موسوعة الشهيد الثاني المجلد 3

هویة الکتاب

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

موسوعة الشهيد الثاني

الجُزءُ الثَالِث

الرَّسائل / 2

الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

التحقیق: جمع من المحقّقین بإشراف رضا المختاري

الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة: مطبعة الباقري

الطبعة الأُولى 1434 ق / 2013م

الكمّيّة: 1000 نسخة

العنوان: 143 : التسلسل: 238

حقوق الطبع محفوظة للناشر

موسوعة الشهيد الثاني

الجُزءُ الثالث

الرسائل / 2

المركز العالي للعُلوم وَالثقافةِ الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

محرر الرقمي: مرتضی حاتمی فرد

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء الثالث

الرسائل / 2

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

ص: 3

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء الثالث (الرسائل / 2)

الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

التحقیق: جمع من المحقّقین بإشراف رضا المختاري

الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة: مطبعة الباقري

الطبعة الأُولى 1434 ق / 2013م

الكمّيّة: 1000 نسخة

العنوان: 143 : التسلسل: 236

حقوق الطبع محفوظة للناشر

العنوان: قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42

التلفون والفاكس: 7832833، التوزيع: قم 7832834: طهران 66951534

ص. ب: 37185/3858، الرمز البريدي: 16439 - 37156

وب سایت www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir

شهید ثانی زین الدین بن على 911-966ق.

موسوعة الشهيد الثاني / التحقیق: جمع من المحقّقین بإشراف رضا المختاري، الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي. المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة، 1434ق. = 2013م.

30 ج.

8 -74 - 5570 - 600 - 978 ISBN. (دوره)

6- 78- 5570 -600 - 978 ISBN (ج5)

فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیبا.

کتابنامه

مندرجات ج 3. الرسائل / 2. -

1. اسلام - مجموعه ها 2. دانش و دانش اندوزی - جنبه های مذهبی – اسلام. 3. اسلام و آموزش و پرورش 4. اخلاق اسلامی. الف. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی. ب. عنوان.

8م 92ش / 6 / 4 BP 08 / 297

ص: 4

دلیل

موسوعة الشهيد الثاني

المدخل = الشهيد الثاني حياته وآثاره

الجزء الأوّل = (1) منية المريد

الجزء الثاني = (2 - 6) الرسائل /1 : 2. كشف الريبة ؛ 3 التنبيهات العلية؛ 4. مسكّن الفؤاد؛.5 البداية؛ 6. الرعاية لحال البداية في علم الدراية.

الجزء الثالث = (7 - 30) الرسائل/ 2 : 7 تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد؛ 8. تقليد الميّت؛ 9. العدالة؛ 10. ماء البئر؛ 11. تيقّن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما؛ 12. الحدث الأصغر أثناء غسل الجنابة ؛ 13. النيّة؛ 14. صلاة الجمعة؛ 15. الحثّ على صلاة الجمعة؛ 16. خصائص يوم الجمعة؛ 17. نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار؛ 18. أقلّ ما يجب معرفته من أحكام الحجّ والعمرة ؛ 19. نيّات الحجّ والعمرة؛ 20. مناسك الحجّ والعمرة؛ 21. طلاق الغائب؛ 22. ميراث الزوجة؛ 23. الحبوة؛ 24. أجوبة مسائل شكر بن حمدان؛ 25. أجوبة مسائل السيّد ابن طرّاد الحسيني؛ 26. أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس؛ 27. أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني؛ 28. أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي؛ 29. أجوبة مسائل السيّد شرف الدين السمّاكي؛ 30. أجوبة المسائل النجفيّة.

الجزء الرابع = (31 - 43) الرسائل /3 : 31. تفسير آية البسملة؛ 32. الإسطنبولية في الواجبات العينيّة ؛ 33. الاقتصاد والإرشاد إلى طريق الاجتهاد؛ 34. وصيّةً نافعةٌ؛ 35. شرح حديث «الدنيا مزرعة الآخرة»؛ 36. تحقيق الإجماع في زمن الغَيْبَة؛ 37. مخالفة الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) لإجماعات نفسه؛ 38. ترجمة الشهيد بقلمه الشريف؛ 39. حاشية «خلاصة الأقوال»؛ 40. حاشية «رجال ابن داود»؛ 41. الإجازات؛ 42. الإنهاءات والبلاغات؛ 43. الفوائد.

ص: 5

الجزء الخامس = (44) تمهيد القواعد

الجزء السادس - الجزء التاسع = (45) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية

الجزء العاشر والجزء الحادي عشر = (46) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان

الجزء الثاني عشر = (47 - 49) المقاصد العلية وحاشيتا الألفيّة

الجزء الثالث عشر = (50) الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة

الجزء الرابع عشر = (51 و 52) حاشية شرائع الإسلام وحاشية المختصر النافع

الجزء الخامس عشر = (53) حاشية القواعد (فوائد القواعد)

الجزء السادس عشر = (54) حاشية إرشاد الأذهان

الجزء السابع عشر - الجزء الثامن والعشرون = (55) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام

الجزء التاسع والعشرون = الفهارس

ص: 6

فهرس الموضوعات

مقدّمة التحقيق...21

نماذج من مصوّرات النسخ الخطّيّة المعتمدة في التحقيق...25

القسم الأوّل: الاجتهاد والتقليد

7. تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد...5

قول المتأخّرين بالوجوب العيني للاجتهاد عند خلوّ العصر من مجتهد...8

مناقشة القول السابق في تعميمه الوجوب...9

مناقشة القول بسقوط قول المجتهد الميّت عن عن الاعتبار...12

خلو الزمان عن مجتهد بين المثبتين والنافين...16

اطلاع أهل العصر على الأعلم الأورع بين النفي والإثبات...19

8. تقليد الميّت...21

ردّ المؤلّف على أهل زمانه في كيفية التفقّه...25

الفرق بين نقل الرواية ونقل الفتوى...27

عدم إمكان اتّصال الوسائط في نقل الفتوى عن القدماء...29

لابد من تحصيل العدالة في فردٍ فردٍ من الوسائط...31

ص: 7

عدم الاجتهاد لأسباب: منها ضعف الهمم...33

الردّ على القول بمساواة المجتهد الميّت للحيّ في العمل بفتواه...37

مناقشة القول بجواز العمل بفتوى الميّت...40

جواز القضاء للقاصر عن الاجتهاد والردّ عليه...44

فتوى صريحة في بطلان الصلاة مع الإخلال بالتقليد...47

نصيحة الشهيد لطلبة زمانه وغيرهم...50

9. العدالة...53

تعريف العدالة...55

تعريف التقوى...57

تعريف المروءة...61

القسم الثاني: الطهارة

10. ماء البئر...65

اختلاف أصحابنا في نجاسة البئر بمجرّد الملاقاة...67

الأخبار الدالّة على النجاسة...68

الأخبار الدالّة على عدم النجاسة...69

مناقشة أدلّة القائلين بعدم النجاسة...73

للقائلين بالطهارة اعتبارات ظنّيّة على قولهم...79

مناقشة أدلّة القائلين بالنجاسة...82

الأقوال في نزح البشر...85

11. تيقّن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما...101

مناقشة قول الأكثر في وجوب الطهارة...103

ص: 8

قولان آخران في المسألة...107

معنى الحدث في عرف الفقهاء...110

ردّ على أحد قولي التفصيل....112

12. الحدث الأصغر أثناء غسل الجنابة...117

في المسألة ثلاثة أقوال...119

أدلّة الأقوال الثلاثة...120

مناقشة أدلّة القول الأوّل...123

مناقشة أدلّة القول الثاني...127

الحدث الأصغر أثناء غسل الارتماس...132

حدث واحد أكبر أم حدثان أصغر وأكبر ؟...135

اختيار المؤلّف...139

القسم الثالث: الصلاة

13. النيّة...145

الأصل في النيّة وفي اعتبارها...147

التحذير من إغواء الشيطان في النيّة...150

14. صلاة الجمعة...153

اتّفاق علماء الإسلام على وجوب الجمعة واختلافهم في شروطها...155

لأصحابنا قولان فيها في حال الغيبة: الوجوب والعدم...156

أدلّة القائلين بالوجوب...157

الدليل الأوّل: الآية الكريمة....157

ص: 9

الدليل الثاني: الأخبار الشريفة...160

مناقشة أحد الأخبار الموهمة....164

الدليل الثالث: استصحاب وجوبها السابق أيّام النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)...165

الأدلّة الثلاثة السابقة تدلّ على الوجوب العيني...166

السر في تهاون الأصحاب بصلاة الجمعة...168

الدليل الرابع: التمسّك بأصالة الجواز...170

الدليل الخامس: القول بالوجوب قول أكثر المسلمين لا يخرج منه إلّا الشاذ... 172

وجوب صلاة الجمعة - حال الغيبة - بشرط حضور الفقيه...175

مناقشة أوّل أدلّة هذا القول...176

مناقشة الدليل الثاني وهو الرواية...177

مناقشة الدليل الثالث وهو الإجماع...181

مناقشة عبارة العلّامة (رحمه اللّه)... 184

مناقشة عبارة الشهيد الأوّل (رحمه اللّه)... 187

قول المفيد (رحمه اللّه) في المسألة بوجوبها مطلقاً...191

قول الصدوق (رحمه اللّه) بوجوبها مطلقاً...193

قول أبي الصلاح الحلبي (رحمه اللّه) بوجوبها مطلقاً...194

قول القاضي الكراجكي (رحمه اللّه) بوجوبها مطلقاً...196

أقوال المتأخّرين...199

ردّ شبهة...201

القول بعدم شرعيّة الجمعة في الغيبة...204

ردّ الشبهة الأولى لهذا القول: الإجماع...205

ردّ الشبهة الثانية: صلاة الظهر ثابتة في الذمّة...209

ردّ الشبهة الثالثة: انتفاء الوجوب العيني...210

ص: 10

ترغيب المؤلّف وحثّه على صلاة الجمعة...214

الأحاديث المرغبة في صلاة الجمعة...215

الصلاة الوسطى أفضل فرديها الجمعة...218

رؤوس المطالب في بحث صلاة الجمعة...220

15. الحثّ على صلاة الجمعة...221

أمر القرآن الكريم بصلاة الجمعة...223

الأحاديث الشريفة وصلاة الجمعة...224

16. خصائص يوم الجمعة...229

1 - أفضل الأيّام...232

2 - سيد الأيّام....232

3 - عيد هذه الأمّة...233

4 - صلاة الجمعة فيه...233

5 - صلاة الجمعة تعدل حجّة...234

6 - صلاتها جهريّة مع أنّ صلاة النهار سرّيّة...235

7 - قراءة سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة...235

8 - اختصاصها بالجماعة بشرائط خاصة...236

9 - الطبع على قلب من تركها...237

10 - شرعيّة الكفّارة لها لو تركها....238

11 - الخطبة قبلها....238

12 - استحباب الغسل لها...239

13 - استحباب التعطّر والتزيّن و... لصلاة الجمعة...239

ص: 11

14 - لبس أحسن الثياب...240

15 - التبكير إلى المسجد...241

16 - الإكثار من الصلاة على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...242

17 - مضاعفة أجر الذاهب إلى الجمعة....243

18 - استحباب صلاة عشرين ركعة في يومها...244

19 - نفي كراهية النافلة وقت الاستواء...244

20 - لا يستحبّ الإبراد بصلاتها في شدّة الحرّ...245

21 - تأخير الغداء والقيلولة عن صلاة الجمعة...245

22 - قراءة الفاتحة والإخلاص والمعوّذتين سبعاً سبعاً...245

23 - فيها ساعة الإجابة...246

24 - تحريم السفر قبل صلاة الجمعة...247

25 - قراءة سور مخصوصة في نهارها منها سورة الكهف...247

26 - تكفير الآثام...249

27 - أمان من عذاب القبر لمن مات في يومها أو ليلتها...249

28 - الأمان من فتنة لمن مات في يومها أو ليلتها...249

29 - الحكم لمن مات في يوم أو ليلتها بالشهادة...250

30 - مات فيها مؤمناً كتبت له براءة من النار...250

31 - يوم المزيد...250

32 - اليوم المدّخر لهذه الأُمّة...251

33 - يوم العتق من النار...251

34 - الحسنة والسيّئة والصدقة فيه تتضاعف...251

35 - كراهية الحجامة فيه...252

36 - تبخير المسجد...252

ص: 12

37 - النهي عن الاحتباء وقت الخطبة...252

38 - اختصاصه في دار الدنيا بزخرفة الجنان لمن أتى صلاة الجمعه...252

39 - للمجامع فيه أجران...253

40 - عبادات كثيرة وأدعية خاصة بهذا اليوم....253

17. نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار...257

أقوال الفقهاء في المسألة...259

خروج ناوي المقام في البلد منه ناوياً مفارقته...262

نيّة قصد المسافة...263

العزم على العود إلى موضع الإقامة مع عدم إقامة عشرة...265

لو كان طريق المقصد مستديراً....268

الفتوى في المسألة...270

تقرير المؤلّف للمسألتين....276

صور المسألة سبع صور...281

اثنا عشر تنبيهاً للمؤلّف...286

القسم الرابع: الحجّ

18. أقلّ ما يجب معرفته من أحكام الحجّ والعمرة...297

صفة عمرة التمتّع...299

عقد الإحرام...300

التحلّل من عمرة التمتّع...301

صفة حجّ التمتّع...302

ص: 13

19. نيّات الحجّ والعمرة

نيّة غسل الإحرام والإحرام....307

نيّة السعي....308

نيّة الوقوف بعرفة...309

نيّة الطواف بالبيت الحرام...310

20. مناسك الحجّ والعمرة...313

الحجّ من أركان الإسلام، وفضل الحجّ....315

المستحبّات لمن أراد الحجّ...317

إحضار القلب في حركاته وسكناته...321

أنواع الحجّ...323

أفعال عمرة التمتّع:...325

1 – الإحرام...325

2 - الطواف....330

3- السعي....334

4 – التقصير...336

أفعال الحجّ:...337

1 – الإحرام...337

2 - الوقوف بعرفة...338

3 - الوقوف بالمشعر الحرام...339

4 - نزول منى يوم النحر....341

5 - العود إلى مكّة للطوافين والسعي...344

ص: 14

6 - العود إلى منى للمبيت بها...344

من وظائف الحجّ القلبيّة...348

القسم الخامس الطلاق

21. طلاق الغائب...361

اختلاف الأصحاب في طلاق الغائب...363

منشأ اختلافهم الأخبار الواردة...364

جمع الشيخ والمتأخّرين بين الأخبار...368

قولان منشؤهما القواعد الشرعيّة...370

ثمان صور متشعبة من هذه المسألة...372

1 - أن يطلقها مراعياً للمدّة المعتبرة...372

2 - أن يطلقها كذلك ولكن ظهر بعد ذلك كونها حائضاً...372

3 - الصورة السابقة مع أنه طلّق بعد المدّة المعتبرة...372

4 - الصورة بحالها لكن اتّفق له مخبر بأنها حائّض...374

5 - الصورة بحالها لكن المخبر أخبر بكونها طاهراً وقد واقعها في ذلك الطهر...376

6 - أن يطلقها مراعياً للمدة المعتبرة...378

7 - أن يطلقها قبل مضيّ المدّة المذكورة...379

8- أن يطلق قبل الاستبراء...380

الصور السابقة ليست مذكورة صريحاً في كتب الأصحاب...381

نقد نقل المحقّق الكركي عن فخر الدين...383

القسم السادس: الميراث

22. ميراث الزوجة...395

مخالفة مذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) للجمهور في مسألتين...397

ص: 15

ما تحرم منه الزوجة من أعيان التركة والأقوال في ذلك...399

أدلّة المشهور وهو حرمانها من نفس الأرض...400

مناقشة هذه الأدلّة...401

أدلّة القول الثاني: إرثها من كلّ شيء...405

من هي الزوجة التي تُحرم؟...415

كيف تُحرم ممّا ثبت الحرمان منه؟...420

قول المرتضى والردّ عليه...421

هل الحرمان مستحق عليها أم لا؟...426

الحكمة من هذا الحرمان...428

التركة بالنسبة إلى ارث الزوجة منها وعدمه ثلاثة أقسام...430

لا فرق في المساكن بين ماكان يسكنه الميّت بنفسه وغيره...431

آلات البناء ترث منها قبل تمام البناء...432

كيفيّة تقويم حقها من البناء والشجر...433

هل دفع الوارث القيمة قهري أم اختياري؟...434

لو خلّف زرعاً أو ماء، فما ذا تستحق؟...437

تلخيص أقوال هذه المسألة...439

23. الحبوة...441

تعريف الحبوة...445

كمّيّة ما يُحبّى...447

الأخبار في الحبوة...447

نحو عشرين مبحثاً في الحبوة...450

هل اختصاص الابن الأكبر واجب أو مستحبّ؟...459

ص: 16

حجّة القائل بالاستحباب...461

مستحق الحبوة والشروط الواجبة فيه...464

كيف تستحق الحبوة: مجاناً، أم بالقيمة السوقيّة؟...473

مباحث في كيفيّة استحقاق الحبوة...476

لم يحبى الولد الأكبر دون غيره من الورثة؟...480

عشر مسائل فيما تتعلق بالحبوة واستحقاقها...483

القسم السابع: أجوبة المسائل

24. أجوبة مسائل شكر بن حمدان...493

التوبة الصادقة ثم الوقوع في المعصية....495

من عبارات التشهد الأخير في الصلاة...497

مسألة في الصابون إذا جهل صانعه...497

عقص الشعر والقول فيه...499

تعريف الكعبين اللذين يُمسحان من القدم...502

تفسير آية...505

غسل الجنابة واجب لنفسه أم لا؟...507

ماء غسلت به النجاسة ولم يتغيّر، هل هو طاهر أم لا؟...509

مسألة في الزكاة...511

شرح عبارة من كتاب القواعد للعلّامة...513

25. أجوبة مسائل السيّد ابن طرّاد الحسيني...515

مسألة عن لبس المخيط في الحجّ...519

الغني وإعطاؤه من الخمس والزكاة...520

ص: 17

الخمس في أرباح التجارات...524

قاطع الطريق ودفعه...526

26. أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس...529

هل يجوز شدّ الإزار في الإحرام والتمنطق...531

27. أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني...535

سؤال في الوصيّة...537

القهوة وحبّ البن والحشيشة حرام أم حلال؟...539

28. أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي...543

العلاقة بين صلة في زيادة العمر و بين الأجل المكتوب...545

إباحة التصرّف في الثمار في الأشجار بعد إعراض المالك...548

النذر على الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)...550

المال المغصوب لا يجب أخذه وإيصاله إلى أهله...553

انتفاع المسلم بالأرض المختصة بالإمام...555

تفسير آية «وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه:...559

نقل فرش مسجد إلى مسجد آخر...561

29. أجوبة مسائل السيّد شرف الدين السمّاكي...565

سؤال عن كيفية غسل المني الذى على البدن...567

بعض عبارات الفقهاء في المسألة السابقة...571

قطعة جلد الإنسان المنفصلة طاهرة أم لا ؟...573

ص: 18

إذا كانت القطعة المذكورة خالية من عظم...576

وصيّة المريض...578

29. أجوبة المسائل النجفيّة...583

مسألة في الضمان...585

البيع مع الخيار وتصرّف المشتري في العين...587

طلاق الغائب...589

التسليم على المصلّي...592

تيقن الطهارة والحدث والشك في السابق...596

الشك بين الأربع والخمس بعد الركوع وقبل السجود...598

المتيمم وجد الماء وتمكن من استعماله...603

في الوصيّة...605

العقد على امرأتين لمن عنده ثلاث زوجات...610

مسألة في القسمة، وشرح عبارة من الشرائع...612

تقرير دليل حصّة الذكر حصّة أُنثيين...614

ص: 19

ص: 20

مقدّمة التحقيق

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

أمّا بعد، فقد كان اهتمامي بكتب ومصنّفات الشهيد الثاني (رحمه اللّه) ليس بجديد عهد، بل هو يمتد إلى ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم لم يغب يوماً عن بالي فكراً ولا أثراً.

وقد بدأت هذه المسيرة العطرة مع هذه الشخصيّة المرموقة في سني أيّامي الأُولى من الدراسة الحوزويّة، حيث اتفق أن اطلعت على إحدى مصنّفاته، وهو كتابه الشهير منية المريد، فصرت أطالعه بنهم، ثمّ حضرت بعد ذلك درس أحد مشايخي الذي راح يشرح الكتاب ويوضح معانيه، والذي كان باللغة العربيّة.

كما قمت آنذاك بمطالعة الترجمة الفارسية للكتاب وبعض كتبه الأُخرى، الأمر الذي جعل اهتمامي بهذه الشخصيّة يتزايد بوتيرة متصاعدة، حتّى تسنّت لي الفرصة بالقيام بتحقيق بعض آثاره الجليلة.

ومنذ ذلك الحين صرت أهيم الآفاق باحثاً عن مصنّفات هذا العملاق وسائر آثاره، وجامعاً المعلومات والنسخ الخطّيّة المختلفة لتأليفاته، وعندئذٍ سنحت لي الفرصة بتحقيق رسالتين من رسائله العلميّة الشيقة، وقمت بنشرهما في مجلّة تراثنا الغرّاء (1).

ص: 21


1- العدد (14) سنة 1407ه والعدد (22) سنة 1411ه. وهما رسالة وصيّة نافعة ورسالة «الاسطنبولية في الواجبات العينيّة».

إنّ موضوع جمع النسخ المختلفة لم يكن بالأمر الهين آنذاك، نظراً لصعوبة المواصلات وانعدام الوسائل التي تساعدك على معرفة ما تحويه الخزانات والمكتبات المتناثرة هنا وهناك، إضافة إلى الظروف السيئة التي كانت تحيط بالحوزة العلميّة الشيعية وطلبتها وأساتذتها.

لذا، فمن أجل جمع النسخ المختلفة كان يحتاج إلى الوقت الطويل، والمال الكثير، والعدّة الكافية، إضافة إلى المشاق والصعاب التي تواجه مثل هذه النشاطات العلميّة الميدانيّة على جميع الأصعدة.

إلّا أن ذلك لم يكن مانعي عن إنجاز ما عزمت عليه، ولا حائلاً دون بلوغ مرادي في أن أُنجز بعض الذي عليَّ من مسؤولية تجاه شخصيّة فذة كانت تحتل مكاناً مرموقاً في عالمنا الإسلامي آنذاك، ومقاماً سامياً بين علماء وفقهاء عصره.

رسائل الشهيد الثاني

لقد كانت ثمرة أسفاري ورحلاتي أن عثرت على ما يقارب الأربعين رسالة للشهيد الثاني، والتي تعدّ بعض أهم آثاره التي طارت أخبارها الآفاق، ولم يكن آنذاك منشور ومحقق إلّا ما يقارب العشرين رسالة فحسب(1).

على أنّ ما نُشر منها آنذاك لم تكن تخلو من الأغلاط الإملائية والفنية والمطبعية، كما كانت مطبوعة على الحجر.

ولمّا تسنّت لي الفرصة قمت بترتيب جميع الرسائل والإجازات، إضافة إلى الفوائد المتفرّقة للشهيد الثاني في أربعة عشر قسماً بعدد المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وقمت بتحقيقها بمعونة بعض الإخوة من المحقّقين العاملين في مركز إحياء التراث الإسلامي التابع للمركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة، وتصدّى المركز المذكور بمهمة طبعها ونشرها

ص: 22


1- والرسائل التي حقّقناها ولم تكن منشورة من قبل هي المرقمة هنا: 1، 2، 3، 7، 12، 13، 14، 18، 19، 21،20، 22، 24، 25، 26، 28، 29، 31، 32، وكثير من الإجازات، وجميع القسم الرابع عشر.

في مجلّدين، الأوّل منهما ضمّ الرسائل ذات الفحوى الفقهي، والآخر ضمّ الرسائل ذات موضوعات مختلفة، من تفسير وكلام وأخلاق وتراجم ورجال وإجازات وفوائد أُخرى متفرّقة.

هذا، وقد قمت بتحقيق ستّ رسائل منها اعتماداً على نسخ بخطّ المؤلّف نفسه (طاب ثراه) وهي:

1. رسالة الحدث الأصغر أثناء غسل الجنابة.

2. رسالة نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار.

3. رسالة طلاق الغائب.

4. رسالة الحبوة.

5. رسالة ميراث الزوجة.

6. أجوبة المسائل النجفيّة.

كما قمت بتحقيق بعض آخر منها اعتماداً على نسخة واحدة فقط، إذ لم أجد سواها وإن أوجد لي مشاكل في مراحل التحقيق، وهي:

أ - أجوبة مسائل شكر بن حمدان.

ب - أجوبة مسائل السيّد ابن طرّاد الحسيني.

ج - أجوبة المسائل النجفيّة. وكثير من الإجازات والفوائد المتفرّقة.

ولمّا تقرّر مؤخّراً طبع ونشر جميع آثار الشهيد الثاني بقالب موسوعي يشمل كلّ مؤلّفات ومصنّفات هذه الشخصيّة الملفتة للنظر، من قبل مركز إحياء التراث الإسلامي، طلبت مديرية المركز الأغرّ منّي العمل بالتنسيق مع اللجنة المشرفة على هذا المشروع، و تقديم ما يلزم ليناسب شروط العمل الموسوعي المقترح، من مراجعة المطالب، وتهذيب بعضها، وتفسير بعض الهوامش أو تبديلها بما يوافق الطبعات الحديثة، بمساعدة عدة من محقّقي المركز المذكور، فلم أبخل بما لدي من تقديم ما يلزم ذلك على جميع المستويات، فصارت الرسائل في ثلاثة مجلدات تليق بشخصيّة مؤلّفها، وتوائم ذوق عصرنا الحاضر.

ص: 23

وإذ أشكر اللّه سبحانه وأحمده على ما من من النعم، بعد أن هيّأ لي فرصة أُخرى لخدمة الدين والمذهب، وهذه الشخصيّة الفذّة التي أحببتها منذ زمن بعيد، أتقدّم بجزيل شكري إلى كلّ من أعانني على إنجاز هذا العمل الشاق والمضني، من تقديم المساعدة على مستوى التحقيق أو التدقيق أو مراجعة الهوامش، أو على مستوى المتابعة الفنّية، فجزاهم اللّه خيراً، كما لا يفوتني من تقديم شكري وثنائي إلى مركز إحياء التراث الإسلامي على حسن تعامله وعظم نشاطه في تقديم ما هو أجود للقراء، فبارك اللّه فيه وجميع العاملين، ونخص بالذكر عليّ أوسط الناطقي، عباس المحمدي، حسين الشفيعي، أسعد الطيب، غلام رضا النقي، لطيف فرادي، أحمد العابدي، محمد رضا النعمتي، غلام حسين الدهقان، عليّ،المختاري، غلام حسين قيصريه ها، السيّد أبو الحسن المطلبي على الأسدي أبو مقداد محسن النوروزي

آمين يا ربّ العالمين.

رضا المختاري

4 رمضان المبارك 1431ه

ص: 24

نماذج من مصوّرات النسخ الخطّیّة المعتمدة في التحقیق

الصورة

ص: 25

الصورة

ص: 26

الصورة

ص: 27

الصورة

ص: 28

الرسائل / 2

ص: 1

ص: 2

القسم الأوّل: الاجتهاد والتقليد

إشارة:

ويَضُمُّ ثلاثَ رسائلَ:

(1) تخفيفُ العِباد في بيانِ أحوالِ الاجتهاد

(2) تقليد الميّت

(3) العَدالة

ص: 3

ص: 4

7. تخفيفُ العِباد في بيانِ أحوال الاجتهاد

إشارة:

تحقيق

رضا المختاري - حسين الشفيعي

مراجعة

أسعد الطيّب

ص: 5

ص: 6

بسم اللّه الرحمن الرحيم وبه نستعين

اللّهم أرنا الحقّ حَقًّاً واجْعَلنا من أهله وأنصاره، وأرنا الباطلَ باطلاً وثبِّتنا على اجتنابه وإنكاره، وصلّ على محمّدٍ حبيبك أمين الوحي ومخزن أسراره، وعلى أهل بيته المعصومين القائمين بسُنَنِهِ وآثاره.

أما بعد، فهذه مقالة في تحقيق ما وقع فيه الاختلاف في تحقيق ما وقع فيه الاختلاف من وجوب الاجتهاد وعدمه، إذا كان المجتهد مفقوداً في عصر من الأعصار؛ ورسالةٌ مشتملةٌ على تفتيش ما ذهب إليه جمع من الفقهاء من إيجابه على المكلّفين(1)، قد أبْرَزْتُ فيها ما خَطَرَ في بالي، وبَيَّنْتُ فيها ما دارَ في خَلَدي بمقالي، وسَمَّيْتُها بتخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد. فعليك أن تنظر فيها بعين الإنصاف، مُتَجَنِّباً عن المكابَرَة والاعتساف، واحفظ في ذلك وصيّة سيّد الأوصياء وإمام الأتقياء (عليه الصلاة الأوفى والتحيّة الأعلى): «لا تَنْظُر إلى مَنْ قال وانظر إلى

ص: 7


1- حكاه عن بعض القدماء وفقهاء حلب الشهيد في ذكرى الشيعة، ج 1، ص 6 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5) قال المصنّف (رحمه اللّه) في المقاصد العلية، ص 52 (ضمن الموسوعة، ج 12):«... وجدنا لأصحابنا قولين: أحدهما: قول كثير من القدماء وفقهاء حلب كأبي الصلاح وابن حمزةَ بوجوب الاجتهاد عيناً، وعدم جواز التقليد لأحد البتَّةَ، وهو قول عجيب غريب...؛ وثانيهما: قول المتأخّرين والمحقّقين من أصحابنا أنّه واجب على الكفاية، وأنّه متى قام به أحد وجب على من قصر عن مرتبة الاستدلال الرجوع...». وانظر ما سيأتي في رسالة تقليد الميّت، ص 11 وما بعدها

ما قال»(1)؛ فإنّ الحقّ أحقُّ بالاتباع، كما قال بعض الحكماء: «سُقراط حبيبنا والحقُّ حبيبنا، فإن اختلفا فالحق أحقُّ بالاتّباع». وأسأل اللّه التوفيق وإلهامَ التحقيق.

فاعلم أيُّها الحريصُ الطالبُ للحقِّ والتحقيق أنه قد اتّفقت كلمة فرقةٍ من فضلاء المتأخّرين من علمائنا، ومقالةُ جماعة من الإماميّة من فقهائنا، أنّه إذا خَلا العصر من المجتهد الذي يُرْكَنُ إليه في الأقوال، ويُعْتَمَدُ عليه في الأحكام والأعمال - وهو العدل العارف بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة من أدلّتها التفصيليّة - وجب حينئذٍ على جميع المكلّفين السعيُ والتوجّهُ إلى تحصيل ملكة الاجتهاد. وقد مال إلى هذه المقالة شيخنا(2) (قَدَّسَ اللّه روحه) في بعض تعليقاته، حيث قال:

الاجتهاد واجب على الكفاية؛ فإذا لم يَقُم به أحدٌ بخصوصه من أهل النظر والاستدلال، ولم تكن هذه الحالةُ موجودةً محقّقةً في أحد المكلّفين من أهل العصر، تَعَلَّقَ هذا التكليف بالجميع، ووجب على كلّ واحدٍ منهم استفراغُ الْوُسْعِ في تحصيل هذا الأمر وبَذْلُ الجُهْد في حُصولِ هذا المرام. انتهى كلامه ملخّصاً.

وهذا الكلام مبنيٌّ على أن الميّت لا قول له واعتَبَرُوا في صحّة العمل قوله في حياته، وأسقطوا اعتباره بعد مماته. والدليل المشهور في بيان هذا المطلب من علماء الإماميّة وأهل السنّة انعقاد الإجماع على خلاف قوله بعد موته. وتفصيل مقالتهم مذكور في كتب الأُصول(3)

فهنا مقامان:

قول المتأخّرین بالوجوب العیني للاجتهاد عند خلوّ العصر من المجتهد

المقام الأوّل: أن الاجتهاد يجب على جميع المكلّفين يجب على جميع المكلّفين عند خلوّ العصر من المجتهد.

ص: 8


1- شرح غرر الحكم، ج 6، ص 266، ح 10189: وج 3، ص 442، ح 5048 : كنز العمّال، ج 16، ص 269، ح 44397 ونقله بعضهم هكذا: «أنظر إلى ما قيل، ولا تنظر إلى من قال».
2- لعلّه الفاضل الميسي عليّ بن عبد العالي (رضوان اللّه عليهما).
3- انظر معارج الأُصول، ص 200: مبادئ الوصول، ص 248.

والمقام الثاني : أنه إذا مات المجتهد لم يُعتبر قولُه شرعاً. وتوضيح المرام في المقام الثاني يستدعي بسطاً في الكلام فنقول:

حاصل كلامهم - في بيان عدم الاعتداد بقول الميّت - أنّه إذا انْحَصَر الاجتهاد في عصر من الأعصار في عدد معيَّنٍ - كعشرين مثلاً - واتَّفَقَ الكُلُّ على وجوب حكم من الأحكام - كوجوب سورة بعد الفاتحة مثلاً في الفرائض اليوميّة - إلّا واحداً منهم، فما دام هذا المجتهدُ المخالفُ حيّاً لم يكن الحكم المذكور إجماعيّاً؛ لمخالفته إيّاهم، وليس هذا إلا لاعتبار قوله واعتبار خلافه في نظر الشرع حال حياته، فإذا مات هذا المخالفُ صارتْ مقالةُ الباقين إجماعيّةً؛ إذ المفروض أنه لا مخالفَ لهؤلاء الباقين في العصر سواه. وإذا ثَبَتَ أنه يتحقّق الإجماع على خلاف قوله تحقّق أن قوله بعد موته ليس معتبراً في نظر الشرع، وإلّا لم يتحقّق الإجماع بعد موته، كما لم يتحقّق في حال حياته.

ومِن هذا التقرير ظَهَرَ أنّ في المبحث قياساً هذه صورته: «هذا قول الميّت». و«كُلُّ قول للميّت ليس معتبراً في الشرع». ف«هذا القول ليس معتبراً في الشرع». أمّا الصغرى فظاهرة؛ وأما الكبرى فبيانها أنه قول ينعقد الإجماع على خلافه. وكُلُّ قول ينعقد الإجماع على خلافه ليس معتبراً في الشرع فهذا القول - أعني قول الميّت - ليس معتبراً في الشرع وسيرِدُ عليك ما يتوجّه على صغرى هذا القياس أعني قوله: «إنّه قول ينعقد الإجماع على خلافه».

مناقشة القول السابق في تعمیمه الوجوب

وإذا عرفتَ زُبْدَة الكلام في المقامين فنقول: في كليهما بحث، أمّا في الأوّل فلأنّ توجيه التكليف المذكور - أعني وجوب الاجتهاد - نحو جميع المكلّفين بحيث لا يَشُذّ منهم أحدٌ عند خلوّ العصر من المجتهدين، وإيجابَه عليهم أجمعين، ممّا لا يُذْعِنُه [كذا، ظ: لا يُذْعِنُ به] سليمُ الفِطرة، ولا يَرْكَنُ إليه صحيحُ الفِكرة؛ إذ لا يخفى على المُنْصِف أنّ المكلّفين - بحسب الأمزجة الأصلية والطبائع التي جُبِلُوا عليها - على طبقات شتّى:

فمنهم طائفة طبائعهم قريبة إلى الاعتدال الحقيقي، فلهم أذهانٌ وقّادةٌ وعقولٌ درّاكةٌ

ص: 9

وطبائع سليمةٌ وأفهامٌ مستقيمةٌ.

ومنهم طائفةٌ ليستْ أمزِجَتُهم بذلك القُرْبِ إلى الاعتدال، فليس لأفهامهم اشتعالٌ كذلك الاشتعال(1)، ولكن يُمكن لهم بالكد التامّ والسعي البليغ تحصيل النظريّات بالاستدلال.

ومنهم طائفةٌ ليس لهم حَظٌّ من المطالب الدقيقة والمقاصد الخفية، بحيث لا ينالونها إلّا بالعشر المقرون بالحرج المنفيّ بالآية(2).

ومنهم مَن في جِبلّته البَلَهُ والبلادة، بحيث لا ينفع فيه العِلاجُ، ولا ينفكُّ عنه ما هو مقتضى المِزاج؛ فلا يَفْهَمُ إلا بعض البديهيّات.

ومنهم مَن هو كثيرُ النِسْيان، ضعيفُ الحافظة، بحيث لا يقدِرُ على تحصيل الملكة التي يتمكّن بها من استخراج الفروع من مأخذها.

وهذه الدرجات المتفاوتة والمراتب المختلفة حاصلة في المكلّفين لا يُنْكِرُها إلا المكابرون الذين هم للحقِّ كارهون.

وكفاك شاهداً على هذا اختلاف أحوال الصحابة في مبدإ الإسلام؛ فإنّ منهم من صَدَّقَ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وآمَنَ به بمجرّد صحبته وسماع كلامه وحُسنِ إفادته ومشاهَدَةِ أخلاقه. ومنهم مَنْ آمن به بعد مشاهدةٍ مُعجزةٍ واحدةٍ مرّةً واحدة. ومنهم من لم يُؤْمِنْ به إِلّا بعد مشاهَدَة المعجزاتِ ومنهم مَنْ لم يَكتفِ بالمعجزة، بل استشار أصحابه في إيمانه وتصديقه، وظاهر أنّ هذا التفاوت بينهم ليس إلا لاختلافهم بحسب الأمزجة والاستعدادات.

وبعد هذا التفصيل والإحاطة، لا يخفى عليك أن توجية التكليف المذكور نحوَ عامة المكلّفين ممّا يَسْتَبْعِده العقلُ، ولا يُساعده النقلُ؛ لأنه كالتكليف بما لا يُطاق بالنسبة إلى بعض الفِرَق المذكورة.

ص: 10


1- في بعض النسخ: «اشتعال كلّ الاشتعال».
2- الحجّ (22): 78: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ».

وأقلّ ما يلزم من ذلك العُسْرُ والحَرَج الذي هو منتفٍ بالآية(1). وأَيُّ حَرَج أعظمُ من تكليف ضعيف الفهم عديم الذَكاء، بعيد الفِطانة، كثيرِ النسيان، ضعيف الحافظة، بالمطالب التي يحتاجُ في تحصيلها إلى إمعان النظر في تحصيل الملكة التي يُتَمَكَّنُ بها من استخراج الفروع من مآخذها ولا ريب أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الاجتهاد من المطالب الدقيقة التي لا ينالُها إلا مَنْ هو ذو حظ عظيم، ولا يَصِلُ إليها إلا كلّ ذَكيّ فهيم. قال شارح التهذيب:

من شرائط الاجتهاد أنْ يكونَ له قوّة استخراج المسائل الفرعية من المسائل الأُصوليّة - أعني المستفادة من النصوص من الكتاب والسنّة - بأنْ يكونَ فَطِناً ذَكِيّاً حَسَنَ الإدراك (2). انتهى كلامه.

وهو صريحٌ فيما ذكرناه، فيكون توجيهُ هذا التكليف - أعني الاجتهاد - إلى بعض الفرق كالتكليف بما لا يُطاق عقلاً ونقلاً.

وممّا يُؤيد مقالتنا كلام صاحب المهذّب في باب الزكاة، وهذا محصّلُه:

إن كان المكلّف طالباً لدرجة الاجتهاد أو قد بلغها، والناس محتاجون إليه للتعلُّم. فجازَ له أنْ يَأْخُذَ مِن الزكاة - ويَتْرُكَ التكسُّب - القدر الذي يدفع حاجته. وإن كان يعلم أنه لا يبلغ درجة الاجتهاد لم يَجُز له أنْ يَأخُذ شيئاً من الزكاة، بل يجب عليه حينئذٍ أنْ يَشْتَغل بالتكسُّبِ ويَتْرُكَ الزكاة؛ فإنّ التكليف المذكور قد سَقَطَ عنه (3). انتهى كلامه مُلَخَّصاً.

ووجه تأييده لما قلناه ظاهر؛ لأنّ ما ذكره من العلم بالوصول إلى هذه الدرجة والعلم بعدم الوصول إليها دال على أن المكلّف لا يخفى عليه حاله من البلوغ إلى

ص: 11


1- الحجّ (22): 78: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ».
2- مُنية اللبيب، ص 360.
3- المهذّب البارع، ج 1، ص 530.

درجة الاجتهاد، وعدم بلوغه إليها بشهادة القرائن والأمارات والشواهد التي تَشْهَدُ بأحوال الناس.

وبعد هذا التفصيل والتوضيح فلا أظُنُّكَ في مِرْيةٍ مما قلناه. وإذا عرفت ذلك فالتحقيق الذي لا محيص عنه - أنه على تقدير تسليم انحصار طريق معرفة الأحكام الشرعيّة في الاجتهاد، وأنّ الميّت لا قول له - وجوب الاجتهاد حينئذٍ على بعض الفرق المذكورين، وهم الذين لهم فِطرة سليمة وطبيعة وقادة وأذهان درّاكة كالفرقة الأولى ومَنْ يَليهم، دون غيرهم؛ للتعذر أو التعشر المنفي بالآية(1).

لا يقال: لا يُعْلَمُ التعذَّرُ عن الوصول إلى هذه الدرجة إلّا بعد التوّجه والخوض في المبادئ، فصح كلام المستدِلّ، أعني قوله: «إذا خَلا العصر من المجتهد تَعَلَّقَ تكليف الاجتهاد في أوّل الأمر بكلّ واحدٍ من المكلّفين، ووَجَبَ الطلب عليهم والسعي في تحصيل هذا الغرض حتّى يُعْلَم بذلك حالهم من العجز وعدمه».

لأنّا نقول: هذا لا يتم بالنسبة إلى الذين خاضوا في المبادئ، وأتُعَبُوا أنفسهم في التحصيل زماناً طويلاً في زمان حياة المجتهد، وبالغُوا في الطلب ومع ذلك لم ينالوا من الدقائق شيئاً على أنا نقول: إذا شَهِدَتِ القرائن الجليّة بحال المكلّف - كعدم فطانته وانتفاء ذكائه وضعفِ فهمه وحافظته وكثرة نسيانه - لم يُسْتَبْعَد سقوط هذا التكليف عنه كمن ظَنَّ أنَّ استعمال الماء الباردِ يَضُرُّ في الغسل أو الوضوء بشهادة القرائن؛ فإنَّه يَسْقُطُ عنه حينئذٍ تكليف الطهارة المائية، ويجب عليه حينئذٍ العدول إلى التيمم. وهذه خلاصة البحث في المقام الأوّل.

مناقشة القول بسقوط قول المجتهد المیّت عن الاعتبار

وأمّا البحث في المقام الثاني فهو أنّ كُبرى القياس الأوّل - أعني قوله: «وكلّ قول للميّت ليس معتبراً في الشرع» - لا تخلو إمّا أن تكون على خيال المستدلّ من قبيل

ص: 12


1- الحجّ (22): 78: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ».

الدأئمّة، بمعنى أنّه لا يعتبر قوله دائماً في جميع الأوقات والأحوال، أي سواء كان العصر خالياً من المجتهد أو يكون موجوداً فيه؛ وإما أن تكون مطلقةً غيرَ مقيَّدةٍ بحال من الأحوال. فعلى الأوّل - أي على تقدير أن تكون دأئمّة - يكون المراد منها أنّ قولَه لا يُعْتَبَر دائماً في جميع الأحوال والأوقات. فيكون المذكور في بيان هذه الكبرى في القياس الثاني - أعني صغراه وهي قوله «لأنّ قول الميّت قول ينعقدُ الإجماعُ على خلافه» - محلّ بحثٍ؛ لأنّ هذه الصغرى إذا لم تُقيَّد بالدوام في القياس المذكور، بل هي مُعَرّاة عن القيد المذكور، لم يستلزم القياسُ المذكورُ حينئذٍ المطلوب؛ لأنّ المطلق على تقدير صدقه وصحته لا يستلزم المقيَّدَ. وإنْ قُيِّدَتْ تَطَرَّقَ المنعُ إليها؛ لأنّ انعقاد الإجماع من دون قول ذلك المجتهد المخالفِ الميّت وعدم الاعتداد بمقالته مطلقاً - أي سَواءٌ كان عند الأعذار أولا، وسواء كان مع وجود المجتهد في العصر أو مع خُلُوِّه منه - ممنوعٌ. فغاية ما يلزم من كلام المستدلّ من حديث الإجماع المذكور عدم الاعتداد بقول المجتهد الميّت بعد موته على تقدير وجود المجتهدين في العصر. وأمّا على تقدير خلوّ الزمان من المجتهد فلا نسلّم أنّه لا يُعْتَبَرُ قوله؛ إذ التكليف بالعبادات حاصلٌ، والمفروض أنّه يجوز خُلُو العصر من المجتهد فلو لم يُعْتَبر قولُه لَزِمَ تعطيلُ الشريعة واندراس الأحكام أصلاً.

وكلام العلّامة في نهاية الوصول إلى علم الأُصول يؤيد مقالتنا غايةَ التأييد، ويُؤكِّدُ البحث المذكور غاية التأكيد، حيث قال:

وتمنع حصول الإجماع على عدم جواز التقليد مع عدم التمكُن لضيق الوقت أو لغَيره من الأعذار(1). انتهى كلامه

ولا يخفى عليك أن قوله: «أو لغيره من الأعذار» يُستفاد منه جواز العمل بقوله لكلّ

ص: 13


1- نهاية الوصول إلى علم الأُصول، ج 5، ص 262.

من لا يقدر على الاجتهاد، كعديم الذكاء أو ضعيف الحافظة، وبالجملة لكلِّ المعذورين. وليت شعري ماذا يقول هذا المستدِلُّ المتصدّي لبيان أن لا قول للميّت أصلاً إذا فَرَضْنا انحصار أهل العصر كلّهم في أفرادٍ لا يوجَدُ فيهم ذَكَيٌّ فَطِنٌ حَسَنُ الإِدْراكَ ؟ ولا أظُنُّك في مِرْيَةٍ مِن جواز العمل بقول الميّت على هذا التقدير، بل يجب عليهم حينئذٍ الأخذُ بمقالته؛ إذ التكليف بالعبادات ليس مرتفعاً وسَيَرِدُ عليك ما يُؤيِّدُ المذكور في كلام العلّامة من مقالة فخر المحقّقين في رسالة إرشاد المسترشدين فانتظره.

وإن كانت الكبرى المذكورة في القياس الأوّل مطلقةً غير مقيَّدةٍ بشيءٍ ممّا ذكرنا كان المراد منها حينئذٍ أنّ قولَ الميّت غيرُ معتبر في الجملة وفي بعض الأحوال والأوقات، فلا يَتِمُّ التقريب حينئذٍ؛ لأنّ المستدِلَّ بصدد بيان عدم اعتبار قوله بحال من الأحوال. ولهذا حَكَمَ بوجوبِ السعي والطلب على جميع المكلّفين لتحصيل هذا الأمر عند خلوّ العصر من المجتهد.

واعلم أنّه قد عورِضَ كلامُ المستدِلَّ بأن العدل الموثوق إذا حكى عن المجتهد حكماً لعامّي غَلَبَ على ظنّه أن حكم اللّه تعالى هو ما حكاه العدل، ووجب عليه العمل،به فعلى هذا لا يجب عليه الاجتهاد.

وهذه المعارضة ذكرها العلّامة في نهاية الوصول ولم يقدح فيها أصلاً؛ مع أنّ دأبَه في ذلك الكتاب تزييفُ كلّ مقالةٍ سخيفةٍ، وردُّ كلّ حجّةٍ ضعيفةٍ.

قال فخر المحقّقين في آخر كتابه المسمّى بإرشاد المسترشدين وهداية الطالبين في أُصول الدين كلاماً يَدُلُّ دلالةً ظاهرةً على أنّ قولَ المستدِلُّ - أعني أن الميّت لا قول له - غير مسلّمٍ عنده وعند والده (قَدَّسَ اللّه روحيهما) وهذه عبارته في كتابه المذكور:

واقْتَصَرْتُ على هذه الأُصول ولم أذكر العباداتِ السمعية؛ لأنّ والدي جمال الدين الحسن بن يوسف المطهر (قَدَّسَ اللّه َسرَّه) ذَكَرَ ما أَجْمَعَ عليه أهل البيت اللّه، وهم الأئمّة المعصومون (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، وما صَحَّ نقلُه عنهم

ص: 14

بالطريق الذي له إلى الشيخ الطوسي الصحيح، ومن الشيخ الطوسي إلى الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بالطريقة الصحيحة التي لا شك فيها ولا ريبَ لأنّ والدي لما ذكرنا له أن الميّت لا قول له فقال: «إنّي قد أثْبَتُ لكم ما اتفقت عليه الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فلا يحتاج إلى تقليد أحدٍ بعد معرفة واجب الاعتقاد، ومَن عَدَلَ عنه إلى غيره فقد عَدَلَ عن يقين إلى ظن، وعن قول معصوم إلى قول مجتهد فأيها المؤمنون تَمَسَّكُوا واعْتَمِدوا عليه»(1). انتهى كلامه.

ولا يخفى على المتأمّل أنّ هذه المقالة فيها اعتراف بأنّ الميّت له قولٌ، وهذا الاعتراف منه سندٌ لنا فيما نحن فيه؛ إذ هو صريحٌ بجواز العمل بقوله بعد موته، وإن كان في الدليل نظرٌ:

أمّا أوّلاً فلأنّ مسائل الفقه ليستْ مُنْحَصِرةً فيما ذَكَرَه وجَمَعَه في كُتُبه حتّى يَسْتغني الناسُ عن التقليد مطلقاً بما ذَكَرَه في كُتُبه؛ إذ الفروعُ غيرُ منحصرة في مذكوراته ومعلوماته. وأيضاً لا يخفى عليك أنّه ذَكَرَ كثيراً من المسائل الفروعيّة [كذا]، واستشكل فيها ولا أفتى بشيءٍ من طَرَفَي الإيجاب والسلب مع أنّ الناس يحتاجون إليها في عباداتهم وغيرها؛ فكيف يستقيمُ ما ذكره من عدم الاحتياج إلى تقليد أحدٍ من بعده؟

وأما ثانياً فلأنّ مَنْ بعده من المجتهدين قد خالفه فيما أفتاه وأفتى بضده، فكيف يستقيم قوله: «ومَنْ عَدَلَ عنه فقد عَدَلَ عن يقين إلى ظن، وعن قول معصوم إلى قول مجتهٍد»(2)؟ ولا يخفى عليك أيضاً منافاة هذا الكلام لما ذكره في كُتبه الأُصوليّة والفروعيّة من أنّ الميّت لا قول له.

وإذا اطَّلعت على ما ذكرناه من القدح فيما ذكره المستدِلُّ - من أن الميّت لا قول له - فنقول: على تقدير تسليم أنّ الميّت لا قول له - كما زَعَمَهُ المستدِلُّ - فالحقُّ أنّ هذا

ص: 15


1- إرشاد المستر شدين، ص 183.
2- مبادئ الوصول، ص 248.

التكليف ليس متوجّهاً على عامّة المكلّفين لما بيّنّا. بل إنّما يتوجّه على الفرقة الأُولى وَمَنْ يَليهم؛ فإنّه يجب عليهم السعي والطلب وبذلُ الجُهْد لِنَيْل هذا المطلب، وجوباً مضيَّقاً بحيث لا يَسُوعُ لأحدٍ منهم أنْ يأتي بالعبادات المندوبة، ولا يسوغ له الوطء المندوب، وكذا لا يجوز له الإتيان بالصلاة الواجبة في أوّل وقتها، ولا قِراءةُ السُوَرِ الطوال، بخلاف الفِرق الأخرى؛ فإنّ الحكم المذكور مُنتَفٍ عنهم، فلهم الإتيان بالمستحبّات وبالفرائض في أوّل الوقت، ولهم أن يعملوا بقول الميّت إلى أن يوجد المجتهدُ العَدْلُ.

خلوّ الزمان عن مجتهد بین المثبتین والنافین

فإن قلت: ما ذكرته من جواز العمل بقول الميّت مبني على جواز خُلُو العصر عن المجتهد، وهو مجرّد فرض ولا يطابق نفس الأمر وممّن صَرَّحَ بعدم جواز ذلك الشهيد (رحمه اللّه) في أوائل كتاب الذكرى، حيث قال: ونمنع خُلوَّ العصر عن المجتهد(1).

قلنا ما ذكره لا يدلّ على أنه مذهب فقهاء الإماميّة؛ لأنّ كلامه في ذلك الموضع وقع في حيّز المنع والمنع لا يدلُّ على المذهب، بل يكفي للمانع الاحتمال، وكيف يكون هذا مذهبه مع أنّه قد صَرَّحَ في باب تغسيل الموتى بما ينافي ذلك، حيث قال: لو لم يكن له وليّ فالإمامُ وليه مع حضوره. ومع غَيْبَتِه الحاكم ومع عدمه المسلمون(2). انتهى كلامه.

وهو صريح في جواز الخُلُوِّ. وقد صَرّحَ في الدروس بذلك حيث قال:

مَنْ مات ولا ولىَّ له فأمره إلى الحاكم يَنْصب عليه أميناً - ثم قال: - فإن تعذَّرَ الحاكم أو مراجَعَتُه جازَ لأحادِ المؤمنينَ العدول التصرُّفُ بما فيه صلاحٌ؛ لأنّه من باب التعاوُنِ على البرّ(3).

ص: 16


1- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 9 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).
2- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 243 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).
3- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 268 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

وممّن صَرَّحَ بجواز خلوّ العصر عن المجتهد العلّامة في نهاية الوصول، وهذه عبارته:

اخْتَلَف الناسُ في خلوّ عصر من الأعصار عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه، فَمَنَعَ هذه قوم كالحنابِلَة، وجَوَّزَه آخرون. أمّا الإماميّة فإن الزمان عندهم لا يجوزُ خُلُو المعصوم منه مع وجود التكليف، لكنه لا يُسمّى مجتهداً ع مجتهداً عند الإماميّة(1). انتهى كلامه.

وهو صريح بجواز الخُلُوِّ، فلا يكون ما ذكره الشهيد في أوّل الذكرى(2) موافقاً لرأيه في موضع آخر، وليس أيضاً مطابقاً لمذهب فقهاء الإماميّة.

وحاصل البحث أن الأصل جواز خُلُو الزمان عن المجتهد، ولم يقم دليلٌ عقليٌ ولا نقليٌ يدلُّ على خلاف هذا الأصل، ومخالَفَةُ الأصل إنّما تكون بالدليل، وليس فليس. ولا يوجد في كلام أحدٍ من المحقّقين أنّ وجود المجتهد في كلّ زمان كوجود الإمام المعصوم في امتناع الخُلُوِّ منه.

وقد اسْتَبْعَدَ بعضُ المتأخّرين (3) خُلُو العصر من المجتهد غاية الاستبعاد، وشَنَّعَ على القائلين بذلك، وهذه عبارته:

لا يجوزُ خُلُو الأوقات عن المجتهدين، وإن كان قد نازَعَ في ذلك جماعةٌ لا تحصيل لهم. انتهى كلامه.

وفيه تشنيع شنيع، كما لا يخفى، مع أنه لم يأتِ بمُقنع في إثبات مطلوبه، وأقصى ما عنده في بيان هذا المطلوب هو أنّ:

الاجتهاد واجب على المكلّفين في جميع الأوقات والأزمان وجوباً على الكفاية

ص: 17


1- نهاية الوصول إلى علم الأُصول، ج 5، ص 242 - 243.
2- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 9 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).
3- في هامش المخطوطه وهو ابن جمهور راجع كاشفة الحال، ص 148.

لقوله تعالى: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» الآية(1). وإذا كان الاجتهاد واجباً على جميع المكلّفين في جميع الأوقات والأزمنة لم يكن الزمان خالياً عن المجتهد. انتهى كلامه محصلاً.

وأنت خبيرٌ بأنّ هذا ممّا «لا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِن جُوع» (2)؛ لأنّ كونه واجباً كفائيّاً في جميع الأوقات لا يقتضي عدم انفكاك الزمانِ عنه، لأنّ إخلالَ المكلّفين بالواجبات - سهواً أو عمداً - غير ممتنع؛ إذ أهل العصر سوى الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليسوا معصومين حتّى لا يُتَصَوَّرَ في حقهم الإخلالُ بالواجب، وإذا جاز الإخلالُ منهم بذلك جاز خُلُوّ الزمان من الاجتهاد. فما ذَكَرَه للإثبات لم يَنْهَضُ حُجّةً. وهذا الجواب على تقدير تسليم كون المراد بالتفقّه هو الاجتهاد. وأمّا إذا كان المراد منه أخذ العلم عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وإنذار القوم بالرواية لا بالفتوى - كما ذكره بعض الفضلاء في صورة المنع - فهو جواب آخَرُ.

وقيل في إثبات هذا المطلوب، أعني عدم جواز خلوّ العصر عن المجتهد:

إنّ طريق معرفة الأحكام الشرعيّة هو الاجتهاد، فلو خَلا الزمانُ عن مجتهدٍ يمكن الاستناد إليه في معرفة الأحكام لزم تعطيلُ الشريعة واندراس الأحكام، وهو ممتنع. انتهى كلامه.

وهذا الاستدلال قد ذكره العلّامة في نهاية الوصول ناقلاً عمّن زَعَمَ أنّ الزمان لا يخلو عن مجتهد، ثمّ قد صَرَّحَ فيه بالمنع حيث قال: «وفيه نظر؛ لمنع حصر الطريق في الاجتهاد»(3). والقائل المذكور قد أخذ استدلاله من كلام النهاية، وسَكَتَ عن المنع المذكور؛ ترويجاً لما هو بصدده.

ولا يخفى عليك أنّ هذا المنع من العلّامة يُشْعِرُ بصحة ما نَقَلَهُ فخرُ المحقّقين عنه -

ص: 18


1- التوبة (9): 122.
2- اقتباس من الآية 7 من سورة الغاشية (88).
3- نهاية الوصول إلى علم الأُصول، ج 5، ص 245.

وقد قَرَعْنا به سَمْعَك آنفاً - من عدم وجوب الاجتهاد، سواءٌ خَلا الزمان عن المجتهد أم لا لأن القول بوجوبه إنّما يتمشّى على تقدير أن يكون طريق معرفة الأحكام الشرعيّة منحصراً في الاجتهاد. وأما على تقدير عدم انحصار الطريق في ذلك فينسدُّ بابُ وجوب الاجتهاد ويَنْفَتح باب جواز التقليد عن الميّت.

اطّلاع أهل العصر علی الأعلم الأورع بین النفي و الإثبات

فإنْ قلت: من جملة ما يَشْهَدُ على عدم جواز التقليد عن الميّت، وأنّه لا قول له، أنّ أصحابنا قد أجمعوا على أنه يجب العمل بقول الأعلم والأورع من المجتهدين؛ فلو كان للميّت قول لم يَتَمَسَّ لهم هذا الكلامُ؛ لأنّ اطّلاع أهل العصر على الأعلم والأورع حينئذٍ من بين المجتهدين متعذّر.

قلنا: الكلام قد ذَكَرَه أصحابنا المتأخّرون في كتبهم، وهو منهم مبنىٌّ على أنّ الميّت لا قولَ له، وأنّ طريق معرفة الأحكام الشرعيّة منحصرٌ في الاجتهاد. وقد عرفتَ ما هو المتوجّه على زَعْمِهم، وهل الكلام إلّا في تزييف مقالتهم ؟!

وقد عَرَفْتَ فيما مضى أن العلّامة قد قَدَحَ في الحصر، ولم يُسَلِّمْ أنّ طريق معرفة الأحكام الشرعيّة منحصر في الاجتهاد، ومَنَعَ عدم جواز التقليد عن الميّت لعذرٍ من الأعذار كضيق الوقت بحيث لا يُتَمَكَّنُ فيه [من] الاجتهاد، أو لعدم استعداد المكلّف له لفقد أُمورٍ ضرورية في الاجتهاد، كعدم الفطانة وكثرة النسيان.

وما ذَكَرَه من حديث الإجماع على وجوب العمل بقول الأعلم والأورع - لو سَلَّمناه - أمكن أن يكون ذلك محمولاً على ما إذا لم يَتَعَذَّر الاستعلام والاستخبار عن حال الأعلم والأورع. وأمّا إذا تَعَذَّرَ فليس على المكلّف إلا مقدورُه.

وليتَ شِعْري ماذا يقولُ هذا القائل إذا كَثرَ المجتهدون الأحياء، وبلغوا مائة ألفٍ أو أكثر، وهم مُتَفَرِّقون في الأقطار، مُنتَشِرون في الآفاق شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً؛ فماذا يَفْعَلُ المكلّف العامى حينئذٍ في عمله ؟ فما هو جوابه فهو جوابنا.

ص: 19

ص: 20

8. تقليد الميّت

إشارة:

تحقيق

رضا المختاري - عبّاس المحمّدي

مراجعة

أسعد الطيّب

ص: 21

ص: 22

بسم اللّه الرحمن الرحيم وبه نستعين

اللّهم حببنا إلى الحقّ وَحَببه إلينا وحَلَّنا بحقائقه، وجَنِّبْنا الباطل وبغِّضه إلينا ومِلْ بنا عن طرائقه ؛ ونَبِّهنا من مَراقِدِ الطبيعة إلى القيام بما حَدَّدْتَه قولاً وفعلاً وسمعاً، ولا تجعلنا من «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا»(1) ؛ واسلك بنا سبيلَ من أجابَ داعِيَك وأناب «وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ» (2).

وبعدُ، فاعلم أيّها الأخُ الوَفيُّ والبَرُّ التقيّ (3) (نَفَعَني اللّه بك ونَفَعَكَ بي، وجَعَلَ حَبْلَ إخائنا متصلاً أبداً وسبب وفائنا دائماً سرمداً) أنّ لكلّ منّا على الآخر حقوقاً جمّةً لا يقوم بأيسرها ما في الدنيا، ولا يُسَوِّعُ الإعراض عن بعضها الحياء، ومن جملتها: محضُ النصيحة الفاخرة، والتنبيه على ما يعود نفعه في الدنيا والآخرة. وقد أكَّدَ ذلك ما ذكره الأخُ في كتابه إلينا من الكلام المتضمن لأنّا إن كتمناك شيئاً فيه منفعتُكَ، طالبتنا به يوم القيامة.

ص: 23


1- الكهف (18): 104.
2- آل عمران (3): 8.
3- هو السيّد حسين بن أبي الحسن كما يظهر مما ذكره ابن العودي تلميذ الشهيد في ترجمته، حيث قال في عداد مصنّفاته: منها رسالة في عدم جواز تقليد الأموات من المجتهدين، ووجوب تقليد الأحياء منهم على المكلّفين، صنّفها برسم الصالح الفاضل المرحوم السيّد حسين بن أبي الحسن (قدس اللّه روحه). الدرّ المنثور، ج 2، ص 188.

فنحن تذكر لك ها هنا وجهاً واحداً هو أساس العمل وعِمادُهُ الأقوى، وعليه يَتَفَرَّعُ سائر العبادات، وإليه تَرْجِعُ الفتوى سالكين من الكلام على ما ظهر لنا في بيان الحال، ناكبين عند بيان الواجب عمّا يَعْتاده الناس من تزيين العبارة، والتمويه في المقال سائلين قبل الشروع فيه ما سَأَلْتُموه، مؤكدين بما أكَّدْ تُمُوه.

بل نقول - زيادةً على ما قلتم -: إنّكم إنْ أخْلَلْتُمْ بشيءٍ يظهر لكم ممّا فيه جَلبُ منفعةٍ لنا في ديننا أو دفعُ مَضَرَّةٍ، تكونوا قد تركتم ما يجب لنا عليكم من حقِّ الأُخُوّة، وعهدِ الإيمان، وذمّة الإسلامِ، وحرمةِ الصُحبة؛ فإنّ اللّه سبحانه يوم القيامةِ يسألُ عن ذلك كلّه حتّى عن صُحْبَة ساعةٍ، ومُماشاةٍ خُطُواتٍ يسيرةٍ. فما ظُنُّك بطريقٍ قد جَدَّدَتْه العُهودُ والمواثيق ؟! فنطالِبُكم به يوم المطالبة، وتُناقِشُكم عليه يوم المُحاسبة، طالبين ذلك مصلحة أنفسِنا، مُقْتَدِين بمَنْ مضى مِنْ سَلَفِنا في قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «رَحِمَ اللّه امرأ أهدى إلَيَّ عيوبي»(1).

بل أقول: إن الواجب على الإنسانِ أنْ لا يُقَصِّر في قبول النصيحة للأصدقاء والأخِلاءِ الأمجاد، بل يَقْبَلُها ولو جاءت على يد الأعداء والحُسَادِ ويَتَلَقَّاها بالبشر ولو وَرَدَتْ مِنَ الغُرَباءِ وأهلِ البعاد.

وعند ذلك فأقول: إن اللّه سبحانه قد ذَمّ في كتابه العزيز قوماً تركوا الاستدلال على مُعْتَقَدِهم وما يَدِينونَ به ويَقْتَدون بسَلَفِهم وآبائهم بآياتٍ كثيرة شهيرة كقوله تعالى حكايةً عنهم: «إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثارِهِم مُّقْتَدُونَ»(2). وقال عنهم على جهة الاستفهام التوبيخي: «أَصَلَوَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا»(3)، «وَقَالُواْ

ص: 24


1- لم نجد من رواه عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ). ونقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 319 عن بعض الصالحين؛ ونقله في ج 12، ص 39 عن عمر ؛ وروي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الكافي، ج 2، ص 639، باب من يجب مصادقته ومصاحبته، ح 5 ما نصه: «أحب إخواني إليَّ من أهدى إلي عيوبي».
2- الزخرف (43): 23.
3- هود (11): 87.

رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا»(1). وقال سبحانه في طلب أخذ الدين بالدليل المتين: «قُلْ هَاتُوا بُرْهَنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (2) إلى غير ذلك من نظائر هذه الآيات. فكما يجب علينا وعليكم أن نأخذ أصل الدين - حتّى نتميّز عن سائر الملل والنحل والآراء الفاسدة - ببرهان يجوز المصير إليه، كذلك يجب أن نأخذ ما نَحكم بوجوبه ونديه وتحريمه وتحليله وصحتِهِ وفَسادِهِ بطريقٍ يُعْتَمَدُ عليهِ، ويَسوعُ لِمِثلِنا الأخذُ بهِ والعمل عليه، فيكون حجّةً لنا على اللّه سبحانَهُ إِذا وَقَفْنا بين يديه؛ لِنَسْلَمَ مِنْ وعيده تبارك وتعالى في قوله: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّه فَأُولَتكَ هُمُ الْكَفِرُونَ * (3) [...] الفَسِقُونَ * (4) [...] الظَّلِمُونَ»(5)، ومن تهديده في قوله (جلّ جلاله): «قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّه لَكُم مِّن رِزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالاً قُلْ ءاللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه تَفْتَرُونَ»(6). إذ مقتضى هذه القسمة أنّ مَن لم يعلم الإذن فهو مُفْتَرٍ، فيجب عليكم إقامةُ الحجّة على اللّه سبحانه وبيانُ العذر لَدَيه وتوضيحُ الإذنِ الذي به صِرْتُم إلى العمل بما بأيديكم من النُّقُول عن الأمواتِ والمقلّدة حتّى صَيَّرْتُموها دِيناً، وصِرتُم تَنْقُلونَها للناس خصوصاً وعموماً؛ حتّى تخرجوا عن عُهدة التهديد وتسلموا من هَوْلِ هذا الوعيد.

ردّ المؤلّف علی أهل زمانه في کیفیة التفقّه

وحينئذٍ نقول: الذي يَزْعَمُهُ هذا الضعيفُ القاصرُ ويَفْهَمُهُ: أَنَّ ما تَعتَمِدونَه وتتعبّدون به وتَألفُونَهُ من نقل الأحكام الشرعيّة، والعمل بها على الوجه الذي يقعُ ويعهد، وتعتقدون،صحته، وتُرَتِّبون عليه الفتاوى والأحكام في الأموال والفروج وغيرهما،

ص: 25


1- الأحزاب (33): 67.
2- البقرة :(2) 111؛ النمل (27): 64.
3- المائدة (5): 44.
4- المائدة (5): 47.
5- المائدة (5): 45.
6- يونس (10): 59.

وتتكلَّمُونَ عليه في التفقّه، وتتقاعدون عن الاشتغال بتحصيل الفقه على الوجه المأمورِ به، غيرُ معروفٍ في المذهب، ولا يذهبُ إليه أحدٌ من علماء الإماميّة، بل كثير منه لا يذهب إليه غيرهم أيضاً؛ وأنّ كلّ ما يَتَرَتَّبُ عليه فاسدٌ لا يَترتَّبُ عليه أثرٌ شرعيٌ، وإن كان الحكم مطابقاً لما فى نفس الأمر؛ فإنّ ذلك غيرُ كاف في الخروج عن عهدته، والسلامةِ من إثمه مع عدم صحّة طريقه ظاهراً.

وبيانُ صحّة هذه الدعوى من وجوه:

[الوجه] الأوّل: أن كثيراً من هذه الفروع والنقول غير مستند إلى أحد من المجتهدين الذين يجوز الأخذُ بقولهم والعمل بفتواهم. وإفتاء غير المجتهد في الدين غيرُ مَسموع، ونقله غيرُ سائغ لأحدٍ العمل به إذا لم يُسْنِدُهُ إلى مجتهد معيَّن، بحيث تعلم عدالتهُ وعَدالَهُ الواسطة. وهذا موضع وفاقٍ لم يُخالف فيه أحد من العلماء. ومَن ادّعى جوازه فعليه بيانُ المُجوِّز.

الوجه الثاني: أنّ هذه النقول وإن كان بعضها موافقاً لأقوال المجتهدين، فقد وُجد في كثيرٍ منها ما لا يقول به أحدٌ من علمائنا، بل وَقَفْتُ أنا منها على ما لا يقول به أحدٌ من علماء الإسلام قاطبةً، فالقول بها واعتقادها سائغةً في الدين مع اتصافها بهذا الوصف لا يخفى ما يَتَرَتَّب عليه. وهذا الوجه إنّما يَرِدُ على ما يتداوله بعض أهل بلادنا، ومَن جرى مجراهم لا على جميع المتفقِّهة، كما لا يخفى على مَنْ عَلِمَ بالحال.

الوجه الثالث: أنّ تلك الأفراد الموافِقَة لأقوال المجتهدين - أو هي عينُ أقوالهم - إنّما يجوز التعويل عليها، والعمل بمضمونها مع مشافَهَةِ المجتهد بها، أو نقلها عنه بواسطة أو وسائط مع عدالة الجميع. ومعلوم أنّ الأمر هنا ليس كذلك، بل إنّما تأخذونها عن مشايخكم تلقِّياً منهم واكتفاءً بنقلهم، من غير نظرٍ إلى الوسائط ولا إلى سؤالٍ عنهم، ولا معرفةٍ بحالهم ولا تَعدُّدِهم. وكذلك مشايخكم أخذوها، وهلمّ جرّاً إلى أن يصير

ص: 26

الحال إلى واحد لا يُدْرَى كيف تَوَجَّهَ ولا إلى أين انتهى ؟ كما سنُحَرِّره لك، وهكذا تَلَقَّاه عنك مَنْ نَقَلَ عنك.

الفرق بین نقل الروایة و نقل الفتوی

وهذا الطريق يحتاج إلى إثبات صحته بدليل يسوِّغُ لك الاعتماد عليه، ويكون كافياً عند سؤالك عنه إذا وَقَفْتَ بين يديه. ولا يظنّ ظانٌّ أن إجازة المشايخ، وما فيها من الطرق إلى فقيه، هو الطريق في نقل هذه الفتاوى؛ لأنّ تلك الطُّرُقَ إِنّما هي طرقُ الرواية لا طُرُقُ العمل. فإنّك تعلم أنت ومن مارَسَ هذه الصنعة وأخَذَها عن المشايخ، أنّ النقلَ لما أفتى به الشهيدُ (رحمه اللّه) مثلاً ليس هو عن ذلك الرجل المخبر الذاكِرِ للطريق إلى الشهيد دائماً. وكذلك ما أفتى به العلّامه والمحقّق،وغيرهما، بل يكون للفقيه نقل عن جماعة من المشايخ، وقد نُقلت عنهم كلُّها أو بعضُها، ثمّ يذكر لك طريقاً إلى رواية الكُتُبِ بجَماعةٍ من الفقهاء ليست تلك الطريق لجميع ما نُقِلَتْ عنه، بل كثيراً ما تكون عمّن لم يَنْقُلْ عنه فتوى أصلاً، كما لا يخفى.

الوجه الرابع على تقدير انحصار النقل في أقوال الفقهاء، وذكر الطريق لا يكفي ذلك في جواز التعويل عليه ما لم يُبْحَث عن تعديل هذه الوسائط وتَثبُتْ عدالتهم بإحدى الطُّرُقِ المفيدة لها(1). وهذا الأمر غيرُ حاصل لنا الآن، بل لا سبيل إلى إثباته لمن أراده، بل البحث عنه، وتوهم تحقّقه قد يَلْحَقُ بالمُحالات إذا تَدَبَّرْتَ جميع ما أُقرِّرُهُ لك في هذه المقالة؛ إذ غايةً ما يُمكن تلافيه الحكم بتعديل الشيخ الذي أخَذتَ عنه، وتحتاج في الحكم بتعديل شيخه إلى شاهدَيْ عدلٍ، وإنْ كان أحدُهما شيخك، أو ما في حكمهما، وهكذا إلى المجتهد وأنّى لك بهذا ؟ وهذا بخلاف طرق الرواية عن المجتهدين والرواةِ السابقين؛ فإنّ الأصحاب (رضوان اللّه عليهم أجمعين) قد بحثوا عن أحوالهم بالجرح والتعديل، ودوّنوها في كتب الرجال، ويجوز الاعتماد في ذلك على

ص: 27


1- كالشياع، والمعاشرة الباطنة، وصلاة عدلين خلفه على اختلاف في الأخيرة. راجع الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 138 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9).

قولهم لِمَنْ تأخَّرَ عنهم، وإن كان مجتهداً، كما نبهوا عليه في مظانه من علم أُصول الفقه ودراية الحديث.

وممّا اشتهر على السنّة النَّقَلَةِ في العذر عنه أنا لما عرفنا عدالة شيخنا الذي أخذنا عنه، عرفنا من حالِهِ ووَرَعِهِ أنّه لا يأخذ إلّا عن عدلٍ. وهكذا القولُ في شَيخه، فاتّكلْنا على نظرهم.

وهذا القول من الهَذَيَاناتِ التي لا تستَحِقُّ الاحتفال بالجواب؛ فإنّ فتح هذا الباب الفاسدِ يُغْنِي الناس عن كتب الرجال، وأحوال الجرح والتعديل، وسند الرواياتِ صحيحها وحَسَنِها ومُوثَقِها وضعيفها، وغير ذلك من وجوهها، بأن نقول: إنّ الشيخ أبا جعفر الطوسي (رحمه اللّه) - مثلاً - رجل عدلٌ وَرحٌ ضابط لا يَرْوِي إلا عن عدل ثقةٍ؛ لأنّه أعظمُ من شَيخنا الذي نُحْسِنُ الظَّنَّ به وأضبط وأعدلُ، فدلّت روايته للحديثِ على عدالة شيخه الذي روى عنه وننقل الكلام إلى شيخه ونقول فيه كما قلنا في الآخر، وهلم جراً إلى الإمام، فنعمل حينئذٍ بجميع ما ذَكَرَهُ الشيخ (رحمه اللّه) في كتبه. مع اشتمالها على فنونِ الأحاديث صحيحها وغريبها وضَعيفها ومُضطَرِيها، وغيرها. ولا يَظُنّ ظان أنّ ذلك فى الرواية دون الفتوى فيكفي في الفتوى ما لا يكفي في الرواية؛ لأنّ الأمر في ذلك على الضد، بل الفتوى أصعب أمراً وأقوى حكماً. ألا ترى كيف تُقْبَلُ الرواية عن المرأة والحرّ والعبدِ والفقيه والعامى ؟! ولا تكفى الفتوى إلا من الفقيه الجامع لشرائطها، ولا تبطل الرواية بموت الراوي إجماعاً، وتَبْطُلُ الفتوى به -كما سيأتي - إلى غير ذلك. ولو سلّمنا عَدَمَ قوتها، فَمِنْ أين أن حكمها أضعفُ من حكم الرواية ؟ حتّى ساغ فيها ما قد سَوَّعْتُموه من غير بُرهانٍ أَوْصَلَكُم إلى ما زَعَمْتُموه، وقد أجْمَعَ الأصحابُ ووافقهم أكثرُ المذاهب على عَدَمِ العمل بالحديث المرسل ومجهولِ حال الراوي ومَنْ تُرِكَ مِن رجاله، ولو رجلاً واحداً - إلّا ما اسْتَثنَوْه من مراسيل ابن أبي عمير(1)

ص: 28


1- عدّة الأُصول، ج 1، ص 154: رجال النجاشي، ص 326، الرقم 887.

ونُظرائه (1)- وعلّلوه باحتمال أن تكون الرواية عمّن لا تُقبل روايته مع أنّ الراوي عَنِ المسكوتِ عنه ربما كان من أجلاء هذه الطائفة وأُمنائهم كالشيخ أبي جعفر الطوسي والصدوق ابن بابويه ومحمّد بن يعقوب الكليني ويونس بن عبدالرحمن، وغيرهم من الأجلاء، ولم يُعَوِّلوا على دِيانتهم وأمانتهم؛ فإنّهم يجتهدون لأنفسهم في ضبط الرواية عن أهلها، حتّى أنّهم لم يعملوا بمراسيل ابن أبي عمير ونحوه اتكالاً على دينه، بل لأنّهم زعموا أنهم اعتبروها فوجدوها كلَّها مُسنَدَةً، فإن كنتم اليومَ تَزِعُمُونَ أَنّ أشيا حكم أضبط من أولئك وأحفظ على دينهم، فذلك كافٍ في الجواب، وإلا فلا بد من فرقٍ يُوضِحُ لنا عن هذا الباب.

عدم إمکان اتّصال الوسائط في نقل الفتوی عن القدماء

الوجه الخامس: - وهو أمتنها برهاناً وأوضحها بياناً - هَبْ أنّكم أوصَلْتُم طريقاً صحيحاً إلى مثل شيخنا الشهيد (رحمه اللّه)، ومن تأخّر عنه كالمقداد وابنِ فهد والشيخ عليّ (رحمه اللّه)(2) برجال ثقاتٍ مقلِّدة، فمن أين لكم الطريق المتّصل بالفتوى إلى الشيخ جمال الدين (3) وإلى أبي القاسم (4) ومن تقدّم عليهما ؟ فإنّ الطُّرُقَ التي بأيدي الناس- التي قد اشتملت عليها الإجازات المعتبرة والكتب المحرّرة على ما استقصيناه وسَمِعناه - منحصرةٌ في الانتهاء إلى الشهيد (رحمه اللّه)، لا يخرج عنها إلا النادر، وذلك النادر وطريق الشهيد (رحمه اللّه) يجتمعُ وينحصر في الشيخ جمال الدين بن المطّهرِ بواسطة ولده فخر الدين ونظرائه، وهناك يتشعّبُ ويختلف إلى مَنْ سَلَفَ من المجتهدين والمصنّفين.

وحينئذٍ فنقول: إذا رَوَيْتم ونَقَلْتُم فتوى الشهيدِ عن أشياخكم المشهورة إلى الشهيد

ص: 29


1- كصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد بن أبي نصر. راجع عدّة الأُصول، ج 1، ص 154.
2- يعني المحقّق الكركي (قدّس سرّه) (م 940).
3- يعني العلّامة الحلّي (قدّس سرّه) (م726).
4- يعني المحقّق الحلي (قدّس سرّه) (م676).

(رحمه اللّه)، وهم عدول ثقات أثباتٌ، فعمّن نقلتم فتوى فخر الدين؛ مثلاً؟ فإن قلتم : رَوَيْناه بالطريق إلى الشهيد (رحمه اللّه) عن فخر الدين لأنّه شَيخُه. قلنا: كيف يَتصوَّرُ عاقل أن مجتهداً يَنْقُلُ فتوى مجتهد،آخَرَ، ويعمل هو لنفسه بتلك الفتوى ؟! فإنّ الإجماع واقع بين المسلمين قاطبةً على أن المجتهد لا يسوغ له العمل بفتوى غيره، ولا إفتاءُ الغَير له؛ فعند موتِ فخرِ الدين انقطعت فتواه، وصار الرجوع إلى الشهيد (رحمه اللّه) متعيّناً، والأخذ بقوله لازماً؛ إذلا كلام في أنه مع وجود المجتهد الحي يتعيّن الرجوع إليه، ويبطل العمل بقول مَنْ سَبَقه. وهكذا القول في أخذ فتوى الشيخ جمال الدین (رحمه اللّه).

وعلى ذلك، الطريقُ النادرُ يتصل بالشيخ فخر الدين بغير واسطة الشهيد، فنقول فيه أوّلاً: كيف نَقَل ذلك الواسطةُ الذي روى عن فخرِ الدين وعميد الدين وغيرهما فتوى هؤلاء الجماعة مع وجود الشهيد (رحمه اللّه) وموت أُولئك ؟! فإنّ الأخذ عنه كان متعيّناً، وقول غيره قد بَطَلَ بحياته وموتهم.

ثمّ إذا تنزّلنا وأخذنا فتواهم بهذه الواسطة فعمّن نقلنا فتوى الشيخ جمال الدين؟ أعن ولده الذي هو أعَزُّ الناس عليه، وأجَلُّهم لديه ؟ وهو لا يُمكنه أن يعمل بكلمةٍ واحدةٍ من كلامه بعد اجتهاده في حياة والده، وبعد مماته، فكيف يَنْقُلُها إلى الغير ؟! ثمّ ننقل الكلام إلى شيخ الكلِّ وفقيههم وقدوتهم (1) الذي قد أشاع وأذاعَ في كتبه الأُصوليّة والفقهيّة : أنّ الميّت لاقول له ولا يحلُّ تقليده وإن كان مجتهداً(2)، فكيف يعمل بفتواه بعد موته ؟ وهو قد حكم بأنّها باطلة لا يجوز تقليدها.

ثم عمّن ينقل بعد ذلك كلّه فتوى الشيخ أبي القاسم، والطرق قد انْحَصَرَتْ إليه في

ص: 30


1- يعني العلّامة الحلّي (قدّس سرّه).
2- مبادئ الوصول، ص 248؛ تهذيب الوصول إلى علم الأُصول، ص 289؛ قواعد الأحكام، ج 1، ص 526؛ إرشاد الأذهان، ج 1، ص 353.

الشيخ جمال الدين (رحمه اللّه)، وهو يقول هذا القولُ ويُنْكِرُ هذا الإنكار ثمّ يَنْقُلُ لنا فتاوى الميّت ؟ ما يَتَصوَّرُ هذا عاقل فضلاً عن مُتَديِّن. كيف؟ وهذه الوسائط مجتهدون لا يَسوعُ عندهم ولا عند غيرهم خروجهم عمّا يَتَربَّحُ عندهم فضلاً عن حكم غيرهم. وهكذا القولُ فيمن تقدّم من الفقهاء.

وقد تبيَّن بذلك عدم إمكان الوسائط إلى من تقدّم من المجتهدين، بل عدم تعقّله، بل عدم وقوعه في نفس الأمر فضلاً عن تعقّلِه. وإنّما تُذكر الطرقُ عنهم وبواسطتهم بالنسبة إلى الأخبار ونحوها، لا الفتوى فلَزِمَ من ذلك القولُ بعدم جواز التقليد والعمل بقولِ مَنْ تقدّم مِن الفقهاء؛ لعدم الوسائط بيننا وبينهم في الفتوى على هذا الوجه الذي لا يتداولونه، وهو أن لا يعملوا بشيءٍ منه إلا بما يَنْقُلُونه عن العدل؛ فإنّ توقف بعض أزمان الفتوى على النقل دون بعض ترجيح من غيرِ مرجّحٍ.

نعم، لو ارتكب مرتكب جواز العمل بما عُلِمَ من فتواهم - وإن لم يكن له إليه طريقٌ، ولا نَقَلَه عن أحدٍ من الأثبات - متى وَجَدَه في كتبهم، سَلِمَ من هذه المُحالات واحتاج في سدِّ هذا الباب إلى تحصيل الجواب.

لابدّ من تحصیل العدالة في فردٍ فردٍ من الوسائط

الوجه السادس: على تقدير الوسائط وتحقّقها في زمان من الأزمنةِ تُشترطُ في كلّ فردٍ منها العدالة إجماعاً. والعدالة لا تحصل إلّا بالقيام بالواجبات التي من جملتها التفقّه في الدين والتأهّل لمرتبة الفتوى بالدليل التفصيلي - وهي مرتبة الاجتهاد - إن لم يكن في العصر قائم به يَتَأدّى به الوجوب.

وحينئذٍ فنقول: لا يخلو إمّا أن يكون في كلّ عصر من تلك الأعصار التي تترتّب فيها الوسائط مجتهدٌ، أو لا يكون، فإن كان فالرجوع إليه متعيّن، والأخذُ بقوله لازم؛ إذ لا كلام في وجوب الرجوع إلى المجتهدِ الحيّ عيناً. وحينئذٍ لا يتصوّر النقل عن المجتهد الميّت، فالآخِذُ عنه آثِمٌ خارجٌ عن العدالة البطلان عبادتِهِ. وإنْ لم يكن ثُمَّ في العصر مجتهد حيٌّ، كان التفقّه على أهل ذلك العصر واجباً إجماعاً. فترك الاشتغال

ص: 31

بمقدّماته والاتكال على تقليد الموتى مُخِلُّ بالواجب، وهو موجبٌ لعدم العدالة، الموجب لعدم إمكان التقليد.

وتحرير البحث أنه لا خلاف بين علمائنا (رضوان اللّه عليهم أجمعين) أنّ التفقّه في الدين،واجب وإنّما اختلفوا في أنّ وجوبه هل هو على الأعيان، أو الكفاية ؟ فذهب قدماء علمائنا، وفقهاءُ حَلَب كأبي الصلاح(1)، وسلّار وابن حمزة إلى أنّ وجوَبه عيني؛ وأنّه لا يجوز التقليد فى الأحكام الشرعيّة لأحدٍ البتّة(2). وذهب باقي الأصحاب إلى أنّ وجوبه كفائيٌ. ومن المعلوم أنّ الواجب الكفائي متى لم يقم به أحد كان الواجبَ على المكلّفين القيام به، فإنْ أخَلُّوا به لَحِقَهُم جميعاً الإثم، ومتى أصروا على تركه ساعةً بعد أخرى ولو إلى يومٍ واحدٍ فضلاً عن أيّام، كان من الكبائر، إن لم يكن منها بل من أكبرها ابتداءً.

إذا تقرّر ذلك، فإن قلنا بوجوبه عيناً، فلا كلام في لحوق الإثم لتاركِهِ. وإن قلنا بالآخر فإنّما يَسقُطُ عن المكلّفين الإثم في تركِهِ عند قيام أحدٍ به بحيث يَتَأدّى به الفرضُ الكفائي، وهو بالنسبة إلى التفقّه إنّما يتحقّق بوجود مجتهدٍ في كلّ قطرٍ من أقطار الإسلام، بحيث يُرجع إليه في الوقائع متى احتيج إليه. ومن المعلوم البيِّن عدمُ ذلك في زماننا وما تقدّمه بسنين كثيرة، واللازمُ من ذلك اشتراكُ أهل العصر المفقود فيه ذلك في الإثم وخروجُهم عن العدالة، وهو يَشُدُّ عليهم باب التقليد على تقدير جوازه.

لا يقال: الإثم إنّما يَلْحَقُ من يُمكِنُهُ الاجتهاد من أهل العصرِ لا جميع أهل العصرِ؛ للعلم الضروري بأنّ مِنَ المكلّفين من لا يقدر على تحصيل هذه المرتبة، ولو بَذَلَ وُسْعَهُ

ص: 32


1- انظر الكافي في الفقه، ص 113-114.
2- حكاه عنهم الشهيد في ذكرى الشيعة، ج 1، ص 6 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5): قال المصنف (رحمه اللّه) في المقاصد العلية، ص 52 (ضمن الموسوعة، ج 12) - مُشيراً إلى هذا القول - : وهو قول غريب عجيب مستلزم للمحنة الكبرى والطامة العظمى.

وصَرَفَ على التفقّه عُمْرَهُ، وحينئذٍ فيمكن الأخذُ عمّن تعذر عليه ذلك؛ لسقوط الفرض عنه الموجب لإمكان العدالة، وعلى هذا التقدير ترتب الوسائط.

عدم الاجتهاد لأسباب: منها ضعف الهمم

لأنّا نقول: على تقدير تسليم ذلك، لا يَتِمُّ القولُ بجواز الفتوى والحكم ونَقْلِ كلّيّاتِ المسائل، وهل هو إلَّا عَيْنُ المُتنازع ؟ وأين الدليل عليه ؟ ومن القائل به؟ بل قد قيل: «إنّ مَنْ هذا شَأنه يجب عليه العمل بمواضع الإجماع ما أمْكَنَ، دون الأخذ بأقوالِ الميّت فيما وقع فيه الخلاف». وسيأتى ما يَدُلُّك على فَسادِهِ، ويَزِيدُك بصيرةً في تحقيق الحقِّ. على أنّا نَعْلَمُ قطعاً أنّ تلك الوسائط ليستْ جميعاً بهذه المَثابَةِ، بل ولا أقلها، وإنّما هم قادرون على التفقّه؛ ما قَصَرَ بهم عن مرتبته وأقْعَدَهُم عن الوصول إليه إلّا ضعفُ هِمَّتِهِمْ، وانصرافُ دَواعِيهِمْ، وقلّه رغبتهم في العلم، وعدم اطلاعهم على حقيقة التفقّه، وتوهمهم أنّه من المراتب التي دون بلوغها خَرْطُ القتاد(1)، وأنّ المجتهد لا يتحقّق إلّا إذا كان في منزلة العلّامة جمال الدين، أو الشيخ نجم الدين بن سعيد، أو الشيخ أبي عبد اللّه الشهيد، ومن ضارَعَهُم من المحقّقين. ولم يَدْرُوْا أنه على مراتب لا تتناهى بَعْدُ، ولا تَقِفُ على حدٍ، وأن أقل مراتبه يمكن تحصيلها لخلق كثير لا يُدْرِكُونَ مريبَةَ تلامذة الشيخ جمال الدين (رحمه اللّه). بل قد يَحْصُلُ للعامّي الذي لا يُحسِنُ نُ الخطّ، والأعمى، كما نبهوا عليه في كتاب القضاء، حيث اختلفوا في انعقاد قضائهما مع اتصافهما بشرائط القاضي التي من جملتها الاجتهاد(2). فحصل لهم من هذا التوهّم اليأس من نَيْل هذه المَرْتَبَة، فَقَعَدَتْ عزيمتهم وضَعُفَتْ همّتُهُم.

ووجهُ آخَرُ أوْجَبَ قِلّةَ الفقهاء في هذا العصر وما قبله بقريب، أنّهم في الأغلب ما رأوا فقيهاً يعتمدون على قوله، ويثقون بدَلالَتِهِ، يُقَرِّرُ لهم هذا الطريق، ويُرَغَبُهُمْ في

ص: 33


1- مَثَلٌ يُضْرَب للشيء لا ينال إلا بمشقة عظيمة. المعجم الوسيط، ص 714، «قتد».
2- انظر شرائع الإسلام، ج 4، ص 59 ؛ والروضة البهيّة، ج 2، ص 41 (ضمن الموسوعة، ج 7).

سُلُوكِهِ، وإنّما وجدوا من يرى أنّ التفقّة هو قِراءَةُ مِثْلِ كتاب الشرائع والقواعد ونقل فتواهما، والتأهّلُ لفهم جواب السائل لهم عن مسألةٍ أنْ يَقْرأ عليهم عِبارةً هذهِ الكُتُبِ. وألِفُوا هذا الطريق، فأهْمَلوا ما سواه، ومن جَهِلَ شيئاً عاداه(1). ونحن نقطع بأنّ جماعةً أدركناهم فضلاً عن غيرهم، كان يُمكنهم الوصول إلى مرتبة التفقّه ويقدرون على تحصيل العلوم المعتبرة فيه في سنين يسيرة من عمرهم، ولكنّهم ما اشتغلوا بها لهذا الوجه أو غيره، وحينئذٍ فيتوجّه عليهم الإثم، وينقدح فيهم الجَرْحُ اللّه تعالى يغفر لنا ولهم ويسامحنا وإيّاهم إنّه جواد كريم.

ومن عجيب ما قادتهم إليه العادة، وساقَهم إليه إلفُ المَنشا، أنهم عاصروا جماعةً من المجتهدين أجَلُّهم الشيخ علي (رحمه اللّه)، وكان عند من يعرف مراتب الفقهاء على غاية عظيمةٍ من الفقه ومرتبةٍ عاليةٍ في الاستدلال، بحيث كان أعلى من كثير من الفقهاء السابقين، ومع ذلك ما تَوَقَّفوا في أمرهم الذي هم عليه، ولا تَوَهَّموا وجوب رجوعهم إليه، ولا كان عندهم إلّا بمنزلة رجلٍ عالمٍ من جملة علماء الإسلام الذين يتشاركون في فهم أُصول الأحكام وكلّ هذه الغفلة العظيمة جاءتهم من قبل هذه الطريقة الذميمة. واللّه المستعان.

الوجه السابع: على تقدير التنزّل والقول بإمكان التوصل إلى طريق يوصل إلى جماعة من المجتهدين، لا يصحّ القول بأنْ نَنْقُل فتواهم جميعاً، بحيث يتخير الناقل في أخذ ما شاء منها وطَرْح ما شاء - كما يفعله أهل عصرنا، «َيُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عامّا»(2)، ويجعلون منه حلالاً وحراماً - لما تَقَرَّرَ في الأُصول(3)، وذكره كثير من الفقهاء

ص: 34


1- . إشارة إلى قول أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلِّين): «الناس أعْداءُ ما جَهِلُوا». نهج البلاغة، ص 692، الحكمة 172.
2- اقتباس من الآية 37 من سورة التوبة (9).
3- الذريعة إلى أُصول الشريعة، ج 2، ص 801: معارج الأُصول، ص 202؛ مبادئ الوصول، ص 249.

أيضاً في كتب الفروع(1)، أنه مع تعدّد المفتي يتعين الرجوع إلى الأعلم، فإن تساووا في العلم فالأورع، فإن تساوَوْا في الجميع تخيّر المستفتي في تقليد أيّهم شاء، فإذا أَخَذَ بقوله في مسألة لم يَجُز له الرجوع الى غيره في تلك المسألة. واختلفوا في جواز الرجوع إليه في غير تلك الواقعة. وقد عُلِمَ من ذلك أنّ التديّن بتقليد من شاء من الجماعة المختلفين في العلم وغيره - بشبهة أنه قد نقل فتواهم - غير جائز في دين اللّه تعالى، ولا قال به أحدٌ ممّن يُعْتَمَدُ على قوله منهم.

فإن قيل: هذا البحث إنّما هو على تقدير حياة المجتهدين - كما يظهر من كلام الجماعة - فلا يلزم مثل ذلك مع موتهم؛ لبطلان القياس.

قلنا: من حق هذا الدليل أنْ يُعْكَسَ، ويقال: إذا كان هذا الحكم في الأحياء فينبغي أن يكون في الأموات بطريق أولى؛ وذلك لأنا متى التزمنا - ومن أين لنا ذلك ؟ - بجواز تقليد الأموات، فنهاية ما يمكنُ أنْ يُجْعَلَ حكمُهم حكم الأحياء، فلو جاز تقليد المفضول الميّت مع عدم جواز تقليدِهِ لو كان حيّاً بالنسبة إلى الفاضل الحي كان الميّت أحسن حالاً، وأجود قولاً، وأولى اعتماداً، وهذا مما تشهد ببطلانه البديهة، فضلاً عن أنْ يُستَدلَّ عليه مع أنّ تقييد الحكم المذكور بالأحياء - في كلام من قَيَّدَ - إنّما هو لسدّه باب تقليد الميّت بوجه من الوجوه، لا لبيان اختصاص الحي بهذا الحكم كما يُتَوَهَّمُ.

الوجه الثامن: أنّ من القواعدِ المقرَّرة، والفتاوى المسلمة، أن المجتهد إذا اجتهد في مسألة. وأفتى بها لغيره، وتَعَيَّنَ على الناس العملُ بها، ثُمَّ رَجَعَ عن تلك الفتوى إلى ما يخالِفُها، بَطَلَ حكم الأولى في حقه وحق غيره، ووجب على كلّ من قلَّدَهُ أولاً، ومن لم يقلّده، العمل بالفتوى الثانية وترك الأولى، وصار عملهم بالأولى كعملهم بغير فتوىً

ص: 35


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 51 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

ولا تقليد. وهكذا لو رَجَعَ عن الثانيةِ إلى ثالثة ورابعة، وهلم جراً حيث يُمْكِنُ. وإذا كانت هذه حال فتواه لو كان حيّاً بغير خلاف في ذلك، فما الذي جَوَّزَ العمل بتلك الفتوى السابقة على الأخيرة بعد أنْ حُكم ببطلانها، بل أُجْمِعَ على عدم جواز العمل بها في حياته مع الإجماع على وجوب الرجوع إلى فتواه في حال الحياة ؟!

ثم بعد أن يموت ويبطل قوله - على ما سيأتى - ويَعْتَرِفَ هو بأنّ قوله يَبْطُلُ بموته، وأنه لا يجوز لأحد العمل به البتة، سواء المتقدّم والمتأخّر؛ فتوهم المتوهم بعد ذلك كلّه أنّه يجوز العمل بأيّ فتوىً كانت من فتاويه - سواء تقدَّمتْ أم تأخَّرتْ - ويعتقدها ديناً، ويُرَتِّب عليها أحكاماً، لا بدّ من إقامة الدليل على ذلك، وإثبات صحّة ما قد أجمعوا على بطلانه؛ وإلا فالوقوف على موضع الإجماع متعين. ولو صح جواز تقليد الميّت، لكان اللازم من هاتين المقدِّمتين أنْ يُعْمَلَ بآخِرِ فتوى أعلمٍ مَنْ تقدّم من علمائنا السابقين من لدُن الأئمّة (صلوات اللّه عليهم أجمعين) إلى زماننا هذا، بل زمن النبيّ (صلوات اللّه عليه وآله)؛ لأنّ الاجتهاد سائغ في زمن المعصوم، بل لا ينتفع النبيّ والإمام في النائب على الأحكام والقضايا إلّا بالفقيه المجتهد، كما هو مقرر في محلّ آخَرَ. ومعرفة أعلم هذا الخلق الماضي، والوقوف على تفاصيله، مما قد الحقّ في زماننا هذا بالمُحالات. وعلى تقدير تعينه يكون العمل بآخِرَ ما أفتى به في المسألة ومات عليه من الفتوى وذلك كلّه قد قد خَفِيَ خبره، بل امَّحى(1) من الخلق أثره. وحيث كان اللازم تقليدُ مَنْ ذُكِرَ ولم يتعيّن كان بمنزلة الجهل بالمفتى، وهو موجب لتوقّف العمل بالفتوى.

فإن قيل: هذا الحكم إنّما يجب العمل به مع العلم بمراتب الفقهاء السابقين، وتعيين مراتبهم في العلم؛ أما مع تعذُّرِ العلم بذلك فإنّ الشَرط يَسقُطُ حينئذٍ للحرج والمشقّة،

ص: 36


1- اِمَّحَى الشيءُ: ذَهَبَ أَثَرُهُ. المعجم الوسيط، ص 856، «محا».

كما يسقُطُ لو كانوا أحياءً وتعذَّر العلم بذلك فيهم، كما لو كان في العصر الواحدِ مائةُ ألف فقيهٍ مثلاً.

قلنا: هذا الاحتمال - مع أنّه لا قائل به من الأصحاب وغيرهم - إنّما يُفيدُ سقوطَ حكم من جُهِلَ حاله منهم، وأما من عُلِمَ حاله بالقصور عن بعضهم، فإنّ اللازم سقوط اعتبار قوله كما في كثير من الفقهاء من المتقدّمين والمتأخّرين، مع أن الناس لا يَتَحاشَون عن العمل بفتواهم كما لا يخفى.

الردّ علی القول بمساواة المجتهد المیّت للحيّ في العمل بفتواه

الوجه التاسع: تَنَزَّلْنا لنا عن ذلك كلِّه، وقلنا بأنّ الميّت يُساوي الحي في جواز العمل بفتواه، ويلزم من ذلك إلزام شنيع، وهو أنّه يَتَعَيَّنُ الرجوع حينئذٍ إلى الأعلم من الأحياء والأموات؛ عملاً بما قرَّرناه من القاعدة، فلو فُرِضَ مجتهد حيٌّ قَصُرَتْ رتبته عن بعض من سَلَفَ مِن الفقهاء،الأموات، ولكن ليس في العصر سواه، أو فيه غيره ولكنّه أعلمُ الأحياء، يلزم على هذا عدم جواز الرجوع إليه والأخذ بقوله؛ لوجوب تقليد الأعلم، والفرض أنّ بعض الأموات أعلمُ منه، وأن قولهم معتبر، وهذا خلاف الإجماع.

لا يقال: هذا الفرض منفيٌّ بالإجماع على بطلانه، فيبقى الكلام فيما لا إجماع عليه؛ فإنّ مثل ذلك كافٍ في تخصيص العام والتمسّك فيما عدا المُخْرَج بالدليل.

لأنّا نقول: هذا الحكم باطلٌ محال لَزِمَ مِن جواز تقليد الميّت حيث اتَّفَقَ، أو على وجه مخصوص، وكلّ حكم لَزِمَ منه المُحالُ فهو مُحال، فيكون جواز تقليد الميّت على ذلك الوجه مُحالاً، وبه يَتِمُّ المطلوب.

الوجه العاشر: أنّ تقليد الميّت - على تقدير جوازه وتحقق طريقه - إنما يكون في آحاد المسائل الجزئيّة التي تتعلق بالمكلّف في صلاته وباقي عباداته ومعاملاته ونحوها، لا في كلّ شيءٍ مما قد تَوَصَّلَ إليه أهلُ عصرنا، حتّى جوزوا به الحكم

ص: 37

والقضاء وتحليفَ المنكرِ ومَنْ مائله وتفريق مال الغائب، ونحو ذلك من وظائف المجتهدين؛ فإنّ ذلك غير جائز، ولا هو محلّ التوهّم، لتصريح الفقهاء بمنعه في كتبهم الفقهيّة، بل الأغلب ذكره في كلّ كتاب مرتين: الأولى منهما في كتاب الأمر بالمعروف، والأُخرى في كتاب القضاء. ولا يحتاج إلى أن ننقل عباراتهم المصرحة بذلك؛ فإنّها في الموضعين شهيرة واضحة الدلالة، جازمة الفتوى بغير خلافٍ في ذلك بينهم، بل صَرَّحوا أيضاً بأنّ ذلك إجماعي.

وممّن ذَكَرَ الإجماع على عدم جواز الحكم لغير المجتهد العلّامة في المختلف في كتاب القضاء في مسألة استحباب إحضار القاضي من أهل العلم من يُنَبِّهُهُ، قال في آخرها: قد أجمعنا على أنه لا يجوز أنْ يَلي القضاء المقلّد(1). بل هذا إجماع المسلمين قاطبةً؛ فإنّ العامّة أيضاً يَشتَرِطُونَ في الحاكم الاجتهاد، وإنما يُجَوِّرُونَ قضاءَ غيرهِ بشرط أنْ يُوَلِّيَه ذو الشوكة، وهو السلطان المُتَغَلّب، وجَعَلُوا ذلك ضرورة (2). فالقول بجواز القضاء لمن قَصُرَ عن الدرجة من غير تولية ذي الشوكة، كما هو الواقع، مخالف لإجماع المسلمين. وحينئذٍ فالقول في مثل هذه المسألة الإجماعيّةِ، والحكم لأهل التقليد، حكم واضحٌ بغير ما أنزل اللّه سبحانه، وعين عُنوان الجُرأة عليه، فكيف يعملون بفتواهم مرّةً ويخالفونها، أُخرى، والكلّ موجود في كتاب واحد ؟! «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ»(3).

بل قد ذَكَرَ الأصحابُ في كتبهم ما هو أغرب من ذلك وأعجب، وهو أنه لا يُتَصَوَّرُ

ص: 38


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 431، المسألة 33.
2- قال ابن رشد في بداية المجتهد، ج 2، ص 460: واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد... . وقال أبو حنيفة: يجوز حكم العامّي. وقال ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 14، ص 14، المسألة 1864... . الثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد. وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفيّة. وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميّاً فيحكم بالتقليد ؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز.
3- اقتباس من الآية 85 من سورة البقرة: (2).

حكم المقلّد بوجه، ولا تولية المجتهد الحيّ له في حكم. وذكروا في باب الوكالة أنّ ممّا لا يَقْبَلُ النيابةَ القضاءُ(1)؛ لأنّ النائب إنْ كان مجتهداً في حال الغيبة لم يَتَوَفَّف حكمه على نيابة، وإلا لم تَجُز استنابته. ومن هاهنا نُقِمَ (2) على الطبقات السالفة التي بين الناقل وبين المجتهدين؛ فإنكم تعلمون علماً يقيناً، أنّهم كلّهم أو جُلَّهم، أو من شاهدتُم منهم، ما كانوا يتحاشون عن الأحكام وتَقعُ منهم مراراً، وكفى جرحاً فعل ما خالف الإجماع المصرَّحَ من مثلِ العلّامة جمال الدین (رحمه اللّه)(3) وغيره، بل يَتَرَتَّبُ على هذا ضَمانُهم الأموال التي حكموا بها واحتبسوها (4) من مال الغائب وغيره، واستقرارها في ذِمَّتِهم، كما هو معلوم مقرّر في بابه ومقطوع به في فتاواهم، بأن من هو قاصر عن درجة الفتوى يَضْمَنُ ما أخْطَأ فيه من الأحكام في ماله، ويَضْمَنُ ما تَصَرَّفَ فيه من مال الغائب كذلك.

الوجه الحادي عشر: أنّ مستند الأحكام ودلائل الفقه لما كانت ظنّيةً لم تكن دالّةً بذاتها على تلك الأحكام، وموجبةً للعمل بها، بل لابد من اقترانها بظنّ الفقيه البالغ درجة الفتوى ورجحانها عنده ولو بالاستدامة الحكميّة كحالة نومه وغفلته. ولهذا لا يجوز العمل بما دلّت عليه لو حصلت تلك الأدلّة لغيره ممن لم يبلغ الدرجة، ولا له إذا تغيَّرَ ظَنُّهُ ورجع إلى نقيضها، وحينئذٍ فيكون المُثبت لتلك الأحكام هو تلك الدلالة المقترنة بالظنِّ فعلاً أو قوّةً.

ص: 39


1- قال المحقّق الكركي في جامع المقاصد، ج8، ص 218: يصحّ التوكيل في القضاء والحكم بين الناس؛ وللمزيد راجع مسالك الأفهام، ج 5، ص 255 - 256: وجواهر الکلام، ج 27، ص 381.
2- نَقَمَ الشيءَ: أنكره وعابه. يُقال: نَقَمْتُ عليه الأمر، ونَقَمْتُ منه كذا. راجع المعجم الوسيط، ص 949، «نقم» ؛ وفي بعض النسخ : «يُعْمَزُ» بدل «نُقِمَ» ؛ يقال : غَمَزَ على فلانٍ، أي طَعَنَ فيه. راجع المعجم الوسيط، ص 661، «غمز».
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 431، المسألة 33.
4- في بعض النسخ: «واحْتَسَبوها».

فتبيّ من ذلك أنّ تلك الدلائل لا تستلزم الحكمَ بذاتها، بل بالظنِّ الحاصل باعتبار انتفاء المعارض، وهذا الظنُّ يمتنع بقاؤه بعد الموت؛ لأنّه من الأعراض المشروطة بالحياة فيزول المقتضي لِزوالِه، ويبقى الحُكمُ بعد موتِهِ خالياً عن سند، فيخرج عن كونه معتبراً شرعاً.

وأوضحُ ما يؤيد هذا الوجه أنّ المجتهدَ لو رَجَعَ في المسألة عن مقام الترجيح إلى التوقّف، بَطَلَ ذلك الترجيحُ في حقّه وحقّ المقلّد، كما لو رَجَعَ عنه إلى ترجيح نقيضه، وحينئذٍ فكيف يثبتُ بعد الموتِ ما يَبطُلُ في حال الحياة عند زوال ذلك السبب الموجب للحكم؟ وفي هذا الوجه بحث آخر يَخْرُجُ عن موضوع هذه الرسالة.

مناقشة القول بجواز العمل بفتوی المیّت

الوجه الثاني عشر: أنا نتنزّل عن جميع ما تقدّم من الوجوه، ونُجَوِّزُ العمل بقول الفقيه الميّت، بأن نجعَلَهُ ممكناً بالإمكان الخاص، بل نفرُضُ قيامَ الدليل على صِحَتِهِ، وذلك كلّه غيرُ مُجَوِّز للعمل به بدون قائل من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحينَ بِهِ، كما هو الشرط في كلّ مسألة إذا لم تكن من الأمور المتجدّدة التي يَغْلِبُ على الظنِّ أنّها ما خَطَرَتْ للعلماء السابقين، ولا بَحَثُوا عنها. وهذه المسألة ليست كذلك، بل هي على طَرَفِ النقيض له؛ فإنّهم قد ذَكَرُوها في كُتُبهم الأُصوليّة والفقهيّة قاطعين فيها بما ذكرناهُ من أنه لا يجوز النقل عن الميّت، وأنّ قولَهُ يَبْطُلُ بموتِهِ من غير نقل لخلافِ أحدٍ فيها. ونحن بعد التتبع الصادقِ لِما وَصَلَ إلينا مِنْ كلامهم ما عَلِمْنا بأحدٍ من أصحابنا - مِمَّنْ يُعْتَبَرُ قوله ويُعَوَّلُ على فتواه - خالف في ذلك. فعلى مدعي الجواز بيان القائل به على وجه لا يَلْزَمُ منه خرقُ الإجماع.

فهذه جملة من الاستدلال على المطلوب، غير ما أودَعَهُ الأُصوليّون من الأصحاب وغيرهم في كتب الأُصول. وإنّما لم نَتَعَرَّض لما نقلُوهُ في ذلك اكتفاء بما قَرَّرُوهُ.

وجملة ما وَصَلَ إلينا من العُذرِ في ذلك أنّ بيد أهل العصر فتوى مدوَّنةً على

ص: 40

حواشي كتبهم ينسبونها إلى بعض المتأخّرين(1) تقتضي جوازَ ذلك. وأنت قد عرفت بما أو دَعْناه في مطاوي هذه الرسالة ما يَحْسِمُ مادّة الشبهة، ويُزيلُ العِلَّةَ، ويَكشِفُ عن فسادِ هذه الفتوى. وفيها زيادةً على ما ذكرناه أمورٌ:

أحدها: أنّها غيرُ مصحَّحة النسبة متّصلة السند الصحيح إلى من تُعزى إليه(2)، وإنّما أخَذَها الناقِلُ عن شَيخِهِ من غيرِ علمِ طريقِهِ فيها إلى مَن يَزْعَمُ أنّه أفتى بها. وما هذا شأنه لا يَسُوعُ إدخاله في الدين، ومعارَضَتُهُ لِما قد شاع وذاعَ وَمَلأ الأسماع من كلام علمائنا وأجلّاء فقهائنا في كتب الأُصول والفروع بما يُخالِفُ مضمونَها.

وثانيها: أنّها على تقدير أن يكون لها سندٌ في نفس الأمر فهو غير مذكور، فلابدّ من بيانه حتّى يُنظَرَ في رجاله على الوجه الذي حَرَّرناه سابقاً، ليُمكِنَ التعليلُ بها، مع أنّها خالية عن كُتب من نُسِبَتْ إليه ولو كانت حقّاً لكان إيداعه لها في كتبه أولى -كما هو المعتاد - ليكون في مقابلة أقوال باقي العلماء.

وثالثها: أنّها مشتملة على جواز الحكم والقضاء للقاصر عن درجة الاجتهاد، وقد عرفت أن الإجماع واقع على بطلان ذلك، منقولٌ مصرَّح، فكفى بها عاراً و مَنْقصةً وشَناراً (3)؛ لإفضائها إلى مخالفة ما قد أجمع العلماء عليه، وذلك وحدَهُ كافٍ في فَسادها، وبطلانِ ما أدَّت إليه.

ص: 41


1- قال المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان، ج 12، ص 14 - 15: رأيت في حاشية على الدروس ماهذا :لفظه للفقيه العدل الإمامي - وإن لم يجمع شرائط الاجتهاد - الحكم بين الناس، ويجب العمل بما يقوله من صحّة أو إيطال. وكذا حكم البيّنة واليمين والتزام الحقّ وعدمه في حال الغيبة وعدم المجتهد، ابن فهد (رحمه اللّه) وكتب بعدها: منقولة هذه الحاشية من الشيخ حسين بن الحسام (دام فضله). فيحتمل أن يكون مراده في المجمع عليه، وفي المختلف فيه أيضاً، بفتوى الأعلم، الذي لو كان حيّاً لكان الحكم له، أو المتجزّئ الذي اجتهد في ذلك الحكم، فيعلم منه جواز الفتوى عنده بالطريق الأولى.
2- يقال: عزا الخبر إلى صاحبه أسنده إليه. المعجم الوسيط، ص 599، «عزا».
3- الشنار: الأمر المشهور بالشُّنْعة والقُبح. المعجم الوسيط، ص 496، «شنر».

ورابعها: أنّها على تقديرِ صُدُورِها عن فقيهِ فهي الآن فتوى ميّتٍ، فجواز العمل بفتوى الميّت موقوف عليها، وجواز العمل بها موقوف على جواز النقل عن الميّت وذلك دور ظاهر، ولا تحصل السلامة منه إلّا إذا وافقها فقيه مجتهد حيُّ، بحيثُ لا يلزم من حُكمِهِ مخالَفَةُ الإجماع، وحينئذٍ يسقط الفرضُ.

وخامسها: أنّ الجواز فيها مشروط بتعذر الفقيه الحي، وحينئذٍ فإن كان موجوداً فهي ساقطة، وإن كان معدوماً فالواجبُ على أهل العصرِ استفراغُ الوُسْعِ وبَذْلُ الجُهْدِ في تحصيل الواجب الذي أقلّه كَوْنُه كِفائياً؛ فتركُهُم للاشتغال به وتقاعُدُهم عنه يُخرِجُهُم عن التأهّل للمناصِبِ المذكورة، والاتصاف بالعدالة المبرورة. وجميع ما قَدَّمناه من الأدلّة واردٌ على هذه الفتوى التي بأيديهم.

وهب أنّ الشبهة قد تَعْرِضُ فى واحدٍ من هذه الوجوه أو في أكثرها أليس أحَدُها كافياً فيما أردناه، وافياً بما ذكرناه، شافياً من العلّةِ لِمَن ألقى نفسه في هذه اللُجَّةِ، وتَوَرَّطَ في التَعَلَّق بهذِهِ المِحنةِ ؟ ولقد اشتَهَرَ وتَفَرَّعَ على ذلك بين أهل العصرِ ما تَضْحَكُ منه الثكلى وتَشَفّى فينا الأعداءُ؛ لرداءته وبُعدِهِ عن قبولِ العقول السليمةِ والآراء المستقيمَةِ؛ حيثُ صارَ أمرُ الحُكمِ والولاية على الوظائف المختصة بحاكم الشرع لا ضابط له يُرجعُ إليه، ولا حد له من العلم يَقِفُ عليه، فنجد في كلّ عصر من هذه الأعصار يُعيِّنون هذه الأحكام في قومِ مخصوصين على وجه يعتقدُونَ صحّة حكمهم ونفوذه وإنفاذه، وبطلان حكم من عداهم ممَّن قَصُرَ في الرتبة عنهم يسيراً، وربما ساواهم، ثمّ في وقتٍ آخَرَ يصيرُ ذلك الذي كان حكمه باطلاً حاكماً بينهم بموت من كان منهم معدوداً أعلى منه رتبةً. وهكذا إلى أنْ ينتهي الحال - وتتقاعَدَ الهِمَمُ - إلى أن يصير الحاكم من يَعرِفُ الكتابة، ويَفْهَمُ أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر؛ ونظائر ذلك من المسائل الواضحة من غير معرفة بمستَنَدِ ذلك ولا خِبْرَةٍ بدليله. وهل هذا إِلَّا بِمَعْزِلٍ بعيدٍ عن الحقّ ؟ وكلُّ ذلك نَشَأ من هذا النقل الفاسد. بل نَشَأ ما هو أعظمُ ممَّا حَكَيْتُهُ وأَوْضَحْتُهُ.

ص: 42

وربما تعلّق بعضهم في جواز تقليد الموتى بقول الشهيد في الذكرى: إنّ بعض العلماء قال بجوازه(1). ولم يُبَيِّن ذلك القائل، فدل ذلك على أنّ في المسألة خلافاً. وذلك كافٍ في عدمِ الإجماع عليها. فلا يكون في التعلّق بها ما في مخالفة الإجماع من الحَظْرِ.

وهذِهِ شبهة واهيةٌ؛ فإنّ مجرّد حكاية القول عن بعض العلماء لا يوجِبُ كونَهُ من أصحابنا أو من غيرِهم؛ لأنّ «العلماء» جمع معرَّف فتُفيدُ العموم، كما تحقّق في الأُصول، فيكون بعضُهم أعم من بعض علمائنا؛ لأنّ بعض الأعمّ أعمّ من بعض الأخصّ، فلا دلالة فيه على أنّ المخالف لا يكون من من علمائنا. وممّا يوضح عن أن المخالف قد علمائنا أنّ هذه مسألة أُصوليّة، والمعلوم من أصحابنا وغيرهم في كتب الأُصول أنْ يَذكروا الخلاف في المسألة مع من خالفهم في المذاهب، بل يَحْكُونَ فيه أقوالاً واهية وآراء فاسدةً، ليُثبتوا الحقّ في ذلك والجواب عن شبهة المخالف وان ضعفت.

وهذا الأمر لا يخفى على من نظر في كتب الأُصول واطّلع على مصطَلَحهم فيها. وهذا العلّامة الفاضل جمال الدين لمّا ذكر المسألة في كتاب النهاية - مع عِظَمه وكثرة ما يَذْكُر فيه من الأقوال - ذكر المسألةَ ونَقَلَ ما فيها من الأقوال ونسبه إلى قائله من الجمهور، ثمّ اختار المنع من تقليدِ الميّت. ولم يذكر لأصحابنا في ذلك قولاً (2). وكذلك ذكرها في منتهى الأُصول جازماً بحكمها من غير نقل خلاف عن أحدٍ(3). وكذلك ذَكَرَ

ص: 43


1- قال في ذكرى الشيعة، ج 1، ص 9 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5): وهل يجوز العمل بالرواية عن الميّت ؟ ظاهر العلماء المنع منه محتجين بأنّه لا قول له ولهذا انعقد الإجماع مع خلافه ميتاً، وجوزه بعضهم؛ لإطباق الناس على النقل من العلماء الماضين ولوضع الكتب من المجتهدين؛ ولأنّ كثيراً من الأزمنة والأمكنة تخلو عن المجتهدين وعن التوصل إليهم فلو لم تقبل تلك الرواية لزم العسر المنفي.
2- نهاية الوصول إلى علم الأُصول، ج 5، ص 248 - 249.
3- منتهى الوصول إلى علمي الكلام والأُصول ذكره العلّامة في إجازته للسيّد مهنّا بن سنان في عداد كتب أُصول الفقه. انظر إرشاد الأذهان، ج 1، ص 108، مقدّمة التحقيق.

المسألةَ في التهذيب (1) وغيره وقال: الأقربُ أنه لا يجوز تقليد الميّت (2). ومع ذلك لم يَذْكُر أحدٌ من شُرّاح الكتاب في ذلك قولاً لأصحابنا يُقابِلُ ما أفتى به العلّامة. فعلى مَن نسبه إلى أصحابنا بيانُهُ على وجه يجوز لنا التعويل عليه.

سلّمنا أن في ذلك قولاً لأصحابنا فمجرّد وجودِ القولِ سَوَّغَ لكم التعويل عليه من غير حجّةٍ ولا دليل ؟! إنّ هذا لَشَيء عَجيب، مع أنّ هذا كلّه فيما لا يتعلق بالقضايا والأحكام كما بيّناه؛ فإنّه موضِعُ وفاقٍ بالتصريح بخلافِ ما نحن بصددِهِ؛ فإنّه ممّا لم تعلم فيه المخالف، ولا يَسوعُ لنا فيه دعوى الإجماع: إلّا أنّ المصير إلى ما ذكرَهُ الأصحاب متعيّن إلى أنْ يَثْبُتَ خلافه.

جواز القضاء للقاصر عن الاجتهاد والردّ علیه

ومن غَريب ما تعلَّق بِهِ بعضُهُم في جواز القضاء للقاصر عن درجة الاجتهاد أنّه حينَ سُئِلَ عن الوجهِ المُسوِّع لذلك اسْتَنَد إلى قول العلماء: «ولو تراضى الخَصمانِ بواحدٍ من الرعِيَّةِ فَحَكَمَ عليهما لَزِمَهُما حكمُهُ» إلى آخر ما نقلوه في قاضي التحكيم. فقال: نحنُ لا نَنْصِبُ أَنفُسَنَا لِلقَضاءِ، لكن إذا أتانا خَصمانِ وتَراضَيا بِنا حَكَمْنا بينَهُما، فنحن قُضاة تحكيم وإن لم نكن من أهل الاجتهاد. وهذا الاستناد من أفْحَشِ الأغلاط وأقْبَح الأخلاط ؛ فإنّ المراد بقاضي التحكيم - الذي ذَكَرَهُ الفقهاء في كتاب القضاء - هو الفقيه المجتهد العدلُ في حال حضور الإمام لكنّ الإمام لم يُوَلِّهِ القضاء، وإنّما وَلَّى في البلدِ غيرَهُ من المجتهدين فتراضى الخصمانِ بالمجتهد غير المنصوب.

وتحرير المسألة أنّ القضاءَ لا يَنْفُذُ لِغَيْرِ المجتهدِ من الرعية، سواء كان ذلك في حال حضور الإمام أو حال غَيْبَته إجماعاً. لكن في حال حضورِهِ لا يَنْفُذُ قضاءُ كلّ مجتهد، بل إذا نَصَبَهُ الإمام قاضياً، فإذا نَصَبَ مجتهداً جامعاً لباقي الشرائط المعتبرة في القاضي تعيَّن الترافع إليه، وكان الممتنع عنه عاصياً، وحكمه على الناس نافذاً سَواءٌ رَضِيَ به الخصم ابتداءً أم لا.

ص: 44


1- تهذيب الوصول إلى علم الأُصول، ص 289.
2- راجع مبادئ الوصول، ص 248: وقواعد الأحكام، ج 1، ص 526؛ وإرشاد الأذهان، ج 1، ص 353.

وأمّا غيرُ المنصوب من المجتهدين في تلك الحال فلا يتعيَّن الترافع إليه، ولا يَنْفُذُ حكمهُ إلّا إذا تَراضَى الخصمانِ به قبل القضاء، فحينئذٍ يَنْفُذُ قضاؤُه عليهما، وإنْ سَخِطَ الخَصْمُ بعد ذلك، وهذا هو المعبر عنه بقاضي التحكيم.

وأمّا فى حال الغَيْبة فلا يُتَصَوَّرُ قاضي التحكيم؛ لأنّ الفقية الجامع لشرائط الفتوى في تلك الحال بحكم المنصوب في حال الحضور على الخصوص، فيجب الترافع إليه، ويَنْفُذُ حكمه كالمنصوب حالة الحضور، ولا يجوز لمن دونه التعرُّضُ للقضاء إجماعاً وهذا الذي فَصَّلْتُه موجود مصرَّح به في كُتُبِ الأصحابِ الفقهيّة مختصرَةً ومطوّلَةً، تكفي مراجَعَتُها عن نَقْلِ ألفاظهم. فعليك بمطالعتها في أوّل كتاب القضاء، خصوصاً كتاب الدروس: فإنّ فيه بلاغاً وافياً وبياناً شافياً(1).

واعلم أنّه قد وقع في كُتُب الأصحاب وغيرهم الأُصوليّة، وربما ذُكِرَ أيضاً في الفرعيّة، أنّ من علاماتِ الفقيه المجتهد المسوغةِ لرجوع العامّي إليه، وتعويله على ما يَعْتَمِدُ عليه، أنْ يراه مُنتَصِباً للفتوى بمَشْهَد من الخلق وهم منقادُونَ إليه من غير نكير عليه. هذه علامة من علاماته لا خلاف فيها بين الفريقين، وكفى بها دلالةً واضحةً و علامةً فاضحةً على أنّ مَنْ لم يَتَّصِفْ بالوصفِ المذكور، ويَتَأهل لمنصب الدليل لا يُتَصَوَّرُ فيه عندهم أنْ يُحَلَّى نفسه بهذه المَنْقَبَةِ، ويتعرّض لهذه المرتبة، بحيث صار عندهم مجرّد التعرّض لها مع عدم النكير دليلاً على صحّة الدعوى. ولا يخفى أنّ الأمر في زماننا قد صار بخلاف ذلك، بل هذه العلّامة قد امَّحَى أثرها، ولم يَبْقَ في الكتب إلّا خَبَرُها؛ فإنّ كلّ مَنْ قَرَأ الشرائع، أو بعضها أو مازاد عليها يسيراً يجلِسُ في زماننا ويَتَصَدَّرُ ويُفْتي الناس إلى غير ذلك من وظائف الفقهاء. فإن كان ما ذكروه من العلّامة حقاً حُكم ببلوغ هؤلاء درجة الفتوى، أو خَطَئِهم فيما يصنعونه،

ص: 45


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 49 - 50 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

وخروجهم عن الحقِّ، وانسلاخهم من التقوى.

فإن قلت: الفرق بين الحالتين أنّ المتصدِّر هنا لا يَدَّعي الفقه والاستدلال به، وإنّما يعترفُ بأنّ فتواه تبع لفتوى غيره، وأنّه أخَذَ ذلك عن مشايخه والتبعَةُ في ذلك عليهم. بخلاف ما ذكره الفقهاء من علامة الفقيه؛ فإنّ المراد أنّه يَدَّعِي أن تلك الفتوى صادرة عنه، ومُسْتَندة إلى ما ثَبَتَ عنده وتربَّحَ بالدليل التفصيلي، فالعلّامة باقية.

قلت: عبارات الأصحاب وغيرهم في ذلك، على كثرتها في الأُصول الفقهيّة متوناً وشروحاً، خالية من هذه القيود، دالة على مطلق التصدر والفتوى، وذلك قاطع لمادّةِ هذا التكلُّف، حاسم لهذهِ الشبهةِ، دال على فساد هذه الطريقة المألوفة، فإن اغتراك شكٍ، أو حَصَلَ لك،ريب فراجع أنت عباراتهم، وأغننا عن نقلها إليك وتلاوتها عليك.

فإن قلت: ما تصنع بالحقوق في حال الغَيْبة وتعذُّرِ الفقيه مع قيام البيّنة الكاملة العادلة بها ؟ وهل في ترك مساعدة صاحبها على تحصيلها إلّا الضرر العظيم ؟

قلت: حُكُم الحقوقِ على ذلك التقدير حُكمُ الحُدودِ والتعزيرات المعطلة؛ لعدم الحاكم المتمكّن من القيام بها، وليست هذه الحقوق يبدع من الأحكام المعطّلة والشرائع المهملة في حال الغَيْبة. بل نقول: لو فُرِضَ وجودُ ألفِ فقيه وهم لا يتمكنون من إنفاذها على وجهها، أليست تكونُ مُعَطَّلَةً ؟ والضرر واحد، ولا يلزم من حصوله تسويعُ رَفْعِهِ لِمَنِ اتَّفق كالحدود وغيرها.

فإن قلت: كيفَ حُكْمُ عبادةِ الخلق من صلاة وصيام وحج وغيرها، ومعاملتهم وأحكامهم إذا لم تكن مُسْتَنِدةً إلى من له أهلية الفتوى ؟ فإنّ اللازم من ذلك فَسادُها، سيّما العبادة؛ لعدم الإتيان بها على الوجه المأمور به شرعاً.

قلت: مقتضى كلام الأصحاب وفتاواهم أنّ الأمر على ما ذكرت من البطلان في فعل كلّ عبادة اشتملتْ كلُّها، أو بعض أجزائها، على مسألةٍ مُخْتَلَفٍ فيها؛ لاستحالة الترجيح من غير مرجّح، وبطلان قول الفريقين بالموت. فلابدّ في الصحّة من الاستناد

ص: 46

في أحدِ الوجهين إلى أهلِهِ، سيّما الصلاة؛ فإنّه لا يُمكن إيقاعُ صلاةٍ على وجهِ مُجْمَعٍ على صحتِهِ، فإنّ من جملة أفعالها قراءة السورة، وقد اختُلِفَ في وجوبها واستحبابها، فإذا أتى بها المُصلِّي اختياراً ونوى بها الوجوب تكون صلاته باطلة عند القائل بالندبيَّة؛ لأنه زاد واجباً في الصلاة، وقد نصَّ الأصحابُ على أن من أتى بذكرٍ مندوب بنية الوجوب فى أثناء الصلاة تكون صلاته باطلةً. وإنْ نَوى بها الندب تكون صلاته باطلةً عند القائل بالوجوب ؛ لأن الواجب لا يتأدّى بنيّة الندب، بل يجب إيقاعُهُ على وجه الوجوب.

فتوی صریحة في بطلان الصلاة مع الإخلال بالتقلید

ومن الفتاوى الصريحة في بطلان الصلاة مع الإخلال بالتقليد في جميع أفعالها، أو الاجتهادِ لأهله، عبارةُ الرسالة الألفيّة ؛ فإنّه - بعد أنْ ذَكَرَ أنّ المكلّف بها الآن من الرعيّة صنفان: مجتهد؛ وفرضُهُ أخذُ الأفعال بطريق الاستدلال. ومقلّد؛ ويكفيه التقليد فيها للمجتهد - قال: «فمن لم يأخُذكما وصفناه فلا صلاة له»(1). فعَبَّرَ عن بطلان صلاة مَن خرج من القسمين بأبلغ كلامٍ وأوجَزِهِ؛ فإنّه نفى عنه ماهيّة الصلاة رأساً، وأراد به نفي الصحّة؛ فإنّه أقربُ المَجازاتِ إلى نفي الحقيقة حيث لا يكون مُراداً، كما هو مقرَّرُ في مواضعه.

وأمّا الصوم والحج فلا يَبْعُدُ أنْ يقال بإمكان صحتِهِ إذا أوقعه على وجه يحصل الإجماع عليه بأنْ يَتْرُكَ كلّ ما قيل بتحريمه، ويَفْعَلَ كلّ ما قيل بوجوبه؛ فإنّ واجباتهما غير مرتبطة بماهيّتهما ارتباط واجباتِ الصلاة، كما لا يخفى. وقريب منه القولُ في العقود والإيقاعات.

فإن قلت: هذا الحكم متوجّه على القادر على تحصيل العبادات بأحد الطريقين، فما يصنَعُ مَن لا يقدِرُ على الاجتهاد قطعاً عند تعذّر المجتهد، كالشيخ الفاني الذي نَشَأ على الجَهالَةِ، والمرأة القاصرة عن النظر في ذلك، والرجل البليدِ الذي يَقطَّعُ أهلُ النظر

ص: 47


1- الرسالة الألفيّة، ص 138 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 18).

بأنّه لو صَرَفَ دَهْرَهُ على تحصيل العلوم لم يَبْلُغ تلك المرتبة، ونظائرهم ؟ وكيف حُكْمُ المشتغِلِ بطلبِ المقدِّماتِ المشترطة عند تعذَّرِ المجتهد ؟ فإنّ الحكم ببطلان عبادة هؤلاء كادَ أنْ يكونَ من أفراد التكليف بما لا يُطاق.

قلت: الأمرُ على ما ذَكَرتَ من الحَرَج والضَرَرِ، ولكن لم أقِفْ لأحدٍ من أصحابنا في ذلك على شيءٍ يقتضي صحّة تقليدهم للأموات مطلقاً، والقول بالجواز ممكن لو قال به أحدٌ من المعتبرين مع مراعاة جانب الاحتياط في ذلك. وقد تَعَرَّضَ لهذه المسألة المحقّق الشيخ عليّ (رحمه اللّه) في حاشية الشرائع وقال:

إنّه ليس ببعيدٍ في هذه الحالة الاستعانة بكتب المتقدّمين على معرفة بعض الأحكام، نعم، يجبُ عليهم عند ضيق الوقتِ الإتيان بها على حسب الممكن، كحالة من لا يُحْسِنُ القِراءةَ والذكر عند ضيق الوقتِ(1).

مع أنه لو قُطِعَ بفَسادِ صلاةِ مَنْ قَدَرَ على التفقّه في سالف الزمانِ - عند تعذّر تقليده الآن، وإنْ كان مشتغلاً بالمقدّمات - لم يكن بعيداً، كيف لا ؟ والموجِبُ لهذِهِ الحَيرةِ ونزول هذه البليّةِ إنّما هو تقاعُدهم عن تحصيل الحقِّ، وفُتور عزيمتهم، وانحطاط نفوسهم عن الغيرة على صلاح الدين وتحصيل مداركِ اليقين، حتّى آل الحال إلى انتقاض هذا البناء، وفَسادِ هذه الطريقة السواءِ(2)، واندَرَسَتْ معالمُ هذا الشأن بينَ أهل الإيمان، وقَلَّتْ أو عَدِمَتْ كُتُبُ الرجالِ والحديثِ التي هي أُصول الشريعة الغراء، وشرط التوصل إلى تلك المرتبة الزهراء حتّى أنّ الرجل من فضلاء هذا العصر ربما انقضى زمانُهُ، وفَنِيَ عمرُهُ، ومَضى دهرُهُ، وهو لم يَنظُرْ في كتاب من كُتُبِ الحديثِ مثلِ الكافي والتهذيب والفقيه وغيرها، ولا سعى على تملكه مع قدرته عليه، ولا رآه، بل كثيراً ما يكون شيخه وشيخ شيخه بهذه المثابة وعلى هذه الصفة. فلو أرادَ الرجلُ

ص: 48


1- حاشية شرائع الإسلام، ص 115 (ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره، ج 11).
2- السواء من الأرض: السَهْلَةُ المستوية. المعجم الوسيط، ص 466، «سوي».

المُسْتَيْقِظُ الآن أنْ يَتَوَصَّل إلى تحصيل هذه الأُصول لم يكدْ يَقْدِرُ عليها، مع الإجماع على أنّ كتابة هذه الأُصول ونظائرها وحفظها ومقابلتها وتصحيحها وضبطها ونقلها من الواجبات الكفائية؛ لتوقف الواجب، وهو التفقّه عليها. ومن المعلوم أن الواجب الكفائي إذا لم يَقُمْ به أحدٌ، تَوَجَّهَ العِقابُ على جميع المكلّفين، وكان في ذلك كالواجب العيني. فأينَ القلوبُ المستَيْقِظَةُ ؟ وأين الألبابُ المتَنَبِّهةُ ؟! وأينَ النفوس المتوجّهة ؟! وأيْنَ الهمم العاليةُ ؟! لِتَنوح على هذه البلية، وتُكثِر العويل على هذه الرزيّة، التى لا يَلْحَظها إلّا المّتقون، ف«إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»(1). ومن هذا التقصير نَشَأ هذا القُصُورُ، ومن هذِهِ الغَفْلَةِ حَدَثَ هذا الفتورُ، وانْدَرَسَتْ مَعالِمُ الشريعة في سائر الجهات، وصارت الملة المصطفوية في حيّز الشتات، وصار الأمر كما تراه يروي إنسانُ هذا الزمانِ ما لا يَدْري معناه ولا يَعْرِفُ مَن رواه على نفسه، فليَبْكِ مَنْ ضاع عُمْرُه، وليس له إلا الندامة والحشرة.

وقد كان الأمر قبل ذلك على حالةٍ تضيق الأوراق ببيانها، والأوقاتُ في تحقيق شأنها، حتّى أن رجلاً من ذُرِّيَّة الصدوق ابن بابويه هو ولد تلميذ الشيخ أبي جعفر الطوسي (قَدَّسَ اللّه سَرَّه)، اسمه عليُّ بْنُ عُبيد اللّه بن الحسنِ بنِ بابويه جَمَعَ كتاباً (2) في أسماءِ علماء الشيعة الذين تأخَّروا عن الشيخ أبي جعفر الطوسي إلى زمانه، ليكون تكملةً لفهرست الشيخ، جَمَعَ فيه ما يَزِيد على خمسمائة فقيه في أقلَّ مِن عصرين، وأكثرُهُم أصحابُ مصنّفات عِظام وعلماءُ أَجِلاءُ أعلام ومَن تَأمَّلَ زمانَهم ووَقَفَ على سِيرهم يَعْلَمُ أن توفيقهم ما كان أكثر من توفيق أهل زماننا وإنّما أو جَبَ التخلَّفَ عنهم قصور الهمّة وعدمُ الديانة، وأوجَبَ هذه البلوى قلةُ التقوى. فكيف لا تتوجّه المؤاخَذَهُ، ونَسْتَحِقُّ نزول البلية. ونَسْتَوجِبُ بُطلانَ العِبادة ؟ إنْ لم يَتَدارَكنا اللّه سبحانه بفضله ورحمته وجُوده وكرمه.

ص: 49


1- اقتباس من الآية 156 من سورة البقرة (2).
2- المعروف ب«فهرست مُنتجب الدين»، طُبعَ مراراً، انظر الكلام حوله تفصيلاً في يادنامه علامه أميني، ص 32 - 73، مقالة فهرست منتجب الدين.

نصیحة الشهید لطلبة زمانه و غیرهم

وأعْظَمُ مِن هذا مِحْنَةٌ، وأكبرُ مصيبةً، وأوجب على مرتكبه إثماً، ما يتداوله كثير من المُتَّسِمينَ بالعلم من أهل بلاد العجم، وما ناسبها من غيرهم في هذا الزمان؛ حيث يصرِفُون عمرَهُم ويَقْضون دهرَهُم على تحصيل علوم الحكمة، كعلم المنطق والفلسفة وغيرهما، ممّا يَحْرُمُ لذاتِهِ أو لمنافاته للواجب، على وجه لوصَرَفوا جزءاً منه على تحصيل العلم الديني - الذي يسألُهُمُ اللّه تعالى عنه يوم القيامةِ سؤالاً حثيثاً، ويُناقِشُهُم على التفريط فيه نقاشاً عظيماً - لحَصَّلوا ما يجِبُ عليهم من علم الدين. ثمّ هم مع ذلك «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا»(1)، بل يَزْعُمُونَ أنّ ما هم فيه أعظم فضيلةً وأتمُّ نفعاً. وذلك عينُ الخذلانِ من اللّه سبحانه والبعد عنه. بل الانسلاخ من الدين رأساً أنْ يُحْيِيَ من يَزْعُمُ أنّه مِن أتباع سيّد المرسلين محمدٍ وآله الطاهرين دين أرسطو ومَنْ شاكَلَه من الحكماء، ويُهْمِلَ الدين الذي دانَ اللّه به أهل الأرض والسماء. نعوذ باللّه من هذه الغفلة ونسأله العفو والرحمة.

فاسْتَيْقِظُوا أيُّها الإخوانُ من رَقْدَتِكُم، وأفيقوا من سَكْرَتِكُم، وتَلافُوا تَفْرِيطَكُم في أيّام هذه المهلة قبل حلول المنيّة ونزولِ البَليّة، وقبل أنْ تُسْألَ الإقالة ولات حين مقيل، وتطلبون [كذا] الرجعة ولا يوجَدُ إليها سبيل قبل «أَن تَقُولَ نَفْسُ يَا حَسْرَتَىٰ عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنْبِ اللّه وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللّه هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»(2).

وإيّاكم أنْ تَغُرَّكم النفس الأمارَةُ المُحِبَّةُ للكَسَلِ والخَسارة، وتقول لكم: إذا كان في الاشتغال بالفقه هذا الخطرُ العظيم - وأبوابه مسدودَةٌ فى هذا الزمان ورجاله قليلةً في هذا الأوان، وطُلابه قليلة الأنصار والأعوان وتحصيل المرتبة الصالحةِ قد عَزَّ إليها المثال، وفيما دونها من المرتبة ما ذكرت من الأهوال - فالاشتغال بعبادة اللّه تعالى

ص: 50


1- اقتباس من الآية 104 من سورة الكهف (18).
2- اقتباس من الآيتين 56 - 57 من سورة الزمر (39)

أولى دنياً، وأخرى وأحوطُ للمتّقين ديناً.

ما هذه - والعياذ باللّه - إلا خَطْرةً رديّةٌ، وغرورات نفسانية، ومكايد شيطانية، وإلّا فأينَ لنا البناء على غير أساس، والمَشْيُ في ظلمة الدين بغير مقباس؟ وكيف تكون العِبادَةُ صحيحةً مع ما قد عَدَدْناه من الخطرات ؟! وكيف تصحُ العِبادةُ مع تَرْكِ هذه الفرائضِ الواجبات ؟! وكيف تَقْصُرُ هِمَهُ العاقل على اكتسابِ فَلْسٍ إِنْ حَصَلَ، وهو قادرٌ على اكتساب نفائس الجواهر ؟! وكيف لا يخافُ اللّه من قَصَّرَ مع وقوفِهِ على هذا الدليل الباهر ؟! وأين مرتبة العبادة الخالية عن العلم من العلم الذي هو عبادة ؟! بل هو روح العبادة، بل العلمُ المُخْلَص علم وعبادةٌ على تقدير سلامة العِبادة. فلو لم يَقْصِدِ العاقلُ لِنفسِهِ تحصيل منفعةٍ بالعلم فليقصِد دفعَ المَضَرَّة؛ فإنّ دفع المَضَرَّةِ أولى من جلبِ النفع، كما هو من المقدِّماتِ المتَّفقِ عليها. كيف وقد ورد في ثوابه ما قد أغنى عن التدوين والإظهار لمزيد الاشتهار. وقد رُوِّيْنا بإسنادنا إلى مولانا وإمامنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (صلوات اللّه عليه) أنّه قال: «مَنْ كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأَخْرَجَ ضُعَفَاءَ شيعتنا من ظُلْمَةِ جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به، جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور يُضِيءُ لأهل جميع العرصات. وعليه حُلَّةٌ لا تَقومُ لأقلّ سِلْكٍ منها الدنيا بحذافيرها، ويُنادي منادٍ: هذا عالِمٌ من بعض تلامذة علماء آل محمد؛ ألا فمنْ أخْرَجَهُ من ظُلمة جهله في الدنيا فَلْيَتَشَبَّتْ به يُخْرِجْه من حَيْرَةِ ظُلْمَةِ هذه الْعَرَصاتِ إلى نُزهِ الجِنان، فَيَخْرُجُ كلّ من كان عَلَّمَه في الدنيا خيراً، أو فَتَحَ عن قلبه من الجهل قُفْلاً، أو أوضَحَ له عن شبهةٍ»(1). الحديث.

وعن مولانا العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أشدُّ من يُتم [ال] يتيمِ يتيمُ انْقَطَعَ عن إمامه ولا يَقْدِرُ على الوصول إليه، فلا يَدْري كيف حُكْمُه فيما ابْتُلِي به من شرائع دينِهِ ألا فَمَنْ كان من

ص: 51


1- تفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ص 339، ح 215؛ الاحتجاج، ج 1، ص 10.

شيعتنا عالماً بعلومنا، فَهَدى الجاهِلَ بشريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى»(1).

وعماد ذلك كلّه وملاكه تصحيح النيّة، وإخلاص الطويّة، وتوجيه المقاصدِ نحو المحبوبِ. فليست المعاملة إلا بالقلوب؛ فإنّ اللّه تعالى لا يَنْظُرُ إِلى صُوَرِكم، وإِنَّما يَنْظُرُ إلى قُلُوبكم(2).

رَزَقَنا اللّه تعالى وإيّاكم نَيْلَ هذه المرتبةِ، وحَلّانا بأنوارِ هذه المنقبةِ، وَجَعَلَ ما بَقِيَ من أيّام هذه المُهْلَة على الخيراتِ موقوفاً، وعن البَليّات مصروفاً، وأَيْقَظَنا من سِنةِ الغافلين، وأخْرَجَنا عن عِداد الجاهلين؛ إنه أكرم الأكرمين وأجودُ الأجودين.

وها أنا قد أدَّيْتُ الأمانة حسبما أُمِرتُ، وما أرَدْتُ «إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلَّا بِاللّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»(3).

وها هنا نقطعُ الكلامَ حامدين للّه تعالى على آلائه، شاكرين على نعمائه، صابرين على بلائِهِ، مُصَلِّينَ على أَكْرمِ رُسُلِهِ وَأَشْرِفِ أحِبَائِهِ محمد النبيّ المصطفى وعلى عترته النُجَباء، مُسَلِّمِينَ مُسْتَغْفِرِينَ، والحمد للّه رب العالمين.

وقد فرغ من تسويد هذه الرسالة الفقير إلى عفو اللّه تعالى وغُفْرانه: زين الدينِ بنُ عليّ بن أحمد، الشهير بابن الحاجة (تجاوَزَ اللّه تعالى عن سيئاتِه ووَفَّقه لمرضاته). وكان زمان تأليفها ورقمها من أوّلها إلى آخرها في جزء يسير من يوم قصير، وهو الخامس عشر من شهر شوّال من شهور سنة تسع وأربعين وتسعمائة من الهجرة النبويّة (على مشرفها السلام والتحيّة) حامِداً مُصَلِّياً مُسَلِّماً مُستغفراً، ربِّ اختِمُ بخير، آمين رب العالمين، والحمد للّه وحده، وصلّى اللّه على مَن لا نَبِيَّ بعده محمّدٍ وآلِه.

ص: 52


1- تفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ص 339، ح 314؛ الاحتجاج، ج 1، ص 9.
2- إشارة إلى حديث مرويّ عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) في الأمالي الشيخ الطوسي، ص 536، المجلس 19، ح 1/1162؛ وتنبيه الخواطر، ج 2، ص 64.
3- اقتباس من الآية 88 من سورة هود (11).

9. العدالة

إشارة:

تحقيق أحمد العابدي

مراجعة

أسعد الطيّب

ص: 53

ص: 54

بسم اللّه الرحمن الرحيم

العدالة لغةً: الاستواء(1)، يُقال: فلانٌ عِدلُ فلانٍ» أي مُساءٍ له، ويقال: «عادَلْتُ بين كذا وكذا فاعْتَدَلا» أي اسْتَوَيا.

وفي الاصطلاح العملي هي تعديل القوى النفسانيّة وتقويم أفعالها، بحيث لا يَغْلِبُ بعضُها على بعض، ثمّ تعديل ما خرج من ذاته من العلامات(2) والكرامات اقتناء للفضيلة لا لغرض آخَرَ».

بيان ذلك أنّ للنفس الناطقة الإنسانيّة:

قوّةً عاقلةً هي مبدأ الفكر والتمييز والشوق إلى النظر في الحقائق.

وقوّةً غضبيّةً هي مبدأ الغضب والجُرأةِ لدفع المضارّ والإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط على الرجال.

وقوّةً شهويّةً هي مبدأ طلب الشهوة للمنافع من المآكِلِ والمشارب وباقي الملاذّ البدنيّة واللذَّاتِ الحسيّة.

وهذه القوى الثلاث متباينةٌ جداً، فمتى غلبَتْ إحداها انْقَهَرتِ الباقيتان، وربما أبْطَلَ بعضُها فعلَ البعض.

ص: 55


1- معجم مقاييس اللغة، ج 4، ص 246: الصحاح، ج 4، ص 1760؛ لسان العرب، ج 11، ص 432، «عدل».
2- في بعض النسخ «المعاملات» بدل «العلامات».

والفضيلةُ للإنسان تَحْصُلُ بتعديل هذه القُوى:

فالعاقلةُ تَحْصُلُ مِن تعديلها فضيلة العلم والحكمة.

والغضبيّةُ تَحْصُلُ من تعديلها فضيلة الحِلْم والشجاعة.

والشهويّةُ تَحْصُلُ من تعديلها فضيلةُ العِفّةِ.

فالحكمه حينئذٍ مَلَكَةُ تَحْصُلُ للنفس عند اعتدال حركتها تحت سلطان العقل، بها يكون شوقها إلى المعارف الصحيحة تَصْدُرُ عنها الأفعال المتوسّطة بين أفعال الجزيزَةِ، التي هي استعمال الفكر فيما لا يجب، وهي طرف الإفراط. والغباوة، التي هي تعطيل قوة الفكر بالاختيار لا بالخلقة، وهي طرف التفريط.

والشجاعة - التي هي فضيلة القوّةِ السَبُعيّةِ الغضبيّةِ - مَلَكَةٌ تَحْصُلُ عند اعتدال هذه القوّة تحت تصرُّف العقل بها تَصْدُرُ الأفعال المتوسطة بين أفعال التهورِ الذي هو الإقدام على ما لا ينبغي الإقدام عليه لحصول أمارة الهلاك أو غير ذلك، وهو طرف الإفراط لهذه القوة؛ والجُبْنِ الذي هو الخوفُ ممّا لا ينبغي الخوف منه، وهو طرف التفريط.

والعفّة مَلَكَةٌ تَصْدُرُ عن اعتدال حركة القوة الشهوية تحت تصرف العقل، بها تكون الأفعالُ المتوسطة بين أفعال الشَرَةِ، وهو الانهماك في اللّذات والخروج فيها إلى ما لا ينبغي، وهو طرف الإفراط ؛ والخُمُودِ الذي هو سكون النفس عن اللّذة الجميلة التي يحتاج إليها لمصالح البدن ممّا رَخَّصَتْ فيه الشريعةُ.

تعریف العدالة

وإذا حَصَلَتْ هذه الفضائلُ الثلاث وتَسالَمَتْ باعتدال القوى الثلاثِ، حَدَثَتْ منها مَلَكَةُ رابعة هي تمامُ الفضائلِ الخُلُقية، وهي المعبر عنها ب«العدالة» فهي إذن: «مَلَكةٌ نفسانيّةٌ تَصْدُرُ عنها المساواة في الأمور الواقعة من صاحبها».

ص: 56

و تحت كلّ واحدة من هذه الفضائل فضائل أُخرى، وكلُّها داخلة تحت العدالة كما قُرِّر في محلّه(1).

فهي دائرة الكمال وجماعُ أمر الفضائل(2) و «بها قامت السموات والأرض» كما ورد في الخبر(3).

وأما مفهومُها شرعاً الذي هو المقصود بالذات فالمشهور بين الفقهاء في تعريفها: أنّها ملكةٌ نفسانيةٌ تبعثُ على ملازمة التقوى والمروءة(4).

واحترزوا بالملكة عن الحال المنتقلة بسرعةٍ كحُمْرة الخَجِلِ وصُفْرة الوَجِل، بمعنى أن الاتّصاف بالوصف المذكور لا بد أن يصير من الملكات الراسخة بحيث يَعْسُرُ زوالها، و تَصِيرُ كالطبيعة المستقِرَّة غالباً.

تعریف التقوی

وأمّا التقوى فقد اخْتَلَفَ فيها كلام الأصحاب:

فقيل: هي اجتناب الكبائر والصغائر من المكلّف الكامِل العقل(5). وهو اختيارُ جَماعة

ص: 57


1- انظر تهذيب الأخلاق، ص 40 - 49: وجامع السعادات، ج 1، ص 50 - 89.
2- جماع كلّ شيءٍ مُجْتَمَعُ أصله، وما جَمَعَ عدداً. ويقال: الخمر جماعُ الإثم. ويقال: هذا الباب جماع هذه الأبواب الجامع لها الشامل لما فيه. المعجم الوسيط، ص 135، «جمع».
3- التفسير الكبير، ج 20، ص 103، ذيل الآية 90 من النحل (16) وفيه: ومن الكلمات المشهورة قولهم: وبالعدل قامت السموات والأرض.
4- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 246، الرقم 6621؛ قواعد الأحكام، ج 3، ص 494؛ الدروس الشرعيّة. ج 2. ص 99 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ كنز العرفان، ج 2، ص 384: اعلم أنّ هذا التعريف وإن نسبه في مجمع الفائدة والبرهان، ج 2، ص 351 إلى الشهرة بين علماء الخاصة والعامّة إلّا أنّه حدث من زمن العلّامة، كما صرّح به العلّامة المجلسي في بحار الأنوار، ج 88، ص 32 - حيث قال:... ولم أجدها في النصوص ولا في كلام من تقدّم على العلّامة من علمائنا، ولا وجه لاعتبارها - وصاحب الجواهر في جواهر الکلام، ج 13، ص 294، حيث قال:... وعن مصابيح الظلام أنّه المشهور بين الأصحاب... ولعلّ المراد المتأخّرون، وإلّا فقد عرفت أنّ المتقدّمين لم يأخذ أحد منهم ذلك في تعريفهم... وكأنّهم اقتفوا في ذلك أثر العامّة.... فالصواب أنّه مشهور بين المتأخّرين من الفقهاء.
5- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 420.

من أجلاتنا كالمفيد(1)، وأبي الصلاح(2)، وابن البراج(3)، وابن إدريس(4)، وأبي الفضل الطبرسي، حاكياً ذلك عن أصحابنا من غير تفصيل(5).

وقيل: هي اجتناب الكبائر كُلّها وعدم الإصرار على الصغائر أو عدم كونها أغلب(6)، فلا تَقْدَحُ الصغيرة النادرة، ويَلْحَقُ به ما يَؤُول إليه بالعَرَض وإن غايَرَه بالأصل كتركِ المندوبات المؤدّي إلى التهاوُنِ بالسُنَن.

وهذا هو المشهور خصوصاً بين المتأخّرين وتحقيقه يتوقّف على بيان الكبائر. وقد اختلف فيها أقوال الأصحاب وغيرهم:

فقيل: كلّ معصيةٍ توجِبُ الحَدَّ(7).

وقيل: ما توجِبُه في جنسها(8).

وقيل: ما تُوُعَدَ عليه بخصوصه في الكتاب أو السنّة(9)، كالشرك باللّه، والقَتْلِ بغير حقِّ، والزنى، واللواط والفِرارِ مِن الزَحْفِ والسِحْرِ، والربا، وأكل مال اليتيم، وقَذْفِ

ص: 58


1- المقنعة، ص 725: والعدل من كان معروفاً بالدين والورع عن محارم اللّه (عزّ وجلّ) : إيضاح الفوائد، ج 4، ص 420.
2- حكاه عنهم فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 420.
3- حكاه عنهم فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 420.
4- حكاه عنهم فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 420.
5- جوامع الجامع، ج 1، ص 252؛ مجمع البیان، ج 3، ص 38، ذيل الآية 31 من النساء (4)... وإلى هذا ذهب أصحابنا؛ فإنّهم قالوا المعاصي كلّها كبيرة من حيث كانت قبائح، لكن بعضها أكبر من بعض، وليس في الذنوب صغيرة وإنّما يكون صغيراً بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ويستحق العقاب عليه أكثر.
6- قاله ابن الجنيد والعلّامة ووالده وولده كما في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 421 ؛ ومختلف الشيعة، ج 8، ص 498 - 501، المسألة 77؛ والمحقّق في شرائع الإسلام، ج 4، ص 115 - 116 والمحقّق الكركي في رسالة العدالة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص 43؛ وذهب إليه أيضاً الشيخ في المبسوط، ج 8، ص217، حيث :قال: فأما إن كان مجتنباً للكبائر مواقعاً للصغائر فإنّه يعتبر الأغلب من حاله، فإن كان الأغلب من حاله مجانبته للمعاصي وكان يواقع ذلك نادراً قبلت شهادته... .
7- نقله الشهيد في القواعد والفوائد، ص138 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 15).
8- نقله الشهيد في القواعد والفوائد، ص 138 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 15) ولم يسمّ قائله.
9- اختاره الشهيد في القواعد والفوائد، ص137 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 15).

المُحْصَنات، والغِيبة بغير حق، واليمين الغَموسِ(1)، وشهادة الزور، وشُرب الخمرِ، والسرقة، والغَصْبِ واليأسِ مِنْ رَوْح اللّه، والأمْنِ مِنْ مَكْر اللّه، وعُقوق الوالدين، وقطيعة الرّحِمِ، وخيانة الكَيْل والميزان، ومَنْعِ الزكاة، وغير ذلك ممّا وَقَعَ عليه الوعيد بخصوصه.

وروي أنّها سَبْعُ: الشرك باللّه وقتلُ النفس التي حَرَّمَ اللّه، وقَذْفُ المُحْصَنَةِ، وأكلُ مال اليتيم، والربا، والفِرارُ مِن الزَّحْفِ، وعقوقس الوالدين(2).

وحُمِلَ على بيان المحتاج إليه فيها وقتَ ذكره؛ لقول ابن عباس (رضي اللّه عنه): «هي إلى سبعين أقرب»(3)، وروي عنه أيضاً: «هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبعة»(4).

وقال جماعةٌ مِن أصحابنا وغيرهم:

الذنوب كُلُّها كبائر، وإنّما صِغَرُ الذَنْبِ وكبَرهُ بالإضافة إلى ما فوقه وما تحته، فأكبرُ الكبائر الشرك باللّه، وأصغره حديث النفس، وبينهما وسائط يَصْدُقُ عليها الأمران. فالقبلة بالنسبة إلى الزنى صغيرة وإلى النظر كبيرة، وكذا سرقة درهم صغير بالنسبة إلى الدينار وكبير بالنسبة إلى الدائق، وهكذا(5).

وروى الشيخ في التهذيب وغيره بالإسناد عن ابن أبي يَعْفُورٍ قال : قلتُ لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): بما تُعْرَفُ عَدالة الرجل بين المسلمين حتّى تُقْبَلَ شهادته لهم وعليهم ؟ قال فقال: أنْ تَعْرِفُوه بالسَتْرِ والعفاف والكفّ عن البَطْنِ والفَرْج واليد واللسان، ويُعْرَفُ باجتناب الكبائر التي أوْعَدَ اللّه عليها النارَ مِنْ شُرب الخمر، والزنى والربا، وعقوق

ص: 59


1- اليمين الغموس: الكاذبة تَغْمِسُ صاحبها في الإثم، وفي الحديث: «اليمين الغموسُ تَذَرُ الديارَ بَلاقِعَ». المعجم الوسيط، ص 662، «غمس».
2- مجمع البيان، ج 3، ص 39، ذيل الآية 31 من النساء (4)؛ بحار الأنوار، ج 79، ص 13 - 14، ح 18، نقلاً عن تفسير العياشي.
3- الدرّ المنثور، ج 2، ص 499، ذيل الآية 31 من النساء (4).
4- مجمع البیان، ج 3، ص 39؛ جوامع الجامع، ج 1، ص 252، ذيل الآية 31 من النساء (4).
5- مجمع البيان، ج 3، ص 39؛ التفسير الكبير، ج 10، ص 73. ذيل الآية 31 من النساء (4): الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 199 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ کنز العرفان، ج 2، ص 385.

الوالدين، والفرار من الزَحْفِ، وغير ذلك. والدالّ على ذلك كلّه والساترُ لجميع عيوبه - حتّى يَحْرُمَ على المسلمين تفتيشُ ما وراء ذلك مِن عَثراتِهِ وغيبته، ويجب عليهم تولّيه وإظهار عدالته في الناس - التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحافظ مواقيتهنَّ بإحضار جَماعةِ المسلمين، وأن لا يتخلَّفَ عن جَماعتهم في مُصَلاهم إِلَّا مِنْ عِلَّةٍ. وذلك أنّ الصلاة سَتْرُ وكفّارة للذنوب، ولولا ذلك لم يكن لأحدٍ أنْ يَشْهَدَ على أحدٍ بالصلاح؛ لأنّ مَنْ لم يُصَلِّ فلا صَلاحَ له بين المسلمين، لأن الحكم جرى فيه من اللّه ومِن رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالحَرْقِ في جوف بيته. وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا صلاة لمن لا يُصلّي في المسجد مع المسلمين إلّا مِن عِلَّةٍ». وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): «لا غِيبةَ لَمَنْ يُصَلِّي في بيته ورَغِبَ عن جَمَاعَتنا». ومَنْ رَغِبَ عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غِيبَتُه وسَقَطَ بينهم عدالته وَوَجَبَ هِجرانه، وإذا رُفِعَ إلى إمام المسلمين أنْذَرَه وحَذَرَه، فإِنْ حَضَرَ جَمَاعَةَ المسلمين وإلّا أحْرَقَ عليه بَيْتَه ومَنْ حَضَرَ جَمَاعَتهم حَرُمَ عليهم غِيبَتُه وتَنْبُتُ عَدالته بينهم (1).

وهذا الحديث يَخْرُجُ شاهداً على القول الثالث وإن كان القول بظاهره أعم باعتبار استناد التوحد فيه إلى اللّه ورسوله واختصاص الحديث بوعيد اللّه؛ فإنّ مآلهما واحد، فإنّ ما قاله الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) مستند إلى اللّه لأنّه «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى»(2) وقد رُوِيَ ما يَدُلُّ عليه (3) وعلى ما ورد عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ)(4).

وعلى تقدير الفرق بين الصغائر والكبائر فلا تَقْدَحُ الصغيرة إلّا مع الإصرار عليها.

ص: 60


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 241، ح 596 ؛ الاستبصار، ج 3، ص 12 - 13، ح 33؛ ورواه الصدوق أيضاً في الفقيه، ج 3، ص 38 - 39، ح 3283 مع اختلاف.
2- اقتباس من الآية 3 من النجم (53).
3- الدرّ المنثور، ج 7، ص 642، ذيل الآية 4 من النجم (53).
4- أمالي المفيد، ص 42، المجلس 5، ح 10: عن جابر، قال، قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عَلَيهِم السَّلَامُ): إذا حَدَّثْتَني بحديثٍ فأسْنِدُه لي. فقال: «حَدَّثني أبي عن جدي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) عن اللّه عزّ وجلّ، وكلّ ما أُحَدِّتُك بهذا الإسناد...»؛ الاختصاص، ص 286.

كما يَزول أثر الكبيرة مع التوبة عنها، وهو معنى ما ورد في الحديث من أنّه «لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار»(1)؛ فإنّ الإصرار على الصغيرة يُلْحِقُها بالكبائر، والاستغفار من الكبيرة على وجهه يُسْقِطها. والأوّل جارٍ على عمومه، والثاني بذنوبٍ مقيَّد مخصوصةٍ؛ فإنّ الاستغفار لا يُسْقِط كلّ كبيرةٍ، بل قد يحتاج معه إلى أمر آخر كحدِّ القَذفِ ورَدُّ المالِ المغصوب.

والمراد بالإصرار على الصغيرة العَزْمُ على فعلها بعد الفراغ منها، أو على معاودتها قبله ولو من نوعٍ آخر(2)، ومنه المداومة على نوعٍ واحدٍ من الصغائر بلا توبة، والإكثار من جنس الصغائر بلاتوبةٍ(3). وأمّا مَنْ فَعَلَ الصغيرة ولم يَخْطُرْ بباله بعدها توبةٌ، ولا عَزَمَ على فعلها ولا أكثر منها، ثم عاد إليها فليس بِمُصِرٍّ، ولعلّه ممّا يُكَفِّره الأعمال الصالحة من الصلاة والصيام كما جاء في الأخبار(4) ويظهر من الآية(5).

تعریف المروءة

وأمّا المروءة فالمراد بها تنزيه النفس عن الدناءة التي لا تَليقُ بأمثاله، ويُسْتَهْجَنُ ممّن هو على مثل حاله، وَيَحْصُلُ ذلك بالتزام محاسنِ العادات - بحسب الزمان والمكان والرتبة، فربما كان الشيء مطلوباً في وقتٍ مرغوباً عنه في آخَرَ، ومنها ملاحظة الحال في اللبس والهيئة، ومن هنا قالوا: يَقْدَحُ فيها لُبْسُ الفقيهِ أُهْبَة (6)

ص: 61


1- التوحيد، ص 407 - 408، ح 6: بحار الأنوار، ج 79، ص 3 - 4. ح 1، وفيه: «مع الاستصغار» بدل «مع الإصرار» روي فيهما عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : مجمع البیان، ج 3، ص 39 جوامع الجامع، ج 1، ص 252، ذيل الآية 31 من النساء (4) وروي فيهما نقلاً عن ابن عباس لا المعصوم (عَلَيهِم السَّلَامُ).
2- هذا هو الإصرار الحكمي، كما ذكره المصنف في الروضة البهيّة، ج 2، ص 77 (ضمن الموسوعة، ج 7).
3- هذا هو الإصرار الفعلي، كما ذكره المصنف في الروضة البهيّة، ج 2، ص 77 (ضمن الموسوعة، ج 7).
4- الكافي، ج 3، ص 70، باب النوادر من كتاب الطهارة، ح 5؛ تهذيب الأحكام، ج 2، ص 237، ح 938؛ وج 4، ص 152. ح 421؛ وراجع القواعد والفوائد، ص 139 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 15).
5- الآية 31 من النساء (4): «إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»، والآية 114 من هود (11): «وَأَقِمِ الصَّلَوَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ».
6- أهبة الحرب: عُدّتُها. الصحاح، ج 1، ص 89، «أهب». والمراد هنا لباس الجندي.

الجندي (1) - وترك الرذائل المباحة كالبول والأكل في الأسواق وكثرة الضحك والسخرية والإفراط في المِزاح، وكشف الرأس بين الناس وهم ليس [كذا، ظ: ليسوا] كذلك(2)، وكشفِ العَوْرة التي يَتَأكَّد استحبابُ سَتْرِها [في الصلاة](3) وهو ما بَينَ السُرَّة والرَّكْبَة كذلك، ونظائر ذلك ممّا يُسقط المحل والعِزَّةَ مِن القلوب، ويدلُّ على عدم الحياء وقِلَّةِ المبالاة بالاستنقاص وهو كثير.

واعلم أنّ التزام محاسن العاداتِ إنّما هو في المباحات وما ناسَبَها، أمّا ما وَرَدَ الشرعُ برجحانِهِ واستحبابه فلا يَقْدَحُ ارتكابه، وإنْ هَجَرَه العامّة وَاسْتَهْجَنَهُ المُعْظَمُ كالاكتحال بالإثْمِدِ (4) والحَنَكِ (5) والحنّاء (6) في بعض البلاد؛ لأنّ الشرع في وروده أصل للعادة لا فرع عليها، وإنّما يُرْجَعُ إليها مع عدم دَلالته على شيءٍ بخصوصه.

وربما خلا قيد المروءة من عبارات بعض الأصحاب(7)، وليس في الأدلّة الشرعيّة ما يُدْخِلُها صريحاً، ولا ريب أن اعتبارها مع كونه هو المشهور أولى. واللّه أعلم.

ص: 62


1- قاله الشهيد في الدروس الشرعيّة يسخر منه كما قاله الشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 99 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10). لا مطلقاً كما توهّم؛ وقال الشهيد الثاني في الروضة البهيّة، ج 2، ص 77 (ضمن الموسوعة ج 7)... ولبسُ الفقيه لباس الجندي وغيره مما لا يعتاد لمثله بحيث يسخر منه، وبالعكس، ونحو ذلك يُسْقِطها، ويختلف الأمر فيها باختلاف الأحوال والأشخاص والأماكن.
2- لاحظ إيضاح الفوائد، ج 4، ص 420.
3- ما بين المعقوفين أضفناه من الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 99 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
4- الكافي، ج 6، ص 493 - 494، باب الكحل، ح 1، 4، 7، 9؛ وسائل الشيعة، ج 2، ص 99 - 101، أبواب آداب الحمّام الباب 55.
5- الكافي، ج 6، ص 460 - 461، باب العمائم، ح 1، 6 - 7: وسائل الشيعة ج 4، ص 401 - 403، أبواب لباس المصلّي، الباب 26.
6- الكافي، ج 6، ص 481 - 482، باب الخضاب، ح 10، وص 483 - 484، باب الخضاب بالحنّاء، ح 1 - 5: وسائل الشيعة، ج 2، ص 94 - 96، أبواب آداب الحمّام الباب 50.
7- كالشيخ في النهاية، ص 325؛ وعدّة الأُصول، ج 1، ص 148 - 149: والقاضي في المهذّب، ج 2، ص 556: والمحقّق في شرائع الإسلام، ج 4، ص 115 - 116؛ وانظر مختلف الشيعة، ج 8، ص 498 - 501، المسألة 77.

القسم الثاني: الطهارة

إشارة:

ويَضُمُّ ثلاث رسائل:

(1) ماء البئر

(2) تيقُنُ الطهارة والحدث والشكُّ في السابق منهما

(3) الحدث الأصغر أثناء غُسل الجنابة

ص: 63

ص: 64

10. ماء البئر

إشارة:

تحقيق

رضا المختاري - غلامرضا النقيّ

مراجعة

لطيف فرادي

ص: 65

ص: 66

بسم اللّه الرحمن الرحيم وبه نستعين

الحمد للّه رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمّد وآله الطاهرين.

اختلاف أصحابنا في نجاسة البئر بمجرّد الملاقاة

مسألة: اختلف أصحابنا (رضي اللّه عنهم) في نَجاسةِ البئرِ بمجرّد ملاقاة النَجاسةِ له كالقليل وعدمها على أقوال أشهرها بينهم - بل ادّعى عليه جماعة الإجماع، منهم السيّد أبو المكارم حمزة بن زُهْرَةَ في كتابه غنية النزوع(1)، ومال إليه الشهيد في شرح الإرشاد فقال: «كاد أن يكون إجماعاً ولعلّه الحجّةُ» (2) - النجاسة.

وذهب آخرون منهم ابن أبي عقيل (3) من المتقدّمين، والشيخ جمال الدين بن المطهر من المتأخّرين إلى عدم انفعاله(4) بدون التغير كالكثير أو كالجاري. والقولان للشيخ، أوّلهما هو المشهور من مذهبه(5)، والثاني نَقَلَهُ عنه جماعةٌ(6)، وله في كتاب الحديث قول

ص: 67


1- غنية النزوع، ج 1، ص 46.
2- غاية المراد، ج 1، ص 46 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
3- حكاه عنه الفاضل الآبي في كشف الرموز، ج 1، ص 46؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 25 المسألة 7؛ وولده فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 1، ص 17؛ والشهيد في غاية المراد، ج 1، ص 50 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
4- مختلف الشيعة، ج 1، ص 25، المسألة 7.
5- النهاية، ص 6 المبسوط، ج 1، ص 28 - 29.
6- نقله عنه المحقّق في المعتبر، ج 1، ص 55 والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 25، المسألة 7؛ وولده فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 1، ص 17.

ثالث، وهو أنّه يَنْجَسُ ويجب النزح المقدَّرُ، لكن لا تجب إعادة الصلاة، ولا غَسْلُ ما لاقاة قبل العلم بالنّجاسة،(1) وله قول رابع: إنه لا يَنْجَسُ، ولكن يجب النَزْحُ تَعَبداً؛ جمعاً بين النصوص (2).

وفي المسألة قولٌ خامسٌ للشيخ أبي الحسن محمَّدِ بنِ محمَّدٍ البُصْرَوي، وهو اعتبار الكُرَّيَةِ فيه وعدمها، فإنْ بَلَغَ كُرّاً لم يَنْجَس إلّا بالتغيّر وإلّا يَنْجَسُ بالملاقاة(3)، وهذا في الحقيقة مذهب العلّامة جمال الدين أيضاً وإن لم يُصَرح به؛ لأنّه اعتبر كرية الجاري في عدم انفعاله بالملاقاة(4)، وماء البئر في معناه، بل أضعَفُ منه، فيقتضي اعتباره فيه بطريق أولى.

ومنشأ هذه الأقوال اختلافُ الروايات عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)(5) بعد اتّفاقهم جميعاً على ورود النزح له شرعاً بدون التغيُّر حتّى تواترتْ به الأخبار عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ولكن ليست صريحةً في النّجاسَةِ، فمِنْ ثَمَّ حَمَلَها مَنْ حَكَمَ بعدم نَجاستِهِ على الاستحباب.

الأخبارُ الدالّة على النجاسة

وأمّا الأخبارُ الدالّة على الأقوال المذكورة فهي على أقسام:

أحدها ما دلّ على النّجاسَةِ، وهي صحيحةُ محمّد بن إسماعيل بن بزيع: أنه كتب إلى رجلٍ يَسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن البئرِ تَقْطُرُ فيها قَطَراتٌ من بولٍ أو دم، ما الذي يُطَهِّرُها حتّى يَحِلُّ الوضوء منها للصلاةِ؟ فَوقَّعَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كتابي بخطّه «يُنزَحُ منها دلاء»(6).

