واياهم) «الانعام: 151». ويقول في آية اخري: (ولا تقتلوا اولادكم خشية املاق نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطا كبيرا) «الاسرا: 31»، ويشير في سورة التكوير الي دفن البنات احياء، ويهدد مرتكبي هذا العمل بقوله عز وجل: (واذا الموؤدة سئلت، باي ذنب قتلت) «التكوير: 8-9». واشتهر الطلاق عند العرب، وكان من يطلق زوجته ثلاث مرات،لا يستطيع العودة اليها بعد. [73] .وكان باستطاعة النساء ان يتزوجن بعد الطلاق مباشرة، وليس‌هناك من عدة يلتزم بها، ولهذا كانت تحدث بعض المشاكل نتيجة الاشتباه في آباء الاولاد الذين يولدون في بيت الزوج الثاني، ولا يعلم بالدقة من هو الاب الحقيقي لهم، هل هو الزوج الاول ام الزوج الثاني؟. [74] وقد استطاع الاسلام بتشريعه لعدة النساء حل هذه المشكلة الاجتماعية جذريا. اما المراة التي يتوفي عنها زوجها، فكان عليها ان تعتدسنة كاملة، ولا يسمح لها بالزواج قبل مرور سنة. [75] .وكانت العرب لا تنكح البنات ولا الامهات ولا الاخوات ولا الخالات ولا العمات. وكانت تزوج نساء آبائها، وهو اشنع ما كانوا يفعلون، فيقال للذي يخلف علي امراة ابيه (الضيزن). وكان الرجل اذا مات قام اكبر ولده، فالقي ثوبه علي امراة ابيه، فورث نكاحها، فان لم يكن له حاجة فيها، تزوجها بعض اخوته بمهر جديد، وقد فرق الاسلام بين رجال ونساء آبائهموهم كثير. [76] .وكانوا يجمعون بين الاختين، فلما جاء الاسلام نهي عن ذلك وحرمه. وكانوا لا يعطون البنات والنساء ولا حتي الصبيان شيئا من الميراث، ولا يورثون الا من حاز الغنيمة وقاتل علي ظهور الخيل. ثم ذهب عرب الجاهلية الي ابعد من ذلك حيث جعلوا للورثة الحق في تزويج المراة او عدم تزويجها، بل كان الورثة يرثون نكاح النساء كما يرثون المال، الي ان انزل اللّه تعالي في ذلك قرآنا: (ي‌آ ايها الذين آمنوا لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن...) «النساء: 19».

المساعاة

وهي احد الاعراف المشهورة في الجاهلية حيث لم يكن العرب يجدون مانعا من ان يضع احدهم ما عنده من الاماء تحت طلب الرجال مقابل اجر معين ياخذه لنفسه، ولا تكون المساعاة الا في الاماء لانهن كن يسعين علي مواليهن فيستطعن ان يجمعن ما يدفعن به الضرائب التي كانت عليهن، وفي حديث عمر انه اتي بنساء او اماء ساعين في الجاهلية، فامر باولادهن ان يقوموا علي آبائهم ولا يسترقوا. ومعني التقويم ان تكون قيمتهم علي الزناة. فيكونوا احرارا، وتلحق انسابهم بآبائهم الزناة. وكان عمر يلحق اولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الاسلام علي شرط التقويم، واذا كان الوط‌ء والدعوي‌جميعا في الاسلام فدعواه باطلة والولد مملوك. قال ابن الاثير: واهل العلم من الائمة علي خلاف ذلك، ولهذا انكروا باجمعهم علي معاوية في استلحاقه زياد ابن ابيه. فقد كان ابو سفيان قد وط‌ي‌ء امه في الجاهلية، وتمت الدعوي(اي دعوي البنوة لابي سفيان) في الاسلام. [77] .وقد جاء في المحبر: ومن سنتهم انهم كانوا يكسبون بفروج امائهم، وكان لبعضهن راية منصوبة في اسواق العرب، فياتيها الناس فيفجرون بها، فاذهب الاسلام ذلك واسقطهفيما اسقط، ولهن اولاد، ونسل كثير معروف. [78] .وقال ابن قتيبة في المعارف: ان عبداللّه بن جدعان من بني تيم من قبيلة قريش كانت له اماء يشتغلن في (المساعاة) وكان يبيع اولادهن.

الشغار

وهو احد انواع النكاح التي كانت شائعة عند العرب قبل الاسلام، وصورته ان يقوم ولي المراة او ابوها بتزويج ابنته اومن تقع من النساء تحت ولايته لرجل يقوم هو الاخر بتزويجه ابنته او غيرها ممن تقع تحت ولايته بدون مهر لكلتا الزوجتين، في عملية اشبه ما تكون بعملية التبادل المعروفة في البضائع، وقد نهي الاسلام عن نكاح الشغار، غير ان بعض الفقهاء لم يفهم من هذا النهي تحريم لهذا النوع من الزواج، وانما قال بجوازه، اما المهر فباطل، وبطلان المهر لا يوجب فساد النكاح. هذا وقد اورد البخاري حديثا في صحيحه، يتضمن نهياصريحاعن نكاح الشغار. [79] .

البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحامي

ومما اعتادت عليه العرب في الجاهلية ودرجت عليه ثم جاءالاسلام فنهي عنه: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، والسبب الذي دعا الاسلام الي شجبها والنهي عنها هو ارتباطها بالشرك وعبادة الاوثان، فقيل: «ان اهل الوبر كانوا يقطعون لالهتهم من اموالهم من اللحم، واهل المدر يقطعون لها من الحرث، فكان مما يجعل اصحاب الوبر ان الناقة اذا نتجت خمسة ابطن، عمدوا الي الخامس ما لم يكن ذكرا، فشقوا اذنها، فتلك البحيرة. ولا يجز لها وبر، ولا يذكر عليها ان ركبت اسم اللّه، ولا ان حمل عليها شي‌ء، وكانت البانها للرجالدون النساء». [80] .واما اهل المدر والحرث، فكانوا اذا حرثوا حرثا او غرسواغرسا، خطوا في وسطه خطا فقسموه اثنين، فقالوا «ما دون هذا الخط لالهتهم، وما ذراه للّه» فان سقط فيما جعلوا لالهتهم شي‌ء مما جعلوه للّه عز وجل اقروه وتركوه، وان سقط مما جعلوه لالهتهمشي‌ء فيما جعلوه للّه تبارك اسمه ردوه». [81] .والبحيرة ماخوذة من كلمة بحر: (وهي الناقة اذا شقت اذنها)، وجاء في لسان العرب انها الناقة او الشاة التي انجبت عشرة بطون. ومثل هذه الناقة تكون موضع احترام العرب، فلا يركب ظهرها، ولا يجز وبرها، ولا يشرب لبنها الا المنيف، ولا يمنعها احد من الدخول في اي مرتع شاءت، كما حرموا علي النساء اكل لحمها، وجعلوا لها علامة تميزها عن غيرها بان شقوا اذنها. وقال بعضهم: انها الناقة التي انجبت خمسة بطون آخرها انثي، هذا وقد وردت تعريفات اخري للبحيرة في كتب اللغة والتفاسير والاخبار، تتفق جميعها علي ان البحيرة لا يركب ظهرها، ولا يجز وبرها، ولا ياكل من لحمها الا بعد ان تكون قد حان اجلها، وقال بعضهم بتحريم لحمها ولبنها علي النساء. اما السائبة من الابل فهي التي تطلق عادة بعد نيل الشفاء اولتفريج هم كبير او للنجاة من المصيبة الكبري والفتنة الشديدة، حيث تسيب ولا يركب ظهرها بعد هذا ابدا، وهناك تعاريف اخري ذكرت في هذا المجال. اما الوصيلة فما ورد من اقوال في باب البحيرة، ورد مثله تقريبا في تعريف الوصيلة، ومن هذه الاقوال ما جاء في (لسان العرب مادة وصل): ان الوصيلة: هي الشاة التي ولدت سبعة ابطن‌عناقين عناقين، فان ولدت في السابع عناقا قيل: وصلت اخاها فلا يشرب لبن الام الا الرجال دون النساء، وان كانت انثي تركت في الغنم، وان كانت انثي وذكرا قالوا: وصلت اخاها فلم يذبح، وكان لحمها وقيل لبنها حراما علي النساء. وقيل: هي الشاة التي تلد سبعة ابطن، عناقين عناقين، فان ولدت في الثامنة جديا وعناقا قالوا: «وصلت اخاها»، فلايذبحون اخاها من اجلها، ولا يشرب لبنها النساء، وتجري مجري السائبة. اما الحامي فهو الفحل من الابل يضرب الضراب المعدودة قيل: عشرة ابطن، فاذا بلغ ذلك قالوا: «هذا حام»، اي حمي ظهره، فيترك فلا ينتفع منه بشي‌ء، ولا يمنع من ماء ولا مرعي.وقيل: الحامي من الابل، الذي طال مكثه عندهم. [82] .وقد نهت الاية (103) من سورة المائدة عن هذه المسميات والمراسم التي وضعت لها لما تضمنته من معاني الشرك والارتباط بعبادة الاصنام، قال تعالي: (ما جعل اللّه من بحيرة ولا س‌آئبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون علي اللّه الكذب واكثرهم لا يعقلون). وقال تعالي: (وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم علي ازواجنا وان يكن ميتة فهم فيه شركاء...) «الانعام: 139». وقد ادانت الاية (136) من سورة الانعام صورة اخري من صور شركة الاوثان للّه في المحاصيل الزراعية (وجعلوا للّه مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا للّه بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل الي اللّه وما كان للّه فهو يصل الي شركائهم ساء ما يحكمون).

الازلام

في نهي اللّه تعالي في الاية الثالثة من سورة المائدة عن اتخاذ الازلام كوسيلة يلجا اليها لايقاع القسمة واجرا القرعة وما الي ذلك من امور اعتاد عليها العرب قبل الاسلام حيث قال تعالي: (... وان تستقسموا بالازلام..) «المائدة: 3» والازلام عبارة عن اسهم من الخشب ذات رؤوس مدبب وسطوحها ملساء، تكتب عليها كلمات بعضها يدعو الي العمل وبعضها الاخر يحذر منه وينهي عنه. قال الازهري: «الازلام كانت لقريش في الجاهلية، مكتوب عليها امر ونهي، وافعل ولا تفعل، قد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت، فاذا اراد رجل سفرا او نكاحا، اتي السادن فقال: اخرج لي زلما، فيخرجه وينظر اليه، فاذا خرج قدح الامر مضي علي ما عزم عليه، وان خرج قدح النهي قعد عما اراده، وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابة، فاذا اراد الاستقسام اخرج احدهما». ويعتقدون انهم يتوصلون ببركة الزلم والسادن الي راي الاله. ولقد نهي عنها القرآن الكريم باعتبارها مظهرا من مظاهر الشرك.

الميسر

ورد النهي عن الميسر في الاية (90) من سورة المائدة التي شملت عن الخمر والانصاب والازلام، وقد اعتبرت هذه المنهيات رجسا من عمل الشيطان ما وحملت الاية 91 من السورة الشريفة نفسها علي الميسر مرة اخري لانه يورث العداوة والبغضاء بين الناس بواسطة الشيطان: (انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر..). والميسر نوع من القمار، يقول اليعقوبي: ان العرب كانت اذا كان الشتاء ونالها القحط وقلت البان الابل، استعملوا الميسر، وهي الازلام، وتقامروا عليها، وضربوا بالقداح، وكانت قداح الميسر عشرة، سبعة منها لها نصب، وثلاثة لا انصب لها، فالسبعة التي لها انصب هي: الفذ وله جزء، والتوام وله جزآن، والرقيب وله ثلاثة اجزا، والحلس وله اربعة اجزا، والنافس وله خمسة اجزا، والمسيل وله ستة اجزا، والمعلي وله سبعة اجزا، والثلاثة التي لا انصب لها اغفال ليس عليها اسم يقال لها: المنيح، والسفيح، والوغد. وكانت الجزور تشتري بما بلغت ولا ينقد الثمن، ثم يدعي الجزار فيقسمها عشرة اجزا، فاذا قسمت اجزاؤها علي السوا، اخذ الجزار اجزاه وهي الراس والارجل، واحضرت القداح العشرة، واجتمع فتيان الحي، فاخذت كل فرقة علي قدر حالها ويسارها وقدر احتمالها، فياخذ الاول الفذ وهو الذي فيه نصيب واحد من العشرة اجزا، فاذا خرج له جزء واحد اخذ من‌الجزور جزءا، وان لم يكن يخرج له غرم ثمن جزء من‌الجزور، وياخذ الثاني التوام، وله نصيبان من اجزا الجزور، وهكذا سائر الاقداح [83] وكانت هذه اللعبة معقدة للغاية، لذا كان يتم التقامر بها تحت اشراف شخص متخصص يدعي (الحرضة) و (الرقيب). وقد وردت اوصاف مختلفة لهذه اللعبة، وسردتهاالمصادر التاريخية بصور مختلفة [84] .

الكهانة

الكهنة: جماعة من العرب كانوا يدعون الاطلاع علي المغيبات، ويزعمون معرفة الاسرار وقضايا المستقبل. وقد بنوا دعوتهم هذه علي ادعاء آخر مفاده انهم يحصلون علي تلك المعلومات بواسطة تسخيرهم لكائنات غيبية كالجن او الشيطان، وتدعي احيانا (التابع) او (الرئي). وهناك جماعة اخري يعرفون بالعرافين، ويدعي هؤلاء معرفة الاسرار وما ستؤول اليه الامور من خلال اطلاعهم علي اسبابها ومقدماتها. وكان الشياطين يزودون الكهنة بالمعلومات التي يسمعونها من افواه الملائكة عند صعودهم الي السماء، وقد منع هؤلاء الشياطين من استراق السمع بعد البعثة. ولهذا انتهي امر الكهنة بين العرب. وكان بعض الناس يقومون بامتحان الكاهن واختبار صدق نبوآته من خلال اخفاء شي‌ء ما وسؤاله عنه، فان اخبرهم بنوع ذلك الشي‌ء ومحله، عرضوا عليه قضيتهم الاصلية. وكانت هند بنت عتبة من بين الكهنة الذين اشتهروا عند العرب، وهي زوجة ابي سفيان وام معاوية، وكانت قد تزوجت من فاكه بن المغيرة الذي اتهمها بالخيانة والزنا عندما وجدرجلا غريبا في بيته. فاخذ عتبة وابنته هند وجماعة من بني عبد مناف وذهب بهم الي اليمن ليعرض الامر علي احد الكهنة، وكان فاكه قد خرج هو ايضا مع جماعة من قومه (بني مخزوم) وجلسوا معا عند الكاهن، وقبل ان يعرضوا عليه الامر اختبروه بالسؤال عن شي‌ء كانوا قد اخفوه عنه، فلما اخبرهم عن مكان ذلك الشي‌ء شرحوا له قضيتهم، فبرا هندا من الزنا، وبشرها بان سيكون لها ولد ويصبح سلطانا، وقد سر فاكه لذلك، فاخذيد هند واصطحبها معه، لكنها امتنعت عن مرافقته، وطلبت الانفصال عنه. وبعد ذلك تزوجت هندا من ابي سفيان بن حرب. كان الكهنة يتقاضون شيئا من المال لقاء ما يخبرون به من مغيبات، ويسمي المال الذي يتقاضونه عن ذلك (الحلوان). وقد شبهه الرسول (ص) بالمال الذي تتقاضاه المراة الزانية ثمنا للفاحشة، وجعلهما علي حد واحد، فقد ورد في الحديث: «نهي رسول اللّه (ص) عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلو ان الكاهن»، [85] كما وادان الكهانة بشدة ونهي عنها. كان الكهنة يهمسون ببعض العبارات ليوحوا للاخرين بانهم يستقون علمهم من الغيب، وكانت عباراتهم تلك عبارة عن كلام يشبه الشعر، ويسمي السجع، وقد نهي الرسول (ص)عن السجع في الكلام بل حتي في الدعاء. [86] .لقد حيرت الايات القرآنية الاولي التي نزلت علي الرسول (ص) مستمعيها، اذ لم يعرفوا اي نوع من البيان هذا، فلا هو سجع كسجع الكهنة، ولا هو شعر كشعر الشعرا، ولانهم لم يجدوا مثله من قبل جعلوه بين الشعر والسجع، وهذا ما تشير اليه الايات الشريفة (38- 42) من سورة الحاقة وتنكره بشدة: (فلا اقسم بما تبصرون وما لا تبصرون، انه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون). وكان ينظر الي العلوم الطبية وقضايا الفلك والتنجيم وحتي معرفة الاحكام، علي انها نوع من الكهانة. [87] وكان اشهر كهنة العرب شق وسطيح، وقد نفت الاية (29) من سورة الطور تهمة الكهانة عن النبي بشدة حيث قالت: (فذكر فما انت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون). فثمة فرق بين الايات الربانية النازلة علي الرسول (ص) وبين نبؤات الكهنة واخبارهم عن المستقبل وخفايا الامور، فبينما تركز الاولي علي هداية الناس ووعظهم ونصيحتهم وارشادهم لما فيه خير الدنيا والاخرة، وتحذرهم من مغبة المعصية والركون الي الظلم والتعدي والجهل، لا نجد الثانية سوي الاخبار عن امور مستقبلية واخري مخفية قد تخطي‌ء وقد تصيب. وتشير الاية بكلمة مجنون الي اولئك الذين اعتادوا خداع الناس بزعمهم انهم يسخرون الجن لخدمتهم وياخذون معارفهم مما تمليه عليهم هذه المخلوقات من كشف الاسرار والاخبار بالمغيبات. وتدحض الاية الشريفة اتهامات العرب للرسول (ص) بانه (شاعر) بعد ان بهرتهم الايات القرآنية التي كان يتلوها عليهم رسول اللّه (ص)، فلئن العرب كانوا يظنون ان تابعا من الجن اوالشيطان هو الذي يلهم، وان كل شاعر شيطان، فقد ظنوا ان الرسول (ص) شاعر يتلقي الهامه ايضا من الجن او التابع. تقول الايتان (30 و33) من السورة نفسها: (ام يقولون شاعر نتربص به ريب المنون، ام يقولون تقوله بل لا يؤمنون). يبدو ان الناس كانوا يخافون قتل الكهنة والاعتدا علي حياتهم، ولا يساورهم الخوف نفسه حين تكون المسالة مرتبطة بشاعر يريدون تصفية حياته وقتله، وهذا ما تشير اليه الاية من طرف خفي، هذا اذا كان المقصود بريب المنون القتل، اما اذا قصد به الموت الطبيعي فلا فرق حينئذ بين الشاعر والكاهن، بل هماعلي حد سوا.

الحنفاء و الحنيفية

يؤكد كتاب السيرة ان هناك جماعة من قريش كانت قد تركت عبادة الاصنام قبل ان يبعث الرسول (ص) ويباشر دعوة الناس الي الاسلام. وهؤلاء هم ورقة بن نوفل، وعبيداللّه بن جحش، وعثمان بن حويرث وزيد بن عمرو بن نفيل، كان هؤلاء يبحثون عن الدين الحنيف، وهم في صدد العودة الي دين ابراهيم (ع)، وسمي هؤلاء ب (الحنفاء)، فما هو دين ابراهيم او الحنيفية؟ وما الذي جعل هؤلاء يبحثون عنها، ويحاولون العودة اليها؟ مرت الاشارة سابقا الي ان ابراهيم كان قد بني الكعبة مع ابنه اسماعيل في واد غير ذي زرع لتكون معبدا يعبد فيه اللّه وحده، هذا ما سجله القرآن الكريم الذي اوضح ايضا ان دين ابراهيم (ع) كان دينا توحيديا ضد الشرك، وقد اطلق القرآن الكريم علي المتدينين بهذا الدين (الحنفاء) او (المسلمين)، قال تعالي: (ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) «آل عمران: 67»، وقال تعالي: (ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه للّه وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا) «النساء: 125». اطلقت هذه الاية علي دين ابراهيم (الدين الحنيف) وسمت اتباعه المسلمين. وفي الاية (135) من سورة البقرة وردت تبرئة ابراهيم (ع) من الشرك وتسمية دينه بالدين الحنيف، ونفت ان يكون يهوديا او نصرانيا: (وقالوا كونوا هودا او نصاري تهتدوا قل بل ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين). لم تنف الاية الشريفة الهداية عن اليهود او النصاري غير انها فضلت ورجحت دين ابراهيم‌الحنيف عليهما معا في اشارة الي انه خالص من كل معاني الشرك التي ربما علق بعضها بهاتين الديانتين، بسبب اعتقاد اليهود ان عزيرا ابن اللّه او بسبب اعتقاد النصاري ان عيسي ابن اللّه. ثم جاءت الاية (30) من سورة الروم لتامر الناس باتباع سنة ابراهيم (ع): (فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون). وجاءت هذه الاية في سياق عدة آيات تحدثت عن الشرك وعبادة الاصنام وحملت عليهما بشدة، فقررت الاية الشريفة ان التوحيد مغروس في اعماق الفطرة الانسانية، وان من شان الانسان ان يتجه الي التوحيد بدافع من فطرته الا اذا انحرفت هذه الفطرة عن جادة الصواب وبدلت خلق اللّه تعالي وفطرته التي فطر الناس عليها. واخيرا تؤكد الاية علي محور مهم هو ان الانسان اذا ترك وفطرته وخلي بينه وبينها فسينتهي الي التوحيد ولا يمكن ان يلجا الي الشرك، وهذا لا يتنافي مع النتائج التي توصل اليها الباحثون والدارسون في تاريخ المجتمعات البدائية من انها كانت مجتمعات مشركة نظرا لجهل هذه الشعوب بالطبيعة ومظاهرها المختلفة، والذي‌نتج عنه انحراف الفطرة البشرية وتشوهها. ان الانسان مخلوق عاقل مفكر بالفطرة وفي اصل الخلقة، ولهذا اطلق عليه في المنطق بانه (حيوان ناطق)، فان النطق والتحدث دليل العقل والتفكير، ولو اعتمد الانسان منذ اللحظات الاولي علي قدرته العقلية وطاقاته الفكرية ورفض التقليد ومتابعة الاخرين دون تفكير، لاستطاع الوصول الي الحقيقة واستهجن عبادة الاصنام وترفع عن مظاهر الشرك، ولكن الجهل امر عدمي متقدم علي العلم الذي هو امر وجودي. فكان الانسان البدائي يفضل الجهل علي العلم لما في العلم من مشاق ومصاعب لا يتطلبها الجهل لانه امر عدمي، ولهذا فضل الانسان الجهل مع الراحة علي العلم مع المشقة وبذل الجهد، ولهذا كان الانسان البدائي مشركا، رغم ان فطرته السليمة تقوده الي التوحيد ونفي الشرك، لكنها تعطلت فماتت منابع النور فيها نتيجة الجهل الذي هو اسبق من العلم واسهل منه. وهذا هو سر تقدم الشرك زمانيا علي التوحيد بين الاقوام البدائية. وهكذا يتضح ان القرآن الكريم يستعمل كلمة (حنيف) ويريدبها المسلم والموحد في مقابل الشرك، ويريد بدين ابراهيم الحنيف الدين التوحيدي المرادف للاسلام، ولا ينبغي ان نفهم من هذا الترادف بين الاسلام ودين ابراهيم (ع) ان كل ماجاء به نبي الاسلام من احكام كان قد جاء به دين ابراهيم الحنيف، بل يتفق الدينان علي محور واحد وقاعدة مشتركة هي فكرة التوحيد وعبادة اللّه وحده ونفي كل ما سواه من معاني الشرك وما يتبعها وما يلازمها من اعراض ومتعلقات، ويتاكد ذلك من خلال التامل العميق في معاني الاية الكريمة: (ان ابراهيم كان امة قانتا للّه حنيفا ولم يك من المشركين) «النحل: 120». ولا مبرر لحصول اي نوع من الابهام او اللبس في اذهان المخاطبين من قبل الرسول (ص) من استعمال كلمة (حنيف) بعد ان كان القرآن الكريم قد نزل بالعربية لهداية قوم‌عرب، وقد اتضح من خلال استعراض الموارد القرآنية التي استعمل فيها هذه الكلمة ان المقصود بها في جميع هذه الاستعمالات معني واحدا هو التوحيد وعبادة اللّه وحده ورفض الشرك. ولهذا لا نجد حاجة لمتابعة اشتقاقات هذه الكلمة واستعمالاتها في باقي اللغات ذات العلاقة باللغة العربية كالسريانية والحبشية، علما ان مثل هذا التتبع قد يكون شيئا مهما ولازمالمن اراد الاحاطة بعلم اللغات، ولا نجد ضرورة لهذا الجهد فيما اذا كان هدفنا معرفة معاني هذه الكلمة في عصر الرسول (ص) فحسب، اذ يكفينا تتبع معانيها واستعمالاتها الواردة في القرآن الكريم. والمراد بالحنيف هو الذي رفض عبادة الاصنام وكل ما يتصل بها من معاني الشرك، وكانت قريش واهل مكة جميعا ما زالوا يتذكرون ان جدهم ابراهيم (ع) هو صاحب الدين الحنيف الذي حارب الاصنام ورفض عبادتها، ولهذا اعتزل اولئك الاربعة قومهم، ووقفوا جانبا ينظرون الي قريش وهي تطوف حول تلك الاحجار وتقدم لها الاضاحي والقرابين في يوم من ايام اعيادها، فاخذوا يحدثون انفسهم قائلين: «لقد ضيع هؤلاء الناس دين ابيهم ابراهيم (ع)، فما هذه الصخرة التي يطوفون حولها؟ انها لا تسمع ولا تري ولا تنفع ولا تضر، فليبحثوا عن دين لهم، فهذه لا تملك من امرها شيئا». عندها بداوا البحث عن (الحنيفية) اي دين ابراهيم (ع) فاعتنق كل من ورقة بن نوفل وعبيداللّه بن جحش وعثمان بن حويرث الدين المسيحي، واعتزلهم زيد بن عمرو، غير انه لم يعتنق دينا جديدا، كما انه ظل ممتنعا عن عبادة الاصنام وعن اكل لحم الميتة ولحم القرابين، ومن هنا قال عنه الرسول (ص): «انه يبعث امة وحده». لقد نسخت رسالة ابراهيم (ع) (جدالعرب وباني الكعبة) بصورة تدريجية في مكة، واندرست معالمها، ولم يبق في ذاكرة الناس سوي شي‌ء واحد، كانوا يتذكرونه جيدا، ذلك ان ابراهيم (ع) كان حنيفا مسلما ولم يكن من المشركين. ولم تخل مكة من بعض العقلاء واهل المنطق الذين كانوا يتاملون عادات قومهم وعبادتهم المنحرفة، فيستيقظ وجدانهم ويتذكرون ابراهيم (ع) والهه الواحد وحنفيته، فيتركون عبادة الاصنام، وكان يطلق علي هؤلاء (الحنفاء) وقد عاصر بعضهم الرسول (ص).

قضاة العرب

كان يقال للقاضي في الجاهلية (حاكم)، يقول اليعقوبي: «كان للعرب حكام ترجع اليها في امورها وتتحاكم في منافراتها ومواريثها ومياهها ودمائها». [88] كانت اكثر المشاجرات في‌الجاهلية تدور حول الحسب والنسب او الشرف والامجاد التي تصنعها الاسر او آباء الطرفين المتنازعين، وكما اشرنا فيما سبق فان قوام القبيلة الحسب او مجموع ما حققه الاباء من مكرمات ومفاخر، وما قام به افراد هذه القبيلة واجدادها من‌اعمال كبري، وكانوا يتنازعون حول هذه الامور في الاماكن العامة والنوادي والاسواق العامة وعلي مراي ومسمع من الناس. وقد يحسم التنافر اخيرا عند الحاكم برجوع المتخاصمين اليه، ويبدو ان اكثر هذه المنازعات كانت تحل عند الكهنة المعروفين الذي كانوا عادة من قبائل واماكن اخري. وكانوا يختبرون الكاهن كما اشرنا سابقا قبل عرض قضيتهم عليه، فان نجح في الاختبار واجابهم بصورة صحيحة عن درالخبي‌ء اي الشي‌ء المخبا بادروا الي عرض الموضوع عليه بعد تحديد غرامة معينة يدفعها الطرف المدان في التحكيم الي الطرف الغالب الذي يسمي عادة (المنفر). وغالبا ما تكون هذه الغرامة عددا من الابل ياخذها الغالب ويذبحها ثم يدعو الي وليمة عليها. ان بعض المنازعات كانت تتفجر لاسباب مالية او لاحقاق بعض الحقوق كمنافرة عبد المطلب وحرب بن امية حول المطالبة بدم احد اليهود. وكان هذا اليهودي من اهل نجران يقال له اذينة في جوار عبد المطلب بن هشام، وكان يتسوق في اسواق تهامة بماله، وان حرب بن امية غاظه ذلك، فالب عليه فتيانا من قريش وقال لهم: «هذا العلج الذي يقطع الارض اليكم ويخوض بلادكم بماله من غير جوار ولا امان! واللّه لو قتلتموه ما خفتم احدا يطلب بدمه»، قال: «فشد هاشم بن عبد مناف بن‌عبد الدار بن قصي عليه وصخر بن عامر فقتلاه، وكان معهما ابن مطرود الخزاعي»، قال: «فجعل عبد المطلب لا يعرف له قاتلا حتي كان بعد، فعلم من اين اتي، فاتي حرب بن امية فانبه لصنيعه وطلب بدم جاره، فابي حرب ذلك عليه، وانتهي بهما التماحك واللجاج الي المنافرة، فجعلوا بينهما النجاشي ملك الحبشة فابي ان ينفذ بينهما، فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزي بن رياح بن عبداللّه بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب فاتياه». وقد حكم عبد العزي لصالح عبد المطلب، واستدل علي حكمه بدليل يمكن ان يكون مؤشرا مهما علي طبيعة العرب ايام الجاهلية حيث قال: «يا ابا عمرو، اتنافر رجلا هو اطول منك قامة، واوسم منك وسامة، واعظم منك هامة، واقل منك لامة، واكثر منك ولدا، واجزل منك صفدا، واطول منك مذودا؟! واني لاقول هذا وان فيك لخصالا انك لبعيد الغضب، رفيع الصيت في العرب، جلد المريرة، تحبك العشيرة»، واغلظ لنفيل، وقال: من انتكاس الدهر ان جعلناك حكما. وقد قدمت هذه المنافرة الي شخص عادي وليس كاهن. اما المنافرة الاخري التي وقعت لعبد المطلب مع طائفة ثقيف حول مسالة مالية، فقد تم الرجوع فيها الي كاهن في الشام يدعي عزي سلمة العذري، وقد وردت تفاصيل هذه المنافرة في المنمق ص 94 - 97. وقد قالت ثقيف قبل ان يصدر حكم الكاهن لصالح عبد المطلب علي لسان جندب بن الحارث: «اقض لارفعنا مكانا، واعظمنا جفانا، واشدنا طعنا»، بينما قال‌عبد المطلب: «اقض لصاحب الخيرات الكبر، ومن كان ابوسيد مضر، وساقي الحجيج اذا كثر». [89] .وقد اشرنا سابقا الي ان هناك اشخاصا آخرين من كل قبيلة يقومون مقام القضاة او الكهنة عند الضرورة، وقد ذكر اليعقوبي في تاريخه وصاحب المحبر اسماء هؤلاء. فمثلا ذكر عبد المطلب وولداه الزبير وابو طالب من جملة الحكام، وكذلك حرب وابنه ابو سفيان. وذكر من بني تميم شخص باسم ربيعة باعتباره حكما وقاضيا يجلس تحت قبة خشبية وعلي عرش من خشب (اثناء الحكم كما يبدو). ومن الاحكام التي صدرت في الجاهلية ثم جاء الاسلام وايدها حكم (القسامة) في مورد الظن بالقتل، حيث يحلف خمسون رجلا من افراد القبيلة المظنون بها، التي يظن ان احد افرادها قد ارتكب القتل ولا دليل عليه، ويقسم هؤلاء الخمسون انهم من هذا الدم برا، وحينها يحكم ببراتهم، وعليهم دفع دية المقتول فلقد اقر الاسلام (القسامة) بعد ان ادخل عليها تعديلات وتغييرات معينة.

الجاهلية

سميت هذه المرحلة، التي وصفناها بشكل مختصر، بعد الاسلام بمرحلة الجاهلية، ويقصد بها كما جاء في القرآن الكريم الفترة التي سبقت الاسلام، وطبقا لما اوضحه كولدزيهر [90] فان الجاهلية لا تعني الجهل وعدم المعرفة، وانما تعني حسب الادلة والشواهد الكثيرة التي ذكرها كولدزيهر (الجاهلية) مقابل (الحلم) وفي القرآن الكريم تعني مجموعة القيم والاخلاق والثقافة والمقاييس المقابلة للاسلام والتي تقف بوجهه، قال تعالي: (افحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من اللّه حكما لقوم يوقنون) «المائدة: 50»، وقال عزوجل: (يظنون باللّه غير الحق ظن الجاهلية) «آل عمران: 154»وفي خطاب نساء النبي قال تعالي: (وقرن في بيوتكن ولاتبرجن تبرج الجاهلية الاولي) «الاحزاب: 33». واستظهر بعض المفسرين من تعبير (الجاهلية الاولي) وجود مرحلتين من الجاهلية، الجاهلية الاولي، والجاهلية الثانية او الاخيرة. اما ظاهر الاية فيوحي بان المقصود بهذا التعبير هو الاشارة الي الجاهلية قبل الاسلام. وقد سلط القرآن الكريم مزيدا من الضوء علي معني الجاهلية بقوله: (اذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) «الفتح: 26» فقد وصف اللّه تعالي مرحلة الجاهلية بالعصبية والحمية الشخصية، بينما اتصف الرسول والمؤمنون معه بالسكينة والوقار، حيث قال في‌الاية عينها: (فانزل اللّه سكينته علي رسوله وعلي المؤمنين).واشار الي المعني ذاته تقريبا الدكتور جواد علي [91] .حيث ذكر ان كلمة الجهل لا يراد بها المعني المتداول اليوم، وانما يراد بها المعني المقابل للسكينة والصبر، وعلي حد قول گولدزيهر المقابل (للحلم) حيث يقول تعالي: (وعباد الرحمن الذين يمشون علي الارض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) «الفرقان: 63». ومن البديهي ان المقصود بالجاهليين هنا ليس فاقدي المعرفة او غير المتعلمين، وانما يراد بهم المتكبرين واهل العصبية البغيضة. واخيرا فان المقصود بالجاهلية كما يظهر من استعمالات القرآن الكريم لها هي المرحلة التي سبقت الاسلام بكل مافيها من العصبية والتفاخر والتخاصم وعصيان اللّه تعالي والتعالي علي اوامره ونواهيه. وبكلمة اخري فان الجاهلية تعبيرعن الصفات التي اشتهر بها العرب قبل الاسلام، وكما يقول گولدزيهر: فانهما كالتقابل بين التوحش (البربرية) والتحضر والتعلم.

سيرة الرسول من الولادة حتي البعثة

الطبيعة المجتمع الاجاهلي الذي ولد فيه الرسول

من خلال الاستعراض الاجمالي للاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والروحية التي كان عليها مجتمع شبه الجزيرة العربية بصورة عامة والمجتمع المكي بوجه خاص في القرن السادس الميلادي، اتضح ان ذلك المجتمع كان مهيئا لاستقبال دين الهي جديد، ففي محيط مكة كانت هناك مجموعة من التجار الاغنياء، وجميعهم من اشراف قريش وسادتها، يرزح تحتهم جمع غفير من الفقرا والمحرومين الذين يشكلون الغالبية الساحقة في المجتمع. وقد نمت تلك الاقلية المتحولة واثرت علي الاغلبية الفقيرة التي كان يلجئها الفقر الي طلب المال بالربا حتي لو كانت الارباح اضعافا مضاعفة كما عبر القرآن الكريم. اما العبيد والغلمان فكان اكثرهم من الحبشيين السود الذين يحتلون ادني المراتب في النظام الطبقي الجاهلي، في وقت كانوا يقضون اوقاتهم في الاعمال الشاقة التي يصعب علي غيرهم تحملها. والي جانب هذا، كان المجتمع يفتقد الي القانون او النظام الذي يحفظ للفقير حقه وياخذ من القوي ما اغتصبه من حقوق الضعفاء. امام هذا الواقع، كان الضعفاء يضطرون الي الاحتماء باحد الاشراف لحفظ مالهم وارواحهم، فيطلبون منه الحماية او الجوار او الامان وما الي ذلك، وكان الاقوياء من جانبهم لايجدون طريقا لتحقيق م‌آربهم سوي طريق القوة والقهر، واذاما تعادلت الكفة مع خصومهم التجاوا الي الحاكم او الكاهن ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وليس من الضروري ان ياتي حكم الحاكم طبقا لموازين العدل والانصاف بالشكل الذي جاء بها الاسلام فيما بعد بل غالبا ما يتحري الكاهن في حكمه القوي والاكثر بسطة في المال والجسم والحسب والنسب فيحكم لصالحه، وقد اتضح ذلك من خلال الامثلة التي ذكرت فيما سبق. وفي الوقت الذي كان يحافظ فيه الشرفاء وسادة القوم علي الاعراف والعادات التي وجدوا آباءهم عليها، نجد الطبقات الاخري التي ترزح تحت يد الجور والفقر وتذوق مرارة هذه الاعراف وتكتوي بنارها، لا تتحمس لها ولا تظهر قدرا كافيا من الايمان بها، لهذا ظهرت مجموعة من القوم انفت عبادة الاصنام واتجهت الي دين ابراهيم الحنيف او اعتنقت الدين المسيحي. كان التجار واصحاب القوافل لا يامنون علي بضائعهم وارواحهم وهم يسلكون طرقهم التجارية عبر الصحرا، ولهذا كانوا يتوسلون بالقوة او المال لدفع هجمات قطاع الطرق والغزاة عليهم، وقد اشتهر الغزو والاغارة حتي لم يعد شيئا مذموما في ذلك العصر، بل كان امرا يدعو للفخر والاعتزاز سيما اذا ما اقترن بالجسارة والشجاعة. ومن الطبيعي ان يفرز مثل هذا المحيط جماعة من العقلاء واصحاب الفكر والفطرة السليمة، يكون همهم الاصلاح والهداية، وفي الوقت الذي نجد هؤلاء يعتزلون قومهم وديانتهم، نجدهم من جانب آخر يبحثون عن طريق للخلاص، وعن وسيلة يستطيعون من خلالها انقاذ قومهم وهدايتهم. وكانت مكة مهياة اكثر من غيرها لظهور مثل هؤلاء وذلك لاشتداد الحاجة فيها الي الامن والاستقرار والنظام، فان‌تجمع الثروة ونمو التجارة كان بامس الحاجة الي الامن والقانون، كما ان انهماك التجار في تجارتهم كان يعكره قلقهم المتزايد من النهب والسلب والسطو الذي لا سبيل لتجنبه سوي اقرار قانون عام يهابه الجميع وينضوون تحت لوائه. في مثل هذا المجتمع ولد رسول اللّه (ص)، الذي لم يرق له بما كان يتمتع به من مواهب واستعدادات فطرية وطبيعية وبفضل الهداية الالهية وتوجيهات العقل اوضاع هذا المجتمع الذي عبر عنه بالجاهلية، ووجد ان اصلاح نواقصه جميعا وهداية قومه بل البشرية ككل يكمن في توحيد اللّه و (اسلام‌الوجه) اليه، لهذا اعتزل مجتمعه الجاهلي وما يعبدون، والتجاالي غار في احد الجبال يفكر ويتامل حتي اخذت العناية الالهية بيده وتم اصطفاؤه من بين الناس جميعا ليتحمل مسؤولية اصلاح المجتمع الانساني واجرا احكام اللّه فيه، وفي يوم وساعة معينين لا نعلمهما بالضبط بعث لانقاذ الناس من‌الضلال، وقد امر ان يبدا بعشيرته الاقربين الي ان بدا النور الالهي يسطع ويتعالي فعم مكة والمدينة وشبه الجزيرة العربية ومن ثم العالم اجمع، فتنورت جميع الانحاء بالنور الالهي.

مولد الرسول

ولد الرسول في مكة من اب قرشي هو عبداللّه بن عبدالمطلب، وام قرشية ايضا من بني زهرة هي آمنة بنت وهب بن‌عبد مناف، وقد كانت ولادته المباركة يوم الاثنين من شهر ربيع‌الاول. وقيل: من شهر رمضان، وهو قول ضعيف. وقد وقع اختلاف في اليوم الذي ولد فيه، فقيل: اليوم الثاني من شهر ربيع الاول، وقيل: في الثامن منه، وقيل: في العاشر منه، وقال آخرون: انه في اليوم الثاني عشر، بينما ذهب اكثرالشيعة الي انه في السابع عشر من ربيع الاول [92] .وقد وقع الاختلاف نفسه ايضا في السنة التي ولد فيها (ص) حتي اصبح من غير الممكن تحديد السنة التي ولد فيها علي وجه الدقة والجزم. هناك حادثتان تم ضبطهما في حياة الرسول (ص) وفي التاريخ الاسلامي بصورة دقيقة، لما كان لهما من اهمية خاصة، الحادثة الاولي: هجرة الرسول (ص) من مكة الي المدينة، التي اصبحت فيما بعد بداية التاريخ الاسلامي، وهي في الاول من المحرم السنة الاولي للهجرة، المطابق ل (16 كانون الثاني عام‌622 م)، ويقال ان هجرة الرسول (ص) كانت يوم الاثنين في الثامن من ربيع الاول الموافق (20 ايلول عام 622 م). والحادثة الثانية: السنة التي توفي فيها الرسول (ص) وهي السنة الحادية عشرة للهجرة الشريفة، في شهر صفر او ربيع الاول، ويتطابق هذا التاريخ مع العام 632 م، وقد جر الاختلاف في تاريخ ولادته (ص) الي اختلاف في عمره الشريف بين63،65، 60 سنة. [93] .واذا كان الراي الاشهر هو 63 عاما، فسيكون عمره وقت الهجرة 52 سنة تقريبا، وكل الاحاديث الاخري في حياته (ص) فيما عدا هجرته ووفاته (ص) كالبعثة والمولد تبقي مبنية علي افتراضات غير دقيقة. وقد ذهب المشهور الي انه بعث وهو في الاربعين من عمره، وقيل: ان بعثته كانت في الثالثة والاربعين من عمره، بناء علي رواية عن ابن عباس. ويمكن الافتراض بان بدء دعوته (ص) كان في حدود الاربعين من عمره الشريف (ليس علي وجه الدقة والقطع) فهناك روايات تقول: انه مكث عشر سنوات في مكة بعد البعثة، واخري تقول: انه اقام بها ثلاثة عشر عاما، ويبدو ان اكثر الرواة قد ذهبوا الي انه بعث في الاربعين من عمره، انسجاما مع الاعتقاد الشائع بان سن الاربعين هو سن الكمال. اما من حيث الواقع فان من الناس من يبلغ الكمال العقلي والروحي قبل هذه السن بفترة طويلة، وبالعكس هناك من يتاخر كماله بعد هذه السن او انه لا يبلغ الكمال ابدا، اما العناية الالهية فلا تتاخر لتنتظر بلوغ الاربعين عاما، اذا ما توفرت في الشخص مقومات البعثة قبل هذا التاريخ. وان هذا النوع من الملاحظات والترتيبات الزائدة انما هي من خيال الانسان ووهمه. وعلي اية حال، فان الاعتقاد الراسخ بان سن الكمال هو سن الاربعين، وبالنتيجة فانه سن البعثة، وبعد المقارنات اللاحقة واضافة سنوات الاقامة الثلاث عشرة التي امضاها الرسول (ص) في مكة بعد البعثة، ثم السنوات العشر التي امضاها في المدينة، وبعد البناء علي ان عمره (ص) كان ثلاثة وستين عاما، استنتجوا ان عام ولادته كان في عام (570 م) كاقرب الاحتمالات. وبهذا لم يعرف علي وجه الدقة لا عام ولادته (ص) ولا عام بعثته، ومن هنا يتضح السبب الذي دفع المسلمين لاختيار عام الهجرة الذي كان مسلما ومعروفا بصورة دقيقة عند الجميع كمبدا للتاريخ حين طرحت مسالة تحديد تاريخ معين للمسلمين، وقدمت حوله الاقتراحات المختلفة في حينها لهذا التاريخ. ما تجدر الاشارة اليه هو قولهم: ان ولادة الرسول (ص) كانت في عام الفيل، اذ من الطبيعي ان تتخذ الاحداث المهمة التي تبقي الي امد في اذهان الناس ومحاوراتهم كمبدا للتاريخ، وعام الفيل، وهو العام الذي حدثت فيه حملة ابرهة، كان حدثا مهما يليق بان يكون مبدا لتاريخ ولادته (ص) غير ان الموجود هو ان‌عام الفيل لا يطابق تماما عام (570 م)، ففي هذا العام تقريبا سقطت حكومة (الحبشيين) في اليمن بايدي الفرس (وهرزديلمي) مع العلم ان الاحباش بقوا يحكمون في شبه الجزيرة العربية بعد عام الفيل لمدة، فحكم اليمن اثنان من اولاد ابرهة بعد وفاته، ومن هذه الناحية لم تتفق جميع الروايات علي ان عام ولادته (ص) كان هو عام الفيل. قال الكلبي مثلا: ان عام الفيل كان قبل ولادة الرسول (ص) ب (23) سنة، ونقل عن مقاتل انه كان قبل ولادة النبيب (40) عاما [94] .وبالنتيجة فان التلفيق بين الروايات واحتساب العام الذي ولدفيه يؤديان الي ان يكون عام (570 م) هو عام ولادة الرسول (ص) وقد يكون ذلك هو الواقع فعلا. اما كون الرسول ولد في عام الفيل، وان عام الفيل هو (570 م) فهذا ما لا يمكن الركون اليه، بل قد يكون امرا بعيدا علي ضوء الاختلافات التي نقلت في تاريخ عام الفيل. فقد اعتبر المسعودي عام الفيل موافقا لسنة 882 بتاريخ ذي القرنين. [95] وبما انهم قالوا: ان ولادة الرسول كانت في ربيع الاول وبعد خمسين يوما من واقعة الفيل، وبما ان هذه الواقعة (اي حملة ابرهة) كانت قد حدثت في يوم الاثنين‌17محرم عام 882 اسكندري (او ذو القرنين سلوكي). [96] فعلي ضوء هذه الارقام والحسابات، توصلوا الي نتيجة مفادها ان ولادة الرسول (ص) كانت في العام (570م). بينما توصل السهيلي [97] الي ان ولادته المباركة كانت في‌20 نيسان (ابريل) المطابق لشهر ربيع الاول، علما ان هذا التاريخ كان قبل الغاء النسي‌ء، وقد اشرنا سابقا الي ان العرب كانوا يطبقون الاشهر القمرية علي السنة الشمسية من اجل تثبيت موسم السوق التجارية، ولهذا اتفق شهر ربيع الاول مع شهر نيسان.

