موسوعة الشهيد الثاني المجلد 27

هوية الکتاب

موسوعة

الشهيد الثاني

الجزء السابع والعشرون

مَسَالِكُ الافهام

إلى تنقيح شرائع الإسلام /11

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء السابع والعشرون مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام / 11)

الناشر: المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة: مطبعة باقري

الطبعة الأولى: 1434 ق / 2013م

الكمية: 1000 نسخة

العنوان: 143: التسلسل: 270

حقوق الطبع محفوظة للناشر

العنوان: قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42

التلفون والفاكس : 7832833 ، التوزيع : قم 7832834: طهران 66951534

ص . ب 37185/3858 ، الرمز البريدي: 16439 - 37156

وب سایت: www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir

شهید ثانی، زین الدین بن علی، 911 - 965ق.

موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي، المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية. 1434ق. = 2013م.

30 ج.

978-600-5570-74-8 ISBN . (دوره)

ISBN 978-600-195-002-5 (ج 27)

فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیا

کتابنامه

مندرجات ج . 17 - 28. مسالك الافهام إلى تنقيح شرائع الإسلام

.1 اسلام - مجموعه ها 2 محقق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و تفسیر 3 فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. شرح الف. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی ب عنوان .

8 م 92 ش /BP4/6 297/08

محرر الرقمي: سيد جلال الدين عمراني

ص: 1

اشارة

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

ص: 2

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء السابع والعشرون

مسالك الأفهام

إلى تنقيح

شرائع الإسلام / 11

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

ص: 3

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء السابع والعشرون مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام / 11)

الناشر: المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة: مطبعة باقري

الطبعة الأولى: 1434 ق / 2013م

الكمية: 1000 نسخة

العنوان: 143: التسلسل: 270

حقوق الطبع محفوظة للناشر

العنوان: قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42

التلفون والفاكس : 7832833 ، التوزيع : قم 7832834: طهران 66951534

ص . ب 37185/3858 ، الرمز البريدي: 16439 - 37156

وب سایت: www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir

شهید ثانی، زین الدین بن علی، 911 - 965ق.

موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي، المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية. 1434ق. = 2013م.

30 ج.

978-600-5570-74-8 ISBN . (دوره)

ISBN 978-600-195-002-5 (ج 27)

فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیا

کتابنامه

مندرجات ج . 17 - 28. مسالك الافهام إلى تنقيح شرائع الإسلام

.1 اسلام - مجموعه ها 2 محقق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و تفسیر 3 فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. شرح الف. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی ب عنوان .

8 م 92 ش /BP4/6 297/08

ص: 4

دلیل

موسوعة الشهيد الثاني

المدخل = الشهيد الثاني حياته وآثاره

الجزء الأول = (1) منية المريد

الجزء الثاني - (2 - 6) الرسائل /1 : 2. كشف الريبة ؛ 3 التنبيهات العلية؛ 4. مسكن الفؤاد .5 البداية .6 الرعاية لحال البداية في علم الدراية.

الجزء الثالث = (7 - 30) الرسائل /2 : 7. تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد؛ 8. تقليد الميت؛ العدالة؛ 10 ماء البئر؛ 11 تيقن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما؛ 12. الحدث الأصغر أثناء غسل الجنابة ؛ 13. النية؛ 14. صلاة الجمعة؛ 15. الحثّ على صلاة الجمعة؛ 16. خصائص يوم الجمعة؛ 17 نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار ؛ 18 أقل ما يجب معرفته من أحكام الحج والعمرة ؛ 19 نيّات الحج والعمرة؛ 20 مناسك الحج والعمرة؛ 21 طلاق الغائب؛ 22 ميراث الزوجة؛ 23 الحبوة 24 أجوبة مسائل شكر بن حمدان 25 أجوبة مسائل السيد ابن طراد الحسيني؛ 26. أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس؛ 27 أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني .28 أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي؛ 29 أجوبة مسائل السيد شرف الدين السماكي؛ 30. أجوبة المسائل النجفية.

الجزء الرابع - (31 - 43) الرسائل /3 : 31 تفسير آية البسملة؛ 32. الإسطنبولية في الواجبات = (31 - العينية : 33 الاقتصاد والإرشاد إلى طريق الاجتهاد؛ 34 وصيّةً نافعة؛ 35 شرح حديث «الدنيا مزرعة الآخرة»؛ 36. تحقيق الإجماع في زمن الغَيْبَة؛ 37 مخالفة الشيخ الطوسي (رحمه الله) لإجماعات نفسه 38 ترجمة الشهيد بقلمه الشريف؛ 39 حاشية خلاصة الأقوال»؛ 40. حاشية «رجال ابن داود»؛ 41 الإجازات : 42. الإنهاءات والبلاغات؛ 43 الفوائد.

ص: 5

الجزء الخامس = (44) تمهيد القواعد

الجزء السادس - الجزء التاسع = (45) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية

الجزء العاشر والجزء الحادي عشر = (46) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان

الجزء الثاني عشر = (47 - 49) المقاصد العلية وحاشيتا الألفية

الجزء الثالث عشر = (50) الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفلية

الجزء الرابع عشر = (51) و 52 حاشية شرائع الإسلام وحاشية المختصر النافع

الجزء الخامس عشر = (53) حاشية القواعد (فوائد القواعد)

الجزء السادس عشر = (54) حاشية إرشاد الأذهان

الجزء السابع عشر - الجزء الثامن والعشرون = (55) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام

الجزء التاسع والعشرون = الفهارس

ص: 6

فهرس الموضوعات

كتاب القضاء

تعريف القضاء ... 17

النظر الأول في صفات القاضي ... 19

يشترط في ثبوت الولاية إذن الإمام (علیه السّلام) ... 23

قاضي التحكيم ... 24

ينفذ قضاء الفقيه في زمان الغيبة ... 25

وظيفة القضاء من فروض الكفاية ... 27

لو وجد من هو بالشرائط فامتنع ... 29

إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة ... 33

هل يجوز للقاضي الاستخلاف؟ ... 35

أجرة القاضي على بيت المال ... 36

جواز أخذ الأجرة للمؤذن والقاسم وكاتب القاضي ... 38

ولاية القاضي تثبت بالاستفاضة.... 39

نصب قاضيين في البلد الواحد ... 42

إذا حدث بالقاضي ما يمنع الانعقاد ... 43

انعزال القضاة بموت الإمام (علیه السّلام) وعدمه ... 46

ص: 7

كلّ من لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه ... 49

النظر الثاني في الآداب ... 51

الآداب المستحبّة ...51

القاضي يسأل عن الأوصياء على الأيتام.... 55

الآداب المكروهة ... 60

هل يجوز قضاء القاضي بعلمه ؟ ... 66

هل يجوز للحاكم حبس المنكر بالتماس المدعي ؟ ... 69

هل يجوز للحاكم الثاني النظر في حكم الحاكم الأوّل ؟ ... 70

ليس على الحاكم تتبع حكم من كان قبله.... 73

إذا ادّعى رجل على المعزول عند الحاكم الجديد ... 74

إذا افتقر الحاكم إلى مترجم.... 76

الشروط التي يجب أن تتوفّر في كاتب القاضي ... 77

شروط الشاهدين ... 78

لا يشهد شاهد بالجرح إلا مع المشاهدة ... 91

الرشوة حرام على القاضي والعامل وقبول الهدية جائز ... 96

إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم.... 100

النظر الثالث في كيفية الحكم ...103

المقصد الأوّل في وظائف الحاكم ... 103

المقصد الثاني في مسائل متعلقة بالدعوى ...111

المقصد الثالث في جواب المدعى عليه ....115

هل يحكم على المقرّ بمجرد الإقرار ؟ ... 116

لو ادّعى المدعى عليه الإعسار ... 117

لو أنكر المدعى عليه ... 118

ص: 8

إذا حلف المنكر سقطت الدعوى ... 120

إذا نكل المنكر عن اليمين.... 125

لو كان للمدعي بينة لم يقل الحاكم «أحضرها» ... 129

لا يستحلف المدّعي مع البيّنة.... 130

لو ذكر المدّعي أن له بيّنة غائبة.... 134

إذا طلب الحاكم الجواب من المدعى عليه فسكت ... 134

مسائل تتعلّق بالحكم على الغائب ...136

يقضى على من غاب عن مجلس القضاء ... 136

يقضى على الغائب في حقوق الناس دون حقوق الله ... 137

لو كان صاحب الحق غائباً فطالب الوكيل ... 138

المقصد الرابع في كيفية الاستحلاف ... 139

البحث الأول في اليمين ... 139

لا يستحلف أحد إلا بالله ... 141

لو رأى الحاكم إحلاف الذمّي بما يقتضيه دينه أردع.... 141

التغليظ في اليمين ... 143

حلف الأخرس ... 146

لا يستحلف الحاكم أحداً إلا في مجلس قضائه ... 147

البحث الثاني في يمين المنكر والمدعى ... 148

اليمين تتوجّه على المنكر إلا ما استثني ... 148

لو ردّ المنكر اليمين ثم بذلها قبل الإحلاف ... 152

يكفي مع الإنكار الحلف على نفي الاستحقاق ... 153

لو ادعى المنكر الإبراء أو الإقباض ... 154

لا يتوجه اليمين على الوارث إلا في موارد ... 156

ص: 9

إذا ادّعي على المملوك فالغريم مولاه ... 157

لا تسمع الدعوى في الحدود مجرّدةً عن البيّنة. ... 160

منكر السرقة يتوجّه عليه اليمين لإسقاط الغرم. ... 162

لو ادعى صاحب النصاب إبداله في أثناء الحول ... 163

لو مات ولا وارث له وظهر له شاهد بدين ... 166

لومات وعليه دين يحيط بالتركة. ... 167

البحث الثالث في اليمين مع الشاهد ... 168

يقضى بالشاهد واليمين في الجملة ... 168

موارد ثبوت الحكم بالشاهد واليمين. ... 171

لا يثبت بالشاهد واليمين الخلع والطلاق والرجعة ... 173

لا يحلف يثبت مالاً لغيره ... 176

لو ادعى الجماعة مالاً لمورثهم وحلفوا مع شاهدهم ... 178

لو ادّعى بعض الورثة أنّ الميّت وقف عليهم داراً. ... 181

إذا ادّعى الوقفية عليه وعلى أولاده بعده ... 185

لو ادعى عليه القتل وأقام شاهداً. ... 190

خاتمة ... 191

الفصل الأول في كتاب قاض إلى قاض ... 191

أقسام إنهاء حكم الحاكم إلى الآخر ... 191

ما ينهى إلى الحاكم أمران. ... 197

صورة الإنهاء ... 200

إذا أقر المحكوم عليه أنه هو المشهود أو أنكر ... 202

الفصل الثاني في لواحق من أحكام القسمة ... 206

الأوّل في القاسم ... 206

ص: 10

الشروط التي يجب توفّرها في القاسم ... 207

أُجرة القسّام من بيت المال ... 209

الثاني في المقسوم ... 211

المقسوم المتساوي الأجزاء ... 211

المشترك غير المثلي. ... 213

الثالث فى كيفية القسمة.... 219

إن تساوت الحصص قدراً وقيمة ... 219

إن تساوت الحصص قدراً لا قيمة أو بالعكس ... 221

لو اختلفت السهام والقيمة ... 226

مسائل ثلاث ... 229

الرابع في اللواحق ... 231

إذا ادّعى بعد القسمة الغلط عليه ... 231

إذا اقتسما ثم ظهر البعض مستحقاً. ... 233

لو قسم الورثة تركةٌ ثمّ ظهر على الميت دين ... 234

النظر الرابع في أحكام الدعوى. ... 235

الفصل الأول في المدعى ... 235

تعريف المدعي . ... 235

لا تفتقر صحة الدعوى إلى الكشف في نكاح وغيره ... 240

الفصل الثاني في التوصل إلى الحق ... 243

متى يحتاج المستحق إلى المرافعة والدعوى؟ ... 243

هل يجوز الاقتصاص من الوديعة؟ ... 245

لو كان المال من غير جنس الموجود. ... 248

من ادعى ما لا يد لأحدٍ عليه ... 250

ص: 11

المقصد الأول في الاختلاف في دعوى الأملاك ... 251

لو تنازعا عيناً في يدهما ولا بيّنة... 251

يتحقق التعارض في الشهادة مع تحقق التضادّ ... 253

إذا ادعى شيئاً فقال المدعى عليه هو لفلان ... 267

إذا ادعى أنه آجره الدابة، وادّعى آخر أنه أودعه إياها ... 269

لو ادعى داراً في يد إنسان وأقام بينة أنها كانت في يده أمس. ... 270

المقصد الثاني في الاختلاف في العقود ... 270

إذا اتفقا على استئجار دار معينة شهراً معيناً واختلف في الأجرة ... 272

لو ادعى كلّ منهما أنه اشترى داراً معينةً وأقبض الثمن. ... 276

لو ادعى اثنان أنّ ثالثاً اشترى من كلّ منهما هذا المبيع ... 278

لو ادعى شراء المبيع من زيد وقبض الثمن وادّعى آخر شراءه من عمرو .... 279

لو ادّعى عبد أنّ مولاه أعتقه وادّعى آخر أنّ مولاه باعه منه ... 281

إذا ادعى دابة في يد زيد وأقام بينة أنه اشتراها من عمرو ...284

الصغير المجهول النسب إذا كان في يد واحد وادّعى رقيته ... 285

لو ادعى كلّ واحد منهما أنّ الذبيحة له وفي يد كل واحد بعضها ... 285

لو ادعى شاةً في يد عمرو وأقام بيّنة فتسلّمها ثم أقام ذواليد بينة أنّها له.... 286

لو ادعى داراً في يد زيد وادعى عمرو نصفها ... 288

لو ادّعى أحدهم الكلّ والآخر النصف والثالث الثلث ... 290

إذا تداعى الزوجان متاع البيت ... 290

المقصد الثالث في دعوى المواريث... 303

لومات المسلم عن ابنين فتصادقا على تقدّم إسلام أحدهما على موت الأب .....303

لو اتفقا أن أحدهما أسلم في شعبان والآخر في غرة رمضان ... 305

دار في يد إنسان وادعى آخر أنها له ولأخيه الغائب إرثاً ... 305

ص: 12

إذا ماتت امرأة وابنها فقال أخوها مات الولد أولاً ثم المرأة فالميراث لي.....308

لو قال: هذه الأمة ميراث من أبي، وقالت الزوجة: هذه أصدقني إياها أبوك ... 309

المقصد الرابع في الاختلاف في الولد ... 309

يلحق النسب بالفراش ... 311

كتاب الشهادات

الطرف الأول فى صفات الشهود .... 313

الأوّل: البلوغ فلا تقبل شهادة الصبي مطلقاً إلا في الجراح والقتل .... 314

الثاني : كمال العقل .... 318

الثالث: الإيمان .... 319

الرابع: العدالة .... 323

ما به يزول العدالة .... 324

مسائل فيمن ترد شهادته .... 329

الخامس: ارتفاع التهمة ... 344

لا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً وكذا من يستدفع بشهادته ضرراً.... 344

لا تقبل شهادة العدوّ على عدوّه ... 346

النسب وإن قرب لا يمنع قبول الشهادة.... 348

لا تقبل شهادة السائل في كفّه ... 353

مسائل من لواحق صفات الشهود ... 355

تقبل شهادة الصغير والكافر والفاسق لو زال المانع عنهم ... 355

هل تقبل شهادة المملوك؟ ... 357

المعتبر في قبول شهادة الشاهد علمه بما يشهد به ... 364

حكم المبادرة إلى الشهادة قبل السؤال ... 365

ص: 13

التوبة المعتبرة في قبول شهادة الفاسق ... 367

السادس: طهارة المولد ... 371

الطرف الثاني فيما به يصير شاهداً ... 376

ما يفتقر إلى المشاهدة ... 377

ما يكفي فيه السماع ... 378

الشاهد بالاستفاضة لا يشهد بالسبب ... 381

إذا شهد بالملك مستنداً إلى الاستفاضة ... 382

إذا انفرد التصرّف أو اليد عن التسامع فهل تجوز الشهادة بالملك؟ ... 384

الوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة ... 387

الأخرس يصح منه تحمّل الشهادة وأداؤها ... 389

ما يفتقر إلى السماع والمشاهدة ... 389

شهادة الأعمى على العقد والعاقد ... 389

الطرف الثالث في أقسام الحقوق ... 393

القسم الأوّل حقوق الله ... 393

ما لا يثبت إلا بأربعة رجال ... 393

يثبت الزنى بثلاثة رجال وامرأتين ... 395

ما يثبت بشاهدين ... 397

القسم الثاني حقوق الآدمي ثلاثة ... 398

ما لا يثبت إلا بشاهدين. ... 398

ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وشاهد ويمين ... 403

ما يثبت بالرجال والنساء منفردات ومنضمات. ... 405

تقبل شهادة المرأة الواحدة في ربع ميراث المستهل وفي ربع الوصية ... 406

الكلام في تحمّل الشهادة أولاً وأدائها آخراً ... 408

ص: 14

الطرف الرابع في الشهادة على الشهادة. ... 415

الشهادة على الشهادة مقبولة في حقوق الناس ولا تقبل في الحدود. ... 415

تقبل شهادة النساء على الشهادة فيما تقبل فيه شهادة النساء منفردات ... 427

الطرف الخامس في اللواحق ... 432

القسم الأوّل في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى الواحد ... 432

القسم الثاني في طوارئ الشهادة ... 436

لو شهدا ولم يحكم بهما فماتا. ... 436

لو شهدا ثمّ فسقا قبل الحكم ... 437

لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم فانتقل المشهود به إليهما ... 438

لو رجعا عن الشهادة قبل الحكم ... 439

إن كان المشهود به قتلاً أو جرحاً فاستوفي ثم رجعوا ... 441

إذا ثبت أنهم شهدوا بالزور ... 444

إذا شهدا بالطلاق ثم رجعا ... 445

مسائل :... 453

إذا شهد اثنان أنّ الميّت أعتق أحد مماليكه وقيمته الثلث و ... 453

إذا شهد شاهدان بالوصية لزيد وشهد من ورثته عدلان أنه رجع عن ذلك ... 456

إذا شهد شاهدان لزيد بالوصيّة وشهد شاهد بالرجوع ... 457

لو أوصى بوصيّتين منفردتين فشهد آخران أنه رجع عن إحداهما. ... 457

إذا ادعى العبد العتق وأقام بينة ... 458

ص: 15

ص: 16

كتاب القضاء

تعريف القضاء

والنظر في صفات القاضي وآدابه وكيفية الحكم، وأحكام الدعاوي .

------------------

كتاب القضاء

القضاء لغةً يطلق على أحكام الشيء وإمضائه(1)، ومنه: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَءِيلَ)(2) . وعلى الإتمام ومنه: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ) (3).

وعلى الفراغ من الأمر، ومنه: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ )(4)، أي قتله وفرغ منه، ومنه قولهم: قضى حاجته، أي أتمها وفرغ منها.

وعلى نفس الحكم، ومنه قوله تعالى: (وَ اللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ)(5) .

وسمّي القضاء قضاء؛ لأنّ القاضي يتم الأمر بالفصل ويمضيه ويفرغ منه.

ويسمّى حكماً ؛ لما فيه من منع الظالم عن ظلمه

ص: 17


1- راجع لسان العرب، ج 15، ص 186 ، «قضى».
2- الإسراء (17) : 4 .
3- البقرة (2): 200 .
4- القصص (28): 15 .
5- غافر (40): 20 .

------------------

وعرّفوه شرعاً بأنّه ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معيّنة من البرية، بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحق.

ومبدؤه: الرئاسة العامة في أُمور الدين والدنيا.

وغايته: قطع المنازعة.

وخواصّه: أنّ الحكم لا ينتقض باجتهاد، وصيرورته أصلاً ينفذه غيره من القضاة وإن خالف اجتهاده، ما لم يخالف دليلاً قطعياً. وله ولاية على كلّ مولّى عليه مع فقد وليه، ومع وجوده في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى. ويلزم به حكم البينة مَنْ شهدت عليه والشهود فأما من شهدت عليه فبإلزامه الحق. وأمّا الشهود فبتغريمهم إياه لو رجعوا عن الشهادة بعده.

وهو من متممات(1) نظام النوع الإنساني. والأصل فيه قبل الإجماع - الكتاب والسنة، قال الله تعالى: (يَدَاوُردُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)(2). وقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَنكَ اللَّهُ)(3). (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)(4). والأخبار(5) فيه كثيرة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بعده من الخلفاء بنصب القضاة(6) أمر مشهور.

ص: 18


1- في بعض النسخ: «مهمات» بدل «متممات».
2- سورة «ص» (38): 26.
3- النساء (4): 105 .
4- المائدة (5): 49 .
5- راجع الكافي، ج 1، ص 67 - 68 ، باب اختلاف الحديث ، ح 10 : وج 7، ص 412 ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 4 - 5 : والفقيه ، ج 3، ص 2 - 3، ح 3219؛ وتهذيب الأحكام، ج 1، ص 218 - 219 ح 514 و 516 .
6- سنن أبي داود، ج 3، ص 303، ح 3592؛ الجامع الصحيح، ج 3، ص 616، ح1327.

[ النظر ] الأوّل في الصفات

يشترط في ثبوت الولاية إذن الإمام أو مَنْ فوّض إليه الإمام.

• ويشترط فيه البلوغ، وكمال العقل والإيمان، والعدالة، وطهارة المولد والعلم والذكورة.

فلا ينعقد القضاء لصبي، ولا مراهق، ولا لكافر ؛ لأنّه ليس أهلاً للأمانة. وكذا الفاسق.

ويدخل في ضمن العدالة اشتراط الأمانة، والمحافظة على فعل الواجبات.

ولا ينعقد القضاء لولد الزنى مع تحقق حاله، كما لا تصح إمامته ولا شهادته في الأشياء الجليلة.

------------------

قوله ويشترط فيه البلوغ وكمال العقل والإيمان والعدالة - إلى قوله - والذكورة». هذه الشرائط عندنا موضع وفاق.

أمّا الأوّلان فلأنّ الصبي والمجنون لا ولاية لهما على أنفسهما، فانتفاؤها عن غيرهما أولى. ولا ينفذ قولهما على أنفسهما، فأولى أن لا ينفذ على غيرهما.

وأما الإيمان فإن أريد به الإسلام أو ما في معناه فاشتراطه واضح؛ لأنّ الكافر ليس من أهل التقليد على المسلم ولا على مثله. وإن أريد به الخاص المتعارف عندنا كما هو الظاهر - فلمشاركة غيره للكافر في عدم أهلية التقليد، واختلاف الأصول المعتبرة فيه عند الفريقين. وجوّز بعض العامة تقليد الكافر القضاء على أهل دينه(1) . وهو شاذ.

ص: 19


1- في حاشية الأصل بخطه: «حاشية: هو أبو حنيفة. (منه رحمه الله)». وحكاه الماوردي عنه في الحاوي الكبير، ج 16، ص 157.

• وكذا لا ينعقد لغير العالم المستقلّ بأهليّة الفتوى، ولا يكفيه فتوى العلماء. ولا بد أن يكون عالماً بجميع ما وليه. ويدخل فيه أن يكون ضابطاً، فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه.

------------------

وكذا القول في الفاسق ولأنّه لا يصلح للشهادة فللقضاء أولى.

وأما طهارة المولد فلقصور ولد الزنى عن تولّي هذه المرتبة، حتى أنّ إمامته وشهادته ممنوعتان، فالقضاء أولى.

وأمّا العلم فللنهي عن القول على الله تعالى بدونه(1) ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة واثنان في النار، فالذي في الجنّة رجل عرف الحق فقضى به، واللذان في النار: رجل عرف الحق فجار في الحكم، ورجل قضى للناس على جهل»(2).

وأما اشتراط الذكورة فلعدم أهلية المرأة لهذا المنصب؛ لأنّه لا يليق بحالها مجالسة الرجال ورفع الصوت بينهم، ولا بد للقاضي من ذلك. وقد قال (علیه السّلام): «لن يفلح قوم وليتهم امرأة»(3).

قوله: «وكذا لا ينعقد لغير العالم المستقل بأهلية الفتوى، ولا يكفيه فتوى العلماء ولا بدّ أن يكون عالماً بجميع ما وليه».

المراد بالعالم هنا المجتهد(4) في الأحكام الشرعية. وعلى اشتراط ذلك في القاضي إجماع علمائنا. ولا فرق بين حالة الاختيار والاضطرار. ولا فرق فيمن نقص عن مرتبته بين المطلع على فتوى الفقهاء وغيره.

والمراد بكونه عالماً بجميع ما وليه كونه مجتهداً مطلقاً، فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجري الاجتهاد.

ص: 20


1- الإسراء :(17) : 36: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
2- سنن أبي داود، ج 3، ص 299، ح 3573؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 776، ح 2315؛ الجامع الصحيح، ج 3، ص 613، ح 1322؛ المستدرك على الصحيحين، ج 5، ص 122 - 123، ح 7095-7096.
3- تلخيص الحبير، ج 4، ص 184، ح 2081؛ و بتفاوت ورد في مسند أحمد، ج 1، ص 31. ح 19961 و 19964 - 19965، وص 36 ، ح 19991 : والسنن الكبرى البيهقي ، ج 10، ص 201، ح 20362.
4- في بعض النسخ «الفقيه» بدل «المجتهد».

• وهل يشترط علمه بالكتابة؟ فيه تردّد؛ نظراً إلى اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالرئاسة العامة مع خلوّه في أول أمره من الكتابة.

والأقرب اشتراط ذلك؛ لما يضطر إليه من الأمور التي لا تتيسر لغير النبي صلى الله عليه وسلم بدون الكتابة.

• ولا ينعقد القضاء للمرأة وإن استكملت الشرائط.

------------------

ولم يذكر المصنّف (رحمه الله) ما يعتبر في التفقه (1) من الشرائط هنا؛ لأنّ محلّه أصول الفقه (2)، وإن جرت عادة الفقهاء بذكرها في هذا المحلّ أيضاً.

قوله: «وهل يشترط علمه بالكتابة؟ - إلى قوله أمره من الكتابة».

منشأ التردّد من أصالة عدم الاشتراط، وكونها غير معتبرة في النبوة التي هي أكمل المناصب، ومنها تتفرع الأحكام والقضاء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أُميّاً لا يحسنها، كما نبه عليه تعالى بقوله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ، مِن كِتَبٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)(3) ، ومن اضطراره إلى معرفة الوقائع والأحكام التي لا يتيسر ضبطها غالباً إلا بها. وهذا اختيار الشيخ(4) ، والمصنف وأكثر الأصحاب. والنبي صلى الله عليه وسلم محفوظ بالعصمة المانعة من السهو والغلط الرافعة للاحتياج إليها.

وقال الشيخ في المبسوط : إن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)كان عالماً بها، وإنّما كان فاقداً لها قبل البعثة(5) . والأظهر خلافه.

قوله: «ولا ينعقد القضاء للمرأة وإن استكملت الشرائط».

أي الشرائط المعتبرة في القضاء غير الذكورية. وهو موضع وفاق. وخالف فيه بعض

ص: 21


1- في بعض النسخ: «الفقيه» بدل «التفقه».
2- راجع مبادئ الوصول، ص 241 - 243: وتهذيب الوصول إلى علم الأصول، ص 284 - 286.
3- العنكبوت (29): 48 .
4- المبسوط، ج 5، ص 474.
5- المبسوط، ج 5، ص 474.

• وفي انعقاد قضاء الأعمى تردّد، أظهره أنه لا ينعقد؛ لافتقاره إلى التمييز بين الخصوم، وتعذر ذلك مع العمى إلا فيما يقلّ.

• وهل يشترط الحرّيّة ؟ قال في المبسوط: نعم. والأقرب أنّه ليس شرطاً .

------------------

العامة فجوّز قضاءها فيما تقبل شهادتها فيه (1).

قوله: «وفي انعقاد قضاء الأعمى تردّد» إلى آخره.

منشأ التردّد مما ذكر من القصور، وأن الأعمى لا تنفذ شهادته في بعض القضايا، والقاضي تنفذ شهادته في الكل.

وقيل: لا يشترط؛ للأصل، ومنع كلّيّة نفوذ شهادته في الأُمور. والغرض حصول التمييز بين الخصوم ولو بنصب شاهدين عليه، ولأنّ شعيباً على نبينا وآله وعليه السلام) كان أعمى وهو نبي في ضمن ولايته القضاء (2).

والأشهر الاشتراط وعمى شعيب على تقدير تسليمه ليس بحجة في شرعنا، ولا على القاضي غير النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) : لانجبار النبوة بالعصمة والوحي.

قوله: «وهل يشترط الحرّية ؟ قال في المبسوط : نعم، والأقرب أنّه ليس شرطاً».

اشتراط الحرّية في القاضي مذهب الأكثر ومنهم الشيخ (3) وأتباعه ؛ لأنّ القضاء ولاية والعبد ليس محلاً لها؛ لاشتغاله عنها باستغراق وقته بحقوق المولى، ولأنّه من المناصب الجليلة التي لا يليق بحال العبد.

واستقرب المصنّف (رحمه الله) عدم اشتراطها؛ للأصل، ولأنّ المناط العلم وهو حاصل،

ص: 22


1- راجع الحاوي الكبير، ج 16، ص 156؛ وبدائع الصنائع، ج 7، ص 4؛ وحلية العلماء، ج 8، ص 114 والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 381، المسألة 8221 .
2- قاله الماوردي في الحاوي الكبير، ج 16، ص 155؛ وراجع بداية المجتهد، ج 2، ص 455؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 382، المسألة 8221؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص 84.
3- المبسوط ، ج 5، ص 453. 4. كابن البراج في المهذب، ج 2، ص 599؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 527.

وهنا مسائل:

الأولى: • يشترط في ثبوت الولاية إذن الإمام أو مَنْ فوّض إليه الإمام.

• ولو استقضى أهل البلد قاضياً لم تثبت ولايته. نعم، لو تراضی خصمان بواحد من الرعيّة وترافعا إليه فحكم لزمهما الحكم ولا يشترط رضاهما بعد الحكم. ويشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب عن الإمام. ويعم الجواز كلّ الأحكام.

------------------

وعموم قول الصادق: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم قاضياً، فإنّي قد جعلته قاضياً»(1)، ويمنع من عدم أهليته للولاية مع إذن السيد. وعدم تأهله لهذا المنصب مجرد دعوى.

قوله: يشترط فى ثبوت الولاية إذن الإمام أو من فوّض إليه الإمام».

المراد أنّ هذه الشرائط كلّها غير كافية في نفوذ القضاء ما لم يأذن له الإمام فيه عموماً أو خصوصاً، فتكون هذه الشرائط معتبرةً في منصوب الإمام ، بمعنى أنه لا يسوغ له نصب مَنْ لم يستجمعها، خلافاً لبعض العامة حيث جوّز نصب غير العالم لمكان الضرورة (2).

ويتحصل من ذلك أن بطلان قضاء من فقد بعض هذه الشرائط بدون نصب الإمام أو ذي الشوكة محلّ وفاق بين المسلمين.

قوله « ولو استقضى أهل البلد قاضياً لم تثبت ولايته. نعم، لو تراضی خصمان بواحد من الرعيّة» إلى آخره.

وظيفة نصب القاضي على العموم منوطة بالإمام، قال الصادق : «اتقوا الحكومة ؛

ص: 23


1- الكافي، ج 7، ص 412 ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور، ح4؛ الفقيه، ج 3، ص 2 - 3، ح 3219؛ تهذیب الأحكام، ج 6، ص 219، ح 516.
2- راجع الحاوي الكبير، ج 16، ص 159: وحلية العلماء، ج 8، ص 115 وبداية المجتهد، ج 2، ص 455454: وبدائع الصنائع، ج 7، ص 4 والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 383، المسألة 8221 .

فإن الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين»(1).

وأما التحكيم وهو أن يحكم الخصمان واحداً من الناس جامعاً لشرائط الحكم، سوى نص من له التولية فالمشهور بين الأصحاب جوازه، بل لم يذكروا فيه خلافاً. وقد وقع في زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم ذلك(2). وروي (3) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حكم بين اثنين تراضیا به فلم يعدل فعليه لعنة الله»(4). ولو لم يكن لحكمه اعتبار ولزوم لما كان لهذا التهديد معنى، ولكان التحذير على فعله لا على عدم العدل، ولأنّ التهديد على عدم العدل يدلّ على أنّ العلة عدمه، ولو لم يكن جائزاً كان التهديد بالأعم أولى.

ومنع منه جماعة من العامة (5)؛ لأنه على خلاف الأصل، وفيه تفويت الولاية على القاضي المنصوب، وتفويت رأيه ونظره. مع كون الخبر من طريقهم، فورود هذا الوجه عندنا أولى.

وظاهر الأصحاب وصريح بعضهم(6) ثبوت هذا الحكم في جميع ما يقع فيه التداعي من المال والنكاح والقصاص والحدّ وغيرها ؛ لوجود المقتضي في الجميع، وعموم الخبر.

واستشكل العلّامة ثبوته فى الحبس واستيفاء العقوبة من حيث إنه ولاية شرعية وأمر خطير فلا يصلح أن يكون لغير الحاكم الشرعي(7) . وهو قول لبعض الشافعية (8).

نعم، يختص بحق الآدمي من حيث إنّه متوقف على نصب المتخاصمين، فلا يحكم في

ص: 24


1- الكافي، ج 7، ص 406، باب أن الحكومة إنما هي للإمام (علیه السّلام)، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 5، ح 3225؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 217، ح 511.
2- السنن الكبرى البيهقي، ج 5، ص 439، ح 10424؛ وج 10، ص 243 - 244، ح 20510 - 20512.
3- في حاشية «ض ، و»: «روي أنّ عمر وأبي بن كعب ترافعا إلى زيد بن ثابت، وأن عثمان وطلحة تحاكما إلى جبير بن مطعم. (منه رحمه الله)».
4- تلخيص الحبير، ج ،4، ص 185 ، ذيل الحديث 2084.
5- الوجيز، ج 2، ص 238؛ بداية المجتهد، ج 2، ص 455: روضة الطالبين، ج 8، ص 105.
6- كالشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 51 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
7- قواعد الأحكام، ج 3، ص 421.
8- الوجيز، ج 2، ص238.

• ومع عدم الإمام ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت (علیهم السّلام)، الجامع للصفات المشترطة في الفتوى؛ لقول أبي عبد الله (علیه السّلام): «فاجعلوه قاضياً، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه». ولو عدل والحال هذه إلى قضاة الجور كان مخطئاً.

------------------

حقوق الله تعالى؛ إذ ليس لها خصم معيّن. ويختص حكمه بمن رضي به، فلا يضرب دية القتل خطأ على العاقلة إذا لم يرضوا بحكمه، ولا يكفي رضى القاتل.

و محل اعتبار رضى الخصمين بحكمه قبل تمام الحكم، فمتى رجع قبله ردّ حتى لو أقام المدعي شاهدين، فقال المدعى عليه: «عزلتك»، لم يكن له أن يحكم. ولو تم الحكم قبل الرجوع لزمهما حكمه. واعتبر بعض العامة رضاهما بعده أيضاً؛ لأنّ رضاهما كما هو معتبر في أصل الحكم فكذا في لزومه(1). ومثله قسمة من تراضى الشريكان بقسمته، على ما سيأتي(2).

ويستثنى من ذلك ما لو كان أحد المتحاكمين قاضياً، فلا يشترط رضاه بعد وقوع التراضي به قبل الحكم ولا بعده؛ لأنّ رضاه قائم مقام نصبه في تلك الحكومة، فلا يبطل حكمه إلا مع التصريح بالرجوع عنه.

واعلم أن الاتفاق واقع على أن قاضي التحكيم يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب من الشرائط التي من جملتها كونه مجتهداً . وعلى هذا، فقاضي التحكيم مختص بحال حضور الإمام؛ ليفرّق بينه وبين غيره من القضاة بكون القاضي منصوباً، وهذا غير منصوب من غير الخصمين. أما في حال الغيبة فسيأتي أنّ المجتهد ينفذ قضاؤه (3)؛ لعموم الإذن، وغيره لا يصح حكمه مطلقا، فلا يتصوّر حالتها قاضي التحكيم.

قوله: «ومع عدم الإمام ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت(علیهم السّلام)» إلى آخره.

ما تقدّم (4)من اشتراط نصب القاضي وإن كان فقيهاً مجتهداً، وعدم نفوذ حكمه إلا مع

ص: 25


1- الحاوي الكبير، ج 16، ص 326: روضة الطالبين، ج 8، ص 105 - 106: المغني المطبوع مع الشرح الكبير. ج 11، ص 484. المسألة 8297.
2- سيأتي في ص 206 وما بعدها.
3- سيأتي عن قريب.
4- تقدم في ص 23.

التراضي به مختص بحال حضور الإمام وتمكنه من نصب القضاة، أما مع عدم ذلك، إمّا لغيبته، أو لعدم بسط يده فيسقط هذا الشرط من جملة الشرائط، وهو نصب الإمام له.

وينفذ عندنا قضاء الفقيه العدل الإمامي الجامع لباقي الشرائط وإن لم يتراض الخصمان بحكمه؛ لقول أبي عبد الله لأبي خديجة: «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا فاجعلوه بينكم ؛ فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»(1) . وهذه هي الرواية التي نقلها المصنف (رحمه الله) واستشهد بها.

و قريب منها رواية عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أ يحلّ ذلك؟ فقال: «من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً؛ لأنّه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمر الله تعالى أن يكفر به»، قلت: كيف يصنعان؟ قال: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ، والرادّ علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله»(2).

وفي طريق الخبرين ضعف(3) ، لكنّهما مشتهران بين الأصحاب، متفق على العمل بمضمونهما بينهم، فكان ذلك جابراً للضعف عندهم.

وقد ظهر منهما الحكم بتخطئة المتحاكم إلى أهل الجور. ويستثنى منه ما لو توقف

ص: 26


1- الكافي، ج 7، ص 412، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور، ح 4: الفقيه، ج 3، ص 2 - 3، ح 3219؛ تهذیب الأحكام، ج 1، ص 219، ح 516.
2- الكافي، ج 1، ص 67 - 68 ، باب اختلاف الحديث، ح 10؛ وج 7، ص 412، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور، ح 5؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 218، ح 514 وص 301 - 302، ح 845.
3- في حاشية الأصل و «ض»: «في طريق الأول معلى بن محمد، وهو ضعيف، والحسين بن محمد، وهو مشترك بين الثقة و الضعيف. وفي طريق الثاني داود بن الحصين، وهو ضعيف، ومحمد بن عيسى وفيه قول. والأصح ضعفه .(منه رحمه الله)».

وظيفة القضاء من فروض الكفاية

الثانية: • تولّي القضاء مستحبّ لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه. وربما وجب، ووجوبه على الكفاية.

------------------

حصول حقه عليه، فيجوز كما يجوز الاستعانة على تحصيل الحق بغير القاضي والنهي في هذه الأخبار وغيرها(1) محمول على الترافع إليهم اختياراً مع إمكان تحصيل الغرض بأهل الحق. وقد صرّح به في خبر أبي بصير عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال: «أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا به) الآية»(2).

قوله: «تولّي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه» إلى آخره.

وظيفة القضاء من فروض الكفاية؛ لتوقف نظام النوع الإنساني عليه؛ ولأن الظلم من شيم النفوس فلابد من حاكم ينتصف للمظلوم من الظالم، ولما يترتب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يقدّس أُمّةٌ ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقّه»(3) . ولعظم فائدته تولاه النبي صلى الله عليه وسلم(4)، ومَنْ قبله من الأنبياء بأنفسهم لأُمّتهم(5) ، ومَنْ بعدهم من خلفائهم»(6).

ولما كان متوقفاً على نصب إمام فمن أمره به يجب عليه إجابته إليه، ومن لم يأمره به

ص: 27


1- راجع وسائل الشيعة، ج 27، ص 10 وما بعدها، الباب 1 من أبواب صفات القاضي.
2- الكافي، ج 7، ص 411، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور، ح 2: الفقيه، ج 3، ص 4، ح 3223: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 220، ح 519: والآية في سورة النساء (4): 60.
3- السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 241، ح 11801؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 183 - 184 ، ح 2077 بتفاوت.
4- المصنف ابن أبي شيبة ، ج 7، ص 3 - 16، ح 1 - 79 .
5- الأنبياء (21) 77 - 78؛ وراجع الدر المنثور، ج 5، ص 647، ذيل الآيتين.
6- المصنف ابن أبي شيبة، ج 7، ص 12 - 13 ، ح 55-57 و 59.

لم يجز له تعاطيه إلا على وجه التراضي كما مرّ(1). وحينئذ فحكم المصنف (رحمه الله) باستحبابه لمن يثق بنفسه محمول على طلبه من الإمام ممّن لم يأمره به إذا كان من أهله، أو على فعله لأهله في حال الغيبة حيث لا يتوقف على إذن خاص.

وقوله «وربما وجب» يتحقق الوجوب فيما ذكرناه من طلب الإمام له، وفيما إذا انحصر الأمر فيه ولم يعلم الإمام به، أو لم ينحصر بالنظر إلى الوجوب الكفائي، أو على تقدير توقف حصول الحق عليه، أو الأمر بالمعروف في حال الغيبة.

وقوله «ووجوبه على الكفاية» يعني به على تقدير وجوبه عنده. وإنما يكون على الكفاية إذا أمكن قيام غيره مقامه ولم يعينه عليه الإمام، وإلا كان وجوبه عينياً، كغيره من فروض الكفايات إذا لم يحصل منها إلا فرد واحد ، فإنّها تصير عينيّة. ويمكن على هذا إطلاق الوجوب الكفائي عليها؛ نظراً إلى أصلها، وانحصار الوجوب في الفرد الواحد بالعرض لا يوجب الوجوب العيني المحض وإن شاركه في بعض خواصه.

وخالف في استحبابه أو وجوبه بعض العامة فحكم بكراهته؛ نظراً إلى الأحاديث المحذرة عنه(2) ، كما روي عنه(علیه السّلام) أنه قال: «من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين»(3). وروي أنّه: «يجاء بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدّة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط»(4). ومن ثم امتنع منه جماعة من أكابر التابعين وغيرهم(5).

ص: 28


1- مرّ في ص 23 وما بعدها.
2- الحاوي الكبير، ج 16 ، ص 11؛ بدائع الصنائع، ج 7، ص 5: المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 375 - 378. المسألة 8216 - 8217؛ روضة الطالبين، ج 8، ص 80 - 81 .
3- المقنعة، ص 721؛ مسند أحمد، ج 2، ص 458، ح 7105؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 774، 2308؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 298 - 299 ، ح 3572؛ الجامع الصحيح، ج 3، ص 614، ح 1325.
4- السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 165 ، ح 20221 - 20222؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 184، ح 2079.
5- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 375، المسألة 8216؛ والكافي في فقه أحمد بن حنبل، ج 4، ص 277؛ والدراية في تخريج أحاديث الهداية، ج 2، ص 166 .

• وإذا علم الإمام أنّ بلداً خالٍ من قاض لزمه أن يبعث له. ويأثم أهل البلد بالاتفاق على منعه، ويحلّ قتالهم طلباً للإجابة.

ولو وجد من هو بالشرائط فامتنع

• ولو وجد من هو بالشرائط فامتنع لم يجبر مع وجود مثله ولو ألزمه الإمام قال في الخلاف: لم يكن له الامتناع؛ لأنّ ما يلزم به الإمام واجب. ونحن نمنع الإلزام إذ الإمام لا يلزم بما ليس لازماً.

------------------

وأجيب بأن المقصود من التحذير بيان عظم خطره؛ فإنّ من استقضى فقد احتمل أمراً عظيماً، إن جار فيه هلك، وإن عدل باء بخير كثير، وهكذا شأن الأمور الخطيرة(1). وامتناع من امتنع منه -مع كونه ليس بحجة على غيره - ظاهر في كونه غير متمكن غالباً من إقامة الشرع على وجهه في تلك الدول، ولا يدل على كراهته مطلقاً، أو يحمل على من يكره في حقه القضاء أو يحرم.

قوله: «وإذا علم الإمام أنّ بلداً خالٍ من قاض لزمه أن يبعث له» إلى آخره.

لما كان نصب القاضي واجباً على الكفاية بالنسبة إلى الإمام كما قررناه(2) - وإن كان المصنّف (رحمه الله) قد أطلق الاستحباب - فيتأدى الفرض بأن ينصب في كلّ قطر قاضياً بحيث لا يعسر على من حوله الرجوع إليه عادةً.

وفي البلدان الكبيرة يجب أن ينصب لكل بلد قاضياً. فإذا علم أنّ بلداً خالٍ من قاضٍ لزمه أن يبعث إليه قاضياً، إما من عنده أو بأن يأمر رجلاً من أهل البلد جامعاً لشرائطه به. فالبعث أحد أفراد الواجب، ولا يتعين.

وحيث يتعين واحد للقضاء يجب على أهل بلده الذي ولاه عليه الترافع إليه عند الحاجة ومساعدته. فإن امتنعوا من الترافع إليه أو من تمكينه قوتلوا إلى أن يجيبوا إلى ذلك.

قوله: «ولو وجد مَنْ هو بالشرائط فامتنع لم يجبر مع وجود مثله» إلى آخره.

إذا احتيج إلى نصب قاض فلا يخلو إما أن يكون هناك أشخاص متعدّدون صالحون له

ص: 29


1- أجاب به فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 294؛ والسيوري في التنقيح الرائع، ج 4، ص 232 .
2- راجع ص 27 .

أما لو لم يوجد غيره تعيّن هو ولزمه الإجابة. ولو لم يعلم به الإمام وجب أن يعرّف نفسه؛ لأن القضاء من باب الأمر بالمعروف.

------------------

أو واحد خاصةً ظاهر أو لا يكون هناك صالح ظاهر ، لكنّه موجود في الواقع ولا يعلم به الإمام. وعلى تقدير ظهور الأهل للإمام إما أن يعيّن للقضاء واحداً بخصوصه، أو يطلق.

فهنا صور :

الأولى: أن يكون هناك واحد خاصةً ويعينه الإمام، فلا إشكال في تعينه؛ لأن الواجب الكفائي إنّما يسقط عن بعض المكلّفين بقيام البعض، وإلا خوطب به الجميع وأثموا بتركه. فحيث لا يوجد إلا واحد فهو المخاطب به على التعيين كفرض العين، فإذا انضمّ إليه أمر الإمام تأكد الوجوب ولم يجز له الامتناع، فإن امتنع وجعلناه كبيرة أو أصرّ عليه فسق وخرج عن أهليّة القضاء، لفوات الشرط. ومع ذلك لا يسقط عنه الوجوب؛ لأنه قادر على تحصيل الشرط بالتوبة، كما لا تسقط الصلاة عن المحدث بامتناعه من الطهارة فإذا تاب تولّى.

الثانية: أن يكون هناك متعدد صالح له، فطلب الإمام منهم واحداً لا على التعيين، فتجب عليهم الإجابة كفايةٌ فيجوز لكلّ واحد منهم الامتناع منه على وجه لا يؤدي إلى تعطيل المصلحة العامة، بل طلباً لإجابة غيره في وقت لا تفوت الحاجة. فإن أجاب واحد منهم سقط عن الباقين، وإن امتنع الجميع أثموا، وكان حكمهم في الفسق ووجوب الرجوع عنه بالتوبة كما سبق في المعين.

الثالثة: الصورة بحالها وطلب الإمام منهم واحداً ،بخصوصه، فيسقط الوجوب عن الباقين مع إجابته.

وهل يجوز للمعين الامتناع حينئذ ؟ وجهان، من أنّ أمر الإمام لا يوجب الإجابة وإن لم يكن واجباً معيناً لولاء، وهو الذي اختاره الشيخ في الخلاف (1)، ومن أن الوجوب في

ص: 30


1- الخلاف، ج 6، ص 209 ، المسألة 2 .

نفسه كفائي، وطلب الإمام من واحد معيّن لكونه أحد الأفراد الذي يتأدّى به الواجب لا يوجب التعيين، ولا يقلب الواجب الكفائي عن أصله.

والمصنّف (رحمه الله) منع من أصل إلزام الإمام في هذه الحالة؛ لأنّه إن كان في اللزوم مزية مرجحة فهو متعيّن، وليس هو محل النزاع، وإلا ففرض الإمام إجراء الواجب على ،وجهه ومقتضاه أن يأمر واحداً منهم لا بعينه. فالنزاع حينئذ لفظي؛ لأنه يسلّم أنّ الإمام إذا ألزم واحداً بعينه يتعيّن، وإنما يدعي في صورة النزاع عدم إلزامه؛ لأنّ الإمام لا يلزم واحداً بعينه بما ليس لازماً له، وإنما هو واجب عليه وعلى غيره كفاية.

الرابعة: أن يكون هناك واحد صالح خاصةً ولا يعينه الإمام، فيجب عليه القيام به عيناً؛ لما تقرّر من أن الواجب الكفائي إذا لم يقم به أحد وجب عيناً على القادر عليه الواحد. ولا فرق بين تعيين الإمام له وعدمه، ولأن الأمر بالمعروف واجب عليه، وهو متوقف على شرط قادر عليه، فيجب عليه تحصيله (1). وهذا هو الدليل الذي أشار إليه المصنف (رحمه الله)، فهو داخل فيما ذكرناه .

الخامسة : أن لا يعلم الإمام بواحد صالح للقضاء مع كونه موجوداً في نفس الأمر فيجب على المتصف به إعلام الإمام بنفسه؛ لتوقف الواجب على الإعلام، فيكون واجباً من باب المقدمة.

السادسة: الصورة بحالها وهناك جماعة صالحون له فيجب عليهم الإعلام بحالهم كفاية، ومتى قام به واحد منهم على وجه اعتمد عليه الإمام سقط عن الباقين وجوب الإعلام.

وهل يستحب حينئذٍ للباقين الإعلام بحالهم، أو يستحبّ ابتداء حيث لا ضرورة إلى نصب قاض تعرّضاً للولاية وقت الحاجة إليها؟ وجهان من تعارض الخطر، والأجر على

ص: 31


1- في بعض النسخ: «فعله» بدل «تحصیله».

• وهل يجوز أن يبذل مالاً ليلي القضاء؟ قيل: لا؛ لأنّه كالرشوة.

------------------

تقدير السلامة. ويؤيّد العدم ما في ابتداء التعرّض إليه من خطر آخر زائد على أصله وهو عدم المعونة عليها حينئذ من الله تعالى ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : لا تسأل الإمارة، فإنّك إن أعطيتها عن مسألة وكلّت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها»(1).

قوله: «وهل يجوز أن يبذل مالاً ليلي القضاء؟ قيل: لا ؛ لأنه كالرشوة».

ما تقدم من التفصيل حكم الطلب عن غير بذل مال، أما إذا بذل مالاً ليلي القضاء ففي جوازه وجهان :

أحدهما: العدم؛ لأنه كالرشوة على ذلك، وهي محرمة.

والثاني : الجواز؛ لما تقرّر من رجحانه، فإذا توقف تحصيل فضيلته على المال جاز بذله لذلك، كما أنّه إذا تعذر الأمر بالمعروف إلا ببذل المال جاز، بل وجب مع وجوبه، فيكون هنا كذلك.

والحق أنّ هذا البحث لا يجري عندنا بالنسبة إلى الإمام العادل. وربما احتمل جوازه إذا بذل المال لبيت المال. وفيه نظر.

أما إذا توقف توليه من الجائر على دفع المال، وكان القضاء في حقه راجحاً فلا إشكال في جوازه، بل وجوبه لو كان تولّي القضاء واجباً متوقفاً عليه، ولكن الآخذ ظالم بالأخذ. وكذا يجوز له بذل المال بعد ما ولّى لئلا يعزل. والآخذ ظالم بالأخذ أيضاً.

وأما بذل المال ليعزل من هو ملابس للقضاء، فإن لم يكن بصفات القاضي فهو مستحبّ؛ لتخليص الناس منه، لكن أخذه حرام على الآخذ وإن كان أهلاً فهو حرام.

ص: 32


1- مسند أحمد، ج 7، ص 54 - 55، ح 20102 و 20104 - 20106؛ صحيح البخاري، ج 6، ص 2443، ح 6248: صحیح مسلم، ج 3، ص 1273 - 1274، 1652/19؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 130، ح 2929؛ الجامع الصحيح، ح ج 4، ص 106، ح 1529.

إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة

الثالثة: • إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة فيهما، فإن قلّد الأفضل جاز. وهل يجوز العدول إلى المفضول؟ فيه تردّد. والوجه الجواز؛ لأنّ خلله ينجبر بنظر الإمام.

------------------

قوله: «إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة» إلى آخره.

إذا وجد الإمام اثنين صالحين للقضاء لكن أحدهما أعلم من الآخر فلا إشكال في رجحان تقديم الأعلم. لكن هل يتعيّن ذلك، أم يجوز تولية المفضول؟ فيه قولان مرتبان على أن المقلّد هل يجب عليه تقليد أعلم المجتهدين، أم يتخيّر في تقليد من شاء منهم؟ فيه قولان للأصوليين والفقهاء:

أحدهما: الجواز؛ لاشتراك الجميع في الأهلية، ولما اشتهر من أن الصحابة كانوا يفتون مع اشتهارهم بالاختلاف في الأفضلية، ومع تكرّر الإفتاء لم ينكر عليهم أحد من الصحابة فيكون إجماعاً منهم على جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل، ولأنّ تعيّن الأرجح للتقليد يتوقف على ترجيح العامي، والعامي لا يمكنه الترجيح لقصوره.

وهذا هو الذي اختاره المصنف (رحمه الله) في هذه المسألة، محتجاً بأن نقصه ينجبر بنظر الإمام المولّي له. وهذا معنى زائد على أصل التقليد في غير هذه المسألة.

والثاني- وهو الأشهر بين الأصحاب - المنع؛ لأنّ الظنّ بقول الأعلم أقوى منه بقول المفضول واتباع الأقوى أولى؛ لأن أقوال المفتين بالنسبة إلى المقلّد كالأدلّة، فكما يجب العمل بالدليل الراجح يجب تقليد الأفضل. ورواية عمر بن حنظلة عن الصادق السابقة صريحة في هذا، فإنّه قال: بعد ما نقلناه منها وأمره بالرجوع إلى العالم بالأحكام - قلت: فإنّ كلّ واحد منهما اختار رجلاً وكلاهما اختلف في حديثنا، قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر»(1). وهذه الرواية هي مستند القائل بذلك من الأصحاب؛ لشهرة مضمونها بينهم، وتلقيهم لها بالقبول.

ص: 33


1- الكافي، ج 1، ص 67 - 68 ، باب اختلاف الحديث، ح 10: الفقيه، ج 3، ص 8 - 9 ، ح 3236؛ تهذيب الأحكام. ج 1، ص 301 - 302، ح 845 وسبقت أيضاً تخريجها في ص 26، الهامش 2 .

وفي كلّ واحد من الأدلة من الجانبين نظر:

أما الأوّل فلمنع كون اشتراكهم في أصل الأهلية بالنظر إلى أنفسهم يقتضي تساويهم بالنظر إلى الغير، وهل ذلك إلا عين المتنازع ؟ واستفتاء الصحابة مع تفاوتهم في الفضيلة لا يجري على أصول الأصحاب، كما لا يخفى. والعامي يمكنه معرفة الأفضل بالتسامع، كما أمكنه معرفة المتأهّل لأصل الفتوى من غيره. وما ذكره المصنف (رحمه الله) من انجبار نقص المفضول بنظر الإمام إنّما يتمّ مع قربه منه واطلاعه على أحكامه، لا في البعد عنه على وجه ربما لا يعلم شيئاً من وقائعه في جميع الأوقات أو في اوقات متطاولة، والمسالة اعم من كونه قريباً وبعيداً.

وأمّا الثاني فلمنع كون الظنّ بقول الأعلم أقوى مطلقاً، فإن مدارك الظنّ لا تنضبط، خصوصاً في المسائل الشرعيّة، فكثيراً ما يظهر رجحان ظنّ المفضول على ظنّ الفاضل في كثير من المسائل الاجتهادية. وفرق بين أقوال المفتين وأدلّة المستدلّ؛ لأنّ المستدلّ يمكنه ترجيح بعض الأدلة على بعض، بخلاف العامي بالنسبة إلى الأقوال والرواية نص في المطلوب، لكن قد عرفت(1) ما في طريقها، فإن تم الاستدلال بها لانجبار ضعفها بالشهرة فهي العمدة، وإلا فلا.

وعلى القول بترجيح الأعلم لا يفرّق فيه بين كون الآخر أعدل وعدمه مع اشتراكهما في أصل العدالة؛ لأنّ ما عند الفاضل منها يكفي في منعه من التهجم على المحارم، ويبقى علمه خالياً عن المعارض. ومع تساويهما في العلم يقدّم الأعدل؛ نظراً إلى ثبوت الرجحان المقتضي لقبح تقديم المرجوح عليه. ويتحصل من ذلك أنه يترجح أعلم الورعين وأورع العالمين. ومثل هذا يجري في الفقيهين حال الغيبة بالنسبة إلى الاستفتاء والمنازعة. وأولى بوجوب اتِّباع الأعلم هنا؛ لزوال نظر الإمام الجابر لنقصان المفضول.

ص: 34


1- راجع ص 26 .

هل یجوز للقاضي الاستخلاف؟

الرابعة • إذا أذن له الإمام في الاستخلاف جاز. ولو منع لم يجز. ومع إطلاق التولية، إن كان هناك أمارة تدلّ على الإذن، مثل سعة الولاية التي لا تضبطها اليد الواحدة جاز الاستنابة، وإلا فلا؛ استناداً إلى أن القضاء موقوف على الإذن.

------------------

قوله: «إذا أذن له الإمام في الاستخلاف جاز إلى آخره.

إذا ولّى الإمام رجلاً القضاء، فإما أن يأذن له في الاستخلاف مطلقاً، أو على بعض الوجوه، أو ينهاه عنه، أو يطلق التولية. فإن أذن له فيه فلا إشكال في جوازه مطلقاً أو على الوجه المأذون فيه، سواء احتاج إليه لاتساع الولاية أم لا، كما لو أذن الموكل للوكيل في التوكيل.

وإن نهاه عن الاستخلاف لم يجز له، وإن كان ما فوّضه إليه أكثر مما يمكنه القيام به؛ لأنّ القضاء موقوف على إذن الإمام وقد قصره على نظر النائب فلا يتعداه.

وإن أطلق التولية نظر إن كان ما فوّضه إليه ممّا يمكنه القيام به كقضاء بلدة صغيرة - ،فوجهان أصحهما عند الأصحاب أنّه ليس له الاستخلاف؛ لأنّ الإمام لم يرضَ بنظر غيره. وإن لم يمكنه القيام بما فوّضه إليه، كقضاء بلدتين فصاعداً، أو قضاء بلدة كبيرة، فله أن يستخلف؛ لأنّ قرينة الحال مشعرة بالإذن ، كما إذا دفع متاعاً إلى إنسان ليبيعه وهو ممّن لا يعتاد مباشرة البيع، فإنه يكون إذناً في دفعه إلى من يقوم بذلك، بدلالة القرينة، وكما لو وكله في عمل يعجز عن مباشرته بنفسه.

ثم فيم يستخلف؟ في القدر الزائد على ما يمكنه القيام به، أم في الكل؟ وجهان أصحهما الأوّل؛ لأنّ ذلك القدر هو المعلوم من القرينة.

ويحتمل مع الإطلاق جواز الاستخلاف مطلقاً؛ نظراً إلى أنه ناظر في المصالح العامة فيتمكن من الاستخلاف كالإمام. ولأنه قد وثق بنظره الذي من جملته أن يستخلف.

ويضعف الأول بأنه قياس مع وجود الفارق. وإنما رضي بنظره في القضاء بنفسه لا مطلقاً.

وحيث يجوز الاستخلاف يشترط في الخليفة ما يشترط في القاضي ؛ لما تقدّم من عدم جوازه مطلقاً لمن لا يستجمع الشرائط فيعتبر في النائب كونه مجتهداً، إلا أن يفوّض إليه

ص: 35

أجرة القاضي علی بیت المال

الخامسة: • إذا ولي مَنْ لا يتعيّن عليه القضاء، فإن كان له كفاية من ماله فالأفضل أن لا يطلب الرزق من بيت المال. ولو طلب جاز؛ لأنّه من المصالح.

وإن تعيّن للقضاء ولم يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق. وإن كان له كفاية، قيل: لا يجوز له أخذ الرزق؛ لأنّه يؤدّي فرضاً.

أما لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف والوجه التفصيل، فمع عدم التعيّن وحصول الضرورة قيل: يجوز. والأولى المنع ولو اختل أحد الشرطين لم يجز.

------------------

أمراً خاصاً لا يتوقف على اجتهاد، كسماع البينة ونقلها إليه، أو في التحليف بعد أن يسمع الحاكم البينة، دون الحكم فيكفيه العلم بشرائط ذلك.

ومن هنا يظهر أن المجتهد في حال الغيبة لا يمكنه تولية أحد للحكم بين الناس مطلقاً. لأنّ النائب إن كان مجتهداً كان أصلاً كالمستنيب، وإن كان المستنيب أعلم وقلنا بترجيحه حيث لا يشترط الأفضلية أو تعذر الوصول إلى الأفضل، وإن كان مقلّداً لم ينفذ حكمه مطلقاً. وإنّما يتصوّر ذلك في القاضي المنصوب من قبل الإمام إذا استناب مجتهداً غير منصوب .

ولا فرق في النائب بين أن يوافق اجتهاده لاجتهاد المستنيب وعدمه، بل لو شرط عليه أن لا يحكم إلا بمذهب القاضي لم يصح الاستخلاف وحيث لا يجوز الاستخلاف لو استخلف فحكم الخليفة باطل. نعم، لو ترافع إليه خصمان ورضيا بحكمه كان كالمحكّم.

قوله: «إذا ولي من لا يتعين عليه القضاء» إلى آخره.

بيت المال محله مصالح المسلمين التي من جملتها القاضي ؛ لقيامه بنظام النوع وأخذ الحق من الظالم للمظلوم والأمر بالمعروف، فيجوز له أخذ الرزق عليه مطلقاً إذا لم يكن متعيّناً عليه، سواء كان له كفاية أم لا، لكن يكره له أخذه مع الكفاية، توفيراً له على غيره من المصالح التي لا كافي لها.

ص: 36

وإن تعين عليه بتعيين الإمام أو عدم وجود غيره ففي جواز أخذه منه قولان:

أشهر هما: المنع؛ لأنه حينئذ يؤدي واجباً، فلا يجوز له أخذ العوض عنه كغيره من الواجبات. والثاني: الجواز؛ لعدم خروجه بالوجوب عن كونه من المصالح، بل أهتها. ومنع كون فعل الواجب يمنع من أخذ الرزق عليه مطلقاً، ولهذا يأخذه المجاهدون وهم قائمون بأهم الواجبات.

وعلى كل حال فمع وجود الكفاية من بيت المال لا يجوز له أخذها من المتخاصمين مطلقاً. ومع عدمها ووجود الحاجة إليه ففي جواز أخذه منهما أو من أحدهما قولان: أشهر هما المنع؛ لأنه بمنزلة الرشوة المنهي عنها، ولأنه واجب في نفسه وإن لم يكن متعيّناً، والواجب لا يجوز أخذ الأجرة عليه مطلقاً.

والمصنف (رحمه الله) اختار الجواز مع عدم التعيين وحصول الضرورة، وإن كان قد جعل الترك أولى؛ لما في تركه حينئذ مع وجودها من تعطيل هذه الوظيفة الدينية، فإنّه إن جاز له ترك القضاء حينئذ والاشتغال بالكسب تعطلت الوظيفة، وإن أمر به وترك السعي لزم الضرر والحرج المنفيان شرعاً (1) وعقلاً، بل تكليف ما لا يطاق في بعض أفراده.

وهذا الدليل إن تمَّ يردّ مع تعيينه أيضاً؛ لأن وجوبه لا يدفع الضرر الناشئ من ترك السعي على ضرورات الرزق والصبر على الجوع والجهد.

ثم على تقدير جوازه بوجه ففي جواز تخصيص أحدهما به، أو جعله على المدعي، أو التشريك بينهما أوجه، من الشكّ في أنّها تابع للعمل أو للمنفعة الحاصلة، فعلى الأول هو عليهما، وعلى الثاني يجب على المحكوم له أو على المدعي. وينبغي أن يكون حينئذ تابعاً لشرطه قبل الشروع في سماع الدعوى؛ لأنه عوض عن عمله لهما فيتبع شرطه.

ص: 37


1- الحج (22) 78؛ وراجع الكافي، ج 5، ص 280، باب الشفعة، ح 4، وص 292 - 293، باب الضرار، ح 2، . وص 294، ح 8؛ والفقيه، ج 3، ص 76 ، ح 3371، وص 233، ح 3862؛ وج 4، ص 334، ح 5721؛ وتهذيب الأحكام، ج 7، ص 146 - 147، ح 651، وص 164، ح 727.

• وأمّا الشاهد فلا يجوز له أخذ الأجرة؛ لتعين الإقامة عليه مع التمكّن.

جواز اخذ الاجرة للمؤذن والقاسم وكاتب القاضي

• ويجوز للمؤذن والقاسم وكاتب القاضي والمترجم وصاحب الديوان ووالي بيت المال أن يأخذوا الرزق من بيت المال؛ لأنه من المصالح. وكذا من يكيل للناس ويزن، ومن يعلم القرآن والآداب.

------------------

قوله: «وأما الشاهد فلا يجوز له أخذ الأجرة ؛ لتعيّن الإقامة عليه مع التمكن»

إنّما يتعيّن الإقامة على الشاهد بتقدير انحصار الشهادة فيه، وكونه مقبول الشهادة، أو وجود ما يتم به العدد المعتبر في ثبوت الحق لا أزيد. فلو زاد الشهود المقبولون عن النصاب المعتبر كان الوجوب على العدد منهم كفائياً لا عينيّاً. وظاهر الأصحاب عدم جواز أخذ الأجرة عليها مطلقاً؛ لوجوبها في الجملة، خصوصاً مع التعيّن.

هذا بالنسبة إلى نفس أداء الشهادة. أما لو احتاج السعي إلى إقامتها إلى مؤونة في سفره جاز أخذها؛ لأن الواجب الإقامة كما دلّت عليه الآية (1)، لا السعي لها. وقد يشكل بأن السعي حينئذٍ مقدمة الواجب المطلق، فيكون واجباً أيضاً كأصله.

قوله: «ويجوز للمؤذن والقاسم وكاتب القاضي» إلى آخره.

هذه المعدودات كلّها من جملة مصالح الإسلام التي هي محل الرزق من بيت المال. وهو غير منحصر فيمن ذكر بل ضابطه كلّ مصلحة(2) ، ومنه مدرّس العلوم الشرعيّة، وأئمّة الصلوات والعدل المرصد للشهادة، وغير ذلك.

والمراد بصاحب الديوان من بيده الكتاب الذي يجمع فيه أسماء الجند والقضاة والمدرّسين، وغيرهم من المرتزقة ومن يكتبه ونحوهما، ووالى بيت المال وخازنه، وحافظ الماشية وراعيها ونحوهما، ومعلّم آداب الأمور الحكمية والعلوم الأدبية من النحو واللغة وشبههما .

ولا فرق في تعلم القرآن بين ما يجب تعليمه منه عيناً كالفاتحة، وكفاية كآيات الأحكام،

ص: 38


1- الطلاق (65): 2 .
2- في بعض النسخ زيادة: «دينية».

ولاية القاضي تثبت بالاستفاضة

السادسة .•تثبت ولاية القاضي بالاستفاضة. وكذا يثبت بالاستفاضة النسب، والملك المطلق، والموت، والنكاح، والوقف، والعتق.

------------------

وحفظ عدد التواتر له وغيره؛ لأنّ ذلك كله من أهم المصالح، والوجوب لا ينافي الارتزاق منه، وإن نافى أخذ الأجرة عليه على الخلاف الذي سبق(1).

قوله: تثبت ولاية القاضي بالاستفاضة - إلى قوله - ما لم يحصل اليقين». ولاية القاضي كغيرها من الحقوق تثبت بما تثبت به من شهادة عدلين بها وإن لم يحكم بها حاكم، وبسماع التولية من الإمام، وبالاستفاضة، وهي إخبار جماعة لا تجمعهم داعية التواطؤ عادةً، ويحصل بقولهم العلم بمضمون خبرهم على ما يقتضيه كلام المصنف (رحمه الله) هنا، أو الظنّ الغالب المقارب له على قول.

والاكتفاء بالاستفاضة على تقدير اشتراط العلم واضح؛ لأنّها حينئذ أقوى من البينة التي نصبها الشارع لإثبات الحقوق، فيكون ثبوت الحكم بها بطريق أولى.

وعلى تقدير الاكتفاء بالظنّ الغالب تختص الاستفاضة بأمور خاصة :

منها ولاية القاضي؛ لعسر إقامة البينة عليها غالباً، واستقرار الأمر على قبولها بذلك ونحوه من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، بل بما دون ذلك، كالكتاب مع أمن التزوير، لإفادته الظن الغالب.

قيل: ولأنّ الحجّة لا تقام عند حاكم وإلا دار(2) ؛ لأنّ الحاكم المعزول قد سبق ارتفاع حكمه على وصول الحاكم الجديد إن قلنا: إنّه ينعزل بمجرّد التولية، وإن قلنا ببلوغ الخبر فكذلك، وينعزل قبل أن يحكم للثاني.

وأما الثاني: فلأن ثبوت ولايته يتوقف على حكمه، وحكمه يتوقف على ثبوت ولايته. وهو دور ظاهر.

ص: 39


1- سبق في ص 36 - 37 .
2- في حاشية «و»: «جزم به في الدروس (منه رحمه الله)». الدروس الشرعية، ج 2، ص 51 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10)

ولو لم يستفض - إما لبعد موضع ولايته عن موضع عقد القضاء له، أو لغيره من الأسباب - أشهد الإمام أو من نصبه الإمام على ولايته شاهدين بصورة ما عهد إليه، وسيرهما معه ليشهدا له بالولاية. ولا يجب على أهل الولاية

------------------

وهذا يتم على القول بعدم جواز تعليق العزل على شرط، وقد جوّزه العلّامة في القواعد، حتى على تعليقه بقراءة الكتاب المتضمن للعزل(1). وعلى هذا فيجوز توقيف عزله على إثباته لولاية الثاني، فلا ينعزل إلى أن يثبت، ويرتفع الدور فيه.

لكن جواز تعليقها لا يوافق قواعد الأصحاب، وقد حكموا ببطلان الوكالة المعلقة، وهي أضعف حالاً من ولاية القضاء، ومن ثَمّ قال في الدروس وفي جواز تعليق العزل وجه ضعيف(2). ويمكن إثباتها أيضاً عند حاكم آخر غير المعزول قريب من محل الولاية، بحيث ينتفع بإثباته أهل ولاية القاضي الجديد، وظاهر أنه لا يكفي قوله «وإن شهدت له القرائن»؛ لأنّ ذلك ليس من الأدلة المنصوبة شرعاً.

إذا تقرّر ذلك، فقد ألحق المصنّف (رحمه الله) ستة أشياء بالولاية، وجعلها مما يثبت بالاستفاضة. ووجه تخصيصها من بين الحقوق أنّها أمور ممتدة، ولا مدخل للبيّنة فيها غالباً. فالنسب غاية الممكن فيه رؤية الولادة على فراش الإنسان، لكن النسب إلى الأجداد المتوفين والقبائل القديمة ممّا لا يتحقق فيه الرؤية ومعرفة الفراش، فدعت الحاجة إلى اعتماد التسامع.

وفي النسب من الأُمّ وجهان:

أحدهما: أنه كذلك، كما في جانب الرجل: لاشتراكهما في المقتضي.

والثاني: أنه لا يكفي فيه السماع؛ لإمكان رؤية الولادة. وقد تقدم البحث فيه (3).

والأظهر الأوّل.

ص: 40


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 424.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 52 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- تقدّم في ج 8، ص 626 - 627 و 636: وج 10، ص 211 - 212 .

قبول دعواه مع عدم البينة، وإن شهدت له الأمارات ما لم يحصل اليقين.

------------------

وأمّا الملك، فلأن أسبابه متعدّدة، وتعدّدها يوجب عسر الوقوف عليها، فيكتفى فيه بالتسامع أيضاً.

وأما الموت فلتعذر مشاهدة الميّت في أكثر الأوقات للشهود.

والوقف والعتق لو لم تسمع فيهما الاستفاضة لبطلا على تطاول الأوقات لتعذر بقاء الشهود في مثل الوقف والشهادة الثالثة غير مسموعة، فمست الحاجة إلى إثباتها بالتسامع. ومثلها النكاح، فإنّا نعلم أنّ خديجة زوجة النبي(صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، وليس مدركه التواتر؛ لأن شرطه استواء الطرفين والوسائط في العلم الحسّى، وهو منفي في الابتداء؛ لأن الظاهر أن المخبرين لم يخبروا عن المشاهدة بل عن السماع ولو سلّم إمكانه فهو غير كافٍ، بل لا بد من العلم بذلك في تحقق التواتر.

وزاد بعضهم(1) في هذه الأسباب، ونقص آخرون(2). وقد ظهر من تعليلها أنها لا تستند إلى نص خاص، بل إلى اعتبار. وكان الوجه فيها أن يقال: إن اعتبرنا اليقين في المستند كما اعتبره المصنف (رحمه الله) بقوله «ما لم يحصل اليقين - فلا وجه للحصر في هذه، وإن كانت أمس حاجة من غيرها إلى الاكتفاء بالسماع من دون المشاهدة؛ لما أشرنا إليه من أنّ العلم القطعي أقوى من البيئة، بل لا يقبل الخلاف فمتى حصل ذلك في الملك المسبب وغيره من الحقوق بالتسامع كفى .

وإن اكتفينا في الاستفاضة بالظنّ الغالب المتاخم للعلم احتمل اختصاصه بهذه، والقدح في بعضها حيث لا نص. ويمكن القول بالتعميم أيضاً؛ لأنّ أدنى مراتب البينة الشرعية لا يحصل بها الظنّ المتاخم للعلم، فيكون ما أفاده أقوى مما وقع النص والإجماع على ثبوته به فكان أولى أيضاً، وإن كان مساوياً لبعض مراتب البينة أو قاصراً عن بعضها؛ لأنّ مفهوم الموافقة يكفي في المرتبة الدنيا بالقياس إلى ذلك الفرد المتنازع فيه لو أقيمت عليه بيّنة

ص: 41


1- كابن حمزة في الوسيلة، ص 233؛ وابن سعيد في الجامع للشرائع، ص 537.
2- كابن الجنيد على ما حكاه عنه الفاضل المقداد في التنقيح الرائع، ج 4، ص 310.

نصب قاضيين في البلد الواحد

السابعة: • يجوز نصب قاضيين في البلد الواحد لكلّ منهما جهة على انفراده .

وهل يجوز التشريك بينهما في الولاية الواحدة ؟ قيل بالمنع ؛ حسماً لمادّة اختلاف الغريمين في الاختيار . والوجه الجواز ؛ لأن القضاء نيابة تتبع اختيار المنوب.

------------------

كذلك أو حصل به تسامع يفيد مرتبةً أقوى. وسيأتي رجوع المصنف عن الجزم باعتبار العلم إلى الاكتفاء بمتاخمه على تردّد فيه(1) .

وإن اكتفينا فيها بمطلق الظنّ كما يظهر من كلام الشيخ (رحمه الله)(2)، قوي جانب الحصر؛ لما ذكروه من الوجه.

قوله: «يجوز نصب قاضيين في البلد الواحد» إلى آخره.

إذا نصب الإمام قاضيين في بلد واحد، فإن خصص كلّ واحد منهما بطرف من البلد أو عيّن لكلّ واحد منهما زماناً ، أو جعل أحدهما قاضياً في الأموال والآخر في الدماء والفروج ونحو ذلك جاز.

وإن عمّم ولايتهما مكاناً وزماناً ، وحادثة، فإن شرط عليهما الاجتماع على الحكم الواحد ففى جوازه وجهان :

أحدهما: العدم؛ لأنّ الخلاف في مواقع الاجتهاد مما يكثر، فتبقى الخصومات غير مفصولة.

والثاني - وهو الذي اختاره العلّامة (3) وولده(4) - الجواز؛ لأنّه أضبط وأوثق في الحكم. خصوصاً عندنا من أنّ المصيب واحد. وعلى هذا فإن اختلف اجتهادهما في المسألة وقف الحكم، وإنّما ينفذان ما يتفق فيه اجتهادهما.

ص: 42


1- يأتي في ص 378 ( في المتن).
2- راجع المبسوط، ج 5 ، ص 436 .
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 422 .
4- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 300.

إذا حدث بالقاضي ما يمنع الانعقاد

الثامنة • إذا حدث به ما يمنع الانعقاد انعزل وإن لم يشهد الإمام بعزله كالجنون أو الفسق ولو حكم لم ينفذ حكمه.

وهل يجوز أن يعزل اقتراحاً ؟ الوجه : لا ؛ لأن ولايته استقرت شرعاً، فلا تزول تشهياً.

------------------

وإن أثبت لكلّ واحد منهما الاستقلال فوجهان أيضاً:

أحدهما لا يجوز، كما في الولاية العظمى. ولأن الخصمين يتنازعان في اختيارهما وفي إجابة داعيهما، وليس أحدهما أولى من الآخر، بخلاف الإمام مع القاضي والقاضي مع النائب. فعلى هذا إن ولاهما معاً بطلت توليتهما. وإن ولّى على التعاقب صحت تولية الأوّل.

وأصحهما - وهو الذي اختاره المصنف - الجواز؛ لأنّ القضاء نيابة فيتبع اختيار المنوب، كنصب الوكيلين والوصيين. والتنازع يندفع بتقديم من سبق داعيه منهما. ولو جاءا معاً حكم بالقرعة. ولو ابتدأ المتنازعان بالذهاب إليهما من غير دعاء قدم مَنْ يختاره المدعى.

وإن أطلق نصب اثنين ولم يشترط عليهما الاجتماع ولا صرّح بالاستقلال، فالأصح حمله على الاستقلال؛ إجراء للمطلق على إطلاقه.

وربما احتمل فساد التولية ما لم يصرح بأحد الأمرين؛ لاشتراك الإطلاق بينهما، واختلاف حكمهما.

قوله: «إذا حدث به ما يمنع الانعقاد انعزل وإن لم يشهد الإمام بعزله - إلى قوله - فإنّه جائز مراعاة للمصلحة».

لما ذكر المصنّف (رحمه الله) جملة من أحكام التولية أتبعها بجملة أخرى من أحكام العزل. وهو قسمان اضطراري واختياري .

فالأول يحصل بعروض ما يرفع الأهلية. فإذا جنّ القاضي أو أُغمي عليه أو عمي حيث يعتبر البصر، أو خرس، أو خرج عن أهلية الضبط والاجتهاد بغفلة أو نسيان انعزل بذلك وإن لم يعلم الإمام. وكذا لو فسق .

ص: 43

أما لو رأى الإمام أو النائب عزله لوجه من وجوه المصالح، أو لوجود من هو أتمّ منه نظراً، فإنّه جائز، مراعاة للمصلحة.

------------------

ولا تعود ولايته بزوال هذه العوارض على الأصح، بل يفتقر إلى تولية مستأنفة؛ لبطلان السابقة، فعودها(1) يحتاج إلى دليل.

وربما فرّق بين ما يزول سريعاً كالإغماء، وبين غيره كالجنون، فتعود الولاية في الأوّل بزواله، دون الثاني؛ لأن الإغماء كالسهو الذي يزول سريعاً ولا ينفك منه غالباً. والفرق واضح.

والثاني: يجوز مع ظهور خلل لا يبطل القضاء، ويكفي فيه غلبة الظن؛ نظراً إلى المصلحة.

وإن لم يظهر خلل، فإن لم يكن ثَمَّ مَنْ يصلح للقضاء غيره لم يجز عزله. وإن كان هناك صالح، فإن كان أتمّ منه جاز عزله به. وإن كان مثله أو دونه، فإن كان في عزله مصلحة من تسكين فتنة ونحوه جاز عزله أيضاً.

وإن لم يكن فيه مصلحة، قيل: لم يجز عزله؛ لعدم المقتضي له، وقد ثبتت ولايته شرعاً بالتولية فلا تزول اقتراحاً وتشهّياً(2)، ولأنّ عزله حينئذ بمنزلة العبث، وفيه عرضة للقدح فيمن ليس بمقدوح.

وقيل: يجوز عزله مطلقاً؛ لأن ذلك حق للإمام، فله أخذه متى شاء وإعطاؤه غيره، فتجب طاعته في ذلك كغيره(3) .

وهذا البحث قليل الجدوى على أصول الأصحاب؛ لأنّ الإمام لا يفعل إلا ما يوافق المصلحة ويناسب المشروع(4)، وإنّما يفرّع هذه الأحكام مَنْ يجوز إمامة من يتفق منه خلاف المشروع.

ص: 44


1- في حاشية الأصل: «ن خ: فوجودها».
2- قاله الشهيد في القواعد والفوائد، ص 251 - 252 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 15).
3- قاله العلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 118، الرقم 6430.
4- في بعض النسخ: «الشرع» بدل «المشروع».

وحيث يعزله الإمام على وجه يصح، فهل ينعزل بمجرّد عزله، أو بعد بلوغه الخبر كالوكيل؟ فيه قولان: أظهر هما الثاني؛ لعظم الضرر في ردّ أقضيته بعد العزل وقبل بلوغ الخبر، فيكون الحكم فيه أولى من الوكيل .

هذا إذا عزله لفظاً، أو كتب إليه: «إنّي عزلتك» أو «أنت معزول». أما إذا كتب إليه: «إذا أتاك كتابي فأنت معزول لم ينعزل قبل أن يأتيه الكتاب بحال. وإن كتب إليه: «إذا قرأت كتابي فأنت معزول» لم ينعزل قبل القراءة.

ثم إن قرأه بنفسه فذاك. وإن قرئ عليه فوجهان: أحدهما: لا ينعزل؛ نظراً إلى صورة اللفظ. والثاني: الانعزال؛ نظراً إلى المعنى عرفاً؛ لأنّ غرض الإمام إعلامه صورة الحال لا قراءته بنفسه. ولو كان أُميّاً - تفريعاً على جوازه - فقرى عليه فالحكم بالانعزال أظهر. مع احتمال العدم؛ نظراً إلى مدلول اللفظ.

ومثله في اختلاف ظاهر اللفظ والمعنى إطلاق الكتاب على مجموعه وعلى الغاية المقصودة منه. وتظهر الفائدة فيما لو ذهب بعض الكتابة بحيث تعذرت قراءته؛ فإنّه لا يصدق قراءة الكتاب إن جعلنا المفرد المضاف مفيداً للعموم، كما هو رأي المحققين من الأصوليين(1). وقد أشرنا إليه سابقاً (2). وكذا القول في بلوغه .

هذا بحسب اللفظ. وأما بالنظر إلى المعنى فالمقصود بلوغ ما يفيد الخبر أو قراءة ما يحصل به الغرض وإن لم تتمّ القراءة مع إمكانها فضلاً عن تعذرها، فتعتبر قراءة الفصول المقصودة التي يحصل بها إفادة المطلوب وإن بقي غيرها كالبسملة والحمدلة ونظائرهما.

ص: 45


1- راجع المستصفى، ج 2، ص 149: والإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، ج 2، ص 415؛ وتهذيب الوصول إلى علم الأصول، ص128.
2- سبق في ج 9، ص 272 .

انعزال القضاة بموت الإمام (علیه السّلام) و عدمه

التاسعة • إذا مات الإمام قال الشيخ (رحمه الله) الذي يقتضيه مذهبنا انعزال القضاة أجمع. وقال في المبسوط : لا ينعزلون؛ لأنّ ولا يتهم ثبتت شرعاً فلا تزول بموته والأوّل أشبه.

• ولو مات القاضي الأصلي لم ينعزل النائب عنه؛ لأن الاستنابة مشروطة بإذن الإمام فالنائب عنه كالنائب عن الإمام ، فلا ينعزل بموت الواسطة . والقول بانعزاله أشبه.

------------------

قوله: «إذا مات الإمام قال الشيخ (رحمه الله) : الذي يقتضيه مذهبنا انعزال القضاة أجمع» إلى آخره.

اختلف كلام الشيخ وغيره من الفقهاء فيما لو مات إمام الأصل هل ينعزل القضاة أم لا ؟

فقيل : ينعزلون مطلقاً ؛ لأنّهم نوابه ، وولايتهم فرع على ولايته، فإذا زال الأصل تبعه الفرع(1) .

وقيل: لا ينعزلون؛ لأنّ ولا يتهم ثبتت شرعاً فتستصحب (2) ، ولما يترتب على الانعزال من الضرر العام اللاحق بالخلق بخلو البلدان عن الحكام إلى أن يتجدد للإمام اللاحق نواب فتتعطّل المصالح.

والأظهر هو الأول.

وقد يقدح هذا في ولاية الفقيه حال الغيبة؛ فإنّ الإمام الذي جعله قاضياً وحاكماً قد مات، فيجري في حكمه ذلك الخلاف المذكور، إلا أن الأصحاب مطبقون على استمرار تلك التولية، وإنّها ليست كالتولية الخاصة، بل حكم بمضمون ذلك، فإعلامه بكونه من أهل الولاية على ذلك كإعلامه بكون العدل مقبول الشهادة وذي اليد مقبول الخبر، وغير ذلك، وفيه بحث.

قوله: «ولو مات القاضي الأصلي لم ينعزل النائب عنه» إلى آخره.

ص: 46


1- قاله الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 482؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 424؛ وتحرير الأحكام الشرعية ، ج 5، ص 118، الرقم 6431.
2- قاله الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 482، ولكن أعرض عنه.

إذا مات القاضي العزل بموته كلّ نائب له في شغل معيّن كبيع على ميت أو غائب، أو سماع بينة في حادثة معينة - بغير خلاف .

وفي المتصرفين في شغل عام كقوام الأيتام والوقوف - وجهان ناشئان من الوجهين في نوّاب الإمام، من حيث التبعية، ومن ترتب الضرر بزوال ولا يتهم إلى أن تتجدد الولاية.

وأما نوابه في القضاء ففي انعزالهم وجهان، نقلهما المصنّف (رحمه الله):

أحدهما: عدمه مطلقاً؛ لأنّ الاستنابة مشروطة بإذن الإمام، فالنائب عن القاضي كالنائب عن الإمام، فلا ينعزل بموت القاضي الواسطة، كما لا ينعزل وكيل الوكيل إذا كان قد أذن له في توكيله عن الموكل.

والثاني: الانعزال مطلقاً؛ لأنه فرعه وكالوكيل عنه، فينعزل بموته. ويمنع من كون الإطلاق يقتضي كونه نائباً عن الإمام. وهذا هو الذي اختاره المصنّف (رحمه الله).

وفي كلا القولين على إطلاقهما إشكال.

أما الأوّل؛ فلأنّ النيابة قد تكون مستندة إلى قرائن الأحوال كاتساع الولاية - والنائب فيها ليس نائباً عن الإمام، بل عن القاضي. ولم يحصل من الإمام ما يقتضي الإذن لفظاً حتى يقال: إن الاستنابة مشروطة بإذن الإمام. ولو سلّم أنّ التولية على هذا الوجه إذن في المعنى لم يدل على كونه إذناً في استنابته عن الإمام بوجه من الدلالات.

وأمّا الثاني؛ فلأنّ من جملة الأقسام أن يكون الإمام قد أذن له صريحاً في الاستنابة إمّا مطلقاً أو عن الإمام - فلا يتم الحكم مطلقاً بكون النائب تابعاً للمستنيب.

فيتجه على هذا وجه ثالث، وهو أنّ القاضي إذا لم يكن مأذوناً في الاستخلاف لفظاً بل استخلف بناءً على جوازه مطلقاً أو مع شهادة القرائن به انعزل خليفته بموته؛ لأنّ الاستخلاف في هذه الحالة إمّا أن يكون جوازه مشروطاً بالحاجة، فكان النائب كالمعاون في العمل، فإذا زالت ولايته بطلت المعاونة؛ لعدم الحاجة إليها، وإما لأنّ الخليفة كالوكيل حيث جوزناها مطلقاً، فتبطل بموت الموكل؛ لأنه كالمعين أيضاً وإن لم يكن لحاجة.

ص: 47

العاشرة: • إذا اقتضت المصلحة تولية مَنْ لم يستكمل الشرائط انعقدت ولايته ،مراعاة للمصلحة في نظر الإمام، كما اتفق لبعض القضاة في زمان علي (علیه السّلام).

وربما منع من ذلك؛ فإنّه لم يكن يفوّض إلى مَنْ يستقضيه ولا يرتضيه، بل يشاركه فيما ينفذه، فيكون هو الحاكم في الواقعة لا المنصوب.

------------------

وإن كان مأذوناً في الاستخلاف نظر، إن قال: «استخلف عنّي فاستخلف، لم ينعزل خليفته؛ لأنّه مأذون من جهة الإمام، فكان الأول سفيراً في التولية. وإن قال: «استخلف عن نفسك» أو أطلق، انعزل؛ لظهور غرض المعاونة، وبطلانها ببطلان ولايته.

وهذا البحث قد مضى(1) مثله في وكيل الوكيل عند موت الوكيل الواسطة.

ولو نصب الإمام بنفسه نائباً عن القاضي، ففي انعزاله بموت القاضي وجهان، وأولى بالعدم هنا؛ لأنه مأذون من جهة الإمام، إلا أن يكون الإذن مقيداً بالنيابة عن القاضي، فيتبعه كالأوّل.

قوله: «إذا اقتضت المصلحة تولية من لم يستكمل الشرائط انعقدت ولايته، مراعاة للمصلحة في نظر الإمام» إلى آخره.

إذا اقتضت المصلحة عند الإمام تولية من لم يستكمل شرائط القضاء، بأن كان قاصراً في العلم أو العدالة، ففي جواز توليته عندنا وجهان:

أحدهما: المنع؛ لفقد الشرط المقتضي لفقد المشروط، ولقول النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنّة»(2)، وجعل الذي في الجنّة من عرف الحق وقضى به وقد تقدّم، فمن يكون من أهل النار لا تسوغ توليته، ولأنه لا يجوز ذلك في الفتوى، ففي القضاء أولى.

والثاني : الجواز؛ نظراً إلى وجود المصلحة الكلّيّة التي هي الأصل في شرع الأحكام

ص: 48


1- سبق في ج 4، ص 517.
2- تقدّم تخريجه في ص 20 ، الهامش 2 .

كلّ مَنْ لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه

الحادية عشرة: • كلّ مَنْ لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه، كالولد على الوالد، والعبد على مولاه، والخصم على خصمه. ويجوز حكم الأب على ولده وله، والأخ على أخيه وله، كما تجوز شهادته.

------------------

ولوقوع مثله في زمن علي(علیه السّلام)، فقد كان ولى شريحاً القضاء (1) مع ظهور مخالفته له في الأحكام المنافية للعدالة التي هي أحد الشرائط.

وأجيب بأنّ مجرّد وقوعه منه ليس بحجة، وإنما يكون حجة لو وقع باختياره (2)، والقرائن شاهدة بخلاف ذلك؛ فإنّه إنّما ولاه جرياً على طريقة السابقين حيث كان متولّياً من قبلهم. فلم يمكنه (علیه السّلام) المشاقة والمخالفة، كما علم من سيرته في زمن ولايته.

وأشار المصنف (رحمه الله) إلى جواب آخر، وهو أنه (علیه السّلام) وإن كان بحسب الصورة مفوّضاً إليه القضاء وراضياً بحكمه، إلا أنه في المعنى لم يكن كذلك، بل كان يشاركه فيما ينفذه، فيكون (علیه السّلام) هو الحاكم في الواقعة لا المنصوب.

وقد روى مضمون هذا الجواب هشام بن سالم - في الحسن عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «لما ولى أمير المؤمنين شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه»(3).

وهذا الجواب لا يخلو من نظر. والمروي من حال شريح معه ما يخالف ذلك، وفي حديثه مع الدرع الغلول(4) ، ما يرشد إلى ما ذكرناه.

قوله: «كلّ مَنْ لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه إلى آخره.

الحكم لشخص على آخر شهادة له عليه وزيادةً، فيشترط في نفوذه ما يشترط في نفوذ

ص: 49


1- الكافي، ج 7، ص 407، باب أن الحكومة إنما هي للإمام(علیه السّلام) ، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 217، ح 510.
2- أجاب به العلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 117، الرقم 6426: وفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 300.
3- تقدم تخريجه في الهامش 1.
4- الكافي، ج 7، ص 385 - 386، باب شهادة الواحد ويمين المدعي، ح 5 الفقيه، ج 3، ص 109 - 110. ح 3431: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 273 - 275، ح 747؛ الاستبصار، ج 3، ص 34 - 35، ح117.

الشهادة من الطرفين وأحدهما. فمن لا تقبل شهادة الشخص عليه مطلقاً كالخصم لا يقبل حكمه عليه، ويقبل حكمه له كما تقبل شهادته له مع عدم منافاة الخصومة للعدالة. ومن تقبل شهادته له وعليه -كالأجنبي والأخ والأب بالنسبة إلى الولد - يقبل حكمه له وعليه مطلقاً.

وأما حكم الولد على الوالد فقد قطع المصنّف (رحمه الله) بالمنع منه؛ بناءً على المشهور من عدم قبول شهادته عليه، وسيأتي أنّ الأصح قبولها له وعليه، فيقبل حكمه له وعليه كغيره(1) .

ص: 50


1- يأتي في ص 348 وما بعدها.

النظر الثاني في الآداب

الآداب المستحبة

وهي قسمان: مستحبّة، ومكروهة.

8فالمستحبة أن يطلب من أهل ولايته مَنْ يسأله عمّا يحتاج إليه في أُمور بلده.

وأن يسكن عند وصوله في وسط البلد؛ لترد الخصوم عليه وروداً متساوياً.

وأن ينادى بقدومه إن كان البلد واسعاً لا ينتشر خبره فيه إلا بالنداء.

وأن يجلس للقضاء في موضع بارز، مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

وأن يبدأ بأخذ ما في يد الحاكم المعزول من حجج الناس وودائعهم؛ لأنّ نظر الأول سقط بولايته.

ولو حكم في المسجد صلّى عند دخوله تحيّة المسجد، ثمّ يجلس مستدبر القبلة ليكون وجه الخصوم إليها . وقيل : يستقبل القبلة؛ لقوله (علیه السّلام) : «خير المجالس ما استقبل به القبلة». والأول أظهر.

------------------

قوله - في الآداب -: «فالمستحبة أن يطلب من أهل ولايته مَنْ يسأله عمّا يحتاج إليه - في أمور بلده» إلى آخره.

للقاضي آداب تختص به، وهي كثيرة حتى أفردت بالتصنيف للاهتمام بشأنها. وقد أشار المصنّف (رحمه الله) إلى المهم منها هنا .

فمنها: أن يطلب قبل قدومه إلى البلد مَنْ يسأله عن حال مَنْ فيه من العلماء والعدول؛ ليكون على بصيرة ممّن يعتمد عليه ويسكن إلى قوله ومَنْ يستحق التعظيم منهم والإقبال من حين وصوله، فإن لم يتيسر له ذلك قبل الدخول سأل حين يدخل.

ص: 51

قيل: ويستحب أن يكون الدخول يوم الاثنين، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة في ذلك اليوم(1).

ومنها: أن ينزل في وسط البلد أو الناحية؛ كيلا يطول الطريق على بعضهم زيادة على ،بعض فيكون ذلك أقرب إلى إنصاف الخصوم والتسوية بينهم، كما يسوّي بينهم في الكلام والإنصات وغيره.

ومنها: أن يعلم بقدومه إن لم يشتهر خبره. ولو توقف ذلك على منادٍ ينادي على حسب حال البلد في الكبر والصغر: «ألا أن فلاناً قدم قاضياً ونحو ذلك فعل. وإن توقف الأمر على قراءة عهده أضاف المنادي إلى ذلك: «فمن أحب فليحضر ساعة كذا من يوم كذا فإذا حضر وا قرأ عليهم العهد، وإن كان معه شهود شهدوا. ثم ينصرف إلى منزله ويستحضر الناس، ثمّ يسألهم عن الشهود والمزكين سراً وعلانية.

ومنها: أن يجلس للقضاء في موضع بارز للناس، مثل رحبة أو فضاء؛ ليسهل الوصول إليه على من أراده. ولا يجعل ذلك في بيت يهابه الناس أو بعضهم؛ ليكون أيسر في وصول المحتاجين إلى حقهم.

ومنها: أن يتسلّم ديوان الحكم، وهو ما كان عند الحاكم قبله من المحاضر والسجلات وحجج الأيتام والأوقاف وحجج الناس المودعة في الديوان؛ لأنها كانت في يد الأوّل بحكم الولاية وقد انتقلت الولاية إليه، فيتوصل بذلك إلى تفاصيل أحوال الناس ومعرفة حقوقهم وحوائجهم.

ومنها: أنه إن اتفق حكمه في المسجد، إما مراعاة لمجرد الجواز، أو على وجه لا يكون مكروهاً، فليبدأ عند وصوله بصلاة تحية المسجد ركعتين فصاعداً، كما يستحبّ ذلك لكلّ داخل إليه. وإنّما خصه بالذكر دفعاً لتوهّم أنّ ما هو بصدده من الحكم أهمّ من صلاة التحيّة.

ص: 52


1- راجع المهذب الشيرازي، ج 2، ص 373؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص116.

• ثمّ يسأل عن أهل السجون، ويثبت أسماءهم، وينادي في البلد بذلك ليحضر الخصوم، ويجعل لذلك وقتاً، فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد وسأله عن موجب حبسه، وعرض قوله على خصمه، فإن ثبت لحبسه موجب أعاده، وإلا أشاع حاله بحيث إن لم يظهر له خصم أطلقه.

------------------

ومنها: أن يجلس مستدبر القبلة؛ ليكون وجه الخصوم إذا وقفوا بين يديه مستقبل القبلة، خصوصاً في وقت استحلافهم، فيكون مراعاة جانب الاستقبال فيهم أهم من مراعاة جانبه؛ نظراً إلى عموم المصلحة. وهذا اختيار الأكثر ، ومنهم الشيخ في النهاية (1). وقال في المبسوط : يكون متوجهاً إلى القبلة (2)؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير المجالس ما استقبل به القبلة»(3)، والقاضي أحق بهذه الفضيلة. وتبعه ابن البراج (4). واختار المصنف (رحمه الله) الأول. وهو الأظهر.

قوله: «ثمّ يسأل عن أهل السجون - إلى قوله - وقيل: يحلفه مع ذلك».

إذا تفرّغ القاضي من مهماته وأراد القضاء استحبّ أن يبتدئ أولاً بالنظر في حال المحبوسين؛ لأنّ الحبس ،عذاب، فلينظر هل يستحقونه أم لا؟ ويأمر قبل أن يجلس للنظر في أمورهم منادياً ينادي على حسب الحاجة: «ألا إن القاضي ينظر في أُمور المحبوسين يوم كذا فمن له محبوس فليحضر. ويبعث إلى الحبس أميناً من أمنائه ليكتب اسم كلّ محبوس وما حبس به ومَنْ حبس له في رقعة منفردة. والأحوط بعث اثنين.

فإذا جلس اليوم الموعود وحضر الناس صبت تلك الرقاع بين يديه، وأخذ واحدةً واحدةً ونظر في الاسم المثبت فيها، وسأل عن خصمه، فمن قال: «أنا خصمه» نظر في أمره. ولو كثر المحبوسون وخصومهم وشق اجتماعهم في المجلس أبقاهم في الحبس، وكلّما

ص: 53


1- النهاية، ص 338.
2- المبسوط، ج 5، ص 441 .
3- راجع الفردوس بمأثور الخطاب، ج 2، ص 179، ح 2901؛ وتلخيص الحبير، ج 2، ص 261، ذيل الحديث 1059.
4- المهذب، ج 2، ص 595.

وكذا لو أحضر محبوساً فقال: «لا خصم لي» فإنّه ينادي في البلد، فإن لم يظهر له خصم أطلقه. وقيل: يحلّفه مع ذلك.

------------------

أخرج رقعةً وظهر فيها اسم واحد وظهر خصمه بعث معه ثقةً إلى الحبس ليأخذ بيده ويخرجه للحكومة بينه وبين خصمه. وهكذا يحضر من المحبوسين بقدر ما يعرف أنّ المجلس يحتمل النظر في أمرهم.

وإذا اجتمع المحبوس وخصمه عنده سأل المحبوس عن سبب حبسه. والجواب يفرض على وجوه:

منها: أن يعترف بالحبس بالحق. فإن كان ما حبس به مالاً أمر بأدائه، فإن قال: «فأنا معسر» فعلی ما ذكر في الفلس(1). ثم إذا لم يؤد ولم يثبت الإعسار ردّ إلى الحبس وإن أدّى أو ثبت الإعسار نودي عليه فلعل له خصماً آخر في مال أو غيره، فإن لم يحضر خلّي. وإن كان ما حبس به حداً أقيم عليه وخلّي.

ومنها: أن يقول: شهدت عليّ البينة فحبسني القاضي ليبحث عن حال الشهود». وللأصحاب في جواز الحبس بهذا السبب اختلاف، فإن كان مذهب القاضي أنه لا يحبس به أطلقه. وإن كان مذهبه الحبس ردّه، وبحث عن حال الشهود.

ومنها أن يقول: حبست ظلماً». فإن كان الخصم معه فعلى الخصم الحجة، والقول قول المحبوس مع يمينه.

وإن ذكر خصماً غائباً ففى إطلاقه أوجه:

أحدها: نعم؛ لأنّ الحبس عذاب، وانتظار الغائب يطول.

وأظهرها أنّه لا يطلق، ويكتب إلى خصمه في الحضور، فإن لم يفعل فحينئذ يطلق.

والثالث: أنّه لا يحبس ولا يطلق، ولكن يراقب إلى أن يحضر خصمه، ويكتب إليه ليعجل، فإن تأخر تركت المراقبة؛ لما فيه من الجمع بين الحقين.

ص: 54


1- تقدّم في ج 3، ص 521 وما بعدها.

القاضي يسأل عن الأوصياء على الأيتام

ثمّ يسأل عن الأوصياء على الأيتام، ويعتمد معهم ما يجب من تضمين أو إنقاذ أو إسقاط ،ولاية، إمّا لبلوغ اليتيم أو لظهور خيانة، أو ضمّ مشارك إن ظهر من الوصى عجز.

------------------

وهذا اختيار العلّامة في القواعد(1)، ووافقه الشهيد في الدروس مخيراً بين المراقبة والكفيل (2).

وإن قال: «لا خصم لي أصلاً أو قال: «لا أدري لم حبست؟» نودي عليه في طلب الخصم، فإن لم يحضر أحد، قال الشيخ: أحلف وأطلق(3). واستحسنه في الدروس(4) .

وإنما أحلف هنا ولم يحلف في الأجوبة السابقة؛ لأنّ هناك ظهر الخصم وفصل الأمر. فدعوى أنه ليس له خصم آخر لا يخالف الظاهر، بخلاف الحبس بغير خصم، فإنّه خلاف الظاهر، وفيه قدح في القاضي السابق.

والمصنّف (رحمه الله) اقتصر على جعل التحليف قولاً مشعراً بعدم ترجيحه.

ووجهه عدم ثبوت حق عليه ظاهراً، فلا وجه لإحلافه. والأجود الأوّل.

قوله: «ثمّ يسأل عن الأوصياء على الأيتام» إلى آخره.

إذا فرغ القاضي من المحبوسين نظر في حال الأوصياء؛ لأن الوصي يتصرف في حق من لا يمكنه المرافعة والمطالبة، كالأطفال وأصحاب الجهات العامة. فإذا حضر من يزعم أنه وصي تفحص القاضي عن شيئين:

أحدهما : أصل الوصاية . فإن أقام بيّنةً بها قرّره إلى أن يطرأ ما يزيلها من فسق وغيره. فينتزع المال منه. فإن كان المال كثيراً لا يمكنه القيام بحفظه والتصرف فيه ضمّ إليه مَنْ يعينه.

والثاني: تصرفه في المال. فإن قال: فرّقت ما أوصى به نظر إن كانت الوصية لمعينين

ص: 55


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 427.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 55 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- المبسوط، ج 5 ، ص 446.
4- الدروس الشرعية، ج 2، ص 55 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

• ثم ينظر في أُمناء الحكم، الحافظين لأموال الأيتام الذين يليهم الحاكم ولأموال الناس من وديعة أو مال محجور عليه، فيعزل الخائن، ويسعد الضعيف بمشارك، أو يستبدل به بحسب ما يقتضيه رأيه.

------------------

لم يتعرّض له؛ لأنّهم يطالبون لو لم يوصل(1) إليهم. وإن كان لجهة عامة، فإن كان عدلاً أمضى تصرفه ولم يضمنه. وإن كان فاسقاً ضمنه؛ لتعديه بالتفريق لا عن ولاية.

ولو أنّ غير الوصي فرّق الموصى به نظر إن كانت الوصية لمعينين وقع الموقع؛ لأن لهم أن يأخذوه من غير واسطة، وإلا ضمن. وكذا يضمن مَنْ تصرّف في وقف مسجد أو مشهد وليس أهلاً، وإن صرفه في مصلحته. وإن ظهر منه خيانة فأولى بالضمان.

ولو تبين عجزه عن القيام بما فوّض إليه ضمّ إليه مساعداً. وإن انتهت مدة وصايته لبلوغ اليتيم أو غيره نزع يده منه، إلى آخر ما يترتب على الوصاة.

قوله: «ثمّ ينظر في أمناء الحكم الحافظين لأموال الأيتام» إلى آخره.

إذا فرغ من النظر في الأوصياء شرع في النظر في حال أمناء الحكم، وهم الذين نصبهم القاضي السابق على الأطفال، وفي تفرقة الوصايا حيث لا وصيّ لها، ومن وضع عنده وديعة أو مال محجور عليه، وهو نوع من الوديعة، فعطفه عليها عطف خاص على عام. فمن تغيّر حاله بفسق استبدل به، أو بضعف ضمّ إليه معيّناً إن شاء، أو استبدل به بخلاف الوصي؛ فإنّه يتعين فيه الضمّ ولا يجوز الاستبدال. والفرق أنّ هذا تولّى من جهة القاضي فله عزله اقتراحاً فمع العجز أولى، بخلاف الوصي، فإنّ الموصي قد نصبه ورضي بنظره، ونظره لم يعدم، وإنّما قصر عن الاستقلال، فينجبر بضم المعين.

وإنّما جعل هذا القسم مترتباً على النظر في القسم السابق؛ لأن الأوّل لا خصم له فكان أولى بالرعاية، بخلاف هذا، فإنّ (2) ناصبه القاضي، فكان هو الخصم فيه.

ص: 56


1- في بعض النسخ: «لو لم يصل» بدل «لو لم يوصل».
2- في بعض النسخ زيادة: «خصمه».

• ثمّ ينظر في الضوال واللقط، فيبيع ما يخشى تلفه وما يستوعب نفقته ثمنه، ويسلّم ما عرفه الملتقط حولاً إن كان شيء من ذلك في يد أمناء الحكم، ويستبقي ما عدا ذلك - مثل الجواهر والأثمان - محفوظاً على أربابها؛ لتدفع إليهم عند الحضور على الوجه المحرّر أوّلاً.

• ويحضر من أهل العلم مَنْ يشهد حكمه ، فإن أخطأ نتهوه؛ لأن المصيب عندنا واحد. ويخاوضهم فيما يستبهم من المسائل النظرية؛ لتقع الفتوى مقرّرةً.

------------------

قوله: «ثمّ ينظر في الضوال واللقط» إلى آخره.

إنّما أخر هذه عن الأقسام السابقة؛ لأنّها ليست لها مطالب الآن، وإنّما هو الباحث حالها والآخذ لبعضها ليضعه في بيت المال أو ليبيعه. وحكمها على الوجه الذي ذكره المصنف (رحمه الله) واضح.

وحيث لا يقبل الملك، أو لا يختار الملتقط التملك، يتخيّر الحاكم بين أن يحفظها معزولةً عن أمثالها في بيت المال وبين أن يخلطها بما فيه، وإذا ظهر المالك غرم له من بيت المال. ويقدّم من كل نوع من ذلك الأهم فالأهم.

ولو عرضت حادثة وهو مشغول بهذه المهمات استخلف من ينظر فيها أو فيما هو فيه، ولا يؤخرها؛ لأنّ الحبس عقوبة، وحاجات الأطفال والغياب ناجزة، فكانت أولى بالتقديم. والمراد بقوله «على الوجه المحرّر أوّلاً ما سبق ذكره في باب اللقطة من أحكام ذلك وشرائطه من التعريف حولاً وغيره (1).

قوله: ويحضر من أهل العلم من يشهد حكمه» إلى آخره.

المراد بأهل العلم المجتهدون في الأحكام الشرعية، لا مطلق العلماء. وليس المراد أن يقلّدهم في المسألة، سواء تبيّن خطوه أم لا؛ لما تقرّر من أن غير المجتهد لا ينفذ قضاؤه مطلقاً، بل لأنّ القضاء مظنة تشعب الخاطر وتقسم الفكر، وجزئيات الأحكام الواردة عليه

ص: 57


1- سبق في ج 10، ص 238 .

بعضها يشتمل على دقة وصعوبة مدرك، فربما غفل بواسطة ذلك عن بعض مدارك المسألة، فينبهوه عليه ليعتمد منه ما هو الأرجح منه.

ويستحب له أيضاً ابتداؤهم بالبحث في الحكم الحاضر إذا لم يكن مدركه جليّاً، بأن كان إجماعيّاً أو منصوصاً نصاً واضحاً، تأسياً بالنبي ، فقد كان يشاور أصحابه امتثالاً لأمر الله تعالى في قوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(1) ، وقد كان غنياً عن مشاورتهم بكمال علمه، ولكن أراد أن يستن به الحكام بعده (2).

وقوله «لأنّ المصيب عندنا واحد» نبه به على خلاف بعض العامة حيث ذهب إلى أنّ كلّ مجتهد مصيب(3)، فلا وجه حينئذ في الرجوع إلى قول من ينبهه؛ لأنّ كلّاً منهما موافق للصواب، وإن كان بعض الآراء أرجح من بعض.

وفيه نظر؛ لأنّ هذا الحكم يجري على المذهبين وقد ذكره الفريقان في آداب القضاء؛ لأنّ الإصابة في الاجتهاد عند القائل بكون كل مجتهد مصيباً إنما هي مع موافقة الاجتهاد للدليل المناسب للحكم، والمفروض هنا الغفلة عنه، وأنه إذا نبه عليه تنبّه(4) ، وعلم أن الدليل الذي اعتمده أوّلاً غير صحيح بحسب ما يراه، بأن كان في المسألة رواية فيها طعن غفل عنه مثلاً، أو روايتان متعارضتان فجمع بينهما بأمر غير سديد، أو رجح إحداهما بمرجح مع غفلته عن أُمور أخرى ترجّح ذلك الجانب، أو نحو ذلك. وهذا الأمر يشترك فيه القولان.

وإصابة الواحد إنّما هي في نفس الأمر لا في الظاهر، ومن الجائز أن لا يكون الحكم الذي ينبه عليه ووجب عليه اتباعه هو الصواب في نفس الأمر؛ لأن الواجب في الظاهر

ص: 58


1- آل عمران (3): 159 .
2- المبسوط، ج 5، ص 450: أحكام القرآن الجصاص، ج 2، ص 60 - 62: تفسير القرآن العظيم، ج 1، ص 420 ذيل الآية 159 من سورة آل عمران (3).
3- الحاوي الكبير، ج 16 ، ص 128 ؛ البحر المحيط، ج 4، ص 521.
4- في الأصل: «علی تنبیه» بدل «علیه تنبه».

• ولو أخطأ فأتلف لم يضمن، وكان على بيت المال.

•وإذا تعدى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق، فإن عاود زجره، فإن عاد أدبه بحسب حاله، مقتصراً على ما يوجب لزوم النمط.

------------------

اتباع الراجح بعد استفراغ الوسع في تحصيل دليله، سواء طابق الواقع في نفس الأمر أم لا. بل ذلك أمر لا يعلم إلا من قبل الله تعالى.

وقد وقع في كلام ابن الجنيد في هذه المسألة ما يوهم جواز تقليده لهم في الحكم لأنه قال:

لا بأس أن يشاور الحاكم غيره فيما اشتبه عليه من الأحكام، فإن أخبروه بنص أو سنة أو إجماع خفي عليه عمل به(1) .

قال في المختلف:

لكن لما أجمعنا على أنه لا يجوز أن يلي القضاء المقلّد وجب حمل كلامه على ما يوافق كلام الشيخ وغيره، من أن المراد به أن ينتهوه على ما خفي عليه من الأدلة وسها فيه؛ ليعتمد على الدليل الصالح، لا بمعنى أن يقلّدهم(2).

فيحصل من كلام المختلف أنّ الإجماع واقع على عدم جواز التقليد، فتعين لذلك حمل المشاورة على ما أشرنا إليه من المعنى.

قوله: «ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال».

بأن حكم لأحد بمال، أو على أحد بقصاص ونحو ذلك، ثمّ ظهر له خطأ الحكم مع كونه قد اجتهد فيه فلم يظهر له الخطاً إلى أن حصل الإتلاف فيلزمه أداء المتلف من بيت المال لا من ماله للنصّ على ذلك(3)، وموافقته للحكمة.

قوله: «وإذا تعدى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق» إلى آخره.

تعدي أحد الخصمين في مجلس القاضي قد يكون على وجه محرم، بأن يكذب الشاهد ،

ص: 59


1- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 429، المسألة 33.
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 431، المسألة 33؛ وراجع المبسوط، ج 5، ص 450.
3- الفقيه، ج 3، ص 7، ح 3234؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 315 ، ح 872 .

الآداب المكروهة

• والآداب المكروهة أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

------------------

أو ينسب القاضي إلى الجور ، أو الميل ونحو ذلك، وقد يكون بإساءة الأدب مع الخصم أو القاضي أو غيرهما، أو اللدد في الخصومة، بأن يطلب يمين الخصم، ثمّ يقطعها عليه ويقول: «لي بيّنة سأحضرها» ثم يعود إلى الأوّل، وهكذا إيذاءً وتعنتاً.

فإن كان الأوّل ، جرى معه القاضي على مراتب النهي عن المنكر ، فيزجره عن فعله وينهاه برفق ، فإن انزجر بذلك وإلا تهدّده وصاح عليه ، فإن لم ينزجر عزّره على ما يقتضيه نظره.

ولو كان الحق للقاضي بأن كانت الجرأة عليه، تخيّر بين أن يعزّره وأن يعفو عنه، والعفو أولى إن لم يحمل على ضعفه، أو يؤدّي إلى إغرائه بمثل ذلك، وإلا كان الاستيفاء أولى.

وإن كان الثاني، عرّفه طريق الأدب اللائق بذلك المقام برفق، وبين له فساد ما ارتكبه فإن نجع وإلّا أغلظ له، فإن أفاد وإلا جاز تأديبه بما يقتضيه اجتهاده من التوبيخ وإغلاظ القول، ونحو ذلك.

والسنن - بفتح السين - الطريق. وكذلك النمط. والمراد به هنا لزوم قوانين الشرع.

قوله: «والآداب المكروهة أن يتخذ حاجباً وقت القضاء».

الحاجب هو الذي لا يدخل عليه أحد إلا برضاه، فإنّه منهي عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من وُلّي شيئاً من أُمور الناس فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره»(1).

وإنما يكره ذلك في حال القضاء ونحوه من الولايات وأمّا في غيره فلا بأس؛ للأصل وظهور الغرض الصحيح به.

ونقل الشيخ فخر الدين عن بعض الفقهاء أنّه حرام؛ عملاً بظاهر الحديث. وقربه مع

ص: 60


1- مسند أحمد، ج 6، ص 316، ح 21571؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 135، ح 2948؛ المستدرك على الصحيحين، ج 5، ص 127، ح 7109؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 174، ح 20258 مع اختلاف في المصادر.

• وأن يجعل المسجد مجلساً للقضاء دائماً. ولا يكره لو اتفق نادراً. وقيل: لا يكره مطلقاً، التفاتاً إلى ما عرف من قضاء علي بجامع الكوفة.

------------------

اتخاذه على الدوام بحيث يمنع أرباب الحوائج ويضرّ بهم (1).

وهو حسن؛ لما فيه من تعطيل الحق الواجب قضاؤه على الفور. والحديث يصلح شاهداً عليه، وإلا كان مفيداً للكراهية، للتسامح في أدلّته.

قوله: «وأن يجعل المسجد مجلساً للقضاء دائماً. ولا يكره لو اتفق نادراً» إلى آخره.

اختلف الأصحاب في كراهية القضاء في المسجد واستحبابه وإباحته مطلقاً أو على بعض الوجوه، فذهب الأكثر - ومنهم المصنف (رحمه الله) في كتاب الصلاة - إلى كراهته مطلقاً (2)؛ لقوله (علیه السّلام): «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم»(3). والحكومة تستلزم الخصومة ورفع الصوت غالباً، وقد يحتاج إلى إحضار الصبيان والمجانين أيضاً، وأيضاً فقد تحضره الحيض ومن لا يتوقى النجاسة، ولما روي أنه (علیه السّلام) سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فقال: «لا وجدتها، إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة»(4)، و«إنّما» للحصر.

وذهب جماعة منهم الشيخان(5) في المقنعة والنهاية وأتباعهما (6) وابن إدريس(7) - إلى الاستحباب مطلقاً؛ لأنّ المسجد أشرف البقاع، والقضاء من أفضل الأعمال، فلا ينافيه وضع المسجد لذكر الله؛ لأنّ القضاء من جملته؛ لأنّ ذكر الله أعمّ من الذكر القولي.

ص: 61


1- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 310.
2- تقدّم في ج 1، ص 341، أحكام المساجد.
3- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 247، ح 750: السنن الكبرى، البيهقي، ج 10، ص 177، ح 20268: مجمع الزوائد، ج 2، ص 25 - 26؛ تلخيص الحبير، ج 4 ، ص 188، ذيل الحديث 2088 .
4- مسند أحمد، ج 6، ص 496، ح 22542؛ صحیح مسلم، ج 1، ص 397 - 398، ح 80 - 569/81؛ سنن ابن ماجة. ج 1، ص 252، ح 765؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 2، ص 627 ، ح 4344، بتفاوت يسير فيها.
5- الشيخ المفيد في المقنعة ص:722؛ والشيخ الطوسي في النهاية، ص 338 لكن حكم بكراهة ذلك في ص 109.
6- كأبي الصلاح في الكافي في الفقه، ص 444: وسلّار في المراسم، ص 230؛ وابن حمزة في الوسيلة، ص 209.
7- السرائر، ج 1، ص 279، لكن نفى البأس عنه، وهو أعم من الاستحباب .

وقال الشيخ في المبسوط : الأولى جوازه(1) . وفي الخلاف : لا يكره(2)، ولم يذكر الاستحباب. وهو قول متوسط.

وذهب المصنّف (رحمه الله) هنا والعلّامة في أحد قوليه (3)، والشهيد في أحد قوليه (4) إلى كراهة الدائم منه دون المتفرّق. أما كراهة الدائم فلما مرّ وأمّا استثناء المتفرّق؛ فلأن عليّاً (علیه السّلام)كان يقضي بمسجد الكوفة(5)، ودكة قضائه إلى الآن معروفة، وهو محمول على إيقاعه مرات لا دائماً، ولأنه إذا جلس للعبادة فحضر الخصمان صار القضاء بينهما واجباً على الفور، ففي تأخيره إلى أن يخرج منافاة لفورية الحق، وإن لم يكن حراماً حيث لا يضر بالخصمين، فلا أقل من الكراهة أو رفعها عن إيقاعه في المسجد.

وأما ما ذكره المصنف (رحمه الله) في الاستدلال لنفي الكراهة مطلقاً بقضاء علي (علیه السّلام) بالجامع فموضع نظر؛ لأنّ المعلوم من حاله (علیه السّلام) أنه ما كان يجلس للقضاء دائماً، لا في المسجد ولا في غيره، وإنما كان يقضي في المسجد في زمنه نوابه. وحال شريح في قضائه به في جميع خلافته وفي زمن الخليفتين السابقين وبعد أمير المؤمنين (علیه السّلام)مدة متطاولة معلوم(6). وإنما الواقع من أمير المؤمنين (علیه السّلام)على تقدير تسليمه - قضايا قليلة في أُمور مهمة كان يرجع شريح إليه فيها، أو لغير ذلك من الأغراض. ودكة القضاء على تقدير صحتها لا تدلّ على أزيد من ذلك في حقه. وربما كانت مجلساً لغيره؛ لأنها من مستحبّات مجالس القضاء كما مضى(7). وجلوسه عليها في حال إنفاذ تلك القضايا الخاصة لا غير.

ص: 62


1- المبسوط، ج 5، ص 438.
2- الخلاف، ج 6 ، ص 210، المسألة 3.
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 428؛ إرشاد الأذهان، ج 2، ص 140.
4- الدروس الشرعية، ج 2، ص 56 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
5- الفضائل، شاذان بن جبرائيل، ص 153 - 154 .
6- في حاشية الأصل و «و»: «نقل الشيخ في المبسوط [ج 5، ص 526]: أن شريحاً تولى القضاء من قبل عمر وعثمان وعلي (علیه السّلام)، وبقي بعده، وأنه بقي في القضاء سبعين سنة. (منه رحمه الله)».
7- تقدم في ص 52.

• وأن يقضي وهو غضبان. وكذا يكره مع كل وصف يساوي الغضب في شغل النفس، كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع ومدافعة الأخبثين وغلبة النعاس. ولو قضى والحال هذه نفذ إذا وقع حقاً.

------------------

قوله: «وأن يقضي وهو غضبان» إلى آخره.

أما كراهته حال الغضب فلما روي عنه (علیه السّلام) أنه قال : « لا يقضي القاضي وهو غضبان »(1).

وفي حديث آخر عنه(علیه السّلام) : «لا يقضي إلا وهو شبعان ريان»(2).

وفي آخر: «لا يقضي وهو غضبان مهموم، ولا مصاب محزون»(3).

وفي وصيّة علي (علیه السّلام) لشريح: «ولا تقعدن في مجلس القضاء حتى تطعم»(4).

وهو ظاهر في كون المقصود تمكنه من استيفاء الفكر والنظر، فيتعدى الحكم إلى كلّ موضع يوجب تغيّر خلقه و تشويش فكره من الجوع والشبع والعطش، والمرض والغم والهم والخوف المزعج، والحزن والفرح الشديدين، وغلبة النعاس والملال، ومدافعة الأخبثين، وحضور طعام تتوق إليه نفسه، ونحو ذلك من المشغلات.

وخص بعضهم الغضب بما إذا لم يكن لله تعالى، فأما إذا غضب لله تعالى في حكومة وهو ممن يملك نفسه فلا بأس بإمضاء القضاء(5) ؛ لحديث الزبير والأنصاري حين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسق زرعك يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك».

ص: 63


1- الكافي، ج 7، ص 413، باب أدب الحكم، ح 2؛ الفقیه، ج 3، ص 11، ح 3237؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 226، ح 542 مع تفاوت يسير في المصادر.
2- سنن الدارقطني ، ج 3، ص 447، ح 4390؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 181، ح 20282؛ الفردوس بمأثور الخطاب، ج 5، ص 141، ح 7754 : مجمع الزوائد، ج 4، ص 195؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 189، ح 2090.
3- أورده الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 439؛ والماوردي في الحاوي الكبير، ج 16، ص 33.
4- الكافي، ج 7، ص 412 - 413، باب أدب الحكم، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 15 - 16، ح 3246؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 225 - 226، ح 541 .
5- راجع روضة الطالبين، ج8، ص123.

• وأن يتولّى البيع والشراء لنفسه. وكذا الحكومة.

------------------

فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غضبه للزبير باستيفاء تمام حقه بعد أن كان قد استنزله عن بعضه. فقال الأنصاري: أن كان ابن عمّتك ؟! فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اسق زرعك يا زبير ثم احبس الماء إلى جارك حتى يبلغ أصول الجدر» (1).

وحيث يخالف القاضي ويقضي في إحدى الأحوال المشغلة ينفذ قضاؤه وإن فعل مكروهاً، إذا وقع على وجه الحق؛ عملاً بالأصل، وفي الخبر دلالة عليه.

قوله: «وأن يتولّى البيع والشراء لنفسه. وكذا الحكومة».

لقوله (علیه السّلام) : «ما عدل وال اتجر في رعيته أبداً»(2)، ولأنه قد يحابي بسبب القضاء فيميل قلبه إلى مَنْ حاباه إذا وقعت بينه وبين غيره حكومة. وربما خاف خصم من عامله من ميل القاضي عليه، فيمتنع من رفعه. وسبيله فيما يحتاج إليه من بيع وشراء أن يوكل مَنْ لا يعرف أنّه وكيله؛ لئلا يحابى وكيله أيضاً لأجله، فإذا عرف شخص بوكالته أبدله بآخر، فإن لم يجد من يوكله عقد بنفسه للضرورة. ثمّ إذا وقعت خصومة لمن عامله أناب من يحكم بينه وبين خصمه، خوفاً من أن يميل إليه أو يتهم بذلك.

ولا يختص هذا الحكم بالبيع والشراء، بل الإجارة والاستئجار وسائر المعاملات في معناهما. بل قيل: إنه يكره له النظر في نفقة عياله وأمر ضيعته، بل يكله إلى غيره ليتفرغ قلبه للحكم(3).

والمراد بتولية الحكومة بنفسه أن يقف مع خصمه لو حصل له منازع في الحكومة عند قاض آخر غيره، بل يوكل من يخاصمه عنه .

ص: 64


1- مسند أحمد، ج 4، ص 569 - 570 ، ح 15684: صحيح البخاري، ج 2، ص 832 - 833، ح 2231 - 2233؛ وج 4، ص 1674، ح 4309؛ صحیح مسلم، ج 4، ص 1829 - 1830، ح 2357/129؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 315 - 316، ح 3637؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 7 ، ح 15 ؛ وج 2، ص 829، ح 2480.
2- المطالب العالية، ابن حجر العسقلاني، ج 2، ص 234، ح 2107؛ الجامع الصغير، ضمن جامع الأحاديث للسيوطي ، ج 5، ص 263، ح 18641.
3- قال به الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 439؛ وابن البراج في المهذب، ج 2، ص 593.

• وأن يستعمل الانقباض المانع من اللحن بالحجة. وكذا يكره اللين الذي لا يؤمن معه جرأة الخصوم.

• ويكره أن يرتب للشهادة قوماً دون غيرهم. وقيل: يحرم؛ لاستواء العدول في موجب القبول، ولأنّ في ذلك مشقة على الناس بما يلحق من كلفة الاقتصار.

------------------

وقد روي أنّ عليّاً (علیه السّلام) وكل عقيلاً في خصومة، وقال: إن للخصومة قحماً، وإني لأكره أن أحضرها(1). والقحم بالضم - الأمر الشاق(2). والمراد أنها تقحم به إلى ما لا يليق فيقع بسببه في مشقة.

قوله: «وأن يستعمل الانقباض المانع من اللحن بالحجة» إلى آخره. اللحن بالحجة هو التفطن لها والنطق بها. قال الهروي في الحديث: «لعلّ بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، أي أفطن لها»(3).

والمراد أنّ انقباض القاضي في وجه الخصم يمنعه من الإتيان بحجته وتحرير دعواه على وجه الكمال، بل يشغل نفسه ويشوّش فكره، فيقصر عن بلوغ مطلوبه. وكذا يكره له اللين المفرط ؛ فإنّه لا يؤمن معه من جرأة الخصوم، وسقوط محله من قلوبهم، فيختل بذلك الأمر المطلوب منه.