ص: 68


1- الاستبصار، ج 1، ص 32، ح 85- 86.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 233- 237.
3- حكاه عن كتابه المفيد في التكليف الشهيد في غاية المراد، ج 1، ص 51؛ وذكرى الشيعة، ج 1، ص 50 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1 و 5) ؛ وكتابه المفيد في التكليف فُقد ولم يصل إلينا ولمزيد التوضيح راجع غاية المراد، ج 1، ص 51 الهامش 1 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
4- تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 17، المسألة 3.
5- ستأتي الروايات بُعيد هذا.
6- الكافي، ج 3، ص 5، باب البئر وما يقع فيها، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 244 - 245، ح 705؛ الاستبصار، ج 1، ص 44، ح 124.

وهي في قوة طهرها بذلك، وتقريبهُ ما تقدَّمَ(1)، وطُهْرُها بالتزح يدلُّ على نَجاستِها قبله، وإلّا لزم إيجاد الموجود أو اجتماع الأمثال، وقريب منه قوله: «حتّى يحلَّ الوضوء منها».

وصحيحة عليّ بن يقطين قال: سألت أبا الحسن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن البئر تَقَعُ فيها الحَمامَةُ أو الدَجاجة أو الفأرة أو الكلب أو الهرَّةُ ؟ فقال: «يُجزئُكَ أنْ تَنْزَحَ منها دِلاء؛ فإنّ ذلك يُطَهِّرُها إن شاء اللّه تعالى»(2).

والإجزاء ظاهر في الخروج عن العُهدَةِ، وتطهيرها بذلك يدلُّ على نَجاستها بدونه، كما تقدَّم.

وصحيحة عبد اللّه بن أبي يَعْفُورٍ عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا أتَيْتَ البئر وأنت جُنُب ولم تجد دَلواً، ولا شيئاً تَغْرِفُ به فَتَيَّمْم بالصعيد الطيِّبِ؛ فإنّ ربَّ الماء ربُّ الصعيد، ولا تَقَع في البئر، ولا تُفْسِدُ على القومِ ماءَهم»(3).

أوْجَبَ التيمّم بصيغة الأمر المشروط بعدم الماء الطاهر، فلا يكون الماء طاهراً على تقدير الوقوع والاغتسال؛ ونهى عن الوقوع في البئر وعن إفساد الماء، والمفهوم من الإفساد النّجاسة، وحَمْلُه على نَجاسةِ تُغَيّره بعيد؛ لأنّ ظاهره استناد الإفساد إلى الوقوع وهو غير مُغَيّر لحالها، وللزوم تأخُّر البيان عن وقت الحاجة(4).

الأخبارُ الدالّة على عدم النجاسة

وثانيها: ما دلَّ على عدمها، وهي صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع أيضاً، قال: كتبتُ إلى رجلٍ أسأله أنْ يَسأل أبا الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال: «ماء البئرِ واسعٌ لا يُفسده

ص: 69


1- لاحظ غاية المراد، ج 1، ص 46 - 48 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1) يتّضح لك مراد المصنّف (رحمه اللّه).
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 237، ح 686؛ الاستبصار، ج 1، ص 37، ح 101.
3- الكافي، ج 3، ص 65، باب الوقت الذي يوجب التيمم ومن تيمم ثم وجد الماء، ح 9: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 149 - 150، ح 426، وص 185، ح 535؛ الاستبصار، ج 1، ص 127-128، ح 435، وفي المصادر: «فإنّ ربَّ الماء وربّ الصعيد واحدٌ».
4- لاحظ غاية المراد، ج 1، ص 47 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).

شيءٌ، إلّا أنْ يَتَغَيَّر ريحه أو طَعْمُه فَيُنْزَح حتّى يذهب الريح ويطيب الطعم؛ لأنّ له مادةً»(1).

وهذه الرواية أقوى حُجَجِ القائلين بالطهارة؛ لحُكمِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) على الماء بالسِعَةِ - ويُفهَمُ منها عدم الانفعال بالملاقاة - ونَفْي إفسادِ شيءٍ له، وهو عام لأنّه نَكِرَةٌ في سياقٍ النفي، واشتمالها على الحصر المستفاد من الاستثناء في سياق النفي، ووجود التعليل بالمادَّة والمُعَلَّلُ مقدَّم على غيره (2)؛ ولدلالتها على المراد نصاً؛ وللإكتفاء مع تغيُّره بمزيل التَغَيّرِ ولو كان نَجِساً ويوجب نزح ما قُدِّر لكان مع تَغَيرِ المُقَدَّر يوجب نزحَ أكثَرِ الأمرين من المقدَّرِ وما يُزيلُ التَغَيُّر، وإلّا فلا يُعقَلُ الاكتفاء بزوال التغير لو حصل قبل استيفاء المقدَّر، ولو فرض كون النّجاسَةِ المغيرة لا مقدر لها لم يَتِمُّ الاكتفاء أيضاً بمُزيل التَغَيُّرِ ؛ لأنّ الحقّ وجوب نزح الجميع لما لا نصَّ فيه بدون التَغَيرِ، فكيف معه ؟! وهذا كلّه لا يجامع القول بالنّجاسَةِ، ولا يصحّ مع تأويل الإفساد بما أوَّلَ به القائل بها.

وحَسَنةُ عليّ بن جعفر عن أخيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن بئر ماءٍ وقع فيها زِنْبيلٌ من عَذِرَةٍ رَطْبَةٍ أو يابسة، أو زنبيل من سرقين أيَصْلَحُ الوضوء منها ؟ قال : «لا بأسَ»(3).

والمراد من العَذِرَةِ والسرقينِ النَّجِسُ ؛ لأنّ الفقيه لا يَسْأَلُ عن ملاقاة الطاهر، وإنْ سُلَّم فترك الاستفصال في العَذِرَة دليل استواء الطاهرة والنجسة في الحكم باعتبار الوقوع.

ص: 70


1- الكافي، ج 3، ص 5 باب البئر وما يقع فيها، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 234، ح 676؛ الاستبصار، ج 1، ص 33، ح 87.
2- لاحظ غاية المراد، ج 1، ص 48 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 246، ح 709؛ الاستبصار، ج 1، ص 42، ح118.

ورواية حمّادٍ عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: لا يُغْسَلُ الثوبُ ولا تُعاد الصلاة ممّا وقع في البئر، إلا أنْ يُنْتِنَ، فإنْ أنْتَنَ غسل الثوب وأعاد الصلاة ونُزِحَتِ البئرُ(1).

وصحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الفأرة تقع في البئر فَيَتَوضّاً الرجل منها ويُصَلِّي وهو لا يعلم أيعيدُ الصلاةَ ويَغْسِلُ ثوبه؟ قال: «لا يُعِيدُ الصلاةَ ولا يَغْسِلُ ثوبَه»(2). وقريب منها رواية أبان بن عُثمانَ عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3)، وروايةُ عُيَيْنَةَ عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) (4)، وروايةُ يعقوبَ بْنِ عُثَيْمٍ عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5).

وهذه الرواياتُ الأخيرةُ حُجَّةُ الشيخ في كتابي الأخبار على نَجاستِهِ وعدم وجوب إعادة الصلاة وتطهير الثوب منها قبل العلم بحالها(6)، وحُجَّةَ البُصْرَوي روايةُ الحسن بن صالح الثؤري عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا كان الماء في الركيِّ كراً لم يُنَجِّسه شيءٌ»(7) والمراد من الرّكي الآبار لغةً(8)، وعرفاً.

واعْلَمْ أنّ الرواياتِ التي استَدَلَّ بها الشيخ على عدم الإعادة ظاهرةٌ في الطهارة، عاضدة لما دلَّ عليها منها والحُكمُ بالنّجاسَةِ مع عدم وجوب إعادة الطهارة وغَسْلِ الثوب الذي باشَرَها مخالف لأُصول المذهب، فهذا القول ساقط، وكذا الآخر من حيث

ص: 71


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 232، ح 0 67: الاستبصار، ج 1، ص 30 - 31، ح 80. وفيه: «أُعيدت الصلاة»، بدل «أعاد الصلاة».
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 233، ح 671؛ الاستبصار، ج 1، ص 31، ح 81.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 233، ح 672: الاستبصار ج 1، ص 31، ح 82.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 233، ح 673؛ الاستبصار، ج 1، ص 31، ح 83.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 233، ح 674: الاستبصار، ج 1، ص 31، ح 84.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 232؛ الاستبصار ج 1، ص 32.
7- الكافي، ج 3، ص 2 باب الماء الذي لا يُنَجِّسه شيء، ح 4: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 408، ح 1282؛ الاستبصار، ج 1، ص 33، ح 88.
8- الصحاح، ج 4، ص 2361؛ لسان العرب، ج 14، ص 333، «ركا».

الاستدلال بالخبر؛ فإنّ طريقَهُ ضعيف بالحسن بن صالح؛ فإنّه زيديٌ بُتريٌ(1).

نعم يمكن الاحتجاج له بعموم قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا بلغ كُرّاً لم يُنَجِّسه شيء»(2)، فإنّه متّفقٌ على معناه وعلى العمل بمفهومه، وتُحْمَل أخبار النّجاسَةِ على ما لا يبلغ منه الكُرّ ؛ وأخبار الطهارة على ما بلغ منه كراً؛ جمعاً، وبقرينة قوله في صحيح ابن بزيع: «ماءُ البئرِ واسع...» إلى آخره(3)، وهذا طريق حسن في الاستدلال لم يذكروه، ولعلّه أقوى من الجانبين لولا ما نُقَرّرهُ بعد ذلك. وقد نُسِبَ هذا القول إلى البُصرَوي(4)، وكأنّه عندهم مختصٌّ به، مع أنّه لازم لكُلِّ من اعتبر كُرّيَّةَ الجاري وحَكَمَ بعدم نَجاسةِ البئر بالملاقاة؛ فإنّ دليل اعتبار كُريّةِ الجاري وارد هنا، وأيضاً اعتباره في الجاري يدل على اعتباره في البئر بطريق أولى؛ لأنّ كثير الجاري لا يَنفَعِلُ بالمُلاقاة إجماعاً، وكثيرُ البئر مختلف فيه، فيكون أضعف منه، فإذا حُكِمَ بانفعال قليل الجاري بالملاقاة لزم القول بانفعال البئر بطريق أولى، مضافاً إلى ما دلّ عليه من الأخبار المتناول لهما ولغيرهما من أفراد المياه، وحينئذٍ فيكون قول البُصْرَوي قولاً للعلّامة(5)، ولمن قال بمقالته في المسألتين وهو واضح وإنْ لم يُصَرِّحوا به، فيبقى الكلام في القولين المتقابلين.

وقد أَورَدَ كلّ من الفريقين على حُجَّةِ الآخرِ مناقضات ومعارضاتٍ نحن نُشِيرُ إليها مع ما يَرِدُ عليها.

ص: 72


1- كما قاله الشيخ في تهذيب الأحكام، ج 1، ص 408، ذيل الحديث 1282؛ والاستبصار، ج 1، ص 33؛ وانظر الكلام حول البُتريّة في منتهى المقال، ج 7، ص 346 - 347، الرقم 4113.
2- راجع تهذيب الأحكام، ج 1، ص 414، ح 1308؛ الاستبصار، ج 1، ص 11، ح 17، وفيهما: «إذا كان قدر كرّ لم ينجسّه شيء».
3- سبق تخریجه آنفاً.
4- نسبه إليه الشهيد في غاية المراد، ج 1، ص 51 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
5- مختلف الشيعة، ج 1، ص 24، المسألة 6.

مناقشة أدلّة القائلین بعدم النجاسة

فنقول: أما أصحاب القول المشهور فقد أجابوا عن الحديث الأوّل من أحاديث الطهارة بأنّه مكاتبةٌ يَضْعُفُ عن الدلالة؛ وبعدم التصريح بأنّ المُجيب الإمامُ؛ وبأن المراد بالفَسادِ المنفي فسادُ الكُلِّ دون الفَسادِ الكُلّي؛ أي لا يُفْسِدُه فَساداً يوجِبُ التعطيل، كما قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «المؤمنُ لا يَخْبُثُ»(1) أي لا يصيرُ في نفسه خَبَناً، وكقول الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ماء الحمّام لا يَخْبُتُ» (2). مع أنّه يجوز أنْ تَعْرِضَ له النّجاسَةُ(3)، وهذا وإنْ كان خلاف الظاهِر إلّا أنّ فيه جمعاً بين الأخبار.

وعن الخبرين الآخرين بأنّ البئر يقع على النابعة والغدير، فلعلَّ السؤال عن بئر ماؤها محقونٌ(4)، فتكون الأخبارُ الداله على وجوب نزح البئر عن أعيان المنزوحاتِ مختصَّةً بالنابعة، ويكون هذا مُتَناوِلاً لغيرها ممّا هو محقون، وعن الثاني بالخصوص بأنّ العَذِرَة والسرقين أعمُّ من النجس، فلا يدلّ على الخاصّ؛ وبأنّ السؤال وقع عن وقوع الزنبيل المشتمل عليهما، وذلك لا يستلزم إصابتهما الماءَ؛ وإنّما المُتحقِّقُ إصابة الزنبيل خاصَّةً، وبإمكان أنْ يُراد لا بأس بعد نزح الخمسين.

وعن الثالث بأنّ حمّادَ، الراوي عن معاوية، مقول بالاشتراك على جَماعةٍ، منهم الثقةُ وغَيرُهُ فلعله غيرُ الثقة؛ وبأنّه يَدُلُّ بصيغة «ما» العامّة فيما لا يَعْقِلُ، فيكون الترجيح لجانب الأحاديث الدالّة على أعيان المنزوحات تقديماً للخاص على العامّ(5)؛ ولمعارضة

ص: 73


1- صحيح البخاري، ج 1، ص 109، ح 279، 281؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 178، ح 534، 535؛ وسنن النسائي ج 1، ص 145 - 146، باب مماسّة الجنب ومجالسته، وفي المصادر: «إنّ المسلم لا ينجس وإنّ المؤمن لا ينجس».
2- المعتبر، ج 1، ص 56: غاية المراد، ج 1، ص 49 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
3- لاحظ غاية المراد، ج 1، ص 49 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1). وفي بعض النسخ: «إذا لا يفسده» بدل «أي لا يفسده»، وتأمّل فيما يأتي من المصنّف في ردّ هذا الجواب.
4- هذا الجواب من المحقّق في المعتبر ج 1، ص 57.
5- لاحظ غاية المراد، ج 1، ص 49 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).

الأخبار الكثيرة لها. وأكثرُ هذه الأجوبة للمحقق في المعتبر(1)، وفيه نظرٌ:

أمّا الأوّل فلأنّ المُكاتَبَةَ معمولٌ بها، وظاهر الضمير عوده إلى الإمام؛ لأنّه أقرب. هذا ما يتعلق بالحديثِ المتنازع مع أنّ الشيخ في زيادات التهذيب روى عن محمد بن بزيع في الصحيح عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «ماء البئر واسع لا يُفْسِدُهُ شَيءٌ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ»(2). وهذه حجَّةٌ قويَّةٌ لا يَرِدُ عليها شيء ممّا ذُكر، إذ ليس فيها تَعرّض للمكاتَبَةِ، ولكنّه لم يُذكر فيه التعليلُ بأنّ له مادَّةً، وأمره سهل بالنسبة إلى البئر وإنْ كان ينفع في أمرٍ آخر.

وأبلغ منه ما رواه الشيخ في الاستبصار عن محمد بن بزيع في الصحيح أيضاً عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً صريحاً، قال: «ماء البئرِ واسع لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ رِيحُه أو طَعْمُه فَيُنْزَح حتّى يذهب الريحُ ويَطِيب طعمُهُ؛ لأنّ له مادّة»(3). فأتى بلفظ الحديث السابق أجمع، وزاد تحقيق الرواية عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) من غير مكاتبةٍ، ولا يَقدَحُ في ذلك كون الاستبصار منحصراً في رواياتِ التهذيب المتعارضة، كما هو الظاهرُ من حاله والباعتُ لِتَصنِيفِه كما أشار إليه في خُطبَتِهِ (4)؛ لأنّ ذلك لا يَبلُغ حدَّ اللزوم على وجه يتطرّق القدحُ فيما صَرَّحَ فيه بالمتن الواضح والسند الصحيح، فلعلّه حقّقه من محلّ آخَرَ، فإنّ الطرق لم تنحصر في التهذيب، ولو قَدَحَ مثل ذلك فيه لأدّى إلى الطَّعْنِ على الشيخ (رحمه اللّه)، وحاشاه من ذلك، وكثيراً ما يَتَّفق لي تصحيح بعض طرق التهذيب من الكافي للكليني مع تقدّمه عليه وغفلة الشيخ في التهذيب عن مراعاة الطريق الصحيح السابق عليه، فَتَفَطَّن لذلك.

وبقي الكلام على الحديثِ من جهة قوله: «لا يُفْسِدُهُ شيء». فإنّ الإفساد أعمُّ من

ص: 74


1- المعتبر، ج 1، ص 57.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 409، ح 1287.
3- الاستبصار، ج 1، ص 33، ح 87.
4- الاستبصار، ج 1، ص 2 - 3.

النجاسة؛ إذ المراد به خروجه عن حَدٌ الانتفاع به سَواءٌ كان بسبب النّجاسَة أم غيرها. لكن الظاهر المتبادر كون المراد به هنا النّجاسَةَ بدلالة المقام وقرينة قوله: «إلّا أنْ يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أو ريحُه.»، فإنّ تَغَيَّرَه كذلك إنّما يوجب فَسادَه مِن جِهةِ النَّجاسَةِ كما لا يخفى.

وبهذا يَنْدفِعُ تأويلُ القائلينَ بالنّجاسَة بأنّ المراد فَسادُهُ بسبب ثورانِ الحَمْأَةِ ونحوه من حيث إنه أعم من النجاسة؛ لعدم صحّة الاستثناء حينئذٍ، لأنّ التغير في أحد الأوصاف لا يقتضي فَسادَهُ مطلقاً، ولكان التعليل بالمادَّةِ ضائعاً. وكذا ما قيل من أنّ المراد بالفَسادِ فَسادُ الكُلِّ، وهو مستند إلى التغير، ولا يَلزَمُ منه عدم استنادِ الفَسادِ الكُلِّي إلى المُلاقاة(1)؛ لأنّ ذلك - مع كونه خلاف الظاهر - منافٍ للتعليل بالمادَّةِ، مع أنّ الذي يُفسده بالمُلاقاةِ كُلّي - على ما ذكروه - يوجب فَساده مطلقاً قبل النزح ونَجاسته على كلّ حالٍ، وإنّما يرجعُ إلى الظُّهْرِ بالنزح وكذا بما غَيَّرَهُ، فَإِنَّ المُطَهِّرَ له عندهم هو مُزِيلُ التغيرِ أو أكثر الأمرين، أو ما شاكلهما على اختلاف الأقوال. وكيف كان فالفَسادُ ابتداءً للجميع وبعد نزح وبعد نزح ما يعتبر فيه يَطْهُرُ الباقي. ولو قيل: إِنَّ نَزْحَ المعتبر حينئذٍ قد يأتي على الجميع. قلنا: فكذلك في غير ما يوجب التغيُّرَ؛ فإنّ منه جملة توجب نزح الجميع من غير تغيّر وقد أطلقه، فدلَّ على فَسادِ هذا التأويل. ومثله قولهم: إن المراد لا يُفْسِدُه فَساداً يوجب التعطيل(2): فَإنّ هذا مع كونه خلاف الظاهر يُنتَقَضُ بما ذكرناه؛ فإنّ التعطيل لا يتحقّق مع التغير وقد يتحقّق مع عدمه.

وبالجملة، فالقَدْحُ المعتبر في هذا الحديث إنّما كان احتمال انقطاعه، حيث لم يُصَرَّحْ فيه بأنّ القائل الإمامُ، وحيث ثبت ذلك صار دليلاً قوياً على الطهارة بغير إشكال وثبوته على الوجه الذي قرَّرناه لم يَتَفَطَّنْ إليه أحدٌ من الأصحاب قبل يومنا هذا. فللّه الحَمدُ والمِنّةُ.

ص: 75


1- القائل هو الشيخ في الاستبصار، ج 1، ص 33، ذيل الحديث 87.
2- المعتبر، ج 1، ص 56.

واعْلَمْ أنّ بعد تحقيق صحته واتصاله يُستفاد منه فائدة جليلة من قوله: «لأنّ له مادَّة» وهي جَعْلُ المادَّةِ علَّةٌ لعدم انفعاله بدون التغيّر، وقد تحقّق في الأُصول أنّ العِلَّةَ المنصوصة تتعدّى إلى كلّ ما تحقّق فيه العلّة (1). وحينئذٍ فيلزم منه أنّ الماء النَابع مطلقاً لا يَنْجَسُ إلا بالتغيّر؛ لأنّ له مادَّةً. فيكون حُجَّةً للقول المشهور بين الأصحاب من عدم اعتبار الكُرِّيةِ في الجاري من حيث المادة. ويكون هذا الحديث مُخَصِّصاً أو مُقَيّداً لقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا بلغ الماء كُرّاً لم يُنَجِّسه شيء»(2)، الشامل للجاري، الدالِّ بمفهومه على تنجيس ما دون الكُرّ.

وهذه حُجَّةٌ قوية على ذلك لم يذكرها أحدٌ منهم، وإنّما استندوا إلى أدلّة واهيةٍ لا تُثبت مطلوبهم، وقد نبّهنا عليها في مواضعها منها قولهم: إنّ النصّ وَرَدَ على نَفي البأس بالبول في الجاري(3)، والنهي عنه في الراكد(4). ولا يخفى عليك عدم دلالة ذلك على عدم النّجاسَةِ ؛ لوجوهٍ:

أحدها: أنّ نفى البأس المراد به نفى التحريم؛ لأنّ ذلك هو المعنى الصالح من معانيه هنا، ومُقتضاه أن الفعل المذكور لا يَحرُمُ سَواءٌ حصلتِ النّجاسَةُ أم لا.

وثانيها: أنّ الجاري قد يَنْجَسُ بالبول كما لو كان قليلاً جداً، والبول متغيّراً بحيث يتغيّر الماءُ به، وقد لا يَنْجَسُ والراكدُ قد يَنْجَسُ أيضاً به على تقدير قلَّتِهِ، وقد لا يَنْجَسُ على تقدير كَثرَتِهِ، فإطلاق النهي عنه والإذن في الآخر ليس للنّجاسَةِ،وعدمها وإلّا لزم التفصيل.

ص: 76


1- معارج الأُصول، ص 185 - 186 : مبادئ الوصول، ص 218.
2- تقدّم تخريجه ص 72، الهامش 2.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 43، ح 122؛ الاستبصار، ج 1، ص 13، ح 24؛ واستدل به الشهيد في ذكرى الشيعة، ج 1، ص 41 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).
4- الفقيه، ج 4، ص 4، ح 4971.

وثالثها: أنّه ورد أيضاً النهي عن البول في الماء مطلقاً(1)، وقد حَمَلُوهُ على إطلاقه، وحكموا بتأكُّدِ الكَراهَةِ فى الواقف وثبوت أصل الكراهة في الجاري من غير تأكيدٍ؛ جمعاً، وهذا لا يطابق ما علَّلوا به من النّجاسَةِ وعدمها.

ورابعها: أنّ هذا الحكم ظاهر في أحكام الخَلْوَةِ، ولا تعرُّضَ له إلى حكم النّجاسَةِ وعدمها بوجه كما لا يخفى.

وخامسها: أن النهي لو كان للنّجاسَةِ لزم النهي عن تنجيس الإنسانِ مِلكَهُ أو المباح، خصوصاً إذا كان ذلك لضرورةٍ أو غَرَض صَحيح، وهذا لا دليل عليه. والأخبار لا تدل على زيادة عن آداب الخَلوَةِ كما ذكرناه.

وأضعَفُ من ذلك ما استدلوا به على عدم نَجاسةِ الجاري بالملاقاة من قولهم: إنّ التعليل بالجريان يُشعِرُ بالعليَّة، وإنّ النّجاسَةَ لا تستقر في الجاري(2). إلى غير ذلك ممّا لا يجوز تأسيس الأحكام الشرعيّة به، نعم هذا الحديث المعلَّلُ بالمادَّةِ (3) صَحيحُ الدَلالة على ذلك، ولكن لم يتفطَّنْ إليه أحَدٌ منهم قبل يومنا هذا فيما عَلِمتُ. وبما تحقّق لي صِرْتُ إلى القول بمضمونه في الأمرين معاً. ف«الْحَمْدُ للّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللّه»(4).

ولنرجع إلى القول في بقيّةِ أدلّة الطهارة.

فأمّا الحديث الثاني (5) فلا يخفى ما في تلك الاعتراضات من التكلُّفِ، والحامل لهم على ذلك دَفعُ المنافاة بينه وبين أخبار النجاسة، وحيث قد حقَّقنا القول بالطهارة بالحديث الأوّل صار غيرُه عاضداً وشاهِداً، فلا يَضرُّ القدَحُ فيه. ونقول هنا: قولهم: إنّهما

ص: 77


1- الكافي، ج 6، ص 534، باب كراهية أن يبيت الإنسان...، ح 8.
2- المستدلّ هو المحقّق في المعتبر، ج 1، ص 41.
3- تقدّم تخريجه ص 70، الهامش 1.
4- اقتباس من الآية 43 من سورة الأعراف (7).
5- أي حسنة علي بن جعفر (عَلَيهِم السَّلَامُ) المتقدّمة.

أعمُّ من النَّجِسِ فلا يدلُّ على الخاصِّ. قلنا: بل يدلُّ من حيث إطلاقهما الشامل للنجس، وجَوابِ الإمام برفع البأس مطلقاً، وإلا لاستفصل وبأن الظاهر السؤال عن النجس، لأنّ عليّ بن جعفر (عَلَيهِم السَّلَامُ) فقيه لا يسأَلُ عن ملاقاة الطاهر ولا عمّا يحتملُه، ولأنّ الظاهر من العَذِرَةِ عَذِرَةُ الإنسان النَّجِسَةُ كما نصَّ عليه أهل اللغة في وجه تسميتها(1)، ودَلالة العرف عليه. وقريب منه الجواب عن كون السؤال وقع عن إصابة الزنبيل خاصَّةً؛ فإنّ مثل هذا الرجل الجليل لا يسأل عن وقوع الزنبيل مجرّداً عن إصابة النّجاسة، وحمل البئر المُطلق شرعاً على النابع المخصوص على المَصْنَعِ (2) عُدول عن الظاهر بغير دليلٍ. وأبعَدُ من الجميعِ التأويل الآخر(3)؛ فإنّ فيه تأخير البيان عن وقت الخطاب بل الحاجَةِ؛ لأنّ السائل يُريدُ بالجواب ما يحكم به على الواقع ويعتقده ويعمل بمضمونه حيث كان واقعاً، ويُفتي به غيره.

وأمّا الحديث الثالث(4)، فالقدح فيه باشتراك حمّادٍ (5) جَيِّدٌ، مع أن الظاهر الغالب على الظنّ أنّ المراد به حمّاد بن عيسى أو حمّاد بن عثمان؛ لأنهما كثيراً ما يُروى عنهما ويَرويان عن معاوية بن عمّار، ومَنْ شاركهما في الاسم واختُصَّ بالضعفِ قَليلُ الرواية جداً، إلّا أنّ أصل القدح لا يزول بهذا (6). وأما قولهم في مرجوحيتها باشتمالها على «ما» العامّة فيما لا يَعقِلُ، ودلالة أخبار النّجاسَةِ على أعيان المنزوحاتِ والخاص مقدّم(7)، فَسَنُورِدُ عليك جُملَةَ ما في الروايات الدالّة على أعيان المنزوحاتِ على وجهِ يَرتَفعُ

ص: 78


1- لسان العرب، ج 4، ص 554، «عذر».
2- المَصْنَعُ : ما يُصنَعُ لجمع الماء نحو البرْكَةِ. المصباح المنير، ص 348، «صنع».
3- يعني قولهم بإمكان أن يراد لابأس بنزح الخمسين.
4- أي رواية حماد.
5- انظر المعتبر، ج 1، ص 57.
6- انظر غاية المراد، ج 1، ص 49 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
7- انظر المعتبر، ج 1، ص 57: غاية المراد، ج 1، ص 49 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).

ترجيحها، بل صلاحيّتها للدلالة رأساً، مع ما في هذه من الدلالة نصّاً، وإفادة الحصر المستفاد من الاستثناء مع اعتضاد الجميع بالأصل والاستصحاب، وعموم الأدلّة الدالّة على طهوريّة مطلق الماء وإنْ تَخَصَّصَتْ بموارد؛ فإنّ ذلك غير قادح في العموم بالنسبةِ إلى الباقي، وبمساواة البئرِ للجاري بالنسبة إلى النبع، وغير ذلك من الاعتبار.

للقائلين بالطهارة اعتبارات ظنّية على قولهم

بقى للقائلين بالطهارة أدلّة أخرى واعتبارات ظنّية على مذهبهم مدخولةٌ.

منها: قولهم: «أنّه لو نَجِسَتِ البئرُ بالمُلاقاة لما طَهُرَتْ، والتالي ظاهر البطلان. بيان المُلازمة: أنّ الدّلْوَ والرشاء(1)، وجوانب البئر تَنْجَسُ بالمُلاقاة، أي بمُلاقاة الماء النجس. ونَجاستها مانعة من حصول الطهارة في الماء بالنزح لدوام ملاقاتها، وكذا المُتَساقط من الدَّلْوِ حالَ النزح خصوصاً الدَلْوَ الأخير»(2).

وجوابه أنّ هذا كلّه مُغتفر بالنصّ الدال على طُهرها مطلقاً بالنزح، وقد صرَّحَ به القائلونَ بالنّجاسَةِ(3)، ووافقهم القائلونَ بالطَّهارَةِ على مثل هذا الحكم في آنية الخمر وغِطائها، وفي آلاتِ العَصير العِنَبي بعد ذهاب ثُلثَيهِ مع اتّفاقهم على عدم ظهور نصّ على حُكْمِهِ؛ وعلَّلوه بأنّه لولا الحكم بطهارتها لما أمكن الحكم بطهارة العصير، وعدّوا الحكم إلى ثياب المباشر ومزاوليه فهلا حكموا هنا بذلك مع دلالة ظاهر النصوص الكثيرة عليه ؟

ومنها: أنّه لو نَجِسَتِ البئرُ بالملاقاة لكان وقوع الكُرّ من الماء المُصاحِبِ للنّجاسَةِ موجباً لنَجاسةِ جميع الماء، والتالي ظاهرُ البطلان؛ لأنّ المُلاقي للنّجاسَةِ إذا لم يتغير بها قبل وقوعه محكوم بطهارته، فتمتنع نَجاسَتُهُ بغير مُنَجِّس؛ وللاستصحاب، بيان

ص: 79


1- الرشاء: رَسَنُ الدلو لسان العرب، ج 14، ص 322، «رشا».
2- منتهى المطلب، ج 1، ص 61 - 62: نهاية الإحكام، ج 1، ص 235 ولاحظ جامع المقاصد، ج 1، ص 121.
3- كالمحقّق في المعتبر، ج 1، ص 79؛ والشهيد في ذكرى الشيعة، ج 1، ص 49 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج5).

الملازمَةِ: أنّ نَجاسة ماء البئر بمُلاقاةِ النّجاسَةِ تقتضي نَجاسة الماء الواقع، لاستحالة أن يكونَ بعض الماء الواحد طاهراً، وبعضُهُ نَجِساً مع عدم التغيّر(1).

وجوابه: أنّ النّجاسَةَ إِنِ اسْتُهْلِكَتْ قبل وصول الماء إلى البئر ارتفعَ حُكمُها برأسها ولم تؤثر في البئر حينئذٍ، وإنْ بَقِيَتْ عَيْنُها كما هو ظاهرُ كلامهم فبوقوع الكُرّ في البئر يتّحد الماءانِ ويصيرُ المجموع ماء بئرٍ عُرفاً، والأحكام الشرعيّة معلّقة على الأسماءِ اللُّغويّة أو العُرفيّة كالأصل، وكما لو وقع قليل من الماء الطاهر فيه، وخلاف ذلك مجرّد استبعادٍ.

ومنها: لو انتزع من البئرِ مقدارُ كُرّ قبل مُلاقاة النّجاسَةِ لم يَنجَسُ إِلَّا بِالتَغَيّرِ، ولو بقي في البئر مائة كُرّ مثلاً نَجِسَ بالمُلاقاة؛ فيلزم زيادة الفرع على أصله، وكون الجزء أقوى من الكلّ.

وجوابه: أن ذلك غير مسموع بعد ورود النص، والكُرّ المنتزع خرج عن اسم البئر فَلَحِقَهُ حُكمُ الواقِفِ.

ومنها: أنّه بجريانِهِ من منابعه أشبَة الماء الجاري فيتساويان(2).

وجوابه: مَنْع المساواة بعد فَرقِ الشارع بينهما، وهو مُتحقق على تقدير الحكم بالطهارة أيضاً؛ فإنّه يحكم باستحباب النزح للبئر دون غيره فلم يحصل التساوي.

ومنها: أن القول بنجاسة البئرِ بالمُلاقاة دون المَصْنَعِ إذا كان كثيراً مما لا يجتمعان، والثاني ثابتٌ إجماعاً فينتفي الأوّل، بيان التنافي أنه لا فرق بينه وبين البئر سوى المادة، وهي ممّا تؤكّد عَدَمَ نَجاستها.

وجوابه: أنّ ذلك كلّه مجرّد استبعاد، فلا يُسمَعُ بعد ورودِ النصّ بالفَرقِ، وتحقّقه

ص: 80


1- جامع المقاصد، ج 1، ص 122.
2- منتهى المطلب، ج 1، ص 62.

بينهما باعترافِ الخَصمِ باستحباب النزح كما ذكرناه، فقد تحقّق الاتّفاق على عدم التساوي.

ومنها: أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) كان يَمرُّ مع أصحابه بآبار المشركين ويأخذون منها الماء، ولم يَنقُلْ عنهم أنهم كانوا يَنزَحون منها شيئاً، أو يأمرهم باجتنابها(1).

وجوابه: أن ذلك مع تسليمه لا يَدلُّ على علمه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بوقوع النجاسة فيها، وذلك كافٍ في عدم وجوب الاجتناب، وكثيراً ما كان يُعهَدُ من شَرْعِهِ وفِعِلِهِ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) البناء على الأصل والإعراض عن الظنِّ والتفحص عن هذه الأمور، مع أنّه يَحتَمِلُ أمراً آخَرَ، واللّه أعْلَمُ.

والحقّ أن مجموع هذه الأمور تُفيدُ ظنَّ عدم الانفعال بالملاقاة، لا ثبوته شرعاً، وإنّما الاعتماد على النصّ السابق.

ومنها: أنّ المسألة إجماعيّة قبل ظهور المخالف، كما ادّعاه السيّد ابنُ زُهرة(2)، أو معلوم النسب كما يظهرُ من الشهيد (رحمه اللّه)(3) وغيره(4)، فلا يصحّ إحداث القول بالطهارة وإنْ قام عليه الدليل.

وجوابه : مَنعُ الإجماع سابقاً ولاحقاً، ومَنعُ حجيَّتِهِ على تقديره بهذا المعنى، وأولى منه مَنعُ حجيَّة ما يظهر فيه المخالف المعلوم النَسبُ.

وتحقيق هذه المقدمات محَقَّق في موضع آخَرَ، مع ما يظهر على صفحاتها من مخايل الفَسادِ والبُعْدِ في حُجيَّتها عن السدادِ، وقد تقدّم على دعوى السيّد خلافُ ابن أبي عقيل(5)، وأبي عبد اللّه الحسين بن عُبيد اللّه الغضائري(6)، وتأخّر عنها خلاف

ص: 81


1- إيضاح الفوائد، ج 1، ص 17.
2- غنية النزوع، ج 1 ص 46.
3- انظر غاية المراد، ج 1، ص 46 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
4- السرائر، ج 1، ص 69.
5- حكاه عنهم الشهيد في غاية المراد، ج 1، ص 50، وما بعدها (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
6- حكاه عنهم الشهيد في غاية المراد، ج 1، ص 50، وما بعدها (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).

مفيد الدين بن جُهَيْمٍ(1)، وتلميذه العلّامة (2) وولده السعيد فخر المحقّقين(3)؛ والمحقّق الشيخ عليّ(4)، وغيرهم(5).

مناقشة أدلّة القائلين بالنّجاسَةِ

وأمّا أصحاب هذا القول فقد أجابوا عن أدلّة القائلين بالنّجاسَةِ:

أمّا عن صحيحة ابن بزيعٍ، قبأنّها معارَضَةٌ بروايته الأولى بالطهارة؛ وإذا تعارض الخبرانِ فأقَلُّ مراتبهما السقوط والرجوع إلى حكم الأصل، وهو هنا الطهارة(6)، أو بأنّها مكاتبةٌ، وغاية الأمرِ سقوطهما والرجوع إلى الأصل كذلك. وعلى ما حقّقناه فالترجيح متحقّق بالمُشافَهَةِ على المكاتَبَةِ. وبأنّ الترجيح في جانب الطهارة من جهة موافقتها للأصل، ودَلالتها نصاً بخلاف هذه؛ فإنّها تفتقر إلى تقدير محذوف، وهو ما تقدّم من أنّ ذلك طُهْرُها؛ وبإمكان حمل الطهارة - على تقديره - على اللُغَويّة، وهذا وإنْ أمكن في تأويلِ الفَسادِ مع اشتراكهما في خلاف الظاهر أو المجاز، إلّا أنّ الأنسب في الجملتين اختصاص الجانب المرجوح ليَسلَمَ من التناقض، وقد ظهر أنّه في هذا الجانب.

وأمّا صحيحةُ ابن يقطين، ففيها عدم الدلالة نصَّاً أيضاً؛ لاحتمال الإجزاء الخروج عن عُهدة الندب والتطهير التنظيف غايته دَلالتها ظاهراً والنص مقدَّم(7) والأولى من ذلك أنّ حَمْلَها على ظاهرها لا يستقيم. أمّا أوّلاً : فلاقتضائه الإجزاء في التطهير من جميع ما ذُكِرَ من النجاسات بنزح ثلاث دِلاء؛ لأنّها أقلُّ الجَمع، ولا يقدح كونها جَمعَ

ص: 82


1- حكاه عنهم الشهيد في غاية المراد، ج 1، ص 50، وما بعدها (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
2- مختلف الشيعة، ج 1، ص 25، المسألة 7.
3- إيضاح الفوائد، ج 1، ص 17.
4- جامع المقاصد، ج 1، ص 121 – 122.
5- التنقيح الرائع، ج 1، ص 44.
6- المجيب هو العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 27، المسألة 7.
7- إيضاح الفوائد، ج 1، ص 17-18.

كَثرَةٍ؛ لأنّ الفرق بين الجمعين غيرُ معتبر في الاستعمال العُرفي والشرعي، سلَّمنا لكن يجب على ذلك أحدَ عَشَرَ، ولم يقل به أحَدٌ، وأما ثانياً: فلأنّه يلزم استواء الكلب والفأرة في الحكم وهو فاسد، وحملها على تفشخ الفأرة وخروج الكلب حَيّاً - مع بُعْدِهِ جداً عن الإطلاق - لا يوجب حَمْلَ الجمع المطلق على السَبْعِ، والجمع بينه وبين النصّ الآخر المقيد بذلك سيأتي ما فيه، ومع ذلك فهذا الحَمْلُ ليس أولى من حمله على التنظيف أو الاستحباب أو التغيّر ونحو ذلك؛ لاشتراك الجميع في خلاف الظاهر، والجواز مراعاةً للجمع، فيكون ذلك هو المُرَجّح. وأمّا القول بدَلالتها على النّجاسَةِ في الجُملة و إنْ لم يُعْمَلْ بظاهره - فحقّ إلّا أنّه حيث يُطرح العمل بظاهره تَسْقُطُ دلالته الظاهرة، ويَصيرُ تأويله أولى من ظاهره.

وأمّا صحيحةُ ابن أبي يعفور(1)، فقالوا: إنّه لا يتم الاحتجاج بها على النجاسةِ؛ لأنّ بدن الجُنُبِ إذا كان طاهراً - كما هو المفروض، والمفهوم من الحديث والمعلوم من غَيرِهِ كحديث الحلبي المتضمّن نزح سبعِ دِلاءٍ(2) إذ نَجاسَةُ المَني توجب عند القائلين بالتنجيس نزحَ الجميع وبه صَرَّحوا كُلّهم (3) - كيف يُحْكَمُ بنَجاسةِ الماء بمجرّد الملاقاة ؟ مع أنّ نَجاسَةَ بدن الجنب حُكميّةٌ،وهميَّةٌ، ومثلُها لا يتعدّى؛ فإنّ الجنبَ إذا اغتسل في ماءٍ قليل لم يَنْجَسُ إجماعاً فالبئر أولى لمكان المادَّةِ والكَثرَةِ في كثيرٍ من أفراده.

وما يقال من أنّ ذلك مجرّد استبعادٍ وأنّ البئر قد اسْتَمَلَ على أحكام مختلفةٍ، واتّفاق حكم نجاساتٍ متباينة، وأن تأثير النّجاسَةِ مَرجِعُهُ إلى الشارع، وقد فَرَضَها هنا

ص: 83


1- تقدّم تخريجه في ص 69، الهامش 3.
2- الكافي، ج 3، ص 6. باب البئر وما يقع فيها، ح7؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 240، ح 694: الاستبصار، ج 1، ص 34، ح 92.
3- كالشيخ في النهاية، ص 6: والمبسوط، ج 1، ص 28 - 29؛ والعلّامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 237؛ وابن إدريس في السرائر، ج 1، ص 70.

فيجوز انفعالُ البئر بذلك وإنْ لم نَقُل بانفعال المستعمل القليل يمكن احتماله لوقوي دليل النّجاسَةِ أمّا بمجرّد هذا فلا، وحَيثُ قد رُدَّ ما تقدّم من الأخبار، فلا يجوز التعلَّق بهذا وَحْدَهُ في هذا الحكم المخالف للأصل والظاهر والعقل، مع أن الإفساد أعم من النّجاسَة كما أسلفناه، وإنّما صِرْنا إلى تخصيصه ثُمَّ بالنّجاسَةِ لعارض، وبقرينة قوله: «إلّا أنْ يَتَغَيَّرَ...» إلى آخره(1). فهذا هو الفارقُ بين المعنيين. وهذا جوابُ ما يقال من أنّ الإفساد قد ورد في الجانبين، فمهما قيل به في أحدهما يقال في الآخر؛ لظهور الفرق.

وأمّا الأمر بالتيمم فلا يدلُّ على نَجاسةِ الماء؛ لأنه أعم منها، لجواز التيمّم مع وجود الماء الطاهر إذا اضطرّ إلى شُرب حيوان محترم له، والظاهر أن الأمر هنا كذلك؛ لأنّ نزول الجنب في البئرِ يُثِيرُ الحَماةَ ويُغَيِّر الماء ويُفسِده على الشارب غالباً، ولو فُرِضَ عدم حصول ذلك في بعض الآبار حملنا مورد الرواية على ذلك جمعاً.

وأمّا ما استدلَّ به القائلون بالنّجاسَةِ من حيث الاعتبار، من أنّ البئر لو لم ينجس لم يكن للنزح فائدة فيكون عبئاً، والتالي ظاهِرُ البطلان؛ لصدوره عمَّن «لا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى» (2) فالمقدَّمُ مثله(3)، والملازمة ظاهِرةً؛ ففيه منع الملازمة؛ إذ لا يَلْزَمُ من انتفاء فائدة مخصوصة انتفاؤها مطلقاً، ولا يَلْزَمُ من عدم العلم بها عدمها، ومن ثم قالوا بالاستحباب، وهو فائدةً. وقال الشيخ في التهذيب، بأنه تعبُّد(4).

وبالجملة فالأخبار متعارضة، والاعتبار قائم، وباب التأويل مُتَّسِع، والرجحان على ما ظَهَرَ لنا الآنَ في جانب الطهارة، كما استفيد من مطاوي ما قَرَّرناه.

واعْلَمْ أنه على تقدير القول بالنجاسةِ يُشكِلُ القول بالطهارة بالنزح على الوجه

ص: 84


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 234، ح 676؛ الاستبصار، ج 1، ص 33، ح 87.
2- اقتباس من الآية 3 من سورة النجم (53).
3- أشار إلى استدلالهم العلّامة في منتهى المطلب، ج 1، ص 58.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 232.

الذي اشتهر بين الأصحابِ؛ لما اعتبرناه من عدم صحّة الآثار الواردة بذلك، بل عدمِها أصلاً في كثيرٍ منها، فيلزم القول بعدم الطهارة بالنزح في غير ما اعتبر حديثُهُ وهو قليل جدّاً. ومع ذلك فلم يَقُلْ أحد من الأصحاب بهذا القول، وهو قرينة كبيرة على عدم النّجاسَةِ، وسنشير إلى جُملةٍ من المواضع التي ذكروها وقدروا لها منزُوحاً، استناداً إلى ما لا يصلح سنداً:

الأقوال في نزح البئر

فالأوّل: ما أوجبوا به نزحَ الجَميعِ، وهو وقوع الخَمرِ وغيره من المُسكرات المائعة والفُقّاعِ والمنيّ ودَمِ الحَيضِ والاستحاضة والنفاسِ وموتِ البعير والثور والحالُ أنّ المنيَّ والدماء الثلاثة لم يَرِدْ بها نَصُّ مطلقاً، نعم، وَرَدَ في وقوع الدمِ نَزْحُ مقدارٍ معين. سيأتي الكلام فيه، وهو شامل بإطلاقه أو عمومه لها، وإنّما ألحقها الشيخ بالخمرِ(1)، لِغِلَظِ نَجاستِها، وتبعه الجماعة(2). ومثل هذا لا يَصلَحُ لتأسيس الأحكام.

وأمّا المُسكِرُ والفَقاعُ فلم يرد به أيضاً نصّ، وإنّما وَرَدَ في الخمر(3)، ولكن الأمر فيه سهل حيث ورد أنّ الفُقَّاعَ خمرٌ مَجهولٌ(4)، وأنّ كلّ ما فَعَلَ فِعْلَ الخَمر فهو بمنزلته(5). ومن العجيب ما علَّلَ به بَعضُ الفُضَلاء حُكْمَ الدِماء الثلاثة - بعد اعترافِهِ بعدم النصّ عليها - من أنّها بمنزلة المنيّ(6). ومن أين أثبتَ حُكم المنى حتّى يُلْحِقَ به الدماء الثلاثة ؟

ص: 85


1- النهاية، ص 6: المبسوط، ج 1، ص 29.
2- كابن البراج في المهذّب، ج 1، ص 21؛ وسلّار في المراسم، ص 35، وابن حمزة في الوسيلة، ص 74؛ وابن إدريس في السرائر، ج 1، ص 69 - 72؛ والمحقّق في شرائع الإسلام، ج 1، ص 5.
3- ستأتي رواياته.
4- الكافي، ج 6. ص 423، باب الفقاع، ح 8: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 125، ح 541: الاستبصار، ج 4، ص 95، ح 370.
5- كما في منتهى المطلب، ج 1، ص 167؛ ولم نعثر على حديث بهذا اللفظ، نعم روى عليّ بن يقطين عن أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ):«... فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 112، ح 486.
6- انظر المعتبر، ج 1، ص 59: جامع المقاصد، ج 1، ص 138.

وبقي الكلام في الخَمرِ والبَعِيرِ والثّورِ. أمّا الخَمرُ فقد ورد فيه روايات مختلفة:

منها : رواية الحلبي وعبد اللّه بن سَنانٍ ومعاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بنزح الماء كلّه ؛ لكن في رواية معاوية بن عمّار: «البئرُ يَبولُ فيها الصبيّ أو يُصَبُّ فيها بول أو خَمرٌ : «يُنْزَحُ الماء كُلُّه»(1). والأصحاب لا يعملون بذلك في بول الصبيّ ولا في مطلق البول.

وفي رواية عبد اللّه بن سَنانٍ: فإن مات فيها ثورٌ أو نحوه أو صُبَّ فيها خَمْرٌ «نُزِحَ الماء كُلّه»(2). ومن «نحو الثور» البقرة والبغل والدابّة، وهم لا يقولونَ بتساويها في الحُكْمِ.

وفي رواية الحلبي: «إذا سقط في البئرِ شيءٌ صغير فمات فيها فانزح منها دِلاءً، وإنْ مات فيها بعيرٌ أو صُبَّ فيها خمرٌ فلينزح»(3). فحَكَمَ بالاكتفاء في مطلق الحيوان الصغير بدلاء. وهو يقتضي الاكتفاء بثلاثة أو أحَدَ عَشَرَ، ولا يقولون به مطلقاً كذلك، فظاهِرُ الثلاثِ متروك وإن كانت صحيحَةً.

ومنها: روايةً زُرارَةَ عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال : «الميّت والدَمُ والخَمرُ ولَحمُ الخِنزيرِ في ذلك كلّه واحدٌ يُنزَحُ منه عشرونَ دَلواً، فإن غلبت الريحُ نُزِحَتْ حتّى يطيب»(4).

ومنها: رِوايَةُ كُرْدَوَيْه عن أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في البئر يَقَعُ فيها قطرة دم أو نبيذ مُسكرٍ أو بول أو خمر قال: «يُنْزَحُ منها ثلاثونَ دَلواً»(5).

وفي التسوية بين هذه الأُمور واختلاف الأخبار على هذا الوجه، والاكتفاء مع التغيّرِ بنزحها حتّى تتطيب، مع أنّه أعم من بلوغ المقدَّرِ وعدمه، قرينة قوية على القول بعدم النّجاسَةِ وتأدّي السنّة بجميع ما وَرَدَ.

ص: 86


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 241، ح 696: الاستبصار، ج 1، ص 35، ح 94.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 241، ح 695: الاستبصار، ج 1، ص 34، ح 93.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 240، ح 694؛ الاستبصار، ج 1، ص 34، ح 92.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 241، ح 697؛ الاستبصار، ج 1، ص 35، 96.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 241، ح 698؛ الاستبصار، ج 1، ص 35، ح 95.

وللشيخ (رحمه اللّه) وغيره (1) في هذا الاختلافِ تأويلات بعيدة وجمع غريب، كحمل الشيخ بول الصبيّ ومطلق البول على المُغَيّر للبئرِ، وحَمْلِهِ الأخبار الأخيرة التي لا يوجب نزح الجميع للخمر على أنها خبر واحدٍ وغير ذلك(2)، ومتى ترك الشيخ (رحمه اللّه) العمل بخبر الواحدِ الضعيف والمجهول ؟ حتّى يَرُدَّ الخبر الواحد مطلقاً، كما يفعله المرتضى (3) و من تابَعَهُ عليه(4).

وأمّا البَعيرُ فقد سَمِعتَ ما فيه من إيجاب نزح الجميع، وروى عَمرُو بنُ سعيد بن هلال قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عمَّا يَقَعُ في البئرِ - وعَدَّ أشياءَ إلى أن قال - : حتّى بَلَغَت الحمار والجَمَل قال: «كُرٌ من ماءٍ»(5). والشَّيخُ جَمَعَ بينهما هنا بأنه إذا نَزَحَ الجميع فقد نزح الكُرَّ فعمل بالخبرين(6). وهو عجيبٌ.

وأمّا الثَوْرُ فقد عَرفْتَ إيجابَه نَزْحَ الجميع فيما سَلَفَ، وقد حَكَمَ الأصحابُ بأنّ البقرة وشبهها من الدواب يُنْزَحُ له كُرّ(7)، لخبر عمرو بن سَعيد السابق، فهو شامل للثّوْرِ؛ مع أنّ في دلالة الخبر على ذلك نظراً بَيِّناً. وروى عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في جملة حديثٍ قال: «وما سوى ذلك ممّا يَقَعُ في الماء فيموتُ فيه فأكثرَهُ الإِنسانُ، يُنزَحُ منها سبعونَ دَلواً وأقلُّها العُصفورُ يُنْزَح منها دَلوٌ واحد، وما سوى ذلك فيما بين هذين»(8).

وهذا يتناول الثور وغيره، ويدلّ على أنّه لا يبلغ السبعينَ دَلْواً، مع أنّ هذا الخبر مستندُ

ص: 87


1- كالمحقّق في المعتبر، ج 1، ص 57.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 241 - 242، ذيل الحديث 696 و 698؛ الاستبصار، ج 1، ص 35 - 36 ذيل الحديث 19.
3- الانتصار، ص 120، المسألة 20.
4- كابن إدريس في السرائر، ج 1، ص 267 و298.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 235، ح 679: الاستبصار، ج 1، ص 34، ح 91.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 242، ذيل الحديث 698.
7- المقنعة، ص 66: النهاية، ص 6: المبسوط، ج 1، ص 29: المهذّب، ج 1، ص 21.
8- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 234 - 235، ح 678.

الأصحاب في موت الإنسان والعُصفور المذكورَيْنِ فيه، وفي سَنَدِهِ ضَعَفٌ بِجَمَاعَةٍ(1).

الثاني: حُكْمُهُم بالتراوح على البئر يوماً عند تعذرِ نزجه أجمعُ، وطُهْرٍ ما يَتَخَلَّفُ منه بعد ذلك واسْتَندوا في هذا الحكم المخالفِ للأصل إلى رواية أحمد بن فضالة عن عمرو بن سعيد، عن مصدقٍ عن عمّار في حديثٍ طويل، قال: وسُئِلَ عن بئرٍ يقعُ فيها كلب أو فأرةٌ أو خنزير قال: «تُنْزَفُ كُلَّها» - ثمّ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فإن غلب عليه الماء فَليُنْزَفْ منه يوماً إلى الليل، ثمّ يُقامُ عليها قومٌ يَتراوَحُونَ اثنين اثنينِ فَيَنزِفون يوماً إلى الليل، وقد طَهُرَت»(2).

ولا يخفى عليك قُصُور هذا الخبر عن إثبات هذا الحكم تطهيره لما حُكِمَ بنَجاستِهِ، مع ما فيه من ضعفِ السند واشتماله على الأحكام المخالفة لغيره من الأخبار والفتاوى، وحَمْلُ مطلَقِه على تَغيُّرِ البئر بالكلب والفأرة والخنزير أبعد.

الثالث: حُكمُهُم بِنَزْحٍ كُرٍ لموت الدابَّةِ أو الحمار أو البقرة أو البغل، مع أنّ ماعدا الحِمار لم يُوجَدُ في النصّ، وقد وُجِد الحمارُ مقروناً بالْجَمَلِ فيه(3)، ولم يعملوا بظاهره هناك، وإدخالهم لغيره نظراً إلى ظاهر الخبر يقتضى إلحاق كلّ ما بين الحمار والجَمَلِ في الحكم، وهم لا يقولونَ به. مع ما في سَنَدِ الحديث من الجهالة أو الضعفِ(4). ولقد كان الأولى لهم - حيث يعملون بالخبر - الاقتصار على الحمار على ما فيه من الإشكال الذي قرّرناه.

الرابع: حُكمُهُم بِنَزح سبعين لموت الإنسان، وقد عرفت أن مستنده ضعيفٌ، والعمل

ص: 88


1- قال في منتهى المطلب، ج 1، ص 77: والاستدلال بهذه الرواية ضعيفٌ؛ فإنّ رواتها فطحيّة.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 242، ح 699.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 235، ح 679: الاستبصار، ج 1، ص 34، ح 91.
4- في هامش عدّة من النسخ: وجه الترديد أنّ عمرو بن سعيد بن هلال غير معلوم، وإن أريد به عمرو بن سعيد المدائني فهو فطحي والظاهر أنه ليس هو ؛ لأنّ هذا يروي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذاك يروي عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومن بعده. منه (رحمه اللّه).

بظاهره معدول عنه؛ مع ما فيه من الإشكال في إطلاق الإنسان على ما يعمّ المسلم والكافر، والبحث فيه خارج عن مطلوبنا.

الخامس: إيجاب خمسينَ ِللعَذِرَةِ الرَطْبَةِ والدم الكثير، مع أنّ قيد الرطوبة لم يُوجَدْ في النصوص، وإنّما الموجود في رواية عبد اللّه بن بَحْرٍ عن أبي بصيرٍ عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في العَذِرَة تَقَعُ في البئر، فقال: «يُنزَحُ منها عَشْرُ دِلاء، فإنْ ذابَتْ فأربعونَ أو خمسون دَلواً»(1). وطريقه ضعيف بعبد اللّه بن بَحْرٍ بن بَحْرٍ جدّاً، ومع ذلك فَمُقتضاه التخيير بين الأربعين والخمسين لا تَعَيُّن الخمسين. ومفروضه العَذِرَةُ الذائبة لا الرطبَةُ، فَذِكرُ الرَطْبَةِ ليس بِجَيِّد.

وأمّا الدم الكثيرُ فلا نصَّ عليه بخصوصه أصلاً، نعم، في مقطوعة عليّ بن جعفر، قال: سألته عن رجل ذَبَحَ شاءً فاضطربتْ فَوَقَعَتْ في بئر ماءٍ وأوداجها تَشْخَبُ دماً، هل يُتَوَضَاً من ذلك البئر ؟ قال: «يُنزَحُ منها ما بين الثلاثين إلى الأربعين دلواً(2).

وهذه الرواية مع كونها مقطوعةً لا تدلُّ على مطلوبهم من جهة الكثرَةِ ولا من جهة العدد كما لا يخفى.

السادس: حُكمُهُم بأربعين لموتِ التَعْلَبِ والأرنب والخنزير والسنَّور والكلبِ وشبهه، ولا دليل على هذا التقدير بخصوصه، نعم، في رواية عليّ بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال في السنَّورِ: «عشرونَ أو ثلاثون أو أربعون دلواً، والكلب وشبهه»(3). ومع ذلك حال علي بن أبي حمزة مشهورٌ.

وفي رواية سماعة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): وإن كان سنّوراً أو أكبَرَ منها نَزَحْتَ منها ثلاثينَ دَلواً أو

ص: 89


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 244، ح 702؛ الاستبصار، ج 1 ص 41، ح 116.
2- الكافي، ج 3، ص 6، باب البئر وما يقع فيها، ح 8؛ الفقيه، ج 1، ص 20، ح 29؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 409، ح 1288؛ الاستبصار، ج 1، ص 44، ح123.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 235 - 236، ح 680 ؛ الاستبصار، ج 1، ص 36، ح 97.

أربعينَ دَلواً»(1)، وفي الطريق عثمان بن عيسى وسماعة وفي صحيحة زُرَارَةَ ومحمَّدِ بن سالم ويُريد عنهما (عَلَيهِم السَّلَامُ) في البئر يَقَعُ فيها الدابَّةُ والفأرة والكلب والخنزيرُ والطَّيرُ فيموتُ قال: «يُخْرَجُ ثمّ يُنْزَحُ مِن البئر دِلاء ثمّ اشْرَبْ وتوضّأ»(2). وقريبٌ منها رواية الفضل عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3)، ومقتضاها الاكتفاء بمسمّى الدِلاء وهي مع صحّتها أنسبُ بمذهب القائل بطُهرها، حيث اجتزأ «بدلاء» تقع على أعدادٍ كَثيرةٍ ولم يستفصل وجَعَلَه حكم نَجاساتٍ مُختلفة في الحكم والفتوى.

وفي رواية عمّار عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سئل عن بئرٍ يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزيرٌ، قال: «يُنْزَحُ كُلُّها»(4). وروى عبد اللّه بن المُغِيرَةِ عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا مات الكلب في البئرِ نُزِحَت»(5). ولا وجه لترجيح تلك الأخبار على هذه، بل اللائق بطريق الشيخ ومن تَبِعَهُ العكسُ والقولُ بِنزح الجميع، لدخول مقدَّر تلك في الجميع كما ذكره في غيره.

السابع: حُكْمُهُم بالأربعين أيضاً لوقوع بول الرجل، مستنده رواية علي بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن بول الصبيّ الفطيم، فقال: «دَلو واحدٌ» قلتُ: بول الرجل؟ قال: «يُنْزَحُ منها أربعونَ دَلواً»(6). وهذا المستندُ ضَعِيفُ السندِ كما تقدَّمَ، وقد تقدَّمَتْ روايةُ كُرْدَوَيْه: أنّه يُنْزَحُ للبول مطلقاً ثلاثون دلواً. وهي أقربُ سنداً مِن هذه لأنّ الراوي المجهول أقرب من معلوم الضعف.

الثامن: حُكْمُهُم بنزح ثلاثين لماء المَطَرِ المُخالِط للبول والعَذِرَةِ وخُرْءِ الكِلابِ

ص: 90


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 236 - 237، ح 681: الاستبصار، ج 1، ص 36، ح 98.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 236، ح 682؛ الاستبصار، ج 1، ص 36، ح 99.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 237، ح 685: الاستبصار، ج 1، ص 37، ح 100.
4- تهذيب الاحكام، ج 1، ص 242، ح 699؛ الاستبصار، ج 1، ص 38، ح 104.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 237، ح 687: الاستبصار، ج 1، ص 38، ح 103.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 243، ح 700؛ الاستبصار، ج 1، ص 34، ح 90.

مستنده رواية كُرْدَوَيْه الديلمي عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1)، وكُرْدَويه مجهولٌ لا يُعْرَفُ هذا الاسم في الرجال(2)، فكيف ثَبَتَ به هذا الحُكْمُ المخالف للأصل من حيث وجوب الثلاثين لهذه النجاسات التي فيها ما يوجب منفرداً أزيد من هذا المقدار كالعَذِرَةِ وبعض الأبوالِ، وفيها ما لا نصَّ فيه كخُرْء الكلاب والقول بأن ماء المطر أضْعَفَ حُكْمَها جائز لوصح الخبر، أما مع هذا الحال فلا.

التاسع: إيجاب عَشْرِ العَذِرَةِ اليابسة، مستنده رواية أبي بصير السابقة(3)، وفي الطريق عبد اللّه بنُ بَحرٍ وهو ضعيفٌ مرتفع القول، وفيها من جهة المتن أنّها تَضَمَّنَتْ إيجاب العَشْرِ لوقوع العَذِرَةِ ما لم تَذُبْ، فإنْ ذابت فأربعون أو خمسون، وعدم ذَوَبانِها أعمّ من كونها رطبةً لم تَذُبْ ويابسةً، وتُعارضها رواية عمّار قال: سُئِلَ أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن البئر يقع فيها زنبيلُ عَذِرةٍ يابسةٍ أو رطبةٍ فقال: «لا بأس إذا كان الماء كثيراً»(4).

ورواية عليّ بن جعفرٍ عن أخيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن بئرٍ وقع فيها زِنبيل من عَذِرةٍ يابسةٍ أو رطبةٍ أو زِنبيل مِن سِرقين أيَصْلَحُ الوضوء منها ؟ فقال: «لا بأس»(5).

والحديث حسن كما سَلَفَ(6).

العاشر: إيجابها أيضاً للدم القليل، ومُسْتَنَدهُ مقطوعة عليّ بن جعفر السابقة في الدم الكثير، وفيها قال

وسألته عن رجلٍ ذَبَحَ دَجاجةً أو حَمامةً فوقعت في بئرٍ هل يَصْلَحُ أنْ يُتَوضّأ منها ؟

ص: 91


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 413، ح 1300؛ الاستبصار، ج 1، ص 43، ح 120.
2- لم يذكره النجاشي ولا الشيخ بل لم يَنصَّ أحدٌ على توثيقه كما في معجم رجال الحديث، ج 14، ص 113 - 114، الرقم 9722.
3- سبقت في الخامس، ص 89.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 416، ح 1312؛ الاستبصار، ج 1، ص 42، ح 117، وفيهما: «لا بأس إذا كان فيها ماء كثير».
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 246، ح 709: الاستبصار، ج 1، ص 42، ح 118.
6- في أوائل الرسالة حيث عبر عنها المصنّف (رحمه اللّه) ب«حسنة علي بن جعفر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)».

قال: «يُنْزَحُ منها دِلاءٌ يسيرةٌ ثم يُتَوَضَّاً منها» وسألته عن رجلٍ يَسْتَقي من بئرٍ فَرَعَفَ فيها قال: «يُنْزَحُ منها دِلاءٌ يسيرة»(1).

وهذه الرواية على تقدير العمل بها لا تدلُّ على اعتبار العشر بوجه؛ لأنّ الدِلاء اليسيرة أعمّ منها تَصْدُق على الثلاثِ فَصاعِداً بل هي على الثلاث أدلُّ منها على العَشَر؛ لما عرفتَ مِن أنّ الفرق بين جَمْع الكثرَةِ والقِلَّةِ في مثل ذلك غير معتبر، وقد صرّح به الأصحاب وغيرهم في كثيرٍ من أبواب الفقه كالأقارير وغيرها (2)، وعلى تقدير تسليم العمل بمدلولها النحوي فهي جمعُ كَثرَةٍ أقله أحدَ عَشَرَ، فحمله على العَشْرِ غير صحيح، وقد تقدّم في ذلك مُكاتَبَةُ ابن بزيع الصحيحةُ التي استدلّ بها على النجاسة، وهي المتضمنة للسؤال عن البئر تَقْطُرُ فيها قطرات بولٍ أو دم أو يَسْقُطُ فيها شيءٌ مِن عَذِرَةٍ، ما الذي يُطهرها ؟ فوقَعَّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يُنْزَحُ منها دِلاء»(3).

ومن العجيب الغريب هنا ما اتَّفق لجماعة من المحقّقين في كيفية الاستدلال، قال الشيخ في التهذيب بعد نقله الحديث:

وجه الاستدلال من هذا الخبر على العشر أنّه قال: «يُنْزَحُ منها دِلاء» وأكثر عددٍ يُضاف إلى هذا الجمع عَشَرةً، فيجب أن نأخذ به ونصير إليه؛ إذ لا دليل على ما دونه. انتهى(4).

وهذا الكلامُ يُغطي أنه جَعَلَه جَمْعَ قِلَّةٍ، وَحَمَلَه على أكثره، وكلاهما ليس بصحيح أمّا الأوّل فلأنّ جَمْعَ القِلَّةِ منحصر في أوزانِ أربعةٍ مشهورة، أو خمسة عند سيبويه(5)،

ص: 92


1- الكافي، ج 3، ص 6، باب البئر وما يقع فيها، ح 8؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 409، ح 1288.
2- مثل الوصيّة، والعتق، وانظر مختلف الشيعة، ج 1، ص 36، المسألة 15.
3- الكافي، ج 3، ص 5، باب البئر وما يقع فيها، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 244 - 245، ح 705؛ الاستبصار، ج 1، ص 44، ح 124.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 245، ذيل الحديث 705.
5- قال العلّامة في منتهى المطلب، ج 1، ص 81: ونصّ سيبويه على أن جمع التصحيح للقلّة؛ وللمزيد راجع شرح الكافية، ج 2، ص 191.

وهذا ليس منها فهو جَمْعُ كَثرَةٍ بغير إشكال. وأمّا الثاني فلانه على تقدير حمله على جَمْعِ القِلَّة وإطلاقه في الخبر يُجزئ الاقتصار على أقلّ مدلولاته، وهو ثلاثة، كغيره من الأبواب والمُحاورات، لا على الأكثر. وقوله: «لادليل على ما دونه» ممنوعٌ، بل الدليل موجود على الاجتزاء بأي مرتبةٍ أريد من هذا الجمع عملاً بالإطلاق، كما لوقال «له عندي دراهم»؛ فإنّه يُقْبَلُ تفسيرُه بما شاءَ بعد أنْ لا يَنْقُصَ عن ثلاثة، إنْ لم نَقُلْ بإطلاقه على اثنين خصوصاً، وقد أيَّدَه في الخبر الأوّل بقوله: «يسيرة».

والمحقّق في المعتبر اعترض كلام الشيخ بأنّ:

ذلك إنّما يكون مع الإضافة، أما مع تجريده عنها فلا؛ إذ لا يُعلم من قوله: «عندي دراهمُ» أنّه لم يُخْبِرْ عن زيادةٍ عن عَشَرَةٍ، ولا إذا قال: «أعطه دراهم»(1).

وأجابَ العلّامة في المنتهى بأنّ:

الإضافة هنا وإنْ جُرَّدَتْ (2) لفظاً لكنَّها مقدرَةٌ، وإلّا لزم تأخيرُ البَيانِ عن وقت الحاجة، ولا بُدَّ من إضمارِ عَدَدٍ يضاف إليه تقديراً فيُحْمَلُ على العَشَرةِ التي هي أقلُّ ما يَصلَحُ إضافته لهذا الجمع؛ أخذاً بالمتيقن، وحوالة على الأصل من بَراءَة الذمّة(3).

وفيه نَظَرٌ ؛ إذ لا يلزم من عدم تقدير الإضافَةِ هنا تأخيرُ البيانِ، وإنّما يَلزَمُ ذلك لو لم يكن له معنى بدون هذا التقدير، والحالُ أنّ له معنى كسائر أمثاله من صِيَغِ الجُمُوعِ، ولو سُلّم وجوب التقدير لم تتعيَّن العَشَرَةُ، وقد عرفتَ فَساد قوله: إن أقلَّ ما يصلح إضافته لهذا الجَمعِ عَشَرة.

ص: 93


1- المعتبر، ج 1، ص 66.
2- ما أثبتناء موافق للمصدر، ولكن في النسخ كلّها: «لم تَجْرَّ» بدل «جُرَّدَتْ».
3- منتهى المطلب، ج 1، ص 81.

وأعجَبُ منه قولُ العلّامة في المختلف:

ويمكن أن يحتج به من وجه آخرٍ، وهو أنّ هذا جَمعُ كَثرَةٍ، وأقله ما زاد على العَشَرةِ بواحدٍ، فيحمل عليه عملاً بالبراءة الأصليّة(1).

ولا يخفى عليك أنّ هذا الدليل لا ينطبق على الدعوى؛ لاستلزامه وجوبَ أحَدَ عَشَرَ، ومدعاه الاكتفاء بعشَرَةٍ.

وأعجَبُ من ذلك قوله في المنتهى: إنّه جَمْعُ كَثرَةٍ، وقال: فيُحمل على أقلها وهو العشرة(2). والمعلوم عند النحاة أنّ أقل مراتب جمع الكثرة ما زاد على أكثر من مراتب جمع القِلَّة بواحدٍ، وأكثرُ مراتبِ جمع القِلَّة عَشَرَةٌ.

والحق أنّ هذين الخبرين دالان على الاجتزاء بثلاثِ دِلاءِ، ولكن الأصحاب مُعْرِضُونَ عن العمل بذلك تبعاً للشيخ (رحمه اللّه)، وحيث يقال بالاستحباب فلا شُبهة في تأديهِ بذلك. أمّا على القول بأنه مُطَهِّرٌ فيتوقّف على تحقّق الإجماع على خلافه وعدمه.

و من العَجَبِ أيضاً أنّ الشيخ في الاستبصار لمّا ذَكَرَ خبر علي بن يقطين السابقِ الذي استدلوا به على النّجاسة - وفيه أنّ وقوع الكلب والفأرة يوجب نزحَ دِلاء - فقال:

إنّ قوله: «دِلاءً» جَمعُ كَثرَةٍ، وهو ما زاد على العَشَرَةِ، فلا يُمْنَعُ أنْ يكونَ المراد أربعينَ دَلواً كما تضمّنه غيرُهُ من الأخبار(3).

وهنا جَعَلَ مدلوله عَشْراً، واسْتَدلَّ عليه بأنّه أكثر مدلوله.

الحادي عشر: إيجابُ سَبْعٍ لموت الطير، ومُستنده رواية علي بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: وسألته عن الطَّيرِ والدَجَاجَةِ يَقَعُ في البئر، قال: «سبع دلاء»(4). وحال

ص: 94


1- مختلف الشيعة، ج 1، ص 36، المسألة 15.
2- منتهى المطلب، ج 1، ص 81.
3- الاستبصار، ج 1، ص 37.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 235، ح 680؛ الاستبصار، ج 1، ص 36، ح97.

عليّ مشهورٌ. قال ابن الغضائري: عليّ بن أبي حمزة (العنه اللّه) أصلُ الوَقفِ وأَشَدُّ الخلق عداوةً للوليّ(1). وأيضاً فقد روى إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): أن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يقول: «الدَجَاجَةُ ومثلها يموتُ في البئر يُنْزَحُ منها دَلْوانِ أو ثلاثة»(2) وطريق هذه الرواية أقربُ مِن تلك؛ لأنّ فيه غياتُ بنُ كَلُوب، وهو مجهول الحال مشهورُ الرواية. وفي صحيحة زيد الشحّام عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) إيجابُ خَمسٍ لموت الدَجَاجَةِ والكلبِ والطَّيرِ إذا لم تتفسّخ أو يَتَغَيَّرُ طعمُ الماء(3)، وهي أولى بالمراعاة من الجميع.

الثاني عشر: إيجاب السبع للفأرة مع التفسُّخ أو الانتفاخ، فإن لم يحصل أحد الوصفين فثلاث. ومستند الأوّل رواية أبي سعيد المُكاري عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا وقعت الفأرَةُ في البئرِ فَتَسَلَّحَتْ فانْزَحْ منها سَبعَ دِلاء»(4). وعلى الثاني رواية معاوية بن عمّار عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الفأرَةِ والوَزَغَةِ تقع في البئر، قال: «يُنْزَحُ منها ثلاثُ دِلاء»(5). بحملها على ما إذا لم يحصل التَسَلَّخ؛ جمعاً بينها وبين الأولى، كما حُمِلَ إطلاق رواية عليّ بن أبي حمزة - عنه في الفأرَةِ والوزَغَةِ تقع في البئر، قال: «سبع دِلاء»(6) - على الانفساخ، جمعاً، وقد عَرَفْتَ حال عليّ بن أبي حمزة؛ وقريب منه حال أبي سعيد المُكاري(7)، وطَريقُ رواية معاوية أقرب وإن كان فيه جَهالَةٌ، وفي صحيح زَيدِ الشَحّام

ص: 95


1- حكاه عنه العلّامة في خلاصة الأقوال، ص 232، وفيه:... عداوة للوالي من بعد أبي إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ).
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 237، ح 683؛ الاستبصار، ج 1، ص 38، ح 105.
3- الكافي، ج 3، ص 5، باب البئر وما يقع فيها، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 237، ح 684؛ الاستبصار، ج 1، ص 37. ح 102.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 239، ح 691: الاستبصار، ج 1، ص 39، ح 110.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 238، ح 688؛ الاستبصار، ج 1، ص 39، ح106.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 235، ح 680: الاستبصار، ج 1، ص 36، ح 97.
7- قال النجاشي: الحسين بن سعيد هاشم بن حيان المكاري أبو عبد اللّه كان هو وأبوه وجهين في الواقفة. رجال النجاشي، ص 38، الرقم 78.

«إذا لم تَتَفَسَّخْ أو يَتَغَيَّر طعم الماء فيكفيكَ خمسُ دِلاء»(1) وسيأتي. وفي مقطوعة سماعة: «نزح سبع إن لم تُنْتِن»(2). وفي رواية أبي خديجة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «نزحُ أربعين إذا لم تُنْتِن»(3). وخبرُ آخَرُ مرسل عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ موتها يُنجِّسُهُ مطلقاً»(4). وهذا الاختلاف كلّه قرينة على عدم التنجيس، وقد عرفت أنّ وصف الانتفاخ ليس في الأخبار.

الثالث عشر: إيجابُ السَبْع لبول الصبيّ دونَ البُلُوغِ وفوق الفطام، ولو كانَ دونَ الفِطامِ فَدَلو، ومستند الأوّل رواية منصور بن حازمٍ عن عِدَّةٍ، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «يُنزَحُ منه سبعُ دِلاء إذا بالَ فيها الصبيّ أو وقعت فأرَةٌ أو نحوها»(5). والثانى رواية علي بن أبي حمزة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن بول الصبيّ والفطيمِ يَقَعُ في البئر، فقال: «دَلو واحدٌ»(6). بِحَمْلِ الثاني على صبي لم يأكُلِ الطعام، جمعاً.

وفيه: أن الأوّل مرسل، وحال الثاني قد عُلِمَ، وأنّ الظاهر من حال الفطيمِ المَفطُوم؛ لأنّه فعيل بمعنى مفعول، وهو يُنافي الحمل.

الرابع عشر: إيجابها لاغتسال الجُنُبِ، والمراد الخالى بدتُه من نَجاسة خبثيّة ومستنده قد سَبَقَ في أخبار القائل بالتنجيس، وأنّه لا يدلّ عليها، وأنه لا وجه للحكمِ بالنّجاسَةِ حينئذٍ، لعدم حصولِ ما يوجبها، وقد تقدّم تحقيق ذلك.

الخامس عشر : إيجابها لخروج الكلب حيّاً، ومستنده رواية عبدِ اللّه بنِ المُغِيرَة عن

ص: 96


1- سبق تخريجه آنفاً.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 236، ح 681؛ الاستبصار، ج 1، ص 36، ح 98.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 239، ح 692: الاستبصار، ج 1، ص 40، ح 111.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 239، ح 693: الاستبصار، ج 1، ص 40، ح 112.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 243، ح 701؛ الاستبصار، ج 1، ص 33، ح 89.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 243، ح 700؛ الاستبصار، ج 1، ص 34، ح 90.

أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا وقع الكلبُ فيها ثمّ أُخْرِجَ منها حيّاً نُزِحَ منها سَبعُ دِلاء»(1). وفيه أنّ في الخبر أيضاً: «إذا مات الكلب فى البئر تُزحَتْ». وقد تقدّم حكمُهُم بخلافه؛ وأن في صحيحةِ زَيدِ الشحام عن أبي عبد اللّه في الفأرَةِ والسِنُّور والدّجَاجَةِ والكلب والطير، قال: «فإذا لم تَتَفَسَّخْ أو يَتَغَيّر طعم الماء فيكفيكَ خَمسُ دِلاء»(2). فكان هذا الخبر أولى بالعمل، أو يقال: إنّ الخَمس مجزئة والسَبعُ أفضل، وقد أطلَقُوا القول بخلافه. وفيه أيضاً وجوبُ الخَمسِ لموت الدَجَاجَة وغيرها، وقد تقدّم القولُ بخلافه.

السادس عشر: إيجابُ خَمسٍ ِلذَرْقِ الدُجَاج، وفيه أنّه لا نصَّ عليه مطلقاً، ومع ذلك فقد أطلق جماعة منهم الدُجَاجَ(3)، وهو أقوى إشكالاً من حيثُ إنّ غيرَ الجَلالِ ذَرْقُهُ طاهر على الصحيح، فلا وجه للحكم بوجوب النزح له مطلقاً ولو قيل بنَجاستِهِ فهو ما لا نصَّ فيه، ومنهم مَن قَيَّدَه بالجَلالِ(4)، ليكون نَجِساً، وحيثُ لا نصَّ فيه ينبغي إلحاقه به أو بالعَذِرَةِ على ما فيها من التفصيل فأما ما ذَكَرُوهُ مِن الخَمسِ مطلقاً فلا وجه له أصلاً.

السابع عشر: إيجابُ ثلاث للحيَّةِ والفأرَةِ مع عدم الوصفين، وقد تقدّم الكلام على حكم الفأرة، وأمّا الحيَّةُ فلا نصَّ عليها بالخصوص وفي الذكرى أحال حكمها على الفأرَةِ والدَجَاجَةِ المَروي فيهما دَلوان وثلاث(5)، وهو مأخذُ ضَعيفٌ.

ص: 97


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 237، ح 687: الاستبصار، ج 1، ص 38، ح 103، وفيهما: عبد اللّه ابن مغيرة عن أبي مريم قال حدثنا جعفر قال: كان أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول.
2- الكافي، ج 3، ص 5 باب البئر وما يقع فيها، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 237، ح 684؛ الاستبصار، ج 1، ص 37، ح 102.
3- كالشيخ في النهاية ص 7 والمبسوط، ج 1، ص 30 وابن حمزة في الوسيلة، ص 74 - 75؛ ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 19؛ والعلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 27، المسألة 6.
4- كسلّار في المراسم، ص 36: وابن البرّاج في المهذّب، ج 1، ص 22؛ وابن إدريس في السرائر، ج 1، ص79.
5- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 59 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).

وقال المحقّق في المعتبر:

يمكن أنْ يُسْتَدَلّ على الحيَّةِ بما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا سقط في البئر حيوان صغير فمات فيها فانْزَحْ منها دِلاء»(1). فينزَّلُ على الثلاث؛ لأنّه أقلّ محتملاته(2).

ولا يخفى ما فيه، ولا يقولون به في مطلق الحيوان الصغير.

الثامن عشر : إيجابُ الثلاث للعَقْرَب والوزغة، كما ذكره الشيخ (3) وجماعة(4).

وفيه: أنّ الخبر الوارد بالوزغة في طريقه حمّادٌ(5)، وهو مشترك(6)، ومُعارَضُ برواية جابر الجعفي، قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن السامّ أبرص يقع في البئر؛ قال: «ليس بشيء، حرّك الماء بالدلو في البئر»(7).

وروى يعقوب بن عُتَيْمٍ قال، قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): سامٌّ أبرصُ وجدناه قد تَفَسَّخَ في البئر، قال: «إنّما عليك أنْ تَنْزَحَ منها سبعَ دِلاء»(8).

ومع ذلك كلّه فالوزغ بأنواعه ليس له نفس فلا يَنجَسُ بالموتِ ولا يُنَجِّسُ الماء.

وأمّا العقرب فلا نصَّ عليه بخصوصه ويمكن إدخاله في رواية الحلبي السالفة، مع أنّها لا نَفْسَ لها فلا تَنجسُ ولا تُنَجِّسُ.

ص: 98


1- الكافي، ج 3، ص 6، باب البئر وما يقع فيها، ح7؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 240، ح 694: الاستبصار، ج 1، ص 34، ح 92. وفيها: «شيء صغير».
2- المعتبر، ج 1، ص 75.
3- النهاية، ص 7؛ المبسوط، ج 1، ص 30.
4- كالشيخ المفيد في المقنعة، ص 67: وابن حمزة في الوسيلة، ص 74 - 75، وابن البراج في المهذّب، ج 1، ص 22.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 245، ح 706: الاستبصار، ج 1، ص 39، ح 106.
6- كما تقدّم في أوائل الرسالة.
7- الكافي ج 3، ص 5، باب البئر وما يقع فيها، ح 5: الفقيه، ج 1، ص 21، ح 31؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 245، ح 708؛ الاستبصار، ج 1، ص 41، ح 115. ليس كلمة في البئر في المصادر الثلاث الأوّل.
8- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 245، ح 707؛ الاستبصار، ج 1، ص 41، ح 114.

التاسع عشر : إيجابُ دَلدٍ واحدٍ للعُصفور، ومستنده روايةُ عماد السالفة في موت الإنسان(1). وقد عرفت ضعفها بجماعة.

العشرون: إيجابه لبول الرضيعِ قَبلَ اغتذائه بالطعام، ومستنده رواية علي بن أبي حمزة السالفة. وقد عرفت ضعفها وعدم دَلالتها على المطلوب.

فهذه جُملةٌ ممَّا اتَّفَقَ ذكرُه مِن النجاساتِ المشهورة التي بَحَث عنها القائلونَ بالنّجاسَةِ. وقد ظَهَرَ عليك ضَعفُ مستَنَدِها، وإنا لو قلنا بالنّجاسَةِ لما أمكننا العمل بها (2). بل غايةُ ما يُمكنُ أنْ يقال إنّه مع تحقّق نَجاسةِ الماء لا يَطْهُرُ إِلَّا بِما يُعْلَم به المُطَهِّر مِن اتّصاله بالكثير ونحوه، وإلّا بقي على النّجاسَةِ، وفيه خروج عن الاتّفاق ظاهراً، فكان ذلك أقوى قرينة على عدم النّجاسَةِ، مضافاً إلى ما دلّ عليه.

نعم، القولُ بالاستحباب سهل للتسامح بأدلّته وما يقال من أن ضعف الأخبار منجَبِرٌ بالشُهرة، وأنّه يمكن إثباتُ المذهب بالخبر الضعيف(3)، قول ضعيف منجبرٌ بالشهرة، وإثبات المذهب به إثبات له بالخبر الضعيف.

ومع هذا كلّه فينبغي رعاية النزح وغاية الاحتياط في ذلك لما تواتر عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من الأمر بالنزح لوقوع النجاساتِ في الجُملَةِ، وإنْ لم يثبت بالتفصيل؛ وهَبْ أنّ ما ذكرنا من أفراد الروايات ضعيفٌ، أليس بعضُه صحيحاً وبعضُه حَسناً؟ وجملة ما يجتمع منه ومن الضعيف يَثْبُتُ به - مع جملة ما ورد في كُتُبِ الحديث مِن الأخبارِ الواردة بالنزح - التواتر المعنوي، كشَجاعة عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكَرَمِ حاتم، مضافاً إلى عمل أكثر الليل الأصحاب به، وقد وافقنا على القول بالنزح، بل بنَجاسةِ البئر في الجُملَةِ، أبو حنيفة من

ص: 99


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 234، ح 678.
2- في بعض النسخ: «العمل هاهنا» بدل «العمل بها».
3- انظر معارج الأُصول، ص 155: المعتبر، ج 2، ص 681 - 682: غاية المراد، ج 1، ص 229 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).

العامّة (1)؛ لروايات وردت عندهم فيه عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) (2).

فتبيَّنَ بذلك مخالفة حكم ماء البئر لغيره من المياه القليلةِ والكَثيرة في الجملة إجماعاً، سواءٌ جعلناه واجباً أم مستحبّاً. وإذا كان كذلك فلا يبعد القول بأنه ينفعل بالنجاسة بما لا ينفعل غيره بها، وليس للعقل مدخل في إثبات حكم النجاسة والطهارة، بل المرجِعُ فيه إلى النقل عن صاحب الشرع (عَلَيهِ السَّلَامُ). فاستبعاد أحكام البئر لا وجه له أصلاً خصوصاً بعدَ تُبوتِها في الجُملَة؛ فإنّ الحكم باستحباب النزح أيضاً يوجب الحكم للبئرِ بما لا يثبت لغيره من المياه، نعم، لما لم يَتِمَّ الدليل على النّجاسَةِ نَفَيناها، وبَقِيَ جانبُ الاحتياط مُراعي، ورعاية النزح مناسبة جداً خصوصاً مع ترتب العبادات الشرعيّة، وأعظم أركان الدين - وهو الصلاة الواجبة - عليه، واللّه تعالى أعْلَمُ بأسرار أحكامه.

هذا ما اقتضاه الحالُ الحاضِرُ من بحث المسألة على سبيل الارتجال وضيق المجال. واللّه ولي التوفيق.

علَّقها مؤلّفها الفقير إلى اللّه تعالى زين الدين بن عليّ بن أحمد الشامي العاملي (عامله اللّه بفضله وسامحه عن هَفَواته بمنّه) ضحى يوم الإثنين خامس شهر صفر و(ختمه اللّه بالخير والظفر)، عام تسع وخمسين وتسعمائة حامداً مُصَلِّياً مُسَلِّماً.

ص: 100


1- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 53.
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 53.

11. تَيَقُنُ الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما

إشارة:

تحقيق محمدرضا النعمتي

مراجعة

أسعد الطيّب - رضا المختاري

ص: 101

ص: 102

بسم اللّه الرحمن الرحيم

مسألة شريفةٌ

إذا تَيَقَّنَ الطهارة والحدث، وشَكَ في السابق منهما، كما لَوْ تَيَقَّنَ عند الزوال - مثلاً - أنّه أَحْدَثَ حَدَثاً يوجِبُ الوضوءَ وتَوَضَّاً، ولكِنْ جَهِلَ السابق، بحيث شَكٍّ في حاله عند القيام إلى الصلاةِ، هَلْ هو مُتَطَهِّرُ أمْ لا ؟ فَهَلْ تَجِبُ عليه الطهارة أم لا ؟

أَطْلَقَ الأكثرُ - خصوصاً المتقدّمين كالشَّيْخَيْنِ (رَحِمَهُما اللّه) – الوجوب(1)، وعَلَّلوه بأنّ يقين الطهارةِ مُكافِيٌّ ليقينِ الحَدَثِ، فَلَمْ يَبْقَ المكلّف على يقين من الطهارة، فلا يَسُوعُ له الدخول في الصلاة بدون طهارةٍ متَيَقَّنَةٍ؛ ولأنّهما بتكافيهما تساقطا، فَلَمْ يكن الآن مُتَطَهِّراً، وللاحتياط.

مناقشة قول الأکثر في وجوب الطهارة

أقول: فيه بحث فإنّهم إن أرادوا بالطهارة - التي لا يَسُوعُ الدخول في الصلاة بدونها - الرافعة المستمِرَّةَ الحكم ولو بالاستصحاب فهي متحقّقة هنا؛ وإن أرادوا بها الطهارة المتيقنة الاستمرار الحكمي، مَنَعْنا اشتراط ذلك. وآية المنع الاتّفاق على أن مَنْ تَيَقَّن

ص: 103


1- المقنع، ص 19: المقنعة، ص 50: المبسوط، ج 1، ص 46 الوسيلة، ص 52 المراسم، ص 40: السرائر، ج 1، ص 104: الجامع للشرائع، ص 37؛ شرائع الإسلام، ج 1، ص 16؛ كشف الرموز، ج 1، ص 69؛ منتهى المطلب ج 2، ص 141: مختلف الشيعة، ج 1، ص 142 المسألة 94: نهاية الإحكام، ج 1، ص 60؛ ذكرى الشيعة، ج 2، ص 121 - 122؛ الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 13 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6 و 9): التنقيح الرائع، ج 1، ص 88 جامع المقاصد، ج 1، ص 235.

الطهارة وشَكٍّ في الحدث، يجوز له الدخول في الصلاة(1)؛ استصحاباً لِلْمُتَيَقَّن، ولأصالة عدم الحدث.

فإن قيل: يقينُ الطهارة في مسألةِ تَيَقَّنها مع الشكّ في الحدث لا يُعارِضُه إِلا يقين مِثْلُه، فبدونِهِ يَعْمَلُ عَمَلَه ويَطْرَحُ الشكُ؛ بخلاف مسألة النزاع، لتكافؤ اليقينين.

قلنا: لا شُبْهَةَ في كَوْنِ مَحَلِّ النزاع أضعف ممّا مُثْلَ به، لكنهما يشتركان في أصل واحدٍ يقتضي جواز الدخول في الصلاة، وهو تَيَقُنُ الطهارة مع الشك في الناقِضِ.

فإن قيل: يقينُ الطهارة هنا لمّا كان مُعارَضاً بمثله في الحَدَثِ بأنْ يقال: إنه أيضاً مُتَيَقِّنُ الحَدَثِ، شاكٌ في الطهارةِ، فَيَنْبَغي على هذا أنْ لا يَسُوعَ له الدخول في الصلاة إلّا بطهارة باقية ولو بالاستصحاب، وحصولها غَيْرُ معلوم.

قلنا: لما تَعارَضَ الأصلانِ تساقطا، فَلَمْ يَبْقَ تأثير الحدث المذكور متحقِّقَ المَنْعِ من الدخول في الصلاة، والأحداث السابقة على الطهارة كلُّها ارتفعت بها جَزْماً، فموجِبُ الطهارة حينئذٍ غَيْرُ معلوم؛ لأنّه إمّا الأحداث السابقة وقد ارْتَفَعَتْ بغير شبهة، وإمّا الحَدَثُ المفروض وقد سَقَطَ حُكْمُه بمعارَضَةِ يقين الطهارةِ، فَيَقَعُ الشكُ في موجِبِ الطهارة الآن؛ لأنّ الدخول في الصلاة إنّما يَجِبُ بطهارةٍ مع سَبْقِ حَدَثٍ يوجِبُها.

فإن قيل: كما أنّه بالتساقط المذكورِ لَمْ يَبْقَ للحدث أثرٌ متيقن كذلك لم يَبْقَ للطهارة أثرٌ متيقن فنرجع في الوجوب إلى الأدلّة العامّة مثل قوله تعالى: «إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» (2) وغَيْرِه من الأدلّة(3).

قلنا: لا رَيْبَ في أنّ الأوامِرَ المُطْلَقَة بوجوب الطهاراتِ مشروطةٌ بسَبْقٍ حَدَثٍ يوجبها؛ فإنّ الطهارة لا تجب لذاتها، بل بسببِ سَبْقِ الحدثِ وإن كان قبل التكليف

ص: 104


1- الخلاف، ج 1، ص 123، المسألة 65: المراسم، ص 40؛ السرائر، ج 1، ص 105.
2- المائدة (5): 6.
3- النساء (4): 43؛ وسائل الشيعة، ج 1، ص 365 - 369، الباب 1 - 2 من أبواب الوضوء.

على تقدير المخاطَبَةِ بالصلاة في حالةٍ لَمْ يَقَعْ منه حَدَثُ بَعْدَه، بناءً على أنّ الأحداث مِنْ قَبيلِ الأَسْباب المُعَرَّفَةِ للوجوب، وهو من باب خطاب الوضع الذي لا يتوقّف على التكليف. وتَخَلَّفُ السبب عن المُسَبَّبِ قَدْ يكون لفقد شرط، أو وجودِ مانع، كما حُقِّقَ في الأُصول(1). فإذا حَصَلَ الشرطُ عَمِلَ السَبَبُ عَمَلَه.

ومن هنا حكموا بوجوب الغُسْلِ على البالغ المُجْنِبِ بالإيلاج قَبْلَ البلوغ، إذا خُوطِبَ بعبادةٍ مشروطةٍ بالغُسْلِ(2). وهذا هو السرُّ في إطلاق الأمر في الآية(3) بالوضوء للصلاة، مِنْ غيرِ تقييد بالحَدَثِ؛ بناءً على أن الخطاب المستفاد من الأمرِ تَعَلَّقَ بالمكلّف، وهو لا يَنْفَكُّ طَبْعاً من الأقذار الموجبة للوضوء فيما سَبَقَ على التكليف في زمان صِغَرِه، ولمّا كان موجِبُ الغُسْلِ قَدْ يَحْصُلُ الانفكاك عنه - لأنه ليس ضرورياً بِحَسَبِ الطبيعة - قَيَّدَ وجوب الغسل في الآية بالجنابة، فقال: «وَإِن كُنتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا»(4).

فإن قيل: لَمّا حُكِمَ بتساقط الطهارة والحدث اللاحقيْنِ، بَقِيَتِ الطهارة في حكم المعدوم؛ فلو كانت مؤثّرةً في رَفْعِ حدث في الجملة لم تكن ساقطةً، وحينئذٍ فلا بُدَّ مِنْ طهارة رافعة للحدث؛ لأنّه واقع قطعاً، وهو يقتضي نقيض ما ذكروه.

قلنا: ارتفاع الحدث السابق أمر مقطوع به قبل الحكم بالتساقط بغير شبهة، وإنّما الكلام في ارتفاع جميعِ الأحداث السابقة على زمان الشكّ، فإنّه يُحْتَمَلُ سَبْقُ الحدثِ المفروض على الطهارة، فتكون جميعُ الأحداثِ مُرْتَفِعَةٌ وتَأخُرُهُ، فتكون السابقة خاصةً مُرْتَفِعَةً، فارتفاع السابقة أمرٌ ثابت على كلّ تقدير، فلا مجال للشك فيه؛ ويَبْقى

ص: 105


1- القواعد والفوائد، ص 10 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 15).
2- منتهى المطلب، ج 2، ص 188؛ ذكرى الشيعة، ج 1، ص 173؛ الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 15؛ البيان، ص 52 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5، 9 و 12)؛ جامع المقاصد، ج 1، ص 257.
3- المائدة (5): 6.
4- المائدة (5): 6.

الكلام في اللاحق، فإذا كافأ الطهارة، فكما لا يبقى على يقين من الطهارة، كذلك لا يبقى على يقين من الحدث، واحتمال الاستصحاب قائم فيهما، وحيئنذ فتنزيلُ الطهارة منزلَةَ المعدومِ مطلقاً غيرُ جيِّدٍ، بَلْ هي مؤثرةٌ في رفعِ غير الحدث الأخير - على تقدير وجوده قطعاً وفيه على احتمال - فهي أمرٌ مُحَقَّق فى الخارج، كما أن الحدث المفروض كذلك، ولا ترجيحَ بَيْنَهُما مِنْ هذا الوَجْهِ.

ورُبما أمْكَنَ ترجيح جانب الطهارة وزيادة الإشكال بوَجْهِ آخَرَ، وهو أن الطهارة الرافعة للحدث حاصِلَةٌ قَطعاً، والحدث الناقِضُ للطهارة غَيْرُ متحقق؛ لاحتمالِ تقدّمه، فيكون المكلّف داخلاً في الصلاة بطهارة رافعة،

وهو موافق لمراد الشارع. ويمكن دَفْعُه بأن نقول ما تَعْنون بالطهارة،الرافعة هل هو بالنسبة إلى الحدث السابق أو مطلقاً ؟ الثاني ممنوع لإمكان تأخّره، والأوّل مسلَّم لكنه غير نافع؛ لأنّ الكلام في جواز الصلاةِ مع تَيَقُنِ هذا الحدث والشَكٍّ في رافِعِهِ.

أو نقول: لا نُسَلِّمُ أنّ الطهارة الرافِعةَ متحقّقة أصلاً؛ لأنه - كما يجوز كونه مُحْدِثاً قَبْلَ الطهارة فتكون رافعة للحدثِ السابق المُدَّعى قطعاً - يُحْتَمَلُ أنْ يكون قَبْلَ الطهارة المفروضةِ مُتَطَهِّراً، فلا تكون رافعة، فالطهارة الرافعة مشكوك فيها، والحدث المانع مُتَحَقِّقُ الوقوع على تقدير عدم العلم بحاله قبلهما.

أو نقول: سَلَّمْنا كونَ الطهارة رافعةً في الجملة، لكن وقوعُ الحَدَثِ المانع من الدخول في الصلاةِ أمْرٌ مُحَقَّق، كما أن الطهارة كذلك، وتساقطهما بسبب تكافؤ الاحتمالَيْن لَمْ يُصَيِّر الحدث في حكم المعدوم، كَيْفَ ؟ وهو متيقَّنُ الوقوع والتأثير في وجوب الطهارة للصلاة، ونَقْض ما تقدّمه منها؛ غاية ما فى الباب أنّ بقاءه كما لا يُعْلَمُ، كذلك لا يُعْلَمُ بقاءُ الطهارة، فليس المكلّف الآن على حالةٍ يَسُوعُ معها الدخول في الصلاة شرعاً.

أو نقول: الأصلُ يَقْتَضي أن الحدث المتيقن لا يَرْتَفِعُ إلَّا بطهارةٍ مُتَيَقَنَةٍ بعده؛ لأنّ اليقينَ لا يَرْفَعُه إِلَّا مِثْلُه خَرَجَ مِنْ ذلك ظَنُّ بقاء الطهارة عند تيقنها والشَكٍّ في بقائها -

ص: 106

بَلْ تجويز بقائها كذلك وإنْ لَمْ يظنّه عَمَلاً بالاستصحاب - فَيَبْقى الباقي على أضل الوجوب.

فإن قيل: الأدلّة المُطْلَقَةُ والعامّة بوجوب الوضوء للصلاة مقيَّدةٌ بسَبْقِ حَدَثٍ يوجِبُه، وسبق الحدث مشكوك فيه، فدخول هذا المصلّي تَحْتَ الأمْرِ مشكوك فيه أيضاً والأصلُ بَراءَةُ الذمّة مِنْ وجوب الطهارة.

قُلْنا سَبْقُ الحدثِ الموجبِ مُتَحَقِّق، وإنّما الشكُّ الآن في رافعه، فَيَدْخُلُ تحت الأوامر بسبب هذا الشك، وحينئذٍ فلا يُعارِضُه أنّ الطهارة متحقّقة، والناقِضُ لها مَشْكوك فيه الآن فَتَسْتَصْحِبُها؛ لأنّ استصحابَها على هذا الوجْهِ غَيْرُ مأذون فيه، بخلاف الحكم بوجوب الطهارة؛ لدخولهِ تَحْتَ ذلك العام. هذا ما حَضَرَ ممَّا يَتَعَلَّقُ بالحكم بوجوب الطهارَةِ مُطلَقاً.

قولان آخران في المسألة

وبقي في المسألة قولان آخران:

أَحَدُهُما: أنْ يَنْظُرَ إلى حالِهِ قَبْل الطهارة المفروضة والحَدَثِ؛ فإنْ جَهلها بأنْ لَمْ يَدْرِ هَلْ كان مُتَطَهِّراً أو مُحْدِثاً ؟ فالحكمُ كما ذَكَرَه المتقدّمون، لِعَيْن ما ذُكِرَ من الدليل(1). وإن عَلِمَ حالَهُ قبلهما أَخَذَ بِضِدٌ ما عَلِمَه من الحالة؛ فإنْ عَلِمَ أنه كان مُتَطَهِّراً فهو الآنَ مُحدث، أو مُحْدِثاً فهو الآن مُتَطَهِّرُ.

وإلى هذا القولِ َمالَ المحقّق في المعتبر(2)، لكنّه لَمْ يُفْتِ به. واشْتَهَرَ بين المتأخّرين نسبته إليه من غير تحقيق(3).

ووَجْهُهُ أنه إن كان قبلهما متطهراً فَقَدْ عَلِمَ انتقاله عن تلك الحالة وهي الطهارة

ص: 107


1- أي فالحكم وجوب الطهارة؛ لأنّ يقين الطهارة والحدث بتكافئهما تساقطا، فلم يكن الآن متطهّراً، وللاحتياط.
2- المعتبر، ج 1، ص 171 لكن يمكن أن يقال: ينظر إلى حاله قبل تصادم الاحتمالين، فإن كان حدثاً بني على الطهارة.
3- التنقيح الرائع، ج 1، ص 89؛ جامع المقاصد، ج 1، ص 236.

بالحدث المفروض، وأنّ تلك الطهارة انْتَقَضَتْ قطعاً، وارتفاع هذا الحدث بالطهارة المفروضةِ غَيْرُ معلوم؛ لجواز كون الطهارة سابقةً عليه، بأن وَقَعَتْ تجديداً للطهارة السابقة أو مع الذهول عنها، فتأثير الحدث في نقض الطهارة أمرٌ معلوم، وتأثير الطهارة في رفع الحدث غير معلوم، فيُسْتَصْحَبُ المعلومُ ويُحْكَمُ عليه الآن بالحدث، وهو ضدُّ الحالةِ التي عَلِمَها قبلهما. وإن كان قبلهما مُحْدِثاً فقد عُلِمَ ارتفاعُ الحدثِ بالطهارة المفروضة قطعاً، وانتقاضُها بالحدث المفروض غير معلوم؛ لجواز معاقبته للحدث السابق، فتأثير الطهارة في رفع الحدث أمر معلوم، وتأثير الحدث فيها غَيْرُ معلومٍ. فَيُسْتَصْحَبُ حكمُ المعلوم (1) على طريقة ما مرّ.

وهذا - كما ترى - مقيَّد بما إذا جُوِّزَ في الصورة الأولى التجديد، وفي الثانية معاقَبَةُ الحدث للحدث. أمّا لوعُلِمَ عدم التجديد - بأنْ لَمْ يكنْ مِنْ عادته مطلقاً أو في ذلك الوقت - حكم له بالطهارة في الصورة الأولى وهي حالةٌ موافقة للسابق. ووجههُ ظَاهِرُ؛ لأنّه بِنَفْي احتمال التجديد يُعْلَمُ أنّ الحدث المفروض واقع قبل الطهارة، فيكون ناقضاً للسابقة، ويَتَخَلَّلُ بينها وبين اللاحقة فهو الآن متطهَّرُ. وهذا في الحقيقة يَؤول إلى اليقين، وليس من الشكّ في شيءٍ فكان يُمْكِنُ الغناءُ عَنْهُ، فَمِنْ ثَمَّ أَطْلَقَه جَماعةٌ(2).

ووجه التقييد : أنّه شَكٍّ باعتبار مبدئه، وإنْ آلَ الحالُ فيه إلى اليقين. ونظيره من مسائل الشك ما ذكروه في باب السعي مِنْ أنه لو شَكَ فيما به بَدَأَ مِن الصفا أو المروة مع تحصيله للعدد، فإن كان على المُزْدَوِج وهو على المروة بَطَلَ، وعلى الصفا صَحَّ. وبالعكس لو حَفِظَ وتراً (3)؛ فإنّه شَكٍّ بحسب مبدإ الأمر قبلَ التَرَوّي، وبأدنى توجيه

ص: 108


1- جامع المقاصد، ج 1، ص 236.
2- المقنع، ص 19؛ المقنعة، ص 50: الكافي في الفقه، ص 133؛ السرائر، ج 1، ص 104؛ الجامع للشرائع، ص 37.
3- شرائع الإسلام، ج 1، ص 248 - 249: المختصر النافع، ص 169: إرشاد الأذهان، ج 1، ص 327 - 328؛ الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 328 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9).

الذهن يصيرُ من باب اليقين.

وكذا القَوْلُ في الصورة الثانية، لو عَلِمَ عدم التعاقب - بأن كانتْ عادته أنْ يَتَطَهَّرَ حين يُحدِثُ ولا يَتَكَرَّر منه حَدَثانِ أصلاً - فإنه مع علم حاله مُحْدِثاً قَبْلَهما يَعْلَمُ أنه الآنَ مُحْدِثُ: لِعَيْنِ ما ذُكِرَ.

هذا كلّه إذا قلنا: إنّ الوضوء المجدَّدَ لا يَرْفَعُ الحدث. أما لوقلنا بكونه رافعاً كما ذهب إليه جماعة (1) تكافاً الاحتمالان، ووجبت الطهارة على نحو ما سَبَقَ. هذا غاية تحرير التفصيل المذكور.

ولقائل أن يقول - على التعليل في الصورة الثانية بأنّ تأثير الطهارة في الحدث أمرٌ معلوم وتأثير الحدث في الطهارةِ غَيْرُ معلوم : إنّه في موضع المنع؛ إذ لا شُبهة في أنه في زَمَنِ الحَدَثِ المفروض على حالةٍ لا يَسُوعُ معها الدخول في الصلاة، وكذا بَعْدَه بلا فَضْلٍ، سواءٌ أَوَقَعَ بعد الطهارة أم،قبلها ولا معنى لتأثير الحدثِ في المنعِ من الدخول في الصلاة إلّا ذلك. وحينئذٍ فتأثير الطهارة في رفع الحدث، كما يُحْتَمَلُ كونه في الحدثِ السابق خاصةً بأن يكون هذا الحدث متأخراً عنها، يُحْتَمَلُ كون تأثيرها فيهما معاً؛ وكذلك، كما يُحْتَمَلُ كونُ تأثير هذا الحدثِ وَقَعَ في هذه الطهارة بأنْ كان متأخّراً،عنها يُحْتَمَلُ كونه سابقاً، وقد ارتفع القَدْرُ المشترك بَيْنَهُ وبَيْنَ السابق فيقينُ الطهارة الرافعة مُعارَضَ بيقين الحدث المانع، وكلُّ منهما مُسْتَصْحَبٌ.

فإن قيل: الحدث المذكورُ إذا كان متقدماً على الطهارة لا يكون له أثرٌ ؛ لسبق الحدثِ المانع، فيكون هذا الحدث غَيْرَ مؤثرٍ؛ لاستحالة تحصيل الحاصل. ومِنْ ثَمَّ قُلْنا في التعليل السابق: إن تأثير الطهارة في رفع الحدث أمرٌ معلوم، وتأثير الحدثِ في المنع غَيْرُ معلوم؛ لاحتمالِ سَبْقِه.

ص: 109


1- انظر غاية المراد، ج 1، ص 30 - 31 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1) التنقيح الرائع، ج 1، ص 76؛ مدارك 1؛ الأحكام، ج 1، ص 13 - 14.

قلنا: عدم تأثيره - على تقدير معاقَبَتِهِ لِمِثْلِه - غيرُ واضح، بل لكلٍ من السابق واللاحق تأثير في المنع غاية ما في الباب ارتفاع المنع الحاصل منهما بطهارة واحدة؛ ولهذا نَصَّ الفقهاء على أنه لو نوى بالطهارة رَفْعَ حدث معيَّنٍ مع تعدّد الأحداث يرتفعُ الجميع(1). فلولا أنّ لكلّ واحدٍ أثراً لما أفاد نيّة الآخر، بل ماعدا الأوّل.

والتحقيقُ: أن الأحداث المذكورة ليست في الحقيقة عِلَلاً مؤثرةً في المنع من الدخول في الصلاة، وإنّما هي مُعَرِّفات للمنع؛ ولهذا جاز اجتماع أحداث متعدّدةٍ مع عدمِ جواز اجتماعِ العِللِ التامة على المعلول الشخصي. ولما كان المانع من الدخول في الصلاة المعبر عنه بالحدث أمراً واحداً، وكان كلّ واحدٍ من الأحداث المذكورة معرّفاً لحصوله، كان نيّة رَفْعِ كلّ واحدٍ منها في قُوَّةِ رَفع المانع من الدخول في العبادة المشروطة برفعه، فالمنويُّ - في الحقيقة - ليس إلّا رَفْعَ المانع المدلول عليه بهذه الأحداث، وهو أمرٌ واحدٌ له مُعَرِّفات متعدّدةُ؛ ومِنْ ثَمَّ لو نَوى رَفْعَ حَدَثٍ معيَّنِ وعَدَمَ رفع غيره لَمْ يرتفع منها شيء، وذلك لأنّ المُرْتَفِعَ ليس إلا المانع وهو أمرٌ واحد - كما ذكرناه - مدلول عليه بالأحداث المذكورة فنية رفع أحدهما دون الآخرِ في قُوَّةِ نيّة رفع المانع لا رَفْعُه، وهو تَناقُض، فتَبْطُلُ النيّة.

معنی الحدث في عرف الفقهاء

وقد ظَهَرَ من ذلك أنّ الحدثَ يُطْلَقُ في عُرْف الفقهاء على مَعْنيَيْنِ:

أحَدُهما: الأعداد المذكورة من البول والغائط والريح وغيرها.

والثاني: المانعُ مِن الدخول فى الصلاة، وهوأمرٌ معنويٌّ تكون هذه الأمور دليلاً على حصوله، وتَعَلَّقُهُ بِبَدَنِ المكلّف يَرْتَفِعُ بِغَسْلِ أعضائه المذكورة ومَسْحِها.

وأنّ المُرْتَفِعَ بالوضوء وغيره ليس إلّا المعنى الثاني دون الأوّل، وإطلاق الحَدَثِ

ص: 110


1- انظر الخلاف، ج 1، ص 222، المسألة 191؛ والمبسوط، ج 1، ص 39؛ وتذكرة الفقهاء، ج 1، ص 144، المسألة 39؛ ومنتهى المطلب، ج 2، ص 20؛ وذكرى الشيعة، ج 2، ص 27 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6)؛ ومدارك الأحكام، ج 1، ص 194.

على الأوّل - في الحقيقة - بطريق المجاز لا الحقيقة، تسمية للسبب باسم المسبب.

ويُمكنُ أنْ يُقالَ أيضاً - على تقدير كونها معرّفات: إنّه يجوز كَوْنُ كلّ واحدٍ من الأحداث المذكورة معرفاً لمانع آخَرَ غير الأوّل - وإن تماثلا - واسم المعرف لا ينافي التعدُّد؛ فإنّ المراد به أنّه ليس مؤثّراً بنفسه ومُحْدِثاً للمنع، بَلْ معرفاً بأنّ اللّه تعالى أحْدَثَ بِبَدَنِ المكلّف أثراً يَمْنَعُ من الدخول في الصلاة لا يَرْتَفِعُ إلا بالطهارة، فكما يجوز أن يقال في الحدث الأوّل: إنّه عَرَفَ بوقوع ذلك المعنى المانع وليس هو المؤثر، كذلك يجوز أن يُقال فيما بعده: إنّه أحْدَثَ التعريف بمانع ثانٍ وثالث وهَلُمَّ جَرّاً.

غاية ما في الباب أنّ هذه الموانع قد تتداخل الطهاراتُ الرافعة لها، ويُكتفى بطهارة واحدة - (كما يُكتفى بوضوء واحد عند اجتماع أحداث متعدّدةٍ - وقد لا يُكتفى كما إذا اختلفت الموانع قوَّةً وضَعْفاً على بعض الوجوه. ومِنْ ثَمَّ اختلف الفقهاء في تَداخُلِ الأغْسالِ عند اجتماع الأحداث(1)، وهو يَدُلُّكَ على أنه لا منافاة بين كون الحدث مُعَرِّفاً، وبين الحكم بتعدد الأحداث.

وإِذا تَقَرَّرَ ذلك فنقول في الحدث المفروض الذي هو موضِعُ النزاع وهو الطارئ: إنْ قلنا: إنّ له تأثيراً - كما حقّقناه آخراً - فواضح ؛ وإن قلنا: لا تأثير له في المنع نقول: إنّ المكلّف في زمان ذلك الحدث وبَعْدَه بلا فَصْلِ ممنوع من الدخول في الصلاة، محكوم عليه بالحدث، سواء كان الحَدَثُ المذكور سابقاً على الطهارة أم لاحقاً؛ لأنّه إن كان لاحقاً لها فواضح؛ لأنه مستمر إلى الآن، وإن كان سابقاً فالمنع متحقق حالته وبعدها، فكما يُحْتَمَلُ أنْ يُقال: هذا المانع ارْتَفَعَ بالطهارة، لجواز سَبْقِهِ، كذا يُقال: يُحْتَمَلُ تَأْخُرُهُ

ص: 111


1- المبسوط، ج 1، ص 67: السرائر، ج 1، ص 123؛ شرائع الإسلام، ج 1، ص 37؛ المعتبر، ج 1، ص 361؛ منتهى المطلب، ج 2، ص 243: مختلف الشيعة، ج 1، ص 156، المسألتين 107 - 108: ذكرى الشيعة، ج 1، ص 154 - 155 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5) التنقيح الرائع، ج 1، ص 99.

عنها، فهو الآنَ باقٍ، وهذا القَدْرُ مكافِيُّ لِما يُقالُ: إنّ الطهارة المذكورة كما يُحْتَمَلُ كَوْنُها متقدِّمةً على الحدث فلا أَثَرَ لها الآنَ يُحْتَمَلُ تَأْخُرُها عنه، فَيَتَكافَأُ اليقينانِ، ويَشْتَبِه الحالُ، ويتوجّه وجوبُ الطهارة في هذه الصورة أيضاً، كما يجب في الصورة السابقة.

ردّ علی أحد قولي التفصیل

فإن قيل: هذا البَحْتُ آتٍ في صورة سَبْقِ الطهارة أيضاً بأنْ يُقالَ: إنّ الطهارة المفروضة وإن احْتَمَلَتِ التجديد لتكونَ غَيْرَ،رافعة، لكنا نقول: لأنّ المكلّف حالة الطهارة يكون على حالة تباحُ الصلاة معها قطعاً؛ لأنها إنْ كانَتْ متقدمةً على الحدث فالطهارة السابقة باقية، والإباحة بسببها ؛ وإن كانت لاحقةً للحدث فهي رافعةً، فالمكلّف حالتها مستبيح للصلاة جَزْماً، فَتُسْتَصْحَبُ الإباحة كما تُسْتَصْحَبُ حالة الحدث المفروض الذي حُكِمَ فِيهِ بِتَيَقُنِ المنع، فَيَتَكَافَآنِ.

قلنا: هذا أيضاً حَقٌّ، ووُروده متوجّه إلّا أنّه لا يُزيلُ ما نحن بِصَدَدِ إثباتِهِ مِنْ وجوب الطهارة؛ لأنّ المسألةَ حينئذٍ تَصيرُ - كما تقدّم فِي صَدْرِها - من تَيَقُنِ الْأَمْرَيْنِ مع الشكّ في المتأخّر، فتجب الطهارة، وهو معنى تأثير الحدث وإن اخْتَلَفَ الاعتبار.

وبذلك يظهر أنّ القول بوجوب الطهارة مطلقاً أقوى من القول الأوّل من قولي التفصيل.

نَعَمْ، يبقى ما لو تَيَقَّنَ الطهارة والحدث متحدَيْنِ متعاقِبَيْنِ، وعَلِمَ حاله قبل زمانهما على وجه يحكم يقيناً بأحدهما الآن، كما فَرَضَه العلّامة فى القواعد (1) وهذا أمرٌ خارج عن باب الشكّ، كما حقّقناه، يُسْتَغْنى عن استثنائه

والقول الثاني (2) من قولي التفصيل وهو يقابل ما قبله وحاصله: العَمَلُ على ما عَلِمَه من حاله قبلهما إن كان مُتَطَهِّراً فهو الآنَ مُتَطَهِّرُ، وإن كان محدِثاً فهو الآنَ مُحْدِث، وإنْ

ص: 112


1- قواعد الأحكام، ج 1، ص 205.
2- والقول الأوّل قد تقدّم في ص 107 من هذه الرسالة.

لَمْ يَعْلَمْ حاله تَطَهَّر. وهذا القول ذهب إليه العلّامة في المختلف، ووَجَّهَه ب:

أنّه مع عِلْمٍ حاله سابقاً بالطهارة يكون قد تَيَقَّنَ أنَّه نَقَضَ تلك الطهارة، ثمّ تَوَضَّأَ، ولا يمكن أنْ يَتَوَضَّأَ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة، ونَقْصُ الطهارة الثانية مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك، ومع علم حاله بالحدث يكون قدتَيَقَّنَ أنّه قد انْتَقَلَ عنه إلى الطهارة، ثمّ نَقَضَها، والطهارة بعد نقضها مشكوك فيها، والناقض متيقَّن(1).

وهذا التوجيه ينادي على نفسه بالفساد، سيّما بعد الإحاطة بما حقّقناه؛ فإنه إذا كان مُتَطَّهراً سابقاً لا يلزم وقوع طهارة بعدها رافعة للحدث، بل المسألة أعمّ من ذلك، وكذلك إذا كان محدثاً لا يلزم من حدثه اللاحق كَوْنُه ناقضاً للطهارة - كما يقتضيه دليله - وفي الحقيقة مدّعاه وإن كان مطلقاً، لكنّه مخصوص بما دَلَّ عليه دليلُه مِنْ فَرْض المسألة في اشتباه الحال بين طهارةٍ رافعة وحدثِ ناقض، وهذا جزئي مِنْ جزئيات المسألة، والحكم فيه صحيح، مع ملاحظة تخصيصه بما فُهِمَ مِن تعليله، إلّا أنّ إطلاق الحكم غير صحيح؛ إذ لو تَيَقَّنَ طهارة مطلقةً وحدثاً مطلقاً لَمْ تتمّ الدعوى.

وربما وَجَهَهُ بعضُهم مطلقاً بأن:

الطهارة والحدث الطارئان تَعارَضا فَتَساقطا؛ لاستحالة الترجيح من غير مُرَجّح، ورَجَعَ الحكم إلى الحال السابق من طهارة أو حدث. وهذا القول هو الذي أوجب التعبير في المسألة باستصحاب السابق بطريق الحقيقة، واستعاره العلّامة في القواعد(2) والمختلف (3) في الحكم بمثل السابق لا عينه(4).

ص: 113


1- مختلف الشيعة، ج 1، ص 142، المسألة 94؛ جامع المقاصد، ج 1، ص 235.
2- قواعد الأحكام، ج 1، ص 205.
3- مختلف الشيعة، ج 1، ص 142 المسألة 94.
4- انظر ذكرى الشيعة، ج 1، ص 154 - 155 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5) وجامع المقاصد، ج 1، ص 237.

وهذا التوجيه غَلَط كالقَوْل به، وقد أَشَرْنا إلى دفعه سابقاً، وكيف يُحْكَمُ بالحال السابق مع العلم بانتقاضه بما بعده من طهارة أو حدث ؟

فهذا ما اقتضاه الحالُ من تحقيق هذه المسألة مُطلقةً ومفصلةً، وهو مَبْحَثُ دَقيق و تقريرٌ رَشيقٌ لَمْ يَحُمْ حَوْلَ حِماهُ أحدٌ مِمَّنْ سَبَقَ.

وقد ظَهَرَ به قوّةُ القول بوجوب الطهارة مُطلقاً؛ حيث لا يُستفاد من الاتحاد والتعاقب حكم يُخالِفُه، وهو في الحقيقة غَيْرُ منافٍ للإطلاق كما حقّقناه.

وبقي في المسألة بَحْثٌ،آخر نَخْتِمُ به الكلام ونُحَقِّقُ به المقام. وهو أن فَرْضَ أصحاب التفصيل في المسألة اشتباه الحال قَبْلَ الفعلين - أعني الحدث والطهارة - قد يقع فيه التباس بسبب أنه مع الاشتباه يَنْتَقِلُ إلى حالةٍ سابقةٍ زماناً قَبْلَ زمانٍ إلى أن يُحَصِّلَ أنّه تَطَهَّر أو أحْدَتَ إِذْ لا يَتَّفِقُ أنّ الإنسان في جميع عُمره السابق لا يَعْلَمُ هَلْ أَحْدَثَ أمْ لا ؟ أو تَطَهَّرَ أمْ لا ؟ فلابدّ أنْ يَذْكُرَ حالةً مِن الحالتَيْنِ، وأَيَّتُهُما ذَكَرَها وشَكَ في وقوع الأُخرى بَعْدَها، اسْتَصْحَبَ الحالة المتيقنة، إن حدثاً وإن طهارة إجماعاً فهو - في الوقتِ المتصل بالفعلَيْنِ المبحوث عنهما - إمّا محكوم بطهارته شرعاً ولو بالاستصحاب إنْ ذَكَرَ أنه فى الآنات السابقة أوْقَعَ طهارةً وشَكٍّ في الحدث بعدها، أو محكوم بحدثه إنْ ذَكَرَ حَدَثاً سابقاً - وإنْ بَعُدَ - وشَكٍّ في لحوق الطهارة له. فلا يتحقّق فى هذه المسألة اشتباه حال المكلّف قبلهما.

والجواب: أنّ المراد بالاشتباه المفروض هنا اشتباه الحالة يقيناً، بمعنى أنه بعد الزوال مثلاً إذا وَقَعَ منه طهارة وحدثُ لا يَعْلَمُ يقيناً هَلْ كان في الحالة السابقة عليهما بلا فَضْلٍ مُتَطَهِّراً أو مُحْدِثاً ؟ وإنْ كان الاستصحاب يَحْكُمُ له بأحدهما؛ فإنّ ذلك غير كافٍ في هذه المسألة، وذلك لأنه إذا تحقّق أنه عند الصبح مثلاً تَطَهَّرَ ولا يَعْلَمُ هَلْ أحْدَثَ بعد ذلك أم لا ؟ فهو عند الزوالِ الذي هو زمانُ الحدث والطهارة المشتبهين لا يَعْلَمُ هَلْ هو مُتَطَهِّرُ يقيناً ؟ فتكون تلك الطهارة التي وقعت عند الزوال مُجَدَّدَةً

ص: 114

فلا تكون رافعةً؛ أو مُحْدِثُ ؟ فتكون رافعةً، فقد اشْتَبَهَتِ الطهارة الثانيةُ هَلْ هي رافعة أمْ لا ؟ كما في الطهارة الواقعة بعد حالته التي عَلِمَها بالطهارة. وكذا القول في الحدث؛ فإنّه يُحْتَمَلُ أنْ يكون واقعاً بعد الطهارة، وحينئذٍ إن كانت مستمرّةً إلى الزوال فيكون مؤثِّراً في إبطال الطهارة وتأثير الطهارة فيه بعد ذلك غَيْرُ معلوم؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يكون واقعاً بعد حدث، فلا يكون له تأثير في الطهارة فَيَتَكافَاً هو والطهارة في احتمال التأثير في الضد وعدمه، فلا ترجيح، فتجب الطهارة.

وهذا الجواب مبنى على القول بالتفصيل الأوّل المبنى على عدم تأثير الحدث إذا وَقَعَ بعد حَدَثٍ، وإنْ كان قَدْ تقدّم ما فيه.

فإن قيل: إذا كان الاستصحاب الشكّ فى طُروء الضدّ يُفيد بقاء السابق شرعاً فَلِمَ لا يكون حُكْمُه عند الزوالِ بِحُكْمِ المُتَطَهِّر إن كان المتيقن سابقاً هو الطهارة، أو الحَدَثِ إنْ كان(1) المُتَيَقَّنُ هو الحَدَثُ ؟ نَظَراً إلى أنّ الشارع قد حَكَمَ عليه في تلك الحالة بذلك الوصف فيكون كالمُتَيَقَّن للحالة، ويَلْزَمُهُ حُكْمُها؛ إذْ لا فَرْقَ في الشرع بين المُتَطَهِّر يقيناً واستصحاباً كما في نظائره.

قلنا : لما كانت الطهارة - بِحَسَبِ أصْلِها - مُشتركةً بين الرافعة للحدث المُبيحة للصلاة وبَيْنَ غَيْرِها، كان مُطْلقُ الطهارة الواقعة من المكلّف غَيْرَ مستلزم لرفع الحدث؛ لأنه حُكْمٌ مُغاير لها، وهى أعمُّ منه، فما لَم يَتَيَقَّنْ كَوْنَه مُتَطَهِّراً قبل الزمان المشكوك فيه بلا فَضْل، أو مُخدثاً، لا يَتَيَقَّنُ كَوْنَ الطهارة رافعةً أو غَيْرَ رافعةٍ، وإنْ حُكم باستصحاب الحالة السابقة؛ لجواز أنْ يكونَ الحالُ في نَفْس الأمر بخلاف ما حُكِمَ له باستصحابه، فلا تكون الطهارة رافعة فى نَفْسِ الأمر، فَشَكُهُ حينئذٍ يرجع إلى أنّي إن كُنْتُ في نَفْس الأمر في تلك الحالة مُحدثاً، فالطهارة رافعة، وإلّا فليست برافعة، وهذا

ص: 115


1- هكذا في النسخ، ولعلّ الصواب:... فلم لا يكون عند الزوال بحكم المتطهر، إن كان المتيقن سابقاً هو الطهارة، أو المحدث إن كان... .

لا يوجِبُ كَوْنَها رافعةً كما لا يخفى ؛ فإنّ النافع إنما هو الطهارة الرافعة لا مطلق الطهارة، كما قَدْ عَرَفْته سابقاً.

وعلى ما اخترناه لا يَفْتَقِرُ إلى هذا التكلُّف؛ وإنّما حَرَّرْناه تحقيقاً لقولي التفصيل. مع أنّ الشبهة لا تَنْحَسِمُ عنهما بذلك أصلاً، وإنْ تَرَجَّحَ ذلك الجانب بوجه ما.

واللّه تعالى أعلم بحقائق أحكامه، وحَسْبُنا اللّه ونعم الوكيل.

ص: 116

12. الحَدَثُ الأصغرُ أثناء غُسل الجنابة

إشارة:

تحقیق

غلامحسين الدهقان - رضا المختاري

مراجعة

أبو أيمن

ص: 117

ص: 118

بسم اللّه الرحمن الرحيم

في المسألة ثلاثة أقوال

مسألة: إذا أحدث المُجنِبُ في أثناء غُسل الجنابة حدثاً أصغر، فلا نصَّ ظاهراً(1) عن أئمّة الهدى (عَلَيهِم السَّلَامُ) في حُكمِهِ. وقد اختلف الأصحابُ فيه بسبب ذلك على أقوال:

أحدها : - وهو أوّلُ الأقوالِ بحسب الظاهر - وجوب إعادةِ الغُسل من رأس. ذهب إليه الصدوقانِ (2) والشيخ في النهاية (3) والعلّامة جمال الدين(4)، وولده

ص: 119


1- في حاشية الأصل: قيد بقوله ظاهراً للتنبيه على أن بعض الأصحاب ذكر أنّ بالإعادة رواية ذكرها الصدوق في كتاب عرض المجالس عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم نقف عليها. أقول، رواها العاملي في وسائل الشيعة، ج 2، ص 238، الباب 29 من أبواب الجنابة، ح4، عن مدارك الأحكام، ج 1، ص 308، بهذا النصّ: في كتاب عرض المجالس، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا بأس بتبعيض الغُسل تغسل يدك وفرجك ورأسك، وتؤخر غسل جسدك إلى وقت الصلاة، ثم تغسل جسدك إذا أردت ذلك، فإن أحدثت حدثاً من بول أو غائط أو ريح أو مني بعدما غسلت رأسك من قبل أن تغسل جسدك فأعد الغُسل من أوّله». وقال العلّامة التستري في النجعة، ج 1، ص 234 بعد نقل الرواية عن المدارك وبعينه عبّر عليّ بن بابويه على ما نقل ابنه في فقيهه في آخر صفة غُسل جنابته، ومثله في الرضوي - الذي قيل: إنه كتاب الشلمغاني - ذكره في أواخر باب غسله. وقيل بصحّة ما فيه إلّا مواضع ليس هذا منها. وأمّا قول الجواهر : إن جمعاً من المتأخّرين قالوا: لم نقف على الخبر في عرض المجالس، فالظاهر أنّهم توهّموا بعرض المجالس الأمالي المعروف بالمجالس وعرض المجالس غير المجالس ذلك.
2- حكاه عن عليّ بن بابويه ولده في الفقيه، ج 1، ص88؛ وقال به في الهداية، ص 96.
3- النهاية، ص 22.
4- مختلف الشيعة، ج 1، ص 176، المسألة 123؛ منتهى المطلب، ج 2، ص 254: نهاية الإحكام، ج 1، ص 114؛ تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 246، المسألة 74: قواعد الأحكام، ج 1، ص 210؛ إرشاد الأذهان، ج 1، ص 226.

فخر المحقّقين (1) والشهيد(2) وأكثر المتأخّرين(3).

وثانيها: عدم البطلان به بل عدم تأثيره أصلاً فيُتِمُّ الغُسل ولا شيء عليه. ذهب إليه القاضي ابنُ البرّاج(4)، وابن إدريس(5)، ونَصَرَه مِن المتأخّرين المحقّق الشيخ علي (رحمه اللّه)(6).

وثالثها عدم البطلان به ويَكفي إتمامه لكن يجب عليه الوضوء لهذا الحدثِ الطارئ. ذهب إليه السيّد المرتضى (7) من المتقدّمين، والمحقّق أبو القاسم(8) وبعض المتأخّرين(9).

أدلّة الأقوال الثلاثة

حجّة الأوّل أمورٌ :

أ: أنّ الحدث الأصغر سبب تام في إيجاب الوضوء، كما أن الجنابة سببٌ تامٌّ في إيجابِ الغُسلِ، لكن إذا اجتمعا دخل الأصغرُ تحت الأكبر، فإذا وقع الأصغر في أثناء الغسل وقع وهو جنب؛ إذ لا تَرتَفِعُ الجَنابةُ إلّا بتمامِ الغُسل فلابدّ له من رافع، وهو إما الوضوء أو الغُسل، لكنَّ الوضوء ممتنع مع غُسل الجنابة بالنصّ (10)

ص: 120


1- إيضاح الفوائد، ج 1، ص 48 - 49.
2- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 16؛ البيان، ص 53: اللمعة الدمشقية، ص 12 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9، 12، 13).
3- منهم: يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 40 وابن فهد في المقتصر، ص 50؛ والفاضل المقداد في التنقيح الرائع، ج 1، ص 98.
4- جواهر الفقه، ص 12 - 13، المسألة 22.
5- السرائر، ج 1، ص 119.
6- جامع المقاصد، ج 1، ص 276: الرسالة الجعفرية، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 90؛ شرح الألفيّة ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 3، ص 203.
7- حكاه عنه المحقّق في المعتبر، ج 1، ص 196؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 176، المسألة 123.
8- المعتبر، ج 1، ص 196؛ شرائع الإسلام، ج 1، ص 20؛ المختصر النافع، ص 33.
9- كالفاضل الآبي في كشف الرموز، ج 1، ص 73.
10- الكافي، ج 3، ص 45، باب صفة الغسل والوضوء قبله وبعده...، ح 12 - 13؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 139 - 140، ح 389 - 392؛ الاستبصار، ج 1، ص 125 - 126، ح 426 - 428.

والإجماع(1)، فتجب إعادةُ الغُسلِ؛ لأنّ الباقي من الغُسلِ جزء الرافع لا الرافع، وما مضى مِن الغُسلِ قبل طُروء الحدثِ لا يُعقل تأثيره في رفع الحدث الطارئ.

ب: أنّ الحدث لو وقع بعد تمام الغُسلِ نقضه - أي أبطل تأثيره في إباحة الصلاةِ - فلأبعاضِهِ أولى، فإذا انْتَقَضَ ما فعله بالنسبة إلى الإباحة وجب عليه إعادةُ الغُسلِ؛ لأنّه جنب حيث لم يَرتَفِعْ حكمُ جَنابتِهِ بغَسل بعض أعضائه، ولا أثر للحدث الأصغر مع الأكبر.

ج: أنّ الحدث يمتنع خُلوّه عن أثر مع تأثيره بعد الكمال، فأثره إن كان الوضوء اندفَعَ بالإجماع والأخبار المطلقة على امتناع الوضوء مع غُسل الجنابة(2) فلم يبقَ إِلَّا إعادةُ الغُسل؛ إذ الأثر المُبِيحُ هنا منحصر فيهما.

وحجة الثاني أُمور:

أ: أنّ الحدث الأصغر لا يوجب الغسل إجماعاً(3)، فلا معنى لإيجاب الإعادة، والوضوء مُنْتَفٍ مع غُسل الجنابة إجماعاً؛ فلا يُمكن المصير إليه فلم يبقَ إلّا إكماله بغير وضوء.

ب: أنّ الحدث الأصغر لا حكم له مع الأكبر ولا تأثير، والغُسلُ لا يُرفَعُ الحدثين ابتداءً، ولا يُبيحُ منهما كذلك، وإلَّا لَوَجَبَ نيّتهما مِن أوّلِ الغُسل، ولم يُكتفَ بنية أحدهما عن الآخر؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «وإنّما لكل امرئ ما نوى»(4)، وهو باطل بغير خلافٍ، وإنما المرتفع

ص: 121


1- الخلاف، ج 1، ص 131، المسألة 74؛ تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 244، المسألة 73؛ منتهى المطلب، ج 2، ص 237.
2- تقدّم تخريجها آنفاً.
3- كما في السرائر، ج 1، ص 119.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 83، ح 218: وج 4، ص 186، ح 519؛ صحيح البخاري، ج 1، ص 3، ح 1: صحيح مسلم، ج 3، ص 1515 - 1516، ح 1907/155؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1413، ح 4227؛ سنن الدارقطني ج 1، ص 136، ح 1/127؛ سنن أبي داود، ج 2، ص 262، ح 2201: الجامع الصحيح، ج 4، ص 179 – 180، ح 1647؛ سنن النسائي، ج 6، ص 158 - 159، ح 3434؛ وانظر غاية المراد، ج 1، ص 27 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).

بالغُسل هو الحدث الأكبر المنوي؛ ورفعه يقتضي رفع الأصغر على طريق الاستتباع، وحينئذٍ فلا يكون الأصغرُ مُبْطِلاً؛ لصلاحيّة تأثيرِ البعض في الإباحة منه لانتفاء الصلاحيّةِ حينئذٍ أصلاً ورأساً.

ج: أصالة البراءة من وجوب الإعادة والوضوء كذلك.

د: قوله تعالى: «وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ»(1)، والنهى للتحريم.

ه: الاستصحابُ ؛ فإنّ الصحّة معلومة قبل تخلّل الحدثِ فكذا بعده؛ لانتفاء ما يدّلُ على الإبطال.

و: وجوبُ الإعادة في غُسلِ الجَنابةِ مع العدم في غيره مما لا يجتمعان، والثاني ثابت فينتفي الأوّل: بيان التنافي أن القائلين بوجوب إعادةِ الغُسلِ بتخلل الحدثِ لم يُفَرِّقوا بينَ الجنابة وغيرها؛ وأمّا ثبوت الثاني فلانتفاء المقتضي للإعادة في غير الجنابة؛ لأنّ الحدث يقارنه ويبقى بعده؛ إذ لا يَرتَفِعُ به، فلا تَنافي بينهما بحال.

حجّه الثالث: أن الحدث الأصغر موجب للوضوء وليس موجباً للغسل ولا لبعضه، فيَسْقُطُ وجوبُ الإعادة، ولا يسقط حكم الحدثِ بما بقي من الغُسل، فيجب له الوضوء.

وجملة الأمر أنّ الأصل فى الحدثِ - سواء كان أصغر أم أكبر - أنْ يُفيد المنعَ مِن الصلاة إلى أن تحصل بعده طهارةٌ مُبِيحةٌ أو رافعةً، فما لم يحصل ذلك يبقى الحدث على حكم المنع وتداخُلُ الأسباب عند اجتماعها متماثلة، أو دخول الأضعف تحت الأقوى - كما في الحدث الأصغرِ المجامع للجنابة قبل الغُسلِ - لا يُخرجها عن أصل السببية والمانعيّة في غير مورد الاجتماع الثابت بالنصّ والإجماع، فما وقع من الحدث

ص: 122


1- محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) (47): 33.

في هذه الصورة من جملة الأحداث التي قد نصَّ الشارع على كونه سبباً لوجوب الطهارة، فيجب له الوضوء؛ إذ لم يبقَ غسل كامل حتّى يدخل معه، كما لو تقدّم، وإذا كان هذا الحدثُ لا يَزالُ إلّا بالغُسل أو الوضوء، فلو وجبت الإعادة لزِمَ كونه من موجبات الغُسل وليس كذلك، أو اكتفى بالإكمال لزم ارتفاع الحدث الأصغر ببعض الغُسل، وهو منفي قطعاً؛ إذ رافعه منحصر في الوضوء، أو الغُسل التامين. ويلزمُ أيضاً أنه لو طرأ قبل جزء لا يتجزأ من الجانب الأيسر، أنْ يكفي غسلُ ذلك الجزء عن الوضوء والغسل، وهو باطل، وكذا يلزمُ القائل بالإعادة وجوبُ الغُسل مع بقاء جزء من الجانب.

والذي ظَهَرَ بعد تحرير الحال أن قول السيّد سيد الأقوال(1).

والجواب عن حجج القَوْلَيْنِ:

مناقشة أدلة القول الأوّل

قوله فى الأوّلِ(2): «إنّ الحدث الأصغر سبب تام فى إيجاب الوضوء...» إلى آخره.

قلنا: مسلّم، ويحتاج حينئذٍ إلى رافع وهو الوضوء؛ لعدم اجتماعه مع تمام غُسل الجنابة.

قوله: «الوضوء ممتنع مع غُسل الجنابة بالنصّ والإجماع».

قلنا: امتناعه معه بهما إنما هو مع اجتماع موجبِ الوضوء وموجبِ الغُسل قبل الشروع في الغُسل، أمّا مع تقدّم بعض الغُسلِ على الحدث الأصغر فلا، وكيف يكون موضع الإجماع وهو عين النزاع، وقد خالف فيه من المتقدّمين مثلُ المرتضى ومن المتأخّرين مثل المحقّق ؟! (3)

فإن قلت: هما معلوما الأصل والنسب فلا يقدحان فيه.

ص: 123


1- تقدّم قوله ومصدره في ص 120، الهامش 7.
2- يعني في الدليل الأوّل لأوّل الأقوال.
3- تقدّم تخريجهما في ص 120، الهامش 7 و 8.

قلنا: وكذلك القائل بكلّ من القولين الآخَرَينِ معلومُ الأصل والنسب فلا يقدح في الإجماع على خلافه، فيُمكنُ دعوى الإجماع في مقابلهما.

فإن قلت: لم يدع أحد الإجماع في هذا الجانب بخلافه هناك، فيكون ذلك هو المرجّح.

قلنا : علّة الإجماع مشتركة من الجانبين، وحيث لم يُؤثر في أحدهما لا يُؤثر في الآخَرِ.

والتحقيق أنّ النصّ والإجماع إنما وقعا على الوجه المتقدّم وهو غير المتنازع النصّ فروى ابن أبي عُمَيرٍ في الصحيح عن رجلٍ عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كلّ غُسل قبله وضوءٌ إِلَّا غُسل الجنابة»(1).

وروى محمّد بن مسلم في الصحيح عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الغُسلُ يُجزئ عن الوضوء، وأيُّ وضوءٍ أطْهَرُ من الغُسلِ ؟»(2).

وفي الحسن عن حمّادِ بنِ عثمان، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «في كلّ غُسل وضوء إلّا الجنابة»(3).

وباقي الأحاديث نحو ذلك. وقد دلّت على أنّ غُسل الجنابة يُجزئ عن الوضوء، بمعنى أنه يرفع حدث الجنابة وحدَهُ إنْ لم يكن هناك حدث أصغرُ، ويرفَعُهما إنْ صاحَبَ الجَنابةَ حدث أصغرُ. وأمّا إذا عَرَضَ الحدث الأصغر في أثناء الغُسلِ فما بقي منه لا يُسمّى غُسلاً حتّى يُجزئ عن الوضوء، والمتقدّم منه لا يُعْقَلُ تأثيره في رفع الحدثِ المتأخّر عنه.

فإن قلت: وهو حين الحدث الأصغر محدث: إذ لا تَرْتَفِعُ الجَنابة إلا بتمام الغُسل.

ص: 124


1- الكافي، ج 3، ص 45، باب صفة الغسل والوضوء قبله وبعده...، ح 13؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 139، ح 391؛ الاستبصار، ج 1، ص 126، ح 428.
2- الكافي، ج 3، ص 45، باب صفة الغُسل والوضوء قبله وبعده، ح 13؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 139، ح 390؛ الاستبصار، ج 1، ص 126، ح 427.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 143، ح 403.

فقد اجتَمَعَ الحدث الأكبر والأصغرُ معاً فيتداخلانِ.

قلتُ: المعقولُ مِن النصّ والفتوى أنّ المتداخِلَ إنّما هو الطهارات التي هي مسبّباتٌ عن الأحداث لا نفس الأسباب. وقد صُرِّحَ به في صحيح زرارة عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «إذا اجتمعت للّه عليك حقوق أجزاك غُسل واحد عنها - قال: - وكذلك المرأةُ يُجزئها غُسل واحدٌ لجَنابَتِها وإحرامِها وجمعتها، وغُسلها من حَيْضها وعيدها»(1).

وحينئذٍ فإنّما تتداخل الطهارتان هنا، أعنى الوضوء والغُسل بأن يدخل الأصغر تحت الأكبر إذا اجتمعا معاً في حالةٍ، كما أنّ الأغسال المتعددة والوضوءاتِ المتعدّدة - بتعدّدِ أسبابها - إنّما تتداخل مع اجتماعها، أمّا لوطرأ سببُ أحدها بعد الشروع في الآخر لم يتداخلا، ووجب للطارئ موجِبُه من وضوءٍ أو غُسلِ، فهنا كان الوضوء داخلاً في الغُسل، فلمّا تجدّد موجِبُه في أثناء الغُسل لم يدخل الوضوء تحت باقي الغُسل؛ لأنّ بعض الغُسل ليس بغُسل.

وأما الإجماع فعلى تقدير تسليمه إنّما دلّ على أن الوضوء لا يجتمعُ مع غُسل الجنابة بالمعنى المتقدم، وهو أنه لا يتوقّف رفعُ الجَنابة على الوضوء مع الغُسل، ولا رفع الحدث الأصغر السابق على الغُسل على الوضوء، بل يكفى فى رفعهما الغُسلُ، وهذا كلّه خارجٌ عن موضع النزاع ومحل الخلاف فحَيثُ لم يتحقّق هنا إجماع على عدم الوضوء، وكان الحدثُ الطارئُ إنّما يوجب الوضوءَ فلا مانع من القول بوجوبه، حتّى لو فُرِضَ أنّه أرادَ العود إلى أوّلِ الغُسلِ لِيُدخِلَ تحته الوضوء لم يكن ذلك كافياً عن الوضوء أيضاً؛ لأنّ الأجزاء السابقةَ مِن الغُسل قد خرجَتْ عن الوجوب، فإعادتها ليس على وجه الوجوب والتداخُلُ إنَّما يتحقّق فى الغُسل الواجب أو ما يقوم مقامه وهذه الإعادة لا مَدْخلَ لها في الواجب ولا في القيام مقامه.

ص: 125


1- الكافي، ج 3، ص 41، باب ما يُجزئ الغُسل منه إذا اجتمع، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 107، ح 279.

قوله في الثاني (1): «إنّ الحدث لو وقع بعد تمام الغسل نَقَضَهُ...» إلى آخره.

قلنا: نَقْضُه للغُسلِ ممنوع؛ إذ لو نَقَضَهُ لأوجَبَ الغُسل وهو باطل إجماعاً؛ لأنّ الناقض والموجِبَ متساويانِ في غير غُسلِ الجَنابةِ بالنسبة إلى الوضوء، إمّا مطلقاً أو مع وجوب الغاية، بناءً على وجوب الطهارة لغيرها أو لنفسها في بعض الموارد، وإنّما أبْطَلَ الحدث الطارئ استمرار الإباحة بالنسبة إلى الحدث الأصغر؛ لأنّ نواقض الصغرى لا تكون نواقض الكبرى اتّفاقاً، واللازم حينئذٍ وجوب الوضوء خاصةً لا إعادة الغُسل.

وأُجيب(2) أيضاً بمنع أولوية النقض في الأبعاض؛ للفرق بين الحالين؛ إذ بعد تمام الغُسل قد ارْتَفَعَ،الحدث، وأبيحتِ العبادة، فأمكن طروء حكم الحدث، بخلاف ما قبله؛ لأنّ الحدث لا يرتفع إلّا بتمام الغُسل، فعند الإتمام يرتَفِعُ الحدث كلّه.

وفيه: أنّ الأحداث المعدودة تؤثر المنع، سواءٌ أوقعت بعد الطهارة وتحقّق الإباحةِ أم قبلها، وإن لزم منه اجتماع الموجبات؛ لأّنها معرّفات شرعيّةً لا عِلل عقليّة فلا يَضُر اجتماعها، ويُنَبِّه على ظهور تأثيرها - وإن تعاقبَتْ - أنه لو نوى رفع الحدثِ الأخير في نيّة الطهارة كفى وارتَفَعَ الجميع، ولولا أنّ للآخِرِ أثراً في المنع لم تكن نيّته موجِبةً للرفع. وكذا القولُ لو نوى رفع المتوسط. فقد ظَهَرَ أنّ للحَدَثِ تأثيراً في المنع سواء أوقَعَ بعد الطهارة أم قبلها، فيوجب عند وقوعه موجَبَه ما لم يدخُل في غيره، كما في دخول الوضوء في غُسل الجنابة لو اجتمعا، وليس هذا منه.

قوله: «فإذا انْتَقَضَ ما فعله [بالنسبة إلى الإباحة وجب عليه إعادة الغُسل».

هذا واضح المنع ومقتض لكون الحدث الأصغر - بإبطاله استمرار الإباحة الناشئة

ص: 126


1- يعني في الدليل الثاني لأوّل الأقوال.
2- المجيب هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد، ج 1، ص 275.

مِن الغُسل - موجِباً لإبطالِ الغُسل وهو ظاهرُ البطلان، وإنّما أحْدَثَ منعاً جديداً من الدخول فى الصلاة يتوقّف رفعُه على الوضوء، لا إبطال الأوّل.

قوله: «ولا أثر للحدث الأصغر مع الأكبر».

قلنا: بل الأصلُ في هذه الأسباب أن توجب الطهارة على وجهها، سواء أتعدّدت أم اتحدث؛ لأنّ السببيَّةَ ثابتةٌ لكلِّ واحدٍ منها بالنصّ والإجماع، وتداخلها مع اتّفاقها، أو دخولُ الأصغر تحت الأكبر -كما في الجنابة مع فرض الاجتماع - لا يوجب سقوط ما ثبت لها من السببية ودلّ عليه الدليل. وقد عرفت أن التداخل إنّما يتحقّق ثَبَتَ بين الوضوء والغُسل هنا عند الاجتماع لا بين الأحداث، فلا يلزم من وجود الأحداث تداخلها.

قوله في الثالث (1): «إنّ الحدث يمتنع خلوُّه عن أثر...» إلى آخره.

قلنا: مسلّم، لكن أثره الوضوء وهو غير ممتنع هنا، كما تقدم؛ والتقريب ما سبق في جواب الأوّل، بل مَرجع الدليلين إلى شيءٍ واحدٍ وإن تغايرت العبارة وتحرير الأوّل بزيادة.

مناقشة أدلة القول الثاني

قوله في دليل القول الثاني (2): «إنّ الحدث الأصغر لا يُوجِبُ الغُسل إجماعاً، فلا معنى لإيجاب الإعادة..» إلى آخره.

هذا الدليل في غاية الجَوْدة، وهو كما يصلَحُ للاكتفاء بالإكمال، كذلك يصلح لإيجاب الوضوء معه لاشتراكهما في عدم بطلان السابق وبطلان الوضوء بعده، وقد عرفت جوابه.

وأجاب عنه فى المختلف بأنّ إيجاب الإعادة ليس باعتبار الحدث الأصغر بل

ص: 127


1- يعني في الدليل الثالث لأوّل الأقوال.
2- يعني الدليل الأوّل من أدلّة القول الثاني.

بحكم الجنابة الباقي قبل كمال الغسل(1). ولا يخفى ضعفُ هذا الجواب بل فساده؛ لأنّ حكم الجنابة لم يتجدّد بتخلّل الحدث الأصغر، بل حُكمُها الذي كان قبل الغُسل باقٍ إلى إتمامِهِ، وإنّما المتجدد هو الأصغرُ، فكيف يجبُ به الغُسلُ ؟ واللازم من حكمِ الجَنابةِ السابقة الاكتفاء بإتمام الغُسلِ، ومن حكم الحدث الطارئ وجوب الوضوء.

قوله في الثاني(2): «إنّ الحدث الأصغر لا حكم له مع الأكبر ولا تأثير، والغُسل لا يرفع الحدثين ابتداء...» إلى آخره.

قلنا: لمّا دلّ الدليل وانعقد الإجماع على أن الأحداث المذكورة سببٌ في وجوبِ الطهارة، ثَبَتَ لها الحكمُ، سواء تعدّدت أم اتحدث والتداخل مع اتّفاقها أو إجتماع الأكبر والأصغر بالنسبة إلى غُسل الجنابة، لا لعدم تأثير الأصغر أو الثاني بل لتداخل الطهاراتِ أو دخول الوضوء في الغُسل، وهذا الحكمُ الثابت في بعض المواردِ على خلاف الأصل لا يوجب سقوط ما ثبت لها من السببية ودَلَّ عليه الدليل وانْعَقَدَ عليه الإجماع. فالأصل فيها أنْ يكونَ كلّ واحدٍ منها سبباً تاماً في مسبَّبِهِ، ولا معارِضَ لذلك في غُسل الجنابة إلا تخيل أن الاكتفاء بالغُسلِ لو اجتمع الأكبر والأصغر يقتضي عدم تأثير الأصغر. ولا حقيقة لهذا الخيال؛ لأنّ التداخلَ لمّا ثبت للمتساويين قوّةً وضعفاً - كما في اجتماعِ أحداتٍ كثيرة توجب الوضوء اكتفي بوضوء واحدٍ باعتبار ورود النصّ فيه - لم يَبْعُد حينئذٍ دخول الأضعفِ تحت الأقوى، حيث يَرِدُ به الشرع أيضاً كما في غُسل الجنابة على تقدير مجامعته للوضوء بمصاحبة الحدث الأصغر. وتوهّم كون الحكم ثابتاً قبل ورود الحدثِ الثاني ولم يتغيّر تبيّن فساده بما لو نوى رفع الحدث الثاني: فإنّ الحدث يرتفع، ولو نوى رَفَعَ حدث غير واقع لم يرتفع، فدل ذلك على أن

ص: 128


1- مختلف الشيعة، ج 1، ص 177، المسألة 123.
2- يعني الدليل الثاني من أدلّة القول الثاني.

لكلِّ واحدٍ من الأحداث المتعاقبة تأثيراً في المنع ولو تداخلت مسبباتها، لكن هذه النيّة لا يظهر أثرها في مصاحبة الجنابة للحدث الأصغر؛ بسبب أن نيّة رفع الأصغرِ إِنّما تُصاحِبُ الوضوء ولا وضوءَ هنا؛ لدخوله في الغُسل، والغُسل لا مدخل لنيّة الأصغر فيه. وتبيَّنَ لك ظهورُ أثره فيما لو تقدّم الحَدَث الأصغر على الجنابة؛ فإنّه أثر المنع وأوجب الوضوة قطعاً، فلمّا طرأتِ الجَنابةُ لم يَزَلْ ذلك المنع بل لا دليل على زواله بغير طهارة، وإنّما دخل الوضوء في الغُسل اللاحق، وارتفع الحدثان معاً بالغُسل، وحينئذٍ فإذا طرأ الأصغرُ في أثناء الغُسلِ تحقّق تأثيره، ولا غُسل بعده يدخُل وضوؤه معه بل بعض الغُسل، فلا يزول الأصغر ويرتفع إلّا بالوضوء.

قوله: «وإلّا لَوَجب نيتهما ابتداءً ولم يُكتف بنيّة أحدهما عن الآخر؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): وإنّما لكلّ امرئ ما نوى(1)...» إلى آخره.

قلنا: نمنع لزوم ذلك؛ فإنّ الأحداث المجتمعة حيثُ يُحكم بتداخلها أو تداخل مزيلها، لا يجب معه نيّتها أجمع إجماعاً(2)، بل تجوز نيّة القدر المشترك بينها وهو الرفع أو الإباحة، ونيّة رفع أحدها إذا لم ينفِ الباقي، ومع نفيه على قول، وهذا حكم يَعْتَرِفُ به الجميع ومنهم الخصم هنا، وما احتجّ به هنا لا يقول به هناك، إما لحديث إذا اجتَمَعَتْ عليك حقوق أجزأك...» إلى آخره(3)، وإمّا لأنّ رفع أحدها يقتضي رفعَ القدرِ المشترك بينها وهو المنع، لتوقّف الخصوصية على رفع الجميع : إذ ليس المراد ارتفاع حقيقة الخارج أو الحاصل بل رفع حكمه وهو شيءٌ واحدٌ تَعَدَّدَتْ أسبابُهُ وتداخَلَتْ مسبَّباته. وإذا كان كذلك فى المتَّفِق فلِمَ لا جاز (4)

ص: 129


1- تقدّم تخريجه في ص 121 الهامش 4.
2- السرائر، ج 1، ص 123.
3- تقدّم تخريجه في ص 125، الهامش 1.
4- هكذا في الأصل.

في المختلف مع نيّة رفع الأكبر والأقوى، أو نيّة الاستباحة المطلقة ؟ وإنّما لم يُكتفَ بنية رفع الأصغر خاصةً على تقدير حصوله مع الأكبر؛ لعدم دخول الأقوى تحت الأضعف، ولهذا حَكَمَ جمعٌ مِن الأصحاب بعدم دخول غُسل الجنابة ونحوها تحت غسل المستحاضة لغير الانقطاع والمتحيّرة(1)، لضعفه باستمرار الحدث مع اشتراكهما في الأكبريّة(2)، بل قيل: إنّ غسل الجنابةِ يُجزئ عن غيره ولا يُجزئ غيره عنه(3)؛ لضعفه بافتقار رفع الحدث مطلقاً إلى مجامعة الوضوء، فليكن هنا كذلك مع ما بين الحدثين من الاختلاف حكماً وقوّةً. وقد ظهر بذلك جواب بقية ما ألحقه بالدليل.

وأمّا الدليل الثالث والرابع والخامس فمشترك بين القولين الآخرين، فلا ينافي مطلوبَنا بل يُحَقِّقه، ويزيد في المطلوب وجود ما يوجب الوضوء.

قوله في السادس: «وجوب الإعادة في غُسل الجنابة مع العدم في غيره ممّا لا يجتمعان - إلى قوله : - إن القائلين بوجوب إعادة الغسل بتخلُّلِ الحدثِ لم يُفَرِّقوا بينَ الجنابة وغيرها».

وفيه منعُ أنّهم لم يُفَرِّقوا، بل جماعةٌ منهم قد صرَّحوا بالفرق وأنّ الإعادة مخصوصة بغُسل الجنابة(4)، بناءً على ما تقدّم من أنّ انتفاء الوضوء مخصوص بغُسل الجنابة وأنّهم إنّما التجؤوا إلى الإعادة لذلك، ولمّا كان الوضوءُ يُصاحِبُ غيره مع عدم سبق الحَدَثِ كانت مصاحَبَتُه له معه أولى فيكفي فيه إتمامه مع الوضوء وإن أوجبوا الإعادة في الجنابة. وممّن صرّح بالفرق العلّامة في النهاية، فإنّه أوجب الإعادة في

ص: 130


1- أي الناسية للعدد والوقت.
2- انظر نهاية الإحكام، ج 1، ص 112.
3- قاله ابن إدريس في السرائر، ج 1، ص 123 - 124.
4- كالشهيد في ذكرى الشيعة، ج 2، ص 161 - 162؛ والبيان، ص 61 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6، 12).

غُسل الجنابة(1)، واكتفى بإتمامه والوضوء بعده في غيره(2). وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

وقد ظهر من تضاعيف هذه الأدلّة وأجوبتها ما يرد على دليل القول الثالث، وما يجاب به عنه، فلا تتوقف الإفادة على الإعادة، وقد عُورضَ الإلزام الأخير بمثله؛ فإنّه يلزم الأخير أن مَنْ غَسَلَ مِنْ رأسه جزءاً يسيراً بقدر درهم ثم يبول فإنّه يبول فإنّه يجب عليه الغُسل والوضوء، وهذا الإلزام مشترك بين الأقوال الثلاثة، وهو مجرّد استبعاد لا يُلتفت إليه وإن كان للكلام عليه في الجملة مجال.

وقد تلخّص من ذلك كلّه أنّ العمدة في القول بالإعادة على الإجماع على عدم الوضوء في غُسل الجنابة(3)، مع ثبوت تأثير الحدث كيف وَقَعَ، ومدار القول بالاكتفاء بالإكمال على عدم تأثير الحدث الطارئ على الجنابة. وحيث ثبت أنّه لا إجماع في الأوّل، والتأثير متحقّق في الأحداث وإن تعاقَبَتْ تَعَيَّنَ العمل بالقول الثالث ويليه في القوة الأوّل، وأضعفها القولُ بالإكمال خاصة، وأنّ إعادة الغُسل حينَ الحدث والوضوء بعده أحوط، وإكماله ثمّ إعادته مع الوضوء أولى من الجميع.

واعلم أنّ هذه المسألة اجتهاديّة عديمة النصّ على خصوصها قد اختلفت فيها أنظارُ العلماء فلا حرج على من تَرَجّحَ عنده قول منها. والمعتبر في الاعتماد على أحدها مجرّد رجحان دليله على الباقين لا بلوغه حداً لا يبقى معه إشكال، كما في نظائره من المسائل الفقهيّة الخلافيّة.

ومَنْ حاوَلَ الوصول في هذه الأبواب إلى حدٍ يزول معه اللبْسُ وتسكُنُ إليه النفسُ

ص: 131


1- نهاية الإحكام، ج 1، ص 114.
2- نهاية الإحكام، ج 1، ص 174.
3- الخلاف، ج 1، ص 131، المسألة 74: تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 244، المسألة 73؛ منتهى المطلب، ج 2، ص 237.

بحيث لا يَتَخالَجُها وهم فقد ارتكب شَطَطاً. وما أودعناه في هذه المسألة موجب لرجحان القول الأخير وإن بقى لباب المقال مجالٌ.

بقي في المسألة مباحث:

الحدث الأصغر أثناء غسل الارتماس

الأوّل: هذا البحث كلّه إذا وقع الحدث في أثناء الغُسل المرتّب ليتحقّق له أجزاء يتخلّلها الحدث، فلو اغتسَلَ مُرْتَمِساً فقد لا يأتي فيه ذلك، كما لودخل في الماء دفعةً سريعةً وهو خالٍ من الموانعِ الدافعة لنفوذ الماء إلى ما يجب غسله كالشعر والعُكَنِ(1) في البطن. وقد يأتي فيه ذلك؛ فإنّ المعتبر في الارتماس الدفعة العرفية لا الحقيقية، وهي لا تنافي التراخي القليل الذي لا يُنافيه؛ ومن ثَمَّ أمكن ارتماس ذي الشعر الكثيف ونحوه مع أنّ الماء يصل إلى رأس أنفه قبل باطن شعره قطعاً، وكذلك ورد النصّ بجوازه تحت المطر الغزير(2) مع عدم تحقّق الوحدة الحقيقيّة، فالأثناء للغسل ممكن حينئذٍ فليفرض فيه الحدث ويأتي الخلافُ.

وفي المختلف قيّد المسألة بغُسل الترتيب(3)، وكأنه يريد أن غُسل الترتيب يمكن أنْ يُفرضَ في كلّ فرد من أفراده ذلك، بخلاف الارتماس كما فصّلناه. وأمّا الشهيد (رحمه اللّه) فقد فصّل في الذكرى حكم المرتمس بتفصيل لا يخلو من إشكال فقال:

لو كان الحدث من المُرتمِس فإن قلنا بسقوط الترتيب حكماً فإن وقع بعد ملاقاة الماء جميع البدن أوجب الوضوء لا غير، وإلّا فليس له أثر. وإن قلنا بوجوب

ص: 132


1- العُكَن والأعْكان الأطواء في البطن من السمن لسان العرب ج 13، ص 288، «عكن».
2- الكافي، ج 3، ص 44، باب صفة الغُسل والوضوء قبله وبعده...، ح 7؛ الفقيه، ج 1، ص 20، ح 27؛ تهذیب الأحكام، ج 1، ص 149، ح 424: الاستبصار، ج 1، ص 125، ح 425؛ مسائل علي بن جعفر، ص 209، ح 453.
3- مختلف الشيعة، ج 1، ص 176، المسألة 123.

الترتيب الحُكمي القصدي فهو كالمرتّب. وإن قلنا بحصوله في نفسه وفسّرناه بتفسير الاستبصار(1) أمْكَنَ انسحابُ البحث فيه (2). انتهى.

وفيه نظر من وجوه:

أ: أنّ البحثَ في وقوع الحدث في أثناء الغُسل فقوله: «لو كان الحدث - أي المبحوث عنه - من المرتمس بعد ملاقاة الماء جميع البدن» خروجٌ عن المفروض؛ لأنّه حينئذٍ يكون قد أكمل الغُسل، وإن لم يخرج من الماء : إذ حقيقةُ الغُسل حينئذٍ إصابةُ الماء لجميع البدن دفعةً سواء بقي بعد ذلك في الماء أم خرج منه. والأمر هنا سهلٌ.

ب: قوله «وإلّا فليس له أثر » ليس على إطلاقه بل قد يكون له أثرٌ، كما إذا وقع بعد ملاقاة الماء لبعض البدن وقبل ملاقاة الجميع فينسحب البحث فيه، ولا ينافي ذلك كونُه ارتماساً مع قصر الزمان، كما في تخليل ما يجب تخليله. وقد حققنا القول في ذلك في موضعٍ آخر(3).

ج: قوله: «وإن قلنا: بوجوب الترتيب [الحكمي] القصدي...» إلى آخره - وهو المعنى الذي فهمه العلّامة(4) من الترتيب الحكمي - يقتضي أن ضَمَّ قصدِ الترتيب إلى الارتماس يُغَيّر حالته.

وفيه نظر؛ لأنّ الوحدة المعتبرة فيه - بأي معنىً أُخِذَتْ - لا بد من حصولها، سواءٌ انضم إليها القصد أم لا، فكما يُتصوّر الحدث في أثنائه بالقصد يُتَصَوّر بدونه، وكما ينتفي بدونه ينتفي مع القصد؛ لأنّه لا يوجب زيادة زمانٍ على عدمه، فإنّ المعتبر تحقّق الارتماس على الحالين.

ص: 133


1- سيأتي تفسير الاستبصار.
2- ذكرى الشيعة، ج 2، ص 162 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6).
3- روض الجنان، ج 1، ص 164 - 165 (ضمن الموسوعة، ج 10).
4- مختلف الشيعة، ج 1، ص 176، المسألة 123.

د: قوله: «وإن قلنا بحصوله - أي الترتيب - في نفس الغُسل، وفسّرناه بتفسير الاستبصار - من أنّ معنى الترتيب الحُكمي أنّ المرتمس إذا خرج من الماء حُكِمَ له أولاً بطهارة رأسه، ثمّ جانبه الأيمن، ثمّ جانبه الأيسر، فيكون على هذا التقدير مرتباً (1) - فيمكن انسحابُ البحث فيه».

فيه نحو ما تقدّم، من أنّ حصول هذا الحكم في نفسه لا يقتضي زيادةَ زمانٍ على عدمه، والمعتبر في وقوع الحدث في الأثناء إنما هو اتّساع الفعل بحيث يتحقّق له أوّلٌ وآخِرٌ ووسطٌ؛ ليتحقّق الوقوعُ في أثنائه وهذه المعاني التي ذكرها بأسرها مشترِكةٌ في معنى واحدٍ، فإما أنْ يَثْبُتَ الحكم لجميعها، أو ينتفي في الجميع، والمعتبر ما أسلفناه في أوّل البحث.

الثاني: قد استفيد من خلال الأدلّة الواقعة في المسألة أنّ الكلام إنّما هو في غُسل الجنابة، وهو الذي صَرَّحَ به أكثرُ الجماعة(2)، فلو كان غيره من الأغسال المكمّلة بالوضوء، ففي انسحاب البحث وطَرْدِ الخلاف فيه نظرٌ. وقد تقدّم في بعض أدلّة المسألة ما يقتضي قطعهم بعدمه، وليس بجيّد؛ فإنّ الشهيد (رحمه اللّه) في البيان صرّح بالمساواة بينهما قاطعاً به في باب الجنابة منه(3). والعلّامة (رحمه اللّه) في النهاية قطع بالفرق، وأنّ غير الجنابة لا يبطل بالحدث المتخلّل، بل يوجِبُ الوضوءَ خاصّةً (4). مع حكمه بالإعادة في غُسل الجنابة(5). وفي الذكرى توقّف في

ص: 134


1- الاستبصار، ج 1، ص 125 ذيل الحديث 424.
2- کالشيخ في النهاية، ص 22؛ والمحقّق في المعتبر، ج 1، ص 196؛ والمختصر النافع، ص 33؛ والعلّامة في منتهى المطلب، ج 2، ص 254؛ وتذكرة الفقهاء، ج 1، ص 246 - 247، المسألة 74.
3- البيان، ص 53 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 12).
4- نهاية الإحكام، ج 1، ص 174.
5- نهاية الإحكام، ج 1، ص 114.

الإلحاقِ، وجَعَلَ طَرْدَ الخلافِ ممكناً(1).

والتحقيق أنّ الدليل الأوّل والثالث من أدلّة الإعادة لا يأتيان هنا؛ لأنّ مرجِعَهما إلى أنّ انتفاء وجوبِ الوضوء - الذي هو مقتضى حكم هذا الحدثِ الطارئ - إنّما وقع مِن ظاهر الإجماع على انتفاء الوضوء في غُسل الجنابة، وهذا المعنى منتفٍ هنا؛ لأنّ الوضوء يجامع هذا الأغسال، فينبغي أنْ يَعْمَلَ هذا الحدث عمله وهو إيجاب الوضوء؛ إذا لا مانع منه.

وأمّا الدليل الثاني من أدلته فيمكن سَوْقَهُ هنا بأن يقال: إنّ هذا الحدث لو وقع بعد تمام الغسل نقضه، فلأبعاضه أولى فيجب إعادةُ الغُسل؛ لأنّه ماش للميّت أو حائض أو أُختاها (2)، حيث لم يرتفع الحدث الخاصّ. ولكن قد عرفت ضعف هذا الدليل وأنّ هذا الحدث لم يَنْقُض الغُسل، وإنّما أبطَلَ استمرار الإباحة بالنسبة إلى الحدث الأصغر فيوجب الوضوء ولا مانع منه هنا.

وأمّا أدلّة القول الثاني فأوّلُها لا يأتي هنا أيضاً؛ لا بتنائه على انتفاء الوضوء في غُسل الجنابة، وأمّا الثاني فيمكُن انسحابه بدعوى أنّ الحدث الأصغرَ لا حكم له مع الأكبر ولا تأثير، بناءً على أنّ الغُسل في الجنابة كافٍ، سواءٌ وقع مع الجنابة حدث أصغر أم لا، وكذلك الوضوء مع الغسل في غير الجنابة كافٍ سواء صاحَبَ ذلك الحدث الموجب لهما حدث أصغرُ أيضاً أم لا، فيكون وجوده كعدمه، فإذا وقع لا يؤثّر شيئاً بل يبقى الأمر على ما كان من غسل ووضوء بعده إن لم يكن قدمه، وقد عرفت جوابه. وبقيّة الأدلّة غيرُ ضائرة.

وأما أدلّة القول الثالث فهي موافقة لسائر الأغسال. فقد ظهر أنه يمكن القول في هذا الفرض بكلّ من الأقوال وإن كان القول الثالث أولى بالقوّة هنا.

ص: 135


1- ذكرى الشيعة، ج 2، ص 162 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6).
2- أي المستحاضة والنُفساء.

حدث واحد أکبر أم حدثان أصغر وأکبر؟

ولكن ينشأ الخلافُ هنا على مسألةٍ أُخرى، وهي أن الأحداث الموجبة للوضوء والغُسل هل هي حدث واحدٌ أكبرُ لا يرتفع إلا بالوضوء والغُسل أم حدثان أصغر وأكبرُ، فوجب لذلك الوضوء والغُسل ؟ ثمّ على هذا التقدير هل الوضوء منصرِفٌ إلى الأصغر. والغُسل إلى الأكبر أم هما معاً يَرْفَعانِ الحدثين على سبيل الاشتراك ؟ كلّ من الثلاثة محتمل وربما كان به قائل، وقد نبهوا عليه في مواضعَ:

منها: هذه المسألة.

ومنها: نيّة الوضوء على تقدير تقديمه أو مطلقاً، فقد قيل: إنه ينوي فيه الاستباحة؛ لأنّه ليس برافع للحدث الأكبر، وإنّما الرافع له الغُسل(1). وقيل: يتخيّر فيهما (2).

ومنها: إباحةُ ما يتوقّف على الطهارة الكبرى خاصةً كالصوم، ودخول المساجد، وقراءة العزائم.

والذي قطع به الشهيد في البيان - في مسألة نيّة الوضوء المضموم إلى غُسل الاستحاضة مع تقدّمه (3) - والعلّامة في المختلف نَفْيُ توزيع الوضوء والغسل على الحدثين، وأن كلّ واحدٍ منهما كجزء الطهارة(4). وهو محتملٌ للوجهين الآخرين، وظاهرهما اختيار الحدثين، وأنّ كلّ واحدٍ منهما علة ناقصة لرفعهما. ويظهر من الذكرى اختيار التوزيع(5)، ويؤيّده اتّفاقهم على جواز الصوم من منقطعة الدم إذا اغتسلت وإن لم تتوضاً.

والحق أنه إن ثبت الاتّفاق على صحّة الأفعال المتوقّفة على رفع الأكبر بدون

ص: 136


1- قاله ابنُ إِدريس في السرائر، ج 1، ص 151.
2- قاله المحقّق الكركي في جامع المقاصد، ج 1، ص 328.
3- البيان، ص 61 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 12) بعد حكاية قول ابن إدريس من أنّه إن قدّمت الوضوء نوتِ الاستباحة لا الرفع لبقاء حدثها قال: وهو يعطي توزيع الغسل والوضوء على الأكبر والأصغر، وليس بذلك.
4- مختلف الشيعة، ج 1، ص 208، المسألة 150.
5- ذكرى الشيعة، ج 2، ص 161-162 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6).

الوضوء. فالقول بالتوزيع متعيّنٌ؛ إذ لولاه لم يَتِمَّ هذا الحكم، وإلّا فإثباتُ الحدثين بمجرّد وجوب الطهارتين غير واضح. ولكنا علمْنا يقيناً تحقّق الحدث بالأسباب المذكورة، ووجوب الطهارتَينِ، وارتفاع الحدث بهما، وما زاد على ذلك لا دليل عليه.

ويتفرّع على ذلك القولُ بإجزاء غُسل الجنابة عن غيره، وإجزاء غيره عنه أو عدمه مع اجتماعهما؛ فإنّهم ادَّعَوْا أنْ غُسل الجنابة أقوى من غيره؛ حيث رَفَعَ الحدث من غير انضمام إلى الوضوء، وتَوَقَّفَ غيره في رفعه على انضمام الوضوء، فيمكن أن يقال هنا: إِنَّا إِنْ جعلنا موجِبَ الطهارتين حدثاً واحداً توقف رفعه عليهما، فهو أقوى من الجنابة؛ لأنّ حدث الجنابة يرتفع بالغُسل خاصّةً، وغيره لا يرتفع إلّا بهما. وإن جعلناهما حدثين، ورفعنا الأكبر بالغُسل والأصغر بالوضوء فيُمكن مساواتها للجنابة؛ حيث إنّ الغُسل وحدَه رَفَعَ الأكبر كالجنابة، وكونُ غير الجنابة أقوى لإيجابه حدثين وطهارتين. وإن جعلناهما حدثين لا يرتفعان إلّا بالوضوء والغُسل على سبيل الاشتراك، فغير الجنابة أقوى أيضاً، فإطلاق كونِ غُسل الجنابة أقوى ليس بواضح، وإن كان لإجزائه عنها دليلٌ آخَرُ ليس هذا موضع ذكره.