مصادر سيرة الرسول قبل البعثة

لا توجد بين ايدينا معلومات وفيرة عن حياة الرسول (ص) بين ولادته وبعثته التي تمتد الي فترة طويلة تقدر طبقا للمشهور باربعين عاما، وقد سجل لنا اهل السير بعض الحوادث عن ولادته (ص) ورضاعه، وسفره الي الشام مع عمه، ومشاركته في حرب الفجار وحلف الفضول، وكذلك عن زواجه من خديجة، ومشاركته في ترميم الكعبة وحله لازمة رفع الحجر الاسود. وقد جري قسم من هذه الاحداث جريا طبيعيا لاينطوي علي امور خارقة للعادة او معاجز، بينما تضمن القسم الاخر احداثا فيها كرامات وامور خارقة للقوانين السائدة ومعاجز، ولا نجد نحن المسلمين مانعا من قبول كل هذه المعاجز والخوارق، وليس هناك من مبرر لردها وانكارها بعد ان آمنا ان الرسول (ص) مبعوث الهي يحظي برعاية اللّه القادرعلي كل شي‌ء وعنايته. اما اذا لوحظت هذه الحوادث بالمنظار التاريخي المحض وفي ضوء ما جرت عليه السنن الالهية في ربط الامور باسبابها الطبيعية، فاننا يمكن ان نجد تفسيرا آخر لهذه الروايات التي تتحدث عن امور خارقة للعادة، ويمكن اعتبارها نوعا من التمثيل والرمز، واذا ما حاولنا في هذا الكتاب توجيه هذه الروايات المبنية علي المعاجز وجهة تمثيلية رمزية بما يتسع له المجال فاننا نقوم بذلك من اجل ان لا يفقد هذا المجهود بعده التاريخي العام، ويتحول الي كتاب ديني محض. فالكتاب الديني يكتب عادة لاهل الديانة خاصة، اما الكتاب التاريخي الذي يجب ان يكتب بطريقة اخري تحفظ له شموليته وعموميته، فلا يختص باهل ديانة معينة، وبذلك سوف لا يقف التعصب حائلا دون قراته، لهذا لا ينبغي الربط‌بين اعتماد المؤلف وتاكيده علي توجيهه هذه الحوادث وجهة طبيعية، وبين معتقداته الدينية التي لا تختلف عن معتقدات عامة المسلمين.

وفاة عبداللّه و مرحلة الرضاعة

كان عبداللّه والد الرسول (ص) قد ذهب في احدي القوافل التجارية الي الشام، وترك خلفه زوجته آمنة، وهي حامل برسول اللّه، في مكة، وفي طريق عودته مرض فبقي عند اهل‌ام ابيه عبد المطلب، وظل هناك حتي فارق الحياة. بناء علي القول المشهور فان الرسول (ص) كان ما يزال في بطن امه عند وفاة ابيه عبداللّه، بينما قال آخرون: انه كان له من العمر (28) شهرا حين وفاة والده، وهناك قول ثالث: بانه كان ابن سبعة اشهر. [98] وكانت العادة قد جرت علي ان يقوم اشراف مكة بايداع اطفالهم عند مرضعات في البادية لينشاوا ويتربوا في تلك البيئة النقية، والدليل علي ذلك ما جاء في طبقات ابن سعد: «انه قدم مكة عشر نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن الرضاع، فاصبن الرضاع كلهن الا حليمة بنت عبداللّه بن‌الحارث، فعرض عليها رسول اللّه (ص) فجعلت تقول: يتيم ولامال له، وما عس امه ان تفعل؟ فخرج النسوة وخلفنها، فقالت حليمة لزوجها: ما تري؟ قد خرج صواحبي، وليس بمكة غلام يسترضع الا هذا الغلام اليتيم، فلو انا اخذناه، فاني اكره ان نرجع الي بلادنا ولم ناخذ شيئا، فقال لها زوجها: خذيه عسي اللّه ان يجعل لنا فيه خيرا، فجاءت الي امه واخذته منها، ووضعته في حجرها، فدر ثدياها وتدفقا لبنا، فشرب رسول اللّه (ص) حتي روي وشرب اخوه، وكان اخوه لا ينام من الغرث، فقالت امه: يا ظئر، سلي عن ابنك، فانه سيكون له شان، واخبرتها ما رات وما قيل لها فيه حين ولدته، وقالت: قيل لي ثلاث ليال: استرضعي ابنك في بني سعد بن بكر، ثم في آل ابي ذؤيب، قالت حليمة: فان ابا هذا الغلام الذي في حجري ابو ذؤيب، وهو زوجي، فطابت نفس حليمة وسرت بكل ما سمعت، ثم خرجت به الي منزلها، فحدجوا اثاثهم، فركبت حليمة وحملت رسول اللّه (ص) بين يديها، وركب الحارث شارفهم، فطلعا علي صواحبها بوادي السرر، وهن مرتعات، وهما يتواهقان، فقلن: يا حليمة ما صنعت؟ فقالت: اخذت واللّه خير مولود رايته قط، واعظمهم بركة. قالت النسوة: اهو ابن عبدالمطلب؟ قالت: نعم! قالت: فما رحلنا من منزلنا ذلك حتي رايت الحسد من بعض نسائنا».

غسل القلب و تطهيره

طبقا للروايات الواردة في سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري: «انه لما بلغ (ص) اربع سنين كان يغدو مع اخيه واخته في البهم قريبا من الحي، فاتاه الملكان هناك فشقا بطنه واستخرجا علقة سودا فطرحاها، وغسلا بطنه بماء الثلج بطست من ذهب، ثم وزن بالف من امته فوزنهم، فقالاحدهما للاخر: دعه، فلو وزن بامته كلها لوزنهم». [99] .وقد ذكرت هذه الرواية في تفسير سورة (الشرح) وجاء في سورة اخري علي لسان موسي وهو يدعو ربه (رب اشرح لي صدري) «طه: 25»، وتشير الاية الكريمة من ورا المعني اللفظي الي معان مجازية عميقة، منها سعة الصدر، وانشراح القلب لتحمل الهموم الكبار، وبعد النظر، والاستقامة علي الطريقة، وتطهير القلب من هوي النفس ونزغ الشيطان ليصبح مهيا لاستقبال الاوامر والنواهي الالهية. اما ما ذكرته تلك الروايات من اخراج القلب وتطهيره، فيبدوانها كانت تشير الي معان رمزية حول طهارة قلب الرسول (ص) وما ينبغي ان يكون عليه النبي (ص) من طهر وسلامة وسعة صدر وخلوص نية، ولا ينبغي ان نحمل هذه الروايات علي معانيها اللفظية وحسب، والا فان هذا القلب الذي في الصدر لايمثل الا عضلة لضخ الدم لتستمر الحياة، اما شؤون النفس وقواها الروحية فيبدو ان مكانها الظاهري الدماغ، او الاصح والادق ليس لها مكان مادي خاص.

وفاة آمنة و عبد المطلب

كان الرسول (ص) في السادسة من عمره حين فارقت امه آمنة الحياة، ويقال: انها كانت قد تركته (ص) في يثرب عند اهل ام عبد المطلب وقد توفيت في طريق عودتها الي مكة في (الابوا) بين مكة والمدينة، وتقول الرواية: ان مرضعة الرسول (ام ايمن) كانت ترافقه، وهي التي عادت به الي مكة بعدوفاة امه. [100] .وتولي عبد المطلب امر الرسول (ص) بعد وفاة امه، وبقي الرسول في رعايته الي حين وفاته في الثمانين من عمره، وقيل: في المائة والعشرين من عمره، وكان عمر الرسول (ص) حينئذ ثمانية اعوام، ويقال: ان عبد المطلب كان قد اوصي اباطالب ان يتولي امر رسول اللّه (ص) من بعده لكونهما (ابوطالب وعبداللّه والد الرسول) ابني عبد المطلب من ام واحدة.

عناية ابي طالب برسول اللّه

لقد احسن ابو طالب رعاية ابن اخيه رغم فقره وحاجته، وتنقل الروايات قصصا غريبة عن مدي الحاجة والعوز اللذين كان‌عليهما ابو طالب، بينما هناك روايات تصف ابا طالب بانه كان من اهل التجارة والثروة، وكان كثير السفر الي الشام لاغراض تجارية، وفي روايات اخري انه كان تاجر عطور ويتاجراحيانا بالقمح. [101] .وتنقل الروايات ان ابا طالب كان قد اصطحب الرسول (ص) في احدي اسفاره التجارية الي الشام، وكان عمره آنذاك اثني‌عشر عاما، وبهذا فاننا لا نملك الا ان نتامل قليلا في تلك الروايات التي تتحدث عن فقر ابي طالب وعوزه بعد ان كان من تجار قريش واشرافها.

قصة بحيرا

شاهد احد الرهبان المدعو (بحيرا) رسول اللّه (ص) في سفره الي الشام مع عمه ابي طالب في بصري من اعمال الشام ولمح فيه علامات النبوة، فاسر الامر الي عمه ابي طالب وحذره من كيد اليهود وحثه علي رعايته وحمايته من شرهم. ولو لمحنا شيئا من المبالغة في رواية (علامات النبوة) وفي اخبار (بحيرا) عن الغيب، ولكن لا يمكننا انكار حقيقة ان الرسول (ص)، وبغض النظر عن منزلته الالهية العليا، كان ذا شخصية يمتاز بها عن اقرانه واترابه، وبناء علي هذا فلن يكون تشخيص مثل تلك العلامات الكبري، التي تنبي بمستقبل لامع، امرا صعبا او استثنائيا من قبل عالم روحاني كبحيرا. وكثيرا ما نصادف في حياتنا تنبؤات عن بعض الاطفال الاذكياء المميزين، ثم يتبين فيما بعد صدق تلك التنبؤات وعدم ابتعادها عما يتحقق في الواقع بصورة عامة. فقد تكون الرواية صحيحة من حيث الاصل، وان (بحيرا) تنبا فعلا لهذا الصبي النابغة بمستقبل عظيم، فاوصي عمه بضرورة المحافظة عليه والاهتمام بتربيته وحراسته من كيد الاعدا، اما تفاصيل القصة وجزئياتها فقد تكون من اضافات الرواة.

ايام الفجار و مشاركة الرسول فيها

الفجار علي مرحلتين، عرفتا ب (الفجار الاولي) و (الفجارالثانية)، وسميت بالفجار لانها وقعت في الاشهر الحرم، في الموسم الذي يفتتح فيه سوق عكاظ، وكان السبب الاصلي لها هو هتك حرمة الاشهر الحرم. والفجار مشتقة من (الفجور)،اذ كثيرا ما تتغلب طبائع العرب في الغزو والاغارة علي الحدود والاعراف التي وضعتها القبائل العربية والتزمت بالحفاظ عليها. ولا يعرف تاريخ هذه الحرب بشكل دقيق ولا يوجد بين ايدينا تفاصيل كاملة عن مجرياتها، اذ لم يدون تاريخها الا بعد فترة طويلة من وقوعها، اي في القرن الاول والثاني الهجريين، فمن الطبيعي ان يحفل مثل هذا التاريخ بالاختلافات والتناقضات. قال اصحاب السير: ان الرسول (ص) شارك في هذه الحرب في مرحلتها الثانية، ويقول الاصفهاني: ان ايام الفجار الثانية كانت عبارة عن يوم نخلة، ويوم الشمطة، ويوم العبلاء، ويوم عكاظ، ويوم الحرة. [102] واستمرت لاربع سنوات متواصلة. [103] وكانت كل واحدة منها تبدا في موسم سوق عكاظ، اما طرفا النزاع فهما قريش والمتحالفون معها من جانب، وقبائل هوازن من جانب آخر. ويقول صاحب الاغاني في الصفحة نفسها: «ان الرسول (ص) شارك في الحرب في جميع فصولها الا في يوم (نخلة)، من‌السنة الاولي»، ولكنه نقل عن ابي عبيدة ان رسول اللّه كان قد شارك في يوم (نخلة) ايضا، وكان عمره اربعة عشر عاما، وكانت مشاركته في دعمه لاعمامه ومساندته لهم في الرمي، اي بتزويدهم بالنبل، وينقل عن الرسول (ص) قوله: «كنت انبل‌اعمامي». وجاء في تفسير ذلك ان الرسول كان يجمع النبل القادم من العدو ويجعله في متناول اعمامه. وذكر صاحب الاغاني ان عمر الرسول كان وقتئذ (28) سنة. [104] وهذا ما يصعب تصديقه، لان الرجل اذا بلغ كان هذا العمر فستكون مشاركته بالحرب مشاركة مباشرة، ولا يكتفي بجمع النبل واحضاره للمقاتلين! ويقول ابن الاثير: «ان الرسول كان له من العمر عشرون عاما ايام تلك الحرب»، وهذا بدوره لا يمكن تصديقه للسبب عينه. كانت قريش قد هزمت في يوم (نخلة) ولاذت بالحرم، ولهذا السبب، وبسبب حلول الليل ايضا توقفت الحرب. وينقل ابن الاثير عن الزهري قوله: ان الرسول لم يشارك في هذه الحرب، فلو كان حاضرا لما هزمت قريش، غير ان ابن الاثير يرد علي هذا التعليل، ويقول: ان اصحاب الرسول (ص) كانوا قد هزموا بعد بعثته كما في احد مثلا فكيف لا يمكنان يهزموا قبل البعثة. [105] .وقال صاحب الاغاني: «ان الرسول اشترك في يوم (الشمطة») (في السنة الثانية في الفجار الثانية) وينقل عن الرسول قوله: «انه ما حمل علي ناحية الا وهزم من كان فيها»، ويضيف في ص 64: ان الرسول شارك في جميع معارك حرب الفجار الا في يوم (نخلة) كانت مشاركته بتحضير النبل لاعمامه، وكان‌عمره عشرين عاما، وكذلك اشترك في حرب الابوا المعروفة بمعركة (ملاعب الاسنة) وكان قد اصيب فيها». ويحتمل كثيرا ان يكون الرسول (ص) قد اشترك فعلا في هذه الحروب بناء علي صحة القولين المنقولين عنه (ص)، احدهما: «كنت انبل علي اعمامي»، والاخر: «ما سرني اني لم اشهده، انهم تعدوا علي قومي، عرضوا عليهم ان يدفعوا اليهمالبراض صاحبهم فابوا». [106] .يمكن الجمع بين الروايات، التي تذهب الي انه كان صغيرا لم يشترك في الحرب بصورة مباشرة، وبين الروايات التي تدعي مباشرته للحرب كاي مقاتل آخر، بالقول ان المجموعة الاولي من الروايات تتعلق ببداية الحرب، والتي كان عمر الرسول (ص) حينها في حدود الاربعة عشر او الخمسة عشر عاما، حيث اقتصر في مشاركته علي مساعدة اعمامه في تحضير النبل، اما المجموعة الثانية فتتعلق باواخر الحرب حيث بلغ حينها الثامنة عشر او اكثر، ولم يعد يكتف بتلك المشاركة، بل اصبح يقاتل بصورة مباشرة. اما سبب رضا الرسول عن مشاركته في الحرب وادانته لخصوم قريش فيها اي (هوازن) رغم ان (البراض) الداخل في جوار قريش كان فاسقا وخمارا وقاتلا، فربما يعود لاصرار (هوازن) علي تسلم البراض بالقهر لتنزل به القصاص وتقتله، ورفضوا كما يفهم من مضمون الروايات، وان لم يظهر ذلك فيها بشكل صريح قبول الدية، وبادروا الي الحرب دون تورع عن سفكالدماء وقتل المزيد من الناس. [107] .

حلف الفضول و مشاركة الرسول فيه

تم التوصل الي (حلف الفضول) بعد عودة قريش من حرب‌الفجار، وكان الرسول (ص) حينها قد بلغ العشرين من عمره الشريف، ويبدو ان هذا الحلف الذي ابرم في شهر ذي القعدة كان افضل واشرف حلف عقده عرب الجاهلية علي الاطلاق. وقيل: ان الرسول (ص) كان حاضرا حين ابرام الحلف في بيت عبداللّه بن جدعان، ونقل عنه (ص) قوله: «ما احب ان لي بحلف حضرته بدار ابن جدعان حمر النعم واني اغدر به، هاشم وتيم تحالفوا ان يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفة، ولو دعيت به لاجبت، وهو حلف الفضول». [108] لقد عقد هذا الحلف لاخذ حق المظلوم من الظالم في مكة، فكان لا يامن العربي ولا غيره علي ماله هناك، وكان من بين من اشتهر من قريش بالاغارة علي اموال الناس: العاص بن وائل السهمي (ابو محمد بن العاص) الذي اخذ مالا لشخص من بني زبيد ولم يدفع ثمنه، فشكا الزبيدي امره الي حلفائه وكان منهم بنوسهم، فلم يكتف هؤلاء الاحلاف وهم (بنو عبد الدار ومخزوم وسهم وعدي وجمح) بعدم نصرته بل اعانوا عليه، فلجا الزبيدي الي جبل قبيس، وكان قد وصل الي هناك قبل طلوع الشمس، وبينما كان القرشيون يطوفون حول الكعبة نادي الزبيدي بظليمته وطلب النصرة من قريش، وكان من بين الذين سمعوا نداه اعضاء حلف المطيبين، اي بنو هاشم وبنو زهرة وبنو تيم، فاجتمعوا في منزل عبداللّه بن جدعان، وكان من اشراف قريش واغنيائها، فتعاهدوا علي ان يقفوا الي جانب المظلوم وينازعوا الظالم حتي ياخذوا الحق منه. [109] وذكرت هذه الرواية سببا آخر لحلف الفضول وهو التنازع علي مناصب بني عبد الدار.

الزواج من خديجة

كانت خديجة بنت خويلد بن اسد بن عبد العزي قد تزوجت من رجلين قبل زواجها من رسول اللّه (ص)، احدهما (ابو هالة التميمي)، وقد انجبت منه ولدا اسمه هند، دخل الاسلام فيما بعد وكان من البدريين، وقد روي عنه الامام الحسن بن علي (ع) حديثا واصفا اياه ب (خالي). وشهد هند مع اميرالمؤمنين معركة الجمل، وقتل فيها، وانجبت خديجة من زوجها الثاني (عتيق بن عابد المخزومي) بنتا اسمتها هند ايضا، (هوند اسم مشترك بين الذكور والاناث). وتشرفت هي الاخري بالاسلام. كانت خديجة علي قدر كبير من الثراء، وكثيرا ما كانت تستاجر العمال وترسلهم في قوافل تجارية الي الشام وغيرها من الاسواق. وطبقا للرواية التي اوردها ابن سعد في طبقاته: [110] لما بلغ رسول اللّه (ص) خمسا وعشرين سنة قال له ابو طالب: «انا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك وقد حضر خروجها الي الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لاسرعت اليك»، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، فارسلت اليه في ذلك وقالت له: «انا اعطيك ضعف مااعط‌ي رجالا من قومك». قال: اخبرنا عبداللّه بن جعفر الرقي، قال ابو طالب: «يابن اخي، قد بلغني ان خديجة استاجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضي لك بمثل ما اعطته، فهل لك ان تكلمها؟» قال: «ما احببت!» فخرج اليها فقال: «هل لك يا خديجة ان تستاجري محمدا؟ فقد بلغنا انك استاجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضي لمحمد دون اربع بكار» قال: «فقالت خديجة: لو سالت ذاك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سالت لحبيب قريب؟». واخيرا ذهب الرسول (ص) الي الشام في قافلة تجارية لخديجة، ورافقه في سفره هذا غلام لها يدعي ميسرة، وقد فتح اللّه علي يد رسوله، فكانت رحلة تجارية ناجحة وصفقة رابحة، فاعجبت خديجة باخلاق رسول اللّه وامانته خلال السفر، وزادها قناعة غلامها ميسرة الذي نقل لها اعجابه هو الاخر برفيقه وما لاحظه، من امور تستدعي التقدير والثناء، فما كان منها الا ان اعربت عن رغبتها بالزواج منه، ولما بلغ احد الاشخاص الرسول (ص) ذلك استجاب لهذه الرغبة، فقام‌عماه ابوطالب وحمزة بخطبة خديجة من عمها عمرو بن اسدوتم الزواج. وكان الرسول قد بلغ (طبقا للروايات) الخامسة والعشرين من عمره حينها فكان يصغرها بخمسة عشر عاما. وقد تحدثت الاخبار عن معاجز وكرامات حصلت للرسول (ص) في سفره هذا الي الشام، وعن نبوءات تنبا بها راهب مسيحي يدعي (نسطور) حول نبوته (ص)، نقول بشانهاما سبق منا الاشارة اليه، وهو اننا لا نري في تنبؤ الرهبان بمستقبل شاب لفت الانظار بحدة ذكائه وعلو همته وشدة استقامته، امرا خارقا للعادة، بل ذلك امر ميسور لكل انسان يتمتع بقدر بسيط من الذكاء والفراسة. لكن ان يتنبا رجل دين مسيحي بنبوة انسان غريب، قد يكون ذلك امرا مستبعدا. اما اذا كان الغرض من الحاق هذه القصة بالرواية المذكورة هو التدليل علي صدق النبوة، او للفخرو الاعتزاز، فان الرسول غني عن مثل هذه الشهادات، وغير محتاج لتلك المفاخر، وله من افعاله واقواله خير دليل علي صدق نبوته، وقيلها جميعا القرآن الكريم. والملفت في رواية الزواج من خديجة هو رغبة هذه المراة، التي هي من اشرف واغني نساء قريش، بالزواج منه (ص)، وهذا دليل علي علو منزلته وجلال قدره وطيب سمعته. فمع ماله من شرف الحسب والنسب غير انه كان فقيرا لا يملك من حطام الدنيا شيئا. اما اعمامه فقد بلغ فيهم الفقر في حينها حداحاروا معه في اعالته (ص). فلا يمكن لمن هذه حاله ان يستقطب اهتمام الناس ويكسب احترامهم وتقديرهم الا بالخلق الحسن والمعاملة الطيبة والمودة للناس. لقد بلغ رسول اللّه (ص) المنزلة الاجتماعية المرموقة التي جعلت امراة من اشرف واغني نساء قريش تعرض الزواج عليه (ص). وقد وردت تفاصيل كثيرة في موضوع هذا الزواج، ومنها ما قيل: «ان خويلد ابا خديجة سقي من الخمر حتي اخذت فيه ثم دعا محمدا (ص) فزوجه». نقول ان الامر الذي دفع خديجة الي طلب الزواج من الرسول (ص) هو مكانته الاجتماعية واشتهاره في مكة بالصادق الامين، وذلك لم يدع مجالا للتردد امام ابي خديجة ولم يكن بحاجة لان يلجا الي السكر لاصدار الموافقة، كما اننا لم نعثرعلي ما يشبه هذه الحادثة في قريش، ولو صحت تلك الرواية فسيحكم علي هذا الزواج بالفساد والبطلان في وقته. فالرواية تكذب نفسها بنفسها، ويحتمل ان تكون مما دسه اعداء بني هاشم، وخصوصا اعداء ابناء فاطمة (ع) والعلويين، فان فاطمة ومن ثم اولاد الرسول (ص) وائمة الشيعة انما كانواحصيلة هذا الزواج.

اولاد الرسول من خديجة

روي ابن سعد [111] عن هشام بن محمد الكلبي عن ابن‌عباس، قال: «كان اول من ولد لرسول اللّه (ص) بمكة قبل النبوة القاسم، وبه يكني، ثم زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم ام كلثوم، ثم ولد له في ا»سلام عبد اللّه فسمي الطيب والطاهر، وامهم جميعا خديجة بنت خويلد بن اسد بن عبد العزي بن قصي، وامها فاطمة بنت زائدة بن الاصم، وكان اول من مات من ولده القاسم، ثم مات عبداللّه بمكة، فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع ولده فهو ابتر، فانزل اللّه تعالي: (ان شانئك هو الابتر) «الكوثر: 3».

مشاركة الرسول في ترميم الكعبة

ان الرسول (ص) كان قد ساهم في شبابه وقبل بعثته في ترميم بناء الكعبة، وقد وقع اختلاف في تقدير وتحديد عمر الرسول (ص) حينئذ، حيث قال الازرقي: «ان الرسول (ص) كان غلاما» واضاف الازرقي: «فنقلوا الحجارة ورسول اللّه يومئذ غلام لم ينزل عليه الوحي، ينقل معهم الحجارة علي رقبته، فبينا هو ينقلها اذ انكشفت عزة كانت عليه فنودي يا محمد عورتك، وذلك اول ما نودي واللّه اعلم، فما رؤيت لرسول‌اللّه (ص) عورة بعد ذلك... فشد رسول اللّه (ص)ازاره، وجعل ينقل معهم». [112] .وقال ابن اسحاق: «فلما بلغ رسول اللّه (ص) خمساوثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبناء الكعبة». [113] .ويعتقد ان رواية ابن اسحاق هي الاصح، فسنري ان الرسول حين اختير ليحكم في قضية الحجر الاسود والاختلاف الذي وقع فيمن ينال شرف رفعه، قالوا: «هذا الامين» وذلك لاينسجم مع كونه طفلا او غلاما. وقد وقع اختلاف ايضا في اسباب ترميم الكعبة، فقال ابن‌سعد: «كانت الجرف مطلة علي مكة، وكان السيل يدخل من اعلاهاحتي يدخل البيت فانصدع، فخافوا ان ينهدم». [114] .وروي الازرقي في تاريخ مكة: «ان امراة تجمر الكعبة، فطارت من مجمرتها شرارة فاحترقت كسوتها، وكانت الكسوة عليها ركاما بعضها فوق بعض، فلما احترقت الكعبة توهنت جدرانها من كل جانب». وذكر الازرقي في المصدر نفسه قضية السيل. وكانت جدران الكعبة قصيرة علي ما يبدو، كما ان بنيانها كان من الحجر الذي وضع دون ملاط يشده الي البعض، حيث جاء في سيرة ابن هشام: [115] «انها كانت رضما فوق القامة، فارادوا رفعها وتسقيفها ولهذا وقعت تلك السرقة المعروفة للكعبة، حيث جاء في الصفحة نفسها من سيرة ابن هشام، ان نفرا سرقوا كنزا للكعبة، وقيل ان ابا لهب عم الرسول (ص) وعدوه اللدود كان احد المشاركين في هذه السرقة. كان باب الكعبة ملاصقا للارض، وبحيث يمكن الدخول الي داخلها، ويبدو ايضا ان الكعبة لم يكن لها سقف، وكان البحر قد رمي بسفينة الي جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، واخذوا خشبها، فاعدوه لتسقيفها، واذنوا لاهلها اي اهل السفينة ان يدخلوا مكة فيبيعون ما معهم من متاع علي ان لايعشروهم، وكانوا يعشرون من دخلها من تجار الروم، ويقول ابن هشام: «وكان بمكة رجل قبط‌ي نجار فتهيا لهم فيانفسهم بعض ما يصلحها». [116] .وفي رواية اخري للازرقي: انه كان في السفينة رومي نجاربناء يسمي باقوم كان قد ساعدهم في بنائها [117] .وبعد تهيب وخوف من غضب اللّه، قامت قريش بهدم جدر ان الكعبة، قال الازرقي: «فلما وضعوا ايديهم في بنائها قالوا: ارفعوا بابها من الارض واكبسوها حتي لا تدخلها السيول ولا ترقي الابسلم، ولا يدخلها الا من اردتم، ان كرهتم احدا دفعتموه، ففعلوا ذلك وبنوها بساف من حجارة وساف من خشب بين الحجارة حتي انتهوا الي موضع الركن فاختلفوا في وضعه، وكثر الكلام فيه، وتنافسوا في ذلك، فقال بنو عبد مناف وبنو زهرة: هو في الشق الذي وقع لنا، وقالت تيم ومخزوم: هو في الشق الذي وقع لنا، وقالت سائر القبائل: لم يكن مما استهمناعليه فقال ابو امية المغيرة: يا قوم، انما اردنا البر، ولم نرد الشر، فلا تحاسدوا ولا تنافسوا، فانكم اذا اختلفتم تشتتت اموركم وطمع فيكم غيركم، ولكن حكموا بينكم اول من يطلع عليكم من هذا الضح. قالوا: رضينا وسلمنا فطلع رسول اللّه (ص) فقالوا: هذا الامين قد رضينا به فحكموه. فبسط رداءه، ثم وضع فيه الركن، فدعا من كل ربع رجلا، فاخذوا باطراف الثوب، فكان من بني عبد مناف عتبة بن ربيعة، وكان في الربع الثاني ابو زمعة بن الاسود، وكان اسن القوم، وفي الربع الثالث العاص بن وائل، وفي الرابع ابو حذيفة بن المغيرة، فرفع القوم الركن، وقام النبي (ص) علي الجدار ثموضعه بيده». [118] .وتدل هذه الرواية علي رجاحة عقل الرسول، وحسن تدبيره، وحدة ذكائه، وكفاءته، ولا غرو في ذلك، فمن استطاع ان يغير الوجه الاجتماعي والسياسي لجزء مهم من العالم المتحضر، لا بد ان يكون له مثل هذا العقل وتلك الكفاءة، ولا نجد مبررالرد الرواية وعدم قبولها. وكما اوضحنا فان ارتفاع الكعبة كان بحدود تسعة اذرع ولم يكن لها سقف، وانما تدلي الكسوة علي الجدار من الخارج وتربط مناعلي الجدار من بطنها. [119] .وقال الوليد بن المغيرة اثناء البناء: «لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم الا من طيب اموالكم، ولا تدخلوا فيه مالا من ربا، ولا مالا من ميسر، ولا مهر بغي، وجنبوه الخبيث من اموالكم، فان اللّه لا يقبل الا طيبا، ففعلوا، ثم وقفوا عند المقام، فقاموا يدعون ربهم ويقولون: «اللهم ان كان لك في هدمها رضا فاتمه». ولكن ما جمعوه من النفقة لم يكن كافيا البيت كله، لانهم لم ياخذوا من الاموال الحرام خصوصا اموال الربا، والسرقة فتشاوروا في ذلك، فاجمع رايهم علي ان يقصروا عن القواعد، ويحجروا مايقدرون عليه من بناء البيت ويتركوا بقيته في الحجر، وعليه جدار مدار يطوف الناس من ورائه، ففعلوا ذلك، وجعلوا في بطن الكعبة اساسا يبنون عليه من شق الحجر ستة اذرع وشبرا، فبنوا علي ذلك، فلما وضعوا ايديهم في بنائها قالوا: «ارفعوا بابها من الارض واكبسوها حتي لا تدخلها السيول ولا ترقي الا بسلم، ولا يدخلها الا من اردتم، ان كرهتم احدا دفعتموه»، ففعلوا ذلك وبنوها بسافمن حجارة وساف من خشب بين الحجارة. [120] .فبنوا اربعة اذرع وشبرا، ثم كبسوها ووضعوا بابها مرتفعا علي هذا الذرع، ورفعوها بمدماك خشب ومدماك حجارة، حتي بلغوا السقف، فقال باقوم الرومي: «اتحبون ان تجعلوا سقفها مكبسا او مسطحا؟»، فقالوا: «بل ابن بيت ربنا مسطحا». قال: «فبنوه مسطحا، وجعلوا فيه ست دعائم في صفين، في كل‌صف ثلاث دعائم من الشق الشامي الذي يلي الحجر الي الشق اليماني، وجعلوا ارتفاعها ثمانية عشر ذراعا... وزوقوا سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها، وجعلوا في دعائمها صورالانبياء وصور الشجر وصور الملائكة، فكان فيها صورة ابراهيم خليل الرحمن وهو شيخ يستقسم بالازلام، وصورة عيسي ابن مريم وامه»، ويبدو ان هذه الصور من اعمال الروم المسيحيين وخاصة صورة عيسي ومريم عليهما السلام والافان القرشيين مشركون ولا يعتقدون بالمسيحية. وقيل: «لما كان يوم فتح مكة دخل رسول اللّه (ص) فارسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب، فجاء بماء زمزم، ثم امر بثوب وامر بطمس تلك الصور فطمست، قال: ووضع كفيه علي صورة عيسي ابن مريم وامه عليهما السلام، وقال: امحوا جميع الصور الا ما تحت يدي فرفع يديه عن عيسي ابن مريم وامه ونظر الي صورة ابراهيم فقال: قاتلهم اللّه، جعلوهيستقسم بالازلام، ما لابراهيم وللازلام». [121] .

سيرة الرسول من البعثة حتي الهجرة

موقف الرسول من عقائد وعادات قومه قبل البعثة

ان ما وصل الينا من حوادث عن حياة الرسول (ص) تعتبر قليلة جدا، ولا تمثل سجلا وافيا لاربعين عاما او اكثر من حياة حافلة بالاحداث كحياة الرسول (ص)، ويبدو ان اكثر الذين روواسيرته ونقلوها الي الناس لم يعاشروا الرسول (ص) ولم يرافقوه طيلة حياته فهناك فقط قلة من اصحابه (ص) رافقته منذ البعثة وحتي الهجرة، غير ان تقدم سنهم لم يمهلهم الي حين بدا الرواة والمحققون حملتهم لتدوين تفاصيل الحياة النبوية بناء علي رواية الصحابة الاوائل، وجعلها في متناول الناس، بل‌توفوا قبل مرحلة التدوين او استشهدوا في المعارك والغزوات‌التي وقعت خلال حياة الرسول (ص). كان احد هؤلاء ابا بكر بن ابي قحافة الذي رافق الرسول (ص) فترة طويلة جدا، وكان قرينه في السن تقريبا، غير انه لم يعش بعد الرسول (ص) سوي سنتين، بينما قتل الصحابي الاخر حمزة، عم الرسول واخوه بالرضاعة، في معركة احد، ودفنت معه احداث وذكريات مهمة، اما الامام علي بن ابي طالب (ع) فلم يكن له من العمر حين البعثة النبوية سوي عشرة اعوام، فهو لا يستطيع استحضار تفاصيل الاحداث التي عاشها الرسول (ص) ايام شبابه بصورة كاملة. ورغم كل هذا فاننا يمكن ان نهتدي بذلك القدر المحدود من الاحداث التي ثم تدونيها الي المقام الذي كان عليه الرسول (ص) من حسن الخلق، وحدة الذكاء، ورجاحة العقل والتدبير، وشدة حبه للخير، ومثال ذلك ما قاله (ص) حول حلف الفضول. ويستشف من بعض الروايات التي نقلت هنا وهناك ان الرسول (ص) كان دائم التفكير والتامل في واقع قومه قبل البعثة، وفي الوقت الذي كان يرفض فيه كل المظاهر والاخلاق والاعراف الباطلة، كان يراعي تقاليدهم الدينية بالقدر الذي لاتترك معه اي اثر في نفسه، وبعبارة اخري كان يتجنب استفزازهم والظهور بمظهر التحدي لهم دوما، ومن البديهي ان ذلك لا يعني قبول عبادة الاصنام واقرارها، او العمل بماجري عليه الناس من اعراف جاهلية قبيحة، فهم برغم اعتقادهم بسوء تلك العادات، مثل الزنا والغزو وارتكاب القتل والسرقة وقطع الطريق وما الي ذلك، غير انهم كانوا لا يمتنعون عنها، وقد مرت الاشارة الي هذا المعني في مسالة تجديد بناء الكعبة حيث قيل انهم كانوا لاينفقون علي هذا البناء من اموال الربا والسرقة او من اموال القمار والزنا، ولهذا كانت الاموال التي تجمع لهذا الغرض قليلة. كان الرسول (ص) في موقفه من دين قومه يراعي ظواهر الامور، فنحن نعلم ان الكعبة كانت تغص بالاصنام، وان العرب اعتادوا علي الطواف حولها، يوميا او كل عدة ايام، سبعة اشواط، وكان الرسول قبل البعثة، وفي كل مرة يعود فيها من التحنث والانقطاع في غار حراء، يذهب قبل كل شي‌ء الي البيت ويطوف حول الكعبة، ثم ينصرف الي ممارسة شؤون حياتهالعادية [122] .

