موسوعة الشهيد الثاني المجلد 21

هوية الکتاب

موسوعة

الشهيدا الثاني

الجزء الحادي والعشرون

مَسَالِكُ الأفهام

إلى تنقيح شرائع الإسلام / 5

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء الحادي والعشرون مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام / 5)

الناشر: المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة: مطبعة نگارش

الطبعة الأولى 1434 ق / 2013م

الكمّيّة: 1000 نسخة

العنوان: 143: التسلسل: 264

حقوق الطبع محفوظة للناشر

العنوان: قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42

التلفون والفاكس: 7832833، التوزيع: قم 7832834: طهران 66951534

ص. ب: 37185/3858، الرمز البريدي: 16439 - 37156

وب سایت www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir

شهید ثانی، زین الدین بن على 911 - 965ق.

موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي، المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية.

1434ق. = 2013م.

30 ج.

978-600-5570-74-8 ISBN . (دوره)

ج21)). ISBN 978-600-5570-96-0

فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیبا

کتابنامه.

مندرجات: ج. 17 - 28. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام .-

1 اسلام - مجموعه ها. 2. محقق حلی، جعفر بن حسن 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و نفير. 3. فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. شرح الف. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی ب عنو إن

8 م BP4/6/92

297/08

محرر الرقمي: محسن سعيدي جدا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء الحادي والعشرون

مسالك الأفهام

إلى تنقيح

شرائع الإسلام / 5

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

ص: 3

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء الحادي والعشرون مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام / 5)

الناشر: المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة: مطبعة نگارش

الطبعة الأولى 1434 ق / 2013م

الكمّيّة: 1000 نسخة

العنوان: 143: التسلسل: 264

حقوق الطبع محفوظة للناشر

العنوان: قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42

التلفون والفاكس: 7832833، التوزيع: قم 7832834: طهران 66951534

ص. ب: 37185/3858، الرمز البريدي: 16439 - 37156

وب سایت www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir

شهید ثانی، زین الدین بن على 911 - 965ق.

موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي، المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية.

1434ق. = 2013م.

30 ج.

978-600-5570-74-8 ISBN . (دوره)

ج21)). ISBN 978-600-5570-96-0

فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیبا

کتابنامه.

مندرجات: ج. 17 - 28. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام .-

1 اسلام - مجموعه ها. 2. محقق حلی، جعفر بن حسن 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و نفير. 3. فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. شرح الف. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی ب عنو إن

8 م BP4/6/92

297/08

ص: 4

دلیل

موسوعة الشهيد الثاني

المدخل = الشهيد الثاني حياته وآثاره

الجزء الأوّل = (1) منية المريد

الجزء الثاني = (2-6) الرسائل /1: 2. كشف الريبة: 3. التنبيهات العلية 4. مسكن الفؤاد؛ 5. البداية 6. الرعاية لحال البداية في علم الدراية.

الجزء الثالث = (7 - 30) الرسائل 2: 7 تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد؛ 8. تقليد الميت؛ 9. العدالة؛ 10. ماء البئر؛ 11. تيقن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما؛ 12. الحدث الأصغر . أثناء غسل الجنابة: 13. النية؛ 14. صلاة الجمعة 15 الحثّ على صلاة الجمعة 16. خصائص يوم الجمعة؛ 17. نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار 18. أقل ما يجب معرفته من أحكام . الحج والعمرة 19. نيّات الحج والعمرة؛ 20. مناسك الحج والعمرة؛ 21. طلاق الغائب؛ 22. ميراث الزوجة: 23. الحبوة 24. أجوبة مسائل شكر بن حمدان 25. أجوبة مسائل السيد ابن طراد الحسيني؛ 26. أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس؛ 27. أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني؛ 28. أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي؛ 29. أجوبة مسائل السيد شرف الدين السمّاكي؛ 30. أجوبة المسائل النجفية.

الجزء الرابع = - (31 - 43) الرسائل /3: 31. تفسير آية البسْمَلَة؛ 32. الإسطنبولية في الواجبات العينية؛ 33. الاقتصاد والإرشاد إلى طريق الاجتهاد؛ 34. وصيّةً نافعة 35. شرح حديث «الدنيا مزرعة الآخرة»؛ 36. تحقيق الإجماع في زمن الغَيْبَة؛ 37. مخالفة الشيخ الطوسي (رحمه الله) لإجماعات نفسه؛ 38. ترجمة الشهيد بقلمه الشريف؛ 39. حاشية «خلاصة الأقوال»؛ 40. حاشية «رجال ابن داود»؛ 41. الإجازات 42. الإنهاءات والبلاغات؛ 43. الفوائد.

ص: 5

الجزء الخامس = (44) تمهيد القواعد

الجزء السادس - الجزء التاسع = (45) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية

الجزء العاشر والجزء الحادي عشر = (46) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان

الجزء الثاني عشر = (47 – 49) المقاصد العلية وحاشيتا الألفية

الجزء الثالث عشر = (50) الفوائد الملية لشرح الرسالة النفلية

الجزء الرابع عشر = (51 و 52) حاشية شرائع الإسلام وحاشية المختصر النافع

الجزء الخامس عشر = (53) حاشية القواعد (فوائد القواعد)

الجزء السادس عشر = (54) حاشية إرشاد الأذهان

الجزء السابع عشر - الجزء الثامن والعشرون = (55) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام

الجزء التاسع والعشرون - الفهارس

ص: 6

فهرس الموضوعات: كتاب الوقوف والصدقات

النظر الأول في العقد ... 13

صيغة عقد الوقف ... 14

الوقف في مرض الموت ... 19

النظر الثانى فى الشرائط ... 22

القسم الأوّل في شرائط الموقوف ... 22

القسم الثاني في شرائط الواقف ... 27

القسم الثالث في شرائط الموقوف عليه ... 32

حكم الوقف على المعدوم ... 32

لا يصح الوقف على المملوك ... 35

الوقف على المصالح ... 36

حكم الوقف على الكفار ... 36

حكم الوقف على الفقراء ... 40

حكم الوقف على المسلمين ... 41

حكم الوقف على المؤمنين ... 42

الوقف على الشيعة ... 45

الوقف على الجيران ... 48

ص: 7

الوقف على غير معيّن ... 57

القسم الرابع في شرائط الوقف ... 59

الدوام و التنجيز ... 59

القبض شرط في صحة الوقف ... 64

الإخراج عن نفسه ... 68

لو شرط في الوقف عوده إليه عند حاجته ... 71

لو شرط نقله عن الموقوف عليهم ... 76

لو وقف على الفقراء أو على الفقهاء ... 78

النظر الثالث في اللواحق / أحكام الوقف ... 82

الوقف ينتقل إلى ملك الموقوف عليه ... 82

لو جنى العبد الموقوف أو جني عليه ... 90

إذا وقف في سبيل الله ... 94

الوقف على الموالى ... 96

الوقف على أولاد الأولاد ... 99

إذا وقف مسجداً فخرب أو خربت القرية ... 105

لو وقع بين الموقوف عليهم خُلفٌ ... 106

إذا أجر البطنُ الأوّل الوقفَ مدةً ثم انقرضوا ... 109

أحكام الأمة الموقوفة ... 111

أمّا الصدقة ... 117

يشترط فيها الإيجاب والقبول والقبض ونيّة القرية ... 117

حكم الصدقة لبني هاشم ... 119

کتاب السكنى والحبس

عقد السكني ... 125

صيغة العقد ... 128

ص: 8

إذا عيّن للسكنى مدة ... 131

لو أطلق المدّة و لم يعينها ... 134

كلّ ما يصح وقفه يصح إعماره ... 136

حكم الحبس ... 141

کتاب الهبات

النظر الأول في حقيقة الهبة ... 143

يفتقر إلى الإيجاب والقبول والقبض ... 145

هبة الدين ... 149

اشتراط القبض في الهبة ... 153

هبة المشاع جائزة ... 162

لا يجوز الرجوع في الهبة للأرحام ... 166

لزوم الهبة بالتصرّف ... 169

استحباب العطية للأرحام ... 182

هبة الزوجين والرجوع فيها ... 183

النظر الثاني في حكم الهبات ... 186

لو وهب واقبض ثمّ باع من آخر ... 186

إذا تراخى القبض عن العقد ثم أقبض ... 190

إذا ادعى الواهب عدم الإقباض ... 192

إذا رجع في الهبة وقد عابت ... 195

الهبة في المرض المخوف ... 204

كتاب السبق والرماية

فائدة السبق والرماية ومستند صحتهما ... 205

الفصل الأوّل في الألفاظ المستعملة فيه ... 206

ص: 9

أوصاف المتسابقين ... 207

أوصاف السهم ... 212

الفصل الثاني فيما يسابق به ... 220

الفصل الثالث: عقد المسابقة والرماية ... 224

شروط المسابقة ... 229

شروط المراماة ... 233

الفصل الرابع في أحكام النضال ... 238

کتاب الوصایا

الفصل الأول في الوصية ... 251

عقد الوصية ... 252

توقف ملك الموصى له على القبول وموت الموصي ... 253

لا تصح الوصية في المعصية ... 271

ما يوجب الرجوع في الوصيّة ... 272

الفصل الثاني في الموصي ... 277

لا تصح الوصية بالولاية إلّا من الأب والجد ... 280

الفصل الثالث في الموصى به ... 283

الطرف الأول في متعلّق الوصية ... 283

يجب العمل بالوصيّة المشروعة ... 289

يعتبر الثلث وقت الوفاة ... 290

لو أوصى بالمضاربة على تركته ... 291

لو أوصى لواجب وغيره و لم يسع الثلث للجميع ... 296

لو أوصى بثلثه لواحد وبثلثه لآخر ... 299

لو أوصى بشيءٍ واحد لاثنين ... 307

لو أوصى بما يقع اسمه على المحلّل والمحرّم ... 312

ص: 10

الطرف الثاني في الوصيّة المبهمة ... 315

من أوصى بجزء من ماله ... 315

لو أوصى بوجوه ... 319

لو أوصى بسيف معيّن، أو أوصى بصندوق، أو ... 321

لو أوصى بإخراج بعض ولده من تركته ... 323

إذا أوصى بلفظ مجمل لم يفسّره الشرع ... 326

الطرف الثالث في أحكام الوصيّة ... 330

لو أوصى بالحمل ... 334

لو أوصى بشيء من المنافع ... 335

الوصية بلفظ يقع على أشياء بالتساوي ... 340

إثبات الوصيّة بالشهادة ... 344

الفصل الرابع في الموصى له ... 356

صحة الوصية للأجنبي والوارث ... 357

لو أوصى بعتق مملوكه وعليه دين ... 367

لو أوصى لأم ولده ... 370

إطلاق الوصيّة يقتضي التسوية بين الذكور والإناث و نحوهما ... 372

لو أوصى لذوي قرابته ... 373

إذا أوصى للفقراء ... 378

إذا مات الموصى له قبل الموصي ... 378

الفصل الخامس في الأوصياء ... 383

شرائط الوصي ... 383

إذا فسق الوصي بعد موت الموصي ... 385

الوصيّة إلى الصبي ... 387

لو أوصى إلى اثنين ... 391

متى يجوز للموصى إليه ردّ الوصيّة؟ ... 398

ص: 11

إذا ظهر من الوصي عجز ... 401

لو كان للوصي دين على الميت ... 403

هل يجوز للوصي أن يوصى؟ ... 405

لومات إنسان و لا وصيّ له ... 407

لو أوصى بالنظر في مال ولده إلى أجنبي وله أب ... 410

اعتبار الصفات في الوصيّ حالة الوصيّة ... 414

صحة الوصيّة على كلّ من للموصي عليه ولاية ... 417

يجوز لمن يتولّى أموال اليتيم أخذ الأُجرة ... 419

القيم على اليتيم هل يأخذ أُجرة المثل أو قدر الكفاية؟ ... 419

الفصل السادس في اللواحق ... 423

القسم الأوّل: مسائل في الوصيّة ... 423

إذا أوصى لأجنبي بمثل نصيب أحد ورثته وعينه ... 423

لو أوصى لأجنبي بمثل نصيب ولده ... 429

إذا أوصى بضعف نصيب ولده ... 434

إذا أوصى بثلثه للفقراء وله أموال متفرّقة ... 437

إذا أوصى لإنسان بعبد ولآخر بتمام الثلث ... 440

إذا أُوصي له بأبيه فقبل الوصية و هو مريض ... 442

القسم الثاني في تصرفات المريض ... 447

حكم التصرفات المؤجّلة ... 447

منجزات المريض إذا كانت تبرّعاً ... 449

المرض الذي معه يتحقق وقوف التصرّف على الثلث ... 455

إذا جمع بين عطية منجزة ومؤخّرة ... 462

إذا باع كرّاً من طعام قيمته ستة دنانير بكر ردي ... 464

إذا باع عبداً قيمته مائتان بمائة ... 469

لو أعتق أمته وقيمتها ثلث تركته ... 474

ص: 12

كتاب الوقوف والصدقات

اشارة

والنظر في العقد والشرائط واللواحق.

[النظر] الأوّل [في العقد]

اشارة

● الوقف عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة.

------

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حق حمده، والصلاة على أشرف خلقه محمّد وآله وصحبه.

كتاب الوقوف والصدقات

قوله: «الوقف عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة».

عرّف الوقف ببعض خواصه؛ تبعاً للحديث الوارد عنه أنه قال صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «حبس الأصل و سبل الثمرة» (1).

و المراد ب-«تحبيس الأصل» المنع من التصرف فيه تصرّفاً ناقلاً لملكه، و ب_«تسبيل الثمرة» إباحتها للجهة الموقوف عليها بحيث يتصرف فيها كيف شاء كغيرها من الأملاك.

و عدل المصنّف عنه إلى إطلاق المنفعة؛ لأنّه أظهر في المراد من التسبيل، و مع ذلك

ص: 13


1- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 801، ح 2397؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 268، ح 11904 بتفاوت.

صيغة عقد الوقف

● واللفظ الصريح فيه «وقفت» لا غير،. أما «حرمت» و «تصدقت» فلا يحمل على الوقف إلا مع القرينة؛ لاحتمالها مع الانفراد غير الوقف، ولو نوى بذلك الوقف

------

فليس تعريفاً حقيقياً، وإلا لانتقض بالسكنى وقسيميها؛ لأنها تقتضي الخاصتين، وإرادة تحبيس الأصل على الدوام؛ لتخرج تلك الثلاثة خروج عن إطلاق معنى التحبيس فإنه أعمّ من المؤبد. مع أن إرادة ما لا يدلّ عليه ظاهر التعريف معيب فيه، و لا نتقاضه أيضاً بالوقف المنقطع الآخر، فإنّه صحيح وليس بمؤيَّد، إلا أن يقال: إنه حينئذ يصير حبساً، كما عبّر به بعضهم (1)، و هو ممنوع و إن كان في معناه.

و قريب من تعريف المصنّف ما عرفه به الشهيد في الدروس من أنّه الصدقة الجارية (2)؛ تبعاً لما ورد في الحديث عنه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاثة: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به بعد موته، وصدقة جارية» (3).

قال العلماء: المراد بالصدقة الجارية الوقف، و هو تعريف ببعض الخواص أيضاً، وإلا فإنّه صادق على نذر الصدقة كذلك والوصية بها.

قوله: «واللفظ الصريح فيه: «وقفت» لا غير».

لمّا كان الوقف من العقود الناقلة للملك على وجه اللزوم إما للعين أو المنفعة افتقر إلى لفظ يدلّ عليه صريحاً، كغيره من التمليكات؛ ليكون دالاً على القصد القلبي الذي هو العمدة في النقل، و لا خلاف في أن لفظ «وقفت» صريح فيه؛ لأنه اللفظ الموضوع له لغةً وشرعاً، و في لغة شاذة: «أوقفت» (4)، بزيادة الهمزة، و الظاهر أن الصيغة بها صحيحة و إن كانت غير فصيحةٍ. قوله: «أما «حرمت» و «تصدّقت» فلا يحمل على الوقف إلا مع القرينة» إلى آخره.

ص: 14


1- كالعلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 292 الرقم 4649 والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 210 ( ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 16.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 209 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10) . و في حاشية «و»: «وجه القرب من جهة كونه راعى الحديث في التعريف لا من جهة مفاده؛ للفرق الظاهر بينهما منه رحمه الله)».
3- السنن الكبرى البيهقي، ج 6، ص 455 - 456، ح 12635.
4- الصحاح، ج 3، ص 1440، «وقف».

من دون القرينة، دين بنيته. نعم، لو أقرّ أنّه قصد ذلك، حكم عليه بظاهر الإقرار.

------

كما لا خلاف في أن الصيغة الأولى صريحة، لا خلاف في عدم صراحة هاتين الصيغتين فيه ومثلهما «أبدت»، وإنّما هي كناية عنه تفتقر في الدلالة عليه إلى قصده أو انضمام لفظ آخر إليها يدلّ عليه منضمّاً إليها صريحاً، كقوله صدقة موقوفة، أو محبّسة، أو دائمة، أو مؤبدة، أو لا تباع و لا توهب، و نحو ذلك، وإنما لم تكن صريحة فيه بدون الضميمة؛ لاشتراكها في الاستعمال بينه وبين غيره، كالتمليك،المحض وإخراج الزكوات والصدقات المطلقة والهبات و نحوها.

هذا كله بالنظر إلى دلالة ظاهر اللفظ بحيث يُحكم عليه به لو سمع منه ظاهراً، و أما فيما بينه وبين الله تعالى فإن نوى به الوقف تعيّن، وإلا فلا.

والفرق بينه وبين الصريح - مع اشتراكهما في اعتبار القصد إلى اللفظ - أن الصريح يُحمل عليه ظاهراً كما قرّرناه - و إن لم يكن قصده في نيته، بخلاف الكناية فإنّه لا يُحكم عليه به إلا باعترافه بكونه قد قصده به، و هو معنى كونه يدين بنيته، و هو في لفظ المصنّف بضمّ «الدال» وتشديد «الياء» مكسورةً بالبناء للمفعول، ومعناه: أنه يوكل إلى دينه إذا ادعى بغير الصريح الوقف أو ضده.

و في قوله «ولو نوى بذلك الوقف دينَ بنيته» ثمّ قوله «نعم، لو أقرّ أنّه قصد ذلك حُكم عليه» إلى آخره، حزازة؛ لأنّ ظاهره أن إدانته بالنية على تقدير النية، و إن إقراره بقصده ليس من الإدانة، ومن ثُمَّ استدركه ب- «نعم»، والأولى أن يقول كما أشرنا إليه - إنّه يدين بنيته لو ادعى إرادة الوقف أو ضده.

بقي هنا أُمور:

الأوّل: أنّه فرّق فى التذكرة بين إضافة لفظ «الصدقة» إلى جهةٍ عامة، كقوله: «تصدّقت بهذا على المساكين» وإضافته إلى جهةٍ خاصةٍ، كقوله لمعيّن: «تصدّقت عليك أو عليكم»، وجعل الأول ملحقاً بالصريح ويكون وقفاً، بخلاف الثاني؛ فإنه يرجع فيه إلى نيته كما أطلقه غيره (1).

ص: 15


1- تذكرة الفقهاء . ج 2، ص 160. المسألة 91.

● ولو قال: «حبست وسبّلت»، قيل: يصير وقفاً و إن تجرّد، لقوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «حبس الأصل وسبل الثمرة». و قيل: لا يكون وقفاً إلا مع القرينة؛ إذ ليس ذلك عرفاً مستقراً، بحيث يفهم مع الإطلاق. وهذا أشبه.

------

والفرق غير واضح.

الثاني: أنّ ظاهر العبارة وغيرها وصريح القواعد والتذكرة (1)أنّ كلَّ واحدٍ من الألفاظ الثلاثة كناية عن الوقف يقع به مع نيته أو انضمام غيره إليه على ما قرّر، والأمر فيه كذلك. ولكن ذكر الشهيد في الدروس أنّ ظاهر الأصحاب يدلّ على أن «تصدقت وحرمت» صيغة واحدة، فلا تغني الثانية عن الأولى، وتغني الأولى مع القرينة (2).

وما ادعاه من الظاهرغير ظاهر.

الثالث: ألحق فيها بالصريح ما لو قال: «جعلته وقفاً أو صدقةً مؤبدةً محرّمةً» فاكتفى بها بدون دعوى النية.(3)

و هو حسن؛ لصراحته فيه، إلا أن فيه خروجاً عن صيغة الوقف المنقولة، وظاهرهم عدم المسامحة في مثل ذلك، و إن كان الأقوى الاكتفاء بكل لفظ يدلّ على المطلوب صريحاً.

قوله: «ولو قال: «حبّست وسبلت» قيل يصير وقفاً - إلى قوله - وهذا أشبه».

قد استفيد من ذلك وما قبله أن صيغ الوقف خمسة، وبما ذكرناه ستة، واحدة لا تتوقف على الضميمة إجماعاً، واثنتان تتوقفان إجماعاً، واثنتان تتوقفان على خلاف، وهُما «حبست وسبلت»، فذهب جماعة منهم العلّامة في التذكرة والقواعد (4) إلى أنهما صريحان ك- «وقفت» - ومثلهما «أحبست» بزيادة الهمزة - بغير إشكال؛ نظراً إلى الاستعمال العرفي لهما فيه مجرَّدين، كما ورد في الخبر الذي نقله المصنف فإنّه أطلق عليه تحبيس الأصل.

وفيه: أنّ مجرّد الاستعمال أعم من المطلوب، و الظاهر وجود القرينة في هذا الاستعمال

ص: 16


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 387؛ تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 120، المسألة 59.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 209 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- الدروس الشرعية، ج 2، ص 209 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
4- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 118 - 119، المسألة 59 قواعد الأحكام، ج 2، ص 387.

......

------

ومعها لا إشكال، وقد وقع إطلاق الصدقة عليه في وقف أمير المؤمنين علیه السلام لداره في بني زريق (1)، وحمل على الوقف؛ لانضمام القرائن اللفظية بعده، فكذا هنا.

والأقوى ما اختاره المصنّف من افتقارهما إلى القرينة اللفظية أو النية، و هو اختيار العلّامة أيضاً في غيرهما (2)؛ لاشتراكهما في الاستعمال بينه وبين غيره، والموضوع للمشترك لا يدلّ على شيءٍ من الخصوصيات، ولأصالة بقاء الملك إلى أن يحصل الناقل الشرعي، و هو غير معلوم. واعلم أنّ ظاهر كلامه حيث اعتبر الإيجاب و لم يتعرّض للقبول أنه غير معتبر في الوقف مطلقاً، و هو ظاهر الأكثر وأحد الأقوال في المسألة.

و وجهه أصالة عدم اشتراطه؛ إذ ليس فى النصوص ما يدلّ عليه ولأنّه كالإباحة خصوصاً إذا قلنا: إنّ الملك فيه ينتقل إلى الله تعالى ولأنّه فك ملك فيكفي فيه الإيجاب كالعتق، واستحقاق الموقوف عليه المنفعة كاستحقاق المعتق منافع نفسه.

والقول الثاني: اعتباره مطلقاً؛ لإطباقهم على أنه عقد فيعتبر فيه الإيجاب والقبول كسائر العقود - ولأنّ إدخال شيء في ملك الغير بدون رضاه بعيد، ولأصالة بقاء الملك على مالكه بدونه.

وفصل ثالث: فاعتبره إن كان الوقف على جهة خاصة، كشخص معين أو جماعةٍ معينين؛ : لما ذكر، ولإمكان القبول حينئذ، و إن كان على جهةٍ عامة كالفقراء والمسجد لم يعتبر؛ لأنه حينئذ فك ملك، ولأنّ الملك ينتقل فيه إلى الله تعالى، بخلاف الأوّل فإنّه ينتقل إلى الموقوف عليه، وقد يظهر من المصنّف فيما يأتي اختياره (3)، و لعله أقوى.

وحيث يعتبر القبول مطلقاً أو على بعض الوجوه يعتبر فيه ما يعتبر في غيره من العقود اللازمة من اللفظ الصحيح العربي المطابق للإيجاب المتعقب له بغير فصل يُعتد به، إلى غير ذلك من الشروط.

ص: 17


1- الفقيه، ج 4، ص 248، ح 5591؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 131 - 132، ح 560؛ الاستبصار، ج 4، ص 98، ح 380.
2- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 451؛ تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 289، الرقم 4639.
3- يأتي في ص 78 – 79.

● و لا يلزم إلّا بالإقباض،

------

ويتولاه في المصالح العامة على القول باعتباره الناظر عليها، كالحاكم ومنصوبه، كما يتولّى غيره من المصالح، وعلى القولين لا يعتبر قبول البطن الثاني لو كان متعدّداً، و لا رضاه؛ التمامية الوقف قبله فلا ينقطع، ولأن قبوله لا يتصل بالإيجاب، فلو اعتبر لم يقع له، كغيره من العقود اللازمة.

قوله: «و لا يلزم إلا بالإقباض».

لا خلاف بين أصحابنا في أنّ القبض شرط لصحة الوقف، فلا ينعقد بدونه، كما لا ينعقد بالإيجاب مجرّداً عن القبول أو بالعكس، فيكون القبض جزء السبب الناقل للملك.

وعبارة المصنف بنفي اللزوم قد لا يفيد ذلك، ولكنه فيما سيأتي سيصرح بما ذكرناه، حيث يقول في القسم الرابع «والقبض شرط في صحته» (1).

وتظهر الفائدة في النماء المتخلّل بين العقد والقبض على تقدير حصوله، فإنّه للواقف على ما حققناه، وعلى ظاهر كونه شرطاً في اللزوم لا ينافي أن يكون للموقوف عليه؛ لتحقق الوقف و إن لم يلزم، فإنّ اللزوم غير معتبر في ملك النماء حيث يتحقق العقد الناقل، و إن كان جائزاً ء عند المصنّف وغيره من المحققين، كما ينبه عليه البيع بخيار و نحوه.

و لعله حاول بنفي لزومه بدون القبض الرد على بعض العامة (2)؛ حيث جعله لازماً بمجرد الصيغة و إن لم يقبض، فأتى بعبارة تردّ عليه بالصريح، و لم يعتبر دلالة مفهومها، ثمّ صرّح بمراده بعد ذلك.

ص: 18


1- يأتي في ص 64.
2- في حاشية «و»: «هو الشافعي وأبو يوسف وجماعة من الفقهاء أنه يلزم بمجرّد العقد من غير إقباض، و لم يجعلوا القبض شرطاً في صحته و لا في لزومه، محتجين بأنه تبرع بمنع البيع والهبة، والتبرعات يلزم بمجرده كالعتق. وفيه أن الفارق موجود، فإنّ العتق ليس عقداً و لا يفتقر إلى قبول و لا قبض سلّمنا لكن العتق قد ملك العبد المقبوضة له حقيقة فافترقا منه قدّس سرّه». راجع حلية العلماء، ج 1، ص 7؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 209 المسألة 4369؛ واللباب في شرح الكتاب، ج 2، ص 180.

الوقف في مرض الموت

● و إذا تمّ كان لازماً لا يجوز الرجوع فيه، إذا وقع في زمان الصحة.

أما لو وقف في مرض الموت فإن أجاز الورثة، وإلّا اعتبر من الثلث، كالهبة والمحاباة في البيع، ● و قيل: يمضى من أصل التركة والأوّل أشبه.

ولو وقف ووهب وأعتق وباع وحابى و لم يُجز الورثة، فإن خرج ذلك من الثلث صح، و إن عجز بدئ بالأوّل فالأوّل، حتى يستو فى قدر الثلث، ثم يبطل ما زاد، وهكذا لو أوصى بوصايا.

● ولو جهل المتقدم قيل: يقسم على الجميع بالحصص، ولو اعتبر ذلك بالقرعة كان حسناً.

------

قوله: «و إذا تمّ كان لازماً لا يجوز الرجوع فيه».

لا خلاف في لزوم الوقف حيث يتم عند علمائنا أجمع، وإنما نبه بذلك على خلاف أبي حنيفة؛ حيث زعم أنه لا يلزم بمجرده، وللواقف الرجوع فيه ولورثته بعده إلا أن يرضوا به بعد موته فيلزم أو يحكم بلزومه حاكم (1).

قوله: «و قيل: يمضى من أصل التركة والأوّل أشبه».

هذا هو الأشهر، وقد تقدم الكلام فيه (2)، وسيأتي تحقيقه في الوصايا (3).

قوله: «ولو جهل المتقدم قيل: يقسم على الجميع بالحصص، ولو اعتبر ذلك بالقرعة كان حسنا».

وجه الأوّل: أصالة عدم تقدّم كلّ منها على الآخر فيحكم بالاقتران؛ لأنّ ذلك قضية كلّ حادثين اشتبه سبق كلّ منهما بالآخر و تأخره عنه.

و وجه القرعة أنّها لكلّ أمر مشتبه أو معلوم عند الله مشتبه عندنا، و هو هنا كذلك،

ص: 19


1- المبسوط السرخسي، ج 12، ص 34: اللباب في شرح الكتاب، ج 2، ص 180؛ حلية العلماء، ج 6، ص 8 - 10.
2- تقدّم في ج 3، ص 548 - 549 .
3- يأتي في ص 449 وما بعدها.

● و إذا وقف شاةً كان صوفها ولبنها الموجود داخلاً في الوقف ما لم يستثنه؛ نظراً إلى العرف كما لو باعها.

------

وهذا هو الأقوى، لكن إن احتمل السبق والاقتران في كلّ منهما افتقر إلى رقاع توضح الحال على جميع التقادير الممكنة، وهي سبق كلّ واحدٍ ولحوق الباقي مترتباً ومقترناً واقتران الجميع. و إن علم عدم الاقتران اقتصر على كتابة رقاع بسبق كلّ واحدٍ، فإذا خرج واحد قدّم ثم أخرج على الباقي إلى أن يبقى واحد فيكون هو المتأخر.

وكيفية القرعة على الأوّل لا تخلو من إشكال؛ لأنّ الغرض استخراج ما يمكن من الفروض، وهي هنا على تقدير كون الواقع وقفاً وعتقاً وبيعاً بمحاباة كما فرضه المصنّف أو لا ثلاثة عشر، ترتبها مع سبق الوقف ثمّ العتق ثمّ البيع، أو مع تقدم البيع على العتق، وسبق العتق ثم الوقف ثمّ البيع أو مع تقدم البيع، وسبق البيع مع الصورتين، فهذه ست، ومقارنة اثنين منها وهي ستّ أيضاً: اقتران الوقف والعتق سابقين وتأخر البيع، ولاحقين له، وتقارن الوقف والبيع سابقين على العتق ولاحقين له، وتقارن العتق والبيع سابقين على الوقف ولاحقين،له واقتران الثلاثة، فتفتقر القرعة إلى كتبة رقاع تصح على جميع الاحتمالات.

وحينئذ فيكتب سبع رقاع في إحداها الوقف و في الثانية العتق، و في الثالثة البيع، و في الرابعة الوقف والعتق و في الخامسة الوقف والبيع و في السادسة العتق والبيع و في السابعة اجتماع الثلاثة، ثم يخرج واحدةً، فإن ظهرت بأحد المنفردين قدّم، وأخرج أخرى فإن ظهر منفرد آخر أو مجتمع مع غيره عمل به ثانياً، واستغني عن الثالث، و إن ظهر السابق مع غيره أو الثلاثة أطرحت وأخرج غيرها كما ذكر، و إن ظهر أو لا رقعة الثلاثة أفاد الاجتماع أو رقعة اثنين جمع بينهما سابقاً وحكم بتأخر الثالث، ولو كتب ابتداء ثلاث عشرة رقعة بعدد الاحتمالات وأخرج على الوجه الذي صوّرناه فالظاهر الإجزاء، هذا هو الذي يقتضيه تحقيق حال القرعة، وإلا فكلام الأصحاب خالٍ عن تحريره.

قوله: «و إذا وقف شاةً كان صوفها ولبنها الموجود - إلى قوله كما لو باعها».

نبه بالنظر إلى العرف على أنّ حقهما أن لا يدخلا في الوقف؛ لأنهما منافع خارجة عن

ص: 20

......

------

حقيقة الشاة التي تعلّقت صيغة الوقف بها، لكن لما دلّ العرف على كونهما كالجزء منها تناولهما العقد كما يتناولهما البيع بخلاف الحمل فإنه و إن كان بمثابتهما في الاتصال الذي هو في قوة الانفصال إلّا أنّ العرف لم يجعله كالجزء، والأصل عدم دخوله كغيره لو لا دليل خارج لغيره.

والمراد أن الصوف واللبن موجودان على الظهر و في الضرع، فلو احتلب اللبن أو جز الصوف لم يدخلا قطعاً.

و لا يرد أنّ تناول العقد لهما يقتضي كونهما من جملة الموقوف؛ عملاً بمقتضى العقد، فلا يجوز التصرف فيهما، كالأصل.

لأنا نمنع من كون تناول العقد يقتضي ذلك، وإنما يقتضي تحبيس الأصل وإطلاق الثمرة. وهما من جملة الثمرة، فيلحقهما حكمها، كما يشملهما اسم الثمرة إذا تجدّدا، وإنما دخلا في العقد تبعاً بدلالة العرف، كما قرّرناه.

ولو كان الموقوف شجرة فنماؤها الموجود للواقف، والمتجدّد للموقوف عليه كالحمل.

وحكم الأغصان المعتادة للقطع حكم الثمرة بالنسبة إلى المنفعة، لكنّها تدخل في الوقف مطلقاً، كالصوف على الظهر.

و لا فرق في الثمرة بين النخل وغيره، فلا يدخل الموجود و إن لم يؤبر، فإنّ ذلك التفصيل حكم مختص بالبيع، كما سلف.

ص: 21

النظر الثاني في الشرائط

اشارة

وهي أربعة أقسام:

القسم الأول: في شرائط الموقوف

وهي أربعة: ● أن تكون عيناً مملوكةً ينتفع بها مع بقائها، ويصح إقباضها، فلا يصح وقف ما ليس بعين كالدين.

------

قوله: «أن تكون عيناً مملوكة ينتفع بها مع بقائها» إلى آخره.

يطلق العين على ما يقابل الدين، فيقال: المال إما عين أو دين، وعلى ما يقابل المبهم، وعلى ما يقابل المنفعة فيقال: إمّا عين أو منفعة، و يجوز الاحتراز بالعين هنا عن كلّ واحدٍ من الثلاثة؛ لعدم جواز وقفها، وقد أشار في التفصيل إلى الأولين منها وترك الثالث.

أما عدم جواز وقف الدين فظاهر؛ لأنّ الوقف يقتضى أصلاً يحبّس (1)، ومنفعةٌ تُطلق، و ذلك يقتضي أمراً خارجياً يُحكم عليه بالتحبيس، والدين في الذمة أمر كلّي لا وجود له في الخارج، فوقفه قبل التعيين كوقف المعدوم، ومن ثُمَّ اختاروا عدم جواز هبة الدين لغير من هو عليه؛ لما ذكرناه، و لا يقدح تجويز هبته لمن هو عليه؛ لأنه حينئذ إبراء وإسقاط لما في الذمة، فلا يتوقف على عين خاصة، بخلاف الوقف؛ فإنّه يقتضي عيناً يديم ثباتها ويقيدها عن التصرّف.

ص: 22


1- في الحجريتين: «يُحتبس»، و في «و، ی، م»: «تحبيس» بدل «يحبس».

......

------

ولكن يشكل ذلك عند القائل بجواز هبة الدين لغير من هو عليه، مع توقفه على قبضه؛ فإنّه يلزم الجواز هنا كذلك.

وما يقال في الفرق - من أنّ الوقف شرطه التنجيز، ومع عدم تعينه يكون تحققه موقوفاً على أمرٍ آخر بعد العقد، و هو ينا في تنجيزه - يندفع بأنّ الهبة شرطها التنجيز كذلك، و لم يمنع صحتها تأخر القبض، فكذا الوقف، ولأنّ المتأخر فيه حقيقةً هو القبض، و هو غير منافٍ لتنجيز الصيغة، كما لو تأخّر مع تعيينها، خصوصاً على ما تقدّم نقله في البيع عن الشهيد (رحمه الله) في بيع السَلَم قبل القبض على غير من هو عليه (1)، من أن العقد إذا كان متعلقه ماهيّة كلّيّةً ثم عيّن في عين شخصيّة انصب العقد عليها، وكانت كأنها المعقود عليها ابتداءً، إلا أنا قد بينا ضعفه ثُمَّ (2).

ونزيد هنا أنّ الماهية الكلية لما لم يكن لها وجود في الخارج لم يكن الموقوف موجوداً حال العقد، فكان في معنى وقف المعدوم و إن وُجد بعد ذلك.

واعلم أنّه لا فرق في الدين بين الحال والمؤجل، على الموسر والمعسر؛ لاشتراك الجميع في المعنى المبطل.

وأما عدم جواز وقف المبهم - سواء استند إلى معيّن كفرس من هذه الأفراس أم إلى غير معين كفرس - فلما ذكر في الدين من أنّ غير المعين باعتبار كليته غير موجود، ويزيد الثانى أنّه غير مملوك أيضاً، وهما مناط الوقف.

وأما المنفعة فوقفها منافٍ للغاية المطلوبة من الوقف من الانتفاع به مع بقاء عينه؛ لأنّ الانتفاع بها يستلزم استهلاكها شيئاً فشيئاً، و لا يكفي مجرّد إمكان الانتفاع مع عدم بقاء العين محتبسة، ولجواز التصرف في العين فتتبعها المنافع فيفوت الغرضان معاً.

ولو قيل: إن استحقاق الانتفاع المؤبد بالعين يمنع من التصرف فيها كالعمرى وأُختيها -

ص: 23


1- تقدم في ج 3، ص 161 - 162.
2- تقدم في ج 3، ص 161 - 162 .

● و کذا لو قال: وقفت فرساً أو ناضحاً أو داراً، و لم يعيّن.

● ويصح وقف العقار والثياب والأثاث والآلات المباحة، وضابطه كلَّ ما يصح الانتفاع به منفعةً محلَّلةً مع بقاء عينه.

------

التزمنا أنّ ذلك عمرى لا وقف إن جوزناها بما دلّ عليها من الألفاظ مطلقاً، وإلا منعنا الأمرين و إن شاركته العمرى في هذا المعنى حيث يصرّح بها.

وبالجملة، فمتعلَّق الوقف هو العين لينتفع بها، لا المنفعة وحدها و إن تبعتها العين في المنع من التصرف فيها.

قوله: «و کذا لو قال: وقفت فرساً أو ناضحاً أو داراً، و لم يعين».

أي لم يعيّنها بالشخص و إن عيّنها بالوصف الرافع للجهالة مع بقائها كلّيّة، والمراد ب-«الناضح» البعير الذي يستقى عليه، قاله الجوهري (1).

قوله: «ويصح وقف العقار والثياب والأثاث والآلات المباحة» إلى آخره.

الوجه في ذلك كله: وجود المقتضي للصحة، و هو تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة، وانتفاء المانع، فتثبت الصحة، و هو محلّ وفاق.

ونبه به على خلاف أبي حنيفة؛ حيث مَنَع من وقف الحيو إن والكتب (2)، ومالك؛ حيث مَنَع من وقف المنقول مطلقاً (3).

ويُبطله ما تقدم، وقوله علیه السلام: «أما خالد فإنّه قد احتبس أدراعه وأعْتُدَه في سبيل الله» (4) وإقراره أبا معقل حيث وقف ناضحه في سبيل الله (5).

ص: 24


1- الصحاح، ج 1، ص 411، «نضح».
2- بدائع الصنائع، ج 6، ص 337؛ حلية العلماء، ج 6، ص 12؛ جواهر العقود، ج 1، ص 253.
3- العزيز شرح الوجيز، ج 6، ص 251.
4- صحيح البخاري، ج 2، ص 534، ح 1399؛ صحیح مسلم، ج 2، ص 676-677، ح 983/11 بتفاوت في بعض الألفاظ.
5- أورده ابنا قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 265، المسألة 4428؛ والشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 6، ص 210.

● و کذا يصح وقف الكلب المملوك والسنور؛ لإمكان الانتفاع به.

و لا يصح وقف الخنزير؛ لأنّه لا يملكه المسلم ● و لا وقف الآبق؛ لتعذر التسليم.

● و هل يصح وقف الدنانير والدراهم؟ قيل: لا، و هو الأظهر؛ لأنّه لا نفع لها إلا بالتصرّف فيها، و قيل: يصح؛ لأنّه قد يفرض لها نفع مع بقائها.

------

قوله: «و کذا يصح وقف الكلب المملوك والسنور».

أراد ب_ «المملوك» أحد الكلاب الأربعة؛ فإنّه لا مانع من وقفه متى جوزنا وقف الحيوان. ونبه بذلك على خلاف بعض العامة المانع من وقفه؛ بناءً على أنه لا يملك مطلقاً (1).

قوله: «و لا وقف الآبق؛ لتعذر التسليم».

لما تحقق أنّ القبض شرط في صحة الوقف وكان الآبق المتعذر تسليمه لا يمكن قبضه لم يصح وقفه، ومثله الجمل الشارد و نحوه.

لكن يشكل بأنّ القبض المعتبر في الصحة غير فوري، وحينئذ فلا مانع من وقوع الصيغة صحيحةً، وصحة الوقف مراعاةً بقبضه بعد ذلك و إن طال الزمان، فإن تعذر بطل، وهذا بخلاف البيع؛ فإنّه معاوضة من الجانبين، وشرطه إمكان تسليم العوضين في الحال بالنص (2)، فلا يتعدى إلى غيره؛ للأصل.

ولو قدر الموقوف عليه على تحصيله فأولى بالصحة؛ لزوال المانع.

و لا عبرة بالضميمة هنا؛ لأنّ شرط الوقف القبض، و لا يكفى قبض بعض الموقوف - و هو هنا الضميمة - عن الباقي، وعلى هذا فبين حكم البيع والوقف بالنسبة إلى الآبق عموم و خصوص من وجه.

قوله: «و هل يصح وقف الدنانير والدراهم؟ قيل: لا، و هو الأظهر» إلى آخره.

ص: 25


1- ابنا قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 263، المسألة 4426؛ والشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 6، ص 212 .
2- راجع تهذيب الأحكام، ج 7، ص 230، ح 1005.

● ولو وقف ما لا يملكه لم يصح وقفه، ولو أجاز المالك قيل: يصح؛ لأنّه كالوقف المستأنف. و هو حسن.

------

و ذلك النفع هو التحلي بها، وتزيين المجلس، والضرب على سكتها، و نحو ذلك.

و وجه الخلاف مع ذلك الشك في كون هذه المنفعة مقصودة للعقلاء عادة أم لا؛ فإنّ أظهر منافعها إنفاقها، و هو لا يتم إلا بإذهاب عينها المنافي لغاية الوقف.

والأقوى الجواز؛ لأنّ هذه المنافع مقصودة، و لا يمنع قوة غيرها عليها.

نعم، لو انتفت هذه المنافع عادةً في بعض الأزمان أو الأمكنة اتجه القول بالمنع.

قوله: «ولو وقف ما لا يملكه لم يصح وقفه إلى قوله - و هو حسن».

الصحة المنفية في الأوّل بمعنى اللزوم؛ لئلا ينافي ما استحسنه بعده، ويمكن أن يريد بها معناها المتعارف ويجعل ذلك جارياً على مذهب الغير، ثم ذكر ما يختاره.

و مرجع الخلاف إلى أن تصرّف الفضولي الملحوق بالإجازة قد وقع شرعاً في مثل البيع بالنص (1)، وغيره من العقود مساو له في المعنى، و إن الوقف عقد صدر من صحيح العبارة، و لا مانع فيه إلا وقوعه بغير إذن المالك، وقد زال المانع بإجازته، فدخل تحت الأمر العام بالوفاء بالعقد (2)، فتصير الإجازة كالوقف المستأنف من المالك، وهذا هو الذي حسّنه المصنّف، و إن عبارة الفضولي لا أثر لها من حيث عدم الملك وقبح التصرف في ملك الغير، فلا يترتب عليه أثر، وتأثير الإجازة غير معلوم في غير موضع النص، وتحقق الفرق بين الوقف والبيع؛ لأنّ بعض أقسامه فك ملك كالعتق فلا يقبل الفضولي، فماهيته من حيث هو مغايرة للبيع و إن وافقه في بعض الأفراد لو قيس عليه.

وتوقف العلّامة في التذكرة (3) والشهيد في الدروس لذلك. وله وجه و إن كان ما اختاره أوجه.

ص: 26


1- سنن أبي داود، ج 3، ص 256، ح 3384؛ سنن الدار قطني، ج 3، ص 578 - 579، ح 29/2787 - 30/2788 المائدة (5): 1.
2- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 150 - 151، المسألة 83.
3- الدروس الشرعية، ج 2، ص 210 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

● ويصح وقف المشاع، وقبضه كقبضه في البيع.

القسم الثاني: في شرائط الواقف

ويعتبر فيه البلوغ، وكمال العقل، وجواز التصرّف، ● و في وقف من بلغ عشراً تردّد، والمرويّ جواز صدقته. والأولى المنع؛ لتوقف رفع الحجر على البلوغ والرشد.

------

قوله: «ويصح وقف المشاع، وقبضه كقبضه في البيع».

لا خلاف عندنا في صحة وقف المشاع كغيره؛ لتحقق الغاية المقصودة من الوقف فيه، ولإمكان قبضه، كما يجوز بيعه وغيره من العقود.

ونبه بذلك على خلاف بعض العامة؛ حيث مَنَع من وقفه بناءً على دعواه عدم إمكان قبضه (1).

والأصل ممنوع، فإنّ المشاع يصح قبضه، كما يصح قبض المقسوم؛ لأنّه إن كان هو التخلية فإمكانه واضح، و إن كان هو النقل فيمكن وقوعه بإذن الواقف والشريك معاً. وقد تقدّم تحقيقه فى البيع (2)، و إن المختار توقفه على إذن الشريك إن كان منقولاً، وعدمه إن كان عقاراً.

قوله: «و في وقف مَنْ بلغ عشراً تردّد والمروي جواز صدقته» إلى آخره.

أشار بقوله «والمرويّ جواز صدقته بعد تردّده في جواز وقفه إلى أن وقفه لم يرد به نص بخصوصه، وإنما ورد بجواز صدقته، لكن الشيخ (3) و جماعة (4)، عدوه إلى الوقف؛ نظراً إلى أنه بعض أفراد الصدقة بالمعنى الأعم.

ص: 27


1- بدائع الصنائع، ج 1، ص 337؛ المبسوط السرخسي، ج 12، ص 44: اللباب في شرح الكتاب، ج 2، ص 181؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 266، المسألة 4430.
2- تقدم في ج 3، ص 151.
3- النهاية. ص 596.
4- منهم التقي وأبو علي على ما حكاه عنهما ابن فهد الحلي في المهذب البارع، ج 3، ص 56.

● و يجوز أن يجعل الواقف النظر لنفسه ولغيره، فإن لم يعيّن الناظر كان النظر إلى الموقوف عليه، بناءً على القول بالملك.

------

والرواية رواها زرارة عن الباقر علیه السلام قال: «إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنّه يجوز في ماله ما أعتق أو تصدّق أو أوصى على حد معروف فهو جائز» (1)، وقريب منه رواية سماعة (2).

ومثل هذه الأخبار الشاذة المخالفة لأصول المذهب بل إجماع المسلمين لا تصلح لتأسيس هذا الحكم.

و في قول المصنّف والأولى المنع رائحة الميل إليه؛ لأن لفظ «الأولى» لا يمنع النقيض. واستدلاله بتوقف رفع الحجر على البلوغ والرشد نوع من الاستدلال بالمتنازع؛ لأنّ المجوّز لا يسلّم الحجر عليه في هذا التصرّف الخاص، لكن لما كان الحجر عليه في النصوص والفتاوى مطلقاً، بل الإجماع عليه في الجملة أقامه مقام الدليل على المنع، و إن كان لا يخلو عن شيء.

قوله: «و يجوز أن يجعل الواقف النظر لنفسه ولغيره» إلى آخره.

الأصل في حق النظر أن يكون للواقف؛ لأنه أصله وأحق من يقوم بإمضائه وصرفه في أهله، فإذا وقف فلا يخلو إما أن يشترط في عقد الوقف النظر لنفسه أو لغيره أو لهما، أو لا يشترط شيئاً، فإن شرطه لنفسه صح ولزم، و إن شرطه لغيره صح بحسب ما عينه؛ عملاً بمقتضى الشرط المشروع، وقد شرطت فاطمة علیها السلام النظر في حوائطها السبعة التي وقفتها لأمير المؤمنين علیه السلام ثم الحسن ثم الحسين ثمّ الأكبر من ولدها (3)، وشرط الكاظم علیه السلام النظر في

ص: 28


1- الكافي، ج 7، ص 28 باب وصيّة الغلام والجارية... . ح 1: الفقيه، ج 4، ص 197، ح 5454؛ تهذيب الأحكام ج 9، ص 181، ح 729.
2- الكافي، ج 6، ص 124، باب طلاق الصبيان، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 504، ح 4772: الاستبصار، ج 3، ص 303، ح1073.
3- الكافي، ج 7، ص 48، باب صدقات النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ .. ح 5: الفقيه، ج 4، ص 244، ح 5582؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 144 - 145، ح 603.

......

------

الأرض التي وقفها للرضا علیه السلام وأخيه إبراهيم، فإذا انقرض أحدهما دخل القاسم مع الباقي منهما (1)، إلى آخره. وهذا كله ممّا لا خلاف فيه.

و إن أطلق و لم يشترط النظر في متن العقد لأحدٍ بني الحكم على انتقال الملك، فإن جعلناه للواقف أو للموقوف عليه مطلقاً فالنظر له، و إن جعلناه للموقوف عليه إن كان معيّناً، ولله تعالى إن كان على جهةٍ عامة - كما هو الأقوى - فالنظر في الأوّل إلى الموقوف عليه، وللحاكم الشرعي في الثاني؛ لأنه الناظر العام حيث لا يوجد خاص، ويصير الواقف في ذلك بعد العقد كالأجنبي.

ثم إن تعدد الناظر الثابت بالخصوص أو بالعموم اشتركوا فيه، فليس لأحدٍ منهم التصرف بدون إذن الباقين، و إن اتحد اختص به.

إذا تقرر ذلك، فنقول: متى قلنا: إنّ النظر إلى الواقف ابتداءً أو مع شرطه، فالنظر إليه، سواء كان عدلاً أم لا؛ لأنّه إنما نقل ملكه عن نفسه على هذا الوجه فيتبع شرطه، و إن كان إلى غيره بشرطه اشترطت عدالته فإن لم يكن عدلاً أو خرج عنها خرج عن النظر، وكان الحكم فيه كما لو أطلق، ويشترط فيه - مضافاً إلى ذلك - الاهتداء إلى كيفية التصرف كما يعتبر ذلك في الوصي، ولو عادت إليه العدالة بعد خروجها عاد إليه إن كان مشروطاً من الواقف، وإلا فلا.

وبما ذكرناه من عدم اشتراط عدالته إن شرطه لنفسه قطع في التذكرة (2)، مع احتمال اشتراطها مطلقاً؛ لخروجه بالوقف عن الملك ومساواته لغيره، فلابد من اعتبار الثقة في التولية، كما يعتبر في غيره.

ثم الناظر المشروط في نفس العقد لازم من جهة الواقف لا يجوز له عزله مطلقاً؛ لعموم

ص: 29


1- الكافي، ج 7، ص 53 - 54، باب صدقات النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ .... ح 8؛ الفقيه، ج 4، ص 249 - 251، ح 5596؛ تهذيب - الأحكام، ج 9، ص 149 - 150، ح 610 .
2- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 232، المسألة 133.

.....

------

الأمر بالكون مع الشرط (1)، ولو كان منصوباً من قبله بعده بالنظر المتناول له جاز له عزله متى شاء؛ لأنه حينئذ كالوكيل.

و لا يجب على المشروط له النظرُ القبولُ: للأصل، ولو قبل لم يجب عليه الاستمرار؛ لأنه غير واجب في الأصل، فيُستصحب، فإذا ردّ صار كما لا ناظر له ابتداء، فيتولاه الحاكم أو الموقوف عليه. و يحتمل الحاكم مطلقاً؛ لخروج الموقوف عليه عن استحقاق النظر بشرطه، فعوده إليه يحتاج إلى دليل بخلاف الحاكم فإنّ نظره عام.

وكما يجوز شرط النظر لواحد ومتعدّد موجود يجوز جَعله لمعدوم تبعاً، كسوقه في بطون وذرّيةٍ وما شاكل ذلك عملاً بعموم الأمر بالوفاء بالشرط (2).

ثمّ إن شرط للناظر شيئاً من الريع (3) جاز، وكان ذلك أجرة عمله، ليس له أزيد منه و إن كان أقل من الأجرة، و إن أطلق فله أجرة مثل عمله على الأقوى.

واعلم أنّ وظيفة الناظر في الوقف العمارة له أوّلاً، وتحصيل الريع، وقسمته على المستحق، وحفظ الأصل والغلة، و نحو ذلك من مصالحه.

هذا كلّه مع الإطلاق، ولو فوّض إليه بعضها اختص به، ولو شرك معه غيره مطلقاً اشتركا على الاجتماع كما مر أو خصّ كلّاً بمصلحة اختص بحسب ما عيَّن أو فوّض لكلّ منهما الاستقلال على الاجتماع والانفراد اتُّبع.

ولو اختص أحدهما بالعدالة أو بقي عليها ضم إليه الحاكم؛ حيث لا يكون منفرداً، أو انضم إلى الموقوف عليه إن انتقل إليه النظر كما تقدّم.

وحيث يتحقق الناظر بوجه لا يجوز التصرف في شيءٍ من الأعمال المذكورة و لا في شيء من الغلة إلا بإذنه و إن كان المتصرف هو المستحق لها والناظر غير مستحق؛ عملاً بالشرط.

ص: 30


1- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371، ح 1503؛ الاستبصار، ج 3، ص 232، ح 835.
2- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371، ح 1503؛ الاستبصار، ج 3، ص 232، ح 835.
3- الريع النماء والزيادة الصحاح، ج 3، ص 1223، «ریع».

......

------

هذا هو الذي يقتضيه إطلاق النصّ (1) والفتوى، إلّا أنّ فيه إشكالاً من وجهين:

أحدهما: ما لو كان الموقوف عليه متحداً - إما ابتداء أو لا تحاده في بعض الطبقات اتفاقاً - فإنّه مختص بالغلة، فتوقف تصرفه فيها على إذن الناظر بعيد؛ لعدم الفائدة، خصوصاً مع تحقق صرفها إليه بأن تكون فاضلةً عن العمارة وغيرها ممّا يُقدّم على القسمة يقيناً.

نعم، لو أشكل الحال توقف على إذنه قطعاً؛ لاحتمال أن يحتاج إليها أو إلى بعضها في الأُمور المتقدّمة على اختصاص الموقوف عليه.

وثانيهما: الأوقاف العامة على المسلمين و نحوهم التي يريد الواقف انتفاع كل من الموقوف عليه بالثمرة إذا مر بها كأشجار الثمار فإنّ مقتضى القاعدة أيضاً عدم جواز تصرف أحدٍ منهم في شيءٍ منها إلا بإذن الحاكم و لا يخلو من إشكال وتفويت لكثير من أغراض الواقف بل ربما دلّت القرينة هنا على عدم إرادة الواقف النظر على هذا الوجه، بل يريد تفويض الانتفاع إلى كلّ واحدٍ من أفراد تلك الجهة العامة، فكأنه في قوّة جَعل النظر إليه.

لكن هذا كله لا يدفع الإشكال؛ لما تقدّم (2) من أنّه بعد الوقف حيث لا يشترط النظر لأحدٍ يصير كالاً جنبي وينتقل الحكم إلى الحاكم، فلا عبرة بقصده خلاف ذلك حيث لا يوافق القواعد الشرعية، وجعل مثل هذا الإطلاق نظراً لكلّ واحدٍ في حيّز المنع.

وبالجملة، فهذه القواعد الشرعيّة المتفق عليها لا تدفع بمثل هذا الخيال.

وينبغي أن يقال: إن المتصرّف على هذا الوجه يأثم خاصةً، ويملك حيث لا يجب صرف الثمرة في الأمور المتقدّمة على صرفها إلى الموقوف عليه، و کذا القول في تصرّف الموقوف عليه المتحد، أما المتعدّد فلا؛ لأنّ قسمتها وتميّز حقٌّ كلّ واحدٍ من الشركاء يتوقف على الناظر، وحينئذ فيكون كالتصرّف في المال المشترك بغير إذن الشريك، فيستقر في ذمته حصة الشريك من ذلك.

و لم أقف في هذه الأحكام للأصحاب على شيء، فينبغي تحرير النظر فيه.

ص: 31


1- وسائل الشيعة، ج 19، ص 175 و 198، الباب 2 و 10 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات.
2- تقدّم في ص 29.

القسم الثالث: في شرائط الموقوف عليه

اشارة

ويعتبر في الموقوف عليه شروط ثلاثة أن يكون موجوداً ممن يصح أن يملك، و إن يكون معيّناً، و إن لا يكون الوقف عليه محرّماً.

حكم الوقف على المعدوم

ولو وقف على معدوم ابتداءً لم يصح، كمن يقف على مَنْ سيولد له، ● أو على حمل لم ينفصل.

● أما لو وقف على معدوم تبعاً لموجود فإنّه يصح، ● ولو بدأ بالمعدوم ثم بعده على الموجود قيل: لا يصح، و قيل: يصح على الموجود والأوّل أشبه.

------

قوله: «أو على حمل لم ينفصل».

تفريع الحمل على المعدوم لا يخلو من تجوز؛ لأنه في نفسه موجود غايته استتاره، وإنما يشاركه في الحكم بعدم صحة الوقف عليه من جهةٍ أخرى، وهي أهلية الموقوف عليه للتملك؛ فإنّها شرط من حيث إنّ الوقف إمّا تمليك العين والمنفعة إن قلنا: إن الوقف يملكه الموقوف عليه، وإمّا تمليك المنفعة إن لم نقل به والحمل لا يصلح لشيءٍ منهما.

والفرق بين الوقف عليه والوصيّة له أنّ الوصية تتعلّق بالمستقبل، وليس فيها نقل في الحال، بخلاف الوقف؛ فإنّه تسليط على الملك في الحال، فيشترط أهلية المنتقل إليه له.

قوله: «أما لو وقف على معدوم تبعاً لموجود فإنّه يصح»

إنّما يصح تبعيّة المعدوم للموجود إذا أمكن وجوده عادةً وكان قابلاً للوقف كما لو وقف على أولاده الموجودين ومن يتجدّد منهم، أو عليهم وعلى من يتجدد من أولادهم، و نحو ذلك، أما لو جعل التابع من لا يمكن وجوده كالميت أو لا يقبل الملك لم يصح مطلقاً، فيكون مع جَعْله آخراً كمنقطع الآخر، أو وسطاً فكمنقطع الوسط، أو أو لا فكمنقطع الأوّل، أو ضمّه إلى الموجود بطل فيما يخصه خاصةً على الأقوى.

قوله: «ولو بدأ بالمعدوم ثم بعده على الموجود قيل: لا يصح» إلى آخره.

ص: 32

......

------

هذا هو المنقطع الأوّل، وصُوَره كثيرة، يجمعها عدم صحة الوقف على الطبقة الأولى، سواء كانت معدومة كما مثل، أم موجودة ولكن لا يقبل الملك كما ذكره في المسألة الأخرى بعدها. وقد اختلف الأصحاب في حكمه فذهب المصنّف والمحققون منهم (1) إلى بطلان الوقف رأساً؛ لأنه لو صح لزم إما صحة الوقف مع عدم موقوف عليه، أو مخالفة شرط الواقف وجريانه على خلاف ما قصده والتالي بقسميه،باطل، فالمقدّم مثله، والملازمة ظاهرة؛ لأنه مع الصحة إن لم يجب إجراؤه على مَنْ يصح الوقف عليه المذكور أو غيره لزم الأول، و إن انصرف إلى مَنْ يصح الوقف عليه وينزل الآخر منزلة غير المذكور لزم الثاني.

ويدلّ على بطلان التالي أيضاً قول العسكري علیه السلام في مكاتبة محمد بن الحسن الصفار: «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (2). و لا شبهة فى أنّ الواقف لم يقصد الموجود ابتداء، فلا ينصرف إليه، بل يكون كالمعلق على شرط. و هو باطل.

و بهذا يبطل ما قيل في جوابه:

بأنا نلتزم أنّ هناك موقوفاً عليه، ثمّ إن أمكن انقراض الأوّل اعتبر انقراضه، فيكون انقراضه شرطاً في تجويز الانتفاع، لا في نفوذ الوقف، والنماء للواقف أو ورثته كمنقطع الوسط، أو يساوي مَنْ لا يمكن انقراضه، ويقال فيهما: إنّه لمّا كان المصدر به محالاً كان شرط الواقف له كلا شرط فلا يلزم بمخالفته محال واتباع شرط الواقف إنما يلزم لو كان سائغاً، وبطلان الوقف إنّما يلزم لو لم يكن هناك موقوف عليه، لكنّه موجود قطعاً، والواسطة غير صالحة للمانعية (3).

ص: 33


1- منهم العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 280، المسألة 56: وفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 380 - 381: والسيوري في التنقيح الرائع، ج 2، ص 308 - 309؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد ج 9، ص 21.
2- الكافي، ج 7، ص 37 باب ما يجوز من الوقف والصدقة ..... ح 34: الفقيه، ج 4، ص 237، ح 5570؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 129 - 130، ح 555.
3- قاله الشهيد في غاية المراد، ج 2، ص 263 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).

.....

------

هذا غاية ما أجابوا به، وفساده يظهر مما قلناه.

ويزيده بياناً أنّ انقراض الأوّل إذا جعل شرطاً في انتفاع الثاني وجعل النماء للواقف زمانه لم يتحقق إخراج الوقف عن نفسه مطلقاً، فلم يقع صحيحاً، وقد قطع الأصحاب بأنه لو نجز الوقف وشرط لنفسه فيه شرطاً من الغلة أو وفاء دين و نحوه و إن كان معلوماً لم يصح، مع أنّه شرط مضبوط غير منافٍ لتنجيز الوقف بخلاف المتنازع، وبناؤه على منقطع الوسط ردُّ إلى المتنازع فإنّه بمثابة منقطع الأوّل فيما بعد الانقطاع، و إن أراد فيما قبله فالفرق واضح، وجَعْلُ ما لا يفرض انقراضه كشرط المحال فيكون كلا شرط ضعيف؛ لأن مرجعه إلى أنّ الشرط الفاسد لا يُفسد العقد، بل يقتصر على إلغائه، و هو قول ضعيف، وقد تقدّم الكلام في ضعفه (1)، و إن ذلك خلاف المقصود الذي لا يتم العقد بدونه.

وقوله «إن الموقوف عليه موجود» إن أراد به ابتداء فممنوع أو بعد حين فلا ينفعه، فصلحت الواسطة للمانعيّة.

والقول بالصحة للشيخ في الخلاف (2) وموضع من المبسوط (3)؛ محتجاً بأصالة الصحة وأنه ضمّ صحيحاً إلى فاسد فلا يفسده.

وقد عرفت أنّ الأصالة انقطعت، والضميمة مبطلة.

إذا عرفت ذلك، فعلى المختار من بطلان الوقف لا بحث، وعلى القول بالصحة فهل تُصرف منفعة الوقف في الحال إلى مَنْ يصح في حقه أم لا؟ وجهان، قد ظهرا من خلال دليل المجوّز.

وفصّل الشيخ في المبسوط فقال:

يُنظر فإن كان الذي بطل الوقف في حقه لا يصح اعتبار انقراضه مثل: أن يقف أو لا على مجهولٍ أو ميّتٍ؛ فإنه يكون في الحال لمن يصح الوقف في حقه، فيكون الأول بمنزلة

ص: 34


1- تقدّم في ج 3، ص 185 - 186.
2- الخلاف، ج 3، ص 544. المسألة 10.
3- المبسوط، ج 3، ص 114.
لا يصح الوقف على المملوك

● و کذا لو وقف على من لا يملك، ثم على من يملك وفيه تردّد، والمنع أشبه.

● و لا يصح على المملوك، و لا ينصرف الوقف إلى مولاه؛ لأنّه لم يقصده بالوقفية.

------

المعدوم الذي لم يذكر في الوقف؛ لأن وجوده كعدمه، و إن كان الموقوف عليه أو لا يمكن اعتبار انقراضه كالعبد، فمنهم مَنْ قال: يُصرف إليهم في الحال؛ لأنّه لا مستحق غيرهم و هو الصحيح، ومنهم مَنْ قال: لا يُصرف إليهم في الحال؛ لأنّه إنما جعل منفعة الوقف لهم بشرط انقراض من قبلهم والشرط لم يوجد، فيُصرف إلى الفقراء والمساكين مدة بقاء الموقوف عليه أو لا، ثمّ إذا انقرض رجعت إليهم (1).

و لا يخفى عليك ضعف هذه الوجوه؛ لعدم الدليل عليها، وعدم قصد الواقف لها فالمصرف على تقدير الصحة مشكل.

قوله: «و کذا لو وقف على من لا يملك ثمّ على مَنْ يملك. وفيه تردّد، والمنع أشبه».

الحكم فيه كما تقدّم، ويزيد القول بالصحة هنا ضعفاً لو كان من لا يملك لا يفرض انقراضه كالوقف على الميت أو الحائط، أو يجهل وقت انقراضه كالوقف على الملك؛ فإنّ انصراف الوقف ابتداء إلى من يصح الوقف عليه خلاف الشرط، و لا مدة معلومة ترتقب حتى يكون هناك شرط منضمّ إلى وقف منجز كما قالوه، لكن الشيخ هنا جزم بانتقال الوقف إلى مَنْ يصح عليه ابتداءً، كما حكيناه عنه، و لا يخفى ما فيه.

قوله: «و لا يصح على المملوك، و لا ينصرف الوقف إلى مولاه؛ لأنه لم يقصده بالوقفية». بناءً على أنّ المملوك لا يملك شيئاً، أو يملك ما لا يدخل فيه الوقف، كفاضل الضريبة، ولو قلنا بملكه مطلقاً صح الوقف عليه و إن كان محجوراً عليه إذا قبل مولاه.

ونبه بقوله «و لا ينصرف الوقف إلى مولاه» على خلاف بعض العامة؛ حيث جوّز الوقف عليه، وجَعَله مصروفاً إلى مولاه (2).

ص: 35


1- المبسوط، ج 3، ص 115.
2- الوجيز، ج 1، ص 425: العزيز شرح الوجيز، ج 6، ص 256: المجموع شرح المهذب، ج 15، ص 332.
الوقف على المصالح

● ويصح الوقف على المصالح كالقناطر والمساجد - لأن الوقف في الحقيقة على المسلمين، لكن هو صرف إلى بعض مصالحهم.

حكم الوقف على الكفار

● و لا يقف المسلم على الحربي ولو كان رحماً، ويقف على الذمي ولو كان أجنبياً.

------

ونته بقوله «لأنّه» إلى آخره، على وجه ردّه؛ فإنّ الوقف عقد، والعقد تابع للقصد، فكيف ينصرف إلى مولاه و هو غير مقصود؟!

قوله: «ويصح الوقف على المصالح كالقناطر والمساجد» إلى آخره.

أشار بالتعليل إلى جواب سؤال يرد على صحة الوقف المذكور من حيث إن هذه المصالح المذكورة وشبهها لا تقبل التملك، و هو شرط صحة الوقف، كما سلف.

وتقرير الجواب أن الوقف و إن كان لفظه متعلقاً بالجهات المذكورة إلا أنه في الحقيقة وقف على المسلمين القابلين للتملك، غاية ما هناك أنّه وقف على المسلمين باعتبار مصلحةٍ خاصّةً؛ لأنّهم المنتفعون بها؛ فإنّ الغرض من المسجد تردّدهم إليه للعبادة وإقامة شعار الدين و نحوه، فكأنه وقف عليهم بشرط صَرفه على وجه مخصوص، و هو جائز.

ومثله الوقف على أكفان الموتى، ومؤونة حفر قبورهم و نحو ذلك.

قوله: «و لا يقف المسلم على الحربي ولو كان رحماً» إلى آخره.

هنا مسألتان:

إحداهما الوقف على الحربي، والمشهور عدم جوازه مطلقاً؛ لقوله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ﴾ (1) الآية، والوقف نوع مودة فيكون منهياً عنه، خصوصاً إذا اشترطنا في الوقف القربة؛ فإنّ النهي ينافيها، ولأن الوقف إذا تم وجب الوفاء به، وحرم تغييره ونقله عن وجهه، ومال الحربي فيء للمسلم يصح أخذه وبيعه، و هو ينافي صحته.

ص: 36


1- المجادلة (58): 22.

......

------

وربما قيل بجوازه؛ لعموم قوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «على كلّ كبد حتى أجر» (1)، وعموم قوله علیه السلام: «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» (2)، وغيره من الأخبار الدالة بإطلاقها عليه، مع القدح في دليل المنع، فإنّ الظاهر من النهي عن المودة (3) له من حيث كونه محاداً لله، وإلا لحرم محادثتهم على وجه اللطف و نحوه من الإكرام، وتحريم تغييره من حيث الوقف لا ينافيه من حيثية أخرى، وهي جواز التصرف في مال الحربي بأنواع التصرفات المستلزم لتغييره.

و كيف كان، فالمذهب المنع.

و الثانية: وقف المسلم على الذمّي، وفيه أقوال:

أحدها: المنع مطلقاً؛ للآية المتقدّمة، و هو قول سلار وابن البراج (4).

و الثاني الجواز مطلقاً، و هو الذي اختاره المصنّف؛ للعموم السابق (5)، وقوله تعالى: ﴿لا يَنْهَنكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ و لم يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ﴾ (6) الآية، و للخبر السابق.

و الثالث: الجواز إذا كان الموقوف عليه قريباً دون غيره - و هو مختار الشيخين (7) و جماعة (8)- جمعاً بين ما ذكر، وبين الأوامر العامة الدالّة على وجوب صلة الرحم (9) الدال على الجواز بتخصيص ذلك النهي بغير الرحم.

ص: 37


1- المعجم الكبير، الطبراني، ج 7، ص 155، ح 6598.
2- تقدّم تخريجه في ص 33 الهامش 7.
3- في:(م)»: «الموادة» بدل «المودة».
4- المراسم، ص 198؛ المهذب، ج 2، ص 88
5- سبق تخريجه في ص 33 الهامش 2.
6- الممتحنة (60): 8.
7- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 653 - 654: والشيخ الطوسي في المبسوط، ج 3، ص 115.
8- منهم ابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 297؛ وأبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 326؛ وابن حمزة في الوسيلة، ص 370.
9- الكافي، ج 2، ص 150 وما بعدها، باب صلة الرحم.

● ولو وقف على الكنائس والبيع لم يصح.

------

والرابع: الجواز للأبوين خاصةً، اختاره ابن إدريس بعد اضطراب كثير في فتوى المسألة، فإنّه قال بعد حكاية كلام الشيخ بجوازه على ذي الرحم قد قلنا ما عندنا في هذه المسألة: إنه لا يجوز الوقف على الكفرة إلا أن يكون الكافر أحد الوالدين (1).

و وجهه ما سبق، مضافاً إلى قوله تعالى: ﴿وَصَاحِبُهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ (2). ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَلِدَيْهِ حُسْنًا﴾ (3)، فإنّه ليس من الصحبة المعروف ترك صلتهما مع حاجتهما، فيجب الجمع بين الأدلة.

و كيف كان، فالقول بالمنع مطلقاً ضعيف، وقول المصنّف لا يخلو من وجه.

واعلم أنّه لم يرد في عبارة المتقدمين إلا الوقف على الكافر غير المبسوط، فإنّه صرّح بالذمّي (4)، ولعلّ مرادهم ذلك.

قوله: «ولو وقف على الكنائس والبيع لم يصح».

لمّا حَكَم بجواز الوقف على أهل الذمة وجواز الوقف على المساجد و نحوها، وحمله على كونه وقفاً على المسلمين؛ لأنّه من أهم مصالحهم، احتمل كون الوقف على الكنائس والبيع جائزاً إذا كانت لأهل الذمة؛ بناءً على أن الوقف عليها وقف على أهل الذمة و إن اختص ببعض مصالحهم، فنبه على خلاف ذلك للفرق بين الجهتين فإنّ الوقف على المساجد مصلحة للمسلمين وهي مع ذلك طاعة وقربة فهي جهة من جهات المصالح المأذون فيها، و کذا الوقف على أهل الذمة أنفسهم فإنّه بذاته لا يستلزم المعصية؛ إذ نفعهم من حيث الحاجة وأنهم عباد الله، ومن جملة بني آدم المكرمين، ومن حيث يجوز أن يتولّد منهم المسلمون لا معصية فيه. وما يترتب عليه من إعانتهم به على المحرَّم كشرب الخمر

ص: 38


1- السرائر، ج 3، ص 167.
2- لقمان (31): 15.
3- العنكبوت (29): 8.
4- المبسوط، ج 3، ص 115.

● و کذا لو وقف في معونة الزناة أو قطاع الطريق أو شاربي الخمر.

● و کذا لو وقف على كتب ما يُسمّى الآن بالتوراة والإنجيل؛ لأنّها محرّفة.

------

وأكل لحم الخنزير والذهاب إلى الجهات المحرمة - ليس مقصوداً للواقف حتى لو فرض قصده حكمنا ببطلانه، ومثله الوقف عليهم لكونهم كفّاراً، بل على فَسَقة المسلمين من تلك الحيثية، بخلاف ما لو وقف على المسلم فصرفه في المعصية، فإنّه لا يقدح؛ نظراً إلى القصد الأصلي، فكذا هنا، وهذا بخلاف الوقف على الكنائس و نحوها، فإنّه وقف على جهة خاصة من مصالح أهل الذمة، لكنّها معصية محضة؛ لأنّه إعانة لهم على الاجتماع إليها للعبادات المنسوخة والمحرّمة والكفر، فالمعصية حاصلة له ابتداءً وبالذات، فلم يقع الوقف صحيحاً.

وأمّا تعليل المنع من الوقف على الكنائس و نحوها - بأنّ من جملة مصارف الوقف عمارتها وهي محرمة، بخلاف عمارة المساجد وباقي مصالح أهل الذمة - فغير مطّرد؛ لأنّ من الكنائس ما يجوز لهم عمارته، بل هو الأغلب في بلاد الإسلام، وتخصيصه بكنيسة لا يجوز إحداثها - كالمحدثة في أرض الإسلام أو أرضهم - بعيد عن الإطلاق من غير ضرورة.

قوله: «و کذا لو وقف في معونة الزناة أو قطاع الطريق أو شاربي الخمر».

المراد أنه وقف عليهم من حيث هُمْ كذلك، بأن جعل الوصف مناط الوقف و وجه عدم الصحة حينئذٍ ظاهر؛ لأنّه معصية من حيث الإعانة على فعل المحرم، أما لو وقف على شخص متصف بذلك لا من حيث كون الوصف مناطه صح، سواء أطلق أم قصد جهةً محلَّلةً .

قوله: «و کذا لو وقف على كتب ما يُسمّى الآن بالتوراة والإنجيل؛ لأنّها محرّفة».

نبه بقوله «يُسمّى الآن» على أنّ ما بأيديهم ليس هو الذي أنزله الله تعالى و إن كان منسوخاً يحرم الوقف عليه من هذه الجهة، والمراد أنه بجملته ليس هو الذي أنزله الله و إن كان بعضه منه؛ للقطع بأنهم لم يحرّفوا جميع الكتاب بل بعضه.

و تحريم الوقف على الكتابين ظاهر؛ للتحريف والنسخ فيحرم كتبهما وحفظهما لغير

ص: 39

● ولو وقف الكافر جاز.

حكم الوقف على الفقراء

● والمسلم إذا وقف على الفقراء انصرف إلى فقراء المسلمين، دون غيرهم، ولو وقف الكافر كذلك انصرف إلى فقراء نحلته.

------

النقض والحجة، وقد روى العامة أن النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ خرج إلى المسجد فرأى في يد عمر صحيفةً فيها شيء من التوراة، فغضب صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ لما رأى الصحيفة في يده وقال له: «أفي شكّ أنت يا ابن الخطاب ألم أت بها بيضاء نقيةً؟ لو كان أخي موسى حيّاً لما وسعه إلا اتباعي» (1)، وهذا يدلّ على أن النظر إليها معصية أيضاً، وإلا لما غضب منه لذلك.

وينبغي جواز الوقف عليهما على الوجه الذي يجوز إمساكهما لأجله و هو النقض والحجة؛ لأن الجهة حينئذٍ طاعة، إلا أن الفرض لما كان نادراً أطلقوا المنع من الوقف عليهما.

قوله: «ولو وقف الكافر جاز».

أي وقف الكافر على أحد الكتابين، و في معناه وقفه على البيع والكنائس، إلا أن عوده إليها في العبارة بعيد؛ لتوسط ما ليس بمرادٍ بين الحكمين، و هو الوقف على العصاة المذكورين.

و وجه الجواز حينئذ اعتقادهم شرعيته، وإقرارهم على دينهم، و هو يتم إن لم يشترط في الوقف القربة، كما هو ظاهر كلام المصنف (رحمه الله) حيث لم يتعرّض لاشتراطها، وإلا أُشكل من حيث إنّ ذلك معصية في الواقع، فلا يتحقق معنى القربة فيها، إلا أن يراد قصدها في الجملة و إن لم يحصل، أو قصدها ممّن يعتقد حصولها، وهذا هو الظاهر.

قوله: «والمسلم إذا وقف على الفقراء انصرف إلى فقراء المسلمين» إلى آخره.

لمّا كان «الفقراء» جمعاً معرّفاً مفيداً بصيغته العموم الشامل للمسلمين والكفار كان مدلول الصيغة من هذه الحيثية شمول الوقف على الفقراء للجميع، إلا أنّ ذلك مفهوم لغوي،

ص: 40


1- أورده ابنا قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 268، المسألة 4433؛ والشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 6، ص 214.
حكم الوقف على المسلمين

● ولو وقف على المسلمين انصرف إلى من صلّى إلى القبلة.

------

والعرف يخالفه فإنّه يدلّ على إرادة المسلم فقراء المسلمين وإرادة الكافر فقراء نحلته، فتخصص به؛ لأنّ العرف مقدّم، وهذا يتمّ مع تحقق دلالة العرف وشهادة الحال عليه، فلو انتفت فلا معارض للغة، إلّا أنّ ثبوتها لما كان ظاهراً أطلق - كغيره - الحمل على ما دلّت عليه الآن.

و لا فرق بين الوقف على الفقراء مطلقاً - كما مثل - وفقراء بلده أو بلد مخصوص.

نعم، لو لم يكن في البلد المعين إلا فقراء الكفّار - حيث يكون الواقف المسلم أو بالعكس وعلم الواقف بذلك انصرف إلى الموجود كيف كان؛ عملاً بالإضافة، وحذراً من بطلان الوقف حيث لا مصرف له مع إمكان حمله على الصحة، ولانتفاء القرينة.

ولو لم يعلم بذلك ففي كون الحكم كذلك وجهان من وجود الإضافة والعموم المتناول للموجود، ومن أنّه بعدم العلم لا توجد القرينة الصارفة عن المتعارف، ولعلّ إلحاقه بالأوّل أولى.

قوله: «ولو وقف على المسلمين انصرف إلى مَنْ صلّى إلى القبلة».

أي من اعتقد وجوب الصلاة إليها حيث تكون الصلاة واجبةً، والمراد انصرافه إلى من دان بالشهادتين، واعترف من الدين بما علم ضرورةً، ومنه الصلاة إليها و إن لم يصلّ حيث لا يكفر بذلك.

ويلحق به أطفاله ومجانينه تبعاً؛ لاندراجهما معه عرفاً، وشموله لهما تبعاً، كما تدخل الإناث في صيغة الذكور.

ويخرج بما ذكرناه من فرق المسلمين من حكم بكفره من الخوارج والنواصب والغُلاة والمجسّمة وغيرها، وإطلاق دخول المصلّي إلى القبلة لا يُخرجه، لكنه مراد، مع احتمال العموم؛ نظراً إلى شمول المفهوم عرفاً.

و لا فرق بين كون الواقف من المسلمين محقاً وغيره؛ عملاً بالعموم.

ص: 41

حكم الوقف على المؤمنين

● ولو وقف على المؤمنين انصرف إلى الاثني عشرية، و قيل: إلى مجتنبي الكبائر. والأوّل أشبه.

------

و قيل: إن كان الواقف محقاً يختص الوقف بقبيله؛ لشهادة الحال (1)، كما لو وقف على الفقراء.

ورُدّ بأن تخصيص عام لا يقتضي تخصيص آخر، وشهادة الحال ممنوعة، والفرق بين المسلمين والفقراء قائم، فإنّ إرادة الوقف على جميع الفقراء على اختلاف آرائهم وتباين مقالاتهم ومعتقداتهم بعيد بخلاف إرادة فرق المسلمين من إطلاقهم، فإنّه أمر راجح شرعاً مطلوب عرفاً.

والأقوى المشهور.

نعم، لو كان الواقف من إحدى الفرق المحكوم بكفرها لم يخرج قبيله من وقفه، و لا غيره ممن يُحكم بكفره أيضاً، حيث لا يشهد حاله بإخراجه.

و يحتمل اختصاص عدم الحرمان بقبيله خاصةً؛ اقتصاراً في التخصيص علی محلّ اليقين. و هو حسن إلا مع شهادة الحال بخلافه.

قوله: «ولو وقف على المؤمنين انصرف إلى الاثني عشرية» إلى آخره.

الإيمان يطلق على معنيين عام وخاص.

فالعام هو التصديق القلبي بما جاء به النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ، والإقرار باللسان كاشف عنه، و هو أخص من الإسلام مطلقاً، وهذا المعنى معتبر عند أكثر المسلمين.

والخاص قسمان:

أحدهما أنّه كذلك مع العمل الصالح، بمعنى كون العمل جزءاً منه، وصاحب الكبيرة عليه ليس بمؤمن، وهذا مذهب الوعيدية، وقريب منه قول المعتزلة بأنّ للفاسق منزلة بين المنزلتين.

والثاني: اعتقاد إمامة الاثني عشر إماماً علیهم السلام، وهذا هو المعنى المتعارف بين الإمامية.

ص: 42


1- من القائلين به ابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 160.

.....

------

فإذا وقف واقف على المؤمنين وأطلق، فإن كان من الإمامية انصرف الوقف إلى الاثنى عشرية؛ لأنه المعروف عندهم من هذا الإطلاق، و إن كان من غيرهم فظاهر المصنّف والأكثر كونه كذلك.

و هو مشكل؛ لأنّ ذلك غير معروف عنده و لا قصده متوجّه إليه، فكيف يحمل عليه؟! وليس الحكم فيه كالمسلمين في أن لفظه عام فينصرف إلى ما دلّ عليه اللفظ و إن خالف معتقد الواقف، كما تقدّم؛ لأنّ الإيمان لغةً هو مطلق التصديق (1)، وليس بمراد هنا، واصطلاحاً يختلف بحسب المصطلحين، والمعنى الذي اعتبره أكثر المسلمين هو المعنى العام، فلو قيل بحمله عليه إذا كان الواقف غير إمامي كان حسناً، أو يقال: إذا كان من الوعيدية يُحمل على معتقده، أو من الإمامية فعلى معتقده، أو من غيره فعلى معتقده؛ عملاً بشهادة الحال ودلالة العرف الخاص والقرائن الحالية.

ولو كان الواقف إماميّاً وعيديّاً - كما اتفق لكثير من قدمائنا - تعارض العرفان عنده ولعلّ حمله على المعنى المشهور - و هو الأخير - أوضح؛ لأنه أعرف.

إذا تقرّر ذلك، فهل يشترط مع الاعتقاد المذكور في المعنى المشهور اجتناب الكبائر؟ قال الشيخ: نعم، فلا يجوز للفُسّاق من الإمامية أخذ شيء منه (2)، وتبعه جماعة (3).

ولعلّ مبناه على أنّ العمل جزء من الإيمان كما هو مأثور عن السلف وورد في كثير من الأخبار (4)، وأنّه مركب من ثلاثة أشياء: اعتقاد بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان (5)، فيكون العمل ثلث الإيمان.

ص: 43


1- الصحاح، ج 4، ص 2071، «أمن».
2- النهاية، ص 597 - 598.
3- منهم ابن البراج في المهذب، ج 2، ص 89؛ وابن حمزة في الوسيلة، ص 371
4- راجع وسائل الشيعة، ج 15، ص 168، أبواب جهاد النفس، الباب 2، ح 3 - 5
5- الكافي، ج 2، ص 27، باب آخر منه وفيه أن الإسلام قبل الإيمان، ح 1.

......

------

و المشهور - و هو الأصح - عدم اعتباره، وإليه ذهب الشيخ (رحمه الله) في التبيان (1) أيضاً؛ لما تحقق في الكلام من أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان على الوجه السابق، و إن العمل ليس بجزء منه و لا شرط.

بقي هنا أمران:

أحدهما: أن القائل بحرمان الفاسق عبّر باشتراط اجتناب الكبائر، وفرع عليه حرمان الفاسق من المؤمنين، وبين الأصل والفرع تغاير كثير، فإنّ الفسق يحصل بارتكاب الكبائر، وبالإصرار على الصغائر، وبمخالفة المروءة و إن لم يكن الفعل محرَّماً؛ لأنّ الفسق يقابل العدالة، فإذا أزالتها مخالفة المروءة ثبت الفسق و لا شبهة في أنّ ترك المروءة لا يُخرج عن الإيمان لأنه ليس من الأعمال السيئة على أصل القائل، كما لا شبهة في أن ارتكاب الكبائر عنده مُخرج، وبقي أمر الإصرار على الصغائر، فعلى تفريعه يخرج دون أصله، ويمكن إدراجه بأنّ الإصرار على الصغيرة يلحقها بالكبيرة، كما ينبه عليه قوله: «و لا صغيرة مع إصرار» (2)، أو يجعل جميع الذنوب كبائر، و إن صغرها وكبرها إضافي، كما ذهب إليه جماعة (3).

والثاني: أنّ المعروف من إطلاق القائل بالمذهب المشهور أن المؤمن معتقد إمامة الاثني عشر كما ذكرناه، دون غيرهم، و لم يذكروا اشتراط أمر آخر، ولكن الشهيد في الدروس صرّح باشتراط اعتقاد عصمتهم، بناءً على أنّه لازم المذهب (4).

و في اشتراطه نظر و إن كان أولى، ويلزمه اشتراط اعتقاد أفضليتهم على غيرهم،

ص: 44


1- التبيان، ج 2، ص 81، ذيل الآية 272 من سورة البقرة (2).
2- الكافي، ج 2، ص 288، باب الإصرار على الذنب، ح 1.
3- منهم الطبرسي في مجمع البيان، ج 3، ص 38 ذيل الآية 31 من سورة النساء (4) وابن إدريس في السرائر ج 2، ص 118.
4- الدروس الشرعية، ج 2، ص 217 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
الوقف على الشيعة

● ولو وقف على الشيعة فهو للإمامية والجارودية دون غيرهم من فرق الزيدية.

------

وغيره من معتقدات الإمامية المجمع عليها عندهم، والفتاوى خالية عنه، و الظاهر يشهد بخلافه.

قوله: «ولو وقف على الشيعة فهو للإمامية والجارودية دون غيرهم من فِرَق الزيدية». اسم «الشيعة» يطلق على من قدم عليا علیه السلام في الإمامة على غيره بعد النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ، و لا شبهة في كون الإمامية منهم، و کذا الجارودية من فرق الزيدية، و کذا الإسماعيلية حيث لا يكونوا ملاحدة، وأما باقي فِرَق الشيعة كالكيسانية والواقفية والفطحيّة،فداخلة، لكن لانقراضهم استغني عن ذكرهم.

والقول بانصرافه إلى من ذكر هو المشهور بين الأصحاب تبعاً للشيخ (1).

وفصل ابن إدريس فقال:

إن كان الواقف من إحدى فِرَق الشيعة حمل كلامه العام عليه على شاهد حاله وفحوى قوله، وخصص به، فصُرف في أهل نحلته دون من عداهم؛ عملاً بشاهد الحال (2).

ونفى عنه في التذكرة البأس (3). و هو حسن مع قيام القرينة على إرادته لفريقه، ومع اشتباه الحال فالحكم لعموم اللفظ كالمسلمين.

وربما قيل باختصاص الاسم بالإمامية، و هو غريب.

وخصَّ الجارودية من فِرَق الزيدية؛ لأنه لا يقول منهم بإمامة على علیه السلام دون غيره من المشايخ سواهم فإنّ الصالحية منهم والسليمانية والبترية يقولون بإمامة الشيخين و إن اختلفوا في غيرهما. والجارودية نسبة إلى أبي الجارود، واسمه زياد بن المنذر.

ص: 45


1- النهاية، ص 598.
2- السرائر، ج 3، ص 162.
3- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 142، المسألة 76.

● وهكذا إذا وصف الموقوف عليه بنسبة دخل فيها كلُّ من أُطلقت عليه، . فلو وقف على الإمامية كان للاثني عشرية.

● ولو وقف على الزيدية كان للقائلين بإمامة زيد بن علي علیه السلام، و کذا لو علقهم بنسبةٍ إلى أب كان لكلّ من انتسب إليه بالأبوة، كالهاشميين، فهو لمن انتسب إلى هاشم من ولد أبي طالب علیه السلام والحارث وأبى لهب، والطالبيين، فهو لمن ولده أبو طالب علیه السلام.

------

قوله: «وهكذا إذا وصف الموقوف عليه بنسبةٍ دخل فيها كلّ مَنْ أُطلقت عليه».

هذا هو الضابط في جميع هذه المسائل، لكن مع اتفاق العرف أو الاصطلاح على الإطلاق لا كلام في انصرافه إليه، ومع التعدّد يُحمل على المتعارف عند الواقف، و بهذا يتخرّج الخلاف والحكم في الجميع.

قوله: «فلو وقف على الإمامية كان للاثني عشرية».

أي القائلين بإمامتهم المعتقدين لها. والكلام في اعتقاد عصمتهم كما سبق في المؤمنين فإنّ الشهيد (رحمه الله) شرط في الدروس ذلك فيهما (1)، و يظهر منه أنّ الخلاف في اشتراط اجتناب الكبائر آتٍ هنا، وليس كذلك. والفرق يظهر من دليل القائل باشتراطه فإنّ مفهوم الإمامية لا مدخل له في العمل مطلقا، بخلاف المؤمنين.

قوله: «ولو وقف على الزيدية كان للقائلين بإمامة زيد بن علي علیه السلام».

الزيدية منتسبون إلى زيد بن علي بن الحسينرعلیه السلام، وتجعلون الإمامة بعده لكلّ مَنْ خرج بالسيف من ولد فاطمة علیها السلام من ذوي الرأي والعلم والصلاح، هكذا حَكَم الشيخان (2)، وتبعهما الأكثر.

وقال ابن إدريس هذا الإطلاق ليس بجيّد، بل إذا كان الواقف زيديّاً كان كذلك، و إن كان

ص: 46


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 217 ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10)
2- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 655 والشيخ الطوسي في النهاية، ص 598.

● و يشترك الذكور والإناث المنسوبون إليه من جهة الأب؛ نظراً إلى العرف وفيه خلاف للأصحاب.

------

إماميّاً كان الوقف باطلاً؛ بناءً منه على أن وقف المحق على غيره باطل (1). و هو باطل.

قوله: «ويشترك الذكور والإناث المنسوبون إليه من جهة الأب؛ نظراً إلى العرف، وفيه خلاف للأصحاب».

لا إشكال في دخول الذكور والإناث في المنسوب و إن وقع بلفظ المذكر، كالهاشميين والعلويين؛ لأنّ اللفظ حينئذ يشمل الإناث تبعاً، كما يتناولهن في جميع الخطاب الواقع في التكليف في الكتاب والسُنّة؛ ولصدق إطلاقه على الإناث، يقال: فلانة علوية، أو هاشمية، أو تميمية، أو غيره.

والخلاف الذي أشار إليه بين الأصحاب في اختصاص النسبة إليه بالأب أو عمومها للأب والأم، فالمشهور بينهم الاختصاص بالأب؛ لأنّه المعروف منه لغةً (2) وشرعاً، قال تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِأَبَابِهِمْ﴾ (3). وقال الكاظم علیه السلام: «من كانت أُمّه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإنّ الصدقة تحلّ له، وليس له من الخمس شيء؛ فإنّ الله تعالى يقول: ﴿أَدْعُوهُمْ لأبابهم﴾» (4).

وقال الشاعر:

بنونا بنو أبنائنا و بناتنا *** بنوهنّ أبناء الرجال الأباعده (5)

و ذهب المرتضى إلى دخول أبناء البنات لاستعماله فيه، والأصل فيه الحقيقة (6).

ص: 47


1- السرائر، ج 3، ص 162 - 163.
2- الصحاح، ج 1، ص 224؛ لسان العرب، ج 1، ص 755، «نسب».
3- الأحزاب (33): 5.
4- الكافي، ج 1، ص 540، باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده .... ذيل الحديث 4؛ تهذيب الأحكام ج 4، ص 129 ذيل الحديث 366.
5- مغني اللبيب، ج 2، ص 126.
6- رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 262 - 265 وج 4 ص 328.
الوقف على الجيران

● ولو وقف على الجيران رجع إلى العرف و قيل: لمن يلى داره إلى أربعين ذراعاً. و هو حسن. و قيل: إلى أربعين داراً من كلّ جانبٍ. و هو مطرح.

------

أما الأول فلقول النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ مشيراً إلى الحسن والحسين علیهما السلام: «هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا» (1)، ولقوله تعالى: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ، دَاوُود﴾ إلى قوله ﴿وَعِيسَى﴾ (2) مع عدم انتساب عيسى إليه بالأب.

وأما الثاني فقد حقق في الأصول.

وأجيب بتسليم الاستعمال، لكنّه أعم من الحقيقة - وقد حقق فيه أيضاً - ولاستلزام الاشتراك، والمجاز خير منه.

ويمكن دفع الأخير بجعله للقدر المشترك بين الأمرين، و هو خير منهما.

قوله: «ولو وقف على الجيران رجع إلى العرف - إلى قوله - و هو مطرح».

وجه الأوّل واضح؛ لأنه المرجع حيث لا يكون للفظ حقيقة شرعية.

والثاني: قول الأكثر، ومنهم الشيخان (3) و أتباعهما (4)، وابن إدريس (5)، والشهيد (رحمه الله)(6)، ومال إليه العلّامة في التحرير (7).

ومع ذلك لم نقف لهم على مستند، خصوصاً لمثل ابن إدريس الذي لا يعوّل في مثل ذلك على الأخبار الصحيحة و نحوها، والعرف لا يدلّ عليه فكيف فيما لا مستند له؛ و لعله عوّل على ما تخيّله من الإجماع عليه، كما اتفق له ذلك مراراً.

ص: 48


1- مناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 418: كشف الغمة، ج 2، ص 326.
2- الأنعام (6): 84 و 85.
3- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 653 والشيخ الطوسي في النهاية، ص 599.
4- كأبي الصلاح في الكافي في الفقه، ص 326؛ وسلار في المراسم، ص 198؛ وابن البراج في المهذب، ج 2، ص 91.
5- السرائر، ج 3، ص 163.
6- الدروس الشرعية، ج 2، ص 218 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
7- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 308، الرقم 4676.

......

------

وأما الثالث فلم أعلم قائله وجماعة من باحثي مسائل الخلاف كالإمام فخر الدين في الشرح (1) والمقداد في التنقيح (2) والشيخ علي (3) - أسندوا دليله إلى رواية العامة عن عائشة أنّ النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ سئل عن حد الجوار، فقال: «إلى أربعين داراً» (4)، مع أن الكليني (رحمه الله) ذكر في الكافي ثلاث روايات بذلك معتبرات الإسناد:

إحداها: رواها عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «حدّ الجوار أربعون داراً من كل جانب من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه و عن شماله» (5).

و الثانية: بالإسناد عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن عمرو بن عكرمة، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: قال رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «كلّ أربعين داراً جيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله» (6).

و الثالثة: عن عمرو بن عكرمة أيضاً، عن أبي عبد الله علیه السلام في حديث طويل في آخره: «أن رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ أمر عليّاً وسلمان وأبا ذر أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه، فنادوا بها ثلاثاً، ثم أومأ بيده إلى كلّ أربعين داراً من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله». (7).

والرواية الأولى من الحسن. ولو لا شذوذ هذا القول بين أصحابنا لكان القول به حسناً؛

ص: 49


1- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 386-387.
2- التنقيح الرائع، ج 2، ص 320.
3- جامع المقاصد، ج 9، ص 45.
4- الجامع الصغير السيوطي، ج 1، ص 0570 ح 3687.
5- الكافي، ج 2، ص 669، باب حد الجوار، ج 2.
6- الكافي، ج 2، ص 669، باب حد الجوار، ح 1.
7- الكافي، ج 2، ص 666، باب حق الجوار، ح 1.

.....

------

لكثرة رواياته من الطرفين وكثيراً ما يثبت الأصحاب أقوالاً بدون هذا المستند، والعامة عاملون برواياتهم في ذلك.

إذا تقرر ذلك، فنقول: إن رجعنا في ذلك إلى العرف فالأمر واضح، فما حكم بدخوله يدخل وما لا فلا، و إن رجعنا إلى الأذرع فالمعتبر منها الشرعيّة، وهي أربعة وعشرون إصبعاً. ثم إن انتهى العدد إلى آخر دارٍ أو بين دارين فالحد متميّز. و إن انتهى في أثناء دار هل يدخل في الحد أم لا؟ يبنى على دخول الغاية في المغيّا مطلقاً، أم لا، أم بالتفصيل بالفصل المحسوس فلا يدخل، وعدمه فيدخل.

والأقوى تفريعاً عليه حينئذ الدخول.

ولو وصل المقدار إلى باب داره خاصةً بني على ما ذكر، وأولى بعدم الدخول هنا. وصرّح ابن البرّاج بدخوله (1) في عبارة رديئةٍ، وقوّاه في الدروس(2).

ولو اعتبرنا في الدور العدد رجع إليه.

و لا فرق حينئذ بين الدار الصغيرة والكبيرة في الجوانب و إن اختلفت المسافة في الجوانب كثيراً؛ عملاً بمسمّى العدد.

ولو كان من أهل البادية اعتبر من ينزل حوله ويُسمّى جاره عرفاً أو مساحةً أو عدداً بالنسبة إلى البيوت المخصوصة.

بقي في المسألة أُمور:

الأول: لا يعتبر في الجار ملكية الدار، فلو كان مستأجراً أو مستعيراً استحق على الأقوى.

ص: 50


1- المهذب، ج 2، ص 91. و في حاشية «و»: «وجه رداءتها أنها تدلّ على انحصار الجار فيما كان على رأس الأربعين، وليس كذلك. وقد نبه على فسادها في المختلف منه (رحمه الله)». راجع مختلف الشيعة، ج 6، ص 275 - 276. المسألة 48.
2- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 218 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

......

------

و يحتمل اعتبار الملكية، وعليه لا يستحق المالك و لا الساكن. أمّا الأوّل فلعدم المجاورة. وأما الثاني فلعدم الملك.

و في إلحاق الغاصب بمستو في المنفعة بحق وجهان، من صدق الجوار به عرفاً، ومن العدو إن فلا يترتب على مجاورته أثر.

وفيه نظر؛ لعدم المنافاة.

ورجح في التحرير هنا عدم الاستحقاق مع توقفه في استحقاق المستأجر والمستعير (1).

الثاني: لو خرج الجار عن الدار فإن بقي مالكاً لها اعتبر في بقاء استحقاقه صدق اسم الجار عليه عرفاً، و إن لم يعتبر العرف ابتداء، فإن خرج عنه بأن انتقل إلى دارٍ أُخرى وهجر الأولى و نحو ذلك، خرج عن الاستحقاق، ولو لم يكن مالكاً بل مستأجراً تمّت مدته أو مستعيراً و نحوهما، خرج عن الاستحقاق، فإن عاد عاد.

الثالث: لو باع صاحب الدار داره التي يسكنها خرج عن الوقف، ودخل المشتري عوضه إن سكن، فإن استعادها البائع عاد إليه الاستحقاق، وهكذا.

الرابع: لو لم يسكن الدار لم يستحق؛ لانتفاء الاسم عرفاً و إن اعتبرت الدار؛ إذ المعتبر د الدور مع صدق اسم الجوار مع احتماله للإطلاق أما لو كانت موطنه ولكن غاب عنها بسفر بنية العود لم يخرج عن الاستحقاق، سواء كان الوقف متقدماً على سفره أم اتفق في غيبته. الخامس: لو كان له داران يتردّد إليهما في السكنى فهو جار لأهلهما، فيستحق بسببهما معاً؛ لصدق الاسم مع وجود القدر المعتبر عند معتبره، ولو كان يسكنهما على التناوب أو بحسب الفصول استحق زمن السكنى خاصة.

السادس يقسّم حاصل الوقف على عدد رؤوس الجيران مطلقاً إن اعتبرنا فيه العرف أو الأذرع، ويستوي فيه الصغير والكبير والذكر والأنثى، دون العبد؛ لعدم أهلية الملك.

ص: 51


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 308، الرقم 4676.

● ولو وقف على مصلحة فبطل رسمها صرف في وجوه البر.

------

و الظاهر عدم الفرق بين صاحب الدار ومن في عيلولته من ولد وزوجةٍ وغيرهما؛ لتناول الاسم للجميع و إن كان تناوله له أقوى.

ولو اعتبرنا عدد الدور، ففي قسمته على رؤوس أهلها أو على عدد الدور وجهان، وعلى الثاني يقسم على الدور أولاً، ثمّ يقسّم حصة كلّ دارٍ على رؤوس أهلها.

قوله: «ولو وقف على مصلحةٍ فبطل رسمها صُرف في وجوه البرّ».

هذا الحكم ذكره الشيخ (رحمه الله) (1)، وتبعه عليه الجماعة (2)، و لم أقف فيه على رادٍ منهم إلا المصنف في النافع، فإنه نسبه إلى قول (3) مشعراً برده.

و وجه الحكم أنّ الملك خرج عن الواقف بالوقف الصحيح أولاً، فلا يعود إليه، والقربة الخاصة قد تعذرت، فيُصرف إلى غيرها من القُرَب؛ لاشتراك الجميع في أصل القربة، ولأنه أقرب شيءٍ إلى مراد الواقف، و لا أولوية لما أشبه تلك المصلحة التي بطل رسمها؛ لاستواء القُرَب كلّها في عدم تناول عقد الوقف لها وعدم قصد الواقف لها بخصوصها، ومجرّد المشابهة لا دخل له في تعلّقه بها، فيبطل القيد ويبقى أصل الوقف من حيث القربة. هذا غاية ما قرروه لتوجيهه.

وفيه نظر؛ فإنّه لا يلزم من قصد القربة الخاصة وإرادتها قصد القربة المطلقة، فإنّ خصوصيات العبادات مقصودة، و لا يلزم بعضها من إرادة بعض.

والدعوى المشهورة - من أنّ المطلق جزء من المقيد، فقصده يستلزم،قصده، كما أن العلم به يستلزم العلم به ممنوعة.

والتحقيق أنّ المصلحة المذكورة الموقوف عليها لا يخلو إمّا أن يكون ممّا ينقرض غالباً أو ممّا يدوم غالباً أو يشتبه الحال.

ص: 52


1- النهاية، ص 600.
2- منهم ابن حمزة في الوسيلة، ص 371؛ ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 370؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 393.
3- المختصر النافع، ص 257.

......

------

فالأول، كالوقف على مصلحة شجرٍ مخصوص - كالتين والعنب - وهذا الوقف يكون كمنقطع الآخر أو هو بعض أفراده، فيرجع بعد انقضائه إلى الواقف أو ورثته على الخلاف يث لا يجعله بعده لمصلحة أخرى تقتضي التأبيد.

و الثاني، كالوقف على مصلحة عين من ماءٍ مخصوص و نحوه مما تقضي العادة بدوامه فيتفق غيره، أو على قنطرة على نهر فيتفق انقطاعه أو انتقاله عن ذلك المكان حيث لا تكون العادة قاضية بذلك.

والمتجه فيه ما ذكره الأصحاب؛ لخروج الملك عن الواقف بالوقف، فعوده إليه يحتاج إلى دليل، و هو منتفٍ، وصرفه في وجوه البر أنسب بمراعاة غرضه الأصلي إن لم يجز صرفه فيما هو أعم منه.

و الثالث، كالوقف على مسجد في قريةٍ صغيرةٍ أو على مدرسة كذلك بحيث يحتمل انقطاع مصلحته كما يحتمل دوامها، و في حملها على أي الجهتين نظر، من أصالة البقاء فيكون كالمؤبد، والشكّ في حصول شرط انتقال الملك عن مالكه مطلقاً الذي هو التأبيد فيحصل الشكّ في المشروط، فلا يُحكم إلا بالمتيقن منه، و هو خروجه عن ملكه مدّة تلك المصلحة، ويبقى الباقى على أصالة البقاء على ملك مالكه.

و يمكن أن يقال هنا: إنّ الوقف على المصالح الخاصة في الحقيقة وقف على المسلمين، إلا أنه مخصص ببعض مصالحهم، كما نبه عليه في الوقف على المساجد (1)، و ذلك هو المصحح للوقف على تلك المصالح التي لا تقبل الملك، وحينئذ فلا يلزم من بطلان المصلحة بطلان الوقف بل يُصرف إلى سائر مصالح المسلمين، أو يتعين الأقرب إلى تلك المصلحة فالأقرب، فيُصرف وقف المسجد إلى مسجدٍ آخر، والمدرسة إلى مدرسةٍ خرى، والقنطرة إلى مثلها وهكذا؛ نظراً إلى تعلّق غرض الواقف بذلك الصنف، فإذا

ص: 53


1- راجع ص 36.

● ولو وقف في وجوه البر وأطلق صرف فى الفقراء والمساكين وكلّ مصلحة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.

● ولو وقف على بني تميم صح، ويُصرف إلى من يوجد منهم، و قيل: لا يصح؛ لأنّهم مجهولون، والأول هو المذهب.

------

فات الشخص كان باقي أفراد الصنف أقرب إلى مراده.

ولعلّ هذا أقرب إلّا أنّه يشكل بالمصلحة التي يعلم انقطاعها؛ فإن الدليل آت فيها وحكم منقطع الآخر متناول لها، إلا أن يخص هذا بما لا يتعلّق بمصلحة المسلمين، بل بمثل الوقف على أولاده من غير أن يسوقه في باقي البطون و نحو ذلك، وليس بذلك البعيد. وللتوقف مجال.

واعلم أنه على تقدير صرف الوقف في وجوه البر مع بطلان المصلحة الخاصة لو عادت بعد انقطاعها وجب عوده إليها؛ لوجوب الوفاء بالعقد السابق، خرج منه ما إذا تعذر، فيبقى الباقي، وعلى هذا القياس.

قوله: «ولو وقف في وجوه البر وأطلق صرف في الفقراء والمساكين» إلى آخره.

البرّ - بالكسر - يطلق على معانٍ منها الطاعة والإحسان والخير. وهذه الثلاثة تصلح هنا فمعنى وجوه البر وجوه الخير أو وجوه الطاعة لله و نحوه، فينصرف إلى القربات كلّها، كنفع الفقراء والمساكين وطلبة العلم وعمارة المساجد والمدارس والقناطر والمشاهد، وإعانة الحاج والزائرين وأكفان الموتى و نحو ذلك.

و في جواز صرفه في مطلق نفع المسلمين و إن كانوا أغنياء وجه؛ لأنّه من جملة وجوه الخير و إن كان غيره من الوجوه أكمل، فإنّ المذكورة سابقاً متفاضلة أيضاً، و لا يجب تحرّي الأكمل منها؛ للأصل، وصدق المعنى الموقوف عليه.

قوله: «ولو وقف على بني تميم صح، ويُصرف إلى من يوجد منهم» إلى آخره.

القائل بعدم الصحة ابن حمزة فإنّه قال: لا يصح الوقف على بني فلان وهم غير محصورين

ص: 54

● ولو وقف على الذمّي جاز؛ لأنّ الوقف تمليك، فهو كإباحة المنفعة، و قيل: لا يصح؛ لأنه يشترط فيه نية القربة إلا على أحد الأبوين، و قيل: يصح على ذوي القرابة، والأوّل أشبه.

------

في البلاد (1)، و هو مذهب الشافعي (2)؛ للجهل بالمصرف، حيث إنه يتعذر استيعابهم وحصرهم .

و هو مدفوع بالأخبار (3) والإجماع الدالين على صحة الوقف على الفقراء والمساكين وعلى المسلمين والمؤمنين مع انتشارهم وعدم حصرهم.

ونبه بقوله « والأوّل هو المذهب» على ندور المخالف، وضعف قوله بحيث لا يكاد تخرج المسألة بسبب خلافه عن الإجماع، و في التذكرة أسند القول إلى علمائنا (4)، مشعراً بالإجماع عليه.

قوله: «ولو وقف على الذمّي جاز؛ لأنّ الوقف تمليك، فهو كإباحة المنفعة» إلى آخره.

أشار بقوله «لأنّ الوقف تمليك» إلى دليل الجواز، وحاصله أن الوقف - كما سلف - تمليك عينٍ أو منفعةٍ، والذمّي قابل للتمليك والإباحة، وأشار إلى أن عدم الصحة مبني على اشتراط القربة.

وقد عُلم من عدم اشتراطها فيما سبق، ومن جعله تمليكاً، ومن قوله بعد نقله اشتراط القربة والأوّل أشبه أنّ مختاره عدم اشتراطها في الوقف. و هو الوجه؛ لعدم دليل صالح على اشتراطها و إن توقف عليها حصول الثواب، وعموم الأدلة على صحته، و إن الوقوف على حسب ما يقفها أربابها يدلّ على عدمه.

ص: 55


1- الوسيلة، ص 370.
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 261. المسألة 4423؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 6، ص 263.
3- الكافي، ج 7، ص 38 باب ما يجوز من الوقف.... ح 37؛ الفقيه، ج 4، ص 240، ح 5577؛ تهذيب الأحكام ج 9، ص 133، ح 563.
4- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 140، المسألة 73.

● و کذا يصح على المرتد، ● و فى الحربى تردّد، أشبهه المنع.

● ولو وقف و لم يذكر المصرف بطل الوقف.

------

وقد تقدم الكلام في تحقيق هذه الأقوال؛ و لعله أعاد المسألة لينبه على الخلاف، فقد ذكر الحكم فيما سبق مجرّداً عنه (1).

قوله «و کذا يصح على المرتد».

المراد به المرتد عن ملّةٍ والمرأة المرتدّة عن فطرة، أما الرجل المرتد عن فطرةٍ فلا يصح الوقف عليه؛ لأنّه لا يقبل التملك، و هو شرط صحة الوقف.

و وجه صحة الوقف على المرتد ما تقدّم من وجه الصحة على الكافر (2)؛ لأنه بمعناه.

قوله: «و في الحربي تردّد أشبهه المنع».

قد تقدم الكلام في ذلك وما يدلّ على القولين (3)، وكأنّه أعاده للتنبيه على الخلاف، وكان الأولى الاكتفاء بذكره مرّةً واحدةً، و کذا الذمي.

قوله: «ولو وقف و لم يذكر المصرف بطل الوقف».

هذا هو المشهور بين الأصحاب، و لم أقف فيه على مخالف إلا ابن الجنيد (4)، وخلافه غير قادح هنا على قاعدة الأصحاب.

يدلّ عليه أيضاً أن الوقف تمليك كما مر، فلابد من مالك، كالبيع والهبة؛ لأنه لو قال: بعت داري بكذا أو وهبتها و لم يذكر المصرف بطلا اتفاقاً، ولأنه لو وقف على مجهول ک وقفت على جماعةٍ» بطل، فإذا أطلق كان أولى بالبطلان؛ لأن علة البطلان جهالة المصرف، وهي متحققة فيهما مع زيادة في هذا.

وقال ابن الجنيد:

لو قال: صدقة لله، و لم يذكر من يتصدق بها عليه جاز ذلك، وكانت في أهل الصدقات الذين سمّاهم الله تعالى؛ لأن الغرض من الوقف الصدقة والقربة، و هو متحقق (5).

ص: 56


1- تقدم في ص 37 وما بعدها.
2- تقدم في ص 37 وما بعدها.
3- تقدم في ص 37 وما بعدها.
4- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 284، المسألة 62.
5- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 284، المسألة 62، و لم يذكر تعليله.
الوقف على غير معيّن

● و کذا لو وقف على غير معيّن، كأن يقول: على أحد هذين، أو على أحدِ المشهدين، أو الفريقين، فالكل باطل.

● و إذا وقف على أولاده أو إخوته أو ذوي قرابته اقتضى الإطلاق اشتراك الذكور والإناث، والأدنى والأبعد، والتساوي في القسمة، إلا أن يشترط ترتيباً أو اختصاصاً أو تفضيلاً.

● ولو وقف على أخواله وأعمامه تساووا جميعاً.

------

ورُدّ بأن الغرض من الوقف ليس مطلق القربة، بل القربة المخصوصة، كما ذكر.

قوله: «و کذا لو وقف على غير معين» إلى آخره.

الوجه فيه ما تقدّم من أنّه تمليك، فلابد من مالك معيّن ولو في ضمن عام أو مطلق و لا يعقل تمليك ما ليس بمعين، ولأن الوقف حكم شرعي، فلا بد له من محلّ معيّن يقوم به. كما يفتقر مطلق العرض إلى المحل الجوهري، وأحد الأمرين أمر كلّي لا وجود له خارجاً، و إن كان كلّ واحدٍ منهما موجوداً خارجاً.

قوله: «و إذا وقف على أولاده أو إخوته أو ذوي قرابته إلى قوله والتساوي في القسمة». وجه الاشتراك في الجميع تناول اسم القرابة والأولاد و نحوهما للجميع على السواء، والإناث يدخلن تبعاً في اللفظ المختصّ بالذكور في مثل هذه الإطلاقات، كما يدخلن في الأوامر الشرعية المختصة بالذكور إجماعاً، وحيث ينتفي المقتضي للتفضيل فالحكم بالاشتراك في الاستحقاق يقتضي التسوية بين الجميع.

و خالف في ذلك ابن الجنيد، وجَعَله مع الإطلاق للذكر مثل حظ الأنثيين؛ حملاً على الميراث (1). و هو ضعيف.

قوله: «ولو وقف على أخواله وأعمامه تساووا جميعاً».

لاشتراكهم في أصل الوقف، والأصل يقتضي التسوية إلا ما أخرجه الدليل الخارجي

ص: 57


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 270، المسألة 40.

● و إذا وقف على أقرب الناس إليه فهم الأبو إن والولد و إن سفلوا، فلا يكون لأحدٍ من ذوي القرابة شيء ما لم يعدم المذكورون، ثمّ الأجداد والإخوة و إن نزلوا، ثمّ الأعمام والأخوال على ترتيب الإرث، لكن يتساوون في الاستحقاق إلا أن يعيّن التفضيل.

------

كالإرث أو الخاص، كما لو شرط تفضيل بعضهم على بعض، وحينئذ فلا ينحصر في المفضل في الإرث، بل على حسب ما شرط؛ لعموم الأمر بالوفاء به (1).

ويُفهم من تعليل ابن الجنيد في الذكور والإناث كون الأعمام والأخوال متفاضلين كذلك.

وسيأتي في الوصية قول بأن إطلاقها للأخوال والأعمام يقتضي أن يكون للأعمام الثلثان وللأخوال الثلث (2). و هو ضعيف.

قوله: «و إذا وقف على أقرب الناس إليه فهم الأبو إن والولد و إن سفلوا» إلى آخره.

الضابط أنّه ينزل على مراتب الإرث فيبدأ أو لا بالآباء والأولاد، ثمّ مع فقد الأولاد للصلب والبطن فلأولادهم، ويشاركون آباء الواقف دون آبائهم و إن كانت العبارة قد تشعر بخلافه، ثم ينتقل إلى الإخوة والأجداد، ويقدّم الأقرب إلى الواقف فالأقرب، ثمّ إلى الأعمام والأخوال كذلك، ويتساوون في الاستحقاق في كل مرتبةٍ؛ لأن ذلك هو الأصل، إلا أن يشترط خلافه فيتبع شرطه؛ لأنّه شرط لا ينافي مقتضى الوقف، فيجب الوفاء به.

ومقتضى هذه القاعدة أنه لو اجتمع الإخوة المتفرّقون أو الأخوال أو الأعمام كذلك اشتركوا في الاستحقاق واستووا فيه والأمر فيه كذلك.

وللشيخ قول بأن المتقرب بالأبوين أولى من المتقرب بأحدهما حتى بالأم، فيكون الأخ

ص: 58


1- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371، ح 1503؛ الاستبصار، ج 3، ص 232، ح 835.
2- يأتي في ص 372.

القسم الرابع: في شرائط الوقف

الدوام و التنجيز

وهي أربعة الدوام، والتنجيز والإقباض، وإخراجه عن نفسه.

● فلو قرنه بمدة بطل. و کذا لو علقه بصفةٍ متوقعة. و کذا لو جعله لمن ينقرض غالباً، كأن يقفه على زيدٍ ويقتصر، أو يسوقه إلى بطون تنقرض غالباً، أو يطلقه في عقبه و لا يذكر ما يصنع به بعد الانقراض. ولو فعل ذلك قيل: يبطل الوقف. و قيل: يجب إجراؤه حتى ينقرض المسمّون و هو الأشبه.

------

للأبوين أولى من الأخ للأُمّ. وهكذا (1). وقواه العلّامة في المختلف في الإخوة (2)، وقطع به في التحرير مطلقاً (3) من غير فرق بين الإخوة وغيرهم ممن يتقرب بالأبوين.

والأقوى المشهور.

قوله: «فلو قرنه بمدة بطل - إلى قوله - و هو الأشبه».

هنا مسألتان:

إحداهما: أن يقرن الوقف بمدةٍ كسنةٍ مثلاً، وقد قطع المصنّف ببطلانه؛ لأن الوقف شرطه التأبيد، فإذا لم يحصل الشرط يبطل.

و قيل: إنّما يبطل الوقف، ولكن يصير حبساً كالثانية؛ لوجود المقتضى، و هو الصيغة الصالحة للحبس؛ لاشتراك الوقف والحبس في المعنى، فيمكن إقامة كلّ واحدٍ مقام الآخر، فإذا قرن الوقف بعدم التأبيد كان قرينة إرادة الحبس، كما لو اقترن الحبس بالتأبيد، فإنه يكون وقفاً (4)؛ كما مره (5).

ص: 59


1- المبسوط، ج 3، ص 118 - 119.
2- مختلف الشيعة، ج 1، ص 288، المسألة 68.
3- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 309 - 310، الرقم 4679.
4- من القائلين به الشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 210 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10)؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 16.
5- مر في ص 16 .

......

------

وهذا هو الأقوى، لكن هذا إنّما يتمّ مع قصد الحبس، فلو قصد الوقف الحقيقي وجب القطع بالبطلان لفقد الشرط.

و الثانية: أن يجعله لمن ينقرض غالباً و لم يذكر المصرف بعده، كما لو وقف على أولاد، واقتصر، أو على بطون تنقرض غالباً. و في صحته وقفاً أو حبساً أو بطلانه من رأس أقوال أشار إليها المصنف، واختار أولها. ويمكن أن يكون اختار الثاني؛ لأن وجوب إجرائه حتى ينقرض المسمّون يشملهما.

و وجه الأوّل: أنّ الوقف نوع تمليك وصدقة فيتبع اختيار المملك في التخصيص وغيره، ولأصالة الصحة، وعموم الأمر بالوفاء بالعقد (1)، ولأنّ تمليك الأخير لو كان شرطاً في تمليك الأول لزم تقدّم المعلول على العلة ولرواية أبي بصير عن الباقر علیه السلام أن فاطمة علیها السلام أوصت بحوائطها السبعة إلى عليّ علیه السلام ثم إلى الحسن ثم إلى الحسين علیهما السلام ثم إلى الأكبر من ولدها (2)، ولعموم ما سلف من توقيع العسكري علیه السلام: الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» (3).

وأجيب عن الأوّل بأنّ التمليك لم يعقل موقتاً - و کذا الصدقة - وأصالة الصحة متوقفة على اجتماع شرائطها، و هو عين المتنازع؛ لأنّ الخصم يجعل منها التأبيد، والأمر بالوفاء بالعقد موقوف على تحقق العقد، و هو موضع النزاع، وكون تمليك الأخير شرطا غير لازم وإنّما الشرط بيان المصرف الآخر ليتحقق معنى الوقف، وفعل فاطمة علیها السلام لا حجة فيه من حيث إنها لم تصرح بالوقف، بل بالوصية، و لا إشكال فيها، ولو سُلّم إرادتها الوقف فجاز علمها علیها السلام بتأبيد ولدها؛ للنصّ على الأئمة علیهم السلام وأنهم باقون ببقاء الدنيا (4)، وقوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «حبلان

ص: 60


1- المائدة (5): 1.
2- الكافي، ج 7، ص 48، باب صدقات النبي .... ح 5: الفقيه، ج 4، ص 244، ح 5582: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 144 - 145 . ح 603.
3- سبق تخريجه في ص 33 الهامش 2.
4- الكافي، ج 1، ص 178 وما بعدها، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجة، ح 1 - 13، وص 179 وما بعدها، باب أنه لو لم يبق في الأرض.... . ح 1 - 5.

......

------

متصلان لن يفترقا حتى يردا على الحوض» (1). وقول العسكري علیه السلام متوقف على تحقق الوقف، و هو المتنازع.

وفيه نظر؛ لأنّ التمليك الموقت متحقق في الحبس وأخويه وهذا منه، واشتراط التأبيد متنازع مشكوك فيه، فيجوز التمسك بالأصل، وعموم الأمر بالوفاء بالعقد (2)؛ إذ لا شبهة في كونه عقداً، غايته النزاع في بعض شروطه.

والاستدلال بعدم افتراق الحبلين إلى أن يردا الحوض على بقاء الذرية إلى آخر الزمان فيه أنّ افتراقهما لازم بعد الموت إلى البعث، فعدم الافتراق إمّا كناية عن الاجتماع باعتبار بقاء النفوس الناطقة، أو على ضرب من المجاز، ومعهما لا يفيد المطلوب.

والقول بالصحة حسن، ولكن لا يظهر الفرق بين كونه وقفاً أو حبساً بدون القصد فالأولى الرجوع إليه فيه. و لا يقدح في الحبس استعماله فيه على وجه المجاز، إما لأنّه شائع في هذا الاستعمال، أو لمنع اختصاص كلّ بصيغة خاصة، بل بما أفاده، و هو حاصل، والقول باستلزام الصحة انتقال الملك عن الواقف، وإلا فهو الحبس، فيجب أن لا يعود عين النزاع.

وبالجملة، فالقول بالصحة في الجملة متجه، وفائدة الفرق بين الحبس والوقف على هذا الوجه نادرة.

وأما القول بالبطلان فنقله الشيخ عن بعض الأصحاب، واحتج له بأن الوقف شرطه التأبيد، فإذا لم يرده إلى ما يدوم لم يتحقق الشرط (3)، ولأنه يكون منقطعاً فيصير الوقف على مجهول.

ص: 61


1- أورده نصاً العلامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 266، ذيل المسألة 37؛ و في مسند أحمد، ج 3، ص 393- 394 . ح 10747: والجامع الصحيح، ج 5، ص 663، ح 3788 بتفاوت.
2- المائدة (5): 1.
3- المبسوط، ج 3، ص 112.

● فإذا انقرضوا رجع إلى ورثة الواقف، و قيل: إلى ورثة الموقوف عليهم، والأوّل أظهر.

------

وفيه: أنّ المجهول إن أريد به في الابتداء فظاهر فساده، و إن أريد به بعد الانقراض فليس هناك موقوف عليه أصلاً، فلا يُحكم بالجهالة؛ إذ بعد انقراضه يصير موروثاً - كما سيأتي – لا موقوفاً، والكلام في اشتراط التأبيد قد سمعته.

قوله: «فإذا انقرضوا رجع إلى ورثة الواقف و قيل: إلى ورثة الموقوف عليهم، والأوّل أظهر».

هذا الخلاف متفرّع على القول بصحته وقفاً؛ إذ لا شبهة في كونه مع وقوعه حبساً يرجع إلى الواقف أو إلى ورثته، كما أنه مع البطلان لا يخرج عنه، وإنما الكلام على القول بصحته وقفاً، وقد اختلف الأصحاب في انتقاله بعد انقراض المسمّين على أقوال:

أحدها - و هو قول الأكثر، ومنهم العلّامة (رحمه الله) في أكثر كتبه (1)- رجوعه إلى ورثة الواقف؛ لأنّه لم يخرج عن ملكه بالكلّيّة، وإنّما تناول أشخاصاً، فلا يتعدّى إلى غيرهم ولظاهر قول العسكري علیه السلام: «إنّ الوقف على حسب ما يقفه أهله» (2)، وإنّما وقفوه هنا على من ذكر، فلا يتعدّى ويبقى أصل الملك لهم، كالحبس أو هو عينه.

واستدلّ له أيضاً برواية جعفر بن حيان عن الصادق علیه السلام (3).

وهي مع تسليم سندها لا دلالة لها على المطلوب، فلذا لم نطل الكلام بذكرها.

والثاني: انتقاله إلى ورثة الموقوف عليه اختاره المفيد وابن إدريس (4)، وقواه العلّامة

ص: 62


1- كتذكرة الفقهاء، ج 20، ص 164 - 165، المسألة 95؛ وقواعد الأحكام، ج 2، ص 388؛ ومختلف الشيعة، ج 6، ص 266، المسألة 38.
2- راجع تخريجه في ص 33، الهامش 2.
3- الكافي، ج 7، ص 35 باب ما يجوز من الوقف.... ح 29 الفقيه، ج 4، ص 242 - 243، ح 5580: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 133 - 134، ح 565: الاستبصار، ج 4، ص 99 ح 382.
4- المقنعة ص 655: السرائر، ج 3، ص 165.

● ولو قال: «وقفتُ إذا جاء رأس الشهر» أو «إن قدم زيد» لم يصح.

------

في التحرير (1)؛ لانتقال الملك إليهم قبل الانقراض، فيُستصحب، ولأن عوده إلى الواقف بعد خروجه يفتقر إلى سبب و لم يوجد ولأنه نوع صدقةٍ فلا يرجع إليه.

و الثالث: أنه يصرف في وجوه البرّ، ذهب إليه السيد أبو المكارم ابن زهرة (2)، ونفى عنه البأس في المختلف (3)؛ لخروج الملك عن الواقف، فلا يعود إليه، وعدم تعلّق العقد بورثة الموقوف عليه، وعدم القصد إليهم، فلا ينتقل إليهم، وأقرب شيءٍ إلى مقصوده وجوه البر.

وضعف القولين ظاهر، وأصحها الأول.

والمعتبر وارثه عند انقراض الموقوف عليه، كالولاء.

و يحتمل وارثه عند موته مسترسلاً إلى أن يصادف الانقراض.

وتظهر الفائدة فيما لو مات الواقف عن ولدين ثم مات أحدهما عن ولد قبل الانقراض فعلى الأوّل يرجع إلى الولد الباقي خاصةً، وعلى الثاني يشترك هو وابن أخيه؛ لتلقيه من أبيه، كما لو كان حياً.

قوله: «ولو قال: وقفتُ إذا جاء رأس الشهر أو إن قدم زيد لم يصح».

هذا تفريع على اشتراط التنجيز، رتبه مشوشاً؛ إذ كان حقه الابتداء بتفريعه، ونبه بالمثالين على أنه لا فرق بين تعليقه بوصف لابد من وقوعه كمجيء رأس الشهر، و هو الذي يطلق عليه الصفة، وبين تعليقه بما يحتمل الوقوع وعدمه كقدوم زيد، و هو المعبّر عنه بالشرط.

واشتراط تنجيزه مطلقاً موضع،وفاق، كالبيع وغيره من العقود، وليس عليه دليل بخصوصه. نعم يتوجه على قول الشيخ بجواز الوقف في المنقطع الابتداء (4)- إذا كان الموقوف عليه

ص: 63


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 292، الرقم 4648.
2- غنية النزوع، ج 1، ص 299.
3- مختلف الشيعة، ج 1، ص 267، المسألة 38.
4- المبسوط، ج 3، ص 114؛ الخلاف، ج 3، ص 544، المسألة 10.
القبض شرط في صحة الوقف

● والقبض شرط في صحته، فلو وقف و لم يُقبض ثم مات كان ميراثاً.

------

أولا ممن يمكن انقراضه ويُعلم كنفسه وعبده بمعنى صحته بعد انقراض من بطل في حقه - جواز المعلَّق على بعض الوجوه وقد تقدّم ضعفه (1).

ويستثنى من بطلانه بتعليقه على الشرط ما لو كان الشرط واقعاً والواقف عالماً بوقوعه كقوله: «وقفت إن كان اليوم الجمعة» فلا يضر، كغيره.

قوله: «والقبض شرط في صحته، فلو وقف و لم يُقبض ثم مات كان ميراثاً».

لا خلاف عندنا في اشتراط القبض في تمامية الوقف بحيث يترتب عليه أثره، بمعنى كون انتقال الملك مشروطاً بالعقد والقبض، فيكون العقد جزء السبب الناقل وتمامه القبض، فقبله يكون العقد صحيحاً في نفسه لكنّه ليس بناقل للملك، فيجوز فسخه قبله، ويبطل بالموت،قبله والنماء المتخلّل بين العقد والقبض للواقف.

و بهذا يظهر أنّ القبض من شرائط صحة الوقف، كما عبر به المصنّف وجماعة، ولكن بعضهم (2) عبّر بأنّه شرط اللزوم، و لا يريدون به معنى غير ما ذكرناه و إن كان من حيث اللفظ محتملاً؛ لكونه عقداً تاماً ناقلاً للملك نقلاً غير لازم، كالملك في زمن الخيار للبائع، فإنّ النماء المتخلّل على هذا التقدير للمنتقل إليه، وليس كذلك هنا اتفاقاً، وإنّما أراد بكونه شرطاً في اللزوم أنّ العقد لا يتمّ و لا يلزم بحيث يترتب عليه أثره، أو أن الانتقال لا يلزم و لا يتحقق ،بدونه، و نحو ذلك.

و يدلّ على جواز الرجوع فيه قبل القبض - مع الإجماع - صحيحة صفو إن بن يحيى عن أبي الحسن علیه السلام قال: سألته عن الرجل يوقف الضيعة ثم يبدو له أن يحدث في ذلك شيئاً، فقال: «إن كان أوقفها لولده ولغيرهم ثم جعل لها قيماً لم يكن له أن يرجع، و إن كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها، و إن كانوا كباراً و لم يسلّمها

ص: 64


1- تقدّم في ص 35.
2- كالشيخ في الخلاف، ج 3، ص 539 المسألة 2؛ وابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 298؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 346.

......

------

إليهم و لم يخاصموا حتى يجوزوها عنه فله أن يرجع فيها؛ لأنّهم لا يحوزوها وقد بلغوا» (1).

وعلى بطلانه بموت الواقف قبله رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال في السلام رجل تصدق على ولدٍ له قد أدركوا، فقال علیه السلام: «إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث فإن تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز؛ لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره» (2).

و قد فهم الأصحاب من الحديث أن المراد بالصدقة الوقف، واستدلوا به على ما ذكرناه مع احتمال أن يريد بالصدقة معناه الخاص، فلا يكون دليلاً.

ويؤيده قوله في آخر الحديث، وقال: «لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله تعالى» فإنّ هذا الحكم من خواص الصدقة الخاصة، لا الوقف.

و الظاهر أنّ موت الموقوف عليه قبل القبض كموت الواقف؛ لأن ذلك هو شأن العقد الجائز فضلاً عن الذي لم يتمّ ملكه، و لكنهم اقتصروا على المروي.

و يحتمل هنا قيام البطن الثاني مقامه في القبض.

و يفرّق بينهما بأنّ موت الواقف ينقل ماله إلى وارثه، و ذلك يقتضى البطلان، كما لو نقله في حياته، بخلاف موت الموقوف عليه، فإنّ المال بحاله و لم ينتقل إلى غيره؛ لعدم تماميّة الملك.

و في التحرير توقف في صحته إذا قبض البطن الثاني (3)، و لم يذكره في غيره و لا غير.

و فى معنى الموت الجنون والإغماء.

إذا تقرّر ذلك، فالقبض المعتبر هنا هو المعتبر في البيع، وقد حققناه ثُمَّ (4)؛

ص: 65


1- الكافي، ج 7، ص 37 - 38، باب ما يجوز من الوقف... . ح 36: الفقيه، ج 4، ص 239 - 240، ح 5576: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 134، ح 566: الاستبصار، ج 4، ص 102، ح 392.
2- الفقيه . ج 4، ص 247، ح 5588؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 137، ح 577: الاستبصار، ج 4، ص 102، ح 390.
3- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 292، الرقم 4650.
4- راجع ج 3، ص 50 وما بعدها.

● ولو وقف على أولاده الأصاغر كان قبضه قبضاً عنهم، و کذا الجد للأب، و في الوصي تردّد، أظهره الصحة.

------

والأقوى أنّه لا يشترط فيه الفورية للعقد؛ للأصل، وانتفاء دليل يدلّ عليه، وف--ي الروايتين السابقتين إرشاد إليه؛ حيث علق البطلان بعدم القبض إلى أن يموت، فإنّ مقتضاه الاكتفاء به قبل الموت متى حصل.

و يحتمل اعتبار الفورية؛ لأنه ركن في العقد، فجرى مجرى القبول، خصوصاً على القول بعدم اشتراط القبول.

و بهذا يفارق قبض البيع؛ فإنّ الملك والعقد يتم بدونه، فلا يشترط في تحقق حكمه فوريته قطعاً.

قوله: «ولو وقف على أولاده الأصاغر كان قبضه قبضاً عنهم إلى قوله - أظهره الصحة».

لما كان المعتبر من القبض رفع يد الواقف ووضع يد الموقوف عليه وكانت يد الوليّ بمنزلة يد المولى عليه، كان وقف الأب والجد وغيره - ممّن له الولاية على غير الكامل لما في يده - على المولّى عليه متحققاً بالإيجاب والقبول؛ لأنّ القبض حاصل قبل الوقف فيُستصحب، وينصرف إلى المولّى عليه بعده؛ لما ذكرناه.

و الظاهر عدم الفرق بين قصده بعد ذلك القبض عن المولّى عليه للوقف وعدمه؛ لتحقق القبض الذي لم يدلّ الدليل على أزيد من تحققه.