إذا تقرَّرَ ذلك فنقول:

إن قلنا بتوزيع الوضوء والغسل على الحدثينِ، وصَرْفِ كلّ منهما إلى ما يناسبه، قوي القولُ بالاجتزاء بالوضوء بعد الغُسل بتخلُّل الحدث الأصغر؛ لأنّه يوجب الوضوء ويدخل مع الموجب الآخر لتماثلهما.

وإن قلنا بأنّه حدث واحد يوجب الوضوء والغُسل احتُمِلَ عدم الاجتزاء بالوضوء المتأخّر؛ لأنّه ليس هنا حدث أصغر حتّى يدخُلَ معه هذا الحدث المتخلّل، ويُحْتَمَلُ قوياً الاجتزاء هنا أيضاً؛ لما أسلفناء من أنّ المتداخِلَ إنّما هو الطهارات لا الأحداث،

ص: 137

وهنا قد اجتمع عليه وضوءان: أحدهما بسبب الحدث الأكبر السابق، والآخر بسبب الأصغر اللاحق فيتداخلانِ.

وإن قلنا بأنّهما حدثان لا يرتفعان إلّا بالطهارتين فالوجهان أيضاً من حيث اجتماع الوضوءين، وكون الوضوء الأصلي له مدخل في رفع الأكبر، كما أن للغسل مدخلاً في رفع الأصغر كغُسل الجنابة عند مجامعة الحدث الأصغر، فدخول الحدث اللّاحق في الوضوء غير مناسب؛ لأنّه لا يرفع الحدث الأصغر بانفراده، ولا في الغُسل كذلك، وإذا لم يدخل ووجب له وضوءٌ آخَرُ لزم وجوبُ وضوءين مع غُسل، وهو غير معهودٍ أو غير جائز، كما يظهر من الذكرى(1)، فتعيّنت الإعادة أو نقول: الجزء السابق على الحدث من الغسل قد ارتفعت رافعيّتُه بالنسبة إلى الحدث الأصغر المرتفع به وبالوضوء، وما بقي من الغسل وما معه من الوضوء ليس علّةً تامّةً في الرفع أو الإباحة بالنسبة إلى هذا الحدث، فلابدّ لرفعه من وضوء وغسل تامين فتعينتِ الإعادة فقد ظهر أنّ للقول بالإعادة مطلقاً وجهاً، وإن كان الاكتفاء بالوضوء مطلقاً أقوى والقولُ بعدم تأثير الأصغر مع الأكبر محتمل هنا أيضاً. واللّه أعلم.

الثالث: لو كان الحدث المتخلّل - لغُسل الجنابة الذي هو موضع النزاع، أولمطلق الغُسل على الوجه الآخر - مستمراً كالسَلَسِ والبَطَنِ. فإن قلنا: لا أثر له فالأمر واضح، وحينئذٍ فإنّما يجب الوضوء لما تأخَّرَ منه عن الغُسل خاصّةً لكلِّ صلاةٍ، ويقع الغُسل صحيحاً. وكذا إن قلنا بوجوب الوضوء له فيتوضّأ بعد الغُسل ويصلّي. ولو قلنا ببطلان الغسل من رأس أشكل الحكم هنا، فإنّه يُحْتَمَلُ حينئذٍ أنْ يترك الاغتسال ويَتَيَمَّمَ للصلاة؛ لاستلزام إعادته التسلسل والحَرَج، أو الترجيح من غير مرجّح لو حكم بصحة بعض الأفراد. ويُحْتَمَلُ الاكتفاء بإتمامه هنا والوضوء بعده، ويُغتفر الحدث الواقع خلاله

ص: 138


1- ذكرى الشيعة، ج 2، ص 162 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6).

كما يُغْتَفَر الواقع فى أثناء الوضوء.

هذا بالنسبة إلى الصلاة الأولى، أمّا غيرُها فيُشكل الحكم فيه أيضاً؛ إذ يُحْتَمَلُ أنْ يلزمه الوضوء والغُسلُ للصلاة الأخرى، لأنّ قضيّة الدليل بطلانُ الغُسل الأوّل كما يَبْطُلُ الوضوء لكن اغْتُفِرَ ذلك للصلاة الواحدة، فيجب إعادته للأخرى كما يجب إعادة الوضوء لها وينوي فيهما الاستباحة لا غير.

ويُحْتَمَلُ أنْ يَجْتَزِئ هنا بالوضوء لكلِّ صلاةٍ لا غير إلى أنْ يَحْصُلَ ما يوجِبُ الغُسلَ؛ لتحقّق الاستباحة بالنسبة إلى الحدث الأكبر السابق ولم يحصل بعده ما يوجب الغُسل. ويُشكل بتخلُّل المبطل، وإنّما اغتُفِرَ للحرج في الصلاة الواحدة كما في الوضوء فلا وجه للحكم بصحته مطلقاً. والذي يناسب هذا القول اختصاص صحّة الغُسل بالصلاة الأولى لا غير كالوضوء.

ويَرِدُ على الحكم بوجوب الجمع بينهما لكلِّ صلاةٍ أنّ الغُسل إنْ بَطَلَ فاللازم إعادتُهُ لا غير ودخولُ الوضوء فيه واغتفارُ ما يَتَجَدَّدُ بعد ذلك، كما يُغْتَفَرُ في الوضوء، فالواجب حينئذٍ الغُسل لكلِّ صلاة. وإنْ لم يَبْطُلْ واغْتَفِرَ هذا الحدث بالنسبة إلى الغُسل، وحُكم بوجوب الوضوء له، فلا وجه حينئذٍ لإعادةِ الغُسل؛ لأنّ الموجِبَ لإعادته إنّما هو الحذَرُ من الجمع بينه وبين الوضوء بناءً على أنّ غُسل الجنابة لا وضوءَ معه، فإذا حُكِمَ بوجوب الوضوء زال المحذورُ، فَصحَ الغُسلُ بالنسبة إلى الحَدَثِ الأكبر، وعَمِل الأصغرُ عَمَلَه، فوجب الوضوء لكلِّ صلاةٍ خاصةً، وحينئذٍ فاحتمال وجوب الوضوء والغسل لكلّ صلاةٍ ضعيفٌ.

اختیار المؤلّف

وعلى ما اخْتَرناه هذا البحث كلّه ساقط، والواجب الوضوء لكلِّ صلاةٍ خاصةً، مع احتمال عدم وجوب الوضوء أيضاً على هذا القول تنزيلاً لغُسل الجنابة منزلة الوضوء؛ لأنّ الوضوء داخل فيه فيُنَزَّلُ ما يَتَجَدَّدُ في أثنائه منزلة المتخلّل في أثناء الوضوء فلا يجب له الوضوء ثانياً. وهذا احتمال وجيه، ومثله يأتى فى المتخلّل بين الغُسل

ص: 139

والصلاة على هذا القول وعلى القول بأنّ المتخلّل في أثناء الغُسل لا أثر له؛ فإنّه يُحْتَمَلُ عليهما أنْ لا يجبَ الوضوء للمتجدّد بعد الغُسلِ وقبل الصلاة كالمتجدّد بعد الوضوء؛ لأنّ غُسل الجنابة مُنَزَّل منزلة الوضوء زيادةً بالنسبة إلى الحدث الأصغر، فكما يُكتفى بوضوءٍ واحدٍ لكل صلاةٍ فكذا ما قام مقامه، وحينئذٍ فيكفي الغُسلُ للصلاة الأُولى ثمّ يَتَوَضَّأُ لكلِّ صلاةٍ مِن الباقيات.

ووجه وجوب الوضوء للصلاة الأولى أيضاً أن الأصل في الحدث الأصغر أن يوجِبَ الوضوء لكن تَخَلَّفَ ذلك في الواقع في أثناء الوضوء بعده بالنصّ، فيبقى الباقي. وإلحاق ما يَقُوم مقامه به فيما خالف الأصل قياس لا نقول به فيجب الوضوء لكل صلاةٍ مُضافاً إلى الغُسل.

الرابع: لو وقع الحدث بعد الغُسل وقبل الوضوء المكمل له أمكن طرد الخلاف أيضاً بناءً على القول باتّحاد الحدث، أو بتعدُّده مع اشتراك الطهارتين في رفعهما على الاجتماع - والتقريبُ ما تقدّم - وعدم تأثير الأصغر، وأولى بالاجتزاء بالوضوء هنا. ويظهر من القائلين بإلحاق القسم الثاني بالأوّل عدم الإلحاق هنا. ولو كان قد قَدَّمَ الوضوء فالحَدَثُ اللاحِقُ للغُسل لا أثر له في الإبطال قطعاً لارتفاع الحدث قبله. ولو تَخَلَّلَ الحدث بين الوضوء المتقدّم والغُسل المتأخّر فكتَخَلَّلِه بين الغُسل المتقدّم والوضوء المتأخّر، لكن هنا يَتَخَيَّرُ بين إعادة الوضوء قبل الغُسلِ أو بعده.

الخامس: حيثُ حُكِمَ بوجوب الوضوء للحدثِ المتخلّل للغُسل - سَواءٌ كان غُسل الجنابة أم غيره - تَوَضَّأْ بعده؛ فإنْ كان لم يَتَوَضّاً قبله حيث يُجامِعُه فالأمر بحاله وإلا أعاد الوضوء. ولو أراد الوضوء في أثناء الغُسل صَحَّ أيضاً؛ لعدم اشتراط الموالاة في الغُسل، والنيّة للوضوء بحالها كيف أوقعه على أصحّ القولين. ولو كان غُسل الجنابة فلا إشكال في جواز نيّة رفع الحدثِ بالوضوء المتخلّل في أثنائه أيضاً؛ لأنّه يرفع حدثه

ص: 140

الموجب له. ويأتي على كلام ابن إدريس - في الوضوء المتقدّم على الغُسل أنّه يَنْوي به الاستباحة؛ لعدم ارتفاع الحدث (1)- عدم الجواز هنا أيضاً، لكن لا قائل به هنا؛ لأنّ ابن إدريس ممّن لا يوجب الوضوء هنا (2).

ولم أقف في هذه المسألة على كلامٍ لأحدٍ فينبغي إمعان النظر فيها؛ فإنّ المعيار هو البرهان، واللّه أعلم بأحكامه. والحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 141


1- السرائر، ج 1، ص 151.
2- السرائر، ج 1، ص 119.

ص: 142

القسم الثالث: الصلاة

إشارة:

ويَضُمُّ خَمْسَ رسائل:

(1) النيّة

(2) صلاة الجمعة

(3) الحَثُّ على صلاة الجمعة

(4) خصائصُ يَوْمِ الجمعة

(5) نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار

ص: 143

ص: 144

13. النيّة

إشارة:

تحقيق

عليّ المختاري

مراجعة

أسعد الطيّب

ص: 145

ص: 146

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الأصل في النيّة واعتبارها

اعلم (وفّقك اللّه تعالى وإيَّانا) أن الأصل في النيّة واعتبارها أنّ الأفعال البشريّة الصادرة عن القُوَى النفسانيّة لمّا كانت تقع على وجوه مختلفة واعتباراتٍ متباينة، وكان المقصود الذاتي ليس جميع الوجوه لتباينها، فلابدّ من مائز لوجه المطلوب، وهو النيّة. ألا ترى أنّ ضرب اليتيم - مثلاً - قد يكون واجباً إذا قُصِدَ به التعزير، ومستحبّاً إِذا قُصِدَ به التأديب، وحراماً إذا قُصِدّ به الإهانة ونحو ذلك، وهو فعل واحد بالذات متعدد بالاعتبار؛ مضافاً إلى ذلك ما دَلَّ من النقل على اعتبارها كحديث «إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى»(1) وغيره (2)؛ ولمّا كان مريدُ الصلاة - مثلاً - يُمْكِنُه الاشتغالُ بأفعال كثيرةٍ غيرِ مقصودةٍ للشارع، فلابدّ حينئذٍ مِن قضد المطلوب وهو الصلاة ولمّا كانت واجبةً ومندوبةً، ظهراً وعصراً وغيرهما، مُؤدّاة ومُقَضَاةً؛ فلا بدّ مِنْ مائز لمقصوده من هذه الأنواع. ولمّا كان الفعلُ الصادر عن الفاعل المختار لابد له من غايةٍ وإلا لكان عبثاً، فلابدّ من ملاحظة الغاية المقصودة من الصلاة - مثلاً - المطلوبة للشارع، وهي القُربةُ التي هي الفوز بالرضى والحصولُ بالزُلفى بواسطة نَيْل الثواب، لا

ص: 147


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 83، ح 218: وج 4، ص 186، ح 519؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1413، ح 4227؛ وانظر غاية المراد، ج 1، ص 27، الهامش 3 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
2- انظر وسائل الشيعة، ج 1، ص 49 - 56، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات.

قُرْب الزمان والمكان؛ لكونهما من لوازم الإمكان.

وحاصل ذلك كلّه إحضار ذاتِ الصلاةِ وصفاتها المقصودة بالذات في ذهن مُريد الصلاة، ثمّ القصد إلى إيقاع هذا الفعل المشخّص للتقرب إلى اللّه تعالى. وكذا القولُ في غيرها من العبادات، بل الأمر في غيرها أشهَلُ لقلة المميزات. ولا خصوصيّة في ذلك للفظ مخصوص ولا لوضع معيَّن، بل الاعتبار بقصد مدلول الألفاظ في نفسه.

وجملة الأمر أنّ المراد من النيّة جمعُ الهمة على فعل المقصود، وبَعْثُ النفس وتوجيهها وميلها إلى ما فيه ثواب عاجل وآجل، تلفَّظَ بذلك أو لا.

وهذا كلّه أمر سهل وتكليف هيّن، بل هو أمر مركوز في جبلة العقلاء، بل الأطفال والضعفاء؛ فإنّهم لا يفعلون فعلاً إلّا بعد القصد والداعي وتوجه النفس إليه، ولا يقعُ فعل خالٍ عن نيّة ممّن يَصلُحُ لغرض التكليف عليه، حتّى أنّ السلف الماضين من العلماء، وهم مُعْظَمُ القدماء، ما كانوا يذكرون النيّة في كتبهم الفقهيّة(1)، بل يقولون: «واجبات الوضوء - مثلاً - أوّلُها غَسْلُ الوجه»، وفى الصلاة «أوّلها التكبير».

وهكذا ورد الكتاب الكريم في قوله تعالى: «يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» (2) الآية. وقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في الحديث المشهور عنه: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم»(3).

وفي حديث حمّاد المشهور بين الأعيان المشتمل على تعليم كيفية الصلاة - إلى أن

ص: 148


1- قال الشهيد في ذكرى الشيعة، ج 2، ص 21 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6):... ومن ثُمَّ لم يذكرها قدماء الأصحاب في مصنّفاتهم كالصدوقين... ؛ وانظر النُجعة، ج 1، ص 146 - 148، 402: وج2، ص 235 - 236؛ والأربعون حديثاً، الشيخ البهائي، ص 438 - 454.
2- المائدة (5): 6.
3- الكافي، ج 3، ص 69، باب النوادر (من كتاب الطهارة)، ح 2؛ الفقيه، ج 1، ص 33، ح 68.

قال- : فقام (عَلَيهِ السَّلَامُ) مستقبل القبلة وقال: «اللّه أكبرُ» ثمّ قرأ الحمد الحديث(1).

وهو مع عِظَم قدره واشتماله على أقصى مطالب الصلاة، تنبيه فيه على وظائف مفروضةٍ ومَسنونة، ولم يذكر في النيّة كلاماً، ولا جَعَلَ للاشتغال بها زماناً، وغير ذلك من الأحاديث(2). ولمّا «خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوَةَ» (3) وأداءَ الأحكام، وأغفلوا قواعِدَ الحلال والحرام، وبَعُدُوا عن فهم المطالب الخَفِيّة، وصارت الواضحات منها في عداد الخَفيّة، خاف عليهم علماء عصرهم أنْ يُهْمِلوا بعض الوظائف العمليّة، فَنَبَّهُوهم على اعتبار النيّة، وفَصَّلوا لهم مُجْمَلَها، وأوْضَحوا مُشْكِلَها؛ ومِنْ هنا قال بعضُ الأفاضل - وما أحْسَنَ ما قال :

لو كَلَّفَ اللّه الوضوء أو الصلاة بغير نيّة كان تكليف ما لا يُطاق، وما هذا فرضُهُ فلا وجهَ للتَعَب في تحصيله(4). انتهى كلامه.

وهذا كلامٌ عميقٌ وتقريرٌ رشيقٌ يؤيد ما أسلفناه ويزيد عليه بأنّه لا يمكن للفاعل المختار أن يفعل فعلاً خالياً عن النيّة، فضلاً عن أن يهتم ببيانها؛ ولوكُلِّفَ بأن لا ينوي كان تكليفاً بما لا يُطاق، فكيف إذا كُلَّفَ بنيّةٍ يُسْتَصْعَبُ شأنها ؟!

نعم، قد خَصَّ الشرعُ مطلق النيّة باعتبار مقارنتها لأوّل العبادة زيادةً على النيّة اللُّغَويّة(5). وهذا القدر لا يوجب أمراً عظيماً ولا مشقة وخطباً جسيماً؛ فإتعاب

ص: 149


1- الكافي، ج 3، ص 311 - 312، باب افتتاح الصلاة والحد في التكبير وما يقال عند ذلك، ح 8: الفقيه، ج 1، ص 300 - 301، ح 915؛ تهذيب الأحكام، ج 2، ص 81 - 82، ح 301.
2- انظر الفقيه، ج 1، ص 302 - 304، ح 916.
3- اقتباس من الآية 59 من مريم (19).
4- نقله الشهيد الثاني في المقاصد العلية، ص 229 (ضمن الموسوعة، ج 12) وأيضاً السيّد العاملي في مدارك الأحكام، ج 1، ص 185، ولم نقف على قائله؛ وانظر ذكرى الشيعة، ج 2، ص 21 - 22 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6) : والحدائق الناضرة، ج 8، ص 14.
5- قال المصنّف في رَوْض الجنان، ج 1، ص 76 (ضمن الموسوعة، ج 10): وهي لغة مطلق العزم والإرادة؛ وفي القاموس المحيط، ج 4، ص 400، «نوى»: نَوَى الشيء... قَصَدَه.

النفس بتكرارها وتشويشُ الفكر فى استحضارها ليس إلّا وسواساً شيطانياً وخيالاً فاسداً واهياً.

التحذیر من إغواء الشیطان في النیّة

ويزيد ذلك إيضاحاً أنّ التَعَبَ إذا كان فى فهم الألفاظ الدالّة على متعلَّق النيّة - كما يتفق للبعض - فهي ألفاظ عربية لا تَصِلُ إلى هذا الحدّ من الالتباس، ولا توجب هذا القدر من المراس(1)؛ حتّى أنّه لو قُدِّرَ أنّه جَهِلَ بعض معانيها أمكن زواله بالسؤال عنه قبلَ أَنْ يَسْتَغِلَ بها؛ وإنْ كان في إحضار بعض معانيها في القلب عند أول جزءٍ مِن العبادة فهو أيضاً لا يوجِبُ هذا القدر من الزيادة؛ فإنّه يُقَدِّرُ في نفسه أنه يَقْدِرُ على أنْ يُخْطِرَ بباله بيتاً من البيوتِ المشتملة على أُمورٍ مختلفةٍ متكثرةٍ وأسباب منتشرة، بل يقدِرُ على إحضار مدينة مخصوصةٍ بأوضاعها، ويَسْتَخضِر جملةً من جهاتها وأقطارها، بل يُمكنُ استحضار إقليم بهذه الأوصاف.

وهذا أمرٌ وجداني لا يُنكره مَنْ يَشْتَمِلُ على أدنى إنصاف، بل مِنْ القواعدِ الواضحة المعروفة أنّ القوّة العاقلة أعظمُ اطّلاعاً من القوة الباصرة وأخواتها من الحواس الظاهرة؛ لأنّها إنّما تُدْرك المحسوسات، والقوَّةُ العاقلةُ تَتَصَوَّرُ فتنتَقِشُ فيها صُوَرُ المحسوساتِ والمعقولات؛ فكيف يُسْتَصْعَبُ حينئذٍ استحضار معاني كلمات يسيرةٍ واضحةٍ بالبال، لولا معارَضَةُ الشيطانِ الغَوي المشوّش للفكر والخَيال، وقد روى زرارةُ في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «لا تُعَوِّدوا الخبيثَ مِن أنفسكم نقض الصلاة فتُطْمِعوه؛ فإنّ الشيطان خبيث معتادٌ لِما عُوِّدَ، فَلْيَمْض أحدُكم فى الوهم، ولا يُكْثِرَنَّ نَقْضَ الصلاة؛ فإنَّه إذا فَعَلَ ذلك مرّاتٍ لم يَعُدْ إليه الشكُ - ثمّ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): - إنّما يُريدُ الحَبيتُ أنْ يُطاعَ، فإذا عُصِيَ لم يَعُدْ إلى أحدكم»(2).

ص: 150


1- مارَسَ الشيءَ مراساً وممارسة : عالجه وزاوَلَه. المعجم الوسيط، ص 863، «مرس».
2- الكافي، ج 3، ص 358، باب من شكّ في صلاته كلها ولم يدر زاد أو...، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 2، ص 188، ح 747: الاستبصار، ج 1 ص 374 - 375، ح 1422.

واعلم (وَقَفَك اللّه على الحقائقِ ووَفَّقَكَ لِعُروج مَعارِجها والترقِّي إلى مدارجها) أنّ الصلاة باب عظيمٌ مِنْ أبواب الخير، أكرم اللّه بها عبادَه ووَصَفَها بأوصاف بالغةٍ في الزيادة، وجَعَلَها في كتابه العزيز ناهيةً عن الفحشاء والمنكر، وعلى لسان نبيّه أقرب منازلِ القُرب إليه تعالى: قال تعالى: «إِنَّ الصَّلَوَةَ تَنْهَى عَن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر»(1) وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): أقرب ما يكون العبد إلى اللّه تعالى إذا قام إلى الصلاة»(2).

فلا ينبغي للعاقل أنْ يَجْعَلَ هذه العبادة العظيمة والجواهر الثمينة الناهية عن هذا الأمر المهول المؤدِّية إلى القُرب والقبولِ مَرْتَعاً للشيطان وسبباً للخذلان، ومُوجِبةً للبعد عن الدرجاتِ العليّة، وقد أعِدَّتْ للسعادة الأبديّة.

نَعوذُ باللّه من طاغية (3) الشيطان والرَدى، والضلالة بعد الهدى. وما «أُرِيدُ الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»(4)، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

علّقها العبد الفقير زين الدين بن علي سائلاً ممن كتبتُ لأجله أنْ يذكرني في صالح أوقاته بشيءٍ مِن دعواته.

والحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين.

ص: 151


1- العنكبوت (29): 45.
2- لم أجده بهذا اللفظ، بل روي عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في صحيح مسلم، ج 1، ص 350، ح 482/215: أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد.
3- الطاغية: العظيم الظلم الكثير الطغيان، والتاء للمبالغة. المعجم الوسيط، ص 559، «طغى».
4- الآية 88 مِنْ هود (11).

ص: 152

14.صلاة الجمعة

إشارة:

تحقيق

رضا المختاري - غلام حسين قيصريهها

مراجعة

أسعد الطيّب

ص: 153

ص: 154

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

الحمد للّه الذي شرّفَ يومَ الجمعةِ على سائر الأوقاتِ، وفَضَّلَ صلاتها على جميعِ الصَلَواتِ، وخَصَّها بالحثّ عليها في مُحْكَم الآيات والصلاة على أشرف النفوس الطاهرات، وعلى آله وأصحابه وأزواجه الزاكيات.

وبعد، فهذه جملةٌ تشتمل على بيان حكم صلاة الجمعة في هذا الزمانِ الذي قد مُنِيَ فيه بالبليَّةِ أهل الإيمان، وخَذَلَهم بِبَغْيه وحَسَدِه الشيطانُ، حتّى هَدَمُوا أعظم قواعدِ الدين بالشبهة لا بالبرهان، وها أنا مُحقِّقٌ لموضع الخلاف فيها، ومُرشِد إلى ما هو الحقّ من وجوبها يومئذٍ بالدليل الواضح والبرهان اللائح، لِمَن أخرج رَقَبَتَه مِنْ رِبْقَةِ التقليد للأسلاف، وسلك سبيل الحقّ بالإنصاف وخاف اللّه تعالى في امتثال أمره والوقوفِ،معه، فإنّه أولى مَنْ يُخاف مستمداً من اللّه التوفيق والإلهام للحقِّ فإنّه به حقيقٌ.

اتّفاق علماء الإسلام علی وجوب الجمعة واختلافهم في شروطها

فأقول: اتَّفَقَ علماءُ الإسلام في جميع الأعصار وسائر الأمصار والأقطار على وجوب صلاة الجمعة على الأعيان في الجملة، وإنّما اختلفوا في بعض شروطها. وسيأتي تحقيق الكلام في موضع الخلاف إن شاء اللّه تعالى.

ومع ذلك فالحثُّ على فعلها والأمر به بضروب التأكيد في الكتاب والسنّة لا يُوجد مثله في فريضةٍ البَيَّة، وسنُوردُ عليك جملةً منه.

ص: 155

لأصحابنا قولان فیها في حال الغیبة: الوجول والعدم

ثُمّ إنّ الأصحاب اتّفقوا على وجوبها عيناً مع حضور الإمام أو نائبه الخاصّ، وإنّما اختلفوا فيه في حال الغيبة وعدم وجودِ المأذون له فيها على الخصوص، فذهب الأكثر - حتّى كاد أن يكون إجماعاً، أو هو إجماع على قاعدتهم المشهورةِ مِنْ أنَّ المخالف إذا كان معلوم النسب لا يقدَحُ فيه - إلى وجوبها أيضاً مع اجتماع باقي الشرائط غير إذن الإمام، وهم بين مُطلق للوجوب كما ذكرناه وبين مُصرّح بعدم اعتبار شرط الإمام أو مَن نَصَبَه حينئذٍ. وربّما ذهب بعضُهم إلى اشتراطها حينئذٍ بحضور الفقيه الذي هو نائب الإمام على العموم، وإلّا لم تصحّ. وذهب قوم إلى عدم شرعيّتها أصلاً حال الغيبة مطلقاً(1). والذي نعتمده من هذه الأقوال ونختاره ونَدِينُ اللّه تعالى به هو المذهب الأوّلُ.

ص: 156


1- ستأتي هذه الأقوال مشروحة مع تخريجها.

أدلّة القائلين بالوجوب

الدليل الأوّل: الآية الكريمة

[الكلام على القول الأوّل]

ولنا عليه وجوهٌ من الأدلّة:

الأوّل: قوله تعالى: «يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللّه»(1) الآية.

أجمع المفسِّرون على أنّ المراد بالذكرِ المأمور بالسعي إليه في الآية صلاة الجمعة أو خُطبتها (2)، فكلُّ مَنْ تَناوَلَه اسمُ الإيمانِ مأمورٌ بالسعي إليها واستماع خُطبتها وفعلها وتركِ كلّ ما أشغل عنها، فَمَنِ ادَّعى خروج بعض المؤمنين من هذا الأمر فعليه الدليل. وفي الآية مع الأمر الدال على الوجوب من ضُروب التأكيد وأنواع الحثّ ما لا يقتضي تفصيله المقام، ولا يخفى على مَنْ تأمَّله مِن أُولى الأفهام.

ولمّا سمّاها اللّه تعالى ذكراً وأمر بها في هذه السورة وندب إلى قراءتها في صلاة الجمعة - بل قيل: إنه أوجَبَها ليتذكَّرَ السامعونَ مواقع الأمرِ ومَوارِدَ الفضل (3) - عَقَّبَه في السورة التي بعدها التي يَذْكرُ فيها المنافقين بالنهي عَنْ تركها والإهمال لها والاشتغال عنها بقوله تعالى: «يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَلُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّه

ص: 157


1- الجمعة (62): 9.
2- انظر التبيان، ج 10، ص 8؛ ومجمع البیان، ج 10، ص 288، ذيل الآية 9 من الجمعة (62)؛ وقال الراوندي في فقه القرآن، ج 1، ص 133: والمراد بذكر اللّه الخطبة التي هي تتضمّن ذكر اللّه والمواعظ... وقيل: المراد بالذكر في الآية الصلاة التي فيها ذكر اللّه.
3- لم نقف على قائله.

وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ»(1).

ونَدَبَ إلى قراءة هذه السورة فيها أيضاً لذلك، تأكيداً للتذكير بهذا الفرض الكبير. ومثل هذا لا يُوجَدُ في غيره مِنَ الفُروض مطلقاً؛ فإنّ الأوامِرَ بها مطلقة مجملة غالباً خالية من هذا التأكيد والتصريح بالخصوص، حتّى الصلاة التي هي أفضلُ الطاعات بعد الإيمان.

لا يقال: الأمر بالسعي في الآيةِ مُعلَّق على النداء لها وهو الأذان لا مطلق النداء، والمشروط عدم عند عدم شرطه فيلزم عدم الأمر بها على تقدير عدم الأذان. سلّمنا، لكن الأمر بالسعي إليها مغاير للأمر يفعلها ضرورة أنّهما متغايران فلايدلُّ على المدَّعى سلَّمنا، لكن المحقّقون على أنّ الأمر لا يدلُّ على التكرار فيحصل الامتثال يفعلها مرةً واحدةً.

لأنّا نقول: إذا ثبت بالأمر أصل الوجوب حصل المطلوب؛ لإجماع المسلمين قاطبةً فضلاً عن الأصحاب، على أنّ الوجوب غيرُ مقيَّد بالأذان وإنّما علّقه على الأذانِ حقاً على فعله لها، حتّى ذهب بعضهم إلى وجوبه لها لذلك(2). وكذا القول في تعليق الأمرِ بالسعي، فإنّه أمر بمقدّماتها على أبلغ وجه، وإذا وجب السعي إليها وجبت هي أيضاً كذلك؛ إذ لا يحسن الأمر بالسعي إليها وإيجابه مع عدم إيجابها، ولإجماع المسلمين على عدم وجوبه بدونها. كما أجمعوا على أنها متى وجبت وجب تكرارها في كلّ وقتٍ مِنْ أوقاتها على الوجه المقرَّر ما بقي التكليف بها، كغيرها مِنَ الصلواتِ اليوميّة والعباداتِ الواجبة مع ورودِ الأوامر بها مُطلَقةً كذلك، والأوامر المطلقة وإن لم تدلَّ على التكرار لم تدلَّ على الوحدة، فيبقى إثبات التكرار حاصلاً مِنْ خارج بالإجماع وغيره

ص: 158


1- المنافقون (63): 9.
2- الكافي في الفقه، ص 151 واستدلّ له بهذا الدليل العلّامة في مختلف الشيعة، ج 2، ص 250 - 253، المسألة 147.

مِنَ النصوص، وسنتلو عليك منها ما يدلُّ على التكرار صريحاً.

لا يقال: الأمرُ المذكورُ بها مُرتَّب على النداء، والنداء مُتوقّفٌ على الأمرِ بها؛ للقطع بأنّها لو لم تكن مشروعةً لم يصحّ الأذان لها فالاستدلال على مشروعيتها بالأمر المذكور دوري سلّمنا، لكن الأمر بها إذا كان معلقاً على النداء - وهو الأذان، وهو لا يشرع لها إلّا إذا كان مأموراً بها، ولا يُؤمر بها إلّا إذا اجتمعت شرائطها - فلا يصحّ الاستدلال على مشروعيتها مطلقاً بالآية.

لأنّا نقول: مقتضى الآية أن الأمر بالسعي معلَّق على مُطلَقِ النداء للصلاة الصالح لجميع أفراده، وخُروجُ بعض الأفراد بدليل خارج، واشتراط بعض الشرائط فيه لا ينافي أصل الإطلاق، فكلُّ ما لا يدلُّ دليل على خروجه فالآية متناولة له، وبه يحصل المطلوب.

ويمكنُ دَفعُ الدَورِ بوجهِ آخَرَ وهو أنّ المعلَّق على النداء هو الأمرُ بها الدالّ على الوجوبِ، والأذانُ غير مُتوقف على الوجوب، بل على أصل المشروعيَّة، فيرجع الأمرُ إلى أنّ الوجوب متوقّف على الأذان، والأذان متوقف على المشروعيَّة [التي هي] أعمّ من الوجوب، فلا دَورَ. وأيضاً فإنّ النداء المعلّق عليه الأمرُ هو النداء للصلاة يومَ الجمعةِ أعمّ من كونها أربع ركعات وهي الظهرُ المعهودة أم ركعتين وهي الجمعة، ولا شُبهة في مشروعيَّةِ النداء للصلاة يومَ الجمعةِ مطلقاً، وحيثُ يُنادى لها يجب السعي إلى ذكر اللّه وهو صلاة الجمعة أو سَماعُ خُطبَتِها المقتضي لوجوبها، وكأنّه قال: إذا نودي للصلاة عند الزوال يوم الجمعةِ فصلُّوا الجمعة أو فاسعوا إلى صلاة الجمعة وصلُّوها، وهذا واضح الدلالةِ لا إشكال فيه، ولعلّه السرُّ في قوله تعالى: «فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّه» ولم يقل: «فاسعوا إليها»؛ لئلّا يلزم الإشكال المتقدّم.

لا يقال: إنّ مطلق النداء لها غيرُ مُرادٍ في الأمر بالسعي عنده، بل يُحتمل أن يُراد به نداءٌ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقرينة الخصوص الأمرُ بالسعي الدالّ على الوجوب؛ لأن الأصحاب لا يقولون

ص: 159

به عيناً حالَ الغيبة، بل غايتهم القولُ بالوجوب التخييري؛ ومن ثَمَ عَبَّر أكثرُهم بالاستحباب أو الجواز حينئذٍ، كما سيأتى البحث فيه.

لأنّا :نقول: لا شكّ أنّ النداء المأمور بالسعي معه مطلق شامل بإطلاقه لجميع الأزمانِ التي مِنْ جملتها زمانُ الغيبة. فيدلُّ بإطلاقه على الوجوب المُضَيَّقِ. والوجوب التخييري الذي ادعاه متأخُر و الأصحابِ، سَتَعْرِفُ ضَعَفَ مبناه إن شاء اللّه تعالى.

ولكن على تقدير تسليمه يمكن أن يقال: إنّ الأمر بالسعي المُقتضي للوجوب لا ينافيه؛ لأنّ الوجوب التخييري داخل في مُطلَق الوجوب الذي يدلُّ عليه الأمرُ وفرد مِنْ أفراده، فإنّ الأمر لا يدلُّ على وجوب خاصّ بل على مُطلقه الشامل للعيني المضيق والتخييري والكفائي وغيرها، وإن كان إطلاقه على الفرد الأوّل منها أظهر، وتخصيص كلّ منها في مورده بدليل خارج عن أصل الأمر الدال على ماهيّة الوجوب الكليّة، کما لا يخفى.

لا يقال: الأمرُ بالسعي على تقدير النداء المذكور ليس عاماً بحيث يتناول جميع المكلّفين؛ للإجماع على أنّ الوجوب مشروط بشرائط خاصةٍ مُعَيَّنَةٍ كالعددِ والجماعة وغيرهما، وإذا كان مشروطاً بشرائط غير معيَّنَةٍ في الآية كانت مجملةً بالنسبة إلى الدلالة على الوجوبِ المُتَنازَعِ، فلا يَثْبُتُ بها المطلوب.

لأنّا نقول: مقتضى الأمر المذكور وإطلاقه يدلّ على وجوبها على كلّ مُؤْمِنٍ، وتبقى دلالة باقي الشروط من خارج، فكلُّ شرط يدلُّ عليه دليل صالح يثبتُ به ويكون مُقيّداً لهذا الأمرِ المُطْلَقِ، وما لا يدلُّ عليه دليل صالح تبقى دلالة هذه الآية على أصل الوجوب ثابتة مطلقاً، وسنحقق الكلام في الشرط المُتَنازَع فيه هنا، وتُبيِّنُ فساد مبناه إن شاء اللّه تعالى.

الدليل الثاني: الأخبار الشريفة
إشارة:

الثاني: الأخبارُ المتناولة بعمومها لموضع النزاع، وهي كثيرة جداً.

فمنها: قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): الجمعة حقٌّ واجب على كلّ مُسْلِمٍ إلا أربعة عبد مملوك أو

ص: 160

امرأةٌ أو صبىٌّ أو مريضٌ»(1).

ومنها : صحيحة زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «فَرضَ اللّه على الناس من الجمعة إلى الجمعةِ خمساً وثلاثين صلاةً، منها صلاةٌ واحدةٌ فرضها اللّه في جماعة، وهي الجمعة، ووَضَعَها عن تسعةٍ: عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبدِ والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين»(2).

ومنها صحيحة أبي بصيرٍ ومحمّدِ بن مُسلم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ اللّه تعالى فَرَضَ في كلّ سبعة أيّام خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاةٌ واجبةٌ على كلّ مسلم أن يَشْهَدَها إلّا خمسةً : المريضُ والمملوك والمسافرُ والمرأةُ والصبيُّ»(3).

ومنها: صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «يُجَمِّع(4) القومُ يَوْمَ الجمعةِ إذا كانوا خمسةً فما زاد، وإن كانوا أقلَّ مِنْ خَمسةٍ فلا جمعة لهم. والجمعة واجبة على كلّ أحدٍ، لا يُعْذَرُ الناسُ فيها إلّا خمسة: المرأة والمملوك والمسافرُ والمريض والصبيّ»(5).

ومنها: صحيحةً عُمَرَ بن يزيد عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا كانوا سبعةً يومَ الجمعةِ فَلْيُصَلُّوا في جماعة»(6). يعني الجمعة؛ لأنّ مُطلقَ الجَماعةِ لا يُشترط فيها العدد المخصوص.

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: سألته عن أُناسٍ في قريةٍ،

ص: 161


1- سنن أبي داود، ج 1، ص 280، ح 1067؛ السنن الكبرى، البيهقي ج 3، ص 183، باب من لا تلزمه الجمعة؛ المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 425، ح 1062. وفيها: «في جماعة إلّا».
2- الكافي، ج 3، ص 419، باب وجوب الجمعة وعلى كم تجب، ح 6: الفقيه، ج 1، ص 40، ح 1220؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 21، ح77.
3- الكافي، ج 3، ص 418، باب وجوب الجمعة وعلى كم تجب، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 3، ص 19، ح 69.
4- يُجمعون... أي يُصَلُّون صلاة الجمعة. النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 297، «جمع».
5- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 239، ح 636؛ الاستبصار، ج 1، ص 419، ح 1610.
6- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 245، ح 664: الاستبصار، ج 1، ص 418، ح 1607.

هل يُصَلُّونَ الجمعة جماعة ؟ قال: «نعم يُصَلُّونَ أربعاً إذا لم يَكُنْ لهم مَنْ يَخْطُب»(1).

ومنها: صحيحة الفضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «إذا كان قوم فى قريةٍ صَلُّوا الجمعة أربع ركعاتٍ، فإنْ كان لهم مَن يَخْطُبُ جَمَّعوا إذا كانوا خمسةً نَفَرٍ؛ وإنّما جُعِلَتْ رَكْعَتَيْنِ لِمَكانِ الخُطبتين»(2).

ومنها: صحيحة أبي بصيرٍ ومُحمّدِ بنِ مُسلمٍ عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «مَن ترك الجمعة ثلاثَ جُمَعٍ مُتواليةٍ طَبَعَ اللّه على قلبه»(3).

وفي معناها عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أخبار كثيرةٌ:

منها: قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَن ترك ثلاثَ جُمَعٍ تَهاوناً بها طبع اللّه على قَلْبِه»(4).

وفي حديثٍ آخَرَ: «مَنْ تَرَكَ ثلاثَ جُمَعٍ مُتَعَمِّداً مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ ختم اللّه على قَلْبِه بخاتم النفاق»(5).

وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): لينتهينَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجُمُعات أو لَيَخْتِمنَّ اللّه على قلوبهم ثم لَيَكونُنَّ من الغافِلينَ»(6).

ومنها: صحيحةُ زرارة قال: حتّنا أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) على صلاة الجمعة حتّى ظَنَنْتُ أنّه يُرِيدُ أن نَأْتِيَهُ، فقلتُ: تَغْدُو عليك ؟ قال: «لا، إِنَّما عَنَيْتُ عِنْدَكُم»(7).

فهذه الأخبار الصحيحةُ الطُّرُقِ الواضحةُ الدّلالةِ، التي لا يَشُوبُها شكٍّ ولا تَحُومُ

ص: 162


1- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 238، ح 633: الاستبصار، ج 1، ص 419 - 420، ح 1613، ما أثبتناه مطابق للنسخ. ولا توجد في المصدرين كلمة «لهم».
2- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 238 - 239، ح 634: الاستبصار، ج 1، ص 420، ح 1614.
3- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 238، ح 632.
4- سنن أبي داود، ج 1، ص 277، ح 1052؛ سنن النسائي، ج 3، ص 88، باب التشديد في التخلف عن الجمعة : الجامع الصحيح، ج 2، ص 373، ح 500.
5- خصائص يوم الجمعة السيوطي، ص 21؛ كنز العمّال، ج 7، ص 731، ح 21146.
6- سنن النسائي، ج 3، ص 88 - 89؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 3، ص 171، خصائص يوم الجمعة السيوطي، ص 20.
7- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 239، ح 635؛ الاستبصار، ج 1، ص 420، ح 1615.

حَولَها شُبهةٌ من طُرُقِ أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في الأمر بصلاة الجمعة والحثّ عليها وإيجابها على كلّ مُسلم عدا ما استثني، والتَوَعُّدِ على تركها بالطبع على القلب الذي هو علامة الكفر والعياذ باللّه تعالى كما نبّه عليه تعالى في كتابه العزيز(1). وتَرَكْنا ذكرَ غَيرها من الأخبارِ المُوَثَّقَةِ وغَيْرِها، حَسْماً لمادَّةِ النزاع، ودفعاً للشبهة العارضة في الطريق. وليس في هذه الأخبارِ مَعَ كَثْرَتِها تَعرُّضُ لِشرط الإمام ولا مَن نَصَبَه، ولا لاعتبارِ حُضُورِه في إيجاب هذه الفريضةِ المُعَظَّمَةِ، فكيفَ يَسَعُ المُسْلِمَ الذي يَخافُ اللّه تعالى إذا سمع مَواقِعَ أمر اللّه ورسوله وأئمّته (عَلَيهِم السَّلَامُ) بهذه الفريضة، وإيجابها على كلّ مُسْلِمٍ أن يُقَصِّر في أمرها، ويُهمِلَها إلى غيرها، ويَتَعَلَّلَ بخلافِ بعض العُلَماءِ فيها ؟ وأمرُ اللّه تعالى ورَسُولِه وخاصته أحق، ومراعاتُه أولى، «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(2). ولعمري لَقَدْ أصابَهُمُ الأمرُ الأوّل، فَلْيَرتَقِبُوا الثاني إنْ لم يَعْفُ اللّه تعالى ويُسامح. نسأل اللّه تعالى العفو والرحمة.

وَقَد تَحصَّلَ مِن هذين الدَلِيلَيْنِ أَنّ مَنْ كانَ مُؤمناً فَقَدْ دَخَلَ تحتَ نِداء اللّه تعالى وأمره في الآية الكريمة بهذه الفريضة العظيمة ونهيه عَنِ الالتهاءِ عنها. ومَنْ كان مُسلِماً فقد دَخَل تحت قول النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وقول الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ): إنّها واجبةٌ على كلّ مُسلِمِ. وَمَنْ كَانَ عاقلاً فَقَدْ دخل تَحتَ تَهديدِ قوله تعالى: «وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ - يعني الاتهاءَ عنها - فَأُوْلَئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(3). وقولهم : مَنْ تَرَكَها - على ذلك الوجه - طبع اللّه على قلبه لأنّ «مَنْ» موضوعةٌ لِمَن يَعْقِلُ إن لم تَكُنْ أعمّ. فاخْتَرْ لِنَفْسِكَ واحدةً مِنْ هذه الثلاث، وانتسب إلى اسمٍ مِنْ هذه الأسماء، أعني الإيمان أو الإسلام أو العقل، وادْخُلْ تحت مقتضاء، أو التزم قسماً رابعاً إن شئت. نعوذُ باللّه مِنْ قُبْح الزَّلَّةِ وسِنَةِ الغَفْلَةِ.

ص: 163


1- المنافقون (63): 3.
2- النور (24): 63.
3- المنافقون (63): 9.

لا يُقال: دَلالةُ هذه الأخبارِ مُطْلَقَةٌ لا تُنافي اشتراطها بِحُضورِ الإمام أو مَنْ نَصَبَه. كما لا تنافي اشتراط باقي الشرائط المعتبرة في الجمعة غير ما ذُكِرَ فيها، وإذا وَرد دليل مُقيَّد بما ذُكِرَ وجب الجمعُ بينها بِحَملِ المُطْلَقِ على المُقَيَّدِ، وستأتي الدلالة على اشتراطِ إذن الإمام في الوجوب. والحديث الأخيرُ نقول بموجبه؛ فإنّه يجوز استناد الوجوب فيه إلى إذن الإمام لزرارة. ومِثْلُه موثَقَةُ زُرارةً عن عبدِ المَلِكِ عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «مِثْلُكَ يَهْلِكُ ولَمْ يُصَلِّ فَريضَةً فَرَضَها اللّه تعالى!» قلتُ: كيف أصنَعُ ؟ قال: «صَلُّوا جماعةً». يعنى صلاةَ الجمعةِ(1). وَقَدْ نَبَّه العلّامة في نهايته على ذلك بقوله: «لَمّا أذِنَا لِزرارةَ وعَبدِ المَلِكِ جاز، لِوُجُودِ المُقتضي وهو إذن الإمام»(2).

لأنّا نقول: مقتضى القواعد الأُصوليّة وجوب إجراء هذه الأدلّة على إطلاقها، والعمل بموجبِ دَلالتِها من وجوبِ هذه الصلاة على كلّ مُسلم، إلّا ما أخرجته الأخبارُ أو دلَّ على إخراجه دليلٌ مِنْ خارج. ودَلالة شرطيَّةِ حضورِ الإمامِ أو مَنْ نَصَبَه مطلقاً غيرُ متحقّقة، كما سَنُبَيِّنُه إن شاء اللّه تعالى. فيجب العمل بإطلاق هذه الأدلّة القاطعة إلى أن يُوجَدَ المُقيّد.

مناقشة أحد الأخبار الموهمة

وأمّا دعوى إذنِ الصادِقَينِ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) الزرارة وعبدِ المَلِكِ في الخَبَرَيْنِ ففيه: أن المعتَبَرَ عند القائل بهذا الشرط كونُ إمامِ الجمعةِ الإمام أو مَنْ نَصَبَه، وليس في الخَبَرِينِ أنّ الإمام نَصَبَ أحد الرجلين إماماً لصلاة الجمعة، وإنّما أمراهُما بِصلاتها أعمُّ مِنْ فِعلهما لها إمامَيْنِ ومُؤتمَّينِ، ولَيْس فى الخَبَرَيْنِ زيادة على غيرهما من الأوامر الواقعة بها مِنَ اللّه تعالى ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) السائر المكلّفين، فإن كان هذا كافياً في الإذنِ فلْتَكُن تلك الأوامر كافيةً، ويكون كلّ مكلّف جامع لشرائط الإمامة مأذوناً فيها منهم، أو كلّ مكلّف مطلقاً مأذوناً في فعلها ولو بالايتام بغيره كما يقتضيه الإطلاق؛ إذ لا فرق في الشرع بين

ص: 164


1- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 239، ح 638: الاستبصار، ج 1، 420، ح 1616.
2- نهاية الإحكام، ج 2، ص 14.

الأمرِ الخاص والعام من حيث العمل بمقتضاه، وذلك هو المطلوب.

وأيضاً فأمرهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) للرجلين وَرَدَ بطريقٍ يشملُ الرجُلين وغيرهما من المكلّفين أو من المؤمنين، كقوله: «صلُّوا جماعةً»، وقول زرارة حَثّنا أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) على صلاة الجمعة، وقوله: «إنّما عَنَيْتُ عندكم»، من غير فرق بين المخاطبين وغيرهما إلّا في قوله : «مِثْلُكَ يَهْلِكُ وَلَمْ يُصَلِّ فريضةً فَرَضَها اللّه!». وذلك أمرٌ خارجٌ عَنْ موضع الدّلالة، وعلى تقدير اختصاص المخاطبين فظاهرُ روايةِ زرارة أنّهم كانوا بِحَضْرَتِه (عَلَيهِ السَّلَامُ) جماعةً ولم يُعَيِّنْ أحداً منهم للإمامة ولا خَصَّه بالأمر والحثّ. وَحَمْلُ ضَمِيرِ الجَمْع في كلام زرارة على التعظيم لا يُناسِبُ المقام ولا تقتضيه بلاغةُ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ): فإِنْ ضَمِيرَ الجَمْعِ وَقَعَ مِنَ السائل والمسؤول على وجه ظاهر في تحقّق الجمع كما لا يخفى.

الدليل الثالث: استصحاب وجوبها السابق أيّام النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)
إشارة:

الثالث: استصحاب الحكم السابق؛ فإنّ وجوب الجمعة حالَ حُضورِ الإمام أو نائبه ثابت بإجماع المسلمين في الجملةِ، فَيُسْتَصْحَبُ إلى زمانِ الغَيبة - وإنْ فُقِدَ الشرط المُدَّعى - إلى أنْ يَحْصُلَ الدليلُ الناقلُ عَنْ ذلك الحُكْم، وهو منتف على ما تحقّقه إن شاء اللّه تعالى، ولو استَصْحَبْتَ الإجماع على هذه الطريقةِ أمْكَنَكَ أيضاً على قاعدة الأصحاب؛ حيث لا يَقْدَحُ عِنْدَهُمْ مُخالفةٌ مَعْلوم النسب، أو إقامة المشهور مقامه على ما عُهِدَ مِنْهم. وصرَّح به الشهيدُ في مقدّماتِ الذكرى(1). وإن كنا نحن لا نرتضيه، لكن ذكرناه على وجه الإلزام للخصم لأنه مُعتَمَدُه في أكثرِ مَبَاحِثِه، وسيأتي أنّ المُخالِفَ في الباب آحادٌ قليلةٌ معلومةٌ لا تُؤثِّرُ في المدَّعى المشهورِ.

ص: 165


1- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 14 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5): الأصل الثالث: الإجماع، وهو اتّفاق علماء الطائفة على أمرٍ في عصر واحدٍ لا مع تعيين المعصوم فإنّه يعلم به دخوله، والطريق إلى معرفة دخوله أن يعلم إطباق الإماميّة على مسألةٍ معينةٍ، أو قول جماعةٍ فيهم مَنْ لا يعلم نسبه بخلاف قول من يعلم نسبه... الخامس: الحقّ بعضُهم المشهور بالمجمع عليه فإن أراد في الإجماع فهو ممنوع، وإن أراد في الحجة فقريب لمثل ما قلناه.

لا يُقال: اللازم استصحابه أنما هو الوجوبُ حالَ الحضورِ وما في معناه - أعني الوجوبَ المُقَيَّد به لا مُطلق الوجوب - فلا يَتِمُّ استصحابه في حال الغيبة.

لأنّا نقول: لا تُسلّمُ أنّ الوجوب الثابت حالَ الحُضورِ وما في معناه مقيَّد به بل هو ثابت مطلقاً في ذلك، وهو ظرف زمان له مِنْ غير أن يتَقَيَّد به كباقي الأزمان التي تَثْبُتُ فيها الأحكامُ ويُحْكَمُ باستصحابها بعدها. نعم قد يُنازَعُ في تحقّق الإجماع في حالِ الغيبة استصحاباً له حال الحضور، نظراً إلى تصريح بعضهم بأن الإجماع مُقَيَّد به، وسيأتى الكلام فيه وفي جوابه.

الأدلّة الثلاثة السابقة تدلّ على الوجوب العيني

لا يقال: هذه الأدلّة الثلاثة تستلزم وجوبها عيناً، بمعنى عدم إجزاء الظهر عنها مع إمكانِ فِعْلِها، والأصحابُ لا يقولون به، بل غاية المُوجِبِ لها أنْ يَجْعَلَ الوجوب حالَ الغيبة تخييرياً بينها وبين الظهر وإن كان يقول إنها أفضلُ الفَردَينِ الواجِبَينِ على التخيير، كما صرح به جماعة منهم(1)، فما تدلُّ عليه الأدلّة لا يقولون به وما يقولون به لا يَدُلُّ عليه الدليل.

لأنّا نقول ما ذكرت من دلالتها على الوجوب العيني ظاهراً حقٌّ، غير أنّ المتأخّرين من الأصحاب أو أكثرهم - لا جميع الأصحاب كما قيل (2) - معرضون عنه رأساً. وربما ادعى بعضُهم الإجماع على خلافه(3)، وإن كان دون إثباتِ الإجماع وحجيّته على هذا الوجه خرط القتاد(4)، فإنّا بعد الاستقصاء التامّ والتتبّع الصادقِ لم نقف على دليل صالح يدلُّ على أن الوجوب المذكور تخييري، ولا ادّعاه مدَّعٍ، وإنما مَرْجِعُ

ص: 166


1- منهم المحقّق الكركي في جامع المقاصد، ج 2، ص 378 - 379؛ ورسالة صلاة الجمعة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 147.
2- لم نقف على قائله.
3- كالعلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 27، المسألة 389؛ والمحقّق الكركي في جامع المقاصد، ج 2، ص 375؛ ورسالة صلاة الجمعة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 147 - 148.
4- في المثل دونه خرط القتاد: يضرب للأمر الشاق. المستقصى، ج 2، ص 82.

حجَّتِهم إلى دعوى الإجماع عليه، فإن تمَّ فهو الحجَّةُ وإلّا فلا. وسنتلو عليك (1) مِنْ كلام السابقين من الأصحاب ما يدلُّك على فسادِ هذه الدعوى، وتصريح بعضهم بأنّ الوجوبَ مُتَعيِّن مطلقاً.

ثم على تقدير القول بكون الوجوب تخييرياً حالةَ الغَيْبَةِ يُمْكِنُ الجَوابُ عَن السؤالِ بأن نقول: إن الأدلّة المذكورة إنما دلّتْ على الوجوبِ المُطلق في الجملة. الصالح لكونه عينيّاً وتخييرياً وغيرهما من أفراده وإن كان الفردُ المتعيّن منها أظهر في الإرادةِ، إلّا أنّه لا يمنع من إرادة غيره، حيث يدلُّ عليه الدليل. ولمّا أمكن حمل الوجوب على المتعين مع حضور الإمام وما في معناه حُمِلَ عليه؛ لأنّه الفردُ الأظهرُ. ولمّا تعذَر حَمْلُه عليه حالَ الغيبة بواسطة ما قبل مِنَ الإجماع المدَّعى على خلافه صُرِفَ إلى التخييري؛ لأنّه بعض أفراده.

وربما استأنس بعض الأصحاب للوجوب التخييري بظاهر رواية زُرارة وعبدِالمَلِكِ السابِقَتينِ حيث قال زرارة: حثّنا أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) على الجمعة (2)، وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مثلُكَ يَهْلِكُ وَلَمْ يصلِّ فريضةً فَرَضَها اللّه عليه»(3)؛ فإنّ هذا الكلامَ يُشْعِرُ بأن الرجلين كانا متهاوِنَيْنِ بالجمعةِ مع أنّهما من أجلاء الأصحاب، وفقهاء أصحابه، ولَمْ يَقَعُ منه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عليهما إنكارٌ شديدٌ بل حثّهما على فِعْلِها، فدلَّ ذلك على أنّ الوجوب ليس عينيّاً، وإلّا لأنكَرَ عليهما بتركها كمالَ الإنكار. نعم استفيد من حثَّهِ، وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إنّها فريضةٌ فَرَضَها اللّه تعالى وجوبُها في الجملةِ فَيُحملُ على التخييري.

وفي هذا التوجيه نظرٌ بَيِّنٌ ؛ ودَفْعُه مع مُعارَضَتِه لتلك الأوامر العظيمة السابقة سهلٌ؛ لأنّ زرارة راوي هذا الحديثِ قد روى أيضاً ما أسلفناه من قوله: «فَرضَ اللّه على الناسِ مِنْ الجمعةِ إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاةً، منها صلاةٌ واحدةٌ فَرَضَها اللّه في

ص: 167


1- في ص 184 وما بعدها.
2- سبق تخريجه في ص 162، الهامش 7.
3- سبق تخريجه في ص 164، الهامش 1.

جماعةٍ»(1). ولا شبهة في أنّ غير الجمعةِ مِن الفرائض وجوبه عيني، فلو حُمِلَ وجوبُها على التخيير على بعض الوجوه لزمَ تَهافتُ الكلام واختلافُ حُكْمِ الفرائض بغير مائز، وكذلك باقي الأخبار التي تلوناها دالّة أو ظاهرة في الوجوبِ العيني المُضَيَّقِ.

السرّ في تهاون الأصحاب بصلاة الجمعة

والذي يظهر لي أنّ السرَّ في تَهاوُنِ الجماعةِ بصلاة الجمعةِ ما عُهِدَ مِنْ قاعدة مَذْهَبِهِم أنّهم لا يقتدونَ بالمُخالفِ ولا بالفاسق، والجمعة إنّما تقعُ في الأغلب من أئمّة المخالفين ونُوّابهم وخصوصاً في المُدنِ المعتبرة، وزرارة وعبدالملك كانا بالكوفة وهي أشهرُ مُدُنِ الإسلام ذلك الوقت، وإمام الجمعة فيها مخالف منصوب من أئمّة الضَلالِ، فكانوا يتهاونون بها لهذا الوجه، ولمّا كانَتِ الجمعة من أعظم فرائض اللّه تعالى وأجلها ما رَضِيَ الإمامُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَهم بتركها مطلقاً؛ فلذلك حتّهم على فِعْلِها حيثُ يَتَمَكَّنُونَ مِنْها.

وعلى هذا الوجه استَمرَّ حالها مع أصحابنا إلى هذا الزمان، فأُهمِل لذلك الوجوبُ العيني وأُثْبِتَ التخييري لوجه نرجو من اللّه تعالى أن يُعْذِرَهُم فيه، وآل الحالُ منهم (2) إلى تركها رأساً في أكثر الأوقاتِ ومُعْظَمِ الأصقاع مع إمكان إقامتها على وجهها. وما كان حقُّ هذه الفريضةِ المُعَظَّمَةِ أن يبلغ بها هذا المقدارُ مِنَ التهاوُنِ بمجرّد هذا العذرِ الذي يُمْكِنُ رَفْعُه في كثيرٍ مِنْ بِلادِ الإيمانِ سيّما هذا الزمان. وبهذا ظهر أنّ حثَّ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) للرجُلَيْنِ وغَيرِهِما عليها دون أن يُنكر ذلك عليهم شديداً ليس من جهة الوجوبِ التخييري بَلْ لِلْوجه الذي ذكرناه.

وقَدْ تَنَبَّه قبلي لهذا الوجه الذي ذكرتُه الشيخُ الإمام عماد الدين الطبري (رحمه اللّه) (3)

ص: 168


1- سبق تخريجه في ص 161 الهامش 2.
2- في النسخ: «منه» بدل «منهم». ولعلّ الضمير راجع إلى الوجه.
3- هو الشيخ الجليل العالم حسن بن عليّ المعروف بعماد الدين الطبري، كان معاصراً للمحقّق نصير الدين الطوسي وردت ترجمته في رياض العلماء، ج 1، ص 268 - 275 وروضات الجنّات، ج 2، ص 261 - 265: والأنوار الساطعة، ص 41.

في كتابه المُسمّى بنهج العرفان إلى هداية الإيمان(1)، فقال فيه بعد نقل الخلافِ بينَ المُسلمين في شروط وجوب الجمعة:

إنّ الإماميّة أكثر إيجاباً لِلْجُمعةِ مِنَ الْجُمهور، ومع ذلك يُشَنِّعونَ عليهم بتركها، حيث إنّهم لَمْ يُجَوِّزوا الائتمام بالفاسق ومُرتكب الكبائر والمخالفِ في العقيدة الصحيحة. انتهى المقصود من كلامه.

وفيه دليل على أنّ تركهم للجمعة لهذه العلة لا لأمر آخر. فلو كانوا يشترطون في وجوبها بل في جوازها مطلقاً إذنَ الإمام المفقودِ حالَ الغَيْبة أصلاً أو أكثريّاً بالنسبة إلى الموضع الذي يحضر فيه النائب بل في زمن حضوره أيضاً لِعدَمٍ تَمَكَّنه غالباً مِنْ نَصْبٍ الأئمّة لها حينئذٍ أيضاً ولا مُباشَرَتِها بنفسه لما (2) تَصوَّرَ العاقل أن الإماميّة أكثر إيجاباً لها مِنَ العامّة؛ لأنّ ذلك معلوم البطلان،ضرورةً، وإنّما يكونون أكثر إيجاباً لها مِنْ حيث إنّهم لا يَشْتَرِطُونَ فيها المِصْرَ كما يقوله الحنفي(3)، ولا جوفه ولا حضور أربعين كما يقوله الشافعي(4)، ويكتفون في إيجابها بإمامٍ يَقتدي به أربعةُ نَفَرٍ مكلّفين بها، فَيَظْهَرُ بذلك كونهم أكثر إيجاباً مِنَ الجُمهور. وإنّما مَنَعَهُم مِنْ إقامتها غالباً ما ذكرناه مِنْ فِسْقِ الأثئَّةِ.

على أنا قد بَيَّنَّا أن الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) أنكروا على تركها زيادةً على ما ذُكِرَ في الحديثينِ، وصرَّحوا بوجوبها على كلّ أحدٍ كما أشرنا إليه في الأخبار المتقدّمة. وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا يُعْذَرُ الناسُ فيها»(5)، وقولُ الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ تَرَكَ الجمعةَ ثلاثَ جُمَعٍ مُتواليةٍ طَبَعَ اللّه

ص: 169


1- الظاهر أنّ هذا الكتاب فُقِدَ ولم يصل إلينا، وذكره الطهراني في الذريعة، ج 24، ص 421 - 422.
2- جواب لقوله: فلو كانوا.
3- المبسوط، السرخسي، ج 2، ص 23؛ بداية المجتهد، ج 1، ص 159؛ وحكاه عنه الشيخ في الخلاف، ج1، ص 597، المسألة 358.
4- الأم، ج 1، ص 190؛ المجموع شرح المهذّب، ج 4، ص 502: بداية المجتهد، ج 1، ص 158؛ وحكاه عنه الشيخ في الخلاف، ج 1، ص 598 المسأله 359.
5- سبق تخريجه في ص 161 الهامش 5.

على قلبه»(1). فأيُّ مبالغةٍ ونكير أعظمُ من هذا ؟ وأي مناسبة فيه للواجب التخييري ؟ لأن تَركَ فرد منه إلى الفردِ الآخر جائزٌ إجماعاً لا يجوز ترتّب الذمّ عليه قطعاً.

وأبلَغُ مِنْ ذلك قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) في خُطبةٍ طويلةٍ حتَّ فيها على صلاة الجمعة منها: «إنّ اللّه تعالى قد فَرَضَ عليكم الجمعة فَمَنْ تَركَها في حياتي أو بعد موتى استخفافاً بها أو جحوداً لها فلا جَمَعَ اللّه شَمْلَه ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له ألا ولا زكاة له ألا ولا حجّ له ألا ولا صوم له ألا ولا برَّ له حتّى يتوبَ»(2).

نقل هذا الخبر المخالفُ والمؤالفُ(3)، واختلفوا في ألفاظ تركناها لا مدخل لها في هذا الباب. وأمثال ذلك عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) كثيرة دالّة على إيجابها والحثّ عليها ولو لم يكن في الباب إلّا الآية الشريفة في سورة الجمعة لكان ذلك كافياً لأولي الأبصار، شافياً عند ذَوِي الاعتبار.

الدليل الرابع: التمسّك بأصالة الجواز

الرابع: التمسّك بِأصالة الجواز، فإنا لم نَجِدْ عى التحريم دليلاً صالحاً كما سَنُبَيِّنُهُ، فالأصل جواز هذا الفعل بالمعنى الأعمّ المقابل للتحريم الشامل لما عدا الحَرامِ مِنَ الأقسامِ الخَمْسَةِ، ثمّ الإباحةُ مِنَ الأربعة الباقية منفيَّة بالإجماع، على أنّ العبادة لا تكون متساويّة الطرفين وكذا الكراهة بمعنى مرجوحيَّةِ أحد الطرفين مطلقاً مِنْ غير منع من النقيض، وإن أمكن المكروه في العبادة بمعنى آخَرَ، فبقي مِنْ مَدلول هذا الأصل الوجوبُ والاستحباب، فالثابتُ هنا أحدُهما لكنَّ الاستحباب منفي أيضاً بالإجماع على أنّها لا تَقَعُ مُستحبّةً بالمعنى المتعارف، بل متى شُرِعَتْ وَجَبَتْ، فَانْحَصَر أمرُ الجَواز فى الوجوب وهو المطلوب.

ص: 170


1- سبق تخريجه في ص 162، الهامش 3.
2- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 343، ح 1081؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 3، ص 244، ح 5570.
3- لم تعثر عليه في مجاميعنا الروائية، إلا أن صاحب الوسائل نقله عن هذه الرسالة في وسائل الشيعة، ج 7، ص 302، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، ح 28.

وأصل هذا الدليل مجرّداً عَنِ الترويج ذكره الشهيدُ (رحمه اللّه) في شرح الإرشادِ، فقال بعد ذِكْرِ الأدلّة من الطرفين: والمُعتَمَدُ في ذلك أصالة الجواز، وعموم الآية، وعدم دلیلٍ مانع(1).

وَاعْتُرضَ عليه (2) بأنّ أصالة الجواز لا يُستَدلُّ بها على فعل شيءٍ مِنَ العبادات إذ كونُ الفعل قربةً وراجحاً بحيث يُتَعَبَّد به توقيفي يحتاجُ إلى إذنِ الشارع وبدونه يكون بدعةً، وعدم الدليل المانع لا يقتضي الجواز؛ إذ لابدَّ مِنْ كونِ المُجوّز موجوداً.

وأنت إذا تأمّلت ما ذكرناه مِنْ توجيه الاستدلالِ يَظْهَرُ عليك جوابُ هذا الإيراد؛ فإنّ الجواز المطلوب هنا لمّا كان في مُقابَلَةِ التحريم - بناءً على أنّ الأصل في هذه الأفعالِ ونظائرها هل هو الجواز أو التحريم ؟ وأنّ المرجّحَ هو الجواز - فالثابت هنا ما قابل التحريم وهو يَشْمُلُ الأحكام الأربعة وإن أُريد بعضُها كما قررناه، وهذا هو الوجه المسوِّغُ لها. والتوقيفُ عليها بخصوصها متحقِّقُ فى الكتاب والسنّة، وإنّما وقع الاشتباه في هذا الفعل المخصوص المضبوط شرعاً، هل هو الآن جائز أم حرام ؟ فأصالة الجواز نافعة في إثباته.

لا يقال: لا يَتِمُّ الحكم عليها بالجواز إلا بمعونَةِ النَّقْلِ مِنَ الكتابِ والسنّة ومعه يُستغنى عنها، فلا وجه لإفرادها بالدّلالةِ، فَيَرْجِعُ الأمر إلى أنّ العبادات لا تنبت بها.

لأنّا نقول: القدر الثابتُ بهذه الأصالة أصلُ الجواز المقابل للتحريم، والاستدلال به عقليٌ لا يتوقّف مِنْ هذه الجهةِ على الدليل النقلي الدالّ على التوقيف على كمّیّتها وكيفيَّتِها، فَتَحقُّقُ الاستغناءِ مِن هذه الحيثيّة، وإن توقَّفَتْ بعد إثباتِ جوازها على أمرٍ

ص: 171


1- غاية المراد، ج 1، ص 116 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
2- المعترض هو المحقّق الكركى في رسالة الجمعة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 152.

آخر، كما أنّ إثبات شرعيتها أيضاً بالدليل النقلى لا يقدَحُ فيه توقفها - بعد إثباته - على تحقّق شرائطها وأحكامها، ولم يستقلَّ دليل أصل المشروعية بالدلالة على تمام ما يُعتبر فيها شرعاً. وجملة الأمر أنّ الفرضَ مِنْ أدلّة المشروعيَّةِ نفي القول بالتحريم، لا تحقيق الحال في تقريرها شرعاً وتبيين شروطها وكيفيَّتِها وأحكامها، بل يتوقّف بعد إثباتِ المشروعيَّةِ على أدلّة أُخرى على هذه الأشياء من غير منافاة بين الأمرين؛ ولا استغناء ببعضها عن بعض.

الدليل الخامس: القول بالوجوب قول أكثر المسلمين لا يخرج منه إلّا الشاذ
إشارة:

الخامس: أنّ القول بالوجوب على هذا الوجه قولُ أكثر المسلمين لا يخرج منه إلّا الشاذُ النادرُ مِنْ أصحابنا على وجه لا يقدح في تحقّق دعوى أنه إجماع أو يَكادُ؛ فإنّ جملةَ مَذاهب المسلمين مِمَّنْ يُخالِفنا يقولون بذلك:

أمّا غيرُ الحَنَفِيَّةِ فظاهر؛ لأنّهم لا يعتبرون في وجوبها إذن الإمام(1).

وأمّا الحنفيّة فإنّهم وإن شرطوا إذنه لكنّهم يقولون إنه مع تعذُّر إذنه يَسقط اعتباره ويَجِب فعلُها حينئذٍ بباقى الشرائط (2).

وأمّا أصحابنا فهم على كثرتهم وكثرة مصنّفيهم واختلاف طبقاتهم لا يُنقل القولُ بالمنع مِن قِبَلِهم إلّا عَنِ المرتضى في المسائل الميافارقيّات(3)، ومع ذلك كلامه ليس بصريح فيه بل ظاهرُه،ذلك كما اعترف به جميع من نقل ذلك عنه(4).

ومثل هذا القول الشنيعِ المُخالفِ لجمهور المسلمين وصريح الكتاب والسنّة لا ينبغي إثباتُه ونسبَتُه لِمِثلِ هذا الفاضل بمجرّد الظهور، بل لابد فيه مِنَ التحقيق، وإنّما كان

ص: 172


1- الأُمّ، ج 1، ص 192؛ المجموع شرح المهذّب، ج 4، ص 583؛ المدونة الكبرى، ج 1، ص 152 - 153.
2- المبسوط السرخسي، ج 2، ص 34 - 35 و 120؛ الهداية، ج 1، ص 82 – 83.
3- أجوبة المسائل الميافارقيّات، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 272.
4- كالعلّامة في مختلف الشيعة، ج 2، ص 251، المسألة 147؛ والشهيد في غاية المراد، ج 1، ص 114 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1)؛ والمحقّق الكركي في رسالة صلاة الجمعة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 152.

ظاهرُه ذلك من غيرِ تحقيقٍ؛ لأنّ السائل لمّا سأله عن صَلاةِ الجمعةِ هل تجوزُ خَلْفَ المُؤالفِ والمُخالفِ جميعاً، أجاب بما هذا لفظه: «لا جمعة إلّا مع إمامٍ عادلٍ أو مَنْ نصبه الإمام». فالحكم على ظاهرِ هذه العبارة واضحٌ، وهي مع ذلك تَحْتَمِلُ خلاف ظاهرها مِنْ وَجهين:

أحدهما: حَملُ النفي الموجّه إلى الماهيَّة إلى نفي الكمال كما هو واقع كثيراً في الكتاب والسنّة. ويؤيّد هذا الوجه أنّه قال في كتابه الفقه الملكي (1):

والأحوط أن لا تُصلّى الجمعةُ إلّا بإذن السلطان وإمام الزمان؛ لأنها اذا صُلِّيت على هذا الوجه انعقدت وجازت بإجماع، وإذا لم يكن فيها إذن السلطان لم يُقطع على صحّتها وإجزائها.

هذا لفظه، وهو ظاهر في أنّ إذن الإمامِ مُعتبر اعتبار كمال واحتياطٍ لا تعيُّن.

والثاني: حملُ المنعِ مِنَ الصلاة بدونِ إذنِ الإمام العادل مع إمكان إذنه لا مطلقاً، كما هي عادة الأصحابِ على ما سَتَقِفُ عليه إن شاء اللّه من عباراتهم، فإنهم يُطلِقُونَ اشتراط إذنه في الوجوبِ ثمّ يجوِّزُونَ فعلها حالَ الغيبة بدونه مريدين بالاشتراط على تقدير إمكانه.

ويؤيّد هذا الحمل لكلام المرتضى (رحمه اللّه) على الخصوص قوله في الكتاب المذكور سابقاً: «والأحوط أن لا تصلّى الجمعة إلّا بإذن السلطان...» إلى آخره لأنّ إذنه إنما يكون أحوط مع إمكانها لا مطلقاً، بل الاحتياط مع تعذّرِها في الصلاةِ بدونها امتثالاً لعموم الأمر من الكتاب والسنّة وغيرهما مِنَ الأدلّة، ومع قيام الاحتمالِ يَسقُطُ القولُ بِنِسبَتِه إلى المرتضى (رحمه اللّه) على التحقيق وإن كان ظاهره ذلك.

ص: 173


1- الظاهر أنّ هذا الكتاب فُقِدَ ولم يصل إلينا، وذكره ابن شهر آشوب في معالم العلماء، ص 70 والطهراني في الذريعة، ج 16، ص 299.

نعم، صرّح به تلميذه سلّارُ(1)، وبعده ابن إدريس(2) فهذان الرجلان عمدةُ القولِ بسقوطها حال الغيبة، وربما مال العلّامة في بعض كتبه (3) إلى هذا القول، لكنّه صرَّح بخلافه في غيره خصوصاً المختلف(4)، وهو آخِرُ ما صنَّفه مِنَ الكتب الفقهيّة(5)، في هذا الباب. ولا يخفى عليك حالُ قول يختصُّ مِن بين المسلمين بهذين الرجلين مع معارَضَةِ الكتاب والسنّة لهما على الوجه الذي بيناه.

وقد ظهر بذلك ضعفُ القولِ بسقوطها حالَ الغَيْبة مطلقاً بل بطلانُه.

وبقي الكلام مع القول الثاني الذي يَشتَرِطُ في جوازها الفقية، وما ذكرناه من الأدلّة كافٍ في ضعف القولين معاً، ولكن تحقيق المَقامِ يتوقّف على تخصيصهما بالكلام. فَلَنَشْرَع الآن فيه بمشيئة اللّه تعالى.

ص: 174


1- المراسم، ص 261.
2- السرائر، ج 1، ص 303.
3- يأتي في ص 204 - 205 عند الكلام على القول الثالث.
4- مختلف الشيعة، ج 2، ص 252، المسألة 147.
5- انظر في ذلك الذريعة، ج 2، ص 220.
وجوب صلاة الجمعة - حال الغيبة - بشرط حضور الفقيه

الكلام على القول الثاني

وهو وجوب الصلاة المذكورة حالَ الغَيبة لكن بشرط حضور الفقيه الجامع لشرائط الفتوى وإلّا لَم تُشْرَعْ.

اعلم أنّ هذا القول لم يصرخ به أحدٌ مِنْ فُقهائنا على وجه اليقين، وإنّما هو ظاهرُ عبارةِ العلّامة جمال الدين في التذكرةِ(1) والنهاية (2) والشهيدِ في الدروس(3) واللمعة(4)، لا غير، وفي باقي كتبهما وافقا غيرهما من المجوّزين مِنْ حيث الإطلاق، وسنتلو عليكَ عبارتهما في ذلك ونُبَيِّنُ عدمَ دَلالتها على المطلوب، بل عدم موافقة دليلها لظاهرها(5)، فقولهما بذلك غير متيقّن ولكن المحقّق المرحوم الشيخ عليّ (رحمه اللّه) اعتنى بهذا القول وتَرجيحِه، وادَّعى إجماع القائلين بشرعيَّتِها عليه (6)؛ والأصلُ في هذا القول أنّ إذنَ الإمامِ معتبرٌ فيها، فمع حُضوره يُعتبر حضورُه أو نائبُه، ومع غَيبته يقومُ الفقيهُ المذكورُ مقامَه؛ لأنّه نائبُهُ على العمومِ، وجملةُ ما ذكروه مِنَ الدليل على هذا الشرط أُمورٌ ثلاثةٌ:

الأوّل: أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يُعَيِّن لإمامةِ الجمعةِ وكذا الخلفاءُ بعده كما يُعيِّنُ للقضاء؛

ص: 175


1- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 27، المسألة 389.
2- نهاية الإحكام، ج 2، ص 14.
3- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 108 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9).
4- اللمعة الدمشقيّة، ص 37 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 13).
5- في ص 185 -187.
6- رسالة صلاة الجمعة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 158 - 160.

وكما لا يصحُّ أنْ يَنْصِبَ الإِنسانُ نَفْسَه قاضياً مِن دونِ إذنِ الإمام فكذا إمامُ الجمعة.

قالوا: وليس هذا قياساً بل استدلالاً بالعمل المستمرِّ في الأعصار، فمخالفَتُه خرقُ الإجماع.

مناقشة أوّل أدلّة هذا القول

الثاني: رواية محمد بن مسلم قال: «لا تجب الجمعةُ على أقلَّ مِنْ سبعةٍ: الإمامُ وقاضيه ومُدَّع حقاً ومُدَّعَى عليه وشاهدان ومَنْ يَضْرِبُ الحدودَ بَيْنَ يَدَي الإمامِ»(1).

وفيه دَلالة على اشتراط الإمام حيثُ جعله أحد السبعة.

الثالث: أنّه إجماعٌ، كما نقله جماعةٌ من الأصحابِ منهم المحقّق نجمُ الدينِ بنِ سعيدٍ في المعتبر(2) والعلّامة جمال الدينِ بنِ المطهَّرِ في التذكرة (3) والنهاية (4)؛ والشهيدُ في الذكرى(5)، والإجماعُ المنقولُ بخبر الواحدِ حجَّةٌ فكيف بنقل هؤلاء الأعيان.

والجوابُ عَنِ الأصلِ المذكور، أنَّه لوتَمّ لَزِمَهم القولُ بكون وجوبها مع الفقيه عينيّاً على حدِّ وجوبها مع الإمام ونائبه الخاصِّ؛ قضيَّةً لوجودِ الشرط، وهؤلاء المتأخّرون لا يقولون به بل يجعلونها حالَ الغَيبة مطلقاً مُستحبّةً بمعنى أنها واجبةٌ تخييراً إلّا أنّها أفضلُ الفردين الواجبين على التخيير، فهي مستحبَّةٌ عيناً واجبةً تخييراً. فما يقتضيه دليلهم لا يقولون به، وما يقولون به لا يُفْضِي إليه دليلهم.

وأيضاً، فإنّهم يعترفون في هذه الحالة بعدَمِ وجودِ شرطِ الوجوب الذي هو الإمام أو نائبه كما سنحكيه(6) من ألفاظهم، فلا فرقَ حينئذٍ بين وجودِ الفقيه وعدمه حيثُ لا يُوجَدُ

ص: 176


1- الفقيه، ج 1، ص 613، ح 1225؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 20 - 21، ح 75؛ الاستبصار، ج 1، ص 418 – 419، ح 1608.
2- المعتبر، ج 2، ص 279.
3- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 19، المسألة 381.
4- نهاية الإحكام، ج 2، ص 13.
5- ذكرى الشيعة، ج 4، ص 20 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8).
6- في ص 186 وما بعده.

هذا الشرط، بل إمّا أنْ يَحكُموا بوجوبِها؛ نظراً إلى أنّ الشرطَ المذكورَ إنّما يُعتبر مع إمكانه لا مطلقاً، أو يحكموا بعدم مشروعيَّتِها؛ التفاتاً إلى فقدِ الشرطِ.

لا يقال: نَختارُ الأوّل، وهو حصولُ الشرط بحضورِ الفقيهِ، ولكنَّ الوجوبَ العيني منفيٌّ بالإجماع كما سندَّعيه(1)، فقلنا بالوجوب التخييري حيثُ دلَّ الدليلُ على الوجوب ولم يُمكنِ القولُ بالأوّلِ.

لأنّا نقول: قَدِ اعْتَرفتم في كلامِكم بفقدِ الشرطِ في هذه الحالةِ كما سنحكيه عنكم، وهو خلافُ ما التزمْتُمُوه هنا؛ ودعوى الإجماع المذكور، سنبيِّنُ فَسادَها إن شاء اللّه تعالى(2).

والجوابُ عن الأمر الأوّل - مع تسليم اطّراده في جميع الأئمّة - منعُ دَلالته على الشرطية بل هو أعمّ منها، والعامُّ لا يدلُّ على الخاصِّ، والظاهرُ أن تعيينَ الأئمّة إنما هو لِحَسْم مادَّةِ النزاع في هذه المَرْتَبَةِ، وردّ الناسِ إليه بغير تردُّدٍ، واعتمادِهم على تقليده بغير ريبة، واستحقاقِه مِنْ بيتِ المال لسهمٍ وافرٍ مِنْ حيث قيامه بهذه الوظيفة الكبيرة مِنْ أركان الدين.

ويؤيد ذلك أنّهم كانوا يُعيِّنونَ ِلإمامة الصلاةِ اليومية أيضاً وللأذان وغيرهما مِنَ الوظائف الدينية مع عدم اشتراطها بإذن الإمام بإجماع المسلمين، ولم يَزَلِ الأمرُ مستمراً في نصب الأئمّة للصلواتِ الخَمس والأذان وغيرهما أيضاً من عهد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى يومنا هذا مِنَ الخلفاء والسلاطين وأئمّة العدل والجور، كلّ ذلك لما ذكرناه مِنَ الوجهِ لا لجهة الاشتراط، وهذا أمر واضحٌ لا يخفى على مُنْصِفٍ.

مناقشة الدليل الثاني وهو الرواية

وعن الثاني بعدم دَلالته على الاشتراط مِن وجوهٍ:

أحدُها: ضعف الخبر، فإنّ في طريقه الحَكَمَ بن مسكين، وهو مجهول. لم يَذْكُرْه

ص: 177


1- في ص 202-203.
2- في ص 203.

أحدٌ مِنْ عُلماء الرجال المعتمدين ولم يَنُصُّوا عليه بتَوثيقٍ ولا ضدِّه، ومَنْ هذا شأنه يُرَدُّ الحديثُ لأجله؛ لأنّ أدنى مراتبِ قبولِه أنْ يكونَ حَسناً أو مُوثّقاً إن لم يكن صحيحاً، وشهرتُه بين الأصحابِ على وجهِ العملِ بمضمونه بحيث تَجْبُر ضعفه ممنوعةٌ، فإنّ مدلوَله لا يقولُ به أحدٌ، وعدده لا يقول به الأكثرُ.

ومن العجيب هنا قول الشهيد (رحمه اللّه) في الذكرى اعتذاراً عَنْ عدمِ نصِّ الأصحابِ على الحَكَمِ بجَرْحِ ولا مدحٍ بأنّ: الكشّي ذَكَره في كتابه ولَمْ يتعرَّض له بذمٍّ(1)، فإنّ مجرّد ذكرِ الكشّي له لا يُوجِبُ قبولاً له فقد ذَكَر في كتابه المقبولَ وغيرَه، بل لو ذكره بهذه الحالةِ جميعُ المصنِّفين ومَنْ هو أجلُّ مِنَ الكشّي لم يُفِدْ ذلك قبولَه، فكيف بمثل الكشّي الذي يشتملُ كتابُه على أغاليطَ مِنْ جرحٍ لغير مجروح بروايات ضعيفةٍ، ومدحٍ لغيره كذلك، كما نبه عليه جماعةٌ مِنْ علماء أهل هذا الفنِّ (2)؟ والغرضُ مِنْ وضعه ليس هو معرفةُ التوثيقِ وضدِّه كعادة غيره مِنَ الكُتُب، بل غرضُه ذِكرُ الرجل وما وَرَدَ فيه من مدحٍ وجرحٍ - وعلى الناظر طلب الحكم - وحيثُ لا يَقِفُ على شيء مِنْ أحواله يَقْتَصِرُ على ما ذكره كما يَعْلَمُ ذلك مَنْ تأمَّل الكتابَ، وما هذا شأنه كيف يُجعلُ مجرّد ذكره له موجباً لقبول روايته! ما هذا إلّا عجيبٌ مِنْ مثل هذا المحقّق المُنَقِّبِ.

وثانيها: أنّ الخبر متروكُ الظاهر؛ لأنّ مقتضى ظاهرهِ أنّ الجمعةَ لا تنعقدُ إلّا باجتماعِ الإمامِ وقاضيه والمتداعِيَيْنِ والشاهِدين والحدّاد، واجتماعُ هؤلاء ليس بشرطٍ إجماعاً، وإنّما الخلافُ في حضورِ أحدِهم وهو الإمامُ. فما يدلّ عليه الخبرُ لا يقول به أحدٌ، وما يستدلُّ به منه لا يدلُّ عليه بخصوصه.

ص: 178


1- ذكرى الشيعة، ج 4، ص 27 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8) ؛ اختيار معرفة الرجال، ص 12، ح 26، وص 249، ح 462، وص 362، ح 669، وص 457 - 458، ح 866.
2- رجال النجاشي، ص 372، الرقم 1018؛ خلاصة الأقوال، ص 146؛ رجال ابن داود، ص 181؛ وانظر قاموس الرجال، ج 1، ص 58 - 64.

فإنْ قيل: حضورُ غيرِه خرج بالإجماعِ، فيكونُ هو المخصِّصُ لمدلول الخبرِ، فتبقى دَلالته على ما لا إجماع فيه باقيةٌ.

قلنا: يكفي في اطّراحه وتَهافُتِه مع ضَعْفِه مخالفة أكثر مدلوله لإجماعِ المسلمين، وما الذي يَضْطَرُّنا إلى العمل ببعضه مع هذه الحالة العجيبةِ ؟

وثالثها: أنّ مدلولَه مِنْ حيث العدد وهو السبعةُ متروكٌ أيضاً، ومُعارَضٌ بالأخبار الصحيحةِ الدالّةِ على اعتبار الخمسة خاصّةً، كصحيحةِ منصورِ بن حازمٍ، وقد تقدَّمتْ(1)، وما ذُكر فيه السبعةُ - غير هذا الخبرِ - لا ينافي إيجابَها على مَن دونَهم بخلافِ هذا الخبر، فإنّه نفى فيه وجوبها على أقلَّ مِنَ السبعة.

ورابعها: أنّه على تقديرِ سلامتَهِ من هذه القوادح يمكنُ حملُه على حالة إمكان حضورِ الإمام، وأمّا مع تعذُّره فيَسْقُطُ اعتبارُه، جمعاً بين الأدلّة. ويُؤيِّدُه إطلاقُ الوجوبِ فيه الدالُّ بظاهره على الوجوبِ العيني المشروطِ - عند مَنِ اعتبر هذا الحديث - بحالةِ الحضورِ، وأمّا حالةُ الغَيبة فلا يُطلِقون على حكم الصلاةِ اسمَ الوجوبِ بَل الاستحباب بناءً على ذَهابِهم حينئذٍ إلى الوجوب التخييري مع كون الجمعة أحد الفردين الواجبين تخييراً.

وخامسها: حَمْلُ العددِ المذكور في الخبر على اعتبار حضورِ قومِ مِنَ المكلّفين بها بِعَدَدِ المذكورين - أعني حضور سَبعَةٍ وإن لم يكونوا عين المذكورين - نظراً إلى فَسادِ حَملِه على ظاهره مِن اعتبارِ أعيان المذكورين؛ لإجماعِ المسلمين على عَدَمِ اعتباره. وقد نَبَّه على هذا التأويلِ شيخُنا المتقدّم السعيدُ أبو عبد اللّه المفيدُ في كتاب الإشراف فقال: وعددُهم خمسةُ نفرٍ في عدد الإمامِ والشاهِدَين والمشهودِ عليه والمُتولّى لإقامة الحدِّ(2).

وسادسها: أنّ الإمامَ المذكورَ في الخبر لا يتعيَّنُ حملُه على الإمامِ المطلق - أعني

ص: 179


1- تقدّمت في ص 161، الهامش 5.
2- الإشراف، ص 25.

السلطانَ العادلَ - بل هو أعمُّ منه، والمتيقَّنُ منه كونُ الجماعةِ لهم إمامٌ يقتدون به حتّى لا تصحّ صلاتهم فُرادى ونحن نقول به.

فإن قيل: قرينة الإطلاق عطفُ «قاضيه» عليه بإعادة الضمير إليه، فإنّ الإمامَ غيره لا قاضي له.

قلنا: قَدِ اضْطُرِرْنا إلى العدولِ عن ظاهره لما ذكرناه مِنْ عدم اعتبار حضور قاضيه وغيره، وإن اعتبرنا حضور الإمام فلا حجَّةً فيه حينئذٍ، وجاز إضافةُ القاضي إليه بأدنى مُلابَسَةٍ ؛ لأنَّ المَحلَّ بابُ تأويلٍ لا محلُّ تنزيل، وبابُ التأويل مُتّسعٌ خصوصاً مع دُعاءِ الضرورة إليه على كلّ حالٍ، ونمنع من كون إطلاق الإمام محمولاً على السلطانِ خصوصاً مع وجودِ الصارف.

وسابعها: أن العمل بظاهر الخبر يقتضي أن لا يقومَ نائبُه مقامَه، وهو خلافُ إجماعِ المسلمين، وهو قرينةٌ أُخرى على كونِ الإمامِ ليس هو المطلقُ، أو محمولٌ على العدد المتقدّم أو غيرِه.

وثامنها : أنّه معارضٌ بما رواه محمّدُ بنُ مُسلمٍ - راوي هذا الحديث - في الصحيح عَنْ أحدِهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: سألته عَنْ أناسٍ في قريةٍ هل يُصلُّونَ الجمعةَ جماعةً ؟ قال: «نعم، يُصلُّونَ أربعاً إذا لم يكن فيهم مَنْ يخطُبُ»(1). ومفهومُ الشرط أنّه إذا كان فيهم مَنْ يخطبُ يصلّون الجمعة ركعتين و«مَنْ» عامةٌ فيمَنْ يُمْكِنُه الخطبة الشامل لمنصوبِ الإمام وغيرِه، ومفهومُ الشرط حجَّةٌ عند المحقّقين(2). وإذا تعارضتْ روايةُ الرجلِ الواحدِ سقط الاستدلالُ بها، كيف مع حصول الترجيحِ لهذا الجانبِ بصحَّةِ طريقه ومُوافَقَتِه لغيره مِنَ الأخبار الصحيحة، وغيرِ ذلك ممّا قد عُلِمَ!

ص: 180


1- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 238، ح 633؛ الاستبصار، ج 1، ص 419 - 420، ح 1613، ما أثبتناه مطابق للنسخ، ولا توجد في المصدرين كلمة «فيهم».
2- مبادئ الوصول، ص 98 – 99.

مناقشة الدليل الثالث وهو الإجماع

وأمّا الجواب عن الثالث - وهو دعوى إجماعِ الأصحاب على ذلك - فتحقيق القولِ فيه يَحتاجُ إلى بسطٍ ونقل لكلامِ القومِ وبَيانِ الحقّ في ذلك، فإنّه عمدةُ الاستدلال ومظهر الشبهة القويَّةِ، فنقول وباللّه التوفيقُ: إنّ الذي يدلُّ عليه كلامُ الأصحابِ ومدَّعي الإجماعِ أنّ مَوضِعَ الإجماع المدَّعى إنّما هو حالُ حضورِ الإمام، وتمكُّنه، والشرطَ المذكورَ حينئذٍ إنّما هو مع إمكانه لا مطلقاً في وجوبِها عيناً لا تخييراً كما هو مدَّعاهم حالَ الغيبةِ؛ لأنّهم يُطلقون القولَ باشتراطه في الوجوبِ ويدَّعون الإجماعَ عليه أوّلاً ثمّ يذكرون حالَ الغيبةِ، وينقلون الخلافَ فيه ويختارون جوازها حينئذٍ استحباباً مُعترفين بفقد الشرطِ.

هكذا عبَّروا عَنِ المسألةِ وصرَّحوا به في الموضعين، فلو كان الإجماعُ المدَّعى لهم شاملاً لِمَوضِعِ النزاع لما ساغ لهم نقلُ الخلافِ بعد ذلك، بل اختيارُ جوازِ فعلها بدونه. وأيضاً فإنهم يصرِّحون بأنّه شرطٌ للوجوبِ ثمّ يذكرونَ الحُكم حال الغيبةِ ويجعلون الخلافَ في الاستحباب فلا يعبِّرون عَن حكمِها حينئذٍ بالوجوبِ وهو دليلٌ بَيِّنٌ. على أنّ الوجوب الذي يجعلونه مشروطاً بالإمام وما في معناه إنّما هو حيث يُمكن، أو في الوجوب العيني حال حضوره، بناءً منهم على أنّ ما عداه لا يُسَمُّونَه واجباً وإن أمكن إطلاقُه عليه مِنْ حيث إنّه واجبٌ تخييري. وعلى هذا الوجه يَسقُطُ الاستدلالُ بالإجماعِ في موضع النزاع لوتَمّ في غيره. هذا مِن حيث الإجمال.

وأمّا الوجه التفصيلي فيتوقّف على نقل كلام مُدَّعِي الإجماعِ وتحريرِ القول في مُراده، فَلْنَشرعْ في نقله لنُبيِّنَ مطابقتَه لِما ذكرناه في الجواب الإجمالي، ويُعلمَ أنّ ما ذكره المُدَّعِي إنّما هو أخذٌ بأوَّلِ الكلام وإغفالٌ لباقيه فنقول:

أمَّا مَنْ صَرَّح بدعوى الإجماع - وجعله المرحومُ الشيخُ عليّ عمدتَه في الاستدلالِ(1) - فأوَّلُهم المحقّقُ أبو القاسم جعفرُ بنُ سعيدٍ (رحمه اللّه) فإنّه قال في

ص: 181


1- رسالة صلاة الجمعة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 144 و 158.

المعتبر: «مسألة: السلطانُ العادلُ أو نائبُه شرطُ وجوب الجمعةِ، وهو قولُ علمائنا(1)»، ثمّ استدلَّ عليه بما ذكرناه سابقاً مِنْ فعل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) والخلفاء بعده، وبرواية محمّد بن مسلم(2). «واستدلَّ على اشتراطِ عَدالَتِه بِأنَّ الاجتماعَ مَظنَّةُ النزاعِ ومثارِ الفِتَنِ غالباً، والحكمة موجبة لِحَسْم مادَّةِ الاختلاف، ولن يستمرَّ إلّا مع السلطانِ العادلِ؛ إذِ الفاسقُ يسرعُ إلى بواعثِ طبعه ومَرامي أهْوِيَته لا إلى مَواضع المَصلحةِ»(3). انتهى كلامه.

والكلام عليه كما أسلفناه في مُجمل الجواب بأنّ هذا الشرطَ المدَّعى عليه الإجماعُ مع تسليمه إنّما هو حالُ حضورِ الإمامِ، أو في وجوبِها العيني، والذي يوجِبُ ذلك أنّه قال بعد ذلك:

لو لم يكنْ إمامُ الأصلِ ظاهراً سقط الوجوبُ ولم يَسقُطِ الاستحبابُ، وصُلِّيت جمعةً إذا أمكن الاجتماعُ والخطبتان(4).

ثم استدلَّ عليه برواية الفضل بن عبدِ الملك، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: إذا كان قومٌ فى قريةٍ صلّوا الجمعةَ أربعَ ركعاتٍ، فإن كان لهم مَنْ يَخْطُبُ جَمَّعوا إذا كانوا خمسة نفرٍ(5).

وبالروايات السابقة(6).

وهذا كما ترى صريحٌ في جوازِ فِعلِها حالَ الغَيبةِ بدون إذنِ الإمامِ عملاً بإطلاق الروايات وأنّ الإجماعَ الذي ادَّعاء إنّما هو حالة الحضورِ، وإلّا لما أمكنه مخالفتُه؛ وأنّ المرادَ بالوجوبِ العيني؛ بدليل أنه كنّى عن حكمها حالَ الغَيبة بالاستحباب، ومراده

ص: 182


1- المعتبر، ج 2، ص 279.
2- تقدّم تخريجها في ص 176، الهامش 1.
3- المعتبر، ج 2، ص 280.
4- المعتبر، ج 2، ص 297.
5- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 238 - 239، ح 634: الاستبصار، ج 1، ص 420، ح 1614.
6- المعتبر، ج 2، ص 297.

كونُه أفضلَ الفردين، كما قررناه سابقاً، وجَعَل ضابطَ شرطِ الوجوبِ حينئذٍ إمكانَ الاجتماعِ والخطبتين.

وقال بعد ذلك في موضعٍ آخرَ مِنَ الكتاب:

لو كان السلطانُ جائراً ثمّ نصب عدلاً استحبَّ الاجتماعُ وانعقدتْ جمعةً. وأطبق الجمهورُ على الوجوبِ؛ لنا أنّا بيّنّا أنّ الإمامَ العادلَ أو مَنْ نصبه شرطُ الوجوب، والتقديرُ عدمُ ذلك الشرطِ؛ أمّا الاستحبابُ فلِما بيّناه من الإذن مع عدمه(1). انتهى.

وهذا أيضاً صريحٌ في أنّ دعوى الإجماع المذكور إنّما هي في حالة الحضور؛ وأنّ المرادَ الوجوبُ العيني، لا التخييري المُعبَّرُ عنه بالاستحبابِ؛ وأنّ العدلَ كافٍ في إمامةِ الجمعةِ حينئذٍ، إذ لا تصحُّ إرادةُ الإمام العادل بالعدلِ المنصوب؛ لاعترافه بفقد الشرط حينئذٍ وهو حضورُ الإمام العادل أو مَنْ نصبه؛ ولأنّ الصلاة معه حينئذٍ تكون واجبةً، إذ لا فرقَ بَيْنَ نصب الجائر له وعدمه في الوجوبِ. فتعيَّن أنّ المراد به مطلق العدل فقيهاً كان أم لا، وأنّ فِعلها حالَ الغيبة بدون إذنه مأذون فيه من جهة الروايات المذكورة وإن لم يكن هناك منصوبٌ مِنَ الإمامِ؛ لاعترافه بفقد الشرط حينئذٍ. وهذا كلّه واضح صريح مِنَ العبارة؛ فكيف يُجْعل دليلاً على موضع النزاع ؟

ولكن بقي في الكلام شيءٌ، وهو أن الإمامَ إن كان شرطاً عنده من حيث الأدلّة مِنْ المذكورة، فكيف يَستَدِلُّ بإطلاقِ النصوصِ أو بعمومِها على الجواز بدونِ الشرط ؟ إذ ليس في تلك الأدلّة إشعارٌ بتقييد الشرطِ بحال حضوره، كما لا إشعار لتلك النصوص بأنّ الجواز بدون حضوره أو نائبه مقصورٌ على تعذُّره.

بَلِ التحقيقُ أنّ تلك الأدلّةَ لا تُوصِلُ إلى المطلوب مِنَ الاشتراط كما قرّرناه، والنصوص الدالّةُ على شرعيَّتِها بل وجوبها مطلقاً غيرُ مقيَّدَةٍ بحال الغَيبةِ، فلا وجه لتقييدها.

ص: 183


1- المعتبر، ج 2، ص307.

وبقي استدلالُه على اشتراط كونه عادلاً بما ذكره مِنْ أَنْ مادَّةَ الاختلافِ لا تَنْحَسِمُ إلّا به، إلى آخر ما ذكره.

فيه ما لا يخفى مِنْ أنّ الاجتماع على هذه العبادة المخصوصة ونظائرها لا يتوقّف على مثل ما ذَكر، ضرورةَ تحقّقِ هذا الاجتماعِ بل ما هو أعظمُ منه في جميعِ الأوقاتِ خصوصاً بمنىً وعرفات وغيرِهما مِنْ مَجامع العبادات، ولم يحصل شيءٌ مِنْ تلك المحذورات، كما يظهر بأدنى تأمُّلٍ. وهذه الجَماعةُ في الصلاة اليوميَّةِ مشروعةٌ مندوبٌ إليها، وإن عظم الجمعُ أضعافاً كثيرةً كَما (1) يحصلُ به الجمعُ في الجمعة في كثيرٍ من أفرادها، ولا يَعْتبر الشارعُ فيها زيادةً على إمام يصحُّ الاقتداء به، ولا يَنْظُرُ إلى احتمال الفتنةِ المذكورةِ، وكذا في غيرِها، كما لا يخفى.

مناقشة عبارة العلّامة (رحمه اللّه)

والكلامُ على عبارات العلّامة قريبٌ مِنْ ذلك؛ فإنّه قال في التذكرةِ : الجمعةُ واجبةٌ بالنصّ والإجماعِ(2). ثم قال في مسألةٍ أُخرى: ووجوبُها على الأعيان(3). ثمّ قال: يُشترطُ في وجوبِ الجمعةِ السلطانُ أو نائبُه عند علمائنا أجمع، واستدلَّ عليه بمثلِ دليل المعتبر من غير تغييرٍ(4)، وظاهر متن هذا الكلام وسياقُه(5) صريحان في أنّ الوجوبَ المدَّعى شرطيَّةُ الإمامِ فيه هو العيني حالَ حضورِه.

ثمّ قال بعد ذلك:

وهَلْ لِلْفُقهاء المؤمنينَ حالَ الغَيبة والتمكُّنِ مِنَ الاجتماع والخُطبتين صلاة الجمعة ؟ أطبقَ علماؤنا على عدمِ الوجوبِ؛ لانتفاءِ الشرطِ، وهو ظهورُ الإذن مِنَ الإمام، واختَلَفوا في استحبابِ إقامةِ الجمعةِ، فالمشهورُ ذلك.

ص: 184


1- في النسخ: «لما» بدل «كما».
2- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 7، المسألة 372.
3- تذكره الفقهاء، ج 4، ص 8 المسألة 373.
4- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 19، المسألة 381.
5- هكذا في نسخةٍ، وفي أكثر النسخ «وسياق هذا الكلام» وسياقه، ولعلّ المراد سياق كلام العلّامة والمحقّق.

واستدلَّ عليه بالأخبار المذكورة(1) كعبارة المعتبر.

وهذا أيضاً كما ترى صريحٌ في أن الإجماع المدَّعى على الوجوب إنما هو على العيني حالةَ الحضورِ؛ لأنّه جَعَلَ فِعلَها حالَ الغيبةِ مستحبّاً، وعنَى به ما ذكرناه مِنَ الواجب التخييري إذا كان بعضُ أفراده أفضلَ مِنْ بعضٍ، وجَعَلَ المشهورَ استحبابَ فِعلها حينئذٍ بدون إذن الإمام.

فتبيَّنَ بذلك أنّ دعوى الإجماعِ ليستْ على حالةِ الغيبةِ قطعاً، وإنّما هي مُختصَّةٌ بحالة الحضور على الوجوب العيني، وأنّهم لا يُسمُّون حكمَها حالةَ الغيبةِ وجوباً أصلاً، بل بالغ العلّامةُ فادَّعى الإجماعَ على عدمِ الوجوبِ حينئذٍ وإن أمكن تسميتُه وجوباً كما قرّرناه. وأوضحُ مِنْ ذلك دَلالةً في العبارة اعترافُه بفقد الشرط، ورتَّبَ عليه عدمَ الوجوب ثم حَكَم بالاستحباب، فلو كان الإمامُ أو مَنْ نَصَبَه شرطاً مُطلقاً لما أمكنه الحكمُ باستحبابها حينئذٍ مع اعترافِه بفقدِ الشرطِ.

ومِنْ هنا يظهرُ ظهوراً بيّناً أنّ الفقيهَ ليس بشرط أيضاً عنده وإن مثَّل به وإِلّا لَزِمَ القولُ بالوجوب إن تحقّق معه الشرطُ، وإلغاؤه رأساً إن لم يحصل كمالا يخفى.

وقريبٌ مِنْ عبارة التذكرةِ عبارتُه في النهايةِ (2)، فلا وَجْهَ لِذكرِها. نعم بقي في عبارته فيهما أنّه جَعَلَ مَوردَ الخلافِ حالَ الغيبةِ في فعل الفقهاء للصلاة لا مطلقَ المصلّين، كما فعله في المعتبر، وسيأتي أنّ التعبير بذلك لا يفيدُ الحصرَ لفظاً ودليلاً.

وقال في التذكرة بعد ذلك:

لو كان السلطان جائراً ثمّ نصب عدلاً استُحِبَّ الاجتماعُ وانعقدتْ جمعةً على الأقوى، ولا تجبُ؛ لفواتِ الشرطِ وهو الإمامُ أو مَنْ،نصبه وأطبق الجمهورُ على الوجوب(3).

ص: 185


1- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 27، المسألة 389.
2- نهاية الإحكام، ج 2، ص 13 - 14.
3- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 24، المسألة 384.

والكلام في هذه العبارة كالكلام في عبارة المعتبر، فإنّها قريبة منها، ودالّةٌ بإطلاقها على الاجتزاء بمُطْلَقِ العدل وإن لم يكن فقيهاً. فهي أجودُ مِنَ العبارة السابقة ومؤيّدَةُ لكون ذكر الفقهاء وقع سابقاً على وجه المثال لا الحصر.

ثم نقول: اللازم من القول بِتَمَنِّي الإجماع على اشتراط الإمام في الصلاة مطلقاً في موضع النزاع أنْ لا يخصّ بدليل الأخبار ولا بالوجوب العيني؛ لأنّ الفقية إن كان مأذوناً بحيثُ يتحقّق معه الشرطُ لَزِمَ كونُ الوجوب على حد الوجوبِ الأوّل، وإلّا فما الذي أوجب الفرق ؟ وإن لم يكن قائماً بوظيفة شرطيّة الإمام لم تكن الصلاة معه صحيحةً؛ لفقد شرط الصحّة، كما لا تصحّ الصلاة لفقد غيره من الشروط المعتبرة فيها مِنَ الجماعةِ والعددِ والخطبتين وغيرها؛ لأنّ قاعدة الشرط تقتضي عدم مشروطه بعدمه.

ولأجلّ هذا الإشكال ينبغى أن لا يُجعل تعبيره بالفقهاء سابقاً قيداً ولا شرطاً للجواز مضافاً إلى أنّها لا تدلُّ على نفى الجواز عمَّنْ عداهم إلا بالمفهوم الضعيف. ويُمكنُ مع ذلك كونُ فائدة التخصيص بالفقهاء خصوصيَّة الردّ على ابن إدريس المانعِ مِنْ فعلها حال الغيبة استدلالاً بفقد الشرط(1)، فنبه بذكر الفقهاء على منع كون الشرط مفقوداً مطلقاً حينئذٍ، بحيث ينسد باب فعلها في حالِ الغيبة كما زعمه المانع، فإنّ الفقهاء مأذونونَ مِنْ قِبَلِ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) على العموم، فيتحقَّق الشرط المدّعى على تقدير تسليمه.

وإلى هذا المعنى أشار العلّامة في المختلفِ حيث قال بعد حكاية المنع عن ابن إدريس : «والأقربُ الجواز»(2). ثم استدلَّ بعموم الآية والأخبار، ثم حكى حجَّةَ ابن إدريس على المنعِ بأنّ شرط انعقادِ الجمعة الإمامُ أو مَنْ نصبه الإمامُ إجماعاً(3)،

ص: 186


1- السرائر، ج 1، ص 303.
2- مختلف الشيعة، ج 2، ص 252، المسألة 147.
3- السرائر، ج 1، ص 303:... وأيضاً فإنّ عندنا - بلا خلاف بين أصحابنا - أن من شرط انعقاد الجمعة الإمام، أو من نصبه الإمام للصلاة.

إلى آخره. ثمّ قال في المختلف:

والجواب بمنع الإجماع على خلافِ صورة النزاع، وأيضاً فإنا نقول بموجبه؛ لأنّ الفقية المأمونَ منصوبٌ مِنْ قِبَلِ الإمام(1)، إلى آخره.

وأنت إذا تأمّلت كلامه وجدته قادحاً في الإجماع المدعى أولاً، وعلى تقدير تسليمه لا يلتزِمُ بسدّ باب فعلها حالَ الغيبة كما زعم ابنُ إدريس؛ لأنّ الفقية منصوبٌ مِنْ قِبل الإمام على العموم. وبهذا يظهر أنّ ذِكْرَ الفقيه لم يقع لبيان الاشتراط وانحصار المشروعيَّةِ فيه، ويؤيّده ما أشرنا إليه مِنْ اعترافه حينئذٍ بفقد الشرط، ولهذا رتَّبَ عليه الحكم بعدم الوجوب، فكيف يُجْمَعُ بين الكلامين باشتراط الفقيه الموجب للوجوب الذي هو منفي عنده بالإجماع الذي ادعاه ؟ هذا على تقدير حمل الفقيه على معناه الخاص وهو المجتهد.

ولو حُمِلَ على معناه العام المتبادِرِ مِنْ معناه عرفاً بل شرعاً في كثير من الموارد - كما بينوه في باب الوقف والوصيّة وغيرهما - انسدَّ عنا بابُ التكليف. نعم كلامه في المختلفِ الواقع بطريق الردّ على ابن إدريس لا يحتمل إلا معنى الفقيه الخاص ليكون نائباً عَنِ الإمام، ويتحقق به بطلانُ القول بعدم شرعيَّتها حالَ الغيبة مطلقاً. وأما كلام التذكرة والنهاية فلا يتعيّن لذلك؛ لعدم المقتضي له.

مناقشة عبارة الشهيد الأوّل (رحمه اللّه)

وأما الشهيد (رحمه اللّه) فإنه قال في الذكرى:

إنّ شرط وجوبها سبعة: الأوّل : السلطانُ العادل وهو الإمام أو نائبه إجماعاً - ثم أخذ في ذكر شروط النائب إلى أن قال - التاسع: إذن الإمام له كما كان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يَأْذَنُ لأئمّة الجُمُعاتِ وأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) [بعده](2) وعليه إطباق الإماميّة : هذا مع حضورِ الإمام وأمّا مع غيبته كهذا الزمان ففي انعقادها قولان،

ص: 187


1- مختلف الشيعة، ج 2 ص 253، المسألة 147.
2- أضفناه من المصدر.

أصحّهما - وبه قال معظم الأصحاب - الجواز إذا أمكن الاجتماعٌ والخطبتان؛ ويُعلّل بأمرين:

أحدهما: أنّ الإذن حاصل مِنَ الأئمّة الماضينَ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، فهو كالإذنِ مِنْ إمام الوقتِ، وإليه أشارَ الشيخُ في الخلافِ(1)، ويؤيّده صحيحُ زرارة قال: حتَّنا أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) على صلاة الجمعةِ حتّى ظننتُ أنّه يريدُ أنْ نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ قال: «لا، إِنّما عنيتُ عندكم»(2). ولأنّ الفقهاء حالَ الغيبةِ يُباشِرونَ ما هو أعظمُ مِنْ ذلك بالإذن كالحكم والإفتاء، فهذا أولى.

والتعليل الثاني: أنّ الإذن إنّما يُعتبر مع إمكانه أمّا مع عدمه فيسقط اعتباره، ويَبْقى عموم القرآنِ والأخبارِ خالياً عَنِ المُعارِضِ.

- ثمّ نَقَلَ صحيحة عمر بن يزيد السالفة(3) وصحيحة منصور بن حازم: «يُجَمِّعُ القومُ يومَ الجمعةِ إذا كانوا خمسةً فما زادَ والجمعة واجبة على كلّ أحدٍ لا يُعْذَرُ الناسُ فيها إلا خمسة...»(4) إلى آخره، ثمّ قال - والتعليلان حسنان، والاعتماد على الثاني(5). انتهى.

وفي هذه العبارة دلالة واضحة على أنَّ الإجماع المدعى إنّما هو حالة الحضورِ، وأمّا حال الغَيبة فالأكثر على عدم اعتباره.

وتعليله الأوّل يشتمل على أمرين:

أحدهما: أن الإذن حاصل لجميع المكلّفين مِنَ الأثمَّةِ الماضين كما تدلُّ عليه

ص: 188


1- سيأتي نص كلام الشيخ في ص 198 - 199.
2- تقدّم تخريجه في ص 162 الهامش 7.
3- تقدّم تخريجها في ص 161، الهامش 6.
4- تقدّم تخريجها في ص 161، الهامش 5.
5- ذكرى الشيعة، ج 4، ص 20 - 24 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8).

الروايات التي أسلفناها، فهو كالإذنِ مِنْ إمام الوقت، وليس المراد منه أنّ الإذن حاصلٌ للفقيه، لوجهين:

أحدهما: أنّه جعله كقول الشيخ في الخلاف، واستدل عليه بإطلاق خبر زرارة، كما حقّقناه سابقاً. وعبارة الشيخ في الخلاف دالّة على ما قلناه مِنْ أنّ الأئمّة أذنوا بمضمون تلك الأخبار للمؤمنين أن يجتمعوا ويُصلّوا الجمعة كيف أتفق مع الإمكان، كما تُرشد إليه صحيحة منصور بن حازم السابقة وغيرها، وسننقل عبارة الخلاف فيما بعد(1) إن شاء اللّه تعالى لنبيّنَ دَلالتها على ذلك.

والوجه الثاني أنّه عَطَفَ الإذن للفقيه على ما ذكره سابقاً بقوله: «ولأنّ الفقهاء يُباشرون...» إلى آخره. وهو يقتضي المغايرة بين الأمرين.

والأمر الثاني: أنّه على تقديرِ التنزلِ والاعترافِ بعدم الإذنِ مِنَ الأئمّة لعامّة المؤمنين فهو متحقق للفقهاء بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «انظروا إلى رجل قد روى حديثنا - إلى قوله : - فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(2). ولهذا يباشرون بهذا الإذن ما هو أعظمُ مِنَ الجمعة كالحكم بينَ الناسِ وإقامة الحدودِ وغيرها. وبهذين الأمرين يحصل الردّ على خصوص دعوى ابن إدريس المنع من فعلها؛ نظراً إلى فقد الشرط(3)، بإثبات وجودِ الشرط - على تقدير تسليمه - بأحد الأمرين الإذن للجميع والإذن للفقهاء، فلا يتم القولُ بالمنع نظراً إلى فقدِ الشرط.

وتعليله الثاني دالّ على عدم اعتبار الإذنِ حينئذٍ، وأنه إنما يعتبر مع إمكانه - وهو حالة الحضور - نظراً إلى عموم الأدلّة وعدم وجودِ ما يدلُّ على الاشتراط مطلقاً كما

ص: 189


1- سيأتي نقل عبارة الخلاف في ص 198 - 199.
2- الكافي، ج 1، ص 67، باب اختلاف الحديث، ح 10؛ وج 7، ص 412، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ح ؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 218، ح 514، وص 301 - 302، ح 845.
3- السرائر، ج 1، ص 303، وقد تقدمت عبارته قبل عدّة صفحات.

حقّقناه، وجَعَل اعتماده على هذا التعليل واكتفى بإمكان الاجتماع والخطبتين، وهو دالٌّ على ما اخترناه

فهؤلاء المذكورونَ مِنْ علمائنا جملةُ مَنِ اسْتَنَد الشيخ عليّ (رحمه اللّه) إلى نقلهم الإجماع على اشتراط إذنِ الإمام في شرعيَّة صلاة الجمعة، الشامل لموضع النزاع وهو حالُ الغَيبة، حتّى التجأ بسبب ذلك إلى اشتراط حضور الفقيه، وإلّا لم تُشْرَع(1).

وأنت إذا اعتبرت كلامهم وجدتَه بِمَعْزِلٍ عَنِ الدَلالة على ذلك، بل لا دَلالة له أصلاً، وإنّما دلّ على حالة الحضور خاصَّةً، وأن حالة الغيبة موضعُ النزاع ومحلُّ الخلاف، وأنّ المرجّح عندهم عدم اشتراط الإذن، بل يكفي إمكان الاجتماع مع باقي الشرائط.

وعبارة الشهيدِ في البيان (2) قريبةٌ مِنْ عبارته في الذكرى(3) في الدلالة على أنّ الشرط إمكانُ اجتماعِ مَنْ تنعقد بهم الجمعة والخطبتان(4)، مِنْ غير اعتبار الفقيه. وكلامه في الدروس(5) واللمعة(6) قريبٌ مِنْ كلام العلّامة، حيثُ عَبَّر بالفقهاء. كما أنّ كلامَ العلّامة في كثيرٍ مِنْ كُتب(7) قريبٌ مِنْ كلام المحقّق(8) والشهيد في الذكرى والبيان، وقد عرفت أنّ التعبير

ص: 190


1- رسالة صلاة الجمعة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 158 - 159؛ جامع المقاصد، ج 2، ص 379.
2- البيان، ص 182 - 183 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 12).
3- ذكرى الشيعة، ج 4، ص 23 ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8).
4- في جميع النسخ «والخطبتين» بدل «والخطبتان».
5- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 108 ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9).
6- اللمعة الدمشقيّة، ص 37 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 13): ولا ينعقد إلا بإمام أو نائبه ولو فقيهاً مع إمكان الاجتماع في الغيبة واجتماع خمسة.
7- اختار العلّامة في مختلف الشيعة، ج 2، ص 252، المسألة 147 الجواز مطلقاً؛ وقال في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 1، ص 43: فلو لم يكن الإمام ظاهراً ولا نائب له سقط الوجوب إجماعاً، وهل يجوز الاجتماع حينئذٍ مع إمكان الخطبة ؟ قولان ؛ وقال في قواعد الأحكام، ج 1، ص 284: وهل يجوز في حال الغيبة والتمكن من الاجتماع بشرائط الجمعة ؟ فيه قولان؛ وقد أفتى بالمنع في منتهى المطلب كما يأتي في ص 204.
8- المعتبر، ج 2، ص 297؛ شرائع الإسلام، ج 1 ص88؛ المختصر النافع، ص 60.

بالفقهاء لا يدلُّ على حصر الجواز فيه، بل ولا يلائم التعبير بفقد الشرط حينئذٍ.

وعبارة اللمعة تحتمل معنى آخر، وهو قيامُ الفقيه مقامَ المنصوب على الخصوص في الوجوب العيني، وهذا له وجه وجيه عند مَنْ يعتبرُ في وجوبها إذنَ الإمام أو مَنْ نصبه كما عُلم مِنْ مَذهب الأصحاب.

وما عدا هاتين العبارتينِ مِنْ كلام مَنْ وقفتُ عليه من الأصحاب، بينَ مُصرِّح بعدم اشتراط الفقيه وأنّ الشرط مجرّد العدد المعتبر مع إمام يجوز الاقتداء به، وبينَ مُطلِقٍ للحكم أو معمم للمؤمنين بحيث يتناولُ مَوضِعَ النزاع،

قول المفيد (رحمه اللّه) في المسألة بوجوبها مطلقاً

وسنحكي كلام جماعة من وقفنا على كلامهم مِنَ الأعيان زيادةً في البيان على وجهِ يُبيِّنُ أنّ دعوى الإجماع على اشتراط الفقيه حينئذٍ مجرّد حُسبان، وأنّ هذه الدعوى لو قُلِبَتْ لقام لمدّعيها البرهانُ فَمِمَّنْ عمَّمَ الحكم في عبارتِه شيخُنا المتقدّم المفيد محمد بن النعمان، فإنه قال في كتاب الإشراف في عامّة فرائض الإسلام:

باب عدد ما يَجِبُ به الاجتماع في صلاة الجمعة

عددُ ذلك ثماني عَشْرَةَ خَصلة: الحرّيّةُ والبلوغ والتذكير وسلامة العقل وصحّة الجسم والسلامةُ مِنَ العَمى وحضورُ المصر والشهادة للنداء وتخلية السرب ووجود أربعة نفر بما تقدّم ذِكْرُه(1) مِنْ هذه الصفاتِ.

ووجود خامس يَوْتُهم، له صفات يختصّ بها على الإيجاب: ظاهر الإيمان، والطهارة في المولد مِنَ السفاح والسلامة مِنْ ثلاثة أدواء: البرص والجذام والمعرَّة بالحدودِ المشينة لِمَنْ أُقيمت عليه في الإسلام، والمعرفة بفقه الصلاة، والإفصاح بالخطبة والقرآن وإقامة فرض الصلاة في وقتها مِنْ غَيرِ تقديمٍ ولا تأخير عنه بحالٍ، والخطبةُ بما يَصدُقُ فيه مِنَ الكلامِ.

فإذا اجتمعت هذه الثماني عَشرةَ خَصلةٌ وجب الاجتماع في الظهر يومَ الجمعةِ

ص: 191


1- في المصدر: «بما يأتي ذكره» بدل «لما تقدّم ذكره».

على ما ذكرناه، وكان فرضُها على النصفِ مِنْ فرضِ الظهر للحاضر في سائر الأيّام(1). انتهى المقصود من عبارته.

وهو صريحٌ في أنّ المعتبر في إمام الجمعةِ هو المعتبر في إمام الجماعة عنده على تسهيل في الشرائط أيضاً؛ فإنه لم يعتبر فيه العدالة الظاهرة كما اعتبره المتأخّرون(2)، بل اكتفى بظاهر الإيمان الكافي في الحكم بالعدالة حيث لا يظهر لها مخالف كما ذهب إليه جَماعةٌ مِن علمائنا المتقدّمين(3).

ودلّت أيضاً على أنّ إذن الإمام ليس بشرط مطلقاً، خلاف ما ادّعاه القومُ المذكورون، وأكّد ذلك بقوله «فإذا اجتمعت هذه الثماني عشرة خصلة وجب الاجتماع في الظهر يوم الجمعة...» إلى آخره.

وظاهره أيضاً كونُ الوجوب متعيّناً مطلقاً، لأنّ ذلك هو ظاهرُ إطلاق الوجوب، ولأنّه هو المراد في بعض الأحوالِ وهو حضورُ الإمام أو مَنْ نصبه إجماعاً.

والمفيد (رحمه اللّه) لم يفرِّقُ في كلامه بين الأزمانِ مطلقاً، بل جَعَلَ الشرط متَّحِداً فيها، فاستعماله فى الأمرين بغير قرينةٍ، وإثباتُ الفرق بين الأزمان مع إطلاق لفظه غير سديد.

ثمّ عقّب ذلك بقوله في الكتاب المذكور:

بابُ عددِ مَنْ يَجْتَمِعُ في الجمعةِ وعَدَدُهم خمسة نفرٍ في عددِ الإمام والشاهِدَينِ والمشهود عليه والمُتولي لإقامة الحدود(4).

ص: 192


1- الإشراف، ص 24 - 25.
2- كالمحقّق في شرائع الإسلام، ج 1، ص 87؛ والعلّامة في نهاية الإحكام، ج 2، ص 14؛ وتذكرة الفقهاء، ج 4، ص 22، المسألة 384؛ والشهيد في البيان، ص 185 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 12).
3- قال العلّامة في مختلف الشيعة، ج 2، ص 513، المسألة :372 قال ابن الجنيد كلّ المسلمين على العدالة، إلى أن يظهر منه ما يزيلها. وهو يشعر بجواز إمامة المجهول حاله إذا علم إسلامه.
4- الإشراف، ص 25.

فدلّ كلامه هنا على أن الإمام ليس بشرط، وأن المعتبر حضورُ قومٍ بعدد المذكورين لا عينهم.

قول الصدوق (رحمه اللّه) بوجوبها مطلقاً

وقريب من كلامه (رحمه اللّه) عبارة شيخه الصدوق أبي جعفر محمد بن بابويه (رضوان اللّه عليه)؛ فإنّه قال في كتابه المقنع في باب صلاة الجمعة:

وإن صلّيت الظهر مع الإمام بخطبة صليت ركعتين، وإن صلَّيتَ بغير خُطبةٍ صلّيتها أربعاً(1).

وقد فرض اللّه من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاةً، منها صلاةٌ واحدةٌ فرضها اللّه في جماعة وهي الجمعة ووضعها عَنْ تسعة: عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومَن كان على رأس فرسخين... ومَنْ صلّاها وحده فليصلّها أربعاً كصلاة الظهر في سائر الأيّام(2). انتهى المقصودُ من عبارته.

ودَلالتها على المرادِ واضحةً مِنْ وجوه:

منها: قوله «وإن صليت الظهر مع الإمام...» إلى آخره. فإنّ المراد بالإمام -حيث يُطلق في مقامِ الاقتداء - مَنْ يُقتَدَى به في الصلاةِ، أعمُّ مِنْ كونه السلطان العادل وغيره.

وهذه العبارة خلاصة قول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في موثقة سَماعةً حيث سأله عَنِ الصلاةِ يومَ الجمعة، فقال: «أمّا مع الإمام فركعتان، وأمّا مَنْ صلّى وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر»(3)، يعنى إذا كان إمامٌ يَخْطُبُ. فإذا لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلوا جماعةً. هذا آخرُ الحديث(4).

ص: 193


1- إلى هنا تنتهي عبارة المقنع، ص 147؛ وما بعدها عبارة الصدوق (رحمه اللّه) في الهداية، ص 144 - 145.
2- الهداية، ص 144 - 145.
3- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 245، ح 665. لفظ الحديث في المصدر :هكذا: «وإنّما صلاة الجمعة مع الإمام ركعتان، فمن صلى من غير إمام وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر».
4- هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا.

والمصنّف (رحمه اللّه) طريقته فى هذا الكتاب أن يَذكر متونَ الأحاديث مجرّدةً عن الأسانيد لا يُغيّرها غالباً، وأيضاً فلا يُمكن حمله على السلطانِ مِنْ وجه آخر، وهو أنه ليس بشرط بإجماع المسلمين؛ فإنّ الشرط عند القائل به هو أو مَنْ نصبه، ولا شك أنّ منصوبه غيره.

ومنها: قوله: «تَسْقُطُ عَنْ تسعة» وعدَّهم، وهو مدلول رواية زرارة السابقة (1) الدالّة على المطلوب، فإن مفهومها عدم سقوطها عَنْ غيرِهم فيتناولُ مَوضِعَ النزاع.

ومنها قوله: «ومَنْ صلاها وحده فليصلها أربعاً»، وهذا عديل قوله سابقاً: «وان صلّيت الظهر مع الإمام» ومقتضاه أنّ مَنْ صلّاها في جماعة مطلقاً يصلّيها اثنتين كما تقدم، ولا تعرّض لجميع العبارة باشتراط السلطان العادلِ ولا ما في معناه مطلقاً.

قول أبي الصلاح الحلبي (رحمه اللّه) بوجوبها مطلقاً

وقال الشيخ أبو الصلاح التقيّ بن نجم الحلبي في كتابه الكافي:

لا نتعقد الجمعة إلا بإمامِ المَلَّةِ أو منصوب مِنْ قِبَلِه أو مَنْ تَتَكامَلُ له صفات إمام الجماعة عند تَعذُّرِ الأمرين(2).

هذه عبارته، وهي صريحة واضحة الدلالة على الاكتفاء عند تعذُّر إذنِ الإمام بصلاة العدد المعتبر مع إمام يجوز الاقتداء به في اليوميّة، وليس في عباراتِ الأصحاب أجلى مِنْ هذه ولا أدلَّ على المطلوب، ولم ينقل في ذلك خلافاً، ومع ذلك فترتيبه الإمام الصالح للجماعة على تعذّر الإمام ومنصوبه ليس شرطاً زائداً عنده على صلاةِ الجماعة؛ لأنه قال في الكتاب المذكور في باب الجماعة:

وأولى الناس بها إمامُ المَلَّةِ أو مَنْ يَنْصِبُه، فإن تعذَّرَ الأمران لم تنعقد إلا بإمامٍ عَدْلٍ(3)، إلى آخره.

ص: 194


1- سبق تخريجها في ص 162 الهامش 7.
2- الكافي في الفقه، ص 151.
3- الكافي في الفقه، ص 143.

فقد ظهر لك أنّ حكم الجماعةِ عنده في الصلاتين على حدٍّ سواء، ومع ذلك فالوجوب عنده عيني مطلقاً على ما صرح به في كتابه بعد ذلك، فإنّه قال:

وإذا تكاملت هذه الشروط انعقدت جمعةً، وانتقل فرضُ الظهرِ مِنْ أربع ركعات إلى ركعتين بعد الخطبة، وتَعيَّن فرضُ الحضور على كلّ رجلٍ بالغ حر سليمٍ مخلَّى السِرْبِ حاضر، بينه وبينها فرسخان فما دونهما، ويَسقُطُ فرضُها عمّن عداه، فإنْ حضرها تعيَّنَ عليه فرضُ الدخول فيها جمعةً(1).

فقد عبّر بتعيُّن الحضور في الموضعين الدالِّ على الوجوبِ المُضيَّقِ، مِنْ غيرِ فرقٍ بين حالة حضورِ الإمام وعدمه، كما لم يُفرِّقُ في الاجتزاء بالإمام الصالح للجماعة عند عدمِ حضورِ الإمام ونائبه بين حضور الفقيه وغيره، وبهذا يظهرُ خلافُ ما ادعي مِنَ الإجماع على الأمرين مضافاً إلى تأيده بالأدلّة الواضحة عليه كما قَدْ عرفته.

ومِنْ غريب ما اتَّفق هنا نقل الشهيد (رحمه اللّه) في البيان عن أبي الصلاح القول بعدم شرعيتها حالَ الغَيبة (2) كقول سلّار(3) وابن إدريس(4)، مع تصريح أبي الصلاح بما ذكرناه وقطعه بالوجوب مطلقاً وجَعْلِه عينيّاً. والظاهر أنّ ذكره اتفق سهواً وإلا فقد نقل هو في شرح الإرشاد عن أبي الصلاح القول بالاستحباب مع جملة القائلين به(5). وكذا نَقَلَه عنه العلّامة في المختلف(6) مبتدئاً به حاكياً عبارته التي حكيناها أوّلاً. ومع ذلك فنقلُ الشهيد في الشرح المذكور عن أبي الصلاح القول بالاستحباب ليس بصحيحٍ أيضاً لما عرفته من تصريحه بالوجوبِ العَيني.

ص: 195


1- الكافي في الفقه، ص 151، وفيه: «المدخول فيها» بدل «الدخول فيها».
2- البيان، ص 182 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 12).
3- المراسم، ص 77.
4- السرائر، ج 1، ص 303.
5- غاية المراد، ج 1، ص 114 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
6- مختلف الشيعة، ج 2، ص 250 - 251، المسألة 147.

قول القاضي الكراجكي (رحمه اللّه) بوجوبها مطلقاً

وقال القاضي أبو الفتح محمدُ بنُ عليّ الكراجكي (رحمه اللّه)(1) في كتابه المسمّى بتهذيب المسترشدين - بعد أن ذكر جملةً من أحكامِ الجمعةِ وأنّ العدد المعتبر فيها خمسة - ما هذا لفظه:

وإذا حضرتِ العِدّة التي يصحّ أن تنعقد بحضورها الجماعة يوم الجمعة، وكان إمامُهم مرضيّاً مُتَمَكِّناً مِنْ إقامة الصلاة في وقتها وإيرادِ الخطبة على وجهها. وكانوا حاضرين آمنين ذكوراً بالغين كاملي العقول أصحاء، وجبتْ عليهم فريضةُ الجمعة جماعةً، وكان على الإمام أنْ يخطب بهم خطبتين ويصلّي بهم بعدهما ركعتين إلى آخره(2).

وهذه أيضاً مِنَ العباراتِ الصريحة في الاكتفاء للجمعة بإمام مرضيٍّ للجماعة، وهي في عمومها لحالة حضور الإمام وغيبته كعبارة الشيخ المفيد، ودلالتها على الوجوب المتعين أيضاً أظهر.

وأمّا عبارةُ التقيّ فدَلالتها كذلك وأزيد، غير أنها مقيّدةٌ بتعذُّر الإمام ومن نصبه كالجماعة عنده كما قد عرفته.

وقال الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط بعد أن ذكر فى أول الباب اشتراطها بالسلطان العادل أو مَنْ يأمره(3):

ولا بأس أن يجتمع المؤمنون في زمان التقية بحيث لا ضرر عليهم فيصلّون

ص: 196


1- هو العالم الثقة فقيه الأصحاب - ومن كبار أصحاب السيّد المرتضى علم الهدى (رحمهما اللّه)، توفي سنة 449، انظر ترجمته وبعض مصادر ترجمته في النابس، ص 177 - 179.
2- الظاهر أنّ تهذيب المسترشدين فُقِدَ ولم يصل إلينا، قال الطهراني في الذريعة، ج 4، ص 503 - 504: التهذيب في ذكر العبادات الشرعيّة بتقسيم يقرب فهمه ويسهل حفظه، كثير الفوائد في سبعين ورقة للعلّامة الكراجكي الشيخ أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان (المتوفّى 449)، وهو جزء واحد متصل بكتابه التلقين لأولاد المؤمنين ذكره مؤلّف فهرس تصانيفه المنقول بعينه في خاتمة المستدرك، في ص 497، ويقال له: تهذيب المسترشدين أيضاً. أقول: مؤلّف فهرس تصانيفه كان من معاصريه، كما في خاتمة مستدرك الوسائل، ج 3، ص 126 - 127.
3- المبسوط، ج 1، ص 205.

[جمعة](1) بخطبتين، فإن لم يتمكّنوا من الخطبة صلوا جماعة ظهراً أربع ركعاتٍ(2).

وهذه العبارة أيضاً دالة بعمومها على المطلوب ومُرْشِدَةٌ إلى ما أسلفناه من أنّ شرطيّة السلطان العادل في كلامه وكلام غيره مختصّة بحال حضوره، وهي كعبارة المتأخّرين الذين عبّروا عَنْ حُكمها حينئذٍ الجواز، حيث أرادوا به معناه الأعمّ، ولكن تزيدُ عَن المتأخّرين أنّه لا يجب حمل نفي البأس في كلامه على الوجوب التخييري، كما ذكره بعضُ المتأخّرين (3) بناءً على ما صرحوا به مِنْ مَذهبهم في ذلك.

وأمّا الشيخ فلمّا لم يصرخ به ولم يكن في نفي البأس زيادة على نفي التحريم، كان دالاً على الجواز بالمعنى الأعمّ كما قررناه سابقاً ردّاً على سلّار، حيث منع مِنْ فعلها حينئذٍ، وذلك لا ينافي القول بوجوبها على أي وجهِ اتفق. ولما كان مستنده على نفي البأس الأخبار السابقة - كما أشار إليه - لم يَبْعُد إرادته منه الوجوب المتعيّن لدلالة الأدلّة عليه، فيكون كقول غيره مِنَ المتقدّمين والمعاصرين له، بل كقوله في الخلاف، فإنه ظاهر فى الوجوب المتعيّن أيضاً كما ستعرفه(4). وحينئذٍ فحمل المتأخّرين(5) له على الجواز بمعنى الوجوب التخييري ليوافِقَ مَذهبهم، ويُجعلَ مِن جملة عمل الطائفة غيرُ سديدٍ، بل عكسه أولى.

ص: 197


1- إضافة من المصدر.
2- المبسوط، ج 1، ص 216.
3- الظاهر أنّ المراد الشهيد والمحقّق الكركي انظر ذكرى الشيعة، ج 4، ص 24 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8)؛ وجامع المقاصد، ج 2، ص 378 - 379؛ ورسالة صلاة الجمعة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 147.
4- تعرفه في ص 198 - 199.
5- الظاهر أنّ المراد الشهيد والمحقّق الكركي، كما سبق آنفاً.

وقريب من عبارته في المبسوط(1) عبارتُه في النهاية؛ فإنّه قال فيها:

الاجتماع في صلاة الجمعة فريضة إذا حصلت شرائطه، ومن شرائطه أن يكونَ هناك إمامٌ عادل أو من نصبه الإمامُ للصلاة بالناس(2).

ثم قال في آخر الباب:

ولا بأس أن يجتمع المؤمنون في زمان التقية بحيث لا ضرر عليهم فيصلُّوا جمعةً بخطبتين، فإنّ لم يتمكنوا من الخطبة جاز لهم أن يصلوا جماعةً، لكنهم يصلّون أربع ركعات(3)، إلى آخره.

فاشتراطه في أوّل الباب حضور الإمام أو نائبه مختصّ بحال،حضوره، كما يُرشد إليه آخرُ كلامه حيث جوّزَ صلاة الجمعة لعامّةِ المؤمنين إذا تمكنوا منها حالَ الغيبة.

ويظهر مِنْ كلامه أيضاً أنّ نفي البأس يُراد منه الوجوب حيث قال: «فإن لم يتمكّنوا الخطبة جاز لهم أن يصلّوا جماعةً...» إلى آخره؛ فإنّ تعليق جواز الظهر على عدم تمكنهم مِنَ الخطبة يُؤذِنُ بعدم جوازها لو تمكّنوا منها. ونفى البأس لا ينافيه لِما ذكرناه سابقاً، وإنّما عبّر بذلك بناءً على الغالب مِنْ عدم تمكَّن المؤمنين من إقامة الجمعة بأنفسهم بإمام منهم كما قرَّرناه سابقاً(4).

وأمّا عبارةُ الشيخ في الخلاف فقريبةٌ مِنْ عبارته في المبسوط والنهاية مع زيادة تصريح بالوجوب حينئذٍ؛ فإنّه قال - بعد أن اشترط إذن الإمام أو من نصبه-:

فإن قيل: أليس رَوَيْتُم فيما مضى مِن كُتبكم أنّه يجوز لأهل القرايا والسواد والمؤمنين إذا اجتمع(5) العدد الذي تنعقد بهم أن يصلوا الجمعة ؟

ص: 198


1- سبق تخريجه قبيل هذا.
2- النهاية، ص 103.
3- النهاية، ص 107.
4- تقدّم تخريجه.
5- في النسخ: «اجتمعوا» وما أثبتناه موافق للمصدر.

قلنا : ذلك مأذون فيه مرغب فيه، فجرى مجرى أن يَنصِبَ الإمامُ مَنْ يُصلّي بهم(1). انتهى.

وفي هذه العبارة زيادة تصريحٍ عَنِ العبارتين السابقتين بقيام الإذن العامِّ للمكلّفين مقامَ الإذنِ الخاصّ المُوجِبِ لوجوب الصلاة عيناً، وإنّما جُعل ذلك جارياً مجرى إذنِ الإمام؛ نظراً إلى إذنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) في الأخبار السالفة للمؤمنين في إقامة هذه الصلاة فيكون كنصب إمامٍ خاصٍّ. وإلى هذه العبارة - المحكية في الخلاف وما دلّت عليه - أشار الشهيدُ في الذكرى في تعليله الأوّل الذي حكيناه عنه، وبيّنا أنّه اشتمل على تعليلين هذا أحدُهما، وجعل مأخذه إشارة الشيخ في الخلاف.

ومِنَ العجيب هنا نقلُ الشيخ فخرالدين (رحمه اللّه) في شرحه عن الشيخ في الخلاف القول بالمنع منها كقول سلّار، واقتصارُه في نقل قوله بالجواز على النهاية (2). مع تصريحه في الخلاف بما ذكرناه من الجواز مبالغاً فيه مدعياً الإذنَ مِنَ الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) كنصبهم إماماً خاصاً لها الموجب للوجوب المتعيّن. وكذلك صرَّح به في المبسوط (3)؛ إلّا أنّ تركه أسهل من نسبة الخلاف إلى الخلاف.

وعبارة الشيخ يحيى بن سعيد في الجامع مثل عبارة الشيخ أبي جعفر في كتبه بنفي البأس عَنِ اجتماع المؤمنين حيث يُمكنهم الخطبة(4)، وقد عرفت مؤدّاه.

أقوال المتأخّرين

وأمّا عبارة المتأخّرين - كالمحقّق أبي القاسم (رحمه اللّه) في كتبه(5)، والعلّامة في غير الكتابين السابقين(6)، وسائر المتأخّرين - فهي ظاهرة المراد ومتقاربة الدلالة على

ص: 199


1- الخلاف، ج 1، ص 626، المسألة 397.
2- إيضاح الفوائد، ج 1، ص 119.
3- سبق تخريجه في ص 196.
4- الجامع للشرائع، ص 97.
5- المعتبر، ج 2، ص 297؛ شرائع الإسلام، ج 1، ص88؛ المختصر النافع، ص 60.
6- راجع ما تقدّم في ص 184 - 185.

الجواز أي أيضاً أو الاستحباب مع إمكان الاجتماع والخطبتين مِنْ غير اشتراط أمرٍ آخر ولا وجه لنقلها هنا لاشتهارها ووجودِ كتبها في أيدي الناس، فاقتصرنا على نقل ما يقل وجوده. فكيف يتوجّه بعد ذلك دعوى مدّعي الإجماع على اشتراط الفقيه مطلقاً أو إذن الإمام مطلقاً ؟ والحال أنّ الخلاف لم يتحقّق فهل هذا إلّا مجازفة لا تليق بهذا المقام الجليل والشريعة المطهرة ؟! وليس حينئذٍ لمتعنّتِ أنْ يقول: هذه العبارات مطلقة في تعيين الإمام الذي يصلّي بهم الجمعة، فيمكن حمله على المقيَّد وهو المأذون له عموماً مِنَ الإمام وهو الفقيه؛ لأنّ ذلك إنما يتمُّ حيث يدلُّ دليل على اشتراط إذنه في هذه الحالة، وهو منتفٍ على ما حقّقناه، فإنّه مِنْ غير الإجماع مفقود، ومنه على تقدير تسليمه متخلّفٌ؛ لأنّهم لم يدعوه إلا على حالة الحضور وإمكان إذنه. ومع ذلك فقد سمعت تصريح كثير بعدم اعتباره مع تعذره صريحاً وآخرين مطلقاً، كما أوضحناه.

وقد تَلخَّصَ مِن ذلك أنّ القائل باشتراط حضور الفقيه حال الغيبة إما قليل جداً بالعناية التامّة أو معدوم؛ فإنّ كلاً مِنَ المعبرين المذكورين بالفقهاء ونحوهم قد صرّح بخلاف ذلك في باقي كتبه، فيكونان قائلين بما يوافق الباقين، لو تنزلنا وقلنا بدلالة عبارتهما المذكورة على الاشتراط، مع أنّك قد عرفت بعد دلالتها عليه، بل عدمه إلّا بالمفهوم الضعيف، مع اعترافهما وغيرهما في هذه الحالة بفقد شرط الوجوب الذي هو حضورُ الإمام أو مَنْ نصبه ولولاه لحكموا بالوجوب المعيَّن كما قرَّروه في جواب العامّة الموجبين لها حينئذٍ على ما عرفتَ مِنْ كلام التذكرة في جوابه للمخالفين(1)، فكيف يجتمع مع هذا اشتراط حضور الفقيه؛ لأنه إن كان منصوباً من الإمام على وجه يتأدّى به هذا الشرط فاللازم القولُ بالوجوب المتعيّن؛ لوجود الشرط الذي هو مناطُ الوجوب، وقد جُعل فقده حجَّةً على المخالف؛ وإنْ لم يَحصُلْ به الشرطُ - نظراً إلى أنّ

ص: 200


1- سبق في ص 185.

المعتبر منصوبُ الإمام على الخصوص - لم يكن حضوره معتبراً في الجواز فضلاً عَنِ الوجوب، بل إمّا أن ينظروا إلى عموم الأوامر - كما اعترفوا به - ويحكموا بالجواز بل الوجوب، وإما أن يحكموا بسقوطها رأساً؛ نظراً إلى فقد الشرط، فالقولُ الوسط - مع الاعتراف بفقد الشرط الدال على أنّ الفقية غيرُ كافٍ فيه - لا وجه له حينئذٍ أصلاً ورأساً كما لا يخفى.

ردّ شبهة

فحينئذٍ لو قيل بإسقاط هذا القول؛ لما ذكرناه، وردّ المسألة إلى قولين - الوجوبِ خاصةً كما هو المشهور، أو عدم الشرعيّة كما هو النادر - كان أوفق بكلامهم واستدلالهم. ومع ذلك قد عرفت أن عبارة هذين الشيخين ليست صريحةً فيه، بل استبطان دليلها منافٍ له، فلا ينبغي أن يُجعل لهما في ذلك قول يخالف دليلهما، بل يخالف ما عليه الأصحابُ بمجرّد الاحتمال. وعلى هذا فلو قُلِبَ الدليلُ وقيل: إن عدم اشتراط حضور الفقيه في جواز الجمعة حالَ الغيبة إجماعي، لكانت هذه الدعوى في غاية المتانة ونهاية الاستقامة، ولا يضرُّها أيضاً تصريح الفاضل الشيخ عليّ (رحمه اللّه) بالاشتراط (1)؛ لأنّه إنّما استند في القول إلى الإجماع الذي فهمه وإلّا فإنّه لم يَذْكُر عليه دليلاً معتبراً غيره، وقد ظهر لك أنّ الأمر على خلاف هذه الدعوى. وخير محمد بن مسلم (2) الذي استدلَّ به أيضاً على اشتراط الإمام لا ينساق هنا لما قررناه(3).

وبقي مِنْ استدلاله أنّ الاجتماعَ مَظنَّةُ النزاع الذي لا يندفع إلّا بالإمام العادِلِ أو مَن نصبه، وهذا بالإعراض عنه حقيق، بل ينبغي رَفْعُه مِنَ البين وسَتْرُه؛ فإن اجتماع المسلمين على طاعةٍ مِنْ طاعات اللّه تعالى لو توقف على حضور الإمام العادل وما في

ص: 201


1- سبق في ص 190، الهامش 1.
2- سبق تخريجه في ص 176، الهامش 1.
3- في ص 179 - 180.

معناه لما قام للإسلام نظامٌ، ولا ارتَفَعَ له مقامٌ. وأين أنت على ما تَرتَّبَ مِنَ الاجتماع في سائر الصلوات وحضور الخلق بعرفات وغيرها مِنَ القُرُبات ؟! وبها يُشَرَّفُ مقامُهم ويُضاعَفُ ثوابُهم ولم يَخْتلَّ نظامهم. بل وجدنا الخَلَلَ حال وجوده وحضوره أكثر والاختلاف أزيد، كما لا يخفى على من وقف على سيرة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في زمن خلافته وحاله مع الناس أجمعين، وحال غيره مِنْ أثمَّةِ الضَلال وانتظام الأمر وقلّة الخلاف والشقاق في زمانهم.

وبالجملة، فالحكمة الباعثة على الإمام أمرُ آخَرُ وراء مجرّد الاجتماع في حال الصلوات وغيرها مِنَ الطاعات.

واعلم أنه قد ظهر من كلام بعض المتأخّرين أنّ الوجوب العيني منتفٍ عَنْ هذه الصلاةِ حالَ الغَيبة، وإنّما يبقى الجواز بالمعنى الأعمّ، والمراد منه استحبابها بمعنى كونها أفضل الفردين الواجبين تخييراً - أعنى الجمعة والظهر - لا أنه ينوى الاستحباب؛ لأن ذلك منتفٍ عنها على كلّ حالٍ بإجماع المسلمين، بل إمّا أن تجتمع شرائطها فتجب، أو تنتفي فتسقط(1).

وقد عرفت أيضاً أنّ هذا الحكم - وهو وجوبُها تخييراً وإن كان أفضل الفردين - لا دليل عليه إلّا ما ادَّعوه مِنَ الإجماع، ولم يدَّعِه منهم صريحاً سوى ما ظهر من عبارة التذكرة (2). ودونها في الدلالة عبارة الشهيد في الذكرى، فإنّه قال فيها:

إذا عرفت ذلك فقد قال الفاضلان: يَسقُط وجوب الجمعةِ حالَ الغَيبة ولم يَسْقُطِ الاستحباب، وظاهرهما أنه لو أُتي بها كانتْ واجبةً مجزئةٌ عَنِ الظهر.

ص: 202


1- انظر ذكرى الشيعة، ج 4، ص 24 ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8؛ وجامع المقاصد، ج 2، ص 378 - 379؛ ورسالة صلاة الجمعة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 147.
2- في تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 27، المسألة :389 وهل للفقهاء المؤمنين حال الغيبة... صلاة الجمعة ؟ أطبق علماؤنا على عدم الوجوب.... واختلفوا في استحباب إقامة الجمعة، فالمشهور ذلك.

فالاستحبابُ (1) إنّما هو في الاجتماع، أو بمعنى أنّه أفضلُ الفردين الواجبين على التخيير. وربما يُقال بالوجوبِ المضيَّقِ حالَ الغَيْبة؛ لأنّ قضيَّة التعليلين ذلك، فما الذي اقتضى سقوط الوجوب ؟ إلّا أنّ عمل الطائفة على عدم الوجوب العيني في سائر الأعصار والأمصار، ونقل الفاضل فيه الإجماع(2). انتهى.

وفي هذه العبارة - مع ما اشتملتْ عليه مِنَ المبالغة - إشعارٌ بعدم ظهورِ الإجماع عنده ومِنْ ثَمّ نسبه إلى الفاضل. وقد عرفت - ممّا حَكَيْناه مِن عباراتِ مَنْ تقدّم - ما يقدَحُ في الإجماع وعمل الطائفة معاً، ولعلّه أشار بقوله: «وربما يقال بالوجوب المضيّق» إلى ذلك. والظاهرُ أنّ عمل الطائفة الذي أشار اليه لا يتم إلّا في المتأخّرين منهم أو مِنْ بعضهم لا مِنَ الطائفة مطلقاً، لمّا سمعت من كلام المتقدّمين الذين هُم عُمدة فقهاء الطائفة. وما اقتصرتُ على مَنْ ذكرتُ لخصوصيَّةِ قولهم في ذلك، بل لعدم وقوفي على مصنّفاتهم، ولا على باقي مصنّفات مَنْ ذكرتُ. وفي وجود ما نقلته فيما حضرني من ذلك دليلٌ بَيِّن على أنّ ذلك مِنَ الأحكام المقرَّرة عندهم المفروغ منها؛ لأنّ أحداً منهم لم يَنْقُل في ذلك خلافاً، فكيف يتمّ للمتأخّرين الحكم بخلافه ؟

ولا يخفى عليك أنّ مجرّد عمل الطائفة على هذا الوجه لا يكون حجَّةً ولا قريباً منها، خصوصاً مع دَلالة الأدلّة القاطعةِ مِنَ الكتاب والسنّة على خلاف ذلك، فكيف مع انحصار القول في قليل منهم! والقدح في ذلك بمعلوميَّة نَسَبِ المخالف مشتَرَكُ الإلزام وإن لم يكن في جانب أرجح؛ لما عرفتَ مِنْ أنّ القائل بالوجوب العيني أكثرُ مِنَ القائل بالتخييري مع اشتراكهما في الوصف، وسيأتي ما يَدُلُّكَ على فَساد هذه القاعدة مطلقاً(3). وفي هذا القدر كفاية في تحرير هذا القول. واللّه الموفق.

ص: 203


1- في جميع النسخ: «والاستحباب»، وما أثبتناه من المصدر.
2- ذكرى الشيعة، ج 4، ص 24 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8).
3- في ص 206 - 209.

القول بعدم شرعيّة الجمعة في الغيبة

الكلام على القول الثالث وهو القولُ بعدم شرعيتها حالَ الغَيْبة مطلقاً

قد عرفت فيما أسلفناه(1) أن القائل بهذا القول شاذٌّ بالنسبة إلى جملة أصحابنا بل جملة المسلمين، وأنّه منحصرٌ في قائلَيْنِ وهما سلّارُ وابنُ إدريس(2)، وأما غيرُهما فإنْ مال إليه في كتابِ فقد خالفه في غيره كالمرتضى على ظاهر ما عرفتَ مِنْ كلامه(3)، والعلّامة حيثُ مال إليه في المنتهى (4) وفي كتاب الأمر بالمعروف من التحرير(5)، والشهيد حيث قال في الذكرى: إنّ هذا القول متوجّه وإلا لزم الوجوب العيني(6). ومثل هذا لا يُعدُّ قولاً خصوصاً بعد الرجوع عنه في كتاب آخر متأخّرٍ عنه(7).

وأمّا نقل القول به عَنِ الشيخ (رحمه اللّه) في الخلاف فقد عرفتَ أنّه ليس بصحيح(8)، وكذا نقله عن أبي الصلاح، وقد حقّقناه سابقاً(9).

ص: 204


1- في ص 172.
2- كما تقدّم في ص 174.
3- في ص 173 - 174.
4- منتهى المطلب، ج 5، ص 460.
5- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 2، ص 243، الرقم 2978.
6- ذكرى الشيعة، ج 4، ص 25 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8).
7- راجع ما تقدّم في ص 173 - 174.
8- في ص 199، الهامش 1.
9- في ص 195.

وجملةُ ما احتجَّ به القائلون بهذا القولِ مِن ثلاثة أوجه -كالقول السابق-:

الأوّل: أنّ شرط انعقاد الجمعة الإمامُ أو من نصبه لذلك إجماعاً كما مرّ، وفي حال الغيبة الشرط منتفٍ فينتفي الانعقاد لامتناع ثبوتِ الشرط مع انتفاء المشروط.

الثاني: أنّ الظهر ثابتةٌ في الذمّة بيقين، فلا يبرأ المكلّف إلّا بفعلها.

الثالث: أنّه يلزم من عدم القول به الوجوب العيني؛ لإفضاء الأدلّة إليه، والمسوّغون لها لا يقولون به، كما أشار إليه في الذكرى.

ردّ الشبهة الأولى لهذا القول: الإجماع

والجوابُ عَنِ الشبهة الأولى بمنع الإجماع على خلاف صورة النزاع، وقد عرفت سنده(1). وعلى تقدير تسليمه لا يلزم منه تحريمُ فعلها حالَ الغَيبة مطلقاً كما زعمه هذا القائلُ، فإنّ الفقهاءَ نُوّابُ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) على العموم بقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «انظروا إلى رجل قد روى حديثنا وعَرَفَ أحكامنا فَارْضَوْا به حاكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، الحديث»(2).

وغيره ممّا في معناه. وجعله حاكماً مِنْ قِبَلِه على العموم الشامل للمناصب الجليلة التي هي وظيفةُ الإمام كالقضاء وإقامة الحدود وغيرها تدخلُ فيه الصلاةُ المذكورةُ بطريقٍ أولى؛ لأنّ شرطيتها به أضعفُ ومِنْ ثَمَّ اختلف فيها بخلاف هذه المناصب؛ فإنّها متوقّفةٌ على إذنه قطعاً.

لا يقال: مدلول الإذن هو الحكمُ بين الناس، ولأنه هو موضع سؤال السائل والصلاة خارجةً.

لأنا نقول: موضعُ الدّلالة كونه منصوباً من قبلهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) مطلقاً، فيدخل فيه موضعُ النزاع. وإن حصل شكٌّ في الإطلاق فالطريق ما بيّنّاه مِنْ أنّ ما تناوله النصّ أقوى مِنَ الصلاة، ولا يقدح فيه كونه في زَمَنِ الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ لأنّ حُكمهم وأوامرهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) شاملةٌ

ص: 205


1- تقدّم في ص 187، الهامش 1.
2- سبق تخريجه في ص 189، الهامش 2. وفي المصدرين: «فارضوا به حکماً» بدل «فارضوا به حاكماً».

لجميع الأزمان، وهو موضع نصٍّ ووفاقٍ(1). وكذا لا يقدَحُ كون الخطاب لأهل ذلك العصر ؛ لأنّ حكمهم - كحُكم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )- على الواحد حكمٌ على الجماعةِ كما دلّت عليه الأخبار(2).

ومع هذا كلّه فعمدة الأمر عندي على منع الإجماع المذكور على وجه يوجب مدَّعاهم.

أمّا أوّلاً: فلانه على تقديره إنما وقع على حالة الحضور كما حقّقناه لا على حالة الغيبة، فإنّه موضعُ النزاع أو الوفاق على عدمه، فكيف يُساق إليه الإجماع المتنازع.

وأمّا ثانياً: فلِمَنع تحقّقه على زَمَنِ الحضور أيضاً؛ لوجود القادح فيه حتّى مَنْ يدَّعيه كما اتّفق للعلّامة في المختلف، فقد حَكَيْنا القدح فيه عنه (3) مع دعواه له في غيره ولِظُهورِ المخالف كما علم من عبارة المتقدّمين.

وأمّا ثالثاً: فلمنع تحقّقه على وجه يصلح للدلالة على تقدير عدم ظهورِ المخالف؛ فإنّ الإجماع عند الأصحاب إنّما هو حجَّةٌ بواسطة دخول قول المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في جملة أقوال القائلين، والعبرةُ عندهم إنّما هي بقوله دون قولهم، وقد اعترفوا بأن قولَهم: إنّ الإجماعَ حجَّةٌ إنّما هو مشيٌ مع المخالفِ، حيث إنّه كلام حقٌّ في نفسه وإن كانت حيثية الحجيَّةِ مختلفةً عندنا وعندهم، على ما هو محقّق في محله(4). وإذا كان الأمرُ كذلك فلابدّ مِنَ العلم بدخول قول المعصوم في جملة أقوالهم حتّى تتحقق حجّيَّه قولهم، ومن أين لهم هذا العلم في مثل هذه المواضع مع عدم وقوفهم على خَبَره فضلاً عَنْ قوله ؟

ص: 206


1- انظر بحار الأنوار، ج 2، ص 260 - 261، ح 12 - 13، 17؛ وج 11، ص 56، ح 55؛ وج 25، ص 332، ح 9.
2- انظر الكافي، ج 1، ص 53، باب رواية الكتب والحديث و...، ح 14، وانظر أيضاً ما ذكرنا آنفاً.
3- تقدّم حكايته في ص 187.
4- الذريعة إلى أُصول الشريعة، ج 2، ص 603- 607.

وأمّا ما اشتهر بينهم - مِنْ أنّه متى لم يُعلم في المسألة مخالف أو عُلم مع معرفةِ أصل المُخالفِ ونَسَبِه يتحقّق الإجماعُ ويكون حجَّةً، ويُجعل قول الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الجانب الذي لا ينحصر، ونحو ذلك مما بيَّنوه واعتمدوه - فهو قول مُجانب للتحقيق جداً ضعيف المأخذ. ومِنْ أين يُعلم أنّ قولَه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو بهذه الحالة مِنْ جملة أقوال هذه الجماعةِ المخصوصة دون غيرهم من المسلمين خصوصاً في هذه المسألة ؟ فإنّ قوله بالجانب الآخر أشبه وبه أولى لموافقته لقول اللّه تعالى ورسوله والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) على ما قد عرفت. ثمّ متى بلغ قولُ أهل الاستدلال مِنْ أصحابنا في عصرٍ مِنَ الأعصار السابقة حداً لا ينحصر ولا يُعلم به بلد القائل ولا نسبُه ؟ وهم في جميع بلد القائل ولا نسبه ؟ وهم في جميع الأزمان محصورون مضبوطون بالاشتهار والكتابة والتحرير لأحوالهم على وجهِ لا يتخالَجُ معه شكٍّ، ولا تقع معه شبهةً، ومجرّد احتمال وجودٍ واحدٍ منهم مجهول الحال مغمورٌ في جملة الناس مع بعده مشتركٌ من الجانبين، فإنّ هذا إن أثر كان احتمال وجوده مع كلّ قائل ممكناً، ومثل هذا لا يُلتفتُ إليه أصلاً ورأساً. وقد قال المحقّق في المعتبر - ونعْمَ ما قال -:

الإجماع حجَّةٌ بانضمام المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلو خلا المائةُ مِنْ فقهائنا عَنْ قوله لما كان حجَّةً... فلا تغترّ بِمَن يتحكم فيدَّعي الإجماع باتّفاق الخمسة والعشرةِ مِنَ الأصحاب مع جهالة قول الباقين، إلّا مع العلم القطعي بدخول الإمام في الجملة(1). انتهى

ومِنْ أين يحصل العلمُ القطعي بموافقة قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأقوال الأصحاب مع هذا الانقطاع المحض والمفارقة الكليّة والجهل بما يقوله على الإطلاق من مدَّةٍ تزيد عن ستمائة سنة ؟ وقريب من قول المحقّق قولُ العلّامة في نهاية الوصول ؛ فإنه لما أورد على نفسه أنه لا يمكن العلمُ باتّفاق الكلِّ علي وجه يتحقّق دخول المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيهم، أجاب بأنّ

ص: 207


1- المعتبر، ج 1، ص 31.

الفرض دخوله فيهم؛ إذ الإجماع إنما يتم به، فلا يمكن منع دخوله (1). انتهى.

وبما ذكرناه يحصل الفرق بين قوله مع الجهل بحاله على ما وصفناه وبين قول رجل من علماء المسلمين في أقطار الأرض، حيث حكم الجمهور بتحقّق إجماع المسلمين ولم يقدح فيه احتمال مخالف في بعض الأقطار لا يُعلم.

ووجه الفرق أنّ قولَ هذا البعض في قطر من أقطار الأرض مع كونه مجتهداً مطلقاً ممّا يستحيل خفاؤه والجهل بعينه عادةً، فلو كان ثَمَّ مَنْ هو بهذه الصفة لظهر للمسلمين ونُقل قوله، هذا مما يدلُّ عليه العلمُ العادي قطعاً، وإن حصل شكٍّ في العلم فلا أقل من الظنّ الغالب المتاخم للعلم الكافي في الدلالة على مسألة شرعيّة، حيث إنّ طُرُقَ الفقه كذلك بخلاف قول الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) المجهول عينه ومحلّه وكلامه فى هذه الأعصار المتطاولة لها بكل وجه، فإنّ إدخال قوله مع جملة أقوال قوم معلومين تَحكُم ظاهر.

نعم، يتوجّه العلمُ بقول المعصوم ودخوله في أقوال شيعته عند ظهوره، كما اتّفق لآبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) في مسائل كثيرة اتّفقتْ فيها كلمة علماء شيعتهم والروايات بها عنهم كالقول بوجوب مسح مسح الرجلين في الوضوء، والمنعِ مِنْ مسح الخُفَّيْنِ، ومنع العول والتعصيب في الإرث، ونظائر ذلك.

وأمّا الفروع التي تجددت حال الغيبة ووقع الخِلافُ فيها، فالرجوع فيها إلى ما ساق إليه الدليلُ مِن الكتاب والسنّة وغيرهما من الأدلّة المعتبرة شرعاً لا إلى مثل هذه الدعاوي العارية عن البرهان. وهذا ذرءٌ مِنْ مَقالٍ (2) في هذا المقام وبقي الباقي في الخيال، فتنبَّه له ولا تكنْ مِمَّنْ يعرفُ الحقّ بالرجال (3) فتقع في مهاوي الضلال.

ص: 208


1- نهاية الوصول إلى علم الأُصول، ج 3، ص 132 - 133.
2- ذَرْءٌ مِن خبرٍ: شيء منه. القاموس المحيط، ج 1، ص 16، «ذراً».
3- لعلّه إشارة إلى قول الوصي أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلّين) -: «إن دين اللّه لا يُعرف بالرجال، بل بآية الحقّ، فاعرف الحقّ تعرف أهله» - المرويّ في الأمالي الشيخ الطوسي، ص 626، المجلس 30. ح 5/1292؛ وبحار الأنوار، ج 6، ص 179، ح 7؛ وج 39، ص 240، ح 28.

واعلم أنّ هذا البحث كلّه خارج عَنْ مقصود المسألة وإن نفع فيها مِنْ وجه؛ لأنّ منشأ الإشكال فيها إنّما هو حكم اعتبار النائب حالَ الغيبة وعدمه، والإجماع المدّعى إنّما هو حالة الحضور، ولا ضرورة بنا إليه، وإنّما نبّهنا عليه لكثرة الحاجة إليه في أبواب الفقه واستدلاله، فقد زلّ بواسطته أقدام أقوامٍ وأخطأ في الاستدلال به أجلّاء أعلام، إن أكثرت المطالعة والتنقيب اهتديت عليه، واللّه الموفِّقُ والهادي.

ردّ الشبهة الثانية: صلاة الظهر ثابتة في الذمّة

وأمّا الجواب عن الشبهة الثانية : بأنّ الظهر ثابتةٌ فى الذمّة فلا يبرأ إلّا بفعلها فَمِنْ وجوهٍ:

الأوّل: منعُ كون الظهر ثابتةً في الذمّة بيقين وهل هو إلا عين المتنازع ؟ فكيف يُجعل دليلاً؟ وأيضاً فإنّ الثابت بأصل الشرع هو الجمعة، أما الظهرُ فلا يجب إلا مع فواتها أو فقدِ شرطها، فالأمرُ معكوس؛ لأنّ المتيقن الثابت هو الجمعة إلى أن يثبت المُزِيلُ. نعم يتوجّه على الوجوب التخييري حالَ الغَيْبة أن يقال: إنّ هذا الفرد من الفردين الواجِبَينِ تخييراً وهو الظهرُ مجزئ إجماعاً على ما زعموه، بخلاف الفرد الآخرِ فإنّه موضع النزاع، وقد عرفت(1) ما في هذا الوجه؛ فإنه متوقف على تحقّق الإجماع على وجه يكون حجَّةً في رفع إيجاب الجمعةِ الثابتِ بالكتاب والسنّة والإجماع في الجملة، فلا يصحّ القولُ بأنّ هذا الفردَ مُجزئ إجماعاً على هذا الوجه بل الأمرُ بعكسه أولى.

الثاني : منع كون المكلّف لا يبرأ إلّا بفعل الظهر؛ فانّه إذا فعل الجمعة على هذا الوجه الذي ذكرناه بَرِئ منها أيضاً؛ لما دلّتْ عليه الأدلّهُ مِن شرعيتها، والحكم بهذه الأدلّة قطعي، والقطعُ في كلّ بابٍ بحَسَبِه، ومتى شُرِعَتْ أجزأت عن الظهر بإجماع المسلمين. الثالث: على تقدير التنزلِ والاعتراف بعدم تيقن براءة الذمّة بما ذكر، فلا نسلم أنّه يشترط اليقين ببراءة الذمّة، بل يكفي الظنُّ المستند إلى الدليل المعتَبرِ شرعاً، وإلّا لزم

ص: 209


1- في ص 178 وما بعده.

التكليف بما لا يُطاق، وهو هنا حاصلٌ بل ما هو أزيدُ مِنْ ذلك كما قد سمعته.

ردّ الشبهة الثالثة: انتفاء الوجوب العيني

والجواب عن الشبهة الثالثة - على تقدير تسليم انتفاء الوجوب العيني - أنّ الدلائل المذكورة إنّما دلّتْ على الوجوب في الجملة، أعني الوجوب الكلّي المحتمل لكلّ واحدٍ من أفراده المنقسم إليها كالعيني والتخييري وغيرهما وإن كان ظاهراً في أحدها، إلّا أن الصارِفَ عنه موجود، وهو الإجماع الذي زعمه القائل، وأيّ صارفٍ عن هذا الفرد أكبرُ مِن الإجماع إذا تَمَّ، فيُحمل على غيره من الأفراد، والإجماع منحصر في إرادة أحدِ الفردَينِ خاصةً العيني أو التخييري، فإذا انتفى الأوّل بقي الآخرُ. هذا على تقدير انسداد باب القول بالوجوب العيني، وإن قامتْ عليه الأدلّة ودلّت عليه عبارات الأصحاب.

لكن قد عرفت أن دليله قائم، والقائل به من الأصحاب موجود، ودعوى الإجماع على عدمه ممنوعة. ثم غايته أنّه نقل إجماع بخبر الواحد وهو غير مفيد هنا؛ لأنّ دليل القائل حينئذٍ مِن الأُصوليّين مع ظهور الخلاف فيه أنّه مفيد للظنّ المجوز للعمل بمقتضاه وهو منتف هنا، خصوصاً مع ما قد اطّلعنا عليه من خطئهم في هذه الدعوى كثيراً. ويكفيك في نقل العلّامة الإجماع مع ظهور خلافه، ما نقله في كثير من كتبه من الإجماع على أنّ الكعبين هما مَفْصِلُ الساق والقدم(1)، مع ظهور الإجماع على عدمه من جميع الأصحاب، بل من المسلمين؛ لأنّ عامَّةَ الأصحاب يقولون: إنّه الناتئُ في وسط القَدَمِ عند معقدِ الشراك، والعامّة بعضُهم يقول كما قاله الأصحاب(2)، والباقون على

ص: 210


1- ادّعى العلّامة الإجماع على ذلك في تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 170، المسألة،51، فقط حيث قال:... إلى الكعبين، وهما العظمان الناتئان في وسط القدم، وهما معقد الشراك أعني مجمع الساق والقدم، ذهب إليه علماؤنا أجمع؛ ولم يدع الإجماع عليه في سائر كتبه، منها: قواعد الأحكام، ج 1، ص 203؛ وتحرير الأحكام الشرعيّة، ج 1، ص 10؛ ونهاية الإحكام، ج 1، ص 44 ؛ ومختلف الشيعة، ج 1، ص 125، المسألة 78؛ ومنتهى المطلب، ج 2، ص 71 و 74.
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 155، المسألة 175؛ المبسوط السرخسي، ج 1، ص 9: أحكام القرآن، ابن العربي، ج 2، ص 579.

أنّه الناتئُ على يمين القدم وشماله(1). والمَفْصِلُ لم يَقُل به سوى هذا الفاضل على ما حقّقناه في محلّه(2). ونبّه عليه الشهيد (رحمه اللّه) في الذكرى (3) وغيره(4)، فكيف يحصلُ الظَّنُّ بنقل الإجماع في مسألةٍ ظاهرة الخلافِ واضحة الأدلّة على ما خالف.

وأمّا ما اتّفق لكثير من الأصحاب - خصوصاً للمرتضى في الانتصار وللشيخ في الخلافِ مع أنّهما إماما الطائفة ومقتدياها في دعوى الإجماع على مسائل كثيرة مع اختصاصهما بذلك القول من بين الأصحاب أو شذوذ الموافق لهما (5) - فهو كثير لا يقتضي الحالُ ذكره. ومِنْ أعجبه دعوى المرتضى في الكتاب إجماع الإماميّة - وجعله حجّةً على المخالفين - على وجوب التكبيرات الخمس في كلّ ركعة للركوعِ والسجودِ والقيام منهما(6)، ووجوب رفع اليدين لها(7)، وأن أكثر(8) النفاس ثمانية عشر يوماً(9)، وأنّ خِيارَ الحيوانِ يَثْبُتُ للمتبايعين معاً(10)، وأن الشفعة تثبت في كلّ مبيعٍ من

ص: 211


1- المبسوط السرخسي، ج 1، ص 9؛ بدائع الصنائع ج 1، ص 7.
2- انظر روض الجنان، ج 1، ص 102 (ضمن الموسوعة، ج 10).
3- ذكرى الشيعة، ج 2، ص 65- 67 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6).
4- البيان، ص 45 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 12).
5- انظر رسالة مخالفة الشيخ الطوسي لإجماعات نفسه المطبوعة في الرسائل / 3 من الموسوعة، ج 4.
6- لم نجده في الانتصار، صريحاً؛ نعم قال في الانتصار، ص 147 - 148. المسألة 45: وممّا انفردت به الإماميّة القول بوجوب رفع اليدين في كلّ تكبيرات الصلاة، لأنّ أبا حنيفة وأصحابه والثوري لا يرون رفع اليدين بالتكبير إلا في الافتتاح للصلاة... والحجّة فيما ذهبنا إليه طريقة الإجماع وبراءة الذمّة. واستظهر منها العلّامة وجوب التكبير في الركوع والسجود، حيث قال في مختلف الشيعة، ج 2، ص 188، المسألة 106: أوجب السيّد المرتضى (رحمه اللّه) رفع اليدين في كلّ تكبيرات الصلاة... وهو يشعر بوجوب التكبير في الركوع والسجود... .
7- الانتصار، ص 147. المسألة 45.
8- ما أثبتناه هو الصحيح كما في المصدر، وفي جميع النسخ: «وأن أقلّ».
9- الانتصار، ص 129، المسألة 28.
10- الانتصار، ص 433 المسألة 245.

حيوان وعُروض ومنقول وغيره، قابل للقسمة وغيره(1)، وأن أكثر الحمل سنّة(2)، وأنّ الهبة جائزة ما لم تُعَوَّض وإنْ كانت لذي رَحِم(3)، وأنّ المهرَ لا تصحُّ زيادته عن خمسمائة قيمتُها خمسون ديناراً، فما زاد عنها يُردُّ إليها(4)، وأنّ العقيقة واجبةٌ(5). إلى غير ذلك من المواضع التي اختص هو بالقول بها فضلاً عن أن يوافقه فيها شُذوذٌ.

وفي دعوى الشيخ في كتبه ما هو أعجب من ذلك وأكثرُ، لا يقتضي الحال ذكره. ولو ضَمَمْنا إليه ما ادّعاء كثير من المتأخّرين - خصوصاً المرحوم الشيخ على - لطال الخطبُ.