التحنث في غار حراء

مرت الاشارة سابقا الي ان هناك جماعة من مكة ابوا متابعة دين آبائهم، واعتزلوا قومهم وما يعبدون، وذهبوا يبحثون عن دين افضل، فاعتنق ثلاثة من هؤلاء الديانة المسيحية، وهم: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وعبيداللّه بن جحش، اما الشخص الرابع، وهو زيد بن عمرو بن نفيل، فقد ظل علي حيرته حتي وافاه الاجل، وكان زيد بن عمرو بن نفيل قد واجه اذي من عمه الخطاب ابن نفيل، فاضطر الي الابتعاد والالتجاء الي جبل حراء،الذي يبعد عن مكة مسافة ثلاثة اميال [123] .وقد روي ابن اسحاق انه كان يوجد في جبل حراء غار تذهب اليهقريش ايام تحنثها [124] .والتحنث يعني (التبرر)، وقيل: هو التعبد واعتزال الاصنام. وقال ابن سيده: «وهذا عندي علي السلب، كانه ينفي بذلك الحنث، الذي هو الاثم، عن نفسه، كقوله تعالي: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) «الاسراء: 79» اي انف الهجود عن عينك، ونظيره تاثم وتحوب، اي نفي الاثم والحوب، وللعرب افعال تخالف معانيها الفاظها، يقال: فلان يتحنث من كذا، اي يتاثم منه، وقوله: يتحنث من كذا، اي يفعل فعلا يخرج بهمن الحنث، وهو الاثم والحرج». [125] .اما عن كيفية هذا التحنث الذي كانت تفعله قريش والاسباب التي تدعوها اليه، فهذا ما لا نملك معلومات كافية عنه، ووردفي رواية لابن اسحاق: «ان رسول اللّه (ص) كان قبل البعثة يتحنث شهرا كاملا في كل سنة في غار حراء، وكان يطعم كل فقير ياتيه». ويضيف ابن اسحاق قائلا: «وكان مما تتحنث به قريش ايام الجاهلية». ولم توضح العبارة بالدقة ما اذا كانت قريش تتحنث شهرا في كل سنة ايضا، وهل تتحنث قريش جميعها، (وهو احتمال بعيد) او بعضها؟. كما ان الرواية لم تبين جهات اخري لهذا التحنث، فربما كانت هناك اماكن اخري للتحنث غير جبل حراء. وجاء في هذه الرواية، ان الرسول (ص) كان يعود بعد شهر من التحنث الي مكة، وقبل ان يباشر اي عمل يذهب ويطوف حول الكعبة سبعة اشواط وبعدها ينصرف الي بيته. وهكذا كان رسول اللّه (ص) يكرر هذا العمل في كل عام حتي نزل‌عليه الوحي، وبعثه اللّه نبيا، وكان ذلك في شهر رمضان. وهناك رواية اوردها الطبري عن ابن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، وقد نقلتها عن رسول اللّه (ص) بصيغة المتكلم مرة وبصيغة الغائب مرة اخري، قالت: «كان اول ما ابتدي‌ء به رسول اللّه من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت تجي‌ء مثل فلق الصبح، ثم حبب اليه الخلاء، فكان بغار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع الي اهله فيتزود لمثلها، حتي فجاه الحق، فاتاه جبريل فقال: يا محمد، انت رسول اللّه. فجثوت لركبتي ثم رجعت ترجف بوادري، فدخلت علي خديجة، فقلت: زملوني زملوني، ثم ذهب عني الروع. ثم اتاني فقال: يا محمد انت رسول اللّه، قال: فلقد هممت ان اطرح نفسي من حالق، فتبدي لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمد، انا جبريل وانت رسول اللّه. قال: اقرا، قلت: وما اقرا؟ فاخذني فغتني ثلاث مرات حتي بلغ مني الجهد، ثم قال: (اقرا باسم ربك الذي خلق) فقرات، فاتيت خديجة، فقلت: لقد اشفقت علي نفسي، واخبرتها خبري، فقالت: ابشر، فواللّه لا يخزيك اللّه ابدا، فواللّه انك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الامانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين علي نوائب الحق. ثم انطلقت بي الي ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان قد تنصر وقرا الكتب وسمع من اهل التوراة والانجيل، فقالت: اسمع من ابن اخيك، فسالني فاخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي انزل علي موسي بن عمران، ليتني كنت حيا حين يخرجك قومك. قلت: امخرجي هم؟، قال: نعم، انه لم يجي‌ء احد مثل ما جئت به الا عودي، ولئن ادركني يومك لانصرنك نصرا مؤزرا. ثم ان اول ما نزل عليه من القرآن بعد (اقرا)، (ن والقلم ومايسطرون) و (ياايها المدثر) و (الضحي). تشتمل الرواية السابقة علي نقاط مهمة ينبغي الاشارة اليها تباعا. اول هذه النقاط الرؤيا الصادقة، او قولها: كان اول ما ابتدي به رسول اللّه من الوحي الرؤيا الصادقة، والرؤيا الصادقة هي الرؤيا التي تتجسد وقائعها وما شاهده النائم فيها علي الواقع حقيقة، ولكن لا يمكن ان يصدق مثل هذا المعني علي ما نحن فيه، فان مثل هذه الرؤي تتكرر وتشيع، ثم ما هو وجه الشبه بينها وبين فلق الصبح؟ النقطة الثانية قول الرواية: ان اول ما نزل علي رسول اللّه (ص) من القرآن الكريم (اقرا باسم ربك) اذن ما الذي نزل في تلك الرؤيا الصادقة التي كانها فلق الصبح؟ لا يمكن اعطاء اجابات صحيحة ودقيقة علي هذه الاسئلة، اذلم يسبق لاحد الالتفات اليها، او انه قد التفت اليها لكنه تركها دون اجابة، او انني لم اطلع علي الاجابات، واعترف بعدم اطلاعي علي معلومات كثيرة قالها او سجلها علماء السيرة. اما ما يمكن ان يقال عن قولها: «اول ما ابتدي به رسول‌اللّه (ص) من الوحي الرؤيا الصادقة. فان الرواية قد تكون في صدد بيان مقدمات الوحي لا الايات نفسها التي نزلت‌عليه (ص)، او تلك المقدمات التي كانت نتيجة تفكيره العميق بالعالم والخالق ومصير الانسان، وباقي المسائل التي كشفت له، ليس عن طريق الوحي و (القول) و (الكلام) و (القرآن)، وانما بالطريقة التي يمكن ان يصل اليها كل المفكرين والمتعمقين بمسائل الكون وقضايا الخلق والانسان، وتنكشف لهم بواسطتها حقائق مهمة وخطيرة. كالتفكر الذي قاده الي الاقتناع ببطلان الدين الذي كان عليه قومه ومعاصروه، وجعله متيقنا بضلالتهم، وقاطعا بعدم جدوي تلك الاصنام وعجزها عن النفع او الضر. لقد ثبت له ان الشمس والقمر والليل والنهار كلها موجودات مسيرة لا تملك الا ان تجري ضمن نظام شامل وضعته لها قوة هي اعلي واقوي من هذه الموجودات واشرف منها جميعا. لقد اتضح لرسول اللّه (ص) ان تلك الاعمال السيئة والافعال القبيحة كلها، التي كان يقوم بها اهل مكة وباقي العرب من الفسق والفجور والحرب والجدال والغزو واكل المال بالباطل واحتقار النساء وواد البنات، نابعة من اخلاق فاسدة صنعها هؤلاء واعتادوا عليها، ولا سبيل لاصلاح اوضاعهم الاجتماعية وتبديل قيمهم الاخلاقية وتزكية نفوسهم وتطهيرها الا بنظام جديد، ودين الهي يندفعون الي تطبيقه، من خلال ايمانهم واعتقادهم الراسخ به. لقد آمن الرسول (ص) ان لا سبيل الي توحيد العرب وانقاذهم من حالة الانحطاط التي كانوا عليها ما دامت القيم القبلية والعصبيات العنصرية تحكمهم وتسيطر عليهم، كما آمن ايضا، قبل بعثته، ان الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها تغيير اوضاع الناس وانقاذهم من حالة التخبط والضياع، انما تكمن في رجوعهم الي اللّه تعالي وايمانهم به وحده دون غيره، ليشرع لهم من الدين ما يمكن ان يبدل ضعفهم قوة، وتمزقهم وحدة، وضلالهم هدي ورشادا، وحينها لن تستطيع قوة اخري قهرهم واستعبادهم واستضعافهم. لقد كانت هذه الكشوفات والرؤي تمثل مقدمة وتوطئة للوحي، وهي التي عبرت عنها الرواية بالقول: «اول ما ابتدي به من الوحي الرؤيا الصادقة كانت تجي‌ء مثل فلق الصبح»، وجاء في الرواية: «ثم حبب اليه الخلاء، فكان بغار حراء يتعبد فيه الليالي». والتحنث كما قلنا حالة روحانية كان يصل اليها بعض اهل مكة احيانا فيقومون اضافة الي تادية عباداتهم الخاصة، كالطواف حول الكعبة، وتقديم القرابين للاصنام، واداء مراسم الحج، والامتناع قدر الامكان عن اللغو في القول وارتكاب المعاصي باعتزال الناس والذهاب الي اماكن خاصة يختلون فيها بانفسهم، غير انه لا يعرف الان ما هي العوامل التي كانت توصلهم الي مثل هذه الحالة الروحية وتمنحهم اياها؟جاء في رواية ابن اسحاق عن عبيد بن عمير: [126] .«ان رسول اللّه (ص) كان يذهب في كل سنة شهرا الي هناك ويتحنث». وجاء في رواية الطبري كذلك عن ابن شهاب الزهري، عن عائشه، والتي نقلنا فقرات منها قبل قليل، ومما جاء فيها: «ثم حبب اليه الخلاء، فكان بغار حراء يتعبد فيه»، وقلنا ان هذا التحنث حدث للرسول (ص) بعد ما شاهده من الرؤيا الصادقة، او مقدمات الوحي، اما بعد نزول الوحي فقد انتابته حالة خاصة من الخوف والخشية، عبرت عنها الرواية بالقول: «فلقد هممت ان اطرح نفسي من حالق»، اي هممت ان ارمي بنفسي من شاهق، لقد كانت نتيجة تلك الحالة ان دفعته الي اعتزال القوم و (التحنث) الذي ادي بدوره، ونتيجة التفكر العميق باوضاع الناس الاجتماعية والدينية، الي اكتشاف ضلال القوم وبطلان عقائدهم. وبعد هذا الانكشاف والوضوح اللذين تما للرسول عن حالة المجتمع اخذ يعتزل الناس اكثر ويشعر بالحاجة الي الاختلاء بنفسه، والاستغراق في التفكير بمصير الانسانية وما حصل له من حالات خاصة من التجلي، واتخاذ الموقف المناسب من هذه المستجدات، وبينما هو علي هذه الحالة من التحنث والتطهر والسمو الروحي، نزل عليه الوحي الحقيقي بصورة جبرئيل بنداء: (اقرا) فلما طرق النداء سمعه ارتجف جسمه كما جاء في الرواية: «فجثوت علي ركبتي ثم رجعت ترجف بوادري، فدخلت علي خديجة، فقلت: زملوني زملوني، ثم ذهب عني الروع، ثم اتاني فقال: يا محمد، انت رسول اللّه. قال: فقلت: فلقد هممت ان اطرح نفسي من حالق، فتبدي لي حين هممت بذلك فقال: يامحمد، انا جبريل، وانت رسول‌اللّه. قال: اقرا. قلت: وما اقرا؟ قال: فاخذني فغتني ثلاث مرات حتي بلغ مني الجهد، ثم قال: (اقرا باسم ربك الذي خلق» فقرات، فاتيت خديجة، فقلت: لقد اشفقت علي نفسي، واخبرتها خبري، فقالت: ابشر فواللّه لا يخزيك اللّه ابدا، فواللّه انك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الامانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين علي نوائب الحق، ثم انطلقت بي الي ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان قد تنصر وقرا الكتب وسمع من اهل التوراة والانجيل، فقال: هذا الناموس الذي انزل علي موسي بن عمران، ليتني كنت حيا حين يخرجك قومك». وجاء في حديث آخر رواه الطبري [127] عن عبداللّه بن‌شداد، قال: «اتي جبريل محمدا (ص) فقال: يا محمد، اقرا. فقال: ما اقرا؟ قال: فضمه، ثم قال: يا محمد، اقرا. فقال: ما اقرا؟، فقال: فضمه، ثم قال: يا محمد، اقرا. قال: وما اقرا؟ قال: (اقرا باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق) «العلق: 1-5» حتي بلغ (علم الانسان ما لم يعلم) قال: فجاء الي خديجة، فقال: يا خديجة، ما اراني الا قد عرض لي. قالت: كلا واللّه ماكان ربك يفعل ذلك بك، ما اتيت فاحشة قط، قال: فاتت خديجة ورقة بن نوفل فاخبرته الخبر، فقال: لئن كنت صادقة، ان زوجك لنبي، وليلقين من امته شدة، ولئن ادركته لاؤمنن به» ويفهم من عبارة: «ما اراني الا قد عرض لي» ان هناك شعورا بالاضطراب والدهشة كان ينتاب الرسول (ص) في بداية نزول الوحي. ما عسي يكون هذا الامر المزعج؟ ان الابهام الذي ورد كما قلنا في رواية الطبري عن عبد اللّه بن‌شداد بقوله: «قد عرض لي» يمكن ان يرتفع بما ورد في رواية ابن اسحاق عن عبد الملك بن عبداللّه بن ابي سفيان الثقفي، غير اننا يجب ان نقول اولا: ان هذه الرواية كان قد اوردها ابن‌هشام بصورة ناقصة مبتورة، ولم يذكر فيها المورد الذي نستنداليه. لقد ورد هذا الجزء بصورة كاملة ومفصلة في جزء من نص سيرة ابن اسحاق التي نشرها محمد حميد اللّه معتمدا علي نسخة القرويين. [128] ووردت ايضا في رواية الطبري عن سلمة بن محمد بن اسحاق، عن وهب بن كيسان، [129] ولم ترد هذه النقطة ايضا في سيرة ابن هشامفي نقله لرواية وهب بن كيسان. [130] .ونحن نحتمل ان تكون رواية عبد الملك بن عبداللّه في‌الطبري، قد ادمجت مع رواية وهب بن كيسان، فان اغلب عبارات الروايتين متكررة. اما الذي ورد في كل من سيرة ابن هشام وسيرة ابن اسحاق (نسخة القرويين) وتاريخ الطبري فهو القول بان سورة (اقرا) كانت اول ما نزل به جبرئيل علي النبي (ص) وان النبي كان حين نزول هذه السورة نائما. ففي رواية ابن هشام: [131] «فجاءني جبريل (ع) وانا نائم، بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرا. قال: قلت: ما اقرا؟، قال: فغتني به حتي ظننت انه الموت، ثم ارسلني، فقال: اقرا. قال: قلت: ما اقرا؟. قال: فغتني به حتي ظننت انه الموت.... قال: فقلت: ماذا اقرا؟، ما اقول ذلك الا افتداء منه مخافة ان يعيد ما صنعه بي؟، فقال: (اقرا باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرا وربك الاكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم) «العلق: 1- 5» قال: فقراتها، ثم انتهي فانصرف عني، وهببت من نومي فكانما صور في قلبي كتابا». ساعود الي قصة النوم هذه، اما ما اريد بيانه هنا فهو الشي‌ء الذي ورد في الرواية التالية، والذي يمكن ان يكون تفسيرا لقوله: «قد عرض لي»، ذلك هو قوله (ص) الذي جاء في سيرة ابن اسحاق (نسخه القرويين ص 121): [132] «ولم يكن في خلق اللّه عز وجل احد ابغض الي من شاعر او مجنون، كنت‌لا اطيق ان انظر اليهما فقلت: ان الابعد يعني نفسه لشاعر او مجنون. ثم قلت: لا تحدث قريش عني بهذا ابدا. لاعمدن الي حالق من الجبل فلاطرحن نفسي منه فلاقتلنها فلا ستريحن»...الي ان يقول: «وانصرفت راجعا الي اهلي حتي اتيت خديجة، فجلست اليها، فقالت: يا ابا القاسم، اين كنت؟ فواللّه لقد بعثت رسلي في طلبك حتي بلغوا مكة ورجعوا، فقلت لها: ان الا بعد لشاعر او مجنون. فقالت: اعيذك باللّه يا ابا القاسم من ذلك، ماكان اللّه عز وجل ليفعل بك ذلك مع ما اعلم من صدق حديثك وعظم امانتك وحسن خلقك وصلة رحمك». كان حديث خديجة مع النبي (ص) وجوابها علي عبارة: «ما اراني الا قد عرض لي» التي وردت في رواية عبداللّه بن شداد هو جوابها نفسه علي ما ورد في رواية وهب بن كيسان اوعبد الملك بن عبداللّه: «الابعد شاعر او مجنون». فمن الواضح ان هذا الامر الذي ازعجه وعرض له انما هو ما كان يفكر به الرسول (ص) من (انه شاعر او مجنون) [133] وهو الذي جعله يقول: «لاعمدن الي حالق من الجبل فلاطرحن نفسي منه». ان ما ورد في رواية ابن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير،عن عائشة، والتي وردت في تاريخ الطبري، ونقلناها نحن، تؤيد هذه النقطة التي اشرنا اليها، لقد جاء في ذيل الرواية المذكورة قوله (ص): «ثم كان اول ما نزل علي من القرآن بعد (اقرا)، (ن والقلم وما يسطرون، ما انت بنعمة ربك بمجنون، وان لك لاجرا غير ممنون، وانك لعلي خلق عظيم، فستبصرو يبصرون) «القلم: 1- 5». وتتلو هذه الايات من السورة نفسها الايات: (باييكم المفتون، ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين...) «القلم: 6 - 7» التي لم تذكرها الرواية، واعتقد انها نزلت في المناسبة نفسها. اما ما تبقي من آيات في هذه السورة، فتكشف مضامينها عن انها انزلت فيما بعد، كما ان سورة (اقرا) او (العلق) لم تنزل كلها في بدايات الوحي، بل الذي انزل منها بادي‌ء الامر هو اول السورة الي قوله تعالي: (علم الانسان ما لم يعلم). كما صرحوا بذلك. اما كيف تؤيد بداية سورة القلم النقطة المشار اليها؟ ذلك لانها اخرجت الرسول (ص) من حالة الشك والاضطراب المشار اليهما في قوله: «اني اخشي ان يكون في جنن»، حين خاطبته قائلة: (ن والقلم وما يسطرون ما انت بنعمة ربك بمجنون، وان لك لاجرا غير ممنون، وانك لعلي خلق عظيم، فستبصرو يبصرون) وفي ذلك اشارة الي المعني نفسه الذي تحدثت‌عنه خديجة حيث قالت: «اعيذك باللّه يا ابا القاسم من ذلك، ما كان اللّه عز وجل ليفعل بك ذلك مع ما اعلم من صدق حديثك وعظم امانتك وحسن خلقك وصلة رحمك». [134] .ثم تاتي بقية الايات تباعا لتسلي الرسول وتطمئنه حيث تقول: (فستبصر ويبصرون، باييكم المفتون، ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين). ورغم ان الوحي كان ما يزال في بدايته، ولم يصدر بعد الامر بالانذار، لكن الايات تتجه الي معني آخر جاء في متن الرواية وهو ان النبي (ص) قال: «ان الا بعد يعني نفسه لشاعر اومجنون، ثم قلت: لا تحدث قريش عني بهذا ابدا» فياتي القرآن الكريم ليطمئن الرسول (ص) ويسليه ويقول له: (فستبصرو يبصرون، باييكم المفتون، ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين). اما ما جاء في رواية وهب بن كيسان في سيرة ابن هشام والطبري، ورواية عبد الملك بن عبد اللّه في سيرة ابن اسحاق، من ان سورة العلق انزلت علي الرسول (ص) وهو نائم، فان ذلك له علاقة بتلك العبارة من الرواية التي قالت: «جاءني جبرئيل وانا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرا» والنبي (ص) لم يكن يكتب، وربما كان لا يقرا ايضا. فحين‌عرض عليه هذا الكتاب وهو نائم وقيل: «اقرا»، قال اولا: «مااقرا؟» بمعني انني لا اقرا. قال: «فغتني به حتي ظننت انه الموت، ثم ارسلني فقال: اقرا، قال: فقلت: ماذا اقرا؟ ما اقول ذلك الا افتداء منه ان يعود لي بمثل ما صنع بي»، وهنا قال له: (اقرا باسم ربك الذي خلق...) الي ان يقول: «فانصرف عني، وهببت من نومي، وكانما صور في قلبي كتابا». وربما قالوا بعد هذا ان النبي (ص) يقرا ولكنه لا يكتب. لكن لا توجد في رواية عائشة اشارة الي الكتابة، حيث قال له جبرئيل: «اقرا»، وقال الرسول: «ما اقرا»؟ اي بمعني ماذا اقرا؟ وليس بمعني لا اقرا، او لا استطيع القراءة. والقراءة هنا لا تعني قراءة الشي‌ء المكتوب، بل تعني قراءة الشي‌ء دون كتابة، كما يقرا الشخص القرآن عن ظهر قلب، اوكما نقرا سورة الحمد في الصلاة. علي اية حال، فان ما جاء في رواية وهب بن كيسان من ان سورة (اقرا) انزلت علي النبي (ص) وهو نائم، يمكن اعتباره نوعا من الرؤيا الصادقة، وليس المراد به المعني الحرفي للنوم، بل النوم المرتبط بالحقيقة والواقع، فان ما قيل له في النوم كان واقعا فعلا وحقيقة، وهو آيات انزلت عليه. ولكن عائشة كانت قد روت ان بداية الوحي كانت كالرؤيا الصادقة، ثم حدث التحنث، ثم بعد ذلك انزلت سورة (اقرا)، ولهذا فان معني الرؤيا الصادقة هو ما سبقت منا الاشارة اليه.

خلق العالم و خلق الانسان

وهنا يطرح السؤال التالي: لماذا كان اول الوحي واول آية (اقراباسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق)؟ هل توجد نكتة معينة في الموضوع؟ نعتقد انه من المحتمل ان (يكون‌السر في هذا وذاك) ان هاتين المسالتين، اي (خلق العالم وظهور الخلقة بصورة عامة وظهور الانسان في عالم الطبيعة)، ظاهرتان انشغل بهما تفكير علماء الطبيعة الكبار والفلاسفة الطبيعيين والالهيين، وهما مسالتان بقيتا دون حل الي الان. ماهي بداية العالم؟ وكيف وجد عالم المادة هذا؟ هناك نظريتان معروفتان في هذا المجال، والنظريتان يقدمان تفسيرا لظهور العالم من المادة الاولي، غير انهما لم يقدما شيئا حول خلق وظهور المادة الاولي نفسها. وعلي كل حال، فان مسالة خلق العالم كانت ولا تزال مثار اللجدل، وهكذا كانت مسالة خلق الانسان. فمن اي شي‌ء وجد الانسان؟ هل انه ناتج عن تطور حيوان آخر، ام انه خلق بهذه الصورة التامة والهيئة الكاملة؟ وهل ان هذا الكلي الطبيعي الذي في اذهاننا وجد فجاة ودون مقدمات؟. هذه ايضا من المسائل التي دار حولها كلام كثير، وطرحت كاجابة عليها نظريات وتفسيرات عديدة. ولهذا كان اول خطاب سماوي يوحي الي الرسول (ص) يشير الي القوة التي اوجدت هاتين الظاهرتين العجيبتين اللتين عجزت العقول والافكار عن ان تجد تفسيرا لهما. وهذا نفسه دليل علي ان الرسول كان علي ارتباط وعلاقة (بالمبدا) اي بما وراء الطبيعة، يتوجه اليه علي انه خالق وصانع للظواهر الخارقة والامور المعقدة.

كيفية الوحي

كيف كان هذا الوحي؟ ما يظهر من الروايات هو ان الرسول كانت تنتابه حالة خاصة اثناء نزول الوحي اشبه ما تكون بحالة الاغماء والغيبوبة. جاء في احدي الروايات وفي وصف حالة الرسول (ص) عند نزول الوحي انه: «كرب له وتربدوجهه». [135] وورد في رواية اخري من المصدر نفسه: «وقذ لذلك ساعة كهيئة السكران». اما اذا نزل عليه الوحي وهو راكب، فتصف الرواية حال الناقة كالتالي: «فترغو وتفتل يديها حتي يسري عنه من ثقل الوحي» وتضيف: «وانه ليتحدر منه اي العرقمثل الجمان.... [136] .وعن عائشة: «ان الرسول قال لما ساله الحارث بن هشام عن كيفية نزول الوحي عليه: احيانا ياتيني في مثل صلصلة الجرس وهو اشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، واحيانا يتمثل لي الملك فيكلمني فاعي ما يقول. وقالت عائشة: «ولقد رايته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وان جبينه ليتفصد عرقا». وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «كان النبي اذا نزل‌عليه الوحي يعالج من ذلك شدة، قال: كان يتلقاه ويحرك شفتيه كي لا ينساه، فانزل اللّه عليه: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) لتعجل باخذه (ان علينا جمعه وقرآنه) «القيامة: 17» ان‌علينا ان نجمعه في صدرك، قال: (قرآنه) ان يقراه، قال: (فاتبع‌قرآنه)، «القيامة: 18» قال: انصت (ان علينا بيانه) «القيامة: 19»ان نبينه بلسانك، قال: فانشرح رسول اللّه (ص»). كل هذه الروايات تجمع علي شي‌ء واحد، ذلك هو دخول الرسول (ص) في حالة من الشدة الغير العادية حين نزول الوحي عليه، ولا يمكن ان يقال عنها بانها مرض جسدي او نفسي، اذ لم ير حتي الان مرض جسمي او نفسي ياتي علي اثره كلام من العلو والبلاغة بحيث يعجز الفصحاء عن تقليده وتتضاءل قدرة البلغاء عن مجاراته، ويحتوي علي معان من السمو والرفعة بحيث ما زالت تكتب العقول المفكرة في تفسيرها مئات وآلاف الكتب. وعبثا يحاول بعض الكتاب الغربيين اكتشاف نوع المرض الذي يزعمون ان الرسول (ص) كان يشكو منه، فسيكلفون انفسهم مشاق البحث عنه دون جدوي! ان شيئا كهذا الذي يوصف لم يشاهد في قائمة الامراض والاعراض والعلل، سواء الجسدية منها او النفسية. نعم، هناك في الامراض البدنية والنفسية حالات تنتاب المريض فياخذ بالهذيان والكلام الغير متزن. ولكن ما نوع هذا المرض الذي كانت نتيجته كتابا سماويا هو مقتدي البشرية ومهتداها؟.

يا ايها المدثر

تؤكد اشهر الروايات ان اول آية نزل بها الوحي علي الرسول (ص) هي (اقرا) اي الاية الاولي من سورة العلق، وقد صرحت رواية ابن شهاب الزهري التي اوردها الطبري ص‌1155 ان اول ما نزل علي الرسول (ص) سورة (اقرا) الي (علم الانسان ما لم يعلم). بينما ذهبت رواية ابي سلمة التي سمعها عن جابر بن عبداللّه الانصاري الي ان آيات (يا ايها المدثر) كانت هي الايات الاولي التي نزل بها الامين علي رسول اللّه (ص). غير ان الصحيح هو ان سورة (اقرا) الي قوله تعالي: (علم الانسان ما لم يعلم) كانت هي فاتحة القرآن واول آياته، حيث بدات بالتاكيد علي ان اللّه هو الخالق لهذا العالم والباري لهذا الانسان، وبعد ان لفتت انتباه الانسان الي ذلك، حولت الانظار الي مسالة العلم والتعلم، وجعلت ذلك بمثابة المائز الاساسي الذي امتاز به الانسان علي سائر المخلوقات بما فيها الملائكة، حيث صرحت الايات (31- 33)، من سورة البقرة علي ان اللّه علم آدم الاسماء كلها ثم دعاه الي ان يعلم الملائكة تلك الاسماء. ونعتقد ان السبب وراء ورود بعض الروايات، مثل رواية ابي‌سلمة، عن ان آيات (يا ايها المدثر) كانت هي الايات الاولي في النزول، يعود الي ان تلك الايات كانت اول ما نزل علي الرسول (ص) بعد فترة انقطاع حزن لها الرسول (ص) كثيرا، وكان يجوب الجبال، ويدعو اللّه سبحانه وتعالي، حتي انه عاد يوما الي منزله خائفا وجلا بعد ان شاهد شيئا في السماء، فدعا الي ان يدثر، وهنا نزل عليه الوحي بالايات (يا ايها المدثر، قم فانذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر) «المدثر:1 -5» فكانت هذه الايات الكريمة اول ما هبط به الوحي علي صدر الرسول بعد فترة انقطاع اليمة. وفي الوقت الذي لفتت فيه سورة (العلق) الانتباه الي خلق العالم والانسان جاءت الايات الاولي من سورة المدثر لتامر الرسول (ص) ان ينذر قومه ويدعوهم الي الاسلام، فهي اول آيات التبليغ والاعلان عن الرسالة، ولهذا فالمقصود من انها اول الايات كما جاء في الرواية اي انها اول آيات الانذار والتبليغ والاعلان عن رسالة الرسول (ص).

المسلمون الاوائل

كانت خديجة بنت خويلد زوجة الرسول (ص) اول من آمن به وايده وآزره. اما في شان من آمن به اولا من الرجال فقد اختلفت الروايات في كونه اما علي بن ابي طالب (ع) او زيد بن حارثة او ابو بكر بن ابي قحافة.

علي بن ابي طالب

كان علي بن ابي طالب (ع) يبلغ من العمر حين نزول الوحي احد عشر عاما، وكان يقيم مع رسول اللّه (ص) في المنزل نفسه، وجاء في رواية لابن اسحاق ان من نعم اللّه سبحانه وتعالي علي الامام علي (ع) ان كانت نشاته وتربيته علي يد الرسول (ص) وفي منزل واحد جمعهما معا منذ الطفولة. فبعد ان تعرضت قريش للقحط واصابها الفقر والجوع، ذهب الرسول (ص) الي عمه العباس وكان اكثر بني هاشم ثراء وطلب اليه الذهاب الي عمه الاخر ابي طالب وكان اكثر بني هاشم عيالا واضعفهم حالا ليطلبا منه التخفيف من عياله، بان يتعهد كل واحد منهما باعالة احد ابنائه الذكور. فوافق العباس ورافق الرسول الي ابي طالب الذي استجاب هو الاخر للاقتراح وخيرهما بين ابنائه بعد ان احتفظ بعقيل لنفسه، فاخذ العباس جعفرا واختار الرسول (ص) عليا، وهكذا بقي علي (ع) مع رسول اللّه (ص) منذ ذلك الحين وحتي نزول الوحي وبعثة الرسول (ص) ف‌آمن به علي (ع) وصدقه ونصره. جاء في الروايات ان عليا (ع) كان يرافق ابن عمه في جولاته بين جبال مكة وشعابها خفية عن ابيه ابي طالب، وكانا يصليان معا هناك ويعودان عند الغروب. وذكرت الصلاة هنا في اشارة الي انها كانت اول ما نزل من الفرائض علي رسول اللّه (ص) ولهذا كانا يصليانها خارج مكة وبعيدا عن اعين القوم الي ان عثرعليهما يوما ابو طالب وهما واقفان للصلاة، فسال ابن اخيه: «اي دين هذا الذي انتما عليه؟» فاجابه (ص): «هذا دين اللّه وملائكته ورسله، هذا دين ابينا ابراهيم (ع)، وانت احري القوم بالدخول في هذا الدين وتاييدنا ونصرتنا في دعوتنا هذه». فاجابه ابوطالب: «يا ابن اخي، اني لا استطيع الخروج من دين آبائي واجدادي، ولكن اعلم انه سوف لن يستطيع احد ان يلحق بكم مكروها ما دمت حيا». وعندما نعلم ان عليا (ع) قد كبر وتربي في بيت الرسول (ص) منذ نعومة اظفاره، فلا غرابة حينئذ من ان يكون اول الناس اسلاما واقدمهم ايمانا، بل سيكون ذلك امرا بديهيا، ولو صدر من علي (ع) شي‌ء يستشف منه كراهته الدخول في الاسلام (معاذ اللّه) لظهر ذلك ووصل الينا، ولا يجد المتتبع صعوبة في التوصل الي هذه الحقيقة حتي مع قطع النظر عن الروايات والوقائع التي نصت عليها.

زيد بن حارثة المعروف بزيد الحب

كان زيد بن حارثة الكلبي ثاني رجل يدخل الاسلام طبقا لقول ابن اسحاق اي الرجل الاول بعد علي بن ابي طالب (ع)، وكان زيد مولي لرسول اللّه (ص) اعتقه فدعاه ابنا له. نقل قصة اسره وتحريره ابن هشام في سيرته، [137] وابن سعدفي طبقاته. [138] .لقد كان زيد بن حارثة، فضلا عن سبقه في الاسلام، من اقرب الصحابة لرسول اللّه (ص)، وزيد من بني كلب العائدين لقضاعة، وامه سعدي من بني معن الذين يرجع اصلهم الي قبيلة طي‌ء، وعندما كانت امه في زيارة لقومها بني معن مع ولدها زيد تعرضت ديارهم لغزو من قبل بني القين بن جسر، الذين اخذوا معهم زيدا وهو في سن الصبا اسيرا، ثم باعوه في سوق الحباشة علي رواية ابن هشام، وفي سوق عكاظ وفقا لرواية ابن سعد. وكان قد اشتراه حكيم بن حزام الاسدي لعمته خديجة زوجة الرسول (ص) باربعمئة درهم، وكان حكيم بن حزام طبقا لما جاء في سيرة ابن هشام قد اشتراه مع مجموعة من الغلمان وجاء بهم الي مكة فعرضهم علي خديجة لتختار احدهم عبدا لها، فاختارت زيدا علي غيره، ثم وهبته لرسول اللّه (ص) بعد زواجها منه، وكان بنو كلب قد ذهبوا الي حارثة فاخبروه بما جري، فقرر السفر الي مكة مع اخيه شراحيل ليشتري زيدا من سوق النحاسة ويعود به، وهناعرض حارثة علي الرسول (ص) مبلغا من المال لقاء تحرير زيد، فلما عرض الرسول (ص) الامر علي زيد فضل زيد، الذي بهرته اخلاق الرسول (ص)، البقاء معه (ص) علي السفر مع ابيه وعمه، وكان الرسول (ص) قد حرره واعلن في حجر اسماعيل ان زيدا بمثابة ابن له وسيرته من بعده، فعاد كل من والد زيد ووالدته الي ديارهم وهما راضيان مسروران، فصار يدعي زيد بعدها زيد بن محمد (ص)، فنزلت الايات الكريمة: (وما جعل‌ادعياءكم ابناءكم..) و (ادعوهم لابائهم) «الاحزاب: 4، 5» فعاد زيد مرة اخري زيد بن حارثة. وبهذا يتضح ان زيدا كان احد افراد عائلة الرسول (ص) عند نزول الوحي، فمن الطبيعي جدا ان يكون اول من آمن به بعدعلي (ع) وخديجة، ولو ان الرسول (ص) اخبر عليا (ع) بنزول الوحي عليه قبل اخبارها لكان اسبق منها في الاسلام. لقد قام معاوية بعد توليه الخلافة بابلاغ عماله في جميع الامصار بضرورة النيل من علي بن ابي طالب (ع) وشتمه والانتقاص منه في السر والعلن وعلي المنابر في المساجد وفي التجمعات الخاصة والعامة. وظل الامر هكذا حتي ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز عام (99- 101ه) علي اقل تقدير، واذا كان السب قد انتهي حينها، فان اثره وما تركه في النفوس لم ينته حتي بعد قرون لاحقة، فلم يال اعداء علي (ع) جهدا في النيل منه والاساءة اليه، غير انهم عجزوا عن ان يمسوا شيئا من فضائله (ع)، سيما فضائله المسلمة كسبقه الي الاسلام، حيث لم يستطيعوا اخفاءها عن الناس، لذا حاولوا تقديم زيد بن حارثة عليه، غير انهم فشلوا في هذا ايضا، وكانت شمس علي (ع) اسطع من ان يحجبها هؤلاء رغم كل ما بذلوه من اموال طائلة وجهود كبيرة.

ابوبكر بن ابي قحافة

يعود نسب ابي بكر الي بني تيم بن مرة من قبيلة قريش، واسمه عبداللّه وابوه عثمان، ولقب ابو بكر بالصديق والعتيق، ويوصف بالرقة وحسن المعاشرة، وقيل انه كان محبوبا في قومه وكانعالما بانساب العرب، يعرف زينهم من شينهم. [139] .وكان يعمل بالتجارة، فعند اسلامه كان يملك اربعين الف درهم، سخرها لخدمة الاسلام وتقوية شوكته، حتي انه لم يعد يملك يوم هاجر مع رسول اللّه (ص) الي المدينةسوي خمسة آلاف درهم. [140] .ورد في روايات كثيرة ان ابا بكر كان اول من اسلم، ولا تعارض بين هذه الروايات والروايات التي تؤكد علي ان‌عليا (ع) كان اول من آمن، وذلك لان الطائفة الاولي تتحدث‌عن اول الناس اسلاما من غير عائلة الرسول (ص)، بينما تختص الطائفة الثانية من الروايات بذكر عائلة الرسول (ص) وافراد اسرته التي كان علي (ع) واحدا منها. هذا وقد اورد الطبري في تاريخه رواية تقول: ان هناك جماعة سبقت ابا بكر الي الاسلام، غير انها لمتذكر اسماء هؤلاء الجماعة، لذا لايمكن الاعتماد عليها [141] .

الدعوة السرية و الدعوة العلنية

طبقا للروايات (ومنها الرواية التي اوردها الطبري ص 1174) فان دعوة الرسول (ص) الي الدين الجديد، ظلت سرية لثلاث سنوات من تاريخ البعثة، حتي امر باعلانها من خلال الاية الشريفة: (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين) «الحجر:94» ثم الاية: (وانذر عشيرتك الاقربين) «الشعراء: 214». وخلال هذه الفترة آمنت جماعة، اما بدعوة ابي بكر وتاثيره طبقا لبعض الروايات او بواسطة اشخاص آخرين.

رواية ابن اسحاق

ومن بين الذين آمنوا بتاثير ابي بكر طبقا لرواية ابن‌اسحاق [142] عثمان بن عفان (من بني امية)، والزبير بن العوام (من بني اسد من قريش)، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن ابي وقاص (وكلاهما من بني زهرة)، وطلحة بن عبيداللّه (من بني تيم).

اعتراض علي رواية ابن اسحاق

ورد علي رواية ابن اسحاق هذه اعتراضان: الاول، ما جاء اول الرواية التي اوردها الطبري (ص 1168) من ان ابابكر كان يدعو من يعاشرهم ويجالسهم ويطمئن اليهم الي الاسلام، وكان عمر ابي بكر حينها نحو (38) سنة، وليس بينه وبين الرسول (ص) سوي عامين فقط، بينما كان عمر كل من طلحة والزبير وسعد بن ابي وقاص (18، 16، 17) سنة علي التوالي، فمن المستبعد ان يكون اصدقاء وجلساء ابي‌بكر، البالغ من العمر (38 عاما)، شبابا في عمر المراهقة امثال طلحة والزبير وسعد بن ابي وقاص، الذين تقول عنهم الرواية انهم كانوا: «ممن يغشاه ويجلس اليه». اذا لو صح اسلام هؤلاء في هذه السن حقا، فمن المستبعد ان يكون اسلامهم علي يدابي بكر. اما الاعتراض الثاني علي الرواية، فهو ان الاشخاص المذكورين قد ذاع صيتهم ولقوا شهرة فيما بعد حتي اصبحوا نتيجة اعمالهم من (العشرة المبشرة) واختارهم عمر مع علي بن ابي طالب (ع) في الشوري التي عينها لينتخبوا خليفة من بينهم، لقد حفز انتخاب عمر لهؤلاء في الشوري السداسية، وانتخابه لهم كمرشحين للخلافة من بعده، رواة الاجيال القادمة لان يعدوا هؤلاء الستة من ضمن الذين اسلموا بتاثير ابي بكر وارشاده، وانهم اقدم اسلاما من غيرهم. ورغم انه لا شك في ان هؤلاء كانوا من المسلمين الاوائل، وقد اسلموا وهم ما زالوا شبابا، غير ان تقدمهم علي الاخرين موضع شك، سيما ان هناك روايات اخري تحكي عن تقدم اسلام اشخاص غيرهم. كان اولاد واحفاد اصحاب الرسول يعتبرون تقدم آبائهم واجدادهم في الاسلام، او كونهم من المسلمين الاوائل من دواعي الفخر العظيم لهم ولعوائلهم، لهذا فهم لا يابون صناعة بعض الروايات والاخبار في هذا الصعيد. فمثلا ادعي ابناء سعد بن ابي وقاص ان اباهم كان ثالث المسلمين. ويمكن القول انه لو كان سبقه الي الاسلام من الامور المسلمة واليقينية، لكان قد اختاره عمر كميزان في تعيين حقوق المسلمين من بيت المال بدل اختياره الاشتراك في معركة بدر، وكما نعلم فان مسالة السبق الي الاسلام كانت قد طرحت حين اراد عمر كتابة دعوات العطاء للمسلمين، غير انها لم تقبل لانها كانت من الامور المبهمة التي لا يمكن تحديدها بدقة، وربما بسبب كثرة المدعين لها. ولهذا تم الركون الي اعتبار المشاركة في معركة بدر كمقياس ومعيار في تجديد الاعطيات.

تاييد للنقد الثاني

وما يؤيد الماخذ الثاني رواية اخري اوردها ابن سعد في طبقاته، وهي ان عبد الرحمن بن عوف لم يدخل الاسلام ضمن مجموعة ابي بكر، بل كان اسلامه ضمن مجموعة عثمان بن مظعون. تقول الرواية السابقة المسندة عن يزيد بن رومان ان عثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث بن المطلب وعبد الرحمن بن‌عوف وابا سلمة بن عبد الاسد وابا عبيدة بن الجراح، كانوا قد ذهبوا الي رسول اللّه (ص) فلما عرض عليهم الرسول الاسلام وبين لهم تشريعاته وقوانينه، اسلم هؤلاء جميعا في ساعة واحدة، وكان ذلك قبل ذهاب الرسول (ص) الي دار الارقم بن ابي الارقم، ومباشرته الدعوة من هناك. وجاء في رواية اخري ان الارقم بن ابي الارقم كان سابع المؤمنين بالرسول (ص)، ولا تنسجم هذه الرواية مع رواية ابن اسحاق، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار اسلام خديجة، وعلي بن ابي طالب (ع) وزيد، وابي بكر. وان هذه الرواية التي تقول ان الارقم بن ابي الارقم كان سابع رجل في الاسلام يرويها حفيده، لهذا لا يمكننا اعتباره محايدا وغير منحازالي جده. [143] .

احداث الرجال و ضعفاء الناس

روي محمد بن سعد عن الزهري انه قال: «دعا رسول‌اللّه (ص) الي الاسلام سرا وجهرا، فاستجاب للّه من شاء من احداث الرجالوضعفاء الناس». [144] .يؤيد هذا المعني قائمة المؤمنين الاوائل، وكذلك الروايات‌الاخري، فقد جاء في انساب الاشراف: «ان قريشا مشت الي ابي طالب مرة بعد مرة، فكان في المرة الاخيرة ان اجتمعوا فقالوا: يا ابا طالب، انا قد جئناك مرة بعد اخري نكلمك في ابن اخيك ان يكف عنا فلا يذكر آباءنا وآلهتنا بسوء، ولايستغوي اولادنا واحداثنا وعبيدنا واماءنا». [145] .واورد ابن سعد في طبقاته رواية جاء فيها: «فاقام (ص) بالطائف عشرة ايام، لا يدع احدا من اشرافهم الا جاءه وكلمه،فلم يجيبوه وخافوا علي احداثهم». [146] .ونقل البلاذري في انساب الاشراف رواية عن الواقدي، جاء فيها: «ان رجلا من هذيل يقال له عمرو، قدم بغنم له فباعها، ورآه النبي (ص) فاخبره بالحق ودعاه اليه، فقال ابوجهل، وكان خفيفا حديد الوجه والنظر به حول، انظر ما دعاك اليه هذا الرجل، فاياك ان تركن الي قوله او تسمع منه شيئا، فانه سفه احلامنا، وزعم ان من مات منا كافرا يدخل النار بعد الموت، وما اعجب ما ياتي به! فقال الهذلي: اما تخرجونه من ارضكم؟ قال ابو جهل: لئن خرج من بين اظهرنا فسمع كلامه وحلاوة لسانه قوم احداث ليتبعنه، ثم لا نامن ان يكر علينا بهم. قال الهذلي: فاين اسرته عنه؟ قال ابو جهل: انماامتنع باسرته». [147] .وبنظرة سريعة الي قائمة المسلمين الاوائل يتبين انهم لم يبلغوا حين اسلامهم الثلاثين عاما. لقد اشير الي ان طلحة بن‌عبيداللّه كان عمره حين قتل في معركة الجمل عام (36ه) قدتجاوز الستين عاما، وهذا يعني ان عمر طلحة في السنة الاولي للهجرة كان اقل من ثلاثين عاما، واقل من عشرين عاما حين دخل الاسلام. ومن المسلمين الاوائل الزبير بن العوام، وهو من قريش،وكان‌عمره حين اسلم ستة عشر عاما. [148] .ومنهم عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، وكان عمره حين اسلامه ثلاثين سنة، وطبقا للرواية التي اوردها ابن سعد في الطبقات ان ولادته كانت بعد عام الفيل بعشر سنوات، [149] اي عام (570م) والا فان عام الفيل نفسه ربما كان بعد هذا العام، كما اشرنا الي ذلك في ميلاد الرسول (ص). ومنهم سعد بن ابي وقاص، وهو من بني زهرة ايضا، وكان‌عمرهسبعة عشر عاما حين اسلم. [150] .ومنهم مصعب بن عمير، وهو من بني عبد الدار، وكان شابا وسيما، ذا لباس فاخر، وكان عمره حين قتل في معركة احد نحو اربعين عاما، مما يفيد انه حين اسلم في مكة كان عمره ثلاثين سنة. ومنهم عثمان بن عفان، من بني امية، وكان عمره حين قتل (عام‌36ه) (83) عاما، وفي رواية اخري (75 عاما)، وبناء علي هذا فان عمره حين دخل الاسلام اما (34 سنة) او (37 سنة). ومنهم الارقم بن ابي الارقم، من بني مخزوم، الذي وضع داره في خدمة رسول اللّه (ص)، كان يوم وفاته سنة (55ه) بحدود الثمانين من عمره، مما يفيد ان عمره كان حين دخل الاسلام بين ال (20 -30) سنة. ومنهم شماس بن عثمان المخزومي، الذي قتل في معركة احد عن عمر يناهز ال (34) عاما، وبهذا يكون عمره يوم تشرف بالاسلام بين (20 - 30) سنة. وعند استعراض قائمة المسلمين الاوائل واعمارهم يتضح ان ابابكر وربما بعده عثمان، كانا اكبر المسلمين سنا، وكان عمرابي بكر حين دخل الاسلام (38عاما)، ومن الطبيعي ان يكون الانسان في عمر الاربعين فاكثر اشد ارتباطا بسنن الماضين واكثر تحفظا لها، ويصعب عليه العدول عن دين الاباء والاجداد، بخلاف الشباب الذين يتمتعون باذهان وقلوب اكثر استعدادا لاستقبال الافكار والمعتقدات الجديدة، ويصدق هذا المعني، بصورة وباخري علي جميع الثورات والتحولات الفكرية والاجتماعية والدينية.

الضعفاء و المستضعفون

يقصد بالضعفاء والمستضعفين في مكة عادة العبيد والمستعبدون، او حتي الاحرار الذين كانت لهم سابقة رقية فهم من المستضعفين ايضا، لانهم ما زالوا يرتبطون بنوع من العلاقة مع اسيادهم السابقين، وما زالوا يطلق عليهم الموالي. وهناك طائفة اخري من الضعفاء ايضا، وهم اولئك الذين انفصلوا عن قبائلهم لاسباب مختلفة والجاتهم الظروف الي مكة، فهؤلاء كانوا يلجاون الي احدي القبائل الموجودة في مكة ويضعون انفسهم في خدمتها مقابل حمايتها لاموالهم وارواحهم من الاعتداء. ورغم تحالف هؤلاء مع اشراف مكة واثريائها الا انهم كانوا لا يعتبرون من المستوي الاجتماعي نفسه، وانما يصنفون ضمن الطبقات الدنيا داخل المجتمع المكي. ومراجعة سريعة لقائمة المسلمين الاوائل تثبت انتماء غالبيتهم الساحقة الي تلك الطبقات المستضعفة، وكانت قريش نفسها قد اطلقت مصطلح المستضعفين علي هذه الجماعة من الناس. وقد نقل ابن سعد في طبقاته رواية عن يزيد بن رومان تقول: «كان عمار بن ياسر من المستضعفين الذين يعذبون بمكة... والمستضعفون قوم لا عشائر لهم بمكة، وليست لهممنعة ولاقوة». [151] .وروي البلاذري، [152] عن عمر، قال: «انما وليت عمار القول اللّه عز وجل: (ونريد ان نمن علي الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين) «القصص: 5».

اكثر المسلمين الاوائل من الفقراء و المستضعفين

روي الطبري عن ابي العالية، في تفسير الاية (52) من سورة الحج ان قريش كانت تعترض علي رسول اللّه بقولها:«انما جلساؤك عبد بني فلان ومولي بني فلان..» [153] .وفي رواية اخري عنه ايضا: «ان قريش كانت تقول للرسول (ص)، يامحمد، انما يجالسك الفقراء والمساكينوضعفاء الناس». [154] .ونقل البلاذري صاحب انساب الاشراف، عن عروة بن الزبير، قوله: «كان صهيب من المستضعفين» وروي عن مجاهد قوله: «ان القرشيين تهامسوا مع بعضهم حينما شاهدوا صهيبا يمر مع جماعة من اقرانه قائلين: انظروا الي هؤلاء الاراذل! اهؤلاء الذين من اللّه عليهم من بيننا؟». ونحاول هنا استذكار بعض المستضعفين من المسلمين الاوائل الذين صار لهم شان عظيم فيما بعد، وتجدر الاشارة الي ان اكثر هؤلاء الضعفاء او المستضعفين كانوا من الاقنان او من الاحرار الذين سبق لهم الاسترقاق.

اسماء المستضعفين طبقا لما اورده البلاذري

اشاره

اورد البلاذري في انساب الاشراف [155] قائمة باسماء المستضعفين، وترجم لحياة كل واحد منهم، وياتي الحديث عن جوانب حياتهم المختلفة ضمن استعراض اصحاب الرسول (ص)، ونحاول هنا الاشارة بصورة اجمالية، الي حياتهم لنقف علي اهم الاسباب التي دفعتهم الي اعتناق الاسلام.

عمار بن ياسر

ينتسب عمار بن ياسر الي قبيلة عنس من قبائل العرب الجنوبية، وقد هاجر ابوه ياسر من اليمن الي مكة واقام هناك، ولانه لم يكن ينتمي الي عشيرة في مكة اضطر الي عقد تحالف مع ابي حذيفة بن المغيرة المخزومي لحفظ حقوقه وحقن دمه. وكان حذيفة قد زوجه من احدي جواريه المدعوة (سمية) فانجبت عمارا، فكان يجب علي عمار ضمن القوانين المتبعة في الجاهلية ان يكون عبدا لابي حذيفة، لانه ولد من جارية له، وشاء ابو حذيفة ان يحرر عمارا، فصار مولا من موالي مكة. وكانت سمية قد تزوجت بعد ياسر الازرق وهو من الغلمان الروميين، وانجبت منه اولادا كانوا جميعا من المملوكين. كان عمار قد التقي بصهيب في دار الارقم بن الارقم، التي جعل منها الرسول (ص) منطلقا لدعوته المباركة، وفي هذه الدار اعتنق الاثنان الاسلام، ثم دخل الاسلام ايضا كل من ابيه ياسر واخيه عبداللّه وامه سمية، فغضب بنو مخزوم لذلك، وشق عليهم ان يروا مواليهم وقد فارقوا دين القوم وشقوا عصا الطاعة عليهم، فعمدوا الي تعذيبهم والتنكيل بهم، وكان نصيب عمار من هذا العذاب حصة الاسد فقد كانوا يتركونه علي الصخرة تحت اشعة الشمس الحارقة، [156] اما سمية فقد قتلها ابوجهل المخزومي، فاصبحت اول شهيدة في‌الاسلام. [157] .وقد بلغت شدة التعذيب حدا لم يطقه عمار، فاضطر الي التفوه بكلمة الكفر تلبية لرغبة معذبيه، واملا في الخلاص من التعذيب، واحس عمار بعد ذلك بتانيب الضمير، فذهب الي الرسول (ص)، وهو منكسر يشعر بالذنب، فلما روي القصة لرسول اللّه (ص) قال: «ماذا كان يجري في قلبك؟» قال عمار: «كان قلبي مطمئن بالايمان». فقال الرسول (ص): «ان عادوا الي تعذيبك فعد الي ما قلت». [158] واصبح عمار فيما بعد من رجال الاسلام المشهورين، واختاره عمر ليكون واليا علي الكوفة اثناء خلافته فترة من الزمن، ودارت عليه الايام في خلافة عثمان فنال قسطا وافرا من الابعاد والتشريد والتنكيل، الي ان استشهد مع علي بن ابي طالب (ع) في معركة صفين.