قوله: «ويكره أن يرتب للشهادة قوماً دون غيرهم» إلى آخره.

وجه الكراهة ما يترتب عليه من التضييق على الناس والغضاضة من العدل غير المرتب ولأنّ ذلك لم يؤثر عن السلف ومن ذهب إلى تحريمه(4) ، نظر إلى أن ذلك موجب لإبطال شهادة من تقبل شهادته، فإنّه قد يتحمّل الشهادة غيرهم فإذا لم تقبل ضاع الحق، وقد

ص: 65


1- أوردها بعينها ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 205، المسألة 3739؛ وصدره ورد في نهج البلاغة، ص 706، الحكمة 3 والنهاية في غريب الحديث والأثر، ج 4، ص 19، «قحم».
2- راجع لسان العرب، ج 12، ص 463، «قحم».
3- غريب الحديث الهروي، ج 1، ص 335، «لحن».
4- في حاشية الأصل: «لم نقف على القائل بالتحريم. (منه رحمه الله)».

وهنا :مسائل

هل یجوز قضاء القاضي بعلمه؟

الأولى: • الإمام يقضي بعلمه مطلقاً. وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس، وفي حقوق الله سبحانه على قولين أصحهما القضاء. ويجوز أن يحكم في ذلك كله من غير حضور شاهد يشهد الحكم.

------------------

قال تعالى: (وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ)(1) فأطلق، فتحمّل ذلك ضرر على الناس وحرج بالاقتصار، وهما منفيان (2). والأشهر الكراهة.

قوله: «الإمام (علیه السّلام)يقضي بعلمه مطلقاً وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس، وفي حقوق الله سبحانه على قولين» إلى آخره.

ظاهر الأصحاب الاتفاق على أنّ الإمام (علیه السّلام) يحكم بعلمه مطلقاً؛ لعصمته المانعة من تطرّق التهمة، وعلمه المانع من الخلاف والخلاف في غيره من الحكام، فالأظهر بينهم أنه يحكم بعلمه أيضاً مطلقاً. وقيل: لا يجوز مطلقاً(3). وقال ابن إدريس: يجوز في حقوق الناس دون حقوق الله (4).

وعكس ابن الجنيد في كتابه الأحمدي فقال:

ويحكم الحاكم فيما كان من حدود الله عزّ وجلّ بعلمه، ولا يحكم فيما كان من حقوق الناس إلا بالإقرار أو البينة، فيكون بما علمه من حقوق الناس شاهداً عند من فوقه وشهادته كشهادة الرجل الواحد، وسواء كان ما علمه من ذلك كله في حال ولايته أو قبلها (5).

ص: 66


1- الطلاق (65): 2 .
2- تقدم تخريجهما في ص 37، الهامش 1.
3- المحلى، ابن حزم، ج 9، ص 426: بدائع الصنائع، ج 7، ص 9 - 10: مغني المحتاج، ج 2، ص 179.
4- السرائر، ج 2، ص 179.
5- حكاه عنه أيضاً السيد عميد الدين في كنز الفوائد، ج 3، ص 458.

ويظهر من المرتضى (رحمه الله) أن ابن الجنيد لا يرى قضاء الحاكم بعلمه مطلقاً، سواء في ذلك الإمام وغيره (1)؛ لأنه حاجه بالروايات الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلياً حكما بعلمهما، وأنّ عليا قتل الأعرابي الذي ادعى على النبي ثمن الناقة من غير أن يطلب الشهود(2) . فلعل ابن الجنيد ذكر ذلك في كتاب آخر. وهذا القول الذي نقلناه عنه من كتابه لم يذكره الأصحاب عنه، وإنما نقلوا عنه القول بأن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء من الحقوق ولا الحدود، وهذا نقل ثالث عنه.

وفخر الدين (رحمه الله) في شرحه صرّح بدعوى اتفاق الإمامية على أنّ الإمام يحكم بعلمه (3)، وهو يخالف ما نقله والده في المختلف عن المرتضى رداً على ابن الجنيد الدالّ على عموم قوله بالمنع في الإمام وغيره(4) .

فهذا خلاصة تحرير الخلاف في المسألة. وأصح الأقوال جواز قضاء الحاكم مطلقاً بعلمه مطلقاً؛ لأنّ العلم أقوى من الشاهدين اللذين لا يفيد قولهما عند الحاكم إلا مجرّد الظن إن كان، فيكون القضاء به ثابتاً بطريق أولى ولعموم الأدلة الدالة على الحكم مع وجود الوصف المعلّق عليه، كقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(5). (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)(6) ، والخطاب للحكام، فإذا علم الحاكم بالوصف عمل به وهو أقوى من الحكم ، وإذا ثبت ذلك في الحدود ففي غيرها أولى.

ص: 67


1- الانتصار، ص 488. المسألة 271.
2- الفقيه، ج 3، ص 105 - 108، ح 3428 و 3429.
3- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 312.
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 401، المسألة 11.
5- المائدة (5): 38 .
6- النور (24): 2 .

واحتج المانعون مطلقاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الملاعنة: «لو كنت راجماً من غير بينة لرجمتها»(1) . وبأنّ فيه تهمةً، وهي تمنع القضاء وتزكية لنفسه، وهي مانعة (2) أيضاً.

وأجيب بمنع سند الرواية، فإنها عامية. والتهمة والتزكية آتيان في القضاء بالشهود مع أنه غير مانع اتفاقاً(3) .

واحتج المانع في حقوقه تعالى بأنّها مبنية على الرخصة والمسامحة فلا يناسبها القضاء بالعلم.

وفيه نظر؛ لأنّ المسامحة قبل الثبوت لا بعده.

والقول الذي نقلناه عن ابن الجنيد لم يذكر عليه دليلاً، ولا نقلوه عنه. وبذلك يظهر اختصاص المشهور بالقوة.

واعلم أنّ مَنْ منع من قضائه بعلمه استثنى صوراً:

منها تزكية الشهود وجرحهم؛ لئلا يلزم الدور أو التسلسل، فإنّه إذا علم بأحد الأمرين وتوقف في إثباته على الشهود، فإن اكتفى بعلمه بتزكية المزكي أو الجارح فقد حكم بعلمه، وإلا افتقر إلى آخرين وهكذا، فيلزم التسلسل إن لم يعتبر شهادة الأولين أو الدور إن اعتبرها في حق غيرهما.

ومنها: الإقرار في مجلس القضاء وإن لم يسمعه غيره. وقيل: يستثنى إقرار الخصم مطلقاً. ومنها: العلم بخطأ الشهود يقيناً أو كذبهم.

ومنها: تعزير من أساء أدبه في مجلسه وإن لم يعلمه غيره؛ لأنّه من ضرورة إقامة أبهة القضاء.

ومنها: أن يشهد معه آخر؛ فإنّه لا يقصر عن شاهد.

ص: 68


1- مسند أحمد، ج 1، ص 552، ح 3096؛ صحيح البخاري، ج 5، ص 2034، ح 5004: وج 6، ص 2513 - 2514. ح 6463 - 6464: صحيح مسلم، ج 2، ص 1135، ج 1497/13؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 855 ح 2559 - 2560.
2- فيما عدا الأصل من سائر النسخ: «ممنوعة» بدل «مانعة».
3- أجاب به فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 313.

هل یجوز للحاکم حبس المنکر بالتماس المدّعي؟

الثانية • إذا أقام المدعي بيّنةً ولم يعرف الحاكم عدالتها فالتمس المدعي حبس المنكر ليعد لها، قال الشيخ (رحمه الله): يجوز حبسه؛ لقيام البينة بما ادعاه.

وفيه إشكال من حيث لم يثبت بتلك البينة حق يوجب العقوبة.

------------------

قوله: «إذا أقام المدعي بيّنةً ولم يعرف الحاكم عدالتها إلى آخره.

وجه ما اختاره الشيخ من جواز حبسه ما أشار إليه في المبسوط(1) من الدليل وهو أنّ المدعي قد أقام البينة، والذي بقي ما على الحاكم من معرفة العدالة، والأصل العدالة إلى أن يظهر غيرها.

والأشهر عدم الجواز، وهو الذي نبه عليه المصنف (رحمه الله) بالإشكال؛ بأنه لم يثبت الحق المجوّز لعقوبة الغريم بالحبس، ففي حبسه تعجيل عقوبة لم يثبت موجبها، بناءً على أنّ شرط قبول البينة العدالة والجهل بالشرط يقتضى الجهل بالمشروط، فكان الحال قبل ثبوتها بمنزلة عدم البينة، بل بمنزلة ما لو ادعى عليه حقاً ولم يحضر بيّنةً ، فإنّ الدعوى جزء علة الحكم مع البيئة العادلة أيضاً، ولا يجوز الحبس بمجرد الدعوى إجماعاً، واختلاف الأمرين بقوّة جزء العلّة، وضعفه غير موجب لاختلاف الحكم.

والأصل في هذا الخلاف البناء على أن العدالة هل هي شرط، أو الفسق مانع ؟ فالشيخ (2) وجماعة على الثاني؛ لقوله تعالى: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(3) ، أوجب التبين - وهو التوقف عن الحكم - عند خبر معلوم الفسق، وذكر وصف لو لم يكن علة لم يكن لذكره فائدةً يدلّ على عليته. فخبر المجهول إن وجب ردّه كان أسوء حالاً من معلوم الفسق، وهو باطل قطعاً، وإن ساواه لم يبق للتقييد فائدة.

ص: 69


1- المبسوط ، ج 5 ، ص 445 .
2- الخلاف، ج 1، ص 217، المسألة 10.
3- الحجرات (49): 6

هل یجوز للحاکم الثاني النظر حکم حاکم الاوّل؟

الثالثة: • لو قضى الحاكم على غريم بضمان مال وأمر بحبسه، فعند حضور الحاكم الثاني ينظر، فإن كان الحكم موافقاً للحق لزم، وإلّا أبطله، سواء كان مستند الحكم قطعياً أو اجتهاديّاً .

وكذا كلّ حكم قضى به الأوّل، وبان للثاني فيه الخطأ فإنّه ينقضه. وكذا لو حكم هو ثم تبيّن الخطأ؛ فإنّه يبطل الأوّل ويستأنف الحكم بما علمه حقاً.

------------------

وقيل بالأوّل(1) ، وهو المشهور بين الأصحاب، وإلا لم يتوقف الحكم بالمال على ثبوت التزكية بالبينة، ولقوله تعالى: (وَ أَشْهِدُواْ ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) (2). فالمجهول لو قبل كان مساوياً للعدل، فتعيّن الوقف .

فالشيخ بني جواز الحبس على أصله من ثبوت عدالة المسلم إلى أن يظهر خلافها، فيجوز الحبس؛ لوجود المقتضي له، وهو قيام البينة الشرعية بالحق. ولا ينافيه التوقف على طلب التزكية؛ لأنّ القائلين بهذا القول يجوّزون البحث عن التزكية عند الريبة، ومع طلب الغريم ذلك، وربما أوجبها بعضهم في الحدود والقصاص دون الأموال(3)، وآخرون مطلقاً استظهاراً ، فهذا الأصل لا ينافي طلب التزكية عند القائل به. ومن لا يجوز الحبس بناءً على أصله من عدم صحة الاكتفاء في العدالة بذلك، فلم يحصل بمجرد البينة موجب الحبس.

قوله: «لو قضى الحاكم على غريم بضمان مال» إلى آخره.

إذا حكم الأوّل بحكم لم يجب على الثاني البحث فيه، وجاز له إمضاؤه، لكن لو نظر فيه فظهر له خطوه وجب عليه نقضه. وكذا يجب عليه النظر في حكم الأول لو كان الغريم

ص: 70


1- ممن قال به أبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 435؛ والعلامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 246، الرقم 6621 .
2- الطلاق (65): 2 .
3- راجع الحاوي الكبير، ج 16 ، ص 179؛ وحلية العلماء، ج 8، ص 128؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير ،ج 11، ص 416، المسألة 8247.

------------------

محبوساً، ولم يفصل الأمر بعد. وهذا هو مفروض المسألة. وسيأتي الفرق بين الأمرين(1).

وحيث يظهر له الخطأ في الصورتين لا يفرّق فيه بين كون مستند الحكم قطعياً كالخبر المتواتر والإجماع، أو ظنّيّاً كخبر الواحد وإن كان صحيحاً، والقياس ولو على بعض الوجوه كمنصوص العلة.

وظهور الخطأ في المستند القطعي بتبيّن الاستناد إلى غيره مع وجوده، وفي الظنّي بتبين القصور في الاستنباط على وجه لا يكون دليلاً معتمداً عند الحاكم به لو علمه، بأن استند إلى خبر واحد مع وجود ما هو أرجح، وكان استناده إلى الأوّل لتقصير في النظر ونحو ذلك، لا بمجرد ظهور رجحان خلافه عند الحاكم الثاني مع كون مستند الأوّل ممّا يجوز له الاعتماد عليه؛ فإنّ ذلك لا ينقض؛ لأنّه لا يعلم كونه خطأ ، فإنّ كلّ واحد من الأمرين المختلفين في الفرض ظنّي فلا ترجيح، ويجوز على كلّ منهما أن لا يكون هو الصواب في نفس الأمر، بل يجوز عليهما معاً إذا أمكن في المسألة قول آخر.

وعلى هذا فيجب حمل قوله «وبانَ للثاني فيه الخطأ على العلم بالخطأ، لا على مجرّد قوّة الجانب المخالف.

وكذا القول فيما لو حكم هو بحكم ثم تبيّن له خلافه، فإنّه ينقضه مع العلم بخطئه؛ لكونه قد خالف فيه دليلاً قطعياً أو ظنّيّاً، وقصر في استفراغ الوسع في تحصيله، فاستند إلى ما ظنّه دليلاً. ولا ينقض ما تغيّر اجتهاده فيه مع احتمال كلّ منهما موافقة الصواب في نفس الأمر ، كما لو كان قد حكم بالشفعة مع الكثرة ثم ظهر له ضعف ذلك القول؛ فإنّ مثل هذا لا يسمّى خص وللأصحاب في هذا الباب عبارات مختلفة وآراء متباينة، والمحصل ما حرّرناه.

وأقوى ما فيه الإشكال منها عبارة الشهيد في الدروس، فإنّه قال:

ينقض الحكم إذا علم بطلانه، سواء كان هو الحاكم أو غيره، وسواء أنفذه الجاهل به أم لا. ويحصل ذلك بمخالفة نص الكتاب، أو المتواتر من السنة، أو الإجماع، أو خبر واحد

ص: 71


1- سيأتي عن قريب.

------------------

صحيح غير شاذ، أو مفهوم الموافقة، أو منصوص العلة عند بعض الأصحاب، بخلاف ما تعارض فيه الأخبار وإن كان بعضها أقوى بنوع من المرجحات، أو ما تعارض فيه عمومات الكتاب أو المتواتر أو دلالة الأصل، إذا تمسك الأول بدليل مخرج عن الأصل: فإنّه لا ينقض (1). انتهى.

وهذا يتمّ فى الأمثلة الثلاثة الأول، وهو نص الكتاب والمتواتر والإجماع، أمّا خبر الواحد وإن كان صحيحاً فهو من مواضع الخلاف ودليله ظنّي، وقد أنكره جماعة من أصحابنا (2) وغيرهم(3)، فمخالفته لا ينقض إذا كان قد ذهب إليه الأول لدليل اقتضاه.

ومثله القول في منصوص العلة، وقد اعترف به في قوله «عند بعض الأصحاب» فإنّ العمل به مبني على نظر الحاكم، وهو دليل ظنّي، وهو مثل العمل ببعض الأخبار المتعارضة إذا رجّح بعضها لمرجّح، بل من المرجّحين للخبر المتعارض ما يظهر ضعفه زيادة على مخالفة منصوص العلّة، فإنّ الأخبار تتعارض مع كون بعضها صحيحاً وبعضها ضعيفاً، ويجمع بعضهم بينها ويخصص الصحيح بالضعيف، كما اتفق ذلك للشيخ في الأكثر، ولغيره في مواضع كثيرة، وربما كان معتمد الجامع عدم العمل بالخبر الضعيف في غير ذلك الموضع يظهر ذلك لمن وقف على كلامهم في هذه الأبواب، فجعل هذا من باب ما لا ينقض مطلقاً، وما قبله ممّا ينقض مطلقاً في موضع المنع.

والأظهر أنّ كلّ ما حصل فيه الاختلاف وكان الحاكم به غير مقصر في النظر لا ينقض، إذا رجّح عنده المصير إليه، وإن رجع عنه بعد ذلك.

ونبه المصنّف (رحمه الله) بقوله سواء كان مستند الحكم قطعياً أو اجتهادياً» على

ص: 72


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 59 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- التذكرة بأصول الفقه، ص 44 - 45 (ضمن مصنفات الشيخ المفيد، ج 9)؛ الذريعة إلى أصول الشريعة، ج 2، ص 528 وما بعدها.
3- ميزان الأصول، ج 2، ص 663: الإحكام في أصول الأحكام الآمدي، ج 2، ص 160 الحاوي الكبير، ج 16، ص 87 .

ليس على الحاكم تتبع حكم من كان قبله

الرابعة • ليس على الحاكم تتبع حكم من كان قبله، لكن لو زعم المحكوم عليه أنّ الأوّل حكم عليه بالجور لزمه النظر فيه.

وكذا لو ثبت عنده ما يبطل حكم الأوّل أبطله، سواء كان من حقوق الله أو من حقوق الناس.

------------------

خلاف بعض العامة؛ فإنّ لهم في ذلك اختلافاً أيضاً، ومن جملته من فرّق بين المخالفة للقطعي والاجتهادي، فحكم بنقض ما خالف الأول دون الثاني(1).

ومنهم مَنْ ألحق المظنون ظناً قوياً كخبر الواحد والقياس الجلي - بالمقطوع. وهذا يناسب ما ذكره في الدروس (2). ولهم أقوال أخر منتشرة غير ذلك.

قوله: «ليس على الحاكم تتبع حكم من كان قبله إلى آخره.

إنّما وجب في المسألة الأولى النظر في حكم الأول دون هذه -حيث لا يدعي الغريم الظلم - أنه في الأوّل وجد الغريم محبوساً على الحق ولم يحصل أداؤه، فكان الأول لم يتمّ؛ فلذا وجب على الثاني النظر في حال مَنْ عليه الحق؛ لأنّه يحتاج إلى أن يحكم عليه بوجوب أداء الحق، ولا يتمّ للثاني ذلك حتى يعلم حال الحكم السابق، بخلاف ما إذا كان قد انقضى الأمر في حكم الأوّل واستوفي متعلّق الحكم، فإنّ الحاكم الثاني لا يجب عليه النظر في السابق، ولا تتبع الأحكام، إلا أن يدعي المحكوم عليه جور الحاكم الأول، فيلزمه حينئذ النظر؛ لأنّ هذه دعوى يلزمه سماعها، ولا يتم إلا بالنظر فى الحكم، فينفذه إن كان حقاً، ويرده إن تبين بطلانه على الوجه السابق، إلا إذا كان (3) مخالفاً له في الاجتهاد مع جواز موافقته الحق. وكذا يجب عليه نقض السابق على تقدير أن يتفق نظره فيه من غير أن يكون بطريق الوجوب، فيظهر له خطؤه، أو تُثبت بيّنة ذلك، فيجب عليه إبطاله مطلقاً؛ لظهور الخطأ.

ص: 73


1- راجع الحاوي الكبير، ج 16، ص 172 - 174: وبدائع الصنائع، ج 7، ص 20 - 21؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 404 - 405، المسألة 8239
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 59 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- في «و»: «لا أن كان» بدل «إلا إذا كان»، وما أثبتناء من الأصل.

إذا ادعى رجل علی المعزول عند الحاکم الجدید

الخامسة: • إذا ادعى رجل أنّ المعزول قضى عليه بشهادة فاسقين وجب إحضاره وإن لم يقم المدّعي بيّنةٌ. فإن حضر واعترف ألزم.

وإن قال: لم أحكم إلا بشهادة عدلين قال الشيخ (رحمه الله) يكلّف البيّنة؛ لأنه اعترف بنقل المال، وهو يدعي ما يزيل الضمان عنه.

وهو يشكل بما أنّ الظاهر استظهار الحكّام في الأحكام، فيكون القول قوله مع يمينه؛ لأنّه يدعي الظاهر.

------------------

ونبّه بقوله «سواء كان من حقوق الله أو من حقوق الناس» على خلاف بعض العامة، حيث فرّق بين الأمرين، وحكم بأنه إذا نظر في حكم السابق فوجده خطاً وكان حقاً لله تعالى كالعتق نقضه؛ لأنّ له في حق الله نظراً، وإن كان في حق آدمي لم يكن له النظر فيه من غير مطالبة المستحق(1) .

قوله: «إذا ادعى رجل أنّ المعزول قضى عليه بشهادة فاسقين وجب إحضاره وإن لم يقم المدعي بيّنةً» إلى آخره.

إذا ادعى أحد على المعزول عند الحاكم الجديد دعوى لم يحضره حتى يبين ما يستدعيه لأجله؛ احتياطاً للمعزول، وخوفاً عليه من الامتهان. فإن ذكر ما يدعيه عليه، فإن :قال لي عنده حق من دين ومعاملة ونحوهما وجب إحضاره والفصل بينهما وإن لم يذكر المدعي أنّ له بينة كغيرها من الدعاوي وكذا إن قال: «ارتشى مني»؛ لأن الرشوة غصب ، فهي كدعوى غيرها من الأموال.

وإن قال: «قضى عليّ بجور»، كالقضاء بشهادة فاسقين، فالخلاف فيه في موضعين - ذكر المصنف (رحمه الله) أحدهما، وقطع بالحكم في الآخر :

أحدهما: في وجوب إحضاره. فقيل: يجب إحضاره مطلقاً(2) ، كما في غيرها من الدعاوي، ولإمكان أن يقرّ بالحال فيلزمه الحق.

ص: 74


1- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 408، المسألة 8241 .
2- حكاه الشيخ في المبسوط، ج 5 ، ص 455 عن قوم، وقال: هو الأقوى عندي.

------------------

وقيل: لايجاب إلا أن يذكر المدعى أن له بينة عليه بذلك (1)؛ لأنه أمين الشرع، والظاهر أن أحكامه وقعت على وفق الصواب، فيعمل بهذا الظاهر إلى أن تقوم الحجة بخلافه، ولأنه يبطل الدواعي إلى الحكم. وهذا اختيار الشيخ فخر الدین (رحمه الله)(2) .

وقيل: تسمع(3) . وهو الذي قطع به المصنف (رحمه الله) والأكثر؛ لأنها دعوى شرعية، ومرجعها إلى المال؛ فإنّ القاضي لو أقر بذلك لزمه الضمان، فيلحقها ما يلحق غيرها من الأحكام. وهذا هو الأقوى.

والثاني: على تقدير إحضاره، إما مطلقاً، أو مع حضور البينة، فإذا حضر سأله الحاكم عن ذلك، فإن صادق فعليه الضمان؛ لأنه قد اعترف بأنه دفع ماله إلى الغير بغير حق. وإن أنكر وقال: «ما قضيت إلا بعدلين»، فإن أقام المدعي عليه بيّنةً فكالأول، وإلا ففي تقديم قوله مطلقاً، أو مع اليمين، أو افتقاره إلى البينة وإلا قدم قول المدعي أوجه، وربما كانت أقوالاً :

أحدها - وهو وهو الذي اختاره الشيخ في المبسوط(4) - افتقاره إلى البيئة وإلا ثبت عليه الحق؛ لأنه اعترف بالحكم ونقل المال إلى غيره، فهو يدعي ما يزيل الضمان عنه فلا يقبل منه.

وردّ بمنع كون مطلق نقله المال موجباً للضمان، بل إنّما يكون سبباً للضمان مع التفريط والأصل عدمه(5). وبأن هذا يؤدي إلى امتهان الحكام وزهدهم في الأحكام.

والثاني وهو الذي مال إليه المصنف والعلامة(6) وأكثر المتأخرين(7)، وهو قول الشيخ

ص: 75


1- أيضاً حكاه الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 455 عن قوم.
2- إيضاح الفوائد، ج 4 ، ص 306.
3- قال به العلّامة في إرشاد الأذهان، ج 2، ص 142 ؛ وقواعد الأحكام، ج 3، ص 424 : والسيد عميد الدين في كنز الفوائد، ج 3، ص 452 - 453.
4- المبسوط، ج 5، ص 455 - 456.
5- رده فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 306.
6- مختلف الشيعة، ج 8، ص 434 المسألة 39 .
7- منهم فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 306.

إذا افتقر الحاكم إلى مترجم

السادسة . إذا افتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلا شاهدان عدلان، ولا يقتنع بالواحد؛ عملاً بالمتفق عليه.

------------------

أيضاً في الخلاف (1)، وابن الجنيد (2) أنه يصدّق باليمين؛ لادعائه الظاهر كسائر الأمناء إذا ادعي عليهم خيانة. وهذا هو الأقوى.

وثالثها: أنّه يصدّق بغير يمين؛ لأنه كان أمين الشرع فيصان منصبه عن التحليف والابتذال. وهذا الوجه نقله الشيخ في المبسوط عن بعض العامة(3). واستحسنه الشيخ فخر الدين في شرحه، بعد أن رجّح الثاني(4) . ولا نعلم به قائلاً من الأصحاب

قوله: «إذا افتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلا شاهدان» إلى آخره.

إذا افتقر الحاكم إلى المترجم؛ لكونه لا يعرف لسان بعض الخصوم أو الشهود فاحتاج إلى من يطلعه عليه، اشترط في المترجم العدالة والتكليف والعدد؛ لأنه ينقل قولاً إلى القاضي لا يعرفه القاضي، فكان في معنى الشهادة، بل فرداً من أفرادها. ومثله المزكي.

وعند بعض العامة يكفي مترجم واحد ومزدٍ واحد؛ جعلاً له من باب الخبر (5).

وإلى جوابه أشار المصنف (رحمه الله) بقوله «عملاً بالمتفق عليه». والمراد أنه مع كونه اثنين يكون مجزئاً بالاتفاق، وإن كان واحداً يكون محل الخلاف وموضع الاشتباه، فالأخذ بالمتفق عليه أولى وفيه إشارة إلى قوة جانب القول بالاكتفاء بالواحد وإن كان اعتبار التعدد أقوى. وقريب منه قول الشيخ في المبسوط؛ لأنّه بعد نقل الخلاف قال: والأول أحوط عندنا؛ لأنه مجمع على العمل به(6) .

ص: 76


1- الخلاف، ج 1، ص 216، المسألة 8 .
2- حكاه عنه الشهيد في غاية المراد، ج 4، ص 24 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).
3- المبسوط، ج 5، ص 456.
4- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 306.
5- الحاوي الكبير، ج 16، ص 176: حلية العلماء، ج 8، ص 146.
6- المبسوط ، ج 5، ص 456.

الشروط التی یجب ان تتوفّر في کاتب القاضي

السابعة • إذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ؛ ليؤمن انخداعه. فإن كان مع ذلك فقيهاً كان حسناً.

------------------

وإطلاق اعتبار المترجمين يقتضي عدم الفرق بين الحق المتوقف على رجلين وغيره؛ ووجهه أنهما لا يشهدان بنفس الحق ليكفي فيه الرجل والمرأتان فيما يكفي فيه ذلك، وإنّما يشهدان بمعنى كلام الخصم أو الشاهد، وهو أمر خارج عن دعوى المال أو المتضمن للمال.

وكذا لا فرق بين كون المحكوم به ممّا يكفي فيه الشاهدان وغيره كالزنى، فيكفي فيه مترجمان وإن كان يعتبر في الشهادة به أربعة. فلو فرض كون الشهود ممن لا يعرف القاضي لغتهم كفى عنهم مترجمان يشهدان بمعنى نطق الأربعة.

وكذا القول في مسمع القاضي لو كان أصمّ. ويشترط فيهما لفظ الشهادة، فيقول المترجم والمسمع: «أشهد أنه يقول كذا وكذا».

قوله: «إذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً» إلى آخره.

ينبغي للحاكم أن يتخذ كاتباً؛ لمسيس الحاجة إلى كتبة المحاضر والسجلات والكتب الحكمية، والحاكم لا يتفرّغ لها غالباً. ومن المشهور أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتّاب(1) ، وكذا لغيره من الخلفاء (2).

ويشترط أن يكون الكاتب بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً ليؤمن خيانته، عارفاً بما يكتبه من المحاضر وغيرها؛ لئلا يفسدها.

ويستحب أن يكون مع ذلك وافر العقل، عفيفاً عن المطامع الفاسدة لكيلا ينخدع من غيره بمال وغيره، وأن يكون فقيهاً لا يؤتى من جهل، وأن يكون جيد الخط، ضابطاً للحروف؛ لئلا يقع في الغلط والاشتباه.

والأولى أن يجلس الحاكم الكاتب بين يديه ليملي عليه، ويشاهد ما يكتب.

ص: 77


1- سنن أبي داود، ج 3، ص 132، ح 2935: السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 214 - 215، ح 20401 - 20405.
2- الحاوي الكبير، ج 16، ص 198.

شروط الشّاهدین

الثامنة : • الحاكم إن عرف عدالة الشاهدين حكم، وإن عرف فسقهما اطرح، وإن جهل الأمرين بحث عنهما. وكذا لو عرف إسلامهما وجهل عدالتهما توقف حتى يتحقق ما يبني عليه من عدالة أو جرح. وقال في الخلاف: يحكم. وبه رواية شاذة.

------------------

ولبعض الشافعية قول: إنّه لا يشترط فيه الإسلام والعدالة؛ لأنّ القاضي لا يمضي ما كتبه حتّى يقف عليه(1) .

قوله: «الحاكم إن عرف عدالة الشاهدين حكم» إلى آخره.

إذا شهد عند الحاكم شهود نظر، إن عرف فسقهم فلا خلاف في ردّ شهادتهم من غير احتياج إلى بحث وإن عرف عدالتهم قبل شهادتهم ، ولا حاجة إلى التعديل وإن طلبه الخصم وإن لم يعرف حالهم في الفسق والعدالة، فإن لم يعرف مع ذلك إسلامهم وجب البحث أيضاً. وهذا كله مما لا خلاف فيه.

وإن عرف إسلامهم ولم يعرف أمراً آخر غيره من جرح ولا تعديل فهذا مما اختلف فيه الأصحاب، فالمشهور بينهم - خصوصاً بين المتأخرين منهم - أنه يجب البحث عن عدالتهم، ولا يكفي الاعتماد على ظاهر الإسلام؛ لقوله تعالى: (وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ) (2) مع قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ) (3) فيجب حمل هذا المطلق على المقيد.

ولا بد من اشتمال الوصف بالعدالة على أمر زائد على الإسلام؛ لأنّ الإسلام داخل في قوله: (مِن رِجَالِكُمْ)؛ فإنّه خطاب للمسلمين، ولأن العدالة شرط قبول الشهادة كما تقتضيه الآية، والجهل بالشرط يستلزم الجهل بالمشروط.

ولرواية عبد الله بن أبي يعفور ،قال قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام) بما تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ قال فقال: «أن تعرفوه بالستر والعفاف والكفّ

ص: 78


1- المهذب الشيرازي، ج 2، ص 377؛ روضة الطالبين، ج 8، ص 119 - 120.
2- الطلاق (65): 2 .
3- البقرة (2): 282 .

------------------

عن البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار، من شرب الخمر والزنى والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك، والدال على ذلك كله، والساتر لجميع عيوبه - حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وغيبته، ويجب عليهم توليته وإظهار عدالته في الناس - التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحافظ مواقيتهنّ بإحضار جماعة المسلمين، وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علّة، وذلك أن الصلاة ستر وكفّارة للذنوب(1) ، ولولا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على أحد بالصلاح؛ لأن من لم يصل فلا صلاح له بين المسلمين؛ لأن الحكم جرى فيه من الله ورسوله بالحرق في جوف بيته» (2). الحديث.

وفي هذه الأدلّة نظر:

أما الآية الدالة على العدالة فليس فيها أنّ المراد منها ما هو ؟ ومدعي الاكتفاء بظاهر الإسلام إذا لم يظهر الفسق يقول : إن ذلك هو العدالة وإنّها الأصل في المسلم، بمعنى أن حاله يحمل على القيام بالواجبات وترك المحرمات، ومن ثَم جرى عليه هذا الحكم، حتى لا يجوز رميه بفعل محرّم ولا ترك واجب أخذاً بظاهر حاله واتفق الكلّ على بناء عقده على الصحيح.

سلّمنا أن العدالة أمر آخر غير الإسلام وهي الملكة الآتية، لكن لا يشترط العلم بوجودها، بل يكفي عدم العلم بانتفائها عن المسلم.

و«العدالة» في الآية ما جاءت شرطاً حتى يقال: إنه يلزم من الجهل بالشرط الجهل بالمشروط، وإنما جاءت وصفاً، ومفهوم الوصف ليس بحجة بحيث يلزم من عدمه العدم. بخلاف الشرط.

ص: 79


1- في حاشية الأصل: «كذا بخط الشيخ (رحمه الله). (منه رحمه الله)».
2- تهذيب الأحكام، ج 6، ص 241، ح 596: الاستبصار، ج 3، ص 12 - 13، ح 33؛ الفقيه، ج 3، ص 38 - 39، ح 3283 بتفاوت يسير.

------------------

نعم، جاء الفسق شرطاً في وجوب التبين عند خبر الفاسق في قوله تعالى: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(1) ، فشرط في الأمر بالتبين عند الخبر الفسق، ومقتضاه عدم الأمر به مع عدم العلم به؛ لأنّ المجهول حاله لا يصح الحكم عليه بالفسق، بل لو وصفه به واصف ثبت عليه التعزير .

وقوله «إنّ العدالة تقتضى أمراً زائداً على الإسلام» مسلّم، لكن لا يدل على وجوب العلم بوجودها؛ لأنّ الآية المطلقة (2)اقتضت قبول قول المسلم من رجالنا، الشامل بإطلاقه للفاسق وغيره، فآية الوصف بالعدالة (3) دلّت على أمر زائد، وهو اعتبار أن لا يكون فاسقاً، أما إثبات وصف آخر زائد على عدم العلم بالفسق فلا، وأقله أنّه المتنازع وبالجملة، فالخصم يدعي أنّ العدالة تحصل ظاهراً مع الجهل بحال المسلم، فتتناوله الآية.

وأما الرواية فمع قصور دلالتها على مطلوبهم في طريقها جماعة منهم الحسن بن عليّ عن أبيه، والظاهر أنّ المراد منهما ابنا فضال الحسن وأبوه على، وغايته أن يكون محتملاً لهما، وهو كاف في ضعف السند. وفيه محمد بن موسى، وهو مشترك بين جماعة منهم الضعيف جداً والثقة.

ثم هو معارض برواية ابن أبي يعفور(4) ، هذا بما يدل على خلاف ذلك. وسيأتي(5) .

وإليه ذهب الشيخ في الخلاف، مدعياً إجماع الفرقة (6)، وابن الجنيد صريحاً (7)، والمفيد في كتاب الإشراف ظاهراً (8)، وباقي المتقدمين لم يصرحوا في عباراتهم بأحد الأمرين، بل كلامهم محتمل لهما.

ص: 80


1- الحجرات (49): 6 .
2- البقرة (2): 282 .
3- الطلاق (65): 2 .
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 242، ح 597؛ الاستبصار، ج 3، ص 13، ح 34.
5- سيأتي في ص 82 .
6- الخلاف، ج 1، ص 217 - 218، المسألة 10.
7- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 437، المسألة 40.
8- كتاب الإشراف، ص 25 ضمن مصنّفات الشيخ المفيد، ج 9) في مبحث صلاة الجمعة؛ وصرّح به في المقنعة، ص 730.

------------------

وحجّة هذا الفريق من الآية(1) قد أشرنا إليها . ولهم من الرواية صحيحة حريز عن أبي عبد الله (علیه السّلام) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنى، فعدل منهم اثنان ولم يعدل الآخران، قال: فقال: «إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعاً، وأقيم الحد على الذي شهدوا عليه، إنما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا به وعلموا، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم، إلا أن يكونوا معروفين بالفسق»(2).

ورواية يونس عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله(علیه السّلام) ، قال: سألته عن البينة إذا أُقيمت على الحق أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال: «خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ بها بظاهر الحكم الولايات والتناكح والمواريث والذبائح والشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته، ولا يسأل عن باطنه»(3).

ورواية العلاء بن سيابة قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن شهادة من يلعب بالحمام، فقال: «لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق»(4) .

ورواية عبد الله بن المغيرة عن الرضا (علیه السّلام)(5) قال: «كلّ من ولد على الفطرة وعرف بصلاح في نفسه جازت شهادته»(6).

وصحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عما يرد من الشهود، قال: «الظنين والمتهم والخصم»، قال قلت الفاسق والخائن، قال: «كلّ هذا يدخل في الظنين»(7).

ص: 81


1- البقرة (2): 282 .
2- الكافي، ج 7، ص 403، باب النوادر، ح 5؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 277، ح 759، وص 286 - 287، ح 793: الاستبصار، ج 3، ص 14، ح36.
3- الكافي، ج 7، ص 431، باب النوادر ، ح 15: الفقيه، ج 3، ص 16 - 17، ح 3247؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 283 - 284، ح 781، وص،288 ، ح 798؛ الاستبصار، ج 3، ص 13، ح 35 .
4- الفقيه، ج 3، ص 48 - 49 ، ح 3306؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 284، ح 784 .
5- في حاشية «ض»: «في طريقها السيّاري، فإن كان ثقة فهي صحيحة منه (رحمه الله)».
6- الفقيه ، ج 3، ص 48 ، ح 3305؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 284، ح 783.
7- الكافي، ج 7، ص 395، باب من يرد من الشهود، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 242، ح 598.

------------------

وفي معناها رواية عبد الله بن سنان(1)، وسليمان بن خالد عنه (علیه السّلام)(2).

وروى الكليني بإسناده إلى سلمة بن كهيل قال: سمعت عليّاً (علیه السّلام) يقول لشريح - في حديث طويل- : «واعلم أن المسلمين عدول بعضهم على بعض، إلا مجلود في حد لم يتب منه، أو معروف بشهادة زور، أو ظنين»(3). وفي معنى هذه الأخبار غيرها (4). وطريق بعضها وإن ضعف لكنه يصلح شاهداً مع ما اعتبر إسناده ومؤيداً له.

والشيخ (رحمه الله) في الاستبصار لما روى خبر ابن أبي يعفور السابق، ثم ذكر خبر يونس المرسل المخالف له، قال:

إنه لا ينافي الخبر الأول من وجهين:

أحدهما: أنّه لا يجب على الحاكم التفتيش عن بواطن الناس، وإنما يجوز له أن يقبل شهادتهم إذا كانوا على ظاهر الإسلام والأمانة، وأن لا يعرفهم بما يقدح فيهم ويوجب تفسيقهم. فمن تكلّف التفتيش عن أحوالهم يحتاج إلى أن يعلم أن جميع الصفات المذكورة في الخبر الأوّل منتفية عنهم؛ لأنّ جميعها يوجب الفسق ويقدح في قبول الشهادة.

والثاني: أن يكون المقصود بالصفات المذكورة في الخبر الأول الإخبار عن كونها قادحةً في الشهادة، وإن لم يلزم التفتيش عنها، والمسألة والبحث عن حصولها وانتفائها. وتكون الفائدة في ذكرها أنه ينبغي قبول شهادة من كان ظاهره الإسلام، ولا يعرف منه شيء من هذه الأشياء؛ فإنه متى عرف فيه أحدهما قدح ذلك في شهادته(5) .

ص: 82


1- الكافي، ج 7، ص 395، باب من يرد من الشهود، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 242، ح 601
2- الكافي، ج 7، ص 395، باب من يردّ من الشهود، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 242 - 243، ح 602.
3- الكافي، ج 7، ص 412 - 413، باب أدب الحكم، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 15 - 16 ، ح 3246: تهذيب الأحكام، ج 6. ص 225 - 226، ح 541.
4- الفقيه، ج 3، ص 40، ح 3284؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 277، ح 759، وص 283 - 284، ح 781؛ الاستبصار، ج 3، ص 14، ح 36.
5- الاستبصار، ج 3، ص 13 - 14، ذيل الحديث 35.

------------------

ثم استدلّ على هذا برواية حريز السابقة(1) ، وهو يدلّ على اختياره لمذهبه في الخلاف. وكذلك مال إليه في المبسوط (2) ، وإن كان في النهاية (3) اقتصر على اعتبار ما تضمنته رواية ابن أبي يعفور(4) .

وقال في الخلاف بعد أن اكتفى بظاهر الإسلام، وادّعى عليه الإجماع والأخبار :

إن البحث عن عدالة الشهود ما كان في أيام النبي ، ولا أيام الصحابة، ولا أيام التابعين، وإنما هو شيء أحدثه شريك بن عبد الله القاضي، ولو كان شرطاً ما أجمع أهل الأمصار على تركه (5).

وبالجملة، فهذا القول وإن كان أمتن دليلاً، وأكثر روايةً، وحال السلف تشهد به، وبدونه لا يكاد تنتظم الأحكام للحكام، خصوصاً في المدن الكبيرة، وللقاضي المنفذ من بعيد إليها، لكنّ المشهور الآن بل المذهب خلافه.

وقد ظهر مما قرّرناه أنّ بقول الشيخ روايات لا رواية واحدة شاذة، كما ذكره المصنف. والظاهر أنه أراد بالرواية الشاذة مرسلة يونس(6)، حيث إنها هي الصريحة في المطلوب، وقد ذكرها جماعة (7) دليلاً على ذلك القول مقتصرين عليها، ولم يتعرّضوا لغيرها، خصوصاً للرواية الصحيحة (8)، وهي أجود دلالةً وسنداً.

ص: 83


1- سبقت في ص 81 .
2- الخلاف، ج 1، ص 217 - 218، المسألة 10: المبسوط، ج 5، ص 457.
3- النهاية، ص 325 و 342.
4- تقدم تخريجها في ص 79 الهامش 2 .
5- الخلاف، ج 6، ص 217 - 218، المسألة 10.
6- تقدّمت مرسلته في ص 81 ، الهامش 3 .
7- منهم العلّامة في مختلف الشيعة ، ج 8، ص 438 - 440 ، المسألة 40 : والسيوري في التنقيح الرائع ، ج 4 ، ص 244.
8- أي صحيحتا حريز، وأبي بصير المتقدمة تخريجهما في ص 81، الهامش 1 و 7.

• ولو حكم بالظاهر ثم تبيّن فسقهما وقت الحكم نقض حكمه.

------------------

ولقد أغرب العلّامة في المختلف حيث استدلّ لاشتراط ظهور العدالة - بعد أن اختاره - بقوله:

إن الظن إنما يحصل بإخبار العدل دون الفاسق، ومع انتفاء الظنّ لا يجوز الحكم بشهادته (1).

وأي دليل دلّ على هذا الحصر ؟ فإنّ الكلام في شهادة المستور لا الفاسق، وبعض المستورين والمجهولين قد يحصل الظنّ بصدقهم أزيد مِنْ بعض مَنْ ظاهره العدالة، فضلاً عن حصول أصل الظنّ في خبرهم. وأيضاً فإنّ الظنّ ليس بشرط، وإنما الشرط شهادة من نصبه الشارع دليلاً، سواء ظنّ الحاكم صدقه أم لا.

وأغرب منه ما أجاب به في المهذب عن قولهم: إنّ الأصل في المسلم العدالة:

بأنّ الإسلام يقتضيها، بمعنى أن المسلم أقرب إليها، لا أنه يقتضيها اقتضاء يمنع من النقيض، وقبول الشهادة مبني على اليقين لا التجويز (2).

وأنت خبير بأنّ المعتبر من العدالة عند معتبر ظهورها أيضاً ليس هو اليقين، بل مجرّد الظهور، وإن أمكن خلافه في نفس الأمر بالإجماع، والمنع من النقيض غير شرط فيها اتفاقاً. وليس بنا حاجة إلى هذه التكلّفات التي لا تطابق المدعى.

قوله: «ولو حكم بالظاهر ثمّ تبيّن فسقهما وقت الحكم نقض حكمه».

هذا الحكم جارٍ على القولين. ووجه نقضه ظهور عدم الشرط المعتبر في الشهادة حالتها، وإن كان البناء على الظاهر جائزاً حيث لا يظهر خلافه، وفقد الشرط يقتضي عدم المشروط؛ لأنّ المفروض ظهور الفسق، وعدمه شرط في قبولها، سواء اكتفينا به أم اعتبرنا معه ظهور العدالة.

ص: 84


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 440، المسألة 40.
2- المهذب البارع، ج 4، ص 467.

• ولا يجوز التعويل في الشهادة على حسن الظاهر. وينبغي أن يكون السؤال عن التزكية سرّاً؛ فإنّه أبعد من التهمة.

• وتثبت مطلقةً، وتفتقر إلى المعرفة الباطنة المتقادمة.

ولا يثبت الجرح إلّا مفسّراً. وقيل: يثبت مطلقاً.

ولا يحتاج الجرح إلى تقادم المعرفة، ويكفي العلم بموجب الجرح.

------------------

قوله: «ولا يجوز التعويل في الشهادة على حسن الظاهر» إلى آخره.

بناءً على اعتبار ظهور العدالة كما سلف. ومن اكتفى بالإسلام وجعله دالاً على العدالة اكتفى بحسن الظاهر بطريق أولى. ومنهم مَنْ لم يكتف بظاهر الإسلام واكتفى بحسن الظاهر في ثبوت العدالة، بمعنى أن يكون ظاهره الخير من غير أن يطلع على باطن أمره بالمعاشرة. والمشهور خلاف ذلك كله.

وحيث يفتقر إلى التزكية ينبغي البحث عنها سراً من غير أن يعلم الشاهد المزكي، ليكون أبعد عن التهمة باستحياء المزكي من مواجهته بالجرح، أو استمالة الشاهد له بتحسين حاله على وجه أفاده الظنّ بعد الته. وينبغي أن يكون للقاضي جماعة من المزكين أخفياء لا يعرفون لأجل ذلك.

قوله وتثبت مطلقةً، وتفتقر إلى المعرفة الباطنة المتقادمة» إلى آخره.

يعتبر في المزكي أن يكون خبيراً بباطن مَنْ يعدله، إما بصحبة أو جوارٍ أو معاملة ونحوه. وروي أنّ شاهداً شهد عند بعض الحكام فقال للشاهد: إنّي لا أعرفك ولا يضرك أنّي لا أعرفك فأت بمن يعرفك، فأتى برجل، فقال له الحاكم كيف عرفته؟ قال: بالصلاح والأمانة، قال: هل عاشرته عشرة طويلة حتى عرفت ظاهره من باطنه؟ قال: لا، قال: فهل عاملته في الدرهم والدينار حتى عرفت حقه من باطله؟ قال: لا، قال: فهل غاضبته أو غوضب بحضرتك حتى عرفت خلقه من تخلّقه ؟ فقال: لا، قال: فأنت لا تعرفه انت بمن يعرفك (1).

ص: 85


1- الحاوي الكبير، ج 16، ص 180؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 417، المسألة 8247.

------------------

والمعنى أن الإنسان يخفى أسباب الفسق غالباً، فلابد من معرفة باطن حاله .

وهذا كما أن الشهادة على الإفلاس تعتبر بالخبرة الباطنة؛ لأن الإنسان مشعوف(1) بإخفاء المال. وفي الشهادة على أن لا وارث سواه تعتبر الخبرة الباطنة؛ لأنه قد يتزوج في السفر أو في الحضر ويخفيه فيولد له ولد.

ويشترط فى المزكى أيضاً أن يعرف نسب الشاهد والمتداعيين؛ لجواز أن يكون بينه وبين المدعي شركة، أو بينه وبين المدعى عليه عداوة، فلا يكفي إثبات أصل العدالة.

وبالجملة، فصفة المزكي صفة الشاهد مع زيادة هذه الأمور، مضافاً إلى معرفته بشرائط الجرح والتعديل، وما يخرج عن العدالة من الأفعال والأقوال والأحوال.

واعتبر في المعرفة الباطنة التقادم؛ لأنّه لا يمكن الإخبار بدونها غالباً. وربما كان حسن النظر ودقته وشدّة الإمعان في أحواله قائماً مقام التقادم في مدة يسيرة. وعلى هذا فاعتبار التقادم مبني على الغالب.

ولا يعتبر ذلك في الجرح، بل يكفي فيه المعاينة أو السماع. أما المعاينة فبأن يراه يفعل فعلاً يخرجه عن العدالة. وأما السماع فكأن يسمعه يقذف أو يقرّ على نفسه بمعصية توجب الفسق، أو يسمع من غيره على وجه يبلغ حدّ العلم بذلك أو يتاخمه. وهذا قد يحصل في لحظة واحدة؛ فلذا لم يعتبر فيه التقادم.

إذا تقرر ذلك، فالمشهور أنّ التعديل يكفي مطلقاً من غير أن يبين سببه؛ لأن العدالة تحصل بالتحرز عن أسباب الفسق وهي كثيرة يعسر ضبطها وعدها.

أمّا الجرح فلا يثبت مطلقاً، بل لا بد من بيان سببه؛ لأنّ الجارح قد يبني الجرح على ظنّ خطاً، ولأنّ المذاهب فيما يوجب الفسق مختلفة، فلا بد من البيان ليعمل القاضي باجتهاده.

ويشكل بأنّ الاختلاف في أسباب الفسق يقتضي الاختلاف في أسباب العدالة، فإنّ

ص: 86


1- في بعض النسخ: «مشغوف» بدل «مشعوف»، وكلاهما صحيح.

------------------

الاختلاف - مثلاً - في عدد الكبائر كما يوجب في بعضها ترتب الفسق على فعله، يوجب في بعض آخر عدم قدحه في العدالة بدون الإصرار عليه، فيزكيه المزكي مع علمه بفعل ما لا يقدح عنده فيها، وهو قادح عند الحاكم، ومن ثم قيل بوجوب التفسير فيهما (1). وهو اختيار ابن الجنيد (2) . ووجهه قد علم ممّا سبق.

وقيل: يكفي الإطلاق فيهما؛ لأن المعدل والجارح لا بد أن يكون في نظر الحاكم عالماً بسببهما وإلا لم يصلح لهما، ومع العلم لا معنى للسؤال (3).

وهذا يتجه مع علم الحاكم بموافقة مذهب المزكي لمذهبه في أسباب الجرح والتعديل، بأن يكون المزكي مقلّداً للحاكم في اجتهاده أو موافقاً له فيه.

وللعلّامة قول بوجوب ذكر سبب التعديل دون الجرح (4)، عكس المشهور.

وقول آخر، وهو أنّ المزكي والجارح إن كانا عالمين بأسبابهما كفى إطلاقهما، وإلا وجب ذكر السبب فيهما(5) .

وقد تقدم ما يقتضى ضعف القولين.

وعلى المشهور من الاكتفاء بالإطلاق في التعديل ففي القدر المعتبر من العبارة عنه أوجه: أحدها: أن يقول: «هو عدل»؛ لقوله تعالى: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ)(6)، فاقتصر على العدالة فقط. وهذا اختيار الشيخ في المبسوط (7).

ص: 87


1- راجع حلية العلماء، ج 8، ص 129؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص 156.
2- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 441، المسألة 42.
3- راجع الحاوي الكبير ، ج 16، ص 192؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 11، ص 425 - 426، المسألة 8254 .
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 442، المسألة 42.
5- تهذيب الوصول إلى علم الأصول، ص 234؛ نهاية الوصول إلى علم الأصول، ج 3، ص 431.
6- الطلاق (65): 2 .
7- المبسوط، ج 5، ص 463 - 464.

------------------

وثانيها: أن يضيف إلى ذلك «علي» و «لي» لأنه بقوله «عدل» لا يفيد العدالة في كلّ شيء، بل إثبات الوصف في الجملة، كقوله «صادق» فإنّه لا يفيد الصدق في كلّ شيء، فيفتقر إلى إضافة تزيل الاحتمال، ويجعله مطلق العدالة مقبول الشهادة في كلّ شيء. وهو قول ابن الجنيد؛ فإنّه قال في كتابه الأحمدي: ولا يقنع من المجيب بالتعديل حتى يقول: عدل علي ولي(1) .

وثالثها: اعتبار ضميمة أحد الأمرين إلى قوله: «عدل» وهو إما «لي وعليّ» أو مقبول الشهادة، فربّ عدل لا تقبل شهادته وإن وجبت شفاعته، كالتقي المغفّل. وهذا اختيار أكثر المتأخرين.

واعترض على الأخيرين بأن العدالة قضية عامة لا يوصف بها إلا من واظب على المفروضات واجتنب المحرمات، فلا يتخصص. وبتقدير أن يكون الرجل عدلاً في شيء دون شيء، فقوله: «لي و عليّ» لا يفيد العدالة المطلقة، كقول القائل: «فلان صادق عليّ ولي» فإنّه لا يقتضي صدقه في كلّ شيء. وبأنّ الوصف بكونه مقبول الشهادة يغني عن الوصف بالعدالة؛ لأنه أخص، فوجوده يستلزم وجود الأعم في ضمنه، كما أنّ عدمه أعم من عدمه.

والأقوى الاجتزاء بقوله: «إنّه مقبول الشهادة»، وإضافة العدالة إلى ذلك آكد.

وربما علل بعضهم إضافة «لي و عليّ» إلى العدل بأن الغرض منه أن يبيّن أنّه ليس بولد، بناءً على أن شهادة الولد على والده غير مقبولة(2).

وهو تعليل ضعيف؛ لأنّه قد اعتبره من علم أنه ليس ولده. ومع تسليم عدم قبول شهادة الولد على والده لا يدلّ قوله: «عدل عليّ ولي» على أنه ليس بولد؛ لأن العدل عدل على أبيه ، وله إلّا أنّه لا تقبل شهادته عليه بأمر خارج وبتقدير أن يراد به نفي البنوة فالمعتبر

ص: 88


1- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 441، المسألة 42.
2- الحاوي الكبير، ج 16 ، ص 194.

• ولو اختلف الشهود في الجرح والتعديل قدّم الجرح؛ لأنه شهادة بما يخفى عن الآخرين.

ولو تعارضت البينتان في الجرح والتعديل، قال في الخلاف وقف الحاكم ولو قيل: يعمل على الجرح كان حسناً.

------------------

أن لا يكون هناك ذلك الوصف، أما أن يتعرّض إلى نفيه لفظاً فلا، كما أن الشاهد على غيره ينبغي أن لا يكون كذلك، ولا يجب أن يقول: لست بابن». وبتقدير أن يكون الغرض بيان أنه ليس بابن فهذا الغرض يحصل بقوله: «علي».

قوله: «ولو اختلف الشهود في الجرح والتعديل قدّم الجرح - إلى قوله - ولو قيل: يعمل على الجرح كان حسناً»(1).

إذا شهد شاهدان بتعديل شخص معين وآخران بجرحه، فإن لم يتكاذبا، بأن ش-هد المزكّيان بعدالته مطلقاً أو مفصلاً من غير ضبط وقت معيّن، بأن قالا: إنّه محافظ على الواجبات وترك المحرمات ومخالف المروّات. وشهد الجارحان بأنّه فعل كبيرةً في الوقت الفلاني، فالأظهر تقديم الجرح؛ لأن التعديل وإن اشتمل على الإثبات لكنه في المعنى راجع إلى النفي، بخلاف الجرح؛ فإنه يتضمن الإثبات المحض، والإثبات مقدّم على النفي.

ولأنّ مستند علم الجارح إلى الإحساس والمعدل يبني على أصل العدم بالنسبة إلى ترك المحرمات في جميع الأوقات، وإن علم الانتفاء في بعضها، ومستند العدم عدم المعاينة ،والأصل، وهما ظنّيان، فكان الأوّل أولى؛ لأنه أقوى.

ولأنه حينئذ يمكن صدقهما، بأن يراه الجارح في ذلك الوقت يفعل المعصية المخرجة عن العدالة، ولا يراه المعدّل، فيمكن الجمع بين صدقهما مع الحكم بالجرح، وليس فيه تقديم

ص: 89


1- هاهنا اختلاف بين نسخ الشرح، ففي نسخة «ض» العبارة كما في المتن. وفي نسخة الأصل: «ولو اختلف الشهود في الجرح والتعديل قال في الخلاف يوقف الحاكم إلى آخره، ولصاحب الجواهر (قدس سره) هنا كلام حول عبارة المتن وشرحها في المسالك. راجع جواهر الکلام، ج 40، ص 121 .

التاسعة: • لا بأس بتفريق الشهود. ويستحب فيمن لا قوة عنده.

------------------

لبيّنة الجرح على بينة العدالة، بل عمل بمقتضى الجرح.

وقال الشيخ في الخلاف يوقف الحكم؛ للتعارض مع عدم المرجّح(1) .

وهو يتمّ مع عدم إمكان الجمع، بأن شهد المعدل بأنه كان في ذلك الوقت الذي شهد الجارح يفعل المعصية فيه في غير ذلك المكان الذي عينه للمعصية، أو مشتغلاً بفعل يضاد ما ادعاه الجارح، إما طاعة أو مباحاً أو نائماً، ونحو ذلك. أما مع الإطلاق كما تقدم - فلا وجه للتوقف؛ لعدم التعارض.

وقد تنعكس القضية، بأن يمكن الجمع بينهما مع تقديم المعدل، كأن قال المعدل: «قد عرفت السبب الذي ذكره الجارح لكنّه قد تاب عنه وحسنت حاله»، فتقدم بينة التعديل؛ لأن مع المعدل والحال هذه زيادة علم ،لذلك كعلم الجارح في صورة العمل بقوله.

واكتفى في المبسوط في هذه الصورة بانتقال الشاهد إلى بلد فيشهد اثنان من بلده بالجرح واثنان من البلد الذي انتقل إليه بالعدالة، فترجح بينة العدالة؛ لأنه قد ترك المعاصي واشتغل بالطاعات، فيعرف هذان ما خفي عن الأولين. وكذا لو كان في بلد واحد فسافر، فزگاه أهل سفره، وجرحه أهل بلده كانت التزكية أولى. قال: وأصله النظر إلى الزيادة فيعمل عليها (2).

قوله: «لا بأس بتفريق الشهود ويستحب فيمن لا قوة عنده».

إذا ارتاب القاضى بالشهود أو توهم غلطهم لخفّة عقل وجدها فيهم، فينبغي أن يفرقهم ويسأل كلّ واحد منهم عن مشخصات القضية ، من وقت تحمّل الشهادة عاماً وشهراً ويوماً وغدوة أو عشية ، وعن مكانه محلة وسكة وداراً وصفةٌ وصحناً. ويسأل أنه تحمل وحده أو كان هناك غيره ، وأنه كتب شهادته أم لا ، وأنه كتب قبل ما كتب فلان أم بعده ، وما أشبه ذلك ؛ ليستدلّ على صدقهم إن اتفقت كلمتهم ، ويقف على عوده إن لم يتفق. ويقال: إنّ أوّل

ص: 90


1- الخلاف، ج 6 ، ص 219 - 220، المسألة .12.
2- المبسوط، ج 5، ص 461 - 462.

لا يشهد شاهد بالجرح إلا مع المشاهدة

العاشرة: • لا يشهد شاهد بالجرح إلا مع المشاهدة لفعل ما يقدح في العدالة، أو أن يشيع ذلك في الناس شياعاً موجباً للعلم. ولا يعوّل على سماع ذلك من الواحد والعشرة؛ لعدم اليقين بخبرهم.

------------------

من فرّق الشهود دانيال النبي(علیه السّلام) ، شهد عنده شهود بالزنى على امرأة ففرقهم وسألهم، فاختلفت مشخصاتهم فعرف كذبهم(1) . وكذلك فعله داود(علیه السّلام) (2).

وروي أنّ سبعةً في عهد أمير المؤمنين (علیه السّلام) خرجوا في سفر ففقد واحد منهم، فجاءت امرأته إلى علي وذكرت ذلك له، فاستدعاهم وسألهم فأنكروا، ففرقهم وأقام كلّ واحد منهم إلى سارية ووكل به مَنْ يحفظه، ثمّ استدعى واحداً فسأله فأنكر، فقال علي (علیه السّلام): «الله أكبر»، فسمعه الباقون فظنّوا أنّه قد اعترف فاستدعى واحداً بعد واحد فاعترفوا بقتله، فقتلهم علي (علیه السّلام)(3).

وينبغي مع التفريق إذا سأل أحداً منهم أن لا يدعه يرجع إلى الباقين حتى يسألهم؛ كيلا يخبرهم بجوابه ومهما اتفقوا في الجواب لم يعتبر ما يبقى من ريبة؛ لأنّه منتهى الإمكان.

ويكره تفرقة أهل الفضل أو العقل الوافر والدين؛ لأن فيه غضاضة منهم ونقيصة، فيقتصر على البحث عنهم إن جهل حالهم. ومحلّ التفريق قبل الاستزكاء إن احتيج إليه.

قوله: «لا يشهد شاهد بالجرح إلا مع المشاهدة» إلى آخره.

قد تقدم (4) أن المعتبر في التعديل الخبرة الباطنة الموجبة لغلبة الظن بالعدالة. وأما الجرح

ص: 91


1- الكافي، ج 7، ص 426 - 427، باب النوادر، ح 9: الفقيه، ج 3، ص 20 - 22، ح 3254؛ تهذيب الأحكام، ج 6.ص 308 - 310 ، ح 825 .
2- الكافي، ج 7، ص 371 - 372، باب النوادر، ح8؛ الفقيه، ج 3، ص 24 - 26، ح 3258؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 316 - 318 ، ح 875.
3- المبسوط، الشيخ الطوسي، ج 5، ص 458؛ الحاوي الكبير، ج 16 ، ص 183؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبیر ،ج 11، ص 454. المسألة 8277 .
4- تقدم في ص 85.

• ولو ثبت عدالة الشاهد حكم باستمرار عدالته حتى يتبين ما ينافيها. وقيل: إن مضت مدة يمكن تغيّر حال الشاهد فيها استأنف البحث عنه، ولا حد لذلك، بل بحسب ما يراه الحاكم.

------------------

فلا يكفي فيه مطلق الظنّ إجماعاً ، بل لا بد فيه من العلم بالسبب، إما بالمشاهدة بأن يراه يزني أو يشرب الخمر، أو يسمعه يقذف، أو يقرّ على نفسه بالزني وشرب الخمر مثلاً.

وأما إذا سمع من غيره، فإن بلغ المخبرون حد التواتر جاز الجرح؛ لحصول العلم. وإن لم يبلغوا حد العلم لكنه استفاض وانتشر حتى قارب العلم، ففي جواز الجرح به وجهان من أنه ظنّ في الجملة وقد نهى الله تعالى عن اتباعه(1) إلا ما استثني، ومن أن ذلك ربما كان أقوى من البينة المدعية للمعاينة كما مرّ في نظائره .

ويظهر من المصنّف والأكثر اشتراط بلوغ العلم، فلا يصح بدونه. وهو أولى.

أما الجرح بناءً على خبر الواحد وما فوقه ممّا لا يبلغ ذلك الحد فلا يجوز إجماعاً. نعم، له أن يشهد على شهادتهم، بشرط الشهادة على الشهادة.

وقوله « ولا يعوّل على العشرة؛ لعدم اليقين بخبر هم مبنى على عدم إفادة خبرهم العلم، كما يقتضيه السياق، ولعلّه مبنيّ على الغالب، وإلا فلا حد للعدد الذي يحصل بخبرهم العلم، وقد يحصل بالعشرة إذا كانوا صلحاء لا يعهد منهم المجازفة في الإخبار.

قوله ولو ثبت عدالة الشاهد حكم باستمرار عدالته حتى يتبين ما ينافيها. وقيل: إن مضت مدة يمكن إلى آخره.

إذا ثبت عدالة إنسان فالمشهور لزوم العمل بمقتضاها أبداً إلى أن يظهر خلافها، ولا يجب البحث؛ لأنّ الأصل استمرارها إلى أن يتبين الخلاف.

وقيل: يجب البحث كلّما مضت مدة يمكن تغير الحال فيها؛ لأنّ العيب يحدث في

ص: 92


1- الحجرات (49): 12 .

• الحادية عشرة: . ينبغي أن يجمع قضايا كلّ أسبوع ووثائقه وحججه ويكتب عليها. فإذا اجتمع ما لشهر كتب عليه شهر كذا فإذا اجتمع ما لسنة جمعه ثم كتب عليه قضاء سنة كذا.

الثانية عشرة:• كلّ موضع وجب على الحاكم فيه كتابة المحضر، فإن حمل له من بيت المال ما يصرفه في ذلك وجب عليه الكتابة. وكذا إن أحضر الملتمس ذلك من خاصه. ولا يجب على الحاكم دفع القرطاس من خاصه.

------------------

الإنسان والأُمور تتغيّر، ولم يحدّه بحدّ(1).

ونقل الشيخ في المبسوط عن بعضهم تحديد المدة بستة أشهر، وجعل الرجوع في ذلك إلى ما يراه الحاكم أحوط (2). وكثير من الأصحاب لم يتعرّضوا للخلاف في هذه المسألة.

قوله: «ينبغي أن يجمع قضايا كل أسبوع ووثائقه وحججه» إلى آخره.

إنما يفعل ذلك ليكون أسهل عليه وعلى من بعده من الحكام في استخراج المطلوب منها وقت الحاجة إليه. وكما ينبغي جمع قضايا كلّ أسبوع ينبغي جمع قضايا كل يوم على تقدير تعدد قضايا اليوم أيضاً، ويكتب عليها آخر النهار قضايا يوم كذا من أسبوع كذا من شهر كذا.

والمراد بالوثائق ما يودعه الناس القاضي (3) من الحجج ونحوها، اتكالاً على أنّ ديوان الحكم أحرس (4)، لها. وليكتب على كلّ واحد منها أيضاً: محضر فلان، سجل فلان، وثيقة فلان بكذا وكذا؛ تسهيلاً لتحصيلها عند طلبها.

قوله: «كلّ موضع وجب على الحاكم فيه كتابة المحضر» إلى آخره. لا يجب على القاضي أن يكتب في كاغذ من عنده ولا بمداده حجة ولا غيرها، والواجب

ص: 93


1- حكاه عن قائل الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 465.
2- المبسوط، ج 5، ص 465.
3- في الأصل: «للقاضي» بدل «القاضي».
4- فيما عدا الأصل من النسخ: «أحرز» بدل «أحرس».

الثالثة عشرة: • يكره للحاكم أن يعنت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القوية، مثل أن يفرّق بينهم؛ لأنّ في ذلك غضاً منهم. ويستحب ذلك في موضع الريبة.

------------------

عليه الحكم بما يقتضيه، وينبغي للإمام أن يطلق ثمن ذلك من بيت المال؛ لأنّه من أهمّ المصالح.

فإن وجد كذلك أو بذله الملتمس، ففي وجوب كتابة الحجة على الحاكم وجهان، أشهرهما الوجوب؛ لأنّ ذلك حجّة فكان عليه إقامتها كالحكم، وكما لو أقر له بالحق وسأله الإشهاد على إقراره .

ووجه عدم الوجوب أنّ الحجّة بالحق حكمه به وإشهاده عليه، فلا يلزمه أكثر منه. ويفارق الإقرار بأنه لا حجة له بحقه؛ فلهذا كان عليه إقامتها له.

هكذا علّل في المبسوط القولين (1)، ولم يرجح شيئاً. والفرق لا يخلو من نظر، والمعروف بين الأصحاب هو الوجوب.

وإذا كتب وجوباً أو استحباباً فليكتب نسختين إحداهما تكون في يد الملتمس الأخرى تبقى في ديوان الحكم؛ لتنوب عن الأخرى على تقدير هلاكها، ويؤمن بها من تغيير تلك وإدخال شيء فيها. وهذه هي التي يجمعها في كل أسبوع وشهر وسنة مع غيرها من الوثائق والسجلات.

قوله: «يكره للحاكم أن يعنت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر» إلى آخره.

إعنات الشهود هو إدخال المشقة عليهم، وتكليفهم ممّا يثقل عليهم، من المبالغة في مشخصات القضية التي شهدوا بها، وتفريقهم، ووعظهم، وقوله: لم تشهدون؟ أو ما هذه الشهادة؟ ونحو ذلك. وإنّما ينبغي فعله بأهل الريبة وضعفاء البصائر، كما تقدم(2).

ص: 94


1- المبسوط، ج 5، ص 472.
2- تقدم في ص 91 .

الرابعة عشرة: • لا يجوز للحاكم أن يتمتع الشاهد، وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقبه، بل يكفّ عنه حتى ينهي ما عنده وإن تردّد.

ولو(1) توقف في الشهادة لم يجز له ترغيبه إلى الإقدام على الإقامة، ولا تزهيده في إقامتها.

وكذا لا يجوز إيقاف عزم الغريم عن الإقرار؛ لأنه ظلم لغريمه. ويجوز ذلك في حقوق الله تعالى فإنّ الرسول قال لماعز- عند اعترافه بالزنى- : «لعلك قبلتها، لعلّك لمستها»، وهو تعريض بإيثار الاستتار .

------------------

قوله: «لا يجوز للحاكم أن يتمتع الشاهد، وهو أن يداخله في التلفظ بالشهادة أو يتعقبه بل يكفّ عنه» إلى آخره.

هنا جملة من آداب الحكم أكثرها محرّمة على الحاكم :

الأوّل: يحرم عليه أن يتمتع الشاهد، وهو أن يداخله في التلفظ بالشهادة، بأن يدخل في أثناء نطقه بها كلاماً يجعله ذريعةً إلى أن ينطق به، ويعدل عما كان يريده، هداية له إلى شيء ينفع، أو إيقاعاً له فيما يضر، أو يتعقبه عند فراغه بكلام ليجعله تتمة شهادته، ويستدرجه إليه بحيث تصير به الشهادة مقيدةً أو مسموعةً أو مردودةً، سواء كان الشاهد يأتي بما داخله به وتعقبه لولاه أم لا، بل الواجب أن يصبر عليه حتى ينتهي ما عنده، ثمّ ينظر فيه ويحكم بمقتضاه من نفي أو إثبات، وإذا وجده قاصراً عن تأدية المطلوب أو غير مطابق للمدعى ونحو ذلك ردّه.

الثاني : إذا تردّد الشاهد في شهادته لم يجز له ترغيبه في إقامتها؛ لجواز عروض ما أوجب له التردّد، فيكون ترغيبه في الإقامة إغراء له بالشهادة بالباطل.

وكذا يحرم عليه إذا رأه جازماً أن يردّده ويزهده في الإقامة؛ لما فيه من الإعانة على تعطيل الحق.

ص: 95


1- في «ع»: «أو» بدل «ولو» فتصير العبارة هكذا «وإن تردد أو توقف....».

الخامسة عشرة : • يكره أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه.

الرشوة حرام على القاضي والعامل و قبول الهدیة جائز

السادسة عشرة: • الرشوة حرام على آخذها. ويأثم الدافع لها إن توصل بها إلى الحكم له بالباطل. ولو كان إلى حق لم يأثم.

ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها. ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

------------------

الثالث: لا يجوز له إيقاف الغريم عن الإقرار لو أراد أن يقرّ بالحق؛ لما فيه من الظلم للغريم الآخر المقرّ له. هذا في حقوق الآدميين.

أما في حقوق الله تعالى من الحدود، فإنّه يجوز له إيقاف غريمه وتزهيده في إتمامه وتعريضه بالتأويل، بل يستحب له ذلك، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في قضية ماعز بن مالك لما جاء إلى النبي وأقرّ عنده بالزنى، فكان صلى الله عليه وسلم يعرض له بالتأويل ويقول له: «لعلك قبلتها، لعلك لمستها»(1) إيثاراً للاستتار. والرواية مشهورة.

قوله: «يكره أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه».

لما فيه من ترجيحه على الآخر المنهي عنه. وقد روي أنّ أمير المؤمنين (علیه السّلام) نزل به ضيف فمكث عنده أياماً، ثمّ تقدّم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين (علیه السّلام)، فقال له: «أخصم أنت؟ قال: نعم، قال: «تحوّل عنّا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يضاف الخصم إلا ومعه خصمه» (2). وكذا يكره له أن يحضر ضيافة الخصوم مطلقاً.

قوله: «الرشوة حرام على آخذها» إلى آخره .

اتفق المسلمون على تحريم الرشوة على القاضي والعامل؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 96


1- مسند أحمد، ج 1، ص 394 ، ح 2130؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 146، ح 22 44: المعجم الكبير، ج 11، ص 268، ح 11936؛ المستدرك على الصحيحين، ج 5، ص 517، ح 8140 و 8141 .
2- الكافي، ج 7، ص 413، باب أدب الحكم، ح 4: الفقيه، ج 3، ص 12 - 13، ح 3239؛ تهذيب الأحكام، ج 6. ص 226 - 227، ح 544 .

------------------

قال: «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم»(1). وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «الرشا في الحكم هو الكفر بالله تعالى»(2) .

وأما الهدية فالأولى أن يسدّ بابها ولا يقبلها؛ لأنّها أبعد عن التهمة. وأما من جهة الحلّ والحرمة فينظر إن كان للمُهدي خصومة في الحال حرم قبول هديته؛ لأنه يدعو إلى الميل، وينكس (3) به قلب خصمه. وإن لم يكن له خصومة، فإن لم يعهد منه الهدية قبل تولّي القضاء حرم قبول هديته في محلّ ولايته؛ لأن هذه هدية سببها العمل ظاهراً. وقد روى (علیه السّلام)أنه قال: «هدايا العمّال غلول»(4). وفي رواية: «هدية العمّال سحت»(5).

وروى أبو حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأسد يقال له: أبو اللبيبة على الصدقة، فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: «ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ فهلا جلس في قعب بيته أو في بيت أمه ينظر أيهدى له أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرةً لها خوار، أو شاةً تيعر» ثمّ رفع يده حتى رأينا عفرة ،إبطيه ثمّ قال: «اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت؟»(6).

ص: 97


1- مسند أحمد، ج 1، ص 376، ح 21893 .
2- الكافي، ج 7، ص 409، باب أخذ الأجرة والرشا على الحكم، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 222، ح 526.
3- فيما عدا الأصل من النسخ: «ينكسر» بدل «ينكس».
4- الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 262، المجلس 10، ح 17/479؛ مسند أحمد، ج 6، ص 590، ح 23090؛ السنن الكبرى البيهقي ، ج 10، ص 233 ، ح 20474؛ مجمع الزوائد، ج 4، ص 361 ، ح 7034. وفي بعض المصادر: «وهدايا الأمراءه».
5- الكامل في ضعفاء الرجال، ج 1، ص 284؛ تلخيص الحبير، ج 4 ، ص 190، ذيل الحديث 2094.
6- مسند أحمد، ج 6، ص 589 ، ح 23087؛ صحيح البخاري، ج 6، ص 2559 - 2560، ح 6578، وص 2624 -2625، ح 6753، وص 2632، ح 6772: صحیح مسلم، ج 3، ص 1463 - 1464، ح 1832/27؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 134 - 135 ، ح 2946.

------------------

ولا ينافي ذلك قول النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «لو أهدي إلي كراع لقبلته» (1)؛ لأنه معصوم عن تغيير حكم بهدية، بخلاف غيره .

ولو كانت الهدية في غير حال حكومة ممن جرت عادته بذلك قبل تولّي القضاء، كالقريب والصديق الملاطف، فإن أحسّ أنّه يقدّمها الحكومة بين يديه فكذلك، وإلا حلّت على كراهية.

هذا خلاصة ما فصله الشيخ في المبسوط (2) ، ولم يتعرض إليه كثير. وهو حسن.

وفي حكم غير المعتاد ما لو زادها المعتاد قدراً أو صفة. وهديته في غير محلّ ولايته كهديته ممّن عهد منه الهدية. وكذا لو أرسلها من غيره إليه لا بقصد حكومة. وحيث جاز الأخذ فالأولى أن يثبت عليها أو يضعها في بيت المال.

وإذا عرفت أنّ قبول الرشوة حرام مطلقاً، وقبول الهدية جائز على بعض الوجوه طلبت الفرق بينهما؛ فإنّه لا يخلو من خفاء. وقد فرّق بعضهم بينهما بأنّ الرشوة هي التي يشترط باذلها الحكم بغير الحق أو الامتناع من الحكم بالحق، والهدية هي العطية المطلقة (3).

وهذا الفرق يناسب ما أطلقه المصنّف من اختصاص تحريمها بطلب التوصل إلى الحكم بالباطل دون الحق. ولكن ذكر جماعة(4) ، تحريمها على التقديرين، خصوصاً في جانب المرتشي.

والحق أنّها محرّمة على المرتشي مطلقاً، وعلى الراشي كذلك، إلا أن يكون محقاً ولا يمكن وصوله إلى حقه بدونها فلا يحرم عليه. وعلى هذا يحتاج إلى فرق آخر.

ص: 98


1- الكافي، ج 5، ص 143، باب الهدية، ح 9: الفقيه، ج 4، ص 364، باب النوادر؛ مسند أحمد، ج 3، ص 314 ح 10273؛ صحيح البخاري، ج 2، ص 908، ح 2429، وج 5، ص 1985، ح 4883: الجامع الصحيح، ج 3، ص 623 ، ح 1338.
2- المبسوط، ج 5، ص 507 - 508 .
3- روضة الطالبين، ج8، ص128.
4- منهم الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 507 : وابن البراج في المهذب، ج 2، ص 581؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 166؛ والعلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 115 ، الرقم 6421.

------------------

والأظهر في الفرق أنّ دفع المال إلى القاضي ونحوه من العمال - إن كان الغرض منه التودّد أو التوسل لحاجة من العلم ونحوه فهو هديّة، وإن كان التوسل إلى القضاء والعمل فهو رشوة.

والفرق بينهما وبين أخذ الجعل من المتحاكمين أو أحدهما كما قد قال بعضهم بجوازه - أخفى.

وبيانه أنّ الغرض من الرشوة أن يحكم لباذلها على التعيين بحق أو باطل، وفي الجعل أن يشترط عليهما أو على المحكوم عليه. فالفرق واضح؛ لأنه حينئذ في مقابلة عمله معهما وفصل الحكومة بينهما، من غير اعتبار الحكم لأحدهما بخصوصه.

وإن شرط على المحكوم له فالفرق أنّ الحكم لا يتعلّق الغرض فيه بأحدهما بخصوصه، بل من اتفق الحكم له منهما على الوجه المعتبر يكون عليه الجعل. وهذا ليس فيه تهمة ولا ظهور ،غرض بخلاف الرشوة المبذولة ابتداءً من شخص معيّن ليكون الحكم له بخصوصه كيف كان، فإنّ هذا ظاهر في فساد المقصد، وصريح في تطرّق التهمة.

واعلم أنّ الضمير في قول المصنف ولو كان إلى حق لم يأثم يرجع إلى الدافع وأما المرتشي فهو باقٍ على عموم التحريم المذكور سابقاً. ويجب تقييد عدم التحريم في حق الدافع بما أشرنا إليه سابقاً من عدم إمكان وصوله إلى حقه بدونه، وإلا حرم عليه أيضاً؛ لأنه إعانة على الإثم والعدوان المنهي عنهما (1).

ونبه بقوله ويجب على المرتشى إعادة الرشوة إلى صاحبها على خلاف بعض العامة حيث ذهب إلى أنّه يملكها وإن فعل حراماً لوجود التمليك والقبول (2)، وآخرين حيث ذهبوا إلى أنه يضعها في بيت المال(3).

ص: 99


1- المائدة .(5): 2 .
2- روضة الطالبين، ج 8، ص128.
3- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 439، المسألة 8268؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص128.

إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم

السابعة عشرة: • إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم أحضره إذا كان حاضراً، سواء حرّر المدعي دعواه أو لم يحرّرها. أما لو كان غائباً لم يعده الحاكم حتى يحرّر الدعوى والفرق لزوم المشقة في الثاني، وعدمها في الأول.

هذا إذا كان في بعض مواضع ولايته، وليس له هناك خليفة يحكم. وإن كان في غير ولايته أثبت الحكم عليه بالحجّة وإن كان غائباً.

------------------

والأظهر ما ذكره المصنّف من عدم ملكها مطلقاً، ووجوب ردّها إلى المالك، ويضمنها إلى أن تصل.

قوله: «إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم» إلى آخره. من أتى القاضي مستعدياً على خصمه ليحضره، فخصمه إما أن يكون في البلد أو خارجه. فإن كان في البلد وكان ظاهراً يمكن إحضاره وجب إحضاره مطلقاً عند علمائنا وأكثر العامة.

وقال مالك: إن كان من أهل المروّات لم يحضره، إلا أن يعرف بينهما معاملة؛ صيانة له عن الابتذال (1). وقال بعضهم: يحضر ذوي المروّات داره لا مجلس الحكم(2).

والمذهب عدم الفرق.

ثم الإحضار قد يكون بختم يدفعه إلى المدعي ليعرضه على الخصم، وليكن عليه «أجب القاضي فلاناً».

وقد يكون بمحضر من الأعوان المرتبين على باب القاضي، ويكون مؤونته على الطالب إن لم يرتزقوا من بيت المال.

وإن بعث بالختم فلم يجب بعث إليه العون. وإذا ثبت عند القاضي امتناعه من غير عذر أو سوء أدب استعان على إحضاره بأعوان السلطان. فإذا أحضر عزّره على ما يراه. وفي كون

ص: 100


1- راجع الحاوي الكبير، ج 16 ، ص 301؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 11، ص 411، المسألة 8243 .
2- راجع الحاوي الكبير، ج 16، ص 301؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص 175 .

------------------

مؤونة المحضر والحال هذه على المطلوب؛ لامتناعه، أو على المدعي وجهان.

فإن استخفى بعث من ينادي على باب داره أنّه إن لم يحضر إلى ثلاث سمّرت داره أو ختم عليها. فإن لم يحضر بعد الثلاث وسأل المدّعي التسمير أو الختم أجابه إليه.

ومتى كان للمطلوب عذر مانع من الحضور لم يكلّفه الحضور، بل يبعث إليه مَنْ يحكم بينه وبين خصمه، أو يأمره بنصب وكيل ليخاصم عنه. فإن دعت الحاجة إلى تحليفه بعث إليه من يحلفه والعذر كالمرض، وحبس الظالم والخوف منه، وكون المرأة مخدّرة. وسيأتي(1).

وإن كان خارج البلد نظر، إن كان خارجاً عن محلّ ولاية القاضي لم يكن له أن يحضره، وكان له أن يحكم عليه بشرائط القضاء على الغائب. وسيأتي(2).

وإن كان في محلّ ولايته، فإن كان له في ذلك الموضع نائب لم يحضره، بل يسمع البينة ويكتب إليه. وإن لم يكن هناك بيّنة أنفذه إلى خليفته ليحكم بينهما.

وإن لم يكن له هناك نائب، فإن كان هناك من يصلح للاستخلاف أُذن له في القضاء بينهما، وإلا طولب المدعي بتحرير الدعوى، فقد تكون غير مسموعة؛ فيلزم المشقة بإحضاره لغير حق(3)، بخلاف الحاضر في البلد، فإنّه لا يحتاج في إحضاره إلى تقديم البحث؛ لأنه ليس في الحضور هنا مؤونة ولا مشقة شديدة. فإذا حرّر الدعوى وكانت مسموعةً أنفذ بإحضاره، سواء كانت المسافة قريبة أم بعيدة. ومن العامة من قيده بكونه في مسافة العدوى(4) ، وهي التي يتمكن المبكر إليها من الرجوع إلى مسكنه ليلاً.

ص: 101


1- سيأتي عن قريب.
2- يأتي في ص 136 وما بعدها.
3- في الأصل: «بغير حق» بدل «لغير حق».
4- روضة الطالبين، ج 8، ص 176.

• ولو ادّعى على امرأة، فإن كانت برزةٌ فهى كالرجل. وإن كانت مخدّرةً بعث إليها مَنْ ينوبه في الحكم بينها وبين غريمها.

------------------

قوله: «ولو ادعى على امرأة فإن كانت برزة فهى كالرجل» إلى آخره.

ما تقدم حكم المدعى عليه إذا كان رجلاً. فأما إذا كان امرأة، فإذا كانت برزة فهي كالرجل فتحضر ولو من غير البلد حيث يحضر الرجل. لكن يشترط فيها زيادة كون الطريق آمناً بالنظر إليها، ومعها من يوثق به من محرم أو نسوة ثقات أو غيرهما. والأولى للحاكم أن يبعث إليها محرماً.

وإن كانت مخدّرةً لم تكلّف الحضور مطلقاً كالمريض؛ لأن التخدير عذر ظاهر.

ويشهد للفرق بينهما في ذلك قضيّة العامرية التي اعترفت بالزني عند النبي صلى الله عليه وسلم فرجمها (1).

وقال في الأخرى المذكورة في قضية العسيف: «واغد يا أُنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»(2). وكانت العامرية برزة والأُخرى مخدّرةً.

وما المراد ب«المخدّرة»؟ لا شك أنّ التي لا تخرج أصلاً إلا لضرورة فهي مخدّرة. وأمّا التي تخرج نادراً لعزاء أو حمام أو زيارة فهل هي مخدّرة؟ وجهان أشبههما أنه يكفي أن لا تصير مبتذلة بكثرة الخروج للحاجات المتكرّرة ، كشراء الخبز والقطن وبيع الغزل ونحوها. وقال في المبسوط : البرزة هي التي تبرز لقضاء حوائجها بنفسها، والمخدّرة هي التي لا تخرج لذلك(3).

وهو قريب، وإن كان الأوّل أقرب، فإنّ التى تكثر الخروج للعزاء والزيارات من دون أن تخرج للحاجات تصير مبتذلة بالخروج أيضاً.

ص: 102


1- السنن الكبرى البيهقي، ج 8، ص 372 - 373، ح 16928.
2- صحيح البخاري، ج 2، ص 813 - 814 ، ح 2190 وص 959 ، ح 2549؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 852 ح 2549؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1324 - 1325 ، ح 1697/25-1698.
3- المبسوط، ج 5 ص 513 .

النظر الثالث في كيفيّة الحكم

[المقصد] الأوّل في وظائف الحاكم

وفيه مقاصد :

[المقصد] الأوّل في وظائف الحاكم

وهي سبع :

الأولى: • التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس، والنظر، والكلام والإنصات، والعدل في الحكم. ولا تجب التسوية في الميل بالقلب؛ لتعذره غالباً.

------------------

النظر الثالث في كيفية الحكم

قوله: «التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس - إلى قوله - أو أعلى منزلاً».

من وظيفة الحاكم أن يسوّي بين الخصمين في السلام عليهما، وجوابه لهما، وإجلاسهما، والقيام لهما، والنظر والاستماع والكلام وطلاقة الوجه، وسائر أنواع الإكرام. ولا يخصص أحدهما بشيء من ذلك؛ لأنّه ينكس(1) به قلب الآخر ويمنعه من إقامة حجته ومنه ممازحة أحدهما ومسارته، وانتهاره إلا أن يفعل ما يقتضيه.

ولو لم يمكن التسوية بينهما في جواب السلام ابتداء، بأن يسلّم أحدهما دون الآخر، فيصبر هنيئةً رجاء أن يسلّم الآخر فيجيبهما معاً. فإن طال الفصل بحيث يخرج عن كونه جواباً للأوّل فليرد قبله على المسلّم

ص: 103


1- فيما عدا الأصل من النسخ: «ينكسر» بدل «ينكس».

وإنّما تجب التسوية مع التساوي في الإسلام أو الكفر. ولو كان أحدهما مسلماً جاز أن يكون الذمّي قائماً والمسلم قاعداً، أو أعلى منزلاً.

------------------

وقيل: لا بأس بأن يقول للآخر: «سلّم»، فإذا سلّم أجابهما، ويعذر في الاشتغال بغير الجواب؛ لئلا يبطل معنى التسوية (1).

ومعنى التسوية بينهما في المجلس أن يجلسهما بين يديه معاً؛ لما فيه -مع التسوية بينهما - من سهولة النظر إليهما، والاستماع لهما هذا إذا كانا مسلمين أو كافرين. أما لو كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً جاز أن يرفع المسلم في المجلس؛ لما روي أن علياً (علیه السّلام) جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهودي في درع، وقال: «لو كان خصمي مسلماً لجلست بين يديك، ولكنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجلس»(2).

ثم التسوية بين الخصمين في العدل في الحكم واجبة بغير خلاف. وأما في الأمور الباقية فهل هي واجبة أم مستحبة؟ الأكثرون على الوجوب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر»(3).

وقول أمير المؤمنين(علیه السّلام): «من ابتلى بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة، وفي النظر، وفي المجلس»(4).

وقيل: إنّ ذلك مستحب(5)، واختاره العلّامة في المختلف(6) ؛ للأصل، وضعف مستند الوجوب، وصلاحيته للاستحباب .

ص: 104


1- روضة الطالبين، ج 8، ص 146 .
2- تلخيص الحبير، ج 4، ص 193، ح 2105؛ وراجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 445، المسألة 8272؛ وحلية الأولياء، ج 4، ص 139.
3- سنن الدارقطني، ج 3، ص 446، ح 4386 - 4387 : السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 228 - 229، ح 20457 -20458 .
4- الكافي، ج 7، ص 413، باب أدب الحكم، ح 3: الفقيه، ج 3، ص 14، ح 3245؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 226، ح 543.
5- قاله سلّار في المراسم، ص 230.
6- مختلف الشيعة، ج 8، ص 421، المسألة 22.

الثانية: • لا يجوز أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه، ولا أن يهديه لوجوه الحجاج؛ لأنّ ذلك يفتح باب المنازعة، وقد نصب لسدّها.

الثالثة • إذا سكت الخصمان استحب أن يقول لهما تكلّما أو ليتكلّم المدعي. ولو أحسّ منهما باحتشامه أمر مَنْ يقول ذلك.

ويكره أن يواجه بالخطاب أحدهما ؛ لما يتضمن من إيحاش الآخر.

------------------

وإنما عليه أن يسوّي بينهما في الأفعال الظاهرة، وأما التسوية بينهما بقلبه بحيث لا يميل إلى أحدهما به فغیر مؤاخذ به ولا محاسب عليه؛ لأن الحكم على القلب غير مستطاع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم بين نسائه يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، وأنت أعلم بما لا أملك»(1)، يعني الميل القلبي.

قوله: «لا يجوز أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه، ولا أن يهديه لوجوه الحجاج لأنّ ذلك يفتح باب المنازعة، وقد نصب لسدّها».

بأن يعلّمه دعوى صحيحة مع عدم إتيانه بها(2) ، أو يدعى عليه قرضاً فيريد أن يجيب ،بالإيفاء، فيلقنه إنكار أصل الحقِّ؛ لئلا يصير مقرّاً، أو يحسّ منه بالتردد فيحرّضه (3) على الإقامة، ونحو ذلك؛ لأنّه نصب لسدّ باب المنازعة، وفعله هذا يفتح بابها، فيكون خلاف الحكمة الباعثة.

نعم، لا بأس بالاستفسار وإن أدى إلى صحة الدعوى، بأن يدعى دراهم فيقول: «أهي صحاح أم مكسرة؟» إلى غير ذلك. ويحتمل المنع منه أيضاً.

قوله: «إذا سكت الخصمان استحبّ أن يقول لهما : تكلّما» إلى آخره.

إذا جلس الخصمان بين يدي الحاكم فله أن يسكت حتى يتكلّما؛ لأن الحق لهما. لكن

ص: 105


1- مسند أحمد، ج 7، ص 207، ح 24587؛ سنن أبي داود، ج 2، ص 242، ح 2134؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 634 ح 1971 ؛ سنن النسائي، ج 7، ص 67 ، ح 3949 : الجامع الصحيح ، ج 3، ص 446، ح 1140 بتفاوت يسير.
2- في بعض النسخ: «إثباته لها» بدل «إتيانه بها».
3- في بعض النسخ: «فيحضه» بدل «فيحرضه».

الرابعة: • إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء. ويستحبّ ترغيبهما في الصلح. فإن أبيا إلا المناجزة حكم بينهما . وإن أشكل أخّر الحكم حتى يتضح ولا حد للتأخير إلا الوضوح.

------------------

يستحبّ إن طال سكوتهما أن يقول: «ليتكلّم المدعي منكما من غير أن يخصص أحدهما بالخطاب، وأن يقول للمدعي إذا عرفه: «تكلّم». ولو خاطبهما بذلك الأمين الواقف على رأسه كان أولى.

ويكره تخصيص أحدهما بالخطاب؛ لمنافاته التسوية المأمور بها، وقد تقدم أن التسوية فيه واجبة (1). وهاهنا جعل هذا النوع من الخطاب مكروهاً، فأما أنه استثناء من السابق، أو رجوع عن الحكم.

وظاهر العلّامة في التحرير(2) والشيخ في المبسوط (3) التحريم؛ لأنهما عبّرا بصيغة النهي كالسابق. وهو حسن؛ لاشتراكهما في المقتضي له.

وفي الدروس لم يجعل التسوية في الكلام من الواجب، وذكر كراهة تخصيص أحدهما بالخطاب هنا(4). وهو يدلّ على كراهته مطلقاً.

قوله: «إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء. ويستحب ترغيبهما في الصلح» إلى آخره.

الحكم باستحباب ترغيبهما في الصلح مع الحكم بلزوم القضاء يدل على أنّ الوجوب ليس فوريّاً، وإلا لم يصح الاشتغال عنه بالترغيب في الصلح وهو حسن، حيث لا يطلب المحكوم له تنجيز الحكم عاجلاً، وإلا وجبت المبادرة به؛ لأنّه حق آدمی مطالب .

ص: 106


1- تقدم في ص 103 - 104.
2- تحرير الأحكام الشرعية ، ج 5، ص 129، الرقم 6444 .
3- المبسوط، ج 5، ص 507.
4- الدروس الشرعية، ج 2، ص 57 ( ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

الخامسة • إذا ورد الخصوم مترتبين بدأ بالأوّل فالأول فإن وردوا جميعاً، قيل: يقرع بينهم. وقيل: يكتب أسماء المدعين، ولا يحتاج إلى ذكر الخصوم. وقيل: يذكرهم أيضاً لتنحصر الحكومة معه. وليس معتمداً، ويجعلها تحت ساتر، ثم يخرج رقعةً رقعةً، ويستدعي صاحبها. وقيل: إنما تكتب أسماؤهم مع تعسّر القرعة بالكثرة.

------------------

قوله: «إذا ورد الخصوم مترتبين بدأ بالأوّل فالأوّل» إلى آخره.

إذا ازدحم جماعة من المدعين نظر، إن جاؤوا على التعاقب وعرف الترتيب قدم الأسبق فالأسبق. والاعتبار بسبق المدعي دون المدعى عليه.

وإن جاؤوا معاً ولم يعرف الترتيب أقرع بينهم، وقدم من خرجت قرعته. فإن كثروا وعسر الإقراع كتب أسماءهم في رقاع وصبت بين يدي القاضي مستورة ليأخذها واحدةً واحدةً، ويسمع دعوى مَنْ خرج اسمه في كل مرة. وهذا في الحقيقة ضرب من القرعة لا على الوجه المشهور فيها من وضع الرقاع في بنادق من طين وسترها، ونحو ذلك. فيكون كتبة أسمائهم في الرقاع على الوجه المذكور أسهل من القرعة؛ فلذلك اعتبرها عند الكثرة وتعسّر الإقراع على وجهه، وقد تقدّم أنّ الأصح عدم انحصارها في ذلك (1).

والقول الأول الذي نقله بالإقراع بينهم مطلقاً مقتضاه أنه لا تجزئ كتبة أسمائهم على هذا الوجه، بل لا بد من إيقاع القرعة على وجهها.

والأشهر جواز الأمرين؛ لأن الغرض هنا تقديم مَنْ يتقدّم من المدعيين، من غير ترجيح من قبل الحاكم، ولا ميل إلى أحدهم، وهو يحصل بذلك.

ثم على التقديرين هل يفتقر مع كتبة اسم المدعي إلى ذكر خصمه؟ قيل: نعم(2). فعلى هذا لو كان له خصمان افتقر إلى رقعتين، يكتب في واحدة اسم ذلك المدعي مع أحد خصميه، وفي الأخرى اسمه مع الخصم الآخر. وفائدته تقديم السابق من الخصمين كما يقدم السابق من المدعيين.

ص: 107


1- تقدّم في ج 8، ص 345 - 346 .
2- قاله الشيخ المفيد في المقنعة، ص 722 - 723 .

السادسة: • إذا قطع المدعى عليه دعوى المدعي بدعوى لم تسمع حتى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة، ثمّ يستأنف هو.

------------------

والمشهور الاقتصار على اسم المدعي؛ لأنه المستحق للتقديم. فإذا ظهر اسم واحد وكان له غريم واحد تعيّن، وإن كان له أكثر تخيّر في تقديم مَنْ شاء منهم، فإذا تمت دعواه أُخر الباقون إلى دور آخر وهكذا. والمقدم بالسبق أو بالقرعة إنما يقدم في دعوى واحدة. ثم ينصرف إلى أن يحضر في مجلس آخر، أو ينتظر فراغ القاضي من سماع دعوى سائر الحاضرين، فحينئذ تسمع دعواه. ولا فرق بين أن تكون الدعوى الثانية والثالثة على الذي ادعي عليه الدعوى الأولى أو على غيره.

وقول المصنف أوّلاً «قيل: يقرع، وقيل: يكتب أسماء المدعين» إلى آخره، يقتضي أن القول بكتبة أسماء المدعين جائز وإن لم يكثر وا. وقيل: يقرع مطلقاً وإن كثروا (1).

وقوله «وقيل: إنما تكتب أسماؤهم مع تعسّر القرعة بالكثرة» قول ثالث بالتفصيل (2). وهو المشهور. ولو قدّم الأسبق غيره على نفسه جاز.

والمفتي والمدرّس عند الازدحام يقدمان أيضاً بالسبق أو القرعة نعم، لو كان الذي يعلمه خارجاً عن الفرض فالاختيار إليه في تقديم من شاء.

ولا فرق في هذه الأحكام بين ذي الفضيلة وغيره، ولا بين الرجل والمرأة. ويستثنى المسافر المتضرر، كما سيأتي(3).

قوله: «إذا قطع المدعى عليه دعوى المدعي بدعوى» إلى آخره.

قد تقرر أنّه يقدّم السابق من المدعيين، ومن جملة أفراده ما لو ادعى المدعى عليه على

ص: 108


1- الحاوي الكبير، ج 16، ص 289؛ الوجيز، ج 2، ص 241: المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 447 المسألة 8273 .
2- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 149.
3- سيأتي في ص 110.

السابعة • إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى. ولو ابتدرا الدعوى سمع من الذي عن يمين صاحبه.

------------------

المدعي قبل انتهاء الدعوى الأُولى؛ فإنه حينئذ مدع متأخر عن الأول، فلا تسمع دعواه إلى أن يتم السابق، وهو واضح.

قوله: «إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى» إلى آخره.

إذا تنازع خصمان وزعم كلّ واحد منهم أنّه هو المدعي نظر، إن سبق أحدهما إلى الدعوى لم يلتفت إلى قول الآخر: «إنّي كنت المدعي»، بل عليه أن يجيب ثمّ يدّعي إن شاء.

وإن لم يسبق أحدهما فالمشهور بين أصحابنا والمرويّ(1) لهم أنه تسمع الدعوى من الذي على يمين ،صاحبه، حتى أنّ هذا القول لشهرته قال المرتضى (رحمه الله):

ومما انفردت به الإمامية القول بأنّ الخصمين إذا ابتدرا الدعوى بين يدي الحاكم وتشاحًا في الابتداء بها وجب على الحاكم أن يسمع من الذي عن يمين خصمه، ثمّ ينظر في دعوى الآخر(2).

والأصل فيه رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السّلام): «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن يقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام» (3).

وهذه الرواية ليست صريحةً فى المدعى، إلا أن الأصحاب اتفقوا على إرادة ما ذكر منها.

وقال ابن الجنيد: يحتمل أن يكون أراد بذلك المدعي؛ لأن صاحب اليمين هو، واليمين المردودة إليه (4).

ص: 109


1- يأتي بعيد هذا بقليل.
2- الانتصار، ص 495 المسألة 272 .
3- الفقيه، ج 3، ص 14، ح 3243.
4- حكاه عنه السيد المرتضى في الانتصار، ص 495 - 496، المسألة 272؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 413، المسألة 14.

• ولو اتفق مسافر وحاضر فهما سواء، ما لم يستضر أحدهما بالتأخير فيقدم دفعاً للضرر.

• ويكره للحاكم أن يشفع في إسقاط أو إبطال.

------------------

والشيخ (رحمه الله) بعد أن ذكر إجماع الطائفة على ذلك مال إلى القرعة (1)، كما يقوله العامة. وله وجه.

قوله: «ولو اتفق مسافر وحاضر فهما سواء» إلى آخره.

لما كان المقتضي للحكم بتقديم السابق والقرعة بين المجتمعين دفعة مراعاة التسوية بين الخصوم لم يفرّق فيه بين شخص وآخر، ولا بين المسافر والحاضر، ولا بين الرجل والمرأة، إلا أن يختصّ أحدهم بتضرر على تقدير التأخر، كالمسافر الذي قد شدّ الرحال، ويؤدّي تخلفه إلى فوت المطلوب أو فوت الرفقة فيقدم وكذا المرأة التي تتضرر بالانتظار.

وبعضهم قدم المسافر على المقيم (2)؛ نظراً إلى أغلبية الضرورة. ولا دليل عليه يقتضي التخصيص؛ فلذا شرّك المصنّف بينه وبين الحاضر في تقديم المستضرّ منهما.

قوله: «ويكره للحاكم أن يشفع في إسقاط أو إبطال».

أي في إسقاط حق بعد ثبوته، أو إبطال دعوى قبله. وعلى هذا فطريق الجمع بين ذلك وبين الترغيب في الصلح - المقتضي غالباً لإسقاط بعض الحق - إما بجعله متوسطاً بين الإسقاط وعدمه، أو جعله مستثنى كما يقتضيه كلام الأصحاب؛ لأنّ الصلح خير، أو بعث غيره على ترغيبهما في ذلك والوساطة بينهما في الصلح، كما صرح به أبو الصلاح(3). وهذا أولى.

ص: 110


1- الخلاف، ج 6 ، ص 234، المسألة 32 .
2- راجع الحاوي الكبير، ج 16، ص 288؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 448، المسألة 8274: وروضة الطالبين، ج 8، ص 149 .
3- الكافي في الفقه، ص 447.

المقصد الثاني في مسائل متعلقة بالدعوى

وهي خمس :

الأولى: • قال الشيخ: لا تسمع الدعوى إذا كانت مجهولة، مثل: أن يدعي فرساً أو ثوباً. ويقبل الإقرار بالمجهول، ويلزم تفسيره. وفي الأول إشكال.

أما لو كانت الدعوى وصيّةً سمعت وإن كانت مجهولةً ؛ لأن الوصية بالمجهول جائزة.

------------------

قوله: «قال الشيخ: لا تسمع الدعوى إذا كانت مجهولةً» إلى آخره.

لا إشكال في صحة سماع دعوى الوصية بالمجهول، ودعوى الإقرار بالمجهول، كما تصح الوصيّة والإقرار بهما (1). والخلاف في غير هاتين الصورتين. فقال الشيخ (رحمه الله) في المبسوط :

لا تسمع الدعوى المجهولة كفرس وثوب مطلقين؛ لانتفاء فائدتها، وهو حكم الحاكم بها لو أجاب المدعى عليه ب- «نعم» (2).

ثم اعترض على نفسه بصحة الإقرار بالمجهول. وأجاب بالفرق بينهما، فإنّا لو كلّفناه بالتفصيل ربما رجع بخلاف المدعي، فإنّه لا يرجع عن الدعوى بمطالبته بالتفصيل.

والمصنف (رحمه الله) استشكل ذلك. ووجه الاشكال مما ذكره الشيخ، ومن أنّ المدعي ربما يعلم حقه بوجه ما كما يعلم أنّ له عنده فرساً أو ثوباً ولا يعلم صفتهما، فلو لم يجعل له إلى الدعوى ذريعة لبطل حقه. وهذا هو الأقوى.

والحكم يتبع الدعوى، ويبقى تعيين الحق أمراً آخر فيلزم الخصم ببيان الحق، ويقبل تفسيره بمسمى المدّعى(3)، ويحلف على نفي الزائد إن ادّعي عليه، ويحبس إن لم يدفعه،

ص: 111


1- هكذا في جميع النسخ ولعل الصحيح: «به» بدل «بهما».
2- المبسوط، ج 5، ص 513.
3- في بعض النسخ: «الدعوى» بدل «المدعى».

• ولا بد من إيراد الدعوى بصيغة الجزم فلو قال: «أظنّ» أو «أتوهم» لم تسمع.

وكان بعض مَنْ عاصرناه يسمعها في التهمة، ويحلف المنكر. وهو بعيد عن شبه الدعوى.

------------------

إلى غير ذلك من الفوائد المترتبة على ثبوت الدعوى بالمجهول. وأما فرق الشيخ بين الإقرار والدعوى بالرجوع وعدمه ففرق ظاهري لا يصلح لتأسيس الحكم.

قوله: «ولا بدّ من إيراد الدعوى بصيغة الجزم» إلى آخره.

نبه بقوله «إيراد الدعوى بصيغة الجزم على أنّ المعتبر من الجزم عنده ما كان في اللفظ بأن يجعل الصيغة جازمةً دون أن يقول «أظنّ» أو «أتوهّم كذا سواء انضم إلى جزمه بالصيغة جزمه بالقلب واعتقاده استحقاق الحق أم لا. والأمر كذلك ؛ فإنّ المدعي لا يشترط جزمه في نفس الأمر؛ لأنه إذا كان للمدعي بيئة تشهد له بحق وهو لا يعلم به فله أن يدعى به عند الحاكم ؛ لتشهد له البينة، وكذا لو أقرّ له مقرّ بحق وهو لا يعلم به فله أن يدعيه عليه، وإن لم يعلم سببه في نفس الأمر ما هو ؟

ووجه ما اختاره المصنف (رحمه الله) من اشتراط الجزم بالصيغة: أن الدعوى يلزمها أن يتعقبها يمين المدعي أو القضاء بالنكول، وهما غير ممكنين مع عدم العلم بأصل الحق. وأنّ المعهود من الدعوى هو القول الجازم فلا يطابقها الظن ونحوه.

ونقل المصنف (رحمه الله) عن بعض من عاصره وهو الشيخ نجيب الدين محمد بن نما - سماع الدعوى في التهمة وإن لم تكن جازمةً، ويحلف المنكر من غير أن يترتب عليها رد اليمين على المدعي؛ لعدم إمكانه (1).

وضعفه المصنف (رحمه الله) ببعده عن شبه الدعوى؛ لأنّ المعهود منها القول الجازم.

وفيه نظر؛ لعدم ثبوت ذلك، مع دخوله في عموم قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ)(2): (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)(3)، ومن ثَم قيل بسماعها

ص: 112


1- حكاه عنه أيضاً فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 327 - 328.
2- المائدة (5) : 49.
3- النساء (4): 65 .

الثانية • :قال : إذا كان المدعى من الأثمان افتقر إلى ذكر جنسه ووصفه ونقده. وإن كان عرضاً مثليّاً ضبطه بالصفات، ولم يفتقر إلى ذكر قيمته. وذكر القيمة أحوط. وإن لم يكن مثليّاً فلابد من ذكر القيمة. وفي الكل إشكال ينشأ من مساواة الدعوى بالإقرار .

------------------

بدون الجزم مطلقاً (1)، ولأصالة عدم الاشتراط .

وعلى القول بسماعها فيما يخفى كالتهمة إن حلف المنكر فلا كلام، وإلا فإن قضينا بالنكول قضي هنا أيضاً: إجراء له مجرى الإقرار أو البينة، فيستبيح المدعي الأخذ. وإن قلنا: لا يقضى إلا برد اليمين لم يردّ هنا؛ لعدم إمكانه. ولو عاود بعد ذلك وادعى العلم فالأقوى السماع؛ لإمكان تجدّده.

قوله: «قال: إذا كان المدعى من الأثمان افتقر إلى ذكر جنسه» إلى آخره.

قول الشيخ (2) هنا متفرّع على ما أسلفه (3) من عدم سماع الدعوى المجهولة. فعلى قوله (رحمه الله) يشترط في سماعها ارتفاع الجهالة عن المدعي، بضبطه جنساً ووصفاً على وجه يرفع الجهالة عنه كما يصف السلم، حتى يصير معلوماً يمكن حكم الحاكم به، وإلزام الخصم وحبسه إلى أن يؤديه، وبيع ماله لأجله وإيفاؤه عنه قهراً حيث يمتنع من الأداء، فإنّ كلّ ذلك ملزوم .العلم. ولا حاجة إلى ذكر القيمة مع ذلك؛ لإمكان ضبطه بدونها، وإن كان التعرّض لها أحوط؛ لأنه أضبط، خصوصاً إذا كانت العين متقومة. ولو تلفت تعين اشتراط التعرّض للقيمة؛ لأنّها الواجبة عند التلف، وسقط اعتبار العين.

والمصنف (رحمه الله) استشكله بناءً على ما أصّله(4) سابقاً (5) من الشك في اشتراط ذلك،

ص: 113


1- الوسيط ، ج 5، ص 92 .
2- المبسوط، ج 5، ص 514 .
3- سبق في ص 111.
4- في بعض النسخ: «أسلفه» بدل «أصله».
5- سبق في ص 111.

الثالثة:• إذا تمّت الدعوى هل يطالب المدعى عليه بالجواب، أم يتوقف ذلك على التماس المدعى ؟ فيه تردّد . والوجه أنه يتوقف؛ لأنه حق له فيقف على المطالبة.

------------------

كما لا يشترط في الإقرار، فلا يفتقر إلى ذكر شيء من ذلك، ويرجع إليه فيه بعد ذلك إن افتقر إلى مراجعته وكان عالماً به، وإلا فلا.

ويستثنى من اعتبار الضبط والعلم - مضافاً إلى الوصية والإقرار -ما إذا كان الضبط والتعيين مترتباً على الدعوى، كمدعية التفويض؛ طالبة للفرض، وكالواهب يطلب العوض إذا قلنا: إن الهبة تقتضيه، أو مع شرطه ولم يقدّر. ولا يتصوّر هنا من المدعي إعلام ولا تعيين.

وزاد بعضهم ما إذا ادعى أن له طريقاً في ملك الغير، أو ادّعى حق إجراء الماء(1) . فقيل:

لا يشترط هنا إعلام مقدار الطريق والمجرى، وإن أخذ على الشهود إعلام مقدارهما؛

لأنّ الشهادة أعلى شأناً؛ لاستقلالها بإيجاب الحكم، بخلاف الدعوى (2).

والأظهر أن هذه الدعوى كغيرها.

قوله: «إذا تمّت الدعوى هل يطالب المدعى عليه بالجواب أم يتوقف ذلك على التماس المدعى؟» إلى آخره.

القولان للشيخ في المبسوط (3).

ووجه التوقف ما أشار إليه من أنّ الجواب حق للمدعي، فيقف على طلبه.

ووجه العدم دلالة شاهد الحال على الطلب؛ للعلم العادي بأن الإنسان لا يحضر خصمه إلى مجلس الحكم ليدّعي عليه وينصرف من غير جواب. والقول بالاستحقاق لا يخلو من قوة.

ص: 114


1- روضة الطالبين، ج 8، ص 289 .
2- روضة الطالبين، ج 8، ص 289 .
3- المبسوط، ج 5، ص 515.

الرابعة: • لو ادّعى أحد الرعيّة على القاضي فإن كان هناك إمام رافعه إليه. وإن لم يكن وكان في غير ولايته رافعه إلى قاضي تلك الولاية. وإن كان في ولايته رافعه إلى خليفته.

الخامسة: •يستحب للخصمين أن يجلسا بين يدي الحاكم. ولو قاما بين يديه كان جائزاً.

المقصد الثالث في جواب المدعى عليه

هل یحکم علی المقرّ بمجرد الاقرار؟

• وهو إما إقرار، أو إنكار، أو سكوت.

------------------

قوله: «لو ادّعى أحد الرعيّة على القاضي إلى آخره.

كما تسمع الدعوى على واحد من الرعيّة تسمع على القاضي ؛ عملاً بالعموم (1). وليس ذلك ابتذالاً لأهل الصيانات والمروّات. وقد تقدّم أن علياً (علیه السّلام) حضر مع يهودي عند شريح للمحاكمة (2). وحضر عمر مع أبي عند زيد بن ثابت ليحكم بينهما في داره(3). وحجّ المنصور فحضر مع جمّالين مجلس الحكم لخلف كان بينهما (4).

ثم إن كان هناك إمام رافعه إليه، وإلا إلى خليفته إن كان. ولا تجب إجابة المدعى إلى الذهاب معه إلى غيره مع وجوده؛ لأن العدالة تمنع من التهمة، وإن فرضت لم يلتفت إليها. ولو لم يكن له خليفة رافعه إلى حاكم آخر في غير ولايته.

قوله - في جواب المدعى عليه : «وهو إما إقرار أو إنكار أو سكوت - إلى قوله - إلا بمسألته».

المدعى عليه إما أن يجيب بالإقرار أو الإنكار أو يسكت. وإنّما جعل السكوت جواباً؛

ص: 115


1- النساء (4): 105: المائدة (5) 49 سورة «ص» (38): 26 .
2- تقدّم في ص 104.
3- السنن الكبرى البيهقي ، ج 10، ص 229 - 230، ح 20463.
4- تاريخ الخلفاء، ص 266 .

أمّا الإقرار فيلزم إذا كان جائز التصرّف. وهل يحكم به عليه من دون مسألة المدعي ؟ قيل : لا ؛ لأنّه حق له فلا يستوفى إلا بمسألته.

• وصورة الحكم أن يقول: «ألزمتك» أو «قضيت عليك» أو «ادفع إليه ماله». ولو التمس أن يكتب له بالإقرار لم يكتب حتّى يعلم اسمه ونسبه، أو يشهد شاهدا عدل.

ولو شهد عليه بالحلية جاز، ولم يفتقر إلى معرفة النسب، واكتفى بذكر حليته.

------------------

لأنه إذا أصرّ على السكوت جعل كالمنكر الناكل وردّت اليمين على المدعي، فهو في الحكم كالإنكار ، فكان في معنى الجواب بالإنكار.

والكلام في الإقرار وصيغته كما مرّ في باب الإقرار (1)؛ فلذا لم يتعرّضوا له هنا. لكن متى تحقق وكان المقر جامعاً لشرائطه المقررة فى بابه لزمه ما أقرّ به، سواء حكم به الحاكم أم لا، بخلاف ما إذا أقام المدعي بيّنةً، فإنّه لا يثبت بمجرد إقامتها، بل لا بد معه من حكم الحاكم. والفرق أنّ البيئة منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها وردّها، وهو غير معلوم، بخلاف الإقرار. وهل للحاكم أن يحكم على المقرّ بمجرد إقراره من دون مسألة المدعي له الحكم؟ قال الشيخ في المبسوط : لا ؛ لأنّ الحكم عليه به حق له فلا يستوفيه إلا بأمره كنفس الحق(2).

ونسبه المصنف (رحمه الله) إلى القيل إيذاناً بضعفه عنده. ووجهه نحو ما سلف(3) في توقف مطالبته بالجواب على التماسه؛ لشهادة الحال بكونه طالباً للحكم، حيث أحضره للحكومة، ولأنه حق قد تعيّن للحاكم فوجب عليه إظهاره، سواء طلبه مستحقه أم لا. والأشهر الأول.

قوله: «وصورة الحكم أن يقول: ألزمتك» إلى آخره.

نبه على صورة الحكم في أوّل الباب ليكون مفيداً له حيث يحتاج إليه، وإن كانت

ص: 116


1- مرّ في ج 8، ص 527 وما بعدها.
2- المبسوط، ج 5، ص 515 .
3- سبق في ص 114.
لو ادعى المّعی علیه الإعسار

• ولو ادعى الإعسار كشف عن حاله، فإن استبان فقره أنظره. وفي تسليمه إلى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه روايتان أشهرهما الإنظار حتى يوسر. وهل يحبس حتى يتبين حاله ؟ فيه تفصيل ذكر في باب المفلّس.

------------------

الحاجة إليه في غير صورة الإقرار أقوى، كما نبهنا عليه من أن ثبوت الحق في الإقرار لا يتوقف عليه، وإنّما فائدته إنفاذ حاكم آخر إيّاه ونحو ذلك، بخلاف الحكم المترتب على البينة؛ فإنّه تمام السبب في ثبوت الحق.

وحيث يتحقق الحكم فإن رضي المحكوم له بالاقتصار على تلفّظ الحاكم به فذاك، وإن التمس أن يكتب له به حجة تكون في يده بحقه فعل ذلك، على ما فصل سابقاً(1).

ثمّ إن كان الحاكم يشهد بالإقرار على عين المقرّ ولا يعرف نسبه تخيّر بين أن يكتب بحليته من غير أن يذكر نسبه، وبين أن يبحث عن إثبات نسبه بشاهدي عدل. وهذا ظاهر.

قوله: «ولو ادعى الإعسار كشف عن حاله - إلى قوله- فيه تفصيل ذكر في باب المفلّس».

إذا ثبت عليه الحق كلّف أداءه إن كان بيده مال. فإن ادعى الإعسار فإن كان له أصل مال قبل ذلك، أو كان أصل الدعوى مالاً كلّف البينة على تلفه. فإن لم يقمها حبس إلى أن يتبين الإعسار. وهذا هو التفصيل الذي سبق في باب الفلس (2).

ولو لم يعرف له أصل مال، ولا كانت الدعوى مالاً، بل كانت جناية أو صداقاً أو نفقة زوجة أو قريب قبل قوله فيه بيمينه. فإذا ثبت إعساره فهل يخلّى سبيله، أو يسلّم إلى الغرماء؟

المشهور بين الأصحاب هو الأول؛ لقوله تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)(3) . والرواية الدالة على ذلك(4) ، لم تحضرني حال الكتابة. وذكر بعضهم: أنها ليست

ص: 117


1- سبق في ص 93 - 94.
2- سبق في ج 3، ص 523.
3- البقرة (2): 280 .
4- راجع الفقيه، ج 2، ص 59 ، ح 1703 - 1705.
لو أنکر المدّعی علیه

وأما الإنكار فإذا قال: «لا حق له عليّ » فإن كان المدعي يعلم أنّه موضع المطالبة بالبيئة، فالحاكم بالخيار إن شاء قال للمدعي: ألك بينة ؟ وإن شاء سكت.

------------------

موجودة أصلاً(1). وجعلها صاحب كشف الرموز رواية زرارة عن الباقر (علیه السّلام): «كان علي (علیه السّلام) لا يحبس في السجن إلا ثلاثة: الغاصب، ومن أكل مال اليتيم ظلماً، ومن اؤتمن على أمانة فذهب بها، وإن وجد له شيئاً ،باعه غائباً كان أو شاهداً»(2) . ولا دلالة في هذه الرواية على المدعى فضلاً عن كونها أشهر.

والقول بتسليمه إلى الغرماء للشيخ في النهاية (3)؛ استناداً إلى رواية السكوني عن الصادق (علیه السّلام): «أن علياً (علیه السّلام)كان يحبس في الدين، ثم ينظر إن كان له مال أعطى الغرماء، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء، فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم إن شئتم ،آجروه، وإن شئتم استعملوه»(4).

وضعف الرواية يمنع من العمل بها. وغاية ما يجب على المديون المعسر التكسب في وفاء الدين، وهو أعم من كونه بيد الغرماء أو باختياره والأصل عدم تسلّط صاحب الدين على عينه لانتفاء ولايته عليه.

وفصل ابن حمزة فقال:

إذا ثبت إعساره خلي سبيله إن لم يكن ذا حرفة يكتسب بها، وإلا دفعه إليه ليستعمله فيها، وما فضل عن قوته وقوت عياله أخذه بحقّه(5).

واحتج بحديث السكوني. وهو أعم من مدّعاه.

ص: 118


1- السيوري في التنقيح الرائع، ج 4، ص 250.
2- کشف الرموز ، ج 2، ص 499 ؛ والرواية أوردها الشيخ في تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 299، ح 836؛ والاستبصار، ج 3، ص 47، ح 154.
3- النهاية، ص 339 و 352.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 300، ح 838؛ الاستبصار، ج 3، ص 47، ح 155.
5- الوسيلة ص 212 .

أما إذا كان المدعى لا يعلم أنه موضع المطالبة بالبيئة وجب أن يقول الحاكم ذلك أو معناه. فإن لم تكن له بيّنة عرّفه الحاكم أنّ له اليمين.

• ولا يحلف المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي؛ لأنه حق له فيتوقف استيفاؤه على المطالبة.

ولو تبرّع هو أو تبرع الحاكم بإحلافه لم يعتد بتلك اليمين، وأعادها الحاكم إن التمس المدّعي.

------------------

قال في المختلف:

وما قاله ابن حمزة ليس بعيداً من الصواب؛ لأنه متمكن من أداء ما وجب عليه وإيفاء صاحب الدين حقه، فيجب عليه كما يجب عليه السعي في المؤونة، ومع تمكنه من التكسب لا يكون معسراً؛ لأنّ اليسار كما يتحقق بالقدرة على المال يتحقق بالقدرة على تحصيله؛ ولهذا منع القادر على التكسب من أخذ الزكاة، إلحاقاً له بالغني القادر على المال(1) .

وهذا كله لا يصلح دليلاً لما ذكره ابن حمزة، بل غايته وجوب تكسبه كيف شاء، لا تسلّط الغريم على منافعه بالاستيفاء والإجارة. ومع ذلك فقد ذهب جماعة (2) منهم المصنّف (رحمه الله) إلى عدم وجوب التكسب في قضاء الدين، بل إذا تكسب وفضل معه عن المؤونة شيء وجب صرفه في قضاء الدين؛ عملاً بظاهر الآية (3).

قوله: «ولا يحلف المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي - إلى قوله إن التمس المدعي».

ليس هذا الحق على نهج الحقين السابقين في طلب الجواب والحكم(4)، ومن ثَم وقع فيهما

ص: 119


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 471 - 472، المسألة 72.
2- منهم الشيخ في المبسوط، ج 2، ص 237؛ والعلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 60 و 61، المسألة 309، وص 179 ، المسألة 393؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 5، ص 297 - 298.
3- البقرة (2): 280 .
4- انظر ص 114 .
اذا حلف المنکر سقطت الدعوى

ثمّ المنكر إما أن يحلف، أو يرد، أو ينكل • فإن حلف سقطت الدعوى ولو ظفر المدعي بعد ذلك بمال الغريم لم تحلّ له مقاصته. ولو عاود المطالبة أثم ولم تسمع دعواه. ولو أقام بيّنةً بما حلف عليه المنكر لم تسمع. وقيل: يعمل بها

------------------

الخلاف دونه. والفرق أن الحق فيهما لا يغير الحكم بالنسبة إلى المدعي، بل يؤكده، بخلاف تحليف المنكر؛ فإنه يسقط الدعوى، وقد يتعلّق غرض المدعي ببقائها إلى وقت آخر، إمّا ليتذكر البيئة، أو ليتحرّى وقتاً صالحاً لا يتجرأ المنكر على الحلف فيه، ونحو ذلك، فليس للحاكم أن يستوفيه بغير إذنه.

قوله: «فإن حلف سقطت الدعوى - إلى قوله - والأول هو المروي».

من فوائد اليمين انقطاع الخصومة في الحال، لا براءة الذمة من الحق في نفس الأمر، بل يجب على الحالف فيما بينه وبين الله تعالى أن يتخلّص من حق المدعي، كما كان عليه ذلك قبل الحلف.

وأما المدعي فإن لم يكن له بينة بقي حقه في ذمته إلى يوم القيامة، ولم يكن له أن يطالبه به، ولا أن يأخذه مقاصةً، كما كان له ذلك قبل التحليف ولا معاودة المحاكمة، ولا تسمع دعواه لو فعل.

هذا هو المشهور بين الأصحاب لا يظهر فيه مخالف؛ ومستنده أخبار كثيرة، منها قوله(علیه السّلام) : «من حلف لكم فصدقوه»(1) . وقوله (علیه السّلام) : «من حلف له فليرض»(2).

ورواية ابن أبي يعفور(3) عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر

ص: 120


1- الفقيه، ج 3، ص 62 ، ح 3344.
2- الكافي، ج 7، ص 438، باب أنّه لا يحلف إلا بالله .... ح 1: الفقيه، ج 3، ص 187 ، ح 3705 ، وص 362 ،ح 4285؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 349، ح 987؛ وج8، ص 284، ح 1040.
3- في حاشية الأصل بخطه: «حاشية: ذكر في المختلف ج 8، ص 414 - 415، المسألة 15]: أن رواية ابن أبي يعفور من الصحيح، والأخرى من الحسن بطريق ابن بابويه، أما من طريق الشيخ والكليني فكلتاهما ضعيف (منه رحمه الله)».

ما لم يشترط المنكر سقوط الحق باليمين. وقيل: إن نسي بينته سمعت وإن .أحلف والأوّل هو المروي.

------------------

لحقه، فاستحلفه فحلف أن لا حق له قبله وذهبت اليمين بحق المدعي فلا حق له»، قلت له: وإن كانت له عليه بينة عادلة؟ قال: «نعم، وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامةً ما كان له، وكان اليمين قد أبطل كلّ ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه»(1).

وفي رواية أخرى عنه (علیه السّلام) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: «إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه»(2).

وروى الشيخ عن عبد الله بن وضاح قال: كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت أنه حلف يميناً فاجرة، فوقع له بعد ذلك أرباح ودراهم كثيرة، فأردت أن أقبض الألف درهم التي كانت لي عنده وأحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن (علیه السّلام) فأخبرته بالقصة، فكتب: «لا تأخذ منه شيئاً، إن كان قد ظلمك فلا تظلمه، ولولا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك ولكنّك رضيت بيمينه فقد مضت اليمين بما فيها»(3).

ولو أقام بعد إحلافه بيّنةً بالحق ففي سماعها أقوال:

أحدها - وهو الأشهر - عدم سماعها مطلقاً ؛ للتصريح به في رواية ابن أبي يعفور السابقة ، ودخوله في عموم الأخبار(4) ، أو إطلاقها . وادعى عليها الشيخ في الخلاف

ص: 121


1- الكافي، ج 7، ص 417 ، باب أن من رضي باليمين فحلف له .... ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 61 - 62 ، ح 3343 تهذيب الأحكام، ج 6، ص 231، ح 565.
2- الكافي، ج 5، ص 101، باب في آداب اقتضاء الدين، ح 3: وج 7، ص 418، باب أن من رضي باليمين فحلف له .... ح 2: الفقيه، ج 3، ص 185، ح 3698: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 231 - 232، ح 566: وج8، ص 293 - 294، ح 1085.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 289 - 290، ج 802؛ الاستبصار، ج 3، ص 53، ح 175؛ وأيضاً رواها الكليني في الكافي، ج 7، ص 430 - 431، باب النوادر ، ح 14.
4- تقدمت قُبَيْل هذا.

• وكذا لو أقام بعد الإحلاف شاهداً وبذل معه اليمين. وهنا أولى.

------------------

الإجماع(1)، ولأنّ اليمين حجة للمدعى عليه، كما أنّ البينة حجة للمدعي، وكما لا تسمع يمين المدعى عليه بعد حجّة المدّعي ، كذلك لا تسمع حجّة المدعي بعد حجة المدعى عليه.

وللشيخ في المبسوط قول آخر بسماعها مطلقاً، ذكره في فصل «فيما على القاضي والشهود»(2). وفصل في موضع آخر منه بسماعها مع عدم علمه بها أو نسيانه (3). وهو خيرة ابن إدريس(4) .