ومن غريبها دعوى الشيخ علي (رحمه اللّه) في شرح الألفيّة الإجماع على أنّ ناسي الغصب في الثوب والمكان لا تجب عليه الإعادة خارج الوقتِ(6)، مع ظهورِ المخالف في ذلك، حتّى أن الفاضل في القواعد أفتى بالإعادة مطلقاً كالعالم(7)، وفي شرحها للشيخ علي قال: إن في المسألة ثلاثة أقوال الإعادة مطلقاً، وفي الوقت. وعدمُها مطلقاً(8). وكذلك ادّعى في شرحه للقواعد الإجماعَ على أنّ المستعير لزرع نوعٍ له التخطي إلى المُساوي والأدونِ(9)، مع أن مختار المحقّق في الشرائع - فضلاً عن غيره - المنعُ من التخطّي إلى الأقلّ ضرراً فضلاً عن المُساوي(10). وكذلك ادعى الإجماع فيه

ص: 212


1- الانتصار، ص 448، المسألة 256.
2- الانتصار، ص 345، المسألة 193.
3- الانتصار، ص 460، المسألة 261.
4- الانتصار، ص 292، المسألة 164.
5- الانتصار، ص 406، المسألة 233.
6- لم نجده في شرح الألفيّة.
7- قواعد الأحكام، ج 1، ص 256 و258.
8- جامع المقاصد، ج 2، ص 87 – 90.
9- جامع المقاصد، ج 6، ص 87: الظاهر من كلامهم أنّ هذا الحكم إجماعي وإلا فهو مشكل من حيث الدليل لوجوب الاقتصار على المأذون.
10- شرائع الإسلام، ج 2، ص 136.

أيضاً على أنّ المساقاة لا تَبْطُلُ بالمَوتِ(1)، مع أنّ الشيخ في المبسوط جزم ببطلانها ونَسَبه إلى علمائنا بعبارةٍ تُشعِرُ بالإجماع ولا أقل من الخِلافِ(2)، وفي الشرائع(3)، ومختصرها صرّح بالخلافِ في المسألة أيضاً(4)، ولو أتيتُ لكَ على جميع ما ذكره من ذلك في مؤلّفاته ورسائله لطال، وفي هذا القدر كفاية.

فإذا أضفت هذا إلى ما قرَّرناه سابقاً كفاك في الدلالة على حالِ هذا الإجماع ونقله بخبر الواحدِ المنقول به الإجماعُ، واللّه يشهد - وكفى به شهيداً - أن الغرض من كشفِ هذا كلّه ليس إلا بيانَ الحقّ الواجب المتوقِّفِ عليه؛ لقوّةِ عُسر الفطام عن المذهب الذي تألّفه الأنام، ولولاه لكان لنا عنه أعظمُ،صارفٍ، واللّه تعالى يتولّى أسرار عبادِه ويَعْلَمُ حقائق أحكامه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 213


1- جامع المقاصد، ج 7، ص 348.
2- المبسوط، ج 3، ص 15 : إذا ماتا أو مات أحدهما انفسخت المساقاة كالإجارة عندنا.
3- شرائع الإسلام، ج 2، ص 123.
4- المختصر النافع، ص 172.

ترغيب المؤلّف وحثّه على صلاة الجمعة

ختم ونصيحة

اذا اعتبرت ما ذكرناه من الأدلّة على هذه الفريضة المعظمة، وما ورد من الحث عليها في غير ما ذكرناه مضافاً إليه، وما أعدّه اللّه من الثواب الجزيل عليها وعلى ما يتبعها ويتعلَّقُ بها يومَ الجمعةِ من الوظائف والطاعات - وهي نحو مائة وظيفةٍ(1) قد أفردنا عيونها في رسالةٍ مفردةٍ ذكرنا فيها خصوصيات يوم الجمعة (2) - ونظرت(3) إلى شرف هذا اليوم المذخور لهذه الأُمَّةِ(4)، كما جعل [اللّه] لكلِّ أُمَّةٍ يوماً يَفْزَعون فيه إليه ويجتمعون على طاعته، واعتبرت الحكمة الإلهيّة الباعثة على الأمر بهذا الاجتماع، وإيجاب الخطبة المشتملة على الموعظة وتذكير الخلق باللّه تعالى وأمرهم بطاعته وزجرهم عن معصيته وتزهيدهم في هذه الدنيا الفانية وترغيبهم في الدار الآخرةِ الباقية المشتملة على ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولاخطر على قلب بشر(5)، وحنّهم على التخلُّقِ بالأخلاق الجميلة واجتناب السمات الرذيلة، وغير ذلك من المقاصدِ الجليلة، كما يطَّلِعُ عليها من طالع

ص: 214


1- ذكرها السيوطي في رسالته خصائص يوم الجمعة.
2- وهذه الرسالة طبعت في هذه المجموعة بعنوان خصائص يوم الجمعة.
3- معطوف على قوله إذا اعتبرت قبل عدة أسطر.
4- إشارة إلى الخصوصية 54 التي ذكرها السيوطي في خصائص يوم الجمعة، ص 55 بقوله : أنّه المدَّخَرُ لهذه الأمّة، وروى في ذلك حديثين.
5- إشارة إلى ما روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) في صحيح البخاري، ج 3، ص 1185، ح 3072، من أنّه قال: «قال اللّه تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر...».

الخُطَبَ المرويّة عن النبيّ وأمير المؤمنين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وغيرهما من الأئمّة الراشدين والعلماء الصالحين، علمتَ(1) حينئذٍ أنّ هذا المقصد العظيم والمطلب الجليل لا يليقُ من الحكيمِ إبطاله ولا يحسُنُ من العاقل إهماله، بل ينبغي بذل الهمَّة فيه، وصرفُ الحيلة الى فعله، وبذل الجهدِ في تحصيل شرائطه ورفع موانعه ليفوز بهذه الفضيلة الكاملة، ويحوز هذه المثوبة الفاضلة.

الأحاديث المرغبة في صلاة الجمعة

وقد روي - مضافاً إلى ما سبق - عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: «مَن أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل»(2).

وعن أبي عبدِ اللّه، عن أبيه، عن جدّه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «جاء أعرابي إلى النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يقال له: قليب. فقال: يارسول اللّه إنّي تهيأتُ إلى الحجّ كذا وكذا مرّةً فما قُدِّر لي، فقال له: يا قليب، عليك بالجمعة؛ فإنّها حجّ المساكين»(3).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «مَن غَسَلَ واغْتَسَلَ وبَكَرَ وابْتَكَر ودنا وأنصتَ ولم يَلغُ كان له بكل خطوةٍ كأجر عبادَةِ سنة صيامها وقيامها»(4).

قيل في تفسيره: غَسَلَ مواضع الوضوء واغتسل يعني جسده، وبكر في غُسله، وابتكر يعني إلى الجامع(5).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لم تطلع الشمس ولم تغرب على يوم أفضل من يومِ الجمعةِ، وما من دابّة إلّا وهي تَفْزَعُ من يومِ الجمعةِ إلَّا الثقلين الإنس والجن، وعلى كلّ بابٍ من أبواب المساجدِ ملكان يكتبان الناسَ الأوّل فالأوّل فَكَرَجُلٍ قدّم بدنةً وكرجل قدّمَ بقرةً وكرجلٍ

ص: 215


1- جواب لقوله إذا اعتبرت ونظرت في الصفحة السابقة.
2- الفقيه، ج 1، ص 427، ح 1261.
3- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 236.
4- سنن أبي داود، ج 1، ص 95، ح 345، الجامع الصحيح، ج 2، ص 367 - 368، ح 496؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 346، ح 1087؛ الترغيب والترهيب، ج 1، ص 488، ح 11.
5- انظر الترغيب والترغيب، ج 1، ص 488 - 489.

قدّم شاةً وكرجل قدَّم طيراً وكرجل قدّم بيضةً، فإذا قعد الإمامُ طُويت الصُحُفُ»(1).

وفي حديثٍ آخر نحوه، وفي آخره: «فإذا خرج الإمامُ حضرت الملائكةُ يستمعونَ الذكر»(2).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من توضأ يومَ الجمعةِ وأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصتَ غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثةِ أيّام»(3).

وعن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «إذا كان يوم الجمعة خرج أحلاف(4) الشياطين يُزيّنونَ أسواقهم ومعهم الراياتُ وتَقْعُد الملائكةُ على أبواب المساجد فيكتبون الناس على منازلهم حتّى يخرج الإمام، فمَن دنا إلى الإمام وأنصت واستمع ولم يلغُ كان له كفلان من الأجر، ومن تباعد عنه فاستمع وأنصتَ ولم يَلغُ كان له كفل من الأجر، ومن دنا من الإمامِ فلغا ولم يستمع كان عليه كفلانِ مِن الوِزرِ، ومن قال لصاحبه: «صه» فقد تكلَّم، ومَن تكلَّم فلا جمعة له - ثمّ قال عليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): - هكذا سمعت نبيّكم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»(5).

وروى عبد اللّه سنان قال: قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فضّل اللّه الجمعة على غيرها من الأيّام، وإنّ الجنانَ لَتُزَخْرَفٌ وتُزَيَّنُ يومَ الجمعةِ لِمَن أتاها، وإنّكم تتسابقون إلى الجنّةِ على قدرِ سبقكم إلى الجمعة، وإنّ أبواب السماءِ لَتُفْتَحُ لِصُعودِ أعمال العبادِ»(6).

وروى الصدوق بإسناده إلى أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ الملائكة المقربين يهبطونَ في كلّ جمعةٍ معهم قراطيسُ الفضَّةِ وأقلام الذهب فيجلسون على أبواب المسجد على

ص: 216


1- مسند أحمد، ج 3، ص 102، ح 7691؛ الترغيب والترهيب، ج 1، ص 491 - 492، ح 17.
2- سنن أبي داود، ج 1، ص 96، ح 351؛ الجامع الصحيح، ج 2، ص 372، ح 499.
3- سنن أبي داود، ج 1، ص 276، ح 1050؛ الجامع الصحيح، ج 2، ص 371، ح498؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 346 - 347، ح 1090.
4- هكذا في النسخ، وفي بعضها: أخلاف بالخاء المعجمة، ولم ترد في المصدر هذه الكلمة.
5- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 500 - 501.
6- الكافي، ج 3، ص 415، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 3 - 4، ح 6.

كراسيَّ من نورٍ، فيكتبون من حضر الجمعة الأوّل والثاني والثالث حتّى يخرجَ الإمامُ، فإذا خرج الإمامُ طَوَوا صُحُفَهم»(1).

وفي معنى هذه أخبار كثيرةٌ. ويكفيك في فضل هذه الصلاةِ اعتبار واحدٌ، وهو أنّ يومَ الجمعةِ أفضلُ الأيّام مطلقاً، كما ورد في صحاح الأخبار، وصرَّحَ به العلماء الأخيارُ:

روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بطريق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) أنّه قال: «إنّ يوم الجمعة سيِّد الأيّام تُضاعَفُ فيه الحسناتُ وتُمحى فيه السيّئاتُ وتُكشَفُ فيه الكُرُباتُ وتُقضى فيه الحاجات العظام وهو يومُ المزيد، للّه فيه عُتَقاءُ وطُلَقاءُ من النار، ما دعا اللّه فيه أحدٌ من الناسِ وعرف حقه وحرمته إلّا كان حقاً على اللّه تعالى أن يجعله من عتقائه وطلقائه من النار، وما استخفَّ أحدٌ بحرمته وضيَّعَ حقَّهُ إلّا كان حقّاً على اللّه تعالى أن يصليه نار جهنَّمَ إِلّا أنْ يتوبَ»(2).

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفرٍ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقولُ: «ما طَلَعت الشمسُ بيومٍ أفضل من يوم الجمعة»(3). وفي معناه أخبار كثيرة دلّتْ على أنه أفضل الأيّام مطلقاً.

وقد وردتْ أيضاً بأنّ الصلاة اليومية من بين العباداتِ بعد الإيمانِ أفضلُ مطلقاً، وناهيك فيه بما رواه معاوية بن وهب في الصحيح قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن أفضلِ ما يَتَقَرَّبُ به العبادُ إلى ربِّهم وأحبّ ذلك إلى اللّه (عزّ وجلّ) ما هو ؟ فقال: «ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى إلى العبد الصالح عيسى بنِ مريمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «وَأَوْصاَنِي بِالصَّلَوَةِ وَالزَّكَوَةِ مَا دُمْتُ حَيًّا»(4)».

وورد أيضاً أنّ أفضل الصلواتِ اليوميَّةِ الصلاة الوسطى التي خصّها اللّه تعالى من

ص: 217


1- الفقيه، ج 1، ص 426 - 427، ح 1260.
2- الكافي، ج 3، ص 414، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 5: تهذيب الأحكام، ج 3، ص 2 - 3، ح 2.
3- الكافي، ج 3، ص 413، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 2، ح 1.
4- الكافي، ج 3، ص 264، باب فضل الصلاة، ح 1: الفقيه، ج 1، ص 210، ح 634؛ والآية في سورة مريم (19): 31.

بينها بالأمر بالمحافظة عليها - بعد أن أمر بالمحافظة على سائر الصلواتِ - المقتضي المزيد العناية بها وشدَّةِ الاهتمام بفعلها،

الصلاة الوسطى أفضل فرديها الجمعة

وأصحّ الأقوال أنّ الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر، وصلاة الظهر يوم الجمعة هي صلاة الجمعة على ما تَحقَّق(1)، أو هي أفضل فردَيها على ما تقرّر، وقد ظهر من جميعِ هذه المقدمات القطعيّة أنّ صلاة الجمعة أفضلُ الأعمال الواقعة من المكلّفين بعد الإيمانِ مطلقاً، وأن يومَها أفضل الأيّام(2). فكيف يسعُ الرجل المسلم - الذي خلقه اللّه تعالى لعبادته وفضَّله على جميع بريّته وبَيَّن له مواقع أمره ونهيه وعرَّضه بذلك للسعادة الأبدية والكمالات النفسيّة السرمديّة، وأرشده إلى هذه العبادة المعطّمةِ السَنيَّة، ودلَّه على مَثوبتها العَليّةِ - أن يَتَهاوَنَ في هذه العبادة الجليلة ويُضَيَّعَ هذه الجوهرة الأثيلة النبيلة، أو يتهاون بحرمة هذا اليوم الشريف والزمن المُنِيفِ ويصرِفَه في البطالة وما في معناها، فإنّ من قدر على اكتساب دُرّةٍ يتيمةٍ قيمتها مائة ألف دينار مثلاً في ساعةٍ خفيفة فاشتغل عنها باكتساب خِرقةٍ قيمتها فَلْسٌ، يُعَدُّ عند العقلاء من جملة السفهاء الأغبياء، وأين نسبةُ الدنيا بأسرها إلى ثواب صلاة فريضةٍ،واحدةٍ، مع ما قد استفاضَ بطريق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ): أنّ صلاة فريضةٍ أفضل من الدنيا وما فيها(3)؛ وأنّ صلاتها خيرٌ من عشرين حِجَّة، وحِجّةٌ خيرٌ من بيتٍ مملوء ذهباً يُتَصَدَّقُ به حتّى يفنى الذهب(4). فما ظنّك بفريضةٍ هي أعظمُ الفرائض وأفضلها! هذا على تقدير السلامة من العقاب والابتلاء بحرمان الثواب، فكيف بالتعرّض لعقاب ترك هذه الفريضة العظيمة والتهاون في حُرمتها الكريمة! مع ما سمعتَ مِن تَوَعُّدِ اللّه تعالى ورسوله وأئمّته (عَلَيهِم السَّلَامُ) بالخسران العظيم والطبع على القلب والدعاء عليهم من تلك النفوس الشريفة

ص: 218


1- انظر ما يأتي في رسالة الحثّ على صلاة الجمعة.
2- انظر رسالة السيوطي الموسومة بخصائص يوم الجمعة.
3- تهذيب الأحكام، ج 2، ص 240، ح 953 مع اختلاف في الألفاظ.
4- الكافي، ج 3، ص 265 - 266، باب فضل الصلاة، ح7؛ تهذيب الأحكام، ج 2، ص 236 - 237، ح 935.

بما سمعت إلى غير ذلك من الوعيدِ وضروب التهديد على ترك الفرائض مطلقاً فضلاً عنها.

وتَعلُّلُ ذوي الكسالةِ وأهل البطالة المتهاونين بحرمة ذي الجلالة في تركها يمنع بعض العلماء من فعلها في بعض الحالات - مع ما قد عرفتَ مِن شذوذه وضعفِ دليله - معارَضُ بمثله في الأمرِ بها والحثّ عليها والتهديد لتاركها من اللّه ورسوله وأئمته (صلوات اللّه عليهم أجمعين) والعلماء الصالحين والسلف الماضين ويبقى بعد المعارضة ما هو أضعافُ ذلك، فأيُّ وجهٍ لترجيح هذا الجانب مع خطره وضرره لولا قلة التوفيق وسوء الخذلان وخَدْعُ الشيطانِ ؟

نسأل اللّه تعالى بفضله ورحمته أنْ يُنَبِّهَنَا مِن مَراقدِ الغفلة على الأعمال الموجبة لمرضاته، ويجعل ما بقي من أيّام المهلة مقصوراً على أفضل طاعاته.

وقد بَيَّنتُ مِن حقِّ هذه الصلاةِ ما قد عرفتُ وأدَّيتُ فيها من حقٌّ أمانة العلم ما أُمِرْتُ، وما عليّ «إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»(1) وحَسْبُنَا اللّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» (2).

وليكن هذا آخر ما نُمْلِيه فى هذه الرسالة حامدين للّه تعالى مُصَلِّينَ على صاحب الرسالة محمد النبيّ المصطفى وآله الأطهار.

فرغ من تسويدها مؤلّفها الفقير إلى عفو اللّه تعالى زين الدين بن علي بن أحمدَ الشامي العامليُ غُرَّةَ شهرٍ ربيع الأوّل المُنتظِم في سلك سنة اثنتين وستين وتسعمائة هجرية حامداً مصلّياً مسلّماً مُستغفراً.

ص: 219


1- اقتباس من الآية 88 من سورة هود (11).
2- اقتباس من الآية 173 من سورة آل عمران (3).

رؤوس المطالب في بحث صلاة الجمعة

[للمصنف رحمه اللّه تعالى وجَعَلَ الجنّة مثواه]

اعلم أنّ البحث في هذه المسألة وقع من عَشَرَة أوجه:

الأوّل: إثبات مشروعيّة الجمعة حالَ الغَيبة، والردُّ على مَن مَنَعَ منها.

الثاني: إثبات وجوبها.

الثالث: كونُ وجوبها عينياً أو تخييراً وترجيح الحقّ في كلّ منهما.

الرابع: أنّ الوجوب المذكور هل يتوقّف على إذنِ الإمام أم لا ؟

الخامس: أنه على تقدير توقّفه هل يتوقّف على إذنِ الفقيه حالَ الغَيْبَةِ أم لا ؟

السادس: الردُّ على مَن ادّعى الإجماع عى اشتراط الفقيه وبطلان دعواه.

السابع: الردُّ على من ادعى الإجماع على سقوط الوجوب العيني حينئذٍ وبطلان دعواه.

الثامن: الكلام على القاعدة المشهورة من أنّ مخالف الإجماع إذا كان معلوم النسب لا يقدح فيه.

التاسع: الكلام على دعوى كونِ الإجماع المنقول بخبر الواحدِ حجّةً وبيانُ فسادِها مطلقاً.

العاشر: التنبيه على أنّ خطأ كثيرٍ من الفضلاء في هذه الدعوى اقتضى انصراف الظَّنِّ عن صدقِ الخبر المذكور الذي هو مناط الحجية.

والبحث في بعض هذه المواضيع العَشَرةِ خلافُ المشهور، فيتوقّف التصديقُ بها على إمعان النظر وعزل داعية الهوى والمَيْنِ وتقليدِ السلفِ مِن البَيْن، وطلب الحقّ الذي هو ضالة المؤمن واتِّباعه حيثُ وَجَدَه(1)، والاعتماد في ذلك كلّه هو على اللّه تعالى، فهو حسبنا وكفى، والحمدُ للّه وحده، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين.

ص: 220


1- لعلّه إشارة إلى قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحق بها» المرويّ في سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1395، ح 4169.

15. الحثّ على صلاة الجمعة

إشارة:

تحقيق محسن النوروزي

مراجعة

رضا المختاري

ص: 221

ص: 222

بسم اللّه الرحمن الرحيم

مقاله فى الحثّ على صلاة الجمعة

أمر القرآن الكريم بصلاة الجمعة

أرسلتُها إلى المؤمنين بالتماس بعض الأصحاب

اعلموا مَعاشر إخواننا المسلمين (أعاننا اللّه وإيّاكم على طاعتِه، وأخذ بنواصينا إلى محبَّتِه، وما يوجِبُ الفوزَ لِقُرب حَضْرته) أنّ صلاة الجمعة من أعظم فرائض الإسلام وأفضل العبادات بعد الإيمان، خصَّ اللّه تعالى بها هذه الأُمِّةَ الكريمة، وجعلَها في ذلك اليوم الشريفِ مِن أجلّ مِنَنه الجسيمة، جامعة بين وظيفة الصلاة والذكر والموعظة واستماعها المُوجِبِ لصفاء القلوب والانبعاتِ على التقوى والبُعدِ عن معصية اللّه تعالى. وقد خَصَّ اللّه تعالى كلّ ملّةٍ بيومٍ مِنَ الأُسبوع تَتَقَرَّبُ فيه إليه بما شَرَعَ لهم مِنَ الدين، وجعل هذه الصلاة في هذا اليوم خاصةً للمسلمين.

وقد خصَّها اللّه تعالى مع ذلك بالحثّ العظيم المؤكَّد عليها بما لم يَفْعَلْه بغيرها مِنَ العبادات، فقال سبحانه في مُحْكم كتابه الكريم: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّه وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»(1) الآيات.

ص: 223


1- الجمعة (62) 9 – 11.

وفيها من ضروب التأكيد عليها ما لا يقتضي الحالُ بسطه؛ لكثرته ودقة مأخذه عَمّا يَليقُ بهذا المقام، لا يخفى على مَن له مُسْكَةٌ بحقائقِ الكلام.

وأمَرَ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بقراءة هذه السورة يومَ الجمعة في سائر الصلواتِ خصوصاً صلاةَ الجمعة، لِيَتَدَبَّرَ السامعُ لهذا الأمر وينبعث على العمل بمقتضاه. وأعاد التأكيد عليها في سورة المنافقين المأمورِ بقراءتها فيها أيضاً(1)، فقال - بعد أن سمّاها ذكر اللّه تعالى في السورة السابقة -: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَلُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّه وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَبِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» (2).

فتأمّل كيف جَمَعَ بين الأمرِ بفعلها والحثّ عليها في السورة الأُولى، ثمّ شَفَعَه بالنهي عَنِ الاشتغال عنها والتهديد على تركها في السورةِ الثانيةِ، وَوَصَفَ التارك لها بالخُسران الذي وَصَفَ به الكافرين والظالمين في مواضع كثيرةٍ مِنَ القرآن الكريم(3). وفي هذا كفاية للمتبصر وبلاغٌ للمتدبّر.

وقال تعالى: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَتِ وَالصَّلَوَةِ الْوُسْطَى»(4) فَخَصَّ الصلاة الوسطى بالأمر بالمُحافظة عليها من بين الصلوات والذي عليه المحقّقون أنّها صلاة الظهر في غير يوم الجمعة وفيها هي الجمعة(5)، بل قال جماعةٌ مِنَ العلماء: إنها هي الجمعة لا غير(6).

الأحاديث الشريفة وصلاة الجمعة

وأمّا ما وَرَد مِن الحثّ عليها في السنّة المطهّرة فكثير لا يكاد ينحصر، فمنه قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):

ص: 224


1- وسائل الشيعة، ج 1، ص 118 - 121، 154 - 156، البابان 49 و 70 من أبواب القراءة في الصلاة.
2- المنافقون (63): 9.
3- منها: المائدة (5): 5: يونس (10) : 45 و 95؛ آل عمران (3): 85؛ الإسراء (17): 82.
4- البقرة (2): 238.
5- قال الطبرسي في مجمع البيان، ج 2، ص 343، ذيل الآية 238) من البقرة :(2) وذكر بعض أئمّة الزيدية أنّها الجمعة يوم الجمعة والظهر سائر الأيّام.
6- ذكره ابن العربي في أحكام القرآن، ج 1، ص 225 ولم يسم قائله؛ وحكاه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ج 3، ص 211، ذيل الآية 238 من البقرة (2) عن ابن حبيب ومكّي.

«الجمعة حقٌّ واجبٌ على كلّ مسلم إلّا أربعة عبدٌ مملوكٌ أو امرأةٌ أو صبيٌّ أو مريضٌ»(1).

وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «اعلموا أن اللّه تعالى قد افترض عليكم الجمعة، فمَنْ تركها في حياتي أو بعد موتي وله إمام عادل استخفافاً بها أو جُحُوداً لها فلا جَمَعَ اللّه شَمْلَه ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا ير له حتى يتوبَ»(2).

وروى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «مَنْ تَرَكَ الجُمُعَةَ ثلاث جُمَعٍ مُتَواليةٍ طَبَعَ اللّه على قلبه»(3).

وعن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «إنّ للجمعة لحقاً وحُرمةً ؛ فإيّاك أن تُضَيَّعَ أو تُقَصِّرَ في شيءٍ من عبادة اللّه تعالى والتقرب إليه بالعمل الصالح»(4).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فَضَّلَ اللّه الجمعة على غيرها، وإنّ الجِنانَ لتُزَخْرَفُ وتُزَيَّنُ يومَ الجمعةِ لِمَنْ أتاها وإنّكم لتتسابقون إلى الجنَّةِ على قَدْرِ سَبقِكم إلى المسجدِ للصلاة، وإنّ أبواب الجنان لتُفْتَح لِصُعودِ أعمال العباد». وإنّ الملائكةَ لَتَقِفُ على أبواب المساجد وبأيديهم أقلام الفضَّةِ وقراطيسُ الذَهَب يَكْتُبُونَ الأوّل فالأوّل حتّى يَصْعدَ الإمام إلى

ص: 225


1- سنن أبي داود، ج 1، ص 280، ح 1067؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 3، ص 260 - 261، ح 5632 - 5635: المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 425، ح 1062، وفيها: في جماعة إلّا.
2- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 343، ح 1081؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 3، ص 244، ح 5570... تهذيب الأحكام، ج 3، ص 238، ح 632: المحاسن، ج 1، ص 166، ح 29/246.
3- الكافي، ج 3، ص 414، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 3، ص 3، ح 3.
4- إلى هنا مروي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الكافي، ج 3، ص 415، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 9؛ وتهذيب الأحكام ج 3، ص 3 - 4. ح.6. وفي المصدرين: «إلى الجمعة» بدل «إلى المسجد»، و«أبواب السماء» بدل «أبواب الجنان». وأمّا قوله: وإن الملائكة إلى قوله: الخطبة فلم أعثر عليه بلفظه في المصادر، نعم روي عن أبي جعفر اللّه في الكافي، ج 3، ص 413، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 2؛ والفقيه، ج 1، ص 426، ح 1260، ما نصّه - واللفظ من الكافي - : إذا كان يوم الجمعة نزل الملائكة المقربون معهم قراطيس من فضة وأقلام من ذهب فيجلسون على أبواب المسجد على كراسي من نور فيكتبون الناس على منازلهم: الأوّل والثاني حتّى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام طَوَوْا صحفهم، ولا يهبطون في شيء من الأيّام إلا في يوم الجمعة. يعني الملائكة المقربين.

المنبر فَيَطْوُونَ الصُحُفَ ويدخلون مع الناس يستمعون الخطبة.

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ فرض في كلّ سبعة أيّام خمساً وثلاثين صلاةٌ، منها صلاة واجبة على كلّ مسلم أنْ يَشْهدَها إلا خمسةً: المريضُ والمملوك والمسافر والمرأة والصبيّ»(1).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «جاء أعرابي إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يُقال له: قليب، فقال: يا رسول اللّه إني تَهيَّأتُ إلى الحجّ كذا وكذا مرّةً فما قُدِّرَ لي. فقال له: يا قليب عليك بالجمعة؛ فإنّها حجّ المساكين»(2).

فهذه نَبْذَةٌ يسيرةٌ مما ورد في الكتاب والسنّة من الحثّ عليها، وفي بعضه كفاية لِمَنْ تدبَّره.

ويَكفِيكُم في فضلها من جِهَةِ الاعتبار ما وردت به الأخبار واتّفق عليه العلماء الأخيارُ مِنْ أنْ أفضل الأعمال الصالحة بعد الإيمان هو الصلاة، وأنّ اليوميَّةَ مِنْ بينها أفضلُ أفرادِها وأنّ الصلاة الوسطى أفضلُ اليومية، وهي صلاة الظهر في غير الجمعة وفيها هي الجمعة كما مرَّ. ولو قيل : هي الظهرُ مطلقاً؛ فالجمعة أفضلُ منها على ما تحقّق في محله، فتكون الجمعة أفضل أعمال المؤمنين بعد الإيمان مطلقاً.

وفي هذا القَدْرِ كفاية، بل فيه غايةُ المَزيد، وغُنْيَةٌ «لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»(3). فكيف يَسَعُ المسلم بعد ما يَطْرُقُ سَمْعَه هذه الأوامرُ أنْ يُهمل هذه الفريضة العظيمة، ويُضَيِّعَ هذا اليومَ الشريف الذي خَصَّ اللّه تعالى به المسلمين ويُصرِفَه في أُمور الدنيا بل في البطالة والخسارة؟ ما هذا إلا دليل على ضعف الإيمان ووَهْنِ اليقين وتلبيس إبليس اللعينِ ومُدَاخَلَتِه الخفية على المؤمنين ويخدعهم بقول

ص: 226


1- الكافي، ج 3، ص 418، باب وجوب الجمعة وعلى كم تجب، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 3، ص 19، ح 69.
2- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 236 - 237، ح 625.
3- اقتباس من الآية 37 من ق (50).

بعض العلماء (1): إنّها مشروطةٌ بإذن الإمام أو مَنْ نَصَبَه، ونحو ذلك. وهذا قولٌ ضعيفٌ لا يُعْذَرُ مُعتَمِدُه عند اللّه تعالى في هذا الزمان وخصوصاً بعد ما يَطرُقُ سمعه ما أوردناه مِنَ الأوامر المطلقة التي لم يَرِدْ لها مقيد معتبر عندَ مَنْ تَبَصَّرَ.

وماذا يكون جوابكم للّه تعالى يوم الحساب ونقاشِهِ المتعقب للعذاب، إذا قال لكم: قد أمرتكم بهذه الفريضة العظيمة في محكم كتابي المجيد الذي «لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(2) ؛ و ما اكتفيتُ لكم بذلك حتّى حَثَثْتُكم عليها على السنّة رُسُلى وخُلفائهم، بما قد أسْمَعَ مَن كان حيّاً. أفيقبل منكم أن تقولوا: سمعنا من بعض الناسِ أنّها غيرُ واجبةٍ ؟ أفيَقْصُر عندكم قول اللّه ورسوله وخلفائه وعلماء المسلمين عن قول بعض النّاس: إنّها غيرُ واجبةٍ ؟ وَهَبْ أَنَّ اللّه تعالى لم يؤكِّدِ الحثّ عليها بما ذكرناه، أليس قولُ بعض الناس معارَضُ بقول سائر المسلمين بوجوبها على الوجه الذي بيناه ؟

نسأل اللّه تعالى العصمة والعفو والرحمة، ونَستَمِدُّ منه المعونة على أداء حقّه وامتثال أوامره.

وها أنا قد أدَّيتُ الأمانة ونَصَحْتُ بما يجب عليّ، وما عليّ «إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب»(3). والحمد للّه حقَّ حمده، وصلاته على سيّد رُسُلِهِ مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِه.

كَتَبَ هذه الأحرف الفقير إلى عفو اللّه تعالى زين الدين بن علي بن أحمد، حامداً مصلّياً مسلُّماً مستغفراً.

ص: 227


1- منهم: السيّد المرتضى في أجوبة المسائل الميافارقيات، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 293؛ وسلّار في المراسم، ص 77 267 : وابن إدريس في السرائر، ج 1، ص 290، 293؛ وج 2، ص 26.
2- اقتباس من الآية 42 من فصلت (41).
3- اقتباس من الآية 88 من هود (11).

ص: 228

16. خصائص يوم الجمعة

إشارة:

تحقيق

حسين الشفيعي

مراجعة

رضا المختاري

ص: 229

ص: 230

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمدُ للّه الذي فضّل الأيّام بعضها على بعض، وشرَّف يوم الجمعة على غيره بخصوص السنّة والفرض، وصلى اللّه على سيدنا محمّد وآله صلاةً تملأُ أقطار السماوات والأرض، توجبُ لقائلها الأمان من أهوال يوم العرض، وسَلَّم تسليماً.

وبعد، فإنّ اللّه سبحانه من وفورِ رأفته بالعالمين ومزيد رحمتِه للمكلّفين نصب لهم أوقاتاً للتقرب فيها إليه والتردُّدِ بالأعمال الصالحة ليوم العَرْض عليه. لم تزل هذه سُنّته في الأمم الماضية والقرونِ الخالية، وهلم جراً إلى مِلَّتنا المحمدية الطاهرة وشريعتنا المصطفويّةِ،الزاهرةِ، فَجَعَلَ فيها أوقاتاً كثيرةً شرفها وعَظَمها وأقامَها لهذه الأُمِّةِ وعَلَّمها. وجَعَلَ يومَ الجمعةِ مِنْ بين الأيّام أفضل وأشرف الأوقات الحاصلة في الأسابيع والشهور والأعوام، كما سيرد عليك إن شاء اللّه تعالى في صحيح الأخبار ومشهور الآثار. وجَعَلَ لهذا اليوم الشريف خصائص كثيرةً لا تُوجد في غيره مِنْ الأيّام - وإنْ أمكن فعل بعضها في غيره - فهي فيه أفضل وأكثرُ ثواباً على الدوام، فهو مختصٌّ بها مِنْ هذه الجهةِ كما لا يخفى على أولى الأفهام.

وهي ترتقي إلى مائة فضيلةٍ على التمام(1). ولكنّا نذكر منها في هذه الرسالة أربعين

ص: 231


1- ذكرها السيوطي في رسالة خصائص يوم الجمعة، وقال في مقدّمتها : فقد ذكر... شمس الدين بن القيم في كتاب الهدي ليوم الجمعة خصوصيات، بضعاً وعشرين خصوصية وفاته أضعاف ما ذكر، وقد رأيتُ استيفاءها في هذه الكرّاسة، منبهاً على أدلّتها على سبيل الإيجاز، وتتبعتها فتحصَّلْتُ منها على مائة خصوصيّة، واللّه الموفق. وكلَّما أرجعنا في تعاليق هذه الرسالة إلى خصائص يوم الجمعة فمرادنا رسالة خصائص يوم الجمعة للسيوطي.

خصوصيّةً، هي عيون تلك الخصائص وأحقها بالإعظام، ومِن اللّه تعالى نستمدُّ التوفيق؛ فإنّه به حفيٌّ وحريٌّ وحقيقٌ.

1 - أفضل الأيّام

الخاصيَّةُ الأُولى:

أنّه أفضلُ الأيّام القول سيّد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام: «خيرُ يومٍ طلعت عليه الشمسُ يوم الجمعةِ. فيه خُلق آدم، وفيه أدخل الجنّةَ، وفيه أخرج منها. ولا تقومُ الساعة إلّا في يوم الجمعة»(1).

وفي حديث آخَرَ: «إنّ يومَ الجمعةِ سيّد الأيّام وأعظمها عند اللّه تعالى، وأعظم عند اللّه تعالى من يوم الفطر ومِنْ يوم الأضحى. وفيه خمسُ خِلالٍ: خَلَقَ اللّه تعالى فيه آدم، وفيه أُهْبِطَ، وفيه مات، وفيه ساعةٌ لا يُسأل اللّه عزّوجلّ فيها شيئاً إلّا أعطاه ما لم يُسأل حراماً، وفيه تَقومُ الساعةُ. وما مِن مَلَكِ مقرَّبِ ولا سماءٍ ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا شجرٍ إلّا وهي تُشْفِقُ مِنْ يوم الجمعة أن تقوم القيامة فيه»(2).

وروى أبو بصير في الصحيح قال: سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «ما طَلَعتِ الشمسُ بيوم أفضلَ مِنْ يوم الجمعة»(3).

2 - سيد الأيّام

الثانية:

وصفُه بكونه سيّد الأيّام، وقد تقدّم ذلك في الحديث السابق، وكان الشاهد منه على الأولى قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «وأعظمها عند اللّه تعالى».

ص: 232


1- صحیح مسلم، ج 2، ص 585، ح 854/18.
2- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 344، ح 1084، وفيه: «وأهبط اللّه فيه آدم إلى الأرض» بدل «وفيه أُهْبِطَ».
3- الكافي، ج 3، ص 413، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 3، ص 2، ح 1.

وروى أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إنّ يوم الجمعة سيّد الأيّام، يُضاعِفُ اللّه فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئاتِ، ويَرْفَعُ فيه الدرجات، ويستجيب فيه الدعوات، ويَكْشِف فيه الكُرُباتِ، ويقضي فيه الحاجاتِ العظام؛ وهو يوم المزيد، للّه فيه عتقاءُ وطلقاءُ من النار، ما دعا اللّه فيه أحدٌ مِن الناس وعرف حقّه وحُرمته إلّا كان حقاً على اللّه أن يجعلَه مِنْ عُتقائه وطلقائه من النار، وإن مات في يومه أوليلته مات شهيداً وبُعث آمِناً، وما اسْتَخَفَّ أَحدٌ بحرمته وضيع حقه إلّا كان حقاً على اللّه عزّ وجلّ أنْ يُصْلِيَه نارَ جَهَنَّمَ إِلّا أن يتوبَ»(1).

3 - عيد هذه الأمّة

الثالثة:

أنّه عيدُ هذه الأمة. قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إنّ هذا يوم عيد جعله اللّه للمسلمين، فمن جاء إلى الجمعة فَلْيَغْتَسِلْ، وإن كان عنده طيب فليَمَسَّ منه، وعليكم بالسواك»(2).

وعنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ): «الأعياد أربعةٌ : الفطر والأضحى والغدير ويوم الجمعة»(3).

ووجه اختصاصه مِنْ بين الأيّام بذلك ظاهرٌ؛ فإنّه بخصوصه مِنْ بين الأيّام السبعة عيدٌ مطلقاً بخلاف غيره من الأيّام؛ فإنّ وقوع العيد فيه اتّفاقي، وكما يمكن كونه فيه يمكن كونه في يوم الجمعة، فالأيّام السبعة مشتركة في هذا المعنى بخلاف يوم الجمعة فإنّه عيد على كلّ حالٍ.

4 - صلاة الجمعة فيه

الرابعةُ:

صلاة الجمعة فيه، واختصاصها بركعتين، وهي في سائر الأيّام أربع، ومع ذلك فتوائُها

ص: 233


1- الكافي، ج 3، ص 414، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 5: تهذيب الأحكام، ج 3، ص 2، ح 2.
2- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 349، ح 1098.
3- الخصال، ص 264، باب الأربعة، ح 145.

أعظمُ مِنْ غيرها من الصلوات حتّى الظهر يوم الجمعة، وإن قيل: إنّها الصلاة الوسطى فهي يوم الجمعة صلاة الجمعة، بل قيل: إنّها الجمعة مطلقاً (1).

وقد ورد في فضلها والحثّ عليها في الكتاب والسنّة ما هو مشهور. قال اللّه تعالى «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللّه وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» (2).

وقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : «إنّ اللّه فَرَضَ عليكم،الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتى استخفافاً بها أو جحوداً لها فلا جَمَعَ اللّه شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا بِرَّ له حتّى يتوب»(3).

وقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ اللّه فَرَضَ في كلّ أُسبوعٍ خمساً وثلاثين صلاةً، منها صلاةٌ واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّا خمسةً: المريضُ والمملوك والمسافرُ والمرأة والصبيُّ»(4).

وغير ذلك من الأخبار وهي كثيرةٌ.

5 - صلاة الجمعة تعدل حجّة

الخامسة:

أنّها تعدِلُ حِجّةً. قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «الجمعة حجّ المساكين»(5). وكان سعيدُ بنُ المسيِّب يقول: الجمعة أحَبُّ إليَّ مِن حِجّة تطوّع(6).

ص: 234


1- راجع ما تقدّم في رسالة الحثّ على صلاة الجمعة.
2- الجمعة (62): 9.
3- سن ابن ماجة، ج 1، ص 343، ح 1081؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 3، ص 244، ح 5570.
4- الكافي، ج 3، ص 418، باب وجوب الجمعة وعلى كم تجب، ح 1.
5- الدعوات، ص 37، ح 91.
6- خصائص يوم الجمعة، ص 17.

6 - صلاتها جهريّة مع أنّ صلاة النهار سرّيّة

السادسة:

الجَهرُ فيها مع أنّ صلاة النهار سِرّيّة. والحكمة فيها مع التأسّي والاتِّباع أنّ الغرض الأقصى من صلاة الجمعة اجتماع الناس ووعظهم وتألف قلوبهم على التقوى، وفي مواعظ القرآن شفاء من كلّ داءٍ وخصوصاً سورة الجمعة والمنافقين اللتين تَتأكَدُ قراءتهما فيها، ففيهما من الحثّ على هذه الصلاة وضروب التأكيد في الأمر بها والنهي عن التشاغُل عنها ما لا يخفى.

ففي السورة الأولى أمر وترغيب في قوله تعالى: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّه»(1) فاللّه تعالى أمر بالسعي إليها وسمّاها ذكر اللّه تعالى.

وفي السورة الثانية نهي وترهيب في قوله تعالى: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّه وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(2).

فإذا جهر بالقراءة وأسْمَعَها الحاضرين حصل من ذلك زيادة الانبعاث على الطاعةِ خصوصاً هذه الفريضة المعظمة، وأثار الخوف من تركها والاشتغال عنها بلذات الدنيا من المال والولد، فَوَصَفَه بالخُسران نعوذ باللّه ممّا يوجبُ الحِرْمانَ.

7 - قراءة سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة

السابعة:

قراءة الجمعة والمنافقين فيها، فقد رُوي أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) كان يقرأُ في الركعة الأولى بسورة الجمعة ليُحَرِّضَ بها المؤمِنين، وفي الثانية بسورة المنافقين لِيُقَرِّعَ بها المنافقين(3).

ص: 235


1- الجمعة (62): 9.
2- المنافقون (63): 9.
3- خصائص يوم الجمعة، ص18.

وروى محمّد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ اللّه أكرم بالجمعة المؤمنين فسنَّها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )؛ بشارةً لهم، والمنافقين؛ توبيخاً للمنافقين ولا ينبغي تركهما، فمن تركهما متعمّداً فلا صلاة له»(1).

وروى عمر بن يزيد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَن صلّى بغير الجمعة والمنافقين أعاد الصلاة»(2).

وهذا كلّه محمول على شدَّة الفضيلة، وتأكّد الرتبة. والمرادُ بنفي الصلاة، الصلاة الكاملة، بقرينة قوله: «لا ينبغي تركها»؛ فقد روى عليُّ بن يقطين عن أبي الحسن علي بن موسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في الرجل يقرأ في الصلاة الجمعة بغير سورة الجمعة متعمّداً فقال: «لا بأس بذلك»(3).

8 - اختصاصها بالجماعة بشرائط خاصة

الثامنة:

اختصاصُها بالجماعة، وبعددٍ،خاص وبمكانٍ خاصّ، وبإذن السلطان احتياطاً أو اشتراطاً على ما هو مقرَّرُ في كتب الفقه(4)، والحكمة فيه مع النصّ أنّ المطلوب للّه تعالى اجتماع الناس في موضع واحدٍ على إمام واحدٍ تُقبِلُ عليه القلوب فتجتمع على التوجّه إلى اللّه تعالى ولاجتماع القلوب كذلك مدخلٌ عظيمٌ في نزول الرحمة وإجابة الدعاء وإفاضة الأنوار من الجناب المقدس الأعلى تبارك وتعالى.

ص: 236


1- الكافي، ج 3، ص 425، باب القراءة يوم الجمعة وليلتها في الصلوات، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 3، ص 6، ح 16: الاستبصار، ج 1، ص 414، ح 1583.
2- الكافي، ج 3، ص 426، باب القراءة يوم الجمعة وليلتها في الصلوات، ح7؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 7، ح 21 الاستبصار، ج 1، ص 414 - 415، ح 1588.
3- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 7، ح 19؛ الاستبصار، ج 1، ص 414، ح 1586.
4- راجع ما سبق في رسالة صلاة الجمعة.

9 - الطبع على قلب من تركها

التاسعة:

الطبع على قلب مَنْ تَرَكها، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لَينْتَهِيَنَّ أقوام عن وَدْعِهمُ الجمعات أو لَيَخْتِمنَّ اللّه على قلوبهم، ثمّ ليكوننَّ مِن الغافلين»(1).

وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من ترك ثلاث جُمَعِ تهاون بها طبع اللّه تعالى على قلبه»(2).

وفي حديث آخَرَ: «مَنْ تَرَكَ ثلاث جُمَعِ متعمَّداً مِنْ غير علَّةٍ طبع اللّه على قلبه بخاتم النفاق»(3).

وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «احْضُروا الجمعة وادنُوا مِن الإمام؛ فإنّ الرجلَ يَتَخَلَّفُ عن الجمعة حتّى أنّه ليتخلّف عن الجنَّة، وأنّه لمن أهلها»(4).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: ألا هل عسى أحدكم أنْ يَتَّخِذَ الصُبّةَ(5) من الغنم على رأس مِيل أو ميلين، فيتعذَّرَ عليه الكلاً فيرتفع(6)، ثم تجيء الجمعة فلا يجيءُ ولا يَشْهَدُها، وتجيءُ الجمعة فلا يَشْهَدُها، وتجيء الجمعة فلا يَشْهَدُها، حتّى يُطْبَع على قلبه»(7).

ص: 237


1- مسند أحمد، ج 1، ص 395، ح 21133، وص 420، ح 2290، وص 550، ح 3089؛ وج 2، ص 207، ح 5535 : قال ابن الأثير في معنى الحديث في النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 5، ص 166: «ودع» : أي عن تركهم إيّاها والتخلف عنها، يقال: وَدَعَ الشيء يَدَعُه وَدْعاً، إذا تركه. والنحاة يقولون: إن العرب أماتوا ماضي يَدَعُ ومصدَرَهُ، وَاسْتَغْنَوْا عنه بِتَرَكَ. والنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أفصح. وإنّما يُحْمَلُ قولهم على قلة استعماله فهو شاذ في الاستعمال صحيح في القياس. وقد جاءَ في غير حديث حتّى قُرِئَ به قوله تعالى: «مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى» بالتخفيف».
2- الجامع الصحيح، ج 2، ص 373، ح 500؛ سنن أبي داود، ج 1، ص 277، ج 1052؛ سنن النسائی، ج 3، ص 88، باب التشديد في التخلف عن الجمعة.
3- خصائص يوم الجمعة، ص 21.
4- خصائص يوم الجمعة، ص 21؛ مسند أحمد، ج 5، ص 636، ح 19605.
5- أي الجماعة كما في النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 4، «صبب».
6- إنّ العلّامة السيّد محسن الأمين طَبَعَ هذه الرسالة وعَلَّق على هذا الموضع: أي يذهب إلى مكان أبعد منه.
7- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 357، ح1127.

10 - شرعيّة الكفّارة لها لو تركها

العاشرة:

مشروعيّة الكفارة لها لو تركها.

قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَنْ تَرك الجمعةَ مِنْ غير عذرٍ فليتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصفُ دينار»(1).

وفي حديث آخَرَ: «مَن فاتته الجمعة مِنْ غير عذرٍ فلْيَتَصَدَّقْ بدرهم أو نصف درهم أوصاع جنطةٍ أو نصف صاع»(2).

11 - الخطبة قبلها

الحادية عشرة:

الخطبة قبلها، والإنصاتُ لها قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: «أُنْصِت» والإمامُ يَخْطُبُ، فقد لَغَوْتَ»(3).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنْصَتَ غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيّام»(4).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَن اغتسل يوم الجمعة، ومسّ من طيب امرأته - إن كان لها - وليس مِنْ صالح ثيابه، ثمّ لم يَتَخَطَّ رقاب الناس، ولم يلغُ عند الموعظة كان كفّارةً لما بينهما، ومَنْ لغا وتخطّى رقاب الناس كان له ظهراً»(5).

وعن أبي بن كعب: أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قرأَ يوم الجمعة سورة براءة وهو قائمٌ يُذَكِّرُ

ص: 238


1- سنن النسائي، ج 1، ص 517 باب كفارة من ترك الجمعة من غير عذرٍ.
2- خصائص يوم الجمعة، ص 22.
3- صحيح البخاري، ج 1، ص 316، ح 892.
4- صحیح مسلم، ج 2، ص 588، ح 857/27.
5- سنن أبي داود، ج 1، ص 95-96، ح 347.

بأيّام اللّه، وأبو الدرداء أو أبو ذر الغفاري يَغْمِزُني فقال: «متى نزلت هذه السورة إنّي لم أسمعها إلّا الآن» فأشار إليه أن اسكتْ، فلمّا انْصَرَفوا قال: «سألتك متى أُنْزِلت هذه السورة فلم تُخْبِرْني»، فقال أبي : «ليس لك اليوم من صلاتك إلّا ما لغوتَ» فذهب إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فذكر ذلك له، وأخبره بالذي قال له أبيّ، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «صَدَق أُبَىٌّ»(1).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَنْ تكلَّم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: «أنصت» ليس له جمعة»(2).

12 - استحباب الغسل لها

الثانية عشرة:

استحباب الغسل لها. روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «من جاءَ منكم الجمعة فليغتسل»(3).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَنْ اغْتَسلَ يومَ الجمعة كُفّرتْ عنه ذنوبه وخطإيّاه، وإذا أخذ في المشي كُتِبَ له بكلِّ خُطُوةٍ عشرون حسنة»(4).

وكان عليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا وَبَّخَ رجلاً يقول له: «واللّه لأنت أعجز من تارك الغُسل يوم الجمعة؛ فإنّه لا يزال في طهرٍ إلى يوم الجمعة الأخرى»(5).

13 - استحباب التعطّر والتزيّن و... لصلاة الجمعة

الثالثة عشرة:

استحبابُ الطيّب والدُهْنِ والسواك وتسريح الشعر وقصِّ الأظفار. قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «الغُسل

ص: 239


1- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 352 - 353، ح 1111 وفيه: «تبارك» بدل «سورة براءة»؛ وانظر غاية المراد، ج 1، ص 118 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).
2- كنز العمّال، ج 7، ص 747، ح 21213؛ خصائص يوم الجمعة، ص 24.
3- صحيح البخاري، ج 1، ص 305، ح 854.
4- مجمع الزوائد، ج 2، ص 174، باب حقوق الجمعة؛ خصائص يوم الجمعة، ص 28 - 29.
5- الكافي، ج 3، ص 42، باب وجوب الغسل يوم الجمعة، ح 5.

يوم الجمعة واجب على كلّ مُحْتَلِمٍ، وأن يستنَّ - يعني يستاك - وأن يمسَّ طيباً إن وجد»(1).

وكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يُقلّم أظفارَه ويَقُصُّ شاربه يومَ الجمعة قبل أنْ يَخْرج إلى الصلاة(2). وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهَّرُ ما استطاع مِن طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ بدُهنٍ مِن دُهْنِه، أو يَمَسُّ مِن طِيب بيته، ويخرج فلا يُفرِّقُ بين اثنين، ثمّ يُصلّى ما كُتِبَله، ثمّ يُنصِتُ إذا تكلَّم الإمام، إلّا غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى»(3).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَنْ قَلَّمَ أظفاره يومَ الجمعة وقي من السوء إلى مثلها»(4).

وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «مَنْ أخذ من شاربه وقَلَّمَ أظفاره يومَ الجمعة ثمّ قال: «بسم اللّه، على سنّة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )» كتب اللّه له بكلِّ شَعرةٍ وكلّ قلامةٍ عتق رقبةٍ، ولم يمرض مرضاً يُصِيبُه إِلّا مرضُ الموتِ»(5).

14 - لبس أحسن الثياب

الرابعة عشرة:

لبس أحسن الثياب. قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَن اغتسل يوم الجمعة واستن ومسَّ مِنْ طِيبٍ - إن كان عنده - ولَبِسَ مِنْ أحسن ثيابه ثمّ خَرَجَ حتّى يأتي المسجد ولم يتخطّ رقاب الناس ثمّ رَكَعَ ما شاء اللّه أنْ يركع وأنصت إذا خرج الإمام، كان كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها»(6).

ص: 240


1- صحيح البخاري، ج 1، ص 300، ح 840 .
2- خصائص يوم الجمعة، ص 32.
3- صحيح البخاري، ج 1، ص 301، ح 843.
4- خصائص يوم الجمعة، ص 32.
5- الكافي، ج 3، ص 417، باب التزيّن يوم الجمعة، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 3، ص 10، ح 33. وفيهما: «على سنّة محمّد و آل محمّد».
6- خصائص يوم الجمعة، ص 33 - 34؛ سنن أبي داود، ج 1، ص 94 - 95، ح 343.

وكان للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بُردَّ يَلْبِسُه في العيدين والجمعة سوى تَوْبِ مَهْنَتِهِ(1). وقالت عائشةُ: كان لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثوبان يلبسهما في جمعته، فإذا انصرف طواهما إلى مثله(2).

وفي حديث آخَرَ عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إنّ اللّه وملائكته يصلّون على أصحاب العمائم يوم الجمعة»(3).

وقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): ليتزيّن أحدُكم يومَ الجمعة ويغتسل ويتطيَّب ويُسَرِّحْ لِحْيَتَه ويلبس أنظف ثيابه ويَتَهيّأ للجمعة، وليكن عليه ذلك اليوم السكينةُ والوَقارُ، َولْيُحْسِنُ عبادة ربّه وليفعل الخير ما استطاع؛ فإنّ اللّه تعالى يطَّلع إلى الأرض فيُضاعِفُ الحسناتِ»(4).

15 - التبكير إلى المسجد

الخامسة عشرة:

التبكير إلى المسجد. قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إذا كان يوم الجمعة كان على كلّ بابٍ مِنْ أبواب المسجد ملائكةٌ يكتبون الأوّل فالأوّل، فإذا جلس الإمامُ طَوَوا الصُحُف وجاؤوا يستمعون الذكر»(5).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إنّ الناس يجلسون من اللّه يوم القيامة على قدرِ رواحهم إلى الجُمعات، الأوّل والثاني والثالث»(6).

قوله: «من اللّه» أي مِنْ كَرامته ونحوها(7). وقال: «مَن اغتسل يومَ الجمعة غُسل الجنابة ثمّ راحَ فكأنّما قَرَّبَ بَدَنَةً ومَنْ راح في الساعة الثانية فكأنّما قَرَّبَ بقرةً، ومَنْ

ص: 241


1- السنن الكبرى، البيهقي، ج 3، ص 247 - 248، ح 5983 - 5985؛ وفي النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 4، ص 376، «مهن»: مهنته أي خدمته وبذلته.
2- خصائص يوم الجمعة، ص 36، وفيه: «طويناهما» بدل «طواهما».
3- مجمع الزوائد، ج 2، ص 176، باب اللباس للجمعة.
4- الكافي، ج 3، ص 417، باب التزين يوم الجمعة، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 3، ص 10، ح 32.
5- صحيح البخاري، ج 1، ص 314، ح 887.
6- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 348، ح 1094: خصائص يوم الجمعة، ص 39.
7- قاله البيهقي، كما حكاه السيوطي في خصائص يوم الجمعة، ص 39.

راحَ في الساعة الثالثة فكأنّما قَرَّبَ كَبْشاً، ومَنْ راح في الساعة الرابعة فكأنما قَرَّبَ دَجاجةً، ومَنْ راح في الساعة الخامسة فكأنّما قَرَّبَ بَيْضَةً، فإذا خَرَجَ الإمامُ حَضَرت الملائكةُ يستَمِعونَ الذِكر»(1).

وعن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «تجلس الملائكة يوم الجمعة على باب المسجد فيكتبون الناس على قدر منازلهم الأوّل والثاني حتّى يخرج الإمام»(2).

وقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ الجِنَان لتَزَخْرَفُ وتُزَيَّنُ يومَ الجمعة لمن أتاها، وإنّكم تتسابقون إلى الجنّة على قدرِ سَبْقِكم إلى الجمعة»(3).

وقد كان الصدر الأوّل (رضي اللّه عنهم) يمشون إلى المسجد ليلاً في السراج ويتهيّؤون لها يوم الخميس لأجل ذلك.

16 - الإكثار من الصلاة على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

السادسة عشرة :

الإكثار من الصلاة على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ومن العمل الصالح.

قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أكثروا من الصلاة عليَّ في كلّ جمعة، فمن كان أكثركم صلاة عليَّ كان أقربكم منّى منزلة»(4).

ومَنْ صلّى عليَّ يوم الجمعة مائة مرّةٍ جاء يوم القيامة وعلى وجهه نورٌ(5). ومَنْ صلّى عليَّ في يوم الجمعة ألفَ مرّةٍ لم يمت حتّى يرى مقعده من الجنّة(6).

ص: 242


1- صحيح البخاري، ج 1، ص 301، ح 841؛ صحيح مسلم، ج 2، ص 582، ح 850/10، وفي هامش المصدرين غسل الجنابة، أي غُسلاً كغُسل الجنابة.
2- الكافي، ج 3، ص 413، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح2.
3- الكافي، ج 3، ص 415، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 4 - 3، ح 6.
4- الترغيب والترهيب، ج 2، ص 503، 26.
5- كنز العمّال، ج 1، ص 507. ح 2240.
6- الترغيب والترهيب، ج 2، ص 501، ح 22.

وروى عمرُ بنُ يزيد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا كان ليلة الجمعة نزل من السماء ملائكة بعدد الذرّ، بأيديهم أقلامُ الذَهَب وقراطيسُ الفِضَّة لا تكتبون إلى ليلة السَبْتِ إِلَّا الصلاة على محمدٍ وآل محمّد (صلى اللّه عليه وعليهم)، فأكْثِرُ منها - وقال : يا عُمرُ، إنّ من السنّة أنْ تُصلّي على محمّدٍ وأهل بيته في كلّ يوم جمعة ألف مَرَّةٍ، وفي سائر الأيّام مائة مرّة»(1).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): أكثروا من الصلاة عليَّ في اليلة الغراء واليوم الأزهر ليلة الجمعة ويوم الجمعة» فسُئِل إلى كَم الكثير ؟ فقال: «إلى مائة وما زادت فهو أفضل»(2).

وروى الصدوق في الصحيح عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنه سُئل عن أفضل الأعمال يومَ الجمعة ؟ فقال : «الصلاة على محمّد وآل محمّدٍ مائة مرّةٍ، ومرّةً بعد العصر، وما زِدْتَ فهو أفضلُ»(3).

وعن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «إذا صليت يوم الجمعة فقل: اللّهمَّ صلّ على محمدٍ وآل محمّدٍ، الأوصياء المرضيّينَ بأفضل صلواتك، وبارك عليهم بأفضل بركاتك، والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة اللّه وبركاته. فإذا قلتها كتب اللّه لك مائة ألف حسنة، ومحا عنك مائة ألف سيئة، وقضى لك مائة ألف حاجة، ورفع لك بها مائة ألف درجة»(4).

17 - مضاعفة أجر الذاهب إلى الجمعة

السابعة عشرة:

تضعيفُ أجر الذاهب إلى الجمعة بكلِّ خُطوةٍ أجر سنَةٍ، وهذه مزيّة تحصل للبعيد عنها

ص: 243


1- الكافي، ج 3، ص 416، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 13؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 4، ح 9، وفي النسخ: «في ليلة كلّ جمعة» بدل «في كلّ يوم جمعة».
2- الكافي، ج 3، ص 428 باب نوادر الجمعة، ح 2.
3- ثواب الأعمال، ص 351.
4- ثواب الأعمال، ص 351 - 352.

أكثر ممّا يحصُلُ للقريب. قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من اغتسل يوم الجمعة وغَسَّلَ(1) ثمَّ بَكَّرَ وابْتَكَرَ(2)، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واسْتَمَعَ ولم يَلْغُ، كان له بكلِّ خُطْوَةٍ عملُ سَنَةٍ، أجرُ صيامها وقيامها»(3).

وفي حديث آخر عنه: «مشيك إلى المسجد وانصرافك إلى أهلك في الأجر سواء»(4).

18 - استحباب صلاة عشرين ركعة في يومها

الثامنة عشرة:

استحباب صلاة عشرين ركعةً فيها، وأفضلها أنْ تُفَرَّقَ: سُداس عند انبساط الشمس وقيامها وارتفاعها، والركعتان الباقيتان بعد الزوال، أو جعل السِتَّةِ الأُولى بين الفرضين، وذلك مرويٌّ مشهورٌ(5).

19 - نفي كراهية النافلة وقت الاستواء

التاسعة عشرة:

نفي كراهية النافلة وقت الاستواء - لو قلنا بكراهية النافلة مطلقاً كذلك - لما روي عن

ص: 244


1- في النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 367، «غسل»: ذهب كثير من الناس إلى أن غسِّل أراد به المجامعة قبل الخروج إلى الصلاة، لأن ذلك يَجْمَعُ غَضّ الطرف في الطريق. يقال: غَسَّلَ الرجل امرأته - بالتشديد وبالتخفيف - إذا جامعها. وقد رُوي مخففاً، وقيل: أراد غَسَّلَ غيره واغتسل هو، لأنه إذا جامع زوجته أحْوَجَهَا إلى الغسل. وقيل: أراد بغسَّل غسل أعضائه للوضوء ثم يغتسل للجمعة. وقيل: هما بمعنى واحدٍ وكَرَّرَه للتأكيد.
2- في النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 148، «بكر »: بكّر: أتى الصلاة في أول وقتها، وكلّ من أسرع إلى شيءٍ فقد بكّر إليه. وأمّا ابتكر فمعناه أدرك أوّلَ الخطبة. وأوّل كلّ شيءٍ باكورته. وابتكر الرجل إذا أكل باكورة الفواكه وقيل معنى اللفظين واحد، فَعَلَ وافْتَعَلَ، وإنّما كُرر للمبالغة والتوكيد، كما قالوا جادٌّ مُجدُّ.
3- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 346، ح 1087.
4- خصائص يوم الجمعة، ص 41.
5- الكافي، ج 3، ص 427 - 428، باب التطوع يوم الجمعة، ح 1 - 2 تهذيب الأحكام، ج 3، ص 10 - 11، ح 34 - 37 الاستبصار، ج 1، ص 409 - 410. ح 1565.

النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أنّه كره الصلاة نصف النهار إلّا يوم الجمعة - وقال - : إنَّ جهنَّم تُسَجَّرُ كلّ إلّا يوم الجمعة»(1).

20 - لا يستحبّ الإبراد بصلاتها في شدّة الحرّ

العشرون:

أنّه لا يُسْتَحَبُّ الإيراد بصلاتها فى شدَّةِ الحَرّ مطلقاً بخلاف سائر الأيّام(2). وكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذا اشْتَدَّ الحرُّ أبْرَد بالصلاة بغير الجمعة (3).

21 - تأخير الغداء والقيلولة عن صلاة الجمعة

الحادية والعشرون:

تأخير الغداء والقيلولة عنها. عن سهل بن سَعْدٍ ما كنا نقيلُ ولا تتعدى إلّا بعد الجمعة(4). وكنا نصلي مع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) الجمعة ثم تكون القائلة(5).

22 - قراءة الفاتحة والإخلاص والمعوّذتين سبعاً سبعاً

الثانية والعشرون:

قراءة الفاتحة والإخلاص والمعوذتينِ سَبْعاً سَبْعاً، ففي الحديث: من قرأها بعدها كذلك حُفِظَ من مجلسه ذلك إلى مثله(6). وروى الصدوق ابن بابويه بإسناده إلى أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «مَنْ قرأ بعد الجمعة حتّى ينصرف الحمد مرّة «قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ» سبعاً «قُلْ

ص: 245


1- سنن أبي داود، ج 1، ص 284، ح 1083.
2- خصائص يوم الجمعة، ص 40.
3- صحيح البخاري، ج 1، ص 307، ح 864.
4- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 350، ح 1099؛ صحيح البخاري، ج 1، ص 318، ح 897.
5- صحيح البخاري، ج 1، ص 318، ح 899.
6- خصائص يوم الجمعة، ص 44. وفيه: مَنْ صلّى الجمعة ثم قرأ بعد الجمعة: «قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ» والمعوّذتين سبعاً سبعاً حفظ من مجلسه ذلك إلى مثله من قرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين «قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ» سبع مرّاتٍ يومَ الجمعة قبل أنْ يتكلَّمَ، كُفّر عنه ما بين الجمعتين كان معصوماً.

أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» سبعاً وآيةَ المُلك(1)، آية السخرة(2)، وآخِرَ براءة: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ...» إلى آخره (3) كانتْ كفّارة ما بين الجمعة إلى الجمعة»(4).

وبإسناده إلى أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): مَنْ قرأ دبر صلاة الجمعة فاتحة الكتاب مرّةً «قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ» سبعَ مرَّاتٍ وفاتحة الكتاب مرّةً «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» سبعَ مرّاتٍ وفاتحة الكتاب مرّةً «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» سبعَ مرّاتٍ، لم تَنْزِلْ به بليّة ولم تُصِبه فتنةٌ إلى الجمعة الأخرى، فإن قال: «اللّهم اجْعَلْني مِن أهل الجنّة التي حَشْوُها بركة وعمّارها ملائكة، مع نبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأبينا إبراهيم»، جَمَعَ اللّه بينه وبين محمّدٍ وإبراهيم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في دار السلام»(5).

23 - فيها ساعة الإجابة

الثالثة والعشرون:

أنّ فيه ساعة الإجابة، ففي الحديث:

أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ذَكَرَ يوم الجمعة، فقال: «فيه ساعةٌ لا يُوافِقها عبد مسلمّ سألَ اللّه شيئاً إلّا أعطاه إيّاه»(6).

واختلف أهل العلم في هذه الساعة اختلافاً كثيراً(7)، وأصحُّها عندنا أنّها من بين فَراغ الإمام من الخطبة إلى أن تستوي الصفوف بالناس، وساعة أُخرى مِن آخر النهار

ص: 246


1- هي الآية 26 من سورة آل عمران (3): «قُلِ اللّهمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ...».
2- هي الآية 54 من سورة الأعراف (7): «إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ...».
3- التوبة (9): 128.
4- ثواب الأعمال، ص 89 - 90، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 18، ح 65، وفيهما: «حين ينصرف» بدل «حتى ينصرف».
5- ثواب الأعمال، ص 90 - 11، ح 1: جمال الأسبوع، ص 419 - 420.
6- خصائص يوم الجمعة، ص 57.
7- قال السيوطي في خصائص يوم الجمعة، ص 57: قد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم في هذه الساعة على أكثر من ثلاثين قولاً... .

إلى غروب الشمس رواه عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).

24 - تحريم السفر قبل صلاة الجمعة

الرابعة والعشرون:

تحريمُ السفر بعد الزوال وقبلها، وكراهيته من أول النهار عدا ما استُثني. ففي الخبر عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ سافر يوم الجمعة دعا عليه ملكاه أنْ لا يُصاحَبَ في سفره ولا تُقضى له حاجةٌ»(2).

وجاء رجل إلى سعيد بن المُسَيِّب يوم الجمعة يُوَدِّعه لسفرٍ، فقال له: لا تعجل حتّى تصلّي، فقال : أخافُ أن تفوتني أصحابي، ثمّ عجّل فكان سعيدٌ يسأل عنه حتّى قَدِمَ قوم فأخبروه أنّ رِجْلَه انكسرت، فقال سعيد : إني كنتُ لأُظنّ أنْ سيُصيبه ذلك(3).

ورُوي أنّ صيّاداً كان يخرج في الجمعة لا يمنعه مكان الجمعة من الخروج فخُسفَ به وببغلَتِه، فخرج الناس وقد ذهبت بغلته في الأرض فلم يبق منها شيء إلّا أُذناها وذنبُها(4).

وروي أن قوماً خرجوا في سفرٍ حينَ حَضَرَتِ الجمعة فاضْطَرَمَ عليهم خباؤُهم ناراً من غير نارٍ يرونها(5).

25 - قراءة سور مخصوصة في نهارها منها سورة الكهف

الخامسة والعشرون:

قراءة سورة مخصوصة من القرآن فيه، فمنها سورة الكهف وقد ورد فيها أحاديث، منها:

من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيّام، وإن خرج الدجّال عُصِمَ منه، ومَن قرأها ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق(6).

ص: 247


1- لم نجده في مظانّه.
2- خصائص يوم الجمعة، ص 46.
3- خصائص يوم الجمعة، ص 47.
4- خصائص يوم الجمعة، ص 47.
5- خصائص يوم الجمعة، ص 47.
6- خصائص يوم الجمعة، ص 32.

وروى الصدوق بإسناده إلى أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «من قرأ سورة الكهف كلّ ليلة جمعةٍ لم يَمُتْ إِلَّا شهيداً أو بعثه اللّه مع الشهداء ووقف يوم القيامة مع الشهداء»(1).

ومنها سورة الإسراء، روى الصدوق بإسناده إلى أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من قرأ سورة بنى إسرائيل في كلّ جمعةٍ لم يَمُتْ حتّى يُدرك القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويكون من أصحابه»(2).

ومنها سورة الصافّات، فعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالإسنادِ المذكور، قال: «مَنْ قرأ سورة الصافات في كلّ يوم جمعة لم يَزَلْ محفوظاً مِن كلّ آفةٍ، مدفوعاً عنه كلّ بليّة في الحياة الدنيا، مرزوقاً في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق، ولم يُصبه اللّه في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوءٍ من شيطان رجيم ولا جبّارٍ عَنيد، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه اللّه شهيداً وأماته شهيداً وأدخله الجنّةَ مع الشهداء في درجةٍ من الجنّة»(3).

ومنها سورة الواقعة، فعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالإسنادِ المذكور: «مَنْ قرأ كلّ ليلة جمعة الواقعة أحبَّهُ اللّه وحَبَّبه إلى الناس أجمعين، ولم ير في الدنيا بؤساً أبداً ولا فقراً ولا فاقةً ولا آفةً من آفات الدنيا وكان مِن رُفقاء أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(4).

ومنها حم الدخان ويس وص وهود والبقرة وآل عمران والنساء وقد جاء فيها أحاديثُ، منها قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى اللّه له بَيتاً في الجنَّة(5). ومَنْ قرأَ ليلة الجمعة حم ويس أصبحَ مغفوراً له(6). ومَنْ قرأ السورة التي يُذْكَرُ فيها آل عمران يومَ الجمعة صلّى اللّه عليه وملائكته حتّى تغيب الشمس(7). ومَنْ

ص: 248


1- ثواب الأعمال، ص 242، ح 2.
2- ثواب الأعمال، ص 240، ح 1.
3- ثواب الأعمال، ص 252 - 253، ح 1.
4- ثواب الأعمال، ص 263، ح 1.
5- خصائص يوم الجمعة، ص 67.
6- خصائص يوم الجمعة، ص 67 - 68.
7- خصائص يوم الجمعة، ص 68.

قرأ سورة البقرة وآل عمران في ليلة الجمعة كان له فيها من الأجر كما بين لبيدٍ وعزوبا»(1).

فلبيد: الأرض السابعة، وعَزُوباً: السماء السابعة(2).

وغير ذلك من الأحاديث، وهي كثيرة.

26 - تكفير الآثام

السادسة والعشرون:

تكفير الآثام عن سلمان الفارسي (رضي اللّه عنه) قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): «أتدري ما يومُ الجمعة ؟ قلت: اللّه ورسوله أعلم، قال: «هو اليوم الذي جمع اللّه تعالى فيه بين أبويكم، لا يبقى منّا عبد فيُحْسِنُ الوضوءَ ثمّ يأتي المسجد لجمعة إلّا كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى ما اجْتَنِبَتِ الكبائرُ»(3).

27 - أمان من عذاب القبر لمن مات في يومها أو ليلتها

السابعة والعشرون:

الأمانُ مِن عذاب القبر لمن مات يومها أو ليلتها. روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): مَنْ مات يومَ الجمعة وُقِيَ عذاب القبر»(4).

28 - الأمان من فتنة لمن مات في يومها أو ليلتها

الثامنة والعشرون:

الأمانُ من فتنة القبر لمن مات يومها أوليلتها، فلا يُسألُ في قبره. روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلّا وقاهُ اللّه عزّ وجلّ فتنة القبر».

وفي لفظ آخر: «إلَّا وُقي فتنة القبر»، وفي خبرٍ آخرَ: «إِلّا وُقِيَ الفَتانَ»(5). وفي حديث آخر: «ما مِنْ مسلم ومسلمة يموتُ يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلّا وقي عذابَ

ص: 249


1- خصائص يوم الجمعة، ص 69.
2- خصائص يوم الجمعة، ص 69.
3- خصائص يوم الجمعة، ص 47 - 48.
4- مجمع الزوائد، ج 2، ص 319، باب فيمن مات يوم الجمعة.
5- خصائص يوم الجمعة، ص 49.

القبر وفتنته، ولَقِيَ اللّه لا حساب عليه»(1).

29 - الحكم لمن مات في يوم أو ليلتها بالشهادة

التاسعة والعشرون:

الحكم لمن مات فيه بالشهادة. وقد تقدّم في الخاصيّة الثانية برواية الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ). وفيه أنّه: «مَنْ مات في يومه أو ليلته مات شهيداً وبُعِثَ آمناً»(2).

وفي حديثٍ آخَرَ عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَنْ مات يوم الجمعة كتب اللّه له أجر شهيد، ووُقِيَ فتنة القبر»(3).

30 - مات فيها مؤمناً كتبت له براءة من النار

الثلاثون:

أنّ مَنْ مات فيه مؤمناً كُتِبَ له براءةٌ من النار. روى الشيخ بإسناده إلى جابر عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سُئِلَ عن يوم الجمعة وليلتها، فقال: «ليلتها ليلةٌ غرّاءُ ويومُها يومٌ أَزْهَرُ، وليس على وجه الأرض يومٌ تَغرُبُ فيه الشمسُ أكثر مُعافى من النار منه مَنْ مات يوم الجمعة عارفاً بحقِّ أهل هذا البيت كَتَبَ اللّه له بَراءةً مِن النار وبراءةً مِن عذاب القبر، ومَنْ مات ليلة الجمعة أعْتِقَ مِن النار»(4).

31 - يوم المزيد

الحادية والثلاثون:

أنّه يوم المزيد ويوم الزيارة إلى اللّه (عزّوجلّ)(5) وهو «الشاهد والمشهود» لاجتماع

ص: 250


1- مسند أحمد، ج 2، ص 258، ح 6546: الجامع الصحيح، ج 3، ص 386، ح 1074 مع نقيصة.
2- الكافي، ج 3، ص 414، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 5 تهذيب الأحكام، ج 3، ص 2 - 3، ح 2.
3- خصائص يوم الجمعة، ص 85.
4- الكافي، ج 3، ص 415، باب فضل يوم الجمعة وليلتها، ح 8؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 3، ح 5.
5- في بعض النسخ: يوم الزيادة، ويظهر من خصائص يوم الجمعة، ص 352 أنه يوم المزيد ويوم الزيارة. وقال ابن القيم الجوزية في زاد المعاد، ج 1، ص 126 في الخاصة الثالثة ليوم الجمعة : وقُرب أهل الجنّة يوم القيامة وسبقهم إلى الزيارة يوم المزيد بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة وتبكيرهم. وراجع أيضاً ما قاله في الخاصة 26.

الأرواح فيه. وقد أقسم اللّه تعالى به(1). وهو مذكور في القرآن(2) دون سائر أيّام الأسبوع. قال عليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة»(3). وفي حديث آخر عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): «أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإنّه يوم مشهود تشهده الملائكة»(4).

32 - اليوم المدّخر لهذه الأُمّة

الثانية والثلاثون:

أنّه اليوم المدَّخَرُ لهذه الأُمّة ويوم المغفرة، فقد رُوي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إنّ اللّه تبارك وتعالى ليس بتارك أحداً من المسلمين يوم الجمعة إِلَّا غَفَرَله»(5).

33 - يوم العتق من النار

الثالثة والثلاثون:

أنه يومُ العتق، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): إنّ يوم الجمعة وليلة الجمعة أربع وعشرون ساعةً، ليس فيها ساعة إلّا ولله فيها ستمائة عتيق من النار، كُلُّهم قد اسْتَوْجَبَ النار»(6).

34 - الحسنة والسيّئة والصدقة فيه تتضاعف

الرابعة والثلاثون

الحسنةُ فيه تتضاعف، وكذا السيئة، وكذا الصدقة. وقد تقدّم في الحديث المذكور في الخاصيّةِ الثانية ما يدلُّ عليه. وقد روي أنّ عمل الخير يُضَعَّفُ يومَ الجمعة بعَشَرَةِ أضعافه فى سائر الأيّام، وكذا عمل الشر(7).

ص: 251


1- البروج (85): 3.
2- الجمعة (62): 9.
3- مجمع البیان، ج 10، ص 466، ذيل الآية 3 من البروج (85)؛ خصائص يوم الجمعة، ص 54.
4- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 524، ح 1637.
5- مجمع الزوائد، ج 2، ص 164، باب في الجمعة وفضلها.
6- مسند أبي يعلى الموصلي، ج 3، ص 235 - 236، ح 3471؛ خصائص يوم الجمعة، ص56.
7- خصائص يوم الجمعة، ص 66.

35 - كراهية الحجامة فيه

الخامسة والثلاثون:

كراهة الحجامة فيه، قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إن في يوم الجمعة ساعةً لا يَحْتَجِمُ فيها أحدٌ إِلَّا مات»(1) وكذا يُكْرُه شُربُ الدواء فيه المُشغِل عن العبادة، بل روي كراهته يوم الخميس خوفاً من اشتغاله عن الجمعة (2).

36 - تبخير المسجد

السادسة والثلاثون:

تبخير المسجد (3). قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): «جنّبوا مساجد كم صبيانكم ومجانينكم وشِراءَكم وبيعكم ورفع أصواتكم وسلاحكم، وبَخّروها في كلّ جمعة»(4).

37 - النهي عن الاحتباء وقت الخطبة

السابعة والثلاثون:

النهي عن الاحتباء(5) وقت الخطبة. روي ذلك عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بطرق متعدّدة(6)، قيل: والمعنى فيه أنّ الحُبْوَة تَجْلِبُ النومَ فيعرضُ طهارته للنقض ويمنع من استماع الخطبة(7).

38 - اختصاصه في دار الدنيا بزخرفة الجنان لمن أتى صلاة الجمعه

الثامنة والثلاثون اختصاصه في دار الدنيا بزَخْرَفَةِ الجِنان وزينتها لمن أتى الجمعة. روى عبد اللّه بن

ص: 252


1- مجمع الزوائد، ج 5، ص 92.
2- الفقيه، ج 1، ص 227، ح 1262.
3- بَخَرَ الشيءَ: طيَّبه بالبخور. المعجم الوسيط، ص 41، «بخر».
4- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 247، ح 750.
5- الاحتباء: هو أنْ يَضُمَّ الإنسانُ رجليه إلى بطنه بثوب يجمعها به مع ظهره ويشده عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب، وإنّما نَهى عنه لأنه إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد، ربما تحرّك أوزال الثوبُ فتبدو عورته. النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 335، «حبا».
6- خصائص يوم الجمعة، ص 26.
7- قاله الخطابي كما في خصائص يوم الجمعة، للسيوطى ص 27، وفيه: ويمتنع من استماع الخطبة.

سنانٍ في الصحيح عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «فضَّلَ اللّه الجمعة على غيرها من الأيّام، وأنّ الجِنان لَتُزَخْرَفُ وتُزَيَّنُ يوم الجمعة لمن أتاها وأنّكم لتتسابقون إلى الجنَّة على قدر سبقكم إلى الجمعة، وأن أبواب الجنان لَتُفْتَحُ لصعود أعمال العباد»(1).

39 - للمجامع فيه أجران

التاسعة والثلاثون:

أنّ للمجامع فيه أجرين اثنين: أجرَ غُسله وأجرَ غُسل امرأته، روي ذلك عن النبيّ (2).

40 - عبادات كثيرة وأدعية خاصة بهذا اليوم

الموفية للأربعين:

في خصوصيات وعبادات في يوم الجمعةِ وهي كثيرة مذكورة في كتب العبادات. فمنها عن أنس قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): «من قال قبل صلاة الغداة يوم الجمعة ثلاث مرّاتٍ: أستغفر اللّه لا إله إلّا هو الحي القيوم وأتوبُ إليه، غُفِرَتْ ذنوبه وإن كانت أكثرَ من زَبَد البحر»(3).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَنْ صلّى الجمعة وصام يومه وعاد مريضاً وَشِهِدَ جَنازَةً وشهد نكاحاً وجبت له الجنة»(4).

وعن أنس قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من قال هذه الكلمات سبعَ مرّاتٍ في ليلة الجمعة فمات ليلته دَخلَ الجنَّة، ومن قالها يوم الجمعة فمات في ذلك اليوم دَخلَ الجنَّة، من قال: اللّهم أنت ربي لا إلهَ إلّا أنت خلقتني وأنا عبدك وابن أمتِكَ وفي قبضَتِكَ وناصيتي بيدك، أمْسَيْتُ على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذُ بك من شر ما صنعتُ

ص: 253


1- الكافي، ج 3، ص 415، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 3 - 4، ح6.
2- خصائص يوم الجمعة، ص 29.
3- خصائص يوم الجمعة، ص 69 - 70.
4- مجمع الزوائد، ج 2، ص 169، باب ما يفعل من الخير.

أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفرلي إنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت»(1).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إنّ لكم في كلّ جُمعةٍ حجّةً وعُمرةً، فالحجَّةُ الهجرة إلى الجمعة، والعُمَرةُ انتظار العصر بعد الجمعة»(2).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كلّ جمعةٍ غُفِرَ له وكُتِبَ بَرّاً»(3).

قال بعض الصالحين (4): إنّ الموتى يعلمون زُوّارهم يوم الجمعة ويوماً قبله ويوماً بعده(5). وعن أنس قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): «إذا راحَ مِنا سبعون رجلاً إلى الجمعة كان كسبعين موسى(6) الذينَ وَفَدوا إلى ربّهم وأفضل»(7).

وعن ابن عباس (رضي اللّه عنه أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قال: «من صلّى بعد المغرب ركعتين في ليلة الجمعة يقرأ في كلّ واحدة منهما بفاتحة الكتاب مرَّة و«إِذَا زُلْزِلَتِ» خمس عَشرةَ مرّةً هَوَّنَ اللّه عليه سَكراتِ الموت وأعاذه من عذاب القبر، ويَسَّرَ له الجواز على الصراط يوم القيامة»(8).

وعن أنس قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): «مَنْ قرأ يوم الجمعة بعد صلاة الإمام «قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ» مائة مرّة، وصلّى على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مائة مرّة، وقال سبعين مرّةً: اللّهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، قَضَى اللّه له مائة حاجةٍ: ثمانينَ مِن حوائج الآخرة، وعشرين من حوائج الدنيا»(9).

ص: 254


1- خصائص يوم الجمعة، ص 74.
2- خصائص يوم الجمعة، ص 76.
3- خصائص يوم الجمعة، ص78.
4- هو محمد بن واسع، كما حكاه السيوطي في خصائص يوم الجمعة، ص 78 عن ابن أبي الدنيا والبيهقي.
5- شُعَبُ الإيمان، ج 7، ص 18؛ خصائص يوم الجمعة، ص78.
6- اشارة إلى الآية 155 من سورة الأعراف (7): «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا...».
7- مجمع الزوائد، ج 2، ص 176، باب عدة من يحضر الجمعة.
8- خصائص يوم الجمعة، ص 83.
9- مصباح المتهجد، ص 368 - 369.

وعنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ): «مَنْ صلّى بعد الظهر يوم الجمعة ركعتين يقرأ في الأُولى الحمد و«قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ» سبعَ مرّاتٍ وفي الثانية مثل ذلك، وقال بعد فراغه: اللّهمَّ اجْعَلْني مِن أهل الجنَّة التي حَشْوُها البركة وعمّارها الملائكة مع نبيّنا محمدٍ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأبينا إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ). لم تضرّه بليّة ولم تُصِبه فتنة إلى الجمعة الأخرى، وجَمَعَ اللّه بينه وبين محمدٍ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(1).

وعن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): مَنْ صلّى [عليَّ] يوم الجمعة مائة صلاة قَضَى اللّه له سِتّينَ حاجةً منها للدنيا ثلاثون حاجةً، وثلاثون حاجةً للآخرة»(2).

وروى عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يَسْتَحِبُّ إذا دَخَل وإذا خرج في الشتاء أن يكون في ليلة الجمعة»(3).

وقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إن اللّه اختار من كلّ شيءٍ شيئاً واختار من الأيّام يوم الجمعة»(4).

وروى أبو بصير عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى لينادي كلّ ليلة جمعةٍ من فوق عرشه من أوّل الليل إلى آخره ألا عبد مؤمن يدعوني لآخرته ودنياه قبل طلوع الفجر فأجيبه ؟ ألا عبد مؤمن يتوبُ إليَّ مِن ذنوبه قبل طلوع الفجر فأتوبُ عليه؟ ألا

ص: 255


1- الأمالي الصدوق، ص 268، المجلس 53، ح 2، وفيه: عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن آبائه قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) : جمال الأسبوع، ص 419.
2- رواه الصدوق (طاب ثراه) في ثواب الأعمال، ص 346، 1، عن أبي الحسن الرضا عن رسول اللّه (صلوات اللّه عليهما)، وذيل الحديث فيه هكذا: «ثلاثون منها للدنيا، وثلاثون للآخرة».
3- الكافي، ج 3، ص 413، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 4. ح 10. اعلم أن العلّامة السيّد محسن الأمين (طاب ثراه) طبع رسالة خصائص يوم الجمعة، وعلّق على هذا الموضع بقوله: المراد - واللّه العالم - أنه إذا كان الشتاء وأراد الانتقال من البيت المعدّ للصيف انتقل منه ليلة الجمعة، وكذلك دخوله إلى البيت المعد للشتاء يكون في ليلة الجمعة، أو أن ذلك عام لمطلق الانتقال مِن بيتٍ إلى آخَرَ في الشتاء ولو كان كلّ منهما مُعدّاً للشتاء، وفي البحار: روي أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) كان إذا خرج من البيت في دخول الصيف خَرَجَ يوم الخميس، وإذا أراد أن يدخل عند دخول الشتاء دخل يوم الجمعة. وعن ابن عباس قال: كان يدخل ليلة الجمعة ويخرج ليلة الجمعة.
4- الكافي، ج 3، ص 413، باب فضل يوم الجمعة وليلته، ح3: تهذيب الأحكام، ج 3، ص 4، ح 10.

عبدٌ مؤمنٌ قد قُتِرَ عليه رزقه فيسألني الزيادة في رزقه قبل طلوع الفجر فأزيده وأُوسع عليه ؟ ألا عبد مؤمنٌ سَقيم يسألني أن أشفيه قبل طلوع الفجر فأعافيه ؟

ألا عبدٌ مؤمنٌ محبوسٌ مغموم يسألني أنْ أُطَلَّقَه مِن حَبسه فَأَخلي سبيله ؟ ألا عبدٌ مؤمنٌ مظلوم يسألني أنْ أخُذَ له بظلامته قبل طلوع الفجر فأنتصر له وآخذ له بِظُلامته ؟ -قال - فلا يزال يُنادي بهذا حتّى يطلع الفجر»(1).

وروى أبو بصيرٍ أيضاً عن أحدهما، قال: «إنّ العبد المؤمن يسأل اللّه الحاجة فيؤخِّرُ اللّه عزَّوجلَّ قضاءَ حاجته التي سأل إلى يوم الجمعة»(2).

ص: 256


1- الفقيه، ج 1، ص 420 - 421، ح 1240؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 5، ح 11.
2- الفقيه، ج 1، ص 422، ح 1244؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 5، ح 12.

17. نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار

إشارة:

تحقيق عباس المحمّدي

مراجعة

أسعد الطيّب - رضا المختاري

ص: 257

ص: 258

بسم اللّه الرحمن الرحيم

بعد حمد اللّه تعالى على نِعَمِهِ العِظام، وآلائه الجِسامِ، والصلاة على حبيبه ورسوله محمّد المصطفى وآله الكرام، وصحبه، والسلام.

أقوال الفقهاء في المسألة

فهذه جملة من الكلام في تحقيق مسألةٍ فقهيّةٍ شهيرة في الفتوى، عامّة في البلوى، يَعْجَلُ بجوابها المتفقه القاصر، ويَعْجِرُ عن كَشفِ حِجابها الفقيه الماهر، وأنا أرجو بما رقمتُه في هذه الأوراق أن تقع في يد طالب للحقِّ مِن أهل الكمال، ومَنْ يَعْرِفُ الرِجال(1) بالحقِّ لا الحقّ بالرجال، فتكون ذريعةً له إلى تحقيقِ الحال، وتفصيل ما فيها من الإجمال، وهي:

إنّ الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) حَكَمُوا بأن المسافر إذا نَوى إقامة عشرة أيّام في غير بلده - إما على رأس المسافة أو في أثنائها - انتقل فرضه من التقصير إلى الإتمام بمجرّد نيّة إقامة العشرة، وافتقر بعد الإقامة بل بعد الصلاة تماماً في عودِهِ إلى القصر إلى قصدِ مسافةٍ جديدةٍ، إن لم يكن في نيَّتِهِ قبل ذلك، غير أنّ الإقامة إن كانت على رأس المسافة كفى الرجوع إلى بلده في العود إلى القصر، ولو كان في أثنائها لم يَضُمَّ ما بقي من مقصدِهِ إلى الرجوع، بل لا يُقَصِّرُ حتّى يتحقّق الأخذ في الرجوع

ص: 259


1- لعلّه إشارة إلى ما روي عن الوصيّ (صلوات اللّه وسلامه عليه): «أنّ دين اللّه لا يعرف بالرجال، بل بآية الحق، فاعرف الحقّ تعرف أهله». الأمالي الشيخ الطوسي، ص 626، المجلس 30، ح 5.

ومِن ثَمَّ حكموا بأنه لو قصد مسافةً ونوى في ابتداء السفر الإقامة في أثنائها، بحيث لا يكون بين مبدإ سفره وما نوى الإقامة فيه مسافة، ولا بينه وبين نهاية مقصدِهِ مسافة، ففرضه الإتمام في الذهاب، وإن زاد المجموع على مسافة، ولو فرض أنّه كان بين مبدإ سفره وموضع الإقامة مسافة، وما بين موضع الإقامة ومنتهى السفر يَقْصُرُ عنها قصَّرَ في ابتداء سفره إلى موضع الإقامة، وأتم فيه وفي خروجه إلى نهاية السفر، وقصر راجعاً.

وحكموا أيضاً بأنه لو رَجَعَ عن نيّة المُقام فإن لم يكن قد صلّى تماماً، أو أتى بما هو في حكم الصلاةِ تماماً، من صومِ واجب، أو نافلة مقصورة، أو غير ذلك، عاد إلى القصر بمجرّد رجوعه عن نيّة الإقامة وإنْ لم يَخْرُج مِن الموضع الذي نوى فيه الإقامة، بل لو أقام فيه بعد ذلك شهراً متردداً ففرضُهُ القصر. وإن كان رجوعه عن نيّة الإقامة بعد أن صلّى تماماً، أو ما في حكمها، بقى على التمام إلى أن يخرج من المحل الذي نوى فيه الإقامة إلى مسافةٍ جديدةٍ، سواء كانت مقصودةً قبل المقام أم لا.

فهذه جملة ما ذكروه في هذه المسألة، واستندوا في هذا التفصيل إلى روايات عن أئمّة الهدى (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، سيأتي ذكر بعضها، لا حاجة لنا الآن إلى ذكرها.

ثم بعد ذلك أطلقوا القول في مسألةٍ أُخرى مشهورةٍ، وهي أنه لو خَرَجَ ناوي المُقام عشرةً إلى ما دون المسافة، فإنْ كان عازماً على العودِ إلى المحل الذي عَزَمَ فيه على مُقام العشرةِ وتجديد إقامةِ عَشَرةٍ مستأنَفَةٍ، أتمّ ذاهباً إلى مقصده الذي هو فيما دون المسافة، وفي المحل المقصود، وآئباً إلى موضع الإقامة.

وإِنْ عَزَمَ على العَودِ مِن دونِ إقامةِ عَشَرَةٍ مستأنَفَةٍ بل إمّا لإكمال العشرةِ الأُولى، أو

ص: 260

لإقامةٍ(1)، يُقَصِّر ذاهباً وآئباً على قول الشيخ (2) والعلّامة (3) (رحمة اللّه عليهما). أو آئباً لا غير عند الشهيد(4) والشيخ عليّ(5) (رحمهما اللّه) وجماعة(6).

وإنْ عَزمَ على مُفارَقةِ موضع إقامة العشرة من غير عودٍ إليه بالكليّة؛ فإنه يقصر بمجرّد خروجه، لكن بعد مجاوزة حدود محلّ الإقامة، وهي موضعُ سَماعِ أذانِهِ ورؤيةِ جدارِهِ ولو تقديراً على قول(7). أو بمجرّد الحَرَكَةِ على قول آخر(8) إلى آخر ما فصلوه في هذه المسألة. وستَقِفُ عليه إن شاء اللّه تعالى. فهذه جملة ما قرّروهُ في هذه المسألة، ولم يُفَرِّقوا في إطلاق كلامهم فيها بين كون الخروج المذكور بعد الصلاة تماماً في محل الإقامة أو قبلَهُ، ولا بين الخروج قبل إكمال العَشَرةِ أو بعده، بل عَبَّرُوا بعباراتٍ متقاربةٍ تشمل جميعَ هذه المواردِ، ويَجْمَعُ عباراتهم التقييد بكون الخروج إلى ما دون المسافَةِ.

وأنت إذا تأمّلت هاتين المسألتين وجدت بينهما تخالفاً في عِدَّةِ مواضِعَ. وتحقيق الجمع بينهما يحتاج إلى فضل توضيح وجُمْلَةِ تقييد؛ فإن خروج المسافر إلى ما دونَ

ص: 261


1- لتوضيح العبارة راجع ما يأتي في ص 257 من قوله: سواء أكمل الأولى، أم أقام بعضها، أم مر على محل الإقامة لاغير.
2- المبسوط، ج 1، ص 200.
3- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 413. المسألة 646: قواعد الأحكام، ج 1، ص 326: مختلف الشيعة، ج 2، ص 566، المسألة 410 نهاية الإحكام، ج 2، ص187؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 1 ص 336، الرقم 1138.
4- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 134؛ البيان، ص 261 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9، 12).
5- جامع المقاصد، ج 2، ص 515: الجعفرية، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 124: رسالة في خروج المقيم عن حدود البلد، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص112.
6- منهم: ابن فهد في الموجز الحاوي، ضمن الرسائل العشر، ص 121؛ والصيمري في كشف الالتباس الورقة 235؛ وحكاه العاملي في مفتاح الكرامة، ج 3، ص 595 عن الميسيّة، وإرشاد الجعفريّة.
7- هذا قول الشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 130؛ والبيان، ص 259 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل ج 1209) واحتمله العلّامة في نهاية الإحكام، ج 2، ص 173.
8- هذا قول العلّامة في نهاية الإحكام، ج 2، ص 172؛ والصيمري في كشف الالتباس، الورقة 234.

المسافة بعد نيّة إقامة العشرة، إن كان بعد الصلاةِ تماماً، فمقتضى ما تَقَرَّرَ في المسألة الأولى البقاء على التمام، سواءٌ في ذلك الذهاب والإياب والمقام؛ لأنّ الفرض كون الخروج إلى ما دون المسافة، وإن كان قبل الصلاة تماماً فمقتضاها بل صريحها التقصير بمجرّد الرجوع عن نيّة الإقامة، سواء أتجاوز حدود موضع الإقامة أم لا، بل ولو لم يَشْرَعْ في السفر؛ فإنّه يرجع إلى التقصير وإن أقام في البلد شهراً، كما مرّ.

وممّا يزيد الإشكال في ذلك تحرير محلّ الخلاف في القسمين المذكورين في المسألة الثانية. فنحن نقدّم البحث عنهما ؛ لتوضيح الإشكال قبل الشروع في تحقيق الحال.

خروج ناوي المقام في البلد منه ناوياً مفارقته

فنقول: مِن أقسام المسألة: أنْ يخرج ناوي المُقام بالبلد منه ناوياً مفارقته وعدم العود إليه، والحال أنّ الخروج على الوجه المذكور مفروض في كلامهم إلى ما دون المسافة، وقد اختلف الأصحاب في حكمه:

فذهب بعضهم(1) إلى أنّه يعود إلى التقصير بالشروع في السير؛ لأنه ابتداء السفر، وهو موجب للقصر إلا ما أخرجه الدليل الخارجي، وهو حدود بلد المسافر.

ورُدّ بأنّ جميع أقطار البلد سواء في وجوب الإتمام والحدود من جملة البلد؛ وبأنّ ماينوي فيه الإقامة المذكورة يصير بحكم البلد بعد الصلاة، ومِن ثُمَّ يتوقّف القصر بعد الرجوع عنها على مسافة جديدة.

وذهب آخرون(2) إلى أنّه إنّما يعود إلى التقصير بمجاوزة الحدود - وهي ما لا يُسمَع فيه أذانه أو لا يُرى جداره - لما تقدّم من صَيرُورَةِ البلد في حكم بلده باعتبار نيّة المُقام، فلا يخرج عن حكم التمام إلا بمجاوزته، وهذا هو الواضح.

أقول: وفي الاستدلال من الجانبين بحث، وفي الحكم بهما إشكال؛ لأنّ ناوي المُقام

ص: 262


1- كالعلّامة في نهاية الإحكام، ج 2، ص 172.
2- راجع نهاية الإحكام، ج 2، ص178؛ وتذكرة الفقهاء، ج 4، ص 393، المسألة 632.

عَشَرةً إنْ لم يكن قد صلّى تماماً في البلد فلا وجه للقولين معاً؛ لرجوعه إلى التقصير بمجرّد نقضه لنيّة المُقام كما لا يخفى. وإن كان بعد الإتمام فقد تقرّر أنّه لا يعود إلى التقصير إلّا بقصد مسافةٍ جديدةٍ، والمفروض الخروج إلى ما دون المسافة، فلا يَتَّجه إطلاق القول بعوده إلى التقصير، سواء أتجاوز الحدود أم شَرَعَ في السَيرِ.

نيّة قصد المسافة

فإن قيل: هذا المسافر لمّا كان غريباً - وإنّما لحق بالمقيم بسبب نيّة الإقامة - فنقضُه لها وخروجه عن البلد المحكوم بمساواته لبلده بعد الإتمام موجب لعود حكم السفر إليه أو تقول: إنّه باعتبار غربته وسفره عائد إلى بلده في الجملة، فيُضمُّ الرجوع إلى باقي السفر فيصير أزيد من مسافة.

قلنا: هذا كلّه ينافي ينا في القاعدة المتقدّمة، وهي توقُّفُ الحكم بالعود على قصدِ المسافة؛ فإنّ هذا الضمّ يُسقِطُ فرضَ كون مفارقة بلد الإقامة قد يكون إلى ما دون المسافة، ثمّ نمنع ثبوت الحكم بعودِ حكم السفر؛ فإنّ انقطاعه بنيّة المُقام وصلاة التمام صَيَّرَ ما تقدّم في حكم المعدوم، فلابدّ من ثبوت سفرٍ جديد ليتحقّق معه الحكم بالقصر، والتقدير عدمه.

وأمّا ضمُّ الرجوع إلى ما بقي فليس بسديدٍ من وجه آخر؛ لأنّ لكلّ واحدٍ من الذَهاب والإياب فى السفر حكماً مستقّلاً لا يُضمّ أحدهما إلى الآخر، ومن المعلوم أنّ الهائمَ(1) وطالبَ الآبقِ والعاصي بسفره ونحوهم لو تجدَّدَ لهم في أثناء المسافةِ قصدٌ صحيحٌ إلى ما دون المسافة لا يجوز لهم القصر قبل الرجوعُ وإن كان الرجوع وحده مسافةً، فضلاً عن انضمامه إلى المقصود ممّا هو دونها، بل إنّما يُقَصِّرون في الرجوع لا غيرُ.

واللازم من ذلك كلّه أنّ هذا الخارج بعد نيّة المُقام إلى ما دون المسافَةِ، لا يُقَصِّر

ص: 263


1- هامَ فلانٌ --ِ- هَيْماً وهَيْماناً: خرج على وجهه في الأرض لا يدري أين يتوجّه. المعجم الوسيط، ص 1004، «هیم».

حتى يقصد مسافةً ولو بالرجوع نحو بلده؛ ليستلزم قصد المسافة.

وأيضاً فإنّ الأصحاب (رحمهم اللّه) قد صرحوا بأنّ قاصد المسافة لو نوى في ابتداء سفره الإقامة في أثنائها في بلدٍ ونحوه عَشَرَةَ أيّام بحيث لا تبقى بعد موضع الإقامة إلى منتهى سفره مسافةٌ، لا يُقصِّرُ في الذهاب، ولو كان كما ذكروه في المسألة لزم القصرُ بمفارقة موضع الإقامة في أثناء المسافة؛ لعين ما ذكر.

فإن قيل: هذا الخروج وإن كان مفروضاً إلى ما دون المسافة لكنّه في قوّة الخروج إليها؛ لأنّ المسافر المذكور إمّا أنْ يُريدَ الذَهابَ والتمادي في السفر بعد الموضع المفروض كونه إلى ما دون المسافة، أو يُريد الرجوع إلى بلدِهِ بعدَهُ، وعلى التقديرَينِ يحصل قصد المسافة.

قلنا: نمنع الحصرَ في قصدِ المسافة بذلك مع كون المفروض خروجه إلى ما دون المسافة؛ فإنّه يجوز أن لا يحصل عنده أحدُ الأمرين، بل يقصد الخروج إلى الموضع الذي هو دون المسافة مع تردّده فيما يفعله بعد ذلك، أيقيم فيه أو في غيره أو يُنشِئُ السفر بعد ذلك، أو يرجع إلى بلده ؟ وهذا أمر صحيح يتّفقُ للعقلاء بأن يوقفوا أحد هذه الأمور على الوصول إلى الموضع المذكور بسبب استعلام خبر ونحوه، فمجرّد الخروج إلى ما دون المسافةِ أعمُّ من قصدِ السفر والرجوع المستلزم لقصد المسافة، وعلى تقدير قصد الرجوع إلى بلده بعد الوصول إلى ذلك المحل لا يصحّ الحكم بالقصر إلّا في العود، ليتحقّق قصد المسافة.

فإن قيل: لما لم يكن في نيّته العودُ إلى بلد الإقامة بل عزمُه المفارقةُ مِن غير عَودٍ، كان سفره الذي أنشأه بعد مفارقة محلِّ الإقامة بمنزلة ذَهابٍ واحدٍ، أو عودٍ باعتبار اتّصالِهِ وعدم رجوعه على الطريق الأُولى، فيعود إلى القصر.

قلنا: هذا أيضاً فاسد؛ لأنّ المعروف - كما سيأتي - أن لكلّ واحدٍ من الذَهاب والإياب حكماً مستقلاً. والمراد بالذهاب مجموعُ المسافة التي بين بلد المسافر ونهاية

ص: 264

مقصدِهِ، وأما العود على الطريق الأُولى وعدمه فلا مدخل له في تحقّق الذهاب والعَود. ولو كان عدم العود على الطريق الأُولى موجباً لاتّحاد حكم الطريق، لزم منه كون قاصد نصف مسافةٍ مع نيّة القود على غير الطريق الأُولى يخرج مقصِّراً مع عدم العَود ليومه، وهو باطلٌ إجماعاً.

العزم على العود إلى موضع الإقامة مع عدم إقامة عشرة

وأيضاً لا يلزم من فرض الخروج من بلد الإقامة وعدم العود إليها، عدم الرجوع بمجموع الطريق التي خرج منها، بل هو أعم منه ومن العود إليها مع عدم المرور ببلد الإقامة، فلابدّ من الاحتياج إلى التقييد.

وقد الحقّ بعض الأصحاب بهذا القسم - أعني قسم ناوي الخروج مع عدم العود إليه ما لو تردّد الخارج على الوجه المذكور في العود وعدمه، وما لو ذهل عن القصد إلى المفارقة أو العود بنية إقامة عشرة أو لا معها.

والإشكال حاصلٌ في الجميع؛ فإنّ المتردّدَ والذاهِلَ غير قاصدٍ للمسافة التي هي شرط العَود إلى القصر كما اقتضته المسألة الأُولى، فلا يتحقّق الحكم بالقصر؛ لعدم المقتضي إلى أن يتجدّد قصد المسافة وهو خارجٌ عن محلِّ الفرض، أو يتحقّق الشروع في العود إلى البلد والفرض أعمُّ منه.

ومن أقسامها أن يعزم على العود إلى موضع الإقامة مع عدم إقامة عَشَرةٍ أُخرى. سواءٌ أكمل الأُولى، أم أقام بعضها، أم مرّ على محلِّ الإقامة لا غير. وقد اختلف الأصحابُ (رحمهم اللّه) فيه على قولين:

أحدهما: - وهو مختار الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط(1) والعلّامة (2) وجماعة (3) - أنه

ص: 265


1- المبسوط، ج 1، ص 200.
2- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 413. المسألة 646: قواعد الأحكام، ج 1، ص 326؛ مختلف الشيعة، ج 2، ص 566، المسألة 410: نهاية الإحكام، ج 2، ص 187؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 1، ص 336، الرقم 1138.
3- منهم: القاضي ابن البراج في المهذّب، ج 1، ص 109؛ وابن إدريس في السرائر، ج 1، ص 345.

يرجع إلى التقصير في ذهابه ويستمرّ عليه في مقصده وعَوده، مُحْتَجِّينَ على ذلك بأنّه قد نَقَضَ مُقامه بالخروج من محلِّ الإقامة، وليس في نيّته إقامةٌ أُخرى فيعود إليه حكم السفر. وعبارة المبسوط في الاستدلال: أنّه نَقَضَ مُقامَه لسفرٍ بينه وبين بلده يُقصِّرُ في مثله(1). وهذا الاستدلال - كما ترى - يقتضي ضمَّ الرجوع إلى ما بقي من الذهاب. وقد تقدّم جملة من الكلام فيه.

وذهب جماعة من المتأخّرين منهم الشهيد(2) والشيخ علي (رحمهما اللّه) إلى وجوب التمام عليه في الذهاب والمقصد، والقصر في العود(3).

واحتجّوا على الحكم الأوّل - وهو وجوب التمام قبل الرجوع - بأنّه إنّما يخرج عن حكم الإقامة بقصد المسافة وهي منتفية في الذهاب. وعلى الثاني بوجود قصد المسافة حيث إنّه قاصد إلى بلده في الجملة، إمّا الآن أو بعد سفرٍ آخر، والبلد الذي كان مقيماً فيه قد ساوى غيره بالنسبة إليه من حين بلوغ محلّ الترخّص.

فإن قيل : هذا آتٍ في الذهاب أيضاً : لزوال حكم الإقامة ببلوغ حدّ الترخّص، وتحققِ عزمِ المسافةِ على الوجه السابق كما أشار إليه الشيخ (رحمه اللّه) ومن تبِعَهُ.

قلنا: المعروف بينهم أنّ للذهاب حكماً منفرداً عن العود فلا يُكْمَلُ أحدهما بالآخر، إلّا فيمن قصَد أربعةَ فراسخَ عازماً على العَود في يومِهِ أو ليلته، وإنّما أخرجت هذه بحكم النصِّ(4)، ولولا ذلك لكان المتردِّدُ في ثلاثة فراسخ ثلاث مرّاتٍ، أو في اثنين

ص: 266


1- المبسوط، ج 1، ص 200.
2- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 134؛ البيان، ص 261 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل ج 9، 12).
3- جامع المقاصد، ج 2، ص 515؛ الجعفريّة، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 124؛ رسالة في خروج المقيم عن حدود البلد، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص112.
4- راجع المعتبر، ج 2، ص 467؛ وتهذيب الأحكام، ج 3، ص 208، ح 496؛ وج 4، ص 224، ح 658؛ والاستبصار، ج 1، ص 223 - 224، ح 792.

أربع مراتٍ بحيث لا يبلغ حدود البلدِ حال عوده، يلزمه القصر، وهو باطل، بل كان نحو طالبِ الآبقِ يلزمه التقصير بعد المنزل الذي يبلغ ما قصد مسيره مع عوده إلى بلده ثمانية فراسخ، وهو باطل اتّفاقاً، وإنّما يلزمه التقصير بعد عزمِ العَود وبلوغ المسافة، أمّا قبله فلا، ولو زادَ على المسافة أضعافاً، بل لم يكن للتقييد بقصد العود ليومه أو ليلته فيمن قصد أربعة فراسخ معنى أصلاً؛ إذ لو اعتبر تكميل الذهاب بالعود صدق عزم المسافة فيمن قصد الرجوع من غَدِهِ، وهو معلوم البطلان هذا أقصى ما قرّروه في الاحتجاج على هذا المطلوب.

أقول: وهذا البحث - مع جَوْدَتِهِ ورجحانِهِ على ما ذُكِرَ في القول الأوّل - لا يصحّ على إطلاقه؛ فإنّ المحلّ الذي نوى فيه الإقامة، قد يكون على رأس المقصد، وقد يكون دونه، وعلى التقديرين فالمقصد الذي خرج إليه بعد نيّة الإقامة وهو دون المسافة، قد يكون إلى جهة بلدِهِ الذي يُريدُ الرجوع إليه في نفس طريقه، وقد يكون مخالفاً له في الجهة، وما ذكروه من تحقّق الرجوع بمفارقة المقصد الذي خرج إليه بعد الإقامة، لا يتمّ في جميع هذه الموارد؛ فإنّ المقصد لو كان في بعض الطريق التي سلكها من بلده بحيث يكون الخروج إليه بعد نيّة الإقامة بصورة الرجوع إلى البلد، ورجوعه منه بصورة الذهاب، كيف يُفرضُ كونُ الرجوع من محلٍّ هذا شأنه رجوعاً إلى بلد المسافر ؟ وهو على طرف النقيض للرجوع، ومثله ما لو لم يكن المقصد الذي خرج إليه على طريق بلده، ولكنّه يَقْرُب إليه بالخروج إلى المقصد ويبعد عن بلده بالرجوع منه.

ففي هذه المواردِ لا يَتمُّ ما ذكروه، ولا يتوجّهُ ما حكموا به من القصر بالأخذ في الرجوع إلى موضع الإقامة، بل اللازم - من المسألة الأولى التي صدرنا بذكرها الرسالة بقاؤه على التمام في هذه المواردِ ذَهاباً وإقامةً في المقصد، وعَوداً إلى محلّ المُقام، وفي المقام فيه، وإنْ قَصُرَ عن العشرة، حتّى يتحقّق قصد المسافة ولو بتوجّهه نحو بلده بالسفر؛ لعدم تحقّق قصد المسافة بدون ذلك. ومثله القول فيما لو كان محلّ الإقامة في

ص: 267

أثناء المسافة أو في أثناء طريق المقصد الأوّل. وإنْ كان بعد بلوغ المسافة، وكان الخروج من محل الإقامة إلى جهةٍ تُخالِفُ جهة بلده، بحيث تتحقّق صورة الرجوع بالعود منه إلى محلِّ الإقامة وإن كان ذلك مقابلاً لجهة بلده؛ فإنّ المسافِرَ ما دام عازماً على الزيادة في السفر عن محلّ الإقامة والبعد عن البلد لا يتحقّق منه الرجوع، وإنْ حصلت صورةُ التوجّه نحو البلد؛ فإنّ ذلك ليس رجوعاً لغةً ولا عرفاً.

ولو صحّ خلاف ذلك، لزم من انحراف طريق المسافر في أثناء السفر بحيث يَقْرُبُ في حالٍ من الأحوال إلى بلده عمّا كان في حالةٍ سابقةٍ تحقُّقُ الرجوع، والحكم بالتمام إن كان ذلك قبل بلوغ المسافة. وكذا لو رجع إلى بعض الطريق لأخذ شيءٍ نَسِيَهُ، وإنْ كان الرجوع إلى مكانٍ قد أقام فيه العَشَرة، ونحو ذلك ممّا يُقْطَعُ فيه بكونه ليس رجوعاً، وإن كان السير إلى جِهة البلد.

فعُلم من ذلك أنّ الرجوع لا يتحقّقُ إلّا بالوصول إلى مقصده، ثمّ الخروج عنه نحو البلد قاصداً إليه، أو بالرجوع عن السفر قبل الانتهاء إلى المقصد والشروع في العَود، لا بمجرّد القرب نحو البلد بغير ذلك وإن كان بصورة الرجوع.

لو كان طريق المقصد مستديراً

تنبيهٌ : عُلِمَ من ذلك أنّ المسافرَ لو كان طريقُ مقصده مستديراً - بحيث لا يَصِلُ إليه إلّا بعد القرب إلى بلده بعد انتهاء البعد عنه - فإنّ ذَهابه مجموع المسافة التي بين البلد ومقصده وإنْ زاد عن نصف المسافة بكثير، ورجوعه من حينِ انفصاله عن موضع القصد إلى البلد، ولأنّ ذلك هو المتعارف، ولو فُرض تعدّد المقاصد كان منتهى الذهاب آخِرَها إلا أن يتحقّق الرجوع عرفاً قبل الآخرِ فيكون هو السابق، وهكذا.

وهذا كلّه يقرب من مسألة البلدِ ذي الطريقين؛ فإنّهم قد حكموا فيها بكون الذهاب إليه لا يضمّ إلى العود حتّى لو كان طريق العود خاصّةً يبلغ المسافة قَصَّرَ فيه خاصّةً، ولو انعكس الفرض قَصَّرَ فيهما ومسألة الاستدارة جزئيّ من جزئيّات هذه، وهذه مسألة انجرّ البحث إليها وحَسُنَ التنبيه عليها.

ص: 268

فهذه الفروض كلّها خارجةٌ عن القولَينِ مخالفةٌ لحكم ما ذكروه، مقيِّدةٌ لِما أطلقوه، وإنما يتوجّه ما ذكروه في القول الثاني أن لو كان محلُّ الإقامة في غاية مقصده، أو قريباً منها، بحيث لا يخرج عن وصفها، ويكون خروجه بعد نيّة الإقامة منه إلى ما يخالف جهة البلد ويبعد بالسير إليه عنها وإن لم يكن على حد المقابلة؛ ليتحقّق من العَود من مقصده الثاني - الذي هو دون المسافة - العود إلى بلده في الجملة؛ لانتهاء غرضه من السفر الموجب لقطع المسافة في جانب البُعد، وإن بقي منه ما يمكن استدراكه بالتدرّج في طريق الرجوع ولو بإقامة أيّامٍ.

فهذه جملة من الإشكالات الواردة على المسألة الثانية إذا أُخِذَتْ مطلقةً، كما هو المفهوم والمعمول عليه بين الناس، بحيث لو أدخل الإنسانُ عُنُقَهُ في رِبْقَةِ التقليد الصرف لم يتمّ له ذلك؛ لمخالفة المسألة الأُولى في هذه الموارد، فترجيح المقلّدِ لإحداهما دون الأُخرى، بعيدٌ عن مقاصد اللّه سبحانه وتعالى ورسوله وأئمته (عليهم الصلاة والسلام) بقواعد الشريعة المطهّرة.

فإن قيل: أكثر هذه الإشكالات إنّما يَتِمُّ على القول بأنّ المصلّى تماماً بعد نيّة الإقامة إنّما يعود إلى القصر بالسفر إلى المسافة وهذه دعوى لم يَقُمْ عليها البرهان. كيف؟ وعباراتهم دالّة بإطلاقها على تعليق العَود إلى القصر بالخروج، ولا يحتاج إلى نقلها؛ فإنّ مراجَعتها في ذلك سهلةٌ. وكذلك رواية أبي ولّاد التي هي مستنَد الحكم تدلُّ بظاهرها عليه؛ فإنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال فيها - بعد أن ذكر نيّة إقامةِ العَشَرةِ في المدينة : «فصلّيت بها صلاة فريضةٍ واحدةٍ بتمامٍ، فليس لك أنْ تُقصِّر حتّى تخرج منها»(1).

وحينئذٍ فلا يتوجّه الإشكالُ بأنّ فرضَ الخروج إلى ما دون المسافة يقتضي التمام، وإن لم يَنْوِ بعد العود إقامة عشرةٍ مستأنفة، وكذا نظائره من الأنظار المتقدّمة.

ص: 269


1- الفقيه، ج 1، ص 427، ح 1272؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 221، ح 553: الاستبصار، ج 1، ص 238 - 239، 851.

ويؤيِّدُ إرادة هذا المعنى حكم الشيخ(1) والعلّامة بالقصر في الذهاب أيضاً لمن لم يَنْوِ إقامة العشرة المستأنفة بعد العود(2). فيكون مذهبهم في ذلك مبنيّاً على ما ذُكِرَ هنا من عدم اشتراط الخروج إلى مسافةٍ بعد الصلاة في العود إلى القصر.

الفتوى في المسألة

قلنا: هذا الاحتمال - وهو الاكتفاء في العود إلى القصر بمجرّد الخروج وإن لم يكن إلى مسافة - لا يصحّ على القولين:

أمّا عند القائلين باختصاص الحكم بالقصر بالعود من الخروج إلى ما دون المسافة بعد نيّة العشرة - كالشهيد (رحمه اللّه) ومن تَبِعَه - فظاهرٌ؛ لتصريحهم في التعليل والفتوى باشتراط المسافة؛ أمّا التعليل فقد تقدَّمت الإشارة(3) إليه بقولهم في الاستدلال بأنّ المسافر إنّما يخرج عن حكم الإقامة بقصد المسافة، وهي منتفيةٌ في الذهاب.

وأمّا الفتوى فقد قال الشهيد (رحمه اللّه) في الدروس: ولو خرج بعد عزم الإقامة وقد صلّى تماماً اشتُرِطَ مسافةٌ أُخرى(4). وقال في البيان - بعد ذكر نيّة المقام عشراً، والتردّد ثلاثين إذا أتم صلاةً : وإذا خرج بعدها اعتبرت المسافة حينئذٍ(5).

وقال في الذكرى - بعد ذكر قطع السفر بعزم إقامة العشرة -:

ثمّ إن كان نيّة المُقام على ما دون المسافة اشترِطَ مسافةٌ جديدةٌ في خروجه منه، وإن كان على مسافة فكذلك، غير أنه يكتفي هنا بالرجوع في القصر(6).

انتهى. وأما القائلون بالعودِ إلى القصرِ في الخروج كالشيخ والفاضل فإنّهم وإن أطلقوا

ص: 270


1- المبسوط، ج 1، ص 200.
2- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 413، المسألة 646: قواعد الأحكام، ج 1، ص 326؛ مختلف الشيعة، ج 2، ص 566 المسألة 410 ؛ نهاية الإحكام، ج 2، ص187؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 1، 336، الرقم 1138.
3- تقدّمت في ص 260.
4- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 130 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9).
5- البيان، ص 256 (ضمن موسوعة الشيهد الأوّل، ج 12).
6- ذكرى الشيعة، ج 4، ص 188 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8).

تعليق القصر على الخروجِ، لكنّهم قد صرّحوا في مسائلَ متعدّدة بكون ما بقي من مسافةِ الذهاب لا يضمُّ إلى العود، ولا يُقَصَّر فيه إلّا إذا كان مسافةً، وممّا صرحوا فيه بذلك قولهم: إنّه لو نوى في ابتداء السفر إقامة عشرة في أثنائه اعتبر من موضع خروجه إلى موضع نوى فيه الإقامة، فإن كان يبلغ المسافة قصّر في خروجه إلى موضع الإقامة وإلا فلا، ثمّ يُعْتَبَرُ ما بعد موضع الإقامة وغاية السفر، فإن كان أيضاً يبلغ المسافة قَصَّرَ وإلا فلا. وهذا حكم قد صرّح به الفاضل في كتبه (1)والشيخ (2) (رحمهما اللّه) فلا فائدة في نقله.

وكذلك اتّفقوا جميعاً على أنّ من لم يربط قصده بالمسافة كطالب الآبق لا يقصِّر في الذَهاب وإنْ تمادى في السفر. ومن أفرادهِ ما لو بلغ المسافة في ذهابه ثمّ عزم بعد ذلك على الوصول إلى ما دون المسافة ثم العود، فإنّه لا يقصِّر إلّا في الرجوع لا غير وبالجملة فمتى تحقّق القصد اعتبر المسافة حينئذٍ.

ويدلّ على اشتراط قصد المسافة في العود إلى القصر - في المسألة المبحوث عنها في كلامهم - حكمهم بأنّ ما نوى فيه الإقامة في حكم بلد المسافر فكما ينقطع سفره بالوصول إلى بلده كذلك ما نوى فيه الإقامة، وكذا لو نوى الإقامة في بلدٍ قبل الشروع في السفر اعتبرت المسافة بين مبدئه وبينه كالبلد إلى غير ذلك من الأحكام.

وكما يتوقّف القصر بالخروج من البلد على المسافة، فكذا ما هو في حكمه، خرج من هذه المساواة ما لو رجع عن النيّة قبل الصلاةِ تماماً، أو ما في حكمها بالنصّ (3) عليه، فيبقى الباقي. ويدل عليه من جهة الاعتبار أنّ السفر لمّا انقطع حكمه بنيّة الإقامة مع

ص: 271


1- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 392، المسألة 632؛ نهاية الإحكام، ج 2، ص178؛ إرشاد الأذهان، ج 1، ص 274 - 275: قواعد الأحكام، ج 1، ص 324 - 325.
2- المبسوط، ج 1، ص198.
3- راجع الفقيه، ج 1، ص 437، ح 1272؛ وتهذيب الأحكام، ج 3، ص 221، ح 553؛ والاستبصار، ج 1، ص 238 - 239. ح 851.

الصلاة تماماً، صار كأنّ الماضي لم يكن، فلابدّ في العود إليه من اجتماع شرائطه التي من جملتها قصد المسافة، وكلّ خبرٍ دلّ على اشتراط قصد المسافة يصلح للدلالة هنا، وأكثرها صريحٌ في اعتبار الذَهاب لا غير، ومن ثَمَّ يستثنون منها الراجع ليومه؛ كقول الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية سليمان بن حفص المَرْوَزي: «التقصير في الصلاة من (1) بريدين أو بريد ذاهباً وجائياً»(2).

ويؤيّده أيضاً الأصل وهو الحكم بالتمام، وبيانه من وجهين:

أحدهما أنّه كان فرضه التمام بنيّة الإقامة، وبطل حكم القصر فيجب استصحاب الحكم بالتمام إلى أنْ يثبت المزيل له وهو السفر إلى المسافة، وهذا المعنى أحد المعاني الأربعة للأصل، كما حقق في الأُصول.

والثاني: القاعدة المستمرة، وبيانها: أنّ الأصل في الصلاة التمام، والقصر طارئ: قال اللّه تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَوَاةِ»(3). فيجب العمل بهذا الأصل وإتمام الصلاة - إلى أن يثبت القصر بالضرب في الأرض إلى المسافة - الذي هو محلّ الوِفاق. وحينئذٍ يُضَعَّفُ حكمهم في المسألة الثانية بالعود إلى القصر بالخروج لمن نوى إقامة عَشَرةٍ بعد أن صلّى تماماً ولم يعزم على إقامة مستأنفةٍ بعد العود.

ثمّ لو فرض أنّهم قائلون فى المسألةُ الأُولى بعدم اشتراط السفر إلى المسافة، وَرَدَ عليهم ما تقدّم من حكمهم باشتراطها في نظائر هذه المسألة، ثمّ يُطالبُون بالدليل على القصر؛ فإنّه على خلاف الأصل، مع أنك قد عرفت أنّه لو سلّم ذلك كلّه لهم لم يَزُلِ الإشكال عن المسألة التي نحن بصدد البحث عنها، وتناقضُ الأحكام بين المسألتينِ

ص: 272


1- في بعض النسخ «في» بدل «من» وفي المصدرين: «التقصير في الصلاة بريدان أو بريدٌ ذاهباً وجائياً».
2- تهذيب الأحكام، ج 4، ص 226، ح 664: الاستبصار، ج 1، ص 227 - 228، ح 808.
3- النساء (4): 101.

وإن زال بعضُ ما تقدّم من الإشكال.

وأمّا الرواية فإطلاق الحكم من تعليق القصر على الخروج فيها صحيحٌ؛ فإنّ أبا ولادٍ كوفيٌ، وسؤاله كان عن الإقامة بالمدينة فخروجه عنها إلى بلده يوجب القصر، ولو سلّم كون الخروج منها أعمُّ من الخروج إلى بلده أمكن حملها على إرادة الخروج إلى المسافة الذي هو مقتضى القصر؛ فإنّ حملها على إطلاقها يُنقض في موارد لا يتمّ عندهم أيضاً، وكذا يحمل عليه ما أُطلق من كلام الأصحاب (رحمهم اللّه)؛ فإنّ الشهيد (رحمه اللّه) مع تصريحه باشتراط المسافة علّق الحكم بالقصر في بعض عباراته على الخروج من غير تفصيل(1). قال بعض الأفاضل(2):

هذا الحكم والإشكال مبنيّان على أنّ الذهاب لا يَضمُّ إلى الإياب مطلقاً، وذلك موضع النظر، وإنّما يستقيم عدم الضمّ فيما إذا كان لأحدهما تأثيرٌ في تكميل الآخر باعتبار حصول المسافة منهما، ولو لم يكن كذلك لزم أن يكون المسافر الذي يقطع المسافة البعيدة ويكرّر قطع بعض الأمكنة لأجل مصلحةٍ متمّماً حال الذهاب إلى هذا البعض، مع أنه يصدق عليه حال الذهاب أنه مسافر، وليس من المواضع التي يجب عليه الإتمام فيها بالنصّ والفتوى فيجب القصر؛ لعموم قوله تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوَاةِ»(3)، وقول أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «الصلاة في السفر ركعتان(4)...» إلى آخره. وحينئذٍ فلا يرد النقض بما تقدّم من حكم المتردّد في ثلاثة فراسخ ثلاث مرّاتٍ، وطالب الآبق الذي يجتمع من عوده وبقيّة ذهابه مسافة، إلى آخره.

ص: 273


1- انظر البيان، ص 261 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 12).
2- هو السيّد شرف الدين الأسترآبادي (رحمه اللّه) في الفوائد الغروية في شرح الرسالة الجعفريّة، على ما حكاه عنه السيّد العاملي (طاب ثراه) في مفتاح الكرامة، ج 10، ص 595 وراجع الفوائد الغروية، الورقة 122.
3- النساء (4): 101.
4- تهذيب الأحكام، ج 2، ص 13، ح 31؛ الاستبصار، ج 1، ص 220، ح 778.

أقول: إنّك إذا تدبّرت ما أسلفناه من الكلام، ظهر عليك جوابُ ما أُورد في هذا المَقام؛ فإنّ الحكم بعدم ضمّ الذَهاب إلى الإياب - سواء أتوقّف تحقّقُ المسافة على الضمّ أم لا - قد قرّرناه ونقلناه من كلام الجماعة على الخصوص، وإنّ من جملته مسألة ذي المنازل إذا كان المجموع مسافات متعدِّدة؛ فإنّه يُعتَبر ما بين كلّ منزلَين، ويُعتبَر أيضا ما بين آخر المنازل وغاية السفر، ولا يَضمُّ إلى العود، مع أنّ مفروضهم فيه كونُ العود أزيدَ من المسافة، ومثله ناوي الإقامة ابتداءً في أثناء المسافة، ولو كان كما ذكره هذا الفاضل لما افتقر إلى اعتبار ما بين آخر المنازل ونهاية المقصد. ومن خالف في مسألتنا كالعلّامه رحمه اللّه وافق على حكم مسألة ذي المنازل ونحوه(1).

ثم نقول: كون كلّ واحدٍ من الذَهاب والإياب له حكم برأسه، أمرٌ مُجمَعٌ عليه في الجملة، ثابتٌ اعتباره في القصر وعدمه قطعاً، فتخصيص هذا الأمر المُجمَعِ عليه ببعض موارده لا وجه له، خصوصاً مع ما قد حَكَيْناه عنهم ممّا يقتضي المساواة بين الفرضَينِ في مخالفة حكم الذهاب للعود.

وأمّا الاستدلال على ذلك بالآية والخبر، فنقول: إنّ الحكم وإن كان معلَّقاً على مطلق الضرب لكنّه مخصوصٌ بقصد المسافة في الذَهاب إلى غاية المقصد إجماعاً، ولا أثر لضمّ الرجوع في تحقّق المسافة فيما عدا المنصوص، فالكلام في قوّة هذا الاشتراط، ولمّا كان الإتمام بعد نيّة إقامة العَشَرة يقطع السفر السابق، ويوجب عدم العود إلى القصر إلّا بقصد المسافة، وجب الحكم بذلك هنا، وكانت الفتوى والدلالة متطابقتين على ذلك في غير صورة النزاع فيجب المصير إليهما فيه أيضاً؛ لأنّه بعض أفراد المسألة مضافاً إلى ما أسلفناه من الأصل المقتضي للبقاء على التمام الذي قد اتفق عليه بالإتمام بعد نيّة الإقامة إلى أن يحصل المُزيل شرعاً، وهو قصد المسافة.

ص: 274


1- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 392 المسألة 632 : نهاية الإحكام، ج 2، ص 178 ؛ إرشاد الأذهان، ج 1، ص 274 - 275.

ومن هنا ظهر الفرق بين ما قَصُرَ عن المسافة من الذهاب في المسافة من الذهاب في هذه المسألة، وبين ما يَتَكَرَّرُ من قطع بعض الأمكنة للمسافر؛ فإنّ المسافر لما قصد المسافة وشرع في السفر بحيث تجاوز حدود محله صار حكمه القصر ما دام مسافراً، إلى أنْ يحصل له أحدُ الأمور الموجبة لقطع السفر - من إقامةٍ وغيرها - ففرضه في تردّده المذكور القصرُ؛ لعدم الموجب للإتمام، بل لو أقام أيّاماً متعدّدةً ففرضه القصر، فضلاً عن التردّد على هيئة المسافر، وهذا بخلاف مسألة الخارج بعد الإقامة بل هو على الضدّ منه؛ لأنّ هذا قد صار فرضه التمام وانقطع،سفره، فيحتاج إلى أنْ يقصد مسافةً جديدةً ولم يحصل بعد، فيبقى على التمام.

وقد ظهر بذلك أنّ قوله (1): «إنّه مسافر وليس هذا من المواضع التي يجب فيها الإتمام بالنصّ والفتوى» في موضع النظر، بل يقال: هذا من المواضع التي يجب فيها الإتمام بالنصّ والفتوى؛ لعدم تحقّق موجب القصر الذي هو قصد المسافة في الذهاب - كما هو المعروف في كلّ سفرٍ - فيجب الإتمام إلى أن يتحقّق قصدُ المسافة ولو بالرجوع؛ لزوال حكم السفر السابق، فيدخل في عموم النصوص الكثيرة الدالّة على اشتراط قصد المسافة في الذهاب خاصّةً.

ومما ذكره الأصحابُ - في انقطاع حكم كلّ واحدٍ من الذهاب والإياب عن الآخر وإن لم يتكمّل أحدهما بالآخر - مسألة البلد ذي الطريقَين اللتَينِ إحداهما مسافةٌ والأُخرى ى غير مسافةٍ؛ فإنّهم حكموا فيها بأنّه لو قصد أوّلاً البعيدَةَ قَصَّرَ مطلقاً؛ لتحقّق قصد المسافة في الذهاب، فيبقى على القصر إلى أن يتحقّق المُزيلُ، وهو أحد الأُمور المشهورة التي أحدها الوصول إلى البلد، فيقصّر في العود وإنْ كان دون المسافة. وإنْ سلك الأقربَ أوّلاً بقي على التمام فيها وفي البلد، ويقصِّر في الرجوع على الأبعدِ خاصةً، ولا يَضمُّ إحداهما إلى الأخرى، وهذا كلّه واضح وقد اتضح لك بحمد اللّه تعالى

ص: 275


1- أي قول الفاضل الأسترآبادي المتقدّم آنفاً.

ما بين المسألتينِ من الاختلاف، وما اشتملنا عليه من الأحكام المتعارضة على تقدير أخذهما مطلقتين، ولم أظفَر إلى الآنَ لأحدٍ من الأصحاب بكلام في مصنَّفٍ ولا تعليقٍ يقتضي البحثَ عن ذلك، ولا الإشارة إلى ما يوجب الغُبار على شيءٍ منهما، بل كأنّهما مُتُلَقّاتان بالقبول مَعدُودَتان فى مسائل السفر من مسائل الأُصول.

تقرير المؤلّف للمسألتين

نَعَم وقفتُ لبعض المتأخّرين(1) على تنبيهٍ يسير عند وقوفه على قولهم: إنّه لو خرج ناوي الإقامة إلى ما دون المسافة عازماً على العود من دون الإقامة المتجدّدة، أو على المفارقة، إنّه يعود إلى القصر على اختلاف في ابتدائه. وحاصله : أنّ هذا يُنافي قولهم: إنّ ناوى المُقام عشراً إذا صلّى تماماً لا يعود إلى القصر إلا بالخروج إلى مسافة. ثمّ أجاب عن التناقض بحمل المسألة المعتَرَض عليها بالخروج من موضع الإقامة إلى ما دون المسافة قبل الصلاة تماماً؛ ليتمّ القولان.

وهذا مَحمِلٌ فاسدٌ قد عرفت فساده ممّا تقدّم؛ فإنّ الخارج قبل الصلاة تماماً لا يتوقّف رجوعه إلى القصر على الخروج، ولا يجري فيه الخلاف بالعود إلى القصر بتجاوز حدود البلد وهو موضع خَفاء الأذان والجُدْران، أو بمجرّد المفارقة؛ فإنّ الرجوع عن النيّة قبل الصلاة توجب العود إلى القصر وإن لم يخرج، بل وإنْ بقي في البلد شهراً، كما مرّ.

وأيضاً لا يستقيم على هذا التأويل قولُ الشهيد (رحمه اللّه) ومن تبعه: إنّه يعود إلى القصر في بعض أقسام المسألة بالرجوع من المقصد الذي هو دون المسافة لا بالذهاب؛ فإنّ ذلك كلّه لا يتم إلّا مع الخروج بعد الصلاة تماماً. وبالجملة فلابدّ من فرض المسألة بجميع أقسامها في كون الخروج بعد الصلاة تماماً، أو ما في حكمها وإن أطلقه الأصحاب. ويبقى الكلام بعد ذلك في المسألة.

ونحن الآن نشرع في تحقيق ما تحصل لنا في المسألتين، وتحرير ما يوجب

ص: 276


1- انظر كشف الالتباس الورقة 235.

الاعتماد عليه في أقسامهما ولنقدّم الكلام في بيان أصل المسألتين؛ ليصير الناظر فيهما على بصيرة، إذا وجد في إحداهما تقييداً لمطلقٍ، أو تخصيصاً لعامٍّ، فإنّ أصليهما ليسا متساويين في القوة حتّى يحصل التوقّف في ترجيح إحداهما على الأُخرى.

فنقول: أمّا المسألة الأُولى فقد ذكرها الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة واتّفقوا على العمل بمضمونها، ومستندُها - بعد الاتّفاق عليها - ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده إلى أبي ولّاد الحنّاط - بالنون المشدّدة بعد الحاء المهملة - قال: قلتُ لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): إني كنتُ نَوَيْتُ حين دخلت المدينة أنْ أُقيمَ بها عَشَرَةَ أيّام فأُتِمَّ الصلاة، ثم بدا لي بعد أنْ أُقيم بها، فما ترى أُتِمَّ أم أقصِّر ؟ فقال: «إنْ كنت دخلت المدينة فصليت بها صلاة فريضةٍ واحدةٍ بتمام فليس لك أن تقصِّر حتّى تخرج منها، وإنْ كنت حين دخلتها على نيّتك التمام فلم تُصَلِّ فيها صلاةَ فريضةٍ واحدةٍ بتمامٍ حتّى بدا لك أن لا تقيم فأنْت في تلك الحال بالخيار إنْ شئت فَانْوِ المُقامَ عَشراً وأتِمَّ، وإنْ لم تَنوِ المُقام فقصِّرْ ما بينك وبين شهر، فإذا مضى لك شهرٌ فأتِمَّ الصلاة»(1).

فهذه الرواية قد دلّت على أنّ الرجوع قبل الصلاةِ موجب للعود إلى القصر وإن بقي في البلد شهراً، وإن كان الرجوع بعد الصلاة لو تؤثِّر نيّةُ الرجوع في العود إلى القصر وبقي على التمام إلى أن يخرج والمراد به إلى المسافة، كما مرّ، وكما يدلّ عليه حال السائل والبلد.

وهذه الرواية والفتوى شاملة لما لو كان في نيته بعد الخروج مفارقة ذلك البلد أبداً، أو العود إليه من غير إقامة العشرة، أو مع الشك في العود، أو في الإقامة، أو غير ذلك

ص: 277


1- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 221، ح 553: الاستبصار، ج 1، ص 238 - 239، ح 851؛ رواها الصدوق في الفقيه، ج 1، ص 437، ح 1272.

من محتملات الحال. وقد تقرّر في الأُصول أنّ ترك الاستفصال - في مُحتمَلات السؤال الباحث عن حكاية الحال - يقتضي عموم الحكم بحسب ما اقتضاه إطلاق المقال(1)، فإن اشْتُرِطَ في الخروج قصد المسافة لزم من ذلك البقاء على التمام إلى أن يقصِدها، سواءٌ عَزَمَ على العود إلى موضع الإقامة وتجديدها أم لا، وإنْ لم يشترط المسافة لزم العَود إلى القصر بالخروج، سواءٌ عزم على العَود أيضاً أم لا. نعم، يتخرّج من ذلك على الوجهين ما لو عزم على العود وإقامة عشرةٍ مستأنَفَةٍ؛ فإنّه يتمّ مطلقاً بخروجه - من بلدٍ فرضُه فيه التمام - إلى ما دون المسافة ثمّ عوده إلى ما يجب فيه التمام، لسبق نيّة إقامة العشرة فيه، فلا وجه للقصر.

وقد يجيء على احتمال التلفيق في الذَهاب والإياب اشتراط قصور منتهى الخروج بعد نيّة الإقامة عن نصف مسافةٍ؛ حذراً من اجتماع مسافةٍ من الذَهاب والعَود، إلّا أنّ هذا خیال فاسدٌ لا اعتبار به.

وأمّا المسألة الثانية فلم نجد عليها نصّاً على الخصوص، ولا ادّعاء مدّعٍ من الأصحاب الذين تعرّضوا لبيان مستند المسائل، وإنّما ذكر أصلها الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط في فرض مخصوص على سبيل التفريع على المسألة الأُولى - كما هي عادته في الكتاب، كما أشار إليه في خطبته: أنّه يُفَرّعُ على المنصوص لتكثير المسائل الشرعيّة؛ لتنبيه المخالفين على أنّ إبطالنا القياس لا يوجب قِلّةَ فروعنا ونَزارةَ فقهائنا بزعمهم، كما بَيَّنَه في أوّل الكتاب (2) - قال فيه ما هذا لفظه:

إذا خرج حاجّاً إلى مكّة وبينه وبينها مسافةٌ يقصّر فيها الصلاة، ونوى أنْ يقيمَ عشراً قصر في الطريق، فإذا وصل إليها أتم، وإن خرج إلى عرفة يريد قضاءَ نُسُكِهِ لا يريد مُقام عَشَرَة أيّام إذا رجع إلى مكّة كان له القصر؛ لأنه نَقَضَ مُقامه بسفرٍ

ص: 278


1- انظر تمهيد القواعد، ص 126، القاعدة 57 (ضمن الموسوعة، ج 5).
2- المبسوط، ج 1، ص 14.

بينه وبين بلده يقصر في مثله، وإن كان يريد إذا قضى نُسُكَهُ مُقام عَشَرة أيّام بمكّةَ أتمّ بمنىً وعرفة ومكّةَ حتّى يخرج من مكّة مسافراً فيقصّر(1).

هذه عبارته وهي - على ما يظهر - أوّلُ ما ذكره الأصحاب في هذه المسألة؛ لما بيّنّاه من عدم نصٍّ خاصٍّ عليها، وعدم سبق كتاب للأصحاب في التفريع على النصوص قبل المبسوط، ومن ثمَّ لم يذكرها الشيخ في النهاية، ولا في غيرها من كتب الأُصول. ثمّ تَبِعَهُ المتأخّرون على ذلك وإن عمّموا العبارة من غير تخصيص بمكّة (شرّفها اللّه تعالى). وخالفه بعضُهم في الحكم بالقصر في الذهاب إلى عرفَةَ علی تقدير عدم عزم الإقامة في العود، كما تقدّم (2) - ومنهم الشهيد (رحمه اللّه) في مختصرَيه(3) - ونقّحوا المسألة بما حَكَيْناه سابقاً. وفي الذكرى ذكرها منسوبةً إلى الشيخ بلفظ المبسوط الذي ذكرناه، وذكر اتّباعَ المتأخّرين له على ذلك، ولم يُرَجّحْ فيها شيئاً، ولا تَعَرَّضَ للحكم بنفي ولا إثبات(4). وفيه دلالةٌ على التمريض، وإيماءٌ إلى عدم النصّ في المسألةِ؛ لأنّه في الكتاب لا يُخلّي المسألة من دليل نقلي مع إمكانه.

وأنت إذا تأملت ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) وجدتَهُ سليماً عن كثيرٍ ممّا أوردناه على عبارة المتأخّرين؛ فإنّ مقصده بعد مُفارقَة موضعِ الإقامة زائدٌ على المسافة التي بين بلده وموضع الإقامة، ومقابلٌ له في الجهة، فسقط الإيراد بأن الخروج قد يكون نحو البلد، والرجوع إلى موضع الإقامة يكون بصورة الذهاب من البلد. ولا يتم قولهم: «إنه يقصِّر في الرجوع مطلقاً»، وكذا يسقط ما ورد من أن الرجوع إلى بلد الإقامة قد

ص: 279


1- المبسوط، ج 1، ص 200.
2- تقدّم في ص 259 وما بعدها.
3- أي الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 134؛ والبيان، ص 261 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9، 12).
4- ذكرى الشيعة، ج 4، ص 209 - 210 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8).

لا يكون بنيّةِ الرجوع وإنْ كان إلى جهة بلده؛ فإنّ عرفة لا يتعلّق بها للحاجّ الغريب غرضُ بغير النُسُك، وهي منتهى السفر، فإذا عاد فيها إلى مكّة فقد حصل ابتداء الرجوع إلى بلده وإن حصل له في مكّة إقامةٌ؛ اللّهم إلّا أن يكون طريق بلده يمرّ على عرفةَ بغير فصل فينتفي الإيراد - إلّا أنّ ما ذكره مبنيٌّ على الغالب - وغير ذلك من الإيرادات.

نعم، يبقى فيه حكمه بالقصر عند خروجه إلى عرفة مع عدم نيّة الإقامة الجديدة في مكّةَ؛ فإنّ مختار الشهيد (رحمه اللّه) في ذلك من اختصاص القصر بالرجوع أوضحُ؛ لعدم المسافة بين عرفةَ ومكّةَ، وانقطاع ما تقدّم منها بنيّة الإقامة والصلاة تماماً وما زاد على الكلام على الذهاب مُنْصَبٌّ على عبارة المتأخّرين؛ لسلامة مثال الشيخ (رحمه اللّه) عنه إلّا على الوجه النادر المتقدّم.

وحيث عرفت أنّ المسألة الأولى منصوصةٌ بنصٍّ صحيحٍ واضحٍ متلقّى بالقبول مُتَفَقٍ على ما تضمّنه من الحكم، وكانت الثانية ليست بهذه المثابة - وإنّما هي تفاريعُ وأقسامٌ استخرجها المجتهدون بأنظارهم، وكلُّ وصل منها على حسب ما آتاه اللّه، واختار فيها ما فتح اللّه عليه حتّى أنّ الواحد منهم اضطربت فتواه في بعض أقسامها، كما ستقف عليه - كان للنظر في أقسامها وللبحث في تفصيلها مجالٌ، والجمع بينها وبين الأُولى بتقييد مطلقها لازمٌ.

فلنشرع الآن في ذكر أقسامها حسب ما قرّروه، ونذكر في كلّ واحدٍ منها ملخّص ما اختاروه، ثمّ نذكر ما عندنا فيه حَسَبَ ما تقدّم بحثه فنقول:

إذا خرج ناوي المُقام عَشَرةً إلى ما دون المسافة بعد أن صلّى تماماً فلا يخلو إمّا أنْ يَعْزِمَ على العَود والإقامة عشرةً أُخرى مستأنفةً، أو على المُقام دونها، أو على العَود من غير إقامةٍ، أو على المفارقةِ من غير عَودٍ، أو يتردّدَ في الإقامة وعديها، أو في العَود وعدمِه، أو يخرج ذاهلاً عن جميع ذلك، فالصور سبعٌ:

ص: 280

صور المسألة سبع صور

[الصورة] الأُولى: أنْ يَعْزِمَ على العَود وتجديد إقامةِ عشرةٍ مستأنَفَةٍ، وقد حكم الأصحاب(1) هنا بأنه يتِمُّ ذاهباً وفي مقصده وعائداً؛ ووجهه أنّه خرج من موضعٍ يلزمه فيه الإتمام بسبب نيّة الإقامة إلى موضع يلزمه فيه الإتمام؛ لكونه دون المسافة، ثمّ العود إلى موضع يلزمه فيه الإتمام بسبب تقدّم نيّة الإقامة فيه بعد الرجوع إليه، فلا موجب للتقصير.

ويرد على من حكم عليه بالتقصير - في الخروج لو لم ينو إقامةَ العشرةِ في العودَ - ما لو كان الخروج إلى نصف مسافةٍ فما زاد؛ فإنّه حينئذٍ يجتمع من الذَهاب والعَود إلى موضع الإقامة مسافةٌ، فيلزمُهم القصر هنا وإن لم يعترفوا به؛ لأنّ مذهبهم ذاك يستلزم ضمَّ الذَهاب إلى العَود؛ وحيث كان ذلك ضعيفاً بل لا وجه له أصلاً ثبت ما حكموا به هنا من التمام والفرق بين الذَهاب المنضمِّ إلى عودٍ - بتحقّق المسافة بمجرّد العود - وبين غيره لا دليل عليه كما مرّ، ومسألتهم أعمُّ منهما أيضاً.

نعم يرد على تخصيصهم إقامة العشرة بموضع الإقامةِ أوّلاً، إيهامُ اختصاص الحكم به، وليس كذلك بل لا فرق بين كون نيّة الإقامة في تلك البلدة أو غيرها ممّا يقصُرُ عن المسافة؛ لما قد عرفته من التعليل، وكلام الشيخ سالم عن ذلك؛ لأنّه فَرَضَ المسألة في مثالٍ خاص يتفقُ وقوعه كثيراً للحاج فيمكن استخراج غيره منه، وأمّا الأصحاب فإنّهم ذكروه على وجه الضابط فهو محلُّ الوهمِ ومَطْرَحُ الفهم.

[الصورة] الثانية: أنْ يَعْزِمَ على العَودِ والمُقام دون عَشَرَةٍ مستأنفةٍ بل إمّا مع إكمال الأُولى أو لا معه، وقد تقدّم(2) أنّ الشيخ والفاضل وجماعةٌ حكموا بالقصر في الذَهاب والإياب؛ لنقضه المُقام بالمُفارقة فيعود إلى حكم السفر، والقول بالقصر هنا في الذهاب

ص: 281


1- مختلف الشيعة، ج 2، ص 566، المسألة 410.
2- تقدّم في ص 261، الهامش 2 و 3.

غير واضحٍ؛ لفرض كونه إلى ما دون المسافة بل يتمّ فيه.

وذهب الشهيد(1) (رحمه اللّه) وجماعة إلى القصر في العَود خاصةً(2).

وقد تقدّم في توجيهه أنّ الرجوع يستلزم قصدَ المسافة في الجملة؛ لأنّه قاصدٌ بلده ولو بعد إقامة أيّام(3)، وهذا يتمّ مع كون المحلِّ الذي خرج إليه مقابلاً لجهة بلده أو مخالفاً لها بحيث يكون منتهى السفر، كما مثله الشيخ في عرفة ومكّة؛ فإنّ العود من عرفة يقتضي الرجوع إلى بلد الحاجِّ في الجملة؛ لأنّها غاية السفر بالنسبة إلى بلد المسافر غالباً، ولا يتم فيما لو كان الخروج من موضع المُقام إلى جهة بلده، فإنّ العود حينئذٍ إلى موضع الإقامة لا يُعدّ رجوعاً إلى البلد فلا يتمُّ قصد المسافة من هذه الجهة بل اللازم هنا أنْ يقال: إنّه يتمّ ذاهباً قطعاً؛ لأنّ المفروض كون السفر إلى ما دون المسافة، ثمّ ينظر في العود، فإن كان إلى موضع الإقامة لا غير، إمّا مع عزم عدم التجاوز إلى تمام المسافة بالنسبة إلى مبدإ العَود، أو مع الذهول عن الزيادة عن محلِّ الإقامة، أو مع التردّد فيها، وهذا فرضُه التمام في العود أيضاً كما في المسألة الأولى؛ لعدم تحقّق قصد المسافة الذي هو شرط القصر ولم يصدق العود إلى البلد، بل صَدَقَ ضده، وهو زيادة البعد عنه في العود من المقصد إلى موضع الإقامة.

وإن كان عزمه على الزيادة على موضع الإقامة بحيث يُكْمِلُ المسافة من مبدإ رجوعه إلى موضع الإقامة إلى منتهى المقصد فإنّه يقصِّر في الرجوع كما ذكروه، لصدق قصد المسافة وإن كان في نيّته الإقامة في أثنائها؛ لأنّ المفروض كون الإقامةِ دون عَشَرة أيّام، فلا يقطع السفر، وكذا لا يَتِمُّ فيما لو كان عَوده في موضع الإقامة بغير نيّة العَود إلى البلد؛ فإنّ هذا العود لا يصدق عليه اسم الرجوع إلى

ص: 282


1- تقدّم في ص 261 - 262.
2- تقدّم في ص 261 - 262.
3- تقدّم في ص 264.

البلد بحيث يَلْحَقُه حكمه. وقد مرّ تحقيقه(1).

فإن قيل: ما ذكرتم من التقييد وإن كان متوجّهاً إلّا أّنه لا يجوز العمل به؛ لعدم العلم بقائلٍ به من الأصحاب، بل أقوالهم في هذا القسم منحصرةٌ في قولين: أحدهما: القصر مطلقاً. والثاني: القصر في العَود مطلقاً. فالتفصيل بالتمام في بعض أقسام العَود دون بعض يوجب إحداثَ قولٍ ثالثٍ رافعٍ لِما وقع عليه الإجماع المركّب من القولين.

قلنا: لا نُسلّم عدم القائل به بل المدّعى أنّ القائل به أكثرُ من القائل بأحد القولَين؛ وذلك لما تَقَرَّرَ من أنهم قد أسلفونا قاعدةً كلّيّةً هي أنّ كلّ مَن نَوى إقامة عَشَرةِ أيّامٍ في موضعٍ وصلّى فيه تماماً ثمّ بدا له في الإقامة، فإنّه يبقى على التمام إلى أنْ يقصِد مسافةً جديدةً (2). وما ذكرناه هنا من أفراد هذه القاعدة وإنْ كان ظاهرهم أنها مسألةٌ برأسها، فالمخالف هنا موافقٌ لنا في المعنى، فضلاً عمّن تعرّض من الأصحاب لبحث المسألة الأُولى دون الثانية وتفاريعها، وهم جماعةٌ من المتقدّمين والمتأخّرين (3) الذين وقفتُ على كلامهم مع قلّة وقوفي على كلام السابقين؛ لخفاء مصنّفاتهم. وذلك كافٍ لنا وزيادة، مع أنا قد أسلفنا ما فيه من النصّ والاعتبار الموجَبينِ لردّ ما خرج عنهما إليهما.

[الصورة] :الثالثة: أنْ يَعْزِمَ على العود إلى موضع الإقامة من غير إقامةٍ جديدةٍ، وفيه القولان المذكوران. ويرد عليهما ما أوردناه حجّةً وجواباً والحكم فيهما واحدٌ.

واعلم أنّ الشهيد (رحمه اللّه) اختلف حكمه في هذا القسم فذهب في الدروس إلى القصر في العود(4)، كما نقلناه عنه سابقاً. وقطع في البيان بعوده إلى القصر بالخروج(5)،

ص: 283


1- مرّ آنفاً.
2- راجع المبسوط، ج 1، ص 203؛ وتذكرة الفقهاء، ج 4، ص 409، المسألة 644: وقواعد الأحكام، ج 1، ص 326.
3- انظر مفتاح الكرامة، ج 10، ص 609 - 610 : وجواهر الکلام، ج 14، ص 602 - 604.
4- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 134 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9).
5- البيان، ص 261 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 12).

كمذهب الشيخ والعلّامة. ومختاره في الدروس أوضح مقيّداً بما ذكرناه.

وبقي في كلامه في الدروس بحثٌ آخرُ وهو أنّه قال في القسم المذكور: «إنّ فيه وجهين أقربهما القصر إلّا في الذهاب»(1). ومقتضى ذلك انتهاء التمام بالوصول إلى المقصد الذي هو دون المسافة، وذلك يوجب القصر في المقصد وإنْ أقام أيّاماً؛ إذ لا يسمّى ذلك ذهاباً وحجّته التي قرّرناها إنّما تدلّ على العود إلى القصر بالرجوع لا غير، وأنّ حكم الإقامة في المقصد حكم الذهاب في عدم القصر، لعدم تحقّق قصد المسافة بعدُ. فتكون الأقوال على ظاهر الدروس في المسألة ثلاثةً، إلّا أنّ هذا الثالث لا وجهَ له؛ ولعلّه اراد بالذهاب كلّ ما قبل العَود على وجه المجاز؛ لدلالة الحجّة عليه، وإنْ لم يكن بيَّنَها في الكتاب، فترجع المسألة حينئذٍ إلى القولَين الأوّليَنِ، وهذا هو الظاهر. ومن هنا يُعلم أنّ هذه مسألةٌ اجتهاديّةٌ لم تتّفق فيها الأنظارُ، ولا حرجَ فيها على من تفطّن لوجه راجح في بعض مواردها.

[الصورة] الرابعة: أنْ يَعزِمَ على مفارقة موضع الإقامة، وقد اختلف الأصحاب المتعرّضون لبحث هذه المسألة في مبدإ الأخذ في التقصير بعد اتّفاقهم عليه في الجملة ذاهباً:

فذهب بعضهم(2) إلى التقصير بمجرّد الخروج من البلد وإنْ لم يتجاوزِ الحدود؛ لصدق السفر عليه والضرب في الأرض واختصاص توقّفه على مجاوزة موضع سماع الأذان ورؤية الجدار بموضع الوفاق، وهو بلد المسافر.

وأصحّهما عندهم توقف القصر على مجاوزة الحدود؛ لصيرورة موضع الإقامة بالنسبة إلى صلاة التمام في حكم بلده، ولتساوي جميع أقطار موضع الإقامة إذا كان بلداً في وجوب الإتمام، وداخل الحدود من جملة البلد.

ص: 284


1- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 134 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9).
2- كالعلّامة في نهاية الإحكام، ج 2، ص 172؛ والصيمري في كشف الالتباس، الورقة 234.

وهذه أشكلُ(1) الصُوَرِ وكلام الفريقين فيها على إطلاقه غير واضحٍ؛ لأنّ الفرض كون الخروج إلى ما دون المسافة فلا وجهَ للقصر؛ إذ لم يقصد المسافة بعدُ، اللّهمّ إلّا أنْ يكون مقصدُه الذي خرج إليه على طريق بلده، أو إلى جهته بحيث يصدق عليه الرجوع عرفاً، فيتوجّه ما قالوه على إشكالٍ فيه، وإن كان بعيداً عمّا أطلَقُوه.

ووجه الإشكال ما قد عرفت من أنّ الرجوعَ لا يتحقّق إلّا بالقصد؛ فإنّ من الممكن أن يقصد الرجوع إلى بعض المسافة نحو بلده، مع عدم قصد الوصول إليها بل مع قصد عدم الوصول. ولو كان الخروج إلى جهةٍ تُخالِفُ البلد والفرض كونه دون المسافة فحكمه التمام إلى أنْ يقصد المسافة ولو بالرجوع، كما تحقّق في المسألة الأولى.

فإن قيل: ظاهر الأصحاب هنا الاتّفاق على القصر وإن اختلفوا في مبدئه فيكون القول بالتمام على بعض الوجوه غير جائز؛ لعدم تحقّق القائل به.

قلنا: هذا أيضاً داخل فى القاعدة الأولى، فالقائل هناك قائل هنا؛ لأنهم أعطونا القانون الكلّيَّ في المسألة.

الصورة الخامسة: أنْ يَعزِمَ على العود إلى موضع الإقامة ويتردّد في إقامة العشرة وعدمها، وقد حكى بعضُ الأصحاب(2) فيه وجهين:

أحدهما: الإتمام مطلقاً لانتفاء المقتضي للقصر، وهو عزم المسافة.

والثاني: كون حكمه حكم العازم على العود الجازم بعدم الإقامة في مجيء الوجهَين السابقين، وما ذكرناه نحن في تلك المسألة آت هنا؛ فإنّ العود إلى الموضع المذكور إنْ كان مستلزماً للعود إلى بلده فالقصر في الرجوع واضح، وإن كان مخالفاً للرجوع إلى البلد فالمتجه البقاء على التمام إلى أن يتحقّق قصد المسافة، فمقتضى ما ذكروه في هذه

ص: 285


1- لعلّ الصواب أن يقال: «أشدُّ إشكالاً» بدل «أشكل». انظر النحو الوافي، ج 3، ص 349، 395- 396.
2- الحاكي هو المحقّق الكركي في رسالة في خروج المقيم عن حدود البلد، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص 113.

الصورة ثلاثةُ أوجُهِ، وعلى ما ذكرناه تصير ير أربعةً. والعجب بين ذكر وجه التمام مطلقاً هنا! وعدم ذكره في الجازم بعد العود بعدم الإقامة؛ فإنّ التردّد ومجرّد احتمال الإقامة لا يوجب التمام من دون قصد إقامة العشرة، فينبغي أن تكون في المسألة السابقة أيضاً ثلاثة أوجهٍ.

[الصورة] السادسة: أن يتردّد في العود إلى موضع الإقامة،وعدمه، وذكروا هنا وجهين:

أحدهما: أنّها كالثالثة؛ لأنّ حكم القصر موقوف على الجزم بالمفارقة ولم يحصل.

و [ثانيهما]: - أصحهما عندهم - أنّها كالرابعة؛ لأنّ المقتضي للإتمام في الذهاب هو العزم على العود ولم يحصل فهو مسافر ويجب تقييده بما قررناه في السابق (1)؛ إذ ليس مطلق الخروج على هذا الوجه سفراً يوجب القصر كما لا يخفى.

[الصورة] السابعة: أنْ يَذْهَلَ عن قصد العود والإقامة وعدمهما، وهي كالخامسة، إلّا أن يكون الذهول لاحقاً لِعزْم العود أو الإقامة أو غيرهما، فالمعتبر العزمُ السابق.

فهذه جملةُ ما حصر من صُوَرِ المسألة، وما حصل من تقييدها على وجه يحصل به الجمع بينها، وبين المسألة الأُولى التى هى الأصل وعليها الاعتماد، وقد عُلم أنّ صُوَرها غيرُ خالية من إجمال، محتاجة إلى تحقيق الحال، فعليك بالتأمّل فى ذلك. جَمَعَنا اللّه وإيّاك على الرشاد، وسَلَك بنا جادّة السداد، بمنّه وكرمه.

اثنا عشر تنبيهاً للمؤلّف

تنبيهات:

الأوّل: لا فرق في الخروج من موضع الإقامة بعد الصلاة تماماً بين كونه بعد إقامة العشرة أو في أثنائها؛ لاشتراك الجميع في العلّة؛ فإنّ نيّة إقامة العشرة والصلاة تُصَيِّرُ بلد

ص: 286


1- في ص 280.

الإقامة في حكم بلد المسافر في هذه الأحكام، فتشترك ما قبل إكمال العشرة وبعدها في ذلك، ومِن ثَمَّ أطلق الأصحابُ والنص الحكم في ناوي المُقام بعد الصلاة على التمام، من غير تعرّض للفرق بين كون الخروج بعد العشرة أو قبل إكمالها.

الثاني: لا فرق مع نيّة إقامة عَشَرةٍ مستأنفة بعد الخروج إلى ما دون المسافة بين كون إقامتها في بلد الإقامة الأولى، أو البلد الخارج إليه الذي هو المقصد، أو غيرهما من المواضع التي هي دون المسافة؛ لاشتراك الجميع في المعنى المقتضي للبقاء على التمام وهو خروجُ مَنْ فرضُه التمامُ إلى سفرِ حكمه التمام، والانتهاء بعده إلى موضعٍ سَبَقَهُ نيّة الإقامة فيه الموجبة للتمام.

الثالث: لو كان في نيّته إقامة العَشَرَة المستأنفة في أحد المواضع المذكورة، لكن بعد التردّد إلى موضع نيّة الإقامة الأولى والثانية وغيرهما مما يساويهما في الحكم - وهو ما دون المسافة - مرّةً أو مراراً، ففرضه في جميع هذه التردّدات التمامُ ذَهاباً وعوداً وفي المقصد المتردَّد منه وإليه؛ لاشتراك الجميع في المقتضي للإتمام، وهو خروجه من محلّ يُتِمُّ فيه إلى ما دون المسافة، وعزمه على إقامة العشرة بعد العود، أو بعد الفراغ من السفر القاصر عن المسافة، فلا وجه للقصر. وتعدّدُ مرّاتِ التردّد لا يقدح في ذلك؛ إذ لا يصير بذلك مسافراً بذلك مسافراً من دون قصد المسافة، وهو منتفٍ بقصد الإقامة قبله على ما ذكره الجماعة، ولعدم تحقّق قصد المسافة وإن لم ينو الإقامة بعدها على ما بيناه.

الرابع لا فرق مع خروجه من موضع الإقامة ومجاوزة حدوده، بين رجوعه إلى موضع النيّة ليومه أو بعده في انقطاع حكم النيّة السابقة، والاحتياج إلى نيّة مُقامِ عَشَرَةٍ مستأنفةٍ عند الجماعة وعدم تأثير هذا الخروج إلّا مع اقترانه بقصد المسافة ولو بالرجوع، على ما حقّقناه(1).

ص: 287


1- في ص 259 وما بعدها.

وما يوجد في بعض القيود من أنّ الخروج إلى خارج الحدود مع العَود إلى موضع الإقامة ليومه أو ليلته لا يؤثِّر في نيّة الإقامة وإن لم ينو إقامة عشرة مستأنفة(1)، لا حقيقة له ولم نقف عليه مستنداً إلى أحدٍ من المعتبرين الذين تُعتبر فتواهم، فيجب الحكم باطّراحه، حتّى لو كان ذلك في نيّته من أوّل الإقامة بحيث صاحَبَت هذه النيّة نيّة إقامةِ العشرة لم يعتد بنية الإقامة وكان باقياً على القصر؛ لعدم الجزم بإقامة العشرة المتوالية؛ فإنّ الخروج إلى ما يوجب الخفاء يقطعها، ونيّتة في ابتداء نيّتها تبطلها.

وكذا لا فرق في إبطال نيّة إقامة العشرة بعزم الخروج إلى ما يتجاوز الحدود بين العزم على العود وإقامة عشرةٍ مستأنَفَةٍ،وعدمه، وإنّما يبقى على التمام بنية الإقامة بعد العود لو كان القصد إلى الخروج طارئاً على نيّة العشرة، وعلى الصلاة تماماً أيضاً؛ لما مر من أنّ الرجوع عن نيّة الإقامة قبل الصلاة يوجب العود إلى القصر؛ لفساد النيّة الأولى الموجبة للتمام بعزم الخروج قبلها.

وفي بعض الحواشي المنسوبة إلى الإمام فخر الدين بن المطهر (رحمه اللّه)(2) عدم قطع نيّة الخروج إلى القرى المتقاربة، والمزارع الخارجة عن الحدود لنيّة،الإقامة، بل يبقى على التمام، سواء أقارنت النيّة الأولى أم تأخّرتْ، وسَواءٌ نوى بعد الخروج إقامة عشرةٍ مستأنفة أم لا(3). ووجهه غير واضحٍ والنسبة غير موثوقٍ بها.

الخامس: لو خرج لا بنيّة العَودِ والإقامة عشرةً ثمّ عَنَّ له أنْ يقيم في موضع الإقامة عشرةً مستأنفةً، فعلى ما اختاره الجماعة يخرج مقصراً؛ لعدم المقتضي للتمام - وهو «عزم الإقامة» عند الشيخ، و «عزم العود» عند الشهيد - ثمّ يُتِمُّ من وقت النيّة؛ لحصول

ص: 288


1- انظر ما يأتي بعيد هذا من قوله: وفي بعض الحواشي المنسوبة إلى الإمام فخر الدين بن المطهّر (قدّس سرّه) إلى آخره.
2- لعلّ المراد الحواشي على إرشاد الأذهان المنسوبة إلى فخر الدين (قدّس سرّه).
3- راجع مفتاح الكرامة، ج 10، ص 481؛ وجواهر الکلام، ج 14، ص 498.

المقتضي له وليس وقوع النيّة قبل إنشاء السفر شرطاً في الإتمام، بل نيّة الإقامة تؤثِّر في ابتداء السفر ودوامِهِ؛ إذ لو فرض خروج المسافر إلى مسافة مقصودة فعنَّ له في أثنائها إقامة العشرة في موضع لم يصل إليه بعد ولكنّه دون المسافة، أتمّ في الطريق و موضع الإقامة، ثمّ يعتبر نهاية مقصده بعد ذلك.

ولو فرض تجدّدُ نيّة العود لا غير رجع إلى التمام على مذهب الشهيد (رحمه اللّه) إلى أنْ يأخذ في الرجوع فيقصِّرَ. وعلى ما اخترناه هو باقٍ على التمام في جميع الفروض حتّى يتحقّق قصد المسافة والشروع فيها.

ولو انعكس الفرض بأن رجع عن نيّة الإقامة المستأنفة بعد الخروج إلى مقصده، رجع إلى التقصير عندهم؛ لزوال المقتضي للتمام، وكذا لو رجع عن نيّة العود عند الشهيد (رحمه اللّه)، وعلى ما بيناه لا يتغيّر الحكم إلّا بقصد المسافة.

السادس لو خرج ناوياً لإقامة العشرة في موضع الإقامة واستمرّ على التمام، ثمّ تغيّرت نيّته إلى الإقامة بغيره مما هو دون المسافة لم يتغيّر الحكم؛ لاشتراك الموضعَينِ في المقتضي. وكذا لو انعكس الفرض أو طرأ له بعد الوصول إلى موضع نوى فيه إقامة العشرة المستأنفة أنْ يخرج منها إلى ما دون المسافة مرةً أخرى، أو مراراً قبل الصلاة فيه تماماً.

والفرق بين هذه وبين الأولى - في توقف تلك على الخروج بعد الصلاة دون هذه - أنّه في الأولى مسافر وفرضه القصر فلا ينقطع سفره إلّا بنية العشرة، ولا تصير البلد في حكم بلده بحيث لا يقصر حتّى يخرج منها إلى المسافة إلّا بالصلاة، بخلاف الثانية؛ فإنّ سفره قد انقطع بالإقامة الأولى، فلا يعود إلى القصر إلّا بقصد المسافة ولم يحصل بعد، والخروج من الموضع المذكور وإن تكرّر لا يُصَيِّره مسافراً ولا يوجب القصر.

السابع: لو خرج مع قصد المسافة لكن بعد تردّده إلى بلد الإقامة مرّةً أو مراراً، بقي على التمام إلى أن يخرج إلى المسافة بعد التردّد؛ لعدم تحقّق شرط القصر قبله، وهو

ص: 289

الخروج إلى المسافة المقصودة.

نعم، لو خرج بقصد المسافة ثمّ عَنَّ له التردّد بعد إنشاء السفر إلى بلد الإقامة أو غيرها، بقي على القصر حالة التردّد؛ والفرق أنّه قد لزمه القصر بالإنشاء؛ لاجتماع شرائط القصر، فلا ينقطع إلّا بنية إقامة العشرة على ما فصل، أو التردّد ثلاثين يوماً، ولم يحصل فيبقى على القصر، بخلاف الأوّل؛ فإنّ فرضه التمام إلى أن يقصد المسافة ويَشْرَعَ فيها ولم يحصل ذلك. وبالجملة، فقد صارت بلد الإقامة بعد الصلاة تماماً في حكم البلد بالنسبة إلى اشتراط الخروج إلى المسافة، فكما لا يقصر المتردّدُ من بلده إلى ما دون المسافة قبل الشروع في السفر إلى المسافة فكذا من بلد الإقامة، وأمّا تردّده بعد قصد المسافة إلى بلد الإقامة فلا يؤثر في قطع السفر كما قلناه، وإن كان عود المسافر إلى بلده يوجب قطع السفر؛ لأنّ بلد الإقامة ليست كبلد المقيم في جميع الأحكام، بل إذا خرج منها ساوت غيرها فلا يقطع السفرَ عَوده إليها، كما لا يقطع عوده إلى غير بلده.

ولو كان عزمه على التردّد إلى غير بلد الإقامة قبل المسافة ففي إلحاقه ببلد الإقامة نظر؛ من أنّه شروع في السفر حيث لم يرجع إلى مبدإ المسافة فيقصر وإن تردّد. ومِنْ عدم تحقّق الذهاب مع قصد التردّد إلى محلّ خاصٍّ قبله والإشكال آتٍ فيما لو كان التردّد إلى المحلّ في أثناء المسافة حيث كان؛ لاشتراك الجميع في العلّة.

ولعلّ الوجه هنا القصر؛ لصدق قصد المسافة في الجملة، والشروع فيها؛ ولأنّ ذلك لو أثَرَ لزم اشتراط أن لا يخرج المسافر عن مجموع طريق المسافة إلى غيره ممّا يوجب مجاوزة الحدود وهو بعيدٌ لا دلالة عليه.

نعم لو كان عزمه على التردّد مراراً يخرج بها عن اسم المسافر إلى المسافة عرفاً توجّه احتمال عدم القصر بل تعيّن المصير إليه.

الثامن: هل يعتبر قصد المسافة الشخصيّة أم يكفي قصد مسافة في الجملة وإن

ص: 290

كانت نوعيّة ؟ يُحتمل الأوّل ؛ لأنّه المعهود لأصحاب القصود والمتعارف. ويُحتمل الثاني؛ لحصول الشرط وهو قصد المسافة في الجملة، والأصل عدم اشتراط أمر آخر.

وتظهر الفائدة فيما لو قصد الخروج إلى أحد بلدين اشتركا في أوّل المسافة ولم يجزم بأحدهما عند الشروع في السفر، فعلى الأوّل يبقى على التمام إلى أن يعزم على أحدهما بعينه، وعلى الثاني يقصر، مع كونهما معاً مسافةً. وكذا البحث فيما لو تعدّدت البلدان على الوجه المذكور. ويتفرع على ذلك أيضاً ما لو قصد مسافةً معيّنةً ثمّ تجدد له في أثنائها مسافة أخرى؛ فإنّه يستمر القصر على الثاني، وعلى الأوّل يُتِمُّ إلى أنْ يشرع في السفر إلى تلك المسافة، وإن بقي في مكانٍ تغيّرت فيه النيّة أيّاماً كثيرةً؛ ولا فرق حينئذٍ بين أن تكون المسافة الثانية على طريق البلد التي كان قد أقام فيها العشرة أو غيرها؛ لمساواتها غيرها عند الخروج عنها.

ولعلّ الأقوى الثاني؛ لعموم الدليل الدال على القصر بالضرب في الأرض(1)، مع قصد المسافة المتناول الصورة النزاع؛ وللحكم بالقصر عند قصدُ المسافة فيستصحب إلى أن يقوم ما ينافيه، وهو إما الرجوع عن السفر، أو قصد إقامة العشرة، أو مقام ثلاثين متردّداً، والجميع منتفٍ هنا، فيبقى على القصر.

ولو فرض الرجوع عن المسافة الأولى إلى مقصدٍ آخر في أثناء المسافة، بحيث يجتمع ممّا مضى وما بقي إلى المقصد الثاني مسافة، ولا يبلغ من ابتداء الرجوع عن النيّة مسافة، ففي الاستمرار على القصر أو العود إلى التمام بتغير النيّة الوجهان، وبقاء القصر متوجّه هنا أيضاً.

ولم أقف للأصحاب في هذه الفروع على شيءٍ يُعتمد. نعم قرب الشهيد في البيان

ص: 291


1- النساء (4): 101: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوَةِ».