خباب بن الارت

كان خباب بن الارت قد اعتنق الاسلام قبل ان يتخذ الرسول (ص) من دار الارقم بن الارقم منطلقا لدعوته المباركة، وقد دخل الاسلام مع عثمان بن مظعون، كما مرت الاشارة الي ذلك. [159] وعده عروة بن الزبير من المستضعفين، وقال: انه كان يتعرض لاذي شديد من قريش فيمحاولة لصده عن الاسلام، واعادته الي سابق عهده، [160] .وقيل: انه سادس المسلمين. وخباب من اصل عراقي من منطقة كسكر، [161] وهي منطقة زراعية عامرة تبدا بواسط وتمتدحتي البصرة، ومركزها في العهد الساساني (خسرو شابور) ثم‌بني الحجاج فيما بعد مدينة واسط وجعلها عاصمة لتلك المنطقة ومركزا لها. وكان ابو خباب قد اسر وبيع في مكة، فدخل في ملك امراة تدعي ام انمار بنت سباع الخزاعية، وكانت من احلاف بني زهرة في مكة. وكلمة ارت التي يدعي بها ابو خباب جاءت بسبب لكنة خاصة في لسانه حيث كان لا يحسن النطق بالعربية. فهو اما ان يكون من آراميي العراق او من انباطه. ولعله كان من اصل ايراني سكن منطقة كسكر. وكان ابناؤه يدعون انتساب ابيهم الي قبيلة بني سعد بن زيد مناة بن تميم لاثبات عروبته الخالصة ودفع الشبهات التي كانت تحوم حول اصلهم، غير ان ذلك لا ينسجم كما هو واضح مع لكنة ابيهم الغير عربية. وقيل: ان الارت تزوج ام سباع، وان خبابا كان اخا سباع من امه وعلي اية حال فان ام انمار قد اطلقت خبابا، فصار واحدا من الموالي الاحرار، وكان يشعر بالمرارة من وضعه الاجتماعي المتدني، ويتوق الي من يرفع عنه الضيم الذي كان يعيشه، فلم يتردد في اعتناق الدين الجديد الذي وعد بالقضاء علي هذا النظام الطبقي وازالة آثاره المقيتة، لكنه واجه صنوفا من الاذي والتعذيب، قلما واجهها غيره، لافتقاده الي من يحميه ويلوذ به من سطوة قريش، رغم كل هذا لم يتراجع عنايمانه ولو ظاهريا. [162] .اشتغل خباب بالحدادة لتامين معيشته ومتطلبات حياته، وكان له دين علي العاص بن وائل السهمي (ابي عمرو بن العاص) فاشترط عليه الاخير العودة عن الاسلام كشرط لتسديد دينه فابي ذلك، وقال: لن اتخلي عن الاسلام حتي يموت العاص فاقاضيه يوم القيامة. فقال العاص: اذن فلينتظر ليقبض دينه في ذلك اليوم. كان خباب من اصحاب امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) وتوفي في الكوفة عام (37ه) عن عمر يناهز ال (73) عاما.

صهيب بن سنان

كانت حال صهيب تشبه حال الارت والد خباب، فهو من اسري الروم البيزنطيين، وذو لكنة واضحة لا تخفي علي العرب، اذ لم يكن يجيد النطق بالعربية. لكنه جعل لنفسه اوجعل له ابناؤه نسبا عربيا، اذ ادعوا انتسابه الي قبيلة (نمر بن قاسط) وكان ابوه سنان عاملا علي الابلة من قبل الملك الايراني «خسرو». وكانت ديارهم في الموصل الي جانب الفرات من ناحية (الجزيرة) وكان الروم قد وصلوا الي هناك، واخذوا صهيبا اسيرا، وبقي هناك حتي كبر فصار في عربيته (لكنة) خاصة، وقد اشتراه فيما بعد رجل من بني كلب وعاد به الي مكة، ثم اشتراه فيها عبداللّه بن جدعان التيمي، وهو من اشهر اثرياء مكة، وكان صهيب لا يزال مع آل جدعان حتي بعث اللّه محمدا (ص) نبيا. لا تخفي آثار الوضع في هذه القصة، فعبد اللّه بن جدعان كان قد مات قبل البعثة بعشر سنوات، [163] بينما توفي صهيب بناء علي ما جاء في الروايات في سنة (38) ه عن عمر يناهز السبعين عاما، وبهذا يكون عمره يوم هجرة الرسول (ص) (32) عاما، ويوم بعثته (19) عاما. وبعد ان كان عبداللّه بن جدعان قد مات قبل البعثة بعشر سنين، فاذا ما جعلنا الفترة بين البعثة والهجرة ثلاثة عشر عاما علي اقل تقدير، فسيكون عمر صهيب حين موت عبداللّه بن جدعان ستة اعوام، وليس من المعقول‌ان يكون مثل هذا العمر القصير كافيا لاستيعاب كل تلك‌الاحداث التي بدات بنشوئه ونموه بين اهله قومه، ثم اسره‌من قبل الروم، ثم بقائه هناك حتي نسيانه العربية وظهور لكنة في لسانه، ثم عودته الي مكة وشراء عبداللّه بن جدعان له، واخيرا عتقه وتحريره. فيبدو ان هذه الرواية قد وضعت من قبل ابنائه لايجاد اصل عربي له. وقد وضع ابناؤه حكاية اخري عن اصله، فقالوا: انه لم يشتره احد من الروم، بل فر هو من هناك والتجا الي مكة بعد ان بلغ سن الرشد، وعقد حلفا مع عبداللّه بن جدعان هناك. وتبدو هذه الرواية اكثر بعدا عن الواقع من سابقتها اذ ينبغي ان يكون‌عمر صهيب يوم لجوئه الي مكة نحو ستة عشر عاما علي اقل تقدير، فهل انه وقع تحالفا مع ابن جدعان وهو في هذاالسن؟. وهناك رواية ينقلها الحسن البصري، عن الرسول (ص)، انه قال: «صهيب سابق الروم» اي انه سبق قومه (الروم) الي الاسلام، وتدل هذه الرواية علي ان صهيبا كان يونانيا خالصا، وجاءت لكنته في العربية من اصله هذا، ويوصف صهيب بانه كان احمر البشرة، وهذا يؤيد كونه غير عربي الاصل، كما ان تسميته (صهيبا) جاءت لاحمرار لونه. هذا ويقال ان (عمر) سال صهيبا عن سبب انتسابه الي العرب، فاجابه بانه عربي من قبيلة نمر بن قاسط، لكنه اسر وهو صغير من قبل الروم، ومن الطبيعي ان يسعي صهيب لالحاق نفسه بالعرب تخلصا من الازدراء الذي قد يلحق به كما اشرناسابقا من قبل العرب لعدم عروبته [164] .اعتنق صهيب الاسلام مع عمار بن ياسر، وكان ذلك بعد اختيار الرسول (ص)، لدار الارقم منطلقا لدعوته، ولانه كان مستضعفا، كما يقول عروة بن الزبير، فقد عاني من قريش الامرين، وترك صهيب خلفه ثروة كبيرة في مكة، وهاجر مع من هاجر الي المدينة، وكان مما قال له القرشيون حين حاول اخذ امواله معه: لقد جئتنا صعلوكا واثريت في مدينتنا، والان تريد اخذ ثروتك معك؟! لن نسمح لك بهذا ابدا. فاضطر صهيب الي ترك ثروته مفضلا الهجرة مع رسول اللّه (ص) واصحابه الي المدينة. لقد اوصي عمر قبل وفاته ان يؤم الناس من بعده صهيب، حتي‌يتم انتخاب الخليفة من بين الستة الذين اختارهم عمر للشوري، ولصهيب منزلة خاصة عند المتصوفة واهل العرفان.

بلال بن رباح

كان بلال قد ولد في سراة من اب حبشي جي‌ء به اسيرا مع سائر الاسري الحبشيين، ومن ام هي الاخري اسيرة تدعي حمامة، اما بلال نفسه فكان غلاما لامية بن خلف الجمحي، وقد سارع الي اعتناق الدين الجديد للتخلص مما كان يعانيه من وضع اجتماعي واقتصادي سي‌ء في مكة، بمجرد سماعه خبر ظهور هذه الدعوة، وقد اذاقه مالكه امية بن خلف الجمحي مرارة القهر والاستعباد كاسوء ما تكون، فكان‌يطرحه علي رمال مكة البالغة الحرارة ويضع علي صدره الصخور العظيمة. يقول عنه عروة بن الزبير، الذي ذكره ضمن المستضعفين: انه تحمل اذي شديدا من سيده امية الذي صب عليه ذلك العذاب علي امل ان يرده عن ايمانه، غير انه لم يرتدع ولم يجامل سيده ولو بكلمة يطلقها لسانه. وجاء في انساب الاشراف: «كان بلال من المستضعفين المؤمنين، وكان يعذب حين اسلم ليرجع عن دينه، فما اعطاهم قط كلمة مما يريدون، وكان الذي يعذبه اميةبن خلف الجمحي». [165] .وروي البلاذري ايضا عن الحسن البصري، قال: «قال رسول اللّه (ص): بلال سابق الحبشة». [166] .وروي ايضا: «ان بلالا من مولدي بني جمح، فكان امية يخرجه الي رمضاء مكة اذا حميت، فيلقيه علي ظهره، ثم يامر بالصخرة العظيمة فتوضع علي صدره، ويقول له: لا تزال واللّه كذلك حتي تفارق دين محمد. فيقول بلال: احد احد. ويضع امية في عنقه حبلا، ويامر الصبيان ان يجروه. فمر ابوبكر يوما وهو يعذب، فقال له: يا امية، اما تتقي اللّه في هذا المسكين؟ فقال امية: انت افسدته، فانقذه. وكان بلال تربا لابي بكر، ومن الذين دعاهم ابو بكر الي الاسلام. فقال ابوبكر: عندي غلام اسود اجلد منه واقوي، وهو علي دينك فاعطيك اياه ثمنا لبلال، قال: قد قبلت. فاعطاه ذلك الغلام، واخذبلالا فاعتقه». [167] .وفي رواية اخري اوردها البلاذري في المصدر نفسه: «ان بلالا لما اسلم اخذه اهله فقمطوه والقوا عليه من البطحاء، وجعلوا يقولون: ربك اللات والعزي، فيقول: احد احد. قال: فاتي عليه ابو بكر فقال: علام تعذبون هذا الانسان؟ فاشتراه بسبع اواق واعتقه» [168] اي (280 درهما)، وينسب اخو بلال نفسه الي العرب، وكان ذلك من اجل‌الخروج من الاحتقار والضعة التي كان عليها بين العرب كما اشرنا الي ذلك عن اشخاص آخرين. روي البلاذري، عن الواقدي قوله: «لما كان يوم بدر راي امية بن خلف عبد الرحمن بن عوف وكانت بينهما صداقة، فقال له: يا ابا عمرو، وكان اسمه في الجاهلية. فلم يكلمه، فقال له: يا عبدالله. قال عبد الرحمن: فالتفت فاذا انا بامية وابنه علي، وبه كان يكني، وقد اخذ بيد ابنه، وكان معي ادراع قد استلبتها، وكان مشرفا علي الاسر، فساله ان يطلب له الامان، وقال: اما لكم حاجة باللبن؟ (يعني الفداء) نحن خير لكم من ادراعك. فقلت: امضيا، واقبلت اسوقهما، فبصر بلال بامية، فقال: يا معشر الانصار، امية بن خلف راس الكفر، لا نجوت ان نجوت. قال‌عبد الرحمن: فاقتتلوا كانهم عوذ حنت الي اولادها، فاحاطوا بامية حتي صار مثل المسكة... وضربه بلالضربة صرعته [169] .وكان بلال لا يشعر بالضعة لكونه حبشيا، فقد روي البلاذري: «انه خطب بلال واخوه الي اهل بيت من البر، فقال: انا بلال وهذا اخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا اللّه، وكناعبدين فاعتقنا اللّه، ان تنكحونا فالحمد للّه، وان تمنعونافاللّه اكبر». [170] .وروي ابن سعد: «انه كان لرسول اللّه (ص) ثلاثة مؤذنين: بلال، وابو محذورة، وعمر بن ام مكتوم، فاذا غاب بلال اذن ابومحذورة، واذا غاب ابو محذورة اذن عمرو بن ام مكتوم. ولما دون عمر بن الخطاب الدواوين بالشام، خرج بلال الي الشام فاقام بها مجاهدا، فقال له عمر: «الي من تجعل ديوانك، يا بلال» قال: «مع ابي رويحة لا افارقه ابدا، للاخوة التي كان رسول اللّه (ص) عقدها بيني وبينه» فضمه اليه، وضم ديوان الحبشة الي خثعم لمكان بلال منهم» [171] وتوفي بلال في دمشق عام (30ه) عن بضع وستين سنة.

عامر بن فهيرة

يعتبر عامر بن فهيرة من المستضعفين ايضا، وكان مملوكا لطفيل بن عبداللّه، وهو اخو عائشة بنت ابي بكر من جهة الام، وقد اسلم بعد دخول الرسول (ص) دار الارقم، وقد لاقي ما لاقاه رفاقه من صنوف الاذي والتعذيب بعد اسلامه، الي ان اشتراه ابو بكر وحرره، فكان من موالي ابي بكر، يرعي له غنمه، وهو الذي كان قد سقي رسول اللّه (ص) وابا بكر لبنا عندما كانا في الغار، وهما في طريق الهجرة الي المدينة، واستشهد في يوم «بئر معونة» في صفر من العام الرابع للهجرة، ولم يعثر علي جسده.

ابوفكيهة

وكان غلاما لصفوان بن امية الجمحي حين اسلم، فلقي من سيده امية واخيه ابي اضطهادا وتنكيلا الي الحد الذي ظن انه قد فارق الحياة، غير انه ما لبث ان عاد له وعيه فاشتراه ابوبكر.

النساء المستضعفات

لقد واجهت النساء المستضعفات والجواري ما واجهه الرجال المستضعفون من اضطهاد وقهر وتعذيب، ومن بين النسوة اللاتي اسلمن ودفعن ثمن اسلامهن الما وعذابا: (لبينة) وهي جارية بني عدي. و (زنيرة) وهي من جواري بني عدي ايضا، وقيل: من جواري بني مخزوم. وكان عمر ممن اضطهد (لبينة) قبل اسلامه، وحاول ردها عن الاسلام، بينما قام ابو جهل بتعذيب (زنيرة). ومن النساء المستضعفات ايضا جارية كانت لامراة من بني عبدالدار اشتراها ابو بكر وحررها.

الذين ارتابوا في دين آبائهم قبل الاسلام

اشاره

من بين المسلمين الاوائل جماعة كانوا قد ارتابوا في دين آبائهم، وابوا عبادة الاصنام التي كان عليها قومهم قبل الاسلام، وقد سارع هؤلاء الي تلبية الدعوة المحمدية، وبادروا الي دخول الاسلام منذ اللحظات الاولي لظهوره حيث وجدوا فيه تلبية لامالهم وعقائدهم.

عبيداللّه بن جحش

من بين هؤلاء عبيداللّه بن جحش، وهو احد الحنفاء الاربعة، الذين كانوا قد اعتزلوا قريش كما اشرنا الي ذلك فيما سبق ووقفوا جانبا، في يوم احتفلت به قريش، وكان الناس يقدمون الاضاحي والقرابين لاصنامهم، بينما وقف هؤلاء الاربعة ينتقدون هذه المظاهر وينكرون علي قومهم بما كان لديهم من احساسات دينية خضوعهم لهذه المعتقدات الزائفة. كان عبيداللّه بن جحش، الذي يرجع الي بني غنم بن داود، حلفاء بني امية، احد هؤلاء الاحناف. واستمر عبيداللّه علي تردده وحيرته حتي بعث اللّه الرسول (ص) فآمن به وصدقه في دعوته، فهاجر مع المسلمين الاوائل الي الحبشة، وكانت زوجته (ام حبيبة) بنت ابي سفيان هي الاخري قد اعتنقت الاسلام، وفي الحبشة فارق عبيداللّه الاسلام، واختار المسيحية، وهاجم رفاقه المسلمين بقوله لهم: «لقد وصلت الي اليقين الذي ما زلتم تبحثون عنه انتم». وقبل ان يعود وافاه الاجل في الحبشة، فتزوجت زوجته (ام حبيبة) من رسول اللّه (ص) بعد وفاة زوجها.

عمرو بن عبسة

وهو من قبيلة بني سليم من قيس بن عيلان، وقد ادعي انه رابع المؤمنين بالاسلام. وقال: انه كان يعتبر قومه في ضياع وجهل‌عندما يراهم عاكفين علي اصنامهم، ويقول: انه ظل هكذا حتي بعث اللّه نبيه (ص) بالاسلام، فهاجر الي مكة بحثا عنه، والتقي به في مكة خفية، فدعاه الرسول (ص) الي الاسلام وسال الرسول (ص) قائلا: «هل لك اتباع»؟ فقال له الرسول (ص): «نعم رجلان، احدهما حر هو ابو بكر، والاخر عبد وهو بلال» فمن الرجل.وقال لرسول (ص): «يا رسول اللّه، امكث معك، ام الحق بقومي»؟ قال: «الحق بقومك»، قال: «فيوشك اللّه تعالي ان يفي بمن نزي ويحيي الاسلام»، قال: «ثم اتيته قبل فتح مكة فسلمت عليه»، قال: «وقلت: يا رسول اللّه، انا عمرو بن عبسة، احب ان اسالك عما تعلم واجهل، وينفعني ولا يضرك»؟ فساله [172] عن حكم اوقات الصلاة وكيفية الوضوء. ما يدعو الي التامل في هذه الرواية ان ذلك كله كان بادعائه هو، سيما ادعاؤه بانه كان رافضا لدين الجاهلية وكان رابع رجل في الاسلام اي بعد الرسول وابي بكر وبلال. ومما لا شك فيه ان السبق الي الاسلام كان من المفاخر الكبيرة، وكان من اليسير لعمرو بن عبسة ان يدعي مثل ذلك، لانه لم يكن مقيما في مكة، وعزا خروجه منها الي نصيحة من الرسول (ص)، وبناء علي ذلك فمن الطبيعي جدا ان يثير المقطع الاول من الرواية التي اوردها ابن سعد في طبقاته الشك في النفس بخلاف المقطع التالي فيها الذي يستفسر فيه عن اوقات الصلاة والوضوء، فان احتمال الصدق فيه قوي كما تؤيده روايات اخري.

ابوذر الغفاري

يعتبر ابوذر من الشخصيات الاسلامية اللامعة في جهادها واخلاقها، وقد امتدح الرسول (ص) صراحته وصدقه، وتواتر عنه (ص) بانه قال فيه: «ما اظلت الخضراء، ولا اقلت الغبراء ذالهجة اصدق من ابي ذر». اسمه جندب بن جنادة، وهو من قبيلة غفار، من قبائل مضر، قال عنه ابن حزم: [173] «انه كان خامس رجل في الاسلام». وقيل انه من الموحدين الذين آمنوا باللّه واعرضوا عن عبادة الاصنام قبل لقائهم برسول اللّه (ص). وقد نقلت عن ابي ذر في ايام شبابه وفي كيفية دخوله الاسلام قصة مثيرة، تظهر فيها آثار الصدق والصراحة، وهي اهم خصلة عرف بها ابو ذر (رض) واشار اليها الرسول (ص) في وصفه له. وقد جاءت الرواية باسلوب والفاظ يتجلي فيها قدم الاسلوب واصالته. وقد رواها ابن سعد [174] في الطبقات عن عبداللّه بن الصامت الغفاري، ونقلت ثلاث قصص اخري في هذا الباب وفي المصدر نفسه، فيها تفاوت في بعض الامور مع رواية ابن الصامت، غير اننا نرجح رواية ابن الصامت لقوة الاسلوب ودقة البيان واصالة التركيب اللغوي، وتؤيد الروايتان الاخريتان تلك الرواية في خطوطها العريضة. قال: «اخبرنا هاشم بن القاسم الكناني ابوالنضر، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد ابن هلال، عن عبداللّه بن الصامت الغفاري، عن ابي ذر، قال: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت انا واخي انيس وامنا، فانطلقنا حتي نزلنا علي خال لنا، فاكرمنا خالنا واحسن الينا، فحسدنا قومه، فقالوا له: انك اذا خرجت عن اهلك خالف اليهم انيس. فجاء خالنا فثنا علينا ما قيل له، فقلت: اما ما مضي من معروف فقد كدرت، ولا جماع لك فيما بعد. فقربنا صرمتنا، [175] فاحتملنا عليها، وتغطي خالنا بثوبه وجعل يبكي. فانطلقنا حتي نزلنا بحضرة مكة، فنافر انيس عن صرمتنا وعن مثلها، فاتيا الكاهن فخبر انيسا بما هو عليه، فاتانا بصرمتنا ومثلها معها. وقد صليت بابن اخي قبل ان القي رسول اللّه (ص)، ثلاث سنين، فقال عبداللّه بن الصامت: لمن؟ قال: للّه. فقال عبداللّه بن الصامت: اين تتوجه؟ قال: اتوجه حيث يوجهني اللّه، اصلي عشاء حتي اذا كان آخر السحر القيت كاني خفاء [176] حتي تعلوني الشمس. فقال انيس: ان لي حاجة بمكة، فاكفني حتي آتيك. فانطلق انيس فراث علي يعني ابطا علي ثم جاء، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلا بمكة علي دينك، يزعم ان اللّه ارسله. قلت:فما يقول الناس له؟ قال: يقولون شاعر، كاهن ساحر، وكان انيس احد الشعراء، فقال: واللّه لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله علي اقراء الشعر فلا يلتئم علي لسان احد، بعيد انه شعر، واللّه انه لصادق وانهم لكاذبون! فقلت: اكفني حتي اذهب فانظر. قال: نعم، وكن من اهل مكة‌علي حذر فانهم قد شنعوا به وتجهموا له. فانطلقت فقدمت مكة، فاستضعفت رجلا منهم، فقلت: اين هذا الذي تدعون الصابي؟ فاشار الي، فقال: هذا الصابي. فمال علي اهل الوادي بكل مدرة وعظم، فخررت مغشيا علي، فارتفعت حين ارتفعت كاني نصب احمر، فاتيت زمزم فشربت من مائها وغسلت عني الدماء فلبثت بها يابن اخي من بين ليلة ويوم، مالي طعام الا ماء زمزم، فسمنت حتي تكسرت عكنبطني، وما وجدت علي كبدي سخفة جوع. [177] .فبينا اهل مكة في ليلة قمراء اضحيان، اذ ضرب اللّه علي اصمختهم، فما يطوف في البيت احد منهم غير امراتين، فاتيتا علي وهما تدعوان اسافا ونائلة، فقلت: انكما احدهما الاخر، فما ثناهما ذاك عن قولهما. قال: فاتيتا علي، فقلت: هنا مثل الخشبة غير اني لم اكن، فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان هاهنا احد من انفارنا. فاستقبلهما رسول اللّه (ص)، وابو بكر، وهما هابطان من الجبل، فقال: مالكما؟ قالتا: الصابي بين الكعبة واستارها قال: فما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملا الفم. فجاء رسول اللّه (ص)، وصاحبه فاستلما الحجر، وطافا بالبيت، ثم صلي فاتيته حين انتهي من صلاته، فكنت اول من حياه بتحية الاسلام، فقال: وعليك رحمة اللّه، ممن انت؟ قلت: من‌غفار، فاهوي بيده الي جبهته هكذا، قلت في نفسي: كره اني انتميت الي غفار. فذهبت آخذ بيده فقد عني صاحبه، وكان‌اعلم به مني، فقال: متي كنت هاهنا؟ قلت: كنت هاهنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام الا ماء زمزم فسمنت حتي تكسرت عكن بطني، فما وجدت علي كبدي سخفة جوع. فقال رسول اللّه (ص): انها مباركة، انها طعام طعم. قال ابو بكر: يا رسول اللّه، ائذن لي في طعامه الليلة، ففعل، فانطلق النبي (ص)، وابو بكر وانطلقت معهما، ففتح ابو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف. فذاك اول طعام اكلته بها، فغبرت ما غبرت، فلقيت رسول‌اللّه (ص)، فقال: انه قد وجهت الي ارض ذات نخل، ولا احسبها الا يثرب، فهل انت مبلغ عني قومك، عسي اللّه ان ينفعهم بك، وياجرك فيهم؟. فانطلقت حتي لقيت اخي انيسا، فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت، اني قد اسلمت وصدقت. قال انيس: ما بي رغبة عن دينك، فاني قد اسلمت وصدقت. فاتينا امنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فاني قد اسلمت وصدقت، فاحتملنا، فاتينا قومنا، فاسلم نصفهم قبل ان يقدم رسول اللّه (ص) المدينة، وكان يؤمهم ايماء بن رحصنة وكان سيدهم، وقال بقيتهم: اذا قدم رسول اللّه (ص) المدينة اسلمنا. فقدم رسول اللّه (ص) فاسلم بقيتهم، وجاءت أسلم فقالوا: يارسول اللّه نسلم علي الذي اسلم اخوتنا. فاسلموا، فقالرسول اللّه (ص): غفار غفر اللّه لها، واسلم سالمها اللّه». [178] .كان ابو ذر قنوعا في حياته ومعيشته، ينفق كل ما زاد عنه علي الفقراء، وقد عاش حياة الخشونة والجشوبة في عصر النبي وابي بكر وعمر، فتصدي لمظاهر البذخ الذي شاهده ايام عثمان في المدينة، ومعاوية بن ابي سفيان في دمشق، واخذ يعترض علي ذلك، فقام عثمان باخراجه من المدينة ونفيه الي الربذة كي يستريح من اعتراضاته، وبقي ابوذر هناك حتي الوفاة. وقد بالغ بعض المؤرخين فيما بعد، حتي وصفوا اباذر بانه كان اشتراكيا يدعو الي توزيع الثروات وغير ذلك مما لا طائل له ولا يتناسب مع ظروف عصره وحياته وثقافته الدينية.

عثمان بن مظعون

ينتسب عثمان بن مظعون الي قبيلة قريش، من بني جمح، وهو من المسلمين الاوائل، حيث اسلم قبل ان يتخذ الرسول (ص) دار الارقم بن ابي الارقم مقرا لدعوته، وبناء علي احدي الروايات فان عثمان بن مظعون كان قد آمن مع جماعة هم عبد الرحمن بن عوف، وعبيدة بن الحارث، وابوعبيدة بن الجراح، وابو سلمة بن عبد الاسد. وكان عثمان بن مظعون من اولئك الذين اختلجت في انفسهم مشاعر دينية خاصة ومالوا نحو الزهد والرياضات الروحية ومجاهدة النفس اكثر من ميلهم الي توحيد اللّه وترك عبادة الاصنام. لقد حرم ابن مظعون الخمر علي نفسه قبل الاسلام، وكان يقول: «انني لا استطيع شرب شي‌ء يغلب علي عقلي، ويضحك الاخرين علي، ويجعلني ازوج ابنتي لمن لا ارتضي»، وتظهر الفقرة الاخيرة من كلمة عثمان ان بعض اولياء البنات كانوا يزوجون بناتهم لاشخاص لا يرتضوهم لو لم يكونوا في حالة السكر. ونتيجة ميله للرياضات الروحية حاول ان يخصي نفسه ليتخلص من شر الشهوات الغريزية، فنهاه الرسول (ص) عن ذلك، وكان احيانا يعتزل زوجته فلا يقترب منها، فلما شكت حالها الي النساء، وسمع الرسول (ص) بذلك نهاه عن مثل ذلك العمل، ونبهه الي ان لزوجه عليه حقا، ولجسمه عليه حقا، ولعينه عليه حقا، وكثيرا ما كان يتخذ لنفسه بيتا خاصا للعبادة، فنهاه الرسول (ص) مرتين او ثلاث عن ذلك، وقال: «لا رهبانية في الاسلام». وكان ابن مظعون من البدريين، وتوفي بعد سنتين ونصف من الهجرة.

سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل

وهو من بني عدي، وكان زيد احد الحنفاء الاربعة الذين اعرضوا عن عبادة الاصنام، وهو من معاصري الرسول (ص). وقد قال (ص) في حقه: انه يبعث يوم القيامة امة وحده، ومعني هذا الحديث كما اعتقد ان زيدا كان منفردا في دينه، وسيحشر يوم القيامة في دين خاص به وحده، حيث ابتعد زيد عن عبادة الاصنام، وامتنع عن تناول لحوم القرابين التي كانت تذبح وتقدم للاوثان، وكان يستهجن وءد البنات ويستنكره، ويقول لمن يريد وءد ابنته: اتركها ودع نفقاتها علي، انا ادفعها. وقد اعجب الرسول (ص) بهذه الخصال، ولهذا وصفه بان له دينه الخاص وانه سيحضر يوم القيامة وحده. وكان ابنه سعيد قد دخل الاسلام قبل ان يستقر الرسول (ص) في دار الارقم بن ابي الارقم. [179] .وتوحي احدي الروايات بانه كان متاثرا بوالده، ولهذا سارع الي الايمان بالدعوة الاسلامية بمجرد انتشار خبرها، فهو من الذين كان لهم اهتمامهم الخاص بالدين منذ الجاهلية، وقبل بعثة الرسول (ص).

اشهر اعداء الرسول في مكة

اشاره

بعد ان انتهينا من الحديث عن المسلمين الاوائل في مكة، وسنتحدث عما بقي منهم في الوقت المناسب، نجد من المناسب جدا ان نعطف الكلام نحو اعداء الرسول (ص) واشهر المعاندين له، ونسلط الضوء علي طبيعة حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولو بصورة مختصرة، فقد يساعدنا ذلك علي اكتشاف الاسباب الكامنة وراء عدائهم ومحاربتهم للاسلام ونبيه (ص).

ابوجهل

وقد اطلق عليه هذا اللقب بسبب عدائه المستمر، والحاحه الشديد بالخصومة لرسول اللّه (ص)، والذي اطلقه عليه هو الرسول (ص) نفسه في مقابل كنيته الاصلية (ابي الحكم)، وهو من بني مخزوم، الذين كانت لهم في قريش سطوة وقوة في العصر الذي ظهر فيه الرسول (ص). وقد وقعت خصومات عديدة في الجاهلية بين بني مخزوم وبطون قريش الاخري، كان حكم الكهنة فيها لصالح بني مخزوم دوما، ويمكننا ان نستنتج ان بني مخزوم كانوا اكثر طوائف قريش ثراء عند ظهور الدعوة الاسلامية او قبلها بقليل، وذلك لان اكثر تلك المنازعات كانت تنشا حول الشرف والمجد والمفاخر العائلية التي كان ميزانها ومقياسها بالدرجة الاولي الثروة وكثرة المال، كانت احدي هذه المنازعات ماحدث بين رجل من بني مخزوم هو عائذ بن عبداللّه بن عمربن مخزوم والحارث بن اسد بن عبد العزي، حيث روي في المنمق [180] ان عائذ بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم تنازع مع الحارث بن اسد في ايهما اكثر شرفا ومجدا، فجعلا بينهما كاهنا كان يقوم بعسفان، وجعلا للنفر خمسين من الابل، وجعلا الابل علي يد المغيرة بن عبداللّه بن مخزوم، ثم شخصوا اليه، فلما كانوا قريبا منه وجد رجل من بني اسد بيضة نعام، فقال: «ما رايكم ان نخبي له هذه البيضة؟ فان اصابها علمناانه مصيب فيكما». ثم اتوه فقالوا: «اخبرنا في اي شي‌ء جئنا»، فقال: «حلفت برب السماء ومرسل الغماء فينبعن بالماء! ان جئتموني الا لطلب السناء»، فقالو: «صدقت..» فانتسبنا له، وقالوا: «احكم بيننا اينا اولي بالمجد والشرف»، قال: «حلفت باظب عفر، بلماعة قفر، يرون بين سلم وسدر، ان سناء المجد ثم الفخر لفي عائذ الي آخر الدهر». وحدثت منافرة اخري بين بني مخزوم وبني امية، حيث جاء في المنمق: انه قد اجتمع عند الحجر قوم من بني مخزوم وقوم من بني امية، فتذاكروا العز والمنعة، فقال رجل من بني كنانة، كان حليفا لبني مخزوم: بنو مخزوم اعز وامنع، فجري بينهما الكلام حتي غضب الوليد بن المغيرة المخزومي واسيد بن ابي العيص وتفاخرا، فجري بينهما اللجاج، فقال الوليد: انا خير منك اما وابا، واثبت منك في قريش نسبا. فقال اسيد: انا خير منك منصبا، واثبت منك في قريش نسبا، وانت رجل من كنانة من بني اشجع، دخيل في قريش، نزيع في بني مخزوم، وانا غرة بني عبد مناف، وذؤابة قصي، فتعال افاخرك، فتداعيا الي المنافرة، وكذلك كانت العرب تفعل، وقالا: يحكم بيننا سطيح، فتراضيا به، وجعلا بينهما خمسين من الابل للمنفرعلي صاحبه، قال: فخرجا نحوه، وخرج معهما نفر من قومهما.. الي ان قالوا: احكم بين الوليد بن المغيرة وبين اسيد بن ابي‌العيص، فقال: بالنجود احلف وبالتهائم، ثم ببيت اللّه ذي الدعائم، وكل من حج علي شداقم، اني بما جئتم به لعالم، ان ابن مخزوم اخو المكارم، فارجع يا اسيد بانف راغم، ثم اقبل‌عليهما فقال: اما انت يا وليد، فمثلك مثل جبل مؤزر، فيه الماء والشجر، وفيه للناس معتصر، ومنعة الحي والوزر، للخير سباق وللشر حذر، واما انت يا اسيد فمثلك مثل جبل وعر، فيه للمقتبس جمر، لا ورد ولا صدر، الخير عندك نزر، والشرعندك امر، ففلج الوليد وظفر، وخاباسيد وخسر». [181] .اما المنافرة بين بني قصي وبني مخزوم، فهي كما رواها صاحب المنمق، [182] قال: «جعل نفر من قريش مجلسا، فقال ابوربيعة بن المغيرة وابنه المغيرة وبنو المغيرة: ومنا سويد بن هرمي من بني عامر بن عبيد بن عمر بن مخزوم، فقال اسيد بن ابي العيص بن امية: اليك، انما بنو قصي اشرف، انما شرف عبداللّه بن عمر لان امه برة بنت قصي، فبها نال ما نال، ثم عدد رجال قصي، ثم قال: فينا السقاية والحجابة والندوة والرفادة واللواء، فتداعوا الي المنافرة، فقال اسيد: ان نفرتك اخرجتك من مالك، وان نفرتني اخرجتني من مالي، فتراضيا بكاهن من خزاعة، فقال ابن ابي همهمة، وامه تماضر بنت ابي عمرو بن عبد مناف: مهلا يا ابا ربيعة! فابي، وخرجوا وساقوا ابلا ينحرها المنفر، فوجدوا في طريقهم حمامة او يمامة، فدفعوها الي اسامة عبد ابي همهمة، فجعلها في ريش ظليم، فلما اتوا الكاهن قالوا: ما خبانا لك؟ فقال: اما غمامة تتبعها غمامة، فبرقت بارض تهامة، فطفا من وبلها كل طلح وتمامة، لقد خباتم لي فرخ حمامة، او اختها يمامة، في زف نعامة، مع غلامكم اسامة، قالوا: احكم. فقال: اما ورب الواطدات الشم، والجرول السودبهن الصم، وما جرت جارية في يم، ان اسيدا لهو الخضم، لاتنكروا الفضل له في العم. اما ورب السماء والارض والماء، وما لاح لنا من حراء، لقد سبق اسيد ابا ربيعة بغير مراء. قالوا: اقصي افضل ام مخزوم؟ قال: اما ورب العاديات الصبح، ما يعدل الحر بعبد نحنح، بمن احل قومه بالابطح». فنحر اسيد الجزر ورجع، فاخذ مال ابي ربيعة، وكانت اخت اسيد عند ابي جهل، فكلمت اخاها حتي رد علي ابي ربيعة ماله. وكان في بني مخزوم اولاد المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم اكثر ابناء القبيلة قوة ومنعة. [183] وكان ابو جهل، واسمه هشام بن المغيرة واخوه الحارث بن المغيرة، من اقطاب هذه العائلة. وكانت ام ابي جهل والحارث اسماء بنت مخربة، وقد اسلم الحارث واسماء فيما بعد، وبقيت اسماء علي قيد الحياة حتي خلافة عمر بن الخطاب، حيث كانت تبيع الطيب. وكان كل من ابي جهل والحارث من اسخياء العرب، حيث نقل صاحب المحبر [184] قصصا عن جودهما، ففي روايته عن ابي ذر رحمه اللّه، قال: «قدمت مكة معتمرا، فقلت: اما من مضيف؟ قالوا: بلي، كثيرا واقربهم منزلا الحارث بن‌هشام. قال: فاتيت بابه، فقلت: اما من قري؟ [185] فقالت‌لي الجارية: بلي، فاخرجت الي زبيبا في يدها. فقلت: ولم لم تجعليه في طبق؟ فعلمت اني ضيف. فقالت: ادخل، فدخلت فاذا انا بالحارث علي كرسي، وبين يديه جفان فيها خبز ولحم، وانطاع عليها زبيب. فقال: اصب، فاكلت. ثم قال: هذا لك. فاقمت ثلاثا، ثم رجعت الي المدينة، فاخبرت النبي (ص) خبره. فقال: انه لسري ابن سري، وددت انه اسلم!». واخبر الكلبي في اسناده عن رجلين من بني سليم اخوين، قالا: «دخلنا مكة معتمرين في سنة، فما وجدنا فيها شراء ولاقري، فبينا نحن كذلك اذ راينا قوما يمضون، فقلنا: اين يريد هؤلاء القوم؟، فقيل لنا: يريدون الطعام، فمضينا في حملتهم حتي اتينا دارا، فولجناها، فاذا رجل آدم احول علي سرير، وعليه حلة سوداء، واذا جفان مملوءة خبزا ولحما، فقعدنا فاكلنا، فشبعت قبل اخي، فقلت له: كم تاكل، اما شبعت؟ فقال الجالس علي السرير: كل، فانما جعل الطعام ليؤكل. فلما فرغناخرجنا من باب آخر للدار غير الذي دخلنا منه، فاذا نحن بابل موقوفة. فقلنا: ما هذه الابل؟ قيل: للطعام الذي رايتم. فسالنا عن الرجل صاحب الطعام، فاذا هو ابو جهل بن هشام». ونظرا للموقع الذي كان يشغله ابو جهل والمنزلة التي كان يحتلها في قومه، وبسبب المقام الذي كان عليه بنو مخزوم في مكة، فقد تسنم ابو جهل مقاما هو اعلي مقام في قريش، فضلا عن انه اكثر ابناء قومه قوة ايام الجاهلية، ولهذا كانت بعثة النبي (ص) ودعوته الناس الي الاسلام، قد ازعجته واثارت غيظه وغضبه خشية علي مقامه وقوته، وان يذهب ريح بني مخزوم وعزهم، وينهار الوضع الاجتماعي والسياسي الذي بنوه، لهذا كله وقف ابو جهل بكل ما اوتي من قوة بوجه النبي (ص) وسعي جهده لمحاربة الرسول (ص) وباقي المسلمين ومواجهتهم، لقد حشد ابو جهل لمعركة بدر كل قواه، رغم نجاة القافلة التجارية، وعدم حماس قريش لمحاربة رسول اللّه (ص)، حتي ذهب ضحية عناده ولجاجته وخصومته للاسلام. وتكشف القصة المروية في سيرة ابن اسحاق وسيرة ابن‌هشام، [186] عن طبيعة معارضة ابي جهل، فقد كانت ذات طابع سياسي غالبا، ففي جوابه للاخنس بن شريف الثقفي، قال: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، اطعموا فاطعمنا، وحملوا فحملنا، واعطوا فاعطينا، حتي اذا تجاذبنا علي الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي ياتيه الوحي من‌السماء، فمتي ندرك مثل هذه، واللّه لا نؤمن به ابدا ولانصدقه». لقد اخذ ابوجهل المسلمين المستضعفين، الذين لا ناصر لهم ولا ملجا، بالشدة والقسوة، فقد قتل سمية ام عمار بيده، وكان اذا سمع بالرجل قد اسلم وله شرف ومنعه انبه واخزاه، وقال: «تركت دين ابيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفيلن رايك، ولنضعن شرفك»، وان كان تاجرا قال: «واللّه لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك». [187] .

الوليد بن المغيرة

هو الوليد بن المغيرة بن عبداللّه بن عمر المخزومي، من اثرياء بني مخزوم الكبار، وكان له من الثروة والمقام ما يعدل ثروة قريش ومكانتها مجتمعة، حتي اشتهر ب (العدل). فكان يتناوب مع قريش علي اكساء الكعبة، فمرة تكسوهاهي مجتمعة، واخري يكسوها هو وحده. [188] .وقد اشارت الايات (11- 15) من سورة المدثر اليه، بقولها: (ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت له مالا ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع ان ازيد) يقول المفسرون في معني قوله تعالي: (ذرني ومن خلقت وحيدا) اي دعني ومن خلقته وحيدا في رحم امه، ليس له مال ولا بنون. لكن [189] مثل هذا التفسير ليس من خصائص الوليد بن‌المغيرة، فكل الناس يولدون كذلك، لذا فنحن نعتقد ان كلمة (وحيدا) اشارة الي المعني الذي ذكر سابقا من انه كان يعدل قريشا باكملها، فهو وحيد متفرد من حيث المال والجاه، يقول جل شانه: (وجعلت له مالا ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع ان ازيد). وكان الوليد بن المغيرة، هو الذي اتهم الرسول (ص) بالسحر، وهو الذي جمع قريش في دار الندوة قبيل موسم الحج للتداول في امر رسول اللّه (ص)، وقال لهم: «يا معشر قريش، انه قد حضر هذا الموسم، وان وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بامر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رايا واحدا، ولاتختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا». فقالوا: «فانت يا ابا عبد شمس، فقل واقم لنا رايا نقول به». قال: «بل انتم، قولوا اسمع». قالوا: «نقول كاهن». قال: «لا واللّه ما هوبكاهن، لقد راينا الكهان، فما هو بمزمزة الكاهن، ولاسجعه». قالوا: «فنقول مجنون». قال: «ما هو بمجنون، لقد راينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته». قالوا: «فنقول شاعر». قال: «ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر». قالوا: «فنقول ساحر». قال: «ما هو بساحر، لقد راينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم». قالوا: «فما تقول انت يا ابا عبد شمس؟» قال: «واللّه ان لقوله لحلاوة، وان اصله لغدق، وان فرعه لجنا، وما انتم بقائلين من هذا شيئا الا عرف انه باطل، وان اقرب القول فيه لان تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء واخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته». فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم احد الا حذروه اياه، وذكروا له امره، فانزل اللّه تعالي في الوليد بن المغيرة: (ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت له مالا ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع ان ازيد، كلا انه كان لاياتنا عنيدا، سارهقه صعودا، انه فكروقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم ادبر واستكبر، فقال ان هذا الا سحر يؤثر، ان هذا الا قول البشر) «المدثر: 11-25». لقد بني الوليد بن المغيرة عداوته لرسول اللّه (ص) علي اساس سياسي، فكان يرفض ان يخضع مع قبيلته لسلطة رجل من بني هاشم، وهو قد عد من الزنادقة المانويين، ويمكن ان يكون هذا من العوامل التي دفعته لاتخاذ موقف معاد من رسول اللّه (ص)ورسالته. [190] .قال الوليد لابي اميمة سعيد بن العاص بن امية، وكان نديمه: «لولا انزل هذا القرآن الذي اتي به محمد علي رجل عظيم من مكة او الطائف، مثل: امية بن خلف الجمحي»، فقال له نديمه وقد فهم قصده: «او علي رجل مثلك، او علي رجل من زعماء ثقيف، امثال: مسعود بن عمرو، وكنانة بن عبد يا ليل، او مسعود بن معتب، وابنه عروة»، فنزلت الايتان (31 و32) من سورة الزخرف: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن علي رجل من القريتين‌عظيم، اهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) ويقصد بالقريتين مكة والطائف، كما ان المقصود بالرجل العظيم، الذي من مكة، الوليد بن المغيرة، والاخر من زعماء الطائف، وقد اختلف المفسرون في تعيين الرجل العظيم الذي من مكة، [191] والظاهر ان المراد هو، الوليد بن‌المغيرة، بدليل الايتين (29، 30) من السورة عينها: (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتي ج‌آءهم الحق ورسول مبين، ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وانا به كافرون). وقد اشرنا سابقا الي ان الوليد بن المغيرة وبني مخزوم الاثرياء هم الذين اشاعوا ان القرآن سحر ساحر، بعد جولة من التداول والتفكير في امر الرسول (ص). ثم ان الوليد بن المغيرة كان احد اشراف قريش الذين اجتمعوا ليكلموا الرسول (ص)، ومنهم الاسود بن مطلب الاسدي، والعاص بن وائل السهمي، وامية بن خلف الجمحي، حيث قالوا له (ص): «نحن نعبد ما تعبد، وانت تعبدما نعبد، فان كان الذي تعبد حقا كنا قد انتفعنا، وان كان الذي نعبد حقا كنت قد انتفعت»، فنزلت سورة (قل يا ايها الكافرون) جوابا علي ذلك الاقتراح. كان الوليد بن المغيرة من الذين استهزاوا برسول اللّه (ص) والمسلمين، وقد هلك بعد هجرة المسلمين الي المدينة بثلاثة اشهر عن عمر يناهز الخامسة والتسعين.