وقال المفيد: تسمع إلا مع اشتراط سقوطها(5)؛ محتجاً بأنّ كل حالة يجب عليه الحق بإقراره، فيجب عليه بالبينة، كما قبل اليمين (6).

وأجيب بالفرق بين البينة والإقرار؛ لأنّ الثاني أقوى، فلا يلزم التسوية في الحكم (7).

والحق أنّ الرواية إن صحت كانت هي الحجة والفارق، وإلا فلا.

قوله: «وكذا لو أقام بعد الإحلاف شاهداً وبذل معه اليمين، وهنا أولى».

هذا متفرّع على سماع بيّنته الكاملة وعدمه، فإن قلنا بعدم سماعها فهنا أولى؛ لأنّ الحكم بالشاهد الواحد واليمين أضعف من الحكم بالشاهدين، ولتناول النصوص السابقة له. وإن قلنا بسماع البينة فالأقوى سماع الشاهد الواحد مع اليمين؛ لاشتراكهما في أصل الحجية الموجبة للقبول، وإن اختلفا في القوة والضعف.

ص: 122


1- الخلاف، ج 6، ص 293 - 294، المسألة 40.
2- المبسوط، ج 5، ص 516.
3- المبسوط، ج 5، ص 573.
4- لم نعثر عليه في السرائر، ونسبه إليه أيضاً العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 414، المسألة 15؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 68 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10) ؛ وفي السرائر، ج 2، ص 159 خلاف ما نُسب إليه.
5- المقنعة، ص 733 .
6- احتج له العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 416، المسألة 15.
7- أجاب به العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 416، المسألة 15.

• أمّا لو أكذب الحالف نفسه جاز مطالبته، وحلّ مقاصته ممّا يجده له مع امتناعه عن التسليم.

• وإن رد اليمين على المدعى لزمه الحلف. ولو نكل سقطت دعواه.

------------------

قوله: «أمّا لو أكذب الحالف نفسه جاز مطالبته وحلّ مقاصته» إلى آخره.

كما يحلّ له مع امتناعه من التسليم؛ لتصادقهما حينئذ على بقاء الحق في ذمّة الخصم فلا وجه لسقوطه.

قوله: «وإن رد اليمين على المدعي لزمه الحلف. ولو نكل سقطت دعواه».

إذا رد المنكر اليمين على المدعي فله ذلك، إلا في مواضع :

منها دعوى التهمة. وقد تقدمت.

ومنها : دعوى وصيّ اليتيم مالاً على آخر فأنكر ، سواء نكل عن اليمين أم أراد ردّها؛ فإنّه لا يمكن منه؛ لأن الوصيّ لا تتوجه عليه يمين.

ومنها: لو ادعى الوصي على الوارث أن الميت أوصى للفقراء، أو بخمس أو زكاة أو حجّ، ونحو ذلك مما لا مستحق له ،بخصوصه، فأنكر الوارث كذلك (1)؛ فإنّه يلزم باليمين أو الإقرار، ولو كان يتيماً أُخر حتى يبلغ.

وحيث يتوجه للمنكر ردّها على المدعي فإما أن يحلف أو يمتنع. فإن حلف استحق المدعي. وهل يمينه بمنزلة البيئة نفسها أو بمنزلة إقرار المدعى عليه؟ فيه قولان:

أحدهما أنّه كالبيّنة؛ لأنّ الحجّة اليمين واليمين وجدت منه.

والثاني: أنه كإقرار المنكر ؛ لأنّ الوصول إلى الحق جاء من قبل ردّه أو نكوله.

ويتفرّع على القولين فروع كثيرة مذكورة في مواضعها.

ومنها: أنّ المدعى عليه لو أقام بيّنةً على أداء المال أو على الإبراء عنه بعد ما حلف المدّعي، فإن جعلنا يمينه كبينة (2) سمعت بيّنة المدعى عليه. وإن جعلناها كإقرار المدعى

ص: 123


1- في بعض النسخ: «ذلك» بدل «كذلك».
2- في بعض النسخ: «كبيّنته» بدل «كبيّنة».

------------------

عليه لم تسمع؛ لأنه مكذب لبيئته بالإقرار.

وهل يجب الحق بفراغ المدعي من اليمين المردودة، أم لا بد من حكم الحاكم بالحق؟ يبنى على القولين أيضاً. فإن جعلناها كالبينة فلا بد من الحكم. وإن جعلناها كإقرار المدعى عليه فلا حاجة إليه كما مرّ .

وإن امتنع المدعي عن الحلف سأله القاضي عن سبب امتناعه. فإن لم يعلل بشيء، أو :قال لا أُريد أن أحلف فهذا نكول يسقط حقه عن اليمين. وليس له مطالبة الخصم بعد ذلك، ولا استئناف الدعوى في مجلس آخر، كما لو حلف المدعى عليه؛ لصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السّلام) في الرجل يدعي ولا بيّنة له، قال: «يستحلف، فإن ردّ اليمين على صاحب الحق فلم يحلف فلا حق له»(1) .

ومثله رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (علیه السّلام)(2).

ولأنه لولا ذلك لرفع خصمه كلّ يوم إلى القاضي، والخصم يرد عليه اليمين وهو لا يحلف، فيعظم الخطب، ولا يتفرّغ القاضي من خصومته إلى شغل آخر.

وقيل: إنما يسقط حقه في ذلك المجلس، وله تجديدها في مجلس آخر(3).

والأصح الأوّل، إلا أن يأتي ببينة.

وإن ذكر المدعي لامتناعه سبباً فقال: «أريد أن أتى بالبينة»، أو «أسأل الفقهاء» أو «أنظر في الحساب» ونحو ذلك، ترك ولم يبطل حقه من اليمين.

وهل يقدر لإمهاله قدر؟ فيه وجهان، أجودهما أنه لا يقدر له؛ لأن اليمين حقه فله تأخيره إلى أن يشاء، كالبينة يتمكن من إقامتها متى شاء. وهذا بخلاف المدعى عليه؛ فإنه لا يمهل إذا استمهل؛ لأن الحق فيه لغيره، بخلاف تأخير المدعي؛ فإنه يؤخّر حقه فيقبل إذا كان له عذر مسموع .

ص: 124


1- الكافي، ج 7، ص 416، باب من لم تكن له بينة فيرد عليه اليمين ، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 230، ح 557.
2- الكافي، ج 7، ص 416، باب من لم تكن له بينة فيرد عليه اليمين ، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 230، ح 556.
3- قاله العلامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 452 .
إذا نكل المنكر عن الیمین

• وإن نكل المنكر، بمعنى أنه لم يحلف ولم يردّ، قال الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلاً. ويكرّر ذلك ثلاثاً استظهاراً لا فرضاً فإن أصر، قيل: يقضي عليه

------------------

قوله: «وإن نكل المنكر بمعنى أنه لم يحلف ولم يرد إلى قوله - وهو المروي».

إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، بمعنى أنه امتنع منها ومن ردّها على المدعي، قال له الحاكم ثلاث مرّات - استظهاراً لا وجوباً : «إن حلفت وإلا جعلتك ناكلاً». فإن حلف فذاك. وإن أصرّ على النكول ففي حكمه قولان:

أحدهما - وهو الذي اختاره المصنف (رحمه الله) وقبله الصدوقان (1) والشيخان(2) والأتباع (3)، ومنهم القاضي في الكامل(4) - أنّه يقضى عليه بمجرد نكوله(5) ؛ لقوله (علیه السّلام): «البينة على من ادعى، واليمين على من ادعي عليه»(6).

وجه الاستدلال به أنه جعل جنس اليمين في جانب المدعى عليه، كما جعل البينة في جانب المدعي، والتفصيل يقطع الاشتراك. ولا ينتقض ذلك برد اليمين على المدعي حيث حكم عليه باليمين ؛ لأنّ ثبوت اليمين عليه هنا جاء من قبل الرد لا بأصل الشرع المتلقى من الحديث.

وجملة الأمر أنّ مخالفة مقتضى التفصيل يحتاج إلى دليل خاص مخرج عن حكمه، وهو موجود مع الردّ لا مع النكول.

ص: 125


1- المقنع، ص 396؛ وحكاه عنهما العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 397، المسألة 10.
2- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 724 والشيخ الطوسي في النهاية، ص 340. وفي حاشيه الأصل: «ذهب إليه الشيخ في النهاية خاصة. (منه رحمه الله)».
3- كأبي الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه، ص 447؛ وسلار في المراسم، ص 231؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 533 وابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 445.
4- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 397، المسألة 10.
5- في حاشية الأصل: «مذهب الشافعي ومالك أنّه لا يقضى به بنكوله، وعند أبي حنيفة وأحمد يقضى به. (منه رحمه الله)». راجع الخلاف، ج 6. ص 290 - 291، المسألة 38 .
6- الكافي، ج 7، ص 415، باب أنّ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 32 ح 3270؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 229، ح 553.

بالنكول. وقيل: بل يرد اليمين على المدعي، فإن حلف ثبت حقه، وإن امتنع سقط. والأوّل أظهر، وهو المروي.

------------------

ولصحيحة محمّد بن مسلم أنه سأل الصادق (علیه السّلام)عن الأخرس كيف يحلف؟ قال: «إنّ أمير المؤمنين (علیه السّلام)كتب له اليمين وغسلها وأمره بشربها فامتنع، فألزمه الدين»(1). وظاهره أنّه لم يردّ اليمين على خصمه وإلا لنقل، ولزم تأخير البيان عن وقت الخطاب، بل عن وقت الحاجة. وأيضاً فقوله «فامتنع فألزمه» يدلّ على تعقب الإلزام للامتناع بغير مهلة لمكان «الفاء»، وهو ينافي تخلل اليمين بينهما، وفعله (علیه السّلام) حجة كقوله. والفرق بين الأخرس وغيره ملغى بالإجماع.

ويدلّ عليه أيضاً رواية عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال قلت للشيخ : خبرني عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلا يكون له بينة بماله، قال: «فيمين المدعى عليه، فإن حلف فلا حق له، وإن لم يحلف فعليه»(2) . رتب ثبوت الحق عليه على عدم حلفه، فلا يعتبر معه أمر آخر. وهذه الرواية لم يذكروها في الاستدلال، مع أنّها واضحة الدلالة، وهي من الروايات المتلقاة بالقبول للأصحاب؛ لأنّها مستند الحكم بثبوت اليمين على المدعي على الميت إذا كان له بينة. وسيأتي الكلام في بابها (3).

والثاني : أنه يردّ اليمين على المدعي ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف (4) والقاضي في المهذب(5) ، وابن الجنيد(6) وابن إدريس (7) والعلّامة في أكثر كتبه (8)وسائر

ص: 126


1- الفقيه ، ج 3، ص 112 - 113. ح 3435؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 319، ح 879 .
2- الكافي، ج 7، ص 415 - 416، باب من ادعى على ميت، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 63 - 64 ، ح 3346؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 229 - 230، ح 555. والمروي عنه هو موسى بن جعفر (علیهما السّلام).
3- يأتي في ص 130 - 131، وفي بعض النسخ: «باقيها» بدل «بابها».
4- المبسوط، ج 5، ص 516: الخلاف، ج 6، ص 290 - 291 ، المسألة 38 .
5- المهذب، ج 2، ص 585 و 586 .
6- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 397، المسألة 10.
7- السرائر، ج 2، ص 165.
8- مختلف الشيعة، ج 8، ص 398، المسألة 10؛ قواعد الأحكام، ج 3، ص 452: تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 180 ، الرقم 6530.

------------------

المتأخرين؛ لما روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه رد اليمين على طالب الحق (1).

ولرواية عبيد بن زرارة عن الصادق (علیه السّلام) في الرجل يدعى عليه الحق ولا بينة للمدعي، قال: يستحلف، أو يرد اليمين على صاحب الحق ، فإن لم يفعل فلا حق له»(2).

وحسنة هشام بن سالم عن الصادق (علیه السّلام) قال: «يرد اليمين على المدعي»(3). وهو عام.

ولأنّ الشيخ في الخلاف ادعى عليه الإجماع(4)، والمنقول منه بخبر الواحد حجة.

ولأن المدعي مع رد اليمين عليه يجب عليه الحلف، فإن نكل بطل حقه. وإذا جاز أن يبطل حقه على تقدير النكول وجب على الحاكم التماس اليمين منه؛ لئلا يثبت المسقط للحق.

ولقوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَدَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَنُ بَعْدَ أَيْمَنِهِمْ) (5)، فأثبت تعالى يميناً مردودة بعد يمين، أي بعد وجوب يمين.

ولقوله (علیه السّلام): «المطلوب أولى باليمين من الطالب» (6). ولفظ «أولى» أفعل التفضيل، وحقيقته الاشتراك في الحقيقة وتفضيل أحدهما على الآخر، فاشتركا في اليمين، لكن المطلوب أولى.

ولأنّ الأصل براءة الذمة، وعدم شغلها بالمال إلى أن يثبت المزيل عن حكم الأصل، ولم يثبت ذلك بالنكول.

وفى كلّ واحد من هذه الأدلّة نظر.

أمّا الأوّل: فمع قطع النظر عن سنده من حيث إنه عامي لا يدلّ على المطلوب؛ لأنه ظاهر

ص: 127


1- سنن الدارقطني ، ج 3، ص 456. ح 4410: السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 310، ح 20739.
2- الكافي، ج 7، ص 416، باب من لم تكن له بينة فيرد عليه اليمين، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 230، ح 556.
3- الكافي، ج 7، ص 417، باب من لم تكن له بينة فيرد عليه اليمين، حه؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 230، ح 560.
4- الخلاف، ج 1، ص 292، المسألة 38.
5- المائدة (5): 108 .
6- سنن الدارقطني، ج 3، ص 462، ح 4433؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 210 ، ذيل الحديث 2143؛ وليس فيهما «من الطالب»: الخلاف، ج 1، ص 292، المسألة 38 .

------------------

في حكاية الحال، ومحتمل بل ظاهر في ردّه اليمين عليه في تلك الواقعة، وجاز كونه بالتماس المنكر يمينه كما هو مقتضى القاعدة السابقة ولا دلالة فيه على ردّه عليه مطلقاً بل لا يصح إرادة هذا المعنى؛ لأنّ المنكر إذا بذل اليمين لا يصح رده على طالب الحق. ووقائع الأحوال إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال.

ورواية عبيد بن زرارة في طريقها القاسم بن سليمان، ولم ينص الأصحاب عليه بتوثيق ولا غيره. ومع ذلك فهي ظاهرة في كون الراد هو المنكر، فلا يدلّ على المدعى فيكون الحكم فيها كالسابقة في حملها على ابتداء الأمر بدون النكول.

ووجه ظهور كون الراد هو المنكر أنّ ضمير (يستحلف» المستتر يعود إلى المنكر، وهو المدعى عليه الحق المذكور سابقاً، والضمير المستتر في الفعل وهو قوله: «أو يرد» يرجع إلى أقرب مذكور قبله، وهو المضمر في «يستحلف»، فيكون دالاً على كون المنكر هو الراد. وعموم المدعي المردود عليه اليمين في رواية هشام مبني على كون المفرد المحلى ب-«اللام» الجنسية للعموم، وهو غير مرضي عند الأصوليين(1). ولو سلّم فهو ظاهر في ردّ اليمين من المنكر، كما في غيره.

ودعوى الشيخ الإجماع من غريب الاحتجاج مع مخالفته للحكم في النهاية (2)، وقد سبقه الصدوقان (3) ، وشيخه المفيد(4) ، وأبو الصلاح(5)، وسلار (6)، فلو عكس الدعوى كان أولى؛ لأنّ هؤلاء المذكورين هم عمدة فقهاء الطائفة في تلك الأوقات.

ص: 128


1- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول، ج 2، ص 164.
2- النهاية، ص 340 .
3- المقنع، ص 396؛ وحكاه عنهما العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 397، المسألة 10.
4- المقنعة، ص 724 .
5- الكافي في الفقه، ص 447.
6- المراسم، ص 231 .
لو كان للمدعي بيّنة لم يقل الحاكم «أحضرها»

•ولو بذل المنكر يمينه بعد النكول لم يلتفت إليه.

ولو كان للمدعي بيّنة لم يقل الحاكم «أحضرها»؛ لأنّ الحق له. وقيل: يجوز. وهو حسن.

------------------

وأما أمر الحاكم له باليمين لجواز نكوله فهو فرع عدم القضاء بالنكول، وإلا لم يجز له تحليفه فضلاً عن وجوبه. وردّ اليمين عين المتنازع فلا يجعل دليلاً.

والاستدلال بالآية (1) الدالة على الخوف من ردّ اليمين بعيد جداً؛ لأنّها مسوقة لحكم الوصيّة التي شهد عليها أهل الذمة. وأحلف الشاهدان استظهاراً، وخوفاً من أن تردّ شهادتهم وأيمانهم. وليس فيها ما يشعر بموضع النزاع أصلاً.

وقوله(علیه السّلام) : «يمين المطلوب أولى»(2) فالتفضيل فيه في محله؛ لأن اليمين على المنكر، وهو أولى به من رده على المدعي ولا تعرّض له إلى يمينه مع النكول؛ لأن التفضيل يحصل بدونه.

وأصالة براءة الذمة مقطوعة بالأدلة الدالّة على ثبوت الحق. وعلى كل حال، فلا ريب أن رد اليمين على المدعي أولى.

قوله: «ولو بذل المنكر يمينه بعد النكول لم يلتفت إليه».

لأنّ الحق قد ثبت عليه بالنكول بناءً على القضاء به، فلا يسقط ببذله اليمين في غير وقته، كما لو بذله بعد يمين المدعي لو قلنا بتوقف الثبوت عليه، أو كان قد رده عليه. ولو لم نقض بالنكول فبذله بعده سمع منه وأحلف .

قوله: «ولو كان للمدعي بيئة لم يقل الحاكم: أحضرها؛ لأن الحق له» إلى آخره.

القول بأنّ الحاكم لا يقول للمدعي «أحضر بيّنتك» للشيخ في المبسوط، فقال:

لا يقول للمدعي : أحضر بيّنتك ، بل يقول له : إن شئت أقمتها ، ولا يقول له : أقمها ؛ لأنه أمر (3).

ص: 129


1- المائدة (5): 108 .
2- تقدم في ص 127، والرواية هكذا: «المطلوب أولى باليمين من الطالب».
3- المبسوط، ج 5، ص 469.

• ومع حضورها لا يسألها الحاكم ما لم يلتمس المدعي. ومع الإقامة بالشهادة لا يحكم إلا بمسألة المدعي أيضاً. وبعد أن يعرف عدالة البينة ويقول: «هل عندك جرح؟» فإن قال: «نعم»، وسأل الإنظار في إثباته أنظره ثلاثاً. فإن تعذر الجرح حكم بعد سؤال المدّعي.

لا يستحلف المدعي مع البيّنة

• ولا يستحلف المدعي مع البيّنة، إلا أن تكون الشهادة على ميت فيستحلف على بقاء الحق في ذمته استظهاراً.

------------------

والحق له ، فلا يؤمر باستيفائه ، بل إليه المشيئة . وتبعه القاضي في المهذب(1) وابن إدريس (2) .

وقال في النهاية : يجوز أن يقول له: «أحضرها» (3). واختاره الأكثر واستحسنه المصنف لأنّ الأمر هنا ليس للوجوب والإلزام، بل مجرد إذن وإعلام، خصوصاً إذا لم يعرف أن المدعى يعلم ذلك، فيكون إرشاده إليه مندوباً إليه.

قوله: (ومع حضورها لا يسألها الحاكم ما لم يلتمس المدعي» إلى آخره.

لأن الحق للمدعي في جميع ذلك كله فلا يستوفيه إلا بإذنه.

قوله: «ولا يستحلف المدعي مع البينة - إلى قوله - أشبهه أنّه لا يمين».

الأصل في المدّعي أن لا يكلف اليمين، خصوصاً إذا أقام البينة؛ للتفصيل القاطع للاشتراك في الحديث المشهور(4) ، ولكن تخلّف عنه الحكم بدليل من خارج في صورة ردّه عليه إجماعاً، ومع نكول المنكر عن اليمين على خلاف.

وبقي الكلام فيما إذا أقام بيّنةً بحقه، فإن كانت دعواه على مكلّف حاضر فلا يمين عليه إجماعاً، ولرواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (علیه السّلام) عن الرجل يقيم البينة على حقّه

ص: 130


1- المهذب، ج 2، ص 585.
2- السرائر، ج 2، ص 158 .
3- النهاية، ص 339 .
4- راجع تخريجه في ص 125 ، الهامش 6.

ولو شهدت على صبي أو مجنون أو غائب ففي ضم اليمين إلى البينة تردّد، أشبهه أنه لا يمين.

------------------

هل عليه أن يستحلفه؟ قال: «لا»(1)، ورواية أبي العبّاس عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «إذا أقام الرجل البيّنة على حقه فليس عليه يمين»(2).

ولكن ورد في الرواية المتضمنة لوصية علي (علیه السّلام) لشريح قوله : «ورد اليمين على المدعي مع بيّنته ؛ فإنّ ذلك أجلى للعمى وأثبت للقضاء»(3). وقد تقدّم أنّ الرواية ضعيفة السند(4) ، فإنّ الراوى لها سلمة بن كهيل، وهو ضعيف.

وربما حملت على ما إذا ادعى المشهود عليه الوفاء أو الإبراء أو التمس منه إحلافه على بقاء الاستحقاق، فإنّه يجاب إليه؛ لانقلاب المنكر مدعياً.

وهذا الحكم لا إشكال فيه إلّا أنّ إطلاق الوصيّة بعيد عنه؛ فإنّ ظاهرها كون ذلك على وجه الاستظهار وكيف كان فالاتفاق على ترك العمل بها على الإطلاق.

وإن كانت الدعوى على ميت فالمشهور بين الأصحاب - لا يظهر فيه مخالف - أن المدعي يستحلف مع قيام بيّنته على بقاء الحق في ذمّة الميّت.

والأصل فيه رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال قلت للشيخ: خبرني عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلا يكون له البينة بماله، قال: «فيمين المدعى عليه، فإن حلف فلا حق له، وإن لم يحلف فعليه. وإن كان المطلوب بالحق قد مات، فأقيمت عليه البينة

ص: 131


1- الكافي، ج 7، ص 417، باب أنّ من كانت له بينة فلا يمين عليه إذا أقامها، ح1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 230، ح 558 .
2- الكافي، ج 7، ص 417 ، باب أنّ من كانت له بينة فلايمين عليه إذا أقامها، ح2؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 231، ح 563.
3- الكافي، ج 7، ص 412 - 413، باب أدب الحكم، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 15 - 16، ح 3246؛ تهذيب الأحكام، ج 6 . ص 225 - 226، ح 541.
4- تقدّم في ص 82.

------------------

فعلى المدعي اليمين بالله تعالى الذي لا إله إلا هو لقد مات فلان وأن حقه لعليه، فإن حلف وإلا فلا حق له؛ لأنا لا ندري لعله قد وفاه ببينة لا نعلم موضعها، أو بغير بينة قبل الموت. فمن ثَمّ صارت عليه اليمين مع البينة، فإن ادّعى ولا بينة فلا حق له؛ لأن المدعى عليه ليس بحي، ولو كان حيّاً لألزم اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه، فمن ثمّ لم يثبت له عليه حق»(1).

وهذه الرواية مع اشتهار مضمونها بين الأصحاب وتلقيها بالقبول معلّلة، فكانت مخصصة للروايتين السابقتين، والتعليل يقوّي جانبها. مع أن في طريقها محمد بن عيسى العبيدي، وهو ضعيف على الأصح، وياسين الضرير ولا نص على توثيقه بل ولا على مدحه .

وعلى تقدير تعين العمل بها - نظراً إلى جبر ضعفها بالشهرة، أو للاتفاق عليها - ففي تعدّي حكمها إلى غير ما دلّت عليه ممّا ساواه في المعنى، كالدعوى على الغائب والطفل والمجنون قولان أشبههما عند المصنف (رحمه الله) العدم وقوفاً فيما خالف الأصل على موضع النص والوفاق.

وذهب الأكثر إلى تعدّي الحكم إلى من ذكر ؛ لمشاركتهم للميت في العلة المومن إليها في النص، وهو أنّه ليس للمدعى عليه لسان يجيب به، فيكون من باب منصوص العلة، أو من باب اتحاد طريق المسألتين، لا من باب القياس الممنوع، ولأن الحكم في الأموال مبني على الاحتياط التام، وهو يحصل بانضمام اليمين ومن ثَم ذهب أكثر مَنْ خالفنا إلى ذلك، من غير استناد إلى نصّ، فيكون أرباب النصّ أولى بالحكم.

وفيه نظر؛ لأنّ العلة الظاهرة في الخبر على تقدير تسليمه - كون المدعى عليه ليس بحي، وهذه العلة منتفية عن المذكورين. وأيضاً فإنّ مورد النص -وهو الميت أقوى- من الملحق به؛ لأنّ جوابه قد انتفى مطلقاً، ويئس منه في دار الدنيا، والصبي والمجنون والغائب

ص: 132


1- تقدم تخريجها في ص 126، الهامش 2.

• ويدفع الحاكم من مال الغائب قدر الحق بعد تكفيل القابض بالمال.

------------------

لهم لسان يرتقب جوابه، وهم باقون على حجّتهم. واليمين حق للمدعي، فلا يتولاه غيره.

ولو حملت الرواية على استحباب تحليف المدعي لا وجوبه - إن لم ينعقد الإجماع على خلافه - أمكن للتساهل في دليل الاستحباب بخلاف الإيجاب ؛ فإنه مع ما عرفت ما فيه - لا يقاوم ما دلّ على عدم اليمين على المدعي مع بيئته.

واعلم أنه مع العمل بمضمون الخبر يجب الاقتصار على ما دلّ عليه من كون الحلف على المدعي مع دعواه الدين على الميت، كما يدلّ عليه قوله: «وأن حقه لعليه .... وإنا لا ندري لعلّه وفاه». فلو كانت الدعوى عيناً في يده بعارية أو غصب دفعت إليه مع البينة من غير يمين .

ولو لم توجد في التركة وحكم بضمانها للمالك، ففي إلحاقها حينئذ بالدين؛ نظراً إلى انتقالها إلى الذمة، أو العين؛ نظراً إلى أصلها وجهان أجودهما الثاني.

ولو أقر له قبل الموت بمدة لا يمكن فيها الاستيفاء عادةً، ففي وجوب ضم اليمين إلى البيّنة ،وجهان من إطلاق النصّ الشامل لموضع النزاع، وقيام الاحتمال، وهو إبراؤه منه، وقبضه من ماله ولو بعد الموت، ومن البناء على الأصل والظاهر من بقاء الحق. وهذا أقوى.

قوله: «ويدفع الحاكم من مال الغائب قدر الحق بعد تكفيل القابض بالمال».

أي بعد إقامة المدعي كفيلاً له بالمال الذي دفع إليه من مال الغائب. وإنما اعتبر المصنف (رحمه الله) الكفيل؛ لأنّه لم يوجب عليه اليمين مع البينة، فجعل الكفيل عوضاً عنه؛ لاحتمال براءة الغائب من الحق على وجه لا تعلمه البينة. ومَنْ أوجب عليه اليمين لم يعتبر الكفيل إلا على تقدير تعذر اليمين، كما لو كان المدعي على الغائب وكيل المستحق؛ فإنّه لا يجوز إحلافه، فيستظهر بالكفيل. ولا شكّ في أنّ الكفالة واليمين احتياط واستظهار، إلا أنّ ثبوتهما يحتاج إلى دليل.

ص: 133

لو ذكر المدعى أن له بينة غائبة

• ولو ذكر المدعى أن له بينة غائبة خيره الحاكم بين الصبر وإحلاف الغريم. وليس له ملازمته ولا مطالبته بكفيل.

إذا طلب الحاكم الجواب من المدعى عليه فسكت

• وأمّا السكوت فإن اعتمده ألزم الجواب، فإن عاند حبس حتى يبيّن . وقيل: يجبر حتى يجيب . وقيل : يقول الحاكم: إمّا أجبت ، وإما جعلتك ناكلاً ورددت اليمين على المدعي، فإن أصرّ ردّ الحاكم اليمين على المدعي. والأوّل مروي، والأخير بناءً على عدم القضاء بالنكول.

ولو كان به آفة من طرش أو خرس توصل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفيدة لليقين.

ولو استغلقت إشارته بحيث يحتاج إلى المترجم لم يكف الواحد، وافتقر في الشهادة بإشارته إلى مترجمين عدلين.

------------------

قوله: «ولو ذكر المدّعي أنّ له بيّنة غائبة خيره الحاكم» إلى آخره.

أما تخييره بين الأمرين؛ فلأنّ الحق له، فإن شاء عجّل وأحلف الغريم؛ لعدم البينة، وإن شاء أخر حقه.

وأما المنع من ملازمته ومطالبته بالكفيل؛ فلأنها عقوبة لم يثبت موجبها، ولأصالة البراءة من ذلك. وهو مذهب الشيخ في الخلاف والمبسوط(1)، وابن الجنيد (2)، والمتأخرين.

وللشيخ قول آخر في النهاية بجواز إلزامه بتكفيله (3): حفظاً لحق المدعى؛ حذراً من ذهاب الغريم. ولا ريب أنه أحوط.

قوله: «وأمّا السكوت فإن اعتمده ألزم الجواب، فإن عاند حبس حتى يبيّن» إلى آخره.

إذا طلب الحاكم الجواب من المدّعى عليه فسكت، فإن كان سكوته لدهش له أو غباوة

ص: 134


1- الخلاف، ج 6، ص 237، المسألة 36؛ المبسوط، ج 5، ص 517.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 376، المسألة 4.
3- النهاية، ص 339 .

------------------

توصل إلى إيناسه برفق وأمهله إلى أن يزول دهشه ويعرف الحال.

وإن كان لآفة من صمم أو خرس توصل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفيدة للمطلوب ولو بواسطة مَنْ يعرف إشارته، ويفتقر حينئذ إلى اثنين عدلين؛ لأنها شهادة - وإن كان سكوته عناداً ففيه أقوال:

أحدها: قول الشيخ في النهاية والخلاف(1) - وقبله المفيد وسلار(2)، واختاره المصنف والمتأخرون - إنّه يلزم بالجواب، فإن أصرّ حبس حتى يبيّن؛ لأنّ الجواب حق عليه فيجوز حبسه لاستيفائه منه.

والثاني : ما نقله المصنف (رحمه الله) من أنّه يجبر حتى يجيب من غير حبس، بل يضرب ويبالغ معه في الإهانة إلى أن يجيب.

وثالثها: قول الشيخ في المبسوط : يقول له الحاكم ثلاثاً : إن أجبت وإلا جعلتك ناكلاً ورددت اليمين على خصمك(3) .

واختاره ابن إدريس(4). وهو مبني على عدم القضاء بالنكول، وإلا قضى عليه بامتناعه بعد عرض الحكم عليه بالنكول.

وفيه منع كون السكوت نكولاً، سواء قضينا به أم لا. فالقول الأول هو الأقوى. وذكر المصنف أنّه مروي(5) أيضاً، ولم نقف على روايته.

ص: 135


1- النهاية، ص 342 الخلاف، ج 1، ص 238، المسألة 37 .
2- المقنعة، ص 725 : المراسم، ص231 .
3- المبسوط، ج 5، ص 517.
4- السرائر، ج 2، ص 163.
5- يحتمل أن يكون مراده النبوي المشهور : «ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه». راجع الأمالي الشيخ الطوسي ص 520، المجلس 18، ح 53/1146؛ وصحيح البخاري، ج 2، ص 845، ذيل الحديث 2270؛ وسنن أبي داود، ج 3، ص 313، ح 3628؛ وسنن ابن ماجة، ج 2، ص 811، ح 2427.
مسائل تتعلق بالحكم على الغائب :
الأُولى: يقضى على مَنْ غاب عن مجلس القضاء

• يقضى على مَنْ غاب عن مجلس القضاء مطلقاً، مسافراً كان أو حاضراً، وقيل: يعتبر في الحاضر تعذّر حضوره مجلس الحكم.

------------------

قوله: «يقضى على مَنْ غاب عن مجلس القضاء مطلقاً» إلى آخره.

مذهب أصحابنا جواز القضاء على الغائب في الجملة. وهو مذهب أكثر العامة كالشافعي(1) ومالك (2) وأحمد (3) وجماعة من الفقهاء(4) ؛ وخالف فيه أبو حنيفة(5) ، إلا أن يتعلّق بخصم حاضر كشريك أو وكيل.

والحجة على جوازه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حجّة كقوله ؛ ففي الخبر المستفيض عنه أنه قال لهند زوجة أبي سفيان - وقد قالت: إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (6) . وكان أبو سفيان غائباً عن المجلس. وفيه حجة لنا عليهم في عدم اشتراط غيبته بمسافة العدوى ولا غيرها؛ لأنّ أبا سفيان كان يومئذ حاضراً بمكة.

ورووا عن أبي موسى الأشعري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر عنده خصمان فتواعد الموعد، فوفى أحدهما ولم يف الآخر قضى للذي وفي على الذي لم يف(7).

ص: 136


1- حكاه عنه الماوردي في الحاوي الكبير، ج 16، ص 296: والنووي في روضة الطالبين، ج 8، ص 158.
2- المدوّنة الكبرى، ج 2، ص 455 - 456: وج 5 ، ص 146 و 406؛ وج 6، ص 24 و 443.
3- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 486 المسألة 8299 : الكافي في فقه أحمد بن حنبل، ج 4، ص 301.
4- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 486، المسألة 8299 .
5- حكاه عنه ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 486، المسألة 8299؛ وكذا في البحر الرائق، ج 5، ص 177؛ وج 7، ص 22.
6- مسند أحمد، ج 7، ص 60، ص 23597؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1338، ح 7 - 1714/9؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 289 ، ح 3532؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 769 ، ح 2293؛ سنن النسائي، ج 8، ص 259، ح 5430.
7- راجع الحاوي الكبير، ج 16، ص 298.
الثانية: يقضى على الغائب في حقوق الناس دون حقوق الله

الثانية: يقضى على الغائب في حقوق الناس كالديون والعقود، ولا يقضى في حقوق الله كالزنى واللواط؛ لأنّها على التخفيف.

ولو اشتمل الحكم على الحقّين قضى بما يختص الناس كالسرقة يقضى بالغرم. وفي القضاء بالقطع تردّد.

------------------

والمراد به مع البينة؛ لاستحالة الحكم بمجرد دعواه، وهو أعم من حضور خصم من شريك ووكيل وعدمه.

ومن طريق الخاصّة رواية جميل بن درّاج عن جماعة من أصحابنا، عنهما (علیهما السّلام) قال: «الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة، ويباع ماله، ويقضى عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم»(1) ، ولأنه كسماع البينة.

ثم إن كان غائباً عن البلد قضى عليه باتفاق أصحابنا، سواء كان بعيداً أم قريباً وكذا لو كان حاضراً في البلد وتعذر حضوره في مجلس الحكم، إما قصداً أو لعارض.

ولو لم يتعذر حضوره فالمشهور الجواز أيضاً؛ لعموم الأدلة. وقال الشيخ في المبسوط : لا يحكم عليه حينئذ ؛ لأنّ القضاء على الغائب موضع ضرورة فيقتصر فيه على محلّها(2).

ولأنه ربما وجد مطعناً ومدفعاً، وجاز في الغائب للمشقة بطول انتظاره. والأظهر الأول.

قوله: «يقضى على الغائب في حقوق الناس كالديون والعقود» إلى آخره.

من حكم بالقضاء على الغائب خصه بحقوق الآدميين، سواء كانت مالاً كالديون وغيرها من عقود المعاوضات، أم غيرها كالنكاح والطلاق والعتق والجنايات والقصاص دون حق الله تعالى المحض كالزنى واللواط : لأنها مبنية على التخفيف ، ومن ثُمَّ درثت الحدود بالشبهات.

ولو اشتمل على الحقين كالسرقة - فلا إشكال في ثبوت حق الآدمي، وهو المال. وأمّا القطع فهو حق الله تعالى، فتردّد المصنّف (رحمه الله) في حكمه من حيث إنّه حق لله

ص: 137


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 296 ، ح 827 .
2- المبسوط ، ج 5، ص 520 .
الثالثة: و لو كان صاحب الحق غائباً فطالب الوكيل

الثالثة: و لو كان صاحب الحق غائباً فطالب الوكيل، فادعى الغريم التسليم إلى الموكل ولا بيّنة ففي الإلزام تردّد بين الوقوف في الحكم؛ لاحتمال الأداء، وبين الحكم وإلغاء دعواه؛ لأنّ التوقف يؤدّي إلى تعذر طلب الحقوق بالوكلاء. والأوّل أشبه.

------------------

فينبغي أن لا يثبت ومن أنّهما معلولا علة واحدة، فلا يثبت أحدهما دون الآخر.

وباقي الأصحاب قطعوا بالفرق وانتفاء القطع؛ نظراً إلى وجود المانع من الحكم في أحدهما دون الآخر. وتخلّف أحد المعلولين لمانع واقع كثيراً، ومنه في هذا المثال ما لو أقرّ بالسرقة مرّةً؛ فإنّه يثبت عليه المال دون القطع، ولو كان المقر محجوراً عليه في المال ثبت الحكم في القطع دون المال فليكن هنا كذلك. والأصل فيه أنّ هذه ليست عللاً حقيقيةً، وإنما هي معرفات للأحكام.

قوله: «لو كان صاحب الحق غائباً فطالب الوكيل، فادعى الغريم التسليم إلى الموكل ولا بينة» إلى آخره.

إذا كان المدعى عليه حاضراً وصاحب الحق غائباً وإنّما الحاضر وكيله، فقال المدعى عليه بعد ما أقام الوكيل البينة: «أبرأني موكلك الغائب» أو «دفعت إليه المال»، وأراد التأخير إلى أن يحضر الموكل فيحلف ، ففى تمكينه منه وجهان أظهرهما - وهو الذي اختاره المصنف (رحمه الله )- العدم، بل عليه تسليم الحق، ثمّ يثبت البراءة بعد ذلك إن كانت له حجة؛ لأنّ المطالبة بالحق ثابتة ظاهراً؛ لثبوت الوكالة فلا يدفع بالمحتمل، والأصل عدم ما يدعيه، ولأنه لو ردّت المطالبة بمجرّد هذه الدعوى لأدّى إلى تعذر استيفاء الحقوق بالوكيل؛ إذكلّ غريم ربما ادعى الإبراء أو التسليم فيوقف الحق، والتالي باطل؛ لانتفاء فائدة الوكالة حينئذ.

ووجه عدم إلزامه بتعجيل الأداء أنّ ما ذكره من الدعوى محتمل، ودعواه به مسموعة فتعجيل إلزامه بالأداء إضرار به وهو منفي(1)، فوجب التوقف حتى يثبت الحكم بالأخذ أو بنقيضه.

ص: 138


1- تقدّم تخريجه في ص 37، الهامش 1.

المقصد الرابع في كيفية الاستحلاف

البحث الأول في اليمين
لا يستحلف أحد إلا بالله

والبحث في أُمور ثلاثة:

• ولا يستحلف أحد إلا بالله ولو كان كافراً. وقيل: لا يقتصر في المجوسي على لفظ الجلالة؛ لأنه يسمّي النور إلها، بل يضم إلى هذه اللفظة الشريفة ما يزيل الاحتمال.

------------------

ويضعف بأن الجائز لا يعارض المقطوع به شرعاً، وسماع دعواه على الغريم لا يستلزم سماعها على الوكيل فيثبت دعواه بعد ذلك، ويرجع بما دفع إن شاء. وبه يندفع الضرر المدعى، مع أنه غير مسموع؛ لأنّ الضرر المترتب على حكم الشرع لا يلتفت إليه، كما لو أدى دفعه للحق الثابت عليه إلى جعله فقيراً لا يملك سوى قوت يومه مع باقي المستثنيات؛ فإنّ الضرر بذلك ربما كان أقوى من دفع هذا الحق المذكور.

ويقال: إنّ هذه المسألة واقعة جرت بمرو، فتوقف فيها الفقهاء، ثمّ أفتى القفّال بالإلزام؛ محتجّاً بما ذكره المصنف (رحمه الله)(1) .

قوله: «ولا يستحلف أحد إلا بالله ولو كان كافراً إلى آخره.

الأصل في اليمين الشرعية أن لا تكون إلا بالله تعالى، قال الله تعالى: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ)(2) ،( أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ)(3).

وقال(علیه السّلام): «لا تحلفوا إلّا بالله ومَنْ حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض

ص: 139


1- راجع الوسيط، ج 7، ص 324.
2- المائدة (5) : 106.
3- الأنعام (6): 109.

------------------

ومَنْ حلف له بالله فلم يرض فليس من الله عزّ وجلّ»(1).

ولا فرق في ذلك بين كون الحالف مسلماً وكافراً، مقراً بالله وغيره؛ لإطلاق الأدلة السابقة، وقول أبي عبد الله (علیه السّلام) في صحيحة سليمان بن خالد (2) وحسنة الحلبي: «أهل الملل من اليهود والنصارى والمجوس - لا يحلفون إلا بالله»(3). ولا يقدح عدم اعتقاده؛ لأنّ العبرة بشرف المقسم به في نفسه الموجب لمؤاخذة المجترئ بالقسم به كاذباً.

والقول بعدم الاقتصار في إحلاف المجوسي على لفظ الجلالة للشيخ في المبسوط؛ نظراً إلى اعتقاده أنّ النور إله، فيحتمل إرادته من الإله المعرّف، فلا يكون حالفاً بالله تعالى (4).

ومال إليه الشيخ فخر الدين ؛ محتجاً بأنه يجب الجزم بأنه حلف ، ولا يحصل الجزم بذلك (5).

ويضعف بأنّ الجزم المعتبر هو العلم بكونه قد أقسم بالله الذي هو المأمور به شرعاً، أمّا مطابقة قصده للفظه فليس بشرط في صحة اليمين، ومن ثَمّ كانت النية نية المحلف إذا كان محقاً، وهو دليل على عدم اعتبار مطابقة القصد للفظ.

وعلى قول الشيخ يضيف إليه قوله: خالق النور والظلمة» إماطة لتأويله.

وفيه أنه ربما كان إطلاق لفظ الله تعالى مع مطابقته للمأمور به شرعاً أوقع في قلبه وأهيب في صدره؛ لأنه لا يعتقد إلهاً خالقاً للنور والظلمة، فلا يحترم هذا القسم.

ص: 140


1- الكافي، ج 7، ص 438، باب أنه لا يحلف إلا بالله .... ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 187، ح 3705، وص 362، ح 4287: تهذيب الأحكام، ج 8، ص 284، ح 1040.
2- الكافي، ج 7، ص 451، باب استحلاف أهل الكتاب، ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 278، ح 1013؛ الاستبصار، ج 4، ص 39، ح 131.
3- الكافي، ج 7، ص 450 - 451. باب استحلاف أهل الكتاب، ح1؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 279، ح 1016؛ الاستبصار، ج 4، ص 40، ح 134 بتفاوت.
4- المبسوط، ج 5، ص 567.
5- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 335 .

•ولا يجوز الإحلاف بغير أسماء الله سبحانه ، كالكتب المنزلة ، والرسل المعظمة، والأماكن المشرّفة.

لو رأى الحاكم إحلاف الذمي بما يقتضيه دينه أردع

• ولو رأى الحاكم إحلاف الذمي بما يقتضيه دينه أردع جاز.

------------------

قوله: «ولا يجوز الإحلاف بغير أسماء الله سبحانه كالكتب المنزلة» إلى آخره.

لما تقدّم من الأخبار(1). وفي حسنة محمد بن مسلم قال قلت لأبي جعفر (علیه السّلام): قول الله عزّ وجلّ: (وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)(2). (وَ النَّجْمِ إِذَا هَوَى)(3) وما أشبه ذلك، فقال: «إنّ لله عزّ وجلّ أن يُقسم من خلقه بما يشاء، وليس لخلقه أن يُقسموا إلا به»(4).

والمراد بعدم الجواز هنا بالنظر إلى الاعتداد به في إثبات الحق. أما جواز الحلف في نفسه بمعنى عدم الإثم به ففيه وجهان من إطلاق الأخبار النهي عنه (5)المقتضي للتحريم ومن إمكان حمله على الكراهة.

قوله « ولو رأى الحاكم إحلاف الذمّى بما يقتضيه دينه أردع جاز».

مقتضى النصوص السابقة عدم جواز الإحلاف إلا بالله، سواء كان الحالف مسلماً أم كافراً، وسواء كان حلفه بغيره أردع له أم لا. وفي بعضها تصريح بالنهي عن إحلافه بغير الله، ففي صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «لا يحلف اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي بغير الله، إن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ»(6).

لكن استثنى المصنف (رحمه الله) - وقبله الشيخ في النهاية (7) وجماعة (8)- ما إذا رأى

ص: 141


1- تقدم في ص 139 - 140 .
2- الليل (92): 1.
3- النجم (53): 1.
4- الكافي، ج 7، ص 449، باب أنه لا يجوز أن يحلف الإنسان .... ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 277، ح 1009.
5- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 259 - 265، الباب 30 و 31 من كتاب الأيمان.
6- تقدم تخريجها في ص 140 الهامش 2؛ والآية في سورة المائدة (5): 48.
7- النهاية، ص 347.
8- منهم ابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 183؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 443: وابن فهد الحلّي في المهذب البارع، ج 4، ص 477.

•ويستحب للحاكم تقديم العظة على اليمين والتخويف من عاقبتها.

------------------

الحاكم تحليف الكافر بما يقتضيه دينه أردع من إحلافه بالله، فيجوز تحليفه بذلك.

والمستند رواية السكوني عن أبي عبد الله (علیه السّلام) : «أن أمير المؤمنين (علیه السّلام) استحلف يهودياً بالتوراة التي أنزلت على موسى»(1). ولا يخلو ذلك من إشكال.

قوله: «ويستحبّ للحاكم تقديم العظة على اليمين والتخويف من عاقبتها».

بأن يذكره ما ورد من الآيات والروايات المتضمنة لعقوبة من حلف بالله كاذباً والتشديد عليه، وما ورد فيمن عظم الله تعالى أن يحلف به صادقاً من تعويضه على ذلك في الدنيا قبل الآخرة، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) (2)الآية. وقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَنِكُمْ)(3).

وقوله (علیه السّلام) : «إنّ من الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر ، فأدخل فيها مثل جناح بعوضة ، إلا جعله الله نكتة في قلبه إلى يوم القيامة»(4).

وقوله (علیه السّلام) : «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله تعالى له النار وحرّم عليه الجنة»، فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: «وإن كان قضيباً من أراك»(5).

وقوله (علیه السّلام): «إياكم واليمين الفاجرة؛ فإنّها تدع الديار من أهلها بلاقع»(6).

ص: 142


1- الكافي، ج 7، ص 451، باب استحلاف أهل الكتاب، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج8، ص 279، ح 1019؛ الاستبصار، ج 4، ص 40 ، ح 135.
2- آل عمران (3): 77 .
3- البقرة (2): 224 .
4- مسند أحمد، ج 4، ص 552، ح 15613؛ الجامع الصحيح، ج 5، ص 236، ح 3020.
5- مسند أحمد، ج 1، ص 347، ح 21736؛ صحیح مسلم، ج 1، ص 122، ح 218/137؛ سنن النسائي، ج8، ص 259، ح 5429 .
6- الكافي، ج 7، ص 435 - 436، باب اليمين الكاذبة، ح 3 ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص 269، ح 3، وص 270، ح 4.
التغلیظ في الیمین

•ويكفي أن يقول قل: «والله ما له قبلي حق». وقد يغلظ اليمين بالقول والزمان والمكان، لكن ذلك غير لازم ولو التمسه المدعي، بل هو مستحبّ في الحكم استظهاراً.

------------------

وقوله (علیه السّلام) : «مَنْ أجل الله أن يحلف به أعطاه الله خيراً ممّا ذهب منه »(1).

وقول الصادق(علیه السّلام): «مَنْ حلف بالله كاذباً كفر، ومَنْ حلف بالله تعالى صادقاً أثم، إن الله عزّ وجلّ يقول: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةٌ لأَيْمَنِكُمْ»(2).

وقوله (علیه السّلام): «مَنْ حلف على يمين وهو يعلم أنه كاذب فقد بارز الله»(3).

وقوله (علیه السّلام): «اليمين الصبر الكاذبة تورث العقب الفقر »(4).

وقول الباقر (علیه السّلام): «إنّ في كتاب علي (علیه السّلام) أن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم تذران الديار بلاقع من أهلها، وتنغل الرحم، يعني انقطاع النسل»(5). إلى غير ذلك من الأخبار(6).

قوله: «ويكفي أن يقول قل: «والله ما له قبلي حق» - إلى قوله - في الحكم استظهاراً».

لا ريب في الاكتفاء في اليمين بقوله: «والله» إلى آخره. قال(علیه السّلام) : «مَنْ حلف بالله فليصدق، ومَنْ حلف له بالله فليرض، ومَنْ لم يرضَ فليس من الله »(7).

وأما التغليظ فظاهر النصّ(8) والفتوى أنّه من وظائف الحاكم، وأن استحبابه مختص به.

ص: 143


1- الكافي، ج 7، ص 434، باب كراهية اليمين، ح 2 : الفقیه، ج 3، ص 370 - 371، ح 4302: تهذيب الأحكام، ج 8، ص 282 . ح 1034.
2- الكافي، ج 7، ص 434 - 435، باب كراهية اليمين، ح 4: الفقيه، ج 3، ص 373، ح 4314؛ تهذيب الأحكام، ج 8. ص 282 - 283، ح 1035؛ والآية في سورة البقرة (2): 224 .
3- الكافي، ج 7، ص 435، باب يمين الكاذبة، ح 1.
4- الكافي، ج 7، ص 436، باب اليمين الكاذبة، ح 4.
5- الكافي، ج 7، ص 436، باب اليمين الكاذبة، ح 9.
6- الكافي، ج 7، ص 435 - 436 ، باب اليمين الكاذبة، ح 1 و 2 و 5 - 7، وص 437، ح 10: الفقيه، ج 3، ص 367، ح 4301، وص 370 - 371، ح 4302 ؛ وج 4، ص 7، ح 4971.
7- تقدّم تخريجه في ص 139 - 140 ، الهامش 1 .
8- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 269 - 271، الباب 33 من كتاب الأيمان.

فالتغليظ بالقول مثل أن يقول قل: «والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضارّ النافع المدرك المهلك، الذي يعلم من السرّ ما يعلمه من العلانية، ما لهذا المدعي على شيء مما ادعاه».

ويجوز التغليظ بغير هذه الألفاظ مما يراه الحاكم.

،وبالمكان، كالمسجد والحرم، وما شاكله من الأماكن المعظمة.

وبالزمان، كيوم الجمعة ،والعيد وغيرهما من الأوقات المكرّمة.

ويغلّظ على الكافر بالأماكن التي يعتقد شرفها والأزمان التي يرى حرمتها.

------------------

وأما الحالف فالتخفيف في جانبه أولى؛ لأنّ اليمين مطلقاً مرغوب عنها، فكلّما خفت كان أولى به .

ووجه الاستظهار بالتغليظ أنه مظنة رجوع الحالف إلى الحق خوفاً من عقوبة العظيم. وعلى تقدير جرأته عليه كاذباً مظنة مؤاخذته، حيث أقدم على الحلف به مع إحضار عظمته و جلالته وانتقامه في الموضع الشريف والمكان والزمان الشريف اللذين هما محلّ الاحترام.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له - يعني ابن صوريا - : «أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون، وأقطعكم البحر، وظلّل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المن والسلوى، وأنزل التوراة على موسى، أتجدون في كتابكم الرجم؟ قال: ذكرتني بعظيم ولا يسعني أن أكذبك (1). وساق الحديث، فكان تغليظه صلى الله عليه وسلم في اليمين سبباً لاعترافه بالحق.

ونبه بقوله إنّه «غير لازم ولو التمسه المدعي على خلاف بعض العامة، حيث زعم أنه مع التماس الخصم يجب التغليظ (2)، وآخرين أنه يستحبّ حينئذ وليس من وظيفة الحاكم. وقد تقدّم في باب اللعان بيان الأمكنة والأزمنة التي يغلّظ بها (3).

ص: 144


1- سنن أبي داود، ج 3، ص 313، ح 3626؛ نصب الراية، ج 4، ص 102، ح3.
2- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص310.
3- تقدّم في ج 8، ص 279 - 281 .

• ويستحبّ التغليظ في الحقوق كلّها وإن قلت ، عدا المال فإنّه لا يغلّظ فيه بما دون نصاب القطع.

فرعان

الأوّل: • لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ لم يجبر، ولم يتحقق بامتناعه نكول.

الثاني: • لو حلف لا يجيب إلى التغليظ، فالتمسه خصمه لم تنحل يمينه.

------------------

قوله: «ويستحب التغليظ في الحقوق كلّها وإن قلت» إلى آخره.

هذا التفصيل هو المشهور بين الأصحاب، وذكروا أنه مروي(1) ، وما وقفت على مستنده (2). وللعامة اختلاف في تحديده بذلك أو بنصاب الزكاة، وهو عشرون ديناراً أو مائتا درهم(3). وليس للجميع مرجع واضح.

قوله: «لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ لم يجبر، ولم يتحقق بامتناعه نكول».

يدلّ عليه ما تقدّم من قوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «مَنْ حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله»(4)، والحالف بالله بدون التغليظ داخل في ذلك، فيجب الرضى به لو اقتصر عليه.

ونبه بقوله ولم يتحقق بامتناعه نكول على خلاف بعض العامة، حيث أوجب عليه الإجابة إلى التغليظ لو طلبه الحاكم، ويكون ناكلاً بدون الإجابة(5) وآخرين منهم خصوه بالتغليظ الزماني والمكاني دون القولي؛ فارقاً بأن التغليظ اللفظي من جنس المأتي به فلم يكن بتركه مخالفاً للحاكم، بخلاف الآخرين.

قوله: «لو حلف لا يجيب إلى التغليظ فالتمسه خصمه لم تنحل يمينه».

لأنه مرجوح من طرفه فتنعقد يمينه على تركه، ولا يصير بطلب الخصم أولى عندنا.

ص: 145


1- كما قاله الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 565.
2- لعل مستنده ما أورده الشيخ في تهذيب الأحكام، ج 1، ص 310، ح 855 .
3- الحاوي الكبير، ج 17، ص 110 - 111؛ حلية العلماء، ج 8، ص 240؛ روضة الطالبين، ج 8، ص310.
4- تقدم تخريجه في ص 140، الهامش 1.
5- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 312.
حلف الأخرس

• وحلف الأخرس بالإشارة. وقيل: توضع يده على اسم الله في المصحف، أو يكتب اسم الله سبحانه وتوضع يده عليه.

وقيل: يكتب اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشربه بعد إعلامه، فإن شرب كان حالفاً، وإن امتنع ألزم الحق؛ استناداً إلى حكم على في واقعة الأخرس.

------------------

ومَنْ أوجب إجابته لو طلبه الخصم لزم عليه انحلال اليمين؛ لأن اليمين على ترك الواجب لا تنعقد .

وفي الدروس توقف في انعقاد يمينه على ترك التغليظ من حيث إطلاقهم أنه مستحبّ فلا يكون الحلف على تركه منعقداً، كغيره من المستحبّات، ومن احتمال اختصاص الاستحباب بالحاكم دون الخصم فينعقد(1) . وقد تقدّم أنّ هذا هو الأظهر (2).

قوله: «وحلف الأخرس بالإشارة» إلى آخره.

في حلف الأخرس أقوال أشهرها ما اختاره المصنّف (رحمه الله) من تحليفه بالإشارة المفهمة الدالة عليه كسائر أموره؛ لأنّ الشارع أقام إشارته مقام الكلام

والقول باشتراط وضع يده على اسم الله تعالى للشيخ في النهاية ، وجعل ذلك مضافاً إلى إشارته، ولم يكتف بأحدهما، وإن كانت العبارة لا تدلّ عليهما.

وعبارة الشيخ في النهاية :

إذا أراد الحاكم أن يحلّف الأخرس حلّفه بالإشارة والإيماء إلى اسم الله تعالى، ويضع يده على اسم الله تعالى في المصحف، ويعرف يمينه على الإنكار كما يعرف إقراره وإنكاره. وإن لم يحضر المصحف وكتب عليه اسم الله تعالى ووضع يده عليه جاز(3) .

وهذه العبارة ظاهرة في اعتبار الأمرين معاً. فقول المصنف (رحمه الله) «وقيل: توضع يده على اسم الله تعالى مراده مع الإشارة ليطابق القول المحكي.

ص: 146


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 75 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10)
2- تقدّم في ص 143.
3- النهاية، ص 347 .
لا يستحلف الحاكم أحداً إلا في مجلس قضائه

•ولا يستحلف الحاكم أحداً إلا في مجلس قضائه، إلا مع العذر كالمرض المانع وشبهه فحينئذٍ يستنيب الحاكم مَنْ يحلفه في منزله.

------------------

والقول بكتبة اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشربه إلى آخره لابن حمزة(1) . وجعله الشيخ في النهاية رواية (2). وهي صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق(علیه السّلام)، قال: سألته عن الأخرس كيف يحلف إذا ادعي عليه دين ولم يكن للمدعي بينة؟ فقال: «قال أمير المؤمنين(علیه السّلام) لما ادعي عنده على أخرس من غير بينة: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأُمة جميع ما تحتاج إليه - ثم قال: - ايتوني بمصحف، فأتي به، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلى السماء وأشار أنه كتاب الله عزّ وجلّ، ثمّ قال: ايتوني بوليه، فأُتي بأخ له فأقعده إلى جنبه، ثم قال: يا قنبر، عليّ بدواة وصحيفة، فأتاه بهما، ثمّ قال لأخ الأخرس: قل لأخيك: هذا بينك وبينه إنه عليّ، فتقدّم إليه بذلك، ثم كتب أمير المؤمنين (علیه السّلام): والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، الضارّ النافع المهلك المدرك، الذي يعلم من السرّ ما يعلمه من العلانية، إن فلان بن فلان المدعي ليس له قبل فلان بن فلان - يعني الأخرس - حق ولا طلبة بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب، ثمّ غسله وأمر الأخرس أن يشربه فامتنع، فألزمه الدين»(3).

وحملها ابن إدريس على أخرس لا يكون له كتابة معقولة ولا إشارة مفهومة(4) . وما تقدم من فهمه إشارة علي (علیه السّلام) إليه بالاستفهام عن المصحف ينافي ذلك.

قوله: «ولا يستحلف الحاكم أحداً إلا في مجلس قضائه» إلى آخره.

قد تقدّم أنّ مكان التغليظ المستحب للحاكم المسجد ونحوه(5) . وحينئذ فالنهي عن الاستحلاف في غير مجلس القضاء - المراد به منه الكراهة - إنّما يتم على تقدير كون

ص: 147


1- الوسيلة، ص228.
2- النهاية، ص 348 .
3- الفقيه، ج 3، ص 112 - 113 ، ح 3435؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 319، ح 879 .
4- السرائر، ج 2، ص 163.
5- تقدّم في ج 8، ص 279 - 281 .

وكذا المرأة التي لا عادة لها بالبروز إلى مجمع الرجال، أو الممنوعة بأحد الأعذار.

البحث الثاني في يمين المنكر والمدّعي
اليمين تتوجه على المنكر إلّا ما استثني

• اليمين تتوجه على المنكر تعويلاً على الخبر، وعلى المدعي مع الردّ، ومع الشاهد الواحد. وقد تتوجّه مع اللوث في دعوى الدم.

ولا يمين للمنكر مع بيئة المدّعي؛ لانتفاء التهمة عنها. ومع فقدها فالمنكر مستند إلى البراءة الأصلية، فهو أولى باليمين.

------------------

مجلس القضاء من أمكنة التغليظ وإلا لم يتمّ النفي أو النهي مطلقاً، أو يحمل على يمين لا تغليظ فيها.

وعلى كل حال فيستثنى من ذلك المعذور، كالمريض وذي الزمانة، والمرأة التي لا تكلّف الحضور إلى مجلس الحكم - كما تقدّم(1) - ولا إلى المسجد. ومثله الحائض؛ إذ لا يمكنها اللبث في المسجد إذا كان هو مجلس القضاء، أو كانت الوظيفة التغليظ فيه. وحينئذٍ فيستنيب الحاكم مَنْ يحلفها ونظائرها في منزلهم، كما يستنيب مَنْ يسمع منهم الدعوى، ويتولّى هو الحكم.

قوله: «اليمين تتوجه على المنكر تعويلاً على الخبر» إلى آخره.

الأصل في اليمين أن تكون على المنكر ؛ للخبر المستفيض عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) من أنّ «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (2)، وأن لا يمين على المدعي لذلك، ولما أشار إليه المصنف (رحمه الله) من تعليل النص، وهو أنّ المنكر معه البراءة الأصلية، فكان أولى باليمين من المثبت(3).

ص: 148


1- تقدّم في ص 100.
2- سنن الدارقطني، ج 3، ص 37 ، ح 3151 و 3152؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 427، ح 21201؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 167، ح 2037.
3- في بعض النسخ: «المدّعي» بدل «المثبت».

------------------

وقد استثني من ذلك ثلاثة مواضع يحلف فيها المدعي:

أما مع الردّ؛ فلأن اليمين في جانب المنكر، فإذا رضي بيمين المدعي فقد رضي بإسقاط يمينه، مضافاً إلى النص(1)، وقد تقدم بعضه(2).

وأما مع الشاهد الواحد ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين (3)، ولقوة جانب الشاهد.

وأما مع اللوث فلغلبة ظنّ الحاكم بصدق المدّعي.

ويحلف في موضع رابع مع النكول على أحد القولين. ولم يذكره هنا؛ لأنّه خلاف مذهبه(4)، وسيشير إليه فيما بعد(5).

وكذا يحلف المدعي على الميت مع بيئته كما مرّ (6)، وعلى الصبي والمجنون والغائب على أحد القولين. وستأتي مواضع أخر(7).

ونبه بقوله ولا يمين للمنكر مع بينة المدعي على خلاف ما ورد في بعض الأخبار من جواز إحلاف المدعى مع بيّنته (8). والمذهب خلافه. وقد تقدم الكلام فيه(9) .

ص: 149


1- الكافي، ج 7، ص 416 - 417، باب من لم تكن له بينة فيرد عليه اليمين، ح 1 - 5: الفقيه، ج 3، ص 63 ، ح 3345: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 230 - 231، ح 556-557 و 560 - 563 .
2- تقدّم في ص 130.
3- الكافي، ج 7، ص 385 - 386، باب شهادة الواحد مع يمين المدعي، ح 1 - 5 و 8: الفقيه، ج 3، ص 54 - 055 ح 3321 - 3322؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 272 - 275، ح 740 - 749؛ الاستبصار، ج 3، ص 32 - 34. ح 108 - 117.
4- راجع ص 125 - 126 .
5- يأتي في ص 151.
6- مرفي ص 130.
7- يأتي في ص 152 وما بعدها.
8- الكافي، ج 7، ص 412 - 413، باب أدب الحكم، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 15 - 16، ح 3246؛ تهذيب الأحكام، ج 6. ص 225 - 226، ح 541.
9- تقدّم في ص 130 - 131.

• ومع توجهها يلزمه الحلف على القطع مطّرداً، إلا على نفى فعل الغير؛ فإنّها على [نفي ] العلم. فلو ادعي عليه ابتياع أو قرض أو جناية فأنكر حلف على الجزم.

ولو ادعي على أبيه الميت لم تتوجه اليمين ما لم يدع عليه العلم فيكفيه الحلف أنه لا يعلم. وكذا لو قيل: قبض وكيلك.

------------------

قوله: «ومع توجهها يلزمه الحلف على القطع مطرداً - إلى قوله سقطت دعواه إجماعاً». الحالف تارة يحلف على البت، وأُخرى على نفي العلم.

والضابط أنّه إن كان يحلف على فعل نفسه فيحلف على البت، سواء كان يثبته أم ينفيه؛ لأنّه يعرف حال نفسه ويطلع عليها.

وإن كان يحلف على فعل الغير، فإن كان في إثبات فيحلف على البت؛ لأنه يسهل الوقوف عليه، كما أنه يشهد به.

وإن كان على النفي حلف على أنه لا يعلمه؛ لأن النفي المطلق يعسر الوقوف على سببه؛ ولهذا لا يجوز الشهادة على النفي.

وقد يعبر عن الفرض بعبارة أخرى، فيقال: إن كان الحلف على الإثبات وجب على البت، سواء كان التثبيت(1) لفعل نفسه أو غيره. وإن كان على النفي، فإن نفى فعل نفسه حلف على البت أيضاً. وإن حلف على نفي فعل غيره حلف على نفي العلم.

وقد يختصر ويقال: اليمين على البت أبداً، إلا إذا حلف على نفي فعل الغير.

إذا تقرّر ذلك، فمن ادّعي عليه بمال فأنكر حلف على البت. ولو ادعى إبراء أو قضاء وأنكر المدعي حلف على البت أيضاً؛ لأنّه يحلف على نفي فعل نفسه . ولو ادعى وارث على إنسان أن لمورّثي عليك كذا، فقال المدعى عليه: قد أبرأني أو قبضه حلف المدعي على نفي العلم بإبراء المورّث وقبضه. ولو ادعى عليه أن الدار التي بيده غصبها أبوه أو بائعه فأنكر، حلف على نفي العلم بأنهما غصبا. ويشترط في توجه

ص: 150


1- في «ض»: «المثبت» بدل «التثبيت».

أما المدعي ولا شاهد له فلا يمين عليه، إلا مع الرد، أو مع النكول على قول. فإن ردّها المنكر توجهت فيحلف على الجزم. ولو نكل سقطت دعواه إجماعاً.

------------------

اليمين عليه على نفي العلم تعرّض المدعى عليه؛ لكونه عالماً .

وقد ظهر من الضابط أنّ حلف المدعي أبداً على البت، وحلف المنكر ينقسم كما ذكر. ويتفرّع عليه فروع يشكل حكمها وإلحاقها بأحد القسمين

منها: ما لو ادعى عليه أن عبده جنى على المدعي ما يوجب كذا فأنكر، فوجهان:

أحدهما: أنه يحلف على نفي العلم؛ لأنه حلف يتعلّق بفعل الغير.

والثاني : أنّه يحلف على البت ؛ لأنّ عبده ماله وفعله كفعل نفسه ؛ ولذلك سمعت الدعوى عليه.

وربما بني الوجهان على أن أرش الجناية يتعلق بمحض الرقبة، أم يتعلّق بالرقبة والذمة جميعاً، حتى يتبع بما فضل بعد العتق. فإن قلنا بالأوّل حلف على البت؛ لأنه يحلف ويخاصم لنفسه. وإن قلنا بالثاني فعلى نفي العلم؛ لأنّ للعبد على هذا ذمّة يتعلّق بها الحقوق، والرقبة كالمرتهنة بما عليه.

ومنها: إذا ادعى عليه أنّ بهيمته أتلفت زرعاً أو غيره - حيث يجب الضمان بإتلاف البهيمة - فأنكر ، قيل : يحلف على البتّ(1) ؛ لأنّ البهيمة لا ذمة لها، والمالك لا يضمن بفعل البهيمة، إنّما يضمن بالتقصير في حفظها، وهذا أمر يتعلق بنفس الحالف.

وفي التحرير جزم بأنّ مالك العبد يحلف على نفي العلم، ومالك البهيمة يحلف على البتّ (2) . وفى القواعد استشكل حكم العبد (3).

ومنها: لو نصب البائع وكيلاً ليقبض الثمن ويسلّم المبيع، فقال له المشتري : إن موكلك

ص: 151


1- قاله الشهيد في القواعد والفوائد، ص 262 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 15).
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 170، الرقم 6509.
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 447.
لو رد المنكر اليمين ثم بذلها قبل الإحلاف

• ولو رد المنكر اليمين ثم بذلها قبل الإحلاف، قال الشيخ: ليس له ذلك إلا برضى المدّعي وفيه تردّد، منشؤه أنّ ذلك تفويض لا إسقاط.

------------------

أذن في تسليم المبيع، وأبطل حق الحبس وأنت تعلم، فوجهان:

أحدهما: أنّه يحلف على نفي العلم، ويديم الحبس إلى استيفاء الثمن؛ لأنه حلف على نفي فعل الغير.

والثاني: أنّه يحلف على البت؛ لأنه يثبت لنفسه استحقاق اليد على المبيع.

ومنها: لو طولب البائع بتسليم المبيع فادعى حدوث عجز عنه وقال للمشتري أنت عالم به قيل: يحلف على البت؛ لأنه يستبقى بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه(1) . ويحتمل الحلف على نفى العلم؛ لأن متعلقه فعل الغير.

ومنها: ما لومات عن ابن في الظاهر فجاء آخر وقال: أنا أخوك، فالميراث بيننا، فأنكر. قيل: يحلف على البت أيضاً؛ لأنّ الأخوة رابطة جامعة بينهما (2). ويحتمل قوياً حلفه على نفي العلم كالسابقة.

قوله: «ولو ردّ المنكر اليمين ثمّ بذلها قبل الإحلاف» إلى آخره.

قد تقدّم أنّ الأصل في اليمين كونها في جانب المنكر ابتداء(3)، فإذا ردّها إلى المدعي صارت في جانبه بالعرض. فإذا بذل المنكر اليمين بعد أن حلف المدعي فلا حق له إجماعاً ؛ لسقوط الحق الذي تترتب عليه اليمين بحلفه.

وإن بذلها بعد أن ردّ وقبل أن يحلف المدعي، سواء أقبل الحاكم عليه بوجهه ولم يأمره بالحلف، أم أمره ولم يفعل، أم انتفى الأمران، فهل له ذلك ؟ قال الشيخ (رحمه الله) في المبسوط :

لا ؛ لانتقالها إلى حقيّة المدّعي بنفس الردّ ، فصار لا حق للمنكر فيها؛ لاستحالة أن يكون كلّ منهما مطالباً بها (4).

ص: 152


1- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 314.
2- المجموع شرح المهذب، ج 20، ص 330.
3- تقدم في ص 148.
4- المبسوط، ج 5، ص 573.
يكفي مع الإنكار الحلف على نفي الاستحقاق

• ويكفي مع الإنكار الحلف على نفي الاستحقاق؛ لأنه يأتي على الدعوى. فلو ادعى عليه غصباً أو إجارةً مثلاً، فأجاب بأنّى لم أغصب ولم استأجر، قيل: يلزمه الحلف على وفق الجواب؛ لأنه لم يجب به إلا وهو قادر على الحلف عليه.

------------------

وتردّد المصنّف والعلّامة(1) في ذلك؛ من حيث المنع من أنّ ذلك يقتضي إسقاط حقه منها، وإنّما فوّضها إلى المدعي، فإذا لم يستمرّ رضاه بالتفويض كان له الرجوع؛ لأصالة بقاء حقه كما كان.

فمنشأ التردّد يرجع إلى أن بذل المنكر اليمين للمدعي هل هو إسقاط أو تفويض ؟ فإنّه يحتمل الأوّل؛ لأنّه حق له وحده، فإذا رضي بجعله للمدعي لزم سقوطه؛ لاستحالة اشتراكه بينهما.

ويحتمل الثاني ؛ لأن اليمين تلزمه شرعاً، فردّها على المدعى يكون إباحة له أن يحلف ولا يلزم من إباحته اليمين خروجها عنه، كمن أباح للغير طعامه فله الرجوع فيه قبل أن يأكل. وهذا أقوى ؛ لأنّ الردّ أعم من الإسقاط، ولأصالة بقاء حقه الثابت قبل الرد مع الشك في المسقط.

قوله: «ويكفى مع الإنكار الحلف على نفى الاستحقاق» إلى آخره.

إذا ادعى عليه شيئاً، فإما أن يطلق الدعوى كقوله: «لي عليك مائة» أو يخصصها في سبب معين كقوله: «من ثمن مبيع أو أجرة أو غصب». وإنكار المدعى عليه إما أن يكون مطلقاً أيضاً كقوله: «لا تستحق عندي شيئاً» أو معيّناً كقوله: «لم أغصب أو لم أشتر أو لم استأجر».

فمع إطلاقه الإنكار يكفيه الحلف على نفي الاستحقاق مطلقاً اتفاقاً؛ لأن الغرض يحصل به ونفي العام يستلزم نفي الخاص.

وإن أجاب بنفي الخاص، فإن حلف عليه فكذلك لأنه هو المطابق للإنكار، ويأتي على الدعوى.

ص: 153


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 445.

والوجه أنّه إن تطوّع بذلك صح، وإن اقتصر على نفي الاستحقاق كفى.

لو ادعى المنكر الإبراء أو الإقباض

•ولو ادعى المنكر الإبراء أو الإقباض فقد انقلب مدعياً والمدعي منكراً، فيكفي المدعى اليمين على بقاء الحق. ولو حلف على نفى ذلك كان آكد، لكنه غير لازم.

------------------

وإن أراد الحلف على نفي الاستحقاق ففي إجابته إليه قولان أظهرهما نعم؛ لما تقدّم من دخول الخاص في ضمن نفيه. وجاز تعلّق غرض صحيح بالعدول إلى العام بأن كان قد غصب أو اشترى أو استأجر ولكن برى من الحق بدفع أو إبراء، فحلفه على نفي الخاص كذب، والعدول إلى العام - مع كونه صدقاً - يتضمن الغرض من براءته من حقه.

وقال الشيخ (رحمه الله) يلزمه في هذه الصورة الحلف على وفق الجواب؛ لأنه المطابق للدعوى.(1)

وجوابه بنفي الأخصّ يقتضي عدم تلك الاحتمالات الموجبة للعدول إلى الأعم، ولو وقعت لأجاب ابتداء بنفي الاستحقاق.

ويضعف بأنّه مع تسليم قدرته على الحلف على وفق الجواب لا يلزم منه وجوب إجابته إليه، وإنّما اللازم له الحلف على البراءة من حقه بأي لفظ اتفق فله العدول إلى نفى الاستحقاق اقتراحاً. مع أنا نمنع من استلزام جوابه بنفي الأخص إمكان حلفه عليه؛ لما استقرت عليه العادات من التساهل في جواب المحاورات بما لا يتساهل به في وقت الأيمان ونحوها.

قوله: «ولو ادّعى المنكر الإبراء أو الإقباض فقد انقلب مدّعيا » إلى آخره.

لا فرق في توجه اليمين بهذه الدعوى على المدعي بين أن يكون قد أقام بينة بالحق وعدمه. وليس في هذه الدعوى تكذيب البينة؛ لأنها تعتمد على الأصل وظاهر الحال.

والكلام في الحلف هنا على ما يوافق الدعوى أو ما يأتي عليها وإن كان أعمّ كالسابقة إلّا أنّ الشيخ وافق هنا على جواز الحلف على ثبوت الحق في ذمته، وجعل الحلف على نفي ما ادعاه بخصوصه أحوط (2).

ص: 154


1- المبسوط ، ج 5، ص 569.
2- المبسوط، ج 5، ص 568 - 569 .

• وكلّ ما يتوجه الجواب عن الدعوى فيه تتوجّه معه اليمين، ويقضى على المنكر به مع النكول كالعتق والنكاح والنسب وغير ذلك.

هذا على القول بالقضاء بالنكول. وعلى القول الآخر ترد اليمين على المدّعي ويقضى له مع اليمين وعليه مع النكول .

------------------

قوله: «وكلّ ما يتوجه الجواب عن الدعوى فيه تتوجه معه اليمين» إلى آخره.

أشار بهذه الكلّيّة إلى تعيين المواضع التي تثبت فيها الحلف على المنكر، وهي تقتضي تعيين الحالف .

ومحصلها أنّ كلّ مَنْ تتوجه عليه دعوى صحيحة يتعين عليه الجواب عنها بالإقرار أو الإنكار، بحيث لو أقرّ بمطلوبها ألزم به فإذا أنكر يحلف عليه ويقبل منه، وإذا نكل يقضى عليه به مطلقاً، أو مع حلف المدعي. فيدخل في ذلك النكاح والطلاق والرجعة والفئة في الإيلاء والعتق والنسب والولاء وغيرها.

ونبه بالأمثلة على خلاف بعض العامة حيث قال:

لا يحلف المدعى عليه في جميع هذه الأبواب التي ذكرناها بناء على أن المطلوب من التحليف الإقرار أو النكول ليحكم به، والنكول نازل منزلة البذل والإباحة، ولا مدخل لهما في هذه الأبواب(1) .

وآخرين منهم ذهبوا إلى أن التحليف إنّما يجري فيما يثبت بشاهدين ذكرين : إلحاقاً له بالحدود(2).

لنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم : «واليمين على من أنكر»(3).

ويحتج عليهم بما رووه أن ركانة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله طلقت امرأتي البتّة ،

ص: 155


1- الحاوي الكبير، ج 17، ص 146 : حلية العلماء، ج 8، ص 136؛ بدائع الصنائع، ج 6. ص 346-347.
2- حلية العلماء، ج 8، ص 137 حكاه عن مالك وأحمد.
3- سنن الدارقطني ، ج 3، ص 37، ح 3151 - 3152: السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 427، ح 21201؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 167، ح 2037.

مسائل ثمان :

لا يتوجه اليمين على الوارث إلا في موارد

الأولى: • لا يتوجه اليمين على الوارث ما لم يدع عليه العلم بموت المورّث والعلم بالحق وأنه ترك في يده مالاً. ولو ساعد المدّعي على عدم أحد هذه الأمور لم تتوجه.

ولو ادعى عليه العلم بموته أو بالحق كفاه الحلف أنه لا يعلم. نعم، لو أثبت الحق والوفاة، وادّعى في يده مالاً حلف الوارث على القطع.

------------------

فقال: «ما أردت بالبتة؟» قال: واحدةً، فقال: «والله ما أردت بها إلا واحدة؟» فقال ركانة والله ما أردت بها إلا واحدةً، فردّها إليه النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، ثم طلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان(1) .

وقد اشتمل الحديث على فوائد منها أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) استحلف في الطلاق، خلافاً لمن أنكره.

وخرج بقوله يتوجه الجواب على الدعوى فيه حدود الله تعالى؛ فإنّ الدعوى فيها لا تسمع، ولا يطالب الجواب؛ لأنها ليست حقاً للمدعي، ومَنْ له الحق لم يأذن في الطلب والإثبات، بل أمر فيه بالإعراض والدفع ما أمكن. وسيأتي البحث فيه (2).

قوله: «لا يتوجه اليمين على الوارث ما لم يدع عليه العلم» إلى آخره.

هذا الحكم مبنى على مقدمات:

منها: أن الوارث لا يجب عليه أداء دين المورّث من ماله، بل إن ترك المورث مالاً في يده يفي بالدين أو بعضه وجب عليه الأداء وإلا فلا، سواء كان عالماً بالدين أم لا.

ص: 156


1- في حاشية «ض ، و»: «بخطه: رواه الشافعي وأبو داود والدارقطني، وقال أبوداود: حديث صحيح، واستنبطوا منه عشر فوائد ذكرها الشيخ في المبسوط وغيره منه قدس سره)». راجع المبسوط، ج 5، ص 570؛ ومسند الشافعي، ص 153؛ وسنن أبي داود، ج 2، ص 263، ح 2206؛ وسنن الدارقطني ، ج 3، ص 284 - 285، ح 3912 -3913 والمستدرك على الصحيحين، ج 2، ص 0563 ح 2862.
2- سيأتي في ص 160 - 161.
إذا ادعي على المملوك فالغريم مولاه

الثانية: • إذا ادعي على المملوك فالغريم مولاه، ويستوي في ذلك دعوى المال والجناية.

------------------

ومنها: أنه على تقدير أن يخلّف بيده مالاً لا يجب عليه أداؤه إلا أن يعلم به أو يثبت شرعاً.

ومنها: أن الحلف على نفى فعل الغير على نفي العلم لا على البتّ.

وإذا تقرّرت هذه المقدّمات فادعى مدّع على الوارث بدين على الميت، فإن وافقه على أنّه لا يعلم بالدين، أو لا يعلم بموت المورّث، أو لم يترك مورّثه مالاً لم يتوجه عليه الدعوى أصلاً، ولم يترتب عليها اليمين. وكذا لو ادعى بالدين وأطلق. ويكفي في انتفائها تصادقهما على انتفاء أحد هذه الثلاثة.

وإن اعترف الوارث بالآخرين، فإن ادعى عليه العلم بالدين وبالموت وأنه ترك في يده مالاً سمعت الدعوى حينئذ؛ لأنه لو اعترف بذلك لزمه أداء الدين، فإذا أنكر توجهت عليه اليمين. لكن بعض هذه الأشياء متعلّق بفعل غيره وبعضها متعلّق بنفسه، فإن أنكر الوارث الدين حلف على نفي العلم به؛ لأنّه متعلّق بفعل مورّثه. فإن نكل حلف المدعي على البتّ. وإن أنكر حصول التركة عنده حلف على البت؛ لتعلقه بفعله. ولا إشكال في هذين.

وإن أنكر موت مَنْ عليه الدين فمقتضى القاعدة أنه يحلف على نفي العلم به؛ لأنه شيء يتعلّق بفعل غيره كالدين.

وللشافعية فيه أوجه هذا أحدها .

والثاني: أنّه يحلف على البت؛ لأنّ الظاهر اطلاعه عليه.

ويضعّف بأنه قد يكون موته في الغيبة، فلا يطلع الوارث عليه.

والثالث: الفرق بين من عهد حاضراً وغائباً (1).

قوله: «إذا ادّعي على المملوك فالغريم مولاه. ويستوي في ذلك دعوى المال والجناية».

مقتضى كون الغريم مولى العبد في الدعوى عليه مطلقاً قبول قوله عليه لو أقرّ بموجب

ص: 157


1- روضة الطالبين، ج 8، ص313 .

------------------

الدعوى، وتوجه اليمين عليه لو أنكر ، ولأنّ العبد لا عبرة بإقراره ولا بإنكاره.

والأمر ليس كذلك مطلقاً، بل إقرار العبد معتبر بالنسبة إلى إتباعه بمقتضاه بعد العتق، كما سلف في باب الإقرار(1)، وملغى عاجلاً؛ لكونه إقراراً في حق الغير وإقرار المولى فى حقه بالمال مقبول مطلقاً، فيدفعه فيه (2) أو يفكه بمقداره؛ إذ لا يتوجه على العبد بذلك ضرر، بل هو إقرار من المولى في حق نفسه محضاً. وكذا إقراره في حقه بالجناية الموجبة للمال.

ولو أوجبت القصاص لم تقبل في حق العبد بالنسبة إلى القصاص، لكن يتسلّط المجني عليه منه بقدرها. ويلزم من هذا أنّ غريم الدعوى عليه متعلّق بالمولى والعبد معاً، وأنّ اليمين تتوجه على العبد لو أنكر موجب الدعوى؛ لأنه لو أقرّ لزم على بعض الوجوه، وهو قاعدة سماع الدعوى على الشخص.

وعلى هذا فلا يشترط في الدعوى عليه حضور المولى، وإنّما يعتبر حضوره بالنسبة إلى ما يتعلق به من ذلك. وقد اختلفت عبارات الأصحاب في حقه بسبب ذلك، فالمصنف (رحمه الله) أطلق كون الغريم ،مولاه، ولم يجعل للعبد اعتباراً.

وقال الشيخ في المبسوط :

إذا كان على العبد حق فإنه ينظر، فإن كان حقاً يتعلّق ببدنه كالقصاص وغيره فالحكم فيه مع ا العبد دون السيّد. فإن أقرّ به لزمه عند المخالف. وعندنا لا يقبل إقراره، ولا يقتص منه ما دام مملوكاً، فإن أعتق لزمه ذلك. فأما إن أنكر فالقول قوله، فإن حلف سقطت الدعوى. وإن نكل ردّت اليمين على المدعي، فيحلف ويحكم بالحق. وإن كان حقاً يتعلّق بالمال كجناية الخطإ وغير ذلك - فالخصم فيه السيد، فإن أقرّ به لزمه، وإن أنكر فالقول قوله، فإن حلف سقطت الدعوى، وإن نكل ردّت اليمين على المدعي، فيحلف ويحكم له بالحق (3).

ص: 158


1- سبق في ج 8، ص 596.
2- في بعض النسخ: «فقد يوفيه» بدل «فيدفعه فيه».
3- المبسوط ، ج 5، ص 577 - 578 .

------------------

ومقتضى كلام الشيخ أنّ الغريم في الجناية الموجبة للقصاص العبد مطلقاً، وفي موجب المال المولى مطلقاً.

واختلف كلام العلّامة، ففي القواعد جعل الغريم مولاه مطلقاً، لكنه قرب توجّه اليمين على العبد، وأنّه مع نكوله عنها تردّ على المدعي، وتثبت الدعوى في ذمة العبد يتبع بها إذا أعتق (1).

فخالف حكمها في الموضعين ومقتضى كون الغريم مولاه أنه يقبل إقراره إن جعل جواب الدعوى الإقرار، وتلزمه اليمين إن أنكر ؛ لأنّ ذلك هو مقتضى حكم الغريم الذي تسمع عليه الدعوى.

وفي باب الإقرار حكم بعدم قبول إقرار العبد على نفسه مطلقاً، لكن يتبع بالمال بعد العتق. وحكم بعدم قبول إقرار المولى عليه مطلقاً. لكن في الإقرار عليه بالجناية يجب المال ويتعلق برقبته (2).

وفي الإرشاد أطلق كون الغريم مولاه (3)، كالمصنف (رحمه الله).

والأقوى أنّ الغريم كلّ واحد من العبد والمولى. فإن وقع النزاع مع العبد لم ينفذ إقراره معجّلاً مطلقاً، ويثبت بعد العتق مطلقاً، فيتبع بالمال، ويستوفي منه الجناية. وإن أنكر فحلف انتفت عنه الدعوى مطلقاً، وإن ردّها أو نكل أتبع بموجبها بعد العتق كما لو أقر؛ لأنّ النكول أو يمين المدعي منزل منزلة إقراره أو منزلة قيام البينة عليه، وكلاهما يوجبان ثبوت الحق عليه في الجملة، والقدر المتفق عليه منه كونه بعد العتق؛ لأنّ قيامه مقام البينة وإن أوجب الرجوع معجّلاً، إلا أن السبب نشأ من جانب العبد، فلا يتعلّق بحق السيد بمجرّده.

وإن وقع النزاع بينه وبين المولى، سواء كان قد وقع بينه وبين العبد أم لا، فإن أقر بالمال

ص: 159


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 445.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 415.
3- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 146 - 147.
لا تسمع الدعوى في الحدود مجرّدةً عن البينة

الثالثة: • لا تسمع الدعوى في الحدود مجرّدةً عن البينة، ولا تتوجه اليمين على المنكر. نعم، لو قذفه بالزنى ولا بيّنةً، فادعاه عليه، قال في المبسوط جاز أن يحلف ليثبت الحدّ على القاذف.

وفيه إشكال؛ إذ لا يمين في حدّ.

------------------

لزمه مقتضاه معجّلاً في ذمته، أو متعلقاً برقبة العبد على حسب موجب الإقرار.

وإن أقرّ بالجناية لم يسمع على العبد بالنسبة إلى القصاص، ولكن يتعلّق برقبة المجني عليه بقدرها، فيتملكه المقر له إن لم يفده المولى.

و مختار الشهيد في الدروس يناسب ما اخترناه، وإن كانت عبارته لا تخلو من قصور حيث جعل الغريم المولى، كما أطلقه المصنف، إلا أن تفصيله يرجع إلى ما ذكرناه؛ لأنه قال:

ولو ادعي على العبد فالغريم المولى، وإن كانت الدعوى بمال ولو أقر العبد تبع به. ولو كان بجناية وأقرّ العبد فكذلك . ولو أقرّ المولى خاصةً لم يقتص من العبد، ويملك المجني عليه منه بقدرها. ويلزم من هذا وجوب اليمين على العبد لو أنكر اللزوم؛ لسماع الدعوى عليه منفرداً (1).

قوله: «لا تسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة» إلى آخره.

من شرط سماع الدعوى أن يكون المدعى مستحقاً لموجب الدعوى، فلا تسمع في الحدود؛ لأنها حق الله تعالى، والمستحق لم يأذن في الدعوى، ولم يطلب الإثبات، بل ظاهره الأمر بخلاف ذلك، لأمره بدرء الحدود بالشبهات(2). وبالتوبة عن موجبها من غير أن يظهره للحاكم(3). وقد قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لمن حمل رجلاً على الإقرار عنده بالزني: «هلا سترته بثوبك»(4).

ص: 160


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 66 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- الفقيه، ج 4، ص 74 ، ح 5149.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 28، ص 36 - 38. الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة.
4- مسند أحمد، ج 1، ص 284 - 285، ح 21383 - 21388؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 134، ح 4377؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 68 ، ح 1779؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 8، ص 573 - 574، ح 17605 - 17607.

------------------

هذا إذا كانت الحدود حقاً محضاً لله كحد الزنى وشرب الخمر. ولو اشتركت بينه وبين الآدمي كحد القذف، ففي سماع الدعوى بها من المقذوف قولان، أحدهما - وهو الذي اختاره الشيخ في المبسوط (1) - أنها تسمع؛ ترجيحاً لجانب حق الآدمي، وهو المقذوف.

وفرع الشيخ على قوله بأنه:

لو ادعى عليه أنّه زنى لزمه الإجابة عن دعواه، ويستحلف على ذلك، فإن حلف سقطت الدعوى، ولزم القاذف الحد ، وإن لم يحلف ردّت اليمين على القاذف فيحلف ويثبت الزنى في حقه بالنسبة إلى سقوط حد القذف، ولا يحكم عليه بحد الزنى؛ لأنّ ذلك حق لله تعالى محض (2).

واستشكل المصنّف (رحمه الله) ذلك؛ لعموم قوله (علیه السّلام) : «لا يمين في حد»(3). وفي مرسلة البزنطي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «أتى رجل إلى أمير المؤمنين (علیه السّلام) برجل فقال: هذا قذفني ولم يكن له بينةٌ، فقال: يا أمير المؤمنين، استحلفه، فقال علي (علیه السّلام) : «لا يمين في حد»(4).

وفيه: أنّ الرواية مرسلة، وفي طريقها سهل بن زياد .

وفي الدروس استحسن قول الشيخ من حيث تعلّقه بحق الآدمي، وحمل نفي اليمين في الحدّ على ما إذا لم يتعلق بحق الآدمي(5).

وهو جيد إن لم يعمل بالخبر، وإلا أشكل التخصيص من حيث وقوعه نكرة في سياق النفي فيعم الجميع.

ص: 161


1- المبسوط ، ج 5، ص 578 .
2- المبسوط ، ج 5، ص 578 .
3- الفقيه، ج 4، ص 74، ح 5149.
4- الكافي، ج 7، ص 255، باب أنه لا يمين في حد، ح 1 ورواها الشيخ عن ابن أبي عمير في تهذيب الأحكام ج 10، ص 79 - 80، ح 310.
5- الدروس الشرعية، ج 2، ص 72 ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
منكر السرقة يتوجه عليه اليمين لإسقاط الغرم

الرابعة: • منكر السرقة يتوجه عليه اليمين لإسقاط الغرم. ولو نكل لزمه المال دون القطع؛ بناءً على القضاء بالنكول، وهو الأظهر، وإلا حلف المدعي. ولا يثبت الحدّ على القولين. وكذا لو أقام شاهداً وحلف.

الخامسة : • لو كان له بيّنة فأعرض عنها والتمس يمين المنكر، أو قال: أسقطت البينة وقنعت باليمين، فهل له الرجوع ؟ قيل: لا. وفيه تردّد؛ ولعل الأقرب الجواز.

وكذا البحث لو أقام شاهداً فأعرض عنه وقنع بيمين المنكر.

------------------

قوله: «منكر السرقة يتوجّه عليه اليمين لإسقاط الغرم» إلى آخره.

موجب السرقة أمران: أحدهما: حق الآدمي، وهو المال.

والثاني : القطع بشرطه ، وهو حق الله . ولا ملازمة بينهما ، كما أشرنا إليه سابقاً في مواضع.

فإذا ادعاها مدّع على آخر سمعت الدعوى بالنسبة إلى حق الآدمي، ويترتب عليه موجبه من اليمين والقضاء بالنكول أو مع ردّه على المدعي على الخلاف ولا تسمع فيما يتعلّق بالحدّ إلا مع البينة كغيره من الحدود؛ لأن حدود الله تعالى لا تثبت باليمين.

قوله: «لو كان له بيّنة فأعرض عنها والتمس يمين المنكر» إلى آخره.

القول بعدم جواز الرجوع للشيخ (رحمه الله)؛ محتجاً بأنّ إقامة البيئة واليمين حق له، وقد أسقطه فيسقط بالإسقاط، فعوده يحتاج إلى دليل(1) .

ووجه ما اختاره المصنّف (رحمه الله) من جوازه أصالة البقاء، ومنع كون ذلك إسقاطاً على وجه يقتضي الإبطال وإنّما غايته الإعراض، وهو لا يسقط الحق، ولأن العدول إلى يمين المنكر لا يوجب براءة ذمّته من الحق ، ولا ملكه للعين (2)، وهو دليل على بقاء الحق، فله إقامة البينة واليمين على ثبوت حقه والاستيفاء. وهذا هو الأقوى.

ص: 162


1- المبسوط، ج 5، ص 551 و 572.
2- في بعض النسخ: «للغير» بدل «العين».
لو ادّعى صاحب النصاب إبداله في أثناء الحول

السادسة: • لو ادّعى صاحب النصاب إبداله في أثناء الحول قبل قوله ولا يمين. وكذا لو خرص عليه فادعى النقصان. وكذا لو ادّعى الذمّي الإسلام قبل الحول.

------------------

قوله: «لو ادّعى صاحب النصاب إبداله في أثناء الحول -إلى قوله - إلا مع البينة».

قد ذكر الأصحاب مواضع يقبل فيها قول المدعي بغير يمين. وأشار المصنّف (رحمه الله) إلى ثلاث منها، وتردّد في رابع، ثم نفى إلحاقه بها.

فالأوّل: دعوى المالك إبدال النصاب في أثناء الحول لينفي عنه الزكاة. وفي معناه دعوى دفع الزكاة إلى المستحق.

والثاني : دعواه نقص الخرص للثمرة والزرع لينقص عنه ما قرّر عليه من مقدار الزكاة.

والثالث: دعوى الذمّي الإسلام قبل الحول ليتخلّص من الجزية، إن أوجبناها على المسلم بعد الحول.

وهذه المواضع لا يثبت فيها عليه يمين بلا خلاف والوجه في قبول قوله في هذه المواضع أنّ الحق بين العبد وبين الله، ولا يعلم إلا من قبله غالباً.

والرابع: دعوى الصبي الحربي الإنبات بعلاج ليلحق بالذراري. فقيل:

يلحق بهذه المواضع، ويقبل قوله بغير يمين؛ لمشاركته لها في كونه حقاً لله تعالى، ويرجع إليه فيه، ولأن مجرّد الدعوى شبهة دارئة للقتل، فتكون كافيةً، ولأن اليمين هنا متعذرة؛ لأنها يمين من صبي(1) .

الأصالة عدم البلوغ، وعدم استحقاقه القتل.

وقيل:

يقبل قوله مع اليمين؛ لأنّها أقلّ مراتب إثبات الدعوى، ولأنّه محكوم ببلوغه ظاهراً، ومستحق للقتل كذلك، فلا يزول بمجرد دعواه، ولأنه أحوط وأوثق في الحكم(2).

وحينئذ فيحتمل حلفه الآن للحكم ببلوغه ظاهراً، والتأخير إلى أن يبلغ، فيحبس إلى

ص: 163


1- قاله الشهيد في غاية المراد، ج 4، ص 45 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).
2- قاله الشهيد في غاية المراد، ج 4، ص 45 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).

أما لو ادعى الصغير الحربي الإنبات لعلاج - لا بالسن - ليتخلّص عن القتل ،فيه تردّد، ولعلّ الأقرب أنّه لا يقبل إلا مع البينة.

------------------

البلوغ اليقيني ثمّ يحلف فإن قلنا بالأوّل فحلف تخلّص وإن نكل، قيل: يقتل بمجرده(1)، ويكون هذا من المواضع التي يقضى فيها بالنكول عند من لم يحكم به مطلقاً.

وقيل : يقتل ، لا للنكول : بل لتوجه القتل بالكفر مع الإنبات، واليمين كانت مانعةً ولم توجد (2).

وإن أوقفناه إلى أن يتحقق البلوغ لزمه مع الحلف والنكول حكمهما بغير إشكال.

والذي اختاره المصنف (رحمه الله) عدم قبول قوله مطلقاً إلا بالبينة؛ لوضع الشارع الإنبات علامة البلوغ وقد وجدت ودعواه المعالجة خلاف الظاهر فيفتقر إلى البينة، ولأنه لو كان عدم المعالجة شرطاً لما حلّ قتل محتمل المعالجة - وإن لم يدعها - إلّا بعد علم انتفائها، وهو باطل إجماعاً.

والأولى قبول قوله بغير يمين؛ عملاً بالشبهة الدارئة للقتل، واحتياطاً في الدماء التي لا يستدرك فائتها.

وفي تعدّي الحكم إلى غيرها، كما لو أوقع منبت عقداً وادعى الاستنبات ليفسده وجهان، أجودهما العدم؛ لمخالفة الظاهر، ووجود الفارق بمراعاة الشبهة الدارثة للقتل في الأول دون الثاني، فيتوقف في هذا على البيئة.

ووراء هذه المواضع الخمسة ممّا يقبل فيه قول المدعي مواضع:

أحدها: دعوى البلوغ. وقد تقدّم(3). وقيده بعضهم بدعوى الاحتلام ، أما بالسنّ فيكلّف البينة؛ لإمكان إقامتها عليه، وبالإنبات يعتبر، ومحلّه ليس من العورة على الأشهر، وبتقديره

ص: 164


1- قاله الشيخ في المبسوط ، ج 5، ص 575 .
2- قاله السيد عميد الدين في كنز الفوائد، ج 3، ص 485 .
3- تقدم في ج 8، ص 602 - 603.

------------------

هو من مواضع الضرورة، وحيث يقبل قوله فيه لا يمين، وإلا لزم الدور؛ لأنّ اعتباره موقوف على البلوغ الموقوف على اعتباره.

وثانيها: مدعي أنّه من أهل الكتاب؛ لتؤخذ منه الجزية.

وثالثها: تقديم مدعي تقدّم الإسلام على الزني بالمسلمة؛ حذراً من القتل.

ورابعها: مدعي فعل الصلاة والصيام؛ خوفاً من التعزير.

وخامسها: مدعى إيقاع العمل المستأجر عليه إذا كان من الأعمال المشروطة بالنية. كالاستيجار على الحج والصلاة.

وسادسها: دعوى الولي إخراج ما كلّف به من نفقة وغيرها، أو الوكيل فعل ما وكل فيه. وفي هذين نظر.

وسابعها: دعوى المعير ومالك الدار لو نازعه المستعير والمستأجر في ملكية الكنز على قول مشهور.

وثامنها: دعوى ذي الطعام أنّه لم يبقه إلا لقوته وإن زاد عليه في نفي الاحتكار.

وتاسعها: قول المدعي مع نكول خصمه؛ بناءً على القضاء بالنكول.

وعاشرها: مدعى الغلط في إعطاء الزائد عن الحق لا التبرّع.

وحادي عشرها: دعوى المحللة الإصابة.

وثاني عشرها: دعوى المرأة فيما يتعلق بالحيض والطهر، كالعدة.

وثالث عشرها: دعوى الظئر أنه الولد.

ورابع عشرها: منكر السرقة بعد إقراره مرةً لا في المال.

وخامس عشرها: مدعي هبة المالك ليسلم من القطع وإن ضمن المال.

وسادس عشرها: منكر موجب الرجم الثابت بإقراره.

وسابع عشرها: مدّعي الإكراه في الإقرار المذكور.

وثامن عشرها: مدعي الجهالة مع إمكانها في حقه.

ص: 165

لو مات ولا وارث له وظهر له شاهد بدين

السابعة : • لو مات ولا وارث له وظهر له شاهد بدين قيل : يحبس حتّى يحلف أو يقرّ؛ لتعذر اليمين في طرف المشهود له.

وكذا لو ادعى الوصي أن الميت أوصى للفقراء، وشهد واحد فأنكر الوارث .

وفي الموضعين إشكال؛ لأنّ السجن عقوبة لم يثبت موجبها.

------------------

وتاسع عشرها: مدعي الاضطرار في الكون مع الأجنبي مجرّدين.

والعشرون: منكر القذف؛ بناءً على عدم سماع دعوى مدعيه.

والحادي والعشرون: مدعي ردّ الوديعة، على القول المشهور.

والثاني والعشرون: مدّعي تقدّم العيب مع شهادة الحال.

وضبطها بعضهم بأنّ كلّ ما كان بين العبد وبين الله، أو لا يعلم إلا منه، ولا ضرر فيه على الغير، أو ما تعلّق بالحد أو التعزير.

قوله: «لو مات ولا وارث له وظهر له شاهد بدين» إلى آخره.

القول المذكور للشيخ في المبسوط، فإنّه قال فيه:

ثلاث مسائل لا يمكن ردّ اليمين فيها:

إحداها: أن يموت رجل ولا يخلّف وارثاً مناسباً، فوجد في روزنامجته دين على رجل، وشهد شاهد واحد بذلك، فأنكر مَنْ عليه الدين، فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف سقط الحق، وإن لم يحلف لم يمكن ردّ اليمين؛ لاستحالة تحليف المسلمين والإمام فيحبس المدين حتّى يعترف فيؤدّي، أو يحلف فينصرف.

والثانية: إذا ادعى الوصي على الورثة أنّ أباهم أوصى للفقراء والمساكين وأنكروا ذلك، فالقول قولهم، فإن حلفوا سقطت الدعوى. وإن نكلوا لم يمكن ردّ اليمين؛ لأنّ الوصي لا يجوز أن يحلف عن غيره، والفقراء والمساكين لا يتعينون، ولا يتأتى منهم الحلف فقال قوم: يحكم بالنكول ويلزم الحق؛ لأنه موضع ضرورة. وقال آخرون: يحبس الورثة حتى يحلفوا له أو يعترفواله.

ص: 166

لو مات وعليه دين يحيط بالتركة

الثامنة : • لو مات وعليه دين يحيط بالتركة لم تنتقل إلى الوارث، وكانت في حكم مال الميت وإن لم يحط انتقل إليه ما فضل عن الدين. وفي الحالين للوارث المحاكمة على ما يدّعيه لمورّثه؛ لأنّه قائم مقامه.

------------------

والثالثة: إذا مات رجل وخلّف طفلاً وأوصى إلى رجل بالنظر في أمره، وادّعى الوصيّ ديناً على رجل فأنكر، فإن حلف سقطت الدعوى، وإن لم يحلف فلا يمكن ردّ اليمين على الوصيّ؛ لأنه لا يجوز أن يحلف عن غيره، فيتوقف إلى أن يبلغ الطفل ويحلف ويحكم له. وهو الذي يقتضيه مذهبنا(1) .

والمصنف (رحمه الله) ذكر الأولين واستشكل الحكم فيهما؛ نظراً إلى أن السجن عقوبة ولم يثبت موجبها؛ لأنّ الحق لا يثبت بالشاهد الواحد فتنزل هذه الدعوى منزلة ما لا بينة فيه، فإن حلف المنكر أو حكمنا بالنكول، وإلا وقف الحق؛ لعدم تيسّر القسم الآخر وهو حلف المدعي. ولو قيل هنا بالقضاء بالنكول وإن لم نقل به في غيره كان وجهاً.

قوله: «لو مات وعليه دين يحيط بالتركة لم تنتقل إلى الوارث، وكانت في حكم مال الميت» إلى آخره.

قد تقدم البحث في أنّ التركة مع الدين هل تنتقل إلى ملك الوارث وإن منع من التصرف فيها مع استغراق الدين، وفي مقابل الدين إن لم يستغرق أو تبقى على حكم مال الميت؟ وأنّ الأقوى انتقالها إلى ملكه (2).

وعلى القولين يمنع من التصرف فيها إلى أن يوفي الدين إجماعاً. وإنما تظهر الفائدة في مثل النماء المتجدّد بعد الموت - فعلى الأوّل هو من جملة التركة، ويتعلّق بها الدين، وعلى الثاني يختص بالوارث - وفي صحة التصرف فيها بالبيع وإن كانت التصرف مراعاة.

والمصنف (رحمه الله) قوّى هنا وفيما تقدّم عدم انتقالها(3) ، بل تبقى على حكم مال

ص: 167


1- المبسوط، ج 5، ص 576 - 577.
2- تقدم في ج 10، ص 319.
3- تقدم في ج 10، ص 319.
البحث الثالث في اليمين مع الشاهد
يقضى بالشاهد واليمين في الجملة

يقضى بالشاهد واليمين في الجملة استناداً إلى قضاء رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، وقضاء عليّ (علیه السّلام) بعده.

------------------

الميّت إلى أن يوفي الدين؛ لقوله تعالى في آية الإرث: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دين)(1) . والأجود إرادة الإرث المستقر الملك، جمعاً بين الأدلة.

وعلى القولين لو كان للميت دين على آخر فالمحاكمة فيه للوارث لا للغرماء؛ لأنه إمّا مالك أو قائم مقامه، ومن ثمّ لو أبرئ الغريم من الدين صارت التركة ملك الوارث، فهو مالك لها بالقوّة أو الفعل. وعلى هذا فلو توجه اليمين مع الشاهد أو برد الغريم فالحالف هو الوارث، وإن كان المنتفع بالمال هو المدين. وسيأتي تتمة الكلام فيه (2).

قوله: «في اليمين مع الشاهد يقضى بالشاهد واليمين في الجملة استناداً إلى قضاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، وقضاء عليّ (علیه السّلام) بعده».

أجمع أصحابنا على القضاء في الجملة بالشاهد واليمين، وإليه ذهب أكثر العامة، وخالف فيه بعضهم(3) .

لنا: ما روي عن ابن عباس(4)، وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين(5) .

وروي أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قضى بالشاهد الواحد مع يمين الطالب(6).

ص: 168


1- النساء (4): 11.
2- سيأتي في ص 176 - 177.
3- راجع حلية العلماء، ج 8، ص 280؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 11، المسألة 8337.
4- مسند أحمد، ج 1، ص518، ح 2881؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 793 ، ح 2370؛ سنن أبي داود، ج 3، ص308 ح 3608.
5- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 793 ، ح 2369؛ الجامع الصحيح، ج 3، ص 628 ، ح 1344.
6- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 793 ، ح 2371.

------------------

ورووا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ(علیه السّلام): «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد واحد ويمين صاحب الحق، وقضى به عليّ بالعراق». رواه أحمد والدارقطني والترمذي(1) .

وعن ربيعة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد. رواه الترمذي (2) وأبو داود، وزاد:

قال عبد العزيز الدراوردي : فذكرت ذلك لسهيل فقال : أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدثته إياه ولا أحفظه ، قال عبد العزيز : وقد كان أصاب سهيلاً علةً أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه ، فكان سهيل بعد ذلك يحدثه عن ربيعة ، عنه ، عن أبيه (3) .

ومن طريق الخاصة روى منصور بن حازم - في الصحيح - عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحق »(4).

وروى حماد بن عيسى - في الحسن - قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول: «حدثني أبي أنّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)وقضى بشاهد ويمين»(5).

وعن عبد الرحمن بن الحجاج - في الحسن - قال: دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر(علیه السّلام) فسألاه عن شاهد ويمين، فقال: «قضی به رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، وقضى به علي (علیه السّلام) عندكم بالكوفة فقالا: هذا خلاف القرآن فقال: «وأين وجدتموه خلاف

ص: 169


1- مسند أحمد، ج 4، ص 239، ح 13866؛ سنن الدارقطني ، ج 3، ص 455، ح 4407: الجامع الصحيح، ج 3، ص 628. ح 1345.
2- الجامع الصحيح، ج 3، ص 627. ح 1343.
3- سنن أبي داود، ج 3، ص 309، ح 3610.
4- الكافي، ج 7، ص 385 باب شهادة الواحد ويمين المدعي، ح4؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 272، ح 741: الاستبصار، ج 3، ص 33، ح 113.
5- الكافي، ج 7، ص 385، باب شهادة الواحد ويمين المدعي، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 275، ح 748 الاستبصار، ج 3، ص 33، ح 112.

------------------

القرآن؟». فقالا: إن الله تبارك وتعالى يقول: وَأَشْهِدُواْ ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ )(1). فقال: «هو أن لا تقبلوا شهادة واحد ويميناً؟!». ثم قال: «إنّ عليّاً (علیه السّلام) كان قاعداً في مسجد الكوفة فمرّ به عبد الله بن قفل التميمي ومعه درع طلحة، فقال علي (علیه السّلام): هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة. فقال له عبد الله بن قفل فاجعل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين. فجعل بينه وبينه شريحاً. فقال له علي : هذه درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة. فقال له شريح: هات على ما تقول بينةٌ. فأتاه بالحسن (علیه السّلام) فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة. فقال: هذا شاهد واحد ولا أقضى بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر. قال: فدعا قنبراً فشهد أنّها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة. فقال شريح: هذا مملوك، ولا أقضي بشهادة مملوك. قال: فغضب علي (علیه السّلام) وقال: خذوها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرات. قال: فتحوّل شريح عن مجلسه، ثمّ قال: لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرات. فقال له: ويلك - أو ويحك - إني لما أخبرتك أنها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بينةً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حيث ما وجد غلول أخذ بغير بينة. فقلت: إنك رجل لم يسمع بهذا الحديث. فهذه واحدة. ثم أتيتك بالحسن فشهد، فقلت: هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة واحد ويمين. فهاتان ثنتان. ثم أتيتك بقنبر فشهد أنّها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة، فقلت: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك، ولا بأس بشهادة مملوك إذا كان عدلاً». ثم قال: «ويلك - أو ويحك - إمام المسلمين يؤمن من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا»(2).

ص: 170


1- الطلاق(65) : 2.
2- الكافي، ج 7، ص 385 - 386 ، باب شهادة الواحد ويمين المدعي، ح : تهذيب الأحكام، ج 1، ص 273 - 275 ، ح 747؛ الاستبصار، ج 3، ص 34 - 35، ح117.

• ويشترط شهادة الشاهد أولاً، وثبوت عدالته، ثم اليمين ولو بدأ باليمين وقعت لاغيةً، وافتقر إلى إعادتها بعد الإقامة.

موارد ثبوت الحکم بالشاهد و الیمین

• ويثبت الحكم بذلك في الأموال كالدين والقرض والغصب. وفي المعاوضات، كالبيع والصرف والصلح والإجارة والقراض والهبة والوصية له. والجناية الموجبة للدية كالخطا، وعمد الخطا، وقتل الوالد ولده والحرّ العبد وكسر العظام، والجائفة والمأمومة. وضابطه ما كان مالاً، أو المقصود منه المال.

------------------

وإنما ذكرنا الحديث بطوله؛ لاشتماله على نكت غريبة، وتضمّنه لأحكام كثيرة، وفيه

بيان ما أشار إليه المصنف (رحمه الله) من قضاء علي (علیه السّلام) به بعده.

قوله: «ویشترط شهادة الشاهد أوّلاً وثبوت عدالته، ثمّ اليمين» إلى آخره.

أما اشتراط إقامة الشهادة أولاً؛ لأن المدعي وظيفته البينة - لا اليمين - بالأصالة، فإذا أقام شاهداً صارت البينة التي هي وظيفته ناقصةً، ومتممها اليمين بالنص(1) ، بخلاف ما لو قدّم اليمين، فإنّه ابتداء بما ليس من وظيفته، ولم يتقدمه ما يكون متمماً له.

وأمّا ثبوت عدالة الشاهد فلا يترتب على شهادته عدالته ، بل المعتبر العلم بها قبل الحلف.

وذهب بعض العامة إلى عدم الترتيب بينهما؛ لأن اليمين منزل منزلة الشاهد، ولا ترتيب بين شهادة أحد الشاهدين مع الآخر، فكذلك ما قام مقام الشهادة(2) .

قوله: «ويثبت الحكم بذلك في الأموال كالدين والقرض والغصب. وفي المعاوضات، كالبيع والصرف» إلى آخره.

إنّما اختص القضاء بالشاهد واليمين بالأموال وحقوقها؛ لما روي عن ابن عبّاس

ص: 171


1- تقدمت نصوصه قُبَيْل هذا.
2- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 252 .

------------------

(رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استشرت جبرئيل (علیه السّلام) في القضاء باليمين مع الشاهد، فأشار عليّ بذلك في الأموال لا تعدو ذلك»(1).

وروى محمد بن مسلم - في الصحيح - عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيز في الدين شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدين، ولم يجز في الهلال إلا شاهدي عدل»(2).

وروى أبو بصير عنه (علیه السّلام) قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحق، وذلك في الدين»(3).

وفي معنى الشاهد الواحد هنا المرأتان، فيثبت بهما مع اليمين ما يثبت به.

وربما قيل: لا يثبت بالمرأتين واليمين؛ لأنّ المنضم إلى اليمين إذا شهدت المرأتان أضعف شطري الحجة ، فلا يقنع بانضمام الضعيف إلى الضعيف، كما لا يقنع بانضمام شهادة امرأتين.

ويدلّ على الجواز حسنة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السّلام): «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين يحلف بالله إن حقه لحق»(4).

وروى منصور بن حازم قال: حدثني الثقة عن أبي الحسن (علیه السّلام)قال: «إذا شهد لصاحب الحق ،امرأتان ويمينه بالله فهو جائز»(5) . ولو كان الحق ممّا يثبت بشهادة النساء منفردات فأولى بالقبول مع اليمين هنا.

وابن إدريس منع من قبول شهادة المرأتين مع اليمين في الأموال؛ محتجاً بانتفاء

ص: 172


1- تلخيص الحبير، ج 4، ص 206، ح 2134، رواها عن أبي هريرة.
2- الكافي، ج 7، ص 386، باب شهادة الواحد ويمين المدعي، ح 8؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 272، ح 740.
3- الكافي، ج 7، ص 385 باب شهادة الواحد ويمين المدعي ، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 272 - 273 ح 742؛ الاستبصار، ج 3، ص 32، ح 109.
4- الكافي، ج 7، ص 386 ، باب شهادة الواحد ويمين المدعي، ح7؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 272، ح 739؛ الاستبصار، ج 3، ص 32، ح 107.
5- الكافي، ج 7، ص 386، باب شهادة الواحد ويمين المدعي، ح 6: الفقيه، ج 3، ص 055 ح 3323؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 272، ح 738؛ الاستبصار، ج 3، ص 31 - 32، 106.

• وفي النكاح تردّد.

لا یثبت بالشاهد واليمين الخلع، والطلاق، والرجعة

• أما الخلع، والطلاق، والرجعة، والعتق والتدبير، والكتابة، والنسب، والوكالة، والوصيّة إليه، وعيوب النساء فلا.

------------------

الإجماع، وعدم تواتر الأخبار (1).

والحق أن الدليل غير منحصر فيما ذكره، وما ذكرناه من الروايات كافٍ في إثباته.

واختلف كلام العلّامة في التحرير، ففي باب القضاء بالشاهد واليمين جزم بعدم قبولهما (2)، وفي كتاب الشهادات جزم بالقبول (3)، من غير نقل خلاف في الموضعين.

قوله: «وفي النكاح تردّد».

منشأ التردد في النكاح من اختصاص قبول الشاهد واليمين بالمال، والشكّ في تضمنه للمال؛ فإنّه يحتمل فيه ذلك من حيث تضمنه للمهر والنفقة، وعدمه؛ نظراً إلى أن المقصود بالذات منه الإحصان والتناسل وإقامة السنّة وكفّ النفس عن الحرام، والمهر والنفقة تابعان، مع أنهما مختلفان في دعوى الرجل إيّاه.

فحصل من ذلك أوجه ثبوته بهما مطلقاً، وعدمه مطلقاً، وثبوته إن كان المدعي الزوجة دونه. وقيّده بعضهم بما إذا كان دعواها بعد الدخول أو التسمية؛ لأنهما يثبتان المال(4) .

ويضعف بأن النفقة لا تتوقف على الأمرين. ومفوضة المهر تدعي مهراً في الجملة مطلقاً.

ولو ماتت الزوجة كانت دعوى الزوج تتضمّن المال، وهو الميراث. بل يمكن تضمّنها إيَّاه مطلقاً، نظراً إلى استحقاقه إيَّاه. والمتجه ثبوته من الزوجة مطلقاً .

قوله: «أما الخلع والطلاق والرجعة والعتق والتدبير» إلى آخره.

انتفاء ثبوته في الطلاق والنسب والوكالة والوصية إليه وعيوب النساء واضح؛ لأنّ هذه

ص: 173


1- السرائر، ج 2، ص 116.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 179، الرقم 6526.
3- تحرير الأحكام الشرعية ، ج 5، ص 268، الرقم 6664 .
4- فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 348.

------------------

الأشياء ليست مالاً، ولا تتضمن المال بوجه.

وأمّا الخلع، فإن كان مدعيه الزوج فهو يتضمن دعوى المال، وإن كان مدعيه المرأة فلا. والرجعة بالعكس؛ لأنّ دعواها من المرأة كدعوى النكاح؛ لأنها ترد الزوجية إلى ما كانت، وتوجب النفقة على تقدير سقوطها بالطلاق.

لكن يمكن أن يقال هنا: إنّ الرجعة من حيث هي رجعة لا توجب النفقة، وإنما يوجبها النكاح السابق. والرجعة إنّما رفعت حكم الطلاق، وأعادت حكم النكاح، فهي بذاتها لا توجب المال، ومن ثَم وقع الاتفاق على أنها لا تثبت بهما.

والوجه ثبوت الخلع بهما إذا كان مدعيه الزوج. وهو خيرة العلامة في أحد قوليه (1).

وأما العتق فالمشهور عدم ثبوته بهما ؛ لأنه يتضمن تحرير الرقبة، والحرية ليست مالاً، وهي حق الله تعالى. ويلزمه عدم ثبوت التدبير والكتابة والاستيلاد بهما؛ لاشتراك الجميع في المقتضي.

وقيل: يثبت بهما العتق؛ لأن المملوك مال وتحريره يستلزم تفويت المال على المالك والحرّية وإن لم يكن نفسها مالاً لكنّها تتضمّن المال من هذه الحيثية(2). وتنسحب عليه الثلاثة كذلك.

واختلف كلام العلّامة في التحرير والقواعد، ففي كتاب العتق والتدبير قطع بثبوتهما بشاهد ويمين من غير نقل خلاف (3)، وفي هذا الباب قطع بعدم ثبوتهما بهما كذلك(4). وتوقف في الدروس مقتصراً على نقل القولين (5). وله وجه.

ص: 174


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 4، ص 90 ، الرقم 5447: وج 5، ص 179، الرقم 6527.
2- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 9، المسألة 8335 .
3- تحریر الأحكام الشرعية، ج 4، ص 200 ، الرقم 5649 في كتاب العتق، وص218، الرقم 5683 في كتاب التدبير؛ قواعد الأحكام، ج 3، ص 208 و 209 في كتاب العتق، وص 236 في كتاب التدبير.
4- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 173 ، الرقم 6515: قواعد الأحكام، ج 3، ص 449.
5- الدروس الشرعية، ج 2، ص 76 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

• وفي الوقف إشكال، منشؤه النظر إلى مَنْ ينتقل [إليه]. والأشبه القبول لانتقاله إلى الموقوف عليهم.

------------------

قوله: «وفى الوقف إشكال، منشؤه النظر إلى مَنْ ينتقل [إليه]. والأشبه القبول؛ لانتقاله إلى الموقوف عليهم».

اختلف الأصحاب في ثبوت الوقف بهما على أقوال؛ منشؤها أن الموقوف هل ينتقل إلى الموقوف عليه مطلقاً، أم إلى الله تعالى أم إلى الأوّل مع انحصاره وإلى الله تعالى مع عدمه، أو يبقى على ملك الواقف؟ وقد تقدم البحث فيه في بابه(1) .

فعلى الأوّل يثبت بهما؛ لأنه مال للمدعي. وهو مختار الشيخ في المبسوط (2) والمصنّف وجماعة (3).

وعلى الثاني لا يثبت مطلقاً. وهو مختار الشيخ في الخلاف(4) ؛ لأنه ليس بمال للموقوف عليه بل له الانتفاع به فقط دون رقبته. وكذا على الرابع.

وعلى القول بالتفصيل يثبت بهما في المنحصر دون غيره. وهو أصح الأقوال؛ لوجود لازم الملك وهو علته الغائية، فيوجد الملزوم. والمنع من نقله عن ملكه لا ينافي الملك، كأُمّ الولد. وقد يجوز بيعه على وجه، فلم ينتف لازم الملك رأساً، مع تسليم كونه لازماً.

وربما قيل بثبوته وإن قلنا بعدم انتقاله إلى الموقوف عليه؛ لأن المقصود من الوقف المنفعة، وهي مال.

وفيه: أنّ المنفعة تابعة لثبوت أصل الوقف الذي يتعذر إثباته؛ لأنه ليس ملكاً للحالف على هذا التقدير.

ص: 175


1- تقدم في ج 5، ص 82 وما بعدها.
2- المبسوط، ج 5، ص 551.
3- منهم ابن البراج في المهذب، ج 2، ص 562 والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 449: والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 76 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
4- الخلاف، ج 6 ، ص 280 ، المسألة 25 .

• ولا تثبت دعوى الجماعة مع الشاهد إلا مع حلف كلّ واحد منهم. ولو امتنع البعض ثبت نصيب مَنْ حلف، دون الممتنع.

لا يحلف يثبت مالاً لغيره

•ولا يحلف من لا يعرف ما يحلف عليه يقيناً، • ولا ليثبت مالاً لغيره. فلو ادعى غريم الميت مالاً له على آخر مع شاهد فإن حلف الوارث ثبت وإن امتنع لم يحلف الغريم. وكذا لو ادعى رهناً وأقام شاهداً أنه للراهن لم يحلف؛ لأنّ يمينه لإثبات مال الغير .

------------------

قوله: «ولا تثبت دعوى الجماعة مع الشاهد إلا مع حلف كلّ واحدٍ منهم» إلى آخره.

الفرق بين اليمين والشاهد أن اليمين متعلّقها مال الحالف، وليس للإنسان أن يحلف لإثبات مال غيره، بخلاف الشاهد؛ فإنّ الأصل فيه أن يثبت بشهادته مال غيره، ولا يترتب على شهادته لنفسه أثر والغير بالنسبة إلى الشاهد سواء فيه المتعدد والمتحد، فشهادته بالمال الواحد للجميع كشهادته لكلّ واحد على انفراده بجزء منه على الإشاعة فيقبل في حق الجميع، ويتوقف كلّ واحد على اليمين تكملة للحجة.

قوله: «ولا يحلف مَنْ لا يعرف ما يحلف عليه يقيناً».

لأنّ الحلف على الحق شرطه الجزم به، وهو يتوقف على العلم بما يحلف عليه، بمعنى العلم بكونه ملكاً له على وجه يتميز عن غيره وإن لم يعلمه تفصيلاً. فلا يجوز الحلف على ما يجده مكتوباً بخطه، أو بخط مورّثه وإن أمن التزوير.

قوله: «ولا ليثبت مالاً لغيره» إلى آخره.

إذا كان على الميت دين وله على آخر ،دین وله شاهد واحد فوظيفة الحلف معه على الوارث؛ لأنّه المالك وإن كان المنتفع بيمينه الغريم كما لو كان مفلساً وله شاهد بدين، فإن حلف الوارث أخذ المال الغريم من دينه، إن شاء الوارث دفع العين، وإن امتنع من الحلف لم يكن للغريم الحلف عندنا؛ لأنّه لا يثبت(1) بيمينه مالاً لغيره؛ لما تقدم من أنّ التركة تنتقل

ص: 176


1- فيما عدا «م ، ض» والطبعة الحجرية: «لأنه يثبت» بدل «لأنه لا يثبت».

------------------

إلى ملك الوارث أو تكون على حكم مال الميّت(1)، وعلى التقديرين هي خارجة عن ملك الغريم قبل استيفائها، فحلفه قبله على إثبات الحق حلف لإثبات مال الغير.

وذهب بعض العامة إلى أنّه يحلف أيضاً؛ بناءً على أنه إذا ثبت صار له، فكان كالوارث (2). والفرق واضح؛ لأنّ الوارث إذا حلف صار له بالفعل، والغريم ينتقل بحلفه إلى الوارث ومنه إليه، فكان حلفه لإثبات مال غيره.

ولا يجبر الوارث على الحلف؛ لأنه لا يجب عليه إثبات مال به لنفسه فضلاً عن مورّثه. وللغريم حينئذ محاكمة المدعى عليه، فإن أحلفه مع الإنكار برى من الغريم، لا من الوارث فإن حلف الوارث بعد ذلك ثبت المال، وكان للغريم أخذه لكشف اليمين عن كونه تركة، فيتعلّق بها الدين كغيرها.

وهل يشترط في استحقاقه حينئذ قبض الوارث له أم يجوز أخذه ولو من المدعى عليه ؟ وجهان ، أصحهما الجواز مطلقاً؛ لثبوت كونه تركةً بحلف الوارث على التقديرين.

ووجه العدم في الأوّل سقوط حق الغريم عن المدعى عليه بحلفه له، وقد قال (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «ومَنْ حلف له فليرض»(3).

وجوابه: القول بالموجب لكن هذا حق تجدّد للميت بحلف الوارث، والرضى من حيث الحلف له لا ينافي استحقاق المطالبة من حيثية أُخرى، وهي كونه قد صار تركة للميت فيتعلّق بها الدين كغيره من أمواله .

والقول في حلف المرتهن لو أقام شاهداً أنه للراهن كالغرماء؛ لأن الملك أولاً يكون للراهن، ومنه ينتقل إلى المرتهن بشرطه، فلا يجوز حلفه لإثباته وإن امتنع الراهن من الحلف؛ لأنه يثبت بيمينه مالاً لغيره وإن انتفع به. وكذا القول في غرماء المفلس لو كان له شاهد بمال

ص: 177


1- تقدم في ص 167.
2- الحاوي الكبير، ج 17، ص 82 - 83؛ الكافي في فقه أهل المدينة، القرطبي، ص 472.
3- تقدم تخريجه في ص 140، الهامش 1.
لو ادعى الجماعة مالاً لمورّثهم، وحلفوا مع شاهدهم

• ولو ادعى الجماعة مالاً لمورّثهم، وحلفوا مع شاهدهم ثبتت الدعوى وقسّم بينهم على الفريضة.

ولو كان وصيّةً قسّموه بالسوية، إلا أن يثبت التفضيل . ولو امتنعوا لم يحكم لهم. ولو حلف بعض أخذ ، ولم يكن للممتنع معه شركة.

------------------

قوله: «ولو ادّعى الجماعة مالاً لمورثهم» إلى آخره.

لا كلام في استحقاقهم مع الحلف على حسب الفريضة أو الوصيّة؛ لأنّه مال يثبت بالشاهد واليمين، وقد انتقل إليهم بزعمهم عن مورّثهم لا باليمين، وإنما اليمين رفعت الحجر الثابت بينهم وبينه شرعاً، فيستحقونه على حسب الإرث، وفي الوصية بالسوية؛ لأن إطلاق العطيّة يقتضيها إذا لم ينص على خلافها.

هذا إذا حلف الكلّ، أما إذا حلف بعضهم بأن كانا أخوين فحلف أحدهما، فإنّه يستحق ما حلف عليه وينفرد به ومن لم يحلف سقط حقه، فلا يشارك الحالف فيما حلف عليه؛ لأنّه بتركه لليمين قد أبطل حجّته وأسقط حقه، فصار بمنزلة غير الوارث.