و يحتمل اعتبار قصده قبضاً عنه بعد العقد؛ لأنّ القصد هو الفارق بين القبض السابق الذي كان لغير الوقف وبينه.

و لا فرق في هذا الحكم بين أصناف الوليّ، كالأب والجد والحاكم والوصي على أصح القولين، ولكن المصنف تردّد في إلحاق الوصي بغيره من الأولياء في ذلك، و کذا العلّامة في التحرير(1)؛ نظراً إلى ضعف يده وولايته بالنسبة إلى غيره.

ص: 66


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 293، الرقم 4650.

......

------

و لا وجه للتردّد؛ فإنّ أصل الولاية كافٍ في ذلك، والمعتبر هو تحقق کونه تحت يد الواقف مضافاً إلى ولايته على الموقوف عليه، فيكون يده كيده، و لا يظهر لضعف اليد وقوتها أثر في ذلك.

و في معنى ما ذكر ما لو كان الموقوف تحت يد الموقوف عليه قبل الوقف بوديعة وعارية و نحوهما؛ لوجود المقتضي للصحة - و هو القبض - فإن استدامته كابتدائه إن لم يكن أقوى، و لا دليل على اعتبار كونه واقعاً مبتدأ بعد الوقف.

ولو كان القبض واقعاً بغير إذن المالك كالمقبوض بالغصب والشراء الفاسد - ففي الاكتفاء به نظر، من صدقه في الجملة كما ذكر، والنهي عنه غير قادح هنا؛ لأنّه ليس بعبادةٍ خصوصاً إذا لم يشترط فيه القربة، ومن أنّ القبض ركن من أركان العقد، والمنهي عنه لا يُعتدّ به شرعاً، ولهذا لو قبض الموقوف عليه بدون إذن الواقف لغى، فلو اعتبر مطلق القبض لكفى و إن أثم. وقد مضى مثله في باب الرهن (1).

واختلف كلام العلّامة في التذكرة، فقطع هنا بالاكتفاء بقبض الغاصب (2)، و في الرهن بعدمه، وأنه يشترط الإذن ومضي زمان يمكن فيه تجديد القبض (3)، وسيأتي مثله في الهبة (4)؛ و إن كلام المصنّف يؤذن بالاكتفاء بقبض الغاصب، و لعله أجود.

وحيث لا يعتبر تجديد القبض لا يعتبر مضيّ زمان يمكن فيه إحداثه، و إن اعتبر اعتُبر؛ لأن الإذن فيه يستدعي تحصيله ومن ضروراته مضيّ،زمان، بخلاف ما لا يعتبر فيه التجديد، وقد تقدّم له مزيد تحقيق في الرهن (5).

ص: 67


1- سبق في ج 3، ص 406.
2- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 160 المسألة 91.
3- تذكرة الفقهاء، ج 13، ص 193، المسألة 143.
4- يأتي في ص 145 وما بعدها.
5- تقدم في ج 3، ص 406.
الإخراج عن نفسه

● ولو وقف على نفسه لم يصح، و کذا لو وقف على نفسه ثمّ على غيره، و قيل: يبطل في حق نفسه ويصح فى حق غيره، والأوّل أشبه.

------

قوله: «ولو وقف على نفسه لم يصح - إلى قوله - والأوّل أشبه».

لا خلاف بين أصحابنا في بطلان وقف الإنسان على نفسه؛ ولأن الوقف إزالة ملك وتمليك من الواقف وإدخال ملك على الموقوف عليه، والملك هنا متحقق ثابت لا يعقل إدخاله وتجديده مع ثبوته و لا اشتراط نفعه لنفسه، كالبيع والهبة، ولأنه تمليك منفعة وحدها أو مع الرقبة، و لا يعقل تمليك الإنسان نفسه.

و خالف في ذلك بعض العامة، فصححوه؛ بناءً على أن استحقاق الشيء وقفاً غير استحقاقه ملكاً (1)، وقد يقصد حبسه ومنع نفسه من التصرف المزيل للملك.

إذا تقرر ذلك، فلو وقف على نفسه ثمّ على غيره فهو منقطع الأول؛ لبطلانه في حق نفسه. و هل يصح في حق غيره؟ قولان تقدّم الكلام فيهما (2)، و إن الأقوى البطلان مطلقاً.

وعلى تقدير الصحة هل يصح لغيره من حين الوقف أو بعد موت الواقف؟ وجهان، وقد تقدم اختيار الشيخ للأول (3).

و هو مشكل؛ لأنّه خلاف مقصود الواقف، وقد قال العسكري علیه السلام: «إنّ الوقوف على حسب ما يقفها أهلها، وأهلها» (4). هنا لم يقصدوا ذلك الغير ابتداء، فكيف يُصرف إليه؟

والأقوى تفريعاً على الصحة انصرافه إليه بعد موت الموقوف عليه، و بهذا يُسمّى منقطع الأول.

ولو انعكس الفرض بأن وقف على غيره ممّن ينقرض ثمّ على نفسه، فهو منقطع الآخر،

ص: 68


1- في حاشية «و»: «هو الشافعي في أحد قوليه وأحمد وأبو يوسف وجماعة منه (رحمه الله)». راجع المبسوط السرخسي، ج 12، ص 49: والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 219، المسألة 4381: واللباب في شرح الكتاب، ج 2، ص 185 - 186.
2- تقدم في ص 34.
3- تقدم في ص 35.
4- تقدم تخريجه في ص 33 الهامش 2.

● و کذا لو وقف على غيره، وشرط قضاء ديونه أو إدرار مؤونته لم يصح.

------

وقد تقدّم اختيار صحته حبساً على ذلك الغير (1).

ولو عقب ذلك بعد نفسه بالوقف على آخر فهو منقطع الوسط، وحكمه فيما بعد نفسه كالأوّل.

ولو عطف الغير في الأوّل على نفسه بالواو فليس بمنقطع الأوّل؛ لبقاء موقوف عليه ابتداء، و هو الغير؛ فإنّ الموقوف عليه ليس هو المجموع منه ومن الغير من حيث هو مجموع بل كلّ واحدٍ منهما.

والأقوى حينئذٍ صحة الوقف على الغير في نصفه، وبطلان النصف في حقه؛ لعدم المانع من نفوذ الوقف في النصف مع وجود المقتضي للصحة، و هو الصيغة مع ما يعتبر معها.

و يحتمل ضعيفاً أن يكون الكلّ للغير خصوصاً لو جعلناه للغير في السابق كما مرّ؛ نظراً إلى أنّ الموقوف بالنسبة إليهما هو المجموع من حيث هو مجموع، والحكم بالتنصيف إنما نشأ من امتناع كون المجموع وقفاً على كلّ منهما كمنقطع الأول، فإذا امتنع الوقف على أحدهما خاصةً انصرف وقف المجموع إلى الآخر.

ويضعف بأنّه إنّما وقف عليهما بحيث يكون لكلّ منهما حصة، فإذا بطل في أحدهما لم ينصرف الموقوف كلّه إلى الآخر؛ لأنّ ذلك خلاف مدلول الصيغة وخلاف مراد الواقف والعقد تابع للقصد.

قوله: «و کذا لو وقف على غيره، وشرط قضاء ديونه أو إدرار مؤونته لم يصح».

لمّا كان قاعدة مذهب الأصحاب اشتراط إخراج الوقف عن نفسه بحيث لا يبقى له استحقاق فيه - من حيث إن الوقف يقتضي نقل الملك والمنافع عن نفسه - فإذا شرط الواقف قضاء ديونه أو إدرار مؤونته أو نحو ذلك فقد شرط ما ينافي مقتضاه، فيبطل الشرط والوقف معاً، و لا فرق بين أن يشترط قضاء دين معين وعدمه، و لا بين اشتراط إدرار مؤونته مدة

ص: 69


1- تقدّم في ص 59 - 60.

● أما لو وقف على الفقراء ثمّ صار فقيراً، أو على الفقهاء ثم صار فقيهاً صح له المشاركة في الانتفاع.

------

معينة ومدة عمره، ومثله شرط الانتفاع به مدة حياته أو مدة معلومة، وسواء قدر ما يؤخذ منه أو أطلقه؛ لوجود المقتضي في الجميع.

ومن جوّز الوقف على نفسه جوّز اشتراط هذه الأشياء مطلقاً.

ومنع الاشتراط المذكور مختص بنفسه، فلو شرط أكل أهله منه صح الوقف والشرط، كما فعله النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ في صدقته (1)، وشرطته فاطمة علیها السلام كذلك (2)، و کذا لو شرط أن يأكل الناظر منه أو يطعم غيره، فإن كان وليه الواقف كان له ذلك؛ عملاً بالشرط، و لا يكون ذلك شرطاً للنفع على نفسه.

قوله: «أما لو وقف على الفقراء ثم صار فقيراً» إلى آخره.

الفرق أنّ ذلك ليس وقفاً على نفسه و لا على جماعة هو منهم، فإنّ الوقف على مثل ذلك ليس وقفاً على الأشخاص المتصفين بهذا الوصف بل على الجهة المخصوصة، ولهذا لا يعتبر قبولهم و لا قبول بعضهم و لا قبضهم و إن أمكن، و لا ينتقل الملك إليهم، وإنّما ينتقل إلى الله تعالى، و لا يجب صرف النماء في جميعهم، ومثل هذا يُسمّى وقفاً على الجهة؛ لأنّ الواقف ينظر إلى جهة الفقر والمسكنة مثلاً، ويقصد نفع موصوف بهذه الصفة، لا شخص بعينه، و لا فرق في صحة المشاركة بين أن يكون الواقف متصفاً بالصفة التي هي مناط الوقف حالة الوقف وبعده.

و خالف في أصل الحكم ابن إدريس، فمَنَع من انتفاع الواقف بالوقف في ذلك ونظائره؛ لخروجه عنه فلا يعود (3)، وقد عرفت جوابه.

ص: 70


1- الفقيه، ج 4، ص 244، ذيل الحديث 5582؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 145، ح 604
2- الكافي، ج 7، ص 47 وما بعدها، باب صدقات النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ.... ح 1 - 2 و 4 - 6: الفقيه، ج 4، ص 244، ح 5582: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 144 - 145، ح 603.
3- السرائر، ج 3، ص 155.
لو شرط في الوقف عوده إليه عند حاجته

● ولو شرط عوده إليه عند حاجته صح الشرط، وبطل الوقف، وصار حبساً يعود إليه مع الحاجة ويورث.

------

و في بعض فتاوى الشهيد (رحمه الله) أنه يشارك ما لم يقصد منع نفسه أو إدخالها (1).

و هو حسن، فإنّه إذا قصد إدخال نفسه فقد وقف على نفسه و لم يقصد الجهة، و إذا قصد منع نفسه فقد خصص العام بالنية، و هو جائز فيجب اتباع شرطه؛ للخبر السابق (2)، وإنما الكلام عند الإطلاق.

قوله: «ولو شرط عوده إليه عند حاجته صح الشرط» إلى آخره.

البحث هنا يقع في موضعين:

[الموضع الأوّل] في صحة هذا الشرط، وفيه قولان:

أحدهما - واختاره المعظم بل ادّعى المرتضى عليه الإجماع (3) - صحة العقد والشرط ولعموم ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (4)، و«المؤمنون عند شروطهم» (5)، و قول العسكري علیه السلام: «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها» (6)، ولخصوص رواية إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه الخير، وقال: إن احتجت إلى شيءٍ من مالي أو من غلته فأنا أحق به أله ذلك وقد جعله الله؟ و كيف يكون حاله إذا هلك الرجل؟ أيرجع ميراثاً أو تمضى صدقته؟ قال: «يرجع ميراثاً على أهله» (7)، والمراد بالصدقة في الرواية الوقف بقرينة الباقي، ولأن الوقف تمليك للمنافع فجاز الرشرط فيه، كالإجارة.

ص: 71


1- حكاه عنه المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 28.
2- سبق تخريجه في ص 33، الهامش 2.
3- الانتصار، ص 468، المسألة 264.
4- المائدة (5): 1.
5- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371، ح 1503: الاستبصار، ج 3، ص 232، ح 835.
6- تقدّم تخريجه في ص 33، الهامش 2.
7- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 135، ح 568، وص 146، ح 607.

......

------

و ثانيهما: البطلان ذهب إليه الشيخ في أحد قوليه (1) وابن إدريس(2) والمصنف في النافع (3)؛ لأنّ هذا الشرط خلاف مقتضى الوقف؛ لأن الوقف إذا تمّ لم يعد إلى المالك على حالٍ، فيكون فاسداً، ويفسد به العقد.

وأجابوا عن الأوّل بأنّ وجوب الوفاء بالعقد والكون مع الشرط مشروط بوقوعه على الوجه الشرعي، و هو عين المتنازع، وصحة الشرط المذكور ممنوعة، فإنّها عين المتنازع، والرواية الخاصة في طريقها أبان و الظاهر أنه ابن عثمان، وحاله معلوم.

وفيه: أنّه لا شبهة في كون الواقع عقداً صح أم فسد والحاصل فيه شرطاً، فيتناولهما العموم حيث لا اتفاق على بطلانهما و إن كان من المتنازع، وهذا آتٍ في كثير من نظائره من مسائل الخلاف وأمّا أبان بن عثمان فقد اتفقت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، فلا يقدح الطعن في مذهبه، كيف! وقد انضاف إلى ذلك اتفاق الأصحاب أو أكثرهم على العمل بمضمون حديثه.

ومن ذلك يظهر بطلان حجّة المانع. والعجب أنّ ابن إدريس ادعى الإجماع على البطلان مع تصريح المرتضى بالإجماع على خلافه، ووافقه المفيد والشيخ في النهاية وابن البرّاج وسلّار (4)، وغيرهم ممن سبقه، وحينئذ فالعمل بالمشهور أجود.

[الموضع] الثاني: على تقدير الصحة والحاجة يجوز له الرجوع ويصير ملكاً، ويبطل الوقف. و إن لم يرجع أو لم يحتج حتى مات هل يبطل الوقف؛ لصيرورته بالشرط المذكور حبساً، أم يستمر الوقف على حاله؟ قولان، اختار المصنّف هنا والعلّامة (5)

ص: 72


1- المبسوط، ج 3، ص 122
2- السرائر، ج 3، ص 155 - 157 .
3- المختصر النافع، ص 255.
4- المقنعة، ص 652؛ النهاية، ص 595؛ المهذب، ج 2، ص 93؛ المراسم، ص 197.
5- قواعد الأحكام، ج 2، ص 389.

......

------

و جماعة (1) الأوّل؛ عملاً بمقتضى الرواية الخاصة(2)، ولاشتراك الوقف والحبس في كثير من الأحكام. ولأن الوقف لما كان شرطه التأبيد والشرط ينافيه حمل على الحبس، و لم يخرج عن ملك المالك، بل يورث عنه بعد موته و إن لم يحتج إليه.

فإن قيل: إذا كان قد جعل نهاية الحبس حصول الحاجة فإذا مات قبل حصولها ورجوعه وجب أن يبقى على ما كان؛ عملاً بمقتضى الغاية، وإلا لزم جَعْل ما ليس بغايةٍ غايةً.

قلنا: الحاجة تتحقق بالموت؛ لانتقال المال فيصير الميت فقيراً، وأيضاً فإنّ الحبس لا بدّ أن يكون له نهاية، وحيث لم يكن له نهاية في هذه الصورة جعل موته النهاية؛ لأنّه محلّ انتقال الملك إلى الوارث و لا يعقل بقاء الحبس بعد الموت، والرواية (3) تؤيد ذلك.

و ذهب المرتضى والعلّامة في المختلف إلى الثاني (4)؛ لأنّ صحة الشرط تقتضي العمل بمقتضاه ومقتضى العقد، فإن رجع الواقف بمقتضى شرطه بطل الوقف؛ عملاً بالشرط، و إن لم يرجع ومات كان على حاله؛ عملاً بمقتضى العقد.

وهذا حسن إن لم تعتبر الرواية (5)، وإلا فالأوّل أحسن.

بقي هنا أُمور:

أحدها: أن الحاجة التي شرط عوده عندها إن بين الواقف كميتها - من قصور ماله عن قدرٍ معين أو عن قوت السنة أو غيره - اتبع، و إن أطلق رجع فيها إلى العرف، و لا شكّ أنّ مستحق الزكاة لفقره وغرمه محتاج شرعاً وعرفاً فينصرف إليه.

ص: 73


1- منهم الشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 213 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10)؛ والسيوري في التنقيح الرائع، ج 2، ص 305 - 306.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 135، ح 568، وص 146، ح 607.
3- أي رواية إسماعيل بن الفضل المتقدم تخريجها في ص 71، الهامش 7.
4- الانتصار، ص 468 - 469. المسألة 264: مختلف الشيعة، ج 6، ص 254، المسألة 27.
5- أي رواية إسماعيل بن الفضل المتقدم تخريجها في ص 71، الهامش 7.

......

------

واحتمل في الدروس تفسيرها بقصور ماله عن قوت يوم وليلة وبسؤاله لغيره (1). والأشبه الأول.

والثاني: أن قول المصنف «ويعود إليه مع الحاجة ويورث» لا يريد بكونه يورث مع عوده؛ إذ ليس ذلك موضع شبهةٍ، ولأنه يصير مستدركاً؛ لأنّ عوده إلى ملكه يستلزم كونه موروثاً إن بقي على ملكه، بل المراد أنه يورث على تقدير عدم حاجته إليه، بناء على صيرورته حبساً، كما ذكرناه، ومن شأن الحبس أن يبطل بالموت ويورث، فيكون ذلك إشارة إلى القول الأوّل من الموضع الثاني.

الثالث: قوله «صح الشرط وبطل الوقف» لا يخلو من تجوز؛ لأن الوقف لم ينعقد بَعْدُ حتى يحكم ببطلانه، وإنّما المراد أن العقد الواقع بصيغة الوقف يقع حبساً لا وقفاً، فبطلان الوقف منزل على ذلك.

الرابع: قوله « ويعود إليه مع الحاجة» يقتضي أنه مع تحققها لا يتوقف عوده إليه على فسخ العقد، بل ينفسخ بمجرد ظهورها، وهذا هو الظاهر من لفظ «شرطه» لأنّ شرطه عوده بها، لا إعادته، و بهذا عبّر الأكثر.

و يحتمل عدم عوده بمجرد ظهورها بل يتوقف على اختياره العود؛ لأنّ ذلك بمنزلة شرط الخيار لنفسه في الرجوع، ومن شأن هذه الشروط إفادة التسلّط على الفسخ لا الانفساخ بنفسه، بل لو شرط الانفساخ بنفسه لم يصح؛ لأنّ ذلك غير معهودٍ شرعاً.

وقد يستدل للجواز والانفساخ بنفسه بظاهر الشرط؛ فإنّ مقتضاه عوده مع الحاجة بالفعل، فيدخل في عموم: «المؤمنون عند شروطهم» (2). ويفرّق بين ما لو شرط ذلك بهذا اللفظ، وبين ما لو شرط تسلّطه عليه مع الحاجة، فينفسخ بنفسه في الأول دون الثاني.

ص: 74


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 213 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- تقدم تخريجه في ص 71، الهامش 5.

● ولو شرط إخراج مَنْ يريد بطل الوقف ● ولو شرط إدخال من سيولد مع الموقوف عليهم جاز، سواء وقف على أولاده أو على غيرهم.

------

و لا يرد عليه أنّ هذا العقد لا يقبل الخيار، فإنّ هذا النوع من الخيار مستثنى بالنص (1) والفتوى دون غيره.

قوله: «ولو شرط إخراج من يريد بطل الوقف».

هذا عندنا موضع،وفاققٍ، ولأنّ وضع الوقف على اللزوم، و إذا شرط إخراج من يريد من الموقوف عليهم كان منافياً لمقتضى الوقف؛ إذ هو بمنزلة اشتراط الخيار. و هو باطل.

و خالف في ذلك بعض العامة، فسوّغ هذا الشرط، كما سوّغ شرط صرف الريع مدة إلى غير الموقوف عليه، أو صرفها مدةً إليه ومدّةً إلى آخر، و نحو ذلك (2).

والأصل ممنوع.

قوله: «ولو شرط إدخال من يريد (3) مع الموقوف عليهم جاز» إلى آخره.

لأنّ هذا الشرط لا ينافى مقتضى الوقف؛ فإنّ بناءه على جواز إدخال من سيوجد وسيولد مع الموجود، واشتراط إدخال مَنْ يريد إدخاله في معناه بل أضعف؛ لأنه قد يريد، فيكون في معنى اشتراط دخوله، وقد لا يريد، فيبقى الوقف على أصله، فإذا جاز الأوّل اتفاقاً جاز الآخر كذلك أو بطريق أولى.

وما يقال من أنّ إدخال من يريد يقتضي نقصان حصة الموقوف عليهم، فيكون إبطالاً للوقف في ذلك البعض غير قادح؛ لأن ذلك وارد في شرط إدخال المولود و نحوه، ولأن العقد لما تضمن الشرط لم يكن للموقوف عليه حقٌّ إلّا مطابقاً له، فلا تغيير، ولأن الوقف لازم في حق الموقوف عليه في الجملة، وإنما المختلف الحصة، و ذلك غير قادح، كما لو وقف على بطون فزادت تارةً ونقصت أُخرى.

ص: 75


1- راجع تخريجه في ص 71، الهامش 7.
2- شرح فتح القدير، ج 5، ص 439
3- في المتن: «سيولد» بدل «يريد».
لو شرط نقله عن الموقوف عليهم

● أمّا لو شرط نقله عن الموقوف عليهم إلى من سيولد لم يجز، وبطل الوقف.

● و قيل: إذا وقف على أولاده الأصاغر جاز أن يشرك معهم و إن لم يشترط. وليس بمعتمد.

------

قوله: «أما لو شرط نقله عن الموقوف عليهم إلى مَنْ سيوجد لم يجز، وبطل الوقف».

هذا هو المشهور، بل ادعى عليه الشيخ الإجماع (1)، ولما تقدّم من أنّ بناء الوقف على اللزوم، فإذا شرط نقله عن الموقوف عليه إلى غيره فقد شرط خلاف مقتضاه، فيبطل الشرط والعقد.

و في القواعد استشكل الحكم بالبطلان (2) مما ذكرناه، ومن عموم «المؤمنون عند شروطهم» (3)، وقول العسكري علیه السلام السابق (4)، وأنه يجوز الوقف على أولاده سنة ثم على المساكين، وقد ادعى في التذكرة على صحته الإجماع (5)، و هو يقتضي منع منافاة الشرط لمقتضى الوقف، ولأنه يصح الوقف باعتبار صفةٍ للموقوف عليه، كالفقر، فإذا زالت انتقل عنه إلى غيره إن شرط، و هو في معنى النقل بالشرط، واستقربه في الدروس (6).

ويمكن الفرق بين ما هنا وبين الوقف باعتبار الصفة، فإنّه حينئذ ليس على الموقوف عليه مطلقاً، بل على المتصف بها خاصةً، فإذا زالت كان في معنى عدم الموقوف عليه بموت،و نحوه، بخلاف نقله عنه بالاختيار.

وأمّا الإجماع الذي نقله في التذكرة فقد رجع عنه في القواعد إلى الإشكال كهذه المسألة.

قوله: «و قيل: إذا وقف على أولاده الأصاغر جاز» إلى آخره.

ص: 76


1- المبسوط، ج 3، ص 113 - 114 .
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص390.
3- تقدم تخريجه في ص 71، الهامش 5.
4- سبق تخريجه في ص 33 الهامش 2.
5- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 176 المسألة 100.
6- الدروس الشرعية، ج 2، ص 217 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

......

------

القول المذكور للشيخ في النهاية (1)، وتبعه عليه تلميذه القاضي، لكن شرط عدم قصره ابتداء على الموجودين (2).

ومستند القول صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق علیه السلام في الرجل يجعل لولده شيئاً وهم صغار ثمّ يبدو له أن يجعل معهم غيرهم من ولده، قال: «لا بأس» (3).

و قريب منها رواية محمد بن سهل عن أبيه قال: سألت أبا الحسن الرضا عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله ثمَّ يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده قال: «لا بأس به» (4). ومثلها صحيحة عليّ بن يقطين عن الكاظم علیه السلام (5).

وأجيب بمنع دلالتها على الوقف؛ لأن الجعل والصدقة أعم منه، فربما كان السبب غير مقتض للزوم (6).

والمشهور عدم الجواز إلا مع الشرط في عقد الوقف؛ لعموم الأدلّة السابقة.

ويؤيدها رواية جميل بن درّاج قال قلت لأبي عبد الله: رجل يتصدق على ولده بصدقةٍ وهُمْ صغار أله أن يرجع فيها؟ قال: «لا الصدقة لله» (7).

وصحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن علیه السلام في الرجل يتصدق ببعض ماله على بعض ولده ويبينه لهم أله أن يدخل معهم من ولده غيرهم بعد أن أبانهم بصدقة؟ قال: «ليس له

ص: 77


1- النهاية، ص 596.
2- المهذب، ج 2، ص 89.
3- الكافي، ج 7، ص 31، باب ما يجوز من الوقف.... ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 135 - 136، ح 572: الاستبصار، ج 4، ص 101، ح 388.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 136 - 137، ح 574: الاستبصار، ج 4، ص 101، ح 388.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 137، ح 575: الاستبصار، ج 4، ص 101 - 102، ح 389.
6- أجاب به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 34.
7- الكافي، ج 7، ص 31، باب ما يجوز من الوقف... . ح 5: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 135، ح 570، وص 137 - 138، ح 578؛ الاستبصار، ج 4، ص 102، ح 391.
لو وقف على الفقراء أو على الفقهاء

● والقبض معتبر في الموقوف عليهم أولاً، ويسقط اعتبار ذلك في بقية الطبقات.

● ولو وقف على الفقراء أو على الفقهاء فلا بد من نصب قيم لقبض الوقف،

------

ذلك إلا أن يشترط أنّه مَنْ ولد فهو مثل مَنْ تصدّق عليه فذلك له» (1).

والخبر الأوّل لا دلالة له على مطلوبهم؛ لأنه سأله عن الرجوع فيها، واشتراك غيرهم معهم ليس برجوع. وأما صحيحة علي بن يقطين فمعارضة بصحيحته السابقة.

ويمكن التوفيق بينهما بأمرين:

أحدهما: أن يكون في الثاني قد شرط قصره على الأوّلين، كما يشعر به قوله: «بعد أن أبانهم»، ويُحمل الأوّل على ما لو لم يشترط ذلك، كما يدلّ عليه إطلاقه، فيكون ذلك كقول القاضي (2).

والثاني: حمل النفي في الثاني على الكراهة؛ جمعاً.

وكلاهما متجه إلّا أنّ الأوّل من التأويلين أوجه.

وأما دلالة الصدقة على الوقف وعدمه فمشترك، إلا أنّ الظاهر إرادته في أكثر الأخبار في هذا الباب بالقرائن.

قوله: «والقبض معتبر في الموقوف عليهم أولاً، ويسقط اعتبار ذلك في بقية الطبقات».

لأنّهم يتلقون الملك عن الأوّل وقد تحقق الوقف ولزم بقبضه، فلو اشترط قبض الثاني لانقلب العقد اللازم جائزاً بغير دليل و هو باطل.

قوله: «ولو وقف على الفقراء أو على الفقهاء فلا بدّ من نصب قيم لقبض الوقف».

لما كان القبض معتبراً في صحة الوقف، وكان الوقف على مثل الفقراء والفقهاء وقفاً على الجهة كما سلف لم يمكن اعتبار قبض بعض مستحقى الوقف؛ لأنّه ليس هو الموقوف عليه الحقيقة، و إن كان الوقف على جهةٍ من جهات مصالحه فلا بد من قابض للوقف، ولما كان

ص: 78


1- راجع تخريجها في ص 77 الهامش 5.
2- المهذب، ج 2، ص 89.

● ولو كان الوقف على مصلحة كفى إيقاع الوقف عن اشتراط القبول، وكان القبض إلى الناظر في تلك المصلحة.

● ولو وقف مسجداً صح الوقف ولو صلّى فيه واحد، و کذا لو وقف مقبرةً تصير وقفاً بالدفن فيها ولو واحداً.

------

الحاكم هو الذي يرجع إليه حكم هذه المصالح كان نصب القيم لقبض وقفها إليه، و هو المراد من إطلاق نصب القيم، وأولى منه لو قبض بنفسه.

ولو نصب المالك بنفسه قيماً للقبض فالأقرب الإجزاء، خصوصاً مع فقد الحاكم و منصوبه.

ومحلّ نصبه قبل إيقاع صيغته إن اعتبرنا فوريته، وإلا فقبله أو بعده. و هو الأقوى.

قوله: «ولو كان الوقف على مصلحةٍ كفى إيقاع الوقف عن اشتراط القبول، وكان القبض إلى الناظر في تلك المصلحة».

هنا حكمان:

أحدهما: أنّ الوقف على المصالح العامة كالقناطر والمساجد - لا يشترط فيه القبول، و وجهه ظاهر؛ لأنّ القبول يكون من الموقوف عليه، وقد عرفت أن الموقوف عليه في مثل ذلك هو الجهة و لا يعقل اعتبار قبولها، بخلاف ما لو كان الوقف على معيّن، فإنّ قبوله،ممكن فيمكن القول باعتباره، ويُفهم من قول المصنف أنّ القبول معتبر في غير الجهة، و لم يتقدم منه ما يدلّ على اعتباره.

والثاني: قبض الوقف في مثل ذلك، و لا ريب في اعتباره مطلقاً.

ثم إن كان لتلك المصلحة ناظر شرعي من قبل الواقف تولى القبض من غير اشتراط مراجعة الحاكم؛ لأنّ الناظر مقدّم عليه، فإن لم يكن لها ناظر خاص فالقبض إلى الحاكم.

قوله: «ولو وقف مسجداً صح الوقف ولو صلّى فيه واحد» إلى آخره.

أطلق المصنف تحقق قبض المسجد بصلاة واحدٍ فيه بعد الوقف وقبض المقبرة بدفن واحدٍ فيها، ويجب تقييده بوقوع ذلك بإذن الواقف؛ ليتحقق الإقباض الذي هو شرط صحة

ص: 79

......

------

القبض، وقيده آخرون (1) بإيقاع الصلاة والدفن بنية القبض أيضاً، فلو أوقعا ذلك لا بنيته كما لو وقع قبل العلم بالوقف أو بعده قبل الإذن في الصلاة، أو بعدها لا بقصد القبض - إمّا لذهوله عنه أو لغير ذلك لم يلزم، ومثله الدفن.

وإنّما اختص هذا الوقف بنية القبض و لم يشترط في مطلقه؛ لأن المقصود هنا صرفه إلى الجهة الموقوف عليها، وقبض بعض المستحقين كقبض الأجنبي بالنسبة إلى قبض الموقوف عليه، فلا بد من نيّة صارفةٍ له إلى الوقف، بخلاف الوقف على معيّن؛ فإنّ قبضه متحقق لنفسه، والمطلوب صرفه إليه، و هو حاصل فلا حاجة إلى قصد تعيينه. و من الفرق يظهر أنّ القابض لو كان وكيلاً عن الموقوف عليه اعتبر قصده القبض عن الغير.

و کذا لو وقف الأب أو الجدّ ما بيدهما على المولّى عليه اعتبر قبضهما عن الطفل و لا يكفي استصحاب يدهما؛ لأنّ القبض السابق محسوب لنفسه، لا لغيره.

هذا كله إذا لم يقبضه الحاكم الشرعي أو منصوبه، وإلا فالأقوى الاكتفاء به إذا وقع بإذن الواقف؛ لأنه نائب المسلمين، وهذا في الحقيقة وقف عليهم و إن اختص بجهة المسجد والمقبرة، ولأنه والي المصالح العامة لو سُلّم عدم كونه وقفاً على المسلمين، فيعتبر قبضه، وربما كان قبضه أقوى من قبض المصلّي والدافن؛ لأنّ الصلاة والدفن تصرّف في الوقف، و هو فرع صحة الوقف التي هي فرع تحقق القبض، بخلاف قبض الحاكم؛ لأنه نفس حقيقته.

واعلم أنّه لا فرق في الصلاة بين الواجبة والمندوبة، و لا بين الواقعة من الواقف وغيره، ويشترط كونها صحيحةً؛ ليتحقق مسمّاها شرعاً، و کذا لا فرق في المدفون بين الصغير والكبير، ويعتبر كونه واقعاً على وجهه الشرعى جامعاً لشرائطه، وكون المدفون من جملة الموقوف على دفنهم كالمسلم فيما يوقف على المسلمين، و في حكمه من يتبعه من طفل ومجنون، و في الصغير المسبي الوجهان.

ص: 80


1- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 389؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 24.

● ولو صرّف الناس في الصلاة في المسجد أو في الدفن و لم يتلفظ بالوقف لم يخرج عن ملكه، و کذا لو تلفّظ بالعقد و لم يقبضه.

-----

قوله: «ولو صرّف الناس في الصلاة في المسجد أو في الدفن و لم يتلفظ بالوقف لم يخرج عن ملكه، و کذا لو تلفّظ بالعقد و لم يقبضه».

صرّف - بالتشديد - أي أذن لهم في التصرّف. و وجه عدم الاكتفاء - بعد كون الوقف من العقود اللازمة المتوقفة على صيغة مخصوصة - ظاهر، ولأصالة بقاء الملك على مالكه ما لم يثبت المزيل.

و کذا القول فيما لو تلفّظ بالصيغة و لم يقبضه؛ لأنّ القبض أحد أركان صحته، وهذا موضع وفاق، وإنّما نبه به على خلاف أبي حنيفة؛ حيث جَعَل الوقف متحققاً بالإذن مع الصلاة وبالدفن كذلك؛ محتجاً بالعرف وقياساً على تقديم الطعام للضيف (1). والعرف ممنوع والفرق ظاهر.

ص: 81


1- المبسوط السرخسي، ج 12، ص 41 - 42 .

النظر الثالث في اللواحق / أحکام الوقف

اشارة

وفيه مسائل:

الوقف ينتقل إلى ملك الموقوف عليه

الأولى: ● الوقف ينتقل إلى ملك الموقوف عليه؛ لأن فائدة الملك موجودة فيه والمنع من البيع لا ينافيه، كما في أُمّ الولد.

------

قوله: «الوقف ينتقل إلى ملك الموقوف عليه - إلى قوله كما في أم الولد».

الكلام هنا يقع في موضعين:

أحدهما: إنّ الموقوف هل ينتقل عن ملك الواقف، أم يبقى على ملكه؟ والمشهور - و هو اختيار المصنف - انتقاله عنه؛ لأنّ الوقف سبب يزيل التصرّف في الرقبة والمنفعة فيزيل الملك، كالعتق، ولأنه لو كان باقياً على ملكه لرجعت إليه قيمته كالملك المطلق.

و يظهر من أبي الصلاح (1) من علمائنا - و هو اختيار جماعة من العامة (2) - أنه لا ينتقل عن ملكه؛ لقول النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «حبس الأصل وسبل الثمرة» (3) وسيأتي أن الحبس على الآدمي لا يخرج عن الملك (4)، ولجواز إدخال من يريد مع صغر الأولاد، ولو انتقل لم يجز ذلك، ودليل الصغرى قد تقدّم (5)، والكبرى ظاهرة.

ص: 82


1- الكافي في الفقه، ص 324 – 325.
2- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 209، المسألة 4368.
3- تقدم تخريجه في ص 13 الهامش 1.
4- يأتي في ص 142.
5- تقدم في ص 75.

......

------

وأجيب (1) عن الأول بأنّ المراد بتحبيس الأصل أن يكون محبوساً على ملك الموقوف عليه، وما في معناه لا يباع و لا يوهب و لا يورث، والملك إنما زال على هذا الحد من الشرائط، ومطلق الحبس لا يدلّ على عدم الخروج؛ فإنّ منه ما يخرج عن الملك، مع أنّ هذا الحبس ليس هو ذاك؛ لأنه قسيمه، فلا يكون قسماً منه، بل هذا حبس أقوى، وإدخال من يريد مع أولاده إن سُلّم فبدليل خارج.

والأقوى الأوّل.

والثاني: على تقدير القول بانتقاله عن ملكه إلى من ينتقل؟ فذهب الأكثر ومنهم المصنّف إلى أنّه ينتقل إلى الموقوف عليه؛ لما أشار إليه المصنّف من أنّه مال مملوك؛ لوجود فائدة الملك فيه، وهي ضمانه بالمثل أو القيمة، وليس الضمان للواقف و لا لغيره، فيكون للموقوف عليه، ومنعه من بيعه لا ينافي الملك، كأم الولد؛ فإنّها مملوكة للمولى مع عدم جواز بيعها، وقد يجوز بيعه على بعض الوجوه.

وسيأتي نقض ذلك ببواري المسجد وآلاته؛ فإنّها تضمن بالقيمة وملكها لله تعالى لا للناس.

ورُدّ (2) بأنّ النقض إنّما يتم إذا جعلنا المضمون في الوقف على المعين وقفاً، ولو جعلناه للموقوف عليهم لم يتم.

وفيه نظر؛ لأنّ جَعْله للموقوف عليهم طلقاً ربما يؤكد النقض من حيث إنّ ذلك أكد في تحقق الملك، بخلاف جعله وقفاً؛ فإنّه يبقى على أصل الشبهة.

واحتج الإمام فخر الدين على الانتقال إليه برواية علي بن سليمان النوفلي، المتضمنة للسؤال عن أرض موقوفة على قوم منتشرين متفرقين في البلاد، فأجاب أبو جعفر الثاني علیه السلام

ص: 83


1- المجيب هو المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 61.
2- الراد هو المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 63.

......

------

بأنها لمن حضر البلد الذي فيه الملك (1)، و وجه الاستدلال من اللام المفيدة للملك، و إن المحكوم عليه هو الأرض، لا منفعتها؛ لأنّها المذكورة سابقاً.

وفيه نظر؛ لأنّ الحكم لو كان على الأرض لما استحق من غاب عن البلد منهم شيئاً منها، و هو خلاف الإجماع، وإنّما الحكم أنه لا يجب تتبع من غاب، مع أنه لو تتبع جاز، ومثله ما لو ذهب فريق من البلد وحضر فريق آخر، فإنّ الحكم ينعكس، و هو ينافي الملك المذكور.

و كيف كان، فالأقوى الانتقال إليه كما ذكر، لكن هذا إنما يتم في الموقوف عليه المعين المنحصر، أمّا لو كان على جهةٍ عامة أو مسجد و نحوه، فالأقوى أنّ الملك فيه لله تعالى لتساوي نسبة كلّ واحد من المستحقين إليه، واستحالة ملك كلّ واحدٍ أو واحدٍ معيّن أو غير معيّن؛ للإجماع، واستحالة الترجيح، و لا المجموع من حيث هو مجموع؛ لاختصاص الحاضر به.

والمصنّف أطلق الحكم بانتقاله إلى الموقوف عليهم، فيمكن أن يريد به مطلقاً كما أطلقه الشيخ (رحمه الله) (2) وجماعة (3)؛ نظراً إلى ما تقدم، وجواز كون الموقوف عليه هو الأمر الكلّي مقيداً بمن حضر.

وما يقال في جوابه - من أنّ المالك لا بد أن يكون موجوداً في الخارج لاستحالة ملك من لا وجود له و لا تعيين - عين المتنازع، وجاز أن يكون الموقوف عليه الجهة، والملك لها. ونمنع من عدم قبولها للملك، فإنّه كما يجوز الوقف عليها يجوز نسبة الملك إليها كذلك.

ص: 84


1- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 390؛ والرواية أوردها الكليني في الكافي، ج 7، ص 38، باب ما يجوز من الوقف.... ح 37؛ والصدوق في الفقيه، ج 4، ص 240، ح 5577 والشيخ في تهذيب الأحكام، ج 9، ص 133، ح 563.
2- لمبسوط، ج 3، ص 105 - 106
3- منهم الراوندي في فقه القرآن، ج 2، ص 293: وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 154: والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 222 ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10): والسيوري في التنقيح الرائع، ج 2. ص 311.

وقد يصح بيعه على وجه ● فلو وقف حصّةً من عبد ثمّ أعتقه لم يصح العتق؛ لخروجه عن ملكه ● ولو أعتقه الموقوف عليه لم يصح أيضا؛ لتعلق حق البطون به.

------

والأقوى التفصيل - خصوصاً في الوقف على المسجد والمقبرة - لأنه فيهما فكّ ملك، كتحرير العبد، ومن ثُمَّ لا يشترط فيه القبول من الحاكم و لا من غيره، و لا يشترط القبض من الحاكم، بل كلّ من تولاه من المسلمين صح قبضه بالصلاة كما مرّ، ومثله المقبرة، أما الجهات العامة فلما اشترط فيها قبض القيم أو الحاكم و قيل باشتراط القبول فيها (1) كانت الشبهة فيها أقوى.

والمراد بكون الملك لله تعالى انفكاك الموقوف عن ملك الآدميين واختصاصهم، لا كونه مباحاً كغيره مما يملكه الله تعالى، وتظهر فائدة الخلاف في مواضع سيفرع المصنّف بعضها.

قوله: «فلو وقف حصّة من عبد ثمّ أعتقه لم يصح العتق؛ لخروجه عن ملكه».

هذا من جملة الفروع على انتقال الملك عن الواقف، و لا فرق بين كون الموقوف حصّةً من العبد وجميعه؛ لاشتراكهما في المعنى، وإنما فرضه في الحصة ليفرع عليه ما سيأتي من وقف الشريك حصته (2).

قوله: «ولو أعتقه الموقوف عليه لم يصح أيضاً؛ لتعلق حق البطون به».

لمّا كان الحكم بانتقال الملك إلى الموقوف عليه ربما أوهم جواز تصرفه في العين بالعتق وغيره، والأمر ليس كذلك، نبه على منعه أيضاً، وعلله بأنه و إن كان مالكاً إلا أن الحق ليس منحصراً فيه بل مشتركاً بينه وبين ما بعده من البطون و إن لم تكن موجودةً بالفعل، فتصرفه فيه بالعتق يبطل حقهم منه، فلا يصح.

وهذا التعليل لا يتمّ مطلقاً؛ إذ ليس من شرط الوقف أن يكون بعده على بطون، بل قد يكون مختصاً به؛ لما تقدّم من حكمه بصحة الوقف المنقطع الآخر(3)، وقد يكون بعده لجهات

ص: 85


1- جامع المقاصد، ج 9، ص 62.
2- يأتي بعيد هذا.
3- تقدم في ص 60.

● ولو أعتقه الشريك مضى العتق في حصته و لم يقوم عليه؛ لأنّ العتق لا ينفذ فيه مباشرةً، فأولى أن لا ينفذ فيه سرايةً، ويلزم من القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم افتكاكه من الرقّ، ويفرّق بين العتق مباشرةً وبينه سرايةً بأن العتق مباشرةً يتوقف على انحصار الملك في المباشر، أو فيه وفي شريكه وليس كذلك افتكاكه؛ فإنّه إزالة للرق شرعاً، فيسري في باقيه فيضمن الشريك القيمة؛ لأنّه يجري مجرى الإتلاف وفيه تردّد.

------

عامةٍ دائمة و لا تُسمّى بطوناً، ويمكن السلامة من الأوّل بجعل الوقف المنقطع حبساً - كما هو أحد الأقوال في المسألة - و إن لم يكن صرّح به والكلام هنا ليس في الحبس، والجهات الدائمة بعده في حكم البطون.

و كيف كان فلا تخلو العبارة عن تجوّز، والأولى تعليل عدم صحة عتقه بكون الوقف يقتضي تحبيس الأصل على الموقوف عليه مطلقاً والعتق ينافيه، وحينئذ فالقول بملكه له لا يقتضي جواز تصرّفه في الأصل؛ لمنعه من كل تصرف ناقل للملك من العتق وغيره.

قوله: «ولو أعتقه الشريك مضى العتق في حصته - إلى قوله - فإنّه إزالة للرق شرعاً».

هذا أيضاً من جملة ما يتفرع على الخلاف السابق، وتحرير القول في ذلك أن نقول: العبد الذي بعضه وقف وبعضه طلق لو أعتق صاحب الطلق حصته هل يسري عليه فينعتق أجمع، أم لا؟ يبنى على أنّ الملك في الوقف هل يبقى للواقف، أم ينتقل إلى الله تعالى، أم إلى الموقوف عليه؟ فعلى الأوّلين لا يسري؛ لأنه إذا انتقل إلى الله تعالى كان في معنى التحرير الذي لا يقبل التغيير، و إذا لم ينتقل عن الواقف كان في معنى إعتاقه، و هو ممتنع أيضاً؛ لما يستلزم من إبطال حق الموقوف عليه.

وعلى القول بانتقاله إلى الموقوف عليه ففي السراية وجهان، أشار إليهما المصنّف فذهب الأكثر بل كاد يكون إجماعاً إلى عدم السراية؛ لما أشار إليه المصنّف من العلة،

ص: 86

......

------

و هو أن العتق لا ينفذ في الحصة الموقوفة مباشرة، كما سبق (1)، فالأولى أن لا ينفذ فيها سرايةً.

و وجه الأولوية أنّ العتق مباشرةً أقوى من العتق بالسراية؛ لأنه يؤثر في إزالة الرق بلا واسطة، وهى إنّما تؤثر فيه بواسطة المباشرة، ولأنها من خواص عتق المباشرة وتوابعه، فإذا لم يؤثر الأقوى المتبوع وذو الخاصة فالأضعف والتابع أولى.

و وجه السراية ما أفاده المصنّف بقوله ويلزم من القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم افتكاكه من الرق، ويفرّق بين العتق مباشرةً وبينه سرايةً بأن العتق مباشرةً يتوقف على انحصار الملك في المباشر، أو فيه و في شريكه، وليس كذلك افتكاكه، فإنّه إزالة للرق شرعاً».

وتقرير الفرق أنّ المانع من نفوذ العتق فيه مباشرةً فَقْدُ شرط من شرائط العتق مباشرة و هو انحصار الملك في المباشر أو فيه و في شريك منحصر، فتخلّف لأجله تأثير المباشرة لفوات هذا الشرط، وليس هذا الشرط معتبراً في عتق السراية؛ إذ هو إزالة الرق شرعاً بطريق القهر، فهي افتكاك محض بمثابة إتلاف الحصة، فيغرم قيمتها للموقوف عليه، فحينئذٍ لا منافاة بين عدم نفوذ الأقوى لفقد شرط ونفوذ الأضعف لاجتماع شرائطه، ويؤيده عموم قول النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أعتق شركاً من عبد وله مال قوم عليه الباقي». (2).

وهذا الفرق مبنى على أنّ المانع من عتق الموقوف عليه إنما هو حق الشركاء كما تقدم تقريره منه بقوله «التعلّق حق البطون به» (3). وقد عرفت أنه غير جيّد، وأنّه ممنوع من التصرف، سواء كان معه شريك أم لا لاقتضاء الوقف تحبيس الأصل مطلقاً، وحينئذٍ فلا فرق بين العتق مباشرةً وسرايةً، وإنّما يتمّ الفرق في بعض الفروض، و هو ما لو كان الوقف على بطون متعدّدة أو جهات كذلك لا مطلقاً، وأمّا عموم النصّ بالسراية فمعارض بمثله في المنع من التصرف في أصل الوقف، فيبقى معنا استصحاب حال الوقف إلى أن يثبت الناقل

ص: 87


1- سبق في ص 85.
2- مسند أحمد، ج 2، ص 257، ح 5884؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 844، ح 2528 بتفاوت فيهما.
3- تقدم قول الماتن في ص 85.

......

------

الخالي عن المعارض، ولاقتضاء السراية سلطنةً على مال الغير فيقتصر فيها على موضع الوفاق.

واعلم أنّ ما بيّنّاه من الحكم على الأقوال الثلاثة هو ظاهر كلام المصنّف؛ لأنّه قال: ويلزم من القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم افتكاكه»، ومفهومه أنا إذا لم نقل بذلك - سواء قلنا بانتقاله إلى الله تعالى أم بقائه على ملك الواقف - لا يفك.

و بهذا المفهوم صرّح الشهيد (رحمه الله) في الدروس، فقال:

إن الوجهين مبنيّان على المالك، فإن قلنا: هو الله تعالى أو الواقف، فلا سراية، و إن جعلناه الموقوف عليه فالأقرب عدم السراية (1).

و في شرح الإرشاد جعل الاحتمال قائماً عليهما، فقال:

إن احتمال تقويمه يُضعف على تقدير القول بانتقال الموقوف إلى الله تعالى، ويقوى على تقدير القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم (2).

هذا لفظه، و لم يذكر حكمه على القول بعدم انتقاله عن ملك الواقف.

والحق أنّ الاحتمال قائم على الجميع؛ لأنّ عموم خبر السراية شامل للجميع، والمنع مباشرة لعارض موجود كذلك، وقد قرّرناه سابقاً (3)، والفرق بين ملك الواقف والموقوف عليه ضعيف جداً؛ فإنّ كلّاً منهما ممنوع من التصرف، إما لحق الموقوف عليه مطلقاً أو لباقي البطون، أو لعموم اقتضاء الوقف تحبيس الأصل عن مثل هذا التصرّف.

وأما القول بانتقاله إلى الله تعالى فقد عرفت أنّ المراد منه قطع سلطنة المالكين من الواقف والموقوف عليه، و ذلك أيضاً لا ينافي إمكان عتقه حيث يدلّ عليه دليل، وليس هو في معنى التحرير مطلقاً؛ ولهذا جاز بيعه في بعض الموارد، بخلاف التحرير، و إن كان الحكم على تقدير انتقاله إلى الموقوف عليه أوضح.

ص: 88


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 223 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- غاية المراد، ج 2، ص 269 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).
3- سبق في ص 87.

الثانية: ● إذا وقف مملوكاً كانت نفقته في كسبه، اشترط ذلك أو لم يشترط، ولو عجز عن الاكتساب كانت نفقته على الموقوف عليهم، ولو قيل في المسألتين كذلك كان أشبه؛ لأنّ نفقة المملوك تلزم المالك.

------

واعلم أنّه على القول بالسراية ودفع القيمة يكون بمنزلة إتلاف الوقف على وجه مضمون، و في شراء حصة من عبد بها يكون وقفاً أو اختصاص البطن الموجود بها قولان يأتي الكلام فيهما (1).

قوله: «إذا وقف مملوكاً كانت نفقته في كسبه - إلى قوله - ولو قيل في المسألتين كذلك كان أشبه».

هذا الحكم أيضاً متفرّع على مالك الوقف، فإن جعلناه للموقوف عليه كما اختاره المصنف - ففي نفقته وجهان:

أحدهما: أنّه من كسبه؛ لأنّ نفقته من شروط بقائه كعمارة العقار، وهي مقدّمة من غلته على حق الموقوف عليه، ولأن الغرض بالوقف انتفاع الموقوف عليه، و هو موقوف على بقاء،عينه وإنّما يبقى بالنفقة فيصير كأنه شرطها من كسبه.

و الثاني - و هو الأقوى - وجوبها على الموقوف عليه؛ لأنّه ملكه، والنفقة تابعة للملك. وأما إذا قلنا بأنّ الملك لله تعالى، فيبنى على أنّ نفقة مستحق المنافع كالأجير الخاص والموصى بخدمته على مستحقها أم لا، فإن جعلناها عليه، فهي على الموقوف عليه أيضاً، وإلا ففي كسبه، فإن تعذر ففي بيت المال.

و يحتمل كونها في بيت المال مطلقاً على القول بكون المالك هو الواقف، فالنفقة على الموقوف عليه على الأوّل، وعلى الواقف على الثاني، فإن تعذر - لإعسار أو غيره - ففي كسبه، فإن قصر ففي بيت المال.

و يحتمل تقديم كسبه و تقديم بيت المال.

ص: 89


1- يأتي في ص 92 وما بعدها.

● ولو صار مُقعداً انعتق عندنا، وسقطت عنه الخدمة وعن مولاه نفقته.

لو جنى العبد الموقوف أو جني عليه

الثالثة: ● لو جنى العبد الموقوف عمداً لزمه القصاص، فإن كانت دون النفس بقي الباقي وقفاً، و إن كانت نفساً اقتص منه وبطل الوقف، وليس للمجني عليه استرقاقه.

------

وأما عمارة العقار فحيث يشترط، وإلا ففي غلته، فإن قصرت لم يجب على أحد، بخلاف الحيوان؛ لوجوب صيانة روحه.

ولو مات العبد فمؤونة تجهيزه كنفقته في حياته.

قوله: «ولو صار مقعداً انعتق عندنا» إلى آخره.

إنما يسقط عن مولاه نفقته من حيث هو مملوك؛ لأنه قد صار حُرّاً، ولكن نفقته حينئذ تجب - مع عجزه وعدم وجود باذل لها - على المسلمين كفايةً، كغيره من المضطرين والموقوف عليه من الجملة، فيجب عليه لكن من هذه الحيثية، لا من حيث المملوكية.

قوله: «لو جنى العبد الموقوف عمداً لزمه القصاص» إلى آخره.

إذا جنى العبد الموقوف عمداً لزمه القصاص لتناول أدلّة ثبوته له و إن استلزم إبطال الوقف، و هو موضع وفاقٍ.

ثم إن كانت الجناية دون النفس بقي الباقي وقفاً؛ لوجود المقتضي فيه؛ إذ لا يبطل الوقف بتلف بعض الموقوف، و إن كانت نفساً واختار الولي القصاص فالأمر واضح.

و إن اختار الاسترقاق - الذي هو أحد فردي الحقين المخيّر فيهما وليّ المجني عليه إذا كان الجاني عمداً عبداً - فقد قطع المصنف (رحمه الله) بأنه ليس له استرقاقه.

و وجهه: أن الوقف يقتضي التأبيد ما دامت العين باقية، و هو ينافي استرقاقه؛ لاستلزامه بطلان الوقف مع بقاء عينه، وخروجه عن الوقف في بعض الموارد لدليل خارج لا يقتضي التعدي حيث لا دليل.

و قيل: له الاسترقاق أيضاً؛ لأن المجني عليه استحق إبطال الوقف وإخراجه عن ملك الموقوف عليهم بالقتل قطعاً، والعفو عنه مطلوب شرعاً، و في استرقاقه جمع بين حق

ص: 90

● و إن كانت الجناية خطاً تعلّقت بمال الموقوف عليه؛ لتعذر استيفائه من رقبته، و قيل: تتعلق بكسبه؛ لأنّ المولى لا يعقل عبداً، و لا يجوز إهدار الجناية و لا طريق إلى عنقه فيتوقع. و هو أشبه.

------

المجني عليه وفضيلة العفو وإبقاء النفس المحترمة بالأصل فيكون أولى من القتل والتأييد الواجب في الوقف إنّما هو حيث لا يطرأ عليه ما ينافيه، و هو موجود هنا فيما هو أقوى من الاسترقاق (1). وهذا أقوى.

قوله: «و إن كانت الجناية خطاً تعلّقت بمال الموقوف عليه - إلى قوله - و هو أشبه».

القول الأول للشيخ (2) وجماعة (3)، و وجهه ما ذكره المصنّف من تعذر استيفائها من رقبته؛ إذ لا يتعلق الأرش إلا برقبة من يباع وقد امتنع ذلك لحق الموقوف عليه، فكان عليه أن يفديه بالأرش.

والأقوى ما اختاره المصنّف؛ لأنّ فيه جمعاً بين الحقين.

نعم، لو لم يكن كسوباً اتجه تعلّق الجناية برقبته، وجواز بيعه كما يقتل في العمد، والبيع أدون من القتل، بل احتمل في المختلف التعلق بالرقبة وجواز البيع مطلقاً (4)؛ لما ذكرناه.

وهذا كله مبني على انتقال الملك إلى الموقوف عليه، أما لو قلنا بعدم انتقاله أو انتقاله إلى الله تعالى، تعلّق بكسبه قطعاً.

و يحتمل تعلّقها بمال الواقف لو لم نقل بانتقاله عنه، وتعلّقها ببيت المال لو قلنا بالانتقال إلى الله تعالى.

ص: 91


1- قال به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 77.
2- المبسوط، ج 3، ص 108.
3- منهم ابن البراج في المهذب، ج 2، ص 94 والشهيد في غاية المراد، ج 2، ص 272 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).
4- مختلف الشيعة، ج 1، ص 278، المسألة 52.

● أما لو جنى عليه فإن أوجبت الجناية أرشاً فللموجودين من الموقوف عليهم، و إن كانت نفساً توجب القصاص فإليهم، و إن أوجبت ديةً أُخذت من الجاني، و هل يقام بها مقامه؟ قيل: نعم؛ لأنّ الدية عوض رقبته، وهي ملك للبطون، و قيل: لا، بل تكون للموجودين من الموقوف عليهم. و هو أشبه؛ لأنّ الوقف لم يتناول القيمة.

------

قوله: «أما لو جني عليه فإن أوجبت الجناية أرشاً - إلى قوله - و هو أشبه».

أما استحقاقهم للأرش فلا شبهة فيه؛ لأنّه عوض عن جزء فائتٍ أو صفة، وكلاهما من توابع العين التي هي مستحقة لهم أو مملوكة.

وأما استحقاقهم القصاص على تقدير فوات نفسه فينبغي تفريعه على القول بانتقال الملك إليهم ليكونوا هم الأولياء، كما لو كان المقتول عبدهم، أما لو قلنا بانتقاله إلى الله تعالى احتمل أن يكون حكم القصاص إلى الحاكم؛ لأنه وليّ هذه المصالح المتعلقة بالله تعالى، و يحتمل - ضعيفاً - استحقاق الموقوف عليهم من حيث تعلّقهم به واستحقاقهم منفعته ولاحتمال أن يصالح القاتل على مالٍ، فيرجع نفعه إليهم طلقاً أو وقفاً على ما سيأتي.

وعلى كلّ حالٍ فعلقة الملك متعلّقة بهم و إن لم نقل بملك نفس الرقبة، ولو قلنا ببقائه على ملك الواقف فحق القصاص إليه.

والمراد بكونها نفساً توجب القصاص أن يكون القاتل عبداً مثله، وبكونها موجبةً للمال أن يكون القتل خطاً، أو القاتل حُرّاً، أو فيه شيءٌ من الحرية.

إذا تقرر ذلك فإذا أُخذت الدية على تقدير ثبوتها أو صلحهم عليها في العمد، فهل يجب إقامة عبد مقامه أو بعض عبد يكون وقفاً، أو يختص بها الموجودون من الموقوف عليهم وقت الجناية؟ قولان أشار المصنّف إلى وجههما.

و وجه الأوّل: أن الدية عوض رقبته والرقبة ليست ملكاً تاماً للموجودين، بل للبطون اللاحقة فيها حقٌّ و إن لم يكن بالفعل لكنّه بالقوة القريبة منه؛ لحصول السبب المملك

ص: 92

......

------

والمعدات للملك، و لم يتخلّف منها سوى وجودهم وحينئذ فلا سبيل إلى إبطال حقهم وحينئذٍ فيجب أن يشترى به عبد أو بعض عبد يكون وقفاً؛ إبقاء للوقف بحسب الإمكان، وصيانةً له عن الإبطال، وتوصلاً إلى غرض الواقف، ولأنّ الوقف تابع لبقاء المالية؛ ولهذا يجب الشراء بقيمته حيث يجوز بيعه، ويكون وقفاً.

و وجه الثاني: أن الوقف ابتداءً متعلّق بالعين؛ لأن موضوعه العين الشخصية لا غير، وقد بطلت بإتلافه، فامتنع أن يكون لمن سيوجد من البطون فيه حق؛ لأنهم حال الجناية غير مستحقين، ووقت صيرورتهم مستحقين قد خرج التالف عن كونه وقفاً.

ويُضعف بأن القيمة بدل عن العين، فيملكها مَنْ يملكها على حد ما يملكها، ويتعلّق بها حقُّ مَنْ يتعلّق حقه بها، والوقف و إن لم يتناول القيمة مطابقةً لكنّه يتناولها اقتضاء من حيث إنّها قائمة مقام العين، ولأنّ حق الوقف أقوى من حق الرهن، و هو يتعلّق بالقيمة، فالوقف أولى، وحينئذ فالأقوى الأول.

بقى هنا مباحث:

الأوّل: يظهر من العبارة أنّ الخلاف مختص بالدية، أما الأرش فقد قطع بكونه للموجودين.

والذي يقتضيه الدليل وصرّح به غيره (1) أنّ حكمه كالدية، والخلاف واقع فيهما، والضابط إيجاب الجناية المال.

الثاني: على تقدير شراء بدله من يتولى شراءه؟ يبنى على القاعدة السابقة، فإن قلنا: الملك للموقوف عليهم، فحق الشراء لهم؛ لأنّهم المالكون، والبطون اللاحقة تابعة لهم.

و يحتمل الحاكم؛ نظراً إلى مشاركة البطون اللاحقة، وليس للسابق ولاية عليهم، بخلاف الحاكم. و إن جعلنا الملك لله تعالى، فالحاكم ليس إلا. ولو أبقيناه على ملك الواقف، فالوجهان.

ص: 93


1- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 396.

إذا وقف في سبيل الله

الرابعة ● إذا وقف فى سبيل الله انصرف إلى ما يكون وصلة إلى الثواب،

------

وحيث يتعذر الحاكم يتولاه الموقوف عليه قطعاً، فإن تعذر أو كان منتشراً فبعض المؤمنين حسبةٌ.

الثالث: هل يصير وقفاً بمجرد الشراء، أم يفتقر إلى الصيغة؟ كل محتمل و إن كان الأول أقوى؛ لأنه بالشراء يصير بدلاً عن العين كالرهن وعلى الثاني يباشره من يباشر الشراء.

الرابع: لو لم تف القيمة لعبد كامل اشتري شقص بها؛ امتثالاً للأمر بحسب الإمكان، ولو فضل منه فضل عن قيمة عبد اشتري معه ولو شقص آخر بالباقي.

الخامس: هل للموقوف عليهم العفو عن القصاص، أو عن الأرش، أو الدية؟ يبنى على أنّ البطون اللاحقة هل تشارك فيه أم لا؟ فعلى الأوّل ليس لهم العفو، وعلى الثاني لهم؛ لانحصار الحق فيهم.

السادس: على تقدير المشاركة لو عفا الأوّل فللثاني أن يستوفي؛ لوجود سبب الاستحقاق من حين الجناية و إن لم يثبت بالفعل مع احتمال العدم؛ لتجدد استحقاقهم بعد سقوط الحق بالعفو.

وعلى تقدير جواز استيفاء الثاني هل له القصاص كالأوّل لو كانت الجناية توجبه، أم يختص بالدية؟ وجهان، من مساواته للأوّل في الاستحقاق، ومن تغليب جانب العفو بحصوله من الأول والأقوى الأول.

السابع: لو كان الجاني عبداً واسترق أو بعضه ففى اختصاص الأوّل به أو مشاركة البطون قولان مبنيّان والأقوى المشاركة؛ لما قد عُلم.

قوله: «إذا وقف في سبيل الله انصرف إلى ما يكون وصلة إلى الثواب» إلى آخره.

لما كان السبيل هو الطريق فسبيل الله كلّ ما كان طريقاً إليه، أي إلى ثوابه ورضوانه لاستحالة التحيز عليه كالقربة إليه، وحينئذ فالموقوف في سبيل الله مصرفه كلّ مصلحةٍ يتقرب بها إلى الله تعالى كما ذكر من الأمثلة وغيرها من نفع المحاويج وغير ذلك.

ص: 94

كالغُزاة والحج والعمرة وبناء المساجد والقناطر ● و کذا لو قال في سبيل الله وسبيل الثواب وسبيل الخير كان واحداً، و لا تجب قسمة الفائدة أثلاثاً.

------

وقال الشيخ (رحمه الله):

يختص الوقف في سبيل الله بالغُزاة المطوّعة، دون العسكر المقاتل على باب السلطان، وبالحج والعمرة، فيقسم أثلاثاً (1).

وقال ابن حمزة سبيل الله المجاهدون (2).

والأقوى المشهور و إن كان إطلاقه على ما ذكره أقوى، فإنّ ذلك لا يمنع من تناول غيره مما يدخل في مفهومه.

قوله: «و کذا لو قال في سبيل الله وسبيل الثواب وسبيل الخير كان واحداً» إلى آخره. المشهور بين الأصحاب أنّ هذه المفهومات الثلاثة ترجع إلى معنى واحد، و هو سبيل الله، بالمعنى العام المتقدّم، واللغة والعرف يرشدان إليه . ونبه بقوله و لا تجب قسمة الفائدة أثلاثاً» على خلاف الشيخ رحمه الله؛ حيث ذهب إلى قسمته ثلاثة أقسام: ثلثه إلى الغُزاة والحج والعمرة، و هو سبيل الله، وثلثه إلى الفقراء والمساكين، ويبدأ بأقاربه و هو سبيل الثواب، وثلثه إلى خمسة أصناف من الذين ذكرهم الله تعالى في آية الصدقات (3)، وهم الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمون والرقاب، و هو سبيل الخير (4).

ودعوى هذا التفصيل لا تخلو من التحكم والأقوى أن الثلاثة بمعنى، و هو قول آخر للشيخ (رحمه الله) (5).

ص: 95


1- الخلاف، ج 3، ص 545 المسألة 12؛ المبسوط، ج 3، ص 115.
2- الوسيلة، ص 371.
3- التوبة (9): 60.
4- المبسوط، ج 3، ص 115.
5- راجع الخلاف، ج 3، ص 545، المسألة 12؛ والمبسوط، ج 3، ص 115.

الوقف على الموالى

الخامسة: ● إذا كان له موالٍ من أعلى، وهم المعتقون له، وموالٍ من أسفل، وهُم الذين أعتقهم، ثمّ وقف على مواليه فإن علم أنه أراد أحدهما انصرف الوقف إليه، و إن لم يعلم انصرف إليهما.

------

قوله: «إذا كان له موال من أعلى، وهم المعتقون له» إلى آخره.

اسم المولى يطلق بالاشتراك اللفظي على معنيين على السيد الذي أعتق أو انتهى إليه ولاء العتق ويقال له المولى من أعلى، وعلى العبد الذي أعتقه سيّده، ويقال له: المولى من أسفل بالنسبة إلى المعتق ومَن انتقل إليه ولاؤه، فإذا وقف على مواليه فإن كان له موالٍ من أحد الجانبين خاصةً انصرف الوقف إليه قطعاً، ولو اجتمع له الصنفان، فإن دلّت القرينة على إرادة أحدهما أو كليهما صرف الوقف بحسب القرينة، وهذا أيضاً لا إشكال فيه، و إن انتفت القرائن رجع إلى تفسيره؛ لأنه أعلم بما أراد، فإن تعذر الرجوع إليه، أو قال: إنه لم يقصد شيئاً بخصوصه وإنّما وقف على مدلول هذا اللفظ، ففى بطلان الوقف أو صرفه إليهما أو إلى أحدهما أقوال.

وتحقيق القول فيها يتوقف على مقدمتين:

إحداهما أنّه هل يشترط في الجمع اتحاد معنى أفراده حتى يمتنع تثنية المشترك باعتبار معانيه والحقيقة والمجاز وجمعهما أم لا؟ فيه للنحاة مذهبان، أشهرهما كما قاله في الارتشاف (1) - وأصحهما - على ما اقتضاه كلام ابن مالك في التسهيل (2) أنّه لا يشترط؛ لأنّ ألف التثنية في المثنى وواو الجمع في المجموع بمثابة واو العطف، فإذا قلت: جاء الزيدون، كأنك قلت: جاء زيد وزيد وزيد، وكما يصح عطف المتفق في المعنى بالواو يصح عطف المختلف.

و الثانية: أنّ المشترك عند تجرّده عن القرينة الدالّة على إرادة معانيه أو بعضها

ص: 96


1- ارتشاف الضرب من لسان العرب، ج 1، ص 255 - 256 و 262 .
2- تسهيل الفوائد ص 12.

......

------

هل يُحمل على الجميع، أو يبقى مجملاً إلى أن تظهر إرادة أحدها، أو يُحمل على الجميع إذا كان جمعاً خاصةً؟ فيه أقوال للأصوليين، أشهرها الثاني، وتحقيقه في الأصول.

إذا تقرر ذلك، فنقول: إذا وقف على مواليه وله موالٍ من الجانبين و لم يحصل أحد الأمرين، فإن قلنا بجواز جمع المشترك وحمله على معانيه مطلقاً أو مع جمعه، صح الوقف، وصرف إليهما، كما اختاره المصنف وجماعة (1)، و کذا إن قلنا بحمل المجموع عليهما خاصةً؛ لأنه وقع هنا مجموعاً و إن قلنا بعدم حمله على معانيه حقيقةً بطل؛ لعدم تعيين مصرفه، سواء جوزنا جمع المشترك بجميع المشترك بجميع معانيه أم لا، أما على الأوّل فظاهر، وأما على الثاني؛ فلأنّه حينئذٍ بمنزلة المفرد المشترك، وحكمه كذلك.

وبقي في المسألة قولان آخران و وجه آخر:

أحدهما: الصحة، لا لما ذكر؛ بل لأنّ المولى متناول للجميع كالإخوة، فإن إطلاقها يتناول الإخوة من الأبوين ومن أحدهما، و هو قول الشيخ (2).

وظاهر هذا التعليل يقتضي دعوى أن المولى مشترك اشتراكاً معنوياً كالأخ، وبطلانه ظاهر؛ لأنّ الإخوة يجمعها معنى واحد، و هو اتصال الشخصين بالتولّد عن ثالث متصل بهما. وهذا المعنى يشترك فيه كثيرون كاشتراك الإنسان بين أفراده من حيث اشتراكها في معنى الإنسان، و هو الحيو إن الناطق بخلاف المولى، فإنّ فرديه - وهُما المعتق والمعتق - لا يجمعهما معنى واحد بل هما متباينان، وإنّما اشتركا في اللفظ خاصةً، ولنص أهل اللغة على اشتراكهما لفظياً (3).

والثاني: أنه إن جمع اللفظ - كما ذكر هنا - حمل على الموليين، و إن أفرده حمل على

ص: 97


1- منهم الشيخ في المبسوط، ج 3، ص 116؛ والخلاف، ج 3، ص 546، المسألة 14؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 167.
2- المبسوط، ج 3، ص 116؛ الخلاف، ج 3، ص 546، المسألة 14.
3- راجع الصحاح، ج 4، ص 2529؛ ولسان العرب، ج 15، ص 408؛ والقاموس المحيط، ج 4، ص 404. «ولي».

......

------

الأعلى خاصةً، و هو قول ابن حمزة (1)، ولعلّ قرينته الإحسان إليه، فحمل على المكافأة.

قيل: و هو مبني على أنّ لفظة «المولى» مقولة بالتشكيك، ومقوليتها على الذي أعتقه أولى من ولي نعمته، وأنه يحمل لفظ الجمع عليهما (2)، كما هو أحد الأقوال.

وفيه: أنّ مقوليته بالتشكيك تتوقف على كون اشتراكه معنويّاً، وقد عرفت فساده، وأمّا الجمع فلا يفيد إدخال أفراد المشترك بخصوصه و إن كان هنا قد وقع مضافاً، و هو من صيغ العموم المستغرق لما يصلح له، و هو صالح للكلّ؛ لأنّ العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، فخرج المشترك.

وبالجملة، فتعريف العموم منزَّل على مذاهب القوم في جواز استعمال المشترك في كلا معنييه، فمن جوّزه في الجمع اكتفى في تعريف العام بأنه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له، ومن مَنَع زاد بوضع واحدٍ ليخرج المشترك، وحينئذ فلا فرق بين المفرد والجمع.

والوجه الآخر في المسألة أنّه يُحمل على الموالي من أسفل خاصة بقرينة كونه محتاجاً غالباً، فيتوجه النفس إلى الوقف عليهم لشدّة حاجتهم، بخلاف الأعلى، فإنّه على العكس غالباً.

وهذا الوجه لا تعلم به قائلاً من أصحابنا، نعم، هو قول للشافعية (3)؟

هذا كله إذا وقع بلفظ الجمع، ولو وقع بلفظ الإفراد بأن وقف على مولاه وتعدّد، ففي بطلانه أو صرفه إليهما أو إلى أحدهما الأوجه أيضاً، إلّا أنّ بعض المقدمات والتعليلات مختلف هنا كما لا يخفى.

والأصح البطلان في الجميع.

ص: 98


1- الوسيلة، ص 371.
2- في حاشية «و»: «القائل الشيخ فخر الدين (رحمه الله) في الشرح منه رحمه الله)». راجع إيضاح الفوائد ج 2، ص 404.
3- العزيز شرح الوجيز، ج 1، ص 280.

الوقف على أولاد الأولاد

السادسة ● إذا وقف على أولاد أولاده اشترك أولاد البنين والبنات، ذكورهم وإناثهم من غير تفضيل.

------

قوله: «إذا وقف على أولاد أولاده اشترك أولاد البنين والبنات، ذكورهم وإناثهم من غير تفضيل».

أما اشتراك الجميع فلصدق الأولاد على الذكور والإناث قطعاً، فيصدق على أولادهم مطلقاً أنهم أولاد أولاد و إن لم يصدق على أولاد الأولاد بأنهم أولاد بطريق الحقيقة، على ما قد وقع فيه من الخلاف.

وأمّا اقتسامهم بالسوية فلاقتضاء الإطلاق ذلك مع اشتراكهم في سبب الاستحقاق واستواء نسبتهم إليه.

واعلم أنه كما تدخل الإناث في الأولاد تدخل الخناثى؛ لشمول اسم الولد لهم سواء حصرناهم في البنين والبنات، أم جعلناهم طبيعةً ثالثةً، بخلاف ما لو وقف على البنين خاصةً أو على البنات خاصةً وأولادهم.

أما لو جمع بينهما ففي دخولهم قولان للعلّامة في القواعد والتحرير(1)، منشؤهما أنّهم ليسوا بذكور و لا إناث، وأنهم لا يخرجون من الصنفين في نفس الأمر؛ ولهذا يستخرج أحدهما بالعلامات، ومع فقدها ترث نصف النصيبين.

وفيه نظر؛ إذ لا كلام فيه مع وجود العلامة، و لا دلالة لنصف النصيبين على حصره فيهما، بل يمكن دلالته على عدمه، وجاز كون الطبيعة الثالثة متوسّطة النصيب، كما أنّها متوسطة الحقيقة.

وأما الاستدلال على الانحصار فيهما بمثل قوله تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَّنا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ (2) الآية، فغير مفيد.

ص: 99


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 397 - 398؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 309، الرقم 4679.
2- الشورى (42): 49.

● أما لو قال: «مَنْ انتسب إليَّ منهم» لم يدخل أولاد البنات ● ولو وقف على أولاده انصرف إلى أولاده لصلبه، و لم يدخل معهم أولاد الأولاد، و قيل: بل يشترك الجميع، والأوّل أظهر؛ لأنّ ولد الولد لا يُفهم من إطلاق لفظ الولد.

------

قوله: «أما لو قال: «مَن انتسب إِلَيَّ منهم» لم يدخل أولاد البنات».

هذا هو الأشهر، وقد تقدّم خلاف المرتضى (رضي الله عنه في ذلك، وأنّه حَكَم بدخولهم في الأولاد حقيقة (1)، و هو يقتضي انتسابهم إليه بطريق أولى.

:قوله ولو وقف على أولاده انصرف إلى أولاده لصلبه» إلى آخره.

إذا وقف على أولاده أو أولاد فلان وأطلق فلا يخلو إما أن يكون هناك قرينة حالية تدلّ على تناول أولاد الأولاد كأولاد هاشم، أو مقالية كقوله: الأعلى فالأعلى أو بطناً بعد بطن، أو يقف على وُلد فلان و هو يعلم أنه ليس له ولد لصلبه و نحو ذلك، أو لا، فإن وُجدت عمل بمقتضاها، وشمل أولاد الأولاد فنازلاً بغير إشكال، وإلا ففي اختصاصه بأولاد الصلب أو شموله لأولادهم قولان أصحهما عند المصنّف والأكثر الأوّل: لما أشار إليه المصنف (رحمه الله) من الدليل، فإنّ ولد الولد غير مفهوم من إطلاق لفظ الولد، ولهذا يصح سلبه عنه، فيقال: ليس ولدي، بل ولد ولدي، وأصل إطلاقه عليه أعم من الحقيقة و لا نزاع في الاستعمال المجازي.

وأما الاستدلال على عدم دخولهم بقوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ (2) في مَنْ قراءة من قرأ بالنصب عطفاً على «بنيه» و هو ابن ابنه، والعطف يقتضي المغايرة، فدلّ على عدم تناولهم لهم.

ففيه أنه يكفى - مع شذوذ هذه القراءة - مغايرة الجزء للكلّ، كما جاء في قوله تعالى: و ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَتَبِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَ جِبْرِيلَ﴾ (3) مع أن جبريل من جملة الملائكة

ص: 100


1- تقدم في ص 47.
2- البقرة .(2): 132.
3- البقرة (2) 98

......

------

وكون المغايرة هنا بالشرف لا ينفي جواز أصل العطف كذلك، فإنّه غير مشروط به و إن كان أظهر.

بالرفع

و يجوز إرادته هنا أيضاً بتفخيم شأن يعقوب على أبيه وأولاده. والمقروء «ويعقوب» عطفاً على «إبراهيم»، و لا إشكال حينئذ.

و ذهب جماعة من الأصحاب - منهم المفيد والقاضي وابن إدريس (1)- إلى دخول أولاد الأولاد؛ لقوله تعالى: ﴿يَنبَنِى ءَادَمَ﴾ (2)، ﴿يَنبَنِي إِسْرَءِيلَ﴾ (3)، وللإجماع على تحريم حليلة ولد الولد من قوله تعالى: ﴿وَحَلَبِلُ أَبْنَابِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَبِكُمْ﴾ (4)، ولدخولهم في مثل قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ (5)، ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ، وَلَدٌ﴾ (6)، ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ﴾ (7)، و نحو ذلك، ودخولهم في إطلاق كلام الله تعالى يقتضي دخولهم في غيره، ولقول النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «لا تزر موا ابني» لمّا بال الحسن علیه السلام في حجره (8)، أي لا تقطعوا عليه بوله، والأصل في الاستعمال الحقيقة.

وأجيب بأن دخولهم ثُمَّ بدليل خارج لا من حيث هذا الإطلاق، ومطلق الاستعمال أعمّ من الحقيقة، وقد حقق في الأصول، واستدل بأنّ اسم الولد لو كان شاملاً للجميع حقيقةً لزم الاشتراك، و إن عورض بلزوم المجاز فهو أولى من الاشتراك (9).

ص: 101


1- المقنعة، ص 653 - 654: المهذب، ج 2، ص 89؛ السرائر، ج 3، ص 157.
2- الأعراف (7): 26 و 27 و 31 و 35.
3- طه (20) 80: الصف .(61): 6.
4- النساء (4): 23.
5- النساء (4) 11.
6- النساء (4) 11.
7- النساء (4): 23.
8- راجع غريب الحديث الهروي، ج 1، ص 70 ومعاني الأخبار، ص 211، باب معنى الإزرام، ج 1، وفيه «الحسين» بدل «الحسن».
9- أجاب به الشهيد في غاية المراد، ج 2، ص 278 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).

● ولو قال: «على أولادي وأولاد أولادي» اختص بالبطنين. ● ولو قال: «على أولادي فإذا انقرضوا وانقرض أولاد أولادي فعلى الفقراء»، فالوقف لأولاده، فإذا انقرضوا قيل: يصرف إلى أولاد أولاده، فإذا انقرضوا فإلى الفقراء، و قيل: لا يصرف إلى أولاد الأولاد؛ لأن الوقف لم يتناولهم، لكن يكون انقراضهم شرطاً لصرفه إلى الفقراء و هو أشبه.

------

وفيه نظر؛ لجواز أن يكون مستعملاً في القدر المشترك بأن يكون متواطئاً أو مشككاً، و هو أولى منهما.

والأقوى عدم الدخول إلا مع القرينة.

قوله «ولو قال: «على أولادي وأولاد أولادي» اختص بالبطنين».

هذا متفرع على السابق، فعلى القول بدخول أولاد الأولاد ثمة يدخلون هنا في كل من اللفظين.

والأصح الاختصاص هنا بمن ذكره.

قوله: «ولو قال: على أولادى فإذا انقرضوا - إلى قوله - و هو أشبه».

البحث في هذه المسألة يقع في موضعين:

أحدهما أنّ أولاد الأولاد هل يدخلون في الوقف، أم لا؟ فالذي ذهب إليه الشيخ (رحمه الله) الدخول (1)؛ عملاً بالظاهر والقرينة المقاليّة، فإنّ الواقف لما شرط انقراضهم في انتقال الوقف إلى الفقراء اقتضى أنه وقف عليهم، ولأنّه عطف الانقراض على الانقراض والفريق الأول داخل في الوقف فيدخل الآخر، ولأنه لولاه كان الوقف منقطعاً مع أنّ شأنه الدوام.

ورد بانتفاء دلالة اللفظ على ذلك بإحدى الدلالات، أما المطابقة والتضمّن فظاهر وأمّا الالتزام؛ فلأنّ اللفظ صالح لتقييده بالصرف إليهم وعدمه، و لا دلالة للعام على

ص: 102


1- المبسوط، ج 3، ص 298.

......

------

الخاص، و لا يلزم من اشتراط انقراضهم كونه وقفاً عليهم؛ لانتفاء وجه التلازم ولأنّه لو دلّ على الوقف عليهم لوجب التشريك بينهم وبين الأولاد؛ لانتفاء ما يقتضي الترتيب، و هو لا يقول به.

واجيب بمنع انتفاء دلالة الالتزام، وسنده ما ذكر من لزوم الدوام في الوقف، وجعل انقراضهم شرطاً خاصةً ينافيه والدوام مستلزم لوجود موقوف عليه في ذلك الوقت، وليس غير البطن الثاني صالحاً له فكان له والترتيب إنّما حصل لأنهم لم يدخلوا باللفظ الأول، بل بعطفهم على الأولاد المنقرضين، فالحكم إنّما استفيد من اللفظ بعد الحكم بانقراض الأوّلين، فكان استحقاقهم مرتباً على انقراض الأوّلين (1).

وفيه نظر؛ لأنّ حفظ الوقف عن الفساد والحكم له بالدوام لا يكفي فيه مجرد رعاية جانب الصحة، حيث لا يستفاد من لفظه ذلك، والحال هنا كذلك، فإنّ البطن الثاني لم يتعرّض للوقف عليه بوجه، فيكون صريحاً في انقطاع وسطه، فلا يجوز إثبات الحكم بدوامه بمجرد ذلك من غير دلالةٍ عليه، وقد عرفت انتفاءها من اللفظ.

فإن قيل: اشتراط انقراض أولاد الأولاد دليل على تناول الأولاد لولد الصلب حقيقةً ولولد الولد مجازاً إن لم نقل بأنه حقيقة كما زعم المفيد (2) والجماعة (3)، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه جائز بالقرينة، فإنّه لو لا حمله على ذلك لكان ذكره أولاد الأولاد لغواً.

قلنا: نمنع استلزامه اللغو ووجود القرينة على ذلك، فإنّ ذكر أولاد الأولاد بعد الأولاد دليل على أنّ الأوّل لم يتناولهم، فكيف يدعى إرادتهم بالقرينة؟! وفائدة ذكرهم جعل انقراضهم شرطاً؛ لاستحقاق الفقراء و إن لم يدخلوا في الوقف.

نعم، على قول المفيد ومن تبعه بشمول الأولاد لأولادهم يتجه دخولهم في الوقف

ص: 103


1- أجاب به الشهيد في غاية المراد، ج 2، ص 279 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).
2- المقنعة، ص 653 - 654 .
3- منهم ابن البراج في المهذب، ج 2، ص 89 وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 157.

......

------

بمجرد ذكر الأولاد، ويكون ذكرهم ثانياً؛ لفائدة بيان وقت استحقاق الفقراء، فيكون في قوة تقييد إطلاق الأولاد الشامل للبطون المرتبة أبداً بالبطنين الأولين، ويكون ذكرهما قرينة لإرادة تخصيصهما بالأولين و إن كان كلُّ منهما متناو لا لما بعده أبداً لو لا القرينة

والأظهر عدم دخول أولاد الأولاد في هذا الوقف، فيكون منقطع الوسط، وقد تقدم أنه يبطل ما بعد الانقطاع، ويصير حبساً على ما قبله (1).

الثاني: على تقدير عدم دخول أولاد الأولاد في الوقف وصحته على الفقراء بعدهم فالنماء المتخلّل بين موت الأولاد وأولادهم هل هو لورثة الواقف أم لا؟ إشكال يبنى على انتقال الوقف وعدمه، فإن قلنا ببقائه على ملك الواقف فلا شبهة في كونه لورثته، و إن قلنا بانتقاله إلى الله تعالى فالمتجه صرفه في وجوه البرّ.

وعلى القول بانتقاله إلى الموقوف عليه يشكل أيضاً من حيث انتقال الملك عن الواقف فلا يعود إليه إلا بدليل، فيكون لورثة البطن الأوّل؛ لانتقاله إليه، فيُستصحب إلى أن يُعلم المستحق، ومن أنّ الوقف فى حكم ملك الواقف؛ لأنّ البطن الثاني إنما يتلقى منه، وبموت البطن الأوّل زال ملكه، وليس ثُمَّ موقوف عليه غيره إلى أن ينقرض البطن الثاني، ويمتنع بقاء الملك بغير مالك، فيكون لورثة الواقف.

وفيهما نظر؛ لأنّ ورثة الأوّل لا يستحقونه بالوقف؛ لانتفاء مقتضيه، و لا بالإرث؛ لأنّ الوقف لا يورث، ولانقطاع تملك مورّثهم من الوقف بموته، فكيف يورث عنه؟! ولأن خروج الملك عن الواقف يوجب عدم العود إليه وإلى ورثته إلا بسبب جديد و لم يوجد.

نعم، إذا قلنا بكونه حبساً - لبطلانه بانقطاع وسطه - اتضح عوده إلى ورثة الواقف على وجه الملك، ثم لا ينتقل عنهم إلى الفقراء. وهذا هو الأقوى.

ص: 104


1- تقدّم في ص 68.

إذا وقف مسجداً فخرب أو خربت القرية

السابعة: ● إذا وقف مسجداً فخرب أو خربت القرية أو المحلة لم يعد إلى ملك الواقف، و لا تخرج العرصة عن الوقف ولو أخذ السيل ميتاً فيئس منه كان الكفن للورثة.

------

قوله: «إذا وقف مسجداً فخرب أو خربت القرية أو المحلة» إلى آخره.

لما كان الوقف مقتضياً للتأبيد ووقف المسجد فكاً للملك _ كما تقدّم (1)_ كتحرير العبد لم يكن خرابه و لا خراب القرية التي هو فيها و لا المحلّة موجباً لبطلان وقفه؛ لعدم منافاة ذلك الوقف استصحاباً لحكم ما ثبت ولبقاء الغرض المقصود من إعداده للعبادة لرجاء عود القرية وصلاة من يمر به.

وهذا كله يتم في غير المبني في الأرض المفتوحة عنوةً حيث يجوز وقفه تبعاً لآثار المتصرّف، فإنّه حينئذٍ ينبغي بطلان الوقف بزوال الآثار؛ لزوال المقتضي للاختصاص، وخروجه عن حكم الأصل، اللهم إلا أن يبقى منه رسوم ولو في أُصول الحيطان بحيث يُعدّ ذلك أثراً في الجملة، كما هو الغالب في خراب البناء، فيكفي في بقاء الحكم بقاء الأثر في الجملة و إن ذهب السقف وبعض الحائط؛ لأنّ ذلك لا مدخل له في تحقق المسجدية، بل ربما كان الباقى أكمل فيها من السقف على ما يقتضيه النص (2) والفتوى.

وقول المصنف « لا تخرج العرصة عن الوقف» لا يتم إلا في المملوك بالأصل؛ إذ لم يعتبر في الوقف إلا العرصة، وهي أرض المسجد و إن زالت الآثار أجمع.

وهذا بخلاف ما لو فقد الميت ويئس من عوده وبقي الكفن، فإنّه يرجع إلى الورثة؛ لأنّه كان ملكاً لهم؛ لأنّ التركة تنتقل إلى الوارث بالموت و إن وجب صرفه في التكفين، فإذا زال الموجب عاد إلى ما كان.

ص: 105


1- تقدّم في ص 83 .
2- الكافي، ج 3، ص 295 - 296، باب بناء مسجد النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ، ح 1، وص 368 - 369، باب بناء المساجد... . ح 4: الفقيه، ج 1، ص 235 - 236، ح 706705: تهذيب الأحكام، ج 3، ص 261 - 262، ح 738.

لو وقع بين الموقوف عليهم خُلفٌ

الثامنة: ● لو انهدمت الدار لم تخرج العرصة عن الوقف، و لم يجز بيعها.

● ولو وقع بين الموقوف عليهم خُلْفٌ - بحيث يخشی خرابه - جاز بيعه، ولو لم يقع خُلْفٌ، و لا يخشى خرابه، بل كان البيع أنفع لهم، قيل: يجوز بيعه. والوجه المنع.

------

وهذا إنّما يتمّ في الكفن الذي يكون من التركة، أما لو كان من الزكاة أو من الوقف رجع إلى أصله، ولو كان من باذل متبرع رجع إليه.

هذا كله مع اليأس من الميت كما ذكرناه، لا كما أطلقه (1).

ونبه المصنّف بكون عرصة المسجد لا تخرج عن الوقف بالخراب على خلاف بعض العامة؛ حيث حَكَم ببطلان الوقف (2)؛ قياساً على عود الكفن إلى الوارث بجامع تعذر المصرف في الموضعين.

وقد عرفت الفرق الموجب لبطلان القياس على أصله لو صح، وهذا هو الموجب لذكر المصنّف مسألة الكفن عقيب مسألة المسجد.

قوله: «لو انهدمت الدار لم تخرج العرصة عن الوقف، و لم يجز بيعها».

هذا الحكم واضح بعد ما قرّرناه، فإن الخراب لا يصلح لنقض الوقف وإبطاله مع بنائه على التأبيد وعدم جواز بيعه في غير ما استثني، ولأنّ العرصة من جملة الموقوف، وهي باقية.

ما وهذا في غير الأرض الخراجية كما تقدم في المسجد (3).

ونبه بذلك على خلاف بعض العامة؛ حيث جوّز بيع الدار الموقوفة إذا انهدمت و لم يمكن عمارتها كالمسجد (4).

قوله: «ولو وقع بين الموقوف عليهم خُلْفٌ - إلى قوله - والوجه المنع».

ص: 106


1- كذا قوله: «كما أطلقه» والمصنف قد صرّح باليأس من الميت.
2- حكاه القفّال عن أحمد في حلية العلماء، ج 6، ص 38.
3- تقدم قبيل هذا.
4- ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 251، المسألة 4410.

......

------

هذه المسألة تقدّم الكلام عليها في البيع (1). والقول بجواز البيع في الجملة للأكثر، ومستنده صحيحة علي بن مهزيار عن أبي جعفر علیه السلام وسأله عن ضيعةٍ موقوفة على قوم بينهم اختلاف شديد، وأنّه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما كان وقف له من ذلك، فأجابه أنه: «إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل فإنه ربما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس» (2).

ومن فهم هذه الرواية اختلفت أقوال المجوّزين، فمنهم من شرط في جواز بيعه حصول الأمرين، و هو الاختلاف بين الأرباب وخوف الخراب كما ذكره المصنف - ومنهم من اكتفى بأحدهما.

والأقوى العمل بما دلّت عليه ظاهراً من جواز بيعه إذا حصل بين أربابه خُلْفٌ شديد، و إن خوف الخراب مع ذلك أو منفرداً ليس بشرط؛ لعدم دلالة الرواية عليه.

وأما مجوز بيعه مع كون بيعه أنفع للموقوف عليهم و إن لم يكن خُلْفٌ فاستند فيه إلى رواية جعفر بن حيان، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل وقف غلّةً له على قرابته من أبيه وقرابته من أُمّه، أفللورثة أن يبيعوا الأرض إذا احتاجوا و لم يكفهم ما يخرج من الغلة؟ قال: «نعم إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيراً لهم باعوا» (3).

ومال إلى العمل بمضمونها من المتأخرين الشهيد في شرح الإرشاد (4) والشيخ علي (5) (رحمهما الله) مع أنّ في طريقها جعفر بن حيان، وحاله مجهول عند الأصحاب، و لم يذكره

ص: 107


1- تقدم في ج 3، ص 74 - 75
2- الكافي، ج 7، ص 36، باب ما يجوز من الوقف .... ح 30؛ الفقيه، ج 4، ص 240 - 241، ح 5578؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 130، ح 557: الاستبصار، ج 4، ص 98 - 99، ح 381.
3- الكافي، ج 7، ص 35، باب ما يجوز من الوقف... . ح 29: الفقيه، ج 4، ص 242 - 243، ح 5580: الاستبصار، ج 4، ص 99، ح 382.
4- غاية المراد، ج 2، ص 281 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 2).
5- جامع المقاصد، ج 9، ص 70.

● ولو انقلعت نخلة من الوقف قيل: يجوز بيعها؛ لتعذر الانتفاع إلا بالبيع، و قيل: لا يجوز؛ لإمكان الانتفاع بالإجارة للتسقيف وشبهه، و هو أشبه.

------

أحد من علماء الرجال بمدح و لا غيره، فالعمل بخبره فيما خالف الأصل والإجماع في غاية الضعف.

وأما ابن إدريس، فسدّ باب بيعه مدعياً الإجماع عليه والأخبار (1)، وهي مطلقة أو عامة، فيجب تقييدها أو تخصيصها بما ذكرناه جمعاً.

واعلم أن المصنف (رحمه الله) قد صرّح في أوّل كلامه بأن شرط جواز البيع اجتماع الشرطين، وهُما وقوع الخُلْف بين أربابه بحيث يخشى خرابه، ثمّ عقبه بقوله: «ولو لم يقع خُلْفٌ و لا خشى خرابه» ومفهومه الاكتفاء بأحد الأمرين، وكان حق نفى المركب أن يكتفى بأحد جزأيه بأن يقول: «ولو لم يقع خُلْفٌ أو لم يخش خرابه» و نحو ذلك، ليكون المنتفي هو ما حكم بجواز البيع معه، وقد تقدّم في البيع تجويزه بيعه بثلاثة شرائط، الشرطين المذكورين مع كون بيعه أعود، فلم يكتف بهما، وقد تقدّم الكلام فيما يصنع بثمنه على تقدير بيعه (2).

قوله: «ولو انقلعت نخلة من الوقف قيل: يجوز بيعها» إلى آخره.

المجوّز لبيعها حينئذ هو الشيخ (3)؛ محتجاً بما حكاه المصنف. ورده ابن إدريس بإمكان الانتفاع المذكور (4). و هو في موضعه حيث يمكن، وإلا فكلام الشيخ جيّد.

وأما ما ادعاه العلامة من أنّه لا نزاع بينهما إلا في اللفظ، حيث إن الشيخ فرض سلب منافعها كما يقتضيه دليله وابن إدريس فرض وجودها غير الثمرة (5)، فلا يخلو من حيف على

ص: 108


1- السرائر، ج 3، ص 153 و 167.
2- تقدم في ج 3، ص 75.
3- المبسوط، ج 3، ص 123.
4- السرائر، ج 3، ص 167.
5- مختلف الشيعة، ج 1، ص 277، المسألة 50.

إذا أجر البطنُ الأوّل الوقفَ مدةً ثم انقرضوا

التاسعة: ● إذا آجر البطنُ الأوّل الوقفَ مدةً ثم انقرضوا في أثنائها، فإن قلنا: الموت يبطل الإجارة فلا كلام، و إن لم نقل فهل يبطل هنا؟ فيه تردّد، أظهره البطلان؛ لأنا بينا أن هذه المدة ليست للموجودين فيكون للبطن الثاني الخيار بين الإجازة في الباقي وبين الفسخ فيه ويرجع المستأجر على تركة الأولين بما قابل المتخلف.

------

ابن إدريس؛ لأن دليل الشيخ اقتضى ادّعاء عدم المنافع حينئذ، لا على تقدير عدم المنافع ففيه قصور بين، وحينئذ فالتفصيل أجود.

ومثله ما لو انكسر جذع من الشجرة، أو زمنت الدابة، و نحو ذلك.

ومتى جاز البيع وجب أن يشترى بثمنه ما يكون وقفاً على الأقوى، مراعياً للأقرب إلى صفة الأوّل فالأقرب.

قوله: «إذا أجر البطن الأوّل الوقف مدة ثم انقرضوا - إلى قوله - فيكون للبطن الثاني الخيار»

أشار بالتعليل إلى الفرق بين إجارة المالك والموقوف عليه مع اشتراكهما في إيقاع عقدٍ لازم من الطرفين، ومن شأنه أنه لا يبطل بالموت.

و وجه الفرق أنّ ملك الموقوف عليه غير تام فإنّ باقي البطون لهم استحقاق في الملك بأصل الصيغة لا بالتلقي عن الموقوف عليه، بحيث لو تصرف قبل الانتقال صح، فيموت المؤجر من البطون تبين انتهاء حقه بموته، فيكون إجارته بالنسبة إلى بقية المدة تصرفاً في حق غيره، فيتوقف على إجازته، بخلاف إجارة المالك فإنّ له نقل ماله صحيحاً وإتلافه كيف شاء من غير مراعاة الوارث مطلقاً، وإنّما يتلقى الوارث عنه ما كان ملكاً له حين موته أو في مرضه على بعض الوجوه، فلا يتبين بموته أنه متصرف في حق غيره.

و يحتمل عدم البطلان؛ لأنّ المتصرّف حينئذ كالمالك، فكان ماضياً .

ويضعف بأنه تصرف مراعي، كما تقرر.

ص: 109

العاشرة: ● إذا وقف على الفقراء انصرف إلى فقراء البلد ومن يحضره، و کذا لو وقف على العلويين، و کذا لو وقف على بني أب منتشرين صرف إلى الموجودين، و لا يجب تتبع من لم يحضر؛ لموضع المشقة.

------

نعم، لو كان البطن المؤجر ناظراً على الوقف وآجر لمصلحة الوقف لا لمصلحته لم يبطل.

و کذا لو كان المؤجر هو الناظر و لم يكن موقوفاً عليه.

والمراد بالبطلان وقوفه على إجازة البطن المتلقي له كما يدلّ علیه قوله بعد ذلك فيكون للبطن الثانى الخيار إلى آخره.

و لا يخفى أنّه إنما يرجع المستأجر على تركة الأولين إذا كان قد دفع الأجرة.

والمراد بمقابلة المتخلّف أن ينسب أجرة مثله إلى أجرة مثل مجموع المدّة، ويرجع من المسمّى بمثل تلك النسبة، فلو كان قد آجره سنةً بمائة - مثلاً - ومات بعد انقضاء نصفها وفُرض أن أجرة مثل النصف المتخلّف تساوي ستين وأجرة مثل النصف الماضي تساوي ثلاثين، رجع بثلثي المائة المسماة، وهكذا.

قوله: «إذا وقف على الفقراء انصرف إلى فقراء البلد - إلى قوله لموضع المشقة».

قد عرفت أن الوقف على غير المنحصر وقف على الجهة المخصوصة لا على أشخاصها، ومصرف الجهة من اتصف بوصفها من فقر وفقه وغيرهما، وحينئذ فلا يجب صرف النماء إلى جميع الأشخاص الداخلين في الوصف، بل يجب صرفه إلى من كان موجوداً ببلد الوقف عند تفرقته من أهله وغيرهم، و لا يجب تتبع من غاب عنه من أهله و لا من غيره، ولكن لو تتبع جاز.

و هل يجب استيعاب جميع من بالبلد أم يجوز الاقتصار على بعضه؟ ظاهر العبارة الأول.

ويؤيده رواية (1) علي بن سليمان النوفلي عن أبي جعفر الثاني علیه السلام، أنه كتب إليه في ذلك، فأجاب: «بأن الوقف لمن حضر البلد الذي هو فيه، وليس لك أن تتبع من كان غائباً» (2).

ص: 110


1- في حاشية «ي، و»: «الرواية مجهولة السند، فتصلح شاهداً لا دليلاً منه رحمه الله)».
2- الكافي، ج 7، ص 38 باب ما يجوز من الوقف.... ح 37؛ الفقيه، ج 4، ص 240، ح 5577 تهذيب الأحكام ج 9، ص 133، ح 563.

أحكام الأمة الموقوفة

● و لا يجوز للموقوف عليه وطء الأمة الموقوفة؛ لأنّه لا يختص بملكها، ولو أولدها كان الولد حُرّاً و لا قيمة عليه؛ لأنّه لا يجب له على نفسه غرم.

------

و قيل: يجزئ الاقتصار على ثلاثة مراعاة للجمع، مع ما عُلم من أن الجهة لا تقتضى الأشخاص (1).

و قيل: يكتفى باثنين؛ بناءً على أنّه أقل الجمع (2).

و يحتمل جواز الاقتصار على واحد؛ نظراً إلى أنّ الأشخاص مصرف الوقف لا مستحقون؛ إذ لو حمل على الاستحقاق وعمل بظاهر اللفظ لوجب الاستيعاب - لأنه جمع معرّف مفيد العموم - فيجب التتبع ما أمكن.

وعلى اعتبار الجمع لو لم يوجد في البلد ثلاثة وجب أن يكمل من خارجه.

واعلم أنّ المراد من قوله انصرف إلى فقراء البلد» انصراف نماء الوقف، لا انصراف الوقف، كما قد يظهر من العبارة فإنّ الوقف لو انصرف إلى من بالبلد لم يستحق غيره ممّن غاب عنه من أهله وغيرهم، و لا يستحق من كان بالبلد و إن خرج بعد ذلك، والاتفاق على خلافه، وأنّه لا فرق بين كون الوقف على من لا ينحصر في ابتداء الوقف واستدامته، وأنه لا يجب التسوية بين المقسوم عليهم في النصيب، سواء وجب استيعاب من بالبلد أم اكتفي بعددٍ خاص للأصل.

قوله: «و لا يجوز للموقوف عليه وطء الأمة الموقوفة» إلى آخره.

أشار بقوله لا يختص بملكها إلى جواب ما يقال: إنّا إذا قلنا بانتقال الملك إلى الموقوف عليه ينبغي الجواز؛ لأنه انتفاع بملكه كغيره من وجوه الانتفاع، فأجاب بأنه و إن كان مالكاً إلا أن للبطون اللاحقة له حقاً، ووطؤه و إن كان انتفاعاً في زمن تملكه إلا أنه يغاير غيره من وجوه الانتفاعات، من حيث إنه معرض للحمل الموجب لصيرورتها أُمّ ولد المانع من دوام وقفها على البطون؛ لانعتاقها بموته، ولأنّ الملك غير تام.

ص: 111


1- قاله العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 258، المسألة 151.
2- قاله المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 100.

......

------

وإنما كان الولد حُرّاً على تقدير حملها؛ لأن وطأه غير معدود زني من حيث إنه مالك في الجملة، و لا يجب عليه قيمته لمن بعده من البطون؛ لأنه المستحق له الآن والولد بمنزلة كسبها وثمرة البستان، فيملكه زمن ملكه لأُمّه.

و فى هذا دلالة على أن قيمة الولد حيث تجب لا يشتري بها عبد يكون وقفاً، بل هو للموجودين كالنماء، و هو أحد القولين في المسألة.

والآخر أنه يكون وقفاً كأمه، كما يتبع الولد أمه المرهونة والمدبّرة.

وزعم القائل أن الحكم كلّي. و في الكلية منع، وعلى تقديره يجب أن يشترى بقيمته عند سقوطه حياً ما يكون وقفاً.

وكما لا يجب المهر لا يجب الحد؛ لما تقدم من أنه ليس بزانٍ و إن فعل حراماً، كنظائره من وطء الحليلة محرّماً .

وعلى القول بأنّ الملك لا ينتقل إليه ينبغي وجوب الحدّد إن لم يكن له شبهة يدرأ بها الحد؛ للعموم.

ولكن قال في التذكرة: إنّه لا حدّ أيضاً؛ لأنّ شبهة الملك فيه ثابتة (1).

والمراد أن شبهة كونه مالكاً متحققة و إن رجّحنا عدم الملك؛ لأنّها مسألة اجتهادية لا يندفع بترجيح أحد جانبيها أصل الشبهة عن الجانب المخالف، و هو كافٍ في درء الحد. و لا بأس به.

هذا كله إذا لم يكن له شريك - بأن انحصر أهل طبقته فيه - وإلا وجب عليه قيمة حصة الشريك.

و في حده بنسبة حصته وجه قوي؛ لأن ملكها مشترك بينهما على حد سواء، ووطء الأمة المشتركة يوجب ذلك، ولكن لم يتعرّضوا له هنا.

ص: 112


1- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 225، المسألة 130.

● و هل تصير أُمّ ولد؟ قيل: نعم، وتنعتق بموته، وتؤخذ القيمة من تركته لمن يليه من البطون. وفيه تردّد.

------

قوله: «و هل تصير أمّ ولدٍ؟ قيل: نعم إلى قوله وفيه تردّد».

الكلام هنا يقع في موضعين - وهما أيضاً موضع التردد -:

أحدهما: هل تصير أمّ ولدٍ، أم لا؟ فيه قولان:

و وجه الأوّل: تحقق علوقها منه في ملكه على القول بانتقال الملك إليه؛ لأنه مبنى عليه، وهذا هو السبب في صيرورتها أم ولد بالنص (1) والإجماع.

و وجه الثاني: أن السبب هو وقوعه في الملك التام المختص بالمالك المعين، و لا اختصاص هنا؛ لأنّ حق باقي البطون متعلّق بها الآن، فلا يجوز إبطاله، وهذا راجع إلى منع دعوى سببية ما أدعي سببينه، ولأنها تقوم عليه كلّها بعتقها بالاستيلاد، و لا شيء من أم الولد يقوم كلّها على المولى بدليل الاستقراء، ولمنافاة الوقف الاستيلاد.

والحق أنه تعارض هنا عموم النهي عن إبطال الوقف وتغييره والحكم بدوامه ولزومه (2)، وعموم دليل ثبوت الاستيلاد لها (3)، فيرجع إلى المرجح، فيحتمل أن يكون هو الثاني؛ لأنّ الاستيلاد مبنى على التغليب كالعتق.

و يحتمل الأوّل؛ لسبقه، فيُستصحب حكمه إلى أن يثبت المزيل.

ومثله تقديم حق المرتهن لو أولدها الراهن، وقد تقدم (4). وهذا متجه.

الثاني: على تقدير صيرورتها أم ولد هل تؤخذ القيمة من تركته للبطون الباقية؟ وجهان منشؤهما أنّ عوض الموقوف هل يكون للبطن الذي حصل العوض في زمانه، أو

ص: 113


1- وسائل الشيعة، ج 23، ص 171 و 175، الباب 3 و 6 من أبواب الاستيلاد.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 175 و 178 و 192 و 204، الباب 2 و 4 و 7 و 11 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات.
3- وسائل الشيعة، ج 23، ص 171 و 175، الباب 3 و 6 من أبواب الاستيلاد.
4- تقدم في ج 3، ص 441.

......

------

بين البطون؟ فعلى الأوّل لا تؤخذ؛ لاستحالة ثبوت العوض عليه لنفسه، وعلى الثاني تؤخذ؛ لأنّ الواطئ متلف لها، فيلزمه ضمانها في تركته، كما إذا أتلف مالاً على غيره.

وربما قيل بأنّ التردّد ليس إلا في الأوّل، فإنّا متى حكمنا بكونها أم ولد تنعتق بموته كسائر أمهات الأولاد، وتؤخذ من تركته قيمتها قو لا واحداً.

والفرق بين القيمة هنا وغيرها - من عوض الوقف الذي يجري فيه الخلاف إذا باشره الموقوف عليه - أنّ الواطئ هنا إنّما أتلفها على من بعده من البطون بعد موته، فحال الإتلاف لم يكن في ملكه، بخلاف ما لو أتلفها في حياته؛ لأنه أتلفها على نفسه، و لا يستحق وارثه في القيمة شيئاً؛ لأنّها حال الضمان لم تكن ملكه، بل ضمانها لغيره.

وأُجيب بأنّها إذا صارت أُمّ ولدٍ يُحكم عليه بقيمتها في الحال، كما في وطء أحد الشريكين وعلوقها منه (1). قال الشهيد (رحمه الله) في الشرح:

وهذا وارد على عبارة القوم، و لعلهم أرادوا ذلك، لكن لما كان أحد الاحتمالين صرفها إلى من يليه من البطون - و هو الآن لا يملك - تأخر الدفع إلى بعد الموت، و لا يلزم منه تأخير الحكم بنفوذ الاستيلاد ولزوم القيمة في الجملة إلى بعد الموت (2).

و يمكن أن يكون سبب حكم الأصحاب بتأخير الحكم بعتقها ولزوم القيمة إلى بعد الموت احتمال موت الولد في حياة الواطئ، فلا يتحقق سبب العتق المقتضي لبطلان الوقف بعد لزومه وتمامه، ويمكن حينئذٍ الجمع بين الحكمين بجعل الموت كاشفاً عن نفوذ الاستيلاد من حينه؛ جمعاً بين حق الوقف والاستيلاد.

هذا كلّه إذا لم يكن في الطبقة غير الواطئ، فلو كان معه شريك احتمل تعجيل غرامته القيمة؛ لوجود المستحق حينئذ وقد حال بينه وبينها بالاستيلاد وإلحاقه بالسابق؛ لاحتمال موت الولد. وهذا أولى.

ص: 114


1- أجاب به الشهيد في غاية المراد، ج 2، ص 270 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).
2- غاية المراد، ج 2، ص 270 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).

● و يجوز تزويج الأمة الموقوفة، ومهرها للموجودين من أرباب الوقف؛ لأنه ،فائدة كأجرة الدار.

● و کذا ولدها من نمائها إذا كان من مملوك أو من زنى، ويختص به البطن الذين يولد معهم، فإن كان من حُرّ بوطء صحيح كان حُرّاً، إلا أن يشترطوا رقّيَّته فى العقد.

------

وعلى ما بيناه من وقوع العتق بالاستيلاد و إن تأخر الحكم يُعلم أنه لا فرق في الولد بين كونه من أهل الوقف وعدمه، وأنّها تنعتق عليه؛ لدخولها في ملك الواطئ، وقد انكشف بالموت نفوذ الاستيلاد من حينه؛ لوجود السبب وانتفاء المانع باستمرار حياة الولد.

إذا تقرّر ذلك، فمتى قلنا بنفوذ الاستيلاد فالأقوى لزوم القيمة بعد الموت يشترى بها ما يكون وقفاً، وتنعتق من نصيب ولدها على كلّ حالٍ، ويجب في البدل مساواته للمبدل في الصفات بحسب الممكن.

قوله: «و يجوز تزويج الأمة الموقوفة، ومهرها للموجودين من أرباب الوقف» إلى آخره. لا خلاف عندنا في جواز تزويجها؛ لأنّه عقد على بعض منافعها يجري مجرى الإجارة وفيه تحصين لها، و هو غرض مطلوب شرعاً، وإنّما مَنَع منه بعض الشافعيّة من حيث إنّها إذا حبلت منعت عن العمل، وربما ماتت في الطلق (1). وظاهر أنّ مثل هذا لا يمنع.

وأما كون المهر للموجودين فلما أشار إليه المصنف من العلة من أنه فائدة من فوائدها وعوض عن منفعتها المختصة بهم، فيكون عوضها كذلك.

ويتولّى تزويجها الموقوف عليه إن قلنا بانتقالها إليه، وعلى الانتقال إلى الله تعالى يزوجها الحاكم؛ لأنه المتولّي لنحو ذلك، وقول الشيخ: إنّها تزوّج نفسها (2) ضعيف.

ولو كانت موقوفة على جهةٍ عامة زوجها الحاكم أيضاً. ولو قيل ببقاء الوقف على ملك الواقف تولّى هو التزويج.

قوله: «و کذا ولدها من نمائها إذا كان من مملوك أو من زنى» إلى آخره.

ص: 115


1- العزيز شرح الوجيز، ج 1، ص 288.
2- پاورقی در کتاب یافت نشد.

● ولو وطئها الحُرّ بشبهةٍ كان ولدها حُرّاً، وعليه قيمته للموقوف عليهم، ● ولو وطئها الواقف كان كالأجنبي.

------

هذا هو الأشهر بين الأصحاب فإنّ الولد من جملة النماء، فأشبه الكسب وثمرة البستان وولد الدابة.

و ذهب جماعة من الأصحاب - منهم الشيخ (1) وابن الجنيد (2) - إلى أنه يكون وقفاً كأُمّه؛ لأنّ كلّ ولد ذات رحم حكمه حكم أُمّه كالمدبَّرة والمرهونة على قول.

و في الكلية منع، وأما تبعية الولد لأبيه في الحُريّة إذا كان من وطءٍ صحيح فلا شبهة فيه، الامع اشتراط رقيته في العقد، ففيه خلاف يأتي في بابه (3) - إن شاء الله تعالى - و إن الأقوى عدم صحة الشرط.

قوله: «ولو وَطِئها الحُرّ بشبهةٍ كان ولدها حُرّاً، وعليه قيمته للموقوف عليهم».

أما كونه حُرّاً؛ فلان ولد الشبهة تابع لحال أبيه فى الرقية والحُرّيّة.

وأما لزوم القيمة؛ فلأنه فوت على الموقوف عليهم ولد أمةٍ بغير استحقاق.

والمراد كون القيمة للموقوف عليهم على وجه الملك التام لا على وجه الوقف على أصح القولين كالولد الرقيق.

قوله: «ولو وَطِئها الواقف كان كالأجنبي».

بناء على انتقال الملك عنه، فإنّه أصح الأقوال مطلقاً، فيترتب على وطئه ما يترتب على وطء الأجنبي. و لا فرق حينئذ بين أن نقول بانتقال الملك إلى الله تعالى أو إلى الموقوف عليه؛ لاشتراكهما في المعنى الموجب لخروجه عن الاستحقاق وكونه كالأجنبي.

ولو قلنا ببقاء ملكه فلا حدّ عليه؛ لشبهة الملك.

و في نفوذ الاستيلاد الخلاف في استيلاد الراهن لتعلّق حق الموقوف عليه، وأولى بالمنع هنا.

ص: 116


1- المبسوط، ج 3، ص 109.
2- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 279. المسألة 55.
3- يأتي في ج 6، ص 451 - 452.

وأما الصدقة

يشترط فيها الإيجاب والقبول والقبض ونيّة القرية

فهي عقد يفتقر إلى إيجاب وقبول وإقباض ● ولو قبضها المعطى من غير رضى المالك لم تنتقل إليه ● ومن شرطها نيّة القربة.

------

قوله - في الصدقة: «ولو قبضها المعطى من غير رضى المالك لم تنتقل إليه».

لأن القبض المترتب عليه أثره هو المأذون فيه شرعاً، والمنهي عنه غير منظور إليه، ومثله غيرها من العقود المفتقرة إلى القبض كالوقف والهبة، وأما مثل البيع فقد يفيد القبض بدون إذن البائع بعض الفوائد، كانتقال الضمان لكن لا من حيث إنّه قبض المبيع، بل من حيث اليد المقتضية له، ويبقى غيره من فوائد القبض.

:قوله ومن شرطها نية القربة».

ظاهرهم أنه وفاقي، ويدل عليه أيضاً رواية هشام وحماد وابن أُذينة وابن بكير وغير واحدٍ كلّهم قالوا، قال أبو عبد الله علیه السلام: «لا صدقة و لا عتق إلا ما أُريد به وجه الله تعالى» (1).

وقد يلوح من بعض كلامهم عدم الاتفاق عليه؛ حيث استدلوا على أن الإبراء لا يحتاج إلى القبول بقوله تعالى: ﴿و إن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (2). وفسّروا الصدقة هنا بالإبراء، مع أنه غير مفتقر إلى القربة. ويلزم منه عدم افتقارها إلى القبول أيضاً لذلك، إلا أن يقال: إنّها تُطلق على معنيين - خاص وعام - و إن الإبراء صدقة بالمعنى العام، وكلامهم هنا في المعنى الخاص.

ص: 117


1- الكافي، ج 7، ص 30، باب ما يجوز من الوقف ..... ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 139، ح 584، وص 151 - 152 . ح 620.
2- البقرة (2): 280.

● و لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض على الأصح؛ لأن المقصود بها الأجر وقد حصل، فهي كالمعوّض عنها.

------

وقد تقدّم في الوقف أنه صدقة (1)، والأخبار (2) مشحونة به، مع أنّ الأصح عدم اعتبار نية القربة فيه، وهذا يؤيّد اعتبار المعنى العام.

قوله: «و لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض على الأصح» إلى آخره.

خالف في ذلك الشيخ (رحمه الله)، فقال:

إن صدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الأحكام، ومن شرطها الإيجاب والقبول، و لا يلزم إلا بالقبض، وكلّ من له الرجوع في الهبة له الرجوع في الصدقة عليه (3).

ونبه المصنّف بقوله «لأنّ المقصود بها الأجر وقد حصل» على ردّ قول الشيخ لو سُلّم مساواتها للهبة؛ لأن الهبة إذا حصل لها عوض لا يجوز الرجوع فيها مطلقاً، والصدقة تستلزم العوض دائماً - و هو القربة - فكانت كالمعوّض عنها، وهذا هو الأقوى، حتى لو فُرض في الهبة التقرّب كان عوضاً كالصدقة - و لم يجز الرجوع فيها.

ويدلّ عليه أيضاً من الأخبار قول الصادق في صحيحة عبد الله بن سنان، وقد سأله عن الرجل يتصدّق بالصدقة ثمَّ يعود في صدقته، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: إنّما مَثَل الذي يتصدق بالصدقة ثم يعود فيها مثل الذي يقيء ثم يعود في قيئه» (4)، والعود في القيء غير جائز، فكذا العود في الصدقة.

والحاصل أن قول الشيخ إما ضعيف جداً، أو مبني على عدم اشتراط نية القربة فيها، فيكون قو لا في المسألة.

ص: 118


1- تقدم في ص 14.
2- وسائل الشيعة، ج 19، ص 171 و 178 وما بعدها الباب 1 و 4 و 5 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات.
3- المبسوط، ج 3، ص 143 - 144.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 151، ح 618.

حكم الصدقة لبني هاشم

● والصدقة المفروضة محرَّمة على بني هاشم، إلا صدقة الهاشمي أو صدقة غيره عند الاضطرار.

------

قوله: «والصدقة المفروضة محرَّمة على بني هاشم إلا صدقة الهاشمي» إلى آخره.

لا خلاف في تحريم الصدقة الواجبة على بني هاشم في الجملة، عدا ما استثني ولكن اختلفوا في عمومها أو تخصيصها بالزكاة، والأكثر أطلقوا كالمصنف، وكذلك ورد تحريم الصدقة - من غير تفصيل - عليهم (1)، فيعم.

ولكن ظاهر جملةٍ من الأخبار أنّ الحكم مختص بالزكاة، فيكون ذلك تقييداً لما أطلق منها.

فمما صرّح بالتخصيص رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الصدقة التي حُرّمت على بني هاشم ما هي؟ قال: «الزكاة»، قلت: فتحلّ صدقة بعضهم على بعض؟ قال: «نعم» (2).

ومما دلّ بظاهره على ذلك صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إن أناساً من بني هاشم أتوا رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي، وقالوا: يكون لنا هذا السهم الذي جعله الله تعالى للعاملين عليها فنحن أولى به، فقال رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: يا بني عبد المطلب، إن الصدقة لا تحلّ لى و لا لكم» (3) الحديث.

وحسنة محمد بن مسلم وأبي بصير وزرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله علیه السلام قالا: «قال رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: إن الصدقة أوساخ أيدي الناس و إن الله حرّم عليَّ منها ومن غيرها ما قد حرّمه، و إن الصدقة لا تحلّ لبني عبد المطلب» (4)، فإنّ الأوساخ ظاهرة في الزكاة بقرينة

ص: 119


1- وسائل الشيعة، ج 9، ص 268 وما بعدها، الباب 29 و 30 من أبواب المستحقين للزكاة.
2- الكافي، ج 4 ص 59 باب الصدقة لبني هاشم.... 5 تهذيب الأحكام، ج 4، ص 58 - 59، ح 156: الاستبصار، ج 2، ص 35، ح 107.
3- الكافي، ج 4، ص 58، باب الصدقة لبني هاشم.... ح 1: تهذيب الأحكام، ج 4، ص 58، ح 154.
4- الكافي، ج 4، ص 58 باب الصدقة لبني هاشم... 2؛ تهذيب الأحكام، ج 4، ص 58، ح 155؛ الاستبصار، ج 2، ص 35، ح 106.

● و لا بأس بالصدقة المندوبة عليهم.

------

أنّها مطهرة للمال فأخرجت وسخه معها، كما حقق في باب الزكاة (1).

وروى جعفر بن إبراهيم الجعفري الهاشمي - في الصحيح - عن أبي عبد الله قال قلت له: أتحلّ الصدقة لبني هاشم؟ فقال: «إنّما تلك الصدقة الواجبة على الناس لا تحلّ لنا، فأما غير ذلك فليس به بأس، ولو كان كذلك ما استطاعوا أن يخرجوا إلى مكة، هذه المياه عامتها صدقة» (2).

وهذه الرواية تحتمل إرادة الزكاة وإرادة مطلق الواجبة ولعلّ الأوّل منها أظهر بقرينة إشارته إلى الفرد الأظهر.

و كيف كان، فالأقوى اختصاص المنع بالزكاة لعدم دليل صالح على العموم.

قوله: «و لا بأس بالصدقة المندوبة عليهم».

يفهم من هذا التخصيص تحريم غير المندوبة مطلقاً عليهم، مضافاً إلى إطلاق تحريم الواجبة، فيشمل المنذورة والكفّارة وغيرهما.

و في القواعد أطلق أو لا تحريم الصدقة المفروضة كما هنا، ثمّ عقبه بقوله: و لا بأس بالمندوبة وغير الزكاة كالمنذورة (3)، فدلّ تخصيصه على خلاف ما دلّت عليه هذه العبارة و هو اختصاص المفروضة أو لا وثانياً، و هو أجود.

واعلم أنه لا خلاف في إباحة المندوبة لمن عدا النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ والأئمة علیهم السلام منهم، والأخبار بحث النبي على صلتهم وصنائع الخير معهم (4) كثيرة.

واستثنى في التذكرة من بني هاشم النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ، فمال إلى تحريم الصدقة المندوبة عليه وإلى إلحاق الأئمة علیهم السلام به في ذلك؛ لما فيها من الغضّ والنقص وتسلّط المتصدق وعلو مرتبته

ص: 120


1- راجع ج 1، ص 367.
2- الكافي، ج 4، ص 59، باب الصدقة لبني هاشم... . ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 4، ص 62، ح 166.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 404.
4- راجع وسائل الشيعة، ج 16، ص 332 وما بعدها، الباب 17 من أبواب فعل المعروف.

مسائل ثلاث:

الأولى: ● لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض - سواء عوض عنها أو لم يُعوّض، لرحم كانت أو لأجنبي - على الأصح.

الثانية: ● تجوز الصدقة على الذمّي و إن كان أجنبياً؛ لقوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «على كلّ كبد حرّى أجر»، ولقوله تعالى: ﴿لَّا يَنْهَنكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾.

------

على المتصدق عليه، ومنصب النبوة أرفع من ذلك وأجلّ وأشرف، بخلاف الهدية فإنّها لا تقتضي ذلك، ونسب الرواية بشربهم من سقايات مكة إلى رواية العامة (1).

وقد عرفت أنا روّينا مثلها في الصحيح فإنّ الرواية التي نقلناها سابقاً في ذلك من الكافي (2)، وهي بمعنى ما رواه العامة في ذلك، وهما معاً يدلان على عدم تحريم المندوبة عليهم مطلقاً.

قوله: «لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض» إلى آخره.

هذا هو الأقوى، وقد تقدّم ذلك، و إن المخالف الشيخ (رحمه الله) (3)، و لا وجه لإعادة المسألة مرّةً أُخرى عن قُربٍ.

قوله: «تجوز الصدقة على الذمي و إن كان أجنبياً» إلى آخره.

هذا هو الأشهر، ودلالة الآية (4)، والخبر (5) عليه ظاهرة.

و يظهر من بعض الأصحاب (6) أنّ الخلاف في الصدقة على الذمّي كالخلاف في الوقف

ص: 121


1- تذكرة الفقهاء، ج 5، ص 269 - 270، المسألة 182.
2- سبق في ص 117.
3- تقدّم في ص 118 عن الشيخ في المبسوط، ج 3، ص 143 - 144.
4- الممتحنة (60): 8.
5- المعجم الكبير، الطبراني، ج 7، ص 155، ح 6598.
6- كالمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 132.

الثالثة: ● صدقة السر أفضل من الجهر، إلا أن يتهم في ترك المواساة، فيظهرها دفعاً للتهمة.

------

عليه، وقد تقدّم أنّ فيه أقوالاً (1).

ونقل في الدروس عن الحسن المنع من الصدقة على غير المؤمن مطلقاً (2).

وقد روى الكليني (رحمه الله) ما يؤيّده، فروى عن سدير الصيرفي قال قلت لأبي عبدالله علیه السلام: أطعم سائلاً لا أعرفه مسلماً؟ قال: «نعم، أعط من لا تعرفه بولاية و لا : عداوة للحق. إنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (3)، و لا تطعم من نصب لشيء من الحق أو دعا إلى شيءٍ من الباطل» (4).

ولكن روى أيضاً عن عمرو بن أبي نصر قال، قلت لأبي عبد الله علیه السلام: إن أهل البوادي يقتحمون علينا وفيهم اليهود والنصارى والمجوس فنتصدق عليهم؟ فقال: «نعم» (5).

ويمكن حمل الأوّل على الكراهة جمعاً.

قوله: «صدقة السرّ أفضل من صدقة الجهر» إلى آخره.

أما أفضلية صدقة السر فموضع وفاق، والكتاب والسُنّة ناطقان به، قال الله تعالى: ﴿و إن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (6)، وقال رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «صدقة السر تطفئ غضب الربّ» (7)، وقال الصادق علیه السلام: «الصدقة والله في السرّ أفضل منها في العلانية» (8).

ص: 122


1- تقدم في ص 37.
2- الدروس الشرعية، ج 1، ص 172 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 9).
3- البقرة (2): 83.
4- الكافي، ج 4 ص 13، باب الصدقة على مَنْ لا تعرفه، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 4، ص 107، ح 306.
5- الكافي، ج 4، ص 14، باب الصدقة على أهل البوادي .... ح 3.
6- البقرة (2): 271
7- الكافي، ج 4، ص 7 و 8، باب فضل صدقة السر، ح 1 و 3: الفقيه، ج 2، ص 67، ح 1737؛ تهذيب الأحكام، ج 4. ص 105 . ح 299.
8- الكافي، ج 4، ص 8، باب فضل صدقة السر، ح 2: الفقيه، ج 2، ص 67، ح 1738.

......

------

هذا إذا لم يستلزم إخفاؤها اتهام الناس له بترك المواساة، وإلا فإظهارها أفضل؛ لأنّه لا ينبغي أن يجعل عرضه عرضةً للتهم، فقد تحرَّج من ذلك النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ مع بعده عنه، فغيره أولى.

و کذا لو قصد بالإظهار متابعة الناس له في ذلك واقتداء هم به؛ لما فيه من التحريض على نفع الفقراء.

هذا كله في الصدقة المندوبة، أما المفروضة فإظهارها مطلقاً أفضل، جزم به في الدروس (1)، ورواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادق علیه السلام (2)، ولأن الرياء لا يتطرق إليها غالباً كما يتطرّق إلى المندوبة، ولاستحباب حمل الواجبة إلى الإمام المنافي للكتمان غالباً، وروي عن ابن عباس أن صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة وعشرين ضعفاً (3).

و قيل: الإخفاء أفضل مطلقاً (4)، عملاً بعموم الآية (5)، إلا مع المحذورين. وله وجه.

ص: 123


1- الدروس الشرعية، ج 1، ص 173 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 9).
2- تفسير القمي، ج 1، ص 99 - 100، ذيل الآية 271 من سورة البقرة (2).
3- جامع البيان، ج 3، ص 116، ذيل الآية 271 من سورة البقرة (2).
4- قاله العلامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 456.
5- البقرة (2): 271.

ص: 124

كتاب السكنى و الحبس

عقد السكني

● وهي عقد ● يفتقر إلى الإيجاب والقبول والقبض.

------

کتاب السكني و الحبس

قوله: «وهي عقد».

الضمير يعود إلى السكنى بقرينة التأنيث و إن كان الحكم في الحبس كذلك، وكان الأولى عوده إليهما.

و في تغليب السكنى على ما يعم العمرى والرقبى تجوّز آخر فإنّهما أعم منها من وجه، فلو جعل عنو إن الكتاب «السكنى وتوابعها» أو يصرح بالجميع - كما فَعَل جماعة (1) - كان أولى.

قوله: «يفتقر إلى الإيجاب والقبول والقبض».

لا إشكال في افتقار السكني وقسيميها إلى الإيجاب والقبول، حيث يقترن بمدةٍ أو عمر، أما مع إطلاقها فظاهره - كغيره - أنّها كذلك؛ لأنّ الأصل أن لا ينتقل شيء إلى ملك الغير بدون قبوله، وهنا المنتقل المنفعة في الجملة.

ويمكن القول بعدم اشتراط القبول هنا؛ لأنّها حينئذ بمعنى إباحة السكني؛ لجواز الرجوع فيها متى شاء كما سيأتي (2).

ص: 125


1- منهم الشيخ في المبسوط، ج 3، ص 145: وابن البراج في المهذب، ج 2، ص 100؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 167.
2- يأتي في ص 134.

● وفائدتها التسليط على استيفاء المنفعة مع بقاء الملك على مالكه ● وتختلف عليها الأسماء بحسب اختلاف الإضافة، فإذا اقترنت بالعمر قيل: عمری، وبالإسكان قيل سكنى، وبالمدة قيل: رقبي، إما من الارتقاب أو من رقبة الملك.

------

ويمكن الجواب حينئذٍ بأنّها تصير عقداً جائزاً، و ذلك لا يمنع من اشتراط القبول كنظائره، أو نقول: إنها مع الإطلاق لازمة في مسمّى الإسكان، وإنما يجوز الرجوع فيها بعد تحقق المسمّى كما صرّح به في التذكرة (1)، وحينئذ فلا إشكال في اعتبار القبول؛ لأنها من العقود اللازمة في الجملة و إن طرأ عليها الجواز بعد انقضاء المسمّى.

ويستفاد من مفهوم افتقارها إلى الثلاثة أنّها لا تفتقر إلى قصد القربة، و هو أصح القولين في المسألة؛ للأصل، و إن توقف عليه حصول الثواب.

و في القواعد جزم بافتقارها إلى نيّة التقرب (2)، وظاهره أنها شرط لصحتها كالثلاثة.

و وجهه غير واضح، وبعض النسخ المقروءة على المصنّف خالية منه، وربما حمل على إرادة حصول الثواب، بمعنى أنّها لا تكون قربةً بدونه، و هو خلاف الظاهر.

قوله: «وفائدتها التسليط على استيفاء المنفعة مع بقاء الملك على مالكه».

هذا مما لا خلاف فيه عندنا ونبه به على خلاف بعض العامة؛ حيث جعلها مفيدة فائدة الهبة على بعض الوجوه، فينتقل ملك العين إلى الساكن (3).

قوله: «وتختلف عليها الأسماء بحسب اختلاف الإضافة» إلى آخره.

اختلاف الأسماء الثلاثة عليها إنما يتمّ إذا تعلقت بالمسكن، وحينئذ فتكون السكنى أعمّ منهما لشمولها ما لو أسكنه مدةً مخصوصة أو عمر أحدهما أو أطلق، ولكن سيأتي أن كل ما صح وقفه صح إعماره (4)، والرقبى بمعناها فلا تختصان بالمسكن، فتكونان أعم منها من هذا الوجه.

ص: 126


1- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 285، المسألة 165.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 402.
3- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 334 - 336، المسألة 4485.
4- يأتي في ص 136.

......

------

وإنّما كانت السكنى أعم منهما في عبارته؛ لأنه جعل مناط إطلاق العمرى اقتران السكني بالعمر ومناط الرقبى اقترانها بالمدّة، والسكنى ذكر الإسكان، و ذلك يتحقق بذكر ما اعتبر اقترانه في العقد كيف كان، فإذا قال: «أسكنتك هذه الدار مدة عمرك». تحققت السكنى لاقترانها بها، والعمرى لاقترانها بالعمر، و إن قال أعمر تكها عمرك تحققت العمرى خاصةً، و إن قال: «أسكنتكها مدة كذا» تحققت السكنى والرقبي و إن قال: «أرقبتكها» تحققت الرقبي خاصةً، فبينهما عموم و خصوص من وجه، و بين العمرى والرقبى تباين فتجتمع السكنى مع العمرى فيما لو أسكنه الدار عمر أحدهما، وتنفرد السكنى بما لو أسكنه إيَّاها لا كذلك، بل إمّا مدةً أو مطلقاً، وتنفرد العمري بما لو كان المعمر غير مشكنٍ أو لم يقرنها بالإسكان، وتجتمع السكني مع الرقبي فيما لو أسكنه الدار مدةً مخصوصةً، وتنفرد عنها السكني بما لو أسكنها لا كذلك، والرقبى بما لو كان غير مسكن أو لم يقرنها به وأمّا العمرى والرقبى فإنّهما و إن اشتركا في المورد لكن تمتازان بالتقييد بالعمر أو بمدةٍ مخصوصة، وحينئذ فاختلاف الأسماء عليها كما ذكره المصنّف إنّما يتمّ مع تعلّقها بالمسكن لا مطلقاً.

هذا هو الذي تقتضيه عبارة المصنّف والأكثر ولكن في التحرير ما يخالف هذا الاصطلاح فإنّه خصّ العمرى بما لا يشتمل عقدها على لفظ السكنى بأن يقول: «أعمر تكها مدة عمرك» والرقبى بما لا يشتمل على السكنى كذلك بل على المدة، بأن يقول: «أرقبتكها مدة كذا» فإن ذكر الإسكان فهى سكنى خاصةً و إن قرنها بالعمر أو بمدةٍ (1)، وحينئذٍ فبينهما بهذا الاعتبار تباين و إن اختصا عن السكني بتعلقهما بغير المسكن.

واعلم أنّ إطلاق اسم السكنى بالمعنى الأعم والعمرى مطابق للمعنى، وأما الرقبي فأخذها من الارتقاب - و هو انتظار الأمد الذي عُلّقت عليه، أو من رقبة الملك بمعنى إعطاء الرقبة للانتفاع بها المدة المذكورة - لا ينافي المعنيين الأخيرين؛ لأن كلاً من الساكن

ص: 127


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 321، الرقم 4710.