ابواحيحة سعيد بن العاص بن امية

كان بنو امية من البطون ذات النفوذ والثراء الواسع في قريش، وقد انتقلت اليهم رئاسة بني قصي بعد وفاة ابي طالب، فوصلت الي حرب بن امية، بعبارة اخري انتقلت زعامة بني‌عبد مناف الي بني امية، وبعد هلاك حرب بن امية انتخبت كل عائلة من عوائل بني مناف زعيما لها، الي ان وصلت زعامة بني امية الي ابي احيحة سعيد بن العاص صاحب الثروة العظيمة، وقد نال من احترام اهل مكة وتعظيمهم له ان حرموا علي انفسهم مشابهته في العمامة، اذ لا يجرؤ احدهم علي ان يلبس عمامة تشبه في لونها عمامة ابي احيحة، فسموه ذاالعمامة، وذاالتاج. [192] .لم يظهر سعيد بن العاص معارضة صريحة للاسلام في البداية، وكان يقول: «دعوا محمدا ولا تعرضوا له، فان كان ما يقول حقا، كان فينا دون غيرنا من قريش، وان كان كاذبا قامت قريش به دونكم»، فكان النبي (ص) يمر به، فيقول: «انه ليكلم من السماء». حتي اتاه النضر بن الحارث العبدري، فقال له: «انه بلغني انك تحسن القول في محمد! وكيف ذلك وهو يسب الالهة، ويزعم ان آباءنا في النار، ويتوعد من لم يتبعه بالعذاب؟ فاظهر ابو احيحة عداوة لرسول اللّه (ص) وذمه وعيب ما جاء به، وجعل يقول: «ما سمعنا بمثل ما جاء به، لا في يهودية ولانصرانية». [193] .ويتضح مما سبق ان سعيد بن العاص لم يكن مدفوعا بدوافع سياسية في خصومته مع رسول اللّه (ص)، اذ لم يظهر عداؤه له (ص) في بداية الامر، غير انه بدا يتطرف وينحي منحي اشدفي خصومته مع النبي (ص) حينما علم انه يعيب آلهتهم وينعت آباءهم بالكفر ويقول: انهم في النار. وقد اشرت فيما سبق الي ان التفاخر بالاباء والاجداد كان سنة من سنن العرب، ومرتكزا من المرتكزات الاساسية التي تقوم عليها القبيلة وتحفظ لها وجودها وشخصيتها في النظام القبلي العربي، ولعل قوله تعالي: (فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم) «البقرة: 200» يفسر هذا المفهوم، فلقد كان هناك نوع من العبادة للاباء والاجداد بين العرب، لهذا استفزوا كثيرا حينما عابهم الرسول (ص). وقد اسلم ابن سعيد بن العاص وهو خالد بن سعيد بن العاص‌علي اثر رؤيا رآها في المنام، وكان اسلامه في بداية الدعوة الاسلامية، لهذا عد من اوائل المسلمين، وقد غضب سعيد لاسلام ولده كثيرا، فنهاه ثم عنفه وعذبه، وحينما يئس منه طرده وابعده عنه. لم يعد موقف سعيد بن العاص كما كان في السابق، فقد اتخذ عداؤه للاسلام طابعا سياسيا بعد اسلام ولده، ولم يعد مقتصراعلي الدوافع الدينية، حتي انه قال حين خرج ابنه الي الحبشة في الهجرة الثانية: «لاعتزلن في مالي، لا اسمع شتم آبائي، ولاعيب آلهتي، فهو احب الي من المقام مع هؤلاءالصباه». فاعتزل في ماله بالظريبة نحو الطائف. [194] .

الحكم بن ابي العاص بن امية وعقبة بن ابي معيط

كان هذان الرجلان وهما من بني امية، من اشد اعداء الرسول (ص)، وكان الحكم بن ابي العاص ابو مروان، وجد الفرع المرواني من خلفاء بني امية مؤذيا لرسول اللّه (ص) يشتمه ويسمعه، وكان رسول اللّه (ص) يمشي ذات يوم، وهو خلفه يخلج بانفه وفمه، وبقي علي ذلك. وقد اظهر الاسلام يوم فتح مكة، وكان مغموصا عليه في دينه، فاطلع يوما علي رسول اللّه (ص) وهو في بعض حجر نسائه، فخرج اليه بعنزة، وقال: «من عذيري من هذه الوزغة؟ لو ادركته لفقات عينيه» ولعنه وما ولد، وغربه من المدينة، فلم يزل خارجا منهاالي ان استخلف عثمان بن عفان فرده وولده [195] .وكان عقبة بن ابي المعيط بن ابي عمرو بن امية من اشد اعداء الرسول (ص)، وكان يضع العذرة في زنبيل ثم يرميها علي باب الرسول (ص)، وقد اسر يوم بدر، وكان الذي اسره عبداللّه بن سلمة العجلاني، من بلي، وعداده من الانصار، جمح به فرسه فاخذه، فامر رسول اللّه (ص) عاصم بن ثابت بن ابي الاقلح الاوسي من الانصار بضرب عنقه، فجعل عقبة يقول: «يا ويلتي، علام اقتل يا معشر قريش؟ اقتل من بين هؤلاء؟» وكان الاسري يطلق سراحهم بفدية يدفعونها، فقال رسول اللّه (ص): «نعم، انه وط‌ي‌ء علي عنقي وانا ساجد فما رفع حتي ظننت ان‌عيني قد سقطتا، وجاء يوما وانا ساجد بسلي شاة فالقاه علي راسي». فقال عقبة: «من للصبية»؟ فقال رسولاللّه (ص): «النار» [196] .كان السبب وراء عداء عقبة بن ابي المعيط لرسول اللّه (ص) عاطفيا ناشئا عن الجهل وعدم المعرفة، وربما كانت هناك بعض الاسباب الدينية، لان عقبة بن ابي المعيط كان زنديقا من (المانويين) كما قيل. [197] .كان لعقبة علاقة صداقة حميمة مع ابي بن خلف بن وهب الجمحي المعروف بعدائه الشديد للرسول (ص)، وكان ابي بن خلف الجمحي قد هدد عقبة بقطع العلاقة معه اذا ما جالس النبي (ص) بعدما سمع انه كان قد ذهب اليه واستمع الي حديثه، بل كان ابي بن خلف الجمحي يحرض صديقه علي ان يتعرض لرسول اللّه (ص) بالاساءة والاهانة، وقد فعل‌عقبة بن ابي المعيط ذلك حرصا منه علي تلك العلاقة. وهكذا كانت خصومة هذا الرجل مع الرسول خصومة عاطفية، ولم يكن عقبة يتمتع بمنزلة مرموقة في مكة، ومثله الحكم بن ابي العاص، فكانا يفتقدان الي المبررات العقلانية لمعاداة الرسول (ص)، وهي الخوف علي الموقع السياسي اوالاجتماعي وخشية ذهاب الشرف والمنزلة الرفيعة بانتشار الاسلام، كما انهما لم يكونا يعانيان من الحسد الذي كان يسوق اشراف مكة الي اتخاذ موقف معاد للنبي (ص) لظهور امره والتفاف المسلمين حوله (ص)، وقد اشار القرآن الكريم الي هذا النوع من العداوة، بل الي عداوة عقبة بن ابي المعيط بالذات طبقا لراي اكثر المفسرين حيث يقول تعالي: (ويوم يعض الظالم علي يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلانا خليلا) «الفرقان: 27 و 28».ثم يقول تعالي: (لقد اضلني عن الذكر بعد اذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا) «الفرقان: 29». وفيما اذا صح الراي القائل ان الايات السابقة نازلة بحق عقبة وابي بن خلف، فسيكون ذلك دليلا علي صحة ما ورد في الروايات من ان عقبة كان يسير خلف الرسول (ص) ويستمع الي القرآن الكريم، غير ان ابي كان يقطع عليه طريق الهداية. وقد كشفت معاملة الرسول (ص) للحكم بن ابي العاص، وكذلك معاملته لعقبة بن ابي المعيط عن مدي تالم قلب الرسول (ص) من عداء هؤلاء له وسلوكهم الشاذ معه (ص)،والا لشملهم عفوه ورحمته التي شملت غيرهم من اعدائه، كماعودنادائما. [198] .وينتسب كل من عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة الي فرع آخرمن فروع بني عبد شمس، وكانا من المعاندين لرسول‌اللّه (ص)، وقد تعاونا مع المعادين له (ص) غير انهم لم يتعرضو الشخصه ولم يلحقوا به اذي بشكل مباشر.

النضر بن الحارث

وهو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة العبدري، من بني‌عبد الدار، من قبيلة قريش، وكان من خصوم الرسول (ص) الاشداء، ويمتاز عن غيره ببعض الخصائص، فقد كان زنديقا مانويا، تعلم الزندقة من النصاري في الحيرة، وكان المانويون قد انتهوا في المناطق الخاضعة لسلطة الساسانيين بصورة مباشرة، والتي يشرف عليها الدهاقنة الزرادشتيون، ومن بقي منهم بقي متخفيا. ورغم ان الحيرة كانت تابعة من الناحية السياسية للاباطرة الساسانيين وللدولة الفارسية، غير ان ملوك الحيرة او الملوك المناذرة كانوا يتمتعون بنوع من الاستقلال الذي وفر مناخا مناسبا لنمو المانوية وقيامها بنشاطاتها بصورة علنية ودون قيد اوخوف، وهكذا كان الوضع بالنسبة الي النصرانية واليهودية وباقي الاديان. وقد كان من نتائج تجارة قريش مع العراق احتكاك القرشيين، ومنهم النضر بن الحارث، باهل الحيرة وتردده عليهم بصورة مستمرة، وقد استطاع المانويون بما لديهم من مبلغين ودعاة بارعين ان يستميلوا بعض تجار قريش لمعتقداتهم المانوية. ومن الجدير بالاشارة ان اكثر المعادين للرسول اللّه (ص) كانواممن ينسبون الي الزندقة. [199] رغم انهم يحتجون في‌عدائهم للرسل بتسفيهه لابائهم واهانته لاصنام قريش. ولم يكن الامر كذلك مع النضر بن الحارث العبدري، فكان‌هذا قد نظر في كتب الفرس، وخالط النصاري واليهود، وكان له مع رسول اللّه (ص) مناظرات ومجادلات كلامية ودينية حتي قيل: ان قوله تعالي: (ومن الناس من يجادل في اللّه بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، كتب عليه انه من تولاه فانه يضله ويهديه الي عذاب السعير) «الحج: 3 - 4» قد نزلت فيه، وقد وردت في هذه الايات اشارات الي هذا الشخص. احداهما: انه كان مجادلا ومن اهل البحث والجدال في الدين والمسائل الكلامية والالهيات. والثانية: كونه من اتباع الشياطين فهو (يتبع كل شيطان مريد)، وتؤيد هذه الاشارة ما ذكر من انه كان مانويا ويرتبط في الوقت ذاته بعلاقات عشرة مع اليهود والنصاري، ثم انه كان له اتباع وموالون (كتب عليه انه من تولاه فانه يضله..) وهذه الاشارة تؤيد الروايات القائلة بانه كان يخطب بعد الرسول (ص)ثم يسال الناس: «اينا احسن حديثا»؟. [200] .قال ابن اسحاق: «كان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول اللّه (ص) وينصب له العداوة، وكان قدقدم الحيرة وتعلم بها احاديث ملوك الفرس واحاديث رستم واسفنديار، فكان اذا جلس رسول اللّه (ص) مجلسا فذكر فيه باللّه، وحذر قومه ما اصاب قبلهم من الامم من نقمة اللّه، خلفه في مجلسه اذا قام، ثم قال: انا واللّه يا معشر قريش احسن حديثا منه، فهلموا الي فانا احدثكم احسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك الفرس ورستم واسفنديار، ثم يقول: «بماذا محمد احسن حديثا مني». وبهذه المناسبة نزلت الايتان (5 - 6) من سورة الفرقان: (وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهي تملي‌عليه بكرة واصيلا، قل انزله الذي يعلم السر في السموات والارض انه كان غفورا رحيما) وفي هاتين الايتين امور ينبغي التوقف عندها قليلا. في الاولي: ادعاء النضر بن الحارث ان ما يقوله الرسول (ص) حول الاقوام الغابرة انما هو اساطير الاولين تكتب له بكرة واصيلا اي عندما يكون الناس في بيوتهم لان الرسول (ص) كان اميا، فهو يدعي بانها تقرا عليه في الاوقات التي لا يراه فيها احد. وتشير الايات السابقة الي ان النضر بن الحارث كان يقص علي الناس اخبار رستم واسفنديار وقصصا اخري، ربما اخذها عن الكتب، ويعتقد انه كان يظن ان الرسول (ص) هو الاخر اخذها من الكتب لذا اتهم الرسول (ص) بذلك، وقد ذكر النضر بن الحارث بعض الاشخاص الذين زعم انهم كانوا يعلمون الرسول (ص) ويقصون عليه تلك الاخبار، ومن هؤلاء جبر (وهو غلام اسود بن المطلب) وقيل: غيره، ويعتقد ان جبرا هذا او غيره، كان غلاما يونانيا له معرفة بالكتب، وقد نزلت الاية (103) من سورة النحل لتجيب علي هذا الاتهام: (ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون اليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين). وفي سيرة ابن هشام انه غلام نصراني، يقال له جبر عبدلبني الحضرمي. [201] .وفي تفسير الطبري، عن عبداللّه بن مسلم الحضرمي، انه كان لهم عبدان من اهل عير اليمن، وكانا طفلين، وكان يقال لاحدهما يسار، والاخر جبر، فكانا يقرآن التوراة، وكان رسول اللّه (ص) ربما يجلس اليهما، فقال كفار قريش: «انمايجلس اليهما يتعلم منهما». [202] .دابت الايات المكية التي نزلت في اول الدعوة الاسلامية علي تحذير قريش من عذاب جهنم وكانت تتوعدهم باشد العذاب في يوم الحساب، وكان النضر بن الحارث من اولئك الذين ينكرون هذا اليوم ويتهكمون قائلين: اين اذن هذا العذاب الذي تعدون به؟ ومتي سيحل ذلك اليوم الذي تحذروننا منه؟! وجاءت الاية (187) من سورة الاعراف اجابة هؤلاء الغافلين: (يسالونك عن الساعة ايان مرساها) او الاية (سال سائل بعذاب واقع) «المعارج: 1». وكذلك يقال: ان الايتين (42 و43) من سورة فاطر نزلت حول الموضوع نفسه: (واقسموا باللّه جهد ايمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدي من احدي الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم الانفورا، استكبارا في الارض...). اذا كان النضر بن الحارث طبقا للاية الشريفة يعد اهل مكة انهم سيصبحون أهدي الامم ان جاءهم نذير، ويبدو ان حديثه هذا كان جزءا من دعوته الي المانوية، فهو يسعي الي تهيئة قومه لاستقبال مبعوث مانوي ياتي من الحيرة. وقد تلا الرسول (ص) الايتين (98 و99) من سورة الانبياء علي النضر بن الحارث واتباعه في ختام جولة من النقاش والجدال حول الدين جرت بين الرسول والنضر بن الحارث، الذي هزم فيها وخرج خاسرا، وقد جاء فيهما: (انكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم انتم لها واردون، لو كان هؤلاء آلهة ماوردوها وكل فيها خالدون). وينبغي التوقف هنا عند نقاط دقيقة. فما هو نوع النقاش الذي هزم فيه النضر بن الحارث؟ ولماذا لم يات اصحاب السيرة علي ذكره؟ وما هي العلاقة بين هاتين الايتين والحوار الذي دار بين رسول اللّه (ص) والنضر بن الحارث؟ اعتقد ان الحوار بين الرسول (ص) والنضر بن الحارث كان يدور حول العقائد المانوية، فالظلمة والنور كما نعلم هما اصلا الخلقة في نظر المانوي، ويري المانوي ان الصراع قائم ابدابين الظلمة والنور في نظام الخلق، اذ تحيط الظلمة المملوءة بالشياطين والاغوال بالنور الذي يسعي دائما للتخلص منها ومما فيها من شياطين الظلام، فاللّه يقول لهم: (لو كان هؤلاء آلهة ماوردوها)، ثم لو كانت الظلمة هي الخالقة وكان اعوانها اعوان الالهة لما كان (وكل فيها خالدون) «الانبياء: 99». اذن انتم هؤلاء وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم وليس اللّه الذي هو خالق الظلمة والنور. وبهذا البيان الواضح غلب النضر بن الحارث وافحم، ثم قام رسول اللّه (ص) واقبل عبداللّه بن الزبعري حتي جلس، فقال الوليد بن المغيرة وهو من الزنادقة (المانويين) كما قيل لعبد اللّه بن الزبعري: «واللّه ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد اننا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم». فقال عبداللّه بن الزبعري: «اما واللّه لو وجدته لخصمته، سلوا محمدا اكل ما يعبد من دون اللّه في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصاري تعبد عيسي بن مريم»، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبداللّه بن الزبعري، وراوا انه قد احتج وخاصم، فذكر لرسول اللّه (ص) ما كان من قول ابن الزبعري، فقال رسول اللّه: «ان كل من احب ان يعبد من دون اللّه فهو مع من عبده، انهم انما يعبدون الشياطين ومن امرتهم بعبادته»، فانزل اللّه تعالي عليه في ذلك: (ان الذين سبقت لهم منا الحسني اولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت انفسهم خالدون) «الانبياء: 101- 102» اي عيسي ابن مريم، وعزير، ومن عبدوا من الاحبار والرهبان، الذين مضوا علي طاعة اللّه فاتخذهم من يعبدهم من اهلالضلالة اربابا من دون اللّه. [203] .كان النضر بن الحارث ياتي من الحيرة التي كان يقيم فيها، كما اشرنا سابقا ببعض الهدايا، واهمها آلة موسيقية كان يعزف عليها الانغام في مكة، وقد عرف المانويون بتعلقهم الشديد بالموسيقي، فكان النضر بن الحارث يعلم اهل مكة طريقة عزف الانغام التي كان قد تعلمها في الحيرة. ولم يكن اهل مكة يعرفون قبل ذلك سوي (النصب)، وهو نوع من الاغانييشبه الحداء الذي يغني للابل اثناء سيرها. [204] .وكان للنضر بن الحارث جاريتان مغنيتان نزلت في شانهما آيتان من سورة لقمان: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل اللّه بغير علم ويتخذها هزوا اولئك لهم عذاب مهين، واذا تتلي عليه آياتنا ولي مستكبرا كان لم يسمعها كان في اذنيه وقرا فبشره بعذاب اليم) «لقمان: 6- 7». وكان من بين مناظرات النضر بن الحارث مجادلته الرسول (ص) في امر احياء العظام وهي رميم، وقد انزل جواباعلي ذلك الايات (78 -80) من سورة يس: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي انشاها اول مرة وهو بكل خلق عليم، الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فاذا انتم منه توقدون). وقيل: ان ابي بن خلف هو الذي جلب البالية الي الرسول (ص)، غير ان طريقة الاستدلال المذكورة في الاية اكثر انسجاما مع منهج النضر بن‌الحارث في الجدال. وبسبب هذه المجادلات والتكذيب الدائم لرسول اللّه (ص) قيل ان النضر بن الحارث كان من اشد خصوم الرسول (ص)، فقد آذي سلوكه هذا الرسول (ص) كثيرا، لهذا امر (ص) بقتله حين اسر في معركة بدر علي يد المقداد. فقال المقداد الذي كان ينتظر شيئا مقابل ذلك: «يا رسول اللّه، انه اسيري، اي هل من عوض مقابل قتله، فقال الرسول (ص): «اللهم اغن المقداد من فضلك». [205] .

العاص بن وائل و منبه بن الحجاج و نبيه بن الحجاج السهمي

ينتمي هؤلاء الثلاثة الي بني سهم من قبيلة قريش، وكانوا من المستهزئين والمحاربين لرسول اللّه (ص)، وقد وردت اسماؤهم في قائمة الزنادقة المانويين. [206] وكان كل من منبه ونبيه من المستخفين برسول اللّه (ص) والمستصغرين شانه، وكانا يزعمان ان وراء الرسول شخصا آخر يعلمه، ويكررون القول: (معلم مجنون). وكان العاص بن وائل ابوعمرو بن العاص المعروف من المستهزئين بالرسول (ص) ويقول: (انه ابتر)، اي ليس له اولاد ذكور وسينقطع اثره بعدموته، وانزلت سورة الكوثر جوابا علي هذا الزعم: (انا اعطيناك‌الكوثر، فصلي لربك وانحر، ان شانئك هو الابتر). وفسرالكوثر بانه الماء الذي في الجنة، وقيل: انه نسل فاطمة (ع) وابناؤها الذين ملاوا الدنيا، ويمكن ان يصح كلا القولين. غيرانه ما يمكن ان يكون جوابا قاطعا للعاص بن وائل، الذي كان يتباهي بابنائه، انما هو الدين الاسلامي والرسالة التي عبر عنها بالكوثر، اي ان هذه الرسالة انما هي اكبر واكثر بركة من كل ما تتفاخرون به من مقام وثروة واولاد. وسيملا ذكرها اسماع الشرق والغرب في الوقت الذي لا يذكر فيه اعداء الاسلام الا بالسوء.

امية بن خلف الجمحي

وينتسب امية الي بني جمح من قبيلة قريش، وكان من اثرياء مكة، ولم يدخر جهدا في محاربة الرسول (ص) سرا وعلانية، حتي انزلت هذه السورة الشريفة بشانه: (ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده، يحسب ان ماله اخلده...) «الهمزة: 1- 3» والتي تؤكد علي انه كان كما اشرنا من اثرياء قريش، وقد ورد اسم اخيه ابي بن خلف في قائمةاسماء مانويي قريش. [207] .كان ابي صديقا لعقبة بن ابي معيط، وقد مرت الاشارة الي قضيتهما مع الرسول (ص)، وقال البعض: ان الذي احتج علي‌النبي بالعظام البالية وقال (من يحيي العظام وهي رميم) انما هو ابي. وقد قتل امية في يوم بدر، بينما قتل ابي في احد علي يد رسولاللّه (ص) [208] .

ابوعزة عمرو بن عبداللّه الجمحي

لم يرد اسم ابي عزة مع اسماء الذين آذوا الرسول (ص)، لكنه ورد في قائمة اسماء مانويي قريش، [209] ورغم انه لم يذكر فيمن آذوا الرسول (ص)، الا انه كان من اعداء الاسلام، وقد وقع اسيرا بيد المسلمين في معركة بدر، وكان فقيرا ذا فاقة وعيال فمن عليه رسول اللّه (ص) بعد ان قال: «اني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامنن علي صلي اللّه عليك وسلم». فمن‌عليه رسول اللّه (ص»). وحينما تهيات قريش لحرب رسول اللّه (ص) في احد، قال صفوان بن امية لعمرو بن عبداللّه: «يا ابا عزة، انك امرؤ شاعر، فاعنا بلسانك فاخرج معنا». فقال: «ان محمدا قد من علي، فلا اريد ان اظاهر عليه»، قال: «بلي، فاعنا بنفسك، فلك اللّه علي ان رجعت ان اغنيك، وان اصبت ان اجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما اصابهن من عسر ويسر». فخرج ابو عزة في تهامة، وقد حرض الناس وحثهم علي قتال المسلمين، ثم وقع اسيرا مرة اخري في احد، وطلب العفو ايضا كما في المرة السابقة، فقال رسول اللّه (ص): «واللّه لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمدا مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت» فضرب عنقه وقال (ص): «ان المؤمن لا يلدغ منجحر مرتين». [210] .

ابوسفيان

وهو صخر بن حرب بن امية، وكان يعد من المانويين، احد اشراف قريش وعظمائها، كانت له منزلة رفيعة بسبب انتسابه الاسري، وقد تحولت له زعامة قريش وقيادتها بعد مقتل ابي‌جهل في معركة بدر، وكان قائدا لقريش في جميع حروبها مع المسلمين، وقد تزوجت ابنته ام حبيبة من رسول اللّه (ص) بعد وفاة زوجها عبيداللّه بن جحش، وكان ابو سفيان من اعداء الرسول (ص) حين كان في مكة وبعد الهجرة الي المدينة، وكثيرا ما كان يشترك مع الجماعات المعادية للرسول (ص)، بل‌كان عنصرا مهما فيها، ويبدو انه كان عدوا عاقلا اذ لم يشترك في ايذاء الرسول وتعذيب المسلمين. لقد اسلم ابو سفيان في فتح مكة، وقال الرسول (ص): «من دخل بيت ابي سفيان فهو آمن». وقد اعط‌ي مع ابنائه اسهما مهمة من الغنائم التي حصل‌عليها المسلمون بعد فتح مكة، ويدل هذا علي ان عداءه لرسول اللّه (ص) لم يكن شديدا بالدرجة التي تثير غضب الرسول كثيرا.

ابولهب

وهو من الد اعداء الرسول (ص)، وكانت لابي لهب مكانة خاصة، فهو من بني هاشم وعم الرسول الاكرم (ص)، ولم يعرف السر في هذا العداء المستفحل الذي كان يظهره ابولهب ازاء الرسول (ص) ودعوته المباركة. لقد بلغ عداء ابي لهب واذيته لرسول اللّه (ص) الي الحد الذي نزلت معه سورة من القرآن الكريم في ذمه وتقريعه، وذكر فيها اسمه صراحة، في وقت لم يذكر فيه القرآن الكريم اسماء الاشخاص الا قليلا. كان ينبغي لابي لهب ان يقف موقف المدافع والمحامي عن رسول اللّه (ص) كباقي اعمامه، طبقا للاعراف العائلية والقبلية، او علي اقل تقدير لا يصل به العداء الي تلك الدرجة المناقضة للاعراف العربية حتي مع عدم قبوله الاسلام. كان منزل الرسول (ص) بين منزل ابي لهب ومنزل عقبة بن ابي المعيط، العدو الاخر لرسول اللّه (ص)، وكان الاثنان يرميان الاوساخ والقذارات في بيت النبي (ص). [211] روي البلاذري رواية [212] يعتقد انها تكشف‌عن السبب الحقيقي وراء معارضة ابي لهب لرسول اللّه (ص) قال: «كان ابو لهب احد الذين يؤذون رسول اللّه (ص)، ووقع بينه وبين ابي طالب كلام فصرعه ابو لهب، وقعد علي صدره، وجعل يضرب وجهه، فلما رآه رسول اللّه (ص) لم يتمالك ان اخذ بضبعي ابي لهب، فضرب به الارض، وقعد ابوطالب‌علي صدره، فجعل يضرب وجهه، فقال ابو لهب للنبي (ص): هو عمك وانا عمك، فلم فعلت هذا في؟ واللّه لا يحبك قلبي ابدا».

كيفية الدعوة

اشاره

ما هي الطريقة التي كان يتبعها الرسول (ص) في الدعوة الي‌الاسلام والتبشير بالدين الجديد؟ تقول الروايات: ان دعوته (ص) كانت سرية في بداية الامر، وخلال تلك الفترة آمن بعض ابناء قومه، وقد مرت الاشارة الي ذكر عدد من اسمائهم، وكان اكثر هؤلاء من شباب قريش او الضعفاء والمستضعفين، او اولئك الذي لا سند لهم في قريش، وقد امتدت فترة الدعوة السرية طبقا للرواية التي اوردها ابن سعد ثلاث [213] سنوات. وفي رواية اخري عن سعيد بن‌زيد بن نفيل يقول: «استخفينا بالاسلام سنة لا نصلي الا في‌بيت مغلق او شعب خال، ينظر بعضنا لبعض». وليس ثمة تناقض بين الروايتين، اذ يمكن ان يكون سعيد بن زيد قد آمن قبل سنة من اعلان الدعوة الاسلامية، ويبدو ان الدار المغلقة التي تحدثت عنها رواية سعيد بن زيد هي دارالارقم بن ابي الارقم التي كانت بمثابة مركز الرسول (ص) الاعلامي في عرفنا الحالي، فبعد ان آمن الارقم وكان سابع رجل في الاسلام كما ينقل هو وضع داره في خدمة الرسول (ص) واصحابه، وفي تصرفهم، وفي هذه الدار اسلم كثير من القوم حتي اصبح يؤرخ لها الدار، فيقال: اسلم فلان في دار الارقم، بينما اسلم فلان الاخر بعد خروج الرسول (ص) من هذه الدار. وتقع هذه الدار علي جبل الصفا، وقد دعيت دار الاسلام، وبعد اسلام عمر بن الخطاب في هذه الدار تجرا المسلمون فخرجوا منها مكبرين متجهين نحو الكعبة للطواف. وقد اوقف الارقم داره علي ولده، فلم تزل هكذا حتي زعم الخليفة العباسي ابوجعفر المنصور انه اشتراها من ورثتها. [214] .

فاصدع بما تؤمر

لا يمكن لحالة السرية والتخفي ان تستمر الي الابد، فلقد جاء الاسلام للناس كافة، فلا بد من اظهاره والجهر بالدعوة اليه ان عاجلا او آجلا، لكن الرسول (ص) كان يتردد في اعلان الدعوة في البداية كما يستشف من الايات القرآنية، لضيق صدره وعدم ارتياحه لافعال قومه وما قابلوه به من اذية واستهزاء وصدود حتي نزل قوله تعالي: (فاصدع بما تؤمروا عرض عن المشركين، انا كفيناك المستهزئين، الذين يجعلون مع اللّه الها آخر فسوف يعلمون) «الحجر: 94- 96».

و انذر عشيرتك الاقربين

قلنا ان اكثر المؤمنين الاوائل كانوا من الشباب والضعفاء، وكان الرسول (ص) لم يظهر دعوته بعد لاشراف قريش وللاسر التي تملك زمام الحل والعقد في مكة، وكان لا بد لهذا الامر ان يحصل ان عاجلا او آجلا حتي نزلت الاية الشريفة: (وانذرعشيرتك الاقربين) «الشعراء: 214» والايات التي تليها. وكان ذلك طبقا لما جاء في طبقات ابن سعد تكليفا باهضا لرسول اللّه (ص). يقول ابن سعد لما انزلت الاية: (وانذر عشيرتك الاقربين) غضبت قريش، واظهروا لرسول اللّه (ص) الحسد والبغي، واشخص به منهم رجال [215] فان الرسول (ص) كان علي علم بعصبية اشراف مكة وشدة تمسكهم بالتقاليد والاعراف المبنية علي الشرك وعبادة الاصنام، اضافة الي ذلك كانت هناك العصبيات الاسرية والقبلية، وكذلك التفاخر بالجاه والمقام والثروة والقوة التي كانت من المعايير المهمة في المجتمع الجاهلي، كل ذلك كان يمنع من ان تسمع الاسر ذات الثروة والقوة والجاه، امثال بني مخزوم وبني سهم وبني امية، الي رجل من بني هاشم وتطيعه. اذ يبدو ان بني هاشم رغم ما كانوا عليه من شرف النسب، كانوا يفتقدون الي الثراء الذي كان لدي بطون قريش الاخري، وكان زعيمهم ابوطالب يعيش وضعا اقتصاديا خانقا، ويتضح هذا المعني من الايات الشريفة التي انزلت بعد ظهور معارضة قريش واشرافها للدعوة الاسلامية، وسنشير الي ذلك في اثناء البحث. (وما ارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به كافرون، وقالوا نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين) «سبا: 34 - 35». بناء علي ما يظهر من الروايات المختلفة فان الرسول (ص) كان قد دعا اشراف قريش وحدثهم عن رسالته، ويقال انه لم يتعرض (ص) الي رد عنيف، رغم ان احدا منهم لم يقبل دعوته، هذا باستثناء ابي لهب الذي خاطب بني هاشم قائلا: «يابني عبد المطلب، هذه واللّه لسوءة، خذوا علي يديه قبل ان ياخذ علي يده غيركم، فان اسلمتموه حينئذ ذللتم، وان منعتموه قتلتم». فقال ابو طالب: «واللّه لنمنعنه ما بقينا».

بداية معارضة قريش

اشاره

يقول ابن اسحاق: لما بادي رسول اللّه (ص) قومه بالاسلام، وصدع به كما امره اللّه، لم يبعد عنه قومه ولم يردوا عليه حتي ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك اعظموه وناكروه واجمعواعلي خلافه وعداوته الا من عصم اللّه تعالي منهمبالاسلام، وهم قليل مستخفون. [216] .وجاء في رواية الزهري: دعا رسول اللّه (ص) الي الاسلام سرا وجهرا، فاستجاب له من شاء من احداث الرجال وضعفاء الناس حتي كثر من آمن به، وكفار قريش غير منكرين لما يقول، فكان اذا مر عليهم في مجالسهم يشيرون اليه ان غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء، فكان ذلك حتي عاب اللّه آلهتهم التي يعبدونها دونه، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتواعلي الكفر، فشنفوا لرسول اللّه (ص) عند ذلك وعادوه. [217] .

السبب الحقيقي لمعارضة قريش

لا سبيل لانكار ما للمعتقدات الدينية وتقديس الاباء والمحافظة علي آثارهم من جذور عميقة في نفوس البشر، فليس من السهل محاربتها او القضاء عليها، بل قد يؤدي ذلك‌عادة الي العداوة والبغضاء والاستفزاز، ولكن استقراء اوضاع المجتمع العربي في الجاهلية بصورة عامة، وقريش او مجتمع مكة بصورة خاصة، لا يكشف عن مشاعر دينية قوية ومتطرفة لدي عرب الجاهلية، وقد نقلنا مثلا علي ذلك عن (الاصنام للكلبي) حيث كثيرا ما كان يتعرض آلهة العرب واصنامهم الي الاهانة والشتم من قبل عبادهم عندما لا يجدون فيهم ما يلبي حاجاتهم ويحقق طموحاتهم، اذ لا يمكن ان يشتد تمسك امة ما بالعامل الديني في وقت ينشا فيه ابناؤها علي السطو والاغارة والنهب والسلب، خصوصا ان اكثر العرب كانوا لا يؤمنون بيوم الحساب والبعث، وهناك العديد من الايات الشريفة التي تحدثت عن رفض اهل مكة الايمان بيوم الحساب واستهزائهم بالنشور والبعث بعد الموت، وكانوا يكررون القول المعروف: كيف يحيي العظام وهي رميم؟!. وبناء علي هذا فان ادعاء قريش بان اسباب محاربتها للرسول (ص) انما تكمن في سبه لابائهم واجدادهم وتسفيهه لالهتهم، لا يمكن ان يكون ادعاء صحيحا، بل لا بد من وجود اسباب حقيقية لا علاقة لها بالدين والمعتقدات، كان لها الدور الاكبر في دفع قريش لذلك الموقف العدائي من الرسول (ص) ورسالته، ويبدو ان الخوف علي موقع مكة التجاري من التصدع، والحرص علي ما حصلت عليه هذه المدينة من شهرة وحرمة، حيث تم اعلانها مدينة امن وحرما آمنا يمارس فيه تجار قريش واهل الثروة نشاطهم بكل حرية واطمئنان. يبدو ان التخوف من ضياع هذه المكاسب كان اهم سبب دفع اشراف قريش لذلك الموقف العدائي المتصلب من الدعوة الاسلامية، رغم انهم كانوا يتذرعون بحجج اخري في مقدمتها الحفاظ علي سنة الاباء، والدفاع عن تراثهم وامجادهم، والدليل علي ذلك الاية القرآنية الشريفة (57) من سورة القصص: (وقالوا ان نتبع الهدي معك نتخطف من ارضنا اولم نمكن لهم حرما آمنا يجبي اليه ثمرات كل شي‌ء رزقا من لدنا ولكن اكثرهم لا يعلمون). اذا كان اهل مكة طبقا للقرآن الكريم يخافون ان دخلوا في الاسلام ان يخرجوا من ارضهم، وقد فسر المفسرون (نتخطف من ارضنا) ان العرب سيهجمون علي مكة ويخرجوا منها اهلها اذا ما اسلموا ودخلوا في الدين الجديد، ويمكن ان يكون للاية معني آخر يتلخص في ان مكة ستفقد مكانتها الخاصة وتزول امتيازاتها في حالة اسلام قريش واهل الجزيرة العربية، لهذا اجابهم القرآن الكريم بقوله: (اولم نمكن لهم حرما آمنا يجبي اليه ثمرات كل شي‌ء) وان هذا الوضع سيستمر ويدوم. وتاتي الاية التالية من سورة القصص لتوضح اسباب انهيار المدن وتدهورها اذ تقول: (وكم اهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الا قليلا وكنا نحن الوارثين) ثم يردف القرآن الكريم قائلا: (وما كان ربك مهلك القري حتي يبعث في امها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القري الا واهلها ظالمون) ويضيف: (وما اوتيتم من شي‌ء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند اللّه خير وابقي افلا تعقلون) «القصص: 58- 60». لقد صرحت الايات القرآنية الكريمة السابقة بان قريش كانت تخشي علي مكانتها من ان تتدهور، وتخاف علي مركز مدينتها (مكة) التجاري والديني ان يتزلزل فيما اذا تابعت الرسول (ص) وآمنت بدعوته.

الانذار

كانت الايات القرآنية المكية، التي تركز غالبا علي دعوة قريش للدخول في الدين الجديد تقرن دعوتها هذه بالانذار والوعيد، وكانت تدعو رسول اللّه (ص) ب (النذير) او ال (منذر) واحيانا (البشير)، وهناك آيات اطلقت عليه التسميتين في آن واحد، مثال ذلك الاية (188) من سورة الاعراف: (ان انا الا نذير وبشير لقوم يؤمنون)، وفي الاية الثانية من سورة هود: (الا تعبدوا الا اللّه انني لكن منه نذير وبشير) اما الاية الثانية من سورة يونس فتقول: (اكان للناس عجبا ان اوحينا الي رجل منهم ان انذر الناس وبشر الذين آمنوا). والان لنعرف ما هو الانذار، وما هو الشي‌ء الذي يحذر القرآن الكريم منه ويتوعد اهل قريش به؟ الذي يبدو من استقراء الايات الشريفة، التي ورد فيها هذا الانذار والوعيد بصوره وكيفياته المتنوعة، ان المقصود هو يوم الحساب واقتراب الساعة وحين يحشر الناس يوم القيامة فيصب اللّه عليهم عذاب الاخرة الذي ما فتي يحذرهم منه، والحقيقة ان افضل شي‌ء يمكنه ردع كفار قريش عن عبادة الاصنام والشرك باللّه والقتل والغزو والفسق انما هو تحذيرهم من العذاب، ومن العواقب الوخيمة التي تنتظرهم عما قريب، وبالعكس تبشير المؤمنين والصالحين بالثواب الجزيل والاجر العظيم بعد الموت. والافما هو السبيل لارشاد هؤلاء الي طريق الخير وردعهم عن‌سبل الشر؟ [218] .لم تعرف مكة، بل والعرب جميعا، في قيمهم الاخلاقية شيئا (حسن) مطلقا وآخر (قبيح) مطلقا، فلا معني، والحالة هذه، لان يقال لاهل مكة يجب اجتناب الظلم او الكذب او الغزو او ما شابه ذلك، لانها اعمال قبيحة في ذاتها. [219] علما ان معاني الخير والشر فطرية مغروسة في ذات الانسان، فالكذب والسرقة وقتل النفس والتعدي علي حقوق الاخرين كلها مسائل ترفضها الفطرة السليمة وتدينها، اما لماذا يجب الامتناع‌عن هذه الافعال السيئة مع امتلاك القدرة علي فعلها، وعدم الخوف من العقوبة والقصاص؟ الم يكن امتلاك القدرة البدنية والاستطاعة المالية دليلا علي الشرف وعلو الدرجة؟ الم تكن مفاخر العرب جميعا قد تحققت في ظل السيف؟ الم يذهب دم المقتول، الذي ليس له عشيرة تمنعه، هدرا، وهل يلام القاتل او يعاقب في مثل هذه الحالة؟ بعد ان كان بناء الحياة الاجتماعية قائما علي اسباب القوة الشخصية والقبلية، وفي ظل هذه القوة يمكن القيام باي عمل حتي لو كان من الاعمال التي لا تقبلها الفطرة ولا يقرها الوجدان، اذا ليس هناك من رادع يمكن ان يردع الظالمين من اهل مكة والعرب في شبه الجزيرة العربية سوي اخبارهم وانذارهم بان هناك قوة عليا فوق قوتهم ستعيد للضعيف والمظلوم حقه. وبناء علي هذا فان ابراز القوة العظمي والقدرة الكبري امام الظالمين والمتجاوزين سيسلبهم الجراة ويردعهم عن التجاوز والتعدي علي حقوق الاخرين، وتتجلي تلك القدرة الالهية من خلال تعذيب المعاندين والمسيئين وتكريم الصالحين وتبشيرهم باحسن الثواب وافضل الجزاء يوم القيامة وعند قيام الساعة بعد الموت. ومن هنا فقد بدا الدين الجديد دعوته في مكة بتهديد الظالمين بعذاب جهنم وتبشير الصالحين المخلصين بالجنة وحسن الثواب، وقد جاءت الايات المكية مشحونة بالوعد والوعيد من جانب وبالبشري والجنة ونعيمها من جانب آخر، ولهذا كان كفار مكة يسخرون كثيرا من التذكير بالبعث والنشور وما يجد الانسان بعد الموت من الجنة او النار، وكانوا يهزاون بذلك كما تشير آيات مكية عديدة ويكررون القول: كيف يحيي العظام وهي رميم؟! (وقالوا ءاذا كنا عظاما ورفاتا ءانا لمبعوثون خلقا جديدا) «الاسراء: 49». فيجيبهم الوحي القرآني بقوله: (قل كونوا حجارة او حديدا، او خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم اول مرة فسينغضون اليك رؤوسهم ويقولون متي هو قل عسي ان يكون قريبا) «الاسراء: 50- 51». ونظير هذه الاسئلة والاجوبة كثير في القرآن الكريم، حيث تنبي كثرة التهديد والوعيد بقيام الساعة عن الحاح الكفار في السؤال عن موعد هذا اليوم ومتي ستحل تلك الساعة التي يحذرون منها. وتجدر الاشارة هنا الي ان اخبار القرآن الكريم عن قرب‌الساعة ودنو الاجل لا يعني القرب والبعد الزماني الذي يتبادر للاذهان، فعمر الانسان لا يعني شيئا بالنسبة الي عظمة الخلق وعمر العالم المادي. واذا ما تحدث القرآن عن قرب الساعة واقتراب اليوم الموعود، فان المراد القرب والبعد المقارنان بالزمان ككل وبعمر العالم اجمع، والساعة هذه، اي الموعد الذي تنتهي عنده الدنيا، قريبة جدا في نظر الصانع جل شانه، وان كانت تبدو بعيدة جدا، بل غير قابلة للتصور، بالنسبة الي الانسان الترابي الذي يعيش علي هذا الكوكب البسيط المحدود. وبناء علي هذا فان التهديد بقرب الساعة وانشقاق القمر وانتشارالنجوم واندكاك الارض، لا يقصد بها المعني النسبي الذي هو قريب جدا اذا ما قيس بعمر العالم، وبعيد جدا بالنسبة الي الاعمار العادية المحدودة.

الاستهزاء

لقد قابلت قريش تهديدات الرسول (ص) وتحذيراته اياها بالاستهزاء والاستخفاف، وهذا ما اشارت اليه بعض الايات القرآنية الكريمة: (واذا رآك الذين كفروا ان يتخذونك الاهزوا...) «الانبياء: 36» (واذا راوك ان يتخذونك الا هزوا اهذا الذي بعث اللّه رسولا) «الفرقان: 41» (ذلكم بانكم اتخذتم آيات اللّه هزوا) «الجاثية: 35».