أنّ الراجع - عن قصد المسافة ثم يعود إلى القصد - يحتسب ما مضى من المسافة(1).

وهو قريب مما ذكرناه.

ولا فرق في هذه الفروع بين قاصد المسافة من بلده، ومن مُقام العشرة.

التاسع: قد تقدّم(2) أنّ بلد الإقامة تصير بحكم بلد المسافر في اعتبار مجاوزة حدودها في جواز القصر؛ فلا يقصِّر الخارج منها حتّى يخفى عليه أذانها وجدارها، وكذا الداخل إليها مع سبق نيّة المُقام بها على الدخول إليها فينتهي السفر بالوصول إلى حدودها على خلافٍ في ذلك كلّه.

ويقوى في نفسي الفرق بين حالتي الدخول والخروج، بمعنى أنّه لا يقصِّر في الخروج إلى أن يصل إلى محلّ الخَفاء، ولا ينقطع السفر في حالة الدخول إلّا بالوصول؛ وذلك لما قد عرفت من أنّ بلد الإقامة مع الصلاة فيه تماماً تصير بحكم البلد في انقطاع حكم السفر وافتقار العود إلى مسافةٍ جديدةٍ، وتلك الحدود في حكم البلد شرعاً بخلاف حالة الدخول؛ فإنّ مجرّد الوصول إليها لا يُعَيِّنُ عليه التمام؛ ومِن ثُمَّ لو رَجَعَ عن نيّة الإقامة قبل الصلاة تماماً، أو فَعَلَ ما هو في حكمها يعود إلى القصر ولو أقام في البلد شهراً، فلا فرق حينئذٍ بين هذه البلد وغيرها إلّا في جواز التمام بناء على النيّة السابقة، ومجرّد ذلك لا يوجب إلحاقها ببلده؛ لمخالفتها لها مخالَفةً ظاهرةً، وبالجملة فصيرورتها بحكمها تتوقف على الصلاة تماماً كما مرّ(3)، وذلك شرط لا يحصل إلا بعد الوصول إليها فقبله تساوي غيرها، فلا ينقطع سفره بمجرّد وصوله إلى حدودها.

ولا يتعدّى هذا الحكم إلى غيرها وغير بلد الملك والإقامة الدأئمّة، فلو خرج من أحد الثلاثة غير عازم على المسافة، ثمّ عزم عليها بعد تجاوز حدوده من بلدٍ آخر أو

ص: 292


1- البيان، ص 255 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 12.
2- في ص 259.
3- في ص 259.

غيره لم يتوقّف القصر على مجاوزة حدود ذلك المكان، بل يكفي الشروع في السفر.

وهذا الفرع لا يختص بهذه المسألة لكن ناسب الحال ذكره والتنبيه عليه.

العاشر: لوخرج غير عازمٍ على المسافة، إمّا لتردّده أو لجزمه بعدم قصد المسافة، ثم تجدّد له قصدها قَصَّرَ حينئذٍ كما مرّ، لكن يُشترط بلوغ ما قصده بعد القصد مسافةً، فلا يكفي تلفيقها منه وممّا سبق، وهو ما بعد موضع الإقامة، فحينئذٍ إنْ كان آخذاً في الذهاب فالمعتبر كون الباقي منه مسافة، وإن عزم على العَود إلى وطنه وكان قد بلغ المسافة كفى قصد العود.

وعلى ما ذكره الجماعة من التقصير بمجرّد الخروج من غير قصد المسافة يسقط هذا الشرطُ، ويجوز التلفيقُ بطريقٍ أولى.

الحادي عشر : لو خَرَجَ ناوي المُقام بعد صلاة التمام إلى المسافة لكن عزم في أثنائها على التوقف على رُفْقَةٍ علّق سفره عليها، كان حكمه في ذلك حكم متوقِّع الرفقة عند الخروج من بلده، فإن كان ذلك في نيّته من ابتداء الخروج من موضع الإقامة بقي على التمام في طريقه إلى مكان يتوقع فيه الرفقةً. وفيه إنْ عَلَّقَ سفّره عليها ولم يَعْلَم بمجيئها قبل مضيّ عَشَرة أيّام، ويستمر عليه إلى أن يسافر معها أو بدونها. ولو جزم بالسفر من دونها إن لم تجيء قبل العشرة أو علم مجيئها - وإنْ علّق سفره عليها - قَصَّرَ، ولو غلب على ظنّه مجيئها فالظاهر أنه كالعالم و به جزم الشهيد (رحمه اللّه) في الذكرى(1). ولو طرأ له الانتظارُ بعد الشروع في السفر إلى المسافة رجع إلى التمام، ولو كان الانتظار على رأس المسافة استمرّ على القصر إلى ثلاثين يوماً.

وبالجملة فحكمه حكم منتظر الرُفقة في غير هذا المحلّ، وإنما خصّصناه بالذكر لفائدةٍ مّا.

ص: 293


1- ذكرى الشيعة، ج 4، ص 187 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 8).

الثاني عشر : منتظر الرفقة بعد مجاوَزَة الحدود إن لزمه التقصير حال انتظاره كانت المسافة معتبرةً من حين الخروج فيلفِّق ما قبل الانتظار فيلفّق ما قبل الانتظار مع ما بعده، وإن كان حكمه التمام اشتُرِط كون ما بعد ذلك مسافةً ولا يضمُّ إلى ما سبق من السير؛ لأنه خارج عن حكم المسافر بانتظاره، فهو في قوة قاصد ما دون المسافة، وقد تقدّم تفصيله(1).

وليكن هذا آخِرَ ما نُمْليه فى هذه المسألة، ونحن نسأل ممّن وقف عليها من أهل التحقيق أنْ لا يُقَلَّدَنا في شيءٍ من فروعها قبلَ تَدَبُّر ما فَصَّلْناه، عسى أنْ يَظْهَرَ عليه باب من أبواب الصواب فإنّ البرهان هو المعيار لأُولي الألباب.

فرغ من هذه النسخة مؤلفها العبد المفتقر إلى عفو اللّه تعالى وجوده زينُ الدين بنُ عليّ بن أحمد يوم الإثنين سابع عشرين(2) شهر رمضان المعظّم، سنة خمسين و تسعمائة حامِداً للّه تعالى على آلائه، شاكراً له على نعمائه، صابراً على بلائه، مصلّياً على سيد خلقه وأشرف أحبائه، محمّدٍ وعلى الطاهرين من أبنائه، اللّهمّ اختم بخيرٍ.

ص: 294


1- في ص 259 وما بعدها.
2- هكذا في جميع النسخ.

القسم الرابع: الحج

إشارة:

ويَضُمُّ ثلاثَ رسائل:

(أقل) ما يجب معرفته من أحكام الحجّ والعمرة

(2) نيّات الحجّ والعمرة

(3) مناسك الحجّ والعمرة

ص: 295

ص: 296

18. أقلّ ما يجب معرفتُه من أحكام الحجّ والعمرة

إشارة:

تحقيق

رضا المختاري

ص: 297

ص: 298

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمدُ للّه مُسَهِّل الصعاب ومُيَسِّرِ الحساب

والصلاة على أشرف الأحباب، وعلى آله وأصحابه خير آل وأصحاب. وبعد، فهذه جملة كافلة ببيان أقل ما يجب معرفته من أحكام الحجّ والعمرة؛ تسهيلاً على المكلّفين وتيسيراً على المتعلمين، فإنّ التيسير مُرادُ اللّه تعالى، وهو حَسْبُنا ونعم المُعين.

صفة عمرة التمتّع

اعلم أنّ الواجب على الآفاقى - وهو من نأى منزله عن مكّة بمرحلتين مع استطاعته إلى الحجّ - حجّ التمتّع، وهو الذي تقدّم عُمرتُه على حَجَّه.

والواجبُ إِذا وَصَلَ إلى ميقات الإحرام - وهو مسجدُ الشَجَرة لمن حجّ على طريق المدينة، والجُحْفَةُ لمن حجّ على طريقِ مصرَ، ويَلَمْلَمُ [لأهل اليمن و] لمن مرَّ به، والعقيقُ لأهل العِراقِ ومن في معناهم، ومُحاذِي أحد المواقيت ولو ظنّاً لمن لم يُصادف طريقه أحَدَها - أنْ يُحْرِمَ منه بأنْ يَنْزِعَ المخيط ويَكْشِفَ رأسه وقدَمَيْهِ إِلَّا ما يتوقّف عليه لبس النعلَيْنِ إنْ كان رجلاً، ويُزيلُ ما على بدنه من رائحة الطِيْب.

ثم ينوي العمرة، وصفتها: «أُحْرِمُ بعمرة التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه»، ولو اقتصر على قوله - ناوياً : «أُحْرمُ بالعمرةِ لِلّه» كفى. ثمّ يُلبّى ناوياً: «أُلبّي لوجوبه قربةً إلى اللّه»، ويكفي «أُلبِّي لِلَّه» ويقول: «لبّيك اللّهمَّ لبّيك، لبّيك، إن الحمد والنعمة والمُلك لك. لا شريكَ لَكَ لبّيك».

ص: 299

ويُسَنُّ قبل الإحرام توفير شعر الرأس من أوّل ذي القعدة، والتنظيفُ عندَه بإزالة شعر العانة والإبْطِ وقصِّ الأظفار، والغُسل، ثمّ يُصَلّي سُنَّةَ الإحرام، وهي ستٌّ ركعاتٍ، وأقلُّها ركعتان، ونيّتةا: «أُصَلي ركعتين مِنْ سُنّة الإحرام للّه تعالى».

فإذا نَزَعَ المخيط لَبِسَ تَوْبَي الإحرام يَأْتَزِرُ بأحدهما ويَرْتدِي بالآخر أو يَتَوَشَحُ به. ويُعْتَبَر كونهما من جنس ما تصحّ الصلاة فيه اختياراً، وتجوز الزيادة عليهما، ويُسَنُّ كونُهما من القُطْنِ الأبيض الخالِصِ.

عقد الإحرام

فإذا عقد الإحرام بالتلبيةِ حَرُمَ عليه صَيْدُ البَرِّ - المُمتَنِع بالأصالة - المحلَّل، وستة من المحرَّم الأسَدُ والتَعْلَبُ والأَرْنَبُ والضَبُّ والتربوعُ والقُنْفُذُ، وأكله والإعانة عليه، والاستمتاع بالجماع ومقدِّماته، وعقدُ النكاح، واستعمال الطيّب مطلقاً، والاكتحال بالسواد، والادهانُ بالدُهْنِ الْمُطَيَّبِ وغيره، وإخْراجُ الدم، وإزالة الشعر اختياراً فيهما، وقَلْمُ الأظفار، وقَطْعُ الشجر والحشيش النابِتَيْنِ في الحرم إلّا الإِذْخِر وما في معناه والفسوق وهو الكَذِبُ مطلقاً، والجدال وهو الخَلْفُ مطلقاً، ولُبْسُ الخاتم، والحِنّاء للزينة لا لِلسُنّة - فيهما - والفارِقُ القصد، وقَتْلُ القَمْلِ وغيره مِن هَوام الجسد، والنظرُ في المرآة، ولُبسُ المَخِيطِ للرجلِ وإِنْ قَلَّتِ الخياطة - عدا المِنْطَقَةِ والهِمْيانِ - وفي معناها الزر والخَلالُ، ولُبْسُ ما أحاط بالبدن من اللبد والدرع، والتظليلُ سائراً اختياراً، وتغطية الرأس ولو بالارتماس، وسَتْرُ ظَهْر القَدَم بالخُفٌ ونحوه، وتغطية المرأةِ وَجْهَها إلا القدر الذي يتوقّف عليه تغطية رأسها. ويجوز لها سَدْلُ ثوب على وجهها على وجه لا يُصِيبُهُ، ويَحْرُمُ عليها لُبْسُ ما لم تَعْتَدُهُ من الحَلْي، وما اعتادته بقصد الزينة أو مع إظهاره للزوج.

فإذا فَعَلَ المُحْرِمُ شيئاً مِنْ هذه المحرَّماتِ: فإن كان جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه إلا في الصَّيْد، فلا يَفْرُقُ فيه بين العامد وغيره، وإن كان عامداً أثِمَ ووَجَبَتْ عليه الكفّارة، إلّا في الاكتحال والادّهانِ بغير المُطَيَّب وإخراج الدم ولبس الخاتمِ والحِنَّاء والنظر في

ص: 300

المرآة والفسوق ولُبْسِ الحَلّي، فلا شيء فيها سوى الإثم. والكفّارة في الباقي مفصَّلةٌ في بابها.

فإذا وَصَلَ إلى مكّة وجب أن يبتدِئَ بطوافِ العمرة، فيَتَطَهَّر من الحَدَث والخبثِ على حدّ ما يُعْتَبَرُ في الصلاة، ويَسْتُر عورته، ويَخْتَتِن إنْ كان رجلاً مع المُكْنَةِ كالصلاة.

وكيفيّة الطوافِ أَنْ يَقِفَ بإزاء الحَجَر الأسودِ مُسْتَقْبِلاً له جاعِلاً أوّلَ جزءٍ منه ممّا يلي الركن اليماني مُحاذِياً لأوّل كتفه الأيمن ولو ظنّاً، ثمّ يَنْوِي: «أطُوفُ طواف العمرة لوجوبه قربةً إلى اللّه» ثمّ يَنْفَتِلَ(1) وَيَجْعَلَ البيت على يساره، ويطوف به سبعة أشواطٍ من غير زيادة ولا نُقصان في القَدْر الذي بين البيت والمقام، مُدْخِلاً للحجْر في الطوافِ مُخْرجاً لجميع بدنه عن البَيْتِ فلا يَمُسُّ الحائط ماشياً بل يقفُ إنْ أراده ولا ينتقل حتّى يُخْرِجَ يَدَهُ عنه.

فإذا فَرَغَ مِن الطواف وَجَبَ عليه صلاة ركعتيه خَلْفَ المَقام أو مع أحَدِ جانِبَيْهِ ونيّتها: «أَصَلِّي رَكْعتي طوافِ العمرة لوجوبة (2) قربةً إلى اللّه».

فإذا فَرَغَ من الصلاة خرج إلى السعي بين الصفا والمروة سَبْعة أشواط بادِئاً بالصفا خاتماً بالمروة، مُسْتَقْبِلاً للمطلوب بوجهه، ذاهباً بالطريق المعهود، ونيّتة - وهو على الصفا-: «أسعى سَعْىَ العمرة لوجوبه قربةً إلى اللّه».

فإذا فَرَغَ من السعي قَصَّرَ مِنْ ظُفُره أو مِن شَعْره مُسَمّاه ناوياً أُقَصِّرُ لوجوبه قُرْبَةً إلى اللّه».

التحلّل من عمرة التمتّع

وبالتقصير يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمرة التمتّع - لا الخَلْقِ - وهو آخر أفعالها، ويبقى على إحلاله إلى أنْ يُحْرِمَ بالحجِّ.

ص: 301


1- انْفَتَلَ: انصرف المعجم الوسيط، ص 673، «فتل».
2- هكذا في النسخ ولعلّ الصواب لوجوبهما كما في المنسك الكبير، ص 247 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل ج 18)؛ ومناسك الحجّ، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص 156 - وهكذا في أمثالها من النيّات.

ويُسْتَحَبُّ كونُه يومَ الثامن من ذي الحجة من المسجد الحرام، وأفضله المقام أو الحِجْرُ تحتَ الميزاب، ونيّتة: «أحرِمُ بحج التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه». ثم ينوي التلبية: «أُلبي لوجوبه قربةً إلى اللّه» [ويقول:] «لبّيك اللّهم لبّيك، لبّيك، إن الحمد والنعمة والمُلْكَ لك، لا شريك لك لبّيك».

صفة حجّ التمتّع

فإذا وصل إلى عرفات وجب عليه الكَوْنُ بها من زوال الشمس يوم التاسع إلى غروبها، ناوياً - قبل الزوال أو بعده بغير فصل تقريباً : «أقِفُ بعَرَفَةَ لوجوبه قربةً إلى اللّه».

فإذا غَرَبتِ الشمسُ أفاض إلى المشعر الحرام، ووَجَبَ عليه المَبِيتُ به بقيّة تلك الليلةِ، ناوياً: «أبيتُ بالمشعر لوجوبه قربةً إلى اللّه»، فإذا أصْبَحَ وجب عليه الكَوْنُ به إلى طلوع الشمس، ناوياً بعد الفجر أو قبله - كما مرّ: «أقفُ بالمشعر لوجوبه قربةً إلى اللّه». ولو اقْتَصَرَ على نيّة واحدةٍ حين الوصول إليه ليلاً تَشْتَمِلُ على قصد الكَوْنِ به إلى طلوع الشمس كفى.

فإذا طَلَعَتِ الشمسُ أفاض إلى مِنّى، ووجب عليه بها ثلاثة أفعال:

[1] رَمْيُ جَمْرة العقبة بسَبْعِ حَصَياتٍ حَرَميّةٍ،أبكارٍ، مُبتدِئاً به عند وصوله إلى مِنيَّ.

[2] ثمّ ذَبْحُ الهَدْي، وهو ثَنيُّ من النَعَم تامُّ الخِلقةِ سَمين بحيث يكون على كُلْيَتَيْه شَحْمٌ ولو ظنّاً، وتفريقه ثلاثة أجزاء: فيأكل شيئاً منه ويُهْدِي ثُلْثَه لبعض إخوانه من المؤمنين، وَيَتَصَدَّق بتليه على فقير من فقرائهم. ونيّة الرَمْي: «أَرْمِي هذه الجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَياتٍ لوجوبه قربةً إلى اللّه». ونيّة الذَبْحِ: «أَذْبَحُ هذا الهَدْيَ لوجوبه قُربةً إلى اللّه». ونيّة الأكل والإهداء والصدقة: «آكُلُ من هذا الهَدْي لوجوبه قُربةً إلى اللّه، أُهْدِي ثُلْثَ هذا الهَدْي لوجوبه قربةً إلى اللّه، أتَصَدَّقُ بثُلْثِ هذا الهَدْي لوجوبه قربةً إلى اللّه».

[3] فإذا فَرَغَ مِنْ ذلك حَلَقَ رأسَهُ أو قَصَّرَ مِن شَعْره أو ظفره - كما مر - ناوياً: «أخلِقُ رأسي - أو أُقَصِّرُ - لوجوبه قربةً إلى اللّه».

ص: 302

فإذا فَعَلَ ذلك أحَلَّ مِن كلّ شيءٍ عدا النساء والطيّب والصَيْدِ، فإذا طاف للحج وسَعى حَلَّ له الطِيْبُ، فإذا طافَ للنساء حَلَلْنَ له.

ثم يَخْرُجُ إلى مكّة مِنْ يومه إن أمكنه الرجوع قبل الغروب، وإلّا فمِنْ غده، أو بعد انتصاف الليل.

فإذا وَصَلَ إلى مكّة وجب عليه طوافُ الحجّ وصلاة ركعتيه ثمّ السعي بين الصفا والمروة سبعاً - كما مرّ - ثمّ طواف النساء ثمّ صلاة ركعتيه، وكيفياتها وواجباتها كما مرّ، إلّا أنّه ينوي طوافَ الحجّ وسَعْيه وطواف النساء، وصفته: «أطُوفُ طواف الحجّ لوجوبه قربةً إلى اللّه، أصلي ركعتي طوافِ الحجّ لوجوبه(1) قربةً إلى اللّه، أسعى سَعْيَ الحجّ لوجوبه قريةً إلى اللّه، أطُوفُ طواف النساء لوجوبه قربةً إلى اللّه، أُصلِّي ركعتي طوافِ النساء لوجوبه (2) قُربةً إلى اللّه».

فإذا فَرَغَ مِنْ ذلك وجب عليه الرجوع إلى مِنيَّ للمبيت بها ليالي التشريق الثلاث، وهي الحادية عشرةَ والثانية عشرة والثالثة عشرة.

ويجوز لمن اتّقى الصَّيْدَ والنساء الاقتصارُ على مَبِيتِ الليلتينِ الأُولَيَيْن ما لم تَغْرُبْ عليه الشمسُ في الليلة الثالثة، فيجب عليه مبيتها مطلقاً، ناوياً عند الغروب: «أبيتُ هذه الليلةَ بِمنى لوجوبه قربةً إلى اللّه».

ويجب رَمْيُ الجَمَرَاتِ الثلاثِ كلّ واحدةٍ بسبْعِ حَصَيَاتٍ في كلّ يومٍ يجبُ مَبِيتُ ليلته. ونيّة الرّمي: «أرْمي هذه الجمرة بسبع حصيات لوجوبه قربةً إلى اللّه».

ولو اقْتَصَرَ في جميع هذه النِيَّاتِ على قوله: «أفْعَلُ كذا للّه من غير تعرُّضٍ للوجوب ولفظِ القربة كفى. وحَسْبُنا اللّه وكفى.

والنائب عن غيره يُضِيفُ إلى ذلك: «نيابةً عن فلانٍ» أو «عمّن اسْتُؤْجِرْتُ عنه». والحمد للّه ربِّ العالمين، وصلّى اللّه على سيِّدنا محمّدٍ وآله أجمعين.

ص: 303


1- انظر ما تقدّم في ص 301، الهامش 2.
2- انظر ما تقدّم في ص 301، الهامش 2.

ص: 304

19. نيّات الحجّ والعمرة

إشارة:

تحقيق

رضا المختاري

ص: 305

ص: 306

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة على محمّدٍ وآله الطاهرين.

نيّة غسل الإحرام والإحرام

إذا عَزَمْتَ على سبيل الحجّ، وقطعت العلائق، فقِفْ على باب بيتك، وانو الحجّ والعمرة: «أتوجَّهُ إلى البيت الحرام والمشاعر العظام، لأعْتَمِرَ عُمرةَ الإسلام عمرةَ التمتّع، وأحُجَّ حجّ الإسلام حجّ التمتّع، لوجوبه قربةً إلى اللّه».

فإذا وَصَلتَ إلى الميقات، اسْتُحِبَّ أنْ تَغْتَسِلَ غُسل الإحرام، ونيّتة: «أغْتَسِلُ غُسل الإحرام لنديه قربةً إلى اللّه».

فإذا فَرَغْتَ من الغسل، فَالبَس ثوبي الإحرام، تأتزرُ بأحدهما وترتدي بالآخر، ثمّ تصلّي سنّة الإحرام استحباباً، وهي ستّ ركعات، وأقلّها ركعتان، والنيّة: «أُصَلِّي ركعتين مِن سنة الإحرام لندبه(1) قربة إلى اللّه».

ثمّ إن كان الإحرام من ميقات المدينة فليدخل مسجد الشجرة، ويُحْرِمُ بعمرة التمتّع من داخله، ونيّتة: «أُحرم بالعمرة المتمتع بها إلى الحجّ حجّ الإسلام حجّ التمتّع، والتي التلبيات الأربع لعقد هذا الإحرام، لوجوب الجميع قربة إلى اللّه».

ويُقارن بالنيّة التلبية، فيقول: «لبّيك اللّهم لبّيك لبّيك إنّ الحمد والنعمة والملك لك، لا شريك لك لبّيك».

ص: 307


1- كذا، لعلّ الصواب لندبهما، وهكذا في أمثالها من النيات. انظر ما تقدّم في الرسالة السابقة، ص 299، وما يأتي في الرسالة اللاحقة، ص 327.

ثم يتوجّه إلى مكّة مكرّراً للتلبية استحباباً، فإذا وَصَلَ إلى مكّة بدأ بالطواف حول الكعبة سبعة أشواطٍ، يبدأ بالحجر الأسود ويختم به. والنيّة مقارنة لأوّل الطواف عند محاذاة أوّل جزءٍ منه لأوّل جزءٍ من الحجر الأسود، علماً أو ظنّاً، مستقبلاً بوجهه الكعبة، أو جاعلاً لها على اليسار وصفتها: «أطوف بالبيت سبعة أشواطٍ في عمرة الإسلام عمرة التمتّع، لوجوبه قربة إلى اللّه». ويقارن بالنيّة الحركة، ويختم الشوط السابع كما بدأ أولاً بمحاذاة الحجر.

فإذا فَرَغَ من الطواف مضى إلى مقام إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وصلّى ركعتي الطواف خلفَه، أو إلى أحد جانبيه، ونيّتها: «أُصَلِّي ركعتي طواف عمرة الإسلام عمرة التمتّع أداء، لوجوبه قربة إلى اللّه».

نيّة السعي

فإذا فَرَغَ منها مضى إلى السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، يحتسب من الصفا إليه شوطين، حتّى يُكمل السبعة خاتماً بالمروة، ونيّته - وهو على الصفا-: «أسعى سبعة أشواط بين الصفا والمروة في عمرة الإسلام عمرة التمتّع لوجوبه قربة إلى اللّه».

فإذا فرغ من السعي قَصَّرَ من شعره، أو من ظفره، ونيّتة: «أُقَصِّرُ للإحلال من إحرام عمرة الإسلام عمرة التمتّع لوجوبه قربة إلى اللّه».

والتقصيرُ آخر أفعال العمرة، فإذا فعله بقى على الإحلال من كلّ ما حرّمه الإحرام إلى أن يُحرم بالحجّ يوم الثامن.

ويُستحبُّ كونه بعد أن يصلّى الظهرين ذلك اليوم، فيُخرم له من مكّة، وأفضلها المسجد الحرام، وخلاصته(1) الحجر أو المقام فينوي بعد الغسل ولبس ثوبي الإحرام وصلاة السنّة المتقدّمة: «أُحرِمُ بحج الإسلام حجّ التمتّع، وأُلبّي التلبياتِ الأربع لعقد هذا

ص: 308


1- هكذا في جميع النسخ، وأيضاً في المنسك الكبير ص 251 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل ج 18).

الإحرام، لوجوب الجميع قربةً إلى اللّه». ثمّ يلبّي مقارناً بها النيّة: «لبّيك اللّهم لبّيك لبّيك إن الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك لبّيك».

ثم يمضي إلى عرفات، فيقفُ بها يوم التاسع من الزوال إلى غروب الشمس بمعنى الكون بها، والنيّة - عند تحقّق الزوال بلا فصل : «أقفُ بعرفة إلى غروب الشمس في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ؛ لوجوبه قربة إلى اللّه».

فإذا غرَبتِ الشمسُ أفاض إلى المشعر، فإذا وَصَلَ إليه وجب عليه المَبيتُ به ناوياً عند وصوله: «أبيتُ هذه الليلة بالمشعر في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه».

نيّة الوقوف بعرفة

فإذا أصْبَحَ وجب عليه الوقوفُ به إلى طلوع الشمس بمعنى الكون به، وتجب النيّة عند تحقّق الفجر: «أقِفُ بالمشعر إلى طلوع الشمس في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللّه».

فإذا طلعتِ الشمسُ أفاض إلى مِنّى، فإذا وصل إليها وجب عليه فيها ثلاثة أفعال: رمي جمرة العقبة بسبع حصياتٍ، ثمّ ذَبْحُ الهدي، ثمّ حَلْقُ الرأس أو التقصير ونيّة الرمي: «أرمي هذه الجمرة بسبع حَصَياتٍ في حجّ الإسلام حجّ التمتّع أداءً، لوجوبه قربة إلى اللّه»، مقارناً للنيّة برمي الحصاة الأولى. ونيّة الذِّبْح: «أَذْبَحُ هذا الهدي في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللّه».

ويجب أنْ يأكل منه شيئاً، وأنْ يُهْدي ثلثه لإخوانه المؤمنين، ويتصدّق بثلثه على فقرائهم، والنيّة مقارنةً للأكل وتسليم القابض: «آكُلُ مِن لحم هَدْيي هذا في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه»؛ «أهْدَيْتُك يافلان ثُلثَ هَدْبي هذا في حجّ الإسلام حجّ التمتّع، لوجوبه قربةً إلى اللّه»؛ « أتصدَّق بثلثِ هَدْيِي هذا في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللّه».

ثمّ يَحْلِقُ رأسه، أو يُقَصِّرُ مِن شَعْره أو ظُفُرِه كما مرّ، ونيّتة مقارنة للفعل: «أحْلِقُ

ص: 309

رأسي - أو - أُقصِّرُ في حجّ الإسلام حجّ التمتّع، لوجوبه قربة إلى اللّه».

فإذا فرغ من ذلك مضى إلى مكّة للطواف والسعي، فإذا وَصَلَ إليها بدأ بطواف الحجّ، وصفته كما مرّ، ونيّتة: «أطوف بالبيت سبعة أشواطٍ في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللّه».

تم يُصَلِّي رَكعَتَيْه خلف المقام، ونيّتها: «أُصلي ركعتي طواف حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللّه».

ثم يسعى كما مر ونيّتة «أسعى سبعة أشواط بين الصفا والمروة في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللّه».

نيّة الطواف بالبيت الحرام

ثمّ يطوف طواف النساء، ونيّتة: «أطوف بالبيت طواف النساء سبعة أشواط في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللّه».

ثمّ يصلّى ركعتيه ونيّتها: «أُصلي ركعتي طواف النساء في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللّه».

فإذا فرغ من هذه الأفعال رجع إلى مِنيَّ للمبيت بها ليالي التشريق الثلاث وهي الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة. ويجوز لمن اتّقى الصيد والنساء، ولم تغرب عليه ليلة الثالثة عشرة الاقتصار على مبيت الليلتين وتجب النيّة عند الغروب أبِيتُ هذه الليلة بمنىً في حجّ الإسلام حجّ التمتّع، لوجوبه قربة إلى اللّه». ويجب رمي الحمار الثلاث في كلّ يوم يجب مبيت ليلته، يبدأ بالأُولى ثم الوسطى ثمّ جَمْرة العقبة، ونيّة الرمي: «أرْمِي هذه الجَمْرةَ بسبع حصياتٍ في حجّ الإسلام حجّ التمتّع؛ لوجوبه قربةً إلى اللّه».

فإذا فَرَغَ من أفعاله، ورجع إلى مكّة اسْتُحِبَّ له الإكثار من الطواف المندوب، ونيّتة: أطوف بالبيت سبعة أشواط، لندبه قربة إلى اللّه».

ثم يصلّي ركعتيه [ونيتهما]: «أُصلّي ركعتي الطواف لندبه قربة إلى اللّه».

ص: 310

فإذا أراد الخروج من مكّة اسْتُحِبَّ له طوافُ الوداع، ونيّتة: «أطوفُ بالبيت سبعة أشواطٍ طواف الوداع، لندبه قربة إلى اللّه». ويصلّي ركعتي طواف الوَداع، ونيّة الصلاة: «أُصلّي ركعتي طواف الوداع، لندبه قربة إلى اللّه».

وإن كان الحاجّ نائباً عن غيره، أضاف إلى هذه النيّات «نيابةً عن فلان»: فينوي في الإحرام «أُحرِمُ بالعمرة المتمتِّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ التمتّع، وأُلَبّي التلبيات الأربع لعقد هذا الإحرام نيابةً عن فلان - أو عمّن اسْتُؤْجِرتُ عنه - لوجوبه عليه بالأصالة وعليّ بالنيابة قربةً إلى اللّه». ولو اقتصر بعد قوله: «نيابةً عن فلان» على قوله: «لوجوبه قربةً إلى اللّه» كفى. واللّه الكافي، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل، والحمد للّه وحده، وصلّى اللّه على سيّدنا محمد وآله وسلّم.

ص: 311

ص: 312

20. مناسك الحجّ والعمرة

إشارة:

تحقيق

السيّد أبو الحسن المطّلبي

مراجعة

أسعد الطيّب - رضا المختاري

ص: 313

ص: 314

بسم اللّه الرحمن الرحيم

نَحْمَدكَ اللّهم يامَنْ شَرَعَ لنا مَسالك الأحكام، وشَرَحَ لنا مَناسكَ حجّ بيته الحرام ونَشْكُرُكَ على ما فَضَّلْتَنا به من فضائلِ الإكرام، وغَمَرْتَنا به مِن جَلائلِ الإنعام، ونُصلّي ونُسَلِّم على نبيّك محمَّدٍ الداعي إلى دار السلام أشْرَفِ مَنْ طاف بالبيت الحرام، وسعى بينَ الرُكن والمقام، وعلى آله المخصوصين بالتطهير من بين الأنام صلاة وسلاماً دائمين بدوام الليالي والأيّام.

وبعد، فهذه جملة ٌكافِلةٌ ببيان واجبات الحجّ والعمرة، ونبْذَةٌ مِن سُنَنِهما الفعليّة، وأذكارهما اللفظيّة، ووظائفهما القلبيّة، حاولتُ فيها بَسْطَ اللفظ وسُهولة المعنى؛ طلباً للتسهيل، ورَجاءً للثواب الجزيل.

ورَتَّبْتُها على مقدّمة ومقالتين وخاتمةٍ.

الحجّ من أركان الإسلام، وفضل الحجّ

أمّا المقدّمة فاعْلَمْ أنّ الحجّ ركن عظيم من أركان الإسلام، ومفهومه مشتهرٌ بينَ ذَوَي،الأفهام، وتعريُفه الصناعي مع عِزّة سلامتِهِ لا يَليقُ بحثه بهذا المقام، والحَثُ عليه في الكتاب والسنّة أوْضَحُ دليلاً لمَنْ فَكَّرَ في ذلك مِن العالمين، وناهيك بقوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(1). وفى الآية ضُروب من التأكيد عليه جَليّة المباني تُعْلَمُ من صناعة

ص: 315


1- آل عمران (3): 97.

المعاني. ونحوُها من السنّة المُطَهَّرة قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَنْ وَجَبَ عليه الحجّ ولم يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً»(1).

ويَكْفِيكَ في فضله مِن جهة الاعتبار أنّه جَمَعَ ضُروباً من العبادات كالصلاة، وبَذْلِ المال المضاهِي لِلزَّكَواتِ والأخْماسِ والكفارات، والصوم - على بعض الوجوه - والتعرُّض للجهاد كذلك، مع اشتماله على أنواعِ المَشاق والأهوال، والتغرير بالنفس والمال، ومفارَقَةِ الأهل والولد والوطن والبلد إلى غير ذلك من المزايا، ومن هنا وَرَدَ فيه من الثواب الجزيل ما قد تَظافَرَتْ به الأخبارُ عن النبيّ وآله الأطهارِ (صَلَواتُ اللّه عليهم). فعن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَنْ حجّ ولم يَرْفُتْ ولم يَفْسُقُ خَرَجَ مِن ذُنوبه كيومٍ وَلَدَتْه أُمُّه» (2).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «الحُجّاج والعمّار وَفْدُ اللّه وزُوّاره إنْ سَألوه أَعْطاهم وإنِ اسْتَغْفَرُوه غَفَرَ لهم، وإنْ دَعوه استجاب لهم وإنْ شَفَعوا إليه شَفَّعَهم»(3).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «حجّة مبرورة خيرٌ من الدنيا وما فيها، وحجّةٌ مَبرورةٌ ليس لها أجْرٌ إلّا الجنة»(4).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما رُئي الشيطانُ في يومٍ هو [فيه] أصْغَرُ ولا أَدْحَرُ ولا أحقرُ ولا أغْيَظُ منه يومَ عَرَفةَ، وذلك لما يرى فيه مِن نُزول الرحمة وتجاوز اللّه عن الذنوب العظام»(5).

ص: 316


1- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 285 لب اللباب كما رواه عنه في مستدرك الوسائل، ج 8، ص 18 - 19، ح 8956، باب ثبوت الكفر والارتداد بترك الحجّ وتسويفه استخفافاً أو جحوداً، ح 5؛ عوالي اللآلي، ج 1، ص 87 ح 18، مع اختلافٍ.
2- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 286.
3- إحياء علوم الدین، ج 1، ص 287.
4- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 287 وفيه: «جزاء» بدل «أجر».
5- موطأ مالك، ج 1، ص 282، كتاب الحجّ، ح 261: إحياء علوم الدين، ج 1، ص 286.

المستحبّات لمن أراد الحجّ

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إذا تَوَجَّهْتَ إلى سبيل الحجّ ثُمَّ رَكِبْتَ راحِلتك وقلت: بسم اللّه الرحمن الرحيم ومَضَتْ بك راحلتك لم تَضَعْ راحِلتُك خُفّاً وتَرْفَعْ خُفّاً إِلَّا كَتَبَ اللّه لك حسنةً، ومحا عنك سيّئةً، فإذا أحْرَمْتَ ولبَّيتَ كتب اللّه لك بكلِّ تلبية عَشْرَ حَسناتٍ، ومحا عنك عَشْرَ سِيِّئاتٍ. فإذا طفت بالبيت أُسبوعاً كان لك بذلك عند اللّه عَهْدٌ وذِكْرٌ يَسْتَحْيِي أَنْ يُعذِّبَك بعده. فإذا صَلَّيْتَ عندَ المَقام ركعتينِ كَتَبَ اللّه لك بهما ألفي ركعةٍ مقبولةٍ. فإذا سَعَيْتَ بين الصفا والمروة سبعة أشواط، كان لك بذلك عند اللّه عزّ وجلّ مثلُ أجرٍ مَنْ حجّ ماشياً من بلاده، ومثلُ أجرٍ مَنْ أعْتَقَ سبعينَ رقبةً مؤمنةً. فَإِذَا وَقَفْتَ بعرفات إلى غروب الشمس فلو كان عليك من الذنوب مثلُ رَمْلِ عالِج وزَبَدِ البحر لَغَفَرها اللّه لك. فإذا رَمَيْتَ الجِمارَ كَتَبَ اللّه لك بكلِّ حَصاةٍ عَشْرَ حسناتِ. فَإِذَا ذَبَحْتَ هَديَك كَتَبَ اللّه لك بكلِّ قطرةٍ مِن دَمها حَسَنةً. فإذا طُفْتَ بالبيت للزيارة أُسبوعاً وصَلَّيْتَ عندَ المقام ركعتينِ ضَرَبَ مَلَكٌ كريمٌ بينَ كَتِفَيْك، - وقال: - أما وامض فقد غَفَرَ اللّه لك»(1).

وعن مولانا الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ حجّ هذا البيتَ بنيّةٍ صادقةٍ جَعَلَهُ اللّه في الرفيق الأعلى مع «النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا»(2).

وغير ذلك من الأحاديث(3).

ويُستحبُّ لمن أراد الحجّ قَطْعُ العلائق بينه وبين مُعامِليه، وإيصال كلّ ذي حق حقه، واختيارُ يوم صالحٍ للسفر كالسَبْتِ والثلاثاء ورفيق صالحٍ، وتحسينُ الخُلُقِ زيادةً على

ص: 317


1- الفقيه، ج 2، ص 203، ح 2140؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 20 - 21، ح 57، مع اختلاف في الألفاظ، والجملة الأخيرة في الفقيه، هكذا: «أمّا ما مضى فقد غُفِرَ لك، فاستأنف العمل فيما بينك وبين عشرين ومائة يوم». وما أثبتناه مطابق للنسخ.
2- الفقيه، ج 2، ص 236، ح 2289، والقسم الأخير من الحديث الشريف اقتباس من الآية 69 من النساء (4).
3- انظر وسائل الشيعة، ج 11، ص 7 - 16، أبواب وجوب الحجّ وشرائطه الباب 1: بحار الأنوار، ج 99، ص 2 - 26، باب وجوب الحجّ وفضله وعقاب تركه.

الحَضَر، والتَوَسُّعُ في الزاد، وطيبُ النَّفْسِ في البذل والإنفاق بالعَدلِ دونَ البُخْل والتقتير والتبذير؛ فإنّ بَذْلَ الزادِ في طريق مكّة إنفاق في سبيل اللّه. قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «الحجّ المبرور ليس له أجرُ إلَّا الجنّةَ. فقيل : يا رسول اللّه ما برّ الحجّ ؟ قال: طيبُ الكلام وإطعامُ الطعام»(1).

وعن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): درهمٌ واحدٌ في الحجّ أفضلُ مِن ألفي ألف درهم فيما سِواه في سبيل اللّه، والهديّهُ من نفقة الحجّ»(2).

فإذا عَزَمَ على الخروج صَلّى في منزله ركعتين؛ فإنّهما أفضلُ ما اسْتَخْلَفَه الرجلُ على أهله، ويقول بعدهما: «اللّهمَّ إنِّي أسْتَوْدِعُكَ نَفْسي وأهلي ومالي وذُرِّيتي ودنياي وآخرتي وأمانتي وخاتمة عملي»، فيُعطيه اللّه ما يَسْأَلُ، كما ورد في الخبر (3).

ويَفْتَتِحُ سفره بالصدقة، ثم يقومُ على باب داره ويقرأ فاتحة الكتاب وآية الكرسي أمامه الذي يتوجّه نحوه وعن يمينه وشماله، ويَدعو بكلمات الفرج مُضيفاً إليها : «اللّهم احْفَظْنى واحْفَظْ ما معي، وسَلِّمْني وسَلّمْ ما معي، وبلِّغني وبلِّغ ما معي ببلاغك الحَسَنِ الجميل (4) ، والحمد للّه رب العالمين - ثم يقول: - اللّهمَّ كُنْ لي جاراً مِنْ كلّ جبّارٍ عنيدٍ، ومِنْ كلّ شيطانٍ مريدٍ - ثمّ يقول: - باسم اللّه دَخَلْتُ، وباسم اللّه خَرَجْتُ،

ص: 318


1- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 311.
2- مجموعة الجباعي، الورقة 71ب؛ بحار الأنوار، ج 99، ص 15، ح 47 وفيهما: «وروي: درهماً [كذا] في الحجّ أفضل من ألفي ألف درهم فيما سواه في سبيل اللّه، والحاج على نور الحجّ ما لم يلم بذنب، وهدية الحجّ من نفقة الحجّ».
3- الكافي، ج 4، ص 283، باب القول عند الخروج من بيته وفضل الصدقة، ح1 الفقيه، ج 2، ص 271، ح 2415: تهذيب الأحكام، ج 5، ص 49، ح 152.
4- الكافي، ج 4، ص 284، باب القول إذا خرج الرجل من بيته، ح 1: الفقيه، ج 2، ص 271، ح 2416؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 49 - 50، ح 153.

وفى سبيل اللّه تَوَجَّهْتُ، اللّهم إنّي أُقَدِّمُ بين يدي نشياني وعَجَلتي باسم اللّه وما شاء اللّه في سفري هذا ذكرتُه أو نَسِيتُهُ، اللّهم أنت المُسْتَعانُ على الأُمور كُلّها. وأنتَ الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللّهمَّ هَوِّنْ علينا سَفَرَنا، واطو لنا الأرضَ، وسَيِّرْنا فيها بطاعتك وطاعة رسولك، اللّهم أصْلِحْ لنا ظَهْرَنا، وبارك لنا فيما رَزَقْتَنا وقنا عذاب النار، اللّهمَّ إنِّي أعوذُ بك مِنْ وَعْناء السفر وكَآبة المنْقَلب وسوءِ المنْظَر فى الأهل والمال والولد، اللّهمّ أنت عَضُدي وناصري، بك أحُلُّ وبك أسِيرُ، اللّهمّ إنّي أسألك في سفري هذا السرور والعمل بما يُرْضِيك عنِّي، اللّهمَّ اقْطَعْ عنِّي بُعدَه ومَشَقَّتَه، واصْحَبْني فيه، واخْلُفْنِي في أهلي بخير، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه. اللّهم إنّي عبدك، وهذا حُمْلانك(1)، والوجه وجهك، والسفر إليك، وقد اطَّلَعْتَ على ما لم يَطَّلع عليه أحدٌ غيرُك، فاجْعَلْ سَفَري هذا كفارةً لِما قَبْلَه مِنْ ذنوبي، وكُنْ عوناً لي عليه، واكفني وَعْتَه ومَشَقَّتَه ولَقَنِّي مِنَ القول والعمل رضاك؛ فإنّما أنا عبدك وبك ولَك» (2).

ص: 319


1- الحُمْلان: ما تُحمل عليه الهدايا من الدوابّ. المعجم الوسيط، ص 199، «حمل».
2- الكافي، ج 4، ص 284 - 285، باب القول إذا خرج الرجل من بيته، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 50 - 51 ح 154. وفيه: «في سبيل اللّه جاهدت» بدل «في سبيل اللّه توجهتُ»: قال الفيض الكاشاني (رحمه اللّه) في الوافي، ج 12، ص 365 في توضيح الدعاء: «الجار الذي يؤمن من أخافه... والمُريد المبالغ في العصيان والعتوّ. دخلت أي في السفر أو هذه العبادة خرجت أي من بيتي، أو مما كنت فيه، وفي سبيل اللّه أي توجّهت أو دخلت وخرجت وهو عطف على بسم اللّه. إنّي أقدم أي أقول هاتين الكلمتين في أول أمري وابتداء سفري لكلّ أمرٍ عَرَضَ لي في تمام هذا السفر مما ينبغي أن أقولهما عنده... بين يدي نسياني وعجلتي أي قبل أن أنساهما أو أعجل عنهما، أو أنسى شيئاً أو أعجل عن شيء، أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل هاتان الصفتان ممّا لا يجتمعان في واحد سوى اللّه جَلَّتْ كبرياؤه... واطو اقطع وقرب، ظهرنا ما نركبه من البعير وغيره، والظهر يقال لما غلظ من الأرض أيضاً، وعثاء السفر: مشقته. كآبة المنقلب الرجوع من السفر بالغم والحزن والانكسار، بك أحلُّ بضم الحاء من الحلول أي أحلُّ بالمنزل وهو في مقابلة أسير. والحملان بالضمّ: ما يُحْمَلُ عليه من الدواب. والوجه وجهك أي الجهة التي أتوجه إليها إنما هي جهتك وفي معناه: والسفر إليك. والوعث: الطريق العسر...».

ثم ينوي: «أتوجَّهُ إلى البيت الحرام والمشاعر العظام لأعْتَمِر عمرة الإسلام عمرة التمتّع وأحُجَّ حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه».

وليَخْرُج مُتَحَنِّكاً لِيَرْجِعَ إلى أهله سالِماً متطهِّراً لِتُقضى حاجته، فإذا وَضَعَ رِجلَه في الركاب فليَقُلْ: «بسم اللّه الرحمن الرحيم باسم اللّه واللّه أكبر». فإذا استوى على راحلته فليَقُلْ:

الحمد للّه الذي هدانا للإسلام، ومَنَّ علينا،بمحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، سُبْحانَ اللّه: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ»(1) والحمد للّه ربِّ العالمين، اللّهم أنت الحامل على الظهر، والمُسْتَعانُ على الأمر، اللّهم بلغنا بلاغاً يُبَلِّغُ إلى خير، بلاغاً يُبَلِّغُ إلى مغفرتِك ورضوانك اللّهم لا طير إلّا طيرُكَ، لا خير إلّا خيرك، ولا حافظ غيرُك (2).

وينبغي أَنْ يَخْرُج رَبثَ(3) إشارة إلى حديث مروي في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 312؛ وفي المعجم الوسيط، ص 85، «تفث»: تفثَ يَتْفَثُ تَفَثَّاً: تَرَكَ الادّهان والحلق فَعَلاه الوَسَحُ والغُبار، فهو تفث. التفث : ما يُصيب المحرم بالحج من ترك الادّهان والغَسل والحَلْق؛ وإزالته من مناسك الحجّ. §ُ. يَقُولُ اللّه لملائكته: «أنظروا إلى زُوّار بَيْتِي قد جاؤوني شُعْثاً غُبراً «مِن كلّ فَجٍّ عَمِيقٍ»(4) أَشْهِدُكم أنّي قد غَفَرْتُ لهم»(5).

وأنْ يَرْكَبَ الراحلة دونَ المَحْمِلِ إلّا لِعذرٍ؛ تأسياً بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فإنّه حجّ على راحلته وكان تحتَه رَحْلٌ رثُّ وقَطِيفةٌ خَلِقَةٌ قيمته أربعه دراهم، وطاف على الراحلةِ لِيَنْظُرَ

ص: 320


1- اقتباس من الآيتين 13 - 14 من الزخرف (43).
2- الكافي، ج 4، ص 284 - 285، باب القول إذا خرج الرجل من بيته، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 50 - 51، ح 154.
3- فلان رَثُّ الهيئة، وفي هيئته رثاثة، أي بذادة. الصحاح، ج 1، ص 282 - 283، «رثث». §ّ الهيئةِ أَقْرَبَ إلى الشَعَثِ مُلازماً ذلك في السفر، فخيرُ الحاجّ الشعِثُ التَفِث
4- الحجّ (22): 27.
5- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 312، وليس فيه قوله: «أُشهدكم أنّي قد غفرتُ لهم».

الناس، وقال: «خُذُوا عني مناسكَكُم»(1).

وأنْ يَمْشِي مع القدرة؛ فإنّ ذلك أفْضَلُ وأدْخَلُ في الإذعانِ لعبوديّة اللّه تعالى، اللّهمَّ إِلَّا أَنْ يُنافِيَ ما هو أفضلُ منه.

وأنْ يَرْفُق بالدابَّة ولا يُحملها ما لا تُطِيقُ، وأنْ يَنْزِلَ عنها غُدْوَةً وَعَشِيَّةٌ.

وأنْ يُصَلِّيَ في كلّ منزلٍ ركعتين عند النزول والارتحال.

وأنْ يقول عند مشاهدة المنازل والقُرى: اللّهمَّ ربَّ السماء وما أظَلَّتْ، وربَّ الأرض وما أقلَّتْ وربَّ الرياح وما ذَرَتْ، وربَّ الأنهار وما جَرَتْ، عرّفنا خير هذه القرية وخير أهلها، وأعِذْنا مِن شرِّها وشرِّ أهلها، إنك على كلّ شيءٍ قدير(2).

وأنْ يكونَ طَيِّبَ النفس بما يُنْفِقُه وبما يُصِيبُهُ مُتَعَوِّضاً عنه بما عند اللّه، فإنّ ذلك من علامة قبول الحجّ.

إحضار القلب في حركاته وسكناته

وأنْ يُحْضِرَ قلبه في حركاته وسكناته؛ فإنّه روح العبادة فيَتَبَيَّنُ له بذلك أنّ هذا السفر مثال لسفر الآخرة ؛ فيَتَذَكَّرُ بوصيّته قبل السفر وجَمْعِ أهلِهِ اجتماعهم على وصيّته عند إشرافه على لقاء اللّه تعالى؛ وبتهيئته الزاد والراحلةَ وملاحظة الاحتياج إليهما والتعرُّض للهلاك عند التقصير فيهما - مع قصرِ هذا السفر - شدَّة احتياجه إلى ذلك في سفر الآخرة، وَتَعرُّضَه - بل وقوعه في الهلاك - عند التقصير في زاده من الأعمال الصالحة والتوجُّهات المُخْلِصة الناجحة؛ وبذِلَّتِهِ وانكساره - عند مشاهَدَةِ ذَوِي الأخطار العظيمة والثروة الجسيمة مع نُفودِ زاده ونفوق راحلته - ما يَلْقاه المُقَصِّرُ مِن الذُّلّ والانكسار حين تجتمع الخلائق ببضائع(3) الآخرة والمتاجِرِ الفاخرة، وهو مُفْلِسٌ مِن

ص: 321


1- إحياء علوم الدین، ج 1، ص 312.
2- المحاسن، ج 2 ص 124، ح 145/1346: بحار الأنوار، ج 76، ص 248 - 249، ح 43، وفيهما: «السماوات السبع»، و«الأرضين السبع»، بدل «السماء» و«الأرض».
3- البضاعة: ما يُتَّجَرُ فيه، الجمع: بضائع. المعجم الوسيط، ص 60، «بضع».

الأعمال مُضَيِّعٌ نفسَه بسابق الإهمال، إلى غير ذلك من التنبيهات إلى آخر الأفعال، وستأتي جملةٌ منها في الخاتمة إن شاء اللّه تعالى.

وقاعدةُ ذلك كلّه ومرجعُه إلى ما روي عن مولانا الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «إذا أردتَ الحجّ فجرِّد قلبك للّه تعالى من كلّ شاغل وحجاب كلّ حاجب؛ وفَوِّضُ أُمورَك كلها إلى خالقك؛ وتوكَّلْ عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك؛ وسَلّمْ لقضائه وحُكْمه وقَدَرِه؛ وودّع الدنيا والراحة والخَلْقَ؛ واخْرُجْ مِن حقوق تَلْزَمُكَ مِن جهة المخلوقين؛ ولا تَعْتَمِد على زادك وراحلتك وأصحابك وقُوَّتِك وشبابك ومالك، مخافة أَنْ يَصِيرَ ذلك (1) عَدُوّاً ووبالاً، فإنّ مَنْ ادَّعى رِضى اللّه واعْتَمَدَ على ما سواه صَيَّرَه عليه وبالاً وعدُوّاً، ليعلم أنه ليس له قوّةً ولا حيلة، ولا لأحدٍ إلّا بعصمة اللّه تعالى وتوفيقه؛ واسْتَعِدَّ استعدادَ مَنْ لا يَرجو الرجوع؛ وأحْسِنِ الصُحْبة؛ وراعٍ أوقات فرائض اللّه وسُنَنِ نبيّه، وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفَقَةِ والسخاء وإيثار الزادِ على دوام الأوقاتِ؛ ثمّ اغْسِلْ بماء التوبة الخالصة ذُنوبك: والْبَش كسوة(2) الصدق والصفاء والخضوع والخشوع؛ وأحْرِم من كلّ شيءٍ يَمْنَعُك عن ذكر اللّه تعالى ويَحْجُبُك عن طاعته؛ ولَبِّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية للّه (عزّ وجلّ) في دعوتك مُتَمَسِّكاً بالعروة الوثقى؛ وطُفْ بقلبك مع الملائكة حولَ العرش كطوافك الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت؛ وهَرْوِلْ هَرولةً مِن هَواك وتبرؤاً مِن حولك وقوتك، واخْرُجْ مِنْ غَفْلَتِك وزَلّاتِك بخروجك إلى مِنِّي، ولا تَتَمَنَّ ما لا يَحِلُّ لك ولا تَسْتَحِقُه؛ واعترف بالخطايا بعرفات؛ وجَدِّدْ عهدَك عند اللّه تعالى بوحدانيته وتقرَّبْ إليه واتَّقِه بمُزْدَلِفَة؛ واصْعَدْ بروحك إلى الملإ الأعلى بصعودك إلى الجبل، واذْبَحِ الهوى والطمع عند الذبيحة؛ وَارمِ الشهواتِ والخَساسة والدناءة والذميمة عندَ رَمْي الجَمَراتِ واحْلَقِ العيوبَ الظاهرة

ص: 322


1- في المصدر: «أنْ يَصير وا لك عدوّاً».
2- الكسوَة : الثوب يُسْتَتَرُ به ويُتَحَلّى. المعجم الوسيط، ص 788، «كسو».

والباطنةَ بِحَلْقٍ شَعْرِك؛ وادخُلْ في أمان اللّه تعالى وكَنَفَه وسَتْرِه وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم؛ ودر حولَ البيت مُتَحققاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه؛ واسْتَلِمِ الحَجَرَ رضى بقسمته وخضوعاً لعزَّته؛ ووَدِّعْ ماسواه بطواف الوداع، وأصْفِ روحك وسِرَّك للقائه يومَ تَلْقاه بوقوفك على الصفاء وكُنْ بِمَرأى من اللّه عند المَروة؛ واسْتَقِمْ على شرط حجّك هذا ووفاء عهدك الذي عاهَدتَ مع ربِّك، وأوْجَبْتَه له إلى يوم القيامة.

واعلم بأنّ اللّه تعالى لم يفترض الحجّ ولم يَخُصَّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله (عزّ وجلّ): «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(1) إلّا للاستعانة على الموت والقبر والبَعْثِ والقيامة والجنّة والنار بمشاهَدَة(2) مَناسِكِ الحجّ مِن أوَّلها إلى آخرها، وفي ذلك عبرة لأولي الألباب والنهى»(3). انتهى.

أنواع الحجّ

ولْنَشْرَعِ الآن في الأحكام الشرعيّة:

فاعلم أنّ الحجّ ثلاثة أنواع: تمتَّع وقران وإفراد، فالتمتّع فَرْضُ مَنْ نأى عن مكّة بثمانية وأربعين ميلاً، والآخرانِ فَرْضُ حاضريها ومن في حكمهم والفرق بينها أنّ التمتّع تقدّم فيه العمرةُ على الحجّ، وليس في عُمرته طواف النساء بخلافهما، ويَخْتَصَّانِ عنه أيضاً بجواز تقديم طواف الحجّ على الخروج إلى عرفة لغير عذر والفرق بينهما - مع اشتراكهما في تلك الأحكام - انحصارُ عقدِ إحرام الإفراد في التلبية، والتخيير في القرآن بينهما وبَيْنَ سياق الهَدْي.

إذا تقرّر ذلك فأفعالُ عُمْرة التمتّع سبعةٌ: الإحرام والتلبية ولبس ثوبي الإحرام والطوافُ وركعتاه والسعيُ والتقصيرُ.

ص: 323


1- آل عمران (3): 97.
2- في بعض النسخ «بشاهد»، وفي بعضها: «لشاهد»، وفي بعضها: «بشهادة».
3- مصباح الشريعة، ص 142 - 150 : بحار الأنوار، ج 99، ص 124 - 125، ح 1.

وأفعالُ عُمرة الإفراد جميع ذلك مع طواف النساء بعد التقصير ورَكْعَتَيْه.

وأفعالُ الحجّ بأنواعه سِتَّةَ عَشَرَ الإحرام والتلبية واللبسُ والوقوف بعرفة والمبيتُ بالمشعر والوقوفُ به ورَمْيُ جَمْرة العَقَبَةِ والذَبْحُ والحَلْقُ والتقصيرُ وطَوافُ الحجّ وركعتاه والسعي وطواف النساء وركعتاه والمبيتُ بِمَنِّى ليالي التشريق ورَمْيُ الجَمَراتِ الثلاث.

والأركانُ من ذلك أَحَدَ عَشَرَ : الإحرامانِ والتلبيتان والطوافان والسعيان والوقوفانِ والترتيب بين الأفعال، والمراد بالركن هنا ما يَبْطُلُ الحجّ بتركه عمداً لا سهواً، إلّا أن يكون الفائتُ الوقوفين فيبطل وإن كان سهواً، ولا يَبْطُلُ بقوات باقي الأفعال وإن كان عمداً.

ص: 324

المقالةُ الأُولى في أفعال عمرة التمتّع

إشارة:

وفيها فصولٌ:

1 – الإحرام

الأوّل: الإحرام وتوابعه، وهو توطين النفس على تَرْكِ أُمورٍ مخصوصةٍ إلى أنْ يأتي بالمُحَلِّل، وسيأتي تفصيله. وتلك التروك منها ما يَشْتَرِكُ بينَ الذَّكَرِ وغيره وهو سِنَّةَ عَشَرَ: صَيْدُ البَرِّ المُحَلَّل المُمْتَنِع بالأصالة وسِتَّةٍ مِن المُحرَّم: الأسد والثَعْلَبِ والأرْنَبِ والضَبّ والیربوع والقُنْفُذ، اصطياداً وأكلاً وذَبْحاً ودلالةً وإغلاقاً، مباشَرَةً وتسبيباً ولو بإعارة الآلة، والاستمتاعُ بالجِماع ومقدِّماته حتّى العقد، والطيبُ بأنواعه شمّاً وسُعُوطاً واطّلاءً وكَحْلاً وصَبْغاً وغيرها، والاكتحال بالسواد، والادهانُ مطلقاً، وإخْراج الدم، وقلمُ الأظفار، وإزالةُ الشعر، وقطعُ الحشيش والشجر النابِتَيْنِ في الحرمِ إِلَّا الإِذْخِرَ والمَحالة وعُودَيْها وشجرَ الفواكه والنابت في ملكه والكَذِبُ مطلقاً، والجدال وهو الخَلْفُ مطلقاً، ولُبْسُ الخاتم، والحِنّاء للزينة لا للسنَّة - فيهما - والفارقُ القصد، ولُبْسُ السلاح اختياراً، وقتل هوام الجَسَدِ كالقَمْل، والنظرُ في المرآة.

ومنها ما يَخْتَصُّ بالرجل، وهو لُبْسُ المَخِيط وإنْ قَلَّتِ [الخياطة] عدا المِنْطَقَةِ والهمْيانِ، ويَلْحَقُ به الزِرُّ والخِلالُ وما أحاط بالبدن من اللبد والدرع المنسوج وغيرهما مما أشبه المخيط، والتظليلُ سائراً اختياراً ولا يَحْرُمُ المشي في ظلِّ المَحْمِل ولا المرورُ تحتَ الظَّلِّ، وتَغطية الرأس ولو بالارتماس. وفي اختصاصه بتحريم سَتْر ظَهْر القَدَمِ بالخُفّ ونحوه أو عموم التحريم قولان(1) أقربهما الأوّل.

ص: 325


1- مختلف الشيعة، ج 4، ص 105 - 107، المسألة 67.

ومنها ما يَخْتَصُّ بالمرأة، وهو تغطية الوجه إلّا القدر الذي يتوقّف عليه تغطية الرأس فيَحْرُمُ عليها النقاب ونحوه، ويجوز لها أنْ تَسْدُلَ قِناعَها بحيث لا يُصيب وجهَها، ولُبْسُ ما لم تَعْتَدُه مِن الحَلْي وما اعتادته بقصد الزينة لا بدونها، لكنْ يَحْرُمُ عليها إظهاره للزوج. والخُنثى المُشكِلُ في ذلك كالرَجُل إلّا في كَشفِ الرأسِ فيَتَخَيَّرُ بينه وبين كشف الوجه.

ويُشْتَرَطُ في الإحرام إيقاعه في أحد المواقيت التي وَقَتَها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وهي مسجد الشجرة لأهل المدينة ومن اجتاز بها، والجُحْفَةُ لأهل المصر والشام إنْ مَروا بها، ويَلَمْلَمُ لأهل اليمنِ، وقَرْنُ المنازل لأهل الطائف والعَقِيقُ لأهل العراق وهو المَسْلَخُ وذاتُ عِرْقٍ وما بينهما، وأفضله أوّله. ومَنْ كان منزله دون الميقات فميقاته منزله، ولو سَلَكَ طريقاً لا يَمُرُّ بميقاتٍ أَحْرَمَ، أَحْرَمَ عند محاذاة الميقات ولو ظنّاً، ولا فرق في ذلك بين البَرِّ والبحر.

وهذه المواقيتُ لحجّ القرآنِ والإفراد ولعمرة التمتّع وللمفردة إذا مَرَّ عليها. ولو كان بمكة خرج لها إلى أدنى الحِلِّ. وميقات حجّ التمتّع اختياراً مكّة، وأفضلها المسجد وأفضله المَقامُ أو تحت المِيزاب.

ويُشتَرَطُ أيضاً في غير عمرة الإفراد وقوعه في أشهر الحجّ وهي شوّال وذو القعدة وذو الحِجَّةِ.

ويُسْتَحَبُّ قبل الإحرام تَوْفِيرُ شَعْرِ الرأس من أوَّل ذي القعدة، ويَتَأكَّدُ عندَ هِلال ذي الحجّة، واستكمال التنظيف عنده بإزالة شعر الإبط(1) والعانِة بالحَلْقِ - وأفَضْلُ منه الاطّلاءُ(2) وإنْ كان مُطَّلِباً قبل ذلك، ما لم يَقْصُرْ وقته عن خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً فلا يتأكد الاستحباب - وقصِّ الأظفار وإزالةِ الشَعَثِ، والغُسْلُ على الأقوى، ويُجزِئُ غُسلُ النهارِ

ص: 326


1- الإبْطُ باطن المَنْكِب لسان العرب، ج 7، ص 253، «أبط».
2- إطّلى بكذا: ادَّهَنَ به. المعجم الوسيط، ص 565، «طلي».

ليومه والليل لليلته ما لم ينم أو يُحْدِث أو يَأكُل أو يَتَطيِّب أو يَلْبَش ما يَحْرُم على المُحْرِم فيُعيده. ولو تَعَذَّرَ الغُسْلُ تَيَمَّمَ. ولو خافَ عَوْزُ الماء في الميقات قَدَّمَه في أقرب أوقات الإمكان إليه، ثمّ يَلْبَسُ ثوبي الإحرام، وسيأتي بيانهما، ثم يُصلّي سُنةَ الإحرام وهي ستُّ ركعات أو أربعٌ أو ركعتان، ثمّ يُصلِّي الفريضة الحاضرة إنْ كانَتْ وأفضلها الظهر، وإلّا قضى فريضةً. ونيّة الغُسل: «أغْتَسِلُ غُسل الإحرام لندبه قربةً إلى اللّه». ونيّة السنّة : «أُصلي ركعتين مِنْ سُنّة الإحرام لنَدْبهما قربةً إلى اللّه».

وينبغي النيّة عند نزع المخيط ولُبس الثوبين، وليستْ شرطاً في الصحّة وإن توقَّفَ عليها الثوابُ، فينوي: «أنزعُ المَخيط لوجوبه قربةً إلى اللّه، ألْبَسُ تَوْبَي الإحرام لوجوبه قربةً إلى اللّه».

ونيّة الإحرام بالعمرة: «أُحرِمُ بالعمرة المُتَمَتَّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ التمتّع، وأُلَبِّي التلبياتِ الأربع لعقد هذا الإحرام لوجوب الجميع قربةً إلى اللّه». ويُقارِنُ بها التلبية وهي «لبّيك اللّهمَّ لبّيك، لبّيك، إنّ الحمد والنِعْمَةَ والمُلك لك، لا شريك لك لبّيك». ولَمّا كانت النيّة هي القصد إلى الفعل المعيَّن المتَّصِفِ بالأوصاف المذكورة فلابدّ من معرفة المكلّف بمعانيها ليتحقّق القصدُ إليها. فمعنى أُحْرِمُ أي أُوطِّنُ نفسي على ترك الأُمور المذكورة سابقاً.

والعُمرة لغةً: الزيارة، وشرعاً: زيارة البيت مع أداء مناسك مخصوصةٍ، وتُطلقُ على مجموع تلك المناسك. وخَرَجَ ب«العمرة»(1) الحجّ والمتمتّع بها إلى الحجّ أي التي يَتَخَلَّلُ بينها وبين الحجّ راحةً وتحلل مُسْتَمِرُّ من الفراغ منها إلى أنْ يَشْتَغِل بالحجِّ، وبهذا القيد تَتَمَيَّز عن العمرة المفردة؛ فإنّها تقع بعد الحجّ أو(2) غيرَ مُرْتَبِطةٍ به، وبقيد «الإسلام»

ص: 327


1- في نيّة الإحرام بالعمرة.
2- في بعض النسخ: «إذ» بدل «أو».

تخرج العمرة المتمتَّع بها إلى حجّ النذر وشبهه، ولوجوب الجميع إشارةٌ إلى الوجه الذي يقع عليه الفعلُ وبه يَمْتاز عن المندوب و «قربةً إلى اللّه» إشارة إلى غاية الفعل المتعبَّدِ.به والمرادُ بالقربة إليه سبحانه موافقةُ إرادته والتقرُّبُ إلى رضاه تعالى لا القربُ المكاني والزماني، لتنزُّهِه تعالى عنهما. وأُوثِرُ هذه الصيغةَ لورودها كثيراً في الكتاب والسنّة، ولو اقْتَصَرَ على جَعْلها للّه تعالى كفى.

ويُعتبر في التلبية مقارنتها للنيّة كتكبيرة الإحرام بالنسبة إلى نيّة الصلاة، وترتيبُها على الوجه المذكور، وموالاتُها وإعرابُها.

ومعنى لبّيك: «إجابةً بعد إجابة لك ياربِّ» أو «إخلاصاً بعد إخلاصٍ» أو «إقامةً على طاعتك بعد إقامة». ومعنى اللّهم : «يا اللّه». ويجوز كسر «إنّ» في قوله: «إن الحمد» وفتحها، والأوّل أجود(1). وقد ورد في الخبر أنّ هذه التلبية جوابٌ للنداء المذكور في قوله تعالى: «وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» (2) حيث صَعِدَ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أبا قُبَيْسٍ ونادى بالحجِّ(3). وفي «لا شريك لك» إرغامٌ لأنوف الجاهليّة الذين كانوا يُشْرِكونَ الأصنام والأوثان بالتلبية، وفي تكرارها بَعْثُ للقلب على الإقبال على خالص الأعمال وتلافٍ لِما - لعلّه -وقع من الإخلال بوظائف عبوديّة المَلِك المتعال كتكرار الركعات والتسبيحات والتكبيرات وغيرها من الأفعال.

ويُسْتَحَبُّ الإكثارُ منها ومن باقي التلبياتِ المستحبَّةِ خصوصاً «لبّيك ذا المعارِج، لبّيك» فقد كان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) يُكْثِرُ منها، ومن المستحبة: «لبّيك ذا المعارج إلى دار السلام، لبّيك لبّيك غفّار الذنوبِ، لبّيك لبّيك أهلَ التلبية، لبّيك لبّيك ذا الجَلالِ والإكرام، لبّيك

ص: 328


1- انظر وجهه في تذكرة الفقهاء، ج 7، ص 263، المسألة 198.
2- الحجّ (22): 27.
3- بحار الأنوار، ج 99، ص188، ح 23، نقلاً عن تفسير العياشي، ولم يوجد فيه وانظر الفقيه، ج 2، ص 232، ح 2284.

لبّيك تُبْدِئُ والمعاد إليك. لبّيك لبّيك تَسْتَغْني ويُفْتَقَرُ إليك، لبّيك لبّيك مَرهوباً ومرغوباً إليك، لبّيك لبّيك إله الحقِّ، لبّيك لبّيك ذا النغماء وذا الفَضْلِ الحَسَنِ الجَميل، لبّيك لبّيك كَشَافَ الكُرَبِ العِظامِ، لبّيك لبّيك عبدك وابن عبديك، لبّيك لبّيك أَتَقَرَّبُ إِليك بمحمّدٍ وآل محمّد (صلى اللّه عليهم) لبّيك لبّيك ياكريمُ لبّيك، لبّيك بالعمرة المتمتَّع بها إلى الحجّ لبّيك»(1).

ولو كان لإحرام الحجّ قال بَدَلَ «بالعمرة»: «بالحج» إلى آخر مميزاته.

ويُشْتَرطُ في الثوبينِ صحّة الصلاة فيهما اختياراً، فلا يُجْزِئ النَّجِسُ ولا الحريرُ المخضُ ولا جِلدُ غير المأكول، ولا الرقيق الذي يحكي العورة ولْيَأْتَزِرُ بأحدهما ويرتد بالآخر بأنْ يُغَطِّيَ به مِنْكَبَيْهِ أو يَتَوشّح به بأنْ يُغَطِّيَ [به] أحدهما. (ولو تَأدّتِ الوظيفتانِ بثوب طويل أجزأ عنهما)(2). ويَجوزُ عَقدُ الإزارِ دون الرداء، والزيادةُ عليهما للحاجة، وإبدالهما.

ويُسْتَحَبُّ الطوافُ في الأولين، وأن يكونا من القطن الأبيض، ويُكْرَهُ غَسْلُهما - وإنْ تَوَسَّخا - وكونُهما غيرَ أَبيضَيْنِ.

تذنيب: الحَيْضُ لا يَمْنَعُ الإحرام، فلو اتَّفَقَ حالة الإحرام أحْرَمَتْ كذلك مِنْ غير غُسْلٍ(3) ولا صَلاةٍ. ولو كان ميقاتها مسجد الشجرة أحْرَمَتْ مِنْ خارجه أو مُجْتازةً به مع أمن التلويث.

ويُسْتَحَبُّ لها أنْ تَلْبَسَ ثياباً طاهرةً حالة النيّة - فإذا أحْرَمَت نَزَعَتْها إن شاءت -

ص: 329


1- الكافي، ج 4، ص 335، باب التلبية، ح 3 ومع اختلاف یسیر.
2- ما بين الهلالين ليس في أكثر النسخ.
3- قال السيّد العاملي سبط المصنف رحمهما اللّه في مدارك الأحكام، ج 7، ص 386 في مبحث إحرام الحائض: وذكر جدي (قدّس سرّه) في مناسك الحجّ أنها تترك غُسل الإحرام أيضاً. وهو غير جيد؛ لورود الأمر به في الأخبار الكثيرة.

وأنْ تَسْتَثْفِرَ(1) بَعدَ الحَشْوِ وتَتَنَظَّفَ ثمَّ تُحْرِمَ.

ولو تَرَكَتِ الإحرام لظنّها فَسادَه رَجَعَتْ إلى الميقات مع الإمكان، فإن تعذّر فمِنْ حيث أمْكَنَ ولو مِنْ أدنَى الحِلِّ. ثمّ إِنْ طَهُرَتْ قبل وقتِ الطَوافِ فظاهرٌ، وإلّا أخَّرته وما بعدَه مِن الأفعال إلى أنْ تَطْهُرَ أو يَضِيقَ الوقتُ بالتلبس بالحجّ، فإنْ ضاقَ ولمّا تَطْهُرْ عَدَلَتْ إلى حجّ الإفراد، وَخَرَجَتْ إلى عَرَفَةَ بإحرامِها الأوّل، ثمّ اعْتَمَرَتْ بعد الحجّ عمرةً مفردةً وأجزأها عن فرضها. وكذا لوعَرَضَ الحَيضُ بعد الإحرام وقبل أن تطوف أربعة أشواط. ولو عَرَضَ بعدَ أنْ طافَتِ الأربعةَ سَعَتْ وأكْمَلَتِ العمرة، وأخَّرَتْ بقيّة الطوافِ والصلاة إلى أنْ تَطْهُرَ.

2 - الطواف

الثاني في الطواف، وهي الحركة الدورية حول البيت على الوجه المخصوص للقربة، وله مقدِّماتٌ مَسنونةٌ وفُروضٌ وسُنَنٌ:

فالمقدّمات: الغسلُ عند دخول الحرم، ودخوله ماشياً حافياً ونعله بيده، فمَنْ فَعَلَ ذلك تواضعاً للّه تعالى محا اللّه عنه مائة ألفِ سَيِّئَةٍ، وكَتَبَ له مائة ألفِ حسنةٍ، وبَنى له مائة ألف درجةٍ، وقضى له مائة ألف حاجةٍ. رواه أبانُ بنُ تَغْلِبَ عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).

والدعاء عند دخوله، فإذا أرادَ دخول مكّة اغْتَسَلَ أيضاً بالأَبْطحِ مِنْ بِئرٍ مَيْمُونٍ أو غيره، ولا يُحْدِثَ بعده حتّى يدخُلَها.

ويُسْتَحَبُّ الغُسل ثالثاً لدخول المسجد الحرام، ثمّ يدخله حافياً خاضعاً خاشعاً مِنْ باب بني شَيْبَةَ، وهو بإزاء باب السلام أدْخَلُ منه نحو المسجد، ويَقِفُ عنده ويقول:

السلام عليك أيُّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته باسم اللّه وباللّه [ومن اللّه و](3) ما شاء

ص: 330


1- اسْتَثْفَرَ الحائض: اتَّخَذَتْ خِرْقَةٌ عريضة بينَ فَخِذَيْها تشُدُّها في حِزامها. وفي الحديث: «أنّه أمَرَ المستحاضة أنْ تَسْتَنْفِرَ». المعجم الوسيط، ص 97، «ثفر».
2- الكافي، ج 4، ص 398، باب دخول الحرم، ح 1؛ الفقيه، ج 2، ص 204، ح 2143 من دون إسناد؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 97، ح 317.
3- ما في المعقوفين أضفناه من المصدر.

اللّه والسلام على أنبياء اللّه ورسله والسلام على رسول اللّه، والسلام على إبراهيمَ خليل اللّه والحمد للّه ربّ العالمين(1).

ثمَّ يَرفَعُ يَدَيْه ويَسْتَقْبِلُ البيت ويقول: «اللّهمَّ إنِّي أسألك في مقامي هذا في أوَّلِ مناسكي أنْ تَقْبَلَ تَوْبَتِي، وأنْ تجاوَزَ عَنْ خَطيئتي وتَضَعَ عَنِّي وِزْري، الحمد للّه الذي بلغني بيته الحرام. اللّهمَّ إنِّي أُشْهِدُك أنّ هذا بيتك الحرام الذي جَعَلْتَه «مَثَابَةٌ لِلنَّاسِ وَأَمْنًا»(2) ومُبارَكاً وهُدًى للعالمين. اللّهمَّ إنِّى عبدك، والبلد بلدك، والبيت بيتك، جئتُ أطْلُبُ رحمتك وأوْمّ طاعتك، مُطيعاً لأمرك، راضياً بقدرك، أسألك مسألة الفقير إليك الخائف مِنْ عُقوبتك. اللّهمَّ افْتَحْ لي أبواب رحمتك، واسْتَعْمِلْنِي بطاعتك ومَرْضاتِك، واحفَظْنِي بحفظ الإيمان أبداً ما أبْقَيْتَنِي، جَلَّ ثناءُ وجهك. الحمد للّه الذي جَعَلَني مِن وَفْدِهِ وزُوّارِه، وَجعَلَني مِمَّنْ يَعْمُرُ مساجِدَه، وجَعَلَني مِمَّن يُناجيه. اللّهم إني عبدك وزائرك وفي بيتك، وعلى كلّ مأتي حقٌّ لِمَنْ أتاه وزاره، وأنت خيرُ ماتي وأكرمُ مَزُورٍ، فأسألك يا اللّه يا رحمانُ بأنك أنتَ اللّه لا إلهَ إلّا أنت وحدك لا شريك لك، وبأنك واحِدٌ أحَدٌ صَمَدٌ لم تلد ولم تُولَد ولم يكن لك كفواً أحدٌ، وأنّ محمَّداً عبدك ورسولك. يا جوادُ يا ماجِدُ يَاحَنّانُ يامَنّانُ ياكريمُ أسألك أنْ تَجْعَلَ تُحْفَتَكَ إِيَّاي مِن زيارتي إِيَّاكَ فَكاكَ رَقَبَني مِن النار، اللّهم فُكَ رَقَبَتي مِن النار - ثلاثاً - وأوْسِعْ عليَّ مِن رزقك الحلال، وادْراً عنِّي شرَّ شياطين الجن والإنسِ وَشَرَّ فَسَقَةِ العرب والعجم»(3).

ثمّ يمشي نحو البيت، فإذا دَنا مِن الحَجَر الأسودِ رَفَعَ يَدَيْهِ وحَمِدَ اللّه وأثنى عليه

ص: 331


1- الكافي، ج 4، ص 401، باب دخول المسجد الحرام، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 99 - 100، ح 327، وكلمة «خليل اللّه» ليست في المصدرين.
2- البقرة (2): 125.
3- الكافي، ج 4، ص 401 - 402، باب دخول المسجد الحرام، ح 1 - 2؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 99 - 101 ح 327 - 328. وفي المصدرين «الخائف لعقوبتك» بدل «الخائف من عقوبتك» وفي تهذيب الأحكام وبعض النُسَخ: «لم يلد ولم يولد» بدل لم تلد ولم تولد». وفي المصدرين: «لم يكن له» مكان «لم يكن لك».

وقال: «الْحَمْدُ للّه الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّه»(1)، سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر»(2).

وصلّى على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثمَّ يَسْتَلِمُ الحَجَرَ ويُقَبِّلُه، فإنْ لم يَسْتَطِعْ أشار بيده إليه ويقول: «اللّهمَّ إِنِّي أَوْمِنُ بوعدك، وأوفي بعهدك. اللّهم أمانتي أدَّيتها وميثاقي تعاهَدْتُه لِتَشْهَدَ لي بالموافاة. اللّهم تصديقاً بكتابك وعلى سنّة نبيّك (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمَّداً عبده ورسوله آمَنْتُ باللّه وكَفَرْتُ بالجبت والطاغوت وباللاتِ والعُزّى وعبادةِ الشَّيطانِ وعبادةِ كلّ نِدٍّ يُدعى مِن دونِ اللّه».

فإنْ لم يَقْدِرُ على جميع ذلك قال بعضه(3): «اللّهم إليك بَسَطْتُ يدي، وفيما عندك عَظُمَتْ رَغْبَتي، فَاقْبَل سُبْحَتي(4)، واغفر لي وارْحَمْني اللّهمَّ إِنِّي أعوذُ بك من الكفر والفقر ومواقفِ الخزي في الدنيا والآخرة»(5).

وأمَّا الفروض فعلى ضربين شروط متقدمة ومقارنة:

فالشروط أربعة: الطهارة من الحدث ولو بالتيمم مع تعذَّر المائية، ولا يُشْتَرَطُ ذلك في الطواف المندوب على الأقوى وإنْ كان مِنْ كماله نَعم، هي شرطٌ في صلاة الطوافِ مطلقاً؛ وإزاله النّجاسة عن الثوب والبدن على حدٍّ ما يُعتبر في الصلاة؛ وسَتْرُ العورة الواجبِ سَتْرُها في الصلاة بحسب حال الطائف؛ والخِتانُ في الرجل مع المُكْنة.

ص: 332


1- الأعراف (7): 43.
2- الكافي، ج 4، ص 403، باب الدعاء عند استقبال الحجر واستلامه، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 5، ص 102، ح 330، ولم ينقل الشهيد (رحمه اللّه) تمام الدعاء.
3- في المصدرين: «فإن لم تستطع أن تقول هذا كلّه فبعضه وقل». ومن قوله: «فإن لم يقدر» إلى آخر الدعاء لا يوجد في أكثر النسخ.
4- قال الفيض في الوافي، ج 13، ص 816: السُبْحَة تقال للذكر والصلاة النفل وهي من التسبيح كالسخرة من التسخير. وفي بعض النسخ: «مسيحتي: أي مسيري».
5- الكافي، ج 4، ص 402 - 403، باب الدعاء عند استقبال الحجر واستلامه، ح 1 - 2 تهذيب الأحكام، ج 5، ص 101 - 102، ح 329 - 330.

والمقارنةُ سَبْعَةُ: النيّة مقارنةً لأوّل جزءٍ من الحجر الأسود، بحيث يكونُ أوّلُ بدنِه مُحاذياً لأوَّلِ جزءٍ من الحجر عِلْماً أو ظنَّاً، لِيَمُرَّ عليه بجميع بدنه، ولا يُشْتَرَطُ استقبال البيتِ أوّلاً ثمّ الانحراف بل يكفي جَعْلُه على اليسار ابتداء، وإن كان الأوّل أولى وصفتها: «أطوفُ بالبيتِ سبعة أشواط لعمرة الإسلام عمرة التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه مُسْتَدامةَ الحكم إلى آخره، مقارنةً للحركة عقيبها بنفسه أو حامله؛ وجعل البيت على اليسار؛ والمقام على اليمين ولو تقديراً، بمعنى مراعاة النسبة في جميع الجهات؛ والخروج بجميع البدن عن البيت، فلا يَمَسَّ الحائط ماشياً بل يَقِفُ إِنْ أرادَه لئلا تَدْخُلَ يده على الشاذروان؛ وموالاة أربعة أشواط مِنَ السبعة، ويجوز تفريق الباقي منها لضرورة أو قضاء حاجةٍ أو صلاة فريضةٍ أو نافلةٍ يُخاف فوتها أو لدخول البيت وإدخالُ الحِجْرِ في الطواف، فلو طافَ فيه أو مشى على حائطه لم يُجْزِى، ولا يجب الخروج عن شيءٍ آخَرَ خارجه إجماعاً؛ والختم في الشوط السابع بما بدأ به، بمعنى جَعْلِ أَوّلِ جزءٍ مِن الحَجَرِ مُحاذياً لأوّلِ بدنه حَذَراً مِن الزيادة والنقيصة المُبْطِلَتين ولو بخُطُوةٍ، حتّى لو لم يَحْصُل العدد أو شَكٍّ - في النقيصة مطلقاً وفي الزيادة قبل بلوغ الركن - بَطَلَ، ولو بَلَغَه قَطَعَ وصَحَّ طَوافه. ولو شَكٍّ بعد الفراغ لم يَلْتَفِتْ مطلقاً. ولو كان الطوافُ نَفْلاً بَنى على الأقل.

وسُنَنهُ: المبادَرَةُ إليه حينَ يَدْخُلُ المسجدَ؛ لأنّه تَحيَّتَهُ إِلَّا أَنْ يَخافُ فَوْتَ الجماعةِ فيُقَدِّمها ؛ وتقبيلُ الحجر واسْتِلامُه ببطنه وما أمْكَنَ مِن بدنه في ابتداء الطواف وفي كلّ شوط، فإنْ تَعَذَّرَ فبيده، فإنْ تَعَذَّرَ أوْمَاً إليه كما مَرَّ؛ واستلام الأركان كلّها وتقبيلها خصوصاً العراقي واليماني، بل قيل بوجوب استلام اليماني(1)؛ والاقتصاد في المشي، والتداني من البيت وإنْ قلَّتِ الخُطَا والتزامُ المُسْتَجارِ في الشوط السابع، وهو مقابِلُ

ص: 333


1- القائل هو سلّار في المراسم، ص117؛ وانظر مختلف الشيعة، ج 4، ص 210، المسألة 164؛ ومدارك الأحكام. ج 8، ص 165.

الباب قريباً من الركن اليماني؛ وبَسْطُ اليدين على حائطه؛ وإلصاق البطنِ والخَدَّيْنِ به؛ وتَعدادُ الذُنوبِ مُفَصَّلَةً والاستغفارُ منها؛ والدعاء عنده بقوله: «اللّهم البيت بيتك والعبدُ عبدك، وهذا مكانُ العائذ بك من النار»(1).

ومتى الْتَزَمَ أو اسْتَلَمَ حَفِظَ موضع قيامه وعاد إلى طوافه منه حَذَراً من التقدّم والتأخُر؛ وأنْ يقول في حال الطواف «اللّهمَّ إِنِّي أسألك باسمك الذي يُمْشي به على طَلَلِ الماء كما يُمْشى به على جَدَدِ الأرضِ وأسألك باسمك الذي يَهْتَزُّ له عرشك، وأسألُكَ باسمك الذي تَهْتَزُّ له أقدامُ ملائكتك وأسألك باسمك الذي دعاك به موسى بنُ عِمرانَ مِن جانبِ الطورِ فَاسْتَجَبْتَ له والْقَيْتَ عليه مَحَبَّةٌ منك، وأسألك باسمك الذي غَفَرْتَ به لمحمَّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ما تقدّم مِنْ ذنبه وما تَأخَّر وأتْمَمْتَ عليه نِعْمَتَكَ(2) أَنْ تَفْعَلَ بي كذا وكذا - ويقول أيضاً - اللّهمَّ إنِّي إليك فقير، وإنِّي خائفٌ مُسْتَجِيرُ، فلا تُبَدِّل اسمي ولا تُغيّر جسمي»(3).

فإذا فَرَغَ مِن الطواف أتى مقام إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فصلّى ركعتيه خلفه أو عن أحد جانبيه، ونيّتها: «أصلِّي ركعتي طوافِ عمرةِ الإسلام عمرة التمتّع أداءً لوجوبه(4) قربةً إلى اللّه» وهي كاليومية في الشرائط والأفعال. ويَتَخَيَّرُ فيها بين الجهر والإخفات. ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَقرأ في الركعة الأُولى بعد الحمدِ التوحيد وفي الثانية الجحد أو بالعكس. ويدعو بعدهما بالمأثور أو بما سَنَحَ.

3- السعي

الثالث: السعيُ، وهي الحركات المعهودة بين الصفا والمروة للقربة، وله مقدِّماتُ

ص: 334


1- الكافي، ج 4، ص 411، باب الملتزم والدعاء عنده، ح 5: تهذيب الأحكام، ج 5، ص 107، ح 347.
2- إشارة إلى الآية 2 من الفتح (48).
3- الكافي، ج 4، ص 406 - 407، باب الطواف واستلام الأركان، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 104، ح 399.
4- هكذا في النسخ، والظاهر أن الصواب لوجوبهما لعود الضمير إلى ركعتي الطواف، وهكذا الكلام في أمثالها من النيات. ويمكن توجيه تذكير الضمير وإفراده برجوعه إلى «المذكور». وانظر ما تقدّم في ص 291.

مشنونةٌ وفروض وسُنَن مقارِنَةٌ:

فمقدّماته: التعجيلُ إليه عقيب صلاة الطواف والطهارة مِن الحَدَثِ والخَبَث على أشهر القولين(1)، واستلامُ الحَجَرِ، والشربُ مِنْ زَمْزَمَ وصَبُّ الماء عليه مِن الدلو المقابل للحَجَر وإلّا فمِنْ غيره، والأفضل استقاؤه بنفسه قائلاً عند الشرب: «اللّهمَّ اجْعَلْه عِلْماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاءً مِن كلّ داءٍ وسُقمِ»(2)، والخروج إلى الصفا من الباب المقابل للحجر، وهو الآن في داخل المسجد بإزاء الباب المعروف بباب الصفا مُعَلَّمٌ بأَسْطُوانتين معروفتين، فليَخْرُجُ مِن بينهما إلى الباب، والصعود على الصفا بحيث يرى البيت من،بابه، واستقبالُ الرُّكْنِ العِراقي، وإطالة الوقوفِ عليه، وقراءة سورة البقرة، وحمد اللّه وتكبيره وتسبيحه وتهليله والصلاة على النبيّ وآله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مائة مائة وأقلُّه التكبير والتهليل سَبْعاً سَبْعاً، ثمّ يقولُ: «لا إلهَ إلّا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ، يُحْيي ويُمِيتُ وهو حي لا يموتُ بيده الخَيرُ وهو على كلّ شيءٍ قدير(3). - ويقول: - لا إله إلا اللّه وحده وحدَه، أَنْجَزَ وعده، ونَصَرَ عبده، وهَزَمَ الأحزاب وحده، فله الملكُ، وله الحمدُ وحدَه. اللّهمَّ بارِكْ لي في الموت وفيما بعد الموت. اللّهمَّ إِنِّي أعوذُ بكَ مِنْ ظلمة القبر ووحشته. اللّهم أظِلَّنِي تحت عرشك يوم لا ظلَّ إِلَّا ظِلُّك - ويقول: - أسْتَودِعُ اللّه الرحمن الرحيم، الذي لا يُضيع ودائعه دينى ونفسى وأهلى»(4).

ص: 335


1- ذهب إلى استحباب الطهارة المشهور من الأصحاب ومنهم المحقّق في شرائع الإسلام، ج 1، ص 247، وذهب إلى وجوبها ابن عقيل كما حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 4، ص 225، المسألة 181.
2- الكافي، ج 4، ص 430، باب استلام الحجر بعد الركعتين وشرب ماء زمزم قبل الخروج إلى الصفا والمروة، ح 1 – 2؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 144، ح 476 - 477.
3- الكافي، ج 4، ص 431 - 432، باب الوقوف على الصفا والدعاء، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 145 - 146، ح 481، وليست في المصدرين جملة «بيده الخير».
4- الكافي، ج 4، ص 431 - 432، باب الوقوف على الصفا والدعاء، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 5، ص 145 - 146 ح 481. وللدعاء تتمة وهي: «اللّهم استعملني على كتابك وسنة نبيّك، وتَوَفَّنِي على ملته ثمّ أعذني من الفتنة».

وفروضه النيّة: «أسعى سبعة أشواط لِعُمْرَة الإسلام عمرة التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه» مقارنةً للصفا بأنْ يُلصِقَ عَقِبه به أو يَصْعَدَ عليه، والحركة بعدها في الطريق المعهود بوجهه مستدامة الحكم إلى آخره ويَخْتِمُ بالمروة ولو بأصابع قدميه إن لم يَدْخُلْ، فإذا عاد ألْصَقَ عَقِبَه بها وأصابعه بالصفا آخِراً إنْ لم يَصْعَدْ كذلك، وإتمام السبعة، مِنَ الصفا إليه شوطانِ، من غير زيادةٍ ولا نقصان، فلو زادَ عمداً بَطَلَ وناسياً يَقْطَعُ. ولو نَقَصَ عادَ للإكمال وجوباً. ويَستَنِيبُ مع التعذُر، ولا يَتَحَلَّلُ بدونه، وإيقاعه يومَ الطواف، فإِنْ أَخَرَه أثِمَ وأَجْزَأ، والأحوط موالاته كالطوافِ.

وسُنَنُه: السَعْى ماشياً مع القدرة والسكينة والوقار، وأنْ لا يَقْطَعَه لغير ضرورة، والهَرْوَلَهُ للرجل بينَ المَنارة وزُقاق العطارين، ولو نَسِيَها رَجَعَ القَهْقَرَى وتَدارَكَها ما لم يَشْرَعْ في الشوط الثاني، والراكِبُ يُحَرِّكُ دابته ما لم يُؤذ أحَداً، وأنْ يقول: «باسم اللّه واللّه أكبر، وصلّى اللّه على محمَّد و آله، اللّهمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وتجاوَزْ عمّا تَعْلَم، إِنَّكَ أَنتَ الأعزُّ الأَكْرَمُ»(1).

4 – التقصير

الرابع: التقصير، وهو إبانةٌ مُسَمَّى الشعرِ أو الظُّفُرِ، وبه يُحِلُّ مِن إحرام العمرة المُتَمَتَّع بها. أمّا المُفْردَةُ فلا يَتِمُّ الإحلال منها إلّا بطواف النساء بعده وصلاة ركعتيه.

وفروضه: النيّة مقارنةً للفعل: «أُقَصِّرُ للإحلال مِن إحرام العمرة المتمتَّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه مستدامة الحكم إلى آخره، ولا تَتَعَيَّنُ له آلةٌ مخصوصةٌ، فيُجْزِئُ الحديد والنُورةُ والتَتْفُ والقَرْضُ بالسن وغيرها، ولا فرق بينَ شَعْرِ الرأس وغيره، ولا يُجْزِئُ الحَلْقُ هنا، نَعَمْ يُجْزِئُ فى المفردة، ومكانه مكَّة.

ويُسْتَحَبُّ كونه على المروة، والبدأة بالناصية، والأخذُ مِن جميع جوانب شعره على المُشْطِ، وتقليم الأظفار مع أخْذِ الشعر، والتشبه بالمُحْرمين بعده في ترك لبس المخيط إلى أنْ يَتَلَبَّسَ بالحج، وكذا لأهلِ مكّة طُولِ المَوْسِمِ.

ص: 336


1- الكافي، ج 4، ص 434 - 435، باب السعي بين الصفا والمروة وما يقال فيه، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 5، ص 148، ح 487.

المقالة الثانية فى أفعال الحجّ

إشارة:

وفيها فصولٌ:

1 – الإحرام

الأوّل: الإحرامُ، وتحقيقه كما مرَّ في الواجبات والمحرَّمات إلّا أنّه يَنْوِي هنا إحرام الحجّ، وصفة النيّة: «أُحرِمُ بحج الإسلام حجّ التمتّع، وألبّي التلبيات الأربعَ لعقد هذا الإحرام لوجوب الجميع قربةً إلى اللّه، لبّيك اللّهم لبّيك..» إلى آخره. وقد تقدّم(1) أنّ محلَّه مكّة، وأفضلها المسجد وخلاصته(2) المقام أو تحت المِيزابِ، وأفضلُ زمانه يوم الثامن بعد الزوال عقيب الظهرينِ المُتَعَقِّبَيْنِ لِسُنّة الإحرام المتقدّمة.

ويُسْتَحَبُّ رفع الصوتِ بالتلبية في موضع الإحرام إن كان ماشياً، وإن كان راكباً إذا نَهَضَ به بَعيرُه، متوجّهاً إلى عرفات خصوصاً إذا أشْرَفَ على الأبطح، وأنْ يقول عند توجهه: «اللّهمَّ إيّاكَ أرجو وإياك أدعو، فبلغني أمَلي وأصْلِحْ لي عملي»(3). فإذا وَصَلَ إلى منى قال: «اللّهمَّ هذه منى وهي ممّا مَنَنْتَ به علينا من المناسِكِ، فأسْأَلُكَ أنْ تَمُنَّ عليَّ بما مَنَنْتَ به على أنبيائك، فإنّما أنا عبدك وفي قَبْضَتِكَ»(4).

ويُسْتَحَبُّ المَبِيتُ بها ليلة التاسع، وأنْ لا يَجُوزَها حتّى تَطْلُعَ الشمسُ، فإذا تَوَجَّهَ إلى

ص: 337


1- في ص 326.
2- هكذا في جميع النسخ وأيضاً في المنسك الكبير ص 250 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل ج 18).
3- الكافي، ج 4، ص 460، باب الخروج إلى منى، ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 177، ح 595.
4- الكافي، ج 4، ص 461، باب نزول مني وحدودها، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 177 - 178، ح 596.

عرفات قال: «اللّهم إليك قَصَدْتُ، وإياك اعْتَمَدْتُ ووَجْهَكَ أردتُ أسألك أنْ تُبارِكَ لي في رِخلتي، وأنْ تَقْضِيَ لي،حاجتي، وأنْ تَجْعَلَنِي ممّن تُباهِي به اليومَ مَنْ هو أفضلُ منّي»(1).

ولْيَسْتَمِرَّ على التلبية استحباباً إلى أنْ يَصِلَ إلى عَرَفَةَ.

2 - الوقوف بعرفة

الثاني: الوقوف بعرفة، وهو الكَوْنُ بها من زوال الشمس إلى غروبها مِن يَوْم التاسع مقارناً أوّلَه بالنيّة - عند تحقّق الزوال مُسْتدامة الحكم إلى آخره-: «أقفُ بعرَفَةَ في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه».

والركنُ منه مسمّى الكَوْنِ بعد النيّة وإنْ كان عابر سبيل، وباقيه موصوف بالوجوب لا غيرُ. وحدُّ عَرَفَةَ ما بين ثَوِيَّةَ وعُرَنَةَ وذي المَجاز وذي الأراك.

وسُنَنُه : الغسل قبل الزوال، وجَمْعُ الرَّحْلِ وقطع العلائق المانعة من الإقبال على اللّه تعالى في ذلك الوقت، والجمع بين الظهرين في أوّل الوقت بأذان وإقامتين، والوقوفُ بالسَفْحِ في مَيْسَرَةِ الجبلِ والقُرْبُ منه، والقيام بعد الصلاة مع الاختيار، واستقبال القبلة، وإحضار القلب والإكثار من التكبير والتحميد والتهليل والتمجيد والتسبيح والثناء على اللّه تعالى بما هو أهله والاستعاذة باللّه من الشيطان الرجيم - فإنّه حريص على أن يُذْهِلَ المؤمنَ في ذلك المَوْطنِ الشريف - والاستغفارُ بالقلب واللسان، وتعداد الذنوب، والبكاءُ أو التباكي، والدعاء للإخوان وأقلّهم أربعون والبروز تحت السماء إلّا لضرورة، وصرفُ الزمانِ كلّه في الدعاء والاستغفار والذكر، بل قيل بوجوبه(2)، والدعاء بالمأثور (3)

ص: 338


1- الكافي، ج 4، ص 461، باب الغُدُوّ إلى عرفات وحدودها، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 5، ص 179، ح 600 ؛ قال السلطان في حاشية الوافي، ج 13، ص 1020: قوله: «من هو أفضل منّي» لعل المراد بالأفضل الملائكة على ما ورد في بعض الروايات.... وفي المصدرين: «صَمَدت» مكان «قصدت».
2- كلام أبي الصلاح في الكافي في الفقه، ص 197 يوهم الوجوب، حيث قال: «ويلزم افتتاحه بالنيّة وقطع زمانه بالدعاء والتوبة والاستغفار»؛ وانظر مختلف الشيعة، ج 4، ص 249، المسألة 202.
3- الكافي، ج 4، ص 463 - 464، باب الوقوف بعرفة وحد الموقف، ح 4 الفقيه، ج 2، ص 541، ح 3136؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 182 - 183، ح 611 - 612.

وهو كثيرٌ لا يَقْتَضِي الحالُ ذكره هنا، وأعظَمُهُ دعاء الحسين وولده زين العابدين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وقراءةُ عَشْرِ مِن أوَّل البقرة ثمّ التوحيدِ ثلاثاً وآية الكرسي والسُخْرَةِ(1) والمُعَوَّذَتَيْنِ ثمّ حمد اللّه تعالى على نِعَمِه مُفَصَّلةً، وفِعْلُ الخيرِ مَا اسْتَطَاعَ وتَرْكُ الهَذَرِ.

3 - الوقوف بالمشعر الحرام

الثالثُ: الوقوفُ بالمشعر الحرام إذا غَرَبَتِ الشمسُ مِن يوم عرفةَ، فَلْيُفض إليه وجوباً بالسكينة والوقار مُسْتغفِراً داعياً بالمأثور وهو: «اللّهم لا تَجْعَلْه آخِرَ العهدِ مِنْ هذا المَوْقِفِ، وارْزُقْنِيه أبَداً ما أَبْقَيْتَنِي، واقْلِبْني اليومَ مُفْلِحاً مُنْجِحاً مُسْتَجاباً لي مرحوماً مغفوراً لي بأفضل ما يَنْقَلِبُ به اليوم أحدٌ مِن وَفْدِك عليك، وأَعْطِنِي أَفْضَلَ مَا أَعْطَيْتَ أحداً مِنهم من الخيرِ والبَرَكةِ والرِضوان والمغفرة، وبارِكْ لي فيما أرْجِعُ إليه مِنْ أهل أو مالٍ أو قليل أو كثيرٍ، وبارِكْ لَهم فيَّ»(2).

ولْيُكْثِرُ مِن قوله: «اللّهمَّ أعْتِقْ رَقَبَتى مِن النار»(3) فإذا بَلَغَ المَشْعَرَ - وحَدُّهُ ما بين المأزِمَيْنِ إلى الحِياض إلى وادي مُحَسِّرٍ - وجب عليه الكَوْنُ به إلى الفجر ناوياً: «أبيتُ هذه الليلة بالمشعرِ في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه».

ويُسْتَحَبُّ إحياءُ تلك الليلة بالعبادة؛ فإنّ أبواب السماء لا تُغْلَقُ تلك الليلة لأصوات المؤمنين(4)؛ فإذا أصْبَحَ وجب عليه الكَوْنُ به إلى طلوع الشمس ناوياً - عند تحقّق الفجر : «أقفُ بالمَشْعَرِ في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه» مُسْتَدامَةَ الحكم إلى آخره.

ص: 339


1- آية السخرة هي الآية 54 من الأعراف (7): «إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِى خَلَقَ مُسَخَّرَات بِأمرون أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللّه رَبُّ الْعَالَمِينَ».
2- الفقيه، ج 2، ص 543، ح 3139؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 187، ح 622.
3- الكافي، ج 4، ص 469، باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر والإفاضة منه وحدوده، ح 4 وفيه: «وليكن من قولك: «اللّهم ربَّ المشعر الحرام فكّ رقبتي من النار...» الفقيه، ج 2، ص 545، ذيل الحديث 3139.
4- الكافي، ج 4، ص 468 - 469، باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر والإفاضة منه وحدوده، ح 1: الفقيه، ج 2، ص 544، ح 3139؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 188 - 189، ح 626.

هذا كلّه مع الاختيار، أمّا مع الاضطرار فيُجْزِئ مُسَمّى الوقوفِ بعرفة ليلة العاشر، وبالمشعرِ مُسمّاه أيضاً في تلك الليلة وفيما بين طلوع الشمس وزوالِها مِنْ يَوْمِ النَحْرِ. ويُدْرَكُ الحجّ بإدراكِ الاختياريَّيْنِ وأحدهما، والاضطراريَّيْنِ وأحدهما مع اختياري الآخر لا مُنْفَرداً، وفي اضطراري المشعر وحده قول قوي بالإجزاء(1) : هذا إذا لم يكن القوات عمداً كما مَرَّ.

ويُسْتَحَبُّ الدعاءُ في المَشْعَرِ بقوله: «اللّهم هذه جَمْعٌ فَاجْمَعْ لي فيها جوامِعَ الخير. اللّهم لا تُؤْيِسْني من الخير الذي سألتك أن تجمعه لي في قلبي، ثم أطلب إليك أن تُعَرِّفني ما عَرَّفْتَ أولياءَك في منزلي هذا، وأنْ تَقِيَني جوامع الشرّ(2) - ويقول أيضاً: - اللّهمّ ربَّ المشعر الحرام فُكَ رَقَبَتِي مِن النار، وأوسع عليَّ مِن رزقك الحلال، وادْراً عنِّي شَرَّ فَسَقَةِ الجنّ والإنس. اللّهم أنت خيرُ مطلوب إليه وخير مدعو وخيرُ مسؤولٍ، ولكُلِّ وافِدٍ جائزةً، فاجْعَلْ جائزتي في مَوْطِني هذا أَنْ تُقِيلَنِي عَشْرَتي وتَقْبَلَ مَعْذِرتي، وأنْ تَجاوَزَ عَنْ خَطيئتي، ثمَّ اجْعَلِ التقوى من الدنيا زادي»(3).

فإذا طَلَعَتِ الشمسُ أفاض إلى مِنىً بالسكينة والوقار والذكر للّه تعالى والاستغفار والدعاء.

والهَرْوَلَةُ(4) بوادي مُحَسّرٍ للماشي والراكب، ولو نَسِيَها رَجَعَ لِتَداركها ولو مِن مكَّةَ،

ص: 340


1- الإجزاء صريح الصدوق في علل الشرائع، ج 2، ص 159 الباب 204، ذيل الحديث 1؛ وظاهره في الفقيه ج 2، ص 545 - 546: وهو ظاهر ابن الجنيد كما حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 4، ص 264 – 265، المسألة 218؛ وولده في إيضاح الفوائد، ج 1، ص 309 - ؛ والمرتضى (رضي اللّه عنهم) في الانتصار، ص 234، المسألة 120 وانظر غاية المراد، ج 1، ص 309 - 312 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج1).
2- الكافي، ج 4، ص 468 - 469، باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر والإفاضة منه وحدوده، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 188 - 189، ح 626.
3- الكافي، ج 4، ص 469، باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر والإفاضة منه وحدوده، ح4؛ تهذيب الأحكام، ج 5. ص 191. ح 635.
4- عطف على «الدعاء» في قوله: «يستحبّ الدعاء».

كما ورد في الخبر(1). ويقول فيها (2): «اللّهمَّ سَلّمْ عَهْدي واقْبَلْ تَوْبَتي وأجِبْ دَعوتي واخْلُفْنِي فِيمَنْ تَرَكْتُ بَعدي»(3).

ويُسْتَحَبُّ التقاط الحَصى للرمي مِنَ المشعر وهي سبعون حصاةً، ولو احتاط بالزائد فلا بأسَ ويُسْتَحَبُّ كونُها بُرْشاً كُحْلِيّةً مُلْتَقَطَةٌ مُنَقَطَةٌ رِخْوَةً بِقَدْرِ الأَنمُلَةِ طاهرة مغسولة.

4 - نزول منى يوم النحر

الرابع: نزولُ مِنّى يوم النَحْرِ لِرَمْي جَمْرة العَقَبَةِ والذبح والحَلْقِ مُرَتَّباً كما ذُكِرَ، ولو عَكَسَ أيْمَ وأجزأ، فإذا وَصَلَ مِنى فليبدأ أولاً برَمْي جَمْرةِ العَقبة - وهي على حد مِنّى إلى جهة مكّة كما أن حدَّها الآخَرَ وادي مُحَسّرٍ - بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَرَمِيةٍ غيرِ مسجدية أبكار بما يُسمّى رَمْياً مُصِيبةً بفعله مباشرةً بيده. وتجب فيه النيّة - مقارناً بها لأوّله : «أرمي هذه الجَمْرةَ بِسَبْعِ حَصَياتٍ في حجّ الإسلام حجّ التمتّع أداءً لوجوبه قربةً إلى اللّه». مُسْتَدامة الحكم إلى آخره. والظاهر أنّ الأداء والتَعَرُّضَ للعددِ مِنْ كَمال النيّة لا واجبٌ فيها. ووَقْتُهُ ما بين طلوع الشمس إلى غروبها، ويُقضى لو فات مقدَّماً على الحاضر، ويَخْرُجُ وقتُه بخروج الثالثَ عَشَرَ إلى القابل.

وتُسْتَحَبُّ الطهارة، والمَشْيُ إليه ورَمْيُ جَمْرَةِ العقبة مُسْتَدبِراً للقبلة مُقابلاً لها والتباعد عنها بِعَشْرِ أَذْرُعٍ إِلى خَمْسَ عَشْرَةَ، والرّمْيُ خَذْفاً بأنْ يَضَعَ الحَصاة على إيهام يده اليُمْنى ويَدْفَعُها بظُفُر السبّابة، ولو تَعارَضَ الخَذْفُ والتباعُدُ قُدِّمَ الخَذْفُ تَخَلُّصاً مِنْ خلافِ مَنْ أَوْجَبَه (4)؛ ويَدْعو مع رَمْيِ كلّ حَصاة بالمنقول وهو: «اللّهم ادحر عنّي

ص: 341


1- الكافي، ج 4، ص 470، باب السعي في وادي محسر، ج 1، 2؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 195، ح 649.
2- يعني في حال الهرولة. 3.
3- الكافي، ج 4، ص 470 - 471، باب السعي في وادي محسر، ح : الفقيه، ج 2، ص 547، ذيل الحديث 3139؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 192، ح 637. وفي الفقيه: «واخلفني بخير فيمن...».
4- أوجبه السيّد المرتضى في الانتصار، ص 260. المسألة 144 وانظر مختلف الشيعة، ج 4، ص 271 - 272، المسألة 223.

الشيطان. اللّهمّ تصديقاً بكتابك وعلى سُنَّةِ نبيّك. اللّهمّ اجْعَلْه حَجّاً مَبْرُوراً، وعملاً مقبولاً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً»(1).

والهَدْي بعد الرمي واجب على المُتَمَتِّع وإنْ كان مکِّیّاً. ويَجِبُ كونُه مِنَ النَّعَمِ، وأفضله البُدْنُ ثمّ البَقَرَ ثمّ الغَنَم، وأقله الثَنيُّ وهو مِنَ الإِبل ما دَخَلَ فِي السنّة السادسة ومِن الأخيرين ما دَخَلَ في الثانية. ويكفي في الضأن إكمال الشهر السابع وكونُه تامّاً، فلا يُجْزِئُ الأعْوَرُ والمريضُ والأعرجُ والأجرب ومكسورُ القَرْنِ الداخل ومقطوعُ الأُذُنِ أو بعضها والخَصِيُّ، ويُجْزِئ فاقدُ القَرْنِ والأُذُنِ خِلْقةً؛ وكونه سميناً بأنْ يكونَ على كُلْيَتَيْه شَحْمٌ. ويَكْفِي الظَنُّ الْمُسْتَنِدُ إلى التجربة أو إخبار عارفٍ، وإنْ أخْطَأ بعد الذَبح لا قبلَه.

ولو تَبَيَّنَ النُقْصانُ لم يُجْزِئ مطلقاً، وكذا لو ظَهَرَ السِمَنُ مع عدمِ الظَّنِّ به ابتداءً.

ولو لم يُوجَدْ إلَّا فاقد الشرائط أجْزَاً، فإنْ فُقِدَ خَلَّفَ ثَمَنه عند ثقةٍ لِيَذْبَحَ عنه في ذي الحِجّة، فإِنْ تَعَذَّرَ فمِنَ القابِلِ. ولو عَجَزَ عن الثَّمَنِ صامَ بدله ثلاثةَ أيّام في الحجّ - أي في ذي الحجة - متواليةً وسبعةً إذا رَجَعَ إلى أهله، أو مضى للمجاور مقدار وصوله أو شَهْرٌ.

ويُسْتَحَبُّ كونه أُنثى من الإبل والبقر ذكراً من غيرهما قد حَضَرَ عَرَفَةَ - ويكفي قولُ المالك - سميناً زيادةً على ما شُرِطَ والمباشَرَةُ إنْ أحْسَنَ وإِلَّا جَعَلَ يده مع يدِ الفاعل، والدعاء عند ذَبْحِه أو نَحْره، بقوله: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(2)، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّه رَبِّ الْعَلَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِن الْمُسْلِمِينَ»(3).

ص: 342


1- الكافي، ج 4، ص 478 - 479، باب يوم النحر ومبتدأ الرمي وفضله، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 198، ح 661.
2- اقتباس من الآية 79 من الأنعام (6).
3- اقتباس من الآيتين 162 - 163 من الأنعام (6).

اللّهمَّ مِنكَ ولَك باسم اللّه واللّه أكبر، اللّهم تَقَبَّلْ مِنّى(1).

وتجب النيّة - مُقارِنَةً للفعل مُسْتدامة الحكم - : «أَذْبَحُ أو أَنْحَرُ هذا الهَدْيَ في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه»؛ وقسمتُه ثلاثة أقسامٍ: ثُلثاً يأكله أو بعضه، وثُلْثاً يُهْدِيه لإخوانه من المؤمنين، وثُلْثاً يَتَصَدَّقُ به على فُقرائهم، ولا ترتيب بينها؛ والنيّة مقارنةً لها: «آكُلُ مِنْ هَدْيِ حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه، أُهْدِي ثلثَ هَدْيِ حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه، أتَصَدَّقُ بِظُلْتِ هَدْي حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه».

ثمّ يَحْلِقُ رأسه أو يُقَصِّرُ مِنْ شَعْره أو ظُفُرِه كما مَرَّ. ويتعين على المرأة والخنثى التقصيرُ، والنيّة - مقارنةً مُسْتَدامة الحكم «أحْلِقُ - أو أقصر - للإحلال من إحرام حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه».

ويُسْتَحَبُّ استقبال القبلة، والبدأةُ بالقَرْن الأيمن من ناصيته، وتسمية المحلوق والدعاء بقوله: «اللّهمَّ أعْطِني بكُلِّ شَعْرةٍ نوراً يومَ القيامة» (2).

ولا يَخْرُجْ مِن مِنّى حتّى يأتي بالثلاثة في ذي الحجة، ويَرْجِعُ للذبحِ والحَلْقِ لو خَرَجَ بدونه طوله. فإنْ تَعَذَّرَ خَلَّفَ ثَمَنَ الهَدْي كما مرّ، وحَلَقَ مكانه وجوباً، وبَعَثَ بالشعر لِيُدْفَنَ بها ندباً. أمّا الرمئ فيَخْرُجُ وقته بخروج الثالثَ عَشَرَ، فيُقْضى في القابل.

وبالحَلْقِ أو التقصير يَتَعَلَّلُ مِن جميع المحرمات المتقدّمة إلّا الطيّب والنساء والصَّيْدَ، ثمّ يَتَحَلَّلُ مِن الطيّب بالسعي بعد الطواف، ومن النساء بطوافهنَّ بعدهما، والأولى تَوَقُفُ حِلِّ الصَيْدِ الإحرامي على طواف النساء.

ص: 343


1- الكافي، ج 4، ص 498، باب الذبح، ح6: الفقيه، ج 2، ص 503 - 504، 3086؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 221، ح 746: بحار الأنوار، ج 99، ص 279 - 280، ح 9.
2- تهذيب الأحكام، ج 5، ص 244، ح 826: بحار الأنوار، ج 99، ص 304، ح 9.
5 - العود إلى مكّة للطوافين والسعي

الخامس: العَوْدُ إلى مكّة للطوافَيْنِ والسعي، ومقدماتها وكيفيتها وواجباتها ومندوباتها كما مَرَّ.

والنيّة: «أطوفُ بالبيت سبعة أشواط طواف حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه، أصَلِّي ركعتي طواف حجّ الإسلام حجّ التمتّع أداءً لوجوبه قربةً إلى اللّه، أسعى سبعة أشواطٍ سَعْيَ حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه، أطُوفُ طوافَ النساءِ في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه، أُصَلِّي ركعتي طوافِ النساء في حجّ الإسلام حجّ التمتّع أداءً لوجوبه قربةً إلى اللّه».

وتُسْتَحَبُّ كونُ ذلك يومَ النَحْر، فإنْ أَخَرَه فمِنْ غَدِه، وفي جواز تأخيره - عن غَدِهِ اختياراً - قولان أقربهما الجواز(1).

وتَظْهَرُ الفائدة في الإثم وعدمه لا في الصحّة والبطلان.

ويَخْرُجُ وقتها بخروج ذي الحِجَّة إجماعاً، وهى مترتبة كما ذكرناه وليس طواف النساء مخصوصاً بمَنْ يَغْشاهنَّ، بل يجب على الخصى والهم والمرأة وغيرهم، ويَسْتَمِرُّ بتركه ما كان قد حَرَّمَه الإحرامُ مِنهنَّ.

6 - العود إلى منى للمبيت بها

السادس: العَوْدُ إلى مِنى للمَبيتِ بها ليالي التشريق والرمي أيّامها.

ويجوزُ لِمَنِ اتَّقَى الصَّيْدَ والنساء في إحرامه ترك مبيت الثالثة، إلّا أنْ تَغْرُبَ الشمس وهو بمنى فَيَتَعَيَّنُ، والأفضلُ مَبِيتُ الثالثة لغيرهما. والواجبُ الكَوْنُ بها لَيلاً إلى نصف الليل. ولو بات بغيرها فَمَنْ كلّ ليلةٍ شاة، إلّا أنْ يَبيتَ بمكَّةَ مُشْتَغِلاً بالعبادة الواجبة أو المُسْتَحَبّةِ طول الليلِ إِلَّا ما يَضْطَرُّ إليه مِنْ غِذاء أو شَرابِ أو نومٍ يَغْلِبُ عليه.

وتجبُ في المَبِيتِ النيّة - عند تحقّق الغروب مُسْتَدامَةَ الحكم إلى آخره: - «أبيتُ

ص: 344


1- ذهب إلى عدم الجواز الشيخ المفيد في المقنعة، ص 420؛ والمرتضى في جمل العلم والعمل، ص 116؛ وسلّار في المراسم، ص 114؛ والمحقّق في شرائع الإسلام، ج 1، ص 240؛ وإلى الجواز ابنُ إدريسَ في السرائر، ج 1، ص 602؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 4، ص 309 - 311. المسألة 261؛ وانظر مدارك الأحكام، ج 8، ص 110.

هذه الليلةَ بمِنيَّ في حجّ الإسلامِ حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللّه».

ويجبُ أَنْ يَرْمِيَ الجَمَرَاتِ الثلاث في كلّ يومٍ بحَسَبِ مَبِيتِ ليلتِهِ كلّ واحدةٍ بِسَبْعِ حَصَياتٍ مُرَتِّباً، يَبْدأ بالأولى ثمّ الوُسْطى ثمّ جَمْرةِ العَقَبَةِ، فلو نَكَسَ أعاد على ما يَحْصُلُ معه الترتيب، وهو يَحْصُلُ بأربعٍ حَصَياتٍ مع النسيان أو الجهل لا مع التعمُّدِ، فيُعيدُ الأخيرتين ويبني على الأربع في الأولى، وكذا لو رَمَى الثانية بأربعٍ ورَمَى الثالثة بعدها، ولو نَقَصَ عن الأربع بَطَلَ ما بعده مطلقاً وهو أيضاً على الأقوى.

وكَيْفِيةُ الرّمي وواجباته وسُنَنُه كما مرّ، إلّا أنه يُسْتَحَبُّ استقبال القبلة في الأُوليَيْنِ. ورميهما عن يسارهما ويَمينِه، وقد تقدّم أنّه يَسْتَدْبِرُ القبلةَ في جَمْرِةِ العقبة، وأفْضَلُ أوقاتِ الرَّمْي عندَ الزَوالِ.

ويُسْتَحَبُّ الإقامةُ بِمِنّى بقيّةَ أيّام التشريق بل قد رُوي أنّ المُقامُ بها أفضلُ مِن الطوافِ تَطَوُّعاً(1).

ووقتُ النَفْر الأوّل بعد الزوال إلا لضرورة، أمّا النَّفْرُ الثاني فيجوز قبله إذا رَمَى الجمار، والأفضل فيه التأخيرُ إليه ليوقع الرمي عنده.

ويُسْتَحَبُّ للمُقِيمِ أَنْ يَجْعَلَ صلاته فَرْضاً ونفلاً في مسجد الخَيْفِ، وأفضلُه مَسْجِدُ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وهو من المنارة إلى نحوِ مِن ثلاثين ذراعاً إلى جهة القبلة وعن يَمِينِها ويسارها (2) كذلك، فقد صَلّى فيه ألفُ نَبِيَّ(3)، ورُوي أنّ: «مَنْ صَلَّى في مسجدِ مِنيَّ مائةَ رَكْعَةٍ عَدَلَتْ عِبادة سبعينَ عاماً، ومَنْ سَبَّحَ اللّه فيه مائةَ تَسبيحةٍ كَتَبَ اللّه له أجرَ عِتْقِ رَقَبَةٍ، ومَنْ هَلَّلَ اللّه فيه مائةً عَدَلَتْ إحياءَ نَسَمَةٍ، ومَنْ حَمِدَ اللّه (عزّ وجلّ) فيه مائةً

ص: 345


1- الكافي، ج 4، ص 515، باب إتيان مكّة بعد الزيارة للطواف، ح 1؛ الفقيه، ج 2، ص 479، ح 3016؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 260 - 261، ح 887، وص 490، ح 1755: الاستبصار، ج 2، ص 295، ح 1053.
2- أضاف المصنّف في الروضة البهيّة، ج 1، ص 392 (ضمن الموسوعة، ج 6): «وخلفها»؛ وكذلك المرويّ في الكافي، ج 4، ص 519، باب الصلاة في مسجد منّى و...، ح 4.
3- الكافي، ج 4، ص 519، باب الصلاة في مسجد منّى و...، ح 4.

عَدَلَتْ خَراجَ العِراقَيْنِ يُنْفَقُ في سبيل اللّه»(1).

وتُسْتَحَبُّ صلاةُ سِتٌ رَكَعَاتٍ به في أصل الصَوْمَعَةِ إِذا نَفَرَ.

فإذا قضى مَناسِكَه بِمِنّى اسْتُحِبَّ العودُ إلى مكّة لطوافِ الوَداعِ ودخول البيتِ خصوصاً الضرورة بعد الغُسل والتحفّي مُصاحباً للسكينة والوقار آخذاً بحَلْقَتي الباب عند الدخول، ثمّ يَقْصِدُ الرخامةَ الحَمْراءَ بينَ الأسْطُوانتَيْنِ اللتينِ تَلِيانِ البابَ ويُصَلِّي عليها ركعتين، وفي كلّ واحدةٍ مِن الزوايا الأربع ركعتين، ثم يعودُ إلى الرخامة الحمراء فيَقِفُ عليها، ويَرْفَعُ رأسَهُ إلى السماء، يُطِيلُ الدعاءَ مُبالغاً في حضور القلب والخُشوع والخُضوعِ وقَصْرِ النظر عمّا يَشْغَلُ القلب، فإذا خَرَجَ منه صلّى رَكعتينِ عَنْ يَمِينِ البابِ، وهو مَوْضِعُ المَقام في عَهْدِ رسولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وهو الآن مُنْخَفِضُ عن المَطافِ.

ويُسْتَحَب إتيان المساجد والمواضع المشرفة بمكّة، وزيارة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمّة وفاطمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بالمدينة، وإتيان قبور الشهداء والصحابة والصالحين قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «مَنْ حجّ ولم يَزُرْني فقد جَفاني، ومَنْ جفاني جَفَوْتُهُ يومَ القيامة (2). ومَنْ أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة»(3).

وعن فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) أنها قالت: «أَخْبَرَني أبي أنّه مَنْ سَلَّمَ عليه وعليَّ ثلاثةَ أيّام أَوْجَبَ اللّه له الجنَّةَ، فقيل لها في حياتكما ؟ قالت: نعم وبعد موتنا»(4).

وَلْتُزَر ببيتها والروضة والبقيع. وقال الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ابدؤوا بمكّة واخْتِموا بنا»(5).

وعن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ زار إماماً مفترض الطاعة كان له ثوابُ حجّة مبرورة»(6).

ص: 346


1- الفقيه، ج 1، ص 230، ح 689.
2- الكافي، ج 4، ص 548، باب زيارة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ح 5: الفقيه، ج 2، ص 565، ح 3159؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 4، ح 5. وليست في المصادر جملة «فقد جفاني ومَنْ جفاني».
3- الكافي، ج 4، ص 548، باب زيارة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 4، ح 4.
4- تهذيب الاحكام، ج 1، ص 9، ح 18.
5- الكافي، ج 4، ص 550، باب فضل الرجوع إلى المدينة، ح 1: الفقيه، ج 2، ص 588، ح 3140.
6- المقنعة، ص 474 مع اختلاف.

وعن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ لكلّ إمام عهداً في أعناق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحُسْنِ الأداء زيارة قبورهم فمَنْ زَارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كانتْ أئمّتُهم شُفَعاءَهم يوم القيامة»(1).

والأخبار في ذلك خارجة عن حد الحصر (2).

وسُنَنُ الزيارة: الغسلُ قبل دخول المشهد، والكون حالتها على طهارة، وإتيانه بالخضوع والخشوع في ثياب طاهرةٍ جُدَدٍ، والوقوفُ على بابه والدعاء والاستئذان بالمأثور. فإنْ وَجَدَ خشوعاً ورقةً دخل وإلّا تَحَرّى زمان الرقة، فإذا دخل قَدَّمَ رجله اليمنى، ووقف على الضريح مُلاصقاً له أو غير ملاصق، وقبل الضريح الشريف واستقبل وجه المزور واسْتَدْبَرَ القبلة، ويَزُوره بالمأثور، وأقلُّها الحضور والسلام. ثمّ يَضَعُ خده الأيمن عليه عند الفراغ، ويدعو متضرّعاً، ثم خده الأيسر سائلاً من اللّه تعالى بحقه وحق صاحب القبر أنْ يَجْعَلَه من أهل،شفاعته، ثمّ يُصلّى ركعتى الزيارة عند الفراغ، فإنْ كان زائراً للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ففى الروضة، وإن كان لأحد الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) فعند رأسه، ورُوِيتْ رخصةٌ في صلاتهما إلى القبر(3) بمعنى جعل القبر في قبلة المصلّي، ويجوز استدباره وإن كان غير مستحسن، ويُهدي الصلاة للمزور، ويدعو بعدها بالمأثور، وإلّا فيما سَنَحَ، وَلْيُعَمِّم الدعاء؛ فإنّه أقرب إلى الإجابة، ويتلو بعد ذلك شيئاً من القرآن ويُهْدِيه للمزور تعظيماً له، والمنتفع بذلك كلّه الزائر. ويَخْتِم ذلك كلّه بالصدقة على السَدَنَةِ(4) والمَحاويج بتلك البقعة. وليَكُن بعد الحجّ والزيارة خيراً منه قبلهما؛ فإنّ ذلك علامة القبول وبلوغ المأمول.

ص: 347


1- الكافي، ج 4، ص 567، باب بدون العنوان (من كتاب الحج) ح 2؛ الفقيه، ج 2، ص 577، ح 3162؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 78 - 79، ح 155.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 14، ص 320 - 332، أبواب المزار وما يناسبه، الباب 2، ح 1 - 25.
3- تهذيب الأحكام، ج 2، ص 228. ح 898.
4- سَدَنَ يَسْدُنُ سَدْنا و...: خَدَمَ الكعبة السادن: خادم الكعبة... الجمع سَدَنة. المعجم الوسيط، ص 424، «سدن».

من وظائف الحجّ القلبيّة

وأمّا الخاتمة

فتشتمل على جملة موجزة في وظائف الحجّ القلبيَّةِ يَحْسُنُ فَهْمُها وتَذكَارُها لمن أرادَ الحجّ مِن العالمين قد أخرجها الحقّ سبحانه على لسان بعض الكاملين(1):

اعلم أنّ أوّل الحجّ فهمُ موقع الحجّ في الدين، ثمّ العزم عليه، ثم قطع العلائق المانعة عنه، ثمّ تهيئةُ أسباب الوصول إليه من الزاد والراحلة، ثم السير، ثمّ الإحرام من الميقات بالتلبية، ثمّ دخول مكّة، ثمّ استتمامُ الأفعال المشهورة. وفي كلّ حالة من هذه الحالات تذكرة للمتذكَّر، وعبرةٌ للمعتبر، وتنبية للمريد الصادق، وإشارة للفطن الحاذِقِ إلى أسرارٍ يَقِفُ عليها بصفاء قلبه وطهارة باطنه إن ساعَدَه التوفيق.

فاعلم أنّه لا وصول إلى اللّه سبحانه وتعالى إلّا بتنحية ما عداه عن القصد من المشتَهَياتِ البدنية واللذّات الدنيويّة، والتجريد في جميع الحالات والاقتصار على الضرورات؛ ولهذا انْفَرَد الرهبان في الأعصار السالفة عن الخلق في قُلل الجبال؛ توحشاً من الخلق وطلباً للأُنس بالخالق، وأعرضوا عن جميع ما سواه؛ ولذلك مَدَحَهم اللّه تعالى بقوله: «بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسَيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»(2). فلمّا انْدَرَس ذلك وأقبل الخلقُ على اتباع الشهوات والإقبال على الدنيا والالتفات عن اللّه تعالى بَعَثَ اللّه نبيّاً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) محمداً لإحياء طريق الآخرة وتجديد سُنَّةِ المرسلين في سلوكها، فسأله أهل الملل عن الرهبانية والسياحة في دينه فقال: «أبْدَلَنا [اللّه](3) بها الجهادَ والتكبير

ص: 348


1- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 314 - 319.
2- المائدة (5): 82.
3- ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

على كلّ شَرَفٍ» يعني الحجّ. وسُئل (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن السائحين، فقال: «هم الصائمون» فجعل (عَلَيهِ السَّلَامُ) الحجّ رهبانيّةً لهذه الأمة، فشَرَّفَ البيت العتيق بإضافته إلى نفسه، ونَصَبه مقصداً لعباده، وجَعَلَ ما حوله حرماً لبيته؛ تفخيماً وتعظيماً لشأنه، وجَعَلَ عرفات كالميدان على باب حَرَمه، وأكَّد حرمة الموضع بتحريم صَيْده وشَجَره، ووضعه على مثال حضرة الملوك يَقْصِدُه الزوّار «مِن كلّ فَجٍّ عَمِيقٍ»(1) شُعْناً غُبْراً متواضعين لربِّ البيت، مُسْتَكينينَ له؛ خضوعاً لجلاله واستكانةً لعزّته - مع الاعتراف بتنزيهه سبحانه عن أنْ يَحْوِيه مكان - ليكون ذلك أبلغ في رقّهم وعبوديّتهم.

ولذلك وَظَفَ عليهم فيها أعمالاً لا تَأنَسُ بها النفوس ولا تَهْتَدي لمعانيها العقولُ، كرمي الجمار بالأحجار، والتردُّدِ بين الصفا والمروة على سبيل التكرار. وبمثل هذه الأعمالِ يَظهر كمالُ الرِق والعبودية بخلاف سائر العبادات كالزكاة التي هي إرفاق من وجه،معلوم وللعقل إليه ميل والصَوْمِ الذي هو كَسْرٌ للشهوة التي هي [آلة] (2) عدو اللّه وتفرغ للعبادة بالكفّ عن الشواغل وكالركوع والسجود في الصلاة التي هي تواضع للّه سبحانه.

وأما أمثال هذه الأعمال فإنّه لا اهتداء للعقل إلى أسرارها، فلا يكون في الإقدام عليها إلا الأمرُ المجرّد وقصد امتثاله من حيث هو واجب الاتباع فقط، وفيه عَزَّل للعقل عن تصرُّفه وصرفُ النفس والطبع عن محل أنسه المعين على الفعل. وإذا اقْتَضَتْ حكمة اللّه سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بكون أعمالهم على خلاف أهوية طباعهم وأنْ تكون أزمتها بيد الشارع فيَتَردَّدون في أعمالهم على سنن الانقياد ومقتضى الاستعباد، كان ما لا يُهْتَدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس، وصرفها عن ميل الطبع إلى مقتضى الاسترقاق.

ص: 349


1- الحجّ (22): 27.
2- أضفناه من المصدر.

وأمّا العَزْمُ فَلْيَسْتَحْضِرْ في ذهنه أنّه بِعَزْمِه مُفارق للأهل والولد هاجِرٌ للشهواتِ،واللذّات مُهاجِرٌ إلى ربِّه، متوجّه إلى زيارة بيته ولْيُعْظِمْ قدر البيتِ لِقدرِ ربِّ البيت ولْيُخْلِصْ عَزْمَه للّه تعالى وليتحقّق أنّه لا يُقْبَل مِن عمله إلّا الخالص.

وأمّا قطع العلائقِ فحذف جميع الخواطر عن جميع الخواطر عن قلبه غير قصد عبادة اللّه والتوبةُ الخالصة عن المعاصي، فكلُّ علاقةٍ من المعاصي خصم حاضرٌ متعلّق به يُنادي عليه ويَقولُ: أَتَقْصِدُ بيتَ مَلِكِ الملوك، وهو مطَّلِعُ منك على تضييع أوامره، واستهانتك به وعدم التفاتك إلى نواهيه وزَواجِره، أما تَسْتَحِي أَنْ تقدّم عليه قدوم العبد العاصي، فيُغْلِقَ دونك أبواب رحمته، ويُلْقِيَك في مهاوي نَقِمَتِه، فإن كنت راغباً في قبول زيارتك فَابْرُزُ إليه من جميع معاصيك، واقْطَعْ علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك، لِتَتَوَجَّه إليه بوجه قلبك كما أنت متوجّه إلى بيته بوجه ظاهرك. وليَذْكُرْ عند قطعه العلائق لسفر الحجّ قطع العلائق لسفر الآخرة؛ فإنّ كلّ هذه أمثلة قريبةٌ يَتَرقّى منها إلى أسرارها.

وأما الزادُ فليَطْلُبُه مِن موضعٍ حلال، فإذا أحسَّ مِنْ نفسه بالحرص على استكثاره وطيبه وطَلَب ما يبقى منه على طول السفر، وأنْ لا يَنْفَدَ قبل بلوغ المقصد فليَذْكُرْ أنّ سفر الآخرة أطولُ مِن هذا السفر وأنّ زاده التقوى، وما عداه لا يصلُحُ زاداً ولْيَحْذَرْ أنْ يُفْسِدَ أعماله - التي هي زاد الآخرة - بشوائب الرياء وكدورات التقصير، فيَدْخُلَ في قوله تعالى: «قُلْ هَلْ تُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا»(1). ويلاحِظُ عند سفره نَقْلَتَه إلى منازل الآخرة التي لا شكّ فيها، ولعلّه أقرب من سفره هذا، فيَحْتاط في أمره، وليَعْلَمْ أنّ هذه أمثلةٌ محسوسةٌ يَتَرقّى منها إلى مراكب النّجاةِ مِن عذاب اللّه تعالى.

ص: 350


1- الكهف (18): 103 – 104.

وأمّا الخروج من البلد فلْيَسْتَحْضِرُ عندَه أنّه يُفارِقُ الأهل والولد متوجّهاً إلى اللّه سبحانه في سفرٍ غير أسفار الدنيا، وأنّه متوجّه إلى ملك الملوك وجبار الجبابرة في جملة الزائرين الذين نُودوا فأجابوا، وشُوِّقوا فاشتاقوا، وقطعوا العلائق، وفارقوا الخلائق، وأقبلوا على بيت اللّه تعالى طلباً لرضى اللّه تعالى وطمعاً في النظر إلى وجهه الكريم. ولْيُحْضِرْ أيضاً قلبه للوصول إلى المَلِك والقبول له بِسعَةِ فضله، ولْيَعْتَقِدْ أنّه إن مات قبل الوصول إليه لَقِي اللّه تعالى وافداً عليه لقوله تعالى: «وَمَن يَخْرُجُ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّه»(1). ثمّ لْيَتَذَكَّرْ في أثناء طريقه من مشاهدة عقبات الطريق عَقَباتِ طريق الآخرة، ومن السباع والحَيّاتِ حَشَراتِ القبر، ومِنْ وحشةِ البَراري وحشة القبر وانفراده عن الإنس؛ فإنّ كلّ هذه الأُمور جاذبةٌ إلى اللّه سبحانه، ومُذَكِّرةٌ له أمرَ مَعاده.

وأمّا تَوْبُ الإحرام ولُبْسُه فليَتَذَكَّر معه الكفنَ ودَرْجَه فيه، ولعلّه أقرب إليه، ولْيَتَذَكَّر معها (2) التَسَرْبُلَ بأنوارِ اللّه تعالى التي لا مَخْلَصَ مِن عقابه إلّا بها، فيَجْتَهِد في تحصيلها بقدر إمكانه.

وأمّا الإحرام والتلبيه فليَسْتَحْضِر أنّه إجابةُ نِداء اللّه سبحانه وتعالى(3). وليَكُنْ في قبول إجابته بينَ خوفٍ ورجاء، مُفَوِّضاً أمره إلى اللّه، مُتَوكَّلاً على فضله.

قال سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: حجّ زين العابدين علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، فلما أَحْرَمَ واسْتَوَتْ به راحلته اصْفَرَّ لونُه، وَوَقَعَتْ عليه الرِعْدَةُ ولم يَسْتَطِعْ أنْ يُلَبِّي، فقيل له: لِمَ لا تُلَبِّي ؟ فقال: «أخشى أنْ يَقول لي: لا لبّيك ولا سَعْدَيْك» فلمّا لَبّى غُشِيَ عليه وسَقَطَ عن

ص: 351


1- النساء (4): 100.
2- هكذا في بعض النسخ وفي بعضها: «منها». وانظر إحياء علوم الدين، ج 1، ص 316.
3- كما تقدّم في ص 328.

راحلته، فلم يَزَلْ يَعْتَريه ذلك حتّى قُضي عليه(1).

ولْيَذْكُرْ عند إجابته نداءَ اللّه سبحانه إجابة ندائه بالنفخ في الصور، وحَشر الخلق من القبور، وازدحامهم في عَرَصات القيامةِ مُجيبينَ لندائه، مُنْقَسِمينَ إلى مقرَّبين ومَمْقُوتين، و [مقبولين و](2)،مردودين ومتردّدين بين الخوف والرجاء.

وأمّا دخولُ مكّة فَلْيَسْتَحْضِرُ عندَه أنّه قد انتهى إلى حرم اللّه الأمين، ولْيَرْجُ عندَه أنْ يَأمن بدخوله من عقاب اللّه وَلْيَخْشَ أنْ لا يكون من أهل القُرب، وليكن رجاؤه أغلب؛ فإنّ الكرمَ عميمٌ، وشرف البيت عظيم، وحقَّ الزائر مَرْعيٌّ، وذمام المستجير محفوظٌ، خصوصاً عند أكرم الأكرمين. ولْيَسْتَحْضِر أنّ هذا الحرم مثال للحرم الحقيقي، لِيَتَرقَّى من الشوق إلى دخول هذا الحرم والأمنِ بدخوله من العقاب إلى الشوق إلى دخول ذلك الحرم والمقام الأمين.

وإذا وَقَعَ بصرُه على البيت فليَسْتَحْضِرْ عظمته في قلبه، ولْيَتَرَقَّ بفكره إلى مشاهَدَة حضرة ربِّ البيت في جوار الملائكة المقرَّبين، ولْيَتَشَوَّقْ أَنْ يَرْزُقَهُ النظر إلى وجهه الكريم، كما رَزَقَه الوصول إلى بيته العظيم. وليُكْثِرُ من الذكر والشكر على تبليغ اللّه إيّاه هذه المرتبة. وبالجملة فلا يَغْفَلْ عن تَذَكَّر أحوال الآخرة.

وأمّا الطواف بالبيت فلْيَسْتَحْضِرُ فى قلبه التعظيمَ والخَوْفَ والخَشْيَةَ والمحبة، وليَعْلَمُ أنّه بذلك مُتَشَبِّه بالملائكة المقرّبين، الحافِّينَ حول العرش الطائفين حوله، ولا تَظُنُّنَّ أن المقصود طوافُ جسمك بالبيت بل طوافُ قلبك بذكرِ ربِّ البَيْت، حتّى لا تَبْتَدى بالذكر إلّا منه ولا تَخْتِمَ إلّا به، كما تبتدئُ بالبيت وتَخْتِمُ به. ومن هنا قال أهل الحقيقة: «طوافُ أهل العبارة بالقالب، وطواف أهل الإشارة بالقلب»؛ فإنَّ الطواف المطلوب هو

ص: 352


1- هكذا في النسخ، وفي المصدر: «حتّى قضى حجَّه».
2- أضفناه من المصدر.

طوافُ القلب بحضرة الربوبية، وإن البيتَ مِثالٌ ظاهرٌ في عالم الشهادة لتلك الحضرة التى هى عالَمُ الغيب، كما أنّ الانسان الظاهر مثاللٌ ظاهر في عالم الشهادة للإنسان الباطن الذي لا يُشاهد بالبصر، وهو في عالم الغيب، وإنّ عالَمَ المُلكِ والشهادة مرقاةٌ ومدْرَجٌ إلى عالم الغيب والملكوت لِمَنْ فُتِح له باب الرحمة، وأخَذَتِ العناية الإلهيّة بیده لسلوك الصراط المستقيم.

وأمّا استلام الحَجَر فَلْيَسْتَحْضِرْ عنده أنّه مُبايع اللّه على طاعته، مُصَمِّم عزيمته على الوفاء ببيعته، «فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَهَدَ عَلَيْهُ اللّه فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»(1). ولذلك قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ): «الحَجَرُ الأسود يمين اللّه في الأرض، يُصافِحُ بها خَلْقَه كما يُصافِحُ الرجلَ أخاه». ولمّا قَبَّلَه عُمَرُ قال: «إنّي لأعلَمُ أنّك حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولولا أنّي رأيتُ رسول اللّه يُقَبِّلُك لَما قَبَّلْتُك». فقال له عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَة يا عُمرُ، بَلْ يَضُرُّ ويَنْفَعُ؛ فإنّ اللّه سبحانه لَمّا أَخَذَ المِيثَاقَ على بني آدم - حيث يقول: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ» الآية (2) - ألْقَمَه هذا الحجر ليكون شاهداً عليهم بأداء أمانتهم. وذلك معنى قول الإنسان - في الدعاء المتقدّم - عند استلامه أمانتي أدَّيْتُها، وميثاقي تعاهَدْتُه لِتَشْهَدَ لي عندَ رَبِّكَ بالموافاة»(3).

وأمّا التعلَّق بأشتار الكعبة والالتصاق بالملتزم فليستحضر فيه طلب القرب؛ حُبّاً للّه وشوقاً إلى لقائه؛ تَبَرُّكاً بالمماسة ورجاءً للتحصُّن من النار. ولتكن النيّة في التعلُّقِ بالسِتر الإلحاح في طلب الرحمة، وتوجيه الذهن إلى الواحد الحق، وسؤال الأمان من

ص: 353


1- الفتح (48): 10.
2- الأعراف (7): 172.
3- علل الشرائع، ج 2، ص 129 - 131، الباب 161، ح 2، 6 و 8، مع الاختلاف وانظر وسائل الشيعة، ج 13، ص 316 - 322، أبواب الطواف، الباب 13.

عذابه، كالمُذْنِبِ المتعلّق بأذيالِ مَن عَصاه المُتَضَرِّع إليه في عفوه عنه، المعترف له بأنّه لا ملجأ منه إلّا إليه، ولا مَفْزَعَ له إلّا عفوه وكرمه، وأنّه لا يُفارِقُ ذيله إلَّا بالعفو، وبذل الطاعة(1) في المستقبل.

وأمّا السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت فمثال لتردُّد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرّةً بعد أخرى؛ إظهاراً للخُلوص في الخدمة، ورجاء لملاحظته ب-عَينِ الرحمة، كالذي دَخَلَ على المَلِك وهو لا يَدْري ما الذي يقضي المَلِكُ في حقه من قبول أو ردّ، فيكون تردُّده رجاءَ أنْ يَرْحَمَه في الثانية إنْ لم يكن رَحِمَه في الأُولى.

ولْيَتَذَكَّرْ عندَ تردُّدِه بين الصفا والمروة تردُّدَه بين كفّتي الميزان في عرصة القيامة، ولْيُمَثِّل الصفا بكفّة الحَسَناتِ والمروة بكفّة السيِّئاتِ، ولْيَتَذَكَّر تردُّده بين الكفتين ملاحظاً للرجحانِ والنقصان، متردداً بين العذاب والغُفران.

وأمّا الوقوف بعرفة فَلْيَتَذَكَّر بما يرى - من ازدحام الناس وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات، واتّباعِ الفِرَقِ أئمّتَهم في التردُّداتِ على المشاعر اقتفاء بهم وسَيْراً بسيرتهم - عَرَصاتِ القيامة، واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمّة، واقتفاء كلّ أُمَّةٍ أثر نبيِّها وإمامها، هادياً كان أم مُضِلّاً، وتحيَّرَهم في ذلك الصعيد الواحدِ بين الردِّ والقبولِ. وإذا تَذَكَّرَ ذلك فَلْيُلْزِمْ قلبه الضراعة والابتهال إلى اللّه تعالى في أنْ يَحْشُرَه في زُمْرة الفائزين المرحومين.

ولْيَكُنْ رجاؤه أغلب؛ فإنّ الموقِف شريفٌ، والرحمة إنّما تَصِلُ مِن ذي الجلال إلى كافَّة الخلق بواسطة النفوس الكاملة من أوتاد الأرض ونحوهم، ولا يخلو الموقِفُ مِنْ طائفة من الأبدال والأوتاد وطوائف من الصالحين وأرباب القلوب، فإذا اجْتَمَعَتْ هِمَمُهُمْ، وتَجَرَّدتْ لِلضَراعة نفوسهم، وارْتَفَعتُ إلى اللّه تعالى أيدِيهِم

ص: 354


1- هكذا في النسخ، وفي المصدر: «وبذل الأمن».

وامْتَدَّتْ إليه أعناقهم، يرمقون بأبصارهم جهة الرحمة طالبين لها، فلا تَظُنُّنَّ أنَّه يَخِيبُ سَعْيُهُم مِن رحمةٍ تَغْمُرُهُمْ. ومن هنا جاء ما تقدّم (1)من الحديث: «إنّ الشيطان ما رُئِیَ أدْحَرَ ولا أَحْفَرَ ولا أَصْغَرَ منه يومَ عَرَفَةً، وذلك لما يرى مِنْ نزول الرحمة على الخلق».

وربما كان اجتماعُ الأُمم بعرفات والاستظهارُ بمجاوَرَةِ الأبدالِ والأَوْتَادِ المجتمعينَ من أقطار الأرض هو السِرُّ الأعظمُ مِن الحجّ ومقاصده، فلا طريق إلى استنزال رحمة اللّه أعظمُ مِن اجتماع الهِمَم وتعاوُنِ القلوبِ في وقتٍ واحدٍ على صعيدٍ واحدٍ.

وأمّا الوقوفُ بالمَشْعَر فَلْيَسْتَحْضِرْ أنّه قد أقبل عليه مولاه بعد أن كان مُدْبِراً عنه، طارداً له عن بابه، فأذن له فى دخول حرمه؛ فإنّ المَشْعَرَ مِن جملة الحرم وعَرَفَةَ خارجةً، فقد أشْرَقَتْ عليه أنوارُ الرحمة، وهَبَّتْ عليه نَسَمَاتُ الرأفة، وكُسِيَ خِلَعَ القبول بالإذن في دخول حرم المَلِك.

وأمّا رمي الجمار فَلْيَقْصد به الانقياد لأمره وإظهار الرق والعبودية، ثمّ لْيَقْصِد به التَشَبُّة بإبراهيمَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث عَرَضَ له إبليس (لعنه اللّه) في ذلك الموضع لِيُدْخِلَ عليه شبهةً أو يَفْتِنَه بمعصيةٍ، فأمَرَه اللّه تعالى برميه بالحجارة؛ طَرْداً له وقطعاً لأمله. فإنْ خَطَرَ له أنّ الشيطانَ عَرَضَ لإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم يَعْرِضُ له، فَليَعْلَمْ أنّ هذا الخاطرَ مِن الشيطان، وهو الذي ألقاه على قلبه لِيُخَيِّلَ إليه أنّه لا فائدة في الرمي، وأنّه يُشْبِهُ اللَعْبَ، فَلْيَطْرُدُه عن نفسه بالجدّ والتشمير(2) في الرمي فيه برغم أنْفِ الشيطان؛ فإنه وإن كان رمياً للجَمْرة بالحَصى فهو في الحقيقة رَمْي لوجهِ إبليسَ وقَصْمٌ لظهره إذ لا يَحْصُلُ إرغام أنفه إلّا بامتثال أمر اللّه تعالى تعظيماً لمجرّد الأمر.

ص: 355


1- تقدّم في ص 316، الهامش 5.
2- التشمير في الأمر: السُرعَةُ فيه... ومنه قيل: شَمَّر في العبادة إذا اجْتَهَدَ وبالغ. المصباح المنير، ص 322، «التشمير».

وأمّا ذَبْحُ الهَدْي فَلْيَعْلَمْ أنّه تَقَرُّبُ إلى اللّه تعالى بحكم الامتثال فَلْيُكْمِل الهَدْيَ وأجزاءه. وهو يُشْبِهُ القرب إلى المَلِك بالذبح له وإتمام الضيافة والقرى والغاية منه تذكر المعبود الأوّل سبحانه عند النيّة في الذبح واعتقادُ أنّه مُتَقَرِّب به إلى اللّه تعالى(1).

فهذه هي الإشارة إلى أشرار الحجّ الباطنة، فراعها بفكر صحيح تطلعك على ما فوقها مِن المَدارِج، وتَعْرُج بك على أشرفِ المَعارج. وفَّقنا اللّه وإياك لتلقى الأسرار، وَجَعَلَنا مِن المخلصين الأبرار، إنّه جواد كريمٌ.

تتميم: يُسْتَحَبُّ لِقاءُ الحاج ومصافحته وتقبيله والتِماسُ بَرَكته وما عَلِقَ(2) به مِنْ آثار رحمة اللّه تعالى.

قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): كان عليّ بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يقول: يا مَعْشَرَ مَنْ لم يَحُجَّ اسْتَبْشِرُوا بالحاجّ، وصافحوهم، وعَظّموهم؛ فإنّ ذلك عليكم، تُشاركوهم في الأجر»(3).

وعن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ عانَقَ حاجاً بغُباره كان كأنّما اسْتَلَمَ الحجر الأسود»، رواه الصدوق في الفقيه(4).

وَلْنَقْتَصِرْ على ما أفردناه، سائلينَ مِمَّن انتفع به أنْ يُشاركنا في دعائه وتوجّهاته. جَمَعَنا اللّه وإيّاكم على طاعاته، وتَقَبَّلَ مِنا ومنكم بفضله وكرمه.

ص: 356


1- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 314 - 319. اعلم أنّ الشهيد (رحمه اللّه) نقل بعض العبارات بالمعنى، ولا يوجد بعض الجمل والتعبيرات في المطبوع من إحياء علوم الدين، ويحتمل أنها كانت موجودة في نسخة الشهيد، أو في كتاب نَقَلَها مؤلّفه عن الغزالي ونقل الشهيد عن ذلك الكتاب.
2- عَلِقَ الشيءُ الشيء، وبه نَشِبَ فيه واستمسك به، يقال: عَلِقَ الشوك الثوبَ وبه. المعجم الوسيط، ص 622، «علق».
3- الكافي، ج 4، ص 264، باب فضل الحجّ والعمرة وثوابهما، ح48: الفقيه، ج 2، ص 228، ح 2266، وفيهما: يجب عليكم بدل «عليكم».
4- الفقيه، ج 2، ص 299 - 300، ح 2515.

واتَّفَقَ الفَراغُ مِنْ تأليفه ضُحى يوم الجمعة(1) سابع عشر شهر رمضان المبارك سنة خمسين وتسعمائة من الهجرة النبوية المصطفويّة (2). [وكتب] العبد (3) المذنب المفتقر إلى عفو اللّه تعالى وكرمه زين الدين بن عليّ بن أحمد الشامي العاملي (عامله اللّه بفضله، وعفا عنه بمنّه وكرمه).

ص: 357


1- في بعض النسخ: «يوم الخميس».
2- هكذا في أكثر النسخ، وفي نسخةٍ واتفق الفراغ من تأليفه في عصر يوم السبتِ ثالث عشر شهر ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة. قال أقا بزرگ الطهراني (رحمه اللّه) في الذريعة، ج 22، ص 263: فَرَغَ منه نهار الأربعاء (20 شوّال 953)... وفي بعض النسخ ذكر فراغ المصنِّف في ضحى الجمعة (17 رمضان 950) وفي بعضها: (14 رمضان).
3- من هنا إلى آخر العبارة إنما وردت في نسخةٍ واحدةٍ من النسخ الثمان التي قابلنا بها هذه الرسالة.

ص: 358

القسم الخامس: الطلاق

إشارة:

ويَضُمُّ رسالةً واحدةً:

(1) طلاق الغائب

ص: 359

ص: 360

21. طلاق الغائب

إشارة:

تحقيق

أحمد العابدي - رضا المختاري

ص: 361

ص: 362

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه حقَّ حمده، والصلاة على سيّدِ رُسُله محمَّدٍ النبيّ وآله الطاهرين.

اختلاف الأصحاب في طلاق الغائب

مسألة: اتَّفق العلماءُ كافَّةً - فضلاً عن أصحابنا - على تحريم طلاق الحائض الحائلِ الحاضرِ زوجُها عندَها المدخول بها.

وأجمع أصحابنا على بطلانه، وأنّه لابدَّ لصحة طلاقها من كونها طاهراً طُهْراً لم يَقْرَبْها فيه بجماع - سَواءٌ في ذلك الطُّهْرُ المتعقِّب لأوَّلِ حَيْضَةٍ بعد المُواقَعَةِ وغيره - فلو طَهُرَتْ ثانياً ثمّ حاضت لم يصحّ طلاقها حالته؛ لأن الشرط مركّب من أمرين:

أحدهما كونها طاهراً من الحَيْضِ وما في معناه وهو النفاسُ.

والآخر انتقالها من طهرِ المُواقعةِ إلى غيره.

ثم اختلفوا في الغائب عنها غَيبَةٌ لا يُمكِنه استعلام حالها فيها:

فقال بعضهم: يجوز طلاقها حينئذٍ على كلّ حالٍ، سَواءٌ كانت طاهراً أم حائضاً، وسَواءٌ عَلِمَ الزوج بذلك أم لا(1).

ص: 363


1- كالشيخ في المقنعة، ص 526 - 527؛ وسلّار في المراسم، ص 161؛ وابن أبي عقيل كما حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 7، ص 353، المسألة 11.

وقال آخرون: لا يجوز إلا بعد مدَّةٍ، ثم اختلفوا في تلك المدَّة:

فقيل : ثلاثة أشهرٍ، وهو خِيَرةُ ابن الجُنَيْدِ(1) من المتقدّمين، والعلّامة في المختلف (2) من المتأخّرين.

وقيل: شهرٌ، وهو خِيَرةُ الشيخ رحمه اللّه في النهاية(3).

وقيل: أدنى المدة شهر وأوسطها ثلاثة، وأقصاها خمسة أشهرٍ أو ستَّةٌ، وهو خِيَرَةُ الصدوق(4).

وقيل: حد المدَّةِ أنْ يَعْلَمَ انتقالها من الطهرِ الذي واقعها فيه إلى آخر بحسب عادتها، ولا يَتَقدَّرُ بمدَّةٍ غَير ذلك، وهو خِيَرَةُ الشيخ (رحمه اللّه) في الاستبصار(5)، وتبعه عليه ابنُ إدريس(6)، والمتأخّرون، ومنهم العلّامة(7) في غير المختلف وولده فخر المحقّقين، وزاد أنّه مع عدم العلم بذلك تكون المدة ثلاثة أشهرٍ(8).

منشأ اختلافهم الأخبار الواردة

ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الأخبار الواردة في ذلك عن أئمّة الهدى (عَلَيهِم السَّلَامُ) بحسب الإطلاق.

فروى محمَّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال : سألته عن الرجل يُطلِّق امرأته وهو غائبٌ، قال: «يجوز طلاقه على كلّ حالٍ وتعتد امرأته من يوم طَلَّقها»(9).

ص: 364


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 7، ص 354، المسألة 11.
2- مختلف الشيعة، ج 7، ص 354، المسألة 11.
3- النهاية، ص 512.
4- الفقيه، ج 3، ص 503، ذيل الحديث 4769.
5- الاستبصار، ج 3، ص 295.
6- السرائر، ج 2، ص 686.
7- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 54، الرقم 5382: قواعد الأحكام، ج 3، ص 126.
8- إيضاح الفوائد، ج 3، ص 305 - 304.
9- الكافي، ج 6، ص 80، باب طلاق الغائب، ح7؛ تهذيب الأحكام، ج8، ص 60، ح 195؛ الاستبصار، ج 3، ص 294، ح 1038.

وفي الصحيح عن إسماعيل الجعفي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «خمس يُطَلِّقهُنَّ الرجل على كلّ حالٍ: الحامل، والتي لم يدخُلْ بها، والغائب عنها زوجها، والتي لم تحض، والتي قد يئست من المحيض»(1).

ومثلها روى الحلبي في الحَسَنِ عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).

وعن أبي بصير قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «الرجلُ يُطَلّق امرأته وهو غائبٌ فيَعْلَم أنّه يوم طَلَّقَها كانت طامِئاً، قال: «يجوز»(3).

وهذه الأخبار حجَّةُ القول الأوّل وهو خِيَرةُ المفيد(4)، وعليّ بن بابويه(5) والحسن بن أبي عقيل(6)، وأبي الصلاح التقيّ الحلبي(7)، وغيرهم(8).

وروى جميلُ بن درّاج في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الرجل إذا خرج من منزله إلى السفرِ، فليس له أنْ يُطَّلَّقَ حتّى تمضي ثلاثةُ أَشْهُرٍ»(9).

وهذه الرواية حجَّةُ القول الثاني، ويؤيدها أنّ زوجة الغائب باعتبار جهله بحالها في قوَّة المُستَرابة التي يجب التربُّصُ بها قبل الطلاقِ ثلاثةُ أشهرٍ، فقد اعتبر الشارعُ الثلاثة فيما يُناسبها، فليس بِمُستَبعَدٍ حينئذٍ، لا أنّه قياس؛ لأنّه منصوصٌ بنصّ صحيح مؤيَّد بذلك.

ص: 365


1- الكافي، ج 6، ص 79، باب النساء اللاتي يطلّقن على كلّ حال، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 516، ح 4811؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 61، ح 198؛ الاستبصار، ج 3، ص 294، ح 1039.
2- الكافي، ج 1، ص 79، باب النساء اللاتي يطلقن على كلّ حال، ح 2.
3- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 62، ح 201؛ الاستبصار، ج 3، ص 294، ح 1040.
4- المقنعة، ص 527 - 526.
5- حكاه عنه ولده في المقنع، ص 345.
6- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 7، ص 353، المسألة 11.
7- الكافي في الفقه 306: والغائبة؛ لتعذّر العلم به فيهنّ... .
8- كسلّار في المراسم، ص 161.
9- تهذيب الأحكام، ج8، ص 62، ح 203؛ الاستبصار، ج 3، ص 295، ح 1042.

وروى إسحاق بن عمّار عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «الغائب إذا أرادَ أنْ يُطَلَّقَها تركها شهراً»(1).

وهو حجّةُ الشيخ في النهاية(2).

وعن إسحاق بن عمّار،قال قلت لأبي إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ): الغائبُ الذي يطلّق كم غيبته ؟ قال: «خمسة أشهرٍ أو ستَّةُ أَشْهُرٍ»، قلت: حدٌّ دون ذلك ؟ قال: «ثلاثة أشهرٍ»(3).

وهذا الخبر مع الذي قبله حجَّةُ الصدوق(4).

وقد جَمَعَ الشيخ (رحمه اللّه) في الاستبصار بين هذه الأخبار، بالحوالة على:

اختلاف عادة النساء في الحَيْضِ؛ فَمَنْ عَلِمَ من حال امرأته أنّها تَحِيضُ في كلّ شَهرٍ حَيْضَةً جاز له أنْ يُطَلِّق بعد شَهرٍ، ومن يَعْلَمُ أنّها لا تَحِيضُ إِلَّا كلّ ثلاثة أشهرٍ أو خمسة لم يَجُز له أنْ يُطَلَّقَها إلا بعد مضي هذه المدة، وكأن المراعي في جواز ذلك مُضَيُّ حَيضةٍ وانتقالها إلى طُهرٍ لم يَقْرَبْها فيه بجماع؛ وذلك يختلف(5).

وتبعه على هذا التنزيل ابن إدريس(6)، والمحقّق أبو القاسم(7)، والعلّامة في غير المختلف(8)، والشهيد(9) (رحمهم اللّه) وغيرهم(10).

ولنشرع الآن في الكلام على حُجَج هذه الأقوال.

ص: 366


1- الكافي، ج 6، ص 80، باب طلاق الغائب، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 62، ح 202؛ الاستبصار، ج 3، ص 295، ح 1041.
2- النهاية، ص 512.
3- الفقيه، ج 3، ص 503، ح 4770؛ تهذيب الأحكام، ج8، ص 62، ح 204؛ الاستبصار، ج 3، ص 295، ح 1043.
4- الفقيه، ج 3، ص 503.
5- الاستبصار، ج 3، ص 295.
6- السرائر، ج 2، ص 686.
7- شرائع الإسلام، ج 3، ص 5.
8- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 54، الرقم 5382 : قواعد الأحكام، ج 3، ص 126.
9- لم نقف على كلام الشهيد (رحمه اللّه).
10- إيضاح الفوائد، ج 3، ص 305.

فأمّا القول الأوّل، فإنّ أخباره وإن كانت صحيحةً متكثّرةً، لكنَّها مطلقةٌ أو عامّةٌ، والأخبار الدالّة على التربُّص مقيَّدة بتلك المدَّةِ، فيجب حمل المُطلَق على المقيَّد، فَضَعُف القولُ الأوّل.

فإن قيل: لِمَ لا يُحْمَلُ التقييد على الاستحباب، أو على التخيير بينه وبين عدمه - كما يدلُّ عليه الحديث الأخيرُ من التخيير بين السِتَّةِ والخمسة مطلقاً، ثمّ إجازَةُ الثلاثةِ لما طلب منه التخفيف وإجازَةُ الشهر في الحديث الآخر، وإطلاق الإذن في هذه الأخبار - فيكون العمل بمضمون الكلِّ جائزاً وإن كان التربص أولى بحسب مراتبه ؟

قلنا: مقتضى قوله. الحديث الدالّ على الثلاثةِ تعيَّنُ ذلك، حيث قال: «ليس له أن يُطَلَّقَ »؛ فإنّ المفهوم من هذا النفي نفي الجواز، فحمله على الاستحباب خلاف الظاهر، فلا يجوز المصير إليه مع إمكان الحمل على ما يوافق الظاهر.

فإن قيل: هذا المعنى وإنْ كان هو الظاهر؛ لكنَّه ينافي إطلاق التربص شهراً، فإنّه مقيَّدٌ لا مطلَق حتّى يُحمَلَ على الثلاثةِ فيعدل عن ظاهر الثلاثة جمعاً بين الأخبار.

قلنا: هذا الوجهُ حَسَنٌ لو كان الخبرُ الدالّ على الشهر في قوَّة ذلك الخبر الدالّ على الثلاثة؛ ليجمع بينهما كما فعله الصدوق. لكنَّ الأمر ليس كذلك؛ فإنّ خبر الثلاثة من الصحيح، وخبرَ الشَهرِ ضعيف، أو من الموثَقِ، وفي جواز العمل به مع معارَضَة الصحيح بل مع عدمه نظر، بل الظاهر خلافه، فتعيَّن العمل بخبر الثلاثة.

والخبرُ الأخير الدالُّ على التخيير بين السِتَّةِ والخمسة والتنزيل إلى الثلاثةِ يَعْضُدُ الخبر الصحيحَ الدالّ على الثلاثة ويوافقه، وإن كان الكلام فيه مع انفرادِهِ كالكلام على خبر الشهر.

فقد تحرَّرَ من ذلك أنّ الاعتماد من هذه الأخبار على ما صح منها، وهي المُطْلَقَةُ، والمقيَّدةُ بالثلاثة، ووجوب حمل المُطْلَقِ على المُقَيَّد يُعيّنُ العمل بالثلاثةِ، كما اختاره

ص: 367

العلّامة في المختلف(1)؛ تبعاً لابن الجُنَيْد (2).

فإن قيل: الخبر الدال على الشهْرِ يَتَأَيَّدُ بالأخبار المُطلقة التي لا توجب التربُّص، فإنَّ تقييدها بالشهر ينفي العمل بها مع تقيدها به فليس خبرُ الشهر منفرداً في الحقيقة.

قلنا: لَمّا كانت الأخبار الصحيحةُ المُطْلَقة متروكة العمل بالظاهر لوجود المقيّد، كان المعنى المراد منها هو الحكم مع القَيْدِ؛ لَمّا كان قَيْدُ الشَّهْرِ ضعيف السند أو غَيرَ معمول عليه، كان في قوَّةِ المعدوم بالنظر إلى قَيْدِ الثلاثة الصحيح، فتعيَّن التقييد به، وقد ظهر بذلك ضعفُ القول الأوّل والثالث والرابع.

جمع الشيخ والمتأخّرين بين الأخبار

وأمّا جَمْعُ الشيخ والمتأخّرين بينها بالحمل على عادات النساء المختلفة، ففيه: أنّ الأخبار الصحيحة بين مطلقٍ في عدم التربص - ولاشيء من عادات النساء بمتروكِ أصلاً ورأساً - وبين مقيَّدٍ بثلاثة أشهرٍ، وهو مخالف للغالب قديماً وحديثاً من عادات النساء؛ فإنّ وجود امرأةٍ تَحِيضُ في كلّ ثلاثة أشهُرٍ مرَّةً في غاية النُدُورِ على تقدير وقوعه، بل هو ممكنٌ غير واقع، فإطلاق الأمر به بناءً على كونه بعض العادات حمل على خلاف الظاهر.

وأيضاً فليس فى هذه الأحاديث سؤال عن واقِعَةٍ مخصوصة حتّى يتوجّه حملها على كون تلك المرأة معتادةً بتلك العِدَّةِ، وإنّما وقع السؤال في كلّ حديثٍ عن مطلق النساء على وجه القاعدة الكلّيّة؛ فحملها على العادات المختلفة بعيدٌ جدّاً.

وأمّا حديث الشهر، فإنّه موافق للغالب؛ لكن فيه ما قد عرفت، وهو أقرب إلى الظهورِ والصحّة بسبب موافقته للغالب، بل لو لم يَرِدْ في البابِ غَيره لم يكن مخالفاً لما يخرج من ذلك عن عادة النساء نادراً؛ فإنّ ردّ الأحكامِ إلى الأمور الغالبة موافق للحُكمِ وأمّا حديث التخيير بين الستَّةِ والخَمسة ثم إطلاق الثلاثة، فبعيد جداً عن مناسبة

ص: 368


1- مختلف الشيعة، ج 7، ص 354، المسألة 11.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 7، ص 354، المسألة 11.

العادة، من جهة الزيادة ومن جهة التخيير؛ فإنّ العادة ليس فيها تخييرٌ.

ويَرِدُ على الجميع أنّ العادة ربما كانت أقل العادة ربما كانت أقلّ من مجموع من مجموع هذه التقديرات، كما إذا خرج عنها بِقُربِ أيّام عادتها بحيث تنتقل من طهرٍ إلى آخَرَ فِي أيّام يسيرةٍ تَقْصُرُ عن أقل المُدَدِ وهو الشهر؛ فلا يكون حينئذٍ عاملاً بشيءٍ من الأحاديث. بل هذا هو الظاهر؛ فإنّ المُفارقة في الطهرِ لابدَّ أنْ تكونَ بعد مدَّةٍ قد مَضَتْ منه باعتبار وقوع الجماع في أثنائه وخروجُهُ بعد ذلك، فلا يحتاج إلى تمام الشهر بالنسبة إلى الغالب من عادات النساء؛ فالتنزيل على الاكتفاء بالانتقال من طهرٍ إلى آخَرَ يُخالف مجموع الأخبار.

وأيضاً ربما كان انتظار العادة بعد أحد المُدَدِ وقبل المدة الأُخرى كالشهر والثلاثة، فإذا توقَّفَ الأمرُ على شهرٍ ونصف لم يكن داخلاً في شيء من التقديرات.

فإن قيل: الأخبار المُطلقة لمّا حملت على المُقَيَّدة لم تَقْدَحْ في اعتبار العادة؛ لأنّ المطلوب حينئذٍ هو المُقَيَّد، ثمّ المُقَيَّد يوافق بعض الفوائدِ بحسب الإمكان، ففي الحمل عليه سلامة للأخبار الصحيحة أو المشهورة عن الاطراح أصلاً ورأساً؛ ولا شك أنّ حمل الخبر على الوجه البعيد خيرٌ من اطراحِهِ. مع أنّه يمكن حمل الأخبار المُطلقة في الإذنِ على بعض الوجوه الممكنة، كما لو خرج إلى السفر في آخر جزء من حَيْضِها أو ما يَقْرَبُ منه؛ فإنّه حينئذٍ يجوز له طلاقها حالَ الغَيْبَة مطلقاً، وهو نوع من الحمل وإنْ بَعُدَ، بل هو أقرب من التقييدِ بثلاثة أشهرٍ وخمسةٍ وستَّةٍ؛ لأنّ ذلك مجرّد فرض غالباً. أمّا هذا فوقوعُهُ لكلِّ فردٍ من أفرادِ المعتادة ممكن، وباقي التقييدات يمكن وقوعه في نفسه، فليس في الحمل عليه فرض محال، وهو خيرٌ من اطراح الأخبار. وأما فرض اتّفاق الانتقال من الأشهر المنصوصة، فإنّه وإن لم يكن حكمه مذكوراً بخصوصه، لكن الصبر به إلى العدد الزائد يُصححه قطعاً. أو نقول: في التقدير المختلف تنبيه على اعتبار الانتقال كيف كان، فإذا وقع ما لا يوافق المقدَّرِ يستفاد حكمه منه من باب التنبيه.

قلنا: هذه المحامل البعيدة إنما ينبغي المصير إليها عند تعذُّرِ ما هو أوجه منها

ص: 369

وأوفق، وهو هنا ممكن؛ فإنّا قد أسلفنا أنّ الأخبار الصحيحة من جملة تلك الأخبار هي المُطْلَقَة والمُقَيَّدة بالثلاثة، ووجوب حملِ المُطْلَقِ على المُقَيَّدِ يُصَيِّر الجميع في معنى التقييد بالثلاثة أشهرٍ، فليس هنا إلا وجه واحد وهو تقييد جواز طلاق الغائب بثلاثة أشهرٍ، وباقي الأخبار لو وافقت عوائد(1) مستقرّةً ومعاني واضحةً، لم يَسُغُ العمل بها وإن كانت أُصول بعض أصحابنا تقتضي العمل بها، ف«كلُّ يَعمَلُ على شاكِلَتِه»(2).

وإذا تَعيَّنتِ الأخبارُ للتقييد بثلاثة أشهرٍ - وهو وهو مع ذلك موافق لحِكمَةِ التربُّص بالمجهولة الحال وهي المسترابُه وما في حكمها كالمُرْضِعِ - تَعَيَّنَ العمل بها واستغنى عن المَحامِل الباردة التي تمُجُها الطباعُ في الأخبار الشريفة وبيان أئمّة الهدى (عَلَيهِم السَّلَامُ) لأحكام الدين وفي الحقيقة الغائب عن زوجته في طُهْرِ المُواقَعَةِ مع كونها ممكنة الحمل عادةً، تصير بجهله بحالها يُمكن عنده حملها وعدمه حَيْضها وعدمه، فهي في حكم من انقطع عنها الحَيْضُ في زمان،إمكانه، وقد احتُمِلَ كونها حاملاً أو غير حامل وحَصَلَتِ الاسترابة لها وبها؛ فإذا ورد النصّ الصحيحُ بذلك وعَمِلَ به جَماعةٌ من كبراء الأصحاب، فلا وجه للعدول عنه.

نعم، يُمكنُ أنْ يقال - زيادة على النصوص - : إنه قد عُلِمَ من القواعد الشرعيّة المستندة إلى النصوص أنَّ حكم طلاق الغائب أسهل من طلاق الحاضر وأخَفٌ، وهو يظهر من وجهين

قولان منشؤهما القواعد الشرعيّة

أحدهما: أنّ الحاضر لا يسوغ له الطلاق إلا مع براءة المرأة من الحيض والنفاس قطعاً، وكون الطلاق واقعاً في طُهْرٍ لم يَقْرَبُها فيه والغائبُ يجوز طلاقه مع حَيْضِها في الجُمَلةِ، وفي طُهْرِ المواقعةِ، إمّا مع عدم التربص أو معه مع انقضاء المدَّة المعتبرة.

والثاني: أنّ الحاضر لا يجوز طلاقه من غير انتظار الحالة المذكورة إجماعاً

ص: 370


1- عوائد جمع عادة.
2- الإسراء (17): 84.