صيغة العقد

● والعبارة عن العقد أن يقول: «أسكنتك، أو أعمرتك، أو أرقبتك أو ما جرى مجرى ذلك - هذه الدار، أو هذه الأرض، أو هذا المسكن، عمرك أو عمري أو مدّةً معیّنة»

------

والمُسكن أو مطلق المعطي في الأقسام الثلاثة يرتقب المدة التي يرجع فيها، و ذلك في العمرى ظاهر، و في السكنى المطلقة يتمّ في أخذها من رقبة الملك مطلقاً، و في أخذها من ارتقاب المدة من جهة القابل فإنّه يرتقب في كل وقت أخذ المالك العين، لكن وقع الاصطلاح على اختصاص الرقبي بما قرن بالمدة المخصوصة.

و في التذكرة:

أنّ العرب كانت تستعمل العمرى والرقبى في معنى واحد، فالعمرى مأخوذة من العمر والرقبى من الرقوب كأنّ كلّ واحدٍ منهما يرتقب موت صاحبه.

وحكى عن عليّ علیه السلام أنه قال: «العمرى والرقبى سواء» (1).

و بهذا المعنى صرّح الشيخ في المبسوط، فقال:

صورتها صورة العمرى إلا أنّ اللفظ يختلف فإنّه يقول: «أعمرتك هذه الدار مدة حياتك» أو مدة حياتي والرقبى يحتاج إلى أن يقول: «أرقبتك هذه الدار مدة حياتك» أو «مدة حياتي».

قال: ومن أصحابنا من قال الرقبى أن يقول: جعلت خدمة هذا العبد لك مدة حياتك» أو «مدة حياتي» و هو مأخوذ من رقبة العبد، والأوّل مأخوذ من رقبة الملك (2).

و بمعنى ما ذكره الشيخ أفتى ابن البرّاج وأبو الصلاح (3). والأول أشهر.

قوله: «والعبارة عن العقد أن يقول: أسكنتك، أو أعمرتك، أو أرقبتك» إلى آخره.

ص: 128


1- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 285 - 286، المسألة 165؛ والرواية أوردها ابنا قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 341، ذيل المسألة 4487؛ والشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 1، ص 291.
2- المبسوط، ج 3، ص 145.
3- المهذب، ج 2، ص 100؛ الكافي في الفقه، ص 363.

● فيلزم بالقبض، و قيل: لا يلزم، و قيل: يلزم إن قصد به القربة والأوّل أشهر.

------

مما جرى مجراه قوله: «هذه الدار لك عمرك، أو هي لك مدة حياتك» و نحوه.

وزاد في التذكرة: وهبت منك هذه الدار عمرك على أنك إن مت قبلي عادت إلى و إن مت قبلك استقرت عليك (1).

و الظاهر أنه أراد بقوله: «استقرّت عليك» أي بقيّة عمرك، لا مطلقاً؛ لأنه هو المعروف في المذهب.

ونقل عن بعض العامة: أنّها حينئذ الأخيرهما موتاً (2)، وظاهر كلامه يدلّ عليه؛ لأنّ استقرارها للمعطي إذا تأخرت حياته يدلّ ظاهراً على ملكه لها مستقراً.

قوله: «فيلزم بالقبض، و قيل: لا يلزم، و قيل: يلزم إن قصد به القربة والأوّل أشهر».

المعروف من مذهب الأصحاب هو القول الأوّل، و وجهه عموم الأمر بالوفاء بالعقود (3)، المتناول الموضع النزاع، و لا يرد تناوله لما قبل القبض؛ للإجماع على أنه حينئذٍ غير لازم.

ورواية الحسين بن نعيم عن الكاظم علیه السلام، المتضمنة لكون البيع لا ينقض السكني (4).

ورواية أبي الصباح عن الصادق علیه السلام: إن كان جعل السكنى في حياته فهو كما شرط، و إن جعلها له ولعقبه من بعده حتى يفنى عقبه فليس لهم أن يبيعوا و لا يورثوا ثم ترجع الدار إلى صاحبها الأول» (5).

والقولان الآخران لم نقف على قائلهما، ومستند الثاني منهما أصالة عدم اللزوم، وهي

ص: 129


1- تذكرة الفقهاء، ج 20 ص 285 المسألة 165
2- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 285، المسألة 165: وراجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 335. المسألة 4485: والشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 1، ص 287. و في المصدرين: «لآخرنا» بدل «لأخيرهما».
3- المائدة (5): 1.
4- الكافي، ج 7، ص 38، باب ما يجوز من الوقف... . ح 38؛ الفقيه، ج 4، ص 251، ح 5598؛ تهذيب الأحكام ج 9، ص 141 - 142 . ح 593: الاستبصار، ج 4، ص 104. ح .399
5- الكافي، ج 7، ص 33 - 34، باب ما يجوز من الوقف...، ح 22؛ الفقيه، ج 4، ص 253، ح 5602؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 140، ح 588: الاستبصار، ج 4، ص 104، ح 397.

● ولو قال: «لك سكني هذه الدار ما بقيت أو حييت» جاز، ويرجع إلى المسكن بعد موت الساكن على الأشبه، أما لو قال: «فإذا مت رجعت إِلَيَّ» فإنّها ترجع قطعاً.

● ولو قال: «أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك» كان عمري و لم تنتقل إلى المعمر وكان كما لو لم يذكر العقب على الأشبه.

------

مرتفعة بما ذكرناه، و الثالث أنّ هذا العقد في معنى الهبة المعوّضة، والقربة في معناه، وحيث ثبت اللزوم مطلقاً فلا حاجة بنا إلى اشتراط أمر آخر.

قوله: «ولو قال: لك سكنى هذه الدار ما بقيت أو حييت، جاز» إلى آخره.

هذه المسألة لم ينقل أصحابنا فيها خلافاً، بل ظاهرهم الاتفاق على رجوعها إلى المُسكن مطلقاً، لكنّ الشيخ في المبسوط نقل فيها قولين: الصحة والبطلان، ثمّ نقل عن القائلين بالصحة أنّهم اختلفوا فذهب قوم منهم إلى أنّها يكون للمُعمّر مدة بقائه ولورثته،بعده، وقال آخرون منهم: إنه إذا مات رجعت إلى المُعمر أو إلى ورثته إن كان مات قال: وهذا هو الصحيح على مذهبنا (1).

وهذا الخلاف كله للمخالفين - كما هي عادة الشيخ في هذا الكتاب - لا لأصحابنا، ويؤيده قوله في آخره: وهذا هو الصحيح في مذهبنا؛ لأنّ عادته اختيار ما يوافق مذهبه من أقوال المخالفين بعد حكايتها.

واعلم أنّ الضمير المستتر في قوله «ترجع» يرجع إلى السكني، لا إلى الدار؛ لأن السكني هي المنتقلة إلى ملك الساكن، أما الدار فباقية على ملك مالكها لم تزل، بخلاف المنفعة فإنّها انتقلت زماناً مخصوصاً ثم رجعت إلى المالك.

قوله: «ولو قال: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك، كان عمرى» إلى آخره.

كما يجوز تعليق العمرى على عمر المُعمَر، يجوز إضافة عقبه إليه بحيث يجعل حق

ص: 130


1- المبسوط، ج 3، ص 145.

إذا عيّن للسكنى مدة

● و إذا عيّن للسكنى مدةً لزمت بالقبض، و لا يجوز الرجوع فيها إلا بعد انقضائها و کذا لو جعلها عمر المالك لم ترجع و إن مات المعمر، وينتقل ما كان له

------

المنفعة بعده لهم مدة عمرهم أيضاً، والنصوص (1) دالّة عليه، وأولى منه لو جعله لبعض معيّنٍ من العقب، ومثله ما لو جعله له مدة عمره ولعقبه مدةً مخصوصة، والعقد حينئذٍ مركب من العمرى والرقبى، ثمّ على تقدير جعله لعقبه بعده لا يخرج عن حقيقة العمرى بل يستحق العقب على حسب ما شرط له، ثمّ يرجع الحق بعده إلى المالك المُعمر، كما لو أعمر الأوّل و لم يذكر عقبه، هذا هو الذي تقتضيه أصول المذهب وعموم الأدلّة و خصوص النصوص في ذلك، كرواية أبي الصباح المتقدمة (2).

ونبه بالأشبه على ظاهر خلاف الشيخ في المبسوط؛ حيث حكم بجواز شرط العمرى للعقب، واحتج له بما رواه جابر أن النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ قال: «أيما رجل أعمِرَ عمرى له ولعقبه فإنّما هي للذي يعطاها، لا ترجع إلى الذي أعطاها فإنّه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» (3).

وظاهر احتجاجه بالحديث لفتواه عمله بمضمونه؛ إذ لو لا ذلك لكان احتجاجه بالأخبار التي ذكرها هو في التهذيب كرواية أبي الصباح وغيرها أولى، مع احتمال أن يريد الاحتجاج بالرواية على أصل المشروعيّة، و هو القدر الذي أفتى به خاصةً، ومن ثُمَّ لم يذكر كثير في المسألة خلافاً.

وبعض نُسخ الشرائع خالية من قوله على الأشبه»، و وجهه ما ذكرناه من عدم صراحة الخلاف في المسألة، مع أنّ الرواية عاميّة، وأخبارنا خالية من ذلك، بل مصرحة بخلافه.

قوله: «و إذا عيّن للسكنى مدة لزمت بالقبض» إلى آخره.

لما كان الأصل في العقود اللزوم، وكان هذا العقد غير ناقل لملك الرقبة بل للمنفعة على

ص: 131


1- وسائل الشيعة، ج 19، ص 218 - 221، الباب 2 و 3 من أبواب كتاب السكنى والحبيس.
2- تقدمت في ص 129
3- المبسوط ج 3، ص 145؛ وللرواية راجع صحيح مسلم، ج 3، ص 1245، ح 1625/20؛ وسنن أبي داود، ج 3. ص 294، ح 3553؛ ومسند أحمد، ج 4، ص 331 . ح 14457

إلى ورثته حتى يموت المالك، ولو قرنها بعمر المعمر ثم مات لم تكن لوارثه ورجعت إلى المالك.

------

وجه مخصوص فاللازم منهما لزوم العقد بحسب ما نقله، فإن كان مدة معينة لزم فيها، و إن كان عمر أحدهما لزم كذلك، فلا يبطل العقد بموت غير من عُلّقت على موته، فإن كانت مقرونةً بعمر المالك استحقها المُعمّر كذلك، فإن مات المُعمر قبل المالك انتقل الحق إلى ورثته مدة حياة المالك، كغيره من الحقوق والأملاك، وهذا مما لا خلاف فيه.

أما لو انعكس بأن قُرنت بعمر المُعمر فمات المالك قبله، فالأصح أن الحكم كذلك، وليس لورثة المالك إزعاجه قبل وفاته مطلقاً لما ذكرناه من المقدمتين.

وفصل ابن الجنيد هنا، فقال: إن كانت قيمة الدار يحيط بها ثلث الميت لم يكن لهم إخراجه، و إن كان ينقص عنها كان ذلك لهم (1)؛ استناداً إلى رواية خالد بن نافع عن الصادق علیه السلام (2)، الدالة على ذلك، إلا أن في سندها جهالةً أو ضعفاً، و في متنها خللاً يمنع من الاستناد إليها، فالمذهب هو المشهور.

نعم، لو وقع العقد في مرض موت المالك اعتبرت المنفعة الخارجة من الثلث، لا جميع الدار (3).

ص: 132


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 294، المسألة 78؛ و في حاشية «ي، و»: «هذا لفظ ابن الجنيد في كتابه الأحمدي في الفقه المحمدي. (منه قدّس سرّه)».
2- الفقيه، ج 4، ص 252، ح 5599؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 142، ح 594؛ الاستبصار، ج 4، ص 105، ح 400. 3. في حاشية «و، ي»: «في هذه العبارة فوائد وتنبيهات على مواضع من الخلل في عبارات الأصحاب».
3- منها قوله (رحمه الله): «إنّ في سندها جهالة أو ضعفاً» فإنّه أسدّ من قول من قال: «في سندها ضعف»؛ لأنّ خالد بن نافع مجهول وطريق الشيخ إلى الحسن بن محبوب بعضه حسن وبعضه ضعيف. و لا يعلم هذا الحديث من أي الطرق، والعلّامة في الخلاصة نص على كونه حسناً أو صحيحاً. وممن صرّح بضعف هذه الرواية فخر الدين والشيخ رحمهما الله) وليس بجيد. ومنها قوله في متنها خلل أسد من قول الشهيد (رحمه الله) في متنها اضطراب؛ لأنها في متنها غلط من الراوي في قوله يعني صاحب الدار، وكان حقه أن يقول يعني صاحب السكنى ليترتب عليه ما ذكره فيها من الحكم وقد نص الشيخ على الغلط فيها وهذا هو الخلل. وأما الاضطراب فهو في اصطلاح المحدثين أن يختلف ألفاظ الرواية على وجه يوجب اختلاف المعنى مع التساوي في القوة والضعف. وهنا لم يتفق اختلاف أصلاً. ومنها: قوله «اعتبرت المنفعة من الثلث» أسدّ من قول من قال: «يعتبر أصل الدار»؛ لأنّ المتبرع به هو المنفعة لا عين الدار ولكنه يقع في ذلك الرواية فالعهدة عليها. (منه قدس الله سره)»

......

------

واعلم أنّ الموجود في عبارة المصنف (رحمه الله) وغيره (1) ومورد الأخبار (2) أن العمرى مختصة بجعل الغاية عمر المالك أو عمر المُعمّر، ويضاف إلى ذلك عقب المُعمّر، كما سلف.

و هل يتعدى الحكم إلى غير ذلك بأن يقرنها بعمر غيرهما؟ يحتمله، و هو الذي أفتى به الشهيد (رحمه الله) في بعض فوائده (3): للأصل، وعموم الأمر بالوفاء بالعقود (4)، و إن المسلمين عند شروطهم (5)، وهذا من جملته، ولصدق اسم العمرى في الجملة المدلول على شرعيتها في بعض الأخبار (6) من غير تقييد بعمر أحدهما، وهذا لا بأس به.

و يحتمل عدم التعدي إلى غير ما نص عليه؛ لاشتمال هذا العقد على جهالةٍ من حيث عدم العلم بغاية وقت المنفعة المستحقة، والأصل يقتضي المنع من ذلك في غير محلّ الوفاق.

ويتفرع على الأوّل حكم ما لو مات أحدهما في حياة من عُلّقت بعمره، فإن كان الميت المالك، فالحكم كما لو مات في حياة المُعمَر، و إن كان هو المُعمَر رجعت إلى المالك، ولو مات من عُلّقت على عمره عادت إلى المالك أيضاً مطلقاً؛ عملاً بالشرط.

ص: 133


1- كالشيخ في المبسوط، ج 3، ص 145 وابن البراج في المهذب، ج 2، ص 100؛ والعلّامة في قواعد الأحكام ج 2، ص 402 - 403؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 226 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- وسائل الشيعة، ج 19، ص 218 وما بعدها، الباب 2 و 3 من أبواب كتاب السكنى والحبيس.
3- لم نعثر عليه.
4- المائدة (5): 1.
5- الكافي، ج 5، ص 169، باب الشرط والخيار في البيع، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 202 ح 3768 تهذيب الأحكام. 1: 3768؛ ج 7، ص 22، ح 93 و 94، وص 467، ح 1872.
6- الكافي، ج 7، ص 33 - 34، باب ما يجوز من الوقف...، ح 22 و 24 و 25: الفقيه، ج 4، ص 253، ح 5600 و 5602؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 140، ح 588 - 590: الاستبصار، ج 4، ص 104، ح 397.

لو أطلق المدّة و لم يعينها

● ولو أطلق المدّة و لم يعيّتها كان له الرجوع متى شاء.

------

قوله: «ولو أطلق المدة و لم يعينها كان له الرجوع متى شاء».

هذا تتمة حكم السكنى من حيث اللزوم وعدمه.

والحاصل أنها من العقود اللازمة مطلقاً إلا في صورة واحدة، وهي ما لو أطلق السكنى و لم يعيّن لها وقتاً فإنّها حينئذٍ من العقود الجائزة مطلقاً، كما يظهر من العبارة، كعبارة الأكثر.

ويدلّ عليه ظاهر الأخبار، كحسنة الحلبي عن أبي عبد الله علیه السلام، و في آخرها: قلت: فرجل أسكن داره و لم يوقت قال: «جائز، ويخرجه إذا شاء» (1)، ودلالتها من حيث الجواز، ومن حيث المشيئة، ودلالة الثاني أظهر، و في معناها غيرها (2).

وقال فى التذكرة:

إنه مع الإطلاق يلزم الإسكان في مسمّى العقد ولو يوماً. والضابط ما يُسمّى إسكاناً. وبعده للمالك الرجوع متى شاء (3).

وتبعه على ذلك المحقق الشيخ علي (رحمه الله)، واحتج له برواية الحلبي (4).

وقد عرفت أنّها دالّة على ضدّه، بل يمكن الاحتجاج له بما دلّ على لزوم غيره من العقود، كعموم: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (5)، فلابد من الحكم هنا بلزومه وقتاً ما عملاً بالدليل، ثمّ ) يرجع إلى الجواز؛ جمعاً بين الآية ورواية الحلبي وغيرها.

وفيه نظر؛ لأنّ الرواية مخصصة للآية؛ لدلالتها على جوازه مطلقاً، كما خُصصت الآية بسائر العقود الجائزة بدليل من خارج.

ص: 134


1- الكافي، ج 7، ص 34، باب ما يجوز من الوقف... 25 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 140، ح 590: الاستبصار، ج 4، ص 104، ح 398.
2- الكافي، ج 7، ص 34 - 35، باب ما يجوز من الوقف.... ح 24 و 27؛ الفقيه، ج 4، ص 245، ح 05584 وص 253، ح 5600: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 140 - 141، ح 589 و 591 .
3- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 299، المسألة 173.
4- جامع المقاصد، ج 9، ص 124.
5- المائدة (5): 1.

......

------

هذا حكم إطلاق السكني، و لم يتعرّض لحكم الرقبي والعمرى لو أطلقهما.

ويمكن القول بفساد العمري حينئذ مع الإطلاق؛ لاقتضائها الاقتران بعمر إما لأحدهما، كما هو المشهور، أو مطلقاً، كما قرّرناه، فإذا لم يعينه بطلت؛ للجهالة، كما لو عين مدةً غير مضبوطة حيث يعتبر تعيينها، والصحة إقامة لها مقام السكني؛ لاشتراكهما في كثير من المعاني والأحكام ومناسبتهما على الوجه الذي قررناه سابقاً (1)، فيكون كاستعمال لفظ «السلم» في مطلق البيع، و کذا القول في الرقبى، وأولى بالصحة هنا؛ لأنّ إطلاقها باعتبار رقبة الملك أو ارتقاب المدة التي يرتضيها المالك ممكنةً هنا بطريق الحقيقة، فاستعمالها في السكنى يكون كاستعمال أحد المترادفين مكان الآخر و إن اختلفا من جهةٍ أُخرى. وهذا قوي.

و في الدروس قطع ببطلان العمرى مع الإطلاق (2)، و لم يتعرّض للرقبي.

و في التحرير: قطع بأنّه مع إطلاق العمرى و الرقبي يصح، ويكون للمالك إخراجه متى شاء، کالسکنی (3).

و هو في الرقبى حسن وفتوى الدروس في العمرى أحسن.

ويتفرّع على ذلك ما لو أعمره مدةً معيّنةً، فعلى جواز إطلاق العمرى لا شبهة في الجواز هنا لانضباطها بالمدّة، فهي أولى من الإطلاق، وعلى المنع يحتمله هنا؛ لاختصاصها بالعمر و لم يحصل هنا والجواز هنا و إن منع من الإطلاق.

والفرق أنها مع الإطلاق محمولة على عمر أحدهما أو عمر مطلق و لم يعيّن فبطلت؛ للجهالة، بخلاف ما لو عين المدة، فإنّه صريح في إقامتها مقام السكني أو الرقبي فيصح كما يصح إقامة السلم مقام غيره من أفراد البيع الحال مع التصريح بإرادة الحلول؛ إقامة للنوع مقام،الجنس، وأقلّ مراتبه أنّه مجاز مشهور .

ص: 135


1- سبق في ص 126 وما بعدها.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 226 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 322، الرقم 4712.

كلّ ما يصح وقفه يصح إعماره

● وكلّ ما يصح وقفه يصح إعماره من دارٍ ومملوك وأثاث ● و لا تبطل بالبيع بل يجب أن يو في المُعمّر ما شُرط له.

------

وليس بجيّدٍ؛ لأنّ المعتبر في العقود اللازمة الألفاظ الحقيقية الصريحة، و هو منتف هنا. و في التحرير قطع بجواز العمري كذلك (1)، و هو مناسب لأصله السابق (2).

قوله: «وكلّ ما يصح وقفه يصح إعماره من دارٍ أو مملوك أو أثاث».

لما كانت العمرى تشارك السكنى في كثير من الأحكام، وتقوم مقامها في العقد على وجه يوهم اختصاصها بدار سكني نبه على دفعه و إن مورد العمرى أعم من مورد السكني وضابطها ما يصح وقفه، و هو العين المملوكة التي يمكن إقباضها وينتفع بها مع بقاء عينها فتدخل في ذلك الدار والأثاث والحيو إن و إن كان جارية، لكن إنما يستبيح منفعتها واستخدامها دون وطئها؛ لأنّ استباحة البضع منوط بألفاظ خاصة، والواقع هنا لا يدلّ عليها (3).

والحاصل أن العمرى نوع من الصدقة مختصة بالمنافع المباحة، فيعم جميع ما ذكر، و في معناه الرقبي، وكان عليه أن يذكرها.

قوله: «و لا تبطل بالبيع، بل يجب أن يو في المُعمر ما شُرط له».

الضمير المستتر في «تبطل» يرجع إلى العمرى بقرينة السياق، وقوله «بل يجب أن يو في المُعمر ما شُرط له»، وإنّما خصها بالذكر؛ لأنّ جواز البيع فيها يقتضي جوازه في جوازه في أختيها بطريق أولى - كما سنحرره - ولأنها مورد النص الذي هو مستند جواز البيع، و هو حسنة الحسين بن نعيم عن الكاظم علیه السلام، قال: سألته عن رجل جعل داراً سكنى لرجل أيام حياته، أو جعلها له ولعقبه من بعده، هل هي له ولعقبه كما شرط؟ قال: «نعم»، قلت: فإن احتاج يبيعها؟ قال: «نعم»، قلت فينقض بيعه الدار السكني؟ قال: «لا ينقض البيع السكني، كذلك سمعت

ص: 136


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 322، الرقم 4712.
2- سبق في ص 127.
3- في «و»: «لأن استباحة البضع منوط بلفظي الإباحة والتحليل، والواقع هنا لا يدلّ عليهما».

......

------

أبي علیه السلام قال، قال أبو جعفر علیه السلام: لا ينقض البيع الإجارة و لا السكني، ولكن يبيعه على أنّ الذي يشتريه لا يملك ما اشترى حتى تنقضي السكنى على ما شرط، و کذا الإجارة» (1) الحديث.

وحيث يصح البيع في العمرى مع جهالة وقت انتفاع المشتري يصح في الرقبي المقترنة بمدة معينة؛ لارتفاع الجهالة فيها بطريق أولى.

ولو كانت السكنى مطلقةً والعمرى والرقبى حيث نجوّزهما كذلك صح البيع أيضاً، وبطلت السكنى وما في معناها، كما هو شأن العقد الجائز إذا طرأ عليه لازم ينافيه.

وما اختاره المصنّف من الحكم بصحة البيع في العمرى مذهب جماعة من الأصحاب، منهم ابن الجنيد قاطعاً به (2)، كالمصنّف والشهيد في الدروس ناقلاً فيه الخلاف (3).

واختلف كلام العلّامة، ففي الإرشاد قطع بجواز البيع (4)، كما هنا، و في التحرير استقرب عدمه؛ لجهالة وقت انتفاع المشتري (5)، و في القواعد والمختلف والتذكرة استشكل الحكم بعد أن أفتى في التذكرة بالجواز؛ للرواية (6).

ومنشأ المنع والإشكال أنّ الغرض المقصود من البيع هو المنفعة؛ ولهذا لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه، وزمان استحقاق المنفعة في العمرى مجهول، وقد منع الأصحاب من بيع المسكن الذي تعتدّ فيه المطلقة بالأقراء؛ لجهالة وقت الانتفاع به، فهنا أولى؛ لإمكان استثناء الزوج مدةً يقطع بعدم زيادة العدة عليها، بخلاف المتنازع

ص: 137


1- الكافي، ج 7، ص 38 باب ما يجوز من الوقف .... ح 38: الفقيه، ج 4، ص 251، ح 5598؛ تهذيب الأحكام ج 9، ص 141 - 142، ح 593: الاستبصار، ج 4، ص 104، ح 399.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 297، المسألة 81.
3- الدروس الشرعية، ج 2، ص 227 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
4- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 456.
5- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 322، الرقم 4713
6- قواعد الأحكام، ج 2، ص 403: مختلف الشيعة، ج 1، ص 298 المسألة 81؛ تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 307 المسألة 179.

......

------

وفيه نظر؛ لأنّ الانتفاع بالبيع في الجملة،متحقق، وإنّما تخلّف عنه نوع خاص منها، و ذلك لا يقدح، ومنع الأصحاب من بيع مسكن المعتدة مبني على ما منعوه هنا لاشتراكهما في المعنى، ويلزم القائل بالصحة هنا القول به ثُمَّ إن لم يتحقق الإجماع فيه، مضافاً إلى النصّ (1) المعتبر بالجواز صريحاً.

ويمكن الفرق بجواز هذا بالنص، فلا يلزم مثله في ذاك إن لم يدع اتحاد الطريق، أو يقال بخروج ذاك بالاتفاق إن تمّ.

و كيف كان، فالقول بالصحة هنا أوجه مؤيَّداً بما ذكر من النص، والاعتبار بعموم: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (2)، و«المؤمنون عند شروطهم» (3)، وعدم المنافاة بين البيع والسكني فإنّ مورد البيع العين ليستو في منها المنفعة المستحقة للبائع لا مطلقاً، ومورد السكنى المنفعة المملوكة له حالة الإسكان وما في معناه.

وربما فرّق بين بيعه على المُعمر وغيره، وجوز الأوّل دون الثاني؛ نظراً إلى استحقاق المُعمَر المنفعة ابتداءً واستمرار استحقاقه فتقل الجهالة، بخلاف غيره.

وفساده واضح؛ فإنّ المعتبر من العلم بالمنفعة المطلوبة في البيع إن كان ممّا ينافيه هذا الفائت منها زمن العمر المجهول بطل مطلقاً، وإلا صح مطلقاً؛ لاختلاف الاستحقاقين، فلا يبنى أحدهما على الآخر.

وأما الأولوية التي ادعوها في بيع مسكن المطلقة باستثناء قدر يقطع بانقضاء العدة قبله فمثله آتٍ في العمرى؛ نظراً إلى العمر الطبيعي الذي لا يعيش المُعمر بعده قطعاً أو عادةً، ومن ثُمَّ يُحكم بموت المفقود حينئذ، ويقسم ماله، وتعتد زوجته عدة الوفاة اتفاقاً.

ص: 138


1- الكافي، ج 7، ص 38 باب ما يجوز من الوقف.... ح 38؛ الفقيه، ج 4، ص 251، ح 5598؛ تهذيب الأحكام ج 6، ص 141 - 142. ح 593: الاستبصار، ج 4، ص 104، ح 399.
2- المائدة (5): 1.
3- تقدّم تخريجه في ص 71 الهامش 5.

......

------

بقي هنا شيء، و هو أنّ المشتري لو كان هو المعمر جاز له بيع العين حينئذ بجميع منافعها؛ لأنها بأجمعها مملوكة له، و لا مانع من نقلها إلى غيره بوجه، و إن كان قبل الشراء ما كان يمكنه بيع هذه المنفعة؛ فإنّ المانع لم يكن الجهالة بل عدم جواز إفراد المنفعة بالبيع.

وليس ببعيد جواز الصلح عليها؛ لاحتماله من الجهالة ما لا يحتمله البيع، وصحته على العين والمنفعة.

فعلى هذا لو كان مشتري العين غيره وجوّزناه جاز له أن يصالح المشتري على تلك المنفعة المستحقة له مدة عمره بمال معلوم، ويصير المشتري حينئذ مالكاً للجميع، كما لو كان هو المُعمّر.

.

إذا تقرر ذلك فالمشتري - حيث يجوز شراؤه مسلوب المنفعة في المدة المعينة أو العمر - إن كان عالماً بالحال فلا خيار له، بل يصبر حتى تنقضي المدّة أو العمر، ثم ينتقل إليه المنفعة، وله قبل ذلك أن يبيع ويهب ويعتق وغير ذلك مما لا يتعلّق بالمنفعة المستحقة، و إن كان جاهلاً تخيّر بين الصبر مجاناً إلى انقضاء المدّة، وبين الفسخ؛ لأن فوات المنفعة عيب يجوز الفسخ.

واعلم أنّ العلّامة في المختلف قال - بعد أن حكى عن ابن الجنيد صحة البيع -:

وللشيخ قول يناسب ما قاله ابن الجنيد في المبسوط، و هو أنه إذا أوصى بخدمة عبده على التأبيد جاز لورثة الموصي بيع الرقبة على الأقوى، ونقل المنع عن قوم؛ لأنها رقبة مسلوبة المنفعة، فهو كبيع الجعلان (1). انتهى.

و في مناسبة هذا القول لما نحن فيه نظر بيّن؛ لأنّ المنفعة المسلوبة في العمرى ليست دائمةً، بل إلى أمدٍ مجهول - كما تقرر - وبعدها تنتقل إلى المشتري، و هو أعظم المنافع المقصودة من المبيع، فكان المقصود من المنفعة مجهولاً، بخلاف الموصى به على التأبيد؛

ص: 139


1- مختلف الشيعة، ج 1، ص 298، المسألة 81 وراجع أيضاً المبسوط، ج 3، ص 212 و 213. والجُعَل دابة سوداء من دواب الأرض... وجمعه جعلان . راجع لسان العرب، ج 11، ص 112، «جعل».

● وإطلاق السكني يقتضى أن يسكن بنفسه وأهله وأولاده، و لا يجوز أن يسكن غيرهم إلا أن يشترط ذلك، و لا يجوز أن يؤجر السكني، كما لا يجوز أن يسكن غيره، إلا بإذن المُسكن.

------

لأنّ منفعة الخدمة حينئذٍ غير ملحوظة للمشتري أصلاً، وإنّما غرضه باقي المنافع التي لم تدخل في الوصيّة، كالعتق وهذه منفعة معلومة له والمجهولة قد قطع النظر عنها وعن انتقالها إليه؛ لعدم إمكانه فلا يلزم من تجويز بيعه تجويزه لبيع المُعمر الذي يرتقب منفعته المقصودة من الشراء عادة.

قوله: «وإطلاق السكنى يقتضي أن يسكن بنفسه وأهله وأولاده» إلى آخره.

هذا هو المشهور بين الأصحاب؛ محتجين على ذلك بأنّ الأصل عصمة مال الغير من التصرف فيه بغير إذنه، خرج من ذلك ما أُذن فيه، و هو سكناه بنفسه ومن في معناه، فيبقى الباقي على أصل المنع.

و خالف ابن إدريس في ذلك، فجوّز له إسكان من شاء وإجارته ونقل الملك كيف شاء؛ لملكه إياها بالعقد اللازم فساغ له التصرف فيها كيف شاء كما لو تملكها بالإجارة، وكغيرها من أمواله (1).

وأجيب بمنع ملكه لها مطلقاً، بل على الوجه المخصوص، فلا يتناول غيره (2). وفيه نظر.

و كيف كان فالعمل على المشهور و إن كان كلام ابن إدريس لا يخلو من قوة.

وإنما جاز عند الأصحاب إسكان أهله وأولاده مع اقتضاء الصيغة عندهم سكناه بنفسه؛ لدلالة العرف على ذلك.

وألحق به العلّامة في التذكرة من جرت العادة بإسكانه معه، كغلامه وجاريته ومرضعة ولده (3). و هو حسن؛ لدلالة العرف عليه أيضاً.

ص: 140


1- السرائر، ج 3، ص 169 .
2- أجاب به العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 294، المسألة 77.
3- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 302، المسألة 175.

حكم الحبس

● و إذا حبس فرسه في سبيل الله تعالى أو غلامه في خدمة البيت أو المسجد لزم ذلك، و لم يجز تغييره ما دامت العين باقية.

أما لو حبس شيئاً على رجل و لم يعيّن وقتاً ثم مات الحابس كان ميراثاً، و کذا لو عيّن مدةً وانقضت كان ميراثاً لورثة الحابس.

------

و کذا الضيف والدابة إذا كان في الدار موضع يصلح لهما عادةً، و کذا إحراز الغلة فيها كذلك، و نحوه.

قوله: «و إذا حبس فرسه في سبيل الله - إلى قوله كان ميراثاً لورثة الحابس».

هذه الأحكام مختصة بالحبس الذي عقد الكتاب له مع السكني، و لم يتعرّض لحكمه إلا هنا، و لم يستوفها جيدةً و لا غيره؛ فإنّه لم يتعرّض لعقده وافتقاره إلى القبض وعدمه، ولضابط ما يصح حبسه؛ فإنّه إنما ذكر أموراً مخصوصةٌ من المال، و کذا ما يجوز الحبس عليه؛ فإنّه ذكر وجوهاً خاصةً أيضاً، و کذا فعل الأكثر .

وخلاصة ما ذكر هنا من حكمه أنه إن وقع على غير آدمي كالجهات المذكورة من سبيل الله و نحوه - لزم أبداً، و لم يصح الرجوع فيه مطلقاً، و إن كان على آدمي، فإن أطلق بطل بموت الحابس، و إن عيّن مدةً لزم فيها أجمع.

والموجود من النصوص في هذا الباب ما روي من قضاء أمير المؤمنين برد الحبيس وإنفاذ المواريث (1).

والأصحاب حملوا رده على القسم الثاني، و هو ما إذا وقع مع آدمي، فإنه يرد إلى الحابس بعد موته، و لم يذكروا على الأوّل سنداً، وكأنه وفاقي، لكن يعتبر فيه مع العقد القبض، صرّح به في التذكرة (2)، واعتبر في التحرير القربة أيضاً (3).

ص: 141


1- الكافي، ج 7، ص 34 - 35، باب ما يجوز من الوقف... . ح 27: الفقيه، ج 4، ص 245 - 246، ح 5584: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 140 - 141، ح 591.
2- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 301، المسألة 174.
3- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 323، الرقم 4716.

......

------

وظاهر العبارة أنّه لا يخرج عن ملك المالك حيث حكم بلزومه وعدم جواز تغييره ما دامت العين.

وصرّح في الدروس بخروجه عن ملكه بالعقد بخلاف الحبس على الإنسان (1)؛ فإنّه لا يخرج قطعاً كالسكني.

وبقي في كلام المصنف أنه مع الإطلاق هل يصح الرجوع فيه أم لا؟ وليس في كلامه ما يدلّ عليه، بل على بطلانه بموته، والذي صرّح به في القواعد: أنه مع الإطلاق له الرجوع متى شاء كالسكني (2). و هو حسن.

و في العبارة أيضاً إخلال بالحبس (مدة) (3) عمر أحدهما؛ فإنه لم يذكر إلا تعيين المدة، وحكمه كالمدة المعينة في لزومه ما دام باقياً، ورجوعه إلى المالك بعد موت من علق على عمره، وبه جزم في التحرير (4).

واتفق الجميع على التعبير بالفرس والمملوك في الوجوه المذكورة، وزاد في الدروس البعير في سبيل الله (5)، وكان عليهم أن يذكروا حكم باقي ما يصح وقفه وإعماره.

و الظاهر أنّ حكم الحبس كذلك، ومورده مورد الوقف فيصح حبس كلّ عينٍ ينتفع بها مع بقاء عينها بالشرائط السابقة على الإنسان مطلقاً وعلى القرب، حيث يمكن الانتفاع بها فيها، كمطلق الدابة لنقل الماء إلى المسجد والسقاية ومعونة الحاج والزائرين، وطلاب العلم والمتعبدين والكتب على المتفقهين والبيت على المساكين وغير ذلك، فالاقتصار على ما ذكروه ليس بجيّد، وعموم الأدلّة متناول للجميع، وخصوصها خالٍ من جميع ما ذكروه.

ص: 142


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 227 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 404.
3- ما بين القوسين من م و».
4- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 322، الرقم 4712.
5- الدروس الشرعية، ج 2، ص 227 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

كتاب الهبات

النظر الأول في حقيقة الهبة

اشارة

والنظر فى الحقيقة والحكم.

● الهبة هي العقد المقتضى تمليك العين من غير عوض تمليكاً منجزاً مجرّداً عن القربة.

------

كتاب الهبات

جمعها باعتبار أفرادها المختلفة فى الحكم كالهبة المقبوضة وغيرها، والمعوّض عنها وغيرها، والمتصرف فيها وغيرها، والواقعة للرحم وغيره، و نحو ذلك، وإلا فهي حقيقة واحدة و إن اختلفت خواصها، ومن ثُمَّ عبر الأكثر بها موحدةً.

قوله: «الهبة هي العقد المقتضي تمليك العين من غير عوض تمليكاً منجزاً مجرّداً عن القربة».

قد تقدّم الكلام في إطلاق المعنى المطلوب من هذه الألفاظ على العقد الدال عليها في نظائره من البيع (1) وغيره، وأنه مجاز من باب إطلاق اسم السبب على المسبب أو حقيقة. والعقد هنا بمنزلة الجنس يشمل سائر العقود، وخرج به الفعل الدال على ذلك، كنثار العُرس، وإحضار الطعام بين يدي الضيف؛ فإنّه لا يسمّى هبة بل إباحة، والموت المقتضي

ص: 143


1- راجع ج 3، ص 47 .

● وقد يعبّر عنها بالنحلة والعطيّة.

------

لتملك الأعيان بالإرث، وحيازة المباحات كالاحتطاب والاحتشاش.

وخرج بقوله «المقتضي تمليك العين» نحو العارية والإجارة؛ فإنّ الأول لا يقتضي تمليكاً مطلقاً، و الثاني يقتضي تمليك المنفعة.

وبقوله «من غير عوض» نحو البيع والصلح الواقع على الأعيان بعوض.

وبقوله «منجزاً» الوصيّة بالأعيان؛ فإنّ ملكها يتوقف على الموت.

وبقوله «مجرّداً عن القربة» الصدقة؛ فإنّها مشروطة بها كما سلف، والوقف والسكنى وما يلحق بها إن اعتبرنا فيها القربة وإلا فالتعريف منتقض بها، كما هو الأصح.

ودخل في العقد الدال على ذلك إشارة الأخرس بخلاف ما عبّر به غيره من أنّه «اللفظ الدالّ على ذلك»؛ فإنّها خارجة.

وينتقض في عكسه بالهبة المشروط فيها الثواب والمتقرّب بها؛ فإنّ القربة و إن لم يشترط فيها إلا أنّها لا تنافيها، بل المتقرَّب بها أكمل أفرادها.

ويمكن دفعها بأن المراد من قوله «من غير عوض» و «مجرّداً عن القربة» أن العوض غير لازم فيها، و کذا القربة، لا انتفاء العوض والقربة أصلاً، والهبة المشروط فيها العوض والمتقرّب بها العوضُ والقربة غير شرط، فلو تجردت عنهما صحت بخلاف ما يعتبران فيه، كالبيع والصدقة.

وبأن العقد المذكور لا يقتضي الملك بنفسه، بل لا بد معه من القبض إجماعاً، فلا يكون وحده مقتضياً للملك. ويمكن دفعه بأنّه إنما جعله مقتضياً للتمليك لا للملك، و لا شبهة في أنّ قوله «وهبتك» يقتضي تمليكه العين المخصوصة و إن لم يتحقق الملك بذلك، بل توقف على أمر آخر أو يقال: إن الاقتضاء أعم من التام والناقص، فلا ينافي توقفه على أمر آخر.

قوله: «وقد يعبّر عنها بالنحلة والعطية».

النحلة - بالكسر - اسم للعطية، والمصدر النحل - بالضم - تقول: نحلته أنحله نحلاً (1).

ص: 144


1- الصحاح، ج 3، ص 1826؛ لسان العرب، ج 11، ص 650، «نحل».

يفتقر إلى الإيجاب والقبول والقبض

● وهي تفتقر إلى الإيجاب والقبول والقبض. فالإيجاب كلّ لفظ قصد به التمليك المذكور كقوله - مثلاً -: «وهبتك» و«ملكتك».

------

والعطية تطلق على مطلق الإعطاء المتبرع به (1)، فيشمل الوقف والصدقة والهبة والهدية والسكنى، ومن ثَمَّ أطلق بعض الفقهاء (2) عليها اسم العطايا وعنونها بكتاب، فتكون أعم من الهبة. والنحلة في معناها، فيكون إطلاقها على الهبة كإطلاق الجنس على النوع. وقد عرفت أنّ الهبة أعمّ من الصدقة؛ لاشتراطها بالقربة دونها.

وأما الهدية فهى أخصّ من الهبة أيضاً؛ لأنّها تفتقر إلى قيد آخر مضافاً إلى ما ذكر في تعريف الهبة، و هو أن يحمل الموهوب من مكان إلى مكان الموهوب منه إعظاماً له وتوقيراً، فامتازت عن مطلق الهبة بذلك؛ ولهذا لا يطلق لفظها على العقارات الممتنع نقلها، فلا يقال: أهدى إليه داراً و لا أرضاً»، ويقال: «وهبه ذلك»، فصارت الهبة أعمّ منها أيضاً.

وعلى هذا يتفرّع أنه لو نذر الهبة برئ بالهدية والصدقة، دون العكس مطلقاً. ولو حلف لا يهب، فتصدق أو أهدى حنث دون العكس بتقدير فعله فرداً منها خارجاً عنهما. وقال الشيخ في المبسوط: الهبة والهدية والصدقة بمعنى واحد، ثم علّله بمسألة الحلف (3)، وهي لا تدلّ على مطلوبه كما لا يخفى، بل التحقيق ما ذكرناه.

قوله: «وهي تفتقر إلى الإيجاب والقبول والقبض» إلى آخره.

لما كانت الهبة من العقود اللازمة على تقدير اجتماع شرائط اللزوم، اعتبر فيها ما يعتبر العقود اللازمة من الإيجاب والقبول القوليّين العربيّين وفوريّة القبول للإيجاب بحيث يُعدّ جواباً له، وغير ذلك ممّا يعتبر في العقود؛ ولمّا كانت جائزة على كثير من الوجوه لم يضيقوا المجال فيها على حد العقود اللازمة، فاكتفوا فيها بكل ما دلّ على التمليك

ص: 145


1- راجع لسان العرب، ج 15، ص 69، «عطا».
2- كالعلّامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 449.
3- المبسوط، ج 3، ص 129.

......

------

المذكور، حتى قالوا لو قال «هذا لك» مع نيّة الهبة كفى مع كونه ليس بلفظ الماضي؛ لدلالته على الإنشاء من حيث اسم الإشارة المقترن بلام الملك أو الاختصاص. وهذا بخلاف ما لو قال: «هذا مبيع لك بكذا» فإنّ البيع لا ينعقد به؛ لما قلناه من عدم لزوم هذا العقد مطلقاً، فتوسع فيه كما توسعوا (1) في عقد الرهن؛ حيث كان جائزاً من أحد الطرفين لازماً من الآخر.

وظاهر الأصحاب الاتفاق على افتقار الهبة مطلقاً إلى العقد القولي في الجملة، فعلى هذا ما يقع بين الناس على وجه الهدية من غير لفظ يدلّ على إيجابها وقبولها لا يفيد الملك بل مجرّد الإباحة، حتى لو كانت جاريةٌ لم يحلّ له الاستمتاع بها؛ لأنّ الإباحة لا تدخل في الاستمتاع.

قال الشيخ في المبسوط:

ومَنْ أراد الهديّة ولزومها وانتقال الملك منه إلى المهدى إليه الغائب فليوكل رسوله في عقد الهدية معه، فإذا مضى وأوجب له وقبل المهدى إليه وأقبضه إياها لزمه العقد، وملك المهدى إليه الهدية (2).

و نحوه قال في الدروس: وجعل عدم اشتراط الإيجاب والقبول فيها احتمالاً (3).

واختلف كلام العلّامة ففي القواعد قطع بأنّ الهدية كالهبة في اشتراطها بالإيجاب والقبول والقبض (4). و في التحرير نقل قريباً من كلام الشيخ ثم قال:

ولو قيل بعدم اشتراط القبول نطقاً كان وجهاً؛ قضاء للعادة بقبول الهدايا من غير نطق (5).

ص: 146


1- في بعض النسخ: «توسع» بدل «توسعوا».
2- المبسوط، ج 3، ص 144.
3- الدروس الشرعية، ج 2، ص 235 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
4- قواعد الأحكام، ج 2، ص 405.
5- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 285، الرقم 4638.

......

------

ويلوح من آخر كلامه في التذكرة الفتوى به من غير تصريح؛ لأنه نقل عن قوم من العامة:

أنه لا حاجة في الهدية إلى الإيجاب والقبول اللفظيين، بل البعث من جهة المهدي كالإيجاب والقبض من جهة المهدى إليه كالقبول؛ لأنّ الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ من كسرى و قيصر وسائر الملوك فيقبلها، و لا لفظ هناك، واستمر الحال من عهده صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ إلى هذا الوقت في سائر الأصقاع؛ ولهذا كانوا يبعثون على أيدي الصبيان الذين لا يعتد بعبارتهم (1).

قال: - ومنهم من اعتبرهما كما في الهبة، واعتذروا عما تقدّم بأنّ ذلك كان إباحةً لا تمليكاً (2).

وأجيب بأنه لو كان كذلك لما تصرفوا فيه تصرّف الملاك، ومعلوم أن النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ كان يتصرف فيه ويملكه غيره، ويمكن الاكتفاء في هدايا الأطعمة بالإرسال والأخذ جرياً على العادة بين الناس.

قال: - والتحقيق مساواة غير الأطعمة لها فإنّ الهديّة قد تكون غير طعام فإنّه قد اشتهر هدايا الثياب والدواب من الملوك إلى رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ فإن مارية القبطية أم ولده كانت من الهدايا (3).

وهذا الذي ذكره من التحقيق يشعر بما نقلناه عنه من الاكتفاء بذلك. و هو حسن.

ومع ذلك يمكن أن يجعل ذلك كالمعاطاة يفيد الملك المتزلزل، ويبيح التصرف والوطء، ولكن يجوز الرجوع فيها قبله؛ عملاً بالقواعد المختلفة، وهي أصالة أصالة عدم اللزوم، مع

ص: 147


1- راجع الحاوي الكبير، ج 7، ص 537: وحلية العلماء، ج 6، ص 50 - 51؛ والمجموع شرح المهذب، ج 15 ص 379 – 380.
2- راجع الحاوي الكبير، ج 7، ص 535: والمجموع شرح المهذب، ج 15، ص 377.
3- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 9 - 10، المسألة 1؛ ولقصة مارية القبطية راجع السيرة النبوية، ابن هشام، ج 1، ص 202؛ والطبقات الكبرى، ج 1، ص 134؛ وأسد الغابة، ج 6، ص 261.

● و لا يصح العقد إلا من بالغ كامل العقل، جائز التصرف.

------

عدم تحقق عقد يجب الوفاء به، وثبوت جواز التصرف فيها، بل وقوعه ووقوع ما ينافي الإباحة، و هو الوطء وإعطاؤه الغير، فقد وقع ذلك للنبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ في مارية أُمّ ولده (1)، وقد كان يهدى إليه الشيء فيهديه لزوجاته وغيرهم (2). وأهدي إليه حلة فأهداها لعلي علیه السلام (3). من غير أن ينقل عنه قبول لفظي، و لا من الرسل إيجاب كذلك مقارن له، وهذا كله يدلّ على استفادة الملك في الجملة لا الإباحة، و لا ينافي جواز رجوع المهدي في العين ما دامت باقية.

واعلم أن المصنّف ذكر الإيجاب في الهبة و لم يذكر القبول؛ و لعله اكتفى بأصل اشتراطه وظهور لفظه من لفظ «الإيجاب» فإنّه الرضى به.

قوله: «و لا يصح العقد إلا من بالغ كامل العقل جائز التصرف».

إطلاق العقد شامل لمتولّي الإيجاب والقبول، فكما لا يصح إيجاب الهبة من الصبي والمجنون والعبد والمحجور عليه لا يصح قبولها منهم، لكن تولّي الإيجاب منتف منهم ومن الوليّ؛ إذ لا غبطة لهم في هبة ما لهم إلا على وجه،نادر، وأما القبول فيمكن من الولي. و لا فرق في الصبي بين من بلغ عشراً وغيره.

ونيّه باشتراط وقوع العقد من البالغ مطلقاً على خلاف من جوز هبة وصدقة من بلغ عشراً من الأصحاب (4)، وعلى خلاف بعض العامة حيث اكتفى بإيجاب الولي حتى في البيع بأن يقول: «اشتريت لطفلي كذا» أو «اتهبت له كذا» (5). ومن هذا الباب ما لو قال الولي: جعلت هذا الشيء لابني» وكان صغيراً، أو غرس شجراً وقال: «غرسته له» و نحو ذلك، لم يكن في ملكية الولد حتّى يقبل له لفظاً؛ بناءً على عدم الاكتفاء بالإيجاب، وفرّع المجتزئ به الاكتفاء بذلك في ملكه.

ص: 148


1- الطبقات الكبرى، ج 1، ص 134.
2- الطبقات الكبرى، ج 5، ص 394؛ وج 8، ص 188.
3- الأمالي الشيخ الطوسي، ص 614 - 615، المجلس 29، ح 7/1271.
4- كالشيخ في النهاية، ص 611؛ وابن البراج في المهذب، ج 2، ص 119.
5- راجع العزيز شرح الوجيز، ج 6، ص 309 - 310.

هبة الدين

● ولو وهب ما في الذمة، فإن كانت لغير من عليه الحق لم يصح على الأشبه؛ لأنّها مشروطة بالقبض و إن كانت له صح وصرفت إلى الإبراء.

------

قوله: « ولو وهب ما في الذمة فإن كانت لغير من عليه الحق لم يصح على الأشبه » إلى آخره.

هنا مسألتان:

أولاهما: أن يهب الدين لغير من هو عليه، و في صحته قولان:

أحدهما - وعليه المعظم - العدم؛ لأنّ القبض شرط في صحة الهبة، وما في الذمة يمتنع قبضه؛ لأنه ماهيّة كلّيّة لا وجود لها في الخارج، والجزئيات التي يتحقق الحق في ضمنها ليس هي الماهية، بل بعض أفرادها، وأفرادها غيرها.

و الثاني: الصحة، ذهب إليه الشيخ وابن إدريس والعلامة في المختلف (1)؛ لأنه يصح بيعه والمعاوضة عليه فصحت هبته للغير. واشتراطها بالقبض لا ينافيه؛ لتحققه بقبض أحد جزئياتها، بأن يقبضه المالك ثمَّ يقبضه أو يوكله في القبض عنه، ثم يقبض من نفسه، لا بأن يجعل قبضه عن الهبة قبضاً عن المالك؛ لئلا يلزم الدور. وهذا الكلّي يرجع إلى الكلّي الطبيعي؛ لأنّ المراد من الدين الذي في الذمة كمائة درهم مثلاً - معروض مفهوم الكلّي النوعي، ككلّيّة الإنسان بالنسبة إلى مفهوم النوع، والكلّي الطبيعي موجود في الخارج بعين وجود أفراده، ولأنه لو لا وجوده والقدرة على تسليمه لما صح بيعه والمعاوضة عليه؛ لأنّ البيع مشروط بالقدرة على تسليم المبيع إجماعاً في غير الآبق، بل يشترط وجوده مطلقاً، والماهية لا وجود لها على ما ذكروه

وما قيل في الفرق بين البيع والهبة:

بأنّ القدرة على تسليمه يكفي فيها ما به تتحقق المعاوضة، وتحققها يكفي فيه القدرة

ص: 149


1- المبسوط، ج 3، ص 143: الخلاف، ج 3، ص 572 - 573 المسألة 20: السرائر، ج 3، ص 176؛ مختلف الشيعة. ج 6، ص 239، المسألة 9.

......

------

على تسليم بعض أفراد الماهية المعدود أحد العوضين، ويدخل في ملك المشتري من غير توقف على قبض، ثمَّ يستحق المطالبة بالإقباض، بخلاف الهبة؛ فإنّ الإقباض له دخل في حصول الملك، فلا بد أن يقبض الواهب الدين ثم يقبضه المتهب، فامتنع نقله إلى ملك المتهب حين هو دين و کذا بعد تعيين المديون له قبل قبض الواهب لانتفاء الملك، وبقبض الواهب يحدث الملك له فيمتنع تقديم إنشاء الهبة عليه؛ إذ تكون هبةً جاريةً مجرى هبة ما سيملكه ببيع وغيره، و ذلك غير جائز (1).

قد ظهر عليك جوابه ممّا قرّرناه؛ فإنّ ما في الذمة إن كان موجوداً متحققاً يمكن قبضه وتسليمه، فبيعه وهبته صحيحان؛ لحصول الشرط والقدرة على القبض.

و لا يقدح في الفرق استحقاق المبيع من دون القبض دون الهبة؛ لأنا لا نحكم بصحة الهبة حينئذ إلا بعد القبض، كما لا نحكم بصحتها لو تعلّقت بعين خاصة إلا بعد قبضها، لكن نقول: إن القبض لما كان ممكناً بقبض بعض أفراد الماهية التي جوزتم بيعها كذلك جاز هبتها، وتوقفت صحتها على حصول قبضها على ذلك الوجه. و لا شبهة في أن الدين مملوك للواهب قبل قبضه، وقبضه ممكن على الوجه المذكور، فصحت،هبته وتوقفت على قبضه كما توقفت لو كان عيناً.

و بهذا يظهر أنّه لا يمتنع نقله إلى ملك المتهب حين هو دين؛ لأنه مملوك له، وإلا لما صح له بيعه وغيره من وغيره من المعاوضات، و قبض الواهب ما أحدث له الملك بل التعيين فأمكن تقديم إنشاء الهبة عليه، و لم يكن كهبة ما سيملكه. فظهر أن الصحة متوجهة و إن كان جانب البطلان أيضاً وجيهاً؛ من حيث إنّه المشهور، ولشبهة ما ذكر.

الثانية: أن يهب الدين لمن هو عليه. وقد قطع المصنّف وغيره (2) بصحته في الجملة، ونزل

ص: 150


1- قال به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 139.
2- مثل يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 365؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص238. المسألة 8: والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 137 - 138.

● و لا يشترط في الإبراء القبول على الأصح.

------

الهبة منزلة الإبراء؛ فإنّه إسقاط لما في الذمة، فلا يفتقر إلى القبض، و لا يجري فيه الشبهة. وإبراء المديون لا إشكال في صحته، وظاهرهم أنه لا ينحصر في لفظ، بل ما دلّ عليه، والهبة هنا تدلّ عليه، وقد جوّزوه في باب الجنايات بلفظ «العفو» (1)، وأطلقه الله تعالى في الآية أيضاً في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاح﴾ (2) على تقدير كونه ديناً. وينبغي على هذا جوازه بلفظ «الإسقاط» بطريق أولى؛ لأنه أقرب إلى معناه من الهبة التي متعلّقها ما يمكن قبضه شرعاً، وهذا المعنى غير مراد هنا بل غايته؛ إذ لا معنى لاستحقاق الإنسان ما في ذمة نفسه، بل الغاية من ذلك سقوطه، وعبّر عنه ب-«الهبة» لتقارب المعنيين، ودلالته على المراد عرفاً.

ويدل على وقوع الإبراء هنا بلفظ «الهبة» صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبدالله علیه السلام،:قال سألته عن الرجل يكون له على الرجل الدراهم فيهبها له أله أن يرجع فيها؟ قال: «لا» (3)؛ فإنّه لو لم يجعل إبراء بل هبةً لما أمكن إطلاق القول بعدم جواز الرجوع؛ لما سيأتي إن شاءالله تعالى من جوازه فيها في مواضع كثيرة (4)، بخلاف الإبراء؛ فإنّه لازم مطلقاً.

واعلم أن الإبراء مهموز، ففعله الماضى فى صيغته يكون مهموزاً أيضاً، و يجوز تسهيله ألفاً من جنس حركة ما قبله على القاعدة العربية. وأصله التخليص، قال الجوهري: تقول أبرأته مما لى عليه وبرأته تبرئة (5).

قوله: «و لا يشترط في الإبراء القبول على الأصح».

ص: 151


1- كالمحقق الماتن في الكتاب، راجع ج 12، ص 477؛ والشيخ في المبسوط، ج 5، ص 126؛ والعلّامة في إرشاد الأذهان، ج 2، ص 212.
2- البقرة .(2): 237.
3- الكافي، ج 7، ص 32 باب ما يجوز من الوقف والصدقة .... 13؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 154، ح 629: الاستبصار، ج 4، ص 111، ح 424.
4- سيأتي في ص 168.
5- الصحاح، ج 1، ص 36، «برأ».

......

------

موضوع هذه المسألة أعم من الأولى؛ لشمولها إبراء كل من عليه الحق بلفظ «الإبراء» و «الهبة» وغيرهما.

وقد اختلف الأصحاب في اشتراط القبول في الإبراء مطلقاً، فذهب الأكثر إلى عدمه؛ للأصل، ولأنّه إسقاط لا نقل شيء إلى الملك، فهو بمنزلة تحرير العبد.

واحتج له بقوله تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ و إن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (1)، حيث اعتبر مجرد الصدقة و لم يعتبر القبول، وبقوله تعالى: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا﴾ (2)، فأسقط الدية بمجرد التصدق، و لم يعتبر القبول، والمراد بالتصدق فيهما الإبراء.

وفيه: أنّ الصدقة - كما تقدّم (3) - من العقود المفتقرة إلى القبول إجماعاً، فدلالتهما على اعتباره أولى من عدمه.

و ذهب ابن زهرة وابن إدريس إلى اشتراط القبول (4)، واختلف كلام الشيخ في المبسوط، ففي أوّل المسألة قوّاه، و في آخرها قوى الأول (5)، فإطلاق جماعة (6) نسبة القول باشتراطه إليه ليس بجيد.

واحتجوا للاشتراط بأنّ في إبرائه من الحق الذي عليه منة فلا يجبر على تحملها، كما لا يجبر على قبول هبة العين، ولو لم يعتبر القبول لتحمّلها جبراً .

وأجيب بالفرق بين التمليك والإسقاط شرعاً وعرفاً.

أمّا الأوّل؛ فلأنه لو أبرأ مالك الوديعة المستودع منها مثلاً لم يملكها بذلك و إن قبل،

ص: 152


1- البقرة (2): 280.
2- النساء (4): 92.
3- تقدّم في ص 117.
4- غنية النزوع، ج 1، ص 301؛ السرائر، ج 3، ص 176.
5- المبسوط، ج 3، ص 143.
6- منهم العلّامة في مختلف الشيعة، ج 7، ص 238، المسألة 8؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 138.

اشتراط القبض في الهبة

● و لا حكم للهبة ما لم يقبض

------

و کذا غيره، و کذا لو أسقط حقه من عين مملوكة لم تخرج بذلك عن ملكه، بخلاف الدين، فإنّه قابل لذلك؛ لأنه ليس شيئاً موجوداً فكان أشبه بالعتق (1).

وأما الثاني؛ فلأنّ إسقاط الإنسان حقه باختياره من غير ابتداء من عليه الحق لا تظهر فيه منة يثقل تحمّلها على من عليه الحق عرفاً، بخلاف هبة الأعيان المتوقفة على القبول إجماعاً؛ فلعل تعرّضه للقبول بحضرته ومقارنته للإيجاب ورعاية ما يعتبر في الصحة بعده من الإقباض والقبض دليل على الحرص على التمليك الموجب للمنّة غالباً.

ويدلّ على عدم اعتبار القبول أيضاً ظاهر قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ (2)، حيث اكتفى في سقوط الحق بمجرّد العفو، و لا دخل للقبول في مسمّاه قطعاً. وسيأتي الاكتفاء بمجرد العفو في المهر (3)، و في سقوط الحدود والجنايات الموجبة للقصاص (4)، و هو في معنى الإبراء. وهذا أقوى وأشهر.

قوله: «و لا حكم للهبة ما لم يقبض».

لا خلاف بين الأصحاب في أنّ القبض شرط في الهبة في الجملة، ولكن اختلفوا في أنه هل هو شرط لصحتها أو للزومها؟ فمعظم المتأخرين على الأوّل، و هو مقتضى كلام المصنف فإنّ الحكم المنفيّ للهبة بدونه يقتضي رفع جميع الأحكام؛ لأنه وقع نكرة منفيّةً، و ذلك يقتضي عدم انعقادها بدونه أصلاً.

واستدلوا عليه بأصالة بقاء الملك على مالكه وعدم تأثير العقد في مقتضاه، خرج منه ما بعد القبض بالإجماع فيبقى الباقي، ولقول الصادق علیه السلام في رواية أبي بصير: «الهبة لا تكون

ص: 153


1- لاحظ جامع المقاصد، ج 9، ص138.
2- البقرة (2): 237.
3- يأتي في ج 1، ص 685، في المهور.
4- يأتي في ج 12، ص 402، في كيفية الاستيفاء.

......

------

أبداً هبة حتى يقبضها» (1)، وقوله علیه السلام في النحلة والهبة ما لم تقبض حتى يموت صاحبها: «هي بمنزلة الميراث» (2).

و ذهب جماعة - منهم أبو الصلاح (3) والعلّامة في المختلف (4)، ونقله ابن إدريس عن المعظم مع اختياره الأول (5) - إلى الثاني.

واستدلوا عليه بأنّه عقد يقتضي التمليك، فلا يشترط في صحته القبض كغيره من العقود، ولعموم الأمر بالوفاء بها (6) المقتضى له ولأنه تبرع كالوصية فلا يعتبر فيه أيضاً، ولصحيحة أبي بصير عن أبي عبدالله قال: «الهبة جائزة قبضت أو لم تقبض، قسمت أو لم تقسم والنحل لا تجوز حتى تقبض، وإنما أراد الناس ذلك فأخطؤوا» (7).

وأجابوا عن الأوّل بارتفاع الأصل بطروء السبب الناقل. وعموم الأمر بالوفاء بالعقد يمنع عدم تأثيره بل يقتضيه مطلقاً. والرواية الأولى لا يجوز حملها على ظاهرها؛ للتناقض، بل المراد أنّ الهبة لا تكون هبةً لازمةً ما لم تقبض، و هو أولى من إضمار الصحة؛ فإنّ ما ليس بصحيح كالمعدوم. و الثانية ضعيفة السند مرسلة.

ويمكن أن يقال على الثاني: إنّ العقود منها ما يقتضي الملك، ومنها ما لا يقتضيه بدون القبض، وقد تقدم منه الوقف، فيكون أعم.

والمراد بالوفاء بها العمل بمقتضاها من لزوم وجواز وغيرهما، فلا يدلّ على المطلوب.

ص: 154


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 159، ح 654: الاستبصار، ج 4، ص 807، ح 407.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 155، ح 637.
3- راجع الكافي في الفقه، ص 322 ولكن جعله فيه شرطاً للصحة؛ كما نسبه إليه العلامة في مختلف الشيعة، ج 6. ص 234. المسألة 4. لا شرطاً للزومها.
4- مختلف الشيعة، ج 6، ص 234، المسألة 4.
5- السرائر، ج 3، ص 173.
6- المائدة (5): 1.
7- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 156، ح 641: الاستبصار، ج 4، ص 110، ح 422.

......

------

وكذلك مطلق التبرع أعمّ ممّا لا يعتبر فيه القبض وإلحاقه بالوصية قياس وإطلاق الهبة على غير المقبوضة أعمّ من الحقيقة وجاز أن يكون مجازاً؛ تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه على تقدير لحوقه، أو إطلاقاً لاسم المجموع على بعض الأجزاء؛ فإنّ الإيجاب والقبول أعظم أجزاء السبب التام في تحققها على تقدير عدمه بهما خاصةً.

ومطلق جوازها لا نزاع فيه. قال في الدروس:

والروايات متعارضة؛ ولعلّ الأصحاب أرادوا باللزوم الصحة؛ فإن في كلامهم إشعاراً به فإن الشيخ قال: لا يحصل الملك إلا بالقبض، وليس كاشفاً عن حصوله بالعقد. مع أنه قائل بأنّ الواهب لو مات لم تبطل الهبة، فيرتفع الخلاف (1). هذا كلامه.

وفيه نظر؛ لمنع تعارض الروايات على ما قد سمعت؛ فإنّ الجمع بينها ممكن. وإرادة جميع الأصحاب من اللزوم الصحة غير واضح فإنّ العلّامة في المختلف نقل القولين واحتج لهما ثم اختار الثاني (2)، فكيف يحمل على الآخر؟ نعم، كلام الشيخ الذي نقله (3) متناقض، وليس حجّةً على الباقين؛ فإن الخلاف متحقق.

و في التذكرة اتفق ما هو أعجب ممّا في الدروس؛ فإنّه قال:

الهبة والهدية والصدقة لا يملكها المتهب والمهدى إليه والمتصدق عليه بنفس الإيجاب والقبول إذا كان عيناً إلا بالقبض، وبدونه لا يحصل الملك عند علمائنا أجمع (4).

وهذا ظاهر في دعوى الإجماع على أنّ القبض شرط الصحة إجماعاً و هو يؤيد ما في الدروس وينافي ما في المختلف.

ويمكن أن يحمل على أنه لا يحصل بدونه الملك التام و هو اللازم فيكون أعم من

ص: 155


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 229 - 230 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10) وراجع المبسوط، ج 3، ص129.
2- مختلف الشيعة، ج 6، ص 234 - 235 المسألة 4.
3- مختلف الشيعة، ج 1، ص 233 - 234، المسألة 4.
4- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 27 - 28، المسألة .12.

● ولو أقرّ بالهبة والإقباض حكم عليه بإقراره ولو كانت في يد الواهب. ولو أنكر بعد ذلك لم يقبل . ● ولو مات الواهب بعد العقد و قبل القبض كانت ميراثاً.

------

الصحة وعدمها؛ لئلا ينافي فتواه في المختلف ونقله الخلاف و إن كان خلاف الظاهر.

إذا تقرر ذلك فيتفرع على القولين النماء المتخلّل بين العقد والقبض فإنّه للواهب على الأول، وللموهوب على الثاني، وفيما لو مات الواهب قبل الإقباض، فيبطل على الأوّل ويتخير الوارث في الإقباض وعدمه على الثاني، و في فطرة المملوك الموهوب قبل الهلال و لم يقبضه إلا بعده فإنّها على الواهب على الأوّل وعلى الموهوب على الثاني، و في نفقة الحيو إن مطلقاً فإنّها على الأوّل على الأوّل، وعلى الثاني على الثاني.

قوله: «ولو أقرّ بالهبة والإقباض حكم عليه بإقراره» إلى آخره.

و ذلك لعموم: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (1). وكونها في يد الواهب لا ينافيه؛ لجواز إقباضه إياها ثمَّ ردّها إليه، إلا أن يعلم كذبه في إخباره به كقصر الوقت الذي لم يسع القبض والرد و نحو ذلك - فلا يلتفت إليه. وعلى هذا فلا يتوجه على المقرّ له اليمين على القبض؛ عملاً بمقتضى الإقرار.

نعم، لو ادعى المواطأة على الإقرار للمتهب، و إن مخبره لم يكن واقعاً توجهت له اليمين على المتهب على حصول،القبض أو على عدم المواطأة على الأقوى. و قيل على الأوّل خاصة (2).

قوله: «ولو مات الواهب بعد العقد وقبل القبض كان ميراثاً».

أي كان ميراثاً لورثة الواهب لبطلان العقد عنده بموته قبل الإقباض، مع أنه شرط في صحته كغيره من العقود الجائزة كالوكالة والشركة، ولرواية داود بن الحصين عن الصادق علیه السلام

ص: 156


1- أورده العلّامة في مختلف الشيعة، ج 5، ص 259، المسألة 266، وص 370، المسألة 337، وص 543، المسألة 25؛ وولده فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 428.
2- قاله الشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 234 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

● ويشترط في صحة القبض إذن الواهب، فلو قبض الموهوب من غير إذنه لم ينتقل إلى الموهوب له.

------

في الهبة والنحلة ما لم تقبض حتى يموت صاحبها، قال: «هو ميراث» (1). و في معناها رواية أبان عنه علیه السلام (2).

ولكن في طريق الأولى عليّ بن فضال وحاله معلوم (3)، وداود بن الحصين و هو واقفي (4). و إن كانا ثقتين فهى من الموثق. و الثانية مرسلة ضعيفة.

وقال الشيخ في المبسوط: لا تبطل الهبة وقام الوارث مقامه كالبيع في مدة الخيار(5)، من حيث إن الهبة عقد يؤول إلى اللزوم فلا تنفسخ بالموت. وتبعه ابن البراج على ذلك (6)، مع أنّ الشيخ قال في هبة ذي الرحم إذا مات قبل قبضها كان ميراثاً (7). وقال: إن الملك لا يحصل إلا بالقبض، وليس كاشفاً عن حصوله بالعقد (8). فكلامه متناقض.

وموت الموهوب بمنزلة موت الواهب و لم يذكره الأكثر. وممن صرّح به العلّامة في التذكرة (9). و لا فرق مع موته قبل القبض بين إذنه فيه قبله وعدمه؛ لبطلان الإذن بالموت. و في معناه ما لو أرسل هدية إلى إنسانٍ فمات المُهدي أو المُهدى إليه قبل وصولها، فليس للرسول دفعها حينئذ إلى المُهدى إليه و لا إلى وارثه البطلان الهديّة بالموت قبل القبض كالهبة.

قوله: «ويشترط في صحة القبض إذن الواهب» إلى آخره.

ص: 157


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 157، ح 648: الاستبصار، ج 4، ص 107، ح 409.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 155، ح 637.
3- راجع خلاصة الأقوال، ص 177، الرقم 526.
4- راجع رجال الطوسي، ص 336، الرقم 5007.
5- المبسوط، ج 3، ص 130.
6- المهذب، ج 2، ص 95.
7- النهاية، ص 602.
8- المبسوط، ج 3، ص 129.
9- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 33، المسألة 15.

● ولو وهب ما هو في يد الموهوب له صح، و لم يفتقر إلى إذن الواهب في القبض، و لا أن يمضي زمان يمكن فيه القبض، وربما صار إلى ذلك بعض الأصحاب.

------

هذا سا لا خلاف فيه عندنا، ولأن التسليم لما لم يكن مستحقاً على الواهب كان قبض المتهب بغير إذنه كقبض ماله كذلك، و هو محرّم لا يترتب عليه أثر كما لو قبض المشتري المبيع قبل تسليم الثمن بغير إذن البائع، وأولى بالحكم هنا.

و لا فرق بين كونهما في المجلس وعدمه.

و خالف في ذلك بعض العامة، فلم يشترط الإذن إذا كانا في المجلس؛ استناداً إلى أنّ الإيجاب تضمن الإذن في القبول والقبض في المجلس معاً، بخلاف ما بعده (1).

و لا يخفى منع الأمرين معاً فإنّ القبول أثبته الشارع لا الموجب، والقبض تسليط على المال و لم يوجد ما يدلّ عليه. ولو سلّم دلالة الإيجاب عليه لم يختص بالمجلس.

واعلم أنه يستفاد من إطلاق اعتبار إذن الواهب في القبض عدم اشتراط كونه بنية الهبة، فلو أذن له فيه مطلقاً صح، خلافاً لبعض الأصحاب (2)، حيث اعتبر وقوعه للهبة والإذن فيه كذلك؛ لأنّ ذلك هو المقصود، وحيث كان مطلق القبض صالحاً لها ولغيرها فلابد من مائز و هو القصد.

و هو حسن حيث يصرح بكون القبض لا لها؛ لعدم تحقق القبض المعتبر فيها، أما لو أطلق فالاكتفاء به أجود لصدق اسم القبض، وصلاحيته للهبة، ودلالة القرائن عليه، بخلاف ما لو صرّح بالصارف.

قوله: «ولو وهب ما هو في يد الموهوب له صح» إلى آخره.

إطلاق الحكم واليد يقتضي عدم الفرق بين كونه في يد الموهوب بوجه مأذون فيه. كالعارية والوديعة، وغيره كالغصب.

ص: 158


1- بدائع الصنائع، ج 6، ص187؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 277، المسألة 4440: المجموع شرح المهذب، ج 15، ص 379.
2- كالعلامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 406.

......

------

و وجه تساويهما في الحكم بالصحة صدق القبض في الحالين؛ فإنّه مستصحب، ودوام الشيء أقوى من ابتدائه. و لا يقدح فيه ما تقدّم من اعتبار كون القبض للهبة أو مطلقاً؛ لأنّ إيجابه العقد وإقرار يده على العين بعده دليل على رضاه بقبضه لها. و لا كونه على وجه الغصب؛ لما ذكرناه، ولأنّ إطلاق القبض المعتبر فيه يشمله، وغايته النهى عنه، و هو لا يدلّ على فساد المعاملة. وحيث لا يفتقر إلى إذن في القبض جديد لا يفتقر إلى مضي زمان يمكن فيه؛ لأنّ الزمان المذكور إنّما يعتبر حيث يعتبر القبض؛ لكونه من ضروراته ولوازمه، فإذا لم يعتبر سقط اعتبار التابع.

وقول المصنف وربما صار إلى ذلك بعض الأصحاب يمكن عود الإشارة ب-«ذلك» إلى مضي الزمان خاصةً، بمعنى أنه لا يعتبر تجديد الإذن في القبض، ولكن يفتقر إلى مضي زمان يمكن فيه القبض. وهذا هو الذي يظهر من عبارة الشيخ في المبسوط واختياره (1).

و وجهه بأن إقرار يده عليه بعد العقد دليل على رضاه بالقبض، فيكون ذلك كتجديد الإقباض، فيعتبر مضي زمان يمكن فيه القبض، كما لو لم يكن مقبوضاً بيده فأقبضه إياه؛ فإنّه يعتبر مضي زمان يمكن فيه القبض حيث لا يكون مقبوضاً في يده بالفعل، فكذا هنا.

وجوابه يعلم مما سبق فإنا لا نجعل الإيجاب إقباضاً بل هو متحقق قبله، وإنما نجعله علامة وأمارةً على رضاه بقبضه السابق، وتنزيله منزلة الإقباض.

ويمكن عود الإشارة إلى كلّ واحد من الإذن في القبض ومضي الزمان، بمعنى عدم

ص: 159


1- المبسوط، ج 3، ص 131. و في حاشية «و، ي»: «إنّما جعل ذلك ظاهر عبارة المبسوط دون صريحها؛ لأنه قال فيه: إذا وهب له شيئاً في يده، مثل أن يكون له في يده وديعة فيهبها له نظر، فإن أذن له في القبض ومضى بعد ذلك زمان يمكن القبض فيه لزم العقد، و إن لم يأذن له في القبض فهل يلزم القبض بمضي الزمان الذي يمكن فيه القبض، أو لا بد من القبض؟ منهم من قال الإذن شرط فيه ومنهم من قال: لا يفتقر إلى الإذن، و هو الأقوى؛ لأنّ إقرار يده عليه بعد العقد دليل على رضاه بالقبض. انتهى. فظاهر العباره كما ترى اشتراط مضي زمان يمكن فيه القبض مع تصريحه بترجيح عدم الافتقار إلى تجريد إذن القبض منه رحمه الله)».

● و کذا لو وهب الأب أو الجد للولد الصغير لزم بالعقد؛ لأن قبض الولى قبض عنه.

------

الاكتفاء بالقبض السابق مطلقاً، بل يفتقر إلى تجديده ومضي زمان يمكن فيه القبض؛ لأنّ الموهوب ليس في يد الواهب، فلا يتصوّر إقباضه إياه خصوصاً في المغصوب؛ لأنّ يد القابض يد عدو إن فلا يترتب عليه حكم شرعي، ولأنّ المعتبر قبضه للهبة لا مطلقاً، كما مرّ؛ فإنه لو وهبه ثمَّ أقبضه إياه على جهة الإيداع لم يحصل القبض الذي هو شرط الهبة، فافتقر إلى الإقباض. وقد عرفت جوابه. وينبغي أن يستثنى منه حالة الغصب حيث لا يد للغاصب عليه شرعاً.

قوله: «و کذا إذا وهب الأب أو الجد الولد الصغير لزم بالعقد؛ لأنّ قبض الولي قبض عنه».

أي و کذا الحكم و هو عدم افتقار الهبة إلى قبض جديد و لا مضي زمان - فيما إذا وهب الأب أو الجد له الولد الصغير - ذكراً كان أم أنثى - شيئاً هو في يد الواهب؛ فإنّ قبضه السابق على الهبة كافٍ عن قبض الهبة الطارية؛ لكونه تحت يده، فاليد مستدامة، وهي أقوى من المبتدأة. وإنما ترك التصريح هنا بكون الموهوب تحت يده - مع أن هبته للولد ما هو ملكه أعم من كونه تحت يده وعدمه، والحكم مختص بما هو تحت يده - اتكالاً على ما علم في المسألة السابقة، وقد شبّه بها حكم اللاحقة، وتنبيهاً عليه بالتعليل.

وحينئذٍ فلو فرض عدم كون الموهوب تحت يد الولى افتقر إلى قبضه عنه بعد الهبة قطعاً كغيره. ويمكن فرضه فيمن اشترى شيئاً و لم يقبضه؛ فإنّ الملك يتم بالعقد و إن لم يقبض و يجوز نقله عن ملكه بالهبة و نحوها، و إن امتنع بيعه على بعض الوجوه، وقد تقدّم (1).

ويمكن فرضه أيضاً في مال ورثة تحت يد غيره و لم يتمكن من قبضه، وفيما لو غصب منه أو أجره لغيره قبل الهبة. أما الوديعة فلا يخرج بها عن يد المالك؛ لأنّ يد المستودع كيده. و في العارية وجهان، أجودهما خروجه بها عن يده، فيفتقر إلى قبض جديد من الولي أو من يوكله فيه، ولو وكل المستعير فيه كفى

ص: 160


1- تقدّم في ج 3، ص 158 - 159 .

● لو وهبه غير الأب أو الجد لم يكن له بدّ من القبض عنه، سواء كان له ولاية أو لم تكن، ويتولّى ذلك الوليّ أو الحاكم.

------

بقي في المسألة بحث آخر، و هو أنه هل يعتبر قصد القبض عن الطفل بعد الهبة ليتمحض القبول لها، كما تقدمت الإشارة إليه (1)؟ ينبغي ذلك عند من يعتبر إيقاع القبض للهبة كالعلّامة (2)؛ لأنّ المال المقبوض في يد الولي له، فلا ينصرف إلى الطفل إلا بصارف، و هو القصد. وعلى ما اخترناه من الاكتفاء بعدم قصد القبض لغيره يكفي هنا، وينصرف الإطلاق إلى قبض الهبة، ويلزم بذلك.

وتخصيص الحكم بالولد الصغير مخرج للبالغ الرشيد، ذكراً كان أم أُنثى.

والحكم فيه كذلك؛ لانتفاء ولايتهما عنهما حينئذ، و إن بقيت و لا يتهما على الأُنثى في النكاح على بعض الوجوه عند بعضهم (3)؛ لأنّ ذلك خارج بدليل آخر لا يوجب الولاية عليها مطلقاً، فلو تصرّفت البالغة الرشيدة في مالها ببيع وهبة لم يتوقف على الولي اتفاقاً. ولكن في عبارة ابن الجنيد في هذه المسألة ما يدلّ على إلحاق الأنثى مطلقاً بالصغيرة ما دامت في حجره بالنسبة إلى هبته لها؛ لأنّه قال في كتابه الأحمدي:

وهبة الأب لولده الصغار وبناته الذين لم يخرجوا من حجابه و إن كن بالغات تامة و إن لم يخرجها عن يده؛ لأنّ قبضه قبض لهم (4). انتهى.

و هو قول نادر، و وجهه غير واضح وقياسه على النكاح ممنوع مع وجود الفارق.

قوله: «ولو وهبه غير الأب أو الجدّ لم يكن له بد من القبض عنه» إلى آخره.

أما إذا لم يكن له ولاية فالحكم واضح لأنّ يده ليست كيد الموهوب، فلا بد من قابض

ص: 161


1- تقدمت الإشارة إليه في ص 159.
2- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 406.
3- كالصدوق في الهداية، ص 260؛ والفقيه، ج 3، ص 395، ذيل الحديث 4396؛ والشيخ في النهاية، ص 464 - 465: وأيضاً حكاه العلامة عن ابن أبي عقيل وابن البراج في مختلف الشيعة، ج 7، ص 114، المسألة 56؛ وراجع المهذب، ج 2، ص 193.
4- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 241، المسألة 13.

هبة المشاع جائزة

● وهبة المشاع جائزة، وقبضه كقبضه في البيع.

------

لها عنه ممّن له الولاية عليه المتناولة لذلك، كما يفتقر قبولها إليه أيضاً. وأما على تقدير ولايته و لم يكن أباً و لا جداً كالوصى - فألحقه الشيخ في المبسوط بغير الولي: محتجاً بأنه لا يصح أن يبيع من الصبي شيئاً بنفسه أو يشتري منه، وحينئذ فينصب الحاكم أميناً يقبل منه هبته للصبي ويقبضها له (1). وتبعه المصنّف هنا على الحكم، والأصل ممنوع وولاية الوصيّ عامة، فلا وجه لاختصاصها بغيره.

والأصح أنّ حكم الوصى حكم الأب والجد.

وقول المصنف ويتولّى ذلك الوليّ أو الحاكم يمكن فرضهما مع كون الواهب غير وليّ. وأمّا إذا كان وليّاً كالوصي فلا يفرض فيه إلا تولّي الحاكم؛ لأن الوصي لا يتحقق مع وجود الأب أو الجد له كما سيأتي (2)، فلم يبق معه إلا الحاكم. و في معنى الحاكم منصوبه لذلك أو مطلقاً.

قوله: «وهبة المشاع جائزة، وقبضه كقبضه في البيع».

لا إشكال في جواز هبة المشاع كغيره؛ لإمكان قبضه بتسليم الجميع، وإنّما الكلام في تحقق قبضه بأي معنى؟ فعندنا أنّه كقبضه في البيع، فيجري فيه القولان، وهما الاكتفاء بالتخلية مطلقاً، والتفصيل بها في غير المنقول وبالنقل وما في معناه فيه (3). وهذا هو الأقوى. وإنّما كانا متساويين فيه؛ لأنّ للقبض معنى واحد والمعتبر فيه العرف، و هو متحد في الموضعين.

ونبه بقوله «وقبضه كقبضه في البيع» على خلاف بعض الشافعية؛ حيث فرّق بين الموضعين، وجعل المعتبر في القبض هنا النقل و إن اكتفينا بالتخلية في البيع بالنسبة إلى المنقول؛ فارقاً بينهما بأنّ القبض في البيع مستحق وللمشتري المطالبة به فجاز أن يجعل

ص: 162


1- المبسوط، ج 3، ص 131.
2- يأتي في ص 410.
3- لمزيد التوضيح راجع المبسوط، ج 3، ص 133؛ ومختلف الشيعة، ج 6، ص 244، المسألة 20.

......

------

بالتمكين،قابضاً، بخلاف الهبة؛ فإنّ القبض غير مستحق فاعتبر تحققه و لم يكتف بمطلق التخلية (1). وليس بشيء، لما ذكرناه من اتحاد مفهومه لغةً وعرفاً، وما ذكره إنّما اقتضى الفرق في حكمه لا في حقيقته.

واعلم أنا إن اكتفينا في القبض مطلقاً بالتخلية فلا بحث، و إن اعتبرنا في المنقول النقل وكان باقي الحصة للواهب، فإقباضه بتسليم الجميع إلى المتهب إن أراد تحقق القبض، و إن كان لشريك غيره توقف تسليم الكلّ على إذن الشريك، فإن رضي به وإلا لم يجز للمتهب إثبات يده عليه بدونه، بل يوكل الشريك في القبض إن أمكن، فإن تعاسرا رفع أمره إلى الحاكم. فينصب أميناً يقبض الجميع، نصيب الهبة لها والباقي أمانة للشريك حتى يتم عقد الهبة.

و في المختلف اكتفى مع امتناع الشريك بالتخلية في المنقول؛ تنزيلاً لعدم القدرة الشرعيّة منزلة عدمها الحسّية في غير المنقول (2).

وفيه منع عدم القدرة الشرعية حيث يوجد الحاكم المجبر، أما مع عدمه فلا بأس به؛ دفعاً للضرر والعسر.

وبالغ شيخنا الشهيد (رحمه الله) في الدروس فاشترط إذن الشريك في القبض مطلقاً و إن اكتفينا بالتخلية (3)؛ نظراً إلى أنّ المراد منها رفع يد المالك وتسليط القابض على العين، و ذلك لا يتحقق إلا بالتصرف في مال الشريك، فيعتبر إذنه. ورفع المانع عن حصة المالك خاصةً مع الإشاعة لا يحصل به التسليط على العين الذي هو المقصود من القبض وقبض جميع العين واحد لا يقبل التفرقة بالحكم؛ ومن ثمَّ لو كانت العين مغصوبةً بيد متسلّط لم يكف التخلية من المالك، وتسليطه عليها مع وجود المانع من التسليم. وله وجه حسن و إن كان الأشهر الأول.

وحيث يعتبر إذن الشريك فيقبض المتهب بدونه، وما في حكمه يقع القبض لاغياً

ص: 163


1- راجع مغني المحتاج، ج 2، ص 542 - 543.
2- مختلف الشيعة، ج 6، ص 244، المسألة 20.
3- الدروس الشرعية، ج 2، ص 233 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

● ولو وهب لاثنين شيئاً فقبلا وقبضا ملك كلّ واحد منهما ما وهب له. فإن قبل أحدهما وقبض وامتنع الآخر صحت الهبة للقابض.

● و يجوز تفضيل بعض الولد على بعض في العطية على كراهية.

------

لا للنهي؛ فإنّه لا يقتضي الفساد في غير العبادة، بل لأنّ القبض لما كان من أركان العقد اعتبر فيه كونه مراداً للشارع، فإذا وقع منهياً عنه لم يعتد به شرعاً، فيختلّ ركن العقد، وقد عرفت أنه قبض واحد لا يقبل التفرقة في الحكم، بجعل القبض للموهوب معتبراً والنهي عن حق الغير الخارج عن حقيقة الموهوب.

قوله: «ولو وهب لاثنين شيئاً فقبلا وقبضا ملك كلّ واحد منهما ما وهب له» إلى آخره. الفرق بين الأمرين واضح؛ من حيث اجتماع شرائط صحة الهبة في الأوّل دون الثاني و لا ارتباط لأحدهما بالآخر، فيصح ما اجتمعت شرائطه خاصةً. و لا يقال: إنّهما بمنزلة عقد واحد، فلا بد من اجتماع شرائط مجموع العقد، و لا يتم إلا بقبولهما وقبضهما؛ لأنه و إن كان بصورة عقد واحد إلا أنه في قوة المتعدد بتعدد الموهوب، كما لو اشتريا دفعةً؛ فإنّ لكلّ منهما حكم نفسه في الخيار و نحوه، وقد تقدّم (1).

وقوله «وامتنع الآخر» يشمل ما لو امتنع من القبول والقبض معاً، وما لو امتنع من أحدهما و إن كان المقام مقام القبض خاصةً.

قوله: «و يجوز تفضيل بعض الولد على بعض في العطية على كراهية».

أما جواز التفضيل في الجملة فهو المشهور بين الأصحاب وغيرهم. ويشهد له أنّ: الناس مسلّطون على أموالهم» (2)، و يظهر من ابن الجنيد التحريم إلا مع المزية، والتعدية إلى باقي الأقارب مع التساوي في القرب (3).

ص: 164


1- تقدّم في ج 3، ص 199.
2- أورده الشيخ في الخلاف، ج 3، ص 176 - 177، المسألة 290؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 5، ص 248، المسألة 217: وج 6. ص 240. المسألة 10؛ وتذكرة الفقهاء، ج 10، ص 247، المسألة 117.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 240، المسألة 10.

......

والوجه الكراهية المؤكدة؛ لقوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «سؤوا بين أولادكم في العطية، فلو كنتُ مفضلاً أحداً لفضلتُ البنات» (1)، ولأن التفضيل يورث العداوة والشحناء بين الأولاد، كما هو الواقع شاهداً وغابراً، ولدلالة ذلك على رغبة الأب في المفضّل المثير للحسد المفضي إلى قطيعة الرحم.

وقد روي أنّ النعمان بن بشير أتى أبوه إلى النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً، فقال النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: أكلَّ وُلدك نحلت مثل هذا؟» فقال: لا، فقال: «اردده» (2).

و في رواية أُخرى أن النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ قال له: «أتحبّ أن يكونوا لك في البرّ سواء؟» فقال: نعم قال: «فارجعه» (3).

و في حديث آخر عنه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال لمن أعطى بعض أولاده شيئاً: «أكل ولدك أعطيت مثله؟» قال: لا، قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»، فرجع في تلك العطية (4). و في رواية أُخرى: «لا تشهدني على جور» (5).

وهذه الروايات تصلح حجّةً لابن الجنيد والأصحاب حملوها على تقدير سلامة السند - على الكراهة جمعاً.

وقد روى أبو بصير – في الصحيح - قال: سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الرجل يخص بعض ولده بالعطيّة، قال: «إن كان موسراً فنعم و إن كان معسراً فلا» (6).

و لا قائل بمضمونه مفصلاً غير أنّ تجويزه العطيّة مع اليسار مطلقاً حجّة المشهور، ومنعه منه مع الإعسار مناسب للكراهة، ولحق المفضّل؛ حيث يكون عليه دين و نحوه.

ص: 165


1- المعجم الكبير، ج 11، ص 280، ح 11997؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 294، ح 12000 بتفاوت يسير.
2- صحیح مسلم، ج 3، ص 1242، ح 1623/12: السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 292، ح 11993.
3- صحيح مسلم، ج 3، ص 1243 - 1244 . ح 1623/17: السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 292. ح 11992
4- صحيح البخاري، ج 2، ص 914، ح 2447: صحیح مسلم، ج 3، ص 1242 - 1243، ح 1623/13؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 6، ص 292، ح 11994.
5- صحیح مسلم، ج 3، ص 1243، ح 1623/16؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 6، ص 292 - 293، ح 11995.
6- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 156، ح 644.

لا يجوز الرجوع في الهبة للأرحام

● و إذا قبضت الهبة فإن كانت للأبوين لم يكن للواهب الرجوع إجماعاً، و کذا إن كان ذا رحم غيرهما. وفيه خلاف.

------

وإطلاق النصوص السابقة يقتضي عدم الفرق بين حالة الصحة والمرض، وحالة العسر واليسر إلا الحديث الأخير فخص النهي بحالة العسر.

و في رواية سماعة عن الصادق علیه السلام لما سأله عن عطية الوالد لولده فقال: «أما إذا كان صحيحاً فهو ماله يصنع به ما شاء، وأما في مرضه فلا يصلح» (1).

وعمل بمضمونها العلّامة في المختلف، فخص الكراهية بالمرض أو الإعسار، و في بعض نسخه بهما معاً (2).

و الظاهر أن دلالة الخبرين على الأوّل أوضح. والأقوى عموم الكراهية لجميع الأحوال، و تأكدها مع المرض والإعسار؛ إعمالاً لجميع الأدلة؛ لعدم المنافاة.

واستثنى بعض الأصحاب (3) منه ما لو اشتمل المفضل على مزية كحاجةٍ واشتغال بعلم. والمفضّل عليه على نقص كفسق وبدعة واستعانة بالمال على معصية و نحو ذلك فلا يكره التفضيل حينئذ. و لا بأس به مع احتمال عموم الكراهة؛ لعموم الأدلة وإطلاقها.

قوله: «و إذا قبضت الهبة فإن كانت للأبوين لم يكن للمواهب الرجوع إجماعاً، و کذا إن كان ذا رحم غيرهما. وفيه خلاف»

يفهم من قوله «وفيه خلاف» - وضميره يعود إلى غير الأبوين من ذي الرحم - أن الإجماع متحقق في هبة الولد للوالدين خاصةً، فيدخل في الخلاف العكس، و هو هبتهما للولد.

و في المختلف عكس، فجعل الإجماع على لزوم هبة الأب ولده (4)، ومع ذلك لم يذكر الأمّ فيه.

ص: 166


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 156، ح 642: الاستبصار، ج 4، ص 127، ح 481.
2- مختلف الشيعة، ج 6، ص 240، المسألة 10.
3- كالعلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 279، الرقم 4617؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 171.
4- مختلف الشيعة، ج 6، ص 227، المسألة 1.

......

------

و الظاهر أنّ الاتفاق حاصل على الأمرين إلا من المرتضى في الانتصار؛ فإنّه جعلها جائزة مطلقاً ما لم يعوّض عنها و إن قصد به التقرب (1)، وكأنهم لم يعتدوا بخلافه؛ لشذوذه، والعجب مع ذلك أنّه ادعى إجماع الإمامية عليه (2)، مع ظهور الإجماع على خلافه.

وذكر صاحب كشف الرموز أنّه سأل المصنّف (رحمه الله) عن وجه إخلاله بذكر الأولاد مع أنّ الإجماع واقع على لزوم الهبة لهم كالآباء. فأجابه بأنه كان زيغاً للقلم (3). و هو يدلّ على اعترافه بالإجماع على الأمرين.

إذا تقرّر ذلك فانحصر الخلاف في غيرهم من الأرحام، وقد اختلف الأصحاب في حكم هبته مع بقاء العين وعدم التصرّف فيها والتعويض عنها، فذهب الأكثر إلى لزومها؛ لعموم الأمر بالوفاء بالعقود (4) على ما فيه، ولأنه مالك إجماعاً، والأصل استمرار ملكه في المتنازع ولصحيحة محمد بن مسلم عن الباقر علیه السلام: قال: «الهبة والنحل يرجع فيهما صاحبهما إن شاء حيزت أو لم تحز إلا لذي رحم؛ فإنّه لا يرجع فيها» (5)، وغيرها من الأخبار(6).

وما ورد من الأخبار (7) معارضاً لها ضعيف السند، فلا يصلح للمعارضة فضلاً عن ترجيحه عليها. وبذلك يضعف قول الشيخ في الخلاف بالجواز محتجاً بها (8)، كما ضعف قول المرتضى (رضي الله عنه) محتجاً بالإجماع (9)؟

ص: 167


1- الانتصار، ص 460 المسألة 261.
2- الانتصار، ص 460 المسألة 261.
3- کشف الرموز، ج 2، ص 56.
4- المائدة (5): 1.
5- الكافي، ج 7، ص 31، باب ما يجوز من الوقف والصدقة.... ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 156، ح 643: الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 410.
6- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 155، ح 636: الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 414.
7- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 157، ح 645: الاستبصار ج 4، ص 106، ح 404.
8- الخلاف، ج 3، ص 567، المسألة 12.
9- الانتصار، ص 460. المسألة 261.

● و إن كان أجنبيّاً فله الرجوع ما دامت العين باقيةً، فإن تلفت فلا رجوع.

● و کذا إن عوّض عنها ولو كان العوض يسيراً.

------

واعلم أنّ المراد بالرحم في هذا الباب وغيره - كالرحم الذي تجب صلته ويحرم ق قطعه - مطلق القريب المعروف بالنسب و إن بعدت لحمته وجاز نكاحه و هو موضع نص ووفاق.

قوله: «و إن كان أجنبياً فله الرجوع ما دامت العين باقية، فإن تلفت فلا رجوع».

تلف العين الموجب للزوم الهبة أعم من كونه من قبل الله تعالى وغيره حتى من المتهب؛ لشمول الدليل للجميع، و هو حسنة الحلبي عن الصادق علیه السلام: «إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع وإلا فليس له» (1). وليس الخلاف في هذه الصورة إلا مع المرتضى (رضي الله عنه) حيث جوزها مطلقاً ما لم يعوّض (2). وحجّتنا النص، وعذره عدم قبول مثله. وادعى في التذكرة أنّ الحكم باللزوم مع التلف إجماعي (3)، و هو في مقابلة دعوى المرتضى (رحمه الله) الإجماع على الجواز.

و في حكم تلفها أجمع تلف بعضها و إن قل؛ لدلالة الرواية (4) عليه، فإنّ العين مع تلف جزء منها لا تعد قائمة.

قوله: « و کذا إن عوّض عنها ولو كان العوض يسيرا».

هذا أيضاً من المواضع الموجبة للزومها من الأجنبي، و هو موضع وفاق من جميع الأصحاب حتى من المرتضى (رضي الله عنه) كما قد عرفت. ومستنده - مع الأدلة العامة - خصوص قول الصادق علیه السلام في حسنة عبدالله بن سنان قال: «إذا عوّض صاحب الهبة فليس له أن يرجع» (5) وغيرها.

ص: 168


1- الكافي، ج 7، ص 32 باب ما يجوز من الوقف والصدقة.... ح 11؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 153، ح 627: الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 412.
2- الانتصار، ص 460، المسألة 261.
3- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 41 - 42، المسألة 18.
4- الكافي، ج 7، ص 33 باب ما يجوز من الوقف والصدقة .... ح 19؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 154، ح 632: الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 413.
5- الكافي، ج 7، ص 33 باب ما يجوز من الوقف والصدقة .... ح 19؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 154، ح 632: الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 413.

لزوم الهبة بالتصرّف

● و هل تلزم بالتصرف؟ قيل: نعم، و قيل: لا تلزم. و هو الأشبه.

------

و لا فرق في العوض بين القليل والكثير مع تراضيهما عليه؛ لإطلاق النص والفتوى ولأنّها تصير بالتعويض معاوضةً محضةً فيلزم؛ للعموم. ولو لم يرض الواهب باليسير ابتداء أو بعد العقد لم يؤثر بذل المتهب له كما سيأتي إن شاء الله تحريره (1). و لا فرق في العوض بين كونه من بعض الموهوب وغيره؛ عملاً بالإطلاق، ولأنّه بالقبض بعد العقد مملوك للمتهب فيصح بذله عوضاً عن الجملة.

قوله: «و هل تلزم بالتصرف؟ قيل: نعم، و قيل: لا تلزم و هو الأشبه».

حكم هذه المسألة من المشكلات، وقد اختلف فيها الأصحاب، المتقدمون منهم والمتأخرون. وتحرير الدليل على كلّ قول غير منقح و لا سالم من إشكال، ونحن نذكر منه هنا ما يقتضيه المقام، ونحيلك على معرفة ما أهملناه بملاحظة ما حرّرناه.

فنقول: إذا تمّت الهبة بالعقد والقبض، و لم يكن لذي رحم و لا زوج و لا زوجة و لم يعوّض المتهب عنها، و لم يتلف في يده، ولكن تصرّف فيها تصرفاً لا يسوغ له قبل التملك، فهل يلزم الهبة بذلك، ويكون التصرف من جملة الأسباب الموجبة للزومها، أم تبقى جائزة على ما كانت قبل التصرّف؟ فيه أقوال:

أحدها - و هو الذي اختاره المصنف في الكتاب ومختصره (2)، وقبله سلار وأبو الصلاح (3). و هو ظاهر ابن الجنيد (4) - عدم تأثير التصرّف مطلقاً في لزومها، بل للواهب فسخها كما كان له - قبله. وإطلاقه بقاء الحكم بالجواز مع التصرّف يشمل الناقل للملك، والمانع من الردّ كالاستيلاد والمغيّر للعين كطحن الحنطة وغيرها.

ص: 169


1- يأتي في ص 197 وما بعدها.
2- المختصر النافع، ص 260 .
3- المراسم، ص 199: الكافي في الفقه، ص 323.
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 227 - 228، المسألة 1.

.......

------

وثانيها: أنّها تلزم بالتصرف مطلقاً (1) ذهب إليه الشيخان وابن البراج وابن إدريس (2)، وأكثر المتأخرين كالعلّامة والشهيد (رحمه الله) في اللمعة (3)، وغيرهما (4).

وثالثها: التفصيل بلزومها مع خروجه عن ملكه، أو تغيّر صورته كقصارة الثوب ونجارة الخشب، أو كون التصرّف بالوطء، وعدمه بدون ذلك كالركوب و السكنى واللبس، و نحوها من الاستعمال. و هو قول ابن حمزة، والشهيد في الدروس (5)، وجماعة من المتأخرين (6). وزاد ابن حمزة، فقال: لا يقدح الرهن والكتابة (7). و هو يشمل بإطلاقه ما لو عاد إلى ملك الواهب أو لم يعد.

إذا تقرر ذلك فلنعد إلى ما احتج به أصحاب الأقوال من الأخبار والاعتبار، وسنبين ما فيه. فالذي يصلح حجّة لأصحاب القول الأول صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله علیه السلام في الرجل يهب الهبة أيرجع فيها إن شاء؟ فقال: «تجوز الهبة لذوي القرابات، والذي يثاب في هبته، ويرجع في غير ذلك». (8) و الظاهر أنّ المراد بالجواز في الخبر اللزوم، بقرينة تخصيصه الحكم بالقرابة والمثاب وقوله «ويرجع في غير ذلك».

ص: 170


1- في حاشية «و»: «الإطلاق للشيخ مذهبه في النهاية، وأما في المبسوط فله تفصيل يأتي منه (رحمه الله)».
2- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 658؛ والشيخ الطوسي في النهاية، ص 603؛ والمبسوط، ج 3، ص 140: والخلاف، ج 3، ص 571، المسألة 17؛ وابن البراج في المهذب، ج 2، ص 95؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3. ص 173.
3- مختلف الشيعة، ج 1، ص 236، المسألة 5: إرشاد الأذهان، ج 1، ص 450؛ اللمعة الدمشقية، ص 59 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).
4- كابن فهد الحلّي في المقتصر، ص 212؛ والصيمري في تلخيص الخلاف، ج 2، ص 229، المسألة 17.
5- الوسيلة، ص 379؛ الدروس الشرعية، ج 2، ص 287 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 2) .
6- كابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 173، في ظاهر كلامه؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 160.
7- الوسيلة، ص 379.
8- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 158، ح 650؛ الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 414.

......

------

وحسنة الحلبي عنه علیه السلام قال: «إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع وإلا فليس له» (1). وبقاء العين شامل لحالتي التصرف وعدمه.

ولأنّ استحقاق الرجوع ثابت قبل التصرف فيستصحب.

وأجاب في المختلف عن الخبرين بحملهما على ما إذا لم يوجد التصرّف (2).

وفيه نظر؛ لأنّ تخصيص العام وتقييد المطلق لا يصح إلا مع وجود معارض يتوقف على الجمع بينهما بذلك، و لم يذكر ما يوجب المعارضة على هذا الوجه، كما سنبينه إن شاءالله تعالى (3).

واقتصر في المختلف على هذين الحديثين استدلالاً من طرف القائل، وأضاف إليهما الاستدلال بأصالة بقاء الملك على صاحبه (4).

و هو حجّة رديئة؛ لأنّ انتقال الملك هنا متحقق على كل حال بعد القبض، وإنّما الكلام في أنّ هذا الانتقال هل هو لازم أم جائز؟ والأولى إبداله بما ذكرناه من استصحاب الحكم بالجواز؛ لأنّه موضع النزاع.

ويمكن أن يحتج له أيضاً من الأخبار بصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام قال: «الهبة والنحلة يرجع فيهما صاحبهما إن شاء حيزت أو لم تحز إلا لذي رحم؛ فإنّه لا يرجع فيها» (5).

وبصحيحة زرارة عن أبي عبد الله علیه السلام: قال: «إنّما الصدقة محدثة، إنما كان الناس على عهد رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ينحلون ويهبون، و لا ينبغي لمن أعطى الله عزّ وجلّ شيئاً أن يرجع فيه،

ص: 171


1- تقدم تخريجها في ص 168، الهامش 1.
2- مختلف الشيعة، ج 6، ص 237. المسألة 5.
3- سيأتي عن قريب.
4- مختلف الشيعة، ج 6، ص 237، المسألة 5.
5- تقدم تخريجها في ص 167، الهامش 5.

......

------

قال: وما لم يعطه لله و في الله فإنّه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة، حيزت أو لم تحز» (1) الحديث.

و في معناها موثقة عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل يتصدق الصدقة أله أن يرجع في صدقته؟ فقال: «إنّ الصدقة محدثة إنما كانت النحلة والهبة، ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته، حيزت أو لم تحز، و لا ينبغي لمن أعطى شيئاً لله عز وجل أن يرجع فيه» (2).

فهذه الأخبار الخمسة دالّة بإطلاقها أو عمومها على ما ادعاه المصنف من جواز الرجوع فيها و إن تصرّف و هو ظاهر.

لا يقال: مدلول الأخبار على الإطلاق غير مراد؛ لتناولها ما لا يجوز الرجوع معه إجماعاً، كحالة التعويض والتلف فما تدلّ عليه لا يقولون به، وما يقولون به لا يقصر دلالتها عليه.

لأنا نقول: إن تينك الحالتين خرجتا من هذا العموم أو الإطلاق بنص خاص، و هو الأخبار التي أسندنا إليها الحكمين، فتكون تلك الأخبار مخصصةً أو مقيدةً لهذه.

وطريق الجمع بينهما حمل هذه على ما عدا تينك الحالتين؛ إعمالاً للدليلين بحسب الإمكان، كما هو محقق في الأصول (3)، فتبقى هذه الأخبار كالعام المخصوص في كونه حجّةٌ في الباقي.

وحينئذ فيضعف أيضاً قول من قال: إن هذه الأخبار لا عموم لها، أو أن تقييدها لا بدّ منه (4)؛ فإنّ تقييدها بما يوجب الجمع بينها وبين غيرها لا يسقط دلالتها، ويتناول موضع النزاع، ويحتاج تقييدها بغير حالة التصرّف إلى مقيّد.

ص: 172


1- الكافي، ج 7، ص 30 باب ما يجوز من الوقف والصدقة...، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 153، ح 625؛ الاستبصار، ج 4، ص 110، ح 423.
2- الكافي، ج 7، ص 30، باب ما يجوز من الوقف والصدقة.... ح 4 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 153، ح 625: الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 411.
3- راجع تهذيب الوصول إلى علم الأصول، ص 154: نهاية الوصول إلى علم الأصول، ج 2، ص 380 وما بعدها.
4- قال به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 160.

......

------

حجة القول الثاني أمور:

الأول: عموم قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَرَةٌ عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ﴾ (1)، وليس الرجوع تجارة و لا عن تراض.

الثاني: عموم: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (2)، خرج منه ما دلّ الدليل على جوازه فيبقى الباقي على أصله.

الثالث: رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن الصادق علیه السلام قال: «أنت بالخيار في الهبة ما دامت في يدك، فإذا خرجت إلى صاحبها فليس لك أن ترجع فيها، وقال، قال رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رجع في هبته فهو كالراجع في قيئه» (3)، خرج من ذلك ما أخرجه الدليل فيبقى الباقي على أصله.

الرابع: أنّ جواز الرجوع يقتضى تسلّط الواهب على ملك المتهب، و هو خلاف الأصل؛ لقوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «الناس مسلّطون على أموالهم» (4). فيقتصر فيه على موضع الدليل.

الخامس: قال الشيخ (رحمه الله): روى الأصحاب أنّ المتهب متى تصرّف في الهبة فلارجوع فيها (5). و هو يدل على وجود روايات بذلك (6).

السادس: أنّ المتهب قد ملك بالعقد والإقباض، وظهر أثر الملك بالتصرف، فقوي وجود السبب و هو تام وإلا لم يتحقق أثره، فلا يتحقق النقل عنه إلا بسبب طارئ، والرجوع ليس سبباً هنا وإلا لكان سبباً فى غيره.

ص: 173


1- النساء .(4): 29.
2- المائدة (5): 1.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 158، ح 653: الاستبصار، ج 4، ص 109، ح 416.
4- تقدم تخريجه في ص 164 الهامش 2.
5- المبسوط، ج 3، ص 140.
6- راجع الكافي، ج 7، ص 32 باب ما يجوز من الوقف والصدقة... . ح 11؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 153، ح 627: الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 412.

......

------

السابع: أنّ جواز الرجوع يقتضي الضرر والإضرار بالمتهب على تقدير بنائه وغرسه وطول مدته، وهما منفيان شرعاً (1).

الثامن: أنّ الموهوب قد صار ملكاً للمتهب بعقد الهبة، فلا يعود إلى ملك الواهب إلّا بعقد جديد أو ما هو في حكمه.

التاسع: أنه إجماع؛ لأنّ المخالف معروف الاسم والنسب فلا يقدح.

فهذه عشرة أدلّة بحديث القيء؛ لأنه دال برأسه و إن كان في ضمن حديث آخر(2)، فقد روي منفرداً أيضاً (3). وهذه الأدلّة جمعتها من تضاعيف عبارات أصحاب هذا القول و لم يتفق جمعها لأحد منهم هكذا، وهي أقصى ما أمكن من استدلالهم.

و في كلّ واحد منها نظر.

أمّا الأوّل: فللمنع من كون أكل الهبة بطريق الرجوع فيها من الواهب أكلاً لمال الغير بالباطل، بعد ورود الروايات الصحيحة على جواز الرجوع فيها (4)، المستلزم لعود ملكه لها بالفسخ فيكون أكلاً لمال نفسه بالحق لا لمال غيره بالباطل.

وأمّا الثاني: فالأمر بالوفاء بالعقود المراد منه الوفاء بما تقتضيه، والالتزام بما يترتب عليه شرعاً من لزوم وجواز فمن فسخ بالعقد الجائز الذي قد دلّت الأخبار الصحيحة الكثيرة على جوازه (5) كان قد و في العقد حقه اللازم له شرعاً.

ص: 174


1- الكافي، ج 5، ص 280، باب الشفعة، ح4، وص 292 - 294، باب الضرار، ح 2 و 6 و 8؛ الفقيه، ج 3، ص 76 . ح 3371، وص 233، ح 3862: وج 4، ص 334، ح 5721: تهذيب الأحكام، ج 7، ص 146 - 147، ح 651. وص 164 ح 727.
2- تقدّم ضمن رواية إبراهيم بن عبد الحميد في ص 173.
3- الاستبصار، ج 4، ص 109، ح 416.
4- راجع الكافي، ج 7، ص 31، باب ما يجوز من الوقف.... ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 156، ح 643؛ الاستبصار، ج 4، ص 108 - 109، ح 410 و 414؛ وللمزيد راجع مختلف الشيعة، ج 1، ص 229، المسألة 1.
5- راجع الكافي، ج 7، ص31، باب ما يجوز من الوقف.... ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 156، ح 643: الاستبصار، ج 4، ص 108 - 109، ح 410 و 414: وللمزيد راجع مختلف الشيعة، ج 1، ص 229، المسألة 1.

......

------

سلّمنا أنّ المراد بالوفاء به التزامه مطلقاً، لكنّه مخصوص بالعقود اللازمة، وكون هذا العقد لازماً في هذه الحالة عين المتنازع، وقد عرفت دلالة الأدلة الصحيحة على جوازه، فيكون مستثنى كما استثني غيره من العقود الجائزة.

وأمّا الثالث - و هو خبر إبراهيم بن عبد الحميد - فأوّل ما فيه ضعف السند جداً، فإنّ إبراهيم بن عبد الحميد واقفي المذهب (1)، و إن قال بعضهم: إنّه ثقة (2). والذي يرويه عنه عبدالرحمن بن حماد، و هو مجهول العين مطلقاً، وإنما يوجد في قسم الضعفاء عبدالرحمن بن أبي حماد، و هو غالٍ (3) لا يلتفت إليه. والذي يرويه عنه إبراهيم بقول مطلق، و هو مشترك بين جماعة منهم الضعيف (4)، والثقة (5). وما هذا شأنه كيف يجعل حجةٌ في مقابلة تلك الأخبار الصحيحة (6)، مع أنّ في معناها من الأخبار الضعيفة (7) جملة لم يلتفت إلى ذكرها لذلك و إن كان حالها أقوى من هذا الخبر؟

وأمّا دعوى انجبار ضعفه بالشهرة فأعجب من أصل الاستدلال به؛ فإنّ شهرته إن كانت بمعنى تدوينه في كتب الحديث فهو أمر مشترك بينه وبين سائر الأخبار الضعيفة المذكورة في كتب أصول الحديث المدوّنة، و إن كان بمعنى عملهم بمضمونه فظاهر بطلانه؛ لأنّ مضمونه لزوم الهبة متى قبضت، سواء كانت لرحم أم غيره، عوض عنها أم لم يعوض، بقيت عينها أم تلفت، وهذا المفهوم على إطلاقه لا يقول به أحد، وإنّما يأخذون منه هنا قدر

ص: 175


1- رجال الطوسي، ص 332، الرقم 4947
2- الفهرست الشيخ الطوسي، ص 17، الرقم 12.
3- خلاصة الأقوال، ص 375، الرقم 1493.
4- رجال الطوسي، ص 332، الرقم 4947، وص 351، الرقم 5159.
5- الفهرست الشيخ الطوسي، ص 17، الرقم:12: معالم العلماء، ص 5، الرقم 28.
6- كرواية محمد بن مسلم راجع الكافي، ج 7، ص 31 باب ما يجوز من الوقف.... ح 7؛ وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 176، ح 643: والاستبصار، ج 4، ص 108 و 109، ح 410 و 414.
7- كرواية داود بن حصين. راجع تهذيب الأحكام، ج 9، ص 157، ح 645: والاستبصار، ج 4، ص 106، ح 404: ورواية معلى بن خنيس. راجع تهذيب الأحكام، ج 9، ص 158، ح 651؛ والاستبصار، ج 4، ص 107، ح406.

......

------

حاجتهم خاصةً، و هو لزومها على تقدير التصرف، ويطرحون باقي مدلوله، فأي معنى لاشتهاره على وجه يجبر ضعفه؟ سلّمنا، لكن لا دلالة له على التصرّف مطلقاً، وإنّما دلّ على لزومها مطلقاً بالقبض كما عرفت وأنتم لا تقولون به، فأي وجه لحمله على حالة التصرف خاصة؟

وأما الاستدلال بقوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «إن الراجع في هبته كالراجع في قيئه» (1)، فالكلام في طريقه كما تقدم، ومن حيث المتن مقتضاه تحريم الرجوع مطلقاً، كما يحرم الرجوع في القيء. و لا يقول به أحد. ومنه يظهر أنّ حمله على الكراهة مطلقاً أولى. و وجه التشبيه استقذار الرجوع عند أهل البصيرة وذوي المروة سلّمنا إرادة التحريم، لكن تحريم الرجوع لا يدلّ على فساده وعدم ترتب الأثر عليه؛ لعدم دلالة النهي في غير العبادات عليه.

وأمّا الرابع: ففيه أنّ تسلّط الواهب إذا وقع بما أذن له الشارع فيه من العقد الجائز لا يكون مخالفاً للأصل، بل موافقته له أوضح وبالرجوع يصير ماله، وتسلّطه حينئذ على ماله لا على مال المتهب.

وأما الخامس - و هو الحكاية عن الشيخ بأنّ الأصحاب رووا أن المتهب متى تصرّف في الهبة فلا رجوع فيها - فعجيب؛ لأنّ أرباب هذا القول بالغوا وفتشوا فلم يجدوا حديثاً واحداً يدلّ على ما ادعاه الشيخ سوى رواية إبراهيم بن عبد الحميد فذكروها ف-ي استدلالهم، وحالها ما قد رأيت دلالةً وسنداً، وكتب الشيخ الأخبارية خالية عمّا ادعى رواية الأصحاب له، و لم يتعرّض في روايته أصلاً إلى حكم التصرف صريحاً، وإنما روى هو وغيره من الأصحاب ما حكيناه من حكم جواز الهبة على الوجه المتقدم (2) المنافي لما ادعوه هنا.

وأما السادس - و هو الاستدلال بتحقق الملك وظهور أثره بالتصرف - ففيه: أنه إن أراد

ص: 176


1- راجع ص 173.
2- تقدّم في ص 153 وما بعدها.

......

------

بالملك اللازم فهو مصادرة على المطلوب، و هل هو إلّا أوّل المسألة وعين المتنازع؟! و إن أراد تحقق الملك المطلق بالعقد والإقباض أعم من اللازم والجائز، وترتب أثر هذا المطلق فهو غير نافع؛ لأنّ العقد الجائز لا يرفع جوازه التصرف فيه على هذا الوجه، كما يظهر ذلك في تصرّف أحد المتبايعين مع وجود الخيار للآخر، و في التصرف غير المغير للعين، و لا الناقل للملك في الهبة عند بعض الأصحاب (1). وحينئذٍ فالظاهر من أثر الملك إنّما هو أثر الملك الحاصل، و هو الجائز رفعه على ما يدعيه الخصم ودلّت عليه الأخبار الصحيحة (2)، و ذلك لا يوجب قوة السبب و لا تماميته، و لا ينافي كونه سبباً.

ودعوى كون الرجوع ليس سبباً هنا عين المتنازع؛ فإنّ الخصم يجعله سبباً تاماً في رفع ملك المتهب، وإثبات ملك الواهب بواسطة جواز العقد الذي قد استفيد من النصوص.

و أمّا السابع - و هو استلزام جواز الرجوع الضرر في بعض الصور - ففيه: أن المتهب قدم على هذا الضرر بالتصرف في ملك متزلزل أمره بيد غيره، و إذا أدخل هو الضرر على نفسه لا يضر عند الشارع، كما في نظائره من الموارد التي يلقي الإنسان نفسه فيها من الضمانات والغرامات التي لا تحصى كثرةً. ومثله يقع كثيراً في تصرّف من ليس له الخيار مع من له ذلك في أبواب البيع والشفعة وغيرها.

وأما الثامن: فجوابه ظاهر؛ لأنه إن أراد صيرورته ملكاً لازماً فهو أوّل المسألة، و إن أراد الأعمّ لم يضرهم. وقوله: «فلا يعود إلى ملك الواهب إلّا بعقد أو ما في حكمه» مسلّم لكنّ الفسخ في حكم العقد؛ حيث إنّه ناقل للملك من المتهب إلى الواهب كما لا يخفى.

وأمّا التاسع - و هو دعوى الإجماع - فترك جوابه أليق، و كيف يتحقق الإجماع في موضع الخلاف العظيم والمعركة الكبرى والمنازعة العظمى وتعدد الأقوال؟! وعلم عين

ص: 177


1- كابن حمزة في الوسيلة، ص379.
2- راجع تهذيب الأحكام، ج 9، ص 153، 156 و 158، ح 625، 627، 643 و 650؛ والاستبصار، ج 4، ص 108 ح 412 و 414: والكافي، ج 7، ص 30 - 32، باب ما يجوز من الوقف والصدقة... . ح 3، 7 و 11.

......

------

القائل ونسبه مشترك الإلزام في كلّ مسألة ممّا يدعى فيها الإجماع كذلك فضلاً عن هذه وما هذه الدعوى عند أرباب النهى إلّا من قبيل الهذيانات والتخيلات.

وأعجب منها ما وقع في مقابلتها من دعوى المرتضى (رضي الله عنه) في الانتصار الإجماع على جواز الهبة مطلقاً، لرحم كانت أم لغيره، تصرّف فيها أم لم يتصرّف ما لم تعوَّض (1).

حجّة القول الثالث - و هو التفصيل بتغيّر العين وزوالها عن الملك وعدمه - حسنة المتقدمة (2) عن الصادق علیه السلام: إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها وإلا الحلبي فليس له».

و وجه الدلالة أنّها مع تغيّر عينها بالطحن ونجارة الخشب وتفصيل الثوب و نحو ذلك لا يصدق عليها بقاء العين؛ لأنّ المتبادر منها بقاؤها بأوصافها التي كانت عليها لا أصل الذات، ومع خروجها عن ملكه لا يصدق بقاؤها عرفاً؛ لأنّ ذلك منزل منزلة التلف، فضلاً عن أصل الخروج عن الوصف. وعلى هذا فتكون هذه الرواية مخصصة أو مقيدة لتلك الأخبار الصحيحة، كما قيدوها في حالة التلف.

ولكن لا يخلو من إشكال في السند والدلالة:

أما السند فلعدم كونها من الصحيح، فمن يعتبر عدالة الراوي بالمعنى المشهور يشكل عليه العمل بها.

وأما الدلالة فيظهر في صورة نقلها عن الملك مع قيام عينها بحالها؛ فإنّ إقامة النقل مقام تغيّر العين أو زوالها لا يخلو من تحكم أو تكلف. بل قد يدعى قيام العين ببقاء الذات مع تغيّر كثير من الأوصاف فضلاً عن تغيّر يسير. وأيضاً فأصحاب هذا القول ألحقوا الوطء مطلقاً بالتغير مع صدق بقاء العين بحالها معه، اللهم إلا أن يدعى في الموطوءة عدم بقاء عينها عرفاً.

ص: 178


1- الانتصار، ص 460، المسألة 261.
2- تقدمت في ص 171.

......

------

وليس بواضح. أو يخص بما لو صارت أم ولد؛ فإنّها تنزل منزلة التالفة من حيث امتناع نقلها عن ملك الواطئ.

وعلى كل حال فتقييد تلك الأخبار الكثيرة الصحيحة الواضحة الدلالة بمثل هذا الخبر الواحد البعيد الدلالة في كثير من مدعيات تفصيله لا يخلو من إشكال، إلا أنّه أقرب من القول المشهور باللزوم مطلقاً. والذي يظهر أنّ الاعتماد عليه أوجه حيث يظهر دلالته بصدق التغيّر عرفاً؛ لأنه من أعلى درجات الحسن، بل قد عده الأصحاب من الصحيح في كثير من الكتب، و إن كان ذلك ليس بجيد كما سننبه عليه في آخر البحث (1). وتبقى تلك الأخبار السابقة من كون الراجع في هبته كالراجع في قيئه؛ فإنّ له طريقاً صحيحاً و إن كان أكثر طرقه ضعيفة، وخبر إبراهيم بن عبد الحميد كالشاهد له (2)، فيكون في ذلك إعمال لجميع الأخبار، و هو خير من اطراح مثل هذا الحديث المعتبر والباقية.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أن أمتن الأقوال وأوضحها دلالة من النصوص الصحيحة المتكثرة هو ما اختاره المصنّف من القول ببقاء هذا العقد على الجواز، و إن القول باللزوم مطلقاً أبعدها عن الدلالة المعتبرة المقبولة و إن كانت كثيرةً بحسب الصورة. فلا تغتر بما قاله صاحب كشف الرموز من ضعف ما اختاره المصنّف وأنّه باحثه فيه وراجعه واستقصى الكلام معه فلم يظهر له إلا المخالفة والقول باللزوم مطلقاً معتمداً فيه على الإجماع والخبر السابق (3) غفلته عمّا حققناه. وأعجب منه دعوى الإجماع على اللزوم في موضع الخلاف (4).

واعلم أنّه على القول باللزوم الأمر واضح؛ لأنّ كلّ ما يعدّ تصرّفاً يوجبه، سواء غير العين أم لا، وسواء نقل عن الملك أم لا.

ص: 179


1- سيأتي في ص 182.
2- تقدّم تخريجه في ص 173، الهامش 3.
3- هو حسنة الحلبي التي سبق تخريجها في ص 171 الهامش 1.
4- کشف الرموز، ج 2، ص 59.

......

------

و إن قلنا بالتفصيل فيعتبر في التصرّف المغيّر تبديل صورة الموهوب و إن بقيت حقيقته، كطحن الحنطة وقطع الثوب وقصارته، ونجارة الخشب و نحو ذلك؛ لعدم بقاء العين المعبر عنه في الخبر مع ذلك حسب ما تقرّر.

و هل ينزل إدخالها في البناء بحيث يستلزم هدمه الإضرار بمالكه مع بقاء العين وعدم - تبدل صورتها - منزلة التصرّف المغيّر؟ وجهان، من صدق بقاء العين، وكون هذا الفعل أقوى من ذلك التبدل اليسير، ولزوم الإضرار بالمتهب مع دخوله فيه دخو لا شرعياً بل من مالك العين؛ و لعله أقوى.

ولو نقلها عن ملكه نقلاً لازماً فقد قطعوا بلزومها حينئذ، و إن فرض عودها إلى ملكه بعد ذلك بإقالة أو غير ذلك من وجوه النقل المتجدّد؛ لبطلان حق الرجوع بذلك، فعوده يحتاج إلى دليل جديد.

ولو كان عوده بخيار أو فسخ بعيب و نحوهما مما يوجبه من حينه فكذلك؛ لتحقق انتقال الملك، مع احتمال عود الجواز؛ نظراً إلى ارتفاع العقد، ووجود سببه من حين العقد.

ويضعف بأنّ الملك منتقل على التقديرين و إن كان متزلزلاً وقد صدر عن مالك، وعوده إليه لم يبطل ذلك الملك، وإنّما تجدّد ملك آخر، ومن ثَمَّ كان النماء المتخلّل لمن انتقل إليه دون المتهب. ولو وطئ الأمة فقد حكموا بعده تصرّفاً ملزماً مطلقاً، سواء استولدها به أم لا. و لا شبهة فيه. وعلى تقدير الاستيلاد لو تجدد موت الولد فكتجدد الفسخ، وأولى باحتمال عود الجواز؛ لعدم انتقالها عن ملك المتهب، وإنّما منع منه مانع وقد زال. هذا إذا جعلنا المانع هو الاستيلاد لا الوطء وإلا لم يعد مطلقاً؛ لوجود السبب الموجب للزوم.

ولو كان التصرّف بالإجارة انتظر الواهب انقضاء المدة، وجاز الفسخ معجلاً. ولو كان بالكتابة روعي بالفسخ فإن حصل تبين صحة الرجوع وإلا فلا.

والفرق بين الفسخ هنا وفسخ ذي العيب والخيار أنّ الفسخ بعجز المكاتب يبطلها من

ص: 180

......

------

أصلها؛ ومن ثَمَّ يملك السيّد ما بيده من الكسب، وما وصل إليه قبله على تقدير كونها مشروطةً، بخلاف ما يوجبه من حينه.

ولو كانت مطلقةً وفسخ قبل الأداء فكذلك، ولو كان بعد أداء البعض ففي صحة الرجوع فيما بطل فيه خاصةً وجهان. وقد تقدّم إطلاق ابن حمزة عدم بطلان الرجوع بالكتابة مطلقاً (1). والتفصيل أجود.

ولو كان التصرف بالرهن روعي انفكاكه في صحته وأطلق ابن حمزة عدم منعه (2)؛ وكأن وجهه تقدّم حق الواهب على حق المرتهن فيفسخ الرهن مطلقاً.

و وجه العدم وقوع التصرف من مالك فكان ماضياً إلى أن يزول المانع.

والتفريع على القول بالجواز مطلقاً واضح فيما لا يحصل مع التصرّف نقل الملك و لا مانع من الرد كالاستيلاد، أما معهما فمقتضى كلام القائل به جوازه أيضاً من غير استثناء، وعموم الأدلّة (3) يتناوله. وحينئذ فلا يتسلّط على ردّ العين؛ لانتقال الملك إلى غير الموهوب في وقت كان مالكاً، فوقع التصرف صحيحاً، ولكن يرجع إلى قيمة العين.

و في اعتبار قيمته وقت الرجوع أو وقت النقل وجهان، أجودهما الأول؛ لأنه وقت انتقال الملك الموجب للقيمة جمعاً بين الحقين.

و يحتمل استثناء هاتين الصورتين من الحكم و إن كان القائل به قد أطلق؛ لأنّ حقيقة الرجوع لا تتم إلا بإبطال ملك غير المتهب والرجوع إلى القيمة مع وجود العين؛ إحالة على غير ما دلّ عليه الدليل الموجب للرجوع، ولأنّ فيه جمعاً بين الأخبار، حيث يدعى أن نقل الملك منزّل منزلة تغيّر العين بل تلفها، وقد شرط في الخبر السابق بقاء العين قائمة في جواز الرجوع.

ص: 181


1- تقدّم في ص 170.
2- تقدّم في ص 170.
3- كروايتي عبدالله بن سنان والحلبي. راجع ص 170 و 171.

استحباب العطية للأرحام

● ويستحبّ العطية لذي الرحم، ويتأكد في الولد والوالد.

------

تنبيه هو خاتمة بحث المسألة:

اعلم أنّ العلّامة في التذكرة والمختلف وصف رواية الحلبي عن الصادق علیه السلام: «إذا كانت الهبة قائمةً بعينها فله أن يرجع فيها» (1) إلى آخرها بالصحة (2)، وتبعه على ذلك الشهيد في الدروس (3)، والشيخ علي في الشرح (4).

والحق أنّها من الحسن لا من الصحيح؛ لأنّ في طريقها إبراهيم بن هاشم، و هو ممدوح غير معدل (5)، وكثيراً ما يقع الغلط في حديثه خصوصاً في المختلف، وقد وصفه بالحسن في مواضع كثيرة منه (6) موافقاً للواقع، والعجب من تبعية هذين الفاضلين له أكثر.

وإنّما طوّلنا الكلام في هذه المسألة وخرجنا عن موضع الكتاب؛ لأنها من المهمات والله ولي التوفيق.

قوله: «ويستحبّ العطية لذي الرحم، ويتأكد في الولد والوالد».

لما في العطية للمذكورين من الجمع بين الصدقة وصلة الرحم المأمور بها (7)، وقد قال الله تعالى مدحاً للفاعل: (وَاتَّى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ، ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى﴾ (8)، فبدأ بالقرابة. وقال رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «صدقتك على ذوي رحمك صدقة وصلة» (9).

ص: 182


1- الكافي، ج 7، ص 32، باب ما يجوز من الوقف والصدقة... . ح 11: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 153، ح 627: الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 412.
2- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 51 المسألة 19؛ مختلف الشيعة، ج 1، ص 237، المسألة 5.
3- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 231 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
4- جامع المقاصد، ج 9، ص 160.
5- راجع خلاصة الأقوال، ص 49، الرقم 9.
6- مختلف الشيعة، ج 1، ص 58 المسألة 30، وص،134، المسألة 82، وص 160، المسألة 107، وص 225 المسألة 164.
7- راجع الكافي، ج 2، ص 150، باب صلة الرحم، وص 157، باب البر بالوالدين.
8- البقرة (2): 177.
9- المعجم الكبير، ج 4، ص 274 - 275، ح 6204 – 06208.

هبة الزوجين والرجوع فيها

● والتسوية بين الأولاد في العطية.

● ويكره الرجوع فيما تهبه الزوجة لزوجها، والزوج لزوجته. و قيل: يجريان مجرى ذوي الرحم. والأول أشبه.

------

وروي أنّ زينب امرأة عبد الله بن مسعود كانت صناعاً (1)، وكانت تنفق على زوجها وولده. فأتت النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إنّ عبدالله وولده شغلاني عن الصدقة، فقال النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «لك في ذلك أجران أجر الصلة وأجر الصدقة» (2). والأخبار في هذا الباب كثيرة جداً.

وإنما تستحبّ عطيّة الرحم حيث لا يكون محتاجاً إليها بحيث لا تندفع حاجته بدونها، وإلا وجبت كفاية إن تحققت صلة الرحم بدونها وإلا وجبت عيناً؛ لأنّ صلة الرحم واجبة عيناً على رحمه. وليس المراد منها مجرد الاجتماع،البدنى، بل ما تصدق معه الصلة عرفاً، وقد يتوقف ذلك على المعونة بالمال حيث يكون الرحم محتاجاً والآخر غنيّاً لا يضره بذل ذلك القدر الموصول به، بل قد يتحقق الصلة بذلك و إن لم يسع إليه بنفسه، كما أن السعي إلى زيارته بنفسه غير كافٍ فيها مع الحاجة على الوجه المذكور.

قوله: «والتسوية بين الأولاد في العطية».

المراد بالتسوية معناها الظاهر، و هو جعل أنصباء الأولاد متساوية، ذكوراً كانوا أم إناثاً أم بالتفريق. فيعطى الأُنثى مقدار ما يعطى الذكر و إن كان له ضعفها في الإرث؛ لقوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنتُ مفضلاً أحداً لفضلتُ البنات» (3). وقد تقدّم البحث في ذلك وما يستثنى منه (4).

قوله: «ويكره الرجوع فيما تهبه الزوجة لزوجها والزوج لزوجته» إلى آخره.

ص: 183


1- في حاشية « و »: «وامرأة صنّاع اليد. أي حاذقة ماهرة بعمل اليدين. (منه رحمه الله)».
2- راجع الطبقات الكبرى، ج 8، ص 290؛ وسنن ابن ماجة، ج 1، ص 587، ح 1834: والسنن الكبرى البيهقي ج 4، ص 299، ح 7759 وفيها بتفاوت.
3- تقدم تخريجه في ص 165، الهامش 1.
4- تقدّم في ص 165.

......

------

أما جواز رجوع أحدهما في هبة الآخر فلدخوله في عموم الأخبار السابقة الدالة على جواز الرجوع فيها مطلقاً عدا ذي الرحم (1)، وليسا من ذويه، واستصحاباً للحكم السابق.

وأما الكراهة فلقول النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ في صحيحة الحلبي (2) وغيرها من الروايات: «مثل الذي يرجع في هبته كالذي يرجع في قيئه» (3).

و إذا لم يدلّ ذلك على التحريم فلا أقل من الكراهة.

و ذهب جماعة من الأصحاب (4)، إلى عدم جواز رجوع أحدهما كالرحم؛ لصحيحة زرارة عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «لا يرجع الرجل فيما يهبه لزوجته، و لا المرأة فيما تهبه لزوجها، حيز أو لم يحز؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿و لا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا اتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ (5)، وقال: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيتنا﴾ (6)، وهذا يدخل في الصداق والهبة» (7).

وهذا هو الأقوى؛ لصحة الرواية، فتكون الزوجية من أسباب اللزوم المستثناة من تلك الأخبار الصحيحة بخصوصيّة هذا الخبر الصحيح، كما استثني الرحم بالخبر الآخر (8).

ص: 184


1- الكافي، ج 7، ص 31، باب ما يجوز من الوقف والصدقة.... ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 156، ح 643: ،الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 410.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 155، ح 635: الاستبصار، ج 4، ص 109 - 110، ح 419.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 158، ح 653: الاستبصار ج 4، ص 109، ح416
4- منهم العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 37، المسألة:17؛ وولده فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 416 - 417 وابن فهد الحلّي في المقتصر، ص 212؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 161.
5- البقرة (2): 229.
6- النساء (4): 4.
7- الكافي، ج 7، ص 30، باب ما يجوز من الوقف والصدقة.... ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 152 - 153. ح 624؛ الاستبصار، ج 4، ص 110، ح 423.
8- الكافي، ج 7، ص 31 باب ما يجوز من الوقف.... ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 156، ح 643: الاستبصار، ج 4، ص 108، ح 410.