رد فعل قريش

لقد ضاقت قريش ذرعا بالدعوة الاسلامية ولم تستطع احتمالها، لخوفها من زوال مركزها وضياع ما حصلت عليه مدينتها (مكة) من موقع تجاري وديني خاصين، او لانهاشعرت باستفزاز صارخ لمشاعرها الدينية، او بسبب الحسد والخصومات القبلية والتعصب العشائري، وقد ازدادوا خوفا واضطرابا عندما لاحظوا تزايد اعداد الضعفاء والمستضعفين الذين اخذوا يعتنقون الدين الجديد. فعكفوا يبحثون عن طريقة للحل، ولم يكن من السهل الحاق الاذي والاضطهاد بشخص ذي عشيرة قوية ضمن النظام القبلي الذي كان سائدا آنذاك، وكان مثل هذا العمل يتطلب مشورة وعونا من اشراف القوم واهل الراي فيهم، والا فسيهب قوم ذلك الرجل لنصرته والاقتصاص من خصمه، وقد يؤدي الامر الي نزاع دموي لايعلم احد مداه. وتبدو المسالة في مكة اكثر تعقيدا، حيث تتجاور بطون قريش‌المختلفة هناك، ويحتك بعضها ببعض يوميا، فلا مجال لهرب شخص او اختفائه اذا ما ارتكب جرما معينا، فالخائف عندما يفر يلجا الي قبيلة نائية تسكن في الصحراء بعيدا عن موطنه الاصلي، وفي مثل هذه الحالة تطول المدة حتي تتهيا القبيلة التي كان قد اعتدي عليها وتصل الي ملجئه وملاذه عند القبيلة المجيرة، وهذا ما كانت تفتقد اليه مكة المكتظة ببطون قريش المختلفة والتي تتجاور في مساكنها. فاي نزاع يمكن ان يؤدي الي اشتعال النار في المدينة باكملها ويورث خصومة دائمة، ومثل هذا الوضع كانت تعيشه يثرب هي الاخري، اضافة الي ذلك كانت الاحلاف، كحلف المطلبين وحلف الفضول، تنقل النزاع من دائرة القبيلتين المتنازعتين الي دائرة اوسع، هي دائرة الاحلاف او القبائل العديدة المتحالفة فيما بينها التي تشهر كل منها سيفها للدفاع عن الجماعة المتحالفة معها ضد الجماعة الاخري داخل الحلف الاخر، وحين اعلن الرسول (ص) دعوته وافصح عن انتقاده وذمه لاشراف قريش واسلافها وما جروا عليه من سنن الضلال والغي، وهاجم (ص) اصنامهم وتقاليدهم الجاهلية، وسفه احلامهم وآلهتهم واعتقاداتهم، وقفت قريش قلقة علي مصيرها، تحاول جاهدة دفع الخطر عن نفسها، ولكنها لم تستطع للاسباب السابقة الانفراد برسول اللّه (ص) والحاق الاذي به، فذهبت مضطرة الي بني هاشم تعرض الامر عليهم وتطالبهم باقناع الرسول (ص) بالكف عن سب آبائهم ومهاجمة عقائدهم والا فسيستعينوا بهم اي ببني هاشم علي ايذائه وطرده او حتي قتله والخلاص منه، وكانت زعامة بني هاشم منعقدة آنذاك لابي طالب، وقد لمع في بني هاشم ثلاث شخصيات مرموقة، وهم فيما عدا الرسول (ص) ابوطالب وابولهب وحمزة، وكان ابو طالب اكثرهم وقارا وهيبة لكبر سنه، غير انه كان فقير الحال في حين كان ابو لهب علي قدر كبير من الثراء، بشهادة القرآن الكريم: (ما اغني عنه ماله وما كسب) «المسد: 2»، وكان بعرف المقاييس الجاهلية من اجلة القوم واشرافهم. اما زوجته ام جميل فكانت من عائلة بني امية ذات القوة والنفوذ، وامتاز حمزة بشجاعة خاصة جعلت الجميع يهابونه ويقدرونه، رغم انه كان بعيدا علي ما يبدو عن الشؤون السياسية والاجتماعية لمدينته، حيث كان يقضي اكثر اوقاته بالصيد ولم يعر في البداية اهتماما خاصا لابن اخيه ورسالته. لقد ناصب ابولهب رسول اللّه (ص) العداء منذ البداية، واعلن حربه علي الدعوة الاسلامية منذ اللحظات الاولي، وبناء علي هذا كان ابو طالب هو الرجل الوحيد من بني هاشم الذي كان بامكانه توفير الحماية لرسول اللّه (ص)، او تركه بيد المعارضين والتخلي عنه. لقد اختار ابوطالب الموقف الاول، ووقف بكل شهامة الي جانب ابن اخيه، الامر الذي جعل اشراف قريش يرجعون اليه في امر محمد (ص) ويجلسون معه للتحدث بهذا الشان، حيث قائلين: «يا ابا طالب، ان ابن اخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه احلامنا، وضلل آباءنا، فاما ان تكفه عنا، واما ان تخلي بيننا وبينه، فانك علي مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه». فقال لهم ابوطالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه، ومضي رسول اللّه (ص) علي ما هو عليه يظهر دين اللّه ويدعو اليه. ثم شري الامر بينه وبينهم حتي تباعد الرجال وتضاغنوا، واكثرت قريش ذكر رسول اللّه (ص) بينها وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه، ثم انهم مشوا الي ابي طالب مرة اخري، فقالوا: «يا ابا طالب، ان لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وانا قد استنهيناك من ابن اخيك فلم تنهه عنا، وانا واللّه لا نصبر علي هذا من شتم آبائنا وتسفيه احلامنا وعيب آلهتنا حتي تكفه عنا، او ننازله واياك في ذلك حتي يهلك احد الفريقين»، ثم انصرفوا عنه. فعظم علي ابي طالب فراق قومه وعداوتهم له، ولم يطب نفسا باسلام رسول اللّه (ص) لهم ولا خذلانه. وقدت [220] كرر هذا الجدل وتلك المناظرات مرات‌ومرات، يذكرها الطبري في تاريخه في الموضع السابق، الي‌الحد الذي طلب معه ابوطالب الي ابن اخيه ان يلاحظ حاله وما هو عليه من الحرج، قائلا له: «يا ابن اخي، ان قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فابق علي وعلي نفسك، ولاتحملني من الامر ما لا اطيق». فظن رسول اللّه (ص) انه بدالعمه فيه بداء، وانه خاذله ومسلمه، وانه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. فقال رسول اللّه (ص): «يا عماه، واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي ان اترك هذا الامر حتي يظهره اللّه او اهلك فيه ما تركته». ثم استعبر رسول اللّه (ص) فبكي، ثم قام، فلما ذهب ناداه ابوطالب، فقال: «اقبل يا ابن اخي». فاقبل عليه رسول اللّه (ص) فقال: «اذهب يا ابن اخي فقل ما احببت، فواللّه لا اسلمك لشي‌ء ابدا». ثم ان قريشا لما عرفت ان اباطالب ابي خذلان رسول اللّه (ص) واسلامه، واجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم مشوااليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: «يا اباطالب، هذا عمارة بن الوليد انهر فتي في قريش واشعره واجمله، فخذه فلك عقله ونصرته، واتخذه ولدا فهو لك، واسلم لنا ابن اخيك، هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه احلامهم، فنقتله، فانما رجل كرجل». فقال: «واللّه لبئس ما تسومونني، اتعطوني ابنكم اغذوه لكم، واعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا واللّه ما لا يكون ابدا». فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: «واللّه يا اباطالب، لقد انصفك قومك، وجهدوا علي التخلص مما تكرهه، فما اراك تريد ان تقبل منهم شيئا». فقال ابوطالب للمطعم: «واللّه ما انصفوني، ولكنك قد اجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك». فحقب الامر عند ذلك، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادي‌ء بعضهم بعضا، ثم ان قريشا تذامروا علي من في القبائل من اصحاب رسول اللّه (ص) الذين اسلموا معه، فوثبت كل قبيلة علي من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع اللّه رسوله (ص) منهم بعمه ابي طالب، فقد قام ابو طالب حين راي قريشا تصنع ما تصنع في بني هاشم، فدعاهم الي الزود عن رسول اللّه (ص) والقيام دونه، فاجتمعوا اليه وقاموا معه، واجابوه الي ما دعاهم اليه من الدفاع عن رسول اللّه (ص) الا ما كان من ابي لهب، فلما راي ابوطالب من قومه ما سره من وقوفهم معه وحدبهم عليه، جعل يمدحهم ويذكر فضل رسول اللّه (ص) فيهم ومكانه منهم ليشد لهم رايهم. [221] .

رواية عروة بن الزبير

هناك رواية لعروة بن الزبير الذي يعتقد انه اقدم مدون لسيرة الرسول (ص)، ينقلها الطبري في تاريخه، [222] قال عروة في رسالة بعثها الي عبد الملك بن مروان حول سيرة الرسول (ص): «اما بعد، فانه (يعني رسول اللّه (ص) لما دعا قومه، لما بعثه اللّه له من الهدي والنور الذي انزل عليه، لم يبعدوا منه اول ما دعاهم وكادوا يسمعون له، حتي ذكر طواغيتهم، وقدم ناس من الطائف من قريش لهم اموال انكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال، واغروا به من اطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس فتركوه الي من حفظه اللّه منهم وهم قليل، فمكث بذلك ما قدر اللّه ان يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بان يفتنوا من تبعه عن دين اللّه من ابنائهم واخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال علي من اتبع رسول اللّه (ص) من اهل الاسلام، فافتتن من افتتن، وعصم اللّه منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين امرهم رسول اللّه (ص) ان يخرجوا الي ارض الحبشة». وسياتي الحديث عن بقية الرواية في قصة الهجرة الي الحبشة، غير ان الذي نراه مهما هنا هو ذلك المقطع من الرواية الذي يقول: «حتي ذكر طواغيتهم، وقدم ناس من الطائف من قريش لهم اموال، انكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال، واغروا به من اطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس». تشير هذه الرواية الي ان اثرياء قريش وتجارها الذين لم تذكر الرواية اسماءهم كانوا يوظفون اموالهم ويستثمرونها في اعمال تجارية في الطائف، ويعتقد ان هؤلاء التجار كانوا اثري اهل مكة. والمقطع الاخر من الرواية الذي يؤكد عدم ارتياح هؤلاء لدعوة الرسول (ص)، وخوفهم من تفرق الناس عنهم، وذهاب مكانتهم، وتزلزل موقعهم، بتحول عامة الناس الي الرسول (ص) وانجذابها الي حديثه وحسن خطابه، وفيما لو انتشرت هذه الدعوة واشتد عودها وقويت شوكة الدين الجديد فلن يكون بمقدورهم بعد هذا استغلال المستضعفين. ويؤيد هذا المقطع من رواية عروة الكلام الذي سقناه في الاستدلال بالايات القرآنية الشريفة وبموجب ذلك قال الكفار (ان نتبع الهدي معك نتخطف من ارضنا).

قريش تناظر و تطلب الدلائل و المعجزات

تصور الايات (90- 96) من سورة الاسراء قصة حوار قريش وعنادها ومناظراتها مع رسول اللّه (ص): (وقالوا لن نؤمن لك حتي تفجر لنا من الارض ينبوعا، او تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا، او تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا او تاتي باللّه والملائكة قبيلا، او يكون لك بيت من زخرف او ترقي في السماء ولن نؤمن لرقيك حتي تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا، وما منع الناس ان يؤمنوا اذ جاءهم الهدي الا ان قالوا ابعث اللّه بشرا رسولا، قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا، قل كفي باللّه شهيدا بيني وبينكم انه كان بعباده خبيرا بصيرا). وقد كان جوابا منطقيا... (هل كنت الا بشرا رسولا..) ولو (كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) اي ينبغي ان يكون الرسل من جنس من ارسلوا اليهم المرسل اليهم، ولو ان اللّه ارسل للكافرين ملائكة لقالوا لا نؤمن لهؤلاء الملائكة حتي يرسل لنا اللّه بشرا مثلنا. وعلي اية حال فان جواب الرسول عن حقيقة ان الانبياء والرسل يرجعون الي عقول الناس ووجدانهم في تمييز العالم من الجاهل والمسي‌ء من المحسن، والا لن يكون هناك اي معني للاختبار والامتحان اذا كانت الامور كلها تجري بالايات والمعجزات. ان طبيعة الانسان تقتضي انذاره وتحذيره، فان استجاب لهذا التحذير وانتصر علي هواه ونزعاته الذاتية، فسيكون قد اثبت انسانيته وكتب له الفوز والنجاح في هذا الامتحان، والافالعلامات والمعجزات لا تتوافق مع الامتحان والابتلاء. وعلي كل حال، فكما ان عقل الانسان وضميره بمثابة الرسول والمبعوث الالهي الذي اودعه اللّه داخل النفس الانسانية، كذلك الانبياء والرسل ما هم الا بمثابة وجدان اخلاقي علي مستوي المجتمع والامة، فان غلب العقل الفردي وهزم امام الهوي والنزعات النفسية، فسيكون من وظيفة العقل الاجتماعي، الذي هو الرسول، تنبيهه وايقاظه من غفلته، وذلك بارشاده الي الصواب، وتحذيره من الركون الي هوي النفس ووساوسها الشيطانية، ولو استجاب قوم عاد وثمود وصالح ولوط الذين ذكرهم القرآن الكريم لدعوة انبياء اللّه ورسله لما هلكوا، فارسال الرياح وتسخير العواصف وانزال المطر ورميهم بالحجارة واخذهم بالطوفان والسيول وتدمير منازلهم، كل ذلك لا يراد به المعاني الحرفية التي تحمل عادة علي انها آفات وكوارث دنيوية، بل المراد بها والحاق المفاسد والمهالك بالمجتمع نتيجة عدم استجابة هؤلاء الاقوام لنداء العقل والوجدان الذي هتف به انبياء اللّه ورسله، وقد وردت في القرآن الكريم امثلة كثيرة علي ذلك، كما ان هناك آلاف الادلة التاريخية التي تثبت هذا المعني.

ذيل رواية عروة بن الزبير

كتب عروة في رسالته الي الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان يقول: «ائتمرت رؤوسهم بان يفتنوا من تبعه عن دين اللّه من ابنائهم واخوانهم وقبائلهم.. فلما فعل ذلك بالمسلمين امرهم رسول اللّه (ص) ان يخرجوا الي ارض الحبشة، وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم احد بارضه، وكان يثني عليه مع ذلك صلاح، وكانت ارض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغا من الرزق وامنا ومتجرا حسنا، فامرهم بها رسول اللّه (ص)، فذهب اليها عامتهم لما قهروا بمكة وخاف عليهم الفتن، فمكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات يشتدون علي من اسلم منهم، ثم فشا الاسلام فيها، ودخل فيها رجال من اشرافهم».

الهجرة الي الحبشة و اسبابها

اشاره

يتضح من رواية عروة بن الزبير، التي تتجلي فيها آثار الاصالة، ان كفار قريش كانوا قد عقدوا العزم علي ان يثنوا المسلمين عن اسلامهم ويردوهم الي دين آبائهم باي شكل من الاشكال، وقد سلكوا السلوك نفسه الذي سلكه ابوجهل. قال ابن هشام في سيرته: [223] «كان ابو جهل الفاسق‌الذي يغري بهم في رجال قريش، اذا سمع بالرجل قد اسلم، وله شرف ومنعة، انبه واخزاه، وقال: تركت دين ابيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفيلن رايك، ولنضعن شرفك، وان كان تاجرا قال: واللّه لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك، وان كان ضعيفا ضربه واغري به»، وبذلك اضطر الرسول (ص) الي ان يامر بعضا من اتباعه بالهجرة الي الحبشة لينجوا من اذي قريش، ويكونوا في مامن من ذلك. يطرح مونتغمري وات في كتابه (محمد في مكة) آراء ل (كايتاني) وآخرين غيره حول هجرة المسلمين الي الحبشة، احد هذه الاراء ما ينقله (وات) عن (كايتاني) من ان: السبب الاول لعدم قبول الهجرتين ان ابن اسحاق، كما يقول ابن هشام والطبري، لا يقول صراحة بوجود هجرتين. فهو يقول: وكان اول من خرج من المسلمين. ثم يذكر قائمة صغيرة ويردف قائلا: ثم خرج جعفر بن ابي طالب وتتابع المسلمون. لانلاحظ ذكر اي جماعة عادت لتهاجر من جديد مرة ثانية، ونلاحظ من ناحية ثانية ان القوائم لا تتبع نظام الرحيل الي الحبشة، بل تتبع تنظيما يقوم علي المكانة، حيث نجد ذكر الاسم حسب سجل الخلافة الذي اخذت منه، نقرا فيها ان اول من وصل الي الحبشة هو (ابو سبرة) وان (عمر بن سعيد بن العاص) هاجر بعد سنتين من هجرة اخيه خالد. تدل هذه الامثلة كما تدل كلمة «تتابع» انه لم يكن هناك جماعتان كبيرتان بل جماعات صغيرة. ويضيف وات انه بعد ان اصبحت الهجرة احد الامتيازات المهمة للحصول علي اعطيات اكثر، فقد كثر من ادعاها، يقول: «عدل الخليفة عمر في السنة 15 للهجرة النظام الذي كان المسلمون يتقاضون بموجبه اعطيات سنوية من بيت المال تقديرا لخدماتهم في القتال او في الادارة، وهذه الاعطيات تختلف باختلاف تاريخ اعتناق الاسلام، ذلك لان المسلمين الاوائل كانوا يتقاضون اكبر الاعطيات، وقد اصبحوا حسب النظام الجديد في ارفع الطبقات بعد زوجات الرسول واقربائه... وكل من برهن علي قيامه بهجرة او هجرتين ينال شرفا رفيعا يؤهله لاحتلال ارفع درجات النبل في الاسلام. ويضيف وات قائلا: قرر محمد في السنة السابعة للهجرة ان يقوي مركزه بالاعتماد علي تاييد الجماعة الصغيرة في الحبشة، فارسل اليهم رسولا يعدهم بالاستقبال الحار ويصحبهم في طريق العودة، فعادوا او عاد قسم منهم فاستقبلوا استقبالا حافلا، ونالوا جزءا من في‌ء خيبر التي استولي عليها محمدلتوه». ويتابع قائلا: ولربما اطلق لفظ الهجرة علي مغامرة الحبشة في هذا الوقت علي يد محمد نفسه اعترافا بموقف جعفر الكريم وصحبه، واصبح يحق لهم بسبب هجرتهم الي الحبشة ان يعاملوا كمهاجرين، وان يكونوا اندادا للذين اعطواهذا اللقب. [224] .غير انني لا اعتقد بصحة ذلك، لان سورة النحل وهي سورة مكية تقول: (والذين هاجروا في اللّه من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون) «النحل:41». ومعلوم ان الهجرة المشار اليها ليس الهجرة الي المدينة، وانما الهجرة الي الحبشة لان الاية مكية، (وقد اشير الي هذا المعني ايضا في تفسير الطبري، وبناء علي هذا فان السفر الي الحبشة قد اطلق عليه في مكة (الهجرة) وقد ذكر هذا المعني ايضا في القرآن الكريم). اما بشان الهجرتين الي الحبشة، فيجب القول ان هذا صحيح خلافا لما يري (كايتاني). يقول (كايتاني) و (وات): «ان هذا المعني لم يذكر صراحة في سيرة ابن هشام»، بمعني ان محمد بن اسحاق لم يذكره، لكنهما كانا لا يملكان طبعة القرويين (سيرة محمد بن اسحاق). وقد لخص ابن هشام السيرة المذكورة وحررها طبقا لرواية زياد بن عبداللّه البهائي، اما نسخة القرويين فكانت طبقا لرواية يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق، كما ان رواية الطبري لسيرة محمد بن اسحاق كانت بطريق (ابن حميد وسلمة). جاء في سيرة محمد بن اسحاق برواية يونس (نسخة القرويين) عند ذكره لاسماء من هاجر الي الحبشة: «وكان ممن هاجر من مكة الي ارض الحبشة قبل هجرة جعفر واصحابه..». ويتضح من العبارة السابقة ان هناك مجموعتين مستقلتين هاجرتا الي الحبشة، كانت الثانية بقيادة جعفر بن ابي‌طالب. وجاء في سيرة ابن هشام بعد استعراضه لاسماء المهاجرين العشرة الاوائل قوله: «فكان هؤلاء العشرة اول من خرج من المسلمين الي ارض الحبشة فيما بلغني» ويضيف ابن هشام قائلا: «وكان عليهم عثمان بن مظعون فيما ذكر لي‌ب عض اهل العلم». ومن هنا يتضح ان هناك مجموعتين منفصلتين هاجرتا الي ارض الحبشة، كانت الاولي بقيادة عثمان بن مظعون، بينما اسندت قيادة المجموعة الثانية الي جعفر بن ابي طالب اخي اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (ع). وفضلا عن هذا، كان هناك من عاد من ارض الحبشة الي مكة بعد ان سمع الاخبار الكاذبة عن ايمان كفار قريش، ثم ما لبث ان رجع الي الحبشة حين اكتشف عدم صدق تلك الاخبار، وقد اطلق علي هذه العودة الهجرة الثانية. لكن التحقيق في الروايات يظهر ان المقصود بالهجرة الثانية انما هو هجرة مجموعة ثانية بقيادة جعفر بن ابي طالب وقد انضمت اليها تلك الجماعة العائدة، والدليل علي هذا ما رواه ابن‌سعد [225] عن ام خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، قالت: «كان ابي خامسا في الاسلام، قلت: فمن تقدمه؟ قالت:ابن ابي طالب، وابن ابي قحافة، وزيد بن حارثة، وسعد بن ابيوقاص، واسلم ابي قبل الهجرة الاولي الي ارض الحبشة، وهاجر في المرة الثانية، واقام فيها بضع عشرة سنة». وعند مراجعة سيرة ابن هشام لا نجد اسم خالد بن سعيد بين اسماء المهاجرين العشرة الاوائل في الهجرة الاولي بينماورد اسمه في قائمة اصحاب الهجرة الثانية. [226] .وورد اسم عثمان بن عفان مرتين: مرة مع المهاجرين في الهجرة الاولي، ومرة مع المهاجرين في الهجرة الثانية. وقد صرح ابن سعد في طبقاته [227] عند ذكره الهجرة الاولي، والهجرة الثانية قائلا: «لما قدم اصحاب النبي (ص) مكة من الهجرة الاولي اشتد عليهم قومهم، وسطت بهم عشائرهم، ولقوا منهم اذي شديدا، فاذن لهم رسول اللّه (ص) في الخروج الي ارض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الاخرة اعظمها مشقة»، ثم يقول: «قال عثمان بن عفان: يا رسول اللّه، هجرتنا الاولي وهذه الاخرة الي النجاشي، ولست معنا؟ فقال رسول اللّه (ص): انتم مهاجرون الي اللّه والي، لكم هاتان الهجرتان جميعا. قال عثمان: فحسبنا يا رسول اللّه». وقد سبقت الاشارة الي ان ابن هشام ذكر الهجرة الي الحبشة كما ذكر الاحداث الاخري بتلخيصه لسيرة ابن اسحاق، ولم يستطع اعطاء صورة كاملة عن الهجرة الي الحبشة واسماء المهاجرين في الهجرتين، كما ان نسخة القرويين ناقصة ايضافهي لا تحتوي علي تفاصيل الهجرتين، ولكننا نعلم من مصادر اخري ان ابن اسحاق ذكر الهجرتين بشكل صريح، فمن المحتمل جدا ان يكون المهاجرون في الهجرة الاولي هم العشرة الواردة اسماؤهم في قائمة ابن هشام، وكانوا طبقا لروايته بقيادة عثمان بن مظعون. اما القائمة الثانية الطويلة التي وردت في سيرة ابن هشام، فانها متضمنة اسماء المهاجرين في الهجرة الثانية الي ارض الحبشة، وقد كان عثمان بن مظعون، الذي قاد المهاجرين في الهجرة الاولي، حاضرا ايضا في الهجرة الثانية التي كانت بقيادة جعفر بن ابي طالب. اما المصدر الاخر الذي ينقل عن سيرة ابن اسحاق فهو طبقات ابن سعد، وبناء عليه فان ابن اسحاق اشار بشكل صريح الي الهجرة الاولي والثانية. يقول ابن سعد في ترجمة عبداللّه بن مسعود: [228] «هاجر عبداللّه بن مسعود الي‌ارض الحبشة الهجرتين جميعا في رواية ابي معشر ومحمدبن عمر، ولم يذكره محمد بن اسحاق في الهجرة الاولي، وذكره في الهجرة الثانية». وهكذا فانه لم يرد في سيرة ابن هشام اسم (المقداد بن عمر) او (المقداد بن الاسود) في قائمة العشرة ممن هاجروا الي ارض الحبشة، بينما ورد في القائمة الثانية الطويلة. وجاء في طبقات ابن سعد: [229] «هاجر المقداد الي ارض‌الحبشة الهجرة الثانية في رواية محمد بن اسحاق ومحمد بن‌عمر، ولم يذكره موسي بن عقبة ولا ابو معشر». وما ذلك الادليل علي ان نسخة سيرة محمد بن اسحاق كانت قد ذكرت (الهجرة الاولي) و (الهجرة الثانية) صراحة غير ان ابن هشام اسقطها في تلخيصه، او انه لم يصرح بها في روايته. علي اية حال فان (الهجرة الاولي) و (الهجرة الثانية) كانتا قدذكرتا منذ القدم حتي في رواية محمد بن اسحاق. يقول ابن سعد في ترجمته لعثمان بن مظعون: [230] «قالوا: وهاجر عثمان بن مظعون الي ارض الحبشة الهجرتين جميعا في رواية محمد بن اسحاق ومحمد بن عمر». ولا تعني كلمة (قالوا) التي وردت في الرواية ان ابن سعد سمع رواية محمد بن اسحاق او نقلها عن الاخرين، بل تعني ان القول قطعي ومحقق. فمن المسلم به ان ابن سعد كان قد سمع سيرة محمد بن اسحاق وكانت تحت يده. فقد روي ابن سعد سيرة محمد بن اسحاق عن طريق ابراهيم بن سعد بن ابراهيم الزهري. وبناء علي هذا، فان كلام مونتغمري وات [231] الذي يقول: «ونشعر من قراءة سيرة ابن اسحاق انه وجد، لبعض الوقت، قائمتان باسماء المهاجرين للحبشة، وانه هو نفسه لم يكن واثقا من صحة القائمتين». وقد راينا نحن عن طريق رواية محمد بن سعد كاتب الواقدي ان ابن اسحاق كان قد صرح بالحقيقة، لكن ابن هشام حذف ذلك ولخصه، وكذلك الطبري فانه بعد ان ذكر اسماء المهاجرين العشرة الاول (اول من خرج من المسلمين) عن طريق محمد بن اسحاق قال: قال محمد بن اسحاق: ثم خرج جعفر بن ابي طالب وتتابع المسلمون..» ومن هنا يتضح ان الطبري قام هو الاخر باختصار كلام ابن اسحاق، والا لم يقل: «قال». واساسا لا مبرر لقوله: «ثم خرج جعفر بن ابي طالب» بعد ذكره لاسماء المهاجرين العشرة الاوائل. وقال بعد ذلك: «ثم عد اي ابن اسحاق بعد ذلك تمام اثنين وثمانين رجلا بالعشرة الذين ذكرت اسماءهم». ويمثل هؤلاء ال (82) رجلا مجموع المهاجرين في الهجرة الثانية، وكان من ضمنهم العشرة الاوائل اصحاب الهجرة الاولي التي كانت بقيادة عثمان بن مظعون، فانهم كانوا قد عادوا الي مكة بعد ان سمعوا خبر اسلام اهل مكة الكاذب، ثم رجعوا مع من هاجر الي الحبشة، وكان جعفر بن ابي طالب هو قائد المهاجرين هذه المرة. وجاء في طبعة (نسخة القرويين) البند (281) ما نصه: «فلما اشتد البلاء وعظمت الفتنة، تواثبوا علي اصحاب رسول اللّه (ص) وكانت الفتنة الاخيرة التي اخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين كانوا خرجوا قبلهم الي ارض الحبشة..» ولم يوضع البند (281) في موضعه الواقعي في طبعة نسخة القرويين، فقد كان عنوانه (حديث الهجرة الاولي الي الحبشة) في حين ان الموضوع مرتبط بالهجرة الثانية.

الهجرة الي الحبشة

وردت اشارة في رواية عروة بن الزبير التي نقلناها فيما سبق الي ان الحبشة كانت واحدة من البلدان التي تعاملت معها قريش في التجارة، وقصدها القرشيون لهذا الغرض. اذا كان المهاجرون علي معرفة باوضاع الحبشة، ولهذا كانت انسب من غيرها لان تنتخب مكانا للهجرة، ولم تكن مدينة يثرب حينذاك قد بلغت الاوضاع فيها تلك الدرجة من الاطمئنان التي كانت قد بلغتها بعد عدة سنوات حين قصدها الرسول (ص) والمسلمون عند الهجرة، ولم يكن باستطاعتهم ان ينعموا بالامن هناك. وكانت الطائف مدينة تربطها علاقات وثيقة جدامع اثرياء قريش، كما ان آلهتها قد تعرضت للهجوم والاستهزاء من قبل الرسول (ص). اضف الي ذلك ان الهجرة الي بلاد الامبراطورية الفارسية او الرومانية لم تكن مناسبة باي وجه من الوجوه. فكانت الحبشة فضلا عما ذكرنا اقرب من غيرها الي مكة عن طريق البحر من جانب، ومن جانب آخر يحتمل ان‌لا يكون ملك الحبشة واهلها علي قدر كبير من التعصب الديني، ولهذا كله كانت انسب للهجرة من اي مكان آخر. وقدجاء في سيرة ابن اسحاق ان الرسول (ص) قال: «لو خرجتم الي ارض الحبشة، فان فيها ملكا لا يظلم احد عنده، وهي ارض صدق».

سبب الهجرة

اعتقد ان اسباب الهجرة هي نفسها الاسباب التي ذكرتها الروايات، والتي تتلخص في سعي الرسول (ص) الي تجنيب اصحابه الاذي والاستهزاء والملاحقة من قبل قريش ولو لفترة معينة، ريثما يتكاثر عددهم ويصبح الوضع اكثر امنا وسلاما للقيام بالنشاطات الاسلامية المطلوبة في الدعوة والتبليغ للرسالة الجديدة. وذهب (مونتغمري وات) الي الاعتقاد بان سبب الهجرة الحقيقي هو محاولة الرسول (ص) رفع الاختلاف الذي حصل بين مجموعتين من المسلمين، يتزعم احداهما عثمان بن‌مظعون، بينما يتزعم الثانية ابوبكر، فامر رسول اللّه (ص) المجموعة الاولي بالهجرة الي الحبشة. ان سببا كهذا الذي يراه (وات) يحتاج الي مزيد من الادلة، اذانه من المحال ان ينشا مثل هذا النزاع الذي يقسم المسلمين الي مجموعتين في ظل زعامة الرسول (ص) التي ليس لها منازع، ولو فرضنا حصول مثل هذا الانقسام بين تلك الجماعة الصغيرة التي تعرضت لشتي صنوف التعذيب من التنكيل والحاق الاذي والتهم والملاحقة من قبل كفار قريش، فسيكون من السهل معالجة ذلك بآية قرآنية تحذر من الانقسام وتدين الجهة المخالفة للرسول (ص)، وليس ثمة آية في القرآن الكريم تتحدث حول هذا الموضوع. وربما اراد الرسول (ص) من الهجرة الي الحبشة امورا اخري غير الابتعاد عن اذي كفار قريش، كايجاد قاعدة للنفوذ الاسلامي هناك واستخدامها ضد الاعداء كما يري بعض المستشرقين والعمل علي تهديد تجارة قريش الحيوية والمهمة جدا مع الحبشة، وتحويل مخاوف قريش وهو اجسها التي تتحدث عنها الاية الشريفة: (نتخطف من ارضنا) الي واقع عملي. اما السؤال عن الاسباب التي دعت الي هجرة جماعة من المسلمين وبقاء جماعة اخري، فلا نملك له جوابا ناجعا، سوي ان ذلك من المسائل المرتبطة بظروف المسلمين واوضاعهم الخاصة، وهذا ما لا تتحدث عنه الروايات ولم تات‌علي ذكره، علي ان المسلمين لا يمكنهم الهجرة جميعا وترك الرسول (ص) وحده، وليس بمقدورهم مخالفة رغبته في بقاء مجموعة منهم معه، رغم جهلنا بالاسباب التي اوجدت عنده مثل هذه الرغبة. واذا ما تابعنا المهاجرين الي الحبشة لتقصي اخبارهم والاطلاع علي سبل معايشهم والطرق التي كانوا يؤمنون بواسطتها نفقات‌حياتهم اليومية خلال تلك المدة الطويلة التي قضوها هناك، فاننا نجد في رواية عروة اشارة الي ذلك اثناء الحديث عن تجارة قريش مع الحبشة، بحيث يمكن القول ان تمرس القرشيين بالتجارة واضطلاعهم بها، جعلهم قادرين علي تامين حياتهم حتي في المهجر من خلال المتاجرة والكسب. وربماكان المهاجرون الذين قضوا فترة اطول في المهجر اكثر نجاحافي تجارتهم من اولئك الذين عادوا قبلهم. هناك رواية اوردها البلاذري [232] تقول: «ان ابا طالب‌كان يمول جعفر بن ابي طالب بالمال اللازم حتي وفاته». وحتي مع صدق هذه الرواية فانه كان لابد لجعفر من مصدر يدر عليه ما يؤمن نفقاته خلال الفترة التي قضاها هناك بعد وفاة ابيه. ويحتمل ان يكون ملك الحبشة هو الممول والمسؤول عن حياة المهاجرين طيلة وجودهم في مملكته وتحت حكمه باعتبارهم في حكم اللاجئين السياسيين. ويفهم من روايات عروة ومحمد بن اسحاق ان الحبشيين لم يظهروا خلال تعاملهم مع الاديان الاخري نوعا من الشدة والتعصب الديني، فقد عاشت تلك المجموعة الصغيرة المهاجرة الي هناك في امن وسلام. دامت هذه الهجرة من ثلاثة الي اربعة اشهر، فقد جاء في رواية محمد بن اسحاق عن محمد بن عمر ان المسلمين كانواقد هاجروا الي الحبشة في رجب من السنة الخامسة للبعثة (في حدود سنة 614م) وامضوا هناك شهري شعبان ورمضان، ولم يعودوا الي مكة الا في شهر شوال من العام نفسه، لسماعهم بسجدة قريش، التي وقعت بموجب هذه الرواية في شهررمضان. [233] .

قصة السجدة و الغرانيق

اشاره

روي ابن سعد في طبقاته عن محمد بن عمر، قال: «حدثني يونس بن محمد بن فضالة الظفري، عن ابيه، قال: وحدثني كثير بن زيد، عن المطلب بن عبداللّه بن حنطب، قالا: راي رسول اللّه (ص) من قومه كفا عنه فجلس طالبا فتمني فقال: ليته‌لا ينزل علي شي‌ء ينفرهم عني! وقارب رسول اللّه (ص) قومه،فدنا منهم ودنوا منه، فجلس يوما مجلسا في ناد من تلك الاندية حول الكعبة، فقرا عليهم: (والنجم اذا هوي) «النجم: 1» حتي اذا بلغ (افرايتم اللات والعزي، ومنوة الثالثة الاخري) «النجم:19 - 20» القي الشيطان كلمتين علي لسانه: «تلك الغرانيق العلي وان شفاعتهن لترتجي» فتكلم رسول اللّه (ص) بهما، ثم مضي فقرا السورة كلها وسجد وسجد القوم جميعا، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا الي جبهته فسجد، وكان شيخا كبيرا لايقدر علي السجود، ويقال: ان ابا احيحة سعيد بن العاص اخذ ترابا فسجد عليه رفعه الي جبهته وكان شيخا كبيرا، فبعض الناس يقول: انما الذي رفع التراب الوليد، وبعضهم يقول: ابواحيحة، وبعضهم يقول: كلاهما جميعا فعل ذلك. فرضوا بماتكلم به رسول اللّه (ص)، وقالوا: قد عرفنا ان اللّه يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، اما اذا جعلت لها نصيبا فنحن معك، فكبر ذلك علي رسول اللّه (ص) من قولهم حتي جلس في البيت، فلما امسي اتاه جبريل (ع) فعرض عليه السورة، فقال جبريل: جئتك بهاتين الكلمتين، فقال رسول اللّه (ص): قلت علي اللّه ما لم يقل، فاوحي اللّه اليه: (وان كادوا ليفتنونك عن الذي اوحينا اليك لتفتري علينا غيره‌واذا لاتخذوك خليلا) الي قوله: (ثم لا تجد لك علينا نصيرا) «الاسراء: 73- 75». ويضيف ابن سعد الي ذلك قائلا: «اخبرنا ابن عمر قال: حدثني محمد بن عبداللّه، عن الزهري، عن ابي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، قال: فشت تلك السجدة في الناس حتي بلغت ارض الحبشة، فبلغ اصحاب رسول اللّه (ص) ان اهل مكة قد سجدوا واسلموا حتي ان الوليد بن المغيرة وابا احيحة قد سجدا خلف النبي (ص) فقال القوم: فمن بقي بمكة اذا اسلم هؤلاء؟ وقالوا: عشائرنا احب الينا. فخرجوا راجعين حتي اذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقواركبا من كنانة فسالوهم عن قريش وعن حالهم، فقال الركب: ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعه الملا، ثم ارتد عنها فعاد لشتم آلهتهم وعادوا له بالشر. فتركناهم علي ذلك، فائتمر القوم في الرجوع الي ارض الحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا ندخل فننظر مافيه قريش، ويحدث عهدا من اراد باهله ثم يرجع». ثم يضيف: «اخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني محمد بن‌عبداللّه، عن الزهري، عن ابي بكر بن عبد الرحمن، قال:دخلوا مكة ولم يدخل احد منهم الا بجوار، الا ابن مسعود فانه مكث يسيرا ثم رجع الي ارض الحبشة». وقد روي الرواية السابقة نفسها اهل السير المعتبرون عن ابي‌معشر بن عبد الرحمن السندي المدني عن محمد بن كعب‌القرظي، وجاءت في الطبري مع اختلاف بسيط عن رواية محمد بن اسحاق، وقد ذكرناها في اسباب نزول الايتين (73،74) من سورة الاسراء: (وان كادوا ليفتنونك عن الذي اوحينا اليك لتفتري علينا غيره واذا لاتخذوك خليلا، ولولا ان ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا). وقد اورد محمد بن اسحاق نحوها في نسخة (القرويين) برواية يونس بن بكير بن واصل الشيباني بصورة موجزة، حيث قال: «فاقاموا حتي بلغهم ان اهل مكة قد اسلموا وسجدوا، وذلك ان سورة النجم انزلت علي رسول اللّه (ص) فقراها (ص) فانصت لها كل مسلم ومشرك، حتي انتهي الي قوله: (افرايتم اللات والعزي) فاصغوا له والمؤمنون مصدقون، وارتد ناس حين سمعوا سجع شيطان فقالوا: واللّه لنعبدهن ليقربونا الي اللّه زلفي. وعلم الشيطان بتلك الايتين كل مشرك وتكلمت بها السنتهم، وكبر ذلك علي رسول اللّه (ص) حتي اتاه جبريل (ع) فشكا اليه هاتين الايتين، وما لقي من الناس بسببهما، فتبرا جبريل (ع) منهما، وقال: لقد تلوت علي الناس مالم آتك به عن اللّه عز وجل، وقلت ما لم يقل لك، فحزن رسول اللّه حزنا شديدا وخاف، فانزل اللّه عز وجل تعزية له: (وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا اذا تمني القي الشيطان في امنيته) الي قوله: (عليم حكيم).

نقد قصة الغرانيق

هناك اختلاف في قصة الغرانيق بين تلك التي اوردها الطبري‌عن طريق سلمة برواية يونس بن بكير، وتلك التي وردت في سيرة ابن اسحاق (نسخة القرويين)، اذ يبدو ان يونس بن بكير قد لخصها ورواها مختصرة. اما ابن هشام فقد حذف القصة تماما، ولم يات علي ذكرها، وكان ذلك كما يبدو في وقت بدا فيه المحدثون وعلماء الدين يشككون في مضمون الرواية، ويترددون في نقلها. فقد جاء في صحيح البخاري تحت عنوان (ما جاء في سجود القرآن وسنتها) نص مقتضب جدا لهذه القصة نورده فيما يلي: «... قال: قرا النبي (ص) النجم بمكة فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ اخذ كفا من حصي‌او تراب فرفعه الي جبهته، وقال: يكفيني هذا، فرايته بعد ذلك قتل كافرا» وجاء في رواية اخري في نفس الباب: «ان النبي (ص) سجد معه بالنجم المسلمون والمشركون والجن والانس..». ورد القاضي عياض في كتاب الشفاء الرواية نقلا وعقلا، كماردها الفخر الرازي في تفسيره تفصيلا، بينما قال ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري: ان اختلاف الطرق في نقل الرواية دليل علي اصالة الرواية، وقد وردت هذه الرواية بثلاث طرق تتوفر فيها الشروط المذكورة في تصحيح السند. لهذا لا بد من الركون الي تاويل ندفع به ما يظهر فيها من سوء وتقصير في جلال الرسول (ص) وهذا يعني عدم رده لاصل الرواية. ومن استبعد قصة الغرانيق وردها انما اعتمد في رده لها علي‌اصول العقائد والكلام، اذ التسليم بالقصة كما نقلت وبالتفاصيل التي وردت فيها، قد يؤدي الي تجويز السهو والخطا في اداء الرسول (ص) للرسالة لا قدر اللّه حيث تقول ان هناك جملتين نطق بهما الرسول (ص) وقد القاهما الشيطان علي لسانه، ومن ثم نسخهما اللّه فيما بعد. والتسليم بهذه يؤدي كما قلنا الي تجويز صدور الخطا عن الرسول (ص) معاذ اللّه وهذا بدوره يؤدي الي نتائج خطيرة تمس اركان الدين والقرآن الكريم. اعتقد ان قصة الغرانيق كما وردت في الطبري تنطوي علي شي‌ء من التناقض، ومن ناحية اخري قال ابن حجر: «ان لها اساسا من الصحة والاصالة»، ولكن لا بمعني تصحيح ما جاء في الرواية والعياذ باللّه من نسبة الاشتباه والسهو الي الرسول (ص) الذي نفاه القرآن بشدة واعتبر انه من المستحيل ان يتقول الرسول (ص) علي اللّه شيئا او ان يوسوس له الشيطان في تبليغ كلام اللّه، ويبدو ان رواة هذه الرواية لم يلتفتوا الي النتائج الخطيرة المترتبة عليها، ولم يدركوا ما يمكن ان تتيح لاعداء الاسلام من فرص للطعن في دين اللّه. اما الذين عرضوا الرواية بهذا الشكل فيبدو انهم كانوا ينساقون وراء دوافع معادية للاسلام، ويحاولون هز قواعده وزعزعة بنيانه من الاساس.ونعود الان الي التناقض والتضاد المشار اليه سابقا، والذي يعتري الرواية فقد جاء في رواية الطبري التي ينقلها عن محمد بن اسحاق عن محمد بن كعب القرظي «ان اللّه انزل علي‌رسوله (ص) سورة النجم، وكان الرسول (ص) قد تلا هذه السورة المباركة علي جمع من المسلمين والمشركين حتي وصل الي قوله تعالي: (افرايتم اللات والعزي، ومنوة الثالثة الاخري) وهنا القي الشيطان علي لسانه (ص): «تلك الغرانيق العلي، وان شفاعتهن لترتجي» ويبدو ان رواة هذه القصة لم يلتفتوا الي الايتين الثالثة والرابعة من السورة المباركة ذاتها (سورة النجم) التي تقول (وما ينطق عن الهوي، ان هو الاوحي يوحي). وتمضي السورة الي ان تقول: (علمه شديدالقوي) «النجم: 5» فكيف يمكن للشيطان ان يلقي علي لسان الرسول (ص) وان ينطق الرسول (ص) بغير ما انزل عليه من القرآن مع وجود هذه التاكيدات القرآنية الشديد والصريحة النافية لاي نوع من الاشتباه والسهو مهما صغر وتضاءل؟! ان‌من شان هذه الرواية ان تجيز استيلاء الشيطان علي الوحي الالهي فضلا عن تجويزها وقوع الرسول (ص) في الخطا والاشتباه معاذ اللّه. وهذا امر منكر يرفضه القرآن ويشجبه بشدة (ان هو الا وحي يوحي). وهذه نقطة لم يلتفت اليها حتي اولئك الذين ردوا هذه الرواية، فقد اعتمدوا في رفضها علي امر واحد فحسب الا وهو انها تؤدي الي اقرار وقوع الرسول (ص) في الخطا والاشتباه. جاء في رواية الطبري عن محمد بن اسحاق: «ان قريشا كانوا قد فرحوا وسرهم واعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فاصاخوا له، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه علي خطا ولا وهم ولا زلل، فلما انتهي الي السجدة منها وختم السورة سجد فيها فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به واتباعا لامره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر الا سجد. ان الايات (21، 22، 23) من سورة النجم والتي يفترض انها جاءت بعد هاتين العبارتين الشيطانيتين كانت: (الكم الذكر وله الانثي، تلك اذا قسمة ضيزي، ان هي الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم). وهذا سؤال استنكاري يستبطن الطعن بقريش ويقول: بعد ان جعلتم اللات ومناة والعزي بناتا للّه، فتلك اذا قسمة ضيزي، غير عادلة ولا متوازنة، لان وجوهكم كانت تسود من الحزن لمجرد سماعكم بخبر ولادة بنت لكم، بينما تجعلون ذرية اللّه من البنات فقط! فهل ستفرح قريش وتبتهج لهذا الطعن والقدح الذي كالتهما لها السورة المباركة هل تسر قريش وتقول: ان محمدا ذكر آلهتها بخير؟! وهي تسمع القرآن الكريم ياتي علي ذكر آلهتها ثم لا يعتبرها اكثر من اسماء ليس الا: (ان هي الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم)؟! جاء في هذه الرواية ايضا: ان الرسول (ص) كان قد حزن عند ذلك حزنا شديدا، او خاف من اللّه خوفا كثيرا، فانزل اللّه عز وجل، وكان به رحيما، يعزيه ويخفف عنه، ويخبره انه لم يك قبله نبي ولارسول تمني كما تمني ولا احب كما احب، الا والشيطان قد القي في امنيته كما القي علي لسانه (ص)، فنسخ اللّه ما القي الشيطان واحكم آياته (وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا اذا تمني القي الشيطان في امنيته). يبدو ان راوي هذه الرواية نسي ان هذه الاية هي من سورة الحج، وسورة الحج مدنية، او علي الاقل انها نزلت علي رسول اللّه (ص) بين مكة والمدينة طبقا لبعض المصاحف واذا فهناك فترة زمنية مقدارها علي الاقل خمس او ست سنين بين قصة الغرانيق ونزول سورة النجم. ويلاحظ في الايتين السابقتين من سورة الحج الطول المعهود في الايات المدنية، اذن كيف يترك اللّه تعالي رسوله (ص) في حزن واسي طيلة خمس او ست سنوات، ثم ينزل عليه ما يعالج به مسالة قد عفا عليها الزمن؟!. وكلمة النسخ التي وردت في الاية لا يقصد بها النسخ المصطلح عليه، من تبديل حكم مكان حكم وآية بدل آية، اذلم تكن الجملتان الشيطانيتان آيتين حتي يقال انهما قد نسختا. فصريح الاية الشريفة ان الشيطان يحاول ان يدخل علي اماني الرسل ويتسلل عبرها الي ساحتهم المقدسة، فيتدخل الباري جل شانه فورا ليرفع هذه الوسوسة وينسخها قبل ان تخرج من عالم النفس علي شكل قول او حديث. وعلي هذا فسوف لن يكون لهذه الاية من سورة الحج اي ارتباط بتلك العبارتين الشيطانيتين، حيث تدعي الروايات ان الرسول (ص) كان قد اعتبر الاية الشريفة من الايات التي نزلت بحق كفار قريش. وبهذا صار من السهل رد الرواية وتفنيدها بناء علي تلك الصورة التي نقلت فيها دون حاجة الي البراهين الكلامية والمسائل الاعتقادية، وذلك بالاشارة الي تناقضاتها الداخلية وما تضمنه متنها من تضاد وتهافت. ولكن كما اشرنا سابقا فان ابن حجر قال في شرح صحيح البخاري: ان الرواية طبقا لقواعد الحديث يجب ان تكون قد استندت الي اصل ما او حادثة ما، ولهذا حاول توجيهها وتاويلها تبعا لذلك. وفي الحقيقة ان رواية صحيح البخاري تنص علي ان المسلمين والمشركين كانوا قد سجدوا جميعا مع الرسول (ص) حين تلا آية السجدة من سورة النجم. وهنا يطرح السؤال التالي: ما الذي جعل المشركين يسجدون؟ او ما الذي دعا ذلك الرجل المشرك الي السجود؟، والذي تنقل رواية اخري في صحيح البخاري انه اخذ قبضة من التراب ووضع عليها جبهته علامة علي السجود. لم تكن الاجوبة التي نقلت خالية من التكلف. منها مثلا ما نقله (الكرماني) في شرح صحيح البخاري، [234] حيث قال:لانها كانت اول سجدة نزلت، فانهم لم يشاءوا اظهار المعارضة للمسلمين في السجود لمعبودهم، او انهم سجدوا بدون قصد وارادة». وروي العلامة المجلسي [235] عن الطبري انه روي عن البلخي المتكلم قوله: «انه من الممكن ان يكون الرسول (ص) قد سبقه لسانه ونطق بهاتين الكلمتين اللتين حفظهما عن قومه بعد ان ذكره الشيطان بهما اثناء تلاوته لسورة النجم، ولكن اللّه منعه من ذلك». ونحن نعتقد ان كلام البلخي ينطوي علي شي‌ء من الحقيقة، فان الرسول (ص) كان قد سمع هاتين العبارتين من قومه، يقول‌الكلبي: «ان قريش كانت تطوف حول الكعبة وتردد شعارها المعروف: واللات والعزي ومناة الثالثة الاخري،فانهن الغرانيق العلي، وان شفاعتهن لترتجي». [236] .اذن كانت قريش تهتف بهاتين العبارتين حول اللات والعزي ومناة عند طوافها حول البيت، وحين تلا الرسول (ص) الوحي الالهي من سورة النجم حتي وصل الي الاية (18) (لقد راي من آيات ربه الكبري) فاوحي اليه الاية التي تليها (افرايتم اللات والعزي) يعني ان الرسول (ص) قد راي من آيات ربه العظمي، فهل رايتم شيئا من اربابكم؟ وهنا ذكر الرسول (ص) هاتين الجملتين اللتين تلهج بذكرهما قريش في الطواف لاعلي انهما من القرآن، بل للطعن بمعتقدات قريش والاستخفاف باربابهم، واظهار عجز هذه الاسماء (اللات والعزي ومناة)، التي كانت تحتل مقام الربوبية عند العرب، وكانوا يعتبرونهم آلهتهم العليا. ثم سخر القرآن منهم بقوله: (الكم الذكر وله الانثي، تلك اذا قسمة ضيزي)، اي لم تروا انكم زعمتم ان اللات والعزي ومناة هي بنات اللّه، في الوقت الذي تكرهون ذلك لانفسكم وتودون ان ترزقوا ذكورا؟! وهنا ظنت قريش ان الرسول (ص) اقر بتلفظه بهاتين العبارتين بآلهتها، وانه ايد مقولتها بكلام اللّه، ولهذا سجدت لالهتها حينما سجد رسول اللّه (ص). وبهذا التفسير نكون قد حافظنا علي اصل رواية الطبري بدون تجزئتها او تقطيعها، ودون الحاجة الي القول بان الشيطان القي هاتين العبارتين علي لسان النبي (ص) وهو يتلو سورة النجم. وكذلك اصبح من المعلوم والمسلم به وفقا لهذا التفسير ان الرسول لم يات بهاتين الجملتين ان كان قد نطق بهما علي انهما جزء من القرآن الموحي، وانما للاستخفاف والاستهزاء، فكرر اقوالهم وما يدعونه عن آلهتهم، فلما سمعت قريش منه ذلك وشاهدته وهو يسجد سجدت معه. وقد نتج عن هذه الحادثة الصغيرة شائعات ترددت في مكة وخارجها، بان مشركي قريش قد اسلموا، وبوصول هذه الشائعة الي ارض الحبشة قرر المسلمون المهاجرون العودة من هناك الي مكة. اما اولئك الذين يحاولون النيل من كلام اللّه والنزول بالوحي الالهي الي مستوي البشر وجعله كالسجع الذي كان يتداوله المشركون، فقد وجدوا في هذه الرواية عونا علي تاييد ما ذهبوا اليه من تدخل الشيطان في الوحي نعوذ باللّه من ذلك وتشبثوا بالاية الشريفة من سورة الحج كذريعة لاثبات صحة ما ذهبوااليه.