وقد يشكل الفرق بين هذا وبين ما لو ادعيا على آخر مالاً، وذكرا سبباً موجباً للشركة كالإرث فإنّه إذا أقر لأحدهما شاركه الآخر فيما وصل إليه، فخص بعضهم هذا بالدين وذاك بالعين وأعيان التركة مشتركة بين الورثة، والمصدق معترف بأنه من التركة بخلاف الدين فإنّه إنّما يتعيّن بالتعيين والقبض، فالذي أخذه الحالف تعيّن لنصيبه بالقبض، فلم يشاركه الآخر فيه(1).

وهذا الحكم مبني على ما إذا استوفى بعض الشركاء نصيبه من الدين هل يشاركه الآخر أم لا؟ وهذه التخصيصات لا توافق مذهب المصنّف من مشاركة الشريك في الدين فيما قبضه الآخر منه. ومع ذلك فلو انعكس الفرض انعكس الحكم.

وفرّق آخرون بأن المدعي هناك تلقى الملك من إقرار ذي اليد، ثم ترتب على ما أقرّ به

ص: 178


1- روضة الطالبين، ج 8، ص 254 - 255 .

•ولو كان في الجملة مولّى عليه يوقف نصيبه ، فإن كمل ورشد حلف و استحق. وإن امتنع لم يحكم له ، وإن مات قبل ذلك كان لوارثه الحلف واستيفاء نصيبه .

------------------

إقرار المصدّق بأنه إرث؛ فلذلك شاركه فيه، بخلاف ما هنا ؛ فإنّ السبب هنا الشاهد واليمين فلو أثبتنا الشركة لملكنا الناكل بيمين غيره، وبعيد أن يمتنع الإنسان من الحلف ثمّ يملكه بحلف غيره، مع أن اليمين لا تجري فيها النيابة. وعلى هذا فلا يفرّق بين العين والدين.

وقد يشكل بأنّ سبب الملك ليس هو اليمين، بل الأمر السابق من إرث أو وصيّة وغيرهما، واليمين إنّما كشفت عن استحقاقه السابق ورفعت الحجر عنه.

ولو فرض حلف الآخر بعد ذلك، فإن كان قبل الدفع إلى الأوّل فلا كلام. وإن كان بعده ففي مشاركة الثاني له وجهان من وجود السبب المقتضي للشركة، وسبق الحكم باختصاص الأول بما حلف عليه وقبضه. وتظهر الفائدة في المشاركة في النماء الحاصل قبل يمين الثاني.

قوله: «ولو كان في الجملة مولّى عليه يوقف نصيبه» إلى آخره.

إذا كان في جملة المدعين بالشاهد مولّى عليه - كالصبي والمجنون - فلا سبيل إلى إثبات حقه قبل كماله؛ لأنّ اليمين لا تقبل النيابة، بل يوقف نصيبه إلى أن يكمل ويحلف مع شاهده ولا يجوز انتزاعه من المدعى عليه؛ لأنه لم يثبت خروجه عن ملكه.

وفي مطالبته بكفيل وجه، تقدّم مثله فيما لو أقام المدعي بينةً وتوقفت على التعديل(1). والأقوى العدم؛ لأنّ سبب الملك لم يتم قبل اليمين فلا وجه لتعجيل تكليف المدعى عليه بما لم يثبت ،موجبه، فإذا كمل وحلف أخذ النصيب.

وهل يشارك الحالف فيما قبضه ؟ وجهان؛ لأنّه قد ثبت بيمينهما كون المدعى به ملكاً لهما، فإذا كان السبب مشتركاً كالإرث - فهو مشترك بينهما على سبيل الإشاعة، ومن حكم المشترك أنّ ما حصل لهما وما توى منهما.

ص: 179


1- تقدّم في ص 69 .

مسائل خمس:

الأُولى: • لو قال: «هذه الجارية مملوكتي وأُمّ ولدي» حلف مع شاهده، ويثبت رقّيّتها دون الولد؛ لأنه ليس مالاً، ويثبت لها حكم أُمّ الولد بإقراره.

------------------

ووجه العدم أنّ غير الحالف لم يثبت له قبل يمينه شيء، وإلا لاستحق بيمين غيره، وهو باطل، ومن ثمّ لو نكل عن اليمين فلا حق له، وإن كان السبب مشتركاً على ما تقرر.

والأوّل لا يخلو من قوة؛ لأن اليمين كاشفة عن ملكه من حين موت المورث، وإنما تأخر ثبوته ظاهراً.

قوله: «لو قال: هذه الجارية مملوكتي وأُمّ ولدي، حلف مع شاهده» إلى آخره.

إذا كان في يد إنسان جارية وولدها، فادعى عليه آخر بأنّها أُمّ ولده، وأن هذا الولد منها استولده في ملكه، وأنه حرّ الأصل، فقد ادعى فى الجارية أمرين: أحدهما: أنها مملوكته والثاني: أنّها أم ولده، تعتق بموته من نصيب ولدها.

وادعى في ولدها أمرين: أحدهما: النسب والثاني: الحرية.

فأما الجارية فإذا أقام شاهداً وحلف معه قضي له بملكها؛ لأنّ أُمّ الولد مملوكة؛ ولهذا كان له استخدامها والاستمتاع بها وإجارتها وتزويجها وشبهه، وإذا قتلها قاتل كان له قيمتها فيقضى له بها بالشاهد واليمين، كالأمة القنّ، وإذا حكم له بها حكم بأنّها أم ولده باعترافه لا بالشاهد واليمين. وحينئذ فإن ملك الولد أو تحرّر لحق به، وعتقت من نصيبه.

وأما الولد فلا يقضى له بالشاهد واليمين؛ بناءً على أن النسب والعتق لا يثبت به. وهو في النسب موضع وفاق. وأما العتق فإنّا وإن قلنا بثبوته به، لكنه هنا تابع للنسب لا واقع بالذات وانتفاء المتبوع يستتبع التابع.

ويحتمل ،ثبوته، كما لو اشتملت الدعوى على أمرين يثبت أحدهما بذلك دون الآخر فيثبت عتقه بالشاهد واليمين؛ بناءً على ثبوت العتق بهما، ولا يقدح فيه التبعية؛ لأنه مدعى به في الجملة، ولأنا حكمنا له بالجارية، والولد فرعها فكان كما لو ثبت غصب جاريته

ص: 180

لو ادعى بعض الورثة أنّ الميّت وقف عليهم داراً

الثانية: • لو ادعى بعض الورثة أنّ الميّت وقف عليهم داراً وعلى نسلهم، فإن حلف المدعون مع شاهدهم قضي لهم، وإن امتنعوا حكم بها ميراثاً وكان نصيب المدعين وقفاً. وإن حلف بعض ثبت نصيب الحالف وقفاً، وكان الباقي طلقاً، تقضى منه الديون وتخرج الوصايا وما فضل ميراثاً، وما يحصل من الفاضل للمدعين يكون وقفاً.

------------------

فإنّه يحكم له بالولد الحاصل منها في يد الغاصب، ولأنّ ثبوت الاستيلاد يقتضي ذلك. وعلى هذا، فينتزع الولد، ويصير حرّاً نسبياً بإقرار المدعي.

والأظهر الأوّل؛ لأنّه لا يدّعي ملك الولد ولا عتقه، وإنما يدعي نسبه وحريته، وهما لا يثبتان بهذه الحجة. وعلى هذا فيبقى الولد في يد صاحب اليد.

وهل يثبت نسبه بإقرار المدعي ؟ يبنى على ما لو استلحق عبد الغير، وقد تقدم البحث فيه في بابه(1). والوجه ،ثبوته وحريته على تقدير انتقاله إلى ملكه في وقت ما لا معجلاً.

قوله: «لو ادعى بعض الورثة أن الميت وقف عليهم داراً إلى قوله - بامتناع الأول».

إذا كان الوارث جماعةً فادعى بعضهم أنّ المورّث وقف عليهم بعض أعيان التركة كدار مثلاً - وأنكر باقي الورثة، وأقاموا شاهداً واحداً ليضموا إليه اليمين، وقلنا بثبوت الوقف بشاهد ويمين فالوقف المدعى يقع على وجهين:

أحدهما: أن يدعوا وقف الترتيب، فيقولوا وقف علينا وبعدنا على أولادنا أو على الفقراء.

والثاني: أن يدعوا وقف التشريك. والبحث في هذه المسألة عن الوجه الأول بقرينة قوله: «ولو انقرض الممتنع كان للبطن الذي يأخذ بعده الحلف» إلى آخره.

وحينئذٍ فإما أن يحلف جميع من ادعى الوقف منهم مع الشاهد، أو ينكلوا، أو يحلف بعضهم وينكل بعض، فإن حلفوا جميعاً ثبت لهم الوقف، ولا حق لباقي الورثة في الدار.

ص: 181


1- تقدم في ج 8، ص 633.

ولو انقرض الممتنع كان للبطن التي تأخذ بعده الحلف مع الشاهد، ولا يبطل حقهم بامتناع الأوّل.

------------------

ثمّ إذا انقرض المدعون معاً أو على التعاقب فهل يأخذ البطن الثاني الدار بغير يمين، أم يتوقف حقهم على اليمين ؟ فيه وجهان، مبنيان على أن البطن الثاني يتلقون الوقف من البطن الأوّل أو من الواقف.

فإن قلنا بالأوّل - وهو الأشهر - فلا حاجة إلى اليمين، كما إذا أثبت الوارث ملكاً بالشاهد واليمين ثم مات فإنّ وارثه يأخذه بغير يمين ولأنه قد ثبت كونه وقفاً بحجة يثبت بها الوقف فيدام، كما لو ثبت بالشاهدين، ولأنه حق ثبت لمستحق فلا يفتقر المستحق بعده إلى اليمين، كما لو كان للمدعي ملكاً، ولأنّ البطن الثاني وإن كانوا يأخذون عن الواقف فهم خلفاء عن المستحقين أولاً، فلا يحتاجون إلى اليمين كما إذا أثبت الوارث ملكاً للميت بشاهدين وللميت غريم، فإنّ له أن يأخذه بغير يمين، فإذا انتهى الاستحقاق إلى البطن الثالث والرابع عاد هذا الخلاف.

وإن قلنا بالثاني لم يأخذ إلا باليمين كالبطن الأول. وعليه، فلو كان الاستحقاق بعد الورثة كالأولاد مثلاً للفقراء، وكانوا محصورين كفقراء قريته ومحلّته فالحكم كالأول. وإن لم يكونوا محصورين بطل الوقف؛ لعدم إمكان إثباته باليمين، وعادت الدار إرثاً. وهل تصرف إليهم بغير يمين؟ وجهان.

ويحتمل عودها إلى أقرب الناس إلى الواقف بناءً على أنه وقف تعدّر مصرفه كالوقف المنقطع، ويجري فيه الخلاف الذي تقدّم في الوقف (1).

ولو مات أحد الحالفين صرف نصيبه إلى الآخرين، فإن لم يبق إلا واحد صرف الكل إليه؛ لأنّ استحقاق البطن الثاني مشروط بانقراض الأوّلين.

وهل أخذ الآخرين يكون بيمين أو بغير يمين؟ يبنى على أن البطن الثاني هل يأخذ

ص: 182


1- تقدم في ج 5، ص 59 وما بعدها.

------------------

بيمين أم لا؟ فإن قلنا بعدم افتقاره إلى اليمين فهنا أولى. وإن قلنا باليمين ففيه هنا وجهان، من انتقال الحق إلى الباقي من غيره، فيفتقر إلى الحلف، ومن كونه قد حلف مرّةً وصار من أهل الوقف، فيستحق بحسب شرط الواقف تارةً أقل وتارةً أكثر.

هذا حكم ما إذا حلفوا جميعاً. ولو نكلوا جميعاً عن اليمين فالدار تركة، تقضى منها الديون والوصايا، ويقسم الباقي على الورثة، ويكون حصة المدعين وقفاً بإقرارهم، وحصة باقي الورثة طلقاً لهم. فإذا مات الناكلون ففي صرف حصتهم إلى أولادهم على سبيل الوقف بغير يمين وجهان، مبنيان على تلقي الوقف كما تقدّم(1).

وهل للأولاد أن يحلفوا على أن جميع الدار وقف؟ وجهان، من كون الأولاد تبعاً لآبائهم. فإذا لم يحلفوا لم يحلفوا، ومن أنّهم يتلقون الوقف من الواقف فلا تبعية.

وربما بني الخلاف على أنّ الوقف المنقطع الابتداء هل يصح أم لا؟ فإن منعناه لم يحلف الأولاد على الجميع؛ لانقطاعه قبل طبقتهم. وإن جوزناه جاء الوجهان.

والحق مجيئهما وإن منعنا من الوقف المنقطع الأوّل؛ لأنّ حلف الأولاد (2) اقتضى عدم انقطاعه في الواقع، وإن انقطع بالعارض حيث لم يحلف آباؤهم، ولأن البطن الثاني كالأوّل؛ لأن الوقف صار إليهم بالصيغة الأولى عن الواقف، ولأنّ منع الثاني من الحلف يؤدي إلى جواز إفساد البطن الأول الوقف على الثاني، وهذا لا سبيل إليه، فالقول بجواز حلفهم أقوى. وهو خيرة الشيخ في المبسوط (3) والمصنّف وغيرهما(4) .

ولو حلف بعضهم دون بعض بأن كانوا ثلاثةٌ فحلف واحد ونكل اثنان يأخذ الحالف الثلث وقفاً، والباقي تركة تقضى منه الديون والوصايا، وما فضل يقسم بين جميع الورثة.

ص: 183


1- تقدّم في ص 182.
2- في «ض . م»: «الأوّل» بدل «الأولاد».
3- المبسوط، ج 5، ص 561.
4- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 451.

------------------

على ما يقتضيه ظاهر العبارة؛ فإنه حكم بأنّ ما فضل يكون ميراثاً، ومقتضاه اشتراك جميع الورثة فيه. والعلّامة تبعه على هذه العبارة(1) ، وصرّح بذلك بعضهم(2).

ووجهه أن الوراث الذين لم يدعوا الوقف - وهم المستحقون لهذه الحصة - يعترفون بأنها حق لجميع الورثة، وإن كان بعضهم - وهو مدعي الوقف - قد ظلم في أخذ حصته منه بيمينه، ولا يحسب عليه ما أخذه من حقه في الباقي؛ لأنه معين - وهو الدار المفروضة - لا مشاع، فيؤاخذون بإقرارهم، ويقسم على الحالف وغيره. وعلى هذا فما يخص الحالف يكون وقفاً على الناكلين؛ لأنّ الحالف يعترف لهم بذلك.

وقيل: إنّ الفاضل يقسم بين المنكرين من الورثة والذين نكلوا، دون الحالف؛ لأنه مقرّ بانحصار حقه فيما أخذه، وأن الباقي لإخوته وقفاً(3). واختار هذا القول في المبسوط ؛ لأنه قال:

لو حلف واحد منهم دون الآخرين، فنصيب مَنْ حلف وقف عليه، والباقي ميراث بين الآخرين وبقية الورثة (4).

ثم حصة الناكلين تصير وقفاً بإقرارهما. وإذا مات الناكلان والحالف حي، فنصيبهما للحالف على ما شرط الواقف بإقرارهم. وفي حاجته إلى اليمين ما سبق من الوجهين. فإذا مات الحالف فالاستحقاق للبطن الثاني. وفي حلفهم الخلاف الذي مرّ، وإن كان الحالف حيّاً عند موت الناكلين فأراد أولادهم أن يحلفوا، فعلى القولين المذكورين في أولاد الجميع إذا نكلوا والأصح أن لهم الحلف.

وما حكم نصيب الحالف الميت قبلهما ؟ فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه يصرف إلى الناكلين؛ لأنّه قضيّة الوقف، إذ لا يمكن جعله للبطن الثاني؛

ص: 184


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 451.
2- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 259.
3- حكاه النووي عن المحاملي والبغوي في روضة الطالبين، ج 8، ص 259.
4- المبسوط، ج 5، ص 561.
إذا ادّعى الوقفية عليه وعلى أولاده

الثالثة: • إذا ادّعى الوقفية عليه وعلى أولاده بعده وحلف مع شاهده ثبتت الدعوى، ولا يلزم الأولاد بعد انقراضه يمين مستأنفة؛ لأنّ الثبوت الأوّل أغنى عن تجديده. وكذا إذا انقرضت البطون، وصار إلى الفقراء أو المصالح.

أما لو ادعى التشريك بينه وبين أولاده افتقر البطن الثاني إلى اليمين؛ لأن البطن الثاني بعد وجودها تعود كالموجودة وقت الدعوى .

------------------

لبقاء البطن الأوّل، ولأنّه أقرب الناس إلى الواقف، وعلى هذا ففي حلفهم الخلاف السابق فإن قلنا بالحلف سقط بالنكول كالأوّل.

والثاني : أنّه يصرف إلى البطن الثاني ؛ لأنّه بنكول التاكل سقط حقه وصار كالمعدوم وإذا عدم البطن الأوّل كان الاستحقاق للثاني. وهذا هو الذي اختاره الشيخ في المبسوط (1).

والثالث - وهو أضعفها - أنه وقف تعدّر مصرفه؛ لأنّه لا يمكن صرفه إلى الباقين من البطن الأول؛ لنكولهم، ولا إلى البطن الثاني؛ لأنّ شرط استحقاقه انقراض البطن الأول، فإذا تعذر مصرف الوقف بطل كمنقطع الآخر، ورجع إلى أقرب الناس إلى الواقف.

ويحتمل على هذا صرفه في وجوه البر ؛ لأنّ هذا الانقطاع لم يكن واقعاً وإنّما طراً، فكان كما لو بطل رسم المصلحة الموقوف عليها.

وعلى هذا، فإذا زال التعذر - بأن مات الناكل وانتقل إلى البطن الثاني جاء في حلفه ما مرّ. وكذا حلف أقرب الناس إليه إذا كان هو الناكل.

قوله: «إذا ادعى الوقفية عليه وعلى أولاده بعده» إلى آخره.

البحث في القسم الأوّل من هذه المسألة كما سبق، وكأنه أعاده لينبه على الفرق بين وقف الترتيب والتشريك، حيث إنّ الثاني يفتقر فيه البطن الثاني إلى اليمين قطعاً، بخلاف وقف الترتيب.

والفرق ما أشار إليه المصنف (رحمه الله)، من أنّ البطن الثاني على تقدير التشريك بمنزلة البطن الأوّل في أنّه يتلقى الوقف من الواقف بلا واسطة، فلم يكن له شيء منه بغير

ص: 185


1- المبسوط، ج 5، ص 562.

• فلو ادعى إخوة ثلاثة أنّ الوقف عليهم وعلى أولادهم مشتركاً، فحلفوا مع الشاهد، ثمّ صار لأحدهم ولد ، فقد صار الوقف أرباعاً.

ولا تثبت حصة هذا الولد ما لم يحلف؛ لأنه يتلقى الوقف عن الواقف، فهو كما لو كان موجوداً وقت الدعوى. ويوقف له الربع، فإن كمل وحلف أخذ. وإن امتنع،

------------------

يمين، بخلاف الأول، فإنّه يتلقى الوقف بواسطة البطن الأوّل، فكان كالتابع له؛ فلذا وقع الخلاف فيه.

وقد كان يستغني في هذه المسألة بذكر قسم التشريك، ويجعل قسيماً للسابقة، ويبيّن الفرق.

قوله: «فلو ادعى إخوة ثلاثة أنّ الوقف عليهم - إلى قوله - بعدم استحقاق الربع».

هذا فرع على القسم الثاني، وهو ما لو كانت الدعوى كون الوقف تشريكاً. فإذا ادعى ثلاثة إخوة من جملة الورثة أن الوقف عليهم وعلى أولادهم ما تناسلوا وقف تشريك، وأقاموا شاهداً، وحلفوا معه تفريعاً على ثبوت الوقف بذلك، فإنّه يثبت الوقف بالنسبة إليهم، فإذا وجد لأحدهم ولد فقد صار الوقف أرباعاً بعد أن كان أثلاثاً، فيعزل له نماء الربع إلى حين بلوغه؛ لاعتراف الموقوف عليهم بذلك مع ثبوت يدهم، وإن كان الحق لم يثبت له بعد؛ لتوقفه على يمينه.

وفي تسليمه إلى وليه أو يوضع في يد أمين وجهان، منشؤهما مؤاخذتهم بإقرارهم، كما لو كانت العين في يد ثلاثة فاعترفوا بربعها لصبي؛ فإنّه يلزم الإقرار ويدفع إلى وليه، ومن عدم ثبوت الحق له حينئذ ؛ لتوقفه على اليمين. وهذا هو الأصح. والفرق بينه وبين الإقرار أنّه منحصر في حق أنفسهم؛ ولهذا لم يلزم فيه يمين، بخلاف الوقف؛ فإنّ اعترافهم به في حق البطون اللاحقة وفي حق أنفسهم، ومن ثم احتيج مع اعترافهم إلى اليمين مع الشاهد.

ثم إذا بلغ فلا يخلو إما أن يحلف، أو ينكل، أو يموت قبل ذلك. فإن حلف أخذ الربع وغلته المتجدّدة بعد ولادته. وإنّما وجب عليه اليمين؛ لما تقدم من أنّه يتلقى الوقف عن الواقف(1) ، فهو كالموجود حال الدعوى، فلا يأخذ بيمين غيره. وكذا القول في غيره من

ص: 186


1- تقدّم في ص 182.

قال الشيخ: يرجع ربعه على الإخوة؛ لأنهم أثبتوا أصل الوقف عليهم ما لم يحصل المزاحم، وبامتناعه جرى مجرى المعدوم.

وفيه إشكال ينشأ من اعتراف الإخوة بعدم استحقاق الربع.

------------------

البطون. ولكن لا يجوز له الحلف إلا مع العلم بالحال، لا استناداً إلى قول الشاهد وشركائه في الوقف مطلقاً. ويمكن فرض علمه بذلك بسماعه ذلك من جماعة يحصل بقولهم العلم، ومن جملتهم الشاهد والشركاء. ويشترط مع ذلك عدم علم الحاكم بذلك، وإلا لم يفتقر إلى اليمين؛ لأنه حينئذ يحكم بالاستفاضة كما سلف. ويمكن فرض علمه دون الحاكم بأن سمع ذلك في غير بلد الحاكم، أو في بلده ممن لم يسمع الحاكم منه. ومثله الشاهد عند الحاكم بالاستفاضة ؛ فإنّه يشهد بالتسامع مع إمكان الوصول إلى الحاكم ولكن لم يتفق.

وإن نكل ففي مصرف الربع وجوه: أحدها - وهو الذي ذهب إليه الشيخ في المبسوط(1) - ردّه إلى الإخوة؛ لإثباتهم أصل الوقف، والولد بنكوله يجري مجرى المعدوم فلا مزاحم لهم ،إذن، ولأن الواقف جعل الثلاثة أصلاً في الاستحقاق، ثمّ أدخل من يتجدد على سبيل العول، فإذا سقط الداخل فالقسمة بحالها على الأصول كما كانت وشبّهوه بما إذا مات إنسان وخلّف ألفاً، فجاء ثلاثة وادّعى كلّ واحد ألفاً على الميت وأقام شاهداً، فإن حلفوا معه فالألف بينهم، وإن حلف اثنان فهي لهما، وإن حلف واحد فهى له .

وأجيب عن الأول بأن الإخوة معترفون بأن الربع له، فكيف يجوز لهم أخذه بامتناعه من اليمين؟ بل يجب أن يوقف إلى أن يحلف أو يموت فيقوم وارثه مقامه (2).

وعن الثاني بمنع الحكم في الأصل المشبه به، بل ليس لصاحب الدين الأوّل إذا لم يحلف الثاني إلا أخذ حصته، إلا أن يقضى بالنكول أو يبرؤه الثاني من حقه؛ لأن الثاني أبطل حقه حينئذ، بخلاف النكول بمجرّده عند مَنْ لم يقض ببطلان الحق به؛ ولهذا لو

ص: 187


1- المبسوط، ج 5، ص 564.
2- أجاب به العلامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 451.

------------------

لم يحلف مع الشاهد ثمّ أتم البينة لسمعت وحكم بها.

وثانيها: صرفه إلى الناكل؛ لاعتراف الإخوة له بالاستحقاق دونهم. وأورد في المبسوط على نفسه ذلك، ثمّ أجاب عنه بأن:

الإقرار ضربان ،مطلق، ومقترن إلى سبب، فإذا عزي إلى سبب فلم يثبت السبب عاد إلى المقرّ به كقولهم مات أبونا وأوصى لزيد بثلث ماله فرد ذلك زيد، فإنه يعود إلى من اعترف بذلك، وكذلك من اعترف لغيره بدار في يده فلم يقبلها الغير عادت إلى المقرّ، فكذلك هنا (1).

ولا يخفى ضعف هذا الجواب؛ لأنّ ثبوت السبب متحقق بالنسبة إلى المقرّ، وإنّما تخلّف بالنسبة إلى المقرّ له، ولازم ذلك انتقال المقرّ به عمّن ثبت السبب في حقه، وإن لم يثبت في حق الآخر. وادّعاؤه أنّ مَنْ أقرّ لغيره بدار في يده فلم يقبلها أنها تعود إلى المقر له، إن أراد بعدم قبوله لها عدم تصديقه على صحة هذا الإقرار المطلق، فلا نسلّم أنها تعود إلى المقر بمجرد الإنكار، بل تبقى مجهولة المالك، كما تقرر في بابه (2). وإن أراد إقرارهم بسبب يتوقف على قبوله فلا نسلّم ثبوت السبب بمجرد إقرارهم؛ لتوقفه على القبول ولم يحصل.

وبهذا يظهر الفرق بين مسألة النزاع ومسألة الوصيّة التي ذكرها؛ لأن إقرارهم بالوصية له لا يقتضي ملكيته؛ لأنّ الوصية لا تملك إلا بالقبول على وجهه، فإذا رد بطلت الوصية، بخلاف المتنازع؛ لأنهم يعترفون له بالملك، سواء حلف أم لا، وإنما اعتبر حلفه مراعاة لحق البطون المتجددة، فإذا ردّ لم يخرج عن كونه ملكاً له بإقرارهم، فلا يعود إليهم، كما لو لم يعترف المقرّ له بالشيء المقرّ به الذي لا يتوقف انتقال ملكه عن المقرّ على القبول. نعم ، لو تم له مثاله الثاني لأتى مثله في صورة النزاع، لكنّه ممنوع .

تمَّ وثالثها: أنه وقف تعذر مصرفه؛ إذ لا يصرف إلى الإخوة لما ذكرنا، ولا إلى الولد؛ لعدم

ص: 188


1- المبسوط ، ج 5 ، ص 564 .
2- تقدّم في ج 8، ص 615.

• ولو مات أحد الإخوة قبل بلوغ الطفل عزل له الثلث من حين وفاة الميت؛ لأن الوقف صار أثلاثاً، وقد كان له الربع إلى حين الوفاة. فإن بلغ وحلف أخذ الجميع ، وإن ردّكان الربع إلى حين الوفاة لورثة الميت والأخوين والثلث من حين الوفاة للأخوين. وفيه أيضاً إشكال كالأوّل.

الرابعة: • لو ادّعى عبداً وذكر أنّه كان له وأعتقه فأنكر المتشبث قال الشيخ: يحلف مع شاهده ويستنقذه وهو بعيد؛ لأنه لا يدّعي مالاً.

------------------

ثبوته له، فيرجع إلى الواقف أو ورثته كمنقطع الآخر، أو إلى البر، كما قررناه في السابق.

قوله: «ولو مات أحد الإخوة قبل بلوغ الطفل عزل له الثلث» إلى آخره.

هذا من جملة الفروع على الفرض المذكور، وهو ما إذا مات أحد الإخوة قبل بلوغ الطفل: فإنّه يعزل له ثلث المدعى وقفه بعد أن كان قد عزل له الربع، بمعنى إكمال الربع بنصف سدس؛ لأنّ الوقف بموت أحدهم قد صار أثلاثاً بين الأخوين وابن الأخ بعد أن كان أرباعاً.

فإذا بلغ الولد وحلف أخذ الجميع، وهو الربع إلى حين وفاة الأخ، وتمام الثلث من حين الوفاة إلى أن حلف .

وإن نكل رجع الربع من حين ولادته إلى حين الوفاة إلى الأخوين الباقيين، وورثة الميت من الإخوة؛ لأنّهم كانوا أرباب الوقف ذلك الوقت، والثلث من حين الوفاة إلى حين النكول للأخوين خاصة.

هذا على قول الشيخ (رحمه الله)(1). وعلى الوجه الثاني فجميع ذلك للناكل؛ لاعتراف الإخوة له به. وعلى الثالث للواقف وأقرب الناس إليه. ووجه الإشكال الذي ذكره المصنف هنا يظهر من السابق.

قوله: «لو ادعى عبداً وذكر أنّه كان له وأعتقه فأنكر المتشبث» إلى آخره.

وجه ما اختاره الشيخ أنّ المدعي يدعي ملكاً متقدماً (2)، وحجته تصلح لإثبات الملك،

ص: 189


1- المبسوط، ج 5، ص 564 .
2- المبسوط، ج 5، ص 558.
لو ادّعى عليه القتل وأقام شاهداً

الخامسة : • لو ادعى عليه القتل وأقام شاهداً، فإن كان خطأ أو عمد الخطا حلف وحكم له. وإن كان عمداً موجباً للقصاص لم يثبت باليمين الواحدة، وكانت شهادة الشاهد لوثاً، وجاز له إثبات دعواه بالقسامة.

------------------

وإذا ثبت الملك ترتب عليه العتق بإقراره، كمسألة الاستيلاد السابقة.

والمصنف (رحمه الله) ينظر إلى أن دعواه العتق قبل الحلف يقتضي أنه لا يدعي الآن مالاً وإن كان ذلك في الأصل، وإنّما يدعي حرّية العبد، فلا يثبت بشاهد ويمين. وعلى تقدير القول بثبوت العتق بذلك إنّما يكون الحلف ممّن يدعيه لنفسه وهو العبد، أما المولى فلا؛ لأنّه يدعي لغيره. اللهم إلا أن يدعيه لأجل إثبات الولاء، بأن يكون العتق موجباً له، فيتجه حينئذ حلف المولى.

وعلى القول بالمنع من حلف المولى يفرّق بين هذه المسألة ومسألة الاستيلاد بأنّ مدعي الاستيلاد يدعي ملكاً ثابتاً بالفعل؛ لأنّ أُمّ الولد مملوكة للمولى، وهو مما يثبت بهذه الحجة، ولمّا كانت أمومة الولد تستلزم ولد أمته كان إثبات الولد وانعتاقه تابعاً ولازماً لما يثبت بالشاهد واليمين لا بالاستقلال، بخلاف عتق العبد؛ فإنّه ليس له أصل يثبت بذلك ليستند إليه ويتبعه، فلا يثبت مستقلاً.

قوله: «لو ادعى عليه القتل وأقام شاهداً، فإن كان خطأ أو عمد الخطإ حلف وحكم له وإن كان عمداً موجباً للقصاص» إلى آخره.

قد تقدّم في أوّل الباب أن الجناية الموجبة للمال تثبت بالشاهد واليمين (1)، ومنها الجناية خطاً وشبيه الخطا، وأنّ الجناية الموجبة للقصاص لا تثبت بهذه الحجة؛ لأنّها ليست مالاً. وإنّما أعادها لينته على ثبوت اللوث بالشاهد الواحد، فللمدعي أن يحلف معه القسامة ويثبت بها القصاص. وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى (2).

ص: 190


1- تقدّم في ص 171 - 172 .
2- يأتي في ج 12، ص 378 .
خاتمة
الفصل الأول في كتاب قاض إلى قاض
أقسام إنهاء حكم الحاكم إلى الآخر

تشمل فصلين

الأول في كتاب قاض إلى قاض

• إنهاء حكم الحاكم إلى الآخر إما بالكتاب أو القول أو الشهادة .

أمّا الكتابة، فلا عبرة بها؛ لإمكان التشبيه .

------------------

قوله - في كتاب قاض إلى قاض : «إنهاء حكم الحاكم إلى الآخر إما بالكتاب إلى آخره.

المشهور بين أصحابنا أنه لا عبرة بكتاب قاض إلى قاض، بمعنى أنه إذا كتب حكماً بشيء وأنفذه إلى غيره من القضاة ليس لهم الاعتماد على الخط وإنفاذه مطلقاً؛ لأن الخط يحتمل التزوير، وعلى تقدير الأمن منه يمكن كتبته من غير قصد تحقيقه.

ويظهر من ابن الجنيد جوازه في حقوق الآدميين دون حق الله تعالى؛ لأنه قال:

لا يجوز عندنا كتاب قاض إلى قاض في حد الله وجب على أحد من بلد المكتوب إليه، فإن كتب القاضي بذلك لم يكن للمكتوب إليه أن يقيمه، فأما ما كان من حقوق الناس بعضهم على بعض في الأموال وما يجري مجراها دون الحدود في الأبدان، فجائز كتاب القضاة من قبل إمام المسلمين بعضهم إلى بعض(1) .

وللعامة في ذلك اختلاف أيضاً (2)، فمنهم من منعه مطلقاً (3) كما قلناه، ومنهم من أجازه مطلقاً (4)، ومنهم من أجازه مع الوثوق بالخط والختم (5).

ص: 191


1- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 445، المسألة 45.
2- في حاشية «و»: «المانع منه مطلقاً الشافعي، والمجوّز له مطلقاً أبو حنيفة .... (منه رحمه الله)».
3- راجع حلية العلماء، ج 8، ص 151، حكاه عن أبي حنيفة.
4- المهذب، الشيرازي، ج 2، ص 388 - 389؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 458 - 459، المسألة 8278 بدائع الصنائع، ج 7، ص 11 روضة الطالبين، ج 8، ص 162.
5- الحاوي الكبير، ج 16، ص 213؛ حلية العلماء، ج 8، ص 151 - 152؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير ج 11 ، ص 470 - 472. المسألة 8283؛ روضة الطالبين، ج 8، ص 163.

وأمّا القول مشافهةً، فهو أن يقول للآخر: «حكمت بكذا» أو «أنفذت أو أمضيت» ففي القضاء به تردّد، نص الشيخ في الخلاف أنّه لا يقبل.

•وأما الشهادة فإن شهدت البيئة بالحكم وبإشهاده إياهما على حكمه تعين القبول؛ لأنّ ذلك مما تمس الحاجة إليه ؛ إذ احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعدة غالب، وتكلّف شهود الأصل التنقل متعدّر أو متعسّر، فلا بدّ من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء، ولا وسيلة إلّا رفع الأحكام إلى الحكّام وأتمّ ذلك احتياطاً ما صوّرناه.

------------------

وأما إنهاء الحاكم إلى آخر بالقول بأن يقول له: إنّي حكمت بكذا ونحوه، ففي جواز قضاء السامع به - بمعنى إنفاذه له - خلاف، فذهب الشيخ في الخلاف إلى عدم القبول(1) .

ووجّهوه بأنّه حكم من الثاني بغير علم، وقد نهى الله تعالى عنه(2)، خرج منه ما دلّ عليه دليل من خارج، فيبقى الباقي على الأصل.

والأصح القبول؛ لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جوازه مع الشهادة على حكمه (3)، فمع مشافهته أولى .

قوله: «وأمّا الشهادة فإن شهدت البيئة بالحكم وبإشهاده إياهما على حكمه تعيّن القبول -إلى قوله - لأنها تثبت ما لو أقر الغريم به لزم.

هذا هو القسم الثالث من إنهاء قاض إلى آخرٍ مضمون حكمه بطريق الإشهاد على الحكم. وقد اختلف الأصحاب في جواز إنفاذه للحاكم المنهي إليه الحكم بشهادة الشهود فذهب بعضهم إلى عدم جواز ذلك(4)، وآخرون إلى جوازه، ومنهم المصنّف (رحمه الله)

ص: 192


1- الخلاف، ج 6، ص 245، المسألة 42.
2- الإسراء (17): 36 .
3- سيأتي عن قريب.
4- لم نعثر على مصرّح بذلك، ولكن يشعر كلام العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 446 - 447، المسألة 46 بوجود قائل به .

لا يقال يتوصل إلى ذلك بالشهادة على شهود الأصل.

لأنا نقول: قد لا يساعد شهود الفرع على التنقل، والشهادة الثالثة لا تسمع.

ولأنه لو لم يشرع إنهاء الأحكام بطلت الحجج مع تطاول المدد.

------------------

وجماعة (1)، وقد استدلّ على جوازه بوجوه أربعة:

الأول: أنّ ذلك مما تمس إليه الحاجة، فوجب في الحكمة نصب أمين شرعي له.

ووجه الحاجة أنّ أرباب الحقوق قد يحتاجون إلى إثباتها في البلاد المتباعدة، ولا يكون لهم فيها شهود بالحق، ويكون شهودهم في بلاد أخرى، ولا يتيسر نقلهم إلى بلد الحق، فمست الحاجة إلى إثباته في بلد الشهود، والانتفاع في بلد المدعى عليه أو الذي فيه الحق، ولا وسيلة إلى ذلك إلا برفع الأحكام من بلد الشهود إلى الحكام في بلد الحق؛ ليتوصل ذو الحق إلى حقه، وإلا لزم تعطيل الحقوق، وهو منافٍ للحكمة.

والضرورة إلى إثبات الحق كما تندفع بذلك تندفع بشهادة الشاهدين على شهود الأصل، ثم شهادة الفرع عند الحاكم الذي يريد إنهاء الحكم عنده.

إلّا أنّ في الشهادة على الشهادة قصوراً عن الشهادة على الحكم، من حيث إنّها مقصورة على المرتبة الثانية، فلا تسمع الشهادة الثالثة على الشهادة والمرتبة الثالثة من الشهادة على الشهادة بمنزلة المرتبة الثانية من الشهادة على الشهادة على الحكم، فتكون مسموعة. فإذا تعذر وصول شهود الأصل في المرتبة الأولى من الشهادة على الحكم حصل الغرض من الشهادة عليهما، دون ما لو كانت الشهادة على شهادة الأصل؛ لأنّها تنقص عنها بمرتبة، فقد لا يحصل الغرض بدون المرتبة الثالثة التي هي ثانية في الشهادة على الحكم.

الثاني: أنّه لو لم يشرع إنهاء الأحكام لبطلت الحجج مع تطاول المدة؛ لأنّ الحاكم يموت فيبطل حكمه، فتنتفي فائدة الحكم حينئذ ، بخلاف ما إذا أشهد على حكمه ولو قبل

ص: 193


1- منهم الشيخ، انظر الخلاف، ج 6، ص 245. المسألة 42 ويحيى بن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع، ص 530:والعلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 446، المسألة 46 : وقواعد الأحكام، ج 3، ص 456؛ وفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 364؛ والسيوري في التنقيح الرائع، ج 4، ص 261.

ولأن المنع من ذلك يؤدّي إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر، فإن لم ينفذ الثاني ما حكم به الأوّل اتصلت المنازعة.

ولأن الغريمين لو تصادقا أن حاكماً حكم عليهما ألزمهما الحاكم ما حكم الأوّل، فكذا لو قامت البيِّنة؛ لأنّها تثبت ما لو أقر الغريم به لزم.

------------------

موته بيسير ؛ فإنّ الشهود تصير طبقةً ثانيةً بعده، فإذا أنفذ حكمه بشهادتهم طال زمان نفوذ الحجة والانتفاع بها، وهلم جراً بالنسبة إلى الحاكم الثاني والثالث، فيستمر الانتفاع بالحجة.

الثالث: أنّ المنع من ذلك يؤول إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى حاكم آخر، فإذا لم ينفذ حكم الأوّل يجب عليه سماع الدعوى. ثمّ قد يكون عالماً بعدالة شهود الحق، فيحكم له كالأوّل. ثمّ يحاكمه إلى آخر كذلك، إمّا توصّلاً (1)إلى حاكم يختلّ معه بعض الشرائط المعتبرة في إثبات الحق فينتفي عنه، أو يحصل بتكرار الخصومة مشقة زائدة على المحكوم له بخلاف ما إذا أنفذ حكم الأوّل، فإنّ الخصومة ترتفع حينئذ، ويمضى الحكم الأوّل على وجهه. وهذا هو الموافق لنصب الحكّام من الشارع؛ فإنّهم وضعوا لفصل الخصومات وقطع المنازعات، دون ما يوجب استمرار الخصومة.

الرابع: أنّ الغريم لو أقرّ عند الحاكم أن حاكماً حكم عليه بالحق ألزمه الحاكم المقرّ عنده به بالحق؛ لأنّ إقراره بذلك إقرار بثبوت الحق عليه شرعاً، وإذا كان الحاكم الثاني يلزم الغريم بإقراره بالحكم ويقطع الخصومة بذلك، فكذا إذا شهدت عنده البينة بحكم الحاكم بذلك؛ لأنّ البينة تثبت ما لو أقرّ به الغريم لزم فإذا كان الإقرار بالحكم ملزماً كانت البينة عليه ملزمة.

ص: 194


1- في الحجريتين: «اما لو توصلا» بدل «إمّا توصلاً».

• لا يقال: فتوى الأصحاب أنّه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض ولا العمل به. ورواية طلحة بن زيد والسكوني عن أبي عبد الله (علیه السّلام) : «أن علياً (علیه السّلام) كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض، في حد ولا غيره، حتى وليت بنو أُميّة فأجازوا بالبينات».

لأنا نجيب عن الأوّل بمنع دعوى الإجماع على خلاف موضع النزاع ؛ لأنّ المنع من العمل بكتاب قاض إلى قاض ليس منعاً من العمل بحكم الحاكم مع ثبوته.

ونحن (1)فلا عبرة عندنا بالكتاب، مختوما كان أو مفتوحاً

وإلى جواز ما ذكرنا أومأ الشيخ أبو جعفر (رحمه الله) في الخلاف.

------------------

قوله: «لا يقال: فتوى الأصحاب أنّه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض - إلى قوله - فكان الكتاب ملغى».

هذا إشارة إلى حجّة المانع من إنفاذ القاضي حكم قاض آخر وإن شهدت البينة عنده بحكمه. ومرجع الحجة إلى أمرين :

أحدهما: إجماع الأصحاب على أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض، بمعنى أنه لا عبرة به ولا يترتب عليه حكم، وإجماع الأصحاب حجة، والمخالف لهم في ذلك منهم معلوم النسب، فلا يقدح فيه على ما تقرّر في محلّه.

والثاني: الرواية المشهورة عن طلحة بن زيد والسكوني عن أبي عبد الله (علیه السّلام) : «أنّ علياً (علیه السّلام) كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض»(2) وإنما جوزه القضاة في زمن بني أُمية. فكان باطلاً.

وأجاب المصنّف (رحمه الله) بمنع الإجماع على خلاف صورة النزاع؛ فإنّ الإجماع على تقدير تسليمه إنّما وقع على منع العمل بكتاب قاض إلى قاض بمجرد الكتابة، من غير أن يحكم به باللفظ ويشهد على حكمه وينهي الشهود ذلك إلى حاكم آخر فينفذه، وهذا ليس

ص: 195


1- في الطبعة الحجرية من الشرائع وجواهر الکلام، ج ،40، ص 310: «ونحن نقول».
2- راجع تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 300، ح 840 و 841.

ونجيب عن الرواية بالطعن في سندها ؛ فإنّ طلحة بتري والسكوني عامي. ومع تسليمها نقول بموجبها ؛ فإنا لا نعمل بالكتاب أصلاً ولو شهد به، فكان الكتاب ملغى.

------------------

منعاً من العمل بحكمه مع ثبوته. ونحن نسلّم أنّه لا عبرة بالكتاب بمجرده، سواء كان مختوماً أم لا، وإنما يجوز إنفاذ الحاكم الثاني حكم الأوّل على تقدير ثبوت حكمه عنده بالبينة، وهذا أمر خارج عمّا ادعي الإجماع عليه.

فحاصل الجواب يرجع إلى أنّ الإجماع المدعى واقع على خلاف موضع النزاع فلا يكون مسموعاً، مع أنا نمنع الإجماع على ما ذكروه أيضاً؛ لأن ابن الجنيد قد جوّزه على ما عرفت (1)، وهو من أجلة الأصحاب، ومعلومية نسبه وكونها غير قادحة في الإجماع قد بينا ما فيه غير مرّة.

وعن الرواية بأمرين:

أحدهما ضعف سندها، فإنّ طلحة بن زيد بتري والبترية فرقة من الزيدية. وقال الشيخ في الفهرست والنجاشي: إنّه عامي (2). والسكوني عامي أيضاً مشهور الحال(3). مع أنه لم ينص أحد من الأصحاب فيهما على توثيق ولا مدح، مضافاً إلى فساد العقيدة، فلا يعتد بروايتهما.

والثاني - على تقدير تسليمها - لا دلالة لها على المنع في موضع النزاع؛ لأنّها دلّت على أنّ عليّاً كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض ونحن نقول بموجبه، فإنّا لا نجيز الكتاب بمجرّده، وإنّما نجيز الحكم إذا شهد عليه شاهدان وأنهياه عند حاكم آخر، وهذا غير المتنازع .

وأجاب في المختلف عن ضعف الروايتين بأنّ الرواية من المشاهير، فلا يضرها الطعن

ص: 196


1- راجع ص 191.
2- الفهرست، الشيخ الطوسي، ص 256 ، الرقم 372؛ رجال النجاشي، ص 207، الرقم 550.
3- خلاصة الأقوال، ص 316 ، الرقم 1238 .
ما ينهى إلى الحاكم أمران

إذا عرفت هذا . فالعمل بذلك مقصور على حقوق الناس دون الحدود وغيرها من حقوق الله.

فما ينهى إلى الحاكم أمران:

أحدهما حكم وقع بين متخاصمين.

والثاني: إثبات دعوى مدّع على غائب.

أمّا الأوّل . فإن حضر شاهدا الإنهاء خصومة الخصمين، وسمعا ما حكم به

------------------

في الراوي(1) . وهو يرجع إلى جبر الشهرة للضعف، وقد تكلمنا عليه غير مرة.

واحتج على المنع أيضاً بالإجماع على الحكم بالبينة واليمين من النبي ، وليس هذا أحدها(2) .

وجوابه أنّ هذا ليس حكماً، وإنما هو إقرار للحكم على حاله، وهو معنى إنفاذه. وعلى تقدير تسليمه فهو حكم بالبينة أيضاً، فلا ينافي الإجماع المدعى.

ولو سلّم عدم كونه حكماً بها منعنا الإجماع المذكور؛ فإنّ القول بجواز إنفاذ الحكم على هذا الوجه مذهب أكثر علماء الإسلام، ومنهم جملة (3) الأصحاب، سيّما المتأخرين.

قوله: « فالعمل بذلك مقصور على حقوق الناس، دون الحدود وغيرها من حقوق الله تعالى ».

لأنّ الحدود وحقوق الله مبنيّة على التخفيف فيقتصر في إثباتهما على موضع الوفاق ومحلّ اليقين.

قوله: «فإن حضر شاهدا الإنهاء خصومة الخصمين - إلى قوله كان إخباره ماضياً».

حيث حكمنا بجواز إنفاذ الحاكم ما حكم به غيره، فأتمّ صوره احتياطاً حضور شاهدي

ص: 197


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 446. المسألة 45: وللرواية راجع الكافي، ج 7، ص 415، باب أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ح 1؛ وتهذيب الأحكام، ج 1، ص 229، ح 553؛ وراجع أيضاً الجامع الصحيح، ج 3، ص 626، ح 1341؛ والسنن الكبرى، البيهقي، ج 10، ص 427، ح 21201 و 21203.
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 446. المسألة 45: وللرواية راجع الكافي، ج 7، ص 415، باب أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ح 1؛ وتهذيب الأحكام، ج 1، ص 229، ح 553؛ وراجع أيضاً الجامع الصحيح، ج 3، ص 626، ح 1341؛ والسنن الكبرى، البيهقي، ج 10، ص 427، ح 21201 و 21203.
3- في بعض النسخ: «ومنهم جلة» بدل «ومنهم جملة».

الحاكم، وأشهدهما على حكمه، ثم شهدا بالحكم عند الآخر أثبت بشهادتهما حكم ذلك الحاكم، وأنفذ ما ثبت عنده، لا أنه يحكم بصحة الحكم في نفس الأمر؛ إذ لا علم له به، بل الفائدة فيه قطع خصومة المختصمين لو عاودا المنازعة في تلك الواقعة.

وإن لم يحضرا الخصومة فحكي لهما الواقعة وصورة الحكم، وسمّى المتحاكمين بأسمائهما وآبائهما وصفاتهما وأشهدهما على الحكم، ففيه تردّد، والقبول أولى؛ لأنّ حكمه كما كان ماضياً كان إخباره ماضياً.

------------------

الإنهاء الواقعة، وشهادة الشاهدين بأصل الحق، بعد دعوى المدعي وإشهاد الحاكم إياهما على حكمه. وهذه الصورة جوّز إنفاذ الحكم فيها كل من قال به.

فأما إذا انتفى حضورهما، ولكن حكى لهما الحاكم الأول صورة الواقعة وصورة الحكم، وعين لهما المتخاصمين، وأشهدهما على حكمه، ففي جواز إنفاذ الحكم حينئذ تردّد، منشؤه من أنّ حكم الحاكم الثاني قول بما لا يعلم، وهو منهي عنه بقوله تعالى: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(1) ، وبغيره من الآيات (2) والروايات (3)، فيقتصر فيما خالفه على موضع الوفاق وما يوجب تمام الاحتياط، وهو الصورة الأولى، ومن أنّه كلّما كان حكم الحاكم ماضياً كان إخباره به ماضياً، لكن المقدم حق فالتالي مثله.

وحقيّة المقدّم واضحة، والملازمة ظاهرة؛ لأنّ غاية الحضور سماعهما الحكم؛ إذ لا اعتبار بما وقع في المجلس غيره من الدعوى وشهادة الشاهدين وتعديلهما ما لم يحصل الحكم، وهو عبارة عن الإخبار بثبوت الحق من أهله بلفظ حكمت» ونحوه، وصورة النزاع إخبار بذلك، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، ولأن الأدلة السابقة الدالة على تسويغ أصل

ص: 198


1- الأعراف (7): 28 .
2- الإسراء (17): 36 .
3- الكافي، ج 1، ص 42 - 43، باب النهي عن القول بغير العلم، الأحاديث 1 - 9.

• وأمّا الثاني، وهو إثبات دعوى المدعي، فإن حضر الشاهدان الدعوى وإقامة الشهادة والحكم بما شهدا به، وأشهدهما على نفسه بالحكم وشهدا بذلك عند الآخر قبلها وأنفذ الحكم.

ولو لم يحضرا الواقعة وأشهدهما بما صورته: «أنّ فلان بن فلان الفلاني ادعى على فلان بن فلان الفلاني كذا، وشهد له بدعواه فلان وفلان - ويذكر عدالتهما أو تزكيتهما - فحكمت وأمضيت ففي الحكم به تردد، مع أن القبول أرجح، خصوصاً مع إحضار الكتاب المتضمن للدعوى وشهادة الشهود. .

•أمّا لو أخبر حاكماً آخر بأنه ثبت عنده كذا لم يحكم به الثاني. وليس كذلك لو قال: حكمت» فإنّ فيه تردّداً.

------------------

هذا الإنفاذ آتية في هذه الصورة، فكان القول بالقبول أقوى، وهو الذي اختاره المصنف (رحمه الله) والأكثر .

واحترز المصنّف بقوله «وأشهدهما على الحكم عمّا لو قال لهما ثبت عندي» ونحوه

فإنّه لا يقبل قطعاً، وإنّما الكلام على تقدير إخباره بالحكم.

إذا تقرر ذلك، فالمراد بقضاء القاضي الثاني بما حكم به الأول إنفاذه لحكمه وإمضاؤه له، بحيث لا تسمع الدعوى ثانياً، وتنقطع المنازعة، ويبقى الحكم على حاله وإن لم يعلم حقيقة الأمر، لا أنه يحكم بصحته كما يحكم به الأوّل؛ لعدم علمه بما يوجب الحكم، ولجواز مخالفته لاجتهاده فلا يمكنه الحكم بصحته.

قوله: «وأما الثاني، وهو إثبات دعوى المدعي - إلى قوله - المتضمن للدعوى».

البحث في هاتين الصورتين كالسابقتين قبولاً ورداً، وإنما تتميّزان بأن الحكم في الأوليين على حاضر وهنا على غائب، وهو لا يوجب اختلاف الحكم، ولو اقتصر على أحدهما وأدرج الآخر فيه كان أخصر .

قوله: «أما لو أخبر حاكماً آخر بأنه ثبت عنده كذا لم يحكم به الثاني» إلى آخره.

قد ظهر من الأدلة المجوّزة لقبول إنفاذ الحكم أنّ موردها الضرورة إلى ذلك في البلاد

ص: 199

صورة الإنهاء

•وصورة الإنهاء أن يقص الشاهدان ما شاهداه من الواقعة وما سمعاه من لفظ الحاكم، ويقولا: «وأشهدنا على نفسه أنه حكم بذلك وأمضاه».

ولو أحالا على الكتاب بعد قراءته، فقالا: «أشهدنا الحاكم فلان على نفسه أنه حكم بذلك» جاز.

------------------

البعيدة عن الحاكم الأوّل. فذهب بعض الأصحاب إلى اختصاص الحكم بما إذا كان بين الحاكمين وساطة(1)، وهم الشهود على حكم الأوّل. فلو كان الحاكمان مجتمعين، وأشهد أحدهما الآخر على حكمه، لم يصح إنفاذه؛ لأنّ هذا ليس من محل الضرورة المسوغة للإنفاذ المخالف للأصل.

والأقوى القبول؛ لأنّ قوله نافذ، وحكمه حجّة والضرورة إلى ذلك باقية، فإنها غير منحصرة في الأماكن المتباعدة؛ لأنّ من جملتها قطع الخصومة، وهو لا يتم إلا بقبول ذلك، بل هو في هذه الحالة أقوى من البينة؛ لأنّ غاية البينة إثبات حكم الحاكم، وإخباره بالحكم أقوى .

وهذه الصورة هي التي صدرها في أوّل الخاتمة (2)، وجعل فيها تردداً، ونقل عن الشيخ المنع منها (3). وإنّما أعادها ليفرّق بين قوله: «ثبت عندي كذا» و «حكمت بكذا»، فإنّ محلّ الإنفاذ هو الثاني لا الأوّل؛ لأنه لم يحكم بل أثبت، والحاكم الثاني لا يحكم بإثبات غيره، بل ينفذ حكمه، ولم يحصل.

قوله: «وصورة الإنهاء أن يقص الشاهدان ما شاهداه من الواقعة وما سمعاه من لفظ الحاكم» إلى آخره.

المراد أن الشاهدين لا يكفي شهادتهما بما في الكتاب من الحكم مجملاً، بل لا بد من

ص: 200


1- لم نجد تصريحاً بهذا لأحد من الأصحاب، نعم يشعر كلام الشيخ في الخلاف، ج 6، ص 245، المسألة 42، بذلك ؛ ولمزيد من التوضيح راجع جواهر الکلام، ج 40، ح 316.
2- راجع ص 191.
3- الخلاف، ج 6 ، ص 245، المسألة 42.

• ولا بد من ضبط الشيء المشهود به بما يرفع الجهالة عنه. ولو اشتبه على الثاني وقف الحكم حتى يوضحه المدّعي.

• ولو تغيرت حال الأوّل بموت أو عزل لم يقدح ذلك في العمل بحكمه. وإن تغيّرت بفسق لم يعمل بحكمه، ويقرّ ما سبق إنفاذه على زمان فسقه.

ولا أثر لتغيّر حال المكتوب إليه في الكتاب، بل كلّ من قامت عنده البينة بأنّ الأوّل حكم به وأشهدهم به عمل بها؛ إذ اللازم لكلّ حاكم إنفاذ ما حكم به غيره من الحكام.

------------------

تفصيل الواقعة على الوجه الذي ذكره إما بلفظهما، أو بأن يقرأ الحاكم الثانى عليهما الكتاب المشتمل على الحكم فيقول الشاهدان: أشهدنا الحاكم فلان على نفسه أنه حكم بذلك؛ لأنّها حينئذ شهادة على أمر مفصل معلوم بالقراءة عليهما.

قوله: «ولا بد من ضبط الشيء المشهود به بما يرفع الجهالة عنه» إلى آخره.

إذا اشتبه المشهود به على الحاكم الثاني ؛ لعدم ضبط الشهود له بما يرفع الجهالة، وجب عليه إيقاف الحكم إلى أن يتضح، إما بتذكر الشاهدين تفصيله أو بشهادة غيرهما. وينبغي أن يكون ذلك هو المراد بإيضاح المدعي له، بأن أراد إيضاحه على وجه يثبت شرعاً، وإلا فمطلق إيضاح المدعي له غير كافٍ في إنفاذ الثاني للحكم؛ لأنه لا يجوز له التعويل على قول المدعي بمجرده. ولو قال: وقف الحكم حتى يتضح، كان أظهر.

قوله: «ولو تغيرت حال الأوّل بموت أو عزل لم يقدح ذلك في العمل بحكمه. وإن تغيرت بفسق لم يعمل بحكمه» إلى آخره.

كما يجوز أن يكتب الحاكم الأوّل إلى قاض معيّن يجوز أن يطلق فيكتب إلى كلّ من يصل إليه من قضاة المسلمين. وعند بعض العامة أنّه لا يجوز الإطلاق(1).

ص: 201


1- روضة القضاة، ج 1، ص 332 - 333؛ وحكاه عن أبي حنيفة ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير ج 11، ص 467. المسألة 8281 .

مسائل ثلاث

إذا أقر المحكوم عليه أنه هو المشهود أو أنکر

الأولى : • إذا أقر المحكوم عليه أنه هو المشهود عليه الزم. ولو أنكر وكانت الشهادة بوصف يحتمل الاتفاق غالباً، فالقول قوله مع يمينه ما لم يقم

------------------

وعلى تقدير التعيين لا يختص الحكم بمن كتب إليه، بل يجب إنفاذه على كل من شهد عنده الشاهدان بالحكم، وطلب منه المحكوم له إنفاذه ومن اعتبر التعيين لم يجوز إنفاذه لغير المعيّن مطلقاً.

إذا تقرر ر ذلك، فلا يقدح موت الكاتب ولا المكتوب إليه إذا شهد الشاهدان عند من يقوم مقامه، بناءً على عدم الانحصار ابتداء؛ لأن الحكم لا يبطل بموت الحاكم.

وفي معنى موت الحاكم عزله وجنونه وعماه - حيث يعتبر البصر وخرسه. أما لو كتب القاضي إلى خليفته ثم مات القاضي أو عزل تعذر على الخليفة القبول والإمضاء إن قلنا إنه ينعزل بانعزال الأصل.

ولو ارتد القاضى الكاتب أو فسق، ثمّ وصل الكتاب إلى المكتوب إليه لم يجز إنفاذه. وفرّقوا بينه وبين الموت بأنّ ظهور الفسق يشعر بالخبث وقيام الفسق يوم يرفع الحكم. وفيه نظر.

وذهب بعض(1) العامة إلى جواز إنفاذه كالموت (2).

وأما الإنفاذ السابق على ظهور الفسق فيقرّ عليه كأصل الحكم.

وأمّا المكتوب إليه فلا أثر لتغيّره بفسق ولا غيره فيبقى الحكم ماضياً، وينفذ على غيره من القضاة؛ لما تقدّم من عدم انحصاره في المكتوب إليه.

قوله: «إذا أقر المحكوم عليه أنّه هو المشهود عليه الزم - إلى قوله - وإن احتمل وقف الحكم حتى يتبيّن».

ص: 202


1- في بعض النسخ لم يرد «بعض».
2- الحاوي الكبير، ج 16، ص 232؛ المهذب، الشيرازي، ج 2، ص 389؛ روضة الطالبين، ج 8، ص 164.

المدعي البيئة. وإن كان الوصف ممّا يتعذر اتفاقه إلا نادراً لم يلتفت إلى إنكاره؛ لأنه خلاف للظاهر.

ولو ادعى أن في البلد مساوياً له في الاسم والنسبة كلف إبانته. فإن كان المساوي حيّاً سئل فإن اعترف أنّه الغريم الزم، وأطلق الأوّل، وإن أنكر وقف الحكم حتى يتبيّن.

------------------

ينبغي أن يثبت القاضي في الكتاب اسم المحكوم له والمحكوم عليه وكنيتهما، واسم أبيهما وجدّهما وحليتهما وصفتهما وقبيلتهما، ليسهل التميّز. نعم، لو كان الرجل مشهوراً، وحصل الإعلام ببعض ما ذكرنا اكتفي به.

فإذا فعل كما ذكرنا، وحمل الكتاب إلى المكتوب إليه، وأحضر الحامل عنده من زعمه محكوماً عليه نظر، إن شهد شهود الكتاب والحكم على عينه، وأنّ القاضي الكاتب حكم عليه طولب بالحق.

وإن لم يشهدوا على عينه، ولكن شهدوا على رجل موصوف بالصفات المذكورة في الكتاب، فإن أقرّ المُحْضَر أنّه هو المشهود عليه قبل وألزم؛ لعموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(1).

وإن أنكر وكانت الشهادة بوصف يحتمل المشاركة غالباً فالقول قوله مع يمينه؛ لأصالة البراءة، وعدم حصر الوصف.

وإن نكل حلف المدعي وتوجّه عليه الحكم.

وإن قال: لا أحلف على أنه ليس اسمي ونسبي، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليم شيء إليه، ففي إجابته وجهان أصحهما عدمه؛ لقيام البينة على المسمّى بهذا الاسم، وذلك يوجّه الحقّ عليه.

ص: 203


1- أورده العلّامة في مختلف الشيعة، ج 5، ص 259، المسألة 226، وص 370، المسألة 337؛ وتذكرة الفقهاء. ج 14، ص 233، المسألة 431 وولده فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 428.

وإن كان المساوي ميتاً - وهناك دلالة تشهد بالبراءة، إما لأن الغريم لم يعاصره، وإما لأن تاريخ الحق متأخر عن موته - ألزم الأول. وإن احتمل وقف الحكم حتى يتبيّن.

------------------

وإن قامت البينة على أنّه اسمه ونسبه، فقال: نعم، لكني لست المحكوم عليه، فإن لم يُوجد هناك من يشاركه في الاسم والصفات المذكورة لزمه الحكم؛ لأنّ الظاهر أنّه المحكوم عليه. وإن وُجد إما بأن عرفه القاضي أو قامت عليه بينة أُحضر الذي يشاركه وسُئل فإن اعترف بالحق طولب به، وتخلّص الأوّل وإن أنكر وقف حتى ينكشف.

ولو أقام المُحضر بيّنةً على موصوف بتلك الصفات كان هناك وقد مات، فإن مات بعد الحكم وقع الإشكال، وإن مات قبله، فإن لم يعاصره المحكوم له فلا إشكال. وإن عاصره فإن كان تاريخ الحق متأخراً عن موته فكذلك، فيلزم الأول، وإلا وقف الحكم.

هذا كله إذا أثبت القاضي اسم المحكوم عليه ونسبه وصفته كما قدّمناه (1).

أما إذا اقتصر على أنّي حكمت على محمّد بن أحمد مثلاً، فقيل: يبطل الحكم (2)؛ لأنّ المحكوم عليه مبهم لم يتعيّن بإشارة ولا وصف، حتى لو حضر رجل واعترف بأنه محمد بن أحمد وأنّه المعني بالكتاب لم يلزم ذلك؛ لبطلان الحكم في نفسه، إلا أن يقرّ بالحق فيؤاخذ به بخلاف ما لو استقصى الوصف ولم يقصر فظهر الاشتراك واتفق اشتباهه.

ويظهر من إطلاق قول المصنف «أنه لو أقرّ بأنه المشهود عليه الزم» لزوم الحق لصاحب الاسم المشترك غالباً، وإن كان لا يلزمه لو أنكر. وهو خيرة الدروس، واستبعد خلافه(3). وهذا هو الوجه.

ص: 204


1- تقدم أنفاً.
2- قال به العلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 152 ، الرقم 6478.
3- الدروس الشرعية، ج 2، ص 71 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

الثانية :• للمشهود عليه أن يمتنع من التسليم حتى يشهد القابض. ولو لم يكن عليه بالحق شاهد قيل: لا يلزم الإشهاد. ولو قيل: يلزم كان حسناً، حسماً لمادة المنازعة، أو كراهية لتوجه اليمين.

الثالثة: • لا يجب على المدعي دفع الحجّة مع الوفاء ؛ لأنّها حجة له لو خرج المقبوض مستحقاً. وكذا القول فى البائع إذا التمس المشتري كتاب الأصل؛ لأنّه حجة له على البائع الأوّل بالثمن لو خرج المبيع مستحقاً.

------------------

قوله: «للمشهود عليه أن يمتنع من التسليم حتى يشهد القابض» إلى آخره.

القول بعدم جواز الامتناع إلى أن يشهد حيث لا يكون بالحق شاهد للشيخ ؛(1) لعدم الضرر بالدفع حينئذ؛ لأنّ غايته أن يدعي عليه به مرّةً أُخرى ولا بينة له فينكر، ويقبل قوله في البراءة منه ،بيمينه واليمين الصادقة لا ضرر فيها.

ومثله ما لو كان له بالحق بيّنة، ولكن كان الحق ممّا يقبل قول من هو بيده في ردّه كالوديعة؛ لأنّ البينة لا تلزمه، وإنّما غايته إلزامه باليمين كالسابق.

والذي اختاره المصنّف (رحمه الله) وجماعة (2) جواز الامتناع إلى أن يشهد مطلقاً؛ لأنّ المنازعة وتوجه اليمين ممّا ينبغي دفعه خصوصاً عن ذوي المروات، فيكون حسم مادته بالإشهاد عذراً في تأخير الحق إلى أن يحكمه، وقد تقدم البحث في هذه المسألة في كتاب الوكالة (3)، وكأنه أعادها لمناسبة المقام.

قوله: «لا يجب على المدعي دفع الحجة مع الوفاء» إلى آخره.

ما ذكره من تعليل عدم وجوب دفع الحجّة حسن؛ لأنّ فائدة الحجة لا تنحصر في زمن ملكه، بل يحتاج إليها بعد البراءة وخروج الملك عنه ليكون حجة على الدرك. مع أنه يجوز

ص: 205


1- المبسوط، ج 5، ص 487.
2- منهم العلامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 363؛ والشهيد في اللمعة الدمشقية، ص 200 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).
3- تقدم في ج 4، ص 521.
الفصل الثاني في لواحق من أحكام القسمة
الأوّل في القاسم

والنظر في القاسم، والمقسوم والكيفية، واللواحق.

أما الأوّل: • فيستحب للإمام أن ينصب قاسماً، كما كان لعلي (علیه السّلام).

------------------

التعليل أيضاً بكونها ملكاً لمن هي في يده، ولا يجب عليه دفع ملكه إلى غيره، وإن لم يكن له منفعة بها، كغيرها من أمواله.

قوله: «الفصل الثاني في لواحق من أحكام القسمة».

إنّما ذكر أحكام القسمة في كتاب القضاء؛ لأنّ القاضي لا يستغني عن القسام؛ للحاجة إلى قسمة المشتركات، بل القسام كالحاكم، فحسن الكلام في القسمة في هذا الكتاب، كما فعله جماعة من الفقهاء (1)، ومن أفردها كتاباً برأسها (2) نظر إلى استقلالها بالأحكام، كغيرها من كتب الفقه.

واعلم أنّ الحاجة الداعية إلى تجويز (3) القسمة بينة؛ وذلك لأنه قد يتبرم الشركاء أو بعضهم بالمشاركة أو يريدون الاستبداد بالتصرف، وفي كتاب الله: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى)(4) الآية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم بين الغانمين (5).

قوله: «فيستحب للإمام (علیه السّلام) أن ينصب قاسماً - إلى قوله - كما لو تراضيا بأنفسهما من غير قاسم».

ص: 206


1- كالشيخ في المبسوط، ج 5، ص 487؛ ويحيى بن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع، ص 531 والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 459؛ والشهيد في اللمعة الدمشقية، ص 122 ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).
2- كالقاضي ابن البراج في المهذب، ج 2، ص 573؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 93 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- في «ض»: «تحریر» بدل «تجویز».
4- النساء (4): 8 .
5- المبسوط، الشيخ الطوسي، ج 5، ص 488: صحيح البخاري، ج 3، ص 1116 ، ح 2901؛ صحیح مسلم، ج 2، ص 783 ، ح 1061/139؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 224 : المهذب، الشيرازي، ج 2، ص 391 .

ويشترط فيه البلوغ وكمال العقل والإيمان والعدالة والمعرفة بالحساب ولا يشترط الحرية.

ولو تراضى الخصمان بقاسم لم تشترط العدالة.

وفي التراضي بقسمة الكافر نظر، أقربه الجواز، كما لو تراضيا بأنفسهما من غير قاسم.

• والمنصوب من قبل الإمام تمضي قسمته بنفس القرعة، ولا يشترط رضاهما بعدها. وفي غيره يقف اللزوم على الرضى بعد القرعة.

------------------

القسمة قد يتولاها الشركاء بأنفسهم، وقد يتولاها غيرهم، وهو إما منصوب الإمام، أو منصوبهم ويستحب للإمام أن ينصب قاسماً ويرزقه من بيت المال؛ لأنّ القسمة من جملة

المصالح. وروي أنه كان لعلي (علیه السّلام) قاسم يقال له: عبد الله بن يحيى، وكان يرزقه من بيت المال (1).

ويشترط في منصوب الإمام التكليف والإيمان والعدالة والمعرفة بالمساحة والحساب؛ لأنّ علمه بهما كالفقه في الحاكم.

وقيل: يشترط أن يعرف التقويم(2)؛ لأنّ في أنواع القسمة ما يحتاج إليه.

ولا يشترط عندنا الحرّية، فلا يمتنع أن يكون العبد قاسماً بإذن مولاه.

أما منصوب الشركاء فلا يشترط فيه العدالة؛ لأنه وكيل من جهتهم. وفي اشتراط إسلامه نظر، من حيث إنّه ظالم منهي عن الركون إليه. والأصح الجواز؛ لجواز كونه وكيلاً وهذه في معنى الوكالة، ولتراضيهما على قسمته، فكان كما لو تراضيا على القسمة بأنفسهما من غير قاسم.

قوله: «والمنصوب من قبل الإمام تمضي قسمته إلى قوله قد قارنها الرضى».

قرعة قاسم الإمام بمنزلة حكمه، فمن ثمّ اشترط فيه العدالة والمعرفة فلا يعتبر رضاهما بعدها.

ص: 207


1- رواه الشيخ في المبسوط ، ج 5، ص 488 والماوردي في الحاوي الكبير، ج 16، ص 245.
2- راجع الحاوي الكبير، ج 16، ص 200، قوله: «وأن يكون عارفاً بالقيم».

وفي هذا إشكال، من حيث إنّ القرعة وسيلة إلى تعيين الحق، وقد قارنها الرضى.

------------------

أما القاسم الذي نصباه، أو إذا اقتسما بأنفسهما من غير قاسم، قال الشيخ: يعتبر رضاهما بعد القرعة(1) ؛ لأنّها إنما تتعيّن بحكم الحاكم أو تراضيهما بعدها، ولأصالة بقاء الشركة.

والمصنّف (رحمه الله) استشكل ذلك، من حيث إنّ القرعة شرعت وسيلة إلى تعيين الحق، وقد قارنها الرضى فلا يعتبر بعدها؛ لأنّ التعيين على هذا الوجه أوجب تميّز أحد الحقين عن الآخر، فيتعين بالرضى المقارن بل ينبغي أن يتعيّن بتراضيهما على القسمة و تخصيص كلّ واحد من الشركاء بحصته وإن لم تحصل القرعة، كما تصح المعاطاة في البيع. إلا أنّ المعاطاة يتوقف لزومها على التصرف، من حيث إن ملك كلّ واحد من العوضين كان للآخر، فيستصحب ملكه إلى أن يتصرّف أحدهما بإذن الآخر، فيكون رضى منه بكون ما في يده عوضاً عن الآخر.

أما القسمة فإنّها مجرد تمييز أحد النصيبين عن الآخر، وما يصل إلى كلّ منهما هو عين ملكه لا عوضاً عن ملك الآخر، فيكفى تراضيهما عليها مطلقاً. ومن جعلها بيعاً مطلقاً أو على بعض الوجوه يناسبه توقف اللزوم على التصرف، كالبيع معاطاةً.

واشترط في الدروس تراضيهما بعد القرعة في غير قسمة منصوب الإمام مع اشتمالها على الردّ خاصةً(2). وهو حسن.

وفي اللمعة اكتفى بتراضيهما عليها من غير قرعة مطلقاً(3) . وهو أجود، واختاره العلّامة في القواعد (4) أيضاً.

ص: 208


1- المبسوط، ج 5، ص 504 .
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 93 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- اللمعة الدمشقية، ص 122 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).
4- قواعد الأحكام، ج 3، ص 460.

• ويجزئ القاسم الواحد إذا لم يكن في القسمة ردّ. ولا بد من اثنين في قسمة الردّ؛ لأنّها تتضمن تقويماً، فلا ينفرد به الواحد. ويسقط اعتبار الثاني مع رضى الشريك.

● وأُجرة القسّام من بيت المال، فإن لم يكن إمام أو كان ولا سعة في بيت المال كانت أجرته على المتقاسمين. فإن استأجره كلّ واحد بأجرة معينة فلا بحث ،

------------------

قوله: «ويجزئ القاسم الواحد إذا لم يكن في القسمة رد» إلى آخره.

القسمة إن اشتملت على ردّ فلا إشكال في اعتبار التعدّد في القاسم حيث لا يتراضى الشريكان بالواحد؛ لأنّ التعدد (1)مشترط في التقويم(2) مطلقاً، من حيث إنّها شهادة وإن لم تشتمل على رد.

فهل يجزئ قاسم واحد - بمعنى أنّ الإمام يجتزى بنصب واحد - أم لا بد من اثنين كنصب الشاهد ؟

مذهب الأصحاب هو الأوّل ؛ إقامة له مقام الحاكم. ويؤيّده ما سبق من نصب علي (علیه السّلام) قاسماً واحداً (3). واعتبر بعض العامة اثنين مطلقاً (4)؛ ترجيحاً لجانب الشاهد، حيث إنّه لا يشتمل على جميع أوصاف الحاكم.

قوله: «وأجرة القسّام من بيت المال - إلى قوله - بالحصص لا بالسويّة».

قد ذكرنا أنّ أُجرة القسام في بيت المال(5) ؛ لأنه من المصالح. فإن لم يتفق له الكفاية من بيت المال فأجرته على الشركاء، سواء طلب جميعهم القسمة أم بعضهم دون بعض.

ثم ينظر إن استأجر الشركاء قاسماً وستوا له أجرة وأطلقوا فتلك الأجرة تتوزع على

ص: 209


1- في «و»: «العدد» بدل «التعدد».
2- في بعض النسخ: «المقوم» بدل «التقويم».
3- سبق في ص 207.
4- الحاوي الكبير، ج 16، ص 247: حلية العلماء، ج 8، ص 165 - 166؛ روضة الطالبين، ج 8، ص 182
5- راجع ص 207.

وإن استأجروه في عقدٍ واحدٍ ولم يعينوا نصيب كلّ واحد من الأجرة ، لزمتهم الأُجرة بالحصص. وكذا لو لم يقدروا أُجرةً كان له أُجرة المثل عليهم بالحصص لا بالسويّة.

------------------

قدر الحصص؛ لأنّها من مؤونات الملك، فأشبهت النفقة، فتكون في مقابلة العمل، والعمل لمن يزداد نصيبه أكثر كالكيل في المكيلات والوزن في الموزونات.

وكذا القول فيما لو لم يقدروا أجرةً أو استأجروه أجرةً فاسدةً، فوجبت أجرة المثل.

وفيه وجه آخر أنه يقسم على عدد الرؤوس؛ لأن عمله في الحساب والمساحة يقع لهم جميعاً، وقد يكون الحساب في الجزء القليل أغمض. وأيضاً فإنّ قلّة النصيب توجب كثرة العمل؛ لأنّ القسمة تقع بحسب أقل الأجزاء، فإن لم يجب على من قل نصيبه زيادةً فلا أقل من التساوي والأصح الأوّل.

وإن سمّى كلّ واحدٍ منهم أجرةً التزمها فله على كلّ واحدٍ ما التزم وانقطع النظر عن الحصص والرؤوس جميعاً.

وهذا واضح إن فرض اجتماعهم على الاستيجار بأن قالوا: «استأجرناك لتقسم بيننا كذا بدينار على فلان ودينارين على فلان» أو وكلوا وكيلاً فعقد لهم كذلك.

وإن فرضت عقود مترتبة فقد ذكروا فيه إشكالاً، وهو أنّ الشركاء إذا كانوا اثنين فعقد واحد لإفراز نصيبه، فعلى القسّام إفراز النصيبين وتمييز كلّ واحدٍ منهما عن الآخر؛ لأنّ تمييز نصيب المستأجر لا يمكن إلا بتمييز نصيب الآخر، وما يتوقف عليه الواجب فهو واجب، فإذا استأجر بعد ذلك الآخر على تمييز نصيبه فقد استأجره على ما وجب عليه واستحق في ذمته لغيره، فلم يصح.

وكذا لو كانوا ثلاثة فعقد واحد لإفراز نصيبه، ثم الثاني كذلك، فعلى القسام إفراز النصيبين، فإذا ميّزهما تميّز الثالث، فإذا عقد الثالث بعد العقدين كان قد عقد على عمل مستحق في ذمّة الأجير لغيره، فلا يصح.

ص: 210

الثاني في المقسوم
المقسوم المتساوي الأجزاء

وهو إما متساوي الأجزاء، كذوات الأمثال مثل الحبوب والأدهان أو متفاوتها، كالأشجار والعقار. فالأوّل يجبر الممتنع مع مطالبة الشريك بالقسمة؛

------------------

وأجيب بأن السؤال مبني على أنه يجوز استقلال بعض الشركاء باستئجار القسام لإفراز نصيبه ولا سبيل إليه؛ لأنّ إفراز نصيبه لا يمكن إلا بالتصرف في نصيب الآخرين تردّداً وتقديراً، ولا سبيل إليه إلا برضاهم (1).

نعم، يجوز أن ينفرد واحد منهم برضى الباقين، فيكون أصلاً ووكيلاً، ولا حاجة إلى عقد الباقين، وحينئذ إن فصل ما على كلّ واحدٍ منهم بالتراضي فذاك، وإن أطلق عاد الكلام في كيفية التوزيع.

قوله: «في المقسوم وهو إما متساوي الأجزاء - إلى قوله - تمييز حق لا بيع».

اعلم أنّ العين المشتركة إما أن يعظم الضرر في قسمتها، أو لا يعظم.

والثاني إما أن تكون مثليّة، وهي المتساوية الأجزاء في القيمة والصفات، كالحبوب والأدهان، أو قيميّةً لكنّها متشابهة الأجزاء، كالدار المتفقة الأبنية، والأرض المتشابهة الأجزاء، وما في معناها، بحيث يمكن تعديلها بعدد الأنصباء من غير ردّ ولا ضرر، أو يتوقف التعديل على الردّ من غير أن يحصل ضرر على أحد الشركاء، أو يحصل ضرر، إما على الجميع أو على البعض، فهذه أقسام المقسوم. فالقسمان الأولان يجبر الممتنع من القسمة إذا طلبها الآخر. وسيأتي حكم الباقي (2).

ونبه بقوله « ويقسّم كيلاً ووزناً - إلى قوله - لأنّ القسمة تمييز حق لا بيع على خلاف بعض العامة (3)حيث زعم أنها بيع مطلقاً. ومنهم من جعل قسمة الردّ بيعاً دون

ص: 211


1- لم نتحقق المجيب ونقله فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 371.
2- سيأتي في ص 213.
3- كأبي عبد الله بن بطة، والشافعي في أحد قوليه على ما حكاه عنهما ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 492، المسألة 8307.

لأن الإنسان له ولاية الانتفاع بماله والانفراد أكمل نفعاً. ويقسم كيلاً ووزناً متساوياً ومتفاضلاً، ربويّاً كان أو غيره؛ لأنّ القسمة تمييز حق لا بيع.

------------------

غيرها(1) . ومنهم من جعل قسمة التراضي بيعاً دون غيرها(2). ووافقنا جماعة على أنها تمييز حق لا بيع مطلقاً (3).

واستدلّ على أنها ليست بيعاً مطلقاً بأنّها لا تفتقر إلى صيغة، ويدخلها الإجبار، وتعتمد القرعة، ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر، والبيع ليس فيه شيء من ذلك (4)، واختلاف اللوازم والخواص يدلّ على اختلاف الملزومات والمعروضات. ومعنى أنها تمييز وإفراز أنها تبين أنّ ما خرج لكلّ واحد منهما هو الذي ملكه.

واستدلّ من جعلها بيعاً بأنّه ما من جزء من المال إلا وكان مشتركاً بينهما، وإذا اقتسما فكأنه قد باع كلّ منهما ما كان له في حصة صاحبه بماله في حصّته (5).

واعتذروا عن الصيغة بأن البيع لا ينحصر في صيغة معينة. وعن الإجبار بالحاجة الداعية إليه، وذلك لا يخرجها عن كونها بيعاً، فقد يدخل الإجبار البيع لمصلحة، كما يبيع الحاكم مال المديون قهراً، وغير ذلك من مواضع معدودة في بابه.

وأجيب بأنّ القول بكونها بيعاً لا يتم في مادةٍ مطلقاً؛ لأن النصف الأيمن مثلاً الذي يأخذه زيد كما أنه لم يكن كله لزيد حتى يقال إن القسمة إفراز بالنصف الأيسر، لم يكن كله له حتى يقال: إنّه باعه من عمرو، بل النصف الذي أخذه كان نصفه له ونصفه لصاحبه. فالقسمة إفراز ما كان له منه ومعاوضة على ما كان لصاحبه. وهي لا تنحصر في البيع؛ لأن الصلح يفيد ذلك، إلا أن يسموه حينئذ بيعاً وهو ممنوع. وأما قسمة الردّ فهي معاوضة في مقابلة المردود،

ص: 212


1- المهذب، الشيرازي، ج 2، ص391؛ المنهاج المطبوع مع مغني المحتاج، ج 4، ص 535.
2- روضة الطالبين، ج 8، ص 193 : المنهاج المطبوع مع مغني المحتاج، ج 4، ص 536.
3- حلية العلماء، ج 8، ص 168: المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 492، المسألة 8307.
4- المستدل بذلك هو ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 492، المسألة 8307 .
5- المستدل بذلك هو الشيرازي في المهذب، ج 2، ص 391 .
المشترك غير المثلي

•والثاني إما أن يستضرّ الكلّ أو البعض، أو لا يستضر أحدهم. وفي الأوّل لا يجبر الممتنع كالجواهر والعضائد الضيقة.

------------------

ومن ثَمّ اشترط فيها التراضي ، لكن لا تنحصر المعاوضة في البيع كما ذكرناه،ويمكن كونها هنا قسماً برأسها.

ويتفرع على الخلاف أنّ من جعلها بيعاً فاقتسما شيئاً ربوياً وجب التقابض في المجلس، ولم تجز قسمة المكيل بالوزن والموزون بالكيل. وإن جعلناها إفرازاً فالحكم بخلافه. وإليه أشار بقوله «ويقسم كيلاً ووزناً، ربويّاً كان أو غيره».

وأما قوله «متساوياً ومتفاضلاً» فالأصل في القسمة أن تكون بنسبة الاستحقاق، فإذا كان المشترك بينهما نصفين إفرازه قسمين، وإن كان بينهما أثلاثاً إفرازه كذلك، والتفاضل في الثاني بحسب الصورة، وإلا فهو متساءٍ حقيقة؛ لأنّ مستحق الثلث له فيما في يد صاحب الثلاثين ثلثه ولصاحب الثلاثين فيما في يد صاحب الثلث ثلثاه، فالقسمة على هذا الوجه موجبة للتسوية بينهما بالنظر إلى أصل الحق.

وإن أراد بالتفاضل ترجيح أحدهما على الآخر زيادةً على حقه، فليس ذلك بداخل في حقيقة القسمة، بل هو هبة محضة للزائد. فلو ترك قوله «متساوياً ومتفاضلا» كان أولى.

قوله: «والثاني إما أن يستضر الكلّ أو البعض إلى قوله وللشيخ قولان».

المشترك غير المثلي إما أن يحصل الضرر بقسمته على جميع الشركاء، كالجوهرة النفيسة تكسر والثوب الرفيع يقطع، أو يتضرّر بعضهم دون بعض كدار بين اثنين لأحدهما عُشرها وللآخر باقيها، ولو قسمت لم يصلح العُشر للمسكن وتصلح تسعة الأعشار، أو لا يتضرّر أحد منهم فمع الضرر لا يجبر المتضرر إذا امتنع من القسمة؛ لظهور عذره، وعموم قوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «لا ضرر ولا ضرار»(1) .

وإن طلب أحدهم حيث لا ضرر، أو طلب المتضرر حيث يختص الضرر بأحد الشركاء

ص: 213


1- تقدم تخريجه في ص 37 الهامش 1 .

وفي الثاني إن التمس المستضر أجبر من لا يتضرّر. وإن امتنع المتضرّر لم يجبر. ويتحقق الضرر المانع من الإجبار بعدم الانتفاع بالنصيب بعد القسمة وقيل بنقصان القيمة، وهو أشبه وللشيخ قولان .

------------------

أجيب أمّا الأوّل فلانتفاء الضرر رأساً، فله طلب تخليص ملكه من الآخر، كما في المثلي. وأمّا الثاني ؛ فلأنّ الطالب هو الذي أدخل الضرر على نفسه فيجاب إليه، وليس للآخر الامتناع؛ لانتفائه عنه. وكذا لو تضرّر الجميع واتفقوا على القسمة.

لكن يجب تقييد الحكم في الموضعين بما إذا لم تبطل منفعة المقسوم بالكلّيّة فتذهب ماليته، فإنّهم لا يجابون إليها ؛ لما فيه من إذهاب المال في غير غرض صحيح.

إذا تقرّر ذلك، فقد اختلفوا في ضبط الضرر المانع من القسمة على أقوال:

أحدها: أنّه عدم الانتفاع بالنصيب بعد القسمة. ووجه التضرّر على هذا الوجه ظاهر؛ لأن بطلان منفعة الملك ضرر بيّن، وهو منفي بالرواية(1) .

والثاني - وهو الذي اختاره المصنف (رحمه الله) هنا - أنه نقصان القيمة وإن بقيت المنفعة وحجته أيضاً الخبر ؛ نظراً إلى فوات المالية في الجملة.

وهذان القولان للشيخ في المبسوط (2)، والأوّل له في الخلاف (3) أيضاً. وللمصنف (رحمه الله) أيضاً، أولهما في باب الشفعة (4)، والآخر هنا وهما للعلامة(5) أيضاً.

والثالث: أنه عدم الانتفاع به منفرداً فيما كان ينتفع به مع الشركة، كالدار الصغيرة إذا قسمت أصاب كلّ واحدٍ موضع ضيّق لا ينتفع به في السكنى على ذلك الوجه، وإن انتفع به في غيرها.

ص: 214


1- تقدّم تخريجها في ص 37، الهامش 1.
2- المبسوط، ج 5، ص 490.
3- الخلاف، ج 6، ص 229، المسألة 27.
4- راجع ج 10، ص 28 .
5- قواعد الأحكام، ج 3، ص 462: تذكرة الفقهاء، ج 12، ص 205 ، المسألة 708 .

• ثم المقسوم إن لم يكن فيه ردّ ولا ضرر أُجبر الممتنع، وتسمّى قسمة إجبار. وإن تضمّنت أحدهما لم يجبر، وتسمّى قسمة تراض.

ويقسم الثوب الذي لا تنقص قيمته بالقطع كما تقسّم الأرض وإن كان ينقص

------------------

والرابع: أنه نقص القيمة نقصاناً فاحشاً بحيث يحصل به الضرر عرفاً. وهذا أقوى. وهو خيرة الشهيد (رحمه الله) في الدروس(1). ويمكن أن يريد به مطلق القول بنقصان القيمة. ومرجع الأقوال كلّها إلى خبر الضرر.

قوله: «ثمّ المقسوم إن لم يكن فيه ردّ ولا ضرر أُجبر الممتنع» إلى آخره.

قسم المصنّف (رحمه الله) القسمة إلى أمرين: قسمة تراض، وقسمة إجبار، وجعل الضابط أنّ المقسوم متى أمكن تعديله من غير ردّ ولا ضرر فقسمته قسمة إجبار، ومتى اشتملت على أحدهما فهي قسمة تراض. والأوّل يشمل قسمة المثلي والقيمي. وألحق قسمة التعديل في الأعيان المتعددة القيمة بقسمة الإجبار.

ومنهم من قسّمها ثلاثة أقسام (2): قسمة الإفراز، وهي أن يكون الشيء قابلاً للقسمة إلى أجزاء متساوية الصفات، كذوات الأمثال وكالثوب الواحد والعرصة الواحدة المتساوية، ولا إشكال في كون هذا القسم إجبارياً مع بقاء الحصص بعد القسمة منتفعاً بها أو حافظةٌ للقيمة كما مر .

والثاني: قسمة التعديل، وهي ما تعدل سهامها بالقيمة. وهي تنقسم إلى ما يعد شيئاً واحداً، وإلى ما يعد شيئين فصاعداً.

فالأوّل ما يعدّ شيئاً واحداً، كالأرض التي تختلف قيمة أجزائها؛ لاختلافها في قوّة الإنبات، أو في القرب من الماء والبعد منه، أو في أنّ بعضها يسقى من النهر وبعضها بالنضح، فيكون ثلثها لجودته بالقيمة مثل ثلثيها مثلاً. فيجعل هذا سهماً وهذا سهماً إن كانت بينهما

ص: 215


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 93 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- روضة الطالبین، ج 8، ص 185 - 192.

بالقطع لم يقسم؛ لحصول الضرر بالقسمة. وتقسم الثياب والعبيد بعد التعديل بالقيمة قسمة إجبار.

------------------

بالسوية، وإن اختلفت الأنصباء اعتبرت بالقيمة دون المساحة.

ومقتضى عبارة المصنّف (رحمه الله) قسمة هذه إجباراً؛ إلحاقاً للتساوي في القيمة بالتساوي في الأجزاء. ويحتمل عدم الإجبار هنا؛ لاختلاف الأغراض والمنافع.

والوجهان جاريان فيما إذا كان الاختلاف لاختلاف ،الجنس، كالبستان الواحد المختلف الأشجار، والدار الواحدة المختلفة البناء.

والأشهر الإجبار في الجميع، ولولا ذلك لامتنع الإجبار في البستان؛ لاشتماله على الأشجار المختلفة غالباً، وفي الدار المشتملة على الحيطان والجذوع والأبواب. وهذا شأن الدور والبساتين. وينجرّ ذلك إلى أن لا تثبت فيها الشفعة كالطاحونة والحمام. وهو بعيد.

والثاني: ما يعد شيئين فصاعداً. وهو ينقسم إلى عقار وغيره. فالأول كما إذا اشتركا في دارين أو حانوتين متساويتي القيمة، وطلب أحدهما القسمة، بأن يجعل لهذا دار ولهذا دار.

ولا يجبر الممتنع هنا، سواء تجاور الداران والحانوتان أم تباعدا؛ لشدة اختلاف الأغراض باختلاف المحال والأبنية، فيلحقان بالجنسين المختلفين. وعند بعض العامة أنهما يجبران عند التجاور(1) ، وعند آخرين مطلقاً (2).

ولو كانت بينهما دكاكين متلاصقة لا يحتمل آحادها القسمة - وتسمّى العضائد - فطلب أحدهما أن تقسم أعيانها، ففي إجبار الممتنع وجهان، أظهر هما العدم. وسيأتي(3).

وأما غير العقار، فإذا اشتركا في عبيد أو دواب أو أشجار أو ثياب، فإما أن تكون من نوع واحد أو من متعدّد. فإن كانت من نوع واحد وأمكن التسوية بين الشريكين عدداً وقيمة، كعبدين متساويي القيمة بين اثنين وثلاث دوابّ متساوية القيمة بين ثلاثة فالذي اختاره المصنف (رحمه الله) والأكثر أنه يجبر على قسمتها أعياناً، ويكتفى بالتساوي في القيمة.

ص: 216


1- راجع حلية العلماء، ج 8، ص 178 - 179؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 499، المسألة 8311.
2- راجع حلية العلماء، ج 8، ص 178 - 179؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 499، المسألة 8311.
3- يأتي في ص 230 - 231.

------------------

بخلاف الدور؛ لشدّة اختلاف الأغراض فيها، ولأن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) جزأ العبيد الستة الذين أعتقهم الأنصاري في مرضه ثلاثة أجزاء(1)، ولأنه ليس اختلاف الجنس الواحد في القيمة بأكثر من اختلاف قيمة الدار الكبيرة والقرية العظيمة؛ فإنّ أرض القرية تختلف، سيّما إذا كانت ذات أشجار مختلفة وأرضين متنوّعة، والدار ذات البيوت المختلفة المساحة، فكما لا يمنع اختلاف الدار والقرية من الإجبار، لا يمنع اختلاف الجنس الواحد من الإجبار.

وفي القواعد استشكل الحكم في العبيد (2). ووجه الاشكال مما ذكرناه، ومن تفاوت الأغراض بتفاوت الأشخاص، كمختلفي الجنس. ونقل في المبسوط عن بعضهم عدم الإجبار هنا (3). والمذهب هو الأول.

ولو لم يمكن التسوية في العدد كثلاثة أعبد بين اثنين على السواء أحدهما يساوي الآخرين في القيمة، فإن قلنا بالإجبار عند إمكان التسوية فهنا وجهان، ينظر أحدهما إلى تعادل القيمة، والثاني إلى اختلاف العدد وتفاوت الأغراض. ومثله القول في الأراضي المختلفة الأجزاء.

ولو كانت الشركة لا ترتفع إلا عن بعض الأعيان كعبدين بين اثنين قيمة أحدهما مائة وقيمة الآخر مائتان فطلب أحدهما القسمة ليختصّ من أخرجت له القرعة الخسيس به، ويربع النفيس، ففي إجبار الآخر وجهان مبنيان على المسألة السابقة، فإن قلنا لا إجبار هناك فهنا أولى، وإن قلنا بالإجبار هناك فهنا وجهان أصحهما المنع؛ لأن الشركة لا ترتفع بالكلية.

ولو كانت الأعيان من أنواع مختلفة، كالعبد التركي مع الهندي، والثوب الإبريسم مع الكتان، مع تساويهما في القيمة، ففي إجبار الممتنع وجهان مرتبان. وأولى بالمنع هنا لو قيل

ص: 217


1- مسند أحمد، ج 5، ص 588، ج 19325 : صحيح مسلم، ج 3، ص 1288، ح 1668/56 ؛ سنن أبي داود، ج 4. ص 28 ح 3958 السنن الكبرى البيهقي ، ج 10 ، ص 481 - 482 . ح 21390 و 21392 و 21394 و 21395.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 462.
3- المبسوط ، ج 5، ص 503 .

• وإذا سألا الحاكم القسمة ولهما بينة بالملك قسّم. وإن كانت يدهما عليه ولا منازع قال الشيخ في المبسوط لا يقسّم، وقال في الخلاف يقسم. وهو الأشبه؛ لأن التصرّف دلالة الملك.

------------------

به في السابق. وكذا القول لو اختلفت قيمتهما وأمكن التعديل. ويظهر من المصنّف وجماعة (1) عدم اعتبار اختلاف النوع مع اتفاق القيمة.

وأمّا الأجناس المختلفة كالعبد والثوب والحنطة والشعير والدابة والدار فلا إجبار في قسمة أعيانها بعضاً في بعض وإن تساوت قيمتها.

والثالث: قسمة الردّ، بأن يكون بينهما عبدان قيمة أحدهما ألف وقيمة الآخر ستمائة، فإذا ردّ آخذ النفيس مائتين استويا. ولا خلاف في كون هذا القسم مشروطاً بالتراضي وسيأتي الكلام فيه (2).

قوله: «وإذا سألا الحاكم القسمة ولهما بينة بالملك قسم» إلى آخره.

إذا كان في يد اثنين ملكاً يقبل القسمة ولا منازع لهما في ملكه ظاهراً، فطلبا من الحاكم قسمته بينهما، فإن أقاما بيّنةً أنّه ملكهما أجابهما إلى القسمة، وإن لم يقيما بينةً ففي إجابتهما قولان(3):

أحدهما العدم؛ لأنه قد يكون في يدهما بإجارة أو إعارة، فإذا قسمه بينهما لم يؤمن أن يدعيا ملكه محتجين بقسمة القاضي.

والثاني: نعم؛ اكتفاء بدلالة اليد على الملك، لكن يكتب الحاكم ويشهد أنّه إنّما قسم بقولهما ؛ لئلا يتمسكا بقسمته.

واعترض على تقدير إقامة البينة بأنها إنما تقام وتسمع على خصم، ولا خصم هاهنا.

ص: 218


1- منهم العلّامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 434؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 93 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10)
2- يأتي في ص 226.
3- من القائلين بالقسمة الشيخ في الخلاف، ج 1، ص 232، المسألة :30؛ والعلامة في مختلف الشيعة، ج 8 ص 456 المسألة 54: ومن القائلين بعدم القسمة الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 504.
الثالث في كيفية القسمة
إن تساوت الحصص قدراً وقيمةً

الحصص إن تساوت قدراً وقيمةً فالقسمة بتعديلها على السهام؛ لأنه يتضمّن القيمة، كالدار تكون بين اثنين وقيمتها متساويةً. وعند التعديل يكون القاسم مخيّراً بين الإخراج على الأسماء والإخراج على السهام.

------------------

وأُجيب بأنّ القسمة تتضمن الحكم لهما بالملك، وقد يكون لهما خصم غائب فتسمع البينة عليه.

ولا فرق في ذلك كله بين كون المقسوم منقولاً وغيره. وفرّق بعض العامة وخص الخلاف بالعقار، وقطع في المنقول بالقسمة (1). وهو تحكّم.

قوله: «في كيفية القسمة: الحصص إن تساوت قدراً وقيمة فالقسمة بتعديلها على السهام إلى قوله فله ذلك السهم».

العين المقسومة بالتعديل إما أن تكون متساوية القيمة بالنسبة إلى أجزائها، بحيث تساوي قيمة نصفها قيمة النصف الآخر، وقيمة ثلثها قيمة الثلث، حيث يحتاج إلى قسمتها كذلك، أو تختلف القيمة.

وعلى التقديرين إما أن تكون الحصص متساوية، كما لو كان الاشتراك بين اثنين لكلّ واحدٍ ،نصفها أو بين ثلاثة ولكلّ واحدٍ ثلثها أو مختلفة بأن كان لواحدٍ من الاثنين ثلثان وللآخر ثلث، أو لواحدٍ من الثلاثة نصف ولآخر ثلث وللثالث سدس. فالصور أربع، وقد أشار المصنف (رحمه الله) إلى حكمها. والمعتبر فيها صورتان؛ لأن التعديل بالقيمة هو المعتبر، سواء اتفقت أجزاؤها فيها أم اختلفت .

الصورة الأولى: أن تكون الحصص متساوية ، كنصفين بين اثنين وثلاثة أثلاث بين ثلاثة ونحو ذلك، فتعدل السهام بالقيمة كذلك بأن تقسم في الأوّل نصفين بالقيمة وإن كان

ص: 219


1- راجع الحاوي الكبير، ج 16، ص 271؛ وحلية العلماء، ج 8، ص 181 ؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 489 المسألة 8304 .

أمّا الأوّل، فهو أن يكتب كلّ نصف في رقعة ويصف كلّ واحدٍ بما يميزه عن الآخر، ويجعل ذلك مصوناً في ساتر كالشمع أو الطين، ويأمر من لم يطلع على الصورة بإخراج أحدهما على اسم أحد المتقاسمين، فما خرج فله.

وأما الثاني، فأن يكتب كل اسم في رقعة ويصونهما، ويخرج على سهم من السهمين، فمن خرج اسمه فله ذلك السهم.

------------------

مقدار أحد النصفين أزيد من الآخر، وتعدّل أثلاثاً في الثاني كذلك، ثم تخرج بالقرعة. كما ذكره المصنف (رحمه الله). وطريقه واضح.

وما ذكره من كتبة الأسماء والسهام ووضعه في بندقة من طين ونحوه هو المشهور في استعمال الفقهاء ولكن لا يتعيّن، فلو جعلها بالأقلام والحصى والورق وما جرى مجراها مع مراعاة الستر كفى. وقد أشرنا إليه في باب العتق (1).

وحيث تكون القسمة بين اثنين فخرج اسم أحدهما لأحد السهمين أو أحد السهمين له لا يحتاج إلى إخراج الآخر، بل تعيّن المتخلف له.

ولو كان بين ثلاثة أثلاثاً جعل ثلاثة أجزاء متساوية بالقيمة، وكتب ثلاث رقاع أو ما في معناها باسم السهام الثلاثة معيّنة، أو باسم الشركاء.

وينبغي وضع الرقاع في حجر من لم يحضر الكتابة، أو لا يعرفها، أو لا يعرف ما عنيت (2) له المجعولة لذلك في معنى الرقاع. ثمّ يؤمر بإخراج واحدة على الجزء الأوّل إن كانت الرقاع مجعولة بالكتابة ونحوها بأسماء الشركاء، فمن خرج اسمه أخذ، ثمّ يؤمر بإخراج أخرى على الجزء الذي يلي الأول، فمن خرج اسمه من الآخرين أخذه، وتعين الثالث للثالث، وإن كانت مكتوبة باسم الأجزاء أخرجت رقعة باسم زيد، ثمّ أُخرى باسم عمرو، ويتعين الثالث للثالث. وتعيين من يبتدئ به من الشركاء، والأجزاء منوط بنظر القسام.

ص: 220


1- تقدّم في ج 8، ص 343 وما بعدها.
2- في بعض النسخ: «ما عيّنت» بدل «ما عنيت».
إن تساوت الحصص قدراً لا قيمة أو بالعکس

• وإن تساوت قدراً لا قيمة عدلت السهام قيمةٌ وأُلغي القدر، حتى لو كان الثلثان بقيمته مساوياً للثلث جعل الثلث محاذياً للثلثين. وكيفية القرعة عليه كما صوّرناه.

• وإن تساوت الحصص قيمةً لا قدراً، مثل أن يكون لواحد النصف وللآخر الثلث وللآخر السدس، وقيمة أجزاء ذلك الملك متساوية، سويت السهام على أقلهم نصيباً فجعلت أسداساً.

ثمّ كم تكتب رقعةً؟ فيه تردّد بين أن يكتب بعدد الشركاء أو بعدد السهام. والأقرب الاقتصار على عدد الشركاء؛ لحصول المراد به فالزيادة كلفة.

------------------

قوله: «وإن تساوت قدراً لا قيمة عدلت السهام قيمةً وأُلغي القدر» إلى آخره.

قد عرفت أنّ الحكم في هذه الصورة كالسابقة، وأن المعتبر التعديل بالقيمة، سواء تساوت الأجزاء فيها أم لا، فالحكم لا يختلف.

قوله: «وإن تساوت الحصص قيمة لا قدراً» إلى آخره.

إذا اختلفت مقادير الأنصباء، كما إذا كان لزيد نصف ولعمر و ثلث ولثالث ،سدس جزّئت الأقسام على أقلّ السهام وهو سدس؛ لأنه يتأدّى به القليل والكثير، فيجعلها ستة أجزاء.

ثمّ في مقدار ما يكتب من الرقاع للقرعة بينهم وجهان:

أحدهما - وهو الأشهر - أن يكتب ثلاث رقاع بعدد الشركاء، في كل واحدة اسم واحد. ويخرج مرّتين، ويكتفى بهما عن الثالثة، فلا وجه لتكلّف الزائد.

والثاني: أن يكتب ست رقاع، لصاحب السدس رقعة، ولصاحب الثلث رقعتان، ولصاحب النصف ثلاث. وقوّاه في المبسوط؛ محتجاً بأنّ كلّ من كان سهمه أكثر كان حظه أوفر، وله مزية على صاحب الأقل، فإذا كتب لصاحب النصف ثلاث رقاع كان خروج رقعته أسرع وأقرب، وإذا كتب له واحدة كان خروج رقعته ورقعة صاحب السدس سواء؛ فلهذا قيل: يكون له أكثر من رقاع غيره (1).

ص: 221


1- المبسوط، ج 5، ص 493 - 494 .

• إذا عرفت هذا، فإنه يكتب ثلاث رقاع لكل اسم رقعة، ويجعل للسهام أوّل وثان، وهكذا إلى الأخير. والخيار في تعيين ذلك إلى المتقاسمين. ولو تعاسرا عينه القاسم. ثمّ يخرج رقعةً، فإن تضمّنت اسم صاحب النصف فله الثلاثة الأوّل. ثم يخرج ثانيةً، فإن خرج صاحب الثلث فله السهمان الآخران. ولا يحتاج إلى إخراج الثالثة، بل لصاحبها ما بقي.

------------------

والوجه جواز الأمرين، وإنّما الكلام فى الأولوية، ولا ريب أن الأوّل أولى؛ الحصول الفائدة مع الاختصار، وترك تطويل الحساب أربح.

قوله: «إذا عرفت هذا، فإنّه يكتب ثلاث رقاع لكلّ اسم رقعة - إلى قوله - وهو ضرر».

ما ذكره من الكيفية تفريع على ما اختاره من كتابة ثلاث رقاع بأسماء الشركاء، والحكم على ما ذكره واضح. وكذا يجري على القول بكتبة ست رقاع بأسمائهم، وليس فيه إلا أنّ اسم صاحب الكثير والأكثر يكون أسرع خروجاً.

وعليه، فإذا خرج واحدةً من رقاع صاحب النصف أُعطي الثلاثة الأول، فإذا أخرج ثانية فخرجت باسمه ألغيت وأخرج ثالثة، فإن خرجت باسمه ألغيت أيضاً للاستغناء عنهما بالأولى. وإن خرجت واحدةً من رقعتي صاحب الثلث أعطي الرابع والخامس، ولا يحتاج إلى إخراج ما بقي وتعيّن السادس لصاحب السدس.

وإن خرجت الأولى لصاحب السدس أعطي الأول، ثمّ أخرج أخرى، فإن خرجت لصاحب النصف أعطي الثاني والثالث والرابع، ولا يحتاج إلى إخراج الأربع الباقية؛ لتعين الخامس والسادس لصاحب الثلث.

وإن خرجت الأولى لصاحب الثلث أُعطي الأول والثاني، ثم تخرج أُخرى، فإن خرجت له أيضاً أُلغيت وأخرجت أُخرى، فإن خرج لصاحب السدس أعطي الثالث، وتعينت الثلاثة الأخيرة لصاحب النصف، ولا يحتاج إلى إخراج باقي الرقاع. وهكذا.

وقوله «ولا يخرج في هذه على السهام بل على الأسماء ؛ إذ لا يؤمن أن يؤدي إلى تفرّق السهام المراد أنه لا يكتب الرقاع بأسماء السهام الستة ويخرج على أسماء الشركاء ؛

ص: 222

وكذا لو خرج اسم صاحب الثلث أولاً كان له السهمان الأوّلان، ثم يخرج أُخرى، فإن خرج صاحب النصف فله الثالث والرابع والخامس، ولا يحتاج إلى إخراج أخرى؛ لأنّ السادس تعيّن لصاحبها.

------------------

لأنه ربما يخرج لصاحب السدس الجزء الثاني أو الخامس فيتفرّق ملك من له النصف أو الثلث.

وأيضاً ربما خرج السهم الرابع لصاحب النصف ويقول: «آخذه وسهمين قبله»، فيقول الآخران: «بل خذه و سهمين بعده» فيفضي إلى التنازع ويجوز مع رجوعهم في جميع الحصة إلى الرقاع أن يخرج لصاحب النصف ثلاثة متفرّقة، وكذا لصاحب الثلث يخرج اثنتان متفرقتان، فيؤدي إلى الإضرار.

وقد عرفت مما سبق أنه مع كتابة الرقاع باسم الشركاء يخرج على السهام الأول والثاني إلى الآخر، وإن كتبت باسم السهام يخرج على الأسماء. وهذه الصورة التي بين كيفيتها قد كتب فيها أسماء الشركاء، وجعل للسهام أول وثان إلى السادس، وأخرج عليها، بمعنى أنّ الخارج اسمه أوّلاً يعطى الأوّل منها من الجهة التي اتفقوا عليها أو عينها القاسم وما بعده إن احتيج إليه إلى الآخر. فكتابة الأسماء يخرج على السهام، وكتابة السهام يخرج على الأسماء.

والمصنّف (رحمه الله) جمع هنا بين الأمر بكتابة الأسماء المستلزمة للإخراج على السهام، بل المصرحة بذلك، ثم أمر بإخراجها على الأسماء ونفى إخراجها على السهام، مع أنّ حقه العكس، ووافقه على هذه العبارة العلّامة في الإرشاد(1)، وعكس في القواعد (2)، وجماعة من الفضلاء (3). وهو الصواب.

ص: 223


1- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 434 .
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 464 .
3- انظر المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 504 - 505، المسألة 8315 ؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص 185 .

وهكذا لو خرج اسم صاحب السدس أولاً كان له السهم الأوّل، ثمّ يخرج أخرى، فإن كان صاحب الثلث كان له الثانى والثالث والباقي لصاحب النصف. ولو خرج في الثانية صاحب النصف كان له الثاني والثالث والرابع وبقي الآخران لصاحب الثلث من غير احتياج إلى إخراج اسمه.

------------------

وفي التحرير(1) والدروس (2) اقتصر على إخراج الأسماء من غير أن يجعله على السهام أو غيرها. وهو أجود؛ إذ لا ينطبق الإخراج على السهام؛ لاختلافها باختلاف الأسماء، بل المعتبر في الاسم الخارج أولاً أن يعطى الأوّل قطعاً وما بعده إلى تمام الحق إن احتيج إليه، بأن كان الاسم لغير صاحب السدس. ولا تتعيّن السهام إلا بعد تحقق الاسم. لكن لما كان سهم الأوّل متعيّناً للاسم صدق إخراج الأسماء على السهام في الجملة، بخلاف العكس؛ فإنّه إما فاسد أو محتاج إلى تكلف بعيد.

إذا تقرّر ذلك، فاعلم أنّ محذور تفريق السهام على تقدير إخراجها على الأسماء يلزم على تقدير الإخراج أولاً على اسم صاحب السدس، بأن يخرج له السهم الثاني أو الخامس كما ذكرناه سابقاً.

ويمكن الغنى عنه بأن يبدأ أولاً باسم صاحب النصف، فإن خرج الأول باسمه أُعطي الأول والثاني والثالث وإن خرج الثاني فكذلك يعطى معه ما قبله وما بعده، وإن خرج الثالث قال بعضهم:

يوقف ويخرج لصاحب الثلث، فإن خرج فله الأول والثاني، ولصاحب النصف الثالث واللذان ،بعده، وتعيّن السادس لصاحب السدس. وكذا الحكم لو خرج لصاحب الثلث الثاني. وإن خرج له الخامس فله الخامس والسادس(3).

ص: 224


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 223 - 224، الرقم 6601.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 94 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- قاله صاحب شرح مختصر الجويني على ما حكاه عنه النووي في روضة الطالبين، ج 8، ص 186.

ولا يخرج في هذه على السهام بل على الأسماء ؛ إذ لا يؤمن أن يؤدّي إلى تفرّق السهام، وهو ضرر.

------------------

وقيل:

إذا خرج لصاحب النصف الثالث فله الثالث واللذان قبله، وإن خرج الرابع فله الرابع واللذان قبله، وتعيّن الأوّل لصاحب السدس والأخيران لصاحب الثلث. وإن خرج الخامس فله الخامس واللذان قبله، وتعيّن السادس لصاحب السدس والأوّلان لصاحب الثلث. وإن خرج السادس فله السادس واللذان قبله. ومتى أخذ الخارج حقه ولم يتعيّن حق الآخرين أخرج رقعةً أخرى باسم أحد الآخرين فلا يقع تفريق (1).

وهذه التوجيهات لا دليل على اعتبارها وإن سلم معها التفريق.

نعم، لو اتفق الشركاء على العمل بها، أو رأى القاسم ذلك صلاحاً اتجه ذلك، ومعه يمكن البدأة أيضاً باسم صاحب السدس، فإن خرج باسمه الجزء الأول أو الثاني دفع إليه الأول. وإن خرج الخامس أو السادس دفع إليه السادس، ثمّ يخرج باسم أحد الآخرين، فلا يقع تفريق، وإن خرج له الثالث دفع إليه، وتعيّن الأولان لصاحب الثلث والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف. وإن خرج له الرابع دفع إليه، وتعيّن الأخيران لصاحب الثلث والثلاثة الأول لصاحب النصف.

وإن بدئ لصاحب الثلث، فإن خرج له الأوّل أو الثاني دفع إليه الأول والثاني. وإن خرج الخامس أو السادس دفع إليه الخامس والسادس، ثمّ يخرج باسم أحد الآخرين ويكمل بسهولة. وإن خرج لصاحب الثلث الثالث فله الثالث والثاني، وتعيّن الأول لصاحب السدس والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف. وإن خرج الرابع فله الخامس معه، وتعين السادس لصاحب السدس والثلاثة الأول لصاحب النصف. هكذا قرّر بعضهم (2).

ص: 225


1- قاله صاحب شرح مختصر الجويني على ما حكاه عنه النووي في روضة الطالبين، ج 8، ص 187 .
2- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 186 - 187.
لو اختلفت السهام والقيمة

• ولو اختلفت السهام والقيمة عدلت السهام تقويماً، وميزت على قدر سهم أقلهم نصيباً، وأُقرع عليهما كما صوّرناه.

• أما لو كانت قسمة ردّ - وهي المفتقرة إلى ردّ في مقابلة بناء أو شجر أو بئر - فلا تصح القسمة ما لم يتراضيا جميعاً ؛ لما يتضمن من الضميمة التي لا تستقر إلا بالتراضي.

وإذا اتفقا على الردّ وعدّلت السهام، فهل يلزم بنفس القرعة؟ قيل: لا؛ لأنّها تتضمّن معاوضةً، ولا يعلم كلّ واحدٍ من يحصل له العوض، فيفتقر إلى الرضى بعد العلم بما ميّزته القرعة.

------------------

وهو إنّما يتمّ مع اتفاقهم عليه أو مع رأي القاسم ولا ريب في أن الاقتصار على ما ذكره المصنّف أولى وأقل كلفةٌ.

قوله: «ولو اختلفت السهام والقيمة عدّلت السهام تقويماً» إلى آخره.

هذا هو القسم الرابع، والحكم فيه كالثالث؛ لأنّ المعتبر في جعل السهام على أقلها مراعاة القيمة لا المقدار، فإن اتفق المقدار لذلك فذاك، وإلا اعتبرت القيمة، فقد يجعل ثلث الأرض بسدس، ونصفها بسدس آخر، والسدس الآخر يقسم أرباعاً، فتصير السهام ستة متساوية القيمة. وهكذا. والأمر في إخراجها بالقرعة كالسابق.

قوله: «أما لو كانت قسمة ردّ» إلى آخره.

قسمة الردّ هي التي لا يمكن فيها تعديل السهام بالقيمة، بل تفتقر إلى ضميمة شيء خارج عن المشترك إلى بعض الأقسام ليحصل التعادل كما لو كان في أحد جانبي الأرض بئراً وشجراً، وفي الدار بيت لا يمكن قسمته، فتقسم الجملة على أن يردّ من يأخذ الجانب الذي فيه أحد تلك الأمور شيئاً من المال، أو يكون المشترك عبدين قيمة أحدهما ألف وقيمة الآخر ستة مائة، فلا يستويان إلا برد آخذ النفيس مائتين.

ووجه عدم الإجبار في هذه القسمة اشتمالها على دخول ما لا قسمة فيه، فكان معاوضةً محضةً تتوقف على التراضي.

ص: 226

------------------

ثمّ على تقدير التراضي عليها، إن اتفقا على أن يكون الردّ من واحد معيّن وأوقعا صيغة معاوضة تقتضي ذلك كالصلح فلا بحث. وإن اتفقا عليه ودفع الراد العوض من غير صيغة خاصة كان الحكم هنا كالمعاطاة، لا تلزم إلا بالتصرف عند من جعل ذلك حكم المعاطاة، وإن لم نقل بتوقف التراضي على القسمة مع عدم الرد على التصرّف.

والفرق ما أشرنا إليه من اشتمال قسمة الردّ على المعاوضة المقتضية للصيغة الدالة على التراضي على ما وردت عليه من العوضين، والمقسوم الزائد على ما قابل المردود غير متعيّن، فلا يمكن تخصيصه باللزوم مع التراضي بدون التصرّف.

وإن اتفقا على إخراج السهم لأحدهما بالقرعة فهل يلزم بنفس القرعة، فيثبت العوض لمن أخرجته أو عليه ؟ قال الشيخ (رحمه الله ) في المبسوط : لا (1)؛ لما ذكرناه من تضمنها المعاوضة التي لا مدخل للقرعة فيها، ولأنه لا يعلم كلّ واحدٍ من يحصل له العوض المردود.

واقتصار المصنف (رحمه الله) على نقله قولاً يؤذن برده أو التردد فيه.

وكذلك فعل العلّامة في القواعد(2). وفي التحرير جزم بتوقف قسمة التراضي مطلقاً على التراضي بعد القرعة باللفظ، مثل «رضيت» وما أدى معناه(3). وكذلك في الدروس(4) . وهو الأقوى.

ووجه العدم صدق اسم القسمة عليها. والقرعة موجبة لتميّز الحق مع اقترانها بالرضى بها كما سلف.

وظاهر المصنّف وغيره(5) أنّ مورد الخلاف فيما إذا لم يكن القاسم منصوباً من الإمام، وإلا لم يعتبر الرضى بعدها مطلقاً.

ص: 227


1- المبسوط، ج 5، ص 504.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 464.
3- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 225، الرقم 6602.
4- الدروس الشرعية، ج 2، ص 93 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
5- كالعلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 225، الرقم 6602.

------------------

وقد تقدّم في العبارة ما يدلّ عليه(1)، مع احتمال جريان الخلاف فيهما؛ لأن المعاوضة لا تؤثر فيها نظر الحاكم بل أمرها يرجع إلى المتعاوضين.

وكلام الشيخ في المبسوط يدلّ على ذلك؛ لأنه جعل مورد المسألة الأولى - التي ذكر فيها لزوم قسمة المنصوب دون غيره - قسمة الإجبار، وجعل مورد هذه قسمة الردّ. وفرّق في الأولى بين كون القاسم منصوب الإمام وغيره، وأطلق في هذه. وهذه عبارته:

القسمة ضربان قسمة إجبار، وقسمة تراض، فإن كانت قسمة إجبار نظرت في القاسم فإن كان قاسم الإمام لزمت بالقرعة؛ لأنّ قرعة القاسم كحكم الحاكم؛ لأنه يجتهد في تعديل السهام، كما يجتهد الحاكم في إطلاق الحق ، وإن كان القاسم رجلاً ارتضوا به حكماً وقاسماً فالحكم فيه كالتراضي بحاكم يحكم بينهما.

ثم قوى اعتبار التراضي بعد القرعة فيه وفيما لو اقتسما بأنفسهما، ثمّ قال:

هذا في قسمة الإجبار، أما قسمة التراضي - وهي التي فيها رد - فهل تلزم بالقرعة أم لا؟ قال قوم: تلزم كقسمة الإجبار، وقال آخرون: لا تلزم لأن القرعة هاهنا ليعرف البائع الذي يأخذ الردّ والمشتري الذي يدفع الردّ، فإذا تميّز هذا بالقرعة اعتبرنا التراضي بعد القرعة على البيع والشراء، وهذا هو الأقوى (2). انتهى.

والمصنف (رحمه الله) أطلق الحكم في لزومها بالقرعة في منصوب الإمام، من غير فرق بين قسمة الإجبار والتراضي (3). وأطلق القول هنا في قسمة الردّكما ذكر الشامل للأمرين.

وفي الدروس أيضاً صرّح بكون قسمة المنصوب تلزم بالقرعة مطلقاً، وغيره يعتبر تراضيهما في قسمة الردّ خاصة (4).

ص: 228


1- تقدّم في ص 226.
2- المبسوط، ج 5، ص 504 .
3- راجع ص 207 - 208.
4- الدروس الشرعية، ج 2، ص 93 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
مسائل ثلاث

الأولى: • لو كان لدار علوّ وسفل فطلب أحد الشريكين قسمتها بحيث يكون لكلّ واحد منهما نصيب من العلوّ والسفل بموجب التعديل جاز، وأجبر الممتنع مع انتفاء الضرر. ولو طلب انفراده بالسفل أو العلوّ لم يجبر الممتنع وكذا لو طلب قسمة كلّ واحدٍ منهما منفرداً.

الثانية: • لو كان بينهما أرض وزرع فطلب قسمة الأرض حسب أُجبر الممتنع؛ لأن الزرع كالمتاع في الدار. ولو طلب قسمة الزرع، قال الشيخ: لم يجبر الآخر؛ لأن تعديل ذلك بالسهام غير ممكن. وفيه إشكال من حيث إمكان التعديل بالتقويم إذا لم يكن فيه جهالة.

أمّا لو كان بذراً لم يظهر لم تصح القسمة؛ لتحقق الجهالة. ولو كان سنبلاً قال أيضاً: لا يصح. وهو مشكل؛ لجواز بيع الزرع عندنا.

------------------

قوله: «لو كان لدار علوّ وسفل فطلب أحد الشريكين قسمتها» إلى آخره.

العلو والسفل بمنزلة بيتين متجاورين، فإذا طلب أحدهما قسمة كلّ واحدٍ منهما على حدته، بحيث يكون لكلّ واحدٍ منهما نصيباً من كلّ منهما، ولم يكن في ذلك ضرر أُجبرالممتنع، كما يُجبر على قسمة البيت الواحد كذلك.

ولا فرق بين أن يجعل نصيب كلّ منهما من العلو فوق نصيبه من السفل وعدمه. ويحتمل اشتراط الأوّل في الإجبار لما في اختلاف النصيب من الضرر بكلّ منهما.

وإن طلب قسمتهما بحيث يكون لأحدهما العلق وللآخر السفل لم يجبر الآخر، كما لا يجبر على قسمة الدارين المتلاصقتين كذلك.

قوله: «لو كان بينهما أرض وزرع فطلب قسمة الأرض حسب أجبر الممتنع؛ لأن الزرع كالمتاع في الدار» إلى آخره.

إذا كان بينهما أرض مزروعة فأراد قسمة الأرض وحدها فلا إشكال في وجوب إجابة

ص: 229

الثالثة: • لو كان بينهما قرحان متعدّدة، وطلب واحد قسمتها بعضاً في بعض لم يجبر الممتنع. ولو طلب قسمة كلّ واحدٍ بانفراده أُجبر الآخر. وكذا لو كان بينهما حبوب مختلفة.

ويقسم القراح الواحد وإن اختلفت أشجار أقطاعه، كالدار الواسعة إذا اختلفت أبنيتها.

------------------

الآخر؛ لأنّ الأرض ممّا يقسم قسمة إجبار، والزرع فيها غير مانع من ذلك؛ لأنّه في حكم المنقول.

وإن أرادا قسمة الزرع فمقتضى الأصول الشرعية كون الحكم كذلك حيث يمكن تعديله، بأن لا يكون بذراً مستوراً، سواء كان سنبلاً أم حشيشاً أم قصيلاً.

والشيخ (رحمه الله) أطلق المنع من قسمته قسمة إجبار؛ محتجاً بأن تعديله غير ممكن(1). ولا يخفى منعه؛ إذ لا مانع منه، سواء كان سنبلاً أم لا.

ولو أرادا قسمتهما معاً فالحكم كما لو أرادا قسمة أحدهما عندنا.

ومن جعل القسمة بيعاً من العامة شرط في جوازه أن لا يكون قد اشتد الحبّ؛ لأنّه لا يجوز عنده بيع المطعوم مع غيره بمطعوم مع غيره، وهو الأرض(2).

قوله: «لو كان بينهما قرحان متعددة - إلى قوله - فهي كالأقرحة المتباعدة».

المشهور بين الأصحاب أنّ ما يعد شيئين فصاعداً من العقار، كالدور المتعدّدة والأراضي المتعدّدة الخالية من الشجر، وهي المعبر عنها بالأقرحة، والدكاكين المتعدّدة، سواء تجاورت أم لا، والحبوب المختلفة كالحنطة والشعير - لا يقسم بعضها في بعض - بمعنى جعل بعضها في مقابلة بعض - قسمة إجبار. وإنّما يقسم كلّ واحدٍ منها على حدته قسمة الإجبار إذا أمكن ذلك من غير ضررٍ؛ لأنها أملاك متعدّدة ولكلّ واحدٍ منها خواصّ

ص: 230


1- المبسوط، ج 5، ص 496.
2- راجع الحاوي الكبير، ج 16، ص 260؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص 193 .

ولا تقسم الدكاكين المتجاورة بعضها في بعض قسمة إجبار ؛ لأنّها أملاك متعدّدة يُقصد كلّ واحدٍ منها بالسكنى على انفراده، فهى كالأقرحة المتباعدة.

الرابع في اللواحق
إذا ادّعى بعد القسمة الغلط عليه

وهي ثلاث:

الأولى: • إذا ادّعى بعد القسمة الغلط عليه لم تسمع دعواه، فإن أقام بيّنةً سمعت وحكم ببطلان القسمة؛ لأنّ فائدتها تمييز الحق ولم يحصل. ولو عدمها فالتمس اليمين كان له إن ادّعى على شريكه العلم بالغلط.

------------------

لا تحصل في الآخر، بخلاف الأرض الواحدة والدار الواحدة.

وقال ابن البراج: إذا استوت الدور والأقرحة في الرغبات قسمت بعضها في بعض. قال: وكذا لو تضرّر بعضهم بقسمة كلّ على حدته جمع حقه في ناحية (1).

وفي الإرشاد حكم بأنّ الدكاكين المتجاورة يقسم بعضها في بعض كذلك، دون الدور والأقرحة(2).

وهو مذهب جماعة من العامة(3)؛ تنزيلاً لها منزلة الخان الواحد المشتمل على بيوت متعددة. وفرّق بعضهم بين ما لو كانت مجتمعةً ومتفرّقةً، فجوّز قسمة المجتمعة بعضها في بعض ،كالدار الواحدة والقراح الواحد (4)؛

والمختار هو المشهور.

قوله: «إذا ادعى بعد القسمة الغلط عليه لم تسمع دعواه» إلى آخره.

لا فرق في عدم سماع دعوى الغلط في القسمة بمجردها بين كون القاسم منصوب الإمام

ص: 231


1- راجع المهذب، ج 2، ص 573 - 574.
2- إرشاد الأذهان، ج 1 ، ص 434 .
3- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 190.
4- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 190.

------------------

ومن تراضيا به وأنفسهما؛ لأصالة صحة القسمة إلى أن يثبت المزيل، ولأنّ منصوب الإمام كالقاضي لا تسمع الدعوى عليه بالظلم. لكن لو أقام بيّنةً سمعت ونقضت القسمة، كما لو أقام البينة على ظلم القاضي وكذب الشهود. وطريقه أن يحضر قاسمين حاذقين لينظرا ويمسحا ويعرفا الحال ويشهدا.

ولو لم يقم بيّنةً، وأراد تحليف الشريك مُكّن منه إن ادعى عليه العلم بالغلط، وإلا فلا؛ لأنّ به الأصل، خصوصاً إذا كان القاسم غيره؛ فإنّ التبعة عليه، لا عليه مع عدم علمه. وقيل: له إحلاف الشريك مطلقاً (1). وهو الوجه؛ عملاً بالعموم (2).