......

------

و لا يقدح فيه قوله «حيز أو لم يحز»؛ من حيث إن ظاهره اللزوم و إن لم يقبض؛ لما تقدّم من دلالة الأدلّة على عدم لزومها قبل القبض قطعاً (1)، فتحمل هذه الحيازة على قبض آخر جديد غير القبض الأوّل؛ جمعاً بين الأدلّة، ولعلّ من ذهب إلى الكراهة أعل هذا الخبر بذلك؛ من حيث إنه متروك العمل بالظاهر، أو لأن ما دلّ عليه لا يقولون به، وما يقولون به لا يدلّ عليه.

وأما حديث القيء (2) فلا خصوصية في دلالته للزوجين بل يدلّ على كراهة الرجوع في الهبة مطلقاً، و إن تناولهما من حيث العموم، إلا أنه ليس وجهاً لتخصيص الكراهة بهما و إن صلح للدلالة في الجملة و لا فرق في الزوجين بين الدائم وغيره، و لا بين المدخول بها وغيره. والمطلقة رجعيّاً زوجة بخلاف البائن.

ص: 185


1- تقدم في ص 153 وما بعدها.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 158، ح 653: الاستبصار، ج 4، ص 109، ح 416.

[النظر] الثاني في حكم الهبات

اشارة

وهي:مسائل:

لو وهب واقبض ثمّ باع من آخر

الأولى: ● لو وهب فأقبض ثمَّ باع من آخر فإن كان الموهوب له رحماً لم يصح البيع. و کذا إن كان أجنبياً وقد عوّض أما لو كان أجنبياً و لم يعوّض قيل: يبطل لأنه باع ما لا يملك. و قيل: يصح؛ لأنّ له الرجوع والأوّل أشبه.

------

قوله: «لو وهب فأقبض ثمَّ باع من آخر - إلى قوله - والأول أشبه».

المراد بعدم الصحة على تقدير لزوم الهبة - بكون المتهب رحماً أو معوّضاً - عدم لزومه بل يتوقف على إجازة المتهب على مختار المصنّف والأكثر في بيع الفضولي، لا الصحة المقابلة للبطلان؛ لأنه لا يقصر حينئذ عن الفضولي. والمراد أنه مع لزوم الهبة لا ينفذ البيع لكونه تصرّفاً في ملك الغير. وأما مع جواز الرجوع فيه فهل يصح ويقوم مقام الرجوع والبيع معاً أم لا؟ قولان:

أحدهما - و هو الذي اختاره المصنف - عدم الصحة بذلك المعنى (1)؛ لأنّ بالعقد والقبض قد انتقل عن ملكه إلى ملك المتهب، و إن كان انتقالاً قابلاً للزوال بالفسخ، فبيعه قبل الفسخ وقع في ملك الغير فلم ينفذ. و لا يقدح كونه دالاً على الفسخ؛ لأنّ غايته أن يكون فسخاً موجباً لنقل الملك إليه، لكن هذا الانتقال لم يحصل إلا بالبيع، فيكون البيع واقعاً قبل الانتقال، ضرورة تقدّم السبب على المسبب، فوقع على ملك الغير، فلم يكن صحيحاً.

ص: 186


1- قال به الشيخ أيضاً في المبسوط، ج 3، ص 129 – 130.

● ولو كانت الهبة فاسدةً صح البيع على الأحوال.

------

والثاني: الصحة وقيام العقد مقام الفسخ والعقد معاً (1)؛ لأن ثبوت الفسخ فرع صحة العقد في نفسه؛ لأنه أثره، فلو كان البيع فاسداً لم يترتب عليه أثره، و هو الفسخ مع الاتفاق على أن الفسخ يحصل بذلك، وإنما الخلاف في حصولهما معاً به، ولعموم: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (2).

وفيه نظر؛ لأنا نمنع من توقف الفسخ على صحة العقد، بل على حصول لفظ يدلّ عليه، وإيقاع البيع على هذا الوجه يدلّ على إرادة الفسخ فيقتضيه، و إن تخلّفت صحة البيع من حيث اشتراط تقدم الملك عليه.

والأولى في الاستدلال على صحته أن العقد يدل على إرادة الفسخ، والغرض من الألفاظ المعتبرة في العقود الدلالة على الرضى الباطني؛ لأنه هو المعتبر، ولكن لما لم يمكن الاطلاع عليه نصب الشارع الألفاظ الصريحة دالة عليه، واعتبرها في صحة العقد، كما نبهوا عليه كثيراً في أبوابه. وحينئذ فالعقد المذكور يدلّ على تحقق إرادة الفسخ قبل العقد فيكشف العقد عن حصول الفسخ بالقصد إليه قبل البيع.

أو نقول: إذا تحقق الفسخ بهذا العقد انتقلت العين إلى ملك الواهب وكان العقد بمنزلة الفضولي، وقد ملكها مَنْ إليه الإجازة، فلزم من قبله، كما لو باع ملك غيره ثم ملكه، أو باع ما رهنه ثم فكه، و نحو ذلك، وأولى بالجواز هنا؛ لأنّ بائع ملك غيره قد لا يقصد بيعه على تقدير كونه مالكاً له، بخلاف هذا؛ فإنه قاصد إلى البيع مطلقاً، كما لا يخفى.

و كيف كان فالأقوى صحة البيع والفسخ معاً. ومثله يأتي في بيع ذي الخيار وبيع المدبّر والموصى به مطلقاً، والمكاتب حيث يجوز فسخها، و نحو ذلك.

قوله: «ولو كانت الهبة فاسدة صح البيع على الأحوال».

المراد بالأحوال ما تقدّم تفصيله من كون الهبة لرحم أو غيره، عوض عنها أو لم يعوض (3).

ص: 187


1- من القائلين به العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 242، المسألة 16.
2- المائدة (5): 1.
3- تقدّم في ص 166 وما بعدها.

......

------

و يحتمل أن يريد به ما هو أعم من ذلك، بحيث يشمل مع ذلك ما لو علم بالفساد أو لم يعلم. و وجه الصحة في الجميع وقوع العقد من مالك جائز التصرّف فيكون صحيحاً.

و يحتمل العدم على تقدير عدم علمه بالفساد؛ لأنه لم يقصد نقله عن ملكه، لبنائه على أنه ملك لغيره، والعقود تابعة للقصود، و يجوز على تقدير علمه بالفساد أن لا يبيع، وإنّما قدم على بيع مال غيره بزعمه. وعلى تقدير احتمال إرادته البيع مطلقاً فمجرد إيقاعه البيع أعمّ من قصده إليه على تقدير علمه بملكه وعدمه، والعام لا يدلّ على الخاص، فالقصد إلى البيع على تقدير كونه مالكاً مشكوك فيه، فلا يكون العقد معلوم الصحة.

ويمكن الجواب عن ذلك بأن إيقاع العقد باللفظ الصريح كافٍ في الدلالة على القصد إليه شرعاً، كما في نظائره من العقود؛ إذ لا يشترط في صحته العلم بكونه قاصداً إلى ذلك اللفظ حيث يكون شرعيّاً، بل يحمل إطلاق لفظه حيث يتجرّد عن قرائن عدم القصد على كونه قاصداً. واحترزنا بتجرّده عن قرائن عدمه عن نحو المكره والهازل إذا أوقع عقداً، فإنّا لا نحمل لفظه الصريح على القصد إليه؛ لدلالة القرائن على خلافه.

و يظهر من العبارة أنّ موضوعها ما لو كان جاهلاً؛ لعطف المسألتين الآتيتين عليه، مشبهاً لحكمهما بها، مع تصريحه بفرض جهله بالحال فيهما. ولو قيل بالرجوع إلى قوله في ذلك كان حسناً، بمعنى أنه إن أخبر عن قصده إرادة البيع و إن كان مالكاً صح. و إن قصده لكونه فضوليّاً لم يصح على تقدير ظهور كونه مالكاً؛ لعدم توجّه قصده إلى البيع اللازم، ولأنّ هذا أمر لا يمكن معرفته إلا منه، فيرجع إليه فيه كنظائره.

واعلم أنّ العلّامة في القواعد ادعى الإجماع على صحة البيع بتقدير ظهور فساد الهبة، وعطف عليه حكم ما لو باع مال مورّثه (1). والإجماع ممنوع، مع أنه في كتاب البيع من الكتاب المذكور نقل الخلاف فيمن باع مال مورّثه فبان موته و إن استوجه الصحة (2).

ص: 188


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 409.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 19.

● و کذا القول فيمن باع مال مورّثه و هو يعتقد بقاءه.

● و کذا إذا أوصى برقبة معتقة وظهر فساد عتقه.

------

قوله « و کذا القول فيمن باع مال مورّثه و هو يعتقد بقاءه».

بمعنى أنه يحكم بصحة البيع على تقدير ظهور موت المورّث حال البيع، و إن البائع باع ما هو ملكه؛ لحصول الشرط المعتبر في اللزوم، و هو صدور البيع عن مالك لأمره.

ويشكل بما مرّ من عدم قصده إلى البيع اللازم (1)، بل إنّما قصد بيع مال غيره وأقدم على عقد الفضولي، فينبغي أن يعتبر رضاه به بعد ظهور الحال، خصوصاً مع ادّعائه عدم القصد إلى البيع على تقدير كونه ملكه. ولعلّ هذا أقوى؛ لدلالة القرائن عليه، فلا أقل من جعله احتمالاً مساوياً للقصد إلى البيع مطلقاً، فلا يبقى وثوق بالقصد المعتبر في لزوم البيع.

إلا أن يقال: إن المعتبر هو القصد إلى البيع مطلقاً، ويمنع اعتبار القصد إلى بيع لازم بدليل صحة عقد الفضولي مع عدم القصد إلى بيع لازم، وتوقفه على إجازة المالك أمر آخر؛ لأنّ رضى المالك شرط في لزوم العقد لا في صحته في نفسه، والأمر هنا وقع من المالك، فاجتمع القصد إلى البيع والشرط، و هو بيع المالك، فلا يفتقر إلى إجازة أخرى. وإلى مثل هذا نظر المصنّف وجزم بصحة البيع. ومثله ما لو باع مال غيره فظهر شراء وكيله له قبل البيع.

واعلم أنّ الشهيد في الدروس لما نقل عن الشيخ تساوي مسألتي فساد الهبة وبيع مال مورّثه في الحكم بصحة البيع و إن جهل الحال قال: وقد يفرّق بينهما بالقصد إلى صيغة صحيحة في مال المورّث، بخلاف الموهوب (2).

و لا يخفى عليك فساد هذا الفرق؛ فإنّ القصد إلى الصيغة الصحيحة بالمعنى المقابل للباطل حاصل في المسألتين، وبمعنى اللزوم منتف فيهما، فلا فرق بينهما أصلاً كما لا يخفى.

قوله: «و کذا لو أوصى برقبةٍ معتقةٍ فظهر فساد عتقه».

أي و کذا الحكم - و هو صحة الوصية - فيما لو أوصى برقبة من رقيقه لأحد وقد كان أعتقها

ص: 189


1- مرفي ص 187.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 233 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

إذا تراخى القبض عن العقد ثم أقبض

الثانية ● إذا تراخى القبض عن العقد ثم أقبض حكم بانتقال الملك من حين القبض، لا من حين العقد. وليس كذلك الوصيّة؛ فإنّه يحكم بانتقالها بالموت مع القبول و إن تأخر.

------

قبل الوصيّة ثم ظهر فساد عتقه لها، و إن الوصية صادفت ملكاً، فتقع صحيحةً، و إن كانت بحسب الظاهر حال الوصية لم تكن صحيحة لمصادفة الشرط، و هو الملك في نفس الأمر حال الوصية.

ويشكل بما مر (1)، ويزيد هنا أنه - على تقدير كونه معتقاً ظاهراً و لم يتبين له حال الوصية فساد العتق - لا يكون قاصداً إلى الوصية الشرعيّة أصلاً، بل بمنزلة الهازل والعابث بالنظر إلى ظاهر حاله، فلا ينفعه ظهور ملكه بعد ذلك في نفس الأمر بخلاف مَنْ باع مال غيره، فإنّه قاصد إلى بيع صحيح شرعي، غايته أنه جائز من قبل المالك، لكنّه لازم من قبل المشتري فهو عقد شرعي مقصود إليه و إن لم يقصد إلى لزومه مطلقاً، بخلاف الوصيّة بالعتق ظاهراً فإنّها بحسب الظاهر باطلة، فلم يتوجه قصده إلى وصيّة شرعيّة أصلاً؛ لعدم علمه بها.

فالقول هنا بتوقفها على تجديد لفظ يدلّ على إمضائها متعيّن، و هو في الحقيقة في قوة وصيّة جديدة؛ إذ لا ينحصر في لفظ مخصوص، بل كلّ لفظ يدلّ عليها كما سيأتي (2) - كافٍ، وهذا منه.

واعلم أنّ ما ذكره الشهيد (رحمه الله) في الدروس من الفرق بين مسألتي الهبة الفاسدة وبيع مال مورّثه يتوجه في هذه المسألة (3). كما أشرنا إليه في تينك المسألتين؛ لأن القصد في الوصيّة هنا لم يتوجه إلى صيغة صحيحة بخلافهما كما قرّرناه، لكنّه لم يذكر مسألة الوصيّة معهما - كما ذكرها المصنّف والعلّامة (4)- فلم يقع فرقه في محلّه.

قوله: « إذا تراخى القبض عن العقد ثمَّ أقبض حكم بانتقال الملك من حين القبض» إلى آخره.

ص: 190


1- مرفي ص 187.
2- يأتي في ص 252.
3- راجع ص 189.
4- قواعد الأحكام، ج 2، ص 409.

......

------

قد عرفت فيما سلف اختيار أنّ القبض شرط لصحة الهبة لا للزومها (1)، سواء قارن العقد أم تراخى؛ لأنّ فوريته ليست بشرط؛ للأصل. وحينئذ فلو تراخي القبض عن العقد لم يحصل الملك بدونه، وإنما يحكم بانتقال الملك إلى المتهب من حين القبض لا من حين العقد، فيكون القبض ناقلاً للملك حينئذ لا كاشفاً عن سبقه بالعقد.

وتظهر الفائدة في النماء المتخلّل بين العقد والقبض، وفي أُمر أخر خر سبق التنبيه على بعضها (2).

وهذا بخلاف الوصيّة؛ فإنّ القبض فيها ليس شرطاً لصحتها و لا جزءاً، بل للزومها بالموت مع قبول الموصى له الوصية و إن تأخر القبض عن الموت، بل عنه وعن القبول؛ لأصالة عدم الاشتراط و الهبة خرجت عن الحكم بدليل خاص، وقد تقدم (3).

واعلم أن المصنف جزم بجواز تراخي القبض عن العقد، والأمر فيه كذلك؛ لما ذكرناه من أصالة عدم اشتراط الفورية، والدليل الدال على اعتبار القبض أعم منه.

و في القواعد استشكل في حالة تراخيه (4)، والإشكال مبني على القول بأنّ القبض شرط الصحة الهبة لا للزومها، فيكون جزءاً من السبب المصحح لها كالقبول، فاعتبر فوريته كما اعتبر فورية القبول.

وفيه: أنّ الجزئية لا تقتضي الفورية أيضاً؛ إذ لا امتناع في تراخي بعض أجزاء السبب عن بعض، واعتبار الفورية في القبول جاء من دليل خارج عند من اعتبره؛ نظراً منه إلى أنّه جواب الإيجاب، فيعتبر فيه ما يعد معه جواباً، ومع ذلك ففيه ما فيه كما لا يخفى.

ص: 191


1- سبق في ص 153.
2- سبق في ص 18.
3- تقدم في ص 155.
4- قواعد الأحكام، ج 2، ص 407.

إذا ادعى الواهب عدم الإقباض

الثالثة: ● لو قال: «وهبت و لم أقبضه» كان القول قوله، وللمقر له إحلافه إن ادعى الإقباض.

● و کذا لو قال: «وهبته وملكته» ثمَّ أنكر القبض؛ لأنه يمكن أن يخبر عن وهمه.

......

------

قوله «لو قال وهبت و لم أقبضه كان القول قوله وللمقر له إحلافه إن ادعى الإقباض».

إنما كان القول قوله؛ لأنه منكر له؛ إذ الأصل عدم وقوعه. و لا يقدح في ذلك كونه شرطاً لصحة الهبة، فيكون إنكاره كدعوى الفساد، وقد علم أنّ مدّعي الصحة مقدم؛ للفرق بين الأمرين، فإنّ منكر الإقباض لا يدعى فساد الهبة، إنما ينكر أمراً من الأمور المعتبرة فيها، وأنها لم تتحقق بعد كما لو أنكر الإيجاب أو القبول و إن اشترك الجميع في عدم صحة العقد بدونه.

وإنّما لم يكن الإقرار بالهبة إقراراً بالقبض مع كونه من أركانها المعتبرة في صحتها؛ لأنّ المعروف شرعاً من الهبة هو الإيجاب والقبول خاصةً، والقبض و إن كان معتبراً في الصحة إلا أنّه خارج عن ماهيتها، وقد تقدّم في تعريف الهبة «أنّه العقد المقتضي لتمليك العين» (1) إلى آخره، و لا شبهة في أنّ القبض أمر آخر غير العقد، فالإقرار بأحدهما لا يقتضي الإقرار بالآخر. ويفهم من قوله «وللمقر له إحلافه إن ادعى الإقباض» أن تقديم قوله في عدم الإقباض لا يوجب اليمين بمجرده، بل مع دعوى المقرّ له الإقباض. والأمر فيه كذلك، فإن اليمين تكون لإنكار ما يدعيه المدعي، فإذا لم يدع عليه الإقباض لا يلزمه اليمين و إن صدق اسم المنكر عليه قبل الدعوى المذكورة؛ إذ ليس كلّ منكر يتوجه عليه اليمين بمجرد الإنكار، بل لا بد من انضمام دعوى ما أنكره المنكر.

قوله: «و کذا لو قال: وهبته وملكته ثمَّ أنكر القبض؛ لأنه يمكن أن يخبر عن وهمه».

قد عرفت مما سبق أن الأصحاب قد اختلفوا في أنّ القبض هل هو شرط لصحة الهبة فلا يحصل الملك بدونه، أم للزومها خاصةً، فيحصل بدونه الملك الجائز رفعه بالفسخ قبله؟

ص: 192


1- تقدم في ص 143.

......

------

و إن الهبة عبارة عن الإيجاب والقبول، و إن القبض خارج عن ماهيتها و إن اعتبر في صحتها (1). وحينئذٍ فقول المقرّ: «وهبته» لا يقتضي الإقرار بالملك؛ لجواز عدم الإقباض، فإذا أضاف إلى ذلك «ملكته» نظر في أمر المقرّ، فإن كان ممن يرى أن الهبة لا تفيد الملك إلا بالقبض حكم عليه بالإقباض، حيث يقول: «وملكته» و إن لم يقرّ به بخصوصه؛ لأن الملك مسبَّب عن الإقباض، فالإقرار بالمسبّب يستلزم الإقرار بالسبب؛ لأنّه لا يوجد بدونه فيكون كما لو أقرّ بالسبب.

و إن كان ممن يرى حصول الملك بمجرد العقد لم يكن إقراره بالهبة إقراراً بالإقباض؛ لجواز أن يخبر عن رأيه في ذلك، فلو فرض كون المقر له أو الحاكم الذي يتخاصمان إليه يرى الإقباض شرطاً في الملك لم يمكن الحكم على المقرّ بالإقباض بمجرد قوله: «ملكته» و إن كان عندهما أنّ الملك يستلزم الإقباض؛ لاختلاف الرأيين و کذا لو اشتبه حال المقرّ ومذهبه؛ لأنّ المسألة اجتهادية قد اختلف فيها أصحابنا وغيرهم، فيجوز ا أن يكون إقراره مبنيّاً على مذهب من لا يرى التلازم، فلا يكون إقراره بمجرده كافياً في الإقرار بالقبض.

نعم، لو علم من مذهب المقرّ توقف الملك على الإقباض بالاجتهاد أو التقليد المتعين لمن يقول به، وأنه لم يتوهم خلافه حكم عليه بالإقباض حينئذ.

وقول المصنّف «لأنّه يمكن أن يخبر عن وهمه» يدلّ على اشتراط الإمكان في عدم الحكم عليه بالإقباض كما ذكرناه، فلو لم يمكن - كما لو علم مذهبه في المسألة - حكم عليه بمقتضى مذهبه.

وما ذكره المصنّف من التعبير بإمكان إخباره عن وهمه أجود من قول غيره (2)؛ لإمكان

ص: 193


1- سبق في ص 153 وما بعدها.
2- راجع جامع المقاصد، ج 9، ص 173.

......

------

أن يعتقد رأي مالك، وقول القواعد: إن اعتقد رأي مالك (1)، لما عرفت أن الخلاف فيه واقع بين أصحابنا، فلا يحتاج في ذلك إلى الخروج إلى مذهب مالك علماً و لا إمكاناً. هذا ما يتعلّق بتحرير العبارة.

وبقي في المسألة بحث آخر، و هو أنك قد عرفت أن التمليك من جملة العبارات المؤدّية لإيجاب الهبة وقبولها، فإذا قال في الإيجاب «ملكتك»، و فى القبول «تملكت» تحقق عقد الهبة، وافتقر بعده إلى الإقباض صحة أو لزوماً، كما لو عبّر بلفظ الهبة. وحينئذ فقوله «وهبته وملكته» كما يحتمل الملك المترتب على الإقباض أو على العقد المذكور عند بعض يحتمل أن يريد به إيقاع صيغة الهبة خاصةً، و إن يكون عطف التمليك على الهبة مؤكّداً لها. ويكون حاصل الإقرار إيقاع الهبة بلفظ التمليك، فلا يكون ذلك بمجرّده إقراراً بالقبض على القولين، و لا يحتاج إلى البناء على الخلاف المذكور في القبض.

و لا يقال: إنّ حمله على ذلك يكون تأكيداً لقوله: «وهبته»، وحمله على حصول الملك المسبب عن العقد أو القبض معه يكون تأسيساً لمعنى آخر، وفائدة التأسيس أولى من فائدة التأكيد - كما هو المشهور - مضافاً إلى الأكثر في الاستعمال من اقتضاء العطف المغايرة المقتضية لكون مؤدّى «ملكته» غير مؤدى «وهبته».

لأنا نقول: إنّ ألفاظ الأقارير لا تنزل على مثل هذه القواعد مع احتمال الأمرين بل تعتبر فيها المعانى الظاهرة وهذه اللفظة مشتركة بين الصيغة وأثرها، فحملها على الثانى دون الأول ترجيح من غير مرجّح، كما في الإقرار بلفظ مشترك؛ فإنّه لا ينزل على أحد معنييه بدون القرينة.

وحمل العطف على المغايرة مطلقاً ممنوع فإنّه كما يجوز عطف الشيء على مباينه يجوز عطفه على مرادفه، كما هو محقق في بابه.

ص: 194


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 409.

إذا رجع في الهبة وقد عابت

الرابعة ● إذا رجع في الهبة وقد عابت لم يرجع بالأرش. و إن زاد زيادة متصلةً فللواهب. و إن كانت منفصلةً كالثمرة،والولد فإن كانت متجدّدةً كانت للموهوب له، و إن كانت حاصلةً وقت العقد كانت للواهب.

------

وعلى تقدير تسليم ظهور المعنى الثاني أو أغلبيته على الأوّل ينبغي أن يرجع إليه في القصد، لا أن يتعين حمله على الغالب، كما نبهوا عليه في نظائره من الإقرار بلفظ يحتمل معنيين؛ فإنّه يقبل من المقرّ إرادة أحدهما و إن حمل إطلاقه على الغالب منهما، كما لو قال: له عليَّ درهم ودرهم ودرهم»؛ فإنّه يقبل منه دعوى إرادة تأكيد الثاني بالثالث، و إن كان العطف يقتضي المغايرة وكان الغالب عدم التأكيد.

ويمكن على هذا أن نقول: مع العلم بمذهب المقرّ في هذه المسألة، و إن التمليك عنده بمعنى أثر العقد - لا يحصل إلا بالقبض لو قال: «وهبته وملكته»، ثمَّ قال: أردت بالثاني تأكيد الأوّل، أو وهبته بصيغة التمليك و لم أقبضه قبل، و لا يكون ذلك وهماً في المذهب، و لا أياً في حكم القبض كالأوّل.

وأولى منه ما لو قال:ابتداء: «ملكته كذا» من غير أن يقول قبله «وهبته»؛ فإنّه كما يحتمل الهبة المقبوضة يحتمل إيقاع صيغة الهبة خاصةً كما ذكرناه (1)، فلا يكون إقراراً بالقبض؛ لأنّ احتمال المغايرة والتأسيس منتف هنا والاشتراك متحقق، والأغلبية لأحد المعنيين منتفية لغةً وعرفاً، بخلاف الأول.

و بهذا يظهر أنّ ما ذكره بعض الأصحاب - من أنّ قوله «ملكته» مجرّداً عن تقديم وهبته» مثل قوله «وهبته وملكته» سواء (2)، فيأتى فيه البحث السابق خاصةً؛ لأن التمليك يقتضي الإقباض على المشهور، و يحتمل خلافه على الرأي الآخر - ليس بجيد، بل الفرق بينهما متحقق، والحكم بعدم الإقرار بالقبض في التمليك المجرّد متعيّن، فتأمل.

قوله: «إذا رجع في الهبة وقد عابت لم يرجع بالأرش - إلى قوله كانت للواهب».

ص: 195


1- ذكره في ص 194.
2- راجع جامع المقاصد، ج 9، ص 174.

......

------

إذا رجع الواهب في الهبة حيث يجوز له الرجوع و ذلك على مذهب المصنّف (رحمه الله و إن تصرف، وعلى مذهب غيره ما لم يتصرف تصرفاً يمنع الرجوع - فلا يخلو إما أن يجد العين بحالها لم تنقص و لم تزد و لم تتغيّر، أو يجدها ناقصة بما يوجب الأرش، أو بما لا يوجبه، أو زائدةً بما يوجب الأرش كذلك أو بما لا يوجبه، أو يوجب زيادة في القيمة، أو جامعة بين الأمرين، متصلةٌ تلك الزيادة أو منفصلةً، مطلقاً أو من وجه، أو متغيّرة بالامتزاج بالأجود أو الأدنى أو المساوي، أو غيره من الأعمال كالنجارة والقصارة والطحن أو غير ذلك من التغيّرات.

والمصنّف (رحمه الله) ذكر حكم بعض هذه الأقسام، و هو حالة الزيادة والنقصان، فحكم بأنه إذا رجع وقد عابت سواء كان العيب بزيادة أو نقصان - لا يرجع بالأرش؛ لأنه حدث في عين مملوكة للمتهب، وقد سلّطه مالكها على إتلافها مجاناً، فلم تكن مضمونة عليه سواء كان العيب بفعله أم لا. و لا فرق عنده بين الهبة المشروط فيها الثواب وغيرها في ذلك من حيث الإطلاق، وسيأتي التصريح به على تردّد منه حالة الاشتراط (1). والحق أن هذه الصورة مستثناة من صور المعيب، وسيأتي (2).

و إن كان التغير بزيادة في العين، فإن كانت متصلةً كالسمن وتعلّم الصنعة - فهي للواهب؛ لأنها تابعة للعين، بل داخلة في مسمّاها، أو جزء لها لغة وعرفاً، فالرجوع في العين يستتبعها.

و إن كانت منفصلةً حسّاً وشرعاً - كالولد الناتج واللبن المحلوب، والثمرة المقطوعة، والكسب - فهي للمتهب؛ لأنها نماء حدث في ملكه من ملكه فيختص به.

و إن كانت منفصلةً شرعاً مع اتصالها حسّاً - كالحمل المتجدد بعد القبض، واللبن كذلك قبل أن يحلب، والثمرة قبل قطافها - فكذلك على الأقوى؛ لما ذكر.

ص: 196


1- يأتي في ص 197 وما بعدها.
2- يأتي في ص 197 وما بعدها.

الخامسة ● إذا وهب وأطلق لم تكن الهبة مشروطة بالثواب، فإن أثاب لم يكن للواهب الرجوع.

و إن شرط الثواب صح، أطلق أو عيّن. وله الرجوع ما لم يدفع إليه ما شرط.

ومع الاشتراط من غير تقدير يدفع ما شاء ولو كان يسيراً، و لم يكن للواهب مع قبضه الرجوع. و لا يجبر الموهوب على دفع المشترط، بل يكون بالخيار.

------

وقال ابن حمزة: له الرجوع في الأم والحمل المتجدّد (1)؛ بناء على أنه كالجزء من الأُمّ، والأظهر خلافه . ومثله الصوف والشعر المستجز، ولو لم يبلغ أو إن جزه فالأجود تبعيته للعين.

هذا كله إذا كانت الزيادة قد حدثت بعد ملك المتهب للعين، و ذلك بعد العقد والقبض أمّا لو حدثت قبله فهى كالموجودة قبل الهبة، فيرجع فيها كما يرجع في العين.

قوله: «إذا وهب وأطلق لم تكن الهبة مشروطة بالثواب - إلى قوله - بل يكون بالخيار». إذا وهب شيئاً فلا يخلو إما أن يشترط الواهب على المتهب الثواب - أي التعويض عن الهبة - أو يشترط عدمه، أو يطلق وعلى تقدير اشتراط الثواب لا يخلو إما أن يعينه بقدر مخصوص، أو يطلق. وعلى التقادير الأربعة إمّا أن يكون المتهب أعلى من الواهب أو مساوياً أو أدنى. فهذه اثنتا عشرة صورة.

وتفصيل حكمها أنه مع اشتراط عدم الثواب لا يلزم قطعاً مطلقاً، ومع اشتراطه يلزم ما شرطه مطلقاً . ثمَّ إن عينه لزم ما عيّن، بمعنى أن المتهب إن دفع المشروط وإلا تسلّط الواهب على الفسخ، و إن أطلق اشتراط الثواب لزم أيضاً الوفاء به، لكن إن اتفقا على قدر فذاك، وإلا وجب إثابة مقدار الموهوب مثلاً (2) أو قيمةٌ، و لا يلزمه الأزيد و إن طلبه الواهب، كما لا يجبر الواهب على قبول الأقل.

ص: 197


1- الوسيلة، ص 379.
2- في بعض النسخ: «عيناً» بدل «مثلاً».

......

------

والمعتبر قيمة الموهوب عند القبض إذا وقع بعد العقد، و يحتمل عند دفع الثواب.

و إن أطلق الهبة و لم يشترط أحد الأمرين فالهبة جائزة من قبل الواهب، إلا أن يثيبه المتهب بما يتفقان عليه، ومع الاختلاف يرجع إلى مثل الموهوب أو قيمته، كما مر. و لا فرق في ذلك بين هبة الأعلى والمساوي والأدنى على أصح الأقوال.

وقال الشيخ (رحمه الله): إنّ مطلق الهبة في الأقسام الثلاثة يقتضي الثواب (1). ومقتضاه لزوم بذله و إن لم يطلبه الواهب و هو بعيد. ويمكن أن يريد به جواز الرجوع في الهبة ما لم يثب كما لو شرطه فيكون المراد أن لزومها إنّما يتحقق به، فيكون كقول الأصحاب.

وقال أبو الصلاح:

إنّ هبة الأدنى للأعلى يقتضي الثواب فيعوّض عنها بمثلها، و لا يجوز التصرف فيها ما لم يعوّض عنها؛ لاقتضاء العرف ذلك (2).

والأظهر خلافه؛ للأصل والعمومات (3).

إذا عرفت ذلك، فقول المصنف «إذا وهب وأطلق لم تكن الهبة مشروطة بالثواب» تنبيه على خلاف الشيخ وأبي الصلاح.

وقوله «فإن أثاب لم يكن للواهب الرجوع» مفهوم شرطه أنّ له الرجوع مع عدم الإثابة، والحكم فيه كذلك، حتى أنه لو أراد الرجوع فبذل له المتهب الثواب لم يجب عليه قبوله، بل يجوز له الامتناع ليتمكن من الرجوع في هبته؛ لأصالة البراءة، وإطلاق النصوص الصحيحة بجوازها ما لم يثب (4)، و لا يتحقق الثواب إلا مع قبوله لا مع بذله خاصة؛ لأنه بمنزلة هبة جديدة، و لا يجب عليه قبولها.

ص: 198


1- الخلاف، ج 3، ص 568، المسألة 13: المبسوط، ج 3، ص310.
2- الكافي في الفقه، ص 328.
3- منها رواية الحلبي، راجع الكافي، ج 7، ص 32 باب ما يجوز من الوقف..... ح 1.
4- راجع تهذيب الأحكام، ج 1، ص 380، ح 1116؛ ووسائل الشيعة، ج 19، ص 242، الباب 9 من كتاب الهبات.

......

------

وقوله «و إن شرط الثواب صح» نبّه به على خلاف بعض العامة حيث منع من اشتراطه؛ بناءً على أنّ الهبة لا تقتضي ثواباً، فإذا شرطه فيها أخرجها عن مقتضاها (1).

و هو فاسد؛ لأنّ المطلق لا ينافي المقيّد، وإنّما يتمّ لو قلنا: إنّ الهبة تقتضي عدم الثواب، فإذا شرطه كان منافياً لمقتضاها، وفرق بين عدم اقتضاء الثواب واقتضاء عدمه.

وقوله «أطلق أو عين» نبه به على خلاف بعضهم أيضاً؛ حيث منع من اشتراط المعين (2)، وآخرين؛ حيث منعوا من اشتراط المبهم (3).

وعندنا أنّ الكلّ جائز؛ للأصل، ولأنّ الهبة من العقود المبنية على المغابنة فلا يضر فيها الجهالة في عوضها، فكذا في شرطه والانضباطه بالقيمة مع الاختلاف.

وقوله «وله الرجوع ما لم يدفع إليه ما شرط» شامل للأمرين معاً. ودفع المشروط المعين واضح، والمطلق يرجع إلى قاعدته المقرّرة ممّا يقع به التراضي أو مقدار المثل أو القيمة؛ لأنّ ذلك يحصل به تأدي ما شرط.

وقوله «ومع الاشتراط من غير تقدير يدفع ما شاء ولو كان يسيراً» مقيد برضى الواهب به؛ إذ لو امتنع من قبوله تخيّر بين ردّ العين وبذل قيمتها أو مثلها كما مر . وعلى كل حال لا يتعين عليه ذلك، و لا على الواهب قبوله، لكن لو أراده الواهب وأراد المتهب دفع الثواب و لم يرد العين فحكمه كما ذكرناه.

والحاصل أنّه لا يجب على المتهب دفع عوض بخصوصه، بل و لا دفعه مطلقاً إذا ردّ العين، فإذا دفع عوضاً ورضي به الواهب صح وامتنع الرجوع مع قبضه قليلاً كان أم كثيراً. وإلا تخيّر المتهب بين دفع الموهوب وعوض مثله؛ لانصراف الإطلاق إليه عادة.

ص: 199


1- حكاه ابن قدامة عن الشافعي في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 332، المسألة 448.
2- راجع المهذب، الشيرازي، ج 1، ص 584: ومغني المحتاج، ج 2، ص 548.
3- مرّ في ص 197.

......

------

وقوله و «لم يكن للواهب مع قبضه الرجوع» يفهم منه جواز رجوعه متى لم يقبضه و إن بذله المتهب. والأمر فيه كذلك، وقد تقدّم (1). و لا ينافيه عموم الأمر بالوفاء بالعقود (2)، و لا قول أبي عبدالله له في صحيحة عبدالله علیه السلام بن سنان: «تجوز الهبة لذوي القربي، والذي يثاب من هبته، ويرجع في غير ذلك» (3) كما زعم بعضهم (4)؛ لأنّ عموم الوفاء بالعقود مقيد بغير الجائزة منها، وقد عرفت دلالة النصوص الصحيحة على جواز هذا العقد على هذا الوجه إذا سلّم دلالة الوفاء على المضي فيها مطلقاً (5)، والإثابة في الخبر لا تتحقق إلا بالاتفاق عليها لا بمجرّد بذلها، و لم يحصل هنا.

وقوله «و لا يجبر الموهوب على دفع المشترط، بل يكون بالخيار» أي بين دفع المشترط ورد العين كما مر (6). ومقتضاه أنه لا يجب عليه الوفاء بالشرط، و هو إما بناء على عدم وجوب الوفاء بالشرط في العقد اللازم مطلقاً، بل يفيد اشتراطه جعل العقد عرضةً للفسخ على تقدير امتناع المشروط عليه منه - وقد تقدّم الكلام فيه (7)- أو بناء على أنّ هذا العقد من العقود الجائزة خصوصاً من جهة الواهب، فلم يجب الوفاء بالشرط فيه كما لا يجب الوفاء بأصله.

ويشكل بأنّه من طرف المتهب لازم فلا يجوز له الفسخ بنفسه و إن لم يبذل المشروط، و تخيّره بين بذل العين والثواب المشروط لا ينافيه، وإنّما يظهر جوازه من قبل الواهب خاصةً.

ص: 200


1- تقدم في ص 198.
2- المائدة .(5): 1.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 155، ح 636: الاستبصار، ج 4، ص 108 - 109، ح 414.
4- راجع جامع المقاصد، ج 9، ص 177.
5- راجع ص 198.
6- مر في ص 197.
7- تقدم في ج 3، ص 187.

● ولو تلفت والحال هذه أو عابت لم يضمن الموهوب؛ لأن ذلك حدث في ملكه. وفيه تردّد.

------

قوله: «ولو تلفت والحال هذه أو عابت لم يضمن الموهوب؛ لأنّ ذلك حدث في ملكه. وفيه تردّد».

ضمیر «تلفت» و«عابت» يرجع إلى الهبة بمعنى الموهوب؛ لأنها هي المذكورة سابقاً. ويمكن عوده إلى العين الموهوبة المدلول عليها بالمقام.

وحاصل الأمر أنّ العين الموهوبة المشروط فيها الثواب لو تلفت في يد المتهب أو عابت قبل دفع العوض المشترط وقبل الرجوع سواء كان ذلك بفعله كلبس الثوب أم لا فهل يضمن المتهب الأرش أو الأصل أم لا؟ قولان:

أحدهما: عدم الضمان - و هو الذي اختاره المصنف ثمَّ تردّد فيه وجزم به العلّامة في التذكرة (1) وولده في الشرح (2) - لما ذكره المصنّف من العلة، و هو أن ذلك النقص حدث في ملك المتهب فلم يلزمه ضمانه، ولأن المتهب لا يجب عليه دفع العوض كما مر (3)، بل للواهب الرجوع في العين، فالتفريط منه حيث تركها في يد مَنْ سلّطه على التصرف فيها مجاناً.

والثاني: الضمان جزم به ابن الجنيد (4) من المتقدمين وبعض المتأخرين (5)- لعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (6)، ولأنه لم يقبضها مجاناً، بل ليؤدّي عوضها فلم يفعل،

ص: 201


1- تذكرة الفقهاء، ج 20، ص 74، المسألة 32.
2- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 420.
3- مر في ص 199.
4- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 240، المسألة 11.
5- منهم الشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 232 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص 177.
6- مسند أحمد، ج 5، ص 638، ح 19620؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 296، ح 3561؛ المستدرك على الصحيحين. ج 2، ص 354، ح 2349.

......

------

ولأن الواجب أحد الأمرين ردّها أو دفع العوض، فإذا تعذر الأول وجب الثاني.

وأُجيب عن دليل الأولين بأنه لم يدخل في ملكه مجاناً بل بشرط العوض، و ذلك معنى الضمان وعدم وجوب دفع العوض إن أريد به عدم وجوبه عيناً لم يلزم منه نفي الوجوب على البدل الذي هو المدعى، وحينئذ فإذا تعذر أحد الأمرين المخيّر فيهما وجب الآخر عيناً. و إن أريد عدم الوجوب أصلاً فهو ممنوع (1). وهذا هو الوجه.

إذا تقرّر ذلك وقلنا بالضمان مع التلف فهل الواجب مثل الموهوب أو قيمته، أو أقل الأمرين من ذلك ومن العوض؟ وجهان، أجودهما الثاني لما عرفت من أن المتهب مخيّر بين الأمرين (2)، والمحقق لزومه هو الأقل؛ لأنه إن كان العوض الأقل فقد رضي به الواهب في مقابلة العين، و إن كان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا يتعين عليه العوض، بل يتخيّر بينه وبين بذل العين فلا يجب مع تلفها أكثر من قيمتها. وهذا هو الأقوى.

و وجه اعتبار القيمة مطلقاً أنّ العين مضمونة حينئذٍ على القابض، فوجب ضمانها بالقيمة.

وفيه أنه مسلّط على إتلافها بالعوض، فلا يلزمه أزيد منه لو كان أنقص.

و لا فرق على الوجهين بين القول بأنّ رجوع الواهب في الهبة المشروط فيها العوض منوط بعدم دفع العوض مطلقاً وقبوله له، كما هو الأصح - وقد عرفته فيما سلف (3)- أو مع امتناع المتهب من دفع العوض؛ لأن تمليك الواهب له وتسليطه على الإتلاف بالعوض مع كونه أقل من القيمة - يقتضي عدم الزيادة عليه على كلّ تقدير.

هذا كله حكم الضمان على تقدير التلف. وأمّا أرش العيب فهو التفاوت بين قيمتها يوم ردّها وقيمتها يوم قبضها بعد العقد؛ لأنّ ذلك هو القدر المضمون عليه حيث تكون العين مضمونة.

ص: 202


1- أجاب به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 9، ص177.
2- سبق في ص 199.
3- سبق في ص 199.

السادسة: ● إذا صبغ الموهوب له الثوب فإن قلنا: التصرّف يمنع من الرجوع فلا رجوع للواهب، و إن قلنا: لا يمنع إذا كان الموهوب له أجنبيّاً كان شريكاً بقيمة الصبغ.

------

واعلم أن موضع الإشكال في كيفية الضمان إنّما هو مع شرط عوض معين، كما يظهر ذلك من تعليل أقلّ الأمرين، أما مع الإطلاق فالواجب هو المثل أو القيمة لا غير إذا لم يرض الواهب بما دونها؛ لأنّ ذلك هو مقتضى اشتراط العوض مطلقاً.

قوله: «إذا صبغ الموهوب له الثوب - إلى قوله كان شريكاً بقيمة الصبغ».

إذا رجع الواهب في هبته فوجد المتهب قد عمل فيها عملاً، وجوّزناه مع التصرّف مطلقاً كما ذهب إليه المصنف - فلا يخلو إمّا أن يكون صفةً محضةً كقصارة الثوب وطحن الحنطة، أو عيناً محضةً كغرس الأرض، أو مترددة بينهما كصبغ الثوب.

ثمَّ إمّا أن تزيد قيمة العين بمقدار قيمة الصبغة، أو تزيد عنها، أو تنقص مع زيادتها عن قيمة العين أو تبقى قيمة العين خاصةً، أو تنقص. فإن زادت بمقدار القيمتين أو زادت عنهما كان المتهب شريكاً بنسبة قيمة عمله إلى قيمة العين. فلو كان الثوب يساوي مائةً فصبغه بعشرين، وصار يساوي مائة وعشرين أو أزيد صار شريكاً بالسدس. ولو نقص عن القيمتين وكان النقص بسبب الصبغ خاصةً فالذاهب على المتهب، ولو لم يزد فلا شيء له، ولو نقص بسببه فهو كالعيب الحادث. وقد سبق في باب المفلس تفصيل جملة هذه الأقسام وأحكامها (1)، وكلّها آتية هنا، فلتلحظ من هناك.

والمصنّف اقتصر على بيان حكم الصبغ، و لا فرق بينه وبين القصارة والطحن عندنا و إن كان الأمر في الصبغ أقوى؛ من حيث إنه عين من وجه. وأما العين المحضة كالغرس فلكلّ منهما ماله، وليس لصاحب الأرض إجبار الغارس على إزالته مجاناً، بل يتخيّر بين الإبقاء بالأجرة، والقلع مع دفع أرش النقصان، كما في العارية ونظائرها؛ لوضعه في الأرض بحق.

ص: 203


1- سبق في ج 3، ص 508.

الهبة في المرض المخوف

السابعة ● إذا وهب في مرضه المخوف وبرئ صحت الهبة، و إن مات في مرضه و لم تجز الورثة اعتبرت من الثلث على الأظهر.

------

وقول المصنّف «كان شريكاً بقيمة الصبغ» المراد بنسبة قيمته إلى قيمة الثوب كما قررناه؛ ليكون الزيادة عن القيمتين بينهما على النسبة، لا مقدار القيمة خاصةً كما يظهر من العبارة - لأنه يقتضي كون مجموع الزيادة للواهب، وليس كذلك. ومثله يأتي في صورة النقصان حيث لا يكون السبب من جهة الصبغ.

قوله: «إذا وهب في مرضه المخوف وبرئ صحت الهبة».

لا خلاف في أنّ المريض إذا برئ من مرضه ينفذ تصرفه مطلقاً. وأما إذا اتفق موته في مرضه، فإن كان المرض مخوفاً، بمعنى غلبة الهلاك معه فالأظهر أن منجزاته من الثلث حيث لا يجيز الوارث. و قيل: يكون من الأصل. وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى في الوصايا، و إن الحق اعتبار اتصال الموت بالمرض سواء كان مخوفاً أم لا (1).

ص: 204


1- يأتي في ص 449 وما بعدها.

كتاب السبق والرماية

فائدة السبق والرماية ومستند صحتهما

● وفائدتهما بعث العزم على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال.

وهي معاملة صحيحة ● مستندها قوله علیه السلام: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر»، وقوله علیه السلام: «إنّ الملائكة لتنفّر عند الرهان وتلعن صاحبه، ما خلا الحافر والخفّ، والريش والنصل».

------

كتاب السبق والرماية

قوله: «وفائدتهما بعث النفس (1) على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال».

لا خلاف بين جميع المسلمين في شرعيّة هذا العقد، بل أمر النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ به في عدة مواطن (2)؛ لما فيه من الفائدة المذكورة، وهي من أهم الفوائد الدينية؛ لما يحصل بها من غلبة العدوّ في الجهاد لأعداء الله تعالى الذي هو أعظم أركان الإسلام وبهذه الفائدة يخرج عن اللهو واللعب المنهي عن المعاملة عليهما، ومن ثَمَّ كان مقصوراً على ما ورد النص بتسويغه.

قوله: «مستندها قوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: لا سبق إلا في نصل أو خفّ أو حافر».

هذه الرواية رواها العامة في الصحيح عن النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ (3)، ورواها أصحابنا في الحسن عن

ص: 205


1- كذا في نسخ الشرح، والأنسب «العزم» بدل «النفس» كما في نسخ المتن، وجواهر الكلام.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 249، الباب 1 من كتاب السبق والرماية وص 254، الباب 4 من ذلك الكتاب.
3- مسند أحمد، ج 3، ص 245، ح 9788؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 29، ح 2574؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 960، ح 2878؛ سنن النسائي، ج 6، ص 227، ح 3584.

وتحقيق هذا الباب يستدعى فصولاً:

[الفصل] الأول في الألفاظ المستعملة فيه

اشارة

● ف- «السابق» هو الذي يتقدّم بالعنق والكتد. و قيل بأذنه. والأوّل أكثر.

------

الصادق علیه السلام (1). والمشهور في الرواية فتح الباء من «سبق» و هو العوض المبذول للعمل كما سيأتي (2)، وماهيته المنفية غير مرادة، بل المراد نفي حكم من أحكامها أو مجموعها بطريق المجاز كنظائره، وأقرب المجازات إليه نفي الصحة والمراد أنّه لا يصح بذل العوض في هذه المعاملة إلا في هذه الثلاثة وعلى هذا لا ينفي جواز غيرها بغير عوض.

وربما رواه بعضهم بسكون الباء (3)، و هو المصدر، أي لا يقع هذا الفعل إلا في الثلاثة، فيكون ما عداها غير جائز، ومن ثَمَّ اختلف في المسابقة بنحو الأقدام، ورمي الحجر، ورفعه، والمصارعة، وبالآلات التي لا تشتمل (4) على نصل بغير عوض هل يجوز أم لا؟ فعلى رواية الفتح يجوز، وعلى السكون لا. و في الجواز مع شهرة روايته بين المحدثين موافقة للأصل، خصوصاً مع ترتب غرض صحيح على تلك الأعمال.

قوله: «فالسابق هو الذي يتقدم بالعنق والكتد» إلى آخره.

المشهور بين الأصحاب وغيرهم أنّ السابق هو المتقدّم بعنق دابته وكتدها بفتح التاء وكسرها - و هو العالي بين أصل العنق والظهر، ويعبر عنه بالكاهل (5). و ذهب ابن الجنيد إلى

ص: 206


1- الكافي، ج 5، ص 50، باب فضل ارتباط الخيل... . ح 14.
2- يأتي في ص 208 - 209.
3- المبسوط، ج 4، ص 688؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 338؛ لسان العرب، ج 10، ص 151، (سبق).
4- المبسوط، ج 4، ص 688؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 338؛ لسان العرب، ج 10، ص 151، «سبق».
5- لسان العرب، ج 3، ص 377، «کند».

أوصاف المتسابقين

● و«المصلّي» الذي يحاذي رأسه صلوي السابق. والصلو إن ما عن يمين الذنب وشماله.

------

الاكتفاء بالأذن (1)؛ لقول النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «بعثت والساعة كفرسي رهان، كاد أحدهما أن يسبق الآخر بأُذُنه» (2).

وأُجيب بالحمل على المبالغة (3)، و إن ذلك خرج مخرج ضرب المثل على حد قوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بنى مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنّة» (4)، مع امتناع بناء مسجد كذلك. وبأن أحد الفرسين قد يكون هو السابق فيرفع رأسه فيتقدّم أُذن الآخر عليه.

واعلم أنّ في كلا القولين إشكالاً؛ لأن السبق معنى من المعاني يختلف بحسب اللغة والعرف وله اعتبارات متعدّدة عند الفقهاء وغيرهم، فتارةً يعتبرونه بالقوائم، وأخرى بالعنق، وثالثة به مع الكتد، ورابعة بالأذن، فإذا أطلق المتسابقان العقد وجعلا العوض للسابق ففي حمله على بعض هذه المعاني دون بعض نظر، بل في صحة إطلاق العقد كذلك، إلا أن يدلّ العرف على إرادة شيءٍ منها فيحمل عليه، و لا كلام فيه.

قوله: «والمصلّي (5) الذي يحاذي رأسه صلوي السابق».

فائدة الاحتياج إلى السابق ظاهرة؛ لأنّ العوض في الأغلب يبذل له وحده، وقد يشرك معه غيره، بأن يجعل للسابق شيئاً وللمصلّى شيئاً آخر،دونه، وهكذا، فيحتاج إلى معرفة أسماء المتسابقين إذا ترتبوا في الحلبة، وقد جرت العادة بتسمية عشرة من خيل الحلبة، وهي المجتمعة للسباق، وليس لما بعد العاشر منها اسم إلا الذي يجيء آخر الخيل كلها،

ص: 207


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 221، المسألة 180؛ وفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2. ص 363.
2- أورده الماوردي في الحاوي الكبير، ج 15، ص 196؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 221، المسألة 180.
3- أجاب به العلامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 221، المسألة 180.
4- المحاسن، ج 1، ص 127 - 128، ح 147.
5- في نسخ الشرح زيادة «هو».

● و«السبق» بسكون الباء المصدر، وبالتحريك العوض، و هو الخطر.

------

فيقال له: الفسكل بكسر الفاء والكاف أو بضمّهما (1).

فأوّل العشرة المجلي، و هو السابق، سمّي بذلك؛ لأنّه جلّى عن نفسه، أي أظهرها، أو جلّى عن صاحبه وأظهر فروسيته، أو جلى همه حيث سبق.

و الثاني هو المصلّي؛ لما ذكره المصنف من أنّه يحاذي رأسه صلوي السابق، وهما العظمان الناتئان عن يمين الذنب وشماله.

والتالي للمصلّي هو الثالث. ويليه البارع؛ لأنّه برع المتأخر عنه، أي فاقه.

والمرتاح هو الخامس، سمّي به؛ لأن الارتياح النشاط، فكأنه نشط فلحق بالسوابق. والسادس: الحظي؛ لأنّه حظي عند صاحبه حين لحق بالسوابق، أي صار ذا حظوة عنده، أي نصيب، أو في مال الرهان.

والسابع العاطف؛ لأنّه عطف إلى السوابق، أي مال إليها، أوكرّ عليها فلحقها.

والثامن: المؤمّل؛ لأنّه يؤمّل اللحوق بالسوابق.

والتاسع اللطيم وزان فعيل بمعنى مفعول؛ لأنّه يلطم إذا أراد الدخول إلى الحجرة الجامعة للسوابق.

والعاشرة: السكيت - مصغراً مخفّفاً، و يجوز تشديده - سمّي به؛ لسكوت ربّه إذا قيل: لمن هذا؟ أو لانقطاع العدد عنده. و قيل: إنّ السكيت هو الفسكل، و هو آخر فرس يجيء في الرهان (2).

قوله: «والسبق بسكون الباء المصدر، وبالتحريك العوض و هو الخطر».

السبق بالسكون - مصدر سَبَقَ - بالتحريك - غيره سبقاً ومسابقة (3). و في التذكرة جعله

ص: 208


1- لسان العرب، ج 11، ص 519، «فسکل».
2- قاله ابن منظور في لسان العرب، ج 11، ص 520، «فسكل».
3- لسان العرب، ج 10، ص 151، «سبق».

● و«المحلّل» الذى يدخل بين المتراهنين، إن سَبَق أخذ، و إن سبق لم يغرم.

● و«الغاية» مدى السباق.

-------

مصدر سبق (1). و في الصحاح جعله مصدر سابق (2)، وكلاهما صحيح إلا أنّ الثاني أوفق بالمطلوب هنا؛ لأنّ الواقع في معاملته كون العمل بين اثنين فصاعداً، فباب المفاعلة به أولى.

وأما «السبق» بالتحريك فهو العوض المبذول للسابق وما في معناه (3)، ويقال له «الخطر» بالخاء المعجمة والطاء المهملة المفتوحتين - والندب - بالتحريك أيضاً والرهن، ومنه أخذ الرهان لهذه المعاملة.

قوله: «والمحلّل: الذي يدخل بين المتراهنين إن سَبَق أخذ، و إن سبق لم يغرم».

المحلّل هو الذي يدخل بين المتراهنين، و لا يبذل معهما عوضاً، بل يُجري فرسه بينهما أو على أحد الجانبين على وجه يتناوله العقد.

وحكمه أنه إن سبق أخذ العوض المبذول للسابق، و إن سبق لم يغرم شيئاً.

وسمي محلّلاً؛ لأنّ العقد لا يحلّ بدونه عند ابن الجنيد (4)، منّا والشافعي (5)، أو يحلّ به إجماعاً، بخلاف ما إذا خلا عنه فإنّ فيه خلافاً، وسيأتي تحريره (6).

قوله: «والغاية مدى السباق»

غاية الشيء منتهاه والمراد ب- «مدى السباق» هنا منتهاه لا مجموع مسافته كما يظهر من «المدى».

قال في القاموس: المدى ك-«فتى» - الغاية (7). و في نهاية ابن الأثير: غاية الشيء مداه

ص: 209


1- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 9 . المسألة 879.
2- الصحاح، ج 3، ص 1494، «سبق».
3- لسان العرب، ج 10، ص 151، «سبق».
4- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 220، المسألة .179.
5- الأم، ج 4، ص 326.
6- يأتي في ص 228.
7- القاموس المحيط، ج 4، ص 391، «مدى».

● و «المناضلة» المسابقة والمراماة.

● ويقال: سبق - بتشديد الباء - إذا أخرج السبق، و إذا أحرزه أيضاً.

------

ومنتهاه (1). و يظهر منه أنّ المدى هو المنتهى و إن العطف تفسيري، و هو المطابق لعبارة المصنف (رحمه الله).

قوله: «والمناضلة المسابقة والمراماة».

المناضلة مفاعلة من النضل، و هو الرمي. قال الجوهري:

ناضله أي،راماه، يقال ناضلت فلاناً فنضلته إذا غلبته، وانتضل القوم وتناضلوا أي رموا للسبق (2).

و في القاموس: ناضله مناضلةً ونضالاً ونيضالاً: باراه في الرمي (3). و في التذكرة:

السباق اسم يشتمل على المسابقة بالخيل حقيقةً، وعلى المسابقة بالرمي مجازاً، ولكلّ واحدٍ منهما اسم خاص، فيختص الخيل بالرهان، ويختص الرمي بالنضال (4).

وهذا موافق لقول الجوهري.

وأما إطلاق المناضلة على ما يشمل المسابقة فليس بمعروف لغةً و لا عرفاً. ولعلّ المصنّف ومَنْ تبعه في ذلك تجوزوا في الإطلاق، وبعض الفقهاء عنون الكتاب ب-«المسابقة والمناضلة» (5)، و هو الموافق لما نقلناه عن اللغة.

قوله: «ويقال: سبق - بتشديد الباء - إذا أخرج السبق، و إذا أحرزه أيضاً».

أي أخرج السبق بالتحريك - و هو العوض (6)، بمعنى ميّزه وأوقع العقد عليه، أو أخرجه عنه للسابق على تقدير جعله في ذمته ثم ثبوته عليه. والمراد ب- «إحرازه» استحقاقه، سواء قبضه أم لا.

ص: 210


1- النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 404، «غيا».
2- الصحاح، ج 3، ص 1831، «نضل».
3- القاموس المحيط، ج 4، ص 59، «فضل».
4- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 59، المسألة 916.
5- راجع مغني المحتاج، ج 4، ص 393؛ والأم، ج 4، ص 325.
6- لسان العرب، ج 1، ص 151، «سبق».

● و«الرشق» بكسر الراء عدد الرمي وبالفتح الرمي.

● ويقال: رشق وجه ويد، ويراد به الرمي على ولاء حتى يفرغ الرشق.

------

قوله: «والرشق بكسر الراء: عدد الرمي، وبالفتح: الرمي».

الرشق - بكسر الراء - عدد ما يرمى به من السهام، يقال: رمى رشقاً، أي رمى بسهامه التي يريد رميها كلها (1). و إذا حصل الاتفاق على رمي خمسةٍ خمسة فكلّ خمسةٍ يقال لها: رشق، وخصه بعض أهل اللغة بما بين العشرين والثلاثين (2). وأما بالفتح فهو المصدر، يقال: رشقه يرشقه رشقاً إذا رماه بالسهام (3)، و هو المراد بقوله: «والرشق الرمي» أي المصدر لا اسمه.

قوله: «ويقال: رشق وجه،وید ویراد به الرمي على ولاء حتى يفرغ الرشق».

الرشق هنا بالكسر أيضاً، بمعنى أنه مشترك بين العدد الذي يتفقان عليه، وبين الوجه من الرمي لذلك العدد، فكما يقال: رموا رشقاً، أي عدداً اتفقوا عليه، كذلك يقال: رموا رشقاً إذا رموا بأجمعهم في جهة واحدة. قال الجوهري:

الرشق بالكسر الاسم، و هو الوجه من الرمي، فإذا رمى القوم بأجمعهم في جهة واحدة قالوا: رمينا رشقاً (4).

والمراد برشق اليد هذا المعنى أيضاً. وإضافة «الرشق» إلى «اليد» كإضافته إلى الوجه فيقال: رشق وجه ورشق يد إذا كانت جهة الرمي واحدةً. ويمكن مع ذلك إضافته إليهما معاً. كما يظهر من العبارة.

ص: 211


1- راجع الصحاح، ج 3، ص 1481: والنهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 225؛ ولسان العرب، ج 10، ص 117، «رشق».
2- لم نعثر على قائله.
3- النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 225؛ لسان العرب، ج 10، ص117؛ القاموس المحيط، ج 3، ص 244، رشق».
4- الصحاح، ج 3، ص 1481، «رشق».

أوصاف السهم

● ويوصف السهم بالحابي والخاصر، والخازق، والخاسق والمارق، والخارم .

● ف- «الحابي» ما زلج على الأرض ثم أصاب الغرض.

------

قوله: «ويوصف السهم بالحابي، والخاصر» إلى آخره.

ذكر المصنّف من أوصاف السهم عند الإصابة ستة أوصاف وأردفها بسابع. و في التذكرة ذكر له أحد عشر اسماً (1)، و في التحرير ستة عشر (2)، و في كتاب فقه اللغة تسعة عشر اسماً (3). والغرض من ذلك اعتبار صفة الإصابة في عقد الرماية، فلا يستحق العوض بتخطي المشروط إلا أن يصيب بما هو أبلغ منه.

قوله: «فالحابي ما زلج على الأرض ثمَّ أصاب الغرض».

الحابي بإثبات الياء - من صفات السهم المصيب، و هو أن يقع دون الهدف ثم يحبو إلى الغرض فيصيبه، مأخوذ من حبو الصبي على الأرض، وجمعه حوابي. ومعنى قول المصنف: زلج على الأرض» أي زلق. قال في القاموس: الزلج محرّكة الزلق، ويُسَكَّن (4). و في الصحاح:

مكان زلج - بسكون اللام وتحريكها - أي زلق والتزلج التزلق، وسهم زالج: يتزلج عن القوس (5).

وزعم بعض الفقهاء أنّ الحواب بإسقاط الياء - نوع من الرمي قسيم للمبادرة والمحاطة. والمراد به أن يحتسب بالإصابة في الشنّ و هو الغرض، و في الهدف ويسقط الأقرب من الشنّ ما هو الأبعد منه (6).

والمشهور من معناه ما ذكره المصنف رحمه الله.

ص: 212


1- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 60 - 63. المسألة 916.
2- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 60 - 63. المسألة 916.
3- فقه اللغة وسرّ العربية، ص 187 - 188 الفصل 38، من الباب التاسع عشر.
4- فقه اللغة وسرّ العربية، ص 187 - 188 الفصل 38، من الباب التاسع عشر.
5- الصحاح، ج 1، ص 319، «زلج».
6- حكاه عن قوم العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 60، المسألة 916.

● و«الخاصر» ما أصاب أحد جانبيه.

● و«الخازق» ما خدشه.

و «الخاسق» ما فتحه وثبت فيه.

------

قوله: «والخاصر ما أصاب أحد جانبيه».

هو بالخاء المعجمة ثمَّ الصاد المهملة - مأخوذ من الخاصرة؛ لأنها في أحد جانبي الإنسان، سمّي به لإصابته أحد جانبي الغرض، و هو في معنى خاصرته (1). ويسمّى أيضاً جائزاً. و قيل: الجائز ما سقط من وراء الهدف (2). و قيل: ما وقع في الهدف عن أحد جانبي الغرض (3). فعلى هذا إن كانت الإصابة مشروطة في الغرض فالجائز مخطى، و إن كانت مشروطةً في الهدف فهو مصيب.

قوله: «والخازق ما خدشه».

الخازق بالخاء والزاي المعجمتين. وضمير «خدشه» يعود إلى «الغرض». وظاهره أنّه لم يثقبه و لم يثبت فيه، و بهذا صرّح في القواعد فقال: الخازق ما خدشه ثم وقع بين يديه (4). و في التحرير: أنه ما خدشه و لم يثقبه (5).

وكلام أهل اللغة بخلاف ذلك، ففي نهاية ابن الأثير قال: خزق السهم وخسق إذا أصاب الرمية ونفذ فيها، وسهم خازق و خاسق (6).

وقال في الصحاح الخازق من السهام المُقَرْطَس والخاسق لغةٌ في الخازق (7).

وقال في باب السين: يسمّى الغرض قرطاساً، يقال: رمى فقر طَسَ إذا أصابه (8). ومثله في القاموس (9).

ص: 213


1- راجع لسان العرب، ج 4، ص 240 - 241، «خصر».
2- راجع حلية العلماء، ج 5، ص 482.
3- راجع حلية العلماء، ج 5، ص 482.
4- قواعد الأحكام، ج 2، ص 377.
5- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 167، الرقم 4384.
6- النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 29، «خزق».
7- الصحاح، ج 3، ص 1469، «قرط».
8- الصحاح، ج 2، ص 962، «قرط».
9- القاموس المحيط، ج 2، ص 249، «قرطس».

● و«الخارق» الذي يخرج من الغرض نافذاً.

------

وظاهره أنّ الخازق والخاسق ما أصاب الغرض مطلقاً، و هو يدلّ بإطلاقه على خلاف ما ذكره المصنّف وصاحب النهاية، ومع الاختلاف قد اتفقا على أن الخازق والخاسق بمعنى واحد خلاف ما ذكره المصنف.

وقال الثعالبي في سر العربية: إذا أصاب الهدف فهو مُقَرْطس وخازق وخاسق وصائب (1). وهذا أيضاً يشمل ما يخدشه وغيره، وما يثبت فيه،ويقع، ويدلّ على ترادف الخاسق والخازق.

ويمكن حمل كلام المصنّف عليه من حيث إنّ إصابة السهم له مطلقاً يوجب خدشه غالباً، و هو أعم من أن يثقبه و لا يثبت فيه،وعدمه، كما أطلقه أهل اللغة، فيقرب من قولهم. لكن يبقى فيه مخالفة الخاسق للخازق في عبارته دون أهل اللغة.

قوله: «والخارق الذي يخرج من الغرض نافذاً».

هو بالخاء المعجمة والراء المهملة، ومعناه موافق للمفهوم منه لغةٌ؛ لأنّ الخرق الشق فإذا شقه ونفذ فيه سواء سقط منه أم لا - فقد خرقه، لكنّه ليس من أسمائه المعدودة لغةً، و لم يذكره أحد من أصحاب الكتب الأربعة اللغوية السابقة و لا غيرهم ممن وقفت على كلامه.

و في بعض نسخ الكتاب «المارق» بالميم بدل «الخارق» و هو الصواب الموافق لكلام أهل اللغة (2) معنى (3) وتعريفاً.

و في التحرير جعل الخارق بمعنى الخاسق (4)، وقد تقدّم (5)، وجعل الخازق بالزاي المعجمة

ص: 214


1- فقه اللغة وسرّ العربية، ص188 الفصل،38، من الباب التاسع عشر.
2- فقه اللغة وسرّ العربية، ص188 الفصل،38، من الباب التاسع عشر.
3- ي «و»: «نعتاً» بدل «معنى»، و في بعض النسخ: «لقباً».
4- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 167، الرقم 4384.
5- تقدّم في ص 213.

● و «الخارم» الذي يخرم حاشيته.

------

مغايراً له كما مر(1) خلاف ما ذكره أهل اللغة ولو حمل في كلامه الخارق بالراء المهملة - على الخازق بالمعجمة - ليكون مرادفاً للخاسق كان موافقاً لكلام أهل اللغة، لكن ذكره بعد ذلك الخارق وتعريفه بأنه ما خدشه و لم يثقبه يوجب تعيّن كونه بالزاي المعجمة لا الراء؛ إذ لم يحصل فيما ذكره خرق.

والذي يظهر أنه وقع في التحرير ضرب من التصحيف والسهو عن تحرير كلام أهل اللغة؛ لأن جعله الخارق مرادفاً للخاسق موافق لكلام أهل اللغة لكن بشرط كونه بالزاي المعجمة ثمَّ لما ذكر الخارق بعد ذلك كان حقه أن يكون بالمهملة فعرفه بما ينافي ذلك ويوافق تعريف المصنّف في الخازق بالمعجمة، فوقع الاضطراب.

و في التذكرة جعل الخارق ما أثر فيه و لم يثبت، والخاسق ما ثقبه وثبت فيه (2)، كما ذكره المصنّف هنا في الخازق بالمعجمة، فجعلهما متغايرين، و لم يتحقق منه ضبط الراء و لا ذكر الأمرين، فالالتباس فيه أشدّ؛ لأنّه إن جعل بالراء وافق كلام التحرير و خالف مفهومه لغةً، و إن جعل بالزاي وافق كلامه في القواعد (3) وكلام المصنّف هنا، و خالف كلام أهل اللغة.

قوله: «والخارم الذي يخرم حاشيته».

أي حاشية الغرض بأن يصيب طرفه فلا يثقبه ولكن يخرمه. وهذا الاسم لم يذكره أيضاً أهل اللغة و إن كان مناسباً.

وقد ذكروا للسهم أسماء أُخر غير ما ذكره، تركنا ذكرها تبعاً لاختصاره (4).

ص: 215


1- مر في ص 213.
2- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 63. المسألة 916.
3- راجع قواعد الأحكام، ج 2، ص 377.
4- في حاشية «و»: «العجب من المرحوم الشيخ علي؛ حيث ذكر في الشرح أسماء كثيرة ذكرها في التذكرة والتحرير لا حاجة للشرح بها، وترك تحقيق ما ذكره المصنّف في القواعد (منه رحمه الله)». راجع جامع المقاصد، ج 8، ص 346 - 347.

● ويقال: «المزدلف» الذي يضرب الأرض ثمَّ يثب إلى الغرض.

● و «الغرض» ما يقصد إصابته، و هو الرقعة.

و «الهدف» ما يجعل فيه الغرض من تراب او غيره.

------

قوله: «ويقال: المزدلف الذي يضرب الأرض ثم يثب إلى الغرض».

أصل الازدلاف التقدّم (1)، وخصّه هنا بما يقع على الأرض ثمَّ يتقدّم إلى الغرض، وعلى هذا فيرادف الحابي. وبه صرّح في القواعد، فقال بعد تعريف الحابي: و هو المزدلف(2).

و في تأخير المصنّف ذكر المزدلف عن الحابي؛ إشعار بالمغايرة بينهما، ولعلّ المزدلف عنده أقوى فعلاً من الحابي؛ حيث اعتبر في مفهومه ضرب الأرض المقتضي لقوّة اعتماده بخلاف الحابي، فإنّه اقتصر فيه على مجرّد زلقه على الأرض، فيكونان متباينين؛ حيث إنّ الحابي ضعيف الحركة والمزدلف قويّها.

وهذا المعنى هو الظاهر من التذكرة؛ لأنّه قال فيها: إنّ المزدلف أحد والحابي أضعف (3). ولكن في عبارتها إشكال من وجه آخر؛ لأنه قال: و هو - أي الحابي - نوع من الرمي المزدلف، يفترقان في الاسم ويستويان في الحكم (4). وجعل الافتراق في الاسم ما حكينا عنه من القوة والضعف، وهذا الافتراق لا يوافق كونه نوعاً منه؛ لأنه يقتضي كون المزدلف أعم من الحابي. ولو عكس الأمر فجعل الحابي أعم؛ لأنه عرفه بكونه السهم الواقع دون الهدف ثمَّ يحبو إليه، و هو أعم من كون وقوعه بقوّة فيكون مزدلفاً، وضعف فيكون حابياً بالمعنى العام - لكان أوفق بتعريفهما.

قوله « و«الغرض» ما يقصد إصابته، و هو الرقعة و«الهدف» ما يجعل فيه الغرض من تراب أو غيره».

ص: 216


1- الصحاح، ج 3، ص 1370: النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 309؛ القاموس المحيط، ج 3، ص 154، «زلف».
2- قواعد الاحكام، ج 2، ص 377.
3- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 60، المسألة 916.
4- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 60، المسألة 916.

● و«المبادرة» هى أن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع التساوي في الرشق.

و«المحاطة» هى إسقاط ما تساويا فيه من الإصابة.

------

الغرض من بيان «الغرض والهدف» أنّ كلّاً منهما محلّ الإصابة، وقد يكون شرط المتراميين إصابة كلّ منهما بل ما هو أخص منهما فإنّهم يرتبون تراباً أو حائطاً ينصب فيه الغرض فيسمون التراب والحائط هدفاً، وما ينصبون فيه من جلد أو قرطاس يسمونه الغرض.

وبعضهم يسمّي المنصوب في الهدف قرطاساً، سواء كان كاغداً أم غيره، وقد تقدّم نقله عن الجوهري(1). وقد يخص الغرض بالمعلق في الهواء والقرطاس بغيره. وقد يجعل ف-ي الغرض نقش كالهلال يقال له «الدائرة»، و في وسطها شيء آخر يقال له «الخاتم». وشرط الإصابة وغرضها يتعلّق بكل واحد من هذه العلامات فإنّ الإصابة في الهدف أوسع، و في الغرض أوسط، و فى الدائرة،أضيق، و فى الخاتم أدق. وهذا المذكور اصطلاح الرماة وتعبير الفقهاء. و في الصحاح الغرض الهدف الذي يرمى فيه (2).

قوله: «والمبادرة هي أن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع التساوي في الرشق. والمحاطة هي إسقاط ما تساويا فيه من الإصابة».

المراماة قسمان: مبادرة، ومحاطة. والمراد من الأوّل أن يتفقا على رمي عدد معين کعشرین سهماً مثلاً، فمن بدر إلى إصابة عدد معين منها كخمسة - فهو ناضل لمن لم يصب أو أصاب ما دونها.

والمراد من المحاطة بتشديد الطاء - أن يقابل إصاباتهما من العدد المشترط ويطرح المشترك من الإصابات، فمن زاد فيها بعدد معين كخمسة مثلاً فناضل للآخر، فيستحق المال المشروط في العقد.

وما ذكره المصنّف من تعريفهما غير سديد؛ لدخول كلّ منهما في تعريف الآخر فإن بدار أحدهما إلى الإصابة مع التساوي في الرشق متحقق ظاهراً مع شرط المحاطة، وإسقاط

ص: 217


1- تقدم في ص 213.
2- الصحاح، ج 2، ص 1093، «غرض».

.....

-----

ما تساويا فيه من الإصابة يتحقق مع شرط المبادرة، ومع ذلك فالمقصود من معناهما غير حاصل من اللفظ.

والأسد في تعريفهما ما أشرنا إليه سابقاً من أن المبادرة هي اشتراط استحقاق العوض لمن بدر إلى إصابة عدد معين من مقدار رشق معيّن مع تساويهما فيه.

والمحاطة هى اشتراط استحقاقه لمن خلص له من الإصابة عدد معلوم بعد مقابلة إصابات أحدهما بإصابات الآخر وطرح ما اشتركا فيه.

فإذا كان شرط الرشق عشرين فرمياها وأصاب أحدهما خمسة والآخر أربعة فالأوّل ناضل على الأوّل. ولو أصاب كلّ منهما خمسةٌ فلا نضل لأحدهما. ولو أصاب الرامي أو لا خمسة وبقي للثاني عدد يمكن فيه لحوقه في الإصابة لم يتحقق نضل الأوّل إلى أن يرمي الثاني تمام عدده، فيمكن أن يصيب فيمنع الأوّل من الاستحقاق، و إن يخطئ فيستقر الاستحقاق للأوّل، وسيأتي تفصيله إن شاء الله (1).

وعلى تقدير اشتراط المحاطة لو شرطا عشرين وخلوص خمس إصابات، فرميا عشرين فأصاب أحدهما عشرة والآخر خمسةً فالأول هو السابق؛ لأنهما يتحاطان خمسةً بخمسة، فيفضل للأوّل الخمسة المشترطة. ولو تساويا في الإصابة أو زاد أحدهما دون العدد المشترط فلا سبق.

واعلم أنّ تقسيم المناضلة إلى القسمين هو المشهور بين الفقهاء منا ومن غيرنا، وقد تقدّم نقل العلّامة في التذكرة:

أنّ بعض الفقهاء جعل قسماً ثالثاً لهما و هو الحواب وجعل معناه إسقاط الأقرب من الغرض ما هو الأبعد (2).

ص: 218


1- يأتي في ص 343 وما بعدها.
2- تقدّم في ص 212.

......

------

و في القواعد جعل أقسامها ثلاثة أيضاً، القسمان المذكوران هنا، والمفاضلة، وفسرها بأنّها مثل من فضل صاحبه بإصابة واحد أو اثنين أو ثلاث من عشرين فهو السابق (1). وهذا بعينه هو المحاطة؛ لأنّها لا تختص (2) بشرط فضل شيءٍ معيّن كما تقدم(3). ويعتبر فيها فضل السابق على المسبوق بالعدد المشترط؛ ليتحقق معنى الحط المأخوذ في المحاطة. مع أنه صرّح في التحرير بأنّ المفاضلة مرادفة للمحاطة، فقال فيه:

لو قالا: أينا فضل صاحبه بثلاث من عشرين فهو سابق فهو محاطة، ويسمّى أيضاً مفاضلة (4).

وهذا هو الظاهر من معناها لغة واصطلاحاً.

ص: 219


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 380.
2- في بعض النسخ: «إلّا أنّها تختص» بدل «لأنها لا تختص».
3- تقدّم في ص 218.
4- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 181، الرقم 4408.

[الفصل] الثاني فيما يسابق به

● ويقتصر في الجواز على النصل والخفّ والحافر؛ وقوفاً على مورد الشرع.

------

قوله: «ويقتصر في الجواز على النصل والخفّ والحافر؛ وقوفاً على مورد الشرع».

يظهر من التعليل أنّ هذا العقد مخالف للأصل، فيقتصر في جوازه على مورد الشرع الإذن فيه، و هو الثلاثة المذكورة. وإنما كان مخالفاً للأصل؛ لاشتماله على اللهو واللعب والقمار على بعض الوجوه، فالأصل أن لا يصح منه إلا ما ورد الشرع بالإذن فيه، و هو الثلاثة المذكورة.

ويمكن أن يقال: إن عموم الأمر بالوفاء بالعقود (1)، وإجماع الأمة على جوازه في الجملة كما نقله جماعة من الفقهاء (2) - ووجود الغاية الصحيحة بل ما هو أفضل الغايات و هو الاستعداد للجهاد، والاستظهار في الجلاد لأعداء الدين وقطاع الطريق وغيرهم من المفسدين - يقتضي جوازه مطلقاً، لكن قوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «لا سبق إلا في نصل أو خفّ» (3) إلى آخره يقتضي النهي عمّا عدا الثلاثة، فتبقى هي على أصل الجواز؛ نظراً إلى الأدلة العامة، وهذا أجود.

وأيضاً فإنّ الغرض الأقصى منه لما كان هو الاستعداد للجهاد، و هو منحصر غالباً في هذه الثلاثة اقتصر عليها وألغى النادر. والتعليل الوسط أوسط.

ص: 220


1- المائدة (5): 1.
2- منهم ابن ادريس في السرائر، ج 3، ص 147؛ وابن فهد الحلّي في المهذب البارع، ج 3، ص 81.
3- تقدم تخريجه في ص 205، الهامش 3.

● ويدخل تحت النصل السهم والنشاب، والحراب، والسيف.

● ويتناول الخف الإبل والفيلة اعتباراً باللفظ.

------

قوله: «ويدخل تحت النصل السهم والنساب والحراب والسيف».

المعروف أنّ السهم هو النشاب، و في الصحاح: النشاب: السهام (1). فظاهره أنهما مترادفان، وعلى هذا فعطف «النسّاب» على «السهم» من عطف المترادف و إن اختلفا بالجمع والإفراد، من قبيل ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ (2).

ويمكن أن يختص أحدهما أو كلُّ منهما بنوع خاص أو بلغة، كما قيل: إنّ السهم للعرب، والنساب للعجم (3).

واعلم أنّ حصر النصل فيما ذكر هو المعروف لغةً وعرفاً، فلا يدخل فيه مطلق المحدّد كالدبوس، وعصا المداقق إذا جعل في رأسها حديدة و نحو ذلك، عملاً بالأصل السابق. قال في الصحاح: النضل نصل السهم والسيف والسكين والرمح (4).

و يحتمل الجواز بالمحدّد المذكور؛ إما بادعاء دخولها في النصل، أو لإفادتها فائدة النصل في الحرب. وقد كان بعض مشايخنا المعتمدين (5) يجعل وضع الحديدة في عصا المداقق حيلة على جواز الفعل؛ نظراً إلى دخوله بذلك في النصل.

قوله: «ويتناول الخفّ الإبل والفيلة اعتباراً باللفظ».

لا خلاف في جواز المسابقة على الإبل؛ لمشاركتها الخيل في المعنى المطلوب منها حالة الحرب من الانعطاف وسرعة الإقدام ولأنّ العرب تقاتل عليها أشد القتال، وهي داخلة في الخفّ.

ص: 221


1- الصحاح، ج 1، ص 224، «نشب».
2- البقرة (2): 157.
3- من القائلين به الشيخ في المبسوط، ج 6، ص 290؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 147.
4- الصحاح، ج 3، ص 1830، «نصل».
5- في حاشية «ي، و»: «هو السيد حسن ابن السيد جعفر الحسيني (قدس سره). (منه رحمه الله)».

● و کذا يدلّ الحافر على الفرس والحمار والبغل.

● و لا يجوز المسابقة بالطيور، و لا على القدم، و لا بالسفن، و لا بالمصارعة.

------

وأما الفيلة فهي كذلك عندنا وعند أكثر العامة؛ لدخولها تحت اسم الخفّ أيضاً، ويقاتل عليها كالإبل.

و ذهب بعضهم إلى المنع منها؛ لأنّه لا يحصل بها الكرّ والفرّ، فلا معنى للمسابقة عليها (1)، والخبر حجّتنا عليهم.

وقول المصنف «اعتباراً باللفظ» تعليل لدخول الفيلة في اسم الخف؛ رداً على المخالف، واستناداً إلى دخوله في لفظ «الخفّ» كما ذكرناه.

قوله: «و کذا يدلّ الحافر على الفرس والحمار والبغل».

لا خلاف عندنا في جواز المسابقة على الثلاثة؛ لدخولها تحت الحافر، وصلاحيتها للمسابقة عليها في الجملة. و خالف بعض العامة في جوازها على الأخيرين؛ لأنهما لا يقاتل عليهما غالباً، و لا يصلحان للكرّ والفرّ(2). والنص حجّة عليه.

قوله: «و لا يجوز المسابقة بالطيور و لا على القدم و لا بالسفن و لا بالمصارعة».

وجه المنع من هذه الأمور الحصر المستفاد من الخبر السابق (3) المقتضي لنفي مشروعية ما عدا الثلاثة، والنهي عنه الشامل لهذه الأمور وغيرها، ولأنها ليست من آلات الحرب و لا مفيدة للحذق فيه.

والمنع منها مع العوض موضع وفاق عندنا.

و ذهب بعض العامة إلى جواز المسابقة بالجميع (4)؛ لأنّ الطيور ممّا يمكن الاحتياج إليها

ص: 222


1- قاله بعض الحنابلة على ما حكاه ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 130. المسألة .7906
2- خالف فيه بعض الحنابلة، كما في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 130، المسألة 7906.
3- سبق تخريجه في ص 205 الهامش 3.
4- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص128.

......

------

في الحروب لحمل الكتب، واستعلام أحوال العدو وأخباره، فيحتاج إلى معرفة السابق منها. ومثله السبق بالأقدام، والسفن إذا وقع الحرب في البحر، وقد يقع الرهان في المصارعة فيستفيد العالم بها السلامة من العدو بها. ورووا عن النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ أنه سابق عائشة بالقدم مرتين، سُبقَ في إحداهما، وسَبَق في الأُخرى (1)، ورواه ابن الجنيد في كتابه الأحمدي، واستدلّ به على جوازها بغير عوض حيث لم يذكر العوض، وأنه صارع ركانة (2) ثلاث مرات كلّ مرّة على شاة، فصرع خصمه في الثلاث وأخذ منه ثلاث شياه (3). و لم يثبت ذلك عندنا، والخبر السابق المتفق عليه يدفعه.

ولو خلت هذه الأمور و نحوها من العوض ففي جوازها قولان (4)، مأخذهما عموم النفي السابق (5) الشامل للعوض وغيره، وأصالة الجواز، وأنها قد يراد بها غرض صحيح.

وقد عرفت أن المشهور في الرواية فتح «الباء» من «سَبَق» فيفيد نفي مشروعية بذل العوض، و لا تعرّض فيها لما عداه فيبقى على أصالة الجواز وعلى رواية السكون (6) المفيد لنفي المصدر مطلقاً يدلّ على المنع ممّا عدا المستثنى مطلقاً. ويرجح الأول مع الشهرة - أنّ احتمال الأمرين يرفع دلالتها على المنع مطلقاً، فيبقى أصالة الجواز خالية عن المعارض، مضافاً إلى ما ذكر من الفوائد المترتبة عليها وغيرها، وبذلك يخرج عن اللهو واللعب.

ص: 223


1- مسند أحمد، ج 7، ص 377، ح 25745؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 29 - 30، ح 2578.
2- في حاشية «و»: «في التذكرة يزيد بن ركانة، و في شرح المنهاج للمحلّى ركانة، وكذلك في سيرة ابن هشام، و هو أجود. (منه رحمه الله)». راجع تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 16، المسألة 887؛ وسيرة ابن هشام، ج 2، ص 41.
3- السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 32، ح 19761.
4- من القائلين بعدم الجواز مطلقاً ابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 147 والعلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 164، الرقم 4381؛ والقول بالجواز حكي عن بعض العامة في المجموع شرح المهذب، ج 15، ص 137.
5- سبق في ص 205.
6- المبسوط ج 4، ص 688.

[الفصل] الثالث عقد المسابقة والرماية

اشارة

● و هو يفتقر إلى إيجاب وقبول . و قيل: هي جعالة، فلا تفتقر إلى قبول ويكفي البذل. وعلى الأوّل فهو لازم كالإجارة. وعلى الثاني هو جائز، شرع فيه أو لم يشرع.

------

قوله: «و هو يفتقر إلى إيجاب وقبول. و قيل: هي جعالة، فلا تفتقر إلى قبول» إلى آخره.

اختلف الأصحاب وغيرهم في لزوم عقد المسابقة وجوازه، فذهب المصنّف وقبله ابن إدريس (1) وجماعة (2) إلى لزومه؛ لعموم: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (3)، و«المؤمنون عند شروطهم» (4). و ذهب الشيخ (5) والعلّامة في المختلف (6) إلى جوازه؛ لأصالة عدم اللزوم، مع القول بموجب الآية؛ فإنّ الوفاء بالعقد العمل بمقتضاه من جواز ولزوم، وقد تقدّم تحقيقه (7).

ومنشأ الخلاف أنّها عقد يتضمّن عوضاً على عمل، و هو مشترك بين الإجارة والجعالة. إنّها مشتملة على اشتراط العمل فى العوض، وكونه معلوماً و هو من خواص الإجارة

7

ص: 224


1- السرائر، ج 3، ص 149.
2- منهم الفاضل الآبي في كشف الرموز، ج 2، ص 62: والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 375.
3- المائدة (5) 1.
4- تقدم تخريجه في ص 71، الهامش 5.
5- المبسوط، ج 4، ص 702؛ الخلاف، ج 6، ص 105، المسألة 9.
6- مختلف الشيعة، ج 6، ص 219، المسألة 177.
7- تقدّم في ص 174 - 175.

......

------

وعلى جواز إيهام العامل في السبق وعلى ما لا يعلم حصوله من العامل، وعلى جواز بذل الأجنبي، و هو من خواص الجعالة. فوقع الاختلاف بسبب ذلك، فعلى القول بأنّها جعالة يلحقها أحكامها من الاكتفاء بالإيجاب والجواز وعلى القول بالإجارة يفتقر معه إلى القبول، وتكون لازمة.

ويمكن أن يجعل عقداً برأسه؛ نظراً إلى تخلّف بعض خواصها عن كلّ من الأمرين على حدته كما عرفت، ويقال حينئذ بلزومها؛ لعموم الآية (1)، وهذا أجود. اللهم إلا أن يناقش بأن الجعالة ليست عقداً، فلا تتناول الآية لها ولنظائرها، ويرجع إلى أصالة عدم اللزوم؛ حيث يقع الشك في كون المسابقة عقداً أم لا.

واعلم أنّ المصنّف جعل مورد الخلاف كونها عقداً يفتقر إلى إيجاب وقبول، أو إيقاعاً فلا يفتقر إلى القبول، ورتب على الأوّل اللزوم، وعلى الثاني الجواز. وبعض الفقهاء (2) عكس فجعل مورد الخلاف أنه عقد لازم أو جائز، ورتب على اللزوم كونها إجارة، وعلى الجواز كونها جعالة .

و في الحقيقة كلّ واحد من التعريفين أعم من المدعى؛ إذ لا يلزم من كونها عقداً لزومه؛ لأنّ العقد ينقسم إلى اللازم والجائز، والمتردّد، و لا يلزم من كون عقدها جائزاً كونها جعالة؛ لجواز أن يكون عقداً مفتقراً إلى الإيجاب والقبول مع كونه جائزاً كالمضاربة.

ولعلّ ما فرضه المصنف أولى؛ لأن مَنْ جعلها عقداً يمكن استدلاله على لزومه بعموم ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (3) و إن كانت العقود أعم من اللازمة، ومَنْ جعلها إيقاعاً لا يناسبها إلا الجعالة من أفراد الإيقاعات بالنظر إلى خواصها فناسبها الجواز. وهذا حسن.

ص: 225


1- المائدة (5): 1.
2- كالشيخ في الخلاف، ج 1، ص 105، المسألة 9 والمبسوط ج 4، ص 702.
3- المائدة (5): 1.

● ويصح أن يكون العوض عيناً أو ديناً.

------

و لا يرد عليه ما أورده العلامة في المختلف:

من أنّ الآية لا يراد منها مطلق العقود، وإلا وجب الوفاء بالوديعة والعارية وغيرهما من العقود الجائزة، و هو باطل إجماعاً، فلم يبق إلا العقود اللازمة (1).

فلا ينفع هنا؛ لأنّه المتنازع.

وإنما لم يرد ذلك؛ لأنّ الأمر بالوفاء بالعقود عام في جانب المأمور والمأمور به، فيشمل بعمومه سائر العقود، ثمَّ [بعد] (2) تخصيصه ببعضها وإخراج العقود الجائزة يبقى العموم حجّة في الباقي، كما هو محقق في الأصول (3)، وإنما تنتفي دلالته حينئذ لو جعلناه بعد التخصيص مجملاً غير حجّة في الباقي، و هو قول مردود، و لا يرتضيه العلّامة و لا غيره من المحققين. وأما قوله «إنّ الوفاء بالعقد العمل بمقتضاه من لزوم وجواز» (4)، فهو خلاف الظاهر منه، فإنّ مقتضى الوفاء بالشيء التزامه والعمل بمقتضاه مطلقاً.

قوله: «و يجوز (5) أن يكون العوض عيناً أو ديناً».

قد عرفت أنّ عقد المسابقة لا يفتقر إلى العوض (6)، بل دائرة جوازه بدونه أوسع، لكن على تقدير ذكر العوض يجوز كونه عيناً وديناً، كما في غيره من الأعواض الواقعة في المعاملات. ويعتبر على التقديرين كونه مضبوطاً بالمقدار والجنس والنوع. ويتفرع على كلّ من العين والدين أحكامه اللاحقة له شرعاً من الضمان والرهن عليه وغير ذلك، فإنّه على تقدير كونه عيناً لا يصح الرهن عليه؛ لتعذر أخذها من الرهن و لا ضمانها إلا إذا جوّزنا ضمان الأعيان المضمونة مطلقاً. وعلى تقدير كونه ديناً يصح الرهن عليه حيث يكون لازماً، وضمانه

ص: 226


1- مختلف الشيعة، ج 1، ص 219، المسألة 177.
2- ما بين المعقوفين أثبتناه من إحدى الحجريتين.
3- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول، ج 2، ص 223 - 225.
4- يعني قول العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 219، المسألة 177. وقد تقدم في ص 224.
5- في المتن: «يصح» بدل «يجوز».
6- تقدّم في ص 223.

● و إذا بذل السبق غير المتسابقين صح إجماعاً، ولو بذله أحدهما أو هما صح عندنا ولو لم يدخل بينهما محلّل ولو بذله الإمام من بيت المال جاز؛ لأن فيه مصلحة.

------

بشرطه. وكذلك يجوز كونه حالاً ومؤجّلاً، منهما ومن أحدهما وبالتفريق.

قوله: «و إذا بذل السبق غير المتسابقين صح إجماعاً» إلى آخره.

إذا تضمن عقد المسابقة مالاً فإما أن يخرجه المتسابقان معاً، أو أحدهما، أو ثالث هو الإمام، أو غيره، فالأقسام أربعة:

الأوّل: أن يخرج المال الإمام، و هو جائز إجماعاً منا ومن غيرنا، سواء كان من ماله أو من بيت المال؛ لأن النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ سابق بين الخيل وجعل بينها سَبَقاً (1)، ولأن ذلك يتضمّن حقاً على تعلّم الجهاد والفروسية، وإعداد أسباب القتال، وفيه مصلحة للمسلمين وطاعة وقربة، فكان سائغاً.

الثاني: أن يكون المخرج غير الإمام، و هو جائز أيضاً عندنا وعند أكثر العامة؛ لأنه بذل مال في طاعة وقربة وطريق مصلحة للمسلمين فكان جائزاً، بل يثاب عليه مع نينه، كما لو اشترى لهم خيلاً وسلاحاً وغيرها مما فيه إعانتهم على الجهاد.

وقال بعض العامة: لا يجوز أن يخرج المال غير المتسابقين إلا الإمام: لاختصاص النظر في الجهاد به (2).

وضعفه ظاهر؛ لأنّ تهيئة أسباب الجهاد غير مختصة به، وعموم الأخبار المسوّغة له في الأصل متناولة لموضع النزاع.

الثالث: أن يخرج المال أحد المتسابقين، بأن يقول أحدهما لصاحبه: «إن سبقت فلك عليّ عشرة، و إن سبقتُ أنا فلا شيء لي عليك». و هو جائز عندنا أيضاً للأصل، وانتفاء المانع.

ص: 227


1- سنن أبي داود، ج 3، ص 29، ح 2575 – 2577.
2- قال به من العامة مالك بن أنس على ما في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 131، المسألة 7907؛ والمجموع شرح المهذب، ج 15، ص 135.

● ولو جعلا السبق للمحلل بانفراده جاز أيضاً. و کذا لو قيل مَنْ سبق منّا فله السبق؛ عملاً بإطلاق الإذن في الرهان.

------

وقال المانع من العامة في السابق: «لا يصح هنا أيضاً» (1)؛ لأنه قمار.

ويندفع على تقدير تسليمه - بخروجه عنه بالنصّ السابق المتفق عليه الشامل لموضع النزاع.

الرابع: أن يخرجه المتسابقان معاً، بأن يخرج كلّ منهما عشرة مثلاً على أن يحوزهما السابق. و هو جائز أيضاً مطلقاً على الأشهر.

وقال ابن الجنيد:

لا يجوز إلا بالمحدّل، بأن يكون بينهما ثالث في السباق إن سبق أخذ السبقين معاً، و إن سبق لم يغرم (2).

أخذاً بظاهر رواية عاميّة عن النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ (3)، ودلالتها وحجيتها ممنوعتان.

إذا تقرر ذلك فقول المصنف «إذا بذل السبق غير المتسابقين صح إجماعاً» يشمل ما لو كان الباذل الإمام وغيره. وقد عرفت أنّ موضع الإجماع ما لو كان الباذل الإمام لا غيره.

وقوله «أو هما صح عندنا» ليس على إطلاقه أيضاً؛ لمنع ابن الجنيد منه (4)؛ كالشافعي (5) فكأنه ما اعتبر خلافه في ذلك، وليس بذلك الجيد.

قوله: «ولو جعلا السبق للمحلّل بانفراده جاز أيضاً» إلى آخره.

المعتبر جعل المال على تقدير بذله للسابق منهما، أو من أحدهما، أو من المحلل.

ص: 228


1- قال به من العامة مالك بن أنس على ما في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 131، المسألة 7907؛ والمجموع شرح المهذب، ج 15، ص 135.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 220، المسألة 179.
3- مسند أحمد، ج 3، ص 300، ح 10179؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 30، ح 2579.
4- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 220، المسألة 179.
5- الأم. ج 4، ص 326.

شروط المسابقة

● و تفتقر المسابقة إلى شروط خمسة: تقدير المسافة ابتداءً وانتهاء. وتقدير الخطر. وتعيين ما يسابق عليه. وتساوي ما به السباق في احتمال السبق، فلو كان أحدهما ضعيفاً، تيقّن قصوره عن الآخر لم يجز. و إن يجعل السبق لأحدهما أو للمحلّل، ولو جعل لغيرهما لم يجز.

------

فإن عيّناه للمحلل خاصةً على تقدير سبقه جاز واختص به إن سبقهما. و إن سبق أحدهما لم يستحق شيئاً. و کذا لو سبق أحدهما والمحلّل؛ لعدم تحقق الشرط و هو سبق المحلّل، إلا أن يشترطا ما يشمل ذلك، فيستحق بحسب الشرط، كما لو شرطا أنه إن سبق استحق، و إن سبق مع أحدهما اختص دون رفيقه، أو أنه إن سبق مع أحدهما استحق مال الآخر وأحرز رفيقه ماله ولو أطلقا استحقاق السابق منهما ومن المحلّل صح أيضاً؛ عملاً بإطلاق الاذن في الأخبار (1) الشامل لذلك.

قوله: «وتفتقر المسابقة إلى شروط خمسة» إلى آخره.

لما كان عقد المسابقة من عقود المعاوضات و إن لم تكن محضةً فلابد فيه من الضبط الرافع للجهالة، الدافع للغرر، المحصل للغاية المطلوبة منه، و لا يتم ذلك إلا بأمور ذكر المصنّف منها خمسةً، وجعلها في التذكرة اثني عشر (2)، ونحن نشير إليها جملة، مبتدئين بما ذكره المصنّف منها:

الأوّل: تقدير المسافة ابتداءً وانتهاء، فلو لم يعيناهما أو أحدهما بأن شرطا المال لمن يسبق منهما حيث يسبق - لم يجز؛ لأنه إذا لم يكن هناك غاية معيّنة فقد يديمان السير حرصاً ويتعبان فتهلك الدابة، ولأنّ من الخيل ما يقوى سيره في ابتداء المسافة ثمَّ يأخذ في الضعف و هو عتاق الخيل، وصاحبه يبغى قصر المسافة، ومنها ما يضعف فى الابتداء ثمَّ يقوى ويشتد في الانتهاء، و هو هجانها، وصاحبه يبغي طول المسافة، فإذا اختلف الغرض

ص: 229


1- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 254، الباب 4 من أبواب كتاب السبق والرماية.
2- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 18، المسألة 890.

......

------

فلا بد من الإعلام والتنصيص على ما يقطع النزاع، كما يجب التنصيص على تقدير الثمن في البيع والأجرة في عقد الإجارة؛ إذ السبق أحد العوضين هنا. وعلى هذا فلو استبقا بغير غاية لينظر أيهما يقف أو لا لم يجز؛ لما ذكر.

الثاني: تقدير الخطر - و هو المال الذي تسابقا عليه - جنساً وقدراً؛ لأنّه عوض عن فعل محلّل فيشترط فيه العلم كالإجارة. فلو شرطا مالاً و لم يعيناه، أو تسابقا على ما يتفقان عليه، أو على ما يحكم به زيد بطل العقد؛ للغرر وإفضائه إلى التنازع المخالف الحكمة الشارع.

ويجيء على قول من يجعلها جعالة جواز الجهالة في العوض على بعض الوجوه، و ذلك حيث لا يمنع من التسليم، و لا يفضي إلى التنازع، كجعل عبده الفلاني أو جزء منه و لا يعلمانه أو أحدهما - لمن سبق وقد تقدّم أن المال ليس شرطاً في عقد المسابقة (1)، بل يعتبر ضبطه على تقدير اشتراطه.

الثالث: تعيين ما يسابق عليه بالمشاهدة؛ لأنّ المقصود من المسابقة امتحان الفرس؛ ليعرف شدّة سيره وتمرينه على العدو، و ذلك يقتضي التعيين. و في الاكتفاء بالوصف وجه ضعيف؛ لعدم إفادته الغرض منه؛ إذ لا يتم إلا بالشخص بخلاف نحو السلم؛ لأن الغرض فيه متعلّق بالكلّى.

وحيث يعيّنان الفرسين لا يجوز الإبدال و إن قيل بجواز العقد؛ لأنه خلاف المشروط.

الرابع: تساوي ما به السباق في احتمال السبق؛ لأن الغرض الاستعلام وإنّما يتحقق مع احتمال سبق كلّ منهما؛ إذ لو علم سبق واحدة لم يكن للاستعلام فائدة.

والمراد بالتساوي في احتمال السبق قيام الاحتمال في كل واحدة و إن ترجّح أحدهما على الآخر، لا تكافؤ الاحتمالين كما يظهر من العبارة.

ص: 230


1- تقدّم في ص 223 و 226.

......

------

و في تمثيله بما لو كان أحدهما ضعيفاً يتيقن قصوره عن الآخر تنبيه على ما فسرنا به، وعلى هذا لا يبطل إلا مع القطع بسبق أحدهما.

الخامس: أن يجعل السبق لأحدهما أو للمحلل، فلو جعل لغيرهما لم يجز؛ لأنه مفوّت للغرض من عقد المسابقة؛ إذ الغرض التحريص في طلب العوض. و کذا لو جعل للمسبوق؛ لأنّ كلّاً منهما يحرص على كونه مسبوقاً؛ ليحصل العوض فيفوت الغرض. و کذا لا يجوز جعل القسط الأوفر للمسبوق، و يجوز العكس؛ لحصول الغرض في الجملة بالنسبة إلى الزيادة، كما يجوز جعلها خاصةً عوضاً. فهذه جملة ما اعتبره المصنّف من الشروط والذى زاده في التذكرة:

السادس: تساوي الدابتين في الجنس، فلا يجوز المسابقة بين الخيل والبغال و لا بين الإبل والفيلة، و لا بينها وبين الخيل؛ لأنه مناف للغرض من استعلام قوّة الفرس وتمرينها مع السباق مع جنسها. ولو تساويا جنساً لا وصفاً كالعربي والبرذون والبختي والعرابي فالأقوى الجواز لحصول الشرط، و هو احتمال سبق كلّ منهما؛ لأنه المفروض، ولتناول اسم الجنس لهما.

و وجه العدم بعد ما بين الصنفين كتباعد الجنسين. و هو بعيد.

السابع: إرسال الدابتين دفعةً، فلو أرسل أحدهما دابته قبل الآخر ليعلم هل يدركه أم لا لم يجز؛ لأنّه مناف للغرض من العقد؛ لأنّ السبق ربما كان مستنداً إلى إرسال أحدهما أوّلاً. وأيضاً فإنّ استعلام إدراك الآخر للأوّل غير استعلام السبق فلا يجوز العقد عليه.

الثامن: أن يستبقا على الدابتين بالركوب، فلو شرطا إرسال الدواب لتجري بنفسها فالعقد باطل؛ لأنّها تتنافر بالإرسال و لا تقصد الغاية، بخلاف الطيور إن جوّزنا المسابقة عليها؛ لأنّ لها هداية إلى قصد الغاية.

التاسع: أن يجعلا المسافة بحيث يحتمل الفرسان قطعها و لا ينقطعان دونها، فلو كانت بحيث لا ينتهيان إلى غايتها إلا بانقطاع وتعب شديد بطل العقد.

ص: 231

● و هل يشترط التساوي في الموقف؟ قيل: نعم. والأظهر لا؛ لأنه مبنى على التراضي.

------

العاشر: أن يكون ما ورد عليه العقد عدة للقتال فإنّ المقصود منه التأهب له، فلا يجوز السبق والرمي من النساء؛ لأنهن لسن من أهل الحرب.

الحادي عشر: العقد المشتمل على أركانه المعتبرة فيه (1).

وقد تقدّم في كلام المصنّف ما يدلّ عليه (2).

الثاني عشر: عدم تضمّن العقد شرطاً فاسداً، فلو قال: «إن سبقتني فلك هذه العشرة، و لا أرمي بعد هذا أبداً، أو لا أناضلك إلى شهر» بطل العقد؛ لأنه شرط ترك قربة مرغب فيها ففسد وأفسد (3).

قوله: «و هل يشترط التساوي في الموقف؟ قيل: نعم» إلى آخره.

وجه الاشتراط ما عرفته من أن الغرض الذاتي من المسابقة معرفة جودة عذو الفرس وسبقه وفروسية الفارس، و هو منتفٍ مع عدم التساوي؛ لأنّ عدم السبق قد يكون لما بينهما من المسافة فيخل بمقصود العقد.

والأقرب عدمه؛ لما أشار إليه من أنّه عقد مبني على التراضي وقد حصل، مضافاً إلى أصالة عدم الاشتراط، وإطلاق الأخبار الدالة على الإذن فيه الشامل لموضع النزاع. والتفاوت الحاصل بين الموقفين إن حصل معه احتمال السبق من كلّ منهما لم يضر عروض التخلّف، وإلا كان المانع فقد ذلك الشرط الذي قد اتفق على اعتباره.

والفرق بين هذه المسألة ومسألة إرسال إحدى الدابتين قبل الأخرى - حيث منع منه ثُمَّ وجوزت هذه - أنّ التفاوت بين الموقفين هنا مضبوط يمكن معه رفع الجهالة عما هو في حكم العوض، بخلاف إرسال إحدى الدابتين قبل الأخرى فإنّ المنع منه موجّه إلى

ص: 232


1- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 26 - 27، المسألة 892.
2- تقدّم في ص 224.
3- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 28، المسألة 892.

شروط المراماة

● وأما الرمي فيفتقر إلى العلم بأمور ستة: الرشق، وعدد الإصابة، وصفتها، وقدر المسافة، والغرض، والسبق.

------

الإطلاق كما ذكر؛ إذ لو انضبط موقف المرسلة أو لا بالنسبة إلى المتأخرة لكانت هي هذه المسألة.

قوله: «وأما الرمي فيفتقر إلى العلم بأمور ستة» إلى آخره.

المراد بالستة ما عده من قوله «الرشق - إلى قوله والسبق».

فالأوّل من الستة: العلم بالرشق، وقد تقدّم أنّه عدد الرمي (1) فيعتبر العلم به؛ لأنّه العمل المقصود والمعقود عليه؛ ليكون غاية رميها معلومةً منتهية إليه. فلو لم يعيّن أمكن أن يطلب المسبوق الرمي بمقتضى العقد ليلحق أو يسبق ويمتنع الآخر، فيحصل التنازع على وجه لا سبيل إلى دفعه، و لا غاية يتفقان عليها، و ذلك خلاف حكمة الشارع المضبوطة في مثل ذلك.

وفصل بعضهم (2) فاشترط العلم به في المحاطة دون المبادرة محتجاً بأن المراد في المحاطة خلوص إصابة العدد المشترط بعد مقابلة الإصابات من الجانبين من عدد يجب إكماله، فلا بد من تعيينه، وإلا لأفضي إلى الجهالة بخلاف المبادرة؛ لأنّ الاستحقاق فيها متعلّق بالبدار إلى إصابة العدد المعتبر حيث اتفق و لا يجب إكمال العدد المشروط فلا حاجة إلى تعيينه. والاشتراط مطلقاً أقوى؛ لما ذكر سابقاً.

الثاني: عدد الإصابة، كخمس إصابات من عشرين رمية؛ لأنّ الاستحقاق بالإصابة وبها يتبين حذق الرامي وجودة رميه، ولأن معرفة الناضل من المنضول، وصفة الإصابة إنّما تتبين بها. فلو عقدا على أن يكون الناضل منهما أكثرهما إصابةً من غير بيان العدد لم يصح عندنا، كما لو جعلا المسابقة على الخيل إلى غير غاية. وأكثر ما يجوز اشتراطه من الإصابة

ص: 233


1- تقدّم في ص 211.
2- كفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 270 - 271.

......

------

ما ينقص عن عدد الرشق المشروط بشيءٍ و إن قلّ؛ ليكون تلافياً للخطإ الذي يتعذر أن يسلم منه المتناضلون، وأحذق الرماة في العرف من أصاب تسعة من عشرة، فلو شرطاها كذلك جاز لبقاء سهم الخطا، وربما قيل بعدمه؛ لندوره. وأقل ما يشترط من الإصابة ما يحصل به التفاضل و هو ما زاد على الواحد.

الثالث: صفتها من مرق أو خزق أو ازدلاف أو غيرها من الصفات المتقدمة وغيرها؛ لاختلاف الأغراض فيها، واختلافها بالشدة والضعف، فقد يقدر بعضهم على بعضها أزيد من الآخر، فيكون ترك التعيين غرراً.

و قيل: لا يشترط، ويحمل الإطلاق على الإصابة مطلقاً؛ لأنّه المقصود حقيقةٌ، والقدر المشترك بين الجميع، ويعبّر عنه بالقارع المصيب للغرض كيف كان، وكذلك المعنى الحاصل بالخازق على بعض معانيه كما عرفته.

وهذا هو الأقوى؛ لأصالة البراءة من اعتبار التعيين مع حصول،الغرض، والغرر مع إرادة مطلق الإصابة ممنوع.

الرابع: قدر المسافة التي يرميان فيها، وهي ما بين موقف الرامي والهدف أو ما في معناه؛ لأنّ الإصابة تكثر مع قربها، وتقل مع بعدها، والأغراض تختلف باختلافها، والتعيين يرفع النزاع ويكشف الحال ويحصل بأمرين: المشاهدة وذكر المساحة.

و يحتمل الاكتفاء بالإطلاق وحمله على العادة الغالبة للرماة في ذلك الموضع، ويقرب ذلك مع غلبة العادة، أما مع عدمها أو اضطرابها فلا.

وحيث يعتبر تعيين ما يحتمل الإصابة منه بحسب حال المتعاقدين، فلو عيّنا مسافةٌ لا يحتمل إصابتهما منها و إن احتمل في غيرهما بطل، ولو كانت منهما نادرة فالأقوى الصحة .

الخامس: الغرض؛ لأنّه المقصود بالإصابة. ويحصل العلم به بأمرين:

[الأوّل]: موضعه من الهدف في ارتفاعه وانخفاضه؛ لأنّ الإصابة في المنخفض أكثر منها في المرتفع.

ص: 234

● وتماثل جنس الآلة.

------

والثاني: قدره في ضيقه وسعته؛ لأنّ الإصابة في الواسع أكثر منها في الضيق.

السادس: قدر السبق - بالفتح - أي العوض المبذول للسابق (1)؛ حذراً من الغرر في المعاملة كغيره من الأعواض، فإن أغفلا ذكره أو جعلاه مجهو لا بطل العقد.

وسيأتي حكمه بالنسبة إلى ثبوت أُجرة المثل وعدمها (2).

قوله «وتماثل جنس الآلة».

هو - بالجرّ عطفاً على العلم بالأمور الستة - خارج عنها، والعبارة في قوة افتقار الرمي إلى أمرين: أحدهما: العلم بالأمور الستة. والثاني: تماثل جنس الآلة.

وقد وقع بسبب ذلك اشتباه على بعضهم فتوهمه مندرجاً فيما يجب أن يُعلم، ووجده سابعاً زائداً في العدد.

والصواب ما ذكرناه، وإنّما فصله عنها؛ لأنّه ممّا يفتقر إليه في العقد لا ممّا يجب أن يعلم بخلاف الستة.

إذا تقرر ذلك: فالمراد ب- «تماثل جنس الآلة» تماثل ما يرميان به من القوس في الصنف كالعربي الخاص ومن السهم؛ لاختلاف الرمي باختلافه، فيجب ضبطه حذراً من الجهالة، ولأنّ اختلافها بمنزلة اختلاف حيو إن السباق، كالخيل والبغال.

و قيل: لا يشترط التعيين، و لا يضر اختلاف النوع، و يجوز إطلاق العقد مجرّداً عنه، وإنّما يلزم مع اشتراطه ثمَّ إن كان هناك عرف معيّن حمل الإطلاق عليه، وإلا كان الخيار لهما فيما يتفقان عليه (3).

وهذا هو الأقوى.

وحيث يشترط التعيين أو يشترطانه لا يجوز لأحدهما العدول عن المشروط إلا برضى

ص: 235


1- راجع لسان العرب، ج 10، ص 151، «سبق».
2- يأتي في ص 246 وما بعدها.
3- لم نعثر .

● و في اشتراط المبادرة والمحاطة تردّد، و الظاهر أنّه لا يشترط.

------

صاحبه، فيجوز؛ لأنّ موجب الشرط أن يلتزمه كلّ واحد في حق صاحبه ما لم يرض بإسقاط حقه.

قوله: «و في اشتراط المبادرة والمحاطة تردّد، و الظاهر أنّه لا يشترط».

قد عرفت معنى المبادرة والمحاطة واختلاف مفهومهما وفائدتهما (1). وقد اختلف الفقهاء في اشتراط تعيين أحدهما في العقد وعدمه مع الاتفاق على أن الإطلاق على تقدير صحته منزل على إحداهما بعينها، فالمصنّف وجماعة (2) ذهبوا إلى عدم الاشتراط؛ لأصالة عدمه مع انتفاء الدليل عليه.

وعليه فهل ينزل الإطلاق على المحاطة أو المبادرة؟ قولان (3)، أشهرهما الأوّل؛ لأنّ اشتراط السبق إنّما يكون لإصابة معيّنة من أصل العدد المشترط في العقد، و ذلك يقتضي إكمال العدد كلّه؛ لتكون الإصابة المعينة منه؛ فإنّهما إذا عقدا على أنّ مَنْ أصاب خمسةٌ من عشرين كان له كذا، فمقتضاه رمي كلّ منهما العشرين، وإلا لم يتحقق كون الخمسة التي حصلت الإصابة بها من العشرين، و ذلك هو معنى المحاطة؛ إذ المراد بها خلوص إصابة الخمسة من رمي العشرين لواحد؛ ولأنها أجود فائدة في الرمي حيث يعتبر اكمال العدد غالباً بخلاف المبادرة.

و قيل: يحمل الإطلاق على المبادرة؛ لأنّها الغالب في المناضلة (4)، ولأنّ المتبادر من

ص: 236


1- راجع ص 217 وما بعدها.
2- منهم الفاضل الآبي في كشف الرموز، ج 2، ص 64؛ والعلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 175، الرقم 4394: والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج8، ص 360؛ وحاشية شرائع الإسلام، ج 2، ص 225 (ضمن: حياة المحقق الكركي وآثاره، ج 11).
3- القول بالمحاطة لابن فهد الحلّي في المقتصر، ص 213؛ والقول بالمبادرة للشافعي على ما نسبه إليه ابن فهد في المهذب البارع، ج 3، ص 86؛ وراجع مغني المحتاج، ج 4، ص 399.
4- نسبه إلى قائل أيضاً المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج8، ص 360.

● و کذا لا يشترط تعيين القوس والسهم.

------

اشتراط السبق لمن أصاب عدداً معيناً، استحقاقه إيَّاه متى ثبت له ذلك الوصف وكلاهما ممنوع.

و في التذكرة اختار اشتراط التعرّض في العقد لأحدهما:

لأن حكم كلّ واحد منهما مخالف لحكم الآخر، فإن أهمل بطل العقد لتفاوت الأغراض، فإنّ من الرماة مَنْ تكثر إصابته في الابتداء وتقل في الانتهاء، ومنهم مَنْ هو على عكس ذلك (1).

ولعلّ هذا أجود.

قوله «و کذا لا يشترط تعيين القوس والسهم».

أي لا يشترط تعيين شخصهما؛ لأنّ ذلك تضييق لا فائدة فيه، ولأنه قد تعرض له أحوال خفيّة تحوجه إلى الإبدال، حتى لو عينه لم يتعيّن وجاز الإبدال؛ لما ذكر، كما لو عين الكيل في السلم وعلى هذا فهل يفسد العقد بتعيينه؟ وجهان:

أحدهما الفساد، كما في كلّ شرط فاسد يذكر في العقد، و هو اختيار العلّامة في التذكرة (2).

والثاني: عدمه، بل يكون ذكره لغواً، و هو اختياره في القواعد (3).

ولو قيل بتعينه بالتعيين و إن لم يكن ذكره شرطاً كان حسناً؛ لعموم الأمر بالوفاء به ولإمكان تعلّق الغرض بذلك المعيّن. وتفاوت القوس الشديدة واللينة قريب من تفاوت القوس العربية والعجمية.

ص: 237


1- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 77، المسألة 928.
2- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 68، المسألة 920.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 379.

الفصل الرابع في أحكام النضال

و فيه مسائل:

الأولى: ● إذا قال أجنبى لخمسة: «مَنْ سبق فله خمسة» فتساووا في بلوغ الغاية، فلا شيء لأحدهم؛ لأنه لا سبق ولو سبق أحدهم كانت الخمسة له. و إن سبق اثنان منهم كانت لهما دون الباقين و کذا لو سبق ثلاثة أو أربعة.

------

قوله: «إذا قال أجنبي لخمسة: مَنْ سبق فله خمسة» إلى آخره.

قد تقدّم أنّ النضال عند المصنّف يطلق على ما يشمل السبق والرمي على ما فيه من التجوّز (1)، وقد جرى في هذه الأحكام على ذلك، فذكر أحكاماً مشتركةً بينهما، وبدأ منها بشيءٍ من أحكام السبق.

وحاصل المسألة أنّه إذا قال لجماعة أيكم سبق فله خمسة، فلا يخلو إما أن يسبق واحد منهم خاصةً، أو يستوي الجميع - بأن جاؤوا جميعاً - أو يسبق أكثر من واحد.

ففي الأوّل لا إشكال في استحقاق السابق المال؛ لاختصاصه بالوصف الموجب للاستحقاق، كما لا إشكال في عدم استحقاق أحدهم شيئاً منه في الثاني؛ لانتفاء الوصف عن الجميع؛ إذ لا سابق منهم.

ولو سبق ما فوق واحدٍ فقد حكم المصنّف وجماعة (2) باشتراك السابقين في المال المبذول، فيوزّع عليهم على الرؤوس؛ لأنّ «مَنْ» يحتمل كل فرد فرد من السابقين،

ص: 238


1- تقدّم في ص 210 .
2- منهم الشيخ في المبسوط، ج 4، ص 695؛ والعلّامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 432.

● ولو قال: «مَنْ سبق فله در همان ومَنْ صلّى فله درهم» فلو سبق واحد أو اثنان أو أربعة فلهم الدرهمان. ولو سبق واحد وصلّى ثلاثة وتأخر واحد كان للسابق،در همان وللثلاثة درهم و لا شيء للمتأخّر .

------

و مجموع مَنْ سبق أعم من الواحد والمتعدّد، ومع الاحتمال فالأصل براءة ذمة الباذل ممّا زاد على القدر المبذول فيقتسمه السابقون بالسوية.

و قيل:

يستحق كلّ واحد منهم المال المبذول؛ لأنّ «مَنْ» لمّا كانت من ألفاظ العموم فهي بمعنى كل فرد فرد كما في نظائره من القضايا الكلية، ولأن العوض في مقابلة السبق وقد تحقق من كلّ واحدٍ منهم، فيستحق كمال العوض. وقد حكم المصنف (1) - وغيره (2) - في باب الجعالة بأنّه لو قال: مَنْ دخل داري فله دينار فدخلها جماعة استحق كلّ منهم ديناراً معلّلين بأن كلاً منهم قد صدر منه الفعل المجعول عليه و هو الدخول كاملاً (3).

وهذا بخلاف ما لو قال: «مَنْ ردَّ عبدي» فردّه جماعة؛ لأنّ كلّ واحدٍ لم يتحقق منه الفعل الذي هو الردّ، وإنّما استند إلى المجموع من حيث هو مجموع، فيكون لهم عوض واحد، بخلاف الدخول ومسألتنا من قبيل الدخول؛ لأنّ السبق قد تحقق كاملاً من كل واحد فيستحق كلّ واحد العوض كاملاً. وهذا أقوى.

و لا يقدح فيه كون العوض غير معلوم حالة العقد من حيث إنّه لا يعرف قدر السابقين؛ لأنّ المعتبر العلم بأصل القدر لا من كل وجه، ومن ثُمَّ جاز «مَنْ سبق فله كذا، ومن صلى فله كذا». والوجه فيه أنه عقد متردّد بين الجعالة والإجارة، وهما يحتملان من الغرر ما لا يحتمله غيرهما من عقود المعاوضات.

قوله «ولو قال: من سبق فله در همان - إلى قوله - و لا شيء للمتأخر».

ص: 239


1- راجع ج 9، ص 37.
2- كالشهيد في الدروس الشرعية، ج 3، ص 96 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).
3- قاله المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 340.

الثانية: ● لو كانا اثنين وأخرج كلّ واحدٍ منهما سبقاً وأدخلا محلّلاً وقالا: «أيّ الثلاثة سبق فله السبَقان». فإن سبق أحد المستبقين كان السيقان له على ما اخترناه، و کذا لو سبق المحلّل ولو سبق المستبقان كان لكلّ واحدٍ مال نفسه، و لا شي للمحلل. ولو سبق أحدهما والمحلّل كان للمستبق مال نفسه ونصف مال المسبوق، ونصفه الآخر للمحلل. ولو سبق أحدهما وصلّى المحلّل كان الكل للسابق عملاً بالشرط . و کذا لو سبق أحد المستبقين وتأخر الآخر والمحلل. و کذا لو سبق أحدهما وصلّى الآخر وتأخر المحلل.

------

هذا مبني على ما اختاره من اشتراك المشتركين في الوصف في العوض المعين. وعليه فيمكن استحقاق المصلّي أكثر من السابق بأن يسبق ثلاثة ويصلّي واحد، فيكون للثلاثة در همان، وللمصلّي وحده درهم، و هو خلاف الأمر المعتبر في العقد؛ فإنه يشترط فيه أن يجعل للسابق أزيد ممّا يجعل للمصلي، فلو ساوى بينهما بأن جعل للسابق درهماً - مثلاً - وللمصلّي درهماً لم يصح، فأولى ما لو زاد ومن ثُمَّ احتمل هنا البطلان؛ لأن المقصود من هذا العقد الحثّ على السبق بالتفضيل في الجعل، فإذا احتمل مساواة المصلّي فضلاً عن تفضيله قلّ جد الغريم وحرصه في إجهاد نفسه وفرسه رجاء للسبق؛ فإنّه كما يرجوه زائداً يرجو ما هو أسهل منه كذلك.

ورد بأن استحقاق الزيادة هنا باعتبار التفرد بالوصف، لا باعتبار جعل الفاضل للمتأخر فلا يقدح.

وفيه نظر؛ لمنافاة الغرض المقصود على التقديرين وعلى ما اخترناه من استحقاق كلّ واحد من السابقين القدر المعيّن له فيرتفع الإشكال، و لا يتحقق مساواة المصلّي للسابق فضلاً عن رجحانه عليه.

قوله: «لو كانا اثنين وأخرج كلّ واحدٍ منهما سبقاً - إلى قوله - وتأخر المحلل».

قد عرفت فيما سبق أنّ صور إخراج المال من المستبقين وأحدهما وثالث كلّها جائزة

ص: 240

......

------

عندنا (1)، و إن بعض العامة (2) وابن الجنيد (3) منّا منعا من بعض الصور وإلى الخلاف المذكور أشار بقوله «على ما اخترناه».

إذا تقرر ذلك فعلى تقدير إخراج كلّ من المتسابقين مالاً وإدخالهما محلّلاً بينهما إما أن يسبق أحدهم خاصةً، أو اثنان، أو يستووا في بلوغ الغاية، ويتشعب من ذلك أحوال سبعة:

الأوّل: أن ينتهوا إلى الغاية على السواء، فيحرز كلّ من المتسابقين مال نفسه و لا شيء للمحلل لانتفاء السابق.

الثاني: أن يسبق المخرجان بأن يصلا معاً إلى الغاية، ويتأخر المحلّل عنهما فكذلك؛ لاستوائهما في السبق، و لا شيء للمحلل؛ لأنه مسبوق.

الثالث: أن يسبق المحلّل ويأتي المخرجان بعده على السواء أو مترتبين، فيستحق المحلّل سبق المخرجين لسبقه لهما.

الرابع: أن يسبق أحد المخرجين ثمَّ يأتي بعده المحلّل والمخرج الآخر على السواء. فيحرز السابق العوضين معاً؛ لسبقه.

الخامس: أن يسبق المحلل وأحد المخرجين، بأن يأتيا إلى الغاية على السواء ويتأخر المخرج الآخر، فيحرز السابق من المخرجين مال نفسه ويكون مال المخرج المسبوق بين المخرج السابق والمحلّل؛ لتشاركهما في سبب الاستحقاق، و هو السبق.

السادس: أن يسبق أحد المخرجين المحلّل، فيكون المحلل مصلّياً والمخرج الآخر

ص: 241


1- سبق في ص 227 - 229 .
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 131، المسألة 7907؛ المجموع شرح المهذب، ج 15. ص 135 .
3- الحاكي عنه هو العلامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 220، المسألة 179.

الثالثة ● إذا شرطا المبادرة والرشق عشرين والإصابة خمسة، فرمى كلّ واحد منهما عشرةً فأصاب خمسةً فقد تساويا فى الإصابة والرمي، فلا يجب إكمال الرشق؛ لأنه يخرج عن المبادرة.

ولو رمى كلّ واحد منهما عشرةً، فأصاب أحدهما خمسةً والآخر أربعةً فقد

------

أخيراً، فالمال كلّه للسابق كما مرّ. وقال بعض العامة:

إنّ مال المسبوق من المخرجين للمحلل؛ لأنه سبق المتأخر، ويحرز السابق مال نفسه خاصةً (1).

وغلطوه في ذلك.

السابع: أن يسبق أحد المخرجين المحلل ويكون المخرج الآخر مصلياً والمحلل تالياً. فالسابق يحرز السبقين أيضاً عندنا؛ لما ذكر، وعند ذلك البعض من العامة أنّ للسابق سبق نفسه، وللمسبوق الثاني سبق نفسه، و لا شيء للمحلل (2).

قوله: «إذا شرطا المبادرة والرشق عشرين والإصابة خمسة - إلى قوله - لأنه يخرج عن المبادرة».

قد عرفت أن المبادرة هي اشتراط استحقاق العوض لمن بدر إلى إصابة عدد معين من مقدار رشق معيّن مع تساويهما فيه (3). وحينئذ فإذا رميا رشقاً وتساويا في إصابته لم يتحقق السبق، و لا يجب الإكمال؛ لأنه لو وجب لرجاء السبق في الباقي خرج عن وضع المبادرة إلى المحاطة، وهذا خلاف المفروض.

و کذا لا يجب الإكمال لو أصاب أحدهما خمسةً منها والآخر أربعة؛ لتحقق السبق من الأوّل بمبادرته إلى إصابة المشروط، فلو وجب الإكمال خرج عن وضعها.

ص: 242


1- القائل به ابن خيران على ما في حلية العلماء، ج 5، ص 471؛ و في المجموع شرح المهذب، ج 15، ص 150 - 151 .
2- حلية العلماء، ج 5، ص 471؛ المجموع شرح المهذب، ج 15، ص 150 - 151.
3- راجع ص 218.

نضله صاحب الخمسة. ولو سأل إكمال الرشق لم يجب.

● أما لو شرطا المحاطة فرمى كلّ واحدٍ منهما عشرةً فأصاب خمسةً تحاطّاً خمسةً بخمسة وأكملا الرشق.

ولو أصاب أحدهما من العشرة تسعةً، وأصاب الآخر خمسةً تحاطا خمسةً بخمسة وأكملا الرشق.

● ولو تحاطا فبادر أحدهما إلى إكمال العدد فإن كان مع انتهاء الرشق فقد نضل صاحبه.

● و إن كان قبل انتهائه، فأراد صاحب الأقل إكمال الرشق نظر، فإن كان له في ذلك فائدة، مثل أن يرجو أن يرجح عليه أو يساويه أو يمنعه أن ينفرد بالإصابة بأن يقصر بعد المحاطة عن عدد الإصابة، أجبر صاحب الأكثر . و إن لم يكن له فائدة لم يجبر، كما إذا رمى أحدهما خمسة عشر فأصابها، ورمى الآخر فأصاب

------

قوله: «أما لو شرطا المحاطة فرمى كلّ واحدٍ منهما عشرةً - إلى قوله - وأكملا الرشق». لأن مقتضى المحاطة هو ذلك على ما عرفت من تعريفها، فإذا تحاطا الخمسة بالخمسة بقي لهما عشرة يرجى لكلّ منهما السبق بها، فيجب إكمال الرشق.

قوله: «ولو تحاطا فبادر أحدهما إلى إكمال العدد».

أي العدد المشترط إصابته و هو الخمسة. والمراد بكونه مع انتهاء الرشق انتهاؤه منهما، فيتحقق حينئذ سبق مَنْ أصاب العدد دون صاحبه؛ إذ لم يبق له ما يرجو معه لحاقه فضلاً عن السبق. و هو واضح.

قوله: «و إن كان قبل انتهائه فأراد صاحب الأقل - إلى قوله - و إن لم يكن له فائدة لم يجبر».

إذا بقي من الرشق لهما شيء والحال أن المشروط المحاطة، أو العقد مطلق و هو محمول

ص: 243

منها خمسةً، فيتحاطان خمسةً بخمسة، فإذا أكملا فأبلغ ما يصيب صاحب الخمسة ما تخلّف، وهى خمسة، ويخطئها صاحب الأكثر، فيجتمع لصاحب الخمسة عشرة. فيتحاطّان عشرةً بعشرة، ويفضل لصاحب الأكثر خمسة، فلا يظهر للإكمال فائدة.

------

عليها، فقد يبقى للإكمال فائدة فيجاب إليه طالبه، وقد لا يبقى فلا بل يلزمه العوض قبل الإكمال.

وقد ذكر المصنف أن الفائدة تتحقق بثلاثة أمور:

أحدها: أن يرجو المسبوق الرجحان بالإكمال على السابق، بحيث يصير بالرجحان سابقاً ويأخذ العوض، أو لا يصير به سابقاً ولكن يمنعه من السبق.

فالأوّل: كأن يكون شرط الرشق عشرين والشرط التفرّد بخمسة، فرمى كلّ منهما عشرة فأصابها أحدهما أجمع، وأصاب الآخر منها خمسةً، فهنا إذا طلب المسبوق الإكمال أُجيب إليه؛ لأنّه يرجو أن يخطئ صاحبه العشرة الباقية ويصيبها هو فيتم له خمسة عشر إصابة ولصاحبه عشرة فيتساقطان عشرةً بعشرة يفضل للمسبوق خمسة يصير بها سابقاً.

والثاني: كالمثال بعينه إلّا أنّ المسبوق أصاب من العشرة أقل من الخمسة، فرجاؤه المذكور يوجب رجحانه على صاحبه بشيءٍ لكن لا يبلغ حد السبق، كما لو كان قد أصاب من العشرة الأولى اثنين فإنّه على تقدير إصابته العشرة الثانية بتمامها يبقى له اثنا عشر وللآخر عشرة، فإذا تحاطا عشرةً بعشرة بقي له اثنان.

وثانيها: أن لا يرجو المسبوق الرجحان ولكن يرجو المساواة المانعة من سبق الآخر، كما لو رميا عشرةً في المثال فأخطأها أحدهما وأصابها الآخر، فالعشرة الباقية يرجو المسبوق إصابتها، وأخطأ السابق لها، فيساويه في الإصابة، ويمنعه من السبق.

وثالثها: أن لا يرجو الرجحان و لا المساواة، ولكن يرجو منعه من التفرد بإصابة العدد المشروط، كما لو رميا في المثال خمسة عشر، فأصاب أحدهما منها عشرة، والآخر أربعةً، فالمسبوق لا يرجو المساواة فضلاً عن الرجحان؛ لأنّ غايته أن يصيب الخمسة الباقية،

ص: 244

الرابعة ● إذا تم النضال ملك الناضل العوض، وله التصرّف فيه كيف شاء، وله أن يختص به، و إن يطعمه أصحابه.

● ولو شرط في العقد إطعامه لحزبه لم أستبعد صحته.

------

ويخطئها الآخر، فتصير إصابات المسبوق تسعةً والسابق عشرة، فيمنعه من التفرد بالخمسة المشروطة، و هو فائدة تمنع من استحقاق صاحبه العوض كالأوّلين. وقول المصنف «كما إذا مى أحدهما خمسة عشر فأصابها» إلى آخره مثال ما إذا انتفت الفائدة أصلاً، وقد تبيّن وجه انتفاء الفائدة فيه.

قوله: «إذا تمَّ النضال ملك الناضل العوض، وله التصرف فيه كيف شاء».

مفهوم الشرط أنه لا يملك الناضل العوض بدون التمامية، و هو من خواص الجعالة لا الإجارة التي قد اختار أنّه مثلها في اللزوم. وكأنّ السرّ في تعليق الملك على تمامية النضال أن العقد و إن كان لازماً إلا أنّ الملك لا يعلم لمن هو قبل تمامه؛ لاحتمال السبق من كلّ منهما وعدمه، فإذا تحقق السبق على وجه من الوجوه فقد تم النضال، سواء أكمل الرشق أم لا، وتحقق الملك للسابق، وقبل ذلك لا يحصل ذلك بخلاف الإجارة، و بهذا يظهر أنّ هذا العقد ليس على حد أحد العقدين و لا غيرهما من المعاوضات مطلقاً، وإنّما له شبه بأحدهما أو بهما من بعض الوجوه، فلا بعد في اختصاصه ببعض الأحكام بالنسبة إليهما وإلى غيرهما. إذا تقرر ذلك، فمتى تحقق ملك العوض لأحدهما كان ملكاً من أملاكه يفعل به ما شاء من اختصاص وتصرّف كيف شاء كغيره من الأملاك. و هو واضح.

قوله: «ولو شرط في العقد إطعامه لحزبه لم أستبعد صحته».

وجه عدم البعد عموم الأمر بالوفاء بالعقود (1)؛ ولكون المسلمين عند شروطهم (2) الشامل لهذا الفرد، ولأنّه ممّا يتعلّق به غرض صحيح شرعي فلا مانع من صحة شرطه.

ص: 245


1- المائدة (5): 1.
2- الكافي، ج 2، ص 169، باب الشروط والخيارات، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 202، ح 3768؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 22، ح 93 - 94.

الخامسة: ● إذا فسد عقد السبق لم يجب بالعمل أُجرة المثل، ويسقط المسمّى لا إلى بدل. ولو كان السبق مستحقاً وجب على الباذل مثله أو قيمته.

------

وقال الشيخ في أحد قوليه:

يبطل الشرط والعقد؛ لأنّ عوض العمل يجب أن يكون للعامل كالإجارة، فاشتراط خلافه منافٍ لمقتضاه، وببطلانه يبطل العقد كما علم مراراً (1).

وفيه: أن إلحاقه بالإجارة قياس مع وجود الفارق لما عرفت من أنه ليس على نهجها مطلقاً، بل و لا على نهج المعاوضات لصحة البذل، بل أولويته ممن لا دخل له في العمل و لا يصل إليه شيء من العوض الآخر، فإذا دلّ على صحته دليل عام كما - ذكرناه - لم يقدح فيه مخالفته لما أشبهه من العقود، مع مغايرته له من وجوه.