قريش تتابع المهاجرين الي الحبشة

والان لندع الحديث عن الغرانيق جانبا ونعود الي المهاجرين‌الي الحبشة، اذ تقول الروايات ان قريش بعثت باثنين من انشط واشد رجالها الي ملك الحبشة، وحملتهم بمختلف الهدايا الثمينة، في محاولة لاقناع ملك الحبشة بضرورة حمل المسلمين المهاجرين علي ترك الحبشة والعودة الي مكة. وهنا يطرح تساؤل حول الاسباب التي دعت قريش لتتبع المهاجرين وسعيها لاعادتهم الي مكة في الوقت الذي تخلصت فيه من ازعاجهم واذيتهم، واصبح بامكانها التفرغ للرسول (ص) ومن بقي معه من المسلمين في مكة. علما ان قريش كانت اكثر ما تشكو منه طبقا للروايات هو سب المسلمين لالهتها وتسفيههم لمعتقداتها واحلامها، ففي مثل هذه الحالة تكون قد تخلصت من اذي جماعة كبيرة من المسلمين، او انها علي الاقل لم تعد تسمع سبهم لالهتها، اذا لماذا كانت تقلق من بقاء هذه الجماعة من المسلمين في الحبشة، وتسعي جاهدة لاعادتهم؟ وهنا يتضح السبب الحقيقي وراء مناهضة قريش لرسول‌اللّه (ص)، كما اعتقد، ذلك السبب الذي تشير اليه الاية (57) من سورة القصص اذ تقول: (ان نتبع الهدي معك نخطف من‌ارضنا..). لقد كانت قريش تشعر بمخاوف حقيقية من تاثير المسلمين هناك. وتخشي دخول الاحباش في الاسلام او دخول ملك الحبشة نفسه في دين محمد (ص)، وما يترتب علي ذلك من نتائج خطيرة قد تنتهي بقيام الاحباش بالهجوم علي مكة وتهديد موقع قريش ومركزها هناك كما جري في عهد ابرهة. لهذا سارعت الي تلافي الامر في بدايته وبعثت كل من عبداللّه بن ابي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي الي الحبشة، وزودتهم بافخر الهدايا، وخاصة الجلود المكية المعروفة علي امل اقناع ملك الحبشة بطرد المسلمين من هناك. وقد عرف عمرو بن العاص بمكره ودهائه قبل الاسلام وبعده، ولا يخفي دوره في تثبيت حكم معاوية واستحكامه عندما لجاالي حيلته المعروفة في معركة صفين، ومن ثم مراوغته في‌قضية التحكيم وخداعه لابي موسي الاشعري. وطبقا لرواية ام سلمة (زوج الرسول (ص))، التي كانت قد هاجرت مع زوجها ابي سلمة بن الاسدالمخزومي [237] .قبل زواجها من رسول اللّه (ص)، فقد جاء فيها انها قالت: «لما نزلت ارض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي، امنا علي ديننا وعبدنا اللّه تعالي، لا نؤذي ولانسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم علي ان يبعثوا الي النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وان يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من اعجب ماياتيه منها الادم، فجمعوا له ادما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا الا اهدوا اليه هدية، ثم بعثوا بذلك عبداللّه بن ابي‌ربيعة، وعمرو بن العاص وامروهما بامرهم، وقالوا لهما: ادفعا الي كل بطريق هديته قبل ان تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما الي النجاشي هداياه ثم سلاه ان يسلمهم اليكما قبل ان يكلمهم. فخرجا حتي قدما علي النجاشي، ونحن عنده بخيردار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريقا الا دفعا اليه هديته قبل ان يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم انه قد ضوي [238] الي بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاؤا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا انتم، وقد بعثنا الي الملك فيهم اشراف قومهم ليردهم اليهم، فاذا كلمنا الملك فيهم فاشيروا عليه بان يسلمهم الينا ولا يكلمهم، فان قومهم اعلي بهم عينا، واعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم. ثم انهما قدما هدايا هما الي النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: ايها الملك، انه قد ضوي الي بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا دينك، وجاؤا بدين ابتدعوه،لا نعرفه نحن ولا انت، وقد بعثنا اليك فيهم اشراف قومهم من‌آبائهم واعمامهم وعشيرتهم، لتردهم اليهم، فهم اعلي بهم عينا، واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه». قالت: «ولم يكن شي‌ء ابغض الي عبداللّه بن ابي ربيعة وعمرو بن العاص من ان يسمع كلامهم النجاشي، فقالت بطارقته حوله: صدقا ايها الملك، قومهم اعلي بهم عينا واعلم بما عابوا عليهم، فاسلمهم اليهما، فليرداهم الي بلادهم وقومهم. فغضب النجاشي، ثم قال: لاها اللّه، اذا لا اسلمهم اليهما، ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي واختاروني علي من سواي حتي ادعوهم فاسالهم عما يقول هذان في امرهم، فان كانوا كما يقولون اسلمتهم اليهما ورددتهم الي قومهم، وان كانوا علي غير ذلك منعتهم منهما واحسنت جوارهم ما جاوروني». قالت: «ثم ارسل الي اصحاب رسول اللّه (ص) فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل اذا جئتموه؟ قالوا: نقول واللّه ما علمنا، وما امرنا به نبينا (ص) كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤا، وقد دعا النجاشي اساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سالهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولافي دين احد من هذه الملل؟ فكان الذي كلمه جعفر بن ابي طالب، فقال له: ايها الملك، كنا قوما اهل جاهلية، نعبد الاصنام، وناكل الميتة، وناتي الفواحش، ونقطع الارحام، ونسي‌ء الجوار، وياكل القوي منا الضعيف، فكنا علي ذلك حتي بعث اللّه الينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وامانته وعفافه، فدعانا الي اللّه لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان، وامرنا بصدق الحديث، واداء الامانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، واكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وامرنا ان نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئا، وامرنا بالصلاة والزكاة والصيام» قالت: «فعدد عليه امور الاسلام فصدقناه وآمنا به، واتبعناه علي ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ماحرم علينا، واحللنا ما احل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنوناعن ديننا، ليردونا الي عبادة الاوثان من عبادة اللّه تعالي، وان نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا الي بلادك، واخترناك علي من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا الا نظلم عندك ايها الملك! فقال له النجاشي: هل معك مماء جاء به عن اللّه من شي‌ء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي فاقراه علي. فقرا عليه صدرا من (كهيعص) قالت: «فبكي واللّه النجاشي حتي اخضلت لحيته، وبكت اساقفته حتي اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم! ثم قال لهم النجاشي: ان هذا والذي جاء به عيسي ليخرج من مشكاة واحدة! انطلقا، فلا واللّه لا اسلمهم اليكما، ولا يكادون»! قالت: «فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: واللّه لاتينه‌غدا عنهم بما استاصل به خضراءهم. [239] فقال له‌عبداللّه بن ابي ربيعة وكان اتقي الرجلين فينا: لا تفعل فان لهم ارحاما، وان كانوا قد خالفونا. فقال: واللّه لاخبرنه انهم يزعمون ان عيسي ابن مريم عبد! ثم غدا عليه من الغد فقال له: ايها الملك، انهم يقولون في عيسي ابن مريم قولا عظيما، فارسل اليهم فسلهم عما يقولون فيه. فارسل اليهم ليسالهم عنه». قالت: «ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسي ابن‌مريم؟ فقال جعفر بن ابي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا،يقول: هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته القاها الي مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده الارض فاخذ منها عودا، ثم قال: واللّه ماعدا عيسي ابن مريم مما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وان نخرتم واللّه، اذهبوا فانتم شيوم [240] بارضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم! ما احب ان لي [241] دبرا من ذهب واني اذيت رجلا منكم! ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها. فقال: اذهب يا ابن اخي، فقل ما احببت، فواللّه لا اسلمك لشي‌ء ابدا» [242] .تضمنت رواية ام سلمة بعض النكات التي ينبغي الاشارة اليها، احداها تسمية مبعوثي قريش الي المسلمين المهاجرين ب (غلمان سفهاء) فان ذلك يؤيد ما ذهبنا اليه سابقا من ان اكثرالمسلمين الاوائل كانوا شبانا. والثانية تعريف هذين المبعوثين بانفسهما بانهما رسولا اشراف مكة، وهما صادقان في ذلك، فان اعداء الرسول الاشداء كانوا كما اشرنا سابقا اشراف القوم واصحاب النفوذ فيهم. والنكتة الثالثة قيام جعفر بن ابي‌طالب بدور الناطق باسم المهاجرين، مما يعني ان خطوة قريش هذه، اي ارسالها للمبعوثين (عمرو بن العاص) و (عبداللّه بن ابي ربيعة) كانت بعد الهجرة الثانية الي الحبشة، اذ لم يرد اسم جعفر بن ابي طالب في قائمة المهاجرين في‌الهجرة الاولي الي الحبشة، وقد كان جعفر بن ابي طالب قائد المهاجرين في الهجرة الثانية. اما عن تصديق النجاشي لقول المسلمين: ان عيسي كان عبداللّه وكلمة اللّه وروح اللّه، فربما يعود الي انسجام ذلك الي حد ما مع عقائد (المونوفيزتيين) اي المعتقدين بالطبيعة الواحدة في عيسي، فقد كان (المونوفيزت) مذهب النجاشي واهل الحبشة الذي كان يختلف تماما عن مذهب اباطرة بيزنطة وعقيدتهم في عيسي (المذهب المكابي) وكذلك مع عقائد النسطوريين. ربما اعتبر النجاشي كلمة (عبد) تتطابق مع عقائد (المنوفيزتيين) الذين عبروا عن عيسي بما يشبه ذلك التعبير،اذ كانوا يعتبرونه انسانا كاملا وربا في آن واحد. فاعتبر كلمة (عبد) هنا اشارة الي انسانيته، بينما كانت كلمتا (روح اللّه) و (كلمة اللّه) تعبيرا عن ربوبيته، وربما كان ذلك هو السبب وراء تخفيف حدة الاعتراضات التي اثيرت من قبل الاساقفة. لقد كان تاريخ الحبشة في هذا الوقت اي في العقد الثاني من‌القرن السابع مظلما، وكانت الحبشة، وفقا للروايات التي تحدثت عن هجرة المسلمين الي الحبشة، مسرحا للانقلابات الداخلية. هذا وقد وردت بعض القصص عن دخول النجاشي الاسلام واعتناقه الدين الجديد، وربما كانت هذه الروايات غيردقيقة بصورة عامة، غير انها تكشف علي اقل تقدير عن ميل النجاشي الي الدين الاسلامي. ونقلت روايات اخري عن مبعوثي قريش الي ملك الحبشة، منها ما جاء في (الاغاني)، [243] وكانها قصة تدور اكثرفصولها حول الحب والعشاق وما الي ذلك. ويذكر في هذه الرواية عمارة بن الوليد المخزومي علي انه المبعوث الثاني مع عمرو بن العاص بدلا عن عبداللّه بن ابي ربيعة، وقد اشتهرعمارة بن الوليد المخزومي في قريش بشدة جماله، وقيل عنه‌احيانا بانه ارتبط في هذا السفر بعلاقة حب مع زوجة عمرو بن العاص وزوجة النجاشي، واخيرا صار مع السحرة في الصحراء، ولا يمكن الاعتماد علي هذه الرواية. هذا وقد ورد اسم عمارة بن الوليد في غير هذه الرواية باعتباره احد مبعوثي قريش، ويعتقد ان اشتهاره بالجمال وحسن الخلقة كان هو السبب وراء افتعال تلك القصص حوله في (الاغاني).

عودة المهاجرين

هناك اختلاف حول عودة المهاجرين من الحبشة بعد انتشار خبر اسلام اهل مكة، بين روايات ابن اسحاق كما ورد في الطبري وسيرة ابن هشام، ورواية الواقدي عن ابن ابي نجيح. فطبقا لرواية ابن هشام عن ابن اسحاق ان العائدين من الحبشة كانوا قد اكتشفوا كذب خبر اسلام اهل مكة قبل دخولهم اليها وعندما كانوا علي مقربة منها، فكان دخولهم الي مكة اما بواسطة (الجوار) من قبل احد افراد قريش او بالتخفي والتستر، وذكر اسماء بعض الاشخاص الذين اقاموا في مكة الي ان هاجروا مع الرسول (ص) الي المدينة وشهدوا بدرا، اوبقوا محبوسين في مكة حتي فاتتهم المشاركة في معركة بدرو غيرها، بينما توفي آخرون بمكة، ثم نقلت الرواية قائمة باسماء من عاد الي الحبشة تحتوي علي ثلاثة وثلاثين اسما. اما [244] الواقدي فقد قال كمامرت الاشارة اليه ان‌هجرة المسلمين الي الحبشة كانت في رجب من السنة الخامسة للبعثة، وبقوا هناك شهري شعبان ورمضان حتي جاءهم خبر السجدة، وكان ذلك في شهر رمضان، فكانت‌عودتهم الي مكة في شوال، وبعد عودتهم لقوا اذي شديدا من قريش وتعاون علي ظلمهم البعيد والقريب، الامر الذي دعا الرسول (ص) الي ان ياذن بالهجرة الثانية الي ارض الحبشة، وكان خروج المسلمين هذه المرة اشد كثيرا من سابقه في الهجرة الاولي حيث ازدادت معاناتهم من قريش سيما بعد ان اصبحت علي علم بما وجده المسلمون من حسن المعاملة وطيب الاقامة عند النجاشي. وقد سال عثمان بن عفان رسول اللّه (ص): «يا رسول اللّه، قد هاجرنا ثانية الي الحبشة ولم تكن معنا؟» فقال (ص): «انما هجرتكم الي اللّه والي، واجر الهجرتين لكم». فقال عثمان: «هذا يكفينا، يا رسول اللّه». وقد كان عدد المهاجرين في هذه الهجرة (83) رجلا و (11) امراة من قريش، و (8) من سائر الناس، فاقاموا جميعا في الحبشة بامان وسلام واحسان حتي سمعوا بهجرة الرسول (ص) الي المدينة، فهاجر (33) رجلا و (8) نساء منهم الي مدينة الرسول (ص)، وشهد (14) رجلا منهم بدرا، حتي بعث رسول اللّه (ص) كتابا الي النجاشي يدعوه فيه الي الاسلام، يحمله عمرو بن امية الضمري في السنة السابعة للهجرة. ويلاحظ، بناء علي رواية ابن هشام، ان (33) رجلا، ومن جملتهم عثمان بن عفان، لبثوا في مكة بعد العودة الاولي من الحبشة، ولكن وفق رواية الواقدي فان عثمانا هاجر ثانية الي الحبشة، وكانت هجرته من الحبشة الي المدينة، وبالنظر للترتيب الواقعي والتوالي المنطقي في رواية الواقدي عن ابن نجيح، فاننا نرجحها علي رواية ابن هشام الملخصة عن رواية ابن اسحاق والتي تحتمل السقط والاختصار، ونقل البلاذري الاحداث وفقا لترتيبها في رواية الواقدي ايضا. وفي هذا المجال كثير من التفصيل، وروايات هذا الباب بحاجة الي مزيد من النقد والتحليل مما لا يتناسب مع حجم كتابنا. وبما ان جعفر بن ابي طالب كان قائد الهجرة الثانية، فان تتبع عمرو بن العاص وعبداللّه بن ابي ربيعة للمهاجرين الي الحبشة كان بعد الهجرة الثانية.

ما قامت به قريش ضد الرسول

بعد ان عاد مبعوثا قريش بخفي حنين من الحبشة، تحفزت قريش لانزال مزيد من الاذي والعذاب بالمسلمين داخل مكة وفي مقدمتهم الرسول (ص)، غير انها لم تجد طريقا لالحاق الاذي به غالبا، الا عن طريق المحاربة الكلامية وتوجيه التهم والافتراءات اليه، وذلك لوقوف ابي طالب بصورة خاصة وبني هاشم بصورة عامة الي جانبه (ص) واصرارهم علي حمايته والذود عنه (ص). وقد هجموا عليه مرة او مرتين، غير انهم لم يستطيعوا فعل شي‌ء يذكر، بسبب طبيعة النظام القبلي الذي كان سائداو الالتزامات التي يفرضها علي الحلفاء في حماية افراد القبيلة، واحيانا كانت تنتهي بنتيجة السب والشتم والتي كان يتعرض لها الرسول (ص) بدلا من الحاق الضرر به، كما في اسلام حمزة بن عبد المطلب الذي كان نتيجة احدي فعال قريش السيئة مع رسول اللّه (ص).

اسلام حمزة بن عبد المطلب

اشتهر حمزة بشجاعته وجلده وعلو همته، غير انه كان بعيدا عن شؤون مكة السياسية، كما يبدو، ولم يسبق له ان اعار اهتماما خاصا بالدين الجديد الذي جاء به ابن اخيه، لقد كان حمزة صيادا ماهرا، وقد اعتاد علي ان يذهب الي البيت الحرام ويطوف حول الكعبة قبل ان يتجه الي منزله في كل مرة يعودبها من الصيد، وفي طريقه الي المنزل كان يمر بتجمعات قريش ويسلم علي اهلها ويتبادل الحديث معهم. وبينما كان الرسول يقف يوما قرب جبل الصفا، [245] مربه ابو جهل فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لامره، فلم يكلمه رسول اللّه وكان هناك مولاة لعبداللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك ثم انصرف عنه فعمد الي ناد من قريش عند الكعبة فجلس معهم. فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي اللّه عنه ان اقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له، وكان اذا فعل ذلك لم يمرعلي ناد من قريش الا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان اعزفتي في قريش واشدهم شكيمة، فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول اللّه (ص) الي بيته قالت له: «يا ابا عمارة، لو رايت ما لقي ابن اخيك محمد آنفا من ابي الحكم بن هشام! وجده هاهنا جالسا ف‌آذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد (ص)». فاحتمل حمزة الغضب لما اراد اللّه به من كرامته، فخرج يسعي ولم يقف علي احد معدا لابي جهل اذا لقيه ان يوقع به، فلما دخل المسجد نظر اليه جالسا في القوم، فاقبل نحوه حتي اذا قام علي راسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: «اتشتمه وانا علي دينه اقول ما يقول؟ فرد ذلك علي ان استطعت». فقام رجال من بني مخزوم لينصروا ابا جهل، فقال ابو جهل: «دعوا ابا عمارة، فاني واللّه قد سببت ابن اخيه سبا قبيحا. وبقي حمزة علي اسلامه وعلي ما تابع عليه رسول اللّه (ص) فلما اسلم حمزة عرفت قريش ان رسول اللّه (ص) قد عز وامتنع وان حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانواينالون منه. [246] .

اسلام عمر بن الخطاب

كان عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي من بني عدي من قريش، وهو الخليفة الثاني بعد ابي بكر، وفي نظر العلماء والمحدثين من اهل السنة ان عمر افضل الصحابة بعد ابي بكربن ابي قحافة، وسواء صحت وجهة النظر هذه او لا، فان ذلك لا يؤثر علي الحقيقة التاريخية في كون عمر ابن الخطاب كان الخليفة الثاني، ومع هذا المقام الذي كان يحتله عمر يصبح من الضروري معرفة الاسباب التي جعلته يتاخر اكثر مما يتوقع في اعتناق الاسلام، وبتعبير آخر انه اسلم بعد ان اسلمت شخصيات عديدة اقل منه منزلة بين الصحابة، ولم يحتلوا فيما بعد المقام الذي شغله عمر في الاسلام، لقد اسلم عمر بعد هجرة المسلمين الي الحبشة وفقا لما جاء في الروايات وبالتحديد في السنة السادسة بعد البعثة النبوية، وكان في السادسة والعشرين من عمره، ونظرا لانتمائه الي قريش، ولانه كان من الرجال اللامعين في مكة، فقد اعتبر من شباب المسلمين الاوائل الذين يصنفون عادة الي (احداث، وضعفاء، ومستضعفين). وهنا ينبغي البحث داخل شخصيته لمعرفة السبب وراء تاخره في اعتناق الاسلام، فقد كان عمر كما تؤكد الروايات وكذلك‌سيرته الشخصية رجلا ذا شكيمة وشدة وصلابة، يصعب اقناعه، ويتعذر تغيير رايه، او تبديل معتقداته. وكان الي جانب ذلك سريع الغضب، عصبي المزاج، خشن الطباع، وقد وصفه الامام علي بن ابي طالب (ع) في نهج البلاغة بانه: «حوزة خشناء» ولكنه كان يستسلم للمنطق، وكان مع شدته وخشونته يضعف امام المناظر المؤثرة ويرق قلبه للاحداث المؤلمة، لقدعكست قصة اسلامه هذه الصفات المتضادة والمتناقضة التي‌انطوت عليها شخصيته. وكان سبب اسلام عمر ان اخته فاطمة بنت الخطاب كانت قد اسلمت واسلم بعلها سعيد بن زيد، وهما مستخفيان باسلامهما من عمر، وكان نعيم بن عبداللّه النحام رجل من قومه من بني عدي بن كعب قد اسلم، وكان ايضا يستخفي باسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الارت يختلف الي فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول اللّه (ص) ورهطا من اصحابه قد علم انهم اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من الاربعين ما بين رجل وامراة وكان مع رسول اللّه (ص) عمه حمزة بن عبد المطلب وابو بكر الصديق، وعلي بن ابي طالب، في رجال من المسلمين، ممن كان اقام مع رسول اللّه (ص) بمكة ولم يخرج الي ارض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبداللّه، فقال له: «اين تريد، يا عمر؟» فقال: «اريد محمدا هذا الصابي الذي فرق امر قريش، وسفه احلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فاقتله». فقال له نعيم: «واللّه لقد غرتك نفسك، يا عمر! اتري بنو عبد مناف تاركيك تمشي علي الارض وقد قتلت محمدا؟! افلا ترجع الي اهل بيتك فتقيم امرهم؟» قال: «ومن اهل بيتي؟» قال: «ختنك وابن‌عمك سعيد بن زيد بن عمرو، واختك فاطمة بنت الخطاب، فواللّه لقد اسلما وتابعا محمدا علي دينه، فعليك بهما». فرجع عمر الي اخته وختنه، وعندهما خباب بن الارت ومعه صحيفة فيها (طه) يقرئهما اياها. فلما احسوا بقدوم عمر تخبا خباب في مخدع لهم، او في احدي زوايا البيت، واخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب، فلما دخل قال: «ما هذه الهينمة، [247] التي سمعت؟» قالا له: «ما سمعت شيئا». قال: «بلي واللّه، لقد اخبرت انكما تابعتما محمدا علي دينه!» وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت اليه اخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالا له: «نعم، قد اسلمنا وآمنا باللّه ورسوله، فاصنع ما بدالك»، فلما راي عمر اخته علي هذه الحال ندم علي ما صنع فارعوي، وقال لاخته: «اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا، انظر ماهذا الذي جاء به محمد»، وكان عمر كاتبا، فلما قال ذلك، قالت له اخته: «انا نخشاك عليها»، قال: «لاتخافي»، وحلف لها بآلهته ليردنها اذا قراها اليها، فلما قال ذلك طمعت في اسلامه، فقالت له: «يا اخي، انك نجس، علي شركك، وانه لا يمسها الا الطاهر»! فقام عمر فاغتسل، فاعطته الصحيفة، وفيها (طه) فقراها، فلما قرا منها صدرا قال: «ما احسن هذا الكلام واكرمه» فلما سمع ذلك خباب خرج اليه، فقال له: «واللّه اني لارجو ان يكون اللّه قد خصك بدعوة نبيه (ص)، فاني سمعته امس وهو يقول: اللهم ايد الاسلام بابي الحكم بن هشام او بعمر بن الخطاب! فاللّه اللّه يا عمر!» فقال له عند ذلك عمر: «فدلني يا خباب علي محمد حتي آتيه فاسلم». فقال له خباب: «هو في بيت عند الصفا في نفر من اصحابه». فاخذ عمر سيفه فتوشمه ثم عمد الي رسول اللّه (ص) واصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من اصحاب رسول اللّه (ص) فنظر من خلال الباب فرآه متوشما السيف، فرجع الي رسول اللّه (ص) وهو فزع فقال: «يا رسول اللّه، هذا عمر بن الخطاب متوشما السيف»، فقال‌حمزة بن عبد المطلب: «فائذن له، فان كان جاء يريد خيرابذلناه له، وان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه». فقال رسول‌اللّه (ص): «ائذن له»، فاذن له الرجل ونهض اليه رسول اللّه حتي لقيه في الحجرة، فاخذ حجزته [248] او بمجمع ردائه، ثم جبذه به جبذة شديدة، وقال: «ما جاء بك يا ابن‌الخطاب؟ فواللّه ما اري ان تنتهي حتي ينزل اللّه بك قارعة». فقال عمر: «يا رسول اللّه، جئتك لاؤمنن باللّه وبرسوله وبماجاء من عند اللّه» [249] .هذا وقد وردت رواية اخري عن كيفية اسلام عمر، غير اننا نري هذه الرواية اكثر انسجاما مع شخصية عمر وخصائصه النفسية، وقد نقلت عن حياته في تاريخ الاسلام تفاصيل كثيرة تشبه ذلك وتؤيده، فخروجه المفاجي من البيت لقتل الرسول تعبير عن تلك الحالة التي كانت تتسم بها شخصيته وهي سرعة غضبه وانفعاله، وكذلك فان حالة الندم وسرعة التاثر والانكسار التي ظهرت عليه بعد فورة الغضب مباشرة والتي نقلت عنه مرارا تعبر ايضا عن تلك الحالة النفسية المشار اليها، ثم تسليمه للمنطق والحجة الاقوي صفة اخري في شخصية عمر، وميزة ثالثة من مميزاته النفسية، فبمجرد انه قرا الايات الاولي من سورة (طه) فاذا به يسلم فورا. كذلك رويت عنه تفاصيل اخري ايام خلافته اظهرت تسليمه لحكمة علي بن ابي طالب ودرايته بالقضاء، حيث قال مرارا: «لولا علي لهلك عمر». اشتهر عمر بين قومه وعشيرته بصلابته وحدته وشدة تطرفه رغم حداثة سنه، وكان الجميع يحسبون له حسابا، ولهذا نجد الرسول (ص) بناء علي صحة الرواية يقرنه بابي جهل علي كبرسنه وعلو مقامه في قومه، حيث كان يدعو اللّه ان يهدي الي الاسلام اباجهل او عمر. وبعد ان اسلم عمر سخر صلابته وشدته لخدمة الاسلام، حتي نقل عن ابن مسعود قوله: «ما كنا نقدر ان نصلي عند الكعبة حتي اسلم عمر بن الخطاب، فلما اسلم قاتل قريشا حتي صلي عند الكعبة وصلينا معه». [250] .ولكن هناك نوعا من المبالغة في تاثير اسلام عمر وحمزة، فسنري الرسول (ص) بعد وفاة ابي طالب يبقي دون ناصر ومجير، حيث يضطر بعد عودته من ثقيف ان يدخل مكة بجوار احد المشركين، ولم يستطع حمزة او عمر فعل شي‌ء له.

محاصرة بني هاشم اجتماعيا و اقتصاديا

بعدما يئست قريش من اعادة المسلمين المهاجرين الي الحبشة اليها، وبعدما رفض ابو طالب تسليمها محمدا (ص) ونتيجة لتزايد مخاوفها من انتشار الدعوة الاسلامية بدخول شخصيات مهمة وخطيرة مع مرور الايام في الاسلام، بعد هذا كله جمعت قريش امرها وجلس زعماؤها للتشاور في امر محمد (ص) ودينه الجديد، وبعد المداولات توصلوا الي توقيع وثيقة تنص علي حرمان بني هاشم وبني المطلب من حقوقهم الاجتماعية والمدنية في مكة، لحملهم علي التخلي عن محمد (ص)، وكتبوا من اجل هذا كتابا الا يناكحوهم ولايبايعوهم ولا يخالطوهم، ثم علقوا هذا الكتاب في جوف الكعبة. وبعد ان فعلت قريش فعلتها تلك، انحاز بنو المطلب اليابي‌طالب في شعبه مع بني هاشم. قال ياقوت: [251] .«شعب ابي يوسف: هو الشعب الذي اوي اليه رسول اللّه (ص) وبنوهاشم لما تحالفت قريش ضد بني هاشم وكتبوا الصحيفة، وكان لعبد المطلب فقسم بين بنيه حين ضعف بصره، وكان النبي (ص) اخذ حظ ابيه، وهو كان منزل بني هاشم ومساكنهم». ولم ينفصل شخص من بني هاشم سوي ابي لهب عم النبي (ص)، الذي ظاهر قريش علي بني هاشم وبني المطلب، ومكث بنو هاشم وبنو المطلب في شعب ابي طالب سنتين او ثلاث سنوات وفقا لرواية ابن اسحاق وهم علي تلك الحال من الشدة والحصار، لا يصل الي احد منهم شي‌ء الا سرا، وذكروا ان ابا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه قمح يريد به عمته خديجة وهي عند رسول اللّه (ص) في الشعب، فتعلق به، وقال: «واللّه لا تبرح حتي افضحك»، فجاء ابوالبختري بن هشام، فقال: «مالك وله؟ عنده طعام لعمته افتمنعه ان يحمله اليها؟ خل سبيله». فابي ابوجهل فنال منه، فضربه ابوالبختري بلحي جمل فشجه ووطاه وطئاشديدا. [252] .وكان احسنهم بلاء في نقض الصحيفة وتوصيل الطعام الي المحاصرين (هشام بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن لؤي)، وهو ابن اخي نضلة بن هشام بن عبد مناف لامه وهو احد المحاصرين وكان ياتي بالبعير قد اوقره طعاما ليلاويستقبل الشعب ويخلع خطامه فيدخل الشعب. [253] .وقد كان حصار بني هاشم وبني المطلب في الشعب هلال المحرم سنة سبع من تنبي رسول اللّه. [254] وظلوا علي هذه الحال مدة ثلاث سنين، لا يخرجون من الشعب الا في موسم الحج، حتي بلغهم الجهد، وسمعت اصوات صبيانهم من وراء الشعب. وعن ابن عباس: «حصرنا في الشعب ثلاث سنين، قطع عنا فيها الطعام، حتي ان الرجل ليخرق من الشعب ليشتري طعامافلا يبايعه احد، فمات عدد منا». [255] .هذه خلاصة عن اخبار الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فرض علي بني هاشم وبني المطلب في شعب ابي طالب، كما وردت في تاريخ الطبري وسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد، ولنا علي ذلك ملاحظات ندرجها فيما يلي: 1- ان الذين حاصرتهم قريش هم وبنو هاشم بنو عبد المطلب ولم تحاصر عامة المسلمين، اي ان ابابكر مثلا الذي هو من بني تيم، او عمر الذي يعود نسبه الي بني عدي، او بعض المسلمين الاخرين الذين لم يهاجروا الي الحبشة من غير بني هاشم، لم يكونوا جزءا من المحاصرين، بقوا في مكة كما كانوا قبل الحصار، ومن جانب آخر نري بين المحاصرين من لم يدخل الاسلام، فبناء علي ما نقله البلاذري ان بني هاشم دخلوا الحصار اما بسبب اسلامهم او بسبب حميتهم وتعصبهم لعشيرتهم وبني عمومتهم، اذا قامت هذه المحاصرة علي اسس قبلية ونعرات عشائرية. والدليل علي ذلك موقف بني هاشم بزعامة ابي طالب عم النبي (ص) المدافع والمحامي ابداعن رسول اللّه (ص)، ولهذه المسالة ارتباط بالنظام القبلي وكيفية تطبيق العدالة والقانون فيه، اذ لو نهضت قريش لمحاربة بني هاشم لشب نزاع شامل يجر اليه حلفاء بني هاشم في حلف الفضول، وقد تحدث حرب داخلية كتلك الحروب التي تندلع عادة في يثرب، وهذا ما تتجنبه قريش بشدة وتهرب منه لاعتماد اهل المكة، خلافا لاهل يثرب، علي التجارة والمتاجرة التي لا تنمو وتزدهر الا في جو من الا من بعيد عن الحروب والمنازعات. ولهذا لم تسفر تلك المحاصرة، وخصوصا الاقتصادية منها، عن نتائج مهمة، فبنو هاشم قوم يصعب عزلهم واحكام الحصار عليهم لكثرة تشعباتهم وارتباطاتهم الاجتماعية مع الاقوام والطوائف الاخري بواسطة الزواج وغيره، كما ان لبني هاشم محبين ومناصرين في القبائل الاخري، وللقبائل الاخري اقرباء وارحام في بني هاشم لا يرضون بحرمانهم وتعرضهم للجوع. لقد فرضت هذه المحاصرة بتاثير وقيادة بني مخزوم الذين كانت لهم الكلمة الاولي واليد الطولي في قريش، وكان زعيمهم ابو جهل كما تشير الروايات اكثر الناس حماسا لها واشدهم تحريضا عليها، كان ابوجهل يدرك تماما خطر انتشار الاسلام في مكة علي زعامته وعلي موقع بني مخزوم في قريش. 2- يبدو ان فترة ثلاث سنوات او حتي سنتين من المحاصرة فترة طويلة لا يمكن تحملها. اذ لا تستطيع طائفة معينة تحمل مثل هذا الحصار داخل منازلها تلك المدة الطويلة، حتي مع حصول بعض الاختراقات من وصول بعض المساعدات سرا وخفية. ويبدو ان المحاصرة اخذت تشتد فيما بعد، حتي تحدثت الروايات عن انه كانت تسمع صرخات الصبيان المحاصرين في الشعب، ولم يكن الامر كذلك في بدايته، وكان يمكن لبني هاشم ان يجدوا من يتعامل معهم، اما من قريش نفسها او من خارجها، ولهذا السبب طالت المحاصرة وامتد امدها، وللسبب استطاع بنو هاشم الصبر عليها وتحمل مشاقها، الي ان قررت قريش تشديد الحصار ومراقبة كافة عمليات البيع والشراء مع افراد بني هاشم داخل الشعب، وقد ادي ذلك الي توقف كافة اشكال المساعدات والعون او ندرتها. وقد ذكر في انساب الاشراف ان العباس بن عبد المطلب، الذي لم يسلم يومئذ، خرج من شعب ابي طالب ليشتري طعاما، فاراد ابوجهل ان يسطو به، فمنعه اللّه منه، وارسلت خديجة بنت خويلد الي زمعة بن الاسود: ان ابا جهل يمنع من ابتياع ما نريد، فاسمع اباجهل كلاما، فاسمعه فامسك. ويبدو ان هاتين الحادثتين مع واقعة ارسال الطعام من قبل حكيم بن حزام الي عمته خديجة، قد حصلت في مرحلة وصول الحصار الاقتصادي الي الذروة من المضايقة والشدة التي ادت الي الغائه. اذ لو كان الحصار الاقتصادي ومنع وصول الطعام بهذه الدرجة من الشدة والصرامة منذ البداية لما استطاع بنو هاشم الثبات لسنتين اوثلاثة من الحصار.

نقض الصحيفة

انتهي الحصار اخيرا، واستطاع بنو هاشم الخروج من شعب ابي طالب، وقد ذكر في اسباب فك الحصار ونقض الصحيفة علتان، تبتني احداهما علي اساس تاريخي، بينما تقوم الثانية علي اساس ديني، ولكن لا يوجد تنافي بين الرواية ذات المنحي التاريخي مع الرواية ذات الصبغة الدينية، لذا نحن ننقل الروايتين بدأ بالاولي التي يمكن تلخيصها كالتالي: ان هناك خمسة اشخاص من خمسة بطون مهمة في قريش تعاهدوا سرا علي ان يعلنوا يوما، وعندما تجتمع قريش في مسجد مكة عن انهم سينقضون هذه الصحيفة او المعاهدة. ومن الجدير بالذكر ان التعرض لهؤلاء الخمسة قد يؤدي حرب داخلية، لانهم ينتمون الي خمسة بطون مهمة في قريش، ولكل واحد منهم انصار ومؤيدون في قومه، يشدون ازره ويسهلون عليه تنفيذ قراره. كان احد هؤلاء الخمسة هاشم بن عمرو بن ربيعة من بني عامر بن لؤي، وكان عم امه نضلة‌بن هاشم بن عبد مناف من بني هاشم المحاصرين. اما الثاني فهو زهير بن ابي امية المخزومي من بني مخزوم، وامه عاتكة بنت عبد المطلب، وخاله احد المحاصرين. اما الثلاثة الاخرين فقد كان اثنان منهم من بني اسد وهما: ابو البختري بن هشام وزمعة بن الاسود، وكان بنو اسد احلاف بني هاشم في حلف الفضول. اما الخامس فهو مطعم بن عدي، من بني نوفل، وهم ايضا جزء من حلف الفضول طبقا لرواية اوردها ابن هشام، [256] علي ان‌اخبار حلف الفضول في (المنمق) و (المحبر) و (سيرة ابن‌هشام) لم تات علي ذكر دخول وخروج بني نوفل وبني عبد شمس، اذ لا ذكر لهذا الخبر سوي في تلك الرواية المشار اليها التي رواها حفيد مطعم بن عدي لعبد الملك بن مروان وصدقها الاخير، وهناك قرينة اخري علي صحة الخبر المذكور في تلك الرواية، وهي عبارة عن ابيات من الشعر انشدها ابوطالب وهو يشكو قريشا حين شددت من ضغطها علي رسول اللّه (ص) وعمه. احد هذه الابيات كما رواهابن‌هشام: [257] .فاخص خصوصا عبد شمس ونوفلا هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمرويبدو ان هذا التخصيص في ذكر بني نوفل وبني عبد شمس دون باقي الخصوم لارتباطهم بحلف الفضول. ويقول ابوطالب في قصيدة اخري، يشكو بها ايضا قريش لخذلانها رسول اللّه (ص)، ويوجه لومه بصورة خاصة الي مطعم بن عدي الذي يقول انه طلب منه العون يوما فلم يبخل عليه في شي‌ء غير ان مطعما لم يحفظ له ذلك الموقف، حيث يقول:فجزي اللّه عنا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجلا غير آجل [258] .وهذا دليل آخر علي خصوصية هاتين الجماعتين (بني عبد شمس ونوفل)، لذلك خصهما ابوطالب بهذا العتاب، وذكرمطعم بن عدي بما بذله له من عون ومساعدة، وسبب تلك الخصوصية علي ما يبدو ارتباطهم بحلف الفضول. علي اية حال نفذ هؤلاء الخمسة ما تعاهدوا عليه، فاعلنوا عزمهم علي نقض الصحيفة علي رؤوس الاشهاد عند الكعبة، ولم يفلح ابوجهل في صدهم عن ذلك رغم ما بذله من جهود، فقد عمد مطعم بن عدي الي الصحيفة وانتزعها عن جدار الكعبة ثم مزقها. وتقول الرواية الثانية: ان رسول اللّه (ص) اخبر اباطالب بان الصحيفة قد اكلتها الارضة، فلمست كل ما كان فيها من قطيعة غير (باسمك اللهم) فذكر ابوطالب ذلك لكفار قريش وقال لهم: «ان ابن اخي اخبرني ولم يكذبني قط ان اللّه قد سلط علي صحيفتكم الارضة، فلمست كل ما كان فيها من جور او ظلم او قطيعة رحم، وبقي فيها كل ما ذكر به اللّه، فان كان ابن اخي صادقا نزعتم من سوء رايكم، وان كان كاذبا دفعته اليكم فقتلتموه او استحييتموه»، قالوا: «قد انصفتنا»، فارسلوا الي الصحيفة ففتحوها، فاذا هي كما قال رسول اللّه (ص)، فسقط في ايديهم، ونكسوا علي رؤوسهم، فقال ابوطالب: «علام نحبس ونحصر وقد بان الامر»؟ ثم دخل هو واصحابه بين استار الكعبة، فقال: «اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع ارحامنا واستحل ما يحرم عليه منا»، ثم انصرفوا الي الشعب. وتلاوم رجال من قريش علي ما صنعوا ببني هاشم، فيهم: مطعم بن عدي، وعدي بن قيس، وزمعة بن الاسود، وابو البختري بن هاشم، وزهير بن ابي امية، ولبسوا السلاح، ثم خرجوا الي بني هاشم وبني المطلب،فامروهم بالخروج الي مساكنهم ففعلوا. [259] .وليس هناك من تناقض بين الروايتين، وقد يكون تسلط الارضة علي الصحيفة امرا عاديا عندما تكتب الصحيفة علي مادة لا يؤمن عليها من الارضة في ذلك الجو الحار الذي كانت عليه مكة، علما ان التدخلات الالهية والدعم الرباني عادة ما يتم في اطار القوانين الطبيعية.

وفاة خديجة و ابي طالب

كان خروج بني هاشم من الشعب في السنة العاشرة منالبعثة النبوية طبقا لما ورد في انساب الاشراف. [260] .وفي هذه السنة فقد رسول اللّه (ص) كلا من زوجته خديجة وعمه ابي طالب، وقد اختلف في تحديد اليوم الذي فارق فيه ابوطالب الحياة، فقيل: في الاول من ذي القعدة، وقيل: في النصف من شوال من السنة نفسها (اي العاشرة بعد البعثة). ووقع خلاف ايضا في الفترة الواقعة بين وفاة خديجة ووفاة ابي‌طالب، فبين قائل انها كانت ثلاثة ايام فقط، وقائل خمسة ايام، وقيل: انها كانت خمسة وعشرين يوما.