والغائب قد قيل فيه بجواز طلاقه مطلقاً من غير تربُّص(1). وما أُجْمِعَ فيه على وجوب التربص - على وجه - أقوى وأغلطُ حكماً مِمَّن اختُلِفَ في وجوب تربصه. وإذا تبيَّنَ ذلك وكان حكم القوي أنّها إذا انتقلَتْ من طُهْرٍ إلى آخَرَ يجوز طلاقها من غير اعتبار أمرٍ آخَرَ - من مُضيّ ثلاثة أشهرٍ أو ما هو أزيد - كان حكم الضعيف أولى بذلك؛ فإذا عَلِمَ الغائبُ انتقالها من طُهْرٍ إلى آخر ينبغي أن يجوز طلاقه بطريق أولى، وحينئذٍ فإنْ عَلِمَ الغائبُ انتقالها من الطُّهْرِ الذي واقعها فيه إلى آخر صح طلاقه كالحاضر، وإنْ لم يعلم وجب عليه التربص ثلاثة أشهر، عملاً بصحيح الروايات التي قد اجتمع مُطْلَقُها ومقيَّدها على ذلك، ولعلَّ هذا التفصيل أقوى الأقوال وأمتنها دليلاً، وقد تقدّم أنه اختيار فخر الدين في الشرح(2). ويكون خبر الشهر بل الأخبار المُطلقة مؤيِّدةٌ له.

فإن قيل: جواز الطلاق مع علمه بانتقالها مبني على كون الغائب أخفَّ حُكماً؛ لما ذكر، ولكن قد يقال: إنه أغلظ حكماً على بعض الوجوه؛ فإنّه مع الجهل بانتقالها قد ورد النصّ بوجوب تربّصه ثلاثة أشهرٍ أو أزيد وهذا حكم أقوى من حكم الحاضر.

قلنا: قد بيّنّا انتفاء ما يزيد على الثلاثة. وحكم الانتظار ثلاثةً واقع في الحاضر أيضاً كما في المسترابة المشابهة لزوجة الغائب باعتبار جهله بحالها؛ وحينئذٍ فحكم الغائب من هذا الوجه حكم الحاضر في نظيره، ويبقى مع الغائب خفة الحكم فيما أسلفناه، فكان حكمه أخَفَّ في الجملة كما ذكرناه. إذا تَقرَّر ذلك فنقول: إذا طلَّقَ الغائبُ زوجته، فلا يخلو إمّا أنْ يكونَ طلَّقها بعد مُضيّ المدَّةِ المعتبرة في صحّة الطلاق أو قبلها. وعلى التقديرين إما أن يوافق فعله كونها جامعة للشرائط في الواقع، بأن تكون قد حاضت بعد طُهْرٍ المواقعةِ وطَهُرَت، فوقع

ص: 371


1- القائل هو الشيخ المفيد في المقنعة، ص 526 - 527؛ وسلّار في المراسم، ص 161؛ وابن أبي عقيل كما حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 7، ص 353، المسألة 11، وغيرهم كما تقدّم في أوائل الرسالة.
2- إيضاح الفوائد، ج 3، ص 305 - 304.

الطلاق حال الطُّهْرِ. أو لا يوافق بأنْ تبيَّنَ وقوعه في طُهْرِ المواقعة أو حالة الحَيْضِ، أو يستمر الاشتباه، فالصُوَرُ ثمانٍ، ثمّ على تقدير الانتظار قد يتفقُ له من يخبره بحالها - بحيث يُعتبر خبره شرعاً - وتكون الحال موافقةً للشرط أو مخالفة؛ فَتَنْشَعِبُ منها صُوَرٌ أُخرُ تَتَّضح أحكامُها بمسائل:

ثمان صور متشعبة من هذه المسألة

1 - أن يطلقها مراعياً للمدّة المعتبرة

الأولى: أنْ يُطَلَّقَها مُراعياً للمدَّة المعتبرة، ثم تظهر الموافَقةُ بأن كانت قد انتقلَتْ من طُهْرِ المواقعةِ إلى آخر، وهنا يصحّ الطلاق إجماعاً؛ لاجتماع الشرائط المعتبرة في الصحّة ظاهراً وفي نفس الأمر.

2 - أن يطلقها كذلك ولكن ظهر بعد ذلك كونها حائضاً

الثانيةُ : أنْ يُطَلَّقَها كذلك، ولكن ظهر بعد ذلك كونها حائضاً حال الطلاق، وهنا أيضاً يصح الطلاق؛ لأنّ شرط الصحّة حينئذٍ للغائبِ مُراعاة المدة المعتبرة وقد حصل والحَيْضُ هنا غير مانع؛ لعدم العلم به وهو مما قد استثني من صُوَر المنعِ من طلاق الحائض في النصّ والفتاوى.

ورواية أبي بصير السابقة صريحة فيه؛ فإنّه قال فيها: الرجلُ يُطلق امرأته وهو غائبٌ فيعلم أنه يوم طلقها كانت طامِئاً، قال: «يَجُوزُ»(1) : والمراد من هذه الرواية أنّه لم يكن عالماً بالحَيْضِ حال الطلاق، ثمّ عَلِمَ؛ لعطفه العلم على الطلاق، بالفاء المفيدة للتعقيب، وهذه الصورة ممّا لا يُعْلَم فيها خلافٌ أيضاً.

3 - الصورة السابقة مع أنه طلّق بعد المدّة المعتبرة

الثالثة: الصورة بحالها في أنّه طَلَّقَ بعد المدة المعتبرة، ولكن ظهر بعد ذلك كونها باقيةً في طُهْرِ المواقعة لم تنتقل منه إلى حَيْضِ ولا إلى طُهْرٍ آخر. والظاهر أنّ الحكم هنا كالثانية لعين ما ذكر وهو وقوعه على الوجه المعتبر شرعاً؛ ولأن الطلاق إذا حُكِمَ بصحته في حالة الحَيْضِ - بالنصّ والإجماع - فَلَأنْ يحكم بصحته في حالة الطهرِ أولى. وذلك لما قد عرفته سابقاً من أن شرط الطلاق في غير الغائب أمران: وقوعه في طُهْرٍ، وكون الطهر غير طُهْرٍ المواقعة. فإذا اتفق وقوعه في حالة

ص: 372


1- تهذيب الأحكام، ج8، ص 62، ح 201؛ الاستبصار، ج 3، ص 294، ح 1040.

الحَيْضِ تخلَّف الشرطانِ ؛ لعدم طُهْرٍ آخَرَ غيرِ طُهْرِ المواقعة وعدم الخلو مِن الحَيْضِ. وإذا اتَّفق وقوعه في حالةِ الطُّهر فالمتخلف شرط واحد، وهو كون الطهر غير طُهْرٍ المواقعةِ، فإذا كان تَخَلَّفُ الشرطين في الغائب غير مانع الشرطين في الغائب غير مانعٍ، فَتَخَلَّف أحدِهما أولى بعدم المنع.

والذي اختارَهُ المحقّق الشيخ عليّ (رحمه اللّه) في بعض فوائده(1) هنا عدم الوقوع، مُحْتَجَّاً بانتفاء شرط الصحّة، وهو حصول استبراء الرحم خرج منه حالة الحَيْضِ للرواية، فيبقى الباقي.

وأجاب - عن الاحتجاج بوقوعه على الوجه المعتبر شرعاً - بمنع وجود الشرط؛ وبأنّ الإذن في الطلاق استناداً إلى الظنِّ لا يقتضي الحكم بالصحّة إذا ظهر بطلانُ الظَّنِّ (2).

وجوابه: أن الشرط المعتبر - في استبراء الرحم للغائب - إنما هو مرعاةٌ المدَّةِ المعتبرة وهو حاصلٌ، وموضعُ النصّ والفتوى وهو حالة الحَيْضِ يُنَبِّهُ عليه بأبلغ وجهٍ، وظهور بطلان الظنِّ غير مؤثِّرٍ فيما حكم بصحته ظاهراً، كما يُنَبِّه عليه ظهور الحَيْضِ.

والحاصل: أنّ الشرط المعتبر حاصلٌ، والمانع - وهو ظهور الخطا - غيرُ متحقِّقٍ للمانعيّة، وقد تخلَّفَ فيما هو تخلَّفَ فيما هو أولى بالحكم، فليس ذلك من باب القياس الممنوع، بل غایته اشتراكهما في طريق الحكم.

فإن قيل: إذا كانت الحِكْمَةُ في انتظار المدَّة المقرَّرة في الجُملة إنّما هي استبراءُ الرحم من الحمل، لم يكن الحكم بالصحّة لو ظهرت طاهراً في طُهْر المواقعة أولى؛ لأنّ براءة الرحم معه غير متحقّقة، بخلاف ما لو ظهرت حائضاً؛ فإنّ الظاهر مع الحَيْضِ بَراءةُ الرحم من الحمل بِناءً على امتناع حَيْضِ الحامل أو على الغالب من عدم حَيْضِها؛ فالأولويةُ في حالةِ الظُّهْرِ،ممنوعة، بل المساواة وإنّما الأمر على العكس لكون الحَيْضِ

ص: 373


1- يعني رسالة طلاق الغائب، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص 207 - 215.
2- رسالة طلاق الغائب، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص 212.

موجباً للبراءة أو أقرب إليها؛ بل في الحقيقة الاعتبار الظنّي إنّما هو به. وأمّا الانتقال منه إلى الطُهْرِ، فإنّما يفيد استظهاراً قليلاً فيه؛ إذ لا دخل في البراءة.

قلنا: هذا الاعتبار حسن، لكنَّه مبنيٌّ على وجوب اعتبار الحِكْمَةِ وهو غير لازمٍ، وإنّما دلَّتِ النصوص على اعتبار انقضاء المدَّة المعتبرة، واسْتُنْبِطَ منها الاكتفاءُ بظنّ الانتقالِ من طُهْرٍ إلى آخَرَ، كما قد عرفته، وكلاهما متحقِّقٌ هنا، والحِكْمَةُ مستنبَطَةٌ لا منصوصةٌ فلا يلزم اطّرادُها، فيرجع الأمرُ إلى ما قلناه من وجود مقتضي الصحّة وانتفاء المانع.

4 - الصورة بحالها لكن اتّفق له مخبر بأنها حائّض

الرابعةُ: الصورة بحالها في كون الطلاق وقع بعد المدة المعتبرة؛ لكن اتَّفَقَ له مخبر - يجوز الاعتماد عليه شرعاً - بأنها حائض بسبب تغير عادتها، فهل يقع الطلاق صحيحاً أم لا؟ وجهان أجودُهما العدم؛ لعموم الأدلّة الدالّة على المنع من طلاق الحائض، خرج منها غير المدخول بها وزوجةُ الغائب بعد التربُّص وعدم العلم بالحال حين الطلاق،فيبقى الباقي على المنع.

ووجهُ الصحّة إطلاق الأخبار بجواز طلاق الغائب بعد المدَّة، أو مطلقاً من غير تفصيل، فتكون مُخَصِّصَةً للمنع من طلاق الحائض كما خَصَّصَ المنع منه لو كانت حائضاً في نفس الأمر مع عدم ظهوره.

ويُضَعَّفُ بأنّ كُلاً من أخبار المنع من طلاق الحائض وتسويغ طلاق الغائب على كلّ حالٍ مُطلَق، وليس تخصيص أحدهما بالآخر أولى من عكسه؛ إذ كما يُحْتَمَلُ أنْ يقال: إنّ الأخبار الدالّة على صحّة طلاق الغائب مخصِّصةٌ لأخبار المنع من طلاق الحائض كذا يمكن أنْ يقال: إنّ أخبار المنع من طلاق الحائض خَصَّصَتْ عموم تسويغ طلاق الغائب على كلّ حالٍ. فيبقى أنْ يقال: إنّ أخبار المنع من طلاق الحائض خُصِّصَتْ بأخبارِ تسويغ طلاق الغائب - على تقدير كونها حائضاً في نفس الأمر - إجماعاً

ص: 374

فيُقتَصَرُ في التخصيص على موضع الوفاق. وأخبارُ تسويغ طلاق الغائب مع الحَيْضِ، خُصِّصَتْ بأخبار المنع من طلاق الحائض على تقدير ظهور الحَيْض قبل الطلاق، وفاءً بحقّي العامَّين بحسب الإمكان.

وقد ظهر بذلك ضَعْفُ ما قيل هنا :

إنّ الأخبار الدالّة على التربُّص دلّتْ على اعتبار المدَّةِ المذكورة مِن غَيرِ تقييدٍ بكونها طاهراً وقت الطلاق وعدمه، فيُقيَّدُ بذلك عمومُ الأخبار العامّة الدالّة على جواز تطليق الغائب مطلقاً، والأخبار العامّة مقيّدة لعموم الأخبار الدالّة على المنعِ من طلاق الحائض(1).

وأيضاً فإنّ الموجبَ لِبِناء الغائب على الأهِلَّةِ إنَّما هو عدم العلم بحال المرأة، وقد تُبة عليه في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سألت أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجلٍ تَزَوَّجَ امرأةً سِرّاً من أهلها، وهي في منزل أهلها وقد أراد أنْ يُطَلِّقَها وليس يَصِلُ إليها فيعلَمُ طَمْثَها إذا طَمِثَتْ ولا يَعْلَمُ طُهْرَها إذا طَهُرَتْ ؟ قال فقال: «هذا مثل الغائب عنه أهله(2). يُطَلِّقُها بالأهلَّةِ والشهورِ»(3).

فَنَبَّة على أنّ الغائب إنّما يُطَلِّقُ بالأهلةِ والشهور؛ لتعذُّرِ علمه بحالها؛ فلو عَلِمَ به كان حكمهُ حكم الحاضر، كما أنّ الحاضر الذي لا يَعلَم حالها في حكم الغائب.

فصارت الأقسام أربعةً حاضر، ومن في حُكمِهِ؛ وغائبٌ، ومن في حكمِهِ.

وقد تبيَّنَ لك من دليل الوجهين أنّه لا فرق في المنعِ من الطلاق في هذه الصورة

ص: 375


1- رسالة طلاق الغائب، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص 213: فإن قيل: يمكن الجمع بين الأخبار بوجه آخر. وهو أن يُقال: الأخبار الدالّة على التربّص... قلنا: هذا مردودٌ لوجوهٍ.... .
2- هكذا في نسخة الأصل، وفي المصادر: «عن أهله» بدل «عنه أهله».
3- الكافي، ج 6، ص 86، باب في التي يخفى حيضها، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 516، ح 4810 : تهذيب الأحكام، ج 8، ص 69، ح 229.

بين كون المرأة حائضاً بعد الظهر الثاني وقبله؛ لأنّ دليل المَنعِ آتٍ فيهما. وكذا لا فرق في احتمال الجواز بين الحَيْضِ في الحالين، لكن قد وقع الاشتباهُ في الحالة الأُولى، وهي ما لو كانت حائضاً بعد الطُهْرِ الثاني أكثر، فخصَّهُ بعضهم بالجوازِ دون الحالة الأُخرى، ولا فرق من حيث الدليل وإن كانت تلك الحالة أبلغ في الاستظهار وأبعدَ عن الاشتباه؛ فإنّ الانتقال من الطُهْرِ الذي واقعَها فيه إلى آخَرَ قد حصل، واستبراءَها بالمدَّةِ المحدودة قد وُجِدَ، فكان الجواز فيها أولى.

5 - الصورة بحالها لكن المخبر أخبر بكونها طاهراً وقد واقعها في ذلك الطهر

الخامسة: الصورة بحالها، لكن المُخْبِرَ إنَّما أخبر بكونها طاهراً طُهْراً قد واقعَها فيه، بمعنى أنّه لم يتجدَّد لها بعد ذلك حَيْضٌ على خلاف العادة. وفي صحّة الطلاق حينئذٍ الوجهان المتقدِّمان - فيما لو أخْبَرَ بكونها حائضاً بعد طُهر المواقعة بغير فصلٍ - لاشتراكهما معاً في العلَّةِ، وهي عدم اجتماع الشرائط المعتبرة في صحّة الطلاق في نفس الأمر، ومُضيُّ المدَّة المعتبرة طاهراً وظهور الحال بحسب الأخبار. وأولى بعدم الصحّة هنا لعدم استبرائها بما يُعْلَم به كونها حاملاً أو حائلاً، بخلاف ما لو أخْبَر بكونها حائضاً؛ فإنّه يظهر بذلك كونها حائلاً غالباً، وهو ظاهرُ الحكمة فى الاستبراء.

فإن قيل: المانع هناك الأخبارُ الدالّةُ على المنع من طلاق الحائضِ مطلقاً، المعارضةُ للأخبار المسوِّعَةِ لطلاق الغائب بعد المدَّة - وهذا المعنى مفقودٌ هنا؛ لأنّ المفروض كونها طاهراً بحسب الأخبار، والمدة المعتبرة حاصلةٌ، فلا مانع من الصحّةِ - تعارضَ الأخبار الدالّة على الإذن في الطلاق المقتضي للصِحَّةِ.

قلنا: كما أنّ الأخبار قد وردت بالمنع من طلاق الحائض مطلقاً؛ كذلك وردتْ بالمنعِ من طلاق من لم تنتقِلْ مِن طُهْرٍ المواقعة إلى حَيْض، ثم إلى طُهْرٍ آخَرَ بعدَهُ، كقول الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية زرارة: «لاطلاقَ إلّا على سُنَّةٍ، ولا طلاق على سُنَّةٍ إلّا على طَهُورٍ

ص: 376

من غَيرِ جماع، ولاطلاق على سُنَّةٍ وعلى طهرٍ من غَيرِ جماعِ إلّا ببِّينةٍ»(1).

ورواية زرارة ومحمَّد بن مسلمٍ وبكيرٍ وفضيلٍ وغيرهم عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، أنّهما قالا:

«إذا طَلَّق الرجلُ في دم النفاس أو طلَّقها بعدما يمسُّها فليس طلاقه إيّاها بطلاق وإن طلَّقها في استقبال عدَّتها طاهراً من غَيرِ جماعٍ ولم يُشهِد على ذلك رجلينِ عدلينِ فليس طلاقُه إيّاها بطلاق»(2).

وغيرهما من الأحاديث الدالّة على المنع من طلاق غير المنتقلة من طُهْرِ المواقعة إلى آخر(3)، فيكون الكلامُ فيها كالكلام في الأخبار الدالّة على المنع من طلاق الحائض، المعارِضةِ لأخبار الإذن في طلاقِ الغائب بعد المدَّة المعتبرة. وطريقُ الجمع بينهما واحدٌ، ويرجع البحث إلى المنعِ من صحّة الطلاق - كما تقدّم - وإن كان للصحَّة وجهٌ بتقريب ما تقدَّم.

ويمكن أن يقال هنا أيضاً بأن الصحّة ثَمَّةَ تقتضي الصحّة هنا بطريقٍ أولى؛ وذلك لأنّ الشرط في صحّةِ الطلاق كون المرأة طاهراً من الحَيْض، وكون الطُهْر ممّا لم يَقْرَبْها فيه بجماعٍ، فإذا أخْبَرَ بكونها حائضاً فقد تخلَّفَ الشرطان معاً، وهما الطُهْرُ وكونه غَير طُهْر المواقعةِ، وإذا أخْبَرَ بكونها طاهراً طُهر المواقعة فالمتخلف شرط واحد وهو كون الطُّهْر غَيرَ طُهْرٍ المواقعة، ومطلق الطهر حاصل. فإذا قيل بصحة الطلاق ثَمَّةَ كانت الصحّة هنا أولى، وهذا يأتي على توجيه الصحّة مع الحَيْض مطلقاً، سَواءٌ كان هو الحَيْض المتعقب لطُهْرِ المواقعة أم ما بعده. وعلى ما قيل: من أنّ الصحّة هناك مشروطةٌ بكونها حائضاً بعد الطُهْرِ الثاني، ينتفي الأمران معاً.

ص: 377


1- الكافي، ج 6، ص 62، باب أنّ الطلاق لا يقع...، 3؛ تهذيب الأحكام، ج8، ص 51، ح 163.
2- الكافي، ج 6، ص 60، باب من طلق لغير الكتاب والسنّة، ح 11؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 47، ح 147.
3- الكافي، ج 6، ص 67، باب طلاق السنّة والعدّة...، ح 6؛ تهذيب الأحكام، ج8، ص 49، ح 152.
6 - أن يطلقها مراعياً للمدة المعتبرة

السادسةُ : أنْ يُطَلَّقَها مُراعياً للمدَّة المعتبرة، ويستمرَّ الاشتباه، فلا يَعْلَم كونها حين الطلاقِ كانت طاهراً طُهْر المواقعة أو غيره، أو حائضاً، وهاهنا يصحّ الطلاق قولاً واحداً؛ لوجود المقتضي للصحَّةِ - وهو استبراؤها المدَّةَ المعتبرة مع باقي الشرائط - وانتفاء المانع؛ إذ ليس ثُمَّ إلّا اشتباه الحال وهو غير صالحٍ للمانعيّة.

فإن قيل: إذا كان انتقالها من طُهْرِ المواقعةِ إلى آخَرَ شرطاً في صحّة الطلاق، كان الجهل بالانتقال جهلاً بحصول الشرط المقتضي للجهل بِصحَّةِ المشروط، وإن كان ذلك إنّما يعتبر في الحاضر، فالغائبُ طلاقُه صحيحٌ وإِنِ اتَّفق في الحَيْضِ أو طُهْرِ المواقعَةِ مع العلم به وبدونه؛ لأنّ ذلك ليس شرطاً في طلاقه.

قلنا: المعتبرُ في شرط طلاق الغائب إنّما هو مُضيُّ المُدَّةِ المعتبرة مع عدم العلم يكونها حائضاً حال الطلاق أو ما في حُكْمِهِ، ككونها طاهراً طُهر المواقعةِ، فمتى انْتَفَى العلم بذلك حصل الشرط، فيصحُّ الطلاقُ.

فإن قيل: أخبارُ الإذن في طلاق الغائب مطلقاً، أو بعد المدة المعتبرة، غير مقيَّدةٍ بالطَّهر ولا بغَيرِهِ، والأخبار المقيَّدة بالطُّهر غير مقيَّدة بالحاضر ولا بغيره؛ فإن اعتُبِرَ في صحّة طلاق الغائب مدلول أخباره خاصَّةً، لم يكن الحَيْضُ مانعاً من الصحّة ولا طُهْرُ المواقعةِ مطلقاً؛ وإنِ اعتُبِرَ معها مدلول هذه الأخبار، لزم المنع من طلاق الغائب مع الجهل بالحال، ومع تبيُّنِ الحَيْضِ والطُهْرِ بعد الطلاقِ وإنْ جَهِلَ الحال عنده، والاتّفاق على خلافه.

قلنا: وجوب الجمع بين الأخبار المُطْلَقَةِ والعامّة تقتضي اعتبار جميع ما دلَّتْ عليه الأخبار المختلفة، إلّا ما أخرجهُ الإجماع، وهو الطلاق من الغائب مع اشتباه الحال دائماً، ومع ظهور الحَيْضِ وطُهْرٍ المواقعة بعد ذلك، ويبقى ما عدا المُجْمَعُ عليه على الأصل من اعتبار استجماع جميعِ ما أمكنَ جمعه من الشرائط التي من جملتها مُضيُّ المدَّة في الغائب، والسلامة ُمن الحَيْضِ وطُهْر المواقعة.

ص: 378

فإن قيل: هذا يقتضي المنع من طلاقِ الغائب لوتبيَّن بعد ذلك وقوعه في طُهْرٍ المُواقعةِ؛ لأنّه لا إجماع عليه، وقد تقدّم نقل الخلاف فيه.

قلنا: إن سُلَّمَ عدم الإجماع عليه - المستفاد من إطلاق الأصحاب صِحّة الطلاق مع اعتبار المدَّةِ المذكورة من غَير تقييدٍ بطُهْرِ المُواقعةِ وعدمه - أمكن استناد الصحّة فيه إلى مفهوم الموافقة بالنسبة إلى صحّة طلاق مَن تبيَّنَ كونها حائضاً، المنصوص على صحتهِ المُجْمَعِ عليه بناءً على ما تقدّم من أنّ الحَيْض يوجب اختلال الشرطينِ المعتبرين في الطلاق، وطُهر الُمواقعة يوجب اختلال شرطٍ واحدٍ، فإذا صحَّ الطلاقُ مع اختلال الشرطين صحَّ مع اختلال شرطٍ واحدٍ بطريق أولى. وإن لم يتمَّ هذا الدليلُ وتبَيَّنَ عدمُ الأولوية التزمنا ببطلان الطلاق المذكور؛ اعتباراً لوجوب الجمع بين الأخبار بحسب الإمكان.

7 - أن يطلقها قبل مضيّ المدّة المذكورة

السابعةُ: أنْ يُطَلِّقها قبلَ مُضيّ المدَّةِ المذكورة ولكن ظهر بعد الطلاق وقوعه في طُهْرٍ لم يَقْرَبْها فيه. وفي صحّة الطلاق حينئذٍ وجهان: من مطابقة الشرط في نفس الأمر وظهور الحال ومن عدم اجتماع الشرائط المعتبرة في الطلاق حال إيقاعه؛ فإنّ من جملتها التربُّص به المدَّةَ المذكورة ولم تَحْصُلْ.

ومن نظائر هذه المسألة ما لو باع مال أبيه ظانّاً حياتَهُ، بل قبل العلم بموته، فتبيَّنَ موته حالة البيع وانتقال المال إلى البائع؛ فإنّ في صحّة البَيْعِ - لموافقة كونه مالكاً حين البَيْعِ - أو البطلانِ - لعدم تحقّق الملك ظاهراً – قولين(1)، والوجهانِ آتيان فيما لو طلَّقَ الحاضرُ قبل علمه بانتقالها من طُهْرِ المُواقعة إلى آخَرَ، ثم تبيَّنَ انتقالها قبله.

ويمكن الفرق بين العالم بعدم جواز الطلاق قبل الاستبراء وعدمه فيبطل مع العِلمِ ويصحُّ مع عدمه، والفرقُ أنّ العالم بعدم الصحّة لا يَقصُدُ إلى طلاق صحيح بخلاف

ص: 379


1- جامع المقاصد، ج 4، ص 76.

الجاهل، فإذا اقترن بالقصدِ موافقةُ الشرط في نفس الأمر وقع الطلاق، وليس في الأخبار ما يدلُّ صريحاً على اعتبار العلم بالانتقال من طُهْرِ المُواقعة إلى آخر، بل على اشتراط وقوع الطلاق في غَير طُهْرِ المُواقعةِ، فالقولُ بالصحّة مع ظهور الشرط ليس ببعيد، لكن لم أقِفْ للأصحابِ في ذلك على شيءٍ بخصوصه.

8- أن يطلق قبل الاستبراء

الثامنة: أنْ يُطَلَّقَ قبل الاستبراء وتبين عدم الانتقال، أو يَستَمِرٌ الاشتباه، والحكم فيهما،واحد، وهو بطلان الطلاق عند كلّ من اعتبر المدَّة، وعلى القول بجواز طلاقه إذا غابَ على كلّ حالِ يصحّ هنا، بل يصحّ وإنْ عَلِمَ بالحَيْض؛ وهذه الفروع كلُّها غَير محرَّرة في كلام الأصحاب، فينبغي إمعان النظر فيها ومراجعة الأُصول الكلية والقواعدِ التي تُستَنبَطُ منها هذه الأحكام.

ص: 380

الصور السابقة ليست مذكورة صريحاً في كتب الأصحاب

تكميلٌ للبحثِ في هذه المسألة

قد عرفت أنّ هذه الفروع ليست مذكورةً صريحاً في كلام الأصحاب، وقد يذكرُ بعضها في كلام بعضهم. وممّا اتَّفَقَ الكلام فيه أنّ الشيخ عليّ (1)(رحمه اللّه) نَقَلَ في بعض فوائده عن الإمام فخر الدين (رحمه اللّه) تجویز طلاق الغائب بعد المدَّة المعتبرة، وإنِ اتَّفق العلم بكونها حائضاً بعد الطُهْر الثاني، ورَدَّ عليه ذلك. ولننقُلْ عبارتهما في ذلك ليتحرَّر المقام.

فقال الشيخ عليّ (رحمه اللّه) ما هذا لفظه:

قال العلّامةُ فخر الدين (رحمه اللّه) في شرحِ القواعد: «إنّ الغائب إذا طَلَّقَ بعد الطُّهْرِ الثاني عالماً بأنَّها حائض حين الطلاقِ صحَّ طلاقها» واستدلَّ على ذلك بأنّ فيه جمعاً بين الأخبار(2).

وما ادَّعاه غير واضحٍ، وما استدلّ به مردود؛ لأنّ الأخبار بعضها دلَّ على جواز التطليق على كلّ حالٍ، وبعضها دلَّ على اعتبار مدّة التربُّص - وهي ما يظنُّ معها كونها طاهراً وقت الطلاق - فيُخَصُّ العموم بأن زوجة الغائب إنّما يجوز طلاقها إذا غلب على الظَّنِّ - بمُضيِّ المدّة المذكورة كونها طاهراً؛ فكأنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «وزوجهُ الغائب على كلّ حالٍ إذا غلب على الظنِّ كونها طاهراً طُهْراً لم يَقْرَبْها فيه». وحينئذٍ فلا دلالة فيها على ما يدَّعِيه أصلاً.

ص: 381


1- يعني المحقّق الكركي (طاب ثراه).
2- إيضاح الفوائد، ج 3، ص 304.

فإن قيل: يمكنُ الجمعُ بين الأخبار بوجه آخر، وهو أنْ يقال: إنّ الأخبار الدالّة على التربُّصِ دلّت على اعتبار المدَّة المذكورة من غير تقييد بكونها طاهراً وقت الطلاق،وعدمه فيقيَّدُ بذلك عموم الأخبار العامّة، فيصير هكذا: و«زوجَةُ الغائب على كلّ حالٍ إذا تَربَّص بها المدَّةَ التي(1)تنتقل معها من طهرٍ إلى آخَرَ». وحينئذٍ فيعمّ ذلك ما إذا عَلِمَ حَيْضَها حين الطلاق بعد الطُهرِ الثاني.

قلنا هذا مردودٌ لوجوهٍ:

أ: أنه إذا دار الحال في التقدير في النصوص بين أمرين أو أُمورٍ، وجب تقدير ما كان ألصق بالمقام - واللائحُ أنّ اعتبار الطهارة الصَقُ - وذلك لأن زوجةَ الغائب لمّا اعتُبِرَ فيها الاستبراءُ، وظنُّ الانتقال عن الحَيْضِ إلى الطُهْرٍ، ولم يُكتفَ بظنِّ الانتقال إلى الحَيْضِ، أفادَ ذلك أنّ أحكام زوجة الحاضر لاحِقَةٌ لها، لكن لخفاء حالها بسبب البُعْدِ اكْتُفِي عن معرفة حالها بحسب الواقع بما تفيدهُ معرفةُ عادتها. ب: أنّا لو سلَّمنا أنّ كُلّاً من التقديرين ممكنٌ، فلابدّ من مرجِّحٍ يُعيِّن التقدير الآخر الذي يبقى معه العمومُ؛ ليخصَّ به عمومات الكتاب والسنّة الدالّة على المنع من طلاق الحائض ولا ريبَ أنّه ليس هناك مرجّحٌ، ومع انتفائه فكيف يجوز الإقدام على الحكم بجواز طلاق مَنْ يُعْلَمُ كونها حائضاً مع قيام الدلائل الدالّة على المنع وانتفاء المعارِضِ ؟

ج: أنّه لو جمع بين الأخبار بالطريق الذي يدلُّ على مدَّعاهُ، لَزِمَهُ القولُ بأنّ من عَلِمَ بالحَيْضِ بعد(2) الطُّهْرِ الأوّل يجب القول بصحَّة طلاقه: ليتناول العموم لهذا الفردِ بزعمه. فإن قيل: هذا الفردُ خرج بالإجماع. قلنا: أيُّ إجماعٍ يُدَّعى، والمفيد (3)

ص: 382


1- هكذا في المصدر - وهو الصواب ولكن في نسخة الأصل: «أن تنتقل» بدل «التي تنتقل».
2- في المصدر: «قبل» بدل «بعد»، وهو خطأ كما لا يخفى.
3- المقنعة 526 - 527.

وجماعة(1) يُجَوِّزُونَ طلاق الغائب مطلقاً (2).

انتهى ما يتعلَّقُ الغرضُ بنقله من كلامه (رحمه اللّه).

نقد نقل المحقّق الكركي عن فخر الدين

أقول: في هذا البحث نظر من وجوه:

أ: نَقْلُهُ عن العلّامة فخر الدين - جواز طلاق الغائب في حالة كونه عالماً بكونها حائضاً - غير واضحٍ؛ لأنّ عبارة فخر الدين ليست كعبارة الشيخ علي (رحمه اللّه)، وإنّما هي مُحْتَمِلَةٌ لكون العلم بالحَيْضِ واقعاً حال الطلاق وكونه تجدَّدَ بعد الطلاق يكون الطلاق وقع حالة الحَيْض، وهذه عبارته - بعد حكاية القول بأنّ المدَّة المجوّزة للطلاق ما يُعْلَمُ انتقالها مِن طُهْرٍ المواقعةِ إلى آخَرَ - : «فهذه يصحّ طلاقها وإن كانت حائضاً حال الطلاق، وإنْ عَلِمَ بحَيْضِها حال الطلاق بعد الطهرِ الثاني»(3). وهذه العبارةُ - كما ترى - كما تحتملُ كونَ العلم بالحَيْضِ حاصلاً له حالة الطلاق، تحتملُ تجدُّدَه بعده، بأن يكون معنى قوله: «وإن كانت حائضاً حال الطلاقِ» أنّها حائضٌ في نفس الأمر حالته.

وقوله: «وإنْ عَلِمَ بحَيْضِها» أي ظهر له ما كان واقعاً في نفس الأمر، ومع قيام الاحتمال لا ينسب إليه حكمٌ.

وقريبٌ من عبارته هذه عبارةُ الشيخ أحمد بن فهد في المهذّب، مع ترجيحٍ لجانب ما فسَّرنا به عبارةً فخر الدين؛ فإنّه قال - بعد حكاية القول المذكور -:

فيصحُّ طلاقها حينئذٍ، سَواءٌ اسْتَمَرَّ طُهْرُها في نفس الأمر إلى أن يُطلِّقَها، أورأت

ص: 383


1- كالحسن بن أبي عقيل وابن بابويه -كما حكاه عنهما العلّامة في مختلف الشيعة، ج 7، ص 353، المسألة 11؛ وحكاه عن علي بن بابويه ابنه في المقنع، ص 345 - : وأبي الصلاح في الكافي في الفقه، ص306؛ وسلّار في المراسم، ص 161.
2- رسالة طلاق الغائب، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص 213 - 214.
3- إيضاح الفوائد، ج 3، ص 304.

حَيْضاً آخَرَ بعد طُهْرٍ المواقعةِ وطَلَّقها حالةَ الحَيْضِ، أو في طُهْرٍ ثالث. ويصح طلاق هذه وإنْ عَلِمَ بحَيْضها حالة الطلاق(1). انتهى.

فقد فَسَّرَ الطُهْرَ والحَيْضَ الذي وقع فيهما الطلاق بكونهما في نفس الأمر، ثمّ عقَبَهُ بقوله : «وإنْ عَلِمَ بحَيْضِها حالة الطلاق» أي وإن ظهر له الحال وكونُها حائضاً حالة الطلاق مع كونه واقعاً في نفس الأمر وغير عالم به، ويُحْتَمَلُ أنْ يُريد كونه عالماً حال الطلاق بالحَيْضِ أيضاً، لكن مع قيام الاحتمال لا يصحّ جعله قولاً.

ب: نسبةُ ذلك إلى فخر الدين تُشعِرُ بكونه أفتى به، ووجه الإشعار نقله عنه القول بذلك، ثمّ الاستدلال عليه بأنّ فيه جمعاً بين الأخبار؛ والحال أنّه لم يذكر ذلك على وجه الفتوى، وإنّما هو بصدد تَعدادِ الأقوال في المسألة، فابتدأ أوّلاً بالقول الأوّل الذي اختاره والده في الكتابِ(2)، وهو كون الضابط في صحّة طلاق الغائب أنْ يُطَلّق بعد مُضيّ مدَّةٍ يَعْلَمُ انتقالها من طُهْرٍ إلى آخَرَ بحسب عادتها، ولم ينبّه على اختياره لذلك، وعقَّبه بتحرير هذا القول بأنّ «المراد بالعلم هنا الظنُّ الغالب...» إلى آخره، ثمّ بقوله: «فهذه يصحّ طلاقها...» إلى آخر، واستدلَّ على هذا القول بأنّ فيه جمعاً بين الأخبار. ثمَّ ذكر بقيَّة الأقوال وأخبار التفصيل، وهو أنّه إنْ عَلِمَ انتقالها من طُهْرِ المواقعة إلى آخر جاز طلاقه وإلّا انتظر ثلاثة أشهرٍ(3). فلم يكن عند حكاية القول الأوّل له اختيارٌ لمن تدبَّر.

فإن قيل : التفصيل الذي اختاره يشتمل على القول الأوّل مع زيادة شيءٍ آخَرَ، فاختياره يقتضي اختيارَ ذلك القول وبقية تفاصيله وتحريره الذي من جملتها ما ذكر.

ص: 384


1- المهذّب البارع، ج 3، ص 446.
2- أي العلّامة في قواعد الأحكام.
3- إيضاح الفوائد، ج 3، ص 304 - 305.

قلنا: مآل القولين وإن كان إلى أمر واحدٍ إلا أن المحكى أوّلاً ليس هو مختاره، وإنّما يظهر اختيارُه لما ذكره آخراً، وليس فيه شيءٌ من ذلك، بل هو مختار الاستبصار(1) مع شيءٍ آخَرَ وأحدهما غير الآخر.

ج: نسبته إليه تعليل هذا الحكم - أعني جواز الطلاق مع العلم بالحَيْضِ - بأنّ فيه جمعاً بين الأخبار غيرُ سديد؛ فإنّ قوله: «لأنه جمعٌ بين الأخبار» إنّما هو تعليلٌ للقول المحكيِّ بجملته، لا لِما فَرَّعه عليه قطعاً. وبيان ذلك أنّه ذكر في المسألة أقوالاً وذكر دليل كلّ قول منها عند ذكره؛ فاحتجَّ للقول بوجوب الانتظار شهراً برواية إسحاق بن عمّار أنّه «تركها شهراً»(2). واحتجّ للقول بوجوب الانتظار ثلاثة أشهرٍ برواية جميلٍ: «ليس له أنْ يُطَلَّقَ حتّى تمضي ثلاثة أشهرٍ»(3). واحتج للقول بعدم الانتظار بالأخبار المُطْلَقة(4). واحتجَّ لهذا القول الذي ابتدأ به - وهو أنّ الضابط انتقالها من طُهْر المواقعة إلى غيره - بأنّ فيه جمعاً بين الأخبار بحمل الخبر الدالِّ على الانتظار شهراً على مَنْ عادَتُها أنْ تَحِيضَ في كلّ شهرٍ؛ وخبر الثلاثة على مَنْ عادتها أنْ لا تَحِيض إلّا فى كلّ ثلاثةٍ مرَّةً، وحمل عدم الانتظار على ما لو غابَ في طُهْرٍ لم يواقعها فيه.

وهذا التعليلُ لهذا القول - أعني أنّ فيه جمعاً بين الأخبارِ - قد صرَّح به كلّ مَنْ قال به، وأوّلهم الشيخ في الاستبصار والعلّامة والمحقّق وغيرهم. وقد بَيَّنَّاهُ فيما سبق(5). وأمّا جعله تعليلاً لجواز طلاقها مع العلم بالحَيْض فأوّلُ ما فيه أنّه غير صالحٍ للدلالة؛ لأنّ الأخبار المختلفة لا تعرُّضَ فيها للحَيْضِ ولا لعدمه - كما سنحرّره ومضى في تضاعيف

ص: 385


1- الاستبصار، ج 3، ص 295.
2- الكافي، ج 1، ص 80، باب طلاق الغائب، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 62، 202؛ الاستبصار، ج 3، ص 295، ح 1041.
3- تهذيب الأحكام، ج8، ص 62، ح 203؛ الاستبصار، ج 3، ص 295، ح 1042.
4- تقدّمت هذه الأخبار وتخريجها في أوائل الرسالة فراجع ص 364 - 365.
5- سبق في أوائل الرسالة ص 364.

هذه الرسالة - ولأنه يبقى القول المحكيّ خالياً عن ذكر الدليل، وهو غير موافق لحكمة الشرح المذكور ولا لغيره ولا لما يذكره في باقي الأقوال.

وقد أحسن في المهذّب في حكاية هذا القول بعبارة تقرُبُ مِن عبارة فخر الدين، بل هي عينها وحكمها؛ لكنَّه قدَّمَ قوله: «إنّ فيه جمعاً بين الأخبار» على قوله: «فهذه يصحّ طلاقها، إلى آخره»(1) فصار التعليل بالجمع بين الأخبار متعيّناً للقول المذكور، لا لقوله في تقريره: إنّ هذه المرأة يصحّ طلاقها وهي حائض وإنْ عَلِمَ بِحَيْضِها.

وبالجملة فكون ذلك تعليلاً للقول بكون حدّ الانتظار ما يُعْلَمُ به انتقالها من طُهْرٍ المواقعة إلى غيره - لا لجواز طلاقها وإن كانت حائضاً - ممّا لا ينبغي أن تكون فيه شُبْهَةٌ ولا يعتريه شكٌّ، وإنّما أوجب ذَهاب الوهم إلى خلافه قرب المسألة المبحوث عنها إلى التعليلِ وعدم إمعانِ النظر، وحينئذٍ فيسقط جميع ما ذكر من الإيراداتِ على الجمع بين الأخبار؛ لأنها مبنيَّةٌ على كون الدليل على جواز تطليقها مع العلمِ بكونها حائضاً أنّ فيه جمعاً بين الأخبار؛ وليس كذلك، وإنّما وجه الجواز ما أسلفناهُ نحن فيما سبق في المسألة الرابعة.

د: قوله:

لأنّ الأخبار بعضها دلَّ على جواز التطليق على كلّ حالٍ، وبعضها دلّ على اعتبار مدَّة التربُّصِ - وهي ما يُظَنُّ معها كونها طاهراً وقت الطلاق - فيخصّ العموم إلى آخره.

فيه: أنّ ذلك مبنيٌّ على أنّ طريق الجمع بين الأخبار تنزيلُها على مراتب العاداتِ، وإرجاعُها إلى ظنّ انتقالها من طُهْر إلى آخَرَ، وقد تقدّم ما فيه؛ فإنّ الأخبار المقيَّدة إنّما تضمَّنَتْ اعتبار المدَّةِ المعيَّنة أعم من حصول الانتقال فيها وعدمه ومن ظنّ الانتقال وعدمه، ولا يضرُّ تخصيص العموم بالوجه الذي ذكره، وإنّما يصيرُ هكذا: «زوجة الغائب

ص: 386


1- المهذّب البارع، ج 3، ص 446.

على كلّ حالٍ يجوز طلاقها إذا مضت عليها المدَّةُ المذكورة». وذلك أعمُّ من انتقالها من طُهْرٍ إلى آخَرَ ومن كونها طاهراً أو حائضاً، وهذا هو المعنى المستفاد من الأخبار إذا جُمِعَ بين مُطلقها ومقيَّدها، وما اعتبره من معنى الجمعِ غير واضحٍ.

فإن قيل: لمّا اعتُبِرَ في زوجة الحاضر الاستبراء بمدةٍ مخصوصةٍ يَحْصُلُ بها الانتقال من الطُّهر إلى آخَرَ - ولم يُكتف من الغائب بمُطْلَقِ الغَيبَةِ بل بالاستبراء مدَّةً مخصوصة أيضاً، وإنْ كانت مخالفةً لمدَّة الحاضرِ بوجهِ - عُلِمَ من الشارع اعتبار الاستبراء على الوجه الذي اعتُبِرَ في الحاضر وزيادةً، وهي المدّة المتطاولة كثلاثة أشهر وما الحقّ بها إنْ تَبَتَ، ومن جُمْلَةِ حكم الحاضر عدم جواز طلاقه مع الحَيْضِ، فيكون الغائبُ كذلك.

قلنا: إلحاق الغائب بالحاضر في مطلق الاستبراء حقٌّ؛ لكن اعتبار ما يُعْتَبرُ في الحاضر ممنوع، وسندُ المنع أنّ المعتبر فى الغائب إنّما هو مُضى المدة المذكورة التي اجتَمَعَتْ عليها الأخبارُ المُطْلَقةُ والمقيَّدة، وليس فيها اعتبارُ أمرٍ آخَرَ من طُهْرٍ أو غيره بخلاف الحاضر؛ فإنّ المعتبر في استبرائه انتقالُها مِن طُهْرٍ إلى آخَرَ، سَواءٌ كان بتلك المدَّةِ أو بأقلّ، فصار بين الاستبرائين عموم وخصوص من وجه. وأيضاً فإنّ طلاق الغائب يجامع الحَيْضَ في الجملة إجماعاً بخلاف الحاضر، فلم يكن حكم استبرائهما واحداً ولا اعتبار الاستبراء في الغائب مقتضياً لاعتبار الطهرِ مِن هذه الحيثيّة، أعني ملاحظة هذه الأخبار الخاصَّةِ بالغائبِ. وإنّما حكمنا - فيما تقدّم - ببطلان طلاقه مع العلم بالحَيْضِ من جهةِ عموم الأخبار الدالّة على بطلان طلاق الحائض، خرج منه ما أُجْمِعَ عليه من مصادَفَةِ الحَيْضِ في الغائب فيبقى الباقي، كما أوضحناه سابقاً، فنحن توافقه فى الحكم لا في سندِ الحُكْم.

وهذه الأخبارُ وإن كانت بعمومها شاملة للحائض وغيرِها، إلّا أنّه بتعارُضِ العمومين - أعني عموم الأخبار الدالّة على المنع من طلاق الحائض، وعموم الأخبار الدالّة على جواز تطليق زوجة الغائب على كلّ حالٍ - يجبُ التوفيقُ بين العمومين؛ لأنّ

ص: 387

تخصيص أحدهما بالآخَرِ خاصَّةً ترجيح من غَيرِ مُرَجّحٍ. وقد وقع الاتّفاق على تخصيص أخبار المنع من طلاقِ الحائض بأخبار الإذن في طلاق الغائب بعد المدَّةِ المعتبرة، على تقدير ظهور كونها حائضاً ب نفس الأمر حالَ الطلاق، ويبقى ما لو عَلِمَ حَيْضها داخلاً في عموم المنع. فتكون أخبارُ المنع هنا مخصِّصَةً لأخبار الإذن في طلاق الغائب على كلّ حالٍ، ويُجْمَعُ بين العمومين بقدر الإمكان، ويُخَصَّصُ كلّ منهما ما أمْكَنَ تخصيصه.

فإن قيل: تخصيص عموم الإذن في طلاق الغائبِ مع ظهور الحَيْضِ بعموم المنع من طلاق الحائض يقتضي أيضاً الترجيح من غَيرِ مُرجّح؛ إذ يمكنُ أن يقال هنا بعكس ذلك، بأنّ أخبار المنع من طلاق الحائض - مع ظهور الحَيْضِ في زوجة الغائب - مخصوصةٌ بالأخبار العامّة الدالّة على جواز تطليق الغائب زوجته مع انقضاء المدَّة المشترطة على كلّ حال، فيكون طلاق الحائض على هذا الوجه جائزاً.

قلنا: هذه المعارضةُ في محلِّها، والعموم متحقّقٌ من الطرفين، فلا ينبغي الترجيح من غير مرجّح، إلّا أنّا يمكننا حينئذٍ أن نقول: تعارض العمومينِ اقتضى اطراح الدلالتين الاستحالة الترجيح. ويبقى الحكم بصحة الطلاق يَحْتاجُ إلى دليل شرعي؛ لأنّه تأسيس حكم شرعي لم يكن فلابدّ له من دليل. وكون الصيغة حاصلة من أهلها وباقي الشرائط مجتمعةً غَيرُ كافٍ في الحُكْم بالصحّة حتّى يكون المحل - وهو المرأة - قابلاً للوقوع، ولم يتحقّق ذلك فيبقى حكم الزوجية باقياً إلى أنْ يُعْلَمَ المُزيل.

فإن قيل: كذلك الحكمُ ببطلان الطلاقِ حكمٌ شرعيٌ، فلابدّ لمُثبته من دليل شرعي كما يحتاجُ إليه مدعي الصحّة، إذ هما متساويان في الحكم الوضعي المفتقر ثبوتُه إلى دليل.

قلنا: نمنَعُ المساواة بين الصحّة والبطلان في ذلك؛ فإنّ البطلان يكفي فيه الحكم بالزوجية السابق المتَّفقِ على حصوله مع الشكٍّ في المُزيل لها، بخلاف الحكم بالصحّة؛

ص: 388

فإنّه يوجب انتقال الحكم السابق وتغيُّرَه، فلابدّ له من دليل يوجبه.

وقد ظهر بذلك قوَّةُ القول بالبطلان ورجحانه ومثل هذا القَدْرِ كافٍ في إثبات الحُكْمِ الشرعي، وإن بقي في الطَّرَفِ الآخر اشتباه مرجوح؛ فإنّ زوال الحكم بالزوجية - الثابتِ بالكتاب والسنّة والإجماع - بمثل هذا الاحتمال غيرُ موافق للواقع، ولا إذن فيه يحصل معه الخروج عن العهدة وعدمُ التَقَولُ على اللّه بما لا يُعلَمُ.

ه: قوله - في الجواب عن توجيه الجَمْعِ بين الأخبار بالمعنى الثاني: «إنّه إذا دار الحالُ في النصوص بين أمرين...» إلى آخره فيه: أنّ الجَمْعَ بين النصوص غير مفتقِرٍ إلى هذين التقديرين، فلا مزيَّةَ لأحدهما على الآخر؛ وذلك لأنّ بعضها دلَّ على الجواز مطلقاً وبعضها على الجواز بعد مدَّةٍ مخصوصة، فحملها على الجواز بعد المدَّة متعيّن؛ حملاً للمُطْلَق على المقيَّدِ. وتقدير انتقالها من طُهْرٍ إلى آخَرَ - أو طهارتها من الحَيْضِ - غيرُ داخل في مفهوم هذه الأخبار جملةً، فلا وجه لتقديرها.

قوله: «لأنّ زوجة الغائب لمّا اعتُبِرَ فيها الاستبراءُ وظَنُّ الانتقال عن الحَيْضِ إلى الظُّهْرِ، ولم يُكتفَ بظَنِّ الانتقال إلى الحَيْض، أفاد ذلك أن أحكام زوجة الحاضر لاحقة لها...» إلى آخره. إنْ سُلَّمَ أنّ المراد من النصوص المختلفة إرادة ما يُظَنُّ معه انتقالها من الحَيْض إلى الطُّهر، فهذا جواب جيّدٌ؛ لأنّ إلحاقها بزوجة الحاضر في ذلك يقتضي إلحاقها بها في كونها طاهراً من الحَيْضِ، مضافاً إلى الانتقال من طُهْرِ المواقعةِ إلى آخَرَ، فلابدّ من اجتماع الشرطين؛ لكن قد عرفت أن فهم ذلك ذلك من النصوص غير واضح إلّا أنّ الموجه للجمعِ قد اعترف به فيلزمه الشرط الآخَرُ؛ لاقتضاء إلحاقها بزوجة الحاضر ذلك.

فإن قيل: إنّ الروايات المذكورة لو دلّت على الانتقال من طُهْرٍ إلى آخَرَ، لا تدلُّ إلّا على مجرّد الانتقال أعم من أن تكون طاهراً وقت الطلاق وحائضاً، فحينئذٍ تخصُّ الروايات العامّة بمقدار دلالتها لا بشيءٍ لا تدلُّ عليه، والتقييد بأمرٍ زائدٍ يحتاج إلى

ص: 389

دليلٍ. فعلى هذا يندفع الوجهانِ الأولانِ من وجهي الشيخ علي (رحمه اللّه).

قلنا: قد عرفت عدم دلالة الأخبار على اعتبار الانتقال كما أفدناه مراراً، وإنّما دلّتْ على اعتبار المدَّةِ المجرّدة، وإنّما استفيد منها اعتبارُ الانتقال من مناسبة إلحاقها بزوجة الحاضرِ في اعتبار التربص؛ لكن اكتفي بالمدَّةِ لِخَفاء حالها بسبب البُعْدِ؛ حملاً لها على العادة المعروفة لها. وهذا التوجيه يقتضي إلحاقها بها حيث يمكن، ومن الحال الممكنة أنّه لو عَلِمَ بحَيْضِها امتنَعَ طلاقها فيه، فإلحاقها بها في مجرّد اعتبار الانتقال من الطُّهْرِ إلى آخر دون الطهارة من الحَيْضِ غير سديدٍ؛ بل اللازم من الأحاديث إمّا اعتبارُ الجميع، أو ترك الجميع والاكتفاء بالمدَّة. ويتوجّه على هذا أنّ أصل الجمع بين الأخبار بالمعنى المردود غيرُ جيّد؛ لأنّه مبني على أن الجمع يَصِيرُ إلى هذه الصورة: «زوجة الغائب إذا تربَّص بها المدَّة التي تَنْتَقِلُ معها مِن طُهْرٍ إلى آخَرَ يصحّ طلاقها».

وهذا المعنى غير جيد كما أوضحناه.

وبما بيَّناهُ اندفع السؤال والجوابانِ الأولان. وأما الثالث فغيرُ لازم للقائل بالجمع المذكور أصلاً، فإنّه في جَمْعِهِ قد اعتَبَرَ انتقالها مِن طُهْرِ المواقعةِ إلى آخَرَ ولم يَعْتَبِرْ بعد ذلك كونها طاهراً أو حائضاً؛ فالتزامه القول بأن من عَلِمَ بالحَيْضِ بعدَ الطُّهْرِ الأوّل يجب الحكم بصحةِ طلاقه - لتناول العموم لهذا الفرد بزعمِهِ - واضح الفساد؛ فإن اعتبار الانتقال من طُهْرٍ المواقعةِ إِلى طُهْرٍ آخَرَ يَخْرُجُ به ما لو كانت حائضاً بعد طُهْرٍ المواقعة؛ إذ لم يحصل الانتقال إلى الطُّهْرِ الثاني الذي جعله شرط جواز،الطلاق، فلا يَلْزَمُه هذا القولُ أصلاً وإن كان التزامه جائزاً من وجه آخر قد أشرنا إليه سابقاً، وخلاصته أنّ الذي دلَّتْ عليه الأخبار - بعد الجمع بينها - جواز طلاق زوجة الغائب بعد مضي المدة المذكورة في الأخبار المقيَّدة، وهو يشمُلُ ما إذا كانت طاهراً أو حائضاً في الحَيْضِ الأوّل المتعقِّبِ لطُهْرٍ المواقعة وغيره، فيكون طلاقها جائزاً على كلّ حالٍ بعد مضي

ص: 390

المدَّة المذكورة، وتُجْعَلُ هذه الأخبارُ مخصّصةً للأخبار العامّة الدالّة على المنع من طلاق الحائض.

وهذا القول له وجهٌ، وربّما قال به قائلٌ، بل هو مشهورٌ في حواشي الكُتُبِ الفقهيّة متداول بين كثيرٍ من النَقَلَةِ المقلّدة وإن كان الحقّ خلافه. ولكنَّ التوجيه الذي حكوهُ لا يَدُلُّ عليه، وكذلك اللفظ الذي نقله فخرالدين (رحمه اللّه) في شرحه، وكلام ابن فهد في المهذّب يمكن دلالته عليه أيضاً، فهو في الجُمْلَة وجه أو قول ليس بالبعيد وإن كان خلافه أقرب. واعْلَمْ أنّ المحقّق الشيخ علي (رحمه اللّه) - بعد ذكر ما حَكَيناه عنه من البحثِ - ادَّعى أنّ عباراتِ الأصحاب مشعرةٌ بما ادَّعاهُ - من عدم جواز طلاق من عَلِمَ حَيْضَها بعد الطهر الثاني - وحكى فيها (1):

قول العلّامة في القواعد: ولو خرج مسافراً في طُهْرٍ لم يَقْرَبْها فيه صح طلاقها وإنْ صادف الحَيْض(2)؛ فإنّ المفهومَ من المصادَفَةِ عدم العلم، وقوله في التحرير:

ولو طلَّقَ غير المدخول بها أو التي غاب عنها قدراً يَعْلَمُ انتقالها من طُهْرٍ إلى آخَرَ جاز طلاقها مطلقاً وإنِ اتَّفق في الحَيْضِ(3).

والمفهومُ من الاتّفاق نحو المفهوم من المصادفة. وقول الشرائع:

أمّا لو انقضى مِن غَيبتِه ما يَعْلَمُ انتقالها من طُهْرٍ إلى آخَرَ ثمّ طَلَّقَ صَحَ ولو اتَّفق في الحيض(4).

وأنتَ خبيرٌ بعدم إشعار هذه العباراتِ بما ادعاه؛ فإنّه لا يلزم من الحكم بصحة الطلاقِ على تقدير اتّفاق الحَيْضِ ومصادفتِهِ عدمُ صحَّته مع العلم به، والظاهرُ أنّهم إنّما

ص: 391


1- رسالة طلاق الغائب، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص 214 - 215.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 126.
3- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 54، الرقم 5382.
4- شرائع الإسلام، ج 3، ص 5-6.

فرضوا المسألة في مصادَفَة الحَيْض واتّفاقه دون تيقيه؛ لما أسْلَفناه من أنّه مع تيقُّنه يصير بحكم الحاضر، كما أنّ الحاضر الذي لا يَعْلَمُ حالها - لكونها في بيت أهلها هاجرة له، أو كونه محبوساً، ونحو ذلك - في حكم الغائب. وحينئذٍ فعدم جواز طلاقِها مع العلم لا مِن هذه الحيثيات التي ذكرها، بل من جهاتٍ أُخَرَ قد أوضحناها. فتَدَبَّرُها موفّقاً إن شاء اللّه تعالى واللّه ولي التوفيق، وهو أعْلَمُ بحقائق أحكامه.

هذا ما اقتضى الحالُ ذكره من بحث هذه المسألة، واللّه الموفّق لصوب الصواب، وإليه المرجع والمآب.

وكتب مؤلّفها الفقير إلى عفو اللّه تعالى زين الدين بن علي بن أحمد، حامداً للّه تعالى مُصلّياً على رسوله وآله، مُسلّماً مستغفِراً.

فرغ من تسويدها في أواخر شهر رمضان المعظم، سَنةَ إحدى وخمسين وتسعمائة. ومن هذه النسخة 958.

ص: 392

القسم السادس: الميراث

إشارة:

ويَضُمُّ رسالتين:

(1) ميراث الزوجة

(2) الحَبْوة

ص: 393

ص: 394

22. ميراث الزوجة

إشارة:

تحقيق

عليّ الأسدي

مراجعة

رضا المختاري

ص: 395

ص: 396

بسم اللّه الرحمن الرحيم

اللّهمّ اهدِنا لِمَا اخْتُلِفَ فيه مِن الحقّ بإذنك؛ إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. وصلِّ على نبيّك وحبيبك محمّد المصطفى، وعترته الأئمّة النجباء الهادين إلى الدين القويم، وسَلَّمْ تسليماً.

مخالفة مذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) للجمهور في مسألتين

اعلَمُ وفَّقَك اللّه تعالى أن الأصل في كلّ وارث أنْ يُرتَ من جميع متروكاتِ مورثِهِ المالية ما فرضه اللّه تعالى له خصوصاً أو عموماً، وقد تَخَلَّفَ ذلك عند أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في موضعين

أحدهما: حَبْوَةُ الولد الذكر، وقد حرَّرنا البحث فيها بما فيه كفاية في موضعٍ يَخْتَصُّ به(1).

والثاني: الزوجة؛ فإنّ المشهور - في أخبار أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) المُستفيضة - حرمانها من شيءٍ في الجُملة، ومع ذلك فالروايات مختلفة كما سَنتلُوهُ عليك، وبسببه اختلفت أقوال الأصحاب.

وتحقيق الحال في المسألة يتوقّف على خمسة مطالب دائرة على خمس كلماتٍ مفردةٍ، وهي: «ما» و «مَنْ» و «كيف» و «هل» و «لِمَ».

ص: 397


1- يعني رسالة الحبوة التي طبعت في هذه المجموعة بعد رسالتنا هذه.

فالأوّل: يشتمل على بيان ماهية الحرمان الخاص ببيان متعلقه من أعيان التركة، وتَنْتَظِم فيه كميّته.

والثاني: من المحرومُ مِنَ الزوجات هل هنَّ مُطْلَقُهنَّ أم زوجةٌ خاصَّةٌ ؟

والثالث: كيف تُحْرَمُ من تلك الأعيان هل هو من العين والقيمة، أم من العين خاصَّةً، أم من كلّ واحدة منهما في عينٍ خاصةٍ ؟

والرابع: هل هذا الحِرمانُ على وجه مستحق لازم أو غير لازم ؟ والخامس : لِمَ حُرِمَتِ الزوجةُ من ذلك دون غيرها من الوراث؟

وبعد تمام المطالب وتحقيق ما هو الحقّ منها نُتبِعُها إن شاء اللّه تعالى بما تقتضيه الحال من فروع المسألة ومباحثها، مُسْتَمَدِّينَ من اللّه التوفيق، فهو حَسبنا ونعم الوكيل.

ص: 398

ما تحرم منه الزوجة من أعيان التركة والأقوال في ذلك

المطلب الأوّل في بيان ما تُحرَمُ منه الزوجة

من أعيان التّركَةِ في الجملة

وقد اختلف الأصحابُ فيه على أقوال:

أحدها: - وهو المشهور بينهم - حرمانُها من نفس الأرضِ، سَواءٌ كانت بياضاً أم مشغولة بشجرٍ وزرعٍ وبناء وغيرها عيناً وقيمةٌ، ومن عين الأنهار وأبنيتها وأشجارها، وتُعطى قيمة ذلك، ذهب إلى ذلك جِلَّة المتأخّرين(1)، ومن المتقدّمين الشيخ في النهاية (2) وابنُ البرّاج(3) وأبو الصلاح التقيّ(4)، وابن حمزة(5) على ما هو المشهور عنهم، وإن كان فيه بحث يأتي إن شاء اللّه تعالى.

وثانيها حرمانها من الرباع، وهي الدورُ والمساكن دون البساتين والضياع، وتُغطى قيمة الآلات والأبنية من الدور والمساكن، وهو قول المفيد(6) وابن إدريس (7) والمحقّق

ص: 399


1- منهم العلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 41، الرقم 6326؛ وولده فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 240 - 241؛ والشهيد في غاية المراد، ج 3، ص 411 - 412 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3)؛ والفاضل المقداد في التنقيح الرائع، ج 4، ص 192.
2- النهاية، ص 642.
3- المهذّب، ج 2، ص 140 - 141.
4- الكافي في الفقه، ص 374.
5- الوسيلة، ص 391.
6- المقنعة، ص 687.
7- السرائر، ج 3، ص 258.

في النافع (1)- وهو في الشرائع مع الفريق الأوّل(2) - وشارح النافع تلميذ المُصَنِّف(3)، ومال إليه العلّامة في المختلف(4)، وهو في غيره مع الأوّل(5).

وثالثها: حرمانها من عين الرباع خاصَّةً لا من قيمتها، وهو قول المرتضى (رضوان اللّه عليه)(6)، واستحسنه العلّامة في المختلف، وإن استقرّ رأيه فيه أخيراً على الأوّل(7).

وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في المسألة أقوال أُخَرُ ليست مشهورةٌ.

أدلّة المشهور وهو حرمانها من نفس الأرض

حُجَّة المشهور حسنةُ زُرارَةً وبُكَيرٍ وفُضيلٍ وبُريد ومحمَّد بن مسلم، بعض عن الباقر وبعضٌ عن الصادق وبعضٌ عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «إنّ المرأة لا ترث من تركة زوجها من تُربة دارٍ أو أرضِ، إلا أنْ يُقَوَّمَ الطوبُ والخشب قِيمةً فتعطى رُبَعها أو ثُمْنَها إِنْ كَانَ من قيمة الطوب والجُذُوع والخشب»(8).

وصحيحة زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ المرأة لا ترث ممّا ترك زوجها من القُرى والدُور والسلاح والدواب شيئاً، وترث من المال والفرش والثياب ومتاع البيت ممّا تَرَك، ويُقوَّمُ النَقْصُ والأبواب والجُذُوعُ والقَصبُ فتغطى حقَّها منه» (9).

ص: 400


1- المختصر النافع، ص 264.
2- شرائع الإسلام، ج 4، ص 28 - 29.
3- كشف الرموز، ج 2، ص 463 - 464.
4- مختلف الشيعة، ج 9، ص 52، المسألة 10.
5- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 125؛ قواعد الأحكام، ج 3، ص 376: تبصرة المتعلمين، ص 177.
6- الانتصار، ص 585، المسألة،319؛ جوابات المسائل الموصليات الثالثة، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 259، المسألة 94.
7- مختلف الشيعة، ج 9، ص 53 - 54، المسألة 10.
8- الكافي، ج 7، ص128، باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 297 – 298، ح 1064؛ الاستبصار، ج،4، ص 151، ح 570.
9- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 299، ح 1072؛ الاستبصار، ج 4، ص 153، ح578.

وصحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «النساء لا يَرِثْنَ من الأرض ولا من العقار شيئاً»(1).

وفي معناها أخبار كثيرة لا تَبْلُغُها في قوَّة السند، فاقتصرنا هنا على هذه.

وجه الاستدلال بهذه الأخبار أنّ الآية الكريمة دلّت على [أنّ] إرث الزوجة سهمها من كلّ شيءٍ(2)، وقد اشتركت الأخبارُ في تخصيصها بغير الأرض - فلاترتُ منها مطلقاً - وبغير العين من آلاتها وطوبها وأبوابها ونحوها من متعلِّقاتها الثابتة فيها.

مناقشة هذه الأدلّة

فإن قيل: الخبر الأوّل ليس من الصحيح؛ لأنّ في طريقه إبراهيم بن هاشم، وهو ممدوحٌ لا ثقةٌ، فيُشكل الاحتجاج به برأسه. والثاني الصحيح تَضمَّنَ عدم إرثها من السلاح والدواب ولا تقولونَ به والثالث لا يدلّ على جميع ما ادَّعَيْتُموه في القول المشهور؛ إذ ليس فيه الإرث من القيمة في شيءٍ، والقدر الذي اتفقت عليه الأخبارُ -وهو عدم الإرث من الأرض خاصَّةً - لا تقولون به، بل تَضُمُّونَ إليه شيئاً آخَرَ لا دليل عليه.

قلنا: لا نُسَلِّمُ عدم العمل بالخبر الحسن مطلقاً خصوصاً مع اشتهار مضمونه بين الأصحاب واعتضاده بغيره في الجُملة، بل قد ذهب جماعةٌ من محقّقي الأصحاب إلى أنّ الشهرة تنجبرُ الخبر الضعيف(3)، فكيف بما رواه هؤلاء الفضلاء الذين هم أجلّاء رُواة الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)؟ وإبراهيم بن هاشم أيضاً من أجلاء أصحابنا الممدوحين، وهو أوّل من نشر حديث الكوفيين بقم(4)، وناهيك برواية ولده الجليل عليّ عنه اعتماداً منه عليه مع

ص: 401


1- الكافي، ج 7، ص127، باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 298، ح 1066: الاستبصار، ج 4، ص 152، ح 572.
2- النساء (4): 12.
3- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 16 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).
4- رجال النجاشي، ص 16، الرقم :18: أصحابنا يقولون أوّل من نشر حديث الكوفيّين بقم هو.

أنّ الشهيد (رحمه اللّه تعالى) في شرح الإرشاد رواها في الصحيح(1). وكثيراً ما يتّفق للعلّامة في المختلف رواية مثل ذلك صحيحاً، وإن كان هنا رواه في الحسن (2) وهو الحقّ، وقد يتعاكسان في النقل في مواضع. وكيف كان فما هذا شأنُه في قوَّة الصحيح.

وأمّا ما تَضمَّنَه الخبر الثاني من السلاح والدوابّ، فلا يُسقط عدم القول به الاحتجاج بالخبرِ أصلاً، بل يُرَدُّ ما ذُكِرَ من حيث إجماع الأصحاب على ترك العمل به لا من حيث إنّه مروي، ويُعْمَلُ بالباقي، ومثله كثيرٌ خصوصاً في روايات الحبوة.

وقد أجاب بعضُ الأصحاب (3) عنه أيضاً بحمل السلاح على ما يُحبى به الولد منه كالسيف - فإنّها لا تَرِتُ منه شيئاً - والدواب على ما أوصى به منها أو وقفه أو عَمِلَ به ما يمنع من الإرث. وذلك وإن كان خلاف الظاهر إلّا أنّ فيه جمعاً بين الأخبار وهو خير من اطراحه بلا سبب، أو نَحمِلُهُ على سلاح خاصّ ودوات خاصّة لوقوع السؤال في صورة خاصّة، وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «والمرأة» اللام فيه للعهد لا للجنس.

فإن قيل: حَمْلُها على واقعةٍ خاصّةٍ يُسقِطُ الاستدلال بها على العموم؛ لِما تَقَرَّرَ في الأُصول من أن وقائع الحال إذا تَطَرَّقَ إليها الاحتمالُ كَساها ثوبَ الإجمال وسَقَطَ بها الاستدلال.

قلنا: على تقدير تسليم كونها خاصَّةٌ نَمنعُ تَطَرُّقَ الاحتمال إليها؛ لأنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أجاب بأنّ حكم ميراث المرأة ذلك من غير أنْ يَسْتَفْصِلَ عن دارٍ خاصَّةٍ وآلاتٍ خاصّةٍ وغيرها، وإنّما خصَّصَناها في السلاح والدواب للضرورة لا من جهة السؤال والجواب، فيبقى الحكم في غيرهما على العموم؛ لأنّ ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام

ص: 402


1- غاية المراد، ج 3، ص 409 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
2- مختلف الشيعة، ج 9، ص 53، المسألة 10.
3- هو فخر المحقّقين (رحمه اللّه) في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 241.

الاحتمال يَدُلُّ على العموم في المقال، ولا منافاة بين القاعدتين على ما حُقِّقَ في الأُصول. مع أن لمانع أنْ يَمْنَعَ مِن خصوص المرأة وعَهْدِيَّتها، واطراحُ حكم السلاح والدوابِّ بالإجماع لا بالخبر.

فإن قيل: الأخبار المذكورة وغيرها لم تتعرّض للشجر بنفي ولا إثبات فيبقى على عموم القرآن فتَرِثُ من عَينه؛ ولعدم ورود التعليل الآتي فيه، فكيف حكمتُمْ بعدم إرثها مِن عَينه؟

قلنا: هو داخلٌ في الخبر الثالث الصحيح المتضمن عدم إرثها من العقار؛ لأنّه من جملته لغةً وعرفاً. قال الجوهري: العقارُ بالفتح الأرضُ والضياع والنخلُ(1) فعلى هذا يكون ذكر العقار بعد الأرض في الخبر تعميم بعد التخصيص. ومثله رواية ميسرة بَياعِ الزُطِّي(2)، عن أبي عبد اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قال: «سألته عن النساء ما لهنَّ من الميراث ؟ قال: لهنَّ قِيمَةُ الطوب والبناء والخَشَب والقَصَب فأما الأرضون والعقار فلا ميراث لهنَّ فيه»(3).

فإن قيل: سلَّمنا دخول النخل في ذلك، فمن أين لكم تعميم الشجر مع أنه مرجوحٌ ؟ إذ اللازم العملُ بعموم الآية وتقليلُ التخصيص ما أمكن، فيختصُّ بالنخل للحديث الصحيح، ويبقى غيره من الشجر على أصل الحكم فترِتُ منه مطلقاً.

قلنا : المعروف أنّ العقار متناول لجميع الأشجار من غير تخصيص بالنخل. وقد قال الهَرَوي: العقارُ : الأصل، يقال لفلانٍ عقار أي أصل مال، ومنه الحديث: «من

ص: 403


1- الصحاح، ج 2، ص 754، «عقر».
2- في تاج العروس، ج 19، ص 322 زطط: الزطّ - بالضمّ - جيل من الناس، كما في الصحاح... واختلف فيهم. فقيل : هم السبايجة: قوم من السند بالبصرة... ونقل الأزهري عن الليث أنّهم جيل من الهند إليهم تنسب الثياب الزُطّية... وفي الصحاح الواحد زُطّي.... وانظر الوافي، ج 6، ص 719.
3- الكافي، ج 7، ص 130، باب أنّ النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح 11؛ الفقيه، ج 4، ص 247، ح 5751: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 299، ح 1071؛ الاستبصار، ج 4، ص 152، ح 577.

باع داراً أو عقاراً» أي أصل مالٍ(1).

وأيضاً فلا قائل باختصاص المنع بالنخل من المسلمين فضلاً عن الأصحاب، فلا يمكن القولُ به - وإنْ دلَّ عليه ظاهرٌ النصّ الصحيح - لذلك، وإنما المعروف من أقوال الأصحاب هنا ما نقلناه، وحيث ثبت ذلك في النخل ثبت في غيره؛ لما ذكرناه. فإن قيل: الخبر إنّما دلَّ على عدم الإرث من العقارِ مطلقاً، فمن أينَ خَصَّصْتُموهُ بالعين وأوجبتُم القِيمَةَ كآلات البناء، مع عدم دلالته ولا غيره على وجوب القيمة هنا، وإنما دلّتْ على قيمة آلات البناء ونحوها مما ذكر في الأولين.

قلنا: هذا السؤال حقٌّ، ولو قيل بعدم إرثها من الشجر مطلقاً - عملاً بدلالة الخبر الصحيح - كان مُتَجِها، إلّا أنّه لا قائل به على ما ذكروه، فكان ذلك هو المُخَصِّص للمنع من العين خاصةً لاتّفاق المسلمين قاطبةً - فضلاً عن الأصحاب - على أنّ الزوجة لا تُمْنَعُ من الإرث من الشجر مطلقاً. فتعين القولُ بإعطائها القيمة استناداً إلى الإجماع لا إلى الأخبار.

فإن قيل : يُمكن الاحتجاج للقيمة بأنّ فيها تقليلاً لتخصيص الآية، فيكون أولى من تخصيصها بغير الشجرِ مطلقاً عَيناً وقيمةً، كما صنع المرتضى (رضوان اللّه عليه) في قوله بالقيمة من الأرض أيضاً (2)، استناداً إلى ما ذكرناه.

قلنا: الخبر الصحيح وغيره قد دلّا على منعها من العقار مطلقاً، فلولا الإجماع لكان مدلولُ النصّ حِرمانها منه عَيناً وقيْمَةً، وكان هو المخصِّصُ للآية. وإنّما يَتَعينُ تقليلُ التخصيص مع إمكانه، وهو مع دلالة النصّ على ما ذكرناه غيرُ ممكن من هذه الجهة، وإنّما وجبتِ القِيمةُ بالإجماع على عدم منعها من الأمرين معاً، وإذا كان الوجه هو

ص: 404


1- الغريبين، ج 4، ص 1308، «عقر».
2- الانتصار، ص 585 المسألة :319 جوابات المسائل الموصليّات الثالثة، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 259، المسألة 94.

الإجماع سَقَطَ اعتبار التخصيص وإن كان لازماً له؛ إذ مع القول بالقيمة يقلُّ التخصيص قطعاً، إلّا أنّه اتّفاقيّ لا من حيث الجمع بين الأخبار، أو بينها وبين القرآن.

وبالجملة، فقد عرفت أنّ النصوص لا تفي بحجّيّة القول المشهور، ومستنده - مطلقاً قبل تحقّق الإجماع - غيرُ واضحٍ.

ويمكن القدح في حجّيّة الإجماع المذكور؛ فإنّ قولَ مَنْ خَالَفَنا لا يُعتَدُّ به. وأصحابُنا مختلفون في إرثها اختلافاً كثيراً مستنداً إلى ظواهر الأخبار المختلفة، فَمِنْ أينَ أثْبَتَ القائلُ الأوّل - كالشيخ (1)- الحكم بلزوم قيمة الأشجار، مع عدم دلالة النصوص عليه، بل إنّما دلّتْ على عدمه كما رأيت، وفي تحقّق الإجماع في مثل هذا المقام - بعد استقرار الخلاف على أُصول أصحابنا - بحث ليس هذا محل تحقيقه.

ويمكن أنْ يُحْتَجَّ على قيمة الشجر بإدخالها في الجُذوع، بأن يراد بها الجُذُوعُ الثابتة، بدليل ذكر الخَشَب معها في بعض الأخبار، وذكر النقض في بعضٍ. فلو أريد بالجُذوع الخَشَبُ لزم التكرار والتأكيد، والتأسيس أولى وإن كان لا يخلو من بحث. وفي حسنة زرارة ما يُنَبِّه على أنّ المراد بالجُذوع الخَشَبُ؛ لأنّه استثنى الخشب خاصَّةً بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إلّا أنْ يُقَوَّمَ الطوبُ والخَشَبُ فَتُعطى رُبْعَها أو تُمْنَها إن كان من قيمة الطوب والجُذُوع والخشب»(2).

فاقتصر أولاً على استثناء الخَشَب وإثبات قيمته ثمّ حَكَم بقيمة الجُذُوعِ والخَشَب، فهو تخصيص بعد التعميم.

أدلّة القول الثاني: إرثها من كلّ شيء

حُجَّةُ الثاني: عموم القرآن بإرثها من كلّ شيءٍ(3)، خرج منه ما اتفقتْ عليه الأخبار

ص: 405


1- النهاية، ص 642.
2- الكافي، ج 7، ص128، باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 297، ح 1064: الاستبصار، ج 4، ص 151، ح 570.
3- النساء (4): 12.

وهو أرضُ الرباع والمساكن عيناً وقِيمةً وآلاتُها عَيناً لا قيمةٌ، فيبقى الباقي. وقد اقتصر على استثنائها في رواية العلاء عن محمد بن مسلم قال، قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ترث المرأة الطوب، ولا تَرِثُ من الرباع شيئاً»(1).

ورواية يزيد الصائغ، قال: سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «إنّ النساء لا يَرِثْنَ من رباع الأرض شيئاً، ولكن لَهنَّ منها الطوب والخشب» - قال: - فقلت له: إنّ الناس لا يأخذون بهذا ؟ قال: «إذا ولينا ضربناهم بالسَوْطِ، فإنِ انْتَهَوا وإلَّا ضَرَبْناهم بالسيف»(2).

ورواية عبد الملك بن أعين عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «ليس للنساء من الدور والعقار شيءُ»(3).

فهذا هو القدر المشترك بين الروايات أجمع مع وجوده مخصوصاً في هذه الأخبار، فيُؤْخَذُ فيما خالف الأصل بل الإجماع بالمتيقن كما تُرِكَ القول بحرمانها من السلاح والدواب في صحيحة زرارة.

فإن قيل: هذه الأخبار لا تعرُّض لها في الزائد من الأرض بنفي ولا إثبات، فإذا دلَّتْ عليها تلك الأخبار تعيَّن القولُ بها لعدم المعارض.

قلنا قد اعترفتم بعدم التزام جميع ما تَضمَّنتُه تلك الأخبارُ؛ لاشتمالها على عدم إرثها من السلاح والدوابّ؛ فاطرَختموه وأخذتم بالمتيقن والمتَّفق عليه، أو أوّلتُموه بخلاف ظاهره، فَلْيَكُنْ هنا كذلك، مع اشتراك الزائد في المعنى الذي يوجب اطّراحه.

فإن قيل: ذلك الزائد منفيٌّ بالإجماع، فاحْتَجْنا إلى ردّه أو تأويله بخلاف ما بيَّنتُمُوهُ؛

ص: 406


1- الكافي، ج 7، ص 129، باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح : تهذيب الأحكام، ج 9، ص 298، ح 1067: ؛ الاستبصار، ج 4، ص 152، ح 573.
2- الكافي، ج 7، ص 129، باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح 10؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 299، ح 1069: الاستبصار، ج 4، ص 152، ح 575.
3- الكافي، ج 7، ص 129، باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 299، ح 1070؛ الاستبصار، ج 4، ص 152، ح 576.

فإنّه موضع النزاع وقد دلَّتْ عليه الأخبار الصحيحة، وغيرها من الأخبار لا يَنْفِيه صريحاً فافْتَرَقا.

قلنا: يمكن القدحُ في كلا الأمرين؛ فإنّ أصحاب الحديث السابقين على الشيخ ذَكَرُوا الرواية الصحيحة المشتملة على إثبات تلك الأمور، وظاهرهم العمل بها؛ فإنّهم ما كانوا يذكرونَ الفتوى خارِجةً عن الأخبار التي يروونها، خصوصاً مثل الصدوق الذي صَرّح في صدر كتابه أنْ لا يَذْكُرَ فيه إلّا ما يَعْتَمِدُ عليه ويدينُ اللّه به(1).

وأيضاً لم يدَّعِ أحد الإجماع على ذلك صريحاً وإن كانت قواعدهم تقتضي إمكان دعواه هنا من حيث الشهرة أو عدم علم المخالف، فلو ادَّعاهُ مدَّعِ لم تُسَلَّمْ دعواه، ولا يتحقّق الإجماع الذي هو حجّة بمجرّد ذلك.

ويمكنُ على هذه الطريقة قلب الدليل فَيُدَّعى أن ما عممه الشيخ - بعد المفيد - خلافُ الإجماع؛ إذ لا يُعْلَمُ قبل الشيخ (رحمه اللّه) قائل بالتعميم فيكون القول به خلاف الإجماع؛ فإنّ المعروف قبل الشيخ إما القوْلُ بالقيمة كقول المرتضى، أو نَفي المنع أصلاً كقول ابن الجنيد(2)، أو القولُ بالتخصيص كقول المفيد(3)، ولم يُنْقَل عن أحدٍ قبل الشيخ التعميم. وهم يكتفون بمثل هذا في الإجماع، خصوصاً الشيخ (رحمه اللّه)؛ فإنّه يدَّعي الإجماع على المسألة بأقل من هذا ثم يذهب بعد ذلك إلى خلاف ما ادعى الإجماع عليه. بل ربما ادعى المرتضى الإجماع على مسألة فيدعي هو الإجماع على خلافها، وهو كثير في تضاعيف الفقه(4).

وبالجملة، فالإجماع من الطرفين في حيّز المنع، والأخبار مختلفة ولا وثوقُ ببعض

ص: 407


1- الفقيه، ج 1، ص 3.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 9، ص 53، المسألة 10.
3- المقنعة، ص 687.
4- انظر رسالتي مخالفة الشيخ الطوسي لإجماعات نفسه، وصلاة الجمعة المطبوعتين في هذا الجزء والجزء الآتي.

دون بعض، فينبغي الاقتصار على ما اتفقتْ عليه، ولما فيه من تقليل تخصيص الكتاب ومخالفة الأصل.

هذا غايه ما تلخص في تقرير هذا القول، ومع جَوْدَتِهِ يمكنُ الجواب عنه بأنّ هذه الأخبار المخصصة لما ذكروه لا تُقاوِمُ تلك الأخبار الحسنة والصحيحة، بل لا تَصلَحُ للدلالة ؛ فإنّ في طريق الخبر الأوّل - وهو خبر محمّد بن مسلم - سَهْلَ بن زياد، وهو ضعيفٌ فاسد المذهب لا يُعتَمَدُ على حديثه(1). وفي طريق الثاني جماعة ضُعَفاء، وناهيك بيزيد الصائغ؛ فقد قال الفضل بن شاذان: إن الكذابين المشهورين جماعة، وعَدَّ منهم يزيد الصائغ (2). وكذلك في طريق الخبر الثالث من الضعفاء جماعة أشهرهم الحسن بن محمد سماعة(3).

فالعمدة في هذا الباب على تلك الأخبار المُعَمِّمة للأرض، سَواءٌ كانت في دارٍ أم قرية أم غيرهما.

وأمّا الشيخ (رحمه اللّه) فإنّه - على قاعدته من عدم التعرض للقدح في الأخبار - أجاب بأنّ تلك الأخبار دلّت على أمر زائد على هذه فتقبل إذا لم تدلّ هذه الأخبار المُخَصِّصة على نفي ما عدا المذكور فيها، فلا منافاة بيّنها بحالٍ(4). وهو حسن، وإن كان ما ذكرناه أحسنَ لما بَيَّنَّاهُ.

وأما القول الثالث فسيأتي الكلام فيه إنْ شاءَ اللّه تعالى في المطلب الثالث.

واعْلَمْ أنّ ما حَكَيْناهُ من الأقوال وجَعَلنا قول الشيخ والتقي وابن حمزة كقول

ص: 408


1- في رجال النجاشي، ص 185، الرقم 490: سهل بن زياد أبو سعيد الآدمي الرازي كان ضعيفاً في الحديث غير معتمد فيه، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو والكذب وأخرجه من قم إلى الري، وكان يسكنها.
2- اختيار معرفة الرجال، ص 546، ح 1033 : وذكر الفضل في بعض كتبه: الكذابون المشهورون أبو الخطاب ويونس بن ظبيان ويزيد الصائغ ومحمد بن سنان، وأبو سمينة أشهرهم.
3- انظر رجال النجاشي، ص 40 - 42، الرقم 84.
4- الاستبصار، ج 4، ص 154، ذيل الحديث 580.

المتأخّرين، تَبِعْنا فيه المشهور بينهم من دعوى أنّها كقول المتأخّرين في استحقاقها قيمة الشجر كالأبنية والأنقاض، وإلّا فكلام الشيخ ومَنْ تَبِعه خال عن التصريح بذلك؛ فإنّه قال في النهاية :

المرأة لا ترثُ في الأرضين والقُرى والرباع من الدور والمنازل، بل يُقَوَّمُ الطُوبُ والخَشبُ وغيرُ ذلك من الآلات وتُعطى حصّتَها منه، ولا تُعطى من نفس الأرضين شيئاً. وقال بعض أصحابنا: «إنّ هذا الحُكم مخصوص بالدور والمنازل دون الأرضين والبساتين». والأوّل أكثرُ في الروايات وأظهر في المذهب(1).

ومثله كلام تلميذه ابن البرّاج(2). وقال أبو الصلاح في كتابه الكافي:

ولا ترِثُ المرأة من رقاب الرباع والأرض شيئاً وتُعطى من قيمة آلاتِ الرباع من خَشَبٍ وأجر كسائر الإرث(3).

وقال ابنُ حمزة:

إن لم تكن ذات ولد منه لم يكن لها حقٌّ في الأرضين والقُرى والمنازل والدور والرباع، وروي روايات مختلفات تُخالِفُ ذلك(4).

هذه عباراتُهم، وأنت خبير بأنّ هذه العبارات ليس فيها تصريح بإعطاء قيمة الشجر ولا بالمنع من الإرث منها، وإنّما دلّت على عموم عدم إرثها من الأرض سواء كانت رباعاً أم قُرى وبساتين وغيرها، وعلى أنّها تُعطى قيمة آلات البناء من الطوب والخشب والأبواب وغيرها، خصوصاً قول أبي الصلاح؛ فإنه صريحٌ في ذلك وأنّ الآلات هي آلاتِ البناء دون غيرها. وهذا بخلاف ما صَرَّحَ به المتأخّرون من منعها من عين الشجر وإعطائها قيمتها كآلات البناء، إلّا أنْ يُتَكَلَّفَ لقول الشيخ: «وغير ذلك من

ص: 409


1- النهاية، ص 642.
2- المهذّب، ج 2، ص 140 - 141.
3- الكافي في الفقه، ص 374.
4- الوسيلة، ص 391.

آلات البناء» بإرادة ما يعمُّ الشجر، وفيه بُعْد شديدٌ؛ لأنّ إطلاق الآلة على الشجر غَيرُ معروف لغةً ولا عرفاً؛ وإنّما المتبادِرُ منها آلات البناء كما هو ظاهر الأخبار، وكلام أبي الصلاح صريح فيه وكلام ابن حمزة خالٍ من الأمرين معاً.

وحينئذٍ فالظاهر أن قول هؤلاء خارج عن الأقوال الثلاثة، وأنّه دالٌّ على منعها من الأرض مطلقاً ومن أعيان البناء والرباع دون قيمتها، وأنها ترثُ من أعيان الشجر، فيُخالِفُ الأوّل فى الإرث من قيمة الشجر؛ لأنّه يُوجِبُ الإرث من عينه، والثاني في المنع من أرض غير الرباع وإنْ كانتْ قُرى وبساتين.

والعجب أنّ العلّامة فى المختلف بعد حكايته لهذه الأقوال الثلاثة كما حَكَيْناهُ، قال -بعد نقل كلام أبي الصلاح -: «وهو مساءٍ لكلام الشيخ». وقال بعد نقله لكلام ابن حمزة - الذي ذكرناه من غير تغيير : وهو يناسب قول الشيخ أيضاً»(1).

ولا يخفى عليك ما بين الأقوال من الفرق؛ فإنّ أبا الصلاح قد صرح بتخصيص الآلات بآلات الرباع والرباعُ: جمعُ رَبع وهو الدار(2)، والشيخ أطلق الآلاتِ، فَإِنْ حُمِلَ كلامُ الشيخ المُطلَقُ على ما قَيَّدَهُ أبو الصلاح - كما هو الظاهر - لم يكونا كمذهب المتأخّرين، وإن حملنا كلام الشيخ في الآلاتِ على ما يَعُمُّ الشجر على ما فيه من البُعْدِ خالف كلام أبي الصلاح وكلام ابن حمزة إنّما دلّ على المنع من الأرض مطلقاً من غَير تَعَرُّض لغيره، فلا يُناسِبُ كلامَ الشيخ ولا كلام أبي الصلاح.

وأيضاً فإنّ العلّامة وغيره من المتأخّرين ذكروا الآلاتِ - كما ذكرها الشيخ - وأضافوا إليها ذكر الشجر، وهو صريح في أنّهم يريدون بالآلات آلات البناء دون الشجر(3)، نظراً إلى عدم تناولها له، فكيف يحملون كلام الجماعة في الآلات على ما

ص: 410


1- مختلف الشيعة، ج 9، ص 52، المسألة 10.
2- في المعجم الوسيط، ص 324، «رَبَعَ»: الربعُ : الموضع يُنزَلُ فيه زمن الربيع، والدار، وما حول الدار والمنزل.
3- كشف الرموز، ج 2، ص 462: مختلف الشيعة، ج 9، ص 52، المسألة 10؛ التنقيح الرائع، ج 4، ص 292.

يَشْمُلُ الشجر مع عدم ظهورها فيها باعترافهم له ؟

هذا مع قطع النظر عن دلالة النصوص، ومع مراعاتها لا يُوجَدُ فيها ما يَدلّ على حُكم الآلات مطلقاً، وإنّما هو من كلام الشيخ والجماعة، فلابدّ من إثبات الدليل على حكمه، والنصوص - كما قد عرفت - إنّما دَلَّتْ على إثبات قيمة الطوب والجُذُوعِ والخَشَب، فيجب حمل الآلاتِ عليها؛ لعدم الدليل على غيرها مع دخوله في عموم أدلّة الإرث.

وقد ظهر مما ذكرناه أنّ في المسألة قولاً رابعاً، وأنّ دلالة الأخبار السابقة الصحيحة وغيرها عليه أقوى من غيره حتّى الأوّل؛ لأنّها تضمَّنتِ المنعَ مِن مُطلَق الأرض، وإعطاءها القيمة من الأنقاض وآلاتِ البناء، فيبقى الباقي على حكمه للأصل. والأخبار التي احتج بها المفيد على الاختصاص بالرباع لا تنافي هذا القول، كما لا تنافي القول الأوّل كما قد بيَّناه.

وبقي أخبارُ المنع من العقار وهي وإنْ نافتْ بظاهر إطلاقها هذا القول - على تقدير تسليم كون الشجر مطلقاً من جملته - إلّا أنّ المنافاة فيها ظاهراً مشتركة بينه وبين القول الأوّل من حيث اشتمل على إعطائها القيمة. والمنع من استحقاق العقار يَشمُلُها، ومع ذلك لا دليل عليها. فكما احْتِيجَ في القول الأوّل إلى تأويل هذه الأخبار يمكن هنا، بل هنا أسهل من وجوهٍ:

أحدها: أنْ يُحْمَلَ العقارُ على الأرض خاصَّةً؛ لأنّها هي أصل المال الذي أُطلِقَ عليه، وهي لا تتغير ولا تَفْسُدُ، بخلاف غيرها من الأموال حتّى الشجر؛ فإنّها فروع يُحدِثها الناسُ وتَقْبَلُ الفساد، فكانت الأرض به أولى.

وثانيها: أنْ تُسَلَّمَ إطلاقها على غيرها لكن نَخُصُّهُ بالنخل كما صنع في الصحاح(1). ونقول هنا : إنّه لا قائل من المسلمين باختصاص الحكم بالنخل عَيناً ولا قيمةً، فسقطَ اعتبارُه، ونَجْعَلُ الحكم مختصاً بالأرض مطلقاً. وهذا كما أخرج أصحابُ القول الأوّل

ص: 411


1- الصحاح، ج 2، ص 754. «عقر».

السلاح والدواب من الخبر الصحيح، فكذا يَخْرُجُ النخلُ، وما حَمَلوه عليه يمكن الحمل عليه إن لم نُخْرِجه.

وثالثها: أن نجعل العقار على إطلاقه ونجعله شاملاً لجميع الشجر، لكن هنا نَخُصُّهُ بالأرض؛ جمعاً بين الأخبار وبين عموم الكتاب.

ورابعها: أنْ نَجْعَلَهُ على إطلاقه أيضاً لكن ليس في اللفظ إشعار بشموله لجميع أفراده بناءً على أنّ «اللام» تَحْتَمِلُ الجنس ونحوه ممّا لا يَقْبَلُ الشمول، فيحصل الشك في غير الأرض من أفراده، أما الأرضُ فتَدْخُلُ قطعاً بغيره من الأخبار وبالإجماع في بعض مواردها.

فإن قيل: يَرِدُ مثلُهُ في الأرضِ لورودها معه في بعض الأخبار بهذا اللفظ وفي غيره كذلك؛ فيحصلُ الشكُ في تناولها لجميع أفرادها، فينبغي على هذا تخصيصها بموضعِ الوفاق وهو أرضُ الرباع والمساكن، كما صنع المفيد(1).

قلنا: عموم الأرض جاء من وجهين لم يتحقّقا في العقار:

أحدهما: ورودها في الخبر الأوّل الصحيح أو الحَسنِ نكرةً منفيّةً، وهو مفيد للعموم. وثانيهما: أنّ غير أرض الرباع قد دخلت صريحاً في الأخبار - كصحيح زُرارَةَ المشتمل على القُرى وغيره (2) - فلا يمكن تخصيصها بأرض الرباع، بخلاف العقار؛ فإنّ تخصيصه سهلٌ كما قرَّرناهُ.

وخامسها: أن نجعله على إطلاقه أيضاً ولكنْ نَخُصُّهُ بالأرض لأنّها موضعُ اليقين، ونطرَحُ الباقي للشكّ فيه مع منافاته للأصل وخُلُوِّ كثير من الأخبار عنه، فلو كان مراداً لزم تأخير البيان في تلك الأخبار عن وقت الخطاب قطعاً، وعن وقت الحاجة على الظاهر.

وسادسها: أن نجعل العقار عطفاً تفسيرياً للأرض - بقرينة عدم ذكره في كثيرٍ من

ص: 412


1- المقنعة، ص 687.
2- تقدّم تخريجه في ص 400، الهامش 8.

الأخبار - حذراً من الاختلاف في كلام المعصوم خصوصاً مع اتّحاده كماهنا، وقد لَحَظَ المحقّق في النافع ذلك، فقال: «ويرثُ الزوج من جميع ما تَرَكَتْهُ المرأة، وكذا المرأة عدا العَقارِ» ثمّ نقل قولَ من طَرَّدَ المنع في المزارع والبساتين(1)، فجَعَلَ العقار عبارةً عن الرِباع والمساكن خاصةً، وهو يؤيّد ما ذكرناهُ.

وقد ظهر بذلك أنّ هذا القول أمتنُ الأقوال دليلاً، وأظهرها من جهة الرواية، وقد قال به أجلّة من الأصحاب (2) فلا أقلَّ من كونه أحدَها.

واعلَمْ أنّه قد اتَّفقَ لهم في نقل الخلاف في هذه المسألة أُمور غريبةٌ:

أحدها: ما نقلناه عن الشيخ من المذهب مع ما نَقَلَهُ عنه العلّامة وغيره مطلقاً.

وثانيها: قوله في المختلف: إن قول أبي الصلاح مساء لكلام الشيخ(3). وقد عرفت أنّه يُخالفه.

وثالثها: قوله: إنّ كلام ابن حمزة مناسب لكلام الشيخ أيضاً(4)، مع شدَّة بُعْدِه عنه.

ورابعها: أنّ ولده فخر المحقّقين في الشرح فَهمَ غيرَ ما فَهمَهُ والده فنقل عن أبي الصلاح أنّه يُوافق الشيخ المفيد في مذهبه من اختصاص المنع بالرباع دون غيره من الأرض، مع أنه قد ذكر المنع من الأرض مطلقاً بعد مَنعِهِ الرِباعِ(5)، وهو خلاف قول المفيد.

وخامسها: أنّ الشهيد (رحمه اللّه) تعالى في شرح الإرشاد جعل قول الشيخَ هو الأوّل، وجَعَلَ ظاهر قول أبي الصلاح وابن حمزةَ ذلك(6). فخالف العلّامة في المساواة

ص: 413


1- المختصر النافع، ص 264:... وترث من قيمة الآلات والأبنية، ومنهم من طرد الحكم في أرض المزارع والقرى وعلم الهدى يمنعها العين دون القيمة.
2- منهم: الشيخ المفيد في المقنعة، ص 687؛ وابنُ إدريس في السرائر، ج 3، ص 258 - 259.
3- مختلف الشيعة، ج 9، ص 52 المسألة 10.
4- مختلف الشيعة، ج 9، ص 52 المسألة 10.
5- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 240.
6- غاية المراد، ج 3، ص 411 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).

إلى جعله ظاهرهما، وقد عرفت عدم الظهور والمساواة.

وسادسها: أنّ المقداد في التنقيح قال - بعد نقل الخلاف - ما هذا لفظه:

والفتوى على قول المفيد وابن إدريس وهو المنع من رَقَبة الأرضِ وإعطاء قيمة الآلات والأشجار والغُروس(1).

ولا يخفى عليك أنّ هذا قول المتأخّرين لا قول المفيد وابن إدريس؛ لتصريحهما بعدم المنع من البَساتين والمزارع مطلقاً ولا من أرض غير الرباع، وإنّما حَكَمَ بالقيمةِ في آلات الرباع خاصَّةً، وقد صارت فتواه بذلك غير معلومة لمناقضة أوّل عباراته لآخرها.

ص: 414


1- التنقيح الرائع، ج 4، ص 192.

من هي الزوجة التي تُحرم؟

المطلب الثاني في بيان مَنْ يُحْرَمُ الإِرث

ممّا ذُكِرَ مِن الزَوْجات

وقد اختلف الأصحابُ فيه: فذهب المفيد(1) والمرتضى(2) والشيخ في الاستبصار (3) وأبو الصلاح(4)، وابن إدريس(5)، والمحقّق في النافع(6) وتلميذه الشارح - بل ادَّعى ابنُ إدريس أنه إجماعٌ - إلى أنّ هذا المنع عامٌّ في كلّ زوجةٍ سَواءٌ كان لها ولد من الميّت أم لا(7)، والأخبار السالفة وغيرُها - ممّا ورد في هذا الباب أجْمَعُ - دالّةٌ على ذلك، فلا وجه لإعادتها إلّا رواية واحدةً يأتي ذكرها والعلة المنصوصةُ الموجِبةُ للحكم شاملة المزوجتين أيضاً كما سيأتي إنشاء اللّه تعالى.

وقال الصدوق(8)، والشيخ في النهاية(9)، وابن البراج(10)، وابن حمزة(11)، والمحقّق في

ص: 415


1- المقنعة، ص 687.
2- الانتصار، ص 585 المسألة :319 جوابات المسائل الموصليات الثالثة، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 259.
3- الاستبصار، ج 4، ص 154 - 155.
4- الكافي في الفقه، ص 374.
5- السرائر، ج 3، ص 259.
6- المختصر النافع، ص 264.
7- كشف الرموز، ج 2، ص 464.
8- الفقيه، ج 4، ص 349، ذيل الحديث 5756.
9- النهاية، ص 642.
10- المهذّب، ج 2، ص 140 - 141.
11- الوسيلة، ص391.

الشرائع(1)، وابن عمه يحيى في الجامع(2)، والعلّامة(3)، والشهيد(4)، وباقي المتأخّرين: إنّ ذلك مخصوص بغير ذات الولد منه (5)؛ جمعاً بين ما أُطْلِقَ في تلك الأخبار وبين رواية الفضل بن عبد الملك(6) وابن أبي يعفور، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الرجل هل يَرِثُ من دار امرأته أو أرضِها من التربة شيئاً، أو يكون ذلك بمنزلة المرأة ؟ فقال: «يرثها وتَرثْهُ من كلّ شيءٍ تَرَكَ وتَرَكَتْ»(7).

ووجه الجمع حَملُ تلك الأخبار على غير ذات الولد، وهذه على ذات الولد، لمناسبة كلّ واحدة لحكمها دون العكس. وتؤيِّده رواية ابن أبي عُميرٍ عن ابن أُذينةَ في النساء: «إذا كان لهنَّ ولدٌ أعْطِينَ من الرباع»(8).

وهذا غايةُ ما احْتَجَّ به القائلُ بالتفصيل.

وفيه نظر؛ لأنّ رواية ابن أبي يعفور الدالّة على عموم الإرث ظاهرة في التقية؛ لأنّها موافقة لمذاهب جميعِ مَن خالَفَنا، وفي سؤالها ما يَدُلُّ عليه؛ لأنّه قال: «أو يكون بمنزلة المرأة لا يرتُ من ذلك شيئاً»(9). وهذا يدلُّ على أن السائل لا شُبهة عنده في حكم المرأة مطلقاً، وإنّما اشتبه عليه حكم الرجل، وهو يدلُّ على ظهور الحكم جداً في ذلك الوقت.

مضافاً إلى ما وَقَعَ في الروايات الكثيرة المطلقة في المرأة من غير تفصيل، ومنها

ص: 416


1- شرائع الإسلام، ج 4، ص 28 - 29.
2- الجامع للشرائع، ص 508 – 509.
3- مختلف الشيعة، ج 9، ص 52، المسألة 10.
4- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 292 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
5- إيضاح الفوائد، ج 4 ص 242؛ التنقيح الرائع، ج 4، ص 192.
6- هكذا في نسخة الأصل والاستبصار، ولكن في تهذيب الأحكام: «أو» بدل «و» ولعلّه الصحيح.
7- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 300، ح 1075؛ الاستبصار، ج 4، ص 154، ح 581.
8- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 301، ح 1076؛ الاستبصار، ج 4، ص 155، ح 582.
9- الفقيه، ج 4، ص 349، ح 5756؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 300، ح 1075؛ الاستبصار، ج 4، ص 154، ح 581.

الصحيحُ والحسنُ وغيرُهما، فتخصيص هذه الرواياتِ الكثيرةِ - المرويّة في أوقاتٍ مختلفة وبروايات(1) مختلفةٍ - بروايةٍ واحدةٍ حالُها على ما ترى، بعيدٌ جداً، مع أنّ في طريقها أبان وهو مشترك بين جماعة، منهم الثقة وغيره.

وما هذا حالُهُ كيف تُخَصُّ به الأخبارُ الصحيحةُ والحسنةُ وغيرها الكثيرةُ؟ ولو عكس فخَصَّ بماعدا ما ذُكِرَ فيها كان أولى.

وأما رواية ابنُ أُذينة فهي مقطوعةٌ؛ لأنه لم يُشيد القول إلى إمام فسقط الاحتجاجُ بها رأساً، ومع ذلك فإنّ ابن أبي عُميرٍ روى عن ابن أُذينَةَ الحُكم فى المرأة مطلقاً؛ لأنهما في طريق الرواية الأولى الحسنة عن الفضلاء الخمسة.

وقال الشيخُ في الاستبصار - بعد نقله جملة الأخبار التي وردت في حرمان المرأة مطلقاً :

فأما ما رواهُ ابنُ أبي يعفور عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)- ونَقَل الرواية السالفة - فلا يُنافي الأخبار الأوّلةَ مِن وجهين:

أحدهما: أنْ نَحمِلهُ على التقيّة؛ لأنّ جميعَ مَنْ خالَفَنا يُخالِفُ في هذه المسألة وليس يوافقنا عليها أحدٌ من العامّة وما يجري هذا المجرى تجوز التقية فيه.

والوجهُ الآخَرُ: أنّ لهنَّ ميراثهنَّ في كلّ شيءٍ ماعدا تُربَةَ الأرض من القرايا والأرضين والرباع والمنازلِ فَنَخُصُّ الخبرَ بالأخبار المتقدّمة – قال: - وكان أبو جعفر محمَّدُ بنُ علي بن الحسين بن بابويه (رحمه اللّه) تعالى يتأوّل هذا الخبرَ ويقول: «ليس لهنَّ شيءٌ مع عدم الأولاد من هذه الأشياء المذكورة، فإذا كان هناك ولد فإنّه يَرِثُ مِن كلّ شيءٍ». واعتَذَرَ عن ذلك بما رواه ابنُ أبي عُميرٍ عن ابن أُذينَةَ: «أنّ النساء إذا كان لهنَّ ولدٌ أُعْطِينَ من الرباع»(2).

ص: 417


1- في نسخةٍ: «برواة» بدل «بروايات».
2- الاستبصار، ج 4، ص 154 - 155، ح 581 وذيلها ؛ وانظر الفقيه، ج 4، ص 349، ح 5757.

انتهى كلام الشيخ ملخصاً.

وهو ظاهر في عدم ارتضائه للتأويل؛ لأنّه أوَّلَ الخبر السابق أولاً بوجهين، ثمّ نَقَلَ الثالث عن ابن بابويه ولو كان مرضيّاً عنده لقال: إنّه لا يُنافي من لقال: إنّه لا يُنافي من ثلاثة أوجه، وذكر الثالث ثمّ أسْنَدَهُ إلى ابن بابويه إن شاء، كما لا يخفى.

وأمّا ما في التهذيب فإنّه قال:

هذا الخبرُ محمول على أنه إذا كان للمرأة ولد، فإنّها ترثُ من كلّ شيءٍ تَرَكَه الميّت عَقاراً كان أو غيره.

ثم ذكر عقيبه دليلاً عليه حديث ابنِ أُذينة ولم يذكر الوجهين الآخرين(1)، وهو يدلُّ على أنّه موافق للصدوق.

وأمّا ابن إدريس فإنّه قال:

فأمّا إذا كان لها منه ولدٌ أُعْطِيَتْ سهمها من نفس جميع ذلك على قول بعض أصحابنا، وهو اختيار محمد بن علي بن الحسين بن بابويه تمسكاً منه بروايةٍ شاذَةٍ وخبر واحدٍ لا يوجب علماً ولا عملاً. وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته، إلّا أنّه رجع عنه في استبصاره، وهو الذي يقوى عندي - أعني ما اختاره في استبصاره - لأنّ التخصيص يَحتاجُ إلى أدلّة قويّةٍ وأحكامٍ شرعية، والإجماع على أنها لا تَرثُ من نفس تُربة الرباع والمنازل شيئاً سواء كان لها من الزوج ولد، أو لم يكن، وهو ظاهر قول شيخنا المفيد في مقنعته والسيِّدِ المرتضى في انتصاره. (2) انتهى.

وهذا القول كلّه متوجّه لا قادِحَ فيه، إلّا أنّه يمكن أن يقال: لَمّا كان عمومُ القرآن دالاً على إرث الزوجة مطلقاً من كلّ شيءٍ، وقدورد ما يُنافي إطلاق هذا المخصص من

ص: 418


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 300 - 301، ذيل الحديث 1057.
2- السرائر، ج 3، ص 259.

الروايتين المذكورتين وإنْ لم يبلغ حدَّ التخصيص، إلّا أنّه يُوقِعُ الشبهة في الجُملة في إطلاق تلك الأخبار المخصّصة، فينبغي أنْ يُرجع إلى عموم الكتاب في غير محلِّ الوفاق؛ لأنّه دلالة قوية، وقد انقدَحَتِ الشُبهة في تخصيصه في محل النزاع خصوصاً مع ذَهاب جَمَاعَةٍ من أجلاء الأصحاب المتقدّمين وجُملَةِ المتأخّرين إليه، وذهاب جماعةٍ آخَرينَ إلى أن مثل هذه الأخبار وإنْ كَثرتْ لا تُخَصِّصُ القرآن، بل لا يُحْتَجُ بها؛ لرجوعها إلى خبر الواحد، فلا أقلّ من وقوعِ الشُبهة في التخصيص. وهذا لا بأس به، وإن كان القول بالتسوية بين الزَوْجاتِ أيضاً قويّاً مَتيناً.

ص: 419

كيف تُحرم ممّا ثبت الحرمان منه؟

المطلب الثالثُ في كيفية الحِرمانِ

ممّا ثبت الحرمان منه

قد عرفت أنّ الكلّ اتَّفقوا على أنه فى غير الأرض إنّما هو من العين خاصةً، فتعطى قيمة ما تُحْرَمُه من غَيرها مهما كان والنصوص ناطقة به. وأما الأرضُ - عامَّةً على المشهور وخاصَّةً على القول الآخر - فذهب الأكثر إلى عدم استحقاقها منها شيئاً عَيناً وقيمةً، والنصوص ناطقةٌ به، كما عرفت.

وخالَفَ المرتضى (رضي اللّه عنه) في ذلك وجَعَلَ حِرمانها في أرض الرباع من العين خاصةً وأوْجَبَ لها قيمتها كما تجب قيمةُ آلاتها، وحاوَلَ في ذلك الجمع بين ما ورد في الأخبار وأفتى به الأصحاب من حرمانها منها وبين عموم الكتاب الدال على إرثها من كلّ شيءٍ، فَقَيَّدَ إطلاق الأخبار بالعين وإطلاق الآية بالقيمة؛ تقليلاً لتخصيص الكتاب - الذي هو عُمدة الاستدلال عنده - واقتصاراً فيما خالفه على أقلّ ما يمكنُ، كما صَنَعَ في مسألة الحَبْوَة(1).

قال (رضي اللّه عنه) في الانتصار:

ممّا انفرَدَتْ به الإماميّة أنّ الزوجة لا تَرِثُ من رباع المتوفّى شيئاً، بل تُعْطى قيمة حقِّها من البناء والآلات دون قيمة العِراص. وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يُفَرِّقوا بين الرباع وغيرها في تعلَّقِ حق الزوجات، والذي يقوى في

ص: 420


1- الانتصار، ص 582 المسألة 316.

نفسي أنّ هذه المسألة تَجْرِي مَجْرَى المسألة المتقدّمة في تخصيص الأكبر من الذكور بالمصحف والسيف، وأن الرباع وإن لم تُسَلَّمْ في(1) الزَوْجات فقيمتها محسوبةٌ لها(2).

ثمّ أحالَ البيان هنا على ما بَيَّنَهُ هناك، وحاصله مراعاة الجمع بين ظواهر الكتاب وما أجْمَعَ عليه الأصحابُ من الحِرمان.

قول المرتضى والردّ عليه

قال العلّامة في المختلف وقول المرتضى حَسَنٌ لما فيه من الجمع بين عموم القرآن وخصوص الأخبار(3).

أقول: فيه نظر؛ لأنّ الأخبار إن اعتُبِرتْ مخصصةً للقرآن فهي دالة على حرمانها من الأرض مطلقاً، وذلك من وجوهٍ:

أحدها: قوله فيها: «أنّ المرأة لا تَرثُ من الأرض شيئاً»(4). وقوله: «لا تَرثُ ممَّا تَرَكَ زوجها من القُرى والدور شيئاً...» إلى آخره(5). ونحو ذلك من العبارات، ولا شكّ أنّ الإرث من قيمتها شيءُ، والشيءُ قد وقع فيها نكرة منفيّةً فيُفيد شمول النفي لارثها منه بكلِّ وجه، فلو وَرِثَتْ من القيمة لما صَدَقَ عدم إرثها شيئاً منها.

وثانيها: أنّ المتبادر من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): »«لا ترثُ شيئاً» بل من قوله: «لا ترث» أنّها لا ترثُ من العَينِ ولا من القيمة كقوله: «القاتلُ لا يَرِثُ» و«الكافرُ لا يَرِث» ونحو ذلك، فيكون دالّاً بطريق الحقيقة على ذلك، وآيته مبادَرَةُ معناه إلى ذهن كل سامع لذلك

ص: 421


1- هكذا في نسخة الأصل، ولكن في المصدر: «إلى» بدل «في» وهو أولى.
2- الانتصار، ص 585، المسألة 319: والطريقة في نصرة ما قويناه هي الطريقة في نصرة المسألة الأولى، وقد تقدّم بيان ذلك؛ جوابات المسائل الموصليات الثالثة، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 259.
3- مختلف الشيعة، ج 9، ص 54. المسألة 10.
4- عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً». وقد سبق تخريجها في أوائل الرسالة ص 401، الهامش 1.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 299 - 300، ح 1072؛ الاستبصار، ج 4، ص 153، ح 578.

واستعمال الفقهاء بالخصوص لهذا اللفظ فى هذا المعنى، وإذا كان هو المخصص للآية وجب حمله على معناه الحقيقي وتخصيصه بها من العين والقيمة؛ وإلّا فلا معنى لاعتبارها مُخَصِّصةً من دونِ أَنْ يُعْمَلَ بمعناه.

وثالثها: قوله مع ذلك: «إلّا أنْ يُقَوَّمَ الطوبُ والخَشب قيمةٌ فتعطى رُبْعَها أو ثُمْنَها إِنْ كان من قيمة الطوب والجُذوع والخَشَب»(1). وقوله: «ويُقَوَّمُ النَّقْضُ والأبواب والجُذوعُ والقَصَبُ فتُعطى حقَّها منه» (2) الواقع تفصيلاً للحرمان يقتضي أن الحرمان من الأرض شامل للعين والقيمة، والحِرمان من الآلات المذكورة من العين دون القيمة. ومن القواعد المشهورة أن التفصيل يقطَّعُ الاشتراك، فلو كان حرمانها في الأرض من العين لا من القيمة لزم اشتراك الجميع في ذلك، وهو خلافُ القاعدة.

ورابعها: أن قوله ثانياً: «ويُقَوَّمُ الطوبُ...» إلى آخره وما في معناه يدلُّ على تخصيص هذه الأشياء بالتقويم دون الأرض من حيث إنهما جميعاً ذُكِرا في الحرمان، لدخول الآلات المذكورة في الرباع والدارِ ونحوهما، فلو كانت الأرض مساوية لها في التقويم لَزِمَ الإغْراءُ بالجهل حيث يَحْكُمُ بحرمانها من الجميع ثم يَحْكُمُ باستحقاقها القيمة من البعض، وهو ظاهر.

وخامسها: أنّه - مع الفرق المذكور بعد الجمع - لو كانت الأرضُ مشاركةً لغَيرها في التقويم لَزِمَ تأخيرُ البيان عن وقت الخطاب قطعاً وعن وقت الحاجة على الظاهر؛ لأنّ السائل والسامع يأخذ اللفظ على إطلاقه ويَحْمِلُهُ على معناه المتبادر، ويَنْقُلُهُ لغَيره ويَعْمَلُ بمقتضاه، خصوصاً مع تعدد الرواة واختلافِ بَلَدِهم وزمانهم ووقوع الموتِ في الخَلْقِ في أكثر الأوقات، وانقضاء زَمَنِ ظهور الأئمّة -

ص: 422


1- الكافي، ج 7، ص128، باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 297 - 218، ح 1064: الاستبصار، ج 4، ص 151. ح 570.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 299، ح 1072؛ الاستبصار، ج 4، ص 153، ح578.

ولم يُنْقَلْ عن أحدٍ منهم بيانُ ما يُخالِفُ هذا المعنى الظاهر من حرمانها من الأرضِ مطلقاً - ووقوع الوقائع الكثيرة واستعمال مضمونها، وهو واضح في تأخير البيان عن وقت الحاجة.

فإن قيل: السيّد المرتضى لا يعتمدُ في ذلك على الأخبار لكونها أخبار آحاد لا تُوجِبُ عنده العلم ولا العمل، وإنّما اعتماده على الجمع بين عموم الكتاب وإجماعِ الأصحاب اللذَيْنِ هما عندهُ حُجَّةٌ. وحينئذٍ فلا يَرِدُ عليه شيءٌ ممّا ذُكِر.

قلنا: إجماع الأصحاب عنده إنما وقع على حرمانها من الأرضِ عَيناً وقِيمةً، يَظْهرُ ذلك من استقراء كلامهم وفتاواهم؛ فإنّهم لا يختلفون في ذلك ولا يَنْقُلُونَ الخلاف فيه إلّا عنه (رضي اللّه عنه)، فإذا راعى إجماعهم في التخصيص فلْيُراعِهِ كما وقع، لا في أصل الحِرمان في الجُملة.

فإن قيل: يمكن أن لا يكونَ تحقّق في زَمَنه كون الإجماع على الحرمان من العين والقيمة بل عليه في الجُملة، وإنّما تحقّق بعد زمانه كما هو الظاهر؛ فإنّ مصنفي كُتب الفتوى والمصرحين بالأحكام والتفريع كلَّهم متأخّرون عنه إلّا القليل، كالمفيد وابني بابويه وابن الجنيد. وابنُ الجُنَيْدِ ممَّن يُوافِقه على عدم الحِرمان من الأرض مطلقاً، بل يذهب إلى عدم الحرمان منها مطلقاً(1) كماسيأتي في المطلب الرابع. وباقي من ذُكِرَ - مع أنّه لا تصريح في كلامهم بالحكم، أو بما يقتضي الإجماع - لا يتحقّق بكلامهم الإجماع وإِنّما تَحَرَّرَ لمنْ تَأخَّرَ مِن الفقهاء فأمكنه القولُ بأنّ الإجماع لم يتحقّق إلّا على أصل الحِرمان لا على تحقّقه من العين أو منها ومن القِيمةِ.

قلنا: هذا كلّه حقٌّ، ولكنّ الموجود في زمانه وما قبله الاعتماد على النصوص المذكورة أو على فتوى من عَبَّرَ بها، والجميع دال على الحِرمان من الأرض مطلقاً حسبما قررناه سابقاً، فالقولُ باحتماله الأمرين وأنّ المتيقن منه هو الحِرمان من

ص: 423


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 9، ص 53، المسألة 10.

العين خاصَّةً غيرُ واضح. وهذا بخلافِ ما ذهب إليه في مسألة الحَبْوَة؛ فإنّ إجماعهم على ثبوتها في الأعيان المذكورة غَيرُ مُنافٍ للقول بالقيمة، كما حقّقناه في المسألة المختصّة بها(1).

وبالجملة فمراعاة دلالة هذه النصوص وفتاوى الأصحاب تقتضي حرمانها من الأرض في الجُملة مطلقاً. وإنّما ينقدح الكلامُ على خصوص الأرض أو عمومها؛ لوقوع الخلاف فيها واختلاف ظواهر الأخبار، فيخَصَّصُ القرآن بما تُيُقنَ التخصيص به وهو أرضُ الرباع دون غيرها عَيناً وقِيمةً، فيعلّلُ التخصيص من لا يَلْتَفِتُ إلى الأخبار بموضع الإجماع، وهو الأرض الخاصَّة عَيناً وقيمة والالتفات إلى اطّراح أخبار الآحادِ وعدم تحقّق الإجماع في المسألة يوجبُ عموم إرثها من عين الجميع، وأمّا الفرق بين العين والقِيمةِ فَغَيرُ واضح.

فإن قيل: كيف يتحقّق الإجماع على الحِرمان في الجُملة مع مخالفة ابن الجُنَيد وحُكمِه بإرثها من جميع ما تُرِكَ كغيرها - كما سنُبيِّنُهُ إن شاء اللّه تعالى - مع أنه لا يُعْلَمُ انتفاء قول غيره بذلك؛ لورود رواية صحيحة به - وهي رواية عبد اللّه بن أبي يعفور(2) - فيمكنُ أنْ يكون قد عَمِلَ بها كثيرٌ من رُواةِ الأخبار أو بعضُهم حيث أودعوها في كتبهم وما كان يُتبيَّنُ فتواهم من تلك الكتب وإنّما مُعْتَمَدُهم الأخبار.

قلنا: أما خلافُ غير ابن الجنيد فغير متحقق، بل الظاهرُ عدمُهُ لتتبع المتقدّمين والمتأخّرين الخِلاف فى المسألة. وما نَقَلَ أحد منهم خلافاً لغيره فيها، ومثل هذا يكفي في ظهور عدم المخالف المجوّز لدعوى الإجماع - على ما يظهرُ منهم - بل أقلُّ من ذلك. وعند ذلك يَسْهَلُ الخَطْبُ في مخالَفَةِ ابن الجنيد وحده، للعلم بنَسَبِهِ على قاعدة الأصحاب هذا هو الذي يقتضيه بحثُهم واصطلاحُهم في تحقيق

ص: 424


1- يعني رسالة الحبوة، التي طبعت في هذه المجموعة بعد هذه الرسالة.
2- الفقيه، ج 4، ص 0349 ح 5756: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 300، ح 1075؛ الاستبصار، ج 4، ص 154، ح 518.

الإجماع، وفيه نظر ليس هذا موضع تحقيقه. وعلى هذه الطريقِ يُمكنُ مراعاة السيّد (رحمه اللّه) للإجماع وعموم القرآن(1)، ويَجْمُعُ بينهما بحرمانها في الجملة، على ما فيه من النظر.

والذي يظهرُ أنّ قولَ ابن الجنيد بإرثها مطلقاً أقوى دليلاً وأوفق للقواعدِ من مذهب السيّد عندَ مُطَّرح أخبار الآحاد؛ لمنع الإجماع على الحرمان في الجُملة، فلا يُغْتَر بتخصيص القرآنِ مطلقاً. فاللازم حينئذٍ أحد الطرفين إمّا عدم حرمانها مطلقاً، أو حرمانها من الأرضِ مطلقاً وهو الطرف الأقوى. واعْلَمْ أنّ الذي يَظهرُ مِن كلام المرتضى ويَقْتَضِيه دليله أنّ حِرمانَها عندَه مِن عَين الأرض دون القيمة مخصوص بأرض الرباع - كما أسْلَفْناهُ - أما غيرها من القُرى والمَزارع فَحُكمها عنده حكم غيرها من ماله؛ فترِثُ مِن عَينه كما يقوله المفيد(2) ومن تبعه (3).

ص: 425


1- النساء (4): 12.
2- المقنعة، ص 687.
3- وهم ابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 259؛ والمحقّق في المختصر النافع، ص 264؛ والفاضل الآبي في كشف الرموز، ج 2، ص 463.

هل الحرمان مستحق عليها أم لا؟

المطلب الرابع في أن هذا الحرمان كيف وقع

هل هو مستحق عليها أم لا ؟

والخلاف فيه ظاهراً مع ابن الجُنَيْد خاصةً لاتّفاق من عداه - ممّن يُوجَدُ فتواهم أو يُنقل الآن - على أن حرمانها في الجُملة أمر مستحقٌّ بدلالة الأخبار وفتوى الأصحاب على ذلك.

وذهب ابن الجنيد (رحمة اللّه) عليه في كتابه الأحمدي في الفقه المحمدي(1) إلى أنّها كغيرها من الوراث، لا تُحْرَمُ من شيءٍ ممّا ذُكر، وهذه عبارته:

وإذا دخل الزوج أو الزوجة على الولد والأبوين، كان للزوجة الثُمنُ وللزوج الربع من جميع التركة، عقاراً وأثاثاً وصامتاً ورقيقاً وغير ذلك، وكذا إنْ كُنَّ أربعَ زَوْجَاتٍ، ولمن حَضَرَ مِن الأبوين السُدسُ، وإنْ حَضَرُوا جميعاً السدسان، وما بقي للولد(2). انتهى.

ولم يُخَصِّص الولد بأنّه من الزوجة، وهو ظاهر في عموم الحكم الذي ذكرهُ للزَوْجاتِ سَواءٌ كان لهنَّ ولدٌ أم لا. وهذا هو الذي فَهمَ عنه مَنْ تَأَخَّرَ عنه ونَقَلوهُ عنه قولاً، وإن كانت عبارته محتملةً لمعنى آخَرَ.

ص: 426


1- هذا الكتاب فُقِدَ ولم يصل إلينا. انظر وصفه ووصف مؤلّفه في رجال النجاشي، ص 385 - 388، الرقم 1047؛ فهرست الطوسي، ص 134: إيضاح الاشتباه، ص 291 - 292، الرقم :673 الذريعة، ج 4، ص 510 - 511: وج 20، ص 176 - 177. واعلم أنّ ما أثبتناه مطابق لنسخة الأصل، ولكن جاء اسم الكتاب في رجال النجاشي وفهرست الطوسي هكذا الأحمدي للفقه المحمّدي.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 9، ص 53، المسألة 10.

وحجّته على ذلك عموم القرآن(1)، وصحيحةُ ابن أبي يعفور عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد تقدَّمت(2).

وما وَرَدَ من الأخبار بخلاف ذلك لا يصلُحُ عنده لتخصيص القرآن، إمّا ردّاً لخبر الواحد - كما هو المعروف من مذهب قدماء علمائنا، حتّى صار منسوباً إلينا عند من خالَفَناء لشهرته - أو لأنّه وإنْ عُمِلَ به عند عدم المعارض لكن لا يَصلُحُ لتخصيص عموم القرآن؛ بناءً على أنّ دلالته ظنّيّة ودلالة القرآن قطعيّة فلا يعارضه، كما هو أحد أقوال الأُصوليّين. وقد سبق منه في باب الحَبْوَة مثلُ ذلك، فلم يَخُصَّ بها الولد على وجه الوجوب لذلك لكنَّه حَكَمَ ثُمَّ بالاستحباب (3)؛ نظراً إلى الأخبار وفتوى الأصحاب. ولقد كان ينبغي منه هنا مثله لكنَّه لم يصرّح به فلا يَرْجِعُ الخلافُ هنا إلى الاستحقاق والاستحباب، بل إلى الاستحقاق وعدمه.

ولعل عذرُهُ في الفرق أنّ الحكم هناك تخصيص الولد بالأمور المذكورة، فإذا لم يُمْكِنُه حَمْلُهُ على الاستحقاق - لمعارَضَة القرآن - حَمَلُه على الاستحباب، بمعنى أنه يُسْتَحَبُّ لباقي الورثة تخصيصه بها؛ لأنّ التخصيص يناسِبُ كلا الأمرين بخلاف ما هنا؛ فإنّ الأخبار اسْتَمَلَتْ على نفي إرثها من المذكور، والنفي لا يناسبه الحكم بالاستحباب فلذلك اطَّرَحَهُ، وحَمْلُ النفى على استحباب أن لا يأخُذ شيئاً مِن أعيان ما ذُكِرَ أو من قیمته خلافُ ظاهر إطلاق النفي.

وهذا الحكم مبني على قواعد قد تَقَرَّرَ هدفها في محالها، وأن العمل بالأخبار الصحيحة مُتَعيِّن - إنْ لم يُعْمَلْ بغيرها من الأنواع - وتصلُحُ لتخصيص الكتاب، ولا تَقْدَحُ ظنّيّة حكمها؛ لأنها ظنّيّة الطريق قطعية الدلالة، وعام القرآن ومطلقه قطعي الطريق ظنّي الدلالة؛ فتساويا في قبول التعارض وتحقيق هذا الحكم في الأُصول. واللّه أَعْلَمُ.

ص: 427


1- النساء (4): 12.
2- تقدّمت في ص 417 الهامش 2.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 9، ص 39، المسألة 2.

الحكمة من هذا الحرمان

المطلب الخامس في بيان الحكمَةِ

في هذا الجرمان

وإبداؤها - بعد ثبوته بالنصوص الصحيحة واتّفاق الأصحاب إِلَّا مَنْ شَذّ - غير لازمٍ، غَير أنّها من الحكمة الواضحة، وقد نَبَّة عليها الأصحابُ ونَطَقَتْ بها نصوصهم.

وحاصلها أنّ الزوجة من حيثُ هي زوجة لا نَسَبَ بينها وبين الورثة وإنما هي دَخيل عليهم، فربما تزوَّجَتْ بعد الميّت بغيره ممن كان يُنافِسُهُ ويَحْسُدُهُ، فَتُسْكِنُهُ في مساكنهِ وتُسَلِّطُه على عقاره، فيحصُلُ على الوَرَثَةِ بذلك غَضاضةً عظيمة. فاقتضتِ الحكمة الإلهية مَنْعَها من ذلك وإعطاءها القيمة جبراً لها، والقيمةُ مُحَصَّلةٌ للعَينِ وقأئمّة مقامها، والضرر بالعدول منفي أو قليل في جَنْبِ ذلك الضرر - وقريب منه القولُ في اختصاص الولد الأكبر بثياب أبيه وسَيفه وخاتمه ومُصحفه - وهذا بخلاف الحكم بإرثها من أعيان المنقولات من أمواله وأثائِه؛ فإنّها إذا انْتَقَلَتْ من منزله لا يُلْتَقَتُ إلى مثل ذلك ولا يُغَضُّ بسببه غالباً. وقد وردت هذه العلة في عدة أخبار فمنها رواية محمّد بن مسلم، قال: قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «تَرِثُ المرأة الطوبَ ولا تَرِثُ من الرباع شيئاً» قال، قلت: كيف تَرِثُ من الفرع ولا تَرِثُ من الرباع شيئاً؟ فقال لي: «ليس لها منهم نَسَبٌ تَرِثُ به وإنما هي دخيل عليهم، فتَرثُ من الفرع، ولا تَرِثُ من الأصل ولا يَدْخل عليهم داخل بسببها»(1).

ص: 428


1- الكافي، ج 7، ص128، باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح : تهذيب الأحكام، ج 9، ص 298، ح 1067؛ الاستبصار، ج 4، ص 152، ح573.

ومنها: رواية حمّاد عثمان عن أبي عبد اللّه قال: «إنّما جُعِلَ للمرأة قيمةُ الخشب والطوب لئلا تزوّج فتدخل عليهم من يفسد مواريثهم»(1).

ومنها: رواية ميسرة بيّاع الزُطّي عن أبي عبد اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قال: سألته عن النساء ما لهنَّ من الميراث ؟ قال: «لهنَّ قيمة الطوب والبناء والخَشَبِ والقَصَبِ، فأمّا الأرضُ والعقارُ فلا مِيراثَ لهنَّ فيه»،قال قلت فالثياب ؟ قال» «الثياب لهنَّ»، قال قلت كيف صار ذا ولهذه الثُمْن والربع مسمَّى ؟ قال: «لأنّ المرأة ليس لها نَسَبٌ تَرِثُ به وإنّما هي دخيل عليهم، وإنما صار هذا كذا لئلا تَتَزوَّجَ المرأة فيجيءَ زوجها أو ولدها من قومٍ آخرين فيُزاحِمَ قوماً في عقارهم»(2).

ومنها ما كتبه الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى محمَّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله علَّه المرأةِ أنّها لا تَرِثُ مِن العقار شيئاً إلّا قيمة الطوب والنَقْضِ؛ لأنّ العقار لا يمكن تغييره وقَلْبُه، والمرأة قديجوز أنْ يَنْقطعَ ما بينها وبينه من العصمة ويجوز تغييرها وتبديلها، وليس الولد والوالد كذلك؛ لأنه لا يُمكنُ التفصي منها (3)، والمرأة يُمْكِنُ الاستبدال بها، فما يجوز أَنْ يَجيءَ ويَذْهَبَ كان ميراثه فيما يجوز تغييره وتبديله إذ أشبهها، وكان الثابت المقيم على حاله كمن كان مثله في الثباتِ والقيام(4).

واعْلَمْ أنّ هذه الأخبار قد دلّتْ أيضاً - مضافاً إلى ما سلف - على عدم الفرق بين ذاتِ الولد من الزوجات وغيرها؛ لقيام العلّة فيها، وعلى أنّ المدفوع إنّما هو قيمة

ص: 429


1- الكافي، ج 7، ص 129، باب أنّ النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح 7: الفقيه، ج 4، ص 348، ح 5754: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 298-299، ح 1068؛ الاستبصار، ج 4، ص 152، ح 574.
2- الكافي، ج 7، ص 130، باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئاً، ح 11؛ الفقيه، ج 4، ص 347، ح 5751؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 299، ح 1071؛ الاستبصار، ج 4، ص 152، ح577.
3- هكذا في نسخة الأصل، ولكن في الفقيه، وتهذيب الأحكام: «منهما»، وفي الاستبصار: «بينهما».
4- الفقيه، ج 4، ص 348، ح 5752 ؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 300، ح 1074 : الاستبصار، ج 4، ص 153، ح 579.

الطوبِ والخَشَبِ وآلاتِ البناء ولا تَعرُّضَ لها للشجر بوجه وإنْ كان قد يظهرُ من كلام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في جوابه مساواته للأرض من حيث إنه مما لا يَتَبَدَّلُ غالباً إلّا بعد أوقات متطاولة.

ويمكن أنْ يقال: إنّه يَدلُّ أيضاً على الإرث مِن عَينه كما قد دَلَّتْ عليه الأخبارُ السابقة، ونصر في ذلك القول الغريب(1)؛ فإنّ الشجر - وإن طال مَكْثُه - مُعَدُّ للتبدل والزوال وقابل للقطع والإزالة في كلّ وقت، فكان كالزوجة التي تَقْبَلُ التبدل والإزالة. وإنْ أقِيمت ولم تزل فلابدّ من تبدلها على تطاول الأزمان واللّه أعلم بحقائق أحكامه. فهذا ما اقتضاه الحال من الكلام على هذه المطالب الخمسة. ولنتمم الكلام في المسألة بمباحث:

التركة بالنسبة إلى ارث الزوجة منها وعدمه ثلاثة أقسام

أ) قد عرفت أنّ ما تَرَكهُ الميّت بالنسبة إلى إرث الزوجة منه وعدمه ثلاثة أقسام: منه ما لا تَرثُ منه عَيناً ولا قيمةً وهو الأرض، إما مطلقاً أو أرضُ الدور والمساكن. ومنه ما تَرِثُ مِن قِيمته ولا تَرِثُ مِن عَينه، وهو ما عدا الأرض من أجزاء البناء من الحَجَر والخشب واللبِنِ والأبواب والأوتاد والرفوف والسلالم المُثبَتَةِ وغيرها؛ لمساواتها لها في المعنى، وفي إلحاق الشجر بهذه الآلاتِ أو بالقسم الثالث ما تَقَدَّمَ.

ومنه ما تَرِثُ مِن عَينه فهو ما عدا ذلك من أمواله من حيوان وأثاث وزرع ورقيق وصامت وغيرها، ولا فرق في الزرع بين ما يذهب لسَنَتِهِ كأكثر أنواعه وبينَ ما يَبقى أكثرَ من سَنَةٍ كبعض أنواع القطن والذُرّة. ولا في الشجر بين ما يبقى على ساقه وما يُقْطَعُ كالمَوْز، ولو كان الزرعُ بَدْراً غير ظاهر فأولى بالدخول.

أمّا غَرس الشجر قبلَ،نباته، فالظاهر أنه بحكمه؛ لمساواته له في المعنى الموجب للتقويم، مع احتمال العدم إلى أنْ يُطلق عليه اسم الشجر ؛ وقوفاً فيما خالف الأصل على موضع اليقين.

ص: 430


1- لعلّ المراد قول المفيد ومن تبعه، وهو ثاني الأقوال التي قد تقدمت في أوائل الرسالة، ص 399 - 400.

أمّا الثمرةُ فتَرِثُ من عَينها وإنْ لم تَبْلُغ أوان قطعِها؛ لأنها صارت مُنْفَصِلةً عن الشجر حكماً وفي حكم المنقول، ومن ثُمَّ لم تَدْخُلْ في بيعه عند الإطلاق.

ولو كان الشجرُ في داخل الدار فله حكم نفسه. فإنِ اعْتَبَرنا فيه القِيمةَ قُوَّمَ مع آلاتها كما ذُكر، وإنْ وَرَّثناها مِن عَينه شاركت الوارث فيه وإن اسْتَحَقَّتْ قِيمة آلاتِ الدار؛ لأنه لا يُعدُّ منها ولا من أجزائها وإن اتَّصَلَ بها، ومن ثَمَّ لم يَدْخُلْ في إطلاقِ بَيعها.

لا فرق في المساكن بين ماكان يسكنه الميّت بنفسه وغيره

ب) لا فرق في المساكن بين ما كان يَسْكُنُهُ الميّت بنفسه ويَسْكُنُه غيرُه ولو بالأجرة، بل كلّ ما يُطلَقُ عليه اسم الدار وإن كان مهجوراً؛ عملاً بإطلاق الاسم.

وهل يَلْحَقُ ما أعَدَّهُ مِن البناء للحيوان كالبقر والغنم والنحل وغيرها، وما أعَدَّه الموضع الغَلّة وعلفِ الحيوان، ولعَصْرِ الزَّيْتِ والعِنَبِ والشِيْرَج، والحمام والرحا ونحوها ؟ نظر من عدم إطلاق اسم الرباع عليها؛ ومن شمول قوله: «و تُعطى قيمة الطوب والخشب والأبواب والجُذوع» لذلك كله، وأمّا دخول أرضها في أقسام الأرض فواضح بل أولى. والأقوى إلحاق الجميع بالدور المسكونة؛ لما ذكرناه، وإن كان التعليل السابق لا يتناوله؛ عملاً بعموم اللفظ.

ويقوى الإشكال على مذهب المفيد حيث خصها بالرباع(1)، وهي لا تتناول جميع ذلك. وأما ما في هذه المواضع من الآلات المنقولة فإنّها ترثُ من عَينه؛ لعدم دخوله فيما ذُكِرَ وإِنْ دَخَلَ في عبارات الأصحاب المعبرين بالآلات؛ لأن الظاهر أنّهم يُريدون بها آلاتِ البناء، كما هو الموجود في النصوص التي هي المستند.

وأمّا نفسُ حِجارة الرحا ففي دخولها في أجزاء البناء وآلاته نظر: مِن نَباتِها غالباً فكانت كغيرها من الأحجار والأخشاب، بل أولى من بعضها كالأبواب ومن عدم تناول ما اسْتُثني له فيبقى داخلاً في عموم آية الإرث(2). وهذا هو الأجودُ.

ص: 431


1- المقنعة، ص 687.
2- انظر النساء (4): 12 - 13.

آلات البناء ترث منها قبل تمام البناء

وأولى منه إرثها من عين الجارُوش الصغير(1) وإن كان حَجَرُه الأسفلُ مُثبتاً؛ لأنّ تثبيته لسهولة الارتفاق به لئلا يتحرَّكَ لا للدوام، ومِن ثُمَّ لم يَدْخُلْ فِي بَيع الدار ولَحِقَ بالأمتعة المنقولة.

وأمّا قُدورُ الحمّام والمصابن(2)، فالظاهر أنّها كالجزء منها؛ لثباتها غالباً. نعم لو كانت غير مثبَتَةٍ - بحيثُ يُعْتادُ نقلُها حيثُ يُراد - وَرِثَتْ مِن عَينها كغيرها.

ج) لو خَلَّفَ آلاتِ البناء من الخشب والأحجار وغيرها قبل أنْ يَضَعها في البناء وَرِثَت من عينها؛ لأنّها من جملة أمواله المنقولة ولو كان قد شرَعَ في البناء ولم يُكَمِّله فما وَضَعه منها فيه فبحُكمِهِ، وما لم يَدْخُلْ فيه فبحكم المنقول.

ولو كان قد وضع الخَشَبَ على الجدار ولم يُكَمِّل السقف، فإن كان قد ثَبَتَ في البناء بحيث صار كالجزء منه عرفاً فلها القيمة، وإنْ لم يَحْصُل فيه إلّا مجرّد الوضع ففي دخوله نظر من عموم إطلاق إرثها من قيمة الخَشَب ومِن ظهور أنّ المراد به الخَشَبُ المتصل بالبناء. والأجودُ اتِّباعُ العرف في صيرورته جزءاً أو عدمه. ومع الشك يتناوله عموم آية الإرث(3). وكذا القولُ في غَيره من الأجزاء والآلات المعمولة لأجله مع وضعها في محالها قبل إحكامها.

د) لو كان الشجرُ موضوعاً على خَشَبٍ كعرشِ العِنَبِ، ففي إلحاقه به أو بغيره من الأموال الداخلة في عموم الإرث نظرٌ من ثباته غالباً وكونه كالجزء، ومِنْ خروجه عن اسم الشجر والشكِّ في دخوله في معناهُ فَيُرْجَعُ فيه إلى الأصل وهذا هو الأقوى. وأولى بعدم الدخول لو كان يُوضَعُ له في بعض الأوقات كزَمَن الثمرة وما قارَبَه، ثمّ يُنْقَلُ عنه إلى محلِّ آخَرَ، كما يتَّفِقُ في بعض البلاد.

ص: 432


1- أي الرحا التي لا تطحن الحبوب، ولكنّها تدقّها دقّاً.
2- جمع مَصْبَنَةٍ، وهي ما يُعمل فيها الصابون.
3- انظر النساء (4): 12.

وأمّا حِيطَانُ البساتين وغيرها من الأملاك فبحكم البناء إن لم نقل باختصاصه بالرباع، ولو قلنا بإرثها من عين الأشجار تبعه البناء.

كيفيّة تقويم حقها من البناء والشجر

ه) كيفية التقويم لِما تُسْتَحَقُ فيه القيمة من البناء والشجر - على القول به - أنْ يُقَوَّمَ مستحِقُ البقاء في الأرض مجاناً إلى أن يفنى، ثمّ تُغطى من قيمته الرُبعَ أو الثُمْنَ، هذا هو الظاهر الموافق للأُصول؛ لأنّ الأصل إرثُها من عين كلّ شيءٍ، فإذا عُدِلَ عنه إلى القيمة في بعض الموارد وجب الاقتصارُ فيما خالَفَ الأصل على ما به يتحقّق المعنى المخصص، وهو هنا كذلك، ولأنّ البناء والشجر موضوع بحقٍ في مِلكِ مالكه فلا وجهَ لتقويمه مُسْتَحَقَّاً بأُجرةٍ.

ويُحْتَمَلُ تقويمه كذلك بأجرةٍ؛ التفاتاً إلى أنّ الأرضَ لا تَسْتَحِقُ فيها شيئاً، والبِناءُ والشجر الذي تَسْتَحِقُ قِيمَتَهُ موضوع في تلك الأرض التي ليست لها ومُشغل لها. فيُجْمَعُ بين حقها وحقِّ الوَرَثة في الإرث بتقويمها مستحقة البقاء بأُجرة.

ويُضَعَّفُ بأنّ النصوص مُطلَقةٌ باستحقاقها قيمة ذلك، والأصل فيه كونه على هيئته التي هو عليها وقت التقويم؛ ولأنّ ذلك تخصيص لعموم القرآن(1)، فيُقْتَصَرُ فيه على موضع اليقين تقليلاً للتخصيص بقدر الإمكان، فتجب زيادة القيمة ما أمكن لكونه خلاف الأصل.

وعلى التقديرين لا يُفْتَقَرُ إلى تقويمه مع الأرض، ثمَّ تقويم الأرض منفردة مشغولةً بذلك مجاناً أو بأجرة، ثمّ إسقاطِ ما يَخُصُّها منفردةً من الجملة، لعدم الفائدة في ذلك، بل يكفي تقويمُ ما تُعْتَبَرُ قِيمته منفرداً - كما وصفناه - وإعطاؤها قيمته؛ لأنّ ذلك هو الغرضُ ومدلولُ النصوص.

والظاهر أنّ التقويم على ذلك الوجه يُؤدّي هذا المعنى أيضاً، فَيَتَخَيَّرُ في الوجهين إنْ

ص: 433


1- انظر النساء (4): 12.

لم يظهر بينهما،اختلاف وإلا فالمعتَبَرُ تقويم ما تُراد قيمتُهُ خاصَّةً.

ولو كان البناء في أرضِ غَيره أو على حائط غيره. اعتُبِرَ تقويمُه على الحالة التي يَسْتَحِقُها على ذلك الملك بأجرةٍ أو غيرها، ومُسْتَحِقاً للقلع أو غَير مُسْتَحِقّ؛ لأنّ ذلك هو المال الذي تركه بصفته.

هل دفع الوارث القيمة قهري أم اختياري؟

وأمّا التقويم على مذهب المرتضى (رحمه اللّه) فواضح؛ لأنه يُقَوِّمُ الدار بأسرها قائمّة بأرضها ويُعْطِيها حصَّتها من القِيمة(1).

و) هل دفعُ الوارث القيمة على وجه قهريٌ بالنسبة إليه أم اختياري ؟ ظاهر النصوص والفتاوى الأوّلُ؛ لأنّه من توابع الإرث ولوازمه وهو قهريٌ. ووجه الثاني: أنّه معاوضةٌ وهى ليست لازمةً لباذلِ القِيمة وإنْ لَزِمَت الزوجة نظراً إلى النصّ؛ ولأنّ العلّة الموجبة للقيمة - كما قد عرفت - إنّما هي دفع الضرر عن الوارث، فإذا أقدم على الضرر ورَضِيَ بدفع العين إليها، لم يُجْبَرُ. والأقوى الأوّل.

فعلى هذا لو امتَنَعَ أَجْبَرَه الحاكم على دفعها، فإنْ تَعَذَّرَ كان بمنزلة امتناع المديونِ من وفاء الدّينِ فيبيعُ عليه شيئاً من ماله - الحصّة أو غيرها - ويَدفَعُ القِيمة منه. فإنْ تعذَّرَ الحاكمُ احْتُمِلَ تسلُّطُ الزوجة على الحصة؛ دفعاً للضرر المنفيّ. والأقوى أنّها كغيرها من الديون التي يَمتَنعُ المديون من وفائها، فتأخذُ الزوجةُ ما قَدَرَتْ عليه ماله مُقاصّةً. والحِصّةُ كغيرها في ذلك. ولو ماطَلَ بالقيمة ولم يَتَّفِق لها أخذُ شيءٍ لم تَسْتَحِقَّ في النماء ولا في الأجرة شيئاً، بل هي كسائر الديون؛ إذ لاحقّ لها في العين.

ز) لو تَعَدَدَّتِ الزَوْجاتُ واتَّفَقْنَ فى الحكم فواضح، وإنِ اخْتَلَفْنَ كذات ولد وغيرها على القول بالفرق اسْتَحقَّتْ ذاتُ الولد كمال الثمن من رقبة الأرض على الأقوى؛ لأنّه

ص: 434


1- الانتصار، ص 585، المسألة :319 جوابات المسائل الموصليات الثالثة، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 259. المسألة 94.

حقُّ الزوجيّة ولم يُوجَد فيه مُسْتَحِقُ غَيرُها، كما لو لم يَكُنْ غيرُها ويُحْتَمَلُ كونه لجميع الورثة ولغيرها من الوُرّاث، وكذا لها نصف الثمن من الباقي عَيناً وقِيمةً. وأمّا مَن لا ولد لها فتأخُذُ نصفَ الثُمْنِ ممّا تَرِثُ من عَينه، ونصف قيمة ما تَرِثُ مِنْ قِيمته.

وهل تَخْتَصُّ ذاتُ الولد بعين ما حُرِمَتْ منه الأخرى وتَدْفَعُ قيمته كما اسْتَحَقَّتِ الأرض، أم هو لغيرها من الوراث، أم للجميع ؟ احتمالات، كلّ منها لا يخلو من وجه:

ووجه الأوّل: أنّ أُمّ الولد لو انْفَرَدَتْ لحازت جميعَ الثمْنِ مِن التَرِكَةِ؛ لأنّ ذلك نصيبها بنص القرآن(1)، ورجوعها إلى نصفه إنما كان لمكان الزوجة الأخرى، وهي إنّما تَسْتَحِق فيما ذكر من القيمة، فيبقى استحقاق العين لأُمّ الولد عملاً بعموم الآية.

ووجه الثاني: أنّ منعَ غير ذاتِ الولد من العَينِ إنما كان لمصلحة الوارث كما اسْتُفيد من العلّة المنصوصة، فيكون استحقاق تلك الأعيان لهم مراعاة للعلّة.

ووجه الثالث: أن أُمّ الولد مع وجود الأخرى إنَّما تَرِثُ نصفَ الثُمْنِ ولا حقّ لها فيما سواه، وغير ذات الولد لا تستحقّ في عين تلك الأشياء خارجا عن حقّ أُمّ الولد، فيكون ذلك لجميع الوَرَثَة من أعيان التركة، فيُقسم على الجميع بنسبة استحقاقهم.

والأقرب الأوّل؛ لأنّ هذا حقٌّ للزوجية وهي موجودة، فلا حق لغيرها من الوُرّاث فيه؛ ولأنّ عدم استحقاق الزوجة ذلك مخالف للأصل وعموم القرآن - كما سَبَقَ - فيُقْتَصرُ في مخالفته على محلّ الحاجة، وهي منتفية مع وجود أُم الولد؛ لتنزيلها منزلة غيرها من الوُرّاث، ولأنّ الخروج عن الأصل للحاجة، وهي المحافظة على مصلحة الوارث المعلَّلة بها، وهي مندَفِعةٌ بصرف ذلك إلى أُمّ الولد، فتؤخَذُ منها القِيمةُ وتَسْتَحِقُّ

ص: 435


1- انظر النساء (4): 12.

العين، فإنِ امْتَنَعتْ فكامتناع الوارث ويُحْتَمَلُ هنا مع امتناعها استحقاق غيرها من الوُرّاث ذلك؛ دفعاً للضرر بتسلُّط غير ذاتِ الولد على العقار. وعلى هذا يكون لهم على وجه اللزوم أو الجواز الوجهان. وأولى بعدم اللزوم هنا والأقوى اختصاص الحكم بمَنْ حُكِم له به مطلقاً.

ح) أطْلَقَ المفصّلونَ - بذات الولد وغيرها، وكذلك الرواية التي هي مستند التفصيل(1) - ذاتَ الولد. فهل يَخْتَصُّ الحُكم بولد الصُّلْب بحيث يكون من الميّت، أم يَشْمُلُ ما صدَقَ عليه اسم الولد لها حتّى لو كان ولد ولد ؟

يُحْتَمَلُ الأوّلُ؛ لأنّه المتبادِرُ من مفهوم الولد واقتصاراً في مخالفة إطلاق تلك النصوص الكثيرة على موضع اليقين. والثاني؛ لصدق كونها ذاتَ ولدٍ لغةً وشرعاً، وهو مَناطُ الاستحقاق، ولأنّ حِرمان الزوجة عمّا عَيَّنَ لها اللّه تعالى من السهم على خلاف الأصل، فيُقتَصَرُ فيما خالَفَهُ على موضع اليقين، وهو الزوجة التي لا ولد لها مطلقاً، وهذا لا يخلو من قوّةٍ.

وموضع الاحتمالين ما لو كان ولد الولد وارثاً من الميّت، أما لو لم يكن وارثاً بأن كان هناك ولدٌ للصلب فلا حُكم له؛ لأنّ إلحاقها بباقي الورّاث دون غيرها من الزوجات إنّما هو لمكان ولدها الوارث، لأنها صارت ذاتَ نَسَبٍ بين الورثة مع احتمال عموم الحكم لصدق كونها ذات ولده.

ويُضعَّفُ بأنّ ذلك لوتمَّ لَزِمَ مثله فيما لو كان لها ولد من غيره، وهو باطلٌ إجماعاً.

وهذا الفرع ذكره الشهيد (رحمه اللّه) فى الدروس واسْتَقْرَبَ حكم ما لو كان الولد وارثاً كما ذكرناه، وتوقَّفَ فيما لو لم يكن وارثاً من حيث إطلاق اسم الولد، ومن بقاء علَّة المنع - على تقدير عدم إرثه - وهي إدخالها عليهم مَنْ يَكْرَهونه(2).

ص: 436


1- تقدّمت تلك الرواية.
2- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 293 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

لو خلّف زرعاً أو ماء، فما ذا تستحق؟

ط) لو خَلَّفَ زَرعاً في أرض من جُملة التركة ولم يُحكم لها بالإرث منها، فهل تَسْتَحِقُ إبقاء الزرع في الأرض إلى أوانِ بلوغه بغير أجرة أم بالأجرة ؟ الوجهان السابقان في الشجر. وأولى بعدم الأُجرة هنا لِقِصَر مدَّة الزرع وانتهاء أمَدِهِ مع اشتراكهما في وضعهما بحق، وتقليلاً لتخصيص عموم آية الإرث(1)، واقتصاراً فيما خالف الأصل على موضع اليقين.

لكن هنا إنّما تستحقُ إبقاءه بحسب عادته بخلاف الشجر؛ فإِنه يَستَحِقُّ الدوام. فلو كانت العادة قطعه قصيلاً(2)، فأرادت إبقاءه إلى أوانِ حصاده، ففي إجابتها مجّاناً أو بالأجرة أو جَوازِ قطعِهِ مطلقاً بعد أوانٍ فَضلِهِ احتمالات أجودُها الأخيرُ؛ حملاً بحقِّه على ما يَعتادُهُ، كما حُمِلَ الشجرُ على ذلك؛ ولأصالة المنع من التسلّط على أرضِ الغَير بغير إذنه في غير موضع اليقين.

ي) لو خلَّف ماءً مملوكاً كالبئر والقناة ففي استحقاقها من عينها أو من قيمتها وجهان من الشك في كونها من العقار الذي لا تَسْتَحِقُّ من عينه، أو كونها من توابع الأرض كالآلات والشجر، والالتفات إلى عموم آية الإرث إلّا ما أخرجه الدليلُ وليس بمعلوم هنا والتعليلُ بإدخال مَنْ يَكْرَه الوارث (3) عليهم مختصٌّ بماورد المنع من الإرث من عينه لا مطلقاً، والحكم هنا في موضع النظر. وإن كان ذلك يقتضي ثبوت إرثها من عينه؛ عملاً بالأصل حيث شُكٍّ في المُخَصِّص.

ويقوى الإشكالُ لو كان الماء في أرض مملوكة له؛ لكونه حينئذٍ من جُملة توابعها كآلات البناء والشجر فيها، الذي حُكم بقيمته وأولى به هنا؛ لاحتمال الماء من الدوام ما لا يَحْتَمِلُه البناء والشجرُ، فهو أولى بكونه من العقارات وأُصول الأموال، ومن

ص: 437


1- انظر النساء (4): 12.
2- القصيل: ما اقْتُصِلَ مِنَ الزرع أخْضَرَ لسان العرب، ج 11، ص 558، «فصل».
3- هكذا في نسخة الأصل، و«الوُرّاث» بدل «الوارث» أنسب مع السياق.

خروجه عن المُسْتَثنيات المحكوم بثبوت قيمتها.

نعم، لو كان واقفاً متناهياً كالماء الموضوع في الحِياض ونحوها وَرِثَتْ مِن عَينه؛ لأنّه بحكم المنقول، وللعموم.

وكذا الإشكال في إرثها من الآلات الثابتة لإخراج الماء كالدولاب والدالية المُثبتة. ولعلّ الإرثَ مِن عَينه هنا أقوى؛ لأنّه ليس بثابت ثبوت البناء والشجر. ويُحتمل دخوله فيما تُعتَبَرُ قيمته زيادةً عمّا ذُكر ؛ لكونه من جملة الآلاتِ التي عَبَّر كثير بثبوت قيمتها. هذا ما اقتضاه الحال الحاضر من بحث هذه المسألة، ونسأل من اللّه(1) سبحانه أن لا يؤاخِذْنا بما وَقَعَ فيها من تقصير أو خطا؛ فإنّ ذلك منتهى الوُسْع وقَدْرُ الطاقة، والخطأ والسهو لازمانِ للإنسان. «لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(2). «إن اللّه غفور رحيم»(3).

وفرغ من تسويدها مؤلّفها الفقير إلى اللّه تعالى زين الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي (عامَلَهُ اللّه تعالى بلُطفِهِ، وعَفا عن سيّئاتِهِ التي من جملتها أفعاله هذه، بمنّه وكَرَمه) ضُحى يوم الخميس السابع والعشرين من ذي الحِجَّةِ الحرام حَجَّةَ سَةٍ وخمسين وتسعمائة، حامداً مُصَلِّياً مُسلّماً مُستغفِراً.

«إِنَّ اللّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ»(4).

ص: 438


1- كذا في الأصل بخطّ الشهيد (رحمه اللّه).
2- البقرة (2): 286.
3- البقرة (2): 173.
4- النحل (16): 128.

تلخيص أقوال هذه المسألة

[فائدة في تلخيص أقوال المسألة كتبها الشهيد (رحمه اللّه)]

واعْلَم أنّه قد تَلَخَّص فى هذه المسألة أقوالٌ:

الأوّل: قولُ المتأخّرين، وهو حرمانها من الأرض مطلقاً عَيناً وقِيمةً ومن عين الأبنية والشجر، وتُغطى قيمتها واختصاص الحكم بغير ذات الولد.

الثاني: قول المفيد(1) وابن إدريس(2) حرمانها مطلقاً من عين الرباع خاصةً دونَ البساتين والضياع، وتُعطى قيمة الآلات.

الثالث: حرمانها مطلقاً من عين الرباع لا من قيمته، وهو قول المرتضى(3).

الرابع حرمانها من الأرض مطلقاً ومن عين الأبنية والآلات وتُعطى قيمتها، ولا تُمنَعُ من الشجر مطلقاً، وهو قول الشيخ في النهاية(4)، والاستبصار(5)، والتقيّ(6) وابن البرّاج(7).

ص: 439


1- المقنعة، ص 687.
2- السرائر، ج 3، ص 259.
3- الانتصار، ص 585 المسألة :319 جوابات المسائل الموصليّات الثالثة، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 259، المسألة 94.
4- النهاية، ص 642.
5- الاستبصار، ج 4، ص 154، ذيل الحديث 580.
6- الكافي في الفقه، ص 374.
7- المهذّب، ج 2، ص 140 - 141.

الخامس حرمان ذات الولد من مطلق الأرض ومن عين الأبنية، ولكن تُعطى قيمة الآلات كالسابق، وهو قول الشيخ في التهذيب(1)، ومن تَبِعَه(2).

السادس: عدم حرمانها مطلقاً، وهو قول ابن الجُنَيْد (3).

والحمد للّه وحده

زین الدین (رحمه اللّه تعالى)

ص: 440


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 300 - 301، ذيل الحديث 1075.
2- الوسيلة، ص391.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 9، ص 53، المسألة 10.

23. الحَبْوَة

إشارة:

تحقيق

غلام حسین قیصریه ها - غلام رضا النقيّ

مراجعة

أبو مقداد - رضا المختاري

ص: 441

ص: 442

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي حبانا بدينه القويم وهدانا إلى الصراط المستقيم،

والصلاة على نبيه محمّدٍ الذي هو بالمؤمنين رحيم

وعلى آله وأصحابه الغُرِّ اللّهاميمِ.

تعريف الحبوة

وبعدُ، فهذا تحقيق لمسألةٍ مهمَّةٍ تَعمُّ بها البلوى للمكلّفين، وليس في تحرير مباحثها مَظِنَّةٌ يَرْجِعُ إليها مَنْ يحتاجها من المضطرّين، وذلك لانفراد الأصحاب بحكمها دون غيرهم من المسلمين، فلم يُنْعِم(1) الفكر فيها سائر العلماء الباحثين.

وهي مرتّبةٌ على ستَّةِ مطالب دائرة على ستّ كلمات مفردة وهي «ما» و«كم» و «هل» و «من» و «كيف» و «لم».

فالأوّل: يُبحَثُ فيه عن مفهوم الحبوة لغةً وشرعاً، وهي موضوع بحث المسألة.

والثاني: كم يُحبى مَن يُحْبى من التَرِكَةِ بِعين من أعيانها ؟

والثالث: هل الحَبْوَة واجبة شرعاً أم مستحبّة ؟

ص: 443


1- أنعم النظر في الأمر: أطال الفكرة فيه. المعجم الوسيط، ص 935، «نعم».

والرابع: مَنِ المَحْبُو من الورثة ؟ وينتظم فيه ذكر شرائطه، ومَن الذي تثبتُ في تَرِكته الحبوة من الأموات ؟ الحَبْوَةُ

والخامس: كيف يَخْتَصُّ بها على القولين مجّاناً أم بالقيمة ؟

والسادس: لِمَ يُحْبى مَن يُحْبى دون غيره من الورّاث؟

ونتبع ذلك بذكر باقى الأحكام وما تقتضيه الحالُ من الفروع.

ولنشرع الآن في المطالب معتصمين باللّه تعالى.

ص: 444

المطلب الأوّل

الحبوة بفتح الحاء مصدر حَباهُ إذا أعطاه، والحِباء بالكسر العطاء(1). وشرعاً مال مخصوصٌ من مال المورث الذكرِ يُخَصُّ به الذكر من ولده الذي لا يكون له ذَكَرٌ حيٌّ أكبر منه ابتداءً. هذا هو المتبادِرُ من معناها شرعاً، حيث يقولون: الحَبوة كذا، ويستحقّها الولد الخاصّ، إلى غير ذلك من الأحكام حيث تذكر، وهو آية الحقيقة وإن استلزم النقل عن معناها اللغويّ، بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدم اشتراط المناسبة بين المعنى المنقول منه وإليه، وإن كانت أولى. وعلى هذا فيكون أهل الشرع قد استعملوا العطية في المُعطى وهو مجاز لُغَوي. ولو لوحظ معناها لغةً قيل : هي عطية الولد الذكر - الذي لا يكون ذكرٌ أكبر منه للمورث الذكر - أُموراً مخصوصةٌ من تَرِكَتِهِ زيادةً على غيره من الورثة ابتداءً.

واحْتَرَزْنا بقيد «الابتداء» عمّا لو أوصى له بها مع نفوذ الوصيّة؛ فإنه حينئذٍ يَختصّ بها، وهي عطية لكن بواسطة الوصيّة لا ابتداءً، وستأتي في تضاعيف المسألة فائدة باقي القيود إن شاء اللّه تعالى.

واعْلَم أنّ الحَبوة في الجملة متَّفَقٌ عليها بين أصحابنا، وأخبارهم بها متظافرة، وسنتلو بعضها عليك.

وخَالَفَهُم في ذلك سائر الفقهاء؛ وإنّما اختلف أصحابنا في وجوبها واستحبابها، وفي

ص: 445


1- الصحاح، ج 4، ص 2308؛ لسان العرب، ج 14، ص 162، «حبا».

احتسابها على المحبو بالقيمة أو استحقاقه لها مجاناً، وفي كميتها وشرائطها، وغير ذلك من المواضع التي يأتي الخلافُ فيها في تضاعيف الرسالة.

أمّا ثبوتها في الجملة فلا خلاف فيه بينهم. قال السيّد المرتضى (رحمه اللّه) في الانتصار:

ممّا انفردت الإماميّة به أنّ للولد الذكر الأكبر للصلب دون سائر الورثة سيف أبيه وخاتمه،ومصحفه، إلى آخر ما ذكر(1). وكذلك ابن إدريس صرّح بالإجماع عليها في كتابه بل على وجوبها (2)، كما سنذكره في بابه إن شاء اللّه تعالى. وكذلك ادّعى جماعةٌ الإجماع عليها في الجملة(3).

ص: 446


1- الانتصار، ص 582 المسألة 316.
2- السرائر، ج 3، ص 258.
3- منهم المفيد في الإعلام، ص 53؛ والشيخ في الخلاف، ج 4، ص 116، 115، المسألة :129؛ والمبسوط، ج 3، ص :342 وابن زهرة في غنية النزوع، ص 324.

كمّيّة ما يُحبّى

المطلب الثاني في بيان كَميّة ما يُخبى

وقد اختلف الأصحاب فيه بسبب اختلاف الروايات فالمشهور اختصاصها بأربعة أشياء ثياب البدن والخاتم والسيف، والمصحف. ولم يذكر المفيد في كتاب الإعلام ثياب البدن بل اقتصر على الثلاثة الباقية(1). وخص أبو الصلاح الثياب بثياب الصلاة(2)، وزاد ابن الجنيد على المشهور السلاح(3)، وظاهر الصدوق إضافة الكتب والرحل والراحلة؛ لأنّه ذكر في كتاب من لا يحضره الفقيه رواية ربعي بن عبد اللّه المشتملة على ذلك(4)، مع اعتياده على أن لا يذكر في الكتاب إلّا ما يعمل به ويدين اللّه تعالى بصحّته(5).

الأخبار في الحبوة

ولنذكر الأخبار الواردة في الباب لنُرتّب عليها ما ينبغي إثباته أو نفيه:

فروى الشيخُ في الصحيح عن ربعي بن عبد اللّه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا مات الرجلُ فلأكبر ولده سيفه ومصحفه وخاتمه ودرعه»(6).

وروى بسند صحيح إلى حمّادٍ عن ربعي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا مات الرجلُ فسيفه

ص: 447


1- الإعلام، ص 53.
2- الكافي في الفقه، ص 371.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 9، ص38، المسألة 2.
4- الفقيه، ج 4، ص 346، ح 5749.
5- الفقيه، ج 1، ص 3.
6- الكافي، ج 7، ص 86، باب ما يرث الكبير من الولد دون غيره، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 275، ح 996؛ الاستبصار، ج 4، ص 144، ح 540.

وخاتمه ومصحفه وكتبه ورحله وراحلته وكسوته لأكبر ولده؛ فإنْ كان الأكبر أُنثى فللأكبر من الذكور»(1). والمراد بحمّاد هنا: حمّاد بن عيسى كما صرّح به محمّد بن يعقوب الكليني، فيكون الطريق صحيحاً أيضاً، وإن كان الشيخ أطلقه بحيث يَحْتَمِلُ الثقة وغيره لاشتراكه بينهما.

وفي الحسن عن حريز، عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا هلك الرجلُ وترك بنين فللأكبر السيفُ والدرع والخاتم والمصحف فإنْ حَدَتَ به حدثٌ فللأكبر منهم»(2).

وفي مرسلة ابن أذينة عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «إنّ الرجل إذا ترك سيفاً وسلاحاً فهو لابنه فإن كان له بنون فلأكبرهم»(3).

وفي الموثق عن زرارَةَ ومحمّد بن مُسلمٍ وبُكَيرٍ وفُضيل بن يسار عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «إنّ الرجل إذا تَرَكَ سيفاً أو سلاحاً فهو لابنه؛ فإن كانوا ابنين فلأكبرهما»(4).

وفي الموثَّق عن شعيب العقرقوفي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن الرجل يموت مالَهُ من متاع بيته ؟ قال: «له السيف» وقال: «الميّت إذا مات كان لابنه السيف والرحل وثياب جلده»(5).

فهذه جملةُ ما يُعتبرُ في الباب من الأخبار. وقد عرفت أنّ الأربعة المشهورة بأنّها الحبوة خاصة لم يحصل اتّفاق الأخبار عليها، وإنما اجتمعت في جملتها. نعم، اشتمل

ص: 448


1- الكافي، ج 7، ص 86، باب ما يرث الكبير من الولد دون غيره، ح 4 الفقيه، ج 4، ص 346، ح 5479؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 275، ح 997؛ الاستبصار، ج 4، ص 144، ح 541.
2- الكافي، ج 7، ص 85 باب ما يرث الكبير من الولد دون غيره، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 275، ح 994، الاستبصار، ج 4، ص 144، ح 538.
3- الكافي، ج 7، ص 85، باب ما يرث الكبير من الولد دون غيره، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 275، ح 9095؛ الاستبصار، ج 4، ص 144، ح 539.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 276، ح 998؛ الاستبصار، ج 4، ص 144، ح 542.
5- الفقيه، ج 4، ص 347، ح 5750؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 276، ح 999؛ الاستبصار، ج 4، ص 145، ح 544.

عليها صحيح رِبْعي الثاني، إلّا أنّ الأصحاب أعرضوا عن إثبات جملة ما فيه، فإثبات حكمها منه دون ما صاحبها مشكل ولا يقال غيرها خرج بالإجماع فيبقى الباقي لمنعه. وقد عرفت سنده وخصوصاً الدرع والسلاح، فقد ذُكر الأوّل في الصحيح، والثاني في الحسنِ معتَضَداً بغيره. وبالجملة فإثبات الأربعةِ خاصةً من الأخبار عسر؛ فإنّ العمل ببعض الخبر دون بعض ترجيح من غير مرجّح، خصوصاً إذا كان صحيحاً وحَمْلَ ما زادَ في الخبر الصحيح على الاستحباب وما وافق غيره على الوجوب، موجب للإجمال وتأخير البيان عن وقتِ الخطاب بل وقت الحاجة. وتخصيصه بأخبار تَقْصُرُ عنه سنداً غيرُ مناسب أيضاً، والتعليل بأنّ الحبوة على خلاف الأصل وعمومِ الكتاب - خرج منه ما اتفق عليه فيبقى الباقي - خروج عن النصّ جملةً واعتماد على الإجماع، ويبقى النصّ موجباً للاستئناس خاصّةً، ولعلّه أولى فى الاستدلال - مضافاً إلى الشهرة بين الأصحاب - على ما فيه. وقد قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لعُمَرَ بن حنظلة في حديث المختلفين: «يُنظر ما كان في روايتهما المجتمع عليه أصحابُكَ فيؤخذ به، ويُتْرَكُ الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك»(1).

وأمّا إضافةُ السلاح مع ترك باقي المذكورات في الصحيح فليس بجيّدٍ وإن تكرّر ذكره في الحديثين، وكذا تخصيص أبي الصلاح الثياب بثياب الصلاة(2)، فإنّ الكِسْوَة المذكورة في الصحيح أعمُّ منها، وكذا ثياب الجلد المذكورة أخيراً، والظاهر أنّ المراد بثياب الجلد ثياب البدن مطلقاً سواء لاصقتِ الجِلدَ كالقميص أم لا، بقرينة الكِسْوَةِ واقتضاء العرف ذلك، واحترز بها عن نحو الفرش والدِثارِ والوَسائدِ؛ فإنّه لا يُطلَقُ عليها ثياب الجلد بوجةٍ، ويمكن أن تدخل في الكِسْوَة؛ فإنّها قد تستعمل عرفاً فيما يشمُلُ

ص: 449


1- الكافي، ج 1، ص 68، باب اختلاف الحديث، ح 10؛ الفقيه، ج 3، ص 9 - 10، ح 3236؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 301 - 303. ح 845.
2- الكافي في الفقه، ص 371.

ذلك - فيقال: كسوةُ الكعبة وكسوة البيت وغيرهما - إلّا أنّ مطلق الاستعمال أعم من الحقيقة ومع ذلك يحصل الشكّ في مثل العِمامة والرداء؛ فإنّهما لا يُسَمَّيانِ ثوبَ جلدٍ لغةٌ ولا عرفاً.

وعلى كلّ حال فالاعتماد على ما دلّ عليه الخبر الصحيح من الكسوة المنسوبة إلى الميّت، وهي شاملةٌ لهما، وينبغي إدخال الدرع إما فيها؛ لأنه كسوة أو ثوب من حديدٍ يُلْبَس ويُكتسى في بعض الأحيان كثوب التجمل، أو لدخوله في الخبر الصحيح والحسن. ومثله اللَبْدُ الذي يُلْبَس لدفع المَطَرِ ونحوه، وفي دخولهما في ثيابِ البدنِ الذي عبّر به الأصحابُ نظرٌ.

وأمّا البَيْضَةُ وبقيّةُ كِسْوَةِ الحرب ففي إلحاقها بالدرع إشكال، من إمكان شمول اسم الكِسْوَةِ لها، وخروجها عن ثياب البدن والجلد قطعاً. والأقوى عدم دخولها.

وأمّا القَلَنْسُوة وما في معناها، والمِنْطَقَة ونحوها مما يُشَدُّ به الوسط، والخُفٌ وما في معناه ممّا يُتَّخَذُ للرجلين واليدين ولو في بعض الأحيان بأنواعه، فلا يدخل فيها؛ للأصل وخروجه من الثياب والكِسْوَةِ، وقد نصَّ الأصحاب في باب الكفارات على عدم إجزائها كِسْوَةً حيث تجب الكِسْوَةَ(1).

نحو عشرين مبحثاً في الحبوة

يقي هنا مباحث:

أ) لا فرق في الثياب وما الحقّ بها بين المتّحد منها والمتعدّد وإن كثُرت مع اشتراكها في الوصف بكونها ثياب بدنه وما في معناها؛ لأنها وقعت في النصوص جمعاً مضافاً فيفيد العموم، ومنها العِمامة المتعدّدة.

أمّا ما ورد بلفظ الوحدة كالسيف والمُصحفِ فإن وجد متحداً انصرف الحكم إليه، وإِنْ تَعَدَّدَ ففي دخول الجميع أو واحدٍ منها أو ما كان يغلب استعماله أو انتسابه إلي-ه أوْجُهُ؛ مأخذها كونه مفرداً محلّى باللام في بعض الأخبار، وهو مفيدٌ للعموم عند بعض

ص: 450


1- كالشيخ في الخلاف، ج 3، ص 212، المسألة 36؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 305.