وللشيخ قول آخر ببطلان الشرط دون العقد (2). وقد تقرر ضعفه في نظائره.

قوله: «إذا فسد عقد السبق لم يجب بالعمل أجرة المثل» إلى آخره.

إذا فسدت المعاملة بعد العمل فلا يخلو إمّا أن يكون الفساد ابتداء بحيث لم يتزلزل العقد، بل لم ينعقد أصلاً، سواء كان بسبب العوض، بأن كان خمراً أو مجهولاً، أم من جهة ركن من أركان العقد بأن اختل بعض شروطه السابقة أو غيرها. وإما أن يكون طارئاً على أصل الصحة، بأن ظهر العوض مستحقاً، فإن العقد وقع صحيحاً، غايته تزلزله حيث وقف على إجازة المالك، وإنما طرأ له البطلان بعدم إجازته، ومن ثم لو أجاز لزم العقد، فدلّ على أنّه لم يقع فاسداً ابتداء. فهذا هو الوجه في فرق المصنف بين القسمين.

فإن كان فساده من الجهة الأولى، فقد قطع المصنّف بأنه لا شيء للسابق، و هو اختيار الشيخ (رحمه الله) (3)

ص: 246


1- راجع المبسوط، ج 4، ص 703.
2- الخلاف، ج 6، ص 105، المسألة 10.
3- المبسوط، ج 4، ص 703.

......

------

و وجهه أنّه لم يعمل له شيئاً، و لا فوت عليه عمله، و لا عاد نفع ما فعله إليه، وإنّما فائدة عمله راجعة إليه، بخلاف ما إذا عمل في الإجارة والجعالة الفاسدتين؛ فإنّه يرجع إلى أُجرة مثل عمله؛ لأنّ فائدة العمل للمستأجر والجاعل.

و ذهب العلّامة (1) وجماعة المتأخرين (2) إلى وجوب أجرة المثل؛ لأنّه عقد استحق المسمى في صحيحه، فإذا وجد المعقود عليه في الفاسد وجب عوض المثل. و لا نسلّم أنّ وجه وجوب أجرة المثل في العقدين ونظائرهما رجوع عمل العامل إلى مَنْ يجب عليه العوض؛ لأن العمل في القراض قد لا ينتفع به المالك ومع ذلك يكون مضموناً .

وعندي فيه نظر؛ لأنّ الالتزام لم يقع إلا على تقدير العقد الصحيح، والأصل براءة الذمة من وجوب شيءٍ آخر غير ما وقع عليه العقد. والفرق بين هذا العقد وبين ما يجب فيه أُجرة المثل من العقود واضح لا من جهة ما ذكروه من رجوع نفع عمل العامل إلى من يخاطب بالأجرة، حتى يرد عليه مثل العمل الذي لا يعود به عليه نفع في القراض، بل لأنّ تلك العقود اقتضت أمر العامل بعمل له أجرة فى العادة فإذا فسد العقد المتضمّن (3) للعوض المخصوص بقي أصل الأمر بالعمل الموجب لأجرة المثل، بخلاف هذا العقد، فإنّه لا يقتضي أمراً بالفعل، فإنّ قوله سابقتك على أنّ مَنْ سبق منّا فله كذا - و نحو ذلك من الألفاظ الدالة على المراد - ليس فيها أمر و لا ما يقتضيه بفعل له أجرة، فالأصل براءة الذمة من وجوب شيء آخر غير ما تضمّنه العقد. وقاعدة أنّ كلّ ما كان صحيحه موجباً للمسمّى ففاسده موجب لأجرة المثل، لا دليل عليها كلّيّةٌ، بل النزاع واقع فى بعض مواردها، فكلّ ما لا إجماع و لا دليل صالح يدل على ثبوت شيء فالأصل يخالف مدعى القاعدة.

ص: 247


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 375؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 169، الرقم 4387؛ تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 33 - 34. المسألة 899.
2- منهم فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 368 والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج8، ص337 .
3- في هامش بعض النسخ: «المقتضي» بدل «المتضمن».

......

------

نعم، لو اتفق وقوع العقد بصيغة تقتضي الأمر بالفعل وجوزناه اتجه وجوب أُجرة المثل. إلا أنّ هذا خارج عن وضع الصيغة المعهودة، وإنما يتفق حيث لا نخصه بعبارة، بل كلّ لفظ دلّ عليه كالجعالة.

إذا عرفت هذا فحيث نقول بأجرة المثل يرجع فيها إلى مجموع العمل - وهو مجموع ركضه - لا إلى القدر الذي سبق به؛ لأنه سبق بمجموع عمله لا بذلك القدر.

و إن كان فساد العقد من جهة خروج العوض مستحقاً، فقد جزم المصنف بأنه يجب على الباذل مثله أو قيمته، ووافقه عليه جماعة من المتأخرين (1).

و وجهه ما عرفت من صحة العقد ابتداء بالعوض المعين، وإنّما اتفق متزلزلاً موقوفاً على إجازة المالك، فقد تشخّص العوض المعيّن للعقد، فإذا طرأ زوال ذلك العوض بعدم إجازة المالك وجب الرجوع إلى أقرب شيء إليه، و هو مثله إن كان مثليّاً، وقيمته إن كان قيميّاً، كالصداق إذا ظهر فساده.

و قيل:

تجب أُجرة المثل هنا أيضاً؛ لأن العوض المسمّى إذا فات وجب قيمة العوض الآخر، و هو أجرة مثله، كما في سائر المعاوضات (2).

وما ذكروه من الفرق بين الأمرين لا يوجب الفرق في الحكم؛ لأن المالك إذا فسخ العقد انفسخ من أصله لا من حين الفسخ، فصار العوض المعين كالمعدوم ابتداء، بل كغير المتموّل بالنسبة إلى غير المالك. وهذا القول أوجه، حيث يوجب بهذه المعاملة إذا فسدت شيئاً. لكن فيه ما قد عرفت.

ص: 248


1- منهم العلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 169، الرقم 4387؛ والشهيد في اللمعة الدمشقية، ص 206 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).
2- من القائلين به فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 368؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج8، ص 338.

السادسة ● إذا نضل أحدهما الآخر في الإصابة، فقال له: «اطرح الفضل بكذا» قيل: لا يجوز؛ لأنّ المقصود بالنضال إبانة حذق الرامي وظهور اجتهاده فلو طرح الفضل بعوض كان تركاً للمقصود بالنضال، فتبطل المعاوضة ويردّ ما أخذ.

------

قوله: «إذا فضل أحدهما الآخر في الإصابة» إلى آخره.

هذا هو المشهور، بل كثير منهم لم يذكروا فيه خلافاً.

و وجه المنع ما ذكره المصنّف من منافاة ذلك للغرض والحكمة المسوّغة لهذا العقد. ونسبته إلى القيل مشعر بالتوقف فيه.

و وجهه أنّه جعل على عمل محلّل، ومنع كون المقصود بالنضال منحصراً فيما ذكر؛ لجواز أن يقصد به كسب المال، فإذا حصل بالسبق أمكن تحصيله بمقدماته، مضافاً إلى أصالة الصحة، وعموم الأمر بالوفاء بالعقد (1)، والكون مع الشرط، ومنافاته للمشروع غير متحققة.

ص: 249


1- المائدة: (5) 1.

ص: 250

كتاب الوصايا

اشارة

والنظر في ذلك يستدعي فصولاً:

[الفصل] الأوّل في الوصية

اشارة

● وهي تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة.

------

كتاب الوصايا

قوله - في الوصية -: «وهي تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة».

التمليك في التعريف بمنزلة الجنس يشمل سائر التصرّفات المملكة الواقعة من الفاعل من البيع والوقف والهبة وغيرها. و في ذكر العين والمنفعة تنبيه على متعلّقي الوصية. ويندرج في «العين» الموجود منها بالفعل كالشجرة والقوة كالثمرة المتجدّدة، و في «المنفعة» المؤبدة والموقتة والمطلقة. وتخرج ب- «بعديّة «الوفاة» الهبة وغيرها من التصرفات المنجزة في الحياة المتعلقة بأحد الأمرين.

وينتقض في عكسه بالوصيّة إلى الغير بإنفاذ الوصية، وبالولاية على الأطفال والمجانين الذين تجوز له الوصية عليهم. ومن ثَمَّ زاد المصنّف في النافع (1) والشهيد (2) في التعريف: أو

ص: 251


1- المختصر النافع، ص 263.
2- اللمعة الدمشقية، ص 209 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).

عقد الوصية

● ويفتقر إلى إيجاب وقبول، فالإيجاب كلّ لفظ دلَّ على ذلك القصد، كقوله: أعطوا فلاناً بعد وفاتي، أو لفلان كذا بعد وفاتي أو أوصيت له.

------

تسليط على تصرّف بعد الوفاة؛ ليندرج فيه الوصاية.

وربما جعلت الوصيّة خارجة عن الوصاية قسيمة لها، فلا يحتاج إلى الاحتراز عنها، حتى أن الشهيد في الدروس عنون لكلّ واحد من القسمين كتاباً (1)، إلا أن المصنف لم يجر، على ذلك الاصطلاح، بل جعل الوصاية من جملة أقسام الوصية، فكان عليه إدراجها فى التعريف.

وينتقض في عكسه أيضاً بالوصيّة بالعتق فإنّه فكّ ملك، لا تمليك للعبد نفسه، وكذلك التدبير على القول بأنه وصيّة، كما ذهب إليه الأكثر، والوصيّة بإبراء المديون وبوقف المسجد فإنّه فك ملك أيضاً، وبالوصيّة بالمضاربة والمساقاة، فإنّهما و إن أفادا ملك العامل الحصة من الربح والثمرة على تقدير ظهورهما، إلا أنّ حقيقتهما ليست كذلك، وقد لا يحصل ربح و لا ثمرة فينتفي التمليك.

قوله: «ويفتقر إلى إيجاب وقبول، فالإيجاب كلّ لفظ دلَّ على ذلك القصد» إلى آخره.

يستفاد من افتقارها إلى الإيجاب والقبول كونها من جملة العقود، ومن جواز رجوع الموصي ما دام حيّاً والموصى له على بعض الوجوه أنها من العقود الجائزة، وقد يلحق باللازمة على بعض الوجوه.

و لم يذكر المصنّف كيفية القبول هل ينحصر في اللفظ أم يكفي الفعل؟ واكتفى جماعة (2) بالقبول الفعلى الدال عليه كالأخذ والتصرّف فيه لنفسه، و هو المناسب لبناء هذا العقد على الجواز، وإنّما يعرض له اللزوم، بل أطلق المصنف الحكم عليه بالجواز.

ص: 252


1- في الدروس الشرعية، ج 2، ص 237 عنونه ب- «کتاب الوصيّة»، و في ص 261 عنونه ب-«كتاب الوصاية» (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
2- في الدروس الشرعية، ج 2، ص 237 عنونه ب- «کتاب الوصيّة»، و في ص 261 عنونه ب-«كتاب الوصاية» (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

توقف ملك الموصى له على القبول وموت الموصي

● وينتقل بها الملك إلى الموصى له بموت الموصي وقبول الموصى له، و لا ينتقل بالموت منفرداً عن القبول على الأظهر.

------

ويتفرّع عليه أيضاً عدم اشتراط مقارنة القبول للإيجاب، و هو موضع وفاق.

وإطلاق اعتباره الإيجاب والقبول يشمل الوصيّة لمعيّن كزيد، وغيره كالفقراء، فيقبل لهم الحاكم. والأصح في الثاني عدم اشتراط القبول؛ لتعذره من المستحق إن أُريد من الجميع، ومن البعض ترجيح من غير مرجّح مع أنّ الوصية ليست له بخصوصه، وقد تقدّم مثله في الوقف (1).

وحينئذ فيشكل إطلاق العقد على الوصيّة؛ لشموله لهذا الفرد، إلا أن يجعل ذلك لضرب من التجوز، وإلحاقه بطريق الاستتباع. و لا يخفى ما فيه؛ فإنّ أفراد هذا النوع كثيرة.

واعلم أن التقييد بقوله «بعد وفاتي» في الإيجاب إنما يفتقر إليه في اللفظ المشترك بينها وبين غيرها، كقوله أعطوا فلاناً المشترك بين الوصيّة والأمر، وقوله لفلان كذا المشترك بينها وبين الإقرار له، فلابد من مائز يخرج ما يحتمله اللفظ من غيرها، و هو يحصل بقوله بعد وفاتى». أما قوله «أوصيت له بكذا» فلا يفتقر إلى القيد؛ لأنه صريح في العطية و نحوها بعد الموت.

قوله: «وينتقل بها الملك إلى الموصى له بموت الموصي وقبول الموصى له» إلى آخره.

لا خلاف في توقف ملك الوصية على الإيجاب من الموصي؛ لأنه أحد أركان العقد الناقل للملك، أو تمام الركن حيث لا يعتبر القبول على بعض الوجوه، و في توقفه على موته؛ لأنّ متعلّقها هو الملك، وما في معناه بعد الموت، فقبله لا ملك. وإنما الخلاف في أنّ قبول الموصى له هل هو معتبر في انتقال الملك إليه بالموت، بمعنى كونه شرطاً في الملك، أم تمام السبب المعتبر فيه، فلا يحصل الملك بدونه أصلاً، أو يعتبر في الجملة أعمّ مما ذكر، أو لا يعتبر أصلاً، بل ينتقل إليه الملك على وجه القهر كالإرث،

ص: 253


1- تقدّم في ص 17 و 78.

......

------

لا بمعنى استقراره له كذلك، بل بمعنى حصوله متزلزلاً فيستقر بالقبول، ويبطل استمراره بالرد، فينتقل عنه به إلى ورثة الموصي؟ فهذه أقوال ثلاثة.

والذى اختاره المصنف أنّ الملك لا يحصل بالموت منفرداً عن القبول، بل يبقى المال على حكم مال الميت فينتقل إلى وارثه انتقالاً متزلزلاً، فيستقر برد الموصى له، وينتقل إلى ملكه بقبوله. فقبوله على هذا جزء السبب الناقل للملك إليه؛ لأنّ «الباء» في قوله وينتقل بها الملك إلى الموصى له بموت الموصي» للسببية، و هو مفيد لما ذكرناه.

ومع ذلك يحتمل أن يريد الانتقال المبتدأ من حين القبول على تقدير تأخره عن الموت، كما هو ظاهر العبارة، فقبله لا ملك له أصلاً. وهذا هو القول الأول الذي حكيناه، و هو مختار العلّامة في المختلف (1).

و إن يريد به مجرّد سببيّة القبول فى الملك بمعنى توقفه عليه، ولكنّه يكشف عن سبق ملك الموصى له من حين الموت. وهذا القول هو مختار الأكثر، و هو الذي حكيناه ثانياً.

والحجة المشتركة بين القولين - الدافعة للقول الثالث - أنّ القبول لما كان معتبراً فتحصيل الملك للموصى له قبل قبوله لا وجه له ولأن الوصية تمليك عين إلى آخره كما عرفت - فلا يسبق الملك القبول كسائر العقود و إن الموصى له لو ردّ الوصية بطلت، ولو كان قد ملك بالموت لم يزل ملكه بالردّ كما بعد القبول، و إن الملك لو حصل بدون القبول لم يحتج إلى قبول وارث الموصى له لو مات قبله مع اتفاقهم على اعتباره في تملكه.

ثمَّ يقال في تقرير القول الأول: إنّك لما عرفت أنّ القبول معتبر في تحقق الملك ف-ي الجملة، فيجب أن لا يتحقق قبله مطلقاً. وأيضاً فإنّ القبول تمام السبب الموجب للملك، كغيره من العقود الناقلة له، والموت شرط في انتقال الملك؛ لأن مقتضى الوصية التمليك بعده، فقبل القبول لم يتحقق السبب الناقل للملك و إن وجد الشرط، كما في الملك الحاصل

ص: 254


1- مختلف الشيعة، ج 6، ص 302، المسألة 84.

......

------

بالبيع، فإنّه قبل القبول لا يتحقق أصلاً و إن اجتمعت الشرائط المعتبرة في صحة البيع من جميع الجهات.

والقائل الثاني يقول - مضافاً إلى المشترك -: إن الله تعالى جعل ملك الوارث بعد الوصية والدين والوصيّة هنا موجودة، فلا يجوز انتقال متعلّقها من التركة إلى الوارث؛ عملاً بظاهر الآية (1)، و لا يبقى على ملك الميت؛ لانتفاء أهليته له، و لا إلى ملك غير الوارث والموصى له؛ إجماعاً، فلم يبق إلا الانتقال إلى ملك الموصى له انتقالاً متوقفاً على قبوله؛ اعتباراً بما سبق من دليله، مع كون القبول كاشفاً عن سبق ملكه من حين الموت، اعتباراً بما ذكر هنا من الدليل، وعلى تقدير رده يتبيّن بطلان الوصية، وأنها كأن لم تكن فيكشف الردّ عن ملك الوارث من حين الموت و لا ينافيه الحكم بانتقالها إلى الموصى له؛ لأنّ ذلك كان مراعى بالوصيّة، وقد تبيّن عدمها، فكأنّ هذا الموصى به على تقدير الرد لم يكن موصى به أصلاً، فلا يأتي دليل الانتقال عن الوارث أصلاً.

و لا يخفى عليك ما في هذا التوجيه من التكلّف والعجز عن مقاومة دليل الأول، وقد اعتذر عن تحرير الأوّل بكون سببية القبول تقتضي عدم حصول الملك بدونه، و إن مدخلية القبول في الوصية ليست قوية على حدّ مدخليته في غيرها من العقود كالبيع.

و وجه ضعفها عدم الافتقار إليه في بعض الموارد كما عرفت، و في موضع النزاع على خلاف، بخلاف قبول البيع و نحوه؛ فإنّه معتبر في تمام السببية إجماعاً، واعتباره في الوصية على بعض الوجوه مع ما فيه من الضعف المذكور - يكفي فيه كونه كاشفاً. و لا يخفى ما فيه. وممّا قرّرناه يظهر أنّ المصنّف يمكن أن يكون مختاره هو الأوّل؛ لما قد ظهر من قوة دليله.

ثم لقائل أن يقول على دليل الحصر من الآية (2): إنه لا مانع من القول بانتقالها إلى الوارث قبل القبول؛ لأنّ الوصية قبله غير متحققة؛ لما عرفت من أن الوصية هي التمليك المخصوص

ص: 255


1- النساء (4): 11.
2- النساء (4): 11.

......

------

الذي لا يتم إلا بالإيجاب والقبول (1)، ومن ثم كان القبول معتبراً فيها، وكانت الآية في قوة «من بعد وصيّة مقبولة»؛ لأنّ إطلاقها يقتضي ذلك، فقبل القبول لا وصيّة، فينتقل إلى الوارث بحكم الأصل، و لا يزول عن ملكه إلا بقبول الموصى له، فحينئذ تتحقق الوصية ويحكم بانتقالها إليه.

و لا يقدح في ذلك ما قيل: إنّه يلزم منه تلقي الموصى له الملك عن الوارث (2)، و هو خلاف الواقع؛ لمنع ذلك؛ إذ يجوز كون ملك الوارث حينئذ مراعى بعدم قبول الموصى له ومغيّاً بغاية قبوله، فإذا حصل القبول انتفى ملكه، وانتقل إلى ملك الموصى له بسبب الوصية السابقة، و ذلك سبب قهري من جهة الشارع سابق على ملك الوارث، إلّا أنّه لمّا لم يكن ثُمَّ تحقق ملك الوارث إلى حين تمامه ثم ارتفع.

و قيل على الحصر أيضاً:

نمنع عدم بقاء ملك الميّت، لم لا يجوز بقاؤه كما بقي ملكه فيما يحتاج إليه من مؤونة تجهيزه وقضاء دينه؟ وكما يجوز أن يتجدّد له الملك كالدية لو مات قتيلاً، وما يثبت في آلة الصيد التي نصبها حياً بعد وفاته.

وقد يجاب عن هذا بأنه قد علم أنّ الموت سبب في انتقال الملك عنه وخروجه عن أهلينه. وما ذكر لا يدلّ صريحاً على ملكه لجواز كونها ملك الوارث، و إن تقدّم حق الميت من تلك الوجوه عليه، كما يقدّم المرتهن بمال الرهن على الراهن المالك، فلا منافاة ملك الوارث لها وتقدّم الميت بها. ويرشد إلى ذلك في مؤونة التجهيز أنه لو بین فقد الميت رجع الكفن إلى الوارث، ولو لم يكن ملكه ابتداء لم يرجع إليه. وأما الصيد فإنّما يملكه الوارث دون الميّت لقيامه،مقامه فكان كما لو نصب الشبكة بنفسه (3).

ص: 256


1- راجع ص 252.
2- من القائلين به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص27.
3- قال به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 26 - 27.

......

------

وحجة الثالث من ظاهر الآية الدالة على انتفاء ملك الوارث مع الوصية بنحو ما استدلوا به، فإنّه لا يمكن القول ببقاء المال على ملك الميت لما تقدم (1)، و لا بانتقاله إلى الوارث؛ لأنّه بعد الوصيّة وهي أعم من المقبولة؛ إذ لم نقل بعد وصيّة مقبولة، ونمنع عدم تحققها قبل القبول، بل غايته عدم لزومها فلم يَبْقَ إلا أن يكون ملكاً للموصى له بالموت، ولأن الوصية مشابهة للإرث من حيث إنّه يملك بالموت، و إن فارقته في جواز إزالة ما حصل من الملك قهراً برد الوصيّة؛ كيلا يحصل له الملك المستقرّ باختيار غيره قهراً عليه حيث لا يريده.

وجوابه على القول الأوّل واضح، فإنّا نختار انتقاله إلى الوارث عند موت الموصي بحكم الأصل، فإذا قبل الموصى له تم السبب الذي ابتدأه الموصي، فانتقل الملك إليه.

وجواب الثاني قد علم من تضاعيف ما سبق.

واعلم أنّ موضع الخلاف الوصية المفتقرة إلى القبول، فلو كانت لجهة عامة كالفقراء والمساجد - انتقلت إلى الجهة المعينة بالوفاة بغير خلاف، بحيث تكون الوصيّة نافذةً.

إذا تقرر ذلك فتظهر فائدة الخلاف في مواضع:

أوّلها: كسب العبد، وثمرة الشجرة، وسائر زوائد الموصى به الحاصلة بين الموت والقبول، فإن قلنا: تملك بالموت فهي للموصى له قبل الوصيّة أو ردّها، و يحتمل ارتدادها على الورثة إذا ردّ تبعاً. و إن قلنا: تملك بالقبول لم تكن الزوائد للموصى له قبل الوصيّة أو ردّها. و إن قلنا بالوقف فهي موقوفة فإن قبل فهي له وإلا فلا. و إذا قلنا يرتد ففي مستحقها من الموصي والورثة وجهان، من حيث إنّها من جملة التركة فيقضى منها دينه و تنفذ وصاياه كالأصل، ومن حدوثها بعد زوال ملكه.

وهذا أقوى تفريعاً على ذلك القول.

وثانيها: فطرة العبد الموصى به إذا وقع وقت وجوبها بين القبول والموت على مَنْ تجب؟ يخرج على الأقوال والنفقة والمؤن المحتاج إليها بين القبول والموت كالفطرة.

ص: 257


1- تقدّم في ص 254.

......

------

وثالثها: إذا زوّج أمته حراً وأوصى له بها فإن رد الوصية استمر النكاح، إلا إذا قلنا يملك بالموت فينفسخ من يوم الموت و إن كان الملك ضعيفاً، و إن قبل انفسخ النكاح على كل حال، ويكون الانفساخ من يوم القبول إن قلنا يملك بالقبول، ومن يوم الموت على سبيل التبيين إن قلنا بالتوقف.

ولو كان زوجها وارثه ثمَّ أوصى بها لغيره، فإن قبل الموصى له الوصية استمر النكاح، إلا إذا قلنا: إنّ الملك بالقبول وإنّه قبل القبول للوارث فإنّه ينفسخ و يحتمل العدم لضعف الملك، و إن ردّ انفسخ النكاح.

هذا إذا خرجت الأمة من الثلث، و إن لم تخرج و لم تجز الورثة انفسخ النكاح؛ لدخول شيءٍ ممّا يزيد على الثلث في ملك الزوج. و إن أجازوا وقلنا: يملك بالموت أو موقوف فهل ينفسخ أم لا؟ يبنى على أنّ الإجازة تنفيذ أو ابتداء عطية، فعلى الثاني ينفسخ، وعلى الأول لا.

ورابعها لو أوصى بأمته الحامل وحملها من زوجها - لزوجها ولابن لها حرّ ومات وخرجت كلّها من الثلث وقبلا الوصية وهما موسران،نظر، إن قبلا معاً عتقت الأمة كلها على ابنها، نصفها بالملك والباقي بالسراية، وعليه للزوج قيمة نصفها، ويعتق الحمل عليها بالسوية، أما نصيب الزوج؛ فلأنه ولده، وأمّا نصيب الابن؛ فلأنّ الأُمّ عتقت عليه إن قلنا بسراية عتق الحامل إلى الحمل أو كان الحمل أنثى، وإلا اختص العتق بالأب.

و إن قبل أحدهما قبل الآخر فإن قلنا: يحصل الملك بالموت أو قلنا بالوقف فكما تقدّم؛ لأنّ وقت الملك واحد و إن اختلف وقت القبول و إن قلنا: يحصل بالقبول، فإن تقدّم قبول الابن عتقت الأمة والحمل عليه إن قلنا بالسراية أو كان الحمل أُنثى، وإلا عتقت الأُمّ خاصةً. و إن تقدّم قبول الزوج عتق جميع الحمل عليه النصف بالملك، والباقى بالسراية، ويغرم قيمة نصفه يوم الولادة للابن، و لا يعتق عليه من الأمة شيء، فإذا قبل الابن عتق عليه جميعها بالملك والسراية، وغرم للزوج نصف قيمتها.

ص: 258

● ولو قبل قبل الوفاة جاز، وبعد الوفاة آكد، و إن تأخر القبول عن الوفاة ما لم يرد.

------

وخامسها: لو أوصى الإنسان بمن ينعتق عليه فقبل بعد الموت، فإن قلنا: يملك بالقبول عتق عليه حينئذ، و إن قلنا بالموت أو موقوف تبين أنه عتق عليه يوم الموت، وترتب عليه حكم ما يتجدد من كسبه و نحوه.

وسادسها: لو أوصى بأمةٍ لابنها من غيره، فإن خرجت من الثلث وقبل الابن الوصية عتقت عليه، و إن ردّ بقيت للوارث، و إن لم تخرج فالجواب (1) أنّ في قدر الثلث كذلك، وأما الزائد فإن أعتقه الوراث، و هو موسر عتق عليه.

ثمَّ إن لم يقبل ابنها الوصية فقد بينا أن ميعها للوارث، فيسري العتق من البعض الذي أعتقه إلى الباقي، و إن قبل عتق عليه ما قبل. ثمَّ إن قلنا: يملك بالموت ابتداءً أو تبيّناً قوم نصيب الوارث عليه، و إن قلنا: يملك بالقبول عتق الكلّ على الوارث؛ لأنه يسري من نصيبه إلى قدر الثلث والقبول بعده كإعتاق الشريك الثاني بعد إعتاق الأول و هو موسر.

هذا إذا حكمنا بحصول السراية بنفس الإعتاق، و إن قلنا: لا يحصل إلا بأداء القيمة فقبوله كإعتاق الشريك الثاني نصيبه قبل أخذ القيمة، و في نفوذه وجهان يأتيان إن شاء الله (2).

وسابعها: لو أوصى بعبد لشخصين، أحدهما قريبه الذى يعتق عليه، فإن قبلا معاً عتق جميعه على القريب إن كان موسراً، النصف بالملك، والنصف بالسراية، و إن قبل القريب أو لا فكذلك. و إن قبل الأجنبي أو لا وأعتق نصيبه قبل قبول القريب ثمَّ قَبِل، فإن قلنا: يملك بالقبول قوم نصيبه على الأجنبي كما مرّ، و إن قلنا: يملك بالموت تبيّنا أن عتق الأجنبي غير نافذ، وأنه عتق جميعه على الوارث، وعليه نصف القيمة للأجنبي.

قوله: «ولو قبل قبل الوفاة جاز، وبعد الوفاة آكد، و إن تأخر القبول عن الوفاة ما لم يرد».

ص: 259


1- في حاشية «و»: و في كثير من النسخ «فالجواز» بالزاي كما ترى - حتّى في النسخة التي بخط «ع ل» سبط الشارح، و في بعض النسخ «فالجواب» بالباء الموحدة كما في التذكرة راجع تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 458 (الطبعة الحجرية).
2- يأتي في ص 306 – 307.

......

------

حيث اعتبرنا قبول الموصى له فَقَبلَ بعد وفاة الموصي فلا إشكال في اعتبار قبوله؛ المطابقته للإيجاب الصادر من الموصي؛ لأنّه أوقع تمليكاً بعد الوفاة فقبله في تلك الحال.

و إن قَبِل في حياة الموصي فالأكثر على اعتباره أيضاً؛ لحصول المطلوب، و هو قبول ما نقل إليه من الملك على الوجه الذي نقله إليه و إن لم يكن في وقته، فإنّ ذلك هو المعتبر؛ لأنه كما وقع التمليك قبل وقت الانتقال فقبوله كذلك. وكما أنّ الموصي مالك للمال حينئذ فله نقله في أي وقت شاء، فالموصى له مالك أن يملك أيضاً في أي وقت شاء و إن لم يكن وقت الملك باختياره، كما في نظائره من قبول البيع بشرط وأجل في الثمن وغيره. وافتراقهما في انتقال أصل الملك في البيع منجزاً دون الوصية لا يقدح في ذلك.

و ذهب بعض الأصحاب (1) ومنهم العلامة (2) إلى أنّ القبول إنّما يعتبر بعد الموت؛ محتجاً بأنّه أوْجَبَ له بعد موته فقبله ليس محلاً للقبول، فأشبه القبول قبل الوصية، وكما لو باعه ما سيملكه، وبعدم المطابقة بين الإيجاب والقبول، وبأنّ القبول إما كاشف أو جزء السبب وعلى التقديرين يمتنع اعتباره قبل الموت، أما إذا جعل كاشفاً؛ فلأنّ الكاشف عن الملك الملك قبل الوفاة، وأمّا إذا جعل جزء السبب؛ فلأنه إذا تم العقد يجب أن يتأخر يتأخر عنه ويمتنع وجب أن يترتب عليه أثره، و هو هنا ممتنع قبل الموت.

وقد عرفت ممّا قرّرناه (3) جواب ذلك كلّه؛ فإنّ القبول لا يلزم أن يحصل به الملك، وإنّما يحصل به تمام سببه، و هو لا يوجب وجود مسبّبه؛ لجواز تخلّفه لفقد شرط، و هو هنا كذلك؛ لأن الموت شرط انتقال الملك، والإيجاب كما وقع قبل زمان انتقال الملك ناقلاً له في وقت متأخر فكذلك القبول، فالمطابقة حاصلة. والفرق بينه وبين بيع ما سيملكه واضح، فإنّ ذلك

ص: 260


1- كابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 306؛ ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 499؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 10.
2- مختلف الشيعة، ج 6، ص 300، المسألة 83؛ قواعد الأحكام، ج 2، ص 444.
3- راجع ص 254.

......

------

ممتنع شرعاً إيجاباً وقبولاً، وهنا لا مانع منه إلا بواسطة التخيّل المذكور، و هو غير مانع.

وقوله «إنّ القبول إما كاشف أو ناقل» يمكن اختيار كلّ واحدٍ من القسمين، أما الكشف فلا نعني به أنّ كلّ فرد من أفراد القبول يقع كاشفاً عن سبق الملك عليه بالضرورة؛ فإنّ ذلك لا يتحقق إلا إذا تأخر عن الموت، وأما إذا وقع حال الحياة فلا يحكم عليه بذلك، و لا ضرورة إلى التزام كشفه في كلّ فرد؛ فإنّ هذه ليست قاعدة منصوصة كلّيّةً و لا متفقاً عليها، وإنما هى مستنبطة في فرد خاص، و هو ما لو تأخر القبول عن الموت، كما قد سبق تحقيقه.

وأما النقل فمعناه أنّ القبول الواقع مع الإيجاب سبب تامّ في نقل الملك على الوجه الواقع في الإيجاب والقبول لا مطلقاً، ولما كان الإيجاب تمليك المال الخاص بعد الوفاة لا مطلقاً فالقبول الرضى بتملّكه كذلك. والعقد سبب تام في نقل الملك، و لا يلزم من وجود السبب التام في ثبوت حكم وجود مسبَّبه، إلا أن يجتمع شرائطه، ومن جملة شرائطه هنا الموت. و يرشدك إلى ذلك بيع الفضولي؛ فإنّ الإيجاب والقبول سبب تام في نقل الملك كما عرفت في تعريف البيع بأنّه «اللفظ الدال على نقل الملك» (1) إلى آخره، ومع ذلك لم يحصل الملك؛ لفقد شرطه و هو كون الناقل له مالكاً، فلما حصلت الإجازة من المالك ولو بعد حين حصل الشرط فعمل السبب عمله، فكذلك هنا السبب التام في نقل الملك حصل بالإيجاب والقبول والشرط و هو الموت المعلّق عليه الملك لم يحصل، فإذا حصل الشرط عمل السبب عمله.

و حاصل الأمر أنّ النقل التام والكشف التام إنّما يتحقق بالقبول بالنسبة إلى الفرد المتنازع فيه، و هو ما لو تأخر القبول عن الموت لا مطلقاً، و ذلك غير لازم و لا ضائر. و لا يمكن توهم أن يقال: الإجماع واقع على أن القبول يستلزم أحد الأمرين؛ لأنّ ذلك ظاهر الفساد دعوى ووضعاً.

ص: 261


1- راجع ج 3، ص 47.

● فإن ردّ في حياة الموصي جاز أن يقبل بعد وفاته؛ إذ لا حكم لذلك الرد. و إن رد بعد الموت وقبل القبول بطلت. و کذا لو رد بعد القبض وقبل القبول. ولو رد بعد الموت والقبول وقبل القبض قيل: تبطل. و قيل: لا تبطل، و هو أشبه.

------

قوله: «فإن ردّ في حياة الموصي جاز أن يقبل بعد وفاته إلى قوله - و هو أشبه».

قد عرفت أنّ ملك الموصى له متوقف على الإيجاب (1) - و هو إيصاء الموصي - والقبول، وموت الموصي حيث كان مقتضى الوصيّة التمليك بعد الوفاة، فبدون أحد الثلاثة لا يحصل الملك قطعاً.

واختلفوا في أنّ القبض مع ذلك كلّه هل هو شرط في تحقق الملك، كالهبة والوقف؛ لاشتراكهما في العلّة المقتضية له، و هو العطية المتبرع بها، مع أولوية الحكم في الوصية من حيث إن العطية في الهبة وما في معناها منجزة و في الوصيّة مؤخّرة، والملك في المنجز أقوى منه فى المؤخّر بقرينة نفوذ المنجز الواقع من المريض من الأصل على خلاف - بخلاف المؤخّر، أم ليس بشرط؛ لأصالة العدم، وعموم الأمر بالوفاء بالعقود (2) الشامل لموضع النزاع، وبطلان القياس من حيث خروج الهبة ونظائرها بدليل خاص وقد تقدم(3)، و هو لا يتناول الوصيّة، والأولوية المذكورة لا تفيد الحكم المتنازع، وأصل الخلاف واقع في المؤخّر أيضاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى؟ (4) وقد ظهر بذلك قوة كون القبض ليس بشرط في ملك الوصية.

، إذا تقرّر ذلك فيتفرع على الملك رد الموصى له الوصية (5)، فمتى وقع الردّ بعد تحقق ملكه لم يؤثر رده: لأنّ الملك لا يزول بإعراض مالكه عنه و إن أفادت إباحة التصرف لغيره فيه في بعض الموارد؛ فإنّ إباحة التصرّف أمر آخر غير زوال الملك. وحينئذ فإن وقع الردّ بعد

ص: 262


1- راجع ص 253.
2- المائدة: (5) 1.
3- تقدّم في ص 153.
4- يأتي في ص 287 وما بعدها.
5- في حاشية «ي و»: «الوجه صحة الردّ على القولين لتزلزل الملك على تقديره القابل للإزالة. (منه رحمه الله)».

......

------

الموت والقبول والقبض فلا حكم له إجماعاً؛ و ذلك لتحقق الملك فيه إجماعاً.

و إن وقع بعد الموت والقبول وقبل القبض بني على أنّ القبض هل هو شرط في الملك أم لا؟ فإن جعلناه شرطاً صح الردّ قبله وبطلت الوصية، وإلا فلا كما لو وقع بعده.

و إن كان الرد بعد الموت وقبل القبول سواء كان بعد القبض أم لا - بطلت الوصية؛ لأنّ الملك لم يتحقق حينئذ، فكانت الوصية حينئذ كالعقد الجائز إذا أبطله أحدهما، وكاللازم إذا ردّه أحدهما بعد الإيجاب وقبل القبول.

و إن وقع الرد قبل الوفاة سواء كان قبل القبول أم لا فلا حكم له، وله أن يجدد القبول بعد ذلك إن كان قد سبق على ما اختاره المصنّف وجماعة (1).

و وجهه أنّ الوصية لما كانت تمليكاً بعد الوفاة فقبلها لم يحصل ملك، و إن حصل القبول فرده حينئذ بمنزلة ردّ ملك الغير فيقع لاغياً؛ لأنه و إن كان قد قبله فالشرط لملكه موت الموصي كما مر (2).

والفرق بينه وبين الرد بعد الموت وقبل القبول - مع عدم حصول الملك فيهما - أن الملك بعد الموت قد بقي موقوفاً على القبول لا غير، فردّه حينئذ واقع في محله؛ لأن الملك قد بقي متوقفاً على رضاه، فإذا ردّ تبين عدم الرضى فبطلت الوصيّة، كما لو ردّكلّ قابل للعقد الذي قد صدر إيجابه وبقي ملكه متوقفاً على القبول، وهذا بخلاف الرد الواقع في حال الحياة؛ فإنّ الملك لا يحصل و إن قبل.

واعلم أن تفريع هذا الحكم على القول بعدم اعتبار القبول حال الحياة أوضح، والشبهة عنه منتفية أصلاً، بخلاف ما لو اعتبرنا القبول حال الحياة كما ذكره المصنف - فإنّ تفريع عدم تأثير الردّ حينئذ لا يخلو من إشكال، وقد حرّرنا ما فيه.

ص: 263


1- منهم يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 499 والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 444؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 238 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- مر في ص 253.

أما لو قبل وقبض ثمَّ ردّ لم تبطل إجماعاً؛ لتحقق الملك واستقراره . ولو ردّ بعضاً وقبل بعضاً صح فيما قبله.

● ولو مات قبل القبول قام وارثه مقامه في قبول الوصية.

------

قوله: «ولو ردّ بعضاً وقبل بعضاً صح فيما قبله».

لما كانت الوصية تبرّعاً محضاً لم يرتبط بعض أجزائها ببعض، فكما يصح قبول جميعها يصح قبول البعض ويلزمه حكمه خاصةً، بخلاف البيع و نحوه من عقود المعاوضات، فإنّ المشتري لو قبل البعض وقع لاغياً؛ لأن الغرض فيه مقابلة أجزاء العوض بأجزاء المعوّض. فالبعض الذي اختص بالقبول غير مقصود للبائع إلا مقيداً بالجملة، بخلاف التبرع المحض؛ فإنّ القصد إلى الجملة يتضمن القصد إلى كلّ واحد من أجزائها منضمّةً ومنفردةً، ومن ثَمَّ لو أوصى بما زاد على الثلث و لم يجز الوارث بطل في الزائد وصح في قدر الثلث و إن قبل الموصى له؛ لعدم الارتباط الذي بيناه.

و في هذا الأخير أنّ مثله آت في عقود المعاوضات المحضة، كما لو باع ملكه وملك غيره صفقة، وقبلهما المشتري كذلك و لم يجز المالك؛ فإنّ البيع يصح في البعض دون البعض، مع عدم جواز الاقتصار على قبول البعض ابتداءً، وما زاد على الثلث في الوصية بمنزلة التصرف في مال الغير، و إن لم يكن عينه.

قوله: «ولو مات قبل القبول قام وارثه مقامه في قبول الوصية».

إذا مات الموصى له قبل قبول الوصية - سواء مات في حياة الموصي أم بعد وفاته - و لم يكن الموصي قد رجع في وصيته فالمشهور بين الأصحاب أنّ وارث الموصى له يقوم مقامه في القبول، وينتقل إليه الملك كما كان لمورثه على تقدير قبوله، بناءً على أن القبول كان حقاً للمورث، فيثبت لوارثه بعد موته كباقي الحقوق الموروثة من الخيار والشفعة وغيرهما.

ولرواية محمد بن قيس عن الباقر علیه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل أوصى لآخر والموصى له غائب، فتو في الذي أوصي له قبل الموصي، قال: الوصية لوارث الذي

ص: 264

......

------

أوصى له، قال: ومَنْ أوصى لأحد شاهداً كان أو غائباً، فتو في الموصى له قبل الموصي فالوصية لوارث الذي أوصي له إلا أن يرجع في وصيته قبل موته (1).

وهذه الرواية نص في الباب لو تم سندها؛ إذ لا يخفى أنّ محمّد بن قيس الذي يروي عن الباقر علیه السلام مشترك بين الثقة (2) والضعيف (3) وغيرهما (4)، فكيف تجعل روايته مستند الحكم؟ إلا أن يدعوا جبرها بالشهرة على ما هو المشهور بينهم في ذلك. وفيه ما فيه.

وأما الاستدلال بكون القبول حقا للمورّث ففيه منع كلّية الكبرى المدّعاة: أنّ كلّ حق يورث - إن سلّم أن القبول حق - فإنّ حق القبول لا يورث في سائر العقود إجماعاً، كما لو باع أو وهب فمات المشتري أو الموهوب قبل القبول فقبل الوارث و إن كان على الفور؛ فإنّه لا يعتد به قطعاً فكذا هنا.

مع أنا نمنع من كون القبول حقاً للمورّث مطلقاً وإنّما كان حقاً للمورث على تقدير مباشرته، ويرشد إليه أنّ الأغراض في الوصية تختلف باختلاف الأشخاص، فقد يكون للموصي غرض في تخصيص الميت دون وارثه. وهذا بخلاف حق الخيار والشفعة و نحوهما، فإنّ ذلك من الحقوق الثابتة المستقرة للمورّث شرعاً بحيث لا قدرة لمن عليه الحق على إسقاطه بنفسه، ويترتب عليه غرض مالي فيورث عنه، بخلاف قبول الوصية، فإنّه لا يشتمل على شيء من هذه الخواص.

ص: 265


1- الكافي، ج 7، ص 13، باب من أوصى بوصية فمات..... 1؛ الفقيه، ج 4، ص 210، ح 5492؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 230 - 231. ح 903؛ الاستبصار، ج 4، ص 137 - 138، ح 515.
2- كمحمّد بن قيس البجلي على ما في رجال النجاشي، ص 323، الرقم 881؛ ومحمد بن قيس الغيلان على ما في خلاصة الأقوال، ص 240، الرقم 817.
3- كمحمد بن قيس الأسدي أبي أحمد على ما في رجال النجاشي، ص 323، ذيل الرقم 880؛ ومحمد بن قيس بن أحمد على ما في خلاصة الأقوال، ص 400، الرقم 1611.
4- أي الذي لم ترد فيه توثيق و لا تضعيف، كمحمد بن قيس أبو نصر الأسدي على ما في رجال النجاشي، ص 322 . - 323 الرقم 880.

......

------

ومن ثُمَّ ذهب جماعة (1) إلى بطلان الوصيّة بموت الموصى له قبل القبول، سواء مات في حياة الموصي أم بعد موته؛ بناءً على أنّ الوصية عقد يفتقر إلى إيجاب وقبول من الموجب له، فيبطل بموته كما بيّناه.

واستندوا مع ذلك إلى صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبدالله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ قال: سئل عن رجل أوصى لرجل فمات الموصى له قبل الموصى، قال: «ليس بشيء» (2).

و في معناها موثقة منصور بن حازم عنه قال: سألته عن رجل أوصى لرجل بوصية إن حدث به حدث فمات الموصى له قبل الموصي، قال: «ليس بشيء» (3).

وفصل بعض الأصحاب (4)، فخص البطلان بما إذا مات الموصى له قبل الموصي؛ عملاً بمدلول هاتين الروايتين، فلو مات بعده لم يبطل؛ للأصل وعدم المعارض، وتبقى الرواية السابقة شاهدةً و إن لم تكن مستنداً حيث لم تسلم سنداً.

والحق أنّ هاتين الروايتين لا صراحة فيهما في المطلوب؛ لأنهما كما تحتملان أنّ الوصية حينئذ لا شيء يعتد به - بمعنى بطلانها – تحتملان (5) إرادة أن الموت ليس بشيءٍ ينقض الوصية، بل ربما كان الثاني أنسب بأسلوب الكلام وتذكير الضمير المستتر في الفعل. وبه يندفع التنافي بين الروايات، فيكون أولى.

ويمكن ترجيح التفصيل الأخير، بناءً على ما تقدّم من كون القبول على تقدير تأخره عن

ص: 266


1- منهم ابن الجنيد على ما حكاه عنه العلامة، واختاره هو أيضاً في مختلف الشيعة، ج 6، ص 364، المسألة 143: وفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 497.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 231، ح 906؛ الاستبصار، ج 4، ص 138، ح518.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 231، ح 907؛ الاستبصار، ج 4، ص 138، ح 519.
4- كالمحقق في نكت النهاية، ج 3، ص 165 - 167 .
5- ما أثبتناه - و هو الصحيح - من إحدى الحجريتين، و في « ل، م، ي، و » والمطبوعة: « يحتمل» بدل تحتملان».

فرع ● لو أوصى بجارية وحملها لزوجها وهي حامل منه فمات قبل القبول كان القبول للوارث فإذا قَبل مَلِك الوارث الولد، و لا ينعتق على الموصى له؛ لأنّه لا يملك بعد الوفاة، و لا يرث أباه؛ لأنه رق، إلا أن يكون ممن ينعتق على الوارث ويكونوا جماعةً فيرث؛ لعتقه قبل القسمة.

------

الموت كاشفاً عن سبق ملك الموصى له من حين الموت (1)، وقد كان الموصى له حينئذٍ حيّاً قابلاً للملك، و لا يقدح فيه كون القابل غيره؛ لأنه كالنائب عنه حيث هو الوارث عنه.

نعم لو قيل بأنّ الوارث مع قبوله ينتقل الملك إليه، و لا يدخل في ملك المیت -كما اختاره العلّامة (2) - أشكل هذا القول، من حيث إنّ الموصى له بعد موت الموصي لم يكن مالكاً و لا صالحاً للملك بسبب موته قبل القبول والوارث قبل موت مورّثه ليس بقابل أيضاً لملك الموصى به؛ لأنه ليس بموصى له و لا انتقل إليه الحق بعد، فكشف القبول عن ملكه من حين الموت غير موجّه، بل غاية ما يمكن جعله كاشفاً عن ملكه من حين موت مورّثه، و هو أمر آخر غير الكشف والنقل، إلا أن الإشكال إنّما يأتي على القول بأنّه لا يدخل في ملك الميت مطلقاً، كما أطلقه بعضهم (3). و هو لا يتم.

والحق أنه على القول بالكشف ينتقل إلى ملك الميت. وسيأتي تحقيقه (4).

قوله: «لو أوصى بجارية وحملها لزوجها - إلى قوله _ فيرث؛ لعتقه قبل القسمة».

هذا فرع على المسألة السابقة المتضمنة لكون القبول موروثاً، فإذا فرض كون الموصى به جارية وحملها، والحال أنّ الحمل ولد الموصى له بتزويج أو غيره، ففرض المصنف كون الموصى له زوجاً غير لازم ويفرض كون الحمل رقاً لمولى الجارية بالاشتراط على القول بصحته. وحينئذ فإذا مات الموصى له قبل القبول، وقلنا بانتقال حقه إلى وارثه فقبل

ص: 267


1- تقدم في ص 254.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 333، الرقم 4729.
3- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 444.
4- يأتي في ص 268 - 269 .

......

------

الوصيّة بهما ملك الجارية والولد و لا ينعتق الولد؛ لأنّ أباه لم يملكه، وإنما انتقل ملكه ابتداءً إلى الوارث، كما أشرنا إليه سابقاً (1).

نعم، لو كان ممن ينعتق على الوارث كما لو كان الوارث ابناً والحمل أُنثى - انعتق عليه. ولو فرض كون الوارث متعدّداً وبعضه ممّن ينعتق عليه والآخر ممن لا ينعتق عليه كما لو كان ابناً وبنتاً - عتق منه بحساب ما يرث منه من ينعتق عليه، فينعتق في الفرض ثلثاه.

وهذا كله مبنيّ على أنّ قبول الوارث يوجب انتقال الموصى به إليه ابتداء من غير توسط المورّث مطلقاً، كما أشرنا إليه في الأصل المبني عليه (2).

ويشكل على القول بكون القبول كاشفاً؛ فإنّه يقتضي ملكه من حين الموت.

ولو فرض كون موت الموصى له بعده لزم من الكشف ظهور انتقاله إلى ملك المورّث لأن الوارث حين الموت لم يكن وارثاً، فلا يتصوّر ملكه للموصى له.

والقول باختصاص حكم الكشف بما يمكن منه بالنسبة إلى الوارث و هو الحكم بملكه من حين موت مورّثه إلى حين قبوله؛ نظراً إلى الجمع بين الحكمين المتنافيين بحسب الإمكان - لا يطابق الدليل الدال على القول بالكشف وقد عرفته سابقاً؛ لأنّ حاصل الموجب له انحصار الملك بعد موت الموصي في الميت أو الوارث أو الموصى له مع إثبات بطلان ملك الأوّلين، فلو لم يحكم بملك الموصى له بعد الموت و لا يملك وارثه عاد المحذور السابق، واحتيج إلى إثبات مالك للمال حينئذ، ومعه لا ضرورة إلى القول بملك القابل قبل قبوله، مع كون القبول جزء السبب المملك.

والتحقيق في هذه المسألة القول بملك الموصى له في هذا الفرض و إن كان غير قابل؛ لقيام قبول الوارث مقام قبوله؛ لأنّه خليفته ونائب عنه، فكأنه بالوصية إليه قد صار له ملك أن يملك ولو بغير اختياره على تقدير قبول مورّثه، وهذا غير ضائر؛ لأنّ قبول الوصية ليس

ص: 268


1- سبق في ص 258 - 259.
2- راجع ص 253.

......

------

بشرط في التملك مطلقاً، بل قد يصير الموصى له مالكاً بدون القبول في بعض الموارد كما قد عرفت، فصيرورته مالكاً بقبول خليفته أولى.

وحينئذ فلا بد من تحرير محلّ النزاع، فإنّ قول المصنف «فمات قبل القبول» شامل لما لو مات في حياة الموصي وبعده، وحكمه بعده بعدم العتق على الموصى له مطلق أيضاً، و هو لا يتم مطلقاً بل يتحصل مما حققناه أن موت الموصى له إن كان في حياة الموصي فعدم انتقال الملك إليه مطلقاً جيّد في موضعه؛ لأنّ الملك مشروط بوفاة ظهوصي، فإذا فرض قبول الوارث ملك بالموت، سواء كان قبوله في حياة الموصي إن اعتبرناه أم بعد وفاته، وحينئذ فينتقل الملك إلى الوارث ابتداءً على التقديرين بغير إشكال، و لا عتق هنا على الوارث إلا أن يكون ممن ينعتق عليه بخصوصه، وعلى هذا التقدير يتم ما أطلقه المصنّف من الحكم.

و إن كان موت الموصى له بعد موت الموصي وقبل القبول فقبل الوارث بني الحكم بالعتق على القول بانتقال الملك متى هو؟ فإن قلنا: ينتقل بالقبول لا على معنى الكشف كما هو مختار العلّامة (1) وظاهر فتوى المصنّف - فالحكم كذلك؛ لأنّه لم ينتقل إلى ملك الميت أيضاً كالسابق.

و إن قلنا: إن القبول يكشف عن سبق الملك من حين الموت فالوجه الحكم بانعتاقه على الموصى له الميت للحكم بملكه له قبل موته و إن لم يقبل كما بيّناه (2)، مع احتمال العدم و اختصاص الكشف بما بعد وفاة الموصى له، وقد عرفت ما فيه. هذا ما يتعلق بالعتق.

وأما الإرث بالنسبة إلى هذا الولد فنقول: إن حكمنا بعدم عتقه على أبيه كما أطلقه المصنّف لم يرث منه؛ لأنّه رقّ، إلا أن يكون ممّن ينعتق على الوارث، فيمكن فرض إرثه بأن يعتق قبل القسمة حيث يكون الوارث متعدّداً. و إن قلنا بعتقه على أبيه على تقدير تأخر موته عن الموصي بناءً على الكشف - ورث أيضاً في الجملة. وتحرير البحث يتم بأمرين:

ص: 269


1- راجع ص 254.
2- راجع ص 264.

......

------

أحدهما إثبات أصل الإرث. و وجهه واضح؛ لأن بنوته معلومة وإنما المانع من إرثه الرق وقد زال بقبول الوارث حيث يعتق عليه أو على الميت؛ لأنّه الفرض.

وقد خالف في ذلك الشيخ فمنع من إرثه مطلقاً (1)؛ لأنّه موقوف على قبول الوارث، فلو فرض كونه وارثاً لاعتبر قبوله في الإرث، واعتبار قبوله موقوف على كونه وارثاً، فيدور.

وأجيب بأنّ المعتبر قبول الوارث في الحال لا في المال (2)، وقد حصل بقبول من كان وارثاً حينئذ.

والثاني: ما يرث منه. فنقول: إن كان الوارث متحداً لم يرث هذا الولد مطلقاً لاختصاص الوارث بالتركة قبل عتقه.

و إن كان متعدّداً فلا يخلو إما أن يكون موت أبيه الموصى له قبل موت الموصي أو بعده. ففي الأول لا يرث من أُمّه مطلقاً؛ لأنها لم تدخل في ملك أبيه، فلم تكن من التركة كما لم يدخل هو فيها، وأما ما ترك أبوه فإن كان وقع القبول قبل قسمة الورثة شارك أو اختص.

و في الثاني يبنى على الكشف بالقبول أو الانتقال، فعلى الثاني لا يرث من أُمه شيئاً أيضاً؛ لأنّها لم تدخل في ملك أبيه، وعلى الكشف يرث منها؛ لأنها صارت من جملة التركة والحال أنها لم تقسم حين الحكم بحريته؛ لأنّ ذلك حين القبول، و إن كانت بقية التركة قد قسمت وبني إرثه من باقي التركة على القسمة وعدمها.

ومما قرّرناه يعلم أنّ قول المصنّف ويكونوا جماعة فيرث؛ لعتقه قبل القسمة لا يتمّ على إطلاقه، بل قد يكون عنقه قبل القسمة وقد يكون بعدها. نعم، يأتي مطلقاً بالنسبة إلى أُمّه كما بيّناه، ولعلّ المصنّف أراد إثبات مطلق الإرث كما يرشد إليه إطلاقه التعليل.

ص: 270


1- المبسوط، ج 3، ص 233.
2- أجاب به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 29.

لا تصح الوصية في المعصية

● و لا تصح الوصية في معصية. فلو أوصى بمال للكنائس أو البيع، أو كتابة ما يسمّى الآن توراةً أو إنجيلاً، أو في مساعدة ظالم بطلت الوصية.

● والوصية عقد جائز من طرف الموصي ما دام حيّاً، سواء كانت بمال أو ولاية.

------

قوله: «و لا تصح الوصيّة في معصية. فلو أوصى بمال للكنائس أو البيع، أو كتابة ما يسمّى الآن توراةً أو إنجيلاً، أو في مساعدة ظالم بطلت الوصية».

قد تقدم البحث في ذلك في الوقف (1)، و في الفرق بين الوصية للكافر والكنيسة والبيعة فلينظر ثُمَّ.

ومقتضى إطلاق العبارة عدم الفرق بين كون الموصي كذلك مسلماً وكافراً. والأمر في المسلم واضح؛ لأنّه معصية في اعتقاده و في نفس الأمر. أما من الكافر المعتقد لكونه طاعةً فوجهه تحقق المعصية في الواقع فيحكم بالبطلان بالنسبة إليه أيضاً، لفقد شرط الصحة، وقد تقدّم في الوقف أنّ ذلك منه صحيح (2). ويمكن الجمع بين الحكمين بمعنى إقراره عليه لو ترافعوا إلينا؛ إجراء لهم على أحكامهم، و هو معنى الصحة ظاهراً و إن كان باطلاً في نفسه.

و في تقييده بتسمية الكتابين الآن توراة وإنجيلاً، تنبيه على أنهما محرّفان، فليسا هما الكتابين المنزلين من الله.

والمراد أن المجموع من حيث هو مجموع كذلك لا الجميع؛ لأنّ بعضه أو أكثره باقٍ على أصله قطعاً. والمراد بمساعدة الظالم على ما هو ظلم، ومن حيث هو ظالم، فلو أوصى بمساعدة شخص ظالم لا من حيث الوصف صح.

قوله: «والوصية عقد جائز من طرف الموصي ما دام حياً» إلى آخره.

لا خلاف في جواز رجوع الموصى في وصيته ما دام حيّاً؛ لأنه ماله وحقه، و«الناس مسلّطون على أموالهم» (3).

ص: 271


1- تقدّم في ص 36 - 38.
2- تقدم في ص 40.
3- تقدم تخريجه في ص 164، الهامش 2.

ما يوجب الرجوع في الوصيّة

● ويتحقق الرجوع بالتصريح وبفعل ما ينافي الوصية. فلو باع ما أوصى به أو أوصى ببيعه أو وهبه وأقبضه أو رهنه كان رجوعاً.

و کذا لو تصرف فيه تصرفاً أخرجه عن مسماه، كما إذا أوصى بطعام فطحنه، أو بدقيق فعجنه أو خبزه. و کذا لو أوصى بزيتٍ فخلطه بما هو أجود منه، أو بطعام فمزجه بغيره حتى لا يتميّز.

------

وإنّما يتحقق كون الوصيّة عقداً يقبل الفسخ على تقدير قبول الموصى له في حياة الموصي، فلو تأخر قبوله لم يتحقق العقد مع بقاء الحكم وهو جواز رجوع الموصي فيه.

ويمكن أن يقال: حكمه بجوازه مع تمامه بالقبول يقتضي جوازه قبله بطريق أولى، فليس فيه إخلال.

وعلى كل حال فعقد الوصيّة من العقود المتردّدة بين الجواز واللزوم، بمعنى جوازه في حال ولزومه في آخر، و هو ما بعد الوفاة والقبول، إما مع القبض أو بدونه على الخلاف.

وحينئذ فإطلاق بعض الأصحاب (1) اكونه من العقود اللازمة مع مخالفته صريحاً لما ذكره المصنّف هنا وغيره (2) - لا يستقيم، مع أن أحكام الجائز جارية عليه مطلقاً، كجواز تراخي القبول، وكونه فعلياً، وعدم اعتباره باللفظ العربي، وغير ذلك.

قوله: «ويتحقق الرجوع بالتصريح وبفعل ما ينافي الوصية» إلى آخره.

اعلم أنّ الرجوع في الوصية و نحوها من العقود الجائزة قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل. والقول إمّا صريحاً، أو استلزاماً، أو باعتبار إشعاره بإرادة الرجوع. فهذه أقسام أربعة أشار المصنف إلى جملتها:

فالأوّل: القول الصريح، كقوله: «رجعت في الوصية الفلانية» أو «نقضتها» أو «فسختها»

ص: 272


1- في حاشية «ي»: «المراد به الشيخ علي بن عبد العالي (رحمه الله). (منه رحمه الله)». راجع جامع المقاصد ج 11، ص 283.
2- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 565.

......

------

أو « لا تعطوه ما أوصيت له به». و في معناه قوله: «هو - أي الموصى به لوارثي» أو «ميراثي» أو «ميراث لا من تركتي» على الأقوى؛ لأنّ الموصى به من جملة التركة.

والثاني: مثل بيع العين الموصى بها؛ لأنه يستلزم نقل الملك إلى المشتري، فيمتنع معه بقاء الوصية، وعتق المملوك وكتابته، لاقتضائهما قطع السلطنة التي من جملتها الوصيّة والهبة مع الإقباض؛ لانتقال الملك به، أما بدون الإقباض فهي من القسم الثالث.

[الثالث]: و هو فعل ما يدلّ على إرادة الرجوع و إن لم يكن صريحاً. ويتحقق بفعل مقدمات الأمور التي لو تحققت لناقضت الوصية، كالعرض على البيع مريداً له؛ فإنّه قرينة دالة على إرادة الرجوع عن الوصيّة. ومثله العرض على الهبة - فضلاً عن الشروع فيها - قبل إكمال ما يوجب لزومها. و في معناه العرض على العقد الموجب لنقل الملك أو المنع من التصرف، كالقرض والصلح والرهن.

ولو دلّت القرينة في هذه المواضع على عدم إرادة الرجوع بذلك، بل كان الغرض أمراً آخر عوّل عليها؛ لضعف هذا القسم حيث كان مناطه القرينة.

ويشكل الحال لو أشكل الغرض. ولعلّ ترجيح الرجوع أولى؛ عملاً بظاهر حال العاقل.

وقول المصنف «أو وهبه وأقبضه» قد يوهم أنه مع عدم الإقباض لا يكون رجوعاً، و هو محتمل؛ نظراً إلى بقائه على ملكه، إلا أن الظاهر خلافه، و إن تقييده بقبضه يصيّره من أمثلة القسم الثاني.

وقد نبه من القسم الثالث على مثال واحد، و هو الوصيّة ببيعه، فإنّ الوصية كما عرفت عن قريب - يجوز نقضها، فكانت في معنى التوكيل في بيعه وهبته، و هو أبلغ من الهبة بالفعل قبل القبض، إلّا أنّ ذكر الهبة المقبوضة بعد الوصية ببيعه يشوّش الأمثلة، ويضطرب بسببها ترتيب الأقسام.

وقد ذكر أيضاً من أمثلة الرجوع رهنه من غير أن يشترط،قبضه، مع أنّ مذهبه عدم لزوم

ص: 273

......

------

الرهن بدون القبض (1)، فالجمع بينه وبين التمثيل بالهبة المقبوضة لا يخلو من تشويش و إن كان الحكم في نفسه صحيحاً.

الرابع: الفعل المبطل للاسم الذي هو متعلّق الوصية، كما لو أوصى له بحنطة معينة فطحنها، أو بدقيق فعجنه، أو بعجين فخبزه، أو بقطن فغزله، أو بغزل فنسجه، أو بدار فهدمها بحيث خرجت به عن اسمها، أو بزيت فخلطه بغير جنسه بحيث لم يتميز؛ و وجه البطلان في جميع ذلك أنّ متعلّق الوصيّة هو المسمّى الخاص وقد زال، مضافاً إلى إشعار هذه الأفعال بالرجوع.

ولو خلط الزيت بمماثله جنساً، فإن كان الغير أجود، فظاهرهم القطع بكونه رجوعاً؛ لاشتمال حصته على زيادة و لم يحصل منه الرضى ببذلها مع عدم إمكان فصلها.

و إن خلطه بمساءٍ أو أردأ فمفهوم كلام المصنف أنّه لا يكون رجوعاً؛ لبقاء المال وعدم اشتماله على وصف مانع. و هو ظاهر مع المساواة، ومع الأرداً يكون القدر الناقص من الوصف بمنزلة إتلاف الموصى له، فيبقى الباقي على الأصل.

وأطلق جماعة (2) كون الخلط موجباً للرجوع. و هو حسن مع انضمام قرينة تدلّ عليه.

وهذا كله مع عدم دلالة القرينة على عدم إرادة الرجوع بهذه الأفعال، كما إذا فعل ذلك لمصلحة العين كدفع الدود عن الحنطة بطحنها، وخبز العجين حذراً من فساده، وخلطه كذلك، و نحو ذلك؛ فإنّ مرجع هذه الأمور إلى القرائن المقترنة بها نفياً وإثباتاً.

ولو كان الفعل من غير الموصي بغير إذنه لم يقدح؛ لانتفاء المقتضي.

واعلم أنّ الحكم مخصوص بالمعين كما أشرنا إليه بأن أوصى بهذه الحنطة، أو بهذا

ص: 274


1- راجع ج 3، ص 401.
2- منهم الشيخ في المبسوط، ج 3، ص 247؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 570؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 259 ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11 ص 319.

......

------

الزيت، أو بما في البيت منه؛ فإنّ تغييره دليل على صرفه عن جهة الوصية .

أمّا المطلق ك- «أعطوه صاعاً من حنطة» فطحن ما عنده منها لم يكن رجوعاً؛ لعدم اختصاص الموصى به بما عنده، حتى لو لم يوجد في تركته لوجب تحصيله من خارج فلا يضر تغيير ما عنده.

والمصنّف (رحمه الله) قد أشار إلى الفرق في عبارته، وخص موضع البطلان بالمعينة؛ حيث أعاد الضمائر إلى الموصى به في قوله «كما إذا أوصى بطعام فطحنه» إلى آخره؛ فإنّه لو كان مطلقاً لم يتصوّر الحكم بكون المطحون هو الطعام الموصى به و کذا غيره؛ لأنّه حينئذٍ يكون ماهيّةً كلّيّةً والأفراد الخاصة غيرها و إن أمكن تشخصه بها.

وهذا التفصيل واضح، وقد نبه عليه جماعة (1) منهم العلّامة في القواعد (2)، لكن في التذكرة عکس الحكم، فقال - بعد أن حكم بكون التغيير المذكور رجوعاً-:

أما لو أشار إلى حنطةٍ أو دقيق فقال: «أوصيت بهذا» أو قال: «أوصيت بما في البيت» ففي بطلان الوصية بالطحن والعجن إشكال أقربه العدم؛ إذ الاسم تعلّقت به الوصية هنا (3).

ومقتضى الاستدراك تخصيص الحكم بالرجوع بغير المعيّن، وليس بجيّد بل و لا سديد كما لا يخفى والاعتذار له:

بأن الوصية إذا تعلقت بعين مخصوصة لم تبطل إلا بتلفها أو بحصول القرينة الدالة على الرجوع، كطحن الحنطة ليأكلها لا بدونها، وصيرورة الحنطة دقيقاً لا يعد تلفاً عرفاً، فلا تبطل الوصية بمجرّده (4).

ص: 275


1- كالشيخ في المبسوط، ج 3، ص 247: والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11، ص321.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 570.
3- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 516 (الطبعة الحجرية).
4- اعتذر له المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11، ص 320.

● أما لو أوصى بخبز فدقه فتيتاً لم يكن رجوعاً.

------

تعليل بموضع النزاع ومستلزم لعدم البطلان بهذه الأفعال في المطلق بطريق أولى، و لا يقول به أحد في القسمين معاً، بل هم بين مطلق لكون ذلك رجوعاً (1)، وبين مخصص له بالمعين (2). و في التذكرة ما يدلّ على العكس (3)، فتأمل.

قوله: «أما لو أوصى بخبز فدقه فتيتاً لم يكن رجوعاً».

لأنّ هذا الفعل لا يدلّ على الرجوع و لا بالقرينة، مضافاً إلى أصالة بقائها على حالها.

وعلّل أيضاً ببقاء اسم الخبز. وفيه نظر. نعم، لو استفيد من القرائن إرادة الرجوع به عمل بها.

و في القواعد استشكل في ذلك، وألحق به جعل القطن محشوّاً في فراش، وتجفيف الرطب تمراً، وتقديد اللحم (4).

و وجه الاشكال مما ذكرناه، ومن دعوى أنّ ظاهر هذه الأفعال يؤذن بإرادة الاستيثار بها. والوجه في الجميع ما قلناه من عدم إفادة الرجوع إلا مع القرينة.

كل ذلك مع التعيين، كما يستفاد من ضمير «فدقه»، أما مع الإطلاق فلا، بل يجب تحصيل غیره ولو من غير التركة.

ص: 276


1- كالعلّامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 457؛ والشهيد في اللمعة الدمشقية، ص 214 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج (13) والسيوري في التنقيح الرائع، ج 2، ص 368.
2- كالشيخ في المبسوط، ج 3، ص 247؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 259 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 516 (الطبعة الحجرية).
4- قواعد الأحكام، ج 2، ص 571.

[الفصل] الثاني في الموصي

اشارة

● ويعتبر فيه كمال العقل، والحرّيّة. فلا تصح وصيّة المجنون، و لا الصبي ما لم يبلغ عشراً. فإن بلغها فوصيّته جائزة في وجوه المعروف - لأقاربه وغيرهم - على الأشهر إذا كان بصيراً. و قيل: تصح و إن بلغ ثمان. والرواية به شاذة.

------

قوله - في الموصي -: «ويعتبر فيه كمال العقل والحرّية - إلى قوله - والرواية به شاذة». تفريع عدم صحة وصيّة الصبي على اعتبار كمال العقل مبني على الغالب، من أنّ العقل لا يكمل بدون البلوغ أو ما في معناه من المدة المذكورة هنا، وإلا فيمكن بكثرة خلافه؛ إذ العقل المعتبر في التصرفات يحصل بدونه غالباً؛ ولهذا يعبّرون كثيراً باعتبار البلوغ والعقل؛ ليفر عوا عليه حكم الصبي والمجنون، والأمر سهل.

إذا تقرر ذلك فقد اختلف الأصحاب في صحة وصيّة الصبي الذي لم يبلغ بأحد الأمور الثلاثة المعتبرة في التكليف بسبب اختلاف الروايات في ذلك، فذهب الأكثر من المتقدمين والمتأخرين إلى جواز وصيّة مَنْ بلغ عشراً مميزاً في المعروف، وبه أخبار كثيرة:

منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيّته» (1).

وصحيحة أبي بصيرعنه علیه السلام قال: «إذا بلغ الغلام عشر سنين فأوصى بثلث ماله في حق

ص: 277


1- الكافي، ج 7، ص28، باب وصيّة الغلام والجارية.... 3: الفقيه، ج 4، ص 196، ح 5453؛ تهذيب الأحكام. ج 9، ص 181، ح 726.

......

------

جازت وصيّته» (1)، وغيرهما من الأخبار المتظافرة (2).

وأضاف الشيخ إلى الوصيّة الصدقة والهبة والوقف والعتق (3)؛ لرواية زرارة عن الباقر علیه السلام وقد تقدمت (4).

و في قول المصنف لأقاربه وغيرهم» إشارة إلى خلاف ما روي في بعض الأخبار من الفرق، كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ قال: «الغلام إذا حضره الموت فأوصى و لم يدرك جازت وصيّته لذوي الأرحام و لم تجز للغرباء» (5). ورواها ابن بابويه في الفقيه (6). و هو يقتضي عمله بها كما أشار إليه في أول كتابه (7).

والقائل بالاكتفاء في صحة الوصية ببلوغ الثمان ابن الجنيد، واكتفى في الأُنثى بس سنين (8)؛ استناداً إلى رواية الحسن بن راشد عن العسكري قال: «إذا بلغ الغلام ثماني سنين فجائز أمره في ماله، وقد وجب عليه الفرائض والحدود، و إذا تم للجارية سبع سنين فكذلك» (9).

وهذه الرواية مع ضعف سندها شاذة مخالفة لإجماع المسلمين من إثبات باقي الأحكام غير الوصيّة، ولكنّ ابن الجنيد اقتصر فيها على الوصيّة. ومثل هذه الروايات لا تصلح لإثبات الأحكام خصوصاً المخالفة للنصوص الصحيحة بل إجماع المسلمين.

ص: 278


1- الكافي، ج 7، ص 29 باب وصيّة الغلام والجارية.... ح 4؛ الفقيه، ج 4، ص 197، ح 5455: تهذيب الأحكام ج 9، ص 182، ح 732.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 361 - 363، باب 44 من أبواب كتاب الوصايا.
3- النهاية، ص 611، و لم يذكر فيها الوقف، لكنه قال في ص 596: الوقف والصدقة شيء واحد
4- تقدم تخريجها في ص 28، الهامش 1.
5- الكافي، ج 7، ص 28، باب وصيّة الغلام والجارية.... ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 181، ح 728.
6- الفقيه، ج 4، ص 197، ح 546.
7- الفقيه، ج 1، ص 2 - 3.
8- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 348، المسألة 124.
9- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 183، ح 736 .

● ولو جرح الموصى نفسه بما فيه هلاكها ثمَّ أوصى لم تقبل وصيته.

------

وابن إدريس سد الباب واشترط في جواز الوصية البلوغ كغيرها (1)، ونسبه الشهيد في الدروس إلى التفرد بذلك (2). و لا ريب أن قوله هو الأنسب؛ لأنّ هذه الروايات التي دلّت على الحكم و إن كان بعضها صحيحاً، إلّا أنّها مختلفة بحيث لا يمكن الجمع بينها، فإثبات الحكم المخالف للأصل بها مشكل.

قوله: «ولو جرح الموصي نفسه بما فيه هلاكها ثمَّ أوصى لم تقبل وصيته».

هذا هو المشهور بين الأصحاب، ومستنده صحيحة أبي ولاد قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام يقول: «من قتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها»، قلت له: أرأيت إن كان أوصى بوصيّة ثمَّ قتل نفسه من ساعته تنفذ وصيته؟ قال فقال: «إن كان أوصى قبل أن يحدث حدثاً في نفسه من جراحة أو قتل أجيزت وصيّته في ثلثه، و إن كان أوصى بوصية بعد ما أحدث في نفسه من جراحة أو قتل لعله يموت لم تجز وصيته» (3).

والرواية مع صحتها نص في الباب.

وعلل مع ذلك بدلالة الفعل على سفهه، وبعدم استقرار حياته فيكون في حكم الميت، وبأنّ القاتل يمنع من الميراث لغيره فيمنع من نفسه؛ لأنّ قبول وصيته نوع إرث لنفسه.

والكلّ ضعيف أمّا السفه؛ فلأنّ الفرض انتفاؤه وثبوت رشده إن شرطنا انتفاءه في غيره، ومن الجائز أن يفعل بنفسه ذلك لعارض، ثمَّ يرجع إليه رشده لو فرض زواله حالته.

وأما استقرار الحياة فليس بشرط، والأصل يقتضي نفوذ تصرّف الحي العاقل الجامع لباقي الشرائط مطلقاً، والنصوص الدالة على نفوذ وصية المريض مطلقاً متناولة له، والقياس على عدم حلّ المذبوح حينئذ لكونه بمنزلة الميت فاسد لو سلّم الأصل، وسيأتي إن شاء الله

ص: 279


1- السرائر، ج 3، ص 206.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 240 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- الكافي، ج 7، ص 45، باب من لا تجوز وصيّته من البالغين، ح 1: الفقيه، ج 4، ص 202 - 203، ح 5473؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 207، ح 820.

لا تصح الوصية بالولاية إلّا من الأب والجد

● ولو أوصى ثمَّ قتل نفسه قبلت.

● و لا تصح الوصية بالولاية على الأطفال إلا من الأب أو الجدّ للأب خاصةً.

------

ما فيه في بابه (1)، ومن ثُمَّ وجبت الدية على قاتله في هذه الحالة، وحل اللحم حكم آخر.

وأما حديث منع القاتل من الميراث (2) وجعل الوصية كالميراث فواضح الفساد، فلم يبق إلّا العمل بالنص الصحيح إن اقتضاه أصل المعنى، أو ردّه بأحد الوجوه المقتضية له، ككونه آحاداً أو مخالفاً للأصول، كما اختاره ابن إدريس؛ محتجاً على الصحة بأنّه حي عاقل مكلّف، وبالنهي عن تبديل الوصية بعد سماعها بالقرآن (3) الذي هو حجة، المتناول بعمومه لمحل النزاع، أو بمنع تخصيص القرآن بخبر الواحد. ولكلام ابن إدريس وجه وجيه و إن كان الوقوف مع المشهور والعمل بالنص الصحيح أقوى.

قوله: «ولو أوصى ثمَّ قتل نفسه قبلت».

هذا الحكم لا إشكال فيه: لوقوع الوصيّة حالتها من مستجمع للشرائط المعتبرة فيها، و في صحيحة أبي ولاد السابقة (4)، ما يدلّ عليه أيضاً.

وتوهم أن الفعل الواقع عقيبه دالّ على عدم ملكة الرشد مردود؛ لجواز تجدّده لو سلمت دلالته عليه.

و في حكمه ما لو أوصى ثمَّ جنّ أو ضار سفيهاً إن منعنا من وصية السفيه، ولأن حال المريض يؤدي إلى ذلك وما في معناه.

قوله: «و لا تصح الوصية بالولاية على الأطفال إلا من الأب أو الجد للأب خاصةً».

لما كانت الولاية على الغير من الأحكام المخالفة للأصل - إذ الأصل عدم جواز تصرف الإنسان في مال غيره بغير إذنه أو ما في معناه - وجب الاقتصار في نصب الولي على

ص: 280


1- يأتي في ج 9، ص 299.
2- الكافي، ج 7، ص 141، باب ميراث القاتل، ح 5 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 378، ح 1352.
3- السرائر، ج 3، ص 197 - 198: والآية في سورة البقرة (2) 181.
4- سبقت في ص 279.

● و لا ولاية للأُمّ، و لا تصح منها الوصيّة عليهم. ● ولو أوصت لهم بمال ونصبت وصيّا صح تصرّفه في ثلث تركتها، و في إخراج ما عليها من الحقوق، و لم تمض على الأولاد.

------

الأطفال على محلّ النص أو الوفاق، و هو نصب الأب أو الجد له، فلا يجوز للحاكم و إن كان ولياً عليهم أن ينصب بعده عليهم وليّاً؛ لأنّ ولايته مقصورة عليه حيّاً، فإذا مات ارتفع حكمه و إن جاز له أن يوكل حيّاً عليهم؛ لأن له الولاية حينئذ.

ويشمل إطلاق المنع من تولية غيرهما الوصي من أحدهما، فليس له أن يوصي عليهم بالولاية مع عدم نصهما على ذلك على أصح القولين، وسيأتي إن شاء الله تعالى (1)، أمّا مع النصّ فتولية الوصي حينئذ في معنى تولية أحدهما؛ لصدوره عن إذنه، كما جازت ولاية الوصي ابتداءً عنهما.

قوله: «و لا ولاية للأم، و لا تصح منها الوصيّة عليهم».

هذا الحكم داخل في السابق الدال على عدم صحة الوصيّة عليهم لغير الأب والجد له، وإنّما خصّ الأُمّ بالذكر بعد دخولها؛ لإثبات ابن الجنيد الولاية لها مع رشدها بعد الأب (2). و هو شاذ.

قوله: «ولو أوصت لهم بمال ونصبت وصيّاً صح تصرفه في ثلث تركتها» إلى آخره.

هذا الحكم واضح بعد ما سلف من عدم ولايتها عليهم. ونبه بتخصيصه على أنّ تبعض وصيتها - إذا اشتملت على أمور بعضها سائغ وبعضها ممنوع - غير مانع من نفوذ المشروع منها، وحينئذ فتصح وصيتها لهم بالمال، و لا يصح إيصاؤها، بل يبقى حكم المال الموصى به كسائر أموالهم يرجع فيه إلى وليهم الخاص أو العام.

و يحتمل صحة الوصية هنا فى ثلث المال؛ لأنّ لها إخراجه عنهم رأساً، فيجوز إثبات

ص: 281


1- يأتي في ص 405-406.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 368، المسألة 151.

......

------

الولاية عليه للغير بطريق أولى. وقد ذهب إلى هذا الاحتمال الشيخ في المبسوط إذا كان الناصب الأب مع وجود الجد (1)، والمأخذ واحد.

ويضعف بمنع الملازمة والأولوية؛ فإنّ إزالة الملك تقتضي إبطال حق الوارث أصلاً وبقاؤه في ملك الوارث يقتضي كون الولاية عليه لوليه الشرعي.

ص: 282


1- المبسوط، ج 3، ص 258.

[الفصل] الثالث في الموصى به

اشارة

و فيه أطراف:

الطرف الأول في متعلّق الوصية

اشارة

الأول في متعلّق الوصية

و هو إما عين أو منفعة. ● ويعتبر فيهما الملك فلا تصح بالخمر، و لا الخنزير، و لا كلب الهراش، و لا ما لا نفع فيه.

------

قوله: «ويعتبر فيهما الملك» إلى آخره.

المراد به هنا صلاحية الملك للموصي والموصى له، كما ترشد إليه الأمثلة، فإنّ المذكورات لا تقبل الملك بالنسبة إلى المسلم، أو مطلقاً؛ بناءً على اعتبار الواقع في نفس الأمر و إن جاز إقرار الكافر على وصيّته بشيء من ذلك لمثله؛ لأنّ ذلك أعم من الصحة، كما أشرنا إليه سابقاً (1). و لا بد من تقييد الخمر بغير المحترمة، فإنّها مملوكة تقبل النقل بالوصيّة وغيرها. واحترز بكلب الهراش عن الكلاب الأربعة والجرو القابل للتعليم، فتصح الوصيّة بها؛ لكونها مملوكة لها قيمةً ومنفعة.

و يجوز أن يريد ب-«الملك» ما هو أعم ممّا ذكرناه ومن الملك بالفعل؛ ليستفاد منه عدم جواز الوصية بمال الغير. و هو جيد و إن لم يشر إليه في الأمثلة.

والمراد ب-«ما لا ينتفع به» نفعاً معتداً به في نظر العقلاء بحيث يكون متمو لا، فلا تصح الوصيّة بمثل حبّة الحنطة وقشر الجوزة، كما لا يصح نقله بغير الوصية.

ص: 283


1- سبق في ص 270.

● ويتقدّر كلّ واحد منهما بقدر ثلث التركة فما دون ولو أوصى بما زاد بطلت في الزائد خاصةً، إلا أن يجيز الوارث.

------

وإنّما احتيج إلى تقييد الملك بما ذكرنا ليخرج؛ لأنّ الحق كونها مملوكة في الجملة، حتى لا يصح غصبها من المالك و إن لم تجز المعاوضة عليها؛ لعدم التموّل.

قوله: «ويتقدّر كلّ منهما بقدر ثلث التركة فما دون» إلى آخره.

هذا هو المشهور بين الأصحاب وربما كان إجماعاً، والأخبار الصحيحة به متظافرة (1)، وقد ذكرنا بعضها فيما سلف في مقام آخر (2).

و ذهب عليّ بن بابويه إلى نفوذ الوصية مطلقاً من الأصل: محتجاً (3) برواية عمّار الساباطي عن أبي عبد الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ قال: «الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح إن أوصى به كلّه فهو جائز» (4). وضعف الرواية مع معارضتها للنصوص الصحيحة (5)، وفتوى الأصحاب وغيرهم (6) يردّ هذا القول، مع أنّها لا تدلّ على المطلوب؛ فإنّا نقول بموجبها، و إن للإنسان أن يوصي بجميع المال ما دام حيّاً، و هو لا ينافي توقف نفوذها بعد موته على إجازة الوارث. وهذا أولى من حمل الشيخ لها على مَنْ لا وارث له (7)؛ لأنّا نمنع من الحكم فيه أيضاً، لأن

ص: 284


1- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 271 - 282، الباب 10 - 11 من أبواب كتاب الوصايا.
2- سبق في ج 3، ص 548 – 549.
3- في حاشية «و»: «واعلم أنّ أخباراً كثيرة تدلّ على ماذهب إليه ابن بابويه غير ما ذكرناه، لكنها مشتركة في ضعف السند، واقتصرنا على رواية عمّار تبعاً للجماعة وحذراً من طول الكلام بغير طائل. (منه رحمه الله)».
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 350، المسألة 125؛ والرواية وردت في الكافي، ج 7، ص7، باب أن صاحب المال أحق بماله ما دام حيّاً، ح 2: والفقيه، ج 4، ص 202، ح 5471؛ وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 187، ح 753؛ والاستبصار، ج 4، ص 121، ح 459.
5- راجع تهذيب الأحكام، ج 9، ص 198، ح 790، وص 242، ح 937؛ والاستبصار، ج 4، ص 125 - 126، ح 473، وص 126، ح 474.
6- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 447، المسألة 4593؛ والمجموع شرح المهذب، ج 15 ص 436.
7- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 187 - 188، ذيل الحديث 753؛ الاستبصار، ج 4، ص 121، ذيل الحديث 459.

● ولو كانوا جماعةً فأجاز بعضهم نفذت الإجازة في قدر حصته من الزيادة.

● وإجازة الوارث تعتبر بعد الوفاة. و هل تصح قبل الوفاة؟ فيه قولان أشهرهما أنها تلزم الوارث.

------

وارثه العام داخل في عموم ما دلّ على توقف الزائد على إجازته (1).

قوله: «ولو كانوا جماعة فأجاز بعضهم نفذت الإجازة في قدر حصته من الزيادة».

لما كانت الوصيّة ممّا يقبل التبعيض لكونها تبرّعاً محضاً - وكان الزائد عن الثلث منها موقوفاً على إجازة الوارث جاز له إجازة البعض، كما يجوز له إجازة الجميع؛ لأن ذلك حقه فله التبرع بجملته وبعضه. وكما يجوز ذلك لبعض الورثة دون بعض ويلزم كل واحد حكمه كذلك يجوز إجازة البعض من الجميع، كالنصف والثلث، وينعقد بالقدر المجاز دون ما عداه. فلو فرض كون الوارث ابناً وبنتاً وأوصى بنصف ماله، فإن أجازا معاً فالمسألة من ستة؛ لأنّ لهما نصف التركة أثلاثاً، وللموصى له نصفها، و إن ردّاً معاً فالمسألة من تسعة؛ لأنّ لهما ثلثي التركة أثلاثاً، فأصلها ثلاثة، ثم تنكسر عليهما في مخرج الثلث و لا وفق.

و إن أجاز أحدهما ضربت وفق إحدى المسألتين و هو الثلث في الأُخرى تبلغ ثمانية عشر للموصى له الثلث بغير إجازة ستة، ولهما اثنا عشر أثلاثاً. فمن أجاز منهما دفع من نصيبه ما وصل إليه من السدس الزائد، و هو سهم من البنت وسهمان من الابن؛ إذ لو أجاز الابن لكان له ستة من الثمانية عشر، ومعه من الاثني عشر ثمانية، فيدفع إلى الموصى له سهمين، ولو أجازت البنت لكان لها ثلاثة من الثمانية عشر ومعها أربعة فتدفع سهماً، فيكمل للموصى له على تقدير إجازتهما تسعة هي النصف، وعلى تقدير إجازته خاصة ثمانية، وعلى تقدير إجازتها خاصةً سبعة. وقس عليه ما يرد عليك من نظائره.

قوله: «وإجازة الوارث يعتبر بعد الوفاة. و هل تصح قبل الوفاة؟» إلى آخره.

أكثر الأصحاب على أن إجازة الوارث مؤثرة متى وقعت بعد الوصية، سواء كان ذلك في

ص: 285


1- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 275 - 282، الباب 11 من أبواب كتاب الوصايا.

......

------

حياة الموصي أم بعد وفاته. وقال المفيد وابن إدريس: لا تصح الإجازة إلا بعد وفاته (1)؛ لعدم استحقاق الوارث المال قبله فيلغو كرده.

و يدلّ على المشهور صحيحة منصور بن حازم (2)، وحسنة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله علیه السلام في رجل أوصى بوصيّةٍ، وورثته شهود فأجازوا ذلك، فلما مات الرجل نقضوا الوصية هل لهم أن يردّوا ما أقروا به؟ قال: «ليس لهم ذلك، الوصيّة جائزة عليهم إذا أقروا بها في حياته» (3). وغيرهما من الأخبار (4).

ويؤيّده عموم الأدلة الدالة على وجوب إمضاء الوصية (5) وكون الإرث بعدها (6)، خرج منه ما إذا لم يجز الوارث مطلقاً فيبقى الباقي، ولأنّ المنع من نفوذ الزائد عن الثلث إنما هو لحق الورثة، و هو متحقق في حال الحياة، فإذا أجازوا فقد أسقطوا حقهم، ولأن المال الموصى به لا يخرج عن ملك الموصي والورثة؛ لأنه إن برى كان المال له، و إن مات كان للورثة، فإن كان للموصى فقد أوصى به و إن كان للورثة فقد أجازوه.

و بهذا يظهر الجواب عن حجّة المانع. والاعتماد على النص الصحيح، والباقي شاهد أو مؤيد و لا فرق في ذلك بين كون الوصيّة والإجازة حال صحة الموصى ومرضه المتصل بالموت وغيره؛ لاشتراك الجميع في المقتضي.

والفرق بين إجازة الوارث حال الحياة ورده - حيث لم يؤثر الثاني دون الأول - أنّ

ص: 286


1- المقنعة، ص 670: السرائر، ج 3، ص 194.
2- الكافي، ج 7، ص 12، باب بلا عنو إن ذيل الحديث: الفقيه، ج 4، ص 200، ذيل الحديث 5464: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 193، ح 776: الاستبصار، ج 4، ص 122، ح 465.
3- الكافي، ج 7، ص 12، باب بلا عنوان، ح 1: الفقيه، ج 4، ص 200، ح 5464: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 193. ح 775: الاستبصار، ج 4، ص 122، ح 464.
4- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 283 - 285، الباب 13 من أبواب كتاب الوصايا.
5- البقرة: (2) 181.
6- النساء (4): 11 و 12.

● و إذا وقعت بعد الوفاة كان ذلك إجازةً لفعل الموصي، وليس بابتداء هبة، فلا تفتقر صحتها إلى قبض.

------

الوصية مستمرة ببقاء الموصي عليها، فيكون استدامتها كابتدائها بعد الرد فلا يؤثر، بخلاف الردّ بعد الموت؛ لانقطاعها حينئذ، وبخلاف الإجازة حال الحياة؛ لأنها حق الوارث وقد أسقطه، فلا جهة لاستمراره، ودوام الوصيّة يؤكّدها.

واعلم أنّ إذن الوارث للموصي في الوصيّة بما زاد على الثلث في معنى الإجازة، فإن قلنا: إنّ الإجازة حال حياته تلزمهم، فكذا مع إذنهم له في الوصيّة بالزائد، و إن قلنا: لا تلزم فكذا مع الإذن.

قوله: «و إذا وقعت بعد الوفاة كان ذلك إجازة لفعل الموصي» إلى آخره.

لا ريب في توقف ما زاد من الوصية عن الثلث على إجازة الورثة، فإن أجازوا في حال الحياة حيث نعتبره كان تنفيذاً لا ابتداء عطيّة بغير إشكال؛ لأنّ الوارث لم يملك حينئذ، فلا يأتى فيه الاحتمال.

و إن وقعت الإجازة بعد الوفاة ففي كونها تنفيذاً لما فعله الموصي أو ابتداء عطية من الوارث وجهان، من انتقال الحق إليهم بالموت وزوال ملك الموصي، و إن تصرف الموصي في الزائد على الثلث منهي عنه (1)، والنهي يقتضي الفساد؛ لأن الزيادة حق الورثة، فيلغو تصرّف الموصي فيها، وتكون العطية من الوارث.

ومن أنّ الملك باقي على ملك المريض لم يخرج عنه بمرضه، فيصح تصرفه؛ فيه المصادفته الملك، وحق الوارث إنّما يثبت في ثاني الحال، فأشبه بيع الشقص المشفوع وإرث الخيار حيث تترتب عليه إجازة البيع؛ فإنّه لا يكون ابتداء بيع، بل تنفيذ لما فعل سابقاً.

وأيضاً فإنّ الوارث ليس بمالك، وثبوت حق الإجازة له لا يقتضي الملك؛ لأن الحق أعمّ

ص: 287


1- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 271 - 282، الباب 10 - 11 من أبواب كتاب الوصايا.

......

------

منه، فتصرّف الموصي في ملكه وإجازة الوارث في معنى إسقاط حقه، ولأنه لو برئ من مرضه نفذت تصرفاته المنجزة مع كونها كانت متوقفة على إجازة الوارث كالوصية - على ما يأتي (1) - و لم تفتقر إلى الاستئناف، فدلّ على اعتبار ما وقع من الموصي لا على فساده.

و بهذا يرجح كونها تنفيذاً كما ذكره المصنّف و هو مذهب الأصحاب لا يتحقق فيه خلاف بينهم، وإنّما يذكر الأخير وجهاً أو احتمالاً، وإنما هو قول للعامة (2)، والمرجح عندهم ما اخترناه أيضاً.

ويجاب عمّا ذكروه في توجيه ذلك الوجه بالمنع من كون التلفظ بالوصية منهيّاً عنه، وكون النهي في مثل ذلك يقتضي الفساد، ولو سلّم فإنّما يقتضيه لو لم يجز الوارث. ونمنع من كون الزيادة حقاً للورثة، بل هي ملك الموصي غايته أنّ حقهم قد تعلّق بها، ومع الإجازة يسقط، كإجازة المرتهن تصرّف الراهن.

إذا تقرر ذلك فيتفرع عليه أحكام كثيرة ذكر المصنّف منها حكماً واحداً:

و هو أنه على تقدير كونه تنفيذاً لفعل الموصي لا عطيّةً لا تفتقر صحتها إلى قبض من الموصى له، ولو جعلناها عطيّةً افتقرت إلى القبض، كما تفتقر العطية المبتدأة.

ومنها: أنه لا يفتقر إلى تجديد هبة، بل يكفي «أجزت» و«أنفذت» و«أمضيت» وما أفاد هذا المعنى. وعلى العطية تفتقر إلى لفظ يدلّ عليها و إن لم يكن بلفظ الإجازة وما في معناها.

ومنها أنّه لا يفتقر إلى قبول الموصى له بعد الإجازة لو كان قد تقدّم قبوله للوصية قبلها. وعلى العطية يفتقر إلى القبول بعد الإجازة بغير فصل معتد به كغيرها من العطايا.

ومنها: أنه ليس للمجيز الرجوع و إن لم يحصل القبض من الموصى له حيث لم يعتبر القبض في لزوم الوصية. ولو جعلناها عطيّة فله الرجوع فيها ما لم يحصل القبض المعتبر في العطية.

ص: 288


1- يأتي في ص 449.
2- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 449، المسألة 4595، وص 457، المسألة 4605.
يجب العمل بالوصيّة المشروعة

● ويجب العمل بما رسمه الموصي إذا لم يكن منافياً للمشروع.

------

ومنها ما لو أجاز الوصية و هو لا يعلم بالقدر الزائد على الثلث و لا بقدر التركة صحت الإجازة؛ بناءً على التنفيذ، وعلى العطية المبتدأة يشترط مع احتمال عدمه؛ بناء على جواز هبة المجهول. و في التذكرة قطع بعدم الاشتراط، ونسبه إلى علمائنا (1)، مؤذناً باتفاقهم عليه.

ومنها: لو أعتق مملوكاً لا مال له سواه، أو أوصى بعتقه وأجاز الورثة فالولاء للموصي؛ لأنّه المعتق على المختار، فيكون لعصبته على القول بكون الوارث للولاء هو العصبة . وعلى الوجه الآخر يكون ثلث الولاء لعصبة الموصي وثلثاه لعصبة الوارث؛ لأنهم باشروا الإعتاق.

و يحتمل - تفريعاً على هذا الوجه - أن يكون الولاء للموصى أيضاً؛ لأنّ إجازة الوارث على تقدير كونها ابتداء عطيّة، كإعتاقه عن الميت بإذنه لا عن نفسه، و ذلك يقتضي ثبوت الولاء للآذن. وفرّع بعضهم على الثاني أنّه لا بد من الإتيان في إجازة العتق بلفظه؛ ليطابق كونه ابتداء عتق (2).

ومنها: لو كان الوارث المجيز مريضاً لم يتوقف صحة إجازته على خروج الموصى به من الثلث على التنفيذ، وعلى العطية يتوقف كالمبتدأة. والعلّامة جمع بين القول بالتنفيذ، واعتبار إجازة المريض من الثلث (3)، وظاهرهما التنافي.

ومنها: لو كانت الوصية لأحد الوارثين و لا رحم بينهما و لا زوجيّة فأجاز له الوصية فإن جعلناها تنفيذاً فلا رجوع له، و إن جعلناها ابتداء عطية فله الرجوع؛ لأنها عندهم بمنزلة الهبة. ويتفرّع أيضاً النماء والنفقة والفطرة وغير ذلك.

قوله: «ويجب العمل بما رسمه الموصي إذا لم يكن منافياً للمشروع».

هذا الحكم واضح؛ لأمر الله تعالى بالعمل بمقتضى الوصية وترتيبه الإثم على تبديلها (4).

ص: 289


1- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 482 (الطبعة الحجرية).
2- راجع المجموع شرح المهذب، ج 15، ص 410.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 456: تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 340 - 341، الرقم 4749.
4- البقرة: (2) 181.
يعتبر الثلث وقت الوفاة

● ويعتبر الثلث وقت الوفاة، لا وقت الوصاية. فلو أوصى بشيءٍ وكان موسراً في حال الوصية ثمَّ افتقر عند الوفاة لم يكن بإيساره اعتبار. وكذلك لو كان في حال الوصيّة فقيراً ثمَّ أيسر وقت الوفاة، كان الاعتبار بحال إيساره.

------

و لا ريب أن ذلك مقيّد بما لا يخالف المشروع وإلا لم ينفذ، ومن الرسم الذي لا يخالف المشروع تخصيص الإناث من الصنف الموصى لهم أو الذكور، أو تفضيل أحد الصنفين على الآخر، أو تخصيص العاجز أو الصالح أو العالم، أو غير ذلك من الأوصاف المطلوبة للعقلاء، المطابقة للشرع.

قوله: «ويعتبر الثلث وقت الوفاة لا وقت الوصاية - إلى قوله كان الاعتبار بحال إيساره».

إنّما اعتبر الثلث عند الوفاة؛ لأنّه وقت تعلّق الوصية بالمال، واستقرار الملك للوارث والموصى له، و هو يتم على إطلاقه مع كون الموصى به قدراً معيناً، كعين أو مائة درهم مثلاً أو بجزء من التركة، مع كونه حالة الموت أقل منه زمان الوصية أو مساوياً؛ لأنّ تبرعه بالحصة المخصوصة زائدة يقتضي رضاه بها ناقصة بطريق أولى.

أما لو انعكس أشكل اعتبار وقت الوفاة؛ للشكّ في قصد الزائد، وربما دلّت القرائن على عدم إرادته على تقدير زيادته كثيراً؛ حيث لا تكون الزيادة متوقعة له غالباً.

و وجه إطلاق المصنف وغيره (1) اعتبار حالة الوفاة الشامل لذلك: النظر إلى إطلاق اللفظ الشامل لذلك. وقد يتفق زيادة التركة بعد الوفاة ونقصانها بالدية على دم العمد، وتلف بعض التركة قبل قبض الوارث، فيشكل أيضاً إطلاق اعتبار حالة الموت؛ لإفضاء الأوّل إلى نقصان الوصيّة عمّا عيّنه الموصي، ونفوذها على الوارث في الزائد عن الثلث بغير اختياره في الثاني. وينبغي اعتبار الأقل إلى حين القبض في الثاني والأكثر في الأول.

ص: 290


1- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 457؛ وتحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 343، الرقم 4756؛ والشهيد في غاية المراد، ج 2، ص 297 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).
لو أوصى بالمضاربة على تركته

● ولو أوصى ثمَّ قتله قاتل أو جرحه كانت وصيته ماضيةً من ثلث تركته وديته وأرش جراحته.

● ولو أوصى إلى إنسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أنّ الربح بينه وبين ورثته نصفان صح. وربما يشترط كونه قدر الثلث فأقلّ والأوّل مروي.

------

قوله: «ولو أوصى ثمَّ قتله قاتل أو جرحه كانت وصيته ماضيةً» إلى آخره.

بناءً على اعتبار المال حين الوفاة، وهذا مما حصل حال الوفاة مقترناً بها. و هو ظاهر في أرش الجراحة وأمّا الدية فلم تستقر إلا بالوفاة فهي في الحقيقة متأخرة عنها و إن اقترنت بها، ومع ذلك لا ينافي ما اعتبره المصنف من وقت الوفاة؛ لأنّ الوقت في مثل هذا يعتبر فيه الأمر العرفي، و هو ممتد يحتمل مثل هذا.

و يظهر من قوله «وديته» أنّ الحكم مخصوص بقتل الخطا؛ لأنه هو الموجب للدية على الإطلاق. وأما العمد فإن قيل: إنّه يوجب أحد الأمرين: القصاص أو الدية فيدخل في العبارة؛ لأن الدية أحد الأمرين المترتبين على الوفاة المستندة إلى القتل، فكانت الدية مقارنة للوفاة كالخطإ و إن كان لها بدل. وأما على القول المشهور - من أنّ موجب العمد القصاص، وإنما تثبت الدية صلحاً، والصلح لا يتقيد بالدية، بل يصح بزيادة عنها ونقصان - ففي دخوله في العبارة تكلّف. وقد يندفع بأنه حينئذٍ عوض القصاص الذي هو موروث عن المجني عليه، وعوض الموروث موروث.

وربما أُشكل من وجه آخر، و هو أنّ الموروث إنّما هو القصاص وليس بمال، فلا يتعلّق به الحق المالي المترتب على مال الميت.

ويندفع بأنه بقبوله المعاوضة بالصلح على مال في قوة الحق المالي وزيادة.

و في الدروس صرّح بعدم اعتبار ما يتجدد بعد الوفاة (1).

قوله: «ولو أوصى إلى إنسان بالمضاربة بتركته - إلى قوله - والأوّل مرويّ».

ص: 291


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 244 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

......

------

ما اختاره المصنف من جواز الوصية بالمضاربة هو المشهور بين الأصحاب، ومستندهم عليه رواية خالد بن بكير الطويل قال: دعاني أبي حين حضرته الوفاة، فقال: يا بني، اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به، وخذ نصف الربح وأعطهم النصف وليس عليك ضمان، فقد متني أُمّ ولد له بعد وفاة أبي إلى ابن أبي ليلى، فقالت: إنّ هذا يأكل أموال ولدي، قال: فاقتصصت عليه ما أمرنى به أبى فقال ابن أبي ليلى إن كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه. ثمّ أشهد علي ابن أبي ليلى إن أنا حركته فأنا له ضامن (1)، فدخلت على أبي عبد الله علیه السلام بعد ذلك فاقتصصت عليه قصتي، ثم قلت له: ما ترى؟ فقال: «أما قول ابن أبي ليلى فما أستطيع ردّه، وأمّا فيما بينك وبين الله فليس عليك ضمان» (2).

ورواية محمد بن مسلم - فى الموثق - عن أبي عبد الله علیه السلام أنه سئل عن رجل أوصى إلى - رجل بولده وبمال لهم، فأذن له عند الوصيّة أن يعمل بالمال ويكون الربح بينه وبينهم، فقال: « لا بأس به من أجل أنّ أباء قد أذن له في ذلك و هو حي» (3).

ومقتضى الروايتين كون الأولاد صغاراً، أما الأولى فبالتصريح، وأما الثانية فيظهر منها ذلك من قوله: «أوصى بولده»؛ فإنّ الوصية بغير (4) الولد الصغير غير صحيحة، وإطلاق الوصية محمول على الصحيحة. والمصنّف وأكثر الجماعة (5) أطلقوا الصحة في الورثة الشامل للمكلفين.

ص: 292


1- ما بين القوسين أثبتناه من حاشية «و»، ومن المصادر.
2- الكافي، ج 7، ص 61 - 62، باب النوادر، ح 16؛ الفقيه، ج 4، ص 228، ح 5542: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 236، ح 919.
3- الكافي، ج 7، ص 62، باب النوادر، ح 19؛ الفقيه، ج 4، ص 226 - 228، ح 5541؛ تهذيب الأحكام، ج 9. ص 236 - 237، ح 921.
4- في حاشية «و»: «بعين» كذا بخط «ع »ل» و هو أظهر.
5- منهم الشيخ في النهاية، ص 608؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 354 - 355. المسألة 130؛ وابن البراج في المهذب، ج 2، ص 118.

......

------

وشمل إطلاقهم وإطلاق الروايتين ما إذا كان الربح بقدر أجرة المثل، وما إذا كان زائداً عليها بقدر الثلث وأكثر، من حيث إنه ترك الاستفصال؛ و هو دليل العموم عند جمع من الأُصوليين (1).

و وجهه مضافاً إلى النص - أن المقيد بالثلث هو تفويت بعض التركة وليس حاصلاً هنا؛ ووجوده لأنّ الربح مما يتجدد بفعل العامل وسعيه، وليس ما يتجدد منه كالمتجدد من حمل الدابة والشجرة و نحوهما حيث كان معتبراً من الثلث؛ لظهور الفرق بأنّ ذلك نماء الملك متوقع، بخلاف الربح فإنّه أثر سعي العامل، مع أنّه إنما يحدث على ملك العامل والوراث فما يملكه العامل ليس للورّاث، و لا للموصى فيه حق.

و لا يقدح في ذلك شراؤه بمال الوارث، فيكون محسوبةٌ منه فيكون نماؤها تابعاً؛ لأنّها إنما تدخل في ملك الوارث على تقدير صحة المضاربة وإلا لم يكن الشراء نافذاً، ومتى صحت المضاربة كانت الحصة من الربح ملكاً للعامل، فلو لا صحة المضاربة لأدّى فسادها إلى عدم الفساد؛ لأنه على تقدير الفساد إنّما يكون لتفويت ما زاد على الثلث من التركة تبرّعاً، و ذلك إنما يكون على تقدير زيادة الحصة عن أجرة المثل بزيادة عن الثلث وكونه من نماء التركة، وإنّما يكون كذلك مع صحة المضاربة ليكون الشراء نافذاً، فلو فسدت المضاربة لم ينفذ الشراء، فلم يتحقق الربح، فانتفى التصرّف في الزائد عن الثلث، فانتفى المقتضي للفساد، فوجب الحكم بالصحة، فقد أدى فرض الفساد إلى عدمه هذا أقصى ما يوجه به القول بالصحة.

وفيه نظر أما من جهة الأخبار ففي سند الأولى جهالة من جهة خالد، و في طريق الثانية عليّ بن فضال (2) وأبو الحسن (3)، وهما و إن كانا ثقتين لكنّهما فاسدا العقيدة، والعمل بالموثق

ص: 293


1- منهم العلامة في تهذيب الوصول إلى علم الأصول، ص 133؛ والرازي في المحصول في علم أصول الفقه، ج 2، ص 386.
2- هو علي بن الحسن بن فضال وكان فطحيّاً. راجع ترجمته في رجال النجاشي، ص 257، الرقم 676؛ وخلاصة الأقوال، ص 177، الرقم 526.
3- هو أحمد بن محمد، ويسمى أبا الحسن وكان واقفياً. راجع ترجمته في رجال النجاشي، ص 92، الرقم 229: وخلاصة الأقوال، ص 321 الرقم 1262.

......

------

خروج عن قيد الإيمان، وجبر الضعف بالشهرة ضعيف مجبور بالشهرة.

وأما من جهة الاعتبار فإنّ المضاربة - و إن لم تقتض تفويت شيء من التركة على تقدير تسليمه - مشتملة على وضع اليد على مال الغير بغير إذنه خصوصاً إذا كان مكلفاً، وتعريضه بالضرب في الأرض إلى التلف المؤدّي إلى عدم الضمان مع عدم التفريط، مضافاً إلى ما لو وقعت بحصّةٍ قليلة للمالك في مدة طويلة كخمسين سنةً، و ذلك في حكم منع الوارث من التركة أصلاً. و هو باطل.

وأما القول بأن النماء إنّما يملكه العامل على تقدير صحة المعاملة، وحينئذ فلا تفويت في مال الوارث، و إن لم يصح لا يصح البيع ففيه إمكان جبره بإجازة المالك الشراء لنفسه، فيكون جميع الربح له فيحصل التفويت على تقدير صحة البيع وحصول الربح. ومن ثم ذهب ابن إدريس إلى أن الصحة مشروطة بكون المال قدر الثلث فما دون (1)؛ اطراحاً للأخبار، ورداً إلى الأصول المعلومة في هذا الباب، وبعض المتأخرين (2) إلى أن المحاباة في الحصّة من الربح بالنسبة إلى أجرة المثل محسوبة من الثلث أيضاً ولكلّ منهما وجه.

والذي نختاره في هذه المسألة أنّ الوارث إن كان مولّى عليه من الموصي كالولد الصغير - فالوصية بالمضاربة بماله صحيحة مطلقاً؛ لأنّ التكسب بماله غير واجب على الوصي، والحاصل من الربح زيادة فائدة، والتعرّض للتلف غير قادح؛ لأن الواجب على العامل مراعاة الأمن والحفظ وما فيه مصلحة المال والعمل به على هذا الوجه ممّا يرجحه العقلاء.

و لا يلزم مراعاة المدة التي شرطها الموصي، بل يصح ما دام الوارث مولّى عليه، فإذا كمل كان له فسخ المضاربة؛ لأنّها عقد مبني على الجواز. وتحديد الموصي لها بمدة لا يرفع

ص: 294


1- السرائر، ج 3، ص192.
2- كالسيوري في التنقيح الرائع، ج 2، ص 403.

......

------

حكمها الثابت بالأصل، وإنّما يفيد التحديد بالمدة المنع من التصرف فيما زاد عليها لا الالتزام بها فيها.

و لا يلزم من ذلك تبديل الوصيّة وتغييرها المنهي عنه (1)؛ لأنّ تبديلها هو العمل بخلاف مقتضاها، وهنا ليس كذلك؛ لأنّه لمّا أوصى بعقد جائز فقد عرّض العامل لفسخ العقد في كلّ وقت يمكن عملاً بمقتضاه، فلا يكون الفسخ تبديلاً للوصية بل عملاً بمقتضاها. و لا فرق حينئذٍ بين زيادة الحصة المجعولة للعامل عن أجرة المثل وعدمها، و لا بين كون المال بقدر الثلث وأزيد و لا بين كون الربح بقدر الثلث كذلك وأزيد؛ لما ذكرناه (2).

و إن كان الوارث مكلّفاً غير مولّى عليه فالوصية كذلك جائزة أيضاً، لكن لا يلزم الوارث الوفاء بها، بل له فسخها عاجلاً و في كل وقت كما قرّرناه في الصغير إذا كمل؛ لعين ما ذكرناه.

وفائدة الصحة أن الوارث إذا لم يفسخ وعمل الموصى له في المال استحق الحصة المعينة له؛ عملاً بمقتضى الوصيّة، وليس في هذا المقدار مخالفة للأصول الشرعية و لا للروايات؛ إذ ليس فيه تفويت على الوارث بوجه، و لا منع عن التصرف في ماله حتّى يتوقف على رضاه.

ويندفع بما قررناه ما أورده المانع من لزوم الإضرار بالوارث على تقدير زيادة المدة وقلة الربح؛ لأنّ ذلك مستند إليه حيث لم يفسخ مع قدرته عليه، والضرر على تقديره مستند إليه، وزمان الصغر لا ضرر في مدته؛ لقصرها غالباً وعدم التفويت. ولو عملنا بالروايتين قصرنا الحكم على كون الورثة مولّى عليهم كما وقع فيهما، ومع ذلك يخفّ الإشكال. و لعله أولى.

ص: 295


1- البقرة: (2) 181.
2- ذكره فى ص 292.
لو أوصى لواجب وغيره و لم يسع الثلث للجميع

● ولو أوصى بواجب وغيره فإن وسع الثلث عمل بالجميع. و إن قصر و لم تجز الورثة، بدئ بالواجب من الأصل، وكان الباقي من الثلث، ويبدأ بالأوّل فالأوّل. ولو كان الكلّ غير واجب، بدئ بالأوّل فالأوّل، حتّى يستو في الثلث.

------

قوله: «ولو أوصى بواجب وغيره فإن وسع الثلث عمل بالجميع» الى آخره.

إنّما يخرج الواجب من أصل المال إذا كان واجباً مالياً حتى يكون متعلقاً بالمال حال الحياة، سواء كان ماليّاً محضاً كالزكاة والخمس والكفّارات ونذر المال - أم ماليّاً مشوباً بالبدن - كالحج - فإنّ جانب المالية فيه مغلّب من حيث تعلّقه به في الجملة. أما لو كان الواجب بدنياً محضاً كالصلاة والصوم - فإنه يخرج من الثلث مطلقاً؛ لأنه لا يجب إخراجه عن الميت إلا إذا أوصى به فيكون حكمه حكم التبرعات الخارجة من الثلث مع الوصية بها وإلا فلا.

والأقوى وجوب الوصيّة به على المريض، كغيره من الواجبات إن لم يكن له وليّ يقضيه عنه.

وربما قيل بعدم وجوب الوصيّة به؛ لأن الواجب فعله بنفسه أو بوليه لانتفاء الدليل على ما سوى ذلك.

وفيه: أنّ علمه بوجوبه واستحقاقه العقاب على ترك الواجب اختياراً مع قدرته على براءة الذمة منه يوجب وجوب الوصيّة ليتخلّص من العقاب بتركه؛ فإنّ دفع الضرر عن النفس واجب.

نعم لو كان فوات الواجب لا بتفريطه كالغفلة عن الصلاة مع عدم القدرة على القضاء حال الوصية - احتمل حينئذٍ عدم وجوب الوصيّة؛ إذ لا عقاب على ذلك التفويت، و لا دليل على وجوب الوصيّة بالقضاء.

ويمكن الاستدلال على الوجوب مطلقاً بقول أبي عبد الله في صحيحة محمد بن له مسلم وغيره: «الوصيّة حقّ على كل مسلم» (1). والحق و إن كان أعمّ من الواجب إلّا أنّ «على»

ص: 296


1- راجع تهذيب الأحكام، ج 9، ص 172 - 173، ح 701 - 704: وبمعناه ورد في الكافي، ج 7، ص 3، باب الوصيّة وما أمر بها، ح 3 - 4: والفقيه، ج 4، ص 180 و 181 . ح 5412 و 5414.

......

------

ظاهرة في الوجوب، و لا ينافيه عدم وجوب الوصيّة لمن لا حق عليه؛ لأنّ ذلك خرج عن العموم بدليل،خارج فيبقى العامّ حجّة في الباقي.

ويمكن استعمال «على» في حقيقته ومجازه على سبيل التجوز حيث تعذر حملها على الحقيقة في جميع أفراد الوصية.

إذا تقرر ذلك فإذا اجتمع حقوق واجبة مالية وبدنية ومتبرع بها بدئ بالمالية من الأصل، ثمَّ نظر إلى ثلث الباقي، وأخرج منه الباقي مبتدئاً بالواجب الأوّل فالأول، ثمَّ بغيره على الترتيب إن لم يجز الوارث الجميع. ولو أجاز البعض بدئ به من الأصل كالواجب المالي. لكن لو ضاق المال عنهما بدئ بالواجب.

ولو حصر الموصي الجميع في الثلث بدئ بالواجب المالي، فإن فضل منه شيء أخرج من باقي المال و إن خرج عن مقتضى الوصيّة؛ لوجوب إخراج هذا النوع من الواجب و إن لم يوص به. و إن فضل من الثلث عنه شيء أخرج الواجب البدني بعده، وهكذا على الترتيب إلى أن يستو في الثلث، ويبطل الباقي حيث لا إجازة.

ولو كان الجميع غير واجب بدئ بالأوّل في الذكر فالأوّل حتى يستو في الثلث.

ولو كان مع الوصيّة منجز حال المرض يخرج من الثلث قدّم من الثلث على الوصيّة مطلقاً. هذا إذا أتى بالوصية مترتبة إما بأداة الترتيب ك- « ثمَّ» و«الفاء»، أو في الذكر فقط بالعطف ب- «الواو» أو بدونه، أو صرّح بترتيب بعضها على بعض ولو بالبدأة بما ذكره أخيراً، بأن عدد جملةً ثمَّ قال: «ابدأ بكذا ثم بكذا» إلى آخره. ولو جمع بأن ذكر أشياء ثم أوصى بمجموعها. أو قال: «أعطوا فلاناً وفلاناً مائة»، أو قال بعد الترتيب: «لا تقدموا بعضها على بعض» و نقص الثلث عنها دخل النقص على الجميع بالنسبة فيقسم عليها على جهة العول.

وإنّما بدئ بالأوّل فالأول ذكراً و إن لم يدخل عليه أداة الترتيب؛ لأن الوصية الصادرة أو لا نافذة لصدورها من أهلها في محلّها، بخلاف الصادر بعد استيفاء الثلث، و لا سبيل إلى التوزيع مع الضيق هنا؛ لاستلزامه تبديل الوصيّة النافذة.

ص: 297

......

------

و لا يرد مثله على الأخير لو نص آخراً على تقديمه؛ لأنّ نصه حينئذ في قوة تقديمه لفظاً؛ حيث إنّ المعتبر تلفظه وقصده، فلو قدم غيره أو شرّك لزم تبديل الوصية المنهي عنه (1)، و کذا لو نص على التشريك.

و لا يقال أيضاً: إنّ الحكم إنّما يتحقق عند تمام الكلام والمعطوف من جملته؛ لأنّ الوصايا المتعدّدة على الوجه السابق يتم الكلام مع كلّ واحدة، كقوله: «أعطوا فلاناً كذا أعطوا فلاناً كذا» فإذا صادفت الأولى محلّ النفوذ نفذت، و لم يجز تغييرها بطروء أُخرى عليها، كما لو باع شيئاً لزيد ثم باعه لعمرو، وإنّما يكون جملةً واحدةً حيث لا تتم الفائدة بدونه كقوله: «أعطوا فلاناً وفلاناً كذا».

ويشهد (2) لمراعاة الترتيب مضافاً إلى ما ذكرناه - رواية حمران عن أبي جعفر عن رجل أوصى عند موته أعتقوا فلاناً وفلاناً وفلاناً حتى ذكر خمسةً، فنظر في ثلثه فلم يبلغ ثلثه أثمان قيمة المماليك الذين أمرهم بعتقهم، قال: «يقومون وينظر إلى ثلثه فيعتق منهم أوّل من سمّاهم ثمَّ الثاني ثمَّ الثالث ثمَّ الرابع ثمَّ الخامس، و إن عجز الثلث كان ذلك في الذين سمّاهم أخيراً؛ لأنّه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك، و لا يجوز له ذلك» (3).

واعلم أنه لا فرق في هذا الحكم بين العتق وغيره من التبرعات، خلافاً للشيخ (4) وابن الجنيد (5)؛ حيث قدما العتق و إن تأخر و لا بين أن يقع المرتب متصلاً في وقت واحد عرفي أو في زمانين متباعدين كغدوة وعشيّة، خلافاً لابن حمزة حيث فرّق بينهما، فحكم

ص: 298


1- البقرة: (2) 181.
2- في حاشية «و»: «إنّما جعل الرواية شاهداً مع أنّها نص في الباب؛ لأنّ في طريقها أبا جميلة المفضل بن صالح. و هو ضعيف، وحمران لم ينص الأصحاب على تعديله لكنّه مشكور. (منه رحمه الله)».
3- الكافي، ج 7، ص 19، باب من أوصى بعتق أو صدقة.... ح 15؛ الفقيه، ج 4، ص 212، ح 5496؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 221، ح 867.
4- المبسوط، ج 3، ص 254.
5- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 383، المسألة 167.
لو أوصى بثلثه لواحد وبثلثه لآخر

● ولو أوصى لشخص بثلث ولآخر بربع ولآخر بسدس و لم تجز الورثة أُعطي الأوّل، وبطلت الوصية لمن عداه.

● ولو أوصى بثلثه لواحد، وبثلثه لآخر كان ذلك رجوعاً عن الأوّل إلى الثاني.

------

في الأوّل كما ذكره الجماعة، وجعل الثاني رجوعاً عن الأوّل إلا أن يسعهما الثلث فينفذان معاً (1). و هو شاذ ضعيف المأخذ.

قوله: «ولو أوصى لشخص بثلث ولآخر بربع» إلى آخره.

إنما صحت وصيّة الأوّل خاصةً لاستيفائها الثلث النافذ بدون الإجازة، مع رعاية ما تقدّم من وجوب تقديم الأوّل فالأول مع تجاوز الثلث. و لا يتوهم هنا أن الوصية المتأخرة تقتضي الرجوع عما قبلها؛ لأنّ الرجوع لا يثبت بمجرّد الاحتمال، بل لا بد له من لفظ يدلّ عليه، ومجرد الوصية بما زاد على الثلث ثانياً وثالثاً أعم من الرجوع عن الأوّل وعدمه، فلا تدلّ عليه.

و لا فرق بين أن يوصي بهذه الأجزاء المذكورة وبما شاكلها، كالوصية لواحد بنصف ولآخر بخمس ولثالث بربع، أو للأوّل بجميع المال ولآخر بثلث ولثالث بنصف، وغير ذلك من الفروض؛ لعدم وجود ما يدلّ على الرجوع في الجميع، فيعتبر الترتيب بالأوّل فالأول؛ عملاً بالقاعدة المستمرة عند عدم وجود ما يدلّ على خلافها، وسيأتي له مزيد تحقيق في المسألة الآتية.

قوله: «ولو أوصى بثلثه لواحد وبثلثه لآخر كان ذلك رجوعاً عن الأول إلى الثاني».

الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها - الموجب لاختلاف الحكم - أن الثلث المضاف إلى الموصي هو القدر النافذ فيه وصيته شرعاً، فإذا أوصى به ثانياً فقد رجع عن الوصية الأولى؛ لأنه ليس له ثلثان مضافان إليه على هذا الوجه، فيكون بمنزلة ما لو أوصى بمعين لواحد ثمَّ أوصى به لآخر بخلاف قوله: «لفلان ثلث» من غير إضافة إلى نفسه؛ فإنّه متعلق بجملة

ص: 299


1- الوسيلة، ص 375 – 376.

......

------

المال من غير أن ينسب إلى الثلث النافذ فيه الوصية. فإذا أوصى بعده بربع لا يتبادر إلى الفهم منه أنه بعض ذلك الثلث السابق، بل الربع الذي هو خارج عن الثلث المتعلّق بأصل المال، وكذلك السدس، فتكون وصايا متعددة لا تضاد بينها، فيبدأ بالأوّل منها فالأوّل إلى أن يستو في الثلث عند عدم الإجازة. و في معنى قوله: «ثلثي» قوله: «الثلث الذي تمضي فيه وصيتي» أو «الثلث المتعلّق بي» و نحو ذلك.

والحاصل أن المرجع إلى شيء واحد، و هو أن الأصل في كل وصيّة أن تحمل على الصحيحة، سواء كانت نافذةً من الأصل، أم متوقفةً على إجازة الورثة؛ لأن كلاً منهما صحيح، والتوقف على إجازة الورثة لا ينافيه، بل هو كالخيار الثابت للبائع؛ فإنّه لا ينافي ملك المشتري، خصوصاً على المختار من كون الإجازة تنفيذاً لا ابتداء عطية، ومن ثم لو بدأ فيما كان منجزاً صح الجميع مع توقف الزائد منه على الإجازة كالوصية، فمجرد التوقف على الإجازة لا ينافي الصحة.

و إذا عرفت أنّ كلّ وصيّة من هذه الوصايا صحيحة، فلا يزول هذا الحكم إلا بلفظ يدلّ على الرجوع عما سبق وحكم بصحته، و هو في المسألة السابقة وكلّ ما في معناها منتف، و في قوله « ثلثي» و نحوه موجود بالقرينة القوية. ولو أبدله بقوله لفلان،ثلث، ولفلان ثلث فكالأوّل؛ لعدم القرينة الدالة على الرجوع فضلاً عن الصريح، ومجرّد الشكّ في الرجوع كافٍ في عدمه فيحكم بصحة الجميع، ويعمل في الزائد عن الثلث بمقتضى القاعدة المستقرّة من البدأة بالأوّل فالأول.

ومتى وجدت الدلالة على الرجوع عمل بها، وكان الثاني ناسخاً للسابق. وعلى هذا فلو قال: «لزيد ثلث»، ثمَّ قال: «أعطوا عمراً ثلثى». كان ناسخاً للأوّل، لما ذكرناه. ولو عكس فقال: «أعطوا زيداً ثلثي»، ثمَّ قال: «أعطوا عمراً ثلثاً» لم يكن الثاني ناسخاً للأول؛ لعين ما ذكرناه من القرينة الدالة على الرجوع وعدمه.

ص: 300

......

------

ولو فرض في بعض الأوقات أو الأفراد تخلّفها فيما حكمنا بوجودها فيه أو وجودها فيما حكمنا بتخلّفها فيه عمل بمقتضاها نفياً وإثباتاً، إلا أنه عند التجرّد عن العوارض فظهورها فيما ذكرناه وانتفاؤها عن غيره ظاهر.

ولو عبر ب-«ثلث مالي» عوضاً عن «ثلثي» ففي إلحاقه به أو بالمطلق وجهان، يظهر وجههما مما حققناه.

والأقوى عدم التضاد هنا أيضاً؛ للشك في إرادة الرجوع بذلك مع كون اللفظ أعم، فإنّ ثلث ماله أمر آخر غير الثلث المنسوب إليه في باب الوصيّة الذي دلّت القرائن على إرادته مع الإضافة إليه، و لم يظهر ذلك مع الإضافة إلى ماله، وقد حققنا أن مجرد الشك كافٍ في عدم الحكم بالرجوع، و هو هنا موجود ولو فرض وجود قرينة خارجة عن اللفظ أفادت الرجوع عمل بها هنا أيضاً كما قرّرناه، إلا أن ذلك أمر خارج عن اللفظ. هذا خلاصة ما ينبغي تحقيقه في هذه المسائل.

واعلم أنّ كلام الأصحاب قد اختلف فيها اختلافاً كثيراً، وكذلك الفتوى حتى من الرجل الواحد في الكتب المتعدّدة بل الكتاب الواحد، فالعلّامة في القواعد وافق المصنف على ما ذكره في المسألتين، لكنه استشكل بعد ذلك في المسألة الثانية (1).

و في التحرير نسب الحكم في الثانية كذلك إلى علمائنا وجعل فيه نظراً (2)، و وجه الإشكال والنظر ممّا ذكرناه، ومن أنّ كلّ واحدة منهما وصيّة يجب تنفيذها بحسب الإمكان، و لا يجوز تبديلها مع عدم الزيادة، ومجرّد إضافة الثلث إليه لا يقتضي الرجوع؛ لأن جميع ماله ما دام حيّاً له فيصح إضافته إليه، وإنّما يخرج عن ملكه بعد الموت. ونحن نقول بموجبه إلا أنا ندعي وجود القرينة في هذه الإضافة على الرجوع، ومن ثم لما أبدلها بالإضافة إلى ماله فضلاً عن جعل الثلث مطلقاً شككنا في إرادة الرجوع فلم نحكم به وقدّمنا الأول.

ص: 301


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 457.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 345، الرقم 4760.

......

------

و في المختلف اعتمد على اعتبار القرينة وعدمها كما حققناه - وجزم بعدم وجودها في ثلث مالي و لم يتعرّض للثلث المضاف إلى الموصي بل اعتمد على القرينة، ومع الشكّ فيها على عدم الحكم بالرجوع (1). وهذا هو الحق في المسألة.

والمحقق الشيخ علي (رحمه الله) في شرحه اعتمد في المسألة على أصل آخر غير ما ذكرناه ورتب عليه الحكم، وهو:

أنّ الأصل في الوصيّة أن تكون نافذةً، فيجب حملها على ما يقتضي النفوذ بحسب الإمكان، وإنّما تكون الثانية نافذة إذا كان متعلّقها هو الثلث الذي يجوز للمريض الوصية به، فيجب حملها عليه، كما يجب حمل إطلاق بيع الشريك النصف على استحقاقه؛ حملاً للبيع على معناه الحقيقي. وحينئذ فيتحقق التضاد في مثل ما لو قال: «أُوصيت بثلث لزيد وبثلث لعمرو»، فيكون الثاني ناسخاً للأوّل فيقدّم، وأولى منه ما لو قال: «ثلث مالى»، ثمَّ فرّع عليه: «أنه لو أوصى لزيد بثلث ولعمرو بربع ولخالد بسدس» وانتفت القرائن أن يكون الوصية الأخيرة رافعةً للأولى، مع اعترافه بأنه مخالف لما صرح به جميع الأصحاب (2).

والحامل له على ذلك ما فهمه من أن إطلاق الوصيّة محمول على النافذة، وأنت قد عرفت مما حققناه سابقاً أنّ الإطلاق في الوصيّة وغيرها من العقود إنما يحمل على الصحيح (3)، أما النافذ بحيث لا يترتب عليه فسخ بوجه فلا اعتبار به قطعاً، ألا ترى أن الوصية بجميع المال توصف بالصحة، ووقوف ما زاد على الثلث على الإجازة، و لا يقول أحد إنّها ليست صحيحة؛ ولذلك لو باع بخيار حكم بصحة البيع و إن لم يكن نافذاً، بمعنى أنه لا يستحق أحد فسخه؟!

ص: 302


1- مختلف الشيعة، ج 6، ص 324، المسألة 104.
2- جامع المقاصد، ج 10، ص 122 – 124.
3- سبق في ص 299.

......

------

وما مثل به من بيع الشريك النصف، وأنه محمول على استحقاقه لا يؤثر هنا؛ للفرق بينه وبين المتنازع؛ لأنّ جميع التركة مستحقة للموصي حال حياته إجماعاً، فقد أوصى بما يستحقه، ومن ثُمَّ حكموا بصحة وصيّته بما زاد على الثلث، وصحة هبته له و إن توقف على إجازة الورثة؛ لأنّ ذلك لهم كالخيار للبائع بالنسبة إلى ملك المشتري بل أضعف؛ للخلاف في أن الملك هل ينتقل إليه في زمن الخيار أم لا؟ والاتفاق على أن التركة مملوكة للموصي ما دام حيّاً، ومن ثَمَّ لزمت الهبة لو برئ من مرضه، وكانت الإجازة تنفيذاً للوصية، لا عطيّةً متجدّدة على مختار أصحابنا، وقد ادعى الشيخ في المبسوط عليه الإجماع (1)، وإنما الخلاف في التنفيذ والعطية للعامة (2)، وأصحابنا يجعلون العطية احتمالاً مرجوحاً لا قولاً.

و إذا تقرر أن الإطلاق محمول على الوصية الصحيحة، وكل وصية من المذكورات صحيحة - سواء كانت نافذةً أم لا - لم تدلّ الوصيّة المتأخرة عن الوصية بالثلث على أنّها ناسخة للسابقة ورجوع عنها، بل على إرادة الموصي إعطاء كلّ واحدٍ ما أوصى له به و إن توقف ذلك على إجازة الورثة؛ فإنّ ذلك أمر آخر غير الوصية المعتبرة شرعاً.

وقد ظهر بذلك أنّه لا تضاد بين قوله: «أوصيت لزيد بثلث ولعمر و بثلث»، و لا بين قوله: لزيد بثلث ولعمر و بربع بطريق أولى». وإنّما يقع التضاد صريحاً إذا قال بعد الوصية لزيد بثلث: «أوصيت لعمر و بالثلث الذي أوصيت به لزيد» أو «بثلثي» أو «بالثلث الذي جعله الله تعالى لي» غير متوقف على إجازة و نحو ذلك، و في مثل قوله: «بثلثي لزيد ثمَّ بثلثي لعمرو» بالقرينة لا بالتصريح كما حققناه.

وأما الشيخ (رحمه الله) فقد اتفق له في هذه المسألة غرائب، ففي الخلاف قال:

إذا أوصى بثلث ماله لإنسان، ثم أوصى بثلث ماله لغيره، و لم تجز الورثة كانت الوصية الثانية رافعة للأولى وناسخة لها، ثم استدلّ عليه بإجماع الفرقة والأخبار، وبأنه لو قال:

ص: 303


1- المبسوط، ج 3، ص 206.
2- راجع المجموع شرح المهذب، ج 15، ص 411: والحاوي الكبير، ج 8، ص 210.

......

------

«العبد الذي كنت أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لفلان»؛ فإنه يكون رجوعاً عن الأولى فكذا إذا أطلق، وادّعى عدم الفرق بين المقيد والمطلق (1).

ثم قال في الخلاف أيضاً:

لو أوصى له بماله ولآخر بثلثه وأجازوا بطل الأخير، ولو بدأ بالثلث وأجازوا أُعطى الأوّل الثلث والأخير الثلثين (2).

وهذا ظاهر المنافاة للسابق الذي ادعى عليه الإجماع؛ لأنّ «الثلث» في المسألة الثانية مضاف إليه، فهو أقوى في إرادة ثلثه الخاص به من ثلث ماله في السابق الذي جعله رجوعا. وكون السابق في الثانية جميع ماله لا يؤثر في دفع المنافاة؛ لأنّ جميع ماله متضمن للثلث الذي أوصى به ثانياً (3). وما احتج به من الأخبار لم نقف عليه أصلاً، إلا من حيث عموم ما دلّ منها على جواز الرجوع عن الوصية (4)، و ذلك لا يفيد؛ لمنع تناوله للمتنازع فيه.

وأمّا استدلاله بالرجوع عن الوصية بالمعين من شخص إلى غيره، ودعواه عدم الفرق بين المعيّن والمطلق فيغني عن الجواب.

و في المبسوط ذكر ما حكيناه عن الخلاف في المسألتين أيضاً ثم ذكر مسألة ثالثةً، فقال:

رجل أوصى بثلث ماله لأجنبي وبثلث ماله للوارث، قد بيّنا مذهبنا فيه، و هو أن يمضي الأوّل منهما فإن اشتبه استعمل القرعة (5).

ص: 304


1- الخلاف ج 4، ص 154 - 155. المسألة 28.
2- الخلاف، ج 4، ص 142، المسألة 11.
3- في حاشية «و»: «قديتوهم أنّ التضمّن غير كافٍ في مساواة الزائد للثلث. ويقال: إنه لو أوصى بنصف ماله لشخص ثمّ أوصى بالثلث لآخر لم يكن بينهما تباين مع اشتمال النصف على الثلث. ودفع الوهم أنا لا ندعي كون التضمّن للثلث مطلقاً بمنزلة الثلث بل في مسألة الشيخ؛ لأنّ ماله المضاف إليه في قوة ثلثه وزيادة بخلاف قوله (نصفي» فإنّه لا يستلزم كون الثلث المنسوب إليه شرعاً داخلاً فيه؛ لأنّ للمال نصفاً آخر فيجوز بقاء الثلث ضمنه بخلاف جميع ماله فإنه متضمّن لثلثه قطعاً منه رحمه الله)».
4- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 302 - 307. الباب 18 من كتاب الوصايا.
5- المبسوط، ج 3، ص 208.

● ولو اشتبه الأوّل استخرج بالقرعة.