وفرّق في المبسوط بين قسمة التراضي وغيرها كاختصاص أحدهما بالعلو والآخر بالسفل أو اشتمالها على ردّ، أو كون القاسم غير منصوب، فحكم بعدم الالتفات إليه في الثانية مطلقاً؛ لأنّها مشروطة بالتراضي، فإن كان مبطلاً في دعواه فعدم سماعها واضح، وإن كان محقاً فقد رضي بترك هذه الفضلة (3).

ويشكل بإمكان عدم علمه بها حال القسمة. فالوجه سماع الدعوى مع البينة كالسابق.

وأطلق ابن الجنيد عدم سماع دعواه إلا بالبينة(4).

والوجه توجه اليمين على الشريك مطلقاً، فإن حلف أقرّت، وإن نكل حلف المدعي، ونقضت إن لم نقض بالنكول، وإلا نقضت بمجرّده.

ولو تعدّد الشركاء وحلف بعضهم دون بعض ففي نقضها مطلقاً، أو في حق الناكل خاصةً وجهان، من أنّها قسمة واحدة فلا تتبعض، ومن لزومها في حق الحالف فلا يساوي الناكل.

ص: 232


1- قاله العلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 226 ، الرقم 6604.
2- الكافي، ج 7، ص 361، باب القسامة، ح 4، وص 415 ، باب أنّ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ح 1 - 2؛ الفقيه، ج 3، ص 32، ح 3270؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 229، ح 553 - 554.
3- المبسوط، ج 5، ص 497.
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 453، المسألة 51 .
إذا اقتسما ثم ظهر البعض مستحقاً

الثانية: • إذا اقتسما ثم ظهر البعض مستحقاً ، فإن كان معيّناً مع أحدهما بطلت القسمة؛ لبقاء الشركة في النصيب الآخر. ولو كان فيهما بالسوية لم تبطل ؛ لأنّ فائدة القسمة باقٍ، وهو إفراد كلّ واحدٍ من الحقين. ولو كان فيهما لا بالسوية بطلت؛ لتحقق الشركة.

وإن كان المستحق مشاعاً معهما فللشيخ (رحمه الله) قولان:

أحدهما لا تبطل فيما زاد عن المستحق. والثاني: تبطل؛ لأنها وقعت من دون إذن الشريك. وهو الأشبه.

------------------

والأوّل مختار الشهيد (رحمه الله) في بعض فوائده(1) ، والثاني مختار العلّامة في التحرير(2). وهو الوجه.

قوله: «إذا اقتسما ثم ظهر البعض مستحقاً، فإن كان معيّناً مع أحدهما بطلت» إلى آخره .

إذا جرت قسمة ثمّ ظهر استحقاق بعض المقسوم، فإما أن يستحق في جزء شائع، أو في شيء معين. فإن استحق في شائع - كالثلث - بطلت القسمة في المستحق قطعاً. وفي الباقي قولان(3):

أحدهما لا تبطل لبقاء السهام بين الشركاء على التعديل، فلا وجه لإبطالها.

والثاني - وهو هو الأصح - البطلان؛ لأن المقصود من القسمة تمييز الحقوق، وإذا ظهر الاستحقاق كان المستحق شريك كلّ واحد منهم، فلا يحصل التمييز. وأيضاً فقد بان أن المستحق شريك، وانفراد بعض الشركاء بالقسمة ممتنع.

وإن استحق شيء معين نظر، إن اختص المستحق بنصيب أحدهما أو كان من نصيب أحدهما أكثر بطلت القسمة؛ لأن ما يبقى لكلّ واحدٍ لا يكون قدر حقه، بل يحتاج أحدهما

ص: 233


1- لم نعثر عليه.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 226، الرقم 6604.
3- القولان للشيخ في المبسوط ، ج 5، ص 498 .
لو قسم الورثة تركةً ثمّ ظهر على الميت دين

الثالثة: • لو قسم الورثة تركةً ثمّ ظهر على الميت دين، فإن قام الورثة بالدين لم تبطل القسمة. وإن امتنعوا نقضت، وقضي منها الدين.

------------------

إلى الرجوع على الآخر، وتعود الإشاعة.

وإن كان المستحقان متماثلين مضت القسمة في الباقي ؛ لانتفاء المانع، إذ ليس إلا نقصان نصيب كلّ واحدٍ، وهو غير قادح، كما لو ظهر الاستحقاق في ماله المنفرد، وأما القسمة فالمقصود منها التعديل وتمييز نصيب أحد الشركاء عن الآخر، وقد حصل.

ولبعض العامة قول بالبطلان؛ لتفريق الصفقة (1).

قوله: «لو قسم الورثة تركةً ثمّ ظهر على الميت دين» إلى آخره.

إذا قسمت التركة بين الورثة ثم ظهر دين فإن قام الورثة بالدين لم تبطل القسمة؛ بناءً على أنّها إفراز حق لا بيع. وإن لم يقوموا به بيعت الأنصباء في الدين. ولو قام به البعض دون البعض بيع نصيب الممتنع والقسمة بحالها. ومن جعلها بيعاً من العامة فله في بطلانها بظهور الدين وجهان (2)، كما لو باعوها ثم ظهر الدين.

ولا فرق بين ظهور الدين مستوعباً للتركة وعدمه؛ لأنّ إفراز الحقوق لا ينافي وفاء الدين منها على تقدير عدم وفائهم له من غيرها. مع احتمال بطلانها مع الاستيعاب مطلقاً إن قلنا بعدم انتقالها إليهم لصدورها من غير المالك.

والمصنّف (رحمه الله) مع قوله بعدم الانتقال حكم بصحة القسمة مراعاة بوفاء الدين؛ نظراً إلى تعلّق حق الوارث بها في الجملة وإن لم تنتقل إلى ملكه محضاً.

ولو ظهرت وصيّة بعد القسمة، فإن كانت مرسلةً فهو كما لو ظهر دين. وإن كانت بجزء شائع أو معيّن فعلى ما ذكرناه في ظهور الاستحقاق.

ولا فرق في هذه الأحكام كلّها بين قسمة الإجبار والتراضي.

ص: 234


1- روضة الطالبين، ج 8، ص 188 - 189 .
2- راجع الحاوي الكبير، ج 16 ، ص 262؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص 188 .

النظر الرابع في أحكام الدعوى

المقدمة

الفصل الأول في المدّعي
تعریف المدعي

وهو يستدعي بيان مقدّمة، ومقاصد.

أما المقدمة فتشمل فصلين:

الفصل الأول في المدّعي

• وهو الذي يترك لو ترك الخصومة. وقيل: هو الذي يدعي خلاف الأصل، أو أمراً خفيّاً. وكيف عرفناه فالمنكر في مقابلته.

------------------

النظر الرابع في أحكام الدعوى

قوله - في المدعي : « وهو الذي يترك لو ترك الخصومة. وقيل: هو الذي يدعي خلاف الأصل، أو أمراً خفيّاً. وكيف عرفناه فالمنكر في مقابلته».

قد عرفنا بالخبر أنّ «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»(1). وقيل في سببه:

إنّ جانب المنكر أقوى؛ لموافقته الظاهر، والبيئة أقوى من اليمين، لبراءتها عن تهمة جلب النفع، فجعلت البينة على المدعي؛ لتجبر قوّة الحجّة ضعف الخبر (2) .

وهو الكلام المدعى، وقنع من المنكر بالحجة الضعيفة، لقوة جانبه.

وهذه القاعدة تحوج إلى معرفة المدعي والمدعى عليه ليطالب هذا بحجته وهذا بحجته إذا تخاصما.

ص: 235


1- تقدم تخريجه في ص 148، الهامش 2.
2- المهذب البارع، ج 4، ص 481.

ويشترط البلوغ، والعقل، وأن يدعي لنفسه أو لمن له ولاية الدعوى عنه ما يصح منه تملكه. فهذه قيود أربعة.

فلا تسمع دعوى الصغير ولا المجنون، ولا دعواه مالاً لغيره - إلا أن يكون وكيلاً أو وصيّاً أو ولياً أو حاكماً أو أميناً لحاكم ولا تسمع دعوى المسلم خمراً أو خنزيراً.

------------------

وقد اختلف الفقهاء في حد المدعي، فقيل: هو الذي يترك لو ترك الخصومة (1). ويعبّر عنه بعبارة أخرى، وهو أنّه الذي إذا سكت خلّي ولم يطالب بشيء، والمدعى عليه لا يخلّى ولا يقنع منه بالسكوت (2).

والثاني: أنّه الذي يدعي خلاف الأصل والمدعى عليه هو الذي يدعي ما يوافقه.

وقيل: إنّ المدعي من يذكر أمراً خفياً يخالف الظاهر، والمدعى عليه من يوافق الظاهر (3). فإذا ادعى زيد ديناً في ذمّة عمرو أو عيناً في يده فأنكر، فزيد هو الذي لو ترك الخصومة ترك، وهو الذي يذكر خلاف الأصل؛ لأنّ الأصل براءة ذمة عمرو من الدين وفراغ يده من حق الغير، وهو الذي يذكر أمراً خفيّاً خلاف الظاهر؛ لأنّ الظاهر براءة ذمة عمرو وفراغ يده من حق الغير. وعمر و هو الذي لا يترك وسكوته، ويوافق قوله الأصل والظاهر. فزيد مدّع على جميع التعريفات، وعمرو مدعى عليه.

ولا يختلف موجبها في الأغلب. وقد يختلف، كما إذا أسلم الزوجان قبل المسيس واختلفا، فقال الزوج: «أسلمنا معاً والنكاح باق بيننا»، وقالت المرأة: «بل على التعاقب ولا نكاح بيننا ».

فإن قلنا: المدعي من لو ترك ترك، فالمرأة مدّعية والزوج مدعى عليه؛ لأنه لا يترك لو ترك؛ فإنّها تزعم انفساخ النكاح، فيحلف ويحكم باستمرار النكاح إذا حلف .

ص: 236


1- قاله الماتن في المختصر النافع، ص 409؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 436.
2- روضة الطالبين، ج 8، ص 287 .
3- روضة الطالبين، ج 8، ص 287 .

------------------

وإن قلنا: إنّ المدعي من يخالف قوله الظاهر، فالزوج هو المدعي؛ لأن التساوي الذي يزعمه أمر خفي خلاف الظاهر، والمرأة مدعى عليها - لموافقتها الظاهر - فتحلف، فإذا حلفت حكم بارتفاع النكاح.

وإن قلنا: إنّ المدعي هو الذي يذكر خلاف الأصل، فالمرأة مدعية أيضاً؛ لأنّ الأصل عدم تقدّم أحدهما على الآخر، هذا هو المشهور في الفرق بين التعريفات.

وقال بعضهم:

إن الزوج هو الذي يترك وسكوته؛ لأنّ النكاح حقه، فإذا لم يطالبها ترك، وهي لا تترك لو سكتت؛ لأن بعد ثبوت الحق يصير مدعي زواله مدعياً(1).

وإذا قال الزوج أسلمت قبلى فلا نكاح ولا «مهر»، وقالت: «بل أسلمنا معاً» وهما بحالهما، فعلى الأوّل المدعي هو الزوجة؛ لأنّها تترك لو تركت. وكذا على الثالث؛ لأنّ التقارن خلاف الظاهر، فإنّ وقوع لفظ «الإسلام» بحيث لا يتقدم أحدهما على الآخر نادر جداً. وعلى الثانى الزوج هو المدعى؛ لأن الأصل عدم سبق إسلام أحدهما على الآخر.

وأما الأمناء الذين يصدقون في الردّ بيمينهم فهم مدّعون؛ لأنهم يزعمون الردّ، وهو خلاف الأصل والظاهر، ولا يتركون لو تركوا الدعوى؛ لأن المالك مطالب بحقه، لكن اكتفي منهم باليمين؛ لأنّهم أثبتوا أيديهم لغرض المالك، وقد ائتمنهم وأحسنوا إليه، فلا يحسن تكليفهم ببينة على الرد.

وربما تكلّف بعضهم بأنّهم يدعون ما يوافق الظاهر؛ لأن المالك قد ساعدهم على الأمانة حيث ائتمنهم، فهم يستبقون الأمانة وهو يزعم ارتفاعها، فكان الظاهر معهم(2). وعلى هذا فيجوز كون الأمين المذكور مدعياً ومدعى عليه باعتبارين، كما يقع مثله في صورة التحالف.

ص: 237


1- لم نعثر على قائله بشخصه، نعم حكاه فخر المحققين بعينه ونسبه إلى قائل، فراجع إيضاح الفوائد، ج 4 ص 324 .
2- انظر روضة الطالبين، ج 8، ص 287 .

• ولا بد من كون الدعوى صحيحةً لازمة. فلو ادعى هبةً لم تسمع حتّى يدّعي الإقباض. • وكذا لو ادّعى رهناً.

. ولو ادعى المنكر فسق الحاكم أو الشهود، ولا بيّنة، فادعى علم المشهود له ففي توجه اليمين على نفى العلم تردّد أشبهه عدم التوجه؛ لأنه ليس حقاً لازماً ، ولا يثبت بالنكول ولا باليمين المردودة، ولأنه يثير فساداً.

------------------

قوله: «ولا بد من كون الدعوى صحيحةً لازمة. فلو ادّعى هبة لم تسمع حتى يدّعي الإقباض».

قد تقدم ما يعتبر في صحة الدعوى من كونها معلومة أو مظنونة على بعض الوجوه(1) . وكونها مضبوطةً بذكر الجنس والوصف والقدر وغيرها.

والمراد بكونها لازمةً أن تكون ملزمة للمدعى عليه، فلو قال: «وهب منّي كذا» لم تسمع حتى يقول: «وأقبضني، أو هبة يلزمه التسليم إلي»، ونحو ذلك؛ لأن الهبة أعم من المقبوضة، ولأنه قد يهب ويرجع.

قوله: «وكذا لو ادعى رهناً».

بناءً على ما اختاره المصنّف من اشتراط القبض في صحة الرهن ومن لم يعتبر في صحته القبض (2) يسمع الدعوى مجرّدةً عنه.

وقد يقال في الموضعين: إنّ القبض إذا كان شرطاً في صحة الهبة والرهن فإطلاقهما محمول على الصحيح كغيرهما من العقود، وإنّما يتوجه التفصيل حيث يجعل القبض شرطاً في اللزوم، ليجعل إطلاقهما صحيحين أعم من المقبوض وغيره. وقد تقدم البحث في ذلك مستوفي في باب الهبة (3).

قوله: «ولو ادعى المنكر فسق الحاكم أو الشهود» إلى آخره.

ص: 238


1- تقدم في ص 111 وما بعدها.
2- الخلاف، ج 3، ص 223، المسألة 5: المبسوط، ج 2، ص 149؛ السرائر، ج 2، ص 417.
3- تقدم في ج 5، ص 153 وما بعدها.

• وكذا لو التمس المنكر يمين المدعي منضمّةٌ إلى الشهادة لم تجب إجابته؛ لنهوض البيّنة بثبوت الحق.

• وفي الإلزام بالجواب عن دعوى الإقرار تردّد، منشؤه أن الإقرار لا يثبت حقاً في نفس الأمر، بل إذا ثبت قضي به ظاهراً.

------------------

إذا ادعى المنكر جرح الحاكم أو الشهود كلف البينة، فإن فقدها وادعى علم المدعي بذلك ففى توجه اليمين على المدعى وجهان

أحدهما: نعم؛ لأنه ينتفع به في حق لازم، كما لو قذف الميت وطلب الوارث الحد ،فادّعى على الوارث العلم بالزنى فأنكر فله تحليفه على نفى العلم.

والثاني: لا؛ لأنّه لا يدعي حقاً لازماً، ولا يثبت بالنكول ولا باليمين المردودة، ولأنه يثير فساداً، ولأنّه كالدعوى على القاضي والشهود بالكذب، وهي غير مسموعة بدون البينة قطعاً، وإن كان ينتفع بتكذيبهما أنفسهما؛ لأنه يثير فساداً عاماً. وهذا هو الوجه.

قوله: «وكذا لو التمس المنكر يمين المدعي منضمة إلى الشهادة» إلى آخره.

فلا تجب الزيادة عليها؛ لأنّه تكليف حجّة بعد قيام حجّته، ولأنه كالطعن في الشهود. نعم لو ادعى إبراء أو أداء توجهت اليمين. وقد تقدم البحث في ذلك(1).

قوله: «وفي الإلزام بالجواب عن دعوى الإقرار تردّد، منشؤه أن الإقرار لا يثبت حقاً في نفس الأمر، بل إذا ثبت قضي به ظاهراً ».

المراد أنه إن ادعي عليه الإقرار له بالحق، فهل تسمع الدعوى بمعنى توجه اليمين على المدعى عليه لو أنكر ؟ فيه وجهان، نعم؛ لأنه ينتفع به مع التصديق، ولا؛ لأن الحق لا يستحق بالإقرار في نفس الأمر، وإن كان ثبوته يوجب الحق ظاهراً.

والأظهر هنا السماع؛ لأنّ المعتبر ثبوت الحق ظاهراً، واعترافه ينفعه، ونكوله يثبت عليه الحق، أو مع يمين المدعي. والمدعي يجوز له الحلف على أنه أقر له بذلك، ويثبت به الحق؛

ص: 239


1- تقدم في ص 154.
لا تفتقر صحة الدعوى إلى الكشف فى نكاح ولا غيره

• ولا تفتقر صحة الدعوى إلى الكشف فى نكاح ولا غيره. وربما افتقرت إلى ذلك في دعوى القتل؛ لأنّ فائته لا يستدرك.

ولو اقتصرت على قولها: «هذا زوجى كفى في دعوى النكاح ولا يفتقر ذلك إلى دعوى شيء من حقوق الزوجيّة؛ لأنّ ذلك يتضمن دعوى لوازم الزوجية.

ولو أنكر النكاح لزمه اليمين. ولو نكل قضي عليه على القول بالنكول، وعلى القول الآخر تردّ اليمين عليها، فإذا حلفت ثبتت الزوجيّة. وكذا السياقة لو كان هو المدعى.

------------------

إذ لا يشترط في استحقاق المقرّ له علمه بالسبب المقتضي للإقرار، بل يجوز له أخذه؛ تعويلاً على إقراره ما لم يعلم فساد السبب فجاز استناد الإقرار إلى سبب لا يعلمه المقر له كالنذر والجناية والإتلاف، وعموم: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(1) يشمله.

قوله: «ولا تفتقر صحة الدعوى إلى الكشف في نكاح ولا غيره» إلى آخره.

الدعوى أنواع: منها: دعوى الدم والمشهور أنه لا بد فيها من التفصيل، على ما هو مبين في محله؛ للخلاف في الأسباب الموجبة منه للقود والدية، ولأن فائت القتل لا يستدرك.

ومنها: دعوى نفس المال، مجرّداً عن ذكر السبب من بيع وقرض وغيرهما. ولا خلاف في عدم اشتراط التفصيل فيه؛ لأن الأسباب التي يستحق بها المال تكثر وتتكرر، وفي ضبط الأقدار الحاصلة بتلك الأسباب حرج شديد ، فأغني عنه.

ومنها: النكاح والبيع وسائر العقود. وعند بعض الأصحاب (2) أنّه لا يشترط فيها الكشف والتفصيل، بل يكفي إطلاق الدعوى بها كما يكفي في دعوى استحقاق المال، وكما أنّه لا يجب في دعوى النكاح التعرّض لعدم الموانع، كالردّة والعدة والرضاع.

ص: 240


1- تقدّم تخريجه في ص 203، الهامش 1.
2- كالشيخ في المبسوط ، ج 5، ص 630 والعلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 157، الرقم 6484.

• ولو ادعى أنّ هذه بنت أمته لم تسمع دعواه؛ لاحتمال أن تلد في ملك غيره ثم تصير له. وكذا لو قال: ولدتها في ملكي لاحتمال أن تكون حرّةً أو ملكاً لغيره. وكذا لا تسمع البيئة بذلك ما لم يصرّح بأنّ البنت ملكه. وكذا البينة.

------------------

وخالف فيه بعض العامة، فأوجب التفصيل في الجميع؛ للخلاف في الأسباب كالدم(1).

وبعضهم خص إيجاب التفصيل بالنكاح؛ لأنّ أمر الفروج مبني على الاحتياط كالدماء، والوطء المستوفى لا يتدارك كالدم المهراق(2).

وعليه فيعتبر في النكاح أن يقول: إنه وقع بالأوصاف المعتبرة عند موجب التفصيل، فيقول: إنّه تزوجها بولي وشاهدين، ويصفهما بالعدالة ونحو ذلك.

وعلى مذهب الأصحاب يكفي قولها: «هذا زوجي» وإن لم تضمّ إليه شيئاً من حقوق الزوجية، كالمهر والنفقة.

واعتبر بعض العامة أن يقترن بها حق من حقوق النكاح كصداق ونفقة وقسم وميراث بعد موته، وإلا لم تسمع (3) محتجاً بأن بقاء النكاح حق الزوج عليها، فكأنها تدعي كونها رقيقة، وهذه دعوى غير ملزمة.

ومن لم يعتبر التفصيل قال: إن النكاح وإن كان حقاً له فهو مقصود لها من تعلق حقوق مثبتة، وتتوسل به إلى تلك الحقوق، وحينئذ فتسمع الدعوى، وتترتب عليها أحكامها من اليمين والنكول وغيرهما.

وكذا القول في دعواه الزوجية.

قوله: «ولو ادعى أنّ هذه بنت أمته لم تسمع دعواه - إلى قوله - هذا الدقيق من حنطته».

عدم سماع الدعوى لبنت الأمة بقوله «إنّها بنت أمته» واضح؛ لأنّ ذلك أعم من كونها

ص: 241


1- انظر الحاوي الكبير، ج 17، ص 310 و 313؛ وحلية العلماء، ج 8، ص 185 - 186؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 165 - 167، المسألة 8497 و 8499؛ وروضة الطالبين، ج 4، ص 293.
2- انظر الحاوي الكبير، ج 17، ص 310 و 313؛ وحلية العلماء، ج 8، ص 185 - 186؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 165 - 167، المسألة 8497 و 8499؛ وروضة الطالبين، ج 4، ص 293.
3- روضة الطالبين، ج 8، ص 295.

ومثله لو قال: «هذه ثمرة نخلتي». وكذا لو أقرّ له من الثمرة في يده أو بنت المملوكة لم يحكم عليه بالإقرار لو فسّره بما ينافي الملك. ولا كذا لو قال: «هذا الغزل من قطن فلان» أو «هذا الدقيق من حنطته».

------------------

ملكاً له؛ إذ يجوز كونها بنتاً لأمته ولا تكون ملكاً له، بأن تلدها قبل أن يملك الأم في ملك غيره، أو يكون قد زوّجها من حرّ أو عبدٍ وشرط لمولاه رقيّة الولد، أو غير ذلك. ومنه يعلم أنه لا فرق بين إضافة ولدتها في ملكي وعدمه؛ لبقاء الاحتمال على التقديرين.

وأما قول المقر «هذه ثمرة شجرة فلان أو بنت أمته فإن أضاف إلى ذلك ما ينافي التبعية كقوله: «وهي ملكي»، فلا إشكال في عدم ثبوت الإقرار لما ذكرناه من الاشتراك، مضافاً إلى تصريحه بما ينافي الإقرار.

وأما مع الإطلاق فظاهر كلام المصنف أنّه يكون إقراراً بالولد والثمرة عملاً بالظاهر من كونهما تابعين للأصل حيث لا معارض، ولو كان هناك شيء لذكره، فإطلاقه كونهما من الأصل الذي هو مملوك للمقرّ له ظاهر في تبعيتهما له، بخلاف الدعوى؛ فإن شرطها التصريح بالملك ولو بالاستلزام ولم يحصل.

وتبع المصنف على هذا الحكم العلّامة في القواعد والتحرير(1).

والفرق بين الدعوى والإقرار لا يخلو من إشكال؛ لأنّ الاحتمال قائم على تقدير الإقرار والدعوى.

والعمل بالظاهر في الإقرار دون الدعوى لا دليل عليه. والفرق باشتراط التصريح فيها دونه رجوع إلى نفس الدعوى.

وفي الإرشاد (2) أطلق عدم سماع الدعوى والإقرار معاً، ولم يعتبر التقييد في الإقرار بتفسيره بما ينافي الملك. وهذا هو الظاهر.

ص: 242


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 437 : تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 157، الرقم 6485.
2- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 143 .
الفصل الثاني في التوصّل إلى الحق
متی یحتاج المستحقّ إلی المرافعة و الدعوی؟

من كانت دعواه عيناً في يد إنسان فله انتزاعها ولو قهراً ما لم يثر فتنة، ولا يقف ذلك على إذن الحاكم.

ولو كان الحق ديناً وكان الغريم مقراً باذلاً لم يستقل المدعي بانتزاعه من دون الحاكم؛ لأنّ للغريم تخيّراً في جهات القضاء، فلا يتعيّن الحق في شيء من دون تعيينه، أو تعيين الحاكم مع امتناعه .

ولو كان المدين جاحداً وللغريم بيّنة تثبت عند الحاكم والوصول إليه ممكن ففي جواز الأخذ تردّد، أشبهه الجواز وهو الذي ذكره الشيخ في الخلاف والمبسوط. وعليه دلّ عموم الإذن في الاقتصاص.

------------------

وأما الفرق بين قوله: «إنّها ثمرة شجرته، وبنت أمته» وبين قوله: «إنّ الغزل من قطنه، والدقيق من حنطته» فواضح؛ لأنّ الغزل والدقيق من نفس حقيقة القطن والحنطة، وإنما تغيّرت الأوصاف، فملك الأصل يقتضي ملك الفرع، بخلاف الثمرة والولد؛ فإنّهما منفصلان عن أصلهما حسّاً وشرعاً، فالإقرار بالفرعية لا يقتضي الإقرار بالملك.

قوله: «في التوصل إلى الحق - إلى قوله - دلّ عموم الإذن في الاقتصاص».

الغرض من الباب أن المستحق متى يحتاج إلى المرافعة والدعوى؟

و تفصيله أنّ الحق إما عقوبة أو مال. فإن كان عقوبة كالقصاص وحد القذف فلا بد من الرفع إلى الحاكم؛ لعظم خطره، والاحتياط في إثباته، ولأن استيفاءه وظيفة الحاكم، على ما تقتضيه السياسة وزجر الناس.

وإن كان مالاً ، فهو إما عين أو دين. فإن كان عيناً، فإن قدر على استردادها من غير تحريك فتنة استقلّ به؛ لأنّه عين ماله فلا حاجة إلى الرجوع في تحصيله إلى غيره. ولو أدّى إلى الفتنة فلا بد من الرفع إلى الحاكم دفعاً لها.

ص: 243

ولو لم تكن له بيتةً، أو تعذر الوصول إلى الحاكم، ووجد الغريم من جنس ماله اقتص مستقلاً بالاستيفاء.

------------------

وأما الدين فإن كان من عليه مقرّاً غير ممتنع من الأداء طالبه ليؤدي. وليس له الاستقلال بالأخذ؛ لأنّ حقه أمر كلّي في ذمة المديون، وله التخيّر في تعيينه من ماله، فلا يتعين في شيء منه بدون تعيينه ولا مدخل للحاكم في ذلك أيضاً؛ لأن الغرض كونه باذلاً، والحاكم إنّما يلي على الممتنع ومن في معناه.

وقول المصنف في هذا القسم « أو تعيين الحاكم مع امتناعه » لا وجه له ؛ لأنّه خلاف الغرض.

ولو كان جاحداً أو مماطلاً، فإن لم يكن لصاحب الحق بينة يثبت بها الحق عند الحاكم أو كان ولم يمكن الوصول إليه، أو أمكن ولم تكن يده مبسوطة بحيث يمكنه تولّي القضاء عنه جاز له الاقتصاص منه؛ لقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ )(1) ، وقوله تعالى: (فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ )(2).

ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنّه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرّاً وهو لا يعلم، فهل علي في ذلك شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»(3).

وروی جمیل بن درّاج قال : سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن الرجل يكون له على الرجل دين فيجحده ، فيظفر من ماله بقدر الذي جحده أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك ؟ قال : «نعم»(4) .

ص: 244


1- البقرة (2): 194 .
2- النحل (16): 126 .
3- مسند أحمد، ج 7، ص 75 ، ح 23711؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1338، ح 1714/7؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 159 ، بتفاوت يسير فيها.
4- تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 349، ح 986؛ الاستبصار، ج 3، ص 51، ح 167.
هل یجوز الاقتصاص من الودیعة

• نعم ، لو كان المال وديعةً عنده ففي جواز الاقتصاص تردد ، أشبهه الكراهية.

------------------

وعن داود بن زربي قال قلت لأبي الحسن موسى(علیه السّلام) : إني أخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها والدابة الفارهة فيأخذونها ، ثمّ يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ فقال: «خذ مثل ذلك، ولا تزد عليه»(1) . وغير ذلك(2).

ولو كان هناك بيّنة يثبت بها الحق عند الحاكم لو أقامها، والوصول إليه ممكن ففي جواز أخذه قصاصاً من دون إذن الحاكم قولان:

أحدهما - وهو الذي اختاره المصنف (رحمه الله) هنا والأكثر - الجواز (3)؛ لعموم أدلة الاقتصاص، وقوله : «ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه»(4).

والثاني: لا ؛ لأنّ التسلّط على مال الغير على خلاف الأصل، فيقتصر منه على موضع الضرورة، وهي هنا منتفية، ولأن الممتنع من وفاء الدين يتولى القضاء عنه الحاكم، ويعين من ماله ما يشاء، ولا ولاية لغيره. وهو خيرة المصنّف في النافع (5).

والأقوى الأول.

وكون التسلّط على مال الغير بغير إذنه خلاف الأصل مسلّم، لكن العدول عن الأصل لدليل جائز، وهو هنا موجود .

قوله: «نعم، لو كان المال وديعةً عنده ففي جواز الاقتصاص تردّد أشبهه الكراهية».

اختلف الأصحاب في جواز الاقتصاص من الوديعة، فذهب المصنف (رحمه الله) وقبله

ص: 245


1- تهذيب الأحكام، ج 6، ص 347، ح 978.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 17، ص 272 - 276 ، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به.
3- من القائلين بالجواز الشيخ في الخلاف، ج 1، ص 355 المسألة 28؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 535: و الشهيد في غاية المراد، ج 4، ص 27 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).
4- الأمالي الشيخ الطوسي، ص 520، المجلس 18، ح 53/1146: وانظر مسند أحمد، ج 5، ص 259، ح 17486؛ وسنن أبي داود، ج 3، ص 313، ح 3628؛ وسنن النسائي، ج 7، ص 338، ح 4698 و 4699. وفيها: «ليّ الواجد يُحل عرضه وعقوبته».
5- المختصر النافع، ص 409 - 410.

------------------

الشيخ في الاستبصار(1) وأكثر المتأخرين (2) إلى الجواز على كراهية.

وذهب الشيخ في النهاية (3) وجماعة(4) ، إلى التحريم.

ومنشأ الخلاف اختلاف الروايات ظاهراً.

والأظهر الأوّل؛ لعموم الأدلّة السابقة، وخصوص صحيحة أبي العباس البقباق أن شهاباً ما رآه في رجل ذهب له ألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العباس، فقلت له: خذها مكان الألف الذي أخذ منك فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب على أبي عبد الله (علیه السّلام) فذكر له ذلك، فقال(علیه السّلام): «أما أنا فأحب إلي أن تأخذ وتحلف»(5).

وهذا الخبر يدلّ على الجواز من غير كراهة؛ لأنّه (علیه السّلام) لا يحب المكروه. وقوله (علیه السّلام): «و تحلف» أراد به أنه إذا طلب منه المودع الوديعة جاز له الإنكار، فإن أحلفه حلف له على عدم الاستحقاق، أو على عدم الاستيداع مع التورية. ثمّ الكراهة تستفاد من ظاهر الأدلة الآتية جمعاً.

حجة القائل بالتحريم عموم قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَنَتِ إِلَى أَهْلِهَا)(6)، والأمر بأدائها إليهم ينافي جواز الأخذ.

وخصوص رواية ابن أبي عمير، عن ابن أخي الفضيل بن يسار ، قال : كنت عند أبي عبدالله (علیه السّلام) ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم إليها، فقالت لي: اسأله، فقلت: عمّا ذا؟ فقالت: إن ابني مات وترك مالاً كان في يد أخي فأتلفه، ثم أفاد مالاً فأودعنيه، فلي أن آخذ

ص: 246


1- الاستبصار، ج 3، ص 53، ذيل الحديث 172.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 213؛ الدروس الشرعية، ج 2، ص 85 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- النهاية، ص 307.
4- منهم أبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 331؛ وابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 240.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 347 ، ح 979؛ الاستبصار، ج 3، ص 53، ح 174.
6- النساء (4): 58 .

------------------

منه بقدر ما أتلف من شيء ؟ فأخبرته بذلك فقال: «لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» (1).

وفي هذا الحديث دلالة من ثلاثة مواضع:

أحدها: من قوله «لا» في جواب قولها «فلي أن آخذ منه».

وثانيها: من قوله (علیه السّلام) «أد الأمانة إلى من ائتمنك»؛ فإنّ الأمر بأدائها إليه ينافي جواز الأخذ، ولأنه ذكره في جواب سؤال الأخذ.

وثالثها من قوله (علیه السّلام) «ولا تخن من خانك». وهو ظاهر.

ورواية سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه ثمّ حلف ثم وقع له عندي مال، آخذه مكان مالى الذي أخذه وجحده وأحلف عليه كما صنع ؟ قال: «إن خانك فلا تخنه، ولا تدخل فيما عبته عليه» (2).

والجواب بحمل ذلك على الكراهة جمعاً.

ويمكن أن يكون وجه الأمر بردّها إليه أنّه أقرّ للإمام بالحق، وادعى أن له عند صاحبه مالاً. واللازم من ذلك قبول إقراره دون دعواه، فأمره بردّها لأجل ذلك، وهو لا ينافي جواز أخذها فيما بينه وبين الله تعالى، أو على تقدير ثبوت الحق عند الإمام، ولأنه إن كان الأمر الذي ادعاه حقاً فأخذه للوديعة مقاصةً في قوة أداء الأمانة إلى من ائتمنه؛ لأنه وفى منها دينه بإذن الشارع العام كما سبق (3) ، فكان بمنزلة أدائها إلى وكيله، وأداء الأمانة إلى الوكيل قائم مقام أدائها إلى المالك.

ص: 247


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 348، ح 981؛ الاستبصار، ج 3، ص 52 - 53، ح 172.
2- الكافي، ج 5، ص 98، باب قصاص الدين، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 185 - 186، ح 3699؛ تهذيب الأحكام، ج 6. ص 348 ، ح 980: الاستبصار، ج 3، ص 52 ، ح 171 .
3- سبق آنفاً.
لو كان المال من غير جنس الموجود

• ولو كان المال من غير جنس الموجود جاز أخذه بالقيمة العدل، ويسقط اعتبار رضى المالك بالطاطه، كما يسقط اعتبار رضاه في الجنس. ويجوز أن يتولّى بيعها وقبض دينه من ثمنها؛ دفعاً لمشقة التربص بها.

------------------

ولا نسلّم تحقق الخيانة بذلك؛ لأن استيفاء الحق ليس بخيانة، وإنما يقتضي الخيانة أكل الوديعة بغير حق.

وكذا الكلام في قوله إن خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عبته عليه»؛ فإنّ الأوّل خانه بإنكار حقه بالباطل، وعيّب(1) عليه بذلك، وهو لا يقتضي خيانته بأخذها مكان دينه، وعيبه عليه في الحق.

قوله: «ولو كان المال من غير جنس الموجود جاز أخذه بالقيمة العدل» إلى آخره.

حيث جاز له الأخذ مقاصةً يقتصر على الأخذ من الجنس الموافق لحقه مع الإمكان؛ اقتصاراً في التصرف في مال الغير المخالف للأصل على أقل ما تندفع به الضرورة.

فإن تعذر وصوله إلى جنس حقه جاز له الأخذ من غيره؛ لعموم الأدلة السابقة، وقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (2)، حيث لم يفرّق بين الجنس وغيره، بل ظاهر الحال أنّها لا تجد عين المحتاج إليه في النفقة والكسوة، وإنما تجد مالاً تصرفه في ذلك.

وذهب جماعة من العامة إلى وجوب الاقتصار على الجنس(3).

وعلى ما اخترناه يتخيّر بين أخذه بالقيمة وبين بيعه وصرفه في جنس الحقّ، ويستقلّ بالمعاوضة كما يستقل بالتعيين.

ولو أمكن إثبات الحق عند الحاكم فالأولى الرجوع إليه هنا ليستأذنه في هذا التصرف.

ص: 248


1- في بعض النسخ: «وعيبه» بدل «وعيّب».
2- تقدم تخريجه في ص 244، الهامش 3.
3- الحاوي الكبير، ج 17، ص 413: المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 230، المسألة 18564 حلية العلماء، ج 8، ص 215؛ روضة الطالبين، ج 8، ص 283 - 284 .

• ولو تلفت قبل البيع، قال الشيخ الأليق بمذهبنا أنّه لا يضمنها. والوجه الضمان؛ لأنّه قبض لم يأذن فيه المالك. ويتقاصان بقيمتها مع التلف.

------------------

قوله: «ولو تلفت قبل البيع قال الشيخ : الأليق بمذهبنا أنّه لا يضمنها» إلى آخره.

إذا أخذ المستحق من غير جنس حقه، فإن نوى أخذه لنفسه بالقيمة ملكه، وكان تلفه بعد ذلك منه . وإن قصد بيعه وصرفه في حقه، فهل يكون مضموناً عليه ، أم يكون أمانة ؟ فيه قولان:

أحدهما - وهو الذي ذهب إليه المصنف (رحمه الله) - الضمان(1) ؛ لأنه قبضه بغير إذن المالك لمصلحة نفسه، فكان كقبض المرتهن الرهن بغير إذن الراهن. هكذا علّله المصنف (رحمه الله ).

وفيه: أنّ إذن الشارع أعظم من إذن المالك، وبه يفرّق بينه وبين الرهن.

والثاني: عدم الضمان. وهو مختار الشيخ في المبسوط (2)؛ لأنه مقبوض بحق، فجرى مجرى الرهن. وهذا هو الأقوى.

هذا إذا كان المقبوض بقدر حقه، أمّا لو كان زائداً عنه حيث لم يمكن الاقتصار على المقدار؛ ففي كون الزائد مضموناً أم أمانة الوجهان ولا فرق حينئذ بين أن يتلف قبل البيع وبعده، حيث لم يمكن الاقتصار على بيع ما يقابل حقه.

وحيث يجوز البيع يجب المبادرة إليه بحسب الإمكان. فإن قصر فنقصت قيمته فكالغاصب.

وحيث يضمن مع التلف فإن كان بتقصير فكضمان الغاصب، وبغيره فقيمة يوم التلف مطلقاً. وكذا تجب المبادرة إلى ردّ الزائد إلى المالك على تقدير اشتماله عليه، ولو بهبةٍ ونحوها إذا خاف من الاعتراف بالواقع.

ص: 249


1- من القائلين بالضمان أيضاً العلامة في قواعد الأحكام ، ج 3، ص 448.
2- المبسوط ، ج 5، ص 682.

مسألتان

من ادعى ما لا يد لأحدٍ عليه

الأولى: • من ادعى ما لا يد لأحدٍ عليه قضي له. ومن بابه أن يكون كيس بين جماعة فيسألون: هل هو لكم ؟ فيقولون: لا، ويقول واحد منهم هو لي؛ فإنّه يقضى به لمن ادعاه.

الثانية: • لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله، وما أُخرج بالغوص فهو لمخرجه و به رواية في سندها ضعف.

------------------

قوله: «من ادعى ما لا يد لأحدٍ عليه قضي له» إلى آخره.

الأصل في مسألة الكيس رواية يونس بن عبد الرحمن، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال ، قلت : عشرة كانوا جلوساً ووسطهم كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضاً ألكم هذا الكيس ؟ فقالوا كلّهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي، قال: «هو للذي ادعاه»(1).

ولأنه مع عدم المنازع لا وجه لمنع المدعي منه ولا لطلب البينة منه، ولا لإحلافه؛ إذ لا خصم له حتّى يترتب عليه ذلك.

قوله: «لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله» إلى آخره.

الرواية المذكورة رواها الحسن بن علي بن يقطين، عن أُمية بن عمرو، عن الشعيري، قال: سُئل أبو عبد الله (علیه السّلام) عن سفينة انكسرت في البحر، فأخرج بعضه بالغوص، وأخرج البحر بعض ما غرق فيها، فقال: «أما ما أخرجه البحر فهو لأهله، الله أخرجه لهم، وأما ما خرج بالغوص فهو لهم، وهم أحق به» (2).

ص: 250


1- الكافي، ج 7، ص 422، باب النوادر، ح 5، وفيه عن إبراهيم بن هاشم القمي، عن بعض أصحابه، عن منصور؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 292، ح 810 .
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 295، ح 822 .

المقصد الأوّل في الاختلاف في دعوى الأملاك

لو تنازعا عيناً في يدهما ولا بيّنة

وفيه :مسائل

الأولى : • لو تنازعا عيناً في يدهما ولا بينة قضي بها بينهما نصفين . وقيل : يحلف كلّ منهما لصاحبه. ولو كانت يد أحدهما عليها قضي بها للمتشبّث مع يمينه إن التمسها الخصم. ولو كانت يدهما خارجةً، فإن صدق من هي في يده أحدهما

------------------

وعمل بمضمونها الشيخ في النهاية (1). والمصنّف (رحمه الله) ذكر أنّها ضعيفة السند، ولم يذكر ما ينافي حكمها.

ووجه ضعف سندها أن أُمية المذكور واقفي(2). والظاهر أن المراد ب-«الشعيري» إسماعيل بن زياد السكوني المشهور، وهو عامي (3).

ولكن لا يلزم من حكم المصنّف بضعف سندها ردّ حكمها؛ لأنّه كثيراً ما يُجبر الضعف بالشهرة وغيرها، والأمر في هذه كذلك.

وابن إدريس ردّ الرواية خاصةً على أصله، وحكم بأنّ ما أخرجه البحر فهو لأصحابه وما تركه أصحابه آيسين منه فهو لمن وجده وغاص عليه؛ لأنه بمنزلة المباح، كالبعير يُترك من جهد في غير كلا ولا ماء؛ فإنه يكون لواجده، وادعى الإجماع على ذلك(4).

والأصح أن جواز أخذ ما يتخلّف مشروط بإعراض مالكه عنه مطلقاً، ومعه يكون إباحة لآخذه، ولا يحل أخذه بدون الإعراض مطلقاً ؛ عملاً بالأصل.

قوله: «لو تنازعا عيناً في يدهما ولا بينة - إلى قوله - ولو دفعهما أقرت في يده».

إذا تداعيا عيناً وادّعى كلّ منهما أنّ مجموعها له، ولا بيّنة لأحدهما، فلا يخلو إمّا

ص: 251


1- النهاية، ص 351 .
2- خلاصة الأقوال، ص 324، الرقم 1276.
3- خلاصة الأقوال، ص 316، الرقم 1238.
4- السرائر، ج 2، ص 195.

أحلف وقضي له. وإن قال: «هي لهما» قضي بها بينهما نصفين، وأحلف كلّ منهما لصاحبه. ولو دفعهما أقرت في يده.

------------------

أن تكون في يدهما، أو في يد أحدهما، أو في يد ثالث فهنا أحوال :

أحدها: أن تكون في يدهما، فكلّ واحدٍ مدّع في النصف ومدعى عليه في النصف، فيحلف كلّ واحدٍ منهما على نفي ما يدعيه الآخر، ولا يتعرّض واحد منهما في يمينه لإثبات ما في يده، بل يقتصر على أنه لا حق لصاحبه فيما في يده. ونقله الحلف قولاً يشعر برده. والمذهب ثبوته؛ عملاً بالعموم(1) ، بل لم ينقل الأكثر فيه خلافاً. فإذا حلفا أو نكلا ترك المدعى في يدهما كما كان. وإن حلف أحدهما دون الآخر قضي للحالف بالكل.

ثمّ إن حلف الذي بدأ الحاكم بتحليفه، ونكل الآخر بعده حلف الأول اليمين المردودة إن لم نقض بالنكول. وإن نكل الأوّل ورغب الثاني في اليمين فقد اجتمع عليه يمين النفي للنصف الذي ادعاه صاحبه، ويمين الإثبات للنصف الذي ادعاه هو ، فتكفيه الآن يمين واحدة يجمع فيها بين النفي والإثبات؛ لأنّ كلّاً منهما قد دخل فيه. وحينئذ فيحلف أن الجميع له ولا حق لصاحبه فيه، أو يقول: لا حق له في النصف الذي يدعيه، والنصف الآخر لي.

ويحتمل وجوب يمينين: إحداهما نافية والأخرى مثبتة؛ لتعدد السبب المقتضي لتعدّد المسبب.

وهل يتخير الحاكم في البدأة باليمين، أو يقرع بينهما؟ وجهان.

وتظهر الفائدة في تعدّد اليمين على المبتدئ على تقدير نكول الآخر، ويمكن أن يقال: كلّ واحد منهما مدع ومدعى عليه هاهنا، فينبغي أن ينظر إلى السبق، فمن سبق دعواه بدئ بتحليف صاحبه.

ص: 252


1- أي الحديث: «البينة على من ادعى ..... راجع الكافي، ج 7، ص 361 ، باب القسامة، ح 4، وص 415، باب أنّ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ح 1 و 2؛ والفقيه، ج 3، ص 32، ح 3270؛ وتهذيب الأحكام، ج 6. ص 229، ح 553 - 554 .
يتحقق التعارض فى الشهادة مع تحقّق التضادّ

الثانية: • يتحقق التعارض فى الشهادة مع تحقّق التضادّ، مثل أن يشهد شاهدان بحق لزيد، ويشهد آخران أنّ ذلك الحق بعينه لعمرو، أو يشهدا أنه باع ثوباً مخصوصاً لعمرو غدوة، ويشهد آخران ببيعه بعينه لخالد في ذلك الوقت. ومهما أمكن التوفيق بين الشهادتين وفق.

------------------

وثانيها: أن تكون العين في يد أحدهما، فيقضى بها للمتشبث - وهو ذو اليد - مع يمينه؛ لأنه هو المدعى عليه والخارج مدع؛ لأن الأصل عدم تسلطه على ما في يد غيره، وظاهر الحال يشهد لذي اليد. فإن نكل ذو اليد عن الحلف أحلف الخارج إن لم نقض بالنكول، والكلام في حلفهما كما سلف، فيحلف ذو اليد على النفي، والمدعي على الإثبات.

وثالثها أن تكون في يد ثالث، فذو اليد من صدقه الثالث، وعليه اليمين للآخر، فإن امتنع حلف الآخر وأُغرم القيمة. ولو صدقهما فهي لهما بعد حلفهما أو نكولهما، ولهما إحلافه إن ادعيا علمه؛ لفائدة الغرم مع اعترافه، لا القضاء بالعين. ولو أنكرهما حلف لهما، سواء ادعاها لنفسه أم لا . ولا يجب عليه نسبة الملك إلى نفسه أو إلى أحد معين. ولو قال: «هي لأحدكما ولا أعرفه احتمل قوياً القرعة، فيحلف من خرجت له، فإن نكل حلف الآخر، وإن نكلا قسمت بينهما.

قوله: «يتحقق التعارض فى الشهادة مع تحقق التضاد» إلى آخره.

إذا أقام المتداعيان بينتين فإن أمكن التوفيق بينهما ،وفق، وعمل بما دلّت على ملكه الآن، كما لو شهدت إحداهما بملك المدعي أمس، والأخرى أنّها ملك الآخر بسبب انتقالها عن ذلك المدعي اليوم، فيعمل بالثانية؛ لإمكان صدقهما. وكذا لو أطلقت إحداهما وفصلت الأخرى كما ذكرناه.

وإن تحقق التعارض بحيث استلزم العمل بإحداهما تكذيب الأخرى، كأن تشهد إحداهما بهذه العين لزيد، وتشهد الأخرى بها للآخر؛ فإنّه لا يمكن أن يكون كلّها ملكاً لكلّ واحدٍ منهما، فيفتقر الحكم بتقديم إحداهما على الأخرى إلى المرجّح ، على التفصيل الذي يأتي

ص: 253

• فإن تحقق التعارض، فإما أن تكون العين في يدهما، أو في يد أحدهما، أو في يد ثالث. ففي الأوّل يقضي بها بينهما نصفين؛ لأنّ يدكلّ واحد على النصف وقد أقام الآخر بيّنةً، فيقضى له بما في يد غريمه.

• وفي الثاني يقضى بها للخارج دون المتشبث إن شهدتا لهما بالملك المطلق. وفيه قول آخر ذكره في الخلاف - بعيد.

------------------

قوله: «فإن تحقق التعارض فإما أن تكون العين في يدهما» إلى آخره.

إذا تعارضت البينتان - وكانت العين في يدهما - فلا إشكال في الحكم بها بينهما نصفين. لكن اختلف في سببه، فقيل لتساقط البينتين بسبب التساوي، وبقي الحكم كما لو لم يكن هناك بينة (1).

وقيل: لأن مع كلّ منهما مرجحاً باليد على نصفها فقدمت بيّنته على ما في يده (2).

والذي اختاره المصنّف (رحمه الله) أن العلة تقديم بينة الخارج، فيقضى لكل واحد منهما بما في يد صاحبه. وهذا هو الأشهر.

وتظهر الفائدة في اليمين على من قُضي له فعلى الأوّل يلزم كلا منهما اليمين لصاحبه؛ لأن تساقط البينتين أوجب الرجوع إلى اليمين كالمسألة السابقة. وعلى الثاني لا يمين على أحدهما؛ لأنّ ترجيح البينة على الأخرى بسبب اليد أوجب العمل بالراجح وترك الآخر، كما لو تعارض الخبران. وعلى الثالث - وهو الأظهر - لا يمين؛ لأنّ القضاء له مستند إلى بینته وهي ناهضة بثبوت الحق، فيستغنى عن اليمين.

وفي التحرير قوى ثبوت اليمين على كلّ منهما، مع حكمه بتقديم بينة الخارج، وأنّ القضاء هنا لكلّ منهما بما في يد الآخر، واحتمل عدم اليمين(3).

قوله: «وفي الثاني يقضى بها للخارج - إلى قوله - عملاً بالخبر، والأول أشبه».

ص: 254


1- لم نتحقق القائل به.
2- لم نتحقق القائل به.
3- تحرير الأحكام الشرعية ، ج 5، ص 185، الرقم 6540.

ولو شهدتا ،بالسبب، قيل: يقضى لصاحب اليد؛ لقضاء علي (علیه السّلام) في الدابة.

وقيل: يقضى للخارج؛ لأنّه لا بيّنة على ذي اليد، كما لا يمين على المدعي؛ عملاً بقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : «واليمين على من أنكر»، والتفصيل قاطع للشركة. وهو أولى.

------------------

إذا كانت العين المتنازع فيها في يد أحدهما، وأقام كلّ منهما بينة ففي ترجيح أيهما أقوال:

أحدها: ترجيح الخارج مطلقاً، أي سواء شهدتا بالملك المطلق أم المقيد بالسبب، أم تفرّقتا، بأن شهدت إحداهما بالملك المطلق والأخرى بالمقيّد.

ذهب إلى ذلك الصدوقان(1) ، وسلار(2)، وابن زهرة (3)، وابن إدريس(4)، والشيخ في موضع من الخلاف(5). لكن الصدوق قدم أعدل البينتين، ومع التساوي الخارج(6).

والحجة قوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» (7).

ووجه الدلالة أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) جعل لكلّ واحدٍ منهما حجّةٌ، فكما لا يمين على المدعي لا بيّنة على المدعى عليه، والتفصيل يقطع الاشتراك.

ولرواية محمد بن حفص عن منصور، عن الصادق (علیه السّلام)قال، قلت له: رجل في يده شاة فجاء رجل فادّعاها وأقام البينة العدول أنها ولدت عنده ولم يهب ولم يبع، وجاء الذي في يده بالبينة مثلهم عدول أنها ولدت عنده ولم يبع ولم يهب، قال (علیه السّلام): «حقها للمدعي،

ص: 255


1- المقنع، ص 399؛ الفقيه، ج 3، ص 65 - 66، ذيل الحديث 3348. وأيضاً حكاه فيهما عن والده.
2- المراسم، ص 234.
3- غنية النزوع، ج 1، ص 443.
4- السرائر، ج 2، ص 168 .
5- الخلاف، ج 3، ص 130، المسألة 217 .
6- الفقيه، ج 3، ص 66 ، ذيل الحديث 3348؛ المقنع، ص 400.
7- الفقيه، ج 3، ص 32، ح 3270؛ وقريب منه في الكافي، ج 7، ص 415، باب أنّ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ح 1؛ وتهذيب الأحكام، ج 1، ص 229، ح 553 ، وفيه: «البينة على من ادعى واليمين على من ادعي عليه».

أمّا لو شهدت للمتشبث بالسبب وللخارج بالملك المطلق، فإنّه يقضى لصاحب اليد، سواء كان السبب ممّا لا يتكرّر ، كالنتاج ونساجة الثوب الكتّان ،

------------------

ولا أقبل من الذي في يده بيّنة، إنّ الله عزّ وجلّ إنّما أمر أن تطلب البينة من المدعي، فإن كانت له بيّنة وإلا فيمين الذي هو في يده هكذا أمر الله عزّ وجلّ»(1).

وطريق الرواية إلى منصور حَسَنٌ، أما هو فإنّه مشترك بين الثقة وغيره.

والثاني: ترجيح ذي اليد مطلقاً. وهو قول الشيخ في كتاب الدعاوي من الخلاف(2). وهو الذي نسبه المصنف (رحمه الله) إلى البعد.

وحجته رواية جابر: أنّ رجلين اختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة أو بعير، فأقام كلّ واحدٍ منهما البينة أنه أنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده(3).

ورواية غياث بن إبراهيم عن الصادق (علیه السّلام) : «أن أمير المؤمنين (علیه السّلام) اختصم إليه رجلان في دابة، وكلاهما أقام البيئة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي هي في يده وقال : لو لم تكن في يد جعلتها بينهما نصفين»(4).

وهذان الحديثان - مع ضعف سندهما بكون الأول عامياً، والثاني بغياث (5) - أخص من المدعى؛ لأنّهما دلاً على تقديم ذي اليد مع السبب لهما، لا مع الملك المطلق.

والثالث: ترجيح الداخل إن شهدت بيّنته بالسبب، سواء انفردت به أم شهدت بيّنة الخارج به أيضاً، وتقديم الخارج إن شهدتا بالملك المطلق أو انفردت بينته بالسبب.

ص: 256


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 240، ح 594؛ الاستبصار، ج 3، ص 43، ح 143.
2- الخلاف، ج 1، ص 329 و 332، المسألة 2، وص 342 - 343، المسألة 15 .
3- أوردها الشيخ في الخلاف، ج 1، ص 332، ذيل المسألة 2؛ وانظر سنن الدار قطني، ج 3، ص 451، ح 4397؛ والسنن الكبرى البيهقي ، ج 10، ص 433 ، ح 21223 - 21224 ؛ وتلخيص الحبير، ج 4، ص 210، ح 2141.
4- الكافي، ج 7، ص 419، باب الرجلين يدعيان فيقيم كلّ واحد منهما البيئة ، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 6، ص 234 ، 573: الاستبصار، ج 3، ص 39، ح 133.
5- خلاصة الأقوال، ص 385، الرقم 1547، وفيه: كان بترياً.

أو يتكرّر كالبيع والصياغة. وقيل: بل يقضى للخارج وإن شهدت بينته بالملك المطلق؛ عملاً بالخبر والأوّل أشبه.

------------------

وهذا هو الذي اختاره المصنف (رحمه الله)، وقبله الشيخ في النهاية (1) وكتابي الأخبار(2) . وتلميذه القاضي (3) وجماعة (4).

وقد وهم الشيخ في المبسوط حيث نقل عن النهاية خلاف ذلك، فقال فيه:

ما يدلّ عليه أخبارنا هو ما ذكرناه في النهاية، وهو أنه إذا شهدتا بالملك المطلق ويد أحدهما عليها حكم لذي اليد، وكذلك إن شهدتا بالملك المقيد لكلّ واحد ويد أحدهما عليها حكم لذي اليد. قال: وقد روي أنه يحكم لليد الخارجة(5) .

ووجه التنافي بين المنقول والمنقول عنه ظاهر.

وحجة هذا التفصيل الجمع بين الأخبار التي دلّ بعضها على تقديم الداخل مع بيان السبب، وقد سمعته، وبعضها على تقديم الخارج، وهو محمول على ما إذا أطلقتا أو اختصت بينة الخارج بالسبب بطريق أولى، كما أن تقديم بيّنة الداخل مع انفرادها بالسبب ثابت بطريق أولى؛ لورود النصّ على تقديمها مع اشتراكهما في السبب(6) .

والرابع: ترجيح الأعدل من البينتين، أو الأكثر عدداً مع تساويهما في العدالة، مع اليمين، ومع التساوي يقضى للخارج. وهو قول المفيد (رحمه الله)(7). وقريب منه قول الصدوق: فإنّه قدم أعدل البينتين، ومع التساوي الخارج(8)، وقد تقدم.

ص: 257


1- النهاية، ص 344.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 237، ذيل الحديث 583: الاستبصار، ج 3، ص 42، ذيل الحديث 142.
3- المهذب، ج 2، ص 578.
4- كالمحقق في المختصر النافع، ص 412؛ والصهرشتي على ما حكاه عنه الشهيد في غاية المراد، ج 4، ص 62 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).
5- المبسوط، ج 5، ص 626.
6- تقدم ذلك في روايتي جابر وغياث بن إبراهيم. راجع ص 256 .
7- المقنعة، ص 730 - 731.
8- المقنع، ص 1400 الفقيه، ج 3، ص 66، ذيل الحديث 3348.

------------------

والترجيح بهاتين الصفتين عمل به المتأخرون على تقدير كون العين في يد ثالث؛ لورودها في بعض الأخبار كذلك(1)، مع أن في بعضها ما يدلّ على هذا القول، ففي صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن الرجل يأتي القوم فيدعي داراً في أيديهم، ويقيم الذي في يده الدار أنه ورثها عن أبيه، لا ندري كيف أمرها؟ فقال «أكثرهم بيّنةً يستحلف وتدفع إليه». وذكر: «أنّ عليّاً (علیه السّلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت لهؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا، وقامت لهؤلاء البينة بمثل ذلك، فقضى بها لأكثرهم بيّنة واستحلفهم. قال: فسألته حينئذ فقلت: أرأيت إن كان الذي ادعى الدار قال: إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، ولم يقم الذي هو فيها بينةٌ إلا أنّه ورثها عن أبيه؟ قال: «إذا كان أمرها هكذا فهي للذي ادعاها وأقام البينة عليها»(2).

فقد دلّت هذه الرواية على الترجيح بالعدد مع تشبّث أحدهما وخروج الآخر، وعلى ما لو ذكرا جميعاً السبب، وهى أوضح سنداً من الروايات السابقة.

وروى عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «كان علي (علیه السّلام) إذا أتاه رجلان ببينة شهود عدلهم سواء وعددهم سواء، يقرع بينهم على أيهم يصير اليمين - قال: - وكان يقول: اللهمّ ربّ السماوات السبع أيهم كان الحق له فأدّه إليه، ثمّ يجعل الحق للذي يصير إليه اليمين عليه إذا حلف»(3). وهذه متناولة بإطلاقها لهذا القسم.

ص: 258


1- راجع الكافي، ج 7، ص 433، باب النوادر، ح 23؛ وتهذيب الأحكام، ج 1، ص 237، ح 583، وص 240، ح 594؛ والاستبصار، ج 3، ص 42 و 43 ، ح 142 و 143.
2- الكافي، ج 7، ص 418، باب الرجلين يدّعيان فيقيم كلّ واحد منهما البينة ، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 64 - 65، ح 3347 و 3348؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 234، ح 575؛ الاستبصار، ج 3، ص 40، ح 135.
3- الكافي، ج 7، ص 419، باب الرجلين يدعيان فيقيم كلّ واحد منهما البينة ، ح 3 الفقيه، ج 3، ص 94 ح 3400؛ تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 233، ح 571: الاستبصار، ج 3، ص 39، ح 131 .

• ولو كانت في يد ثالث قضي بأرجح البيّنتين عدالة، فإن تساويا قضي لأكثر هما شهوداً، ومع التساوي عدداً وعدالة يقرع بينهما، فمن خرج اسمه أحلف وقضي له ولو امتنع أحلف الآخر وقضي له. وإن نكلا قضي به بينهما بالسويّة.

وقال في المبسوط: يقضى بالقرعة إن شهدتا بالملك المطلق، ويقسم بينهما إن شهدتا بالملك المقيد. ولو اختصت إحداهما بالتقييد قضي بها دون الأخرى. والأوّل أنسب بالمنقول.

------------------

وبقي في المسألة أقوال أخر نادرة ليس عليها دليل واضح.

ونبه المصنف (رحمه الله) بقوله: «سواء كان السبب ممّا لا يتكرّر، كالنتاج ونساجة الثوب، أو يتكرّر، كالبيع والصياغة» على خلاف ابن حمزة حيث فرّق بين السبب المتكرّر وغيره، وحكم بتقديم ذي اليد مع كون السبب ممّا يتكرّر (1) .

قوله: «ولو كانت في يد ثالث قضي بأرجح البينتين عدالة» إلى آخره.

اختصاص هذا القسم بالترجيح بهذين المرجّحين - وهما العدالة والعدد - دون باقي أقسام التعارض هو المشهور بين الأصحاب، خصوصاً المتأخرين منهم، تبعاً للشيخ (رحمه الله)؛ فإنّه جعل ذلك جامعاً بين الأخبار التي دلّ بعضها على الترجيح بهما، وبعضها على الترجيح بالسبب، وبعضها على ترجيح الخارج، وبعضها على ترجيح ذي اليد(2) . ففصلوا الأحكام كما سبق، حتّى أنّ الشيخ في التهذيب صرّح بكون خبر أبي بصير الذي حكيناه سابقاً المقتضي للترجيح بالعدد - محمولاً على حكم ما إذا كانت العين في يد ثالث(3). وهو جيب؛ فإنّها صريحة في كون أحدهما متشبثاً، حيث قال: «يأتي القوم فيدعي داراً في

ص: 259


1- الوسيلة، ص219 .
2- راجع تهذيب الأحكام، ج 6، ص 237، ذيل الحديث 583 : الاستبصار، ج 3، ص 42 - 43، ذيل الحديث 142.
3- تهذيب الأحكام ، ج 6، ص 237 ، ذيل الحديث 583.

------------------

أيديهم». ومن ثمّ خالف جماعة من المتقدمين(1) واعتبروا الترجيح بهما في جميع الأقسام وهو أنسب بحال الروايات التي بعضها مطلق في الترجيح بهما أو بأحدهما، وبعضها مصرّح بخلاف ما ادعاه المفصلون.

وأما ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط من الحكم بالقرعة مع شهادتهما لهما بالملك المطلق (2)، فتدل عليه صحيحة الحلبي، قال: سُئل أبو عبد الله (علیه السّلام) عن رجلين شهدا على أمر وجاء آخران فشهدا على غير ذلك، فاختلفوا، قال: «يقرع بينهم فأيهم قرع فعليه اليمين، وهو أولى بالحق»(3). فحَمَلها على ما إذا أطلقا؛ لدلالة ظاهر الشهادة عليه.

ويدلّ على ما ذكره من أنه مع شهادتهما بالملك المقيد يقسم بينهما، رواية غياث بن إبراهيم السابقة(4) ، وقول علي (علیه السّلام) : «لو لم يكن في يده جعلتها بينهما نصفين»(5) والحال أنهما شهدتا بالسبب، وهو النتاج.

ويدلّ على ترجيح ذات السبب مع الاختلاف قوتها، مضافاً إلى ما سبق من الأخبار الدالة على تقديم ذات السبب.

وبالجملة: فالحكم في هذين القسمين لا يخلو من إشكال؛ لاختلاف الأخبار على وجه يعسر الجمع بينها، وضعف ما ذكروه من طريق الجمع، وضعف سند أكثرها، وعدم عمل الأصحاب بما اعتبر إسناده مقتصرين عليه.

ولأجل ما ذكرناه اقتصر الشهيد في الدروس على مجرد نقل الأقوال(6) من غير ترجيح لأحدها .

ص: 260


1- كالصدوق في المقنع، ص 399 - 400؛ والمفيد في المقنعة، ص 730 - 731 .
2- المبسوط، ج 5، ص 626- 627 .
3- تهذيب الأحكام ، ج 1 ، ص 235، ح 577: الاستبصار، ج 3، ص 40 - 41، ح 137.
4- سبقت في ص 256.
5- تقدم تخريجه في ص 256، الهامش 4.
6- الدروس الشرعية، ج 2، ص 79 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

• ويتحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد والمرأتين. ولا يتحقق بين شاهدين وشاهد ويمين - وربما قال الشيخ نادراً : يتعارضان ويقرع بينهما - ولا بين شاهد وامرأتين وشاهد ويمين، بل يقضى بالشاهدين والشاهد والمرأتين، دون الشاهد واليمين.

------------------

قوله: ويتحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد والمرأتين» إلى آخره.

أما تحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد والمرأتين؛ فلأن كلا منهما حجة مستقلة يثبت بها المال.

وأما عدم معارضة الشاهد واليمين لهما؛ فلأنّ الشاهد لا يستقل بالحجة، واليمين معه وإن أوجبت ثبوت المال إلا أنه حجة ضعيفة، ومن ثمّ اختلف في ثبوته بها. وأيضاً فالذي يحلف مع شاهده يصدّق نفسه، والذي يقيم شاهدين يصدقه غيره، فهو أقوى جانباً وأبعد عن التهمة. وبهذا صرّح الشيخ في المبسوط في فصل الدعاوي والبينات(1)، وفي الخلاف أيضاً (2).

والقول النادر الذي نسبه المصنف (رحمه الله) إليه بالتعارض بينهما والقرعة ذكره في المبسوط في فصل الرجوع عن الشهادة (3).

ووجهه أن الشاهد واليمين حجة مستقلة في إثبات المال كالشاهدين، فتعارضا بهما كما يعارضهما الشاهد والمرأتان.

وإنما قال المصنف (رحمه الله) وربما قال الشيخ إلى آخره؛ لأن كلامه ليس صريحاً وقد اختلف العلماء في فهم عبارته، فالشيخ فخر الدين (رحمه الله) ذكر أنّه تردّد في ذلك (4)، ولم يرجح أحد القولين والشهيد في الدروس قال: إنه صرّح بالتعارض والقرعة(5) .

ص: 261


1- المبسوط ، ج 5، ص 628.
2- الخلاف، ج 6، ص 334 المسألة 5.
3- المبسوط، ج 5، ص 620.
4- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 409.
5- الدروس الشرعية، ج 2، ص 80 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

------------------

ولتنقل عبارة الشيخ في ذلك وننظر فيها؛ فإنّ كلا الفهمين محتمل منها، والأظهر منها هو التردّد الذي فهمه الشيخ فخر الدين.

وهذه عبارة الشيخ :

شهد شاهدان أنّه أوصى لزيدٍ بثلث ماله وشهد شاهد واحد أنّه أوصى بثلث ماله لعمرو، وقال عمرو أحلف مع شاهدي ليكون الثلث بيننا، فهل يزاحم الشاهدين شاهد ويمين أم لا؟ قال قوم: يحلف ويزاحم ويساويه؛ لأن الشاهد واليمين في الأموال بمنزلة الشاهدين، وقال آخرون لا يساويه؛ لأنّ الشاهد واليمين أضعف من شاهدين؛ لأنّ الشاهد وحده لا يقوم بنفسه حتى يضم إليه غيره، والشاهدان قائمان بأنفسهما، فلا يعارضهما. فمن قال: لا يعارضهما حكم بالثلث لزيد وحده ومن قال: يعارضهما حلف عمر ومع ،شاهده، وكان الثلث بينهما نصفين. و على مذهبنا يقرع بينهما (1).

هذه عبارته. فالشهيد (رحمه الله) فهم التصريح بالتعارض من قوله وعلى مذهبنا يقرع بينهما». والذي يظهر أنّ هذا ليس حكماً بالتعارض؛ لأن القولين اللذين حكاهما عن المخالفين - كما هي عادته - ومذهبهم أنّ الوصية المعينة - كالثلث مثلاً - لاثنين متعارضين يوجب قسمته بينهما على سبيل العول(2)، ومذهبنا أنّ الثاني يكون رجوعاً عن الأوّل إن علم الترتيب، وإن اشتبه أقرع وهذا المذكور على إطلاقه من مواضع الاشتباه. فلما ذكر حكم الوصية على القولين على مذهب المخالف - وكان مذهبنا يوافق القول الأوّل على تقدير تقديم الشاهدين - ذكر ما يوافق مذهبنا على تقدير التعارض؛ لئلا يتوهّم أنّ مذهبنا على تقديره يوجب اشتراكهما في الموصى به، وهذا

ص: 262


1- المبسوط، ج 5، ص 620.
2- انظر الحاوي الكبير، ج 8، ص 309؛ وروضة الطالبين، ج 5، ص 268.

• وكلّ موضع قضينا فيه بالقسمة فإنّما هو في موضع يمكن فرضها كالأموال، دون ما يمتنع، كما إذا تداعى رجلان زوجة.

------------------

ليس حكماً بترجيح القول بالتعارض، بل هو باق على تردّده؛ حيث اقتصر على مجرد نقلهما، وإنّما فرع ما يناسب القول الثاني من مذهبنا. فنقل الشيخ فخر الدين (رحمه الله) عنه التردّد أقعد.

وقول المصنف (رحمه الله) وربما قال الشيخ إلى آخره يدلّ على احتماله للأمرين. وكذلك فعل العلّامة في القواعد نقلاً عن الشيخ (1).

قوله: «وكلّ موضع قضينا فيه بالقسمة فإنّما هو في موضع يمكن فرضها» إلى آخره.

إذا تداعيا زوجةً ولم تترجّح بينة أحدهما ؛ لكونهما خارجين ونكلا عن اليمين، فإنّه لا يتصوّر القسمة هنا، كما يقسم بينهما المال لو كانت الدعوى مالاً، بل الطريق هنا الحكم لمن أخرجته القرعة؛ إذ لا سبيل إلى غيره.

ويؤيده مرسلة داود بن أبي يزيد العطار عن أبي عبد الله (علیه السّلام) في رجل كانت له امرأة ، فجاء رجل بشهود شهدوا أنّ هذه المرأة امرأة فلان، وجاء آخرون فشهدوا أنها امرأة فلان ، فاعتدل الشهود وعدلوا، قال: «يقرع بين الشهود، فمن خرج اسمه فهو المحق، وهو أولى بها»(2) .

وعلى هذا فلا فائدة في الإحلاف بعد القرعة؛ لأنّ فائدته القضاء للآخر مع نكوله، وهو منفي هنا. وفي الرواية دلالة على نفي اليمين هنا.

ولا فرق في ثبوت الشركة في المال على تقديره بين كونه قابلاً للقسمة وعدمه كالجوهرة، وإن كانت العبارة توهم اختصاص الحكم بما يقبل القسمة، لكنه تجوّز بها في إمكان الشركة، ولو عبر بها كان أولى.

ص: 263


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 488 .
2- الكافي، ج 7، ص 420، باب آخر منه، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 235، ح 579؛ الاستبصار، ج 3. ص 41. ح 139.

• والشهادة بقديم الملك أولى من الشهادة بالحادث، مثل أن تشهد إحداهما بالملك في الحال، والأخرى بقديمه، أو إحداهما بالقديم، والأخرى بالأقدم، فالترجيح لجانب الأقدم.

------------------

قوله: «والشهادة بقديم الملك أولى من الشهادة بالحادث - إلى قوله - أولى من الشهادة بالتصرف.

هنا مسائل :

الأولى: إذا تعارضت البيتتان في الملك ولكن اختصت إحداهما بزيادة التاريخ فالمشهور أنه مرجّح، كما لو شهدت بينة أحدهما أنه ملكه في الحال، والأخرى أنّه ملكه منذ سنة، أو شهدت بينة الأوّل أنه ملكه منذ سنة، وبيّنة الآخر أنه ملكه منذ سنتين.

ووجه تقديم متقدمة التاريخ أنّها تثبت الملك في وقت لا تعارضها البينة الأُخرى فيه، وفي وقت تعارضها الأخرى، فتتساقطان في محلّ التعارض، ويثبت موجبها(1) فيما قبل محلّ التعارض، والأصل في الثابت دوامه.

وفي المسألة وجه آخر بعدم الترجيح بذلك؛ لأن مناط الشهادة الملك في الحال، وقد استويا فيه فأشبه ما إذا كانتا مطلقتين أو مؤرّختين بتاريخ .واحد.

والمسألة مفروضة فيما إذا كان المدعى فى يد ثالث، فأما إذا كان في يد أحدهما وقامت بينتان مختلفتا التاريخ، فإن كانت بيّنة الداخل أسبق تاريخاً فهو المقدّم لا محالة. وإن كانت بينة الآخر أسبق تاريخاً، فإن لم نجعل سبق التاريخ مرجحاً فكذلك يقدم الداخل، وإن جعلناه مرجحاً ففي ترجيح أيهما وعدمه أوجه:

أحدها ترجيح اليد؛ لأنّ البينتين متساويتان في إثبات الملك في الحال، فتتساقطان فيه، ويبقى من أحد الطرفين اليد، ومن الآخر إثبات الملك السابق، واليد أقوى من الشهادة على الملك السابق؛ ولهذا لا تزال بها.

ص: 264


1- في بعض النسخ «موجبهما» بدل «موجبها».

وكذا الشهادة بالملك أولى من الشهادة باليد؛ لأنّها محتملة. وكذا الشهادة بسبب الملك أولى من الشهادة بالتصرّف.

------------------

والثاني: ترجيح السبق؛ لأنّ مع إحداهما ترجيحاً من جهة البينة، ومع الأخرى ترجيحاً من جهة اليد، والبينة تتقدم على اليد، فكذلك الترجيح من جهتها يتقدم على الترجيح من جهة اليد.

والثالث: أنهما يتساويان؛ لتعارض البينتين.

واعلم أنّ إطلاق عبارة المصنّف يقتضي عدم اشتراط إضافة البينة بالملك القديم التعرّض للملك في الحال. وهو أحد الوجهين في المسألة؛ لأنّ الملك إذا ثبت سابقاً فالأصل فيه الدوام والاستمرار، فلا يفتقر إلى التصريح باستمراره .

والثاني - وهو المشهور - أنّ الشهادة بالملك القديم لا تسمع حتى يقول: «وهو ملكه في الحال»، أو « لا أعلم له مزيلاً»، حتى لو قال: «لا أدرى زال أم لا»، لم يقبل؛ لأنّ ثبوت الملك سابقاً إن اقتضى بقاءه فيد المدعي عليه وتصرفه يدلّ على الانتقال إليه، فلا يحصل ظنّ الملك في الحال، ولأن دعوى الملك السابق لا تسمع، فكذلك البينة عليه.

وعلّلوا عدم قبول الشهادة مع قوله: «لا أدري زال أم لا، مع أن مؤداها قريب من قوله: «لا أعلم له مزيلاً»، بأن الأولى تقتضي تردّداً أو ريبة، فهي بعيدة عن أداء الشهادة.

وفيه نظر؛ لأنّ الجزم الواقع فى الشهادة بالصيغتين الأوّلتين إنما استند إلى استصحاب الملك، وظنّ الاستمرار مع عدم ظهور المنافي، وإلا فاليقين بالاستمرار لا يتفق؛ لأنّ الأسباب الموجبة لانتقال الملك عن المشهود له لا يمكن القطع بعدمها وإن صحبه الشاهد ليلاً ونهاراً؛ فإنّ منها ما يمكن وقوعه سراً بنفسه مع نفسه.

والاستناد إلى الاستصحاب وظنّ الاستمرار يتأدّى بقوله: «لا أدري زال أم لا ؟ كما يتأدى بقوله: «وهو ملكه في الحال»؛ لأنه إذا لم يدر هل زال أم لا؟ جاز له استصحاب البقاء، والحكم به في الحال.

ص: 265

------------------

وكون الصيغة بعيدة عن أداء الشهادة في حيّز المنع، ومن ثم ذهب بعضهم إلى عدم اشتراط الضميمة، مع أنّ الشهادة بالملك السابق لا تنافي العلم بتجدد انتقاله عنه، فمع إضافة ما ينافي العلم بالانتقال أولى.

والحق أن إطلاق الشهادة بالملك القديم لا تسمع ؛ لعدم التنافي بين كونه ملكاً له بالأمس مع تجدّد انتقاله عنه اليوم، وإن كان الشاهد يعلم بذلك؛ بل لا بد من إضافة ما يفيد عدم علمه بتجدد الانتقال، وذلك يتحقق بهذه الصيغ، وإن كان الاقتصار على ما لا يشمل على التردّد أولى.

الثانية: لو تعارضت البيّنة بالملك المطلق والبينة باليد فالترجيح لبينة الملك؛ لأنّ اليد وإن كانت ظاهرةً في الملك إلّا أنّها محتملة لغيره؛ لجواز استنادها إلى العارية والإجارة وغيرهما، بخلاف الملك؛ فإنّه صريح في المطلوب، فكانت الشهادة به مرجحة.

ولا فرق على هذا التقدير بين تقدم تاريخ شهادة اليد بأن شهدت أنّ يده على العين منذ سنة، وشهدت بينة الملك بتاريخ متأخر، أو بأنه ملكه في الحال - وتأخره؛ لاشتراك الجميع في المقتضي وهو احتمال اليد، بخلاف الملك. وفي هذه المسألة قول بتقديم اليد على الملك القديم وسيأتى الكلام فيه (1).

الثالثة: لو تعارضت البينة بسبب الملك والبيئة بالتصرف، بأن شهدت الأولى أن العين لفلان اشتراها من فلان وشهدت بيّنة الآخر أنها وجدته يتصرّف في العين تصرّف الملاك - من البناء والهدم والبيع والرهن ونحو ذلك - قدمت بينة الملك المتسبب؛ لأنّ التصرّف أعمّ من الملك المطلق؛ لجواز وقوعه من الوكيل وغيره، بخلاف الملك المتبين سببه؛ فإنه صريح في المطلوب.

ومقتضى هذا التعليل تقديم بيّنة الملك وإن لم يذكر سببه على بيّنة التصرف، كما رجحت على بينة اليد، وإن كان التصرف أقوى من مطلق اليد؛ لاشتراكهما في قيام الاحتمال دون الملك.

ص: 266


1- يأتي في ص 270 .
إذا ادعى شيئاً ، فقال المدعى عليه : هو لفلان

الثالثة: • إذا ادعى شيئاً ، فقال المدعى عليه : هو لفلان ، اندفعت عنه المخاصمة ، حاضراً كان المقرّ له أو غائباً . فإن قال المدعي : أحلفوه أنه لا يعلم أنّها لى توجهت اليمين ؛ لأنّ فائدتها الغرم لو امتنع لا القضاء بالعين لو نكل أو ردّ.

وقال الشيخ (رحمه الله): لا يحلف ولا يغرم لو نكل.

والأقرب أنّه يغرم؛ لأنّه حال بين المالك وماله بإقراره لغيره.

------------------

قوله: «إذا ادّعى شيئاً فقال المدعى عليه هو لفلان - إلى قوله - وألزم البيان».

إذا ادعى شيئاً على إنسان فقال المدعى عليه: «إنّه ليس لي»، فإما أن يقتصر عليه، أو يضيفه إلى مجهول، أو إلى معلوم.

فإن اقتصر عليه، أو أضافه إلى مجهول، بأن قال «هو لرجل لا أعرفه» أو «لا أُسمّيه». ففي انصراف الخصومة عنه وانتزاع المال من يده وجهان :

أصحهما - وهو الذي لم يذكر المصنّف غيره - أنّها لا تنصرف ولا ينتزع المال من يده؛ لأن الظاهر أنّ ما في يده ملكه، وما صدر عنه ليس بمزيل، ولم يظهر لغيره استحقاقاً. وعلى هذا، فإن أقرّ بعد ذلك لمعين قبل، وانصرفت الخصومة إلى ذلك المعين، وإلا فيقيم المدعي البينة عليه أو يحلفه.

والوجه الثاني: أنها تنصرف عنه بذلك؛ لأنه يبرأ من المدعي، وينتزع الحاكم المال من يده فإن أقام المدّعي بيّنةً على الاستحقاق فذاك، وإلا حفظه إلى أن يظهر مالكه.

وإن أضافه إلى معلوم فالمضاف إليه ضربان:

أحدهما: أن يمتنع مخاصمته وتحليفه، كما إذا قال: «هو وقف على الفقراء» أو «على مسجد كذا» أو «على ابني الطفل» أو «هو ملك له» فتنصرف الخصومة عنه، ولا سبيل إلى تحليف الولي ولا طفله، ولا تغني إلا البينة. وإذا قضى له الحاكم بالبينة، وكان الإقرار لطفل كتب الحاكم صورة الحال في السجل، ليكون الطفل على حجته إذا بلغ.

ص: 267

ولو أنكر المقرّ له حفظها الحاكم؛ لأنّها خرجت عن [ملك] المقرّ، ولم تدخل في ملك المقرّ له. ولو أقام المدعي بيّنةً قضي له.

أمّا لو أقرّ المدعى عليه بها لمجهول لم تندفع الخصومة، وألزم البيان.

------------------

والثاني: من لا يمتنع مخاصمته ولا تحليفه كما إذا أضافه إلى شخص معين - فهو إمّا حاضر، وإما غائب.

فإن كان حاضراً ،روجع، فإن صدق المدعى عليه انصرفت الخصومة إليه، وإن كذّبه فقيه أوجه:

أحدها - وهو الذي قطع به المصنف (رحمه الله) هنا - أنه ينتزع منه، ويحفظه الحاكم إلى أن يظهر مالكه؛ لخروجه عن ملك المقرّ بالإقرار وعدم ظهور مالكه بإنكار المقر له.

والثاني: أنه يترك في يد المدعى عليه؛ إذ لا منازع له، ولعله يرجع ويدعيه.

والثالث: أنه يسلّم للمدعى لخروجه عن ملك المقرّ، ولا منازع فيه للمدعي.

وإن أضاف إلى غائب انصرفت عنه الخصومة أيضاً؛ لأنّ المال بظاهر الإقرار قد صار الغيره ؛ ولهذا لو حضر الغائب وصدّقه أخذه، وإذا كان لغيره وجب انصراف الخصومة عنه. ولا فرق بين أن يطلق ذلك، وبين أن يقول: «وهو في يدى بإجارة أو إعارة أو وديعة أو غيرها».

ثم إن كان للمدعي بينة أقامها، وقضي على الغائب بشرطه. وإن لم يكن له بينة أقرّ في يد المدعى عليه.

وحيث تنصرف الخصومة عنه، وطلب المدعي إحلاقه أنّه لا يعلم أن العين له، ففي إجابته قولان مبنيان على أنه لو أقرّ له بعد ما أقرّ لغيره هل يغرم القيمة؟ فيه قولان(1) مذكوران في محله (2).

فإن قلنا: نعم - وهو الأظهر - فله إحلافه، فلعله يقرّ فيغرمه القيمة.

8 463.

ص: 268


1- القولان هما القول بالغرامة للشيخ في المبسوط، ج 2، ص 420؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 463 ،المسألة 64. ومن القائلين بعدم الغرامة الشيخ كما سيأتي عن قريب.
2- راجع ج 8، ص 612 .
إذا ادعى أنّه آجره الدابة وادعى آخر أنّه أودعه إياها

الرابعة: • إذا ادعى أنّه آجره الدابة وادعى آخر أنّه أودعه إياها تحقق التعارض مع قيام البينتين بالدعويين، وعمل بالقرعة مع تساوي البينتين في عدم الترجيح.

------------------

وإن قلنا: لا، وهو أحد قولي الشيخ (رحمه الله)(1) ، فإن قلنا: النكول وردّ اليمين كالإقرار لم يحلفه؛ لأنه وإن أقرّ أو نكل وحلف المدعي لا يستفيد شيئاً. وإن قلنا: كالبينة فله التحليف؛ لأنه قد ينكل فيحلف المدعي، فإذا حلف وكانت العين تالفة أخذ القيمة.

وحيث قلنا بوجوب القيمة - فأخذها بإقرار المدعى عليه ثانياً أو بيمين المدعي بعد نكوله، ثمّ سلّمت له العين بالبينة أو بيمينه بعد نكول المقرّ له - فعليه ردّ القيمة؛ لأنّه إنّما أخذ القيمة للحيلولة وقد زالت.

فروع :

الأوّل: لو رجع الغائب وكذب المدعى عليه فالحكم كما ذكرناه فيما إذا أضاف إلى حاضر وكذبه.

الثاني : لو أقام المقرّ له الحاضر أو الغائب بعد رجوعه البينة على الملك؛ لم يكن للمدعي تحليف المقرّ ليغرمه وإن قلنا به في الأول؛ لأنّ الملك استقرّ بالبينة، وخرج الإقرار عن أن تكون الحيلولة به.

الثالث: لو قال المدعي: «هذه الدار وقف عليّ وقال من هي في يده: «هي ملك لفلان» وصدقه فلان وانتقلت الخصومة إليه، فإن قلنا بعدم إحلاف المقرّ ليغرمه القيمة فهنا أولى، وإن قلنا به ففي إحلافه هنا وجهان، من حيث إن المدعى قد اعترف هنا بالوقف والوقف لا يعتاض عنه، ومن أنه مضمون بالقيمة عند الإتلاف والحيلولة في الحال كالإتلاف وهذا أقوى.

قوله: «إذا ادعى أنه أجره الدابة، وادّعى آخر أنّه أودعه إياها» إلى آخره.

المراد أنّ الدابة في يد المدعى عليه والمدعيان خارجان، فادعى أحدهما أنّه

ص: 269


1- المبسوط، ج 5، ص 635.
لو ادعى داراً في يد إنسان، وأقام بيّنةً أنها كانت في يده أمس

الخامسة: • لو ادعى داراً في يد إنسان، وأقام بيّنةً أنها كانت في يده أمس أو منذ شهر، قيل: لا تُسمع هذه البينة.

وكذا لو شهدت له بالملك أمس؛ لأنّ ظاهر اليد الآن الملك، فلا يدفع بالمحتمل. وفيه إشكال، ولعلّ الأقرب القبول.

------------------

آجرها من صاحب اليد، وادعى الآخر أنّه أودعه إياها، فإن لم يقيما بيّنةً يحكم بها لمن يصدقه المتشبث، وإن أقام كلّ منهما بيّنةً بدعواه تحقق التعارض مع الإطلاق أو اتحاد التاريخين. وحينئذ فيرجع إلى الترجيح في إحدى البينتين بالعدالة أو العدد، فإن انتفى فالقرعة.

ولو تقدّم تاريخ إحداهما بني على الترجيح به وعدمه.

وقد تقدم نظيره في الملك(1) ، وسيأتي مثله في اليد(2)، وقد كان ذكر هذه المسألة في المقصد الثاني أولى؛ لأنّ الاختلاف فيها اختلاف في العقود.

قوله: «لو ادعى داراً في يد إنسان - إلى قوله - وسبب يد الثاني».

إذا كان في يد أحد دار وادّعاها غيره، وأقام بينةً على أنها كانت في يده وملكه بالأمس أو منذ شهر مثلاً، فقد تعارض هنا اليد الحالية والقديمة أو الملك القديم. وفي تقديم أيهما قولان للشيخ في كلّ واحد من المبسوط والخلاف(3).

أحدهما: أنّ القديمة منهما لا تسمع أصلاً، ويقضى باليد الحالية؛ لأن اليد ظاهرها الآن الملك فلا يدفعها أمر محتمل؛ إذ يحتمل أن يكون مع الأول بعارية ونحوها في صورة دعوى اليد، وثبوت مطلق اليد لا يستلزم ثبوت اليد الخاصة المفيدة للملك، ويحتمل في صورة دعوى الملك أن ينتقل بعد الأمس إلى غيره، فكل واحد من الأمرين غير متحقق الملكية الآن.

ص: 270


1- تقدّم في ص 253.
2- يأتي في ص 272.
3- المبسوط ، ج 5، ص 638 - 639 و 669 - 670 ؛ الخلاف، ج 1، ص 339 المسألة 11، وص 345، المسألة 19.

أما لو شهدت بينة المدعى أن صاحب اليد غصبها أو استأجرها منه، حكم بها؛ لأنّها شهدت بالملك وسبب يد يد الثاني .

------------------

واحتج في المبسوط أيضاً بعدم المطابقة بين الدعوى والشهادة؛ إذ الدعوى بالملك الحالي والشهادة بالملك القديم(1) .

ولو قيل: إن ثبوته في الماضي يوجب استصحابه إلى الآن منع بأنّ اليد الحاضرة الظاهرة في الملك معارضة له فلم يتم استدامته، خصوصاً اليد الماضية؛ لانقطاعها رأساً.

والثاني . وهو الذي اختاره المصنف (رحمه الله) - القبول؛ لأن اليد الحاضرة إن كانت دليل الملك فالسابقة المستصحبة أو الملك الفعلي المستصحب أولى؛ لمشاركتهما لها في الدلالة على الملك الآن وانفرادهما بالزمن السابق، فيكونان أرجح والحكم باستصحابها أوجب المطابقة بين الدعوى والشهادة. وقد تقدم البحث فيه (2).

والفرق بين هذه والسابقة الموجب لإعادة البحث أنّ المعارضة في هذه بين اليد المتحققة واليد السابقة الثابتة بالبينة أو الملك السابق كذلك، والسابقة وقع فيها التعارض بين البينتين الدالة إحداهما على اليد في الحال مع عدم ظهورها، والأُخرى على الملك السابق، فلا تعرّض فيها للمعارضة بين اليد السابقة والحالية.

وقد تأكد من إطلاقه الحكم هنا - وفي السابقة بتقديم الملك القديم، بغير تقييد له بكونه إلى الآن أو عدم علم المزيل - أنّ إضافة ذلك غير شرط. والأصح اشتراط إضافة ما يعلم منه أنّ الشاهد لم يتجدد عنده علم الانتقال؛ لما بيّناه من عدم المنافاة بين علمه بالملك السابق و شهادته به مع انتقاله عن المالك الآن.

واعلم أنّ موضع الخلاف في تقديم بينة الملك واليد السابقين على اليد الحالية ما إذا لم تشهد بينة السابق بفساد اليد الحالية، بأن قالت: «إنّه غصبها من ذي الملك» أو «اليد

ص: 271


1- لم نجد هذا الاحتجاج في المبسوط، بل ذكره في الخلاف، ج 1، ص 339 - 340، ذيل المسألة 11.
2- تقدّم في ص 264 .

ولو قال: «غصبني إيَّاها»، وقال آخر: «بل أقرّ لي بها»، وأقاما البيئة قضي للمغصوب [منه] ولم يضمن المقرّ ؛ لأنّ الحيلولة لم تحصل بإقراره، بل بالبينة.

المقصد الثاني في الاختلاف في العقود

إذا اتفقا على استئجار دار معينة شهراً معيناً، واختلفا في الأجرة

• إذا اتفقا على استئجار دار معينة شهراً معيناً، واختلفا في الأجرة، وأقام كلّ منهما بينةً بما قدره، فإن تقدّم تاريخ أحدهما عمل به؛ لأنّ الثاني يكون باطلاً.

------------------

القديمين» أو «بعدم استحقاقها للملك بأن شهدت أنّها في يد الثاني بالإجارة من الأوّل أو العارية، وإلا قدّمت السابقة بغير إشكال؛ لعدم التعارض على هذا الوجه.

قوله: «ولو قال: غصبني إياها، وقال آخر : بل أقرّ لي بها إلى آخره.

إنّما قدّمت بيّنة المغصوب [منه] ؛ لأنّها تشهد له بالملك وبسبب يد المتشبّث، وأنّها عادية في مجموع وقتها، فيكون إقراره للغير بها في زمن اليد إقراراً بعين مغصوبة، فلا ينفذ إقراره، ولا يغرم المدعى عليه للمقرّ له؛ لأنّه لم يحل بينه وبين ملكه، إنّما الحائل البينة.

قوله: «إذا اتفقا على استئجار دار معينة شهراً معيناً - إلى قوله - وفي القولين تردّد».

إذا اتفق المؤجر والمستأجر على استئجار الدار المعيّنة - مثلاً - وعلى مدة الإجارة واختلفا في قدر الأجرة، فادعى المؤجر أنّها عشرة دنانير مثلاً، وادعى المستأجر أنها خمسة، فلا يخلو إما أن لا يقيم كلّ واحد بينةً على مدعاه، أو يقيماها، أو يقيمها أحدهما خاصةً.

والمصنف (رحمه الله) اقتصر على حكم الوسطى، وهو مترتب على حكم الأولى كما ستعرفه(1) ، فاحتيج إلى البحث عنهما هنا. وأما الأخيرة فحكمها واضح؛ لأنّ من أقام البينة حكم له دون الآخر.

فهنا مسألتان:

الأولى: أن يعدما البينة. والمشهور بين الأصحاب تقديم قول المستأجر مع يمينه، لأنه

ص: 272


1- يأتي بعيد هذا.

وإن كان التاريخ واحداً تحقق التعارض؛ إذ لا يمكن في الوقت الواحد وقوع عقدين متنافيين. وحينئذ يقرع بينهما، ويحكم لمن خرج اسمه مع يمينه هذا اختيار شيخنا في المبسوط.

وقال آخر: يقضى ببينة المؤجر؛ لأنّ القول قول المستأجر لو لم تكن بينةً؛ إذ هو يخالف على ما في ذمّة المستأجر ، فيكون القول قوله، ومن كان القول قوله مع عدم البينة كانت البيّنة في طرف المدعي. وحينئذٍ نقول: هو مدع زيادة، وقد أقام البينة بها، فيجب أن تثبت.

وفي القولين تردّد.

------------------

منكر للزائد الذي يدعيه المؤجر، مع اتفاقهما على ثبوت ما يدعيه المستأجر، فيكون الأمر بمنزلة ما لو ادعى عليه عشرة دنانير مطلقاً فأقر له منها بخمسة؛ فإنّ القول قوله في نفي الزائد بغير إشكال؛ لأنه منكر له والمؤجر مدع، فيدخلان في عموم الخبر (1).

وللشيخ (رحمه الله) في المبسوط قول بالتحالف وثبوت أجرة المثل (2). ووافقه بعض المتأخرين (3)؛ نظراً إلى أن كلا منهما مدع ومدعى عليه؛ لأنّ العقد المتشخص بالعشرة غير العقد المشتمل على الخمسة خاصةً، فيكون كلّ واحدٍ منهما مدعياً لعقد غير العقد الذي يدعيه الآخر، وهذا يوجب التحالف حيث لم يتفقا على شيء ويختلفان فيما زاد عنه.

ويضعف بأن العقد لا نزاع بينهما فيه، ولا في استحقاق العين المؤجرة للمستأجر، ولا في استحقاق المقدار الذي يعترف به المستأجر ، وإنّما النزاع في القدر الزائد، فيرجع فيه إلى عموم الخبر(4) ؛ ولو كان ما ذكروه من التوجيه موجباً للتحالف لورد في كلّ نزاع على حق

ص: 273


1- راجع الكافي، ج 7، ص 361 ، باب القسامة ، ح 4، وص 415، باب أنّ البيئة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ح 1 - 2: والفقيه، ج 3، ص 32، ح 3270؛ وتهذيب الأحكام، ج 1، ص 229، ح 553 و 554.
2- المبسوط ، ج 3، ص 76 - 77 .
3- كالعلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 113، المسألة 10.
4- تقدم تخريجه قبيل هذا.

------------------

مختلف المقدار كما لو قال: «أقرضتك عشرة»، فقال: «بل خمسة»، فإنّ عقد القرض المتضمّن لأحد المقدارين غير العقد المتضمّن للآخر. وكما لو قال: «أبرأتني من عشرة من جملة الدين الذي عليّ»، فقال: «بل من خمسة»؛ فإنّ الصيغة المشتملة على إسقاط أحدهما غير الأخرى. وهكذا القول في غيره وهذا مما لا يقول به أحد .

والحق أنّ التحالف إنّما يرد حيث لا يتفق الخصمان على قدر ويختلفان في الزائد عنه، كما لو قال المؤجر: «آجرتك الدار شهراً بدينار»، فقال: «بل بثوب»، أو قال: «آجرتك هذه الدار بعشرة»، فقال: «بل تلك الدار»، ونحو ذلك. أما في المتنازع فالقول المشهور من تقديم قول المستأجر هو الأصح.

وللشيخ في موضع من الخلاف قول آخر بالقرعة(1) ؛ لأنّه أمر مشكل وكلّ أمر مشكل فيه القرعة (2). والمقدّمة الثانية مسلّمة دون الأولى؛ لأنّه لا إشكال مع دخوله في عموم: «اليمين على من أنكر»(3).

ولا فرق بين وقوع النزاع قبل مضي المدة المشترطة وبعدها؛ لاشتراك الجميع في المقتضي.

وفرّق في موضع من المبسوط بين وقوع النزاع قبل انقضاء المدة وبعده، وحكم بالتحالف في الأوّل، وتردّد في الثاني بين القرعة وبين تقديم قول المستأجر، لجريانه مجرى الاختلاف في ثمن المبيع إذا كان بعد تلفه (4).

الثانية: أن يقيما معاً البينة. فإن تقدم تاريخ إحداهما على الأخرى عمل بالمتقدم وبطل

ص: 274


1- الخلاف، ج 3، ص 521 ، المسألة 10 .
2- ورد النصّ هكذا: «كلّ مجهول ففيه القرعة» أو «كلّ أمر مجهول أو مشكوك فيه يستعمل فيه القرعة». راجع الفقيه، ج 3، ص 92 ، ح 3392؛ وتهذيب الأحكام، ج 1، ص 240، ح 593؛ وج 9، ص 258، ح 970 .
3- تقدم تخريجه في ص 148 الهامش 2.
4- المبسوط ، ج 3، ص 76-77 .

. ولو ادعى استئجار ،دار فقال المؤجر بل آجرتك بيتاً منها»، قال الشيخ يقرع بينهما. وقيل: القول قول المؤجر. والأوّل أشبه؛ لأنّ كلّاً منهما مدّع.

ولو أقام كلّ منهما بيّنةً تحقق التعارض مع اتفاق التاريخ. ومع التفاوت يحكم للأقدم لكن إن كان الأقدم بيّنة البيت حكم بإجارة البيت بأجرته وبإجارة بقيّة الدار بالنسبة من الأُجرة.

------------------

المتأخّر ؛ لأنّه يكون عقداً على معقود عليه من المتعاقدين كما كان، وهو باطل.

وإن اتحد التاريخان أو كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة والأُخرى مؤرّخة، فإن قلنا بتقديم قول المستأجر مع عدم البينة فالبينة بينة المؤجر هنا؛ لأنّ البينة من طرف من لم يكن القول قوله، كما قد علم مراراً. وهذا هو الذي اختاره ابن إدريس (1) وأكثر المتأخرين.

وإن قلنا بالتحالف في الأوّل أو بالقرعة اتجه القول بالقرعة هنا. وهو الذي اختاره الشيخ (رحمه الله) في المبسوط (2)؛ لأنّها لكلّ أمرٍ مشكل، ولأنهما دعويان، فلا ترجيح لإحداهما على الأخرى. وحينئذ فيحلف من أخرجته القرعة ويثبت مدعاه.

والمصنف (رحمه الله) تردّد في القولين. وقد ظهر من توجيه القولين منشأ التردد. والأصح هو الأول.

قوله: «ولو ادعى استئجار دار فقال المؤجر بل أجرتك بيتاً منها، قال الشيخ: يقرع بينهما» إلى آخره.

البحث في هذه الصورة قريب من السابقة؛ لأن الاتفاق هنا واقع على أصل الإجارة وعلى المدة ومقدار الأجرة، وإنما الاختلاف في مقدار العين المؤجرة، مع اتفاقهما أيضاً على إيجار البيت واختلافهما في الزائد، فقيل: القول قول المؤجر ؛ لأنه ينكر الزائد (3)، كما أنّ

ص: 275


1- راجع السرائر، ج 2، ص 464، فقد أطلق القول بأنّ على المؤجر البينة فيما إذا اختلفا في قدر الأجرة.
2- المبسوط ، ج 5، ص 633.
3- قال به ابن إدريس الحلي في السرائر، ج 2، ص 477 .
لو ادّعى كلّ منهما أنه اشترى داراً معينةً وأقبض الثمن

• ولو ادّعى كلّ منهما أنه اشترى داراً معينةً وأقبض الثمن، وهي في يد البائع قضي بالقرعة مع تساوي البينتين عدالة وعدداً وتاريخاً، وحكم لمن يخرج اسمه مع يمينه. ولا يقبل قول البائع لأحدهما، ويلزمه إعادة الثمن على الآخر؛ لأن قبض الثمنين ممكن، فتزدحم البينتان فيه.

------------------

القول في السابقة قول المستأجر لذلك. وقال الشيخ: يقرع بينهما(1) ؛ لما ذكر في السابقة.

هذا إذا لم يقيما بيّنةً. فلو أقاماها واتفق التاريخ، أو أطلقتا، أو إحداهما تحقق التعارض ورجع إلى القرعة مع انتفاء المرجّح. والمصنف (رحمه الله) هنا رجّح القرعة، وتردّد في السابقة. والفرق بينهما بعيد.

ولو اختلف تاريخ البينتين، فإن كان المتقدم تاريخ الدار بأسرها بطلت إجارة البيت؛ لسبق إيجاره للمستأجر.

وإن كان المتقدم تاريخ بينة البيت حكم به بالأجرة المسماة، وبطل من إجارة الدار ما قابله، وصح في الباقي. فلو كان البيت يساوي نصف أجرة الدار صح في باقيها بنصف الأجرة، فيجتمع على المستأجر مجموع الأجرة للبيت ونصفها لبقية الدار. فلو كان الاتفاق على أنّ الأُجرة عشرة، لكن ادعى المستأجر أنّها أُجرة الجميع، وادعى المؤجر أنّها أُجرة البيت، وكان المتقدّم تاريخ بينة البيت، ثبت على المستأجر خمسة عشر في مقابلة المجموع، عشرة أجرة البيت ببينة المؤجر، وخمسة في مقابلة باقي الدار ببيتنته .

قوله: «ولو ادعى كلّ منهما أنه اشترى داراً معينة - إلى قوله - أقربه اللزوم».

إذا ادعى كلّ منهما شراء العين من ذي اليد وإيفاء الثمن، فإن انتفت البينة رجع إلى المالك، فإن كذبهما حلف لهما واندفعا عنه. وإن صدّق أحدهما دفع إليه المبيع، وحلف للآخر، وله إحلاف الأوّل أيضاً. وإن صدق كلّ واحدٍ منهما في النصف حكم لكل منهما بما أقر به وبقي النزاع في الباقي لكلّ منهما، فيحلف لهما كالسابق.

ص: 276


1- المبسوط ، ج 5، ص 633.

ولو نكلا عن اليمين قسمت بينهما، ويرجع كلّ منهما بنصف الثمن.

وهل لهما أن يفسخا ؟ الأقرب نعم؛ لتبعض المبيع قبل قبضه. ولو فسخ أحدهما كان للآخر أخذ الجميع؛ لعدم المزاحم. وفي لزوم ذلك له تردّد أقربه اللزوم.

------------------

وإن أقاما بينةٌ - فهي مسألة الكتاب - فإن تقدّم تاريخ إحداهما حكم له، وكان البيع الثاني باطلاً؛ لأن البائع باع ما لا يملكه، ويرد الثمن؛ إذ لا تعارض هنا.

وإن اتفقتا أو كانتا مطلقتين، أو إحداهما مطلقة رجع إلى الترجيح بالعدالة أو العدد. فإن انتفى أقرع بينهما، وحكم لمن أخرجته القرعة بعد يمينه للآخر، فإن نكل الخارج بالقرعة أحلف الآخر. فإن نكلا قسمت العين بينهما، ورجع كلّ منهما بنصف الثمن.

وهل لهما الفسخ لتبعض الصفقة ؟ وجهان أصحهما ذلك؛ لوجود المقتضي للفسخ. ووجه العدم أن التبعض جاء من قبلهما؛ فإنّ الخارج بالقرعة لو حلف لأخذ الجميع، فكأنّ التبعض جاء من قبله، كما لو أن الآخر لو حلف بعد نكول الأول لأخذ الجميع فلا خيار لهما.

ولو فسخ أحدهما أخذ الآخر الجميع؛ لعدم المزاحم. وهل يلزمه أخذ الجميع؟ وجهان، أصحهما ذلك؛ لوجود المقتضي، وهو قيام بيّنته بشرائه، وانتفاء المانع؛ إذ ليس هناك مانع من أخذه الجميع إلا دعوى الغريم الآخر، وقد انتفت بتركه الأخذ، ولأن المقتضي للخيار تبعيض الصفقة، وقد انتفى .

ووجه عدم اللزوم أنّه قد ثبت له الفسخ ابتداء، والأصل البقاء. ويضعف بأنه كان مانعاً، وقد زال موجبه

هذا كله إذا كانت العين في يد البائع. ولو كانت في يد أحدهما بني على تقديم بينة الداخل أو الخارج مع تسبب البينتين. وقد تقدم(1) .

ص: 277


1- تقدم في ص 257.
لو ادعى اثنان أنّ ثالثاً اشترى من كلّ منهما هذا المبيع

• ولو ادعى اثنان أنّ ثالثاً اشترى من كلّ منهما هذا المبيع، وأقام كلّ منهما بينةً، فإن اعترف لأحدهما قضي له عليه بالثمن. وكذا إن اعترف لهما قضي عليه بالثمنين.

ولو أنكر وكان التاريخ مختلفاً أو مطلقاً قضي بالثمنين جميعاً؛ لمكان الاحتمال .

ولو كان التاريخ واحداً تحقق التعارض؛ إذ لا يكون الملك الواحد في الوقت الواحد ،لاثنين ولا يمكن إيقاع عقدين في الزمان الواحد. ويقرع بينهما، فمن خرج اسمه أحلف وقضي له. ولو امتنعا من اليمين قسم الثمن بينهما.

------------------

قوله: «ولو ادعى اثنان أنّ ثالثاً اشترى من كلّ منهما هذا المبيع، وأقام كلّ منهما بيّنةً، فإن اعترف لأحدهما قضي له عليه بالثمن» إلى آخره.

هذه المسألة عكس السابقة، فإنه هناك ادعى اثنان شراء ما في يده منه، وكلّ يطالب بالمبيع، وهاهنا ادعى اثنان بيع ما في يده منه، وكلّ يطالبه بالثمن. فإن أقر لهما طولب بالثمنين؛ لإمكان صدقهما، فيؤاخذ بإقراره. وإن أقرّ لأحدهما طولب بالثمن الذي سماه. وحلف للآخر. وإن أنكر ما ادعياه ولا بينة حلف لهما يمينين. وإن أقام أحدهما البينة قضي له، وحلف للآخر.

وإن أقام كلّ منهما بيّنةً، نظر إن أرختا بتاريخين مختلفين فعليه الثمنان؛ لإمكان اجتماعهما.

وإن أُرّختا بتاريخ واحد، بأن عيننا أول يوم معين أو زواله، فهما متعارضتان؛ لامتناع كون الشيء الواحد ملكاً في وقت واحد لهذا وحده ولهذا وحده. وحينئذ فيرجع إلى المرجح، فإن انتفى أقرع بينهما، ومن أخرجته القرعة قضي له بالثمن الذي شهد به شهوده بعد حلفه للآخر؛ لأنه لو اعترف له بعد ذلك لزمه. فإن امتنع من اليمين أحلف الآخر وأخذ. فإن امتنعا قسم الثمن بينهما إن كان متفق الجنس والوصف، وإن كان مختلفاً فلكلّ واحدٍ نصف ما ادعاه من الثمن.

ص: 278

لو ادعى شراء المبيع من زيد وقبض الثمن، وادعى آخر شراءه من عمرو

• ولو ادعى شراء المبيع من زيد وقبض الثمن، وادعى آخر شراءه من عمرو وقبض الثمن أيضاً، وأقاما بيّنتين متساويتين في العدالة والعدد والتاريخ فالتعارض متحقق، فحينئذٍ يقضى بالقرعة، ويحلف من خرج اسمه ويقضى له. ولو نكلا عن اليمين قسم المبيع بينهما، ورجع كل منهما على بائعه بنصف الثمن ولهما الفسخ والرجوع بالثمنين.

ولو فسخ أحدهما جاز، ولم يكن للآخر أخذ الجميع؛ لأن النصف الآخر لم يرجع إلى بائعه.

------------------

وإن كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة فالوجه أنّهما كالمؤرّختين بتاريخين مختلفين، فيلزمه الثمنان؛ لأن التنافي غير معلوم، والعمل بكل واحدةٍ من البينتين ممكن.

ويحتمل كونهما حينئذٍ كالمؤرّختين بتاريخ واحد؛ لأنّهما ربما شهدتا على البيع في وقت واحد، والأصل براءة ذمة المشتري، فلا يؤاخذ إلا باليقين.

قوله: «ولو ادعى شراء المبيع من زيد وقبض الثمن» إلى آخره.

هذه المسألة مركبة من السابقتين؛ فإنّ كلّاً من البائع والمشتري هنا مغاير للآخر.

والمراد أن العين خارجة عن يد المتداعيين، فيحكم بترجيح إحدى البينتين ثم بالقرعة. كانت في يد أحدهما بني على تقديم بينة الداخل أو الخارج. ولو كانت في يدهما قسمت بينهما بعد التحالف أو النكول كما سبق(1).

والتفريع في هذه المسألة كما سبق، إلا أنه على تقدير القسمة بنكولهما لو اختار أحدهما فسخ العقد والآخر إجازته لم يكن للمجيز أخذ النصف الآخر، سواء تقدم الفسخ أم تقدمت الإجازة؛ لأنّ دعوى الشراء من شخصين، فالمردود يعود إلى غير من يدعي المجيز الشراء منه فكيف يأخذه ؟!

ص: 279


1- سبق في ص 276 - 277.

------------------

وحيث قلنا بثبوت الخيار على تقدير القسمة فذلك إذا لم يتعرّض البينة لقبض المبيع ولا اعترف به المدّعي، وإلا فإذا جرى القبض استقرّ العقد، وما يحدث بعده فليس على البائع عهدته.

واشترط بعضهم زيادة على ما ذكره المصنف أن يقول كل واحد من المتداعيين في المسألة المفروضة: «إنّي اشتريته من فلان وهو يملكه»(1) ؛ لأنّ من ادعى مالاً في يد إنسان وقال «اشتريته من فلان» لم تسمع دعواه حتى يقول «وهو يملكه»، ويقوم مقامه أن يقول وتسلّمته منه» أو «سلّمه إليّ؛ لأن الظاهر أنّه إنّما يتصرّف بالتسليم فيما يملك. وفي دعوى الشراء من صاحب اليد لا يحتاج أن يقول «وأنت تملكه»، ويكتفى بأن اليد تدلّ على الملكيّة. وكذلك يشترط أن يقول الشاهد في الشهادة اشتراه من فلان وهو يملكه»، أو «اشتراه وتسلّمه منه أو سلّمه هو إليه».

وهذا القيد حسن. وسيأتي اختيار المصنف (رحمه الله) إيَّاه (2)، وكأنه تركه هنا اتكالاً عليه. وفرعوا عليه أنه يجوز أن يقيم شاهدين على أنه اشترى من فلان، وآخرين على أنّ فلاناً كان يملكه إلى أن باع منه؛ لحصول المطلوب من جملة الشهود. ولكن الأخيرين إن شهدا هكذا فقد شهدا على البيع والملك أيضاً. وكأن المراد ما إذا أقام شهوداً على أنه اشترى منه وقت كذا وآخرين على أنّه كان يملك ذلك إلى وقت كذا.

ولو أقام أحد المدعيين بيّنةً أنه اشترى الدار من فلان وكان يملكها، وأقام الآخر البينة على أنه اشتراها من مقيم البيئة الأولى، حكم ببيئة الثاني وإن لم يقل لمقيم البينة: وأنت تملكها، كما لا يحتاج أن يقوله لصاحب اليد؛ لأن البينة تدلّ على الملك، كما أن اليد تدلّ عليه.

ص: 280


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 478؛ تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 201، الرقم 6557.
2- يأتي ص 284.
لو ادّعى عبد أنّ مولاه أعتقه، وادعى آخر أن مولاه باعه منه

• ولو ادّعى عبد أنّ مولاه أعتقه، وادعى آخر أن مولاه باعه منه، وأقاما البينة قضى لأسبق البينتين تاريخاً، فإن اتفقتا قضي بالقرعة مع اليمين.

ولو امتنعا من اليمين قيل يكون نصفه حرّاً ونصفه رقاً لمدعي الابتياع ويرجع بنصف الثمن.

ولو فسخ عتق كلّه . وهل يقوم على بائعه ؟ الأقرب نعم ؛ لشهادة البيّنة بمباشرة عتقه.

------------------

قوله: «ولو ادعى عبد أن مولاه أعتقه» إلى آخره.

إذا ادعى عبد أن مولاه أعتقه، وادعى آخر أنه باعه منه بكذا، وأنكر صاحب اليد ما ادعيا به فإما أن يكون هناك بيّنة أو لا. فإن لم تكن فإما أن يكون العبد في يد المالك المدعى عليه البيع والعتق أولا.

فإن كان في يده ولا بينة، وأنكر دعواهما حلف لهما يمينين.

وإن أقرّ بالعتق ثبت ولم يكن للمشتري تحليفه إن قلنا إن إتلاف البائع كالآفة السماوية؛ لأنه بالإقرار بالعتق متلف قبل القبض، فينفسخ البيع. نعم، لو ادعى تسليم الثمن حلف له.

وإن أقرّ بالبيع قُضي به، ولم يكن للعبد تحليفه؛ لأنه لو أقر بعد ذلك بالعتق لم يقبل. ولم يلزمه غرم، فلا وجه للإحلاف.

قيل: وليس معنا موضع يقرّ لأحد المدّعيين(1) ولا يحلف للآخر قولاً واحداً إلا هذا(2).

وإن كان فى يد المشترى قدم قوله.

ولو كان هناك بينةً، فإن اختصت بأحدهما عمل بها، وإن كانت لهما، فإن تقدم تاريخ إحداهما عمل بها؛ لأنّ الثاني يكون باطلاً.

ص: 281


1- في «ض»: «المتداعيين» بدل «المدّعيين».
2- انظر إيضاح الفوائد، ج 4، ص 392.

------------------

وإن اتحد التاريخان ، أو كانتا مطلقتين ، أو إحداهما مطلقة والأُخرى مؤرّخة ، قال الشيخ : قدمت بينة المشتري إن كان في يده؛ لاجتماع البينة واليد(1). وهو مبني على أصله من تقديم بيّنة ذي اليد عند التعارض .

وإن كان في يد المالك الأوّل، أو لم يكن في يد أحدهما تعارضتا، فيطلب الترجيح، ومع انتفائه يقضى بالقرعة مع يمين الخارج بها . والشيخ(رحمه الله) حكم باليمين احتياطاً (2) . والأقوى اللزوم كغيره . فإن امتنع من اليمين حلف الآخر. فإن امتنعا قسم بينهما على القاعدة السابقة (3)، وحكم برق نصفه وحرية نصفه . هكذا أطلقه الشيخ (4)؛ والجماعة (5)من غير تردّد. ولكن المصنّف (رحمه الله) نسبه إلى القيل ، مؤذناً برده . والمختار المشهور.

قال الشيخ (رحمه الله): وللمشتري حينئذ الخيار؛ لتبعض الصفقة (6). وردّ بأن التبعض جاء من قبله حيث توجهت عليه اليمين فلم يحلف .

وعلى ما اختاره الشيخ لو فسخ عتق النصف الآخر ؛ لأنّ البيّنة قامت على أنّه أعتق الجميع ، وإنّما لم يحكم بموجبها لمزاحمة مدّعي الشراء، فإذا انقطعت زحمته حکم به .

وفيه وجه آخر أنّه لا يعتق؛ لأن قضيّة القسمة اقتصار العتق على النصف. وإن أجاز مدعي الشراء استقر ملكه على النصف، وعليه نصف الثمن.

ص: 282


1- المبسوط ، ج 5، ص 655.
2- المبسوط ، ج 5، ص 657.
3- سبقت في ص 279 .
4- المبسوط ، ج 5، ص 657.
5- منهم العلامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 202 - 203، الرقم 6559؛ وولده فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 392؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 84 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
6- المبسوط ، ج 5، ص 657.

------------------

ثمّ إن كان المدعى عليه معسراً لم يسر العتق إليه. وإن كان موسراً فوجهان:

أحدهما أنّ الأمر كذلك لأنه عتق محكوم به قهراً، كما إذا ورث بعض قريبه، فإنه يعتق عليه ولا يسري.

والثاني : أنه يسري؛ لقيام البينة على أنّه أعتق باختياره. وهذا هو الذي اختاره المصنّف وجماعة(1) .

واعترض الشهيد (رحمه الله) على ذلك بأن:

الواقع في نفس الأمر إما العتق أو الشراء أو ليس أحدهما، وأيما كان امتنع معه التقويم على المالك والسراية. أما على تقدير العتق؛ فلأنه يكون للمجموع، ومع عتق المجموع لا بعض موجود حتى يقوم. وأما على تقدير الشراء؛ فلأنه أيضاً للجميع، فلا سبب للتقويم؛ إذ السبب عتق البعض وهو منتف. ومنهما يظهر انتفاؤه على تقدير انتفائهما (2).

وهذا إيراد موجّه، إلا أنّه يمكن أن يقال - على تقدير عتقه للجميع الذي قد قامت به البينة - : يجب أن لا يؤخذ من المشتري عوض النصف الذي ثبت له، وقد حكم عليه بنصف الثمن، وهو قيمة النصف غالباً، فيجب تقويمه على المالك الأوّل؛ لأن الحكم بعتق شيء منه يقتضيه؛ لانحصار دلالة البينتين في أنه لم يعتق بعضه ويملك بعضه على وجه مانعة الجمع، بل الواقع عتق الجميع أو ملك الجميع.

وبهذا يثبت التقويم وإن كان في اعتبار قيمة النصف مغايرة لثمنه على بعض الوجوه، إلا أنّه أقرب إلى الواقع من بقاء الرقية على النصف.

وأيضاً فإنّ الموجب للتقويم ينظر إلى الثابت شرعاً من العتق ولا ينظر إلى الواقع في نفس الأمر؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة مرتبة على الظاهر، والثابت شرعاً هو كون المالك قد أعتق نصفه ،باختياره، فيقوم عليه مع يساره.

ص: 283


1- منهم العلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 203، الرقم 6559.
2- غاية المراد، ج 4، ص 77 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).

مسائل :

الأولى: • لو شهد للمدعي أن الدابة ملكه منذ مدة، فدلّت سنّها على أقل من ذلك قطعاً أو أكثر سقطت البيئة؛ لتحقق كذبها.

إذا ادعى دابه في يد زيدٍ وأقام بيّنةً أنه اشتراها من عمرو

الثانية: • إذا ادعى دابه في يد زيدٍ وأقام بيّنةً أنه اشتراها من عمرو، فإن شهدت البينة بالملكية مع ذلك للبائع أو للمشتري أو بالتسليم قُضي للمدعي.

وإن شهدت بالشراء لا غير، قيل: لا يحكم؛ لأنّ ذلك قد يفعل فيما ليس بملك فلا تدفع اليد المعلومة بالمظنون وهو قويّ. وقيل: يقضى له؛ لأن الشراء دلالة على التصرّف السابق الدال على الملكية.

------------------

قوله: «لو شهد للمدعي أنّ الدابة ملكه منذ مدة» إلى آخره.

أما على تقدير كون الدلالة قطعية فواضح؛ لأن الكذب حينئذ قطعي. وأما على تقدير

الأكثرية فالدلالة ظنّيّة. ويشكل معارضتها للحكم الظاهر من عدالة الشاهد.

وفي التحرير اقتصر في الحكم بسقوط البينة على الدلالة القطعية (1)، وهو أولى.

قوله: «إذا ادّعى دابَّةٌ في يد زيدٍ وأقام بيّنةً أنه اشتراها» إلى آخره.

القولان للشيخ (رحمه الله) أولهما في المبسوط (2)، واختاره المصنف والأكثر. والثاني في الخلاف(3)، ووافقه في المختلف(4)، وتعليلهما واضح مما ذكره المصنف. وأصحهما الأول. ويمنع من كون التصرف مطلقاً دالاً على الملكية.

واعترض العلّامة على الشيخ في اكتفائه في ثبوت الملك بالتسليم، بحكمه أنه لو شهدت البينة للخارج بأنّ الدار كانت في يده منذ أمس أنّه لا تزال اليد المتصرفة، فكيف

ص: 284


1- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 193 ، الرقم 6552.
2- راجع المبسوط ، ج 5، ص 665، لكن فرض المسألة فيما إذا ادعى في يد زيد.
3- الخلاف، ج 6 ، ص 345 - 346. المسألة 19.
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 468، المسألة 70.
الصغير المجهول النسب إذا كان في يد واحد وادعى رقّيّته

الثالثة: • الصغير المجهول النسب إذا كان في يد واحد وادعى رقّيّته قضي بذلك ظاهراً. وكذا لو كان في يد اثنين. أما لو كان كبيراً وأنكر فالقول قوله؛ لأنّ الأصل الحرّية.

ولو ادعى اثنان رقيّته، فاعترف لهما قضى عليه. وإن اعترف لأحدهما كان مملوكاً له دون الآخر.

لو ادعى كلّ واحدٍ منهما أن الذبيحة له، وفي يدكلّ واحدٍ بعضها

الرابعة: • لو ادعى كلّ واحدٍ منهما أن الذبيحة له، وفي يدكلّ واحدٍ بعضها، وأقام

------------------

يمكن الجمع بين ذلك وبين ترجيحه هنا بتسليم البائع إلى المشتري ؟! (1)

وجوابه: أنّ ذلك مبني على قوله بترجيح اليد السابقة؛ فإنّ له في المسألة قولين فلا يعترض عليه بالقول الآخر، كما أن له في هذه المسألة قولين أيضاً، فلا ينضبط الاعتراض عليه في ذلك. وقد حققناه سابقاً (2).

قوله: «الصغير المجهول النسب إذا كان في يد واحد» إلى آخره.

احترز بمجهول النسب عن معلومه بالحرية، فإنّ دعوى رقيته لا تسمع؛ لظهور كذبها، بخلاف المجهول، فإنّه وإن كان الأصل فيه الحرّية إلا أنّ رقّينه أمر ممكن وقد ادعاء ذو اليد ولا منازع له فيحكم به وحيث تثبت الرقية لا يلتفت إلى إنكار الصغير بعد بلوغه؛ لسبق الحكم برقيته.

وفي حكم الصغير المجنون. أما البالغ فيعتبر تصديقه؛ لاستقلاله بنفسه، واعتبار قوله. ولا فرق بين تصديقه للواحد والأكثر؛ لاشتراك الجميع في المقتضي، وقد تقدم البحث في ذلك كله في الإقرار بالنسب (3).

قوله: «لو ادعى كلّ واحد منهما أنّ الذبيحة له - إلى قوله - بما في يد الآخر».

إنما يقضي لكلّ واحد بما في يد الآخر على تقدير كون البعض الذي في يدكلّ منهما

ص: 285


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 468، المسألة 70.
2- سبق في ص 270.
3- تقدّم في ج 8، ص 625 - 626 .

كلّ منهما بيتةً، قيل: قضي لكلّ واحدٍ بما في يد الآخر. وهو الأليق بمذهبنا.

وكذا لو كان في يدكلّ واحدٍ ،شاة، وادّعى كلّ منهما الجميع، وأقاما بيّنةً قضى لكل منهما بما في يد الآخر.

لو ادّعى شاةً في يد عمرو وأقام بيّنةً فتسلّمها ، ثمّ أقام الذي كانت في يده بينةً أنّها له

الخامسة: • لو ادّعى شاةً في يد عمرو وأقام بيّنةً فتسلّمها ، ثمّ أقام الذي كانت في يده بينةً أنّها له، قال الشيخ: ينقض الحكم وتعاد، وهو بناء على القضاء لصاحب اليد مع التعارض والأولى أنه لا ينقض.

------------------

منفصلاً عن الآخر؛ لتحقق اختصاص اليد .به. أما لو كان متصلاً كانت بينهما نصفين على الإشاعة، كما لو أقام المدعيان بينتين والعين في يدهما.

والقضاء لكلّ بما في يد الآخر مبني على تقديم بيئة الخارج، وهو الذي أشار إليه بكونه أليق بمذهبنا. وعلى القول بتقديم بينة ذي اليد كما هو أحد قولي الشيخ (1)- يقضي لكلّ منهما بما في يده.

ولو تعدّدت الشياة واختص كلّ واحدٍ بواحدة فالحكم كما لو اختص بجزء منها منفصلاً. وهذا واضح.

وممّا يتفرع على ذلك أنه لو كان أحدهما كافراً والآخر مسلماً حكم بكون ما يقضى به للكافر ميتة وللمسلم مذكّى وإن كان كلّ واحد من الجزأين قد انتزعه من الآخر؛ عملاً بظاهر اليد المعتبرة شرعاً. ولا يقدح في ذلك اليد السابقة؛ لظهور بطلانها شرعاً.

قوله: «لو ادعى شاةً في يد عمرو وأقام بيّنةً فتسلّمها» إلى آخره.

إذا ادعى زيد على عمرو شاةً في يد عمرو، وأقام زيد فقط البينة حكم له قطعاً؛ لنهوض البيئة بالحق ولا معارض لها . فإذا صارت في يد زيدٍ فأقام عمر و بيّنةً أنّها له، فإما أن يطلق دعوى الملك ، وهو الذي فرضه المصنف (رحمه الله)، أو يدعي ملكاً سابقاً على إزالة يده ، أو لاحقاً عليها. فالصور ثلاث، وحكم المطلقة متفرع على الأخيرتين. فلنبدأ بالبحث عنهما.

ص: 286


1- المبسوط، ج 5، ص 670.

------------------

فالأولى: أن يدّعي ملكاً سابقاً على إزالة يده، فبينته على هذا الوجه معارضة للبيّنة الأولى، فيبنى على تقديم الخارج أو الداخل ويزيد هنا أنّ المراد بالداخل والخارج عند التعارض أو عند الملك المدعى.

فعلى المشهور والظاهر من تقديم الخارج وكون المراد به حال إقامة البينة يحكم بها لعمرو: لأنه الآن خارج .

وكذا على القول باعتبار الدخول حال الملك وقدمنا الداخل. وهو الذي علّل به المصنف (رحمه الله) حُكْم الشيخ (رحمه الله) بتقديم عمرو (1) . ولو قدمنا الخارج على هذا التقدير لم ترفع يد زيد عنها؛ لأنه خارج حينئذ. وهو الذي اختاره المصنف (رحمه الله).

والثانية: أن يدعي ملكاً لاحقاً بعد زوال يده، ويقيم عليه البينة، سواء ذكر تلقيه من زيد أم لا.

والوجه القبول هنا؛ لعدم التعارض مع تصريحه بتلقي الملك عن زيد أو إطلاقه؛ توفيقاً بين البينتين. ومع تصريحه بتلقيه من غيره يبنى على ترجيح الداخل أو الخارج. فعلى الأشهر من تقديم الخارج يقدم هنا أيضاً: عملاً بالعموم (2).

والثالثة : أن يطلق الدعوى ويقيم البينة. وهو الموافق لعبارة الكتاب، وإن كان تعليله يناسب الأُولى. فإن قدمنا عمراً في الصورتين السابقتين فهنا أولى؛ لانحصار أمره فيهما. وإن قدمنا زيداً في إحداهما احتمل تقديم عمرو هنا؛ لما تقدم من أنّه مهما أمكن التوفيق بين البينتين وفق، وهو هنا ممكن مع الإطلاق، بجعل ملك عمرو متلقى من زيد بعد انتقاله عنه حيث يمكن. وهذا أقوى.