الأُصوليّين(1)، وهو وجه الأوّل. والنظر إلى ضعف القول بعمومه والمتيقَّن منه واحد، وهو وجه الثاني والالتفاتُ إلى أنّ ما تغلب نسبته إليه تتبادر إرادته عند الإطلاق، وهو وجه الثالث الأقوى إن اتّفق، ومع التساوي يختص بواحدٍ، وهل يَتَخَيَّرُ الوارث أو يُخرجُ بالقرعة ؟ وجهان؛ أجودهما الأول؛ لصدق الاسم على ما يُعيّنه الوارث من المحبو، وأصالة البراءة من وجوب غيره، مع كون الحكم على خلاف الأصل وعدم صلاحية القرعة هنا إذ لا تعيّن في نفس الأمر حتّى يخرج بها، وإنما للمحبو واحدٌ من متعدّدٍ فيتخير المالك في تعيينه كما لو أوصى ببعض ما هو متعدّد، أو باع المالك قفيزاً من صُبرة تزيد عنه.

ووجه القرعة أنّ الحقّ واحد من المتعدّد غير معيّن وهي موضوعة لإخراج المبهم كذلك وليست منحصرة في المعيّن عند اللّه تعالى؛ لِوُرودها في إخراج ثلث العبيد الذين أوصى بعتقهم ولا مال للموصي سواهم، فإنّ المُعْتَق يُستخرج بها مع أنه غير معين عند اللّه تعالى في شيءٍ قبلها، وهذا مُتجه أيضاً. ولا ريب أنّه أولى.

وابن إدريس (رحمه اللّه) أطلق أنّه مع تعدّد هذه الأجناس يَخْتَصُّ بما كان يعتاد لُبْسَه ويُدِيمُه دون ما سواه (2). وما ذكرناه من التفصيل أجود؛ وكلامه مع ذلك لا يأتي على جميعها لِتَخلَّفه في نحو المُصحف.

ب) هل يُنزَّل حقّ المَحْبُوِّ قبل تعيينه من المتعدّدِ على الإشاعة أو على التعيين ؟ سَواءٌ قلنا بتخير الوارث أم بالقرعة وجهان: منشؤهما أنّ حقه واحدٌ منها غير معيّن ظاهراً ولا في نفس الأمر، وهو معنى الإشاعة، وأن حقه منحصر في واحدٍ، غايته أنه مبهم بسبب وجود المتعدّد ولا حَقَّ له في الزائد؛ ومِن ثَمَّ لم يُعتبر في استخراجه القيمة، والإشاعة - مع كون المستحق واحداً من المتعدّد - إنّما تتحقّق في متساوي الأجزاء

ص: 451


1- انظر تمهيد القواعد، ص 123 (ضمن الموسوعة، ج 5).
2- السرائر، ج 3، ص 258.

كالصُّبرة لا في القيميّ. وتظهرُ الفائدة فيما لو تَلِفَ بعضها قبل دفعه إليه، فينحصر حقّه في الباقي ولا يسقط منه شيءٌ على الأوّل؛ لوُجود ما عَيَّن له الشارع من مال مورثه وأصالة بقاء الحق. وعلى الثاني يسقط منه بنسبة قيمة التالف إلى المجموع والأوّل أقوى خصوصاً على القول بتخير الوارث.

ج) هل يجوز للوارثِ التصرّفُ في بعضها قبل تَعيُّنِ حقِّ المَحْبُوّ ؟ أما على القرعة فلا شبهة في المنع؛ لإمكان ظهور المتصرف فيه بها له، فحقُّه مُتعلّقٌ به في الجملة، وأمّا على القول بتخير الوارث فيُحْتَملُ كونه كذلك خُصوصاً مع تنزيل حقّه على الإشاعة لتعلّق حقه بها في الجملة أيضاً، فلا يصحّ التصرف فيها بدون إذنه، والأقوى عليه الجواز؛ لأنّ تصرّفه دليل على اختياره اختصاصه به فإنّه لا فرق في الرجوع إليه بين اختياره إعطاء المحبوّ بعضاً معيناً واختياره اختصاصه ببعض كذلك، فينحصر حقّ المحبوّ في غيره.

ثم إنْ تعدّدَ تَوقَّفَ على اختيار آخر وإلا انحصر حقه فيه، نعم لوصرح بكون تصرّفه لا بِنيَّةِ الاختصاص اتَّجه حينئذٍ المنع منه وعدم انحصار حقّ المحبوّ في غيره لوخالف وإن أثم.

د) لو تلف الباقي من الأفراد غير ما اختار الوارث اختصاصه به قبل قبض المَحْبُوِّ له ففي بطلان اختياره احتمالان منشؤهما سَبقُ،استحقاقه، فيُسْتَصحَبُ، وسبق تعلّق حقّ المحبوّ بواحدٍ منها فيكون اختيار باقي الوارث لبعضها مراعي بوصول حق المحبو إليه، وإلّا بطل التخيير، وتبعه التصرّفُ لو كان فَعَلَى الثاني لو كان التصرف ناقلاً عن الملك لازماً كالبيع تَسلَّط المحبو على فسخه، ويمكن رجوعه إلى القيمة كما لو فسخ ذو الخيار بعد التصرّف على بعض الوجوه، وعلى تقدير جواز الفسخ والرجوع بالعين ففي كونه من أصله أو من حينه نظر. وتظهرُ الفائدة في النماء المتخلّل، وفي الاحتمال الأخير قوّةٌ. ويقوى الإشكال لو كان تصرّف الوارث بالوقف لبنائه على اللزوم الدائم

ص: 452

بخلاف البيع؛ لقبوله التزلزل ولو بالخيار.

ه) لا ينحصر التعين في اللفظ، بل يحصل به وبالفعل، فالأوّل: «اختَرتُ هذا للمحبوِّ، أولي» ونحوه. والثاني: كأن يبيع بعضها أو يهبه مع الإقباض وبدونه، أو يرهنه ونحو ذلك من العقود اللازمة، وفي الاكتفاء بالجائزة ونحوها من التصرّف الذي لا ينقل عن الملك ويمكن أن يدلّ على الاختيار ظاهراً وجهان؛ أجودهما ذلك لأنّ الشارع لم يعيّن لذلك شيئاً مخصوصاً فيرجع فيه إلى ما دلّ عليه عرفاً.

و لا يُشترط استعمال الميّت لهذه الأشياء قبل موته؛ للعموم، بل يكفي إعداد الثوب للَّبْس بحيث يُنْسَبُ إليه ويتميّز عمّا يملكه من جنسه لغير الاستعمال. أمّا المُصحَفُ والسيفُ والخاتم ففي اشتراط إعداده لها لنفسه أم يكفي مطلق الملك، وجهان: من شهادة ظاهر اللفظ بأنّ المراد بذلك ما كان يختص به وعموم اللفظ الشامل لما يملكه مطلقاً، ولعلّه أقوى.

ز) لو كان الثوب ممّا يَفْتَقِرُ إلى الخياطة أو القَطْعِ فأعدَّهُ لذلك ولم يفعل به أحدهما أو كليهما ففي دخوله نظر من | في إطلاق اسم الثياب والكسوة عليه، والأقوى الدخول؛ لصدقه لغةً ويمكن ذلك عرفاً. ولو فعل أحدهما أو بعضه فأولى بالدخول والانتساب. أمّا غَيرُ الثياب فلابدّ من صدق اسمه فلو كان قد وضع الورق عند الكاتب، والفضة عند الصائغ، والحديد عند الحدّادِ لأجلها لم يملكها المحبة وإن شرع فيها ما لم يصدق اسمها عليه؛ للأصل، ولو صدق اسمها دخلت وإن توقفت بعده على فعل آخر؛ وحينئذٍ فلا يلزم الورثة بذل متمّماته من التّركَةِ وهو واضح.

ح) لوخَلُقَتِ الثيابُ حتّى خرجت عن اسم ثيابه وكسوته خرجت عن الحكم؛ لانتفاء الاسم، كما لو أحدَثَ فيها تغييراً أخرجها عنه وإن بقيت أعيانها وصلحت ثياباً لغيره؛ وكذا لو كُسِرَ السيف والخاتَمُ أو تغيّرا على وجه أوجب خروجهما عنه: نعم لو كان تغيّرها لأجل إصلاحها فاتَّفق موته قبل الإصلاح احتُمِلَ دُخولها؛ استصحاباً لما

ص: 453

سبق، مضافاً إلى نيّة إبقائها؛ وعدمه لزوال الاسم حالة الحكم بالاستحقاق فانقطع الاستصحاب، وبقاءُ النيّة بمجرّده غير كافٍ.

ولو حصل التغير في بعضها دون بعض اختصّ بالحكم، وكذا لو تحقّق في جزءٍ واحدٍ، كما لو قُطِعَ من الثوب قطعة، وإن بقيت متميّزةً لا يصدق عليها الاسم، أو كُسِرَ من السيف شيء كذلك.

ولو كان المنفصل جزءاً لا يتوقّف ردّه إليه على تغيير كثير كفص الخاتم، وجلد المُصحف مع صدق اسمهما على الباقي بدون،الجزئين، ففي استحقاق المحبة للجزئين نظر؛ من خروجهما عن الاسم، وتحقّقه في الباقي، ومن تنزيلهما منزلة المتصل، ولعلّ هذا أقوى.

ط) لا فرق في الثياب التي اتخذها للبس بين ما يليقُ منها بحاله عادةً، وغيره، ولا بین المتّخذة من الجِلدِ والفَرْوِ(1) وغيرها؛ للعموم، وكذا المُصحف والخاتم والسيف. ويُشكلُ الحُكم فيما لا يَليقُ به عادةً لو كان له غيره وقد حصله ليتَّخذُه لنفسه ولم يستعمله بالفعل؛ من تحقّق القصد، والشك في انتساب ذلك إليه لعدم كونه من أهله، وإنْ قلنا بدخول ما أعدَّهُ لذلك ممّا يليقُ به والأقوى اتباع العُرف في انتسابه إليه وعدمه.

ي) في دخولِ عِمْدِ السَيف وبَيتِ المُصحف وحمائلهما وحُليتِهما وجهان: من إطلاقه على الجميع عرفاً، وانتفائها عنه حقيقةً، ويحتمل دخول العمد والحمائل دون الحُلْيَة وبيت المُصحف وتوابعه؛ للانفكاك والشكّ الموجب للانتفاء، وفي دخول الجميع قوَّةٌ، كما يدخل في الوصيّة؛ لدلالة العرف.

يا) لو كان له خاتم لا يلبسه بل يختم به مثلاً، ففي دخوله حيث لا يكون غيره نظرٌ، من صدق اسم خاتمه عليه فيدخل في إطلاقه وكون المتبادر منه الخاتم الملبوس

ص: 454


1- في المعجم الوسيط، ص 686، «فرو»: الفَرْوُ : جلود بعض الحيوان كالدِبَبَةِ والثعالب، تُدبَغُ ويُتَّخذ منها ملابس للدفء وللزينة.

وفي عبارة ابن حمزة تصريح باشتراط لبسه له(1)، والأقوى عدم اشتراطه والوجهان آتيان فيما لو كان له غيره واختار الوارث إعطاءه للمحبوّ، فعلى الأوّل يصحّ دون الثاني. ولا فرق فيه على التقديرين بين خاتم الفضة والحديد والنحاس وغيرها، وحيث نقولُ بتخيير الوارث فله اختيار أقلها قيمةً.

يب) لو كان الثوبُ والخاتم مما يَحرُم على مخلّفه لبسه كالحرير والذهب ولكن كان يلبسه ويعصي اللّه به أو اتَّخَذه لنفسه ولم يلبسه بناءً على عدم اعتباره فالظاهرُ دخوله؛ للعموم. وإنْ حَرُمَ لُبسه على المحبة كما لو كان مكلّفاً؛ إذ لا مُنافاة بين اختصاصه به وعدم انتفاعه بالفعل، كما لو كان غير قارئ بالنسبة إلى المُصحف، أو غير منتفع بالسيف لِزَمانَةٍ وغيرها وإن كان المانع مختلفاً في الشرعيّة وغيرها.

ولو كان من جنس ما لا تَصحُ الصلاة فيه - كجِلدِ غَير المأكول ووَبَرِهِ وعَظْمِهِ - فأولى بعدم المنع مع دخوله في العُموم ويجيء على تخصيص الثياب بثياب الصلاة كقول أبي الصلاح (2) عدم دخول الثياب المتَّخذة ممّا لا تصح فيه وإن جاز لبسها، فغيرها - ممّا لا يصحّ لبسه مطلقاً - أولى بعدم الدخول.

يج) لا فرق في الخاتم بين ما يُلبَسُ منه في الخِنْصِرِ(3) وغيرها من الأصابع مع صدق اسمه عرفاً. وفي دخول ما يُلْبَسُ في الإيهام منه لأجل الزي أو للزينة نظر، من الشكّ في تناول اسم الخاتم له والظاهر إطلاقه عليه لغةً وانتفاؤهُ عُرفاً، وهو أولى بالمراعاة، مضافاً إلى أصالة البراءة.

يد) لو كان مما يُلْبَسُ منه في الإصبع الواحدة اثنان أعتُبِرَ في دخولهما إطلاق اسمه؛ فإن صدق على كلّ منهما كانا كالمتعدّد، وإن صدق على أحدهما خاصةً وكان

ص: 455


1- الوسيلة، ص 387.
2- الكافي في الفقه، ص 371.
3- في القاموس المحيط، ج 2، ص 25 : الخِنْصِر - ويُفتَحُ الصاد - : الإصبع الصغرى أو الوسطى.

أحدهما تابعاً له كالمِحْبَس اختص الحكم بالأوّل ولَحِقَ المنتفي بباقي التَرِكَةِ، وإنْ تعذَّرَ لُبس الخاتم بدونه؛ لانتفاء الاسم عنه، وعدم اشتراط في دخول الخاتم كما تقدَّمَ.

يه) لو كان الأبُ لا يُحْسِنُ القراءة وله مُصحفٌ، ففي استحقاق الولد مَصحفَه احتمالانِ: من صدق اسم المُصحف المنسوب إليه. وانتفاء الغاية التي يظهرُ من النصّ اعتبارها والأقوى الأوّل للعموم؛ وأولى بالدخول لو كان حافظاً يستغني عنه لذلك أو أعمى. ومثله ما لو كان له سيفٌ وهو مُقْعَد أو مقطوع اليدين.

يو) لو لم يملك الميّت فرداً كاملاً بل بعضه كنصف سَيف ومُصحَفٍ ففي دخوله نظر: من انتفاء اسم المصحف والسيف وشبههما عن الشقِّ؛ وكون استحقاق الجميع قد يستلزم استحقاق البعض؛ ولأنّه لا يسقط الميسورُ بالمعسور، ولقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»(1). ويقوى الإشكال لوترك نصفي سيفين أو مصحفين أو خاتمين؛ من أنّهما بمنزلة واحدٍ. ومن انتفاء الاسم عنهما، ويُحتَمَلُ استحقاقه نصفاً واحداً من المتعدّد خاصَّةً؛ لئلا يلزم التعدّد، وأصالة عدم استحقاق الزائد. نعم، لو كان المتروك بعض مُصحف منفرد اتجه دخوله؛ لإطلاقه عليه بوجه بخلاف الحصّة من المشترك.

يز) لو لم يكن له سيفٌ متخذ للقُنية أو مُصحَفٌ أو خاتم، لكن عنده شيءٌ منها بنية التجارة ومات وهو في ملكه، ففي دخوله في الحَبْوَة :نظر من صدق اسمه ونسبته إليه بالملك، فيدخل في العموم، ولما تقدّم من عدم اشتراط انتفاعه به فضلاً عن اعتبار القُنْية. ومن كون المتبادر ما أُضيف إليه بالقُنْية عرفاً.

أمّا الثياب المتّخذة للتجارة فلا تدخل قطعاً؛ لأنّها لا تُعَدُّ ثياب بدنه ولا كسوته.

ص: 456


1- مجمع البيان، ج 3، ص 250، ذيل الآية 101 من المائدة (5): عوالي اللآلي، ج 4، ص 58، ح 206: صحيح مسلم، ج 2، ص 975، ح 1337/412. وفي المصادر: «بشي» بدل «بأمر».

وكذا الإشكال لو كان عنده شيء للقنية وشيء للتجارة بالنسبة إلى صدق التعدد وعدمه، ويقوى هنا ترجيح ذي القُنْية لغلبة نسبته إليه وهو مرجّح كما سبق.

يح) لو قلنا بدخول الكتب كان القول فيها كالثياب لورودها بصيغة الجمع، ويتناول ما أعدَّهُ منها للقُنْية من سائر كتب العلم وإن لم يكن عالماً بما اشتملت عليه. ويشكل هنا لو كان أُمِّياً لا ينتفع بها، أو كان يتخذها للتجارة؛ من العموم وكونه خلاف المتبادر من كتبه، أما لو كان أعمى ابتداءً أو بعد الانتفاع بها ويمكنه الانتفاع بها ولو بواسطة فلا إشكال في دخولها.

أما السلاح، فإنّه اسم جنس يصدق على الواحد والمتعدد فيمكن أن يُلْحَقَ بما ورد واحداً ومجموعاً لو قيل به ولعلّ الثاني أوجه والمراد به ما يُتَّخَذُ من الحديد آلةً للحرب ليُقاتل به كالسيف والرمح والسهم ويتبعه ما يتوقّف عليه من غيره كخشب الرُّمْح والسهم والقوس على الظاهر؛ لدلالة العرف عليه، مع احتماله اختصاصه بما تضمّنه تعريفه لتصريح أهل اللغة به فيقتصر فيما خالف الأصل على موضع اليقين.

يط) لو قلنا بدخول الرّحْلِ توقف الأمر على تحقيقه، وهو يُطْلَقُ لغةً بالاشتراك اللفظي على المَسْكَنِ، وعلى ما يستصحبه الإنسان من الأثاث، وعلى رَحْلِ البعير وهو أصغرُ من القَتَب قاله الجوهري(1). فَيُحْتَمَلُ حينئذٍ أنْ يدخل الجميع بناءً على إفادة مثل هذه الصيغة العموم وقد تقدّم، وواحد منها خاصةً لأصالة البراءة من غيره، ومنع إفادته الجمع، فيتخير الوارث أو يُقْرَع بينها تنزيلاً له منزلة المتعدّد، ويجيء في المتعدّد من أحدِ الثلاثة ما تقدّم فيما جاء بلفظ الوحدة أو الجمع، ويُحتمل قوياً حمله على المعنى الأخير؛ لأنّه المتبادِر منه حيث يقترن بالراحلة.

ك) لو قلنا بدخول الراحلة فالمراد بها المركب من الإبل ذكراً كان أم أنثى، قاله

ص: 457


1- الصحاح، ج 3، ص 1707، «رحل».

الجوهري، قال: وتُطْلَقُ الراحلة على الناقة التي تصلح لأنْ تُرْحَلَ. وفي نهاية ابن الأثير:

الراحلة من الإبل: البعيرُ القويُّ على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء. و «الهاء» فيه للمبالغة»(1).

والمغايرةُ متحقّقة بين التعريفات ظاهراً، إذ لم يشترط الجوهري في تعريفه العامّ قوّته على السفرِ والحمل، بل اقتصر على كونه مركباً. وظاهر مغايرتهما لتخصيصه بالأنثى، فيمكن حينئذٍ أنْ يختصَّ الحكم بالناقةِ؛ للشك في تناولها لغيرها فيرجع إلى أصالة البراءة خصوصاً فيما خالف الأصل. والأقوى تناولها للذكر والأنثى؛ للنقل المذكور ومساعدة العُرف وجاز كون إطلاقها على الخاص؛ لكونه بعض أفراد الأوّل. ثم يجيء في المتعدّد منها ما تقدّم فيما جاء مفرداً معرفاً، ولو قلنا بعدم حمل الرحل على ما يختص بالراحلة ففي دخوله فيها احتمال لدخُول عند السيف وبيت المُصحف والأقوى عدم الدخول للأصل، وتحقّقها بدونه.

ص: 458


1- النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 209، «رحل».

المطلب الثالث: هل هذا الاختصاص على سبيل الوجوب أو الاستحباب ؟

المشهورُ خصوصاً بين المتأخّرين الأوّل، بمعنى أنه يختص بإرث هذه الأشياء كما يختص بإرث سهمه الذي عينه اللّه تعالى له، فلا يسقط حقّه منه بالإعراض، ولا يتوقّف على دفع باقي الورثة له ولا على رضاه.

ويدلّ عليه ظاهرُ الأحاديث، فإنّه خصّه فيها بالمذكورات باللام» المفيدة للملك أو الاستحقاق أو الاختصاص؛ إذ لا يصلح غير هذه الثلاثة هنالها، أو للقدر المشترك بينها وهو الاختصاص كما حقّقه بعض أهل العربيّة تقليلاً للاشتراك(1). وعلى كلّ تقدير يفيد المطلوب، أما على الأوّلين فظاهر، وأمّا على الأخيرين فلأنّ الأصل في الاختصاص أن لا يشارك المختص غيره في المختص به وإن تخلّف في بعض الموارد لعارض كقولك: «هذا الثوب للعبدِ» و «هذا الجُلُّ للفرس» لكن لا من حيث الاختصاص، بل من عدم قبول المختص للاختصاص المطلق المفيد للملك فيحمل عليه حسب ما يمكن.

وإلى هذا المعنى أشار ابن هشام في المغني حيث قال - بعد تقسيمه إلى الثلاثة: وبعضهم يستغني بذكرِ الاختصاص عن المعنيين الآخرين - قال: - ويرجحه أن فيه تقليلاً للاشتراك، وأنه إذا قيل: هذا المالُ لزيدٍ والمسجد، لزمَ القولُ بأنّها للاختصاص مع كون زيد قابلاً للملك لئلا يلزم استعمال المشترك في معنييه دفعةً، وأكثرهم يمنعه(2). انتهى.

ص: 459


1- مغني اللبيب، ج 1، ص 410 - 411.
2- مغني اللبيب، ج 1، ص 410 - 411.

والتحقيق أنّ «اللام» في هذه الموارد ونظائرها ظاهرة في الملك وهو قرينة تخصيص بعض أفراد المشترك على بعض، ويظهر لك ذلك من إجماع العلماء كافةً على أنّ من قال «لفلانٍ عندي كذا» أو «العين «الفلانية» يفيد ملكه لذلك ملكاً تامّاً لا إفادة الاختصاص الأعم منه بحيث يحتمل غير الملك مع أنّ الاحتمال فيه قائم؛ لجواز أنْ يكون المُقَرُّ به مختصاً بالمُقَرّر له على وجه من الوجوه التي لا تُفيد الملك. والإجماع على خلافه وعدم الالتفات إلى هذا الاحتمال.

وادّعى ابنُ إدريس الإجماع على الوجوب؛ لأنه بعد أن نقل القول بالاستحباب عن بعض الأصحاب قال: «إنّ الأوّل» - وعنى به وجوب الحَبوة وعدم احتسابها بالقيمة - «هو الظاهر المُجْمَعُ عليه عند أصحابنا المعمول به» قال: «وفتاواهم في عصرنا هذا - وهو سنة ثمان وثمانين وخمسمائة - عليه بغير خلاف بينهم»(1).

والذي صرّح به السيّد المرتضى (2) (رضي اللّه عنه) وابن الجنيد(3) وأبو الصلاح(4)، وقوّاهُ العلّامة في المختلف الاستحباب(5). قال ابن الجنيد في كتابه الأحمدي:

يُسْتَحَبُّ أنْ يُوْثَرَ الولدُ الأكبر إذا كان ذكراً بالسيف وآلة السلاح والمصحف والخاتم وثيابِ الأب التي كانت لجسده بقيمته، وليس ذلك عندي بواجب إذا تشاجروا عليه(6).

وقال أبو الصلاح في الكافي : ومِن السنّة أنْ يُحْبى الأكبر من وُلد الموروث... إلى آخره(7).

ص: 460


1- السرائر، ج 3، ص 258.
2- الانتصار، ص 582 - 583 المسألة 316.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 9، ص 41، المسألة 2.
4- الكافي في الفقه، ص 371.
5- مختلف الشيعة، ج 9، ص 41، المسألة 2.
6- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 9، ص 39، المسألة 2.
7- الكافي في الفقه، ص 371.

وأمّا كلامُ الشيخين(1) وجماعةٍ ممَّن تَبِعَهما كابن البراج(2) وابن حمزة (رحمهم اللّه) فمحتمل للقولين إلّا أنّه ظاهر في الوجوب(3).

حجّة القائل بالاستحباب

حجة القائل بالاستحباب عموم الكتاب والسنّة باختصاص الورثة مطلقاً بالتركةِ أو بعين سهامهم، كقوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ»(4) ؛.

وتخصيصها بمثل الأخبار غير جائز إما للمنع من العمل بخبر الواحد مطلقاً، كما هو قاعدة المرتضى(5) وأكثر المتقدّمين من أصحابنا(6)، أو لأنه لا يُخصص الكتاب وإن جاز العمل به مع عدم المعارض.

فإن قيل: اللازم من اطراح خبر الواحد عدم إثبات الحَبْوَة مطلقاً، فكيف يحكم المرتضى باستحبابها على قاعدته ؟ خصوصاً مع معارضة عموم الكتاب العزيز لها، والاستحباب حكم شرعي كالوجوب يحتاج إلى دليل.

قلنا: الظاهر من استدلال المرتضى أنّه إنّما استند في إثباتها في الجملة إلى إجماع الإماميّة لا إلى الأخبار كما حكيناه عنه سابقاً وستجيء له عبارة أُخرى تدلّ عليه، وحينئذٍ فلا يضره منعه من العمل بالأخبار.

فإن قيل: الإجماع على ثبوتها ينافي الاستحباب؛ لأنّه يؤدّي إلى انتفائها عند التشاح فيلزمه على ذلك القول بالوجوب؛ ولأنّ الخلاف قبله في الوجوب غير متحقق، واستناد السابقين إلى الأخبار يؤذن بالوجوب.

قلنا: لا نسلّم أنّ الإجماع على ثبوتها في الجُملة ينافي الاستحباب، فإنّه إثباتُ

ص: 461


1- المفيد في المقنعة، ص 684؛ والشيخ في النهاية، ص 633.
2- المهذّب، ج 2، ص 132.
3- الوسيلة، ص 387.
4- النساء (4): 11.
5- جوابات المسائل التبانيات، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 25.
6- كابن إدريس في السرائر، ج 1، ص 232.

حكم في الجملة، والإجماع الواقع بين الأصحاب عليها إلى الآن إنما هو في ثبوتها الأعم من كونه على وجه الوجوب والاستحباب بل من الأخذ مجاناً وبالقيمة. وإذا ثبت بالإجماع القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب - وهو رُجحان اختصاصه بها - وجب على طريقة المرتضى الأخذُ بأقل ما قيل منهما جمعاً بين الإجماع وعموم الكتاب، وذلك هو الاستحباب، مع أنّ الخلاف قبل المرتضى متحقق؛ لأنّ ابن الجُنَيْد سابق عليه بيسير وقد صرّح بالاستحباب وغيره من السابقين لا صراحة في لفظه بالوجوب خصوصاً مصنفي كتب الحديث - وهم جلّة السابقين على الشيخين (رحمهما اللّه) أو كلّهم - فإنّهم يقتصرون من الفتوى على إيراد لفظ الخبر، وهو محتمل للأمرين كما ادعاه العلّامة في المختلف(1). وإن أثبتنا ظهور الوجوب.

فإن قيل: كيف يتحقّق الإجماع على الوجوب الذي ادّعاه ابن إدريس بعد تصريح الجماعة بالاستحباب، واحتمال عبارة غيرهم، واحتمال الأخبار خصوصاً على قاعدته أيضاً من اطراح خبر الواحد كالمرتضى، بدعواه الإجماع على خلاف قاعدته ؟

قلنا: لما رأى إجماع أهل عصره - كما صرح به - على الوجوب، ورأى السابقين الذين تحتمل عبارتهم غير الوجوب مستندين إلى الأخبار - لأنّ الشيخين يجيزون خبر الواحد خصوصاً الشيخ رحمه اللّه والأخبار التي هي مستندهم ظاهرة في الوجوب - حَمَلَ كلامهم عليه أيضاً اعتماداً على دلالة المستند كما بَيِّنَاهُ. وحينئذٍ فلا يقدح في الإجماع الذي ادّعاه مخالفة من صرّح بالاستحباب، إما لأنهم معروفو النسب، أو لانعقاده بعد موتهم على خلاف قولهم - كما يظهر من نقله إجماع أهل عصره - وكِلاهُما كافٍ في دعوى الإجماع؛ بل اتفق للشيخ والمرتضى (رحمهما اللّه)

ص: 462


1- مختلف الشيعة، ج 9، ص 41، المسألة 2.

في دعواه ما هو أعظم من ذلك كما لا يخفى على مَنِ اطَّلع على كتبهم(1)؛ فدعوى ابن إدريس الإجماع(2) ممكنة وإن كان الحقّ خلافها.

وأمّا العلّامة في المختلف(3)، فجعل مستند الاستحباب احتمال الأخبار للأمرين مع أصالة عدم الوجوب. وقد عرفت ما في احتمالها لهما وأنّ الوجوب منها أظهر، وينقطع الأصل الذي رتَّبَ عليه الحكم؛ لأنه لا ينفع مع ورود الحكم بخلافه، فكان القول بالوجوب أظهر.

ص: 463


1- انظر رسالة مخالفة الشيخ الطوسي لإجماعات نفسه في الجزء الثاني من هذه المجموعة. وصلاة الجمعة في هذا الجزء.
2- السرائر، ج 3، ص 258.
3- مختلف الشيعة، ج 9، ص 41. المسألة 2.

في بيان مستحق الحبوة والمستحق عليه

أمّا الأوّل فقد عرفت من الأخبار أنّه الولد الذكر الأكبر من الذكور مع تعدّدهم، ومع الاتّحاد فالموجودُ منهم. وبالجملة من ليس هناك ذكرٌ أكبر منه. فهنا قيودٌ:

أ) كون الحَبْوة للولد وهو موضعُ وفاق والنصوص دالّة عليه والأصل يقتضي نفيها عن غيره.

ب) كونه الذكر، والأخبار المتقدّم بعضها مصرّح به وهو الأكثر، وفي صحيحة ربعي الأُولى أنّها لأكبر ولده(1)، وكذلك صَدْرُ الثانية(2). والولد يشمل الذكر والأنثى إلّا أنّه محمولٌ على الذكر؛ جمعاً؛ ولأنه مطلق والباقي مقيّد فيجب حمل المطلق عليه؛ وللإجماع أيضاً.

ج) كونه الأكبر مع التعدّد، وهو مع الإجماع مصرّح في أكثر الأخبار، بل ما عدا رواية شعيب(3). وظاهر النصوص والفتاوى أنّ المراد به الأكبرُ سِنّاً، فلو كان الأكبرُ منه بالغاً بالإنبات أو الاحتلام - وهو غير بالغ - رُجّحَ الأسنّ هنا وإن وجب القضاء على البالغ مع احتمال ترجيح البالغ مطلقاً وتساويهما فيها؛ لاشتمال كلّ منهما على مرجّح فى الكبر.

ص: 464


1- تقدّم تخريجها في ص 447، الهامش 6.
2- تقدّم تخريجها في ص 448، الهامش 1.
3- سبق تخريجه في ص 448 الهامش 5.

د) كونه أكبر الذكور وإن كان هناك أنثى أكبر منه، وهو مُصرَّح به في صحيحة ربعي الثانية، والظاهرُ من غيرها، ويَظهرُ من عبارة ابن الجُنَيْد عدم الحبوة هنا؛ لتخصيصه الحكم بالولد الأكبر إذا كان ذكراً، وقد تقدَّم(1).

ه) أنّه مع اتحاد الذكر تكون له. وهو مُصرَّح به في الأخبار الثلاثة الأخيرة، لكنّ الصحيحان والحسن خالية عنه، وكذا فتاوى أكثر الفقهاء؛ فإنّهم يُعبّرون باستحقاق الأكبر وهو يقتضى مُفضَّلاً عليه، إلّا أنّ المراد ما ذكرناه من أنه من ليس هناك ذكرٌ أكبر منه وإن كانت عبارتهم محتملة لغيره، واعتبار وجود المُفضَّل عليه في أفعل التفضيل أكثري لا كُلّيّ.

فهذه الشروط الخمسة لا خلاف فيها ظاهراً إلا في الرابع على ظاهر عبارة ابن الجُنَيْد، لكن لم ينقل أحدٌ عنه خلافاً.

وبقي شروطٌ أُخر فى المحبو مُختلفٌ أو مشكوكٌ فيها.

أحدها: كونه للصُلْب، وفي اعتباره وجهان: أحدهما - وبه قطع العلّامة في الإرشاد - اعتباره (2)؛ إمّا لأنّه المُتبادر من لفظ الولد الأكبر في النصّ والفتوى، أو لأنّ الحبوة في مقابلة قضاء ما فاته من صلاة وصيام، سواءٌ جعلناه شرطاً فيها أم جعلناه حكمةً إثباتها، ولا قضاء على ولد الولد فلا حَبوةً له، أو للاقتصار بما خالف الأصل على موضع اليقين و محل الوفاق وهو ولد الصلب.

ووجه التعدّي إلى غيره - ممّن يصدق عليه شرعاً أو لغةً أنه أكبر الولد الذكور وإن كان ولدَ وَلدٍ - دخوله في عموم اللفظ أو إطلاقه، إذ لا شُبهة في أنّ ولد الولد الذكر يُطلق عليه أنه ولد، وإنّما الشبهة في ولد الأنثى، ولدخوله في مثل قوله تعالى:

ص: 465


1- تقدّم في ص 460، الهامش 6.
2- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 120.

«يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ (1)وَحَلَبِلُ أَبْنَابِكُمْ»(2)، وغيرهما. وهذا الوجه لم أقف على قول صريح فيه وإن كانت العبارات المطلقة في الولد محتملة له. وكيف كان فالاعتماد على الأوّل.

وثانيها : كونه عند وفاة أبيه منفصلاً، فلو كان حملاً ففي استحقاقه للحبوة وجهان :

أحدهما: الاستحقاق لصدق كونه ولداً في نفس الأمر وإنْ لم يتحقّق ظاهراً، ومن ثُمَّ أجمع على استحقاقه الإرث بحسب ما يتّفق من ذكوريته وأنوثيّته، وما ذاك إلّا لدخوله في عموم «يُوصِيكُمُ اللّه فِى أَوْلَادِكُمْ» (3) وغيره.

وثانيهما: العدم لعدم الحكم حال الاحتياج إليه وهو موت المورث بكونه ذَكراً، والأحكام الشرعيّة مبنيّة على الظاهر، خصوصاً إذا كان عند الموت غير متحقّق بالخلقة الذكريّة بأن كان عَلَقَةً أو مُضْغَةً أو غيرهما؛ فإنّه لا يصدق حينئذٍ أنّ للميّت ذكراً، ولأنّ إفراد الحبوة ذلك الوقت إنْ حُكم بها له كان حكماً غير مطابق للواقع؛ لأنه ليس بذكرٍ. وإن حُكم بها للورثة استُصحِبَ الحُكم وعُمِلَ بأصالة عدم المزيل إلى أن يتحقّق. وإن انتفى الأمران لزم بقاء المال بغير مالك وهو محالٌ.

فإن قيل: هذا بعينه وارد في سهم الحمل قبل انفصاله مع الإجماع على إيقافه له واستحقاقه نصيب الذكر وإن كان علقةً أو ما دونها، فهلا كان هذا كذلك ؟

قلنا: يمكن الفرق بثبوت هذا بالإجماع أولاً بخلاف موضع النزاع، مضافاً إلى أصالة عدم الاستحقاق وبأن الحمل يرتُ من حيث كونه ولداً أعم من كونه ذكراً أو أُنثى أو خنثى، وهو متحقق في جميع الأحوال، ومن ثُمَّ حُكِمَ على الأمةِ بكونها أُمَّ ولدٍ بوضع

ص: 466


1- النساء (4): 11.
2- النساء (4): 23.
3- النساء (4): 11.

العَلَقَةِ وما يكون مبدأ نشوء آدمي، وأُدخلت في عموم النهي عن بيع أُمّ الولد، بخلاف صورة النزاع؛ فإنّ الحُكْمَ مُعلَّق على الولد الذكر، وهو غير مُتحقِّق قبل تخلقه ذكراً وانْ سلّم استحقاقه بعد ذلك إذا تحقّق في نفس الأمر، وكيف كان فالشك في الحُكْمِ المخالفِ للأُصول يوجب اطراحه وإن كان الحكم باستحقاقه - لو كان عند الموت مُتخلّقاً بالذكوريّة - أوجة، وإنّما يقوى الإشكال قبل تلك الحالة، ولم أقف فى هذا الشرط على شيءٍ يُعتَدُّ و يُعتَدُّ به للأصحاب وإن كان الأجودُ عموم الاستحقاق.

وثالثها: كونه متحقق الذكورية، فلو كان محتملاً لها وللأنوثية كالخُنثى المشكل، ففي استحقاقه الحبوة في الجملة أو عدمه وجهان

أحدهما العدم لتعليق الحُكم في النصوص والفتاوى على الولد الذكر وهذا ليس بذكرٍ، أو ليس متحقّقاً بالذكوريّة فلا يستحق أو لا يتحقّق استحقاقه فيرجع إلى الأصل.

والثاني: أنْ يستحق نصف الحبوة بناءً على انحصاره في الذكوريّة والأنوثيّة؛ لبطلان الحكم بالطبيعة الثالثة كما نُبِّه بقوله تعالى: «يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَنا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ»(1) الآية وغيرها (2). والخُنثى كما يحتمل الأنوثيّة يحتمل الذكورية، ومن ثمَّ استحقّ نِصف النصيبين بالنصّ(3)، فيستحقّ نصف الحبوة؛ لأنه نصف النصيب على تقدير الذكوريّة والأنوثيّة.

ويُضعف بأنّ استحقاقه كذلك في السهم إنما جاء من قِبَلِ النصّ(4)، ومن ثَمَّ ردّهُ جماعةٌ(5)، ولولاء لكان القول بتوريثه بالقرعة أوجه وهو مفقودٌ هنا، بل ظاهرٌ في خلافه

ص: 467


1- الشورى (42): 49.
2- النجم (53) 45: «وأنّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى».
3- الكافي، ج 7، ص 157، باب ميراث الخنثى، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 354، ح 1269.
4- الفقيه، ج 4، ص 326. ح 5704: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 354، ح 1270.
5- منهم: السيّد في الانتصار، ص 594 - 593، المسألة 325؛ والشيخ المفيد في الإعلام، ص 62؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 280 - 279.

فكان الرجوع إلى القرعة متوجّهاً إن لم يكن عدم الاستحقاق أوجه لأنها لكل أمرٍ مُشكل، وعلى تقدير انحصاره في الطبيعتين فهو في نفس الأمر إحداهما فيُستخرج بالقرعة، وفي الانحصار نظرُ وفي الحكم إشكالٌ، وعدم الاستحقاق مطلقاً متّجهٌ. ولم أقف هنا أيضاً على شيءٍ مُعتَدٍ به للأصحاب.

ورابعها كونه بالغاً، وفي اعتباره قولان:

أحدهما: الاعتبار، صرّح به ابن حمزة(1) وهو ظاهر ابن إدريس(2). وبناؤه على أنّها في مقابلة القضاء وهو منتفٍ عن الصبيّ فينتفي ما قابله من العوض. وسيأتي ما يدلُّ على ضعف الملازمة بينهما.

والثاني: - وهو الأظهر الأشهر - عدم اعتباره فَيُخبى الصغير مطلقاً، لعموم النصّ وعدم التلازم. و

خامسها كونه عاقلاً، وفي اعتباره القولان وعدمه أظهر؛ للعموم.

وسادسها كونه سَديدَ الرأي، بأن يكون معتقداً للحقِّ مؤمناً بالمعنى الخاصِّ، وفي اعتباره قولان:

أحدهما - وهو المشهور بين المتأخّرين وممن صرّح به من المتقدّمين ابن حمزة(3) وابنُ إدريس(4)، ومن تأخَّر عنه(5) - اعتباره، ولم يذكروا له حجّةٌ مُقنِعَةً؛ لكنّه يناسب أصل ابن حمزة في القضاء، فإنّ المخالف لا يرى وجوبه فلا يُخبى. ويمكن الاحتجاج للآخرين بأنّ المخالف أيضاً لا يعتقد استحقاق الحبوة بل يعتقد أنها كسائر التركة بين الورّاث فيُمنَع منها إلزاماً له بمُعتقده، كما يُلزم بغيره من الأحكام الشرعيّة الموافقة له،

ص: 468


1- الوسيلة، ص 387.
2- السرائر، ج 3، ص 258.
3- الوسيلة، ص 387.
4- السرائر، ج 3، ص 258.
5- كالمحقّق في شرائع الإسلام، ج 4، ص 19.

ومن ثُمَّ يُعْسَّلُ ويُصَلِّى عليه - ميتاً - بمعتقده، وتُباحُ مطلَّقته ثلاثاً ولاءً وبغير شهودٍ، ويُشارك في سهم العصبة، وغير ذلك، فيكون هنا كذلك. وهذا حسن وإن كان عموم النصّ يدفعه؛ فإنّه مخصوص بما ورد أيضاً من إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم(1)، والمضيّ معهم في أحكامهم(2)، والنصوص به كثيرة.

وسابعها: كونه غير سفيهٍ، وهذا الشرطُ ذكره ابن إدريس(3) وتبعه عليه المتأخّرون(4) ولم نقف على مأخذه، وعموم النصّ يدفعه، والأقوى عدم اعتباره، وهو اختيار المحقّق الشيخ علي صريحاً(5)، ومال إليه الشهيد في الدروس(6)؛ لأنه نقل الشرط عن ابن إدريس مقتصراً على النقل، وهو يُشعرُ بتمريضه كما هي عادته؛ لكنّه في اللمعة قطع،باشتراطه(7)، وكلام الأولين خال عنه.

وثامنها: كونه متحداً، فلو كان الأكبر متعدّداً ففي اشتراكهم في الحَبْوَة أو عدم استحقاقهم أصلاً قولان:

أحدهما اشتراطه صرّح به ابن حمزة(8) نظراً إلى ظاهر النصوص؛ فإنّها تضمّنت الولد الذكر وهو متّحد، ولأنّه مع التعدّد لا يصدق استحقاق كلّ واحدٍ ما حكم باستحقاق واحدٍ منه كالسيف والمُصحَفِ؛ لأنّ بعض الواحد منهما ليس هو، فلا يدخل في ظواهر النصوص ؛ وقوفاً فيما خالف الأصل على موضع اليقين.

و [ثانيهما]: الأظهر عدم اشتراطه لصدق اسم الولد الأكبر على كلّ من المتعدّد؛

ص: 469


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 322، ح 1156: الاستبصار، ج 4، ص 148، ح 555.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 321، ح 1153؛ الاستبصار، ج 4، ص 147، ح 552.
3- السرائر، ج 3، ص 258.
4- كالمحقّق في شرائع الإسلام، ج 4، ص 19؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 362.
5- حكاه العاملي عن تعليق الإرشاد، للمحقق الكركي في مفتاح الكرامة، ج 8، ص138 (الطبعة القديمة).
6- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 296 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
7- اللمعة الدمشقيّة، ص 301 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 13).
8- الوسيلة، ص 387.

ولأنّه اسم جنس لا ينافي التعدّد، والاشتراك في السيفِ الواحد والمُصحف غير مانع، كما لو لم يكن للميّت سوى السيف على أحد الوجهين السابقين؛ ولعموم «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»(1). و«لا يسقط الميسور بالمعسور»(2).

وعلى هذا فيتحقَّق التساوي في الوصف بأن تولدا من امرأتين في وقت واحدٍ، وكذا لو وُلِدا من امرأةٍ دفعةً وإن كان الفرضُ بعيداً، ولو ولد التوأمان على التعاقب ففي اشتراكهما فى الأكبريّة نظر من زيادة سنّ السابق على المسبوق ولو بيسير فيصدُقُ التفضيل. ومن عدم الاعتداد بمثل ذلك عرفاً، وهذا هو الأقوى بشاهد العرف على أنّ مثل هذا التفاوت لا يؤثر في التساوي. ومثله ما لو وُلدا من امرأتين في وقتين متقاربين، إلّا أنّ العرف قد يأبى هذا القسم في بعض الموارد وإنْ قَبله فى التوأمين.

وبالجملة فالمرجِعُ في ذلك إلى العرفِ فَمَن عدّهما متساويين في السن تشاركا فيها وإلّا فلا، وإن حصل الشكُ اسْتَحَقَّ السابق؛ لأنّه المتيقن، وكذا لو زاد عن اثنين.

وتاسعها: أن يقضي ما فات أباه من صلاة وصيام، وفي اعتباره قولان. وبهذا الشرط صرَّح ابن حمزة جاعلاً الحبوة عوضاً عن القضاء(3)، فإذا لم يفعل المعوض لا يستحق العوض والأظهرُ عدم الاشتراط والتلازم غير ظاهر، وإنّما دلّت النصوص على استحقاقه لها وعلى وجوب القضاء، فإذا لم يفعل عصى ولم يبطل الاستحقاق وعليه يتفرّع استحقاق الطفل والمجنون لها وإن لم يقضيا. وعلى قول ابن حمزة هل تُشتَرطُ المبادرة إلى القضاء أو يكفي العزم عليه ؟ الظاهر الثاني، لكن يكون استحقاقه لها حينئذٍ مراعيَّ بالقضاء، فلو أخلّ به كان ضامناً لها لفقد المعوّض، ويُحتمل على مذهبه وجوب تقديم القضاء على الاستحقاق؛ ليتحقّق

ص: 470


1- تقدّم تخريجه في ص 456، الهامش 1.
2- عوالي اللآلي، ج 4، ص 58، ح 205.
3- الوسيلة، ص 387.

استحقاقه للعوض، إذ ليس هناك عقد لازم أوجب ملكه لها فلابدّ من سببٍ يوجبه وهو القضاء، ولأنّ العزم لو كان كافياً لاستحقها الطفل إذا عزم على القضاء بعد البلوغ إلّا أن تعتبر صلاحيّته للقضاء بالفعل، وظاهر عبارته أنه لا يستحقها إلّا مع القضاء بالفعل؛ لأنّه قال:

يأخذ الابن الأكبر ثياب بدن الوالد وخاتمه الذي يلبسه وسيفه ومُصحفه بخمسة شُروط: ثبات العقل، وسداد الرأي، وفقد آخر في سنه، وحصول تَرِكَةٍ سوى ما ذكرناهُ، وقيامه بقضاء ما فاته من صلاةٍ وصيامٍ(1).

هذه عبارته. وجعل القيام بالقضاء شرطاً للأخذ يقتضي تقدّمه على المشروط؛ لأنّه قضيّة الاشتراط.

فهذه جملة الشروط المعتبرة في المحبو ولو على قول أو وجهٍ.

واعلم أنه لا فرق في الولد الجامع للشرائط بين كونه متولّداً عن عقد صحيح وملك ووطء شبهةٍ، وضابطه لحوقه بالأب شرعاً؛ للعموم.

وأمّا ا[لثاني أعني] مَنْ تُسْتَحَقُ الحَبُوةُ في تَرِكَتِه ؟ فقد ظهر من تضاعيف مَنْ يَسْتَحقَّها، فهو أبو الولد الذكر الأكبر بالشرائط.

وفي اشتراط إسلامه وإيمانه نظر من عموم النصّ.

والنظر إلى اعتقاده عدم الاستحقاق، وكونها في مقابلة القضاء ولا قضاء عن الكافر. وفي المُخالِف نظر أيضاً. ويُضعف بأنّ اعتقاده لا يؤثِّر في استحقاق غيره مؤاخذته، وإنّما يؤاخذ به المُعتقد وهو لا يتوجّه هنا. وأمّا ارتباطها بالقضاء فقد ظهر عدمه، فاتّجه القول بعدم اشتراطهما فيستحق عليه مطلقاً.

ولو كان الميّت خُنثى وقد اتَّفَقَ تولّد الولد منه إمّا لشبهة أو بناءً على جواز تزويجه

ص: 471


1- الوسيلة، ص 387.

-كما فرضه الشيخ(1) وجماعة (رحمهم اللّه) في باب الميراث، وحكموا بأنّه لو كان زوجاً أو زوجةً فله نصف النصيبين (2) - ففي استحقاق ولده الحبوة نظرٌ.

من ظهور الأبوّة وعموم النصوص.

ومن الشك في إطلاق الأبوة هنا للشك في الذكورية. والأقوى عدم الاستحقاق للشكّ، فيرجع إلى الأصل.

ص: 472


1- المبسوط، ج 3، ص 332.
2- انظر إيضاح الفوائد، ج 4، ص 265 - 266: مفتاح الكرامة، ج 8، ص 240 (الطبعة القديمة).

كيف تستحق الحبوة: مجاناً، أم بالقيمة السوقيّة؟

هل هو مجاناً أم بالقيمة السوقية ؟

وقد اختلف الأصحاب في ذلك، فذهب الأكثر - ومنهم عامة المتأخّرين - إلى الأوّل(1)، بل ادعى عليه ابن إدريس الإجماع(2)؛ لإطلاق النصوص باستحقاقها من غير شرط، فلو كان استحقاقها مشروطاً بدفع القيمة لزم تأخير البيان عن وقت الخطاب أو الحاجة؛ ولأنّ «اللام» أفادت ملكه لها على ما بيّنّاه. والأصل براءةُ الذمّة من أمر آخر، ولأنه لو قال: «سيفي لفلانٍ» مثلاً أفاد ملكه له بغير عوض، فكذا هنا لاتّحاد مدلول الصيغة بحسب هذا المعنى.

وقال السيّد المرتضى (رضي اللّه عنه)(3) وابن الجُنَيْد (رحمه اللّه)(4) - ومال إليه العلّامة في المختلف المختلف - : إنّما يستحقها بالقيمة(5)، قال المرتضى:

وإنّما قوَّينا ما بيناه وإنْ لم يصرح به أصحابنا؛ لأنّ اللّه تعالى يقول: «يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ»(6)، وهذا الظاهر يقتضي مشاركة الأُنثى للذكر

ص: 473


1- كالعلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 17، الرقم :6283 والمحقّق في شرائع الإسلام، ج 4، ص 19.
2- السرائر، ج 3، ص 258.
3- الانتصار، ص 582 المسألة 316.
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 9، ص 41، المسألة 2.
5- مختلف الشيعة، ج 9، ص 41 - 42 المسألة 2.
6- النساء (4) 11.

في جميع ما يخلّفه الميّت من سيف ومصحف وغيرهما، وكذلك ظاهر آيات ميراث الأبوين(1) والزوجين (2) يقتضي أنّ لهم السهام المذكورة من جميع تَرِكَةِ الميّت، فإذا خصصنا الذكر الأكبر بشيءٍ من ذلك من غير احتساب بقيمته عليه تركنا هذه الظواهر، وأصحابنا (رحمهم اللّه) لم يُجمعوا على أنّ الذكر الأكبر مُفضَّل بهذه الأشياء من غير احتساب بالقيمة، وإنّما عَوَّلوا على أخبارٍ روؤها تتضمن تخصيص الأكبر بما ذكرناه من غير تصريح باحتساب عليه بقيمته، وإذا خَصَّصناه بذلك - اتباعاً لهذه الأخبار واحتسبنا بالقيمة عليه - فقد سَلمَتْ ظواهر الكتاب مع العمل بما أجمعت عليه الطائفة من التخصيص بهذه الأشياء، فذلك أولى. ووجه تخصيصه بذلك مع الاحتساب بقيمته عليه أنّه القائم مقام أبيه والسادّ مسدّه، فهو أحقّ بهذه الأمور من النسوان والأصاغر للمرتبة والجاه(3).

هذا كلام المرتضى (رضي اللّه) عنه، ومرجع بنائه في الاستدلال إلى مراعاة الجمع بین ما يمكن الاستدلال به من الآيات والإجماع مع اطّراح خبر الواحد، فالآيات اقتضت عدم الحبوة، والإجماع اقتضاها في الجملة من غير تخصيص بكونه مجّاناً، وأخبار الآحاد وإن اقتضت بإطلاقها كونه مجّاناً إلا أنّها عنده لا تصلح للحجة، فَجَمع بين الإجماع والقرآن بأخذها بالقيمة.

وهذه الطريقة لا تتمشى على قواعدِ مَنْ عَمِلَ بخبر الواحد؛ لأنّ الأخبار مخصّصة لعموم الآيات من غير اعتبار القيمة كما بيّناه، ومن ثَمَّ خالفه الشيخ(4) والجماعة في كونها بغير قيمة(5)، عملاً بظواهر الأخبار، إلّا أنّه يبقى عليهم ما أشرنا إليه سابقاً من أنّهم

ص: 474


1- انظر النساء (4): 11.
2- انظر النساء (4): 12.
3- الانتصار، ص 582 - 583، المسألة 316.
4- النهاية، ص 633: المبسوط، ج 3، ص 342.
5- كابن حمزة في الوسيلة، ص 387؛ وابن البراج في المهذّب، ج 2، ص 132؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 258.

لم يعملوا بجميع ما تضمنته خصوصاً الصحيح منها، بل خَصُّوه بالأربعة، فإن اعتمدوا على الأخبار فهي تدلّ على الزائد كما رأيت، وإن اعتمدوا على الإجماع مراعاةً لجانب الآيات القرآنية والأُصول الشرعيّة لزمهم اعتبارها بالقيمة؛ لأنّ الإجماع لم يتحقَّق على خلاف ذلك.

فإن قيل: كما أنّ الإجماع لم يتحقّق على أخذها مجاناً كذلك لم يتحقّق على أخذها بالقيمةِ، فيكون القول بأخذها بالقيمة مخالفاً لعموم الآيات وإطلاق الروايات وفتوى أكثر الأصحاب، وهو أقوى شُبهةً من أخذها مجاناً، فإنّه سالم من مخالفة الأخبار والأصحاب.

قلنا: هذا حقٌّ، ولكن مأخذ القائل ليس هو الأخذ بالمُجمع عليه حتّى يرد ما ذُكِرَ، بل مراعاة الجمع بين عموم الكتاب وعدم مخالفة إجماع الأصحاب على ثبوت الحبوة في الجُملة، فإنّ القول بأخذها بالقيمة لا يخرج عن إجماعهم على ثبوتها كذلك، وفيه تقليل لتخصيص عموم الكتاب مع موافقة فتوى الأصحاب بإثباتها في الجملة بخلاف القول بأخذها مجاناً، فإنّه يبعد عن موافقة الكتاب ولا يوقع في إجماع الأصحاب بل يبقى الخلاف بحاله وإن وافقه الأكثر فكان الجمع بين موافقتهم في أصل الفتوى بثبوتها مع الأخذ بعموم الكتاب وتقليل تخصيصه أولى.

فإن قيل: إذا أخذت هذه الأشياء بالقيمة، ولم تفت إلّا العين وخصوصيّتها قليلة بالإضافة إلى القيمة، ولم يوجب البعد عن عموم آيات القرآن، فَلِمَ نقتصر على الأربعة من دون أن نعمل بجميع ما ذُكر في الأخبار الصحاح مع أنّها مشتركةٌ في الجبر بالقيمة ؟

قلنا: هذا لا يرد على المرتضى (رحمه اللّه)؛ لأنّه لا يُراعي جانب خبر الواحد، وإنما راعى ما هو عنده حجَّةٌ من الإجماع ودليل القرآن وبهما تحصل الموافقة على ذلك الوجه بالاقتصار على ما أفتى به الأصحاب، بل على أقله لحصول الغرض وهو عدم

ص: 475

مخالفة الإجماع، ولا ضرورة إلى القول بباقي ما دلّ عليه الخبر؛ لأنّه ليس حجّة عنده، وإنّما يرد هذا على غيره من الأصحاب الذينَ يَرَوْنَ العمل بخبر الواحد كالعلّامة، وقد قال في المختلف - بعد حكايته كلام المرتضى:

وكلام السيّد (رحمه اللّه) لا بأس به، وتؤيّده الروايات المتضمّنة لتخصيصه بسلاحه ورحله وراحلته، ولولا الاحتساب بالقيمة لزم الإجحاف على الورثة(1)، انتهى.

وهذا الذي ادّعاه إنما يؤيّد كلام السيّد لو كان قائلاً به ليلزم عنده الإجحاف، إذ قال به السيّد أو الجماعة، وقد عرفت أنّ القائل به قليل أو معدوم، والإجحافُ بالأربعة غيرُ مُتحقِّق مطلقاً؛ بل على بعض الوجوه، وهو غير كافٍ؛ لأنّ أخذ جميع ما ذُكِرَ في الرواية غير مُحِحِفٍ على كثيرٍ من الورثة إذا كان المتروك كثيراً، وبالجملة فهذه أمورٌ غير منضبطة حتّى يتحقّق الإجحاف بإثباتها ونفيها على تقدير القول بثبوتها. والأولى بناءً على حجّيّة خبر الواحد القول بأخذها بالقيمة أصلاً.

مباحث في كيفيّة استحقاق الحبوة

إذا تقرر ذلك فهنا مباحث:

أ) على القول بأخذها بالقيمة، هل المعتبر قيمتها عند الوفاة أو عند دفع القيمة ؟ ليس في كلام القائل بها تصريحٌ ولا تلويحٌ بأحد الأمرين وكلاهما محتملٌ.

أمّا الأوّل: فلانه وقت انتقال التَرِكَة إلى الوارث، والمَحْبُو أحدُ الورّاتِ حتّى بالحَبْوَة، فإنّها نوعٌ من الإرث زائد على غيره كزيادة نصيب بعض الورّاث على بعض، فتعتبر القيمة وقت الانتقال؛ لأنه وقت الحيلولة بين باقي الوراث وبينها؛ ولأن القيمة لو اعتُبرت بعد ذلك لكانت هذه الأشياء، إمّا ملكاً للورثة فيلزم عدم اختصاص المحبوّ بها، بل لا يجوز أخذها منهم بغير رضاهم أو ملكاً للمحبو فلا تلزمه القيمة الزائدة على ما

ص: 476


1- مختلف الشيعة، ج 9، ص 42، المسألة 2.

هي عند الموت، أو غير ملك لأحدهما فيلزم اعتبار رضى المالك أو خلوّ المال عن مالك. فإن قيل: جاز أن يكون موت الأب جزء السبب لملك المحبة وإنّما يتمّ بدفعه القيمة فجاز اعتبار وقت القيمة، وإن قلنا يتقدّم ملك المحبة أو نقول إنه يملكها ملكاً متزلزلاً يستقر بدفع القيمة فجاز اعتبار وقتها كذلك أيضاً.

قلنا: كلا الأمرين لا يصحّ معه اعتبار وقت الوفاة. أمّا الأوّل فلأن الاعتبار إنما هو بوقت ملك المحبوّ لها، إذ لا وجه لاعتبار القيمة قبل الحكم بملكه، والملك لا يحصل إلّا بتمام سببه، فإذا اعتبرت تماميّته بدفع القيمة لم يصحّ الحكم بملكه لها قبله ويعود المحذور السابق. وأمّا الثاني فظاهر؛ لأنّ الملك المُتزلزل مِلكُ في الجُملة فتُعتبر القيمة عند حصوله، وهو بالموت لا بدفع القيمة.

وأمّا الثاني: وهو اعتبارها وقت دفعها؛ فلأنّ ذلك بمنزلة المعاوضة عليها وإن كانت قهرية، وقيمة العوض إنّما تُعتبرُ عند دفع عوضه كبيع العبد المسلم على الكافِرِ والوارث ليُعتق. وقريب منه البحث في قيمة الشجر والبناء لغير ذات الولد، وعلى هذا فيلزم كونها قبل دفع القيمة ملكاً - للورثة - متزلزلاً وبدفع القيمة تنتقل إلى ملك المحبو، أو يكون الدفع كاشفاً عن سبقِ مِلكه من حين الوفاة وإن كانت ظاهراً قبله ملكاً لجميع الورثة، ولأن ملك المحبو مشروط بدفع القيمة، فقبل حصول الشرط لا يتحقّق المشروط.

والأقوى الأول؛ للنصوص السابقة الدالّة على ملك المحبة لتلك الأشياء معلّقاً على موت أبيه من من غير شرطٍ، وذلك يقتضي تحقّق المِلكِ من حين الموت قضيّةً للتعليق، وإنّما أعتبرت القيمة جمعاً بين الحقين، ويكفي في مراعاة هذا الجمع كونه يملكها بعوضٍ حين الموت.

ب) هل يملكها على التقديرين ملكاً قهريّاً يثبت في ذمته أم يتوقّف تملكه لها على دفع القيمة ؟ َكلُّ محتمل.

ص: 477

أمّا الأوّل: فلظاهر النصوص الدالّة على مِلكه لها بالموت كما قدمناه، كقوله : «إذا مات الرجل فسَيفه لابنه...» إلى آخره(1)؛ فإنّ ذلك يقتضي تحقّق الملك بالموت وإنْ لم يدفع القيمة، وحينئذٍ فتبقى القيمة في ذمّته بمنزلة الدين الذي يتركه الميّت على غيره من الوراث، فيملكه الورثة كذلك سواء أمكن تحصيله منه أم لا.

وأمّا الثاني: فلأن القيمة إنما اعتبرت مراعاة لحق الورثة وعملاً بعموم الآيات، وذلك لا ينتظم مطلقاً بجعل القيمة في ذمته، لجواز امتناعه ومَطْلِهِ وهَرَبِهِ على وجه يوجب الإضرار بالورثة، فرعاية الجمع بين الحقين توقُّف تملّكه لها على دفع القيمة، ويَقْوى هذا القول بمراعاة القيمة عند الأداء.

والأقوى الثاني مطلقاً؛ لأصالة البراءة من عوض يثبت في ذمّته بغير اختياره، ولأنّه قد يؤدي إلى الإضرار به، مع أنّ ثبوتها مبني على ترجيحه وغِبطَتِه، ومن ثُمَّ أُطلق عليها اسم الحبوة، وتظهرُ الفائدة في جواز تصرفه فيها قبل دفع القيمة وفيما لو تلفتْ أو بعضها قبل دفع القيمة بغير تفريط، وفي جواز امتناعه من أخذها كذلك. أمّا غَيرُهُ من الورثة فلا يجوز له التصرف فيها مطلقاً؛ لأنّها إمّا مملوكة للمحبو أو موقوفة على أمرٍ إلى أنْ ينكشف الحال فلو باع بعض الورثة نصيبه منها قبل الانكشاف بطل البيع على الأوّل قطعاً، ويحتمل على الثاني البطلان والمراعاة.

ج) لو لم يدفع القيمة هل يبطل حقّه منها بمجرّده أم يتوقّف على أمرٍ آخر كإسقاط حقّه أو تصريحه بعدم الدفع مطلقاً؟ كلّ محتمل، والأقوى أن الحاكم يُلزمه بأحد الأمرين على التخيير، إمّا الدفع أو إسقاط حقه، ومع تعذّر الحاكم وامتناعه من الاختيار فالأقوى جواز تسلّط الورثة عليها حذراً من الإضرار، وحينئذٍ فيسقط حقّه منها وإنْ بذل القيمة بعد ذلك، نعم لو اعتذر بغيبة العوض ونحوه اجل مقدار ما يزولُ معه عذره

ص: 478


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 276، ح 998؛ الاستبصار، ج 4، ص 144، ح 542.

إذا لم يؤدّ إلى التطويل المُفرِط المؤدّي إلى الضرر ولو قيل: إن أخذه لها بالقيمة فوري كأخذ السُّفَعة، ويُعذَر هنا فيما يُعذَرُ هناك من وجوه التأخير أمكن لاشتراكهما في الموجب للفوريّة.

د) لو كان المحبة غير مكلّف، فإن قلنا بالملك القهري دَفَعَ إليه وليّه القيمة من ماله وأخذها، وإنْ أوقفناه على دفعها ففي تعيّن ذلك عليه أو يلزمه مراعاة الأغبط للمَحبُو وجهان أجودهما الثاني؛ لأنها حينئذٍ معاوضة فيُراعى فيها الغبطة له.

ه) لو كان الولد غائباً، فإن كان عودة قريباً بحيث لا يؤدّي إلى الإضرار بالورثة وجب انتظاره ليترتّب عليه أحد الأمرين، وإن طالت غيبته رفع الورثة أمرهم إلى الحاكم فيحكم عليه بما هو الأغبط له، فإن كان الأغبط دفع القيمة ولم يكن له مال حاضر غيرها سلّطهم عليها أو باعها أو بعضها - على تقدير الفضل، بأن زادت قيمتها ذلك الوقت إن اعتبرنا القيمة عند الوفاة - وأبقى له الباقي أو قيمته. ولو تعذّر الحاكم وجعلنا ملكه قهريّاً أخذوها مقاصةً، وإلّا فالأقوى جواز تسلّطهم عليها حذراً من الإضرار.

ص: 479

لم يحبى الولد الأكبر دون غيره من الورثة؟

والسؤال فيه عن حكمة الحكم وهو غير لازم؛ لأنّ أكثر الأحكام غير مُعلَّلة بعلَّةٍ معقولة؛ ولأنه لو علل كلّ شيءٍ لزم التسلسل، وما هذا التخصيص إلّا كالحكم بالفروض المعيّنة في كتاب اللّه تعالى لأربابها زيادةً ونقصاناً، كجعل نصيب الذكر مثل حظّ الأُنثيين، ولو أردنا إبداء الحكمة هنا ربما كانت أسهل من كثيرٍ من تلك الفروض؛ فإنّ الولد الأكبر قائم مقام أبيه، وربما كان واقفاً في منصبه ومنزلته، فكان أولى بما كان يختص به من ثيابه وسيفه وخاتمه ومُصحفه وغيرها لتتحقق النيابة وتتم الخلافة. وربما ظهر بهذا خيرٌ كثيرٌ للورثة وانتظام أمرهم وظاهر أنّه أولى من اقتسام جميع الورثة لذلك وأخذ المرأة منه حصةً وإلباسه لزوجها الأجنبي من الميّت، وكذلك غيرها من الورثة.

وأمَّا مَنْ شَرَطَ في استحقاقها قضاء ما على الميّت، فالحكمة فيه واضحةً، فإنّها حينئذٍ معاوضة محضة، بل أجرةً عمل ربما كانت أجرته أضعاف هذه الأشياء. ويمكن أنْ يصلح ذلك علّةً وإن لم نجعله شرطاً فيها، فإنّ الولد الأكبر لما كان في كثيرٍ من الأوقات مكلّفاً أو آئلاً إلى التكليف حيث نوجب عليه القضاء بعد التكليف، وكان الأغلب في المكلّفين عدم السلامة من فوات صلاةٍ أو صوم بحيث يستجمع جميع ما يعتبر فيها من الشرائط والأركان، وكانت الحَبوة بإزاء ما فرضه اللّه تعالى على هذا

ص: 480

الولد من القضاء غالباً، وتخلّف الحكمة عن الحكم في بعض الموارد لا يقدح في الحكميَّةِ، لأنّا قد علمنا من حكمة الشارع أنه إذا أراد أنْ يُنيطُ حُكماً بحِكمَةٍ، يجعل له ضابطاً يُرجَعُ إليه تسهيلاً على المكلّفين وتحقيقاً للحكم، وإنْ تخلَّفتِ الحِكمة في بعض أفراد ذلك الضابط كما ناط القصر بالسفر إلى المسافة لما كانت مظنة المشقة غالباً، وهي الحكمة في الحكم مع تخلّفها عنه وجوداً وعدماً في كثير من الموارد، فَقَد تحصل المشقَّةُ في سفر نصف المسافة وأقل لبعض المكلّفين على بعض الوجوه، وقد لا تحصل المشقَّة فى السفر إلى أضعاف كثيرةٍ مضاعفةً لتلك المسافة المضبوطة شرعاً لبعض المكلّفين على بعض الوجوه، إلّا أنّ الغالب لَمّا كان حصول المشقة فيها نيط الحكم بها. وكذلك العيب المجوّز لردّ الحيوان المبيع وفسخ البيع لمّا كان مرجعه إلى نقصان قيمة المبيع بسببه - وكان ذلك غالباً يتحقّق بزيادة في الخِلقَة الأصلية أو نقصانٍ عنها - جُعِلَ ذلك ضابطاً له وحُكمَ بجواز الفسخ بمجرّده مع تخلّف الوصف في كثير، بل مع زيادة القيمة به كخصاء العبد، مراعاةً لضبط الأحكام وإنْ تخلَّفتِ الحكم.

وجملة الأمر أن الأحكام الشرعيّة إذا نبطت بأمورٍ حكميَّة لا تخرج عن قواعدها الكلّيّة بتخلَّفُ الحُكْم في بعض موضوعاتها الجزئيّة.

واعْلَمْ أَنّ الحَبْوة قدِ انفكّت عن القضاء في مواضع:

أ) أنْ لا يفوت الميّت شيءٌ من الصلاة والصيام، وتركَ حَبْوةً فيُحبى ولده ولا يقضي.

ب) عكسه بأن يموت وعليه صلاة وصيام ولا يخلّف حَبوةً أصلاً إما لاستغراق دَيْنه كما سيأتي(1)، أو بأنْ لا يترك إلّا ثياب بدنه ويحتاجُ إليها أجمع في كفنه ومؤنةِ تجهيزه أو غير ذلك، فيجب على الولد القضاء ولا يُحبى.

ج) أن يكون طفلاً فإنّه يُحبى على ما تقدّم ولا يجب عليه القضاء حينئذٍ، ثمّ إن

ص: 481


1- يأتي في ص 485.

مات قبل التكليف اختصَّ بالحَبوة بغير قضاء، وإن بلغ قبل أن يقضي ما فات أباه ففي وجوب القضاء عليه حينئذٍ وجهان: من سبق الحكم بالبراءة فيُستصحب، ولأن موت أبيه إذا لم يترتب عليه وجوب القضاء فمجرّد البلوغ لم يثبت من الشارع جعله سبباً في وجوبه، وإنما المستفاد من النصوص الوجوب بالموتِ وهو منفي هنا لانتفاء الخطاب عن الصبيّ.

ومن إطلاق النصّ بأنّ على الولد قضاءُ ما فات أباه من ذلك المتناول لموضع النزاع، وخرج منه الصبيّ لعدم التكليف فيجب عليه حيث يُكلّف.

د) أن يكون مجنوناً، والكلام فيه كالصغير.

ه) أن يكون بالغاً عاقلاً لكنَّه سفية فيجب عليه القضاء، وفي حبوته ما تقدَّم.

و) أن يكون مخالفاً إن قلنا إنّه لا يُحبى.

ز) أن يكون متعدّداً في سنٍ واحد إن قلنا بعدم الحَبوةِ حينئذٍ؛ فإنّ هذا غير مانع من القضاء، بل يجب عليهم موزّعاً بالنسبة وما يبقى منه لا يقبل الانقسام يصير على المتعدد، كفرض الكفاية.

ح) أن يكون ما فات الأب من الصلاة والصيام وقع عمداً، فإنّ الولد يُحبى مع جمعه للشرائط ولا يقضي على قولٍ.

ط) أن يتبرع بالقضاء مُتبرّع قبل فعل الولي، فإنّه يُحبى ويسقط عنه القضاء.

ي) أنْ يكون الولدُ خُنثى إذا قلنا إنّه يُحبى بنصف الحَبوة، فإنّه لا قضاء عليه لاختصاصه بالذكر، ويُحتمل قويّاً أنْ يقال بوجوب نصف القضاء عليه أيضاً؛ لأنّ ذلك لازم فرضه ذكراً كما لزمه نصف الحَبْوَة. ولو قلنا لا يُحبى فلا قضاء عليه.

ويُحتَملُ عكس الأوّل وهو وجوب القضاء عليه دون الحبوة، لو قلنا بوجوب القضاء على غير الذكَرِ لو فُقد. وبالجملة فالضابط ثبوت القضاء مع تخلّف الحَبوة لفقد شرط من الشروط أو بالعكس.

فهذا ما اقتضاه الحال من الكلام على هذه المطالب الستّة.

ص: 482

عشر مسائل فيما تتعلق بالحبوة واستحقاقها

وبقي في المسألةِ أُمور:

أ شَرطَ ابن حمزة في استحقاق الحبوة - مضافاً إلى ما تقدّم - أنْ يُخَلَّفَ الميّت تَرِكةً غيرَها(1)، وتَبِعَهُ على هذا الشرط ابن إدريس(2)، وأكثر المتأخّرين(3). وكلامُ الشيخين وجماعة خال عنه، وكذلك النصوص على ما رأيت وربما عُلِّلَ الاشتراط باستلزامه - على تقدير أن لا يُخَلَّفَ غيرها - الإجحاف بالورثة، والإضرار بهم، وبأنّ الحبوة تُؤذِنُ بإبقاء شيءٍ آخَرَ، وفي رواية شعيب ما يؤذن به؛ لأنّه قال: سألته عن الرجل يموت ما لَه مِنْ متاع بيته ؟ قال: «له السيف...» إلى آخره(4). فإنّ «مِنْ» تؤذن بأنّ الحَبْوَة بعضُ المتاع. وفيه نظر؛ لمنع الإضرار بذلك مطلقاً وعلى تقديره فقد يثبت حيث يُخَلِّفُ غيرها أيضاً، ولأنّ الحقّ - إذا ثبت بالنصّ أو الإجماع أو هما - لا يقدَحُ فيه الإضرار والإجحاف بغير المستحق، كما إذا أجْحَفَ سهم الذكر بالأُنثى لِضَعْفها وحاجتها، وكذا غيره من سهام الورثة. والحبوة العطية للمحبوّ أعمّ من مصاحبتها لشيءٍ آخَرَ والعبرة في الرواية بالجواب وهو لا يدلّ على اعتبار شيء آخَرَ، والسؤال ليس صريحاً فيه، مع قصور الرواية عن إثبات مثل هذا الحكم وتقييد الصحيح والحسن من الأخبار. وفي الدروس نسب اشتراطه إلى ابن إدريس

ص: 483


1- الوسيلة، ص 387.
2- السرائر، ج 3، ص 258.
3- كالمحقّق في المختصر النافع، ص 269؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 362.
4- الفقيه، ج 4، ص 347. ح 5750 : تهذيب الأحكام، ج 9، ص 276، ح 999 : الاستبصار، ج 4، ص 145، ح 544.

و ابن حمزة ساكتاً عليه مؤذناً بتمريضه(1). وحاله ما قد رأيت.

ب) على تقدیر اشتراطه هل يكفي بقاء شيء متموّل من التركة أم لا بدّ من كونه كثيراً بحيث يحصل به الغرض من دفع الإضرار وزوال الإجحاف ؟ الذي يقتضيه أصل الاشتراط هو الأوّل، لتحقق الشرط وهو أن يترك شيئاً غيرها والأصل عدم اشتراط شيء آخر والتعليل يدلّ على الثاني، إلّا أنّ اعتباره مطلقاً مشكل؛ لأنّ أعيان الحبوة قد تكون نفيسةً غالية الثمن جداً فلابدّ من اعتبار شيءٍ كثيرٍ في مقابلتها للورثة ليزول الإجحاف، وأين هذا من إطلاقهم اشتراط أنْ يُخَلَّفَ الميّت غيرها ؟! ولقد كان اللازم للمُشترط أن لا يَجْعل الشرط تخليفه غيرها، بل تخليفه شيئاً كثيراً يُحَصِّلُ الغرض، وهو أمرٌ آخر.

ثم على تقدير اعتبار ذلك كلّه لو تعدّد الورثة بحيث كان أصل التركة المنقسمة عليهم كثيراً يدفع الإضرار ويزيل الإجحاف بهم جملة. لكن ما يصيب كلّ واحدٍ منهم من الحصة لا يقاوم الحَبْوَة على وجه يندفع الإجحاف بذلك السهم، ففي اعتبار الجملة أو الأفراد نظر؛ من تحقّق الشرط في الجملة. وفقده كذلك بالنسبة إلى الأشخاص. ويقوى الإشكال لو كان نصيب بعضهم يُحَصِّلُ الغرض دون نصيب الآخر. وبالجملة فكلام المُشتَرِط غير مُنقَّح وبينه وبين تعليله تدافع في موارد، ولا دليل له من جهة النصّ ليرجع إليه عند الإشكال.

ج) على تقدير اعتبار ذلك كلّه لا يُشترط كون نصيب كلّ وارث بقدر الحبوة؛ للعموم، وتحقق الوصف المذكور بدونه.

واحتمل في الدروس اشتراطه؛ نظراً إلى الإجحاف لولاه(2)، وضعفه ظاهرٌ. وعلى

ص: 484


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 296 ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10): وشرط ابن إدريس أن لا يكون سفيهاً. فاسد الرأي، وأنْ يخلف الميّت غيرها، وشرط ابن حمزة ثبات العقل، وسداد الرأي، وفقد آخر في سنّه، وحصول تركة غيرها... .
2- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 297 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

تقديره فينبغي مراعاة نصيب من ساوَى المحبوّ في الخصوصية كالولد الذكر لا مطلق الوارث كالأم والبنت؛ إذ لا وجه لاشتراط مساواتهما للابن شرعاً وعقلاً، والالتفات إلى كونه يشاركهما - بسهمه في باقي التَرِكَةِ فيُجْحَفُ بهما من جهة هذه الزيادة - لا يوجب الحكم بكون نصيبهما من التركة بمقدار الحَبْوَة.

د) لو كان على الميّت دينٌ مُستغرق للتَرِكَةِ أجمعَ حتّى الحَبْوَة فالأجودُ أنّه مانع منها؛ لأنّ الحَبْوَة اختصاص في الإرث لاحقُّ متعلّق بهذه الأعيان برأسه، والدينُ مُقدَّم على الإرث بالنصّ والإجماع وهي من جملته. ثمّ يُبنى على انتقال التركة إلى الوارث على تقدير الدين وعدمه. فإن قلنا بعدم انتقالها إليه فالحَبْوَة وغيرها من أعيان التركة سَواءٌ في صرفها في الدَينِ وعدم خصوصيّة المحبو، وإن قلنا بالانتقال انتقلت إلى المَحْبُوِّ ومُنِعَ من التصرف فيها كما يُمنَعُ من التصرّف في سهمه من غيرها إلى أنْ يُوفي ما يَخُصُّها مِن الدّينِ فيَخْتَصُّ بها. ولو لم يَفُكَّها الولدُ فبَذَلَ باقي الورثة الدين، ففي كونه كبذلهم له بالنسبة إلى سهمه فلا يستحقه حينئذٍ، أو يُفرّق بينهما فيستحِقُ الحَبْوةَ خاصَّةً، وجهان :

من عدم الحكم بثبوتها ابتداءً مطلقاً وبشرط عدم فكه وهما حاصلان، وما بذله الورثة من الدين بمنزلة أخذ الديّانِ لها؛ لأنّ تلك معاوضة جديدة على التركة.

ومن زوال المانع حينئذٍ؛ لتحقّق التركة وصدق كون المورث قد ترك الأعيان المذكورة مع عدم مانع من الاختصاص.

واستقرب ب في الدروس اختصاصه بها على تقدير افتكاكه لها وقضاء الورثة الدّينَ من عين التركة(1). ولا يخلو من إشكال؛ لِما بيّناهُ من أنّها إرث خاص. وأداء بعض الورثة الدين لا يوجِبُ الاشتراك في التَرِكَة إلّا أنْ يُوفَي بغير إذنهم مع عدم امتناعهم من وفاء ما يُصِيبُهم منه، فيتجه حينئذٍ ذلك؛ لأنّ دافع الدين حينئذٍ كالمتبرع على الورثة بقضائه

ص: 485


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 297 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

فيزول المانع من الإرث فالتفصيلُ حسنٌ.

ه) لو كان الدينُ مُستغرقاً لِما عَدا الحَبْوة من التركة خاصةً احتُمِلَ استحقاق الولد لها، بناءً على عدم اشتراط أن يخلف غيرها، تنزيلاً لما عداها منزلة المعدوم بسبب تعلّق الدين، فتكون الحبوة للولد كما لو لم يكن غيرها من غير دين بل هنا أولى، إذ لا نفع للوارث أصلاً على تقدير العدم بخلافه هنا لانّتفاعه بعين التركة إن شاء مع دفعه القيمة، وقد يتّفق لخصوصيات الأعيان نفعٌ في الجملة فيكون أولى من العدم الذي هو غير مانع منها. وعدمه؛ لأنّ الدين يتعلّق بعد الموت بالتركة على سبيل الشياع من غير خصوصيّة والحَبْوَة من جملته، فلابدّ أنْ يخصها من الدين شيء قضيّةً للتعلّق الشائع. وبهذا يُفرَّقُ بينه وبين ما لو لم يكن هناك دين ولا تَرِكَة غيرها. فلا يستحقّها أجمعَ إلَّا إذا بَذَلَ ما يَخُصُّها من الدّين. وهذا أظهر.

والوجهانِ آتيان فيما لو استغْرَقَ التَرِكَةَ وبعض الحبوة بالنسبة إلى ما يبقى منها؛ لانتفاء المانع منه على ذلك التقدير، إذ لا يُشترط في استحقاقها وجود جميع أعيانها، بل يستحقُ الموجودَ منها وإنْ لم يكنْ ثُمَّ دَين. فإذا فرض وتعلّق ببعضها لم يَقْصُرْ ذلك البعضُ عن المعدوم كما تقدّم، فيدخل في العموم. وربما أتى الوجهان فيما لو قَصُرَ الدينُ عنها أجمعَ بحيث تبقى بعده بقيّة من التركة على تقدير اشتراط أنْ يُخَلَّفَ شيئاً آخَرَ غيرَها، ويعتبر في الباقي غيرها ما تقدّم.

و) لو كان عليه دَين غير مُستغرق لها ولا لما عداها بل ترك ديناً في الجُملة وإنْ قلَّ، ففي منعه منها بحساب ما يَخُصُّها منه أو ثبوتها مطلقاً وجهان من عموم الأدلّة الدالّة على اختصاصه بهذه الأشياء، من غير تقييد، فتشمل المتنازع؛ ولعدم تحقّق الإضرار بالورثة على تقدير أن تبقى لهم بقيّة كثيرة بعد الدِّينِ فلا مانع من استحقاقها حينئذٍ، ومن تعلق الدين بالتركة أجمع من غير ترجيح. وهي من جملتها فيسقط منها بالنسبة إن لم يؤدّ الولد ما قابله من الدين. وقد عرفت أنّ الحبوة إرت خاص فيشارك

ص: 486

غيره من السهام في ذلك كما يختص بسهمين مع الأُنثى في أصل الإرث. فمجرّد الزيادة عن غيره لا يقتضي خصوصيّةً زائدة في الأحكام؛ ولعموم قوله تعالى: «مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ»(1). وهذا متَّجِة. إلا أنّ ظاهر الأصحاب عدم مانعيّته أصلاً؛ لأن كثيراً منهم ذَكَرَ مانعيَّة الدَينِ المُستَغرق ولم يتعرضوا لغيره، بل يظهر من بعضهم عدم مانعيّة غیره؛ عملاً بعموم النصوص.

ويؤيّدُ هذا الوجه إطلاق النصوص الكثيرة والفتوى باستحقاق الولد جميعَ الحَبْوَة بشرطها مع أنّ الميّت لا يكادُ يَنْفَكُّ عن دَينِ في الجُملة - وإن قل - إلا نادراً جداً، فلو أثر مُطلق الدّينِ لَنَبَّهوا على اعتباره في النصوص والفتاوى لعموم البلوى به. وأيضاً فإنّ الكفن الواجب ومؤونة التجهيز كالدين، بل أقوى منه وهي مقدّمة على غيرها من الإرث والدين والوصايا وغيرها ومتعلّقة بالتركة أيضاً على الشياع من غير ترجيح لعَينٍ على أُخرى، والحَبْوَةُ من جملتها. فلو أثر مُطلَقُ الدين في الحَبْوة لأثر الكفن الواجب ونحوه فيها فيلزم أنْ لا تسلّم لأحدٍ،البتّة، وهو منافٍ لحكمة الشارع من إطلاق إثباتها في النصوص الكثيرة من غير تقييد بذلك كلّه. هذه في الحقيقة أمورٌ واضحةً لكنّها ترجع إلى مجرّد الاستبعاد، ففي معارضتها لما سبق نظر.

ز) لو أوصى الميّت بوصايا، فإن كانت بعينٍ من أعيان التَرِكَة غيرِ الحَبوة لم تمنع منها من حيث الوصيّة؛ لبقائها سالمةً عن المعارِض وإنْ مُنعت من جهةٍ أخرى، كما لو استغرقت غيرها إذا قلنا باشتراط بقاء شيءٍ آخر من التَرِكَة أو نحو ذلك. وإن كانت الوصيّة بمالٍ مُطلقٍ - ك«أعطوه مائة درهم من مالي» - فما نفذ من الوصيّة بمنزلة الدّينِ في تأثيره في الحَبْوَة وعدمه، فإن استغرقَتِ التَرِكَةَ مع إجازة الوارث صارت كالدِّينِ المُستَغرِق، وإنْ لم تستوعب فالوجهان الآتيان في الدين لشيوعها في جميع

ص: 487


1- النساء (4): 11.

التركة على السواء، ومن هنا يقعُ الاستبعاد أيضاً في تشطير(1) الحبوة؛ لعدم انفكاك الناس غالباً من الوصايا في الجملة مع إطلاق النصوص والفتاوى بثبوتها من غير تفصيل، وهذا لم يُنَبِّه عليه الأصحاب ككثير مما سبق.

ح) لو أوصى الأب بصرف الحَبْوَة أجمع في جهةٍ مُباحَةٍ فالأقوى،الصحّة، كما لو أوصى بغيرها من أمواله؛ لعموم الأدلّة مع أنّها من جملة ماله. واختصاص المحبو بها بعد الموت على وجه الإرث الخاص كما سلف، فلا يمنعُ من الوصيّة. وحينئذٍ فتُعتَبَر من الثلث كغيرها لكن هنا مع زيادتها على الثلث فالأقوى اعتبار إجازة الابن خاصَّةً لاختصاصه بها كما لو كان الإرث منحصراً فيه. ويُحتمل اعتبار إجازة الجميع لإطلاق النصوص والفتاوى بأنّ ما زاد من الوصيّة عن الثلث يُعتبر في إجازة جميع الورثة. والأظهر أنّ هذا الإطلاق مقيّد بالمستحق كما لا أثر لإجازة غير الوارث. نعم لو كان لباقي الورثة فيها حقّ - كما لو لم يكن غيرها، أو ما لا يكفي في نفوذها أجمع على ما سلف - فلا شُبهة في اعتبار إجازة الجميع.

ط) لوكانت الوصيّة بصرفها أو بعضها في واجب مقدَّم على الإرث - كما لو أوصى بتكفينه في قميصه أو إدراجه في عمامته في موضع الإزار ونحو ذلك - فإن لم تكن هناك تَرِكَةٌ غيرُها ولم نجعله مانعاً، أو كان ما يُعتبر في نفوذها، صحت الوصيّة وقدمت على الحَبْوَة إِنْ لم تزد قيمة الموصى به عمّا يجب صرفه في الكفن الواجب كميةً وكيفيّةً، وإلا اعتُبِر الزائد من الثلث وإن كان هناك تَرِكَةٌ غيرُها ففي نفوذ الوصيّة وتقديمها من الأصل أو اعتبارها من الثلث وجهان من أنّ الصرف في واجب يخرج من الأصل والحَبْوَةُ من جملة التركة، فتقدّم من الأصل - كما لو أوصى بعين غيرها تخرج في وجهِ تَنْفُذُ من الأصل - ومن تحقّق الفرق بين الحبوة وغيرها من أعيان

ص: 488


1- في المعجم الوسيط، ص 482، «شطر»: «شَطَرَ الشيءَ شطراً: قسمه وجعله نصفين». وشَطَّرَ الشيء: نَصَّفَه.

التَرِكَةِ؛ فإنّ ما يَنْفُذُ من الأصل من أعيانها يفوت على جميع الورثة على السواء كما أنّه لو لم يُوصِ بها أُخرِجَ ذلك الوجه من أصل التركةِ على السواء، كذلك، بخلاف الحَبْوَة فإنّها مختصةً بأحد الوراث، فإذا قدمت الوصيّة فيها فاتت عليه خاصَّةً وإِلَّا أُخْرِجَتْ من جميع التَرِكَةِ وفاتت على الجميع، وهذا هو الأجود فتُعتَبَرُ الوصيّة من الثلث مطلقاً ويتوقّف الزائد على إجازة المحبو خاصَّةً.

ي) لوكانت هذه الأعيانُ أو بعضُها مرهونةٌ على دين على الأب، قُدِّمَ حقٌّ المرتهن على الولدِ ورُوعي في استحقاقه افتكاكها من الرهن ولا يجب على الوارث فكها؛ للأصل. وحينئذٍ فللولد أن يَفُكّها من ماله ليختصّ بها، ولا يرجع بما غرم على التركة لتبرُّعه بالأداء. ولو افْتَكَّها الوارث ففي استحقاق الولد لها حينئذٍ ما تقدّم فيما لو قضى الدين المانع منها، وأولى بالاستحقاق هنا إذا لم يكن الدينُ مُستغرقاً.

فهذا ما اقتضاه الحال الحاضر من بحث هذه المسألة على ضيق المجال واشتغال البال، ونسأل من الجواد الكريم المسامحة عند الهفوة، والعفو عن الزلّة، فيما طَغَى فيه القلم، أو زَلَّ فيه الفكر؛ إنّه غَفورٌ رَحِيمٌ.

واعلَمْ أنّ الأولى عندي لمستحِقِّ الحَبوة أن لا يأخذ منها شيئاً؛ لكثرة ما يرد عليها من الشُبهات بحيث لا يكادُ يَسْلَمُ منها فرد من أفرادها كما قد عرفت.

والحمدُ للّه تعالى حقَّ حمده، وصلاته على خير خلقه محمدٍ وآله وصحبه وسلّم. وفَرغ منها مؤلّفها الفقير إلى عفو اللّه تعالى وجُودِه وكَرمه زين الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي (عامَلَهُ اللّه تعالى برحمته، وتجاوز عن سيّئاته بمغفرته) يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر ذي الحِجَّة الحرامِ عامَ ست وخمسين وتسعمائة حامداً للّه تعالى مصلياً على رسوله وآله، مُسلّماً مُستغفِراً.

ص: 489

ص: 490

القسم السابع: أجوبة المسائلِ

إشارة:

ويَضُمُّ سبعَ رسائل:

(1) أجوبة مسائل شكر بن حمدان

(2) أجوبة مسائل السيّد ابن طرّاد الحسيني

(3) أجوبة مسائل الشيخ زين الدين بن إدريس

(4) أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زَمْعة المدني

(5) أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي

(6 أجوبة مسائل السيّد شرف الدين السماكي

(7) أجوبة المسائل النجفيّة

ص: 491

ص: 492

24. أجوبة مسائل شكر بن حمدان

إشارة:

تحقيق

عليّ أوسط الناطقي

مراجعة

أسعد الطيّب - رضا المختاري

ص: 493

ص: 494

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذه مسائلُ من الحقير الفقير المملوك شُكرِ بن حمدان إلى سيّدنا الإمامِ العلّامة، قُدْوَةِ العلماء المحقّقين، ورئيس الفضلاء المدققين، وحيد دهره وفريد عصره، زين الملّة والحقيقة والشريعة والدنيا والدين ابن عليّ (متَّعنا اللّه بطول بقائه، ووفقه اللّه تعالى لما يُحِبّهُ وَيَرضاه).

[1] ما يقول سيدنا (دام فضله) إذا مَرَّ بآية رحمة أو آيةٍ نِقْمَةٍ أو ذكر نبيّ، هل يجوز له أن يقطَعَ القِراءةَ وَيَدْعُو بما يطابق معنى الآية من سؤال رحمة والاستعاذة من نِقْمَةٍ، والصلاة على النبي، ثم يعود إلى القراءة ؟

الجواب: يجوز ذلك كلّه ما لا يَخْرُج به عن كونه مصلِّياً أو قارئاً.

التوبة الصادقة ثم الوقوع في المعصية

[2] ما يقول سيدنا (دام ظلّه) في العبد إذا تاب تَوْبَةٌ مستكملة لشرائط التوبةِ ثمّ ابتُلي بعد ذلك فوقع في المعصية ومات على غير تَوْبَةٍ - نعوذُ باللّه من ذلك - فهل يُؤاخَذُ بالذنوب التي كانت قبل التوبة وبعدها، أم لا يُؤاخَذُ إلا بالذي أحدثه بعد التَوْبَةِ، وَذُنُوبُه [التي سلفت](1) سقطت بتَوْبَتِه ؟ أوضح لنا ذلك. وهل يكون كذلك إذا تاب ثمّ نَقَضَ كلّ ما تاب مُحِيَ عنه السالف ولا يعود إليه أم لا ؟ بَيِّن لنا ذلك، تاب اللّه عليك.

ص: 495


1- ما بين المعقوفين أضفناء من أجوبة المسائل المهنائيّة، ص 29، المسألة 15؛ فإن كثيراً من مسائل السائل هي نفس مسائل السيّد مهنّا بن سنان.

الجواب: التَوْبَةُ بشرطها تُسقِط الذنوب الماضية، وإنّما يَستَحِقُّ عقوبةَ ما تَجدَّد خاصةً، سواءٌ تَكَرَّر منه التوبة والذنبُ أم لا. وقد ورد أَنَّ: «العائد في الذنب بنقض التوبة كالمستهزئ بربّه»(1)، وهو مُشعِرٌ بقوّة الذنب المتأخّر وَزيادة عقابِه، ولا دلالَةَ [فيه] على إبطال التوبة.

[3] ما يقول مولانا العلّامة (دام ظلّه) فيمن غَسَل وَجْهَهُ بيديه جميعاً في حال الوضوء هل فيه كراهيةٌ أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: نعم يُكْرَه لغير تقيّةٍ.

[4] ما يقول سيدنا العلّامة (دام فضله) فيمن يعتقد ربّاً، ويوجب له صفات الكمال ويُنَزِّهُه عن صفاتِ النقصان على الإجمال والتقليد، وَيَعْتَقِد نبوّة نبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وإمامة الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وَيَعْتَقِد جميع ما يجب اعتقادُه من البعث والجنة والنار، وكلُّ ذلك يَعْتَقِد تقليداً أو تسليماً من غير نظرٍ لا مجملاً ولا مفصّلاً، هل يكون بهذا القدر مؤمناً ناجياً في آخرته، مقبول العبادات، مستحقاً للثواب عليها، أم لا يكون كذلك ؟ وما القدر الذي لا بدّ من معرفته في هذا الباب ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب التقليد الصرفُ في هذه المعارف غير كافٍ في استحقاق الثوابِ والخَلاصِ من العقاب، بل لابد من استناد المعرفة إلى دليل وإن قل، ولا يُشترط كونه بشرائط الحد والبرهان على الوجه الذي ذكره العلماء؛ فإنّ ذلك من فروض الكفايات لا الأعيان، والأغلب فى عامة الناس أن معارفهم مستندةٌ إلى دليل لكن لا يُمكنهم التعبير والعبارةُ غيرُ شرطٍ.

[5] ما يقول سيدنا (دام ظلّه) في الذي ينتهي حاله من الخوف إلى التسبيح بدلاً من الصلاة، هل يحتاج إلى تكبيرة الإحرام عند نيّة ذلك، وإلى السلام عند الفراغ منه، أم

ص: 496


1- الكافي، ج 2، ص 435، باب التوبة، ح 10: عن جابر، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سمعته يقول: «... والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ».

لا يحتاج إلى ذلك ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: لا بد من النيّة والتكبير أوّلاً والتشهّد أخيراً، ويُجْزِئُ التسبيح عن ما عدا ذلك من الأفعال والكيفيّات؛ ولو قلنا بوجوب التسليم فلابدّ منه أيضاً.

من عبارات التشهد الأخير في الصلاة

[6] ما يقول سيدنا العلّامة (طال عمره) في ابتداء التشهّد الأخير في الصلاة، يقول: «التحيات للّه والصلوات الطيّبات المباركات للّه» وما يتبع من غير أن يقول: «السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين» هل في ذلك كراهيةٌ أم هو مستحب؟ أم الأولى أن يقول: «بسم اللّه وباللّه والأسماء الحسنى كلها للّه» فهل ورد في هذا أمرٌ أو خبرٌ؟ أفتنا،مأجوراً، آجرك اللّه أجر المحسنين.

الجواب: التحيات في التشهّد الأخير مسنونةٌ، وعبارتها في كتب الأصحاب مشهورة(1).

[7] ما يقول سيدنا العلّامة (دام ظلّه) في المصلّي إذا انكشفت عورته في أثناء الصلاة ثمّ سَتَرهَا هل تَبْطُلُ صلاتُه أم لا ؟ وهل لو تَعمَّد كَشْفَها ثم سَتَرَها يكون الحال كما لو انكشفت بغیر اختياره أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب : كَشْفُ العورة للمصلّي عمداً تُبطِلُ الصلاة قولاً واحداً، وإنّما الخلافُ في انكشافها بغير اختياره أو ناسياً، والأقوى فيهما عَدَمُ الإبطال، لكن تجب المبادرة إلى الستر، فإنْ أَخَلَّ بها مع الإمكان بطَلَتِ الصلاةُ كالعامد.

مسألة في الصابون إذا جهل صانعه

[8] ما يقول سيّدنا الإمام العلّامة في الصابون إذا جُهِلَ عامله، فهل يكون طاهراً أم لا ؟ ولو تَنَبَّس هل يقبل التطهير بغَسْلِ الموضع الذي لاقته أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: الأصل فيه وفي أمثاله الطهارة إلى أن يُعْلَم خلافُها، ويقبل التطهير حال كونه من الجامدات؛ وما فيه من اللزوجة غيرُ مانعٍ من قبول الطهارة بالقليل، وأما بالكثير فلا إشكال.

ص: 497


1- المقنع، ص 95: الفقيه، ج 1، ص 318، ذيل الحديث 944.

[9] ما يقول سيّدنا الإمام العلّامة (دام ظلّه) فيمن أصبح جُنُباً متعمداً، هل يصحّ صَومُه نَدْباً غير معيّن أم لا ؟ وإذا احتلم في النهار وهو صائم ندباً هل يبطل صومه أم لا ؟ افتنا مأجوراً.

الجواب: الصوم المندوب كالواجب في ذلك كله، فلا يَنعَقِدُ من متعمد الإصباح بالجنابة، ولا يَبطُلُ بالجنابة الطارئة في أثناء النهار بغير اختياره.

[10] ما يقول سيّدنا العلّامة (زيد توفيقه) في محمّد بن الحنفية، هل كان يقول بإمامة أخويه وإمامة زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أم لا ؟ وهل ذكر علماؤنا له عذراً في تخلفه عن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعدم نصرته له أم لا ؟ أوضح لنا ذلك.

الجواب: محمد بن الحنفية (رضي اللّه عنه) كان مستقيماً، وذكره الأصحاب(1) في كتب الرجال ونَصُّوا على توثيقه وما يظهر من بعض الأخبار(2) [من] خلاف ذلك فله محامل وتأويلات لا يَسَعُ هنا تفصيلها. وأمّا تخلُّفه عن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فعذره مشهور في الأخبار وكتب السير؛ فإنّه كان لِزَمانَةٍ فى رِجْلَيْه(3).

[11] ما يقول مولانا (دام ظلّه) فيمن يروي حديثاً عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، هل يجوز أن يقول: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) كذا، مع أنه لا يعلم يقيناً أن سيّدنا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال، أم لا ؟ وكذا: روي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، أو : يُروى عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، أو : روي عن أحد الأئمّة ؟ أوضح لنا ذلك.

(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) الجواب: العلم غير شرط في جواز الرواية، وإنما المعتبر صحّة الطريق وإن كان من طريق الآحاد ومن لم يكن له الطريق صحيحاً أو كان مجهولاً - كما يَتَّفِق لمن لا يَعْلَم بالطريق - فليشر إلى ما يَدُلُّ على ذلك، كقوله: رُوِيَ عن فلانٍ عن النبيّ كذا، أو: رُوِيَ

ص: 498


1- اختيار معرفة الرجال، ص 70، ح 125، وص 120، ح 192 : وانظر الفصول المختارة، ص 300؛ والإرشاد ص 201 - 202 (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد، ج 2 و 11)؛ ولمزيد الاطّلاع راجع قاموس الرجال، ج 9، ص 243 - 247، الرقم 6671.
2- الكافي، ج 1، ص 348، باب ما يُفْصَلُ به بين المحقّ والمبطل في أمر الإمامة، ح 5.
3- انظر أجوبة المسائل المهنائية، ص 38، المسألة 33.

الكتاب الفلاني كذا، أو نحو ذلك.

[12] ما يقول سيدنا العلّامة (دام ظلّه) فيمن نَوى الصوم إمّا واجباً أو ندباً، ثمّ نوى الإفطار وعَزَمَ عليه ولم يُفْطِرْ، هل يحتاج إلى تجديد النيّة أم النيّة الأُولى كافية ولا تأثير لنيّة الفطر والعزم عليه ؟ وهل في ذلك فرق بين أن تكون قبل الزوال أو بعده أم لا فرق ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: نيّة الإفطار في أثناء النهار مُفْسِدة للصوم الواجب مطلقاً قبل الزوال أو بعده، وأمّا الندب فتُفسِده النيّة السابقة، ثمّ إن بَدَأ النيّة قبل الغروب صح صومه وإلّا فلا؛ ولو كان ذلك قبل الزوال في المندوب فهو صحيح إجماعاً.

[13] ما يقول مولانا (دام ظلّه) في المريض إذا بَرِئَ بعد الزوال في يوم من شهر رمضان، والمسافرِ إذا قَدِمَ بعد الزوال، ولم يكن أحدهما تناوَلَ شيئاً ولا نوى الصوم قبل الزوال، هل يجوز لهما الإفطار والحالة هذه أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: لا شبهة في جواز الإفطار والحال هذه.

عقص الشعر والقول فيه

[14] ما يقول سيدنا (دام ظلّه) في الشَعْرِ المعقوص كيف صفته ؟ هل هو عَقْصُ الشَعْرِ ولَفُّه إلى خلف ؟ أم هو عقصه من قدّام على الجبهة كما تفعله نساء العرب؟ وهل يَذْهَب مولانا إلى جواز الصلاة معه أم لا ؟ وهل يختصّ بالرجال أم يَدخُل فيه النساء ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: عَقْصُ الشعر جمعُهُ في وسط الرأس وشدُّه(1)، والأقوى كراهته للرجل(2). وأمّا المرأة فلا كراهة في حقها ولا تحريم قولاً واحداً.

[15] ما يقول مولانا وسيدنا (دام ظلّه) فيمن وجب عليه غَسْلُ يدِهِ من لمسِ مِيتَةٍ غير الآدمي أو من قطعةٍ أبينت من حيٍّ، هل تصحُّ صلاته قبل غسل يده أم لا؟ وفيمن وجب عليه الغُسل مِن مسِّ الميّت من الآدمي بعد بَرْدِه بالموت، هل يَحرُم عليه ما يَحرُم

ص: 499


1- المُغْرِب، ص 323؛ المعجم الوسيط، ص 615، «عقص».
2- خلافاً للشيخ في الخلاف، ج 1، ص 510، المسألة 255، فإنّه قال: لا يجوز للرجل أن يصلّي معقوص الشعر.

على الجنب أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: لا تَصِحُ الصلاةُ قبلَ غَسْلِ اليد المذكورة، وعَدمُ غُسْلِ [مس] الميّت لا يمنعُ الصوم ولا دخول المساجد المحرمين على الجنب.

[16] ما يقول مولانا (دام ظلّه) في الجُلَيْداتِ الصغار التي تَطْلَع قُرْبَ الأظفار ويُوْلَعُ الإنسانُ بقطعها، حتّى ربّما اتّفق ذلك في الصلاة، هل يَجِبُ غَسْلُ اليد منها، وتَبطُلُ الصلاة بقطعها أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: الظاهر أنّ ذلك معفو عنه، ولا تبطل الصلاة بقطعها.

[17] ما يقول مولانا فيمن يُصَلِّي الفريضة من غيرِ إخلال بشيءٍ منها، لكنَّه لا يَعلَم الواجب من ذلك من الندب أو يَعْتَقِد [وجوب] الجميع، هل تصح صلاته والحالة هذه أم لا ؟ وهل العِلمُ بواجبات الصلاة شرط في صحّة الصلاة أم لا ؟ وهل تَجِبُ معرفةً الأركان من الواجبات بحيث تُعَدُّ شرطاً، أم يكفي معرفة الواجبات في صحّة الصلاة، ومعرفة الأركان من الواجبات من فقه الصلاة [و] ليس من شرط صحّتها ؟ أفتنا مأجوراً آجرك اللّه أجر المحسنين.

الجواب: لابدّ في صحّة الصلاة من مَعْرِفةِ واجبها من مندوبها وإن لم تجب معرفة المندوب ؛ ومعرفَةُ الواجب منها شرط في صحّة الصلاة. وأما معرفة الأركان من غيرها فالظاهرُ أنّه ليس بشرط في صحّة الصلاة وإن كان واجباً في الجملة.

[18] ما يقول سيّدنا الإمام العلّامة (دام ظلّه) فيمن يَعْتَقِد التوحيد والعدل والنبوة والإمامة تقليداً جازماً لا يرجع عنه، ولكنه لا يقدر على إقامة دليل على ذلك، ولا يَعرِفُ الدليل أيَّ شيءٍ هو مع كونه قادراً على النظر، هل يكون مؤمناً بهذا الاعتقاد ومثاباً عليه أم لا ؟ دام ظلُّكم علينا.

الجواب: إقامة الدليل اللفظي غيرُ شرط في الإيمان، بل يكفي انقداحُه في النفس بحيث تطمئِنُّ إلى مدلوله بأيِّ وجهٍ اتّفق كدليل العجوز ونحوه. وأمّا التقليد المحض

ص: 500

فغير مجزيٍ ولا موجبِ للإيمان.

[19] ما يقول سيدنا ومولانا فيما ورد في ولد الزنى من الأخبار كالرواية التي فيها: سألته عن غسالة الحمّام فقال: «إنّه يدخله اليهودي والنصراني والناصب وولد الزنى وهو شَرُّهم»(1) وإجماع الطائفة على أنّه لا تجوز إمامته ولا تُقبل شهادَتُه (2). ومذهب السيّد المرتضى (رحمه اللّه) ومَن تَبِعَه في ذلك معروف(3)، فهل تقتضي هذه الأشياء عَدَمَ إيمانه، وأنّه إذا عَلِمَ ما يَجِبُ عليه عِلْمُه وَعَمِلَ بما يجب عَمَلُهُ وتَرَكَ ما يجب تركه لا يكون بذلك مؤمناً ولا مقبولَ العَمَل ولا يُثاب على أعماله فلا يَدْخُلُ الجنَّةَ ؟ فإن كان الأمر كذلك فبأي وجهٍ تَحْبَطُ أعماله ؟ أوضح لنا دامت أيّامك.

الجواب: الأصحّ أنّ ولد الزنى كغيره يصحّ أن يكون مسلماً مؤمناً إذا اعتقد ما يوجب ذلك، وعدم جواز إمامته وقبول شهادته وقضائه دليل على ذلك؛ لأنّ المراد إنّما هو مع كونه مؤمناً؛ إذ لو كان كافراً لم يكن التعبير بكونه ولد الزنى وما ورد من الأخبار الموهمة(4) بخلاف ذلك مُؤَوَّلةٌ بما يدفع المنافاة بينها وبين ما دلّ على قبول إيمانه من الكتاب والسنّة(5) ودلالة العقل.

ص: 501


1- الكافي، ج 1، ص 498 - 499، باب الحمام، ح 10: «ويغتسل فيه ولد الزنى والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم»؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 373، ح 1143: «فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب و ولدالزنى والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم»؛ علل الشرائع، ص 292 باب آداب الحمام، ح :...، وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمام. ففيها يجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم» وليس فيه «ولد الزنى».
2- لمزيد الاطلاع راجع الفقيه، ج 1، ص 378، ح 1106؛ والخلاف، ج 1، ص 548 المسألة 287؛ ومختلف الشيعة، ج 2 ص 483، المسألة 343.
3- الانتصار، ص 158 المسألة 56، وص 501 المسألة 275؛ جمل العلم والعمل، ص 74.
4- الكافي، ج 3، ص 14، باب ماء الحمام والماء الذي تسخنه الشمس، ح 1: «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام فإنّ فيها غسالة ولد الزنى وهو لا يطهر إلى سبعة آباء».
5- المراد عموم الآيات الدالّة على فلاح مَنْ عمل صالحاً مع الإيمان في سُور القصص (28): 67: مريم (19): 68: البقرة (2): 62: وللأخبار الواردة في معنى الإيمان، راجع الكافي، ج 2، ص 25 - 27، باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام، والإسلام لا يشرك الإيمان.

و تحقيق المقام لا يتحمله هذا المحلّ.

تعريف الكعبين اللذين يُمسحان من القدم

[20] ما يقول سيدنا (دام ظلّه) في الكَعَبَينِ اللذَيْنِ يجب المسح عليهما؛ فإنّ المعروف من مذهب الأصحاب أنّهما قُبَّتا القدم عند مَعْقِد الشراك، وبعض العلماء يقول: «إنّهما مَفْصِل الساق من القَدَم»(1)، فما الحجّة في ذلك ؟ وما حكم من اقتصر على مَعْقِدِ الشراك ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: المعتمد أنّهما قُبَّنا القدم، بل ادّعى جماعةٌ من الأصحاب عليه الإجماع منهم الشيخ في التهذيب، والمحقّق في المعتبر، والشهيد في الذكرى(2)، ولا دليل أوضحُ من الإجماع المنقول بخبر مثل هؤلاء الأعيان.

وأمّا دليله من جهة اللغة والأخبار فكتب مشروحاً في محلِّه(3)؛ بل أفرَدَ له عميد الرؤساء (رحمه اللّه)(4)، كتاباً مفرداً سمّاه كتاب الكعب.

ص: 502


1- القائل هو العلّامة الحلّي، راجع قواعد الأحكام، ج 1، ص 203؛ وتذكرة الفقهاء، ج 1، ص 170، المسألة 51؛ ومختلف الشيعة، ج 1، ص 125 المسألة 78؛ وإرشاد الأذهان، ج 1، ص 223؛ وأجوبة المسائل المهنائية، ص 69، المسألة 93.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 74 - 75: المعتبر، ج 1، ص 148؛ ذكرى الشيعة، ج 2، ص 65 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6).
3- قال الشهيد الثاني (رحمه اللّه) في حاشية إرشاد الأذهان، ص 7 (ضمن الموسوعة، ج 17): الأقوى أنهما قُبَّتا القدمين وهما الناتئان في وسطه عند معقد الشراك. وقد تعرّض للمسألة مفصلاً مع ذكر الأقوال في روض الجنان، ج 1، ص 101 - 103 (ضمن الموسوعة، ج 10)؛ ولمزيد الاطلاع حول المسألة وبيان وجوه الاختلاف راجع الحبل المتين، ص18 - 22.
4- هو الشيخ رضي الدين هبة اللّه بن حامد بن أحمد بن أيوب بن علي بن أيوب، الملقب بعميد الرؤساء، والمكنّى بأبي منصور (م 610ه) كان أديباً فاضلاً نحوياً لُغَويّاً شاعراً، من صلحاء المتعبدين وأخيار علماء الإماميّة، ومن تأليفه : كتاب الكعب. وقد نقل الشهيد عنه في ذكرى الشيعة، ج 2، ص 66 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6) وقال: قال العلّامة اللغوي عميد الرؤساء في كتاب الكعب: هاتان العقدتان في أسفل الساقين اللتان تسمّيان كعبين عند العامّة، فهما عند العرب الفصحاء وغيرهم جاهليّيهم وإسلامييهم تسمّيان المَنجَمَين - بفتح الجيم والميم - والرُهْرُهَتَيْنِ - بضمّ الراءين - وأكثرَ في الشواهد على أنّ الكعب هو الناشز في سواء ظهر القدم أمام الساق حيث يقع معقد الشراك من النعل ولمزيد الاطلاع راجع معجم الأدباء، ج 19، ص 264؛ والذريعة، ج 17، ص 279؛ وج 18، ص 85.

[21] ما يقول سيدنا ومولانا (دام فضله في البسملة إذا قرأها الإنسان ولم يكن عَيَّنَ السورةَ، فقد قال الشيخ جمال الدين [بن] مطهر (رحمه اللّه): «إنّه يجب عليه إعادة البسملة إذا لم يُعيّن السورة»(1). فما الحجّة في ذلك والبسملة آية صالحة لكلّ سورة ؟

الجواب: الحجّة ما ذكره (سلَّمه اللّه) من كونها صالحةً لكلِّ سورة؛ فإنّها حينئذٍ تصير مشتركةً. والمشترك لا يُحْمَل على بعض ما يَصْلَح له إلّا بمخصِّص، وهو هنا القصد.

[22] ما يقول سيّدنا العلّامة زيد توفيقه في نيّة الصلاة، هل تجب مقارنتها لتكبيرة الإحرام حتّى يكون الإنسان عاقداً لها من أَوَّلِ َألِفِ الجلالة إلى آخر راء التكبير، أم لا يجب ذلك بل الواجب مقارَنَةُ آخِرِ جزءٍ من النيّة أوَّلَ جزءٍ من التكبير ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: التحقيق أنّ النيّة لا جزء لها، بل هى أمرٌ واحدٌ بشرطه وهو القصد إلى الصلاة المعيَّنة. وما يُتَوَهَّم مِن الأجزاء إنّما هو مميزات معروضها وهو المقصود وحينئذٍ فالواجب المقارنة بالقصد إلى المعلوم المشخّص إلى ما يعتبر مقارنته له من تكبير أو غيره؛ وأما القرآن من الجلالة إلى راء التكبيرة فلا حقيقة له. ولتحقيق معنى النيّة محلّ آخَرُ (2)

[23] ما يقول سيدنا العلّامة في الحديث الذي رواه الجمهور، ورواه الشيخ أيضاً في الأمالي عن سيدنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) عن اللّه تعالى أنّه قال: «ما تَردَّدْتُ في شيءٍ أَنَا

ص: 503


1- قواعد الأحكام، ج 1، ص 275: ومع الانتقال يعيد البسملة، وكذا لو سمّى بعد الحمد من غير قصد سورة معينة؛ أجوبة المسائل المهنائية، ص 70. المسألة 95.
2- انظر رسالة النيّة المطبوعة في القسم الثاني من هذه المجموعة.

فاعله كتردّدي في قبض روح عبدِي المؤمن، يَكْرَه الموتَ وأَكْرَهُ مساءَتَه»(1) ما معنى هذا التردّد، وكيف وجه هذا الحديث ؟

الجواب: كلّ صفةٍ للّه تعالى لا يمكن حملها عليه باعتبار حقيقتها فالمراد منها الغايةُ المطلوبة منها كالمكر والكيد والجوارح ونحوها؛ فإنّ الغاية المقصودة من المكر والكيد إيقاع الممكورِ في الممكور به والمكيد من غير شعوره، وكذا الغاية المطلوبة من اليدِ القوة ومن العينِ الاطلاع والإحاطة ونحو ذلك.

وأمّا التردّد في الشيء المكروه، فالغاية منه محنه المنزلة لا مَرى(2)، ونزول الأمر وإيثار رضاه وتحمُّلُ العبد عمّا يوجب مساءته فهو العذر(3). هذا هو المراد من وصف التردّد. ومِنْ ثَمَّ عَقَبَه بقوله: «ولا يكون إلّا ما أُريد»(4). وتحقيق الكلام مستوفىً يحتاج إلى بسط في الكلام، وهذا القدر كان كافياً.

[24] ما يقول سيدنا العلّامة (دام ظلّه) فيمن نَذَرَ أنَّه كلَّما انتقض وضوره توضأ وصلّى. ثمّ أخَلَّ بذلك مرّةً بعد أخرى، يلازم برهةٌ ثم يتركُهُ ثم يلازم برهةٌ ثمّ يَتْركُهُ، فهل تجب عليه بكلِّ مَرَّةٍ تَرَك فيها الوضوء كفّارةُ خُلْفِ النذر ؟ وهذا أمر صعب! أم تلزم كفارةً عن أَوَّلِ مرّةٍ ؟ وهل كفّارةُ خُلْفِ النذرِ عند مولانا كبيرة أو صغيرة؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: هذه المسألة لا تخلو من إشكال، ولها نظائر كثيرة، والاجتزاء بكفّارةٍ واحدة - والحكم ببطلان النذر بالترك أوّل الأمر لا بغيره - وجه وجيهٌ وكفّارة النذر

ص: 504


1- صحيح البخاري، ج 5، ص 2385، ح 6137: مسند أحمد، ج 10، ص 112، ح 26253: «...ما تردّدت عن شيءٍ أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته»؛ التوحيد، ص 399، ح 1؛ الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 414، المجلس 24، ح 8؛ وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال عليّ بن الحسين زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): قال اللّه عزّ وجلّ: ما من شيء أتردد فيه مثل تردّدي عند قبض روح المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته...» الكافي، ج 2، ص 352، باب مَنْ أذى المسلمين، ح 8: عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال«.. وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله كتردّدي عن وفاة المؤمن يكره الموت وأكره مساءته»؛ وانظر مصابيح الأنوار، ج 1، ص 63.
2- كذا في المخطوطة، ولم نفهم منها معنىً محصلاً.
3- كذا في المخطوطة، ولم نفهم منها معنىً محصلاً.
4- لم يرد هذا الذيل إلّا في التوحيد، ص 399، ح 1 مع تفاوت.

كبيرة مخيَّرةٌ مطلقاً على أصحّ الأقوال.

تفسير آية

[25] ما يقول مولانا في قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَقَالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا»(1). الآية. ما وجه هذا الاستثناء ؟ وأيُّ شيءٍ نُقِلَ عن الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) فيه ؟ وأيُّ شيءٍ قال المفسرون ؟ أفتنا مأجوراً مجملاً.

الجواب الكلام في الآية يقع في موضعين أحدهما: ربط الخُلود في الفريقين على دوام السماوات والأرضِ مع أنهما غير دائمين، والغرض إثبات الدوام.

والثاني: المذكور في الإجماع على أنّ أهلَ الجنَّةِ مخلدون فيها أبداً، وكذلك الكفّار من أهل النار وهم بعض الأشقياء. وقد أُجيب(2) عن الأوّل بأمرين: أحدهما: أن المراد سماوات الآخرة وأرضُها؛ إذ لابد للناس من مكانٍ وظلّ، وقد اشتهر أنّ عرش الرحمان سقف الجنّة والكرسي أرضُها، وفي قوله تعالى: «تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ» (3) إشارة إلى ثبوت ذلك.

والثاني: أنّ ذلك إشارة إلى إثباتِ الدوام مطلقاً جدلاً على ما تَخَيَّله الناس سيما في وقت النزول من دوام ذلك؛ وقد خاطَبَ اللّه سبحانه الناس بما يَتَوَهَّمُونَه ويَفْهَمُونَه كثيراً [كما] في قوله: «أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ»(4)، ونحوه.

ص: 505


1- هود (11): 106 - 108.
2- الكشاف، ج 2، ص 430: التفسير الكبير، ج 18، ص 63، ذيل الآيات 106 - 108 من هود (11)؛ وللمزيد راجع مجمع البيان، ج 5، ص 196؛ وجوامع الجامع، ج 2، ص 167، ذيل الآيات 106 - 108 من هود (11).
3- إبراهيم (14): 48.
4- الغاشية (88): 17.

وعن الثاني: بأنّ المستثنى هو الخلود فيما تقتضيه الدارانِ من النعيم والعذاب، بمعنى: أنّ أهلَ الجنَّةِ قد يَشْتَغِلون عن النعيم - بما فيها من المأكل والمشرب والمنكح - برضوان اللّه تعالى ومطالعة كبريائه وجلاله، الذي هو أعظم الملاذ في الآخرة وأهل النار يُعَذَّبون بأحر من الإحراق(1)، وهي الإهانةُ والطردُ والتوبيخُ ونحو ذلك.

ويُحْمَل المستثنى من الخلود في الجنّة على ما يَسْبِقُ عليها (2) في الآخرة من عذاب العاصي ونحوه و [يُحْملُ المستثنى من الخلود في النار على] من يَخرُجُ من النارِ إلى الجنّة من جملة الأشقياء؛ فإنّهم أعم من الكافرين والمؤمنين.

[26] ما يقول سيدنا العلّامة في تكبير الركوع والسجود والرفع منه هل هو واجب أم لا ؟

الجواب: بل يُسْتَحبُّ.

[27] ما يقول سيِّدنا في التكبير للقيام عقيب التشهّد الأوّل هل هو واجب أم لا ؟ وفي الفصل بين القراءة ودعاء القنوت بالتكبير هل هو كذلك أم لا ؟

الجواب: لا شبهةً في عدم وجوبه، وإنّما الكلام في استحبابه على الخصوص، والأشهر أنّه غَيرُ مستحب كذلك(3)، وإنّما يَسُوعُ فعله بقصد الذكر المطلق. وأمّا تكبير القنوت فهو مسنونٌ، ومحلّه بعدَ القِراءَةِ وقبل القنوتِ.

[28] ما يقول مولانا في الركوع هل يتعيّن فيه قول: «سبحان ربي العظيم وبحمده»، وكذلك السجود هل يَتَعَيَّن فيه قول: «سبحان رَبِّيَ الأعلى وبحمده»، أم لا ؟ وهل يجب ثلاث مرّاث أم تكفي الواحدة؟ أفتنا مأجوراً.

ص: 506


1- المراد أن أهل النار لا يعذّبون بالنار وحدها، بل يعذّبون بأنواع من العذاب وبما هو أشدّ من النار.
2- الضمير عائدٌ إلى الجنّة، أي على دخولها.
3- خلافاً لشيخ المفيد (رحمه اللّه)، فإنّه استحب التكبير للقيام وأسقطه من القنوت. انظر المقنعة، ص 105 - 107.

الجواب : الأقوى الاجتزاء فيهما بمطلق الذكر المشتمل على الثناء ولا يجب تعدّده. وما ذُكِرَ من التسبيحة الكبرى فيهما هو الأفضل والأحوط، ولا يجب تعدّدها إجماعاً بل يُستحب.

[29] ما يقول سيّدنا الإمام العلّامة (دام فضله) في طبيخ حب الرمان محلّى بزبيب معتَصَرٍ مصفّى أو بعصير عنبٍ، ثمّ يحصل له الغليان مع اللحم والحوائج(1)، هل يكون حراماً أم لا ؟ أفتِنا مأجوراً.

الجواب: الأقوى أنّ طبيخ الزبيب حلال، وإن كان اجتنابه هو الأحوط والأولى. وأمّا عصيرُ العِنَبِ فيحرم بالغليان وكذا يَحْرُم جميعُ ما معه إلى أنْ يَذْهَبَ تُلُنا العصير فَيحِلُّ الجميع.

غسل الجنابة واجب لنفسه أم لا؟

[30] ما يقول مولانا (دام ظلّه) في النيّة ِللغُسْلِ والوضوء، هل تَجِبُ نيّة رفع الحدث واستباحة الصلاة والوجوبِ والقربة أم يكفي الاقتصار على أحد هذه الأربع ؟ وما الذي يُجْزِئُ الاقتصار عليه ؟ أفتنا مثاباً مفصلاً، آجرك اللّه.

الجواب: أمّا الغُسْل فلابدّ فيه من جميع ما ذكر؛ وأمّا الوضوء فالأولى كونه كذلك وإن كان [في] الاكتفاء فيه بالقربة وجهٌ قويّ.

[31] ما يقول سيدنا (دام ظلّه) في الرجل المحافظ على الصلوات التارك للمحرمات، وهو غير عارف بما يجب عليه من علم الأُصول وإن كان يعرف بعض ذلك فعلى جهة التقليد، فهل تكون أعماله مقبولةً موجبةً للثواب، أم جدّه واجتهادُه باطلٌ، وعبادتُه أَيضاً غير صحيحةٍ ولا مقبولةٍ ولامثاب عليها ؟ أفتِنا مأجوراً آجَرَكَ اللّه.

الجواب: عبادة المقلّد في الأُصول باطلة، وأعماله فاسدةٌ لا يَتَرَتَّب عليها ثواب وإنْ جدَّ واجتهد.

[32] ما يقول مولانا العلّامة زيد توفيقه في غُسْلِ الجنابة هل [هو] واجب لنفسه أم

ص: 507


1- جمع حاجة، ويريد هنا ما يُتبَّلُ به القدر.

لا ؟ فإن لم يكن واجباً لنفسه وأراد الإنسانُ أن يَغْتَسِلَ قبل دخول الوقت هل يصحّ غُسْلُه أم لا ؟ وهل ينويه مندوباً أو واجباً ؟ وهل يستبيح بذلك جميع الصلوات، كما إذا اعْتَسَلَ بَعْدَ دخول الوقتِ ؟ بيِّن لنا مفصلاً أجرك اللّه وعافاك.

الجواب: الأقوى أنّ غُسْل الجنابة واجبٌ لغيره كغيره من أغسال الحي وباقي الطهارات الواجبة، فمتى أرادَ المكلّف فِعْلَه في خلوّ ذِمّتِه من مشروط بالطهارة نَوَى الندبَ واستباحَ به ما يستبيح بالواجب.

[33] ما يقول سيدنا العلّامة (دام ظلّه) في المتطهّر قبل دخول الوقتِ على جهة الندب، هل يستبيح بذلك الوضوء جميع الصلوات أداءً وقضاء أم لا ؟ أفْتِنا مثاباً مأجوراً.

الجواب: لا شبهة في الاستباحة بالوضوء المذكور ما يستبيح بالواجب.

[34] ما يقول سيّدنا ومفيدنا (دام فضله) في المتيمّم هل يستبيح به ما يستبيح بالتطهر بالماء(1) من جميع الصلواتِ أداءً وقضاء، فرضاً ونفلاً ؟ أفتِنا مأجوراً آجرك اللّه.

الجواب: لا خلاف في استباحة المتيمم تيمّماً مشروعاً جميع الصلوات الواجبة والمندوبة، والضابط أنّه يستبيح ما يستبيحه المتطهِّرُ مِن الصلوات وغيرها.

[35] ما يقول مولانا (دام ظلّه) في النجاسة إذا وَقَعَتْ على ثوبه أو بدنه أو الإناء، فهل يجب فَرْكُ ذلك وغَسْلُه باليد ؟ أم يكفي صبُّ الماء عليه وإجالته فيه أو غطه في الماء الجاري؛ فإنَّ بعضَ الأواني لا يَتمكَّنُ [الإنسان] من غَسْلِها من إيصال يَدَيهِ إليها كالإبريق والكُوز والحُبِّ الكبير ؟ فاكشف لنا ذلك، أفتنا مأجوراً.

الجواب: الدَلك ليس بشرط في التطهير من النجاسة إن لم يكن لها جرمٌ، وإن كان لها جرمٌ فالواجب إزالته بأيِّ وجهٍ اتّفق ثمّ إن كان التطهير في الكثير كفى غَمسهُ فيه، وإن كان في القليل فلابدّ من عَصْرِ ما يُمكن عَصْرُهُ، وغيرُه يكفي صبُّ الماء عليه

ص: 508


1- العبارة في أجوبة المسائل المهنّائيّة، ص 56. المسألة 68. هكذا... هل يستبيح له [ظ: به] ما يستبيحه المتطهّر بالماء... .

وانفصاله عنه، وإن كان مُجَوَّفاً حُرِّكَ الماء فيه ثمّ يُنْزَع منه. ونحوُ الحُبِّ الكبير يُصَبُّ فيه الماء بحيث يُصِيبُ المتنجّس منه ثمّ تُخْرَج الغسالة بآنِيَةٍ أو خِرقةٍ، ولا تُعاد ثانياً إلّا بعد تطهيرها.

[36] ما يقول سيدنا ومولانا (دام ظلّه) في علم الأُصول هل تجوز استفادته من الكتب ؟ وذلك لأنّه أمر عقلي، وقد يسنح للإنسان فيه بالمطالعة في الكتب ما تجب عليه معرفته، بخلاف الفروع؛ فإنّها أمر نقلي فلا بد فيه من التلقي والنقل، فهذا صحيح؛ أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: المعتبر في المعارفِ الأُصوليّة أخذها بالدليل سواء كان من كتاب أم من لفظ الإنسان من قِبَلِ نفسه وفي الاستعانة بكتب العلماء على ذلك عَون عظيمٌ؛ كما لا يخفى. وليس ذلك بقادح في المعرفة ولا يسمى تقليداً؛ فإنّ التقليد الأخذُ بقول الغيرِ بغير دليلٍ.

[37] ما يقول سيدنا (دام ظلّه) في المسافر الذي يجب عليه القصر، هل يجوز [له] صومُ الكفّارات وقضاء شهرِ رمضان وخاصّةً إذا خشِيَ أَن يُدْرِكَه رمضانُ آخَرُ وهو مسافرُ ؟ وهل يصحّ الصومُ المندوب في السفر أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: لا يصحّ في السفر شيءٌ من الصومِ الواجب عدا ما استثني في كُتُبِ الأصحاب، وهو مشهورٌ ؛ وأمّا قضاءُ شهر رمضانَ فلا يجوز مطلقاً، بل إذا خَشِيَ دخول رمضانَ المُقبِل وأمكنَتِ الإقامة وجب وإلا فلا، والأولى ترك المندوب سفراً.

ماء غسلت به النجاسة ولم يتغيّر، هل هو طاهر أم لا؟

[38] ما يقول سيدنا الإمام العلّامة في الماء الذي تُغسل به النجاسة ويَنْفَصِل غير متغيّر، هل هو طاهرٌ أم لا ؟ وهل يجب عصرُ الثوبِ بعدَ غَسْلِه أم لا ؟ وهل يُعْصَر طريقاً أو طريقين ؟ وهل يكون الماء الذي يَخْرُجُ منه بالعصر طاهراً أم نجساً؟ فإنّه يتخلف منه كثيراً في الثوب ولا يقدر الإنسان على إخراجه. فبين لنا هذا الحكم مفصلاً.

الجواب: الأقوى أنّ ماءَ الغُسالةِ نَجِسٌ، وحكمه كالمحلّ قبلها، ولا خلاف في

ص: 509

وجوب عصرِ الثوب وشبهه إذا غُسِل بالقليل؛ ثمّ إن كانت النجاسة بولاً وجب غَسْلُه مَرَّتَين وعصره كذلك، والأولى في غيرِ البولِ ذلك. وما يَخْرُج بالعَصْرِ نجس وما يَتَخَلَّف طاهرٌ. ولو غُسِلَ في الكثير طهر من غير عصرٍ و ولا تعدّد.

[39] ما يقول سيدنا (دام ظلّه) في الإنسان إذا تَوَضَّأ وهو قائمٌ في الماء، فإذا أَكْمل وضوءه أَخرَجَ رِجْلَيه وهي تقطر ماءً فمسح عليها بنَداوَةِ الوضوء الذي في يده، ثمّ أعادها إلى الماء، هل يصحّ وضوره أم لا (1)؟

[40] ما يقول سيدنا في قول أصحابنا في البول: «إنّ أقلّ ما يجزئ في غَسْل المَخْرَج مثلا ما على الحشفة» فهل يجب غَسْلُ الموضع باليد فلا يُجْزِئُ ذلك ولا أمثاله أم يكفي صب الماء عليه من غير مباشرته باليد فيمكن أن يكون القدر المذكور يكفي(2)؟

الجواب: دَلْكُ مَوضِعِ البَوْلِ غيرُ شرطٍ في الطهارة على الأصح، بل يكفي صبُّ الماء عليه وانفصاله، والمماثلة المذكورة مؤيدة لذلك، وهي مبالغة في إجزاء القليل من الماء أو كناية عن غَسْلِ مَوْضِع البول مَرَّتَين؛ وكيف كان فالمعتبر إصابة الماء للمحل ثمّ انفصاله عنه مع ذهابِ العَيْن.

[41] ما يقول سيدنا (دام ظلّه) في الثيابِ والكاغذ الذي يُجْلَبُ من الهندِ وبِلادِ الرومِ ومن غير ذلك من البلدان، وفيها ما هو مصبوغ وغَيْرُ مصبوغ وفيها ما يقال فيه قولاً: إنه لا يعمله إلا الإفرنج كالجوخ (3) وثياب الصوف، ويجتمع ذلك كلّه في أسواق المسلمين ويُشْتَرى من المسلمين، فهل يجب غَسْلُه قبل لبسه أم لا ؟ وما قولكُم إذا اشتراه [الإنسان] ممّن يجلبه والجالِبُ مُشْرِك، هل يجب غَسْلُه والحالة هذه أم حكمُه

ص: 510


1- جواب هذا السؤال سقط من المخطوطة. وأجاب عنه العلّامة في أجوبة المسائل المهنّائيّة، ص 63، المسألة 83 بقوله: الجواب: كان والدي (رحمه اللّه) يُفتي بالمنع من ذلك. وهو جيّد؛ لأنّه يكتسب في المسح ماءً جديداً، وهو ممنوع منه.
2- هذا السؤال سقط من النسخة، وإنما أضفناه من أجوبة المسائل المهنائية، ص 58، المسألة 73.
3- الجوخ: نسيج صفيق من الصوف المعجم الوسيط، ص 145، «جوخ».

حكم ما يُشْتَرى من أسواق المسلمين، مع علمنا بأنّ أهل السوق يَشْتَرُونَه ممّن يجلبه من مشرك وغيره ؟ أفتنا مأجوراً آجَرَك اللّه تعالى.

الجواب: يجوز البناء في هذه الأشياء كلّها على الأصل - وهو الطهارة - إلى أن يُعْلَم خلافها، لكن ينبغي أن يُعْلَم أنَّ العِلْمَ ليس منحصراً بالمشاهدة، بل له أسباب كثيرة، منها الخبر المحفوف بالقرائن وإن ضَعُفَ هذا الخبر؛ فإنّ القرائن الخارجيّة قد توجِبُ العلم بمضمونه. وتحقيق ذلك بالأُصول.

مسألة في الزكاة

[42] ما يقول سيّدنا (دام ظلّه) فيمن عنده - مثلاً - ألفا دينارٍ مسكوكة وحال عليها الحولُ، فأخْرَجَ زكاتها ثمّ بقي الباقي بعد إخراج الزكاة على حاله حتّى حال عليه حول آخَرُ، هل يجب عليه إخراج الزكاة طريقاً ثانياً ؟ وكذلك كلما حال عليه الحولُ أُخْرِجَ منه الزكاة؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: نعم، تَجِبُ الزكاة في المال المذكور ما دامَ النصابُ حاصلاً فيه وإن بَقِيَ أحوالاً كثيرة، وهذه بخلاف الخمس فإنّه لا يَتَكَرَّر فى المال الواحد.

[43] ما يقول مولانا (دام ظلّه) فيمن أخل بجزءٍ من غَسْلِ وجهه أو يَدَيْه في الغَسْلَةِ الأُولى ثمّ أعاد الثانية على جهةِ الندب، فقد ذُكِرَ في ذلك في كتاب القواعد إشكالٌ(1)، ما وجه الإشكال في ذلك، وقد جاءَ في الرواية (2) أن الثانية تأتي على ذلك كلّه ؟ فأوضح لنا ذلك.

وما قوله لو كان الوضوء قبل دخول الوقتِ [على وجه الندب] وأخلّ بجزءٍ في الغَسْلَةِ الأُولى، هل يرد هذا الإشكال أم لا؟ وعلى هذا الإشكال ينبغي أن تَعُمّ الغَسْلَةُ الأولى جميع العضو والثانية كذلك، وإلّا يَحْصُل التبعيض في العضو الواحد

ص: 511


1- قال في قواعد الأحكام، ج 1، ص 201: لو أغْفَلَ لُمْعَةٌ في الأُولى فانغسلت في الثانية على قصد الندب فالأقوى البطلان.
2- لم نعثر على رواية خاصة، وإنّما ورد هذا التعبير في سؤال السيّد المهنّا للعلّامة. أنظر أجوبة المسائل المهنّائيّة. ص 46، المسألة 49.

فيكون بعضُه مغسولاً واجباً وبعضُه مندوباً. فأوضح لنا جميع ذلك تفصيلاً لا مجملاً.

الجواب: إذا أخل المتوضئ بِغَسْلِ لُمْعَةٍ في الغَسْلَةِ الأُولى وغَسَلَها في الثانية، فإنْ كان عالماً بها ونوى بغسلها الوجوب أو أطلق فالوضوء صحيحٌ رافعٌ؛ وإنْ لم يَعْلَم بها وانغسلت في الثانية بغير نيّة الندب بأنْ غَسَلَ الثانية ذاهلاً عن النيّة، فالأمر كما تقدّم مع تحقّق الترتيب في العضو؛ وإن غَسَلَها بنية الندب بُني على أنَّ الوضوء المجدَّد هل يَرْفَعُ الحَدَثَ على تقدير الحاجة إليه أم لا ؟ والأقوى فيهما الرفع، والحديث نَبَّة عليه. ولو كان الوضوء مندوباً رافعاً فالرفع أوضح هذا ما يتعلق بحكم المسألة.

وأمّا وجه الإشكال فواضح؛ حيث إنّ الوجه مختلف، والمطلوب حينئذٍ الوجوب. ومنه تظهر قوة الاجتزاء بغَسْلِها في الوضوء المندوب لاتّحاد الوجه.

وأمّا قوله: «ينبغي أن تَعُمَّ الغَسْلَةُ الأولى جميع العضو» فالأمر كذلك؛ فإنَّ الغَسْلَةَ الثانية لا تتحقّق إلّا بعد الفراغ من الأولى، فلو بقي منها شيءٌ - وإنْ قَلَّ - وشَرَعَ في الثانية وقَعَتْ لَغْواً وكان القدر المكمّل للأُولى واجباً لمقتضى النيّة الأولى إن لم تطرأ عليها نيّة أُخرى تخالفها، فإنْ طَرَأَتْ فالحكم ما أسلفناه.

ولو اكتفينا بنية القربة في الوضوء فلا إشكال في الوضوء مع عدم معارَضَةِ نيّة الندبِ عالماً بالحال، ومعها يحتمل كونه كذلك.

[44] ما يقول سيدنا (دام فضله) في الألم المبتدا، هل يَحْسُنُ فعله إذا كان لطفاً لغير المُؤلم أم لا ؟ بیِّنوا تُوجروا

الجواب: إنْ جُعِلَ مع اللطف للغير منفعةٌ للمُؤلَم تسوّغ الابتداء من وقت اللطف حَسُنَ، وإلّا فلا(1).

ص: 512


1- أجاب عنه العلّامة في أجوبة المسائل المهنائية، ص 30، المسألة 106، بقوله : نعم يحسن بشرط أن يكون للمتألم من الأعواض ما يزيد على المستحق له بحيث لو خُيّر لاختار الألم، ولا يحسن بدون ذلك لما فيه من اشتماله على نوع من الظلم وانظر كشف المراد، ص 329 - 332.

شرح عبارة من كتاب القواعد للعلّامة

[45] ما يقول سيّدنا الإمام العلّامة في أُمّ الولد، هل يجوز لسيّدِها أَنْ يُحَلَّلَ وطعها لغيره مادام ولدها باقياً؟ فإنّ في هذا إشكالاً وخاصّةً على قول من يُلْحِقُ ذلك بملك اليمين أفتنا مأجوراً.

الجواب: الظاهر جوازه.

[46] ما يقول سيدنا (دام فضله) في المصلّي إذا عَقَدَ نيّة الصلاة بما هذه صورته: «أُصلّي الظهر - مثلاً - أداء لوجوبها عليَّ قربةٌ إلى اللّه سبحانه وطاعة له» هل يكون قول: «سبحانه وطاعة له» مبطلاً لنيّته وصلاته؛ لأنّه يجب أن يَلِيَ أوّل جزءٍ من التكبير آخر جزء من النيّة بلا فصل، فإذا قال: «قربة إلى اللّه» فقد تمت النيّة، وإن قال: «سبحانه وطاعة له» و كبَّر عقيب ذلك يكون قد فصل بينَ النيّة وتكبيرة الإحرام ؟ أم لا يكون قول ذلك باللسان أو بالقلب مبطلاً لنيّته ولا لصلاته ؟ أفتِنا مأجوراً.

الجواب: المعتبرُ مقارنة القصدِ إلى الصلاةِ المُعيَّنة للتكبيرة، ومقارنة الألفاظ غيرُ معتبرة، وحيئنذٍ إنْ كان تحققت المقارَنَةُ المعتبرة أجزأت وإلّا فلا، بل لو تكلّم بالقدر من الكلام مع مراعاة القصد المذكور كفى.

[47] ما يقول سيدنا (دام ظلّه) في الخبر الذي يُروى عن سيدنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «لو كان لي يدٌ ثالثةٌ لاستَعَنتُ بها على الأكل»(1) [هل] هو صحيح فيَسْتَعْمِلُ اليدين معاً في حالة الأكل، أم ليس بصحيح ؟ بيّن لنا أجرك اللّه.

الجواب: الاستعانة على الأكل باليد أعمُّ من الأكل بها، وحينئذٍ فلا ينافي كراهة الأكل بغير اليمين، وكأنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أراد بذلك الاهتمام بالإسراع في الأكل ومقدّماتِه مع مراعاة وظائفه ليَشْتَغل بعده بما هو أهمُّ منه.

[48] ما يقول سيدنا (دام ظلّه) في قوله في كتاب القواعد في الأغسال: «ولا تَداخَلُ

ص: 513


1- لم نعثر عليه في المصادر الحديثية. نعم ورد أيضاً في أسئلة السيّد المهنّا. انظر أجوبة المسائل المهنائية، ص 41، المسألة 38.

وإن انضمّ إليها واجبٌ، ولا يُشترط فيها الطهارةُ من الحدثين. ويُقَدَّم ما للفعل إلّا التوبة».

ويكفي غُسل الجنابة من غيره لو جامعه دون العكس، فإن انضم الوضوء فإشكالٌ؛ ونيّة الاستباحة أقوى إشكالاً».

«وغُسل الأمواتِ كافٍ عن فرضه»(1).

فإنّ هذا الفصل جميعه محتاج إلى الشرح والبيان، والمسؤول مِنْ إحسانه شرحه وتبيينُه على طريق البرهان.

الجواب: بيان هذه الأحكام مشروحةً بطريق البرهان لا يَسَعُه هذا المكان فأضربنا عن هذا الشأن(2)، وأنتم في أمان اللّه تعالى وحفظه.

وقد كتبنا هذه الأحرف على وجه الارتجال وحال الاستعجال، مُلْتَمِسين منكم قبول المعذرة وإقالَةَ العَثْرَة. وقد امتثلنا المرسوم الكريم، وأجزنا للموالي العِظام والمشايخ الكرام (أجْزَلَ اللّه حظَّهم من السعادة، ورزقهم الحسنى وزيادةً) الرواية مع العمل بجميع ما رَقَمَهُ القلمُ القاصر من تعليق وتقييد ومتن وشرح، مراعين في ذلك شريطة الرواية وصحة النسخة وطريق الاحتياط واللّه تعالى يجمعنا وإيّاكم على طاعتِهِ، ويرعاكم بعين عنايته، ويُمدّكُم بمعونته. ولا تنسونا من دعائكم الصالح في الخلوات وأعقاب الصلوات وأنتم في أمان اللّه تعالى وحفظه وكلاءَتِهِ على هذه الكلمات.

[وكتب] الفقير إلى اللّه تعالى زين الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي حامداً اللّه تعالى مُصَلِّياً على رسوله محمّد وآله مستغفِراً من ذنوبه، خاتمة شهر شوّال سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة.

ص: 514


1- قواعد الأحكام، ج 1، ص 179 - 180.
2- وللتوضيح راجع جامع المقاصد، ج 1، ص 76 - 77، 86 - 89، 90 - 92؛ وأجوبة المسائل المهنائية، ص108 - 109، المسألة 183.

25. أجوبة مسائل السيّد ابن طراد الحسيني

إشارة:

تحقيق أبو مقداد

مراجعة

رضا المختاري

ص: 515

ص: 516

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه صانع المصنوعات، الذي لم يكن له عضيد ولا نصير في المخلوقات الذي قال تعالى(1) في كتابه العزيز: «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ» (2): حمداً يدوم ما دامت ساعات الليل والنهار مختلفاتٍ وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، شهادةً تُخرِجُنا إلى النور من الظلمات ونستدفع بها جميع البليات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الشافع المشفّع يوم العرض والمناقشات، صلاةً وسلاماً دائمين ما دامتِ الأرض والسماوات.

أمّا بعد، فيقول العبد الفقير المحتاج لرحمة خالق،البريات، محمد بن عليّ بن طرّاد الحسيني المُقيم ببلاد سيّد السادات:

السلام على الشيخ السند والكهف المستند، الملجأ لمن شَرَد (تقبّل اللّه منه الصلوات) فريد عصره، ووحيد أمره (عَضَدَه اللّه مِن ظهره وخَتَم له بالباقيات الصالحات) الشيخ الأجل، رفيع القدر والمحلّ مُظهر الدين بعد ما اضمحل، الشيخ زين الدين (نَفَعَنا اللّه به، ورَزَقه زيارة سيّدِ،السادات، والوقوف بجبل عرفات والمبيت بمزدلفات).

ص: 517


1- اعلم أنّه وردت في كلام السائل في هذه الرسالة عبارات غير فصيحة ولغات عاميّة. وبما أننا لم نجد بالرغم من الفحص الكثير نسخة أُخرى لهذه الرسالة لم نتمكّن من تحقيقها بوجه أحسن من هذا الذي تراه.
2- الأنعام (6): 165.

ويُنهي أنّ الموجب لهذه المُسَطَّراتِ السلام على المخدوم، والمساءلةُ عن حاله والدعاء منه للمملوك في أوقات الصلوات، والإفاضةُ على المملوك من العلوم النائفات(1)، بإيضاح هذه المسألات (جزاك اللّه بخير يوم تُجزى السيئةُ بالسيئة والحسنة بالحسناتِ، وغَفَر اللّه لك ولنا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات).

[1] ما قوله (دام ظلّه) هل تصح الجماعة بإمام لم يستكمل الشرائط ممن هو أشبُه ؟ ومع عدم صحّته هل تُدرك بذلك فضيلة ؟ وهل لو اجتمع جماعة في الحال كما ذكر ونووا الانفراد هل في ائتمامهم مزيّة عما لو انفرد كلُّهم لذاته ؟ وما قوله في جماعة المخالفين هل في ائتمامنا إيّاهم في الصلاة جماعةٌ والإمام منهم فضيلة لا مع نيتنا الانفراد ؟ وهل إذا كان الأمر كذلك تصير جماعةٌ، وتَحرمُ النوافل بمتابعتنا إيّاهم أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: الحمد للّه ألهم إلهاماً للصواب، إذا كان الإمام محسناً للقراءة، قائماً بالواجبات، تاركاً للمحرمات غير مرتكب دنّيةً تُسقط مروءته بين الناس، فالاقتداء به جائز، والفضل فيه جزيل، ومتى لم يَستَجمع شرائط الإمامة لم يصحّ الاقتداء به، ولا تُدرك بالوقوف معه فضيلة الجماعة، ولو اضطر المؤمنون إلى مثل ذلك صَلوا منفردين بصورة القُدوة، وليست جماعة حقيقةً.

وأمّا الصلاة خلف المخالف ففيها ثواب عظيم، بل هي أفضلُ وأكثرُ ثواباً مِن جَماعة المؤمنين؛ لأجل التقية، وحقيقتها أن يقف المصلّي معهم منفرداً قارئاً لنفسه ولو في نفسه إذا خافَ الإظهار، ويتابعهم في الركوع والسجود حتّى لو سبقوه بالقراءة وركعوا سقط عنه باقي القراءة، وأدرك بالصلاة معهم في الصفّ الأوّل ثوابَ مَن صلّى مع

ص: 518


1- ناف الشيءُ نوفا علا وارتفع المعجم الوسيط، ص 964، «ناف».

النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) في الصف الأوّل، كما ورد في الأخبار(1). ولهذه الصلاة أحكام خاصة ضاق الوقتُ عنها.

مسألة عن لبس المخيط في الحجّ

[2] ما قوله (دام ظلّه) في لبس المخيط في الحجّ مع الضرورة إذا كان أثواباً، هل يُلبَسُ دفعةً لئلا يَتعدّدَ الفِداء، أو لَو لَبِسَ الثياب دفعاتٍ لمَ يلزم إلّا فِداءٌ واحدٌ؟ وهل فرق في تعدُّدِ مجالس أو مجلس [كذا]؟ وهل في قلعِ الثيابِ ولبسها حَرَج إذا لم يُقلَع المباشر للجلد وكذلك الرأس ؟ وهل يكون الفداء ما استغنى بالرعي وأكبر منه أو ممّا بالغه (2) أفتنا مأجوراً.

الجواب: الأقوى أنّه إن لَبِسَ المتعدّد دفعةً واحدةً بأن جَمَعَ من الثياب جملةً ووَضَعَها على بدنه لم تتعدد الكفارة وإن اختلفت أصنافها، وإن لَبِسَها مترتِّبةً تَعَدَّدَت وإن اتَّحَدَ المجلس والوقتُ ولا فرق في القلع واللبس بين أن يَصِلَ إلى الجلد وعدمه، وكذا حكم الرأس.

[3] ما قوله (دام ظلّه) في الزوجة إذا كان فرضها التقويم في الدار محلولة (3) وما الحكم في النخل وسائر الشجر هل يكون خشباً مطروحاً فيكون التقويم يسيراً، أو يُقَوَّمُ قائماً في أرضه فيعرف قسطها وقسطه فيكون التقويم كثيراً؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: إنّما يُقَوَّمُ الشجرُ والبِناءُ ثابتاً مستقراً إلى أن يفنى بغير أُجرةٍ، وإذا كان كذلك فلا يكاد يَنقُصُ مجرّداً عن الأرض إلّا يسيراً، وربما لا ينقُصُ في بعض الدور والأملاك؛ لقلة قيمة الأرض كذلك، وأمّا القولُ بتقويمها محلولةً فهو في غاية الضعف لا يُلتفت إليه أصلاً.

[4] ما قوله (دام ظلّه) فيمن ظنَّ الضرر بقيام واجب عليه شرعاً فترك القيام بالواجب

ص: 519


1- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 273، ح 789؛ وسائل الشيعة، ج 8، ص 302 - 305، أبواب صلاة الجماعة، الباب 6.
2- كذا في المخطوطة.
3- أي مهدوم الطوب والخشب.

لحصول الظنّ بالضرر هل يجوز ترك الواجب بظنّه ؟ ومع جوازه إذا تركه ثم تبيّن الوهم هل يجب عليه إعادةُ الواجب بعد تبين وهم ظنّه، كمن استبدل الوضوء بالتيمّم وصلّى، والصيام بالإفطار، ولبس المخيط في الحجّ بغير المخيط ؟ أفتنا مأجوراً عموماً أو خصوصاً.

الجواب: المرجع في ترك هذه الأُمور المذكرة والعدول إلى بدلها - حيث يكون لها بدل كالطهارة - الظن الغالب المستند إلى التجربة أو قول عارف يُظَنُّ صدقُه وإذا كان فرضُه ترك الواجب المذكور لحصول الظنّ لا تجب عليه الإعادة لو ثبت خلافه؛ لأنّ اللّه تَعَبَّدَه،بظنه، نعم، في الصوم يجب القضاءُ وإن لم يظهر فَسادُ الظنّ، كما لا يخفى.

[5] ما قوله (دام ظلّه) في ثبوت الوقف بالشياع ؟ وفي شهود الشياع هل لهم عدّة محصورة أو ما يحصل بهم الوثوق في الشياع ؟ وهل يقدح في الشياع سماع الشهود الشياع عن شخصين أو ثلاثة لقلتهم ؟ وهل يجوز الشياع في القسمة وفيمن هو موقوف عليه ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: الوقفُ ممّا يثبتُ بالشياع والمراد به إخبار جماعةٍ يغلب على الظنّ صدقُهم وعدم تواطئهم على الكذب، ولا ينحصر ذلك في عددٍ بل قد يكفي الثلاثة والأربعة إذا حصل الظنّ المذكور بقولهم، وقد لا يكفي عشرة فصاعداً إذا لم يحصل الظنُّ بصدقهم؛ لكونهم مظنَّة الكذب، وذلك أمر وجداني. ويثبتُ الشياع في القسمة كالوقف مع الشرط، بمعنى إفادته الملك المطلق لكلّ من في يده حصة بها، أما السبب وهو كون الملك المطلق مستنداً إلى الشياع فلا؛ لأنّ مواضع الشياع محصورة على المشهور في أُمور مخصوصةٍ مشهورةٍ.

الغني وإعطاؤه من الخمس والزكاة

[6] ما قوله (دام ظلّه) في امرأة غنيّةٍ هل يجوز أن تُعطى من الزكاة والخمس تتحوّجُ به فيما يُناسِبُ حالَها مِن ذهب وفضّة ومصروف في الزائد أو نفقة الحجّ وكسوة مما

ص: 520

لا يجب على الرجل ؟ وهل فرق بيَن رَجلها وغيره في العطاء مع جوازه ؟ أفتنا مأجوراً. الجواب: لا يجوز إعطاء الغني من الخمس مطلقاً ولا من الزكاة، إلا ما استثني من العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم.

[7] ما قوله (دام ظلّه) فيمن لا يستدلُّ على المعرفة ولا على نبوّة نبيّنا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ولا يعدُّ الأئمّة الاثني عشر (عَلَيهِم السَّلَامُ)، هل يكون سفره معصية مع عدم التعلم، فيتمّ الصلاة والصوم أم لا ؟ ومع كون سفره معصية بالجميع هل بالبعض كذلك ؟ وما أقلّ مراتب المعرفة ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: أقلُّ مراتب المعرفة أن يعتقد المكلّف أنّ اللّه حي موجود قادر عالم سميع بصير متكلّم ليس بجسم ولا متحيّز متصف بصفات الكمال منزّه عن الناقصات، و إن لم يُقِم على كلّ مسألةٍ دليلاً لِعُسر ذلك على أكثر الناس - وما كان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يُكَلِّف الناس غير ذلك - مُضيفاً إلى ذلك أنّ محمداً رسولُ اللّه وبه يتحقّق الإسلام. وأمّا الإيمانُ الخاص فيتوقّف على اعتقاد إمامة الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وذلك يتوقّف على معرفة عددهم، وهذا أمرٌ سهلٌ يُمكِنُ حصوله في ساعةٍ واحدةٍ، ومَن قَصَّرَ عنه فهو عاصٍ.

[8] ما قوله (دام ظلّه) في زيد ادّعى على عمرو، فقال زيد لعمرو: «أخرج المسطور الذي بيدك». فقال عمرو: «المسطور مسطوري إن أردتُ إخراجه وتخليته، لكن ما عندي مسطور». فقال زيد: «المسطور يشهد لي بالتطرّق - مثلاً - أو الحصة معك أو «لي فيه منفعة» هل يُلزَمُ عمرو بإحضاره أو باليمين مع إنكاره أم لا ؟ ومع لزوم اليمين بالإنكار ما صورتها ؟ وهل له الرَدّ على زيد ولو كان اليمين عن تهمة ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: إن ادّعى زيد أنّه شريك عمرو في الورقة وجب إحضارها وتوجّهتِ اليمين مع إنكارها، وإن لم يدّع الشركة فيها لم يجب إحضارها مطلقاً. وأمّا اليمين فتتوجّه مع الدعوى المسموعة حيث لا بيّنة، ودعوى التهمة لا تردّ يمينها على المدّعي بل يتعيّن حلفُ المنكر إن لم يعترف بالحق.

ص: 521

[9] ما قوله (دام ظلّه) في تابع القطر والنبات هل يكون للمسافر من غيرهم إذا جاءهم حكم المدن في الإتمام والقصر ؟ ولو أخذوا كلّ يوم مسافة مثلاً هل تهدم نيّة إقامة عشرة أيّام أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: التابع لطالب القطر والنبت حيث يكون فرضُه الإتمام يلزمه حكمه، وسفره إلى المسافة لا يُخرجه عن حكم التمام حيث تصدقُ الكثرة.

[10] ما قوله (دام ظلّه) في أدنى مراتب الإيمان هل هو معرفة الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)؟ ومع ذلك هل يجوز أن يُعطى من الزكاة من كان ظاهره الإيمان بلا سؤال عن معرفة الأئمّة مع الإمكان بالمعرفة وعدمها ؟ وهل يكون البحث في الخمس كذلك أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: أقلُّ مراتب الإيمان الموجب لإلحاق حكم المؤمن به أن يعرف اللّه ورسوله على الوجه الذي قرّرناه سابقاً(1) ويعتقد إمامة الأئمّة كذلك، وأمّا إقامة الدليل على ذلك فهو فرضُ كفايةٍ على أهل القُطر لتقوية الضعفاء وإزاحة الشبهة العارضة ومقاومة الخصم بالحجّة إن اتّفق.

[11] ما قوله (دام ظلّه) في رجل مؤمن عليه مال لرجل مؤمن في بلد ما فيها قاض يُخلّص إلّا من قضاة الجور، ولا يَحصُلُ الحقّ إلّا بهم لا بقضاة مذهب الحق، ومن تقدير عدم جواز الخلاص بقُضاة الجور، وعدم حاكم من قضاة الحقّ أو وجوده وعدم نفاذ أمره مع الخصم يضيعُ حقٌّ،مؤمن أو يجوز له الاستيفاء بيده بما يقتضي الشرع إن أمكنه، فيصير شنعةً عند أهل هذا الزمان إذا لم يكن بأمر حاكم ولو لم يُحسن صلاته، أفتنا مأجوراً معلّلاً.

الجواب: متى تعذر تحصيل الحقّ بحاكم العدل يجوز التوصُّل إلى تحصيله بما أمكن ولو بقاضي الجور بجعله وسيلةً إلى تحصيل الحقّ كما يُتَوَسَّل بغيره من الناس، ولو أمكن أن يستوفي بيده مقاصّةً جاز أيضاً مع جحود الغريم أو مطله، ولا عبرة

ص: 522


1- في جواب السؤال السابع.

بالشُنعة المخالفة للحق، بل إثمها على مرتكبها.

[12] ما قوله (دام ظلّه) في شخص مات ولم يُوصِ، وأقام بعض المؤمنين على تركته وصيّاً، هل تُشْتَرطُ العدالة في المقيم والقائم على التركة ؟ ومع اشتراطها إذا لم توجد أصلاً هل تُمسك عنها حتّى يوجد الغرضُ من الآفاق ؟ أو يُقيمُ ويقام الأشبه فالأشبه ؟ وهل يتعيّن على العدل إذا لم يكن عدل غيره في البلد أن يقيم ويقوم على تركة الميّت ؟ وكذلك الطلاق واشتراط العدالة في حاضريه مع انتفائها يُعْمَلُ بالأشبه فالأشبه ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: إذا لم يُوص الميّت إلى أحدٍ ولا وجد حاكم شرعي ولا منصوبه يجب على عدول المؤمنين كفايةً مراعاة مال الأطفال وحفظه، ولا يتحقّق هنا أنّ أحد العدول يقيم عدلاً آخر لأنّ كلا منهما مخاطب بذلك كفاية. ولو تعذَّرَ العدلُ وجب ذلك على غيره مراعى فيه الأقرب إليه فالأقربُ.

[13] ما قوله (دام ظلّه) هل يجوز الإمساك لطالب العلم فيما شجر بين الناس إذا أتوه في خصومة إذا لم يثق بنفسه من باب شرائط القضاء ؟ ومع جواز الإمساك والعمل على الأشبه فالأشبه هل يجب عليه الخوض إذا قيل له: «أنت من الأشبه» مع قلّة وثوقه بنفسه ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: الحكم بين الناس من وظائف الفقيه المجتهد، وأما الوقوف بينهم ودفع الإحن(1) والتشاجر والصلح وتعليمهم الصيغ فيجوز لأهل الخير مطلقاً إذا كان الواقف ناقلاً للأحكام عن المجتهد ولو بواسطة أو وسائط.

[14] ما قوله (دام ظلّه) في القرض ما سبب دخوله في الربا معلّلاً؟ وهل [يكون] محذور فيما إذا باع زيد ثمن الدينار بدينارين على عمرو إلى أجل، ثمّ قرضه زيد دينارين؟ أفتنا مأجوراً.

ص: 523


1- الإحنة الحقد والضغن: (ج) إحنٌ. يقال: إنّ الإحن تَجُرُّ المحن. المعجم الوسيط، ص 8، «أحن».

الجواب الربايردُ في كلّ معاوضة على أصح القولين لقوله تعالى: «وَحَرَّمَ الرِّبوا»(1) غير مقيّد بالبيع وإن كان صدر الآية مقيداً بحلّ البيع؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ وأمّا بيع ثمن الدينار بدينارين فما فهمنا حاصله لنجيب عنه.

الخمس في أرباح التجارات

[15] ما قوله (دام ظلّه) فيما يجب فيه الخمس من أرباح التجارات؟ ومع التوضيح ووجوب الخمس هل يكون بعد المؤونة ؟ وما المؤونة ؟ فإذا كان بعدها هل تُضاف إلى أرباح التجارات [و] إلى مدخول التاجر من نماء وغيره كالهبة وما شابه ذلك، وتُؤخذ المؤونة عموماً أو خصوصاً؟ أفتنا مأجوراً معلّلاً مفنِّداً.

الجواب: خمس المكاسب وأرباح التجارات بعد مؤونة من يجب عليه الخمس لنفسه وعياله وضيفه وما يعتازهُ في تلك السنّة وينفقه ويهديه ويُصانع به ممّا يليق بحاله عادةً من غير إسراف ولا تقتير. والأقوى أن المؤونة تُؤخَذُ من الربح والنماء خاصةً لا من أصل المال ولا منهما، وإن كان التوزيع أحوط.

[16] ما قوله (دام ظلّه) في معاقد الناس الآن هل هو جائز أم لا ؟ وهو فيما إذا جاء المدان وقال للمدين: أعطني عشرة دنانير مثلاً باثني عشر ديناراً. فقال له: ما أُعطيك إلا بثلاثة عشر ديناراً. ووافقه على الأوّل، ثم بعد ذلك أحضروا في المجلس شيئاً من التجارة فباعه المدين على المدان بما توافقوا عليه، ثم اشتراه المدين بعشرة دنانير من المدان. ومع جوازه هل يجوز عند حلول الأجل أن يقول المدان للمدين: خذ صالح العشرة الدنانير - وهو الدينارين أو الثلاثة - وأخرها إلى أجل ثانٍ بمثل صالحها الماضي، واحتال بوجه شرعي وهو إما هبة أوباعه المدين بخمسة وشراها منه بدينارين. ومع جوازه هل يكون تركه الأحوط أم لا ؟ أفتنا

مأجوراً.

الجواب: تجوز الحيلة على إسقاط الربا بما ذكر وغيره من العقود الشرعيّة، ولا

ص: 524


1- البقرة (2): 275.

كراهة فيه إذا توجّه قصدهما إلى العقد المذكور ولو لأجل إسقاط الربا؛ فإنّ ذلك غاية صحيحة.

[17] ما قوله (دام ظلّه) في تعريف الناصبي هل هو من جحد إمامة الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) أو أحدهم، أو انقبض وجهه عند ذكر فضيلة أو غير ذلك، وفي ذبيحته، وهل يرث أهل الحقّ أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: الأصح أنّ الناصبي هو الذي يعلن بعداوة أحدٍ من الأئمّة لا من يجحد إمامتهم مطلقاً؛ فإنّ ذلك مخالف للحق لا ناصبي، وعلى هذا فالناصبي قليل الوجود في الدنيا، وحيث يتحقّق لا تَحِلُّ ذبيحته، ولا يلحقه حكم المسلم.

[18] ما قوله (دام ظلّه) في الرهن عند حلول الأجل، هل يجوز للمرتهن بيعه إذا لم يكن حاكم شرعي يحكم بالبيع والراهن غائب في بعض الأمصار، أو كان حاضراً ولم يسدً(1) ولم يبع الرهن إمّا لتكاسُلٍ أو لقلّة قابلية على بيع الرهن أو قلة ثقاتٍ ؟ ومع جواز بيع المرتهن للرهن هل يحرج عليه (2) حتّى تنتهي الرغبات ؟ ومع ذلك هل لانتهاء الرغبات حد محدود أو المرجع في ذلك العرف ؟ وإذا كان قاض من قضاة الجور بيع الرهن على يديه بما يقتضي الشرع لحسم المنازعة، هل فيه حرج أم لا ؟ هذا فرع على جواز بيعه ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: إن كان المرتهن وكيلاً من قبل الراهن في البيع فله البيع بعد الأجل وإن لم يراجع الراهن، وإن لم يكن وكيلاً فإن أمكن وصوله إلى الحاكم الشرعي استأذنه في البيع، فإن تعذر جاز له توليه بنفسه حيث يمتنع الراهن من الإذن فيه أو مباشرته، فيبيعه بثمن مثله عادةً، ولا يجب تحرّي الزائد عنه، نعم لو وجد راغب يبذل فيه زيادة وجب

ص: 525


1- أسدُّ: طلب السداد وأصابه سدّد ماله: أحسن العمل به المعجم الوسيط، ص 422، «سدد». فعلى هذا يمكن أن يكون الصحيح : «ولم يُسَدّد» بدل «لم يُسِد».
2- حرّج عليه ضيِّق. المعجم الوسط، ص 164، «حرج».

تحرّيه وإلّا فلا، وأما بيعه على يد قاضي الجور فإن كان المرتهن ممّن يجوز له البيع جاز التوسّل بالقاضي المذكور وإلّا فلا.

قاطع الطريق ودفعه

[19] ما قوله (دام ظلّه) فيمن يقيم في دروب المدينة لأجل قطع السبل، وفيمن له على المدينة مرسوم وإلّا أخربها إن قدر، وهو إن قتل جاء أشرُّ منه من جماعته أو مثله أو دونه، وإنّ جرحَ أو نهب ما له لم يردّه ذلك، لكن يكتفى شرّه بذلك الفعل زماناً، هل يجوز لنا حال مجيئه للخراب المذكور نهبُ المال وقتلُ الحال مع القدرة؟ ومع جواز ذلك هل يجوز لنا إذا شردوا - وهو يعود يقيناً في وقته أو بعده - لحوقه وقتل حاله ونهب ماله إن أمكن ذلك؛ لأجل الردع له عن هذا الفعل حيناً من الزمان، وتنكيلاً لغيره من العربان. وليس للأنجع فالانجع منا فائدة؛ لأنّهم ما يرتدون بأشقّ الأفعال فضلاً عن الأنجع. وإذا كان الحال هذا هل يجب على من كان بالمدينة الذبُّ عنها مع أنّ لها عسكر بالفلوس أم لا ؟ أفتنا مأجوراً.

الجواب: مدافعة هذا المفسد واجبة على الكفاية، ويجوز قتله إذا لم يندفع بدونه، ويجب معونة العسكر الذي بالمدينة إن لم يقم بالكفاية، وإن قام بها سقط عن غيره. وإذا هرب وعلم أنّه يعود يجوز تتّبعه وقتله حيث لا يندفع إلّا بالقتل. وأمّا ماله فالأجود عدم التعرّض إليه إن كان مسلماً، وإلّا أُخذ أيضاً.

[20] ما قوله (دام ظلّه) في واضع اليد على عقار إذا ادعى عليه الخارج: هذا المال الواضعُ عليه يدك مالُ أبي أو جدّي، وأقام عليه شاهدين يشهدان بأن هذا المال كان لأبيه الخارج أو جده، هل تَرفَعُ هذه الشهادة يد المتشبّث أو هو يحتاج معها لقول: مات وهو في ملكه، أو لم أعلم له مزيلاً ؟ ثم بعد رفع يد المتشبث يصير مدعياً أو تُحسَمُ دعاويه ؟ وفي الشهود إذا لم يوجد العدل في زماننا هذا إلّا قليلاً تحقيقاً أو تقديراً، هل يعمل بمستور الحال إذا وُجد ؟ ومع قلّة وجوده إذا كان أكل الحرام موجوداً في كلّ شاهد إلّا قليلاً، هل تُقبل شهادته مع قلة تظاهره بالكذب تمشياً لحال الناس وإلّا بطل

ص: 526

يقيناً ليس ترخيصاً؟ أفتنا مثاباً مأجوراً.

الجواب: لا تكفي الشهادة للخارج بأنّه كان ملكاً لأبيه أو جدّه، بل لا بدّ من إضافة بقائه إلى الآن على ملك المدّعي، أو انتقاله إليه ولا يَعلَمُ له مزيلاً، ونحو ذلك. وإذا لم يوجد العدلُ يعتبر في الشهود بلوغ عددٍ يَحصل به الشياعُ والاستفاضةُ بحيث يَغلِبُ على الظنِّ صدقُهم غلبةً تُقارِب العلم، وأقلُّ ذلك ثلاثة فصاعداً بحيث يحصُلُ الوصفُ.

[21] ما قوله (دام ظلّه) في مُستَفتٍ أرسل يستفتي هَل يُقبل قولُ الواسطة في الفتاوى ؟ ومع قبوله هل تشترط العدالة في الواسطة ؟ وهل فرق فيما إذا كانت الفتاوى مشافهةً من الواسطة أو في قرطاس كتابة ؟

أفتِنا مأجوراً غفر اللّه لكم ولنا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات).

الجواب: إذا عَرَفَ المستفتي خطّ المُفتي جاز له التعويل عليه، وإلا افتقر إلى عدلٍ يُخبِرُه أَنّ هذا خطُّ المُفتي أو فتواه.

تمّ الكلام. والمطلوبُ من المخدوم سَدُّ الخلل، جَلَّ وعَلا مَن لا عيبَ فيه ذو الجلال والإكرام، المؤمن مرآة أخيه المؤمن، رسول اللّه لهذا الكلام قد قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى التقى والكمال(1)، والسلام عليهم وعليكم ما اختلف الأيّام والليال!

كَتَبَ هذه الأجوبة الفقيرُ إلى اللّه تعالى زين الدين بن عليّ بن أحمد الشامي داعياً للسيد الجليل الفاضل الصالح (رحم اللّه تعالى سَلَفَه وأبقى الخلف) ملتمساً منه الدعاء في تلك البقاع المشرفة المنيرة، وإهداء بعض القربات وإبلاغ سلامه وتحيّته جدّه المصطفى وعترته النجباء، جَمَعَنا اللّه تعالى وإيّاكم على طاعته بمحمّدٍ وعترته و. والسلام. عليكم وعلى من لديكم من السادة النُجَباء ورحمة اللّه وبركاته. والحمد للّه وحده، وصلاته على سيدنا محمّد وآله.

ص: 527


1- هكذا في المخطوطة، ولا يخفى تشويش الكلام واضطرابه.

ص: 528

26. أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس

إشارة:

تحقيق

حسين الشفيعي

مراجعة

رضا المختاري

ص: 529

ص: 530

بسم اللّه الرحمن الرحيم

[1] ما يقولُ مولانا في أرض غَصَبَها رجل مدةٌ، ثم رحل عنها وتركها مُعرضاً عنها، المغصوب منه ليس له عليها يد وبقيت هكذا؛ هل يجوز لأحد أن يصلّي فيها بشاهد الحال أم لا ؟

الجواب: نعم، تجوز الصلاة فيها والحال هذه، ويرتفع عنها حكم الغصب وإن بقيت مضمونةً على الغاصب السابق.

هل يجوز شدّ الإزار في الإحرام والتمنطق

[2] ما يقول مولانا في ثوبي الإحرام هل يجوز عقدهما أو أحدهما ؟ هل يجوز التمنطق(1) بمنديل ونحوه على ما يأتزربه أم لا، مع إمساس الحاجة وبدونها ؟

الجواب: يجوز عقد الإزار دون الرداء، وكذا يجوز التمنطق فوق الإزار لأجل شَدِّه.

[3] ما يقول مولانا في نيّة الوقوف بعرفة ؟ ذكر الشيخ المتأخّر (رحمه اللّه) (2) أنّه: «يجب مقارنة النيّة للزوال؛ فلو أخَّر أثِمَ وأجز»أ فعلى هذا هل يجب الترقّب للزوال أم لا ؟ وهل يجوز إيقاع النيّة عند ظنّ الزوال وتجديدها عند تحقّقه، أم لابد من إيقاعها بعد تحقّقه مع أنّه إنما يتحقّق بعد مضيّ زمان ؟

ص: 531


1- تَمنطَقَ : شَدَّ وسطه بمنطقةٍ. المعجم الوسيط، ص 931، «نطق».
2- لعلّ المراد الشهيد الأوّل، حيث قال في الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 333 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9): ... النيّة مقارنة لما بعد الزوال، ولا يجوز تأخيرها عنه، فيأثم لو تعمّده ويُجزئ.

الجواب: محلّ النيّة بعد تحقّق الزوال. ويجب مراعاته بالعلامات المقررة؛ لئلّا يفوت الوقتُ أو شيء منه. ولا يجب تقديمها بمجرّد الظنّ ولكن لو فَعَلَ لم يَضُرَّ، والزمان الذي يمضي قبل تحقّق الزوال مغتَفَرُ.