------

فجزم في هذه بتقديم الأولى، وجعله مذهب الأصحاب. وقال بعد ذلك:

إذا أوصى لرجل بثلث ماله ثمَّ أوصى لآخر بثلث ماله فهاتان وصيتان بثلثي ماله، و کذا إذا أوصى بعبد بعينه لرجل ثمَّ أوصى لرجل آخر بذلك العبد بعينه فهما وصيتان، ويكون الثاني رجوعاً عن الأول (1).

وهذا ظاهر التنافي بين الحكمين، وإنّما افترقا بكون أحد الموصى له في الأولى وارثاً. والآخر أجنبياً، و لا فرق بذلك عندنا، وإنّما قصد به الردّ على المخالفين الفارقين بين الوصية للوارث والأجنبي، كما ذكره قبل ذلك بغير فصل (2).

فتأمل كيف ادعى في الخلاف الإجماع على نسخ الثانية الأولى، و في المبسوط نسب تقديم الأولى إلى مذهبنا المشعر أيضاً بالإجماع كما يظهر من عادته أن يكون ذلك ف--ي مقابلة مذهب المخالفين، ومع ذلك يذكر الحكم مختلفاً في كلّ واحد من الكتابين مع اتحاد مثال المسألة. والله الموفق.

قوله: «ولو اشتبه الأوّل استخرج بالقرعة».

أي اشتبه السابق من الموصى لهما بالثلث؛ فإنّه يستخرج بالقرعة ليحكم بالوصية للمتأخّر على ما اختاره، أو له على القول الآخر؛ إذ لا فرق بين الحكمين في اعتباره بالقرعة. وصفتها أن يكتب في رقعة اسم أحدهما وأنه السابق، ثم يكتب في أخرى اسم الآخر وأنّه السابق ويجمعان ويخفيان ثمَّ يخرج إحداهما، فمَنْ خرج اسمه كان هو السابق. ولو كتب في كلّ رقعة أن صاحبها المتأخر صح أيضاً. وقس على ذلك ما لو تعدّد الموصى له.

ص: 305


1- المبسوط، ج 3، ص 246.
2- المبسوط، ج 3، ص 245.

● ولو أوصى بعتق مماليكه دخل في ذلك مَنْ يملكه منفرداً، ومَنْ يملك بعضه، واعتق نصيبه حسب. و قيل: يقوّم عليه حصة شريكه إن احتمل ثلثه لذلك، وإلّا عتق منهم من يحتمله الثلث، وبه رواية فيها ضعف.

------

قوله: «ولو أوصى بعتق مماليكه دخل في ذلك مَنْ يملكه منفرداً» إلى آخره.

أما دخول المملوك جميعه فواضح، وأمّا المبعض فلصدق المملوكية له على ذلك البعض، ومماليكه الموصى بعتقهم جمع مضاف فيفيد العموم في كل ما تناوله اللفظ.

وأمّا عدم تقويم حصة الشريك عليه و إن و فى ثلثه بقيمتها فلز وال ملكه عن ماله بالموت إلا ما استثناه، وحصة الشريك ليست منه، والعتق إنّما حصل بعد الموت فصادف عدم المال الموجب لعدم السراية.

والقول بالتقويم للشيخ في النهاية (1)، ونصره في المختلف (2)؛ لرواية أحمد بن زياد، عن (3) أبي الحسن قال: سألته عن الرجل تحضره الوفاة وله مماليك لخاصة نفسه، وله مماليك في شركة رجل آخر، فيوصي في وصينه مماليكي أحرار ما حال مماليكه الذين في الشركة؟ فكتب: «يقومون عليه إن كان ماله يحتمل فهم أحرار»، ولأنّ الموصي أوجد سبب السراية في العتق؛ لاستناد العتق في الحقيقة إليه؛ ولهذا كان له ولاؤه فيوجد مسبّبه.

وفيه: أنه إن أراد مطلق السبب أعمّ من التام لم يفده المطلوب، و إن أراد به التام منعناه هنا؛ لأنّ السبب التام للسراية العتق مع اليسار واليسار هنا منتف؛ لأنه لا يملك بعد الموت. أو نقول: إن سبب السراية إنما هو العتق لا الوصية به، والعتق إنّما وقع بعد الوفاة، فمستبه جب أن يقع بعدها كذلك مع اجتماع شرائطه التي من جملتها اليسار، و هو منتف عنه بعد الوفاة؛ لما ذكرناه.

ص: 306


1- النهاية، ص 616-617.
2- مختلف الشيعة، ج 6، ص 344، المسألة 120.
3- الكافي، ج 7، ص 20، باب من أوصى بعتق أو صدقة .... ح 17؛ الفقيه، ج 4، ص 213، ح 5500؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 222، ح 872.
لو أوصى بشيءٍ واحد لاثنين

● ولو أوصى بشيءٍ واحد لاثنين و هو يزيد عن الثلث و لم تجز الورثة كان لهما ما يحتمله الثلث. ولو جعل لكلّ واحد منهما شيئاً بدئ بعطيّة الأوّل، وكان النقص على الثاني منهما.

------

فإن قيل: كما أن العتق سبب قريب في السراية كذلك الوصية سبب فيها؛ لأنّها سبب العتق وقد حصلت حالة اليسار؛ لأنه المفروض، والعتق سبب في السراية.

قلنا: مجرد وجود السبب لا يقتضي وجود المسبب، إلا إذا اجتمعت شرائطه، وإلا فيمكن تخلّف المسبب عن سببه؛ لفقد شرطه، و هو هنا كذلك؛ لأنّ شرط العتق وفاة الموصي؛ لأنه جعله وصيّةً، والوصيّة إنّما تقع بعد الوفاة، فإذا تخلّف المسبّب و هو العتق عن سببه إلى ما بعد الوفاة لزم منه تخلف مسبّبه و هو السراية كذلك، وتمَّ المطلوب حيث لم يصادف المال.

وأما الرواية فلا تصلح لتأسيس الحكم بذاتها؛ لضعف سندها بأحمد بن زياد المذكور؛ فإنه واقفي غير ثقة (1).

قوله: «ولو أوصى بشيء واحد لاثنين» إلى آخره.

المراد بوصيته بالواحد للاثنين في الأوّل جعلها بلفظ واحد بحيث لا يحصل الترتيب بين الوصيتين و إن كان اللفظ أعم من ذلك بقرينة الحكم بأن قال: «أعطوا فلاناً وفلاناً مائة درهم أو الدار الفلانية»؛ فإنّها تكون وصيّةً واحدةً، فإن لم يحتملها الثلث جاء النقص عليهما معاً بالنسبة.

والمراد بجعله لكلّ منهما شيئاً وصيّته لهما متعاقبةً، بأن يقول: «أعطوا زيداً خمسين وأعطوا عمراً خمسين»، أو «أعطوا زيداً نصف الدار وعمراً نصفها»؛ بقرينة الحكم و إن كان اللفظ أيضاً أعم منه لتناوله الصورة الأولى كالعكس، فإنّه لو قال: «أوصيت لزيد وعمرو بالدار الفلانية» لكلّ واحد نصفها فقد صدق أنه جعل لكلّ واحد منهما شيئاً. وحكمه كالأول.

ص: 307


1- خلاصة الأقوال، ص 319، الرقم 1251.

● ولو أوصى بنصف ماله مثلاً فأجاز الورثة، ثم قالوا: ظننا أنه قليل، قضي عليهم بما ظنّوه وأحلفوا على الزائد. وفيه تردّد.

------

ولو قال: «أوصيت لهما بالدار لزيدٍ منها البيت الفلاني، ولعمر و الباقي» فالظاهر أنّها وصيّة واحدة و إن كان آخرها مفصلاً متعاقباً؛ لأنه وقع بياناً لما أجمله أوّلاً، وقد أوقعه لهما دفعةٌ . ومثله ما لو قال: «أوصيت لهما بمائة درهم، لزيد منها ثلاثون، ولعمرو الباقي».

ولو اقتصر على التفصيل الأخير فلا ريب في كونهما وصيتين متعاقبتين، فيقدم الأُولى منهما حيث لا يسعهما الثلث.

و لا فرق على تقدير التعاقب بين أن يوصي لكلّ منهما بشيء معين من المعين، كالبيت الفلاني من الدار ومشاع كالنصف؛ لاشتراكهما في المقتضي.

قوله: «ولو أوصى بنصف ماله مثلاً فأجاز الورثة» إلى آخره.

المراد أنّه يقبل قولهم في قلة المال مع يمينهم ويقضى عليهم بما ادعوا ظنّه، كما لو قالوا بعد إجازتهم لوصيته بنصف ماله ظننا أنّه ألف درهم فظهر ألف دينار» فإذا حلفوا قضى عليهم بصحة الإجازة في خمسمائة درهم.

و وجه قبول قولهم استناده إلى أصالة عدم العلم بالزائد، مضافاً إلى أن المال ممّا يخفى غالباً، ولأن دعواهم يمكن أن تكون صادقةً، و لا يمكن الاطلاع على صدق ظنهم إلا من قبلهم؛ لأنّ الظنّ من الأمور النفسانية، فلو لم يكتف فيه باليمين لزم الضرر؛ لتعذر إقامة البينة على دعواهم.

و وجه تردّد المصنّف مما ذكرناه، ومن تناول لفظه للقليل والكثير وقدومه على ذلك، مع كون المال ممّا يخفى كما ذكر، فالرجوع إلى قولهم رجوع عن لفظ متيقن الدلالة على معنى يعم الجميع إلى دعوى ظنّ يجوز كذبه.

والأقوى القبول، وحينئذ فيدفع إلى الموصى له نصف ما ظنوه وثلث باقي التركة.

ص: 308

● أمّا لو أوصى بعبد أو دار فأجازوا الوصيّة، ثمَّ ادعوا أنهم ظنّوا أنّ ذلك بقدر الثلث أو أزيد بيسير لم يلتفت إلى دعواهم؛ لأنّ الإجازة هنا تضمّنت معلوماً.

------

قوله: «أما لو أوصى بعبد أو دار فأجازوا الوصية» إلى آخره.

نبه بقوله «لأنّ الإجازة تضمّنت معلوماً» على الفرق بين ما إذا كانت الوصية بعين فأجازوها وهي هذه المسألة - زاعمين أنّهم ظنّوا أنّ العين الموصى بها بمقدار ثلث التركة أو أزيد بيسير فظهرت أزيد بكثير؛ لقلة المال أو ظهور دين، وبين ما إذا كانت بجزء مشاع - وهي الماضية - حيث قبل قولهم في الثاني دون الأوّل.

وحاصل الفرق أنّ الإجازة هنا وقعت على معلوم للورثة، وهي العين المخصوصة كيف كانت من التركة فكانت الإجازة ماضيةً عليهم، بخلاف الوصيّة بالجزء المشاع من التركة؛ فإنّ العلم بمقداره موقوف على العلم بمجموع التركة، والأصل عدمه فتقبل فيه دعوى الجهالة، ومرجع ذلك إلى بنائهم على الأصل في الأول، وعلى خلافه في الثاني.

ومال في الدروس إلى التسوية بين المسألتين، والقبول في الحالين (1)، وجعله في التحرير وجهاً (2)، و في القواعد احتمالاً (3).

و وجه القبول هنا أنّ الإجازة و إن وقعت على معلوم إلا أنّ كونه مقدار الثلث - أو ما قاربه مما تسامحوا فيه - إنّما يعلم بعد العلم بمقدار التركة، والأصل عدم علمهم بمقدارها، وبنائهم على الظن، فكما احتمل ظنّهم قلة النصف في نفسه يحتمل ظنّهم قلة العين بالإضافة إلى مجموع التركة و إن لم يكن قليلاً في نفسه.

ومخالفة الأصل هنا بظنّهم كثرة المال مع أنّ الأصل عدمه لا تؤثر في دفع الظنّ عنه و اعتقاد كثرته، بل يمكن عدم ظهور خلاف ما اعتقدوه من الكثرة، ولكن ظهر عليه دين قدّم على الوصيّة فقل المال الفاضل عنهما، وهذا موافق للأصل كالأوّل.

ص: 309


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 247 ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 342، الرقم 4752.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 458.

● و إذا أوصى بثلث ماله - مثلاً - مشاعاً كان للموصى له من كلّ شيءٍ ثلثه. و إن أوصى بشيءٍ معيّن وكان بقدر الثلث فقد ملكه الموصى له بالموت، و لا اعتراض فيه للورثة.

ولو كان له مال غائب أخذ من تلك العين ما يحتمله الثلث من المال الحاضر، ويقف الباقي حتى يحصل من الغائب؛ لأنّ الغائب معرض للتلف.

------

وأيضاً فمن جملة المقتضي للقبول في الأوّل إمكان صدقهم في الدعوى وتعذر إقامة البينة بما يعتقدونه، و هو متحقق هنا؛ لأنّ الأصل عدم العلم بمقدار التركة، و ذلك يقتضي جهالة قدر المعين من التركة كالمشاع. ولعلّ القبول أوجه.

قوله: «و إذا أوصى بثلث ماله - مثلاً - مشاعاً - إلى قوله - لأن الغائب معرض للتلف». إذا أوصى له بثلث ماله فما دون فلا يخلو إما أن يكون معيناً أو مشاعاً كجزء من التركة - فإن كان الثاني فهو شريك للورثة في كلّ شيء حاضر وغائب، دين وعين، فحكمه حكم الورثة في التصرّف في المال المشترك، وأمره واضح.

و إن كان الموصى به معيّنا كدار مخصوصة وعبد - ملكه الموصى له بالموت والقبول وليس للورثة اعتراض فيه؛ من حيث إن فيه تخصيصاً عنهم بجملة العين وهم يستحقون ثلثيها؛ لعموم الأدلّة الدالة على أن تصرف المريض في ثلث ماله ماض مطلقاً من غير اعتبار إذن الورثة (1)، فأعيان الأموال هنا لاغية والمعتبر وجود ضعف الوصية بأيديهم من جملة التركة كيف كان بالقيمة الشرعيّة، و هو هنا حاصل.

هذا إذا كان ضعف الموصى به بأيديهم كما ذكر ولو لم يكن بأيديهم بأن كان له مال غائب أو بيد متسلّط،مانع، فإن لم يكن بيدهم شيء أصلاً تسلّط الموصى له على ثلث تلك خاصةً، وكان ثلثاها موقوفاً على تمكن الوارث من ضعفها من المال. و إن كان بيدهم شيء لا يقوم بالضعف أخذ له من العين ما يحتمله الثلث منها وممّا بأيديهم من المال، وكان

ص: 310


1- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 271 - 282، الباب 10 - 11 من أبواب كتاب الوصايا.

فرع ● لو أوصى بثلث عبده فخرج ثلثاه مستحقاً، انصرفت الوصية إلى الثلث : الباقى، تحصيلاً لإمكان العمل بالوصية.

------

الباقي منها موقوفاً، لا بمعنى تسلّط الوارث عليه؛ لإمكان حصول الغائب وما في معناه، فتصح الوصية بجميع العين، بل بمعنى وضعه بيد الحاكم أو من يوثق به أو مَنْ يتراضى عليه الوارث والموصى له؛ لأنّ الحق منحصر فيهم إلى أن يتبيّن الحال.

ثمَّ القدر الذي يخرج من الثلث من العين منجزاً هل يتسلّط الموصى له عليه، أم يمنع من التصرّف فيه و إن كان مملوكاً له؟ وجهان أصحهما الأوّل؛ لوجود المقتضي، و هو ملکه له بالوصية المحكوم بصحتها بالنسبة إلى الثلث على كلّ حال؛ لأنّ غاية ما هناك تلف الغائب بأجمعه، فيكون الحاضر هو مجموع التركة، فيملك ثلثه بغير مانع.

و وجه المنع أنّ حق الوارث التسلّط على ضعف ما يستحقه الموصى له، كما يتسلّط الموصى له على الثلث على حدّ ما يتسلّط عليه الوارث، و هو هنا ممتنع بالنسبة إلى الوارث؛ لأن ملكه لما زاد على الثلث من العين غير معلوم الآن حيث تعلّقت به الوصية، والحال أنّ المال الذي هو ضعف العين موجود، وإنّما وقفت في الجميع؛ لعدم قبض الوارث له، فيجب أن يمنع الموصى له من التصرّف في الثلث؛ لاحتمال تلف ذلك المال الغائب، فيكون الوارث شريكاً في العين.

وفيه: أن مجرد الاحتمال لا يقوم دليلاً على منع المالك المستقر ملكه على الثلث، مع كون الباقي غير خارج عن ملكه بل استقرار ملكه له موقوف على حصول الغائب، وإلا فأصل الملك حاصل بالوصيّة والقبول والخروج من الثلث في الجملة، ومن ثُمَّ لو حضر الغائب كان نماء العين أجمع للموصى له، ومراعاة حق الوارث لاحتمال تلف المال تحصل بإيقاف ما زاد على الثلث إلى أن يظهر حال المال.

قوله: «لو أوصى بثلث عبده فخرج ثلثاه مستحقاً» إلى آخره.

المراد أنه عبده في ظاهر الحال فأوصى بثلثه، ثم ظهر كونه لا يملك منه إلا الثلث، انصرفت الوصية إلى مستحقه منه، و لا ينزل على الإشاعة حتى تصح في ثلث الثلث خاصة،

ص: 311

لو أوصى بما يقع اسمه على المحلّل والمحرّم

● ولو أوصى بما يقع اسمه على المحلّل والمحرّم انصرف إلى المحلّل؛ تحصيناً لقصد المسلم عن المحرّم، كما إذا أوصى بعود من عيدانه.

------

كالإقرار قطعاً والبيع على أحد الوجهين والفرق بينهما وبين الوصية أن الوصية لا تصح إلا بما يملكه الموصي، فلو أوصى بمال الغير لغت، بخلاف الإقرار؛ فإنّه منزل على مال الغير. حتى لو قال: «ملكي لفلان» لم يصح الإقرار والبيع يصح لمال الغير، بمعنى وقوفه على إجازته، فإذا أجاز صح وكانت الإجازة كاشفةً عن وقوع الملك من حين البيع، فمن ثُمَّ قلنا: البيع صحيح و إن توقف على الإجازة.

وحكى في الدروس صحة الوصيّة بمال الغير مع وقوفه على إجازته احتمالاً (1). وعلى تقدير هذا الاحتمال يتفرّع نفوذ الوصيّة هنا في ثلث حقه خاصةً، إلا أنّ المبني عليه لما كان ضعيفاً لم يلتفت إليه المصنّف وقطع بانصرافه إلى ما يملكه. ونبه بما ذكره من الحكم على خلاف بعض العامة؛ حيث حكم بنفوذ الوصية - في المسألة المفروضة - في ثلث الثلث خاصة (2).

والمراد بانصراف الوصية إلى الثلث الباقى صحتها فيه أعم من نفوذها. ثمَّ إن لم يملك الموصي غيره نفذ في ثلث الثلث، ووقف في ثلثيه على الإجازة، و إن ملك غيره اعتبر خروج مجموع الثلث من الثلث، كما هو مقرّر .

قوله: «ولو أوصى بما يقع اسمه على المحلل والمحرّم انصرف إلى المحلّل» إلى آخره.

إنّما نزل على المحلّل - مع أنّه لفظ مشترك، ومن شأن المشترك أن لا يحمل على أحد معانيه إلا بقرينة - لما أشار إليه المصنّف من النظر إلى ظاهر حال المسلم؛ فإن قصده يحصن عن المحرّم، وكلامه عن اللغو والمنهي عنه شرعاً، ولوجوب تنفيذ الوصية بحسب الإمكان؛ لعموم ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ (3)، و لا يتم إلا بذلك.

ص: 312


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 253 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- راجع الحاوي الكبير، ج 8، ص 263؛ وحلية العلماء، ج 6، ص 89 3.
3- البقرة: (2) 181

● ولو لم يكن له إلا عود اللهو قيل: يبطل. و قيل: يصح وتزال عنه الصفة المحرّمة. أما لو لم يكن فيه منفعة إلا المحرّمة بطلت الوصية.

------

و قيل: لا تصح الوصية بالعود مطلقاً؛ لانصرافه إلى عود اللهو؛ لأنّه الغالب (1). والصحة أقوى، والأغلبية بحيث لا يتبادر غيره ممنوعة.

قوله: «ولو لم يكن له إلا عود اللهو قيل: يبطل. و قيل: يصح» إلى آخره.

موضع الصحة والانصراف إلى المحلل ما إذا كان للموصي من ذلك النوع متعدد، بأن يكون له عود لهو، وعود حرب وغيرهما، فتنصرف الوصيّة إلى المحلل. وأولى بالحكم ما لو لم يكن له إلا المحلّل و إن كان لفظه أعم من المحرم أما لو لم يكن له إلا المحرم فقيل: تبطل الوصية (2): لانصرافه إلى غير المشروع حيث لم يكن له غيره، والحال أنه قد خصها بما هو له. فلا ينتقل إلى تحصيل غيره.

و قيل: تصح الوصية به حينئذ (3)، ولكن تزال عنه الصفة المحرمة، بأن يحوّل منها إلى غيرها من الصفات المحللة إن أمكن، فإن لم يكن له إلا المنفعة المحرمة بطلت الوصية.

وإطلاق العبارة يقتضي أنّ زوال الصفة المحرّمة مع بقاء المنفعة لو تحقق بكسره والانتفاع بخشبه في بعض المنافع المحلّلة كفى في الصحة على هذا القول.

ويشكل مع خروجه عن كونه عوداً؛ لأنّ وصيّته معتمدة على وصف العود فكسر خروج عن الاسم.

لا يقال: إذا انتقل إلى الموصى له فله أن يفعل به ما شاء، ومن جملته كسره، بل هو واجب حيث يتوقف زوال الصفة المحرمة عليه، فلا يقدح ذلك في جواز الوصية.

ص: 313


1- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 620، المسألة 4798.
2- من القائلين به الشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 242 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10) وابن حمزة في الوسيلة، ص 376.
3- القائل به هو الشيخ في المبسوط، ج 3، ص 218 - 219؛ ونقله عنه في مختلف الشيعة، ج 6، ص 316، المسألة 98.

● وتصح الوصية بالكلاب المملوكة ككلب الصيد والماشية والحائط والزرع.

------

لأنا نقول: إنّ جواز تصرفه فيه بالكسر وغيره موقوف على صحة الوصيّة، وصحتها موقوفة على كسره فيدور.

ولو قيل: إنّه يمكن كسره من غير الموصى له قبل دفعه إليه ليندفع الدور جاء فيه ما تقدّم من زوال اسم العود الذي هو متعلّق الوصية، فلا يكون بعد كسره موصی به، فلا يحصل بدفعه إلى الموصى له الامتثال.

والأقوى أنّه إن أمكن إزالة الصفة المحرّمة مع بقاء اسمه صحت الوصية وإلا بطلت؛ لحصره فيما عنده و هو ينافي تحصيل عود من خارج، و لم يوجد عنده ما يتناوله الاسم شرعاً، فيكون ذلك بمنزلة ما لو أوصى بالمحرم.

قوله: «وتصح الوصيّة بالكلاب المملوكة ككلب الصيد والماشية والحائط والزرع».

في قوله «المملوكة» تنبيه على أنا لو لم نقل بملكها لم تصح الوصية بها؛ لعدم كونها مالاً منتفعاً به، ومن ثُمَّ لم يصح بيعها عند القائل بعدم المالية.

والأقوى جواز الوصية بها و إن لم نقل بملكها و لم نجوّز بيعها؛ لثبوت الاختصاص بها وانتقالها من يد إلى يد بالإرث وغيره، و هو أعم من المال.

و خالف في ذلك بعض العامة فمنع من الوصيّة بها و إن جاز اقتناؤها (1)، و هو شاذ عندهم أيضاً.

و في حكم الكلاب الأربعة الجرو الذي يتوقع الانتفاع به على الأقوى؛ لجواز إمساكه وتربيته. وأما ما لا يحلّ اقتناؤه كالكلب العقور فلا تصح الوصية به قطعاً.

إذا تقرر ذلك فإذا أوصى بكلب تجوز الوصية به فإن وجد في التركة فذاك، وإلا فإن جوزنا شراءه أشتري من التركة ودفع إلى الموصى له، و إن لم نجوز شراءه احتمل بطلان الوصية حينئذ؛ لعدم إمكان إنفاذها على الوجه المشروع، ومراعاة تحصيله بغير البيع؛ إذ

ص: 314


1- راجع الحاوي الكبير، ج 8، ص 194.

الطرف الثاني في الوصية المبهمة

من أوصى بجزء من ماله

● مَنْ أوصى بجزء من ماله فيه روايتان أشهر هما العُشر. و في روايةٍ سُبع الثلث.

------

لا يلزم من عدم جواز بيعه عدم إمكان تحصیله بغيره، فيجب تحصيله على الوارث تفصياً من تبديل الوصيّة مع إمكان إنفاذها، فإن أمكن تحصيله وإلا بطلت.

ويشكل بأنّه لا يلزم من إمكان تحصيله للوارث وجوبه عليه؛ إذ لا يجب عليه إنفاذ وصية مورّثه إلا من مال المورّث، و هو منتف هنا، فالأقوى البطلان مطلقاً، لكن لو تبرع به متبرع من وارث و غيره صح و إن لم يكن ذلك واجباً.

قوله: «مَنْ أوصى بجزء من ماله فيه روايتان أشهر هما العشر. و في روايةٍ سُبع الثلث». إذا أوصى بجزء من ماله فقد اختلف الأصحاب في تعيينه مع اتفاقهم على اختصاصه بقدر معين شرعاً و إن لم يكن معيّناً لغةً و لا عرفاً.

و وجه الاختلاف اختلاف الروايات فيه، فذهب جماعة (1) - منهم المصنّف - إلى أنّه العشر؛ لرواية عبد الله بن سنان عن عبد الرحمن بن سيابة، قال: إن امرأة أوصت إليّ وقالت: ثلثي يقضى به ديني وجزء منه لفلانة، فسألت ابن أبي ليلى فقال: ما أرى لها شيئاً، ما أدري ما الجزء؟ فسألت أبا عبد الله علیه السلام عن ذلك فقال: كذب ابن أبي ليلى لها عشر الثلث، إنّ الله تعالى أمر إبراهيم علیه السلام فقال: ﴿أَجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا﴾ (2)، وكانت الجبال يومئذ عشرةً، فالجزء هو العشر من الشيء» (3).

و في معناه رواية معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل أوصى بجزء من

ص: 315


1- منهم الشيخ في تهذيب الأحكام، ج 9، ص 210، ذيل الحديث 831؛ والاستبصار، ج 4، ص 133، ذيل الحديث 501؛ وعلي بن بابويه في الفقه المنسوب للإمام الرضا علیه السلام ص 299 وابنه الشيخ الصدوق في المقنع، ص 478: والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 310، المسألة 91.
2- البقرة: (2) 260.
3- الكافي، ج 7، ص 39، باب من أوصى بجزء من ماله، ح 1.

......

------

ماله، قال: «جزء من عشرة، قال الله تعالى ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا﴾ (1) وكانت الجبال عشرة أجبال» (2).

وروى أبان بن تغلب - في الحسن - عن أبي جعفر علیه السلام مثله (3)، واستشهد بالجبال.

وروى أبو بصير عن أبي عبد الله علیه السلام مثله (4).

وهذه الأخبار و إن ضعف سندها لكنّها كثيرة يعضد بعضها بعضاً، مع أنّ فيها الحسن كما ذكرناه. وذكر العلّامة في المختلف: أن حديث عبد الله بن سنان صحيح، و لم يذكر في سنده عبد الرحمن بن سيابة، بل جعل الراوي عن الإمام عبد الله بلا واسطة (5). وقد رواه الشيخ كذلك في الاستبصار (6)، وعليه فيكون صحيحاً كما ذكر، لكن الموجود في التهذيب - و هو عندي بخط الشيخ أبي جعفر (رحمه الله) - روايته عن عبد الرحمن بن سيابة (7)، و هو مجهول (8) فلا يكون صحيحاً، ويؤيده كونه سأل ابن أبي ليلى في ذلك، ومن المستبعد جداً أنّ عبد الله بن سنان الفقيه الجليل الإمامي سأل ابن أبي ليلى في ذلك، بل الموجود في الأخبار أن ابن أبي ليلى كان يسأله، ويسأل أصحابه مثل محمد بن مسلم وغيره عن كثير من المسائل (9).

ص: 316


1- البقرة: (2) 260.
2- الكافي، ج 7، ص 40، باب من أوصى بجزء من ماله، ح 2: الفقيه، ج 4، ص 205، ح 5479: تهذيب الأحكام عى بجزء من ماله ج 9، ص 208، ح 825.
3- الكافي، ج 7، ص 40، باب من أوصى بجزء من ماله، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 209، ح 826؛ الاستبصار، ج 4، ص 132، ح 496.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 209، ح 827؛ الاستبصار، ج 4، ص 132، ح 497.
5- مختلف الشيعة، ج 6، ص 310، المسألة 91.
6- الاستبصار، ج 4، ص 131 - 132، ح 494.
7- راجع تهذيب الأحكام، ج 9، ص 208، ح 824، وفيه مثل ما ورد في الاستبصار.
8- راجع رجال الطوسي، ص 235، الرقم 3209.
9- راجع الكافي، ج 5، ص 215 - 216، باب من يشتري الرقيق فيظهر به عيب..... 12؛ وج 7، ص 34 - 35، باب ما يجوز من الوقف و.... 27، وص 387، باب بدون عنوان، ح 2؛ وتهذيب الأحكام، ج 6، ص 262، ح 696.

......

------

وكذلك في الدروس جعله صحيحاً (1) كما ذكره العلّامة.

وبالجملة فالرواية بذلك تصير مضطربة السند إن لم نرجّح رواية التهذيب؛ حيث إنّه أصل الاستبصار، فلا تكون صحيحةً على كل حال.

و ذهب جماعة من الأصحاب وأكثر المتأخرين (2) إلى أنه السبع؛ لصحيحة أحمد ابن أبي نصر البزنطي قال: سألت أبا الحسن عن رجل أوصى بجزء من ماله فقال: «واحد من سبعة، إنّ الله تعالى يقول: ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابِ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُوم﴾» (3)، قلت: فرجل أوصى بسهم من ماله، فقال: «السهم واحد من ثمانية»، ثمَّ قرأ ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ﴾ الآية (4).

ومثله روى إسماعيل بن همام في الصحيح عن الرضاء علیه السلام واستشهد بالأبواب السبعة (5).

وهذا القول أصح رواية والأول أكثر؛ فلذلك قال المصنف: «أشهر هما العشر»؛ فإنّ تلك أشهر، وهذه أصح، وينبغي ترجيح الصحيح.

نعم، مَنْ حكم بصحة رواية عبد الله بن سنان، وانضم إليها حسنة أبان، والباقي من الموثق توجه ترجيحه لمضمونها. و هو خيرة العلّامة في المختلف؛ محتجاً بكثرتها وزيادتها على هذه، وموافقتها للأصل، وبعدها عن الاضطراب؛ إذ في رواية السبع أنّه سُبع الثلث (6)، وهى الرواية الثالثة التي أشار المصنّف إليها أخيراً، رواها الحسين بن خالد عن أبي الحسن علیه السلام قال: سألته عن رجل أوصى بجزءٍ من ماله، قال: «سُبع ثلثه» (7). وهذه الرواية

ص: 317


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 254 ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 254 ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- الحجر: (15) 44.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 209، ح 828؛ الاستبصار، ج 4، ص 132، ح 498: والآية في سورة التوبة (9): 60.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 209، ج 829؛ الاستبصار، ج 4، ص 132، ح 499.
6- مختلف الشيعة، ج 6، ص 310 - 311، المسألة 91.
7- الفقيه، ج 4، ص 205، ح 5480: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 209 - 210. ح 831؛ الاستبصار، ج 4، ص 133، ح 501.

● ولو كان بسهم كان ثمناً.

------

مع جهالة سندها بالحسين بن خالد شادة لا عامل بمضمونها.

والفرق بينها وبين رواية عبد الله بن سنان - المتضمنة لعشر الثلث - أنّ الموصي فيها صرّح بكون الجزء من الثلث وهنا جعله من ماله و لا إشكال في حمل الجزء على معناه من العُشر أو السبع لأي شيء نسب، فإن نسب إلى المال فهو عُشره أو سبعه، أو إلى الثلث أو إلى النصف أو غيرهما، فهو العشر أو السبع من ذلك الجزء المنسوب إليه، فالرواية الأُولى لا تخالف سوى رواية السبع، بخلاف هذه؛ فإنّها تخالف الجميع.

والشيخ رحمه الله جمع بين الأخبار بحمل الجزء على العُشر مع استحباب العمل بالسبع للورثة (1). و لا بأس بهذا الحمل؛ حذراً من اطراح الروايات المعتبرة.

واعلم أنه قد ظهر مما قرّرناه أن معنى قول المصنف فيه روايتان أشهرهما «العشر» أنه يريد بالروايتين رواية العشر ورواية السبع وأراد به جنس الرواية؛ لأنها متعدّدة من الجانبين، و إن قوله «و في رواية سُبع الثلث» إشارة إلى رواية ثالثة (2)، لا أنّ هذه ثانية الروايتين، و إن إحداهما رواية العُشر وهذه الأُخرى، كما يوهمه ظاهر اللفظ.

قوله: «ولو كان بسهم كان تُمناً».

هذا هو المشهور بين الأصحاب، وقد تقدم في صحيحة البزنطي (3) ما يدل عليه، واستشهد بسهام أرباب الزكاة الثمانية. ومثله حسنة صفو إن عن الرضا علیه السلام (4) وموثقة السكوني عن الله أبي عبد الله علیه السلام (5).

ص: 318


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 210، ذيل الحديث 831؛ الاستبصار، ج 4، ص 133، ذيل الحديث 501.
2- أي رواية حسين بن خالد المتقدم تخريجها في ص 317، الهامش 7.
3- تقدم تخريج صحيحته في ص 317 الهامش 4.
4- الكافي، ج 7، ص 41، باب من أوصى بسهم من ماله، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 210، ج 833: الاستبصار، ج 4، ص 133 . ح 503.
5- الفقيه، ج 4، ص 204، ح 5477؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 210، ج 832؛ الاستبصار، ج 4، ص 133، 502.
لو أوصى بوجوه

● ولو كان بشيء، كان سدساً.

● ولو أوصى بوجوه فنسي الوصي وجهاً جعله في وجوه البر . و قيل: يرجع ميراثاً.

------

و ذهب الشيخ في أحد قوليه إلى أنه السدس (1)، لما روي عن ابن مسعود أن رجلاً أوصى الرجل بسهم من المال فأعطاه النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ السدس (2).

و قيل: إنّ السهم في كلام العرب السدس (3). وروى طلحة بن زيد عن أبي عبدالله علیه السلام أنه العُشر (4)، و لا نعلم به قائلاً، ونسبه الشيخ إلى وهم الراوي، وأنه سمعه فيمن أوصى بجزء من ماله فظنّه بالسهم، أو أنه ظن أن السهم والجزء واحد (5).

قوله: «ولو كان بشيء كان سدساً».

هذا اللفظ من جملة الأجزاء المعيّنة نصاً، و الظاهر أنّه اتفاق؛ إذ لا يظهر فيه مخالف. والمستند رواية أبان عن علي بن الحسين علیهما السلام أنه سئل عن رجل أوصى بشيء، فقال: «الشيء في كتاب عليّ من ستة» (6).

قوله: «ولو أوصى بوجوه فنسي الوصي وجهاً جعله في وجوه البر. و قيل: يرجع ميراثاً».

القول الأول هو المشهور والأصح لخروج المال عن الوارث بالوصية النافذة أولاً؛ لأنه الفرض فعوده إلى ملك الوارث يحتاج إلى دليل وجهالة مصرفه يصيّره بمنزلة المال

ص: 319


1- الخلاف، ج 4، ص 140، المسألة 9.
2- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 477، المسألة 4625؛ والمجموع شرح المهذب، ج 15، ص 476.
3- راجع الخلاف، ج 4، ص 141، المسألة 9؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 477، المسألة 4625: والشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 1، ص 581؛ والمجموع شرح المهذب، ج 15، ص 476.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 211، ح 834؛ الاستبصار، ج 4، ص 134، ح 504.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 211، ذيل الحديث 834: الاستبصار، ج 4، ص 134، ذيل الحديث 504.
6- الكافي، ج 7، ص 40، باب من أوصى بشيء من ماله، ح 1: الفقيه، ج 4، ص 204، ح 5476؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 211، ح 835.

......

------

المجهول المستحق، فيصرف في وجوه البرّ، ولأنه لو رجع إلى الوارث بالإرث لزم تبديل الوصية المنهي عنه (1)، بخلاف البر؛ لأنه عمل بمقتضاها، ومن ثُمَّ أخرج عن الوارث غايته جهالة المصرف، فيصرف فيما يصرف فيه المال المجهول، ولأنّ الموصي ربما أراد بوصيته القربة المخصوصة، فإذا فات الخصوص بالنسيان بقي العموم، فيكون أقرب إلى مراد الموصى.

وتشهد له رواية محمد بن الريان قال: كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام أسأله عن إنسان أوصى بوصية فلم يحفظ الوصى إلا باباً واحداً منها، كيف يصنع بالباقي؟ فوقع علیه السلام: «الأبواب الباقية اجعلها في البر» (2).

والمراد «بالبر» وجوه القرب من الفقراء والمساكين والمساجد والطرقات وكلّ ما فيه قربة معتد بها.

والقول برجوعه ميراثاً لابن إدريس - ونقله عن الشيخ أيضاً في بعض فتاواه (3)، وإلا فهو في كتبه مع الأول (4)- واحتج له بأنها وصيّة بطلت؛ لامتناع القيام بها فيرجع إلى الميراث (5).

وجوابه: منع استلزام العجز عن القيام بها البطلان لما ذكرناه من أن وجوه البرّ بعض مراد الموصي، مضافاً إلى ما ذكرناه من خروجها عن ملك الوارث فلا تعود بمثل هذه الأوهام. وقد تقدّم لهذه المسألة نظائر كثيرة في الوقف (6) والحج (7).

ص: 320


1- البقرة: (2) 181.
2- الكافي، ج 7، ص 58. باب النوادر، ح 7؛ الفقيه، ج 4، ص 218 - 219، ح 5516: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 214، ح 844.
3- المسائل الحائريات ضمن الرسائل العشر، ص 297.
4- النهاية، ص 613.
5- السرائر، ج 3، ص 208 - 209.
6- تقدّم في ص 52.
7- تقدّم في ج 2، ص 90.
لو أوصى بسيف معيّن، أو أوصى بصندوق، أو

● ولو أوصى بسيف معيّن و هو في جفن، دخل الجفن والحلية في الوصية.

و کذا لو أوصى بصندوق وفيه ثياب أو سفينة وفيها متاع، أو جراب وفيه قماش، فإنّ الوعاء وما فيه داخل في الوصية. وفيه قول آخر بعيد.

------

قوله: «ولو أوصى بسيف معيّن - إلى قوله - وفيه قول آخر بعيد».

القول بدخول جميع ما ذكر في الوصيّة هو المشهور بين المتقدمين والمتأخرين؛ والمستند رواية أبي جميلة عن الرضاء علیه السلام قال: سألته عن رجل أوصى لرجل بسيف وكان في جفن وعليه حلية، فقال له الورثة: إنّما لك النصل وليس لك المال، قال، فقال: «لا بل السيف بما فيه له»، قال قلت له: رجل أوصى لرجل بصندوق وكان فيه مال، فقال الورثة: إنّما لك الصندوق وليس لك المال، قال فقال أبو الحسن: الصندوق بما فيه له (1).

وعن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله قال: سألته عن رجل قال هذه السفينة لفلان و لم يسمّ ما فيها، وفيها طعام، أيعطاها الرجل وما فيها؟ قال: «هي للذي أوصى له بها إلا أن يكون صاحبها متهماً، وليس للورثة شيء» (2).

وهذه الروايات ضعيفة السند إلّا أنّ العرف شاهد بدخول جفن السيف وحليته فيه، و هو محكّم في أمثال ذلك؛ فإنّه لو قيل: خذ سيفك، أو سافر فلان بسيفه، لا يفهم منه إلا مجموع هذه الأشياء، حتى لو جرده من غمده لعده العقلاء سفيها، والعرف كافٍ في إثبات الحكم، وتبقى الرواية شاهداً، فالحكم بدخولها فيه .قوي. وأما الباقى فلا يدل العرف على تناول الظرف للمظروف غالباً، والرواية قاصرة عن إثبات المطلوب، فالقول بعدم الدخول أجود.

نعم، لو دلّ العرف أو القرينة على شيء في بعض الأفراد اتبع، كما أنّه لو دلّ على عدم

ص: 321


1- الكافي، ج 7، ص 44، باب بلا عنوان، ح 1؛ الفقيه، ج 4، ص 217، ح 5512؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 211 ح 837.
2- الكافي، ج 7، ص 44، باب بلا عنوان، ح 2؛ الفقيه، ج 4، ص 217، ح 5513: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 212 ح 838.

......

------

دخول الجفن أو الحلية في بعض الموارد لم يدخل. وجملة الأمر ترجع إلى عدم الدخول إلا مع العرف أو القرينة.

والقول الذي أشار إليه المصنّف واستبعده للشيخ في النهاية، فإنّه حكم بدخول هذه الأشياء بشرط أن يكون الموصى عدلاً مأموناً، وإلا لم تنفذ الوصية في أكثر من ثلثه (1). و هو بعيد من وجوه:

أحدها: اشتراط عدالة الموصي، و هو غير معتبر في الوصية مطلقاً، وإنّما يعتبرها بعض الأصحاب (2) في الإقرار على بعض الوجوه على ما فيه.

وثانيها نفوذها من الأصل على تقدير العدالة، ومن الثلث على تقدير،عدمها، وهذا أيضاً ليس من جملة أحكام الوصيّة، بل من أحكام إقرار المريض على بعض الوجوه، وسيأتي(3).

وثالثها: تعميم الحكم في هذه الأشياء، مع أن الرواية التي هي منشأ حكمه إنّما تضمنت بعضها، وهي رواية عقبة بن خالد (4) المشتملة على السفينة خاصةً، فتعديته إلى غيرها - مع مخالفته للأصل - بعيد.

واعلم أنه لا فرق في الحكم على التقديرين بين كون الصندوق مقفلاً والجراب مشدوداً وعدمه، خلافاً للمفيد حيث قيّدهما بذلك (5).

واحترز المصنف ب-«المعين» في هذه عمّا لو كان مطلقاً، كما لو قال: أعطوه سيفاً أو سفينة أو صندوقاً؛ فإنّه لا يتناول إلا الظرف خاصةً؛ عملاً بمدلول الرواية (6) حيث خصتها بالمعين،

ص: 322


1- النهاية، ص 613 - 614.
2- كالشيخ المفيد في المقنعة، ص 662: وابن البراج في المهذب، ج 1، ص 419.
3- يأتي في ج 8، ص 598 وما بعدها.
4- تقدم تخريج روايته في ص 321، الهامش 2.
5- المقنعة، ص 674 - 675.
6- أي رواية عقبة بن خالد المتقدم تخريجها في ص 321، الهامش 2.
لو أوصى بإخراج بعض ولده من تركته

● ولو أوصى بإخراج بعض ولده من تركته لم يصح. و هل يلغو اللفظ؟ فيه تردّد بين البطلان وبين إجرائه مجرى مَنْ أوصى بجميع ماله لمن عدا الولد، فتمضى في الثلث، ويكون للمخرج نصيبه من الباقي بموجب الفريضة. والوجه الأول. وفيه رواية بوجه آخر مهجورة.

------

ولدلالة العرف عليه أيضاً. و هو يتم في غير السيف أما فيه فدخول الجفن فيه قوي؛ لأنّه كالجزء عرفاً، أما الحلية فلا تدخل إلا مع التعيين.

قوله: «ولو أوصى بإخراج بعض ولده من تركته لم يصح - إلى قوله - وفيه رواية بوجه آخر مهجورة».

اختلف الأصحاب فيمَن أوصى بإخراج بعض ولده من الإرث هل يقع صحيحاً، ويختص الإرث بغيره من الوراث إن خرج من الثلث. ويصح في ثلثه إن زاد، أم يقع باطلاً؟ الأكثر على الثاني؛ لأنّها مخالفة للكتاب والسنة فتلغو، قال الله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ﴾ (1) الآية. ﴿وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ (2).

وروى سعد بن سعد عن الرضا علیه السلام في رجل كان له ابن يدعيه فنفاه، ثم أخرجه من الميراث وأنا وصيّه فكيف أصنع؟ فقال علیه السلام: لزمه الولد؛ لإقراره بالمشهد لا يدفعه الوصي عن شيء قد علمه» (3).

و وجه الصحة واعتبار الثلث أنّ إخراجه من التركة يستلزم تخصيص باقي الورثة بها. فكان كما لو أوصى بها فتمضى من الثلث بمعنى حرمان الموصى بإخراجه من الثلث و مشاركته في الثلاثين إن كان معه مساو، والاختصاص بالباقي إن لم يكن. وهذا القول

ص: 323


1- النساء: (4) 11.
2- الأنفال: (8) 75.
3- الكافي، ج 7، ص 64، باب النوادر، ح 26: الفقيه، ج 4، ص 220، ح 5519: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 235 - 236، ح 918: الاستبصار، ج 4، ص 139، ح 520.

......

------

رجحه العلّامة في المختلف (1)، وعلى هذا فلو أجاز نفذت في الجميع.

ويضعف بأن الحمل على الوصيّة خلاف مدلول اللفظ؛ لأنّ إخراجه من الإرث لا يقتضي كونه أوصى بنصيبه لباقي الورثة و إن لزم منه رجوع الحصّة إليهم؛ لأنّ ذلك ليس بالوصيّة، بل لاستحقاقهم التركة حيث لا وارث غيرهم، وربما لم يكن حال الوصية عالماً بالوارث كما لو لم يكن له إلا ذلك الولد، و لا يعلم مَنْ يرثه بعده و لم يخطر على باله الوارث. فالحكم بالوصية بذلك عدول باللفظ إلى ما لا يدلّ عليه بإحدى الدلالات؛ فإنّ انتفاء دلالة المطابقة والتضمّن ظاهر ودلالة الالتزام قد عرفت تخلّف شرطها؛ لأنّ شرطها اللزوم البين، بحيث يلزم من تصوّر الملزوم تصوّر اللازم أو مع الوسط، و هو منتف كما أشرنا إليه من جواز ذهوله عن الوارث أصلاً، وعدم التفاته إليه، بل عدم معرفته، وإنما غرضه مجرد الانتقام من الولد الوارث فالبطلان مطلقاً أقوى.

وأشار بقوله «وفيه رواية بوجه آخر مهجورة» إلى ما رواه الشيخ (2) والصدوق عن وصيّ علي بن السري قال، قلت لأبي الحسن موسى علیه السلام إن علي بن السري تو في وأوصى إلي، فقال (رحمه الله)، قلت: و إن ابنه جعفر وقع على أُمّ ولد له فأمرني أن أخرجه من الميراث. قال، فقال لي: «أخرجه فإن كنت صادقاً فسيصيبه خبل»، قال: فرجعت فقدمني إلى أبي يوسف القاضي، فقال له: أصلحك الله أنا جعفر بن علي بن السري وهذا وصي أبي فمره فليدفع إليّ ميراثي من أبي، فقال لي: ما تقول؟ فقلت له: نعم، هذا جعفر بن علي بن السريّ وأنا وصيّ عليّ بن السريّ، قال: فادفع إليه ماله فقلت: أريد فقلت: أريد أن أُكلّمك، قال: فادن فدنوت حيث لا يسمع أحد كلامي، فقلت له: هذا وقع على أُم ولد لأبيه فأمرني أبوه وأوصى إلى أن أُخرجه من الميراث و لا أُورثه شيئاً، فأتيت موسى بن جعفر علیه السلام بالمدينة فأخبرته

ص: 324


1- مختلف الشيعة، ج 1، ص 335. المسألة 111.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 235، ح 917؛ الاستبصار، ج 4، ص 139، ح521.

......

------

وسألته فأمرني أن أخرجه من الميراث و لا أُورثه شيئاً، فقال: الله إن أبا الحسن أمرك؟ قال.:قلت نعم فاستحلفني ثلاثاً ثم قال: أنفذ ما أمرك فالقول قوله، قال الوصى فأصابه الخبل بعد ذلك (1).

قال الشيخ في كتابي الأخبار بعد نقله الحديث هذا الحكم مقصور على هذه القضية لا يتعدّى به إلى غيرها (2) .

وقال الصدوق عقيب هذه الرواية:

مَنْ أوصى بإخراج ابنه من الميراث و لم يحدث هذا الحدث لم يجز للوصي إنفاذ وصيته في ذلك (3).

وهذا يدلّ على أنهما عاملان بها فيمن فعل ذلك. أما الشيخ فكلامه صريح فيه، وأما ابن بابويه؛ فلأنه و إن لم يصرح به بل إنما دلّ بمفهومه عليه إلا أنه قد نص في أوّل كتابه على أنّ ما يذكره فيه يفتى به ويعتمد عليه (4)، فيكون حكماً بمضمونه وما ذكره من نفيه عمّن لم يحدث ذلك دفع لتوهم تعدّيه إلى غيره، وإلا فهو كالمستغنى عنه. فهذا هو الوجه الذي أشار إليه المصنف.

و وجه هجر الرواية أنّ الوصي الراوي للخبر مجهول الاسم والعدالة، فلا يعمل بخبره، و في طريقه أيضاً المعلّى و هو مشترك بين الثقة (5) والضعيف (6).

ص: 325


1- الفقيه، ج 4، ص 219 - 220، ح 5518: وأيضاً أوردها الكليني في الكافي، ج 7، ص 61، باب النوادر، ح 15.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 235، ذيل الحديث 917؛ الاستبصار، ج 4، ص 140، ذيل الحديث 521.
3- الفقيه، ج 4، ص 220، ذيل الحديث 5518.
4- الفقيه، ج 1، ص 3.
5- كمعلی بن عثمان، ومعلى بن موسى راجع رجال النجاشي، ص 417، الرقم 1115 - 1116.
6- كمعلى بن خنيس ومعلى بن محمد، ومعلى بن راشد راجع رجال النجاشي، ص 417، الرقم 1114، وص 418، الرقم 1117؛ وخلاصة الأقوال، ص 408، الرقم 1652، وص 409، الرقم 1653 - 1654.
إذا أوصى بلفظ مجمل لم يفسّره الشرع

● و إذا أوصى بلفظ مجمل لم يفسّره الشرع رجع في تفسيره إلى الوارث، كقوله: «أعطوه حظاً من مالي أو قسطاً أو نصيباً أو قليلاً أو يسيراً أو جليلاً أو جزيلاً.»

------

واعلم أنه لا فرق في الحكم بين الولد وغيره من الوراث إن حكمنا بالبطلان أو بنفوذها من الثلث، و إن عملنا بالرواية وجب قصرها على موردها، و هو الولد المحدث للحدث المذكور، وقوفاً فيما خالف الأصل على مورده.

قوله: «ولو أوصى بلفظ مجمل لم يفسره الشرع» إلى آخره.

إنما رجع في ذلك إلى الوارث؛ لأنه لا مقدر لشيء من ذلك لغةً و لا عرفاً و لا شرعاً، فكلّ ما يتموّل صالح لأن يكون متعلّق الوصيّة. أما في «القسط والنصيب والحظ والقليل واليسير» فواضح وأما في الجليل والجزيل» وما في معناهما ك- «العظيم والنفيس» فإنه و إن كان يقتضي عر عرفاً زيادةً على المتموّل، إلا أنه مع ذلك يحتمل إرادة الأقل؛ نظراً إلى أنّ جميع المال متصف بذلك في نظر الشارع، ومن ثُمَّ حكم بكفر مستحلّ قليله وكثيره، كما نبهوا عليه في الإقرار بمثل ذلك متفقين على الحكم في الموضعين و لا ينافيه مع ذلك وصفه بالقلة و نحوها؛ لاختلاف الحيثية، فقلته من حيث المقدار وجلالته من حيث الاعتبار.

وعلى هذا فلو قال: «أعطوا زيداً قسطاً عظيماً، وعمراً قسطاً يسيراً» لم يشترط تمييز الوارث بينهما بزيادة الأوّل عن الثاني لما ذكرناه، مع احتماله؛ نظراً إلى أغلبية العرف بإرادة ذلك.

وفيه: أنّ ذلك إن اعتبر لزم مثله عند الانفراد؛ لظهور أغلبية العرف بالفرق بين قوله يسيراً وقليلاً»، وقوله «عظيماً وجليلاً»، خصوصاً مع الجمع بين ألفاظ متعدّدة بأحد المعنيين.

ولو تعذر الرجوع إلى الوارث لغيبة أو امتناع أو صغر أعطي أقلّ ما يصدق عليه الاسم؛ لأنه المتيقن.

ص: 326

● ولو قال: «أعطوه كثيراً» قيل: يعطى ثمانين درهماً كما في النذر. و قيل: يختص هذا التفسير بالنذر؛ اقتصاراً على موضع النقل.

------

قوله: «ولو قال: أعطوه كثيراً قيل: يعطى ثمانين درهماً كما في النذر. و قيل: يختص هذا التفسير بالنذر؛ اقتصاراً على موضع النقل».

لفظ «الكثير» كنظائره مما ذكر من الألفاظ السابقة في عدم دلالة اللغة والعرف على حمله على مقدّر مخصوص، ولكن وردت رواية أن مَنْ نذر الصدقة بمال كثير يلزمه الصدقة بثمانين درهماً (1)، فعدّاها الشيخ (2) و الصدوق (3) وجماعة (4) إلى الوصية، وأضاف الشيخ الإقرار (5)؛ نظراً إلى أنّ ذلك تقدير شرعي للكثير - كالجزء والسهم - فلا يقصر على مورد السؤال؛ إذ لو حمل في غيره على غيره لزم الاشتراك المخالف للأصل، مع أن الرواية الواردة في النذر مرسلة رواها عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن بعض أصحابه أنّ المتوكل نذر كذلك فأجابه الجواد علیه السلام بذلك (6)، وما هذا شأنه كيف يتعدى إلى غير مورده، مع نفسه ومخالفته للأصل واللغة والعرف واستشهاده بالمواطن الكثيرة المتصوّر فيها لا يقتضي انحصار الكثير فيه، فقد ورد في القرآن ﴿فِئَةٌ كَثِيرَةَ﴾ (7)، و ﴿ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ (8). و لم يحمل على ذلك، والحق الرجوع فيه إلى الوارث كالعظيم في غير موضع الإجماع لضعف المأخذ.

ص: 327


1- الكافي، ج 7، ص 463 - 464، باب النوادر، ح 21؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 309، ح 1147.
2- الخلاف، ج 4، ص 139، المسألة 8 .
3- الفقيه، ج 4، ص 206، ذيل الحديث 5480: المقنع، ص 478.
4- منهم ابن حمزة في الوسيلة، ص378؛ والراوندي في فقه القرآن، ج 2، ص313.
5- الخلاف، ج 3، ص 359، المسألة 1.
6- الكافي، ج 7، ص 463 - 464، باب النوادر، ح 21: تهذيب الأحكام، ج 8، ص 309، ح 1147، وفيهما: أبو الحسن علي بن محمد علیه السلام» بدل «الإمام الجواد علیه السلام».
7- البقرة: (2) 249.
8- الأحزاب: (33) 41.

● والوصية بما دون الثلث أفضل، حتى أنها بالربع أفضل من الثلث. وبالخمس أفضل من الربع.

------

قوله: «والوصية بما دون الثلث أفضل» إلى آخره.

الحق النافذ للموصي أن يوصي بثلث ماله فما دون قال الصادق علیه السلام: «مَنْ أوصى بالثلث فلم يترك» (1). و في لفظ آخر «فقد أضر بالورثة، والوصية بالخمس والربع أفضل من الوصية بالثلث» (2). وقال الباقر علیه السلام: «كان أمير المؤمنين علیه السلام يقول: لأن أُوصي بخمس مالي أحبّ إليّ لا من أن أوصي بالربع، و إن أوصي بالربع أحب إلي من أن أُوصي بالثلث، ومَنْ أوصى بالثلث فلم يترك، وقد بالغ» (3).

ومقتضى النصوص والفتاوى عدم الفرق بين كون الوصية بذلك لغني وفقير وغيرهما من وجوه القرب، والحكمة فيه النظر إلى الوارث؛ فإنّ صلة الرحم والصدقة عليه أفضل من الأجنبي، وترك الوصية لغير الوارث بمنزلة الصدقة بالتركة عليه.

وفصل ابن حمزة فقال:

إن كان الورثة أغنياء كانت الوصية بالثلث أولى، و إن كانوا فقراء فبالخمس، و إن كانوا متوسطين فبالربع (4).

و هو لاحظ ما ذكرناه من مراعاة جانب الوارث.

وأحسن منه ما فصله العلّامة في التذكرة فقال:

لا يبعد عندي التقدير بأنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لا يستحب

ص: 328


1- الكافي، ج 7، ص 11، باب ما للإنسان أن يوصي به بعد موته... . ح 6: الفقيه، ج 4، ص 185، ح 5426.
2- الكافي، ج 7، ص 11، باب ما للإنسان أن يوصي به بعد موته...، ح 5: الفقيه، ج 4، ص 185، ح 5427: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 191، ح 769: الاستبصار، ج 4، ص 119، ح 451.
3- الكافي، ج 7، ص 11، باب ما للإنسان أن يوصي به بعد موته.... ح 4: الفقيه، ج 4، ص 185، ح 5426: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 192، ح 773؛ الاستبصار، ج 4، ص 119، ح 453.
4- الوسيلة، ص 375.

تفريع

● إذا عين الموصى له شيئاً، وادعى أن الموصى قصده من هذه الألفاظ وأنكر الوارث كان القول قول الوارث مع يمينه إن ادعى عليه العلم، وإلا فلا يمين.

------

الوصيّة؛ لأن النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ علل المنع من الوصية بقوله: إن تَرَكَ خَيْرًا﴾ (1) لأنّ ترك ذريتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة، ولأنّ إعطاء القريب المحتاج خير من إعطاء الأجنبي فمتى لم يبلغ الميراث غناهم كان تركه لهم كعطيتهم، فيكون ذلك أفضل من الوصية لغيرهم، فحينئذ يختلف الحال باختلاف الورثة وكثرتهم وقلتهم وغناهم وحاجتهم، و لا يتقدر بقدر من المال (2).

قوله: «إذا عين الموصى له شيئاً وادعى أن الموصى قصده» إلى آخره.

إن ادعى الموصى له أن الموصى أراد تقديراً مخصوصاً من الألفاظ السابقة و نحوها مما يرجع فيه إلى تفسير الوارث كأن قال: «أعطوه مالاً جليلاً»، فقال الموصى له: «أراد به ألف درهم»، فأنكر الوارث فالقول قوله.

ثمَّ إن ادعى الموصى له عليه العلم بما ادعى أن الموصى أراده فعلى الوارث اليمين على نفي علمه بذلك، لا على نفى إرادة الموصى ذلك؛ لأن إرادته لا تلزم الوارث، إلا إذا علم بها.

و إن كانت واقعةً في نفس الأمر فإذا ادعاها الموصى له لا يلتفت إليه، إلا أن يدّعي علم الوارث بها، فيحلف على نفي العلم لا على البت؛ لأنّ الحلف على نفي فعل الغير قاعدة مستمرة

ص: 329


1- البقرة: (2) 180.
2- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 480 - 481 (الطبعة الحجرية).

الطرف الثالث في أحكام الوصية

اشارة

● إذا أوصى بوصيّة، ثمَّ أوصى بأخرى مضادة للأُولى عمل بالأخيرة.

● ولو أوصى بحمل فجاءت به لأقل من ستة أشهر صحت الوصية به. ولو كان لعشرة أشهر من حين الوصيّة لم تصح. و إن جاءت لمدة بين الستة والعشرة وكانت خالية من مولى وزوج حكم به للموصى له. و إن كان لها زوج أو مولى لم يحكم به للموصى له؛ لاحتمال توهم الحمل في حال الوصية، وتجدّده بعدها.

------

قوله: «إذا أوصى بوصيّة، ثمَّ أوصى بأخرى مضادة للأولى عمل بالأخيرة».

يتحقق التضاد باتحاد الموصى به واختلاف الموصى له بأن أوصى بالعين الفلانية لزيدٍ، ثمَّ أوصى بها لعمرو، أو أوصى بمائة درهم مطلقاً لزيد، ثم قال: «المائة التي أوصيت بها لزيد قد أوصيت بها لعمرو». و لا يتحقق فى المطلقة مطلقاً، كما إذا أوصى لزيد بمائة درهم، ثمَّ أوصى لعمرو بمائة، أو أوصى لزيدٍ بدار، ثمَّ أوصى لعمرو بدار، و نحو ذلك.

ومثله يأتي في الأجزاء المشاعة، كما لو أوصى لزيد بخمس ماله، ثمّ أوصى لعمر و بثمن ماله، وهكذا.

وقد يقع الاشتباه في بعض الوصايا المتعددة هل هي متضادة أم لا؟ كالوصية لزيد بثلث ماله، ثمَّ الوصيّة لعمرو بثلث ماله، وقد تقدّم (1).

قوله: «ولو أوصى بحمل فجاءت به لأقل من ستة أشهر - إلى قوله - وتجدّده بعدها».

واعلم أنّه ليس من شرط الموصى به كونه موجوداً بالفعل وقت الوصية، بل لو أوصى بما تحمله الأمة أو الدابة أو الشجرة في هذه السنة أو في المستقبل مطلقاً صح، كما سيأتي (2). ولكن لو أشار إلى معيّن وأوصى بحمله الموجود، أو بالحمل الموجود لأمته، أو بحملها

ص: 330


1- تقدّم في ص 299 وما بعدها.
2- سيأتي في ص 334.

......

------

مطلقاً حيث تدلّ القرينة على إرادة الموجود، أو مطلقاً - نظراً إلى ادعاء دلالة القرينة عليه كما قيل - اشترط كونه موجوداً حال الوصية ولو بمقتضى ظاهر الشرع، فإن كان الحمل لأمة وولدته لأقل من ستة أشهر من حين الوصية علم أنه كان موجوداً.

وإنّما اعتبر كونه لأقل من ستة أشهر؛ لأنه حال الوصية لا يمكن حدوثه، فلا بد من فرض تقدمه في وقت يمكن فيه وطء الأمة، بحيث يمكن فيه تخلق الولد، و ذلك قد يكون في مدة قريبة من الوصية وبعيدة بحسب ما يتفق وقوعه أو يمكن.

والضابط ولادتها له في وقت يقطع بوجوده حال الوصية، ويتحقق بولادته لأقل الحمل من حين الوطء المتقدم على الوصية.

ولو علم عدم وجوده قطعاً بأن ولدته لأكثر من أقصى مدة الحمل من حين الوصية - تبين بطلانها.

وقد فرض المصنّف الأقصى عشرة أشهر؛ بناءً على ما يختاره فيه (1).

وإنّما اعتبر في الأقصى حال الوصيّة؛ لأنّه إذا كانت المدّة من حين الوصية قد مضت كذلك فبطريق أولى أن يكون قد مضت من حين الوطء المتولّد عنه الحمل قبل الوصية.

ولو ولدته فيما بين أقصى مدة الحمل وأقله أمكن وجوده حال الوصية وعدمه، فينظر حينئذ إن كانت الأمة فراشاً - بحيث يمكن تجدّده بعد الوصية - لم يحكم بصحتها؛ لأصالة عدم تقدّمه حالتها، و إن كانت خالية من الفراش بأن فارقها الواطئ المباح وطوه لها من حين الوصيّة حكم بوجوده؛ عملاً بالظاهر، وأصالة عدم وطء غيره.

وما يقال من أنّ الظاهر الغالب إنّما هو الولادة لتسعة أشهر تقريباً (2) فما يولد قبلها يظهر كونه موجوداً و إن كان لها فراش و إن الخالية يمكن وطؤها محلّلاً بالشبهة، ومحرّماً لو كانت

ص: 331


1- يأتي في ج 7، ص 78.
2- قاله الشيخ المفيد في المقنعة، ص 539 والشيخ الطوسي في النهاية، ص 505 و 534.

......

------

كافرةً؛ إذ ليس فيها محذور لعدم الصيانة، بخلاف المسلمة - يندفع بأن الحكم السابق مرتب على الأصل المقدّم على الظاهر عند التعارض إلا فيما شد.

وبالجملة فالمسألة حينئذٍ من باب تعارض الأصل والظاهر، فلو رجّح مرجّح الظاهر عليه في بعض مواردها كما يتفق في نظائره - لم يكن بعيداً إن لم ينعقد الإجماع على خلافه. و كيف كان فلا خروج عمّا عليه الجماعة.

واعلم أنّ اعتبار المصنّف خلوّها من زوج واضح؛ لأنّ المفروض كون الحمل مملوكاً. ويمكن فرضه مع الزوج الرقيق المشروط على مولاه رق الولد أو على مولاها لو كان مولاه هو الموصي، ومع الحرّ على القول بجواز اشتراط رقّ .الولد. أما فرضه خلوها من مولى فتركه أولى كما تركه غيره - لأن المولى الحرّ يتبعه الولد ويمكن على بعد تقدير فرضه في مولی رقيق على القول بأنه يملك إذا ملك الأمة؛ فإن ولده مملوك كأبويه و إن كان الأب مولى الأمة. والحكم مخصوص بحمل الأمة، كما يظهر من تمثيله، واعتبار خلوها من زوج ومولى و إن كان اللفظ مطلقاً.

ولو كان الحمل لغير الأمة من البهائم صح أيضاً، واشترط وجوده حالة الوصية كحمل الأمة، إلّا أنّ العلم به لا يتقيّد بولادته قبل ستة أشهر، و لا انتفاء وجوده حالتها يعلم بتجاوزه العشرة؛ لاختلاف الحيو إن في ذلك اختلافاً كثيراً، والمرجع فيها إلى العادة الغالبة؛ لعدم ضبط الشارع حملها كالآدمي.

ويختلف العادة باختلاف أجناسه؛ فإنّ للغنم مقداراً معلوماً عادةً و للبقر مقداراً زائداً عنه، و کذا للخيل وغيرها من الحيوان، فيرجع فيه إلى العادة؛ لأنّها المحكمة عند انتفاء الشرع وحيث يقع الشكّ في الوجود حالة الوصيّة لا يحكم بصحتها. ويشكل مع هذا حمل الآدمى على المتيقن والحيو إن على الغالب لاشتراكهما في المقتضي على التقديرين.

ص: 332

● ولو قال: «إن كان في بطن هذه ذكر فله درهمان، و إن كان أُنثى فلها درهم»، فإن خرج ذكر وأنثي كان لهما ثلاثة دراهم. أما لو قال: «إن كان الذي في بطنها ذكراً فكذا، و إن كان أنثى فكذا» فخرج ذكر وأنثى لم يكن لهما شيء.

------

قوله: «ولو قال: إن كان في بطن هذه ذكر إلى قوله لم يكن لهما شيء».

الفرق بين الصيغتين أنه في الأولى اعتبر وجود الذكر في البطن ووجود الأُنثى فيه من غير أن ينحصر ما في البطن في أحدهما، فإذا وجدا معاً في البطن صدق أنّ في بطنها ذكراً، فيستحق ما أوصى له به، و إن في بطنها أنثى، فتستحق ما أوصى لها به؛ لتحقق الشرط فيهما، وزيادة الآخر لا تضر؛ لأن الظرفية لشيءٍ لا تنافي الظرفية لغيره، بخلاف الثانية؛ فإنّه شرط صفة الذكورة والأنوثة في جملة الحمل، فقد اعتبر كون جميع ما في بطنها هو الذكر أو الأنثى، فإذا وجدا معاً فيه لم يصدق أن الذي في بطنها ذكر و لا أُنثى، بل هما معاً، والمجموع غير كل واحد من أجزائه فلا يستحقان شيئاً. و في حكم العبارة الثانية قوله: «إن كان ما في بطنها» أو «إن كان حملها» و نحو ذلك.

فرع: لو ولدت خنثى دفع إليه الأقل؛ لأنه المتيقن بناءً على أنه ليس طبيعةً ثالثة، احتمال عدم استحقاق شيء؛ لأنه ليس أحد الأمرين.

ولو ولدت في الصورة الأولى ذكرين أو أنثيين أو هما معاً، ففي تخير الوارث في إعطاء نصيب الذكر لأيهما شاء، ونصيب الأنثى لأيّتهما شاء، أو اشتراك الذكرين في الدرهمين والأنثيين فى الدرهم، أو الإيقاف حتّى يصطلحا أوجه، أجودها الأول؛ لأنّ المستحق للوصية هو ذكر في بطنها أو أنثى في بطنها، و هو صادق عليهما، فيكون تعيينه إلى الوارث كما في كلّ لفظ متواط.

و لا يتوجه هنا احتمال استحقاق كلّ واحد من الذكرين ما عيّن له، وكلّ واحدة من الأنثيين كذلك؛ لأنّ الموصى له مفرد نكرة فلا يتناول ما زاد على واحد، بل كان بالنسبة إليهما متواطئاً، كما لو أوصى لأحد الشخصين أو لفقير و نحو ذلك.

ص: 333

لو أوصى بالحمل

● وتصح الوصية بالحمل وبما تحمله المملوكة والشجرة، كما تصح الوصية يسكنى الدار مدةً مستقبلةٌ.

------

قوله: «وتصح الوصية بالحمل وبما تحمله المملوكة والشجرة» إلى آخره.

المراد صحة الوصية بالحمل الموجود في بطن أمه وبالمتجدد. وقد تقدم حكم الموجود (1)، وإنّما أعاده ليرتب عليه قسيمه. والمراد ب- «المملوكة» هنا ما يعمّ الأمة وغيرها من البهائم، و إن كان إطلاقها على الأمة أغلب، ولو فرض إرادة الأمة فهو تمثيل.

و لا فرق في جواز الوصية بالمتجدّد من ذلك بين المضبوط بمدة كالمتجدّد في هذه السنة، أو عشر سنين، أو عدد كأربعة، وبين المطلق والعام المتناول لجميع ما يتجدّد منها ما دامت حيّةً، و لا في المضبوط بمدة بين المتصل بالموت والمتأخّر، كالسنة الفلانية من المتجدد. والمراد ب- «العام المتناول لجميع المتجدّد» ما استفيد من لفظ يدلّ عليه، كقوله: «كلّ حمل يتجدّد» أو «كلّ ثمر يتجدد دائماً»، و نحو ذلك.

ولو كانت الوصية باللفظ الذي ذكره المصنّف كقوله «أوصيت بما تحمله» فهل تنزل على العموم، أم تحمل على حمل واحد، أو ثمرة واحدة؟ يبنى على أنّ «ما» الموصولة هل تفيد العموم أم لا؟ وفيه خلاف بين الأصوليين، ومع الشكّ فالواحد معلوم، والأصل فيما بعده عدم التبرع به.

ويبقى فيه بحث آخر، و هو أن الحمل المتجدد يدخل فى هذه العبارة قطعاً؛ لأنها بصيغة المضارع، و هل يدخل الموجود حال الوصيّة؟ يبنى على أنّ المضارع هل هو مشترك بين الحال والاستقبال، أم مختص بأحدهما حقيقةً و هو في الآخر مجاز؟ فيه خلاف بين الأصوليين والنحويين، وعليه يتفرّع الحكم.

والأقوى عدم دخول الموجود؛ للشكّ في تناوله للحال و رجحان الاشتراك الموجب لعدم حمله على المعنيين على المختار عند الأصوليين.

وبالجملة فالمسألة مشكلة المأخذ جداً.

ص: 334


1- تقدّم في ص 330.
لو أوصى بشيء من المنافع

● ولو أوصى بخدمة عبد أو ثمرة بستان أو سكنى دار أو غير ذلك من المنافع على التأبيد أو مدّة معيّنة قومت المنفعة، فإن خرجت من الثلث، وإلا كان للموصى له ما يحتمله الثلث.

------

قوله: «ولو أوصى بخدمة عبد أو ثمرة بستان - إلى قوله - ما يحتمله الثلث».

الغرض من ذلك بيان كيفية احتساب المنفعة من الثلث، فإن لم تكن المنفعة الموصى بها مؤبدةً فأمرها سهل؛ لأنّ العين تبقى لها قيمة معتبرة بعد إخراج تلك المنفعة، فإذا أوصى بمنفعة العبد - مثلاً - عشر سنين قوم العبد بجميع منافعه، فإذا قيل: قيمته مائة دينار قوم ثانياً مسلوب المنفعة تلك المدّة، فإذا قوم كذلك بخمسين فالتفاوت خمسون يخرج من الثلث، بمعنى أنه يعتبر أن يكون بيد الوارث مائة منها رقبة العبد، وقيمتها في المثال خمسون.

وربما استشكل إخراج هذه المنافع من الثلث؛ من حيث إنّها متجدّدة بعد الموت والمتجدد بعد الموت من زوائد التركة لا يحسب منها، و لا تقع موروثة بل يملكها الوارث فكيف يحسب على الموصى له من الثلث المقتضي لكونها من التركة؟

وأُجيب ب_:

أن المحسوب من الثلث ليس هو نفس المنافع المتجدّدة، وإنما هو التفاوت بين القيمتين للعين منتفعاً بها ومسلوبة المنافع، أو مجموع قيمة العين، كما سيأتي، و ذلك مملوك للموصي، ومعدود من تركته قطعاً (1).

إذ لا شبهة في كون تلك المنافع تنقص قيمة العين، وتختلف قيمتها باختلافها زيادةً ونقصاناً، فذلك هو المحسوب، و إن كنا لا نقضي الدين من المنافع المتجددة بعد الموت و لا نحتسبها من جملة التركة.

و إن كانت المنفعة مؤبدة ففي تقويمها أوجه:

أحدها: تقويم العين بمنافعها، وخروج مجموع القيمة من الثلث؛ لخروجها بسلب جميع

ص: 335


1- أجاب به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص192.

......

------

منافعها عن التقويم، فقد فات على الورثة جميع القيمة فكانت العين هي الفائتة (1)، ولأنّ المنفعة المؤبدة لا يمكن تقويمها؛ لأن مدة عمره غير معلومة، و إذا تعذر تقويم المنافع تعين تقويم الرقبة.

وثانيها: أن المعتبر ما بين قيمتها بمنافعها وقيمتها مسلوبة المنافع. وعلى هذا تحسب قيمة الرقبة من التركة؛ لأنّ الرقبة باقية للوارث، يقدر على الانتفاع بها بالعتق لو كان مملوكاً - و هو غرض كبير متقوم بالمال - وبيعها من الموصى له أو مطلقاً، وهبتها والوصيّة بها، فلا وجه لاحتسابها على الموصى له.

ويمكن الانتفاع من البستان بما ينكسر من جذوعه ويبس، ومن الدار بآلاتها إذا خربت و لم يعمّرها الموصى له. فحينئذ يقوم العبد مثلاً بمنفعته فإذا قيل: مائة، ويقوم مسلوب المنفعة صالحاً للعتق وما ذكرناه، فإذا قيل: عشرة، علم أن قيمة المنفعة تسعون، فيعتبر أن يبقى مع الورثة ضعفها، ومن جملته الرقبة بعشرة وهذا هو الأصح.

وثالثها: أن يحتسب قيمة المنفعة من الثلث و لا يحتسب قيمة الرقبة على أحد من ، الوارث و لا الموصى له، أما الموصى له؛ فلأنها ليست له، وأمّا الوارث؛ فللحيلولة بينه وبينها، وسلب قيمتها بسلب منافعها فكأنّها تالفة. وهذا يتمّ مع فرض عدم القيمة للرقبة منفردةً، كبعض البهائم، وإلا فعدل الوسط ظاهر.

إذا عرفت ذلك فيتفرّع على هذه الأوجه مسائل كثيرة:

منها ما لو أوصى لرجل برقبته ولآخر بمنفعته، فإن قلنا: يعتبر من الثلث تمام القيمة نظر فيما سواه من التركة، وأعطي كلّ واحد حقه كاملاً أو غير كامل. و إن قلنا: المعتبر التفاوت، فإن حسبنا الرقبة على الوارث إذا بقيت له حسب هنا كمال القيمة عليهما، وإلا لم يحتسب أيضاً على الموصى له بها، وتصح وصيّته من غير اعتبار الثلث.

ص: 336


1- في «ي . ل»: «القائمة» بدل «الفائتة».

● و إذا أوصى بخدمة عبده مدة معيّنةً فنفقته على الورثة؛ لأنها تابعة للملك.

------

ومنها: ما لو أوصى بالرقبة لرجل وأبقى المنفعة للورثة فإن اعتبر من الثلث كمال القيمة لم تعتبر هذه الوصيّة من الثلث؛ لجعلنا الرقبة الخالية عن المنفعة كالتالفة. و إن قلنا: المعتبر التفاوت، فإن حسبنا القيمة على الوارث حسبت هنا قيمة الرقبة على أهل الوصايا ويدخل في الثلث، وإلا فهنا يحسب قدر التفاوت على الوارث، و لا تحسب قيمة الرقبة على الوصايا.

قوله: «و إذا أوصى بخدمة عبده مدةً معيّنةً فنفقته على الورثة؛ لأنّها تابعة للملك».

لا إشكال في وجوب النفقة على الوارث لو كان المنفعة مؤقتةً؛ لبقاء الرقبة على ملك الوارث والنفقة تابعة للملك، و لم تخرج الرقبة عن كونها منتفعاً بها.

وإنّما الكلام في نفقة المؤبدة خدمته للموصى له والمصنّف لم يتعرّض لحكمه، و في محلّ وجوب نفقته أوجه:

أحدها - و هو الأصح - أنه الوارث كالأول؛ لما ذكر من كونه المالك للرقبة، وهو مناط النفقة.

والثاني: أنه الموصى له لكونه مالكاً للمنفعة مؤبداً، فكان كالزوج، ولأن نفعه له فكان ضرره عليه كالمالك لهما جميعاً، و لأنّ إثبات المنفعة للموصى له والنفقة على الوارث إضرار به منفي (1).

و الثالث: أنه بيت المال؛ لأنّ الوارث لا نفع له، والموصى له غير مالك، وبيت المال معدّ للمصالح، وهذا منها.

ويضعف الثاني بأن ملك المنفعة لا يستتبع النفقة شرعاً كالمستأجر. والقياس على الزوج باطل مع وجود الفارق فإنّ الزوجة غير مملوكة والنفقة في مقابلة التمكين في الاستمتاع لا في مقابلة المنافع وثبوت الضرر بإيجابها على الوارث ممنوع؛ لانتفائه مع اليسار، وانتفائها

ص: 337


1- الكافي، ج 5، ص 280، باب الشفعة، ح 4، وص 292 - 294، باب الضرار، ح 2، 6، 8: الفقيه، ج 3، ص 76، ح 3371، وص 233، ح 3862؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 146 - 147، ح 651، وص 164، ح 727.

● وللموصى له التصرّف في المنفعة وللورثة التصرف في الرقبة ببيع وعتق وغيره، و لا يبطل حق الموصى له بذلك.

------

مع عدمه. وأمّا النفقة من بيت المال فمشروطة بعدم المالك المتمكن، و هو هنا موجود.

واعلم أنّه لا فرق بين العبد وغيره من الحيوانات المملوكة. وأما عمارة الدار الموصى بمنافعها، وسقي البستان وعمارته من حرث وغيره إذا أوصى بثماره فإن تراضيا عليه أو تطوّع أحدهما به فذاك، وليس للآخر منعه، و إن تنازعا لم يجبر أحد منهما، بخلاف نفقة الحيوان؛ لحرمة الروح.

و يحتمل طروء الخلاف في العمارة وسائر المؤن؛ بناءً على وجوب ذلك على المالك حفظاً للمال. والفرق واضح (1).

نعم، لو كانت المنفعة مؤقتةً اتجه وجوبها على المالك وإجباره عليها؛ حفظاً لماله عن الضياع: لأنّ منفعته به مترقبة إن أوجبنا إصلاح المال.

قوله: «وللموصى له التصرف في المنفعة. وللورثة التصرف في الرقبة» إلى آخره.

أما جواز تصرفهم في الرقبة في الجملة فظاهر؛ لأنّها ملكهم، فيجوز التصرف فيها بالعتق مطلقاً؛ إذ لا مانع منه بوجه. و لا يبطل حق الموصى له من المنافع، كما كانت قبل العتق؛ لأنّ حق الوارث هو الرقبة، فلا يملك إسقاط حق الموصى له من المنافع وليس للعتيق الرجوع على الوارث بشيء؛ لأن تفويت المنافع عليه ليس من قبله.

وأما بيعه فإن كان المنفعة مؤقتةً بوقت معلوم فجوازه واضح؛ لعدم المانع، كما يجوز بيع العبد المستأجر و إن كانت مؤيّدةً ففى جوازه مطلقاً، أو على الموصى له خاصة، أو المنع مطلقاً أوجه، أجودها الجواز حيث تبقى له منفعة كالمملوك؛ لإمكان عتقه، وتحصيل

ص: 338


1- في حاشية «و»: «وجه الفرق: أنّ المالية هنا منتفية عن مالك الأصل بسبب سلب المنفعة، بخلاف ما لو كانت المنفعة له؛ لأنّ ما تركه العمل إذهاب للمال وتضييع فيمنع منه، وقد نبه على الفرق فيما لو كانت المنفعة مؤقتة. (منه رحمه الله)».

● ولو أوصى له بقوس انصرف إلى قوس النشاب والنبل والحسبان إلا مع قرينة تدلّ على غيرها.

------

الثواب به أعظم المنافع، ولأنه يتوقع استحقاق الأرش بالجناية عليه، أو الحصة منه، وقد تقدّم في بيع المعمر ما يحقق موضع النزاع ويرجّح الجواز (1). ولو لم يبق له منفعة كبعض البهائم فالمنع أجود؛ لانتفاء المالية عنه بسلب المنافع، كالحشرات.

نعم، لو أوصى بنتاج الماشية مؤبداً صح بيعها؛ لبقاء بعض المنافع والفوائد، كالصوف واللبن والظهر. وإنّما الكلام فيما استغرقت الوصية قيمته.

قوله: «ولو أوصى له بقوس انصرف إلى قوس النشاب والنبل والحسبان إلا مع قرينة تدلّ على غيرها».

اسم «القوس» يطلق على العربية، وهي التي ترمى بها «النبل» وهي السهام العربية وعلى الفارسية (2)، وهي التي يرمى بها «النشاب» وعلى القسي التي لها مجرى ينفذ فيها السهام الصغار، وتسمّى «الحُسبان» وعلى «الجلاهق» وهي ما يرمى بها «البندق» وعلى قوس «الندف». والسابق إلى الفهم من لفظ «القوس» أحد الأنواع الثلاثة، فإذا قال: «أعطوه قوساً»، حمل على أحدها دون «الجلاهق» وقوس «الندف». هكذا أطلقه المصنّف والأكثر.

وقال ابن إدريس:

تتخير الورثة في إعطاء ما شاؤوا من الخمس؛ لأنّ اسم القوس يقع على كلّ واحد منها و لا دليل للتخصيص (3).

و في كلّ واحد من القولين نظر؛ لأنّ الذاهب إلى التخيير بين الثلاثة يعترف بإطلاق اسم «القوس» على الخمسة، ولكنه يدعي غلبته في الثلاثة عرفاً، و ذلك يقتضي في الثلاثة اتباع العرف في ذلك، و هو يختلف باختلاف الأوقات والأصقاع. و لا ريب في أن المتبادر في

ص: 339


1- تقدّم في ص 136 - 137.
2- في:«م»: «العجمية» بدل «الفارسية».
3- السرائر، ج 3، ص 206.
الوصية بلفظ يقع على أشياء بالتساوي

● وكلّ لفظ وقع على أشياء وقوعاً متساوياً فللورثة الخيار في تعيين ما شاؤوا منها.

------

زماننا هو القوس العربية خاصةً، وقوس «الحُسبان» لا يكاد يعرفه أكثر الناس، و لا ينصرف إليه فهم أحد من أهل العرف فمساواته للأولين بعيدة، ونظر ابن إدريس إلى الإطلاق اللغوي جيّد، لكن العرف مقدم عليه.

والأقوى أنّه إن وجدت قرينة تخصص أحدها حمل عليه، مثل أن يقول: «أعطوه قوساً يندف به أو يتعيش به» وشبهه، فينصرف إلى قوس الندف، أو «يغزو بها» فيخرج قوس الندف والبندق إذا لم يكن معتاداً في الغزو (1). و إن انتفت القرائن اتبع عرف بلد الموصي، فإن تعدد تخير الوارث. ولو قال: «أعطوه ما يسمّى قوساً»، ففي تخيّره بين الخمسة أو بقاء الإشكال كالأوّل وجهان أجودهما الأوّل.

إذا تقرر ذلك فالواجب إعطاء ما يطلق عليه اسمه عرفاً، و هو يتحقق بدون الوتر على الظاهر.

و قيل: لا (2)، لأنّ المقصود منه لا يتم إلا به فهو كالفص بالنسبة إلى الخاتم والغلاف بالنسبة إلى السيف، بل أولى؛ لأنه بدونه بمنزلة العصا والأجود الرجوع إلى العرف أو القرينة، وبدونه لا يدخل.

قوله: «وكلّ لفظ وقع على أشياء وقوعاً متساوياً فللورثة الخيار في تعيين ما شاؤوا منها».

هذا كالتتمة لما سبق مع إفادة قاعدة كلّيّة، فإنّ لفظ «القوس» يطلق على أشياء متعدّدة على القولين، فيتخيّر الورثة في إعطاء ما شاؤوا ممّا ينصرف إليه اللفظ من الثلاثة والخمسة وغيرهما. وهذا اللفظ و إن كان يعطي القاعدة في غير هذه المسألة إلا أنه بتوسّطه بين أحكام القوس يرشد إلى تخصيصه بمسألته، و إن كان حكمه على الإطلاق صحيحاً أيضاً.

ص: 340


1- في بعض النسخ: «العرف» بدل «الغزو».
2- قاله المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 144.

● أما لو قال: «أعطوه قوسى» و لا قوس له إلا واحدة انصرفت الوصية إليها من أيّ الأجناس كانت.

------

والكلّيّة متناولة للفظ المشترك؛ لأنه هو اللفظ الواحد الواقع على أشياء متعدّدة، و في حكمه المتواطئ؛ فإنّ الوارث يتخيّر في أفراده الداخلة تحت معناه. ويمكن إدخاله ف--ي العبارة بجعل الأشياء الواقع عليها اللفظ أعم من كونها داخلةً تحته بغير واسطة و هو المشترك، أو بواسطة المعنى الواحد، و هو المتواطئ وهذا أعمّ فائدةً. و في عبارة العلّامة تصريح بإرادته (1) على ما فيه من التكلّف.

والحاصل أنّ الموصى بلفظ يقع على أشياء وقوعاً متساوياً إما لكونه متواطئاً، بأن تكون الوصية بلفظ له معنى، و ذلك المعنى يقع على أشياء متعدّدة كالعبد، أو لكونه مشتركاً بين معان متعددة كالقوس - فإن للورثة الخيار في تعيين ما شاؤوا. أما في المتواطئ؛ فلأن الوصية به وصيّة بالماهية الكلّيّة، وخصوصيّات الأفراد غير مقصودة له إلا تبعاً، فيتخيّر الوارث في تعيين أي فرد شاء؛ لوجود متعلّق الوصية في جميع الأفراد وأما المشترك فلأنّ متعلّق الوصية هو الاسم، و هو صادق على المعاني المتعددة حقيقةً، فيتخير الوارث أيضاً. وربما قيل في المشترك بالقرعة. و هو بعيد.

قوله: «أما لو قال «أعطوه قوسى» و لا قوس له إلا واحدة انصرفت الوصية إليها من أيّ الأجناس كانت».

هذا تتمة حكم الوصية بالقوس.

وحاصله أنّ التخيير بين الثلاثة والخمسة إنّما هو مع إطلاقه إعطاء القوس من غير أن يضيفه إلى نفسه، فإنّه في نفسه مشترك متعدّد. أمّا لو قال: «أعطوه قوسى» وليس له إلا أحدها انصرفت الوصية إليه - من أي نوع كان - لتقييده بالإضافة. ولو فرض مع قوله «أعطوه قوسي» أن له قسيّاً متعددة فكالسابق في التخيير، لكن يزيد هنا أن الحكم مختص

ص: 341


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 460.

● ولو أوصى برأس من مماليكه كان الخيار في التعيين إلى الورثة. و يجوز أن يعطوا صغيراً أو كبيراً، صحيحاً أو معيباً.

------

بما لو كان له من كل نوع، فلو كان له من نوعين خاصةً أو ثلاثة، فإن كان أحدها خاصةً من الغالب حمل عليه، و إن اشتركت في الغلبة تخيّر الوارث. و إن تعدد الغالب مع وجود غيره - كما لو كان له قوس «ندف» وقوس «نبل» وقوس «حُسبان - تخيّر في الأخيرين خاصة. ولو لم يكن له إلا قوس ندف وجلاهق» خاصةً ففي التخيير بينهما، أو الانصراف إلى الجلاهق» لأنه أغلب وجهان، وعلى ما اخترناه من مراعاة العرف يرجع إليه هنا.

واعلم أن القوس مما يجوز تذكيره وتأنيثه لغةً سماعاً، ذكره جماعة من أهل اللغة (1): فلذلك أنته المصنف، وذكره غيره.

قوله: «ولو أوصى برأس من مماليكه كان الخيار في التعيين إلى الورثة» إلى آخره.

«المملوك» من الألفاظ المتواطئة بالنظر إلى ما تحت معناه من الأفراد يشمل الذكر والأنثى والخنثى، والصغير والكبير، والصحيح والمعيب، والمسلم والكافر، فيتخير الوارث في إعطاء أيها شاء؛ لوقوع اسمه على كلّ واحدٍ منها.

وإنّما اجتزأ هنا بالمعيب مع إطلاق الموصي و لم يحمل عليه في التوكيل في البيع و نحوه؛ لأن عقود المعاوضات مبنية على المكايسة، ويطلب فيها حفظ المالية، بخلاف الوصية؛ فإنّها تبرّع محض، فتتبع اللفظ و إن فات بعض المالية. وإنّما يتخير الوارث مع وجود المتعدّد في التركة، وإلا تعين الموجود. ولو لم يوجد له مملوك بطلت.

و هل المعتبر بالموجود عند الوصيّة أو الموت؟ وجهان، أجودهما الثاني؛ لأنه وقت الحكم بالانتقال وعدمه، كما اعتبر المال حينئذ.

و وجه الأوّل إضافة المماليك إليه المقتضية لوجود المضاف.

ص: 342


1- منهم الجوهري في الصحاح، ج 2، ص 967؛ وابن منظور في لسان العرب، ج 6 . ص 185؛ والفيومي في المصباح المنير، ص 519، «قوس».

● ولو هلك مماليكه بعد وفاته إلا واحداً تعين للعطيّة. فإن ماتوا بطلت الوصية. فإن قتلوا لم تبطل، وكان للورثة أن يعيّنوا له مَنْ شاؤوا ويدفعوا قيمته إن صارت إليهم، وإلّا أخذها من الجاني.

------

قوله: «ولو هلك مماليكه بعد وفاته إلا واحداً تعين للعطية»، إلى آخره.

المراد ب- «هلاكهم» موتهم، لا ما يعمّ قتلهم، و إن كان اللفظ أعمّ؛ إذ لو قتلوا إلا واحداً لم يتعيّن للوصية؛ لأنّ المقتول بمنزلة الموجود، ومن ثُمَّ لم تبطل الوصية بقتل الجميع، فيتخير الوارث في تعيين مَنْ شاء من الحيّ والمقتول.

و وجه البطلان مع موت الجميع فوات متعلّق الوصية بموتهم، بخلاف القتل لبقاء المالية بثبوت القيمة على القاتل و هو بدل عن العين، فكانت للموصى له.

والتقييد بهلاكهم بعد الوفاة لإدراج باقي الأقسام فيه بغير إشكال؛ فإنّ قتلهم في حال حياته موضع خلاف في بطلان الوصيّة وعدمها من حيث فوات متعلّق الوصية، ومن بقاء البدل و هو القيمة، و إن كان الأصح عدم البطلان وأمّا الهلاك بالموت فلا فرق بين وقوعه في حياته وبعد موته في البطلان إن استوعب والصحة ما بقي واحد، فتقييده ببعدية الوفاة لا وجه له.

واعلم أن الحكم بعدم البطلان لو قتلوا بعد الوفاة واضح على تقدير سبق القبول القتل، أو على القول بكون القبول كاشفاً عن سبق الملك بالموت، أو بالمراعاة. أما على القول بأنّها لا تملك إلا بالقبول فقيل: إنّها تبطل كالموت؛ لفوات محلّ الوصيّة قبل،ملكه، كذا فصله العلّامة في التذكرة (1).

وهذا إنّما يتمّ على القول بأنّهم لو قتلوا حال الحياة بطلت أيضاً، أما لو قلنا بعدم البطلان حينئذ فعدمه لو قتلوا بعد الوفاة على جميع التقادير بطريق أولى؛ لتعلّق حقه بهم في الجملة و إن لم يتمّ، بخلافه حال الحياة؛ لعدم تصوّر ملك الموصى له حينئذ.

ص: 343


1- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 486 (الطبعة الحجرية).
إثبات الوصيّة بالشهادة

● وتثبت الوصية بشاهدين مسلمين عدلين ومع الضرورة وعدم عدول المسلمين تقبل شهادة أهل الذمة خاصةً.

------

قوله: «و تثبت الوصية بشاهدين مسلمين عدلين» إلى آخره.

لا شبهة في ثبوتها بشهادة شاهدين مسلمين عدلين؛ لأنّ ذلك ممّا يثبت به جميع الحقوق، عدا ما استثني ممّا يتوقف على أربعة وحكم الوصية أخفٌ من غيرها، ومن ثُمَّ قبل فيها شهادة المرأة الواحدة على بعض الوجوه، وشهادة أهل الذمة كذلك. و لا فرق في قبولها بهما بين كونها بمال وولاية.

ومع عدم وجود عدول المسلمين تقبل شهادة عدول أهل الذمة بالمال للآية (1) والرواية (2)، ودعوى نسخها (3) لم تثبت و الآية تضمّنت اشتراط قبولها بالسفر، وتحليفهما بعد الصلاة قائلين: ﴿لَا نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَاقُرْبَى و لا نَكْتُمُ شَهَدَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الأثمِينَ﴾ (4)، و ذلك إذا ارتاب ولي الميت في شهادتهما، وأنه إن عثر على أنهما شهدا بالباطل فليس له نقض شهادتهما حتى يجيء شاهدان فيقومان مقام الشاهدين الأولين ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَدَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَدَتِهِمَا وَمَا أَعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّلِمِينَ﴾ (5).

وأكثر الأصحاب ومنهم المصنف - لم يعتبروا السفر، وجعلوه خارجاً مخرج الغالب، و لا الحلف. وأوجبه العلّامة بعد العصر بصورة الآية (6). و هو حسن؛ لعدم ظهور المسقط.

ويمكن استنادهم في عدم اشتراط السفر إلى موثقة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله علیه السلام في قوله تعالى: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ قال: «إذا كان الرجل في بلد ليس فيها مسلم جازت

ص: 344


1- المائدة: (5) 107.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 309 وما بعدها، الباب 20 من كتاب الوصايا.
3- راجع الكشاف، ج 1، ص 687، ذيل الآية 107 من سورة المائدة (5).
4- المائدة: (5) 106
5- المائدة: (5) 107.
6- تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 246، الرقم 6618 .

● وتقبل في الوصية بالمال شهادة واحد مع اليمين، أو شاهد وامرأتين.

● وتقبل شهادة الواحدة في ربع ما شهدت به وشهادة اثنتين في النصف، وثلاث في ثلاثة الأرباع وشهادة الأربع فى الجميع.

------

شهادة مَنْ ليس بمسلم على الوصيّة» (1)، فإنّها متناولة بإطلاقها للحضر و السفر.

ولو وجد مسلمان فاسقان فالذميان العدلان أولى للآية (2). أما المسلمان المجهولان فيبنى على اعتبار ظهور العدالة، كما هو المشهور، أو الحكم بها ما لم يظهر خلافها، كما ذهب إليه جماعة من الأصحاب (3)، فعلى الثاني لا ريب في تقديم المستور من المسلمين؛ لأنه عدل. وعلى الأوّل ففي تقديمه على عدل أهل الذمة وجهان واختار العلّامة تقديم المسلمين، بل قدم الفاسقين إذا كان فسقهما بغير الكذب والخيانة (4). وفيه نظر.

قوله: «وتقبل في الوصية (5) بالمال شهادة واحد مع اليمين، أو شاهد وامرأتين».

الحكم فيهما موضع وفاق؛ لأنّ الضابط الكلّي ثبوت المال مطلقاً بذلك، والوصية بالمال من أفراده. وقد دلّ قوله تعالى: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ (6) على الاكتفاء برجل وامرأتين. و لا خلاف عندنا في الاكتفاء بالشاهد مع اليمين، و هو ثابت في السنة عن النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ (7). وسيأتي إن شاء الله تعالى (8).

قوله: وتقبل شهادة الواحدة فى ربع ما شهدت به إلى آخره.

ص: 345


1- الكافي، ج 7، ص 4، باب الإشهاد على الوصيّة، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 180 - 181، ح 725 .
2- المائدة (5): 106.
3- منهم العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 522) (الطبعة الحجرية)؛ وولده فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2. ص 636 - 637: والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11، ص 306 - 307.
4- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 522 (الطبعة الحجرية).
5- في نسخة «أ» من الشرائع: «الشهادة».
6- البقرة (2) 282.
7- راجع وسائل الشيعة، ج 27، ص 264 وما بعدها. الباب 14 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
8- يأتي في ج 12، ص 403 وما بعدها.

......

------

هذا أيضاً موضع وفاق بين الأصحاب، ورووه عن الصادق علیه السلام (1) وعن أمير المؤمنين علیه السلام (2). و لا يخفى أنّ ذلك مع عدالة النساء، كما هو المعتبر في كل شهادة.

و لا يتوقف ثبوت ما ذكر بشهادتهن على اليمين؛ لإطلاق النص، فلو اعتبر لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، و لا بعد فيه بعد ثبوته بالنص، و إن كان مخالفاً لحكم غيره من الحقوق؛ فإنّها مختلفة بحسب الشهادة اختلافاً كثيراً.

واختار العلّامة في التذكرة توقف الحكم في جميع الأقسام على اليمين، كما في شهادة الواحد (3).

وفيه: أن اليمين مع شهادة الواحد يوجب ثبوت الجميع، فلا يلزم مثله في البعض. ولو فرض انضمام اليمين إلى الاثنين أو الثلاث ثبت الجميع؛ لقيامهما مقام الرجل، أما الواحدة فلا يثبت بها سوى الربع مطلقا.

ولو شهد رجل واحد ففي ثبوت النصف بشهادته من غير يمين؛ نظراً إلى قيام شهادته مقام اثنين، أو الربع خاصة؛ لأنه المتيقن من حيث إنه لا يقصر عن المرأة، أو سقوط شهادته أصلاً وقوفاً فيما خالف الأصل على مورده أوجه أوسطها الوسط.

والخنثى كالمرأة على الأقوى، مع احتمال سقوطها هنا لما ذكر في الرجل الواحد.

واعلم أنّ المرأة الواحدة لو علمت بالحال فأضعفت المال حتى صار ربعه قدر الموصى به ليثبت الجميع قبل ظاهراً، واستباحة الموصى له مع علمه بالوصية أو جهله بكذبها في الزيادة لا بدونه، ولكن لا يجوز لها تضعيفه لذلك للكذب. و لا يشترط

ص: 346


1- الكافي، ج 7، ص 4، باب الإشهاد على الوصيّة، ح 4: الفقيه، ج 4، ص 192، ح 5438؛ تهذيب الأحكام، ج 9. ص 180، ح 719.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 180، ح 720: وج 6، ص 267 - 268، ح 717.
3- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 522 (الطبعة الحجرية).

● و لا تثبت الوصية بالولاية إلا بشاهدين، و لا تقبل شهادة النساء في ذلك. و هل تقبل شهادة شاهد مع اليمين؟ فيه تردّد، أظهره المنع.

------

في قبول شهادة المرأة هنا تعذر الرجال عملاً بالعموم (1)، خلافاً لابن إدريس (2) وقبله ابن الجنيد (3).

قوله: «و لا تثبت الوصية بالولاية إلا بشاهدين» إلى آخره.

لا خلاف في عدم قبول شهادة النساء منفردات في الولاية؛ لأنها ليست وصيّة بمال، بل تسلّط على تصرّف فيه، و لا ممّا يخفى على الرجال غالباً، و ذلك ضابط محل قبول شهادتهن منفردات.

وأما ثبوتها بشهادة الواحد مع اليمين فقد تردّد فيه المصنّف ثمَّ استظهر المنع و هو واضح؛ لأنّ ضابطه ما كان من حقوق الآدمي مالاً أو المقصود منه المال، وولاية الوصاية ليست أحدهما.

و وجه تردّده مما ذكرناه، ومن أنها قد تتضمّن المال، كما إذا أراد أخذ الأجرة أو الأكل بالمعروف بشرطه، ولما فيه من الإرفاق والتيسير فيكون مراداً للآية (4)، والرواية (5).

و لا يخفى ما فيه، وقد قطع الأصحاب بالمنع من غير نقل خلاف في المسألة و لا تردّد، ووافقهم المصنّف في مختصر الكتاب على القطع، وأبدل هذا التردد بالتردد في ثبوت الوصية بالمال بشاهد ويمين (6)، وكلاهما كالمستغنى عنه؛ للاتفاق على الحكم والقاعدة المفيدة للحكم فيهما.

ص: 347


1- المائدة (5): 106: وراجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 309 وما بعدها، الباب 20 من كتاب الوصايا.
2- السرائر، ج 2، ص 138.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ح8، ص 475، المسألة 74.
4- لعلّ مراده بها قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ و لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ . البقرة (2): 185.
5- كرواية حماد بن عيسى راجع تهذيب الأحكام، ج 1، ص 275، ح 748؛ والاستبصار، ج 3، ص 33، ح 114.
6- المختصر النافع، ص 268.

● ولو أشهد إنسان عبدين له على حمل أمته أنه منه، ثم مات فأعتقا وشهدا بذلك قبلت شهادتهما، و لا يسترقهما المولود. و قيل: يكره. و هو أشبه.

------

قوله: «ولو أشهد إنسان عبدين له على حمل أمته أنّه منه» إلى آخره.

الأصل في هذه المسألة ما رواه الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله علیه السلام في رجل مات وترك جاريةً ومملوكين، فورثهما أخ له فأعتق العبدين وولدت الجارية غلاماً، فشهدا بعد العنق أنّ مولاهما كان أشهدهما أنّه كان يقع على الجارية، و إن الحبل منه، قال: «يجوز شهادتهما، ويردان عبدين كما كانا» (1).

وهذه الرواية مبنية إما على قبول شهادة المملوك مطلقاً أو على مولاه؛ لأنّهما بشهادتهما للولد والحكم بها صارا رقاً له؛ لتبين أن معتقهما لم يكن وارثاً، أو على أن المعتبر حريتهما حال الشهادة و إن ظهر خلافها بعد ذلك، أو على أنّ الشهادة للمولى لا عليه فتقبل، كما هو أحد الأقوال في المسألة.

وفيه: أنّ الحكم بكون الولد مولى موقوف على شهادتهما، فلو توقفت شهادتهما على کونه مولى لتكون الشهادة له دار. والشيخ رحمه الله خص الحكم بالوصية (2)، فإنّ أمرها أخفّ من غيرها من الحقوق، كما قبلت فيها شهادة أهل الكتاب. و كيف كان فلا سبيل إلى ردّ الرواية الصحيحة المقترنة بعمل الأصحاب.

إذا تقرّر ذلك وحكم ببنوّة الولد عادا رقاً؛ لتبيّن وقوع العتق من غير المالك. ويكره له استرقاقهما؛ لأنهما كانا سبباً في حريته بعد الرقية، فلا يكون سبباً في رقيتهما بعد الحرّية. و قيل: لا يجوز له استرقاقهما؛ لرواية داود بن فرقد عن أبي عبد الله علیه السلام (3).

والأصح الكراهة.

ص: 348


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 222، ج 871؛ الاستبصار، ج 4، ص 136، ح511.
2- النهاية، ص 612 - 613.
3- الكافي، ج 7، ص 20، باب من أوصى بعتق أو صدقة.... 16؛ الفقيه، ج 4، ص 211 - 212، ح 5495: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 222، ح 870؛ الاستبصار، ج 4، ص 136، ح512.

● و لا تقبل شهادة الوصي فيما هو وصيّ فيه، و لا ما يجرّ به نفعاً أو يستفيد منه ولايةً.

------

و معنى كراهة استرقاقهما استحباب عتقهما، لا بناؤه على العتق الأوّل، والذي اشتملت عليه رواية داود أنّ مولاهما أعتقهما وأشهدهما على أنّ الحمل منه فشهدا بالأمرين معاً بعد عتقهما، فقال: «تجوز شهادتهما، و لا يسترقهما الغلام الذي شهدا له؛ لأنهما أثبتا نسبه». وبمضمون هذه الرواية فرض العلّامة المسألة في القواعد (1). وعليه لا يفتقر إلى تجديد العتق؛ لأنّهما بزعمهما معتقان، و إن كان العتق (2) أولى؛ لعدم ثبوته بشهادتهما.

وأما ما فرضه المصنّف تبعاً لرواية الحلبي فلا تعرّض فيه؛ لتحريم استرقاقهما، و لا لكراهته، إلا أن تعليل الرواية الأخرى يقتضيه، فإنّ إثبات نسبه بهما متحقق على التقديرين.

وطريق الجمع بين الروايتين حمل ذلك النهي على الكراهة، وإلا فشهادتهما بعتق المولى لهما شهادة لأنفسهما على المولى فلا تسمع.

قوله: «و لا تقبل شهادة الوصيّ فيما هو وصيّ فيه» إلى آخره.

الضابط أنّ شهادته متى كانت لنفسه منها حظ لم تقبل، ويتحقق ذلك بأمور:

منها: أن يشهد فيما هو وصيّ فيه بأن يجعله وصيّاً على مال معين فينازعه فيه منازع. فيشهد به للموصي .

ومنها: أن يجرّ به نفعاً، بأن جعله وصيّاً فى تفرقة ثلثه فشهد بمال للمورث، فإنه يجربه نفعاً باعتبار زيادة الثلث.

ومنها: أن يجعله وصيّاً على ولده الصغير فيشهد للولد بمال، فإنه يستفيد به ولاية على المال.

ص: 349


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 569.
2- لم يرد «العتق» في النسخ بل ورد في الحجريتين.

● ولو كان وصيّاً في إخراج مال معيّن فشهد للميت بما يخرج به ذلك المال من الثلث لم يقبل.

------

ولو انتفت التهمة قُبلت كما لو جعله وصيّاً على أملاك الأطفال فشهد لهم بدين، أو على الصدقة بمال معيّن أو بغلّة ملك معيّن فشهد للوارث بحق آخر للمورّث، و نحو ذلك.

والمنع من قبول شهادة الوصيّ كذلك هو المشهور بين الأصحاب لا تعلم فيه مخالفاً، إلا ابن الجنيد؛ فإنّه قال:

شهادة الوصي جائزة لليتيم في حجره و إن كان هو المخاصم للطفل، و لم يكن بينه وبين المشهود عليه ما يردّ شهادته عليه (1).

ومال إليه الفاضل المقداد في شرحه (2). و لا بأس بهذا القول؛ لبعد هذه التهمة من العدل، حيث إنّه ليس بمالك، وربما لم يكن له أجرة على عمله في كثير من الموارد إلّا أنّ العمل بالمشهور متعيّن.

واعلم أنه يجوز قراءة «تجر» ب- «التاء» بعود الضمير المستكن فيه إلى الشهادة وب-«الياء» بعوده إلى الوصيّ، و إن المانع من قبول شهادته التهمة بجرّ النفع كما ذكر، فلو ادّعى مدّع الوصاية و لم تثبت وصايته لعدم البينة الموجبة له - لم يقدح ذلك في شهادته و إن كان وصيّاً بزعمه؛ لعدم التهمة بانتفاء ولايته ظاهراً.

قوله: «ولو كان وصيّاً في إخراج مال معين» إلى آخره.

هذا من فروع المسألة السابقة؛ فإنّه يجر بشهادته نفعاً لنفسه بإخراج مجموع ذلك المال بشهادته من الثلث بعد أن كان بعضه مردوداً، كما لو أوصى إليه بإخراج ألف درهم، والتركة ظاهراً ألفان، فشهد الوصي أن للميت على أحد ألفاً مثلاً، فإنّ قبول هذه الشهادة يستلزم إخراج الألف المجعول وصيّاً فيها من الثلث، ونفوذ الوصية فلا تقبل.

ص: 350


1- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 543. المسألة 102.
2- التنقيح الرائع، ج 2، ص 419.

مسائل أربع:

الأولى: ● إذا أوصى بعتق عبيده وليس له سواهم أعتق ثلثهم بالقرعة. ولو رتبهم أعتق الأوّل فالأوّل حتى يستو في الثلث. وتبطل الوصية فيمن بقي.

------

و لا يشترط في المنع خروج جميع ما أوصى به إليه من الثلث، بل متى كان الثلث قاصراً عن الوصية و لم يجز الوارث فشهادة الوصي بمال للميت مردودة و إن قل؛ لأنّ زيادة المال توجب زيادة النافذ من الموصى به و إن لم ينفذ جميعه.

واعلم أنه لو عطف هذه المسألة على ما قبلها ب-«الفاء» كان أجود.

قوله: «إذا أوصى بعتق عبيده وليس له سواهم أعتق ثلثهم بالقرعة» إلى آخره.

المراد بعتق ثلثهم بالقرعة تعديلهم أثلاثاً بالقيمة، ثمَّ إيقاع القرعة بينهم، ويعتق الثلث الذي أخرجته القرعة. ولو توقف التعديل على إدخال جزء من أحدهم فعل، فإن خرج الثلث الذي فيه الجزء عتق من العبد بحسابه، ويسعى في باقي قيمته كما هو في كلّ مبعض.

وإنّما لم نحكم بعتق ثلث كلّ واحد مع أنّ كلّ واحد منهم بمنزلة الموصى له، وقد حكم فيما سلف بأنّ الوصايا إذا وقعت دفعةً قسط عليها الثلث بالنسبة (1) - لما ورد من فعل النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ في القرعة بين ستة عبيد أعتقهم مولاهم عند موته و لم يكن له غيرهم، فجزاهم أثلاثاً ثم أقرع بينهم (2). وأيضاً فإنّ عتق بعض كل واحد يوجب الإضرار بالوارث، حيث يوجب سعي كلّ واحد في باقيه فيلزم عتق جميعهم.

ولو رتبهم في الوصية بدئ بالأوّل فالأوّل إلى أن يستو فى الثلث ولو في بعض عبد.

هذا كله إذا لم يجز الوارث وإنّما تركه لظهوره

ص: 351


1- سبق في ص 296.
2- السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 481 - 483، ح 21390 و 21392 و 21394 - 21397 و 21399 2140.

● ولو أوصى بعتق عدد مخصوص من عبيده استخرج ذلك العدد بالقرعة. و قيل: يجوز للورثة أن يتخيّروا بقدر ذلك العدد والقرعة على الاستحباب. و هو حسن.

الثانية: ● لو أعتق مملوكه عند الوفاة منجزاً وليس له سواه قيل عتق كلّه. و قيل: ينعتق ثلثه، ويسعى للورثة في باقي قيمته. و هو أشهر. ● ولو أعتق ثلثه سعى في باقيه ولو كان له مال غيره اعتق الباقي من ثلث تركته.

------

قوله: «ولو أوصى بعتق عدد مخصوص من عبيده استخرج ذلك العدد بالقرعة » إلى آخره.

وجه القرعة أنّ العتق حقّ للمعتق، و لا ترجيح فيه لبعضهم على بعض، فوجب التوصل إليه بالقرعة.

و وجه ما اختاره المصنّف أنّ متعلّق الوصيّة متواطئ، فيتخير في تعيينه الوارث كغيره، ولأن المتبادر من اللفظ الاكتفاء بأي عدد كان من الجميع. وهذا أقوى و إن كانت القرعة أعدل.

قوله: «لو أعتق مملوكه عند الوفاة منجزاً» إلى آخره.

هذه المسألة جزئية من جزئيات منجزات المريض، وسيأتي البحث فيها، وتحرير محلّ الخلاف وبيان الراجح (1)، وإنّما فصلها هنا ليترتب عليها باقى المسألة.

قوله: «ولو أعتق ثلثه سعى في باقيه» إلى آخره.

المراد بسعيه في باقيه في كلّ موضع يصير بعضه حرّاً دفع جميع ما يكتسبه فاضلاً عن مؤونته بعد ذلك في فك باقيه لا بنصيب الحرّية خاصةً.

ولو كان للمعتق مال غيره فاضل عن المستثنيات في الدين سرى عليه في ثلث ذلك الفاضل لا من الأصل؛ لأنّ سبب السراية - و هو العتق - وقع في حال المرض واعتبر من الثلث فيكون مسبّبه كذلك. وخصّه بالذكر؛ لئلا يتوهّم أنّ العتق بالسراية قهري، فيكون من الأصل.

ودفع الوهم بما ذكرناه من أن مختار السبب كمختار المسبب. و لا يخلو من نظر.

ص: 352


1- يأتي في ص 449 وما بعدها.

الثالثة: ● لو أوصى بعتق رقبة مؤمنة وجب، فإن لم يجد أعتق مَنْ لا يعرف بنصب.

------

قوله: «لو أوصى بعتق رقبة مؤمنة وجب» إلى آخره.

المراد ب- «المؤمنة» هنا الإيمان الخاص، و هو أن يعتقد اعتقاد الإمامية، بقرينة قوله: «أعتق مَنْ لا يعرف بنصب»، مع أن من كان كذلك قد يكون مؤمناً بالمعنى الأعم. وأيضاً فذلك هو المتعارف بين فقهائنا، فكأنه حقيقة عرفية، وقد حققناه في باب الوقف (1).

و لا ريب في وجوب تحرّي الوصف مع الإمكان؛ وفاء بالوصية الواجب إنفاذها، وحذراً من تبديلها المنهي عنه (2).

فإن لم يجد مؤمنةً قال المصنف - وقبله الشيخ (3) -: «أُعتق من لا يعرف بنصب» من أصناف المخالفين.

والمستند رواية علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن علیه السلام قال: سألته عن رجل أوصى بثلاثين ديناراً يعتق بها رجل من أصحابنا فلم يوجد قال: «يشترى من الناس فيعتق» (4).

و في السند ضعف بعلي بن أبي حمزة (5)، فالحكم بها - مع مخالفته مقتضى الوصية - ضعيف. ومع ذلك فليس في الرواية تقييد بعدم النصب، لكن اعتبره الجماعة؛ نظراً إلى أنّ الناصبي كافر، وعتق الكافر غير صحيح، فالقيد من خارج ويلزم على ذلك اعتبار عدم الكفر مطلقاً؛ فإنّ عدم النصب أعم من عدم الكفر؛ لجواز وجوده في ضمن غيره من الفرق الإسلامية المحكوم بكفرها فضلاً عن غيرها.

والأقوى أنّه لا يجزئ غير المؤمنة مطلقاً، فيتوقع المكنة.

ص: 353


1- راجع ص 42 - 43.
2- البقرة (2): 181.
3- النهاية، ص 616.
4- الكافي، ج 7، ص18، باب من أوصى بعتق أو صدقة .... ح 9؛ الفقيه، ج 4، ص 214 - 215، ح 5504: الأحكام، ج 9، ص 220، ح 863.
5- راجع رجال النجاشي، ص 249، الرقم 656؛ وخلاصة الأقوال، ص 181، الرقم 540.

● ولو ظنّها مؤمنةً فأعتقها ثمَّ بانت بخلاف ذلك أجزأت عن الموصي.

الرابعة ● لو أوصى بعتق رقبة بثمن معيّن فلم يجد به لم يجب شراؤها، وتوقع وجودها بما عيّن له ولو وجدها بأقل اشتراها وأعتقها، ودفع إليها ما بقي.

------

قوله: «ولو ظنّها مؤمنةً فأعتقها ثمَّ بانت بخلاف ذلك أجزأت عن الموصى».

وذلك؛ لأنه متعبد في ذلك بالظاهر، لا بما في نفس الأمر إذ لا يطلع على السرائر إلا الله. فقد امتثل الأمر، و هو يقتضي الإجزاء. و لا فرق في ذلك بين استناده في إيمانها إلى إخبارها أو إخبار مَنْ يثبت بقوله ذلك.

قوله: «لو أوصى بعتق رقبة بثمن معيّن فلم يجد به لم يجب شراؤها» إلى آخره.

المراد بقوله «فلم يجد به» أنه وجد ولكن بأكثر من ذلك الثمن المعين، بقرينة ما ذكره في قسيمه بقوله «ولو وجد بأقلّ». ويستفاد من قوله «لم يجب شراؤها» أنّها موجودة، وإلا كان قوله «فلم يجد» شاملاً لما لو لم يوجد أصلاً أو وجد بأزيد.

وعدم وجوب الشراء بأزيد واضح لانتفاء المقتضى له. وحينئذ فيتوقع إمكان الشراء به. فإن يئس منه ففي بطلان الوصيّة أو صرفه فى البرّ أو شراء شقص به، فإن تعذر فأحد الأمرين أوجه، أجودها الأخير؛ لأن شراء الشقص أقرب إلى مراد الموصي من عدمه. ولعموم: «فأتوا منه ما استطعتم» (1)، ولخروج المال عن الوارث بالموت فلا يعود، ووجوه البرّ مصرف مثل ذلك، وقد تقدّم له نظائر (2).

و وجه البطلان تعذر الموصى به، و لا دليل على وجوب غيره، ونفى عنه في التذكرة البأس (3)، وقد ظهر جوابه.

وأما وجوب الشراء بأدون لو وجد وإعطاء الباقي فلرواية سماعة عن أبي عبدالله علیه السلام.

ص: 354


1- مسند أحمد، ج 3، ص 162، ح 9239؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 4، ص 534، ح 8615.
2- تقدّم في ص 319.
3- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 491 (الطبعة الحجرية).

......

------

قال: سألته عن رجل أوصى أن يعتق عنه نسمةً بخمسمائة درهم من ثلثه، فاشترى نسمةٌ بأقل من خمسمائة درهم، وفضلت فضلة فما ترى؟ قال: «تدفع الفضلة إلى النسمة من قبل أن تعتق، ثم تعتق عن الميت» (1).

والرواية - مع ضعف سندها بسماعة (2) - دلّت على إجزاء الناقصة و إن أمكنت المطابقة؛ لأنّه لم يستفصل فيها هل كانت المطابقة ممكنة أم لا؟ وترك الاستفصال من وجوه العموم إلا أنّ الأصحاب نزلوها على تعذر الشراء بالقدر، و لا بأس بذلك مع اليأس من العمل بمقتضى الوصية؛ لوجوب تنفيذها بحسب الإمكان. وإعطاء النسمة الزائد صرف له ف--ي وجوه البرّ، و هو محلّه حينئذ، وتبقى الرواية شاهداً إن لم تكن حجةً؛ لأن سماعة و إن كان واقفيّاً لكنه ثقة، فيبنى حجيتها على قبول المولّق، أو على جبر الضعف بالشهرة. وعلى ما بيّناه لا ضرورة إلى ذلك؛ لموافقة مضمونها للقواعد إذا قيدت باليأس من تحصيل النسمة بالشرط.

ص: 355


1- الكافي، ج 7، ص 19، باب من أوصى بعتق أو صدقة ...، ح 13؛ الفقيه، ج 4، ص 215، ح 5508: ... 13 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 221، ح 868.
2- خلاصة الأقوال، ص 356 الرقم 1410.

[الفصل] الرابع في الموصى له

اشارة

● ويشترط فيه الوجود. فلو كان معدوماً لم تصح الوصية له، كما لو أوصى لميّت، أو لمن ظنّ وجوده فبان ميناً عند الوصيّة. و کذا لو أوصى لما تحمله المرأة، أو لمن يوجد من أولاد فلان.

------

قوله: «ويشترط فيه الوجود. فلو كان معدوماً لم تصح الوصية له» إلى آخره.

لما كانت الوصية تمليك عين أو منفعة كما سلف من تعريفها (1) - اشترط كون الموصى له قابلاً للتمليك ليتحقق مقتضاها، فلا تصح الوصية للمعدوم و لا للميت. ونبه بخصوص الميت على خلاف مالك حيث صحح الوصية له مع علمه بموته وينصرف إلى وارثه (2). وبالمنع من الوصيّة لما تحمله المرأة مطلقاً على خلاف بعض الشافعية، حيث صحح الوصية له (3)، كما تصح به وبعضهم حيث جوزها له بشرط وجوده حال الموت (4). والأصح عندهم البطلان مطلقاً (5)، كما اخترناه.

وأما الوصية (6) لمن سيوجد فقد أطلق الأصحاب وغيرهم المنع منه ولو بالتبعية للموجود.

ص: 356


1- سبق في ص 251.
2- المدوّنة الكبرى، ج 6، ص 73.
3- راجع حلية العلماء، ج 6، ص 74؛ وروضة الطالبين، ج 5، ص 95؛ والعزيز شرح الوجيز، ج 7، ص 9.
4- روضة الطالبين، ج 5، ص 96.
5- راجع حلية العلماء، ج 6، ص 74.
6- في حاشية «و»: «ذكر الإشكال الشيخ علي في الشرح و لم يذكر الجواب عنه (منه رحمه الله)». راجع جامع المقاصد، ج 10، ص 41.

صحة الوصية للأجنبي والوارث

● وتصح الوصية للأجنبي والوارث

------

مع أنه قد تقدّم جواز الوقف على المعدوم تبعاً للموجود (1)، ودائرة الوقف أضيق من دائرة الوصيّة، كما يعلم من أحكامها. ويمكن الفرق بينهما - الموجب لافتراقهما في هذا الحكم - بأن الغرض من ملك العين في الوقف تمليك العين على وجه الحبس وإطلاق الثمرة، فالموقوف حقيقةً هو العين، وملكها حاصل للموقوف عليه الموجود، ثم ينتقل منه إلى المعدوم و إن كان يتلقى الملك من الواقف، ففائدة الملك المقصودة منه متحققة فيهما، بخلاف الوصيّة، فإنّ الملك المقصود منها إطلاق الأصل والثمرة، على تقدير كون الموصى به الأصل، وعلى تقدير كون الثمرة المتجدّدة، فيعتبر قبول الموصى له لنقل الملك ابتداءً.

إذا تقرر ذلك فإذا أوصى للموجود ثم للمعدوم فإن كان بعين فمقتضى تلك الوصية للموجود التصرف فيها، ونقلها عن ملكه إذا شاء كيف شاء والتصرّف فيها كذلك ينافي الوصية بها للمعدوم؛ لأنّ الوصيّة له تقتضي تمليكه أيضاً، فلا بد من وصولها إليه.

و إن كانت الوصية بثمرة فهو موضع الشبهة، كما لو أوصى مثلاً بثمرة بستان خمسين سنةً لزيد، ولأولاده المتجدّدين من بعده، فهذا و إن لم يأت فيه ذلك المحذور إلا أنّ كلّ واحد من الموصى له الأوّل، وأولاده موصى له بطريق الاستقلال لا التبعية؛ لأن الثمرة التي يملكها الأوّل بالوصية غير الثمرة التي يملكها الثاني في زمانه، وملك الأصل الجامع بينهما منتف عنهما، فقد صدق تمليك المعدوم الذي لا يقبل الملك و لا بالتبعية، بخلاف الوقف؛ لأنّ الملك متحقق للموجود في الأصل ابتداء، ومنه ينتقل إلى المعدوم كما تقرر، فكان تابعاً له فيه فظهر الفرق.

قوله: «وتصح الوصية للأجنبي والوارث».

اتفق أصحابنا على جواز الوصية للوارث، كما تجوز لغيره من الأقارب والأجانب.

ص: 357


1- تقدّم في ص 32.

......

------

وأخبارهم الصحيحة به واردة، ففي صحيحة أبي بصير قال قلت لأبي عبدالله علیه السلام: يجوز للوارث وصيّة؟ قال: «نعم» (1). و في صحيحة أبي ولاد عنه علیه السلام لما سأله عن الميت قد يوصي للبنت بشيء قال: «جائز» (2) وغيرهما من الأخبار (3).

و في الآية الكريمة ما يدلّ على الأمر به فضلاً عن جوازه، قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾؛ (4) ومعنى «كُتب» فُرض، و هو هنا بمعنى الحثّ والترغيب دون الفرض والوالدان لا بد أن يكونا وارثين و إن تخلّف ذلك في الأقربين على بعض الوجوه. إلا أن يكون الأبو إن ممنوعين من الإرث بكفر وما في معناه، واللفظ أعم منه، فيشمل موضع النزاع.

وقد ذهب أكثر الجمهور إلى عدم جوازها للوارث (5)، ورووا في ذلك حديثاً عنه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا وصيّة لوارث» (6).

واختلفوا في تنزيل الآية، فمنهم من جعلها منسوخة بآية المواريث (7)، ومنهم مَنْ حمل الوالدين على الكافرين، وباقي الأقارب على غير الوارث منهم جمعاً (8)، ومنهم مَنْ جعلها منسوخةً فيما يتعلّق بالوالدين خاصةً (9).

ص: 358


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 199، ح 794؛ الاستبصار، ج 4، ص 127، ح 477.
2- الاستبصار، ج 4، ص 127، ح 478.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 287 وما بعدها الباب 15 من كتاب الوصايا.
4- البقرة (2): 180.
5- راجع المجموع شرح المهذب، ج 15، ص 399؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 449، المسألة 4595.
6- مسند أحمد، ج 5، ص 203 - 204، ح 17210؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 905-906، ح 2713 - 2714.
7- راجع الجامع لأحكام القرآن، ج 2، ص 262، ذيل الآية 180 من سورة البقرة (2).
8- راجع الجامع لأحكام القرآن، ج 2، ص 262، ذيل الآية 180 من سورة البقرة (2).
9- راجع جامع البيان، ج 2، ص 145 - 146، ذيل الآية 180 من سورة البقرة (2).

● وتصح الوصية للذمّى ولو كان أجنبياً. و قيل: لا يجوز مطلقاً. ومنهم مَنْ خص الجواز بذوي الأرحام والأوّل أشبه.

------

ويبطل الأوّل بأنّ الشيء إنّما ينسخ غيره إذا لم يمكن الجمع بينهما، وهو هنا ممكن بحمل الإرث على ما زاد عن الوصيّة، أو ما زاد عن الثلث كغيرها من الوصايا، وبه يبطل الباقي. والخبر - على تقدير تسليمه - يمكن حمله على نفي وجوب الوصية الذي كان قبل نزول الفرائض، أو على نفي الوصية مطلقاً، بمعنى إمضائها و إن زادت عن الثلث، كما يقتضيه إطلاق الآية.

والمراد نفي الوصيّة عمّا زاد عن الثلث، وتخصيص الوارث لحث الآية على الوصية له؛ إذ لولاه لاستفيد من الآية جواز الوصية له بجميع ما يملك الموصي. ووافقنا بعضهم حتى قال: ليست الوصية إلا للأقربين (1)، عملاً بمقتضى الآية (2). و هو قادح في دعوى بعضهم الإجماع على نسخها (3).

واعلم أن المراد ب- «الأجنبي» في قول المصنف غير الوارث و إن كان قريباً؛ بقرينة ذكر قسيمه، ولو قال: للوارث وغيره، كان أجود؛ لأنّ المتبادر من «الأجنبي» مَنْ ليس بقريب فلا يكون اللفظ شاملاً للقريب غير الوارث.

قوله: «وتصح الوصية للذمّي ولو كان أجنبياً. و قيل: لا يجوز مطلقاً» إلى آخره.

وجه الجواز مطلقاً عموم قوله تعالى: ﴿لَّا يَنْهَنكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَتِلُوكُمْ فِي الدِّين إلى قوله - أن تَبَرُّوهُمْ﴾ (4)، والوصية بر.

و خصوص صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما علیهما السلام في رجل أوصى بماله في سبيل الله.

ص: 359


1- راجع جامع البيان، ج 2، ص 145 ذيل الآية المذكورة.
2- البقرة (2): 180.
3- راجع الجامع لأحكام القرآن، ج 2، ص 262، ذيل الآية 180 من سورة البقرة (2).
4- الممتحنة (60) 8.

......

------

قال: «أعط لمن أوصى له و إن كان يهودياً أو نصرانياً، إن الله تعالى يقول: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾» (1). وقريب منها حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (2)، وموثقة يونس بن يعقوب عنه علیه السلام (3).

و وجه الثاني: أنّ الوصية تستلزم الموادة، وهي محرّمة بالنسبة إلى الكافر؛ لقوله تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ﴾ (4) الآية، وهي متناولة للأرحام وغيرهم.

ويضعف بمعارضته بقوله تعالى: ﴿لَّا يَنْهَنكُمُ الله﴾ (5) الآية، والذمّى مطلقاً داخل فيها. وبما تقدم من الأخبار، وبقوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: على كل كبد حرّى أجر » (6).

وينتقض بجواز هبته وإطعامه، وبمنع كون مطلق الوصية له موادةً؛ لأن الظاهر أنّ المراد منها موادة المحاد الله من حيث هو محادّ لله؛ بقرينة ما ذكر من جواز صلته، وهو غير المتنازع؛ لأنّا نسلّم أنّه لو أوصى للكافر من حيث إنه كافر - لا من حيث إنّه عبد الله ذو روح من أولاد آدم المكرمين - لكانت الوصية باطلةً.

و وجه الثالث: ما ورد من الحثّ على صلة الرحم مطلقاً (7)، فيتناول الذمّي. و هو غير منافٍ لما دلّ على صلة غيره، فالقول بالجواز مطلقاً أقوى

ص: 360


1- الكافي، ج 7، ص 14، باب إنفاذ الوصية على جهتها، ح 2: الفقيه، ج 4، ص 200، ح 5465: تهذيب الأحكام ج 9، ص 201، ح 804؛ الاستبصار، ج 4، ص 128، ح 484؛ والآية في سورة البقرة (2) 181.
2- الكافي، ج 7، ص 14، باب إنفاذ الوصية على جهتها، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 203، ح 808؛ الاستبصار، ج 4، ص 129، ح 488.
3- الكافي، ج 7، ص 14، باب إنفاذ الوصية على جهتها . ح 4: الفقيه ج 4، ص 200، ح 5466: تهذيب الأحكام، ج 9. ص 202، ح 805؛ الاستبصار، ج 4، ص 128، ح 485.
4- المجادلة (58) 22.
5- الممتحنة .(60): 8.
6- مسند أحمد، ج 2، ص 445، ح 7035: صحيح البخاري، ج 2، ص 833، ح 2234 بتفاوت في العبارة.
7- راجع وسائل الشيعة، ج 21، ص 533 وما بعدها، الباب 17 من أبواب النفقات.

● و في الوصية للحربي تردّد، أظهره المنع.

------

قوله: «و في الوصية للحربي تردّد أظهره المنع».

قد عرفت من دليل المانع من الوصيّة للذمّي ما يدلّ على الحربي بطريق أولى، ومن الدليل المخصص بذي الرحم ما يفيده في الحربي أيضاً

و وجه المنع من الحربي دون الذمّي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ (1) الآية، والحربي ناصب نفسه لذلك.

وفيه نظر؛ لأنّ الحربي قد لا يكون مقاتلاً بالفعل، بل ممتنعاً من التزام شرائط الذمة فلا يدخل في الآية. وقوله علیه السلام في الخبر السابق: «أعط لمن أوصى له و إن كان يهودياً أو نصرانياً» (2) واستشهاده بالآية يتناول بعمومه الحربي؛ لأنّ «مَنْ» عامة في المتنازع، وكذلك اليهودي والنصراني شامل للذمّي، وغيره حيث لا يلتزم بشرائط الذمة.

و لا يقدح في دلالته عطفه اليهودي والنصراني ب- «إن» الوصلية الدالة على أنه أخفى الأفراد مع أنّ الحربي أخفى، فكان ذكره أولى؛ لمنع كونه أخفى، وجاز تخصيص اليهودي والنصراني دون الوثني؛ لأنّ الملتين من أهل الكتاب ومناقشتهم على الكفر أقوى؛ بسبب علمهم وتلقيهم الأحكام من الأنبياء، بخلاف الوثني ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (3). ومن هذا جاء ما ورد في الحج أن مَنْ وجب عليه فتركه فليمت إن شاء يهودياً و إن شاء نصرانياً (4).

ويمكن تخصيصهما حذفاً لما سواهما عن درجة الاعتبار.

وأيضاً فقد عرفت أنّ الملتين شاملتان للحربي منهما وغيره، و إذا جازت الوصية لحربي

ص: 361


1- الممتحنة (60): 9.
2- سبق تخريجه في ص 360 الهامش 1.
3- الزمر (39): 9.
4- الكافي، ج 4، ص 268 - 269، باب من سوّف الحج و هو مستطيع ح 1 و 5: الفقيه، ج 2، ص 447. ح 2937: تهذيب الأحكام، ج 5، ص 17، ح 49.

......

------

أهل الكتاب جاز لحربي غيره؛ إذ لا قائل بالفرق، مع أن صدر الخبر متناول بعمومه للجميع. مضافاً إلى أن الوصية نوع عطية لا تتوقف على القربة، فلا فرق بين وقوعها في الحياة وبعد الوفاة.

وأما ما قيل من الفرق بين الهبة والوصية:

أن ملك الحربي غير لازم، وماله غير معصوم، فلا يجب دفعه إليه، فلو جازت الوصية له لكان إما أن يجب على الوصي دفعه إليه، و هو باطل؛ لما تقدم، أو لا يجب و هو المطلوب إذ لا معنى لبطلان الوصية إلا عدم وجوب تسليمها إلى الموصى له (1).

ففيه منع استلزام عدم وجوب دفع الوصية إليه بطلانها؛ لأن معنى صحتها ثبوت الملك له إذا قبله، فيصير حينئذ ملكاً من أملاكه يلزمه حكمه، ومن حكمه جواز أخذ المسلم له، فإذا حكمنا بصحة وصيته وقبضه الوصي ثم استولى عليه من جهة أنه مال الحربي لم يكن منافياً الصحة الوصيّة، و کذا لو منعه الوارث لذلك، و إن اعترفوا بصحة الوصية وملكه جزءاً من التركة.

وتظهر الفائدة في جواز استيلاء الوصي على العين الموصى بها للحربي، فيختص بها دون الورثة، و کذا لو استولى عليها بَعْضُ الورثة دون بعض حيث لم يكن في أيديهم ابتداء، ولو حكمنا بالبطلان لم يتأت هذا، بل يكون الموصى به من جملة التركة لا يختص بأحد من الوراث.