ويحتمل العدم، لإمكان استناده إلى الملك السابق على وجه لا تقدم فيه بيّنته؛ إما بجعله

على هذه الحالة داخلاً، أو لعدم ترجيح الخارج والوجه تقديم عمرو في جميع الصور.

ص: 287


1- المبسوط، ج 5، ص 672 - 673 .
2- الكافي، ج 7، ص 361، باب القسامة، ح 4، وص 415 ، باب أنّ البينة على المدّعي واليمين على المدعى عليه. ح 1 - 2: الفقیه، ج 3، ص 32، ح 3270؛ تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 229، ح 553 - 554 .
لو ادّعى داراً في يد زيد، وادعى عمرو نصفها

السادسة: • لو ادعى داراً في يد زيد، وادعى عمرو نصفها، وأقاما البينة قضي لمدعي الكلّ بالنصف؛ لعدم المزاحم، وتعارضت البينتان في النصف الآخر فيقرع بينهما، ويقضى لمن يخرج اسمه مع يمينه.

ولو امتنعا من اليمين قضي بها بينهما بالسوية، فيكون لمدعي الكلّ ثلاثة الأرباع، ولمدعي الربع.

------------------

قوله: «لو ادعى داراً في يد زيد وادعى عمرو نصفها» إلى آخره.

هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب، وهو مبني على قاعدة تعارض البينتين مع خروج يد المدعيين، فتقع القسمة مع امتناعهما من الحلف على النصف الذي فيه النزاع؛ لأنّ النصف الآخر لا نزاع بينهما فيه، ونسبتهما إلى النصف واحدة، وبيّنتهما متساوية، وكلّ منهما مدع لكلّه، فيقسم بينهما نصفين، فتخلص لمدعي الكلّ ثلاثة أرباع.

وذهب ابن الجنيد (رحمه الله) إلى اقتسامهما ما يتنازعان فيه على طريق العول، فيجعل هنا لمدعي الكلّ الثلثان ولمدّعي النصف الثلث(1)؛ لأنّ المنازعة وقعت في أجزاء غير معينةٍ ولا مشار إليها، بل كلّ واحدٍ من أجزائها لا يخلو من دعوى كلّ منهما باعتبار الإشاعة فلا يتم ما ذكروه من خلوص النصف لمدعي الكلّ بغير منازع، بل كلّ جزءٍ يدعي مدعي النصف نصفه ومدعي الكلّ جميعه، ونسبة إحدى الدعويين إلى الأخرى بالثلث، فتقسم العين أثلاثاً، واحد لمدّعي النصف، واثنان لمدّعي الكلّ، فيكون كضرب الديان في مال المفلس والميت.

وفي المختلف وافق ابن الجنيد على ذلك مع زيادة المدعى على اثنين (2)، إلا أن ابن الجنيد فرض الحكم على تقدير كون العين بيدهما، والعلة تقتضي التسوية بين الداخلين والخارجين حيث يقتسمان.

ص: 288


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 421 و 423، المسألة 23.
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 423 - 424. المسألة 23.

• ولو كانت يدهما على الدار وادعى أحدهما الكلّ والآخر ،النصف وأقام كلّ منهما بيّنةً كانت لمدّعي الكلّ، ولم يكن لمدّعي النصف شيء؛ لأن بينة ذي اليد بما في يده غير مقبولة.

• ولو ادعى أحدهم النصف والآخر الثلث والثالث السدس ويدهم عليها، فيد كلّ واحدٍ منهم على الثلث، لكن صاحب الثلث لا يدعي زيادةً على ما في يده، وصاحب السدس يفضل في يده ما لا يدعيه هو ولا مدّعى الثلث، فيكون لمدعى النصف فيكمل له النصف. وكذا لو قامت لكلّ منهم بيّنةً بدعواه.

------------------

وفي القواعد جعل قول ابن الجنيد احتمالاً على تقدير خروجهما (1)، كما هو محتمل على تقدير الدخول .

والأصح المشهور. والجواب عن حجة العول أنّ مدّعي الكل يسلّم له نصف مشاع بغير نزاع، وهو كافٍ في المطلوب، وإن كان النزاع واقعاً في كل جزء باعتبار التعيين.

قوله: «ولو كانت يدهما على الدار وادعى أحدهما الكلّ والآخر النصف» إلى آخره.

إذا كانت يدهما على الدار فالنصف لمدعي الكلّ بغير معارض، وتعارضت البينتان في النصف الذي في يد مدعي النصف، فعلى المشهور من تقديم بينة الخارج فهو لمدّعي الكلّ أيضاً، ولا شيء لمدعي النصف. وعلى القول بتقديم ذي اليد فهو لمدّعي النصف. ولو لم يكن لهما بينة فهي بينهما بالسوية؛ لأنّ مدّعي النصف يده عليه، فيقدّم قوله فيه بيمينه، ولا يمين على الآخر.

وقال ابن الجنيد: تقسّم بينهما أثلاثاً، سواء أقاما بيّنةً أم لم يقيماها؛ نظراً إلى العول (2).

قوله: «ولو ادّعى أحدهم النصف والآخر الثلث» إلى آخره.

هذه الصورة لا يقع فيها نزاع في الحقيقة، لأنّ سهام المدعيين لا تزيد عن أجزاء العين فلا يفرّق فيها بين أن يقيما بيّنةً وعدمه، ولا يمين لأحدٍ منهم على الآخر؛ لعدم المعارضة.

ص: 289


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 471
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 421 و 423، المسألة 23.
لو ادّعى أحدهم الكلّ والآخر النصف والثالث الثلث

• ولو ادّعى أحدهم الكلّ والآخر النصف والثالث الثلث ولا بينة؛ قضى لكلّ واحدٍ بالثلث؛ لأنّ يده عليه. وعلى الثاني والثالث اليمين لمدعي الكل، وعليه وعلى مدعي الثلث اليمين لمدعى النصف.

وإن أقام كلّ منهم بيّنةً، فإن قضينا مع التعارض ببينة الداخل فالحكم كما لو لم تكن بيّنةً؛ لأنّ لكلّ واحد بينةٌ ويداً على الثلث.

------------------

ونبه بذكر حكمها كذلك على خلاف بعض العامة، حيث جعل لمدعي النصف ثلثاً ونصف سدس؛ بناءً على أن السدس الزائد على ما في يده لا يدعيه على مدعي السدس خاصةً، إنما يدعيه شائعاً في بقية الدار وهي في يد الآخرين جميعاً، فيستحلفهما. وإن كان السدس مدعي على الشيوع فنصفه على مدعي الثلث وعارضت فيه بينته، وترجّحت باليد على تقدير إقامتهما ،البينة، وقدّم قول ذي اليد على تقدير عدمها. ونصفه على مدعي السدس فيحكم به لمدعي النصف ببينته؛ لأنّ بيّنة مدعي السدس لا تعارضها. فيجعل المدعي النصف ثلث ونصف سدس وللآخرين مدّعاهما، ويبقى بيد مدعي السدس نصف سدس لا يدعيه أحد(1) .

ولا يخفى عليك ضعف هذا القول على تقدير الإشاعة كما هو المفروض وأيضاً؛ فما ذكروه مبنيّ على تقديم الداخل مع تعارض البينتين. وعلى القول بتقديم الخارج يقدّم مدعي النصف في نصف السدس الذي يدعيه على مدعي الثلث، ويبقى نصف السدس الذي بيد مدّعي السدس يدّعيه مدعي الثلث ليتم له سهمه؛ إذ التقدير الإشاعة. فما اختاره الأصحاب أوضح.

قوله: «ولو ادعى أحدهم الكل والآخر النصف والثالث الثلث ولا بينة - إلى قوله - و تسقط دعوى مدعي الثلث».

إذا ادعى أحدهم جميع الدار والآخر نصفها والثالث ثلثها فلا يخلو إما أن تكون أيديهم

ص: 290


1- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 333 - 334.

وإن قضينا ببينة الخارج - وهو الأصح - كان لمدّعي الكلّ ممّا في يده ثلاثة من اثني عشر بغير منازع والأربعة التي في يد مدعي النصف؛ لقيام البينة لصاحب الكلّ بها، وسقوط بينة صاحب النصف بالنظر إليها؛ إذ لا تقبل بيئة ذي اليد، وثلاثة ممّا في يد مدعي الثلث.

ويبقى واحد ممّا في يد مدعي الكلّ لمدعي النصف. وواحد ممّا في يد مدعي الثلث، يدعيه كلّ واحدٍ من مدعي النصف ومدعي الكل، يقرع بينهما، ويحلف من يخرج اسمه ويقضى له فإن امتنعا؛ قسم بينهما نصفين فيحصل لصاحب الكلّ عشرة ونصف، ولصاحب النصف واحد ونصف؛ وتسقط دعوى مدعي الثلث.

------------------

عليها، أو يكونوا خارجين عنها. ثمّ إمّا أن يكون لكلّ واحد بينةً، أو لا يكون لأحدهم، أو يكون لبعضهم دون بعض.

فإن كانت أيديهم عليها ولا بينة لأحدهم ففي يدكلّ واحدٍ ثلث. فمدعي الثلث لا يدعي زائداً على ما في يده، ومدّعي النصف يدعي سدساً عليهما، ومدعي الكلّ يدعي جميع ما بأيديهما، فيقدّم قول كلّ واحدٍ فيما بيده ويحلف مدّعي الثلث لكلّ واحدٍ منهما؛ لأنّهما معاً يدعيان عليه. ويحلف مدّعي النصف لمدّعي الجميع خاصةً، وبالعكس.

وإن أقام المستوعب خاصةً بيّنةً أخذ الجميع؛ لأن قوله مقدم في الثلث الذي بيده بغير بينة، ويأخذ الباقى بها.

وإن أقامها مدعي النصف خاصةً أخذ ثلثاً ممّا في يده، والسدس منهما بالبينة، والنصف الباقي بين الآخرين نصفان للمستوعب السدس بغير منازع ولمدعي الثلث ربع ممّا في يده، وهو الباقي بعد نصف السدس الذي أخذه ذو البينة، ويحلف عليه للمستوعب، ويبقى للمستوعب من النصف نصف سدس يأخذه باليمين لمدعي الثلث.

وإن أقامها مدعي الثلث أخذه والباقي بين الآخرين للمستوعب السدس الزائد عن مدعي النصف بغير يمين ويحلف على باقي ما في يده وهو السدس، ويحلف مدعي النصف على جميع ما يأخذه المستوعب .

ص: 291

------------------

وإن أقام كل بيّنةً، فإن رجحنا بينة الداخل قسمت أثلاثاً؛ لأنّ لكلّ واحد بينة ويداً على الثلث.

وإن رجحنا الخارج فللمستوعب جميع ما بيد مدعي النصف؛ لسقوط بينته بالنظر إليه، وعدم المنازع له فيه من خارج. وتتعارض بينته وبيّنة الخارج فهو مدعي النصف في نصف سدس ممّا في يد مدّعي الثلث، فيقرع بينهما فيه، ويحلف الخارج بالقرعة. فإن امتنعا من اليمين قسم بينهما، وخلص للمستوعب ما في يد مدعي الثلث - وهو الربع - بغير منازع. ويسلّم له أيضاً ثلاثة أرباع ما في يده بغير منازع؛ لأنّ مدّعي النصف يدعي ممّا في يده نصف سدس، فيأخذه ببينته.

فأصل المسألة من ستة؛ لأنّ فيها نصفاً وثلثاً، ثم ترتقي إلى اثني عشر ؛ للاحتياج فيها إلى نصف سدس، ثمّ ترتقي إلى أربعة وعشرين، حيث يقسم نصف السدس بين اثنين إذا امتنعا من اليمين في يدكلّ واحدٍ منهم ثمانية.

فمدّعي الثلث لا يدّعي زيادةً عمّا في يده، وهو داخل فلا بيّنة له. ومدّعي النصف يدعي على كلّ واحد اثنين تتمّة النصف، فيأخذهما من المستوعب ببينته؛ لعدم المعارض، ويبقى للمستوعب ستة ممّا في يده. ويأخذ جميع ما في يد مدعي النصف، وينازع مدعي النصف في الاثنين اللذين يدعيهما على مدعي الثلث، فمع عدم اليمين يقتسمانهما لكلّ واحدٍ واحد. ويأخذ من مدعي الثلث سنّةٌ هي الزائد عمّا يدعيه مدعي النصف، وتتعارض بينتاهما في اثنين فيقتسمان بينهما مع امتناعهما من اليمين. فيجتمع للمستوعب أحد وعشرون، ولمدعي النصف ثلاثة. ولك أن تردّها إلى ثمانية، للمستوعب سبعة أثمان ولمدعي النصف ثمن.

هذا هو الذي تقتضيه قاعدة البينة الخارجة، وهو الذي حكم به الأكثر ، ومنهم العلّامة في التحرير(1). وأما في القواعد فجعله احتمالاً، واختار أنّ لمدّعي النصف سدساً؛ لأن بيّنته

ص: 292


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 194 - 196، الرقم 6554.

------------------

خارجة فيه وللمستوعب خمسة أسداس؛ لأنّ له السدس بغير بينة؛ إذ لا منازع له فيه والثلثين؛ لكون بينته خارجة فيهما (1). والأصح الأول.

ولو كانت أيديهم خارجةً، واعترف ذو اليد أنه لا يملكها، ولا بينة فللمستوعب النصف بغير منازع. ويقرع بينهم في النصف الباقي، فإن خرجت لصاحب الكلّ أو لصاحب النصف حلف وأخذه. وإن خرجت لصاحب الثلث حلف وأخذ الثلث. ثمّ يقرع بين الآخرين في السدس ،الباقي فمن خرجت له القرعة حلف وأخذه.

ولو أقام أحدهم خاصةً بيّنةً، فإن كانت للمستوعب أخذ الجميع. وإن أقامها مدعي النصف أخذه، ويبقى للمستوعب السدس بغير منازع والثلث يتنازع فيه مدعيه والمستوعب، فيكون الحكم فيه كما لو لم يكن بينة. ولو أقامها مدعي الثلث أخذه وللمستوعب السدس أيضاً بغير منازع والنصف يقرع فيه بين مدعيه والمستوعب، ويكمل العمل.

ولو أقام كلّ واحدٍ بيّنةً فالنصف لمدعي الكلّ ؛ لعدم المنازع، والسدس الزائد عن الثلث يتنازعه المستوعب ومدّعي النصف، والثلث يدعيه الثلاثة، وقد تعارضت البينات فيه فيقرع بينهم مع عدم المرجّح، ويحلف من خرجت له القرعة ومع نكوله يحلف الخصم الآخر، ومع امتناع الجميع يرجع إلى القسمة، فيقسم السدس نصفين، والثلث أثلاثاً، ويصح من ستة وثلاثين؛ لأنّ فيها نصف سدس وتسعاً، وهو ثلث الثلث، ومخرج الأوّل إثنا عشر، والثاني تسعة، وبينهما توافق بالثلث، ومضروب ثلث أحدهما في الآخر ستة وثلاثون.

ولك أن تجعل أصل القسمة ستة، ثمّ تحتاج إلى قسمة السدس نصفين، فتضرب اثنين في سنّة، وإلى قسمة الثلث أثلاثاً، فتضرب ثلاثة في المرتفع وهو اثنا عشر، للمستوعب النصف ونصف السدس وثلث الثلث، وذلك خمسة وعشرون ولمدعي النصف نصف السدس وثلث الثلث، وذلك سبعة. ولمدعي الثلث ثلثه أربعة.

ص: 293


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 472 - 473.

• ولو كانت في يد أربعةٍ، فادّعى أحدهم الكل والآخر الثلثين والثالث النصف والرابع الثلث ففي يدكلّ واحدٍ ربعها فإن لم تكن بينة قضينا لكلّ واحدٍ بما في يده، وأحلفنا كلّاً منهم لصاحبه.

ولو كانت يدهم خارجةً ولكلّ بيّنةً خلص لصاحب الكلّ الثلث إذ لا مزاحم له، ويبقى التعارض بين بينة مدعي الكلِّ ومدعي الثلثين في السدس فيقرع بينهما فيه. ثمّ يقع التعارض بين بيّنة مدعي الكلِّ ومدّعي الثلثين ومدعي النصف في السدس أيضاً فيقرع بينهم فيه. ثمّ يقع التعارض بين الأربعة في الثلث فيقرع بينهم، ويخصّ به من تقع القرعة له. ولا يقضى لمن يخرج اسمه إلا مع اليمين. ولا يستعظم أن يحصل بالقرعة الكلّ لمدعي الكلِّ، فإنّ ما حكم الله تعالى به غير مخطئ.

------------------

وعلى القول بالعول يصح من أحد عشر سهماً، للمستوعب ستة، ولمدعي النصف ثلاثة، ولمدعي الثلث سهمان؛ لأنّ فريضتهم من ستة، ويعال عليها نصفها وثلثها.

قوله: «ولو كانت في يد أربعة فادّعى أحدهم الكلّ - إلى قوله - ولمدعي الثلث ثلاثة».

إذا كان المتداعون في الدار أربعة على الوجه المذكور، فأقسامها كالسابقة(1) ؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون في يدهم، أو خارجة عنهم. ثمّ إمّا أن يكون لكلّ واحد بينةٌ، أو لا يكون لأحدهم، أو يكون لبعضهم دون بعض.

فإن كانت يدهم عليها ولا بينة لأحدهم، قضي لكلّ واحد بما في يده مع يمينه لكلّ واحدٍ منهم، فإنّه لم يخلص لأحدٍ منهم ما يدعيه. ولو كان لهم بينة مع دخولهم فسيأتي حكمه (2).

ولو كانت يدهم خارجة وهي في يد من لا يدعيها وأقام كلّ واحد بينةٌ، فلا تعارض في الثلث، فيختص به مدّعي الكلّ، ويقع التعارض في الباقي. ففي السدس الزائد على النصف تتعارض بيّنة مدّعي الكلّ ومدّعي الثلثين. وفي السدس الزائد على الثلث تتعارض بينتهما

ص: 294


1- سبقت في ص 289 - 290.
2- سيأتي بعيد هذا.

ولو نكل الجميع عن الأيمان قسمنا ما يقع التدافع فيه بين المتنازعين في كلّ مرتبة بالسوية. فتصح القسمة من ستة وثلاثين سهماً، لمدعي الكل عشرون ولمدعي الثلثين ثمانية، ولمدعي النصف خمسة، ولمدعي الثلث ثلاثة.

• ولو كان المدعى في يد الأربعة ففي يدكلّ واحد ربعها. فإذا أقام كلّ واحدٍ منهم بينةً بدعواه، قال الشيخ: يقضى لكلّ واحد بالربع؛ لأنّ له بينةٌ ويداً.

------------------

وبيّنة مدعي النصف. وفي الثلث الباقي تتعارض بينات الأربع. فمع عدم المرجح يقرع بين المتعارضين، ويحلف الخارج بالقرعة. ومع امتناعه من اليمين يحلف الآخر ويأخذه. ومع امتناعهما يقسم بينهما.

فيقسم السدس الزائد على النصف بين مدّعي الكلّ ومدّعي الثلثين بالسوية، والسدس الزائد على الثلث بينهما وبين مدّعي النصف أثلاثاً، والثلث الباقي بين الأربعة أرباعاً.

فتجعل الدار ستة وثلاثين سهماً؛ لحاجتنا إلى عدد ينقسم سدسه على اثنين وعلى ثلاثة فتضرب اثنين في ستة ثمّ في ثلاثة لمدعي الكلّ ثلثها اثنا عشر، ونصف السدس الزائد على النصف ثلاثة وثلث السدس الزائد على الثلث اثنان وربع الثلث الباقي وهو ثلاثة، وذلك عشرون، وهي خمسة أتساع الدار ولمدعي الثلثين ثلاثة أسهم من السدس الزائد على النصف، وسهمان من السدس الزائد على الثلث وثلاثة من الثلث الباقي فيبلغ ثمانية، وهي تسعاً الدار. ولمدعي النصف سهمان من السدس الزائد على الثلث، وثلاثة من الثلث الباقي، وذلك خمسة، وهي تسع وربع تسع ولمدعي الثلث ثلاثة من الثلث الباقي لا غير، وهى ثلاثة أرباع تسع. فالمجتمع مجموع سهام الدار.

وكذا البحث لو لم يكن لأحدهم بينة. ولو أقامها أحدهم خاصةً قضي له بما يدعيه، فإن فضل عنه شيء تعارضت فيه الدعوى، واعتبر ما أسلفناه.

قوله: «ولو كان المدعى في يد الأربعة ففي يدكلّ واحد ربعها» إلى آخره.

إذا كانت الدار المذكورة في يد المتداعيين الأربعة، وأقام كلّ منهم بينة بمدعاه، فإن قدمنا بيّنة الداخل كان الحكم كما لو لم يكن هناك بيّنةً فيقسّم بينهم أرباعاً. وإن رجحنا

ص: 295

والوجه القضاء ببينة الخارج على ما قرّرناه، فيسقط اعتبار بيّنة كلّ واحدٍ بالنظر إلى ما في يده، ويكون ثمرتها فيما يدعيه ممّا في يد غيره. فيجمع بين كلّ ثلاثة على ما في يد الرابع، وينتزع لهم، ويقضى فيه بالقرعة واليمين، ومع الامتناع بالقسمة.

فيجمع بين مدّعي الكل والنصف والثلث على ما في يد مدعي الثلاثين، وذلك ربع اثنين وسبعين، وهو ثمانية عشر. فمدّعي الكلّ يدعيها أجمع، ومدعي النصف يدعي منها سنةً، ومدعي الثلث يدعي اثنين فتكون عشرة منها لمدّعي الكلّ؛ لقيام البيّنة بالجميع الذي تدخل فيه العشرة. ويبقى ما يدعيه صاحب النصف - وهو ستة - يقرع بينه وبين مدّعي الكلّ فيها ويحلف، ومع الامتناع يقسّم بينهما. وما يدعيه صاحب الثلث - وهو اثنان - يقرع عليه بين مدّعي الكلّ وبينه فمن خرج اسمه احلف وأعطي، ولو امتنعا قسم بينهما.

ثم تجمع دعوى الثلاثة على ما في يد مدعي النصف. فصاحب الثلاثين يدعي عليه عشرة، ومدعي الثلث يدعي اثنتين ويبقى في يده ستة لا يدعيها إلا مدعي الجميع، فتكون له، ويقارع الآخرين، ثمّ يحلف، وإن امتنعوا أخذ نصف ما ادعياه.

------------------

بينة الخارج كما هو المشهور - سقط اعتبار بيّنة كلّ واحدٍ منهم بالنظر إلى ما في يده، وتكون فائدتها فيما في يد غيره. فيجمع بين كل ثلاثة على ما في يد الرابع، ويكون الفاضل عن الدعاوي للمستوعب ويقارع في المدّعى به ويحلف، فإن نكل حلف الآخر، فإن نكلوا قسم.

ويصح حينئذ من اثنين وسبعين؛ لأنّ أصلها أربعة بعددهم، ثمّ مدعي الثلثين يدعي على الثلاثة سهماً وثلثين زيادة على ما في يده، ومخرجه تسعة، ومدعي النصف يدعي سهماً عليهم ومخرجه ثلاثة، ومدّعي الثلث يدّعي ثلث سهم عليهم ومخرجه أيضاً تسعة، والثلاثة تداخلها، والعددان متماثلان، فيقتصر على أحدهما، وتضربه في أربعة، ثم يضرب المرتفع في

ص: 296

ثمّ يجتمع الثلاثة على ما في يد مدّعي الثلث، وهو ثمانية عشر. فمدعي الثلثين يدعي منه عشرةً، ومدّعي النصف يدعي سنّةً، يبقى اثنان لمدّعي الكل ويقارع على ما أفرد للآخرين، فإن امتنعوا عن الأيمان قسم ذلك بين مدعى الكلّ، وبين كلّ واحد منهما بما ادعاه.

ثم يجتمع الثلاثة على ما في يد مدعي الكلّ. فمدّعي الثلثين يدعى عشرة ومدعي النصف يدعي ستة، ومدعي الثلث يدّعي اثنين، فتخلص يده عما كان فيها. فيكمل لمدعي الكل ستة وثلاثون من أصل اثنين وسبعين، ولمدعي الثلثين عشرون، ولمدعي النصف اثنا عشر، ولمدّعي الثلث أربعة. هذا إن امتنع صاحب القرعة من اليمين ومقارعه.

------------------

اثنين؛ لأنّ السهم المتنازع يقسم على تقدير النكول عن اليمين، فيبلغ ذلك اثنين وسبعين.

أو نقول: إنّ مدّعي الثلث يدعي تسع ما في يد المستوعب وهو الربع، وبعد النكول يقسّم، فيحتاج إلى نصف تسع الربع، وذلك يتمّ بضرب ثمانية عشر في أربعة في يدكلّ واحد ثمانية عشر.

فيجمع بين المستوعب والثالث والرابع على ما في يد الثاني وهو مدعي الثلاثين فالمستوعب يدعيه أجمع، ومدعي النصف - وهو الثالث - يدعي ثلثه؛ لأنّ الفائت عن مدّعاه مما في يده ثمانية عشر يدّعيها على الثلاثة، ومدّعي الثلث - وهو الرابع - يدعي منها اثنين؛ لأنّ الباقي عما في يده من مدّعاه ستة يدعيها على الثلاثة بالسوية. فيبقى ممّا في يد الثاني عشرة للمستوعب بغير معارض. ثمّ يتقارع المستوعب والآخرين في الستة والاثنين ويقسم بينهما مع عدم اليمين فيكمل له ثلاثة من الثالث وواحد من الرابع، فيجتمع له أربعة عشر من الثاني.

ثم تجتمع دعوى الثلاثة على ما في يد مدعي النصف، فالثاني يدعي منه عشرة؛ لأنّ الزائد عمّا في يده من مدّعاه ثلاثون يدعيها على الثلاثة بالسوية، وقد عرفت أنّ الرابع

ص: 297

إذا تداعى الزوجان متاع البيت

السابعة : • إذا تداعى الزوجان متاع البيت قضي لمن قامت له البينة . ولو لم تكن بيّنة فيد كلّ واحدٍ منهما على نصفه.

------------------

يدعي على كلّ واحدٍ اثنين يفضل للمستوعب ستة بغير منازع. ويقارع الثاني في العشرة والرابع في الاثنين، ويقسم بينهما على تقدير النكول عن اليمين ، فيجتمع له من الثالث اثنا عشر.

ثم تجتمع دعوى الثلاثة على ما في يد الرابع، فالثاني يدعي منه عشرة، والثالث ستة، يبقى للمستوعب اثنان بغير معارض . ويقاسم الآخرين في الستة والعشرة بعد النكول ، فيجتمع له عشرة.

ثم يجتمع الثلاثة الأخيرة على ما في يد الأوّل، فالثاني يدعى منه عشرة، والثالث ستّة. والرابع اثنين فيأخذ كلّ منهم ما يدعيه؛ لعدم المعارض.

فيجتمع للمستوعب نصف الدار، وهو أربعة عشر سهماً من الثاني، واثنا عشر من الثالث، وعشرة من الرابع، وذلك ستة وثلاثون.

وللثاني ربعها وربع تسعها ، وهو عشرون سهماً، خمسة من الثالث، وخمسة من الرابع ، وعشرة من الأول.

وللثالث سدسها اثنا عشر سهماً، ستة من الأول، ومن كلّ واحدٍ من الآخرين ثلاثة.

وللرابع نصف التسع، وهو أربعة أسهم اثنان من الأول، ومن كل واحد من الآخرين واحد. وذلك مجموع الدار؛ لأنّ السدس تسع ونصف تسع، إذا ضمّا إلى نصف التسع نصيب الرابع، ثمّ إلى ربع التسع بلغت ربعاً، يضاف إلى ثلاثة الأرباع التي بيد الأول والثاني يبلغ ذلك المجموع.

هذا إذا امتنع الخارج بالقرعة عن اليمين وخصومه، وإلّا أخذ الحالف مجموع ما وقع فيه التنازع ولا يخفى حينئذ الحساب لو وقع ذلك من المجموع أو من البعض.

قوله: «إذا تداعى الزوجان متاع البيت - إلى قوله - وأظهر بين الأصحاب».

اختلف الأصحاب في حكم متاع البيت عند تنازع الزوجين فيه على أقوال، منشؤها

ص: 298

قال الشيخ في المبسوط يحلف [كلّ واحد منهما ] لصاحبه، ويكون بينهما بالسوية، سواء كان ممّا يختص الرجال أو النساء أو يصلح لهما، وسواء كانت الدار لهما أو لأحدهما، وسواء كانت الزوجية باقية بينهما أو زائلة. ويستوي في ذلك تنازع الزوجين والوراث.

وقال في الخلاف ما يصلح للرجال للرجل، وما يصلح للنساء للمرأة، وما يصلح لهما يقسم بينهما. وفي رواية أنه للمرأة؛ لأنها تأتي بالمتاع من أهلها.

وما ذكره في الخلاف أشهر في الروايات، وأظهر بين الأصحاب.

------------------

الاعتبار أو اختلاف الأخبار، ثلاثة منها للشيخ (رحمه الله)، وثلاثة للعلّامة متداخلة.

الأوّل: أنّهما فيه سواء، فيقسّم بينهما بعد حلف كلّ لصاحبه، سواء كان المتنازع فيه مما يصلح للرجال، كالعمائم والدروع والسلاح أم يصلح للنساء، كالحلي والمقانع وقمص النساء، أم يصلح لهما، كالفرش والأواني. وسواء كانت الدار لهما، أم لأحدهما، أم لثالث. وسواء كانت الزوجية باقية، أم زائلة. وسواء كانت يدهما عليه تحقيقاً، أم تقديراً. وسواء كان التنازع بينهما، أم بين ورثتهما، أم بين أحدهما وورثة الآخر.

وحجة هذا القول إلحاقه بسائر الدعاوي لدخوله في العموم. ولا ريب أنه الذي يقتضيه الأصل، إلّا أنّ فيه اطراحاً للأخبار المعتبرة (1).

وإلى هذا القول ذهب الشيخ في المبسوط (2) ، وتبعه العلّامة في القواعد(3)، وولده الفخر في الشرح(4) .

ص: 299


1- منها ما في الفقيه ، ج 3، ص 111، ح 3433؛ وتهذيب الأحكام، ج 1، ص 294، ح 818؛ والاستبصار، ج 3، ص 46-47 ، ح 153.
2- المبسوط، ج 5، ص 680.
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 470.
4- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 380 - 381.

------------------

ونبّه بهذه التسويات على خلاف جماعة من العامة، حيث ذهب بعضهم إلى التفصيل بالصلاحية. وهو أحد أقوالنا. وبعض إلى أنه إن كان في يدهما تحقيقاً كالمشاهدة فهو بينهما، وإن كان تقديراً رجع إلى الصلاحية، ومع كونها صالحة لهما يحكم به للرجل. وبعض إن كان الاختلاف بين أحدهما وورثة الآخر يقدّم فيه قول الباقي من الزوجين(1) .

الثاني: أنّ ما يصلح للرجال خاصةً يحكم به للزوج، وما يصلح للنساء خاصةً يحكم به للمرأة، وما يصلح لهما يقسم بينهما بعد التحالف أو النكول.

ذهب إلى ذلك الشيخ في الخلاف(2) ، وقبله ابن الجنيد (3)، وتبعهما ابن إدريس(4)، والمصنف (رحمه الله) والعلّامة في التحرير(5) والأكثر .

والمستند - مع قضاء العادة بذلك - صحيحة رفاعة النخاس عن الصادق قال: «إذا طلق الرجل امرأته وفي بيتها متاع فلها ما يكون للنساء، وما يكون للرجال والنساء يقسّم بينهما، وإذا طلق المرأة فادعت أن المتاع لها، وادعى الرجل أن المتاع له، كان له ما للرجال ولها ما للنساء»(6).

وليست هذه الرواية صريحةً في جميع مدعى القائلين؛ إذ ليس فيها أنّ ما يصلح لهما يقسم بينهما على تقدير التنازع، وذكره في صدر الرواية كان قبل النزاع. لكنه ظاهر في

ص: 300


1- راجع الحاوي الكبير ، ج 17، ص 409؛ حلية العلماء، ج 8، ص 213 - 214؛ الكافي في فقه أحمد بن حنبل، ج 4، ص 326؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 2، ص 225، المسألة 8557 .
2- الخلاف، ج 6، ص 352، المسألة، 27.
3- حكاه عنه الشهيد في غاية المراد، ج 4، ص 69 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4)؛ وابن فهد الحلي في المقتصر ، ص 383 .
4- السرائر، ج 2، ص 193 - 194.
5- تحرير الأحكام الشرعية ، ج 5، ص 208 ، الرقم 6568.
6- الفقيه، ج 3، ص 111، ح 3433؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 294، ح 818؛ الاستبصار، ج 3، ص 46 - 47، ح 153.

------------------

ذلك، على تهافت في لفظ الرواية. لكنها مؤيّدة بجريان العادة بذلك، ورجوع الشرع في باب الدعاوي إلى العادات كتقديم قول المنكر والمتشبث.

والشيخ في الاستبصار حمل هذه الرواية على التقيّة أو على الصلح، دون مرّ الحكم(1).

الثالث: أنّ القول قول المرأة مطلقاً. ذهب إلى ذلك الشيخ في الاستبصار (2) ؛ لصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: سألني كيف قضى ابن أبي ليلی؟ قال، قلت: قد قضى في مسألة واحدة بأربعة وجوه في التي يتوفّى عنها زوجها، فيجيء أهله وأهلها في متاع البيت فقضى فيه بقول إبراهيم النخعي ما كان من متاع الرجل فللرجل، وما كان من متاع النساء فللمرأة، وما كان من متاع يكون للرجل والمرأة قسمه بينهما نصفين.

ثم ترك هذا القول، فقال: المرأة بمنزلة الضيف في منزل الرجل، لو أن رجلاً أضاف رجلاً فادعى متاع بيته كلّفه البينة، وكذلك المرأة تكلّف البيئة وإلا فالمتاع للرجل.

ورجع إلى قول آخر، فقال: إنّ القضاء أنّ المتاع للمرأة، إلا أن يقيم الرجل البينة على ما أحدث في بيته.

ثم ترك هذا القول، فرجع إلى قول إبراهيم الأول.

فقال أبو عبد الله (علیه السّلام): «القضاء الأخير وإن كان رجع عنه المتاع متاع المرأة، إلا أن يقيم الرجل البيِّنة، قد علم مَنْ بين لابتيها - يعني بين جبلي منى - أنّ المرأة تزف إلى بيت زوجها بمتاع، ونحن يومئذ بمنى»(3).

وفي خبر آخر صحيح رواه عبد الرحمن بن الحجاج عنه (علیه السّلام)، وفي آخره قلت له: يكون

ص: 301


1- الاستبصار، ج 3، ص 47، ذيل الحديث 153.
2- انظر الاستبصار، ج 3، ص 47 ذيل الحديث 153.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 297، ح 829: الاستبصار، ج 3، ص 44 - 45، ح 149.

• ولو ادعى أبو الميتة أنه أعارها بعض ما في يدها من متاع أو غيره كلف البينة، كغيره من الأنساب. وفيه رواية بالفرق بين الأب وغيره ضعيفة.

------------------

المتاع للمرأة؟ فقال: «لو سألت من بينهما - يعني الجبلين، ونحن يومئذ بمكة - لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الرجل، فتعطى التي جاءت به، وهو المدعى، فإن زعم أنه أحدث فيه شيئاً فليأت البينة»(1).

الرابع: الرجوع في ذلك إلى العرف العام أو الخاص، فإن وجد عمل به، وإن انتفى أو اضطرب كان بينهما؛ لتصادم الدعويين، وعدم الترجيح.

ذهب إلى ذلك العلامة في المختلف(2)، والشهيد في الشرح (3)، وجماعة من المتأخرين(4). وهو المعتمد؛ لما فيه من الرجوع إلى العرف والجمع بين الأخبار، مع مراعاة الأصول المقررة.

قوله: «ولو ادّعى أبو الميتة أنّه أعارها بعض ما في يدها من متاع أو غيره كلّف البينة، كغيره من الأنساب. وفيه رواية بالفرق بين الأب وغيره ضعيفة».

القول بالتسوية بين الأب وغيره في الدعوى هو مذهب الأصحاب؛ عملاً بالأصل، مع عدم ثبوت ما يوجب الخروج عنه.

والرواية المشار إليها هي رواية محمد بن إسماعيل، عن جعفر بن عيسى، قال: كتبت إلى أبي الحسن : جعلت فداك المرأة تموت فيدّعي أبوها أنه أعارها بعض ما كان عندها من متاع وخدم، أتقبل دعواه بلا بينة أم لا تقبل إلا ببينة؟ فكتب إليه: «يجوز بلا بينة».

قال: وكتبت إليه: إن ادعى زوج المرأة الميتة أو أبو زوجها أو أم زوجها في متاعها أو

ص: 302


1- الكافي، ج 7، ص 130 - 131، باب اختلاف الرجل والمرأة من متاع البيت، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 298 ، ح 831 : الاستبصار، ج 3، ص 45 ، ح 151.
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 409، المسألة 12.
3- غاية المراد، ج 4، ص 70 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).
4- منهم ابن فهد الحلي في المهذب البارع، ج 4، ص 491 .

المقصد الثالث في دعوى المواريث

لو مات المسلم عن ابنين فتصادقا على تقدم إسلام أحدهما على موت الأب

وفيه مسائل

الأولى: • لو مات المسلم عن ابنين، فتصادقا على تقدم إسلام أحدهما على موت الأب، وادّعى الآخر مثله فأنكر أخوه، فالقول قول المتفق على تقدّم إسلامه مع يمينه أنّه لا يعلم أن أخاه أسلم قبل موت أبيه.

وكذا لو كانا مملوكين فأعتقا واتفقا على تقدّم حرية أحدهما واختلفا في الآخر.

------------------

خدمها، مثل الذي ادعى أبوها من عارية بعض المتاع أو الخدم أ يكون بمنزلة الأب في الدعوى؟ فكتب: «لا»(1) .

والأصح التسوية بين الجميع؛ لعموم « البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر» (2).

قوله: «لو مات المسلم عن ابنين، فتصادقا على تقدّم إسلام أحدهما على موت الأب وادعى الآخر مثله فأنكر أخوه» إلى آخره.

إذا مات مسلم وله ابنان أسلم أحدهما قبل موت الأب بالاتفاق، وقال الآخر: أسلمت أيضاً قبله، وقال المتفق على إسلامه: بل أسلمت بعد موته، فله أحوال :

أحدها: أن يقتصرا على هذا القدر، ولا يتعرضا لتاريخ موت الأب، ولا لتاريخ الإسلام.

والثانية: أن يتفقا على موت الأب في رمضان، فقال المسلم: أسلمت في شعبان، وادعى أخوه المعلوم الإسلام أنّ إسلامه في شوّال، أو أنه لا يعلم تقدم إسلامه، فالقول قول المتفق

ص: 303


1- الكافي، ج 7، ص 431 - 432، باب النوادر ، ح 18: الفقيه، ج 3، ص 110 - 111، ح 3432، وفيه: عن محمد بن عيسى بن عبيد عن جعفر بن عيسى؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 289 . ح .800 .
2- راجع سنن الدارقطني، ج 3، ص 37 ، ح 3151 - 3152 بتفاوت قليل؛ والسنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 427، ح 21201؛ وتلخيص الحبير، ج 4، ص 167، ح 2037.

------------------

على إسلامه مع يمينه أنّه لا يعلم أنّ أخاه أسلم قبل موت أبيه في الحالين؛ لأن الأصل استمراره على دينه إلى أن يثبت المزيل. وإنما كفاه الحلف على نفي العلم؛ لأنه حلف على نفي فعل الغير.

وكذا القول في نظائرها، كما لو مات الأب حرّاً وأحد الابنين حرّ بالاتفاق، واختلفا في أن الآخر عُتق قبل موته أو بعده.

ولو أنّهما اتفقا في حق أحدهما أنّه لم يزل مسلماً، وقال الآخر: لم أزل مسلماً أيضاً ونازعه الأوّل وقال : كنت نصرانياً، وإنّما أسلمت بعد موت الأب، احتمل المساواة؛ لأصالة عدم الإسلام وتقديم قوله : إني لم أزل مسلماً؛ لأنّ ظاهر الدار يشهد له، وليس مع صاحبه أصل يستصحب هنا، بخلاف السابق.

ولو قال كلُّ منهما: إني لم أزل مسلماً، وكان صاحبي أسلم بعد موت الأب، فوجهان:

أحدهما: أنه لا يصرف إلى واحدٍ منهما شيء؛ لأن الأصل عدم الاستحقاق .

وأصحهما أنّه يحلف كلّ واحد منهما ويجعل المال بينهما؛ لأنّ ظاهر الدار يشهد لكلّ واحدٍ منهما فيما يقول في حق نفسه.

ولو أقام أحدهما بيّنةً في هذه المسائل قضي بها. ولو أقام كلّ واحدٍ بينة في الصورة الأخيرة تعارضتا فيرجع إلى القرعة مع عدم المرجّح.

وفى الأولى يحتمل ذلك أيضاً؛ للتعارض وتقديم بينة مدعي تقدم الإسلام؛ لاشتمالها على زيادة، وهي نقله إلى الإسلام في الوقت السابق، والأوّل يستصحب دينه، فمع الأوّل زيادة علم.

وردّ بأنّ بيئة المتأخر تشهد بالحياة في زمان بينة المتقدم، فيتحقق التناقض.

وربما احتمل ضعيفاً تقديم بينة المتأخر، بناءً على أنه قد يغمى عليه في التاريخ المتقدم فيظن الشاهدان موته. وهو ضعيف؛ لأنه قدح في الشاهد.

ص: 304

لو اتفقا أن أحدهما أسلم في شعبان والآخر في غرّة رمضان

الثانية: • لو اتفقا أن أحدهما أسلم في شعبان والآخر في غرّة رمضان، ثمّ قال المتقدم: مات الأب قبل شهر رمضان وقال المتأخّر مات بعد دخول رمضان، كان الأصل بقاء الحياة، والتركة بينهما نصفين.

دار في يد إنسان ادعى آخر أنّها له ولأخيه الغائب إرثاً

الثالثة: • دار في يد إنسان ادعى آخر أنّها له ولأخيه الغائب إرثاً عن أبيهما، وأقام بيّنةً. فإن كانت كاملةً وشهدت أنّه لا وارث سواهما، سلّم إليه النصف، وكان الباقي في يد من كانت الدار في يده. وفي الخلاف يجعل في يد أمين حتّى يعود. ولا يلزم القابض للنصف إقامة ضمين بما قبض.

ونعني بالكاملة ذات المعرفة المتقادمة والخبرة الباطنة.

ولو لم تكن البينة كاملةً وشهدت أنّها لا تعلم وارثاً غيرهما، أرجئ التسليم حتى يبحث الحاكم عن الوارث مستقصياً، بحيث لو كان وارث لظهر، وحينئذ يسلّم إلى الحاضر نصيبه ويضمّنه استظهاراً.

------------------

قوله: «لو اتفقا أنّ أحدهما أسلم في شعبان والآخر في غرة رمضان» إلى آخره.

هذه هي الحالة الثالثة للمسألة الأولى، وكان إدراجها فيها أُولى. وإنما قدم هنا قول مدعي تقدم الإسلام؛ لاتفاقهما على إسلامه في وقت مخصوص لا يقبل التقدم والتأخر، واختلافهما في وقت موت الأب على وجه يحتمل التقدم والتأخر، فيكون الأصل استمرار حياة الأب إلى بعد الوقت الذي اتفقا على إسلام المسلم فيه.

والمراد بغرة رمضان أوّله حقيقةً ؛ ليلائم قوله «وقال المتأخر: مات بعد دخول رمضان». وقد تطلق الغرّة على ثلاثة أيام من أوّل الشهر، وهي بهذا المعنى لا تطابق الفرض؛ لإمكان إسلامه فيها وموت الأب بعد دخوله وقبل إسلامه.

قوله: «دار في يد إنسان ادعى آخر أنها له» إلى آخره.

إذا شهد عدلان وهما من أهل الخبرة بباطن حال الميت أنّ هذا ابنه مع أخ آخر غائب

ص: 305

------------------

ليس له وارث غيرهما فيما يعلمان، ولا يجب القطع بل لا يصح، ولا تبطل به شهادتهم، دفع إلى الحاضر نصف التركة، سواء في ذلك الدار المذكورة وغيرها، من غير أن يطالب بضمين؛ لأنّ المطالبة به حينئذ طعن في الشهود.

وإن لم يكونا من أهل الخبرة، أو كانا ولم يقولا «لا نعلم وارثاً سواء»، لم يعط في الحال. بل يتفحص الحاكم عن حال الميت في البلاد التي سكنها أو طرقها، فيكتب إليها للاستكشاف، أو يرسل من يستعلم الحال، فإذا تفحص مدةً يغلب على الظن في مثلها أنّه لو كان له وارث لظهر ولم يظهر ، فحينئذ يدفع إلى الحاضر نصيبه، ويكون البحث والتفحص قائماً مقام خبرة الشهود وفي هذه الحالة لا يدفع إليه المال إلا بضمين احتياطاً واستيثاقاً، بناءً على جواز ضمان الأعيان، ولا يكتفى بالكفيل.

وهل تنتزع حصة الغائب على تقدير كمال البينة من ذي اليد ؟ قال الشيخ في الخلاف: نعم، وتجعل في يد أمين حتى يعود الغائب(1) ؛ لأنّ العين قد ثبتت لغير من هي في يده، وأنها لغائب والحاكم وليّ الغائب، فيضعها في يد أمين.

وقال في المبسوط : يقرّ الباقي في يد من هو في يده (2)؛ لأنّ الدعوى للميت، والبيئة بالحق له، بدليل أنه إذا حكم بالدار تقضى منها ديونه وتنفذ منها وصاياه، ومتى كانت الدعوى له لم تتم إلى أن يحضر الغائب، فيبقى في يد المتشبث. والأصح الأول.

واعلم أنّه قد اختلفت عبارات الأصحاب في معنى «البينة الكاملة» هاهنا، فمقتضى عبارة المصنّف والأكثر أنّ المراد بها ذات الخبرة والمعرفة بأحوال الميت، سواء شهدت بأنها لا تعلم وارثاً غيرهما أم لا، وأنها حينئذ تنقسم إلى ما يثبت بها حق المدعي، بأن تشهد بنفي وارث غيره، وإلى غيره، وهي التي لا تشهد بذلك.

ص: 306


1- الخلاف، ج 6، ص 340، المسألة 12.
2- المبسوط، ج 5، ص 643.

• ولو كان ذو فرض أعطي مع اليقين بانتفاء الوارث نصيبه تاماً. وعلى التقدير الثانى يعطيه اليقين أن لو كان وارث فيعطي الزوج الربع والزوجة ربع الثمن ،معجّلاً من غير تضمين، وبعد البحث يتمّم الحصّة مع التضمين.

ولو كان الوارث ممّن يحجبه غيره، كالأخ، فإن أقام البيّنة الكاملة أعطى المال، وإن أقام بيّنةً غير كاملة أعطى بعد البحث والاستظهار بالضمين.

------------------

ويوجد في كلام بعضهم - وبه صرّح في الدروس(1) - أن المراد بالكاملة ذات الخبرة كذلك مع شهادتها بنفي وارث ولو بعدم العلم بغيره، فانتفاء الكمال يحصل بانتفاء الخبرة والشهادة بنفي العلم أو أحدهما.

ولكلّ وجه؛ لأنّ الكمال أمر إضافي فيصدق بهما، وإن كان الثاني أقعد حملاً للكمال على ما يثبت به الحق، وهو لا يثبت بدون الأمرين.

وهل يعتبر في الشهادة بالقريب كالابن إضافة كونه وارثاً؟ وجهان من كونه أعم من الوارث فلا يدلّ على الخاص، ومن أصالة عدم المانع.

قوله: «ولو كان ذو فرض أعطى مع اليقين بانتفاء الوارث نصيبه تامّاً »إلى آخره.

إذا ادعى كونه وارثاً مع الغائب وأقام البينة المذكورة، فلا يخلو إما أن يكون ذا فرض، أو وارثاً بالقرابة وعلى تقدير كونه ذا فرض إما أن يكون بحيث لا ينقص عنه، أو ينقص باختلاف الوارث .

فإن كان ذا فرض، وأقام البينة الكاملة الشاهدة بانتفاء وارث ينقصه عن مدعاه أعطي نصيبه تاماً.

وإن لم تكن البينة كذلك، فإن كان محجوباً على بعض التقادير أرجئ إلى أن يبحث ، ثمّ دفع إليه بضمين . ولو اختلف فرضه أعطي الأقل، إلا مع الكمال أو البحث والضمين.

ص: 307


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 86 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
إذا ماتت امرأة وابنها فقال أخوها: مات الولد أولاً ثم المرأة فالميراث لي

الرابعة: • إذا ماتت امرأة وابنها فقال أخوها: مات الولد أولاً ثم المرأة فالميراث لي، وللزوج نصفان وقال الزوج بل ماتت المرأة ثم الولد، فالمال لي، قضي لمن تشهد له البينة. ومع عدمها لا يقضى بإحدى الدعويين؛ لأنه لا ميراث إلا مع تحقق حياة الوارث. فلا ترث الأُم من الولد، ولا الابن من أُمه. وتكون تركة الابن لأبيه، وتركة الزوجة بين الأخ والزوج.

------------------

ولو صدّق المتشبث المدعي على عدم وارث غيره فلا عبرة به إن كان المدعى به عيناً؛ لأنه إقرار في حق الغير. وإن كان ديناً أمر بالتسليم؛ لأنه إقرار في حق نفسه؛ إذ لا يتعين للغائب على تقدير ظهوره إلا بقبضه أو قبض وكيله. وقد تقدّم البحث في نظيره من دعوى وكالة الغائب في الأمرين(1) .

قوله: «إذا ماتت امرأة وابنها» إلى آخره.

إذا كان الرجل له زوجة وابن فماتا، واختلف الرجل وأخو الزوجة، فقال الرجل: ماتت الزوجة أوّلاً فورثتها أنا وابني، ثم مات الابن فورثته أنا، وقال الأخ: بل مات الابن أوّلاً فورثته مع أُختي، ثم ماتت الأخت فورثناها. فإن كان لأحدهما بينة قُضي بها. وإن أقاما بينةً متكافئة تعارضتا واقرع.

وإن لم تكن لهما معاً بينة فالقول قول الرجل في مال ابنه وقول الأخ في مال أخته مع اليمين فإن حلفا أو نكلا فهي من صور استبهام (2) الموت، فلا يورث أحد الميتين من الآخر، بل مال الابن لأبيه، ومال الزوجة للزوج والأخ.

هذا إذا لم يتفقا على وقت موت أحدهما. فإن اتفقا عليه واختلفا في موت الآخر قبله أو بعده فالمصدّق مدعى التأخر لأن الأصل دوام الحياة.

ص: 308


1- تقدم في ج 4، ص 514 .
2- في بعض النسخ «اشتباه» بدل «استبهام».
لو قال: هذه الأمة ميراث من أبي، وقالت الزوجة: هذه أصدقني إيّاها أبوك

الخامسة: • لو قال: هذه الأمة ميراث من أبي، وقالت الزوجة: هذه أصدقني إيّاها أبوك، ثمّ أقام كلّ منهما بيّنةً، قضي ببيتة المرأة؛ لأنها تشهد بما يمكن خفاؤه على الأخرى.

المقصد الرابع في الاختلاف في الولد

• إذا وطئ اثنان امرأةً وطئاً يلحق به النسب، إما بأن تكون زوجةً لأحدهما ومشتبهةً على الآخر، أو مشتبهةً عليهما ، أو يعقد كلّ واحدٍ منهما عليها عقداً فاسداً، ثمّ تأتى بولد لستة أشهر فصاعداً ما لم يتجاوز أقصى الحمل، فحينئذ يقرع بينهما، ويلحق بمن تصيبه القرعة، سواء كان الواطئان مسلمين أو كافرين أو

------------------

قوله: «لو قال: هذه الأمة ميراث من أبي» إلى آخره.

إذا ادعت الزوجة إصداق عين من التركة أو ادعى أجنبي شراء عين منها، وأنكره الوارث وادعى الإرث فالقول قوله؛ لأصالة عدم انتقالها إلى غيره فإن أقام المدّعي بيّنةً قضي بها.

وإن أقاما معاً بيّنةً فالمدّعي للإصداق والشراء خارج، فيبنى على تقديم الخارج مع التعارض فإن قلنا به مطلقاً فهنا أولى. وإن قلنا بتقديم الداخل فالأقوى هنا تقديم الخارج أيضاً، لشهادة بيّنته بأمر زائد يخفى على الأخرى.

ولو كانت العين في يد أجنبي لا يدعيها فكذلك لعدم التعارض.

نعم، لو تناقضتا قطعاً، بأن يدعي الإصداق أو الشراء في وقت بعينه، فتشهد البينة بموته قبل ذلك، أو بكونه غائباً عن موضع الدعوى بحيث لا يمكن حضوره في ذلك الوقت، تحقق التعارض ورجع إلى القرعة مع عدم المرجّح.

قوله: «إذا وطئ اثنان امرأةً وطناً يلحق به النسب - إلى قوله - إذا لم يكن لأحدهم بينة». الولد لا يلحق بأبوين فصاعداً مطلقاً عندنا ولا عبرة بخبر القائف. ولا خبر المدلجي

ص: 309

عبدين أو حرّين، أو مختلفين في الإسلام والكفر والحرية والرق، أو أباً وابنه. هذا إذا لم يكن لأحدهم بينة.

------------------

الذي سرّ النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بإخباره أن أقدام زيد وأسامة بعضها من بعض (1) لا يدل على الاعتماد عليه؛ لأنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لم يكن في شك من ذلك، وإنما سر بذلك لطعن المنافقين فيهما إغاظة له (صلّی الله علیه و آله و سلّم). واعتمادهم على قول القائف.

وقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه قال: «لا يأخذ بقول عرّاف ولا قائف»(2). وأنه لم يكن يقبل شهادة أحد من هؤلاء.

وعن أبي جعفر (علیه السّلام) أنه قال: «من سمع قول قائف أو كاهن أو ساحر فصدقه أكبه الله على منخريه في النار»(3).

فإذا اشتبه نسب الولد، بأن وطئها اثنان وطناً يلحق به الولد بأن اشتبهت عليهما، أو على أحدهما وكانت زوجة للآخر، وجاءت به في مدة يمكن إلحاقه بهما، أُقرع بينهما والحق بمن أخرجته القرعة.

وقد روي عن زيد بن أرقم أنّهم أتوا أمير المؤمنين (علیه السّلام) في امرأة أتوها في طهر واحد كلهم يدعي الولد، فأقرع بينهم وألحق الولد بمن أقرع وغرّمه ثلثي قيمة الأُمّ، وأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «ما أعلم إلا ما قال عليّ»، وكان عليّ عاملاً على اليمن. وفي بعض الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا خُبّر بذلك ضحك حتى بدت نواجذه(4).

وعن الباقر (علیه السّلام) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل أمير المؤمنين (علیه السّلام) عن أعجب ما ورد عليه،

ص: 310


1- مسند أحمد، ج 7، ص 323، ح 25367؛ صحیح مسلم، ج 2، ص 1082، ح 39 - 1459/40؛ سنن أبي داود، ج 2، ص 280 ، ح 2267؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 787، ح 2349؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 10، ص 443. ح 21255
2- الفقيه، ج 3، ص 50، ح 3309، وفيه: «لا آخذ» بدل «لا يأخذ».
3- لم نعثر عليه.
4- مسند أحمد، ج 5، ص 505، ح 18857؛ سنن أبي داود، ج 2، ص 281، ح 2269 - 2270، بتفاوت يسير فيهما ؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 786، 2348؛ السنن الكبرى البيهقي ، ج 10، ص 450. ح 21281 - 21282.

• ويلحق النسب بالفراش المنفرد والدعوى المنفردة، وبالفراش المشترك والدعوى المشتركة، ويقضى فيه بالبينة، ومع عدمها بالقرعة.

------------------

فخبره بذلك، قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله و سلّم): «ليس من قوم يتنازعون ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلا خرج

هم المحق»(1).

والعامة رجعوا في أمر الولد المتنازع فيه إلى القائف(2)؛ استناداً إلى الخبر الذي أشرنا إليه. وقد تقدم البحث في الإلحاق وشرائطه في باب أحكام الأولاد(3).

ونبّه المصنف (رحمه الله ) بالتسوية بين المدعيين المذكورين على خلاف بعض العامة حيث فرّق فألحق الولد بالمسلم منهما والحرّ مع الاختلاف (4)؛ نظراً إلى الأصل أو الظاهر.

قوله: «ويلحق النسب بالفراش المنفرد والدعوى المنفردة» إلى آخره.

يتحقق اشتراك الفراش بما ذكره سابقاً من الأمثلة من كونها زوجةً لأحدهما ومشتبهةً على الآخر، أو مشتبهةً عليهما.

هذا إذا وطناها في طهر واحد. أما لو تخلّل بين وطئهما حيض، قيل: انقطع الإمكان عن الأوّل، إلا أن يكون الأوّل زوجاً في نكاح صحيح (5)؛ نظراً إلى جعل الشارع الحيض أمارة على براءة الرحم من الحمل، ومن ثم اعتبر به الاستبراء والعدة. وهذا يتم مع القول بأنّ الحمل والحيض لا يجتمعان مطلقاً، وإلا أشكل الأمر؛ لتحقق الإمكان، إلا أن ينزل الغالب منزلة المتعيّن، ويطرح النادر ولا بأس به.

وكما يقرع بينهما مع عدم البيِّنة، فكذا مع قيامها من الطرفين والله ولي التوفيق.

ص: 311


1- الكافي، ج 5، ص 491، باب الجارية يقع عليها غير واحد .... ح 2: تهذيب الأحكام، ج 8، ص 170، ح 592 ؛ الاستبصار، ج 3، ص 369، ح 1320.
2- الأمّ، ج 6، ص 344 - 345 الحاوي الكبير، ج 17، ص 380؛ بداية المجتهد، ج 2، ص 356، المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 425، المسألة 4575.
3- تقدم في ج 7، ص 78 وما بعدها.
4- الحاوي الكبير، ج 17، ص 395: راجع بدائع الصنائع، ج 1، ص 384.
5- قاله العلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 482.

ص: 312

كتاب الشهادات

الطرف الأول في صفات الشهود

الأول: البلوغ فلا تقبل شهادة الصبي مطلقاً إلّا في الجراح و القتل

والنظر في أطراف خمسة:

[ الطرف] الأول في صفات الشهود

ويشترط ستة أوصاف:

------------------

كتاب الشهادات

الشهادة لغةً: الإخبار عن اليقين(1) .

وشرعاً : إخبار جازم عن حق لازم لغيره واقع من غير حاكم.

وبالقيد الأخير يخرج إخبار الله ورسوله والأئمة ، وإخبار الحاكم حاكماً آخر، فإنّ ذلك لا يسمى شهادة.

وتعرّض الكتاب والسنة (2) للشهادة وأحكامها مستفيض ، كقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ)(3)، وقال تعالى: (ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَة) (4).

ص: 313


1- الصحاح، ج 2، ص 494 لسان العرب، ج 3، ص 239، «شهد».
2- وسائل الشيعة، ج 27، ص 309 - 314 ، الباب 1 - 2 من كتاب الشهادات.
3- البقرة (2): 282 .
4- البقرة (2): 283 .

الأول: البلوغ • فلا تقبل شهادة الصبي ما لم يصر مكلّفاً . وقيل : تقبل مطلقاً إذا بلغ عشراً . وهو متروك.

واختلفت عبارة الأصحاب في قبول شهادتهم في الجراح والقتل، فروى جميل عن أبي عبد الله(علیه السّلام) : «تقبل شهادتهم في القتل، ويؤخذ بأوّل كلامهم». ومثله روى محمد بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السّلام).

------------------

وروي عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه سئل عن الشهادة، فقال للسائل: «هل ترى الشمس»؟ قال: نعم، فقال: «على مثلها فاشهد أو دع»(1).

قوله: «فلا تقبل شهادة الصبي ما لم يصر مكلفاً - إلى قوله - تمسكاً بموضع الوفاق».

قد اختلف الأصحاب في شهادة الصبي، بعد الاتفاق على عدم قبول شهادة غير المميز. ونقل جماعة (2) منهم الشيخ فخر الدين (3) الاتفاق على عدم قبول شهادة من دون العشر والخلاف فيمن زاد عن ذلك.

فالمشهور بينهم عدم قبول شهادته مطلقاً إلا في الجراح والقتل. أما عدم القبول في غيرهما فلعموم قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ)(4) ، ولفظ «الرجال» لا يقع على الصبيان، ولأن الصبي لا يقبل قوله على نفسه فأولى أن لا يقبل على غيره بالشهادة.

وأما استثناء الجراح والقتل فلحسنة جميل قال قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): تجوز شهادة الصبيان؟ قال: «نعم، في القتل يؤخذ بأوّل كلامه، ولا يؤخذ بالثاني منه»(5).

ص: 314


1- أوردها الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 533؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 114 و 117: وأبونعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، ج 4، ص 18.
2- منهم الفاضل الآبي في كشف الرموز، ج 2، ص 514 وابن فهد الحلّي في المهذب البارع، ج 4، ص 507.
3- إيضاح الفوائد، ج 4 ص 417. لكنه نقل الإجماع على عدم القبول في غير القصاص والقتل والجراح.
4- البقرة (2): 282 .
5- الكافي، ج 7، ص 389 باب شهادة الصبيان، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 251، ح 645.

وقال الشيخ في النهاية: تقبل شهادتهم في الجراح والقصاص. وقال في الخلاف تقبل شهادتهم في الجراح ما لم يتفرّقوا، إذا اجتمعوا على مباح.

------------------

ورواية محمد بن حمران عنه (علیه السّلام) وقد سأله عن شهادة الصبي، قال فقال: «لا، إلا في القتل يؤخذ بأوّل كلامه، ولا يؤخذ بالثاني»(1).

ولفظ الروايتين تضمّن القتل، فيمكن أن يدخل فيه الجراح بطريق أولى، ومن ثَم ذكر الأكثر الجراح. ومنهم من اقتصر على الجراح، كالشيخ في الخلاف (2) والمصنف في المختصر النافع (3) . ولعله أراد بها ما يشمل البالغة القتل؛ لأن القتل هو المنصوص (4) فيما هو مستند الاستثناء.

وفي الدروس صرّح باشتراط أن لا يبلغ الجراح النفس(5) . واشتراط ذلك لا يخلو من إشكال، إلا أن يجعل مجرّد الاحتياط في النفوس، وإلا فمراعاة النصوص تقتضي إدخالها واطراحها؛ نظراً إلى عدم صحتها، ومخالفتها للأصل يقتضي إخراج الجراح أيضاً.

ثم اختلف القائلون بقبول شهادتهم في هذا النوع في الجملة في شرائطه، فالمستفاد من النصوص اشتراط أمرٍ واحدٍ، وهو أن يؤخذ بأوّل كلامهم مع الاختلاف دون باقيه.

وزاد المصنّف وجماعة (6) اشتراط بلوغ سنّهم العشر ، وأن لا يتفرّقوا قبل أداء الشهادة.

وزاد المصنّف (رحمه الله) في المختصر النافع تبعاً للشيخ كونه في الجراح(7). فيمكن

ص: 315


1- الكافي، ج 7، ص 389 باب شهادة الصبيان، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 251، ح 646.
2- الخلاف، ج 1، ص 270، المسألة 20.
3- المختصر النافع، ص 413.
4- الكافي، ج 5، ص 388 - 389 باب شهادة الصبيان، ح 1 - 3 و 6؛ تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 251 - 252 ، ح 644 - 646 و 649.
5- الدروس الشرعية، ج 2، ص 97 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
6- منهم العلامة في إرشاد الأذهان، ج 2، ص 156؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 97 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
7- المختصر النافع، ص 413.

والتهجم على الدماء بخبر الواحد خطر، فالأولى الاقتصار على القبول في الجراح بالشروط الثلاثة: بلوغ العشر، وبقاء الاجتماع إذا كان على مباح؛ تمسّكاً بموضع الوفاق.

------------------

أن لا يدخل فيها القتل. وعلى تقدير دخوله فسببه أعم من كونه بالجراح، مع أنه مورد النصّ(1) .

وفي المختصر النافع نسب اشتراط عدم التفرّق إلى الشيخ في الخلاف(2)، مؤذناً بعدم ترجيحه وعذره واضح؛ لعدم الدليل المقتضي لاشتراطه ولكن يرد مثله في اشتراط اجتماعهم على المباح، فإنّه لا دليل عليه، ولا تكليف في حقهم. ولو أريد المباح بالنسبة إلى غيرهم من المكلفين لم يكن لتخصيصه وجه، بل ينبغي اشتراط باقي شرائط قبول الشهادة، من ترك المحرمات على المكلّف، والقيام بالواجبات عليه، وملازمة المروة. وبالجملة، شرائط الشاهد عدا التكليف. وهذا بعيد في حق الصبي؛ لعدم وجوب شيء في حقه وتحريمه، فلا يعد تركه وفعله قادحاً.

وأما اشتراط بلوغ العشر فليس عليه دليل صالح إلا رواية موقوفة تأتي(3)، ولو أبدل هذا الشرط بالتمييز لكان أولى، حيث إن غير المميز لا يصلح للشهادة، ولا يميز ما يشهد به سواء بلغ العشر أم لا، كما أنّ التمييز قد يحصل قبل العشر، إلا أن يثبت الإجماع على اشتراط بلوغ العشر على وجه يكون حجّةٌ، فيكون هو الحجة، لكن إثبات ذلك بعيد.

وبقي في المسألة قولان آخران متقابلان على الطرفين:

أحدهما: عدم قبول شهادة الصبي مطلقاً؛ لما تقدّم من الدليل(4)، وقصور هذه الروايات عن إثبات الحكم المخالف للأصل، خصوصاً مع عدم وقوف القائلين بقبول شهادته فيما

ص: 316


1- الكافي، ج 7، ص 389 باب شهادة الصبيان، ح 2 - 3 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 251، ح 645 - 646.
2- المختصر النافع، ص 413؛ ولقول الشيخ راجع الخلاف، ج 6، ص 270، المسألة 20.
3- تأتي في ص 317، مع تخريجها في الهامش 7.
4- تقدم في ص 314.

------------------

ذكروه على مورد النص، فما دلّ عليه لا يقولون به، وما يقولون به لا دليل عليه. مع أنه يمكن أن يريد بقبول شهادة الصبيان فيما ذكر ثبوت الفعل بطريق الاستفاضة؛ بناءً على الغالب من وقوع الجراح بينهم في الملعب حال اجتماعهم بكثرة يمكن أن يثبت بها الاستفاضة؛ إذ لا يشترط فيها بلوغ المخبر، بل ولا إسلامه.

وهذا القول اختاره الشيخ فخر الدين في شرحه(1) . وله وجه وجيه، إلا أن رواية جميل بن دراج (2) حسنة مع اعتضادها بغيرها (3)، فردّها على أصل القائل لا يخلو من نظر.

والقول الآخر: قبول شهادة الصبي إذا بلغ عشراً مطلقاً نقل ذلك المصنف وجماعة (4). ولم يظهر قائله.

وقال صاحب كشف الرموز : إنه الشيخ في النهاية(5) . وهو وهم؛ وإنما ذكر الشيخ في النهاية قبول شهادته في الجراح والقصاص خاصةً. نعم، له بعد ذلك عبارة موهمة لذلك(6). إلا أن مرادها غيره .

ومستند هذا القول رواية أبي أيوب الخزاز قال: سألت إسماعيل بن جعفر متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين، قال، قلت: ويجوز أمره؟ قال، فقال إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين، وليس يدخل بالجارية حتى تكون امرأة، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره، وجازت شهادته (7).

ص: 317


1- إيضاح الفوائد، ج 4 ص 417.
2- تقدم تخريج روايته في ص 314، الهامش 5 .
3- تهذيب الأحكام، ج 6، ص 251، ح 646 .
4- منهم ابن البراج في المهذب، ج 2، ص 559: وحكاه ابن فهد الحلّي عن العلامة في المقتصر، ص 386؛ وحكاه الصيمري عن العلامة والشهيد في غاية المرام . ج 4 ص 274 .
5- كشف الرموز، ج 2، ص 514 .
6- النهاية، ص 331 - 332.
7- الكافي، ج 7، ص 1388 - 389 ، باب شهادة الصبيان، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 251، ح 644.

الثاني: كمال العقل

الثاني: • كمال العقل، فلا تقبل شهادة المجنون إجماعاً. أما من يناله الجنون أدواراً فلا بأس بشهادته في حال إفاقته، لكن بعد استظهار الحاكم بما يتيقن معه حضور ذهنه واستكمال فطنته.

وكذا من يعرض له السهو غالباً، فربما سمع الشيء وأنسى بعضه، فيكون ذلك مغيّراً لفائدة اللفظ وناقلاً لمعناه، فحينئذ يجب الاستظهار عليه، حتى يستثبت ما يشهد به

وكذا المغفّل الذي في جبلته البله، فربما استغلط لعدم تفطنه لمزايا الأُمور. فالأولى الإعراض عن شهادته، ما لم يكن الأمر الجلي، الذي يتحقق الحاكم استثبات الشاهد له، وأنّه لا يسهو في مثله.

------------------

وفي طريق هذه الرواية - مع وقوفها على إسماعيل - محمد بن عيسى عن يونس، فالاستدلال بها على هذا الحكم المخالف للإجماع في غاية البعد.

قوله « كمال العقل، فلا تقبل شهادة المجنون إجماعاً - إلى قوله - استثبات الشاهد له».

لما كان الشاهد من شرطه أن يميّز المشهود به وعليه وله، ويكون متصفاً بالعدالة مرضيّاً، لم تجز شهادة المجنون، سواء كان جنونه مطبقاً أم يقع أدواراً، وقد قال تعالى: (وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ)(1)، وقال: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ)(2). والمجنون بنوعيه غير مرضي. وهذا محلّ وفاق بين المسلمين. لكن غير المطبق إذا كمل عقله في غير دوره واستحكمت فطنته قبلت شهادته؛ لزوال المانع. وفي معناه المغفل الذي لا يحفظ ولا يضبط، ويدخل عليه التزوير والغلط من حيث لا يشعر ، كما هو مشاهد؛ لأنه لا يوثق بقوله.

وكذا من يكثر غلطه ونسيانه، ومن لا يتنبه لمزايا الأمور وتفاصيلها، إلا أن يعلم الحاكم

ص: 318


1- الطلاق (65): 2 .
2- البقرة (2): 282 .

الثالث: الإيمان

الثالث: • الإيمان فلا تقبل شهادة غير المؤمن وإن اتصف بالإسلام، لا على مؤمن ولا غيره لاتصافه بالفسق والظلم المانع من قبول الشهادة.

------------------

عدم غفلته فيما يشهد به؛ لكون المشهود به ممّا لا يسهو فيه غالباً.

ومَنْ هذه حاله فعلى الحاكم أن يستظهر في أمره، ويفتش عن حاله إلى أن يغلب على ظنّه علمه وتيقظه.

وأما الغلط القليل فلا يقدح في الشهادة لبعد السلامة منه أو عدمها.

قوله: «الإيمان، فلا تقبل شهادة غير المؤمن وإن اتصف بالإسلام» إلى آخره.

ظاهر الأصحاب الاتفاق على اشتراط الإيمان في الشاهد، وينبغي أن يكون هو الحجة. واستدلّ المصنّف (رحمه الله) عليه بأنّ غيره فاسق وظالم من حيث اعتقاده الفاسد الذي هو من أكبر الكبائر، وقد قال تعالى: (إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(1) ، وقال: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(2).

وفيه نظر؛ لأنّ الفسق إنّما يتحقق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أمّا مع عدمه بل مع اعتقاد أنها طاعة بل من أمهات الطاعات فلا، والأمر في المخالف للحق في الاعتقاد كذلك ؛ لأنه لا يعتقد المعصية، بل يزعم أنّ اعتقاده من أهم الطاعات، سواء كان اعتقاده صادراً عن نظر أم تقليد. ومع ذلك لا يتحقق الظلم أيضاً، وإنما يتفق ذلك ممّن يعاند الحق مع علمه ،به وهذا لا يكاد يتفق وإن توهمه من لا علم له بالحال.

والعامة مع اشتراطهم العدالة في الشاهد يقبلون شهادة المخالف لهم في الأصول ما لم يبلغ خلافه حدّ الكفر ، أو يخالف اعتقاده دليلاً قطعياً بحيث يكون اعتقاده ناشئاً عن محض التقصير .

ص: 319


1- الحجرات (49): 6 .
2- هود (11): 113 .

• نعم، تقبل شهادة الذمّي خاصةً في الوصيّة إذا لم يوجد من عدول المسلمين من يشهد بها.

------------------

والحق أن العدالة تتحقق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم، ويحتاج في إخراج بعض الأفراد إلى الدليل. وسيأتي في شهادة أهل الذمة في الوصية ما يدلّ عليه (1).

وعلى ما ذكره المصنف من فسق المخالف، فاشتراط الإيمان بخصوصه مع ما سيأتي من اشتراط العدالة لا حاجة إليه؛ لدخوله فيه (2).

قوله «نعم، تقبل شهادة الذمّى خاصةً في الوصية - إلى قوله - رواية مطرحة».

من شرط قبول الشهادة إسلام الشاهد، وهو بالنسبة إلى غير الذمّي موضع وفاق، وكذلك فيه في غير الوصية.

أمّا الأوّل فلما مرّ من الدليل على اشتراط الإيمان، ولقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «لا يقبل شهادة أهل دين على غير أهل دينهم إلا المسلمون؛ فإنّهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم»(3).

وقول الصادق (علیه السّلام) : «تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل الملل ولا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين»(4).

وأما قبول شهادة الذمّي في الوصيّة مع عدم حضور عدول المسلمين فلقوله تعالى: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)(5) الآية. ويشترط فيه العدالة في دينه لظاهر العطف على قوله: «منكم» الداخل في حيّز العدالة، وكأن التقدير: ذوي عدل منكم أو ذوي عدل من غيركم إلى آخره، ولعموم أدلّة العدالة.

ص: 320


1- سيأتي عن قريب.
2- يأتي في ص 323.
3- أورده الشيخ في الخلاف، ج 1، ص 273 - 274 ، ذيل المسألة :22؛ والماوردي في الحاوي الكبير، ج 17، ص 62 وانظر تلخيص الحبير، ج 4، ص 198، ح 2108.
4- الكافي، ج 7، ص 398 باب شهادة أهل الملل، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 252، ح 251.
5- المائدة (5): 106.

ولا يشترط كون الموصي في غربة، وباشتراطه رواية مطرحة.

------------------

وظاهر الآية (1)كون الموصي مسافراً، وبظاهرها أخذ الشيخ في المبسوط (2)، وابن الجنيد (3). وأبو الصلاح(4) .

ولخصوص حسنة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (علیه السّلام) في قول الله عزّ وجلّ: (أَوْءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)، قال: «إذا كان الرجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية»(5).

ورواية حمزة بن حمران عنه (علیه السّلام) قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فقال: «اللذان منكم مسلمان، واللذان من غيركم من أهل الكتاب»، قال: «فإنّما ذلك إذا مات الرجل المسلم في أرض غربة، فطلب رجلين مسلمين ليشهدهما على وصيته فلم يجد مسلمين، فيشهد على وصيّته رجلين ذمتين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما»(6).

والأشهر عدم الاشتراط. وجعل المصنّف (رحمه الله) الرواية به مطرحة.

ويدل على عدم الاشتراط عموم حسنة ضريس الكناسي أو صحيحته قال: سألت أبا جعفر (علیه السّلام) عن شهادة أهل الملل هل تجوز على رجل من غير أهل ملتهم؟ فقال: «لا إلا أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حق امرء مسلم، ولا تبطل وصيته»(7). مع أنه يمكن تخصيص هذا العام بالآية والرواية(8) جمعاً.

ص: 321


1- المائدة (5): 106.
2- المبسوط، ج 5، ص 549.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 519، المسألة 87 .
4- الكافي في الفقه، ص 436.
5- الكافي، ج 7، ص 398 - 399، باب شهادة أهل الملل، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 6، ص 252 - 253، ح 653 .
6- الكافي، ج 7، ص 399، باب شهادة أهل الملل، ح 8؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 179، ح 718 .
7- الكافي، ج 7، ص 399 باب شهادة أهل الملل، ح : تهذيب الأحكام، ج 6، ص 253، ح 654. وفي النسخ: «إذهاب» بدل «ذهاب» والأنسب ما أثبتناه في المصدرين.
8- أي الآية والروايتان المتقدّمتان آنفاً.

• ويثبت الإيمان بمعرفة الحاكم، أو قيام البينة أو الإقرار.

• وهل تقبل شهادة الذمّي على الذمّي ؟ قيل: لا. وكذا لا تقبل على غير الذمّي وقيل : تقبل شهادة كلّ ملّةٍ على ملّتهم. وهو استناد إلى رواية سماعة والمنع أشبه.

------------------

والحكم مختص بوصية المال، فلا تثبت الوصية بالولاية المعبّر عنها بالوصاية؛ وقوفاً فيما خالف الأصل على مورده.

ولو تعارض شهادة عدول أهل الذمة وفسّاق المسلمين فهم أولى؛ عملاً بظاهر النص(1) . وقدّم في التذكرة عليهم فسّاق المسلمين إذا كان فسقهم بغير الكذب والخيانة (2). وهو بعيد.

أما المستور من المسلمين، فإن اكتفينا في العدالة بظاهر الإسلام مع عدم ظهور المعارض، فلا ريب في ترجيحه على الذمّي وإن كان ظاهر العدالة. وإن منعنا من ذلك احتمل تقديم عدول أهل الذمة للآية (3)، وتقديم المستور، وبه قطع في التذكرة (4). وهو أولى.

وظاهر الآية إحلاف الذمّي بعد العصر بالصورة المذكورة في الآية، وهو أنهما ما خانا ولا كتما شهادة الله تعالى ولا اشتريا به ثمناً ولو كان ذا قربي. واعتبره العلامة أيضاً في التحرير(5). ولا ريب في أولويته؛ إذ لا معارض له، وعمومات النصوص (6) غير منافية له.

قوله « ويثبت الإيمان بمعرفة الحاكم أو قيام البينة أو الإقرار».

ومرجع الثلاثة إلى الإقرار؛ لأن الإيمان أمر قلبي لا يمكن معرفته إلا من معتقده بالإقرار، ولكن المصنف (رحمه الله) اعتبر الوسائط بينه وبين المقرّ.

قوله: «وهل تقبل شهادة الذمّي على الذمّي؟» إلى آخره.

ما تقدّم حكم شهادة الكافر على المسلم، أما على مثله فالمشهور بين الأصحاب

ص: 322


1- هي رواية حمزة بن حمران راجع ص 321 .
2- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 522 (الطبعة الحجرية).
3- المائدة (5): 106 .
4- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 521 - 522 (الطبعة الحجرية).
5- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 246، الرقم 6618.
6- منها ما في الكافي، ج 7، ص 4 - 5، باب الإشهاد على الوصية، ح 6 وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 178 - 179، ح 715 .

الرابع: العدالة

ما به يزول العدالة

الرابع: العدالة؛ إذ لا طمأنينة مع التظاهر بالفسق، ولا ريب في زوالها بمواقعة الكبائر، كالقتل والزنى واللواط وغصب الأموال المعصومة. وكذا بمواقعة الصغائر مع الإصرار أو في الأغلب.

------------------

أنّ الحكم كذلك؛ عملاً بعموم الأدلة.

وذهب الشيخ في النهاية إلى قبول شهادة كلّ ملّةٍ على ملّتهم وعليهم، لا على غيرهم ولا لهم(1) . وذهب ابن الجنيد إلى قبول شهادة أهل العدالة منهم في دينه على ملّته وعلى غير ملّته (2).

ومستند الشيخ رواية سماعة عن الصادق(علیه السّلام) قال: سألته عن شهادة أهل الملة، قال ،فقال: «لا تجوز إلا على أهل ملّتهم»(3).

ولا يخفى ضعف هذا المستند. وأولى بالمنع مذهب من عمّم.

قوله: «العدالة؛ إذ لا طمأنينة مع التظاهر بالفسق ولا ريب في زوالها بمواقعة الكبائر - إلى قوله - والأوّل أشبه».

العدالة شرط في قبول الشهادة، فلا تقبل شهادة الفاسق إجماعاً، قال تعالى: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبيَّنوا)(4)، والشهادة نبأ، فيجب التبين عندها، وقال تعالى: (وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِنكُمْ)(5) ، وقال: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) (6)، والفاسق ليس بمرضي الحال. وروي أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال: «لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية» (7).

ص: 323


1- النهاية، ص 334 .
2- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 519، المسألة 87 .
3- الكافي، ج 7، ص 398 باب شهادة أهل الملل، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 252، ح 652.
4- الحجرات (49): 6 .
5- الطلاق (65): 2 .
6- البقرة (2): 282 .
7- سنن أبي داود. ج 3، ص 306. ح 3601؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 338، ح 20856، وفيهما: «لا تجوز شهادة».

أما لو كان في الندرة ، فقد قيل : لا يقدح ؛ لعدم الانفكاك منها ، إلا فيما يقل ، فاشتراطه التزام للأشق . وقيل : يقدح ؛ لإمكان التدارك بالاستغفار . والأول أشبه.

------------------

والكلام في العدالة يتوقف على أمرين: أحدهما: ما به يثبت. والثاني: ما به يزول.

فالأوّل قد تقدم البحث فيه فى القضاء(1) ، وأنه هل يحكم بها للمسلم من دون أن يعلم منه الاتصاف بملكتها، أم لا بد من اختباره وتزكيته؟

وأما الثاني فلا خلاف في زوالها بمواقعة الكبائر من الذنوب، كالقتل والزني وعقوق الوالدين، وأشباه ذلك.

وإنّما الكلام في أنّ الذنوب هل هي كلّها كبائر، أم تنقسم إلى كبائر وصغائر ؟ وقد اختلف الأصحاب وغيرهم في ذلك، فذهب جماعة منهم المفيد (2)، وابن البراج(3)، وأبو الصلاح (4) ،وابن إدريس(5)، والطبرسي - بل نسبه في التفسير إلى أصحابنا مطلقاً (6) - إلى الأوّل؛ نظراً إلى اشتراكها في مخالفة أمره تعالى ونهيه وجعلوا الوصف بالكبر والصغر إضافياً، فالقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى وكبيرة بالنسبة إلى النظر، وكذلك غصب الدرهم كبيرة بالنسبة إلى غصب اللقمة وصغيرة بالإضافة إلى غصب الدينار، وهكذا.

وذهب المصنّف (رحمه الله) وأكثر المتأخرين إلى الثاني؛ عملاً بظاهر قوله تعالى: (إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)(7) ، دلّ بمفهومه على أن اجتناب بعض

ص: 324


1- تقدم في ص 78 وما بعدها.
2- أوائل المقالات، ص 83 - 84 ( ضمن مصنفات الشيخ المفيد، ج 4).
3- المهذب، ج 2، ص 556.
4- الكافي في الفقه، ص 435.
5- السرائر، ج 2، ص 118 .
6- مجمع البيان، ج 3، ص 38 ، ذيل الآية 31 من سورة النساء (4).
7- النساء (4): 31 .

------------------

الذنوب - وهي الكبائر - يكفر السيئات، وهو يقتضي كونها غير كبائر. وقال تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَنَبِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَحِشَ)(1)، مدحهم على اجتناب الكبائر من غير أن يضايقهم في الصغائر. وفي الحديث: «إنّ الأعمال الصالحة تكفّر الصغائر»(2).

ثم على القول بالفرق بين الكبائر والصغائر فللعلماء في تفسير الكبيرة وجوه:

أحدها أنّها المعصية الموجبة للحدّ.

والثاني: أنها التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد في الكتاب أو السنة.

والثالث: أنّها الذنب الذي توعد الله عليه بالنار.

وعلى هذا القول دلّ خبر ابن أبي يعفور السابق عن الصادق، حيث سأله بما تعرف عدالة الرجل بين المسلمين ؟ إلى قوله: «وتعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار»(3).

وروي أنها سبع(4) ؛ وروي أنها إلى السبعين أقرب(5).

إذا تقرر ذلك، فعلى القول الأوّل يقدح في العدالة مواقعة أي معصية كانت. ولا يخفى ما في هذا من الحرج والضيق؛ لأنّ غير المعصوم لا ينفك عن ذلك، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج)(6).

وأجاب ابن إدريس بأن الحرج ينتفي بالتوبة (7).

ص: 325


1- النجم (53): 32 .
2- لم نعثر عليه في مجاميعنا الروائية. نعم، نقله المولى أحمد النراقي في مستند الشيعة، ج 18، ص 125.
3- الفقيه، ج 3، ص 38، ح 3283؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 241، ح 596: الاستبصار، ج 3، ص 12، ح 33.
4- راجع الكافي، ج 2، ص 277 - 279 ، باب الكبائر ، ح 3 و 8، وص 281 ، ح 14: الفقيه، ج 3، ص 561 - 562 ،ح 4934: تهذيب الأحكام، ج 4، ص 149 - 150، ح 417.
5- قاله الشهيد في الدروس الشرعيَّة، ج 2، ص 99 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10): ورواه ابن عباس على ما نقله عنه أبو بكر الكاشاني في بدائع الصنائع، ج 6، ص 408.
6- الحج (22): 78 .
7- السرائر، ج 2، ص 118 .

------------------

وأجيب بأنّ التوبة تسقط الكبائر والصغائر (1)، ولا يكفي في الحكم بالتوبة مطلق الاستغفار وإظهار الندم حتى يعلم من حاله ذلك، وهذا قد يؤدّي إلى زمان طويل يفوت معه الغرض من الشهادة ونحوها، فيبقى الحرج.

وعلى الثاني يعتبر اجتناب الكبائر كلّها وعدم الإصرار على الصغائر؛ فإنّ الإصرار عليها يلحقها بالكبيرة، ومن ثمّ ورد: «لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار» (2).

والمراد بالإصرار الإكثار منها، سواء كان من نوع واحدٍ أم من أنواع مختلفة. وقيل: المداومة على نوع واحد منها (3). ولعلّ الإصرار يتحقق بكلّ منهما. وفي حكمه العزم على فعلها ثانياً وإن لم يفعل.

وأما من فعل الصغيرة ولم يخطر بباله بعدها العزم على فعلها ولا التوبة منها، فهذا هو الذي لا يقدح في العدالة، وإلا لأدّى إلى أن لا تقبل شهادة أحد. ولعل هذا مما تكفّره الأعمال الصالحة من الصلاة والصيام وغيرهما، كما جاء في الخبر (4).

واعلم أنّ المصنف (رحمه الله) لم يتعرض للمروءة في قادح العدالة وكأنه لم يجعل تركها قادحاً أو يتوقف في ذلك. وهو قول لبعض العلماء (5) من حيث إنه يخالف العادة لا الشرع.

والأشهر اعتبارها في الشهادة، سواء جعلناها شطراً من العدالة، كما هو المشهور من أنّ العدل هو الذي تعتدل أحواله ديناً ومروءة وحكماً، أم جعلناها خارجةً عنها وصفةً برأسها. كما جرى عليه جماعة (6).

ص: 326


1- أجاب به العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 500، المسألة 77.
2- الكافي، ج 2، ص 288 باب الإصرار على الذنب، ح 1.
3- قاله الشهيد في القواعد والفوائد، ص 139 ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 15)؛ والسيوري في كنز العرفان في فقه القرآن، ج 2، ص 385.
4- تقدم تخريجه في ص 325 الهامش 2 .
5- انظر الحاوي الكبير، ج 17، ص 151 - 152.
6- منهم الشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 99 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ والعلامة في تحرير الأحكام الشرعية ، ج 5، ص 248، الرقم 6624.

------------------

وقد أغرب في القواعد حيث جعلها جزءاً من العدالة، وعرفها بأنها كيفية نفسانية راسخة تبعث على ملازمة التقوى والمروءة، ثمّ جعلها قسيماً للعدالة وشرطاً آخر لقبول الشهادة، فجمع بين القولين(1) .

وكيف كان، فالوجه أنّه لا تقبل شهادة من لا مروءة له؛ لأنّ اطراح المروءة إما أن يكون لخبل ونقصان، أو قلة مبالاة وحياء، وعلى التقديرين يبطل الثقة والاعتماد على قوله. أما المخبل فظاهر. وأمّا قليل الحياء؛ فلأن من لا حياء له يصنع ما شاء، كما ورد في الخبر (2).

وفي ضبط المروءة عبارات متقاربة، منها: أن صاحب المروءة هو الذي يصون نفسه عن الأدناس ولا يشينها عند الناس أو الذي يتحرّز عمّا يسخر منه ويضحك به، أو الذي بسيرة أمثاله في زمانه ومكانه.

فَمِنْ تَرْك المروءة لبس ما لا يليق بأمثاله، كما إذا لبس الفقيه لباس الجندي، وتردّد به في البلاد التي لم تجر عادة الفقهاء فيها بلبس هذا النوع من الثياب. وكما إذا لبس التاجر ثوب الحمالين ونحوهم بحيث يصير ضحكةً.

ومنه المشي في الأسواق والمجامع مكشوف الرأس والبدن، إذا لم يكن الشخص ممّن يليق به مثله. وكذا مد الرجلين في مجالس الناس.

ومنه الأكل في السوق، إلا أن يكون الشخص سوقيّاً أو غريباً لا يكترث بفعله. ومنه أن يقبل الرجل زوجته أو أمته بين يدي الناس، أو يحكي لهم ما يجري لهم في الخلوة، أو يُكثر من الحكايات المضحكة.

ومنه أن يخرج من حُسن العشرة مع الأهل والجيران والمعاملين، ويضايق في اليسير الذي لا يستقصي فيه.

ص: 327


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 494 - 495.
2- مسند أحمد، ج 5، ص 100، ح 16641؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1400 ، ح 4183؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 252، ح 4797 .

• وربما توهّم واهم أنّ الصغائر لا تطلق على الذنب إلا مع الإحباط. وهذا بالإعراض عنه حقيق؛ فإنّ إطلاقها بالنسبة ولكل فريق اصطلاح.

------------------

ومنه أن يبتذل الرجل المعتبر بنقل الماء والأطعمة إلى بيته، إذا كان ذلك عن شح وضنة. ولو كان عن استكانة أو اقتداء بالسلف التاركين للتكلّف لم يقدح ذلك في المروءة.

وكذا لو كان يلبس ما يجد ويأكل حيث يجد لتقلّله وبراءته من التكلفات العادية، ويُعرف ذلك بتناسب حال الشخص في الأعمال والأخلاق، وظهور مخايل الصدق عليه.

قوله: «وربما توهّم واهم أنّ الصغائر لا تطلق على الذنب إلا مع الإحباط. وهذا بالإعراض عنه حقيق» إلى آخره.

هذا الوهم ذهب إليه بعض الأصحاب، حيث قال:

إنّ الصغائر لا تُطلق على الذنب إلا على مذهب القائلين بالإحباط، على تقدير الموازنة بين الأعمال الصالحة والمعاصي (1).

كما نبه عليه تعالى بقوله: (إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(2)، وقال تعالى: (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا )(3)، فجعل الذنب الذي يحبط بالطاعة صغيرة، والذنب الذي يحبط الطاعة كبيرة. وتحقيق القول في الكلام.

وهذا بناء ضعيف؛ لأنّ الكبائر قد اعتبرها من قال بالإحباط ومن أبطله، وهم المحققون

والجمهور، والصغائر تطلق بالنسبة إلى الكبائر، ولا ضرورة إلى بنائها على القول الضعيف؛ لإمكان جعلها إضافيةً بالنسبة إلى ذنب آخر أو مخصوصة بذنوب معينة، وهو ما عدا الكبائر المحصورة في الكتاب والسنّة، كما هو مذهب الأكثر على أن القائل بالإحباط يعتبر الأكثر من الطاعة والمعصية، فيثبته أجمع، أو يثبت منه ما زاد عن مقابله من أي نوع كان من أنواع

ص: 328


1- انظر مجمع البيان ، ج 3، ص 38 ذيل الآية 31 من سورة النساء (4).
2- هود (11): 114 .
3- هود (11): 16 .

• ولا يقدح في العدالة ترك المندوبات ولو أصر مضرباً عن الجميع ما لم يبلغ حداً يؤذن بالتهاون بالسنن.

مسائل فیمن تُردّ شهادته

وهنا :مسائل

الأُولى: كلّ مخالف في شيء من أصول العقائد تُردّ شهادته، سواء استند في ذلك إلى التقليد أو إلى الاجتهاد.

ولا تُردّ شهادة المخالف في الفروع من معتقدي الحق، إذا لم يخالف الإجماع. ولا يفسق وإن كان مخطئاً فى اجتهاده.

------------------

المعاصي، فربما كانت المعصية المخصوصة على هذا مما يحبط عن شخص، ويبقى على آخر بالنظر إلى ما يقابلها من الطاعة، فلا يتحقق الصغيرة في نوع من أنواع المعاصي، ومن ثَمّ أطلق على هذا الفهم الوهم، وجعله حقيقاً بالإعراض عنه.

ثم على تقدير تسمية القائلين بالإحباط ما يكفّر من السيئات صغيرة فهو اصطلاح لهم لا يلزم الفقيه مثله؛ فلكل فريق اصطلاح يرجعون إليه، وأسماء يطلقونها لا يلزم مثلها لغيرهم.

قوله: «ولا يقدح في العدالة ترك المندوبات» إلى آخره.

ترك المندوبات لا يقدح في التقوى ولا يؤثر في العدالة، إلا أن يتركها أجمع فيقدح فيها؛ لدلالته على قلة المبالاة بالدين، والاهتمام بكمالات الشرع.

ولو اعتاد ترك صنف منها كالجماعة والنوافل ونحو ذلك - فكترك الجميع؛ لاشتراكهما في العلة المقتضية لذلك. نعم، لو تركها أحياناً لم يضر.

قوله: «كلّ مخالف في شيء من أصول العقائد تردّ شهادته» إلى آخره .

المراد بالأصول التي تردّ شهادة المخالف فيها أُصول مسائل التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد. أما فروعها من المعاني والأحوال وغيرهما من فروع علم الكلام فلا يقدح الاختلاف فيها؛ لأنّها مباحث ظنّيّة، والاختلاف فيها بين علماء الفرقة الواحدة كثير شهير.

ص: 329

الثانية: • لا تقبل شهادة القاذف. ولو تاب قبلت. وحد التوبة أن يُكذِّب نفسه وإن كان صادقاً، ويورّي باطناً. وقيل: يُكذِّبها إن كان كاذباً، ويخطئها في الملا إن كان صادقاً. والأوّل مرويّ.

------------------

وقد عدّ بعض العلماء(1) جملة مما وقع الخلاف فيه منها بين المرتضى وشيخه المفيد، فبلغ نحواً من مائة مسألة، فضلاً عن غيرهما.

والمراد بالفروع التي لا تقدح فيها المخالفة المسائل الشرعية الفرعية؛ لأنها مسائل اجتهادية، والأصول التي تبنى عليها من الكتاب والسنة كلّها ظنّيّة.

وينبغي أن يراد بالإجماع الذي تقدح مخالفته فيها إجماع المسلمين قاطبةً، أو إجماع الإمامية مع العلم بدخول قول المعصوم في جملة قولهم؛ لأنّ حجية الإجماع في قوله على ،أصولهم، لا مطلق إجماعهم؛ إذ لا عبرة بقول غير المعصوم منهم مطلقاً، وما لم يعلم دخول قوله في قولهم فلا عبرة بقولهم وإن كثر القائل. وقد تمادى بعضهم فسمّى مثل ذلك إجماعاً، بل سمّى المشهور. ومخالفة مثل ذلك غير قادح بوجه من الوجوه؛ كما تقتضيه قواعدهم الدالة على حجية الإجماع، فتنبه لذلك؛ لئلا تقع في الغلط اغتراراً بظاهر الاصطلاح واعتماداً على الدعوى.

قوله: «لا تقبل شهادة القاذف. ولو تاب قبلت» إلى آخره.

لا خلاف في عدم قبول شهادة القاذف قبل توبته ولقوله تعالى: (وَلَا تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَدَةٌ أَبَدًا)(2). فإذا تاب قبلت شهادته.

واختلفوا في حد توبته، فقيل: أن يكذب نفسه فيما كان قذف به(3)، سواء كان صادقاً في قذفه أم كاذباً.

ص: 330


1- هو قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي على ما حكاه عنه ابن طاوس في كشف المحجة لثمرة المهجة . ص 64.
2- النور (24): 4.
3- قال به الشيخ في النهاية، ص 326 وابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 440.

------------------

ثم إن كان كاذباً فتكذيبه نفسه مطابق للواقع، وإن كان صادقاً ورى باطناً بما يخرجه عن الكذب في تكذيبه نفسه مع كونه غير كاذب في نفس الأمر.

وإنّما لزمه التكذيب مطلقاً؛ لأن الله تعالى سمّى القاذف كاذباً متى لم يأتِ بالشهداء على ما قذف به، بقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) إلى قوله: (فَأُولَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَذِبُونَ)(1).

ولما روي عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «توبة القاذف إكذابه نفسه»(2).

ولرواية أبي الصباح الكناني عن الصادق (علیه السّلام) قال: سألته عن القاذف بعد ما يقام عليه الحد ما توبته؟ قال: «يُكذِّب نفسه»، قلت: أرأيت إن أكذب نفسه وتاب تقبل شهادته؟ قال: «نعم»(3).

ومرسلة يونس عن أحدهما (علیهما السّلام) قال: سألته عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته بعد الحدّ إذا تاب؟ قال: «نعم»، قلت: وما توبته؟ قال: «يجيء فيكذب نفسه عند الإمام ويقول : قد افتريت على فلانة، ويتوب ممّا قال»(4). ومثله رواية ابن سنان عن الصادق (علیه السّلام)(5).

وإلى هذا ذهب الشيخ في النهاية (6)، وجماعة (7).

ص: 331


1- النور (24): 13.
2- تلخيص الحبير، ج 4، ص 204، ذيل الحديث 2131؛ الدر المنثور، ج 1، ص 131 - 132، ذيل الآية 5 من سورة النور (24).
3- الكافي، ج 7، ص 397 باب شهادة القاذف والمحدود، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 245، ح 615: الاستبصار، ج 3، ص 36 ، ح 120.
4- الكافي، ج 7، ص 397 باب شهادة القاذف والمحدود، ح 5 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 245، ح 617: الاستبصار، ج 3، ص 36، ح 122.
5- الكافي، ج 7، ص 397 - 398، باب شهادة القاذف والمحدود، ح 6 ؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 245، ح 616؛ ،الاستبصار، ج 3، ص 36 ، ح 121 .
6- النهاية، ص 326 .
7- منهم ابن زُهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 440؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 99 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10) وابن فهد الحلّي في المقتصر ، ص 388.

• وفي اشتراط إصلاح العمل زيادة عن التوبة تردّد. والأقرب الاكتفاء بالاستمرار؛ لأن بقاءه على التوبة إصلاح ولو ساعة.

------------------

وقال في المبسوط - وابن إدريس (1)، والعلّامة (2)- : حدّها أن يكذب نفسه إن كان كاذباً، ويعترف بالخطإ إن كان صادقاً ؛ لأنّ تكذيبه نفسه مع عدم كونه كاذباً في نفس الأمر قبيح، فيكفيه الاعتراف بالخطا(3).

وفيه مع أنّ إثبات الفرق بين الحالين يفهم من قوله بأنه مخطئ دون كاذب أن ما قذف به واقع، فهو قذف آخر تعريضي، وهو غير جائز. فما اختاره المصنف (رحمه الله) أنسب بالحكمة المطلوبة للشارع من الستر، وجبر الفرية بالحدّ مؤيد بظاهر الآية(4) ، وصريح الرواية (5).

قوله « وفي اشتراط إصلاح العمل زيادة عن التوبة تردّد» إلى آخره .

ذهب بعض الأصحاب(6) إلى اشتراط إصلاح العمل زيادة على التوبة في قبول شهادة القاذف؛ لقوله تعالى في حق القاذف: ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَدَةٌ أَبَدًا وَأُوْلَبِكَ هُمُ الْفَنسِقُونَ • إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(7)، فاستثنى ممن لا تقبل لهم شهادة منهم الذين تابوا وأصلحوا، فلا يكفي التوبة وحدها؛ لأنّ المستثنى فاعل الأمرين معاً.

والأظهر - وهو الذي اختاره المصنف (رحمه الله) - الاكتفاء بالاستمرار على التوبة؛ لتحقق الإصلاح بذلك. والأمر المطلق يكفي في امتثاله المسمّى والأصل عدم اشتراط أمرٍ آخر. وفي الروايات السابقة ما يدلّ عليه.

ص: 332


1- السرائر، ج 2، ص 116.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 494؛ تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 249، الرقم 6625؛ إرشاد الأذهان، ج 2. ص 157 .
3- المبسوط، ج 5، ص 541.
4- النور (24): 4.
5- تقدّمت الرواية في ص 331، مع تخريجها في الهامش 4.
6- كابن حمزة في الوسيلة، ص 231 .
7- النور (24): 4 و 5.

• ولو أقام بيّنةً بالقذف أو صدقه المقذوف فلا حدّ عليه ولارد.

الثالثة: • اللعب بآلات القمار كلّها ،حرام كالشطرنج والنرد والأربعة عشر، وغير ذلك، سواء قصد الحذق أو اللهو أو القمار.

------------------

قوله: «ولو أقام بيّنةً بالقذف أو صدقه المقذوف فلا حدّ عليه ولا ردّ».

لأن الله تعالى شرط في ردّ شهادته عدم الإتيان بالشهداء بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَةٌ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَدَةٌ أَبَدًا )(1) . وإقرار المقذوف أقوى من البيئة، فيسقطان به بطريق أولى.

قوله: «اللعب بآلات القمار كلها حرام» إلى آخره.

مذهب الأصحاب تحريم اللعب بآلات القمار كلّها، من الشطرنج والنرد والأربعة عشر وغيرها. ووافقهم على ذلك جماعة من العامة، منهم أبو حنيفة (2) ومالك (3) وبعض الشافعية(4) .

ورووا عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله»(5) .

وفي رواية أخرى أنّه: «من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير»(6).

وروى الأصحاب عن الصادق (علیه السّلام) قال : «قال أمير المؤمنين(علیه السّلام) : الشطرنج والنرد هما الميسر» (7).

وعن الصادق (علیه السّلام) قال: «إنّ الله عزّ وجلّ في كلّ ليلة من شهر رمضان عتقاء من النار، إلا

ص: 333


1- النور (24): 4 .
2- اللباب المطبوع مع شرح الكتاب، ج 4، ص 62: بدائع الصنائع، ج 6، ص 408؛ وأيضاً حكاه عنه القفّال في حلية العلماء، ج 8، ص 251.
3- المدوّنة الكبرى، ج 5، ص 153.
4- روضة الطالبين، ج 8، ص 203.
5- مسند أحمد، ج 5، ص 536، ح 19027 و 19028؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1237 - 1238، ح 3762؛ سنن أبي داود، ج 4 ص 285، ح 4938؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 10، ص 1362 و 363 ، ح 20950 و 20951.
6- مسند أحمد، ج 1، ص 483، ح 22470؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1238، ح 3763؛ سنن أبي داود ج 4، ص 285 . ح 4939: السنن الكبرى البيهقي ، ج 10، ص 362 ، ح 20949.
7- الكافي، ج 6 ، ص 435 ، باب النرد والشطرنج، ح 3.

الرابعة • شارب المسكر تُردّ شهادته ويفسق خمراً كان أو نبيذاً أو بتعاً أو منصفاً أو فضيخاً، ولو شرب منه قطرة. وكذا الفقاع. وكذا العصير إذا غلى من نفسه أو بالنار، ولو لم يُسكر، إلا أن يغلي حتى يذهب ثلثاه. أما غير العصير من التمر أو البسر، فالأصل أنه حلال ما لم يُسكر.

------------------

من أفطر على مسكر أو مشاحن أو صاحب شاهين»، قلت: وأي شيء صاحب شاهين؟ قال: «الشطرنج»(1) .

وروی معمر بن خلاد - في الصحيح - عن أبي الحسن (علیه السّلام) قال: «النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة، وكلّ ما قومر عليه فهو ميسر»(2). وفي معناها أخبار كثيرة(3).

وظاهر النهي أنها من الصغائر، فلا يقدح في العدالة إلا مع الإصرار عليها. ثم النرد والشطرنج مشهوران. وأمّا الأربعة عشر ففسروها بأنها قطعة من خشب فيها حفر في ثلاثة أسطر، ويجعل في الحفر حصى صغار يلعب بها(4).

قوله: «شارب المسكر تردّ شهادته ويفسق » إلى آخره.

لا فرق في تحريم المسكر بين اتخاذه من العنب وغيره عند الأصحاب وأكثر العامة؛ لقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «كل مسكر حرام»(5).

وقول الصادق(علیه السّلام): «إنّما حرم الخمر لفعلها وفسادها»(6).

وروى عليّ بن يقطين - في الصحيح - عن الكاظم (علیه السّلام) قال: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يحرم الخمر لاسمها، ولكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(7) .

ص: 334


1- الكافي، ج 1، ص 435 - 436، باب النرد والشطرنج، ح 5.
2- الكافي، ج 6، ص 435، باب النرد والشطرنج، ح 1.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 17، ص 318 - 326، الباب 102 - 104 من أبواب ما يكتسب به.
4- راجع المبسوط ، ج 5، ص 585 .
5- الكافي، ج 6، ص 407 - 408، باب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم كل سكر .... ح 1 و 6 .
6- الكافي، ج 6، ص 412، باب أن الخمر إنما حرمت لفعلها .... 3.
7- الكافي، ج 6 ، ص 412، باب أن الخمر إنّما حرمت لفعلها .... ح 2.

• ولا بأس باتخاذ الخمر للتخليل.

------------------

وفي حديث له عنه (علیه السّلام): «فما فعل فعل الخمر فهو خمر» (1).

ولا فرق في المسكر بين ما يسكر منه وغيره؛ لتعليق التحريم على الاسم. وفي معناه الفقاع عندنا. وكذا العصير العنبي إذا غلى وإن لم يشتدّ ، وقد تقدم البحث فيهما في باب الأطعمة(2). وأما ما لا يسكر من الأشربة غير ما ورد النص بتحريمه (3) فالأصل فيه الحلّ، ومنه عصير الزبيب والتمر وغيرهما.

وفي الدروس قيد العصير العنبي مع غليانه بالاشتداد(4) . وليس كذلك؛ فإنّ تحريمه معلّق علی مجرّد الغليان وإنّما نجاسته عند من قال بها من الأصحاب (5)، معلقة على الاشتداد والبحث هنا في التحريم لا في النجاسة.

نعم، ذهب في الذكرى إلى تلازم الوصفين(6). وهو ممنوع. وقد حققناه فيما سبق (7).

قوله: «ولا بأس باتخاذ الخمر للتخليل».

روى زرارة - في الحسن - عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلاً، قال: «لا بأس»(8).

وروى عبيد بن زرارة - في الموثق أو الصحيح - عنه (علیه السّلام) في الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلّاً، قال: «لا بأس»(9).

ص: 335


1- الكافي، ج 6 ، ص 412، باب أنّ الخمر إنّما حرمت لفعلها .... ح 1.
2- تقدّم في ج 9، ص 401 وما بعدها.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 25، ص 336 - 341، الباب 17 من أبواب الأشربة المحرمة.
4- الدروس الشرعية، ج 2، ص 100 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
5- كالعلامة في قواعد الأحكام، ج 1، ص 191.
6- ذكرى الشيعة، ج 1 ، ص 74 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 5).
7- تقدم في ج 9، ص 402.
8- الكافي، ج 1، ص 428، باب الخمر تجعل خلاً، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 117، ح 504.
9- الكافي، ج 1، ص 428، باب الخمر تجعل خلاً، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 117، ح 505؛ الاستبصار، ج 4، ص 93 ، ح 356.

الخامسة • مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب يفسق فاعله وتردّ شهادته، وكذا مستمعه، سواء استعمل في شعر أو قرآن ولا بأس بالحداء.

------------------

ولا فرق بين اتخاذها بشيء يجعل فيها وعدمه عند الأصحاب، وإن كان ترك العلاج بشيء أفضل. وقد تقدم البحث فيه(1) .

قوله: «مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب يفسق فاعله وتردّ شهادته وكذا مستمعه، سواء استعمل في شعر أو قرآن ولا بأس بالحداء».

الغناء عند الأصحاب محرّم، سواء وقع بمجرد الصوت أم انضم إليه آلة من آلاته.

فقد ورد في تفسير قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلُّ عَن سَبِيلِ اللهِ) (2) أنّه الغناء(3) .

وروي أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل»(4).

ومن طريق الخاصة ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال سمعته يقول: «الغناء مما وعد الله عليه النار، وتلا هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ»(5).

وروى أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ) قال: «الغناء»(6).

وفي معناها أخبار كثيرة(7).

ص: 336


1- تقدم في ج 9، ص 424 - 425.
2- لقمان (31): 6 .
3- التبيان، ج 8، ص 244 : مجمع البيان، ج 8، ص 313، ذيل الآية 6 من سورة لقمان (31).
4- السنن الكبرى ، البيهقي ، ج 10، ص 377 - 378 ، ح 21008 ؛ تلخيص الحبير ، ج 4 ، ص 199، ح 2113 ؛الدر المنثور، ج 6 ، ص 505 ذيل الآية 6 من سورة لقمان (31).
5- الكافي، ج 1، ص 431، باب الغناء، ح 4.
6- الكافي، ج 1، ص 431، باب الغناء، ح 1.
7- راجع وسائل الشيعة، ج 17، ص 303 - 312، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به.

• ويحرم من الشعر ما تضمّن كذباً أو هجاء مؤمن أو تشبيباً بامرأة معروفة غير محلّلة له. وما عداه .مباح. والإكثار منه مكروه.

------------------

والمراد بالغناء الصوت المشتمل على الترجيع المطرب. كذا فسره به المصنف (رحمه الله ) وجماعة(1) .

والأولى الرجوع فيه إلى العرف فما يُسمّى فيه غناء يحرم لعدم ورود الشرع بما يضبطه، فيكون مرجعه إلى العرف.

ولا فرق فيه بين وقوعه بشعر وقرآن وغيرهما.

وكما يحرم فعل الغناء يحرم استماعه، كما يحرم استماع غيره من الملاهي.

أما الحداء - بالمد وهو الشعر الذي يحثّ به الإبل على الإسراع في السير - وسماعه فمباحان؛ لما فيه من إيقاظ النوّام وتنشيط الإبل للسير.

وقد روي أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال لعبد الله بن رواحة: «حرّك بالقوم، فاندفع يرتجز» (2). وكان عبد الله جيّد الحداء، وكان مع الرجال، وكان أنجشة مع النساء، فلمّا سمعه أنجشة تبعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة: «رويدك رفقاً بالقوارير» يعني النساء(3).

قوله « ويحرم من الشعر ما تضمن كذباً أو هجاء مؤمن» إلى آخره.

إنشاء الشعر وإنشاده والاستماع إليه جائز، وكيف لا وكان للنبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) شعراء يصغي إليهم، منهم حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة (رضي الله عنهما ) (4). واستنشد الشريد شعر أُمية بن أبي الصلت واستمع إليه (5).

ص: 337


1- منهم العلامة في إرشاد الأذهان، ج 2، ص 156؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 100 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
2- تلخيص الحبير، ج 4، ص 200، ح 2117.
3- النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 4، ص 39؛ وراجع السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 383 و 384، ح 21031 - 21033.
4- انظر السيرة الحلبية، ج 3، ص 425.
5- مسند أحمد، ج 5، ص 528 و 529، ح 18973 و 18982 مع اختلاف؛ صحیح مسلم، ج 4، ص 1767، ح 2255/1: السنن الكبرى، البيهقي، ج 10، ص 383، ح 21028 و 21030.

------------------

وفي حفظ دواوين العرب أبلغ معونة على درك أحكام الكتاب والسنة ومعانيهما. وقد قال بعض العلماء الشعر كلام فحسنه ،کحسنه وقبيحه كقبيحه، وفضله على الكلام أنه سائر (1).

ويحرم منه الهجاء لمؤمن، صدقاً كان أم كذباً. ولا فرق فيه بين التعريض والتصريح.

وكذا يحرم منه ما اشتمل على الفحش أو التشبيب بامرأة بعينها؛ لما فيه من الإيذاء والإشهار وإن كان صادقاً.

واحترز بغير المحلّلة له عن زوجته وأمته غير المزوّجة، ومقتضاه جواز التشبيب بهما. وربما قيل بأن ذلك يردّ الشهادة وإن لم يكن محرماً؛ لما فيه من سقوط المروة. وهو حسن.

وكذا التشبيب بالغلام محرم مطلقاً؛ لتحريم متعلقه.

وأما الشعر المشتمل على المدح والإطراء، فما أمكن حمله على ضرب من المبالغة فهو جائز، ألا ترى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس: «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأمّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه؟» (2). ومعلوم أنه كان يضعها كثيراً.

وإن لم يمكن حمله على المبالغة وكان كذباً محضاً فهو كسائر أنواع الكذب.

وربما قيل بعدم التحاقه بالكذب مطلقاً؛ لأنّ الكاذب يرى الكذب صدقاً ويروجه وليس غرض الشاعر أن يصدّق في شعره، وإنّما هو صناعة، كما أن التشبيب بغير المعين فنّ للشاعر، وغرضه به إظهار الصنعة في هذا الفنّ لا تحقيق المذكور، فلا يخلّ بالعدالة.

وعلى تقدير حلّه فالإكثار منه مكروه على ما وردت به الروايات(3) .

ص: 338


1- الأم، ج 6، ص 294: المجموع شرح المهذب، ج 7، ص 358؛ الحاوي الكبير، ج 17، ص 202.
2- أورده الشيخ بعينه في الخلاف، ج 4، ص 275 المسألة 33؛ والعلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 570 (الطبعة الحجرية) : وروي مع اختلاف يسير في مسند أحمد، ج 7، ص 561 ، ح 27775؛ وسنن الدارمي، ج 2، ص 135، باب النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه؛ وصحيح مسلم، ج 2، ص 114، ح 1480/36؛ وسنن النسائي. ج 6، ص 3242.
3- راجع اختيار معرفة الرجال، ص 211 - 212 ، ح 375؛ والسرائر ، ج 3، ص 33 .

السادسة: • الزمر والعود والصنج وغير ذلك من آلات اللهو حرام، يفسق فاعله ومستمعه ويكره الدفّ في الإملاك والختان خاصةً.

------------------

قوله: «الزمر والعود والصنج وغير ذلك من آلات اللهو حرام» إلى آخره.

آلات اللهو من الأوتار كالعود وغيره، كاليراع والزمر والطنابير والرباب والصنج، وهو الدفّ المشتمل على الجلاجل، حرام بغير خلاف.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى حرّم على أُمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة»(1). والكوبة هي الطبل. ويقال: طبل مخصوص وقصر بعض العامة التحريم عليه لذلك(2) .

وروى محمد بن الحنفية عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان في أُمتي خمسة عشر خصلة حصل بها البلاء: إذا اتخذوا الغنيمة دولةً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً وأطاع الرجل زوجته، وجفا أبيه، وعق أمه، ولبسوا الحرير وشربوا الخمور، واشتروا المغنيات والمعازف، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل السوء خوفاً منه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وسب آخر هذه الأمة أولها، فعند ذلك يرقبون ثلاثاً: حجراً وخسفاً ومسخاً»(3).

واستثني من ذلك الدفّ غير المشتمل على الصنج عند النكاح والختان؛ لقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): «أعلنوا النكاح والختان واضربوا عليها بالغربال» (4)؛ يعني الدق.

وروي أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال: «فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدفّ عند النكاح» (5).

ص: 339


1- مسند أحمد، ج 2، ص 351، ح 6511؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 331، ح 3696.
2- روضة الطالبين، ج 8، ص 206.
3- الخصال، ص 500 - 501 الباب ،15، ح 1 - 2 بتفاوت يسير.
4- سنن ابن ماجة، ج 1 ص 611 ، ح 1895؛ تلخيص الحبير، ج 4 ص 201، ح 2122؛ السنن الكبرى البيهقي.ج 7 ، ص 473 ، ح 14698، ولم يرد فيها: «الختان».
5- مسند أحمد، ج 4، ص 29 4 ، ح 15025؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 611 ، ح 1896؛ الجامع الصحيح، ج 3، ص 398، ح 1088، وليس فيه: «عند النكاح».

السابعة: • الحسد معصية، وكذا بغضة المؤمن والتظاهر بذلك قادح في العدالة.

الثامنة: • لبس الحرير للرجال في غير الحرب اختياراً محرم تُردّ به الشهادة. وفي التكأة عليه والافتراش له تردّد والجواز مروي. وكذا يحرم التختم بالذهب، والتحلّي به للرجال.

------------------

ومنع منه ابن إدريس مطلقاً(1) .

ورجحه في التذكرة ؛ محتجاً بأن الله تعالى ذم اللهو واللعب، وهذا منه (2).

قوله: «الحسد معصية، وكذا بغضة المؤمن والتظاهر بذلك قادح في العدالة».

لا خلاف في تحريم هذين الأمرين والتهديد عليهما في الأخبار (3) مستفيض وهما من الكبائر، فيقدحان في العدالة مطلقاً. وإنما جعل التظاهر بهما قادحاً؛ لأنهما من الأعمال القلبية، فلا يتحقق تأثيرهما في الشهادة إلا مع إظهارهما، وإن كانا محرّمين بدون الإظهار. والمراد ب«الحسد» كراهة النعمة على المحسود وتمنّي زوالها عنه، سواء وصلت إلى الحاسد أم لا.

وب «بغضه» كراهته واستثقاله لا لسبب ديني - كفسق - فيبغضه لأجله، سواء قاطعه مع ذلك أم لا. فإن هجره فهما معصيتان. وقد يحصل كلّ منهما بدون الأخرى.

قوله: «لبس الحرير للرجال في غير الحرب اختياراً محرم» إلى آخره.

تحريم لبس الحرير والذهب على الرجال موضع وفاق. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُحلّ الذهب والحرير للإناث من أُمتي، وحرم على ذكورها»(4).

ص: 340


1- السرائر، ج 2، ص 215 .
2- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 581 (الطبعة الحجرية).
3- راجع وسائل الشیعة،ج 12 ، ص 238 - 240 ، الباب 136 ، و ص 260 - 264 ، الباب 144 ، من ابواب احکام العشرة؛ و ج 15 ، 365 - 368 ، الباب 55 ، من ابواب جهاد النفس و نا یناسبه .
4- مسند أحمد، ج 5، ص 533، ح 19009؛ سنن النسائي، ج 8، ص 168 - 169، ح 5158؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 3، ص 390، ح 6112.

------------------

وقال(صلّی الله علیه و آله و سلّم): «لا تلبسوا الحرير؛ فإنّه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة»(1).

واستثني من الحرير أمور :

أحدها: حالة الحرب. فروى سماعة عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: سألته عن لباس الحرير والديباج، فقال: «أما في الحرب فلا بأس به، وإن كان فيه تماثيل»(2).

وروى إسماعيل بن الفضل عنه (علیه السّلام) قال: «لا يصلح للرجل أن يلبس الحرير إلا في الحرب»(3).

وثانيها: الضرورة إلى لبسه؛ لمرض ونحوه. فقد روي أن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما (4).

وفي رواية أخرى: «أنهما شكيا إليه القمل، فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة»(5).

وثالثها: اليسير منه، كالعلم والرقعة وطرف الثوب. ففي رواية عنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم): أنه نهى عن لبس الحرير إلا في موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة(6).

وفي تعدّي التحريم إلى غير اللبس من التكأة عليه في الوسائد والافتراش له قولان(7). منشؤهما اختلاف الأخبار، فروى العامة عن حذيفة (رحمه الله) قال: نهانا رسول الله(صلّی الله علیه و آله و سلّم)

ص: 341


1- صحیح مسلم، ج 3، ص 1641 - 1642، ح 2069/11.
2- الكافي، ج 6 ، ص 453، باب لبس الحرير والديباج، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 2، ص 208، ح 816؛ الاستبصار، ج 1، ص 386 ، ح 1466.
3- الكافي، ج 6، ص 453، باب لبس الحرير والدبياج، ح 4.
4- مسند أحمد، ج 4، ص 180، ح 13473: صحيح مسلم، ج 3، ص 1646، ح 24 - 2076/25؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 050 ح 4056.
5- مسند أحمد، ج 4، ص 43، ح 12580؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1647، ح 2076/26.
6- مسند أحمد، ج 1، ص 83، ح 367؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1643 - 1644، ح 2069/15؛ السنن الكبرى. البيهقي، ج 3، ص 382، ح 6083.
7- القول بعدم التحريم للشهيد في ذكرى الشيعة، ج 2، ص 390 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج (6)؛ والقول بالتحريم للشيخ في المبسوط، على ما حكاه عنه ابن فهد الحلي في المقتصر، ص 72.

التاسعة • اتخاذ الحمام للأنس وإنفاذ الكتب ليس بحرام وإن اتخذها للفرجة والتطير فهو مكروه. والرهان عليها قمار.

------------------

أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه(1) . ويؤيّده إطلاق النهي عنه في الخبر السابق.

والأصح الجواز؛ لصحيحة عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى(علیهما السّلام)، قال: سألته عن فراش حرير ومثله من الديباج، ومصلى من حرير ومثله من الديباج، يصلح للرجل النوم عليه والتكأة والصلاة عليه؟ قال: «يفرشه ويقوم عليه، ولا يسجد عليه»(2) .

ولأنّ النهي عنه في النصوص المعتبرة معلّق على اللبس(3)، فيبقى غيره على الأصل.

وأما الذهب فيحرم لبسه للرجال مطلقاً، سواء في ذلك التختم والتحلي وغيرهما.

قوله: «اتخاذ الحمام للأنس وإنفاذ الكتب ليس بحرام» إلى آخره.

اتخاذ الحمام للبيض والفرخ والأنس بها وحمل الكتب جائز بلاكراهة، بل في الأخبار(4) ما يدلّ على الترغيب فيه.

روي أنّ رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحدة، فقال: «اتخذ زوجاً من حمام»(5).

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: ليس من بيت فيه حمام إلا لم يصب أهل ذلك البيت آفة من الجنّ، إنّ سفهاء الجنّ يعبثون في البيت فيعبثون بالحمام، ويدعون الإنسان»(6).

ص: 342


1- مسند أحمد، ج 6، ص 561، ح 22927، وفيه: «نهى» بدل «نهانا»؛ سنن الدارقطني، ج 3، ص 550 و 551، ح 4709 و 4711؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 3، ص 378، ح 6066.
2- الكافي، ج 6، ص 477 - 478 ، باب الفرش، ح 8؛ تهذيب الأحكام، ج 2، ص 373 - 374، ح 1553.
3- راجع الكافي، ج 6، ص 454، باب لبس الحرير والديباج، ح : وتهذيب الأحكام، ج 2، ص 280، ح 814: والاستبصار، ج 1، ص 386، ح 1464 .
4- راجع وسائل الشيعة، ج 11، ص 514 - 518، الباب 31 من أبواب أحكام الدواب.
5- الكافي، ج 6 ، ص 546 ، باب الحمام ، ح 6: الفقيه، ج 3، ص 350 ، ح 4231 ، وفيهما: «الوحشة» بدل «الوحدة».
6- الكافي، ج 6، ص 546 ، باب الحمام، ح 5.

------------------

وروى عبد الكريم بن صالح قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السّلام) فرأيت على فراشه ثلاث حمامات خضر فقلت: جعلت فداك هذا الحمام يقذر الفراش، فقال: «لا، إنّه يستحبّ أن يسكن في البيت»(1).

وأمّا اقتناؤها للعب بها، وهو أن يطيّرها تنقلب في السماء ونحو ذلك، فإنّه مكروه؛ لما فيه من العبث وتضييع العمر فيما لا يجدي. ولكن لا تردّ به الشهادة، إلا أن يكثر بحيث يؤذن بقلّة المروّة، خلافاً لابن إدريس حيث جعل اللعب بها قادحاً لقبح اللعب(2). وهو ممنوع.

و رواية العلاء بن سيابة عن الصادق قال: سألته عن شهادة من يلعب بالحمام، قال: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق»(3)تدفع قبحه، وتدلّ على أن اللعب به ليس فسقاً، وإلا لاستحال التقييد به.

وفي خبر آخر بالإسناد قال: سمعته يقول: «لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام»(4) .

وأما الرهان عليها فمحرم؛ لما تقدّم في كتاب السبق من اختصاص جوازه بالخفّ والحافر من الحيوان (5).

وقيل: إن حفص بن غياث وضع للمهدي العباسي في حديث: «لا سبق إلا في نصل أو خفّ أو حافر»(6) قوله: «أو ريش» ليدخل فيه الحمام؛ تقرباً إلى قلب الخليفة حيث رآه يحبّ الحمام، فلما خرج من عنده قال: أشهد أن قفاه قفا كذاب، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ريش، ولكنه أراد التقرب إلينا بذلك، ثم أمر بذبح الحمام (7).

ص: 343


1- الكافي، ج 1، ص 548 ، باب الحمام، ح 15.
2- السرائر، ج 2، ص 124.
3- الفقيه، ج 3، ص 48 - 49، ح 3306؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 284، ح 784 .
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 284 ، ح 785 .
5- تقدم في ج 5، ص 220 .
6- الكافي، ج 5، ص 50 ، باب فضل ارتباط الخيل..... ح 14.
7- تاريخ الخلفاء السيوطي ، ص 275 ، وفيه: «غياث بن إبراهيم» بدل «حفص بن غياث».

العاشرة: • لا تُردّ شهادة أحد من أرباب الصنائع المكروهة، كالصياغة وبيع الرقيق، ولا من أرباب الصنائع الدنية،كالحياكة والحجامة، ولو بلغت في الدناءة كالزبال والوقاد؛ لأن الوثوق بشهادته مستند إلى تقواه.

الخامس: ارتفاع التهمة

لا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً و کذا من يستدفع بشهادته ضرراً

الخامس: • ارتفاع التهمة

ويتحقق المقصود ببيان مسائل:

الأولى: لا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً، كالشريك فيما هو شريك فيه وصاحب الدين إذا شهد للمحجور عليه، والسيّد لعبده المأذون، والوصي فيما هو وصي فيه.

------------------

قوله: «لا تردّ شهادة أحد من أرباب الصنائع المكروهة» إلى آخره.

أهل الحرف الدنية والمكروهة لا تردّ شهادتهم عندنا مطلقاً؛ لأنها حرف مباحة والناس محتاجون إليها، ولو ردّت شهادتهم لم يؤمن أن يتركوها فيعم الضرر.

وخالف في ذلك بعض العامة(1) : محتجاً بأن اشتغالهم بهذه الحرف ورضاهم بها يشعر بالخسة وقلّة المروءة، خصوصاً الحياكة؛ لإزراء الناس بهم، وعدّهم النسبة إلى الحياكة سباً وإيذاء.

وألحق بعضهم الصباغين والصياغين بهم(2).

وفرّق آخرون بين من يليق به هذه الحرف وكانت صنعة آبائه وغيره، فترد شهادة الثاني دون الأوّل(3) .

نعم، من يكثر منهم ومن سائر المحترفة الكذب والخلف في الوعد تردّ شهادته لذلك عند الجميع.

قوله «ارتفاع التهمة، ويتحقق المقصود ببيان مسائل».