[4] ما يقول مولانا في المهدى إليه ثلث هَدي التمتّع، هل يشترط فيه - مع الإيمان - الفقر كما يقوله الشيخ المتأخّر(1) أم لا ؟

الجواب: يُعتبر في المُهدى إليه الإيمانُ خاصَّةً، وفي المُتصدَّقِ عليه الإيمانُ والفقر معاً(2).

[5] ما يقول مولانا في المُهدي، هل يجب مقارنة أوّل الذبح لآخرِ النيّة مُسَمِّياً حالَ الذبح أم يكون بعد الفراغ من النيّة والتسمية ؟

الجواب: لمّا كانت النيّه من الأفعال القلبيّة أمكن مصاحبتها لغيرها من الأفعال والواجب مقارَنَةُ أوّلِ الذَبح للتسمية، فإن أمكن النيّة بالقلب حالة التسمية، ومقارنه الذبح للتسمية النيّة معاً، وجب. وإن لم يُمكن أو تَعشَر قَدَّمَ النيّة أولاً، ثمّ عَقَّبها بالتسمية وقارَنَ الذَبحَ بالتسميةِ خاصَّةٌ.

[6] ما يقول مولانا في البركَةِ والحوض يكون في دهليز (3) دارِ الرجل فَيُخبِرُ ثلاثةٌ أو أربعة من أهل الإيمان - اثنان منهم من طَلَبة العلم، أحدهما مرضي والآخر حَسَنُ الظاهر، والباقي من جملة عامة الناس بل أحد الباقين يدّعي أنّه وكيل صاحب الدار - أنّ صاحب الدار أباحَ استعمال الماء لكلّ أحدٍ من المؤمنين، فهل

ص: 532


1- لعلّ المراد من الشيخ المتأخّر هو الشهيد الأوّل، حيث قال في الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 357 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9): المستحقّ الفقير المؤمن، فالقانع السائل والمعترّ غير السائل...؛ وراجع جامع المقاصد، ج 3، ص 243.
2- قال الشهيد في حاشية إرشاد الأذهان، ص 109 (ضمن الموسوعة، ج (16): يُشترط في المهدى إليه الإيمان وفي المتصدق عليه الإيمان والفقر، ويكفي الواحد الجامع للوصفين.
3- الدهليز المدخل بين الباب والدار المعجم الوسيط، ص 300. «دهل».

يكفي ذلك في استعماله أم لا ؟ وهل يكون مثل هذا ممَّا يَثبُتُ بالاستفاضة أم لا ؟

ولو تطهّر إنسان من هذا الماء وصلّى بتلك الطهارة، أو طاف طواف عُمرة التمتّع ثمّ قضى مناسك الحجّ بتمامها، وبعد مضي زمان طويل حصل في قلبه أنّ إخبار أُولئك الجماعة هل كان كافياً أم لا ؟ فسأل جماعةٌ مرضينَ عن صاحب الدار فقالوا: نعم نَشهد بذلك - أي بإباحة صاحب الدار الماء لكلِّ أحدٍ من المؤمنين، حتّى أن بعض المؤمنين أتى برحى فغَمَسَها في ذلك الماء - فما الحكم في ذلك ؟ المرجُوّ الجواب تفصيلاً.

الجواب: الحمد لله. يجوز التعويل على قول مَن يَدَّعي وكالة المالك وَحدهُ في ذلك، تصحُّ الطهارة وغيرها من الاستعمال والأفعال وعلى تقدير عدم وجود واحد يدعي الوكالة لا يجوز التعويل على قول المخبرين إلا إذا وجد فيهم عدلان، أو بلغوا في الكثرة حدّاً يحصل بخبرهم العلم أو الظنُّ المتاخم(1) له، فيجوزُ التعويل حينئذٍ على خبرهم. واللّه أعلم.

[7] ما يقول مولانا فيما ذكره الشهيد (رحمه اللّه) في الدروس(2) في مشروعية قضاء صلاة من ظنَّ أو تخيل فوات شرطٍ أو غيره فيها، هل يُشرع قضاؤها أم لا ؟ وليس في بالي عبارة الدروس(3). وما يُحكى عن الشيخ جمال الدين (رحمه اللّه)(4) أنّه قضى صلاته وأوصى بالقضاء عنه، هل لهذ أصل وقفتم عليه أم لا ؟

الجواب الذي يظهر من الأخبار الكثيرة الواردة عن أهل البيت (عَلَيهِمَ السَّلَامُ) مشروعية قضاء

ص: 533


1- تأخم الموضع الموضع: جاوره ولاصقه. المعجم الوسيط، ص 83، «تخم».
2- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 67 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9): والأصح شرعيّة قضاء فريضةٍ فُعِلَت على غير الوجه الأكمل إذا تخيل فيها قوات شرط أو عروض مانعٍ.
3- تقدّمت آنفاً.
4- يعنى العلّامة الحلي أعلى اللّه مقامه.

الصلوات على الوجه المذكور(1)، كما ذكره الشهيد (رحمه اللّه)، وعليه العمل، وما يحكى عن الشيخ جمال الدين (رحمه اللّه) سمعناهُ مشافهة من الأصحاب والشيوخ كثيراً، وما وقفت عليه بغير ذلك ولكنه مطابق للمشروع.

والحمد للّه وحده والصلاة على نبيّه محمّد وآله أجمعين.

ص: 534


1- لم نعثر عليها بهذا العنوان، ولعلّ المستند إطلاق الأوامر الواردة بالاحتياط في الدين وتوقي الشبهات، كما صرّح به في مدارك الأحكام، ج 4، ص 293.

27. أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زَمْعة المدني

إشارة:

تحقيق

أبو أيمن

مراجعة

رضا المختاري

ص: 535

ص: 536

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سؤال في الوصيّة

مسألة [1]: قال العلّامة في نهايته: «ولو أوصي له بعبد ومات المُوصي قبل الغروب، ولم يقبل الموصى له إلا بعد الغروب فالفطرة في تركة الميّت، أو على الوارث، أو لا فطرة إن جعلنا القبول سبباً أو جزءاً، وإن جعلناه كاشفاً فالفطرة على الموصى له: ولو مات الموصى له قبل القبول والرد فقَبِلَ وَرَثَتُه، فالوجهان.

ولو مات الموصي بعد غروب الشمس، فالزكاة في تَرِكَتِهِ، وقيل: على الوارث(1).

الجواب: الأشهرُ أنّ قبول الوصيّة إذا تأخَّرَ عن الموتِ كاشفٌ الموتِ كاشف عن سبق ملك الموصى له من حين الموت؛ فتكون الفِطَرة عليه. ولو جعلناه ناقلاً للملكِ من حينه لكونه سبباً أو جزء السبب ففي وجوبها على الوارث أو لا تجب على أحد، وجهان: أجودُهما الثاني؛ لأنّ ملك الوارث مشروط بعدم الوصيّة والدين، وهي موجودة هنا، ووجه الوجوب عليه استبعاد بقاء مال بغير مالك وقبول ورثة الموصى له كقبول مُورِثهم.

مسألة [2]: لو كان الإنسان حجّ حَجَّ الإسلام وأراد أن يحج ثانياً، هل يجوز له أن ينوي به حجّ الإسلام أو ينوي الحجّ المندوب ؟

ص: 537


1- نهاية الإحكام، ج 2، ص 441، وفيه: «و قبله على الوارث» بدل «وقيل: على الوارث» وهو خطأ؛ وللمزيد راجع غاية المراد، ج 1، ص 198 - 199 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 1).

الجواب: ينوي الحجّ المندوب؛ لأنّ حجّ الإسلام لا يُشرعُ إلّا لمن لم يحجّ حجّ الإسلام وإنّما ينوي الندب بالإحرام، ثمّ يجب إتمامه كغيره من أفراد الحجّ المندوب.

مسألة [3]: لو تبعَ التاجر تابع القطر والنبات هل يكون حكمه حكمهم في الإتمام أم لا ؟

الجواب: إن تحقّق له قصد مسافة قصَّرَ فيها، وإلّا فلا.

مسألة [4]: هل المراد بالمثل والمثلين بعد الزوال مثل الفيء الباقي بعد الزوال أو مثل الشخص نفسه ؟

الجواب: المراد مثل الشخص ذي الظلّ لا الفيء الباقي بعد الزوال؛ لأنّه يزيدُ وينقصُ ينعدم في بعض الأوقات في بعض الأماكن، ويقل حتّى لا يَسعَ مقدار الفريضة، وما هذا شأنه لا يصلُحُ وقتاً محدوداً.

مسألة [5]: لو حجّ الإنسانُ عن شخص آخر متبرعاً، أو صام عنه، هل ينوي لفظ التبرع أو ينوي الندب خاصّة ؟

الجواب: ينوي الندب.

مسألة [6] هل أُجرة الإجارة تُملك بالعقد ويستحقّها الأجير ؟

الجواب تُملَكُ بالعقد، لكن لا يستَحِقُّها إلّا بتمام العمل.

مسألة :[7] هل للإنسان أن يقرأ هذه التواريخ والسير - كمولد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، والغزوات، والأخبار - من غير نقل أم لا ؟

الجواب هذه المذكورات مختلفة، فمنها ما رواه الثقاتُ الأثبات(1)، وقراءتها جائزة مطلقاً، ومنها المجهول صحتها، فينبغي أن يقال: قال فلان: إنّه جرى كذا ووقع كذا؛ ومنها المعلوم كونه موضوعاً وهو كثير، فلا يجوز قراءته ولا روايتُه.

ص: 538


1- رجُل ثبت: حجّةً يوثَقُ به. (ج) أثبات. المعجم الوسيط، ص 93، «ثبت».

القهوة وحبّ البن والحشيشة حرام أم حلال؟

مسألة [8] ما قول شيخنا في القهوة وأكل حبّ البنّ(1) وفي حبّ الحشيشة وفي البنج ؟ أفتونا مأجورين.

الجواب: أمّا الحشيشة فإنها محرّمة مطلقاً، وأما الآخران فيحرم منهما ما أضرّ بالبدن أفسد المزاج.

مسألة [9]: ما قول شيخنا في الخصمين إذا لم يُعلم المحقُّ منهما من المبطل، وبسبب ميل النفس إلى أحدهما علمه ما ينتصر به على صاحبه، هل يجوز ؟

الجواب: لا يجوز تعليم الخصم إلا إذا كان محقاً.

مسألة [10] ما قول شيخنا هل يجب على الأبوين تطهير الطفل من الخبث للأكل والشرب أم لا ؟

الجواب: لا يجب.

مسألة [11]: وهل يجب عليهما منعه من أكل النجس أم لا ؟

الجواب: لا يجب.

مسألة [12] وهل - لو كان الطفل يقدر على مضغ الطعام - يجوز للوالدة أن تَمضَغَه تُطعمه إيّاه ؟

الجواب: يجوز.

مسألة [13]: وهل لو كان الثدي نجساً يجوز وضعه في فم الطفل ليشرب منه أم لا ؟ الجواب: يجوز والأولى في جميع ذلك التطهيرُ إن لم يضُرَّ بحال الولد.

مسألة [14]: ما قول شيخنا في الخبز لو ابتل بالريق أو الدمع ثمّ جفَّ، هل يجوز أكله أم لا ؟

الجواب: يجوز.

ص: 539


1- البُنُّ حَبُّ شجر أصله من الحبشة، يُقلى ثمّ يُطحَنُ، ويُتَّخَذُ منه شراب منبِّه، يُسمّى مجازاً بالقهوة. المعجم الوسيط، ص 72، «بنن».

مسألة [15]: وهل لو وقع بعض فضلات الإنسان الطاهرة في قعب لبن أو دبسٍ ثمّ استهلكه اللبن بحيث لا يتميَّز، هل يجوز أكله أم لا ؟

الجواب: يجوز.

مسألة [16] وهل لو بال الكلب في كرّ ماء، هل يجوز الشرب منه أم لا يجوز ؟

الجواب: يجوز.

مسألة :[17] هل تثبتُ المسافة بالظنّ ؟

الجواب: تثبت المسافة بالاعتبار وشهادة عدلين والشياع، ولا يكفي الظنُّ بدون ذلك.

مسألة [18]: هل المسافة من سور البلد أو من محلِّ الترخص ؟

الجواب من آخر العمّارة في البلد الصغير والمتوسط، ومن آخر محلّته في الكبير. اعتبار المسافة من الجدران دون البساتين والمزارع وإن شرطا في جواز القصر.

مسألة [19]: ما يقول مولانا (دام ظلّه) في أجيري الصلاة الواحدة عن الشخص الواحد المقسِّمين للزمان، هل يجوز لكلٍّ منهما إجارة نفسه لصلاةٍ أُخرى في الزمان المشغول بصاحبه ؟

فعلى القول به هل فرق بين أن يقع العقد في الصلاة المشتركة بينهما لأحدهما، ثم يقع العقد الثاني من الصلاة لصاحبه ثم يتّفقا على تعيين الزمان ؟

ومعه هل لهما تغيير ما اتَّفقا عليه ؟ وتُوقع الصلاة الأخرى في الزمان السالم عن الورد مطلقاً، فيتعاكسان متى أراد - فينعكس الأمر حينئذٍ في الصلاةِ الأُخرى المستأجر عليها -أو لا ؟ وهكذا متى أراده ؟

وهل لمن سبق عقده نقض ما اتَّفقا عليه ومنعه من الوقت ؟

وهل فرق بين اشتراكهما في الصلاة الأُخرى وعدمه أم لا ؟

فعلى القول به يجوز لهما تعدُّد العقود بحسب تعدُّد الأوقات التي لا يستلزم الاشتغال فيها عدم الإخلال بالفورية، وعلى القول بعدمها يتّجه الجواز بحسب الساعاتِ بل بما

ص: 540

هو أقلُّ منها، بحيث لا يستلزم مصادفة العقد الثاني لزمان الأوّل كما قلناه، ويكون التعيين موكولاً باختيار هما في تعيين الزمان ؟

وهل ينجرُّ البحث في الأجير الواحد للصلاة الواحدة ويكون الوقت إليه إلى آخر ما ذكر من التعاكس وغيره ؟

وهل فرق بين ما إذا استلزم العقد الثاني في الصور كلّها ضعفاً عن القيام بالعمل الأوّل أم لا، على القول بالفورية في القضاء ؟

وهل ينجرُّ البحثُ في جواز استئجار مشغول الذمّة عن نفسه بشرط أن يُعين للقضاء عن نفسه زماناً وعن غيره آخر على القول به في القضاء، فإن استؤجر أوّلاً عن غيره قد استحق المستأجر شغل ذمَّته، مع أنّه يجوز له تعيين أي وقت أراد إذا جاء شريك آخرُ إلى آخر ما ذكر ؟

الجواب : الأقوى جواز إجارة مشغول الذمّة بالصلاة عن نفسه، بناءً على عدم الفورية بالقضاء، إذا لم تستلزم الإجارة فوات القضاء في مدّة عمره، وهذا بخلاف القضاء عن الغير بالاستئجار، فقد نقل الأصحابُ أن المبادرة إليه واجبة، وحينئذٍ فينافي إجارةً أُخرى مطلقة. وإنّما جاز الجمع بين اثنين يشتركان في عملها أو إحداهما؛ لخلو بعض أوقات المشترك كذلك عن وجوب المبادرة إلى فعل الصلاة، وذلك زمن اشتغال الأجير الآخر؛ لعدم جواز فعلها دفعةً. ولولا ذلك لم يجز له إجارة نفسه لأُخرى. ومن ثمَّ منعناهُ من إجارةٍ أُخرى على تقدير عدم الشركة، ومن إجارة ثالثة على تقديرها؛ لأنّ الزمان الذي سلم له باشتغال رفيقه قد اشتغل بالصلاة الثانية، فاستغرق زمانه أجمع، فامتنعت الثالثة كما امتنعت الثانية لو لم يكن له شريك.

ص: 541

ص: 542

28. أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي

إشارة:

تحقيق عليّ الأسدي

مراجعة

أبو أيمن - رضا المختاري

ص: 543

ص: 544

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمدُ للّه الذي عمَّ عباده بالنوال(1)، ومنحهم من مواهبِ كَرَمه بغیر سؤال وتَفَضَّلَ عليهم من جوده بِسوابغ (2) الإفضال: والصلاة والسلام على رسوله محمَّدٍ المُظلَّل بالغمام، وعلى آله البَرَرَةِ الكرام المطهَّرينَ من الزلل والآثام، صلاة دائمّة بدوام الليالي والأيّام.

أمّا بعد، فإنّ التكاليف الشرعيّة تحتاج في القيام بها إما إلى الأدلّة التفصيلية، أو إلى الأمور النقليّة، ولمّا كان الأوّل متعسِّراً على كثيرٍ من الطلّاب، بل متعذِّراً على جميع الأصحاب، تعيَّن الثاني، وهو غاية ما في الباب.

وحيثُ إنّ الفروع الفقهيّة تتجدد بتجدد الأعصار، أحببتُ أن أكتُبَ ما تُلجئ الضرورة إليه، وأستفتي من يقوى اعتمادي عليه، وهو من عوارض الأفكار، ومن اللّه أستمد التوفيق، و أسأله هداية الطريق.

العلاقة بين صلة في زيادة العمر و بين الأجل المكتوب

مسألة [1] قد ورد أنّ صلة الرحم تزيد في العمر(3)، وكذا برُّ الوالدين(4)، وفعل

ص: 545


1- النوال: النصيب والعطاء. المعجم الوسيط، ص 964. «نول».
2- السوابغ جمع السابغة التامة الكاملة، يقال: شيء سابغ، أي كامل وافٍ. الصحاح، ج 4، ص 1321، «سبغ».
3- الكافي، ج 2، ص 150 - 157، باب صلة الرحم؛ بحار الأنوار، ج 74، ص 88 - 139، باب صلة الرحم.
4- بحار الأنوار، ج 74، ص 81 - 82، 84 - 85، ح 83، 84، 96،89، نقلاً عن بعض آثار الحسين بن سعيد.

المعروف(1)، كيف ذلك ؟ والمقدَّراتُ في الغيب والمكتوبات في اللوح لا تقبل الزيادة النقصان؛ لاستحالة الجهل عليه تعالى وعلمه بالموجودات على ما هي عليه قبل وجودِها، فكيف يتّجه زيادةُ العمر ونقصانُه بسبب ؟

الجواب: اعلم أنه كما سبق في علمه تعالى تحقّقُ سبق في علمه تعالى تحقّق أُمورٍ مضبوطةٍ مطلقاً، كذلك تعلق علمه بأمورٍ موقوفةٍ على أسباب وعلل، كما سبق في علمه أنّ دخول فلان الجنَّةَ موقوف على موته على الإيمان، وإن كان تعالى يعلم هل يموت مؤمناً أم لا؟ وحينئذٍ فيجوز تعليق العمرِ زيادةً ونقصاناً على سببٍ وشرط، كصلة الرحم وقطعه وغيرهما، وذلك لا ينافي علمه السابق بوجه، فإذا فرض أنه جعل لزيدٍ من العمر خمسين سنةً مثلاً بشرط أن لا يصل رحمه، فإذا وَصَلَه جَعَله ثمانين، فلا يتَّكل الإنسانُ على العلم السابق، بل يُبادر إلى صلة رحمه، فإذا فعله عُلم سبق علم اللّه تعالى بجعل عمره ثمانين وهكذا. وتحقيق هذا المحل يحتاج إلى أوراقٍ لا يَحتَملُها بياضُك(2).

مسألة [2] لو آجر الموقوف عليه وعلى أولاده من بعده الوقف مدَّة معيّنة فمات في أثنائها، فهل تبطل الإجارة بالموت، ويرتَجِعُ مِن الأُجرةِ مع قبضها بنسبة الباقي أم لا ؟

الجواب: إنْ آجرَه المدّة المذكورة لمصلحته بطلت بموته؛ وإن آجره كذلك لمصلحة الوقف وكان ناظراً عليه لم تبطل.

مسألة :[3] قد ورد النصّ بأنّ دية المقتول تُقضى منها ديونه، وتُنفَذُ وصإيّاه(3)، والقطع حاصل بعدم ملكه لها في حياته لاستحالة تقدّم المسبب على السبب، وبعد موته تدخل في ملك الوارث، فكيف يتَّجه قضاء الديون وإنفاذُ الوصايا منها ؟

ص: 546


1- الكافي، ج 4، ص 49 - 50، باب النوادر (من كتاب الزكاة) ح 15.
2- البياض: الورق الخالي من الكتابة.
3- الكافي، ج 7، ص 63، باب النوادر من كتاب الوصايا، ح 21؛ تهذيب الأحكام، ج 10، ص 313، ح 1167؛ الفقيه، ج 4، ص 277، ح 5539 - 5540.

الجواب: هذا البحثُ ساقط، وجواب آخره موجود في أوّله؛ فإنّك لما اعترفت بورود النصّ بالحكم المذكور، لا معنى لقولك: «كيف يتّجه وجوب القضاء وغيره؟». وكيف كان، فلا إشكال في أنّها بحكم مال الميّت وإن لم تدخُل في ملكه حال الحياة.

مسألة [4]: قيل: «إنّ تأخير الصلاة إلى آخر الوقت لا يجوز إلا لذوي الأعذار»(1)، فهل يأثَم غيرُهم على هذا القول، فيجتمع الأداء والإثم أم لا ؟ فإن كان الأوّل فقد اجتمعا. وإن كان الثاني، فقد ورد أن: «أول الوقت رضوان اللّه، وآخره عفو اللّه»(2)، فعلى ما يُحمل الخبر ؟

الجواب: المشهورُ بين المتأخّرين (3) اشتراك وقت الفرضين على الوجه الذي فصَّلوه؛ جمعاً بين الأخبار، وإن دلّ بعضُها(4) على ذلك، وبعضُها(5) على اختصاص كلّ واحدةٍ بوقت مع الاختيار، فتحمل هذه على الفضيلة.

وخالف جماعة(6) فحكموا باختصاص جواز التأخير بذوي الأعذار، وعليه فمن أخَّر لا لعذرٍ يأثمُ ويبقى أداء ما دام وقت الاضطرار باقياً. والخبر الذي ذكرته ظاهر في هذا القول؛ لأنّ العفو يقتضي حصول ذنبٍ. وأصحابُ القول الأوّل حملوه على المبالغة في الكراهية نقصان الثواب.

ص: 547


1- قاله المفيد في المقنعة، ص 94؛ والشيخ في النهاية، ص 58؛ والمبسوط، ج 1، ص 111، والخلاف، ج 1، ص 271، المسألة 13؛ وأبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص137؛ والقاضي في المهذّب، ج 1، ص 71.
2- الفقيه، ج 1، ص 217، ح 651.
3- منهم: ابن إدريس في السرائر، ج 1، ص 196؛ والمحقّق في المعتبر، ج 2، ص 26 - 27؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 2، ص31، المسألة 1؛ وقواعد الأحكام، ج 1، ص 247.
4- منها: ما رواه الشيخ في تهذيب الأحكام، ج 2، ص 24 - 26، ح 68 - 73؛ والاستبصار، ج 1، ص 260، 261، ح 134 – 938.
5- منها: ما رواه الشيخ في تهذيب الأحكام، ج 2، ص 39 - 41، ح 123 - 132؛ والاستبصار، ج 1، ص 276 - 277، ح 1003، وص 244، ح 870.
6- سبق ذكرهم آنفاً في المسألة بداية.

مسألة [5]: لو ظنَّ أنّه سلَّمَ، فأحرَمَ بفريضةٍ أُخرى، ثم ذكر نقص الأولى ركعةً، فهل تبطلان معاً، أم يجب إكمال الأولى حين الذكر وتصحُّ أم لا ؟

الجواب: نعم، إن لم يتجاوز العدد بأن يركعَ في ركعةٍ زائدةٍ.

مسألة [6]: لو تعارض الصف الأوّل مع فوات ركعة أو أقل أو أكثر فيه، والأخير مع حصول الصلاة فيه تماماً، فأيُّهما أفضلُ ؟

الجواب: إنّما يتربَّحُ الصف الأوّل لأهله حيث لا يستلزم فوات ركعة فصاعداً مع الإمام.

مسألة [7]: لو عَلَّقَ البيع على الواقع نحو «بعتك هذا إن كان لي»، أو على ما هو شرط فيه، نحو «بعتك إن قبلت»، هل ينعقد أم لا ؟

الجواب: تعليق العقد على شرط يعلمان حصوله غير قادح فيه إن شاء اللّه تعالى.

إباحة التصرّف في الثمار في الأشجار بعد إعراض المالك

مسألة [8]: الثمار على رؤوس الأشجار هل يُباح التصرُّف فيها بعد إعراض المالك عنها أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [9]: لو تعارض فعلُ الصلاة جماعةٌ في الوقت المتأخّر عن وقت فضيلتها أو تقديم الثانية(1) كذلك وفرادى فيه، فأيّهما أولى بالمراعاة.

الجواب: مراعاة وقت الاختيار -الذي قيل بعدم جواز تأخير الفريضة عنه اختياراً تقديمُها عليه - أولى.

مسألة [10]: لو دعا الخصمُ خصمه إلى الحاكم وهو مُعسر، أو يعتقد براءة ذمته، أو أنّ الحاكم يحكم عليه بجورٍ، لاطلاعه في البيِّنة على ما لا يطَّلع عليه الحاكم، هل تجب إجابته أم لا ؟

الجواب: تجب عليه الإجابة ويبيِّنُ عُذره بوجه شرعي. وأما قولك: «يحكم الحاكم

ص: 548


1- أي الصلاة الثانية من الظهرين أو العشاءين.

عليه بجورٍ حيثُ لم يطَّلع على البيِّنة» فهو جورٌ؛ لأنّ فرض الحاكم العمل بالظاهر، وذلك لا يُعدُّ جوراً.

مسألة [11]: لو نوى الوجوبَ والندبَ في عبادةٍ واحدةٍ، كما لو نوى بالغسل الجنابة والسنّة، هل يبطل لتنافي الوجهين أم لا ؟ فإن كان الثاني فلا بحث، وإن كان الأوّل واقتصر على الوجوبِ هل يكتفي به في القيام بالسنّة أم لا ؟

الجواب : الأقوى دخول المندوب تحت الواجب حيث يجتمعان، ولا يفتقر إلى النيّتين المتنافيتين.

مسألة [12]: لو شكٍّ في دخول الوقت وصلّى فصادف الوقت أو دخل وهو فيها، فهل تقع مجزئة أم لا ؟

الجواب: لا تصحُّ والحالُ هذه.

مسألة :[13] هل يجوز التعويل على الظنّ مع وجود الطريق إلى العلم به أم لا ؟

الجواب: لا يصحُّ.

مسألة [14]: المأكول في المخمصة مأذوناً فيه هل يقع مضموناً على الأكل أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [15]: لو فعل الإنسان فعلاً أو قولاً يوجب الارتداد جاهلاً بذلك هل يرتدُّ أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [16]: رغوة(1) الحليب هل هي من الجامدات فلا تسري النجاسة فيها، أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [17]: الدفاع المؤدّي إلى القتل عن بُضع محرّمٍ في الأجانب إذا لم يُمكن بدونه، أو قتل مؤمن ظلماً كذلك، هل هو واجب ولا يترتَّبُ عليه شيء من مسبَّبات القتل أم لا ؟

الجواب: نعم، حيثُ تُظنُّ السلامة، وإلّا فلا.

ص: 549


1- لرُغوة: ما يعلو السوائل عند غليانها أو رجّها، أو ذوبان شيء فيها. المعجم الوسيط، ص358، «رغو».

مسألة [18]: إذا تساوى خوفُ التلف في الوديعة مع الإقامة والسفر مع وجوبه عليه تعذُّرِ المالك ووكيله والحاكم والثقة، فهل يجب السفرُ بها ولا ضمان أم لا ؟

الجواب: بل يجوز خاصّةً.

النذر على الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)

مسألة [19]: لو نذر شيئاً معيَّناً على الإمام ولم يُعينه، فهل يُحمَلُ الإطلاق على صاحب هذا الزمان أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [20]: إطعام من لا يعتقد وجوب الصوم عليه نهاراً في شهر رمضان جائز أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [21] هل المؤونة من التلاد المخمَّس، أم من الطارف(1) عكس الأوّل، أم منهما بالنسبة ؟

الجواب الأوّل أحوطُ، والأخيرُ أعدل، والأوسط جيّدٌ.

مسألة [22]: الاعتبار بكثرة الاستحاضة وقلتها في أوقات الصلوات أم لا ؟ ثمّ الانقطاع على إحدى الحالات للبرء هل يوجب ما توجبه الحالة أم لا ؟

الجواب: انقطاعه للبرء يوجبُ ما كان قبله من وضوء أو غسل.

مسألة [23]: الحالة الوسطى لو حصلت في وقت الظهرين أو العشائين هل توجبُ ما توجبه في وقت الفرض الخامس أم لا ؟

الجواب: لا توجب إلّا أن تحصُل في وقت الصبح.

مسألة [24]: السجود للأب والسيِّد والزوج والعالم ونحوهم جائزٌ أم لا ؟

الجواب: لا.

وعلى الثاني فهل هو كفر أم لا ؟

الجواب: لا.

ص: 550


1- التلاد والتليد والتالد كلّ مال قديم وخلافه الطارف والطريف، المصباح المنير، ص 76، «تلد».

وعلى الثاني فهل فرق بين أن يكون المعظَمُ مشتملاً على الكمالات النفسانيّة أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [25]: لو تواطئا على شرط فنسياه حين العقد، فهل يقعُ باطلاً أم لا ؟

الجواب: نعم، وكذا لو جهلاه.

مسألة [26]: لو تواطئا اثنان على بيع، وفي أنفسهما رده بعد مدة بزيادة عن ثمنه، هل يصحُّ أم لا ؟

الجواب نعم.

مسألة [27]: لو أنفق فقير على غني هل تسقُط الفطرةُ عنهما معاً أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [28]: قيل: «إنَّ الصبيّ لا ذمّة له(1)»، فلو أتلف مال غيره، فهل يتعلَّقُ به الضمانُ ؟ على تقديره فهل هو مُعجَّل أم مشروط بالبلوغ ؟

الجواب: يتعلَّق به مُعَجَّلاً.

مسألة [29]: هل يصحّ الصرف معاطاةً وأخذُ العوض على التعاقب أم لا ؟

الجواب: لا يصحّ بدون التقابض في المجلس كغيره.

مسألة [30]: لو كان في ذمَّتِه حقٌّ ويَنسَ من معرفة صاحبه، هل تجوز الصدقة به على العلويّين حيثُ إنّها مندوبةً أم لا ؟

الجواب: نعم، تجوزُ وإن كانت واجبةً، ولا معنى للندب هنا.

مسألة [31]: هل يجب تكفين من تجب نفقته لو مات مُعدِماً (2) عدا الزوجة والمملوك ؟

الجواب: لا، بل لا يجب تكفين من عدا الزوجة من الأقارب.

مسألة [32]: لو كان الأب أو الابن فقيراً، فهل يجوز له أخذُ الصدقة من الآخر مع

ص: 551


1- القائل هو الشهيد في القواعد والفوائد، ص 347 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 15).
2- أعدم فلان: افتقر، فهو معدم المعجم الوسيط، ص 588، «عدم».

إمكان الأخذ من الغير أم لا ؟

الجواب: نعم، يجوز.

مسألة [33]: لو زَرَعَ الحنطة وغيرها، ولولا زرعُها لَفَضَلَت عن مؤونةٍ سَنَتِهِ، هل يجبُ فيها خُمس أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [34]: لو استؤجرت المرأةُ لتُصلِّي عن الرجل، هل يجب عليها الج-ه-ر ف-ي مواضعه أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [35]: المصلّي عن المرأة هل يَتَخيَّرُ في الجهرية بين الجهر والإخفات أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [36]: الزوجة الفقيرة إذا لم يُنفق عليها زوجها الغني، هل يجوز لها أخذ الزكاة منه أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [37]: لو كان من تجب نفقته ذا كسب يقوم به، لكنه مشغول بطلب العلم أو محصلاته، فهل يجوزُ لِمَن تجب نفقته عليه أن يدفع إليه من الزكاة أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [38]: التبرع بالإرضاع لباً (1)وغيره من الأمّ وغيرها، أو بالأجرة كذلك، موجب لاشتغال الذمّة بالفطرة أم لا ؟

الجواب: نعم مع اجتماع باقي الشرائط.

مسألة [39]: لو آجر الطفل أو ماله مدة، فبلغ في أثنائها، فهل له الفسخ في الباقي أم لا ؟

ص: 552


1- اللباً : أوّل اللبن عند الولادة قبل أن يرقّ. المعجم الوسيط، ص 811، «لباً».

الجواب: نعم.

مسألة [40]: الماء والثلج المجتمعان في ملكه، والكلا النابتُ في أرضه هل يدخُلُ في ملكه قهراً كالإرث أم لا ؟

الجواب: هو أولى به.

مسألة [41]: لو وقع بيع الأثمانِ بالأثمانِ مؤجلاً مع القبض في المجلس، هل يصحّ أم لا ؟

الجواب: لا يصحّ.

مسألة [42]: الخبز واللحم ونحوهما الموصى به إذا وضعه للغير غير الوصي مع عدم العلم بالإذن هل يجوز تناوله ؟

الجواب: لا.

مسألة [43]: هل يصحّ الصوم ندباً مع جهل الوالد، أو علمه وعدم النهي أم لا ؟

الجواب : الأقوى كراهة الصوم المندوب بدون إذن الأب.

مسألة [44]: السفر المباحُ أو المندوب بغير إذن الوالدين أو أحدهما معصيةً يحرُمُ التقصير فيه أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [45]: هل يجوز أخذ الزكاةِ والخُمس والكفّارة من المُمتَنعِ قهراً وصرفها في أربابها لغير الإمام أو الحاكم أم لا ؟

الجواب: لا.

المال المغصوب لا يجب أخذه وإيصاله إلى أهله

مسألة [46]: لو ظفر بمال مغصوب هل يجب أخذه وإيصاله إلى أربابه أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [47]: قد ورد الخبر أنّ «حبُّ علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) حسنةٌ لا تضرُّ معها سيئة، وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة»(1).

ص: 553


1- كشف الغمة، ج 1، ص 105؛ بحار الأنوار، ج 39، ص 256، ذيل الحديث 32.

فالثاني يمكن توجيهه باستحالة حصول المُسَبَّب - أعني الجنَّةَ ونعيمها - بدون سببه، هو المحبَّةُ التي هي الموالاة له ولأحد عشر من ولده، وذلك هو الإيمان أو بعضه. وأمّا الأوّل فقد قيل (1): «إن صاحب الكبيرةِ يُعاقب ما لم يحصل له أحدُ أُمور ثلاثةٍ: إمّا توبةً مخلصَةٌ، أو شَفاعة، أو عفو اللّه تعالى» فكيف يتّجه استقلال المحبَّةِ بدخول الجنَّة ؟

الجواب: لابد من تصحيح الخبر أوّلاً، من تصحيح الخبر أوّلاً، ومع ذلك فالقرآن ناطق بأنّه «وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(2) و «من» عامةٌ تَشملُ مُحِبَّ عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وغيره.

فعلى تقدير صحّة الخبر يفتقر إلى التأويل، وأقرب التأويلاتِ حَمله على المحبَّةِ الحقيقية الكاملة، وهي توجب عدم ملابسة شي من الذنوب البتَّةَ؛ لأنّ المُحِبَّ الحقيقي يُؤثِرُ رضى المحبوبِ كيف كان. ولا شك أن رضى عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ترك المحرمات والقيام بالواجبات، فمُحِبُّهُ على الحقيقةِ يُؤثِرُ لأجله ذلك فلا يفعل موجِبَ النار، فيدخل الجنَّةَ، ومن خالف هوى مَحبوبه فمَحبَّتُه معلولةٌ.

مسألة [48]: لو كان دين الغارم مؤجلاً، فهل يجوز له قبضُ الزكاةِ معجَّلاً أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [49]: لو كان مؤونَةُ سَنَتِه له ولواجبي النفقة، وعليه دين موْجَّلٌ سَنةٌ أو أكثرَ، فهل هو فقيرُ يَستَحِقُّ الزكاةَ أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [50]: قد روي أنَّ: «صوم الغدير يَعدِلُ صوم الدهرِ»(3)، فكيف يُساوي الجزء الكل ؟

ص: 554


1- انظر كشف المراد، ص 416 - 424.
2- الزلزلة (99): 7.
3- روضة الواعظين، ص 350؛ ورواه عنه في وسائل الشيعة، ج 10، ص 446، أبواب صوم المندوب، الباب 14، ح 14: وانظر مصباح المتهجد، ص 757-758.

الجواب: هذا الخبرُ على تقدير صحته محمول على الدهر مع خروج ذلك اليوم منه، حتّى لا يلزم تفضيلُ الشيء على نفسه، ومثله واقع في الأخبار كثيراً.

وقولنا: «على تقدير صحّته» إشارة إلى كونه ضعيف السند، وإن كان مذكوراً في الكتب المعتبرة كالمصباح وغيره، ف«ربّ مشهورٍ لا أصل له».

مسألة [51]: الواجب أفضل من المندوب، فما وجه أفضليّة إبراء المعسِرِ من الدين مع ندبه على الإنظار الواجب ؟ وإعادة المنفرد صلاته جماعة ؟

الجواب: كون الواجب مطلقاً أفضل من الندب ممنوع وسند المنعِ ما ذكر في المثالين. التحقيق أنّ المراد من تفضيل الواجب على الندب مع تساويهما كيفيّةً وكمّيّةً، كصلاة ركعتين - مثلاً - واجبة أفضل منها مندوبةً، والصدقة بدرهم واجباً أفضل منها به مندوباً، وهكذا، وحينئذٍ فيرتفع الإشكال.

مسألة [52]: المراد بالرحم المعروف بالنسب وإن بعد ذكراً كان أم أنثى، أم من يحرم نكاحه على تقدير الأنوثة ؟

الجواب: لا خلاف في أنّ الرحم كلّ قريب وإن بعد، والقول باختصاصه بالمحرم من شذوذ أقوال العامّة(1).

انتفاع المسلم بالأرض المختصة بالإمام

مسألة [53]: هل يَمِلكُ المسلم الانتفاع بالأرضِ المختصّة بالإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالإحياء في زَمَنِ الغيبة، وكذا منافعها كالحطب والحشيش أم لا ؟

الجواب: نعم.

مسألة [54]: لو مات وعليه خمس أو زكاة أو حجٌّ واجب أو دين ولم يُوص به، وكلّ من الوصيّ والوارث عالم به، فهل يجبُ عليهما إخراجُ ذلك من صُلب المال أم لا ؟

ص: 555


1- قال في الفروق، ج 1: ص 147: قال الشيخ الطرطوشي، قال بعض العلماء: إنّما تجب صلة الرحم إذا كان هناك محرميّة، وهما كلّ شخصين لو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى لم يتناكحا...؛ وانظر القواعد والفوائد، ص 293 - 298 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 15).

وهل حكم الصلاة الواجبة كذلك أم لا ؟

الجواب: كلّ واجب مالي يجب إخراجه عن الميّت إذا تَرَكَ مالاً، أوصى به أو لم يُوصِ، جميعُ ما ذكره السائل من الأمثلة من هذا القبيل إلا الصلاة؛ فإنّها واجب بدني لا يجب إخراجه إلّا مع الوصيّة به من ثلث المالِ إن لم يُجِزِ الوارث.

مسألة [55]: إذا استؤجر للحج واشترط المستأجرُ إيقاع كلّ فعل في محله منه بنفسه، ثم مات بعد دخولِ الحَرَمِ، فهل يستَحِقُّ جميعَ الأُجرَةِ أم لا ؟

الجواب: بل يستَحِقُ بنسبةِ ما فَعلَ والحالُ هذه، وإنّما يَستحقُّ الجميع مع الإطلاق.

مسألة [56]: لو مسَّ الميّت بينه أو يشعره أو ظُفره هل يلزمُه غُسل أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [57]: هِبَةُ ثواب الطاعات المندوبة صحيحة أم لا ؟ وهل الواجبة كذلك أم لا ؟ وهل فرق في الموهوب بينَ الحيِّ والميّت أم لا ؟

الجواب: لا فرق، والأولى إيقاعها بصيغة الصدقة.

مسألة [58]: خَرَزَةُ الدماغ حرام مع التمييز، فهل هي كذلك مع عدمه كدماغ الطير الصغير أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [59]: لو تحرى قضاء الصوم الواجب في الأيّام المستحبّةِ قاصداً تحصيل الفضيلتين، فهل تكفي نيّة الواجب ويحصلان معاً.

الجواب: ليس ببعيد.

مسألة [60]: إذا كان جواب الدعوى موقوفاً على العلم بالمدعى، فما وجه جواز دعوى التهمة وسماعها مع الظنِّ ؟

الجواب: إنّما يتوقّف على العلم فيما يُمكن العلم به، أمّا ما يخفى كالسرقة فلا.

مسألة [61]: هل يصحّ هبةٌ للحمل، ويُكتفى بقبض الأُمِّ في اللزوم أم لا ؟

ص: 556

الجواب: نعم.

مسألة [62]: لو اجتمع الحالةُ العليا أو الوسطى من الاستحاضة بالنسبة إلى الصبح مع الجنابة، فهل إذا نَوَت الاستباحة أو الرفع المطلق أو الجنابة يتداخلانِ أم لا ؟

الجواب: نعم في الغُسل والوضوء.

مسألة [63]: لو جَدَّدَ الإنسانُ نيّة قضاء الصوم قبل الزوال مع كونه أصبحَ ناوي الإفطار هل به بأس أم لا ؟

الجواب: لا بأس.

مسألة [64]: لو كان الواقف على الفقراء فقيراً، فهل يدخُلُ في الوقف ويجوز كونه قابضاً ؟

الجواب: نعم.

مسألة [65]: هل يجب بمسّ السقط لِدونِ أربعة أشهرٍ غُسل أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة (66): إذا قَذَفَ ولدة من الرضاع أو قتله هل يُحدُّ أو يُقتل به ؟

الجواب: لا.

وهل تقبل شهادةُ الولد عليه أم لا؟

الجواب: نعم.

مسألة [67]: هل يجب على الولد القضاء عن أبيه المُرتدّ عن فِطرة أم لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [68]: لو باع اليهودي أو النصراني صُوفاً أو جلداً في بلاد الإسلام وأسواقهم أخبَرَ أنّه من مأكول اللحم، فهل يُقبل قوله أم لا ؟

الجواب: الجِلد ميتةٌ في يده مطلقاً، سواء أخبر بكونه ممّا يُؤكَلُ لحمه أم لا، وأمّا الصُوفُ فأصله الغَنَم، فلا يفتقر إلى خبره فيه.

مسألة [69]: هل يطهر الصابون بالقليل أم لا ؟

ص: 557

الجواب نعم إن كانت النجاسة على ظاهره.

مسألة [70]: هل يجوز أن ينوي في الصلاة نيّة عبادةٍ أُخرى أم لا ؟

الجواب نعم يصحّ حال الصلاة والنيّة بالقلب.

مسألة [71]: هل يجوز تقليد المخالف والفاسق في القرآن والقراءة بنقلهم في الصلاة أم لا ؟

الجواب: القِراءات العشر متواترةٌ، والمخالفُ من جملة المخبرين بالتواتر، ولولا الرجوعُ إليهم في ذلك لبطل تواتُر القراءات؛ إذ لم يقُم بضبطه غيرُهم غالباً في سائر الأعصار.

مسألة [72]: هل يجوزُ الائتمامُ بصلاة الكسوف المعادة ؟

الجواب: نعم.

مسألة [73]: الحديد المشَرَّبُ بالنجس نجسٌ ثمّ كلَّما سُنّ(1) عليه هل يجب تطهيره أم لا ؟

الجواب: هذا هو الأحوط.

مسألة [74]: لو أعطى المكلّف ناراً لصبيٍّ فأجَّجَها (2) في مباح، فَسَرت وجَنَّت فالضمانٌ على مَن ؟

الجواب: إن حَصَل تعدٍ بأن كان هناك هواء يوجبُ السِرايةَ، أو كانت النارُ زائدةً عن قدر الحاجة على وجهِ يُظَنُّ التعدّي ضَمِنَ الصبيُّ، ولا ضَمان على المكلّف مطلقاً مع كون الصبيّ مميّزاً.

مسألة [75]: إذا غَلَبَ الظنُّ بطهارة الجلد المطروح في بلاد الإسلام بقرينة الدبغِ ونحوها، فهل هو طاهر أم لا ؟

ص: 558


1- سَنَّ السكّين ونحوه سَناً: أحده. المعجم الوسيط، ص 455، «سنن».
2- أجّج النار: الهَبَها. المعجم الوسيط، ص 6، «أجج».

الجواب: الدبغ ليس من القرائن الدالّة على التذكية؛ لاشتراكه بين المسلمين والكفّار، الأصل عدم التذكية إلى أن تُعلم.

تفسير آية «وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه»:

مسألة [76]: قوله تعالى: «وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه»(1) فهل تحاسَبُ على ما يَخطُرُ في النفسِ مِن عزم على ترك واجب أو فعل قبيح أم لا ؟

الجواب: المراد من الآيةِ ما يتناوله الأمرُ، والنهي من الاعتقادات والإرادات مما هو مُستورٌ عنّا، ويُمكنُ المكلّف نفيه وإثباته، فأما ما لا يدخل في التكليف من الهواجس النفسانيّة والوساوس، وما لا يمكن التحفُّظُ عنه من الخواطر، فخارج عن ذلك لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «عُفى لهذه الأُمِّةِ عمّا حَدَّثت به أنفُسها»(2). والعقل يدلُّ على ذلك أيضاً.

مسألة [77]: إذا وطئ البالغ بهيمة غيره ولم يَعلَم المالك به هل تلزمه القيمة أم لا ؟

الجواب: الأظهرُ عدم لزوم القيمةِ للفاعل إلا مع ثبوتِ الفعل بالبيّنة، أو إقراره مع تصديق المالك إيّاه، وإلّا فلا.

مسألة [78]: الثيابُ المَطوية المشاهَدَةُ يجوز بيعها أم لا ؟

الجواب: لابد من اعتبارها على وجه ترتفع الجهالة عنها بالنشر أو ما يقوم مقامه.

مسألة [79]: الكلام الواجب - كالكلامِ لحفظ الأعمى والصبيّ من التردّي ونحوه - هل يبطل الصلاة أم لا ؟

الجواب: نعم، يُبطل من غير إثم، إلا أن يكون بالقرآنِ أو الذكر حيثُ لا يَتَمَخَضُ به قصد الإعلام.

ص: 559


1- البقرة (2): 284.
2- إتحاف السادة المتّقين، ج 7، ص 292؛ وفي التبيان، ج 2، ص 382، ذيل الآية 284 من البقرة (2):... لقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «تجوّز لهذه الأمّة عن نسيانها وما حدّثت به أنفسها»؛ وقريب منه في صحيح مسلم، ج 1، ص 116 - 117، ح 201/127 - 202: وسنن ابن ماجة، ج 1، ص 658، ح 2040؛ وسنن النسائي، ج 6، ص 156، 157، باب من طلّق في نفسه.

مسألة [80]: لو شرع في القراءة أو التسبيح في الأخيرتين هل يجوز له العدول إلى الآخَرِ ؟

الجواب: إن شرَعَ في أحدهما بقصده لم يَجُز العدول عنه مطلقاً، وكذا إن سبق إليه لسانه على الأقوى، وإن قصد أحدهما فسبق لسانه إلى غيره جاز العدولُ إلى ما قصده.

مسألة [81]: هل تُستَحَبُّ حكاية أذانِ عصري الجمعة وعرفة وعشاء المُزدلفة والأذان الأوّل في الصبح أم لا ؟

الجواب: استحباب الحكاية تابع لشرعيَّة الأذان، وحيثُ لا يُشرَعُ في الثلاثةِ الأوّل لا تُشرَعُ حكايته، بخلاف الأذان للصبح؛ فإنه مستحب، وكذا حكايته.

مسألة [82]: لو أعطى ثوبه لفاسقٍ لِيُطَهّره، فهل يفتقر إلى سؤاله أم لا ؟

الجواب: نعم، يفتقر إلى السؤال، ويُقبلُ في تطهيره.

مسألة [83]: المائعُ كاللبن والدبس إذا عَرَض له نَجاسة، يجوز بيعه على المخالفِ والكافر أم لا ؟

الجواب: المخالف لا يستحلُّ أكل النجس، فلا يجوز بيعه منه مطلقاً. وأمّا الكافر فإن علم من مذهبه استحلال ذلك جاز بيعه منه من دون الإعلام، وإلّا فلا.

مسألة [84]: لو أوقَبَ غيرُ البالغ مثله هل يتعلَّق به نشر الحرمة ؟ فلو تزوّج ثم فارقها هل تجب عليها عدة أم لا ؟ الجواب: إيقاب الذكر يوجب نشر الحرمةِ لأُمّه وأُختِه وبنته مع سبقه، فالعقدُ المتأخّر باطل، سواءٌ عَلِمَ بالحالِ أم جَهِلَ والولد ولد شُبهة مع جهلهما بالتحريم وزنى علمهما لو تفرّقا في العلم لزم كلاً منهما حُكمُه، وعليها الع-دة م-ع جَهلهما أو

أحدهما.

مسألة :[85] هل يجوز لطالب العلم العدل أن يحكم بين الناس ويُحَلِّفَ مع فقد المجتهد لئلّا تتعطّل الأحكام الشرعيّة أم لا ؟

ص: 560

الجواب: لا خلاف بين المسلمين في عدم جواز ذلك، نعم، له الوساطة بينهم بالصلح الإصلاح والإعلام بما يَعلَمُه مِن الحُكم الشرعي دون القضاء؛ فإنه متوقف على الاجتهاد.

مسألة [86]: لو طيِّنَ حائط أو سطح بطين نجس فَجَنَّفته الشمسُ، هل يطهر ظاهراً باطناً ؟

الجواب: إذا أشرقت على ظاهره طهر هو وما اتصل به من النجس.

مسألة [87]: لو وقع قطرة من بول مأكول اللحم أو بعضُ فَضَلاتِهِ في المائع كالحليب ما حكمه؟

الجواب: إن استهلك فيه حَلَّ الجميع على الظاهر.

مسألة [88]: هل يكفي في الفقير المتناول للحقوق الشرعيّة والصدقات كونه يعتقد معتقد الإماميّة وإن لم يكن بدليل عقلي ؟

الجواب: نعم، يكفي ذلك.

مسألة [89]: لو أخَذَ الفقيرُ من مال الزكاة ما يكفيه سنين متعددة دفعةً، فهل يجب في الزائد عن مؤونة السنّة الخُمسُ والزكاة إذا بلغ النصابَ أم لا ؟

الجواب: لا يجب الخمس وتجب الزكاة إذا اجتمعت شرائطها.

مسألة [90]: إذا ظَفِرَ المُقاصُّ بغير جنس ماله، فهل يجوز له بيعه وأخذ حقه منه أم لا ؟ هل يكون مضموناً عليه قبل البيع أم لا ؟ وهل يعتبر اللفظ في الأخذ قصاصاً أم لا ؟

الجواب: نعم، يجوز له البيع، ويكون مضموناً عليه قبله على الأقوى، ولا يعتبر اللفظ، نعم يُستَحبُّ.

نقل فرش مسجد إلى مسجد آخر

مسألة [91]: هل يجوز نقل حصير الجامع إلى جامع آخرَ ليُصلّى عليه فيه مع عدم المُصلِّين في الأوّل، أو كانوا وكان عندَهم مِن الحُصُرِ ما يكفيهم ويفضل عنهم أم لا ؟

الجواب: نعم يجوز ذلك.

ص: 561

مسألة [92]: لو لم تكن على الغريم بينة، أو كانت لكنَّها غير مقبولة عند الحاكم، فهل تجوز له المقاصة - ولو من غير الجنس - أم لا ؟

الجواب: تجوز له المقاصّة والحال هذه.

مسألة [93]: إذا أرسل إنسان سلاماً مع غيره، هل يجوز للرسول أن يصلّي مع سَعةِ الوقت أم لا ؟

الجواب نعم الصلاة صحيحة، وإن كان أداء الأمانة قبلها أولى.

مسألة [94]: لو كان الإنسانٍ شيء من الغرس كالتوت وغيره، ولآخر أرض، فتواطئا على الغرس في تلك الأرض على التنصيف فيهما، فهل يصحّ أم لا ؟

الجواب: المعاملة المذكورة غير لازمةٍ، بل ولا جائزة بمجرّد التواطؤ، بل الطريق إلى تصحيحها أن يبيعه نصف الأرض بنصف الغرس، أو نحو ذلك من الوجوه السائغة شرعاً.

مسألة [95]: لو أرضعت العمة أو الخالة ولد الأخ أو الأخت يلين زوجهما الرضاع المحرّم، هل تحرمان عليه أم لا ؟

الجواب: الخالة لا تحرم، وأمّا العمةُ فتحريمها قويٌّ.

مسألة [96]: وكذا الجدّة لو أرضعت ولد ولدها أو الأُخت أختها بلبن زوجيهما الفحل هل تحرمان عليه ام لا ؟

الجواب: لا.

مسألة [97]: قال في الشرائع: «فإن كان معه مساءٍ ذو فرض [وكانت التركة بقدر السهام قسّمت على الفريضة. وإن زادت كان الزائد ردّاً عليهم على قدر السهام، ما لم يكن حاجب لأحدهم، أو ينفرد بزيادة في الوصلة. ولو](1) نقصت التركَة، كان النقص داخلاً على البنت أو البنات أو الأب»(2).

ص: 562


1- أضفناه من المصدر.
2- شرائع الإسلام، ج 4، ص 5.

كيف يتّجه دخولُ النقص على الأب لأنّه أمّا مع الولد فلا ينتقص سهمه عن السدس، أو لا معه فإرثه بالقرابة والحال أنّه ذو فرضٍ مع ذي فرضٍ، فكيف يدخل النقص عليه ؟

الجواب: إدخال الأب في المثال غيرُ سديدٍ، وقد أثبته كذلك جماعة(1)، وأغفله آخرون(2)، وقد حقّقنا ذلك في محلّه(3).

ص: 563


1- منهم: المحقّق في شرائع الإسلام، ج 4، ص 15؛ والمختصر النافع، ص 268؛ والعلّامة في إرشاد الأذهان، ج 2، ص 131؛ وتحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 14 - 15، الرقم :1280؛ والشهيد في اللمعة الدمشقية، ص301 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 13)؛ وابن فهد في المهذّب البارع، ج 4، ص 373.
2- كالشيخ في المبسوط، ج 6، ص 285 - 286؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 366؛ وابن سعيد في الجامع للشرائع، ص 511؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 358؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 270 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
3- الروضة البهيّة، ج 4، ص 194 (ضمن الموسوعة 9) وانظر مفتاح الكرامة، ج 8، ص 117، الطبعة الحجريّة.

ص: 564

29. أجوبة مسائل السيد شرف الدين السمّاكي

إشارة:

تحقيق

عباس المحمّدي

مراجعة

رضا المختاري

ص: 565

ص: 566

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمدُ للّه حقَّ حمده، والصلاة والسلامُ على سيّد رُسُلِهِ محمّدٍ وآله وصحبه، اللّهمّ اهدنا لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك؛ إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

و بعد، فقد وصلت رسالتك أيّها المولى الجليل الفاضل العالم العامل، خلاصة الأبرار، زُبدَةُ الأخيار (أحسن اللّه تعالى توفيقك وتسديدَكَ، وأجزَلَ مِن فضلِهِ حظك حظّك مزيدك) المشتملة على الأسئلة الثلاثة، وطَلَبِ الجواب عنها، وبسط الكلام فيها، وبيان مأخذ حكمها. وذَكَرتَ أنّ طالب الجواب جليل لا يقنعه القليل. و ما وَصَلَتْ إِلَّا في وقتٍ ضَيْقٍ على خاطِرٍ مُقسَّمٍ لم يتفق فيه البسط بحقِّهِ، فاقتصرتُ في الجواب على مقتضى الوقتِ الحاضر، فإن وقعت موافقةً للغرض، وإلا فنبهوا على مواضع الإشكال منها؛ لنحرّرها في وقتٍ آخر إن شاء اللّه تعالى، ونستمد منه التوفيق.

سؤال عن كيفية غسل المني الذى على البدن

المسألة الأولى: شخص على بدنه المني وهو يغتسل في الماء الكثير، ويمعك(1) بدنه لإزالة الخبث، فلما اغتسل وانصرف تيقن أن تحت أظفاره شيئاً من وسخ البدن المختلط بالمني، فهل يطهرُ الوسخ - الذي له جرم مخالط للمني - بنفوذ الماء في أعماقه أم لا ؟

الجواب: أنّ الكلام على هذا السؤال يقع من وجوه ثلاثة:

ص: 567


1- مَعَكَ الأديم ونحوه في التراب - معكاً: دلكه ذلكاً شديداً. المعجم الوسيط، ص 878، «معك».

أحدها: أنّ دخول الماء في الوسخ الكائن تحت الظفر هل يكفي في طهارته إذا كان نَجِساً من حيث إنه لم يدخل فيه بقوة وجريان بل على وجه الترشُّح والسريان، أم يَطهرُ بنفوذه فيه واستيعابه لأجزائه النجسة كيف كان ؟

وثانيها: أنّه على تقدير القول بطهارته بمطلق النفوذ في أعماقه واستيعابه لأجزائه لو كان نَجِساً بنَجاسةٍ لا جرم لها كالبول والماء النجس هل يَطهُرُ في هذه الصورة أم لا؟ من حيث إنّ المنيَّ له جرم ثخين لا يطهر بدون زوال عينه، واختلاطه بالوسخ المذكور يوجبُ الشكَّ في زوال العين.

وثالثها: - وهو متفرّع على الأوّلين - على تقدير طهارة الوسخ المذكور وعدمه هل يقدح ذلك في صحّة الغُسل من حيث الشك في جريان الماء على البشرة الملاصقة للوسخ على وجه يكفي في تحقّق غَسلها أم لا؟

فلنتكلّم على المطالب الثلاثة:

أمّا الأوّل، فنقول الظاهر من النصوص(1) والفتاوى (2) طهارة ما أصابه الماء من ذلك أمثاله وإن لم يَصِل إليه بقوّة، بل يكفي مطلق وصوله إليه ونفوذه في الأجزاء النَحِسَةِ، وعموم الأوامر بالغسل وإطلاقها يشمله، والإجماع واقع على طهارة الثوب والجلد والحشايا التي تدخل النجاسة إلى أجزائها الداخلة بوصول الماء إليها مع عصر ما يمكن عصره كالثوب، دقّ الحَشايا وتغميزها؛ لإخراج الغُسالة الداخلة في أعماقها ولا شبهة في أنّ دخول الماء إلى هذه الأشياء إنما هو على وجه الترشح والنفوذ اللطيف.

وكذا اتّفقوا على طهارة الإناء النجس المشرب بالنجاسة حتّى الخمر وإن كان خشباً أو خزفاً غير مدهون وإن كرة استعمال غير المدهون والمقيَّر من أواني الخمر (3)، والحكم

ص: 568


1- الكافي، ج 3، ص 53 - 54، باب المني والمذي يُصيبان الثوب والجسد.
2- المعتبر، ج 1، ص 144؛ منتهى المطلب، ج 2، ص 205.
3- منتهى المطلب، ج 3، ص 350؛ مختلف الشيعة، ج 1، ص 346، المسألة 265.

هنا أيضاً منصوص(1) بخصوصه، ولعلّه أضعف قبولاً لدخول الماء في أعماقه من الوسخ. وكذلك حكموا بطهارة الحبوب المُشرَّبة بالماء النجس إذا وُضعت في الكثير حتّى يتخلّلها (2). وكلّ ذلك إنّما يدخل الماء في مسامه مترشّحاً على وجه أضعف ممّا في مسألة النزاع.

نعم لو شك في استيعاب الماء لأجزاء الوسخ المتنجس استَصحَبَ حُكم النجاسة؛ لأصالة عدم طهارته أجمع.

وما يقال: من أنّ المعتبر في طهارة هذه الأشياء إنّما هو الغسل، وقد فسّروه بأنه إصابة الماء للمحلّ مستوعباً له مع انفصاله عنه(3)، وبذلك فرّقوا بينه وبين الرشّ المستحبّ في إصابة الكلب وغيره من نَجاسة السبعة المشهورة، والصبّ المكتفى به في بول الرضيع باشتراط الجريان فيه دونهما، فيُشكل الحكم بطهارة تلك الأجزاء الداخلة؛ من حيث إنّ الغُسالة الداخلة فيها لا تنفصل عنها، فلا يتحقّق فيها معنى الغسل وإن تحقق في ظاهرها.

مُندفِعٌ بأنّ هذا الفرق إنّما يكون مع غسله بالقليل - كما صرّحوا به (4)- أمّا في الكثير فلا يُشترط شيء من ذلك، ولا يتحقّق فيه من الأقسام الثلاثة غير الغسل. ثمّ على تقدير كون التطهير في القليل فليس المعتبر في الغسل انفصال جميع أجزاء الماء المغسول به إجماعاً؛ لتخلّفه في كثير من الأفراد بل في جميعها. وإنّما يُعتبرُ انفصالُ ما يمكن فصله عادةً وهو المنفصل بنفسه عن الجسم الصلب، وبالعصر فيما يُمكن عصره، وبالدقّ والتغميز في نحو الحشايا، ويغتفر فيه ما يَتَخَلَّفُ من الغُسالة في المغسول بعد ذلك،

ص: 569


1- الكافي، ج 6، ص 427، باب الأواني يكون فيها الخمر...؛ ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 283، ح 830.
2- نهاية الإحكام، ج 1، ص 281؛ ذكرى الشيعة، ج 1، ص 83 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).
3- منتهى المطلب، ج 3، ص 265 - 267.
4- جامع المقاصد، ج 1، ص 173 - 174: روض الجنان، ج 1، ص 490 (ضمن الموسوعة، ج 10).

وربّما كان ذلك أضعاف ما يتَخَلَّفُ في هذا الوسخ ونحوه، والمعتبر في هذا الغسل إنّما هو انفصال ما يَقبَلُ الانفصال من الماء المغسول به لا جميعه.

ولو أثّر هذا الوهم لزم أن لا يحكم بطهارة شيءٍ من الأشياء التي تدخُل النجاسة في باطنها، ولا يجري فيه الماء من التراب والثوب وغيرهما، وهو معلوم البطلان.

وهذا ممّا لم أقف على مخالف فيه صريحاً، نعم وَقَعَ في بعض أفراد ما يدخل الماء إليه كذلك ما يُوهِمُ قيام الاحتمال في عدم الطهارة، فقد قال في الذكرى:

والظاهر طهارة الحنطة واللحم وشبهه ممّا يُطبخ بالماء النجس بالكثير إذا عُلِمَ التخلّلُ، وكذا الجلد المدهون بالنجس(1).

وفي نهاية العلّامة:

السمسم والحنطة إذا نقعا في النجس، فالأقوى قبولهما للطهارة، وكذا اللحم إذا تَنَجَّسَت مَرَقَتَهُ(2).

وهذا يُشعِر بخلافٍ أو احتمال في عدم الطهارة في هذه الأشياء، أمّا طهارة التراب الثوب والجلد ونحوها بالكثير فهو موضع وفاقٍ.

وأمّا الثاني، فحكمه بعد ما ذكرناه واضح؛ لأنّ الوسخ المتنجِّس بالمني إذا كان بعد زوال عينه وبقاء أثره فلا شبهة في قبوله الطهارة بمجرّد وصول الماء الكثير إليه؛ لأنّ نَجاسته حينئذٍ ليست عينيّةً، فيكفي في طهارته إصابة الماء له على وجه الغسل كما يطهرُ المتنجس بغيره من النجاسات التي لا جرم لها كالبول والماء النجس. وإن تحقّق اختلاط الوسخ بجرم المني الذي لا يقبل التطهير مع بقائه، فلا شبهة في عدم طهارة الوسخ المذكور بدخول الماء في أعماقه ما لم يتحقّق زوال جرم المني منه ؛ عملاً باستصحاب النجاسة وأصالة بقائها إلى أن يُعلَمَ المُزيل، ولا يقدح في

ص: 570


1- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 83 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).
2- نهاية الإحكام، ج 1، ص 281، وفيه: «إذا انتقعا في الماء النجس» بدل «إذا نقعا في النجس».

ذلك زوال صورة المنيّ باختلاطه بالوسخ؛ لأنّ ذلك لا يوجب زوال حقيقته وإن لم يتميّز. ولو شكٍّ في كون الممازج للوسخ هل له جرم أم لا ؟ فالأصل عدمه، فيقبل الطهارة كما مرّ.

وهذا القسم يرجع إلى قواعد كلّيّة لا خلاف فيها، وهذا القدر كافٍ فيه.

وأمّا الثالث، فالحكم فيه أيضاً واضح بعد ما أسلفناه؛ فإنا إن لم نحكم بطهارة الوسخ فلا شبهة في عدم إجزاء غسل ما تحته من البشرة، فلم يكمل الغُسلِ، ويبقى في صحته وبطلانه ما هو مقرّر في إغفال لمعةٍ من البدن في الغُسل، والفرق بين غسل الترتيب والارتماس بما هو مشهور. وإن حُكم بطهارته ووَصَلَ الماء منه إلى البشرة على الوجه المعتبر في غسلها لو لم يكن هناك وسخ، فلا شبهة أيضاً في صحّة غُسلها.

نعم، يبقى الاشتباه فيما لو وصل إلى ما تحتها على وجه الترشّح المذكور الذي قد اكتفي به في تطهير الخبث ظاهر الأصحاب الاكتفاء به أيضاً في غُسل الحدث؛ لإطلاقهم الاكتفاء بوصول الماء إلى البشرة التي تحت الوسَخِ من غير اشتراط الجريان. قال العلّامة في المنتهى والتذكرة والنهاية والقواعد والتحرير عبارةً متقاربة المعنى: إنّ الوسخ - تحت الظفر - المانع من إيصال الماء إلى ما تحته - تجب إزالته مع عدم المشقّة(1).

بعض عبارات الفقهاء في المسألة السابقة

وقال الشهيد في الذكرى:

ولو كان تحته - يعني الظُّفَرَ - وَسخٌ لا يمنع من وصول الماء استجب إزالته، ولو منع وَجبَ إلا مع المشقة: لنفي الحَرج(2).

ص: 571


1- منتهى المطلب، ج 2، ص 39؛ تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 160 - 161، المسألة 46: نهاية الإحكام، ج 1، ص 41: قواعد الأحكام، ج 1، ص 202، تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 1، ص 78، الرقم 151.
2- ذكرى الشيعة، ج 2، ص 49 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 6).

وقال المحقّق في المعتبر:

الوسخُ - تحت الظفر المانع من وصول الماء تجب إزالته إذا لم يكن فيه ضررٌ؛ لأنه حائلٌ تمكن إزالته من غير مشقّة(1).

وظاهر هذه العبارات - كماترى - الاكتفاء بمطلق وصول الماء إلى البشرة، لكن لما عُهد من الشارع في غسل الوضوء والغُسل اعتبار الجريان فليكن هنا كذلك؛ لأنّ ما تحته من البشرة من جملة ما يجب غسله، فكل ما دلّ على اعتبار الجريان في غير دلّ عليه فيه وإن كانت عباراتهم هنا مطلقةً.

ولو فرض أنهم يكتفون هنا بمطلق وصول الماء، فالأظهر عندنا أنه لا يكفي ذلك؛ لعدم الدليل على سقوط ما وجب فيه لولا الوسخ كغيره من الحائل.

والظاهر أنّ المسألة ليست خلافيّةً، بل مجملة موكولة إلى القواعد المشهورة، وفي كلام العلّامة ما يُرشد إلى ذلك؛ حيث عَلَّل في النهاية الحكم بوجوب إيصال الماء بعد حكاية ما ذكرناه عنه سابقاً - بوجوب استيعاب الأعضاء بالغسل(2). وهو صريحٌ في وجوب غسله على وجه الجريان كغيره.

وعلى هذا يحصُلُ الفرق بين طهارة ما تحت الوسخ من الخبث ومن الحدث في الجملة؛ إذ المعتبر في طهارة الخبث مجرّد وصول الماء إلى ما ذكر مع انفصال ما يمكن انفصاله عنه، وفي الحدث الجريان على نفس البشرة.

هذا في الماء القليل، أما الكثيرُ فَيتَّجه أن يُنزَّل وصول الماء إلى أجزاء الوسخ ثمّ إلى البشرة مع اتصاله بالكثير منزلة الجريان - كما تُنزَّلُ مُماسَةُ الكثير لغيره من أجزاء العضو المغسول منزلة الجريان - بل هو عين الجريان؛ لأنّ المراد منه مفارقة الماء المغسول به للعضو المغسول وإن بقي عليه البلل، ليتميّز عن الدهن وهو متحقق هنا.

ص: 572


1- المعتبر، ج 1، ص 144.
2- نهاية الإحكام، ج 1 ص 41.

ويُحتَمَلُ عدمُ الإجزاء بدون الجريان حقيقةً كغيره.

وكيف كان فيُشكِلُ الحال في غسل البشرة تحت الوسخ بناءً على الظاهر من عدم تحقّق الجريان المعتبر في الغُسل معه.

نعم، لو قيل بالاكتفاء بمسمّى الغُسل عرفاً، وهو ما اشتمل على فضل قوّةٍ في الماء وإن لم يَجرِ في جميع الأجزاء؛ نظراً إلى عدم تصريح أهل اللغة باشتراط جريان الماء في تحقّقه، دلالة العرف على ما هو أعم منه، إلّا أنّ المعروف من الفقهاء - سيما المتأخّرين المصرح به في كثيرٍ من عباراتهم - اعتبار الجريان مطلقاً(1).

قطعة جلد الإنسان المنفصلة طاهرة أم لا ؟

المسألة الثانية: قطعة الجلد المنفصلة عن بدن الإنسان هل هي طاهرة أم نَجِسة ؟ معفو عنها أم غير معفوّة؟ وهل يفرق بين صغيرها وكبيرها، وبينها وبين المشتملة مع ذلك على لحم وبينها وبين المشتملة على العظم أم لا ؟ وهل يلزمُ غَسلُ المحلّ الذي انفصلت عنه ؟ وهل يلزم بمسه شيء من غسل العضو اللامس أو غيره ؟

المطلوب بيان المختار في ذلك، ونقل الخلاف وذكر المرجح، والخروج عن الاقتصار على مجرّد الفتوى - كما هو وظيفة المقلّد - ؛ لأن الغرض هنا تعلّق بذلك.

الجواب: المعروف من مذهب الأصحاب أن ميتة الآدمي وأجزاءه التي تحلُّها الحياةُ نَجِسةٌ، سَواءٌ كانت متّصلة أم منفصلةً، وسواءٌ أبينت من حيّ أم،ميّتٍ لا نعلم في ذلك خلافاً بينهم، بل صرَّحَ الشيخ في الخلاف بدعوى الإجماع عليه (2).

واحتجّوا له مع الإجماع بأنّه حيوان له نفس سائلة فينجس بالموت كغيره من

ص: 573


1- النهاية، ص 22؛ المبسوط، ج 1، ص 44؛ المهذّب، ج 1، ص 45: السرائر، ج 1، ص 100؛ قواعد الأحكام، ج 1، ص 201.
2- الخلاف، ج 1، ص 700، المسألة 488؛ وص 701، المسألة 490.

الحيوانات التي أجمع المسلمون على نجاستها به(1).

وعلى الجملة بحسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الرجل يُصيب ثوبه جَسَد الميّت قال: «يغسل ما أصاب الثوب»(2). ورواية إبراهيم بن ميمون عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الثوب يَقَعُ على جَسَدِ الميّت قال:

«إن كان الميّت غُسِّلَ فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه وإن كان لم يُغسل الميّت فاغسل ما أصاب ثوبك منه»(3).

وعلى الأبعاض برواية أيوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قال: «إذا قُطِعَ من الرجل قطعَةٌ فهي ميتةٌ، فإذا مَسَّهُ إنسان فكلُّ ما فيه عظم فقد وَجَبَ على من يَمَسُّه الغُسلُ، فإن لم يكن فيه عظم فلا غُسل عليه»(4).

وقد اشتركت الأبعاضُ المبانَةُ من الإنسان التي تَحلَّها الحياة في كونها منه نجسة سواء اشتملت على عظم أم لا، وسواء كانت مجرّد الجلد أو مُشتملة على لحم وإن اختلفتِ القطع بعد النجاسة في الأحكام.

ثمّ إن كان فيها عظم وجب الغسلُ بمسها على المشهور بين الأصحاب(5)، مضافاً إلى

ص: 574


1- راجع شرائع الإسلام، ج 1، ص 44؛ ونهاية الإحكام، ج 1، ص 269؛ وقواعد الأحكام، ج 1، ص 191 : واعلم أنّه يظهر من كلام الشيخ في الخلاف، ج 1، ص 700، المسألة 488، أنّ هذه المسألة ليست بإجماعيّة، حيث قال : الميّت نجس، وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه وبه قال الأوزاعي وأبو العبّاس من أصحابه وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني : أنّه طاهر، وبه قال أبو إسحاق وأبو بكر الصيرفي من أصحابه. دليلنا : إجماع الفرقة.
2- الكافي، ج 3، ص 161، باب غسل من غسل الميّت...؛ ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 276، ح 812: الاستبصار، ج 1، ص 192، ح 671.
3- الكافي، ج 3، ص 61، باب الكلب يصيب...؛ ح 5: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 276، ح 811.
4- الكافي، ج 3، ص 212، باب أكيل السبع والطير...؛ ج 4: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 429 - 430، ح 1369: الاستبصار، ج 1، ص 100، ح 325.
5- جامع المقاصد، ج 1، ص 458 - 459.

نجاستها، والرواية السابقة مصرحة به. ونقل الشيخ في الخلاف الإجماع عليه أيضاً(1).

والحقُّ أنه إن ثبت الإجماع، أو قبل المنقول منه بخبر الواحد مطلقاً فهو الحجة، وإلّا ففي الحكم نظر ؛ لأصالة البراءة، وإرسال الرواية، ومنع الإجماع؛ فإنّ المرتضى (رضي اللّه عنه) لا يرى وجوب غُسل المسِّ مطلقاً (2)؛ والمحقّق نفى وجوب الغسل بمسِّ القطعة المذكورة؛ مستضعفاً للمستند ومانعاً للإجماع(3).

وأجاب الشهيد رحمه اللّه بأنّ:

هذه القطعة نَجسة قطعاً؛ لوجوب غُسلها وهي بعض من جملة يجب بمسِّها، فكلُّ دليل دلَّ على وجوب الغُسل بمس الميّت فهو دالّ عليها(4).

ولا يخفى ما فيه؛ لأنّ نَجاستها لا تستلزم وجوب الغُسل بمسها، وحكم الجملة غير لازم في الأبعاض عقلاً وشرعاً، وانفكاك حكم الجملة عنها ظاهر في مثل القطعة الخالية من العظم اتّفاقاً، والأدلّة التي دلّت على وجوب الغُسل بمسّ الميّت إنما دلّت على حكم جملة الميّت، كما يظهر لمن تأملها. وحكايتها هنا تطول. فإن ثبت الإجماع والتفتَ إلى عدم قدح المخالف فيه - نظراً إلى قاعدة حجّية الإجماع عند الأصحاب - فهو الدليل، وإلّا فالأصل يقتضي عدم الوجوب.

وإن كانت القطعة عظماً مجرّداً فإن أبينَ من حيّ فهو طاهرٌ؛ لأنّه لا تحلَّه الحياة فليس بميّتٍ، وكذا إن أبينَ من ميِّتٍ بعد تطهيره. ولو أُبين قبله ففي نجاسته ووجوب الغُسل بمسّه قولان:

أحدهما: الحكم بنجاسة الميّت قبل تمام غُسله، وهذا من جملته فيُستَصحَبُ حُكمُ

ص: 575


1- الخلاف، ج 1، ص 701، المسألة 490.
2- جُمَلُ العلم والعمل، ص 54؛ وحكاه عنه المحقّق في المعتبر، ج 1، ص 351 - 352.
3- المعتبر، ج 1، ص 352.
4- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 473 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).

النّجاسةِ، وأنّ وجوبَ الغُسلِ دائر مع العظمِ وجوداً وعدماً فدل على عليّته له. هذه حجة الشهيد في الذكرى (1).

وقد عرفت أنّ نَجاسة المحل لا تدلّ على وجوب الغسل بمسه، مع أنا نمنع من نَجاسة ما لا تَحِلُّهُ الحياة. ولا يخفى ضعف عليّة الدوران عند الأصحاب المانِعينَ مِن العمل بالقياس، جاز كون سبب الغُسل هو المجموع المركّب من العظم وغيره، بل هو الظاهر، وأصالة البراءة من وجوب الغسل - مضافاً إلى ضعف الأصل المبني عليه سابقاً - لا يندفع بذلك.

إذا كانت القطعة المذكورة خالية من عظم

وإن كانت القطعة خاليةً من عظمٍ لكنّها مشتملة على لحم، أو على جملة كثيرة من الجلد لا تَعُمّ البلوى بها فهي نَجسة أيضاً إجماعاً، لكنّها لا توجب الغُسل بمسِّها إجماعاً(2) وهو الحجة، والخبر المرسل السابق (3) مصرّح بذلك أيضاً. وإن كانت القطعة صغيرةً كالموجودة حول البثور والأظفار والعقب ونحوها مما تَعُمّ به البلوى، فمقتضى الوجوه السابقة كونها نجسة أيضاً؛ لأنّها من الأجزاء التي تحلُّها الحياة، فتكون ميتةً ممّا له نفس؛ فإنّ الموت هو عدم الحياة عمّا من شأنه أن يكون حيّاً.

ولكن ذهب بعض الأصحاب منهم العلّامة في النهاية إلى أنّها طاهرة، مُحتَجِّينَ بلزوم الحَرَج لو كانت نَجِسةٌ؛ لأنّ الإنسان لا ينفك عنها غالباً (4)- وهذا القول حسن وإن كان القول بالنجاسة لا يخلو من قوة - ولأنّ هذه الأجزاء كثيراً ما تذهب عنها الحياةُ قبل الانفصال، فلو أثر موتُها في النّجاسَة لزم نجاستها حال الاتصال، ولم تصح الصلاة بها ولا مباشرتها فيما تُشترط فيه الطهارة، وينفعل بالنجاسة بسببها، وهذا على غاية عظيمةٍ من

ص: 576


1- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 473 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).
2- نهاية الإحكام، ج 1، ص 269؛ تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 60 المسألة 19.
3- أي رواية أيوب بن نوح.
4- نهاية الإحكام، ج 1، ص 271.

الحرج والضرر المنفيَّين(1) إن لم يكن بديهي البطلان؛ لعدم انفكاك المكلّفين عن ذلك.

ولو ضُويقنا في مثل هذه الأدلّة لأمكننا القدحُ في الأدلّة السابقة الدالّة على نجاسة الجملة والأجزاء. أمّا الثاني فقد تقدّم. وأمّا الأوّل فلأن روايتها لا تبلغ حد الصحيح، بل أولى الروايتين من الحسن، والثانية في طريقها إبراهيم بن ميمون وهو مجهول العدالة(2). وإنّما يُعتمد على الإجماع وهو منفيٌّ عن هذه القطعة وإن ثبت في غيرها، فكان القولُ بطهارتها أقوى.

بقي الكلام في موضعين:

أحدهما في القِطعَةِ مطلقاً، وفي نجاسة موضع الانفصال منها.

والثاني: نجاسة المحلِّ الماسِّ لها.

وجملة القول فيهما أن القطعة إن انفصلت من البدن حَيَّةٌ لم يجب غسلُ موضع الانفصال مطلقاً، وهو واضح؛ إذ لم تُلاقِهِ نَجاسةٌ مطلقاً فلا وجه لغسله.

وإن انفصلت منه مَيتَةً فإن كان موضع الانفصال رطباً وحكمنا بنَجاستِها وجب تطهيره لذلك، لا لأجل انفصالها منه.

وإن كانا يابسين بني على أنّ نَجاسة الميّت التام هل تتعدّى إلى غيرها مطلقاً أم مع الرطوبة ؟

فعلى الأوّل - وهو المشهور بين الأصحاب (3) - في وجوب الغُسل بمسِّها هنا وجهان: أحدهما إلحاقها بالجملة؛ لما تقدّم من التعليل الذي نقلناه عن الشهيد (رحمه اللّه)،

ص: 577


1- بقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج». الحجّ (23): 78؛ وبالنبوي المعروف المروي في الكافي، ج 5، ص 280، باب الشفعة، ح 4، وص 292 - 294، باب الضرار، ح 2، 6 و 8؛ والفقيه، ج 3، ص 233، ح 3862؛ وللمزيد راجع غاية المراد، ج 1، ص 39 (ضمن موسوعة الشيهد الأوّل، ج 1).
2- راجع معجم رجال الحديث، ج 1، ص 282 - 284، الرقم 320 - 322؛ قاموس الرجال، ج 1، ص 318 - 320 الرقم 227.
3- انظر كشف الالتباس الورقة 76؛ وذكرى الشيعة، ج 1، ص 91 - 92 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5)؛ وجامع المقاصد، ج 1، ص 174.

ولوجوبه بمسها متصلةً فيُستَصحب، ولأنّ الوجوب حالة الاتصال متحقّق بمسّ البعض لا الجملة، فلا يُعقل الفرق بين الحالين.

والثاني: عدم الوجوب - وإن أوجبناه في الجملة - وقوفاً فيما خالف الأصل على موضع اليقين، وقدحاً في أدلّة الوجوب، وقد تقدّم ما يدلّ عليه.

وعلى القول الآخر لا يجب إلّا مع الرطوبة.

وحجّة المشهور الخبران الأوّلان الدالان على نجاسة الملاقي للميّت(1) من غير تفصيل ولا استفصال المفيد للعموم عند بعض الأُصوليّين(2). وفيه نظر قد تقدّم بعضه.

والأقوى الثاني؛ للأصل والإجماع على عدم تعدّي غيره مع عدم الرطوبة، مع أنّ فيها ما هو أقوى من نَجاسته. و وجه القوّة اتّفاق المسلِمينَ على نَجاسته دون نَجاسَة الميّت، وهو المنصوص على عدم تعدّى نَجاسته يابساً كالكلب والخنزير والكافر(3)؛ وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «كلّ يابس ذكيٌّ»(4) يشمُلُ الجميع، وبه احتجّ الأصحابُ وغيرهم على عدم تعدّي النّجاسَة مع اليبوسة في غيره من النجاسات(5)، فإخراج ميِّت الإنسان عن القاعدة بالحديثين السابقين - مع ما فيهما - ليس بجيّدٍ وإن كان المشهورُ أحوط وأولى.

وصيّة المريض

المسألة الثالثة: شخص مريضٌ مرضاً بالغاً أراد الوصيّة، فعَرَضَ عليه بعض أصحابه أن يَجعَلَ عشرين توماناً مِن ماله خُمساً، فقال: «اجعلوا»، وكذا كذا زكاة، فقال: «اجعلوا»،

ص: 578


1- يعني خبري الحلبي وإبراهيم بن ميمون.
2- القواعد والفوائد، ص 125 - 126 ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 15؛ تمهيد القواعد، ص 126 (ضمن الموسوعة، ج 5).
3- قال الشهيد في ذكرى الشيعة، ج 1، ص 91 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5) : لا تتعدى النجاسة مع اليبوسة وهو منصوص في الكلب والخنزير والكافر؛ والنصّ ورد في الكافي، ج 3، ص 60، باب الكلب يُصيب الثوب و...؛ ح 1؛ وتهذيب الأحكام، ج 1، ص 260، ح 756-757.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 49، ح 141: الاستبصار، ج 1، ص 57، ح167.
5- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 91 ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5 جامع المقاصد، ج 1، ص 174.

وكذا كذا للصلاة، فقال: «اجعلوا»، وكذا كذا للصوم فقال: «اجعلوا»، وكذا كذا لعبيدك فقال: «لا، إنّي أعطَيْتُهُم ما كفى». فهل يكون هذا دليلاً على الشعور والاختيار ؟ هذا بعد أن كان مدعياً لعدم الوارث ثمّ بان أنّ له أولاد خال، فهل يكون هذا القول بالتلقين إقراراً باشتغال ذِمّته بالخُمس والزكاة ؟ وهل يكون نصفه للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟ كأنّه يُوهم - بدعوى أنّ العوام إذا أطلقوا الخُمس يريدون به حقَّ الأشراف - أنّه لو كان شيء من حقّ الإمام لقال: «اجعلوا كذا كذا حق الإمام» أم يحمل على جميع الخمس المشترك بين الإمام وفريقه.

الجواب: المرجع في شعور الموصي وغيره من المكلّفين، وقصده وتمييزه المعتبر في صحّة العقد والإيقاع إلى قرائن الأحوال المستفادة من حاله المستفيضة من مداخلَتِهِ في الكلام ومزاوَلَتِهِ في أفعاله وأقواله الموافقة لأفعال العقلاء والمميزين وأقوالهم ومقاصدهم.

وما ذكر في السؤال عن هذا المريض - من أمره بالوصايا المذكورة، ومنعه عبيده - من جملة القرائن الدالّة على حضور قصده واختياره، فإن انضم إلى ذلك العلم باختياره قبله مع الشكّ في زواله كفى استصحاب السابق مؤيداً بهذه القرينة.

وإن اتّفق له زوال الاختيار واضطراب الحال في هذا المرض قبل الوصيّة، فلابدّ من العلم بعود التمييز إليه حالها وما ذكر من كلامه قرينة قوية لكن لا تبلغ بمجرّدها حدّ الحكم بتمييزه وقصده مع سبق زواله، بل يُرجَع في ذلك إلى شهود حاله حينئذٍ، فإن استفادوا من ذلك وغيره حكماً بَنَوا عليه، وإلّا استُصحِبَ ما قبله من الحالة.

وأمّا نفيه للوارث ثمّ تبيّن،وجوده فلا يدلُّ على شيءٍ من الأمرين لاحتماله وجوهاً من التأويل والأغراض، ومن جملتها نسيان ذلك القريب، أو تَوَهُمُ كونه غير وارث، أو نسيان حكمه، أو غير ذلك من الأمور الصحيحة وغيرها الصادرة عن العقلاء المختارِينَ وغيرِهم فلا يدل على أحدهما.

ص: 579

وحيث يُحكم بحضور عقله وتمام رشده وصحة وصيّته يبقى الكلام في قوله: «اجعلوا كذا خُمساً وزكاةً» هل يقتضي وجوب ذلك عليه أم يجعل وصيّةً متبرعاً بها ؟ وهذا موضع إشكال:

من حيث أصالة البراءة مع عدم التصريح بما يدلّ على الوجوب، وجريان العادة بوقوع مثل ذلك على وجه الاحتياط، وأنّ الإنسان يسمح بإخراج ماله في وجوه الخير بعد موته - وإن لم تكن واجبةً - ما لا يَسمَحُ ببذله حيّاً.

ومن حيث كون الخُمس والزكاةِ حقيقةً شرعيّةً في الحقّ الواجب لبني هاشم أو المستحِقّي الزكاة، خصوصاً الخُمس فإنّه لا يقع إلّا واجباً؛ أما الزكاة فإنّها وإن وقعت مندوبةً كزكاة التجارة إلّا أنّ المتبادِرَ منها عند الإطلاق عرفاً هو الواجب، فيُحمل عليه؛ إمّا لكونه هو الحقيقة، أو للقرينة في بعض أفراد المشترك لفظاً أو معنى، وموافقةً للعرف بأنّ التجار لا يَسمَحُون ببذل ما لا يجب عليهم، وأنّ هذه الحقوق - سيما الخمس - تتعلّق بأموالهم ولا يكادون ينفكون عنها، وخصوصاً حِصّةَ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ فإنّها لا تُدفَعُ حالَ الغَيبة دفعاً مُبرِئاً إلا بالفقيه الشرعي، وهو متعذِّرٌ غالباً، فيُرجحُ جانبُ الوجوب، والوصيّة بمجرّدها لا تدلّ على التبرُّع؛ لأنّها تَقَعُ بالوجوب والندب، وأنّ الموصى به حقيقةً الخُمسُ والزكاة وذلك لا يمكن إحداثه بالجَعل المذكور، فلا بُدَّ من تحقّقه قبل ذلك فى ذِمَّته ليُمكِنَ إثباتُ حقيقته بجعله، وما يُجعَلُ منه على وجه الاحتياط ليس خُمساً وزكاةً حقيقيّاً، وهذا أقوى.

نعم، لو دلّت القرائن المتكثّرة المستفادة من مقاله وحاله على إرادة التَّبَرُّع بذلك، وإطلاقه الخمس والزكاة على ما يُخرجه احتياطاً على وجه المجاز لم يبعد المصير إليها.

وتظهر فائدته مع قصور ثُلثِ ماله عن جملة ذلك وعدم إجازة الوارث، وإلَّا تَعَيَّنَ إخراجه على التقديرين.

ص: 580

وحيث يتعين الخُمس يُراد به ما يَسْمُلُ حصة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقبيله؛ لأنه معناه شرعاً، والعرف لا يأباه - وإن اتّفق في بعض الألفاظ إطلاقه على حِصّةِ قبيل الإمام خاصةً - بل وجوب حقّ الإمام ولزومه لذِمَّتِهِ أقوى من حقِّ قبيله؛ لما تقدّم من أنّ إخراجه على الوجه الصحيح يتوقّف على أمرٍ يَعسُرُ وجوده غالباً بخلاف حقّ غيره من الخُمس، فإنّ المالك يُمكنه إخراجه بنفسه، فكان بقاؤه في ذِمَّته أغلب إن لم يكن محقّقاً.

فتخصيصه هذا الخمس بقبيل الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) خاصّةً، وإسقاط حقّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) خلاف الظاهر الحقيقة الشرعيّة.

وإلزامه بمقداره حقّاً للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) زيادةً على ما أوصى به - بمجرّد هذا الإطلاق في بعض الأخبار مع أصالة براءة ذمّته من ذلك - ليس بجيّد، فحمله على الأمرين هو الوجه. و

الحمد للّه حق حمده، والصلاة على نبيّه وآله الطاهرين.

ص: 581

ص: 582

30. أجوبة المسائل النجفيّة

إشارة:

تحقيق

أبو مقداد - غلام حسين قيصريه ها

مراجعة

رضا المختاري

ص: 583

ص: 584

بسم اللّه الرحمن الرحيم

مسألة في الضمان

قوله(1) في مسألة الضمان: «ولو لم يشهد رجع بالأقلّ من الثاني والأوّل والحقِّ». وجه الرجوع بالأقلّ من الثلاثة أنّه إن كان هو الأوّل، فالضامن يعترف بأنّه لا يستحق غيره؛ لأنّه بزعمه مظلوم في الأخذ منه ثانياً.

وإن كان الثاني، فهو الثابت ظاهراً وإن كان الحقّ هو الأوّل: فلأنّه إنّما يرجع بالأقل من المدفوع والحقِّ، وحينئذٍ فالأقلُّ من الثلاثة أمر ثابت عليه على كلّ حال؛ إذ لا خصوصية لنفس المدفوع أولاً أو ثانياً، وإنما المعتبر بقدره، وهو مستحق على التقديرات الثلاثة.

ص: 585


1- يعني قول السيّد شرف الدين السمّاكي العالم المعاصر للشهيد الثاني الذي يعبّر عنه الشهيد بقوله: «السيّد دام شرفه» و «السيّد (سلّمه اللّه)» ونحوهما، والظاهر أنّ هذه الرسالة أجوبة وحواش ونقودٌ وتوضيحاتٌ لمكتوب كتبه السيّد (رحمه اللّه)، ويُعبّر الشهيد عن هذه الرسالة ب«الحاشية» في ص 31 حيث يقول: «... والكلام على باقي مقاصد المسألة وتضاعيف الكلام عليها من الطرفين خارج عن مطلبنا في هذه الحاشية، واللّه الموفّق»، وسمّاها الشهيد نفسه في نسخة الأصل بخطه الشريف: «جواب المسائل النجفيّة». والسيّد السائل هو شرف الدين السمّاكي سائل المسائل الثلاث في الرسالة السابقة. قال ابن العودي تلميذ الشهيد مشيراً إلى سفر الشهيد إلى العراق لزيارة الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) عام 946؛ وزار الشيخ (رحمه اللّه) الأئمّة مستعجلاً ورجع، واجتمع عليه فضلاء العراق، وكان منهم السيّد شرف الدين السماك العجمي - أحد تلامذة المرحوم الشيخ عليّ بن عبد العالي.... ثم بعد رجوعه إلى البلاد جاء منه سؤالات ومباحث وإيرادات، فأجابه عنها بما تقتضيه الحال، وحقّق فيها المقال. الدرّ المنثور، ج 2، ص 169؛ انظر ترجمته في إحياء الدائر من القرن العاشر، ص 102 - 103، 179 - 180: ورياض العلماء، ج 7، ص 221 - 222.

وقريب(عَلَيهِ السَّلَامُ) من تلك ما يُقال في توجيهه: إنّه إن كان صادقاً فالأداء وقع بالأوّل، وإن كان كاذباً فقد وقع بالثاني، فعلى كلّ تقدير قد أدّى الحق، والمرجوع به هو اللازم على التقديرين، وهو الأقلُّ.

قوله في سند المنع: إنّ الرجوع لا يمكن إلّا بعد تحقّق الأداء المعتبر، وهو الذي يكون مسلم الثبوتِ عند الأصيل ولا يقدر على إنكاره، ويكون عوضاً عن حق المستحق، وإذا وقع على هذا الوجه يمكن الرجوع به وإلّا فلا ولم يتحقّق هنا كذلك؛ لأنّ الأوّل ليس بثابت عند الأصيل، والثاني وإنْ كانَ معلوماً لكنّ الضامن يزعم أنّه مظلوم فيه.

قلنا: القدر المشترك من هذه الثلاثة - وهو الأقل من الدفعي والحقِّ - أمرُ متحقق عند الأصيل، مسلَّمُ الثبوتِ لا يقدر على إنكاره. وخصوصية المدفوع لا عبرةً بها، وإنّما العبرة بالقدر، وهو أمرٌ ثابت قطعاً ويرشد إلى أنّ المعتبر إنّما هو القدر لا خصوصيّة المدفوع؛ إذ شخص المدفوع لا يمكن الرجوع به، وإنّما الرجوع يحصل بمثله وقدره، والأقلّ قدر متحقق على التقديرين لا يمكن الأصيل إنكاره ولا الضامِنُ دعوى كونه مظلوماً فيه وإنما الذي يزعم كونه مظلوماً فيه ما دفع ثانياً لا قدره في الجملة، فإنّه يعترف بدفعه بالحق فضلاً عن كونه يدَّعي الظلم.

وبهذا تندفع المعارضة أيضاً، ولا يكون معارضةً للمعارضة بل متّحداً لها.

قوله في مسألة السهام: ثم إن تماثلتِ الأعداد في الأقسام الثلاثة اقتصرت على أحدها فضربته في الفريضة كأربعة إخوةٍ من أٍب ومثلهم من أُمٍّ.

هذا إنما يكون متماثلاً إذا أُخِذ التوافق بالمعنى الأخص المقابل للتداخل وهو أحد معنييه عند أهل الحساب، ولا حجّة على المصنّفِ في استعماله وإن استلزم في بعض المواضع ارتقاء الفريضة إلى عددٍ أكثر ممّا يمكن استخراجها بدونه بغير هذا الطريق، وكذا القولُ فيما بعده من الأمثلة.

ص: 586

البيع مع الخيار وتصرّف المشتري في العين

والعلّامة في القواعد(1) والتحرير صرّح بإرادة المعنى الأخصّ (2)؛ حيث شرط في تعريف المتوافقين أن لا يعدّهما الآخرُ، وحينئذٍ... هنا على ما عرّفه وهو جيّد.

وجملة ما ذكره السيّد (سلّمه اللّه) في بحث هذه المسألة سديد لا شبهة فيه.

قوله في مسألة البيع المشتمل على خيار للبائع، وتصرّف المشتري في العين بعد انتقالها إليه بعقد الإجارة بإذن البائع: إنّ في سقوط خيار البائع بالإذن في الإجارة مع وقوعها احتمالين... إلى آخره.

الظاهرُ أنّ بحث هذه المسألة في الاحتمالين غير موجه، وأن القولَ بسقوطِ خيارِ البائع متعيّن، لا لما ذكره في توجيهه، بل للإجماع على أن الخيار يسقط بالتصرف من ذي الخيار ومأموره.

ولا شكّ أنّ الإجارة تصرّف من التصرفاتِ وإن كانت غير ناقلة للعين، فإنّ التصرف المسقط للخيار غيرُ منحصرٍ في نقل العين، وقد عدُّوا منه الاستخدام ونحوه من الانتقاعات بالعين مما هو أضعفُ من التصرف بالإجارة.

وهذه المسألة موجودة في كلام الفقهاء (3) لمن تدبرها وأما ما ذكره من كلام العلّامة في التحرير(4)، والتذكرة(5) والقواعد(6) شاهداً على بطلان الخيارِ فليس بجيّدٍ ؛ لأنّ ما نقلَهُ موضعه تصرّفُ ذي الخيار، لكنّه يفيد معنى التصرّفِ المُبطِل للخيارِ في الجملةِ، فإذا

ص: 587


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 406.
2- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 93-96، الرقم 6412.
3- منهم الشيخ في المبسوط، ج 2، ص 13 - 14: وابن البراج في المهذّب، ج 1، ص 357؛ والعلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 2، ص 297، الرقم 3148؛ والمحقّق الكركي في رسالة الخيار، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص 171 وما بعدها.
4- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 2، ص 297، الرقم 6412.
5- تذكرة الفقهاء، ج 11، ص 109، المسألة 289.
6- قواعد الأحكام، ج 2، ص 68.

أُضيف إليه قولُ العلّامة فى القواعد: ولو أذِنَ أحدهما للآخر في التصرف، فإن تصرف سقط الخياران وإلا خيارُ الآذِنِ(1). وقوله في التحرير: بعد ما ذكر سابقاً من أقسام التصرفاتِ المبطلة لخيار المتصرّف التي منها الإجارة وغيرها ممّا لا ينقل المِلكَ : ولو تصرّف المشتري بإذن البائع أو البائع بوكالة المشتري صحّ التصرف وانقطع خيارهما(2).

وقوله في التذكرة :

ولو أذن أحدهما للآخرِ في التصرف فتصرف سقط الخيارانِ، ولو لم يتصرّف سقط خيار الآذن دون المأمور؛ لأنه لم يُوجد منه تصرّف فعلي ولا قولي(3).

وقوله فيها في مسألةٍ أُخرى: «ولو أذن له البائع في طحن الحنطة فطحنها كان مجيزاً». إلى غير ذلك من عباراتِ القوم تَمَّ(4) الشاهِدُ من كلامهم.

والحاصل أنّ بطلانَ الخيارِ بالتصرفِ والإذنِ فيه مع حصوله ممّا لا خلاف فيه وكون التصرفِ شاملاً لما فيه نقل العين والمنافع، وما ليس فيه شيء من ذلك،كالاستخدام والرُّكوبِ والانتفاع بالآلة والاستمتاع بالأمة وتغيُّر الصفة كطحن الحنطة مما لا شبهة فيه أيضاً.

وإنّما اختلفوا في ضروبِ من الانتفاع قليلةٍ كركوب الدابّة للتجربة ونحوها مما لا يدخل في مسألتنا هذه. وجمله هذه الأفرادِ من التصرف دالّة على الرضى بالبيع والإلزام به.

ولو أراد مريد إحداث وجه في المسألة بعد اتّفاقهم على هذه الأحكام لم يمكنه وإن

ص: 588


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 98.
2- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 2، ص 297، الرقم 6412.
3- تذكرة الفقهاء، ج 11، ص 109، المسألة 289.
4- جواب لقوله: «فإذا أُضيف إليه» قبل عدة أسطر.

أقام عليه الدليل؛ لأنّه لا تُسمَعُ في مقابلة النصّ(1) والإجماع، وبهذا بطل حكم استصحاب الخيار السابق ونحوه من الوجوه التي استُدِلَّ بها على بقاء الخيارِ.

وقد أجادَ المحقّق الشيخ عليّ (رحمه اللّه)؛ في رسالته (2) التي وضعها في هذه المسألة، وأغنانا بحثه عن التطويل.

طلاق الغائب

قوله في مسألة طلاق الغائب:

إذا خرج عن زوجته في طهرٍ قد قربها فيه وطلَّقَ بعد الطهرِ الثاني عالماً بأنّها حائض. صرّح العلّامة فخر الدين في شرح القواعد بصحته، واستدل على ذلك بأن فيه جمعاً بين الأدلّة(3).

فيه: أنّه ما ادعى الصحّة، وإنّما نقلها عن أصحاب القول، وما كان في مقام الاختيار، بل في مقام تعدادِ الأقوال.

وأمّا نقله عنه أنّه احتج عليه بأنّ فيه جمعاً بين الأقوالِ فهو وهم بيّنٌ؛ لأنّه ما جعل ذلك إلّا دليلاً على القولِ المحكي الذي نسبه إلى والده في أوّلِ البحث، من أنّ حدَّ الغيبة أنْ يمضي قدرٌ يُعلَمُ به انتقالُها من طهرِ المُواقعة... (4). إلى آخره؛ فإنّ أصحابَ هذا القولِ - وهم الشيخ في الاستبصار(5)، وابن إدريس(6)، والمحقّق أبو القاسم(7)، والعلّامة في غير المختلف (8) - زعموا أنّ في ذلك جمعاً بين الأخبار المختلفة التي دلّ بعضُها على جواز

ص: 589


1- راجع وسائل الشيعة، ج 18، ص 13، أبواب الخيار، الباب 14.
2- رسالة الخيار، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص 169 وما بعدها.
3- إيضاح الفوائد، ج 3، ص 304.
4- إيضاح الفوائد، ج 3، ص 304.
5- الاستبصار، ج 3، ص 295، ذيل الحديث 1043.
6- السرائر، ج 2، ص 690 - 691.
7- شرائع الإسلام، ج 3، ص 5 - 6.
8- قواعد الأحكام، ج 3، ص 126؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 53 - 54، الرقم 5382 إرشاد الأذهان ج 2، ص 42؛ وفي مختلف الشيعة، ج 7، ص 354، المسألة 11 أيد القول بانتظار ثلاثة أشهر.

الطلاق على كلّ حال(1)، وبعضُها على وجوب التربص شهراً(2)، وبعضها على ثلاثة أشهرٍ(3)، وبعضُها على خمسة أو ستّة(4)، بحمل هذا الاختلافِ على اختلافِ عاداتِ النساء فمن تحيضُ في كلّ شهر مرّةً يُنتظَرُ بها شهراً، ومن تحيض في كلّ ثلاثة أشهرٍ مرّةً يُنتظَرُ بها ثلاثة أشهرٍ، وهكذا.

وأمّا جواز طلاقها مع علمه بالحيض الذي جعله من توابع هذا القول فليس مستنده الجمع بين الأخبار، وإنّما مستنده إطلاق الإذن في طلاقها بعد المدة المعتبرة من غير تقييدٍ بكونها طاهراً أو غير طاهر، فسقط حينئذٍ أكثر ما أوردوه من المباحث على هذه المسألة.

قوله (سلّمه اللّه):

ليس في الأخبار الخاصة شيء يدلُّ على أنه لا بدّ في صحّة الطلاق من كونها طاهراً وقت الطلاق، بل غايةُ ما تَدلُّ عليه الانتقال من طهر إلى آخر أعم من أن تكون طاهراً وقت الطلاق أم لا.

فيه: أنّ الأخبار لم تدلَّ على اعتبار انتقال من طهرٍ إلى آخر أيضاً، وإنما دلّتْ على اعتبار المدَّةِ، وهم إنّما جعلوها مُنزّلةٌ على الانتقال المذكور، إلحاقاً لها بزوجة الحاضر، حيث وجدوها قد شاركتها في اعتبار استبراء الرحم وإلحاقها بها يقتضي سلامتها من الحيض المعلوم وقتَ الطلاق، وإلا فلو نظر إلى إطلاق الأخبار لم يوجد فيها سوى اعتبار مضيّ المدّة المذكورة، سواءٌ حَصَلَ الانتقال من طُهْرٍ إلى آخرَ أم لا.

فالاعترافُ لهم بدلالتها على اعتبار الانتقال يوجب الاعتراف باعتبار الطهارة من

ص: 590


1- الكافي، ج 1، ص 80، باب طلاق الغائب، ح : تهذيب الأحكام، ج 8، ص 60، ح 195؛ الاستبصار، ج 3، ص 294، ح 1038.
2- الكافي، ج 1، ص 80 و 81، باب طلاق الغائب، ح 3 و 8؛ الفقيه، ج 3، ص 503 - 504، ح 4771: تهذيب الأحكام، ج 8، ص 62، ح 202؛ الاستبصار، ج 3، ص 295، ح 1041.
3- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 62، ح 203؛ الاستبصار، ج 3، ص 295، ح 1042.
4- الفقيه، ج 3، ص 503، ح 4770، تهذيب الأحكام، ج 8، ص 62، ح 204.

الحيض أيضاً؛ لأنّ ذلك هو حكم لزوجها... (1). التي قد نزلوا اختلاف الأخبار على ما يناسب حكمها.

قوله: وأما اندفاع الوجه الثالث فظاهر... إلى آخره.

هذا في غاية الجودة بالنسبة إلى هذا المبحثِ وإن كان للكلام في أصله مجال.

قوله في الاستدلال بجواز الطلاقِ مع العلم بالحيض حينئذٍ:

إنّ ما اشتركت فيه الأخبار الدالّة على اعتبار المدّةٍ(2) مخَصَّص بعموم الخبرينِ الدالَّينِ على جواز تطليق زوجة الغائب على الإطلاق(3). ولا شك أيضاً أنّ الخبرينِ المخصِّصَينِ يُخَصِّصانِ عموم المنعِ من طلاق الحائض، فيصحّ الطلاق المذكور.

فيه: أنّ الخبرين الدالين على جواز طلاقِ الغائبِ مطلقان بالنسبة إلى كونها حائضاً أو طاهراً، لا مصرّحَانِ بجواز طلاقها وإن كانت حائضاً.

والأخبار الدالّة على المنع من طلاق الحائض(4) عامّة أيضاً بالنسبة إلى زوجة الغائب وغيره، فتخصيصها بالخبرين العامين ليجوز طلاق الحائض في غَيْبَةِ الزوج ليس أولى من عكسه بأن تجعل الأخبار العامّة في المنع من طلاق الحائض مخصصةً لعموم الآخر في طلاق الغائب على كلّ حال.

وبالجملة: فالعمومان متعارضان فلا بُدَّ من،مُرجّح، وبتعارِضِهما يحتاجُ الحكم بصحّةِ الطلاق إلى دليل ليُزيل ما هو معلوم قطعاً من الزوجية المستمرة والحقوقِ الثابتة بالإجماع.

ص: 591


1- هاهنا كلمة لم تقرأ.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 22، ص 56 - 58، أبواب مقدمات الطلاق، الباب 22.
3- أراد بالخبرين صحيحة محمد بن مسلم المروي في الكافي، ج 6، ص 80، باب طلاق الغائب، ح7؛ وتهذيب الأحكام، ج 8، ص 60، ح 195؛ والاستبصار، ج 3، ص 294، ح 1038؛ وصحيحة إسماعيل الجعفي المروي في الفقيه، ج 3، ص 516، ح 4810، ح 16115؛ وفي هذا المعني أخبار أخر راجع وسائل الشيعة، ج 22، ص 54 - 58، أبواب مقدمات الطلاق الباب 25.
4- راجع وسائل الشيعة، ج 22، ص 19 - 23، أبواب مقدمات الطلاق، الباب 8.

التسليم على المصلّي

قوله في مسألة التسليم على المصلي

إذا ردَّ بعضُهم هل يصحّ رَدُّ الباقين أم لا ؟ احتجّ الشيخ عليّ (رحمه اللّه) ؛ على الجواز بأنه إذا ردَّ واحد سقط الوجوبُ المضيَّقُ عن الباقين، وبقي معنى الوجوبِ العامّ(1) مثل الصلاة المعادة.

تنقيح الدليل على ذلك: أنّ الأوامر الدالّة على وجوب ردِّ السلام ليس فيها كونُ الوجوب كفائياً، وإنّما الظاهرُ منها أنّ كلّ من سُلَّمَ عليه فهو مأمور بالرد؛ لقوله تعالى: «وَإِذَا حُتِيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَبُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا» (2) خِطاب لكلّ واحد من المكلّفين، فكلُّ واحدٍ منهم إذا سُلِّمَ عليه مأمور بالردّ، سواء كان السلام عليه بصيغةٍ خاصة له، أو عامّةٍ له ولغيره؛ إذ لا شكّ أنّ من سَلَّمَ على جماعةٍ بصيغةٍ عامّةٍ مُسَلّم على كلّ واحدٍ منهم. فيكون كلّ واحد منهم مأموراً بالرد، لكن وردَتْ رُخصة باكتفاء الجماعة برد واحد منهم(3).

كما أنّه يستحبّ لكلّ واحد أنْ يُسَلَّمَ على مَنْ لَقِيَهُ إِلّا أنّه رُخِّصَ للجماعةِ في تأدية هذه السنّة بتسليم واحدٍ منهم كقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا مرّت الجماعةُ بقوم أجزأهم أنْ يُسلَّمَ واحد منهم، وإذا سُلَّمَ على القوم وهم جماعة أجزأهم أنْ يَرُدَّ واحد منهم»(4).

ولا شكّ أنّه لو سلَّمَ من الجماعةِ أكثر من واحدٍ كان مؤدّياً للسنّةِ؛ لأنّ كلّ واحد منهم مأمورُ بالتسليم على من لقِيَهُ وإنْ تأدّى أصل السنّة بتسليم الواحد، وكذلك إذا ردَّ واحد من الجماعة فالباقون داخلون في عموم الأمرِ برد السلام؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهم مُسَلَّم عليه، لكنّ الأمر المُضَيَّق قد تأدّى بجواب الواحد، وبقى معنى الأمر العامّ لكل واحدٍ بالردّ إذا سُلَّمَ عليه، فإذا ردّ كان مُمتثلاً للأمر، وكان رده موصوفاً بالشرعيّة؛ إذ لا

ص: 592


1- انظر جامع المقاصد، ج 2، ص 357.
2- النساء (4): 86.
3- الكافي، ج 2، ص 647، باب إذا سلّم واحد من الجماعة أجزأهم و...؛ ح 1 - 3.
4- الكافي، ج 2، ص 647، باب إذا سلّم واحد من الجماعة أجزأهم و....؛ ح 1.

دليل على زوالِ الشرعيّة بردّ الواحد، بل غاية الإجزاء المذكور سقوط الوجوب فيبقى الاستحبابُ.

وقد نصّ الأصحاب على أنّ ردَّ السلام قد يكون واجباً كفائياً كما إذا كان المُسَلَّمُ عليهم جماعة، وقديكون عينيّاً كما إذا كان التسليم على شخص بخصوصه، وقد يكون مستحبّاً كرد بقيّة الجماعة بعد ردّ واحدٍ منهم فاستحباب الرد على المتأخّر عن الواحد أمر لا شبهة فيه.

وفي التعبير بالإجزاء في خبر الجماعةِ(1) إشعار بالرخصة والتسهيل في ترك باقي الجماعةِ لا في سقوط الشرعيّة أصلاً ؛ إذ لا شك في دخول كلّ واحد منهم في عموم الأوامر بردّ السلام على من سلّم عليه، وهي مشتركة بين الأمر الكفائي والعيني والاستحباب وإلى هذا المعنى أشار الشهيد (رحمه اللّه) في الذكرى في تقليل جواز ردّ الباقينَ بقوله:

ولو ردَّ بعد قيام غيره لم يضُرَّ ؛ لأنّه مشروع في الجملة وهل هو مستحبٌّ كما في غير الصلاة ؟ فيه نظر، من شرعيَّتِهِ خارج الصلاة مستحبّاً... إلى آخره (2).

بحيث كان الاستحباب باقياً خارج الصلاة، ومستَنَدُهُ إنّما هو الأوامر العامّة والخاصة من الكتاب(3) والسنّة(4)، بل في بعضها إشعار بالاستحباب مثلُ حديثِ الحقوقِ للمؤمن على المؤمن، التي من جملتها التسليم عليه، وردُّ سلامه، وتسميتُ عطسه، وإجابة دعوته(5). وأكثرها مستحبّة، فلو فُرِضَ دلالة بعض الأدلّة على الوجوب العيني وبعضها على الكفائي كان بعضها أيضاً دالّاً على الاستحباب، ولكن تخصيص كلّ واحد

ص: 593


1- تقدّم تخريجه في ص 572، الهامش 3.
2- ذكرى الشيعة، ج 3، ص 405 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 7).
3- النساء (4): 86.
4- راجع وسائل الشيعة، ج 7، ص 267 - 270، أبواب قواطع الصلاة، الباب 16.
5- الكافي، ج 2، ص 171، باب حقّ المؤمن على أخيه وأداء حقّه، ح6.

بمورد، بل تلك الأوامر الدالّة على الوجوب في بعض الأفراد إذا تعذّر حملها على الوجوب في بعض آخر تُحمَلُ على الاستحباب؛ لأنّ الأمر يرد للاستحباب في الجملة، وأيّ صارفٍ لإطلاقه على الوجوب إلى الاستحباب في بعض المواردِ أعظمُ من الإجماع على عدم الوجوب ؟

وحينئذٍ، فاستجاب الردّ للباقين أمرٌ،واضح، والأصحاب معترفون به، وهذا هو المقصود للشيخ من بقاء معنى الوجوبِ العامّ(1) وإن كانت عبارته غير جيّدةٍ.

وإيراد السيّد (دام شرفه) على خصوص العبارة جيّد في محله، لكن المقصود ما ذكرناه.

وإذا تقرّر ذلك فنقول: إذا ردَّ أحد المصلين بقي الباقي منهم مأموراً بالردِّ، أو مأذوناً له فيه، فإذا ردَّ لم تكن صلاته باطلة، بل الظاهرُ أنّه يكون مؤدياً للمستحب، مثاباً على ذلك، وهو الذي توقف فيه الشهيد في الذكرى بعد حكمه بجواز الرد، ويزيدُ هذا المحلَّ بياناً قولُ الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا دخلت المسجد والناسُ يُصلّونَ فسلَّم عليهم، وإذا سُلّم عليكَ فارْدُدْ، فإنّي أفعلُ»(2).

ولا شكّ أنّ المسلَّم عليه بالصيغة العامّة داخل في هذا الأمر، وأقلُّ محتملاته الاستحباب، وقريب منه قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين سأله محمد بن مسلم أيردُّ السلام وهو في الصلاة ؟ قال: «نعم»(3). والتقريبُ ما تقدّم ومثلهما من الأخبار كثيرٌ.

فإن قيل : الأصل في الأمر حمله على الوجوب فيُحمَلُ هنا عليه، وحينئذٍ فيحتملُ لمن لم يسبق من غير ردّ، فلا يدلُّ على المتنازع، ولو حُمِلَ على غير

ص: 594


1- تقدّم في صدر المسألة.
2- ذكرى الشيعة، ج 3، ص 402 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 7)؛ ورواه عنه في وسائل الشيعة، ج 7، ص 271، أبواب قواطع الصلاة، الباب 17، ح 3.
3- تهذيب الأحكام، ج 2، ص 329، ح 1349.

ذلك لزم الاشتراك، وهو خلافُ الأصل.

قلنا لما تقدّم أنّ الردَّ قد يكون عينيّاً، وقد يكون كفائياً، وقد يكون مستحبّاً. فاشتراك الأمر متحقّق إمّا في نفس كلّ أمر كما هو الظاهرُ من استدلالاتهم، أو في جملة الأوامر، ولو حملناه على معنى واحدٍ ارتفع الأمران الآخَرانِ.

ثم إن قلنا: إنّ السلام من كلام الآدميين وليس بقرآن ولا دعاء، فهو مستثنى بالنصّ، كما استثني أصل الردّ؛ لاشتراكهما في الإذن من غير تفصيل بكونه واجباً أو غير واجب، بل لكونه مسلماً عليه، وهو حاصل في الجميع، فإرتفاع الوجوب حينئذٍ غيرُ مانع من الجواز، وإن قلنا: إنّهُ قُرآن كما هو الحقُّ، فإنّ «سلام عليكم» قد ورد في القرآن(1). ولعلّه السرّ في اختصاص الردّ بهذه الصيغة في الصلاة وإن جاز في غيرها بغيرها فلا إشكال.

ولو قيل: إنه إذا قصدتَهُ ردَّ السلام خرج عن القرآن، قلنا: خروجه بذلك في موضوعِ المنع؛ لأنه قرآن باعتبار نظمه، وباعتبار قصدِ ردّ السلام يكون ردّاً، فإنّ الداعى بالقرآن لا يخرج بقصده الدعاء من القرآن كما لو قال في الصلاة: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا»(2) فَإِنَّهُ لا يخْرُجُ عن القرآن وإن قصد الدعاء، وقد اختار هذا جماعةٌ من فضلاء الأصحاب، منهم المحقّق في المعتبر(3). وبه يُرحَجُ القولُ بجواز الردّ المذكور وإن لم تنحسم مادَّةُ الشبهة أصلاً؛ فإنّ حصول أصل الرجحان هو المقصود في امتثالِ ذلك في الأحكام الشرعيّة. ولو أوجَبنا في الردّ قصد القرآن مع الردّ كما اختاره الشيخ [علىّ] (رحمه اللّه)(4) زالَ الإشكال من رأسٍ.

ص: 595


1- الأنعام (6) 54 الأعراف (7): 46: الرعد (13) : 24: النحل :(16): 32؛ القصص (28) 55 الزمر (39): 73.
2- الحشر (59): 10.
3- المعتبر، ج 2، ص 264.
4- جامع المقاصد، ج 2، ص 343.

تيقن الطهارة والحدث والشكّ في السابق

قوله - في مسألة تيقن الطهارة والحدث، والشكّ في السابق وعلمه بحاله قبلهما - على كلام المحقّق(1): «إنّهُ يأخذُ بضد ما علمه من حالِه قَبلَهما»:

فإنّ دليله على الحكم بالطهارة في سبقِ الحدث يجري فيما إذا كان متطهّراً قبل زمانهما؛ لأن خلاصة الدليل: أنّه متيقن للطهارة شالاً في الحدث، وكلُّ من كان كذلك فهو مُتَطَهِّرٌ. وأمّا أنّ هذه الطهارة مزيلة للحدث السابق فليس ركناً من أركان الدليل.

فيه: منعُ كون قيدِ أنّ الطهارة مزيلة للحدث ليس ركناً للدليل، بل هو العمدة والركن الأعظمُ له، حتّى أنّ المكلّف لو تحقّق الطهارة وشكٍّ في الحدثِ لكن لا يعلَمُ أنّ الطهارة التي حَقَّقها رافعة للحدث أو غيرُ رافعة، بأن جوَّزَ كونها إحدى الطهارتِ المندوبة التي لا ترفعُ الحدث لم يُفده ذلك شيئاً، وهي على الحدث، وذلك؛ لأنّ الفرضَ إنّما هو تحقّق طهارةٍ رافعة للحدثِ ليدخُلَ بها في العبادة المشروطة بها، ويستصحب المتيقن، ويبني على أصالة عدم المشكوك فيه، فأما إذا لم يتحقّق كونها رافعةً لم يكن محققاً لطهارة يجوز الدخول بها في الصلاة التي هي المقصد الذاتي في هذا الباب من الطهارة وحينئذٍ، فإذا تيقّن كونه في مسألتنا مُحدِثاً قبل الطهارة والحدث المشكوك في السابق منهما فقد تيقن طهارةً رافعةً للحدثِ وشكَ في المُزيل لها؛ لأنّ الطهارة إن وقعت بعد الحدثين فهي رافعة مطلقاً، وإن وقعت بينهما فهي رافعة للحدثِ السابق، وإبطالُ الآخَرِ لها غير معلوم، فيبني على الطهارة.

ولا يجري هذا الدليل في جانب الحدث؛ لأنّ الحدث المؤثِّرَ في هذا المحل هو الحدث الناقضُ للطهارة لا مطلق الحدث، ومعلوم أنّ هذا الحدث المبطل غيرُ معلومٍ هنا؛ لجواز كون هذا الحدث المشكوك فى سبقه ولحوقه سابقاً على الطهارة، فلا يكونُ مؤثراً في هذا المحل بالنسبة إلى تأسيس إيجاب الطهارة والمنع من الصلاة؛ لأنّ ذلك

ص: 596


1- يعني المحقّق في المعتبر، ج 1، ص 171.

كان حاصلاً من قبل، وإن كان له تأثير في الجملة من حيث إنّه يجوز فيه رفعه، ويرتفعُ به الباقي، إلّا أنّ هذا الحكم لا مدخل له في مطلوبِنا.

وكذا لا يجري هذا الدليلُ فيما لو علم كونه متطهراً قبلهما؛ لأنّ الطهارة المتيقّنة بعد الطهارةِ السابقة لا يُعلَمُ أنّها رافعة للحدث، مؤثرةً في إباحة الصلاة حتّى ينفعه استصحابها؛ لأنّ من الجائز كونها مُعاقبةً للطهارة السابقة عليهما، فلا يكون للطهارة الثانية تأثير، ويجوز كونها بعد الحدث، فتكون مؤثّرةً في رفع الحدث وإباحة الصلاة، وحينئذٍ فكونها رافعةً مبيحةً غير معلومٍ فيكون وجودها كعدمها؛ لما أسلفناه من أنّ المعتبر من الطهارة التي ينفعُ استصحابها إنّما هي الطهارة الرافعة. وأمّا الحدث في هذه الصورة فتأثيره المنع من الصلاة أمر معلوم؛ لأنّه إن وقع بعد الطهارتين فمنعه ظاهر، وإن وقع بعد الطهارة الأولى فمنعه أيضاً مُتَحقّق، وارتفاعه بالطهارة الثانية غير معلومٍ على حد ما قيل في الطهارة في الشق السابق. وحينئذٍ فاحتمالُ المحقّق في الأخذ بضدّ الحالة السابقة في غاية القُوَّةِ، إلّا أنّه يجب تقييده بما إذا جُوِّزَ التجديد كما يُعلَمُ من الدليل، فلو لم يُجَوَّز التجديد كانت الطهارة رافعةً على التقديرين. وفي الحقيقة هذا القيد كالمُستغنى عنه في أمثالِ هذه التحقيقات؛ لأنّ نفى التجديدِ يُخرجُ المسألة من باب الشك إلى باب نفي الطهارة؛ للقطع بأنَّ نفي التجديدِ من العلم بكونه متطهراً قبلهما نقيض تقدّم الحدث على الطهارة، وهذا أمر واضح.

نعم، يبقى عليه أنّ هذا مبني على كون الوضوء المجددِ غير رافع، فلو حكمنا بكونه رافعاً كان الحكم من العلم بسبق الطهارة، كما لو لم يُعلم حاله قبلها؛ لتحققِ الحدث الناقض والطهارة الرافعة، ولا ترجيح والمحقّق (رحمه اللّه)؛ في المعتبر رجّح كون الوضوء المجدَّدِ رافعاً(1)، فيرد ذلك عليه.

ص: 597


1- المعتبر، ج 1، ص 140 و 173.

الشك بين الأربع والخمس بعد الركوع وقبل السجود

قوله في مسألة الشكٍّ بين الأربع والخمس بعد الركوع وقبل السجود: إن فيه قولاً بالبطلان(1) للتردُّدِ بين محذورين... إلى آخره.

هذا القولُ عندنا ضعيف، وما أورده السيّد (دام شرفه) عليه وارد في محلّه.

نعم، في استدلاله على الصحّة بخبر عبد اللّه بن سنان: «إذا كُنتَ لا تدري أربعاً صلَّيتَ أم خمساً...» (2). إلى آخره، نظراً لأنّ المراد من الخبر أربع ركعاتٍ أو خمس والركعة حقيقة شرعيَّةٌ في الأمر المركَّب من الأفعال المتعدّدة التي من جُملتها القيام والركوع والسجود، ففعل السجودِ لا يحقق هذا المعنى المركّب شرعاً، وإنما يحقق الركعة، والمعنى الشرعي مقدّم في هذا المقام لكن يكفي في الحكم بالصحّة قبل السجودِ أصالة عدم الزيادة في الشك في المبطل، والنهي عن قطع العمل، فيبني على المتيقن وهو الأربع، ويُكمِلُ الصلاة. وإذا أكمل السجود لزم العمل بمقتضى الخبر أيضاً؛ لأنّه حينئذٍ قد شك بين الأربع والخمس، إن استمرَّ الشكُ فتجبُ عليه سجدة السهو، وإن زال الشكّ فالحكم واضحٌ.

وأمّا القولُ في نُصرة الصحّة بتنزيل مُعظَمِ الركعةِ مَنزَلَتَها، أو أنّ إطلاق اسمِ الركعةِ على المجموع إنما هو باعتبار الركوع وقد حصل، فهو أمرٌ غير نافع؛ لأنّ الأوّل مجاز لا يُصار إليه مع إمكان الحقيقة، والثاني لا يضرهم؛ لأنّ سبب التسميةِ أمرٌ آخر بعد تحقّق إطلاق الاسم شرعاً على المجموع.

قوله في مسألة نيّة المسافر إقامة عشرة في غير بلده ثم خروجه إلى ما دون المسافة بحيث يتجاوز حدود البلدِ عازماً على العودِ من دونِ إقامة عشرة مستأنفة:

إنّ قول العلّامة بالقصر ذاهباً وعائداً وفي البلد(3) أرجح بناء على أن الذهاب إنّما

ص: 598


1- القائل هو العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 3، ص 347، المسألة 357؛ ونهاية الإحكام، ج 1، ص 543.
2- الكافي، ج 3، ص 355، باب من سها في الأربع ولم يدر...؛ 3؛ تهذيب الأحكام، ج 2، ص 195، ح 767.
3- قواعد الأحكام، ج 1، ص 324.

لا يُضمّ إلى العود من كون أحدهما مؤثراً في تكميل الآخر بالنسبة إلى حصول المسافة منهما، أمّا مع عدم احتياج العودِ إلى التكميل بالذهاب فيجوز أن يُضَمَّ إليه ويُجعَلا سفراً واحداً.

فيه: أنّ الحكم بانفكاك حكم الذهاب عن الإياب مطلقاً أمر مستقر في غير مسألة قصدِ أربعة فراسخ مع قصدِ الرجوع ليومه، وإن كان كلام العلّامة في هذا الفرد الخاص قد يُوهِمُ ما ذكره السيّد (دام شرفه). والعلّامة قد وافق في مسائل كثيرة، وصرَّح فيها بعدم ضمّ الذهاب إلى العود في عدم احتياج العود إليه في تكميل المسافة، وأنّ لكلّ واحد منهما حكم نفسه، فممّا صرّح فيه بذلك مسألة البلد ذات الطريقين اللتين إحداهما مسافة والأخرى غير مسافة، فإنّه حكم فيها في التذكرة (1) وغيرها من مطوّلاتِ كتبه بأنّه إن عزم على سُلوكِ القصيرة ذاهباً وعائداً أتم مطلقاً، وإن عزم على الذهاب بالقصيرة والرجوع بالطويلة أتمَّ ذاهباً، وفي البلد، وقصَّرَ راجعاً، وإن عزم على الذهاب بالطويلة والرجوع بالقصيرة قصر ذاهباً وعائداً وفي البلد(2).

فانظر كيف لم يضمَّ الذهاب هنا بالقصيرة التي دون المسافة إلى الطويلة في العود، مع أنّها لا تفتقر إلى الذهاب في تكميل المسافة.

ولا يُتوهم أن بين الخروج من البلد إلى منتهى المقصدِ ثم العود إليه وبين الخروج من موضع إقامة العشرة فرقاً؛ لأنّ موضع الإقامة بعد الصلاة تماماً يصير في حكم البلد في اعتبار قصد المسافة بالنسبة إلى القصر وغيره من الأحكام المترتّبة على السفر.

ومما اعترف به الجماعة(3)، ومنهم العلّامة(4) في عدم ضمِّ الذهاب إلى العود وإن

ص: 599


1- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 373 - 374، المسألة 621.
2- قواعد الأحكام، ج 1، ص 324.
3- منهم المحقّق في المعتبر، ج 2، ص 469.
4- تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 392، المسألة 632.

لم تتكمَّل المسافة بهما ما لو نوى المسافر إقامة عشرة أيّام في أثناء المسافة قبل الشروع في السفر، أو نوى إقاماتٍ متعدّدة كذلك، أو كان له موطن في أثنائها أو مواطن ونهاية مقصده بعد الموضع الذي نوى فيه الإقامة عشراً، أو بعد نهاية المواطن؛ فإنّهم ذكروا في هذه المسألة: أنّه تعتبر المسافة من موضع الخروج إلى أوّل المواطن، أو موضع الإقامة، فإن كان مسافة قصر، وإلّا فلا. وكذلك تعتبر المسافة بين كلّ موطنٍ وآخر، وبين موضع الإقامة، فإن كان يبلغ المسافة أيضاً قصّر، وإلا فلا. ثمّ تُعتبر بين عامَّةِ المواطن وموضع الإقامة وبين مُنتهى المقصدِ، فإن كان يبلغ المسافة قصر أيضاً، وإلا فلا ولا يضمُّ ذلك الباقى إلى العود وإن كان في العودِ مقصراً، بأن لا ينوي فيه الإقامة إلى أن يصل إلى وطنه أوما في حكمه، أو بأن يرجع على غير طريق مواطنه، وهذا أيضاً كما نوى من المواضع التي صرَّحوا فيها بعدم ضمّ الذهاب ولا بعضه إلى العود، وأنّ لكلّ منهما حكم نفسه من أنّه لا يتكمَّل أحدهما بالآخر. ومن خالف في مسألتنا هذه وافق فيما ذكرناه.

وبالجملة: فعدم ضمّ العودِ إلى الذهاب ليس من مواضع الاشتباه، ولا أظنّ أنّ أحداً من علماء الإسلام خالف فيه وإن كان هذا التفريع الذي ذكروه في هذه المسألة مما قد ينتفي خلافُهُ، فإنّه تفريح فاسد قد أوضحنا عن فساده فيما حرّرناه على هذه المسألة في محلّ آخر(1).

وأما إلزامه بإتمام من يكرّرُ قطعَ بعض الأمكنة في كونه مسافراً سفراً يوجب القصر بناءً على عدم ضم الذهاب إلى العودِ فيما لا تتكمَّلُ به المسافة فليس بلازم؛ وذلك لأنّ من قصد المسافة ذهاباً حكمه - بعد الشروع في السفرِ ومُجاوزة حدودِ البلد - القصر بالنصّ (2) والإجماع إلى أن يقطع سفره بأحد أمورٍ.

ص: 600


1- انظر رسالة نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار المطبوعة في هذا الجزء.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 8، ص 470 - 473، أبواب صلاة المسافر، الباب 6.

منها: نيّة إقامة عشرة أيّام في بلده ومنها: التردُّدُ ثلاثين يوماً، ومنها: الوصول إلى وطنه ومنها: الرجوع عن السفر قبل بلوغ المسافة.

فما لم يحصل أحد هذه الأمورِ ففرضُهُ القصرُ وإن أقام أيّاماً، فضلاً عن رجوعه إلى بعض الأماكن؛ فإنّ الإقامة أبعد عن صورة السفر وحقيقته من الرجوع إلى ذلك البعض والتردد، ومن ذلك فرضه القصر إلى أن يتحقّق أحد ما ذكر، فإذا تحقّق أحدها الذي من جملته إقامة العشرة، وحصل معه أيضاً صلاة التمام أو ما في حكمها انقطع سفره، وافتقر في عوده إلى القصر إلى مسافةٍ جديدةٍ في الذهاب خاصةً، فإذا لم يحصل ذلك فهو باقٍ على التمام وإن كان العود يوجب المسافة؛ وذلك لأنه حينئذٍ لما لزمه الإتمام بسبب الإقامة وجب استصحابه إلى أن يوجدَ المُزيل له، وهو السفر إلى المسافة، ولم يُوجَد في الصورة المفروضة، فالأمرُ فيها على الضد من حكم المتردّدِ إلى بعض الأمكنة بعد نيّة سفر يوجبُ القصر، فإنّ ذلك فرضُهُ القصرُ فيستصحبه إلى تحصيل الموجب للإتمام، وهذا فرضُهُ الإتمامُ فيستصحبه إلى [أن] يوجد الموجب للقصر.

وأمّا استدلاله(1) بالآية(2) والخبر(3)، فجوا بُه أنّ الحكم وإن كان مُعلّقاً على الضرب المطلق لكنّه مخصوص بقصد المسافة في الذهاب إلى غاية المقصدِ إجماعاً، ولا أثر بضمّ الرجوع في تحقّق المسافة فيما عدا المنصوص، فالكلام في قوّة هذا الاشتراط.

ولمّا كان الإتمام بعد نيّة إقامة العشرة يقطع السفر السابق، ويوجب عدم العودِ إلى القصر إلّا بقصد المسافة، وجب الحكم بذلك هنا، وكانت الفتوى والأدلّهُ مُتطابقةً على ذلك في غير صورة النزاع، فيجب المصير إليهما فيه أيضاً؛ لأنّه بعض أفراد المسألة.

ص: 601


1- لم يُورد المصنف (رحمه اللّه) الآية والخبر في نقله لكلام السيّد (رحمه اللّه).
2- هي قوله تعالى في النساء (4): 101: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوَاةِ».
3- الظاهر أنّ المراد من الخبر خبر غياث بن إبراهيم المرويّ في تهذيب الأحكام، ج 3، ص 235، ح 617؛ وعنه في وسائل الشيعة، ج 8، ص 472، أبواب صلاة المسافر، الباب 6، ح 5.

وقد ظهر بذلك أنّ قوله: «إنّهُ مسافر، وليس هذا من المواضع التي يجبُ فيها الإتمام بالنصّ والفتوى» في موضع المنع، بل قد يقال : هذا من المواضع التي يجب فيها الإتمام بالنصّ والفتوى؛ لعدم تحقّق موجب القصر هنا الذي هو قصد المسافة في الذهاب كما هو المعروفُ في كلِّ،سفر، فيجب الإتمام إلى أن يتحقّق قصد المسافةِ ولو بالرجوع.

وبهذا تبيّن ضعف قول الشيخ(1) والعلّامة في المسألة بالقصر في الذهاب هنا وفي صورة ما لو لم يعزم على العود، وما يتردَّدُ فيه(2)؛ فإنّ المفروض في جميع هذه الصور أنّ الخروج إلى ما دون المسافة، فالإتمام فيه متعين إلى أن يشرع في سفر يقصد فيه مسافةً ولو بالعود إلى وطنه؛ لانقطاع السفر السابق بنيّة الإقامة مع الصلاة تماماً؛ لأنّه المفروض، فلا يعود إلى القصر في الجميع إلّا بسفرٍ جديدٍ إلى مسافة، أو بالعود إلى وطنه إن كان مسافة.

وكما يظهرُ بهذا ضعفُ قول العلّامة بالقصر في الذهاب، يظهر منه أيضاً أنّ قولَ الشهيد (3) والشيخ علي (رحمهما اللّه) بالقصر في العودِ مطلقاً(4)، ليس على إطلاقه، فإنّ العود قد لا يتحقّق مع قصد المسافة. وكذلك الذهاب الذي اتّفقوا فيه على القصر مع عدم عزم العود، وكون المفروض أنه إلى ما دون المسافة، وقد عرفت أنّه لا يصحّ العودُ إلى القصر إلّا بقصدها. وقد يحصُلُ لقاصد ما دون المسافة من مقام العشرة مع عدم قصد العودِ إلى محل الإقامة قصد السفر إلى مسافة وقد لا يحصل، فإطلاق القصر ليس بجيّد، بل يجب تقييده بما استلزم قصد المسافة، فينبغي تدبُّر ذلك، واللّه الموفق.

ص: 602


1- المبسوط، ج 1، ص 200.
2- قواعد الأحكام، ج 1، ص 326؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 1، ص 339، الرقم 1146؛ تذكرة الفقهاء، ج 4، ص 413، المسألة 646: نهاية الإحكام، ج 2، ص187؛ مختلف الشيعة، ج 2، ص 566، المسألة 410.
3- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 134؛ البيان، ص 261 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9 و 12).
4- جامع المقاصد، ج 2، ص 515؛ الرسالة الجعفرية، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 1، ص 124؛ رسالة في خروج المقيم عن حدود البلد، ضمن رسائل المحقّق الكركي، ج 2، ص112.

المتيمم وجد الماء وتمكن من استعماله

قوله في مسألة المتيمم إذا وجد الماء وتمكن من استعماله:

إنّهم عدُّوا من موجبات التيمّم التمكن من فعل مبدله، أعني الوضوء والغُسل، ثمّ إيراده عليه بأنّه يمكن أن يكونَ المُوجِبُ للتيمُّمِ الثاني هو الحدث المستمرُّ مع تعذُّرِ المبدل لا التمكن... إلى آخره.

فيه: أنّا تتّبعنا عبارات الأصحاب فما وجدنا أحداً فيهم عد التمكن من الوضوء والغسل من موجبات التيمم، وإنّما ذكروا أنّ ذلك ناقضاً للتيتُم، فقالوا: ينقض التيتُم جميع نواقض الوضوء والغسل، ويزيد التيمم عليهما أنّه ينقضه أيضاً التمكن من الطهارة المائيّة(1)، هذا معنى عباراتهم، وألفاظهم مع اختلافها مشتركة في هذا المعنى، وهذا أمر لا شُبهة فيه؛ فإنّ التيمُّمَ يبطل قطعاً بالتمكن من الطهارة المائيّة، وهو معنى انتفاضه.

ثم إذا فُرضَ بعد ذلك عدمُ الماء قبل الطهارة المائيّة وبعد التمكن من فعلها وأرادَ الصلاة مثلاً وجب عليهِ التَّيَمُّم لها لانتقاض التيمّم السابق بالتمكن من استعمال الماء، وكونه الآنَ مُحدِثاً. وهذا لا يقتضي كونَ التمكَّن من الطهارة المائيّة من موجبات التيمم، بل من نواقضه وموجِبُهُ إنّما هو الحدث السابق المستمرّ.

ثمّ لو فُرِضَ أنّ أحداً عبَّر عن الناقض هنا بالمُوجِبِ فهو تَجوز شائع سبب اشتراك الناقض والموجبِ في الإطلاقِ على الأحداث المخصوصة؛ فإنّهُم تارةً يُطلِقُونَ عليها اسم الموجِبِ مع أنّها لا تكون موجبةً مطلقاً، بل في بعض الموارد، وهو ما لو وقعت في وقتٍ واجب مشروط بالطهارة؛ وتارةً يُطلِقُونَ عليها اسم الناقض وهي لا تكون ناقضةً مطلقاً، بل إذا وقعت عقيب طهارةٍ رافِعَةٍ ِللحَدثِ أو مُبيحَةٍ للصلاة. فإذا استعمل الناقض في موضع الموجِبِ تارةً والمُوجِبُ في موضع الناقض تارةً جاز استعمال الناقض هنا، وهو وجود الماء الممكن من استعماله في الموجب. مع أنّهم (رحمهم اللّه) قد تجوّزوا

ص: 603


1- كالشيخ في المبسوط، ج 1، ص 58 والمحقّق في المعتبر، ج 1، ص 401؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 1، ص 240.

في لفظ المُوجِبِ بما هو أبلغ من ذلك كما جعل الشهيد (رحمه اللّه)؛ في الرسالة الألفيّة من موجبات الوضوء الشكّ في الطهارة مع تيقُنِ الحَدَثِ والشك في السابق منهما مع تيقّنهما (1)؛ فإنّ الشكَّ المذكور في الحقيقةِ ليس هو الموجِبَ، وإنّما المُوجِبُ الحَدَثُ السابق. والشكُ في الطهارة مع تيقن ضدّها أوجب عدم البناء عليها، فجعلوه موجباً لها لذلك على وجه التجوز والتوسع وكيف كان، فتقرير السيّد (دام شرفه) هنا جيّدٌ.

قوله في مسألة الوقف على مدرسةٍ فخربتْ:

إنّ في بطلان الوقفِ وعوده إلى الموقوفِ عليه أو بقائه احتمالين.

هذان الاحتمالان من جهة البحثِ متوجّهانِ، ولكلّ منهما نظير في الشريعةِ، لكنّ الأصحاب (2) ذكرُوا مسألةً كُلّيّةً، هذه المسألة فرد من أفرادها واتّفقوا فيها على حكمٍ واحدٍ، وهى أنه لو وُقفَ على مصلحة فبطلتْ صُرِفَ الموقوف في وجوه البرّ.

وقد ذكر هذه المسألة مَنْ وَقفتُ على كُتُبه من المتقدّمين والمتأخّرين، وما ذكرَ أحدٌ منهم قولاً بخلاف ذلك، ولا جعلوها من المسائل الخلافية، بل جزموا بالحكم فيها كما ذُكِرَ. والدليل أيضاً مساعد على ذلك؛ إذ لا شكّ في خروج الموقوف عن ملك الواقف بالصيغة الصحيحة والإقباض خروجاً غير مشروط العودِ لفظاً بوجه من الوجوه.

فالقولُ بعوده إلى ملكه أو ملك وارثه يحتاجُ إلى دليل شرعي يُعتمد عليه. وإذا تعيَّن خروجه عن ملكه وصرفه في الوجه المعيَّن، فإذا تعذر ذلك الوجه صُرِفَ في وُجوهِ البرّ، إمّا لأنّهُ مناسبٌ لِمَقصُودِ الواقفِ؛ حيث أرادَ القُربةَ الخاصة، فإذا تعذَّرَتْ صُرِفَ في مطلق القُربِ. وإمّا لأنّ المال حينئذٍ يقعُ مجهول المصرفِ فيُصرَفُ إلى البرّ كالمالِ

ص: 604


1- الرسالة الألفيّة، ص 139 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 18)، وفيها أو تيقّنهما والشكّ في اللاحق.
2- منهم الشيخ المفيد في المقنعة، ص 654 وابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص299؛ وابن حمزة في الوسيلة ص 371؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 166.

المجهول المالِكِ. والتصرّفُ في نفس العين الموقوفة ممتنع؛ لأنّ الوقف لم يبطل، وإنّما جهل مصرفُهُ.

ولا يَرِدُ مثله في الوقفِ منقطع الآخر، وهو الوقفُ على من ينقرِضُ غالباً، حيث حكموا بعوده إلى الواقف مع خروجه عن ملكه في زمان وجودِ الموقوفِ عليه(1)؛ لأنّا نمنعُ أوّلاً من خروجه عن ملكه وإنّما هو حبس إخرج المنفعة لا العين؛ ومن ثم عاد إلى وارثِ الواقف عند موت الواقفِ لا وارثه عند انقراض الموقوف عليه؛ ولأنّ رجوعَهُ إلى الواقف وورثته غير المتنازع فقد قيل: يصرفه في وجوه البر كمسألتنا (2). وقيل: إلى ورثة الموقوفِ عليه(3). وإن كان الأجود هو الأوّل لما ذُكر وغيره.

وبالجملة: فالاحتمال فى المسألة قائم، وللبحث فيه مجال إلّا أنّه لا مجال للقول بخلاف ما ذكره الأصحاب فيها.

في الوصيّة

قوله في مسألة الشفعة حكايةً عن القواعد:

لو أوصى لإنسان بشقصٍ فباع الشريك بعد الموتِ قبل القبولِ استحق الشفعة الورثة، ويُحتَملُ المُوصى له إن قلنا: إنّه يَملكُ بالموتِ، فإذا قبل الوصيّة استحق المطالبة؛ لأنّا تبيّنّا أنّ الملك كان له ولا يستحق المطالبة قبل القبول، ولا الوارث؛ لأنّا لا نعلم أنّ الملك له قبل الرد. ويُحتَملُ مطالبة الوارثِ؛ لأنّ الأصلَ عدم القبول وبقاء الحقِّ. فإذا طالب الوارث ثمّ قبل الموصى له افتقر إلى الطلب ثانياً؛ لظهورِ عدم استحقاقِ المُطالب ويُحتَملُ أنّ المشفوع للوارث؛ لأنّ المُوصى به إنّما انتقل إلى الموصى له بعد أخذ الشفعة. ولو لم يُطالب الوارِثُ حتّى قبل الموصى له فلا شُفعة للموصى له؛ لتأخُرِ مِلكه عن البيع. وفي الوارث وجهانِ مبنيان على مَن باع قبل علمه ببیع شریکه (4)؛ انتهى.

ص: 605


1- انظر الوسيلة، ص 370 : الجامع للشرائع، ص 370.
2- القائل هو ابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 299.
3- القائل هو الشيخ المفيد في المقنعة، ص 655؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 165.
4- قواعد الأحكام، ج 2، ص 259.

الذي يظهرُ لي من هذه العبارةِ أنّ الاحتمال الأخير على نهج ما قبله متفرّعٌ على كون القبول كاشفاً كما فهمه الشيخ إبراهيم(1)، ولكن عبارة الشيخ المذكور في المسألة طويلة الذيل، قليله النيل، مشتملة على ارتكاب تمويهات لا يجوز ارتكابها لأهل الدين الذينَ حمَّلهمُ اللّه أعباء الأمانة في الشريعة المطهرة النبويّة (أعاذنا اللّه من التقوُّل بغير الحقِّ، والمِراءِ في الدين والإغماض عمّن يستحقُّ التعظيم).

وتلخيص القول في تقرير هذه العبارة مجرّداً عن ترجيح ما يترجّح، والإيراد على ما يضعُفُ أنّ المسألة أوّلاً مبنيّة على أنّ الموصى به هل ينتقل إلى الموصى له بالموتِ، والقبولُ كاشفٌ عنه، أم بالقبولِ المتأخّر عن الموتِ؟ وليس معنى الأوّل أنّ الملك بعد الموتِ حاصل للموصى له في نفس الأمر، أو في الظاهر، أو في غيرهما، بل المِلكُ إنّما يتحقّق له ظاهراً وفي نفس الأمر بالقبول، ولكنّ اللّه ينقل الملك بالقبولِ من حين الموتِ فالنماء المتجدِّدُ بعد الموتِ وقبل القبولِ يكون للموصى له، وإلّا فلا شبهة في أنّ الموصى له قبل القبول ليس بمالك للشيء المذكور بوجه من الوجوه أصلاً.

ولا نقولُ حينئذٍ: إنّ القبول في الوصيّة تمام السبب في نقل الملكِ، وإلّا لَزِمَ القولُ بأنّها ناقلة(2).

بل نقول: إنّها شرط في انتقالِ المِلكِ بالموتِ. وكذا الإجازة شرط فى انتقاله بالإيجاب والقبول في بيع الفضولي فالسببُ الناقِلُ يتمُّ على وجه التعريف، ولكن يتوقّف على شرطٍ متأخّر، وبحصول الشرط ينكشفُ الانتقال من الزمن السابق. وتَوقُفُ الحكم الذي تمَّ سببه على شرطٍ متأخّرٍ وبحصول الشرط ينكشف الانتقال سابقاً أمر واقع شرعاً في كثير. ويكشفُ لك عن ذلك أنّ الأمر الناقِل للعين مثلاً في

ص: 606


1- الظاهر أنّ المراد الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي. انظر ترجمته في روضات الجنات، ج 1، ص 25: إحياء الدائر من القرن العاشر، ص 4 - 5.
2- هكذا في الأصل، ولعلّ الأولى «بأنه ناقل» بدل «بأنها ناقلة».

البيع، وللمنفعة في الإجارة، والمُوجِبَ لإباحَةِ الوطء في النكاح، إنمّا هو العقد المشتَمِلُ على الإيجاب والقبول، ومِنْ ثَمَّ عُرِّفَ البيعُ بأنّهُ الإيجاب والقبول الدالان على نقل المِلكِ؛ أو اللفظ الدالّ على نقل الملك(1)، إلى آخره، ومثله... (2) الإجارة وغيرها من العقود... للإجازة. وأمّا العلم وكونه مالكا أو وكيلاً أو وليّاً فهي شروط لذلك لاجزء له. فإن اجتمعت الشرائط قبل العقد تحقّقت ثمرة العقد بالصيغة، وإن تخلّف بعضها فقد يحصل منه بطلان العقدِ كما في فقد كلّ الشروط، ومنه وقوع العقد من غير المالكِ والوليّ على أحد الأقوال(3) وإن أجاز بعد ذلك؛ لأنّ قضيّة الشرط أن يكون متقدماً، وقد تبقى ثمرة العقدِ وهي انتقال العين ونحوها موقوفة على ذلك الشرط، فإذا حصل تحقّق تأثير ذلك السبب الناقل، وهو العقد، وذلك كإجازة المالك في عقد الفضولي على القول الآخر. فالانتقالُ حصل بالعقد، ولكن انتقالاً مشروطاً برضى المالك، فرِضاهُ وإجازته ليس جزءاً من السبب الناقل، بل شرطاً. وهذا أمر معلوم من استبطان كلام الفقهاء وتحرير عباراتِهم وظواهر النُصوص(4). ومن هذا التحقيق يظهرُ قوّة القول بأنّ إجازة العقدِ كاشفة عن صحته من حين العقدِ لا ناقلة له(5) وضَعفُ القول بأنّ قبول الموصى له بعد الموتِ كاشفٌ عن سبق الملك بالموتِ؛ لأنّ الأمر الناقل للملك في الوصيّة هو الإيجاب والقبولُ... شرط قبل الموت الذي لم يتحقّق المِلكُ إلّا به إجماعاً، ولا يكون كاشفاً عن

ص: 607


1- انظر الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 171 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
2- لم تقرأ.
3- من القائلين ببطلان البيع في ما لو باع مالاً لغيره من غير ولاية الشيخ في المبسوط، ج 2، ص 100؛ والخلاف ج 3، ص 168، المسألة 275 وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 274؛ وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 1، ص 416 - 417.
4- كخبر عروة البارقي المرويّ في مستدرك الوسائل، ج 13، ص 245، أبواب عقد البيع وشروطه، الباب 18، ح 1؛ وسنن أبي داود، ج 3، ص 256، ح 3384؛ وللمزيد راجع جواهر الکلام، ج 22، ص 277 - 280 (الطبعة القديمة).
5- من القائلين بأنّ الإجازة كاشفة الشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 172 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11): والفاضل المقداد في التنقيح الرائع، ج 2، ص 26.

سبق الملك بالقبول... وإن تأخر القبولُ عن الموت كان هو تمام السبب... لا شرطاً في الانتقال؛ لانّ الوصيّة عقد... للملك ونحوه كغيرها من العقود، والقبول جزء العقدِ الناقل. وأمّا الحكم على القول الثاني فظاهر؛ لأنّ الملك إنّما يتحقّق بالقبول ليكون القبولُ جزء السبب التامّ، وبتمامه يحصل الملك ويتحقّق الانتقال، فالنماء قبلَهُ للوارث.

إذا تقرّر ذلك فنقول: إذا أوصى الإنسانُ بشقصٍ فباعَ الشريكُ بعد موتِ الموصي وقبل قبول الموصى لَه. فإن قلنا: إنّ المُوصى له إنّما يَملِكُ بالقبولِ بمعنى كونِ القبولِ هو الناقلُ للملكِ من حين القبول فالشفعة للورثة؛ لانتقال التركة إليهم بالموتِ وإن كان انتقالاً متزلزلاً قابلاً للانتقال عنهم بعد ذلك بقبول الموصى له، وهذا هو الذي اختاره المصنّف هنا، وفي التذكرة (1) حاكياً فيها المسألة بلفظ القواعد (2) إلى آخر المسألة من غير زيادةٍ ولا نُقصانٍ ومثله في القبول عبارة التحرير(3) وإن خالفت هذه العبارة في تقرير المسألة.

وإن قلنا: إنّ القبول المتأخّر عن الموتِ كاشف عن سبق الملكِ من حين الموتِ ففي مستحقِّ الشفعة احتمالات:

أحدُها أنّهُ الموصى له خاصةً لكن قبل قبوله لا يستحقُّ المطالبة؛ لعدم تماميّة الملكِ، ولا الوارتُ؛ لأنّا الآن لا نعلم أنّ الملك له بناءً على ردّ الموصى له الوصيّة. فإذا قبل الموصى له استحقّ المطالبة بالشفعة حينئذٍ. وهذا هو الاحتمالُ الذي حكاه المصنِّفُ أوّلاً(4).

وثانيها: أنّ المستحق لها أوّلاً هو الوارث؛ لما ذكره المصنّف(5) من أنّ الأصل عدمُ القبول وبقاءُ الحقّ على ما هو عليه، وهو كونه للوارث الآن ظاهراً غير منتقل إلى

ص: 608


1- تذكرة الفقهاء، ج 12، ص 368 - 369، المسألة 838.
2- تقدّم في صدر المسألة، ص 605.
3- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص587- 588، الرقم 6195.
4- تقدّم في صدر المسألة، ص 605.
5- أي العلّامة في كلامه الذي تقدّم في ص 605.

الموصى له ؛ لأنّ الفرضَ كونه متروكاً عن مورثه ولم يحصل المزيل له عن ملكه؛ لأنّ مجرّد الوصيّة والموتِ غيرُ كافٍ في نقلِ المِلكِ، فإذا طالب الوارِث بها وأخذ الشقص ثبت له ظاهراً ثبوتاً مُراعى بعدم قبول الموصى له كالعين الموصى بها، فإذا قبل الموصى له بعد ذلك لم يكن له أخذُها من الوارث بناءً على أنّه في أخذها كالنائب له، بل يفتقر إلى الطلب بالشفعة ثانياً؛ لظهور عدم استحقاق الوارث المطالب أولاً، وإن لم يأخذ الوارث أوّلاً أخذ الموصى له بعد القبول من المشتري.

ثالثها: أنّ المستحق لها هو الوارِث ليس إلّا، وليس للموصى له فيها شيء، سواء قِبَل قَبلَ أخذِ الوارثِ أم لا؛ لما ذكره المصنّف(1) من التعليل، وهو تأخّرُ مِلكِ الموصى له عن البيع؛ لأنّ مِلكَهُ لم يتم إلّا بالقبول وإن كان القبولُ كاشفاً عن سبق ملكه من حينٍ الموتِ؛ فإنّ الكشف كما بيناه ليس معناه أنّهُ أبان عن كون الموصى له مالكاً حقيقةً في الزمن السابق قبل القبول، بل بالقبولِ لزِمَ للموصى له مِلكُ العَينِ من حين الموتِ، فالنماء ونحوُه له. والشفعة ليست كذلك؛ لأنّها إنّما تثبت للشريك حين البيع، والموصى له حين البيع لم يكن شريكاً ظاهراً ولا في نفس الأمر. هذا إن لم يكن الوارث قد أخذ بالشفعة، وإن كان قد أخذ فوجهُهُ ما ذكره المصنّف آنفاً من أنّ الموصى به إنّما انتقل إلى الموصى له بعد أخذ الشفعة، وهذا الاحتمال وإن كان مخالفاً لما يقتضيه التحقيق في المسألة، لكنّه لا يخرُج بذلك عن مجرّد كونه احتمالاً في المسألة وإن ضعُفَ مأخذُهُ. وكم يُوجَدُ في كتب الفقهِ قول قد قال به جماعةٌ من الفضلاء كلّ وجهه في غاية الضعفِ والسقوط، بل لا يكادُ في زماننا الفاضل يُكمِلُ تقرير وجهه حتّى ينتقض عليه، ومن ذلك لا يخرج عن القول، فكيف مجرّد الاحتمالِ الذي لا قائل به، وقد أخَّرَهُ المصنّف لضعفه عن جميع الاحتمالات، واطَّرَحُه في التحرير(2) فلم يجعله احتمالاً أصلاً.

ص: 609


1- أي العلّامة في كلامه الذي تقدّم في ص 605.
2- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 587 - 588، الرقم 6195.

الإنصافُ يقتضي أنّ هذا خيرٌ من جعله عين القولِ الأوّل الذي قد جزم به، ثمّ يجعلُهُ احتمالاً بعد مسافةٍ بعيدةٍ، وأدخل في تشييد طريق المصنّف وسَدادِ قوله وسلامته عن التهافتِ، وجميع ما ذكره السيّد (دام شرفه) في دفع هذا الاحتمال، وأنّ حقيقة الكشف عن سبق المِلكِ يأباه، إنّما اقتضى ضعفه وضعف مأخذه، ولكنّه لم يدفع أصل الاحتمال، فإنّ إثباته في مثل هذا المحلّ ممّا يكفي فيه ما هو أقل من هذا التوجيه. هذا، مع أنّ المُطَّلِعَ على حقيقة الحال وتصرفات المصنّف (قدس اللّه روحه) يعلمُ أنّ مثل هذه الاحتمالات ليست من استخراج المصنفِ، وإنّما هي تفريعات الشافعةِ أخذها في كتبه، واختار منها ما هو الحق، واطَّرح منها الباقي، وجعله احتمالاً أو وجهاً. وقد كانت كتب أصحابنا (رحمهم اللّه) خاليةً من ذلك كله، وما هذا شأنه يكفي في توجيهه ما ذكرناه والكلام على باقي مقاصدِ المسألة وما في تضاعيف الكلام عليها من الطرفين خارج عن مطلبنا في هذه الحاشية. واللّه الموفق.

العقد على امرأتين لمن عنده ثلاث زوجات

قوله في مسألة العقد على اثنتين لمن معه ثلاث:

إنّ من الصور التي يتَّفق فيها ذلك كونَ عقد أحدهما فضوليّاً فيكون العقد على وقتٍ واحدٍ، وأحدُهُما أسبق من الآخرِ باعتبارِ تمام ما يُعتبرُ فيه، وتوقُّف عقد الفضولي على الإجازة المتأخّرة.

هذا كلام حقّ. وأمّا بناؤه على القول بأنّ الإجازة جزء السبب ليكُونَ أثرُ العقدِ متأخراً عن الآخر. وأمّا لو قلنا بأنّ الإجازة كاشفةً عن سبق تمامية العقد من حينه لم يتحقّق السبق. وإنّ ذلك حكم لا شبهة فيه فغير واضح. والإنصاف هنا أن كلام كلّ من الفريقينِ مُوجَّه، وله صورةً؛ فإن الكشف لما كان مُقيَّداً بسبق تمامِيَّةِ العقدِ وترتُّبِ أثره من حين العقد أفاد اقتران العقدين حين الإجازة في زمانِ العقد، وظاهر حقيقة الكشف كاشفُ عنه؛ بناءً على ما ذهب إليه الشيخ علي (قدّس سرّه)(1).

ص: 610


1- جامع المقاصد، ج 12، ص 160.

والالتفات إلى أن أحد العقدين - وهو الذي لم يتوقّف على الإجازة - قد تمَّ قبل حصول الإجازة، وبه تمَّ العدد المعتبر قبل أن يتمّ السببُ المُصَرِّحُ لعقد الثانية، وأنّهُ إنّما تم ذلك العقد وكشف عن سبق تماميته بعد الحكم بصحة الأوّل وتمام العددين، فيكونِ الكشف الطارئ غير نافع يوجّه ما ذهب إليه المرحوم الآخر. ولعلّ هذا أرحجُ؛ فإنّ الكشف كما ذكرناه سابقاً ما أبان لنا عن صحّة هذا العقد وتماميَّتِهِ سابقاً في نفس الأمر أو في حال من الأحوال.

وإنّما دلّنا على أنّ اللّه تعالى نقل الملك وتمَّمَ العقد بعد الإجازة من حين العقد، وهذا غير نافع هنا؛ لأنّ الأوّل قد سبق الحكم بتماميته بالزمان، وتمّ به العدد قبل أن يتمّم المُوجِبُ للنقل أو الكشف.

وبما ذكرناه يظهر الفرق بين الكشف الواقع في هذه المسائل ونظائرها، وبين الكشف الواقع فيما مثل به السيّد (دام شرفه) في مِثلِ ما لو شهد شاهدان بأنّ أبا زيدٍ مثلاً قد مات، فتصرف زيد في مال أبيه، ولا شكّ أنّ تصرُّفَهُ موافق لظاهر الشرع، فلو ظهر بعد ذلك كذبُ البيِّنة بطل تصرّفه جزماً؛ نظراً إلى أنّ الكشف أفاد تأثير ما كشف عنه من أوّلِ زمانِهِ الذي يُبحَثُ عنه.

وجعل هذا المثال سنداً لكون ملك الموصى له في مسألة الشفَعَةِ السابقة دلّ على بطلان ما وقع للوارث من التصرّفات.

وتوضيح الفرق بين المقامين أنّ ما ذكره من الحكم الظاهر غير واقع ولا مطابق النفس الأمر، والحكم في نفس الأمر واقع بخلاف ما حكم به ظاهراً، فمِنْ ثم تبين يُطلانُ ما خالفه ظاهراً، بخلاف الكشف في أمثال هذه المسائل؛ فإنّ الحكم لم يكن متحقّقا - لمّا توقف على الإجازة والقبول - في الظاهر ولا في نفس الأمر، وإنّما بعد - ذلك أحدث تأثير ما سبق من السبب من حين ابتداء السبب، فما وقع من الحكم قبل الحكم بالتماميَّةِ لم يكن مخالفاً لما في نفس الأمر، ومن ثمّ لو لم تحصل الإجازة بل

ص: 611

حصل نقيضها تبين عدم المعارِضِ لما سبق، بخلاف ما مُثْلَ به فإنّهُ حكم فاسد في نفس الأمر، وإنّما بُني على الظاهر، ثم تبيّن فساده.

وقد ظهر بذلك أنّ أخَذ الوارث بالشفعة قبل إجازة الوصيّة لم يكن مخالفاً للحكم ظاهراً، ولا فى نفس الأمر، وإنما طرأ بعد ذلك حكم آخَرُ يخالفه.

وكذلك الحكم بتماميّة الأربع واستباحة بضع الرابعة، ولزوم عقدها، والمنع من تزویج الخامسة وقع قبل لزوم عقد الخامسة بالإجازة التي هي شرط حصول المسبب في الزمن السابق، فماذا نفعت ذلك إجازة عقدها ؟

وإن قيل بأنّه كاشف عن سبقه من حين العقد، لا يرفع ما حكم به من أحكام عقد السابقة وإن كان للقول الآخرِ وجه وجيه، واللّه أعلم بحقائق أحكامه.

مسألة في القسمة، وشرح عبارة من الشرائع

قوله في مسألة القسمة حكاية عن الشرائع ولا يخرج في هذه على السهام بل على الأسماء؛ إذ لا يؤمنُ من أن يُؤدّي إلى تفرُّقِ السهام وهو ضررٌ(1). وإنّ الصحيح أن يقال: ولا يخرج في هذه على الأسماء بل على السهام؛ لأنّ تصوير المسألة صريح في إخراج الأسماء على السهام، ولا يصحّ في هذه الصورة إخراج السهام على الأسماء؛ لما ذكره المصنِّفُ(2). والعلّامة في القواعد (3) صّرح بذلك.

هذا الكلام جيّد، ولو عبّر بما ذكره العلّامة كان حسناً، وبذلك عبّر جماعة(4)، ولكن ما ذكره المحقّق لا يبلغ حدَّ الفسادِ، وقد وافقه على نظيرها العلّامة في الإرشاد(5)، وذكرها غيرهما.

ومعنى قولهم: «ولا يخرج على السهام» أنّهُ لا تُكتب ابتداءً أسماءُ السهام، بأن

ص: 612


1- شرائع الإسلام، ج 4، ص 94.
2- أي المحقّق في شرائع الإسلام.
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 463 - 464.
4- منهم الشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 94 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
5- ارشاد الأذهان، ج 1، ص 434.

تُجعل الرقاع ستّةٌ على وفق السهام وتُخرَجُ على السهام، بأن يعيّن أحد الشركاء الثلاثة أولاً، وتُخرَجُ السهام، فأيُّ سهم خرج جُعِلَ له، فإن كان صاحبُ النصف أخذ السهم، ثمّ أُخرج له سهمان آخران وإن تفرّقت، ثمّ يخرج لصاحب الثلث مثلاً سهمان كذلك وهكذا، فإنّ في ذلك ضرراً بتفرق السهام كما ذكر.

وإنّما تخرج على الأسماء، بمعنى أنّهُ يُكتب ثلاث رقاع - كما ذكره المصنف - كأسماء الشركاء، ويخرج فى ظهر اسمِهِ أخذَ السهم الذي جُعِلَ أوّل السهام؛ لأنّ المفروض كونها مرتبةً قَد جُعِلَ لها أوّل وثان إلى الآخر، وأكمل له ممّا يليه إن احتاج إليه. والموجب لسماجة هذه العبارة أنّ المعروف في ذلك أنّهُ إِن كُتبتِ الرقاع باسم السهام أخرجت على الأسماء، وبالعكس فلمّا ذكر هنا أنّها تُكتَبُ على الأسماء ثمّ تُخرَجُ على الأسماء حصل التشويش وعذره، أنّ السهام لمّا رُتبت وجعل لها أوّل لم يحتج إلى ذكرها؛ لأنّ الخارج يتعيّن لأوّلها، فالمخرج على الأسماء بمعنى اعتبار الخارج من الأسماء، كما أنّ المخرج على السهام الذي قد نفاه بمعنى إخراج السهم المكتوب، فترتيب السهام وتعيّنُ الابتداء بأوّلها على الترتيب أوجب الاكتفاء باسمِ ما يخرجُ في الرفع، وهو في هذه الصورة اسم الشركاء، فيكون الإخراج على الأسماء، والمنفي وهو الإخراج على السهام أمر آخر، وكيفية أُخرى لا تفتقر إلى ترتيب السهام، ولا يُكتَبُ فيها أسماء الشركاء كما صُنع هنا، كما يرشد إليه التعليلُ.

وبالجملة، فعبارة القواعد أوضح معنى وأقعد، لكن لكلِّ واحدة اعتبار. وفي الحقيقة عبارة القواعدِ أيضاً لا تبلغ حدَّ الحسنِ؛ لأنّ الغرض من هذه القسمة إخراجُ الاسمِ المكتوب في الرقعة، وأن يُعطى ما يناسبه من السهام من الابتداء واحداً أو اثنين أو ثلاثة على حسب حقه، فالاسمُ لا يخرجُ على سهام معينة، بل يُنظَرُ بعد إخراجه فيما يناسبه من الحقِّ، ولا يُلتَفَتُ عند الإخراج إلى السهام أصلاً؛ لأنّ ترتيبها أولاً، وجعل

ص: 613

مبدئها في سهم معيّن أغنى عن النظر إليها عند الإخراج، وإنما تعلّق الغرضُ بالاسم.

وكان الأولى أن يقال: ويكتب أسماء الشركاء لا أسماء السهام؛ حذراً من التفريق ثمّ تُخرَجُ، كما صنع الشهيدُ (رحمه اللّه) في الدروس(1). ويُترك الإخراج على الأسماء أو على السهام؛ لأنّ الغرض في الموضعينِ إخراج ما قد كُتِبَ لا تخصيصه بسهمٍ معيّنٍ ؛ لأنّ الترتيب يُفيده. وإنما تحتاجُ إلى الإخراج على السهام أو الأسماء باقي الصور المذكورة في القسمة.

تقرير دليل حصّة الذكر حصّة أُنثيين

قوله في الخاتمة (رزقنا اللّه تعالى صلاحها وبركتها):

قال اللّه تعالى: «يُوصِيكُمُ اللّه فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءٌ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةٌ فَلَهَا النِّصْفُ» (2).

قال صاحبُ الكشّاف: «فإن قلت: قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن، وحكم البناتِ والبنتِ في حال الانفراد، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد، فما حكمُهما وما باله لم يَذْكُر ؟

قلتُ: أمّا حكمهما فمختلف فيهِ. فابنُ عباس (رضي اللّه عنه) أبى تنزيلَهُما منزلةً الجماعة؛ لقوله تعالى: «فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» فأعطاهما حكم الواحدة، وهو ظاهر مكشوفٌ، وأمّا سائر الصحابة (رضي اللّه عنهم) فقد أعطوهما حكم الجماعة. والذي يُعلَّلُ بِهِ قولُهم أن قوله: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ» قد دلَّ على أن حكم الأُنثيين حكم الذكر، وذلك أنّ الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة فالأُنثيان كذلك تحوزان الثلثين»(3).

أقول: هذا التعليلُ الذي ذكره الزمخشري قد سبقه إليه جماعةٌ منَ الأكابر، منهم

ص: 614


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 94 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
2- النساء (4) 11.
3- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 1، ص 481؛ وانظر أيضاً جوامع الجامع، ج 1، ص 240، ذيل الآية 11 من النساء (4).

أبو العباس المبرّد(1). وذكره شيخُنا المقدّمُ محمّد بن يعقوب الكليني في الكافي، فقال: وقد تكلّم الناسُ في أمر الابنتين من أينَ جُعِلَ لهما الثلثانِ واللّه (عزّ وجلّ) إنما جعل الثلثين لما فوق اثنتين ؟ فقال قوم: بالإجماع. وقال قوم: قياساً، كما أن كان للواحدةِ النصفُ، كان ذلك دليلاً على أنّ لما فوق الواحدةِ الثلثين. وقال قوم بالتقليد والرواية. ولم يُصِبْ واحد منهم الوجه في ذلك. فقلنا: إنّ اللّه (عزّ وجلّ) جعل حطّ الأُنثيين الثلثين بقوله: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ» وذلك أنه إذا ترك الرجلُ بنتاً وابناً فللذكر مثل حظ الأنثيين، وهو الثلثان، فحظ الأنثيين الثلثان، واكتفى بهذا البيان أن يكون ذكر الأنثيين بالثلثين، وهذا بيان قد جهلَهُ كلُّهم. والحمد للّه كثيراً (2). انتهى.

وتقرير هذا الدليل أن اللّه سبحانه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين إذا اجتمعَ معَ الإناث، وله فروض كثيرة:

منها: أن يجتمع مع ابنتين، فيكون له بقدرِ حظّهما. وذلك واضح.

ومنها: أن يجتمع بأكثر من ابنتين. فله بقدر حظِّ اثنتين.

ومنها: أن يجتمع مع أنثى، بل هذا أوّلُ الفروض؛ لأن أول الأعداد ذكر وأنثى كما نبه عليه المبرّد(3)، فله بمقتضى الآية أيضاً مثل حظ الأنثيين، والحال أنّ له الثلثين، وللواحدة الثلث، فلابدّ أن يكون الثلثان حظاً للأُنثيين في حال من الأحوال، وذلك في حالة الاجتماع مع الذكر غير واقع إجماعاً، بل غاية ما يكون لهما النصف، فلو لم يكن لهما

ص: 615


1- حكاه عنه الشيخ في التبيان، ج 3، ص 129 - 130؛ والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن، ج 5، ص 63، ذيل الآية 11 من النساء (4).
2- الكافي، ج 7، ص 72 -73.
3- حكاه عنه الشيخ في التبيان، ج 3، ص 129 - 130 ذيل الآية 11 من النساء (4):... وقال أبو العبّاس المبرّد - واختاره إسماعيل بن إسحاق القاضي : إن في الآية دليلاً على أن للبنيتن الثلثين؛ لأنه إذا قال: «للذكر مثل حظ الأُنثيين» وكان أوّل العدد ذكراً وأُنثى، للذكر الثلثان وللأنثى الثلث، علم من ذلك أن للبنتين الثلثين...».

الثلثان في حالةِ الانفرادِ لزِمَ أنْ لا يصدق في هذه الصورة - وهي اجتماع الذكر معَ الواحدة - أنّ له مثل حظّ الأنثيين، فيكون للأنثيين الثلثان حالة الانفراد، وذلك هو المطلوب.

وبهذا التقرير يندفع ما ذكره السيّد (دام شرفُه) على الدليل من المنع، وعلم أن ما يثبت له من النصيب حالة الاجتماع لا بد أن يحصل لهما في حالةٍ من الأحوال، ولما لم يكن في حالة الاجتماع فليكن في حالة الانفراد؛ لأنّه جُعِلَ له مثل حظهما.

فقوله في سندِ المنع: «إنّه يجوز أن يكون شيء مع الاجتماع لا يكون ذلك الشيء مع الانفراد» قد ظهر اندفاعه بأن كون الثلثين نصيباً للأنثيين حالة الاجتماع ممّا لم يقع ولا بدّ لصحّةِ الإطلاقِ من فرضِ وقوعه، وذلك حالة الانفراد.

فإن قيل: يمكن النظر إلى أن الواحدة في الصورة المذكورة إذا كان لها الثلث، والبنت لا تفضل على البنتِ، فيكون الثلثان في قوّة نصيب أنثيين فيصح إطلاق حظّهما لذلك.

قلنا: عدم تفضيل الأُنثى على مثلها لا يستلزم كونَ الثلثين حظاً لهما، بل لا يجامع، وإنّما يقتضي كونهما مع الاجتماع متساويتين في النصيب، وهو كذلك؛ فإنّ الواحدة حينئذٍ لا يكون لها ثلث، فلا يكون لهما ثلثان لامتناع ذلك حالة الاجتماع؛ إذ لا بد أن يفضل للذكر بقدر النصيبين.

هذا ما يتعلق بتقرير التوجيه الذي ذكروه، ونقتصر في الكلام عليه؛ لأنّه المقصود بالذات، واللّه الموفق.

ص: 616

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.