واعلم أنّ النكتة في تعبير المصنف عن اختياره في مسألة الذمي ب-«الأشهر» (2) و في الحربي ب- «الأظهر» أن مصطلحه كون الأشهر في الروايات والأظهر في الفتوى، وقد عرفت (3) أنّ في صحة وصيّة اليهودي والنصراني بخصوصه روايات (4)، و في عدم الصحة أيضاً روايات منها: رواية علي بن بلال أنه كتب إلى أبي الحسن علیه السلام: يهودي مات وأوصى لديانه

ص: 362


1- قاله العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 307، المسألة 86 والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 52.
2- لاحظ كلام المصنف؛ لأنه عبر في مسألة الذمّي ب- «الأشبه» لا «الأشهر».
3- لم نعثر عليه فيما تقدم.
4- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 342 الباب 34 من أبواب كتاب الوصايا.

● و لا تصح الوصية لمملوك الأجنبي، و لا لمدبَّره، و لا لأُمّ ولده، و لا لمكاتبه المشروط، أو الذي لم يؤد من مكاتبته شيئاً ولو أجاز مولاه.

------

بشيء أقدر على أخذه، هل يجوز أن آخذه فأدفعه إلى مواليك، أو أنفذه فيما أوصى به اليهودي؟ فكتب علیه السلام: «أوصله إليَّ وعرّفنيه لأنفذه فيما ينبغي إن شاء الله تعالى» (1). وغيرها في معناها (2) ممّا ليس بصريح في البطلان مع ضعف سنده؛ فلذلك كان الجواز أشهر الروايتين. وأما الوصيّة للحربي فليس فيها بخصوصها حديث، والأظهر في الفتوى من حيث الأدلة العامة والاعتبار المتقدّم المنع. وينبغي مراعاة ما بيناه في كلّ مسألة خلافية يعبر فيها المصنّف بمثل ذلك، فإنّه يلتزم في فتاواه بهذا الاصطلاح.

قوله: «و لا تصح الوصية لمملوك الأجنبي، و لا لمدبَّره و لا لأمّ ولده» إلى آخره.

أما عدم جواز الوصية لمملوك الغير فظاهر؛ لانتفاء أهلية الملك الذي هو شرط في الموصى له بناءً على أن المملوك لا يملك شيئاً مطلقاً. و لا فرق فيه بين الفن والمدبّر وأم الولد؛ لاشتراكهم في تمحض الرقية. ولو قلنا بملك ما أوصى له به صحت الوصية له واعتبر قبوله. والشافعية أجازوا الوصية له مطلقاً، بناءً على ذلك، لكن جعلوا الوصيّة لسيّده إن استمر رقه إلى بعد الموت، وإلا فهي له (3).

وحيث كان المختار أنّه لا يملك و إن ملكه سيّده فمع تمليك غيره أولى، ويمنع من ملك سيّده؛ لأنه غير مقصود بالوصية و لا تعلّق لها عنه (4).

وروى عبد الرحمن بن الحجاج عن أحدهما علیهما السلام قال: «لا وصية لمملوك» (5)، و لعلها

ص: 363


1- الفقيه، ج 4، ص 233، ح 5559؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 205، ح 813؛ الاستبصار، ج 4، ص 130، ح 490.
2- كرواية أحمد بن هلال راجع تهذيب الأحكام، ج 9، ص 204، ح 812: والاستبصار ج 4، ص 129، ح 489.
3- روضة الطالبين، ج 5، ص 96-97.
4- في أكثر النسخ: «و لا متعلق لها عنه» بدل و لا تعلق لها عنه ولعل الصحيح ما أثبتناه.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 216، ح 852؛ الاستبصار، ج 4، ص 134، ح 506. و في حاشية «و»: «في طريقها عليّ بن حديد و هو ضعيف، مضافاً إلى تقوية الدلالة، فلذلك قطعها عن الدلالة بقوله و روي إلى آخره (منه رحمه الله)».

● و تصح لعبد الموصي والمديره ومكاتبه وأُمّ ولده. ويعتبر ما يوصي به المملوكه بعد خروجه من الثلث، فإن كان بقدر قيمته أعتق، وكان الموصى به للورثة. و إن كانت قيمته أقلّ أعطى الفاضل. و إن كانت أكثر سعى للورثة فيما بقي، ما لم تبلغ قيمته ضعف ما أوصى له به، فإن بلغت ذلك بطلت الوصية. و قيل: تصح ويسعى في الباقي كيف كان. و هو حسن.

------

شاهد مع احتمالها نفي أن يوصي المملوك لغيره؛ لأنّ الوصية اسم مصدر يمكن إضافته إلى الفاعل والمفعول.

وأما عدم جواز الوصية لمكاتب الغير إذا كان مشروطاً أو مطلقاً لم يؤد شيئاً فلبقائه على المملوكية.

ويؤيده رواية محمد بن قيس عن الباقر في مكاتب كانت تحته امرأة حرّة فأوصت له عند موتها بوصيّة، فقال أهل الميراث لا نجيز وصيّتها، إنه مكاتب لم يعتق و لا يرث. فقضى أنه يرث بحساب ما أعتق منه، و يجوز له من الوصية بحساب ما أعتق منه، وقضى في مكاتب أوصي له بوصيّة وقد قضى نصف ما عليه فأجاز نصف الوصية، و في مكاتب قضى ما عليه فأجاز ربع الوصية (1).

ربع:و قيل: تصح الوصية له مطلقاً؛ لانقطاع سلطنة المولى عنه؛ ولهذا يصح بيعه واكتسابه، وقبول الوصية نوع من الاكتساب (2). والرواية ضعيفة باشتراك محمد بن قيس الذي يروي عن الباقر علیه السلام بين الثقة وغيره(3)، مع أنها قضيّة في واقعة فلا تعمّ. وهذا أقوى.

قوله: «وتصح لعبد الموصي ولمدبَّره ومكاتبه وأُم ولده إلى قوله - و هو حسن».

إذا أوصى لعبد نفسه بشيء من التركة فلا يخلو إما أن يوصي له بجزءٍ مشاع من أجزاء

ص: 364


1- الكافي، ج 7، ص28، باب الوصية للمكاتب، ح 1؛ الفقيه، ج 4، ص 216، ح 5509؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 223 . ح 874.
2- قال به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 45.
3- راجع خلاصة الأقوال، ص 252، الرقم 859 861، وص 400، الرقم 1611.

......

------

التركة، كثلثها وربعها أو بمال معيّن منها كدار معيّنة أو نصفها ولو مشاعاً. فإن كان الأوّل صحت الوصية، سواء كان العبد قناً أم لا . ثم ينظر في الموصى به فإن كان بعد خروجه من الثلث بقدر قيمة العبد عتق و لا شيء له، وكان باقي التركة للورثة، وجرى ذلك مجرى ما لو قال: «أعتقوا عبدي من ثلثي». و إن كانت قيمته أقلّ أُعتق وأُعطي الفاضل.

و إن كانت قيمته أكثر من الوصية فلا يخلو إما أن تبلغ ضعف ما أوصى له به فصاعداً، كما لو كان قيمته مائتين وأوصى له بمائة، أو يكون قيمته أقل من الضعف ولو كان قليلاً. فإن كان الثاني عتق منه بقدر الوصيّة إن خرجت من الثلث وإلا فبقدر الثلث واستسعى للورثة في الباقي، كما لو أوصى له بمائة وخمسين وقيمته مائتان والثلث مائة وخمسون، فينعتق ثلاثة أرباعه، ويسعى للورثة في ربع قيمته، و هو خمسون، ولو كان الثلث مائة عتق نصفه، ويسعى للورثة في قيمة نصفه، و هو مائة، وهكذا، وهذا ممّا لا خلاف عندنا فيه.

و إن كان الأول - و هو ما لو كانت قيمته بقدر ضعف ما أوصى له به - فالأصح أنه كذلك، فينعتق منه بحساب ما أوصى له به مطلقاً ما لم يزد عن الثلث، فإن زاد فبحساب الثلث.

وقال الشيخان: إنه مع بلوغ قيمته الضعف تبطل الوصيّة (1)؛ استناداً إلى رواية الحسن بن صالح بن حيّ عن أبي عبد الله علیه السلام في رجل أوصى لمملوك له بثلث ماله، قال، فقال علیه السلام: يقوم المملوك بقيمة عادلة، ثمَّ ينظر ما ثلث الميت، فإن كان الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعي العبد في ربع القيمة، و إن كان الثلث أكثر من قيمة العبد أعتق العبد ودفع إليه ما فضل من الثلث بعد القيمة (2).

و وجه دلالة الرواية من جهة مفهوم الشرط في قوله فيها: «فإن كان الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعي العبد في ربع القيمة»؛ فإنّ مفهومه أنه لو لم يكن أقلّ بقدر الربع لا يُستسعى، وإنما يتحقق عدم الاستسعاء مع البطلان.

ص: 365


1- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 676؛ والشيخ الطوسي في النهاية، ص 610.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 216، ح 851؛ الاستبصار، ج 4، ص 134، ح 505.

......

------

و لا يخفى عليك ضعف هذا التنزيل؛ فإنّ مفهومها أنّ الثلث إن لم يكن أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة لا يُستسعى في ربع القيمة، لا أنّه لا يُستسعى مطلقاً، وهذا مفهوم صحيحٌ لا يفيد مطلوبهم، فلا ينافي القول بأنه يُستسعى بحسبه، فإن كان أقل بقدر الثلث يُستسعى في الثلث، أو بقدر النصف يُستسعى في النصف، وهكذا.

وأيضاً فلو كان المفهوم الذي زعموه صحيحاً لزم منه أنه متى لم يكن الثلث أقل من قيمته بقدر الربع لا يستسعى بل تبطل الوصيّة، وهذا شامل لما لو كانت القيمة قدر الضعف وأقل من ذلك إلى أن يبلغ النقصان قدر الربع فمن أين خصوا البطلان بما لو كانت قيمته قدر الضعف؟! ما هذا إلا عجيب من مثل هذين الشيخين الجليلين.

هذا مع تسليم الرواية فإنّها ضعيفة السند بالحسن المذكور، فإنّ حاله في الزيدية مشهور (1).

وهذا كله إذا كانت الوصية بجزء مشاع من التركة كالثلث مثلاً، فإن العبد حينئذ يكون من جملة التركة، فكأنّه قد أوصى بعتق جزء منه، فيعتق ويسري في الباقي فيدفع ثمنه من الوصيّة؛ لأنّه في قوة الوصيّة بعتقه. ولو كانت بجزء معين كدار أو بستان فالأكثرون ومنهم المصنّف - أطلقوا جريان الحكم فيه؛ لإطلاق النصّ كالرواية السابقة - الشامل للمعين والمطلق، وللنهي عن تبديل الوصيّة بحسب الإمكان(2).

و ذهب جماعة (3) - منهم العلّامة في المختلف (4)، وقبله ابن الجنيد (5)- إلى اختصاص الحكم بالجزء المشاع، أما المعين فتبطل الوصية من رأس؛ لعموم: «لا وصية لمملوك» (6)، وأنه إنما

ص: 366


1- راجع رجال الطوسي، ص 130، الرقم 1327؛ وخلاصة الأقوال، ص 337، الرقم 1330.
2- البقرة (2) 181.
3- منهم فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 484: والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 47.
4- مختلف الشيعة، ج 1، ص 329 - 330، المسألة 108.
5- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 329، المسألة .108.
6- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 216، ح 852؛ الاستبصار، ج 4، ص 134، ح 506.

لو أوصى بعتق مملوكه وعليه دين

● و إذا أوصى بعتق مملوكه وعليه دين فإن كانت قيمة العبد بقدر الدين مرّتين اُعتق المملوك، ويسعى في خمسة أسداس قيمته. و إن كانت قيمته أقلّ بطلت الوصيّة بعتقه. والوجه أنّ الدين يقدّم على الوصيّة فيبدأ به، ويعتق منه الثلث

------

صح في المشاع لتناوله لرقبة العبد، كما قلناه، و ذلك منتفٍ في محل النزاع، ولأن تنفيذ الوصية بالمعين محال؛ لامتناع ملك العبد، والتخطي إلى رقبته يقتضي تبديل الوصية.

وأُجيب:

بمنع تعليل صحة الوصيّة في المشاع بتناوله لرقبة العبد، و لم لا يجوز؟ لكونه وصيّةً له لا لأمر غير ذلك، والتبديل غير لازم؛ لأنّ ذلك تنفيذ للوصية بحسب الممكن ولو منع ذلك لمنع من الإشاعة؛ لأنّ التخصيص برقبة العبد خروج عن الإشاعة التي هي مناط الوصيّة (1).

وقد عرفت أنّ الرواية السابقة تشمل بإطلاقها الثلث المعيّن والمشاع.

والحق هنا أن يقال: لا بد للحكم بصحة الوصيّة للعبد مع الحكم بكونه غير مالك من دليل، و هو من النص منتف في غير الرواية المذكورة، وهي ضعيفة السند، فإن اعتبرناها من حيث الشهرة أو غيرها شملت القسمين، وإلا فما أجمع على حكمه لا مجال لمخالفته، وما اختلف فيه فلابد لمثبته من دليل صالح، وقد رأينا المصححين للوصية مطلقاً يردّون على من قيدها بكون القيمة دون ضعف الوصيّة بضعف مستنده، وليس لهم في تصحيح الوصية لعبد الموصي سوى تلك الرواية، و في مقابلتها رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أحدهما علیهما السلام أنه: «لا وصيّة لمملوك» (2)، وهي قريبة منها في السند، لكن دلالة تلك أقوى كما رأيت.

قوله: «ولو أوصى بعتق مملوكه وعليه دين - إلى قوله - عن أبي عبد الله علیه السلام».

قد عرفت من القواعد المتقدمة أن الوصية المتبرع بها إنّما تنفذ من ثلث المال، و إن الدين يقدم أو لا ثم تعتبر الوصية من ثلث ما يبقى من المال بعد الدين، و إن المنجزات المتبرع بها

ص: 367


1- أجاب به المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 49.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 216، ح 852؛ الاستبصار، ج 4، ص 134، ح 506.

ممّا فضل عن الدين. أما لو نجز عتقه عند موته كان الأمر كما ذكرناه أوّلاً؛ عملاً برواية عبد الرحمن عن أبي عبد الله علیه السلام.

------

في مرض الموت بحكم الوصيّة في خروجها من الثلث عند المصنّف والأكثر و لا شبهة أن العتق من جملة التبرعات.

إذا تقرّرت هذه المقدمات فنقول: إذا أوصى بعتق مملوكه تبرّعاً، أو أعتقه منجزاً - بناء على أنّ المنجزات من الثلث - وعليه دين فإن كان الدين يحيط بالتركة بطل العتق والوصية به، و إن فضل منها عن الدين فضل - و إن قل - صرف ثلث الفاضل في الوصايا، فيعتق من العبد بحساب ما يبقى من الثلث، ويسعى في باقي قيمته، سواء في ذلك كانت قيمته بقدر الدين مرتين أو أقلّ؛ لأنّ العتق تبرّع محض فيخرج من الثلث، والمعتبر منه ثلث ما يبقى من المال بعد الدين على تقديره كغيره من التبرعات.

هذا هو الذي تقتضيه القواعد المذكورة، ولكن وردت روايات صحيحة في التبرع بالعتق (1) تخالف ما ذكر.

وحاصلها أن تعتبر قيمة العبد الذي أعتق في مرض الموت، فإن كانت بقدر الدين مرتين أُعتق العبد وسعى في خمسة أسداس قيمته؛ لأن نصفه حينئذ ينصرف إلى الدين فيبطل فيه العتق، و هو ثلاثة أسداس يبقى منه ثلاثة، أسداس للمعتق منها سدس، و هو ثلث التركة بعد وفاء الدين، وللورثة سدسان هما ثلثا التركة، و هو واضح. و إن كانت قيمة العبد أقل من قدر الدين مرتين بطل العتق فيه أجمع. روى ذلك عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح عن أبي عبد الله علیه السلام في حديث طويل (2) محصله ما ذكرناه.

وروي عن زرارة في الحسن مثله (3)، إلا أنّ الرواية مقطوعة؛ فلذا لم يذكرها المصنّف هنا،

ص: 368


1- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 9 وما بعدها، الباب 1 من أبواب العتق.
2- الكافي، ج 7، ص 26، باب من أعتق وعليه دين، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 217 - 218، ح 854: الاستبصار، ج 4، ص 8، ح 27 - 28.
3- الكافي، ج 7، ص27، باب من أعتق وعليه دين، ح 2؛ الفقیه، ج 3، ص 118، ح 3455: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 218، ح 856.

......

------

واقتصر على رواية عبد الرحمن لصحتها، وقد عمل بمضمونها المصنّف وجماعة (1) و إن خالفت القواعد المتقدمة؛ نظراً إلى اعتبارها، ويكون العتق المنجز مستثنى من الحكم السابق.

والشيخ (2) وجماعة (3) عدوا الحكم من منطوق الرواية إلى الوصية بالعتق؛ و لعله نظر إلى تساويهما في الحكم السابق وأولويته في غير المنصوص؛ لأن بطلان العتق المنجز على تقدير قصور القيمة عن ضعف الدين مع قوة المنجز؛ لكونه تصرفاً من المالك في ماله، والخلاف في نفوذه من الأصل - يقتضى بطلانه في الأضعف - و هو الوصية - بطريق أولى.

والمصنّف اقتصر على العمل بمنطوق الرواية، و هو جريان الحكم المذكور مع تنجيز العتق لا مع الوصية به وقوفاً فيما خالف الأصل على مورده وأكثر المتأخرين (4) ردوا الرواية؛ لمخالفتها لغيرها من الروايات الصحيحة الدالّة على تلك القواعد المقررة (5) و لعله أولى.

ويرد على الشيخ القائل بتعديتها إلى الوصيّة معارضتها فيها بصحيحة الحلبي، قال، قلت لأبي عبد الله علیه السلام: رجل قال: إن مت فعبدي حرّ، وعلى الرجل دين، فقال: «إن تو في وعليه دين قد أحاط بثمن الغلام بيع العبد، و إن لم يكن أحاط بثمن العبد استسعي العبد في قضاء دین مولاه، و هو حرّ إذا أوفى» (6).

وهذه الرواية تدلّ بإطلاقها على انعتاقه متى زادت قيمته عن الدين، و هو الموافق لما تقرر من القواعد، فلا وجه لعمل الشيخ بتلك الرواية مع عدم ورودها في مدّعاه واطراح

ص: 369


1- منهم المفيد في المقنعة، ص 676 - 677؛ والشيخ في النهاية، ص 545؛ وابن البراج في المهذب، ج 2، ص108.
2- النهاية، ص 610.
3- منهم ابن البراج في المهذب، ج 2، ص 108؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 353.
4- منهم السيوري في التنقيح الرائع، ج 2، ص 374؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 48.
5- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 275 وما بعدها الباب 11، وص 296، الباب،17، وص 329، الباب 28 من كتاب الوصايا.
6- الفقيه، ج 3، ص 119، ح 3456: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 218 - 219، ح 857.

لو أوصى لأم ولده

● ولو أوصى لمكاتب غيره المطلق وقد أدّى بعض مكاتبته كان له من الوصية بقدر ما أداه.

● ولو أوصى الإنسان لأمّ ولده صحت الوصية، و هل تعتق من الوصية أو من نصيب ولدها؟ قيل: تعتق من نصيب ولدها وتكون لها الوصيّة. و قيل: بل تعتق من الوصيّة؛ لأنه لا ميراث إلا بعد الوصية.

------

هذه، ومن الجائز اختلاف حكم المنجز والموصى به في مثل ذلك كما اختلفا في كثير من الأحكام - على تقدير تسليم حكمها في المنجز.

لكن يبقى في رواية الحلبي أنه علیه السلام حكم باستسعاء العبد في قضاء دين مولاه الله و لم يتعرّض لحق الورثة، مع أنّ لهم في قيمته مع زيادتها عن الدين حقاً، كما تقرّر، إلا أن ترك ذكرهم لا يقدح؛ لإمكان استفادته من خارج، وتخصيص الأمر بوفاء الدين لا ينافيه.

قوله: «ولو أوصى لمكاتب غيره المطلق» إلى آخره.

بناءً على بطلان الوصيّة للمكاتب فتبطل في جزئه الباقي على الكتابة؛ لأنه لا يملك به. وعلى ما اخترناه من صحتها له (1) تصح هنا في الجميع بطريق أولى.

قوله: «ولو أوصى الإنسان لأُمّ ولده صحت الوصية» إلى آخره.

لا خلاف في صحة وصية الإنسان لأم ولده، و لا في أنها تعتق من نصيب ولدها إذا مات سيدها و لم يوص لها بشيء. وأما إذا أوصى لها بشيء هل تعتق منه، أو من نصيب ولدها وتعطى الوصيّة على تقدير وفاء نصيب ولدها بقيمتها؟ قولان (2) معتبران متكافئا المأخذ فمن ثُمَّ اقتصر المصنِّف على نقلهما من غير ترجيح.

ص: 370


1- راجع ص 364.
2- القول بأنّها تعتق من الوصية لابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 200؛ والعلامة في إرشاد الأذهان، ج 1. ص 458؛ والقول بأنها تعتق من نصيب ولدها للشيخ في النهاية، ص 611: والمحقق في نكت النهاية، ج 3، ص 151؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 333332، المسألة 110؛ وراجع جامع المقاصد، ج 10، ص 54.

......

------

و وجه الأوّل أنّ الإرث مؤخّر عن الدين والوصية بالآية (1)، فلا يحكم لابنها بشيء حتى يحكم لها بالوصية، فتعتق منها إن وقت بقيمتها، فإن قصر أكمل من نصيب ولدها؛ لأن الباقي يصير كما لو لم يكن هناك وصيّة.

وفيه أن المراد من الآية استقرار الملك بعد المذكورات لا أصل الملك؛ لعدم بقاء التركة على ملك الميت؛ لعدم صلاحيته للتمليك، وعدم انتقالها إلى الديان والموصى لهم إجماعاً وعدم بقائها بغير مالك، فيتعين الوارث.

و وجه الثاني أن التركة تنتقل من حين الموت إلى الوارث كما بيناه (2)، فيستقر ملك ولدها على جزء منها، فتعتق عليه، وتستحق الوصيّة؛ لأن ملكها متأخر عن الموت و إن ملكها المملوك بغير،قبول من حيث إنّ نفوذ الوصية موقوف على وصول التركة إلى الوارث، وملك الوارث لا يتوقف على شيء.

ويؤيده رواية أبي عبيدة في الصحيح قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل كانت له أُمّ ولد له منها،غلام فلما حضرته الوفاة أوصى لها بألفى درهم أو بأكثر، للورثة أن يسترقوها؟ قال فقال: «لا، بل تعتق من ثلث الميت وتعطى ما أوصى لها به». و في كتاب العباس: «تعتق من نصيب ابنها، وتعطى من ثلثه ما أوصى لها به». وهذا الموجود في كتاب العباس نص في الباب، و هو موجود بهذه العبارة في الكافي والتهذيب منضماً إلى خبر أبي عبيدة (3).

و لا يخفى أن الاستدلال بمجرد وجوده في كتاب العبّاس لا يتم و إن صح السند. ورواية عبيدة مشكلة على ظاهرها؛ لأنّها إذا أعطيت الوصيّة لا وجه لعتقها من ثلثه؛ لأنّها حينئذ تعتق من نصيب ولدها.

وربما حملت على ما لو كان نصيب ولدها بقدر الثلث، أو على ما إذا أعتقها المولى

ص: 371


1- النساء (4): 11 – 12.
2- تقدّم في ص 253.
3- الكافي، ج 7، ص 29، باب الوصية لأمهات الأولاد، ج 4: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 224، ح 880.

إطلاق الوصيّة يقتضي التسوية بين الذكور والإناث و نحوهما

● وإطلاق الوصيّة يقتضى التسوية، فإذا أوصى لأولاده وهم ذكور وإناث فهم فيه سواء. و کذا الأخواله وخالاته، أو لأعمامه وعماته. و کذا لو أوصى لأخواله وأعمامه كانوا سواءً على الأصح. وفيه رواية مهجورة. أما لو نص على التفضيل اتبع.

------

وأوصى لها بوصيّة. وكلاهما بعيد، إلا أن الحكم فيها بإعطائها الوصية كافٍ في المطلوب؛ إذ عتقها حينئذٍ من نصيب ولدها يستفاد من دليل خارج صحيح، ويبقى ما نقل عن كتاب العباس شاهداً على المدعى، ولعلّ هذا أجود.

و فى المسألة أقوال أُخر نادرة (1)، والعمدة منها على هذين القولين والمصنّف و إن تردّد هنا في الفتوى، وكذلك في النافع (2)، لكنه أفتى بالأوّل في باب الاستيلاد من هذا الكتاب(3). وبالثاني في كتاب نكت النهاية (4).

قوله: «وإطلاق الوصية يقتضي التسوية - إلى قوله - أما لو نصّ على التفضيل اتبع».

أمّا اقتضاء إطلاق الوصيّة التسوية؛ فلاستواء نسبة الوصية إليهم، وانتفاء ما يدلّ على التفضيل في كلام الموصي، فلا فرق فيه بين الذكر والأنثى، و لا بين الأخوال والأعمام .وغيرهم. واختلافهم في استحقاق الإرث جاء من دليل خارج، و لا يقاس عليه ما يقتضي التسوية بمجرّده.

و لا خلاف في ذلك كله إلا فيما لو أوصى لأعمامه وأخواله؛ فإن المشهور فيه ذلك، ولكن ذهب الشيخ (5) وجماعة (6) إلى أن للأعمام الثلثين، وللأخوال الثلث؛ استناداً إلى

ص: 372


1- راجع جامع المقاصد، ج 10، ص 54 - 56.
2- المختصر النافع، ص 264.
3- يأتي في ج 8، ص 522.
4- نكت النهاية، ج 3، ص 151.
5- النهاية، ص 641.
6- منهم ابن الجنيد وابن البراج على ما حكاه عنهما العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 342، المسألة 117؛ وأيضاً راجع المقتصر، ص 216.

لو أوصى لذوي قرابته

● ولو أوصى لذوي قرابته كان للمعروفين بنسبه؛ مصيراً إلى العرف. و قيل: كان لمن يتقرب إليه بآخر أب وأُمّ له في الإسلام. و هو غير مستند إلى شاهد.

------

صحيحة (1) زرارة عن الباقر علیه السلام في رجل أوصى بثلث ماله في أعمامه وأخواله، فقال: «لأعمامه الثلثان، ولأخواله الثلث» (2). وحملت على ما لو أوصى على كتاب الله. وهذه هي الرواية المهجورة التي أشار إليها المصنف.

وفيه رواية أخرى ضعيفة تقتضى قسمة الوصية بين الأولاد الذكور والإناث على كتاب الله (3)، وهي مع ضعفها لم يعمل بها أحد و لا إشكال لو نصّ على التفضيل، أو قال: يقسم بينهم على كتاب الله، أو على طريق الإرث وما شاكله.

قوله: «لو أوصى لذوي قرابته كان للمعروفين بنسبه» إلى آخره.

لا إشكال في صحة الوصيّة للقرابة؛ لما فيه من الجمع بين الصدقة وصلة الرحم، ولكن اختلف الأصحاب في أنّ القرابة مَنْ هم؟ لعدم النصّ الوارد في تحقيقه والأكثر على ما اختاره المصنف من ردّه إلى العرف؛ لأنّه المحكّم في مثل ذلك؛ حيث لا معين له من الشارع. و هو دالّ على أن المراد به المعروفون بنسبه عادةً، سواء في ذلك الوارث وغيره.

وللشيخ قول بانصرافه إلى من يتقرب إلى آخر أب وأم له في الإسلام (4)، ومعناه الارتقاء بالقرابة من الأدنى إليه إلى ما قبله وهكذا إلى أبعد جد في الإسلام وفروعه، ويحكم للجميع بالقرابة و لا يرتقي إلى آباء الشرك و إن عرفوا بقرابته عرفاً، وإنما اعتبر الإسلام

ص: 373


1- في حاشية « و »: «هذه الرواية رواها ابن بابويه في الصحيح؛ والكليني في الحسن؛ والشيخ في الموثق . منه (رحمه الله)».
2- الكافي، ج 7، ص 45، باب من أوصى لقراباته ومواليه.... 3: الفقيه، ج 4، ص 208، ح 5486: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 214، ح 845.
3- الكافي ج 7، ص 45. باب من أوصى لقراباته ومواليه .... ح 1: الفقيه، ج 4، ص 208، ح 5487: تهذيب الأحكام ج 9، ص 214 - 215، ح 846.
4- النهاية، ص 614.

......

------

لقوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «قطع الإسلام أرحام الجاهلية» (1)، وقوله تعالى لنوح علیه السلام لمّا سأل عن ابنه: ﴿إِنَّهُ لا لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ (2).

قال المصنف (رحمه الله): «و هو غير مستند إلى شاهد» أي إلى دليل معتبر من خبر أو عرف. أما الخبر فظاهر؛ إذ لم يرد فيه شيء بخصوصه إلا ما ذكرناه من قوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ، و هو مع تسليم سنده - غير دال على المراد؛ لأنّ قطع الرحم للجاهلية لا يدلّ على قطع القرابة مطلقاً مع أصناف الكفار، و کذا قطع الأهلية عن ابن نوح علیه السلام، مع أن اللغة والعرف يدلان على خلاف ذلك، فإنّ من عرف بقربه إلى جدّ بعيد جداً لا يعد قرابة و إن كان الجدّ مسلماً، ومَنْ تجدّد إسلام أبيه يتحقق له أقارب من الكفّار، فالمرجع إلى العرف و هو يتناول المسلم والكافر منهم، إلا أن تدلّ القرينة على إرادة المسلم كما ذكروه في الوصية للفقراء.

وقال ابن الجنيد:

مَنْ جعل وصيّته لقرابته وذوي رحمه غير مسمّين كانت لمن تقرب إليه من جهة والده أو والديه، و لا أختار أن يتجاوز بالتفرقة ولد الأب الرابع؛ لأنّ رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ لم يتجاوز ذلك في تفرقة سهم ذوي القربى من الخمس (3).

وما ذكره من عدم تجاوز الرابع غير لازم، وفعل النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ بالخمس لا يدل على نفي القرابة مطلقاً عما عداه، فإنّ ذلك معنى آخر للقربي، فلا يلزم ذلك في حق غيره حيث يطلق.

ثمَّ على أي معنى حمل يدخل فيه الذكر والأنثى، والفقير والغنى، والقريب والبعيد، والوارث وغيره. و لا فرق بين قوله: «أوصيت لأقاربي، وقرابتي، ولذوي قرابتي، وذي رحمي»؛ الاشتراك الجميع في المعنى

ص: 374


1- أورده الفاضل الآبي في كشف الرموز، ج 2، ص 77؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 251 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 58.
2- هود (11): 46.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 320، المسألة 102.

● ولو أوصى لقومه قيل: هو لأهل لغته.

● ولو قال لأهل بيته، دخل فيهم الأولاد والآباء والأجداد.

------

إذا تقرر ذلك فإنّ الوصية تنصرف إلى الموجود منهم، سواء اتحد أم تعدّد، وسواء ذكرهم في الوصية بصيغة الجمع أو الإفراد.

قوله: «ولو أوصى لقومه قيل: هو لأهل لغته».

القول للشيخين (1) وأكثر الأصحاب (2). ومع ذلك خصوه بالذكور لا مطلقاً، ويشهد له قوله تعالى: ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ (3)؛ حيث جعل القوم قسيم النساء المقتضي للمغايرة.

ومنهم مَنْ أطلق «القوم» على أهل اللغة من غير تقييد بالذكور؛ و لعله مراد المصنّف أيضاً، إلّا أنّ الأوّل أشهر؛ فلذلك حملنا كلامه عليه.

ونسبته إلى القيل يدلّ على توقفه فيه، و وجهه دلالة العرف على ما هو أخص من ذلك، و هو مقدّم على اللغة لو سلّم انحصارها فيما نقلوه؛ ومن ثُمَّ قال ابن إدريس: إنّهم الرجال من قبيلته ممّن ينطلق (4) العرف بأنهم أهله وعشيرته دون من سواهم؛ محتجاً بأنه هو الذي تشهد به اللغة، ثم استشهد بقول الشاعر:

قومي هم قتلوا أُمَيْمَ أخي ... فإذا رميتُ يُصيبني سهمي

وغيره من الشواهد، وذكر أنّه قد روي أنّ قوم الرجل جماعة أهل لغته من الذكور دون الإناث (5).

قوله: «ولو قال لأهل بيته دخل فيهم الأولاد والآباء والأجداد».

ص: 375


1- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 655 والشيخ الطوسي في النهاية، ص 599.
2- منهم ابن البراج على ما حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 274، المسألة 47 وابن حمزة في الوسيلة، ص 371؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 275، المسألة 47.
3- الحجرات (49) 11.
4- في بعض النسخ و الحجريتين « يطلق»، والمثبت موافق للمصدر.
5- السرائر، ج 3، ص 163 - 164.

● ولو قال لعشيرته كان لأقرب الناس إليه في نسبه.

------

لا إشكال في دخول مَنْ ذكر؛ لاتفاق أهل التفاسير على ذلك. إنّما الكلام في دخول غيرهم؛ فإنّ الاقتصار على ما ذكر يقتضي كون علي علیه السلام ليس من أهل البيت؛ لخروجه عن الأصناف الثلاثة، مع أنه داخل إجماعاً.

وقال العلامة:

يدخل فيهم الآباء والأجداد والأعمام والأخوال وأولادهم وأولاد الأولاد الذكر والأُنثى.

ثم قال: وبالجملة كلّ مَنْ يعرف بقرابته (1).

وهذا يقتضى كون أهل بيته بمنزلة قرابته.

وحكي عن ثعلب أنّه قال: أهل البيت عند العرب آباء الرجال وأولادهم، كالأجداد والأعمام وأولادهم، ويستوي فيه الذكور والإناث (2).

وما اختاره العلّامة من مساواة أهل البيت للقرابة هو الظاهر في الاستعمال، يقال: الفلانيون أهل بيت في النسب معروفون، وعليه جرى قوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «إنا أهل بيت لا تحلّ لنا الصدقة» (3).

والأقوى الرجوع إلى عرف بلد الموصي، ومع انتفائه يدخل كل قريب.

وأما أهل بيت النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ فإنّهم أخص من ذلك بالرواية الواردة عنه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ في حصرهم في أهل الكساء (4).

قوله: «ولو قال لعشيرته كان لأقرب الناس إليه في نسبه».

هذا أحد التفسيرين للعشيرة لغةً، وقد ذهب إليه جماعة من الأصحاب (5). و في القاموس:

ص: 376


1- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 477) (الطبعة الحجرية).
2- حكاه عنه ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 582 - 583، المسألة 4750.
3- عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 32 - 33، ح 32.
4- راجع تفسير الحبري ص 297 - 300، ح 50 - 52؛ وتفسير فرات الكوفي، ص 34 وشواهد التنزيل، ج 2، 30، ص 15 - 16، ح 645 - 647، وص 17، ح 649، وص 20 - 21، ح 655.
5- منهم الشيخ المفيد في المقنعة، ص 655 والشيخ الطوسي في النهاية، ص 599.

● ولو قال لجيرانه، قيل: كان لمن يلي داره إلى أربعين ذراعاً من كل جانب. وفيه قول آخر مستبعد.

● وتصح الوصية للحمل الموجود، وتستقر بانفصاله حيّاً، ولو وضعته ميّتاً بطلت الوصية. ولو وقع حياً ثم مات كانت الوصية لورثته.

------

عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون أو قبيلته (1). و في كتب العلامة: أن العشيرة هي القرابة مطلقاً (2). والأجود الرجوع إلى العرف ومع انتفائه فالعموم حسن.

قوله: «ولو قال لجيرانه، كان (3) لمن يلي داره» إلى آخره.

القول الآخر المستبعد هو أنّه لمن يلي داره بأربعين داراً؛ ولعلّ استبعاده من مخالفته العرف؛ فإنّ العرف لا يبلغ بالجار هذا المقدار، ولأنّ المشهور استناده إلى رواية عامية (4)، وقد حققنا في الوقف أنّ به من طرقنا روايات كثيرة، منها حسنة جميل بن دراج عن أبي جعفر علیه السلام قال: «حد الجوار أربعون داراً من كل جانب» (5).

وأما ما اختاره المصنّف فلم نقف على مستنده مع اشتهاره، وقد مضى تحقيق ذلك في الوقف (6).

قوله: «وتصح الوصية للحمل الموجود» إلى آخره.

قد سبق في تحقيق الوصية بالحمل ما يظهر به حكم الوصية للحمل، وما يحكم معه بوجوده وعدمه (7). ثمَّ وجوده حال الوصيّة شرط لصحتها و إن لم تحلّه الحياة، لكن استقرارها

ص: 377


1- القاموس المحيط، ج 2، ص 93، «عشر».
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 451: تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 372، الرقم 482: تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 478) (الطبعة الحجرية).
3- في المتن: «قيل: كان» بدل «كان».
4- السنن الكبرى البيهقي، ج 6، ص 451. ح 12611.
5- الكافي، ج 2، ص 669، باب حد الجوار، ح 2.
6- تقدّم في ص 48 وما بعدها.
7- سبق في ص 330.

إذا أوصى للفقراء

● و إذا أوصى المسلم للفقراء كان لفقراء ملّته. ولو كان كافراً انصرف إلى فقراء نحلته.

إذا مات الموصى له قبل الموصي

● ولو أوصى لإنسان فمات قبل الموصي قيل: بطلت الوصية. و قيل: إن رجع الموصي بطلت الوصية، سواء رجع قبل موت الموصى له أو بعده. و إن لم يرجع كانت الوصية لورثة الموصى له و هو أشهر الروايتين.

------

مشروط بوضعه حيّاً، ومعنى استقرارها حينئذ تحقق صحتها من حين موت الموصي و إن لم يكن ذلك الوقت حيّاً، فالنماء المتخلّل بين الولادة والموت يتبع العين. ولو وضعته ميتاً تبين بطلان الوصية و إن كان حال الوصية في بطن أمه حياً.

و إذا استقرت الوصية بولادته حياً لا يقدح فيها موته بعد ذلك، بل ينتقل إلى ورثته، و هو واضح لكن يعتبر هنا قبول الوارث؛ لإمكانه في حقه، وإنما أسقطنا اعتباره عن الحمل لتعذره، كما سقط اعتباره في الوصية للجهات العامة.

و وجه سقوطه عن الوارث تلقيه الملك عن المولود المالك لها بدون القبول والمتجه اعتبار القبول في الوصية للحمل مطلقاً، فيقبله وليه ابتداءً ووارثه هنا.

وتظهر الفائدة فيما لو ردّها الوارث قبل قبوله، فإن اعتبرناه بطلت وإلا فلا أثر للردّ.

قوله: «و إذا أوصى المسلم للفقراء كان لفقراء ملّته» إلى آخره.

المخصص لذلك - مع عموم اللفظ القرائن الحالية، وقد تقدم البحث فيه في الوقف (1).

قوله: «ولو أوصى لإنسان فمات قبل الموصي - إلى قوله - و هو أشهر الروايتين».

قد تقدم البحث في هذه المسألة و في الروايتين مستو فى (2)، والمختار عدم البطلان، إلا مع القرينة الدالة على إرادة الموصي تخصيص الموصى له بالوصية دون وارثه؛ لمزيد علم أو صلاح و نحوه.

ص: 378


1- تقدم في ص 40 - 41.
2- تقدّم في ص 264 - 266.

● ولو لم يُخلف الموصى له أحداً رجعت إلى ورثة الموصى.

------

والفرق بين هذه وبين السابقة أنّ السابقة تضمّنت كون وارث الموصى له يرث القبول لو مات الموصى له قبله وليس فيها تعرّض لملك الموصى به وعدمه، والغرض من هذه بيان أن الموصى به ينتقل بموت الموصى له إلى وارثه إن لم يرجع الموصي عن الوصية على خلاف فيه، سواء كان مورّثه قد قبل الوصية قبل موت الموصي أم لا. فلو فرض أنه قبل الوصيّة في حياة الموصي ثم مات في حياته، واكتفينا بالقبول الواقع في حياة الموصي، لم يفتقر وارثه إلى القبول ولكن يبقى الخلاف في بطلان الوصيّة،وعدمه، و هو المقصود بالبحث هنا. و إن لم يكن قد قبل انتقل إلى الوارث حق القبول و هو المستفاد من السابقة ومعه يملك الموصى به على الخلاف، و هو المذكور هنا.

قوله: «ولو لم يُخلِف الموصى له أحداً رجعت إلى ورثة الموصي». ه

ذا تتمة الحكم السابق.

وحاصله أن الموصى له إذا مات في حياة الموصي و لم يُخلف وارثاً خاصاً رجعت الوصية إلى ورثة الموصي بمعنى بطلانها حينئذ. وهذا الحكم شامل بإطلاقه لما لو كان موت الموصى له قبل قبوله وبعده.

والحكم في الأوّل واضح؛ لأنه بموته قبل القبول، وعدم قيام أحد مقامه في القبول تبطل الوصية، ويرجع إلى ورثة الموصي.

و يحتمل على هذا أن ينتقل حق القبول إلى وارثه العام و هو الإمام؛ لأنه وارث في الجملة فيرث حق القبول، كما يرثه وارثه الخاص؛ لقيامه مقامه في إرث جميع ما يورث عنه، ويتولاه نائبه العام، و هو الحاكم الشرعي مع غيبته، إلا أنّ هذا الاحتمال لم يذكروه مع توجهه. وأما الحكم الثاني - و هو ما إذا كان موته بعد القبول حيث اعتبرنا القبول المتقدم على الوفاة - فيشكل القول ببطلان الوصيّة حينئذ؛ لتمام سبب الملك بالإيجاب والقبول وتوقفه على الشرط و هو الموت - لا يوجب بطلانه، ومن ثُمَّ انتقل إلى الوارث لو كان فكما أنه بحصول الشرط يتم الملك للوارث فينبغي أن يتم هنا أيضاً.

ص: 379

● ولو قال: أعطوا فلاناً كذا و لم يبيّن الوجه وجب صرفه إليه يصنع به ما شاء.

● ولو أوصى في سبيل الله صرف إلى ما فيه أجر. و قيل: يختص بالغزاة. والأوّل أشبه.

------

ويمكن الجواب عنه بأنّ الملك لما كان مشروطاً بالموت لا يحصل بدونه كما هو ظاهر وحينئذٍ فلابد من مستحق صالح للتملك لينتقل إليه الملك؛ فإن مجرّد السبب و إن كان تامّاً لم يوجب نقل الملك قبل حصول الشرط وحينئذ، فإن كان للموصی له وارث انتقل حق الوصيّة إليه وحكم بملكه؛ لأنّ له أهلية الملك و إن لم يقبل؛ بناءً على القبول السابق، و إن لم يكن له وارث لم يجد الملك محلاً قابلاً له لينتقل إليه؛ إذ ليس له هناك إلا الموصى له، وقد فاتت أهليته للملك بموته، أو وارثه والفرض عدمه.

نعم، يتمشى على الاحتمال السابق هنا بطريق أولى أن ينتقل الملك إلى الإمام؛ لتمام الملك سبب وحصول الشرط، والإمام وارث للموصى له كالخاص، فينتقل الملك إليه و إن لم نقل بانتقال حق القبول إليه؛ لأنّ الحق هنا أقوى.

قوله: «ولو قال: أعطوا فلاناً كذا و لم يبيّن الوجه وجب صرفه إليه يصنع به ما شاء». لأنّ الوصية تمليك فتقتضي تسلّط الموصى له على المال تسلّط غيره من الملاك، و هو ظاهر. ولو عين المصرف كما لو قال: أعطوه ليصرفه في الجهة الفلانية - تعين عليه صرفه فيها، للنهي عن تبديل الوصيّة (1)، فلو صرفه في غيرها ضمن ولزمه إقامة بدله وصرفه في الوجه المعين.

قوله: «ولو أوصى في سبيل الله صرف إلى ما فيه أجر» إلى آخره.

الأصل في السبيل الطريق، والمراد ب- «سبيل الله» الطريق إليه، أي إلى رضوانه أو ثوابه؛ لاستحالة التحيّز عليه تعالى، وهذا المعنى شامل لكلّ ما يتقرب به إلى الله، فيجب حمل اللفظ عليه حيث لا مخصص من شرع أو عرف، وهما منتفيان.

ص: 380


1- البقرة (2) 181.

● وتستحبّ الوصيّة لذوي القرابة وارثاً كان أو غيره.

● و إذا أوصى للأقرب نزل على مراتب الإرث، و لا يعطى الأبعد مع وجود الأقرب.

------

والقول باختصاصه بالغزاة للشيخ (1) ومَنْ تبعه (2)، وجعل مصرفه عند تعذر الجهاد أبواب البرّ من معونة الفقراء والمساكين، وابن السبيل وصلة آل الرسول محتجين بأنّ حكم الشرع يقتضي صرف السبيل إلى الغزاة، وحكم كلام الآدميين مع إطلاقه حكم ما اقتضاه الشرع. وهما ممنوعان والمختار الأول.

قوله: «وتستحبّ الوصية لذوي القرابة وارثاً كان أو غيره».

لا خلاف في استحباب الوصيّة للقرابة في الجملة وعندنا لا فرق بين الوارث وغيره؛ العموم الآية (3) والأخبار (4)، وقد تقدم الكلام فيه (5). و في بعض الأخبار عنهم علیهم السلام: «مَنْ لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرثه فقد ختم عمله بمعصية» (6). وسأل محمد بن مسلم أبا عبد الله علیه السلام عن الوصية للوارث فقال: «تجوز، ثمَّ تلا الآية: ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَلِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ (7).

قوله: «و إذا أوصى للأقرب نزل على مراتب الإرث» إلى آخره.

المراد تنزيله على مراتب الإرث من حيث المرتبة لا في كيفية الاستحقاق، فإن الوصية

ص: 381


1- النهاية، ص 613: المبسوط، ج 3، ص 237.
2- كابن البرّاج في الكامل على ما حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 320، المسألة 103؛ وابن حمزة في الوسيلة، ص 371.
3- البقرة (2) 180.
4- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 287 وما بعدها، الباب 15 من أبواب كتاب الوصايا.
5- تقدم في ص 357 وما بعدها.
6- الفقيه، ج 4، ص 182 - 183، ح 5418؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 174، ح 708.
7- الكافي، ج 7، ص 10، باب الوصية للوارث، ح: الفقيه، ج 4، ص 194، ح 5445: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 199، ح 793، والرواية في جميع المصادر عن الباقر؛ والآية في سورة البقرة (2): 180.

......

------

يتساوى فيها الذكر والأنثى، والمتقرب بالأب، والمتقرب بالأبوين، والمتقرب بالأم و إن كانوا إخوة.

ومعنى تنزيله على المراتب تقديم أهل المرتبة الأولى على أهل الثانية؛ لأنها أقرب إلى الميت منها، و کذا الثانية على الثالثة. ومنه يظهر أنه لا يعطى الأبعد مع وجود الأقرب، وفائدة ذكره بعد تعيين المراتب إدراج حكم ابن العم من الأبوين مع العمّ من الأب فإنّه في الإرث مقدم على العم و إن كان ابن العم أبعد، إلا أنّ ذلك بدليل خارج، ومن ثم كان مستثنى من القاعدة، فلو لا قوله و لا يعطى الأبعد مع وجود الأقرب لاستفيد من تنزيله على مراتب الإرث تقديم ابن العم هنا أيضاً، و هو محتمل إلّا أنّ الأصح الأوّل.

ومقتضى مراعاة المرتبة أنّه لو اجتمع الأخ من الأبوين مع الأخ من الأب قدّم الأوّل عليه، كما في الإرث. و هو كذلك على الأقوى، مع احتمال تساويهما هنا.

ص: 382

[الفصل] الخامس في الأوصياء

شرائط الوصي

ويعتبر في الوصيّ العقل والإسلام. ● و هل يعتبر العدالة؟ قيل: نعم؛ لأنّ الفاسق لا أمانة له. و قيل: لا؛ لأنّ المسلم محل للأمانة، كما في الوكالة والاستيداع ولأنها ولاية تابعة لاختيار الموصي، فيتحقق بتعيينه.

------

قوله: «و هل تعتبر العدالة؟ قيل: نعم؛ لأنّ الفاسق لا أمانة له» إلى آخره.

اختلف الأصحاب في اشتراط عدالة الوصيّ، فذهب الأكثر منهم إلى اشتراطها؛ محتجين بأن الوصاية استئمان على مال الأطفال ومَنْ يجري مجراهم من الفقراء، والجهات التي لا يراعيها المالك، والفاسق ليس أهلاً للاستثمان على هذا الوجه و إن كان أهلاً للوكالة؛ لوجوب التثبت عند خبره.

وبأنّ الوصيّة تتضمّن الركون باعتبار فعل ما أوصى إليه به، من تفرقة المال وإنفاقه وصرفه في الوجوه الشرعيّة والفاسق ظالم لا يجوز الركون إليه؛ لقوله تعالى: ﴿و لا تَرْكَنُواْ إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ (1).

وبأن الوصية استنابة على مال الغير لا على مال الموصي؛ لانتقاله عنه بعد موته، وولاية الوصيّ إنّما تحصل بعد الموت، فيشترط في النائب العدالة، كوكيل الوكيل، بل أولى؛ لأنّ تقصير وكيل الوكيل مجبور بنظر الوكيل والموكل، و ذلك من أكبر البواعث على تحرّز وكيل الوكيل من تجاوز الحدود بخلاف الوصيّ؛ فإنّ ولايته بعد موت الموصي على الجهات التي

ص: 383


1- هود (11): 113.

......

------

أشرنا إليها، وهي ممّا لا يشارفه (1) فيها أحد غالباً، و لا يتبع أفعاله، خصوصاً إذا كانت في إخراج حقوق لغير منحصر.

و ذهب ابن إدريس بعد اضطراب في الفتوى إلى عدم اشتراطها (2)، ورجحه المصنف في النافع (3)، والعلّامة في المختلف بعد أن اختار في غيره من كتبه اشتراطها (4)- استناداً إلى أنها ولاية تابعة لاختيار الموصي كالوكالة (5). وقدحوا في صغرى القياس في الأوّل بجواز إيداع الفاسق وتوكيله.

ويضعف بظهور الفرق بين الوكالة والوصية بما أشرنا إليه من مراعاة الموكل حال الوكيل في كل وقت يختار، وبأنه في الوكالة مسلّط على مال نفسه، وهنا على مال غيره؛ ولهذا اشترطت في وكيل الوكيل. هذا محصل كلام الفريقين.

ويمكن أن يقال على الأوّل: لا يلزم من عدم أهلية الفاسق؛ للاستئمان، ولقبول الخبر اشتراط العدالة؛ لأنّ هناك واسطة بينهما، و هو المستور والمجهول الحال؛ فإنّه لا يصح وصفه بالفسق بل يعزّر واصفه، به فلا يدخل في المدلول.

و اشتراط عدالة وكيل الوكيل إن أرادوا بها اشتراط ظهور عدالته كما هو المشهور - فهو عين المتنازع، و إن أرادوا به عدم ظهور الفسق سلّمناه لكن لا يفيد الاشتراط.

وبالجملة لا ريب في اشتراط عدم ظهور فسقه، أما اشتراط ظهور عدالته ففيه بحث.

وأما ما احتج به المصنف وغيره على اشتراط ظهورها بأن الفسق لمّا كان مانعاً فلا بد

ص: 384


1- في بعض النسخ: «لا يشاركه» بدل «لا يشارفه».
2- السرائر، ج 3، ص 189.
3- المختصر النافع، ص 265.
4- راجع قواعد الأحكام، ج 2، ص 564: وتذكرة الفقهاء، ج 2، ص 511) (الطبعة الحجرية وإرشاد الأذهان، ج 1، ص 463.
5- مختلف الشيعة، ج 6، ص 352، المسألة 126.

إذا فسق الوصي بعد موت الموصي

● أما لو أوصى إلى العدل ففسق بعد موت الموصي أمكن القول ببطلان وصيته؛ لأن الوثوق ربما كان باعتبار صلاحه، فلم يتحقق عند زواله فحينئذ يعزله الحاكم ويستنيب مكانه.

------

من العلم بانتفائه، و ذلك هو اشتراط العدالة - فواضح المنع؛ لأنّ المانع لا يشترط العلم بعدمه في التأثير، بل عدم العلم بوجوده، كما هو المعتبر في حكم كلّ مانع.

قوله: «أما لو أوصى إلى العدل ففسق بعد موت الموصي» إلى آخره.

هذا استدراك من الحكم السابق.

و حاصله أنّ العدالة و إن لم تشترط ابتداءً فإنّه لو أوصى إلى عدل ففسق بعد موت الموصي اتجه القول ببطلان وصيّته؛ لأنا إذا لم نشترطها وأوصى إلى الفاسق ابتداء يكون الموصي قد أقدم على الوصية إليه ورضي به فلا يؤثر فسقه، أما لو أوصى إلى العدل ابتداءً ففسق ينعزل؛ لما أشار إليه المصنّف من أن الباعث على الإيصاء إليه بخصوصه ربما كان باعتبار عدالته فإذا زالت العدالة فات الباعث فتبطل.

و لم يجزم المصنّف بالحكم، بل قال أمكن القول بالبطلان» لذلك؛ لأنّه أيضاً يمكن القول بعدم البطلان؛ لأنّ الوصية إليه لا يتعيّن أن يكون الباعث عليها عدالته بل جاز أن يكون أمراً آخر من صحبة وقرابة وغير ذلك، والوصف اتفاقي، وجاز أن تكون العدالة مزيدةً في الباعث لا سبباً تاماً فلا يقدح فواتها، ولأنّها إذا لم تشترط ابتداء كانت استدامة الفسق غير مانعة من صحة الوصية ابتداء، فأولى أن لا يمنع صحتها استدامة ابتداؤه؛ لأنّ استدامة كلّ شيءٍ أقوى من ابتدائه.

و ما استدركه المصنف بطريق الإمكان جزم به العلّامة وحكم ببطلان الوصية حينئذ (1). و هو قوي إن ظهر كون الباعث على نصبه عدالته وإلا فلا؛ وفاقاً في الثاني لابن إدريس (2).

ص: 385


1- راجع قواعد الأحكام، ج 2، ص 564 وتحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 377، الرقم 4834؛ ومختلف الشيعة، ج 1، ص 352، المسألة 127: وإرشاد الأذهان، ج 1، ص 463.
2- السرائر، ج 3، ص 190.

......

------

وبما حكيناه يظهر فساد ما قيل إنّه لا خلاف في بطلانها عندنا بالفسق على هذا الوجه (1). وحيث حكم ببطلان الوصية بفسقه لا تعود بعوده عدلاً؛ للأصل.

وبقي في العبارة أمران:

أحدهما: تقييده بكون فسقه بعد موت الموصى يستفاد منه بحسب المفهوم أنه لو فسق في حياته لم ينعزل، مع أنّ العلة المذكورة لعزله متناولة للحالتين. ويمكن الفرق، بأن فسقه في حياته مع استمراره عليه يؤذن برضاه بوصايته فاسقاً، بخلاف ما لو فسق بعد موته. لكن يجب تقييد هذا بعلم الموصى بفسقه وإلا فلا دلالة له على رضاه به على تلك الحالة.

ويمكن أن يكون ذلك مبنيّاً على أنّ المعتبر في صفات الوصي بحالة الوفاة لا حالة الوصاية، كما هو أحد الوجوه في المسألة. فإذا فسق في حال حياة الموصي واستمر كذلك إلى بعد وفاته لم تنعقد الوصاية له إلا و هو فاسق، فيكون كما لو نصبه فاسقاً، بخلاف ما إذا تجدد الفسق بعد موته؛ فإنّه أمر طارئ على الحكم بوصايته، فتنزيلها لما ذكر. والمتجه الفرق بين علم الموصي بفسقه وعدمه، على تقدير حصول الفسق حال حياته على كل حال.

والثاني: أنّ قوله «أمكن بطلان وصيّته» يقتضي انعزاله و إن لم يعزله الحاكم، وقوله فحينئذٍ يعزله الحاكم ينافيه. والحق على هذا التقدير انعزاله و إن لم يعزله الحاكم؛ لفوات الباعث المنزل منزلة الشرط، فيفوت المشروط بفواته.

وربما اعتذر له بأنّ المراد بعزل الحاكم له تسلّط الحاكم على منعه من التصرف، وإقامة غيره مجازاً في عزله.

وقد اتفقت هذه المسألة في عبارة الشافعية (2)، واختلفوا في بطلان الوصية بذلك من رأس، أو تسلّط الحاكم على فسخها من غير أن تبطل، وتظهر الفائدة في تصرفه قبل أن يعزله

ص: 386


1- قاله المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11، ص277.
2- الحاوي الكبير، ج 8، ص 331 - 335: المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 604 - 605. المسألة 4776: المجموع شرح المهذب، ج 15، ص 511.

الوصيّة إلى الصبي

● و لا تجوز الوصية إلى المملوك إلا بإذن مولاه.

● و لا تصح الوصية إلى الصبي منفرداً، وتصح منضماً إلى البالغ، لكن لا يتصرّف إلا بعد بلوغه.

ولو أوصى إلى اثنين أحدهما صغير تصرّف الكبير منفرداً حتى يبلغ الصغير، وعند بلوغه لا يجوز للبالغ التفرّد.

------

الحاكم. وهذه العبارة جيّدة، فأخذ المصنّف والعلّامة (1) ناظر الى الوجهين.

ويقوى الإشكال لو لم يكن هناك حاكم يعزله، فإنّ الفائدة المطلوبة للموصي من عدالته منتفية رأساً. والأقوى - تفريعاً على كون ذلك مانعاً، تفريعاً على كون ذلك مانعاً من الصحة - البطلان و إن لم يعزله الحاكم؛ ليحصل الغرض.

قوله: «و لا تجوز الوصية إلى المملوك إلا بإذن مولاه».

لأن منافعه مملوكة لمولاه، والوصية إليه تستدعي نظراً منه في الموصى فيه، وسعياً على تحصيل المطلوب منها، و هو يستلزم التصرف في ملك الغير، فيتوقف على إذنه، فإذا أذن زال المانع؛ لأنّ المنع لحقه، خلافاً لبعض العامة حيث منع من الوصية إليه مطلقاً (2).

إذا تقرّر ذلك فلو أذن المولى له في الوصاية لم يكن له الرجوع في الإذن حيث يلزم الوصيّ المضي فيها، بأن مات الموصي، وحيث لا يلزمه المضي يجوز للمولى الرجوع، لكن بشرط إعلام الموصي كالحرّ.

وبالجملة فيقوم المولى في ذلك مقام الوصي و إن كان فعل متعلّق الوصية منوطاً بالمملوك.

قوله: «و لا تصح الوصية إلى الصبي منفرداً، وتصح منضماً إلى البالغ» إلى آخره.

فائدة صحة الوصية إلى الصغير منضمّاً مع عدم صحة تصرفه صغيراً تأثير نصبه في تلك الحال في جواز تصرفه بعد البلوغ.

ص: 387


1- تقدّم قبيل هذا.
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 602، المسألة 4373؛ الحاوي الكبير، ج 8، ص 329.

......

------

ومستند جواز الوصية إليه منضماً رواية علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل أوصى إلى امرأة وشرك في الوصيّة معها صبياً، فقال: «يجوز ذلك، وتمضي المرأة الوصية، و لا تنتظر بلوغ الصبي، فإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى إلا ما كان من تبديل أو تغيير، فإنّ له أن يرده إلى ما أوصى به الميت» (1).

و في صحيحة الصفار قال: كتبت إلى أبي محمد علیه السلام: رجل أوصى إلى ولده، وفيهم كبار قد أدركوا، وفيهم صغار، أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيته، ويقضوا دينه لمن صح على الميت شهود عدول قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقع علیه السلام: «نعم، على الأكابر من الولد أن يقضوا دين أبيهم، و لا يحبسوه بذلك» (2).

ويدلّ على جواز تصرف الكبير قبل بلوغ الصغير - مضافاً إلى الخبرين - أنه في تلك الحال وصيّ منفرداً، وإنّما التشريك معه بعد البلوغ، كما لو قال: «أنت وصيّي، و إذا حضر فلان فهو شريكك». ومن ثَمَّ لم يكن للحاكم أن يداخله، و لا أن يضمّ إليه آخر؛ ليكون نائباً عن الصغير. وأما إذا بلغ الصغير فلا يجوز للبالغ التفرّد و إن كان ذلك غير مستفاد من الخبرين؛ لأنه الآن غير مستقل، فيرجع إلى تلك القاعدة.

واعلم أن صحة الوصية إلى الصبي منضمّاً على خلاف الأصل؛ لأنه ليس من أهل الولاية، ولكن جاز ذلك للنصّ، فلا يلزم مثله في الوصيّة إليه مستقلاً و إن شرط في تصرفه البلوغ وكان ذلك في معنى المنضم؛ وقوفاً فيما خالف الأصل على مورده، ولأنه يغتفر في حال التبعية ما لا يغتفر استقلالاً.

واعلم أيضاً أنّ مورد المسألتين في الكتاب واحد، و هو جواز انضمام الصغير إلى البالغ

ص: 388


1- الكافي، ج 7، ص 46، باب من أوصى إلى مدرك .... 1: الفقيه، ج 4، ص 209، ح 5489: تهذيب الأحكام، ج 9، 209، ص 184، ح 743: الاستبصار، ج 4، ص 140، ح 522.
2- الكافي، ج 7، ص 46، باب من أوصى إلى مدرك .... ح 2؛ الفقيه، ج 4، ص 209، ح 5490؛ تهذيب الأحكام، ج 9.

● ولو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل كان للعاقل الانفراد بالوصيّة، و لم يداخله الحاكم؛ لأنّ للميت وصيّاً.

------

في الوصاية، غير أنّ الأولى تضمّنت حكم تصرّف الصبي في أنه مشروط ببلوغه، و الثانية تضمّنت جواز تصرّف الكبير قبل بلوغ الصغير، وعدم جواز انفراده بعد بلوغه.

ولو جمع الأحكام الثلاثة في مسألة واحدة كما فعل غيره (1) - كان أخصر، فيقول بعد قوله «لكن لا يتصرّف إلا بعد بلوغه»: «ويتصرف الكبير منفرداً» إلى آخره، فيستغني عن فرض مسألتين.

قوله: «ولو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل» إلى آخره.

إنّما كان له ذلك؛ لأنّ شركة الصبي له مشروطة ببلوغه كاملاً و لم يحصل، فيبقى الاستقلال الثابت أو لا له بالنصّ على حاله عملاً بالاستصحاب ومداخلة الحاكم مشروطة بعدم وجود الوصي المستقل، و هو هنا موجود. و هو معنى قول المصنف «لأنّ له وصيّاً» أي مستقلاً، وإلا فالحاكم يداخل الوصيّ غير المستقل. ويمكن أن يريد به مطلق الوصي؛ لما سيأتي من تعليله بذلك في مسألة الوصى غير المستقل (2).

وربما احتمل بطلان استقلاله بذلك؛ لأنّ الموصي إنّما فوض إليه الاستقلال إلى حين بلوغ الصبي، فكأنه جعله مستقلاً إلى مدة مخصوصة لا مطلقاً.

وقد تردّد في الحكم العلّامة في التذكرة (3) والشهيد في الدروس (4).

وفيما اختاره المصنف قوة. نعم، لو بلغ الصبي رشيداً ثم مات بعده ولو بلحظة زال الاستقلال؛ لفقد شرطه

ص: 389


1- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 564.
2- سيأتي في ص 397.
3- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 510 (الطبعة الحجرية).
4- الدروس الشرعية، ج 2، ص 210 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

● ولو تصرّف البالغ ثمَّ بلغ الصبي لم يكن له نقض شيء مما أبرمه، إلا أن يكون مخالفاً لمقتضى الوصية.

● و لا تجوز الوصية إلى الكافر ولو كان رحماً. نعم، يجوز أن يوصي إليه مثله.

● وتجوز الوصية إلى المرأة إذا جمعت الشرائط.

------

قوله: «ولو تصرّف البالغ ثمَّ بلغ الصبي لم يكن له نقض شيء مما أبرمه» إلى آخره.

قد سلف في الخبرين المتقدمين (1) ما يدل على هذا الحكم، ولأن البالغ وصيّ مستقل حينئذ، فتصرفه نافذ مطلقاً.

واعلم أنّ التصرّف متى كان مخالفاً لمقتضى الوصية فهو باطل، لا يتوقف إبطاله على نقض الصبي بعد بلوغه، فالاستثناء في العبارة منقطع، وقد تبع فيه الرواية (2)؛ فإنّه قال فيها: إلا ما كان من تبديل أو تغيير، فإنّ له أن يرده إلى ما أوصى به الميت». وكان حق العبارة الاقتصار على منعه من نقض ما كان موافقاً للشرع، فإنّ ما خالفه منقوض.

قوله: «و لا تجوز الوصية إلى الكافر ولو كان رحماً» إلى آخره.

لأنّ الكافر ليس من أهل الأمانة و لا الولاية، والركون إليه منهي عنه (3)؛ لأنه ظالم، والرحميّة هنا لا دخل لها في الجواز.

وأمّا جواز وصيّة مثله إليه؛ فلإجرائه على حكمه لو ترافعوا إلينا، لا الحكم بصحتها عندنا إن اشترطنا العدالة؛ لأنّ الكافر أسوء حالاً من الفاسق المسلم.

و يحتمل قويّاً الحكم بصحتها مطلقاً مع عدالته في دينه؛ لأن الغرض منها صيانة مال الطفل وحفظه وأداء الأمانة، و إذا كان الكافر في دينه مجانباً للمحرمات قائماً بالأمانات حصل الغرض المطلوب منه، بخلاف فاسق المسلمين.

قوله: «وتجوز الوصية إلى المرأة إذا جمعت الشرائط».

ص: 390


1- تقدم تخريجهما في ص 388 الهامش 1 و 2.
2- هي رواية عليّ بن يقطين المتقدّم تخريجها في ص 388، الهامش 1.
3- هود (11) 113.

لو أوصى إلى اثنين

● ولو أوصى إلى اثنين فإن أطلق أو شرط اجتماعهما، لم يجز لأحدهما أن ينفرد عن صاحبه بشيءٍ من التصرّف.

------

هذا عندنا موضع وفاق، وقد تقدم في حديث عليّ بن يقطين (1) ما يدلّ على الصحة، بل إذا حصلت الشرائط في أُمّ الأطفال فهي أولى من غيرها، لمزيد الحنو. لكن روى الشيخ في التهذيب عن السكوني مرسلاً، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علیه السلام: المرأة لا يوصى إليها؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿و لا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَلَكُمُ﴾ (2). ثمَّ حملها على ضرب من الكراهة جمعاً (3).

قوله: «ولو أوصى إلى اثنين فإن أطلق أو شرط اجتماعهما، لم يجز لأحدهما» إلى آخره.

أما مع شرطه الاجتماع فظاهر؛ لأنه لم يرض برأي أحدهما منفرداً، فولايتهما لم تثبت إلا على هذا الوجه وأما إذا أطلق؛ فلأن المفهوم من إطلاقه إرادة الاجتماع ولو حصل الاشتباه فثبوت الولاية لهما مجتمعين معلوم، وثبوتها لكلِّ واحد منفرداً مشكوك فيه فيؤخذ باليقين، ويرجع إلى أصالة انتفائها عن كل واحد منفرداً.

و ذهب الشيخ (4)، في أحد قوليه ومَنْ تبعه (5) إلى جواز انفراد كلّ منهما مع الإطلاق و لعله استند إلى رواية بريد بن معاوية، قال: إنّ رجلاً مات وأوصى إلي وإلى آخر أو إلى رجلين، فقال أحدهما: خذ نصف ما ترك وأعطني النصف مما ترك، فأبى عليه الآخر، فسألوا أبا عبدالله عن ذلك فقال: «ذلك له» (6). مع أنّ الشيخ في التهذيب حمل قوله: «ذلك»

ص: 391


1- تقدم تخريج حديثه في ص 388، الهامش 1.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 245، ح 953؛ وأيضاً أورده في الاستبصار، ج 4، ص 140، ح 523؛ والآية في سورة النساء (4): 5.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 245، ذيل الحديث 953؛ والاستبصار، ج 4، ص 140، ذيل الحديث 523.
4- النهاية، ص 606.
5- كابن البراج في المهذب، ج 2، ص 116 - 117؛ وابن سعيد في الجامع للشرائع، ص 492.
6- الكافي، ج 7، ص 47، باب من أوصى إلى اثنين.... ح 2: الفقيه، ج 4، ص 203، ح 5475؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 185، ح 746: الاستبصار، ج 4، ص 118. ح 449.

......

------

على إباء صاحبه (1)، أي له أن يأبى عليه، و لا يجيبه إلى ملتمسه. وإنما حمله على ذلك؛ لئلا ينافي ما رواه محمد بن الحسن الصفار في الصحيح قال: كتبت إلى أبي محمد: رجل كان أوصى إلى رجلين، أيجوز لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة والآخر بالنصف؟ فوقع علیه السلام: «لا ينبغي لهما أن يخالفا الميت، و إن يعملا على حسب ما أمرهما إن شاء الله تعالى»(2).

ويمكن أن يقال: لا وجه لحمل تلك الرواية على ذلك الوجه البعيد لتوافق هذه؛ لأنه ليس في هذه ما يدلّ على وجوب الاجتماع؛ لأنّ لفظ «لا ينبغي» ظاهر في الكراهة لا الحظر، ففيها دلالة على جواز الانفراد على كراهة، وتبقى تلك مؤيّدةً لها، كما فهمه الشيخ في فتوى النهاية؛ فإنّه أجود ممّا فهمه في التهذيب، مع أن المتأخرين كالعلامة في المختلف (3) ومن بعده (4)، فهموا من الرواية المنع من الانفراد، واستحسنوا حمل الرواية الأُخرى على ما ذكره الشيخ.

وربما رجح الحمل بأن الإباء أقرب من القسمة، فعود اسم الإشارة إليه أولى.

وفيه: أن الإشارة ب- «ذلك» إلى البعيد، فحمله على القسمة أنسب بالغرض (5).

ويمكن أن يستدلّ لهم من الرواية الصحيحة لا من جهة قوله «لا ينبغي»، بل من قوله «أن يخالفا الميت، و إن يعملا على حسب ما أمرهما» فإنّ ذلك يقتضي حمل إطلاقه على أمره بالاجتماع، ومع أمره به لا يبقى في عدم جواز المخالفة إشكال، ويتعين حمل «لا ينبغي» على التحريم؛ لأنّه لا ينافيه بل غايته كونه أعم، أو متجوزاً به فيه بقرينة الألفاظ الباقية. وهذا أجود.

ص: 392


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 186، ذيل الحديث 746: وأيضاً في الاستبصار، ج 4، ص 118، ذيل الحديث 449.
2- الكافي، ج 7، ص 46 - 47، باب من أوصى إلى اثنين.... ح 1: الفقيه، ج 4، ص 203، ح 5474: تهذيب الأحكام. ج 9، ص 185، ح 745: الاستبصار، ج 4، ص 118، ح 448.
3- مختلف الشيعة، ج 6، ص 360. المسألة 134.
4- كفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 631 والسيوري في التنقيح الرائع، ج 2، ص390.
5- في بعض النسخ: «باللفظ» بدل «بالغرض».

● ولو تشاحًا لم يمض ما ينفرد به كلّ واحد منهما عن صاحبه إلا ما لا بد منه، مثل كسوة اليتيم ومأكوله. وللحاكم جبرهما على الاجتماع، فإن تعاسرا جاز له الاستبدال بهما.

------

إذا علمت ذلك فمعنى وجوب اجتماعهما في الحالتين اتفاقهما على الرأي الواحد على وجه واحد يحكمان بكونه مصلحةً، و إذا توقف على عقد فليصدر عن رأيهما، إما بمباشرة أحدهما بإذن الآخر، أو غيرهما بإذنهما.

قوله: «ولو تشاحًا لم يمض ما ينفرد به كلّ واحد منهما عن صاحبه» إلى آخره.

إذا تشاح الوصيّان في صورة اشتراط الموصي اجتماعهما، أو إطلاقه على القول بحمله على الاجتماع أي تمانعا وأبى كلّ منهما على صاحبه أن يوافقه - لم يمض ما تفرد به أحدهما من التصرّف؛ لأنّ الموصي لم يرض برأيه منفرداً، فيكون تصرفه بغير إذن كتصرف الأجنبي. واستثنى المصنّف وجماعة (1) منه ما تدعو الحاجة إليه، و لا يمكن تأخيره إلى وقت الاتفاق من نفقة اليتيم والرقيق والدواب، ومثله شراء كفن الميت. وزاد بعضهم:

قضاء ديونه، وإنفاذ وصيّة معيّنة، وقبول الهبة عن الصغير مع خوف فوات النفع والخصومة عن الميت وله وعن الطفل وله مع الحاجة، وردّ الوديعة المعينة، والعين المغصوبة (2).

وقال أبو الصلاح:

مع التشاح يردّ الناظر في المصالح الأمر إلى مَنْ كان أعلم بالأمر وأقوى عليه، ويجعل الباقي تبعاً له (3).

ص: 393


1- منهم ابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 191؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 263 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10)؛ والسيوري في التنقيح الرائع، ج 2، ص 388؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11 ص 292.
2- كالمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11، ص292.
3- الكافي في الفقه، ص 366.

......

------

وفيه استلزامه تخصيص أحدهما، وقد منعه الموصي من ذلك. وأطلق الشيخ في المبسوط: عدم جواز تصرّف أحدهما مع التشاح في القسمين من غير استثناء (1).

ومال العلّامة في القواعد إلى الفرق بين حالة الإطلاق والنهي عن الانفراد، فاحتمل ضمان المتفرّد في الثاني مطلقاً، وجواز ما لا بد منه في حالة الإطلاق، وحمل كلام الأصحاب على ذلك؟ (2).

ويشكل بأنّ من الأصحاب مَنْ صرّح بعدم الفرق بين الحالتين (3)، فلا يمكن حمل كلامه على التفصيل، وبأنّ حالة الإطلاق إن حملت على إرادة الاجتماع كما فهموه - لا وجه للفرق، و إن كانت حالة النهي عن الانفراد آكد.

و قيل: يضمن المنفرد مطلقاً (4). و لعله أجود.

إذا تقرر ذلك فقد أطلق المصنّف وغيره (5) أنهما في هاتين الحالتين مع التعاسر يجبرهما الحاكم على الاجتماع، فإن لم يتفق جاز له الاستبدال بهما.

و لا يخلو على إطلاقه من إشكال على القول باشتراط العدالة؛ لأنهما بتشاحهما حيث يمكن الاجتماع، وإصرارهما عليه يخرجان عن العدالة، خصوصاً مع إجبار الحاكم لهما، وتعاسرهما بعده.

والذي ينبغي تفريعاً على اشتراط العدالة الحكم بفسقهما مع تشاحهما حيث يمكنهما الاجتماع، ويكون ذلك محض العناد، ويستبدل بهما الحاكم.

ص: 394


1- المبسوط، ج 3، ص 260 - 261.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 566.
3- كالشيخ في المبسوط، ج 3، ص 260 - 261؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 190؛ وابن حمزة في الوسيلة ص 373.
4- قال به ابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 190؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 360. المسألة 134.
5- كالشيخ في النهاية، ص 606: وابن البراج في المهذب، ج 2، ص 116: وابن حمزة في الوسيلة، ص 373.

......

------

ولقد أحسن ابن إدريس هنا حيث قال:

فإن تشاحًا في الوصية والاجتماع لم ينفذ شيء ممّا يتصرّفان فيه - إلى قوله - وللناظر المسلمين الاستبدال بهما؛ لأنهما حينئذ قد فسقا؛ لأنهما أخلا بما وجب عليهما القيام به، وقد بيّنا أن الفسق يخرج الوصية من يده (1).

ومع ذلك ففي كلامه خبط من جهة أنّه قبله بلا فصل صرّح بعدم اشتراط العدالة، وأنكر على الشيخ القول بها، وبأن الوصي إذا فسق يخرج من يده، ثمَّ عقبها بمسألة الوصيين - وهي هذه - بلا فصل.

والحاصل أنه مع اشتراط العدالة يلزم القول بانعزالهما مع التشاح الموجب للإخلال بالواجب مع الإصرار عليه حيث لم يثبت كون مثل ذلك من الكبائر.

نعم، يمكن فرض التشاح من غير فسق بأن يختلف نظرهما في الأمر، فلا يمكنهما الاجتماع على رأي واحد منهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما فرضه العمل بما يقتضيه نظره، ومثل هذا يجب استثناؤه، و لا يمكن الحاكم إجبارهما على الاجتماع فيه.

ويبقى الكلام فيما يمكن فيه الاجتماع، ويكون الاختلاف مستنداً إلى التشهى أو الميل الطبيعي، بأن أراد أحدهما الصدقة بالمال الموصى به، بتفرقته على أشخاص معينين، وأراد الآخر غيرهم مع استحقاق الجميع، أو أراد أحدهما شراء نوع من المأكول والملبوس للطفل وأراد الآخر غيره، مع اشتراكهما في المصلحة، و نحو ذلك، فإنّ مثل هذا يجب فيه الاتفاق، ويخل تركه بالواجب حيث لا يكون أمره موسعاً، ويحكم بانعزالهما مع التشاح فيه، خصوصاً مع وقوع التصرّف بالفعل منفرداً. وقد اقتصروا على التعبير بأن التصرف حينئذ لا ينفذ، وبالغ في التذكرة فصرّح بأنهما لا ينعزلان بالاختلاف، و إن اللذين أقامهما الحاكم نائبان عنهما (2).

ص: 395


1- السرائر، ج 3، ص 191.
2- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 509 (الطبعة) الحجرية).

● ولو أرادا قسمة المال بينهما لم يجز . ● ولو مرض أحدهما أو عجز ضم إليه الحاكم مَنْ يقوّيه.

------

قوله: «ولو أرادا قسمة المال بينهما لم يجز».

لأنّ القسمة تقتضي انفراد كلّ منهما بالتصرف فيما خصه من القسمة، و هو خلاف مراد الموصي من الاجتماع فيه والحكم مع النصّ على الاجتماع واضح، ومع الإطلاق فيه ما مرّ (1).

قوله: «ولو مرض أحدهما أو عجز ضمّ إليه الحاكم مَنْ يقوّيه».

الضمير البارز في قوله «إليه» و«يقويه» يرجع إلى المريض والعاجز، بمعنى أنّ الحاكم يضمّ إلى المريض أو العاجز شخصاً يقوّيه، ويعينه على التصرف؛ لأنّ مرضه وعجزه لا يخرجه عن الوصاية؛ لجواز الوصية إلى المريض والعاجز ابتداء، فكما لا يقدح ذلك في الابتداء فكذا لا يقدح في الاستدامة. وحينئذ فيعتبر اجتماع الثلاثة على التصرف، حتى لو كان وصيّاً منفرداً فمرض أو عجز عن الاستقلال ضم الحاكم إليه أيضاً من يعينه، كما سيأتي (2)، و لم يرتفع أمره بالكلّيّة فكذا هنا.

و في الدروس جعل الضمّ مع عجز أحدهما إلى الآخر كما لو جنّ أو فسق (3). ويمكن الجمع بحمل العجز هنا على القيام بجميع ما كلّف به مع ثبوت أصل القدرة، فالضميمة إليه تحصل الغرض، وحمل العجز في كلام الدروس على العجز الكلي بقرينة مشاركة الفاسق والمجنون له في الحكم، وبقرينة الحكم بالضم إلى الآخر أيضاً.

و يجوز أن يعود الضمير في عبارة المصنف إلى الوصيّ الآخر المدلول عليه بأحدهما ضمناً، ويريد بالعجز والمرض بالبالغين حدّ المنع من أصل الفعل، كما فرضه في الدروس وتكون التقوية حينئذ للوصي الآخر. ولكن الأوّل أنسب بالمقام.

ص: 396


1- مرّ في ص 391 وما بعدها.
2- يأتي في ص 401.
3- الدروس الشرعية، ج 2، ص 262 - 263 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).

● أما لو مات أو فسق لم يضمّ الحاكم إلى الآخر، وجاز له الانفراد؛ لأنه لا ولاية للحاكم مع وجود الوصي، وفيه تردّد.

● ولو شرط لهما الاجتماع والانفراد كان تصرّف كلّ واحد منهما ماضياً ولو انفرد. و يجوز أن يقتسما المال، ويتصرّف كلّ واحد منهما فيما يصيبه، كما يجوز انفراده قبل القسمة.

------

قوله: «أما لو مات أو فسق لم يضم الحاكم إلى الآخر، وجاز له الانفراد» إلى آخره.

إذا تعذرت مشاركة أحد الوصيين على الاجتماع لصاحبه،بموت، أو فسق، أو عجز كلّي، أو جنون، أو غيبة بعيدة فقد ذهب المصنّف وأكثر الأصحاب إلى أن الوصي الآخر يستقلّ بالوصية من غير أن يضمّ إليه الحاكم بدلاً؛ لأنّه لا ولاية للحاكم مع وجود الوصي، و هو هنا موجود؛ فإنّ نصب الآخر معه لم يخرجه عن كونه وصيّاً؛ ولهذا يقال: نصب وصيّين.

وقد تردّد المصنف في الحكم، و وجهه ممّا ذكر، ومن أنّ الموصى لم يرض برأي أحدهما منفرداً، فتصرفه وحده منافٍ لمقصود الموصي ويُمنع من انتفاء ولاية الحاكم مع مطلق الوصي بل مع المنفرد؛ لأنّ ولاية الحاكم تتعلق بما لا يشرع إنفاذه لغيره من أحكام الميت هنا، و هو هنا موجود.

ويمكن أن يُدعى أن أحد الوصيين على الاجتماع ليس وصيّاً حقيقياً بل جزء وصي. وإطلاق الوصي عليه لا يستلزم الحقيقة.

والأقوى وجوب الضمّ، وليس للحاكم أن يفوّض إليه وحده و إن كان عنده صالحاً للاستقلال؛ لأن الموصي لم يرض برأيه وحده، وعند وجود إرادة الموصي لا يعتبر إرادة الحاكم؛ لأنّ ذلك كمنعه من كونه وصيّاً بالانفراد، فلا يتخطاه الحاكم، و کذا لا يجوز للحاكم عزله وإقامة بدله متحداً ومتعدداً؛ لما ذكرناه من تقديم منصوب الموصي (1)، و هو هنا موجود.

قوله: «ولو شرط لهما الاجتماع والانفراد كان تصرف كل واحد منهما ماضياً» إلى آخره.

ص: 397


1- ذكره قبيل هذا.

متى يجوز للموصى إليه ردّ الوصيّة؟

● وللموصى إليه أن يرد الوصية ما دام الموصي حيّاً بشرط أن يبلغه الرد.

------

المراد بشرط الاجتماع لهما والانفراد تسويغ الانفراد، ولو عبّر به كان أظهر وأخصر، فإنّ شرط الاجتماع هنا لا دخل له في الحكم، إلا أن يجعل تنبيهاً على قسم رابع، و هو ما إذا شرط لهما الانفراد، ومنعهما من الاجتماع؛ فإنّ ذلك جائز. ويجب فيه اتباع شرطه، فيكون التعبير بشرط الاجتماع والانفراد إشارة إلى تسويغ الأمرين معاً.

و كيف كان فمع الإذن في الانفراد يكون تصرف كلّ منهما بمقتضى الوصية ماضياً؛ لأنّ كلاً منهما وصيّ مستقل. و يجوز لهما حينئذ اقتسام المال، وتصرّف كلّ منهما فيما يصيبه، وليست قسمةً حقيقيّةً، بل لكلّ منهما بعد القسمة التصرّف في قسمة الآخر، كما يجوز قبل القسمة؛ لأنّ كلّاً منهما وصيّ في المجموع. و لا فرق في جواز القسمة بين جعلها متساويةً ومتفاوتةً حيث لا يحصل بها ضرر.

قوله: «وللموصى إليه أن يرد الوصية ما دام الموصى حيّاً بشرط أن يبلغه الرد».

قد تقدم أن الوصية من العقود الجائزة في حياة الموصي لكلّ من الموصي والموصى له وإليه فسخها في حياة الموصي (1). فإذا كانت الوصية بالولاية وقبلها الوصي، فإن كان بعد وفاة الموصي لم يكن له ردّها، كما ليس له ردّ المال الموصى به بعد القبول والوفاة.

و إن كان الرد في حياة الموصي جاز، كما له ردّ المال؛ لأن الوصاية إذن له في التصرف المخصوص، فله أن لا يقبل الإذن كالوكالة، لكن يختص حكم الوصاية يكون بطلانها مشروطاً، بأن يبلغ الموصي الردّ، فلو لم يبلغه لزمت، كما لو رد بعد الوفاة.

وظاهرهم الاتفاق على هذا الحكم و في الأخبار إيماء إليه، ففي رواية منصور بن حازم عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إذا أوصى الرجل إلى أخيه و هو غائب فليس له أن يردّ عليه وصيته؛ لأنه لو كان شاهداً فأبى أن يقبلها طلب غيره» (2).

ص: 398


1- تقدم في ص 271.
2- الكافي، ج 7، ص 6، باب الرجل يوصي إلى آخر .... ح 3: الفقيه، ج 4، ص 196، ح 5452: تهذيب الأحكام ج 9، ص 206، ح 816.

......

------

ومقتضى هذا التعليل أن صحة الردّ مشروطة ببلوغه الخبر؛ لأنه إذا كان مشروطاً بدون القبول فيه أولى، و في معناها كثير، ولأنه على تقدير قبوله يكون قد غرّه، ومنعه من طلب غیره، فلم يكن له أن يضيّع حقه.

أما لو ردّ في حياته وبلغه الردّ فإنّ الوصية تبطل: اقتصاراً باللزوم على موضع الوفاق فيما خالف الأصل، ولانتفاء المحذور هنا.

واعلم أنّ كلّ موضع يلزمه الوفاء بالوصية لو امتنع من القيام بها فإن أصرّ عليه خرج عن أهلية الوصاية بفسقه على القول باعتبار العدالة - فيخرج عن الوصاية. ولو كان جاهلاً بالوجوب أو لم نشترطها أجبره الحاكم على القيام بها، وأخبره بالوجوب. وأطلق جماعة من الأصحاب (1) إجبار الحاكم له مع امتناعه و هو مقيد بعدم الخروج بالترك عن الأهلية.

وبقي في المسألة أمر آخر، و هو أنّه هل يشترط مع بلوغ الموصي الرد إمكان إقامته وصيّاً غيره، أم يكفي مطلق بلوغه حياً؟ ظاهر الفتاوى الثاني، ومقتضى التعليل الأول؛ لأنه إذا لم يمكنه نصب وصيّ آخر يكون بمنزلة ما لو لم يعلم بالرد.

والأجود اعتبار الإمكان، كما يرشد إليه قوله علیه السلام: «لأنه لو كان شاهداً وأبى أن يقبلها طلب غيره» (2)، فإنّ العلة المنصوصة تتعدى على الأقوى، و لا نتفاء الفائدة بدونه. فعلى هذا لو كان حيّاً ولكن لم يمكنه نصب أحد ولو بالإشارة لم يصح الردّ.

ولو أمكن ولكن كان المنصوب غائباً بحيث يتوقف ثبوت وصايته على البيئة و لم يحضر الموصي مَنْ تثبت به الوصاية ففي تنزيله منزلة عدم التمكن من الوصاية وجهان، من حصول أصل القدرة، وتحقق الشرط، ومن انتفاء فائدته باعتبار، عدم ثبوته.

ص: 399


1- منهم العلامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 565: والصيمري في تلخيص الخلاف، ج 2، ص 283، ضمن المسألة 21.
2- الكافي، ج 7، ص 6، باب الرجل يوصي إلى آخر .... ح 3: الفقيه، ج 4، ص 196، ح 5452؛ تهذيب الأحكام ج 9، ص 206، ح 816.

● ولو مات قبل الردّ أو بعده و لم يبلغه لم يكن للرد أثر، وكانت الوصية لازمةً للوصي.

------

قوله: «ولو مات قبل الرد أو بعده و لم يبلغه لم يكن للرد أثر» إلى آخره.

إطلاق كلامه يشمل ما لو كان قد قبل الوصية ثمَّ ردّها، وما إذا لم يقبلها أصلاً . والحكم في الأوّل موضع وفاق، وقد تقدم (1).

وأما الثاني: فالمشهور بين الأصحاب أن الحكم فيه كذلك، واستندوا فيه إلى أخبار كثيرة:

منها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إن أوصى رجل إلى رجل و هو غائب فليس له أن يردّ وصيّته، فإن أوصى إليه و هو بالبلد فهو بالخيار إن شاء قبل و إن شاء لم يقبل» (2).

ومنها: صحيحة الفضيل بن يسار عنه علیه السلام في رجل يوصى إليه، قال: «إذا بعث إليه بها من بلد فليس له ردّها، و إن كان في مصر يوجد فيه غيره فذاك إليه» (3).

ومنها: رواية منصور بن حازم (4)، عنه علیه السلام قال: «إذا أوصى الرجل إلى أخيه و هو غائب فليس له أن يردّ عليه وصيّته؛ لأنه لو كان شاهداً فأبى أن يقبلها طلب غيره» (5).

ص: 400


1- تقدم قبيل هذا.
2- في حاشية «و»: «رواية محمّد بن مسلم رواها الشيخ في الحسن عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن ربعي، عن محمد، ورواها ابن بابويه في الفقيه في الصحيح (منه رحمه الله)». راجع الكافي، ج 7، ص 6، باب الرجل يوصي إلى آخر ...، ح 1؛ والفقيه، ج 4، ص 195، ح 5448؛ وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 205، ح 814
3- الكافي، ج 7، ص 6، باب الرجل يوصي إلى آخر .... 2: الفقيه، ج 4، ص 95، ح 5449: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 205، ح 815.
4- في حاشية «و»: «في طريق هذه الرواية أبو عليّ الأشعري عن عبدالله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن منصور بن حازم وكلّهم ثقات إلا عبدالله بن محمّد فإنه مشترك بين جماعة، منهم الثقة وغيره، وغالب ظنّى أنّه من الثقات منه رحمه الله)».
5- الكافي، ج 7، ص 6، باب الرجل يوصي إلى آخر .... 3: الفقيه، ج 4، ص 196: ح 5451: تهذيب الأحكام ج 9، ص 206، ح 816.

إذا ظهر من الوصي عجز

● ولو ظهر من الوصيّ عجز ضمّ إليه مساعد.

------

ومنها: حسنة هشام بن سالم عنه علیه السلام في الرجل يوصي إلى رجل بوصيّة فأبى أن يقبلها، فقال أبو عبد الله: «لا يخذله على هذه الحال» (1).

و ذهب العلّامة في التحرير والمختلف إلى جواز الرجوع ما لم يقبل عملاً بالأصل وبدفع الضرر المنفي بقوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (2)، وقوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «لا ضرر و لا ضرار» (3). وحمل الأخبار على حصول القبول أوّلاً؛ لأنّه عقد فلا بدّ فيه من القبول.

والحق: أنّ هذه الأخبار ليست صريحةً في المدعى؛ لتضمنها أن الحاضر لا يلزمه القبول مطلقاً، والغائب يلزمه مطلقاً و هو غير محلّ النزاع.

نعم، في تعليل الرواية المتقدّمة إيماء إلى الحكم إلا أنّ إثبات مثل هذا الحكم المخالف للأصول الشرعيّة - بإثبات حق الوصاية على الموصى إليه على وجه القهر وتسليط الموصي على إثبات وصيته على من شاء، بحيث يوصي ويطلب من الشهود كتمان الوصية إلى حين موته، ويدخل على الوصيّ الحرج والضرر غالباً - بمجرّد هذه العلة المستندة إلى سند غير واضح بعيد. ولو حملت هذه الأخبار على سبق القبول، أو على شدة الاستحباب كان أولى. ولو حصل للوصي ضرر ديني أو دنيوي، أو مشقة لا يتحمل مثلها عادةً، أو لزم من تحمّلها عليه ما لا يليق بحاله من شتم و نحوه قوي جواز الرجوع.

قوله: «ولو ظهر من الوصي عجز ضُمّ إليه مساعد».

لا فرق بين وجود العجز من الوصى عن الاستقلال بالوصيّة حالة الوصيّة إليه، وتجدّده

ص: 401


1- الكافي، ج 7، ص 6- 7، باب الرجل يوصي إلى آخر .... ح 5: الفقيه، ج 4، ص 196، ح 5451؛ تهذيب الأحكام. ج 9، ص 206، ح 818.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 379 - 380، الرقم 4841؛ مختلف الشيعة، ج 1، ص 299، المسألة 82؛ والآية في سورة الحج (22) 78.
3- الكافي، ج 5، ص 292 - 293، باب الضرار، ج 2، الفقيه، ج 3، ص 233، ح 3862؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 146 . ح 651.

......

------

بعدها قبل موت الموصي وبعده. فكما لا تبطل وصيته بالعجز الطارئ زمن وصايته لا تبطل لو كان متصفاً به ابتداءً، ويضم الحاكم إليه مساعداً في الحالين حيث يقتصر الموصي عليه.

وعموم الأدلّة متناول لما ذكرناه في القسمين، وبه صرّح في التذكرة، فقال:

الظاهر من مذهب علمائنا جواز الوصيّة إلى مَنْ يعجز عن التصرّف و لا يهتدي إليه، لسفه أو هرم أو غيرهما، وينجبر نقصه بنظر الحاكم (1).

ولكن الشهيد في الدروس توقف في صحة الوصية إلى العاجز ابتداء، من حيث وجوب العمل بقول الموصي ما أمكن، ومن عدم الفائدة المقصودة في الوصية (2).

ويمكن منع عدم الفائدة على هذا التقدير؛ لجواز أن يكون العاجز ذا رأي وتدبير، ولكنّه عاجز عن الاستقلال، فيفوّض إليه الموصي أمره لذلك، ويعتمد في تمام الفعل على نصب الحاكم له معيناً، فتحصل الفائدة المطلوبة من الوصيّة، ويسلم من تبديلها المنهي عنه (3).

وقد يفهم من قول المصنف ولو ظهر من الوصي عجز كونه مستوراً في حال الوصية، وإنّما ظهر بعد الوصاية. و كيف كان فالاعتماد على عدم الفرق بين الأمرين.

واعلم أنه بنى الضمّ للمجهول و لم يجعل الضام الحاكم كما صنع غيره (4)، ويمكن كون النكتة فيه ليشمل ما لو وجد الحاكم المتمكن من الضمّ فيكون هو الفاعل؛ لما هو المعلوم من أن هذه الوظائف لا يتولاها غيره، وما لو تعذر فيجب على عدول المؤمنين الانضمام إليه ومساعدته على إنفاذ الوصيّة، كما يجب عليهم إنفاذها لو لم يكن هناك وصيّ أصلاً كما سيأتي (5).

ص: 402


1- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 511 (الطبعة الحجرية).
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 262 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- البقرة (2) 181.
4- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 565: والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 262 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
5- يأتي في ص 407.

لو كان للوصي دين على الميت

● و إن ظهر منه خيانة وجب على الحاكم عزله، ويقيم مكانه أميناً.

● والوصيّ أمين لا يضمن ما يتلف، إلّا عن مخالفته لشرط الوصية أو تفريط.

● ولو كان للوصي دين على الميت جاز أن يستو في مما في يده من غير إذن الحاكم إذا لم تكن له حجّة. و قيل: يجوز مطلقاً.

------

قوله: «و إن ظهر منه خيانة وجب على الحاكم عزله، ويقيم مكانه أميناً».

إنما يتوقف عزله على عزل الحاكم لو لم يشترط عدالته، فللحاكم حينئذ أن يعزل الخائن؛ مراعاةً لحق الأطفال وأموال الصدقات و نحوهما. وأمّا إذا اشترطنا عدالته فإنّه ينعزل بنفس الفسق و إن لم يعزله الحاكم، وقد تقدّم مثله (1). ولعلّ المصنّف يريد بعزل الحاكم له منعه عن التصرف، أو ما هو أعم منه ومن مباشرة عزله؛ ليجري على المذهبين؛ إذ لم يتقدم منه ترجيح لأحد القولين.

قوله: «والوصيّ أمين لا يضمن ما يتلف إلا عن مخالفته لشرط الوصية أو تفريط».

لا خلاف في كون الوصي أميناً لا يضمن ما بيده من الأموال التي يلي عليها بالوصاية إلا بتعد أو تفريط. وعبّر عن التعدي بمخالفة شرط الوصية؛ فإنه إذا لبس الثوب - مثلاً - فقد خالف شرط الوصيّة؛ لأنّ مقتضاها حفظه للطفل، أو بيعه وصرفه في الجهة المأمور بها، و نحو ذلك، فاستعماله لا يدخل في شرط الوصيّة. ومثله ركوب الدابة، والكون في الدار وغير ذلك. هذا إذا لم يتعلّق به غرض يعود على ماله فيه الولاية بحيث لا يتم بدونه، كما لو ركب الدابة لقضاء حوائج الطفل واستيفاء دينه حيث يتوقف على الركوب، أو دخل داره لإصلاح أمره، أو لبس الثوب ليدفع عنه الدود حيث يتوقف عليه، و نحو ذلك.

قوله: «ولو كان للوصي دين على الميت جاز له أن يستو في ممّا في يده» إلى آخره.

القول الأوّل للشيخ في النهاية؛ فإنّه قيّد جواز الأخذ بإقامة البينة (2)، و لم يذكر جواز

ص: 403


1- تقدم في ص 386 وما بعدها.
2- النهاية. ص .608.

......

------

الأخذ عند عدمها. ولكنّه يستفاد من مسألة المقاصة حيث لا بيّنة للمدين، و لم يذكروا له حجّةً على ذلك.

ويمكن الاستدلال له بموثقة بريد بن معاوية، عن أبي عبد الله قال قلت له: إنّ رجلاً أوصى إليّ، فسألته أن يشرك معي قرابة له ففعل، فلمّا هلك الرجل أنشأ الوصي يدعي أنّ له قبله أكرار حنطة، قال: «إن أقام البيئة وإلا فلا شيء له»، قال قلت له: أيحل له أن يأخذ ممّا في يده شيئاً؟ قال: «لا يحل له»، قلت: أرأيت لو أن رجلاً عدا عليه فأخذ ماله فقدر على أن يأخذ من ماله ما أخذ أكان له ذلك؟ قال: «إنّ هذا ليس مثل هذا» (1).

والقول بالجواز مطلقاً لابن إدريس (2)، و هو الأقوى؛ لأن الفرض كونه وصيّاً في إثبات الديون فيقوم مقام الموصي في ذلك. والغرض من البينة والإثبات عند الحاكم جواز كذب المدعي في دعواه، فنيطت بالبينة شرعاً، وعلمه بدينه أقوى من البينة التي يجوز عليها الخطأ، ولأنه بقضاء الدين مُحسن ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾ (3).

و بهذا يظهر الفرق بين دين الوصي ودين غيره حيث لا يعلم به الوصي، وعلى تقدير علمه يمكن تجدّد البراءة منه، فلا بد من إثباته حتى باليمين مع البيئة لذلك. وأيضاً فإنّ الغير لا يجوز للوصي تمكينه من التركة بمجرد دعواه، و لا له أن يعيّن لدينه بعض الأموال دون بعض؛ لأنّ ذلك منوط بالمديون أو نائبه؛ لأنه مخيّر في جهات القضاء، والغير ليس له ولاية التعيين، بخلاف الوصي.

والجواب عن الرواية مع قطع النظر عن سندها -: أنها مفروضة في استيفاء أحد الوصيين على الاجتماع بدون إذن الآخر، ونحن نقول بموجبه، فإن أحد الوصيين كذلك

ص: 404


1- الكافي، ج 7، ص 57، باب النوادر، ح 1؛ الفقيه، ج 4، ص 234، ح 5563؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 232، ح 910.
2- السرائر، ج 3، ص192.
3- التوبة (9) 91.

هل يجوز للوصي أن يوصى؟

● و في شرائه لنفسه من نفسه تردّد، والأشبه الجواز إذا أخذ بالقيمة العدل.

● و إذا أذن الموصي للوصي أن يوصي جاز إجماعاً. و إن لم يأذن له لكن لم يمنعه فهل له أن يوصي؟ فيه خلاف، أظهره المنع، ويكون النظر بعده إلى الحاكم.

------

بمنزلة الأجنبي ليس له الاستيفاء إلا بإذن الآخر كباقي التصرفات، وليس للآخر تمكينه منه بدون إثباته، والكلام هنا في الوصيّ المستقل، وقد نبه عليه بقوله في آخر الرواية حيث سأله عن أخذ ماله ممّن أخذ منه قهراً: «إنّ هذا ليس مثل هذا». والمراد أنّ هذا إنّما يأخذ باطلاع الوصيّ الآخر، فليس له تمكينه من الأخذ بمجرد دعواه، بخلاف مَنْ يأخذ من مال مَنْ أخذ ماله على جهة المقاصة؛ فإنّ له ذلك حيث لا يطلع عليه أحد، و هو هنا منتفٍ.

قوله: «و فى شرائه لنفسه من نفسه تردّد، والأشبه الجواز إذا أخذ بالقيمة العدل».

القول بالمنع من ذلك للشيخ (رحمه الله) (1)؛ استناداً إلى أنّ الواحد لا يكون موجباً وقابلاً في عقد واحد؛ لأنّ الأصل في العقد أن يكون بين اثنين إلا ما أخرجه الدليل، و هو الأب أو الجدّ له.

والأصح الجواز؛ لأنه بيع صدر من أهله في محلّه؛ إذ الفرض أنه جائز التصرف، يجوز أن يتولّى كلاً من الطرفين بالانفراد، فله أن يتولاهما على الاجتماع؛ إذ لا مانع إلا اجتماعهما لواحدٍ، و هو غير صالح للمانعية شرعاً للأصل، ولجواز مثله فيما اعترفوا به من الأب والجد. وعلى الجواز رواية (2) مجهولة الراوي (3)، والمروي عنه، لكنّها شاهد.

قوله: «و إذا أذن الموصى للوصى أن يوصى جاز إجماعاً» إلى آخره.

إذا أوصى إلى غيره بشيء و لم ينفّذ جميع ما أوصى به إليه إما لكونه وصيّاً على أطفال

ص: 405


1- الخلاف، ج 3، ص 346 - 347، المسألة 9: المبسوط، ج 2، ص 372 – 373.
2- الكافي، ج 7، ص 59، باب النوادر، ح 10؛ الفقيه، ج 4، ص 219، ح 5517؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 233 ح 913.
3- هو محمد بن يحيى، و هو مشترك بين خمسة رجال. راجع خلاصة الأقوال، ص 260، الرقم 908، وص 262 الرقم 917 - 918، وص 399، الرقم 1606، وص 400، الرقم 1609.

......

------

لم يكملوا، أو في تفرقة شيء و لم يتمكن من إنفاذه، أو غلة يتجدد كل سنة - فلا يخلو إما أن يكون الموصي قد أذن له في الإيصاء على ما أوصاه فيه على العموم، أو على وجه مخصوص، أو نهاه عن الإيصاء به مطلقاً، أو أطلق.

و لا خلاف في جواز وصايته في الأوّل على الوجه الذي أذن له فيه؛ عملاً بمقتضى الإذن، و لا في عدم صحتها في الثاني؛ اقتصاراً على ما أذن له فيه، و هو مباشرته بنفسه.

وأما مع الإطلاق فهل يجوز له الإيصاء بما كان وصيّاً فيه؟ قولان:

أحدهما - و هو قول أكثر الأصحاب - المنع؛ للأصل، ولأنّ المتبادر من الاستنابة له في التصرف مباشرته بنفسه، أمّا تفويض التصرّف إلى غيره فلا دليل عليه.

لا يقال: ينتقض بتوكيله فيما هو وصيّ فيه؛ فإنّه جائز فيما جرت العادة في التوكيل فيه قطعاً، وغيره على الأقوى، فلو اقتضى إطلاق الإيصاء المباشرة لما جاز له التوكيل.

لأنا نقول: فرق بين الوكالة على جزئيات مخصوصة ملحوظة بنظره حيّاً يمضي منها ما وافق غرضه، ويردّ ما خالف، وبين الإيصاء الحاصل أثره بعد موته وفوات نظره. وأيضاً فإنّه في حال الحياة مالك للتصرّف على الوجه المأذون فيه، ووكيله فيه بمنزلته، بخلاف تصرّف الوصي بعد وفاته؛ لزوال ولايته المقصورة على فعله بنفسه - وما في حكمه بموته.

والقول الثاني: الجواز(1)؛ لأنّ الاستنابة من جملة التصرفات التي يملكها حياً بالعموم، كما يملكها بالخصوص ولأنّ الموصي أقامه مقام نفسه فيثبت له من الولاية ما يثبت له، ومن ذلك الاستنابة بعد الموت. وروى ابن بابويه في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار أنه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي علیه السلام: رجل كان وصيّ رجل فمات وأوصى إلى رجل،

ص: 406


1- من القائلين به الشيخ في النهاية، ص 607: والخلاف، ج 4، ص 162 - 163، المسألة 43: ولمزيد الاطلاع راجع مختلف الشيعة، ج 6، ص 353 - 354، المسألة 129.

لومات إنسان و لا وصيّ له

● و کذا لو مات إنسان و لا وصيّ له كان للحاكم النظر في تركته. ولو لم يكن هناك حاكم جاز أن يتولاه من المؤمنين مَنْ يوثق به. و في هذا تردّد.

------

هل تلزم الوصيّ وصيّة الرجل الذي كان هذا وصيّه؟ فكتب: يلزمه بحقه إن كان له قبله حق إن شاء الله تعالى (1).

قالوا: والمراد ب- «الحق» هنا حق الإيمان، فكأنّه قال: يلزمه لو كان مؤمناً، وفاءً لحقه عليه بسبب الإيمان؛ فإنّه يقتضي معونة المؤمن وقضاء حوائجه، ومن أهمها إنفاذ وصيته (2).

وأجيب عنه بمنع كون الاستنابة بعد الوفاة ممّا يملكها الوصي، و هل هو إلا عين المتنازع؟ وإقامة الموصي له مقام نفسه ليباشر الأمر بنفسه ونظره، و هو لا يدلّ على إقامته بعد الوفاة مقام نفسه مطلقاً؛ فإنّه المتنازع.

والرواية كما تحتمل ما ذكروه تحتمل أيضاً أن يريد «بحقه» الوصية إليه، بأن يوصي، فضمير «حقه» راجع إلى الموصي الأوّل والمعنى حينئذ أنّ الوصية تلزم الوصي الثاني بحق الأوّل إن كان له - أي للأوّل - قبله - أي الوصى الأول - حق، بأن يكون قد أوصى إليه وأذن له أن يوصى، فقد صار له قبله حق الوصيّة، فإذا أوصى بها لزمت الوصي الثاني. ومع تطرق الاحتمال يسقط الاستدلال إن لم يكن الثاني أرجح على أن حق الإيمان لا يختص بهذا الوصي الثاني، بل يجب على كلّ مؤمن كفاية كما سيأتي (3)، والكلام في اختصاص هذا الوصيّ بالوصيّة على جهة الوصاية لا على جهة المعونة العامة. وعلى هذا إذا لم يأذن الموصي في الاستنابة يكون النظر في أمور الموصي الأوّل إلى الحاكم، كغيره ممن لا وصي له.

قوله: «و کذا لو مات إنسان و لا وصي له كان للحاكم النظر في تركته» إلى آخره.

اعلم أنّ الأُمور المفتقرة إلى الولاية إما أن تكون أطفالاً، أو وصايا وحقوقاً وديوناً.

ص: 407


1- الفقيه، ج 4، ص 226 - 227، ح 5538؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 215، ح 850.
2- من القائلين بذلك المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11، ص 265.
3- يأتي في ص 408 وما بعدها.

......

------

فإن كان الأوّل فالولاية فيهم لأبيه، ثم لجده لأبيه، ثمَّ لمن يليه من الأجداد على ترتيب الولاية، الأقرب منهم إلى الميت فالأقرب، فإن عدم الجميع فوصيّ الأب، ثمَّ وصيّ الجد وهكذا، فإن عدم الجميع فالحاكم والولاية في الباقي غير الأطفال للوصي، ثم الحاكم.

والمراد به السلطان العادل أو نائبه الخاص أو العام مع تعذر الأولين، و هو الفقيه الجامع لشرائط الفتوى العدل. وإنّما كان حاكماً عاماً؛ لأنه منصوب من قبل الإمام لا بخصوص ذلك الشخص بل بعموم قولهم علیهما السلام: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا» (1) إلى آخره.

فإن فقد الجميع فهل يجوز أن يتولى النظر في تركة الميت من المؤمنين مَنْ يوثق به؟ قولان:

أحدهما المنع، ذهب إليه ابن إدريس (2)؛ لأن ذلك أمر موقوف على الإذن الشرعي، و هو منتف.

و الثاني و هو مختار الأكثر تبعاً للشيخ (رحمه الله) (3) - الجواز؛ لما فيه من المعاونة على البر والتقوى المأمور بها (4)، ولقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (5). خرج منه ما أجمع على عدم ولايتهم فيه، فيبقى الباقي داخلاً في العموم، ولأن ذلك من المعروف والمصالح الحسبية فيستفاد الإذن فيها من عموم دلائل الأمر بالمعروف (6)، ومثل هذا كافٍ في الإذن الشرعي الذي ادعى المانع عدم وجوده. وتطرّق محذور التصرف في

ص: 408


1- الكافي، ج 7، ص 412، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور، ح 5 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 218، ح 514.
2- السرائر، ج 3، ص 193 – 194.
3- النهاية، ص 608.
4- المائدة (5) 2.
5- التوبة .(9) 71.
6- لقمان (31): 17؛ آل عمران (3): 104. 110، 114؛ وراجع وسائل الشيعة، ج 16، ص 117. الباب 1 من أبواب كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

......

------

مال الطفل يندفع بوصف العدالة في المتولّي المانع له من الإقدام على ما يخالف مصلحته.

ويؤيّده أيضاً رواية سماعة قال: سألته (1) عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصيّة، وله خدم ومماليك وعُقَد (2)، كيف تصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: «إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس» (3).

وعن إسماعيل بن سعد قال: سألت الرضا علیه السلام عن رجل مات بغير وصيّة وترك أولاداً ذكراناً وإناثاً وغلماناً صغاراً وترك جواري ومماليك، هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال: «نعم» (4). وعلى كل حال فهذا القول لا بأس به.

ويستثنى من موضع الخلاف ما يضطر إليه الأطفال والدواب من المؤونة وصيانة المال المشرف على التلف، فإنّ ذلك و نحوه واجب على الكفاية على جميع المسلمين فضلاً عن العدول منهم، حتى لو فرض عدم ترك مورّتهم مالاً فمؤونة الأطفال و نحوهم من العاجزين عن التكسب واجب على المسلمين من أموالهم كفايةً، كإعانة كلّ،محتاج وإطعام كلّ جائع يضطر إليه، فمن مال المحتاج أولى. وحيث يجوز لأحد فعل ذلك فالمراد به معناه الأعم، والمراد منه الوجوب؛ لما ذكرناه من أنه من فروض الكفايات.

والمراد بقوله «لم يكن هناك حاكم» عدم وجوده في ذلك القطر و إن وجد في غيره، إذا توقفت مراجعته على مشقة لا تتحمل عادةً. ويجب مع وجوده بعيداً الاقتصار على ما لا بدّ منه، وتأخير ما يسع تأخيره إلى أن يمكن مراجعته.

ص: 409


1- في حاشية «و»: «في التهذيب: قال: سألته عن رجلٍ، فجعلها مطبوعة، و في المختلف: سألت أبا عبدالله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ [كما الكافي] فجعلها موصولة (منه رحمه الله)». راجع مختلف الشيعة، ج 6، ص 358، المسألة 133.
2- عُقد جمع العُقْدَة: كلّ ما يمتلكه الإنسان من ضيعة أو عقار، أو متاع أو مال. المعجم الوسيط، ص 614، «عقد».
3- الكافي، ج 7، ص 67، باب من مات على غير وصيّة.... ح 3؛ الفقيه، ج 4، ص 218، ح 5514: تهذيب الأحكام. ج 9، ص 240، ح 929.
4- الكافي، ج 7، ص 66، باب من مات على غير وصيّة.... ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 339، ح 927.

لو أوصى بالنظر في مال ولده إلى أجنبي وله أب

● ولو أوصى بالنظر في مال ولده إلى أجنبي وله أب لم يصح، وكانت الولاية إلى جد اليتيم دون الوصيّ. و قيل: يصح ذلك في قدر الثلث مما ترك، و في أداء الحقوق.

------

قوله: «ولو أوصى بالنظر في مال ولده إلى أجنبي وله أب لم يصح» إلى آخره.

قد عرفت من المسألة السابقة أن ولاية الجد و إن علا على الولد مقدّمة على ولاية وصيّ الأب، فإذا نصب الأب وصيّاً على ولده المولّى عليه مع وجود جدة للأب و إن علا لم يصح؛ لأنّ ولاية الجدّ ثابتة له حينئذٍ بأصل الشرع، فليس للأب نقلها عنه، و لا إثبات شريك معه. ومعنى عدم صحتها أنّها لا تقع ماضيةً مطلقاً، لكن هل تقع باطلة من رأس؟ أم تصح على بعض الوجوه دون بعض؟ أقوال:

أحدها البطلان مطلقاً (1)؛ لأنّ الأب لا ولاية له بعد موته مع وجود الجد وصلاحيته للولاية، فإذا انقطع ولاية الأب بموته لم تقع ولاية وصيه، فإذا مات الجد افتقر عود ولاية الأب؛ لتؤثر في نصب الوصيّ إلى دليل؛ إذ الأصل عدم عودها، فلا تصح في حياة الجد و لا بعد موته.

الثاني: بطلانها في زمان ولاية الجدّ خاصَّةٌ (2)؛ لأن ولاية الأب شاملة للأزمنة كلها، إلا زمان ولاية الجد، فيختصّ البطلان بزمان وجوده.

وقد عرفت جوابه، فإن انقطاع ولاية الأب بموته مع وجود الجد صالحاً للولاية أمر معلوم، وعودها بعد موت الجد يحتاج إلى دليل ودعوى أن ولاية الأب ثابتة في جميع الأزمان المستقبلة التي من جملتها ما بعد زمان الجدّ غير معلوم، بل هو عين المتنازع، وإنّما المعلوم مع وجود الجدّ بعده انقطاع ولايته لا ثبوتها بعد موت الجد.

الثالث: صحتها في الثلث خاصةً (3)؛ لأنّ له إخراجه عن الوارث أصلاً، فيكون له إثبات ولاية غيره عليه بطريق أولى.

ص: 410


1- قاله الشيخ في المبسوط، ج 3، ص 261؛ والخلاف، ج 4، ص 161، المسألة 40.
2- راجع جامع المقاصد، ج 11، ص 269.
3- أيضاً قاله الشيخ في المبسوط، ج 3، ص 258.

......

------

وفيه منع الأولوية بل الملازمة؛ فإنّ إزالة الملك تقتضي إبطال حق الوارث منه أصلاً و هو الأمر الثابت له شرعاً، وأما بقاؤه في ملك الوارث، فإنّه يقتضي شرعاً كون الولاية عليه لمالكه أو وليه الثابتة ولايته عليه بالأصالة، فلا يكون للأب ولاية عليه بالنسبة إليه أصلاً. وقد ظهر أن أجود الأقوال الأوّل، والقول الأول والأخير كلاهما للشيخ في المبسوط (1).

واعلم أن قوله في القول الأخير: «أنها تصح في أداء الحقوق» أجنبي من المسألة التي هي موضع النزاع؛ لأنّ موضوعها الوصية بالنظر في مال ولده وله أب لا وصيته في ماله ليخرج منه الحقوق؛ فإنّ ذلك ثابت بالإجماع. وأيضاً فظاهر اللفظ أن الوصية المذكورة مقصورة على نظر الوصيّ في مال ولده، ومعه لا يتناول كون هذا الوصي وصيّاً على إخراج الحقوق، و إن كان للموصي أن ينصب وصيّاً في ذلك؛ لأنّ الوصيّة يتّبع فيها نص الموصي من عموم وخصوص.

وبالجملة فإنّ ذكر الموصي لهذا الوصيّ لفظ يدلّ على كونه وصيّاً على إخراج الحقوق مضافاً إلى وصايته على ولده - يكون قد اشتملت على أمرين: أحدهما: المختلف فيه والآخر خارج عن محلّ النزاع، و لا وجه لإدخال المتفق فيه هنا؛ لأنّ اشتمال الوصية على معنى صحيح وآخر باطل لا يقدح في صحة الصحيح، و لا إبطال الباطل. و إن كان قد اقتصر على جعله وصيّاً على النظر في مال ولده كما هو الظاهر - لم يتناول ذلك الوصية إليه في إخراج الحقوق.

ويمكن أن يفرض لجواز الوصية في إخراج الحقوق فائدة، وهي أن وصية الإنسان مع وجود أبيه فى إخراج الوصايا و إن كانت جائزة لكن لا تخلو من إشكال؛ لأنّ وصيّة الولد إنما تصح بما لا ولاية للأب فيه؛ ولهذا لم تصح الوصية على الأطفال مع وجود الأب. و إذا كان كذلك فلو لم يوص الولد بقضاء الدين وإنفاذ الوصايا مع وجود أبيه كان الأب أولى بذلك

ص: 411


1- المبسوط، ج 3، ص 261.

● و إذا أوصى بالنظر في شيء معين اختصت ولايته به، و لا يجوز له التصرف في غيره، وجرى مجرى الوكيل في الاقتصار على ما يوكَّل فيه.

------

من غيره حتى الحاكم، كما هو أولى بالأطفال، كما نبه عليه في التذكرة (1)، ونسب القول بكون الحاكم أولى بوصاياه والأب أولى بديونه إلى الشافعية (2). و إذا كان عدم الإيصاء موجباً لولاية الأب على ذلك دلّ على أن للأب حق الولاية على وصية أبيه، كما له الولاية على أولاده، فإذا أوصى الابن إلى غيره يجب أن لا يكون صحيحاً، كما لو أوصى بأولاده إلى غيره، فنبه المصنّف بما ذكر من صحتها في أداء الحقوق على ذلك؛ و وجهه أنّ ثبوت ولاية الجد على الأطفال ليست على حدّها على الوصايا؛ فإنّ تلك ثابتة بالأصل بحق البنوّة والوصيّة ليست كذلك. و لا يلزم من ثبوتها له بدون الوصية - على تقدير تسليمه - ثبوتها معها، كما أنّ الحاكم له الولاية على الوصايا مع عدم الوصي، وليس له ذلك مع وجوده فالملازمة ممنوعة.

قوله: «و إذا أوصى بالنظر في شيء معين اختصت ولايته به» إلى آخره. لما كانت الوصية بالولاية استنابةٌ من الموصي بعد موته في التصرف فيما كان له التصرف فيه - من قضاء ديونه واستيفائها، وردّ الأمانات واسترجاعها، والولاية على أولاده و إن نزلوا الذين له عليهم الولاية من الصبيان والمجانين والسفهاء، والنظر في أموالهم والتصرف فيها بما لهم فيه الحظ، وتفريق الحقوق الواجبة والمندوبة، و نحو ذلك كانت الاستنابة تابعةً لاختيار الموصي في التخصيص ببعض هذه والتعميم؛ لأن ذلك حق له فيتبع فيه رأيه، وربما اختلف الأوصياء في الصلاحية لجميع هذه الأشياء ولبعضها، والاطلاع على مزايا المعيشة وضبط الأموال، والقيام بإصلاحها وحفظها.

فإذا نصب مَنْ له الوصيّة في ذلك أحداً فلا يخلو إما أن يعمم له الولاية، أو يخصها بشيء دون شيء، أو يطلق. فإن عممها بأن قال: «أنت وصيّي في كلّ قليل وكثير»، أو «في كلّ

ص: 412


1- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 510 (الطبعة الحجرية).
2- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 510 (الطبعة الحجرية).

......

------

مالي فيه ولاية» أو «في كذا و کذا» ممّا فصلناه سابقاً (1) حتى استو فى الجميع، و نحو ذلك - كان له الولاية في جميع ما تناوله اللفظ، ممّا له فيه ولاية فتدخل فيه الأموال والأولاد.

و إن خصها بشيء دون شيء، أو بوقت دون وقت، أو بحال دون حال اختصت ولايته بما عين له و لا يتجاوزه. فالتخصيص بالأشياء كأن يقول: «أنت وصيّي فيما أوصيت به يوم الدفن» أو «فيما ذكرته في وصيتي» وكان قد ذكر أشياء مخصوصةً، أو يكتسب وصيته كذلك ثم يقول: «وجعلت وصيّي في ذلك» أو «فيما أوصيت به فلاناً» و نحو ذلك. والتخصيص في الأوقات بأن يقول: «أوصيت إليك إلى سنة» أو «إلى أن يبلغ ابني فلان» أو «إلى أن يحضر فلان الغائب» وبالأحوال أن يوصي إلى زوجته إلى أن تتزوّج، أو إلى فلان إلى أن يقع منه كذا، و نحو ذلك، أو ما دام على صفة كذا و نحو ذلك.

و إن أطلق بأن قال: «جعلت فلاناً وصيّى» فإن اقتصر على ذلك كان لغواً، كما لو قال: وكلتك و لم يعيّن ما وكله فيه. و إن أضاف إليه قوله: «على أولادي» و لم يذكر التصرف انصرف إلى حفظ مالهم خاصة؛ لأنه المتيقن.

و يحتمل قوياً جواز التصرّف بما فيه الغبطة؛ لأنّ المفهوم عرفاً من هذا اللفظ هو إقامته مقامه، خصوصاً عند مَنْ يرى أنّ المفرد المضاف يفيد العموم.

و في المسألة وجه ثالث و هو عدم الصحة ما لم يبيّن ما فوّضه إليه.

وحيث يخصص الوصي بشيءٍ دون شيء يجوز تعدد الأوصياء، لا على سبيل الاشتراك في ذلك الأمر، و لا على سبيل الانفراد فيه، بل يجعل له وصيّاً على حفظ مال أولاده، ووصيّاً آخر على الإنفاق عليهم، وثالثاً على إنفاذ وصاياه وحقوقه، ورابعاً على استيفاء ديونه فيختص كلّ واحد بما عيّن له. و يجوز له مع ذلك تعميم بعضهم وتخصيص آخرين، على الاجتماع والانفراد والتفريق.

ص: 413


1- سبق في ص 405.

اعتبار الصفات في الوصيّ حالة الوصيّة

مسائل ثلاث

الأولى: ● الصفات المراعاة في الوصى تعتبر حالة الوصية. و قيل: حين الوفاة، فلو أوصى إلى صبي فبلغ ثمَّ مات الموصي صحت الوصيّة. و کذا الكلام في الحرّية والعقل والأوّل أشبه.

------

قوله: «الصفات المراعاة في الوصي تعتبر حالة الوصيّة. و قيل: حين الوفاة» إلى آخره.

اختلف الأصحاب وغيرهم (1) في وقت اعتبار الشروط المعتبرة في صحة الوصايا - من التكليف والإسلام والحرّية والعدالة - هل هو عند الوصيّة أو عند الموت أو من حين الوصيّة مستمراً إلى أن يموت، أو من حين الوصية إلى أن ينفّذها بعد الموت؟ على أقوال:

أحدها - و هو مختار الأكثر ومنهم المصنّف - الأوّل، و هو اعتبار وجودها حالة الوصية، بمعنى وجودها قبلها باقيةً إليها؛ قضيّةً للشرطيّة؛ فإنّ الشرط يعتبر تقدمه على المشروط ولو بآن ما.

و وجه هذا القول أن هذه المذكورات شرائط صحة الوصيّة، فإذا لم تكن حالة إنشائها موجودةً لم يكن العقد صحيحاً؛ لأن عدم الشرط يوجب عدم المشروط، كما في شرائط سائر العقود، ولأنه في وقت الوصية ممنوع من التفويض إلى مَنْ ليس بالصفات، والنهي في المعاملات إذا توجه إلى ركن العقد دلّ على الفساد، ولأنه يجب في الوصي أن يكون بحيث لومات الموصي كان نافذ التصرّف مشتملاً على صفات الوصاية، و هو هنا منتف؛ لأنّ الموصي لو مات في هذه الحال لم يكن الوصي أهلاً لها.

و في هذا الأخير نظر؛ لأنّ من يكتفي بوجودها حالة الموت يحصل على مذهبه المطلوب؛ فإنّ الموصي إذا فرض موته بعد الوصاية بلا فصل قبل أن يتصف الوصي بالصفات لا يكون نافذ التصرّف من حيث إنّ الموصي قد مات و هو غير جامع لها، و ذلك كافٍ في البطلان.

ص: 414


1- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 603، المسألة 4774؛ والمجموع شرح المهذب، ج 15، ص 511.

......

------

وثانيها: أن المعتبر اجتماعها عند الوفاة (1)، حتى لو أوصى إلى من ليس بأهل فاتفق كماله عند الوفاة صحّت الوصيّة؛ لأنّ المقصود منها التصرّف بعد الموت فيعتبر اجتماع الشروط حينئذ؛ لأنّه محلّ الولاية، و لا حاجة إلى وجودها قبل ذلك؛ لانتفاء الفائدة.

و يضعف بأنّ الوصاية لمّا كانت عقداً و لم يحصل شروطها حالة الإيجاب وقع العقد فاسداً. و لا نسلّم أنّ الولاية حالة الموت خاصةً، بل هي ثابتة من حين الوصية، وإنما المتأخر التصرّف كالوكالة المنجزة المشروط فيها التصرّف بعد وقت حتى لو قال له الموصى: «إذا مت فأنت وصيّى فى كذا» وقعت لغواً.

وثالثها: اعتبارها من حين الوصيّة إلى حين الوفاة، و هو مختار الشهيد في الدروس (2). أمّا حين الوصيّة؛ فلما تقدّم في توجيه القول الأول. وأما استمرارها إلى حين الوفاة؛ فلأنّ الوصاية من العقود الجائزة، فمتى عرض اختلال أحد شرائطها بطلت كنظائرها، ولأنّ المعتبر في كلّ شرط حصوله في جميع أوقات المشروط، فمتى اختل في أثناء الفعل وجب فوات المشروط، إلا ما استثني في قليل من الموارد بدليل خارج.

وربما يقال: إنّه لا يستثنى منه شيء؛ لأنّ ما خرج عن ذلك يدعى أن الفعل المحكوم بصحته عند فوات الشرط ليس مشروطاً به مطلقاً، بل في بعض الأحوال دون بعض. وهذا أولى.

ورابعها: أن المعتبر وجود الشرائط من حال الوصيّة إلى أن ينتهي متعلّقها، بأن يبلغ الطفل ويخرج الوصايا ويقضى الديون وغير ذلك؛ لأن اشتراط هذه الأمور يقتضي فوات مشروطها متى فات بعضها في كل وقت. فلو فرض فوات بعضها بعد الوصية إلى قبل انتهاء الولاية بطلت. وهذا هو الأقوى.

واعلم أنّ الذي يقتضيه كلام الأصحاب وغيرهم من الباحثين في هذه المسألة أن من

ص: 415


1- راجع الدروس الشرعية، ج 2، ص 263 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ وجامع المقاصد، ج 11، ص 281.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 263 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

......

------

يعتبر وجود الشرائط حالة الوصية لا يعتبر استمرارها إلى حالة الموت، وإلا لكان القول الأول هو القول الثالث، مع تصريحهم بأنّ الأقوال ثلاثة، بل صرّح بعضهم بأن المعتبر في القول الأوّل وجوده حالة الوصيّة خاصة.

وممّن صرّح بذلك الشهيد في الدروس؛ فإنّه قال:

هذه الشروط معتبرة عند الوصية إلى حين الموت، فلو اختل أحدها في حالة من ذلك بطلت. و قيل: يكفي حين الوصية، و قيل: حين الوفاة (1).

فقوله «و قيل: يكفي حين الوصية» تصريح بأن القائل بذلك يكتفي بوجودها حينها و إن لم يستمر. وهذا واضح.

و في التذكرة نقل الأقوال الثلاثة الأول أيضاً حتى عن الشافعية، وأنهم جعلوا اعتباره في الحالين وما بينهما قو لا ثالثاً (2).

وإنّما نبهنا على ذلك؛ لأنّ ظاهر دليل المشترط يقتضي خلاف ذلك، فإن اختلال الشرائط بعد الوصية وانعقاد العقد لا يفيد الفائدة التي اعتبرت الشرائط لأجلها، خصوصاً بعد الوفاة ومحلّ التصرّف.

اللهمّ إلّا أن يقولوا: إنّ فواتها لا يقدح ما دام حيّاً خاصةً؛ لأنّ الفائدة لا تفوت، فيعتبر وجودها حالة الوصيّة ليصح العقد، و لا يضرّ تجدّد نقيضها إلى حين الوفاة، ثم يعتبر وجودها زمن التصرّف.

وممّا ينبه على إرادتهم ذلك اتفاقهم على أن تجدد الفسق يبطل الوصية (3) حيث نعتبرها و لم يتعرّضوا لغيره من الشروط؛ لندور وقوع خلافه، فإنّ البلوغ لا يطرأ ضدّه، والإسلام كذلك غالباً، وكذلك الحرّيّة. وعلى هذا فيتحد القول الثالث والرابع. ولعلّ هذا أجود.

ص: 416


1- الدروس الشرعية، ج 2، ص 263 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
2- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 511 (الطبعة الحجرية)؛ وراجع المجموع شرح المهذب، ج 6، ص 429 - 430.
3- في «م»: «الوَصاة» بدل «الوصية».

صحة الوصيّة على كلّ من للموصي عليه ولاية

الثانية: ● تصح الوصية على كلّ مَنْ للموصي عليه ولاية شرعية، كالولد و إن نزلوا، بشرط الصغر، فلو أوصى على أولاده الكبار العقلاء، أو على أبيه، أو على أقاربه لم تمض الوصية عليهم. ولو أوصى بالنظر في المال الذي تركه لهم لم يصح له التصرف و لا في ثلثه، وتصح في إخراج الحقوق عن الموصي، كالديون والصدقات.

------

والمحقق الشيخ علي (رحمه الله) فهم أنّ في المسألة قولين خاصةً (1)، بناء على أن القائل ؛ باشتراط حصول الشرائط عند العقد يعتبر استمرارها من حينه إلى الآخر، ومعتبر حصولها عند الوفاة يعتبره كذلك إلى الآخر.

وهذا الفهم من حيث الاعتبار حسن إلا أن كلامهم ينافيه، كما نبهنا عليه سابقاً؛ فإنهم قد صرحوا بإرادة خلاف ذلك، خصوصاً عبارة الشهيد في الدروس (2) وشرح الإرشاد (3).

وعلى كل حال فكلامهم في هذه الأقوال غير محرّر؛ فإنّ اشتراط استمرار الشرائط من حين الوفاة إلى انقضاء الولاية مما لا شبهة فيه؛ ليحصل الغرض المقصود منها، فمن قال: إنّ المعتبر حصولها حال الوفاة قائل باعتبار استمرارها فيه إلى الآخر، ومن قال: إن المعتبر حال الوصية لا يعتبر استمرارها حال الحياة، ثمّ يعتبر وجودها بعد الوفاة. فلا ينضبط الكلام، و لم ينبهوا عليه إلا أن استبطان كلامهم يقتضيه، ولو لا تصريحهم بذلك لكان ما ذكره الشيخ علي (رحمه الله) جيّداً.

وعلى هذا فيتحرّر رجوع الأقوال إلى ثلاثة: اعتبار الشرائط حال الوفاة مستمراً، اعتبارها من حين الوصيّة و إن ارتفعت بعدها حال الحياة، ثمَّ يعتبر وجودها بعد الوفاة مستمرة.

قوله: «تصح الوصية على كل من للموصي عليه ولاية شرعية» إلى آخره.

ص: 417


1- جامع المقاصد، ج 11، ص 281.
2- الدروس الشرعية، ج 2، ص 263 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10).
3- غاية المراد، ج 2، ص 311 - 312 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).

......

------

قد تقدّم ما يدل على هذا الحكم (1)، وبقي ما يتعلق بخصوص هذه العبارة، فإن قوله «تصح الوصيّة على كلّ من للموصي عليه ولاية شرعيّة» يدخل فيه الأب إذا أوصى على الولد مع وجود الجد؛ فإنّه يصدق أنّ الموصي له عليه ولاية فإنّ ولايته حالة الوصية وحالة الحياة ثابتة قطعاً، وإنّما انتقلت إلى الجد بعد وفاته.

ولو حمل على إرادة من له عليه ولاية حال التصرف و هو ما بعد الموت - لم يصح أيضاً؛ لأن المعتبر حصول الشرط حالة الوصية مستمراً كما مر (2).

ولو أُريد مَنْ له عليه ولاية مستمرة إلى ما بعد الموت ففيه: أن الموت يقطع الولاية فلا يتم أيضاً. وكان الأنسب التقييد بانتفاء الجدّ كالسابقة.

وقوله «بشرط الصغر» فيه قصور أيضاً؛ لأن شرط الصغر غير كافٍ، بل يشترط عدم الكمال؛ إذ لو ارتفع الصغر واستمرّ مجنوناً أو سفيهاً بقيت ولاية الأب مستمرة، كما مرّ في بابه (3). والكلام في صحة الوصيّة في إخراج الحقوق مع الوصيّة على الكاملين كما سلف من افتقارها إلى لفظ يدلّ على جعله وصيّاً في الجميع (4)؛ ليصح فيما له فيه الولاية، ويبطل في الباقي.

واعلم أنه على تقدير نصب وصيّ في إنفاذ الوصية ووفاء الديون مع كون الورثة كباراً ليس للوصي التصرّف في التركة لأجل ذلك إلا بإذنهم؛ لأنّ لهم إمساكها وقضاء الدين من مالهم؛ بناءً على القول المنصور من انتقال التركة إليهم بالموت مطلقاً (5)، وإنما تظهر فائدته في نفس التصرّف.

ص: 418


1- تقدّم في ص 410 وما بعدها.
2- مر في ص 417.
3- مرّ في ج 3، ص 69.
4- سبق في ص 411.
5- من القائلين به الشيخ في الخلاف، ج 4، ص 146، المسألة 18؛ والمبسوط، ج 3، ص 235.

يجوز لمن يتولّى أموال اليتيم أخذ الأُجرة

القيم على اليتيم هل يأخذ أُجرة المثل أو قدر الكفاية؟

الثالثة: ● يجوز لمن يتولّى أموال اليتيم أن يأخذ أُجرة المثل عن نظره في ماله. و قيل: يأخذ قدر كفايته. و قيل: أقل الأمرين. والأوّل أظهر.