نبّه بقوله ويتحقق المقصود» على أن مطلق التهمة غير قادح في الشهادة، بل التهمة في

ص: 344


1- راجع حلية العلماء، ج 8، ص 249 - 250؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 12، ص 35 المسألة 8360 .
2- روضة الطالبين، ج 8، ص 210 .
3- روضة الطالبين، ج 8، ص 210 .

وكذا . لا تقبل شهادة من يستدفع بشهادته ضرراً، كشهادة أحد العاقلة بجرح شهود الجناية. وكذا شهادة الوكيل والوصيّ بجرح شهود المدعي على الموصي أو الموكّل.

------------------

مواضع مخصوصة، وهي التي يذكرها ؛ فإنّ شهادة الصديق لصديقه والوارث لمورثه مقبولة وإن كان مشرفاً على التلف عندنا. وكذا شهادة رفقاء القافلة على اللصوص إذا لم يكونوا مأخوذين، مع ظهور التهمة في جميع ذلك. وسيأتي البحث فيه (1).

قوله: «لا تقبل شهادة مَنْ يستدفع بشهادته ضررا»ً إلى آخره.

شهادة المتهم مردودة إجماعاً؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقبل شهادة ظنين ولا خصم»(2) . والظنين المتهم.

وصحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عما يردّ من الشهود، قال: «الظنين، والمتّهم، والخصم»(3).

وللتهمة المانعة أسباب: منها أن يجرّ إلى نفسه بشهادته نفعاً ولو بالولاية، أو يدفع ضرراً، فلا تقبل شهادة السيد لعبده المأذون، والغريم للميت والمفلّس المحجور عليه، والوارث بجرح مورّثه؛ لأنّ الدية تجب له عند الموت بسبب الجرح، فيلزم أن يكون شاهداً لنفسه، والشريك لشريكه فيما هو شريك فيه، والوكيل للموكل فيما هو وكيل فيه، والوصي والقيم في محلّ تصرفهما؛ خلافاً لابن الجنيد حيث قبل شهادة الوصيّ لليتيم بمال(4) . ومال إليه في الدروس(5) والمشهور العدم. ولا ترد شهادتهم في غير ذلك.

ص: 345


1- يأتي في ص 347 وما بعدها.
2- رواه الشيخ في الخلاف، ج 6 ، ص 296، ذيل المسألة 43؛ وانظر السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 341 ،ح 20866؛ وتلخيص الحبير، ج 4، ص 203، ح 2128.
3- الكافي، ج 7، ص 395، باب ما يرد من الشهود، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 6، ص 242، ح 598.
4- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 543، المسألة 102.
5- الدروس الشرعية ، ج 2، ص 101 - 102 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
لا تقبل شهادة العدوّ على عدوّه

الثانية: • العداوة الدينية لا تمنع القبول؛ فإنّ المسلم تقبل شهادته على الكافر. أمّا الدنيوية فإنّها تمنع، سواء تضمّنت فسقاً أو لم تتضمّن

وتتحقق العداوة بأن يعلم من حال أحدهما السرور بمساءة الآخر، والمساءة بسروره، أو يقع بينهما تقاذف.

------------------

وكذا لا تقبل شهادة الشريك لشريكه في بيع الشقص ولا للمشتري؛ لأن شهادته تتضمن إثبات الشفعة لنفسه. فإن لم يكن فيه شفعة أو عفا عنها قبل الشهادة قبلت.

وكذا تقبل شهادة الغريم لمديونه الموسر مطلقاً، والمعسر قبل الحجر؛ لأنّ الحق متعلّق بذمته حينئذ لا بعين أمواله. ويحتمل العدم؛ لأنّ المعسر لا مطالبة عليه، فإذا أثبت له شيئاً أثبت المطالبة لنفسه.

وفي المنع من شهادة السيد للمكاتب مطلقاً قولان، من انتفاء سلطنته عنه، وظهور التهمة بعجزه، خصوصاً المشروط، وبالأوّل قطع العلامة في القواعد(1)، وبالثاني في التحرير(2). ولعلّه أقوى.

ولا فرق في التهمة المانعة بين كون الشهادة جالبة لنفع كما ذكر، أو دافعة لضر عن الشاهد، كجرح بعض العاقلة شهود الجناية خطأ؛ لأنّها تدفع عنه الغرم، وكشهادة الوصيّ والوكيل بجرح الشاهد على الموصى والموكل ؛ لأنهما يدفعان بها الغرم المأخوذ من أيديهما وإن لم يكن من مالهما. ومثله شهادة الزوج بزنى زوجته التي قذفها على الأظهر.

قوله: «العداوة الدينية لا تمنع القبول» إلى آخره.

من أسباب التهمة العداوة الدنيوية، فلا تقبل شهادة العدوّ على عدوّه عندنا، وعند أكثر العامة.

لنا: قوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم)في الخبر السابق: «لا تقبل شهادة ظنين ولا خصم»(3).

ص: 346


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 496.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 253، الرقم 6634.
3- سبق تخريجه في ص 345 الهامش 2 .

• وكذا لو شهد بعض الرفقاء لبعض على القاطع عليهم الطريق؛ لتحقق التهمة.

------------------

وقوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) : «لا تقبل شهادة خائن، ولا خائنة ولا ذي غمز على أخيه»(1). قيل: المراد من الخصم العدو.

والعداوة التي تردّ بها الشهادة هي التي تبلغ حداً يتمنى هذا زوال نعمة ذاك، ويفرح بمصيباته، ويحزن بمسراته. وذلك قد يكون من الجانبين، وقد يكون من أحدهما، فيختص برد شهادته على الآخر. فإن أفضت العداوة إلى ارتكاب ما يوجب الفسق فهو مردود الشهادة على الإطلاق. وإن عاداه من يريد أن يشهد عليه وبالغ في خصومته، فلم يجب وسكت ثم شهد عليه قبلت شهادته، وإلا اتخذ الخصماء ذلك ذريعة إلى إسقاط الشهادات. والعداوة الدينية لا توجب ردّ الشهادة، بل تقبل شهادة المسلم على الكافر، والمحق على المبتدع. وكذا من أبغض الفاسق لفسقه لم ترد شهادته عليه.

قوله: «وكذا لو شهد بعض الرفقاء لبعض على القاطع عليهم الطريق؛ لتحقق التهمة».

إذا شهد بعض الرفقاء لبعض على اللصوص، فإن لم يكن الشاهد مأخوذاً قبلت شهادته؛ لعدم التهمة. وإن كان مأخوذاً، فإن تعرّض لما أخذ منه لم تقبل في حق نفسه قطعاً.

وفي قبولها في حق غيره، وكذا لو لم يتعرّض لما أخذ منه وجهان، من ظهور التهمة فترد. وهو الذي قطع به المصنف (رحمه الله) وجماعة (2).

ويدلّ عليه إطلاق رواية محمد بن الصلت قال: سألت أبا الحسن الرضا (علیه السّلام) عن رفقة كانوا في طريق، فقطع عليهم الطريق، فأخذوا اللصوص فشهد بعضهم لبعض، قال: «لا تقبل شهادتهم إلا بإقرار اللصوص، أو بشهادة من غيرهم عليهم»(3).

ص: 347


1- معاني الأخبار، ص 208 ، باب معنى القانع والمعتر، ج 3، وفيه: «ولا ذي غمر» بدل «ولا ذي غمز».
2- منهم الشيخ في النهاية، ص 326؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 122؛ ويحيى بن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع، ص 541 وكلّهم أطلقوا الحكم بعدم القبول.
3- الكافي، ج 7، ص 394، باب شهادة الشريك والأجير والوصي، ح 2 الفقيه، ج 3، ص 40 - 41، ح 3286؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 246 - 247، ح 625.

• أمّا لو شهد العدوّ لعدوّه قبلت؛ لانتفاء التهمة.

النسب وإن قرب لا يمنع قبول الشهادة

الثالثة • النسب وإن قرب لا يمنع قبول الشهادة، كالأب لولده وعليه، والولد لوالده، والأخ لأخيه وعليه. وفي قبول شهادة الولد على والده خلاف؛ والمنع أظهر، ، سواء شهد بمالٍ أو بحق متعلّق ببدنه كالقصاص والحدّ.

------------------

ومن وجود العدالة المانعة من التهجم على غير الواقع، ومنع التهمة المانعة، بل هو كشهادة بعض غرماء المديون لبعض ، وكما لو شهدا لاثنين بوصيّة من تركة، وشهد المشهود لهما للشاهدين بوصية منها أيضاً.

واختار في الدروس القبول فيهما(1) . أما في هذه الصورة فلما ذكر. وأما في صورة التبعّض (2) فلتحقق المقتضي في أحد الطرفين والمانع في الآخر. وكذا القول في كلّ شهادة مبعضة.

قوله: «أمّا لو شهد العدوّ لعدوّه قبلت لانتفاء التهمة».

هذا إذا لم تتضمّن العداوة فسقاً، وإلا لم تقبل؛ لذلك، لا للعداوة نفسها.

ولا يخفى أنّ الفرح بمساءة المؤمن والحزن بمسرّته معصية، فإن كانت العداوة من هذه الجهة وأصرّ على ذلك فهو فسق وظهور الفسق مع التقاذف أوضح. فالجمع بين العداوة وقبول الشهادة لا يخلو من إشكال، إلا أن يفسّر الإصرار بالإكثار من الصغائر، لا بالاستمرار على واحدةٍ مخصوصة.

قوله: «النسب وإن قرب لا يمنع قبول الشهادة، كالأب لولده وعليه» إلى آخره.

ليس من أسباب التهمة عندنا العصبة (3)، فتقبل شهادة جميع الأقرباء لأقربائهم حتى الابن

ص: 348


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 101 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- في الأصل و «ض»: «أما مع التبعض».
3- في حاشية «و»: «وافق على قبول شهادة القريب مطلقاً مالك وأحمد في إحدى الروايتين، وذهب الشافعي إلى أنّ التعصيب من موانع القبول فلا تقبل شهادة أحد العمودين للآخر، وكذلك أبو حنيفة، ووافقنا بعض الشافعية. منه( رحمه الله)».

------------------

والأب؛ للأصل، وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «تجوز شهادة الولد لوالده، والوالد لولده، والأخ لأخيه»(1).

وسأل أبو بصير أبا عبد الله (علیه السّلام) عن شهادة الولد لوالده، والوالد لولده، والأخ لأخيه، فقال: «تجوز»(2).

ولا تشترط الضميمة في شهادة كلّ من الولد والوالد والأخ والزوجين للآخر، خلافاً للشيخ في النهاية (3) للأصل وعموم الأخبار(4) .

واستثنى أكثر الأصحاب من شهادة القريب شهادة الولد على والده، فحكموا بعدم قبولها، حتى نقل الشيخ في الخلاف عليه الإجماع (5).

واحتجوا عليه مع ذلك بقوله تعالى: ﴿وَصَاحِبُهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)(6)، وليس من المعروف الشهادة عليه والردّ لقوله وإظهار تكذيبه، فيكون ارتكاب ذلك عقوقاً مانعاً من قبول الشهادة.

ولا يخفى عليك ضعف هذه الحجّة؛ فإن قول الحق وردّه عن الباطل وتخليص ذمّته من الحق عين المعروف، كما ينبه عليه قوله (صلّی الله علیه و آله و سلّم): « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، فقيل: يا رسول الله كيف أنصره ظالماً ؟ قال: «تردّه عن ظلمه، فذلك نصرك إياه»(7).

ص: 349


1- الكافي، ج 7، ص 393 باب شهادة الوالد للولد .... ح 3.
2- الكافي، ج 7، ص 393، باب شهادة الوالد للولد .... ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 248، ح 632.
3- النهاية، ص 330.
4- الكافي، ج 7، ص 393، باب شهادة الوالد للولد .... ح 1 - 4 : تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 247 - 248 ، ح 630 - 633.
5- الخلاف، ج 6، ص 297 - 298. المسألة 45.
6- لقمان (31): 15 .
7- صحيح البخاري، ج 6، ص 2550، ح 6552: مسند أحمد، ج 3، ص 532، ح 11538؛ السنن الكبرى البيهقي.ج 6، ص 156، ح 11509 .تفاوت.

------------------

ولأن إطلاق النهي عن عصيان الوالد يستلزم وجوب طاعته عند أمره له بارتكاب الفواحش وترك الواجبات، وهو معلوم البطلان .

وأما دعوى الإجماع على وجه يتحقق بها الحجّة فممنوع، وقد خالف في ذلك المرتضى (رضي الله عنه)(1) ، وكثير من المتقدمين -كابن الجنيد وابن أبي عقيل - لم يتعرضوا للحكم بنفي ولا إثبات.

ويدل على القبول مع الأصل عموم قوله تعالى: (كُونُواْ قَوْمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَلِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ )(2) ، وقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ )(3).

ورواية داود بن الحصين أنه سمع الصادق (علیه السّلام) يقول: «أقيموا الشهادة على الوالدين والولد»(4).

ورواية علي بن سويد الشامي عن أبي الحسن (علیه السّلام) قال: «كتب أبي في رسالته إلي وسألته عن الشهادات لهم فأقم الشهادة لله ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين»(5). وروى إسماعيل بن مهران مثله(6) .

وإلى هذا القول ذهب الشهيد في الدروس(7) ، مع أنه في الشرح اختار المشهور؛ معوّلاً على الإجماع المنقول بخبر الواحد(8) .

ص: 350


1- الانتصار، ص 496، المسألة 273 .
2- النساء (4): 135 .
3- الطلاق (65): 2 .
4- الفقيه، ج 3، ص 49 ، ح 3307؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 257، ح 675.
5- الكافي، ج 7، ص 381 باب كتمان الشهادة، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 276، ح 757 .
6- الكافي، ج 7، ص 381 باب كتمان الشهادة ذيل الحديث .
7- الدروس الشرعية، ج 2، ص 106 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
8- غاية المراد، ج 4، ص 92 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).

•وكذا تقبل شهادة الزوج لزوجته، والزوجة لزوجها مع غيرها من أهل العدالة. ومنهم من شرط في الزوج الضميمة كالزوجة ولا وجه له .

ولعلّ الفرق إنّما هو لاختصاص الزوج بمزيد القوة في المزاج، أن تجذبه دواعي الرغبة.

------------------

واعترض في المختلف(1) على الاحتجاج بالآية بأنّ الأمر بالإقامة لا يستلزم القبول .

وأجيب بأنه لولاه لزم العبث في إقامتها، وبأنه معطوف على القبول وهو الشهادة على نفسه، ومعطوف عليه بالقبول وهو الشهادة على الأقربين، فلو كان غير مقبول لزم عدم انتظام الكلام، وأنه محال (2).

وعلى القولين ففي تعدّي الحكم إلى من علا من الآباء وسفل من الأولاد وجهان من الشكّ في صدق الأبوّة والبنوة على الجد وولد الولد بطريق الحقيقة. وأولى بالقبول هنا لو قيل به في القريب.

ولا يتعدّى إلى الأب والولد من الرضاعة؛ لعدم كونه ولداً حقيقة، ومن ثمّ لم يتبادر إليه عند الإطلاق، وصح سلبه عنه. مع احتمال دخوله.

ونبه المصنف( رحمه الله) بقوله سواء شهد بمال أو بحق متعلّق ببدنه كالقصاص والحدّ على خلاف بعض العامة، حيث حكم بقبول شهادة الولد على والده بالمال دون القصاص والحد محتجاً بأنه لا يجوز أن يكون سبباً لعقوبة الأب، كما لا يقتص منه ولا يحدّ بقذفه(3) .

قوله: « وكذا تقبل شهادة الزوج لزوجته إلى قوله - لو شهدت لزوجها في الوصية».

لا خلاف عندنا في قبول شهادة كل من الزوجين للآخر؛ لوجود المقتضي، وانتفاء المانع وضعف التهمة مع وصف العدالة.

ص: 351


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 511، المسألة 84.
2- غاية المراد، ج 4، ص 93 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).
3- الحاوي الكبير، ج 17، ص 165؛ روضة الطالبين، ج 8، ص 213 .

والفائدة تظهر لو شهد فيما تقبل فيه شهادة الواحد مع اليمين. وتظهر الفائدة في الزوجة لو شهدت لزوجها في الوصية.

------------------

لكن شرط الشيخ (رحمه الله) في النهاية انضمام عدل آخر إلى كلّ منهما (1)؛ استناداً إلى صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «تجوز شهادة الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها إذا كان معها غيرها»(2) .

وموقوف سماعة قال: سألته عن شهادة الرجل لامرأته؟ قال: «نعم»، والمرأة لزوجها؟ قال: «لا، إلا أن يكون معها غيرها»(3).

وجوابه: منع الدلالة؛ لأنه أطلق القبول في الزوج وقيده في الزوجة، فإلحاقه بها قياس مع وجود الفارق وأبعد منه الحاق باقى الأقارب كما مر (4).

ووجه التقييد في الرواية أنّ المرأة لا يثبت بها الحق منفردةً ولا منضمة إلى اليمين، بل يشترط أن يكون معها غيرها إلا ما استثني نادراً وهو الوصية، بخلاف الزوج، فإنه يثبت بشهادته الحق مع اليمين والرواية باشتراط الضميمة معها مبنيّة على الغالب في الحقوق، وهي ما عدا الوصية.

والمصنّف (رحمه الله) وافق الشيخ في الزوجة دون الزوج؛ عملاً بإطلاق الرواية الصحيحة (5)، وجعل الفائدة في شهادتها له بالوصية، فلا تقبل في الربع، بخلاف ما لو شهدت لغيره، وفرّق بينها وبين الزوج بقوة مزاجه وسداد عقله، بخلافها، ومن ثم كانت شهادة امرأتين بشهادة رجل فلا يوثق بعد التها لمن تميل إلى مطلوبه بدواعي الطبع بخلاف الرجل.

ص: 352


1- النهاية، ص 330 .
2- الكافي، ج 7، ص 392 - 393، باب شهادة المرأة لزوجها .... ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 247، ح 627 .
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 247، ح 629.
4- مرّ في ص 348 - 349.
5- أي صحيحة الحلبي المتقدمة آنفاً.

• و تقبل شهادة الصديق لصديقه وإن تأكدت بينهما الصحبة والملاطفة؛ لأنّ العدالة تمنع التسامح.

لا تقبل شهادة السائل في كفّه

الرابعة : • لا تقبل شهادة السائل في كفّه؛ لأنه يسخط إذا منع، ولأنّ ذلك يؤذن بمهانة النفس، فلا يؤمن على المال. ولو كان ذلك مع الضرورة نادراً لم يقدح في شهادته.

------------------

والأظهر عدم اشتراط الضميمة مطلقاً. وعلى القول بها يكفي انضمام امرأة أُخرى فيما يكتفى فيه بشهادة المرأتين، كنصف الوصية، والمال الذي يكتفى فيه بهما مع اليمين.

قوله: «وتقبل شهادة الصديق لصديقه وإن تأكدت بينهما الصحبة والملاطفة» إلى آخره.

نبه بالغاية على خلاف بعض الشافعية، حيث ذهب إلى أنه إذا كان بينهما ملاطفة وهدية لا تقبل شهادته له(1) . وعموم الأدلة يمنعه. والتهمة تندفع بالعدالة.

قوله: «لا تقبل شهادة السائل في كفّه» إلى آخره.

المشهور بين الأصحاب عدم قبول شهادة السائل في كفّه مطلقاً؛ لصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه (علیه السّلام) قال: سألته عن السائل الذي يسأل في كفّه هل تقبل شهادته؟ فقال: «كان أبي لا يقبل شهادته إذا سأل في كفّه»(2).

وموثقة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال: «ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة السائل الذي يسأل في كفه». قال أبو جعفر(علیه السّلام) : «لأنه لا يؤمن على الشهادة؛ وذلك لأنه إن أعطي رضي. وإن منع سخط»(3). وفي التعليل إيماء إلى تهمته.

ص: 353


1- هذا الخلاف لمالك في المدوّنة الكبرى، ج 5، ص 156، ولم ينقل عن الشافعية: راجع الحاوي الكبير، ج 17. ص 162 - 163 : وحلية العلماء ، ج 8، ص 260 - 261 : والمغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 12، ص 71، المسألة 8390 .
2- الكافي، ج 7، ص 397، باب ما يرد من الشهود، ح 14؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 244، ح 609.
3- الكافي، ج 7، ص 396، باب ما يردّ من الشهود، ح 13؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 243 - 244، ح 608.

الخامسة • تقبل شهادة الأجير والضيف وإن كان لهما ميل إلى المشهود له لكن يرفع التهمة تمسكهما بالأمانة.

------------------

واستثنى ابن إدريس من دعته الضرورة إلى ذلك (1). ووافقه المصنّف وجماعة من المتأخرين(2). وهو حسن.

وفي حكم السائل بكفّه الطفيلي.

والمراد بالسائل في كفّه من يباشر السؤال والأخذ بنفسه، والسؤال في الكفّ كناية عنه.

قوله: «تقبل شهادة الأجير والضيف وإن كان لهما ميل إلى المشهود له» إلى آخره.

لا خلاف في قبول شهادة الضيف من حيث هو ضيف؛ لعموم الأدلة المتناولة له، وارتفاع ريبة التهمة بواسطة التقوى.

وفي رواية أبي بصير قال: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً»(3).

وأما الأجير فاختلف الأصحاب فى شأنه، فجزم المصنف (رحمه الله) وقبله ابن إدريس بقبول شهادته(4) ، وعليه المتأخرون للأصل، وعموم قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ)(5)، (وَ أَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ)(6).

وذهب الشيخ في النهاية (7)، والصدوقان(8)، وأبو الصلاح(9) ، وجماعة(10) إلى عدم قبول

ص: 354


1- السرائر، ج 2، ص 122 .
2- منهم العلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 255 الرقم 6637 والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 105 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10)؛ والسيوري في التنقيح الرائع، ج 4، ص 299.
3- الفقيه، ج 3، ص 44 ، ح 3295 : تهذيب الأحكام ، ج 6، ص 258، ح 676 : الاستبصار، ج 3، ص 21، ح 64 .
4- السرائر، ج 2، ص 121 .
5- البقرة (2): 282 .
6- الطلاق (65): 2 .
7- النهاية، ص 325 .
8- الهداية، ص 286؛ وحكاه عنهما العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 501، المسألة 78 .
9- الكافي في الفقه، ص 436.
10- منهم ابن حمزة في الوسيلة، ص 230؛ وابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 440.

مسائل من لواحق صفات الشهود

تقبل شهادة الصغير والكافر والفاسق لو زال المانع عنهم

لواحق هذا الباب

وهی ست :

الأولى: • الصغير والكافر والفاسق المعلن إذا عرفوا شيئاً ثمّ زال المانع عنهم فأقاموا تلك الشهادة قبلت لاستكمال شرائط القبول ولو أقامها أحدهم في حال المانع فردّت ثمّ أعادها بعد زوال المانع قبلت.

------------------

شهادته ما دام أجيراً؛ لرواية العلاء بن سيابة عن الصادق (علیه السّلام) قال: «كان أمير المؤمنين (علیه السّلام) لا يجيز شهادة الأجير»(1).

ورواية زرعة قال: سألته عمّا يردّ من الشهود فقال: «المريب والخصم والشريك ودافع مغرم والأجير»(2).

وفي طريق الرواية الأولى أحمد بن فضال عن أبيه. والثانية ضعيفة موقوفة. فكان القول بالقبول أجود.

ويمكن حملهما على الكراهة؛ جمعاً بينهما وبين رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السّلام) :قال تكره شهادة الأجير لصاحبه، ولا بأس بشهادته لغيره، ولا بأس به له بعد مفارقته»(3) . أو على ما إذا كان هناك تهمة بجلب نفع أو دفع ضرر، كما لو شهد لمن استأجره على قصارة الثوب أو خياطته به ونحو ذلك؛ فإنّها لا تقبل قطعاً.

قوله: «الصغير والكافر والفاسق المعلن - إلى قوله لكن الأشبه القبول».

عد بعضهم من أسباب التهمة أن يدفع عار الكذب عن نفسه، فإذا شهد فاسق مستتر

ص: 355


1- الكافي، ج 7، ص 394، باب شهادة الشريك والأجير .... ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 246، ح 624: الاستبصار، ج 3، ص 21، ح 62.
2- تهذيب الأحكام، ج 6، ص 242، ح 599: الاستبصار، ج 3، ص 14 - 15 ، ح 38. وفيهما عن زرعة عن سماعة. قال ... .
3- تقدم تخريجها في ص 354، الهامش 3.

وكذا العبد لو ردّت شهادته على مولاه ثم أعادها بعد عتقه، أو الولد على أبيه فردت ثم مات الأب وأعادها.

أما الفاسق المستتر إذا أقام فردّت ثم تاب وأعادها، فهنا تهمة الحرص على دفع الشبهة عنه؛ لاهتمامه بإصلاح الظاهر. لكنّ الأشبه القبول.

------------------

بفسقه فردّ الحاكم شهادته ثم تاب فشهادته مقبولة بعد ذلك(1)، لكن لو أعاد تلك الشهادة قيل: لا تقبل (2).

وهذا بخلاف ما لو ردت شهادة الفاسق المعلن فسقه أو العبد أو الصبي أو الكافر، ثم تاب الفاسق وأعتق العبد وبلغ الصبي وأسلم الكافر، فأعادوا شهادتهم، فإنّها تقبل.

والفرق من وجهين:

أحدهما: أن العدالة والفسق يُدركان بالنظر والاجتهاد، فإذا أدى نظر الحاكم واجتهاده إلى فسق الشاهد حكم بردّها، وما حكم برده فقد أبطله ، فليس له أن يصححه من تلك الجهة التي أبطله بها. والعبد والصبي والكافر والفاسق المعلن ليس لهم أهلية الشهادة، وما أتوا به ليس بشهادة معتد بها حتى تقبل أو ترد، ولو علم الحاكم حالهم لم يصغ إلى كلامهم، فليس في أمرهم نظر ولا اجتهاد.

والثاني: أن المذكورين لا يتعيّرون برد الشهادة. أما العبد والصبي فليس إليهما نقصانهما. وأما الكافر فلا يعتقد كفره نقصاناً بل يفتخر به ولا يبالي برد شهادته؛ لتمسكه بدينه. وكذا الفاسق المعلن؛ فإنّه غير مبال بفسقه ولا يعدّه عاراً فكان كالكافر بخلاف الفاسق المستتر؛ فإنه يتعير بالرد؛ لأنّ الردّ يظهر فسقه الذي يسعى في إخفائه، ويعترف بأنه نقص؛ ولأنه يتهم بالكذب والمجازفة إذا ردّت شهادته، فإذا أعاد تلك الشهادة فقد يريد دفع غضاضة الكذب، أو يرى أنه كان الحاكم مخطئاً فى ظنّ الفسق به، فلما تبين خلافه قبل شهادته، وقد يتوهم

ص: 356


1- العلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 497.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 103 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
هل تقبل شهادة المملوك؟

الثانية: • قيل: لا تقبل شهادة المملوك أصلاً. وقيل: تقبل مطلقاً. وقيل: تقبل إلا على مولاه. ومنهم من عكس والأشهر القبول إلا على المولى.

------------------

أنه على فسقه لكن أظهر التوبة ليعيد الشهادة ويدفع العار، ومثل هذا لا يقدح في بلوغ الصبي وما في معناه.

والمصنّف (رحمه الله) بعد أن فرّق في الحكم بين الفاسق والمذكورين رجّح المساواة بينهم في القبول؛ لتحقق العدالة الدافعة لمثل هذه التهمة. وهو حسن مع ظهور صدق توبته، والثقة بعدم استنادها إلى ما يوجب التهمة.

ولو كان الكافر مستتراً بكفره ثمّ أسلم وأعادها فالوجهان. وكذا لو شهد على إنسان فردت شهادته لعداوة بينهما ثمّ زالت العداوة فأعاد تلك الشهادة، فإن كان مستتراً للعداوة فالوجهان، وإلا لم يمنع؛ لأنّ الردّ بالسبب الظاهر لا يورث عاراً.

ولو شهد لمكاتبه بمال أو لعبده بنكاح فردّت شهادته فأعادها بعد عتقهما، أو شهد اثنان من الشفعاء بعفو شفيع ثالث قبل أن يعفو فردّت شهادتهما ثم أعاداها بعد ما عفوا، أو شهد اثنان يرثان من رجل بجراحة عليه غير مندملةٍ فردّت شهادتهما ثم أعاداها بعد اندمال الجراحة، قبلت في الجميع. وربما جاء احتمال المنع من حيث التهمة بالرد. وهو ممنوع؛ لظهور هذه الموانع.

قوله: «قيل: لا تقبل شهادة المملوك أصلاً. وقيل: تقبل مطلقاً» إلى آخره.

اختلف الأصحاب في شهادة المملوك بسبب اختلاف الروايات، والنظر في الجمع بينها على أقوال:

الأوّل: قبول شهادته مطلقاً نقله المصنف ( رحمه الله) هنا عن بعض الأصحاب، وهو اختيار ابن عمه نجيب الدين يحيى بن سعيد في جامعه (1).

وحجته عموم قوله تعالى: (وَأَشْهِدُواْ ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)(2)، (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن

ص: 357


1- الجامع للشرائع، ص 540.
2- الطلاق (65): 2 .

------------------

رِّجَالِكُمْ )(1)، وغيرهما من آيات العموم (2) ؛ فإنّها تتناول المملوك كما تتناول الحرّ في أصح القولين للأصوليين.

و خصوص صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السّلام) قال: «تجوز شهادة العبد المسلم على الحر»(3). وهي تدلّ على جوازها على مثله بطريق أولى؛ لما سيأتي من الروايات الدالة جوازها على مثله زيادة على هذه(4) ؛

ورواية محمّد بن مسلم أيضاً عن أبي عبد الله (علیه السّلام) في شهادة المملوك [قال]: «إذا كان عدلاً فهو جائز الشهادة إنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك عمر، وذلك أنه تقدم إليه مملوك في الشهادة، فقال: إن أقمت الشهادة تخوّفت على نفسي، وإن كتمتها أثمت بربّي، فقال: هات شهادتك، أما إنّا لا نجيز شهادة مملوك بعدك»(5).

وحسنة بريد عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: سألته عن المملوك تجوز شهادته؟ قال: «نعم، إنّ أول من ردّ شهادة المملوك لفلان(6).

وحسنة عبد الرحمن بن الحجاج عنه (علیه السّلام) : «أنّ أمير المؤمنين (علیه السّلام) قال: لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً»(7).

وهذه الأخبار كلّها تدلّ على القبول مطلقاً، وتخصيصها على خلاف الأصل.

ص: 358


1- البقرة (2): 282 .
2- النساء (4): 6 .
3- الفقيه، ج 3، ص 41. ح 3287؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 249، ح 636؛ الاستبصار، ج 3، ص 16، ح 44، وفيها: «على الحرّ المسلم».
4- يأتي في ص 363.
5- الكافي، ج 7، ص 389 - 390، باب شهادة المماليك، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 248، ح 633: الاستبصار، ج 3، ص 15، ح 41.
6- الكافي، ج 7، ص 390 باب شهادة المماليك، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 6، ص 248، ح 635؛ الاستبصار، ج 3، ص 16، ح 43.
7- الكافي، ج 7، ص 389 باب شهادة المماليك، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 248، ح 634.

------------------

الثاني: عدم قبولها مطلقاً. ذهب إلى ذلك الحسن بن أبي عقيل من أصحابنا(1) . وهو قول أكثر العامة (2).

ومستنده من الأخبار صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما في حديث، وفي آخره: «العبد المملوك لا تجوز شهادته»(3). والمراد بنفي الجواز نفي القبول؛ إذ هو الظاهر.

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: سألته عن شهادة ولد الزني، قال: «لا ولا عبد»(4).

ورواية سماعة قال: سألته عمّا يردّ من الشهود فقال: «المريب، والخصم، والشريك، ودافع مغرم، والأجير، والعبد، والتابع، والمتهم كل هؤلاء تردّ شهادتهم»(5).

ومن الاعتبار أنّ الشهادة من المناصب الجليلة، فلا تليق بحال العبد كالقضاء، ولاستغراق وقته بحقوق سيّده، فلا يتفرّغ لتحمّل الشهادة ولا لأدائها، ولأنّ نفوذ القول على الغير نوع ،ولاية، فيعتبر فيها الحرّية كما في سائر الولايات.

وفيه نظر؛ لأن الجواز المنفي مغاير للقبول في المفهوم، فحمله عليه - خصوصاً مع معارضة تلك الأدلّة الكثيرة - ليس بجيد.

ومن الجائز حمله على معناه؛ بإرادة عدم جواز شهادته بدون إذن مولاه؛ لما في ذلك من تعطيل حق سيّده والانتفاع به بغير إذنه، ولو كان هذا خلاف الظاهر لكان المصير إليه أولى؛ مراعاة للجمع.

هذا مع أنّ صدر الرواية تضمن قبول شهادة المملوك على أهل الكتاب، وهو ينافي عدم قبول شهادته مطلقاً.

ص: 359


1- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 512، المسألة 86.
2- في حاشية «و»: «القول بقبول شهادة المملوك مطلقاً مذهب أحمد من العامة، [والقول ] بعدم قبول شهادة المملوك مطلقاً مذهب الثلاثة غير أحمد منه (رحمه الله)».
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 249، ح 638؛ الاستبصار، ج 3، ص 16، ح 46.
4- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 244، ح 612.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 242، ح 599: الاستبصار، ج 3، ص 14 - 15 ، ح 38.

------------------

وأيضاً فإنّ محمّد بن مسلم روى أيضاً قبول شهادة المملوك على الحرّ المسلم(1)، وروى قبول شهادته مطلقاً (2)، فلا وجه لترجيح المنع.

وأما صحيحة الحلبي فليست صريحةً في عدم القبول وقابلة للتأويل جمعاً. واقترانه بولد الزنى في الشهادة يطرق الاحتمال أيضاً؛ لما سيأتي من الخلاف فيه (3).

وأما رواية سماعة فوقوفها يوقف حالها، مضافاً إلى ضعف سندها (4)، فلا عبرة بها.

وأما كون الشهادة من المناصب المرتفعة عن مقام المملوكية فظاهر المنع، بل عين المتنازع، وفيما يسوغ للعبد من المناصب كالإمامة - ما هو أشرف منها.

و استغراق وقته في خدمة سيّده لا ينافي قبول شهادته؛ لإمكان وقوع ما لا ينافي ذلك ولو بإذنه.

فهذان القولان طرفا الأقوال، وبقي بينهما وسائط.

الثالث : قبولها مطلقاً إلا على مولاه. وهذا مذهب الأكثر، ومنهم الشيخان(5) والمرتضى (6) وسلار (7) والقاضي (8) وابن إدريس(9) والمصنف، وأكثر المتأخرين.

والمستند التوفيق بين الأدلّة.

ويناسب حمل أدلة المنع على شهادته على مولاه مشابهته للولد في عدم قبول شهادته على والده؛ لاشتراكهما في وجوب الطاعة، وتحريم العصيان والعقوق.

ص: 360


1- راجع تخريجهما في ص 358، الهامش 5 و 7.
2- راجع تخريجهما في ص 358، الهامش 5 و 7.
3- يأتي في ص 371 وما بعدها.
4- لأن في طريقها زرعة بن محمد، وهو واقفي. راجع الفهرست، الشيخ الطوسي، ص 210، الرقم 313.
5- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 726؛ والشيخ الطوسي في النهاية، ص 331.
6- الانتصار، ص 499 المسألة 274 .
7- المراسم، ص 232 .
8- المهذب، ج 2، ص 557.
9- السرائر، ج 2، ص 135.

------------------

وفيه نظر؛ لأنّ حمل أخبار المنع(1) على ذلك غير متعيّن؛ لما ذكرناه سابقاً، ولما سيأتي من الأخبار الدالّة على المنع من شهادته على غيره من الأحرار(2)، فيمكن حملها عليه.

و تشبيهه بالولد ممنوع ولو سلّم فالأصل ممنوع أيضاً، وقد تقدم (3).

واستدلّ في المختلف لعدم قبول شهادته على مولاه بصحيحة الحلبي عن الصادق (علیه السّلام) في رجل مات وترك جاريةٌ ومملوكين فورثهما أخ له فأعتق العبدين وولدت الجارية غلاماً، فشهدا بعد العتق أنّ مولاهما كان أشهدهما أنّه كان يقع على الجارية وأن الحمل منه، قال: «تجوز شهادتهما، ويردا عبدين كما كانا»(4) .

قال : وهي دالّة على قبول شهادته لسيده، والمنع من قبولها على سيده ، وإلا لم يكن للعتق فائدة (5).

وفي كلّ منهما نظر .

أما الأوّل: فلأنهما حين الشهادة لم يكونا شاهدين لسيدهما ظاهراً؛ لأن مولوية الولد إنّما تحققت بعد شهادتهما وحكم الحاكم بها. نعم، شهادتهما مع الحكم كشفا عن كون الشهادة في نفس الأمر للمولى، ولا يلزم منه قبولها مع ظهور الأمر له.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ لفظ «العتق» لم يقيد به الإمام ليكون دليلاً على اعتباره في القبول، بل هو في لفظ الراوي بياناً للواقع. سلّمنا لكن مفهوم الصفة ليس بحجة عنده.

والشيخ في الاستبصار حملها على أنها شهادة في الوصية(6)، فتقبل فيها لا غير، كما تقبل شهادة عدول الذمة عند عدم المسلمين.

ص: 361


1- تقدمت في ص 359.
2- سيأتي في ص 362.
3- تقدم في ص 349 .
4- تهذيب الأحكام، ج 6، ص 250، ح 642: الاستبصار، ج 3، ص 17، ح 50.
5- مختلف الشيعة، ج 8، ص 517، المسألة 86 .
6- الاستبصار، ج 3، ص 17، ذيل الحديث 50.

------------------

الرابع: عكسه. وهو عدم قبولها مطلقاً إلا على مولاه. وهذا القول نقله المصنّف (رحمه الله) هنا أيضاً، وكذلك العلّامة في القواعد(1)، ولم نعلم قائله.

ووجهه الجمع بين الأخبار أيضاً، بحمل أخبار القبول على مولاه، والمانعة على غيره.

ولا يخفى عدم الموجب لهذا التخصيص. مضافاً إلى ما ذكرناه سابقاً من وجوه ترجیح غيره .

الخامس: قبولها على مثله وعلى الكافر، وردّها على الحرّ المسلم وهو مذهب أبي عليّ بن الجنيد (2). وحجته - مع الجمع بين تلك الأخبار - قول الباقر (علیه السّلام) في رواية محمد بن مسلم: «لا تجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم»(3).

والتقييد بالصفة يدلّ على نفي الحكم عمّا عدا الموصوف .

وعلى تقدير عدم حجيّة مفهوم الوصف فيستدلّ على قبول شهادته على الذمّي بصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السّلام) أنه قال: «تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل الكتاب»(4) . وعلى العبد بما روي عن عليّ (علیه السّلام) أنه كان يقبل شهادة بعضهم على بعض، ولا يقبل شهادتهم على الأحرار. ذكر ذلك الشيخ في الخلاف(5) .

وفيه نظر؛ لأنّ رواية محمّد بن مسلم المذكورة معارضة بروايته أيضاً الصحيحة عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال: «تجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم»(6)، والرواية الثانية (7)

ص: 362


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 498.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 512، المسألة 86 .
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 249، ح 637؛ الاستبصار، ج 3، ص 16، ص 45.
4- الفقيه، ج 3، ص 45 - 46 ، ح 3299؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 249، ح 638: الاستبصار، ج 3، ص 16، ح 46. وفي الفقيه عن أبي جعفر (علیه السّلام) .
5- الخلاف، ج 6، ص 269، ذيل المسألة 19؛ وراجع أيضاً الحاوي الكبير، ج 17، ص 58: وحلية العلماء، ج 8، ص 247 .
6- تقدّم تخريجها في ص 358، الهامش 3.
7- راجع الهامش 4.

• ولو عتق قبلت شهادته على مولاه .

------------------

لا تدلّ على نفي قبولها على غير أهل الكتاب إلا بالمفهوم الضعيف، والرواية الثالثة (1) ليس لها استناد يعتمد، وقد عارضها رواية عبد الرحمن بن الحجاج أن أمير المؤمنين (علیه السّلام)كان يقول: «لا بأس بشهادة المملوك »(2) من غير تقييد بكون شهادته على مثله.

السادس: قبولها لغير مولاه وعليه، وردّها له وعليه. ذهب إلى ذلك أبو الصلاح (رحمه الله)(3). وحاول به أيضاً الجمع بين الأخبار، وأنّ في شهادته لمولاه تهمة بجرة النفع إليه وعليه عقوق ومعصية. وقد تقدّم ما فيه (4).

السابع: قال ابنا بابويه: لا بأس بشهادة العبد إذا كان عدلاً لغير سيده(5). وهو يعطي المنع ممّا عدا ذلك من حيث المفهوم لا المنطوق. وإطلاق شهادته لغير سيّده يشمل شهادته له على سيّده ويخرج بمفهومها شهادته لسيّده على غيره.

وفي رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: سألته عن الرجل المملوك المسلم تجوز شهادته لغير مواليه؟ فقال: «تجوز في الدين والشيء اليسير»(6).

قوله: «ولو عتق قبلت شهادته على مولاه ».

لوجود المقتضي للقبول وهو الحرّية مع باقي الشرائط، وانتفاء المانع؛ إذ ليس إلا الرقية وقد زالت. لكن لو كان قد أداها حال الرقيّة فردّت افتقر إلى إعادتها بعده؛ لأنّ السابقة مردودة فلا يبنى عليها. وكذا لو شهد الولد على والده ثم مات الأب فأقامها بعده.

ص: 363


1- تقدّم تخريجها في ص 362 ، الهامش 5.
2- الكافي، ج 7، ص 389 باب شهادة المماليك، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 248، ح 634: الاستبصار، ج 3، ص 15 ، ح 42.
3- الكافي في الفقه، ص 435 .
4- تقدم في ص 360.
5- المقنع، ص 397؛ وحكاه عنهما العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 513، المسألة 86.
6- تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 250، ح 640: الاستبصار، ج 3، ص 17، ح 48.

• وكذا حكم المدبّر والمكاتب المشروط. أما المطلق إذا أدّى من مكاتبته [شيئاً ] قال في النهاية تقبل على مولاه بقدر ما تحرّر منه وفيه تردّد أقربه المنع.

المعتبر في قبول شهادة الشاهد علمه بما يشهد به

الثالثة: • إذا سمع الإقرار صار شاهداً وإن لم يستدعه المشهود عليه. وكذا لو سمع اثنين يوقعان عقداً، كالبيع والإجارة والنكاح وغيره.

------------------

قوله: «وكذا حكم المدبّر والمكاتب المشروط» إلى آخره.

المدبّر قبل موت مولاه بحكم القنّ. وكذا المكاتب المشروط، سواء أدّى شيئاً من مال الكتابة أم لا؛ لبقائه على الرقية ما بقي عليه شيء وإن قلّ، وعوده إليها لعجزه عنه كذلك.

أمّا المطلق فإن لم يؤد شيئاً فكذلك؛ لأنّ المقتضي للقبول هو الحرية ولم تحصل.

وإن أدى شيئاً، قال الشيخ في النهاية(1) وابن الجنيد (2) والقاضي (3) وجماعة (4): تقبل شهادته بنسبة ما أدى إلى جملة المال، وتردّ حيث تردّ شهادة القنّ بنسبة المتخلّف؛ لانتفاء المانع عن ذلك البعض، ولرواية أبي بصير قال: سألته عن شهادة المكاتب - إلى قوله: «فإن كان أدى النصف أو الثلث فشهد لك بألف على رجل أعطيت من حقك بحساب ما أعتق»(5).

والرواية موقوفة، فمن ثمّ قرّب المصنّف (رحمه الله) المنع وإلحاقه بالقنّ إلى أن تكمل حرّيّته.

ووجه القرب أنّ المانع من قبول شهادته هو الرقية، والمانع لم يزل بالكلية، فيستصحب الحكم إلى أن يزول. وهذا هو الأقوى.

قوله: «إذا سمع الإقرار صار شاهداً و إن لم يستدعه المشهود عليه إلى قوله-مستر سلاً».

المعتبر في قبول شهادة الشاهد مع استجماعه للصفات المعتبرة فيه علمه بما يشهد به

ص: 364


1- النهاية، ص 331 ، ولكن ذكر ذلك فيما إذا شهد على سيّده.
2- حكاه عنه فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 430 .
3- المهذب، ج 2، ص 557 ، ولكن ذكر ذلك فيما إذا شهد لسيده.
4- منهم ابن حمزة في الوسيلة، ص 230 - 231؛ ويحيى بن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع، ص 540.
5- تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 279 ، ح 767، وفيه: «بألفين» بدل «بألف».

وكذا لو شاهد الغصب أو الجناية. وكذا لو قال له الغريمان لا تشهد علينا فسمع منهما أو من أحدهما ما يوجب حكماً. وكذا لو خبّأ فنطق المشهود عليه مسترسلاً.

حکم المبادرة بالشهادة قبل السؤال

الرابعة: • التبرع بالشهادة قبل السؤال يطرق التهمة فيمنع القبول. أما في حقوق الله أو الشهادة للمصالح العامة فلا يمنع؛ إذ لا مدعي لها. وفيه تردّد.

------------------

سواء كان سبب العلم استدعاء المشهود له وعليه أم اتفاق علمه بالواقعة؛ لاشتراك الجميع في المقتضي وهو العلم، حتى لو فرض سماعه العقد ونحوه منهما أو تحاسبهما أو تصادقهما [معاً] فقال له: «لا تشهد علينا» فهذا القول لاغ، وله بل عليه أن يشهد بما علم؛ لشمول الأدلّة لذلك كله.

وكذا تقبل شهادة من خبّاً وجلس في زاوية مستخفياً لتحمّل الشهادة. ولا يحمل ذلك على الحرص؛ إذ الحاجة قد تدعو إليه، بأن يقرّ من عليه الحق إذا خلا به المستحق، ويجحد إذا حضر غيره، ولأنّ الحرص على التحمّل لا على الأداء.

ويظهر من كلام ابن الجنيد عدم قبول شهادته(1) . وهو مذهب بعض العامة (2).

وفرّق آخرون بين كون المشهود عليه ممّن يتخدع وغيره، فقبل الشهادة على الثاني دون الأوّل(3). وعموم الأدلة - ومنها قوله تعالى: (إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(4) - يشمله.

قوله: «التبرع بالشهادة قبل السؤال يطرق التهمة» إلى آخره.

من أسباب التهمة الحرص على الشهادة بالمبادرة إليها قبل استنطاق الحاكم، سواء

ص: 365


1- راجع كلامه في مختلف الشيعة، ج 8، ص 543، المسألة 101؛ والدروس الشرعية، ج 2، ص 104 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- كشريح والشعبي ومالك حكاه عنهم ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 102، المسألة 8420. وفي حاشية الأصل و «و»: «هو مالك ذهب إلى أن المشهود عليه إن كان حذراً لا ينخدع تقبل هذه الشهادة، وإن كان ممن ينخدع لا تقبل ونقل عنه قول آخر أنها لا تقبل مطلقاً، وإن للشافعي قولاً في القديم مثله. منه( رحمه الله)
3- راجع الكافي في فقه أهل المدينة القرطبي، ج 2، ص 898 - 899؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 102. المسألة 8420 .
4- الزخرف (43): 86 .

------------------

كان بعد دعوى المدعي أم قبله.

واعلم أنّ الحقوق على ضربين: ضرب يمنع المبادرة إلى الشهادة بها من قبولها، وهو حقوق الآدميين المحضة.

وضرب مختلف فيه، وهو حقوق الله تعالى المحضة، كالزنى وشرب الخمر والوقف على المصالح العامة كالمساجد، أو لله تعالى فيه حق وإن كان مشتركاً، كحد القذف، والوقف على منتشرين، والعتق والوقف على معيّن إن قلنا بانتقال الملك إلى الله تعالى. وتسمّى الشهادة على هذا القسم على وجه المبادرة شهادة الحسبة.

فالمبادر في القسم الأول لا تقبل شهادته. وفي الخبر أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال في معرض الدم: «ثمّ يجيء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها»(1).

وفي لفظ آخر: «ثمّ يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد»(2).

وروي أنه (صلّی الله علیه و آله و سلّم) قال: «خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها»(3). فجمع بين الحديثين بحمل الأول على الأوّل، والثاني على الثاني.

والمصنّف (رحمه الله) تردّد في عدم المنع في القسم الثاني.

ووجه التردّد، من عموم الأدلة الدالة على الردّ، وتطرّق التهمة، ومن ثبوت الفرق الموجب لاختصاص الحكم بالأوّل؛ لأنّ هذه الحقوق لا مدعي لها، فلو لم يشرع فيها التبرع لتعطلت، وهو غير جائز ، ولأنه نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو واجب، وأداء الواجب لا يعد تبرعاً. وهذا هو الأقوى.

إذا تقرر ذلك، فالتبرع بالشهادة في موضع المنع ليس جرحاً(4) ؛ عندنا حتى لا تقبل شهادته

ص: 366


1- مسند أحمد، ج 5، ص 587 ، ح 19319؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 204، ح 2130، مع اختلاف يسير فيهما.
2- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 791، ح 2363 مع اختلاف يسير؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 204، ذيل الحديث 2130.
3- مسند أحمد، ج 1، ص 249، ح 21175؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1344، ح 1719/19؛ الجامع الصحيح، ج 4. ص 544 و 0545 ح 2295 و 2297.
4- في بعض النسخ: «حرجاً» وفي بعضها: «حرصاً» بدل «جرحاً».
التوبة المعتبرة في قبول شهادة الفاسق

الخامسة • المشهور بالفسق إذا تاب لتقبل شهادته، الوجه أنها لا تقبل حتى يستبان استمراره على الصلاح وقال الشيخ: يجوز أن يقول: تب أقبل شهادتك.

------------------

في غير تلك الواقعة؛ لأنّ الحرص المذكور ليس بمعصية، فتسمع شهادته في غيرها وإن لم يتب عما وقع ولا استبرئ من ذلك مدة، وإنّما الردّ لمعنى حاصل في نفس الواقعة، ولا يلزم منه حصوله في غيرها.

ولو أعاد تلك الشهادة في مجلس آخر على وجهها ففي قبولها وجهان، من بقاء التهمة في الواقعة واجتماع الشرائط في الشهادة الثانية. وهذا أجود.

وذهب بعض العامة إلى أنّه يصير بذلك مجروحاً، وأن المبادرة غير جائزة (1) . واختلفوا في كونها من الصغائر أو الكبائر. وفرّعوا عدم قبولها إذا أعادها كالشهادة المردودة بعلّة الفسق - على الثاني، وتقبل على الأوّل.

قوله: «المشهور بالفسق إذا تاب لتقبل شهادته الوجه أنّها لا تقبل» إلى آخره.

التوبة المعتبرة تنقسم إلى ما هي بين العبد وبين الله تعالى، وهي التي يندفع بها إثم الذنب، وإلى توبة في الظاهر، وهي التي يتعلّق بها عود الشهادات والولايات.

فأما التوبة الأولى فهى أن يندم على ما مضى، ويترك فعله في الحال ويعزم على أن لا يعود إليه ويكون الباعث على ترك القبيح قبحه.

ثمّ إن كانت المعصية لا يتعلّق بها حق الله تعالى ولا للعباد، كالاستمتاع بما دون الوطء، فلا شيء عليه سوى ذلك.

وإن تعلّق بها حق مالى كمنع الزكاة وكالغصب والجنايات في أموال الناس - فيجب مع ذلك تبرئة الذمة منه، بأن يؤدّي الزكاة، ويرد أموال الناس إن بقيت، ويغرم بدلها إن لم تبق، أو يستحل من المستحق فيبرؤه منها. ولو كان معسراً نوى الغرامة له إذا قدر.

وإن تعلّق بالمعصية حق ليس بمالي كما لو زنى أو شرب - فإن لم يظهر، فيجوز أن

ص: 367


1- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 217.

------------------

يظهره ويقرّ به ليقام عليه الحد، ويجوز أن يستره، وهو الأولى.

فإن ظهر فقد فات الستر، فيأتي الحاكم ليقيم عليه الحد، إلا أن يكون ظهوره قبل قيام البينة عليه عند الحاكم، كما سيأتي من سقوط الحدّ بالتوبة قبل قيام البينة مطلقاً(1) .

وإن كان حقاً للعباد كالقصاص والقذف - فيأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء. فإن لم يعلم المستحق وجب في القصاص أن يخبره ويقول: «أنا الذي قتلت أباك - مثلاً - ولزمني القصاص، فإن شئت فاقتص، وإن شئت فاعف».

وفي القذف والغيبة إن بلغه فالأمر كذلك، وإن لم يبلغه فوجهان، من أنه حق آدمي فلا يزول إلا من جهته، وإليه ذهب الأكثر، ومن استلزامه زيادة الأذى ووغر القلوب.

وعلى الأوّل فلو تعذر الاستحلال منه بموته أو امتناعه فليكثر من الاستغفار والأعمال الصالحة، عسى أن يكون عوضاً عما يأخذه يوم القيامة من حسناته إن لم يعوضه الله تعالى عنه ولا اعتبار فيه بتحليل الورثة وإن ورثوا حد القذف.

أما الحق المالي إذا مات مستحقه، فإنّه ينتقل إلى وارثه، ويبرأ بدفعه إليهم وبإبرائهم منه. وهكذا ينتقل من وارث إلى آخر ومتى دفع هو أو أحد من ورثته أو بعض المتبرعين إلى الوارث في بعض الطبقات برئ منه. وإن بقي إلى يوم القيامة ففي مستحقه حينئذ أوجه:

أحدها: رجوعه إلى صاحب الحق الأول. وهو المروي - في الصحيح - عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات، ثمّ صالح له ورثته على شيء، فالذي أخذ الورثة لهم، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة، وإن هو لم يصالحهم على شيء حتى مات ولم يقض عنه فهو للميت يأخذه به» (2).

والمراد بالصلح على شيء في الأوّل إما على بعض الحق مع إبقاء البعض في ذمته، أو الصلح على وجه غير لازم، إما لاستلزامه الربا، أو لعدم علم المستحق بمقدار الحق مع علم

ص: 368


1- يأتي في ج 12، ص 58.
2- الكافي، ج 5، ص 259، باب الصلح، ح 8؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 208، ح 480.

------------------

من عليه الحق به، أو نحو ذلك، وإلا فلو وقع على الجميع برئ منه وإن كان بأقلّ، وهو «صلح الحطيطة (1)»، كما تقدم في بابه (2).

والوجه الثاني: أنه يكتب الأجر لكلّ وارث مدة عمره، أو عوض المظلمة، ثم يكون لآخر وارث ولو بالعموم كالإمام؛ لأن ذلك هو قضية التوارث لما يترك الميت بعموم الكتاب (3) والسنة(4) .

والثالث: أنه ينتقل بعد موت الكل إلى الله تعالى؛ لأنّه الباقي بعد فناء كلّ شيء، وهو يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. وأصحها الأول.

وأما التوبة الظاهرة فالمعاصي تنقسم إلى فعليّة وقولية. أما القولية - كالقذف - فقد تقدم الكلام في توبته (5). وأما الفعلية -كالزنى والسرقة والشرب - فإظهار التوبة عنها لا يكفي في قبول الشهادة وعود الولاية؛ لأنّه لا يؤمن أن يكون له في الإظهار غاية وغرض فاسد، فيختبر مدةً يغلب على الظن فيها أنه قد أصلح عمله وسريرته وأنّه صادق في توبته. ولا يتقدر ذلك بمدة معيّنة؛ لاختلاف الأمر فيه باختلاف الأشخاص وأمارات الصدق.

وعند بعض العامة يتقدّر بمضي الفصول الأربعة(6)؛ لأنّ لها أثراً بيناً في تهييج النفوس وانبعاثها لمشتهياتها ، فإذا مضت على السلامة أشعر ذلك بحسن السريرة. واكتفى بعضهم بستة أشهر(7) ؛ لظهور عوده إن كانت فيها غالباً.

ص: 369


1- الحطيطة: ما يحطّ من جملة الحساب فينقص منه. المعجم الوسيط، ص 182.
2- راجع ج 4، ص 101 - 102.
3- النساء (4): 11 و 12.
4- وسائل الشيعة، ج 26، ص 63- 67، الباب 1 من أبواب موجبات الإرث.
5- تقدّم في ص 330.
6- الحاوي الكبير، ج 17، ص 31: المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 81 - 82، المسألة 8401 .
7- الحاوي الكبير، ج 17، ص 31 روضة الطالبين، ج 8، ص 221 .

السادسة: • إذا حكم الحاكم ثم تبيّن في الشهود ما يمنع القبول؛ فإن كان متجدداً بعد الحكم لم يقدح، وإن كان حاصلاً قبل الإقامة وخفي عن الحاكم نقض الحكم.

------------------

ولو كانت المعصية مما يترتب عليها حق مالي فلا بد من التخلّص منه كالأولى. هذا هو المشهور بين الأصحاب.

وذهب الشيخ في موضع من المبسوط إلى الاكتفاء بإظهار التوبة عقيب قول الحاكم له:«تب أقبل شهادتك»(1) ؛ لصدق التوبة المقتضي لعود العدالة. انتفاء المانع، فيدخل تحت عموم قبول شهادة العدل.

وأجيب بمنع اعتبار توبته حينئذ ؛ لأنّ التوبة المعتبرة هو أن يتوب عن القبيح لقبحه وهاهنا ظاهرها أنّها لا لقبحه بل لقبول الشهادة(2).

وفيه نظر؛ لأنه لا يلزم من قوله: «تب أقبل شهادتك» كون التوبة لأجل ذلك، بل غايته أن تكون التوبة علة في القبول، أما أنّه غاية لها فلا .

وأيضاً ، فالمأمور به التوبة المعتبرة شرعاً لا مطلق التوبة، والمغياة بقبول شهادته ليست كذلك.

نعم، مرجع كلام الشيخ إلى أنّ مضي الزمان المتطاول ليس بشرط في ظهور التوبة. والأمر كذلك إن فرض غلبة ظنّ الحاكم بصدقه في توبته في الحال، وإلا فالمعتبر ذلك.

قوله: «إذا حكم الحاكم ثم تبيّن في الشهود ما يمنع القبول» إلى آخره.

إذا حكم الحاكم بشهادة اثنين ثمّ بان له ما يمنع قبول الشهادة، فإن كان المانع متجدّداً بعد الحكم - كالكفر والفسق - لم ينقض الحكم مطلقاً لوقوعه بشهادة عدلين. وإن كان حدوثه بعد الشهادة وقبل الحكم فسيأتي البحث فيه (3).

ص: 370


1- المبسوط، ج 5، ص 542 .
2- أجاب به الشهيد في غاية المراد، ج 4، ص 89 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).
3- يأتي في ص 437.

السادس: طهارة المولد

الوصف السادس: • طهارة المولد فلا تقبل شهادة ولد الزنى أصلاً. وقيل: تقبل في اليسير مع تمسكه بالصلاح، وبه رواية نادرة. ولو جهلت حاله قبلت شهادته وإن نالته بعض الألسن.

------------------

وإن كان حاصلاً قبل الإقامة وخفي على الحاكم، كما لو تبين له أنهما كانا كافرين أو صبيين أو عبدين على وجه لا تقبل فيه شهادتهما، أو امرأتين، أو عدوّين للمشهود عليه، أو أحدهما عدوّاً أو ولداً له على القول به، نقض حكمه؛ لأنّه تيقن الخطأ فيه كما لو حكم باجتهاده ثمّ ظهر النصّ بخلافه.

ولو تبين لقاض آخر أنّه حكم بشهادتهما كذلك نقض حكمه أيضاً، إلا في صورة الحكم بالعبدين والولد مع اختلافهما في الاجتهاد وذهاب الحاكم إلى قبول شهادتهما، فليس للثاني نقضه حينئذ. ولو كان موافقاً له في الاجتهاد بعدم قبول شهادتهما فاتفق غلطه نقضه أيضاً. وطريق ثبوت فسقهما سابقاً يحصل بحضور جارحين لهما بأمر سابق على الشهادة.

فرع: لو قال القاضي بعد الحكم بشهادة شاهدين:«قد بان لي أنهما كانا فاسقين» ولم يُظهر بينة تشهد بفسقهما، ففي تمكينه من نقضه وجهان أظهرهما ذلك؛ بناء على جواز قضائه بعلمه.

ولو قال: «أُكرهت على الحكم بقولهما، وكنت أعرف فسقهما» قبل قوله من غير بينة على الإكراه، مع ظهور أمارته، كما لو كان قاضياً من قبل سلطان جائر يظهر في حقه ذلك. وإلا ،فوجهان، ولعلّ القبول أقوى مطلقاً.

قوله: «طهارة المولد فلا تقبل شهادة ولد الزنى أصلاً» إلى آخره.

المشهور بين الأصحاب - ومنهم الشيخ في الخلاف والمرتضى مدعياً عليه الإجماع(1) - عدم قبول شهادة ولد الزنى مطلقاً.

ص: 371


1- الخلاف، ج 6، ص 309، المسألة 57 : الانتصار، ص 501، المسألة 275.

------------------

واختلفوا في تعليله، فالجمهور عللوه بورود الأخبار الصحيحة بذلك، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: سألته عن شهادة ولد الزنى فقال: «لا ولا عبد»(1).

وصحيحة محمّد بن مسلم قال قال أبو عبد الله (علیه السّلام) : «لا تجوز شهادة ولد الزنى»(2).

«لا ورواية أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (علیه السّلام) عن ولد الزني أتجوز شهادته؟ قال: «لا»، قلت: إن الحكم [بن عتيبة ] يزعم أنها تجوز، فقال: «اللهم لا تغفر ذنبه»(3).

ورواية عبيد بن زرارة عن أبيه قال: سمعت أبا جعفر (علیه السّلام) يقول: «لو أنّ أربعة شهدوا عندي على رجل بالزنى وفيهم ولد زنى لحددتهم جميعاً؛ لأنه لا تجوز شهادته، ولا يؤم الناس»(4).

وأجودها سنداً الخبر الأوّل، لكن دلالته لا تخلو من قصور.

وأمّا الثاني فصحته ممنوعة، وإن شهد له بها العلّامة في المختلف (5) وولده في الشرح (6)؛ لأنّ في طريقه محمّد بن عيسى عن يونس، وهو مقدوح(7) إما مطلقاً، أو على هذا الوجه.

وفي طريق الثالث أبان(8) وأبو بصير، وهما مشتركان بين الثقة وغيره(9).

وفي طريق الرابع ابن فضّال، وحاله مشهور (10).

ص: 372


1- تهذيب الأحكام، ج 6، ص 244، ح 612 .
2- الكافي، ج 7، ص 395، باب ما يردّ من الشهود، ح 6؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 244، ح 613.
3- الكافي، ج 7، ص 395، باب ما يرد من الشهود، ج 4 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 244، ح 610.
4- الكافي، ج 7، ص 396، باب ما يردّ من الشهود ح 8 تهذيب الأحكام، ج 6، ص 244 - 245، ح 614.
5- مختلف الشيعة، ج 8، ص 504. المسألة 80 .
6- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 425 .
7- صرّح بضعفه الشيخ في الفهرست، ص 402، الرقم 612؛ والعلّامة في خلاصة الأقوال، ص 241، الرقم 821 .
8- أبان مشترك بين الأربعة ثلاثة منهم ثقة وواحد منهم غير ثقة. راجع خلاصة الأقوال، ص 73 - 74، الرقم 119 -121، وص 325 ، الرقم 1280 .
9- راجع خلاصة الأقوال، ص 234، الرقم 798؛ رجال الطوسي، ص 346، الرقم 5172.
10- فإنّه فطحي. راجع رجال ابن داود، ص 441، الرقم 125.

------------------

وعلّله ابن إدريس بأن ولد الزنى كافر، محتجاً بالإجماع، فمن ثم لا تقبل شهادته كغيره من الكفّار (1). والدعوى للحكم والإجماع ممنوعان.

واحتج له المرتضى بالإجماع، وبالخبر الذي ورد : «أنّ ولد الزني لا ينجب». وأجاب عن ظواهر الآيات التي تقتضى قبول شهادة ولد الزنى إذا كان عدلاً، وأنّه (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(2) ، فلا يتعدى إليه ذنب من خلق من نطفته: بأن الله تعالى قد علم ممن خلق من نطفة زنى أن لا يختار هو الخير والصلاح، فإذا علمنا بدليل قاطع أنه لا ينجب لم يلتفت إلى ما يظهره من الإيمان والعدالة؛ لأنه يفيد ظنّ صدقه، ونحن قاطعون بخبث باطنه وقبح سريرته، فلا تقبل شهادته(3) .

وهذا كله مبنيّ على ثبوت الخبر الوارد بذلك، بل تواتره؛ لأنّ غير المتواتر لا يوجب الحجة عنده، ونحن ومن قبلنا لم يمكنا إثباته بسندٍ معتمد، فضلاً عن كونه متواتراً.

واعتذر له في المختلف بجواز كونه متواتراً في زمانه ثم انقطع(4). ولا يخفى ما فيه من التكلّف وظهور المنع.

وعلّله ابن الجنيد (رحمه الله) بورود الخبر «أنّه شرّ الثلاثة»، وعنى به هو والزانيين. قال: فإذا كنا لا نقبل شهادة الزاني والزانية، كان ردّ شهادة من هو شر منهما أولى(5) .

ص: 373


1- السرائر، ج 2، ص 122.
2- الأنعام (6): 154 .
3- راجع الانتصار، ص 501 - 502 المسألة 275؛ حيث حكى إجماع طائفتنا على أن ولد الزنى لا يكون نجيباً لا أنه خبر وارد نعم، احتج بالخبر الذي يروى بأنّ ولد الزنى لا يدخل الجنّة ؛ وللرواية راجع السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 99 ، ح 19990.
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 506، المسألة 80 .
5- حكاه عنه السيد المرتضى في الانتصار، ص 502 المسألة 275 والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 505، المسألة 80: وللرواية راجع سنن أبي داود، ج 4، ص 29، ح 3963؛ والسنن الكبرى، البيهقي، ج 10، ص 99 - 100، ح 19987 و 19989 و 19991.

------------------

واعترضه المرتضى (رضي الله عنه): بأنّه خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملاً، ولا يرجع بمثله عن ظواهر الآيات الموجبة للعلم. وبانتقاضه بما لو تاب الزانيان، فإنّ شهادتهما تقبل إجماعاً ، فلا يلزم عدم قبول شهادته أبداً (1).

وإيراده الثاني متوجه. أما الأوّل فهو مشترك بين خبريهما، فلا وجه للتخصيص.

ووراء هذا القول قولان آخران :

أحدهما للشيخ فى المبسوط، أنه تقبل شهادته مع عدالته في الزنى وغيره، نقل ذلك عن قوم قال: وهو قوي، لكن أخبار أصحابنا تدلّ على أنه لا تقبل شهادته (2). ومجرّد معارضة أخبار أصحابنا لا يقتضي الرجوع عمّا قوّاه لجواز العدول عن الأخبار لوجه يقتضيه، فقد وقع له كثيراً. ووجه العدول واضح؛ فإنّ عموم الأدلة من الكتاب والسنة (3) على قبول شهادة العدل ظاهراً يتناول ولد الزنى(4)، ومن ثَم ذهب إليه أكثر من خالفنا.

والثاني: قوله في النهاية أنه تقبل شهادته في الشيء اليسير دون الكثير(5) ؛ استناداً إلى رواية عيسى بن عبد الله عن الصادق (علیه السّلام) قال: سألته عن شهادة ولد الزني، فقال: «لا تجوز إلا في الشيء اليسير إذا رأيت منه صلاحاً»(6). وإطلاق المنع من قبولها محمول على الكثير جمعاً.

وقد ورد أيضاً في العبد المقترن به رواية بقبول شهادته في اليسير، رواها ابن أبي يعفور في الصحيح - عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: سألته عن الرجل المملوك المسلم تجوز شهادته

ص: 374


1- الانتصار، ص 502-503 ، المسألة 275 .
2- المبسوط، ج 5، ص 593.
3- الطلاق (65): 2 .
4- راجع وسائل الشيعة، ج 27، ص 391 - 399 ، الباب 41 من أبواب الشهادات.
5- النهاية، ص 326 .
6- تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 244، ح 611.

------------------

لغير مواليه فقال: «تجوز في الدين والشيء اليسير»(1).

وأجاب في المختلف:

بالقول بالموجب، فإنّ قبول شهادته في الشيء اليسير يعطي المنع من قبول اليسير من حيث المفهوم؛ إذ لا يسير إلا وهو كثير بالنسبة إلى ما دونه، فإذن لا تقبل شهادته إلا في أقلّ الأشياء الذي ليس بكثير بالنسبة إلى ما دونه؛ إذ لا دون له، ومثله لا يملك(2).

ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلّف؛ فإنّ اليسير منزل على العرف حيث لا معيّن له شرعاً، واليسير الإضافي داخل في العرف.

نعم، يمكن القدح في الرواية باشتراك عيسى بن عبد الله بين الثقة (3)وغيره(4) ، فلا تعارض روايته تلك الأخبار الكثيرة أو عموم الكتاب والسنة الدالّين على القبول مطلقاً.

ص: 375


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 250، ح 640: الاستبصار، ج 3، ص 17، ح 48.
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 506. المسألة 80 .
3- هو عيسى بن عبد الله القمي راجع رجال ابن داود، ص 268، الرقم 1153.
4- لعله عيسى بن عبد الله بن سعد، فإنّه مهمل في كتب الرجال ولم ينص بمدح ولا ذم راجع رجال النجاشي ص 296 - 297 ، الرقم 805 وخلاصة الأقوال، ص 217 ، الرقم 712 .

الطرف الثاني فيما به يصير شاهداً

ما يفتقر إلى المشاهدة

الطرف الثاني • فيما به يصير شاهداً

والضابط: العلم لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، ولقوله وقد سُئل عن الشهادة: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع».

ومستندها إما المشاهدة، أو السماع، أو هما.

------------------

قوله: «فيما به يصير شاهداً والضابط العلم إلى قوله - وهي نادرة».

الأصل في الشهادة البناء على العلم واليقين، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(1)، أي لا تتبعه فتقول فيه بغير علم. يقال: قفوته أقفوه وقفيته إذا اتبعت أثره. وقال :تعالى: (إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (2).

و قال(صلّی الله علیه و آله و سلّم) لمن سأله عن الشهادة : «ترى الشمس » ؟ فقال : نعم ، فقال : «على مثلها فاشهد أو دع»(3).

إلّا أنّ من الحقوق ما لا يحصل اليقين فيه، ولا يستغنى عن إقامة البينة عليه، فأقيم الظنّ المؤكد فيه مقام اليقين، وجوزت الشهادة بناء على ذلك الظن، كما سيأتي (4)، عند بعض. وبعضهم طرد الباب.

ص: 376


1- الإسراء (17): 36 .
2- الزخرف (43): 86 .
3- أورده الشيخ في المبسوط، ج 5، ص 533 و 542؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 114 و 117 و 131؛ والعلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 531، المسألة 92؛ وأيضاً راجع حلية الأولياء، ج 4، ص 18؛ والحاوي الكبير، ج 17، ص 34.
4- يأتي لاحقاً.

فما يفتقر إلى المشاهدة الأفعال؛ لأن آلة السمع لا تدركها، كالغصب والسرقة والقتل والرضاع والولادة والزنى واللواط. فلا يصير شاهداً بشيء من ذلك، إلا مع المشاهدة. وتقبل فيه شهادة الأصمّ. وفي رواية: يؤخذ بأوّل قوله لا بثانيه. وهي نادرة.

------------------

وقد قسم المصنف (رحمه الله) وغيره من الفقهاء(1) المشهود به على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يكفي فيه الإبصار، وهو الأفعال، كالزنى والشرب، والغصب والإتلاف والسرقة والقتل والولادة والرضاع والاصطياد والإحياء، وكون المال في يد الشخص فيشترط فيها الرؤية المتعلقة بها وبفاعلها، ولا يجوز بناء الشهادة فيها على السماع من الغير.

وتقبل فيها شهادة الأصم؛ إذ لا مدخل للسمع فيها، ولعموم الأدلة المتناولة له.

وذهب الشيخ في النهاية (2) وتلميذه القاضي (3) إلى أنه يؤخذ بأوّل قوله، ولا يؤخذ بثانيه؛ استناداً إلى رواية جميل قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن شهادة الأصمّ في القتل، قال: «يؤخذ بأول قوله، ولا يؤخذ بثانيه»(4).

وأُجيب بضعف سند الرواية؛ فإنّ في طريقها سهل بن زياد. وبالقول بالموجب؛ فإنّ قوله الثاني إن كان منافياً للأوّل ردّت شهادته؛ لأنه رجوع عمّا شهد به أوّلاً، فلا يقبل، وإن لم يكن منافياً لم يكن ثانياً، بل شهادة أخرى مستأنفة (5).

وفي هذا القسم الأخير نظر. وكيف كان فالوجه القبول مطلقاً.

ص: 377


1- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 501500؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 107 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- النهاية، ص 327 .
3- المهذب، ج 2، ص 556 .
4- الكافي، ج 7، ص 400 ، باب شهادة الأعمى والأصم، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 6، ص 255، ح 664.
5- أجاب به العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 507، المسألة 81 .

ما يكفي فيه السماع

• وما يكفي فيه السماع: فالنسب والموت والملك المطلق؛ لتعذر الوقوف عليه مشاهدةً في الأغلب.

ويتحقق كلّ واحدٍ من هذه بتوالي الأخبار من جماعة لا يضمهم قيد المواعدة، أو يستفيض ذلك حتى يتاخم العلم. وفي هذا عندي تردّد.

------------------

قوله: «وما يكفي فيه السماع فالنسب والموت والملك المطلق - إلى قوله - لأن الظن يحصل بالواحد».

هذا هو القسم الثاني، وهو ما يكفي فيه السماع، فمنه النسب، فيجوز أن يشهد بالتسامع أنّ هذا الرجل ابن فلان وأنّ هذه المرأة إذا عرفها بعينها بنت فلان، أو أنهما من قبيلة كذا؛ لأنّه أمر لا مدخل للرؤية فيه، وغاية الممكن رؤية الولادة على فراش الإنسان، لكن النسب إلى الأجداد المتوفّين والقبائل القديمة لا يتحقق فيه الرؤية ومعرفة الفراش، فدعت الحاجة إلى اعتماد التسامع.

ومقتضى إطلاق النسب عدم الفرق بين كونه من الأب والأم. وفي نسب الأُمّ وجه، أنّه لا تجوز الشهادة عليه بالسماع؛ لإمكان رؤية الولادة. والأشهر الجواز كالرجل.

وصفة التسامع في ذلك أن يسمع الشاهد الناس ينسبون المشهود بنسبة إلى ذلك الرجل أو القبيلة ولا يعتبر التكرّر والامتداد(1) مدة السماع ، وإن كان الحكم به آكد، بل لو حضر جماعة لا يرتاب في صدقهم، فأخبروه بنسبه دفعةٌ واحدةٌ على وجه إفادة الغرض جاز له الشهادة.

ويعتبر مع انتساب الشخص ونسبة الناس أن لا يعارضهم ما يورث التهمة والريبة، فلو كان المنسوب إليه حيّاً وأنكر لم تجز الشهادة. ولو كان مجنوناً جازت، كما لو كان ميتاً. وفيه وجه بالمنع؛ لاحتمال أن يفيق فينكر.

وهل يقدح في ذلك طعن من يطعن في النسب ؟ وجهان أظهرهما مراعاة الشرط، وهو الظنّ المتاخم أو العلم.

ص: 378


1- في بعض النسخ: «ولا امتداد» بدل والامتداد».

وقال الشيخ (رحمه الله): لو شهد عدلان فصاعداً صار السامع متحمّلاً وشاهد أصل، لا شاهداً على شهادتهما؛ لأنّ ثمرة الاستفاضة الظنّ وهو حاصل بهما. وهو ضعيف؛ لأنّ الظَّنّ يحصل بالواحد .

------------------

ومنه الموت، والمشهور جواز الشهادة عليه بالاستفاضة كالنسب؛ لأنّ أسباب الموت ممّا يكثر، ومنها ما يخفى، ومنها ما يظهر، وقد يعسر الاطلاع عليها، فجاز أن يعتمد على الاستفاضة، ولأنه يقع في الأفواه وينتشر كالنسب. وفيه وجه بالمنع؛ لأنه يمكن فيه المعاينة، بخلاف النسب.

ومنه الملك المطلق؛ لأنّ أسباب الملك يخفى على تطاول الأزمان، ويبقى الملك المطلق المجرّد عن السبب، فلو لم يثبت بها أدى إلى بطلان الحق وتعذر إثبات الملك بموت الشهود. وكذا القول في الوقف والعتق وولاية القاضي. وقد تقدّم في القضاء (1).

إذا تقرّر ذلك، فقد اختلف فيما به يصير الشاهد شاهداً بالاستفاضة، فقيل: أن يكثر السماع من جماعة حتى يبلغ حد العلم بالمخبر عنه (2) . وعلى هذا، فلا تكون هذه الأشياء خارجة عن أصل الشهادة.

وقيل: يكفي بلوغه حداً يوجب الظنّ الغالب المقارب للعلم (3).

والمصنّف (رحمه الله) تردّد في ذلك، من حيث إنّ ذلك على خلاف الأصل، فإثباته يحتاج إلى دليل صالح يخرجه عنه، ومجرّد ما ذكروه غير كافٍ في إثباته، ولإمكان العلم بكثير من هذه الأشياء كما أشرنا إليه.

والحق أنا إن اعتبرنا العلم لم ينحصر الحكم في المذكورات، وإن اكتفينا بالظنّ الغالب فللتوقف فيه مجال، إلا أن يفرض زيادة الظنّ على ما يحصل منه بقول الشاهدين، بحيث

ص: 379


1- تقدم في ص 39.
2- قاله العلّامة في تحرير الأحكام الشرعية ، ج 5، ص 263 ، الرقم 6655؛ وإرشاد الأذهان، ج 2، ص 160.
3- قاله الشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 107 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ ونسبه فخر المحققين إلى البعض في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 439 .

فرع: • لو سمعه يقول للكبير : هذا ابني، وهو ساكت؛ أو قال: هذا أبي، وهو ساكت، قال في المبسوط: صار متحملاً؛ لأنّ سكوته في معرض ذلك رضى بقوله عرفاً. وهو بعيد، لاحتماله غير الرضى.

------------------

يمكن استفادته من مفهوم الموافقة بالنسبة إلى الشاهدين الذي هو حجة منصوصة، فيمكن إلحاقه حينئذ به.

وبالغ الشيخ في المبسوط فقال:

يكفي أن يسمع من عدلين فصاعداً، فيصير بسماعه منهما شاهد أصل ومتحملاً للشهادة؛ لأن ثمرة الاستفاضة هو الظنّ وهو حاصل بهما (1).

واستضعفه المصنّف (رحمه الله) بأن الظنّ يحصل بالواحد والشيخ لا يقول بالاكتفاء به، بل ربما حصل الظن بالواحد إذا كان أُنثى، وهو باطل قطعاً.

وأجيب بأنّ الشيخ لم يعتبر الظنّ مطلقاً، بل الظنّ الذي ثبت اعتباره شرعاً وهو شهادة العدلين والظنّ يقبل الشدّة والضعف، فلا يلزم من الاكتفاء بفرد قوي منه الاكتفاء بالضعيف (2).

وفيه: أنّ الظنّ المستند إلى جماعةٍ غير عدول ممّا لم يثبت اعتباره شرعاً؛ فإنّه عين المتنازع، فاكتفاؤه به وتعديته الحكم إلى العدلين يدلّ على عدم تقييده بالظنّ المعتبر شرعاً، فالنقض بحاله .

قوله: «لو سمعه يقول للكبير: هذا ابني، وهو ساكت» إلى آخره.

هذا متفرّع على ما اختاره الشيخ (رحمه الله) من الاكتفاء في الشهادة على الاستفاضة بالظنّ، وهو حاصل في هذه الصورة وإن لم يكن بطريق التسامع من الجماعة؛ لأن سكوت الكبير عند دعوى الآخر للنسب مع عدم المانع من الإنكار يفيد الظنّ الغالب بموافقته له

ص: 380


1- المبسوط، ج 5، ص 543.
2- غاية المراد، ج 4، ص 110 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).

الشاهد بالاستفاضة لا يشهد بالسبب

تفريع على القول بالاستفاضة

[الفرع] الأوّل: • الشاهد بالاستفاضة لا يشهد بالسبب، مثل البيع والهبة والاستغنام؛ لأنّ ذلك لا يثبت بالاستفاضة، فلا يعزى الملك إليه مع إثباته بالشهادة المستندة إلى الاستفاضة.

أما لو عزاه إلى الميراث صح؛ لأنه يكون عن الموت الذي يثبت بالاستفاضة. والفرق تكلّف؛ لأنّ الملك إذا ثبت بالاستفاضة لم تقدح الضميمة، مع حصول ما يقتضي جواز الشهادة.

------------------

عليه، فيكون ذلك بمنزلة إخبار الجماعة؛ إذ الاعتبار بالظنّ الغالب لا بالسماع من الجماعة من حيث هو سماع، وهو متحقق هنا.

ويضعف بأنّ السكوت أعم من موافقته على الدعوى. ويمنع من حصول الظن الغالب بذلك مطلقاً. وبتقدير تسليمه لا نسلّم تعدّي الحكم إليه؛ للنهي عن العمل بالظنّ(1)، إلا ما دلّ عليه دليل صالح، وهو منفي هنا.

قوله: «الشاهد بالاستفاضة لا يشهد بالسبب» إلى آخره.

لما كانت الاستفاضة مخصوصة بأمور خاصة - منها الملك المطلق دون البيع والهبة والاستغنام وما شاكلها - كان السبب الموجب للملك منه ما يثبت بالاستفاضة، كالموت بالنسبة إلى الملك بالإرث، ومنه ما لا يثبت بها كالعقود. فإذا سمع الشاهد بالاستفاضة أنّ هذا ملك زيد ورثه عن أبيه الميت، فله أن يشهد بالملك وسببه - لأنهما يثبتان بالاستفاضة. وإذا سمع مستفيضاً أنّ هذا الملك لزيد اشتراه من عمر و شهد بالملك المطلق لا بالبيع؛ لأنّ البيع لا يثبت بالاستفاضة. فلو فعل ذلك احتمل عدم قبول الشهادة ؛ لاشتمالها على أمرين: أحدهما تقبل الشهادة عليه، والآخر لا تقبل، والشهادة لا تتبعض.

والوجه أنّها تسمع في الملك وتلغو الضميمة، وهي السبب الذي لا يثبت بالاستفاضة؛

ص: 381


1- الإسراء (17): 36: النجم (53): 28 .

إذا شهد بالملك مستنداً إلى الاستفاضة

[الفرع] الثاني • إذا شهد بالملك مستنداً إلى الاستفاضة، هل يفتقر إلى مشاهدة اليد والتصرّف ؟ الوجه .لا. أما لو كان لواحد يد ولآخر سماع مستفيض فالوجه ترجيح اليد؛ لأنّ السماع قد يحتمل إضافة الاختصاص المطلق المحتمل للملك ،وغيره فلا تزال اليد بالمحتمل.

------------------

لوجود المقتضي للقبول في أحدهما دون الآخر.

وتظهر الفائدة فيما لو كان هناك مدّع آخر وله شهود بالملك وسببه من غير استفاضة؛ فإنّ بيّنته ترجّح على بينة هذا الذي لم يسمع إلا في المطلق المجرّد عن السبب، وفي القسم الأوّل يتكافئان.

ولو كانت بينة الآخر شاهدةً له بالملك المطلق رجحت بيّنة هذا في الأوّل عليه، وكافأت بينة الآخر في الثاني. وهكذا.

قوله: «إذا شهد بالملك مستنداً إلى الاستفاضة هل يفتقر إلى مشاهدة اليد والتصرف؟ الوجه لا» إلى آخره.

إذا اجتمع في ملك يد وتصرّف واستفاضة بالملك، فلا إشكال في جواز الشهادة له بالملك، بل هو غاية ما يبنى عليه الشهادة. وإنّما يحصل الاشتباه فيما لو انفرد واحد من الثلاثة أو اجتمع اثنان.

والمصنف (رحمه الله) فرّق في حكم المسألة في موضعين: هنا، وفي المسألة الآتية، ولو جمعهما في مسألة واحدة كان أضبط.

والمقصود في هذه المسألة أنّ الشهادة المستندة إلى الاستفاضة بالملك هل يتوقف سماعها على رؤية الشاهد من استفاض الملك له - زائداً على الملك - يتصرف فيه بالبناء والهدم والإجارة ونحوها، أم تسمع من دون الأمرين؟ الوجه عند المصنف (رحمه الله) الثاني ؛ ؛ لما تقدّم من أنّ الملك المطلق يثبت بالاستفاضة(1) ؛ لتعدّد أسبابه وخفاء بعضها فلا يفتقر إلى انضمام أمر آخر معه.

ص: 382


1- تقدّم في ص 379 .

------------------

ووجه العدم إمكان الاطلاع على أسبابه، فلا بد من ضميمة ما يفيد القوة ويقوم مقام السبب من اليد أو التصرّف.

ولا يخفى ضعفه؛ لأنّ اليد والتصرّف وإن كانا ظاهرين في الملك إلا أنّهما ليسا من أسبابه، فاشتراط الاطلاع على السبب لإمكانه لا يقتضي الاكتفاء باليد والتصرف المجرّدين عن علم السبب.

والأجود الاكتفاء فى الشهادة بالملك المطلق بالتسامع على الوجه المتقدم. وعلى هذا فلو تعارض السماع واليد ففي ترجيح أيهما وجهان:

أحدهما: ترجيح السماع؛ لأنه يفيد الملك الحالي، وقد تقدم في القضاء أن البينة بالملك مقدّمة على اليد(1) ؛ لأنّ اليد تحتمل غير الملك من العارية والإجارة بل الغصب بخلاف الملك، فإنّه صريح في معناه.

والثاني - وهو الذي اختاره المصنف (رحمه الله) - تقديم اليد؛ لأنّها ظاهرة في الملك وإن كانت محتملة لغيره، والسماع مشترك بين الملك والاختصاص المطلق المحتمل للملك وغيره.

وهذا التوجيه إنّما يتمّ إذا كان محصل السماع أنّ هذه الدار مثلاً لفلان؛ فإنّ «اللام» تحتمل الملك والاختصاص الذي هو أعم منه. أمّا إذا كان محصله أن الدار ملك فلان فلم يتم؛ لأنه صريح في المقصود، بخلاف اليد.

ولا بد من فرض المسألة على الوجه الأوّل ليتم التعليل ، ويناسب الحكم المتقدّم من ترجيح الملك على اليد، وإن كان إطلاق البينة المستندة إلى الاستفاضة أعمّ من ذلك.

ص: 383


1- تقدم في ص 266.

إذا انفرد التصرّف أو اليد عن التسامع فهل تجوز الشهادة بالملك؟

مسائل ثلاث :

الأولى: • لا ريب أنّ المتصرّف بالبناء والهدم والإجارة بغير منازع يشهد له بالملك المطلق. أما من في يده دار فلا شبهة في جواز الشهادة له باليد وهل يشهد له بالملك المطلق؟ قيل: نعم وهو المروي.

وفيه إشكال من حيث إن اليد لو أو جبت الملك لم تسمع دعوى من يقول: الدار التي في يد هذا لي، كما لا تسمع لو قال: ملك هذا لي.

------------------

قوله: «لا ريب أن المتصرّف بالبناء والهدم والإجارة» إلى آخره.

هذه تتمة أقسام المسألة السابقة، وهى ما إذا انفرد التصرّف أو اليد عن التسامع، فهل تجوز الشهادة بالملك أم لا ؟ فالمصنف (رحمه الله) قطع بالجواز مع التصرف المتكرر بالبناء والهدم والإجارة وغيرها بغير منازع. وهذا اختيار الأكثر، بل ادعى عليه فيالخلاف الإجماع (1)؛ لقضاء العادة بأنّ ذلك لا يكون إلا في الملك، ولجواز شرائه منه، ومتى حصل عند المشتري يدّعي ملكيته، وهو فرع على ملكية البائع.

ويترتب على ذلك ما لو ادعي على المشتري فأنكر فله أن يحلف على القطع قطعاً. وذلك يساوي الشهادة، وإن كان أصل الشراء بناءً على الظاهر لا يساويها.

ويعتبر في التصرّف التكرّر؛ لجواز صدور غيره من غير المالك كثيراً، وكذلك عدم المنازع؛ إذ لو وجد لم يحصل الظن الغالب بملك المتصرّف.

ولا حد للمدة التي يتصرّف فيها ويضع يده على الملك، بل ضابطها ما أفادت الأمر المطلوب من الاستفاضة.

وفي الخلاف صرّح بعدم الفرق بين الطويلة والقصيرة (2). أما في المبسوط فجعل القصيرة

ص: 384


1- الخلاف، ج 1، ص 264 - 265، المسألة 14 .
2- الخلاف، ج 6، ص 264، المسألة 14.

------------------

نحو الشهر والشهرين غير كافٍ، وأطلق كون الطويلة كالسنين مجوّزة(1) .

وقيل: لا تجوز الشهادة بالملك بذلك كله؛ لوقوع ذلك من غير المالك، كالوكيل والمستأجر والغاصب؛ فإنّهم أصحاب يد وتصرّف (2)، خصوصاً الإجارة؛ لأنّها وإن تكرّرت فقد تصدر من المستأجر مدةً طويلة، ومن الموصى له بالمنفعة، وكذلك الرهن قد يصدر من المستعير متكرّراً.

والشيخ في المبسوط اقتصر على نقل القولين، ولم يرجح أحدهما.

وأما إذا انفردت اليد عن التصرّف فالحكم فيه أضعف فإن لم نجوّز الشهادة بالملك في الأوّل فهنا أولى. وإن جوزناها فهنا وجهان:

أحدهما - وهو الذي اختاره العلّامة (3) وأكثر المتأخرين - الجواز لدلالتها ظاهراً على الملك، كدلالة التصرّف، وإن كان التصرّف أقوى، إلا أنّ الاشتراك في أصل الدلالة عليه ظاهراً حاصل؛ ولما تقدّم من جواز شرائه منه، والحلف عليه (4).

ولرواية حفص بن غياث: أنه سأل الصادق (علیه السّلام) عن رجل رأى في يد رجل شيئاً، أيجوز أن يشهد أنّه له؟ قال: «نعم»، قلت: فلعله لغيره قال: ومن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك، ثمّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه إليك قبله؟! ثم قال الصادق (علیه السّلام) «لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق»(5).

وهذه الرواية ضعيفة الإسناد، إلا أنّ مضمونها موافق للقواعد الشرعية، كما نبهنا عليه سابقاً.

ص: 385


1- المبسوط ، ج 5، ص 544 .
2- نقله الشيخ عن بعض في المبسوط، ج 5، ص 544 بقوله : وأمّا بالملك مطلقاً فلا لأنّ اليد يختلف... .
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 502.
4- تقدم في ص 384 ه .
5- الكافي، ج 7، ص 387، باب بدون عنوان، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 51، ح 3310؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 261 - 262، ح 695.

------------------

والثاني: عدم جواز الشهادة بالملك بمجرد اليد؛ لأنّ اليد لو دلّت على الملك لكان قوله: «الدار التي في يده لي» بمنزلة قوله: «الدار التي هي ملكه لي»، لكن التالي ،باطل، فالمقدّم مثله، والملازمة ظاهرة.

وهذا هو الذي جعله المصنف (رحمه الله) منشأ الإشكال. وقد ذكره الشيخ في المبسوط كذلك دليلاً لهذا القول (1).

وأجيب عن ذلك بأنه إنما جاز ذلك في الإقرار؛ لأنّ دلالة اليد ظاهرة، والإقرار بالملك قاطع، والصرف عن الظاهر بقرينة ،جائز، بخلاف القاطع، والقرينة هنا موجودة، وهي ادعاؤه بها وبأنّه معارض بالتصرّف، فإنّه لو قال الدار التي في تصرف هذا لي سمعت مع حكمهم بجواز الشهادة فيه بالملك المطلق (2).

وأجاب الشهيد (رحمه الله) في شرح الإرشاد عن ذلك:

بأنّ الدلالة الظاهرة إما أن تثمر للشاهد العلم أو لا، فإن كان الأول فلا تفاوت بينها وبين الإقرار بالملك، وإلا لم تصح الشهادة فحينئذ نقول: إذا كانت اليد ظاهرة لا تصح الشهادة بالملك المطلق بسببها، وهو المطلوب. وعن المعارضة بالتزام عدم السماع في التصرّف(3) .

وفيهما نظر؛ لأنّ الشهادة في هذه المواضع لم يعتبروا فيها العلم، بل اكتفوا فيها بالظنّ الغالب؛ لا تفاقهم على أنه مع اجتماع الثلاثة - أعني اليد والتصرف والتسامع - تجوز الشهادة بالملك، وجعلوه غاية الإمكان، مع أنّ ذلك لا يبلغ حدّ العلم غالباً؛ لجواز تخلف الملك معها؛ لأنّ كلّ واحدٍ منها أعم من الملك، ولهذا اختلفوا فيها منفردةً، ومع انضمامها تأكد الظن، لا أنه بلغ حدّ العلم مطلقاً أو في بعض الفروض، ولو اعتبر العلم لما احتيج إلى جعله غاية الإمكان، بل كان التعليل بإفادته العلم أولى وأظهر.

ص: 386


1- المبسوط ، ج 5 ، ص 544.
2- أجاب به العلامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 264، الرقم 6657.
3- غاية المراد، ج 4، ص 112 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).

الوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة

الثانية: • الوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة. أما على ما قلناه فلا ريب فيه. وأما على الاستفاضة المفيدة لغالب الظنّ؛ فلأنّ الوقف للتأبيد، فلو لم تسمع فيه الاستفاضة لبطلت الوقوف مع امتداد الأوقات وفناء الشهود .

وأما النكاح؛ فلأنا نقضي بأنّ خديجة (سلام الله علیها) زوجة النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، كما نقضي بأنها أُمّ فاطمة (سلام الله علیها) .

ولو قيل: إنّ الزوجيّة تثبت بالتواتر؛ كان لنا أن نقول: التواتر لا يثمر إلّا إذا استند السماع إلى محسوس، ومن المعلوم أنّ المخبرين لم يخبروا عن مشاهدة العقد، ولا عن إقرار النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم)، بل نقل الطبقات متصل إلى الاستفاضة التي هي الطبقة الأولى، ولعلّ هذا أشبه بالصواب.

------------------

وأما التزامه في التصرّف بعدم السماع كاليد المجرّدة فغير قادح في المعارضة؛ لأنّ المعارض أوردها على الشيخ والجماعة القائلين بسماعها مع التصرّف دون اليد، فلا يضره التزام غيرهم بعدم السماع مع ما فيه من البعد .

قوله: «الوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة» إلى آخره.

هذا الحكم ذكره الشيخ ( رحمه الله) في الخلاف كذلك، واستدلّ عليه بما لخصه المصنف (رحمه الله) من أنّ الوقف مبني على التأبيد، فلو لم تجز الشهادة فيه بالاستفاضة أدى إلى بطلان الوقف؛ لأن شهود الوقف لا يبقون أبداً، والشهادة الثالثة لا تسمع وأنه تجوز لنا الشهادة على أزواج النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) ، ولم يثبت ذلك إلا بالاستفاضة؛ لأنا ما شاهدناهم(1).

واعترض على الأوّل بأنّ الشهادة بدون العلم منهي عنها، فتخصيص ذلك بالوقف تحصيلاً لمصلحة ثبوته ليس بأولى من تخصيص النهي عن سماع الشهادة الثالثة بالوقف لهذه المصلحة، بل هذا التخصيص أولى؛ لأنه لا مانع منه عقلاً، بخلاف الشهادة بمجرد الظن. وبأنّ الشهادة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليست مستندة إلى الاستفاضة، بل إلى التواتر؛ لإخبار

ص: 387


1- الخلاف، ج 1، ص 265 - 266 ، المسألة 15 .

------------------

جماعةٍ كثيرة يفيد قولهم العلم بذلك في كلّ طبقة (1).

وأجاب المصنّف (رحمه الله) عن الأوّل بأنّ المانع من سماع الشهادة الثالثة النقل والإجماع، فلم يمكن معارضتهما بالتخصيص، بخلاف الشهادة بمجرد الظن، فإنّه لا إجماع على منعها، بل الأكثر على تجويزها. وتمنع من كون العقل دالاً على النهي عن ذلك؛ لأن أكثر الأحكام الشرعية مبناها على الظن.

وعن الثاني بأنّ من شرط التواتر استناد المخبرين إلى محسوس، وهو منتف هنا، للعلم بأنّ الطبقة الأولى لم يخبروا عن مشاهدة العاقدين وسماع العقد، وإنّما شاهده بعضهم ونقله إلى الباقين واستمر الأمر، فلم يحصل شرط التواتر؛ إذ من شرطه استواء جميع الطبقات فيه.

وفيه نظر؛ لأنّ الطبقة الأولى السامعين للعقد المشاهدين للمتعاقدين بالغون حد التواتر وزيادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك الوقت من أعلى قريش، وعمه أبو طالب المتولّي لتزويجه كان حينئذ رئيس بني هاشم ، وشيخهم، ومن إليه مرجع قريش، وخديجة (سلام الله علیها) أيضاً كانت من أجلاء بيوتات قريش، والقصة في تزويجها مشهورة، وخطبة أبي طالب (رحمه الله) في المسجد الحرام بمجمع من قريش (2) ممّن يزيد عن العدد المعتبر في التواتر، فدعوى معلومية عدم استناد الطبقة الأولى إلى مشاهدة العقد وسماعه ظاهرة المنع، وإنما الظاهر كون ذلك معلوماً بالتواتر؛ لاجتماع شرائطه، فلا يتم الاستدلال به على هذا المطلوب.

واعلم أنّ قول المصنف (رحمه الله) «أمّا على ما قلناه فلا ريب فيه يدلّ على أنّ مختاره اشتراط العلم في الشهادة بالاستفاضة، ولم يصرح به فيما سبق، وإنما تردد فيه (3). والتردّد يقتضي تساوي الطرفين لا رجحان أحدهما. وعلى كل حال فالوجه ثبوت الأمرين بالاستفاضة.

ص: 388


1- راجع مختلف الشيعة، ج 8، ص 551. المسألة 109.
2- راجع الكافي، ج 5، ص 374 - 375، باب خطب النكاح، ح 9.
3- راجع ص 378.

الأخرس يصح منه تحمّل الشهادة وأداؤها

الثالثة • الأخرس يصح منه تحمّل الشهادة وأداؤها. ويبنى على ما يتحققه الحاكم من إشارته. فإن جهلها اعتمد فيها على ترجمة العارف بإشارته.

نعم، يفتقر إلى مترجمين ولا يكون المترجمان شاهدين على شهادته بل يثبت الحكم بشهادته أصلاً ، لا بشهادة المترجمين فرعاً.

ما يفتقر إلى السماع والمشاهدة

[الفرع] • الثالث ما يفتقر إلى السماع والمشاهدة كالنكاح والبيع والشراء والصلح والإجارة؛ فإنّ حاسة السمع تكفي في فهم اللفظ، ويحتاج إلى البصر المعرفة اللافظ. ولا لَبْس فى شهادة من اجتمع له الحاسّتان.

شهادة الأعمى علی العقد و العاقد

أما الأعمى فتقبل شهادته في العقد قطعاً؛ لتحقق الآلة الكافية في فهمه، فإن انضمّ إلى شهادته معرّفان جاز له الشهادة على العاقد، مستنداً إلى تعريفهما ، كما يشهد المبصر على تعريف غيره.

------------------

قوله: «الأخرس يصح منه تحمّل الشهادة وأداؤها» إلى آخره.

كما أن إشارة الأخرس المفهمة معتبرة في العبادات اللفظية، وفي العقود والإيقاعات من النكاح والطلاق وغيرهما، فكذا في أداء الشهادة؛ لاشتراك الجميع في المقتضي، ولحصول الإفهام المعتبر؛ لأنّه الغرض.

ثم إن عرف القاضي إشارته عمل بما يعلمه، وإلا افتقر إلى مترجمين يعرفان إشارته، كما يفتقر إليهما لو كان الشاهد أعجميّاً والحاكم لا يعرف لغته.

وحيث يفتقر إلى المترجمين يكونان مخبرين، بمعنى إشارته، لا شاهدين على شهادته فلا يشترط غيبته عن مجلس الحكم حال ترجمتهما، ولا تعد شهادتهما مرتبة أولى حتّیتمتنع الثانية، إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة على الشهادة الفرعية.

قوله: «الثالث: ما يفتقر إلى السماع والمشاهدة» إلى آخره.

هذا هو القسم الثالث، وهو ما يفتقر في الشهادة به إلى السمع والبصر معاً، وهو الأقوال، فلا بد من سماعها ومن مشاهدة قائلها، وذلك كالنكاح والطلاق والبيع وجميع العقود

ص: 389

ولو لم يحصل ذلك، وعرف هو صوت العاقد معرفةً يزول معها الاشتباه، قيل: لا تقبل؛ لأنّ الأصوات تتماثل. والوجه أنّها تقبل؛ فإنّ الاحتمال يندفع باليقين؛ لأنا نتكلّم على تقديره.

وبالجملة، فإنّ الأعمى تصح شهادته متحمّلاً ومؤدّياً، عن علمه وعن الاستفاضة فيما يشهد به بالاستفاضة .

------------------

والفسوخ والإقرار بها فلا تقبل فيها شهادة الأصمّ الذي لا يسمع شيئاً.

وأمّا الأعمى ففى جواز شهادته اعتماداً على ما يعرفه من الصوت وجهان:

أحدهما المنع؛ لأنّ الأصوات تتشابه، ويتطرّق إليها التخييل والتلبيس.

والثاني - وهو الأشهر - القبول؛ لأنّ الفرض علمه القطعي بالقائل ومعرفته إياه، ووقوع ذلك أكثري مشاهد في كثير من العميان، يعلمون القائل بأدنى صوت يظهر منه، ويميزون بينه وبين غيره ممن يشبه صوته صوته، بل ربما يترقون إلى المعرفة بدون ذلك. وللإجماع على أن للأعمى أن يطأ حليلته اعتماداً على ما يعرفه من صوتها.

وفرّق المانع من شهادته بأنّ الشهادة مبنية على العلم ما أمكن، كما تقدم(1)، والوطء يجوز بالظنّ. وأيضاً فالضرورة تدعو إلى تجويز الوطء، ولا تدعو إلى الشهادة، فإنّ في البصراء غنية عنه. وفي هذين الجوابين تكلّف.

وللعامة في ذلك اختلاف، فمالك (2) وأحمد (3) على قبول شهادته، كما هو المشهور عندنا، والباقون على المنع (4).

وقد حكي أن جماعة من الفقهاء القائلين بالمنع من قبول شهادته سألوا رجلاً قائلاً

ص: 390


1- تقدّم في ص 376 .
2- راجع المدوّنة الكبری، ج 3، ص 43، بقوله: فهل تجوز شهادة الأعمى في الطلاق، قال مالك: نعم، إذا عرف الصوت؛ وحكاه عنه السرخسي في المبسوط ، ج 16، ص 152.
3- حكاه عنه أبو بكر القفال في حلية العلماء، ج 8، ص 291 .
4- راجع الحاوي الكبير، ج 17، ص 41؛ حلية العلماء، ج 8، ص 292؛ بدائع الصنائع، ج 6، ص 407.

• ولو تحمّل شهادةً وهو مبصر ثم عمي، فإن عرف نسب المشهود أقام الشهادة. وإن شهد على العين وعرف الصوت يقيناً جاز أيضاً.

• أما شهادته على المقبوض فماضية قطعاً.

------------------

بقبولها عن ذلك، قصداً للتشنيع عليه، فقال: ما قولكم في أعمى يطأ زوجته وأقرّت تحته بدرهم فشهد عليها؟ أتصدقونه في أنه عرفها حتى استباح بضعها، وتقولون إنه لم يعرفها للإقرار بدرهم؟! فانعكس التشنيع .

قوله: «ولو تحمل شهادةً وهو مبصر ثم عمي» إلى آخره.

إذا تحمّل شهادة يحتاج إلى البصر وهو بصير ثم عمي ، نظر إن تحمّلها على رجل معروف النسب والاسم لرجل بهذه الصفة فله أن يشهد بعد ما عمي؛ لحصول العلم بالمشهود له والمشهود عليه. وكذا لو عمي ويد المقرّ في يده، فشهد عليه لمعروف الاسم والنسب.

وإن لم يكن كذلك بني على القولين، فإن منعنا من شهادته على الصوت امتنع هنا؛ لأنه لا يمكنه تعيين المشهود عليه ولا الإشارة إلى المشهود له. وإن قبلناها مع العلم فكذا هنا.

قوله: «أمّا شهادته على المقبوض فماضية قطعاً».

هذه الصورة مما استثناها القائلون بالمنع من قبول شهادته، وسمّوها «الضبطة»، وهي يضع رجل فمه على أذن الأعمى ويد الأعمى على رأسه، بحيث يتيقن أنه يسمع منه، فيقرّ بطلاق أو عتق أو حق لرجل معروف الاسم والنسب، ويقبضه الأعمى، ولا يزال يضبطه حتى يشهد بما سمع منه عند الحاكم، فتقبل شهادته على القولين؛ لحصول العلم بالمشهود له وعليه.

وربما قيل باطراد المنع هنا؛ لأنّ التصوير المذكور فيه عسر وتدقيق، واللائق حسم الباب، كما أنا لا نقبل شهادة الفاسق على الإطلاق، وإن كان قد يغلب على ظننا صدقه في بعض الموارد.

ويضعف بانتفاء المانع في هذه الصورة قطعاً، مع وجود المقتضي للقبول. ودقة الفرض لا تدفع الحكم وتشبيهه بالفاسق الذي يغلب على الظنّ صدقه فاسد؛ لوجود الفارق، وهو

5392 موسوعة الشهيد الثاني / ج 27

ص: 391

• وتقبل شهادته إذا ترجم للحاكم عبارةً حاضر عنده.

------------------

أنّ الفاسق منهي عن الركون إلى قوله مطلقاً (1)، لا باعتبار ظنّ صدقه وعدمه، بل من حيث كونه فاسقاً، بخلاف الأعمى؛ فإنّ المانع من قبول شهادته عدم علمه بالمشهود عليه وله، لا من حيث هو أعمى، فإذا فرض العلم قبل.

قوله: «و تقبل شهادته إذا ترجم للحاكم عبارةً حاضر عنده ».

هذه الصورة أيضاً مستثناة من شهادة الأعمى على الأقوال على القول بعدم قبولها؛ فإنّه لو شهد عند الحاكم أعجمي لا يفهم كلامه، أو أقرّ عنده مقرّ والأعمى يعرف لغته، فترجمها للحاكم قبلت؛ لانتفاء المانع حينئذ ؛ إذ الحاكم يعرف المشهود عليه وله، وإنما يشتبه عليه معنى اللفظ الواقع، فشهادة الأعمى بترجمته (2) لا تتوقف على البصر.

ص: 392


1- اقتباس من قوله تعالى: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَهَا فَتَبينوا) الحجرات (49): 6.
2- في بعض النسخ وترجمته» بدل «بترجمته».

الطرف الثالث في أقسام الحقوق

القسم الأوّل حقوق الله

ما لا يثبت إلا بأربعة رجال

وهي قسمان: حق الله سبحانه، وحق للآدمي.

• والأوّل منه ما لا يثبت إلا بأربعة رجال كالزنى واللواط والسحق. وفي إتيان البهائم قولان أصحهما ثبوته بشاهدين.

------------------

قوله: «في أقسام الحقوق وهي قسمان: حق الله سبحانه وحق للآدمى».

جعل العنوان في أقسام الحقوق ثم جعلها قسمين قد يوهم التنافي، من حيث جعل الجمع الذي أقله ثلاثة شيئين.

والوجه فيه أنّ الأقسام أزيد من ثلاثة كما ستقف عليها، ولكن جعل أصلها قسمين، وقسم كلّ واحد منهما إلى أقسام. والكلام في قوة أن أقسام الحقوق المتكثرة ترجع إلى أمرين، ثمّ كلّ منهما ينقسم إلى أقسام.

قوله: «والأوّل منه ما لا يثبت إلا بأربعة رجال» إلى آخره.

الغرض من هذا الباب بيان العدد المعتبر في الشهادات ومواضع اعتبار الذكورة وعدم اعتبارها .

واعلم أنّ قول الشاهد الواحد لا يكفي للحكم به مطلقاً، إلا ما قيل به في هلال رمضان (1).

ومسألة الشاهد واليمين ليست مستثناة؛ لأنّ القضاء ليس بالشاهد وحده، بل اليمين إما جزء أو شرط فيه.

ثم للفقهاء في هذا التقسيم اعتبارات فالمصنف(رحمه الله) قسم الحقوق قسمين: حق

ص: 393


1- وهو قول سلّار في المراسم، ص 96، بقوله: أو شهد بها في أوله واحد عدل.

------------------

للّه تعالى وحق للآدمي، ثمّ قسم كلّ واحدٍ منهما على حدة.

ومنهم من قسمها ابتداء إلى الأقسام(1). وكثيراً ما تتداخل الأقسام في كلامهم والأمر سهل.

فمن حقوق الله تعالى الزنى. وفي معناه اللواط والسحق عندنا. وإنّما يثبت بشهادة أربعة رجال، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )(2). وقال :تعالى: ﴿لَّوْلَا جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) (3). وقال تعالى: ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةٌ منكُمْ )(4).

وقال سعد: يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: «نعم» (5).

قيل: والحكمة في اختصاصه بذلك أنّ الشهادة فيه على اثنين، فاعتبر لكلّ واحد رجلان. وهذا التعليل مروي أيضاً عن أبي حنيفة رواية عن أبي عبد الله (علیه السّلام)(6).

وفيه أن شهادة الاثنين مقبولة على الجماعة إذا شهدا على كلّ واحد منهم، ولأنّه قد لا يعرفون أحد الزانيين فلا يمكنهم الشهادة عليه. وفي أخبار كثيرة أنّ ذلك تعبّد محض(7) .وأنّ فيه دليلاً على بطلان القياس، وإلا لكان القتل أولى باعتبار الأربعة؛ لأنه أفحش .

واختلفوا في إتيان البهائم هل يتوقف على أربعة رجال أم يكتفى فيه بشاهدين؟ فقيل

ص: 394


1- كالشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 110 وما بعدها (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- النور (24): 4 .
3- النور (24): 13.
4- النساء (4): 15 .
5- مسند أحمد، ج 3، ص 229، ذيل الحديث 9678؛ صحيح مسلم، ج 2، ص 1135، ح 1498/15؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 181 ، ح 4533؛ السنن الكبرى البيهقي ، ج 10، ص 248، ح 20521.
6- الكافي، ج 7، ص 404 ، باب النوادر ، ح : تهذيب الأحكام، ج 1، ص 277 - 278 ، ح 760 .
7- راجع وسائل الشيعة، ج 28، ص 94 - 97، الباب 12، من أبواب حد الزنى.
يثبت الزنى بثلاثة رجال وامرأتين

• ويثبت الزنى خاصة بثلاثة رجال وامرأتين، وبرجلين وأربع نساء، غير أنّ الأخير لا يثبت به الرجم ويثبت به الجلد، ولا يثبت بغير ذلك.

------------------

بالأوّل (1)؛ عملاً بالأصل، وكونه وطءاً محرماً في معنى الزني، ومشتملاً على الهتك.

والأصح ما اختاره المصنّف والأكثر من ثبوته بشاهدين؛ لأن الشارع جعل ثبوت الأحكام في غير الزنى بشاهدين؛ لقوله تعالى:( وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)(2)، وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ) (3). وإتيان البهائم ليس بزني، ولا يوجب الحد، وإنما يوجب التعزير. وبهذا فارق اللواط والسحق؛ فإنّهما يوجبان الحد عندنا. ومن أوجب بهما التعزير من العامة أثبتهما بشاهدين(4).

قوله: «ويثبت الزنى خاصةً بثلاثة رجال وامرأتين» إلى آخره.

هاتان الصورتان خارجتان عن ظاهر الآية باشتراط أربعة رجال بنص خاص، وغير منافيتين لما دلّت عليه الآيات(5)؛ إذ ليس فيها ما يدلّ على الحصر، فإذا ثبت بدليل آخر عمل به .

ومستند الحكم في الأولى روايات كثيرة:

منها : صحيحة عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول: «لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال، ولا تجوز في الرجم شهادة رجلين وأربع نسوة، ويجوز في ذلك ثلاثة رجال وامرأتان»(6).

ص: 395


1- قاله الشيرازي في المهذب، ج 2، ص 424: وأيضاً أبو بكر القفال في حلية العلماء، ج 8، ص 271 - 272 .
2- الطلاق (65): 2 .
3- البقرة (2): 282 .
4- كأبي حنيفة راجع المبسوط، السرخسي ، ج 9، ص 88 و 118 ؛ والكافي في فقه أحمد بن حنبل، ج 4، ص 349 - 350 .
5- النساء (4): 15: النور (24): 4 و 13.
6- الكافي، ج 7، ص 391، باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز، ح 8؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 264، ح 702؛ الاستبصار، ج 3، ص 23، ح 70.

------------------

وحسنة الحلبي عنه قال: سألته عنه قال: سألته عن شهادة النساء في الرجم، فقال: «إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان فإذا كان رجلان وأربع نسوة لم تجز في الرجم»(1).

وصحيحة محمد بن مسلم عنه قال: «إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان لم تجز في الرجم»(2). وغيرها من الأخبار الكثيرة (3).

وهي مع كثرتها ليس فيها تصريح بثبوت الجلد برجلين وأربع نسوة.

لكنّ الشيخ (4)، وجماعة (5)، استندوا في ثبوته إلى رواية أبان، عن عبد الرحمن، عن الصادق قال: «تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال»(6). وحيث انتفى الرجم بالأخبار الكثيرة ثبت الجلد.

وفيه نظر؛ لضعف الطريق عن إثبات مثل ذلك، مع ورود روايات كثيرة بأنه لا تقبل شهادتهن في حد(7)، ومن ثم ذهب جماعة - منهم الصدوقان(8) ، وأبو الصلاح(9)، والعلامة في المختلف(10)- إلى عدم ثبوت الحدّ بذلك؛ عملاً بالأصل وبأنه لو ثبت الزنى بشهادتهم

ص: 396


1- الكافي، ج 7، ص 390 باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز ، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 264، ح 703؛ الاستبصار، ج 3، ص 23، ح 71.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 265، ح 708: الاستبصار، ج 3، ص 24، ح 76.
3- الكافي، ج 7، ص 391 - 392، باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز، ح 4 و 11؛ تهذيب الأحكام، ج 6. ص 264 - 265، ح 704 و 705 و 707؛ الاستبصار، ج 3، ص 23 - 24، ح 72 و 73 و 75.
4- النهاية، ص 332 .
5- منهم ابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 137؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 528.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 270 ، ح 728؛ الاستبصار، ج 3، ص 30، ح 100.
7- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 265 - 266، ح 709 و 710، وص 281، ج 773؛ الاستبصار، ج 3، ص 24 - 25، ح 77 - 78 و 80 .
8- المقنع، ص 402: وحكاه عنهما العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 489، المسألة 74.
9- الكافي في الفقه، ص 436 و 438. .
10- مختلف الشيعة، ج 8، ص 490، المسألة 74 .
ما يثبت بشاهدين

• ومنه ما يثبت بشاهدين، وهو ما عدا ذلك من الجنايات الموجبة للحدود كالسرقة وشرب الخمر والردّة.

ولا يثبت شيء من حقوق الله [تعالى] بشاهد وامرأتين، ولا بشاهد ويمين ولا بشهادة النساء منفردات ولو كثرن.

------------------

لثبت الرجم والتالي باطل؛ للأخبار(1) الكثيرة الدالة على عدم سماع رجلين وأربع نسوة في الرجم، فالمقدّم مثله. وبيان الملازمة دلالة الإجماع على وجوب الرجم على المحصن الزاني، فإن ثبت هذا الوصف ثبت الحكم، وإلا فلا. وهذا متجه.

ونبه المصنّف (رحمه الله) بقوله «في الزنى خاصةً على خلاف جماعة من الأصحاب - منهم الصدوق (2) وابن الجنيد (3) - بتعدي الحكم إلى اللواط والسحق.

وهو ضعيف؛ لعدم المقتضي لإلحاقهما بالزنى، مع عموم الأخبار بعدم قبول شهادتهنّ في الحد.

وبقوله: «ولا يثبت بغير ذلك» على خلاف الشيخ في الخلاف، حيث ذهب إلى ثبوت الحد دون الرجم بشهادة رجل واحدٍ وست نساء(4) . ولعله استند إلى عموم رواية عبدالرحمن السابقة (5)، وهو شاذ.

قوله: «ومنه ما يثبت بشاهدين» إلى آخره.

لا فرق في حقوق الله تعالى بين كونها مالية كالزكاة والخمس والكفارة، وغيرها كالحدود(6)، وقد دلّ على عدم قبول شهادتهنّ في الحدود روايات"، واستثني منها ما تقدم.

ص: 397


1- راجع ص 395 الهامش 6، وص 396، الهامش 1 و 2.
2- المقنع، ص 402.
3- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 488، المسألة 74؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 110 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10 )
4- الخلاف، ج 6، ص 251، المسألة .2.
5- سبقت في ص 396.
6- راجع ص 396، الهامش 7.

القسم الثاني حقوق الأدمي ثلاثة

ما لا يثبت إلا بشاهدين

•وأما حقوق الأدمي فثلاثة:

منها ما لا يثبت إلا بشاهدين. وهو الطلاق والخلع والوكالة والوصية إليه والنسب ورؤية الأهلة.

------------------

وأما حقوق الله المالية، فليس عليها نص بخصوصها، لكن لما كان الأصل في الشهادة شهادة رجلين وكان مورد الشاهد واليمين والشاهد والمرأتين الديون ونحوها من حقوق الآدميين قصّر على مورده، وبقي غيره على الأصل.

قوله: «وأما حقوق الآدمي فثلاثة منها ما لا يثبت إلا بشاهدين» إلى آخره.

مورد الشاهدين من حقوق الآدمي كلّ ما ليس بمال ولا المقصود منه المال، فمن ثَمّ توقفت الستة الأول على الشاهدين؛ إذ لا تعلق لها بالمال أصلاً.

ولكن اختلف كلام الشيخ في ثبوت الطلاق بشهادة النساء منضمات، ففي الخلاف(1)، والنهاية (2) نص على المنع ؛ عملاً بالقاعدة، ولورود الروايات الكثيرة به(3).

وقوى في المبسوط قبول شهادتهن فيه مع الرجال(4) ، وإليه ذهب جماعة(5) ، وهو ضعيف.

وأما الخلع، فإن كان مدعيه المرأة فكالطلاق. وإن كان هو الرجل فهو متضمن لدعوى المال، ومع ذلك فالمشهور عدم ثبوته بذلك مطلقاً، من حيث تضمّنه البينونة، والحجة لا تتبعض.

وقيل: يثبت من جهة تضمنه المال، وهو مستلزم للبينونة، فيثبت أيضاً لذلك(6).

ولو تضمّن الطلاق عوضاً فكالخلع.

ص: 398


1- الخلاف، ج 6، ص 252، المسألة 4.
2- النهاية، ص 332 .
3- منها ما رواه في الكافي، ج 7، ص 390 - 392، باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز، ح 2 و 4 - 6 و 11:تهذيب الأحكام، ج 6، ص 264 - 265، ح 704 و 707، وص 269، ح 723؛ الاستبصار، ج 3، ص 23 و 24، ح 72 و 74 - 75 ، وص 29، ح 95.
4- المبسوط ، ج 5، ص 533 ولكن فيه صرّح بالقبول إلا في القصاص.
5- حكاه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 482 المسألة 74 ، عن ظاهر كلام ابن أبي عقيل وابن الجنيد.
6- لم نعثر على قائله .

وفي العتق والقصاص والنكاح تردّد، أظهره ثبوته بالشاهد والمرأتين.

------------------

وأما العتق والقصاص والنكاح ففي توقفها على الشاهدين، أو ثبوتها بالشاهد واليمين، والشاهد والمرأتين خلاف، منشؤه اختلاف الروايات في الأخيرين، والاعتبار في الأول؛ فإن العتق ليس بمال وإنّما هو فك ملك، فلا تُقبل فيه شهادتهنّ ولا اليمين؛ ولأنه حق لله تعالى، ومن رجوعه إلى إزالة المالية وإثباتها للمملوك.

فلذلك اختلف فيه كلام الشيخ وغيره(1)، ففي الخلاف : لا يثبت بشهادة رجل وامرأتين(2). وقوّى في المبسوط القبول (3)، واختاره المصنف (رحمه الله). والوجه الأول.

وأما النكاح فالمقصود الذاتي منه ليس هو المال، ولكنّه مشتمل عليه من النفقة والمهر وغيرهما، خصوصاً من طرف الزوجة، ومن ثم اختلف فيه. واختلف فيه الرواية أيضاً، فروى محمّد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن الرضا (علیه السّلام) فقلت: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو في رجم؟ قال: «تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه وليس معهنّ رجل، وتجوز شهادتهن في النكاح إذا كان معهنّ رجل»(4).

وروى زرارة عن الباقر (علیه السّلام) قال: سألته عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال: «نعم، ولا تجوز في الطلاق»(5).

و مثله روى الكناني عن أبي عبد الله (علیه السّلام)(6). وروى إبراهيم الحارثي عنه (علیه السّلام) (7).

ص: 399


1- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 499 و 613 .
2- الخلاف، ج 6، ص 252، المسألة 4 .
3- المبسوط، ج 5، ص 533.
4- الكافي، ج 7، ص 391، باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز ، ح : الفقيه، ج 3، ص 51، ح 3312، وفيه: ليس معهنّ رجل»؛ تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 264، ح 705؛ الاستبصار، ج 3، ص 23، ح 73.
5- الكافي، ج 7، ص 391، باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز، ح 9 تهذيب الأحكام، ج 6، ص 265 ح 706: الاستبصار، ج 3، ص 24، ح 74.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 267، ح 713: الاستبصار، ج 3، ص 27، ح 84.
7- الكافي، ج 7، ص 392، باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز، ح 11؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 265 ح 707؛ الاستبصار، ج 3، ص 24، ح 75.

------------------

وهذه الروايات مؤيدة للقبول، وإن كان في طريقها ضعف أو جهالة، فإنّ محمّد بن الفضيل الذي يروي عن الرضا (علیه السّلام) لم ينص علماء الرجال عليه بما يقتضي قبول روايته، بل اقتصروا على مجرد ذكره(1)، والطريق إليه صحيح، وهو أيضاً في طريق رواية الكناني. وفي طريق رواية زرارة سهل بن زياد(2) . وراوي الأخيرة مجهول. وعلى كل حال، فهي شاهد قوي لهذا القول.

وأما جانب المنع فيؤيده رواية السكوني عن الصادق (علیه السّلام)، عن أبيه، عن عليّ (علیهم السّلام) أنه كان يقول: «شهادة النساء لا تجوز في طلاق ولا نكاح ولا في حدود، إلا في الديون وما لا يستطيع الرجال النظر إليه»(3).

وفيها مع ضعف السند(4) إمكان حملها على المنع من قبول شهادتهن فيه منفردات، فقد روي ذلك أيضاً(5).

وبالجملة، فالأخبار مختلفة، وليس فيها خبر نقي، والأكثر دلّ على القبول.

ويمكن الجمع بينها بحمل أخبار المنع على ما إذا كان المدعي الزوج لأنه لا يدعي مالاً، وأخبار القبول (6) على ما إذا كان المدعي المرأة؛ لأنّ دعواها تتضمن المال من المهر والنفقة. وهذا متجه.

وأما القصاص - أعني الجناية الموجبة له - فاختلف كلام الشيخ في حكمه أيضاً،

ص: 400


1- خلاصة الأقوال، ص 395، الرقم 1593.
2- وهو ضعيف في الحديث وغير معتمد فيه راجع رجال النجاشي، ص 185 ، الرقم 490 .
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 281، ج 773؛ الاستبصار، ج 3، ص 25، ح 80 .
4- خلاصة الأقوال، ص 316 ، الرقم 1238.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 280، ح 769: الاستبصار، ج 3، ص 25، ح 79 .
6- تقدمت أخباره قبيل هذا.

------------------

ففي الخلاف منع من قبول شهادتهن مع الرجال فيه(1). وقوّى في المبسوط (2)والنهاية (3) القبول. وعليه الأكثر.

والأخبار مختلفة أيضاً، إلا أن أصحها وأكثرها دالّ على القبول. فروى جميل بن درّاج وابن حمران - في الصحيح - عن الصادق (علیه السّلام) قال، قلنا: أتجوز شهادة النساء في الحدود؟ قال: «في القتل وحده، إنّ عليّاً (علیه السّلام)كان يقول: لا يبطل دم رجل مسلم»(4).

وروى الكناني عن الصادق (علیه السّلام) قال: «تجوز شهادة النساء في الدم مع الرجال»(5).

وعن زيد الشحام قال: سألته عن شهادة النساء - إلى أن قال - قلت: أفتجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ فقال: «نعم»(6).

واستند المانع إلى القاعدة المشهورة بأنه ليس بمال ولا متضمناً له. وإلى رواية ربعي عن الصادق (علیه السّلام) قال: «لا تجوز شهادة النساء في القتل»(7) . ورواية محمد بن الفضيل عن الرضا (علیه السّلام) قال: «لا تجوز شهادتهن في الطلاق ولا في الدم»(8).

ص: 401


1- الخلاف، ج 6، ص 252، المسألة 4.
2- راجع المبسوط ، ج 5، ص 533 ، حيث قوّى القبول في الجناية الموجبة للقود واستثنى منه القصاص، أي ثبوت الدية بها دون القود، وفي ص 282، صرّح بعدم القبول مطلقاً؛ ونسب إليه القبول مطلقاً العلامة في مختلف الشيعة. ج 8، ص 483، المسألة 74 .
3- النهاية، ص 333 .
4- الكافي، ج 7، ص 390، باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 266، ح 711؛ الاستبصار، ج 3، ص 26، ح 82 .
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 267، ح 713؛ الاستبصار، ج 3، ص 27، ح 84.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 266 - 267، ح 712: الاستبصار، ج 3، ص 27، ح 83 .
7- تهذيب الأحكام، ج 6، ص 267، ح 716؛ الاستبصار، ج 3، ص 27 - 28، ح 87 .
8- الكافي، ج 7، ص 391 باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز، ح : الفقيه، ج 3، ص 51 - 52، ح 3312؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 266، ح 705: الاستبصار، ج 3، ص 23، ج 73.

------------------

وأجيب بحملها على شهادتهنّ منفردات جمعاً ، أو أنه لا يثبت القود بشهادتهن، بل تجب الدية (1).

واعلم أنّ محلّ الإشكال شهادتهن منضمات إلى الرجال، أما على الانفراد فلا تقبل شهادتهن قطعاً.

وشدّ قول أبي الصلاح بقبول شهادة امرأتين في نصف دية النفس والعضو والجراح، والمرأة الواحدة في الربع (2).

وأن إطلاق الخلاف في القصاص وحكمه بثبوته بشاهد وامرأتين يقتضي ثبوت القود بذلك؛ لأنّ ذلك هو مقتضاه. وبهذا المعنى صرّح كثير من الأصحاب ممن حكينا عنه سابقاً القول به وغيره. وكذلك مقتضى الروايات(3) الدالة عليه.

وذهب جماعة(4) - منهم الشيخ في النهاية (5) - إلى أنه يثبت بشهادة المرأتين مع الرجل 4 الدية دون القود. وكأنه جمع به بين الأخبار، بحمل ما دلّ على عدم ثبوته على القود، وما دلّ عليه على الدية.