اسلام ابي طالب

وردت رواية في سيرة ابن اسحاق [261] عن وفاة ابي‌طالب تشعر بانه لم يسلم حتي فارق الحياة. وقال عنه الرسول (ص): «هو في ضحضاح من نار». وقد طرحت قضية اسلام ابي طالب كواحدة من الامور التي دار حولها خلاف بين الشيعة ومعارضيهم منذ القدم، ففي الوقت الذي يذهب اكثر اهل السنة الي انه مات مشركا، تصر الشيعة علي اعتقادها بانه مات مسلما موحدا، وقد تطرق ابن ابي الحديد المعتزلي الي هذه المسالة في ج (14) من شرح نهج البلاغة بالتفصيل وعرضها علي ضوء ادلة الفريقين، غير انه توقف واحجم عن اعطاء الراي فيها. هذا وقد كتبت ابحاث عديدة حول اسلام ابي طالب بعضها مطبوع. ولسنا هنا في معرض اعطاء الراي في هذه الادلة او تلك، لذا نترك الكلام في هذه المسالة، لانها خرجت عن اطارها التاريخي واتخذت طابعا مذهبيا او كلاميا،غير ان ذلك لا يمنعنا من الاشارة الي موقف ابي طالب المحامي ابدا عن ابن اخيه منذ بعثته وحتي السنة العاشرة للبعثة، وهي السنة التي توفي فيها ابوطالب، وهو ما تعكسه سيرة الرسول (ص) خلال تلك الفترة بشكل واضح لا غبارعليه. وبسبب هذه الحماية الشديدة والمستمرة تعرض ابوطالب مع بني هاشم وبني المطلب جميعا لحصار مر دام ثلاث سنين في شعب ابي طالب، وقد اجمع اصحاب السيرة علي ان حماية ابي طالب وذوده عن ابن اخيه هما اللذان حالا دون وصول قريش اليه (ص)، وقد حزن الرسول (ص) لوفاته حزنا عميقا، وعادت قريش تحاول الحاق الاذي به، فاضطر الرسول (ص) الي ان يذهب الي الطائف، وعند عودته دخل مكة بجوار مطعم بن عدي. وعلي ضوء هذا الدعم وتلك الحماية، ومع فرض عدم ايمانه، فهل يمكن ان يكون جزاء مثل هذا العم الودود الشهم ان يخلد في ضحضاح من نار؟! اذا فما هو الفرق بينه وبين ابي لهب في هذا المجال؟! والقول: (ان في جهنم ضحضاحا وغمرا، وان مقام ابي طالب في الضحضاح)، لا يحل المشكلة. ولا يمكن ان يكون جزاء من ضحي وتفاني في سبيل الاسلام الضحضاح لا الغمر. نحن نعتقد ان الروايات التي تتحدث عن بقاء ابي طالب علي شركه الي ان فارق الحياة روايات موضوعة، وضعها بنو امية لشدة عدائهم لعلي (ع) وابيه وابنائه، او وضعها بنو العباس لحسدهم وحقدهم علي العلويين بما امتازوا به من فضائل عليهم. وسياتي الحديث عن موقف ابي سفيان بن حرب الذي ظل يناصب الاسلام العداء هو وابناؤه حتي فتح مكة وقتل كل من خال معاوية واخيه في معركة بدر علي يد حمزة بن عبد المطلب وعلي بن ابي طالب (ع). ولم تنته هذه العداوة حتي بعد مقتل عثمان ومطالبة معاوية بالخلافة وشهادة علي (ع) في السنة الاربعين للهجرة، بل زادتها تلك الاحداث حدة واتقادا. فقاد معاوية وبعده خلفاء بني امية حملة واسعة لتشويه صورة علي وابنائه (ع) واستمرت هذه الحملة الشرسة الي ايام خلافة عمر بن عبد العزيز. لقد كان سبق علي (ع) الي الاسلام وتضحياته الجسام من اجله في الغزوات العديدة، وكذلك حماية ابي طالب ودفاعه القوي عن ابن اخيه، من فضائل علي واهل بيته (ع) التي لا يتسني لاحد انكارها، فلم يجد بنو امية مغمزا ولا مطعنا يمكنهم من خلاله الطعن بعلي (ع) غير ادعاء عدم اسلام ابي طالب في الوقت الذي اسلم فيه ابوسفيان والد معاوية! ومن المحتمل جدا ان يكون انصار بني امية ودعاتهم هم الذين عملوا علي اخفاء روايات اسلام ابي طالب ووضعوا مكانها الاخبار التي تتحدث عن حشره في النار، ليمسوا من هذا الباب جلال علي وابنائه بتوجيه الطعن اليهم، وقد وجد من بين دعاة بني امية من كان ساذجا الي الحد الذي اضحي كل اهتمامه هو نقل الروايات علي ظاهرها وسندها، ولم يلتفت الي مدي انسجامها في مضامينها، اذ كيف يبشر الرسول (ص) عمه اباطالب بالنار ويتغاضي عن تضحياته وصبره واخلاصه في حين يامر في معركة بدر ان لا يتعرض احد لحياة المشركين الذين لم يسبق لهم ان آذوه ويطلب احضارهم سالمين اليه؟ وحصلت القضية ذاتها في العهد العباسي، حيث سعي بنو العباس الي ان ينسبوا الي العباس عم النبي، الذي لم يقدم شيئا مهما لصالح ابن اخيه ايام البعثة الشريفة، المزيد من الفضائل والكرامات، وعلي العكس فقد عملوا علي ترويج الروايات التي من شانها المساس بمنزلة جد العلويين ابي طالب والحط‌من شانه. وبناء علي ذلك، فاننا نعتقد ان التعصب العائلي والحمية القبلية لم يكونا السبب الوحيد في دفاع ابي طالب عن ابن اخيه، وانمالا بد ان يكون وراء هذا الدفاع المستميت وتلك الحماية الدائمة، التي لم تفتر ابدا، ايمان بالاسلام واعتقاد برسالته. [262] .

السفر الي الطائف

تقع الطائف علي بعد اثني عشر فرسخا من مكة، وكانت مستوطنا لقبيلة ثقيف، من قبائل هوازن ايام الرسول (ص)، وتكثر فيها الكروم، وكان لاثرياء قريش بساتين هناك، وقد اشتهر اهلها بالثراء والمراباة. قرر الرسول (ص) السفر اليها بعد ان ضاق عليه الخناق واشتداذي قومه في الفترة التي تلت وفاة خديجة وعمه ابي طالب، وكان يعزم علي دعوة اهلها الي الاسلام عله يجد فيهم عوناعلي قريش. وقال بعضهم: «انه كان وحيدا في هذا السفر». بينماقال آخرون: انه ذهب بمعية مولاه زيد بن حارثة. ولما انتهي رسول اللّه (ص) الي الطائف، عمد الي نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف واشرافها، وكانوا ثلاثة اخوة، فجلس اليهم رسول اللّه (ص) فدعاهم الي الاسلام وافصح لهم عن رغبته في طلب نصرتهم علي من خالفه من قومه، فردوا دعوته وهم من عائلة نميرة بن عوف بن ثقيف فقام رسول‌اللّه (ص) من عندهم، قائلا لهم: «اذا فعلتم فاكتموا عني». وكره رسول اللّه (ص) ان يبلغ قومه عنه، فيذئرهم [263] ذلك‌عليه. فلم يفعلوا واغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتي اجتمع عليه الناس، والجاوه الي حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء قريش من كان يتبعه، فعمد الي ظل حبلة [264] من عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران اليه ويريان ما لقي من سفهاء اهل الطائف. فلما رآه ابنا ربيعة: عتبة وشيبة (وهما من بني عبد شمس) وشاهدا ما الم به تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له (عداس) فقالا له: «خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به الي ذلك الرجل فقل له ياكل منه». ففعل عداس، ثم اقبل به حتي وضعه بين يدي رسول اللّه (ص)، ثم قال له: «كل» فلما وضع رسول اللّه (ص) يده قال: «باسم اللّه». ثم اكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: «واللّه ان‌هذا الكلام ما يقوله اهل هذه البلاد»! فقال له رسول اللّه: «ومن‌اي البلاد انت يا عداس، وما دينك»؟ قال: «نصراني، وانا رجل من اهل نينوي». [265] فقال رسول اللّه (ص): «من قرية الرجل الصالح يونس بن متي»! فقال له عداس: «وما يدريك ما يونس بن متي»؟ فقال رسول اللّه: «ذاك اخي، كان نبيا وانا نبي»! فاكب عداس علي رسول اللّه (ص) يقبل راسه ويديه وقدميه. قال: «يقول ابنا ربيعة احدهما لصاحبه: اما غلامك فقد افسده عليك! فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس مالك تقبل راس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي، ما في الارض شي‌ء خير من هذا، لقد اخبرني بامر ما يعلمه الا نبي! قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فان دينك خير من دينه»! ثم ان رسول اللّه (ص) انصرف من الطائف راجعا الي مكة، حين يئس من خير ثقيف، حتي اذا كان بنخلة [266] قام من جوف الليلي [267] صلي. ويقال: ان الايات التي تتحدث عن الجن وكذلك سورة الجن قد نزلت في هذا المكان. كان سفر الرسول (ص) الي الطائف بداية مرحلة جديدة في سياسته (ص) في الدعوة الي الاسلام، فقد قام اولا بدعوة اقاربه وعشيرته كما امر بذلك: (وانذر عشيرتك الاقربين) فكان اكثر همه متجها الي عوائل قريش واشراف مكة، فلما لقي منهم ما لقي من الاعراض عن الاسلام والاصرار علي الكفر والضلالة، وبعد ان تضاعف عليه الاذي من قومه بعد وفاة حاميه الاكبر عمه ابي طالب، بدا الرسول (ص) يخطط لدعوة القبائل العربية الاخري الي رسالته، وبدا باقرب القبائل واكثرها قوة وثراء وهي ثقيف، غير انها رفضت دعوته لما كان لها من‌علاقات اقتصادية واجتماعية وثيقة مع قريش، ولشعورها بالخطر المحدق بالههم الاكبر (اللات)، التي كانوا يطلقون‌عليها (ربة)، من جراء هذه الدعوة، وبانه لو سقطت ربتهم فسوف تكون تبعية ثقيف لمكة وقريش مطلقة. لقد اوصدوا الابواب بوجه الرسول (ص) وقد فاتهم بذلك شرف عظيم. «وفي طريق عودته (ص) الي مكة، مر به بعض اهل مكة، فقال له رسول اللّه (ص): هل انت مبلغ عني رسالة ارسلك بها»؟ قال: «نعم»، قال: «ائت «الاخنس بن شريق» فقل له: يقول لك محمد: هل انت مجيري حتي ابلغ رسالة ربي؟ قال: فاتاه، فقال له ذلك، فقال له الاخنس: ان الحليف لا يجير علي الصريح. قال: فاتي النبي (ص) فاخبره، قال: تعود. قال: نعم، قال: ائت سهيل بن عمر فقل له: ان محمدا يقول لك: هل انت مجيري حتي ابلغ رسالات ربي؟ فاتاه فقال له ذلك قال: فقال ان بني‌عامر بن لؤي لا تجير علي بني كعب. قال: فرجع الي النبي (ص) قال: تعود، قال: نعم، قال: ائت المطعم بن عدي، فقل له: ان محمدا يقول لك: هل انت مجيري حتي ابلغ رسالات ربي؟ قال: نعم فليدخل، قال: فرجع الرجل اليه فاخبره، واصبح المطعم بن عدي قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو اخيه فدخلوا المسجد، فلما رآه ابوجهل قال: امجير ام متابع؟ قال: بل مجير. قال: فقال: قد اجرنا من اجرت، فدخل النبي (ص) مكة». [268] .والمهم في هذه الرواية انها تكشف عن ان الرسول (ص) لم‌يعد يملك بعد وفاة عمه ابي طالب من يدافع عنه من انصاره، ومن له القدرة علي مواجهة قريش، بما فيهم حمزة وابوبكر وعمر، الامر الذي اضطره الي طلب جوار مشرك من مشركي مكة.

الرسول يعرض دعوته علي القبائل

بعد عودة الرسول (ص) من الطائف عزم علي اجراء تغيير شامل في سياسته الخاصة بالدعوة لرسالته، فقد يئس بعد سفره هذا من مكة وقريش واهل الطائف المرتبطين باهل مكة بعلاقات وثيقة جدا، وقد شكل هذا التغيير الذي من المؤكدانه حدث بامر وهداية الهية منعطفا كبيرا في تاريخ الدعوة الاسلامية واتساع رقعة الاسلام، حيث ادي ذلك الي خروج الاسلام من دائرة مكة وانتشاره في شبه الجزيرة العربية بصورة عامة، ومن ثم في انحاء العالم المتحضر آنذاك. لقد كان الامر الالهي يتركز في البداية علي دعوة الاقربين الي الدين الجديد: (وانذر عشيرتك الاقربين) «الشعراء: 214». وبعد ان اعرض هؤلاء الاقربون عن هذه النعمة الالهية‌و واجهوا صاحبها بالاذي والتنكيل وعملوا علي محاربته ومحاصرته مع بني هاشم اقتصاديا واجتماعيا في شعب ابي‌طالب، وتجاوزوا الحدود في ظلمه واضطهاده. بعد هذا كله لم‌يبق امامهم عذر يعتذرون به، وتمت الحجة عليهم فآن الاوان لان يكسر الاسلام هذا الطوق وينطلق خارج حدود المدينة الواحدة والقبيلة الواحدة. لقد قرر الرسول (ص) بعد عودته من الطائف دعوة القبائل الاخري الي الاسلام. ومن الجدير بالذكر ان هناك من بين المسلمين الاوائل من كان يرجع في انتمائه القبلي الي قبائل اخري غير قبيلة قريش، لكنه كان يقيم في مكة اما بالجوار او بالتحالف او بامور اخري، وكان اسلام هؤلاء الافراد اسلاما فرديا وكان جزأ من اسلام قريش نفسها لارتباطهم بها بالتحالف او الجوار او ما الي ذلك. فاسلام ابي ذر الغفاري مثلا لا يعني اسلام قبيلة غفار باكملها او انضمامها الي معسكر الاسلام واعلان حمايتها له والدفاع عنه. ولا ينبغي ان يفهم من هذا الكلام ان الرسول (ص) كان يخص في دعوته القرشيين داخل مكة ولم يدع غيرهم خارجها، بل ما نريد قوله هنا ان دعوة هؤلاء الي الاسلام ان حصلت في السابق فقد حصلت بصفة فردية ولم يخاطبهم الرسول (ص) بصفتهم ممثلين عن قبائلهم التي ينتسبون اليها. اما سفر الرسول (ص) الي الطائف ودعوته لقبيلة ثقيف، فيبدوانها كانت تندرج في محاولاته (ص) لادخال قريش في الاسلام دون اراقة دماء، وذلك لشدة ارتباط ثقيف بقريش وكثرة الوشائج بينهما. لم يبق امام الرسول (ص) بد من التحرك لدعوة القبائل الاخري بعد ان يئس من الطائف واهلها. وقد اختار الرسول (ص) ان يبقي في مكة يدعو هذه القبائل اثناء قدومها في مواسم الحج، بدلا من الذهاب اليها، لما كان ينطوي عليه ذلك العمل من خطر جدي علي حياته (ص)، اما بقاؤه في مكة فقد كان يوفر له حماية بني هاشم وحلفائهم. وهكذا كان الرسول (ص) يدعو هؤلاء القادمين في مواسم الحج الي الدين الجديد، ويوصي من يسلم منهم ان يكون داعية لقومه وعشيرته بعد عودته، وبهذه الطريقة فشا امر الاسلام وانتشرت اخباره في انحاء شبه الجزيرة العربية، وقد تحدثت كتب السيرة عن دعوة الرسول (ص) لقبائل كندة وبني كلب وبني حنيفة وبني عامر بن صعصعة وبني عبس وغسان وبنيالمحارب وشيبان بن ثعلبة. [269] .وقد وردت رواية في عيون الاثر [270] تؤيد ما ذهبنا اليه من ان الرسول (ص) توجه في دعوته الي القبائل الاخري بعد ان يئس من قريش، وجاء في الرواية عن جابر بن عبداللّه الانصاري، انه قال: «كان النبي (ص) يعرض نفسه علي الناس في الموقف، ويقول: الا رجل يعرض علي قومه، فان قريشا قد منعوني ان ابلغ كلام ربي». وقد ردت بعض هذه القبائل دعوة الرسول (ص) بلطف ولين، بينما جابهتها قبائل اخري بخشونة وعنف، حتي فعلت الرعاية واللطف الالهيان فعلهما، فلبي اهل يثرب نداء الرسول (ص) ودعوه الي مدينتهم، وكان ذلك اهم منعطف في تاريخ الدعوة الاسلامية.

پاورقي

[1] شد مبدل اين جو چند بار عكس ماه وعكس اختر بر قرار.
[2] الموفقيات، طبعة بغداد، ص 331 الي 334.
[3] خلافته بين عامي (96 الي 99ه).
[4] ابن سعد، الطبقات الكبري: 2/ 8، 9.
[5] الاغاني: 33/ 31.
[6] المصدر نفسه: ص 11.
[7] مقدمة ابن خلدون: فصل (في ان الصريح من النسبانما يوجد للمتوحشين).
[8] مقدمة ابن خلدون: فصل (في ان العصبية انما تكون من الالتحام بالنسب).
[9] الاغاني، 14/ 144. [
[10] المصدر نفسه: 22/ 147.
[11] نهاية الارب: ج‌2.
[12] سيرة ابن هشام: 1/ 12.
[13] البلاذري، فتوح البلدان، طبعة مصر، 1317 ه، ص‌454.
[14] ابن حزم، جمهرة انساب العرب: ص 15.
[15] سيرة ابن هشام، 1/ 117.
[16] المصدر نفسه: 1/ 18.
[17] ابن حزم، الملل والنحل، ص 234، 235.
[18] سيرة ابن هشام، 1/ 80.
[19] المسعودي، مروج الذهب، 2/ 175.
[20] الازرقي: ص 63، 64.
[21] ابن سعد، الطبقات: 1/ 38، سيرة ابن هشام: 1/ 132.
[22] السهيلي، روض الانف: 2/ 53، 54.
[23] ابن سعد، الطبقات، 1/ 70.
[24] المصدر نفسه: 1/ 239.
[25] سيرة ابن هشام، 1/ 136، 137.
[26] ابن هشام، المصدر نفسه: 1/ 140.
[27] العقد الفريد، 3/ 312، 314.
[28] جواد علي، تاريخ العرب قبل الاسلام، 3/ 472.
[29] جواد علي، المصدر نفسه: 3/ 483 فما بعد.
[30] الكامل في التاريخ، 1/ 343، 344، 345.
[31] سنگ وكل: كلمتان فارسيتان، معناهما: الحجروالطين.
[32] البلاذري، انساب الاشراف: ص 55، 56.
[33] ابن سعد، الطبقات الكبري: 1/ 78.
[34] البلاذري، انساب الاشراف، 1/ 57.
[35] الانساب، 1/ 265.
[36] الازرقي، اخبار مكة: ص 281.
[37] وردت تفاصيل ذلك في الدر المنمق ص 88 ومابعدها.
[38] المصدر نفسه: ص 92.
[39] المصدر نفسه: ص 90.
[40] مستشرق بلجيكي، وراهب يسوعي، شديد التعصب ضد الاسلام، ويفتقر افتقارا تاما الي النزاهة في البحث، والامانة في نقل النصوص وفهمها. ولد في بلجيكا عام 1862 وجاء الي بيروت في صباه وتعلم في الكلية اليسوعية ببيروت. عمل استاذا في (معهد الدروس الشرقية) لمادة التاريخ الاسلامي، كتب في السيرة النبوية ما لايقل عن عشرة كتب مليئة بالافتراءات والاستنتاجات الذوقية وتعمد في بعضها الاشارة الي مصادر ليس لها وجود. كما دافع في كتابه (دراسات عن حكم الخليفة الاموي معاوية الاول) عن الامويين دفاعا مستميتا وبرر لهم كل افعالهم الشنيعة، وخاصة ما ارتكبه يزيد بن معاوية. راجع موسوعة المستشرقين للدكتور عبد الرحمن بدوي. (المترجم).
[41] سيرة ابن هشام: ص 64.
[42] سيرة ابن هشام: ص 71.
[43] سيرة ابن هشام: ص 138، 139.
[44] سيرة ابن هشام، 3/ 141.
[45] الاغاني، 22/ 59: بنو لحيان.
[46] الدر المنمق: ص 275.
[47] البلاذري، انساب الاشراف: ص 76، ابن الاثير: ص‌587.
[48] الاغاني، 22/ 54، 75.
[49] ابن الاثير: 1/ 594، النهاية في غريب الحديث: 1/ 330، طبعة الدار الاسلامية بيروت.
[50] من الواضح ان المؤلف يشير في بحثه هذا الي نظرية (التطور التقدمي او التصاعدي) التي سادت في اوروبا في القرن التاسع عشر، ونادي بها فريق من العلماء، وحاول تطبيقها علي تاريخ الاديان منهم سبنسر وتيلور دوركيم وغيرهم، حيث ذهب هذا الفريق الي ان الدين بدا في صورة الخرافة والوثنية وان الانسان اخذ يترقي في دينه علي مدي الاجيال حتي وصل الي الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج نحو الكمال في علومه وصناعاته، حتي زعم بعضهم ان عقيدة (الاله الاحد) عقيدة حديثة للغاية، بل قال بعضهم: انها وليدة عقلية خاصة بالجنس السامي. غير ان هذه النظرية واجهت اعتراضات اساسية، وعجزت عن الاجابة علي الاسئلة التي اثارتها بوجهها النظرية المقابلة، وهي نظرية (اصالة التوحيد) او (فطرة التوحيد) التي انتصر لها جمهور من علماء الاجناس وعلماء النفس، ومن اشهرهم لانج وشريدر وبروكلمان ولرواة وكاترفاج وغيرهم. ومن الاعتراضات التي اثيرت بوجه النظرية الاولي: اولا: ان مؤرخو الاديان يعترفون بصورة صريحة ان الديانات الخاصة بالعصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لدينا جهلا تاما ولا سبيل للخوض بها الا علي سبيل التكهن والرجم بالغيب، اما الاستدلال علي ديانة الانسانية في مراحلها الاولي بديانة الامم الحالية المنعزلة المتخلفة عن ركب المدنية، فانه‌مبني علي افتراض ان هذه الامم كانت منذ بدايتها علي الحالة التي وصل اليها البحث، وانها لم تمر بادوار متقلبة، وذلك افتراض لم يقم عليه دليل، بل الذي اثبته التاريخ واتفق عليه المنقبون عن آثار القرون الماضية، هو ان فترات الركودو التقهقر التي سبقت مدنياتها الحاضرة كانت مسبوقة بمدنيات مزدهرة، وهذه بدورها قامت علي انقاض مدنيات بائدة، وهكذافي ادوار تتعاقب علي البشرية بحيث يصبح من العسير ان نحكم بصفة قاطعة بايهما بدات دورة الزمان، ولقد انصف العلامة هوفدنج حين قال: ((انه يبعد كل البعد ان ينجح تاريخ الاديان في حل مشكلة بزوغ الدين في النوع الانساني.. فان التاريخ لا يصور لنا هذه البداية الاولي في موضع ما، وكل مانجده انما هو سلسلة من صور مختلفة لديانات متقدمة قليلا او كثيرا حتي ان احط القبائل الهمجية التي نعرفها قد مرت بادوار شتي وتطورت تطورا بعيدا» اقتباس عن (الدين.. بحوث تمهيدية لدراسة تاريخ الاديان) عبداللّه دراز. وثانيا: ان نظرية (التطور التقدمي او التصاعدي) قائمة علي افتراض ان الملكات والاحاسيس الروحية يمكن قياسها علي القوي البدنية والمكتسبات العقلية والتجريبية، فكما ان الانسان ينتقل في نموه البدني من الضعف الي القوة، وفي نموه العقلي من الجهل وعدم العلم الي المعرفة والعلم، فانه كذلك علي الصعيد الروحي قد بدا حياته بالسخف والخرافة، ولم يصل الي العقيدة السليمة الا بعد جهد وعناء، ولكن من اين جاء هذا الافتراض؟ وما هو الدليل عليه؟ وهل ان الواقع يؤيده ام يعاكسه؟! كل هذه التساؤلات من شانها ان تزعزع الاساس‌الذي اقامت عليه هذه النظرية بنيانها. بعد هذا كله نتجه الي النصوص الدينية، فنجدها تذهب الي‌غير الجهة التي يتجه اليها ذلك المذهب التطوري، فانها اي النصوص الدينية تقرر ان (العقيدة الالهية الصحيحة) مغروسة في ذات الانسان (فطرة اللّه التي فطر الناس عليها).. ثم تقررالايات القرآنية حقيقة اخري وهي ان الانسان بدا حياته بالعقيدة الصحيحة، ثم طرا الانحراف والاختلاف (وما كان الناس الا امة واحدة فاختلفوا) «يونس: 19». وهنا انتهي البعض الي نظرية ثالثة تقول: ان الهدي والضلال ليسا ظاهرتين متعاقبتين فقط في المسالة الدينية صعودا او انحدارا، بل هما ظاهرتان متعاصرتان تتواجدان في كل امة، اذلا يخلو جيل من نفوس نقية تدرك الحقيقة، واخري دون ذلك تخطئها وتتجه الي الخرافة والشعوذة وما الي ذلك (المترجم). وليرجع من اراد التفصيل الي كتاب (الدين.. بحوث تمهيدية لدراسة تاريخ الاديان) للدكتور عبداللّه دراز.
[51] الاصنام: ص 14.
[52] الاصنام: ص 280.
[53] المصدر نفسه: ص 9 الي 21.
[54] الاصنام: ص 60، 61.
[55] لسان العرب، ذيل الشمس.
[56] الازرقي، تاريخ مكة: ص 189.
[57] تاريخ اليعقوبي: 1/ 256.
[58] الازرقي: ص 132، لسان العرب، مادة حرر.
[59] صبح الاعشي، 1/ 410، 411.
[60] الوكاء: الخيط الذي تشد به الصرة او الكيس وغيرهما.
[61] المسير: ثوب فيه خيوط من القز والحرير ونحوه كالسيور.
[62] العدني: كل ما ينسب الي عدن من ثياب وغيرها.الاغاني:22/ 57.
[63] دائرة المعارف بريتانيكا، ذيل اليمن.
[64] البيروني، الاثار الباقية، ص 11.
[65] القلمس: البحر الزخار.
[66] الاثار الباقية: ص 62.
[67] تاريخ اليعقوبي: ج‌1.
[68] المحبر: ص 161.
[69] المعارف: ص 621.
[70] المنمق: ص 506.
[71] المحبر: ص 340.
[72] المحبر: ص 310 و 311.
[73] المحبر: ص 309.
[74] المحبر: ص 338.
[75] المصدر نفسه: ص 225.
[76] المصدر نفسه: ص 326.
[77] لسان العرب، مادة سعي.
[78] المحبر: ص 340.
[79] صحيح البخاري، باب النكاح، حديث رقم 4790.
[80] المحبر: ص 330.
[81] المحبر: ص 331.
[82] لسان العرب، مادة حما.
[83] تاريخ اليعقوبي: 1/ 259.
[84] المصدر نفسه، المحبر: ص 223 2 الي 225.
[85] صحيح البخاري (باب ثمن الكلب من كتاب البيع).
[86] لسان العرب، مادة سجع.
[87] لسان العرب، ذيل كهن.
[88] تاريخ اليعقوبي: 1/ 258.
[89] راجع المنمق ص 196، وتاريخ اليعقوبي فيالموضع المذكور.
[90] المطالعات الاسلامية: ج‌1.
[91] المفصل: 1/ 39 الي 42.
[92] روض الانف: 2/ 158.
[93] تاريخ الطبري، احداث سنة 11 هجرية.
[94] نولدكهرتاريخ ساسانيان.
[95] يبدا التاريخ السلوكي من عام 312 قبل الميلاد وليس كما ورد خطا في حاشية مروج الذهب بانه العام 324 قبل‌الميلاد.
[96] مروج الذهب: 2/ 12.
[97] روض الانف: 2/ 159.
[98] طبقات ابن سعد: 1/ 60، 61.
[99] الطبقات: 1/ 112.
[100] الطبقات: 1/ 73.
[101] المعارف: ص 575.
[102] المنمق حريره: ص 213.
[103] الاغاني: 22/ 54.
[104] الاغاني: 22/ 56.
[105] الكامل في التاريخ: 1/ 592.
[106] الاغاني: 22/ 78.
[107] المحبر، يظهر منه ذلك ص 184 الي 172.
[108] المنمق: ص 779.
[109] المصدر نفسه: ص 220.
[110] الطبقات: 1/ 129.
[111] الطبقات: 1/ 133.
[112] اخبار مكة: ص‌159.
[113] المصدر نفسه: ص 161.
[114] السيرة: 1/ 204.
[115] الطبقات: ص 145.
[116] سيرة ابن هشام: 1/ 205.
[117] المصدر نفسه.
[118] تاريخ مكة: 1/ 160.
[119] المصدر نفسه: 1/ 162.
[120] المصدر نفسه: 1/ 159.
[121] المصدر نفسه: 1/ 163.
[122] تاريخ مكة: 163 و 166.
[123] سيرة ابن هشام: 1/ 252.
[124] الميل العربي يساوي ثلاثة آلاف ذراع.
[125] سيرة ابن هشام: 1/ 251.
[126] لسان العرب، مادة حنث.
[127] سيرة ابن هشام: 1/ 251، 252.
[128] سيرة ابن هشام: رقم 140 ص 100.
[129] تاريخ الطبري: 1/ 1148.
[130] الطبري: 1149- 1152.
[131] سيرة ابن هشام، 1/ 251 الي 254.
[132] سيرة ابن هشام: 252.
[133] هذه الفقرة اسقطها ابن هشام في سيرته (المترجم).
[134] جاء في رواية ابن سعد: «اني اخشي ان اكون كاهنا» وفي رواية اخري: «اني اخشي ان يكون في جنن» طبقاتابن سعد، 1/ 194، 195.
[135] من الواضح ان المؤلف حاول تفسير الروايات من‌خلال مقارنتها مع بعضها البعض، وبالاستعانة بما ينسجم وتلك المعاني من القرآن الكريم، وبعبارة اخري انه بذل جهدا للوصول الي بعض النتائج من خلال الاعتماد علي النصوص وحدها بعيدا عن احتمالات التشكيك بصحة مثل هذه الروايات وما يمكن ان يكون قد داخلها من تحريف وتشويه، بل وحتي دون الزام نفسه بمسبقات اعتقادية تخالف ما انتهي اليه الاستاذ المؤلف من نتائج مهمة، وربما كانت هذه المسبقات هي التي دعت ابن هشام الي اسقاط تلك الفقرة من روايته. (المترجم).
[136] طبقات ابن سعد: 1/ 198.
[137] سيرة ابن هشام، 1/ 264.
[138] الطبقات: ابن سعد: القسم 1، ص 27،28.
[139] الطبري، ص 1168.
[140] الطبقات: القسم‌1، ص 122.
[141] الطبري: 1/ 1167.
[142] ابن هشام، 1/ 267، 269.
[143] الطبقات، ج‌3، القسم‌1، ص 173.
[144] الطبقات، 1/ 199.
[145] انساب الاشراف: ص 229.
[146] الطبقات: 1/ 212.
[147] انساب الاشراف: ص 128.
[148] طبقات ابن سعد، ص 71، 123.
[149] الطبقات: ص 88، 123.
[150] الطبقات: 3/ 98.
[151] الطبقات: ص 123 الي 177.
[152] انساب الاشراف: ص 163.
[153] تفسير الطبري: ج‌17، سورة الحج، الاية: 52.
[154] تفسير الطبري، ج‌17، سورة الحج، الاية: 52.
[155] انساب الاشراف: ص 156 فما بعد.
[156] سيرة ابن هشام: 1/ 342.
[157] انساب الاشراف: 1/ 158.
[158] المصدر نفسه: 1/ 159.
[159] انساب الاشراف: 1/ 176.
[160] الطبقات ج‌2، القسم‌1، ص 116.
[161] انساب الاشراف: 1/ 176.
[162] انساب الاشراف: ص 176.
[163] المصدر نفسه: ص 180.
[164] انساب الاشراف: ص 181.
[165] انساب الاشراف: ص 185.
[166] المصدر نفسه: ص 186.
[167] انساب الاشراف: ص 184.
[168] انساب الاشراف: ص 186.
[169] انساب الاشراف: ص 191.
[170] انساب الاشراف: ص 89.
[171] الطبقات: 3/ 234.
[172] الطبقات: 4/ 214، 215.
[173] الجمهرة: ص 186.
[174] طبقات ابن سعد: 4/ 219 الي 222.
[175] الصرمة: القطعة من الابل.
[176] الخفاء: خرقة توضع علي السقاء.
[177] سخفة الجوع: رقته وهزاله.
[178] طبقات ابن سعد، 4/ 219 الي 222.
[179] طبقات ابن سعد، ح‌2، القسم‌1، ص 278، انساب‌الاشراف:ص 116.
[180] المنمق: ص 104.
[181] المنمق: ص 100، 101.
[182] المنمق: ص 106.
[183] انساب ابن حزم: ص 144.
[184] المحبر: ص 139، 140.
[185] القري: ما يقدم للضيف من الطعام.
[186] سيرة ابن اسحاق، نسخة القرويين، سيرة ابن هشام:1/ 337 الي 338.
[187] سيرة ابن هشام: 1/ 342.
[188] الانساب، ص 133.
[189] تفسير الطبري، ذيل الاية.
[190] المنمق: ص 488، 489.
[191] انساب الاشراف: ص 134.
[192] راجع تفسير الطبري: ج 25.
[193] انساب الاشراف: ص 141، المحبر: ص 165.
[194] انساب الاشراف: ص 141.
[195] الطبقات، ج‌4، القسم 1، ص 70 الي 72.
[196] انساب الاشراف: ص 151.
[197] هكذا عرض المؤلف موقف الرسول (ص) من عقبة بن ابي المعيط، كما ورد في النص الفارسي، وقد ظهر من‌خلال هذا العرض وكان الرسول (ص) يريد في موقفه هذا الانتقام والثار لذاته، ورغم ان المؤلف استند في عرضه هذا الي روايتين وردتا في انساب الاشراف ص 147 الي 148غير انه لفق بين الروايتين بطريقة اسهمت الي حد ما في ابراز ذلك العنصر الذاتي الغير معروف عن الرسول (ص)، وها نحن نورد نص الروايتين كما جاء في انساب الاشراف (ص 147 الي 148): عن محمد بن عمر الواقدي، باسناده: «ان عقبة بن ابي معيط عمد الي مكتل، فجعل فيه عذرة ثم القاه علي باب رسول اللّه (ص). فبصر له طليب بن عمير بن وهب بن عبد بن قصي بن كلاب وامه اروي بنت عبد المطلب فاخذ المكتل منه، وضرب به راسه، واخذ باذنيه، ونشب به عقبة، فذهب به الي امه، فقال لها: الا ترين الي ابنك قد صار غرضا دون محمد؟ فقالت: ومن اولي منه بذلك؟ هو ابن خاله، اموالنا وانفسنا دون محمد. وجعلت تقول: فان طليبا نصر ابن خاله آساه في ذي دمه وماله فلما كان يوم بدر، اتي بعقبة اسيرا. وكان الذي اسره عبداللّه بن سلمة بن مالك العجلاني، من بلي، وعداده في الانصار، جمح به فرسه، فاخذه. فامر رسول اللّه (ص) عاصم بن ثابت بن ابي‌الاقلح الاوسي من الانصار بضرب عنقه، فجعل عقبة يقول: ياويلتي علام اقتل يا معشر قريش! اقتل من بين هؤلاء؟ فقال رسول اللّه (ص): لعداوتك للّه ولرسوله. قال: يا محمد، منك افضل فاجعلني كرجل ممن هاهنا من قومك وقومي. ويامحمد من للصبية؟ قال رسول اللّه (ص): النار. وكان قتله بعرق الظبية. وقال الواقدي: قتل بالصفراء. وقيل: ان رسول اللّه (ص) اسر به فصلب. فكان اول مصلوب صلب في الاسلام». الرواية الثانية: عن عامر الشعبي: «ان رسول اللّه (ص) قال لعقبة يوم بدر: واللّه لاقتلنك. فقيل: اتقتله من بين قريش؟ قال: نعم، انه وطي‌ء علي عنقي وانا ساجد، فما رفع حتي ظننت ان عيني قد سقطتا، وجاء يوما وانا ساجد بسلي شاة فالقاه علي راسي، فانا قاتله»، هذا ويلا حظ قول الرسول (ص) في الرواية الاولي «لعداوتك للّه ورسوله» فالعداوة للّه وللرسالة هي التي تحدد موقف الرسول لا الثار والانتقام لاغراضشخصية (المترجم).
[198] المنمق: ص 488.
[199] لا ينطلق الرسول (ص) في موقفه من اعدائه عن (دوافع شخصية)، ولا اعتقد ان المؤلف يقصد ذلك رغم كون العبارة توحي بذلك (المترجم).
[200] المنمق، ص 488.
[201] الانساب، ص 139، 140.
[202] سيرة ابن هشام: 2/ 33.
[203] سيرة ابن هشام: 1/ 385،386.
[204] الانساب: ص 140.
[205] لا ينبغي ان يفهم من عبارة المؤلف ان الامر بقتل النضر بن الحارث كان لدوافع شخصية، فهذا ما لا يمكن ان يقع بحق رسول اللّه (ص) الذي كان علي خلق عظيم والذي ارسل رحمةللعالمين. (المترجم).
[206] المحبر: ص 161.
[207] المحبر: ص 161.
[208] الانساب: 128.
[209] المنمق.
[210] سيرة ابن هشام: 3/ 46.
[211] الانساب: ص 131.
[212] انساب الاشراف: ص 10.
[213] الطبقات، 1/ 199.
[214] راجع تفصيل ذلك في الطبقات: 3/ 243.
[215] الطبقات، 1/ 200.
[216] تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون: ص 49.
[217] الطبقات: 1/ 199.
[218] لا نشارك المؤلف رايه في ان الهدف من تكثيف‌الانذار والتهديد والوعيد بيوم القيامة انما هو ردع كفار قريش‌عن غيهم وصدهم عن ارتكاب القتل والظلم والشرك والنهب وعبادة الاصنام فحسب، بل نعتقد ان السور المكية كانت لها اهداف ومقاصد ابعد من معالجة حالة انحراف مؤقتة ومحدودة، فقد كانت في صدد معالجة حالة انحراف عامة وشاملة كان الناس يعيشونها، وتتجسد في قضيتين اساسيتين هما: الشرك، ونكران الاخرة ويوم القيامة، ولم تكن هذه المسالة موضع اهتمام الرسالة الاسلامية فقط بل هي محور اهتمام الرسالات جميعا. (انا ارسلنا اليكم رسولا شاهدا عليكم كما ارسلنا الي فرعون رسولا، فعصي فرعون الرسول فاخذنه اخذا وبيلا، فكيف تتقون ان كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا) «المزمل: 15 - 17». فقد اراد القرآن الكريم عبر هذه السور ايجاد نظام جديد من شانه ان يهذب الانسان اي انسان كان ضعيفا او قويا ويحرره من قيود الذات واغلال الشرك واثقال الارض. بعبارة اخري حاول القرآن الكريم معالجة حالة انسانيةعامة، وليست مقصورة باهل الجاهلية فقط. (المترجم).
[219] لقد تقدم من الاستاذ المؤلف ما يخالف ذلك فقد قال‌في ص 65: «ان اعمال السلب والتجاوز والاعتداء كان يرفضها الوجدان العام للعرب منذ القدم، ولا يقرها الضمير الباطني لهم، لهذا كانوا يمتنعون عنها عند دخولهم حالات دينية كالاحرام». وفي معرض حديثه عن مراعاة الرسول (ص) لقومه وعدم استفزازه لهم حيث قال في ص 99: «ويبدو انه (اي‌الرسول (ص» كان يحترم طقوسهم الدينية الي الحد الذي لايجعله مرتبطا باخلاقهم وآدابهم الفاسدة». ثم يضيف: «فان‌تلك الاخلاق القبيحة، قبيحة في نظرهم ايضا، من قبيل ارتكاب القتل والزنا والسرقة وقطع الطريق». هذا اضافة الي ان التاريخ حدثنا عن وجود بعض القيم التي كانت تحترمها العرب علي جاهليتها وتسعي للالتزام بها، بينما كان هناك افعال اخري ترفضها ولا تقرها وهي قبيحة ومدانة في وجدانها العام وضميرها الباطن، وان اقترفها الكثيرون منهم. مثال ذلك ادانة الظلم واغاثة المظلوم، فقد جاء في اسباب حلف الفضول: «ان رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عنه حقه، فاستعدي عليه الزبيدي الاحلاف.. فابوا ان يعينوه علي العاص وزجروه، فلما راي الزبيدي الشر اوفي علي ابي قبيس‌عند طلوع الشمس وقريش في انديتهم حول الكعبة فصاح بالعلي صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الدار والنفر ومحرم اشعث لم يقض عمرته يا للرجال وبين الحجر والحجر ان الحرام لمن تمت كرامته ولا حرام لثوب الفاجر الغدر فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة.. وتعاقدوا وتحالفوا علي ان ترد الفضول الي اهلها وان لا يغزو ظالم مظلوما، وكان حلف الفضول. كما نري احترام قريش لبعض القيم من خلال حديث خديجة مع رسول اللّه (ص) يوم نزل عليه الوحي حيث قالت: «اعيذك باللّه يا ابا القاسم من ذلك، ما كان اللّه عز وجل ليفعل بك ذلك، مع ما اعلم من صدق حديثك، وعظم امانتك، وحسن خلقك، وصلة رحمك». سيرة ابن اسحاق نسخة بقرويين ص‌132، وحديث خديجة هذا يدل علي ان هناك قيما كانت تحترمها العرب وتعدها من الفضائل كالتي ذكرتها خديجة (المترجم).
[220] الطبري: 2/ 218، 219.
[221] الطبري: ص 219، 220.
[222] المصدر نفسه: ص 221.
[223] سيرة ابن هشام: 1/ 342.
[224] مونتغمري وات، محمد في مكة: ص 179، 180،181.
[225] الطبقات: 4/ 96.
[226] سيرة ابن هشام: 1/ 344 الي 346.
[227] الطبقات: 1/ 136 الي 138.
[228] الطبقات: ج‌3، القسم‌1، ص 107.
[229] الطبقات: 3/ 161.
[230] المصدر نفسه: 3/ 393.
[231] محمد في مكة: ص 111.
[232] انساب الاشراف: 1/ 198.
[233] طبقات ابن سعد: ج‌1، القسم‌1، ص 138.
[234] كتاب التفسير، سورة النجم.
[235] بحار الانوار:6/ 210 (الطبعة الحجرية).
[236] الاصنام: ص 19.
[237] ورد اسمه في طبقات ابن سعد: 1/ 204، كالتالي:ابوسلمة بن عبد الاسد المخزومي (المترجم).
[238] ضوي: اي انضم واوي.
[239] خضراؤهم: شجرتهم التي منها تفرعوا.
[240] شيوم: آمنون.
[241] الدبر: الجبل، بلغة الحبشة.
[242] تهذيب سيرة ابن هشام (عبد السلام هارون): ص 61 الي63.
[243] الاغاني:9/ 55، وما بعدها، طبعة دار الكتب.
[244] سيرة ابن هشام: 2/ 3 الي 8.
[245] يبدو انه كان قرب دار الارقم المجاورة للصفا، والتي حولها الرسول (ص) الي منطلق لدعوته المباركة.
[246] سيرة ابن هشام، (تهذيب عبد السلام هارون): ص‌53.
[247] الهينمة: الصوت الخفي الذي لا يفهم.
[248] الحجزة: موضع شد الازار.
[249] سيرة ابن هشام، (تهذيب عبد السلام هارون): ص 64 الي 66.
[250] تهذيب سيرة ابن هشام (تهذيب عبد السلام هارون):ص64.
[251] معجم البلدان: 3/ 294.
[252] الكامل في التاريخ: 1/ 604.
[253] الكامل في التاريخ: 1/ 604.
[254] انساب الاشراف: 1/ 234، سيرة ابن اسحاق، الرباط، ص 140.
[255] طبقات ابن سعد: 1/ 209.
[256] سيرة ابن هشام: 1/ 142، 143.
[257] سيرة ابن هشام: 1/ 287.
[258] المصدر نفسه: 1/ 296.
[259] طبقات ابن سعد: 1/ 209، 210.
[260] انساب الاشراف: 1/ 236.
[261] سيرة ابن اسحاق: ص 220، 223.
[262] صدرت بحوث ودراسات كثيرة حول ايمان ابي‌طالب، منهاما صدر اخيرا بعنوان (ابو طالب مؤمن قريش) للشيخعبداللّه الخنزي (المترجم).
[263] يذئرهم: يثيرهم ويجرئهم.
[264] الحبلة: شجرة العنب او قضبانها.
[265] مدينة في شمال العراق.
[266] احد واديين علي ليلة من مكة، يقال لاحدهما نخلة شامية وللاخر نخلة يمانية.
[267] سيرة ابن هشام: (تهذيب عبد السلام هارون): ص‌63.
[268] تاريخ الطبري: 2/ 231.
[269] عيون الاثر: 1/ 153.
[270] المصدر نفسه: 1/ 152.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.