------

ثمَّ إن دفعوا إليه من مالهم ما تنفذ فيه الوصية أو أذنوا له في بعض التركة فلا إشكال، و إن امتنعوا ألزمهم بأحد الأمرين: إما البيع، أو الأداء من مالهم لتبرأ ذمة الموصي، فإن لم يمكن ذلك رفع أمره إلى الحاكم إن اتفق؛ ليلزمهم بأحد الأمرين، أو يبيع عليهم؛ لأنه وليّ الممتنع من أداء الحق. فإن تعذر جميع ذلك جاز له أن يبيع من التركة ما يقضي به الوصية، ويو في به الدين، مراعياً في ذلك الأصلح للبيع بالنسبة إليهم فالأصلح إن أمكن بيعه، وإلا باع الممكن و يحتمل تخيّره في المال مطلقاً مع امتناعهم؛ لأنّ الدين مقدم على الإرث، والضرر جاء من قبلهم. والأوّل أولى.

هذا كله مع إطلاق الوصاية بقضاء الدين. أما لو أوصى إليه ببيع شيء من تركته في قضاء دينه لم يكن للورثة إمساكه، بل كان للوصى امتثال أمر الموصى. و کذا لو قال: «ادفع هذا العبد مثلاً إليه عوضاً من دينه»؛ لأنّ في أعيان الأموال أغراضاً.

قوله: «يجوز لمن يتولى أموال اليتيم أن يأخذ أجرة المثل عن نظره في ماله» إلى آخره.

المراد بالمتولّي لمال اليتيم من له عليه ولاية شرعيّة، سواء كانت بالأصالة، كالأب والجد، أم لا، كالوصي. وقد اختلف في قدر ما يجوز له أخذه على أقوال:

أحدها: أن يأخذ أجرة مثل عمله - و هو اختيار المصنّف - لأنّها عوض عمله، وعمله محترم، فلا يضيع عليه، وحفظه بأجرة مثله.

الثاني: أن يأخذ قدر كفايته (1)؛ لظاهر قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (2). والمعروف ما لا إسراف فيه و لا تقتير.

الثالث: أن يأخذ أقل الأمرين من الأجرة والكفاية (3)؛ لأنّ الكفاية إن كانت أقل من

ص: 419


1- من القائلين به الشيخ في النهاية، ص 361؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 211.
2- النساء (4): 6.
3- قال به الشيخ في المبسوط، ج 2، ص 106.

......

------

الأجرة فلأنه مع حصولها يكون غنيّاً، ومن كان غنيّاً يجب عليه الاستعفاف؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِف﴾ (1)، والأمر للوجوب، فيجب عليه الاستعفاف عن بقية الأُجرة. و إن كانت أجرة المثل أقل فإنّما يستحق عوض عمله، فلا يحلّ له أخذ ما زاد عليه، ولأنّ العمل لو كان لمكلّف يستحق عليه الأُجرة لم يستحق أزيد من أُجرة مثله، فكيف يستحق الأزيد مع كون المستحق عليه يتيماً؟! و في صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق علیه السلام قال: سئل وأنا حاضر عن القيم لليتامى في الشراء لهم والبيع فيما يصلحهم، أله أن يأكل من أموالهم؟ فقال: «لا بأس أن يأكل من أموالهم بالمعروف، كما قال الله تعالى في كتابه ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَمَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ انَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَلَهُمْ و لا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (2) هو القوت وإنّما عنى فليأكل بالمعروف الوصيّ لهم والقيم في أموالهم ما يصلحهم» (3).

والتحقيق أن الأكل بالمعروف يحتاج إلى تنقيح، فإن أُريد به الأكل المتعارف كما يظهر من الآية والرواية - وجعل مختصاً بالولى لا يتعدّى إلى عياله فلا منافاة بين الفقر، وحصول الكفاية منه بهذا الاعتبار؛ لأنّ حصول القوت يحتاج معه إلى بقية مؤونة السنة من نفقة وكسوة ومسكن وغيرها، حتى يتحقق ارتفاع الفقر إن لم يشترط حصول ذلك في بقية (4)، عياله الواجبي النفقة.

وحينئذٍ فقولهم في الاستدلال بثبوت أقل الأمرين: إنّه مع حصول الكفاية يكون غنيّاً، فيجب عليه الاستعفاف عن بقيّة الأجرة غير صحيح.

ص: 420


1- النساء (4): 6.
2- النساء (4): 6.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 244، ح 949.
4- في بعض النسخ: «نفقة» بدل «بقية».

......

------

و إن أُريد به مطلق التصرف كما هو المراد من قوله: ﴿و لا تَأْكُلُوهَا إِسْرَانًا وَبِدَارًا﴾ (1). ﴿و لا تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَنطِلِ﴾ (2). ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ اليَتَمَى ظُلْمًا﴾ (3) وغير ذلك - فقيد المعروف من ذلك غير واضح المراد ليعتبر معه أقل الأمرين؛ لأنّ التصرّف على هذا الوجه يختلف باختلاف الأشخاص والحاجة، وربما أدّى ذلك إلى الإضرار بمال اليتيم. وقوله في الرواية: «هو القوت» تخصيص لمعنى الأكل، إلا أنه ليس بصريح في اختصاصه بأكله بنفسه؛ لما عرفت من أنّ الأكل يستعمل لغةً فيما هو أعم من ذلك (4).

و على كلّ معنى فسر الأكل لا يتم الحكم فيه على إطلاقه؛ لأنّ العمل ربما كان قليلاً والقوت كثيراً، فيؤدي إلى الإضرار باليتيم زيادةً على المكلّف، فاعتبار أجرة المثل مطلقاً أجود. ويمكن حمل الأمر بالمعروف عليه؛ لأنّ أجرة المثل إن كانت أقل فالمعروف بين الناس أنّ الإنسان لا يأخذ عوض عمله من غير زيادة عن عوضه المعروف و هو أجرة مثله ومثل هذا يسمّى أكلاً بالمعروف والزيادة عليه أكلاً بغير المعروف.

هذا إذا كان فقيراً، أما لو كان غنيّاً فالأقوى وجوب استعفافه مطلقاً؛ عملاً بظاهر الآية، وبذلك يتحقق قول رابع، و هو استحقاق أجرة المثل مع فقره.

و ذهب بعضهم (5) إلى قول خامس، و هو جواز أخذ أقل الأمرين من أجرة مثله، وكفايته مع فقره. ولو تحقق للكفاية معنى مضبوط كان هذا القول أجود الأقوال.

ومثبتو أحد الأمرين من غير تقييد بالفقر حملوا الأمر بالاستعفاف على الاستحباب وادعوا أنّ لفظ «الاستعفاف» مشعر به، وله وجه.

ص: 421


1- النساء (4): 6.
2- البقرة (2) 188.
3- النساء (4) 10.
4- لم نتحققه فيما تقدم.
5- كالشيخ في المبسوط، ج 2، ص 106: والخلاف، ج 3، ص 179، المسألة 295.

......

------

واعلم أنّ هذا كله مع نيّة أخذ العوض بعمله، أما لو نوى التبرع بعمله لم يكن له أخذ شيء .مطلقاً. ولو ذهل عن القصد فالظاهر جواز الأخذ؛ لأنّه مأمور بالعمل من الشارع فيستحق عوضه ما لم ينو التبرع؛ لأنه عمل محترم، كما لو أمره مكلّف بعمل له أجرة في العادة، فإنّه يستحق عليه أجرة المثل ما لم ينو التبرع، كما ذكروه في بابه، خصوصاً إذا قلنا بجواز أخذه الكفاية؛ للإذن فيها من الله تعالى من غير قيد فيشمل ما إذا نوى العوض أو لم ينو.

ص: 422

[الفصل] السادس في اللواحق

اشارة

وفيه:قسمان:

القسم الأوّل: وفيه مسائل:

إذا أوصى لأجنبي بمثل نصيب أحد ورثته وعينه

المسألة الأولى: ● إذا أوصى لأجنبي بمثل نصيب ابنه وليس له إلا واحد فقد شرك بينهما فى تركته، فللموصى له النصف، فإن لم يجز الوارث فله الثلث ولو كان له ابنان كانت الوصية بالثلث. ولو كان له ثلاثة كان له الربع والضابط أنه يضاف إلى الوارث، ويجعل كأحدهم إن كانوا متساوين.

و إن اختلفت سهامهم جعل مثل أضعفهم سهماً، إلّا أن يقول مثل أعظمهم، فيعمل بمقتضى وصيّته.

------

قوله: «إذا أوصى لأجنبي بمثل نصيب ابنه - إلى قوله - ويجعل كأحدهم».

إذا أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته وعينه كابنه - صحت الوصية من الثلث إجماعاً، واختلف في تقديره، فالمعروف من مذهب علمائنا أنّ الموصى له يكون بمنزلة وارث آخر، فيضاف إلى الورثة ويتساوى الموصى له والوارث إن تساووا، و إن تفاضلوا جعل كأقلّهم نصيباً؛ لأنّ ذلك هو المتيقن والزائد مشكوك فيه. فلو كان له ابن واحد وأوصى بمثل نصيبه لزيد فرض كأنّ له ابنين، فتكون الوصيّة بالنصف، فإن أجاز الابن أخذ الموصى له النصف، والابن النصف، و إن ردّكان للموصى له الثلث، والباقي للابن. ولو كان له ابنان فأوصى بمثل نصيب أحدهما فللموصى له مثل نصيب أحدهما مزاداً على الفريضة، ويكون كواحد منهم زاد فيهم، وعلى هذا.

ص: 423

......

------

وقال جماعة من العامة:

إنه يعطى مثل نصيب المعيّن أو مثل نصيب أحدهم إذا كانوا متساوين من أصل المال. ويقسم الباقي بين الورثة إن تعدّدوا؛ لأن نصيب الوارث قبل الوصيّة من أصل المال، فإذا أوصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد فالوصية بجميع المال، و إن كان اثنان فالوصية بالنصف، و إن كانوا ثلاثةً فله الثلث (1).

ومال إليه العلامة في التحرير، وجعله قريباً من الصواب، ثمَّ رجّح مذهب الأصحاب (2).

وأجيب عن حجتهم بأن التماثل يقتضي شيئين، والوارث لا يستحق شيئاً إلا بعد الوصية النافذة، فالوارث الموصى له بمثل نصيبه لا نصيب له إلا بعد الوصية، وحينئذ فيجب أن يكون مال الموصى له (3) مماثلاً لنصيبه بعد الوصية. وعلى ما ذكروه من أن الوصية مع الواحد بالجميع، ومع الاثنين بالنصف ومع الثلاثة بالثلث - لا يكون هناك نصيب للوارث مماثلاً لنصيب الموصى له، و هو خلاف مدلول الوصية، فيكون تبديلاً لها.

والضابط عندنا أن يعتبر نصيب الموصى له بعد الوصيّة، فيقام فريضة الميراث ويزاد عليها مثل سهم الموصى بنصيبه، وعند أولئك الباقين يعتبر نصيب الموصى له بنصيبه لو لم يكن وصيّة. واعلم أنّ هذه المسألة وأشباهها من المسائل الدورية؛ لأن معرفة نصيب الوارث متوقفة على إخراج الوصيّة، ومعرفة نصيب الموصى له إنّما تكون إذا عرف نصيب الوارث، إلا أن التخلّص منها سهل بغير طريقة الجبريين وغيرهم؛ فلذلك لم يتعرّضوا لها هنا، وسيفرض المصنّف أمثلة لمن جعل للموصى له مثل نصيبهم مع تساويهم في الميراث، ومع اختلافهم وجعله له مثل أقلهم ومثل أعظمهم، وبتقريره يتحرّر ما أجمله المصنّف في هذه المسألة.

ص: 424


1- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 479 المسألة 4627؛ وحلية العلماء، ج 6، ص 104 - 105: والمجموع شرح المهذب، ج 15، ص 475 - 476.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 2، ص 354، الرقم 4782.
3- في الحجرية: «ما للموصى له بدل مال الموصى له».

● فلو قال له: «مثل نصيب بنتي» فعندنا يكون له النصف إذا لم يكن وارث سواها، ويرد إلى الثلث إذا لم تجز.

ولو كان له بنتان كان له الثلث؛ لأنّ المال عندنا للبنتين دون العصبة، فيكون الموصى له كثالثة.

● ولو كان له ثلاث أخوات من أُمّ وإخوة من أب فأوصى لأجنبي بمثل نصيب أحد،ورثته كان كواحدة من الأخوات، فيكون له سهم من عشرة، وللأخوات من الأُمّ ثلاثة، وللإخوة ستة.

------

قوله: «ولو قال له مثل نصيب بنتي - إلى قوله - فيكون الموصى له كثالثة».

إذا أوصى له بمثل نصيب بنته و لا وارث سواها فعندنا له النصف إن أجازت، والثلث إن لم تجز؛ لأنّها تأخذ المال كله بالفرض والردّ فيكون حكمها حكم الابن في الوصية بمثل نصيبها.

ولو كان له بنتان فله الثلث؛ لأنّ المال عندنا للبنتين دون العصبة، فيكون الموصى له كبنت أخرى و هو واضح.

وعند العامة لو كان له بنت وأوصى بمثل نصيبها فالوصيّة بالثلث (1)؛ لأنّ المسألة عندهم اثنين للبنت،واحد وللعصبة واحد لو لم يكن وصيّة، فيزيد على الاثنين سهماً، ويعطيه من سهماً من ثلاثة.

ولو كان له ابنتان فالوصيّة بالربع؛ لأنّ المسألة من ثلاثة لو لا الوصيّة، لكلّ واحدة سهم، وللعصبة سهم، فيزيد للموصى له سهماً تبلغ أربعة. وإلى الرد على هذا أشار المصنف بقوله «لأنّ المال عندنا للبنتين دون العصبة».

قوله: «ولو كان له ثلاث أخوات من أمّ، وإخوة من أب» إلى آخره.

ص: 425


1- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 484، المسألة 4635: والمجموع شرح المهذب، ج 15 ص 478؛ وحلية العلماء، ج 6، ص 107.

● ولو كان له زوجة وبنت وقال: «مثل نصيب بنتي» فأجاز الورثة كان له سبعة أسهم وللبنت،مثلها، وللزوجة سهمان. و لو قيل لها سهم واحد من خمسة عشر كان أولى.

------

هذه من صور ما لو أوصى بمثل نصيب أحد ورثته من غير تعيين، وكانوا مختلفين في النصيب، ونزلت الوصية على مثل أقلهم نصيباً؛ فإنّ للأخوات من الأم الثلث وللإخوة الثلثين، فأصل الفريضة من ثلاثة، ثمَّ تنكسر على الفريقين، وعددهما متماثل على تقدير كون الإخوة ثلاثة، فيضرب عدد أحدهما في أصل الفريضة تبلغ تسعة، للأخوات الثلاث ثلاثة، لكلّ واحدةٍ سهم، وللإخوة ستة. فإذا أوصى بمثل نصيب أحدهم حمل على نصيب أقلهم و هو الأخوات، فتزيد الفريضة واحداً تبقى عشرة؛ لما عرفت من أنّ الضابط تصحيح الفريضة بين الورثة ثمَّ زيادة نصيب الموصى له عليها (1) فالوصيّة هنا بعشر التركة.

واعلم أن الحمل على نصيب الأخوات وأنّه أقل مبنى على كون الإخوة للأب ثلاثة. بحيث يتحقق معهم الجمع كما ذكرناه، ويصح مع كونهم أربعة وخمسة، فلو كانوا ستة فصاعداً لم يتمّ المثال، مع أنّ تعبيره بالإخوة من غير بيان عددهم يشمل ذلك وزيادة، كما لا يخفى.

قوله: «ولو كان له زوجة وبنت وقال: مثل نصيب بنتي» إلى آخره.

هذا مثال لما لو أوصى له بمثل نصيب أعظمهم. وطريقه على ما سبق أن تصحح فريضة الميراث أوّلاً، وهي هنا من ثمانية، للزوجة الثمن سهم وللبنت الباقي، و هو سبعة أسهم، ويزاد عليها مثل نصيب من أضيف إليه الوصية وهي هنا البنت، فيكون مجموع التركة خمسة عشر. هذا هو الصواب الذي جعله المصنف أولى، و هو متعين.

وأما ما ذكره أو لا من جعلها ستة عشر للزوجة سهمان، ولكلّ واحد من البنت والموصى له سبعة، فهو قول الشيخ (رحمه الله) (2) و هو سهو من قلمه؛ لأنّه على هذا التقدير تكون

ص: 426


1- سبق في ص 424.
2- المبسوط، ج 3، ص 201 - 202.

......

------

الوصيّة من نصيب البنت خاصةً، ويكون سهم الزوجة تاماً من أصل التركة؛ لأنّ الاثنين تُمن الفريضة التي هي ستة عشر، والواجب أن تكون الوصيّة من أصل التركة، ويدخل النقص بها على جميع الورثة في كلّ واحد بنسبة استحقاقه، فيكون من خمسة عشر؛ عملاً بالطريق السابق، و هو تصحيح فريضة الميراث، ثمَّ زيادة مثل نصيب من أضيف إليه الوصية؛ ليشترك الجميع في النقص.

هذا كله مع إجازة الورثة. ولو لم تجز فالمسألة من اثني عشر، له الثلث أربعة، والثمانية بين الزوجة والبنت على أصل الفريضة الشرعية للزوجة سهم، وللبنت سبعة. ولو أجازت إحداهما خاصةً ضربت إحدى الفريضتين في وفق الأخرى تبلغ ستين؛ لأنّ بين الاثني عشر والخمسة عشر توافقاً بالثلث، فيضرب ثلث أحدهما في الأُخرى، فمن أجاز ضرب نصيبه من مسألة الإجازة في وفق مسألة الردّ، ومن ردّ ضرب نصيبه من مسألة الردّ في مسألة الإجازة، فذلك نصيبه، والباقي للموصى له.

وهذا ضابط في كلّ ما يرد عليك في إجازة البعض وردّ الآخرين. فلو فرض كون الفريضتين متباينتين ضربت إحداهما في الأخرى، ونصيب مَنْ أجاز من مسألة الإجازة في مسألة الردّ، ونصيب من ردّ في مسألة الإجازة. فلو كان المجيز البنت فنصيبها من مسألة الإجازة سبعة من خمسة عشر، تضربها في أربعة، وفق مسألة الرد، تبلغ ثمانية وعشرين، فهو نصيبها من الستين. وللزوجة واحد من اثني عشر مسألة الردّ، تضربه في وفق مسألة الإجازة - و هو خمسة من خمسة عشر - تبلغ خمسة فهي نصيبها من الستين. والباقي - و هو سبعة وعشرون - للموصى له.

ولو كان المجيز هو الزوجة ضربت نصيبها من مسألة الإجازة و هو واحد - في أربعة وفق مسألة الردّ، فلها أربعة ونصيب البنت من مسألة الردّ - و هو سبعة من اثني عشر - في وفق مسألة الإجازة - و هو خمسة - تبلغ خمسة وثلاثين، والباقي - و هو أحد وعشرون - للموصى له فله مع إجازتهما ثمانية وعشرون وللبنت كذلك، وللزوجة أربعة. ومع ردّهما

ص: 427

● ولو كان له أربع زوجات وبنت فأوصى بمثل نصيب إحداهنّ كانت الفريضة من اثنين وثلاثين، فيكون للزوجات الثمن أربعة بينهنّ بالسوية، وله سهم كواحدة، ويبقى سبعة وعشرون للبنت. ولو قيل من ثلاثة وثلاثين كان أشبه.

------

عشرون، وللبنت خمسة وثلاثون، وللزوجة خمسة. ومع إجازة إحداهما يأخذ الموصى له التفاوت.

ولو انعكس الفرض بأن أوصى له بمثل نصيب الزوجة وأجازا فللموصى له التسع؛ لأنك تزيد نصيب الزوجة و هو واحد على الفريضة. ووهم الشيخ هنا أيضاً فجعل للزوجة سهماً من ثمانية وللموصى له سهماً وللبنت ستة (1)، فأخرج الوصية من نصيب البنت خاصةً، والصواب إدخال نصيبه عليهما، فيكون من تسعة.

قوله: «ولو كان له أربع زوجات وبنت فأوصى بمثل نصيب إحداهن - إلى قوله كان أشبه».

القول الأول للشيخ أيضاً (2). أصل الفريضة ثمانية، نصيب الزوجات الأربع منها واحد ينكسر عليهن، فتضرب عددهن في الفريضة تبلغ اثنين وثلاثين، فأعطى الشيخ الزوجات أربعةً تمام نصيبهن، وجعل نصيب الموصى له مأخوذاً من نصيب البنت خاصّةً، و هو خطأ كما مرّ (3).

والقاعدة أن يفرض له،واحد كإحدى الزوجات، ويزاد على الفريضة ليدخل النقص على الجميع، فيكون له واحد من ثلاثة وثلاثين. و هو واضح.

ولو كانت الوصية بمثل نصيب البنت الحقت ثمانية وعشرين مقدار نصيبها بأصل الفريضة تبلغ ستين إن أجازوا الوصية. و إن ردّوا ألحقت نصف الفريضة بها، ليصير للموصى له ثلث المجموع، ويكون الثلثان قائمين بالفريضة، فيكون من ثمانية وأربعين للموصى له ثلثها ستة عشر وللزوجات أربعة وللبنت ثمانية وعشرون.

ص: 428


1- المبسوط، ج 3، ص 201 - 202.
2- المبسوط، ج 3، ص 201 - 202.
3- مرّ في ص 426 – 427.
لو أوصى لأجنبي بمثل نصيب ولده

المسألة الثانية: ● لو أوصى لأجنبي بنصيب ولده، قيل: تبطل الوصية؛ لأنها وصية بمستحقه. و قيل: تصح، ويكون كما لو أوصى بمثل نصيبه. و هو أشبه.

------

ولو أجازت إحداهن ضربت وفق مسألة الإجازة - و هو هنا جزء من اثني عشر هو نصف السدس - في مسألة الرد أو بالعكس، فتضرب خمسةً في ثمانية وأربعين، أو أربعة في ستين تبلغ مائتين وأربعين، فمَنْ أجاز أخذ نصيبه من مسألة الإجازة مضروباً في وفق مسألة الردّ، ومَنْ ردّ أخذ نصيبه من مسألة الردّ مضروباً في وفق مسألة الإجازة. فمع إجازة البنت يكون لها مائة واثنا عشر، هو الحاصل من ضرب ثمانية وعشرين في أربعة، وللزوجات عشرون، هي الحاصل من ضرب أربعة في خمسة، والباقي و هو مائة وثمانية - للموصى له. ومع إجازة الزوجات جمع دون البنت يكون لهنّ ستة عشر مضروب أربعة في أربعة، وللبنت مائة وأربعون، والباقي هو أربعة وثمانون - للموصى له ولو أجاز بعض الزوجات فله نصيبها من المجاز، و هو سهم واحد يضاف إلى ما يصيبه.

قوله: «لو أوصى لأجنبي بنصيب ولده قيل: تبطل الوصية» إلى آخره.

القول بالبطلان للشيخ معللاً بما ذكره المصنف من أنها حينئذ وصيّة بمستحق الولد (1). فكانت كما لو قال «بدار ابني».

واستدلوا عليه أيضاً بأن صحة الوصية موقوفة على بطلانها؛ لتوقف صحتها على أن يكون للابن نصيب، و لا يكون له نصيب حتى تبطل هذه الوصيّة؛ لأن الابن لا يملك الموصى به؛ لقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بها أَوْ دَيْنِ﴾ (2)، وبأن بطلانها لازم لكلّ واحد من النقيضين؛ فإنّه إن ثبت للابن نصيب امتنعت صحتها؛ إذ لا يملك الموصى به لما ذكر، و کذا إن لم يثبت له نصيب؛ لانتفاء متعلّق الوصيّة فإنّ متعلّقها نصيبه.

و وجه ما اختاره المصنف من الصحة أنّ الولد ليس له نصيب الآن حقيقةً، وإنما يصير له

ص: 429


1- المبسوط، ج 3، ص 202.
2- النساء (4): 11.

......

------

نصيب بعد موت مورّثه، فإضافة النصيب إليه حال الوصية مجاز في كونه جميع التركة فكأنه قال: إنّ جميع التركة لفلان التي هي نصيب ابني لو فرض كونه وارثاً لها وحده من غير مزاحم له من وصيّة و لا غيرها. وهذا المعنى و إن كان مجازاً إلا أنه ليس هناك معنى حقيقي يمكن حمله عليه حتى يقال: تقدم الحقيقة على المجاز.

لا يقال: معناه الحقيقي كون الوصية بنفس نصيبه، و لا نصيب له، فيكون الوصية باطلة، نظراً إلى الحمل على الحقيقة.

لأنا نقول: مثل هذا وارد في قوله أعطوه مثل نصيب ابني» فإن ابنه لا نصيب له الآن حقيقةً، وإنّما أطلق نصيبه عليه مجازاً، فكما حكمتم بالصحة هناك فكذا هنا لاشتراكهما في المفهوم، و إن المراد بنصيبه في الحالتين ما يخصه بعد الموت من التركة، وهذا مجاز شائع لا ضرر في استعماله، بل لا يفهم من اللفظ غيره.

وبالجملة فإنّه كناية عن مجموع التركة لا يفيد كونه مستحقاً للوارث حتى يتناقض الكلام، ويكون وصيّةً بمال الغير. وبما قررناه يندفع جميع ما أورده في هذا الباب على القول بالصحة.

وأما ما احتجوا به على البطلان فجوابه منع كون الوصية بمستحق الولد، بل بجميع التركة كما بيّناه (1). وفرق بين وصيته بدار ابنه وبنصيبه في الميراث؛ فإنّ دار ابنه لا حق للموصي فيها، بخلاف التركة التي تكون نصيب ابنه لو لم يخلّف غيره و لم يوص منها بشيء؛ فإنّ التركة حال الوصية مملوكة للموصي، و إن كان قد تعلّق بها حق ابنه على وجه تصح إضافة النصيب إليه بعد الموت بطريق المجاز. وكذلك نمنع من كون صحتها على هذا التقدير موقوفةً على بطلانها؛ لأنّ المراد بنصيبه لو لا الوصيّة كما قرّرناه. وهذا هو الجواب عن قولهم: إن بطلانها لازم للنقيضين.

ص: 430


1- تقدم قبيل هذا بقليل.

......

------

إذا تقرر ذلك فنقول: إن حكمنا بالصحة ففي حمل الوصيّة على كونها بجميع التركة، أو بنصفها على تقدير اتحاد الوارث وجهان:

أحدهما حملها على الجميع، وهذا هو الذي لم يذكر في المختلف (1) غيره.

و وجهه قد ظهر مما قرّرناه، فإن نصيب الولد على تقدير انحصار الوارث فيه جميع التركة، فتكون الوصيّة بنصيبه وصيّة بالجميع.

والثاني: حملها على النصف، كما لو قال: «له مثل نصيب ابني»؛ لأنه لما تعذر حمل «النصيب» على الحقيقة حملناه على مجازه، و هو «المثل» فيلزمه حكمه.

وفيه نظر؛ لأنّ المثل هنا غير المثل فيما لو صرّح به، فإنّه مع التصريح به يكون نصاً على تشريكه معه، فلزم منه حمل المثل على كونه مثله بعد الوصيّة، وأما هنا فإنّما أوصى له بنفس نصيبه الذي هو كناية عن مجموع التركة والمثل إنّما صاروا إليه من حيث إنّه لا نصيب للابن الآن على ما قرّرناه، أو لأنّ حملها على نفس النصيب يوجب البطلان فحملوها على المثل؛ لتعذر الحمل على الحقيقة لذلك.

وهذا المصير غير مرضي؛ لأنّ مجرّد البطلان على تقدير حملها على نفس النصيب لا يقتضي العدول عنه، وصرفه إلى المجاز ليصح، بل الوجه فيه ما قرّرناه سابقاً. وعليه فالمثل يراد به مجموع التركة لا مشاركة الموصى له للولد. ومما حققناه يظهر أنّ كلّ من حمل هذه الوصيّة على المثل وأطلق لا يعلم منه إرادة أحد الأمرين، و لا يتحقق مذهبه منهما إلا بدليل خارجي.

والذي نختاره في المسألة أنّ الموصي إن قصد بكلامه هذا نفس مستحقه على تقدير الموت فالوصية باطلة. و إن قصد نصيبه الذي يتبادر لكلّ أحد من أنّ الولد الواحد إذا انحصر الإرث فيه يكون نصيبه جميع التركة، فالوصيّة بجميع التركة و إن قصد به كون الموصى له

ص: 431


1- مختلف الشيعة، ج 6، ص 308. المسألة 88.

......

------

شريكاً للابن في نصيبه بتقدير المثل فالوصيّة بالنصف. وهذا كله لا إشكال فيه. و إن أطلق اللفظ مريداً مقتضاه من غير أن يلحظ شيئاً بخصوصه يكون موصياً بجميع التركة كما حققناه.

واعلم أنّ المحقق الشيخ علي (رحمه الله) ذكر في شرحه: أنّ للفقهاء في المسألة قولين خاصةً، أحدهما البطلان والثاني: الحمل على المثل بمعنى المشاركة بالنصف، كما لو أوصى له بمثل نصيبه. وذكر أنّ الاحتمال الثالث و هو حمله على الوصية بالجميع - مختص به لم يتعرّض إليه أحد (1).

وهذا عجيب منه، فإنّ هذا الاحتمال الثالث لم يذكر الأكثر غيره، فضلاً عن أن لا يكون مذكوراً. قال في المختلف - بعد أن نقل في المسألة قولين: البطلان، وصحة الوصية، ويكون بمنزلة ما لو أوصى له بمثل نصيب ابنه - ما هذا لفظه:

والمعتمد الأوّل لنا: أنّه أوصى بما هو حق للابن فيبطل كما لو قال: «بدار ابني». احتج الآخرون بأنّ اللفظ يحمل على مجازه عند تعذر حمله على الحقيقة، ولأنه وصيّة بجميع المال في الحقيقة، ولو أوصى له بجميع ماله لم تكن الوصية باطلة (2). انتهى.

وهذا كما ترى صريح في أنّه فهم من القائل بالصحة والحمل على المثل إرادة الجميع فكيف لا يكون مذكوراً لأحد؟!

وقال في التذكرة:

إذا أوصى له بنصيب وارث فإن قصد المثل صحت الوصيّة إجماعاً، و إن قصد العين بطلت الوصية، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. وقال مالك وأهل البصرة وابن أبي ليلى وزفر و داود تصح الوصية؛ لأنّ ذلك وصيّة بجميع المال (3). انتهى.

ص: 432


1- جامع المقاصد، ج 10، ص 239 - 240.
2- مختلف الشيعة، ج 6، ص 308، المسألة 88.
3- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 497 (الطبعة الحجرية). ولمزيد الاطلاع على أقوال العامة راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير . ج 6، ص 480، المسألة 4628: والأم، ج 4، ص 119 - 120؛ والمجموع شرح المهذب، ج 15، ص 478.

......

------

و هو قريب من كلامه في المختلف حيث اقتصر على القولين، وحصر القول بالصحة في الوصية بالجميع.

وقال الشيخ في المبسوط:

و إذا كان له ابن فقال: «أوصيت له بنصيب ابني» فإنّ هذه وصيّة باطلة، وقال قوم: تصح الوصيّة، ويكون له كلّ المال (1). انتهى .

و لم يذكر الاحتمال الآخر.

وعلى هذا فيكون مراد مَنْ أطلق الصحة وحمله على المثل صحة الوصية في الجميع؛ لأنّ ذلك هو الموجود في عبارة أصحابنا، وأمّا حمله على النصف كما لو أوصى بلفظ «المثل» فلم يذكره أحد من أصحابنا بخصوصه، وإنّما هو محتمل من إطلاقهم.

نعم، في عبارة الشيخ فخر الدين ما يؤذن بفهمه إرادة النصف من القائل بالصحة؛ لأنه قال في شرحه بعد تقرير القولين:

فعلى الصحة لا فرق بين زيادة لفظة «المثل» وحذفها، فقوله: «أوصيت بنصيبه» مثل: أوصيت بمثل نصيبه، وإنّما فرّق القائل بالبطلان (2).

فهذه العبارة كالصريحة في إرادة المثل،حقيقة، كما لو كان مذكوراً، و هو يقتضي الوصيّة بمشاركة الابن.

وأما الشافعية فقد صرّحوا في كتبهم بأن في المسألة ثلاثة أوجه (3).

قال الرافعى في الشرح الكبير:

لو قال: «أوصيت بنصيب ابني» و لم يذكر لفظ «المثل» فوجهان: أحدهما: أن الوصية باطلة؛ لورودها في حق الغير. والثاني: أنها صحيحة، والمعنى بمثل نصيب ابني،

ص: 433


1- المبسوط، ج 3، ص 202.
2- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 541 - 542.
3- راجع الأم . ج،4، ص 93 والحاوي الكبير، ج 8، ص 197؛ وروضة الطالبين، ج 5، ص 192.
إذا أوصى بضعف نصيب ولده

● ولو كان له ابن قاتل فأوصى بمثل نصيبه قيل: صحت الوصية، و قيل: لا تصح؛ لأنه لا نصيب له. و هو أشبه.

الثالثة ● إذا أوصى بضعف نصيب ولده كان له مثلاه. ولو قال: ضعفاه كان له أربعة. و قيل: ثلاثة. و هو أشبه أخذاً بالمتيقن و کذا لو قال ضعف ضعف نصيبه.

------

فإن صححناها فهي وصيّة بالنصف، كما لو قال: أوصيت بمثل نصيب ابني، وفي التهذيب وجه:آخر أنّها وصيّة بالكلّ (1). انتهى ملخصاً.

والمبسوط والتذكرة جاريان على فروع الشافعية ووجوههم، لكنّهما أخلا بالوجه الثالث، و هو كونها وصيّةً بالنصف مع أنّه أشهر عندهم من الآخر.

والحاصل أنّ حمله على الوصية بالجميع في عبارة أصحابنا أكثر مع وجود الآخر، وحمله على النصف في كلامهم أكثر مع وجود الآخر.

قوله: «ولو كان له ابن قاتل فأوصى بمثل نصيبه قيل: صحت الوصية» إلى آخره.

وجه البطلان ظاهر؛ لما أشار إليه المصنّف من أنّه لا نصيب له، فيكون قوله في قوة أوصيت له بمثل نصيب مَنْ لا شيء له. و بهذا قطع الشيخ في المبسوط (2)، و لم يذكر غيره.

و وجه الصحة حمل الكلام على التقدير؛ صوناً له عن الهذرية، وتقديره: بمثل نصيبه لو لم يكن قاتلاً وضعفه ظاهر.

وفصل في المختلف، فحكم بالبطلان إن كان الموصى عارفاً بأنّ الابن،قاتل و إن القاتل لا نصيب له، والصحة إن جهل أحدهما (3). و هو حسن كما أنه لو قصد الموصى مماثلة نصيبه لو كان وارثاً صحت قطعاً.

قوله: «إذا أوصى بضعف نصيب ولده كان له مثلاه» إلى آخره.

اختلف الفقهاء واللغويون في معنى الضعف، وعليه يبنى الضعفان، فقيل: الضعف المثل،

ص: 434


1- العزيز شرح الوجيز (المعروف بالشرح الكبير )، ج 7، ص 140: وراجع التهذيب في فقه الشافعي، ج 5 ص 66 - 67.
2- المبسوط، ج 3، ص 202.
3- مختلف الشيعة، ج 1، ص 309. المسألة 89.

......

------

قال الجوهري: ضعف الشيء مثله، وضعفاه مثلاه، وأضعافه أمثاله (1).

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام:

الضعف المثل، قال الله تعالى: ﴿يُضاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ (2) أي،مثلين وقال تعالى:

﴿فاتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾ (3) أي مثلين، و إذا كان الضعفان مثلان (4) فالواحد مثله (5).

وقال الأزهري:

الضعف المثل فما فوقه، وليس بمقصور على مثلين، فأقل الضعف محصور في الواحد، وأكثره غير محصوراً (6).

وقال الخليل: الضعف أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثلين أو أكثر (7).

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى ضعف الشيء هو ومثله، وضعفاه هو ومثلاه (8).

وقال في الجمهرة: هذا ضعف هذا الشيء، أي مثله. وقال قوم: مثلاه (9).

و في نهاية ابن الأثير: أنّ الضعف مثلان، قال، و قيل: ضعف الشيء مثله (10).

والأشهر بين الفقهاء ما اختاره المصنف من أنّ الضعف مثلان، بل نقله الشيخ في الخلاف عن عامة الفقهاء والعلماء (11)، و إن كان هذا التعميم لا يخلو من تجوّز، فقد سمعت كلام

ص: 435


1- الصحاح، ج 3، ص 1390، «ضعف».
2- الأحزاب (33) 30.
3- البقرة (2) 265.
4- في المصدر: «مثلین» بدل «مثلان».
5- حكاه عنه ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 481، المسألة 4629.
6- تهذيب اللغة ج 1، ص 426، «ضعف».
7- العين، ج 1، ص 282، «ضعف».
8- حكاه عنه الأزهري في تهذيب اللغة، ج 1، ص 426، «ضعف».
9- جمهرة اللغة، ج 2، ص 92 - 93، «ضعف».
10- النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 89، «ضعف».
11- الخلاف، ج 4، ص 138، المسألة 5.

......

------

أهل اللغة، والفقهاء أيضاً مختلفون كأهل اللغة.

ويشهد للمشهور قوله تعالى: ﴿إِذًا لَّأَذَقْنَكَ ضِعْفَ الْحَيَوَةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾ (1)، أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة مضاعفاً، وقوله تعالى: ﴿فَأُولَتِّيكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِعْفِ﴾ (2)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا ءَاتَيْتُم مِّن زَكَوَةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأَوْلَبِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ (3)، و لم ينقل المصنف خلافاً في الضعف كما نقله غيره أنه المثل (4) - استضعافاً له.

وأمّا ضعفا الشيء فعلى تفسير المثل يكون مثلاه، وعلى المثلين قيل: يكون أربعة أمثاله؛ لأنّ ذلك هو الحاصل من انضمام مثلين إلى مثلين والمصنّف اختار كونه ثلاثة أمثاله؛ لما نقل عن بعض أهل اللغة من أنّ ضعف الشيء هو ومثلاه (5)، فيكون ثلاثة أمثاله. وعلى تقدير حصول الشكّ فيها و في الأربعة لاختلاف أهل اللغة فالمتيقن هو الثلاثة.

و لا يرد أنّ منهم مَنْ جعله مثلين فيكون هو المتيقن أيضاً؛ لضعف هذا القول وشذوذه، فلم يعتد به كما لم يعتد به في المثل، أو يحمل على المجاز؛ لأنه خير من الاشتراك. وعلل أيضاً بأنّ ضعف الشيء ضمّ مثله إليه، فإذا قال: ضعفاه، فمعناه ضمّ مثليه إليه، فيكون ثلاثة.

وأما ضعف الضعف فقد قال المصنف: إنّه كالضعفين، أي فيه القولان، والمختار عنده أنّه ثلاثة أمثاله؛ و ذلك لأنّ من قال: إنّ الضعف مثلان فتضعيفه قدره مرتين، و هو أربعة أمثاله، فيكون الموصى به ضعف ضعف النصيب، ومَنْ قال: إنّه ضمّ مثل الشيء إليه، فتضعيف هذا الضمّ زيادة مرّةً أُخرى، فيكون ثلاثة.

ص: 436


1- الإسراء (17) 75.
2- سبأ (34): 37.
3- الروم (30): 39.
4- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 478؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 258 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 10) والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 259 - 260.
5- راجع تهذيب اللغة. ج 1، ص 426، «ضعف».
إذا أوصى بثلثه للفقراء وله أموال متفرّقة

الرابعة: ● إذا أوصى بثلثه للفقراء وله أموال متفرّقة جاز صرف كلّ ما في بلد إلى فقرائه، ولو صرف الجميع فى فقراء بلد الموصى جاز أيضاً.

------

ويضعف بمخالفته للتفسيرين السابقين للضعف؛ لأنّ مَنْ جعله المثل فالضعف مثلان ومن جعله مثلين لزمه أن يكون تضعيفه أربعة.

وأمّا اعتبار المنضمّ خاصةً ففيه: أنّ الضعف عند هذا القائل هو المجموع من المماثل والزائد، لا نفس الزائد، وإلا لكان هو القول بالمثل.

وبالجملة فالقول بأنّ ضعف الضعف ثلاثة أمثاله ضعيف جداً، وقد وافق المصنّف عليه العلّامة في التذكرة (1) والإرشاد (2).

و في المسألة وجه ثالث: أن ضعف الضعف ستة أمثال، بأن يكون الضعف ومثله معاً هو الموصى به.

ويضعف بأن الوصيّة بالمضاف خاصةً.

ورابع بأنه مثل واحد؛ بناءً على أنّ الضعف هو المثل، فضعف الضعف هو مثل المثل والمثل واحد، فمثله كذلك. وقد عرفت ضعف المبني عليه. وقد ظهر أنّ أرجح الأقوال كون ضعف الضعف أربعة أمثاله.

قوله: «إذا أوصى بثلثه للفقراء وله أموال متفرّقة جاز» إلى آخره.

لا إشكال في جواز صرف كلّ ما في بلد إلى فقرائه؛ لحصول الغرض من الوصية وعدم وجود مانع منه.

وأما صرفه في بلد الموصى فكذلك إن لم يستلزم تغريراً بالمال بسبب نقله، و لا تأخيراً لإخراج الوصيّة مع إمكان التعجيل، وإلّا أشكل الجواز لذلك. نعم، لو فرض عدم المستحق في بلد المال وعدم الخطر في نقله فلا إشكال.

ص: 437


1- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 499 (الطبعة الحجرية).
2- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 465.

● ويدفع إلى الموجودين في البلد، فلا يجب تتبع مَنْ غاب. ● و هل يجب أن يعطى ثلاثة فصاعداً؟ قيل: نعم. و هو الأشبه، عملاً بمقتضى اللفظ.

------

ولو فرض إخراج قدر الثلث في بلد الموصي من المال الموجود فيه وترك الأموال المتفرّقة للورثة مع رضاهم بذلك صح أيضاً؛ لأن المعتبر إخراج ثلث المال بالقيمة لا الإخراج من كلّ شيء، و إن كان إطلاق الثلث يقتضي الإشاعة، إلا أن يتعلّق غرض الموصي بشيء من الأعيان أو بالجميع فيتبع مراده.

ولو كان نقل المال إلى بلد آخر لغرض صحيح كأولوية المستحق فيه، أو لوجود الحاكم فيه، و نحو ذلك - جاز أيضاً، كما يجوز نقل الزكاة الواجبة لذلك و إن لم يجز مطلقاً.

قوله: «ويدفع إلى الموجودين في البلد، و لا يجب تتبع مَنْ غاب».

لأن الفقراء غير منحصرين، فلا يجب الاستيعاب، و لا يتبع من ليس في البلد لذلك. ويفهم منه وجوب استيعاب من في البلد منهم؛ و وجهه أنّ الموصى لهم يستحقون على جهة الاشتراك لا على جهة بيان المصرف كالزكاة. و بهذا يظهر أنّ عدم وجوب التتبع رخصة، وأنه لو صرفه إلى غير الموجودين أو إليهم وإلى غيرهم جاز.

قوله: «و هل يجب أن يعطى ثلاثة فصاعداً؟» إلى آخره.

وجه وجوب الدفع إلى ثلاثة فصاعداً أنّ الفقراء جمع، وأقله ثلاثة على المختار، ومن قال: إن أقله اثنان اكتفى بهما هنا. فعلى هذا لا يجوز أن يقصر عن ثلاثة، فإن لم يوجد في البلد ثلاثة وجب الإكمال في غيره مراعاة للفظ «الجمع»، و إن الحكم ليس لبيان المصرف كما مر - وإلا لاكتفي بالواحد.

ويشكل بأنّه إن كان للاشتراك وجب تتبع الممكن، و إن كان لبيان المصرف لزم الاكتفاء بواحد، فالجمع بين وجوب استيعاب مَنْ في البلد وعدم وجوب صرفه إلى غيرهم مع وجوب الدفع إلى ثلاثة لا يخلو من إشكال ولعلّ الوجه فيه أن مراعاة الجمع توجب الثلاثة فصاعداً، واستيعاب مَنْ حضر لاشتراكهم في الاستحقاق، وعدم وجوب الدفع إلى من عداهم رخصة وتخفيف.

ص: 438

● و کذا لو قال: أعتقوا رقاباً، وجب أن يعتق ثلاثةً فما زاد إلّا أن يقصر ثلث مال الموصي.

------

قوله: «و کذا لو قال: أعتقوا رقاباً وجب أن يعتق ثلاثةً فما زاد» إلى آخره.

وجوب عتق الثلاثة هنا مع سعة الثلث ممّا لا إشكال فيه؛ مراعاة لصيغة الجمع. ولو قصر الثلث عن الثلاثة اقتصر على ما يسعه؛ إذ لا يسقط الميسور بالمعسور.

و لا يرد أن الموصى به مسمّى الجمع وقد تعذر فينبغي أن تبطل الوصية أو يتوقع تنفيذها إن رجي؛ لأن معنى الجمع واحد وواحد وواحد، وإنّما اختصروه بلفظ الجمع، كما نص عليه أهل العربية؛ فإنّهم قالوا: رجال في قوّة رجل ورجل ورجل، فلا يسقط البعض بالعجز عن البعض، كما لو أوصى بعتق الثلاثة مفصلاً بهذا اللفظ.

وعلى هذا فلو قصر الثلث إلا عن واحد و لم يجز الوارث أعتق الواحد. ولو قصر عنه ففي وجوب إعتاق شقص مع الإمكان قولان أقربهما الوجوب (1)، لأن وجوب عتق الجزء ثابت كالكل، ولعموم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (2).

و وجه العدم أنّ لفظ «الرقبة» لا يدلّ على البعض إلا تضمّناً، والدلالة التضمّنية تابعة للمطابقيّة، فإذا فات المتبوع انتفى التابع.

وجوابه: أنّ عتق الرقبة لما لم يتحقق إلا بعتق جميع أجزائها فكلّ جزء مقصود عتقه ومأمور به بالذات لا بالتبعية، فيجب حيث يمكن.

فإن تعذر ففي صرف القدر في البر أو رجوعه إلى الورثة وجهان تقدّم نظيرهما (3)، و إن الأوّل أقوى، مع إمكان صرفه في العتق قبل ذلك في وقت ما بعد الوصية، و الثاني إن تعذر ذلك من الابتداء، مع احتمال صرفه في البرّ مطلقاً؛ لأنّ البر أقرب إلى مراد الموصي من الورثة، وأقرب المجازات متعيّن عند تعذر الحقيقة.

ص: 439


1- قال به أيضاً العلامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 472؛ وفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 537. والقول بعدم الوجوب احتمله المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 10، ص 225.
2- مسند أحمد، ج 2، ص 507 - 0508 ح 7449.
3- تقدم في ص 319 و 354.
إذا أوصى لإنسان بعبد ولآخر بتمام الثلث

الخامسة ● إذا أوصى لإنسان بعبد، ولآخر بتمام الثلث، ثم حدث في العبد عيب قبل تسليمه إلى الموصى له كان للموصى له الآخر تكملة الثلث بعد وضع قيمة العبد صحيحاً؛ لأنه قصد عطيّة التكملة والعبد صحيح، و کذا لو مات العبد قبل موت الموصي بطلت الوصية، وأعطي الآخر ما زاد عن قيمة العبد الصحيح. ولو كانت قيمة العبد بقدر الثلث، بطلت الوصية للآخر.

------

قوله: «إذا أوصى لإنسان بعبد ولآخر بتمام الثلث - إلى قوله - بطلت الوصية للآخر».

إذا أوصى لواحدٍ بعبد معيّن ولآخر بتمام الثلث باعتبار قيمة العبد وضمّه إلى الثلث صحت الوصيتان؛ لوجود المقتضي للصحة فيهما وانتفاء المانع، فيقوم العبد يوم موت الموصي؛ لأنّه حال نفوذ الوصية، وينظر إلى بقية التركة فإن خرج العبد من الثلث صحت وصيته، وينظر بعد ذلك، فإن بقي من الثلث بقيّة فهي للموصى له الثاني، وإلا بطلت وصيته؛ الفوات متعلّقها. وهذا لا إشكال فيه.

وإنّما الكلام فيما لو تغيرت قيمة العبد أو بقية التركة بزيادة أو نقصان قبل موت الموصي أو بعده، وقبل تسليم الموصى له العبد أو بعده، وقبل وصول الثلاثين إلى الورثة أو بعده.

وتحرير الحال أن نقول: قد عرفت أنّ المعتبر في قيمة التركة بحال الوفاة بالنسبة إلى زيادة المال ونقصانه (1)، أو بالأقل من حال الوفاة إلى حين قبض الوارث؛ لأن الوارث لا بد أن يصل إلى يده مقدار ضعف الوصيّة، ولهذا لو كان له مال غائب لا ينفذ من الوصية إلا مقدار ثلث الحاضر و إن كانت خارجةً من الثلث بالنسبة إلى جميع المال. وحينئذ فإذا فرض حدوث نقص في التركة قبل قبض الوارث فالنقص على الموصى له الثاني؛ لأنّ الوصية له بتكملة الثلث بعد الوصيّة الأولى فلا بد من اعتبار إخراج الأولى أولاً.

ولو حدث عيب في العبد قبل تسليمه إلى الموصى له فللثاني تكملة الثلث بعد وضع قيمة العبد صحيحاً؛ لأنّ الموصي قصد عطية التكملة والعبد صحيح، فإذا تجدّد العيب كان

ص: 440


1- راجع ص 291.

......

------

ذلك نقصاً في العين، فلا بد من اعتبار الناقص مع الباقي. فلو فرض أن قيمة العبد صحيحاً مائة وباقي التركة خمسمائة فأصل الثلث مائتان والوصية للثاني بمائة، فإذا تجدّد نقص العبد خمسين مثلاً رجعت التركة إلى خمسمائة وخمسين وثلثها مائة وثلاثة وثمانون وثلث، فإذا وضعت منه قيمة العبد صحيحاً بقي ثلاثة وثمانون وثلث للموصى له.

ويشكل بأن مقتضى الوصيّة الثانية أن يكون بيد الورثة ضعف ما بيد الموصى له الثاني بعد إسقاط الأول، وهنا ليس كذلك؛ لأن الباقي من المال بعد قيمة العبد خمسمائة، فيجب أن يكون نقص العبد محسوباً من التركة بالنسبة إلى الأوّل، فهو كالباقي فالمتجه أن يكون للثاني مائة، والواصل إلى الورثة الثلثان وزيادة.

ولو كان نقص العبد باعتبار السوق والعين بحالها، ومقدار النقص خمسون كما سبق اعتبرت قيمة التركة عند الوفاة، و لا ينقص بسببه شيء على الثاني، بل يعطى تمام الثلث حينئذٍ مائة وثلاثة وثلاثون وثلث.

والفرق أنّ العين هنا قائمة بحالها، والثلث إنّما يعتبر عند انتقال التركة عن الموصي و هو حالة الوفاة - بخلاف نقص المعيب؛ فإنّه نقص محسوس له حصة من الثمن؛ ولهذا ضمنه الغاصب، وثبت أرشه للمشتري على البائع دون رخص السوق.

ولو فرض موت العبد بطلت وصيته لفوات متعلقها، وأُعطي الآخر ما زاد على قيمته؛ لأنّ له تكملة الثلث، فلا يسقط بموته شيء، فيعتبر قيمته عند وفاة الموصي لو كان حيّاً، ويحطّ قيمته من الثلث، ويدفع الباقي إلى الموصى له الثاني.

ولو فرض نقص المال غير العبد كأن ينقص مائة مثلاً - فالنقص على الثاني، فيكون له ستة وستون وثلثان، و لا يجري مجرى موت العبد؛ لأنّ الفائت هنا على الورثة، وهناك على الموصى له الأوّل، وجانب الورثة موفّر . نعم، لو كان تلف المال بعد قبض الوارث الواقع بعد الوفاة كان محسوباً عليهم، فيكون للثاني تمام المائة.

ص: 441

إذا أُوصي له بأبيه فقبل الوصية و هو مريض

السادسة: ● إذا أُوصي له بأبيه فقبل الوصية و هو مريض عتق عليه من أصل المال إجماعاً منّا؛ لأنّه إنّما يعتبر من الثلث ما يخرجه عن ملكه، وهنا لم يخرجه، بل بالقبول،ملكه، وانعتق عليه تبعاً لملكه.

------

بقي في المسألة تقييد المصنّف وغيره حدوث العيب في العبد قبل تسليمه إلى الموصى له؛ فإنّه يقتضى أنّ النقص لو كان بعد الموت وقبل تسليمه إلى الموصى له يكون الحكم كذلك.

ويشكل على القول بأنّ القبول كاشف عن دخوله في ملك الموصى له من حين الموت؛ فإنّ النقص حينئذٍ داخل على ملك الموصى له الأوّل، فلا يحتسب على غيره. و کذا يقتضي أنه لو تسلّمه في حياة الموصي فحدث العيب قبل موته لا يعتبر نقصه، وليس كذلك؛ لأنّ هذا التسليم لا حكم له.

قوله: «إذا أُوصي له بأبيه فقبل الوصية و هو مريض عتق عليه من أصل المال» إلى آخره.

إذا انتقل إلى المريض من ينعتق عليه، فإما أن يكون بعوض أو بغيره، ثم الانتقال إما أن يكون قهرياً أو اختيارياً، والعوض إما أن يكون موروثاً أو لا، فهذه أقسام المسألة. والمصنّف اقتصر منها على قسم واحد و هو انتقاله إليه باختياره بغير عوض ونحن نبين ما ذكره ثم نتبعه بالباقي.

فنقول: إذا ملكه بغير عوض اختياراً كما لو أوصى له به فقبل الوصيّة و هو مريض أو وهبه بغير عوض فقبل الهبة - فإن قلنا: إنّ منجزات المريض من الأصل عتق من الأصل و لا كلام حينئذٍ فيه. وأما على القول الآخر فقد قال المصنف: إنه يعتق أيضاً مدعياً الإجماع ولأنه إنما يعتبر من الثلث ما يخرجه المريض عن ملکه بنفسه اختياراً، كما لو باشر عتقه، وهنا لم يخرجه المريض كذلك، وإنما أخرجه الله تعالى عن ملكه حين ملكه بالقبول، وانعتق عليه تبعاً لملكه بغير اختیاره فلم يكن مفوّتاً باختياره شيئاً، وإنما جاء الفوات من قبل الله تعالى.

ص: 442

......

------

ويشكل هذا بأنه لو تم لزم مثله فيما لو اشتراه بعوض؛ فإنّ مجرّد الشراء والتملك ليس هو المانع من النفوذ، وإنّما المانع والمفوّت لحق الورثة العتق، و هو يحصل بغير اختياره، كما قيل هنا.

لكن يجاب عنه بأنه هنا مفوّت على الورثة الثمن باختياره حيث بذله في مقابلة ما يوجب التلف قطعاً بغير فائدة تعود على الوارث، وحينئذ فلا يتم الدليل إلا بإضافة أمر آخر، و هو أنه لم يخرج شيئاً عن ملكه بعوض يحصل به فوات شيء على الورثة.

وكان الأولى في الاستدلال على هذا التقدير أن يقول: لأنه لم يفوت شيئاً على الورثة من حيث إنّه ملكه بغير عوض والعتق وقع قهريّاً.

والحاصل أن المعتبر في صحة العتق حصول الأمرين معاً، وهما عدم العوض، وکون العتق قهريّاً، فمتى انتفى أحدهما اعتبر من الثلث.

وأما ما ادعاه المصنّف من الإجماع على الحكم فبالنظر إلى من تقدمه من أصحابنا، وكأنه لم يظهر له مخالف قبله وإلا فالمسألة محتملة، والعامة مختلفون في حكمها، فذهب بعضهم إلى اعتبار خروجه من الثلث (1) كالعتق اختياراً، وقواه العلّامة في التحرير(2)؛ استناداً إلى أن اختيار السبب كاختيار المسبب، فمتى كان الأوّل مقدوراً فالثاني كذلك، و هو قول بعض المتكلمين. وحينئذ فلا يلزم من كون العتق قهريّاً خروجه من الأصل، وإنّما يلزم ذلك لو لم يكن مستنداً إلى اختيار المريض في التمليك. والأقوى ما اختاره المصنف.

و لا يقدح دعواه الإجماع في فتوى العلامة بخلافه؛ لأن الحق أن إجماع أصحابنا إنما يكون حجّةً مع تحقق دخول المعصوم في جملة قولهم؛ فإن حجيته إنما هي باعتبار قوله عندهم ودخول قوله في قولهم في مثل هذه المسألة النظرية غير معلوم.

ص: 443


1- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 530 المسألة 4699.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 402، الرقم 4881.

......

------

وقد نبه المصنف في أوائل المعتبر على ذلك، فقال:

إن حجيّة الإجماع لا تتحقق إلا مع العلم القطعي بدخول قول المعصوم في قول المجمعين، ونُهي عن الاغترار بمن يتحكم ويدعي خلاف ذلك (1).

وهذا عند الإنصاف عين الحق؛ فإنّ إدخال قول شخص غائب لا يعرف قوله في قول جماعة معروفين بمجرد اتفاقهم على ذلك القول بدون العلم بموافقته لهم تحكّم بارد.

و بهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا فيها الإجماع إذا قام عنده الدليل على ما يقتضي خلافهم، وقد اتفق لهم ذلك كثيراً لكن زلّة المتقدّم مسامحة عند الناس دون المتأخر.

ولنرجع إلى بقية أقسام المسألة فنقول: قد عرفت حكم ما لو ملكه بغير عوض اختياراً (2). وأما إذا ملكه كذلك بغير اختياره كالإرث، فإن قلنا في القسم الأوّل بكونه من الأصل فهنا كذلك بطريق أولى، و إن قلنا بكونه ثَمَّ من الثلث احتمل كونه هنا كذلك؛ لتحقق الملك للمريض فيكون معدوداً من جملة أمواله، فانعتاقه يفوّت عليهم المالية.

ويضعف بأنه لم يتلف على الورثة شيئاً مما هو محسوب مالاً له، ومع ذلك فالعتق قهري فلا مانع منه، وينبغي هنا القطع بنفوذه من الأصل. و في التذكرة جعل العتق أقرب (3).

ولو ملكه بعوض فلا يخلو إما أن يكون اختياراً أو لا. وعلى التقديرين فلا يخلو إما أن يكون العوض موروثاً بحيث يحصل ببذله تفويت على الورثة أولا. فهذه أربعة أقسام:

الأوّل: أن يملكه بعوض موروث اختياراً، بأن اشتراه فإن كان بثمن المثل واعتبرنا خروج المنجزات من الثلث ففى انعتاقه قولان:

أحدهما أنّه من الثلث؛ لأنّ تملكه له باختياره سبب في عتقه، فجرى مجرى المباشرة

ص: 444


1- المعتبر، ج 1، ص 31.
2- راجع ص 442.
3- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 489 (الطبعة الحجرية).

......

------

خصوصاً عند مَنْ يجعل فاعل السبب فاعل المسبب كالجبائيين. وهذا هو الأصح.

والثاني: نفوذه من الأصل؛ لأنه إنما يحجر عليه في التبرعات، والشراء ليس بتبرع فلا يكون محجوراً عليه. والعتق حصل أو لا بغير اختياره، فلا يعتبر فيه الثلث.

ويضعف بأنّ بذل الثمن في مقابلة ما قطع بفواته وزوال ماليته بالعتق تضييع على الوارث، كما لو اشترى ما يقطع بموته عاجلاً.

والقولان اختارهما العلّامة في القواعد في الوصايا، أوّلهما في الأحكام المعنوية (1) وثانيهما في كيفية التنفيذ (2). ولو اشتراه بدون ثمن المثل فالزائد محاباة حكمه حكم الموهوب.

الثاني: أن يملكه بعوض موروث لكنه بغير اختياره، بمعنى استناده (3) إلى أمر الشارع له به، كما لو كان قد نذر في حال الصحة أو المرض إن جوّزنا كونه من الأصل - أنه إذا وجد قريبه يباع بعوض هو قادر عليه اشتراه، فوجده و هو مريض، فينفذ من الأصل على القولين.

و يحتمل ضعيفاً كونه من الثلث؛ لحصول السبب المقتضي للتصرف في المرض.

وضعف باستناد ذلك إلى إيجاب الشارع، فكان عليه بمنزلة الدين.

الثالث: أن يملكه بعوض غير موروث باختياره، كما لو آجر نفسه للخدمة به، فينعتق من الأصل على القولين؛ لعدم تفويته شيئاً على الورثة، ويأتي على احتماله في الهبة ورود مثله هنا. الرابع: أن يملكه كذلك بغير اختياره بل بإلزام الشارع، كما لو كان قد نذر تملكه بالإجارة كذلك، وحكمه كالسابق بطريق أولى.

ص: 445


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 472.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 535.
3- في حاشية «و»: «أشار بقوله بمعنى استناده» إلى آخره إلى أن الاختيار بالمعنى المتعارف - و هو إمكان تركه الفعل - لا يأتي هنا لإمكان أن يترك الواجب، وإنما المراد بغير الاختيار كونه بالتزام الشارع، فأقام عدم القدرة الشرعية مقام عدم القدرة العقلية منه رحمه الله)».

السابعة: ● إذا أوصى له بدار فانهدمت وصارت براحاً ثم مات الموصي بطلت الوصيّة؛ لأنّها خرجت عن اسم الدار. وفيه تردّد.

الثامنة ● إذا قال: أعطوا زيداً والفقراء كذا، كان لزيد النصف من الوصية. و قيل: الربع. والأول أشبه.

------

قوله: «لو أوصى له بدار فانهدمت وصارت براحاً ثم مات الموصي بطلت الوصية» إلى آخره.

منشأ التردّد من فوات متعلّق الوصيّة؛ لأنه المجموع المركب من العرصة والسقف وباقي الأجزاء، والمركب يفوت بفوات بعض أجزائه خصوصاً الموجب لفوات حقيقته فتبطل الوصيّة، ومن بقاء بعض الأجزاء المتعلق حق الموصى له بها في ضمن المجموع، فلا يفوت البعض بفوات البعض الآخر.

وفصل ثالث حسناً فقال: إن كان الموصى به داراً معيّنة فانهدمت فالوصية باقية؛ لانتفاء الدليل الصالح للبطلان، وتغير الاسم لم يثبت كونه قادحاً، والباقي منها بعض ما أوصى به. و إن أوصى له بدار من دوره فانهدمت جميع دوره قبل موته بطلت؛ لانتفاء المسمّى وموضع الخلاف ما إذا كان الانهدام لا بفعل الموصي، وإلا كان رجوعاً.

قوله: «إذا قال: أعطوا زيداً والفقراء كذا» إلى آخره.

وجه الأوّل: أنّه أوصى لفريقين فلا ينظر إلى أحادهما، كما لو أوصى لقبيلتين مختلفتي العدد.

و وجه الثاني: أنّ أقلّ الفقراء ثلاثة؛ لأنّهم جمع، وقد شرّك بين زيد وبينهم بالعطف فيكون كأحدهم.

ويضعف بأنّ التشريك بين زيد والفقراء لا بينه وبين،آحادهم، فيكون زيد فريقاً والفقراء فريقاً آخر، وبأن التشريك لو كان بين الآحاد لما لزم الحكم بالربع؛ لأن الفقراء لا ينحصر في ثلاثة، وكون الثلاثة أقلّ الجمع لا يوجب المصير إليه مع وجود اللفظ الشامل له ولغيره. وحينئذ فمختار المصنف أقوى.

ص: 446

القسم الثاني في تصرفات المريض

حكم التصرفات المؤجّلة

● وهي نوعان: مؤجلة، ومنجزة.

فالمؤجلة حكمها حكم الوصية إجماعاً، وقد سلفت. و کذا تصرفات الصحيح إذا قرنت بما بعد الموت.

------

و في المسألة وجه ثالث مخرّج من دليل الثاني، و هو أن زيداً يكون كأحد الفقراء؛ لأنه و إن كان أقلهم ثلاثةٌ إلا أنه يقع على ما زاد و لا يتعين الدفع إلى ثلاثة، بل يجوز الدفع إلى ما زاد فمقتضى التشريك أن يكون كواحد منهم، فيعطى سهماً من سهام القسمة، فإن قسم المال على أربعة من الفقراء أعطى زيداً الخمس و إن قسّم على خمسة فالسدس، وهكذا.

ورابع أنه يعطى أقل ما يتموّل، ولكن لا يجوز حرمانه و إن كان غنياً.

وخامس: أنه إن كان فقيراً فهو كأحدهم وتخصيصه للاهتمام به، و إن كان غنياً فله النصف.

وسادس: أنه إن كان غنياً فله الربع وإلا فالثلث؛ لدخوله فيهم.

وسابع: أن الوصية في حق زيد باطلة؛ لجهالة من أُضيف إليه.

وهذه الأوجه كلّها ضعيفة ما عدا الأوّلين، وأقوال أصحابنا منحصرة فيهما؛ فلذا اقتصر عليهما المصنّف وأضعفها الأخير.

هذا كله إذا أطلق لفظ زيد، أما إذا وصفه بصفة الجماعة فقال: «لزيد الفقير وللفقراء» جرى الخلاف فيما لزيد إن كان فقيراً.

والأقوى أنّه كما لو أطلق؛ لما ذكرناه في توجيه الأول.

ولو وصفه بغير صفة الجماعة، كقوله: «الزيد الكاتب وللفقراء» فأولى بترجيح الوجه الأوّل.

و لا بدّ على الأوجه من الصرف إلى ثلاثة من الفقراء مراعاة لصيغة الجمع.

قوله - في تصرفات المريض: «وهي نوعان: مؤجّلة، ومنجزة - إلى قوله - بما بعد الموت».

ص: 447

......

------

أراد بالمؤجلة المعلّقة بالموت، وبالمنجزة المعجّلة حال الحياة و إن لم تكن حاضرةً محضاً. وأصل المنجز الحاضر، قال الجوهري: الناجز الحاضر، يقال: [بعته] (1) ناجزاً بناجز أي يداً بيد، أي تعجيلاً (2). ومنه في الدعاء: «أنجز وعده» (3)، أي أحضره.

ويستفاد من جعله المؤجلة كالوصية في الحكم أنها غير الوصية، والمغايرة تظهر بينهما التدبير؛ فإنّه تصرف معلّق على الموت، وليس بوصيّة بعتق العبد بل عتق بصفة على اختلاف الوجهين. وتظهر أيضاً في النذر المقيد بالموت، فإنه لا يسمّى وصيّة. لكن في إلحاقه بالوصيّة خلاف مشهور، فقد قال جماعة إنه من الأصل (4)، فلا يصح الحكم بكون في حكمه حكم الوصية بالإجماع، و إن كان المختار مساواته لها في الحكم.

وعلى ما استفيد من تعريف المصنّف للوصية: «أنّها تمليك عين أو منفعة» (5) إلى آخره يتخلّف كثير من الأفراد المعلّقة على الموت فيطلق عليها التصرّفات المؤجّلة لا الوصيّة، و ذلك كالوصية بالعتق والوقف على جهة عامة، والوصيّة بإبراء المديون وغير ذلك. ولو أطلق على الجميع اسم الوصيّة وذكر أنّ حكمها الخروج من الثلث سلم من التكلف. والتدبير إن كان وصيّةً بالعتق تناولته العبارة، وإلا فيكتفى بذكر حكمه في محلّه.

واعلم أنا قد أسلفنا نقل الخلاف في كون الوصية من الثلث عن ابن بابويه، وأنه حكم بكونها من الأصل (6)، فدعوى المصنّف الإجماع هنا في مقابله، إما لعدم الاعتداد بخلافه؛ لضعف مستنده وشذوذ قوله؛ فإنّ جميع المسلمين على خلافه، وإما على معنى أن مساواة

ص: 448


1- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
2- الصحاح، ج 2، ص 898، «نجز».
3- مصباح المتهجد، ص 50، ح 39/66.
4- نسبه لقائل فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 598؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11، ص 110: و لم نعثر على قائل له بشخصه.
5- راجع ص 251.
6- سبق في ج 3 ص 549.
منجزات المريض إذا كانت تبرّعاً

● أما منجزات المريض إذا كانت تبرّعاً كالمحاباة في المعاوضات والهبة والوقف والعتق - فقد قيل: إنها من أصل المال، و قيل: من الثلث واتفق القائلان على أنه لو برئ لزمت من جهته وجهة الوارث أيضاً، والخلاف فيما لو مات في ذلك المرض.

------

التصرفات المؤجّلة للوصيّة ثابت بالإجماع، فمهما ثبت للوصيّة من الحكم ثبت للمؤجّلة و لا يكون فيه تعرّض لدعوى الإجماع على نفس حكم الوصية. وهذا أولى وأنسب بسياق العبارة. و لا فرق في التصرّف المعلّق على الموت بين وقوعه من الصحيح والمريض. و هو موضع وفاق.

قوله: «أما منجزات المريض إذا كانت تبرّعاً - إلى قوله - في ذلك المرض».

احترز ب- «التبرع» عمّا ينجزه المريض من البيع بثمن المثل، ووفاء بعض الديان شيئاً من أعيان ماله و إن كان قاصراً عن الدين، وما يدفعه أجرةً عن منافع تصل إليه و نحوه؛ فإنّ مثل ذلك نافذ من الأصل؛ إذ لا تفويت فيه على الوارث.

وأما البيع بدون ثمن المثل والشراء بأزيد منه فإنّه ليس تبرّعاً محضاً؛ لأنّ كلّ جزء من أجزاء المعوّض مقابل بجزء من أجزاء العوض و إن اختلفا في القيمة، إلا أن القدر الزائد عمّا أخذه من العوض فى قوّة المتبرع به و إن لم يكن متميزاً. وقد نبه على إدخاله في المثال.

وخرج أيضا عتق القريب المملوك بغير عوض، فإنّ عتقه ليس من منجزات المريض وإنّما وقع قهريّاً من الشارع.

وبقي مثل التزويج بأقل من مهر المثل، وإجارة نفسه بأقل من أُجرة المثل داخلا في التبرع بالمنجزات، مع أنّه خارج عن حكمها، لا يتوقف على خروجه من الثلث؛ لأنه ليس إخراج مال من التركة، بل هو اكتساب والمصنّف لم يبيّن المراد من المنجزات بغير المثال. وضابطها ما استلزمت تفويت المال على الوارث بغير عوض.

إذا تقرر ذلك فنقول: اختلف الأصحاب في تصرفات المريض المنجزة المتبرع بها على

ص: 449

......

------

ذلك الوجه، فذهب الأكثر ومنهم الشيخ في المبسوط، والصدوق، وابن الجنيد (1) وسائر المتأخرين (2) - إلى أنّها من الثلث كغير المنجزة.

وقال المفيد (3)، والشيخ في النهاية (4)، وابن البراج (5)، وابن إدريس (6)، والآبي (7) تلميذ المصنف: إنّها من الأصل والمصنف لم يرجح هنا أحد القولين، لكنه رجح الأوّل في مواضع متعددة من الكتاب (8).

ومنشأ الخلاف من اختلاف الروايات ظاهراً، فمما استدل به منها للأول صحيحة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن علیه السلام ما للرجل من ماله عند موته؟ قال: «الثلث والثلث كثير» (9)، وقد تقرّر في الأصول أن جواب «ما» الاستفهامية للعموم (10).

وصحيحة يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل يموت ما له من ماله؟ فقال: «له ثلث ماله» (11)، والتقريب ما تقدّم (12).

ص: 450


1- الشيخ في المبسوط، ج 3، ص 249 - 252؛ والصدوق في المقنع، ص 482؛ وحكاه عن ابن الجنيد العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 369، المسألة 152.
2- منهم العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 369. المسألة 152؛ وولده فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، 593؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11، ص 94.
3- المقنعة، ص 671.
4- النهاية، ص 620.
5- المهذب، ج 1، ص 420.
6- السرائر، ج 3، ص 200 و 221.
7- کشف الرموز، ج 2، ص 91.
8- راجع ص 182 في كتاب الهبات؛ وج 3، ص 548 في كتاب الحجر.
9- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 242، ح 940.
10- نهاية الوصول إلى علم الأصول، ج 2، ص 153.
11- الكافي، ج 7، ص 11، باب ما للإنسان أن يوصى به ... ح 3؛ الفقيه، ج 4، ص 185، ح 5425: تهذيب الأحكام ج 9، ص 191، ح 770؛ الاستبصار، ج،4، ص 119، ح 452. و في الجميع: شعيب بن يعقوب، و في الفقيه عنه عن أبي بصير.
12- من دلالة «ما» الاستفهامية على العموم.

......

------

ورواية أبي ولاد عنه علیه السلام في الرجل يكون لامرأته عليه الدين فتبرئه منه في مرضها، قال: «بل تهبه له فيجوز هبتها، ويحسب ذلك من ثلثها إن كانت تركت شيئاً» (1).

ورواية علي بن عقبة عنه علیه السلام في رجل حضره الموت فأعتق مملوكاً ليس له غيره، فأبى الورثة أن يجيز وا ذلك، كيف القضاء فيه؟ قال: «ما يعتق منه إلا ثلثه وسائر ذلك الورثة أحق بذلك، ولهم ما بقى» (2). وهذه الرواية و إن كانت متضمّنةً للعنق خاصةً إلا أنّه لكونه مبنيّاً على التغليب يفيد حكم غيره بطريق أولى.

ورواية الحسن بن الجهم قال: سألت أبا الحسن علیه السلام ما تقول في رجل أعتق مملوكاً له وقد حضره الموت وأشهد له بذلك، وقيمته ستمائة درهم، وعليه دين ثلاثمائة درهم و لم يترك شيئاً غيره؟ قال: «يعتق منه سدسه؛ لأنّه إنما له منه ثلاثمائة وله السدس من الجميع» (3).

وروى العامة في صحاحهم: أنّ رجلاً من الأنصار أعتق ستة أعبد له في مرضه لا مال له غيرهم، فاستدعاهم رسول الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ وجزاهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة (4).

وله (5) وجوه أُخرى من الاعتبار:

منها: أنه إن كانت المؤخّرات من الثلث فالمنجزات كذلك، لكن المقدم حق فالتالي مثله. وبيان الملازمة: أنّ المقتضي لحصر الوصيّة في الثلث النظر إلى الورثة والشفقة عليهم،

ص: 451


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 195، ح 783: الاستبصار، ج 3، ص 120، ح 457.
2- الكافي، ج 7، ص27، باب من أعتق وعليه دين، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 194، ح 781: الاستبصار، ج 4، ص 120، ح 455.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 218، ح 855: الاستبصار، ج 4، ص 8 ح 25.
4- مسند أحمد، ج 5، ص 588. ح 19325: السنن الكبرى، البيهقي، ج 6، ص 445، ح 12592؛ سنن سعيد بن منصور، ج 1، ص 122، ح 408.
5- أي للقول الأول.

......

------

وهذه العلة منبه عليها في النصوص، وهي موجودة في المتنازع.

ومنها: أنّه لو لا كونها من الثلث لاختلت حكمة حصر الوصية في الثلث؛ فإنّه لولاه لا لتجأ كلّ مَنْ يريد الزيادة في الوصيّة على الثلث إلى العطايا المنجزة، فيفوت الغرض الباعث على المنع من الزائد.

واحتج الآخرون بأنّه مالك تصرّف في ملكه، فيكون سائغاً. والصغرى مفروضة، والكبرى قوله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «الناس مسلّطون على أموالهم» (1) خرج منه ما بعد الموت فيبقى الباقي . أو يقال: إنّ ما بعد الموت من التصرف ليس تسليطاً على ماله، بل على مال غيره و هو الوارث. وبأصالة الجواز، وباستصحاب ما كان في حال الصحة، وبأنه لو لا صحتها لما لزمت بالبرء والتالى باطل، فكذا المقدم.

وبرواية عمار عن الصادق علیه السلام: «قال: الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح، إن أوصى به كله فهو جائز» (2).

وبرواية عمّار أيضاً عنه علیه السلام في الرجل يجعل بعض ماله لرجل في مرضه، فقال: «إذا أبانه جاز» (3).

وبموثقة عمار أيضاً عنه علیه السلام قال: «الميت أحق بماله ما دام فيه الروح يبين،به فإن قال: بعدي، فليس له إلا الثلث» (4).

وبرواية سماعة عن أبي عبد الله علیه السلام قال قلت له الرجل له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ فقال: «هو ماله يصنع به ما شاء إلى أن يأتيه الموت، فإن أوصى به فليس له إلا

ص: 452


1- تقدم تخريجه في ص 164، الهامش 2.
2- الكافي، ج 7، ص7، باب الرجل يوصي إلى آخر .... ح 2: الفقيه، ج 4، ص 202، ح 5471: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 187، ح 753؛ الاستبصار، ج 4، ص 121، ح 459.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 190، ح 864: الاستبصار، ج 4، ص 121، ح 461.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 188، ح 756: الاستبصار، ج 4، ص 122، ح 463.

......

------

الثلث، إلا أن الفضل في أن لا يضيّع من يعوله، و لا يضر بورثته» (1).

هذا محصول حجج الفريقين، و في كل واحد منهما نظر:

أما الصحيحتان الأُوليان (2) اللتان هما عمدة الاستدلال ومعتمده، فلا دلالة لهما على المطلوب، بل دلالتهما على ما بعد الموت أولى. أمّا الثانية فإنّها صريحة فيه؛ لأنّه قال فيها: الرجل يموت ماله من ماله؟ فلا وجه للاستدلال بها على المنجزات. وأمّا الأُولى فكما يحتمل المنجز يحتمل الوصيّة؛ لأنّ «عند» من ظروف المكان المقتضية للمصاحبة فدلالتها على الوصيّة أقوى، و إن استعملت «عند» فيما تقدّم بيسير فإن سلّم كونه حقيقةً فغيره أكثر. وأما باقي الروايات على كثرتها فمشتركة في ضعف السند.

وأما ما يختص كلّ واحدة ففي رواية عليّ بن عقبة (3) مع كونها أوضح الجميع دلالةً - أمران:

أحدهما إمكان حملها على الوصيّة؛ لأنّ حضور الموت قرينة منعه من مباشرة العتق، و يجوز نسبة العتق إليه؛ لكونه سببه القوي بواسطة الوصيّة. وهذا و إن كان بعيداً إلّا أنّه مناسب حيث لم يبق للرواية عاضد.

والثاني: أنّها واردة في العتق فلا يلزم تعدّي الحكم منه إلى غيره. ودعوى أولوية غيره ممنوعة بل هو قياس وبناؤه على التغليب لا يدلّ على المطلوب وعدم القائل باختصاصه بالحكم - على تقدير تسليمه - لا يجوز قياس غيره عليه، مع ما فيها من القصور.

وأما رواية أبى ولاد (4)، ففيها: أن مضمونها لا يقول به أحد؛ لأن الإبراء مما في الذمة

ص: 453


1- الكافي، ج 7، ص 8، باب أن صاحب المال .... ح 10؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 188، ح 755: الاستبصار، ج 4، ص 121، ح 462.
2- راجع تخريجهما في ص 450 الهامش 11 و 13.
3- راجع تخريج روايته في ص 451 الهامش 2. و في حاشية «و»: «في طريق رواية عليّ بن عقبة بنو فضال الثلاثة، عليّ وأحمد وأبوهما الحسن. (منه رحمه الله)».
4- راجع تخريج روايته في ص 451 الهامش 1.

......

------

صحيح بالإجماع دون هبته والحكم فيها بالعكس، فكيف يستند إلى مثل هذه الرواية المقلوبة الحكم الضعيفة السند؟! والكلام في رواية ابن الجهم (1) كالكلام في رواية ابن عقبة.

وأجود ما فى هذا الباب متناً وسنداً الرواية العامية (2)، ومن ادعى خلاف ذلك فالسيرة تردّ دعواه، وعليها اقتصر ابن الجنيد في كتابه الأحمدي (3).

وأمّا اعتبارهم الأوّل ودعوى الملازمة بين خروج الوصية والمنجزات من الثلث ففيه القدح في الملازمة؛ لأنّ مبنى الأحكام على مثل ذلك غير جائز والعلة ضعيفة؛ لأنّها غير منصوصة و إن كانت مظنونةً من حكمة الحكم المنصوص، مع أنها منقوضة بالصحيح خصوصاً المشارف على الموت بأحد الأسباب الموجبة للخطر مع عدم المرض. وليس ببعيد أن يكون الحكمة في ذلك سهولة إخراج المال بعد الموت على النفس حيث يصير للغير، فيمنع من التجرّي عليه؛ لتضييع حق غيره مع حفظه له لمّا كان حقه وشحه عليه. وهذه الحكمة ليست حاصلةٌ في الحي و إن كان مريضاً؛ لأن البرء ممكن، والشح بالمال في الجملة،حاصل، فيكون كتصرف الصحيح في ماله لا في مال غيره. وكون مال المريض في معرض ملك الورثة في الحال بخلاف الصحيح مطلقا ممنوع، فربّ مريض عاش أكثر من الصحيح، وربما كان في حال المراماة التي يغلب معها ظنّ التلف أبلغ من المريض.

ومن هذا يظهر ضعف الاعتبار الآخر، فإنّ الخوف من البرء يمنع من الزيادة بخلاف ما بعد الموت، بل هذا حاصل بالوجدان، فلا اختلال

ص: 454


1- راجع تخريج روايته في ص 451، الهامش 3.
2- راجع تخريجها في ص 451 الهامش 4.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 369، المسألة 152.
المرض الذي معه يتحقق وقوف التصرّف على الثلث

● و لا بد من الإشارة إلى المرض الذي معه يتحقق وقوف التصرّف على فنقول: كلّ مرض لا يؤمن معه من الموت غالباً فهو مخوف، كحمّى الدق.

------

وأما ما احتج به الآخرون ففي رواياته جُمَع اشتراكها في ضعف السند، وليس فيها سوى واحدة من الموثق، كما نبهنا عليه (1). و في رواية عمّار الأولى (2) نفوذ الوصية مطلقاً من الأصل، وهم لا يقولون به فيبطل الاستدلال بها. والقول بأنّها تدلّ على أن المنجز كذلك بطريق أولى لا يصح مع فساد المبني عليه وعلى تقدير اعتبارها فهي مكافئة لما دلّ على مطلوب الأولين من حيث السند لكن بعضها أقوى من حيث الدلالة.

وعلى كل حال فلا بد من الجمع إن اعتني بالروايات من الجانبين. ويمكن أن يقال حينئذٍ: إنّ تلك خاصة وهذه عامة والخاص مقدّم، ولو تكون في الروايات الصحيحة دلالة لترجّح القول بها. وأما كونه مالكاً وملاحظة الأصل بمعنييه فهو حسن إن لم يدلّ الدليل على خلافه، وإلا انقطع.

وأمّا دعوى الملازمة بين لزومها بالبرء وصحتها ففاسدة، وأي مانع من صحتها غير لازمة موقوفة على إجازة الوارث إن مات ولازمة إن برئ؟! فيكون البرء كاشفاً عن الصحة واللزوم، كتصرف الفضولي، والموت كاشفاً عن الفساد إذا لم يجز الوارث.

واعلم أنه على تقدير البرء لا فرق في الحكم بلزوم هذه التصرفات بين كون المرض مخوفاً وعدمه، وإنّما يحتاج إلى البحث عنه على تقدير الوفاة فيه.

قوله: «و لا بدّ من الإشارة إلى المرض الذي معه يتحقق وقوف التصرّف على الثلث. فنقول: كلّ مرض لا يؤمن معه من الموت غالباً فهو مخوف كحمّى الدق».

وهي - بكسر الدال - حُمّى (3) تحدث في الأعضاء الأصلية التي تتولّد من شدة الاحتراق، وذهاب الرطوبات، وانطفاء الحرارة، و لا تمتد معها الحياة غالباً.

ص: 455


1- راجع ص 450. الهامش 11 و 13.
2- راجع تخريج روايته الأولى في ص 452 الهامش 3.
3- راجع الصحاح، ج 3، ص 1475، «دق».

● والسلّ، ● وقذف الدم. ● والأورام السودائية والدموية. ● والإسهال المنتن والذي يمازجه دهنيّة، أو براز أسود يغلي على الأرض، وما شاكله.

------

قوله «والسلّ».

هو قرحة في الرئة يلزمها حتى دقيّة (1)، ويأخذ البدن منه في النقصان والاصفرار. وقد حكى في التذكرة فيه أقوالاً ثلاثة:

أحدها: أنه ليس بمخوف مطلقاً؛ لأنه و إن لم يسلم صاحبه غالباً إلا أنه لا يخشى منه الموت عاجلاً، فيكون بمنزلة الشيخوخة.

والثاني: أنّه في انتهائه مخوف لا في ابتدائه؛ لأنّ مدّته تتطاول، فابتداؤه لا يخاف منه الموت عاجلاً، فإذا انتهى خيف. ومنهم من عكس (2).

والمصنف اختار كونه مخوفاً مطلقاً. و في الحقيقة المرجع في ذلك إلى قول الأطباء وأهل التجربة لا إلى الفقيه، ولكن ما يذكره الفقهاء هنا هو أقوال الأطباء، فلا يرد أنها ليست من المسائل الفقهيّة؛ لأنّ الفقيه يضطر إلى نقل ذلك هنا ليرتب عليه الحكم.

قوله: «وقذف الدم».

قذف الدم إلقاؤه، و هو شامل لإخراجه من الفم بالقيء والتنخع والسعال، ولإخراجه من الأنف بالرعاف وإخراجه من المعدة بالبراز. وليست كلّ هذه الأشياء مخوفةً، بل بعضها كالخارج مع الإسهال ومن الفم بسبب الرئة والرعاف الدائم، و نحو ذلك.

قوله: «والأورام السودائية والدموية».

كلّ واحدٍ من هذه الأورام جنس تحته أنواع من الأمراض، منها ما هو مخوف، ومنها ما ليس بمخوف فإطلاقه مخوفيّة هذين الورمين أيضاً متجوز، و لم يذكرهما غيره من الفقهاء.

قوله: «والإسهال المنتن والذي يمازجه دهنيّة - إلى قوله - وما شاكله».

يمكن أن يعود ضمير «شاكله» إلى المذكور في أقسام الإسهال؛ فإنّ له أقساماً مخوفةً

ص: 456


1- راجع المصباح المنير، ص 268: والقاموس المحيط، ج 3، ص 408، «سلل».
2- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 523 (الطبعة الحجرية).

وأمّا الأمراض التي الغالب فيها السلامة فحكمها حكم الصحة ● كحُمّى يوم، ● وكالصداع عن مادة أو غير مادة، والدمّل، والرمد، ● والسلاق، و کذا ما يحتمل الأمرين، ● كحمّى العفن.

------

غير ما ذكر، كالإسهال المتواتر الذي لا يمكن منعه ولو ساعةً، وما كان معه،زحير، و هو الخارج بشدّة ووجع في المقعدة، وما كان معه دم.

ويمكن عوده إلى المذكور من الأمراض المخوفة؛ فإنه لم يستوفها، وإنما ذكر قليلاً منها. وهذا أنسب بالعبارة.

قوله: «كحمّى يوم».

الحمّى حرارة غريبة تنبعث من القلب إلى الأعضاء، فإن لم تكن عن مرض وتعلقت بأرواح البدن لا بأخلاطه و لا بأعضائه فهي حتى يوم. وهي تحدث من أسباب بادية، كغضب وفرح وسهر وكثرة نوم وهم وغم وفزع وتعب و نحو ذلك. و لا يشترط في تسميتها يوميّةً أن يبقى يوماً واحداً بل يجوز أن تبقى أزيد من يوم إلى سبعة أيام.

قوله: «وكالصُداع عن مادة».

المراد بالصداع المادي ما كان ناشئاً عن أحد الأخلاط الأربعة، وعن غيرها ما كان سببه من غيرها، كسقطة وضربة وشمائم وأبخرة رديئة وفرط جماع و نحو ذلك.

قوله: «والسلاق».

هو غلظ في الأجفان عن مادة رديئة غليظة يحمر لها الجفن، وينتثر الهدب، وقد يؤدي إلى تقلع الجفن وفساد العين. و في حكمه جميع أمراض العين، فلو عمّم كان أولى.

قوله: «كحُمّى العفن».

هي الحمّى المتعلقة بالأخلاط الأربعة مع تعفنها. والمراد بالعفونة في هذا المقام انفعال الجسم ذي الرطوبة عن الحرارة الغريبة إلى خلاف الغاية المقصودة.

والحمّى العفنية أنواع منها: الورد وهي التي تأتي كلّ يوم. والغب، وهي التي تأتي يوماً وتترك يوماً، والثلث، وهي التي تأتي يومين وتترك يوماً. والربع بكسر أوله، و کذا

ص: 457

● والزحير، والأورام البلغمية.

● ولو قيل: يتعلّق الحكم بالمرض الذي يتفق به الموت - سواء كان مخوفاً العادة أو لم يكن - لكان حسناً.

------

ما قبله من الحميات - وهي التي تأتي يوماً وتترك يومين وتعود في الرابع. والأخوين، وهي التي تأتي يومين وتقطع يومين. وقد أطلق المصنّف أنّها ليست مخوفةً بل محتملة للأمرين. وذكر جماعة منهم العلامة: أنّ ما عدا الغب والربع مخوف (1).

قوله «والزحير».

هو حركة منكرة من المعاء المستقيم تدعو إلى البراز بسبب ورم أو خلط لاذع أو برد نال الموضع أو غيره. وإنّما يكون غير مخوف مع تجرّده عن غيره من الأمراض، فلو اقترن به إسهال فهو مخوف كما تقدّم (2).

قوله: «ولو قيل: يتعلّق الحكم بالمرض الذي يتفق به الموت» إلى آخره.

إذا قلنا: إنّ تبرعات المريض المنجزة من الثلث، وليس كلّ مرض يتفق للإنسان يكون تصرفه فيه موقوفاً، بل مرض مخصوص احتيج إلى ضبطه. وقد اختلف الأصحاب فيه، فقال الشيخ في المبسوط: إنّ المرض المانع هو المخوف (3)، و هو ما يتوقع به الموت قطعاً أو غالباً كما مرّ، دون غيره و إن اتفق به الموت. وقد مرّ تفصيله (4). واستند في ذلك إلى ما تقدّم من الأخبار المشعرة بذلك، كقوله: «ما للرجل عند موته» (5). وليس المراد عند نزول الموت به بالفعل، فيتعين حمله على ظهور أمارته؛ لأنّه أقرب من غيره من المجازات، والمراد ظهوره

ص: 458


1- العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 522 (الطبعة الحجرية)؛ والشيخ في المبسوط، ج 3، ص 249؛ والشهيد في غاية المراد، ج 2، ص 329 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).
2- تقدم في ص 457.
3- المبسوط، ج 3، ص 249.
4- مرّ في ص 455 وما بعدها.
5- تقدّم في ص 450.

......

------

بذلك المرض، وقوله في بعض الروايات: «في رجل حضره الموت» (1)، وإنما يصدق حضوره فى المرض المخوف؛ لإشعار قوله علیه السلام: «المريض محجور عليه» (2) بذلك، وللإجماع على عدم الحجر على غير المريض حيث لا يكون له سبب آخر.

ويبقى حكم التصرّف في غير المخوف من الأمراض باقياً على الأصل والاستصحاب، ومتمسكاً فيه بعموم: «الناس مسلّطون على أموالهم» (3).

والمصنف (رحمه الله) اختار عدم اعتبار مخوفيّة المرض وعدمه، بل المرض الذي يحصل به الموت، فإن اتفق فيه تصرّف كذلك فهو من الثلث، سواء كان مخوفاً أم لا. وتبعه عليه العلّامة (4)، وغيره من المتأخرين (5).

وهذا هو الأقوى؛ لقصور تلك الأخبار عن الدلالة على اعتبار الخوف، وقد تقدّم ما يدلّك على القصور، وجاز أن يريد بحضور الموت وقوعه في المرض، كما وصفوه بالحضور في المخوف، بل هذا أولى؛ لأنّ المخوف قد لا يتفق معه الموت؛ ولعموم قوله علیه السلام: «المريض محجور عليه إلا في ثلث ماله»، (6)، الشامل للمخوف وغيره، خرج منه ما إذا برئ بالإجماع، فيبقى الباقي هذا إن قلنا: إنّ المفرد المحلّى باللام يفيد العموم، وإلّا أشكل الاستدلال

ويمكن أن يقال: إنّه في هذا ونظائره للعموم بانضمام القرائن الحالية؛ لانتفاء فائدته

ص: 459


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 219 - 220، ح 862.
2- أورده فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 595: والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 11 . ص 96 - 97.
3- تقدم تخريجه في ص 271، الهامش 3.
4- قواعد الأحكام، ج 2، ص 529.
5- منهم فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 595 والشهيد في الدروس الشرعية، ج 2، ص 245 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
6- راجع تخريجه في الهامش 2.

● أما وقت المراماة في الحرب والطلق للمرأة وتزاحم الأمواج في البحر فلا أرى الحكم يتعلّق بها؛ لتجرّدها عن إطلاق اسم المرض.

------

على تقدير عدمه. ومثله قوله: «إذا بلغ الماء كرّاً» (1)، وقوله: «خلق الله الماء طهوراً»، (2)، و «مفتاح الصلاة التكبير» (3)، وغير ذلك مما هو كثير، وقد ادعى جماعة من الفضلاء الإجماع على عمومية كثير مما ذكرناه في أبوابه، والوجه فيه ما قلناه.

و«الباء» في قوله «يتفق به الموت» سببية، أي يحصل الموت بسببه. واحترز به عمّا لو اتفق موته بسبب آخر، كما لو قتل فى ذلك المرض أو أكله سبع، فلا يكون تصرفه موقوفاً. و في عبارة العلّامة في القواعد اتفق معه الموت (4)، و في التذكرة: اتصل به الموت (5)، فيشمل ما لو مات بسببه وغيره. و لعله أجود.

قوله: «أما وقت المراماة في الحرب والطلق للمرأة وتزاحم الأمواج في البحر» إلى آخره.

لما ذكر المرض المخوف المانع من نفوذ التصرف فيما زاد على الثلث ذكر أموراً مخوفةً لكنّها لا تسمّى مرضاً، وهى ثلاثة.

الأوّل: وقت التحام الحرب، وامتزاج الطائفتين للقتال مع تساويهما أو تقاربهما في التكافؤ، فإنّها حينئذٍ حالة خوف. ولو كانت إحداهما قاهرة للأُخرى لكثرتها أو قوتها، والأُخرى منهزمة فالخائفة هي المنهزمة خاصةً؛ ولعل قول المصنف «وقت المراماة» مشعر بالتكافؤ.

ولو لم يمتزج الطائفتان لكن وقع بينهم مراماة بالنشاب و نحوه، فيظهر من العبارة حصول الخوف أيضاً، وقطع غيره بكونها حينئذ ليست حالة خوف (6).

ص: 460


1- الكافي، ج 3، ص 2، باب الماء الذي لا ينجسه شيء، ح 1 - 2؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 39 - 40، ح 107 وص 226، ح 615؛ الاستبصار، ج 1، ص 6، ح1-3.
2- أورده المحقق في المعتبر، ج 1، ص 40.
3- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 270، ح 775.
4- قواعد الأحكام، ج 2، ص 529.
5- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 523 (الطبعة الحجرية).
6- راجع قواعد الأحكام، ج 2، ص 530.

وهاهنا مسائل:

الأولى: ● إذا وهب وحابى فإن وسعهما الثلث فلا كلام، و إن قصر بدئ بالأوّل فالأوّل حتى يستو في الثلث، وكان النقص على الأخير.

------

الثاني: حالة الطلق للمرأة، و هو مخوف لصعوبة ولادة المرأة خصوصاً مع موت الولد في بطنها.

الثالث: وقت ركوب البحر مع تموّجه واضطرابه، فإنّه مخوف، لا إذا كان ساكناً.

وقد اختلف في التصرّف في هذه الحالة فالمشهور بين أصحابنا بل لم ينقل المصنّف و لا غيره فيها خلافاً - نفوذه كالصحيح؛ للأصل. و ذهب ابن الجنيد إلى إلحاقها بالمرض المخوف، وزاد فيها ما إذا قُدِّم لاستيفاء قود، أو ليقتل رجماً في الزنى أو في قطع الطريق، أو كان أسيراً في يد عدوّ عادته قتل الأسير، وجعل الضابط كونه في حالة الأغلب معها التلف (1). والمختار المشهور.

قوله: «إذا وهب وحابى فإن وسعهما الثلث فلا كلام» إلى آخره.

المراد أنه نجز أموراً متعدّدة تبرّعاً بحيث يتوقف على الثلث، كما لو وهب شيئاً وحابي. بأن باع شيئاً بدون قيمته؛ فإنّ الزائد من ماله عن مقدار ما أخذه ثمناً محاباة منه للمشتري فكان كالموهوب، فإذا لم يسع الثلث لهما بدئ بالأوّل فالأوّل حتى يستو في الثلث، وتوقف في الزائد. وهذا محلّ وفاق منا، وإنّما خالف فيه بعض العامة، فذهب بعضهم إلى تقديم العتق مطلقاً، وآخرون إلى التسوية بينه وبين المحاباة على تقدير تأخرها عنه وتقديمها مع التقدم (2).

و وجه تقديم الأوّل، وقوعه من المالك في حالة نفوذ تصرّفه؛ لأنّ تصرفه في ثلثه نافذ

ص: 461


1- لم نعثر عليه.
2- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 526 - 527، المسألة 4695؛ والمجموع شرح المهذب ج 15، ص 442.
إذا جمع بين عطية منجزة ومؤخّرة

الثانية: ● إذا جمع بين عطية منجزة ومؤخّرة قدّمت المنجزة، فإن اتسع الثلث للباقي، وإلّا صح فيما يحتمله الثلث، وبطل فيما قصر عنه.

------

لا يفتقر إلى رضى الورثة، فلا مقتضي لردّه، فإذا استو فى الثلث وقع التصرف بعد ذلك في حق الوارث فتوقف و لا فرق في ذلك بين العتق وغيره، و إن لم يذكره المصنف في الفرض.

قوله: «إذا جمع بين عطيّة منجزة ومؤخرة قدّمت المنجزة».

لما بين اشتراك العطية المنجزة والمؤخرة في الخروج من الثلث على المختار عنده، و في تقديم الأوّل فالأوّل من كلّ منهما حيث لا يسع الثلث الجميع، أراد أن يبين ما يفترق فيه العطيّتان من الحكم، و هو أنه مع جمعه بينهما وقصور الثلث عنهما معاً يبتدأ بالعطية المنجزة أو لا و إن تأخرت في الذكر، فإن فضل عنها من الثلث شيء صرف في المؤخرة. وإنما قدمت المنجزة مطلقاً؛ لأنّها تفيد الملك ناجزاً والمؤخّرة لم يحصل الملك فيها إلا بعد الموت فكانت لذلك متقدّمة عليها حكماً و إن تأخرت لفظاً.

واعلم أنّه قد تلخص من ذلك - مضافاً إلى ما تقدم (1)- أن العطايا المنجزة توافق المؤخّرة في أُمور، وتفارقها في أمور، والمصنّف لم يستوف الحكم في الموضعين فلنتمه، فنقول: إنّ العطيتين تتفقان في ستة أشياء:

الأوّل: أنّ نفوذهما متوقف على الخروج من الثلث، أو إجازة الورثة.

الثاني: أنّهما تصحّان للوارث وغيره، مع إجازة الوارث وعدمها عندنا. وعند العامة كلتاهما تتوقفان للوارث على إجازة الورثة (2).

الثالث: أنّ اعتبار خروجهما من الثلث حال الموت و إن كانت المنجزة متقدمة عليه. ولو اعتبرنا فيه حالة الوصيّة لكانت المنجزات حالة وقوعها بطريق أولى.

الرابع: أنه مع اجتماع المنجزة وقصور الثلث عن جميعها يبدأ بالأوّل منها فالأول كالمؤخّرة.

ص: 462


1- تقدم في ص 447 وما بعدها.
2- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 449 - 450. المسألة 4595، وص 525، المسألة 4695: والمجموع شرح المهذب، ج 15، ص 410 - 411.

......

------

الخامس: أنّه يزاحم بها الوصايا في الثلث، فيدخل النقص على الوصايا بسببها، كما يدخل النقص على وصيته بسبب أُخرى.

السادس: أنّ فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة؛ لأنّ النبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ سئل عن أفضل الصدقة فقال: «أن تتصدّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، و لا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم»، قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان الفلان (1).

ويفترقان في ستة أشياء:

الأوّل: أنّ المنجزة لازمة في حق المعطي، ليس له الرجوع فيها و إن كثرت؛ لأن المنع من الزيادة على الثلث إنّما كان لحق الورثة، فلم يملك إجازتها و لا ردّها. وإنما كان له الرجوع في الوصية؛ لأن التبرع بها مشروط بالموت فقبل الموت لم يوجد التبرع، بخلاف العطية في المرض؛ فإنّه قد وجدت منه العطية والقبول من المعطى والقبض فلزمت، كالوصية إذا قبلت بعد الموت وقبضت.

الثاني: أنّ قبول المنجزة على الفور حيث يكون القبول معتبراً، كما في غير المريض. بخلاف الوصيّة، فإنّ قبولها المتأخر أولى من المتقدم إن اعتبرناه والفرق أنّ العطية تصرّف في الحال، فيعتبر قبولها في الحال والوصيّة تبرّع بعد الموت فيكفي حصول شروطها عند الموت.

الثالث: أنّ المنجزة مشروطة بالشروط المعتبرة فيها، كما لو صدرت حال الصحة، من العلم بالعوض في المحاباة، والتنجيز في البيع وغيره من العقود، بخلاف الوصية؛ فإنّها متعلقة بالموت، وعدم الغرر ليس شرطاً في صحتها.

الرابع: أنّها مقدّمة على الوصيّة من الثلث عند الاجتماع حيث يضيق عنهما و إن تأخرت عنها لفظاً، بخلاف الوصية. و لا فرق هنا بين العتق وغيره عندنا، خلافاً لبعض العامة

ص: 463


1- الأمالي الشيخ الطوسي، ص 398، المجلس 14، ح 34/886 مع اختلاف يسير.
إذا باع كرّاً من طعام قيمته ستة دنانير بكر ردي

الثالثة: ● إذا باع كرّاً من طعام قيمته ستة دنانير وليس له سواه - بكر ردي - قيمته ثلاثة دنانير، فالمحاباة هنا بنصف تركته، فيمضي في قدر الثلث، فلو رددنا السدس على الورثة لكان رباً والوجه في تصحيحه: أن يرد على الورثة ثلث كرهم، ويرد على المشتري ثلث كرّه، فيبقى مع الورثة ثلثاكرّ قيمتهما ديناران ومع المشتري ثلثاكر قيمتهما أربعة، فيفضل معه ديناران، وهي قدر الثلث من ستة.

------

حيث قدمه (1)؛ لتعلّق حق الله تعالى به، وحق الآدمي، وقوته بسرايته ونفوذه في ملك الغير.

الخامس: أنّها لازمة فى حق المعطى والوارث معاً على تقدير البرء، فإنّه ليس لواحدٍ منهما إبطالها، بخلاف الوصية. والفرق بين هذا وبين الأول اختصاص الأول بالمعطي ولو في حال المرض، وهذا به وبالوارث على تقدير البرء.

السادس: لزومها في حق المتبرع عليه حيث يكون التبرع لازماً من طرفه، بخلاف الوصيّة.

وبينهما فرق سابع من حيث الخلاف و إن اشتركا فيه في الحكم المختار و هو أنّه مع تعدّدها يقدّم الأوّل فالأوّل في المعجلة بلا خلاف عندنا، وأما في الوصية فقد تقدّم خلاف الشيخ وابن الجنيد في تقديم العتق و إن تأخر (2).

قوله: «إذا باع كرّاً من طعام قيمته ستة دنانير - إلى قوله - وهي قدر الثلث من ستة».

قد عرفت أنّ تبرعات المريض محسوبة من الثلث ومن جملتها المحاباة (3). فإذا باع محاباةً و لم يخرج المحاباة من الثلث و لم يجز الورثة بطل البيع فيما زاد من المحاباة على الثلث، فلا بد من بيان ما يصح فيه البيع وقدر المنفسخ فيه؛ إذ لا سبيل إلى صحة الجميع؛

ص: 464


1- حكاه ابن قدامة عن الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 525 - 526، المسألة 4695.
2- تقدم في ص 298 3.
3- راجع ص 449.

......

------

للزوم التصرّف فيما زاد على الثلث، و لا إلى الانفساخ في الجميع؛ لأنه عقد صدر من أهله فى محله. وحينئذ فإما أن يكون العوضان ربوتين أو لا و الثاني يأتي حكمه في المسألة التالية.

فإن كانا ربويين لم يمكن الحكم بصحة البيع فيما قابل الثمن خاصةً من المبيع، و في مقدار الثلث بعد ذلك، والبطلان في الزائد للزوم الربا؛ لأنه على تقدير كون العوض الواصل إلى المريض يساوي نصف قيمة ما باعه يقابل نصفه مجموع العوض فلا تبرع فيه، فلو صححنا من النصف الآخر مقدار الثلث وارتجعنا الباقي و هو السدس لزم الربا؛ لأنه يكون قد صح البيع في خمسة أسداس كرّ بكر، فلا بد من مراعاة المطابقة بين العوضين في المقدار مع إيصال قدر الثلث والعوض إلى المشتري.

فالطريق إلى تحصيله أن يترادًا ثلث كرّ، فيأخذ الورثة من المشتري ثلث كرهم وقيمته ديناران، ويردّون عليه ثلث كرّه وقيمته دينار فيجتمع مع الورثة أربعة دنانير، ديناران قيمة ثلثي كرّه، و ديناران قيمة ثلث كرّهم هي ضعف ما صح بالمحاباة. ومع المشتري خمسة دنانير منها ثلاثة بالمعاوضة واثنان بالمحاباة هي ثلث التركة و بهذا يحصل الجمع بين تساوي العوضين المعتبر في الربوي مع إخراج ما صح من المحاباة.

والضابط أنّه يجب أن يبقى مع الورثة ضعف ما صحت فيه المحاباة من غير لزوم الربا. وطريقه أن يسقط قيمة كرّ المشتري من قيمة كرّ الورثة، وينسب ثلث المبيع إلى الباقي فيصح البيع في تلك النسبة، ففي مسألة الكتاب إذا أسقطت ثلاثة دنانير من ستة بقي ثلاثة، فإذا نسبت إليها دينارين كانا ثلثيها، فيصح البيع في ثلثي كلّ واحد بثلثي الآخر ويترادان الثلث.

ولو فرض أن قيمة كرّ المريض تساوي تسعة دنانير وكرّ المشتري بحاله فقد حابي بثلثي التركة فيترادان،النصف، فيرجع إلى الورثة نصف كرّهم، وقيمته أربعة دنانير ونصف، وقد بقي معهم نصف كره، وقيمته دينار ونصف فيكمل معهم ستة دنانير. ويبقى مع المشتري

ص: 465

......

------

من كرّهم نصف قيمته أربعة دنانير ونصف، منها دينار ونصف في مقابلة نصف كره الخارج عنه، وثلاثة دنانير بالمحاباة وهي مقدار ثلث،التركة وما مع الورثة ضعف ما صحت فيه المحاباة، و هو مقدار ثلثي التركة.

وطريقه على ما سبق أن يسقط ثلاثة دنانير قيمة كرّه من تسعة دنانير قيمة كرّ الورثة تبقى ستة، فإذا نسبت الثلث إليها و هو ثلاثة دنانير كان نصفها، فيصح في نصف أحدهما بنصف الآخر كما قرّرناه. وقس على ذلك ما يرد عليك من الأمثلة، واعتبره بهذه الطريق.

واعلم أنّ هذه المسألة دوريّة؛ لتوقف معرفة قدر المبيع على معرفة قدر التركة؛ لاشتماله على المحاباة التي لا تخرج إلا من الثلث، فيجب معرفة قدر الثلث المتوقف على معرفة قدر مجموع التركة، ومعرفة قدر مجموع التركة متوقف على معرفة قدر الثمن؛ لأنه من جملتها ومعرفة قدر الثمن متوقفة على معرفة قدر المبيع، فيدور.

وليس هذا هو الدور المُحال الذي لا يتصوّر تحققه، و هو الذي يتوقف فيه كلّ واحد من الشيئين على صاحبه، و لا يوجد إلا بعد وجوده، بل هو دور المعية، و هو الذي يتوقف وجود كلّ منهما على مصاحبة الآخر كالمتضايفين. وللعلماء في التخلّص من هذا الدور وبيان المطلوب طرق:

منها: طريقة الجبر والمقابلة. وحاصلها في المسألة الأولى - وهى مسألة الكتاب - أن نقول: صح البيع في شيء من الكرّ الجيّد بشيء من الرديء يساوي نصف شيء، فالمحاباة بنصف شيء، فيجب أن يكون مع الورثة قدرها مرتين و ذلك شيء، فيلقى قدر المحاباة و هو نصف شيء من الجيد يبقى كرّ إلّا نصف شيء يعدل مثلي المحاباة و هو شيء، فإذا جبرت بأن حذفت الناقص المستثنى وأتممت مثله في عديله وقابلت بينهما بقي كر يعدل شيئاً ونصفاً، فالشيء أربعة، وهي ثلثا الكرّ الجيد، فيصح البيع في ثلثيه بثلثي الرديء.

ونقول في المسألة الثانية - التي فرضناها: صح البيع في شيء من الجيد بشيء من الرديء قيمته ثلث شيء، فالمحاباة بثلثي شيء، فيجب أن يكون مع الورثة ضعفها، و هو

ص: 466

......

------

شيء وثلث، فإذا أسقطت قدر المحاباة من الجيد بقي كرّ إلا ثلثي شيء يعدل شيئاً وثلثاً، فإذا أجبرت فألقيت المستثنى وأثبته في عديله بقي كرّ يعدل شيئين، فالشيء نصف الكر.

ولك وجه آخر، و هو أن تنسب الرديء إلى الجيد وتستخرج قدر المحاباة، فللورثة ضعفها من الجيد والرديء، فالمحاباة بنصف شيء، فيجب أن يكون للورثة ضعفه و هو شيء، وقد حصل لهم نصف شيء من الرديء، فيجب أن يرجع إليهم من الجيد نصف شيء ليتم لهم حقهم، فإذا رجع إليهم منه نصف شيء بطل البيع في مقابله من الرديء و هو ربع شيء، فالجيّد في تقدير شيء ونصف، الشيء مع المشتري، والنصف مع الورثة، والرديء في تقدير ثلاثة أرباع شيء، نصف شي مع الورثة وربع مع المشتري، فالشيء أربعة دنانير، و هو ثلثا المبيع، فيصح البيع في ثلثيه بثلثي الثمن.

ونقول في الثانية: صح البيع في شيء من الجيّد بثلث شيء من الرديء، فالمحاباة بثلثي شيء، فيجب أن يكون مع الورثة قدره مرتين، و ذلك شيء وثلث شيء، ومعهم ثلث شيء من الرديء، فيجب أن يرجع إليهم شيء من الجيد ليكمل لهم حقهم، فيبطل البيع في مقابله من الرديء، و هو ثلث شيء، فالجيّد في تقدير شيئين والرديء في تقدير ثلثي شيء، فالشيء أربعة دنانير ونصف، وهي نصف الجيّد، فيصح البيع في نصفه بنصفه.

ومنها: طريقة الخطأين، فبالأكبر نقول: نفرض في الأولى صحة البيع في خمسة أسداس من الجيّد بمثلها من الرديء، فمع الورثة ديناران ونصف من الرديء، ومع المشتري خمسة دنانير، فالمحاباة بدينارين ونصف، وكان يجب كونها بدينارين ثلث التركة، فأخطأ الفرض بنصف زائد. فنفرض صحة البيع في النصف بالنصف، فالمحاباة بدينار ونصف، فالخطأ بنصف دينار ناقص، فتضرب العدد الأول و هو خمسة، في الخط الثاني وهو نصف، يخرج اثنان ونصف، وتضرب العدد الثاني و هو ثلاثة في الخط الأول و هو نصف أيضاً، يخرج واحد ونصف، فتجمع الحاصل من المضروبين و هو أربعة، و تقسمه على المجتمع من الخطأين و هو واحد لا تتغيّر الأربعة، فهي مقدار ما صح فيه البيع من الجيّد و هو ثلثاه، بمثله من الرديء.

ص: 467

......

------

وبالأصغر نفرض صحة البيع في ثلث الجيّد بمثله من الرديء، فمع المشتري ديناران من الجيّد، ومع الورثة دينار من الرديء في مقابله، فالمحاباة،بدينار، وقد كان يجب أن يكون بدينارين، فأخطأ الفرض بدينار ناقص. فتفرض الصحة في النصف، فيخطئ بنصف دينار ناقص أيضاً كما مرّ. فقد اتفق الخطاء ان في النقصان، فتضرب العدد الأول و هو اثنان في الخط الثاني يكون واحداً، وتضرب العدد الثاني و هو ثلاثة في الخط الأول يخرج ثلاثة، فتأخذ الفضل بين العددين و هو اثنان، وتقسمه على الفضل بين الخطأين و هو نصف يخرج أربعة. وإيضاحه بأن تضرب النصف في مخرجه و هو اثنان يخرج واحد، وتضرب الاثنين في اثنين كذلك يكون أربعة، فإذا قسمتها على الواحد بقيت أربعة كما هي فالأربعة مقدار ما صح فيه البيع من الجيد و هو ثلثاه.

ونقول في الثانية بالأكبر: صح البيع في الثلاثين منهما، فمع المشتري ستة، ومع الورثة دیناران، فالمحاباة بأربعة، وكان يجب كونها بثلاثة هى الثلث، فأخطأ الفرض بواحد زائد. فنفرض صحته في الثلث، فمع المشتري ثلاثة، ومع الوارث واحد، فالمحاباة باثنين، وكان يجب أن يكون ثلاثة، فأخطأ الفرض بواحد ناقص. فتضم أحد الخطأين إلى الآخر يكون اثنين، و هو المقسوم عليه، وتضرب العدد الثاني و هو ثلاثة في الخط الأوّل يبقى ثلاثة وتضرب العدد الأول و هو ستة في الخط الثاني تبقى ستة أيضاً، فتجمعها ثم تقسم المجتمع على اثنين وهما مجموع الخطأين تخرج أربعة ونصف، و ذلك هو القدر الذي صح فيه البيع من الجيّد و هو نصفه بمثله من الرديء.

وبطريق الخطأين الأصغر نفرض صحة البيع في الثلاثين منهما كما مرّ، فالمحاباة بأربعة والخطأ بواحد زائد. ثم نفرض صحته في خمسة أتساعه، فالمحاباة بثلاثة وثلث؛ لأنّ مع المشتري خمسة ومع الورثة واحداً وثلثين، فالخطاً بثلث زائد فيسقط أقل الخطأين من أكثرهما يبقى ثلثان هو المقسوم عليه، ثم تضرب العدد الأول في الخط الثاني و هو ثلث يكون اثنين، ثمَّ الثاني و هو خمسة في الخط الأول يكون خمسةً، فإذا أسقطت أقلّ العددين

ص: 468

إذا باع عبداً قيمته مائتان بمائة

الرابعة: ● لو باع عبداً قيمته مائتان بمائة وبرئ لزم العقد. و إن مات و لم تجز الورثة صح البيع في النصف في مقابلة ما دفع وهي ثلاثة أسهم من ستة، و فى السدسين بالمحاباة وهى سهمان هما الثلث من ستة، فيكون ذلك خمسة أسداس العبد، وبطل في الزائد و هو سدس، فيرجع على الورثة.

------

من أكثرهما، وأخذت المتخلّف و هو ثلاثة، وقسمته على فضل ما بين الخطأين و هو ثلثان خرج أربعة ونصف.

وكيفينه أن تضرب الثلاثين في مخرجهما و هو ثلاثة يكونان اثنين، وتضرب الثلاثة في ثلاثة كذلك تخرج تسعة، تقسمها على اثنين تخرج أربعة ونصف، و هو نصف الجيد، فتصح في نصفه بنصف الرديء، و هو المطلوب. واعتبر ما فرضناه من الأمثلة وقواعد الحساب، واستخرج ما شئت من المسائل.

قوله: «لو باع عبداً قيمته مائتان بمائة وبرئ لزم العقد» إلى آخره.

هذا هو القسم الآخر من قسمي البيع المشتمل على المحاباة. [وحكمه] (1) صحة البيع فيما قابل الثمن، و في مقدار ما تصح فيه المحاباة و هو ثلث التركة، والبطلان في الزائد؛ إذ لا محذور هنا بسبب الزيادة.

والأصل فيه أنّ المشتري كان قد ملك الجميع بالثمن ملكاً متزلزلاً يستقر ببرء البائع، فلمّا فرض موته واقتضى ذلك الحيف على الورثة بالزيادة عن الثلث ردّ إلى الورثة من التركة السدس؛ ليفضل معهم مثلا المحاباة من الثمن والمثمن، بخلاف الربوي؛ لمانع الزيادة.

هكذا حكم الشيخ (2) ومَنْ تبعه (3)، والمصنف، والعلّامة في التلخيص (4) والتحرير (5)؛ و وجهه

ص: 469


1- ما بين المعقوفين أثبتناه من هامش إحدى الحجريتين.
2- المبسوط، ج 3، ص 273.
3- مثل الكيذري في إصباح الشيعة ص 359، و لم نعثر على غيره.
4- تلخيص المرام، ص 158.
5- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 387، الرقم 4862.

......

------

أصالة لزوم البيع من الجانبين، خرج منه ما زاد على الثلث ممّا لا عوض عنه فيبقى الباقي ولأنّ العقد قد اشتمل على بيع وعطيّة، ومحلّ العطية هو الزائد عن مقابل ثمن المبيع؛ لأنّ معنى العطيّة هنا إزالة المريض ملكه تبرّعاً من غير لزوم، و هو لا يتحقق إلا في الزائد، فيكون محلّ البيع هو الباقي فكأنّ العقد واقع بكلّ الثمن على الباقي. هكذا علّله الشيخ في المبسوط حكايةً عمّن وافقه (1).

و ذهب العلّامة في باقي كتبه إلى أنه كالربوي (2)؛ لأنّ فسخ البيع في بعض المبيع يقتضي فسخه في قدره من الثمن؛ لوجوب مقابلة أجزاء المبيع بأجزاء الثمن، فكما أنّه لا يجوز فسخ البيع في جميع المبيع مع بقاء بعض الثمن قطعاً، فكذا لا يجوز فسخ بعض المبيع مع بقاء جميع الثمن، و إذا امتنع ذلك وجب الفسخ فيهما؛ لأن المانع في الموضعين هو بقاء أحد المتقابلين في المعاوضة بدون المقابل الآخر. ومن ثم لو اشترى سلعتين فبطل البيع في إحداهما أخذ المشتري الأخرى بقسطها من الثمن. و کذا لو اشترى شقصاً وشيئاً آخر فأخذ الشفيع الشقص، فإنّ المشتري يأخذ الباقي بقسطه من الثمن. و کذا لو كثر الشفعاء وقلنا بثبوتها مع الكثرة أخذ كلّ واحد جزءاً من المبيع بقسطه من الثمن.

وأجاب شيخنا الشهيد (رحمه الله) عن ذلك کلّه:

بأنّه في المتنازع فيه قد اشتمل العقد على بيع وهبة من المريض كما تقدم؛ ولهذا يسمّى بيعاً مشتملاً على المحاباة، فحينئذ لا مساواة بينه وبين ما مثل به العلّامة في الصور كلّها؛ لأن ذلك بيع محض (3).

و لا محذور لو بقى الموهوب بغير عوض يقابله.

و في الجواب نظر؛ لمنع اشتمال العقد المذكور على بيع وهبة بالاستقلال، وإنّما هو بيع

ص: 470


1- راجع المبسوط، ج 3، ص 273.
2- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 466؛ مختلف الشيعة، ج 1، ص 382، المسألة 164؛ قواعد الأحكام، ج 2، ص 536.
3- غاية المراد، ج 2، ص 336 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).

......

------

يلزمه ما هو بحكم الهبة، وليس للهبة فيه ذكر البتة؛ إذ ليس هناك إلا الإيجاب والقبول اللذان هما عقد البيع، و لا يلزم من لزوم ما هو كالهبة أن يتخلّف عن البيع مقتضاه، و هو مقابلة الجميع بالجميع.

وأما ما ذكروه - من أن قضية العقد ملك المشتري الجميع بالثمن، وإنّما تخلّف الحكم في الزائد، لمانع التصرف في الزائد عن الثلث، ومن الاحتجاج بأصالة اللزوم فيما يخرج عن قدر الضرورة - ففيه أنّ البطلان في القدر الزائد يلزمه بمقتضى المعاوضة البطلان في مقابله من الثمن كما مرّ (1)، ومعه لا يبقى الأصل متمسكاً في اللزوم بالنسبة إلى مجموع الثمن.

وحينئذٍ فمختار العلّامة أقوى. فيبقى الحكم كما في الربوي بعينه، وجميع ما قرّرناه من الحساب آتٍ هنا؛ فإنّ العبد المذكور قد بيع بنصف قيمته كبيع الكرّ المساوي لستة دنانير بما قيمته ثلاثة وعلى قول المصنّف لا إشكال في المسألة و لا دور.

والضابط على طريقة المصنّف في البيع المشتمل على المحاباة إذا لم يكن ربوياً أن ينسب الثمن وثلث التركة إلى قيمته فيصح البيع في مقدار تلك النسبة. ففي فرض المصنف إذا نسبت المائة التي هي الثمن وثلث التركة وهي ثلث قيمة العبد و هو ستة وستون وثلثان - إلى مجموع قيمته - و هو مائتان كان المجموع خمسة أسداسها، فيصح البيع في خمسة أسداسه بكلّ الثمن ولو كان العبد يساوي ثلاثمائة نسبت المائة التي هي الثمن وثلث التركة - و هو مائة أيضاً - إلى مجموع قيمته فيكون ثلثيها، فيصح في ثلثيه بمجموع الثمن، وعلى هذا.

وطريقه على القول المختار كما مرّ في الربوي (2) - بأن يسقط الثمن و هو مائة - من قيمة - المبيع، وينسب الثلث إلى الباقي، فيصح البيع في قدر تلك النسبة. ففي المسألة المفروضة إذا أسقطت الثمن - و هو مائة من قيمة المبيع، ونسبت الثلث - و هو ستة وستون وثلثان إلى

ص: 471


1- مرّ في ص 469.
2- مرّ في ص 465.

● والمشتري بالخيار إن شاء فسخ؛ لتبعض الصفقة، و إن شاء أجاز، ولو بذل العوض عن السدس كان الورثة بالخيار بين الامتناع والإجابة؛ لأنّ حقّهم منحصر في العين.

------

الباقي من القيمة و هو مائة - يكون ثلثيه فيصح البيع في ثلثيه بثلثي الثمن. وفيما فرضناه من كون العبد يساوي ثلاثمائة مع بيعه بمائة يسقط الثمن من قيمته يبقى مائتان، ينسب الثلث - و هو مائة - إليه يكون نصفه، فيصح البيع في نصف العبد بنصف الثمن. وهكذا اجعل الضابط في تلك المسألة الربوية، ورتب عليه ما شئت من الفروض.

و إن أردت تقرير مسألة العبد بالجبر للتمرين قلت في فرض المصنف: صح البيع في شيءٍ من العبد بشيء من الثمن، هو نصف ما صح من العبد، فهو نصف شيء، فالمحاباة بنصف شيء، فيجب أن يكون للورثة مثلاه و هو شيء، وقد حصل لهم من الثمن نصف شيء، فيبقى لهم نصف شيء يجب أن يرجع إليهم من العبد فيبطل فيه البيع، ويبطل في مقابله من الثمن، و هو ربع شيء، فيكون العبد في تقدير شيء ونصف، فالشيء الذي صح فيه البيع ثلثاه.

وقلت في المسألة المفروض فيها قيمة العبد ثلاثمائة صح البيع في شيء من العبد بشيء من الثمن هو قدر ثلث شيء؛ لأن الثمن بقدر ثلث قيمة العبد، فالمحاباة بثلثي شيء، و هو ما زاد على قدر الثمن ممّا صح فيه البيع من العبد فيجب أن يكون للورثة قدر المحاباة مرتين، و ذلك شيء وثلث شيء، ومعهم ثلث شيء من الثمن، فيجب أن يرجع إليهم من العبد شيء، و ذلك هو القدر الذي بطل فيه البيع منه و في قدر ثلثه من الثمن، فيكون العبد في تقدير شيئين والثمن في تقدير ثلثي شيء، فالشيء مائة وخمسون، و ذلك قدر نصف قيمة العبد، فللمشتري نصفه ويرجع إليه نصف الثمن، وللورثة النصف الآخر ونصف الثمن و ذلك ضعف المحاباة.

قوله: «والمشتري بالخيار إن شاء فسخ؛ لتبعض الصفقة، و إن شاء أجاز» إلى آخره.

هذا الحكم ثابت على القولين؛ لتحقق تبعض الصفقة فيهما. وإنّما يكون للمشتري الخيار

ص: 472

الخامسة: ● إذا أعتقها في مرض الموت وتزوّج ودخل بها صح العقد والعتق وورثته إن أُخرجت من الثلث. و إن لم تخرج فعلى ما مر من الخلاف في المنجزات.

------

إذا لم يكن عالماً بالحال، و هو أن البائع مريض، ومن حكم المريض وقوف ما زاد من بيعه عن الثلث حيث يشتمل على المحاباة، فلو كان عالماً بهما فلا خيار له ولو جهل أحدهما خاصة فله الخيار؛ لتحقق الجهل بما يوجب الفسخ، حيث هو أمر مركب من مجموع و لم يعلمه. وأما عدم وجوب بذل كلّ منهما ماله للآخر بالعوض فظاهر؛ إذ لا يجبر أحد على بيع ماله لأجل مصلحة الآخر إلا في مواضع مخصوصة وليس هذا منها.

قوله: «إذا أعتقها في مرض الموت وتزوج ودخل بها صح العتق والعقد» إلى آخره.

إذا أعتق المريض أمته وتزوجها وجعل مهرها عتقها ودخل بها صح الجميع مع خروجها من الثلث، و هو واضح. و إن لم تخرج من الثلث بأن كانت قيمتها مائة دينار مثلاً و لم يخلف سواها بني على نفوذ منجزات المريض من الأصل أو الثلث، فعلى الأوّل يصح الجميع أيضاً وترث. وعلى الثاني يعتق ثلثها و لا ترث لبطلان النكاح؛ لأنّ البضع لا يتبعض.

و هل لها شيء من نفسها باعتبار الوطء؟ يحتمل العدم؛ لأنّه لم يجعل لها عوضاً خارجاً عن رقبتها، وقد صارت للورثة، فكأنّها رضيت باستيفاء البضع بغير عوض، و يحتمل أن تكون كالممهورة - وسيأتي (1) - فيثبت لها من مهر مثلها بنسبة ما يعتق منها، و يدخلها الدور؛ لتوقف معرفة مقدار كلّ واحد منهما على الآخر.

وطريق معرفتهما أن نقول: صح العتق في شيء منها، ولها من مهر مثلها شيء على تقدير كون مهر مثلها مقدار قيمتها، وللورثة شيئان، فيكون التركة في تقدير أربعة أشياء، فيعتق ربعها، ولها من نفسها ربع آخر بالمهر؛ لأنّ إمهاره إياها نفسها جارٍ مجرى إمهارها عيناً بقدرها.

ص: 473


1- يأتي في المسألة الآتية.
لو أعتق أمته وقيمتها ثلث تركته

السادسة ● لو أعتق أمته وقيمتها ثلث تركته، ثمَّ أصدقها الثلث الآخر ودخل ثمَّ مات فالنكاح صحيح، ويبطل المسمّى؛ لأنه زائد على الثلث، وترثه. و فى ثبوت مهر المثل تردّد، وعلى القول الآخر يصح الجميع.

------

وإنما فرضنا كونه قد جعل مهرها عتقها مع أنّ المصنّف لم يذكره؛ لأن الحكم بصحة عتقها أجمع يقتضي ذلك؛ إذ لو كان قد أمهرها شيئاً آخر لكانت كالمسألة الآتية في اعتبار خروجه من الثلث، وجاء الدور. و کذا لا يجوز حملها على مفوَّضة البضع أو المهر، كما قاله بعضهم (1)؛ لأنّ الدخول بالمفوضة يوجب لها مهر المثل أو ما يفرضه المفوض إليه، فيعتبر خروجه من الثلث أيضاً، فلا يتم إطلاق أنّها مع خروجها من الثلث يصح العتق والعقد.

وأما تقييده ب- «الدخول» ففائدته ترتب الحكم بصحة العقد والإرث؛ لأنّ نكاح المريض مشروط بالدخول، فبدونه يبطل العقد، ويترتب عليه عدم الإرث والمهر إن كان.

قوله: «لو أعتق أمته وقيمتها ثلث تركته، ثم أصدقها الثلث الآخر» إلى آخره.

أما صحة العتق؛ فلخروجها من الثلث مع تقدّمه.

وأما بطلان (2) المسمّى؛ فلوقوعه بأجمعه زائداً على الثلث، ولأنه لو صح لزم الدور؛ لتوقف صحته على ثبوت النكاح المتوقف على العتق المتوقف على بطلان المهر؛ لقصور الثلث عن قيمتها مع صحته، وهذا هو الدور المحال لا الدور الجاري في نظائر هذه المسائل.

وأمّا ثبوت مهر المثل ففيه تردّد من استلزام ثبوته الدور كما مرّ (3)، ومن جريانه مجرى أرش الجناية التى هى من الأصل. و لا نسلّم أن ثبوته يستلزم الدور كالمسمّى، من حيث إنه ينقص التركة، فلا تخرج قيمتها من الثلث، فلا تنعتق فلا يصح النكاح؛ لأنا لا نرتب ثبوته على صحة النكاح بل على مجرد الوطء فلا دور.

ص: 474


1- في حاشية «و»: «هو الشهيد في شرح الإرشاد (منه رحمه الله)». راجع غاية المراد، ج 2، ص 337 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).
2- في «م» زيادة: «مهر».
3- مر في ص 473.

......

------

والطريق حينئذٍ إلى تحصيل مقدار العتق ونصيبه من مهر المثل أن مهر المثل إمّا أن يساوي قيمتها، أو ينقص عنها، أو يزيد. ففي الأوّل نقول: عتق منها شيء، ولها من مهر المثل شيء، وللورثة شيئان في مقابلة ما عتق منها لا في مقابلة المهر؛ لأنّه من الأصل كما قررناه. فالتركة إذاً في تقدير أربعة أشياء، فلو فرضنا قيمتها مائة، ومهر المثل مائة، وبقي من التركة غير رقبتها مائتان، فالشيء خمسة وسبعون فيعتق منها ثلاثة أرباعها، ولها ثلاثة أرباع مهر المثل وللورثة مائة وخمسون، ضعف ما عتق منها، فتؤدّي إلى الورثة ممّا أخذته من مهر المثل خمسة وعشرين وتعتق بأسرها.

وعلى تقدير زيادة قيمتها عن مهر المثل وفرضناه بقدر نصف قيمتها قلنا: عتق منها شيء، ولها من مهر المثل نصف شيء، وللورثة شيئان في مقابلة ما عتق منها مرتين. فالتركة تقدير ثلاثة أشياء ونصف تبسط من جنس الكسر تصير سبعة، لها منها ثلاثة اثنان من نفسها بالعتق وواحد بالمهر، وللورثة أربعة فينعتق مقدار سبعي التركة من الجارية، وهي ستة أسباعها، ولها من مهر المثل سبع آخر يكمل منه عتقها، فيفضل معها ثلثا سبع التركة.

وعلى تقدير زيادة مهر المثل عن قيمتها، وفرضناه بقدرها مرتين قلنا عتق منها شيء ولها من مهر المثل شيئان، ضعف ما عتق منها، وللورثة شيئان في مقابلة ما عتق منها مرتين. فالتركة في تقدير خمسة أشياء، فالشيء ستون، فيعتق منها ثلاثة أخماسها، ولها ثلاثة أخماس مهر المثل مائة وعشرون وللورثة مائة وعشرون ضعف ما عتق منها، فيعتق بأجمعها، ويبقى لها ثمانون من مهر المثل.

والمصنّف أطلق صحة النكاح، و هو إنّما يتمّ على القول بعدم وجوب مهر المثل ليتم العتق في جميعها، أما إذا حكمنا منه بشيء بطل العتق بسببه فيبطل النكاح كالمسألة السابقة، وإنّما لم يصح النكاح و إن حصل عتق المجموع؛ لأنّ عتق البعض لم يحصل إلا بالمهر.

ص: 475

تم الجزء الأول فى كتاب شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، ويليه في الجزء الثاني كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.

------

ويمكن أن يريد المصنّف بصحة النكاح ثبوته في الحال، فيترتب عليه استباحة وطئها بذلك العقد؛ لأنّه محكوم بصحته إلى الموت.

و وجه الصحة وجود المقتضي، و هو صدور العقد من أهله في محلّه، وانتفاء المانع؛ إذ لا حق لغيره الآن في رقبتها.

و يحتمل بطلان النكاح لبطلان عتق بعضها على كل تقدير، ولأنه لو صح لوجب المسمّى؛ إذ المقتضي لبطلان المسمّى هو توقفه على صحة النكاح المتقدم.

تمَّ الجزء الأوّل، و هو النصف الأول من كتاب شرائع الإسلام؛ وبتمامه تمّ ما يسره الله تعالى من هذا الشرح، وفق الله تعالى لإكماله، وجعله خالصاً لوجهه بمنه وكرمه.

( والحمد لله وحده، وصلّى الله على محمّد وآله. واتفق الفراغ من تسويده ظهر يوم الإثنين مقارناً لأذان المؤذن ثامن شهر صفر ختمه الله بالخير واليمن والظفر سنة ثلاثة وأربعين وتسع مائة حامداً مصلياً) (1).

***

تم الجزء الخامس - بحسب تجزئتنا - ويليه في الجزء السادس كتاب النكاح

ص: 476


1- مابين القوسين أضفناها من «و». وكتب في الهامش: «إلى هنا وجدت بخط ع ل سبط الشارح (رحمه الله)». و في نسخة «ل»: «هذا آخر كلامه (قدس الله تعالى سرّه) وجعله مقبو لا موصو لا إلى ... وكان الفراغ من نسخه على يد أحوج الخلق إلى عفو ربه الغني محمود بن محمد بن علي بن حمزة اللاهيجي في ليلة الجمعة لأربع ليال خلون من شهر ربيع الثاني سنة 966 بالطيّبة مدينة الرسول صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)».

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.