والمصنّف (رحمه الله) مع حكمه هنا بثبوته بذلك أنكر الأمرين في كتاب القصاص، وجزم بعدم ثبوته بشاهد وامرأتين، ونسب القول بثبوت الدية إلى الشذوذ(6)، مع أنه قول كثير من الأصحاب.

ص: 402


1- أجاب به العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 484، المسألة 74.
2- الكافي في الفقه، ص 439 .
3- تقدمت قُبَيْل هذا.
4- منهم أبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 436؛ وابن البراج في المهذب، ج 2، ص 559؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 493. المسألة 74 .
5- النهاية، ص 333 .
6- يأتي في ج 12، ص 361 - 362.
منها ما يثبت بشاهدين، وشاهد وامرأتين، وشاهد ويمين

•ومنها ما يثبت بشاهدين، وشاهد وامرأتين، وشاهد ويمين. وهو الديون والأموال كالقرض والقراض والغصب، وعقود المعاوضات كالبيع، والصرف والسلم ،والصلح والإجارات والمساقاة، والرهن والوصية له، والجناية التي توجب الدية. وفي الوقف تردّد، أظهره أنه يثبت بشاهد وامرأتين وبشاهد ويمين.

------------------

قوله: «ومنها ما يثبت بشاهدين، وشاهد وامرأتين» إلى آخره.

ضابط هذا القسم ما كان متعلّق الشهادة مالاً أو كان المقصود منه المال، كالأعيان والديون والعقود المالية، فيثبت بشاهد وامرأتين كما يثبت برجلين.

قال الله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) (1).

وقد تقدم أنّ مثل ذلك يثبت بشاهد ويمين بالرواية (2)، ولا يثبت بشهادة النساء وحدهنّ.

فمن هذا القسم البيع والإقالة والردّ بالعيب، والرهن والحوالة، والضمان، والصلح، ،والقرض، والقراض، والشفعة، والإجارة والمزارعة، والمساقاة والهبة والإبراء والمسابقة والوصيّة بالمال والصداق في النكاح، والوطء بالشبهة، والغصب والإتلاف.

والجنايات التي لا توجب إلا المال كالقتل الخطا، وقتل الصبي والمجنون، وقتل الحرّ العبد، والمسلم الذمي، والوالد الولد، والسرقة التي لا قطع فيها، والمال خاصة فيما فيه القطع. وكذلك حقوق الأموال والعقود، كالخيار، وشرط الرهن، والأجل. وفي الأجل احتمال من حيث إنه ضرب سلطنة فكان كالوكالة. ومنها قبض الأموال، ومن جملتها نجوم الكتابة.

نعم، فى النجم الأخير وجهان:

أحدهما: أنّه لا يثبت إلا برجلين، بناءً على أن العتق لا يثبت إلا بهما؛ لتعلّق العتق به. وبه جزم في التحرير(3).

ص: 403


1- البقرة (2): 282 .
2- تقدم في ص 171 - 172.
3- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 267 ، الرقم 6663 .

------------------

وأصحهما أنّه كسائر النجوم؛ لأنّ العتق يحصل بالكتابة، وإذا جمع النجوم فالأخير منها تمام السبب لا السبب التام للعتق فلا فرق بينه وبين غيره. وهذا هو الذي اختاره الشيخ(1)و جماعة (2)، وتوقف في القواعد(3).

ومنه طاعة المرأة لاستحقاق النفقة، وقتل الكافر لاستحقاق السلب، وأزمان الصيد لتملكه، وعجز المكاتب عن النجوم. ومتعلّق الشهادة في هذه الأربعة ليس مالا ولكن المقصود منه المال.

واختلف في الوقف، بناءً على أنه هل ينتقل إلى الله تعالى، أو إلى الموقوف عليه، أو يبقى على ملك المالك؟ فعلى الثاني يثبت بالشاهد والمرأتين مطلقاً وبالشاهد واليمين، لا على الأوّل؛ لأنه ليس بمال للموقوف عليه، بل له الانتفاع به فقط.

والأقوى ثبوته بالشاهد والمرأتين مطلقاً، وبالشاهد واليمين إن كان على محصور، لتمكن حلفه. وقد تقدم البحث فيه في باب الشاهد واليمين (4).

ومن هذا القسم ما لو مات سيد المدبّر ، فادعى الوارث أنّه كان قد رجع عن التدبير حيث يجوز الرجوع، فإنه يثبت دعواه برجل وامرأتين وبشاهد ويمين؛ لأنه يدعي مالاً.

ولو توافق الزوجان على الطلاق، وقال الزوج: طلقتك على كذا»، وقالت: «بل مجاناً»، تثبت دعوى الزوج أيضاً بهما.

وكذا لو قال لعبده: «أعتقتك على كذا»، فقال: «بل مجاناً».

ص: 404


1- المبسوط ، ج 5، ص 533 .
2- منهم الشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 111 - 112 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 499.
4- تقدم في ص 175.
ما يثبت بالرجال والنساء، منفردات ومنضمات

• الثالث ما يثبت بالرجال والنساء، منفردات ومنضمات وهو الولادة والاستهلال وعيوب النساء الباطنة. وفي قبول شهادة النساء منفردات في الرضاع ،خلاف أقربه الجواز.

وتقبل شهادة امرأتين مع رجل في الديون والأموال، وشهادة امرأتين مع اليمين. ولا تقبل فيه شهادة النساء منفردات ولو كثرن.

------------------

قوله: «ومنها (1) ما يثبت بالرجال والنساء منفردات ومنضمات» إلى آخره.

ضابط هذا القسم ما يعسر اطلاع الرجال عليه غالباً. وذلك؛ كالولادة والبكارة والثيوبة، وعيوب النساء الباطنة، كالرتق والقرن والحيض واستهلال المولود، وأصله الصوت عند ولادته، والمراد منه ولادته حيّاً ليرث.

واحترز ب «الباطنة» عن مثل العرج والجذام في الوجه وإن كانت حرّة؛ لأنه ليس من العورة.

واختلف في الرضاع، والأظهر أنه كذلك؛ لأنّه أمر لا يطلع عليه الرجال غالباً، فمست الحاجة إلى قبول شهادتهنّ فيه ، كغيره من الأمور الخفيّة على الرجال من عيوب النساء وغيرها، وللأخبار (2) الكثيرة عن الصادق (علیه السّلام) أن شهادة النساء تقبل فيما لا يجوز للرجال النظر إليه.

ويؤيده ظاهر رواية ابن بكير، عن بعض أصحابنا، عن الصادق (علیه السّلام) في امرأة أرضعت غلاماً وجاريةٌ قال: «يعلم ذلك غيرها؟» قلت: لا، قال: «لا تصدق إن لم يكن غيرها»(3). ومفهوم الشرط أنّها تصدّق حيث يعلم بذلك غيرها؛ لأنّ عدم الشرط يقتضي عدم المشروط وهو عدم التصديق فيثبت نقيضه وهو التصديق.

ص: 405


1- كذا قوله «ومنها» في نسخة الأصل و «ض ، و» وهو الأنسب بما مضى من عبارة المتن والشرح.
2- منها ما رواه في الكافي، ج 7، ص 391 - 392، باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز، ح 4 - 5 و 8 و 11 و 13؛ وتهذيب الأحكام، ج 1، ص 264 - 265، ح 702 و 704 - 705 و 707: والاستبصار، ج 3، ص 23 - 24، ح 70 و 72 - 73 و 75.
3- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 323، ح 1330.
تقبل شهادة المرأة الواحدة في ربع ميراث المستهل، وفي ربع الوصية

• وتقبل شهادة المرأة الواحدة في ربع ميراث المستهل، وفي ربع الوصية. وكلّ موضع تقبل فيه شهادة النساء لا يثبت بأقل من أربع.

------------------

وقال الشيخ في الخلاف (1)، وموضع من المبسوط (2) وابن إدريس (3) ونجيب الدين يحيى بن سعيد(4) والأكثر : إنّه لا تقبل فيه شهادة النساء؛ لأصالة الإباحة.

ولا يخفى ضعف الأصالة مع معارضة الشهادة.

قوله: «و تقبل شهادة المرأة الواحدة في ربع ميراث المستهلّ» إلى آخره.

حيث تقبل شهادة النساء منفردات يعتبر كونهن أربعاً؛ لما عهد من عادة الشارع في باب الشهادات من اعتبار المرأتين برجل، والأمر بإشهاد رجلين أو رجل وامرأتين.

واستثنى من ذلك أمران بنص خاص، وهما الوصية بالمال، وميراث المستهل. المشهود به بشهادة أربع وثلاثة أرباعه بشهادة ثلاث، ونصفه باثنتين، فيثبت جميع وربعه بواحدة.

والمستند، صحيحة ربعي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) في شهادة امرأة حضرت رجلاً يوصي، فقال: «يجوز ربع ما أوصى بحساب شهادتها»(5) .

وصحيحة عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن رجل مات وترك امرأته وهي ،حامل، فوضعت بعد موته غلاماً، ثم مات الغلام بعد ما وقع إلى الأرض، فشهدت المرأة التي قبلتها أنه استهل وصاح حين وقع إلى الأرض ثمّ مات قال: «على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام»(6).

ص: 406


1- الخلاف، ج 6 ، ص 257 - 258، المسألة 9 .
2- المبسوط، ج 4، ص 354.
3- السرائر، ج 2، ص 137.
4- الجامع للشرائع، ص 542.
5- الكافي، ج 7، ص 4، باب الإشهاد على الوصية، ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 180، ح 719.
6- الكافي، ج 7، ص 392، باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز، ح 12؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 268، ح 720؛ الاستبصار، ج 3، ص 29، ح 92 .

------------------

وفي رواية ابن سنان عنه (علیه السّلام)قلت: فإن كانتا امرأتين؟ قال: «تجوز شهادتهما في النصف من الميراث»(1). وغيرها من الأخبار (2).

وفي ثبوت النصف بشهادة الرجل؛ لكونه بمنزلة امرأتين، أو الربع؛ لعدم النص عليه وكونه المتيقن؛ إذ لا يقصر عن امرأة، أو لا يثبت به شيء أصلاً؛ وقوفاً فيما خالف الأصل على مورده أوجه، أجودها الوسط.

وليس للمرأة تضعيف الحق ليصير ما يثبت بشهادتها مقدار الحق. فلو فعلت ذلك جاز للمشهود له أخذه إن علم بأصل الحق، وإلا فلا.

والخنثى هنا كالمرأة.

وقال المفيد:

يقبل في عيوب النساء والاستهلال والنفاس والحيض والولادة والرضاع شهادة امرأتين مسلمتين، وإذا لم يوجد إلا شهادة امرأة واحدة مأمونة قبلت شهادتها فيه(3) .

وتبعه سلار(4)؛

والمستند صحيحة الحلبي عن الصادق (علیه السّلام) أنه سأله عن شهادة القابلة في الولادة، فقال: «تجوز شهادة الواحدة»(5).

وأجاب في المختلف بالقول بالموجب(6)؛ فإنّه يثبت بشهادة الواحدة الربع، مع أنّه لا يدلّ على حكم غير الولادة.

ص: 407


1- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 316 - 319 ، الباب 22 من أبواب أحكام الوصايا.
2- الكافي، ج 7، ص 156، باب ميراث المستهل، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 271، ح 736؛ الاستبصار، ج 3، ص 31 . ح 104.
3- المقنعة، ص 727 .
4- المراسم، ص 233 .
5- الكافي، ج 7، ص 390، باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 269، ح 723: الاستبصار، ج 3، ص 29، ح 95 .
6- مختلف الشيعة، ج 8 ص 493، المسألة 74.

مسائل :

الأولى : الشهادة ليست شرطاً في شيء من العقود إلا في الطلاق، ويستحبّ في النكاح والرجعة، وكذا في البيع.

الثانية . حكم الحاكم تبع للشهادة، فإن كانت محقةً نفذ الحكم باطناً وظاهراً، وإلّا نفذ ظاهراً.

وبالجملة، الحكم ينفذ عندنا ظاهراً لا باطناً. ولا يستبيح المشهود له ما حكم له إلّا مع العلم بصحة الشهادة أو الجهل بحالها.

------------------

وابن أبي عقيل خص القبول بالواحدة بالاستهلال(1) ؛ عملاً بظاهر الخبر.

قوله: «الشهادة ليست شرطاً في شيء من العقود إلا في الطلاق» إلى آخره.

الإشهاد مستحب في البيع؛ لقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ )(2) ، وفي النكاح والرجعة؛ للأخبار الواردة بذلك (3)، وقد تقدمت في بابها (4).

ولا يجب في شيء من العقود وغيرها؛ عملاً بالأصل، وضعف الدليل الموجب. وقد تقدّم البحث في ذلك مراراً.

قوله: «حكم الحاكم تبع للشهادة» إلى آخره.

أطبق علماؤنا وأكثر الجمهور على أن الحكم لا ينفذ إلا ظاهراً، وأما باطناً فيتبع الحق، فلا يستبيح المحكوم له أخذ المحكوم به مع علمه بعدم الاستحقاق؛ لأصالة بقاء الحق على أصله، والحل والحرمة كذلك.

ص: 408


1- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 492، المسألة 74 .
2- البقرة (2): 282 .
3- وسائل الشيعة، ج 20، ص 97 - 100 ، الباب 43 من أبواب مقدمات النكاح وج 22، ص 134 - 135، الباب 13 من أبواب أقسام الطلاق.
4- تقدمت في ج 6، ص 28؛ وج 7، ص 357 .
الكلام في تحمّل الشهادة أولاً و أدائهاآخراً

الثالثة: • إذا دعي من له أهليّة التحمّل وجب عليه. وقيل: لا يجب. والأوّل مرويّ. والوجوب على الكفاية. ولا يتعيّن إلا مع عدم غيره ممن يقوم بالتحمّل.

------------------

وقد روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) أنه قال: «إنّما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلى، ولعلّ بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعة من النار». أخرجه أصحاب السنن السبعة (1).

وخالف في ذلك أبو حنيفة، فحكم باستباحة المحكوم له وإن علم بطلانه، سواء في ذلك المال أو البضع (2).

وقول المصنف أو الجهل بحالها يندرج فيه ما إذا شهد لشخص شاهدان بحق، إمّا لكونه متروكاً له من مورّثه أو له مع احتمال نسيانه، فإنّه يستبيح أخذه مع الحكم(3) بشهادتهما، ما لم يعلم فساد ذلك، بأن يتجدد براءة المشهود عليه من غير أن يعلم به الشهود، ونحو ذلك، فلا يستبيح الأخذ؛ لعلمه بفساد الحكم.

ولو توقف الحكم على يمينه، لكون الشهادة على ميت أو ما ألحق به، أو كون الشاهد واحداً لم يجز له الحلف إلا مع العلم بالحال؛ لأن استباحة الأخذ مترتبة على حكم الحاكم، وحكمه مترتب على يمينه وليس له الحلف بدون العلم بالحال.

قوله: «إذا دعي من له أهلية التحمّل وجب عليه - إلى قوله - ضرراً غير مستحق».

الكلام هنا في أداء الشهادة آخراً وتحمّلها أولاً. أما الأول فلا خلاف في وجوبه وتحريم

ص: 409


1- مسند أحمد، ج 7، ص 289، ح 25142، ص 436 ، ح 26086 ، وص 451، ح 26177: صحيح البخاري، ج 6، ص 2555، ح 6566؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 777، ح 2317 و 2318؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 301 ح 3583: الجامع الصحيح، ج 3، ص 624 ، ح 1339؛ سنن النسائي، ج 8، ص 246 - 247، ح 5411: سنن الدار قطني ، ج 3، ص 484، ح 4502.
2- أحكام القرآن، الجصاص، ج 1، ص 346، ذيل الآية 187 من سورة البقرة (2)؛ وراجع أيضاً المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11 ، ص 408، المسألة 8241 .
3- في بعض النسخ «من الحاكم» بدل «مع الحكم».

أما الأداء فلا خلاف في وجوبه على الكفاية، فإن قام غيره سقط عنه. وإن امتنعوا لحقهم الذم والعقاب.

------------------

الامتناع منه، قال تعالى: (وَلَا تَكْتُمُواْ الشَّهَدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ)(1) .

وروي عن الباقر (علیه السّلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كتم شهادةً، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم، أو ليزوي مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مد البصر، وفي وجهه كدوح، تعرفه الخلائق باسمه ونسبه، ومن شهد شهادة حق ليحيي بها حق امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مد البصر، تعرفه الخلائق باسمه ونسبه»، ثم قال أبو جعفر (علیه السّلام): «ألا ترى أنّ الله تعالى يقول: ﴿وَأَقِيمُواْ الشَّهَدَةَ لِلَّهِ »(2).

ووجوبه على الكفاية إن زاد الشهود عن العدد المعتبر في ثبوت الحق، وإلا فهو عيني، وإن كان الجميع في الأصل كفائياً؛ لأنّ الواجب الكفائي إذا انحصر في فرد كان كالعيني.

والمشهور عدم الفرق في الوجوب بين من استدعي وغيره؛ لعموم الأدلّة(3)، وأنّها أمانة حصلت عنده فوجب عليه الخروج منها، كما أنّ الأمانات المالية تارةً تحصل عنده بقبولها كالوديعة، وتارةً بغيره كتطير الريح.

وذهب جماعة (4) - منهم الشيخ(5) وابن الجنيد (6) وأبو الصلاح(7) - إلى عدم الوجوب إلا مع الاستدعاء؛ لصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال: «إذا سمع الرجل الشهادة

ص: 410


1- البقرة (2): 283 .
2- الكافي، ج 7، ص 380 - 381 باب كتمان الشهادة ح 1: الفقيه، ج 3، ص 58 ، ح 3332؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 276، ح 756 ؛ والآية في سورة الطلاق (65): 2 .
3- البقرة (2): 282 و 283.
4- منهم ابن البراج في المهذب، ج 2، ص 560: وابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 441.
5- النهاية، ص 330 .
6- حكاه عنه فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 441 .
7- الكافي في الفقه، ص 436.

ولو عدم الشهود إلا اثنان تعين عليهما، ولا يجوز لهما التخلّف إلا أن تكون الشهادة مضرّةً بهما ضرراً غير مستحق .

------------------

ولم يشهد عليها إن شاء شهد، وإن شاء سكت»(1) .

وسأله أيضاً عن الرجل يحضر حساب الرجلين فيطلبان منه الشهادة على ما يسمع منهما، قال: «ذاك إليه إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد، فإن شهد شهد بحق قد سمعه، وإن لم يشهد فلا شيء عليه؛ لأنهما لم يشهداه»(2) .

وحسنة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء شهد، وإن شاء سكت، وإذا أشهد لم يكن له إلا أن يشهد»(3) . وغيرها من الأخبار(4) .

ولأنه لم يؤخذ منه التزام، بخلاف ما إذا تحمّل قصداً؛ فإنه يكون ملتزماً كضمان الأموال.

وفي المختلف جعل النزاع لفظياً لا معنوياً؛ نظراً إلى أنه فرض كفاية، فيجوز تركه إذا قام غيره مقامه، ولو لم يقم غيره مقامه وخاف لحوق ضرر بإبطال الحق وجب عليه إقامة الشهادة، ولا يبقى فرق بين أن يشهد من غير استدعاء وبين أن يشهد معه(5) .

وفيه نظر؛ لأنّ الأخبار المذكورة مفصلة ومصرّحة بالفرق بين من يستدعي ومن لا يستدعي، وأنه يتعين على المستدعي الشهادة، مع أن الوجوب حينئذ كفائي اتفاقاً وإن عرض له التعيين.

وعلى ما ذكره في المختلف من المعنى لا يبقى فرق بين الحالين، ولا يبقى للتفصيل في

ص: 411


1- الكافي، ج 7، ص 382، باب الرجل يسمع الشهادة ولم يشهد عليها، ح 5؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 258، ح 678.
2- الكافي، ج 7، ص 382، باب الرجل يسمع الشهادة ولم يشهد عليها، ح 6؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 258، ح 678.
3- الكافي، ج 7، ص 381، باب الرجل يسمع الشهادة ولم يشهد عليها، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 258، ح 678.
4- راجع وسائل الشيعة، ج 27، ص 317 - 320، الباب 5 من أبواب الشهادات.
5- مختلف الشيعة، ج 8، ص 533 المسألة 93.

------------------

الأخبار فائدة أصلاً. ولا وجه لهذا التكلّف الذي لا يساعد عليه الكلام. والحق أن النزاع معنوي صرف.

ولو لم يعلم صاحب الحق بشهادة الشهود، إما لكونه قد نسي الاستدعاء، أو لكون المستدعي مورّثه، أو مطلقاً على المشهور، وجب عليهم تعريفه مع خوفهم من بطلان الحق. ويجب كفاية مع زيادتهم عن العدد إعلام العدد الذي يثبت به الحق.

ولو لم يكونوا عدولاً، فإن أمكن ثبوت الحق بشهادتهم ولو عند حاكم الجور وجب أيضاً، وإلا ففي الوجوب وجهان من عدم الفائدة، وتوقع العدالة. وقرّب في الدروس الوجوب (1).

ولو كان أحدهما عدلاً وجب عليه قطعاً، رجاء أن يحلف معه إن أمكن، بأن يكون عالماً بالحق، وإلا ففي الوجوب نظر؛ لعدم الفائدة. ويمكن الوجوب مطلقاً، رجاء أن يكون له شاهد آخر لا يعلم به فيثبت الحق بهما.

وأما الثاني - وهو تحمّل الشهادة ابتداء - فالمشهور والمروي وجوبه أيضاً على الكفاية كالأداء؛ لقوله تعالى: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا )(2)، الشامل بعمومه الأمرين، أو لاختصاصه بهذه الحالة، فقد روى هشام بن سالم عن الصادق (علیه السّلام) في قول الله عزّ وجلّ: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)، قال: «قبل الشهادة»، وقوله تعالى: (وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ)، قال: «بعد الشهادة»(3). وهو نص في الباب، وتصريح بحمل الآية على حالة التحمّل.

ولصحيحة أبي الصباح الكناني عن الصادق (علیه السّلام) في قوله تعالى: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) قال: «لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها أن يقول: لا أشهد لكم عليها»(4) .

ص: 412


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 108 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- البقرة (2): 282 .
3- الكافي، ج 7، ص 381 باب كتمان الشهادة، ح 2؛ الفقيه، ج 3، ص 57، ح 3330؛ تهذيب الأحكام، ج 6،ص 275، ح 750 : والآية في سورة البقرة (2): 283 .
4- الكافي، ج 7، ص 379 - 380، باب الرجل يدعى إلى الشهادة ، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 275، ح 751.

------------------

و «لا ينبغي» وإن كان ظاهره الكراهة إلا أنه فسّر به النهي في الآية، والأصل فيه التحريم، فيحمل التفسير عليه.

ورواية جرّاح المدائني عنه (علیه السّلام) قال: «إذا دعيت إلى الشهادة فأجب»(1).

وصحيحة محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (علیه السّلام) في قول الله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) فقال: «إذا دعاك الرجل لتشهد على دين أو حق لم يسع لك أن تقاعس عنه»(2) .

وغيرها من الأخبار الكثيرة الدالة بعمومها أو إطلاقها على المطلوب(3) ، ولأنه من الأُمور الضرورية التي لا ينفك الإنسان عنها؛ لوقوع الحاجة إلى المعاملات والمناكحات، فوجب في الحكمة إيجاب ذلك لتحسم مادة النزاع المترتب على تركه غالباً.

وذهب ابن إدريس (رحمه الله) إلى عدم الوجوب(4)؛ عملاً بالأصل، وطعناً في الأخبار ودلالة الآية؛ لأنّ إطلاق الشهداء حقيقة بعد تحمّل الشهادة ، فتكون مخصوصةً بالأداء، وإلا لزم المجاز أو الاشتراك.

وأجيب بأنها وردت في معرض الإرشاد بالإشهاد؛ لأنه تعالى أمر بالكتابة حال المداينة، ونهى الكاتب عن الإباء، ثمّ أمر بالإشهاد ونهى الشاهد عن الإباء(5) .

فكان سياق الآية يقتضي إرادة هذا المعنى مضافاً إلى تفسيره به في الرواية المعتبرة، ولأنه لا يشترط ثبوت المعنى المشتق منه في صحة الاشتقاق. وفيه نظر.

واعلم أن إطلاق الأصحاب والأخبار يقتضي عدم الفرق في التحمّل والأداء بين كونه

ص: 413


1- الكافي، ج 7، ص 380 ، باب الرجل يدعى إلى الشهادة، ح 5؛ تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 275 ص 275، ح 752 .
2- الكافي، ج 7، ص 380 باب الرجل يدعى إلى الشهادة، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 6، ص 276، ح 754؛ والآية في سورة البقرة (2): 282 .
3- راجع وسائل الشيعة، ج 27، ص 309 - 311، الباب 1 من أبواب الشهادات.
4- السرائر، ج 2، ص 125 - 126.
5- أجاب به العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 523، المسألة 88؛ والآية في سورة البقرة (2): 282.

------------------

في بلد الشاهد وغيره ممّا لا يحتاج إلى سفر، ولا بين السفر الطويل والقصير مع الإمكان. هذا من حيث السعي. أما المؤونة المحتاج إليها في السفر من الركوب وغيره فلا يجب على الشاهد تحمّلها، بل إن قام بها المشهود له وإلا سقط الوجوب؛ فإنّ الوجوب في الأمرين مشروط بعدم توجه ضرر على الشاهد غير مستحق، وإلا سقط الوجوب.

واحترز بالمستحق عمّا لو كان للمشهود عليه حق على الشاهد يناقشه عليه على تقدير الشهادة، ويمهله به أو يسامحه بدونها، فلا يعد ذلك عذراً؛ لأنه مستحق مع قدرته على الوفاء لا بدونه .

ص: 414

الطرف الرابع فى الشهادة على الشهادة

الشهادة على الشهادة مقبولة في حقوق الناس ولا تقبل في الحدود

• وهي مقبولة في حقوق الناس عقوبة كانت كالقصاص، أو غير عقوبة كالطلاق والنسب والعتق أو مالاً كالقراض والقرض وعقود المعاوضات أو ما لا يطلع عليه الرجال غالباً، كعيوب النساء والولادة والاستهلال .

ولا تقبل في الحدود، سواء كانت لله محضاً، كحد الزنى واللواط والسحق، أو مشتركةً كحد السرقة والقذف على خلاف فيهما.

------------------

قوله - في الشهادة على الشهادة : وهي مقبولة في حقوق الناس، عقوبة كانت كالقصاص، أو غير عقوبة، كالطلاق» إلى آخره.

الشهادة على الشهادة مقبولة مرّةً واحدةً في الجملة إجماعاً؛ لعموم: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ)(1).

وخصوص قول أبي جعفر (علیه السّلام) في رواية محمد بن مسلم حيث سأل عن الشهادة على شهادة الرجل وهو بالحضرة في البلد، قال: «نعم، ولو كان خلف سارية [يجوز ذلك ](2) إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه من أن يحضر ويقيمها»(3).

ولدعاء الحاجة إليها، فإنّ شهود الواقعة قد يغيبون أو يموتون، ولأنّ الشهادة حق لازم الأداء فتجوز الشهادة عليه كسائر الحقوق.

ص: 415


1- البقرة (2): 282 .
2- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصادر .
3- الفقيه، ج 3، ص 71. ح 3360؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 256، ح 672؛ الاستبصار، ج 3، ص 20 ، ح 59 .

------------------

ومحلّها ما عدا الحدود إجماعاً، سواء في ذلك الأموال والأنكحة والعقود والإيقاعات والفسوخ ،وغيرها، وسواء كانت حق الآدميين أم حق الله تعالى كالزكوات وأوقاف المساجد والجهات العامة والأهلة، كهلال رمضان وغيره.

وأما الحدود، فإن كانت مختصة بالله - كحد الزنى - لم تسمع إجماعاً. وإن كانت مشتركةً كحد السرقة والقذف فالمشهور بين الأصحاب أنّ الحكم فيها كغيرها من الحدود؛ لإطلاق النصوص بعدم قبولها في الحد، كرواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، عن أبيه، عن علي (علیه السّلام): «أنه كان لا يجيز شهادة على شهادة في حد»(1).

ومثله روى غياث بن إبراهيم، عنه ، عن علي (علیه السّلام) (2).

والطريق فيهما ضعيف، لكنهما مؤيّدتان - مع الشهرة - بأنّ الحدود تدراً بالشبهات(3) . وقيام البدل مقام المبدل لا يخلو من شبهة.

وقال الشيخ في موضع من المبسوط(4) ، وابن حمزة (5)بجوازها فيهما؛ ترجيحاً لحق الآدمي، وأخذاً بالعموم (6).

وهذا أجود؛ لعدم دليل صالح للتخصيص فيهما. وهو اختيار الشهيد في الشرح (7).

ونبه المصنّف بقوله عقوبة كالقصاص» إلى آخره على خلاف بعض العامة؛ حيث نفاها في العقوبات كالقصاص وإن كانت حقاً للآدميين(8). وأكثرهم على اختصاص المنع

ص: 416


1- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 255، ح 667.
2- الفقيه، ج 3، ص 70 - 71 ، ح 3359؛ تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 256، ح 671.
3- الفقيه، ج 4، ص 74. ح 5149، ولفظه: «ادرؤوا الحدود بالشبهات».
4- المبسوط ، ج 5، ص 595 - 596 ، ولكن حكم بجوازها في القذف وبالمنع في حد السرقة.
5- الوسيلة، ص 233 .
6- البقرة (2): 282 .
7- غاية المراد، ج 4، ص 124 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).
8- راجع الحاوي الكبير، ج 17، ص 221 وحلية العلماء، ج 8، ص 295 .

• ولا بد أن يشهد اثنان على الواحد؛ لأنّ المراد إثبات شهادة الأصل وهو لا يتحقق بشهادة الواحد.

فلو شهد على كلّ واحدٍ اثنان صح. وكذا لو شهد اثنان على شهادة كلّ واحدٍ من شاهدي الأصل. وكذا لو شهد شاهد أصل وهو مع آخر على شهادة أصل آخر.

وكذا لو شهد اثنان على جماعةٍ كفى شهادة الاثنين على كلّ واحدٍ منهم وكذا لو كان شهود الأصل شاهداً وامرأتين فشهد على شهادتهم اثنان أو كان الأصل نساء مما تقبل فيه شهادتهنّ منفردات كفى شهادة اثنين عليهنَّ.

------------------

بحدود الله تعالى. ومنهم من أثبتها في الحدود أيضاً (1).

واعلم أن إطلاق المصنّف كون محلّها حقوق الآدميين (2) قد يوهم خروج ما كان حقاً لله تعالى وليس حقاً للآدمي وإن لم يكن حداً. وهذا ليس بمراد، بل الضابط ما ذكرناه من أنّ محلّها ما عدا الحدود أو ما عدا حدود الله تعالى، كما تقتضيه الأدلة والفتاوى.

قوله: «ولا بد أن يشهد اثنان على الواحد» إلى آخره.

المقصود من الشهادة على الشهادة إثبات شهادة شاهد الأصل عند الحاكم، فكانت الشهادة كغيرها من الحقوق غير المالية، فيفتقر إثباتها إلى شاهدين ذكرين.

ثمّ إن شهد شاهدان على أحدهما وآخران على شهادة الآخر تم النصاب بلا كلام. وإن شهد كلّ منهما على كلّ منهما أو أحدهما مع شاهد الأصل على الأصل الآخر، فعندنا أن الحكم كذلك؛ لتحقق إثبات شهادة الشاهد باثنين، وهو المعتبر في الإثبات.

وخالف في ذلك بعض العامة، فمنع من جميع هذه الصور التي ذكرها المصنّف واعتبر المغايرة في شهود كل فرع، فشرط شهادة أربعة على الشاهدين، وعلى رجل وامرأتين سنة. ولو شهدوا

ص: 417


1- كأبي ثور على ما حكاه عنه ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 88، المسألة 8409.
2- في حاشية الأصل و «و»: «من أجود العبارات في ذلك عبارة الشيخ فخر الدين وإن كانت لا يخلو أيضاً من ،قصور، فإنّه قال: كلّ ما ليس بعقوبة تصح الشهادة على الشهادة، إلى آخره (منه رحمه الله)». راجع إيضاح الفوائد، ج 4، ص 444 .

• وللتحمّل مراتب، أتمها أن يقول شاهد :الأصل: «اشهد على شهادتي أنني أشهد على فلان بن فلان لفلان بن فلان بكذا». وهو الاسترعاء وأخفض منه أن يسمعه يشهد عند الحاكم؛ إذ لا ريب في تصريحه هناك بالشهادة.

------------------

على أربع من النساء في مثل الولادة افتقر إلى ثمانية. يشهد على كل واحدة اثنان (1). وهكذا.

والأكثر على ما اخترناه من الاجتزاء باثنين مطلقاً؛ لأنّهما شهدا على الجميع، كما لو شهدا على إقرار رجلين أو أربعة.

ومبنى الخلاف في جواز كون الأصل فرعاً مع آخر على أن الإشهاد على الشهادة هل هو لإثبات الشهادة، أو هو بحكم النيابة عنها ؟ فعلى الأول - وهو مذهب الأصحاب - يجوز أن يكون الأصل فرعاً، لا على الثاني؛ لأنه لا يصح كونه نائباً عن نفسه وغيره؛ لأنّ قيامه بنفسه يستدعي استغناءه عن الغير ونيابته يقتضى افتقاره، فلا يجتمعان.

قوله « وللتحمّل مراتب ، أتمها أن يقول شاهد الأصل إلى قوله - وفي الفرق بين هذه وبين ذكر السبب إشكال».

إنّما يجوز التحمّل إذا عرف أنّ عند الأصل شهادة جازمة بحق ثابت.

ولمعرفته أسباب ذكرها المصنف (رحمه الله) في ثلاث مراتب:

أحدها: الاسترعاء وهو التماس شاهد الأصل رعاية شهادته. والشهادة بها والشهادة معه جائزة إجماعاً. ولكن اختلفوا في كيفيته، فذكر المصنف (رحمه الله) والأكثر أن يقول شاهد الأصل للفرع: «اشهد على شهادتي أنني أشهد على فلان إلى آخره وفى معناها أن يسمعه يسترعي شاهداً آخر.

وكذا لو قال : «أشهدك على شهادتي»، أو يقول: «إذا استشهدت على شهادتي فقد أذنت لك في أن تشهد». ولا يقول: «أشهدك عن شهادتي» إلى آخره.

والفرق بين «على» و«عن» أن قوله أشهدك على شهادتي» تحميل، وقوله «عن شهادتي» إذن في الأداء، فكأنه يقول: أدّها عنّي؛ إذ لإذنه أثر في الطريق، ألا تراه لو قال له

ص: 418


1- راجع حلية العلماء، ج 8، ص 298 - 300؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص 265 - 266 .

ويليه أن يسمعه يقول: «أنا أشهد لفلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا ويذكر السبب، مثل أن يقول: «من ثمن ثوب أو عقار»؛ إذ هي صورة جزم. وفيه تردّد.

------------------

بعد التحميل: «لا تؤدّ عنّي تلك الشهادة»، امتنع عليه الأداء.

وربما رجح بعضهم «عن»، بل ناقش في «على» من حيث إنّها تقتضي كون الشهادة مشهوداً عليها، وإنّما هي مشهود بها، والمشهود عليه هو الشاهد، ولا بد من التمييز بين المشهود به وله وعليه.

لكن رعاية التحمّل في «على» سهل أمرها، وأخرجها عن كون الشهادة مشهوداً عليها صرفاً. مضافاً إلى كونه هو المشهور في الاستعمال.

وثانيها: أن يسمعه يشهد عند الحاكم أنّ لفلان على فلان كذا فله أن يشهد على شهادته وإن لم يسترعه؛ لأنه لا يتصدى لإقامة الشهادة عند الحاكم إلا بعد تحقق الوجوب. وللحاكم أيضاً أن يشهد على شهادته عند حاكم آخر . والشهادة عند المحكم كالشهادة عند الحاكم المنصوب من الإمام؛ لأنه لا يشهد عند المحكم أيضاً إلا وهو جازم بثبوت المشهود به .

وألحق بهذه المرتبة قوله: «عندي شهادة مجزومة أو مثبوتة بأنّ على فلان لفلان كذا». وكذا لو قال: «شهادة لا أرتاب فيها، أو لا أشكّ».

ويظهر من كلام ابن الجنيد منع هذه المرتبة؛ لأنه قال:

ليس للشهود أن يشهدوا إذا أخبرهم المشهود على شهادته، دون أن يسترعيهم إياها ويقول لهم بعد وصفه حال شهادته فاشهدوا على شهادتي على فلان الفلان بكذا»(1).

وثالثها: أن يبين سبب الوجوب، فيقول: «أشهد أن لفلان على فلان كذا من ثمن مبيع أو قرض أو أرش جناية». فيجوز الشهادة على شهادته وإن لم يشهد عند الحاكم، ولا وجد منه استرعاء؛ لأنّ الاستناد إلى السبب يقطع احتمال الوعد والتساهل.

والمصنّف (رحمه الله) تردّد في قبول هذه الصورة، وكذلك العلامة (2). ومنشأ التردّد ممّا

ص: 419


1- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 551، المسألة 110.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 504.

أما لو لم يذكر سبب الحق، بل اقتصر على قوله: «أنا أشهد لفلان على فلانٍ بكذا لم يصر متحمّلاً لاعتياد التسامح بمثله. وفي الفرق بين هذه وبين ذكر السبب إشكال.

------------------

ذكر، ومن اعتياد التسامح بمثل ذلك في غير مجالس الحكام. والوجه القبول؛ لأن العدالة تمنع المسامحة إلى هذه الغاية.

ولو قال: «أشهد أنّ عليه كذا» إلى آخره، ولم يذكر السبب، ولا كان ذلك في مجلس الحاكم، فهذه الصورة قطع المصنف (رحمه الله) وغيره(1) بعدم جواز الشهادة عليها؛ لاعتياد التسامح بذلك من غير تحقيق لغرض صحيح أو فاسد، ولو آل الأمر إلى أن إقامة الشهادة لا تخلو عنها، ولاحتمال إرادة الوعد، بمعنى أنّ المشهود عليه كان قد وعد المشهود له بذلك، فجعلها عليه؛ لأنّ الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق، فنزله منزلة الدين وليس كذلك لو سمعه يقول: «لفلان عليّ كذا»، فإنّه يجوز الشهادة عليه بالإقرار، ولا يحمل على الوعد ولا على التساهل.

وفرّقوا بين الإقرار وتحمّل الشهادة بوجهين:

أحدهما: أن الشهادة يعتبر فيها ما لا يعتبر في الإقرار، ألا ترى أنه لا تقبل شهادة الفاسق والمغفل والشهادة بالمجهول، والإقرار يخالفه، فجاز أن يعتبر في تحمّل الشهادة ما لا يعتبر في تحمّل الإقرار .

والثاني : أنّ المقرّ مخبر عن نفسه، والشاهد مخبر عن غيره، والمخبر عن غيره قد يتساهل، فيحتاج فيه إلى الاحتياط، بخلاف المخبر عن نفسه .

واعلم أنّ المصنف (رحمه الله) استشكل الفرق بين هذه الصورة التي سمعه يشهد من غير أن يذكر السبب وبين ما لو ذكر السبب.

ووجه الإشكال من حيث اشتمال الصيغتين على الجزم الذي لا يناسب العدل أن يتسامح فيه.

ص: 420


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 505.

• ففي صورة الاسترعاء، يقول: «أشهدني فلان على شهادته».

وفي صورة سماعه عند الحاكم، يقول: «أشهد أنّ فلاناً شهد عند الحاكم بكذا».

وفي صورة السماع لا عنده، يقول: «أشهد أنّ فلاناً شهد على فلان لفلان بكذا، بسبب كذا ».

------------------

واستشكاله في الفرق يحتمل معنيين:

أحدهما - وهو الأظهر - إلحاق الأولى بالثانية في عدم القبول؛ لقيام الاحتمال بالتسامح والوعد، فيكون الإشكال موافقاً لتردّده السابق في حكم ما لو ذكر السبب، ويقتضي عدم قبول الشهادة في الموضعين، بخلاف ما ذكره الشيخ (1) وغيره (2) من الفرق وقبول الأولى دون الثانية.

والثاني: إلحاق الثانية بالأولى في القبول؛ لاشتراكهما في الشهادة بصيغة الجزم الذي لا يصح للعدل أن يتلفظ به من غير علم بالحال، ولا يجوز في سماعه ذلك ممن لا يوثق به أو وعد ونحوه، إلا أنّ هذا الحكم بعيد، بل لم يقل به أحد وإن كان محتملاً.

والمحصل من الإشكال هو أن الحكم في إحداهما بالقبول دون الأخرى ترجيح من غير مرجّح رداً على الشيخ حيث فرّق(3) .

قوله: «ففي صورة الاسترعاء يقول: أشهدني فلان على شهادته» إلى آخره.

يجب على الفرع عند أداء الشهادة أن يبيّن جهة التحمّل؛ لأنّ الغالب على الناس الجهل بطريق التحمّل، فربما استند إلى سبب لا يجوز التحمّل به، فإذا ذكر السبب زال الريب وللاختلاف في المراتب كما عرفت فربما أطلق الشهادة وكانت مستندة إلى وجه يجوز عنده لا عند الحاكم.

ص: 421


1- المبسوط، ج 5، ص 596.
2- كالشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 116 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- المبسوط، ج 5، ص 596.

•• ولا تقبل شهادة الفرع إلا عند تعذر حضور شاهد الأصل. ويتحقق العذر بالمرض وما ماثله ،وبالغيبة ولا تقدير لها. وضابطه مراعاة المشقة على شاهد الأصل في حضوره .

------------------

فإن استرعاه الأصل قال: (أشهد أنّ فلاناً شهد أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته»، أو يقول ابتداء: «أشهدني فلان على شهادته أن لفلان» إلى آخره. وإن لم يسترعه بيّن أنّه شهد عند الحاكم، أو أنه أسند المشهود به إلى سببه.

وفي الاكتفاء بقوله: «أشهد على شهادة فلان بكذا»، مع الوثوق بمعرفة المراتب، وموافقة رأيه لرأي الحاكم فيها وجهان، من ظهور الاستناد إلى سبب صحيح؛ نظراً إلى الثقة به، ومن تطرّق الاحتمال.

قوله: «ولا تقبل شهادة الفرع إلا عند تعذر حضور شاهد الأصل إلى آخره.

المشهور بين الأصحاب اشتراط تعذر حضور شاهد الأصل في قبول شهادة الفرع. وفي خبر محمّد بن مسلم السابق (1) دليل عليه ؛ لأنّه شرط أن يكون به علّة تمنعه من أن يحضر ويقيمها.

ونقل الشيخ في الخلاف عن بعض أصحابنا عدم اشتراط ذلك، ومال إليه. واستدلّ عليه بأن الأصل قبول الشهادة على الشهادة، وتخصيصها بوقت دون وقت أو على وجه دون وجه يحتاج إلى دليل قال:

وأيضاً روى أصحابنا أنه إذا اجتمع شاهد الأصل وشاهد الفرع واختلفا، فإنّه تقبل شهادة أعدلهما، حتى أن في أصحابنا من قال: تقبل شهادة الفرع وتسقط شهادة الأصل (2).

والمذهب هو المشهور.

ص: 422


1- سبق تخريج خبره في ص 415 الهامش 3 .
2- الخلاف، ج 1، ص 315 - 316، ذيل المسألة 65: وللرواية راجع الكافي، ج 7، ص 399، باب بدون العنوان ح 1 - 2؛ والفقيه، ج 3، ص 70 ، ح 3356؛ وتهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 256، ح 669 - 670 .

• ولو شهد شاهد الفرع فأنكر الأصل، فالمرويّ العمل بشهادة أعدلهما. فإن تساويا اطرح الفرع.

وهو يشكل بما أنّ الشرط في قبول الفرع عدم الأصل. وربما أمكن، لو قال الأصل: لا أعلم.

------------------

وعليه فالمعتبر تعذر حضور الأصل لموت أو زمانة أو مانع يمنعه من حضور مجلس الحكم وإن كان حاضراً، أو يوجب له تحمّل مشقة لا تتحمّل غالباً. ولا فرق بين أن يكون فوق مسافة العدوى، وهي التي لو خرج بكرةً لأداء الشهادة أمكنه الرجوع إلى أهله ليلاً، و دونها عندنا؛ عملاً بالأصل.

واشترط بعض العامة كونه فوق مسافة القصر(1) ، وآخرون مسافة العدوى(2) .

وإلى خلافهما أشار المصنف (رحمه الله) بقوله: «ولا تقدير لها لأنه رجوع إلى ما لا دليل عليه. وفي خبر محمّد بن مسلم السابق: ولو كان خلف سارية [يجوز ذلك] إذا كان لا يمكنه أن يقيمها»(3).

قوله: «ولو شهد شاهد الفرع فأنكر الأصل، فالمروى العمل بشهادة أعدلهما» إلى آخره.

الحكم في هذه المسألة مبني على السابقة، فإن قلنا بعدم اشتراط تعذر حضور شاهد الأصل في صحة شهادة الفرع تمشى هذا البحث هنا؛ لجواز إحضار الفرع وإن كان شاهد الأصل موجوداً.

وأما على المشهور من اشتراط تعذره، فشهد الفرع ثم حضر الأصل، فإن كان بعد الحكم لم يعتد بإنكاره، وأمضي الحكم على وفق شهادة الفرع. وهذا لا إشكال فيه أيضاً.

وإن كان حضوره قبل الحكم بشهادة الفرع فأنكر، فالمشهور سقوط شهادة الفرع؛ لأنّ الشرط في سماعها تعذر الأصل وقد زال ولأنّ مستند شهادة الفرع شهادة الأصل وهي

ص: 423


1- الحاوي الكبير، ج 17، ص 225؛ حلية العلماء، ج 8، ص 297 - 298؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 90 - 91، المسألة 8410؛ روضة الطالبين، ج 8، ص 267.
2- الحاوي الكبير، ج 17، ص 225؛ حلية العلماء، ج 8، ص 297 - 298؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 12، ص 90 - 91، المسألة 8410؛ روضة الطالبين، ج 8، ص 267.
3- سبق تخريج خبره في ص 415، الهامش 3.

------------------

مفقودة، فيفقد ما استند إليها. وهذا هو الذي اختاره المصنف (رحمه الله)، وقبله الشيخ في المبسوط (1) وابن إدريس (2) وجماعة المتأخرين(3).

وذهب جماعة - منهم الصدوقان(4) ، والشيخ في النهاية (5)، وتلميذه القاضي (6) - إلى الحكم بشهادة أعدلهما؛ لصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (علیه السّلام) لها في رجل شهد على شهادة ،رجل، فجاء الرجل فقال: لم أشهده، فقال: «تجوز شهادة أعدلهما، ولو كانت عدالتهما واحدة لم يجز الشهادة »(7).

وهذه الرواية وإن كان ظاهرها متروكاً من حيث اشتماله على شهادة الرجل الواحد على الواحد، إلّا أنّ المطلوب يتمّ منها، على أنّ ذكر الواحد لا ينفي غيره، فيمكن حملها على وجه يصح.

ولكن يشكل تمشيها على القول المشهور من اشتراط تعدّر حضور شاهد الأصل.

والمصنّف (رحمه الله) قال: يمكن ذلك على تقدير أن يقول الأصل: لا أعلم.

واعترضه السيد عميد الدين (رحمه الله) بأنه لا يمكن حينئذ العمل بقول الأعدل إذا كان الأصل؛ لأنّه غير شاهد(8) .

وأورد عليه الشهيد (رحمه الله) أيضاً بأنّ ذلك غير منطوق الرواية؛ لتضمنها قوله «لم أشهده».

ص: 424


1- المبسوط، ج 5، ص 598.
2- السرائر، ج 2، ص 127.
3- منهم العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 526 المسألة ،89 والشهيد في غاية المراد، ج 4، ص 128 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4 ) والسيوري في التنقيح الرائع ج 4، ص 321 .
4- المقنع، ص 399؛ وحكاه عنهما العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 525، المسألة 89 .
5- النهاية ص 329 .
6- المهذب، ج 2، ص 561.
7- الكافي، ج 7، ص 399، باب بدون العنوان، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 256، ح 670.
8- حكاه عنه الشهيد في غاية المراد، ج 4، ص 129 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).

• ولو شهد الفرعان ثمّ حضر شاهد الأصل، فإن كان بعد الحكم لم يقدح في الحكم وافقا أو خالفا وإن كان قبله سقط اعتبار الفرع، وبقى الحكم لشاهد الأصل. ولو تغيرت حال الأصل بفسق أو كفر لم يحكم بالفرع؛ لأنّ الحكم مستند إلى شهادة الأصل.

------------------

ثم وجهها بأنه:

لا يلزم من أنه يشترط في إحضار شاهد الفرع تعذر الأصل أن يكون ذلك في السماع سلّمنا لكن المراد إذا كان الأصل والفرع ،متفقين، فإنّه حينئذ لا يحتاج إلى شهادة الفرع؛ للاستغناء بالأصل، وزيادة الكلفة بالبحث عن الجرح والتعديل، أما مع التناكر فيمتنع تناول العبارة له.

وبالجملة فهم لم يصرحوا بأنّ ذلك مناف لشهادة الفرع، بل ظاهر كلامهم أن سماع شهادة الفرع مشروط بتعذر شاهد الأصل إذا كان يشهد والمنكر لم يشهد (1).

وفي المختلف حمل الرواية على:

ما إذا أنكر بعد الحكم؛ فإنه لا يقدح في الحكم بشهادة أعدلهما؛ اعتباراً بقوّة الظنّ أمّا قبل الحكم فإن شهادة الفرع تبطل قطعاً (2).

والأقوى أن إنكاره بعد الحكم أيضاً لا يلتفت إليه. وقيل: يطرح الفرع(3). فالرواية تخالف الأصول على التقديرين.

قوله: «ولو شهد الفرعان ثم حضر شاهد «الأصل» إلى آخره .

إذا طرأ بعد التحمّل ما يمنع شهادة الفرع، بأن حضر الأصل بناء على اعتبار غيبته، أو كفر أو فسق أو طرأ له عداوة للمشهود عليه، فإن كان بعد الحكم بشهادة الفرع لم ينقض، كما لو شهد الأصل بنفسه ثمّ تجدّد فسقه أو غيره من موانع الشهادة.

ص: 425


1- غاية المراد، ج 4، ص 128 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 526، المسألة 89 .
3- قاله العلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 283، الرقم 6698 .

------------------

ولم يخالف في ذلك إلا ابن حمزة؛ فإنّه حكم بتقديم أعدلهما (1). ومال إليه في المختلف(2). مؤوّلاً به الرواية السابقة. وقد تقدم(3).

وإن كان قبل الحكم وقبل أداء الشهادة، فلا إشكال في بطلانها أيضاً؛ لأنّها شهادة على فاسق أو غيره ممن لا تقبل شهادته، ولسقوط اعتبار الفرع بحضور الأصل.

وإن كان بعد الشهادة وقبل الحكم، فالمشهور بين الأصحاب أن الحكم كذلك. أما مع الحضور فلسقوط اعتبار ،الفرع ، فلو حكم به اقتضى الحكم بشهادة الفرع مع حضور الأصل وهو ممنوع. وأما مع عروض قوادح الشهادة فلصدق القضاء بشهادة الفاسق ونحوه؛ لأنّ الفرع إنّما يؤدّي شهادة الأصل، والحكم إنّما هو بها، وكما لو فسق الأصل بعد شهادته وقبل الحكم.

و وجهوه أيضاً بأنّ هذه الحالات لا تهجم دفعةً واحدةً، بل الفسق يورث الريبة فيما تقدم. والردّة تشعر بخبث في العقيدة سابق، والعداوة لضغائن كانت مستكنة، وليس لمدة الريبة من قبل ضبط، فينعطف إلى حالة التحمّل.

ولو فرض زوالها قبل الشهادة عليه فهل للفرع أن يشهد بالتحمّل الأوّل، أم يحتاج إلى تحمّل جديد؛ بناءً على انعطاف الريبة إلى حالة التحمّل ؟ فيه وجهان ناشتان من كونه عدلاً عند الشهادة عليه وعند أدائها، ومن الريبة المذكورة.

ولا يقدح طروء جنون الأصل والإغماء عليه، والعمى فيما لا تقبل شهادة الأعمى فيه، كما لو مات؛ لأنّ ذلك لا يوقع ريبة فيما مضى، ولأن العمى لا يبطل أهلية الشهادة بالكلية.

ص: 426


1- الوسيلة، ص 233 - 234.
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 526، المسألة 89 .
3- تقدم في ص 424.

تقبل شهادة النساء على الشهادة فيما تقبل فيه شهادة النساء منفردات

• وتقبل شهادة النساء على الشهادة فيما تقبل فيه شهادة النساء منفردات كالعيوب الباطنة والاستهلال والوصيّة. وفيه تردّد؛ أشبهه المنع.

------------------

قوله: «وتقبل شهادة النساء على الشهادة فيما تقبل فيه شهادة النساء» إلى آخره.

اختلف الأصحاب في جواز شهادة النساء فرعاً في موضع تجوز شهادتهن فيه أصلاً علی قولین :

أحدهما: الجواز. ذهب إليه الشيخ في الخلاف؛ محتجاً بالإجماع والأخبار(1)، وقواه في المبسوط، لكنه جعل الآخر أحوط (2)، وابن الجنيد (3) والعلّامة في المختلف(4) ؛ للأصل، وعموم قوله تعالى: (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)(5) . وعموم رواية السكوني عن الصادق (علیه السّلام) أن علياً (علیه السّلام) قال «شهادة النساء لا تجوز في طلاق ولا نكاح ولا حدود، إلا في الديون وما لا يستطيع الرجال النظر إليه»(6). وذلك شامل للشهادة الأصلية والفرعية، ولأنّ شهادتهن أصلاً ثابتة، فالفرع أولى؛ لاستناده إلى شهادة الأصل أو مساء.

والثاني: المنع. ذهب إليه الشيخ في موضع من المبسوط(7) ، وابن إدريس(8)، والعلّامة في غير المختلف (9)، والمصنّف (رحمه الله) هنا، وتردّد في النافع (10)، وكذا العلّامة في الإرشاد(11).

ص: 427


1- الخلاف، ج 6، ص 316، المسألة 66.
2- المبسوط، ج 5، ص 598 .
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 529 المسألة 91. ولكن أطلق جواز شهادتهن على الشهادة.
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 529، المسألة 91.
5- البقرة (2) 282 .
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 281، ج 773؛ الاستبصار، ج 3، ص 25، ح 80 .
7- المبسوط، ج 5، ص 598، حيث قال: والأول أحوط عندنا؛ والشهيد في غاية المراد، ج 4، ص 126 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 4 ) جعل محتاط الشيخ في المبسوط بمعنى المنع منه .
8- السرائر، ج 2، ص 128 - 129 .
9- قواعد الأحكام، ج 3، ص 505؛ تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 283 - 284، الرقم 6700.
10- المختصر النافع، ص 418
11- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 165.

------------------

ووجه المنع أنّ المجوّز له إنّما هو الضرورة، إما لضرورة الانفراد أو لفقد الرجال، كما في حالة الوصيّة، ولا ضرورة هنا. ولاختصاص النساء ببعض الأحكام غالباً.

والجواب عن الأوّل: أن الأصل عُدل عنه للدليل والآية محلّها الأموال، والشهادة ليست مالاً.

ورواية السكوني(1) مع ضعفها لا تدلّ على المطلوب، مع أنها عمدة الشيخ والعلّامة في المختلف؛ لأنه صدر بها الاستدلال .

ووجه عدم الدلالة أنه جعل مورد شهادتهنّ الديون وما لا يستطيع الرجال النظر إليه، وشهادتهن فرعاً إنّما هي على الشهادة، ونفس الشهادة ليست من الديون ولا الأموال، ويطلع عليها الرجال، فلا يدخل في الخبر، ولا في قاعدة ما تدخل فيه شهادة النساء. وهذا أقوى. إذا تقرّر ذلك، فاعلم أنّ قول المصنف تقبل شهادة النساء على النساء إلى آخره يدلّ على أنّ مورد الخلاف شهادتهنّ عليهن في موضع ينفردن بالشهادة، فيخرج من ذلك ما لو كان في موضعهنّ رجال حيث يجوز انفرادهن فإنّ الشهادة في هذا المحلّ لا تختص بهنّ، بل يجوز بالرجال أيضاً بطريق أولى.

ويخرج من ذلك أيضاً ما لو كان المحلّ ممّا تقبل فيه شهادتهن منضمات، سواء شهدن فرعاً على النساء أم على الرجال.

وفي النافع جعل مورد الخلاف شهادتهنّ على الشهادة في الموضع الذي تقبل فيه شهادتهنّ (2) ، وهو شامل لجميع هذه الموارد وبهذا صرّح جماعة منهم الشهيد في الشرح (3)، والعلّامة في المختلف (4). وهو الحق.

ص: 428


1- تقدم تخريج روايته في ص 427 الهامش 6.
2- المختصر النافع، ص 418 .
3- غاية المراد، ج 4، ص 126 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 4).
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 529، المسألة 91 .

• ثمّ الفرعان إن سمّيا الأصل وعدّلاه قبل. وإن سمياه ولم يعدلاه سمعها الحاكم، وبحث عن الأصل، وحكم مع ثبوت ما يقتضي القبول، وطرح مع ثبوت ما يمنع لو حضر وشهد أمّا لو عدلاه ولم يسمّياه لم تقبل.

• ولو أقرّ باللواط، أو بالزنى بالعمّة أو الخالة، أو بوطء البهيمة، ثبت بشهادة

------------------

وعلى هذا، فموضع القول بالجواز شهادتهنّ على الشهادة فيما لهنّ فيه مدخل، سواء شهدن على مثلهن أم على الرجال. وحينئذ فتشهد على شاهد أربع نساء، سواء كان المشهود عليه رجلاً أم امرأةٌ. فلو كن أربع نساء شهدت عليهن ست عشرة امرأة، إن لم يشتركن في الشهادة على أزيد من واحدة، وإلا أمكن الاجتزاء بالأربع، كما مر في شهادة الرجلين(1).

قوله: «ثمّ الفرعان إن سمّيا الأصل وعدّلاه قبل» إلى آخره.

يجب على الفروع تسمية شهود الأصل وتعريفهم؛لاشتراط معرفة عدالتهم، وما لم يعرفوا لا تعرف عدالتهم. ولو وصفوا الأصول بالعدالة ولم يسموهم، بأن قالوا: «نشهد على شهادة عدلين أو عدول» لم يجز؛ لأنّ الحاكم قد يعرفهم بالجرح لو سموا، ولأنهم قد يكونون عدولاً عند قوم وفسّاقاً عند آخرين؛ لأن العدالة مبنية على الظاهر، ولأن ذلك يسد باب الجرح على الخصم.

ولا يشترط في شهادة الفرع تزكية شهود الأصل، بل له إطلاق الشهادة، ثم الحاكم يبحث عن عدالتهم، خلافاً لبعض العامة (2). وعلى تقدير تزكيتهم - وهم بصفات المزكين - تثبت عدالتهم لوجود المقتضي وانتفاء المانع.

قوله: «ولو أقرّ باللواط أو بالزنى بالعمة أو الخالة - إلى قوله - وجوب بيعها في بلد آخر». قد عرفت أنّ الشهادة على الشهادة إنّما تردّ في الحدود، فلو اشتمل سبب الحد على

ص: 429


1- مر في ص 417.
2- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 267 ، نقلاً عن البغوي.

شاهدين. وتقبل في ذلك الشهادة على الشهادة ولا يثبت بها حد، ويثبت انتشار حرمة النكاح. وكذا لا يثبت التعزير في وطء البهيمة، ويثبت تحريم الأكل في المأكولة. وفي الأُخرى، وجوب بيعها في بلد آخر.

------------------

أمرين أو أُمور منها الحد، كاللواط المترتب عليه نشر الحرمة بأم المفعول وأُخته وبنته. والزنى بالعمة والخالة المترتب عليه تحريم بنتهما، أو الزني مطلقاً على ما تقدم من الخلاف(1)، وكالزنى مكرهاً للمرأة بالنسبة إلى ثبوت المهر، وكوطء البهيمة المترتب عليه التعزير وتحريم الأكل أو البيع، لم تقبل في الحد.

وهل تردّ في غيره؟ وجهان، من تلازم الأمرين أو الأمور، وكونها معلول علة واحدة، فلو ثبت بعضها لزم ثبوت البعض الآخر؛ لترتب الجميع على ثبوت أصل الفعل وهو الوطء. ومن وجود المانع في بعضها وهو الحدّ بالنص أو الإجماع، فيبقى الباقي؛ لأنه حق آدمي لا مانع من إثباته بشهادة الفرع.

وتلازم معلولات الأحكام المستندة إلى علّةٍ واحدةٍ ممنوع، ومن ثم ثبت بالشهادة على الشهادة بالسرقة المالُ دون الحد، وكذا مع الشاهد والمرأتين وبالعكس لو كان المقر سفيهاً، إلى غير ذلك من الأحكام التي ينفك بعض معلولاتها عن بعض مع استنادها إلى علة واحدة؛ فإنّ هذه العلل معرّفات، وجاز أن تكون العلة في بعضها ذلك الأمر مع شيء آخر مما يقتضيه الحكم، وهذا هو الأقوى.

فعلى هذا يثبت بشهادة الفرع حق الآدمي دون الحد، سواء كانت الشهادة على نفس السبب وهو الزنى واللواط والوطء أم على الإقرار بذلك.

وإنّما فرض المصنّف الحكم في الإقرار حذراً من تبعيض حكم السبب الواحد على تقدير الشهادة بنفس الزنى مثلاً؛ فإنه سبب في الحد وفي نشر الحرمة، فيشكل تبعض

ص: 430


1- تقدم في ص 415.

------------------

الشهادة في أحدهما دون الآخر، بخلاف الإقرار بالفعل؛ فإنه ليس سبباً للحد، وإنما السبب هو الفعل المقرّ به.

والأصح عدم الفرق. وحينئذ فإن كانت الشهادة على الإقرار كفى اثنان في الأصل وفي الفرع على كلّ منهما؛ لأنّ الإقرار ممّا يثبت بشاهدين.

وقيل: يتوقف الإقرار بالزنى على أربعة كأصله(1). واختاره العلامة(2).

وإن كانت شهادة الأصل على نفس الزنى اعتبر كونهم أربعة. وهل يشترط ذلك العدد في شاهد الفرع، أم يكفي على كلّ واحدٍ اثنان؟ فيه وجهان، منشؤهما من أنّها شهادة على الزني وتلك الأحكام تابعة له، وأنّه لو اكتفي باثنين لكان شهود الأصل أسوء حالاً من شهود الفرع مع أن الظاهر العكس أو التساوي، ومن أن المقصود هو حق الآدمي من المال وغيره، وهو مما يكفي فيه اثنان، ويمنع اشتراط مساواة شهود الفرع للأصل مطلقاً؛ إذ لا دليل عليه.

ص: 431


1- راجع إيضاح الفوائد، ج 4، ص 432 .
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 543، المسألة 103.

الطرف الخامس في اللواحق

القسم الأوّل في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى الواحد

وهي قسمان:

الأوّل في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى الواحد

وتترتب عليه مسائل:

الأولى: • توارد الشاهدين على الشيء الواحد شرط في القبول، فإن اتفقا معنى حكم بهما وإن اختلفا لفظاً؛ إذ لا فرق بين أن يقولا: «غصب» وبين أن يقول أحدهما: «غصب والآخر: «انتزع». ولا يحكم لو اختلفا معنى، مثل: أن يشهد أحدهما بالبيع، والآخر بالإقرار بالبيع؛ لأنهما شيئان مختلفان. نعم، لو حلف مع أحدهما ثبت .

------------------

قوله: «توارد الشاهدين على الشيء الواحد شرط في القبول، فإن اتفقا معنى حكم بهما وإن اختلفا لفظاً» إلى آخره.

لا بد في قبول الشهادة من موافقتها للدعوى، وتوافق الشاهدين معنى لا لفظاً؛ لأنّ المشهود به لا يثبت إلا بتمام العدد فلو قال أحدهما غصب، والآخر انتزع قهراً، أو ظلماً فالمعنى واحد وإن اختلف اللفظ، فقد حصل بالفعل الواحد ،شاهدان بخلاف ما لو شهد أحدهما بالبيع والآخر بالإقرار به؛ فإنّ البيع لم يقم به إلا شاهد واحد وكذلك الإقرار لتعددهما، فيحلف المدعي مع أحدهما.

ص: 432

الثانية: • لو شهد أحدهما أنّه سرق نصاباً غدوةً، وشهد الآخر أنّه سرق عشيّةً، لم يحكم بها؛ لأنّها شهادة على فعلين وكذا لو شهد الآخر أنه سرق ذلك بعينه عشيّة؛ لتحقق التعارض، أو لتغاير الفعلين .

الثالثة: • لو قال أحدهما: سرق ديناراً وقال الآخر: «درهماً أو قال أحدهما: سرق ثوباً أبيض»، وقال الآخر: «أسود» وفي كلّ واحد يجوز أن يحكم مع أحدهما ومع يمين المدعي، لكن يثبت له الغرم، ولا يثبت القطع.

ولو تعارض في ذلك بينتان على عين واحدة سقط القطع للشبهة، ولم يسقط الغرم. ولو كان تعارض البينتين لا على عين واحدة ، ثبت الثوبان والدرهمان.

------------------

وكذا لو كانت الشهادة على أمر واحد واختلفا في زمانه أو مكانه أو وصفه، بأن قال أحدهما: إنّه غصب الثوب يوم الجمعة، وقال الآخر: يوم السبت، أو: في البيت، وقال الآخر: في المسجد، أو ثوب كتان، وقال الآخر : قطن، لاقتضاء ذلك تغاير الفعلين. وحينئذ فيحلف مع أحدهما، سواء تكاذبا أم لا؛ لأنّ التعارض إنّما يكون بين البينتين الكاملتين.

قوله: «لو شهد أحدهما أنه سرق نصاباً غدوةً، وشهد الآخر أنّه سرق عشيّةٌ» إلى آخره.

في التعليل لفّ ونشر غير مرتب، فإن تحقق التعارض الذي علّل به أوّلاً يحصل في الفرض الثاني، وتغاير الفعلين يحصل في الأوّل؛ لأنّ النصاب المشهود به في الأوّل غير معيّن فكانت الشهادة على فعلين . وفي المسألتين لا يثبت الفعل ؛ لأنّ به شاهداً واحداً .

قوله: «لو قال :أحدهما سرق ديناراً، وقال الآخر درهماً أو قال أحدهما سرق ثوباً أبيض» إلى آخره.

كما يجوز للمدعي أن يحلف مع أحدهما يجوز له أن يحلف معهما؛ لعدم المنافاة، فيثبت الدينار والدرهم والثوب الأبيض والأسود، إذا لم يعيّنا الزمان بحيث يحصل التنافي، فيقتصر على الحلف مع أحدهما خاصةً. ولا يثبت القطع هنا؛ لأنّ الحدّ لا يثبت باليمين.

ص: 433

الرابعة • لو شهد أحدهما أنه باعه هذا الثوب غدوةً بدينار، وشهد الآخر أنّه باعه بعينه في ذلك الوقت بدينارين، لم يثبتا؛ لتحقق التعارض ، وكان له المطالبة بأيهما شاء مع اليمين ولو شهد له مع كلّ واحد شاهد آخر ثبت الديناران.

------------------

ولو شهد بالفعلين شاهدان، فإن تعارضا، بأن شهد شاهدان أنه سرق منه ديناراً يوم الجمعة عند الزوال، وشهد آخران أنه سرق منه ذلك الدينار بعينه في وقت آخر، بحيث لا يمكن الجمع بين الفعلين سقط القطع ؛ للشبهة والحد يدرأ بها، ولا يسقط الغرم؛ لثبوت سرقة الدينار المعين على التقديرين.

وإن لم يتعارضا، بأن شهدت إحداهما بسرقته غدوة، والأخرى عشيّة، بحيث يمكن أن يسترده المالك ثم يسرقه مرّةً أُخرى، ثبت القطع والغرم.

وكذا لو اختلفت العين بأن شهدت إحداهما بسرقة الثوب الأبيض، والأخرى بسرقة الأسود ولو في وقت واحد، أو شهدت إحداهما بسرقة الدينار، والأخرى بسرقة الدرهم كذلك، يثبت الأمران؛ لإمكان الجمع حتى مع اتحاد الزمان؛ لجواز أن يسرق فيه الأمران.

وفي قول المصنف (رحمه الله) ولو كان تعارض البينتين لا على عين واحدة» تجوّز؛ لأنه لا تعارض حينئذ. وكذا في قوله: «تعارض في ذلك»؛ لأن الإشارة تعود إلى الأمرين المختلفين، والفرض هنا اتحاد العين. وأما قوله: «ثبت الدرهمان فالمراد به الدينار والدرهم، وتناهما باسم أحدهما أو باسم أخفّهما، كالقمرين والعمرين.

قوله: «لو شهد أحدهما أنّه باعه هذا الثوب غدوة بدينار، وشهد الآخر أنه باعه بعينه في ذلك الوقت بدينارين» إلى آخره.

إثبات التعارض بين الشاهدين باعتبار صورته، وإلا فالتعارض لا يتحقق إلا بين البينتين الكاملتين كما مر(1) . ولو اقتصر على قوله: «لم يثبتا، وكان له المطالبة إلى آخره

ص: 434


1- مر في ص 253 و 261 .

ولا كذلك لو شهد واحد بالإقرار بألف والآخر بألفين، فإنّه يثبت الألف بهما والآخر بانضمام اليمين ولو شهد بكلّ واحد شاهدان، ثبت ألف بشهادة الجميع، والألف الآخر بشهادة اثنين.

• وكذا لو شهد أنّه سرق ثوباً قيمته درهم، وشهد الآخر أنّه سرقه وقيمته ،در همان ثبت الدرهم بشهادتهما والآخر بالشاهد واليمين. ولو شهد بكل صورة شاهدان ثبت الدرهم بشهادة الجميع، والآخر بشهادة الشاهدين بهما.

------------------

كما فعل غيره كان أثبت؛ لأنّه لم يقم بكلّ واحدٍ من البينتين إلا شاهد واحد ؛ فلذلك لم يثبتا.

والفرق بين الإقرار والبيع - حيث يثبت القدر الأقلّ بهما، ويتوقف الزائد على اليمين في الإقرار دون البيع - أن الإقرار ليس سبباً في ثبوت الحق في ذمته، بل كاشف عن سبقه، فجاز تعدده، ولم يناف أحد الإقرارين الآخر، بخلاف البيع، فإنّه سبب لثبوت الحق، ولم يقم بكلّ واحد من السببين بيّنة كاملة.

وعليه يترتب ما لو شهد بكلّ واحد من الإقرارين شاهدان، فإنّه يثبت الأقل بشهادة الجميع والزائد بشهادة الاثنين، بخلاف البيع؛ فإنّه لا يثبت المجموع إلا بشاهدين؛ لعدم إمكان تعدد السبب فيه.

قوله: «وكذا لو شهد أنه سرق ثوباً قيمته درهم» إلى آخره.

الكلام في سببية السرقة بالنسبة إلى القيمة كالإقرار؛ فإن السرقة نفسها ليست سبباً في كون قيمة الثوب درهماً أو درهمين، وإنما القيمة أمر لازم للعين، سواء سرق أم لم يسرق. فكان ذلك بمنزلة ما لو شهد أحدهما أن له في ذمته درهماً، والآخر أن له في ذمته در همين فيثبت الدرهم بشهادتهما، والآخر مع اليمين.

ولو شهد بكلّ واحد من الفرضين شاهدان ثبت الزائد بشهادة الاثنين والأقل بشهادة الجميع؛ لعدم التنافي.

ص: 435

• ولو شهد أحدهما بالقذف غدوة والآخر عشيّة، أو بالقتل كذلك، لم يحكم بشهادتهما؛ لأنّه شهادة على فعلين. أمّا لو شهد أحدهما بإقراره بالعربية والآخر بالعجمية، قُبِل؛ لأنّه إخبار عن شيء واحد.

القسم الثاني في الطوارئ الشهادة

لو شهدا ولم يحكم فما تا حكم بهما فماتا

وهي مسائل:

الأولى: • لو شهدا ولم يحكم فما تا حكم بهما ، وكذا لو شهدا ثم زكيا بعد الموت.

------------------

قوله: «ولو شهد أحدهما بالقذف غدوة والآخر عشيّةً» إلى آخره.

لأن القذف الواقع غدوة غير الواقع عشيّةً، ولم يقم بكل واحد إلا شاهد واحد، فلا يثبت أحدهما وإن أمكن تعدّده ولا محلّ لليمين مع أحدهما في الحد.

وأمّا القتل فكذلك، ويزيد أنه لا يقبل التكرّر، فالتكاذب متحقق.

وأما شهادة أحدهما بالإقرار بالعربية والآخر بالعجمية، فإن أطلقا وقته أو ذكراه مختلفاً ثبت مدلولهما؛ لما ذكرناه من أنه ليس بسبب حتى يحصل بتعدد فعله اختلاف، وإنما مدلوله أمر خارج يمكن التعبير عنه في أوقات كثيرة وبلغات متعددة، والمدلول شيء واحد.

ولو اتحد الوقت بحيث لا يمكن الاجتماع، بأن شهد أحدهما أنّه أقرّ عند الزوال بلا فصل بالعربية، والآخر أنه أقرّ في ذلك الوقت بعينه بالعجمية لم يثبت، للتكاذب.

قوله: «لو شهدا ولم يحكم فماتا حكم بهما وكذا لو شهدا ثمّ زكّيا بعد الموت».

لأن الحكم مستند إلى أدائهما وقد حصل. والموت ليس قادحاً في الشهادة، وإنّما هو عذر طار غير منقص ولا يوجب تهمة، كما لو ناما أو جنا أو أغمى عليهما أو على أحدهما.

وكذا الحكم لو شهدا وعدالتهما مجهولة عند الحاكم ومانا قبل التزكية، ثمّ زُكِّيا بعد الموت؛ لأنّ الحكم بشهادتهما المؤداة لا بالتزكية، وإنما التزكية كاشفة صحة الاعتماد على شهادتهما ، فلم يقدح فيه موتهما قبلها.

ص: 436

لو شهدا ثمّ فسقا قبل الحكم

الثانية • لو شهدا ثمّ فسقا قبل الحكم حكم بهما؛ لأنّ المعتبر بالعدالة عند الإقامة. ولو كان حقاً لله كحد الزنى، لم يحكم؛ لأنه مبني على التخفيف، ولأنه نوع شبهة. وفي الحكم بحد القذف والقصاص تردّد، أشبهه الحكم لتعلّق حق الآدمي به .

------------------

قوله: «لو شهدا ثمّ فسقا قبل الحكم حكم بهما» إلى آخره.

اختلف الأصحاب في جواز الحكم بشهادة العدلين لو طرأ فسقهما أو أحدهما بعد أداء الشهادة وقبل الحكم فذهب الشيخ في الخلاف والمبسوط(1) وابن إدريس (2) والمصنف (رحمه الله) والعلّامة في أحد القولين (3) إلى الجواز؛ محتجين بأن الاعتبار بالعدالة عند الإقامة لا عند الحكم وقد حصل، ولأن الحكم بشهادتهما مع استمرار العدالة ثابت فكذا مع زوالها؛ عملاً بالاستصحاب.

مع أن المصنف (رحمه الله) قد حكم فيما سبق بأنه لو طرأ فسقُ شاهدِ الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع لم يحكم؛ محتجاً بأن الحكم مستند إلى شهادة الأصل (4).

وهكذا فعل الشيخ في المبسوط(5)، والعلامة في التحرير(6).

ولا فرق بين الأمرين، بل الحكم هنا بعدم الحكم أولى؛ لأنّه مستند إلى شهادة من قد فسق خاصة.

وذهب العلّامة في المختلف (7) والشهيد(8) وجماعة (9) إلى عدم جواز الحكم؛ لأنهما

ص: 437


1- الخلاف، ج 1، ص 320، المسألة 73؛ المبسوط، ج 5، ص 610.
2- السرائر، ج 2، ص 179 .
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 515 تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 5، ص 270، الرقم 6668.
4- سبق في ص 425.
5- المبسوط ، ج 5، ص 598 .
6- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 282، الرقم 6697.
7- مختلف الشيعة، ج 8، ص 547، المسألة 106.
8- الدروس الشرعية، ج 2، ص 106 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
9- منهم يحيى بن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع، ص 546.
لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم، فانتقل المشهود به إليهما

الثالثة: • لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم، فانتقل المشهود به إليهما لم يحكم لهما بشهادتهما.

------------------

فاسقان حال الحكم فلا يجوز الحكم بشهادتهما؛ إذ يصدق أنه حكم بشهادة فاسقين، كما لو رجعا قبله، وكما لو كانا وارثين ومات المشهود له قبل الحكم بشهادتهما، ولأن طرق الفسق يضعف ظنّ العدالة السابقة؛ لبعد طروها دفعة واحدة.

وأجابوا عن الاستدلال الأوّل بأنّه مصادرة؛ لأنّ كون الاعتبار بالعدالة حالة الأداء لا حال الحكم عين المتنازع (1). وهذا هو الأولى وطرق العدالة كطر و الفسق.

واتفق القائلان على أنّ المشهود به إذا كان حقاً الله تعالى كحد الزنى واللواط وشرب المسكر لم يحكم به لوقوع الشبهة الدارثة للحد.

ولو اشترك الحدّ كالقذف والقصاص، ففي جواز الحكم عند القائل به في غيره وجهان من بنائه على التخفيف ودرئه بالشبهة، ومن تعلق حق الآدمي به.

ورجح المصنف (رحمه الله) حق الآدمي. وعلى هذا، لو كان المشهود به السرقة حكم بالمال خاصة وعدمه فيها أقوى.

قوله: «لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم» إلى آخره.

نبه بقوله «لم يحكم لهما بشهادتهما على وجه الحكم؛ فإنّه لو حكم بشهادتهما لزم أن يكون قد حكم للمدعي بشهادته، وهو باطل قطعاً.

ولو كان لهما في الميراث شريك ففي ثبوت حصته بشهادتهما وجهان، من انتفاء المانع من جهته، ومن أنّها شهادة واحدة فلا تتبعض كما لو شهد بعض رفقاء القافلة المأخوذين لبعض. وهذا أقوى. وبه قطع في القواعد(2) .

ويجيء على القول بعدم قدح طروء الفسق احتمال عدمه هنا اعتباراً بحالة الأداء، كما علل به السابق، وعند الأداء لم يكن الشهادة لهما، إلا أن الجميع اتفقوا على امتناع الحكم هنا.

ص: 438


1- راجع مختلف الشيعة، ج 8، ص 547 المسألة 106.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 515 .
لو رجعا عن الشهادة قبل الحكم

الرابعة: • لو رجعا عن الشهادة قبل الحكم لم يحكم. ولو رجعا بعد الحكم والاستيفاء وتلف المحكوم به لم ينقض الحكم، وكان الضمان على الشهود.

------------------

قوله: «لو رجعا عن الشهادة قبل الحكم لم يحكم - إلى قوله - والأوّل أظهر».

رجوع الشهود عن الشهادة إمّا أن يفرض قبل القضاء بشهادتهم، أو بعده. فإن كان قبله امتنع القضاء مطلقاً؛ لأنا لا ندري أنهم صدقوا في الأوّل أو في الآخر، فلا يبقى ظنّ الصدق ولم يحصل حكم يمتنع نقضه.

ثمّ إن اعترفوا بأنهم تعمدوا الكذب فهم فسقة يستبرون. وإن قالوا: «غلطنا» لم يفسقوا. لكن لا تقبل تلك الشهادة لو أعادوها.

ولو كانوا قد شهدوا بالزنى فرجعوا واعترفوا بالتعمّد حدّوا للقذف. وإن قالوا: «غلطنا» ففي حد القذف وجهان: أحدهما المنع؛ لأن الغالط معذور. وأظهرهما الوجوب؛ لما فيه من التعيير، وكان من حقهم التثبت والاحتياط. وعلى هذا تردّ شهادتهم. ولو قلنا لا حد فلا رد.

ولو رجعوا بعد القضاء، فرجوعهم إما أن يكون قبل الاستيفاء أو بعده.

فإن رجعوا قبل الاستيفاء، نظر إن كانت الشهادة في مال استوفي؛ لأن القضاء قد نفذ فيه، وليس هو مما يسقط بالشبهة حتى يتأثر بالرجوع. وفيه وجه آخر أنّه لا يستوفي؛ لأنّ الحكم لم يستقر بعد، والظنّ قد اختل بالرجوع.

وإن كانت في حد الله تعالى قيل: لم يستوف؛ لأنه مبني على التخفيف، ويدرأ بالشبهة، وهي متحققة بالرجوع (1).

وإن كان حق آدمي أو مشتركاً ،فوجهان من تغليب حق الآدمي، ووجود الشبهة الدارئة له في الجملة. وهذا أولى.

والمصنّف (رحمه الله) جزم بالحكم في القسمين استضعافاً للفرق، وتردّد في نقض الحكم لما عدا الحد من الحقوق، سواء في ذلك المالية وغيرها. ومنشأ التردد مما ذكرناه في المال.

ص: 439


1- المبسوط، ج 5، ص 611: السرائر، ج 2، ص 148 .

ولو رجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء، فإن كان حداً لله نقض الحكم؛ للشبهة الموجبة للسقوط. وكذا لو كان للآدمي كحد القذف، أو مشتركاً كحد السرقة. وفي نقض الحكم لما عدا ذلك من الحقوق تردُّد.

أمّا لو حكم وسلّم فرجعوا والعين قائمة، فالأصح أنه لا ينقض ولا تستعاد العين. وفى النهاية تردّ على صاحبها. والأوّل أظهر.

------------------

وينبغي إلحاق العقوبات كالقتل والجرح بالحدود، والعقود والإيقاعات بالمال لسهولة خطرها، وترجيحاً لحق الآدمي.ويحتمل إلحاق النكاح بالحدود؛ لعظم خطره، وعدم استدراك فائت البضع.

وحيث قلنا بالاستيفاء بعد الرجوع فاستوفي فالحكم كذلك، كما لو رجعوا بعد الاستيفاء. ولم يتعرّض الأكثر لحكم الرجوع في غير المال قبل الاستيفاء، ولم يحرّروا الحكم فيه.

وإن رجعوا بعد الاستيفاء لم ينقض الحكم مطلقاً؛ لنفوذ الحكم بالاجتهاد به فلا ينقض بالاحتمال، ولأنّ شهادتهم إقرار، ورجوعهم إنكار، والإنكار بعد الإقرار غير مسموع .

ولأنّ الشهادة أثبتت الحق فلا يزول بالطارئ كالفسق والموت، خلافاً للشيخ في النهاية ، حيث حكم برد العين على صاحبها مع قيامها (1)، وتبعه القاضي (2) وجماعة (3)، محتجين بأنّ الحق ثبت بشهادتهما، فإذا رجعا جرى مجرى عدم الشهادة. ولا يخفى ضعفه.

وحيث لا ينقض يغرم الشهود للمحكوم عليه؛ لحصول الحيلولة بشهادتهم، وما يضمن بالتفويت بغير الشهادة يضمن بها كالنفس.

ص: 440


1- النهاية، ص 336 .
2- المهذب، ج 2، ص 564.
3- منهم ابن حمزة في الوسيلة، ص 234.
إن كان المشهود به قتلاً أو جرحاً فاستوفي ثم رجعوا

الخامسة: • المشهود به إن كان قتلاً أو جرحاً فاستوفي ثم رجعوا، فإن قالوا: تعمدنا، اقتصَّ منهم. وإن قالوا: أخطأنا، كان عليهم الدية. وإن قال بعض: تعمدنا، وبعض أخطأنا فعلى المقرّ بالعمد القصاص، وعلى المقرّ بالخطإ نصيبه من الدية. ولولى الدم قتل المقرين بالعمد أجمع، وردّ الفاضل عن دية صاحبه. وله قتل البعض، ويرد الباقون قدر جنايتهم.

------------------

ويؤيده حسنة جميل عمّن أخبره عن أحدهما (علیهما السّلام): «في الشهود إذا شهدوا على رجل ثمّ رجعوا عن شهادتهم وقد قضي على الرجل ضمنوا ما شهدوا به وغرموا، وإن لم يكن قضي طرحت شهادتهم، ولم يغرم الشهود شيئاً»(1) .

ولبعض العامة قول : إنّهم لا يغرمون؛ لأنّهم لم يثبتوا اليد على المال ولم يتلفوه، فلا يضمنون(2)، وإن أثموا بما يفضي إلى الفوات، كمن حبس المالك عن ماشيته حتى ضاعت.

قوله: «المشهود به إن كان قتلاً أو جرحاً فاستوفي ثم رجعوا» إلى آخره.

إذا رجعوا بعد الاستيفاء وكان المشهود به ممّا يتعذر تداركه كالقتل والجرح، فإن قالوا: تعمدنا، فعليهم القصاص أو الدية في موضع لا يقتص فيه من المتعمّد موزّعة، على ما هو مذكور في الجنايات. وكذا لو شهدوا بالردّة فقتل، أو على المحصن فرجم، أو على غير المحصن فجلد ومات منه. لكن هنا يلزمهم الدية؛ لأنّه عمد شبيه الخطا؛ لقصدهم إلى الفعل المؤدي إلى القتل.

وإن قالوا: أخطأنا، فعليهم الدية، على ما يفصل في قتل الخطا. وإن تفرّقوا في الوصف اختص كل بحكمه على ما سيأتي في المشتركين في القتل والجرح(3).

ص: 441


1- الكافي، ج 7، ص 383 باب من شهد ثم رجع عن شهادته، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 61 ، ح 3342؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 259، ح 685 .
2- الحاوي الكبير، ج 17 ، ص 267.
3- يأتي في ج 12، ص 295 - 296 .

• ولو قال أحد شهود الزنى بعد رجم المشهود عليه: «تعمّدت» فإن صدقه الباقون، كان لأولياء الدم قتل الجميع، ويردوا ما فضل عن دية المرجوم. وإن شاؤوا قتلوا واحداً، ويرد الباقون تكملة ديته بالحصص بعد وضع نصيب المقتول. وإن شاؤوا قتلوا أكثر من واحد، وردّ الأولياء ما فضل عن دية صاحبهم، وأكمل الباقون من الشهود ما يعوز بعد وضع نصيب المقتولين.

•أما لو لم يصدقه الباقون لم يمض إقراره إلا على نفسه فحسب. وقال في النهاية: يقتل ويردّ عليه الباقون ثلاثة أرباع الدية. ولا وجه له.

------------------

قوله: «ولو قال أحد شهود الزنى بعد رجم المشهود عليه: تعمّدت - إلى قوله - وإن شاؤوا قتلوا أكثر من واحد».

الضابط أنّ الشهادة متى أوجبت القتل، سواء كان ذلك بسبب الزني أو بسبب القصاص أو الردة، فالحكم ما ذكر من جواز قتل المتعمد وأخذ الدية من الخاطئ. وحكم الرد مع زيادة المقتول على ما يفصل في بابه، فلا حاجة إلى تفصيل كلّ واحدٍ من حكم الشهادة بالرجم وبالقتل على حدة.

قوله: «أمّا لو لم يصدّقه الباقون لم يمض إقراره إلا على نفسه فحسب» إلى آخره.

إذا رجع أحد شهود الزنى عن الشهادة وقال: «كذبنا» ولم يصدقه الباقون، لم يقبل قوله عليهم؛ لاختصاص حكم الإقرار بالمقر. فإن اختار الولى قتله رد عليه ثلاثة أرباع ديته، وإن اختار أخذ الدية كان عليه الربع خاصة؛ لأنّه إنّما أقرّ بالشركة في القتل. وكذا لو قال: «أخطأت».

وقال الشيخ في النهاية :

إن قال: «تعمّدت» قتل، وأدى الثلاثة إليه ثلاثة أرباع الدية. وإن رجع اثنان وقالا : «أوهمنا»، الزما نصف الدية. وإن قالا: «تعمدنا» كان للولي قتلهما، ويؤدّي إلى ورثتهما دية كاملة بالسوية بينهما، ويؤدّي الشاهدان الآخران إلى ورثتهما نصف الدية.

ص: 442

• ولو شهدا بالعتق فحكم ثم رجعا ضمنا ،القيمة تعمدا أو أخطا؛ لأنهما أتلفاه بشهادتهما.

------------------

وإن اختار الولي قتل واحد قتله، وأدّى الآخر مع الباقين من الشهود على ورثة المقتول الثاني ثلاثة أرباع الدية (1).

ووافقه ابن الجنيد (2).

ومستندهما حسنة إبراهيم بن نعيم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) عن أربعة شهدوا على رجل بالزني، فلما قتل رجع أحدهم عن شهادته، قال، فقال: «يقتل الراجع، ويؤدي الثلاثة إلى أهله ثلاثة أرباع الدية»(3).

ووجه العدول عنها مخالفتها للأصل؛ فإنّ أحداً لا يلزم بإقرار غيره. وربما حملت على ما إذا رجعوا بأجمعهم، لكن قال أحدهم «تعمّدت» وقال الباقون «أخطأنا».

وفي المختلف جعل ذلك محملاً لقول الشيخين(4) . وليس بجيد. وإنما يصلح حملاً للرواية التي هي مستند ،الحكم، وأمّا حكمهما فعلى ظاهر ما فهمناه من الرواية.

قوله: «ولو شهدا بالعتق فحكم ثم رجعا ضمنا القيمة» إلى آخره.

إنّما ضمناه مطلقاً؛ لأنّ إتلاف المال لا يفرّق فيه بين العامد والخاطئ، وقد فوّتا ماليته على المالك بشهادتهما وهو لا يريد؛ لبنائه على التغليب مع نفوذ الحكم فيه. ولا فرق بين أن يكون المشهود بعتقه قناً أو مدبّراً أو مكاتباً أو أم ولد أو معلق العتق بصفة، خلافاً لبعض العامة في أم الولد، حيث قال لا غرم(5) .

ولو كانت الشهادة على تدبير عبد ثم رجعا بعد القضاء لم يغرما في الحال؛ لأنّ الملك

ص: 443


1- النهاية، ص 335 .
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 537، المسألة 97 .
3- الكافي، ج 7، ص 384، باب من شهد ثم رجع عن شهادته، ح 5 تهذيب الأحكام، ج 6، ص 260، ح 690.
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 537 - 538، المسألة 97 .
5- راجع الكافي في فقه أهل المدينة، القرطبي، ج 2، ص 919.
إذا ثبت أنّهم شهدوا بالزور

السادسة • إذا ثبت أنّهم شهدوا بالزور نقض الحكم واستعيد المال. فإن تعذر غرّم الشهود ولو كان قتلاً ثبت عليهم القصاص وكان حكمهم حكم الشهود إذا أقروا بالعمد.

------------------

لم يزل، فإذا مات غرما بالرجوع السابق؛ لأنّ عتقه بسبب الشهادة وإن كان قادراً على نقضه إذ لا يجب عليه إنشاء الرجوع لنفع الوارث.

ويحتمل عدم الرجوع؛ لقدرته على نقضه إن لم يكن لازماً بنذر وشبهه.

نعم، لو كان رجوعهما بعد موته أغرما للورثة. وكذا لو شهدا على العتق بصفة على وجه يصح.

ولو شهدا بكتابته ورجعا وأدى العبد النجوم وعتق ظاهراً، ففيما يغرمان وجهان:

أحدهما ما بين قيمته وبين النجوم.

وأصحهما جميع القيمة؛ لأن المؤدى من كسبه، وكسبه للسيد. ولو عجز فرد في الرق لم يغرما سوى ما فات من منفعته زمن الكتابة.

ولو شهدا أنّه أعتقه على مال هو دون القيمة فكالكتابة؛ لأنه يؤدى من كسبه.

ولو شهدا أنه وقفه على مسجد أو جهة عامة فكالعتق، ولا يرد الوقف بالرجوع. وكذا لو شهد أنه جعل الشاة أضحيّة.

قوله: «إذا ثبت أنهم شهدوا بالزور نقض الحكم واستعيد المال» إلى آخره.

وجه نقض الحكم مع ثبوت التزوير تبيّن اختلال شرط الشهادة، كما لو تبين فسقهما قبل الحكم، وأولى بالبطلان هنا.

ويدلّ عليه أيضاً صحيحة جميل عن أبي عبد الله (علیه السّلام) في شاهد الزور قال: «إن كان الشيء قائماً بعينه ردّ على صاحبه، وإن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل»(1).

وروى محمّد بن مسلم - في الصحيح - عن أبي عبد الله (علیه السّلام)في شاهد الزور ما توبته ؟

ص: 444


1- الكافي، ج 7، ص 384، باب من شهد ثم رجع عن شهادته ، ح 3؛ الفقيه، ج 3، ص 59، ح 3334؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 259 - 260، ح 686 .

• ولو باشر الوليّ القصاص واعترف بالتزوير لم يضمن الشهود، وكان القصاص على الولي.

إذا شهدا بالطلاق ثم رجعا

السابعة . إذا شهدا بالطلاق ثم رجعا، فإن كان بعد الدخول لم يضمنا، وإن كان قبل الدخول ضمنا نصف المهر المسمى؛ لأنهما لا يضمنان إلا ما دفعه المشهود عليه بسبب الشهادة.

------------------

قال: «يؤدّي من المال الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله إن كان النصف أو الثلث، إن كان شهد هذا وآخر معه»(1) .

واعلم أنّ الزور إنّما يتحقق بتعمد الكذب لا بمطلق كون الشهادة باطلة؛ ولذلك كان حكمهم حكم من أقرّ بالعمد وإنّما يثبت شهادتهم بالزور بأمر مقطوع به كعلم الحاكم أو الخبر المفيد للعلم، لا بالبينة؛ لأنه تعارض، ولا بالإقرار؛ لأنه رجوع.

قوله: «ولو باشر الولي القصاص واعترف بالتزوير لم يضمن الشهود» إلى آخره.

إذا رجع ولي الدم وحده واعترف بالتزوير فعليه القصاص أو كمال الدية على تقدير اعترافه بالخطا.

ولو رجع مع الشهود فوجهان :

أجودهما أنّ القصاص أو الدية بكمالها عليه؛ لأنه المباشر، وهم معه كالممسك مع القاتل.

والثاني: أنه معهم كالشريك؛ لتعاونهم على القتل وليسوا كالممسك مع القاتل فإنّهم صوّروه بصورة المحقين.

وعلى هذا، فعليهم جميعاً القصاص أو الدية منصفة أو بالحساب. وينبغي على هذا الوجه أن لا يجب كمال الدية على الولي إذا رجع وحده.

قوله: «إذا شهدا بالطلاق ثم رجعا فإن كان بعد الدخول لم يضمنا» إلى آخره.

إذا شهدا على طلاق بائن كالطلاق بعوض والطلقة الثالثة، أو على رضاع محرّم أو لعان

ص: 445


1- الكافي، ج 7، ص 383 - 384، باب من شهد ثم رجع عن شهادته، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 260، ح 687.

------------------

أو فسخ بعيب أو غيرها من جهات الفراق، وحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجعا لم يردّ الفراق؛ لأن قولهما في الرجوع محتمل، فلا يرد القضاء المبرم بقول محتمل.

وهل يجب الغرم على الشاهدين مطلقاً، أم يتقيد بعدم الدخول؟ يبنى على أن البضع هل يضمن بالتفويت أم لا ؟ وفيه ، وجهان، تقدّم الكلام فيهما مراراً (1).

والمشهور أنه لا يضمن، ومن ثَم لو قتلها أو قتلت نفسها لم يضمن.

وكذا لو غصب أمةً وماتت في يده؛ فإنّه يضمن بذلك قيمتها وقيمة منافعها وإن لم يستوفها، دون بعضها مع عدم استيفائه.

ووجه الضمان أنّه متقوم بالمال، ومن ثمّ لو استوفاه مستوف ضمنه بقيمته، وهي مهر المثل. فعلى هذا يغرم الشاهدان مهر المثل، سواء كان قبل الدخول أم بعده؛ لأنهما فوّتا عليه ما يتقوم فيغرمان ،قيمته كما لو شهدا بعتق عبد ثم رجعا.

وعلى المشهور، إن كانت شهادتهما بالطلاق بعد الدخول لم يضمنا شيئاً؛ لأنهما لم يتلفا المهر، لاستقراره بالدخول، وما أتلفاه من البضع غير مضمون. وإن كانت قبل الدخول ضمنا نصف المسمّى؛ لأنّهما ألزماه به، وقد كان بمعرض السقوط بالردة والفسخ من قبلها. وهذا هو الذي اختاره المصنّف (رحمه الله)، وعليه العمل.

وفي المسألة أقوال أخر نادرة:

منها : ما اختاره الشيخ في موضع من المبسوط (2) من أنّ المهر إن كان مقبوضاً بيدها غرّم الشاهدان جميع مهر المثل ؛ لأنّ الزوج لا يتمكن من استرداد شيء ؛ لزعمه أنها زوجته وأنها تستحق جميع الصداق. وإن كان قبل التسليم غرّم النصف خاصة؛ لأنّها لا تطالبه إلا بالنصف(3) .

ص: 446


1- تقدم في ج 6، ص 113 - 114.
2- في حاشية الأصل بخطه: «حاشية: وللشيخ في المبسوط قول آخر كالمشهور وهو مذهبه في الخلاف أيضاً، فصار له في المسألة أربعة أقوال ثلاثة منها في المبسوط، ورابعها في النهاية».
3- المبسوط، ج 5، ص 613.

------------------

ومنها: ما اختاره في النهاية، وهو أنها لو تزوّجت بعد الحكم بالطلاق ثم رجعا ردّت إلى الأوّل بعد العدة، وغرّم الشاهدان المهر للثاني(1) .

واستند الشيخ في ذلك إلى موثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي عبد الله (علیه السّلام) له في شاهدين شهدا على امرأة بأنّ زوجها طلقها، فتزوجت، ثمّ جاء زوجها فأنكر الطلاق، قال: «يضربان الحد، ويضمنان الصداق للزوج، ثم تعتد، ثم ترجع إلى زوجها الأول»(2).

والرواية ضعيفة بإبراهيم؛ فإنه واقفي وإن كان ثقة (3)، وقد عرفت أن الحكم لا ينقض بعد وقوعه في مثل ذلك.

وربما حملت الرواية على ما لو تزوّجت بمجرد الشهادة من غير حكم الحاكم. وفي المختلف جعل ذلك محملاً لقول الشيخ (4). وليس بجيّد؛ فإنّ الشيخ استند إلى الرواية وعمل بظاهرها، فلا تأويل في كلامه.

ومنها: ضمان مهر المثل مع الدخول ونصفه مع عدمه حكاه في المبسوط (5)، ومال إليه في التحرير، ثم أفتى بالمشهور(6) .

ووجهه أنّ الرجوع على الشاهد إنما يكون بما يتلفه بشهادته، وبشهادتهما بالطلاق قبل الدخول لم يتلفا نصف المهر؛ لأنه واجب عليه بالعقد طلق أم لم يطلق، وبعد الدخول لم يتلفا المهر أيضاً؛ لاستقراره في ذمته به، وإنما أتلفا بشهادتهما البضع عليه، فيجب عليهما قيمته،

ص: 447


1- النهاية. ص 336 .
2- الكافي، ج 7، ص 384، باب من شهد ثم رجع عن شهادته، ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 260، ح 689.
3- راجع رجال الطوسي، ص 332، الرقم 4947 ، وفيه: إنه واقفي والفهرست، الطوسي، ص 17 ، الرقم 12، وفيه: إنه ثقة.
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 539 المسألة 98 .
5- المبسوط، ج 5، ص 613.
6- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 287 - 288، الرقم 6707.

فروع :

الأول: • إذا رجعا معاً ضمنا بالسوية، فإن رجع أحدهما ضمن النصف.

ولو ثبت بشاهد وامرأتين فرجعوا ضمن الرجل النصف، وضمنت كل واحدة الربع. ولو كان عشر نسوة مع شاهد فرجع الرجل ضمن السدس. وفيه تردّد.

------------------

وهو مهر المثل مع الدخول ونصفه قبل الدخول؛ لأنه إنّما ملك نصف البضع؛ ولهذا إنما يجب عليه نصف المهر. وهذا القول مبني على ضمان البضع والأصح عدمه.

قوله: «إذا رجعا معاً ضمنا بالسوية، فإن رجع أحدهما ضمن النصف ولو ثبت بشاهد وامرأتين فرجعوا ضمن الرجل النصف» إلى آخره.

إذا رجع الشهود أو بعضهم على وجه يثبت به الغرم فلا يخلو إما أن يفرض والمحكوم بشهادتهم على الحد المعتبر ، أو يفرض وهم أكثر عدداً منه.

فإن كانوا على الحد المعتبر - كما لو حكم في العتق أو القتل بشهادة رجلين ثم رجعا - فعليهما الغرم بالسوية، وإن رجع أحدهما فعليه النصف.

وكذا لو رجم في الزنى بشهادة أربعة، فإن رجعوا جميعاً فعليهم الدية أرباعاً، وإن رجع بعضهم فعليه حصته منها.

هذا إذا كان جميع الشهود ذكوراً، أو إناثاً في موضع يقبل فيه شهادتهنّ منفردات. أما إذا انقسموا إلى الذكور والإناث، فإن لم يزيدوا على أقل ما يكفي، كرجل وامرأتين في الأموال، أو ما تقبل فيه شهادتهنّ منفردات، فنصف الغرم على الرجل عند الرجوع، وعلى كلّ واحدة منهما الربع.

وإن زادوا على الأقلّ، فالمشهود به إمّا أن يثبت بشهادة النساء وحدهن، أو لا يثبت.

فالأول كما لو شهد أربع نسوة مع رجل في الولادة أو الرضاع، فإن رجعوا جميعاً فعلى الرجل ثلث الغرم وعليهن ثلثاه. وإن رجع الرجل وحده ففي غرمه وجهان يأتيان، من حيث بقاء الحجة. وكذا لو رجعت امرأتان.

ص: 448

الثاني: • لو كان الشهود ثلاثة ضمن كلّ واحد منهم الثلث ولو رجع منفرداً. وربما خطر أنه لا يضمن؛ لأنّ في الباقي ثبوت الحق، ولا يضمن الشاهد ما يحكم به بشهادة غيره للمشهود له والأوّل اختيار الشيخ (رحمه الله).

------------------

والثاني : وهو ما لا يثبت بشهادة النساء المتمحضات كالأموال، فشهد رجل وأربع نسوة ورجعوا، فوجهان :

أحدهما أنّ على الرجل ثلث الغرم، وعليهن الثلثان كالأوّل.

والثاني: أن نصف الغرم عليه ونصفه عليهن؛ لأن المال لا يثبت بشهادة النساء وإن كثرن، فنصف الحجّة يقوم بالرجل معهنّ كم كنّ. وهذا الوجه هو الذي طواه المصنف (رحمه الله) بتردّده في الأول.

فإذا قلنا بالثاني، فإن رجع النساء فعليهن نصف الغرم، ولو رجعت امرأتان فلا شيء عليهما على أحد الوجهين؛ لبقاء الحجة، ولو رجع الرجل دونهن، فعلى الرجل الثلث على الأول، والنصف على الثاني، ولو رجع النساء دونه فعليهن ثلثاه أو نصفه. وهكذا.

قوله: «لو كان الشهود ثلاثة ضمن كلّ واحد منهم الثلث - إلى قوله كما في الأول».

هذا هو القسم الثاني، وهو ما إذا زاد الشهود على الحد المعتبر، كما لو شهد بالمال أو القتل أو العتق ثلاثة، أو بالزنى خمسة، فإن رجع الكلّ فالغرم موزّع عليهم بالسوية.

وإن رجع البعض فإما أن يثبت العدد المعتبر على الشهادة، أو لا يثبت إلّا بعضهم. فإن ثبت العدد المعتبر، كما لو رجع من الثلاثة في العتق أو من الخمسة في الزنى واحد، فوجهان :

أحدهما - وهو الذي اختاره الشيخ (رحمه الله)(1) - أنّ على الراجع حصته من الغرم إذا وزّع عليهم جميعاً؛ لأن الحكم وقع بشهادة الجميع، وكلّ منهم قد فوت قسطاً. فيغرم ما فوّت.

ص: 449


1- المبسوط، ج 5، ص 614.

وكذا لو شهد رجل وعشر نسوة فرجع ثمان منهن، قيل: على كل واحدة نصف السدس؛ لاشتراكهم في نقل المال والإشكال فيه كما في الأول.

------------------

والثاني - وهو الذي أشار المصنف بخطوره - أنه لا غرم على الراجع؛ لأنه يبقى من يقوم به الحجة، ولو لم يشهد في الابتداء سوى من بقي لاكتفينا بشهادته، وكان الراجع كأن لم يشهد.

وعلى هذا لو شهد رجل وعشر نسوة فرجع ثمان منهنّ، فعلى الأوّل يجب على كلّ واحدة نصف السدس؛ لاشتراكهم جميعاً في نقل المال، فيقابل شهادة الرجل السدس وشهادتهنّ خمسة أسداس، فإذا رجع ثمان فعليهنّ أربعة أسداس على كل واحدة نصف سدس. وعلى الثاني لا شيء عليهن لبقاء من يقوم به الحجة. وإليه أشار المصنف (رحمه الله) بالإشكال الأوّل.

ولو رجع الرجل ،دونهنّ، فإن كان الحق ممّا يثبت بشهادتهن منفردات فالوجهان. وإن كان مما لا يثبت بهنّ لم يبق من الشهود ما يثبت به الحكم فيكون عليه النصف أو السدس على الخلاف .

ولو لم يثبت العدد المعتبر على الشهادة، كما إذا رجع من الثلاثة أو الخمسة اثنان بني على الوجهين في الحالة السابقة.

فإن قلنا: لا غرم على الراجعين هناك الزائدين على العدد المعتبر وزّع الغرم هنا على العدد المعتبر، وحصّة من نقص عن العدد توزّع على من رجع بالسوية. ففي صورة الثلاثة يكون نصف الغرم على الراجعين؛ لبقاء نصف الحجة. وفي صورة الخمسة عليهما ربع الغرم؛ لبقاء ثلاثة أرباع الحجة.

وإن أوجبنا الغرم على من رجع هناك فعلى الراجعين من الثلاثة ثلثا الغرم، ومن الخمسة خمساه .

والأظهر هنا الثاني؛ لأنّ البينة إذا نقص عددها زال حكمها وصار الضمان متعلّقاً بالإتلاف، وقد استووا فيه.

ص: 450

الثالث: • لو حكم فقامت بينة بالجرح مطلقاً لم ينقض الحكم؛ لاحتمال التجدّد بعد الحكم. ولو تعيّن الوقت - وهو متقدّم على الشهادة - نقض. ولو كان بعد الشهادة وقبل الحكم لم ينقض.

------------------

قوله لو حكم فقامت بينة بالجرح مطلقاً لم ينقض الحكم» إلى آخره.

إذا حكم الحاكم بشهادة عدلين ثمّ ثبت جرحهما بعد الحكم، فإن كانت الشهادة بالجرح مطلقة - أي غير معينة بوقت الجرح - لم ينقض الحكم، لاحتمال أن يكون الجرح متجدّداً عليه، فيستصحب حكم العدالة إلى أن يثبت المزيل.

وإن عين الجارح وقته وكان متقدماً على الشهادة نقض؛ لظهور وقوع الحكم بشهادة فاسقين.

ولو كان وقت الجرح بين الشهادة والحكم لم ينقض؛ لأداء الشهادة حالة العدالة. وهذا يناسب ما ذكره سابقاً من أنّ الفسق المتجدّد بعد أداء الشهادة وقبل الحكم لا يمنع من الحكم (1).

وعلى ما اختاره المتأخّرون من عدم جواز الحكم يتجه نقضه هنا؛ لوقوعه في حالة لم يكن الشاهدان عدلين.

ويحتمل عدم نقضه هنا مطلقاً؛ لوقوعه حالة الحكم بعد التهما ظاهراً، فوقع جامعاً لشرائطه فلا ينقض وبهذا قطع العلّامة في القواعد مع اختياره عدم جواز الحكم بتجدد الفسق بعد الأداء وقبل الحكم(2).

ويضعف بأنّ الاكتفاء في صحة الحكم بظهور العدالة وقته يستلزم صحته وإن ثبت الجرح متقدماً على الشهادة؛ لاشتراكهما في المقتضي. والوجه نقض الحكم على هذا القول؛ الثبوت فسقهما حالة الحكم المانع منه كما يمنع منه مع سبقه على الشهادة.

ص: 451


1- سبق في ص 437.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 515.

• وإذا نقض الحكم، فإن كان قتلاً أو جرحاً فلا قود، والدية في بيت المال.

ولو كان المباشر للقصاص هو الولى ففى ضمانه تردّد، والأشبه أنه لا يضمن مع حكم الحاكم وإذنه. ولو قتل بعد الحكم وقبل الاذن ضمن الدية.

أما لو كان مالاً فإنّه يستعاد إن كانت العين باقيةً. وإن كانت تالفةً فعلى المشهود له؛ لأنّه ضمن بالقبض، بخلاف القصاص.

------------------

قوله: «وإذا نقض الحكم فإن كان قتلاً أو جرحاً فلا قود» إلى آخره.

إذا نقض الحكم بظهور مانع في الشهادة سابق على الأداء أو على الحكم على الخلاف فإن كان المشهود به طلاقاً أو عتقاً أو عقداً من العقود تبيّن أنّه لا طلاق ولا عتاق ولا عقد. فإن كانت المرأة قد ماتت فقد ماتت وهي زوجة، وإن مات العبد مات وهو رقيق، ويجب ضمانه على ما نذكره في ضمان المال.

وإن كان المشهود به قتلاً أو قطعاً أو حداً واستوفي وتعذر التدارك فضمانه في بيت المال؛ لأنه من خطا الحكام، وحكم خطئهم كذلك.

ولا فرق بين أن يكون المباشر للفعل هو الوليّ أو غيره ممن يأمره الحاكم؛ لاستناد الفعل إلى الحكم على التقديرين.

وفيه وجه آخر يفرّق بين ما إذا كان المستوفي هو الوليّ وغيره؛ لأن استيفاء الولي مستند إلى أخذ حقه الذي تبين عدمه، فيكون كفعله خطأ. والأظهر الأول؛ لاستناده إلى حكم الحاكم على التقديرين.

نعم، لو باشر القتل بعد الحكم وقبل إذن الحاكم له في الاستيفاء تعلّق به الضمان؛ لتوقف جواز استيفائه على إذن الحاكم، وإن كان أصل الحق في ذلك له.

ويحتمل عدم الضمان هنا أيضاً وإن أثم؛ لأنّ حكم الحاكم بثبوت الحق اقتضى كونه المستحق، وإن أثم بالمبادرة بدون إذن الحاكم.

ولو كان المحكوم به مالاً، فإن كان باقياً عند المحكوم له انتزع منه ورد إلى المأخوذ منه. وإن كان تالفاً أخذ منه ضمانه، سواء أتلفه بنفسه أم تلف بآفة سماوية.

ص: 452

• ولو كان معسراً قال الشيخ ضمن الإمام، ويرجع به على المحكوم له إذا أيسر. وفيه إشكال من حيث استقرار الضمان على المحكوم له بتلف المال في يده، فلا وجه لضمان الحاكم.

مسائل :
إذا شهد اثنان أنّ الميّت أعتق أحد مماليكه وقيمته الثلث، و ...

الأُولى : • إذا شهد اثنان أنّ الميّت أعتق أحد مماليكه وقيمته الثلث، وشهد آخران أو الورثة أنّ العتق لغيره وقيمته الثلث، فإن قلنا المنجزات من الأصل

------------------

وفرّقوا بينه وبين الإتلافات السابقة حيث قلنا لا غرم عليه : بأن الإتلافات إنّما تضمن إذا وقعت على وجه التعدي، وحكم الحاكم أخرجه عن أن يكون متعدياً، وأما المال فإذا حصل في يد الإنسان بغير حق كان مضموناً وإن لم يوجد منه تعد.

قوله: «ولو كان معسراً قال الشيخ: ضمن الإمام ويرجع به على المحكوم له» إلى آخره.

حيث قلنا بأن المال مضمون على المحكوم له مطلقاً، فإن كان موسراً غرم الحق. وإن كان معسراً قال الشيخ في المبسوط : ضمن الإمام حتى يوسر المعسر فيرجع عليه (1).

وعلى هذا فيتخيّر المضمون له بين رجوعه على الحاكم، أو على المحكوم له المعسر، بأن ينظره إلى يساره.

ومثله ما لو كان المحكوم له غائباً ولا مال له حاضراً يتسلّط عليه الحاكم.

والمصنف (رحمه الله) استشكل ذلك، من حيث الحكم بضمان المحكوم له والحال أنه لا تقصير من الحاكم، فلا وجه لضمانه.

والأقوى استقرار الضمان على المشهود له وينظر إلى يساره أو التمكن من الاستيفاء منه.

قوله: «إذا شهد اثنان أنّ الميّت أعتق أحد مماليكه - إلى قوله - أكملنا الثلث من الآخر».

من الأصول المعهدة أن المريض مرض الموت إذا أعتق عبدين كلّ واحدٍ منهما ثلث

ص: 453


1- المبسوط، ج 5، ص 616.

عتقا. وإن قلنا تخرج من الثلث، فقد انعتق أحدهما. فإن عرفنا السابق صح عتقه وبطل الآخر. وإن جهل استخرج بالقرعة.

ولو اتفق عتقهما في حالة قال الشيخ: يقرع بينهما ويعتق المقروع.

------------------

ماله على الترتيب ولم يجز الورثة ينحصر العتق في الأول. وإذا أعتقهما معاً يقرع بينهما، كما فعل النبي (صلّی الله علیه و آله و سلّم) بالعبيد الذين أعتقهم الأنصاري ولا يملك سواهم(1).

ولو علم سبق أحدهما ولم يعلم عين السابق فوجهان:

أحدهما : أنه يقرع كما لو أعتقهما معاً؛ لأن معرفة السبق من غير معرفة السابق لا تنفع شيئاً.

والثاني: أنه يعتق من كلّ واحد نصفه؛ لأنا لو أقرعنا لم نأمن خروج الرق على السابق وللسابق حق الحرّية فيلزم منه إرقاق حرّ وتحرير رقيق.

إذا تقرر ذلك، فلو قامت بينة على أن المريض أعتق سالماً، وأُخرى على أنّه أعتق غائماً، من غير أن تتعرّض إحداهما لنفي عنق الآخر، وكلّ واحد منهما ثلث ماله، فإن أرختا بتاريخين مختلفين عتق من أعتقه أولاً. وإن أرّختا بتاريخ واحد أُقرع بينهما. وإن أطلقت إحداهما أو أطلقتا احتمل السبق والمعيّة، فيجيء فيه الوجهان السابقان والشيخ (رحمه الله) اختار القرعة(2). وهو حسن؛ لأنها لكل أمر مشتبه(3) .

والمصنّف (رحمه الله) نسب القول إليه مؤذناً برده. ووجهه أنها لاستخراج السابق، ومن المحتمل اقترانهما، فلا يكون أحدهما أولى من الآخر، فيعتق من كل واحد نصفه.

وفيه: أن القرعة قد وردت في العتق مع الاقتران كما ذكرناه، وهي وجه الأولوية.

ص: 454


1- مسند أحمد، ج 5، ص 588، ح 19325؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1288، ح 1668/56؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 28 ، ح 3958: السنن الكبرى البيهقي ، ج 10، ص 481 ، ح 21390.
2- المبسوط ، ج 5، ص 619 .
3- كما ورد في الرواية راجع الفقيه، ج 3، ص 92 ، ح 3392؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 240، ح 593: وج 9، ص 258، ح 970 .

ولو اختلفت قيمتهما أعتق المقروع فإن كان بقدر الثلث صح، وبطل الآخر. وإن كان أزيد صح العتق منه في القدر الذي يحتمله الثلث. وإن نقص أكملنا الثلث من الآخر.

------------------

ويتفرع على القولين ما لو قامت البينتان كذلك، لكن أحد العبدين سدس المال، فإن قلنا بالقرعة وخرجت للعبد الخسيس عتق، وعتق معه نصف الآخر ليكمل الثلث. وإن خرجت للنفيس انحصر العتق فيه. فإن قلنا هناك يعتق من كلّ واحد نصفه فهنا وجهان:

أحدهما: أنه يعتق من كلّ واحد ثلثاه؛ لأنّ ما زاد على الثلث من التبرع ينسب إلى جميع التبرع، وينقص بتلك النسبة من كلّ واحد منهم، وإذا نسبنا الزائد على الثلث - وهو السدس هنا إلى جميع التبرع - وهو النصف كان ثلثه فيرد العتق في ثلث كلّ واحد منهما، وينفذ في ثلثيه. والثاني: أنه يعتق من النفيس ثلاثة أرباعه، ومن الخسيس نصفه؛ لأنه إن سبق إعتاق النفيس فجميعه حرّ، وإن سبق إعتاق الآخر فنصفه حرّ، فنصفه على التقديرين حرّ، وإنما النزاع والازدحام في النصف الثاني - وهو قدر سدس المال - فيقسم بينهما، فيعتق من النفيس ربعه، ومن الخسيس نصفه.

ونيه المصنف (رحمه الله) بقوله «وشهد آخران أو الورثة أن العتق لغيره» على أنه لا فرق هنا بين شهادة الوارث وغيره؛ إذ لا تهمة للوارث تمنع شهادته هنا، وإن كانت واردة في غير هذه الصورة، كما سيأتي فيما لو شهدوا بالرجوع عن الأول(1).

ويزيد الورثة عن الأجانب أنه لا يشترط هنا كونهم عدولاً؛ لأن شهادتهم بعتق الثاني مع عدم تعرّضهم للأوّل بمنزلة الإقرار بعتقه، مضافاً إلى ما ثبت بالبينة.

نعم، يشترط كون الشاهد جميع الورثة، كما يرشد إليه قول المصنف رحمه الله) «أو الورثة». وقال في المسألة الثانية وشهد من ورثته عدلان ولو كانوا عدولاً كفى منهم اثنان كالأجانب.

ص: 455


1- سيأتي في ص 457.
إذا شهد شاهدان بالوصية لزيد، وشهد من ورثته عدلان أنه رجع عن ذلك

الثانية: • إذا شهد شاهدان بالوصية لزيد، وشهد من ورثته عدلان أنه رجع عن ذلك وأوصى لخالد، قال الشيخ: تقبل شهادة الرجوع؛ لأنّهما لا يجران نفعاً.

وفيه إشكال من حيث إن المال يؤخذ من يدهما، فهما غريما المدعى.

------------------

قوله: «إذا شهد شاهدان بالوصيّة لزيد» إلى آخره.

لا فرق في شهود العتق والوصية بين أن يكونوا أجانب أو وارثين في اعتبار عدم التهمة. فكما أنّ الأجنبي قد يجرّ نفعاً إلى نفسه بشهادته كما في الصور المتقدمة في محلّها، فكذلك الوارث فلا تقبل شهادته ويزيد الوارث أنّ شهادته على تقدير ردّها قد تتضمن إقراراً للمشهود له فيؤاخذ بها.

فلو شهد أجنبيان أنه أوصى بوصية لزيد، ولنفرضها كالأُولى عتق سالم، وهو ثلث ماله، وشهد وارثان عدلان أنه رجع عن تلك الوصية وأوصى بعتق غانم، وهو ثلث ماله أيضاً، قبلت شهادتهما على الرجوع عن الوصيّة الأولى، وتثبت بهما الوصية الثانية؛ لأنهما أثبتا للمرجوع عنه بدلاً يساويه، فارتفعت التهمة. ولا نظر إلى تبديل المال وخواصه، فقد يكون الثاني أصلح من الأوّل. ومجرّد هذا الاحتمال لو أثر لما قبلت شهادة قريب لقريب يرثه.

هذا هو الذي اختاره الشيخ (رحمه الله) في المبسوط في فصل الرجوع (1).

والمصنف (رحمه الله) استشكل ذلك، والعلّامة (رحمه الله) رجّح عدم القبول(2) : لما أشار إليه المصنف (رحمه الله) من التعليل، وهو أنّه ينتزع المال من يده، فهو غريم للموصى له الأوّل، فهو كما لو شهد ذو اليد بما في يده لغيره بعد إقامة آخر البينة أنه له، فإنّها لا تسمع. وإن كان بين المثالين فرق قليل، وهو أن الدعوى في المتنازع ليست متمحضة على الوارث ،بخلاف المال.

وإنّما اعتبر كون الورثة عدلين ليثبت بهما الرجوع على تقديره؛ فإنهما لو كانا فاسقين لم يثبت بقولهما الرجوع، ويحكم بالأولى بشهادة الأجنبيين؛ لأن الثلث يحتملها كما هو

ص: 456


1- المبسوط، ج 5، ص 618 وفي حاشية الأصل بخطه: «حاشية: ما ذكره الشيخ مذهب عنه، والقول الآخر مذهب له».
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 481.
إذا شهد شاهدان لزيد بالوصيّة، وشهد شاهد بالرجوع

الثالثة: • إذا شهد شاهدان لزيد بالوصيّة، وشهد شاهد بالرجوع وأنه أوصى لعمرو، كان لعمرو أن يحلف مع شاهده؛ لأن شهادته منفردة لا تعارض الأولى.

لو أوصى بوصيتين منفردتین فشهد آخران أنه رجع عن إحداهما

الرابعة : • لو أوصى بوصيتين منفردتین فشهد آخران أنه رجع عن إحداهما، قال الشيخ: لا يقبل؛ لعدم التعيين فهي كما لو شهدت بدار لزيد او عمرو.

------------------

المفروض، ويصح من الثانية قدر ما يحتمله ثلث الباقي من المال بعد الأول. وبهذا افترق حكم العدالة وعدمها في هذه المسألة والسابقة؛ لأنّ الوارث لو لم يتعرض للسابقة كان الحكم كالمسألة الأُولى.

قوله: «إذا شهد شاهدان لزيد بالوصية وشهد شاهد بالرجوع» إلى آخره.

لما تقدّم في باب القضاء أن الشاهد مع اليمين لا يعارض الشاهدين(1) ، بل يقدم الشاهدان مع التعارض، نبه هنا على دفع توهّم أنّه مع شهادة شاهدين بالوصية لزيد بعين، وشهادة واحد بالرجوع عنها وأنه أوصى بها لعمرو، من ذلك القبيل وأنه يقدم الشاهدان، فنبه على ما به يندفع الوهم وأنّه يحكم هنا بالشاهد واليمين؛ لأنه لا تعارض بين الشاهدين وبينه؛ لأنّ الشاهد يشهد بأمر آخر غير ما شهد به الشاهدان، ويصدّق الشاهدين على ما شهدا به ولكن يدعي الرجوع عمّا شهدا به وأنّه أوصى لغيره فيقدم لعدم التعارض، ويعمل بكلّ منهما في مورده، ويحكم ببطلان الوصيّة الأولى بالرجوع عنها.

قوله: «لو أوصى بوصيتين منفردتين فشهد آخران أنه رجع» إلى آخره.

وجه ما اختاره الشيخ من البطلان (2) أنّ الإبهام يمنع من قبول الشهادة، كما لو شهدا بأنه أوصى لأحد هذين، أو شهدا بدار لزيد أو عمرو، ونسب الحكم إلى الشيخ مؤذناً بعدم ترجيحه.

ووراء قول الشيخ وجهان آخران :

أحدهما القرعة؛ لأنه أمر مشكل والمستحق في نفس الأمر أحدهما، ونسبتهما إليه

ص: 457


1- تقدّم في ص 261 .
2- المبسوط ، ج 5، ص 619 .
إذا ادعى العبد العتق وأقام بيّنةً

الخامسة: • إذا ادعى العبد العتق وأقام بيّنةً تفتقر إلى البحث، وسأل التفريق حتى تثبت التزكية، قال في المبسوط يفرّق.

وكذا قال: لو أقام مدعى المال شاهداً واحداً وادعى أن له آخر، وسأل حبس الغريم؛ لأنّه متمكن من إثبات حقه باليمين.

وفي الكلّ إشكال؛ لأنّه تعجيل العقوبة قبل ثبوت الدعوى.

------------------

على السواء، وقد تعذر علمه بموت الموصي، وكلّ أمر مشكل فيه القرعة(1) .

والثاني: القسمة بينهما؛ لأنه مال قد انحصر فيهما، ونسبتهما إليه على السواء، فيقسّم بينهما، ويجعل كأنه ردّ وصيّة كلّ واحد إلى نصفها. والقرعة لا تخلو من قوة.

قوله: «إذا ادعى العبد العتق وأقام بينة - إلى قوله - وفي الكلّ إشكال».

وجه ما ذهب إليه الشيخ (2) أنّ العبد قد فعل الواجب عليه حيث قد أتى ببينة كاملة وليس عليه البحث عن حالها؛ لأن الظاهر العدالة حتى يثبت الجرح، وإنما البحث وظيفة الحاكم؛ ولأن المدعي ربما كان أمةً، فلولا التفرقة لم يؤمن أن يواقعها، وهو ضرر عظيم.

وأما مقيم شاهد واحد بالمال؛ فلأنه يتمكن من إثبات حقه باليمين؛ إذ هما حجّة في الأموال، فكان الشاهد الواحد في معنى الحجّة الكاملة.

والمصنّف (رحمه الله) استشكل الحكم في الموضعين من حيث إن التفرقة بين المالك ظاهراً وماله قبل أن يثبت خروجه عن ملكه، وتعجيل الحبس عقوبةٌ لم يثبت موجبها.

ودعوى أنه أتى ببينة كاملة في الأوّل مبني على مذهب الشيخ من أن الأصل في المسلم العدالة، وبحث الحاكم عن التزكية للاستظهار. وعلى المشهور من اشتراط ظهور العدالة لا يسلّم كمال البينة قبل التزكية، بل يمنع من كماليتها على مذهبه أيضاً، فإن ظاهر هذا

ص: 458


1- راجع تخريجه في ص 454 ، الهامش 3.
2- المبسوط ، ج 5، ص 620 - 621.

------------------

المذهب أنّ للحاكم أن يبحث عن التزكية ويرجى الحكم إلى أن يظهر، وحينئذ فلا تكون كاملة على هذا التقدير. وقد تقدم البحث فيه (1).

وحينئذٍ فلا مانع من تمكين المولى من وطء الأمة قبل الثبوت؛ لأنّها ملكه ظاهراً، والناس مسلّطون على أموالهم (2) إلى أن يثبت خلافه.

وأما مع إقامة الشاهد الواحد قبل اليمين فعدم الكمال أوضح؛ لأنه متمكن من إثبات حقّه بالحلف ولم يفعل، فلا وجه للحبس قبل ثبوت الحق.

وإنّما قيّد المصنّف الشاهد بالمال ليمكن إثباته معجّلاً باليمين، فيكون في قوة البينة الكاملة. فلو كان الحق ممّا لا يثبت إلا بشاهدين كالطلاق - لم يحبس؛ لعدم كمال البينة حينئذ كذا نص عليه الشيخ، وذكر فيه احتمالاً بالحبس أيضاً (3).

وربما قيل بجواز الحبس إن رآه الحاكم صلاحاً. ولا بأس به؛ لأنها مسألة اجتهادية فتناط برأي الحاكم.

***

تمَّ الجزء الحادي عشر - بحسب تجزئتنا -ويليه في الجزء الثاني عشر كتاب الحدود والتعزيرات

ص: 459


1- تقدم في ص 69.
2- إشارة إلى الرواية التي وردت في الخلاف، ج 3، ص 176 - 177، المسألة 290؛ ومختلف الشيعة، ج 5، ص 248، المسألة 217؛ وج 6، ص 240 ، المسألة 10؛ وتذكرة الفقهاء، ج 10، ص 247، المسألة 117.
3- المبسوط ، ج 5، ص 621.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.